مستفيضة جامعة تلم أشتات الصحافة المصرية - أخبارها، وحوادثها، وصحفها، ورجالها، وعهودها - منذ الحملة الفرنسية حتى اليوم. وتمتاز الرسالة بأن مؤلفها ذهب وراء العرض والوصف وثبت المصادر، إذ جعل يعلل الواقعات والمظاهر بالنظر في شؤون السياسة وأحوال الاقتصاد وقضايا العمران. فالرسالة بهذا تتصل بفن الفلسفة التاريخية اللاحقة بالحضارة الفكرية.
ولعل الرسالة تنقل إلى اللغة العربية لحاجة قرائنا إلى ما فيها من الفوائد والحقائق، وعسى أن يضع المؤلف إذن مسردين يدرج فيهما أسماء الأعلام وأسامي الصحف، لأجل تقريب الفائدة.
كتاب جريء
أخرج النائب المحترم الأستاذ حسن الجداوي كتاباً عنوانه (عيوب الحكم في مصر). ولا تعني السياسة مجلة كالرسالة مقصدها الأدب؛ بيد أننا نسجل إقدام الأستاذ الجداوي على الكتابة المنطلقة من كل قيد رغبةً في تدارك العيب الواضح. هذا وإن الأستاذ الجداوي يناوئ أموراً تناوئها الرسالة. من ذلك: (روتين) المصالح الحكومية وجمود نفر من أصحاب الأمر فيها، وقيام نظام (المحسوبية)، ثم إهمال أهل الكفايات واستبعاد الشباب، ثم التفرد والانزواء عن المصلحة العامة. . . بنا حاجة إلى أمثال الأستاذ الجداوي.
وليت الأستاذ الجداوي صرف إلى شؤون الثقافة من همه أكثر مما صرف؛ فإن الذين يتعهدون الثقافة الحق في البرلمان المصري معدودون. ولا بد من تآزر الصحافة والنواب في هذا الجانب حتى نستقبل عهداً تستقيم فيه أسباب الحياة الفكرية.
جلال الفلسفة العربية
ذكرت لك من قبل (عدد 306) كيف اعترف الأب هكتور تيري، من أساتذة المعهد الكاثوليكي في باريس بجلال الفلسفة العربية. فخذ الآن قول العالم اليسوعي الأب كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي، وتهافت التهافت لأبن رشد، وتلخيص كتاب المقولات له، والجزء الأول من تفسير ما بعد الطبيعة له. قال الأب بويج في مؤتمر المستشرقين السابع عشر في مدينة اكسفرد (سنة 1928): من الأمور التي جلبت إلى العالم العربي الفخر الاسمى،(308/81)
والتي أعانت على تسوية الثقافة الأوربية الرفيعة بحيث لا يستطيع المؤرخون إغفالها أن أمثال ابن سينا وابن رشد نُقلت تأليفهم إلى اللاتينية منذ المائة الثانية والثالثة فانبثت في مدارس النصارى حيث حُللت ونُسخت فاحتجَّ بها هذا ودفعها ذاك من الأعلام مثل (دنس سكوت) و (ألبير الكبير) والقديس توما وغيرهم كثير (راجع ظهر غلاف (تفسير ما بعد الطبيعة) بيروت 1938).
(ب. ف.)
لورنس والقضية العربية
نشر في الأسبوع الماضي في لندن كتاب بعنوان (الندوة الشرقية) يحتوي على كتابات مختلفة من المرحوم الكولونل لورنس الذي اشترك في ثورة العرب في الحرب العالمية. ومن هذه الكتابات فصل كان قد أعده ليكون الأول في كتابه الشهير (أعمدة الحكمة) ولكنه عاد قبل الطبع فحذفه منه وألغاه عملاً بإشارة الكاتب المعروف برناردشو.
وفي هذا الفصل يندد لورنس تنديداً مرَّاً بالوزارة البريطانية لأجل بذلها وعوداً للعرب وله معهم كي يشتركوا في الثورة فكتب لورنس ما ترجمته:
(كان واضحاً منذ البداية أننا لو ربحنا الحرب لصارت هذه الوعود قصاصات ورق بلا قيمة. ولو كنت أنا مشيراً نزيهاً للعرب لنصحتهم بالعودة إلى بيوتهم وعدم المخاطرة بأرواحهم في القتال من أجل هذه الأوراق. لكنني عللت نفسي بأمل آخر وهو أني أقود هؤلاء العرب بحماستهم الجنونية إلى النصر النهائي. وهناك أجعلهم والسلاح في أيديهم في مركز أمين مضمون إن لم يكن متسلطاً، فتجد الدول الكبرى من الحكمة والملاءمة أن يلبوا مطالبهم بمقتضى الإنصاف).
وكتب لورنس أيضاً: (لم يكن لي ظل من الحق في استخدام هؤلاء العرب في هذه المخاطرة دون أن يعلموا نتيجتها الصحيحة فيما يتعلق بقضيتهم. لكني جازفت بالغش اقتناعاً بأن معونة العرب ضرورية لنا كي نفوز بنصر سريع ورخيص الثمن في المشرق وإنه خير لنا أن ننتصر ونخيس بوعدنا من أن ننكسر ونحن نزهاء).
وأوضح ناشر الكتاب أن هذا الشعور من لورنس كان وقتياً وعاد فرضى بقرارات مؤتمر(308/82)
القاهرة عندما عالج المستر تشرشل المسألة وقرر الوفاء بالعهود البريطانية.
ولقد صرح المستر برناردشو بأنه أشار فعلاً على لورنس بإهمال هذا الفصل الأول لأنه استهلال غير حسن لأسباب غير سياسية.
وزاد المستر شو على ذلك: (أما في شأن العرب فكان لورنس يحسب في أول الأمر أنهم لا يلقون معاملة حسنة، ولكنه شعر بعد ذلك أنهم ينالون أكثر مما تمكنهم إدارته وسلك أخيراً سلوك من يعتقد أن لا أهمية للوجهين. والحقيقة أن لورنس لم يكن يفهم السياسة قط، فهو إنما كان صبياً كبيراً لم يتم نموه يوماً).
نزاع على قصيدة
يا حلوة الوعد ما نساك ميعادي ... عِز الهوى أم كلام الشامت العادي
كيف انخدعت بحسادي وما نقلوا ... أنت التي خلقت عيناك حسادي
طرفي وطرفك كانا في الهوى سبباً ... عند اللقاء ولكن طرفك البادي
ثلاث أبيات من قصيدة للمرحوم شوقي بك تبلغ سبعة عشر بيتاً نشرت الرسالة منها في سنتها الأولى اثني عشر بيتاً تحت عنوان (شوقية لم تنشر تغنيها إحدى القيان). ولم تشر المجلة إلى اسم المغنية لأنها كانت قد تزوجت وانقطعت صلتها بالجو الفني. . وهذه المغنية هي السيدة (ملك) وقد صنع لها شوقي بك هذه القصيدة قبل وفاته بعامين لتغنيها وكان ذلك في مصيفها بالإسكندرية، حيث كان يختلف إليها أمير الشعراء والأساتذة فكري أباظة ومحجوب ثابت ومحمد عبد الوهاب. وقد أعجب الأستاذ محمد عبد الوهاب يومئذ بمعنى القصيدة وتلحينها، فلما توفي المرحوم شوقي بك تحدث الأستاذ عبد الوهاب بأن آخر ما نظمه شوقي له كان هذه القصيدة. فردت السيدة ملك في جريدة البلاغ تنكر عليه ذلك وتستشهد بمن ذكرت وبنسخة القصيدة مكتوبة بخط شوقي إليها. ووقف الأمر يومئذ عند هذا.
ولكن الأستاذ عبد الوهاب عاد فلحن هذه القصيدة في هذه الأيام لروايته الجديدة التي يزمع إخراجها في الشتاء القادم. فلما علمت السيدة ملك بهذا تجدد بينهما نزاع لطيف توَّسط فيه أصدقاؤهما حتى وعد عبد الوهاب بأنه (سيحاول) أن يستغني عن هذه القصيدة. ويظهر أن هذا الوعد لم يطمئن السيدة (ملك) فنشطت حركة استشارة المحامين ونشطت معها تلك(308/83)
الضجة الطريفة التي لا نعلم كيف تنتهي وعلى أي وجه من الوجوه ستحل. والظريف في الأمر أن أشد الجميع غضباً هو الدكتور محجوب ثابت! فهو يعجب من جرأة الأستاذ عبد الوهاب وعدم استئذانه إياه باعتباره (الشامت العادي) الذي عناه شوقي رحمه الله.
المويلحي
معرض رابطة الفنانين المصريين
افتتحت رابطة الفنانين المصريين معرضها هذا الأسبوع، وهو معرض حر لم يتقيد فيه العارضون بموضوع خاص فكان هذا مما ساعد العارضين على أن يطلقوا أرواحهم وأفكارهم نحو ما يطيب لهم من موضوعات الرسم والنحت والزخرفة. فبماذا عادوا لنا من سماء الفن؟
قد يكون من الشح أن ننكر عليهم ما أصابوه من التوفيق، ولكننا أيضاً قد نسرف في المجاملة إسرافاً لا نحبه إذا قلنا إنهم وفقوا إلى الفن الناضج الذي نطلبه.
فقليل جداً من المعروضات الذي أسعده الطابع المصري الصادق؛ وقليل منها ما قصده به المعارضون إلى التعبير عن عاطفة من العواطف الإنسانية، أو إظهار فكرة لها معنى. وعلى هذا كان المعرض أشبه بمعارض التصوير الشمسي المنقول بالفوتوغرافية منه بمعارض الفنون التي ينتجها فنانون لكل منهم شخصية لها روح ولها عقل.
وقد حاول بعض العارضين أن يظهروا للجمهور وكأن لهم شخصيات مستقلة بهم وكأن لهم أسلوباً خاصاً بهم في فنهم فعمد منهم (منصور فرج) إلى أشكال الناس في لوحة البناء فنحتها نحتاً عجيباً ضخم في عضلاتهم وأعضائهم. فكانوا كالقردة أو (السيدة قشطة) كما عمد (يوذانت) إلى صبغ لوحة (قرية مصرية) باللون الأحمر صباغة لا توزيع فيها ولا تظليل فكانت كأنها (قرية الجن).
ولعل هذين العارضين معذوران فيما فعلا لأنهما قد سمعا كثيراً عن الفنانين الأوربيين الذين يؤثر كل منهم لوناً خاصاً أو شكلاً خاصاً من أشكال الآدميين فحسبوا أن كل فنان حر في هذا الإيثار، بينما الواقع أن الفنان الذي يكثر من لون ما في صوره ورسومه إنما يفعل ذلك غير مختار، لأن الطبيعة تزيف على عينيه الألوان ولأنه مصاب بمرض نظري لا أكثر(308/84)
ولا أقل.
وإذا كان لنا أن نختار من بين المعروضات في هذا المعرض ما نعتقد أنه خير ما فيه فإننا نفضل من غير شك ولا ترتيب
1 - (رأس أسواني) تمثال ميزته الأمانة والصدق
2 - (فتوة) تمثال كان يجدر بصاحبه أن يسميه (بلدي قيافة)
3 - (الفداء) تمثال على النهج الفرعوني فيه جلال
4 - (مصرية) تمثال مصري حديث تجسدت فيه الأنوثة
5 - (حي قومي) صورة مصرية صادقة
6 - (مليحة) تمثال مصري حديث جميل خفيف الروح
7 - (ابن البلد) صورة كان يصح أن يكون اسمها (الصعيدي)
8 - (العودة من السوق) رسم زخرفي بسيط جميل دقيق
9 - (في الشتاء) تمثال على النهج الفرعوني فيه هدوء وحلاوة
10 - (موقعة نصيبين) صورة قوية.
11 - (إدريس) صورة رائعة.
12 - (القيسرية القديمة) صورة مصرية فيها غموض ورهبة.
13 - (فتوات البلد) صورة كويدك حفيفة جداً.
14 - (المخطوبة) صورة عذراء مليحة حالمة.
15 - (فتاة) تمثال لفتاة عصرية فيه الأنوثة والأناقة.
ونحن نهنئ أصحاب هذه التماثيل والصور كما نهنئ غيرهم من العارضين على أن يشحذوا الهمم ويغذونا بما نحتاج إليه الآن من فن ملؤه الروح والفكر.
جريدة الوفاق في عامها الثاني عشر
دخلت زميلتنا الوفاق في عامها الثاني عشر، وهي أصدق ما تكون إيماناً ولساناً في خدمة الأخلاق والأدب. والوفاق جريدة إقليمية أسبوعية تصدر عن بلقاس ويحررها الأستاذ البيلي علي الزيني، وقد سلخت في جهادها الأدبي المحمود أحد عشر عاماً لم تفتر لها في خلالها همة، ولم يتخلف لها عن الظهور عدد، ولم يعقها عن اطراد التقدم عائق، على(308/85)
الرغم مما تعانيه مما تعانيه الصحافة الجدية من جهل القراء وضيق المعونة. والرسالة تهنئ الوفاق بعامها الجديد وتسأل الله لها دوام ما عودها إياه من حسن التوفيق في خدمة الدين والخلق والثقافة.(308/86)
الكتب
(مباحث عربية)
تأليف الدكتور بشر فارس
نقد للدكتور مراد كامل
حركتني الرغبة في استطلاع ما ينطوي عليه ذلك العنوان. فقرأت الكتاب فأعجبت به وكان إعجابي من جهة الشكل ومن جهة الموضوع.
أما الشكل، فهذا كتاب يقوم مقام صورة صحيحة لطريقة علمية مستقيمة، لما هو عليه من تقسيم وترتيب وتبويب (ولحق) و (مسارد) و (مضاف) و (فائت). ثم إن كتاباً يخرج على هذا الشكل من الدقة والعناية وفيه ما فيه من المصاعب الفنية في إحكام الإخراج ليدل على مقدرة الصانع المصري في فن الطباعة.
أما من جهة الموضوع، فلن أقف عند أسلوب هذا الكتاب الفذ ولا تراكيبه البارعة ولا ألفاظه المتخيرة، لأني أريد أن أصل بكلمتي هذه إلى ما هو أجل شأناً من الأسلوب. ذلك أن الأسلوب يختلف الناس في النظر إليه وفي تذوقه، وإنما أنا أقصد إلى التنبيه على ما في هذا الكتاب من مستحدث في الفكرة والتعبير.
أما الفكرة فقد اختار المؤلف موضوعات شتى جديدة: فبحثه عن المسلمين في فنلندا لم يسبقه إليه أحد بل هو كشف أضاف المؤلف به فصلاً علمياً طريفاً إلى معرفة أحوال المسلمين في العالم.
وقد طرق المؤلف بعد هذا في مباحثه الخاصة بعلم الاجتماع وعلم اللغة مسائل هابها البحاث من قبل أو استثقلوها، فأقدم على درسها الدرس الأتم وعرضها مبسوطة واضحة. ولا غرو في ذلك فللمؤلف باللغة الفرنسية كتاب (العرض عند عرب الجاهلية) وهذا الكتاب مما حدا دائرة المعارف الإسلامية الصادرة في هولندا على أن تسند إلى المؤلف كتابة طائفة من المباحث فيها، ومن هذه المباحث: (الهجاء) و (الفتوة) و (العِرض).
والآن أعرض لك مسائل الكتاب في علم الاجتماع وعلم اللغة.
بحث الدكتور بشر فارس تعبير (مكارم الأخلاق) مستقصياً كل الاستقصاء؛ إذ استخرج(308/87)
وروده من بطون الكتب المطبوعة والمخطوطة ثم شرح التعبير من الناحية اللغوية وفحص عنه في كتب الحديث والتأليف الدينية، ثم دل عل أن من يكتب في مكارم الأخلاق إنما يجري إلى إكبار الفضائل الإسلامية وإغراء الناس بالإقبال عليه اقتداءً بالرسول. وذكر آراء المتكلمين في مكارم الأخلاق، وعرض لآراء المصنفين من كتاب العرب المستقلين عن الطرائق الكلامية والمذاهب الدينية. ثم آراء المنشئين فالمتصوفة. وقد عقد المؤلف فصلاً في علاقة مكارم الأخلاق بالفتوة والمروءة ثم اتصال مكارم الأخلاق بالجاهلية، وخرج من مبحثه بأم مكارم الأخلاق تعبير - في أول أمره على الأقل - أجنبي عن علم الأخلاق المنحدر من الحكمة اليونانية وعن علم السلوك النظري.
ومبحث آخر عن المروءة يدلك على استقامة الدراسة بالتدقيق العلمي. في هذا المبحث يبين المؤلف أن المروءة مدلول للفظ قالت فيه العلماء بالتقريب والاحتمال. ثم ذهب إلى أن في تعريفات المروءة جانبين متضادين كلاهما معقود بالآخر: الأول حسي ينحدر من زمن الجاهلية، والثاني معنوي مصدره الإسلام. ثم تتبع معنى المروءة في الجاهلية ومطلع الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين وعهد بني أمية، ثم طلبها عند أهل اللغة حتى في اللهجة الأندلسية وفي لغة العامة لهذا العهد. وانتهى المؤلف إلى أن المروءة أفلتت من المادة لتصير من الكلم الروامز. وقد جاء كلامه في هذا مناقضاً لآراء المستشرقين بأدلة فلسفية ولغوية مستقيمة.
أما مبحثه في التفرد والتماسك عند العرب، ومبحثه في البناء الاجتماعي عند عرب الجاهلية؛ فكلاهما دراسة اجتماعية على أساس صحيح. وقد دفع في الأول أقوال المستشرقين عن التفرد إذ أثبت من طريق الاستشهاد بالشعر والأخبار المتواترة أن العرب كانوا قوماً متماسكين. وبين في الثاني تضارب الألفاظ الدالة على بناء العرب الاجتماعي بحيث يتعذر الفصل في كيفية تكون الجماعة وانتظام الأسرة، وإن تميزت هذه من تلك.
وأما مباحثه في اللغة فقد دلَّ كيف يكون التنقيب عن معاني الألفاظ، بتعقبها في أطوارها المختلفة. من ذلك تعقبه لمدلولات لفظة الشرف وردها إلى أصولها بالاستناد إلى النصوص الجلية. ومما أظهره أن لفظة الشرف خرجت في الجاهلية من الحسيات إلى المعنويات حتى إذا طلع الإسلام أدرج فيها قيماً خاصة به.(308/88)
أما اصطلاحات الموسيقى التي أفرد لها المؤلف باباً خاصاً فقد أخرج لنا من بطون الكتب تعبيرات وألفاظاً عارضها بما ينظر إليها في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية. ومن ذلك لفظة المساوقة والمراسلة. ونحن نقيد له فضل السبق في هذا الكشف.
وهنالك اصطلاحات في الفلسفة، مثل لفظي التفرد والتماسك بدلاً من الفردية والتضامن الشائعتين عندنا. وقد وضعها المؤلف فيما وضع، ومعه حجج قاطعة من ناحية اللغة ومن ناحية الفلسفة، سالكاً في ذلك طريقاً جديداً مما يدل على مرونة في التفكير وسعة في الاطلاع.
أما الفصل الذي عقده المؤلف لبعض المخطوطات العربية التي درسها في دور الكتب المختلفة؛ فنأمل أن يتنبه المجمع اللغوي إلى الاستفادة بها لما فيها من الفائدة الجليلة لوضع اصطلاحات في علوم كثيرة.
هذا ما يتعلق بالفكرة. وأما التعبير فقد أخذتني جرأة المؤلف في التدقيق لوضع ألفاظاً واصطلاحات لمدلولات شتى ثم في تخيرها؛ الأمر الذي نحن في أشد الحاجة إليه حتى نؤدي بكلمة واحدة معنىً نحتاج إلى التعبير عنه بجملة أو جمل. أعجبني منه وضع كلمة.
استطلاع: وهي تفيد البحث العلمي لا الصحفي عن أمر مجهول أو حقيقة مستورة.
الإمداد: البحث العلمي الذي يلقى في محافل العلماء كالمؤتمرات.
الرأي القَبلي: الرأي القائم في الذهن قبل شهادة التجربة، ويقابله الرأي البَعدي.
البناء الاجتماعي: كيفية تكون الجماعة من حيث الصلات المتبادلة فيها ومن حيث اتساعها.
التفرد بدلاً من كلمة الفردية، والتماسك بدلاً من التضامن.
كلمةٌ رمزٌ: أي كلمة متى وقعت في مسمعك نشرت في خاطرك مجموعة من القيم المجردة. وهي من باب الصفة بالمصدر.
المشتَمل: وهو مضمون الكتاب.
المسرَد: لجداول الألفاظ والأسماء وما إليها
وقد خرج المؤلف على استعمال لفظة الفهرس الشائعة اليوم بإفادتها مدلولات مختلفة، بأن استعمال هذه اللفظة للدلالة على الكتاب الجامع للكتب فقط ثم جعل المشتل لمضمون الكتاب وموضوعاته والمسرد لجداول الألفاظ والأسماء.(308/89)
أما تلك الرموز التي سبقنا إليها الأوربيون؛ فقد تصرف المؤلف في وضعها، ثم زاد عليها الكثير من عنده فوضع علامة لاسم الكتاب حتى نفرق بينه وبين سائر الكلام لنقص الحرف المائل في طباعتنا، وهو المستعمل في مثل هذا الموضع في اللغات الإفرنجية. ثم وضع رمز شاهد (على شكل هرمي) بدلاً من الصليب الذي يضعه الإفرنج للدلالة على الوفاة. ثم ي=وما يلي ذلك، ك ك=الكتاب المذكور قبل للمؤلف، ن=المؤلف نفسه، ذ=الكتاب ذاته. وإني لا أريد القول بأن ما وضعه المؤلف يجب أن يؤخذ به أخذاً، بل أرى أن يلتفت إلى ما وضعه فينظر فيه إن كان يحتاج إلى مراجعة حتى نبني عليه للمستقبل. على أني أسأل المؤلف أن يدون الرموز في الطبعة الثانية على ترتيب ما، نحو الترتيب الأبجدي؛ وأملي أن يتم وضع الرموز والعلامات اللازمة للتأليف العلمي حتى نظفر بدستور يلجأ إليه الباحث والعالم.
هذا وقد سلك المؤلف في كتابه مسلكاً علمياً صحيحاً وسار على المنهج الذي وضعه لنفسه، وهذا المنهج على قوله في تصدير الكتاب (الاعتماد على المشاهدة دون الفرض، والتحقيق دون التخيّل، والموضوعية دون الذاتية، وإقامة الدليل دون القناعة بالمقبولات والمسلّمات، ثم الذهاب من المركب إلى البسيط، ومن الخاص إلى العام؛ مع تسليط النقد النافذ - من جانبيه الخارجي والباطني - على الواقعات، من حيث إنها أشياء طبيعية مبذولة للحس، لا أمثال عالية ولا معانٍ منتزعة من المحسوسات مجردة في الذهن أموراً كلية عامة؛ ومع نبذ التشيع للآراء من مرتجلة وقبلية، فلا إيثار هوىً ولا تعصب لأحد على أحد؛ ومع رد تلك الواقعات إلى مصادرها من طريق الوصف المباشر أو الاستشهاد بالنصوص الصريحة حتى لا يرسل الكلام فيضيع حظه من التثبت؛ ومع التحري في البحث سعياً في الدنو من الحقيقة بفضل المنطق بالعرض البين والسلك المتصل والاستدلال القويم والنظر الصادق على غير استكراهٍ ولا تحكم ولا مكابرة؛ ومع إثبات ما أتى به العلماء العاملون من قبل بالاستناد إليهم أو الاعتراف بجهدهم خروجاً من ظِنَّة التلصص والسطو).
وبكل ما تقدم يبذل لك المؤلف دراسة فلسفية اجتماعية بذهن مجرد عن التشيع للآراء المرتجلة والمعاني المتوهمة مما يجدر بطلبة التعليم العالي أن يلتفتوا إليه. ويبذل لك أيضاً مباحث في اللغة وتاريخ الألفاظ واستخراج الاصطلاحات مما يهم المشتغلين باللغة وفي(308/90)
مقدمتهم المجمع اللغوي.
وهكذا خرج الكتاب مبشراً بانبعاث الروح العلمي الخالص الذي أهدى إليه المؤلف كتابه.
مراد كامل
مدرس اللغات السامية بكلية الآداب(308/91)
المسرح والسينما
رواية (الموءودة)
ما هي الرواية؟
اقتصرت في مقالي السابق على إلقاء نظرة إجمالية على رواية (المال والبنون) لمصنفها الأديب فهيم حبشي، لأنها لا تستحق أكثر من ذلك، وما عدت إلى ذكرها ثانية إلا لأقول كلمة إجمالية في جميع الروايات الموضوعة وذلك بمناسبة رواية (الموءودة) التي بعث بها إليّ مؤلفها الفاضل يسألني رأيي فيها وقد وأدتها لجنة التحكيم في مباراة التأليف المسرحي.
يحسن بي قبل الإجابة أن أسأل: (ما هي الرواية؟)
يقول أعلام النقد أن الرواية تبسيط حادث خيالي؛ وأن حاجتنا إلى تبسيط الحادث الخيالي المفرغ في قالب رواية ضرورة لازمة، لأن حياتنا الاجتماعية تمضي في عالم فوضى لا ارتباط فيه ولا تناسب ولا انسجام، وأن الروائي البارع هو الذي يتخيل ويتمنى ويعمل على إخضاع عالمنا لشرائع العقل ويجعله منظماً نفهمه بحسِّنا لا بقوته الخفية المظلمة ولا بكائناته المشوشة المختلطة.
فالرواية كما ترى نجدة نستنجد بها لتمكننا من مقاسمة الانفعالات الاجتماعية دون أن تجعلنا نتعرض لعواقب هذه الانفعالات، وخيال الروائي الذي استنبط حادثة ما (سواء كانت ذاتية أو موضوعية) إنما هي تصور حالة في نفسي أنا، أو في نفسك أنت واقعة فعلاً، أو هي محتملة الوقوع، استعان بها على إبراز خياله بخلق أشخاص مدركين يقدرون تقديراً قياسياً ويَعوْن وعياً نفسياً اضطرابات الإنسان وقلقه وخلجات عواطفه وضوابط نفسه وأحكام عقله.
ولأجل أن يكون الحادث الخيالي الذي ابتكره ذهن الروائي البارع كاملاً، وتكون الرواية تامة لابد لها من عنصرين عنصر الحياة ببساطتها، وعنصر القدرة على تبسيط البسيط من صور الحياة. ولا محيص لها أيضاً من الاعتماد على عنصر ثالث يقوم عليه البناء العقلي وفق النظام وفي حيز الطبيعة البسيطة وصورها وألوانها.
هذه الرواية هي التي تعيدنا إلى ذواتنا فتجعلنا نسمع ونرى فيها هواتف الضمير، وهمهمات الانفعالات، والصور الكامنة في النفس مجلوة واضحة مسوقة على ألسنة ممثلين وممثلات(308/92)
خلقهم الروائي ودربهم على تحويل صور الخيال إلى حقائق بسيطة سهلة ترتسم في الذهن وتنطبع فيه وتقسره على إطالة النظر وإعمال الروية.
في وسعي أن أقول عقب ذلك بدون تردد إن جميع الروايات الموضوعة التي مثلتها الفرقة القومية منذ تكونها إلى يومنا هذا تنقصها العناصر الأساسية للحياة، والفن، والأدب، وأن حضرات مؤلفيها الأفاضل يشبهون في محاولاتهم (نبيّن زين) يطرحون ودعاتهم في الأرض ويرتجلون، وفق وضعية كل ودعة، كلاماً هو عصارة الذهن الكليل بله الهرف والتخريف. أجل كلهم عرّاف أعطاك ما جاد به خاطره من كلام مفكك الأوصال أسماه (الحوار) ومن جمل خطابية رنانة في الدين أو الأخلاق وأمثال ذلك مما تسميه العامة (لبن سمك تمر هندي). في حين أن الرواية هي كقطعة موسيقية تعزفها جوقة من النافخين في الأبواق ومن الناقرين على الأوتار والضاربين الطبول والصنوج، وأنت إن أرهفت سمعك وكنت من أصحاب الوعي والذوق والشعور، تحس بنغمة هادئة ناعمة تبدو كالهمسة الرفيقة تربط الأصوات النابرة في هذه الآلات وتوحد فيما بينها توحيداً بارعاً يجعلها كالروح الشائعة في الجسد. فهذه الوحدة في القطعة الموسيقية هي التي تغمرك بفيض من النشوة تجعلك ترتفع إلى مقام الغبطة بغيبوبة الفرح، وهكذا الرواية لابد لمصنفها من خلق وحدة فكرية تدور حولها الوقائع والأشخاص.
وأنت يا صاحبي مؤلف رواية (الموءودة) التي افتتحتها بآية من الكتاب الكريم: (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) أنت واحد من هؤلاء الذين طرحوا ودَعاتهم أمام لجنة التحكيم، فكان من دواعي الصدف العمياء أن حكمت بردها، فأبيت إلا التمرد على هذا الحكم فطبعت الرواية أي أنك سجلت على نفسك واقعة أدبية غير موفقة.
أزعم أن الذي شجعك على اتهام لجنة التحكيم وأغراك بطبع الرواية هو أن الفرقة القومية قبلَت ومثلت روايات من نوع أردأ من (الموءودة) نذكر منها على سبيل المثال رواية (اليتيمة) غير أن سبيل النجاح يا صاحبي ليس في الانحدار إلى الوضاعة ومحاكاتها بل في التطلع إلى الكمال.
حدثني أديب كان قد توفر لكتابة القصة والرواية وانقطع لهما قال: أتمنى لو يكلف مدير الفرقة كبار الأدباء بتأليف روايات للمسرح وأن يغريهم بالأجر المناسب، فمبلغ ثلاثمائة(308/93)
جنيه للرواية الموضوعة يرضي الأديب ويجعله ينقطع طول السنة إلى كتابة روايته. والرواية التي يكتبها الكاتب الكبير تحمل على كل حال الشيء الغزير من أدبه الخاص واطلاعه العام، والمران على كتابة الرواية يبعثه مرة بعد مرة على الإجادة والإبداع. وقد ذكر لي حادثة أدبية من هذا النوع حدثت في فرنسا قام بها مدير (الكوميدي فرانسيز) مع الكاتب المعروف أندريه مورياك وقال مستدركاً: صحيح أن الخصائص الفنية الأساسية لم تتوفر كلها في رواية مورياك التجريبية ولكنها ستتوفر كلها في الرواية التالية ولا شك. وقال أيضاً: يجب ألا يحول مثل هذا التكليف دون إغراء الشباب الناشئ على محاولة كتابة الرواية واشترط لذلك إيجاد العزيمة عند مدير الفرقة وأن يكون حسن الظن بالكاتب المصري وبالشباب المصري أيضاً.
الرأي وجيه سديد، ولكن لابد أولاً من تطهير الفرقة من النكبات المحيقة بها، وغسل السخائم المتأكسدة في أذهان القائمين على إدارتها، وتفهيمها أن المؤلف هو روح الفرقة، وأن البلد بأدبه وأدبائه في ألف خير، وأن إنفاق ثلاثمائة جنيه أو أربعمائة على المؤلف المصري من ميزانية قدرها خمسة عشر ألفاً ليس كثيراً على من صدقت نيته في إنهاض المسرح المصري على قواعد قوية من التأليف والتمثيل.
ابن عساكر
عاصفة فوق مصر
أخرج الأستاذ عصام الدين حفني ناصف هذه القصة الاجتماعية، وهي الأولى من نوعها في اللغة العربية، فليس موضوعها من المواضيع التي ألفنا قراءتها في مؤلفات كتابنا، بل هو موضوع خطير يتناول صميم الحياة المصرية وصميم الحياة الإنسانية عموماً. هو موضوع العلاقة بين الفلاح الأجير والمالك صاحب الأرض. وهو يكشف في هذه القصة عن الطرق التي تلجأ إليها الدوائر الزراعية لحرمان الفلاحين حقوقهم ويبرز في جلاء ووضوح فضائل الفلاح المصري ويذود عنه التهم التي يرميه بها الآخرون.
وهي مطبوعة طبعاً متقناً في 130 صفحة وثمنها 20 مليماً فقط، فنتمنى لها الرواج.(308/94)
العدد 309 - بتاريخ: 05 - 06 - 1939(/)
حول نظام الطبقات
فلاحون وأمراء!. . .
جلست كعادتي في عصر كل سبت أفكر في موضوعيَ الأسبوعي للرسالة، فتردد على خاطري المكدود معانٍ شتى من وحي الساعة وحديث الناس وحوازِّ القلوب، كمأساة حلحول في فلسطين، وصلة الجديد بالقديم في الأدب، فكنت أذودَها بالفتور والإهمال، لأن معنى من المعاني القوية كان قد استبد بذهني منذ الصباح فهو يراوده ويعاوده ويلح عليه حتى لم يكن من الكتابة فيه بُد. ذلك بيان النبيل عمرو إبراهيم رئيس نادي الفروسية الذي بعث به إلى الأهرام وطلب إليها أن تنشره (كاملاً) في عدد اليوم. والذي استفزني من هذا البيان لَهجته الأميرية المنتفخة في الرد على رئيس الوزراء، والطعن في بعض الكبراء، والدفاع الظنين عن نظام الطبقات، والتفسير المجازف لكلمتي الفلاح والديمقراطية، والتلميح المختزل إلى الساميَّة والطورانية؛ فإن هذه مسائل دقيقة ما كان ينبغي للنبيل أن يعرض لها بهذا الاستكبار، في بيان دفاعيّ لا يجوز أن يخرج فيه عن التنصل أو الاعتذار!
لست والحمد لله من طبقة أولئك النادين إلى هذه (الكُلبِّات) التي
تتضاءل فيها الديمقراطية بين أرستقراطية الدم أو المال أو المنصب فلا
أزعم أني سمعت الأشداق الملوية تأمر، ورأيت الأنوف الوارمة
تمتعض؛ ولكني قرأت كما قرأ الناس ثورة رئيس الشيوخ وزارة رئيس
الحكومة، فعلمت والأسى يحز في الصدر أن بعض الذين جعلناهم
أمراء ونبلاء لا يزالون على عقلية ذلك التركي الفقير الذي كان يقرع
الأبواب مستجديا فإذا أجابه المجيب الفزِع قال له في عنف وصلف
وأنفة: (هات صدقة لسيدك محمد أغا). ولا أدري ما الذي سوغ لهم أن
يعتقدوا أن الله خلقهم من المسك للمِلك، وخلقنا من الطين للطين؛
وجعلهم للثروة والسيادة، وجعلنا للخدمة والعبادة؟ إن كانوا مسلمين
فالإسلام قد محا الفروق بين الطبقات إلا البر والتقوى؛ فالعرب والعجم(309/1)
سواء، وقريش وبأهلة أكفاء. وإن كانوا وطنيين فالوطن لا يعرف
التفاضل بين أبنائه إلا بأثرهم في تقويته وترقيته وخدمته؛ فالفلاحون
على درجته العليا لأنهم عماد ثروته وعدة دفاعه وقوة سلطانه؛
والأمراء على درجته السفلى لأنهم فيه معنى السرف الذي يفقر،
والترف الذي يوهن، والبِطالة التي تميت! وبين هاتين الدرجتين
تتفاوت مواقف الوزراء والزعماء والكبراء على حسب ما لكل منهم
عليه من فضل.
لا يا سيدي النبيل! ليس نظام الطبقات هو القائم في مصر وأوربا كما تقول؛ فإن جَعْلك نفسك ونُظراءَك طبقة متميزة لها حدودها الأربعة وجهاتها الست لا يجعل نظام الطبقات حقيقة واقعة. إن مصر كلها من أعلى شلالها إلى أسفل دالها طبقة واحدة فيها الغني والفقير والمالك والأجير والصحيح والمريض والعالم والجاهل، فهل تجعل كل حال من هذه الحالات طبقة؟ وهل تستطيع أن تعين لي الفرق بين طبقتك المرفوعة وطبقتنا الموضوعة إذا كان الدستور الذي تخضع له طبقتان يستطيع أن يجعل ابن الخادم الذي ينظف لك الحذاء جليسك ورئيسك؟ لقد كان امتياز طبقتك على طبقتنا أنك تمسك (الكرباج) ونحن نمسك الفأس، وتأكل الذهب ونحن نأكل التراب، وتعبد الشيطان ونحن نعبد الله، وتتكلم التركية ونحن نتكلم العربية. فلما قيض الله لمصر العظيمة فؤاداً العظيم فتزوج منا وحكم بنا وسعى لنا ونشَّأ على خلائقه المصرية المحض شبله الموموق فاروق، شعرنا بأن العرش يستقر على كواهلنا، والعلم يخفق على معاقلنا، والسلام يتردد في شعورنا، والحكومة تقوم بأمرنا، والنيل يجري بخيرنا؛ ورأيناكم حين أخذكم - رضوان الله عليه - بأدب الإسلام والشرق لذتم بأطراف الغربة، وقبعتم في زوايا العزلة، وكنتم من مصر وثروتها مكان البالوعة تطفح بعرق الفلاح ودمه لتصب في مناقع البلدان الغريبة!
لا يا سيدي النبيل! ليس المصريون في الجنسية والوطنية بمنزلة سواء؛ فإن منهم من تمصر بالقانون لا بالأصالة، وتوطن للمنفعة لا للعاطفة. وكيف يستوي في الميزان الوطنية(309/2)
من يقف على مصر يده وقلبه وكسبه ودمه، ومن لا يعرفها إلا معرفة الغرماء ولا يعيش فيها إلا شهور الشتاء، ولا يعنيه من أمورها إلا أجرة العامل وسعر القطن؟
كذلك ليس من خالص الحق قولك: (إن حق الشخص في الانتساب إلى أمة إنما يناله بما يؤديه إلى وطنه من الخدمات سواء أكان ذلك بنفسه أو بأفراد أسرته من آبائه وأعمامه وأبناء أعمامه وأجداده وأجداد أجداده) فإن أموال أبيك لك، ولكن أمجاده له. والوطني الصميم هو الذي يرفع ما بنى أبوه، ويتمم ما بدأ جده. ولا ينفع المرءَ عند الوطن أن أباه وطني وهو خائن، ولا عند الله أن أباه مسلم وهو ملحد!
أيها الأمراء والنبلاء! إن لكم في سيدكم الفاروق أسوة حسنة. فخذوا أخْذَه الجميل في سيرته ومصريته وشعبيته ودينه؛ فإن ذلك يكفل لكم رضا الشعب في الدنيا ورضا الله في الآخرة!
احمد حسين الزيات(309/3)
ولا ترابه!
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت فيما كتبت منذ أسبوعين عن رسالة الأديب أنني أستعيذ بالله من اليوم الذي تتوقف فيه أقدار الأدباء على مقاييس الدولة، لأن سيطرة الدولة على أقدار الأدباء معناها إخضاع الفكر الإنساني للعرف الشائع مضافاً إليه إجحاف الهوى والمحاباة، وليس من وراء هذا الإخضاع خير للفكر ولا للأديب
إن تقويم أعمال الموظفين من أخص أعمال الدولة، لأن الوظائف تجري على قياس معلوم في نطاق محدود، وليس فيها مجال للتعمق ولا للإغراق ولا لاختلاف المذاهب والشروح
ومع هذا نبحث عن الإنصاف في محاسبة الموظفين فترى عشرين مثلاً للإجحاف والإهمال. والنسيان وسوء التقدير إلى جانب مثل واحد من أمثلة الجزاء الحق والقسطاس المستقيم
فكيف تكون الحال في تقويم الأدب والأدباء؟ وكيف تكون الحال في الجديد من المقاييس الأدبية، ولا خير في المقاييس الأدبية إن لم يحسب فيها حساب التجديد والإبداع؟ وكيف تكون الحال في الرأي المستقل والخلق المستقل والعمل المستقل، ولا خير في الأدباء إن لم يكن لهم استقلال في الآراء والأخلاق والأعمال؟
أحسب أنني تحدثت بالبداهة يوم استعذت بالله من تسليط الدولة على مقاييس التفكير وأقدار المفكرين
ولكننا في البلد الذي (من فاته الميري فيه وجب عليه أن يتمرغ بترابه. . .)، فلا عجب أن يثقل ذلك المقال على كثير من أصحاب الأطماع والآمال، وأن يأبى بعض الذين كتبوا في الصحف وبعض الذين كتبوا إلي إلا أن يكونوا كتاباً (أميريين). . . فإن لم يكونوا أميريين فلا أقل من التراب وما شابه التراب
ويكتب إلي من يقول إن مقاييس الدولة في مصر لن تدوم على ما أصابها من قبل أو يصيبها الآن من العيوب، فهي في الغد كفيلة بحسن التقويم، ومتى حسن التقويم فلماذا هذا الحذر من الجور القديم؟
وتشاء المصادفة أن أقرأ هذا وأقرأ معه فصلاً مسهباً عن (الأربعين الخالدين) في فرنسا(309/4)
منقولاً في المجلة الإنجليزية (العصر الحي) عن الكاتب الفرنسي هنري بلامي يتناول فيه مجمع فرنسا المشهور وأساليب اختيار الأربعين الخالدين من أعضائه، فإذا هي حال لا نتمنى تكرارها في بلادنا على فرط الحاجة فيها إلى التشجيع والإغضاء عن بعض العيوب.
وحسبك من تلخيص هذه الحالة أن تعرف أسماء الذين استثناهم المجمع من زمرة الأدباء النابهين وبينهم أمثال: موليير، وروسو، وديدرو، وميرابو، وأندريه شنييه، وستندال، وفلوبير، وجوبتيه، وبودلير، وميشليه، وفرلين، وملارميه
وفي وسعنا أن نضيف إليهم ديكارت، ومالبرانش، وباسكال وبومارشيه، وهلباخ، وزولا، وموباسان وغيرهم من أدباء هذه الطبقة الذين عرفهم العالم بأسره ولم يعرفهم المجمع الأدبي في بلادهم!
حسبك من تلخيص تلك الحالة أن تعرف أسماء هؤلاء وأشباه هؤلاء، بعد أن مضت ثلاثة قرون على نشأة ذلك المجمع في عهد الكاردينال ريشيليه، فماذا أغنى وجود المجمع واعتراف الدولة به إنصاف ذوي العقول والقرائح والأقلام؟
نعم إن أصحابنا الخالدين قد اعترفوا بأقدار فولتير، ولافونتين ورينان، وأناتول فرانس، وأناس من طرازهم تفتخر بهم الآداب الفرنسية والآداب العالمية. . .
ولكن متى اعترفوا بأقدار أولئك الأقطاب الأفذاذ؟ إنهم لم يعترفوا بهم إلا بعد أن اعترف بهم (رجل الشارع) كما يقولون، وشاع ذكرهم في الأقطار الغربية والشرقية، فلم يكن للخالدين فضل على غير الخالدين في تقويم القيم وتصحيح الموازين
فإذا كانت مجامع الدولة على منوال الأكاديمية فرانسيز تجهل من جهلت وتنسى من نسيت وتنكر من أنكرت، ثم ننظر إلى من شهدت لهم بالفضل فإذا هم مشهود لهم بفضلهم قبل أن يصلوا إلى عتباتها، فما أغنى بني الإنسان وأغنى أصحاب القرائح والأذهان عن ذلك المقياس وذلك الميزان! وما أولانا أن نرجع إلى (الأصل) وأن نكتفي به دون ماعداه، إذا كان الأصل هو رأي القراء والتبع اللاحق به هو رأي الخالدين من أولئك الأعضاء الأجلاء!
قد يقال إن الكتاب والشعراء يستفيدون الجوائز التي توزعها الدولة على أصحاب الآثار(309/5)
الجديدة والطرائف البارعة في كل عام
فإن قيل هذا فلنعلم أن الأعضاء الخالدين لا يقرءون الجديد. وقد قيل إن الأديب المشهور ألفريد دي فيني زار (الخالد) روبيه كولار ليطلب منه التزكية والشهادة فسمع منه رأياً لم يعجبه، فسأله: كيف تحكم على كاتب لم تقرأ سطراً واحداً من كتبه! فأجابه الخالد وهو راض عن جوابه: يا صاحبي! إنني لم أقرأ شيئاً قط منذ ثلاثين سنة. وحسب من كان في عمري أن يعود إلى مراجعة الأقدمين حيناً بعد حين)
قال دي فيني: (إذن كيف تبدي رأيك في المجمع يا سيدي؟)
قال الخالد متعجبا: (كيف أبدي رأيي؟ هذا من شأني. إنني أذهب إلى هناك ولا يعنيني أن أخبرك عن طريقتي في إبداء رأيي، ولكنني أبديه. . .)
وقال كاتب المقال الذي أشرنا إليه والعهدة عليه: إن الشاعرة لويس كوليه التي عاشت في عهد الإمبراطورية الثالثة وأنعمت بالسعادة على كثير من الكتاب والشعراء تذكرت يوماً أنها لم تحضر قصيدتها لجائزة المجمع ولم تشأ أن تضيع عليها تلك الجائزة، فما هو إلا أن دخل إليها فلوبير وبويليه زائرين حتى أفضت إليهما بهمها، فما زاد الخبيثان على أن فتحا دواوين لامرتين ونقلا منها مئات السطور من هنا وهناك ووصلا بينها على ما يقتضيه حسن الحبك والصياغة، وأرسلا القصيدة إلى المحكمين فظفرت بالجزاء والثناء وتهنئة الأعضاء!
ثم تحسب مقادير هذه الجوائز التي توزع بهذا المعيار وتحسب الأموال التي تودع المصارف لاستغلالها باسم المجمع الموقر، فإذا هي جدول صغير من ذلك الخضم الغزير على عهدة ذلك الكاتب الأديب، والعهدة كلها فيما نرويه هنا عليه!
أما أعمال المجمع التي تصدى لها منذ إنشائه فمعجم لا يعد من خيرة المعاجم يسهل الاستغناء عنه ويبدو نقصه كلما فرغ من طبعه فيعاد تنقيحه وتأليفه، وإلى جانبه كتاب أجرومية مزيته الأولى أنه مشحون بالأخطاء النحوية والصرفية، بدءوا به في القرن السابع عشر ولم يفرغوا منه إلا منذ بضع سنوات (1932)
وقد عهد إلى المجمع يوم إنشائه في إصدار (قاموس تاريخي) فصدر الجزء الأول منذ سنة 1865 منتهياً بكلمة وصدر الجزء الثاني بعد ثلاثين سنة، وسيتمه المجمع على هذا(309/6)
القياس حوالي سنة 4855 بعد الميلاد
ولعل القارئ يذكر ما يجري في الشركات والجماعات الخيرية والحكومية التي يندب لها (كاتب سر) أو (وكيل عام). فإن الشأن الغالب عليها أن تستبد بها كاتب السر أو الوكيل العام بعد حين فلا يقع في ملكه إلا ما يشاء
فهذه العادة الغالبة هي بعينها التي تغلب على الأربعين الخالدين فلا يبرمون ولا ينقضون إلا بمشيئة من كاتبهم المختار. . . حتى قال سان بيف: إن هذا الكاتب (يحكم ويلي) في وقت واحد خلافاً للملوك الدستوريين!
كل هذه المهازل يعلمها الأعضاء الخالدون ويعلمون أنها شائعة على ألسنة الكثيرين، ولكنهم يجيبون هازلين بلسان فونتينل: (نحن سخرية الساخرين حين نكون أربعين، ولكننا معبودون مقدسون كلما أصبحنا تسعة وثلاثين!. .)
يريد الشاعر أن المرشحين يتملقونهم ويثنون عليهم كلما مات واحد منهم، فأصبحوا تسعة وثلاثين وراح الطامعون يتزاحمون على الكرسي الفارغ، ولكنهم بعد هذا سخرية الساخرين كلما بلغوا تمام العدد المقدور، ولا ندري لماذا يقف الخلود والخالدون عند الرقم أربعين!!
فالمجامع (الرسمية) جميعها على هذا النمط أو على نمط قريب منه بعد حذف المبالغة الفكاهية التي لا تقوى على تبديل الحقائق التاريخية!
وفحوى هذا أنها إذا أريدت لعرفان الأقذار في إبان نبوغها فهي لا تجدي ولا تنصف ولا تزال متخلفة وراء الصفوف بعد أن يفرغ القارئون من الإعجاب ويفرغ المعجبون من التنويه
وإذا أريدت لإغاثة المفتقرين إلى المدد والمعونة فهي لا تغيث المستحق ولا تتورع عن استغلال الأموال وتثميرها كما يثمرها التجار وأصحاب الأقساط والسهوم
وإذا أريدت لإنجاز عمل من أعمال اللغة والأدب فهي لا تنجزه على الوجه المطلوب ولا في الوقت المعقول
ويبقى بعد ذلك أنها تضير ولا تنفع بما توليه الصغار من أقدار الكبار، وما تجنيه على أقدار الكبار من الغضاضة والإنكار
يفتح الله يا عشاق (الميري) وترابه. . . فلا الميري أفضل من المجمع الفرنسي ولا جمهرة(309/7)
القراء في إنصاف الأدباء، ولا ترابه أفضل من التراب، عند أولى الألباب!
عباس محمود العقاد(309/8)
تعليق وتذييل حول
مناوأة الخدر والنعاس في الأدب المصري
للأستاذ زكي طليمات
أثار صديقاي الأستاذ الكبير توفيق الحكيم والدكتور بشر فارس مسألة الكساد الذي يعانيه النتاج الأدبي في مصر وهذه مسألة الساعة على ما أعتقد، وهي شغل الخاطر منذ أن راعنا كساد سوق الأدب والأديب في هذه السنوات الأخيرة، وهي سنوات مليئة بالأحداث تغيرت معها بعض أوضاع المجتمع المصري في السياسة وفي نظام الحكم، وهي سنوات تتصف بالنشاط والحركة، وبمحاولة التخلص من جمود ران على الذهنية المصرية القومية منذ أمد بعيد، وكان من أبين مظاهر هذا الجمود ركود الأدب وانكماش ملكات الابتكار والتوليد فيه بما يتفق وروح العصر. . .
والذي أراه في هذا الصدد ويعن لي أن أبديه في هذا المقام هو أن من الحرج أن نرد أسباب هذا الكساد الذي يشمل عالم الأدب في مصر إلى الأديب وحده، وأن نتهم الكاتب المنشئ وحده بالخدر والنعاس، لأن الواقع يخالف هذا. وآية ذلك أن المطابع تطلع علينا كل يوم بالمؤلفات أو التراجم في صنوف الأدب والفن، ولا أعلم أن النتاج الأدبي في مصر بلغ من الكثرة مثل ما بلغه اليوم
فإذا كان هذا النتاج لا يقابل من الجمهور بالحماس الواجب، فلأن الفتور مفروض على كل شيء يجري في مصر، ولأن عدم الاكتراث صفة - ويا للأسف - من صفات الأكثرية الغالبة من الجمهور المصري ولا سيما فيما له علاقة بالأدب والفن. ومرد ذلك - على ما أعتقد - إلى الطبع المصري الذي لم يستكمل بعد عناصر يقظته، ولم يستخلص له ذوقاً أدبياً صريح الطابع متماسك الأطراف متقارب النزعات يشمله التناسق والتوازن
ومن ثم كان اضطراب المزاج في استيعاب الأدب وصنوفه، فإذا هو مزاج يعج بالبدوات ويخرج على شرعة الانسجام بميوله المتباينة ونزعاته الملتوية. وجمهور القراء في مصر خاضع لهذا الاضطراب، فمنهم من يعيش بميول القرون الوسطى أو بما قبلها، ومنهم من يفزع من قراءة كل جديد في الفكر والرأي، ومنهم من هو ثائر على كل قديم، ومنهم من لا يرتاح إلى القديم أو الجديد ولا يعرف ما يريد!! هذا والسواد الأعظم من هذا الجمهور(309/9)
في صنوفه المتباينة التي ذكرت، على ثقافة مرتجلة أو هزيلة لافتقارها إلى الغداء السليم. هذا ولا أتحدث عن الأمية التي ما برحت متفشية بيننا، ولا عن التعليم البسيط الذي لا يتجاوز مدى الكتابة والقراءة، وهو حظ الأكثرية الغالبة من جمهور القراء، أو المتأدبين، إذا صح أن نطلق عليهم هذا الاسم باعتبار أنهم قراء أوفياء للمجلات الهزلية وروايات الجيب وما شاكلها
بعد هذا يصح أن نقول إن الأدب في مصر لم يصبح بعد لدى أكثرية الجمهور غذاء لابد منه وحاجه لا غنى عنها، وإنما هو لدى البعض زخرف وزينة، ولدى البعض الآخر ضرب من ضروب التسلية التي لا يستطاب الإقبال عليها في كل وقت
وما دام الأمر كذلك فقد قدر علينا أن نرى محنة الأدب قائمة بيننا تغير وجوهاً ولا تتغير، تخف وطأتها بمقدار نصيبنا من انتشار التعليم ورفعة المستوى الثقافي العام. وملاك الأمر في هذا راجع إلى جهودنا وإلى شرعة التطور والارتقاء، التي هي كلمة الزمان وإرادته.
وإذا كان الصديقان الكبيران توفيق وبشر لا يريان ما أذهب إليه أو يريانه بعين الواعية الباطنة ثم هما لا يجرؤان على الإفاضة فيه والتنبيه إليه التنبيه الواجب، بل يعرضان له لمحاً ويعبران به عبراً، فذلك لأن الصديقين أديبان أصيلان مشبوبان، أخذت هوية الأدب بشغاف قلبيهما، فهما يحذران لمس العلة الكبرى التي يشكو الأدب منها في مصر أكثر من أي شيء آخر، وإذا هما لمساها بإيحاء خاطر يطلع عليهما من وراء الوعي، فإنهما لا يطيقان التمعن فيها، وسرعان ما يفزعان إلى أشياء أخرى يتعللان بها ويموهان بها على نفسيهما
كذلك كان شأني إذ كِنت أعمل في المسرح المصري راكباً رأسي شاحذاً عزمي، لا همَّ لي إلا أن أفرض فن التمثيل على الجمهور، فقد كنت أعتقد أن أسباب كساد فن التمثيل ترجع إلى افتقار المسرح المصري إلى الممثل القادر والمخرج الحاذق والمؤلف النابه
كنت أعتقد هذا وأرفع صوتي به وأعمل على تلاقي هذه الأسباب. ولكن كان يقع لي أحياناً أن يهجس بي هاجس خفيت الصوت نافذة يهمس في أعماق نفسي أن العلة الأولى والأخيرة في كساد المسرح إنما هو الجمهور. . .
ماذا كنت أعمل؟(309/10)
كنت أغالط نفسي، وهذه المغالطة - على ما أظن - مظهر من مظاهر كبرياء الفنان ومن حبه الكبير لنفسه ولفنه!
هذا عن جمهور المسرح، وموقفه من فن التمثيل كموقف جمهور القراء من الأدب. وجمهور القراء واحد من ثلاثة عناصر رئيسية يقوم عليها عالم الأدب في كل زمان ومكان.
أما الكاتب المنشئ فموقفه من محنة الأدب في جمهور قرائه أنه لا يجيد العمل على تخفيف هذه المحنة بما يمتلكه من الوسائل.
إذا أحس الكاتب في مصر بأنه يجيد الكتابة في أسلوب طلي وبيان رائع، وإن النفس يطول به إلى تسويد الصفحات المتوالية فقد نصب نفسه أديباً لا يشق له غبار، وينسى الأديب البطل المغوار - أو هو يتناسى - أن العبرة في الإنتاج الصالح. ليست بالكمية، وإنما بالجودة. وجودة الأدب أن يكون نباضاً بالحياة مما يشغل أذهان الناس، ويدخل على قلوبهم ويحرك رواكدهم، وينفخ فيهم نفساً من الحياة الدافقة التي ينطوي عليها.
وإذا صح هذا فإنه يصح أيضاً - وهو الأمر الذي ترقى إليه الظنون - أن ننفي عن الأديب المصري تهمة النعاس والكسل، لأنه يعمل ويعمل كثيراً بدليل ما يطالعنا به كل يوم من المؤلفات والتراجم في مختلف نواحي الأدب، وهذا جل ما أفدناه من أخذنا بأسباب تطورنا الأخير.
إلا إن هذا العمل الكبير يعوزه التوجيه الصائب والاستشعار الكامل بمهمة الأدب، ولهذا فإنه ينصب في غير غاية مقصودة ألهم إلا غاية الكتابة والتحبير فحسب.
وتوجيه الأدب أمر لا يتم بمجرد الطلب والتمني. واستشعار مهمة الأديب قد لا تحول كاتباً عن طريق اختطه لنفسه ولا تخرجه عن أسلوبه المختار ما لم تعاونها ظروف خاصة أبينها نصيب المجتمع الذي يعيش فيه الأديب من يقظة الروح المعنوي، وتفتح الذهنية العامة على الآفاق النائية، وقدرة البصيرة على تمييز الأشياء المختلطة ثم اختيار ما تريده منها؛ ثم قسط هذا المجتمع من صدق العاطفة ومن الصراحة ومن الإخلاص.
ولا أريد أن أحدد نصيب مجتمعنا وقسطه مما ذهبت إليه الآن. وحسبي أن أقول إن ما نراه من انحراف أدباء مصر - ما عدا القليل مهم - عن معالجة الأمور الهامة التي يخفق بها(309/11)
قلب مجتمعهم إنما مرجعه إلى أن أكثرية هؤلاء الأدباء ليسوا على حس مرهف تنطبع عليه كل التيارات التي تنبعث من واعية المجتمع ومن وراء واعيته، وإن هذه الأكثرية تعيش بعين الماضي لا بعين الحاضر، أو أنها لا تحيا إلا في أجواء الكتب التي نطالعها أو أنها تعبث لاهية مزهوة بالآراء الواردة علينا من أوربا مع واردات الأزياء وأخبار نجوم السينما.
والأديب إذا لم يكن على هذا الحس المرهف لم يستطع أن يلتقط الهمسات التائهة التي ترتفع من وراء واعية مجتمعة، هذه الهمسات التي هي رغبات مكبوتة، وآمال مقنعة منشودة لا تقوى الجماهير على المصارحة بها، وتترك أمر الإبانة عنها وترديدها في جلجلة الرعد القاصف إلى قلم الأديب.
أوجب واجبات الأديب نحو نفسه ونحو قومه ونحو فنه أن يستخرج هذه الهمسات من الضوضاء التي تحيطها، وأن يستلها من معاقلها ليحولها إلى ليحولها إلى صيحات صريحة تدوي في الفضاء. فإذا لم يفعل ذلك فقد قضى على نتاجه بالعزلة عن الناس، وقطع ما بينه وبين الينبوع الذي منه يخرج ما يثير اهتمام الناس ويهز الركود الذي يرين على الأدب. إذا لم يفعل ذلك قضى على نفسه أن يعيش على هامش الحياة، في حين أن الجمهور يعيش في صميم الحياة، كما يقضي على أدبه ألا يتجاوز أمر المرآة التي لا ينطبع عليها من آثار الأرض سوى أعالي الشجر ورؤوس التلال
هذا هو الحال الأدباء في مصر وهذا هو موقفهم من محنة الأدب، وإن كان من بينهم من سبقوا عصرهم وأدوا شيئاً من رسالة الأدب الحقة
أما حال الناقد، وهو العنصر الثالث الذي يقوم عليه الأدب، فلا أجد ما أصفه به أبلغ مما جاء في مقال الدكتور بشر فارس: (فإنه في غالب الأمر وأكثر الحال ينوه بصديق، أو يقع عدو، أو يهمل كتاباً جهلاً بفنه أو إنكاراً لنفاسته أو اتقاء لصاحبه أو تسامياً، أما التسامي فيدل على ذهاب بعضهم بأنفسهم على كل أحد وذلك من باب الغرور، وقصة الغرور معروفة. . .)
وإذا كان هذا هو شأن الناقد أيضاً، والناقد الحق هو بوق الكاتب المنشئ، ومذيع أعماله، ومقيم الميزان الذي لا يحيف ولا يخطئ لنتاج الأقلام، بل هو الحركة الدائبة التي تدفع(309/12)
البطيء وتهز الركود؛ فليس عجيباً بعد ذلك أن يرين الخدر والنعاس على الأدب في مصر
فهل حان الوقت الذي نراجع فيه أعمالنا، ونشرع الحساب عل ضمائرنا ونفيق ونستقبل ضوء صباح جديد بعد نوم ثقيل طال؟
زكي طليمات(309/13)
من برجنا العاجي
في حياتي الفنية جانب مجهول أردت ألا أعترف به ورأيت أن أقصيه وأن أسدل عليه الستار، لأنه في نظري اليوم لا يتصل بأدبي ولا يجوز أن يدخل في عداد عملي. ذلك هو عهد اشتغالي بكتابة القصص التمثيلي لفرقة (عكاشة) حوالي عام 1923. غير أن المصادفة شاءت أخير أن ألتقي بمن يذكرني بهذا العهد، ويعرض عليّ طرفاً مما كنا نعمل في ذلك الحين. ذلك روائي اشترك معي في قطعة موسيقية قام بتلحينها المرحوم كامل الخلعي. ثم انقطع عن الفن منذ ذلك الوقت وشغلته شئون الحياة ثم اختلينا فجعل ينشد لي بعض أغاني رواياتنا القديمة وأنا في ذهول! شد ما تغيرت نظرتي للفن مرات ومرات خلال تلك السنوات! ولكنه هو باق كما كان على احترام تلك القواعد والمثل التي كانت هدفنا ومرمى أبصارنا في الكتابة المسرحية. إنه فيما خيل إلى لم يقرأ شيئا مما أكتب وأنشر اليوم. فهو لا يعترف بعملي الآن. وهو إذ يحادثني في شئون الفن لا يبدي اهتماماً ولا إعجاباً إلا بما كنت أصنع قبل خمسة عشر عاماً. أما اليوم فأنا في نظره غير موجود. إنه يذكرني بأشخاص رواياتنا الغابرة كمن يذكر بأناس من أهل الحسب والنسب والكرم والشهامة لن يجود بمثلهم الزمان. فهو يترحم عليهم ويقول: (مضى كل شيء! ولن نرى مثيلهم أبداً على خشبة مسرح من مسارح اليوم!). هذا الصحيح. وجعلت أتأمل قوله لحظة فخامرني شك في أمري اليوم وقلت في نفسي: (ألا يكون هو على حق؟ وأكون أنا قد ضللت وانحرفت عن طريق الفن الحق! إن فن المسرح فن مرجعه السليقة السليمة لا الثقافة الواسعة. إنه شيء والأدب شيء آخر. أتراني محتاجاً إلى خمسة عشر عاماً أخرى لأكر عائداً إلى ذلك النبع الذي بدأت منه ونأيت عنه؟).
توفيق الحكيم
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
6 - الأعشاش
الأشجار تتوجها الأعشاش المعمورة بالحب والرحمة والحنين. . . عليها أجنحة كاسرة،(309/14)
وفيها جوانح مشبوبة، ويطعم الحب فيها منقارا بمنقار
فيها دنيا من عالم القلوب. . . قلوب الطير ذوات الأطواق والسراويل والريش الملون والعيون الصافية التي استمدت صفائها من إدامة النظر للسماء
أعشاش مبنية من الأعواد وأوراق الشجر. . . تعبت في بنائها الأمهات والأباء لأداء الأمانة التي في صدورها للحياة. . . بناها هؤلاء بالمناقير التي يزق بعضها بعضاً بها حين الحب. . .
في كل عش فرخان يعين أحدهما الآخر على العزلة والنظر إلى الآفاق البعيدة. . .
خرجا من بيضتين متجاورتين، يحركان رأسيهما مغمضين أجردين من الريش معرضين لعوامل قاتلة من البرد والحر وأفواه الشر
من البيضتين انبثق حب دائم ربط بين قلبين صغيرين منسوجين من الهواء والضوء والصفو. . . هو حب اخوة وحب اجتماع في ظروف واحدة، وحب خوف من عالم النور والظلام، وحب زوجية. حديثهما حول هذا الطائر الكبير الذي ينهض من الشرق في الصباح ويملأ الدنيا وقلبيهما بالحرارة والدفء وعيونهما بالنور الذي يكشف لهما عن الأغصان والأفنان. . .
ألم تروا مرة أم فراخ بين أفراخها في عشها؟ ألا ترون الصبر والجد والصرامة واللهفة واليقظة لكل نامة حول العش؟
تصيح الصغار صياحاً ساذجاً بحناجر جديدة الانشقاق رطبة الأوتار. وحين تصيح الكبار تجد الجد والوقار والشعور بالمسؤولية وعبء التربية. لو اقترب الأسد من عش الطير لاعتراه خوف وخشية. . . فإن القبرة تهاجمه هجوم الغائب عن وعيه الحفيظ على أمانة الحياة في صدره. . . لا تبالي الموت ولا تحفل أدواته
إن غضب الطير للمأوى شيء مقدس جليل رائع. إنه ينفش ريشها ويجعلها تنفث أنفاساً من نار، ويدفع بمنقارها في صدر المهاجم. ليت بعض الخونة لأوطانهم ومأواهم يفهمون تلك الأسرار المقدسة في صدور العباد فيعملوا لها ولو بجهد الطيور الضعيفة
7 - ذعر نحلة
كنت جالساً على الأعشاب أكتب وأمامي محبرة، فجاءت نحلة تبحث عن رحيق الأزهار(309/15)
فحطت على فم المحبرة ووقفت لحظة تنظر إلى تلك اللجة السوداء المسحورة، ثم فرت وتركتني في دوار
أتراها أدركت عمق هذه اللجة حين وقفت على شاطئها؟ أتراها أدركت بعينها الصغيرة ما ندركه نحن حين نقف على هذه البئر المسحورة؟
أتراها أدركت أن هذا الإناء دن كبير طالما سقط الناس صرعى سكرهم بخمره الأسود؟
لقد سكرنا به عن كل شيء. . . ومضينا في دنيانا نرى الحياة من خلال كلماته كما يرى السكير الدنيا من خلال حبب الكئوس
سُكْرٌ وسُكْرٌ يصرعان ألباب ذوي الألباب، والمدمنون على الخمر يتهمون المدمنين على الحبر بالغفلة والعمى عن اللذة. . . وكذلك المدمنون على السكر بالحبر يبادلونهم نفس النعوت والألقاب، (وكل حزب بما لديهم فرحون)
لابد للأفكار أن تغتسل في هذا الإناء نحلة، قبل أن تخرج إلى الوجود. . . إن ماءه يسجد المعاني ويطلسم أفكار البشر
المخ والمداد. . هذا البياض وهذا السواد يتلاحقان فيلدان أشرق وأبقى ما في الدنيا: عالم الفكر!
نعم إن في لجج بعض المحابر ماء زائفاً وضلالات وتعقيدات وغروراً وتجديفاً وسموماً، ولكن على الأقلام الحساسة أن تتيقظ وأن ترد الصفو وتتجنب الأخلاط كما تيقظت النحلة فلم تذق ما لم تخلق له. . .
طيري أيتها النحلة في رحاب الدنيا غائبة عن عيني وانشدي (ن، والقلم وما يسطرون. . .) وما عليك أن تَفْنَىْ، فقد صرت كلمة خالدة على قلمي. . .
8 - منطق كلب
كنت جالساً بين الأزهار الطاهرة الجميلة أتطهر وأتأمل، فمر كلب وجاء إلى شجيرة ورد فيها ورفع رجله وبال عليها. . .
خيل إلى أن الشيطان تقمصه، وأراد أن يسخر مني ويريني كيف يحتقر هو وجنوده ما أقدسه وأستغرق فيه. . .
وأقول الحق! إنه زلزلني ونال مني، فوضعت القلم ونهضت إلى الحياة خاضعاً لمنطق(309/16)
الشيطان على الأقل في تلك الساعة. . .
لم يَرُق الكلبَ لون زهرة ولا عطرها ولا حريرها كما تروقه وتعجبه القاذورات. . .
ومما تعجبت له أنه رفع رجله خوف البلل؛ ثم مد فاه إلى القاذورات. . . تناقض عجيب! وكذلك نرى بعض الناس ينجسون أقدس ما فيهم وأحقه بالطهارة، ويطهرون ما لو تنجس لم يضرهم شيئاً. . .
إنهم كلاب في أفواههم وأحشائهم. . . ولكنهم يتطهرون في أذنابهم وأرجلهم. . . لن يرفعهم شيئاً ن أقدامهم طاهرة، ما دامت رؤوسهم نجسة دنسة. . .
9 - غضب البلابل
رأيت بلبلين في عراك على أنثى. . . وكانا في غضبهما عنيفين يخرجان صوتاً أجش خشناً، ولا تبدو عليهما تلك الشاعرية التي تكون وقت الإنشاد والتغريد. . . ويل للفنان من غضبه!
ويظهر لي أن أحدهما مسكين فريد يريد أن يأخذ أنثى الآخر، فهو يلحقها ويغريها باللحاق به. لقد جاء الغروب، ولم يسمع صوتاً يناديه إلى العش ويعبث بمنقاره في طوقه. . . هو يريد أن يسكب في أذنيها تغريده الضائع، ويسمعها غزل قلبه حين يرى فتنة الأزهار
والأنثى واقفة تشهد الصراع بدون اشتراك فيه. لماذا لا تهجم على الواغل في حياتها الزوجية فتضع حداً للطمع والأغراء؟ يظهر أنها مبلبلة الخاطر زائغة العين. . .
الأنثى دائماً هي كبرى مشاكل الطبيعة عند كل فنان.
10 - غزل الضفادع
أسمع في الليل زمراً من الضفادع في الغدران والسواقي تبدي كل فنها وقدرتها في إخراج أصواتها. سكون مطلق يصدعه ضجيج منكر. في كل مكان فيه ماء حنجرة تصرخ في زفير وشهيق منكرين. مقطع صوتي واحد يتردد دائماً في الظلام. علمت صوتاً واحداً ففرحت به وجعلت تغني به دائماً كما يغني الإنسان صاحب البيان للمرأة والدينار. . .
لذات خفية في ضمائر الخلائق! لماذا كل هذا الجهد يا بنات الماء؟ أكل هذا غزل وقصائد حب في مطارح عشق تحت الظلام؟(309/17)
نعم، فهذه لغة أبناء لحياة من البعوضة للبعير، ومن الثعبان للفيل
هي لذة البلبل حين يمسح خديه بحمرة أوراق الورد لا يبالي أن يفقأ شوكة عينيه. . . وهي لذة الغراب حين يُنغض رأسه ويلوي عنقه ويخرج نعيقه في شناعة وإزعاج. . . وهي لذة الحمار حين يثور همه وحبه في صدره، فيخرجه صوتاً عميقاً خليطاً من البكاء والضحك. . . وهو عنده نشيد فيه فن وغزل وإغراء
وهكذا يملأ الغزل سمع الحياة من كل حي، والجميع في غفلة عن الغاية، إلا الذين ندُّوا عن حبال الشبكة المحبوكة الأطراف ووقفوا يديرون على أنفسهم وعلى الحياة وأبنائها.
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف(309/18)
أعلام الأدب
أرستوفان والديمقراطية
للأستاذ دريني خشبة
كان أرستوفان رجعياً إلى درجة السخف في رجعيته، لكنه كان على شيء غير قليل من الحق في تلك الرجعية التي حارب بها سيد شعراء الدرام يوريبيدز، وأبا الفلاسفة سقراط، والتي جعلها حرباً غير راحمة على الديمقراطية
يذكرون أن أولى كوميدياته (رجال من جزلتون التي تقدم بها للمباراة في الشعر الهزلي سنة 427 ق. م كانت تدور كلها حول التعليم العالي والحط من قيمته ونسبة كل شر حاق بأثينا وأفسد أخلاق شبابها إليه. . . والكوميديا وإن تكن مفقودة إلا أن النتف الباقية منها تعرفنا بموضوعها الذي يقوم بدور البطولة فيه، والد مسكين حائر بين ولديه. . . فأحدهما شاب تقي محافظ مستمسك بعروة السلف الصالح وتقاليده الوثقى، والآخر فتى متمرد فاسد يسخر بالماضي وسُننه العتيقة وآدابه البالية، فما يزال يتهكم بأسلوب الحياة التي يحياها والده، ويسفّه تقوى أخيه، ويتبجح بالموبقات التي يأتيها هو في غير تورع ولا استحياء، لأنها في زعمه من مقومات المدنية التي لا يفهمها إلا على أنها فسوق وخروج على المألوف
وفي سنة 423 تقدم بملهاته الخالدة (السحاب) التي ندد فيها ما شاء له لسانه السليط بسقراط وفلسفة سقراط، والتي يضع فيها رجلاً طاعناً في السن أمام سوفسطائي، فهو يسأله عن أبرعِ الطُرق التي يأكل بها ديون الناس عليه (!!)، ثم يصنع حواراً شائقاً بين العلة العادلة والعلة غير العادلة (!!) وينتهي بإحراق منزل سقراط! وسنعود إلى ذلك في فرصة أخرى لما (للسحاب) من مكانة فريدة بين كوميديات أرستوفان
وقد كان لرجعيته يعزو ما أصاب أثينا من تدهور وانحلال إلى أدب يوريبيدز، وسنفرد لذلك فصلاً خاصاً نتناول فيه كوميدياته الثلاث الكوامل التي خصه بها، وإن تكن لا تكاد إحدى كوميدياته تخلو من ذكر يوريبيدز والتنديد بيوريبيدز، وإن يكن يوريبيدز مع ذاك أستاذه وملهمه
وبعد، فماذا كان بين أرستوفان وبين الديمقراطية؟ ولماذا كان يبغضها ذلك البغض الشديد(309/19)
الذي تجلى في معظم كوميدياته؟ لقد تناولنا في الفصل السابق بعض الإجابة عن هذا وذاك، ونحن نضع بين يدي القارئ في هذا الفصل خلاصة لكوميدية أرستوفان المضحكة (الفرسان التي تقدم بها للمباراة سنة 424 ونال بها الجائزة الأولى من الهيئة الرسمية التي كانت تهيمن عليها حكومة كليون وقواد الجيش والشعب من أمثال نسياس وديموستين الخطيب المفوه العظيم
لم يبال أرستوفان أن يسخر بأبرز شخصيات الحكم في أثينا في ملهاته هذه، فصورهم تصويراً كاريكاتورياً مضحكا، مستعيناً في ذلك بميولهم الخاصة ووقائع حياتهم اليومية. ولعله أول رجل في التاريخ عمد إلى اختراع الشخصية الفكهة التي تمثل دولة بأكملها. فنحن نعرف أن شخصية جون بول تمثل في العصر الحديث دولة بريطانيا العظمى، كما تمثل شخصية العم سام الممالك المتحدة الأمريكية، وكما تمثل شخصية (المصري أفندي!) مصر الحديثة. وقد سبقنا أرستوفان إلى خلق هذه الشخصية المضحكة المحببة فابتكر لكوميديته شخصية (ديموس) ذلك الرجل الكهل الأناني الطاغية فجعله رمزاً لأثينا الهرمة المضطربة، للأثينيين الديمقراطيين الذين ذهبت دولتهم وشاع في أخلاقهم، واضطرب حبل حكومتهم، وذلك لما نشره فيهم السوفسطائيون وعلى رأسهم سقراط من فلسفة، وما بثه فيهم يوريبيدز من جرأة واستهتار بالتقاليد، وما أفسده به المرأة من تمثيل الغراميات المحرمة أمامها في المسرح، ولما صنع بهم الإفراط في الديمقراطية بعد بركليس من استباحة الحرمات وضياع القيَم وجرأة الأوشاب على السراة وأهل الرأي باسم الحرية وفقدان الحدود بين الطبقات
ثم سلط أرستوفان على ديموس هذا رجلاً مخاتلاً خداعاً هو زعيم الرعاع في أثينا (الديما جوج كليون) الدبّاغ (!!) وبائع جلود الحيوانات القذر (!) فجعل إرادة ديموس تتلاشى في إرادته، وجعله لا يبرم صغيرة ولا كبيرة إلا بإذنه، ولا يحكم على أحد بخير أو شر إلا إذا حكم عليه كليون بالخير أو الشر، فكان إلى جنبه إّمعة لا قيمة له ولا رجاء فيه، يُوَجهه حيث يشاء، ويسخّره لما يريد. . . وسماه كليون (ألبافلاجوني) أي التفتاف الذي يرسل الزبد في وجوه محدثيه حينما يكلمهم! ثم نعته بالعجرفة والصلف والقحة إذا كان أمام معارضيه، وبالتذلل والضراعة ولبس مسوح الرهبان إذا كان تلقاء مولاه؛ وجعل زملاءه(309/20)
العبيد يكرهونه وينفرون منه لأنه يستأثر بمولاه من دونهم، فيفرض عليه ما يرى هو، لا ما يرى جماعة العبيد
أما من هو كليون هذا فهو نفسه ذلك الرجل الهائل صاحب الأمر والنهي في أثينا في ذلك العصر. . . الرجل الذي رفعه الرعاع ورفعته الديمقراطية المطلقة إلى ذروة الحكم، وألقت إليه بزمام السلطة يصرفها كيفما يشاء ما دام في حرز حريز من رضى الغوغاء، وما دام متمتعاً بمحبتهم الجاهلة الخرقاء
كان كليون إذن عَبْداً لمولاه ديموس بالدهاء والختل، لكنه كان سيد أثينا ودكتاتورها المطلق عن طريق هذا (الطّبْو!) ديموس نفسه، فماذا يصنع أرستوفان لخضد شوكته وتحقيره كما يحقّر هو أحلام أمة بأسرها؟
لقد جعل له نِدَّيْن من العبيد الأرقاء على شاكلته، هما نسياس وديموستين. . . ونسياس وديموستين هما أعظم رجال الحربية الأثينية في ذلك العصر. وقد أورد أرستوفان أسميهما صريحين كما أورد اسم كليون، ثم جعلهما من عبيد ديموس (أوجون بول أثينا!)، وجعلهما يحقدان أشد الحقد وأمره على كليون لأنه استبد بالسلطان من دونهما فراحا يتمنيان له الشر ويتلمسان له البلاء المبين. . وقد كان نسياس رجلاً فطرياً ساذجاً محافظاً على القديم، يعتقد اعتقاداً جازماً بالخرافات. أما ديموستين فقد جعله أرستوفان رجلاً مرحاً في برود وعدم مبالاة، إذا اعتزم شيئاً لم يتردد في تنفيذه ولو خرط من دونه القتاد، وكان يقبل على الخمر ويشغف بها شغفاً شديداً، فكانت تضاعف من جرأته وتزيد في إقدامه
وقد غيظ نسياس وديموستين من كليون لأنهما أقدم منه في خدمة مولاهما ديموس، فقد اشتراه بعدهما بزمن طويل، ومع ذاك فقد تقدم عليهما عنده بدهائه وطول حيلته، ولذلك فكرا طويلاً في عزله من منصبه في خدمة مولاه، فذهبا ليستوحيا كهنة باكيس، فقيل لهما إن الذي يخلف كليون في منصبه في خدمة ديموس هو شخص من صميم الشعب الديمقراطي!! هو بائع الأكارع (والسجؤ!!) أجورا كريتوس. . . (من أجورا حيث ألتمس الرزق لي ولعيالي!) أي أن أسمه مشتق من أجورا الذي هو سوق الحوايا (الكرشة والأكارع والأمعاء والفشة وما إلى ذلك. . . من أسواق أثينا!!). . .
وقد تحققت نبوءة باكيس. وأقدم كريتوس (في آخر الملهاة) حيث استطاع أن ينفذ إلى(309/21)
الصميم من قلب ديموس، وأن يحل فيه محل كليون الذي لم يستطيع أن يباري (بائع السجؤ) في ميدان المهاترة والوقاحة والبرجوازية! وبذا تربع كريتوس في كرسي الوزارة - كرسي النبل والشرف! - مكان الغريم المنهزم.
وهكذا كان منطق أرستوفان في تحليله للديمقراطية. . . فمن يستطيع أن يجرد هذا المنطق العجيب من الحق - أو من بعض الحق - فيما يتعلق بمآل الديمقراطية إذا منحت بلا قيد ولا شرط لشعب أخذت عوامل الانحلال تدب فيه مثل الشعب الأثيني؟ ومن يمنع بائع السجؤ من أن يصل إلى كرسي الوزارة ليتحكم في أعناق السراة من النبلاء وأساتذة الجامعة ومسرح الأكروبوليس فيتصرف فيهم كأنهم عبيد أبيه أو قطعان الماشية يسيمها حيث يشاء!
هذا وينبغي أن نرجع إلى الوراء قليلاً لنعرف ماذا نشب من المعارك بين أرستوفان وبين كليون قبل نظمه لفرسان سنة 424 ق. م فإن تاريخ العداوة بين الرجلين يرتد إلى ما قبل ذلك، حينما تقدم أرستوفان بملهاته (البابليون) - وهي ما تزال ضائعة إلى اليوم - للمباراة العامة في الشعر الكوميدي في عيد باخوس الصيفي (الديونيزيا) سنة 426، وهو العيد الذي كان يحضره أحلاف أثينا من كل صوب ليشاركوا الأثينيين أفراحهم، فكانت هذه الملهاة مما شاهدوا، وفيها صور أرستوفان أحلاف أثينا عصبة من العبيد الأرقاء يجرون طاحونا ثقيلاً لديموس (جون بول أثينا!) وكان صارماً إلى آخر حدود الصرامة في حملته على النظام الديمقراطي السائد الذي كانت تهيمن بوساطته عصبة بعينها من الزعماء على مقاليد الحكم فلا تريم عنها ولا تستطيع فئة أخرى أن تحل فيه محلها ما دامت الأكثرية - والأكثرية دائماً هم الغوغاء - مؤيدة للفئة الأولى.
كان أرستوفان عنيفاً إلى غاية حدود العنف في هذه الملهاة المفقودة، وقد استطاع أن يفضح كليون وزبانيته فضيحة قهقه لها الأحلاف من وراء أشداقهم، وإن صورهم في هذه الصورة المزرية الشائنة التي خفف من مرارتها في نفوسهم ما شاهدوا من تصويره لرجال الحكم وعلى رأسهم كليون الهائل. . . فلما عاد الأحلاف بعد انتهاء حفلات الديونيزيا، أمر كليون فقبض على أرستوفان وحوكم من أجل ملهاته تلك بتهمة الخيانة العظمى، لأنه فضح الدولة وأهان أحلافها، وصنع ذلك في غير تورع ولا احتشام في عيد ديني قومي!(309/22)
ولسنا ندري ماذا كان الحكم الذي أصدره القضاة على أرستوفان. ويبدو أنه لم يتعد الغرامة أو التوبيخ، ونستنتج ذلك مما صنع أرستوفان في العام التالي حينما تقدم إلى المباراة الكوميدية في عيد الريع الـ (لينايا) سنة 425 - أي بعد محاكمته بتسعة أو ثمانية أشهر تقريباً - بملهاته ألـ أخارنيين - وهي أقدم ما حفظت لنا يد العفاء من كوميديات أرستوفان - وفيها يعتذر للجمهور عما وقع فيه من إهانة الحكومة وتحقير الحكام في ملهاته سالفة. . . ولو أنه كان قد حكم عليه بحكم شديد أو يتعدى الغرامة أو التوبيخ لما استطاع في مثل هذه السرعة أن ينظم ملهاته الجديدة، ويحتفظ فيها بثباته وبراعة نكتته، ولما تناول فيها شخصية كليون أيضاً بشيء من التهكم اللاذع، وإن يكن هذه المرة قد بدا رفيقاً بالطاغية الجبار، فكان يسخر منه حينما يفعل ذلك في حيطة وحذر وحساب شديد
وكأنما ضايق أرستوفان أن يقف مكتوفاً هكذا لأن كليون يخفيه، ففرج عن نفسه بمهاجمة شخص آخر هو لا ماخوس، ثم شخص ثالث هو خصمه الأكبر يوريبيدز الذي يسلقه هنا بلسان حديد، ويعزو إليه إتلاف روح أثينا! وقد عجب الشاعر الكوميدي المعاصر لهذا التحرش المستمر من أرستوفان بيوريبيدز، وكان مما لاحظه أن أرستوفان ينسج على منوال خصمه ولكن في ميدان الكوميديا، فكأنما كوميدياته هي معارضات لدرامات يوريبيدز. ومن أجل هذا اخترع كراتينوس اللفظة: التي نحتها من اسمي الشاعرين للإشارة إلى تقليد أرستوفان لخصمه، وهي كما ننحت نحن في العربية بعض الكلمات التي تدل على عبارة من نحو يحوقل أي يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويحيمل من قوله حي على الصلاة الخ.
وملهاة الآخارنيين هي ملهاة نظمها أرستوفان من أجل الدعوة إلى السلام خلال حروب البلوبونيز (المورة)، وبطلها دِسيوبوليس هو مواطن أتيكي ساذج لكنه مقاحم ذكي ثاقب الفكر، وقد اضطر أمام جيوش الغزاة الإسبرطيين الذين اقتحموا قرى أتيكا إلى الفرار إلى أثينا ليلوذ بأسوارها. . . وهنا تثور ذكريات الريف الجميل الهادئ الفطري بخلد الرجل، فيأسف على العيش الساكن البسيط، وأويقات الصفاء في حقول أتيكا فيتمنى على أرباب الأولمب أن تنشر ألوية السلام على ربوع الوطن لتعود مياه الحياة إلى مجاريها. . . وتتسلسل وقائع الكوميديا فينعقد مجلس الدولة ويشتد الجدل، ويشتط الزعماء فيقسمون ألا(309/23)
يكون سلام حتى ولو تنزل إله من السموات يأمرهم به!. . . على أن الأمر ينتهي بعقد الهدنة لمدة ثلاثين سنة فيعود دسيوبوليس جذلان فرحاً إلى ريفه الجميل، ويتمتع الناس بسلم طويل يفيقون فيه من أهوال الحرب التي جرتها الديمقراطية - أو جرها زعماء الديمقراطية المستبدون - على الوطن الحزين المسكين.
ولما كان أرستوفان يحس ما يلقاه الأتيكيون من أهوال حرب المورة؛ فقد استمر يدعو إلى السلام في كثير من كوميدياته ففي سنة 421 تقدم بملهاته (السلام) التي جاءت آية من آياته. . . وهي ملهاة خيالية يصور فيها رحلة فلاح أثيني على ظهر خنفساء (!) إلى السماء ينشد السلم ثمة، لأنه سئم الحرب وضج من أهوالها! ولشدة حيرة الفلاح يجد أن الآلهة قد ذهبت في السماء صعداً لأنها هي الأخرى قد نفرت من الناس واشمأزت مما تقترفه أيديهم من قتل بعضهم لبعض ومن سفكهم الدماء بغير الحق، ويجد الفلاح أن الآلهة قد أظهرت شبح الحرب على شعاف الأولمب في حين أنها قد خبأت طيف السلام في كهف هناك سحيق، فيجره ويعود به إلى الأرض، وفي ركابه طيف العيد وطيف المحصول وهما عروسان جميلتان، فيتزوج عروس المحصول ويدخل بها على نغم عروس العيد وغنائها.
دريثي خشبة(309/24)
في بلاط الخلفاء
بين الشعبي وعبد الملك
للأستاذ علي الجندي
قضى عبد الملك بن مروان شطراً من خلافته في رتق ألفتوق وسدِّ الثُّلم والقضاء على منافسيه والخوارج عليه، فبلغ من ذلك ما أراد بعد أن خاض أهوالاً تشيب لها ناصية الطفل، واضطلع بأعباء تنوء بها الجبال، فعدّ بحق رجل الأمويين، ومر بي ملكهم ومؤثّل دولتهم. ولم يَعْد الصواب من وازن بينه وبين معاوية فقال: معاوية احلم، وعبد الملك أحزم. ولم يَغْل عبد الملك في وصف نفسه من خطبة له: أيها الناس، والله ما أنا بالخليفة المستضعف (عثمان)، ولا بالخليفة المداهن (معاوية)، ولا بالخليفة المأفون (يزيد)؛ فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا!
والآن تحتويه دمشق الفيحاء، وقد اتسق له الأمر، وصافحه الإقبال، ونفض عن كاهله غبار الحروب، وتكفل له طاغية ثقف وجبّار العرب بقمع أهل الفساد والشَّغب، والضرب على يد الأسود والأحمر على السواء! فكيف يقضي أوقات الفراغ التي انفسحت أمامه؟ وبأي الوسائل يروّح نفسه، ويدخل عليها البهجة والمسرة؟
لم يكن عبد الملك مُعَنَّى بالنساء، ولا منهوماً بالشراب، ولا مستهتراً بالسماع، ولا موكلا بالصيد والقنص، حتى يلتمس المتعة في ذلك؛ ولكنه كان الخليفة جاداً زَميتاً وقوراً. وكان قبل الخلافة أزهد شباب قريش وأورعهم حتى لقّب بحمامة المسجد، كما كان يُقْرن في الفقه بسعيد بن المسيّب. أما روايته للأخبار، وحفظه للشعر، وبصره بالنقد وذرابة لسانه وسحر منطقه، وثقوب ذهنه، ووثاقة عقله، فقد أربى من ذلك على الغاية، ولعل التاريخ الأدبي لم يعن بالتحدث عن خليفة في الإسلام عنايته بعبد الملك والرشيد
فنُّ واحد من اللذات إذن يمكن أن يستهوي هذا الخليفة العالم الأديب، ويساوق طبيعته السامية. فن لا يقدره قدره إلا أصحاب المواهب المصقولة، والحسّ المرهف، والعقل المثقف، والذوق السليم، وهو محادثة الرجال ذوي العقول ومجاذبتهم طرائف الأخبار وبدائع الأسمار
وقد نوه الحكماء بهذه المتعة العقلية الرفيعة، فقالوا: محادثة الرجال تلقيح لألبابها. وأشاد بها(309/25)
أبن الرومي في شعره حيث يقول:
ولقد سئمت مآربي ... فكأنّ أطيَبها خبيثُ
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبدا حديثُ
وفي الحق أن عبد الملك ليس أول من طلب هذه اللذة ولا آخر من رغب فيها، فقد قال قبله معاوية: أصبْت من النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما أستمرئه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبثت الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم
وقال بعده سليمان بن عبد الملك: قد ركبت الفارة، وتبطنت الحسناء، ولبست اللين حتى استخشنته، وأكلت الطيب حتى أجِمته، فما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عنى مئونة التحفظ. إلى غير ذلك من الأقوال التي ملئت بها كتب التاريخ والأدب
لم يكد عبد الملك تهيج في نفسه هذه الرغبة حتى دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى عامله الحجاج بالعراقيين: إنه لم يبق لي من الدنيا لذة إلا مناقلة الإخوان الأحاديث، وقِبَلك عامر الشعبي فابعث به إلى يحدثني. وفي بعض الروايات أنه كتب إليه: أن ابعث لي رجلاً يصلح للدين والدنيا أتخذه سميراً وجليساً. فقال الحجاج: ماله إلى الشعبي
وسواء أكان الاختيار وقع على الشعبي من عبد الملك أم من الحجاج، فأنه لم يقع اعتباطاً ولا جاء مصادفة. فقد كان الشعبي نادرة الدنيا وفقيه العراق.
يقول الشعبي عن نفسه: دخلت إلى الحجاج حين قدم الكوفة، فسألني عن اسمي فأخبرته. ثم قال لي: يا شعبي كيف علمك بكتاب الله؟ قلت: عني يؤخذ! قال: كيف علمك بالفرائض؟ قلت: إلي فيها المنتهى! قال: كيف علمك بأنساب الناس؟ قلت: أنا الفيصل فيها! قال: كيف علمك بالشعر؟ قلت: أنا ديوانه! قال: لله أبوك! وفرض لي أموالاً وسوّدني على قومي. فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همدان، وخرجت وأنا سيدهم.
وقد بلغ من سعة معارفه أنه كان يقول: ما حدثت بحديث مرتين إنساناً بعينه! ومع أن الشعر أقل بضاعتي فإني أستطيع أن أنشد شهراً كاملاً لا أفرغ منه.
وكان ظريف اللسان، بديع المنطق، ساحر الحديث، بارع المفاوضة، إذا تكلم لا يكاد يسمع(309/26)
غيره لخلابة قوله وعذوبته!
وكان خفيف الروح، رقيق الحاشية، سلس الطبع، لطيف المزاج، فاشي الدُّعابة، سريع الجواب، حاضر البديهة. سئل مرة عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف! وسئل أخرى عن أسم امرأة إبليس. فقال: هذا زواج ما شهدناه! وقال له رجل: ما تقول في الذباب؟ فقال إن اشتهيته فكله!
ويريه مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة ملكة الجمال في عصرها، ويصله ببدرة، وتخت ثياب، وقارورة غالية، فيقول له الناس: يا شعبي، كيف الحال؟ فيقول: وكيف حال من صدر عن الأمير ببدرة وثياب وغالية، وبنظرة من وجه عائشة! إلى غير ذلك من الملح والطرائف والأجوبة الحسان التي تكشف عن ظرف الرجل وسجاحة خلقه ورقة شمائله
ولكن هذه السمات إن وجدت في الشعبي، فلن تُعدم في غيره، فما السر في اختياره بالذات؟ السر عندي أن الشعبي كان يمثل في عصره ما يصح أن نسميه (الدبلوماسية الدينية)، فقد كان هذا الإمام - على فقهه وورعه وتقاه - لّين المجسة، مرن التفكير، رحب الأفق، طَبّا بأسرار التشريع، يتحامى التعسير والتنفير، ويأوي إلى الجانب الظليل من الحنيفية السمحة البيضاء. كان يتساهل في السماع، ويتشدد فيه ابن سيرين؛ وكان يرى التقية والتورية، ولا يراها سعيد بن جبير، فنجا الشعبي من سيف الحجاج وقتل به سعيد! وكان يجنح في إفتائه إلى الأرفق الأهون على الولاة، ويأخذهم الحسن البصري بالعسْر والشدة. فهرب الحسن من وجه الحجاج، وقرّ الشعبي آمناً مطمئناً
هذه (الدبلوماسية) هي التي جعلت الشعبي أثيراً لدى الخلفاء هذا العصر وأمرائه وولاته - على اختلاف منازعهم الدينية والسياسية - من مصعب بن الزبير، إلى ابن الأشعث، إلى الحجاج، إلى عبد الملك بن مروان؛ وهي التي رشحته أخيراً لأن يكون سميراً للخليفة، وبعبارة أدق خلعت عليه وصف (الجليس الممتع).
ولم يقصر أهل الظرف في تعريف هذا الجليس فقالوا: أمتع الإخوان مجلساً، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقاً، وأنبههم نفساً، من لم يكن بالشاطر المتفتك، ولا الزاهد المتنسك، ولا الماجن المتظرف، ولا العابد المتقشف، ولكن كما قال الشاعر:(309/27)
يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا ... وهل يكون شباب غير فتيان
وهأنت ترى أن هذا التعريف ينطبق على الشعبي كل الانطباق
دعا الحجاج بالشعبي وأفضى إليه برغبة أمير المؤمنين، فوقع منه ذلك بموقع، فبالغ في شكر الأمير وأطال الدعاء للخليفة
وقد جهزه الحجاج بجهاز حسن، وأنفذ معه كتاباً إلى عبد الملك يثني عليه فيه. وسار الشعبي حتى بلغ دمشق، ووقف بسدةِ الأذن، وقال للحاجب: استأذن لي في الدخول على أمير المؤمنين. وكان الحاجب اقتحمته عينه لنحوله وقماءته، فقال: ومن تكون أنت؟ فقال: عامر الشعبي. فقال الحاجب: حياك الله يا فقيه العراق! ووثب عن كرسيه وأجلسه عليه، ودخل مسرعاً إلى الخليفة، ولم يلبث أن خرج ودعاه إلى الدخول في رفق وأدب
ودخل الشعبي حتى إذا واجه عبد الملك سلم عليه بالخلافة فرد عليه السلام وهش له وبش به! وأومأ إليه بقضيب في يده أن اجلس. فجلس على يساره
وعبرت فترة أطرق فيها عبد الملك عابساً متجهماً! ومن الآداب السلطانية المأثورة أن الملك إذا حضره سُمًّاره ومحدثوه لا يحرك أحد منهم شفتيه مبتدئاً. ولم يكن الشعبي يجهل ذلك، بل لا يجهل أن عبد الملك أول خليفة منع الناس من الكلام، وتقدم فيه وتوعد عليه. ولكن اعتداد الشعبي بنفسه، وإدلاله بمنزلته من الخليفة، وتعجله إدخال السرور عليه دعاه أن يسأل غير محتشم: ما بال أمير المؤمنين؟ فرفع عبد الملك رأسه إليه - متجاوزاً عن هفوته - وقال ذكرت يا شعبي قول زهير:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يُرْمي وليس برامي
ولو أنني أُرْمي بنبل رميتها ... ولكنني أُرمي بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا ... أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
وبهذا الكلام وجد الشعبي مجاله الذي يصول فيه ويجول، فهز رأسه قائلاً: ليس الشأن كما قال زهير يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
ولما بلغ سبعاً وسبعين قال:(309/28)
باتت تَشكّي أليَّ النفس مُوهنة ... وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
فإن تُزادي ثلاثاً تبلغي أملاً ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا
ولما بلغ تسعين سنة قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
ولما بلغ عشراً ومائة سنة قال:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تُحْنى عليها الأضالع
أخبّر أخبار القرون التي مضت ... أنوء كأني كلّما قمت واقع
ولما بلغ ثلاثين ومائة سنة وحضرته الوفاة قال:
تَمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعه أو مضرْ
فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعَر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع، ولا خان الخليل ولا غدر
إلى سَنةٍ ثم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
فشاع السرور في وجه عبد الملك رجاء أن يبلغ من العمر ما بلغ لبيد.
(البقية في العدد القادم)
علي الجندي(309/29)
صورة وصفية
صديقي بِشْر. . .
للأستاذ محمود تيمور بك
تلقيت يوماً دعوة من إحدى الهيئات العلمية، ولا أدري متى جرى ذلك على وجه التحقيق. وكانت الدعوة لسماع محاضرة لغوية لبحّاثة معروف، سمعت به؛ ولكني لم أره بعد.
فذهبت، وقد تخليتُ لهذا المحاضر صورة تتفق مع موضوع محاضرته. . . رجلاً أشرف على الخمسين، بشارب مهدَّل، وعينين مجهودتين، وصوت متآكل. فما كدت أستقر في مكاني من القاعة وأرفع بصري إلى المحاضر، وقد اعتلى منصة الخطابة، وبدأ يلقي محاضرته، حتى طالعَتْني صورة أدهشتْني جد الدهشة. رأيتُني أمام فتى كله شباب وحيوية، بعينين تلمعان ذكاءً؛ له وجه صبيح، بشارب طرير مشذًب على الطريقة الفرنسية، وقوام إغريقيّ يذكِّرنا بتماثيل (براكسيتيل)!
فتشككت في الأمر؛ وحسبت أنه قد جد تغيير في المحاضرة والمحاضر، وانحنيت على زميل بجواري أتبين منه حقيقة الحال. فأكد لي أن المتكلم هو الدكتور بشر فارس نفسه!
ورحت أستمع، فإذا بالمحاضر يلقي بحثه بصوت جيل النبرات، في لهجة فصيحة، تتوضح فيها دقة في الأداء، وحسن اختيار لمواقف الجمل، وحرص على سلامة مخارج الحروف. كل ذلك في اتساق وانسجام كاتساق النغمات وانسجامها في اللحن الفني البارع!
واتسعت مسالك البحث وتشعبت، بيد أن المحاضر كان قابضاً على زمام موضوعه قبضة جبار، يديره في حنكة، إدارة الربان الماهر لباخرته وسط العباب الصاخب. . . حتى انتهي به أخيراً إلى شاطئ السلام!
منذ ذلك اليوم عرفت الدكتور بشر، وما أسرع أن توثقت صلاتي به!. . فتجلت لي فيه شخصية أخرى غير شخصية ذلك العالم المتحقق - تلك شخصية الصديق الودود المرح. فالابتسامة اللطيفة التي طالما انقلبت إلى ضحكة عابثة لا تفارق ثغره، والنكتة المصرية اللبقة تظل محلقة في سماء مجلسه. وقد يمضي في حديثه الطريف، فلا يكاد يروي لك أخباره عن باريس، ما شاهده في دور العلم بها، ما لقيه في مغاني عبثها ولهوها، حتى ينتقل بك إلى قهوة (الفيشاوي)، ومطعم (الحلوجي)، فيحدثك عن الشاي الأخضر، وصحاف(309/30)
(الطعمية) الفاخرة تحيط بها أصناف المشهيات. . . ومن ثمَّ يختفي أمامك العالم الجهبذ، ليحل مكانه (ابن البلد) الوجيه العريق في المصرية، فلا يعوزه إلا (اللائة) يديرها على رأسه، فينطلق في مسارح (سيدنا الحسين) يلوح في يمينه بعصا الفتُوَّة!!
والحق أن جلسة واحدة مع الدكتور بشر تريح الأعصاب، وتملأ القلب من إيناس، وتحوّل نظر المرء إلى ناحية الرفّافة الجميلة في الحياة. . .
صاحَبَنَا الدكتور بشر وقتاً، ثم طلبناه حيناً فلم يجده، فكأنه (فص ملح وداب) كما يقولون. . ثم عاد إلى الظهور، ولكن في فترات متقطعة نادرة. كنا نراه اتفاقاً في الطريق مهرولاً لا يقر له قرار، وهو محاط بشرذمة من النجارين والحدادين والطلاَّئين. فإذا ما استوقفناه، فسألناه عن سبب غيبته، أشار إلى مرافقيه، وقال وهو يتأفف في لهفة المكدود: ألا ترون أني مشغول؟! ويتابع سيره في عجلة واهتمام، وقد اشتبك مع صُنَّاعة في مناقشة حادة. . . فلا نشك لحظة في أنه ودَّع العلم والأدب والتحق بزمرة المقاولين!
وبينما كنا في مجلس نذكر صديقنا بِشراً بالخير، ونأسف لتوديعه الأدب؛ إذا به يفاجئنا بدعوة ظريفة إلى مسكنه الجديد في (جاردن ستي). فقمنا من ساعتنا إليه، فوجدنا أنفسنا في متحف فنيّ، كل ما فيه يشف عن ذوق سليم غاية في السموّ
وجعل صاحب الدار يمر بنا في مقاصير المسكن وقاعاته المنشأة على أحسن طراز، ويقف بنا أمام تحفه واحدة بعد أخرى، وهو يشرح لنا تاريخها وقيمتها شرح خبير. فهنا صورة طريفة محلاَّة بإمضاء فنان، وهنالك صحفة من الفن الصيني الثمين يرجع تاريخ صُنعها إلى عهود غابرة، ترى بجوارها مقعداً لطيفاً على شكل رَحْل من رحال الجِمال. . . وفي ركن من أركان الغرفة يقوم ذلك الرفّ الساذج البديع، يحتضن (تاييس) و (مدام بوفاري) و (أفروديت) وهن في أثوابهن الغالية الفاتنة!
ففطنا بعد لأي إلى سرِّ غيبة صديقنا، وطفقا نطوف معه ذلك (المزار) المبتكر. . . حيث يعبق في جوه عطر الفن، وتشمله روح الجمال!
طابَع الفن والجمال يسم. حياة الدكتور بشر بأكملها، يسم شخصه ومسكنه وتأليفه وكل أسباب عيشه. فإذا ما قرأت له مقالاً رأيته ألبس الفكرة العميقة والرأي الناضج ألفاظاً ينتقيها في حكمة، وينسقها في صبر وجلد، ثم ينضدها تنضيد العقد على صدر الحسناء!(309/31)
فإذا لقيت شخصه، ألفيت أمامك شاباً أنيقاً يحسن كيف يلائم بين لون رباط الرقبة والقميص والحُلَّة، ليخرج منها صورة فنية طريفة. . .
ولصديق بشر شخصيتان: شخصية الأديب، وشخصية العالم، تتنازعانه على الدوام. . . ولا ندري آيتهما يقدر لها الفوز على الأخرى؟ فقد أصدر في العام الماضي مسرحيَّته الرمزية: (مفرق الطريق)، فتلألأت نجماً جديداً في سماء الأدب الرفيع.
وظهر له منذ أيام كتابه: (مباحث عربية)، فإذا هو سفر قد لا نغالي إذا قلنا إنه في طليعة الآثار العلميّة التي تمخض عنها العصر الحديث، من حيث دقة البحث، واستيعاب الموضوع، وحسن الصياغة، والبراعة في التنسيق والتنميق. كل ذلك على أحدث نهج علميّ خَطَّه علماء الاستشراق؟
ونحن اليوم نتتبع خطوات بشر فارس وهو يروح ويغدو، ينحت الصخر آناً في مفارز العلم، وينظم الزهر آناً في خمائل الأدب، ونتساءل في حيرة: إلى أي مدى يستطيع الصديق أن يحتفظ بشخصيتيه المستقلتين؟ وهل في الإمكان أن يجمع المرء بين الأدب والعلم، ولا يستشعر في دخيلة نفسه ذلك التنافر القائم بين هذين العنصرين النفيسين اللذين لا يهدأ لهما حال إلا إذا أخضع أحدهما زميله واستبعده؟!
وللدكتور بشر نواح خفية، لا يعرفها إلا أصدقاؤه الخلصاء. وإني لمذيع بعضها، وأمري إلى الله! فقد يحاسبني على إفشائها حساباً عسيراً!
إن صديقي بشراً - ولنخفض أصواتنا قليلاً - رجل ذوَّاقة في المآكل، واسع الاطلاع على ألوان الطعام، عظيم الخبرة في كل ما تزدان به الموائد. . . وإنها لمتعة حقاً حين تسمعه يحدثك عن صحاف الأطعمة المختلفة واحدة بعد أخرى؛ يروي لك - وعيناه تلمعان لمعان المرَق الشهي - كيف يشتري بنفسه الزبد الطازج، وينتقي عند الجزار أطايب اللحم؛ وكيف يقف أمام الفرن يجهز الصنف الذي يحب، ثم لا يلبث أن يأتي عليه ولَما يتمّ نضجه على النار، مقتفياً أثر المثل الصالح: خير البر عاجله!
ولصديقنا بشر جولات موفقة في مطاعم المدينة، فهو إذا دخل أحدهما لا يطلب القائمة، ولا يُعنَى بمكانة من المائدة؛ بل يطلب أن يدلوه فوراً على المطبخ. . . وثم يكشف عن القدور يتفحصها تفحص عارف، ثم يشير أخيراً إلى واحدة منها، فيحضرونها له بأكملها. . .(309/32)
ويشمِّر الدكتور عن ساعد الجوع غير معني وقتئذٍ بأناقته، وينكبْ على القِدْر فيأتي - في لحظة خاطفة - على ما تعب الطاهي في صنعه ساعات طويلة!
وإني أنصح - نصيحة مجرب! - لمن أصيب في معدته، ويرغب في دواء ناجع لإصلاحها أن يأتي بالدكتور بشر عن يمينه وزكي طليمات عن يساره، ثم يراقبهما هنيهة وهما يتناضلان في معركة القدور كرّاً وفرّاً. . . فإنه لا يعتم أن يشعر بمعدته تتصايح في ثورة جامحة، وإذا به ينطلق هو أيضاً في صحاف الطعام يفتك بما فيها فتك مغوار!
محمود تيمور(309/33)
من مذكرات بلنت
صفحات مجهولة من حياة الأمام محمد عبده
(مقتطفات من يوميات نشرها في إنجلترا أخيراً ورثة مستر ويلفريد بلنت، صديق مصر ومحامي زعماء الثورة العرابية، عن حوادث جرت في مصر والشرق العربي بين سنة 1888 وسنة 1914).
(وقد خص صديقه الحميم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بالشيء الكثير من هذه المذكرات، ودون فيها ما كان يدور بينما من الأحاديث والمناقشات حول السياسة والعلم والدين)
(وهذه المذكرات تلقي الضوء ساطعاً على جانب من أفكار الشيخ محمد عبده وحياته الخاصة وعلاقته بالخديو وصداقته للفيلسوف هربت سبنسر).
مارس سنة1891:
حضر عندي صباحاً الأستاذ المفتي محمد عبده، وجلس معي ساعتين تقريباً، تحدثنا فيهما شتى الأحاديث. وكان قد بعث إلى بالنسخة التي أهديت إليه من كتاب بتلر: (فتح العرب لمصر) فشرحت له محتويات الكتاب لأنه لا يعرف اللغة الإنجليزية. ثم تناقشنا في المسألة الخاصة بنظرية المؤلف من أن المقوقس هو (سيرس) بَطْريق الإسكندرية. فذكر الشيخ عبده أن هذه النظرية خطأ. وعنده أن (المقوقس) قبطي، وأنه حاكم منفيس، وأن جماعة القبط في ذلك الوقت رحبوا بالفاتحين العرب ليخلصوهم من ظلم الرومان. وإلا فكيف أتيح للقبط أن ينالوا من عمرو بن العاص ما نالوه من امتيازات وعهود طيبة وحكم ذاتي تمتعوا به عصوراً متتالية؟ وفي رأيه أن الحروب الصليبية، وبالأخص هجوم الصليبيين على مصر هو الذي القبط موضع الاضطهاد بسبب انهم أنهم أعلنوا هواهم في جانب الصليبين.
ودار الحديث على ما يجري الآن من الأمور السياسية في الآستانة، فذكر الشيخ عبده أن الخديو عباس حلمي على علاقات سيئة مع السلطان، وأنه قوبل في الآستانة هذا الصيف مقابلة فاترة، وأن السلطان عبد الحميد امتنع أولاً عن مقابلته إلى أن أخذوا عليه تعهداً بالا يفاتحه في مشكلة جزيرة طشيوز. والمسألة هي أن الجزيرة ملك للخديو بالميراث، ولكنها من أملاك الدولة العلية. وأن الخديو لما فرض على سكانها الضرائب بعثوا بشكايتهم إلى(309/34)
الحضرة السلطانية، فأرسلت الحضرة الجنود ليقيموا فيها استناداً إلى تلك الشكايات. أما الخديو فهو يريد أن تخلي الجزيرة من الحامية العسكرية، ولكن رجال المابين لم يصغوا إلى نظريته
وذكر أيضاً أن الخديو لآن تحت تأثير سيدة مجربة هي حظيته. وقد كانت معه في حادث العربة التي وقعت لهما أخيراً وهما عائدان من (الدار البيضاء) في طريق السويس إذ نشبت عجلات العربة في الرمال. وكان جزاء الخفراء الذين توانوا عن تقديم المساعدة المحاكمة والحبس مع الشغل مدة أسبوع. وقد رفع ذلك الحادث إلى دار الوكالة البريطانية، وقامت بسببه مشاحنات حادة بين العميد وبين الخديو.
ثم تكلمنا - والحديث ذو شون - عن مدحت باشا، وفترة حكم السلطان عبد العزيز. ومن رأى الشيخ عبده أن وفاة السلطان عبد العزيز لم تخرج عن كونها حادث انتحار، وهو ما أخبرني به الدكتور ديكونس في غضون عام 1884.
أما مدحت باشا فأسر إلى كيفية معاملته في (الطائف)؛ وأنهم يحرمونهم من الغذاء الكافي، ويقدمون إليه الخبز الجاف الخشن حتى كسرت أسنانه، ولا يسمح له بقضاء حاجته إلا في غرفته إلى أن مات من سوء المعاملة. ثم قطعت رأسه وأرسلت إلى الآستانة.
وينعت الشيخ عبده السلطان عبد الحميد بأنه (أكبر مجرم سفاك في هذا العصر).
وإنها لكلمة قاسية يذكرها عالم ديني كبير عن خليفته.
مارس 1891
رفعت تقريراً إلى اللورد كرومر عن الإدارة المصرية وسوء حال الدولاب الحكومي، وشفعته باقتراح يتضمن تأليف وزارة من المصريين، هذه أسماؤهم بعد استشارة الشيخ عبده والمويلحى:
حسن باشا الشريعي، بليغ بك، أمين بك فكري، سعد أفندي زغلول، أحمد أفندي محمود، إبراهيم أفندي الوكيل، محمود بك شكري، أحمد بك حشمت، يوسف بك شوقي، الشيخ محمد عبده.
فبراير 1893(309/35)
إن الشيخ عبده في جانب رياض باشا رئيس الحكومة. وفي اعتقاده أن رياض باشا برغم كونه مستبداً رجل شريف، وأنه أفضل من تجران وبطرس وأرتين، لأن هؤلاء كلهم مسيحيون لا يريدون خيراً بنشر روح التعليم الإسلامي. ومدح الشيخ عبده في أخلاق بعض الموظفين الإنجليز، ولكنه عاد فذم الطبقة الجديدة منهم، واستحسن تقربي من الخديو حتى أستطيع التأثير عليه. فيستعين برياض وبطبقة من الشبان المسلمين المتعلمين، ويقصى عنه الأرمن والمسيحيين. وذكر الشيخ عبده أخيراً: نحن لا يهمنا أن يبقى الإنجليز سنة أو اثنتين أو خمسة ما داموا سيشركوننا في الأمر؛ إلى أن يقوى حزب الفلاحين؛ ولكن إذا كانت هناك فكرة مبيتة بضم مصر، فإننا نقبل الاستبداد التركي الضعيف على ذلك الخسران المبين. فإن قمتم بالجلاء غداً فثق أننا جميعاً نفرح ونغتبط.
والواقع أن الشيخ عبده الآن أكثر المصريين ميلاً الإنجليز.
ديسمبر 1893
تغدى اليوم معنا الشيخ عبده. وذكر ضمن أن الشيخ حسونة النواوي هو الوحيد بين هيئة العلماء الذي يصلح لأن يكون شيخاً للأزهر على أساس حر شريف.
نوفمبر 1894
تغدى معنا وحدثنا عن مقابلته الأخيرة للخديو واستمالته إياه نحو الأزهر. ثم عرض خلال الحديث إلى حادث قتل70 * 12 إسماعيل باشا المفتش وخنقه في إحدى السفن النهرية أمام جسر قصر النيل. وكذلك جرَنا الحديث إلى ما وقع لعلي باشا، شريف وابتياعه بعض الجواري والعبيد. وتناولنا نوبار باشا، وكيف يستعين بمركزه في الوزارة، ونفوذه ليشتغل بالأعمال المالية ويستفيد منها.
نوفمبر 1895
قابلت كرومر اليوم وتحدثنا في شؤون مختلفة، فأخبرني الشيخ عبده أن قد يصدر الأمر بتعينه مديراً للأوقاف، فاستحسنت ذلك التعيين بكل جوارحي.
مارس 1898(309/36)
زارني الشيخ عبده وأقام عندي فترة طويلة، ودعني فيها بمناسبة أوبتي إلى إنجلترا. والواقع أنني أغادر هذا البلد الطيب وأنا مريض، وقد مللت الحياة، وكنت على وشك أن أعتنق الإسلام، ولكنني أنظر إلى الإسلام بنفس العين التي أنظر بها إلى المسيحية.
5 ديسمبر 1899
ليس بين جميع الشرقيين، بل بين جميع الرجال صديق أعظم لي من الشيخ عبده. وهاهو يعود بعد أن سجن لإرادته الحرة وأفكاره الجريئة؛ وبعد أن نفي عام 1882 فيعترف لي بقضيته. والحق أنه أقدر رجال مصر وأشرفهم وأنبلهم، وهو يشتغل الآن منصب مفتى الديار المصرية. وقد أهديت إليه منذ سنوات قطعة من أرضي في عين شمس تبلغ مساحتها فداناً، فبنى عليه داراً قروية، وصار أقرب جار لنا.
يناير 1900
تحادثنا ملياً عما فعله كتشنر برأس المهدي في السودان، واتفقنا على أن الله هو وحده المنتقم الجبار من هذه الأفعال الإجرامية التي سوف تصل بالإمبراطورية إلى الانهيار الذي وصلت إليه غيرها من الأمم
28 يناير 1900
كان حديثنا الليلة يتناول الإنسانية ومعاملة القوي للضعيف، فألفيته من المتشائمين مثلي. فقال: إنه كان يتلو التوراة من أيام فرأى أن الفظائع والوحشية التي جاءت على يد المسيحية جاءتها من صلتها باليهودية. وذكر أحاديث نبوية كثيرة عن معاملة الحيوان الأعجم بالرأفة والمحبة، وأن قتل العجماوات هو ضد عقيدة المسلم وشعوره، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسيحية. وهو لا يؤمل خيراً في مستقبل البشرية. وإني لأخشى أن يكون ضعيف الإيمان بأثر الإسلام برغم أنه المفتى الأكبر، مثل ما عندي من ضعف الإيمان بأثر الكنيسة الكاثوليكية.
أكتوبر 1901
أثناء حديث الصباح جاء ذكر (عرابي) بمناسبة رجوعه من النفي إلى وطنه. فأخذه عليه(309/37)
الشيخ عبده الحديث الذي صرح به لمكاتبي الصحف قبل أن يقف على حقائق الأمور، وبالأخص تصريحه أن كل شيء عمله الإنجليز في مصر طبيب.
24 أكتوبر 1901
كانت اليوم أول مقابلة جرت بين عرابي وعلي فهمي وبين الشيخ عبده فتعانقوا عناقاً حاراً وتناول حديثهم ذكريات العصر الماضي ومواقف رجال العصر.
(البقية في العدد القادم)
محمد أمين حسونة(309/38)
أسرار حياة بلاد العرب السعيدة
'
تأليف الكاتب الإيطالي سلفاتوري آبونتي
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
يقسم الجغرافيون القدامى البلاد العربية من حيث التكوين الطبيعي وخصوبة الأرض إلى شطرين عظيمين: يمثل أولهما بلاد العرب الصحراوية وأطلقوا عليه وهو الجزء الشمالي من الجزيرة. والآخر بلاد العرب السعيدة وأسموه وعنوا به الجزء الجنوبي من الجزيرة بما يعرف اليوم باليمن وحضر موت، وما ناوحها من الكور والمخاليف
وهذا التقسيم ليس من مستحدثات هذا العصر، ولكنه يرتفع إلى عصر سحيق جداً؛ فمؤرخو الإغريق والرومان هم أقدم من كتب عن هذا القطر الخصيب، وأول من ابتدع هذا التعريف تفريقاً بين الإقليميين من حيث قوة الإنتاج وكرم الأرض وجمال التربة
وأصبحت (بلاد العرب السعيدة) علماً مشهوراً على بلاد اليمن، وبقى هذا المفهوم بهذا الوضع اللفظي واحداً في سائر اللغات الأوربية مع تحريف بسيط في المقطع الثاني من الكلمة الأخيرة
وترجع شهرة هذا القطر الكريم من بلاد العرب إلى عصور متلاحقة في القدم حينما خط أولئك اليمانون على أمواج الدهور حضارات ومدنيات بلغت النهاية القصوى من الإبداع والازدهار والحيرة مازالت أسرارها بعيدة متفرقة في خفايا الدهور، ورمال الصحراء! وبالرغم من كثرة الرواد الذين اقتحموا هذه البلاد، وتغلغلوا في آفاق بعيدة مهمة منها، وأماطوا اللثام عن بعض أسرارها وخفاياها، فبلاد اليمن أو الجزء الجنوبي من بلاد العرب مازال لغزاً من الألغاز، وسراً استغلق فهمه على الأجيال، وسيبقى هكذا إلى أن يبدل الله أرضاً بأرض وأقواماً بأقوام!
هذا الجزء الخصيب من الجزيرة العربية يؤلف منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه سلسلة متلاحقة الحلقات، قائمة بنفسها لجماعات من الرواد الذين رادوا هذه البلاد فجاسوا خلال ديارها ونقبوا عن أطلالها، فكتبوا عنها تقارير ضافية، مبنية على صدق الملاحظة والاستنتاج الشخصي القائم على الخبرة والبصر(309/39)
فأقدم من أرخ عن هذه البلاد وبقيت أخباره حتى أيامنا هذه مصدراً يعول عليه هو استرابو، ذلك العالم الإغريقي الذي عاش قبل الميلاد، فقد صور هذه البلاد (السعيدة) من جغرافيته في عبارات مشرقة لماحة الرواء رائعة التاريخ كبسمة من بسمات الدهر لهذه البلاد العريقة في القدم التي رماها الزمن بسهام صائبات في سكانها وحكامها، وقفنا على ما بلغته تلك البلاد من الشأو البعيد في مجتلي الحضارة، وبلَهْنية العيش حتى (إنهم ليحرقون الأعواد العطرية الفواحة في الوقود بدلاً من الأحطاب)
وجاءت القرون الوسطى وعصر النهضة، فتواكبت على البلاد العربية أفواج المستكشفين، مستهدفين لأخطارها، همهم الوحيد ارتياد صحاريها واستكشاف مجاهلها والوقوف على مواطن اللبان والمر والبخور وسائر الأطياب التي تفهق بها منحدرات جبال اليمن وشعاب حضرموت العميقة فوقفوا إلى أقصى حد
وإذا كان للإنجليز والألمان والفرنسيس مغامرون إلى هذه البلاد فالإيطاليون لا يقل حظهم عن هؤلاء في هذا المجال. وترجع صلتهم باليمن - الصلة العلمية البحتة - إلى العهد الذي قام فيه الرحالة الإيطالي المشهور (لودفيكيودي فرثمة) الذي يعتبر أول من راد بلاد اليمن من الفرنجة، وفتح لغيره باب المغامرات وذلك عام 1503م، وقد طبعت رحلته خمس مرات في روما والبندقية
ثم انعكست الآية، وظهر في اليمن قبل الحرب العامة إيطالي خطِر يدعى (لويجي كابرتِّي) كان الجرثومة الأولى للفكرة الاستعمارية؛ وصفه ادوار غلازر بأنه (أحد أولئك الرجال الذين بنوا مجداً لأوطانهم) و (أول من فتح بلاد العرب للتجارة الإيطالية). وقد ظل في اليمن يعمل على بثِّ فكرته حتى قضى نحبه في صنعاء ودفن بمقبرتها، وما زال قبره هناك يعرف بصليب عليه!
وخلفه في مسعاه أخ له يدعى يوسف، يعرفه اليمانيون لليوم (بسيدي يوسف الطلياني!) فكان ضغثاً على ابّالة. . .
أما في هذه السنين الأخيرة التي تحركت الأطماع المتوثبة في صدر إيطاليا الفاشستية فقد حفلت المكتبة الإيطالية اليمنية في هذه السنين بكتب نفيسة، وأسفار ما كتب الأخباريون مثلها حتى أصبحت بلاد اليمن وحياً لأقلام الإيطاليين دون غيرهم. ولقد كتبت في السنين(309/40)
التالية كتب ومقالات وتقارير عجزت عن مثلها قرون مضت! ولولا الأنفاس الاستعمارية التي ترشح في هذه الكتب لكان الإيطاليون من أكثر الشعوب الأوربية التي أسدت فضلاً عظيما ومجهوداً جليلاً في خدمة التاريخ اليمني والتنويه بذكره في المؤلفات التي نشرها كل من المأسوف عليهما العلامة نللينو والسنيور غرِّيفيني مندوب الأمبروسيانا في ميلانو وغيرهم من الذين أفنوا أعمارهم وأحرقوا أدمغتهم في سبيل الثقافة العربية والتاريخ الإنساني العام. وكما وُجد منهم الخيّرون، وُجد منهم للفاشستية أنصار اتخذوا من العلم سلاحاً يحققون به أغراضاً معينة، ويخدمون أطماعاً متوثبة نحو البلاد التي تشقى بوطأتهم. من هؤلاء السنيور سلفاتوري آبونتي صاحب هذا الكتاب الذي لا يمكن بحال من الأحوال - ونحن نعرض لكتابه هذا - أن نغمط حقه أو ننكر فضله، وما أضفاه من الأثواب الزاهية على تاريخ اليمن ونشره في أرجاء الغرب؛ كما ننكر عليه ذلك الأسلوب الاستعماري الصارخ الذي أسقط هذا الكتاب كمؤلف علمي بحت
هذا الكتاب
هذا السفر الجليل الضخم طبعته ونشرته دار (موندا دوري) بميلانو في قرابة المائتي صفحة؛ محلى باثنتين وسبعين صورة تعد من أبدع الصور، منتزعة من صميم الحياة في سهل اليمن، تمثل الزعماء، والمدن، والقصور، والمعاقل، والجبال المغطاة بأشجار البن. . .
تبتدئ نقطة الرحيل والانطلاق إلى داخلية اليمن من ثغر عدن. ويحدثنا السنيور آبونتي بقصة طريفة قبل أن يبتدئ في مسيره، وذلك أنه عمد إلى صرة فملأها بنوع من العملة الفضية التي لا تزوج إلا في بلاد اليمن والحبشة: هذه العملة هي (ريال ماريا تريزا) أو (أبو طيرة)، وهو عبارة عن ريال ضخم حالك المنظر، قليل القيمة، محدود المنفعة؛ والإمام يحيى وشعبه لا يعرفون إلا هذا النوع من النقد ولا تروج عندهم الأوراق المالية مطلقاً!
ويبارح المؤلف أسوار عدن وينحو نحو الشمال، فتصافحه (أرض العبدلي) سلطنة لحج، فيراها غارقة في بحر من النخيل تحف بها بساتين العنب وأشجار الموز؛ وتبدو الحوطة عاصمة هذه السلطنة في منظر ساحر جذاب، ويزداد المرء إعجاباً بهذه الواحة الواسعة ذلك القصر العجيب المصبوب من المرمر الفاخر الناصع وقد فرشت على واجهته الأمامية(309/41)
فوطة صفراء مكتوباً عليها بالحرف العريض - خوف الالتباس - هذه العبارة: (قصر السلطان عبد الكريم فضل بن علي محسن العبدلي!)
ويحدثنا المؤلف أن (العبدلي) يعيش في بلهنية من العيش وسمو في الحياة؛ يرجع إلى المرتب الضخم الذي يتقاضاه من الخزانة البريطانية إذ لا يهمه شيء في الحياة إلا العناية بقصوره وزخرفتها بضروب الزينات ثم الشغف العظيم بزرع المزروعات ونمو النباتات وإعطائها قسطاً عظيماً من عنايته واهتمامه. والإنكليز يعلمون منه هذا الميل فيتركونه يفعل ما يريد، لأن سلطنته تكون أهم جزء من المحميات علاوة على أنها موقع مهم يمكن موقع يمكِّن الإنكليز من بسط نفوذهم إلى أعلى النجود اليمنية.
وينحدر المؤلف من سلطنة لحج، فيزهاه سهل (المخا) وقبل أن يضرب على أبواب المدينة (العالية!) تعترضه مدينة (تَعِز) وضواحيها، وهي عبارة عن تفاريق من الفراديس المصطنعة؛ مكِّنت في سهل اليمن ولها منزلة خاصة في قلوب اليمنيين؛ فحوالي هذه المدينة ينبت أعظم (كيف) تترنح له أعطاف اليمنيين وتهفو له نفوسهم. هذا (الكيف) هو شجرة (القات) التي لعبت ومازالت تلعب دوراً خطراً في الحياة الاجتماعية اليمنية. ويحسن بنا أن نذكر العبارة البليغة التي وصف بها السنيور آبونتي هذه الشجرة الملعونة (ولا مؤاخذة أيها المواطنون!) فقد حللها تحليلاً كيماوياً استهلها بقوله:
(منذ قرون خلت وسكان هذا الجزء السعيد من بلاد العرب يمضغ أوراق القات. وأول ما عرف من أمره أن أحد الرعاة لاحظ أن إبله تمددت على وجه الأرض بعد أن أكلت من هذه الأوراق، وقد غمرتها نشوة من الراحة والانبساط، وسرت في مفاصلها تيّارات خفية أخمدت من حركتها، وشلت من عملها فأخذ يضربها ضرباً مبرحاً لتنهض وإذا بأتعابه تذهب سدى، والجمال أصبحت لا تحس بألم الضرب. فبهت من هذا الأمر الغريب ووقف ذاهلاً متحيراً لا يدري ماذا يصنع؛ وأخيراً بدا له أن يطعم هذه الورقة، فقطف منها شيئاً وصار يتناولها كل يوم وعند كل فراغ. ومن ذلك اليوم أقصيت الجمال (المسكينة) عن هذه الشجرة ووجدت لها مجالاً واسعاً إلى قلوب اليمنيين، فكان متعة نفوسهم في الأفراح والأتراح!
وليس في استطاعتنا تحديد طعم هذه الأغصان، ولكن يمكننا أن نعتبر طعمها حرِّيفاً مراً(309/42)
يشبه شراب الكحول المشوب بالأفاويه وقد عبده اليمانيون عبادة مدهشة وتفانوا في محبته حتى أنهم ليصرفون في سبيله ما لا يصرفون في غذائهم الضروري وهم يمضغونه كل يوم في ساعات مختلفة من النهار؛ ولهم في طريقة جمعه حماسة غريبة؛ وتغمرهم في أثناء مضغه أمواج من الفرح والأنس، ويرون الدنيا به واسعة تشعُّ فيها ألوان مورّدة زاهية!
ويشعر الماضغ مبدئياً بنشوة مؤقتة، ولكن سرعان ما يعقبها ارتخاء في الأعضاء، وانحطاط في القوى، وهمود في العواطف يشبه التخدير. والإفراط فيه يسبب انقباضاً وميلاً دائماً إلى النوم. وآثاره لا تقف عند هذا الحد فقط، بل إنه يخمد الغريزة الجنسية، ويتسرب ماء الحياة من الرجل مختلطاً ببوله! وإذا بلغ الرجل دور الكهولة فقد فقد كل حيوية وانقطعت بينه وبين زوجه أسباب الاتصال!
ومع كل هذه الأضرار فاليمانيون لا يستطيعون أن يعيشوا في الوجود بدون قطف هذه الأوراق العجيبة! ومن الطبيعي أن هذا النبت الذي تنتجه اليمن لا يمكن أن يكون كله في مستوى واحد من القيمة والجودة. فالأغصان التي تنمو على منحدرات جبل صَبِر هي أفضلها وأجودها وقد كان لها في يوم ما ازدهار عظيم وسوق رائجة. . .
(يتبع)
محمد عبد الله العمودي(309/43)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود خفيف
وخيل لشريف باشا أن الأزمة في طريقها إلى الحل، ولو أنه اطلع على الغيب لعلم أنها كانت تتضاعف ويشتد خطرها لتتخذ في النهاية وضعها الذي سوف يغير تاريخ هذه البلاد!
لمح الصائدون في هذه العاصفة الفرصة المرتقبة! وهيهات أن يضيع هؤلاء فرصة طال بهم انتظارها؛ الخلاف قائم بين الوزارة والمجلس فليعملوا على زيادة هذا الخلاف وليدفعوا بالخديو ليخطو أول خطوة بعد يوم عابدين ضد الحركة الوطنية فيخسر بذلك الوطنيين والعسكريين جميعاً، ويفقدوا هم الثقة فيه نهائياً، بينما هو يقرب بذلك من الأجانب أو على الأصح يزداد قرباً منهم
ولن يعدم الإنجليز وحلفاؤهم أن يخلقوا ألف مبرر لما يفعلون؛ ومن أيسر الأمور عليهم أن يعلنوا أن البلاد تشيع فيها الفوضى، وأن الأجانب ومصالحهم تكتنفهم الأخطار من كل صوب، وأن الخديو بات يخشى على عرشه ولا مخرج له مما هو فيه، بل ولا مخرج لمصر مما هي فيه من خلل وارتباك إلا أن يضرب على أيدي الثائرين المفسدين في الأرض
ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أنهم بينهم وبين أنفسهم غيرهم بينهم وبين الشعوب الشرقية؛ فهم لا يقبلون من هذه الشعوب ما يعدونه عندهم من مفاخر الإنسانية، وأنهم ليرمون أهل هذه الشعوب بأشنع التهم وأقساها؛ فالتألم من المظالم التي تنصب على رؤوسهم تمرد، والسعي إلى الحرية فوضى وهمجية، والدفاع عن البلاد وذب الدخيل عنها وحشية وإجرام! على أن هذه هي سنة الحياة بين القوى والضعيف منذ كان الإنسان يتخذ سلاحه من الحجر وينحت مأواه في الجبل. . .
ولقد كانت الدولتان تعملان على الكيد للحركة الوطنية في مصر قبل انعقاد المجلس، وكانت(309/44)
بينهما مراسلات في هذا الصدد؛ فكانت فرنسا هي المحرضة هذه المرة. فرنسا التي كانت سياستها منذ فشل الحملة الفرنسية تدور على مناوأة النفوذ الإنجليزي في مصر!
ولي المسيو ليون غمبتا أمر وزارة الخارجية في فرنسا في شهر ديسمبر عام 1881، فسرعان ما اتصل بوزير خارجية إنجلترا اللورد جرانفيل محدثاً إياه في شأن مصر مبيناً له وجوب تضامن الدولتين في العمل إزاء ما يجري هناك من أمور
وحار جرانفيل أول الأمر ماذا يجيب به على هذه الدعوة، فهو إن قبلها أصبح مقيداً بالعمل مع فرنسا، وان رفضها قطع على دولته الطريق وجعل لفرنسا المكان الأول في شؤون مصر وتلقى جرانفيل من مصر أنباء فاجرة مالت به إلى الطريق التي اختارها. كانت مشكلة ميزانية الجيش لا تزال قائمة بين عرابي والمراقبين، فأرجف المرجفون أن عرابياً يعتزم القيام بثورة جديدة لقلب وزارة شريف وتنصيب البارودي مكانه وكتب السير إدوارد مالت وهو رجل مسؤول إلى اللورد جرانفيل يشكو من تدخل عرابي ويتساءل في لهجة ساخطة برمة: كيف يستطيع شريف أن يرأس الحكومة مع وجود عرابي صاحب النفوذ الفعلي في البلاد؟ وهكذا يسمح هذا الرجل لنفسه أن يكذب فيرمي عرابياً بما هو برئ منه ولا يتورع بعد ذلك أن يكتب إلى رئيسه ينبئه بخضوع عرابي لرأي المراقبين، ولكن جرانفيل كان قد خطأ نحو فرنسا بناء على الأخبار الأولى خطوة لا يمكنه النكول بعدها.
وكتب كلفن كذلك إلى جرانفيل يقول: (والحقيقة أن الإدارة المصرية شركة ثلاثية، فإذا لم تكن الدول على استعداد لتعديل نصيبها فعليها أن تحافظ عليه وتقويه في هذا الوقت الذي أصبح فيه المصريون في حال تطور وانتقال). هذا عدا ما ذكره في تقريره عما يتوقعه من خطر إذا زيدت سلطة المجلس، وثبتت قواعد الدستور المصري
وكان مستر بلنت قد أرسل برنامج الحركة الوطنية إلى جريدة التيمس، وفيه أقوى حجة على براءة هذه الحركة من عناصر الثورة أو المساس بحقوق الأجانب المالية؛ وكان يأمل بلنت وأصدقاؤه من الوطنيين أن يكون لنشر هذا البرنامج أثره الحسن في نفس جرانفيل، ولكنه نشر في أول يناير سنة 1882 بعد أن نفذ السهم، فلقد وافقت إنجلترا على وجهة نظر فرنسا في يوم 31 ديسمبر أي عقب اجتماع المجلس بخمسة أيام
وخطا شريف باشا في تلك الأثناء خطوة حكيمة فأعلن بياناً يشير فيه إلى منهاج حكومته،(309/45)
فذكر أنها تقوم على أساس الاعتراف بحقوق السلطان والامتيازات التي حصلت عليها مصر والاعتراف بالخديو كحاكم دستوري، والتسليم بقاعدة المراقبة الثنائية ثم إنكار كل اتجاه ثوري، منح الحرية الدينية والسياسية لجميع سكان البلاد والسير على قاعدة الحكومة المسؤولة أمام مجلس نيابي
ولن يكون في الإمكان يومئذ السير على منهاج خير من هذا المنهاج الحكيم الذي كان خليقاً أن يبعث الطمأنينة في نفوس الساسة من الدولتين؛ وكذلك لم يكن هناك برهان على حسن نيات الوطنيين أقوى مما نشرته التيمس لمستر بلنت وهو شاهد عدل من الإنجليز على المصريين
ولكن المسألة لم تكن مسالة اقتناع وإنما كانت نية مبيتة، وهيهات أن تجري الأمور في السياسة على الإقناع والاقتناع، فدوافع الأقوياء إلى العمل في ذلك المضمار أطماعهم وبرهانهم أسلحتهم، وما يكون الكلام إلا تعلة الضعيف. وما أشبه كلام الضعفاء مثل هذه المواقف بصراخ الفريسة قبل تمزيقها
ويذكر مستر بلنت في كتابه سبباً لانحياز إنجلترا إلى فرنسا؛ فيقول إن إنجلترا كانت تسعى إلى عقد معاهدة تجارية مع فرنسا فيها فائدة كبيرة للتجارة البريطانية؛ ومن أجل ذلك هاودت إنجلترا فرنسا وطاوعتها فيما تقترح في شؤون مصر فباعت إنجلترا بذلك مصر إلى فرنسا
وما نظن إنجلترا كانت من الغفلة بحيث تتنازل عن أغراضها في مصر من أجل مثل هاتيك المعاهدة التجارية، وإنما الذي نفهمه أن إنجلترا كانت تراوغ فرنسا لتفوز بهذه المعاهدة ثم تقف من فرنسا بعد ذلك فيما يتعلق بمصر موقف الاتفاق في الظاهر، بينما هي في الباطن تعمل وفق ما تمليه عليها أطماعها. ومما يؤيد ذلك التحفظ الذي أبدته أنجلترا وأقرته فرنسا ومؤداه: (أن الحكومة الإنجليزية يجب ألا تعد بسبب هذه المذكرة مقيدة بسلوك خطة عمل خاصة إذا ما بدا لها أن العمل ضروري)، ولسوف نرى من سياسة إنجلترا في مصر ما يؤيد ما نقول
تم الاتفاق بين الدولتين، وكان المجلس في مصر كما تقدم يخالف الوزارة في مسألة الميزانية، وكان العقلاء من الوطنيين يعملون على الخروج من المأزق بالحسنى، ولاحت(309/46)
في أفق السياسة بوادر انكشاف الغمة
وما أشد ما نحسه من ألم وغيظ أن نذكر بعد ذلك أن البلاد ما لبثت أن تلقت من الدولتين في يوم 8 يناير سنة 1882 تلك الصيحة المشؤومة التي سميت بالمذكرة المشتركة، والتي قل أن نجد في التاريخ السياسي لا ولا في الخرافات التي تحكي للأطفال على مثال أوضح منها لتحكم القوى في الضعيف واستهتاره به في غير حياء أو تحرج، وحسبك أن تقرأ مثل هذا الكلام الذي بعثت به إنجلترا وفرنسا زعيمتا الحرية والديمقراطية! جاء في المذكرة: (أن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تريان أن بقاء سمو الخديو على العرش بالشروط التي قررتها الفرمانات السلطانية واعترفت بها الحكومتان رسمياً هو الضمانة الوحيدة في الحاضر والمستقبل لاستتباب النظام في مصر واطراد رخائها، وهما الأمران اللذان تهتم بهما فرنسا وبريطانيا العظمى. وأن الحكومتين اللتين اتفقتا اتفاقاً تاماً في عزمهما على أن تمنعا كل أسباب الارتباك الداخلية والخارجية التي يمكن أن تهدد النظام القائم بمصر، لا يداخلهما ريب في أن جهرهما بما عزمتا عليه رسمياً في هذا الأمر سيحول دون الأخطار التي قد تتعرض لها حكومة الخديو والتي لابد أن تقاومها فرنسا وإنجلترا معاً، وأن الحكومتين لتثقان بأن سموه سيستمد من هذا التأكيد ما يحتاج إليه من الثقة والقوة لتدبير شؤون بلده وشعبه)
وأي كلام يمكن أن يعبر عما تنطوي عليه هذه المذكرة من لؤم وفجور؟ ما معنى الإشارة إلى بقاء سمو الخديو على العرش؟ وما شأن الدولتين حتى تهتمان بهذا الأمر؟ وبأي حق تضطلعان بمنع أسباب الارتباكات الداخلية والخارجية؟ وعلى أي أساس يقوم ادعاؤهما وجود هذه الارتباكات؟ وكيف يجوز أن يعتمد الخديو عليهما ويستمد الثقة منهما؟
هذه هي المذكرة المشتركة التي أشار إليها بلنت بقوله: (هذه المذكرة المشؤومة التي يرجع إليها كل ما حدث من المتاعب في خلال ذلك العام والتي أفقدت مصر حريتها كما أفقدت غلادستون شرفه وأفقدت فرنسا نفوذها على جانبي النيل)
ولا تسل عما أحدثته هذه المذكرة الحمقاء من سوء الأثر في مصر لقد بلغ من إثارتها الشعور وإحراجها الصدور أن نقم عليها ما ليت وكلفن وتمنيا لو لم تكن؛ وقد كانا يريدان ألا تكون بمثل هذه الصراحة الطائشة(309/47)
وكانت النتيجة الطبيعية أن انضم المعتدلون من رجال الحركة الوطنية إلى العسكريين، وهو عكس ما كانت تنتظره الدولتان في غباء مضحك، ورأي العنصر أن الشبح الرجعية المسلحة، بل رأوا الغدر الأثيم يتهدد قضيتهم. وانبعثت الصيحات من كل مكان أن إنجلترا قد ألقت بنفسها في أحضان فرنسا، وأن فرنسا تريد أن تصنع بمصر ما صنعته بتونس، ولذلك يجب الاتجاه إلى السلطان والمناداة بمبدأ الجامعة الإسلامية لمقاومة هذه الحركة الأثيمة
وضاع كل أمل في تهدئة الخواطر؛ فأصر مجلس شورى النواب على موقفه في وجوب نظر الميزانية ورأى شريف في المجلس إجماعاً ضده وحماسة ما رأى مثلها من قبل. ولقد رغب جرانفل في ملاينة الأعضاء في هذه النقطة كأنما أراد أن يعالج بعض خطئه، ولكن غمبتا رفض ذلك بحجة أنه يسقط من هيبة الحكومتين أمام الوطنيين. وما أعجب أمر هذا الرجل الذي يظن أن الهيبة تكتسب بالحماقة! على أن جرانفل ما لبث إن شايع غمبتا في حماقته، فلقد كتب إليه مالت يقول: (إن المجلس باق وسيظل باقياً ما لم يحل بالقوة؛ وهذا أمر لا يكون إلا بتدخل الذي هو آخر سهم في كنانتنا والذي لا يسوغه أبدا ما قد يكون من خرق قانون التصفية. . . إني أعترف أني أفضل أن يعطى المجلس ما يطلبه من الحق وألا نتدخل حتى يسئ استعمال هذا الحق. ويجب ألا ننسى أن الأمة المصرية قد أخذت تسلك طريق الحكم النيابي خيراً كان ذلك أو شراً، وان قانون المجلس الأساسي هو صك حريتها). . هذا ما ذكره ماليت نفسه ولكن جرانفل لم يعبأ به وأرسل إلى غمبتا ينبئه بموافقة الحكومة الإنجليزية على آرائه. ونسي جرانفل أو تناسى أنه كتب إلى مالت قبل ذلك بنحو شهرين يقول له مشيراً إلى حرية المصريين الوليدة: (إن الحكومة الإنجليزية إذا ما رغبت في نقص تلك الحرية أو العبث بتلك النظم التي يرجع وجودها إليها فقد اتبعت سنة تخالف أجمل تقاليد تاريخها الوطني. . . ليس من شيء يحملنا على سلوك خطة أخرى غير قيام حالة فوضوية في مصر). فليت شعري ما الذي حدث في مصر حتى تخالف إنجلترا على هذه الصورة أجمل تقاليد تاريخها الوطني؟ وحاول شريف أن يحصل من الدولتين على مذكرة تفسيرية يستعين بها على تسكين الخواطر، فرفض غمبتا حتى هذه المذكرة وعاد جرانفل فشايعه في هذا مشايعة عمياء على الرغم من نصح الناصحين من(309/48)
الإنجليز والوطنيين!
ولست أدري كيف كانت ضمائر هؤلاء الساسة تطاوعهم مع هذا على أن ينعتوا رجال مصر بالفوضى وأن يصوروهم أطفالاً في السياسة لا يدرون ما يأخذون مما يدعون؟ ولكن ما لي أذكر الضمائر والحديث حديث السياسة وجشع السياسة؟
وضاقت بشريف السبل فلم يدر ماذا يفعل، ووقفت السفينة لا تستطيع حراكاً، والريح تدوي من حولها وليس في الجو بارقة أمل، والنواب لا يفتر إصرارهم ولا تنقطع زمجرتهم
وعاد مالت يحذر جرانفل فقال في صراحة: (إن التدخل المسلح يصبح أمراً محتوماً إذا ما تشبثنا بمنع المجلس من التصويت على الميزانية، ومع ذلك فجميع الحكومات تهتم بمنع ما يوجب هذا التدخل الذي إذا أقدمت عليه الدولتان وحدهما أدى إلى سوء المنقلب في هذا البلد)
وعلى الرغم من ذلك كله أبلغت الحكومة المصرية رسمياً يوم 20 يناير سنة 1882 أن المجلس لن ينظر في الميزانية إلا إذا أخل بالأوامر العالية التي أنشئت بمقتضاها المراقبة الثنائية
ولما وجد النواب شريفاً يميل إلى موافقة الدولتين، سار وفد منهم إلى الخديو فطلبوا عزله، وتعيين رئيس للوزارة يستطيع أن يسير مع نواب البلاد سياستهم
وسقطت وزارة شريف، وحلت محلها وزارة البارودي في يوم 5 فبراير سنة 1882، وهي الوزارة التي سوف تعرف باسم وزارة الثورة
(يتبع)
الخفيف(309/49)
نقل الأديب
للأستاذ ممد إسعَاف النشاشيبي
428 - الكهربية بين النفوس
قال علي بن محمد الحلواني: حدثني خير قال: كنت جالساً يوماً في بيتي فخطر لي خاطر أن أبا القاسم الجنيد بالباب اخرج إليه، فنفيت ذلك عن قلبي وقلت: وسوسَة، فوقع لي خاطر ثان فنفيته، فوقع خاطر ثالث، فعلمت أنه حق وليس بوسوسَة، ففتحت الباب. فإذا أنا بالجنيد قائم، فسلم عليّ وقال: يا خير ألا خرجتَ مع الخاطر الأول؟
429 - ونفست علينا أن نتكلم
في (البيان والتبيين): كان نافع بن علقمة خال مروان والياً على مكة والمدينة، وكان شاهراً سيفه لا يغمده. وبلغه أن فتى من بني سهم يذكره بكل قبيح، فلما أتى به وأمر بضرب عنقه، قال له الفتى: لا تعجل على، ودعني أتكلم. قال: أو بك كلام؟ قال: نعم وأزيد. يا نافع، وليت الحرمين تحكم في دمائنا وأموالنا وعندك أربع عقائل من العرب، وبنيت ياقوتة بين الصفا والمروة (يعني داره) وأنت نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرث أحسن الناس وجهاً وأكرمهم حسباً، وليس لنا من ذلك إلا التراب، فلم نحسدك على شيء، ولم ننفسْه عليك، ونفِست علينا أن نتكلم!
فقال: تكلمْ حتى ينفك فكاّك.
430 - أصنع من حصونك
كتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم: خذ أهل عسكرك بتلاوة القرآن فإنه أمنع من حصونك.
431 - مالك من اله إلا الله
(مفاتيح الغيب) للرازي: جاء في كتاب (ديانات العرب) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لعمران بن حصين: كم لك من إله؟
قال: عشرة
قال: فمن لِغمّك وكرْبك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم؟(309/50)
قال: الله
قال عليه السلام: مالك من إلهٍ إلا الله
432 - وحور عين. . .
في (روض الأخيار): الأصمعي: رأيت دكاناً فيه أنواعُ الطيور المشوية، وأنواع الفواكه، وامرأة في غاية الجمال فقلت: (وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون).
فقالت بالفور: (جزاء بما كانوا يعمَلون)
433 - هذه القلعة بنيت لأولادك
في (صبح الأعشى): من غريب ما يحكى أن السلطان صلاح الدين (رحمه الله) طلع إلى القلعة ومعه أخوه العادل أبو بكر فقال السلطان لأخيه العادل: هذه القلعةُ بُنيت لأولادك فثقل ذلك على العادل، وعرف السلطان صلاح الدين ذلك منه فقال: لم تفهم عني، إنما أردت أنى نجيب فلا يكون لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فيكون أولادك نجباء، فسرَّى عنه. وكان الأمر كما قال السلطان صلاح الدين، وبقيت خالية حتى ملك العادل مصر والشام، فاستناب ولده الملك الكامل محمداً في الديار المصرية، فسكنها:
434 - وأرى نساء الحي غير نسائها
أبو الحسن علي بن أحمد الغالي:
لما تبدلّتِ المنازلُ أوجهاً ... غيرَ الذين عهدتُ من علمائها
ورأيتها محفوفةً بسوي الألي ... كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدتُ بيتاً سائراً متقدّماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها:
(أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحيّ غير نسائها)
435 - في أي مدينة؟
في (منهاج السنة): يوسف بن غز أو غلي (صاحب التاريخ المسمى مرآة الزمان) - يذكر في مصنفاته أنواعاً من الغثّ والسمين، ويحتج في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة؛ وكان يصنف بحسب مقاصد الناس: يصنف لهؤلاء ما يناسبهم ليعوضوه بذلك،(309/51)
ويصنف على مذهب فلان لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقتهُ طريقةَ الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟
قال: في أيّ مدينة؟
431 - خبر ما في الدنيا
مُعاذ بن جبل: ليس في الدنيا خير من أثنين: رغيف تشبع به كبداً جائعاً، وكلمة تفرج بها عن ملهوف
437 - حضرنا ملاك الوالدة. . .
في (الغرر الواضحة) لإبراهيم بن يحيى الوطواط: قال أبو هريرة الشاعر المصري: خرجت يوماً إلى (بركة الحبش) بمصر متنزهاً في أيام الربيع حين أخذت الأرض زخرفها وازينت، ومعي آنية شراب وكتاب، وكانت تلك عادتي في كل سنة، فجعلت أشرب وأنادم كتابي طول يومي. فلما كادت الشمس تغرب، وتُلمح في أجنحة الطير أخذت في الانصراف إلى منزلي وأنا ثمِل. فبينما أنا أمشي إذ خرج فارس من مصر متلثماً لا يبين من وجهه غير عينيه، فسلّم وقال: من أين أقبل الشيوخ؟
فقلت في نفسي: أُجنَّ الرجل؟ ومن يرى معي؟ فالتفتُّ فإذا خلفي قطيع من التيوس فقلت: حضرنا ملاك الوالدة أصلحك الله! فضحك وانصرف.
ولما كان بعد أيام دخلت إلى الأمير (تكين) في حاجة فقَضاها لي، وأسرني بألف درهم وقال: هذا حقُّ حضورك ذاك الملاك. فعلمت أنه هو الذي لقيني، فأخذتها وانصرفت
بركة الحبش هي التي يقول فيها أمية بن أبي الصلت:
لله يومٌ ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش!
والنيل تحت الرياح مضطربٌ ... كصارمٍ في يمين مرتعش!
ونحن في روضة مُفوَّفة ... دبج بالنور عطفها وَوُشى!
وأثقلُ الناس كلهم رجلٌ ... دعاه داعي الصِّبا فلم يطش
فاسقني بالكبار مترعةً ... فهنّ أشفى لشدة العطش(309/52)
الرَّجع البعيد
للأستاذ محمود الخفيف
إيه قَيْثارتي تَغِّني. . . أعيدي ... لحْن ماضِيَّ واشتَكي من جديدِ
جَدَّدَتِ جدَّةُ الزَّمانُ هيامِي ... وأثارَ الرَّبيعُ ذِكرَى عُهودي
رَدِّدي في الغنَاءِ أحلامَ أمسِي ... عَلَّ في الذكرَياتِ رَوحاً لنفسي
جدَّدي اللحن كم خدعتُ فُؤادي ... بِسَرَابٍ من المُنى والتَّأسِّي
هَدْهدِي مُوجعاً صحافي الضلوع ... وهفا اليوم بعدَ طولِ الهجوعِ
راح يَسْتافُ في الرُّبوعِ نَسيماً ... في شَذاهُ عهود تلك الرُّبوعِ!
أتَسَلَّى يَا وَيْلَتَا بِغِنائِي ... ومن الدَّاءِ أسْتمِدُّ دَوَائِي!
لُذْتُ بالوَهمِ والتَّجمُّلِ حيناً ... لمْ أُصِبْ فيهِما أَقَلَّ شِفَاءِ
ما لهَذي الملاعبِ الخُضر تُوحِي ... خطَرات أغرَقْن في الوهم روحي
كُنَّ بالأمس والمُنى نَضِرات ... مبعث السحر والهوى والطموحِ
ضقت بالروض أنقل الخطو وحدي ... بين زَهْرٍ به وَضَاحِكِ وَرْدِ
صوَرٌ في الضُّحى يَزِدْنَ عذابي ... وَمعانٍ يُثِرْن كامن وَجدِي!
خَيَّلَتْ جنَّتي لقلْبِي الشريد ... وَحْشة البِيدِ في القَفار المَديدِ
وغَدَا لَحْنِيَ المُرَدَّدُ فِيها ... بعد موْت المُنى كرَجْعٍ بَعيدِ!
يا بناتِ الهَدِيل رَدِّدْنَ لحْنِي ... وخُذِي الشوْق والتفجُّع عِّني
أنا أشْجى بُكاً وأصدَق وَجْداً ... وأَفُوقُ الهَدِيلَ زَوْعةَ فنِّ
يا صِحابِي لا تُنكروا اليوم سَجعي ... أتَمَّنى لو كان قَلْبِيَ طَوْعِي
سأُسَرِّي عن مُهجتِي يا رِفاقي ... ساعةَ الشوْق ثمَّ أحبِسُ دَمعي
ساعة الشوق؟ فيم يا نفس شوْقي؟ ... تَعِب القلب بين يَأسٍ وَخفقِِ
حسبك اليوم من زمانك ذِكرَى قَبضةُ الدَّهر غيرَها ليس تُبقِي
أينَ من كنتُ لا أرى لوُجودِي ... أملاً دونَها وأيْنَ عُهُودِي؟
أينَ أيَّامِيَ التي ذُقْتُ فِيها ... فوق هذا الثَّرَى نَعيمَ الخُلودِ؟
هَجَرَت أيْكها الحَمامَة عَجْلَى ... فذَوَى الأيْكُ والرَّبيعُ تَولّى(309/53)
أَوحش الروض واستحالت قتادا ... زَهراتٌ عدِ مْن في الهجر طَلاّ
زَهَراتٌ نجيعُ قلبي كَساها ... رَوْعةَ السحر والوَفاءُ سَقاها
نَبَتَت وَهْيَ طفلة فَرَعتْها ... وَشبَبْنا فأَوْدَعَتْها شذاها
صرَّحت وهْي غَضَّة زَهراتي ... قبل أن ينطوي رَبيعُ الحياةِ
كم يَغيظُ الفؤادَ قَوْلٌ مُعادٌ ... كلّ حُسْنٍ مصيره للِممات!
الصباحُ النَّدِيّ يُوحِي البُكاَء ... والأصيلُ الرَّخِيُّ يَحكِي الفَناَء
ولريحِ المَساءِ حَوْلِيَ نَوْحٌ ... لم يُطِقْ مِسْمَعِي له إصغاَء!
الربيعُ الضحوكِ عيدٌ لغيْرِي ... أبطَلت فيه وحْشتي كلِ سحرِ!
لا الأغانِي به أغانِي رَبِيعِي ... لا ولا العِطر فيه سالف عطرِي
كل حُسنٍ به يُلذِّعُ قلبِي ... وهْوَ بالأمس كان فِتنةَ لُبِّي
أرأيتَ اليتيمَ في يومِ عِيدٍ ... حائرَ الدمّع بين حبس وسكبِ؟
فَرحةُ العيدِ في وجوه الصحابِ ... حوله كم تُذيقُهُ من عَذابِ
يَتأَذَّى، فإن تَغَابَى لَدْيهم ... لَبِسَ الذّل كله في التَّغابي!
عرَف اليُتمُ وَهْو غِرٌّ جفاني ... ودهاني من يُتمهِ ما دَهانِي
وتغابَى، يا لَيْتَهُ ما تغابَى ... ثُمَّ نادَاهُ أمسُهُ فَعصانِي!
الخفيف(309/54)
ترانيم وتسابيح
من وادي الشمس!
(إلى نورها الساهم الحزين)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
تَعالَيْ يا ابْنَةَ. . . ... ويا فَرْحَةً أًيَّامِي!
تَعالَيْ نَمْلأ الأقدا ... حَ من شِعْري وأَنْغامِي!
ونَسْقِ الزهْرَ والأطيا ... رَ من سِحْرِي إلهامِي. . .
فَزَهرُ الرَّوْضِ نَشْوَانُ
ومَوْجُ النهْرِ سَكرَانُ
وشَدْوُ الطَّيْر فرْحانُ. . .
وأنتِ الفرْحةُ الكُبرَى ... لِتغْرِيدِي وأَحْلامِي
فَهَيّا نَسبِقُ النُّورَ ... لهذا المَلْعبِ السّامِي!
تَعالَيْ وانظُرِي صَفْوي ... وأَسْمَارِي مع الوادِي
وُعرْسَ الشمسِ في الدُّنيا ... على مِحْرابِ أجْدادِي
وسِحْرَ النِّبلِ والمَوْجُ ... عليه رائحٌ غَادِ. . .
فَوَادي الشمسِ فَتَّانُ
وَشادِي الحُسنِ لَهْفَانُ
وهذا القَلبُ ظَمْآنُ. . .
وأَنتِ الكأسُ والخمْرُ=لرُوحِ البُلبُل الشَّادِي
فَهَيّا أَسِعدِي الكَوْنَ=بِأَعرَاسِي وأعْيادِي!
محمود حسن إسماعيل(309/55)
راعية الغنم
(مهدأة إلى راعي الراعية)
للآنسة جميلة العلايلي
يا رمز جبريل في الدنيا وعائشة ... بين الأنام بقلب ملؤه جمر
ودعت دنياك كالنساك راغبة ... عن الوجود وعيش كله شر!
ودعت أحلامها في غير ما أسف ... ماذا دهاك! ألا أمر له سر!
كيف ارتضيت حياة القفر هانئة؟ ... وكيف أغراك ذك المهمة لوعر؟
علَّ المراعي التي طابت مغارسها ... سعى إليك بها الإيناس والبشر؟
أتسمعين ثغاء في جوانبها ... أم تسمعين غناء بعضه سحر؟
ومن عجائب ما شاهدت راعية ... تقسو عليها الليالي، وهي تفتر؟
أتلك راعية في القفر ضاربة؟ ... أم روضة رفّ فيها الزهر والنور
قد لفها النور في أبهى غلائله ... وزانها المغريان النبل والطهر!
يا ربة الغنمات البيض طالعة ... بين المروج كما قد يطلع الفجر
دنياك، دنياك ما أندى مخاضرها ... وما أحب رباها إنها شعر!
كأنما أنت إذ تبدين عاطرة ... روض تنفس في أبحائه الزهر
يا ربة الغنمات البيض تكلؤها ... عين السماء ويزكو عندها البر
قفر حياتك لكن حين ألمسها ... يكاد ينشق روضاً ذلك القفر
وحيدة أنت في دنياك راضية ... بما تجئ به الأقدار والدهر
يا حبذا القفر دهر للتي سئمت ... كل الأباطيل ممن ودهم غدر!
(المنصورة)
جميلة العلايلي(309/56)
رسالة العلم
كيف ظهرت الحياة على الأرض؟
للأستاذ نصيف المنقبادي
أثبتنا في مقالاتنا أن الحياة ظاهرة مثل باقي ظواهر الطبيعة، وأن تقسيم ما في الطبيعة إلى كائنات حية وإلى جمادات إنما هو تقسيم اصطناعي سطحي لا يستند إلى الواقع، وتنفيه نواميس الطبيعة الأساسية المقررة في علوم الميكانيكا والطبيعية والكيمياء، إذ لا يوجد فرق جوهري بين الأحياء وبين الجمادات. فجميع ظواهر الحياة أو ما كانوا يسمونه بمميزات مثل الشكل النوعي والتركيب الكيميائي والتغذي والتنفس والنمو والتأثر والتحرك الذاتي، كل هذه موجودة بلا استثناء ولكن مبعثرة ومشتتة في الجمادات، وكل ما في الأمر أنها إذا اجتمعت في جسم واحد قيل عنه إنه كائن حي
وقد بينا بالأدلة والمشاهدات العديدة أن الأحياء خاضعة في أمورها وأحوالها وجميع ظواهرها لنواميس الطبيعة وفي مقدمتها ناموسا عدم تلاشي المادة وعدم تلاشي الطاقة، وأثبتنا بالاختبارات والأرقام أن جميع مظاهر الحياة ووظائف الأعضاء وحتى التفكير والقوى العقلية، ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء أو بالأحرى الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء، وما عهد القراء ببعيد بالتجارب والاختبارات الحاسمة التي قام بها أتووتر وبينيدكت وغيرهما من الفسيولوجيين بواسطة ذلك الكالوريمتر الكبير الذي شرحناه في إحدى المقالات السابقة فلا حاجة إلى التكرار، وكذلك الأجهزة الدقيقة التي تدل على ازدياد حجم المخ قليلاً مدة التفكير بورود كمية من الدم إليه، كما تدل من جهة أخرى على ارتفاع درجة حرارته مما يقطع بأن القوى العقلية تستهلك كمية من الطاقة الغذائية، وأنه ليس لها أيضاً إلا مصدر واحد وهو هذه الطاقة وليس شيء آخر سواها
وما دام الأمر كذلك فيمكننا أن نقول مقدماً إن أصلها وكيفية ظهورها على الأرض لابدّ أن يرجع إلى أسباب طبيعية، فهي ظهرت كما ظهرت أجسام أخرى كالمواد المبلورة وغيرها وكما نشأت الجبال والبحار وتكونت طبقات الأرض المختلفة وما تحتويه من مناجم الفحم والمعادن المتنوعة كل ذلك بفعل العوامل والنواميس الطبيعية
غير أن العلماء كانوا فيما مضى، قبل قيام الاكتشافات العظيمة الحالية في البيولوجيا(309/57)
والفسيولوجيا وباقي علوم التاريخ الطبيعي، حيارى لا يدرون كيف يعللون كيفية ظهور الحياة على الأرض والتفسير العلمي الصحيح
فقال فريق منهم في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل القرن التاسع عشر، منهم بوفون ومحررو دائرة المعارف إذ ذاك، ومنهم لامارك السابق لداروين في تأسيس مذهب التطور والتسلسل. قال هؤلاء إن الكائنات الحية الأولية تولدت ذاتياً من الجمادات، وهو مذهب التولد الذاتي المشهور، بل إن بعضهم بالغ في ذلك إلى الزعم بأن الأحياء السفلى الحالية مازالت تتولد الآن من الجمادات، كما يعتقد العوام خطأ بأن كثيراً من الديدان والحشرات تتولد ذاتياً من تلقاء نفسها في المواد القذرة والعفنة والمتخمرة. وقد أساءت هذه المبالغة وهذا الخطأ إلى المذهب المذكور على ما هو عليه من الوجاهة وكانت السبب في سقوطه في بادئ الأمر وقد جاءت أبحاث باستور واكتشافاته الجديدة التي قام بها في ذلك العهد تنفي - في الظاهر - ذلك المذهب وتثبت استحالة تولد الكائنات الحية الآن من الجمادات، بمعنى أن كل كائن حي مهما سفل نوعه لابد أن يتولد الآن من كائن مماثل له. وكان في الوقت نفسه قد فشلت في ذلك الحين المحاولات التي قام بها بعض الكيميائيين البيولوجيين لتركيب المواد الزلالية ولو البسيطة منها اصطناعياً. فاتخذ خصوم ذلك المذهب - مذهب التولد الذاتي - من هذا كله أسلحة لمحاربته وقتلوه في مهده.
لهذا فكر بعض العلماء أن يأتوا - بمحض خيالهم - ببذور الحياة من عوالم أخرى ففرضوا أنها تنتقل في صورة ذرات صغيرة جداً في الفضاء الكوني من بعض الكواكب إلى البعض، ومتى سقطت على كوكب صالح للحياة تنمو وتتولد منها الكائنات الحية البسيطة ثم المركبة. وبالغ أحدهم وقال إن تلك الجراثيم الكونية لا تؤثر فيها الحرارة - حرارة الكواكب الملتهبة وحرارة الشهب والنيازك التي تحملها أحياناً وتسقط بها على الكواكب والسيارات مثل الأرض وغيرها - وقد سماها أي الأحياء النارية.
ولكن هذه الفروض التخمينية فضلاً عن أنها خيالية محضة لا تستند إلى دليل علمي؛ فإنها لا تحل الأشكال بل تبعد حله بأن تنقله من أرضنا إلى عوالم أخرى. إذ لنا أن نتساءل: وكيف وجدت الحياة في تلك العوالم الأخرى التي انتقلت إلينا منها الجراثيم الحية؟ ويبقى علينا أن نبحث في أسباب وظروف تكوين تلك الجراثيم في باقي الكواكب والسيارات.(309/58)
وفوق هذا فإن تلك الفروض التخمينية مخالفة لروح البحث العلمي؛ لأنه إذا كان الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسوجين وبعض المعادن الأخرى التي تتركب منها المواد الحية قد امتزجت طبيعياً وكونت تلك المواد في العوالم الأخرى فلماذا - وهي موجودة جميعها على الأرض - لا تمتزج هنا أيضاً وتولد المادة الحية كما فعلت في غير الأرض؟ أليس أساس كل علم أن نفس الأسباب تنتج نفس النتائج؟
لهذا كله وجب علينا أن نواجه الحقائق العلمية في حد ذاتها على ضوء الأبحاث والاكتشافات الحديثة وغير متأثرين بالآراء والمذاهب القديمة الموروثة، وأن نرجع إلى الحالة التي كانت عليها الأرض وقت ظهور الحياة لنستخلص من ذلك مصدرها - أي مصدر الحياة - وكيفية نشوئها وأسباب ذلك. وهذا ما أخذه العلماء على عاتقهم في الخمسين سنة الأخيرة.
قلنا إنه ما دامت الحياة ظاهرة طبيعية فلا بد أن تكون ظهرت على الأرض بفعل العوامل الطبيعية وهذا هو الواقع.
الواقع أن مواد الأجسام الحية النباتية والحيوانية تشتق رأسا الآن من الجمادات، وتتكون منها مباشرة في كل لحظة أمامنا، وعلى مرأى منا. فمن أين جاءت المواد الحية التي تبنى بها أجسامنا منذ تكوينها من بويضة صغيرة جداً لا ترى إلا بالميكرسكوب؟ لا شك في أنها تكونت من الغذاء. وقد بينا في المقالات السابقة أن المواد الغذائية تشتق من الجمادات وتتكون منها، فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى بالحيوانات النباتية وهذه تتغذى من النباتات، والنباتات تركب أنسجتها وتحصل على غذائها من الجمادات، فمادتها الخضراء (الكلوروفيل) تستعين بطاقة الشمس الإشعاعية وتحلل غار حمض الكربونيك المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون وتمزجه بالماء فتؤلف منه السكر والنشا ثم الأحماض والقلويات العضوية والمواد الدهنية. وفي الوقت نفسه تمتص جذورها التراكيب الآزوتية من الأرض ذائبة في الماء وتمزجها بالمواد الكربونية المذكورة بفعل قوة الشمس أيضاً فتنتج المواد الزلالية الموصوفة بالحية. وهكذا تتركب الآن باستمرار جسام الكائنات الحية من الجمادات المنتشرة في الجو وعلى الأرض بفعل قوة الشمس وبواسطة الكلوروفيل.
وقد توصل الكيمائيون إلى تركيب الكثير من المواد العضوية النباتية والحيوانية من الجماد(309/59)
رأساً كما تفعل الطبيعة، فنجحوا مثلاً في الحصول اصطناعيِاً على المواد السكرية والنشوية المختلفة وعلى معظم المواد الدهنية وعلى الكثير من المواد العضوية الأخرى كالقلويات التي تستعمل في الطب، والعطور المختلفة. والأهم من هذا أنهم ركبوا كيميائيًّا من مواد معدنية محضة حامض النمليك الذي يدخل فيه الآزوت وهو النواة الكيميائية للمواد الزلالية، ثم ركبوا بعضاً من هذه المواد مثل زلال اللبن (مادة الجبن) ومثل البروتيين الناتجة من هضم المواد الزلالية في الحيوانات والنباتات، ومثل الكبراتين التي تدخل في تركيب أظافر الإنسان والحيوانات الفقرية الأخرى. وهذا النجاح يبشر بقرب الوصول إلى تركيب المواد الزلالية العليا الموصوفة بالحية كما بينا كل هذا في المقالات السابقة. . .
ومن الغريب الذي يدعو إلى الإعجاب أن بعض الكيميائيين مثل دانيال برتولو وجوديشون سلكوا في تركيب السكر والحمض النمليك الآزوتي المتقدم ذكره نفس الطريق الذي تتبعه الطبيعة بأن سلطوا الأشعة فوق البنفسجية المنبعة من بخار الزئبق على خليط من الماء والحامض الكربونيك وبعض تراكيب الآزوت المعدنية البسيطة
فما تصنعه الطبيعة الآن تحت نظرنا وأمام أعيننا من إنشاء المادة الحية رأساً بفعل طاقة الشمس ولكن بالواسطة - أي بواسطة المادة النباتية الخضراء (الكلوروفيل) - بل ما يصنعه الإنسان في معامله إلى حد ما، ألم تستطعه الطبيعة رأساً بلا واسطة في الزمن البعيد حيث كانت ظروف الشمس والأرض أكثر ملاءمة من الآن؟
فقد كانت الشمس في ذلك الماضي البعيد جدّاً الذي لا يقل عن خمسمائة مليون سنة من الكواكب الزرقاء أو البيضاء من الدرجة الأولى، تزيد حرارتها عما هي عليه الآن بمراحل، وكانت - على الأخص - تشتمل على الكثير من الأشعة فوق البنفسجية، وهي كما لا يخفى توجد وتنشط التفاعلات الكيميائية على اختلاف صورها. . .
وكانت الأرض من جهتها مرتفعة الحرارة لقرب عهد انفصالها من الشمس. وفوق هذا فإنها - أي الأرض - كانت في ذلك الحين مسرحاً لكثير من إشعاع الراديوم والأجسام المماثلة له التي كانت توجد كميات وافرة على سطحها. وكانت تنبعث من هذه الأجسام الإشعاعية الكثير من غازات الهيدروجين والهليوم الجديدة، ومن المقرر في علم الكيمياء أن الغازات المستجدة تكون أكثر قابلية للامتزاج بغيرها من المواد الأخرى.(309/60)
فنتج من كل هذه العوامل مجتمعة أن نشطت التفاعلات الكيميائية على الأرض وفي الماء وامتزجت المواد المختلفة بعضها بالبعض، وعلى الأخص الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسجين وبعض المواد المعدنية الأخرى على صور شتى عديدة فتولدت على هذا النحو ما يسمونه بالمواد العضوية البسيطة، أي بعض تراكيب الكربون، ثم المواد العضوية الأكثر تركيباً ومنها الأحماض الآزوتية مثل حامض النمليك وغيره. وهذه امتزج بعضها ببعض وبالأحماض الفسفورية فأدت إلى المواد الزلالية البسيطة ثم العليا الموصوفة بالحية. وكان هذا أول مظهر للحياة وأبسط صورة من صورها
وتطورت هذه المواد الزلالية بفعل العوامل الطبيعية وتحول بعضها إلى الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة، وبعضها إلى النباتات الأولية، وثالثة إلى النباتات الفطرية وهي الحلقة المتوسطة بين الحيوانات والنباتات كما بينا ذلك في مقالنا الأول
وتسلسلت من هذه الأحياء الأولية البسيطة الحيوانات والنباتات السفلى ثم العليا في مختلف العصور الجيولوجية التي دام كل منها عشرات الملايين من السنين مما سنشرحه في مقالات قادمة ونبين أسبابه ونأتي على الأدلة والمشاهدات والاختبارات المؤيدة له
غير أن حرارة الشمس أخذت تنقص بالتدريج في مئات الملايين من السنين، كما نقصت أشعتها فوق البنفسجية فأصبحت عاجزة عن تركيب المواد الحية من المواد الجامدة أو المعدنية من تلقاء نفسها كما كانت تفعل في بادئ الأمر، فاستعانت على ذلك بالكلوروفيل كالرجل المتقدم في السن يستعين على رؤية الأشياء بالنظارات. ذلك لأن النباتات كانت قد ظهرت على الأرض على الوجه المتقدم بيانه منذ ذلك الحين
فضعف الشمس الآن هو السبب في استحالة التولد الذاتي في الظروف الطبيعية الحالية، وهذا ما يفسر مدلول أبحاث باستور وتجاربه المشار إليها فيما تقدم. فإن هذه الأبحاث والتجارب لا تدل إلا على استحالة التولد الذاتي في عصرنا الحاضر ولكنها لا تنفي إمكان ذلك في بدء ظروف الطبيعة على الأرض
كان الناس في بدء نشوء النوع الإنساني قبل اكتشاف الكبريت والفسفور، وقبل أن يستنبطوا أحداث الشرر من احتكاك بعض الأحجار الخاصة بالبعض - يعتقدون أن النار سر من وراء الطبيعة لا يستطيع البشر أن يخلقوها، وأن كل نار لا بد أن تولد من نار(309/61)
أخرى سابقة لها، كما يعتقد جمهور الناس الآن في الحياة والكائنات الحية
فكانوا في ذلك الماضي البعيد إذا شاهدوا حريقاً نشأ مثلاً بفعل العوامل الطبيعية كانقضاض صاعقة على شجيرة يابسة أو على كمية من الحطب أو الحشائش الجافة، يوقدون منه ناراً دائمة في مغاورهم ومساكنهم يتخذونها كخميرة يولدون منها النار كلما أرادوا إحداثها لحاجاتهم الشخصية، وهذا هو منشأ عقيدة عبادة النار التي تسلسلت منها عادة المحافظة على مصابيح أو شموع صغيرة تضاء في المعابد والمساكن لأغراض دينية
ومع أن الإنسان اكتشف بعد ذلك الوسائل الاصطناعية لإحداث النار كلما شاء إلا أن تلك العادة ما زالت باقية إلى الآن، شأن كل فعل أو صفة مكتسبة يجري العمل عليها الزمن الطويل فإنها تتأصل وتصبح آليةً، وعلى هذا النحو نشأت الغرائز في الحيوانات والإنسان كما شرحنا ذلك في مقالنا الأخير عند الكلام على نشوء الغريزة الاجتماعية والأخلاقية في الإنسان والحيوانات الاجتماعية الأخرى كالقرود العليا والنمل
وهكذا الحال بالنسبة للحياة؛ فأنه نظراً لعجزنا الحالي المؤقت عن تكوين المادة الحية اصطناعية، نظن أنها سر من وراء الطبيعة، وأنها تختلف عن باقي ظواهر الكون وأنها لم تظهر على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، بل هي من عالم آخر كما يتوهمون. فنحن الآن بالنسبة للحياة على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للنار قبل اكتشاف وسائل إحداثها اصطناعياً.
على أن هذا كل الوهم سوف ينقشع ويتلاشى في المستقبل حين يتوصل العلماء نهائياً إلى تركيب المادة الحية في معاملهم. وقد بينا فيما تقدم وفي المقالات السابقة أنهم أوشكوا أن يصلوا إلى هذه النتيجة الهامة حيث خطوا خطوات تذكر في هذا السبيل فقد صنعوا كيميائياً بعض المواد الزلالية سالفة الذكر وهم في طريق صنع المواد الزلالية العليا المسماة (بالمواد الحية). ومتى وصل العلم إلى ذلك الحد تصبح الحياة ظاهرة طبيعية في نظر جمهور الناس ينظرون إليها كما ننظر إلى النار الآن بعد اكتشاف الوسائل التي تجعلنا نحدثها كلما شئنا.
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية(309/62)
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)(309/63)
قصة الحرير
بقلم أحمد علي الشحات
دلف نوح علية السلام إلى الصين يسعى بعد الطوفان، وله في الاشتغال في هذا البلد بالحرير ذكر، إذ يقول بعض المؤرخين إنه هو أول من اهتدى إلى الحصول عليه. وسواء لدينا أكان هو أم كان غيره - مادمنا لم نثبت من ذلك بعد - إلا أن الذي لا ريب فيه أن (الصين) هي أول بلد اشتغل بالحرير؛ بل واسم بلاد الصين ذاته معناه بالصينية (الحرير).
ويعزو التاريخ الفضل الأكبر في انتشار الحرير بالصين إلى زوج الإمبراطور الصيني (فوهانج عام 2500 قبل الميلاد)؛ ويسند التاريخ إليها أيضاً اختراع (المنوال) ونسج الحرير.
ومنذ القدم والحرير يقدر بقيمة عالية. فلقد كانت الممالك: كالهند وإيران واليونان وروما تدفع فيه للصين عن طيب خاطر ما يزيد على وزنه من الذهب.
وكانت الصين تسعى جهدها ألا تتمكن مملكة أخرى من الاهتداء إلى طريقة الحصول عليه. ومن الطريف أنه إذا استعلم الأجانب منهم عن ذلك مكروا بهم وأجابوهم بأن الحرير هو من (وبر الغنم) خلطت به ألياف رفيعة ووضع في الماء تحت أشعة الشمس في فصول معينة من السنة. حتى إذا ما سويت هذه الخيوط بعد ذلك إذا بهم يحصلون على الحرير.
ومما يثير الدهشة أن تمكن الصينيون من كتم هذا السر عن العالم لحقب طويلة إلى أن كان القرن الثالث بعد ميلاد المسيح. وكانت اليبان بطبيعة موقعها وجوارها للصين ترى تلك التجارة العظيمة في الحرير التي تدر على الصين الخير كله، صح عزمها على اكتشاف هذا السر بالغاً ما بلغ الجهد منها، وكانت على اعتقاد جازم بأن الصين تمكر بالعالم إذ تذيع تلك القصة السالفة التي ابتكرها خيالهم بأن الحرير أصله وبر غنم. أوفدت جواسيس لها إلى الصين أسروا بنات أربعا يشتغلن بالحرير، واختلسوا ما تمكنوا من الاهتداء إليه من دود الحرير. وعادوا بالأسيرات إلى اليابان، وهناك علمنهم أن الحرير إفراز خيطي من ديدان الحرير في أحد أطوار حياتها، وعلمنهم أيضاً كيفية استغلاله.
ومن ذاك اليوم والسر عن نطاق الصين قد خرج والاتجار بالحرير في اليابان ينمو ويزدهر، ولعل اليابان اليوم أقوى أمم الأرض في التجارة بالحرير.(309/64)
كيف اهتدت إليه الهند؟
أما كيف كان ذلك فيروي أن أميرة صينية اقترنت بأمير هندي في ذات التاريخ الذي عرفت فيه اليابان سر الحرير (القرن الثالث)؛ وحملت هذه الأميرة بعض دود الحرير إلى حيث مقامها مع بعلها، هناك ألقت إلى الناس بالسر الذي تكتمت عليه مملكتها أشد التكتم؛ ثم ازدهرت تجارته بعد ذلك بالهند.
دخوله القسطنطينية
في القرن السادس دخل راهبان كانا قد قضيا حقبة من العمر في الصين خبرا خلالها الحرير، بيزنطة (القسطنطينية) وأفضيا إلى إمبراطورها (جستنيان) بما يعلمان عن الحرير. فطلب إليهما أن يشدا رحالهما ثانية إلى الصين، ويحملا إليه بعد ذلك ما اتصل بما أسراه إليه عن الحرير مجزلاً لهما العطاء مسرفاً في الوعود والمنح. فامتثلا وقفلا راجعين إلى الصين وهناك تمكنا من تخبئة كمية من بيض دود الحرير في عصا مجوفة، وارتدا إلى الإمبراطور.
ولو قد استشفا ببصيرتهما الحجب، وعلما ما كمن في سطور الغيب لرأيا أن هذه العصا التي يحملانها ستكون سبباً في سعود نجم تجار كثيرين، وأن العالم الأوربي الآن وقد مضى على حمل هذه العصا أربعة عشر قرناً تأسست تجارته في الحرير على محتويات هذه العصا.
وانتعش الحرير في فرنسا كثيراً واتخذته العائلات المالكة هواية لها وكذلك الأشراف، بل وكانت الألقاب السامية تمنح لمن أفلح في إنتاج الحرير حتى إذا ما وافى القرن السابع عشر كانت فرنسا عن بكرة أبيها قد أجادته تماماً
ولقد كانت إنجلترا على النقيض من ذلك لم تلق بالاً إلى الحرير على رغم أن جوها يصلح لتربية الدود ويصلح لشجر التوت، بل وملكها جيمس الأول يحث الناس ويشجعهم على العمل في إنتاجه والاتجار به. ولكن الناس كانوا عن أمر الحرير غافلين وفضلوا أن يستمروا في تربية الخنازير والعمل على تسمينها واستخراج البيرة
ولكن كان لإنجلترا في الهند خير عزاء إذ أن الحرير بالهند والظروف المهيأة لنمو الدود(309/65)
هناك والشجر ليتغذى عليه قد بلغ ذلك كله مبلغاً جعل الهند في مصاف الأمم الأخرى التي أفلحت فيه، بل ولقد برزت هي في ذلك
واختلفت أمزجة الشعوب في النقش على الحرير، فبينما الصين كانت تكثر من رسم الأزهار كانت الأمم المسيحية ومن بينها بيزنطة (القسطنطينية) ترسم زخرفة بسيطة بها صليب. وكانت الهند تكثر من رسم الإنسان والوحوش والطيور ومناظر صيدها، وكانت العرب تكثر من الكتابات المتعلقة بسلاطينهم كقولهم العز والنصر والإقبال للسلطان والمتعلقة بالتوحيد كقولهم لا إله إلا الله.
احمد علي الشحات
كيميائي بالسكة الحديد(309/66)
رسالة الفن
دراسات في الفن
المرأة والإبداع الفني
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قبل أن أقول كلمة في هذا الموضوع أحني الرأس طويلاً بين يدي حواء، فمهما تكن فإنها أمي، والأم لا تنكر إذ قد ينكر الأب، وإنها بعد ذلك أختي، والأخت لا تتنكر إذ قد يتنكر الأخ، وأنها منذ كنت سكني. . . رحمانك يا رب!
وبعد فإنه يخيل إليّ أني قد استطعت - بعون الله - في حديثي السابق أن أغري القارئ بالتفكير معي في أمر الصدق ولزومه للفن، وإني أرجح أن تفكيره لم يعد يرى بأساً في أن نجعل ما بين الصدق والفن من الصلة أساساً للنظر في صلة الفن بالناس. فالصدق لا يقوم بذاته إلا في الوجود المجرد، ولكنه يحتاج إلى من يتجسده في الكون المحسوس كما يحتاج إلى من يعلنه فيه، والإنسان بعض ما يتجسده، وهو وحده الذي يعلنه بهذا الأسلوب المفهوم المعقول. والإنسان كما هو ظاهر رجل وأمراة، فأيهما كان أقرب من الصدق كان أقرب من الفن. وأيهما كان أقرب من الفن كان أقرب من الصدق.
أما الذي يسجله التاريخ القديم والحديث فهو أن عدد الرجال الذين أبدعوا في فنون الحس والعقل على الإطلاق أكثر من عدد النساء اللواتي أبدعن في هذه الفنون. فإذا نحن سايرنا منطق الحساب فإننا سنشهد مجبرين بأن الرجل أقرب إلى الصدق من المرأة.
ولكن الذي تعودناه من مجاملة حواء لا يجيز لنا أن نمسك بهذه الدعوى وأن نتعلق بها وأن نقف عندها متبلطين لا نتزحزح عنها ولا ننجلي، وإنما يأنف الذوق من هذا ويأبى إلا أن نخف عن هذه الدعوى ألي شيء مما يتلوها، فنقول: لعل طبيعة المرأة في الأصل كانت تكاد تشبه طبيعة الرجل، ولكنها الحياة التي تمردت على الطبيعة بهذه الحضارة هي التي عصفت بالمرأة دون الرجل وللمرأة عندئذ عذرها إلا إذا أنكرت تكوينها، ولها فيه من القوة ما حُرِمه الرجل. كما أن لها فيه من الضعف ما برئ منه الرجل.
قد يتعاشق رجل وامرأة. أما الرجل فيهفو إلى محبوبته، وأما هي فيكون في نفسها أن تطير(309/67)
إليه ولكنها تتمنع، فلا يرى الرجل بداً من أن يخطو هو الخطوة الأولى. فإذا أحست المرأة إشفاقه من هذه الخطوة وتردده عنها أغرته بها ودفعته إليها وشجعته عليها، ولكنها لا تسمح لنفسها بأن تخطوها لأنها لا تعرف الصلة بينها وبينه إلا على وجه واحد، وهو أن تلقي عليه أعباءها. وهي مع رغبتها هذه تأبى إلا أن تسجل عليه خطوته الأولى، وإن كانت هذه الخطوة بإغرائها وتشجيعها، وهي تفعل هذا كله لتبرر فيما بينه وبينها بهذه الحركات الظاهرة دلالها عليه وتحكمها فيه بعد أن ملكت منه رغبته إليها أولاً، وخطوته إليها ثانياً. فكأنها التي تفضلت بانقيادها، وكأنما كانت تريد أن تعيش على بعد من الرجل
صحيح أن من الرجال من يستطيع أن يتماسك أمام المرأة، وأن يمضي معها في صراع المغازلة إلى أقصى ما تريد من فنون المغازلة، ولكن صحيحا أيضاً أن الكثيرين من الرجال لا يلبثون أمام المرأة إلا ريثما ترتجف أرواحهم فإذا هم يتطايرون عبيراً وشذى، وإذا هم فنون من الأنغام والصور والشعر والحكمة: في هذه الفنون أودعوا اللهفة والشوق، وبها أزينوا وتبرجوا كما يفعل بعض إخوانهم ممن يخادعون المرأة بقوة أبدانهم، وممن ستهوونها بجاههم وأموالهم
والرجل صريح في كل ضرب من ضروب الغزل هذه. . . ولكن المرأة - لا نقل كاذبة - وإنما نقول متحفظة
والتحفظ إبهام ولو ستر وراءه الصدق
وما لنا نتجشم الدخول إلى نفس المرأة، وهذه مظاهرها أمامنا واضحة؟!
أما نرى المرأة تعني بشئون بدنها أكثر من عنايتها بشئون روحها؟ بل إنها إذا صفت روحها سخرت هذا الصفاء لنعمة جسدها، وحسبته في أسباب أناقتها كأنه زي من أزيائها. . . فكثيرات هن المغنيات والراقصات والممثلات اللواتي يغزلن من فنونهن شباكا يقتنصن بها الأغنياء والشبان الوارثين وغيرهم ممن يشترون الجمال بالمال بينما لا يفعل مثل هذا من الرجال الفنانين إلا قلة نادرة شاذة
ثم أن هذا التجمل الذي تدمنه المرأة لا يخرج عن أنه تكلف وأنه شيء يشبه الكذب، فهذا المسحوق الأبيض الذي تذره المرأة على وجهها لتقول به إن بشرتها بيضاء ناعمة ليس فيه من بياض بشرتها ولا من نعومتها شيء وإنما الأبيض الناعم هو. وهذا الدهان الأحمر(309/68)
الذي (تلطعه) على وجنتيها لتقول به إنها حمراء الخدين ليس فيه من حمرة خديها شيء وإنما الأحمر هو. . . وهذا الطلاء القرمزي الذي تسفكه على شفتيها لتقول به إنها قرمزية الشفتين ليس فيه من شفتيها شيء وإنما القرمزي هو. . . وهذا المشد الذي تربط به خصرها لتقول به إنها نحيلة الخصر إذا انفك ارتاح خصرها فإذا هي كما خلقها الله لا كما تقول بمشدها. وهذا (الكعب) العالي الذي تركبه وتمشي به كما يمشي (البهلوان) على الحبل لتقول إنها سمهرية القد تخلعه في وحدتها فإذا الأرض تبلع منها مقدار ما كانت (تتطاول) بكعبها العالي. . .
والرجل لا يفعل شيئاً من هذا، ولكن المرأة تفعله - ولا نقل إن المرأة به كاذبة - وإنما نقول إنها متأنقة
والتأنق تمويه ولو ستر وراءه الصدق
فهل لا تصلح المرأة للفن إذن وهي غارقة في تحفظها وتأنقها هذين؟ الواقع أن كلا من التحفظ والتأنق يخنق الفن
أما التحفظ فإنه يخنق الفن لأن الفن دائماً يبدأ في نفس الفنان، فليس هناك مغن تغني بعواطف الناس قبل أن يتغنى بعواطفه هو، ليس هناك أديب كتب عن الناس قبل أن يكتب عن نفسه، فإذا لم يكن قد كتب عن نفسه فلا بد أن يكون قد فكر فيها قبل أن يفكر في غيرها من النفوس لأنها أقرب النفوس إليه كما أنه أن لابد ينساب منه حين يكتب عن الآخرين ما يدل عليه وما يستطيع القارئ أن يحكم به على ما يحب وما يكره. ولا ريب أن الوصول إلى ما يحبه المرء وما يكرهه لا تتلوه إلا خطوة قصيرة يقف بعدها المستطلع أمام نفس هذا المرء وجهاً لوجه. وليس هناك رسام ينشر في الناس صورة إلا وهو يضمن هذه الصور جميعاً ما ينجذب إليه من الألوان والأشكال؛ فهو يدل بذلك على ذوقه ونواحي الراحة التي تطمئن إليها روحه ما دام يرسم مختاراً غير مجبر
وهكذا الفنون جميعاً تعلن بصراحة ووضوح عن نفوس أصحابها. زد على ذلك أن الفنون الفذة العبقرية تحتاج إلى جهاد يمارسه - في أغلب الأحيان - أولئك الذين تتملكهم رسالاتهم الفنية فيشعرون أن الإنسانية قد استدارت حولهم فجعلتهم نواة لحلقة جديدة في سلسة الرقي الحسي والفكري الذي ترقاه. وهذا الجهاد وما يصاحبه من ألوان الكفاح(309/69)
وصنوف الحرمان والتعذيب الروحانيين أو البدنيين يستلزمان من الصبر والعزيمة والقوة والمجالدة والإعراض عن مباهج الدنيا ما لا تطيق المرأة الخفيفة الرقيقة أن تحمله.
فهي بين التحفظ الذي أنشأه عندها الضعف، وبين هذا الضعف الجديد إزاء الحالة العبقرية الطارئة في ضعفين يثقل معهما التكليف بالفن أو يكاد يتعذر، فلا هي قادرة أن تكشف عن روحها فإذا فعلت فإنها عاجزة عن المضي في حياتها وهي روح عادية.
فإذا لحظنا أنه قد شاعت بين النساء أزياء تكشف عما لزمت المرأة تحجيبه عن الأعين دهوراً من الخجل والخفر، وإذا لحظنا إلى جانب هذا أنه لما تذع بين النساء الصراحة حتى اليوم ولما يرج بينهن الصدق، وأنهن ما يزلن يفضلن من يزوق لهن القول ومن يزيف عليهن الحق حتى بعلمهن، إذا لحظنا هذا وذاك أدركنا أن المرأة تعتقد بإيمان كامن في نفسها أن جسمها خير من روحها، وأنها لو أظهرت من جسمها ما أظهرت فأنها لن تصيب الأعين بالقذى، على العكس من روحها التي تدثرها بالغموض والتحفظ خشية أن تحسب عليها خلجات نفسها.
فلماذا تفعل المرأة هذا؟
أفي نفسها شر مرعب مخيف تتقي أن ينفضح؟!
لا أحسب هذا، وقد يكون كل ما في الأمر أن المرأة متحفظة وأنها تحب ألا تعلن إلا ما يسر الرجل، ولما كانت تربط حياتها بحياة رجل واحد إما أن يكون في الغيب فهي لا تدري ما الذي يعجبه وما الذي يغضبه، وهي لهذا تئد النزوع الفني في نفسها حتى لا ينفر منها أحد، وحتى يقبل عليها كل من يريد أن يتعرف بها فعندئذ تريه ما يرضيه هو لا ما يرضيها هي، وإما أن يكون تحت سمعها وبصرها، فهي تسقيه من خمرها ما طاب له لا ما اعتصرته من نفسها
هذه هي حال المرأة الضعيفة المتحفظة
ويشبه هذا حالها في تأنقها واصطناعها الزينة وفنون التجمل فهذا التأنق ينساب من بدنها إلى روحها، والتأنق لا يخلو من التعمل والتكلف، وهما يباعدان ما بينها وبين الفن الصادق الصحيح إذا أحبت أن تدنو من الفن. والأناقة - كما هو معلوم - لها أزياء تتشكل وتتطور على مر الزمن، وهي تخضع في تشكلها وتطورها للذوق العام الذي تدنيه بين الناس(309/70)
مؤثرات معقدة متعددة يخضع لها المتأنقون خضوعاً لا يرضاه الفنان ولا يستطيع أن يأخذ به لأنه يحب دائماً ألا يفعل إلا ما يقتنع به هو نفسه وهو يستقي سر إقناعه من نظرته للأشياء ومن تجربته الخاصة ومن مقدار الراحة واللذة اللتين يوفق إليهما. . . والمثل الذي يردده المتأنقون هو قولهم: (كل ما يعجبك وألبس ما يعجب الناس) بينما الفنان - ما دام قادراً - لا يأكل إلا ما يعجبه، ولا يلبس إلا ما يعجبه أيضاً جرياً على نهج الحرية والصدق الذي يسلكه في حياته
فإذا فرضنا أن المرأة استقامت إلى الفن فإنها في أغلب الأحيان لا تفعم نفسها وفاء لهذه الاستقامة، وإنما هي تبعثر من إخلاصها في حقل التأنق مثلما تبعثر في حقل الفن، فهي إذن موزعة الجهد مشتتة الروح، وفنها إذن لا يعدو أن يكون صورة أنيقة لزي من أزياء الفنون الرائجة التي يتحدث الناس بجمالها أو التي أنفقت كثرة من الناس على استحسانها، وهذا هو السبب في أنه لم يكد يحدث أن خطت امرأة خطاً جديداً في لوحة الفن لا لشيء إلا لأن المرأة متأنقة، والأناقة لها قاعدة تبيح للمتأنق أن يبتلع ما يعجبه، ولكنها لا تبيح له أن يظهر أو أن يتظاهر إلا بما يعجب الناس
وقد يرد عليّ نصير من أنصار المرأة فيقول إن من النساء الفنانات من لهن أسلوب فني خاص بهن كممثلات السينما المعدودات في الصف الأول بين الممثلات - والسينما اليوم هي المجال الفني الذي تزاحم فيه المرأة الرجل - وقد يضرب لي نصير المرأة هذا المثل بجريتا جاربو التي يعتبرونها ممثلة السينما الأولى في العالم فإن لها من غير جدال أسلوباً خاصاً بها في تمثيلها، كما أن لكل واحدة من الممثلات المبرزات أسلوباً خاصاً وإلا ما احتسبت بين الممثلات المبرزات
قد يقال هذا، ولكن الرد عليه قريب. وهو لا يكلفنا أكثر من أن ننفي عن جريتا جاربو تمكنها من الإبداع الفني الذي يسر لها أسلوبها الخاص بها في التمثيل، فنحن إذا راجعنا تاريخها لفتنا فيه ذكر ذلك المخرج السويدي الذي لطفت عنده جريتا فأحبها واستدرجها إليه بسطوته الفنية، ثم فجئ العالم بها ولها هذا الأسلوب الناعس الجديد في التمثيل
قد تكون جريتا ناعسة في نفسها ولكنها لم تجرؤ على الظهور في زيها النفسي الصادق إلا برعاية رجل وبمعاونته وتشجيعه، ولا ريب أن هذا الظهور قد خدش في نفس جريتا جابو(309/71)
تحفظ الأنوثة وتأنقها؛ ولا ريب أن هذا الخدش هو الذي يحملها دائماً إلى التهرب من المجتمعات والى حياة العزلة والغموض التي عرف عنها أنها تميل إليها، وأنها تشتريها بالمال الكثير، فهي إذن قد جزعت من الناس عندما ظهرت لهم على حقيقتها لأنها كانت تحب أن تخفي هذه الحقيقة، ولأنها كمن تؤمن بأن التأنق على ما فيه من التكلف خير من الصدق والحق
ولهذا أيضاً اضطربت حياة جريتا الغرامية، فهي قد أصبحت تعتقد أن الرجال قد وقفوا على حقيقة نفسها، وعلى مسالك عواطفها، فهي لذلك تشك فيمن يتقرب إليها بالهوى وإن أقبلت على واحد منهم فريثما تشعر أنه قد تملك من نفسها عندئذ تفيق ولا ترضى أن تؤمن بأن عاشقها هذا يحبها حباً صادقاً، وإنما تحسبه كالنساء التمس إلى روحها مدخلاً هو ناحية الضعف في نفسها
كل هذه الحيرة، وكل هذا الشك، وكل هذا القلق، لم يعتور النفس جريتا إلا لأنها جزعة نادمة على ما كشفت من نفسها، فهي تسمح للمرحوم جون جلبرت بأن يتقدم نحو روحها حتى يتسلط عليها فتشك فيه وتنتفض من حبه وتهجره، ثم لا تلبث أن تمثل مع رامون نوفارو فتحبه وتحس أنه يحبها، فما تحس هذا حتى تفر منه وتهجره
خبل ما بعده خبل. . . أحدثه في نفس المرأة الصدق، وكان حق الصدق أن يفيض بها طمأنينة ودعة
فهل يمكن أن يقال بعد هذا إلا أن الصدق غريب على طبع المرأة؟!
وما دمت قد ذكرت جريتا جاربو، وذكرت بها السينما، والسينما - كما قدمت - هي المجال الفني الذي تزاحم فيه المرأة الرجل، فإني أرى نفسي ميالاً إلى الوقوف عند مشاهدة لا ريب أنها تؤيد ما أذهب إليه من تباعد المرأة عن روح الفن الصادقة. . . تلك هي أنه لم يحدث أن تصدت للإخراج في السينما ولا في المسرح حتى اليوم امرأة. وإن كان ذلك قد حدث فإنه لابد أن يكون قد حدث في حالة واحدة أو حالتين أو - على الأكثر - حالات لا يمكن أن تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة. . .
والإخراج في التمثيل - كما يحتاج إلى إلمام ميكانيكي بقواعد الفن، فإنه يحتاج إلى أبلغ النفاذ إلى روح الفن ومعانيه ومراميه، وهو لا يقوم إلا بذوق مستقل خاص يتجلى في(309/72)
الطابع الفني الذي يتميز به المخرج؛ هذا زيادة على ما هو لازم للمخرج من صدق الخبرة بالنفوس والحياة، وصدق الحكم على الفن والفنانين، لأنه بهذه الجرأة الصادقة، وبهذا الحكم الصادق وحدهما يستطيع أن يبرز رواية، وأن يوزع الأدوار فيها، وأن يضمن خروجها وهي أقرب ما يكون العرض الفني من الحياة الطبيعية، وأصدق ما يكون من التعبير عما أراده مؤلف الرواية، وأبلغ ما يكون من تصوير عواطفه وأحاسيسه، وأوضح ما يكون من تحديد أفكاره ومراميه. . .
هذا العمل الفني الجليل المعقد المتشعب لم تجرؤ النساء على الاقتراب منه حتى اليوم، ولا ريب أن الذي يحول بينهن وبينه هو الشيء في طباعهن، فإنهن أنفسهن لا يستطعن أن يدعين أن الرجل - وعلى الخصوص في ميدان السينما الحر الطلق - يعوق سبيلهن أو يحد من مطامحهن.
وأخيراً. . . فلعل القارئ قد لفته مثلما لفتني، أن العبقريات من النساء اللواتي شذذن على هذه القاعدة التي رسمناها اليوم فيهن من الرجولة ملامح منها ما هو ظاهر في أبدانهن، ومنها ما هو كامن في أرواحهن، ولست أريد أن أذكر من أعرفهن بالأسماء فقد يكرهن هذا لبقية باقية من الأنوثة في نفوسهن، وإن كنت لا أحب أن أدع حواء قبل أن أعود فأحني الرأس طويلاً بين يديها متوسلاً إليها أن تجرب - إذا استطاعت - الصدق.
عزيز أحمد فهمي(309/73)
من هنا ومن هناك
الوجوه ودلالتها على الأخلاق
(ملخصة عن كتاب (وجوه وملامح جديدة) للدكتور ماكسويل مولتز)
يرى الكثيرون أن ملامح الوجه تدل على الأخلاق. فيرون في قصر الذقن دلالة على الحماقة وفي اعتدالها ما يدل على الحزم، ويرون في انحدار الجبهة أو طول الآذان دلالة على البلادة، وفي شيب الشعر وتجاعيد الوجه علامة على كبر السن، وفي غلظ الشفة دلالة على الشهوة
وفهم الأخلاق على هذا الوجه لا قيمة له من الوجهة العملية لقد كانت الملامح في الأزمان الغابرة هي الدليل الوحيد لمعرفة أخلاق الإنسان، إذ لم يكن معروفاً أثر الظواهر الطبيعية في تكوينه. فكانوا يحكمون على نوايا الرجل لمجرد النظر إلى وجهه فيعرفون إن كان من أصدقائهم أو من أعدائهم، وكم أزهقت نفوس بريئة للالتباس في أمرها!
إن الحكم على الطبيعة الإنسانية له أهمية كبيرة في حياتنا الاجتماعية، ولكننا مع ذلك لا نزال نتوسل إليه بالطرق العقيمة التي كان يلجأ إليها آباؤنا الأقدمون في فهم الأخلاق والخبايا
يقول البروفسير (كليتون) إن أصدقاءنا أكثر قابلية للحكم علينا من الأجنبيين، إذ أن الأخيرين يتأثرون في كثير من الأحوال بالمظاهر المألوفة عند أصدقائنا
ويقول (جاسترو) إن الحكم على الإنسان بسلوكه وتعبيره وحركاته وأحواله وكلامه ونبرات صوته أصدق وأولى من الحكم عليه بمظهره
إننا لا نستطيع أن نقول عن إنسان أن له آذاناً طويلة لأنه على جانب عظيم من البلادة، فلماذا نقول عن شخص إنه على جانب عظيم من البلادة لأن له آذاناً طويلة؟ إن العقل لا يقر هذا ولا يقر ذاك، ولكن من المعقول أن نقول إن الطفل الذي له آذان تزيد في طولها عن المعهود، يلاقي بعض المشقات في حياته لخروجه عن المألوف. فيرى من سخرية أصدقائه ما يجعله يؤثر العزلة والانزواء في غالب الأحيان وفي ذلك ما فيه من التأثير على حياته وأعماله، ولكننا لا نستطيع مع ذلك أن نجعل الوجه دليلاً على شخصية الرجل، فيكفي لنفي ذلك أن نعرف التأثرات التي تعترض الطفل وهو يقضي تسعة أشهر في بطن(309/74)
أمه مما لاشك فيه أن قبح الوجه له تأثير في حياة الإنسان، قد يؤدي إلى إفساد معيشته وتعكير صفو سعادته، ولكن الجراحة في هذه الأيام قد تقدمت إلى الدرجة التي تجعلها تتغلب على ذلك، فتيسر للإنسان التخلص من هذا الشذوذ، فيتغير تغيراً تاماً يختفي على أثرة الشعور بالاحتقار والسخرية ويحل محله الثقة بالنفس مضافة إلى حسن المظهر
كتب لا تقرأها - عن (جون أولندن)
إذا تتبعنا تاريخ الأدب منذ أقدم العهود لا نلبث أن نرى بين فترة وأخرى صورة من تسلط القوة على الآراء وحجرها على حرية الفكر. فنعلم أن كثيراً من المؤلفات الثمينة والمذكرات ذات الأثر الفعال في إظهار الحقائق التاريخية والاجتماعية قد قضى عليها بعدم الظهور
ولعل أول حادث من هذا النوع كان في سنة ألفين قبل الميلاد إذ أمر الإمبراطور (شي هيانج تي) بإحراق مؤلفات كنفشيوس الأدبية لحنقه عليها وتفضيله غيرها من المؤلفات المبنية على الحقائق العملية: كالكيمياء والزراعة والطب.
ولقد صودرت منذ ذلك الحين كتب نفيسة لهومير وكانت وابش وبودلير وروسو وجاك لندن ود. هـ لورنس وابتون سنكلير وغيرهم من الكتاب الذين ذاعت شهرتهم في العالم
وإذا كان لك الحظ في زيارة المتحف الإنكليزي أمكنك أن ترى مجموعة كبيرة من الكتب القيمة والمذكرات الهامة محفوظة في قسم خاص، حيث يقوم بالمحافظة عليها موظفون وأمناء ومساعدون. فتجد في هذا القسم مذكرات خاصة لبعض رجال السياسة، وخطابات وتراجم لكثير من عظماء الرجال وكتب ورسائل في كل فن وصى عليها جميعاً بأن تحتجب عن الأنظار.
من ذلك مذكرات لسير هنري الذي كان رئيساً للوزارة الإنجليزية وزعيما لحزب الأحرار، وقد مضت سنين عديدة وهي في مكانها من ذلك المتحف تحت مراقبة إدارة حفظ المطبوعات
لقد كان كامبل من رجال السياسة المعروفين بكرم الأخلاق والنزاهة، وهو فوق ذلك بعد من السياسيين الأفذاذ. فماذا كتب في تلك المذكرات؟ قد يظهر ذلك في المستقبل القريب. وإلى أن يحين ذلك الوقت ستظل محجوبة عن الأنظار المتعطشة تحت إشراف إدارة حفظ(309/75)
المطبوعات هي وعشرات غيرها من المذكرات والمستندات والخطابات التي لم تظهر للعالم. ولم يغرب عن البال قصة الخطابات التي خلفها القصصي المشهور شارلز دكنز، فقد أرسلت مسز بيروجيني ابنة الكاتب الكبير إلى برنارد شو تستشيره في أمر هذه الخطابات التي عانت أمها كثيراً في سبيل المحافظة عليها وبقائها بغير تلف. فأجابها شو بضرورة إرسالها إلى إدارة حفظ المطبوعات في المتحف البريطاني، لعل أحدا من الكتاب يحتاج إلى شيء منها للكتابة عن أبيها، وقد استمعت مسز بيرجيني لهذه النصيحة، ولكن هذه الخطابات بقيت في مكانها من المتحف دون أن تمسها يد أو يطلع عليها إنسان إلى أن مات آخر أبناء دكنز.
ويسري قانون حفظ المطبوعات على المؤلف في إنجلترا طول حياته، ويستمر إلى ما بعد وفاته خمسين عاماً. إلا أن مذكرات رجال السياسة والأوراق الرسمية التي لا تسري عليها القوانين العامة قد تبقى أربعة أجيال أو خمسة بعد وفاة أصحابها إذا قدر لها ظهور في يوم من الأيام
أما الكتب والروايات المألوفة التي يشتبه فيها لسبب من الأسباب، فلها قسم آخر وبعضها منع ظهوره للجمهور والبعض الآخر حدث منه الأجزاء التي لم يسمح بها مثل كتاب قوس قزح وليدي شاترلي لد. هـ لورنس ودراسات في سيكلوجية الجنس لهفيلوك إليس، ومن الأعماق لأوسكار وايلد
وقد أخذت النسخة الأصلية من الكتاب الأخير لعرضها على المحكمة في ظروف قضائية معروفة، ولكنها لم تظهر بعد للجمهور، أما النسخة المتداولة من هذا الكتاب فقد حذف منها الشيء الكثير
سياسة المحور في أمريكا الجنوبية - عن فورتنايتلي
لم تكن سياسة المحور في أمريكا الجنوبية بالشيء المجهول، فلألمانيا وإيطاليا صلة قديمة بهذه البلاد، إلا أن المحاولات الاقتصادية والسياسية التي ظهرت أخيراً، لم تعرف لبريطانيا العظمى إلا في هذه الأيام.
فمع الحملات التي تقوم بها ألمانيا وإيطاليا ضد الاشتراكية، نراها تعمل لتقليل الثقة بديمقراطية بريطانيا وتجاربها في الأسواق التجارية حرباً لا هوادة فيها.(309/76)
وقد تكون ألمانيا أكثر الدولتين تحمساً لضم أمريكا الجنوبية إلى سياسة المحور، وعلى الأخص تلك الجهات التي لها علاقات قديمة ببرلين كالأرجنتين وبها مائة ألف ألماني، والبرازيل، وفيها عشرة أمثال هذا العدد. وتقام الاحتفالات النازية في بونس إيرس كما تقام في ألمانيا، وقد اتخذت الاحتياطات الشديدة في الأنحاء الألمانية في الأرجنتين لتطهيرها من الجنس الغير الآري.
ويخالط الألمان الأمريكيين اللاتينيين في الأعمال والمجتمعات بحالة لا يصل إليها البريطانيون وسكان أمريكا الشمالية؛ فإذا أضفنا إلى ذلك الكراهية التي تحملها الأرجنتين للاشتراكية عرفنا كيف يتحمس الأهالي للألمان.
فالجيش في تلك البلاد مأخوذ في نظامه بالأساليب الألمانية، وتلقى الكثير من ضباطه دروسهم الحربية في بوتسدام. أما الأسواق التجارية فقد اختفت منها البيوت المالية الإنجليزية وأخذت المحلات التي تروج التجارة الإنجليزية تقل شيئاً فشيئا.
لقد كان في البرازيل ألمان منذ سنة 1843 ولكن عددهم لم يكن محسوماً، أما الآن فلا يقل عدد الألمان في تلك البلاد عن مليون نفس، وفي جنوب هذه الجمهورية وعلى الأخص سنتا كاثرينا وبرانا وريوجراند دوسيل ينحدر أكثر السكان من أصل ألماني، ويقوم حكام وبوليس من الألمان في كثير من البلدان، وقد قامت البرازيل بحركة شديدة لمقاومة الدعاية النازية، وعلى الرغم من ذلك فقد حلت ألمانيا محل الولايات المتحدة في المعاملات التجارية، وأصبحت الآن أعظم الدول التي تستورد القطن من تلك البلاد وهي فوق ذلك تستورد النيكل والزيت بمقادير هائلة منها
ويتسع نفوذ الألمان كذلك في شيلي، ولا شك أن وجود خمسة وعشرين ألف ألماني في هذه المملكة يجعل لها تأثيراً كبيراً من الناحيتين السياسية والتجارية
وقد اصبح أكثر ضباط الجيش في بوليفيا من الألمان، وقد أرسلت ألمانيا إلى بوتسدام ثلاثة من الضباط للتمرن على الأعمال الحربية الحديثة بها
أما الفاشيست فقد أخذوا يزاحمون البضائع الإنجليزية في الأرجنتين بعد أن كانت بغير مزاحم، وفي شيلي تلاقي الآلات والعدد الإيطالية رواجاً عظيما
أما بيرد فهي أكثر المناطق الأمريكية اتصالاً بإيطاليا، ويقدر ما يسخر فيها من الأموال(309/77)
الإيطالية بأكثر من عشرين مليون جنيه؟ وفي اكيادور يقوم على تعليم الطيران فريق من الإيطاليين. وفي فينزيولا تقوم فرقة من المدفعية الطليان بإصلاح الجيش. وقد أصبحت هذه الحالة مقلقة لبريطانيا والولايات المتحدة، لا لأن ألمانيا وإيطاليا تستعمران هذه البلاد، فإن ذلك ليس في الحسبان، إذ أنه في الحقيقة غير مستطاع، ولكن ألمانيا وإيطاليا تستفيدان من تلك البلاد المواد الضرورية لها إبان الحروب، فإن لم يكن ذلك فهي تستطيع على الأقل أن تعمل عملاً لمنع تلك المواد عن بريطانيا والولايات المتحدة(309/78)
البريد الأدبي
التحرر الأدبي ووزارة المعارف المصرية
ليست هذه الكلمة مناقشة للأستاذ أحمد أمين في رأيه التحرر من
سلطان الأدب الجاهلي، وإنما هي تعليق على مقالته الثانية في الثقافة
وقوله فيها: (أناشد الأدباء والشعراء أن يستمدوا تشبيهاتهم واستعاراتهم
مما بين أيدينا من مخترعات، وألا يستعملوا مالا يحسون ولا يعلمون
من تشبيه، وأناشد المعلمين أن يعلموا بالخط الأحمر على الاستعمالات
التي يستعملها الطلاب الخ. . .)
كيف يستطيع المدرسون ذلك وأمامهم الأكبر ومن تجب عليهم طاعته يذهب من مصر إلى العراق ليرثي ملكا عصرياً توفي من أربعين يوماً، فلا يجد من التشبيهات والاستعارات إلا ما كان يستعمله الشعراء من ألف سنة، فالقدر له سهم (ولن يستطيع العالمون له رداً) والمصاب له سهم آخر أصاب الهاشمية (بعد ثلاثة أبيات)، فهل يقاتل الجيش المصري اليوم بالسهام؟ فما قيمة هذا التشبيه إذن في رأي أستاذنا الجليل أحمد أمين؟ وما قوله إذا كان هذا السهم (العجيب) قد هدّ من العلياء أركانها هدًّا، (فلم يبق للعراق بعده ركن في العلياء قائم. أليس هذا هجاء لأمة في رثاء رجل؟) وإذا كان قد أطفأ نور الشمس وأضرَم المجدا، هل شاهد الأستاذ الجارم الشمس منطفئة فاستعمل ما يحسّ ويعلم من تشبيه؟ وهل رأى هذا (الند) الذي يذكره مع المسك أم كل ما يعرف عنه انه شيء ذكره المتقدمون؟ وذكرُه السيف وسيوف الليالي، أهو من وحي هذا العصر عصر النار والغاز والبارود أم هو التقليد؟ وهؤلاء الذين يبطشون أسداً، أعن حسّ وعلم بالأسد وصفهم الجارم، أم هو قد أخذ المثال النحوي (كرّ على أسداً) من بحث الحال في الكتاب النحو الذي ألّفه؟ ويسأل السيف عن جند العراق كيف صال بكفهم، وهو يرى جند العراق يتنكبون البنادق ويحاربون بالبارود، أفعن تقليد قال ما قال، أم عن مشاهدة وعيان؟ والسلاف تمزج في حانات مصر بالشهد، وتخلط الشمبانيا في خمارات عماد الدين بالعسل، أم الأستاذ يقلد؟ وأياً ما كان الأمر فما هو وجه الشبه بين غبار النصر وهذه السلاف؟(309/79)
وقوله في غازي رحمه الله: (فتى تنبت الآمال من غيث كفه) أليس إعادة لأقوال المتقدمين يوم كانوا يتمدحون بالكرم ويوم كان الغيث حياتهم في الجزيرة، وتتمة البيت (فلله ما أولى ولله ما أسدى) أليس كلاماً فارغاً، وتشبيه تلال الصحراء بالجمال أعن حسن كان وعلم؟ أفي رحبة وزارة المعارف حيث يقيم الأستاذ، أم في شوارع القاهرة رأى هذه الجمال (التي لا تساق ولا تحدي) أي ولا يحدي بها. . . وكيف رأى في ثنايا وجه فيصل الصغير الوديع (الأسد الوردا) مع أنه لم يشاهد في حياته أسداً إلا محبوساً في قفص الحديقة؟ وقوله في الختام: (سلام على غازي سلام على الندى، إذا ما بكى من بعده الترب والندى)، أيعد له في باب التقليد والجمود شيء؟ أي ندى وأي ندّ يا سيدي إليك؟
فمن أين يستطيع المدرسون اتباع رأي الأستاذ أحمد أمين وإمامهم الجارم بك هذه حاله وهذا مقاله. وأنى لوزارة المعارف أن تحرر الأدب وتعلو به في مدارج العلا وهؤلاء السادة يمسكون بتلابيبها أن تتزحزح أو تريم؟
(بغداد)
ع. ط
تاريخ البيمارستانات في الإسلام
هذا عنوان الكتاب الذي أخرجه العالم المصري أحمد عيسى بك، وقد نشرته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ووقفت (ريعه على المشاريع الخيرية). والكتاب غزير المادة يعرض نشأة البيمارستانات (أي المستشفيات) ونظامها وأطبائها وأرزاقها، وما تحت ذلك من شئون الطب والصيدلة مما يتصل بالتحصيل والمعالجة ومراقبة أهل الصناعة. ويلي ذلك إثبات البيمارستانات في البلاد الإسلامية المختلفة على وجه التفصيل منذ العهد الأول حتى العصر الحاضر، أي حتى إنشاء مستشفى أبي زعبل بضاحية القاهرة سنة 1825
وفي الكتاب أخبار وفوائد لم تدوَّن في المؤلفات السابقة، إذ أخرجها المؤلف من الكتب التي لا تزال مخطوطة نحو تاريخ حكماء الإسلام لظهير الدين البيهقي، وكتاب قطف الأزهار في الخطط والآثار لأبي سرور البكري
وفي الكتاب مسرد للبيمارستانات؛ وكان يحسن بالمؤلف العالم أن يقيم مسرداً آخر للأطباء(309/80)
المسيو أميل فابر ومقدرته المسرحية
استقدمت وزارة المعارف المصرية من زمن غير بعيد المسيو ليرى رأياً في الفرقة القومية وينظر في المسرحيات التي نترجمها أو نؤلفها. ومن الظريف أن المسيو فابر ألف أول هذا الشتاء مسرحية مثلتها فرقة مسرح الأوديون في باريس، واسمها - وقد سقطت هذه المسرحية سقوطاً مزرياً وعابها النقاد بشدة، وذلك لشحوب الفكرة التي تقوم عليها، ولمشاهدها الملفقة، ولأشخاصها المُملَّة. هذه المسرحية لا تعرف الفن ولا التفكير؛ إنها من مناقص المسرح الفرنسي (راجع مثلاً (المجلة الفرنسية الجديدة) باريس أبريل سنة 1939 ص 680)
ب. ف
مباريات جديدة للإنتاج الفكري للفنانين والمصورين
أقامت وزارة المعارف في السنة الماضية مباريات للإنتاج الفكري اشترك فيها مدرسو المدارس الأميرية والحرة وكليات الجامعة
وعند بحث الرسائل التي قدمت ظهر أنها لا تستحق الجائزة المقررة لكل منها وقدرها مائة جنيه فمنحت أصحابها 50 جنيها.
ورأت الوزارة أن تضع نظاماً جديداً لهذه المباريات وإنشاء مباريات أخرى يشترك فيها المدرسون وغير المدرسين والفنانون والرسامون.
ويقضى النظام الجديد بأن تقسم تلك المباريات هذا العام إلى ثلاث وهي:
أولا: مباريات يشترك فيها المدرسون في المدارس الأميرية والحرة وكليات الجامعة، وعدد موادها ست مواد ولها جائزتان أولى وثانية.
والرسالة التي تنال الجائزة تعتبر ملكاً للوزارة، ولها أن تطبع منها ما تراه جديراً بالطبع وأن تعطي المؤلف 25 في المائة منها
ثانياً: مباريات للثقافة العامة يشترك فيها جميع رجال الأدب والمدرسون ولها جائزتان أولى وثانية.
ولا تعتبر الرسالة التي تنال الجائزة ملكاً للوزارة ولكن لها الحق في أن تشتري حق(309/81)
التأليف إذا رأت ذلك.
ثالثاً: مباريات للفنانين والرسامين ولها جائزتان أولى وثانية. على ألا تعتبر الجائزة التي تمنح بمثابة شراء للوحة التي تنال الجائزة، وللوزارة الحق في أن تشتريها إذا رأت ذلك.
وللوزارة الحق كذلك في ألا تمنح جائزة عن كل أو بعض الرسائل. ويجوز لها أن تقسم الجائزة الواحدة على أكثر من رسالة
وزارة المعارف العراقية تشجع حركة التأليف
ذكرت البلاد البغدادية أنه بناء على المبالغ التي رصدتها وزارة المعارف في ميزانيتها لهذه السنة لإنفاقها على تشجيع المؤلفين والكتاب ليضعوا الكتب والمؤلفات المفيدة القيمة عزمت على تأليف لجنة من كبار الأدباء والشعراء من وطنيين وغيرهم من البلاد العربية لتعرض عليها كافة الكتب التي ستقدم إليها لتقدير قيمتها الأدبية وما يستحقه أصحابها من المنح والهدايا
وعسى أن يجئ اختيار وزارة المعارف لهذه اللجنة على غير الطريقة التي درجت عليها في تأليف بعض لجانها من الرجال المتصلين بها في الوظائف والمدارس فقط
معلقة الأرز لنعمة قازان
جثمت المادة على الروح في هذا العصر حتى كادت تزهقها، ولم يقنع شيطان الشر بكتم أنفاس الفضيلة والخير في نفوس الناس وإنما مد يده إلى أسمى الفنون وأرفعها يريد أن يقبض على أعناقها وأن يلوى بها إلى الحضيض ليهشمها فيرتاح بعدها من هذه النزعة التي تنزعها الحياة إلى الله. إذا صحت وانتبهت في غفلة منه إلى الحق والجمال والطلاقة
ولكن هذه الفنون ما زالت هي البقية من شذى الإنسانية المتمردة. على المادة الساخرة من حياة الأرض
هذه هي الفنون الحارة التي يشعلها الله في بعض النفوس لتنير الظلمات أمام أعين تحب النور؛ ومن هذه الفنون الشعر، وأقدمها ما حام حول الجمال والحق، وأبهاها ما تحرر من كل قيد أراد العقل الأرضي أن يغلل به رقصات الروح، واسماها وأقواها ما استطاع أن ينتشل العقل من وهدته وأن يخطفه فيطير به في معارج الصفاء حيث لا حقد ولا ضغينة(309/82)
ولا غل ولا كراهية، وحيث يشيع الحب ويملأ الفضاء بأعذب أنفاس التسبيح
ومعلقة الأرز للشاعر التقي نعمة قازان من هذا الشعر الذي يلهمه الله ولا تتصيده العقول
وهي شعر لا يوصف ولا يحلل؛ وإنما تقرأه فإذا هيأ الله روحك لاستساغته وجدت نفسك تنشده أو تنشد ما يمثله. . . فإن لم تفعل فهي الألفاظ التي تتدلل عليك
عزيز أحمد فهمي
الطفل ووالدته في العالم
صدر أخيراً كتاب باللغة الفرنسية عن (الطفل ووالدته في العالم) تولت الإشراف على إصداره وطبعه مدام هومفري دونفروا واشتركت في تحريره 91 سيدة من الكاتبات يمثلن 55 بلداً من بلدان العالم
وقد جاء هذا الكتاب تحفة نادرة في بابه. ونحن إذ نسجل ثمرة هذا المجهود الجبار الذي استغرق قرابة ثمانمائة صفحة يسرنا أن ننوه بما لحضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول من الفضل في صدوره، إذ تكرمت جلالته فشمل القائمات بأمر هذا السفر النفيس بعطفه الغالي، ومنحهن من المساعدة المادية ما شجعهن على المضي في مشروعهن العظيم تحت رعاية جلالته السامية، وقد نوهت مدام هومفري دونفروا في مقدمة الكتاب بهذا العطف الملكي الكريم وأشارت إلى أنها وجدت في هذه المساعدة المادية أكبر مشجع أدبي لها
وقد حلى صدر الكتاب بصورة رائعة لصاحب الجلالة الملك ووضع مقدمته الكاتب الكبير جوزيف دي بسكيدو، وتتوالى الأبواب بعد ذلك عن الطفل وأمه في البلدان المختلفة في قارات العالم الخمس، وإذا كانت العادات والتقاليد الخاصة بنشأة الطفل وتربيته تختلف بين بلد وآخر فإنها تلتقي كلها في تلك العاطفة النبيلة التي تربط الأم بطفلها والتي تقوم بفضلها أركان الأسرة (لمجد الله وعظمة الوطن)
وقد تولت الكتابة عن (الطفل وأمه) في مصر السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي فأشارت إلى ما يشيعه مولد الطفل من السرور والأمل في جميع الأسر، ولا سيما إذا كان المولود ذكراً، وذكرت الآية الحكيمة: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).(309/83)
اكتشاف علمي خطير - تولد قوة من الذرات
في جميع مختبرات العلوم الطبيعية في العالم يعالج العلماء نهاراً وليلاً الذرات طمعاً في أن يستخرجوا منها القوة التي قال عنها العلامة بول بانليفه (حينما يتحقق ذلك الأمر تستطيع القوة الكامنة فيها أن تدمر أسطولاً متيناً كالأسطول الإنكليزي). وكان بانليفه يقصد بقوله هذا أن يبين حقيقة القوة المخبوءة في مادة يزعم الناس أنها جامدة. على أن الأستاذ شارل تيبو المدرس بكلية العلوم بجامعة ليون وفق إلى تحليل ذرات الأورانيوم المعدود أثقل العناصر الكيميائية المعروفة، فنشأ عن ذلك قوة تزيد على مائة مليون (فولت). وقد قال الأستاذ تيبو في هذا الصدد: (يبقى الآن حصر تلك القوة واستخدامها من الوجهة العملية، وهذا الأمر كفيل به الزمان والجهود التي يبذلها علماء الطبيعة. أما نحن فقد عالجنا الأورانيوم معالجة جدية، وتمكنا من تحليل ذراته وتأليف عناصر كيميائية منها تختلف عن الجسم المفكك، وأن القوة المنتجة منه تفوق أي قوة يستطاع الحصول عليها بحيث لا يهمنا في المستقبل نفاد الفحم في مناجمه، فالذرات تعطينا قوة لا حد لها، والمسألة الوحيدة التي تبقى لدينا هي أن نعرف طريقة استعمال هذه القوة الجديدة)
ويستنتج من بحوث أساتذة جامعة ليون أن كل مختبر يستعين بأجهزة جديدة، وأنه يجب تفاهم أولئك العلماء وتوحيد جهودهم لإدراك الضالة التي ينشدونها. فالأورانيوم المفككة ذراته ينشئ عنصرين جديدين من الذرات يساوي ثقلهما نصف ثقل الأورانيوم، وهم يبتغون معالجة تفكيكهما أيضاً، وحينئذ يتمكنون من إيجاد مادة أساسية لا يندر وجودها كالأورانيوم نفسه ليتسنى لهم مواصلة التجارب على غير النمط الذي يسيرون عليه في المختبر
مؤتمر التربية الحديثة
يعقد المركز العام لرابطة التربية الحديثة مؤتمراً أوربياً في الفترة القائمة بين 2 و 10 أغسطس القادم للبحث في الوسائل المؤدية إلى المثل الأعلى للديمقراطية. وسيرأس الاجتماع المسيو بول لنجفين أستاذ التربية، وسيشهده كثيرون من رجالات التربية في فرنسا وإنجلترا(309/84)
ويتناول المؤتمر عدا الموضوع السابق بحث المشاكل التي يجب أن يحلها المربون باشتراكهم في الحياة العامة، والخطة العملية التي يمكن تنفيذها في المستقبل على ضوء الإعداد المهني والاجتماعي للمعلمين وجعل الطفل مواطناً صالحاً. وقد أخطر المركز الرئيسي للرابطة الفرع المصري برؤوس هذه الأبحاث
في اللغة. . . (جاءته كتابي)
جاء في الجمهرة لأبن دريد (ج. أ. ص319) ما نصه: ورجل لغب: ضعيف بين اللُّغابة واللغوبة. . . وأخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابياً يمانياً يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت: تقول جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟ فقلت له: ما اللغوب؟ فقال: الأحمق).
وجاء في اللسان مادة (كتب): (حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سمع بعض العرب يقول: وذكر إنساناً: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟ فقال: نعم. أليس بصحيفة؟ فقلت له: ما اللغوب؟ فقال: الأحمق
وقد يحسن أن أذكر هنا ما رأيته في الجمهرة أيضاً (ج2: 70). وهو (ويقولون: ما كان هذا مذ دجت الإسلام. قال: أو حاتم: قلت للأصمعي: لم أنثوا الإسلام؟ قال: أرادوا الملة أو الحنيفية).
قلت: ومنه الحديث: (ما رؤى مثل هذا منذ دجا الإسلام) وورد في رواية أخرى: (منذ دجت الإسلام). فأنث على معنى الملة والشريعة. . . ومما يناسب أن أذكره هنا أيضاً ما رأيته في الكامل للمبرد (ج3: 386) لأعشى بأهلة يرثى المنتشر بن وهب:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علولا عجب منها ولا سخر
وقد فسره المبرد فقال: (وأراد باللسان هاهنا الرسالة).
عبد العليم عيسى
كلية اللغة(309/85)
رسَالة النقد
6 - في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
هذا هو المقال السادس في نقد عمل الأستاذين الكريمين العوامري بك والجارم بك في شرحهما لكتاب البخلاء للجاحظ. وما ندري هل بلغنا رضاهما في هذا العمل، وقد خدمنا به الكتاب خدمة إذا أضافاها إلى خدمتهما له خرج الكتاب نافعاً مرجو الفائدة؟
قد كان الرضا منهما هو الأشبه بخلقهما والأولى بحرصهما على الحقيقة، ولكني لا أسمع إلا حكاية امتعاض ولوم، وما أظن إلا أن القارئ طالب فائدة؛ فليس يهمه أن ننث عتابنا ومكثر اعتذارنا بين يديه، فلنمض فيما نحن فيه مستعينين الله أن ننتهي من نقدنا في هذا المقال إن استطعنا حتى نريح ونستريح
في ص 115 يقول الجاحظ في تصوير جشع الحزامي: (إنه لو أعطى أفاعي سجستان، وثعابين مصر، وحيات الأهواز لأخذها)
ويعلق الشارحان على الحيات والأفاعي والثعابين تعليقاً ينطق بأن الحيات هي الثعابين أو الأفاعي، وأن الثعابين هي الحيات أو الأفاعي، وأن الأفاعي هي الثعابين أو الحيات. وللشارحين بعض العذر في ذلك، فإن كتب اللغة يكثر فيها ذلك النوع من الإحالة في التعاريف، ولكنه عيب يجب ألا نقره نحن الذين سيكون على يدنا إصلاح كتب اللغة وتلافي عيوبها
إن الذي يحاول أن يتخلص من ذلك العيب يجد في كتب اللغة نفسها المخلص منه. ففي المقام نفسه الذي يقول فيه صاحب القاموس: الحية (م) أي معروف نجد كتباً أخرى ومواضع من القاموس نفسه يمكن أن نستخلص من ثناياها فروقاً تجزئنا أو تنجينا من التهافت
ذلك أننا نرى في القاموس المحيط: الثعبان: الحية الطويلة الضخمة، وفي المصباح: الأفعى: الحية الرقشاء الدقيقة العنق العريضة الرأس التي لا تزال مستديرة على نفسها لا(309/86)
ينفع منها ترياق.
فهذه تفرقة إذا كان الشارحان قد اتجها إليها في شرحهما بانت قيمة كلام الجاحظ، وأنه إنما كان يعني أن هذا النوع في مصر مشهور بالضخامة والطول وأنه في سجستان على الصورة التي مثلها صاحب المصباح. هكذا
على أنه لو لم تكن بين هذه الأنواع تلك الفروق التي ميزناها بها لصار في كلام الجاحظ فضول يجب علينا أن نتلمس له العذر فيه؛ إذ كيف يعطف هذه المترادفات ومعناها واحد لا يزيد ولا ينقص. إنه إذ ذاك يكون كلامه بمثابة قولنا ثعابين مصر وثعابين الأهواز وثعابين سجستان. فهل يرضى أحد منا للجاحظ بمثل هذا التهافت والتكرار المزري، إنني إزاء هذا أرى أنه كان من الواجب (لو لم أجد للجاحظ هذا المخرج من كتب اللغة) أن أقول إنه إنما كرر هذه الألفاظ ليدل على العرف الجاري في هذه البلاد، فهذا النوع في مصر يسمى بالثعابين وفي سجستان بالأفاعي وفي الأهواز بالحيات. حينذاك يستريح القارئ وتبقى لبلاغة الجاحظ صورتها الجميلة التي له في نفوسنا والتي يجب أن نحرص على بقائها كذلك
ص 129 ورد في وصف الجارود وأبي الحارث جمّين أنهما يمتحنان ما عند الناس بالكُلَف الشِّداد
فيقول الشارحان في ذلك ويمتحنان الخ أي ينزلان المحن بما عند الناس من المال بسبب هذه الكلف الصعبة. وأقول إن تفسير الامتحان بما فسراه به تكلف شديد جداً. وعندي أن الامتحان هو بمعناه المتبادر الذي يملأ عقول الطلبة والمعلمين خصوصاً في هذه الأيام وهو الاختبار، والمراد بامتحان ما عند الناس اختبار أخلاقهم ومعرفة مدى كرم نفوسهم ص 131 يقول الجاحظ: سئل جمّين عن جود محمد بن يحيى فقيل له: كيف سخاؤه على الخبز خاصة؟ قال: (والله لو ألقى إليه من الطعام بقدر ما إذا حَبَس نَزْفَ السحابِ ما تجافى عن رغيف)
ثم يقول الشارحان في معنى ذلك: أي لو أعطى من الطعام مقداراً لو جعل كومة واحدة فارتفعت حتى وصلت إلى السحاب فمنعت ماءه من أن يصل إلى الأرض ما تجافى الخ، ثم يقولان بعد كلام: ووضع (إذا) في العبارة غريب أهـ. والواقع أن وضعها على حسب(309/87)
شرحهما ليس غريباً إذ قد وقعت موقعها وتوافر في العبارة شرطها وجوابها، فكيف يكون وضعها غريباً إذا تم لها ذلك وقد جرى الشارحان في شرحهما على اعتبار أصالتها بدليل أنهما استعاضا عنها في الشرح بلو. . .
ونحن نعترض على ضبط العبارة وشرحها، فأما الضبط فنرى أنه كان ينبغي أن يكون هكذا:
(. . . إذا حُبسَ نزفَ السحاب). وأما المعنى فهو: لو قدم إليه من الطعام مقدار إذا جمع بعضه فوق بعض وصل إلى السحاب فاحتك به وتشرب ماءه، ما تسامح في رغيف منه مع هذه الكثرة وقد نتكلف تصور ارتفاعه إلى السحاب. بل يكفي في تمثيل كثرته أنه لو سقط عليه ماء السحاب لتشربه، وعلى هذا يكون قوله: (ما تجافى رغيف) جواباً للو، لا لاذا
(ص152) في الحديث عن مغرم أصحاب الدور يورد الشارحان عبارة الأصل هكذا:
(فإذا قسمنا الغرم عند انهدامها بإعادتها، وبعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها، ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من كرائها خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الريح).
ويشرحان هذه العبارة المضطربة شرحاً يأتي مثلها مضطرباً. ولسنا بحاجة إلى بيان اضطراب الشرح وإنما نكتفي ببيان اضطراب الأصل فتقول: إن كلمة قسمنا لا موضع لها في الكلام إذ القسمة تقتضي شيئاً يقسم، ولسنا نرى هنا أقساماً فصلها القائل في كلامه وإنما صواب الكلمة قسنا، والقياس هو التقدير والحساب. وهنا قاس المتكلم غرم صاحب المنزل في بنائه أولاً ثم إعادته بعد تهدمه، بما حصل عليه من كراء فخرج القياس بخسران المالك وربح الساكن. كذلك نرى أن الواو في عبارة (وبعد ابتنائها) مقحمة تفسد المعنى والصواب حذفها فكان ينبغي أن تكون الجملة هكذا
(فإذا قسنا الغرم عند انهدامها بعادتها بعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من كرائها، خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الربح)
(بقية المقال للعدد القادم)(309/88)
محمود مصطفى(309/89)
العدد 310 - بتاريخ: 12 - 06 - 1939(/)
بمناسبة تبرع اللورد نفيلد نسأل:
هل لأغنيائنا وطن؟!
من أنباء البرق الأخيرة أن اللورد نفيلد صاحبَ مصانع سيارات (موريس) الإنجليزية قد تبرع للدفاع الوطني البريطاني بمليون ونصف من الجنيهات، ووضع مصانعه الكبرى تحت تصرف وزارة الدفاع، فبلغت بذلك جملة هباته للوطن في مدى عشر سنوات خمسة عشر مليوناً ونصفاً من الجنيهات على رواية الصنداى إكسبرس! فإذا قرأت هذا وتذكرت ما تبرع به زخاروف وأفيروف وكوتسيكا وأنطونيادس للجيش اليوناني وهم من رجال الأموال والأعمال في مصر، لا يسعك إلا إن تسأل كما أسأل: هل لأغنيائنا وطن؟
الواقع الذي لا مراء فيه أن ليس لأغنيائنا وطن، إنما لهم قصور لإتلاف النعمة، ومزارع لعصر الفلاح، وبرك لصيد البط، وميادين لسباق الخيل، وأندية لقتل الوقت، ومنازه لإظهار الأبهة. وما عدا ذلك من أرض الوطن ومعنى الوطن فهم لا يعرفونه ولا يفقهونه!
هل سمعت أن غنياً من الأغنياء أو أميراً من الأمراء قال إن له وطناً فتبرع له بطائرة في الجيش، أو بجائزة في المعارف، أو بكرسي في الجامعة، أو بمستشفى في الصحة، أو بملجأ في الأوقاف؟
لا تقل في تعليل هذه الفردية الشحيحة: إن أغنياءنا جهلاء العقل، وأمراءنا غرباء العاطفة؛ فإن الوطنية عصبية طبيعية تقتضيها سنة الحياة، فتكون في رجل الفطرة تعصباً للأسرة، وفي رجل البداوة تعصباً للقبيلة، وفي رجل الحضارة تعصباً للأمة، وفي رجل الإنسانية تعصباً للعالم
ولئن سألتني عن تعليل ضعف الوطنية في هؤلاء الناس لأقولن لك إني عنه عاجز؛ فإنهم لا يزالون يشعرون بها شعور الفطرة الضيقة المحدودة. ومن الصعب على العقل أن يتصور أن أصحاب السمو وأصحاب المجد وأصحاب السعادة لا يجدون في أنفسهم من الحب لمصر الحبيبة الخصيبة، ما يجده الإنسان الفطري للغابة السليبة والبادية الجديبة!
يكاد النيل يعتقد أن أكثر الأجانب الذين يعيشون فيه، هم خير له من أكثر الأغنياء الذين يعيشون عليه! لأن أولئك يعاملونه معاملة الراعي الذي يحلب ويرعى، وهؤلاء يعاملونه معاملة العلق الذي يمتص ويهمل. فأينما رأى التجارة والعمارة والإنتاج رأى ضيوفه،(310/1)
وحيثما رأى الإسراف والإتلاف والتبطل رأى أهله!
ليتني أدري ماذا يقول الغني الأصيل إذا نافره الأجنبي الدخيل أمام قدس الوطن؟ أيقول له: هذه رءوس أموال تنشئ الشركات وتقيم المصانع وتنمي الثروة؟ أم يقول له: هذه (مشروعات) أعمالي تقر الأمن وتحيي البلاد وتقتل البطالة؟ أم يقول له: هذه ثمار أفضالي تعزز الدفاع وتشجع الإبداع وتنشر الثقافة؟ الله أعلم يومئذ أيهما يقول ذلك وغير ذلك؛ وأيهما يقف ناكس الرأس خاشع الطرف عَيّ اللسان، لا يجري على باله إلا أنماط الثياب وسلائل الكلاب وفصائل الخيل وطرز السيارات وأندية القمار وحسان هوليود!
يظهر أن التفدية والتضحية والخدمة العامة إنما تكون أثراً لقوة الروح وصحة الخلق، فإن أول من تطوع للجهاد شباب الأمة، وأول من تبرع للدفاع رجال الدين. فالحيلة في أغنيائنا إذن هي حيلة الله. هو وحده الذي يملك أن يحيل في النفوس عبادة المال عبادة للوطن، ويجعل في القلوب محبة النفس محبةً للناس
يا أغنيائنا، إنا نريد أن نحبكم فساعدونا على خلق هذا الحب. إن ديننا ينهانا أن ننفس عليكم نعمة الله، وإن وطننا يمنعنا أن نضن عليكم بأخوة الوطن؛ ولكن العقيدة والوطنية اللتين تحببانكم إلينا، هما كذلك اللتان تغضباننا عليكم! لأن الأمة تريد أن تقوي وفي نفوسكم قوتها، وتبغي أن تعتز وفي رءوسكم نخوتها، وتحاول أن تدافع وفي أيديكم ثروتها، فحرمتموها كل ذلك ووضعتموه في غير موضعه، وأضعتموه في غير سبيله؛ ثم مكنتم للجهل والفقر والمرض أن تدهمها
من كل جانب، فقعد القوي لجهله عن السعي، وفتر العالم لفقره عن البحث، وعجز الضعيف لمرضه عن الإنتاج
يا أغنياءنا - والناس أجمعون يعرفون من أعني - لقد جربتم بذل المال في اللهو، وقتل العمر في العبث، وفقد الصحة في المجون، فهل كسبتم من وراء ذلك مجداً أو وجدتم في عواقبه سعادة؟ جربوا ولو مرةً واحدة على سبيل التسلية أن تمسحوا دمعة على خد حزين، أو تنفسوا كربة عن قلب بائس، أو تسهلوا طلب العلم لفقير، أو تمهدوا سبيل العمل لمتعطل، أو تشاركوا أبناء الشعب في منفعة عامة؛ ثم انظروا بعد ذلك كيف يشيع في صدوركم الرخاء، ويرتفع بقلوبكم الإخاء، وتنعم نفوسكم في الحياتين بين عاجل المجد(310/2)
وآجل الخلود. ثم وازنوا بين متعة الجسم ولذة الروح، وتجدوا أن الأولى تنقضي بالملل والعلل والجريمة، والأخرى تدوم بدوام الروح في الأرض وتخلد بخلودها في السماء
يا أغنياءنا - والله هو الغني الحميد - لقد بح الصوت وحفي القلم وأنتم في نشوة البطر وغفوة النعيم لا تسمعون ولا تقرءون! فهل تظنون أننا بما نقول ونكتب نريد أن نخرجكم عن متاعكم، أو نحولكم عن طباعكم؟ لا يا سادتنا! إن ذلك عمل الله وحده؛ أما عملنا فأن نذكركم كلما نسيتم أن لكم مواهب تهملونها وللوطن في استغلالها نصيب، وأن لديكم أموالاً تبذرونها ولله في ريعها حق؛ وأن ننبهكم كلما غفلتم إلى أن هزل الحياة لا ينفع في جد الموت، وأن ملك الدنيا لا يغني عن ملك الآخرة!
أحمد حسين الزيات(310/3)
بقية من حديث الإيمان
النبوة - الوحي - المعجزة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كتب إلي كاتب فاضل من بيروت، لم يتكرم بذكر اسمه كاملاً، يستعديني على مقال لدكتور فاضل نشر بمجلة (الأمالي) عنوانه (المعجزة) فسرها فيه تفسير الرافضين الاعتراف بالنبوة بمعناها عند المؤمنين.
وأنا لا أحب الجدل العلني في الصحف، ولا أرتاح إلى نتائجه على النفس والحق وخصوصاً في المسائل الشائكة التي يجب أن تمحص في خفاء وهدوء يوحيان عدم التعصب للرأي، وحب الغلبة أمام الجمهور. ولذلك لم أرد أن أناقش ذلك المقال مناقشة حرفية لأن الألفاظ عالم فضيع غير مضبوط الحدود، وإنما أردت أن ألقي خواطري حول هذا الموضوع الخطير، وفيها يستبين رأيي وردي الضمني على ما ورد بالمقال. وأرجو أن يكون فيما كتبت إرضاء (للعقل المؤمن والقلب العاقل) الذي كاتبني من بيروت.
هل يقنع ناظر باحث في حياة الإنسان العقلية والروحية الأولى أنه يجوز أن يترك الله الإنسان من غير أن يتصل به ويرشده، ويبين له بعض ما خفي عليه وخصوصاً إذا كان هذا الخفاء حول أهم غاية في الحياة العقلية والروحية؟
هل يجوز أن يستمر الكون كله صامتاً أمام الإنسان لا يكلمه فيه أحد بكلمة غير إنسانية؟
أيمر كل الناس هكذا على الدنيا سائرين إلى القبور وأبواب الغاية المجهولة من غير أن يسمعوا حديثاً إلهياً عما وراء الحياة؟
هل يجوز عقلياً ووجدانياً أن يحتجب ربنا عنا من أول رجل فينا إلى آخر رجل هذا الاحتجاب القاتل؟!
أيمكن أن يكون هذا من إله نرى رحمته وسعت كل شيء؟
أيكون أوجدنا لنثبته بمنطق عقولنا فيقتلنا هو بشوق قلوبنا إليه شوقاً لا أمل وراءه؟
أكان من الممكن أن يستقل عقل الإنسان في طفولته المنحطة بالاهتداء إلى الحق الفاصل في قضايا الوجود وما بعد الطبيعة؟
ماذا يغني العقل وحده وماذا يرشد إزاء هذه الألغاز والمعميات التي رآها الإنسان في دور(310/4)
طفولته؟ إنه لا يزال غير مغن ولا نافع عند كثير من الناس حتى في زمن العلم والسيطرة على الطبيعة فكيف يغني في زمن الكهوف والإحراج والغابات؟
كيف يغني في زمن الجهل المطلق بالنفس وبالطبيعة وفي زمن عبادة الأحجار والأبقار والثعابين والجعلان والخنفسان؟
وماذا كان العقل في تلك الأزمان؟ إنه لم يكن سوى انطباعات بسيطة من تجارب الحياة المحدودة التي كان يحياها الإنسان، فكيف يقدر أن يستقل بأمر البت في أمر الإلهية وصفاتها وكمالاتها؟
إن الطفل لا يدرك في أول أمره من أمه غير ثديها وهي تلقمه إياه. . . ثم ينكشف له جسمها ومعناها عضواً عضوا وشأناً شأناً حتى يدركها كاملة. . . ولو تركته منذ ولادته لمات جوعاً ولذهب وجوده ولم يدركها. وكذلك الإلهية مع الإنسان، والله المثل الأعلى
هل يمكن أن ينشأ طفل كامل من غير أم أو من في معناها تقول له قولها المعروف وترعاه حتى يصل إلى سن الرشد فيستطيع أن يستقل بأمره بنفسه؟
أنا لا أستطيع أن أتصور الإنسان الذي هو أكرم ما في الأرض يعيش هكذا وحده وخصوصاً في عصور طفولته من غير أن يقول له قائل من وراء الغيب كلمة التوجيه والتسديد
ولو كنا نرى نوعاً آخر محترماً يعمر الأرض ويتولى الخلافة عليها ويسخرها لقلنا: لعل هذا هو المقصود بالخلق ونحن نعيش على الهامش. . . ولكننا لم نر سوانا خليفة يصح أن يكون مقصوداً بالخلق. . . فكيف يقصد وجودنا الخالق ثم يتركنا من البدء للنهاية من غير كلمة!
كلا! لن يثبت العقل على رأي ثابت في (الله) إلا إذا سمع صوتاً منه. . . وإلا فمن الحكم بين العقول المختلفة؟
كلا! لن يؤمن الإنسان بأنه شيء ذو خطر في الوجود إلا إذا قيل له ذلك من غير عالمه العقلي المستقل. . .
كلا! لن يصبر الإنسان على احتمال الحياة بلذاتها وآلامها من غير أن يسمع من يقول له: احي، واعمل، واصبر. . .(310/5)
الإنسان ما الإنسان؟ إنه كل شيء في الأرض أمام نفسه وأمام الوجود الظاهر فكيف يهمل ويترك سدى من غير نداء خفي بعيد؟
إن الإنسان نفسه كبير الرحمة في بعض أفراده الذين لا يستطيعون سماع استغاثة حي ذي كبد رطبة دون أن يبكوا رحمة له، ويقولوا له: لبيك لبيك. . . فما بال الرحمن الذي ثبتت رحمته ثبوتاً محسوساً تنظر إليه عقول عباده وقلوب الباكين الدائمي البكاء له السائرين في ظلام الحياة وآلامها، اليقظين لكل فكر وحس وحركة في الوجود، الحاملين آلامهم على ظهورهم وأرواحهم على كفوفهم، الحائرين بين مذاهب الأفكار واتجاهات الطباع واختلافات الميول يقولون له: (رب الحياة! قل لنا كلمة واحدة: ما هو الحق؟ قل لنا بصوت منك أو بلمحة أو بحجة قاطعة حتى نجزم به جزم الحس مع جزم العقل. . .
إن جزم العقل وحده في هذه المسألة الكبرى لا يدخل الطمأنينة الكاملة التي لابد منها في حياة الإيمان يا مولانا! فاكشف لنا الحجاب، واهتك الأستار، وأرنا ما وراء هذه الكثافات والأجرام والأجسام والأحجام. . .) أقول ما بال الرحمن لا يسمع دعاء ممثلي الإنسانية الحائرة المقتولة بالشوق والشك المصروفة بالإفك، فيقول لها بين فترة وأخرى كلمة فاصلة يشير لها بها إلى الطريق مادامت هي القطيع المقصود، ومادام الاهتداء إلى الله هو المعنى الذي يصح أن يكون غاية الله من خلق الإنسان؟
هكذا وقف قلب كل نبي نشأ في حيرة من ضلال قومه قبل أن تتصل به شرارة الوحي، لا يرى نوراً ولا يسمع شيئاً يقول له: (من هنا الطريق. . .)
هكذا وقف كل نبي في الظلمات وبكى. . . بكى لكل شيء. . . بكى للسماء والأرض والحجر والنجم والحي والميت وكل شيء. . . وكل شيء. . .
فإذا كان منطق الإنسان الكامل ورحمته يحتمان أن مثل هذا الباحث الحائر الباكي يجب أن يرحم ويخاطب ويغاث من لهفته وخصوصاً إذا احتاجت الظروف لحركة تطهير الأرض من ضلال وفساد، فأظن ظناً يقرب جداً من العلم أن هذا المنطق وتلك الرحمة يقولان (لابد الله أن يتكلم!) أجل يحكمان على رب الوجود أن يكلم ذلك الرجل الحائر الباكي من عدم الاهتداء إلى حقيقة نفسه وحقيقة الوجود. . . ولن يحمل إنسان عبء النبوة والرسالة الفادح إلا إذا سمع هذه الكلمة. . . ولن يتحدث باسم رب الوجود ويقول: (أوحى إليٌ) إلا إذا سمع(310/6)
حديث الله له. . . وإلا كان أكبر مجرم ظالم كاذب والكاذب لا يستطيع أن يبني بيتاً كما يقول (كارليل) فلا يستطيع أن يبني أمة. . . (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال: أوحى إلي ولم يوح إليه شيء. . .)
تلك هي النبوة أوقن بها كما أوقن بسنن الطبيعة المطردة وأنتزع حججها من صميم النفس الإنسانية منطقها ووجدانها وأحاسيسها. فكما أومن بأن الشمس يجب أن تظهر للنبات والحيوان لكي تعطيهما وجودهما الجسماني أؤمن بأن الله أظهر للإنسان جانباً من نوره حتى يأخذ وجوده الروحي، وذلك كان في أول النشأة ودور الطفولة البشرية
إننا الآن نرضى بصمت الطبيعة المطبق اتكالاً على أن الله كلم بعض أفراد النوع في الزمان القديم. وأنا شخصياً أظن أنني ما كنت لأؤمن بفكرة ثابتة عن الله لو لم أوقن بأن الله كلم محمداً ومن حكى عنهم محمد من الأنبياء. . . وكأني أحس أن الله كلمني شخصياً حين كلم بعض أفراد نوعي. . .
أجل! كيف أثبت على الإيمان به دائماً مادام هو لم يأبه لي ولا لنوعي؟ أمن المعقول أن ينظر الإنسان إلى الله دائماً ولا يبالي هو به؟
إن الله رحمة. . . إن الله محبة. . . إن الله كرم. . . إن الله جمال. . . كما تثبت ذلك صناعته في الخليقة فلا يجوز أن يكون قاسياً متكبراً على الإنسان خليفة الأرض إلى هذا الحد!
إننا الآن في زمن رشد عقلي يلوح لنا أننا نستطيع أن نستقل بعقولنا في الاهتداء إلى الله وإلى الخير. ولكن يجب أن نتذكر حالة النشأة والطفولة التي كنا عليها. . . حين كنا نعيش بالأوهام والأحلام ونرى الكون أمامنا كتلة مبهمة ومجموعة ألغاز ومعميات وأحاج. . . حين كنا نعبد الحجر والبقر والجعلان والخنفسان. . . حين كان العالم مملوءاً أمامنا بالأشباح التي تملأ الهواء والنار والسحاب والبحار. فهل كانت غاية خلق الإنسان متحققة في تلك الدهور والأحقاب بالعقل الإنساني على بساطته؟ ومادامت غاية خلق الإنسان كما يحتمها العقل هي معرفة الخالق وعبادته فلا بد أن تتحقق دائماً وقصور عقل الإنسان في الماضي ما كان يسمح بتحققها فلا بد أن يتولى الله إرشاده عن طريق الاتصال ببعض أفراده(310/7)
إن الحركة العقلية العنيفة التي كانت في بلاد الإغريق لم تنقذهم من الوثنية المنحطة. فالعقل وحده لا يؤمن بما يصل إليه ويصنعه هو إلى درجة الطمأنينة التي لا بد منها في منطقة الإيمان، والطبيعة الآرية صارت تبحث عن الله بالعقل المادي وحده فما اهتدت إليه إلا أفراداً قلائل. ومن قرأ صور الإله في أفكار كثير من فلاسفة اليونان من العدد إلى الماء إلى العقول السبعة إلى النار إلى آخر الفروض يرى أن العقل وحده حتى في بلاد اليونان لم يقدم الصورة الكاملة للإله كما قدمتها الروح السامية فقد بحثت عن الله في نفسها ووقفت تبكي له بقلوب أنبيائها وصهرتها الآلام وأضناها الإخلاص له إخلاص الطفل حين يبحث عن أمه ويبكي، فظهر لها فأيقنت بالحق والخير
وقد نجحت الروح السامية في إنقاذ البشرية من الوثنية وفي إعلاء شأن الإنسان وفي تعميم صورة الكمال الإلهي وفي سيادة الأرض. فلا يمكن بعد ذلك كله أن نقول إن تلك السيادة السامية المبنية على النبوة كانت عفواً وصدفة، ولا يمكن أن تكون حركة العقليين موازية لتلك الحركة الروحية، وخصوصاً أيام كانت حركة العقل ضئيلة لا تستطيع أن تقيم قوانين وأخلاقاً. فلا بد أن يكون وراء الروح السامية سند من عالم الغيب
لا يمكن أن يستأنف الإنسان عبادة الأحجار والأشجار وغيرها بعد أن وصل إلى التسلط على كثير من قوى الطبيعة وبعد أن زال خوفه من قواها أيام كان يجهل أسرار تركيبها
ولذلك ختم لله الرسالة بمحمد وأعطى الإنسان الطبيعة يسخرها ويتصرف فيها بالتدريج كما يعطي الأب أبنه ماله بعد الرشد يتصرف فيه بعلمه وسلطته
تماماً هو قانون الأبوة مع البنوة فهو اطراد في سنن الكون. والطبيعة كلها متشابهة. النشأة العقلية العامة في الإنسان كالنشأة الجسمانية فيه
لقد استخلص الله خلاصة الحق من تجارب الحياة الإنسانية في جميع الأمم وأسلمها للإنسان ووصاه وصيته الأخيرة وقال له: بلغت الرشد فأمامك الطبيعة، وإلى اللقاء في الدار الثانية التي يحكم بها عقلك وعلمك، فاستعد لتقدم إلى الحساب عما تفعله في النفس والمادة وقواها
أليس هذا هو قانون الطبيعة مع أفراد الحيوان والإنسان ومع أسرهما؟ بلى، وإنه هو نفسه بشكل أوسع بين الله والمجموع الإنساني.
قد يقول قائل: إن الوثنية لا تزال دين عدد هائل جداً من الناس؛ ولا يزال سكان أفريقية(310/8)
الوسطى وجزر المحيط والصين والهند واليابان يدينون بالقوى السحرية وعبادة الحيوان. فأين رشد الإنسان المزعوم؟
ولكن مع تسليمنا بذلك نقول إن التبعية ملقاة على عاتق الأمم المتعبدة بالروح السامية، وإنه لتقصير فظيع منها أن تترك بعض أفراد الأسرة الإنسانية هكذا ضائعين من الحياة. ولو كان الاستعمار يحمل غاية روحية سامية لجعل همه الأول هدم الوثنية وتعميم فكرة الوحدة الإلهية. وقد وكل الله الشعب الأصغر القاصر إلى الشعب الأكبر الراشد، كما يحدث من توكيل الأب للابن البكر في الأسرة الواحدة. . . فإذا لم يراع الأكبر حسن الرعاية والإرشاد كان اللوم كله منصباً عليه. وستعلم الشعوب المتحكمة العاشقة للمادة وحدها كم ستكون تبعتها ثقيلة باهظة، وجناياتها كبيرة غليظة، بتركها نفوس الزنوج وسكان الجزر النائية في المحيطات وكل الأمم الوثنية من غير حمل لها بالقوة على ترك عبادة الأوثان وعلى سمو الحياة الروحية
لقد صارت الأرض كقطر واحد بفضل الكشوف الجغرافية وأدوات الاتصال العلمية وسرعة الانتقال، فكان من الواجب أن يتلاقى البشر على معان قريبة في الدين، ولكن المادية الحالية هي الحائل وهي الشاغل. . . وعلى أية حال لن تعمر الوثنية طويلاً بعد الآن
كانت الأمة من الأمم السابقة تحتاج إلى رسول معين يرشدها في حياتها الروحية نظراً للقصور العام، ولكن ميراث الرسل المتروك والملخص في رسالة محمد يستطيع أن يخرج رسلاً عديدين ينقذون الخاضعين للسحر الأسود والوثنية الصفراء وغيرهما. . . ولعلها رسالة مدخرة لأبناء محمد حين يتم نضجهم وكمالهم بعد يقظتهم الثانية هذه. فإنه ليس هناك كتاب دين حارب الوثنية وأبغضها وحطمها وناقشها من جميع وجوهها كما فعل القرآن. وليس هناك؟ أمة أفهمها كتابها أنها منتدبة لحماية عقائد البشر من الوثنية وغوائل الروح كالأمة الإسلامية (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)
ويمكن لأي فرد الآن أن يعلم من حقائق الدين وحقائق الطبيعة ما كان يختص بعلمه الكهنة والأوصياء في الزمان القديم. ويخيل إلي أن مجهود النبوات كلها كان موجها إلى تفهيم(310/9)
الإنسان قيمة الطبيعة وإلى شغل عقله بالبحث فيها حتى يهتدي إلى مفاتيح تسخيرها ويبرأ من عبادة ظواهرها وقواها ويعبد بارئها فقط. وقد نجحت النبوات نجاحاً باهراً في ذلك وأنقذت الإنسان الذي يسكن الجزء الأهم في الأرض وجعلته هو صاحب السيادة والسيطرة فيها، وجعلت الأمم الوثنية خاضعة له، أو ناظرة إليه وتابعة لخطواته. فلم يعد هناك حاجة إلى بعث رسل مؤيدين مكلمين من السماء لأن مجال الدين صار واضحاً وصار التدين مقررا بالعلم لأن العلم كشف في القلب الإنساني منطقة لا غنى لها عن الدين. والخلاف الآن على الطقوس المختلفة في الديانات فقط. وسيكون أقرب هذه الأديان إلى الفطرة والسبيل العلمية هو دين الإنسانية القريبة الموحدة
(للحديث بقية)
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف(310/10)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
لصديقنا الأستاذ أحمد أمين مؤلفات جيدة قامت على أساس المنطق والعقل، وهو من كبار الباحثين في العصر الحديث.
ولكنه على أدبه وفضله لا يجيد إلا حين يصطحب الروية ويطيل الطواف بالموضوع الواحد عاماً أو عامين، وذلك سر تفوقه فيما نشر من البحوث والتصانيف
ولسنا نظلم هذا الصديق المفضال حين نحكم بأنه لا يصلح لتقييد الخواطر العابرة التي تطوف بالذهن من حين إلى حين، لأن ذلك لا يتيسر إلا لمن رزق موهبة أدبية تقيٌد شوارد المعاني بلا تعب ولا عناء، وتضيف المألوف إلى صف الطريف بعذوبة التعبير وقوة الروح
أحمد أمين باحث كبير بلا جدال، ولكنه ليس بكاتب ولا أديب، وإن كان من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية
ولم يستطع الأستاذ أحمد أمين على كثرة ما كتب وصنٌف أن ينقل القارئ من ضلال إلى هدى، أو من هدى إلى ضلال، وإنما كانت مؤلفاته وبحوثه ضرباً من (التقرير) الذي يخاطب الأذهان ويعجز عن مخاطبة العقول والقلوب
وحياة الأستاذ أحمد أمين تؤيد ما نقول: فهو رجل لا يعرف الخلوة إلى الفكر والقلم، ولا يتسع وقته لدرس ما في الوجود وما في الأخلاق من مشكلات ومعضلات، وإنما يقرأ ويسمع، ويعلق على ما يقرأ ويسمع، بدون أن يتغلغل إلى أسرار المجتمع أو سرائر القلوب
وهيام الأستاذ أحمد أمين بالظواهر قد عاد عليه بأجزل النفع من الوجهة الشكلية؛ فهو رئيس لجنة النشر والترجمة والتأليف، وهو أستاذ بالجامعة المصرية، وهو عضو في كل لجنة تؤلفها وزارة المعارف، وهو مشرف على بيت المغرب، وهو مؤلف كتب وناشر مقالات، وهو صاحب ثروة يدبرها ويشقى في سبيلها أعنف الشقاء.
وهذا كله مقبول، ولكن الخطر كل الخطر في ألا يقنع هذا الرجل بما وفق إليه في حياته الرسمية والمعاشية(310/11)
الخطر كل الخطر في أن ينصب هذا الرجل نفسه حاكماً بأمره في تقرير مصير الآداب العربية، وهو لم يستطع إلى اليوم أن يقيم الدليل على أنه يتذوق المعاني والأساليب
الخطر كل الخطر في أن يتوهم الأستاذ أحمد أمين أنه قادر على زعزعة ما أقامته الأيام من الحقائق الأدبية، الحقائق التي ساد بها العرب في أزمان طوال، وكان لها سلطان مهيب في أقطار الشرق وأقطار الغرب
ولكن ما الذي نقل ذلك الرجل الفاضل من حال إلى أحوال، وحَّوله من الروية إلى الارتجال؟
ما الذي قضى بأن يثور أحمد أمين على ما خُلق له فيطالع الجمهور بآرائه من يوم إلى يوم وكان يلقاه من عام إلى عام؟
لقد أصبح الرجل صحفيّاً، وكان أستاذاً ولكنه لم يراع أدب الصحافة، لأن الصحافة تقف عند المشاهدات وهو يهيم بأودية الفروض
ابتدأ هذا الرجل مقالاته في مجلة الثقافة بتلخيص بعض الكتب الأدبية فكان من الصحفيين الأدباء ثم رأيناه يتحول فجأة فيلخص الأدب العربي في جميع عصوره تلخيصاً يقوم على أساس الخطأ والإعتساف، ويعوزه تحرير الحجة وتصحيح الدليل
فهل يظن أنه سينجو من عواقب ما يصنع؟
هل يتوهم أن التجني على الأدب العربي سيمر بلا اعتراض ولا تعقيب؟
إن لهذا الرجل صداقات مع كثير من الأدباء والناقدين، وهو لذلك يرجو أن يصول ويجول بلا رقيب ولا حسيب
فما رأيه إذا أقنعناه بأن للأدب العربي أنصاراً يغارون عليه أشد الغيرة، ويقفون لخصومه بالمرصاد؟
ما رأيه إذا سددنا في وجهه جميع المسالك وقهرناه على الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية؟
ما رأيه إذا فرضنا عليه أن يعود رجلاً يؤذيه أن يجانب المنطق والعقل؟
(للحديث شجون)
زكي مبارك(310/12)
أعلام الأدب
بين أرستوفان ويوريبيدز
للأستاذ دريني خشبة
ظل أرستوفان يدعو قومه إلى السلم وينفرهم من الحرب، وظل يسخر من القادة المغرورين ويستهزئ بشكل الحكومة وديمقراطية الغوغاء، فلم يزدد قومه إلا عناداً، ولم تزدد جيوشهم إلا هزيمة، ولم تزدد أثينا إلا فساداً وانحلالاً. فلما بح صوته من دعوة السلام والتنديد بنظام الحكم انصرف عنهما آيساً، وفرغ لأستاذه وعدوه يوريبيدز، يقصر عليه نشاطه الأدبي، ويصب عليه جام نقمته، وما أورثه فشله في دعوة السلام من مرارة وغيظ
وقبل أن نخوض مع أرستوفان في هذه المعركة على فخر المسرح اليوناني لا نرى بداً من التمهل قليلاً لنلخص ملهاتين عظيمتين ألفهما الشاعر الساخر قبل الانقضاض على يوريبيدز. . . أما إحداهما فمن أمتع ما نظم أرستوفان، وأما الأخرى فهي أمتع وأعظم ما ألف طول حياته، إلا إذا كان فيما ضاع من كوميدياته ما هو أعظم منها
ففي سنة 411ق. م أخرج أرستوفان ملهاته ليستراتا، وقد نظمها تنفيراً لقومه من الحرب، وصيحة مضحكة في سبيل السلام. . . ولا بد أن الأثينيين كانوا أمة من المجانين حين حاول أرستوفان أن يصرفهم عن آلامهم وما تترك الحرب في كل بيت من بيوتهم من مناحة تمزق القلوب وتفتت الكبود وتفجر المدامع، ليضحكوا ملء أشداقهم من كوميديات مواطنهم المهرج العظيم!! لله كم كنا نتمنى لو لم يفقد ذلك الجزء الثمين من كتاب الشعر لآرسطو الذي تناول فيه فلسفة الكوميديا لنعرف رأيه في علة ازدهار الأدب الكوميدي في فترة حروب البليبونيز خاصة حتى بلغ أوجه بين أنين الجرحى وعبرات الثكالى وأحزان الموجوعين
يصور أرستوفان في ملهاته لسسترا بطلة حازمة تدعو إلى نبذ الحرب ونشر لواء السلم، فما تزال بصويحباتها (نساء أثينا) تحضهن على ذلك وتكون منهن حزباً قوياً تنتهي إليه الغلبة في أثينا الديمقراطية، فإذا احتج الرجال وأخذوا يناوئون حركة النساء اقترحت الزعيمة على توابعها حرمان الرجال من ممارسة (المسألة الزوجية!!) حتى يفيئوا إلى الحق ويرجعوا عن هذه المجزرة التي تودي بأبنائهم وبأنفسهم في غير طائل. . وقد تعمدنا(310/14)
هنا أن نعكس ما أثبته أرستوفان في ملهاته، فقد قصد أن تكون النساء نساء أسبرطة وهو في الحقيقة لم يعن غير نساء أثينا. . . ثم تنتهي الكوميديا بخضوع رجال أسبرطة ومجيئهم طائعين مختارين يطلبون الصلح من الأثينيين فتضع الحرب أوزارها ويكون السلام على الأرض (!!) وقد كان أرستوفان ماهراً في تلطيف عقدة ملهاته الفاجرة التي لا نحسب أنها كانت تخطر لأديب ببال في سبيل وقف حرب المورة، تلك الحرب التي استمرت تهلك الحرث والنسل ثلاثين عاماً طوالاً فكادت تكون بسوساً يونانية بل هي كانت شراً من بسوس العرب. . . فأي سلاح هو أمضى لوقف الحرب من إضراب النساء عن منح الرجال حق المباشرة الجنسية! أليست الفكرة فكرة جريئة وإن تكن فاجرة داعرة؟ لقد كان المسرح اليوناني الكوميدي يجيز ما هو أشنع من اللستراتا أضعافاً مضاعفة، وقد كان أرستوفان عفاً في ملهاته هذه إذا قيس بزميليه أمفيس وألكزيس اللذين كانا يحشدان في ملاهيهما ما لا يسمح قانوننا ولا عرفنا ولا أخلاقنا بعرض صورة منه ولا الخوض اليسير فيه. . . ومع ذاك فقد كان أرستوفان لبقاً في التضحيك على نسائه وإن كان دائماً في جانبهن ضد الرجال، وقد زاد في إشاعة الروح الكوميدي فيهن بجعلهن عربيدات لا يعقدن مؤتمراتهن إلا حين تعبث الخمر بهن وتروي مشاشهن جميعاً أما أبرع كوميدياته وأمتعها على الإطلاق فهي بلا شك (الطير)، وقد ألفها سنة 414 أي قبل لسستراتا بثلاث سنوات فكانت آية آياته كلها حيث ارتفع بها إلى ذروة الفن الكوميدي وأشاع فيها المرح وجافى بينها وبين الواقع، وبناها على الكذبة الكبرى التي هي أساس الكوميدي اليوناني. وقد قلد فيها سوفوكليس من حيث سرعة العرض ونشاط الأداء والتنقل من مشهد إلى مشهد في خفة وتشوف، كما قلد فيها الشاعر الغنائي الخالد أرفيوس من حيث روعة الأغاني وجمالها وانسجامها وعلوها عن مستوى الغناء الكوميدي الذي كان يقصد به إلى الشعبذة والتهريج لا إلى الفن الخالص الرفيع
استطاع اثنان من أهالي أثينا هما بيثتيروس وإيولبيدز، أن يكتشفا حقيقة عجيبة لم تكن لتدور في روع أحد ولا تخطر يوماً في قلب بشر. . . استطاعا أن يعرفا ما عرفه الشاعر سوفوكليس من قبل، وهو أن ملك الطير إيبوبس هو نفسه الملك تيريوس ملك تراقيا الذي كان يحكمها في سالف العصر والأوان قبل أن يُسحر إلى هدهد وقبل أن يتربع على عرش(310/15)
الطير مزهواً بتاجه الجميل ومنقاره الطويل وألوانه المتلألئة الحسناء. . . ولما كان بيثتيروس مواطناً منبوذاً من قومه الأثينيين فقد اعتزم الرحلة إلى مملكة الطير ليجرب فيها حظه غير مستعين بأحد إلا بنفسه وزميله المغفل المطواع إيولبيدز. . . هذا وقد كان بيثتيروس رجلاً مقداماً مقاحماً قوي الجدل حاضر البرهان نافذ الحجة لا يعيبه أن يقنع محدثه بالشيء وضده في وقت معاً. وكان يرى الرأي فيصيب به الحقيقة دائماً ولذلك كان قلما يرضيه تصرف الآخرين خصوصاً في شئون الحكم
أما إيبوبس الهدهد ملك الطير، أو تيريوس ملك تراقيا في سالف العصر والأوان، فملك عادل محبوب من رعيته المخلصة له، وهي رعية بُدائية ما تزال تحبو في أول مدارج المدنية، ولذلك فهو دائب على النهوض بها وإصلاح حالها، ولذلك أيضاً يرحب دائماً بكل من يرد عليه من رعايا الدول المتمدينة الأخرى. . . وقد أكرم مثوى بيثتيروس لهذا السبب، واستطاع بيثتيروس أن يقنعه بوجهة نظره في تكوين دولة تحت سيطرته بحيث ينضوي تحت لوائها البشر، وما كادت رعية الطير تسمع بهذا حتى ثارت ثائرتها وهددت الملك بالتمرد وإضرام نار الفتنة، للضغينة القديمة بينها وبين بني آدم ولعدم ثقتها فيهم من قديم الزمان. وقد همت الطير بالفتنة فعلاً، ولكن بيتيروس ألقى فيهن خطبة طنانة رنانة ساد بها الموقف وأنقذ بها مشروعه من الفشل
وأنشئت الدولة برياسة ملك الطير، وأقامت الرعية المتاريس على الطريق إلى مملكة السماء، فانقطعت السبل بين الآلهة وبين الأرض، ولم تقو أرباب الأولمب على إخضاع الطير فاضطرت أن ترسل سعارة من نبتيون إله البحار وهرقل الحديدي إله الرياضة وتريبول الإله البربري الجاهل التمتام التفتاف (!) وقد اضطرت الآلهة إلى إرسال هذه السفارة بعد قبض الطير على إيريس (قوس قزح) مبعوثه حيرا وجاسوستها حين اجتازت بغير حق المتراس الفاصل بين مملكة الطير وطريق الآلهة إلى السماء. . . وقبل أن يصل أعضاء السفارة تنزل الإله برومثيوس - حامي البشرية ونصير الإنسان - مختالاً تحت مظلة كبيرة بين سمع زيوس كبير الآلهة وبصره، ليؤيد بيثتيروس بحجته وليمنحه البركة والتوفيق في مجادلته سفراء السماء. . . وقد استطاع بيثتيروس أن يخدع هرقل بأكلة شهية أعدها له فضمه إلى جانبه، وكان هرقل يسيطر على صاحبه تريبول الجاهل البربري(310/16)
التفتاف، وبذلك أصبحت الأغلبية في جانب بيثتيروس، وغلب نبتيون على أمره، وعقدت معاهدة بين الفريقين فاز فيها بيثتيروس بأقصى ما كان يصبو إليه من تفوق وسيطرة، فقد رضى سيد الأولمب - زيوس الكبير المتعال! - أن ينزل طائعاً مختاراً عن صولجان ملك الدنيا (الأرض) إلى الأبد لأيبوبس الهدهد ملك الطير كما قبل أن يزوج ابنته الخالدة الفتانة (باسيليا) لبيثتيروس
وفي الكوميديا شخصيات مضحكة أخرى لا يتسع هذا الملخص السريع لعرضها وأهم ما يلفت النظر تعقيباً على ملهاة الطير هو روح الإلحاد والسخرية بالآلهة الشائعين فيها، وهو روح عجيب يدلنا على ما بلغته أثينا من الحرية الفكرية والتحلل من ربقة دينها الأسطوري بحيث لم يتحرج أرستوفان من الشعبذة على أرباب الأولمب إلى هذا الحد المضحك
ثم فرغ أرستوفان لفخر شعراء الدرام، بل لفخر أثينا القديمة، يوريبيدز العظيم، فنال منه ما لم ينل منه شيء آخر، وشعبذ عليه شعبذات أضحكت خصومه حيث ألف فيه ملهاته الفاجرة الشنيعة ال أو محاكمة يوريبيدز كما يسميها المتأخرون والاسم مشتق من (ثسموفوريا) وهو عيد من أعياد اليونان القديمة كانت السيدات يقمنه في أكتوبر من كل سنة تقديساً لربة الزراعة والمدنية سيرس (أودمتير)، ولم يكن يسمح للرجال ولا للذكور بوجه عام في حضوره. . . وقد ألفها سنة 411 أي في نفس السنة التي ألف فيها الليسيستراتا، ولذلك جاء فيها أثر من سابقتها. . .
نمى إلى يوريبيدز أن الأثينيات المحتفلات بعيد سيرس في ال (تسموفوريا) سيثرن قضيته معهن لطول ما شن عليهن الغارة في دراماته ولجرأته على الجنس اللطيف بإبرازه على المسرح، وتناول ما لم يكن ينبغي تناوله من أسراره أمام الناس. وخوضه في شئون الحب والعشق والغرام المحرم من غير ما تورع ولا استحياء ولا مراعاة للعرف، ولا إبقاء على سنن السلف الصالح. وبلغه أيضاً أنهن سيصدرن عليه حكماً صارماً عسى أن يكون له فيه مرتدع. . . خاف يوريبيدز واشتدت خشيته ووقع في حيص بيص (!!)، ولم يدر ماذا يصنع؛ ثم بدا له أن يستعين بشاعر مخنث (!!) جميل الطلعة مشرق المحيا يمكن أن يتنكر في زي النساء ويذهب إلى الـ (ثسموفوريا) ويختلط بالنساء حتى إذا شرعن في فحص قضية يوريبيدز تولى هو الدفاع عنه بكل ما أوتي من ذلاقة ورشاقة وبيان. . . لكن(310/17)
الشاعر أجاثون يرفض ما يعرضه عليه يوريبيدز من وجوه الإغراء والإغواء فيضرب يوريبيدز أخماساً لأسداس، ثم يبدو له فجأة أن يذهب إلى والد زوجته (حَمئه) - منسيلوخوس - فيرجوه أن يتنكر هو في زي امرأة ثم ينطلق إلى مكان الاحتفال فيتولى الدفاع عن زوج ابنته وإلا وقعت الواقعة وحاقت به البلايا. . . ويقبل حموه، ثم يذهب إلى ال (ثسموفوريا) وما يكاد يتكلم حتى يشك النساء في أمره، حتى إذا تضاعف ريبهن هجمن عليه واكتشفن أنه رجل وأنه حمو يوريبيدز. . . ويسقط في يد الرجل، ويهرب منهن لائذاً بالمذبح، حتى إذا ضيقن عليه الخناق وأوشكن يبطشن به انقض على أحد أطفالهن فاحتمله بكلتا يديه وراح يهددهن بقتل الغلام إذا مسسنه بسوء. . . ويختلط حابل النساء بنابلهن، ثم يكتشفن أن الذي يحمله الرجل ليس غلاماً، بل هو دن خمر مغطى بثوب، فيثرن من جديد ويوشكن أن يوقعن به. . . وهنا يظهر يوريبيدز نفسه ولكن متنكراً في أشكال شتى، فتارة يبدو كأنه منالوس حينما يكتشف أمر زوجته هيلين في مصر؛ ثم يبدو في صورة الفتاة إيخو (الصدى) وهي تساعد الفتاة أندروميدا المصفدة في حيد الجبل. . . ويبدو مرة ثالثة في شكل برسيوس وهو يفك أصفاد أندروميدا. . . ثم يفلح يوريبيدز آخر الأمر في إطلاق سراح حمئه بعد أن نجح النساء في تصفيده في قفص المجرمين، وذلك باتخاذه صورة قوٌادة (هكذا!!) وذهابه مباشرة إلى الضابط الذي عهد إليه بالرجل ليحرسه. . . وتأخذ القوادة في الرقص وهز الردف والأثداء والابتسامات الخليعة الفاجرة حتى تزلزل فؤاد الضابط وتغويه فيطلق سراح منسيلوخوس
هذه هي الكوميديا الشائنة التي طعن بها أرستوفان خصمه العظيم يوريبيدز، وقد حاول فيها استعمال طرائق شاعر الدرام الكبير ووسائله في التعبير والأداء. وقد استطاع بها أن يثير حنق يوريبيدز وأن يحيل بقاءه في أثينا إلى مرارة وتلدد وبرم بالناس وبالحياة. . . وقد ألف أرستوفان في خصمه غير هذه الملهاة شيئاً كثيراً ضاع أكثره لحسن حظ الأدب - أو لسوئه، لا ندري! - فلما مات يوريبيدز سنة 406 ق. م، ألف أرستوفان ملهاته الخالدة (الضفدع) سنة 405 التي تسمو إلى أفق (الطير) والتي عرض فيها ألواناً جديدة من الخيال وجمال التصور، وأطلق (لتفنٌنه!) عنانه، فاستحق التخليد برغم رجعيته وجهله أحياناً. . . وقد سبق أرستوفان في هذه الملهاة إلى ابتكار النقد الأدبي المبني على القواعد والقوانين،(310/18)
بل هو قد وضع الكثير من قواعد النقد في موازنته بين إسخيلوس ويوريبيدز في حوارهما الشائق اللذيذ الذي اشترك فيه الإله باخوس
حزن الإله باخوس حزناً شديداً حين افتقد شعراء الدرام بعد سوفوكليس ويوريبيدز اللذين ماتا في عام واحد فلم يجد من يسد فراغهما، ولذلك اعتزم الرحلة إلى الدار الآخرة (هيدز) كما صنع هرقل من قبل عسى أن يرد منها يوريبيدز كما رد هرقل ألستيس؛ ويبدو باخوس في جلد أسد وقد تزيى بزي هرقل وحمل عصا غليظة مثل عصاه، وإن يكن مع ذاك يبدو في صورة مخنثة كدأبه دائماً - ثم يكون إلى جانبه عبده - أو خادمه - إكسانتياس - وقد علا صهوة جحش وحمل على كتفه عكازة طويلة (شمروخا!) علق فيها (مخلاته) وحقائبه وكل ما يلزم في مثل هذه الرحلة الطويلة الشاقة من زاد وماء ونحوهما. . . وقد علق هذه الأشياء في طرف العكازة حتى (تحفظ الموازنة) معه. . . ففي المشهد الأول الذي يشك المؤرخون في أن يكون كذلك (أي في أن يكون هو المشهد الأول لأن الملهاة غير مرتبة وقد ضاعت بعض جذاذات منها) نسمع أصواتاً من التنادر (التنبيط!) يتقاذف بها شعراء - أو شويعرون - يجتهد كل منهم أن ينال رضا النظارة بإتقان التهريج وإجادة (التنكيت!) وقد وقف بينهم باخوس - بوصفه حامي مسرح الدرام! - كالصنم لا يحير. . . ثم ينتهي المشهد بنقاش سوفسطائي بين باخوس وخادمه. . . ويهبطان إلى هيدز، ويفتتنُ أرستوفان في إنهاض الموتى لتكلم الزائرين، ثم يأتي أروع مشاهد الملهاة وهو هذا الحوار الأدبي الرائع بين إسخيلوس ويوريبيدز من حيث منهاج كل منهما في الشعر ووجهة نظره في الأدب - وهنا لا يستطيع أرستوفان إخفاء غله على يوريبيدز، بل يختم المشهد بنصرة إسخيلوس (الذي كان يمثل الفضيلة الأثينية والرجولة اليونانية، والشجاعة والإقدام. . . لا هذا الأحمق يوريبيدز الذي هو سبب فساد روح العصر، وأصل خراب الأخلاق!). . . ثم تنتهي الملهاة بطرد يوريبيدز ليستقر في مثواه السحيق من هيدز وقد رهقت وجهه فترة!
والمدهش في هذه الملهاة العجيبة هو قيامها على النقد الأدبي البحت، وهو وإن يكن نقداً بدائياً إلا أن المعارضات التي أتحفنا بها أرستوفان تجعلنا نعجب كيف كان الجمهور الأثيني في هذا العصر يسيغ مثل هذا الحوار الذي هو فوق إفهامه، بل يضحك له ويغرق في الضحك! ثم كيف يحدث هذا، وقد كانت أثينا على شفا الهاوية؟ ألم تدخلها جيوش اسبرطة(310/19)
بعد هذه الملهاة بسنة واحدة؟!
إن ضحك الأثينيين هكذا على فخر شعرائهم يوريبيدز هو آية انحلالهم وانقضاء دولتهم. . . وقد حصل!
دريني خشبه(310/20)
من برجنا العاجي
كان إبسن يقول: (الرجل القوي هو الفرد المعتزل) كان إيماني شديداً بهذه الكلمة. وما برحت أرى فيها دستوري الذي لا ينبغي أن أحيد عنه. فأنا كلما انطويت على نفسي واعتصمت ببرجها أعطتني كل ما أريد من قوة ومنعة. وكلما التمست ذلك عند الناس أو عند أصحاب الجاه والسلطان شعرت أنهم أضعف من أن يستطيعوا لمثلي خيراً أو شراً. فليست قوتي المنشودة في ألقابهم ولا في ثرائهم، إنما هي في شيء ليس في مقدور أحد أن يمنحنيه غير نفسي. فالدولة لم تستطع ولن تستطع أن تنقص أو تزيد في قوة قلمي أو رأيي، ولم تستطع ولن تستطع أن تخفض أو ترفع من قدري وقيمتي في نظر الزمن والتاريخ. وهنا كل متعتي فأنا إذن لا أحتاج إلى الدولة في شيء، لأنها لا تستطيع أن تمنعني أو تمنحني شيئاً ذا أثر في كياني الحقيقي
هذا رأي الأستاذ العقاد أيضاً في كتاباته عن (الدولة والأديب). وقد أشار إلي فيها بما يفيد أني مخالف لرأيه. وهذا غير صحيح. فأنا يوم ذكرت الدولة في مقام الأدب لم أرد منها تشريف الأدب بحمايتها؛ فالأدب شريف بدونها وهي لا تستطيع له تشريفاً، إنما هو الذي يستطيع إذا أراد أن يشرفها وينوء بها. إنما أردت من الدولة أن تنظم بوسائلها المادية أسواق الأدب المادية كما تنظم بقية المرافق الحيوية الأخرى حتى يتطهر من السماسرة والمستغلين. إني أردت من الدولة أن تصون نتاجنا من جشع الطامعين كما تصون مال الأفراد من عدوان اللصوص. فلقد كان كل عجبي أن الدولة لا تعترف بمصالح الأدباء اعترافها بمصالح الأفراد، فهي تتركهم نهباً للناهبين حيث تقوم وتقعد إذا استبد تاجر بسوق الغلال، أو استولى مراب على بعض المال!
توفيق الحكيم
صفحة من حياة شاعر
عاشق ومجنون!. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان اسمه جيرار دي نرفال، وكان مولده في باريس حيث الغيوم البواكي وحيث الجو(310/21)
المكفهر. أما أبوه فكان طبيباً في الجيش، وأما أمه فكانت بنت بائع فقير. فنشأ في قرية أودعه فيها أبوه، بعد أن قضت أمه، وأرسل إلى القتال. فنبت بين الحقول الواسعة، والسهول المتوثبة نحو الأفق البعيد. وطابت له الحياة في هذه القرية التي لا تسمع فيها الأصوات النابية تتعالى على جنبات السين، ولا يٌرى فيها فوران الناس بين الأحياء والشوارع، وإنما تسمع فيها أصوات العجائز الخافتة، وهن يتحدثن عن طرائف السحرة والجان، ويرى فيها أسراب الغنم تقودها الفتيات والرعيان. وأحب الحياة في القرية، فأثر ذلك في حياته. ثم خلّف القرية إلى باريس ليشدو فيها العلم. وما كاد يبلغ الثانية والعشرين حتى أخرج للناس طائفة من أشعاره. ثم قرأ (غوته) فكلف بكتبه، وعزم على نقل (فوست) إلى الفرنسية. وسرعان ما نفذ ما عزم عليه، فجاءت آية رائعة أعجب الناس بها كثيراً. فقدروا صاحبها ورمقوه. ودفعه هذا الظفر الذي سعى إليه مذ سلك طريق الأدب إلى انتخاب قطع من شعر (رونسار) وأخرى من أشعار (غوته) و (شيلر) ليقدمها إلى الناس. ثم انكب على الشعر يقرأه وينظمه ووجد أن حياة الأديب، وما فيها من كسل وما فيها من أحلام، قد صادفت من نفسه هوى، فهو لا يصلح بعد اليوم إلا لها، فقد كان له مزاج الأديب وإحساس الشاعر. وكان كما يقولون عنه دقيق الفكر رهيف الحس واسع الخيال، يسكن إلى الأحلام، ويقضي ساعات من نهاره وساعات يفتش عن حلم يرضى عنه. ويظهر لنا من أشعاره أنه كان يجد في الأوهام راحة لنفسه. . . فهو لا ينفك يتوهم ويتوهم. فهو يصف لنا، كيف يستشف أشباح الجان من وراء الغيوم. . . فيصيخ بسمعه إلى عزيفهم المبهم تارة والمخيف طوراً. . . يرسلونه مع زفيف الريح الثائرة. ويراهم مختبئين بين طيات السحاب. . . فيناديهم، فيأتون سراعاً يحيطون به. . . يكلمونه قليلاً ويحدثهم قليلاً. ثم إنه ليتمثل نفسه طائراً. . . يقفوه نفر من الجن، يسرح معهم في الفضاء حتى يصل إلى السماء، فينظر إلى الأرض الخاضعة تحت قدميه، أو يتمثل نفسه حيناً آخر هابطاً إلى سيف البحار ليستجم قليلاً، ثم ليهبط إلى قرارة البحار فيرى الحيتان والأسماك، ويزور أميرات الجن في قصورهن المتلألئة في قاع البحار
وكان لابد له وهو في مثل هذا الحس الرهيف والخيال العميق والسن الباكرة أن يحب ويعشق. ولقد أحب، ولكن حبه كان لوناً من الحب لم يكن للناس به عهد من قبل. فإن فيه(310/22)
كثيراً من الطرافة التي تعجب، والفكاهة التي تطرب. فهو لم يعشق فتاة رآها في الشارع أو الطريق، ولا لقيها في الحقل أو عند النبع، وإنما عشق فتاة رآها في حلمه. فلقد مسّ الكرى أجفانه ذات ليلة مساً رقيقاً أنساه نفسه ودنياه: (هأنذا في قصر (مورتو فونتين) أرتع بين رياضه، والقمر الساجي يرسل أشعته فتهوى فاترة كليلة. . . تضئ القصر ذا الجبهة الحمراء ثم تختفي بين أزهار الزيزفون. وفجأة تبدو فتيات حسان. . . يرقصن على النغم، ويغنين الأغاريد؛ وكنت وحيداً فحدقت فيهن ورأيت فتاة شقرا ناعمة الشباب غضة الجمال قد اكتنفنها وأخذن يتمايلن معها. سمعتهن ينادينها: تعالي يا أدريان! فملكت عليّ فؤادي؛ وأقبلن نحوي فرقصن. هاهي ذي بين ذراعيّ. . . أرقص معها. لقد سمعت من يهمس في أذني أن قبلها ولا تخف فهي لك. فضممتها إليّ وقبلتها، ثم جلسنا حولها لتغني لنا. فغنت بصوتها العذب الحلو أغرودة من أغاريد الأقدمين تفيض بالحزن، وتفيض بالسحر، فيها قصة تلك الأميرة التي أودعوها البرج الشاهق. . . لأنها أحبت فتى غرانقاً
(وكانت الفتاة الشقراء تغني فتنحني الأشجار، وتأتي أشعة القمر ترقص حواليها فتحفها بنور يبهر الأبصار ويعشيها. وغفلنا عن الليل، وحسبنا أننا في جنة عدن، فقمت إلى غصن من الغار لأضعه على رأسها، ولكنها قامت تتثنى وتلهو. . . ثم اختفت بين الخمائل عن أبصارنا. . . وتلاشى صوتها. . . ونأى طيفها، ولكن صورتها ما تزال في نفسي لا تغادرها بعد أن تغلبت على كل صورة)
تلك قصة حبه، ولقد كان وفياً لهذا الطيف الذي قبله ورآه واعتقد أنه راجع إليه لا محالة. . . فسماه (زهرة الليل التي تفتحت تحت أشعة القمر الشاحب) وسماه (الطيف الوردي الأشقر الذي اختفى بين الأعشاب، والتف بالسحاب)
وفكر شاعرنا طويلاً في زهرة الليل، فانكب على السحر وما يمتّ إليه بسبب يدرسه ويقرأ أصوله كأنما أراد أن يسخره لإحضار أدريان. وكان يسمع عن الشرق أقاصيص حلوة طربت لها نفسه ورضى عنها هواه، فتمنى لو زار تلك البلاد التي هبطت إليها الأحلام، ورتعت بين جنباتها الأوهام، فيدرك ما فيها من أمور يحيط بها الغموض والخفاء. وخيل إليه أن أدريان هي بلقيس صاحبة العرش العظيم، أتت إلى القصر الأحمر لتهمس في أذنه أسرار الدنيا وتدله على طريق الخلود ويذكر لنا من كتب عنه أنه كان يعتقد في تقمص(310/23)
الأرواح، وأن نظرته إلى أدريان كانت نتيجة لذلك الرأي. ولقد أصبح هذا الرأي لديه يقيناً عندما قضى بين دروز سورية ردحاً من الزمن غير قصير. على أننا لا ننكر أن للمخدّرات التي كان يقتل بها جسمه ويفني نفسه أثراً في إخلاده إلى ما أخلد إليه. والعجيب أن يعتقد بأن تلك الأوهام حقائق، على حين يعتقد الناس أن الحقائق أوهام. وكان من خبره بعد ذلك أنه التقى ذات ليلة براقصة في حانة بباريس فحسبها أدريان الحبيبة. وبعث الهوى الأول وهاج الشوق القديم، فقال في نجواه لنفسه: لقد عادت إلي بعد أن اختفت بين الرياض. ولازم المقهى لا يغادره إلا لحاجة ليملي بصره من جمال هذه الراقصة التي تقمصتها روح أدريان. وكان يغمرها بأزاهيره التي كان يرسلها وعليها اسمه. . . ملتمساً بذلك لنفسه وصلاً عندها، قانعاً بالنظر دون الكلام. ولكنها ازوّرت عنه بعد أن رأت جنونه وعلقت فتى كان يغني فتزوجت به
وزاد جنون شاعرنا عندما تخطى الثلاثين، فقد رأى في إحدى الأماسيّ نجماً يضطرب في السماء، فضحك له وظن أنه بلقيس تناديه لتذهب به إلى الشرق. فأخذ يقهقه ويغني ويقفز ويبكي، وينزع أثوابه ويمد يديه نحو النجم المتلألئ منادياً تارة ومغرّداً أخرى حتى مر به بعض من عرفه، فأشفقوا عليه ورثوا لحاله وقادوه إلى الطبيب
وذهب ما ألمّ به بعد ثمانية شهور قضاها في مصح للطبيب (بلانش) فعزم على الرحيل إلى الشرق. فترك باريس سنة 1843 وكان له من العمر خمس وثلاثون سنة قاصداً جزيرة مالطة، ثم رحل عنها إلى الإسكندرية فالقاهرة. فراعه منها آثار مدنيتها القديمة وعزّها الخالي، وأعجبه زي المصريين فتزيّا به، وحاول أن يتعلم العربية فلم يفلح. ثم ترك مصر قاصداً سورية ومعه جارية سوداء اسمها زينب
وجد شاعرنا في سورية ضالة نفسه. فقد درس ما فيها من ديانات، فأعجبته منها الدرزية. وزاد يقينه بالتقمص واعتقد أن بلقيس لا بد آتية إليه بعد أن فرت أدريان وأعرضت عنه جون. ألم يجتمع ببلقيس فوق ثبج البحر على سفينة صنعت من الذهب، ورصعت بالدر، وحفت بها الجان، فضمها إلى صدره وروى فمها الضمآن من قبلاته؟
وعاد عقله إلى الاختلاط فترك بيروت إلى القسطنطينة فأقام بها زمناً، يقول (بلغت البسفور. . . فالتفتّ نحو مصر الجميلة فإذا هي وراء الأفق البعيد)(310/24)
(لقد ذكرت وطني الذي تركته منذ شهور، عندما وطئت قدماي هذه الأرض الأوربية التي استولى عليها المسلمون. والتفت حواليّ. . . فإذا أنا أمام حلاق أرمني يقص اللحى. . . ويقدم القهوة. ورأيت جمعاً من الكلاب النائمة على الطريق. ولقيت شيخاً وقوراً يحمل عمته الكبيرة مستلقياً على العشب. . . نائماً ملء عينيه، يحلم بالجنة التي وعد الله عباده الصالحين)
وعاد جيرار إلى باريس فكتب (مشاهد من الحياة الشرقية) أخرجها للناس بعد أربع سنوات. وما زال يتنقل بين السجون لجنونه والبلاد المجاورة، برماً ببلاده ومحيطه، سائلاً ربه (ألا يبدل من حوادث الكون شيئاً، وإنما يبدل ما يحيط به من الأشياء ليعيش وحيداً في عالمه الجديد) مخرجاً للناس (ذكريات ونزهات) و (بنات النار) و (قصور بوهيميا الصغرى) حتى لقي مصرعه الذي كان يمشي نحوه ببطء منذ زمن طويل.
فقد ألحت عليه الأوهام واشتدت في الإلحاح فأذعن لها، واشتط في الإذعان؛ وخيل إليه ذات ليلة أنه سيلقى بلقيس، فكتب إلى صديق له: (لا تنتظرني هذا المساء؛ فإن الليل سيكون أسود أبيض) ثم هام على وجهه في طرقات باريس ذاهلاً حتى انتهى به المسير إلى مكان فيه أقذار وأوساخ فطاب له الجلوس عنده. فلما وهن الليل سمع غراباً ينعق. . . فحسب أنه رسول بلقيس الحبيبة إليه، فناداه وحدثّه. ثم قام إلى نافذة فربط بها حبلاً علّقه في عنقه ونادى: (هأنذا قادم إليك) وما هي إلا ساعات حتى فاضت روحه وانتهت مأساته بعد أن قضى سبعة وأربعين عاماً يقظان حالماً. . . وخلّف لنا آثاراً مملوءة بالحسن من الوصف والفريد من المعاني.
صلاح الدين المنجد(310/25)
من العوائد المغربية الممتازة
سلطان الطلبة
بمناسبة تتويجه في ربيع هذا العام
للأستاذ إدريس الكتاني
سيبدو هذا العنوان غريباً عن إخواننا في الشرق. وليس عجيباً هذا، فالمغرب نفسه - لا تاريخه فحسب - غريب في نظر بعض الشرقيين عن الشرق. أما نحن هنا فليس منا من لا يعد المغرب قطعة من الشرق العربي، وجزءاً لا يتجزأ من الجامعة الإسلامية الكبرى. فعسى أن يعمل إخواننا الشرقيون على هذا الاعتبار، ويقلعوا عن تجاهلنا وتناسينا في وقت نجعل نحن فيه الشرق - ومصر في الطليعة - محط أنظارنا وكعبة معارفنا؛ ونتطلع إليه كالمنحط في أسفل الوادي يروم معزوفة ما فوق الروابي التي تعلوه
عفا الله عنا وعنكم يا إخواننا المصريين! كلانا مقصر نحو أخيه ولكن ما عذركم أنتم - وقد أتيح لكم أكثر من ذي قبل - أن تقولوا وتعملوا عملاً صالحاً، وأن تمدوا يد الإسعاف لهذا الشرق العاني فتوقظوه من غفوته؟ إن اليد الضعيفة مع أختها يد قوية، وهي مع أخواتها الضعيفات أشد وأقوى. قد والله نعقل كثيراً ولكننا لا نعمل إلا ونحن جهلاء. . . عفا الله عنا. . . في تاريخ الحياة العلمية بالمغرب الأقصى ما يجعل المغاربة دائماً يفخرون بأمجاد الأجداد، ويعتزون بما خلفه ملوك العرب وأمراء الإسلام من المآثر الحميدة بهذه البلاد العربية الإسلامية. وفي الحق أن الدول التي تعاقبت على المغرب لا يخلو تاريخها من حسنات شتى في مصالح البلاد العامة. وكم تجد لهم في خصوص النواحي العلمية من اهتمام خاص بالعلم والعلماء والأدب والأدباء؛ ولكن الذي يؤسف له حقاً أن الكتب التاريخية لا تزال حتى الآن موضوعة على الرفوف أو مدفونة في الخزائن تلعب بها الأيدي الجاهلة إذ تتركها غذاء للأرضة، وملعباً للخنافس والعناكب
وليس يهمنا الآن أن نلم بجميع ما لتلك الدول من المفاخر الخاصة بنشر التعليم وتشجيع طلابه، فهذا ما يملأ كتباً عدة، وحسبنا من ذلك أن نأتي بوصف أحد تلك المظاهر (الممتازة) فهذه وحدها دليل ساطع على الشعور الكامن من قديم في نفوس ملوكنا نحو بعث(310/26)
التعليم ونهضة الحياة العلمية. ويلاحظ على الخصوص في هذه الظاهرة مبلغ تعمق ملوكنا في فهم نفسية رعاياهم، وكيف ينفذون إلى قلوبهم فيملكون إحساسها بعبقريتهم الفذة. . .
في ربيع كل عام من بدء ثلاثة قرون مضت يقيم طلاب العلم بفاس ومراكش (سلطنة) رسمية لها أبهة السلطان وجلال العلم، تدوم سبعة أيام؛ ثم في اليوم الثامن تتقوض وتنهار ويعود سلطان الطلبة بعد سلطنة أسبوع طالباً عادياً كما كان قبل أسبوع فقط!
هذه أدوار فكاهية طريفة تقوم بها الحكومة المغربية رسمياً في أواخر فصل الربيع من كل سنة، وهي عادة يلذ للسائح الأجنبي أن يشاهدها ويسجل شتى مظاهرها، وقد تسلسل العمل بها منذ القرن الحادي عشر دون أن يحدث ما يمنع سيرها المعتاد
والحديث عن هذه السلطنة تجره إلى أفواه الطلبة طلائع أيام نيسان التي تتفتح فيها الطبيعة عن أكمامها، وتبتسم الأغصان عن أزهارها، وتحلو الحياة لأبنائها
فإذا هجم نيسان نشوان طروباً يجر أثوابه الخضراء اليانعة، هب طلبة القرويين بفاس وطلبة الكلية اليوسفية بمراكش. يطلبون من جلالة الملك الإذن لهم في إقامة سلطنتهم السنوية. وعند الترخيص لهم بذلك يجتمعون على انفراد بإحدى مدارسهم التي يسكنونها، ثم يقوم (مقدم) المدرسة منادياً ببيع (سلطنة الطلبة) بالمزاد العلني، ولكل طالب الحق في أن يبتاعها لنفسه مادام يستطيع أن يزيد في ثمنها على غيره، فإذا انتهت فيها الرغائب ووقف ثمنها على طالب ما، سجل العدليان الشرعيان اللذان يحضران هذا المزاد هذا البيع على الطالب المشتري، ثم ينفض جمع الطلاب معلنين سلطانهم. أما ثمن هذه (السلطنة) فيتراوح غالباً بين 10000 و 5000 فرنك. ويلاحظ أن شراءها خاص بالطلبة الغرباء عن البلد محظور على غيرهم. ولعل هذا الامتياز قصد إليه لترغيب أهالي البادية والحواضر النائية في ورود منهل العلم من كليتي القرويين وابن يوسف، وتشجيعهم عليه بإدخال أسباب الغبطة والانشراح إلى صدورهم
أما مهمة هذه (السلطنة) فهي قيام (سلطان الطلبة) على رأس رعاياه في موكب رسمي حافل، بنزهة على شط وادي الجواهر بضواحي فاس وهذا الموكب في هيئته المؤلف منها صورة مصغرة لموكب صاحب الجلالة ملك المغرب مولاي محمد الخامس أيده الله
ويقوم (سلطان الطلبة) على أثر تعيينه بتأليف هيئة حكومته من نخبة أصدقائه الطلاب(310/27)
ومن بينهم وزير للمالية ومحتسب بارع في الهزل والنكات الفكاهية
وفي أول جمعة تلي ذلك ترسل الحكومة المغربية لسلطان الطلبة كسوة فاخرة وتقوم بتنظيم موكبه الرسمي. وعند الساعة الحادية عشرة يتحرك هذا الموكب من المدرسة التي يتفق أن سلطان الطلبة ساكن بها، فيركب هو جواداً مطهماً وترفع المظلة الملكية (الشمسية) فوق رأسه ومن حوله الحراب تحملها الشرطة، وتتقدمه موسيقى عسكرية ثم قواد (المشوَر) فرساناً حاملين السيوف، وتتلوه حاشيته وجمهور غفير من رعاياه الطلبة مشاةً على الأرجل، ثم أصحاب الطبول والمزامير، ويحيط بالجميع من اليمين إلى الشمال سلسلتان من الشرطة والعسس ومقدمي الحارات ويخترق الموكب الأزقة والشوارع سائراً بين أمواج صاخبة من الأهالي إلى أن يصل إلى جامع الأندلس فيؤدي السلطان به صلاة الجمعة. ثم يتابع الموكب سيره لزيارة ضريح السلطان الأعظم مؤسس عرش الدولة العلوية الشريفة المولى الرشيد سنة (1040 - 1083 هـ) بداخل قبة الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم بمقبرة الغرباء خارج باب الفتوح، وهذا السلطان هو الذي سن للطلبة هذه (السلطنة) وحباهم بعطفه الكبير فهم يزورون ضريحه أولاً قياماً بواجب شكره وتذكاراً لعهده اللامع. وعند المساء بعد صلاة العصر يعود موكب (سلطان الطلبة) من حيث أتى بينما الوجوه تطفح بشراً، والنساء يملأن السطوح بزغاريدهن المازحة العابثة
وفي عشية اليوم التالي يخرج (سلطان الطلبة) في موكبه الرسمي كهيئته الأولى قاصداً إحدى ضواحي المدينة حيث ضربت خيام (دولة الطلبة) بسهول خضراء على ضفاف وادي الجواهر يتوسطها سرادق كبير لسلطان الطلبة وحاشيته. وتقدر هذه الخيام بنحو المائة غالباً خمسون منها للحكومة، وهذه خاصة بالطلبة تضم كل منها جماعة من بينهم، وباقي الخيام للأهالي الذين يلذ لهم أن يقضوا نزهتهم الربيعية بجوار (دولة الطلبة) التي تعيش أسبوعاً واحداً، وقد يرخص لها بزيادة أسبوع آخر.
وتقوم واردات الميزانية العامة لهذه (الدولة) المحدودة بالزمان والمكان من:
1 - ثمن (السلطنة) الذي يدفعه (سلطان الطلبة) على أن تتعهد له الحكومة في مقابل ذلك بإجابة طلب يتقدم به إليها كإطلاق سراح مسجون له، أو جعله موظفاً في بعض الإدرات ونحو هذا.(310/28)
2 - الهدايا التي يقدمها جلالة الملك إلى الطلبة باسم سلطانهم، وتتكون هذه عادة من الأكباش وأكياس الحنطة وأكياس من السكر وغيرها، ومن المال أيضاً.
3 - الهدايا التي يتقدم بها الأهلون إليهم عن طيب نفس.
4 - الضرائب التي يجبيها (سلطان الطلبة) من وجوه البلاد وتجارها بواسطة (ظهائر) موقعة بإمضائه والتي يؤديها هؤلاء بكل سرور.
5 - (الذعائر) التي تجمع بواسطة (محتسب) سلطنتهم الماجن الذي يرتدي حلة في شكل مضحك، ويجعل في عنقه سبحة من التين يلتهم منها الواحدة بعد الأخرى من حين إلى آخر، ثم يتجول في شوارع المدينة راكباً بغلة، وواضعاً في حجره صندوقاً مغلقاً يظل يملؤه - من ثقب فيه - بالفرنكات والريالات (كذعيرة) يفرضها على التجار والبقالين بزعم أنه وجد في مبيعاتهم غشاً يعاقب على ارتكابه
وفي خلال أسبوع هذه (السلطنة) ينصرف الطلاب جميعاً للمرح واللهو بقلوبهم وعقولهم معاً، ويقبلون على حياة بعيدة عن حياة الجامعة فيها متعة النفس وصفاء الحديث وطرب القلب.
فإذا مضت ستة أيام وأقبل يوم الأربعاء، تهيأت (أمة الطلبة) حكومة وشعباً لاستقبال جلالة الملك أو خليفته - إن لم يكن هو في البلد - الذي يشرف مملكتهم الصغيرة في موكب عظيم ليقدم لهم هداياه الخاصة، وفي العشية ينتظر (سلطان الطلبة) مع هيئة حكومته سلطان المغرب المفدى؛ حتى إذا لاح موكبه عن قرب ترجل الأول عن فرسه. وتقدم إلى السلطان الأعظم مطأطئاً رأسه، فيقبل يده الكريمة، ويرفع إليه الكتاب المتضمن طلبه الخاص الذي يؤمل من جلالته الأمر بتنفيذه، ثم يرجع إلى الوراء فيركب فرسه، ويتقدم إلى أن يقف قريباً منه
وهنا تتمثل لنا الديمقراطية الحق في ملوكنا الذين ورثوها كابراً عن كابر. ففي هذه الساعة يتنازل (سلطان المملكة المغربية) فيتحدث إلى (سلطان الطلبة) بكل تواضع حديثاً تمليه العاطفة، وتوحيه الرغبة الصادقة في بعث النهضة العلمية. وفوق ذلك يتنازل لسماع حديث دعابة ومزاح ممتع من محتسب سلطان الطلبة الحاذق في الفكاهة والمجون. فإن هذا يتقدم من جلالة الملك ويخاطبه بصوت جهوري أمام ألوف من الناس بنحو قوله: كيف استطعت(310/29)
وأنت ملك كسائر الملوك العاديين أن تقف بجانب أكبر ملك في الدنيا تخضع لأوامره ملايين من القمل والذباب والضفادع والبراغيث وغيرها من الهوام والحشرات؟ فيرد عليه جلالة الملك بنكتة رقيقة تمثل سمو الهزل عند الملوك، ويسارع سلطان الطلبة فيعرب عن قبوله لجلالته ضيفاً في مملكته ويرحب به باسم أمته أكبر الترحيب. ثم يقوم المحتسب الماجن فيلقي أمام السلطانين ورعاياهما خطبتين ضاحكتين عابثتين في الإشادة (بالزردة) والتنويه بالأطعمة الفاخرة
وعند الفراغ من هذه المظاهرة الرائعة يستأذن جلالة الملك من سلطان الطلبة في الرجوع فيأذن له بعد أداء الاحترام الواجب ويعود جلالته في موكبه الفخم إلى قصره العامر
وفي الجمعة التالية يقوم سلطان الطلبة في موكبه بأداء صلاة الجمعة في جامع أبي الجنود، ثم يرجع لمقر دولته التي لا يبقى على انهيارها إلا يوم واحد. ففي مساء اليوم التالي يكون الطلبة على أهبة الرجوع لمدارسهم حيث تستأنف الدراسة بالكلية صباح يوم الأحد
ويدهشك بل يغريك بالضحك الذي لا تملك معه نفسك أن تجد الطلاب صباح يوم السبت يبحثون عن سلطانهم فلا يجدونه. لقد فرَ ليلة هذا اليوم مختفياً بين غضون ظلامها القاتم خوف أن يصبح على أبواب ثورة عامة من رعيته التي يلذ لها أن تنقض عليه يوم انتهاء سلطنته حتى لا يدخل إلى نفسه شيطانها فيوهمها أنه حقاً (سلطان الطلبة) وأن واجباً عليهم أن يخضعوا له ويقروا بسلطانه عليهم
هذه هي الرواية التمثيلية التي ألفها السلطان (مولاي الرشيد) لطلبة العلم وبعثهم على تمثيلها بأنفسهم كل سنة على مسرح الحياة لكي يعطيهم درساً عملياً في التدريب والتمرين على أن يكونوا رجالاً أكفاء مقتدرين لهم ما للناس في الحياة من حق
وفي ظني أنه لو كان معروفاً لدى حكومتنا الماضية نظام الكشافة الحديث، لما جعلوا غير الفرق الكشفية مع موسيقاها العذبة جنداً وحراساً لموكب (سلطان الطلبة) حرصاً على أن يكون المظهر طالبياً بحتاً، يمثل أمة في الطلبة بسلطانها وجندها وموسيقاها، وفي هذا وحده من الروعة والمظهر الجذاب ما يشوق الأبناء إلى التعلم ويبعث الآباء على تشجيعهم عليه بالبذل والسخاء. أما الآن، فالمستقبل كفيل بأن يكون هذا وأكثر من هذا. وعسى أن ينتبه الطلبة من الآن إلى هذه النقطة الدقيقة فيؤلفوا من بينهم فرقاً كشفية تقوم بهذه المهمة، فوق(310/30)
أنها تكون عضواً عاملاً في النهضة المغربية الحديثة.
هذه رواية ناطقة أتينا على وصفها معتمدين على ما شاهدناه، وسمعناه، لا على ما قرأناه. فإن تاريخ نشوء هذه (السلطنة) والأسباب التي دعت إليها ووصف مناظرها وظاهرها المتنوعة، كل هذا طواه الزمن في مهملات التاريخ. وما أكثر ما أهمله التاريخ وليت شعري ما الذي حدا بالمؤرخين المغاربة إلى عدم الاكتراث بهذه المنقبة الخالدة؟ أكبر الظن عندي أن هؤلاء اطمأنوا إلى بقائها وخلودها مشاهدة أكثر من اطمئنانهم إلى بقاء مؤلفاتهم التاريخية فاعتمدوا على ذلك ولم يكتبوا ومن يدري؟ فلعلهم كتبوا وأضعنا نحن فجهلنا، وأيَاً كان الأمر فإن اطمئنانهم إلى بقاء (سلطنة الطلبة) قد صدق وسيبقى صادقاً إلى الأبد. ولا أنكر فهناك في بعض الكتب لمحة برقية وعلى الأفواه أسطورة تاريخية وعندي أطروفة فكاهية، فإذا سنحت الفرصة فسأقص خرافتي وإلى اللقاء يا قرائي وقارئاتي في الشرق الحبيب
(فاس - المغرب)
إدريس الكتاني(310/31)
في بلاط الخلفاء
بين الشعبي وعبد الملك
للأستاذ علي الجندي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أقبل الخليفة على رجل جالس بين يديه يرتدي جبة خزّ قد ابيض شعر رأسه ولحيته، وتدلىّ من عنقه صليب ذهب، ورائحة الخمر تنفح من عارضيه! فقال له: ويحك! من أشعر الناس؟ فأجاب الرجل - وفي صوته رنة الزهو والمخيلة والثقة بالنفس - أنا يا أمير المؤمنين
ولم يكد الشعبي يسمع هذه الكلمة حتى تمعّر وجهه ودارت به الأرض، فذهل للمرة الثانية عن آداب السلوك في حضرة الملوك، فصاح بصوت يقطر غيظاً: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟
ما كان أغنى الشعبي عن هذا السؤال لو انه روّى في الأمر قليلاً! ترى من يكون هذا الجالس بين يدي الخليفة جلسة الصديق المدلّ بمكانته غير أمدح مداّح الإسلام، وأدب أدباء النصرانية، ولسان تغلب ابنه وائل ومدره ربيعة، والمنافح عن البيت الأموي وشاعر أمير المؤمنين أبو مالك الأخطل؟
لم يستطع عبد الملك أن يكتم استعجابه من عجلة الشعبي بالسؤال وجهله بشاعره الفذ وجرأته عليه! ولكنه تكلف الحلم ورمى الشعبي بنظرة نفذت إلى أعماقه قائلاً: يا شعبي، هذا شاعرنا الأخطل
وكان ما حدث كافياً أن يرد الشعبي إلى صوابه ويفثأ من غضبه على الأخطل، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فولّى وجهه شطره - زاوياً ما بين عينيه - وهتف: يا أخطل، أشعر منك الذي يقول:
هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُه ... مُقْتَبل الخير سريع التَّمام
للحارث الأكبر والحارث الأصغر والحارث خير الأنام
خمسةٌ آباؤُهم ما هم، هُمُو ... خير من يشرب صوْب الغمام(310/32)
وكأن عبد الملك أعجبته هذه الأبيات فسرى عنه وقال:
ردّدها عليّ. فرددها الشعبي عليه حتى حفظها
نال هذا التحدّي من الأخطل وشعر بالصغار والضعة، فمسح بيده على جبينه المنديّ وقال في غمغمة الضجر: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فمال عبد الملك على أحد جانبيه قائلاً: هذا الشعبي فقيه العراق. فزَم الأخطل بأنفه وأرسل نفساً عميقاً وقال: أمير المؤمنين - حفظه الله - إنما سألني عن أشعر أهل زمانه، ولو قد سألني عن أشعر أهل الجاهلية لكنت حريّاً أن أقول كما قلت
وهمّ الشعبي أن يتكلم فقاطعه عبد الملك بالسؤال عن حاله - وقد شغل بالحوار عن ذلك - فقال: إني بخير يا أمير المؤمنين
ومضى يتأنق في صوغ المعاذير عما كان من خلافه على الحجاج وخروجه مع أبن الأشعث
وكان عبد الملك نبيلاً حقاً فأبتدر قائلاً: مَه يا شعبي فإنا لا نحتاج إلى هذا المنطق، ولست تراه منا في قول ولا فعل حتى نفترق! وأراد أن يزيد في طمأنينته فغير وجهة الحديث قائلاً: ما تقول في النابغة؟ فقال الشعبي: إن عمر بن الخطاب قد حكم له بالسبق في غير موطن على الشعراء. وذلك أنه خرج يوماً - وببابه وفد غطفان - فقال: يا معشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:
حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:
فأنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:
إلى ابنُ مَحرِّق أعملت رحلي ... وراحلتي وقد هَدِت العيون
أتيتك عارياً، خَلَقٌ ثيابي ... على خوف تّظَنُّ بيَ الظنون
فألفيت الأمانةَ لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
قالوا: النابغة قال هذا أشعر شعرائكم
ثم أقبل عبد الملك على الأخطل فقال: أتحب أن لك قياضاً بشعرك شعر أحد من العرب، أو(310/33)
تحب أنك قلته؟ قال: لا، والله، إلا أني قد وردت أني قد قلت أبياتاً قالها رجل منا، كان والله مغدف القناع، قليل السَماع، قصير الذراع! قال عبد الملك: وماذا قاله؟ فأنشده الأخطل القصيدة:
إنا محيوك فاسلم أيها الطَّلَل ... وإن بَلِيت وإن طالت بك الطيل
حتى وصل إلى قوله:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقبل أن يسمع الشعبي رأي عبد الملك في الشعر، هتف بألأخطل في لهجة المتهكم الساخر: تالله لقد قال القطامي أحسن من هذا! فأدنى عبد الملك تفاحة إلى أنفه فشمها، ثم قال: وماذا قال القطامي؟ فأنشده الشعبي:
طرقت جَنُوبُ رحالَنا من مطرَق ... ما كنت أحسبه قريب المعنَق
ومر في القصيدة إلى قوله:
وإذا يصيبك - والحوادث جّمة - ... حَدثٌ، حداك إلى أخيك الأوثق
ليت الهموم عن الفؤاد تفرقت ... وَحلى التكلم للسان المطلق
فترنح عبد الملك طرباً إلى الشعر وإعجاباً به! وصاح: ثكلت القطامي أمه! هذا - والله - الشعر!
ونظر عبد الملك إلى الأخطل، فإذا هو كالمغشي عليه من الموت فأخذته الحمية لشاعره، وداخلته الشفقة عليه، فقال ينعش نفسه ويشد منها: ما أشعرك يا أخطل حين تقول في وصف الخمر
وتظل تنصفنا بها قرويةٌ ... إبريقُها برقاعه ملثومُ
فإذا تعاورت الأكفُّ زجاجها ... نفحتْ فشمَّ رياحَها المزكوم
لم يخف على الأخطل ما أراده الخليفة، فألقى على وجهه نظرة ملؤها الغبطة والرضاء! ثم عطف على الشعبي - والزهو يعبث بعطفيه - فقال: أسمعت بمثل هذا يا فقيه العراق؟!
فتربع الشعبي في مجلسه، وتنحنح، وأمرّ يده على لحيته إمراراً خفيفاً، ثم صاح في وجه الأخطل: بعض عجبك! فأشعر منك والله الذي يقول:
وأدكنَ عاتقٍ حَجْل رِبَحْل ... صَبَحْت براحه شرباً كراما(310/34)
من اللائى حُمِلن على المطايا ... كريح المسك تستلّ الزكاما
فقال الأخطل: ويحك! ومن يقول هذا؟ قال الشعبي: يقوله شيخك أعشى قيس. فصاح الأخطل كمن أصابه مس: قدوس قدوس!!
ولم يسع عبد الملك إلا أن يحكم للاعشى على الأخطل: إذ هناك بون بعيد بين خمر يشمها المزكوم، وخمر تستلّ منه الزكام! وهنا يشعر الأخطل بالخطر المحدق به ويرى أن ريحه قد لاقت إعصاراً! وأنه رمى من هذا العراقي الدخيل بالداهية النكراء! لقد استطاع أن يسدد إليه سهاماً قاتلة في جلسة واحدة! فما الظن به إذا تطاولت المدة وتراخت الأيام؟! إنه لا محالة سيغلبه على مكانته من الخليفة، وسيسحب عليه ذيل الخمول! فتنبهت في نفسه غريزة المقاومة التي أرهقها طول النضال بينه وبين جرير وغيره في ميدان المهاترة! فورم أنفه وانتفخت أوداجه، وانتفشث لحيته، ودارت عيناه في رأسه كأنهما جذوتان ساعرتان! وفغر فاه يدير فيه لساناً كأنه لسان ثور! واتجه إلى الشعبي هاتفاً بصوت فيه مشابه من هدير البعير المغتلم: اسمع يا شعبي، إن لك فنوناً في الحديث وشجوناً في المحاضرة، وإن لنا طريقاً واحداً لا نحسن غيره، ولست أخالك غير ثانٍ من عنانك حتى تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضاً!!
فعلت هذه الكلمات الناريّة أفاعيلها في الشعبي! فمثله لا ينكر صولة هذا التغلبي الذي لم يتورّع عن هجاء الأنصار! ويعرف أن أبياتاً من هجائه الممضّ الخبيث قد ترمى بقومه من حالق وتجلّلهم عار الأبد! فيكون أشأم همداني على همدان!
ولم يكد يتمثّل الشعبي سوء هذه المغّبة حتى ذابت حماسته فقبع في مكانه كالقنفذ الخشب! وساورته الرعدة من قمة رأسه إلى أخمص قدميّه! فالتفت إلى الأخطل ضارعاً يقول: أقلني هذه المرة يا أبا مالك! ولك عليّ عهد الله وميثاقه ألا أعود لمثلها أبداً!
وأحس الأخطل نشوة الظفر! فقال (ماطَاً صوتَه): ومن يضمن لي ذلك أيها الشيخ؟ فرفع الشعبي إلى عبد الملك عينين منكسرتين متوسلتين قائلاً: أمير المؤمنين
فضحك عبد الملك حتى بدت له سِنّ سوداء كان يسترها! وقال: أنا ضامن يا أخطل ألا يعرض لك بشيء بعد هذا!
فقال الأخطل: وأنا قد صفحت عنه يا أمير المؤمنين!(310/35)
وأراد عبد الملك أن يصل ما أنقطع من الحديث فقال: يا شعبي أي شعراء الجاهلية أشعر من النساء؟ فقال الشعبي: الخنساء. قال: ولم فضلتها على غيرها؟ قال: لقولها في أخيها صخر:
وقائلةٍ (والنعشُ قد فات خطوَها ... لتدركه): يا لهف نفسي على صخرِ
ألا ثكلت أمُّ الذين غدوْا به ... إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر؟!
فقال عبد الملك: أشعر منها - والله - ليلى الأخيلية حيث تقول في توبة:
مهفهف الكَشْح والسربال مُنْخرق ... عنه القميصُ لسير الليل مُحتقِر
لا يأمن الناس مُمْساه ومُصْبحه ... في كل حيّ (وإن لم يَغْزُ) يُنتظر
كان لكلام عبد الملك أثر عميق في نفس الشعبي، فانخزل انخزالاً شديداً وكسف باله! لقد انتصر على شاعر الخليفة ولكن الخليفة لم يعتّم أن أخذ له بالثأر المنيم! وقرأ عبد الملك في وجه الشعبي ما يعتلج في صدره من ألم برح! فقال: يا شعبي لعله قد شق عليك ما سمعت! فقال: إي والله أشدّ المشقة! إنني لم أفدك إلا أبيات النابغة (هذا غلام حسن وجهه. . .) وقد أفدتني أفضل منها
فقال عبد الملك: يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق منهم!
ثم جعل عبد الملك يردد على الشعبي أبيات ليلى حتى حفظها، فألقى المخصرة من يده - وهي إمارة الإذن بالانصراف - فنهض الشعبي مودعاً
وخطر لعبد الملك أن ينتفع (بدبلوماسية) الشعبي، فأوفده إلى ملك الروم. قال الشعبي: فلما دخلت عليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة فأمسكني عنده أياماً. فحين أردت الانصراف قال لي: أمن بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكنني رجل من العرب. . . فدفع إلي رقعة خاصة وقال: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فسلمها إليه. فلما رجعت إلى عبد الملك، دفعت إليه الرسائل ونسيت الرقعة، ثم تذكرت بعد خروجي من الباب فكررت راجعاً ودفعتها إليه. فقال لي: هل قال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، سألني: أمن بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكنني من العرب. ثم خرجت فما وصلت(310/36)
الباب حتى ردني إليه فقال: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا. فنبذها إليّ وقال: اقرأها. فقرأتها؛ فإذا فيها: عجبت لقوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره؟! فاحتدمت غيظاً، وصحت مرتجفاً: يا أمير المؤمنين، والله لو علمت ما فيها ما حملتها! وإنما قال هذا، لأنه لم ير أمير المؤمنين! فضحك عبد الملك وقال: أتدري لم كتبها؟ قلت: لا. قال: حسدني عليك فأراد أن يغريني بقتلك! ولكن خاب فأله! فاذهب لا بأس عليك!
وقد نبل الشعبي في عبد الملك وجلت مكانته، فبالغ في إكرامه وتقريبه منه، حتى كان أول من يدخل إليه وآخر من يفارقه! وصفوة القول: أن الشعبي في دولة عبد الملك هو الأصمعي في دولة الرشيد.
علي الجندي(310/37)
رأي في الرجال
للكاتبة الإنجليزية أرسولا بلوم
بقلم الآنسة الفاضلة (الزهرة)
إني أميل إلى الرجال وأختصهم بمودتي، فوق ما أختصّ السيدات، لأني - بعد استثناء حالات فردية قليلة - أجد أنهم يمتازون عنهن بالحصافة وبعد مراد الفكر وصدق المنزعة. كما أنهم أرحب منهن صدوراً، وأبسط خليقة، وأسجح عطفاً، وأسرعها فيئة، وأقدر على رد عرام المنصب، واحتمال الإساءة.
وفي إمكانك أن تتشاجر مع رجل وتصارحه بما تراه فيه حقاً وتلمصه وتعوّج فمك عليه، وبعد مضي عشر دقائق تعودان إلى مألوفكما من المصافاة والموالاة. ولكنك لا تستطيع شيئاً من ذلك مع سيدة، لأنها تذكر على الدوام الملام الذي كافحتها به مرة، وقد يندمل جرحها منه ويلتئم في الظاهر، إلا أنه يلتحم على نغل ويلثرق على غبرة، ولأقل لمسة يزرف ويمجّ دما. ً
والرجل يقول ما يقصد ويتمسك به. أما المرأة فلا تعرف على الدوام ما تقصد، ولذلك لا تستطيع التزامه، أو التمسك به. فقد تقول الأم لطفلها الملحاح: (لا يا حبيبي يجب ألاّ تعتلي غارب تلك الأرجوحة المعلقة فيما بعد). ولكنها لا تجد مفراً من الانصياع له، والنزول على رغبته تحت ضغط تماديه في اللجاجة. فترافقه إلى الأرجوحة مرة أخرى. أما الأب فيقول: (أسمع! دعنا من هذه الأرجوحة وتعال بنا نعود إلى البيت)
وإنك لتعرف المسلك النهج الذي ترده، والمشرع الواضح الذي تقصده مع الرجل، ولكنك لا تعرف متوجهك مع المرأة، لأنها هي نفسها، لا تعرف لها متجهاً ظاهر المنار. وإنك لتجد في الرجل رفيقاً صالحاً، وصفياً ودوداً، وخديناً مخالصاً. . . وإذا كنت في حاجة إلى مناصحته، فإنك تلقى فيه مشيراً صادق الضمير، يتحرى لك وجوه النصح، وينصّب لك ما يهديك إلى عواقب أمرك، ويبصرك مواقع رشدك، ولا يشير عليك بما تعتقد أنه رأي الصواب الذي طوعته لك نفسك، وحدثتك بالإقدام على فعله. أما المرأة فتدلس عليك الرأي مجاراة لك، وإشباعاً لرغبتك في إنفاذه، وإغراء لعزيمتك باتباعه، ولا يخطر لها أن تشير عليك بما تعتقد أنه أحمد لك في العقبى، وألزم للحوط من أمورك. وقد ارتدي قبعة جديدة،(310/38)
وأتطلّب رأي إحدى صويحباتي فتكره أن تزهدني فيها، وتميلني عنها، بعد أن شريتها. فتقول: (إنك تبدين فيها يا عزيزتي مدهشة فتانة!). وأسأل الرجل فيقول: (ما هذه القبعة؟ أهي صندوق فحم مقلوب. . .!) ومن الغريب أنه لا يريد أن يحدج بسوء حين يجهر بهذا القول. وإني لشديدة الإعجاب بصدقه وإخلاصه في صراحته. لأني أعتقد يقيناً أنه بفطرته محمود الملابسة، شهي المجاملة، لا يعرف كيف يدامل أو يدامج!
وليس من شأن الرجل أن يغتاظ بمثل السهولة التي تنال من المرأة، وتثير لحتدامها، فقد تستاء وتتكدر بل تستشيط غضباً إذا اعتقدت أن إحدى صويحباتها قد قلدت رسم ثوبها الجديد وسبقتها إلى الظهور به، أو أنها قد استمالت خادمتها القديمة النافعة، أو أنها قد أخبرت صاحبتها فلانة أنك تتهم سلامة ذوقها في الأزهار التي يطالعك بها فناء حديقتها! أما الرجل فلا يحفل شيئاً من هذا، ولا يزعجه تنديدك بنظام مغروساته وأزهاره، ما دام هو يحبها ويتعهدها بما يلزمها من السقيا والري.
بيد أني أعتقد أن السيد (آدم) مزهوّ بذاته، وأعرف أنني إذا كنت أبغي النجح لمطلب أقصده، فليس عليّ إلا أن أثني على مهارته ثناء جماً، وأمتدح اجتهاده وشهامته، وأتغنى بمواهبه وحكمته. . . وأعرف أن معدته هي نقطة الضعف فيه. . . وأنه قل أن يوجد في الرجال مَن لا يستخفه طبق شهي مصنوع من (مايونيز الخبياري، وجراد البحر (الجمبري). . .)
وإنك لا تجد للرجل ضريباً في صدق صداقته، وهذا سبب من أعظم الأسباب التي تحفزني على أن أمحص الرجل صافي ولائي
وأعتقد كذلك أن الرجال في غضون عشر السنوات الأخيرة قد كيفوا ذواتهم تكييفاً معجباً، وفاق ما استلزمته التغييرات والتطورات الحديثة. فقد مضوا إلى ميادين القتال، وقارعوا في سبيلنا، وجاهدوا جهاد الأبطال للذود عن أوطاننا، ولاقوا الأهوال، وأفنوا زهرة العمر في الخنادق الضيقة الملوثة بالجراثيم والأوبئة، وواجهوا الموت في المغاور والمخابئ الصماء. ثم عادوا وماذا وجدوا؟ وجدوا عالماً غريباً أفرغ في قالب لا عهد لهم به من قبل. بل وجدوا عالماً جديداً، احتلت فيه المرأة مقام السؤدد
ووجدوا أننا قد سلبناهم أعمالهم ووظائفهم، إذا أطلقنا عقال التقاليد، وعدنا غير ذلك الجنس(310/39)
اللطيف الضعيف؛ وأصبحنا الجنس القوي، الآخذ عليهم المهلة والأنف. ولو أن الأمر كان على العكس، فكانت المرأة هي التي عادت من الحرب، ووجدت كل هذا التطور، لما تأخرت لحظة عن اغتصاب السلطة من الرجل، ومحاربته ومناجزته، بذلك الأسلوب الجبار القاسي العنيف الذي تتوخاه في جميع منافحاتها ومقارعاتها. . .
ولكن الرجل لم يفعل أي شيء من ذلك. بل جلس ساكناً وأخذ ينظر ويراقب سير الأمور. ولعله عرف أننا سنملّ هذا التغيير الجديد على توالي الوقت؛ ولعله كان حكيماً في ألمه وعنائه، وما قاساه من خشونة العيش وضيقه في تلك الخنادق الوبيلة الضيقة فأبى أن يناوش ويداحل، واعتقد أنه وقف موقفاً نبيلاً تجاه جميع تلك التصرفات.
وإني لأجزم بأن الرجال مدهشون بوجه الإجمال: فهم أصدقاء خلصاء، ومحبون كرماء، ومنافسون شرفاء، وهم السواعد اليمنى القوية التي تتمنى أن تتكئ عليها في أحايين، أوفر السيدات استحواذاً على الحرية، وأوفاهن استمتاعاً بنيل حقوق الأمة. وإنني لأوثر الجنس النشيط الخشن على الجنس اللطيف في جميع هذه الأحوال، لأننا لا نستطيع أن نكون من نظرائه وعدلائه في نبل شعوره ومناقبه العالية وصفاته النادرة التي تتجلى في ميادين المباريات والمنافسات. ولقد كشف لي ابني الحدث هذه الحقيقة الرائعة إذ كنت أتلهى معه بالمصارعة، وكان له الغلب عليّ في جميع الحلقات، من بدائيها إلى نهائيها؛ وإذ كنت سجينة بين ذراعيه لم أفتر عن منازلته. وإني لآسف أن أقول: إن غريزة نسوية وحشية قد طغت على إحساسي بقواعد الشرف المتفق عليها في المباريات والمصارعات، وجعلتني أنقضّ عليه في تلك اللحظة خلسةً، وأعضه في محاذرة وتيقظ. . . فزاح ذراعه وتفرّس في وجهي مؤنباً وقال: (أواه منك يا امرأة!). وإن خير ما أعتقده في صفات الرجل ومميزاته هو هذا الذي بدر من ابني. . . والذي يحملني على المجاهرة في غير منّ ولا تصدق بأن الرجل يجعل النزاهة رائدة على الدوام في النزال والمصاولة. . .
(الزهرة)(310/40)
من مذكرات بلنت
صفحات مجهولة من حياة الإمام محمد عبده
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
10 أغسطس سنة 1903
كان الشيخ عبده قد نقل كتاب الفيلسوف هربرت سبنسر عن (التربية) من الفرنسية إلى العربية بلغة جزلة صحيحة ورأى بهذه المناسبة أن أقدمه إلى مؤلف الكتاب
فذهبت مع الشيخ عبده اليوم إلى بريتون لنزور سبنسر، في ذلك الشأن وأنبأته بأمر هذه الزيارة، فأرسل عربته وسكرتيره مستر تروتون ليقابلنا في محطة بريتون. ولما وصلنا إلى المنزل ألفينا الفيلسوف الشيخ طريح الفراش من شهر إبريل الماضي. ولم يكن المرض الذي انتابه قد اثر في عقله بتاتاً، بل ظل ذهنه صافياً وصوته قوياً ولكن يده كانت ناحلة نحول يد الهيكل العظمي. وقد استقبلنا وقتاً قصيراً قبل الغداء، ثم عاد فأستقبلنا في الساعة الثالثة، وحاول في بادئ الأمر أن يتكلم الفرنسية فتكلم ببطء وصعوبة. ثم عاد إلى الإنجليزية، ورحت بدوري أترجم للشيخ عبده
نعى سبنسر على السياسة الحديثة اختفاء (الحق) منها، وتكلم عن حرب الترنسفال فنعتها بأنها وصمة في جبين الإنسانية وقال: لا شك أننا مقبلون على عصر (قوة) عصر تثار فيه الحروب من أجل السيطرة وتباح فيها جميع ضروب الوحشية
وتناول في جلسة الساعة الثالثة ظهراً حديث الفلسفة، وسأل المفتي عما إذا كان الفكر يتطور حقا في الشرق إلى ناحية الغرب. فقال الشيخ عبده: الواقع أن الشرق يأخذ عن الغرب أسوأ ما فيه وإن كانا ما زالا مشتركين في خير الأفكار وأرقاها.
وهنا قال سبنسر: لنذهب تواً إلى صميم الموضوع. إنني أعتقد أن الفكرة عن القوة المحركة للوجود، هي ما تسميه (الله) وما نطلق عليه نحن (الرب) وهي متقاربة عندنا وعندكم. فأجاب المفتي بنظرية وجد سبنسر أنها جديدة طريفة. فقال الشيخ عبده: إننا نؤمن بأن الله (موجود) غير مشخص. فسر سبنسر من ذلك غير أنه لم يلبث أن أجاب: إن الفكرة صعبة الفهم، وزاد على ذلك: إنه من الواضح على كل حال أنكم من المتعمقين في التفكير(310/41)
تعمقنا نحن معاشر الأوربيين
ومع الأسف لم يكن في وسعنا أن نتمادى في هذه الأبحاث الطريفة فإن سبنسر لم يكن يسمح له بإطالة الحديث بالنسبة لمرضه. غير أني في أثناء عودتنا إلى المحطة سألت المفتي سؤالاً دقيقاً: أعتقد أن الله يعلم أنك موجود وأني موجود، أو لا تعتقد أن هذا العلم هو شخصيته؟
- إنه يعلم
- أو لا تعتقد أنه يعلم بالطيب والخبيث؟
- إنه يعلم وأنه يسر بالطيب ويستاء من الخبيث؟
- أجل
ومن سوء الحظ أن الوقت لم يتسع لنناقش سبنسر ونقف على رأيه في هذا الأمر وإن أمكن أن نلمح بريقاً خاطفاً من تفكيره في الموضوع
أما النساء اللواتي عرفتهن في صحبته، فما يزلن يلازمنه من سنوات أربع. وقد وقفت منهن على معلومات طريفة عن حياته الخاصة، وأكثرهن علاقة به امرأة صماء. وليس لديها صديق، ولم يزره أحد من شهر إبريل الماضي سوى ثلاثة أو أربعة أصدقاء، ولكن صحته بدأت تتحسن، وشرع يستعيد بعض نشاطه، وأمكنه أن يقضي الصيف قرب (تل ليف) وأن يخرج برفقتهن إلى نزهات خلوية، وكان يجد سروراً مضاعفاً من رؤية الزهور والطيور، وهو الآن يجالسهن ويلاعبهن الشطرنج والضامة.
وتعميماً للفائدة نثبت هنا ما كتبه الشيخ رشيد رضا في تاريخه عن الإمام محمد عبده ومقابلته للفيلسوف سبنسر ليمكن المقارنة بين ما سجله بلنت وبين ما دونه رشيد رضا:
(قلنا إنه في سفره الأخير إلى إنجلترا عام 1903 زار الفيلسوف سبنسر، وكان ذلك في 10 أغسطس. وكان الفيلسوف مصطافاً في برايتون من جنوب إنكلترا وقد نهاه الأطباء عن كثرة مقابلة الناس، وعن الحديث مع أحد أكثر من عشر دقائق لمرضه مع شيخوخته، ولكنه سر من حديث الأستاذ الإمام، ودعاه إلى الغداء معه، وأطال الحديث إليه في فلسفة الدين والأخلاق والأفكار والمادية وسياسة أوربا
وأنني أذكر ملخص ما حدثنا به أستاذنا من ذلك وأرمز إلى سبنسر بحرف (ف) المقتطعة(310/42)
من (فيلسوف) وإلى شيخنا بحرف (م) المقتطفة من كلمة (إمام):
ف - هل زرت إنكلترا قبل هذه المرة؟
م - نعم زرتها منذ عشرين سنة
ف - كيف وجدت الفرق بين إنجلترا اليوم وإنجلترا منذ عشرين سنة؟
م - إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص هو البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني وأقمت أياماً قلائل لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله. وقد الممت بها الآن منذ أيام فلم أدرس حالة الناس، وإنما يجب أن آخذ عنكم ذلك
ف - إن الإنجليز يرجعون القهقرى فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة
م - فيم هذه القهقرى وما سببها؟
ف - يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وبين تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوربا
م - الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء واجتهادهم أن ينصروا الحق والفضيلة على الأخلاق المادية
ف - إنه لا أمل لي في ذلك لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مداه وغاية حده في أوربا. إن الحق عند أهل أوربا هو الآن للقوة
م - هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها.
ف - محي الحق من عقول أهل أوربا بالمرة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم أو يكون سلطان العالم
ثم انتقلا إلى الكلام في الفلسفة الإلهية
ف - ما يقول علماء الإسلام في الخالق، هل هو داخل العالم أو خارجه؟
م - إن علماء الأثر يقولون إن الله تعالى فوق كل شيء بائن من العالم، والمتكلمين يقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، والصوفية القائلين بوحدة الوجود يقولون: إن كل(310/43)
شيء في العالم مظهر من مظاهر وجوده وذكر له ملخص مذهبهم.
نوفمبر 1903
انتهز الشيخ عبده فرصة قدومه إلى إنجلترا فزار جامعة اكسفورد واستقبل استقبالاً حافلاً من أساتذتها خصوصاً المستشرق براون الذي أقام له حفلة تكريم شهدها أساتذة الكلية. ولدى تفقد الشيخ عبده القسم الشرقي من مكتبة الجامعة عثر على مخطوطات عربية نادرة، أكثرها معروف بالاسم فقط لدي رجال الزهر؛ واهتم اهتماماً زائداً بمخطوط لأحد فلاسفة العرب (السباعي فيه رسائل إلى فردريك الكبير، وقد ذكر الشيخ عبده انه سوف يكلف إدارة الأوقاف بنسخ المخطوط
وتناول الشيخ عبده في حديثه معي زيارته لتونس والجزائر وشرح سوء حالتهما بالمقارنة بينهما وبين مصر، ووصف تلك المقارنة بأنها كالفرق بين الظلام والنور. ثم عرجنا في الحديث على موقف الخديو فقال الشيخ عبده: إن الخديو جشع يعمل كل شيء في سبيل جمع المال، وإنه يريد أن يستبدل ببعض ما يملك أطياناً وعقاراً كلها وقف. ثم إن الخديو ينم ظاهره عن صداقته، ولكنه يعمل في الباطن لإقصائه عن وظيفة الإفتاء
17 يناير سنة 1904
أفضى إلي المفتي بأنه كان في الإسكندرية وقابل الخديو، وهو كعادته معه، له مقابلة حسنة، ومقابلة سيئة. ظاهره ضحك وباطنه دسائس وانتقام. ويقول إن الخديو متضايق منه بسبب الفتاوى الثلاث التي أجاب بها أسئلة مسلمي الترنسفال وهي:
1 - هل للمسلم المقيم في بلاد أجنبية أن يأكل لحماً لم يذبح على الطريقة الإسلامية؟
2 - هل للمسلم المقيم في بلاد أوربية أن يلبس القبعة؟
3 - هل للشافعي أن يقف في صف واحد مع الحنفي في الصلاة؟
وقد أجاب المفتي بما يرضي ضميره. ولكن الخديو اعتبر ذلك كفراً. مع أنه هو نفسه يأكل ويلبس القبعة، ولا يقيم الصلاة في البلاد الأجنبية. على أن كرومر في جانب المفتي، وذلك ما يوجب الدهشة!
22 يناير سنة 1904(310/44)
تغدى المفتي معنا في الحديقة، تحت شجر الغاب الإفرنجي، وهو متألم لوفاة عالم من علماء الأزهر وخصوصاً أن الخديو مصمم على أن يحدث متاعب لخلفه. وعندما نتكلم على الخديو ينعته بقوله (رجلنا الصغير)!
ومن أحاديثه: أن الخديو منهمك الآن في الأعمال المالية، والتجارية، إلى حد أن كرومر خيره بين أن يظل خديوياً محترماً وبين أن يكون تاجراً محترفاً. وهذا حق، وخصوصاً أن بعض أفراد أسرة محمد علي يحبون المال حباً جماً.
13 إبريل 1905
في حديث اليوم مع الشيخ عبده تفضل وأخبرنا بقصة طريفة لا بأس من إيرادها: ففي أثناء نفيه إلى بيروت عام 1883 حدث أن كان قسيس مقيماً في إنجلترا اسمه اسحق تيلور يقوم بدعاية واسعة النطاق الغرض منها توحيد الإسلام والنصرانية على أساس فكرة التوحيد الموجودة في الإسلام والشائعة عند الكنيسة الإنجليكية. وكان هناك شخص إيراني من أتباعه اسمه ميرزا بكر يشايعه في فكرته. وقد تمكن من التأثير في الشيخ عبده، وفي طائفة من علماء دمشق، فكتبوا إلى القس تيلور في الموضوع. وما إن وصل الكتاب إلى القس حتى فرح به ونشره مستعيناً به على صحة دعواه، إلا أن السلطان عبد الحميد كلف سفيره في لندن أن يستقصي حقيقة الموضوع ويقف على أسماء موقعي الكتاب، فقابل القس وحصل منه على هذه الأسماء؛ وقد أحاق بهؤلاء العلماء فيما بعد عذاب أليم وقرر السلطان إبعادهم عن الديار السورية. . . ويقول الشيخ عبده إن السر في غضب السلطان أنه خشي أن يعتنق الإنجليز الإسلام، ثم يطلبوا أن يكونوا أصحاب الدولة في الإسلام وتكون الملكة فيكتوريا ملكة المسلمين. . . ويذهب السلطان من السلطان. . . وسبحان مدبر العقول
19 فبراير 1905
عاد الشيخ عبده من السودان وأطلعني على تفاصيل زيارته وأنه مغتبط بما رآه وشاهده، فالحكومة هناك أحسن إدارة منها في مصر، والأهالي قانعون حتى عن مسألة النخاسة، والدراسة في كلية غردون على أساس معقول موافق
وعنده أن قانون العقوبات السوداني أسهل وأحسن من القانون المصري، وأن السردار يحكم(310/45)
بالعدل ويسود بالحكمة واللين، وأن هناك شعوراً حسناً متبادلاً بين الإنجليز والسودانيين
17 مارس 1905
ودعت الشيخ عبده هذا الصباح. ويلوح لي أن هذا السفر إلى الأبد فلا عودة منه. على أن المكان - عين شمس - حبيب إلى نفسي لشمسه المتألقة وسمائه الصافية وما يكتنفه من خضرة وطير. فيا إلهي! من ذا الذي يرعى ذلك كله إذا ما ذهبت؟
وحضر الشيخ عبده إلى المحطة يودعني ويقيناً نتحدث طول الوقت إلى آخر لحظة تحرك فيها القطار. وكان وداعاً مؤثراً حزيناً لأن شعوري أوحى إليّ بأني سوف لا أراه بعد ذلك
8 يوليه 1905
إن الحادث الذي هز عواطفي هو حادث وفاة الشيخ عبده. فأن ذلك من أفدح النكبات التي صادفتها في حياتي كذلك موته خسارة جسيمة للعالم الإسلامي. وإنه يداخلني الريب في كيفية موته، فربما كان موتاً غير طبيعي، وإن له خصوماً سياسيين كثيرين
15 يوليه 1906
قدم مصطفى كامل باشا إلى لندن وجرت بيننا مقابلة طويلة استعرضنا فيها موقف الخديو والأحوال الدولية وسياسة الاحتلال البريطاني والغازي مختار. . . ثم انتقلنا إلى الحديث عن المرحوم الشيخ عبده فذكره مصطفى كامل بتحفظ وأخذ عليه تمسكه بمنصبه الرسمي على رغم تحقير الخديو له. وهو لو احتفظ بكرامته وترك المنصب لجعلناه إمامنا في الحرية والوطنية، ثم تنازل حادث وفاته وقال إنه كان بداء السرطان كما أخبره طبيبه قبل موت الشيخ بثلاثة شهور
محمد أمين حسونة(310/46)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ذكرنا أنه كان من نتائج تلك المذكرة المشؤومة اتحاد الوطنيين والعسكرين، ونذكر الآن أن عرابياً ما لبث يومها أن عاد في نظر الجميع الرجل الذي يجب أن يحرصوا على معونته، وتأهب عرابي ليأخذ دور الزعيم من جديد وقد كانت الزعامة تتزايل في نظر الناس عن شريف
ولقد أحس مالت بما كان للمذكرة من أثر في عودة عرابي إلى طليعة الصفوف فأوفد إليه في مكتبه بوزارة الحربية صديقه بلنت، وكان عرابي قد عين وكيلاً لهذه الوزارة كما بينا؛ وكان مالت يطمع في أن يكسب عرابياً إلى جانبه، أو على الأقل كان يتمنى أن يهدئ خاطره لعلمه بما يكون لمثل هذا العمل من عظيم الأثر في ذلك الموقف العصيب الذي سببته رعونة غمبتا وصاحبه
يقول بلنت: وقد ذهبت إلى ثكنة قصر النيل في ظهر يوم 9 وكانت المذكرة قد وصلت في يوم 8 فوجدت عر ابياّ وحدة في مكتبه، وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيته فيها غاضباً، وكان وجهة كسحابة الرعد، وكان في عينة بريق خاص؛ وكان قد رأى نص المذكرة وإن كان لم ينشر بعد، وقد سألته كيف فهمها فقال: أخبرني كيف تفهمها أنت؟ وحينئذ أديت رسالتي فقال: لاشك في أن السير إدوارد ماليت يحسبنا أطفالاً لا نفهم معنى الكلمات. هذه لغة تحد وتهديد وليس في هذه الإدارة كاتب يستخدم هذه الألفاظ لغير هذا المعنى. ثم أشار إلى الفقرة الأولى التي ذكر فيها الأعيان وقال: هذا تحد لحريتنا وليس لإعلان اتحاد فرنسا وإنجلترا معنى إلا أن إنجلترا ستغزو مصر كما غزت فرنسا تونس. . . ثم قال: دعهم يأتون فكل رجل وطفل في مصر سيقاتلهم. ليس من مبادئنا أن نضرب الضربة الأولى ولكنا سنعرف كيف نردها. ثم قال فيما يختص بالمحافظة على عرش(310/47)
توفيق: (إن السلطان هو الذي يحافظ على عرش توفيق فليس في حاجة إلى ضمان أجنبي. ولك أن تخبرني بما تشاء ولكني أعرف معنى الكلمات أحسن مما يعرف ماليت. . .
والوقع أن تفسير مالت كان هراء في هراء، وقد شعرت لما صرت أمام عرابي بعقلي، وخجلت من حملي إليه مثل هذا الهراء، ولكني أكدت له أني أديت الرسالة كما ألقاها إلى السير ادوارد ثم قلت: وهو يرجوك أن تصدقها وأنا كذلك).
هذا هو كلام بلنت، ومنه نتبين مبلغ غضب عرابي لهذه المذكرة كما نفهم جانباً مما كان يجيش في نفس هذا الزعيم الثائر، فهولن يجبن ولكنه لن يبدأ بالعدوان، وهو بعد ذلك يلمح نيات إنجلترا من هذه المذكرة كما يفعل السياسي البعيد النظر إذ يقرأ بين السطور كما يقولون. وما كان عرابي مبالغاً في تصوير نيات الإنجليز فلسوف نرى أن جرانفيل كان في ذلك الوقت قد وطد العزم على التدخل بالقوة!
عاد عرابي إلى الميدان. وفي الناس من تبلغ بهم الغفلة إلى حد أن يأخذوا عليه هذه العودة؛ وفيهم من يذهب بهم اتباع الهوى إلى أن يجعلوا ذلك من أكبر خطيئاته قائلين في مثل منطق البلهاء إن كان ثمة للبلهاء من منطق، إنه بعودته هذه قد ساق البلاد إلى ما سيقت إليه من دمار.
ومن المؤلم المثير حقاً أن يقول هؤلاء الناس هذا الكلام دون أن ينظروا في موقف الخديو وموقف الإنجليز على نحو ما بيننا، وهم لا يفهمون من المسألة كلها إلا ما شاع من أن عرابيا كان رجلاً ذا أطماع لا يدري ماذا يفعل؛ فكانت إذا هدأت البلاد لا يفتأ يعمل بنزقه على إثارتها ليصل إلى تحقيق أطماعه.
وأحسب الآن بعد الذي رأينا من موقف أعدائه أن هذا الكلام قد أصبح خليقاً بأن يخجل منه قائلوه. وإنا لنكاد نقطع منذ الآن أنهم - بعد أن نفرغ من سيرة هذا الرجل المظلوم على النحو الذي نسير عليه - لن يعودوا إلى مثل هذا الكلام أبداً، وسبيلنا في إقناعهم الحجة التي نستخلصها من الحوادث في عدالة يوجبها الحق، وفي عطف يتطلبه الإنصاف.
تعهد عرابي ألا يتدخل في شؤون الحكومة، فكان إذعانه لهذا الطلب أمراً لا بد منه. ولو أنه رفضه لكان في ذلك مخطئاً أشد الخطأ، ولكن عرابياً لم يتعهد أن يدع وطنه وشأنه لا تهزه بعد يوم عابدين نحوه عاطفة أو يحركه لنجدته ما عساه أن يلم بقضيته من الأحداث.(310/48)
ولم يكن ليستطيع عرابي أن يتعهد بمثل هذا التعهد ولن ليستطيع ذلك غير عرابي من الناس، ولو أنه فعل ذلك لأجرم في حق هذا الوطن جريمة ما كان ليغفرها له التاريخ. . وكيف يفعل ذلك عرابي أو أي رجل غيره ولا يكون بذلك مجرماً مفرطاً في جنب وطنه؟ وأي فرق بين مثل هذا التعهد وبين المروق والخيانة والجمود في أوضح صورها وأقبحها؟
ألا إنه الحق كل الحق أن يطلب إلى بني الوطن ألا يتدخلوا في أعمال الحكومة، ولكن على شرط ألا يكون من تلك الأعمال نفسها ما يحفز الناس إلى التدخل أو يوجبه عليهم. أما أن تفرط الحكومات في حق الوطن، وأما أن توضع العقبات في سبيل قضيته ثم يطلب إلى الناس بعد ذلك أن يدعوا الحكومة وشأنها فهذا هو الباطل بأجلى معانيه وأشدها فجوراً، ومن أطاع ذلك من الناس فقد أجرم في حق بلاده وضل ضلالاً بعيداً
لن يكون لقيام الحكومات من مبرر إلا العمل لخير المحكومين وصلاح أمرهم. على هذا الأساس ولدت الديمقراطية، وبهذا المبدأ اقترنت الحرية؛ ولكم نادى بذلك القادة ودعاة الإنسانية في الغرب منذ هدموا صروح الظلم وحطموا أغلال الماضي وفصموا سلاسل الرجعية. وما لنا نستشهد بالغرب وهذه الحكومة الإسلامية الأولى التي قامت في الصحراء قد جعلت تلك المبادئ أساس قيامها، فما أروع وأجمل أن يقول الخليفة الأولى للناس: (أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن حرفت فقوموني) وإن يقول لهم الخليفة الثاني: (من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه) فيرد عليه أعرابي من أوزاع الناس بقوله: (لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا) وما أملى على أبي بكر وعمر هذه المعاني السامية وما أمدهما بتلك السياسة العالية إلا ما ألهماه من روح تلك الشريعة السمحة، شريعة دينهما التي تقدم بهذا أحد براهينها على أنها شريعة الفطرة، فما كانت الحرية في شتى مظاهرها إلا بنت الفطرة. . . وأبلغ وأروع من قول أبي بكر وعمر قول الرسول الكريم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)
قبل عرابي أن يدع الحكومة وشأنها على أن تجري الأمور وفق ما وضعته الثورة من مبادئ، فكيف لعمر الحق كان يستطيع أن يحمل على السكوت نفسه وقد رأى من الدسائس الأثيمة التي تحاك حول تلك الحرية الوليدة ما أغضب أكثر الناس اعتدالاً وأقلهم علاقة(310/49)
بالسياسة وشؤونها؟
إذاً فالفرق كبير بين أن يتدخل عرابي في شؤون الحكومة وبين أن يغضب لما حل بقضية وطنه، وفي هذا الغضب دليل وطنيته ووطنية كل غاضب معه. ولقد كان من أصعب الأمور على هذا الرجل أن يدع هذه القضية وشأنها، بل لقد كان ذلك مستحيلاً عليه؛ وإني لأرجو من الذين خاصموا هذا الرجل في غير حق بعد أن أصبح في ذمة التاريخ أن يستمعوا إلى هذا الرأي الذي أسوقه عنه، ألا وهو أن الحرية كانت من طبعه لم يتكلفها يوماً ولم توجهه إليها الحوادث وهو يجهل كنهها كما يقول الذين أرادوا ألا يدعوا له محمدة إلا جعلوها بالباطل مذمة
كانت الحرية من طبع ذلك الجاويش الذي نقم على الجراكسة في الجيش استبدادهم فأكثر من الشغب عليهم. وكانت الحرية من طبع ذلك الضابط الذي اختاره زملاؤه ليحمل عريضتهم إلى رياض. وكانت الحرية هي التي دفعت هذا الرجل إلى أن
يقف ذلك الموقف الفذ عصر ذلك اليوم المشهود في ساحة عابدين، ولسوف تكون الحرية هي الحافز له إلى وثبات أخرى. . .
ولقد استوثق مستر بلنت من ذلك عند ما سعى إلى عرابي يطلب مودته قال: (وكانت غرفته الخارجية بل كان الشارع الموصل إلى المنزل يمتلئ كل يوم بجماعة الشاكين. وكان قد اتصل به نبأ عطفي على الحركة ورغبتي في مساعدة الفلاح فاستقبلني بأسمى مظاهر المودة لهذا السبب، وللصلة التي تربط أسرتي باللورد بيرون الذي كان عرابي وإن لم يعرف شيئاً من شعره يمجده لدفاعه عن حرية اليونانيين)
وكيف كان يمجد هذا الفلاح اللورد بيرون نصير الحرية إلا أن يكون هذا تجاوباً بين نفس حرة وأختها؟ ولقد كان بيرون يدافع عن اليونانيين لاعن المصريين، فلم يكن حب عرابي إياه إذاً مشوباً بعاطفة غير عاطفة حب الحرية أينما كانت وكيفما كانت جنسية الداعين إليها وكيفما كان دينهم
ولنعد إلى خطبته التي ألقاها في محطة مصر. لقد أفصح فيها وهو يرتجلها عن كثير مما تنطوي عليه نفسه. والخطيب في مثل ذلك الموقف الحماسي ينسي نفسه فلا يملك التكلف والتصنع لأنه ليس به حاجة إلى ذلك، بل لقد يكشف الخطيب عما يريد أن يغطيه إذا نسى(310/50)
نفسه في رهبة الموقف وحماسته دون أن يملك لذلك دفعاً. قال عرابي: (البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالجزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه) وقال: (وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة. . .)
وإنا لنرى في ذلك الكلام من الأدلة على أن عرابياً كان يتحرك بدافع من حبه للحرية ما لا تجدي معه مكابرة؛ وعلى ذلك نتساءل: ألم يأن للناس أن ينصفوا هذا الرجل وقد قضى عليه أعداؤه ثم قضوا بعد ذلك على تاريخه الحق؟
ألم يأن لأبناء هذا الوطن وقد فرغوا من قضية استقلاله وحريته أن ينظروا إلى هذا الرجل نظرتهم إلى زعيم جاهد في الوطن حق جهاده، وأن يكفوا عن تلك النظرة الظالمة التي تصوره رئيس عصابة من الأوزاع والهمج يسيرون على نهج ولا يبتغون من وراء سيرهم غاية؟
ألم يأن لأبناء هذا الوطن أن يفطنوا إلى أن الاحتلال هو الذي صور عرابياً هذه الصورة المنكرة ليبرر بذلك فعلته، وأنهم بمجاراتهم الاحتلال وصنائعه إلى يومنا هذا فيما ادعوا إنما يثبتون على أنفسهم الغفلة ويسيئون إلى رجل ما فكر يوماً في الإساءة إلى وطنه؟ رجل إن كثرت أخطاؤه فقد حسنت نياته، وإن فاته النجاح فقد عظم في سبيل النجاح بلاؤه. ولقد قل في المحنة نصراؤه وتعدد غداة الروع أعداؤه
لا جناح على عرابي أن يعود إلى ميدان النضال في سبيل المبادئ التي اعتنقها المصريون ووطدوا العزم على تحقيقها. ولو أنه وقف في جهاده عند وثبته الجريئة يوم عابدين لحق عليه ما نسبه إليه خصومه من النزق والسير على غير هدى، ولكن هؤلاء الخصوم يلومونه على عودته إلى العمل قائلين لقد أجيبت مطالب الجند على نحو ما كان يرجو عرابي نفسه، وهم في هذا ما يجهلون حقيقة الثورة العرابية وآمال الرجل الذي نسبت إليه تلك الثورة وأغراضه، وإنما يعلمون ذلك ولكنهم يمارون فيما يعلمون، ولكنهم في الحالين ملومون فلن يقبل منهم جهلهم ولن يقرهم أحد على مماراتهم ومكرهم
وسيعود عرابي إلى الجهاد فيقف في وجه الدولتين الطامعتين. وسيسير زعيم الثورة على رأس جيش من أبناء هذا الوادي ليذود عنه في بسالة جريئة وحفاظ مرّ وفق ما توجبه(310/51)
الوطنية والرجولة. وهذا في الحق هو كل ما يطلب منه في مثل تلك الظروف؛ أما الفوز فأمر قد يخرج عن تصريفه، وسبيله إليه محدود بحدود طبيعته ومقدرته. ولقد يتوافر للقائد من أسباب الفوز ما يكاد يعتقد أنه قبل وقوعه حقيقة لا سبيل إلى الريبة فيها، ثم ينظر فإذا تلك الحقيقة خيال أو دون الخيال. ولئن أخطأ قائد فلن تحمل أخطاؤه على معنى آخر، كما حملت أخطاء عرابي ظلماً وعدواناً على معاني الخيانة والمطامع الشخصية
(يتبع)
الخفيف(310/52)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
438 - بلع الأمانة فهي في حلقومه
قال أبو الحسن البغدادي الفكيك في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدّة:
بلغ الأمانة فهي في حُلقومه - لا ترتقي صُعداً ولا تتنزّلُ
439 - هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن
في الأغاني: المدائني: شهد رجل عند قاض بشهادة. فقيل له: من يعرفك؟ قال: ابن أبي عتيق. فبعث إليه يسأله عنه. فقال: عدل رضيً. فقيل له: أكنت تعرفه قبل اليوم؟ قال: لا. ولكني سمعته ينشد:
إن الذين غدوْا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال مَعينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن فشهدت له بالعدالة
440 - ما أعظم الله!
في (طبقات الشافعية) منع الشيخ أبو حيان أن يقال: ما أعظم الله، وما أحلم الله، ونحو ذلك. ونقل هذا عن أبي الحسن ابن عصفور احتجاجاً بأن معناه شيء عظمه أو حلمه، وجوزه الإمام الوالد (تقي الدين السبكي) محتجاً بقوله تعالى (أبصر به واسمع) والضمير في به عائد على الله، أي ما أبصره وأسمعه، فدل على جواز التعجب في ذلك. وفي شرح ألفية ابن معطي لمحمد بن الياس النحوي: سأل الزجاج المبرد فقال: كيف تقول ما أحلم الله وما أعظم الله؟ فقال: كما قلت. فقال الزجاج: وهل يكون شيء حلم الله أو عظّمه؟ فقال المبرد: إن هذا الكلام يقال عندما يظهر من اتصافه (تعالى) بالحلم والعظمة، وعند الشيء يصادف من فضله، والمتعجب هو الذاكر له بالحلم عند رؤيته إياها (أي الصفة) عيانا. وذكر الوالد أنه يعني بالشيء نفسه أي أنه عظم نفسه، أو أنه عظيم بنفسه لا شيء جعله عظيما.
441 - خير لعمرك منه خص عامر
الحسن بن علي الأسواني:(310/53)
فدع التمدح بالقديم فكم عفا ... في هذه الآكام قصرٌ دائرُ
إيوان كسرى اليوم عند خرابه ... خير (لعمرك) منه خصٌّ عامر
442 - تحاسد الأكفاء
قيل لبعضهم: ما الذي أذهب ملككم؟
قال: تحاسد الأكفاء، وانقطاع الأخبار!!
443 - هذه والله مكارم الأخلاق
في (الآداب الشرعية والمنح المرعية): كان بين سعيد بن العاص وقوم من أهل المدينة منازعة، فلما ولاه معاوية المدينة ترك المنازعة، وقال: لا أنتصر لنفسي وأنا وال عليهم.
قال ابن عقيل في (الفنون): هذه (والله) مكارم الأخلاق
444 - كأنها طبخت بنار شوقي إليك
في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي: نار الشوق مذكورة على الاستعارة، وكذلك نار الوجد، ونار اللوعة، ونار الغرام؛ وما أشبهها. وقد أكثر الناس فيها نظماً ونثراً. قال أحمد بن طاهر يهجو المبرّد:
ويومٍ كنار الشوق في قلب عاشق ... على أنه منها أحرُّ وأوقدُ
ظللت به عند المبرَّد قائظاً ... فما زلت في ألفاظه أتبردُ
وقال لي السيد أبو جعفر الموسوي يوماً وأنا معه على المائدة - وقد قدم لي لون في غاية الحرارة -: كأنها طبخت بنار شوقي إليك.
445 - بعثه داعياً لا جابياً. . .
في (الطبقات) لابن سعد: إن حيان بن شريح عامل عمر ابن عبد العزيز على مصر كتب إليه: إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام، وكسروا الجزية.
فكتب إليه عمر: (. . . أما بعد. فأن الله بعث محمداً داعياً، ولم يبعثه جابياً. فإذا أتاك كتابي هذا، فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية - فاطو كتابك، وأقبل.
446 - . . . فأعلم أنه طلل(310/54)
في (إعجاز القرآن) للباقلاني: سمعت الصاحب بن عباد يقول: أنشد بعض الشعراء - من أهل زنجان - هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل - وهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟
وكان وصف فيها الطلل، فقال هلال بديها:
إذا سمعت فتى يبكي على طلل ... من أهل زنجان فاعلم أنه طلل. . .
447 - شطحات. . .
في (ميزان الاعتدال): نقل عن أبي زيد البسطامي:
سجاني. . .
ما في الجبّة إلا الله. . .
ما النار؟ لأستندنَ إليها غداً. وأقول: اجعلني لأهلها فداء أو لأبلغنها. . .
ما الجنة؟ لعبة صبيان. . .
هب لي هؤلاء اليهود. ما هؤلاء حتى تعذبهم. . .
448 - يلام الصديق إذا ما احتفل
ابن القبطرنة:
دعاك خليلك واليوم طلْ ... وعارض وجه الثري قد بقل!
لقدرين فاحا وشَمَّامة ... وإبريق راحٍ ونعم المحلْ!
ولو شاء زاد ولكنه ... يلام الصديق إذا ما احتفل
449 - قتيلنا لا يودي وأسيرنا لا يفدى
في (العقد) قال مسلم بن عبد الله بن جندب: دخلت آنا وزبان السواق العقيق، فلقينا نسوة نازلات من العقيق، لهن جمال وشارة، وفيهن جارية خضابية العينين. فلما رآها زَبان قال لي: يا ابن الكرام، دمُ أبيك (واللهُ) في ثيابها، فلا تطلب أثراً بعد عين، وأنشد قول أبي مسلم بن جمدب:
ألا يا عبادَ الله، هذا أخوكمُ ... قتيلٌ، فهل منكم له اليوم ثائر
خذوا بدمي إن متّ كل مليحة ... مريضة جَفن العين والطرف ساحر(310/55)
قال مسلم: فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب؟ قلت: نعم.
قالت: فاغتنم نفسك، واحتسب أباك، فإن قتيلنا لا يودي، وأسيرنا لا يفدى.(310/56)
رسالة العلم
حول مقال
ما هي الحياة؟
للأستاذ عبد الله عشري الصديق
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة:
قرأت في العدد 300 من (الرسالة) الغراء مقالاً للأستاذ نصيف المنقبادي في موضوع (ما هي الحياة) قابل فيه الكاتب الفاضل بين أظهر خواص الكائنات الحيّة وما يماثلها في عالم الجماد، وخرج من تلك المقابلة (بأنه لا يوجد فرق جوهري بين هذين العالمين) والحقيقة التي لا تقبل الشك هي أن هذا الفرق (الجوهري) بين الأجسام الحية وبين الجمادات موجود بصورة واضحة في كل واحدة من تلك الخواص التي أوردها الأستاذ في مقاله. وثمة فرق جوهري آخر يعلق عليه علماء البيلوجيا أهمية كبرى في تفهم ماهية الحياة. وسنعمد في هذه العجالة إلى إثبات وجود هذه الفروق متوخين في ذلك الفائدة العامة وخدمة الحقيقة والعلم
الشكل النوعي
يفهم مما جاء في مقال الأستاذ تحت هذا الباب أنه إنما يعني (بالشكل النوعي) الصورة الخارجية للجسم حياً كان أو جماداً؛ فهو يحدثنا عن أشكال البلورات الهندسية وكيف أن هذه ثابتة في النوع الواحد تماماً كما هو الحال مع الحيوان حيث (تقترب أشكالها باقتراب أنواعها) وكل هذا صحيح لا غبار عليه إذا كان المقصود بالشكل النوعي هو الصورة الخارجية دون ما اعتبار للحجم. والذي نعرفه ويقره العلم الحديث هو أن الشكل النوعي يشمل زيادة على الصورة الخارجية الصفة الأخيرة التي ذكرناها وفيها تختلف الكائنات الحية عن الجمادات اختلافاً ظاهراً. فالمعروف لدى كل إنسان هو أن للأحياء (المعاصرة على الأقل) أحجاماً ثابتة تختلف باختلاف أنواعها إلى حد ما. فالنملة مثلاً لا يمكن أن تكبر حتى تصبح في حجم الفيل؛ ولا يمكن لشجيرة القطن أن تنمو حتى تبلغ حجم شجرة السرو أو السنديانة، كما أننا لم نسمع قط بآدمي بلغ طوله ثلاثة أمتار. أما الجمادات فإننا لا نعرف(310/57)
لها أحجاماً ثابتة؛ فبلورة ملح الطعام قد تكون في حجم الجزيئة وقد تكبر حتى يزيد حجمها على حجم الكرة أو أكثر من ذلك فهي ليست ذات حجم ثابت خاص
صحيح أن أشكال الكائنات الحية في تغيّر وتحول مستمرين بحكم ناموس التطور، وهذه الحقيقة عينها هي أنصع دليل على وجود الفرق بين تلك الكائنات وبين الجمادات. والذي نعرفه ويعرفه معنا الأستاذ هو أن شكل الفرس بل وحجمه أيضاً قد تغيرا كثيراً عما كانا عليه قبل ملايين السنين. ومثل الفرس الفيل وغيره من أنواع الحيوان، ولكن العلم لم يحدثنا بأن بلورة الملح قد تغير حجمها أو شكلها منذ أن وجد الملح على هذا الكوكب. وأما القول بأن البلورات المعدنية الصرفة (تستطيع) إذا (غطست) في سائل مشبع من مادتها أو فوق المشبع أن تنمو فتعيد الجزء المصاب إلى حالته الطبيعية فهو دليل آخر على وجود الفرق بين الأحياء والجمادات، وإلا فأي معنى يبقى للفظة غطست إذا لم يكن كل معناها هو تضمن قوة خارجة عن البلورة تقرب بين ذراتها فتتصل ببعضها بمجرد فعل الألفة الكيميائية؟
والفرق واضح بين ما يجري في هذه الحالة وبين اندمال الجرح أو نمو العضو المقطوع بنمو خلايا الجسم الحي من الداخل وبدون استعانة بقوة خارجية ظاهرة
تغذي الأحياء والجمادات
والفرق واضح أيضاً بين تغذي الأحياء وتغذي الجمادات؛ فبينما تتغذى الأولى بتحويل المواد الأولية إلى مادتها العضوية تكتفي كمية الهواء بزيادة جزيئات حامض الكربنيك في حالتها الطبيعية إلى جزيئاتها، وليس لها في هذه العملية نصيب ظاهر ولا فائدة محسوسة. والذي يدعو إلى العجب حقاً أن يكون خير مثال عند الأستاذ لتغذي الجمادات (بالمعنى الحقيقي التام) هو ما يحصل من احتراق الوقود في الآلات الميكانيكية فإن هذه كما هو الحال مع كمية الهواء لا تستطيع تحويل مادة الوقود إلى حديد أو غيره من نوع العنصر الذي تتركب منه أجزاؤها، وأما أن يكون التفكير والقوى العقلية وما إليها من مصدر واحد فقط هو الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء فهو غلو لا نقر عليه أحداً
التنفس في الأحياء والجمادات(310/58)
أما التنفس أو استعمال الأكسيجين الموجود في الهواء بواسطة الأجسام الحية فهو الفرق الجوهري الذي ذكرناه في أول هذا المقال وقلنا: إن العلماء يعلقون عليه أهمية كبرى في تفهم ماهية الحياة. وقد مرّ الأستاذ بهذه الخاصية بالذات مرّ الكرام وكان الأجدر به أن يقصر كل مقاله على بحثها ودرسها. ولأهميتها الكبرى سنبقيها إلى آخر كلمتنا هذه لنوفيها بعض الحق ونوضح ما ذهبنا إليه من أن فيها فقط يمكننا أن نعثر على الفرق الجوهري بين الأحياء والجمادات
تحرك الأحياء وتحرك الجمادات
يختلف تحرك الأحياء عن تحرك الجمادات في أن تحرك الأولى يكون بمحض إرادتها إلى درجة ما تختلف باختلاف مستوى الحيوان في سلم النشوء. أما تحرك الثانية فهو نتيجة لفعل القوى الخارجية كالرياح أو القوى الجاذبة أو الدافعة وغيرها من العناصر وليست حركة براونية إلا مثالاً للنوع الأخير كما أنه بعيد جداً عن الصواب أن تكون حركة الأجسام (تحت تأثير الجاذبية أو الألفة الكيميائية) حركة اختيارية؛ فبمجرد تسلط هاتين القوتين عليها يخرج بها عن دائرة الاختيار. ولكي نوضح ذلك نضرب مثلاً بحركة أناملي وأنا أحبر هذا المقال؛ فما أعظم الفرق بين هذه وتلك؛ ونعني حركة ذرات الأملاح في محلولاتها. أما حركات الحيوانات ذات الخلية الواحدة وهي كثيرة الشبه بحركة ذرات الأملاح فأنها تختلف عن هذه في أنها لا تكون إلا لدفع أذى أو الحصول على قوت، ومعنى ذلك أنها تكون لفائدة تعود على الجسم الحي. وتختلف عنها حركة الآلات الميكانيكية في أن هذه الأخيرة تفقد فقداناً وقتياً متى نفذ الوقود بينما يموت الجسم الحي إذا فقد الغذاء وليس الموت معروفاً بين الجمادات
التأثر في الأحياء والجمادات
يخطئ الذي يقول بأن تأثر الأحياء كتأثر الجمادات. فالمواد المفرقعة التي (تغضب) وتنفجر لا تستطيع أن تجمع نفسها (وتهدأ) أو تخفي غضبها كما يفعل الأحياء. وتأثر مواد التصوير الشمسي بالضوء لا يجلب لهذه المواد فائدة ما بخلاف الحال مع الأحياء التي تتلون بلون المحيط لتتقي شراً قد أحدق بها، أو على الأقل لمثل هذه الغاية تتلون وهي(310/59)
تسترد حالتها الطبيعية متى زال الخطر أو انتشلناها من المحيط الذي كانت فيه.
ثم إنه ليس صحيحاً أن الوتر في الآلة الموسيقية يهتز اهتزازاً (ذاتياً) عندما يدق الإنسان على وتر مقابل. والذي يحصل تماماً هو أن اهتزاز الوتر الأول يهز ذرات الهواء الموجودة في محيطه، ويحدث هذا الاهتزاز أمواجاً تسبح في فضاء الكون بأسره. ولما كانت هذه الذرات قريبة من أخواتها فإنها تحدث بواسطة الأمواج الآنفة الذكر اهتزازاً تنقله هذه بدورها إلى الوتر المقابل؛ وبهذه الطريقة نفسها ينتقل الصوت من أقاصي الأرض إلينا عندما نجلس إلى الراديو.
التفاعل مع البيئة
وهناك اختلاف آخر بين الأحياء وبين الجمادات: هو تبادل التأثر بينها وبين المحيط، وهذا يختلف في الأولى عنه في الثانية. فبينما لا يكون التأثر عند الأحياء إلا بقصد الحصول على فائدة ما أو الخلاص من خطر داهم إذا به ليس كذلك عند الجمادات. ونحن لا نستطيع أن نفهم الجسم الحي مستقلاً عن محيطه، فهو ناقص بدونه بخلاف الجمادات التي لا أثر للمحيط فيها إلا بقدر ما يكون بينها وبينه من تفاعل كيميائي لا يتم إلا بتدخل عناصر غريبة عنها. فهذه الورقة التي أكتب عليها لا تتأثر مطلقاً بانعدام الأكسيجين في الغرفة، وكل إنسان يعرف ما يقع للكاتب عندما يحصل ذلك لا سمح الله. والدور الذي يلعبه الأكسيجين في عالم الأحياء هو الفرق الجوهري بينها وبين الجمادات.
نظرية (نوموغرام) الدم للبروفسور هندرسن
كلنا يعرف ضرورة غاز الأكسيجين للكائنات الحية. والواقع أنه لا يمكن تحديد الحياة بدون اعتبار أمرين في غاية الأهمية؛ هما: كيمياء الغازات وعلى الخصوص غاز الأوكسجين. والصفة التي يمتاز بها الجسم الحي من أنه يكون ومحيطه وحدة كاملة حتى ليفقد صفة الحياة في غير ذلك الوضع. وهذا بخلاف الحال مع الجمادات التي كل تأثرها ليس إلا من قبيل التفاعل السلبي مما لا يمكنها التسلط عليه بحال من الأحوال. والمفهوم أيضاً أن العلم الحديث لم يستطع بعد أن يتوصل إلى معرفة جميع المواد الكيميائية التي يتركب منها البروتوبلاسم وكل ما توصل إليه في هذا المضمار لم يتعد إثبات نقطة واحدة تحقق أنها(310/60)
ذات أهمية كبرى هي أن المواد التي تتركب منها الأجسام الحية من التعقيد بحيث أنه لا يمكن معرفتها معرفة صحيحة تامة. وقد جاءت نظرية العلامة هندرسن بما يؤكد هذه النتيجة. وسنحاول أن نشرح قدر الاستطاعة هذه النظرية الفريدة؛ فمنها فقط يمكننا أن ندرك الفرق الجوهري بين الأحياء والجمادات
كانت النظرية القديمة الخاصة بصلة الدم بغاز الأكسيجين وأهمية هذا في التنفس والتغذية وإزالة الفضلات في الجسم في غاية البساطة، فهي تتخلص في أن هناك مادة في الدم تعرف بالهيموجلوبن تتحد بالأكسجين الموجود في الهواء وفق المعادلة:
+
ولا شك أن لهذا الاتحاد أهمية كبرى في تفهم ماهية الحياة. غير أنه قد ثبت بالبحث أن ثمة نقصاً في هذه المعادلة؛ فقد قرر العلامة باركروفت أنه زيادة على الصلة الموجودة بين كمية الأكسجين التي يمتصها الدم من الهواء فإن هناك صلة أخرى بين هذه الكمية وكمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الخلايا الحية. ولهذا الاكتشاف قيمته من حيث إنه قد أرشدنا إلى تغير قدرة الدم على امتصاص الأكسجين بتغير كمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الألياف التي يتركب منها الجسم الحي وهنا لزم تعديل المعادلة الأولى على الصورة الآتية:
ومعنى هذا أنه متى عرفنا مقدار أي اثنتين من هذه المواد غير الثابتة التركيب أمكننا معرفة المادة الثالثة بمجرد النظر إلى المعادلة. غير أن العلماء الثلاثة ج. س. هالدين، وكرسينانوس، ودوجلاس قد استطاعوا إثبات وجود صلة أخرى مشابهة للتي ذكرنا بين ثاني أكسيد الكربون، والكربونات، والأكسجين إذ وجدوا أن كمية الكربونات تقل بزيادة كمية الأكسجين؛ وهكذا تعدلت المعادلة الثانية فصارت:
وو
وبمتابعة هذه الطريقة في التحليل استطاع العلامة هندرسن أن يثبت وجود معادلة رابعة:
*)) =5
وو(310/61)
ثم خامسة:
من هذا يفهم أننا لا زلنا في المرحلة الأولى في محاولتنا الوصول إلى معرفة كيمياء الدم، إلا أن ما عرفه العلماء حتى الآن قد أوجد مجالاً للتفكير أدى إلى إجراء تجارب عديدة أثبت بها العلامة هندرسن أن الدم في تفاعله مع المحيطين الداخلي والخارجي إنما يمثل عشرين ضلعاً تدخل في تكوينه ست مواد يربط بعضها ببعض عشرون معادلة.
هنا يجدر بنا أن نذكر بعض خواص هذا التوازن، ففي هذه وحدها يكون الفرق الجوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات. وأهم هذه الخواص هي اشتراك الأكسيجين في ذلك التوازن بل إنه (أي التوازن) لا يتم مطلقاً بدون الأكسيجين؛ فأهمية الأكسجين للجسم الحي أكبر من أهمية أي مادة من المواد التي يتركب منها بل هي كما أثبت البحث فوق ذلك بكثير وهذا ما نعنيه عندما نقول إن الجسم الحي هو عبارة عن توازن فيزيقي - كيميائي ذي قوة حيوية يحصل بين المواد الموجودة في داخل الجسم، وبين أخواتها في الخارج. ويفهم من كل هذا أن الهواء الذي نستنشقه بل كل الطبقة الهوائية المنتشرة على سطح الأرض والتي يتوقف عليها مقدار كثافة الأكسجين هي جزء لازم لكيان الأجسام الحية لزوم العظام واللحم الذي يكسوها، وهو ليس كذلك للجمادات. إذاً فالفرق بين هذه، وبين الكائنات الحية موجود، وهو التوازن الوقتي الذي تقيمه الطبيعة بفعل قواها في المواد الأولية - ذلك التوازن الذي لا يوجد له شبيه في عالم الجمادات.
بيروت - الجامعة الأمريكية
عبد الله عشري الصديق(310/62)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الحب والمرأة والفن
للأستاذ عزيز احمد فهمي
جانب كبير جداً من الفنون يدور حول الحب
ولا عجب في هذا، فالحب عاطفة تشترك في تخليقها عدة غرائز من أقوى الغرائز التي يقوم بها كيان النفس الإنسانية وهي مبعث العواطف. ومن هذه الغرائز التي تخلق الحب في النفس: غريزة حفظ النوع، وغريزة السيطرة، و (غريزة العشرة) وهي أخص واعنف من غريزة الاجتماع، و (غريزة الوثنية) التي تنزع بالإنسان إلى تجسيد ما يصبو إليه وتحديده والتي تخرج به من إبهام المتجرد إلى وضوح الملموس، وهي غريزة لم تضعف إلا عند الذين يدمن إحساسهم التدريب على الاتجاه نحو معان يحبونها ويدهش لهم العالم ويتساءل: كيف يحبونها؟
وهذه الغرائز التي تخلق عاطفة الحب كل منها قوي عنيف. ونفس الفنان بطبعها أكثر طواعية للتأثر من غيرها لأنها أشد حساسية من غيرها. وإذا كانت نفس الفنان تلبي مسرعة نداء المؤثرات الخارجة عنها فأجدر بها أن تستجيب للهتاف المدوي في جنباتها. فلا غرابة إذن أن يزدهر الحب بين أهل الفن أكثر مما يزدهر بين غيرهم، ولا غرابة بعد ذلك إذا دار جانب كبير جداً من الفنون جميعاً حول الحب، فليست نفس أخرى أقرب إلى نفس الفنان من نفسه، وليس أحب إليه منها، وليس أجدر منها بالالتفات الذهني والحسي، وليس أشد منها وضوحاً لديه، وليس شيء ابعث منها على التسجيل
ولكن الذي نلحظه هو أن جانباً كبيراً جداً من فنون الحب يئن بالشكوى من هذا الحب، ويرضخ بالذل له، ويستعطفه متشفعاً إليه بالفن ذاته، كما أننا نرى في هذه الفنون المكلومة كثيراً مما يشبه علامات اليأس، وقد نرى منها قليلاً مما يشبه علامات التمرد الذي يعقب اليأس، إذ ينكر بعض الفنانين الحب إنكاراً، وإذ يسخر بعضهم من المرأة سخرية شاذة لا أصل لها في الطبيعة ولا شبيه لها في حياة الحيوان(310/63)
وهذا يشهد بان الفنانين فاشلون في حبهم، أو هو يشهد على الأقل بأن كثيرين جداً من الفنانين يفشلون في حبهم. فما الذي يدعو إلى هذا؟ أهو قصور في رجولة هؤلاء الفنانين؟ أم هو التواء حاد بنفوسهم عن المسلك الطبيعي الصحيح الذي يجب أن يسلكه الذكر مع الأنثى ليقنعها بنفسه؟ أم هو انحراف عن أساليب الأرض إلى أسلوب جديد بعيد تسعى الحياة إلى اصطناعه وستأخذ يوماً ولكن بعد أن يكون هؤلاء الفنانون قد ركلوا الأرض إلى عالم يرتاحون فيه ولا يشقون؟ أم هو هذا كله مزيجاً مركزاً؟
الطبيعة وحدها هي التي تهدينا إلى سر هذه المشكلة. وإذا كانت حياة الإنسان قد تشابكت من نواح، وتحللت من نواح، وعقدت الحضارة أغلب أطرافها وأوساطها بحيث لم يعد من الميسور لكل عين أن تميز الأصيل في أفعال البشر من الدخيل عليها، فإن لنا في حياة الحيوان ما يدلنا بوضوح وجلاء على طريقة التهافت الطبيعية التي تجذب الذكر نحو الأنثى، والتي تجذب الأنثى نحو الذكر. فإذا ما تعلمنا من الحيوان هذه الطريقة عدنا إلى الإنسان الفنان ونظرنا: هل هو يماشي الطبيعة في غرامه أو هو يحيد عنها مترفعاً أو متدلياً أو هائماً على وجهه يتخبط ذات اليمين وذات الشمال؟
وقبل أن نخطو هذه الخطوة يحب أن نجيب عن سؤالين قد يخيل لبعض الذين يصحبونني في جولتي هذه أنهما يعرقلان المضي في مذهبنا، أو أنهما على الأقل يشوهان هذا المذهب. أما السؤال الأول فناعم خفيف يقول لنا بصوت خافت رقيق: هبكم رأيتم الفنان قد حاد عن طريق الطبيعة التي تزعمون فلماذا تخصونه بالحساب والعتاب من بين الناس وأكثرهم حائد عن هذا الطريق؟ وإذا كان هو يئن بالشكوى من حبه، فكثيرون غيره يئنون؛ غير أنه يذيع أنته وهم لا يذيعون؟! ونحن نجيب عن هذا السؤال فنقول: إن الفنان هو رائدنا إلى الطبيعة؛ وليس يبرر بعده عنها إلا أن يكون هذا البعد قفزة إلى مرحلة من مراحل الرقي الإنساني يسبق بها البشر ليكون فيهم بشيراً بما سينتهون إليه بعد حين. وليس مما يريح ضمير الإنسانية أن ترى الفنان وهو هاديها إلى الحق ومواطن الراحة مضطرباً في حياته الخاصة، وفي أعز جانب من حياته الخاصة هذه دون أن تعرف علة هذا الاضطراب لعلها تستطيع أن تنقذه منه
وأما السؤال الثاني فيصرخ فينا بعنف ويقول: كيف قررتم أن الحب عند الإنسان يشبه(310/64)
الحب عند الحيوان، ولم تروا أنه أرقى وأشرف؟ ونحن نرد هذا السؤال بقولنا: إن الحب لا يمكن إن يخرج على حال من حالتين: فأما نزوع روحاني لا يصحبه النزوع البدني وهذا شيء لا يعوقه عائق، ولا تصده عقبه ولا يمكن أن يشكو فيه شاك من بعد أو حرمان أو لوعة أو صبابة أو هجر أو غدر أو غير ذلك مما يشكوه العشاق، ومما تدور حوله فنون المتبرمين من الفنانين العاشقين، فالروح متى رضيت عن روح لم تعد تعبأ بما يفرق بينهما من بعد المكان، أو بعد الزمان، ولم تعد تهتم باختلاف الجنس بينهما أو توحده
إما هذا، وإما أن يصحب هذا النزوع الروحاني نزوع جسدي وفي هذا تظهر الشكوى، ويظهر الأنين، وتظهر فنونهما فلا بد إذن يكون النزوع الجسدي هو الذي يسببهما إذا لم يصب التوفيق، وهذا النزوع البدني موجود عند الحيوان، ولكنه يصيب التوفيق دائماً، ولا يفشل مطلقاً إلا عند العدوان حين يندس بين الذكر وأنثاه ذكر جديد قوي غلاب، وعلى هذا كان من غير الطبيعي في حياة الإنسان أن يفشل الرجل في حبه ما لم يصرعه رجل أقوى منه في الناحية التي تعترف بها الأنثى، وتنقاد لها
هذان هما الحالان اللذان يتشكل بهما الحب في حياة الإنسان على الإطلاق. وأرى من العفة أن أربأ بصورة الحب الإنساني عن الحالة الثالثة التي يتفرد فيها النزوع البدني وحده. لا لأنني أريد أن أمجد الإنسان، ولكن لأني أرى في بعض الحيوان ما يعف عن هذا الحب ويتسامى عليه، ويجمله بالألفة والمعاشرة، والحنان والتعاطف. والمسلم به أن الإنسان أرقى من الحيوان.
وبعد، فأني أحسب أن الطريق قد عبد أمامنا، وأننا نستطيع أن نخطو في خطوتنا الأولى نحو الحب عند الحيوان.
والذي نلحظه هو أن للحيوان غزلاً يشبه الغزل عند الإنسان من حيث إنه دليل الرغبة في إقامة بين الذكر والأنثى، ومن حيث إنه الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الحب. والمشاهد أن هذا الغزل يتخذ عند الحيوان عادة شكل الصراع، ومن الحيوان ما يترفق فيه فيكون صراعه كاللعب والمداعبة، ومنه ما يشتد فيه ويقسو فيكون صراعه صراعاً حقيقياً تتهشم فيه العظام، وتسيل فيه الدماء. وهذا النوع الأخير من الصراع يقيم الدليل المحسوس عند الأنثى على أن الذكر الذي يغازلها قوي غلاب، وعلى أنه يأخذ حقه منها قوة واقتداراً، وأنه(310/65)
لا تثنيه مقاومتها إياه عن الوصول إلى ما يريده من فرض سلطانه عليها، والأنثى في هذا الصراع العنيف تبذل أقصى قوتها لتحول بين الذكر وبين التسلط عليها، لا لأنها تكره أن يتسلط عليها، ولكن لأنها لا ترضى أن تذل لضعيف قد يعجز عن حمايتها وحماية نسلها إذا اعتدى عليها معتد، هذا إذا كانا من الحيوان الذي يأتلف ذكره بأنثاه، أما إذا لم يكونا من هذا الحيوان فهي تكره أن تستسلم للضعيف خشية أن ينتقل ضعفه إلى نسلها الذي تحب أن يكون قوياً غير بما ركب في نفسها من غريزة حفظ النوع سليماً صالحاً.
أما النوع الآخر من الصراع وهو الذي يشبه اللعب والمداعبة فهو أقرب أنواع اللعب والمداعبة إلى المصارعة الإنسانية المصطنعة التي يقيم الناس لها الملاعب في هذا العصر والتي يكتفي فيها الغالب في التدليل على قوته بإظهار تمكنه من تهشيم خصمه دون أن يهشمه وهذا الأسلوب تصطنعه الحيوانات الرقيقة، والحيوانات المستأنسة. ومهما خلا هذا الأسلوب من التحطيم والتهشيم والتجريح، فإنه لا يخلو من معانيها، وإن فيه ما يدل دلالة تامة على احترام القوة والاعتراف بلزوم الغلبة والقهر يقيم عليهما الذكر صلته بأنثاه.
فإذا أضفنا إلى هذا ما نراه من تجميل الطبيعة للذكر دون الأنثى: كالديك ازدان بالعرف دون الدجاجة، والأسد تحلى بالمعرفة دون اللبؤة، والكبش ازدهى بالقرنين دون النعجة، والطاووس تبرج بذيله الملون الطويل دون (الطاووسة). . . إذا أضفنا هذا إلى ما تقدم رأينا أن الطبيعة توجه الذكر إلى (مكايدة الأنثى): قهراً بالقوة، أو اعتزازاً بالجمال، أو قهراً واعتزازاً بالقوة والجمال معاً. ومن هذا يمكن أن ندرك أن الطبيعة قد وضعت ناموساً تقوم عليه الصلة بين الذكر والأنثى، وأن هذا الناموس يستلزم أول ما يستلزم أن يذل الذكر أنثاه، وأن يذكرها دائماً بأنه أقوى منها، أو أنه أقوى وأجمل منها.
والطبيعة توفر في هذه السوق التي يتداول الذكر والأنثى فيها نواحي القوة والضعف، ونواحي الزينة والعطل وبقية تلك الزوائد والنواقص فيهما شرطاً لا بد أن يتوفر في هذه السوق: وهو أن تقتنع الأنثى مؤمنة صادقة مجبرة بفضل الذكر عليها فيما يمتاز به، وإلا فالصلة بينهما زائفة، وهو آخذ منها ما يرضيه ويقنعه، إذ لا يعطيها ما يرضيها ويقنعها كما يحدث للحيوانات المسجونة التي تنسل نسلاً ضعيفاً
اتفقنا في هذا. فلنعرج إذن على الحب عند البشر، ولتكن القبائل التي تعيش على الفطرة(310/66)
أول من نشارف من البشر. وهذه القبائل لا يزال الرجال فيها يمثلون ما يشبه الدور الذي يمثله الذكر الحيوان مع أنثاه فالقوقاز لا يسلمون العروس لعروسها، وإنما يدبر العروس حملة على محلة عروسه فيهجم عليها في جمع من أهله وأصدقائه، ويختطف عروسه من بين أحضان أهلها بالقوة والعنف ليشهدها وليشهد أهلها على أنه قوي جدير بها، وليسجل عليها هذه الشهادة يذلها بها طول عمرها معه إذا حاولت أن تتمرد عليه أو أن تطاوله. وبعض قبائل الزنوج تحتفل بزفاف فتياتها احتفالاً أعجب من احتفال القوقاز وأشد افتخاراً بالقوة والجلد والصبر. وإن لم يكن فيه من الشجاعة والفروسية شيء: ذلك أنهم يتداولون على العروس السعيد بالضرب المبرح الموجع، فقدر ما احتمل الضرب وكتم التوجع عز عند صاحبته وزاد احترامها إياه ورأته حقيقاً بالحب: لها بل عليها أن تفاخر به معجبة راضية. . . ولا يزال من أهل النوبة المصريين من يفعلون ما يشبه هذا. فالعروس يطلب من صاحبته أن تحضر له جمرة من النار ليشعل بها لفافته، فتحضرها إليه. فيمسك الجمرة بيده، ويضع الجمرة على حجره، تأكل جلده ولحمه ريثما يتأنق في لف التبغ في الورق ليشمل بعد ذلك لفافته ويعيد الجمرة إلى مكانها، وبقدر ما يطول احتراق جسده ويشتد يعز عند صاحبته ويعلو قدره
والمرأة القوقازية تحب من يخطفها لأن بيئة القوقاز بيئة رعي ومهاجرة ومحاربة تكثر فيها الغارات، ويكثر فيها الكر والفر ولا يستطيع أن يخطف المرأة فيها إلا البطل. والمرأة الزنجية تحب من يحتمل الضرب الموجع في سبيلها لأن بيئة الزنوج بيئة قاسية تضرب الناس بالحر والبرد والمطر والرياح والمرض والسم، فالأشد صبراً من غيره في هذه البيئة هو البطل. والمرأة النوبية تحب الذي يحترق في سبيلها بالنار لأن بيئة النوبة يموت فيها الضعاف من وهج الحر والقيظ وشدتهما. فالذي يحتمل الحرارة عندهم هو البطل
هذه بيئات إنسانية قريبة من الطبيعة والرجل فيها لا يزال يلوح للمرأة بقوته، والحياة فيها لا تزال مستقيمة بين الرجل والمرأة
أما جمال الرجولة الخشن فقد ظل الرجال يحرصون عليه زماناً طويلاً كانوا يرسلون فيه شواربهم ولحاهم التي زينتهم بها الطبيعة ولكنهم اليوم لم يعودوا يحافظون عليه، واكتفى فريق من أهل المدنية فيهم بممارسة الألعاب الرياضية لتنمية عضلاتهم وتقويتها كما كان(310/67)
يفعل اليونان القدماء في وقت يذكر التاريخ أن المرأة فيه كانت متبرمة بالرجل لأنه اكتسب من رياضته تناسقاً وامتشاقاً انشغل به عن النظر إلى جمال الأنثى
ولعل هذه الألعاب الرياضية هي البقية الباقية من معالم الرجولة القوية التي تحتفظ بها الحضارة اليوم، ولكنها شيء إذا كسا البدن رجولة أو ما يشبه الرجولة فإنه لا ينفذ إلى الروح والنفس، ولذلك يستعين الرجل المتحضر اليوم على قهر المرأة بالمال أو الجاه أو النفوذ أو المنصب أو الشهرة أو غير ذلك مما يتنافس فيه الرجال المتحضرون. ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه المميزات المدنية كلها رأينا أنها لا تتاح إلا للذين يتكالبون على العمل في سبيل الوصول إليها أو للذين يصيبونها عفواً بالوراثة أو بالواسطة؛ أما الذين يفوزون بها عن جدارة فأولئك الذين في حسابنا، وهم ينفقون في سبيلها من رجولتهم ما كانت المرأة تحب أن يستبقوه لها فهي لا تستطيع أن تستغني عن حياة المناوشة والمصارعة وهي تكره أن تبيع نفسها بالمال، وإن كانت تبيع نفسها بالمال؛ وهي لا تقنع من الرجل بجاهه وإن كانت ترتمي على أصحاب الجاه؛ وهي لا ترضى بمنصب الرجل وشهرته وإن كانت تتهافت على أصحاب المناصب الكبيرة والمشاهير، فهي تنحرف عن طبيعتها مجاهدة مستعيضة بهذه البهارج عما كانت تتوق إليه من قوة الرجل ورجولته. ولعل حوادث الخيانة الزوجية التي تتعدد وتتكاثر في المدنيات دليل قاطع على أن الزوجات ساخطات على الأزواج، وأنهن لا يزلن يبحثن عن الرجولة الضائعة في هذه الحضارة
وإذا كانت المرأة تكره المال والجاه والنفوذ والمناصب العالية وما فيها من أبهة ولا تقبل عليها إلا على سبيل البدل عن مطلبها الطبيعي، وإذا كانت لا تزال تحب أن ترضي طبيعتها بين يدي من يذلها برجولته ومن يتقن فنون المغازلة والمصارعة على ألوانها فماذا هي صانعة عند الفنان أو ماذا هو صانع بها؟
الفنان تسيطر عليه الغرائز التي تسيطر على بقية الناس فهو إنسان مثلهم ولكن هذه الغرائز لا تشتد به - حين تشتد - كما تشتد ببقية الناس، ولا تترفق به - عندما تترفق - كما تترفق ببقية الناس، فهو وإن كان يحب أن يحفظ النوع البشري كما يحب الناس أن يحفظوه فإنه يسعى إلى ما هو أشرف من حفظ النوع وهو ترقية النوع، والفنان يؤدي لهذا النوع بفنه ما يجاهد النوع دهوراً في سبيل الوصول إليه. وهو وإن كان يحب السيطرة كما(310/68)
يحبها بقية الناس فإنه يتمتع من السيطرة بما لا يتمتع به أحد، ففنه يلوي عنده الأعناق ويخفض بين يديه الرؤوس؛ فإذا لم يوفق إلى هذا في حياته فهو على إيمانه بفنه مؤمن بان البشرية التي غفلت عن تقديره وهو فيها ستنال جزاءها إذ تنصاع يوماً إلى قبره لتطوف بالتقديس حول عظامه ولو بعد أن ينخرها السوس! وإنه ليرى ذلك وهو في ظل العرش. وهو وإن كان يحب العشرة كما يحبها بقية الناس فهو يتأنق في اختيار عشرائه من المعاني والأخيلة والأفكار التي يرصد لها انتباهه وإحساسه ويتعقبها ويتبختر عندها مترنحاً منتشياً كراهبة ترقص في خلوتها على نغم الذكر عابدة لا فاجرة، خالصة غير مشوبة
هذه هي الغرائز التي كان حقها أن تشترك في تخليق الحب في نفس الفنان كما تخلقه في نفوس بقية الناس، ولكننا قد رأيناها جميعاً تعدل عن الحب إلى الفن
وبقيت بعد ذلك (غريزة الوثنية) التي ذكرتها في بدء هذا الحديث، واحسبني قلت إنها لم تضعف إلا عند الذين يهد من إحساسهم التدريب على الاتجاه نحو معان يحبونها هم، ويدهش لهم العالم ويتساءل: كيف يحبونها؟ ومن يكون هؤلاء غير الفنانين؟
إذن فالفنانون على هذا الأساس لا يحبون! وعلة انصرافهم عن الحب بعيدة كل البعد عن الأسباب التي توقعناها في أول حديثنا، فقد خيل إلينا أن عجزهم عن الحب قد يرجع إلى قصور في رجولتهم، أو التواء حاد بنفوسهم عن مسلك الحب الطبيعي الصحيح، أو انحراف عن أساليب الأرض إلى أسلوبهم الجديد
ولكننا رأيناهم في أول حديثنا يحبون. وقد سجلنا عليهم فشلهم في الحب من بعد تسجيلهم إياه على أنفسهم في فنونهم. . . فهل هم يحبون أو هم لا يحبون؟. . . أحبهم الله!
والواقع أنهم يحبون ولا يحبون. فالفنان إنسان حائر بين حلقتين من حلقات التطور البشري. أولاهما الحلقة التي يعيش فيها، والأخرى الحلقة التي ينتقل إليها بروحه ويستنبطها فنه ثم يعود بعد ذلك إلى ناسه. وهذه الحلقة التي يسرى به إليها ستتحقق يوماً ما في الأرض سواء أكان هذا اليوم قريباً أم بعيداً وسيعيشها الناس وكلهم في مستوى ذلك الفنان الذي يبهر جيله وسيكون من بينهم فنانون يبهرونهم بما يستنبطونه من حلقات أخرى لا يسري به إليها غيرهم. وقد ينكر هؤلاء وقد يعترف بهم. . . أمرهم وأمر الحق إلى الله
هذا هو مسلك التطور الروحاني للإنسانية فهو (كالداروينية) الجسدية ولكنه أشد غلياناً(310/69)
وإبهاماً
والفنان يتذبذبه بين الأرض وسمائه يتلون بلونين ويتشكل بشكلين: شكل يلائم حياة الأرض بقدر ما تسمح ذمته الفنية أن يتسامح في أمانته، وشكل آخر لا يلائم إلا الذين يستطيعون أن يطيروا معه إلى سمائه ولو أتباعاً مسترشدين به. والفنان السعيد الذي يرضى الله عنه هو الذي يوفق إلى غرام واحدة من بنات السماء. والفنان المنكوب الذي أرجو له الرحمة هو الذي يتعلق به غرام واحدة من بنات الأرض: تثقل به وتعرقله عن قفزاته فإن أشفقت عليه وسمحت له بهجرته إلى السماء كلما شاء لم يجد عندها حين يهبط إليها إلا ما اختص به الله بنات الأرض. فهو شقي معها كشقاء المقعد الذي يلهب طاغية ظهره بالسياط ليجري في سباق مع صبيان خفاف شياطين. . . وإن كان المثلان متعاكسين وينتبه الفنان إلى علة إخفاقه في حبه، فإما أن يرضي من محبوبته بما طلب له فيها من الجمال الروحي والبدني وإما أن يحاول صقل نفسها وتهذيبها ليجعلها تشبه ما يجب أن تكون عليه، فإذا وفق في هذا فإنه يرضى أغلب الرضى، أما إذا فشل فيه فهو الشاكي المتبرم الساخط على الحب اليائس منه المتخاذل أمامه أو المتمرد عليه
وقليلاً جداً ما يفرغ الفنان من وقته لمصارعة المرأة ومناوشتها لأنه يتعلم من جولاته في السماء أن هذه المصارعة من أساليب العنف التي يصح الاستغناء عنها بإدراك نتائجها فيحاول أن يتشفع إلى المرأة بفنه، وهو على كثرة ما يتدلل بفنه يخضع نفسه ويخضع فنه للمرأة ويسعى إليها في هذا الخضوع خاشعاً متوسلاً مستجدياً عطفها، فإذا به ينقلب أمام المرأة شيئاً آخر أكثر رحمة بها من الرجل، وأشد حناناً منه، وأكثر بذلاً وعطاء وتضحية في سبيلها ولكنه على أي حال ليس ذلك الرجل الذي تريد أن تراه قوياً، والذي تحب أن يقسو عليها قسوة تصهر أنوثتها وتسيلها. فهذه الرقة وهذه الرحمة وهذا الخنوع وهذه المسالمة التي يقرب بها الفنان من محبوبته كلها من علامات الأنوثة - عندها - لا من علامات الرجولة وهي من مظاهر الضعف - في نظرها - لا من مظاهر القوة، وهي تبعث في نفس المرأة الاستهانة بها والشك في أمر صاحبها إذ لا تضمن المرأة أن يتخذها الفنان وسيلة من وسائل الاستدراج يسلطها على كل من تعجبه من النساء ما دام الأمر لا يكلفه أكثر من كلمات رقيقة أو ألحان عذبة أو صور جميلة(310/70)
والفنان متى وصل به الحال إلى هذا الموقف كان عليه أن يختار واحد من ثلاث: فإما أن يخصص نفسه لفنه، وإما أن يخصص نفسه لحبه، وإما أن يتذبذب بين الفن والحب وهذا ما يفعله الفنانون الشاكون، فليس يتاح لكل فنان أن يتسامى حتى على الحب فلا يذكره ولا يذكر المرأة إلا كما ذكرها المسيح
عزيز أحمد فهمي(310/71)
من هنا ومن هناك
دعاوى إيطاليا في قناة السويس - لمحرر الوبرلدوبجست
نقلنا في هذه الصفحة من العدد 302 مقالاً للكاتب الإيطالي ف. بارتو عن دعاوى إيطاليا في قناة السويس، وقد نسب الكاتب الفضل في وضع تصميم القناة وتأسيسها إلى مهندسين إيطاليين ذكر من بينهم: نجّرللي وبترمو وجوايا، وزعم أن إيطاليا هي الدولة الثانية من بين الدول التي تمر في هذه القناة. . . إلى آخر ما جاء في ذلك المقال، والمقال التالي رد على ذلك المقال نلخصه للقراء ليطلعوا على وجهتي النظر في المقالتين.
منذ سنين عديدة كتب أوسكار وايلد مقالاً قيماً عن اضمحلال رذيلة الكذب. فلو عاش في عصرنا هذا الذي انتشرت فيه وسائل الدعاية بين الدول الحديثة، فما لا شك فيه أننا كنا نقرأ له فصولاً ممتعة عن نهضة الكذب.
إن الدعاوى العريضة التي يدعيها الإيطاليون في قناة السويس في هذه الأيام، مما يجعل النفس تشمئز ويعروها الأسف الممض لهذه الهوة التي انحدرت إليها الصحافة في العصر الذي نعيش فيه
ونحن وإن كنا لا نبرئ الصحافة في عصر من العصور من الانحراف عن الجادة في بعض الأحيان، إلا أننا نعتقد أن هذا الانحراف لم يكن يعدو الأمور الصغيرة التافهة التي لا تؤثر بحال من الأحوال في الشؤون العامة التي لها أكبر الأثر في حياة العالم
ولكن إيطاليا وألمانيا تذهبان إلى آفاق بعيدة المدى في الكذب في شئون لها الأهمية الكبرى في الحياة، ولعل أسوأ الأمثلة لهذا الكذب الصراح، هو ما تنشره الصحافة الإيطالية عن قناة السويس، لا في إيطاليا وحدها، ولكن في تونس والأمريكيتين مما ينافي الحقيقة من جميع الوجوه.
ولقد استطاعت بعد الاطلاع على هذه المزاعم أن أتوفر على هذا الموضوع وأبحثه بحثاً جديداً فتبين لي أن هؤلاء القوم يلجئون إلى بعض المخلفات القديمة، ليستخرجوا منها أسماء لها علاقة ما بهذا المشروع الجليل، فيخلعون على أصحابها حلل الفخار والشرف التي ارتداها رجال لهم شهرتهم وعظمتهم بين العالم، بعد أن طواهم الثرى في بطونه
فهذه الأكاذيب من النوع الذي يقول عنه (تتيسون): الكذب الذي هو نصف حق، شر من(310/72)
الكذب الصراح
فهم يقولون إن إيطاليا تعد في المرتبة الثانية من الدول التي تمر في قناة السويس. فمن أين جاءوا بالبيانات التي يستندون إليها في هذا الزعم؟ من الإحصاءات المبينة على ذلك الظرف الاستثنائي الذي دعاهم إلى نقل آلاف من جنودهم البسلاء مجهزين بالمدافع والطيارات والأسلحة المختلفة لمحاربة الحبشة العزلاء عام 1936 - 1937، وعلى هذه الطريقة في الكذب تجري سائر الدعاوى والمزاعم التي يطلعون بها على العالم
إن قناة السويس التي نشأت فكرتها منذ قدماء المصريين، وفكر فيها نابليون بعد حملته على مصر، ثم مشروعها على يد رجل واحد هو المهندس الفرنسي فرديناند دي لسبس. لقد كان الخطأ الذي حال بين نابليون وبين تنفيذ هذا المشروع هو خطأ المهندس لابير الذي رأى أن هناك فرقاً بين مستوى الماء في البحرين يحول دون ذلك، وقد أصلح هذا الخطأ بتأثير دي لسبس وحده، إذ رفع مذكرة إلى محمد سعيد باشا حاكم مصر مؤرخة في 15 من نوفمبر سنة 1854 ينفي فيها وجود الفارق المزعوم، مستنداً إلى تقارير قدمت إليه من مهندسين من الإنجليز لهم خبرة عظيمة ومهارة فائقة في هذه الشئون، فقاموا بقياس مستوى البحرين وكان لهم الشرف العظيم في نفي هذه الخرافة، والتوكيد بأن لا فارق بين مستوى البحرين
ومما يدعو إلى الضحك أن ينسبوا تأسيس القناة إلى مهندس إيطالي يدعى (نجرللي)، فتأمل عمل الدعاية في الانتفاع بهذا الاسم؟ مما لا شك فيه أن هناك شخصاً يحمل هذا الاسم كان ضمن الذين يعملون في هذا المشروع، ولكنه من أوستريا لا من إيطاليا، وقد كان يشغل وظيفة مهندس عموم السكك الحديدية بها، فعين في بعض الأعمال مع مهندس إنجليزي يدعى استيفنش فنسبته الدعاية إلى إيطاليا لأن اسمه نجرللي لا أكثر ولا أقل. وقس على ذلك سائر الدعاوى والأكاذيب
إن قناة السويس لم تنتفع بإيطاليا في حال من الأحوال، ولكن إيطاليا هي التي انتفعت بها في فتح الحبشة
هل في استطاعة ألمانيا أن تحارب - عن لالبر بلجيك
منذ سنتين - وإذا أردت التحديد في 12 مارس 1937 كتبت مجلة ألمانية تقول: إن أهم(310/73)
العناصر التي سنحتاجها في الحرب هو الذهب
وهذا القول يفسر مبدأ معترفاً به في تاريخ الحروب بما فيها الحرب الأخيرة، إذ وجدت ألمانيا نفسها عاجزة عن تموين جيشها لحاجتها إلى المال. ويتبين من هذا دقة الموقف الذي تقفه ألمانيا وإيطاليا الآن
مما لا شك فيه أن ألمانيا في عجز عن إيجاد الذهب الضروري لحاجتها، والذهب هو القوة التي يمكن الحصول بوساطتها على المئونة، وألمانيا في حاجة إلى الشعير والسكر، وفي حاجة إلى المعادن اللازمة لعمل الأسلحة وتجديدها
ومن المعلوم أن ألمانيا في حاجة ملحة إلى الحديد والنحاس والألمنيوم والمغنيسيوم والرصاص، وهي في حاجة فوق ذلك إلى البترول وهو الروح الأساسية للآلات والمصنوعات الحربية على وجه العموم
وهي تعتمد على عبقريتها الصناعية للحصول على هذه المواد، حتى لا تعول على الدول الأخرى في استيرادها، تلك العبقرية التي تحول الخشب إلى قطن، ولبن الأبقار إلى صوف
وعلى هذا النحو تصنع الملابس لجنود الجيش، ويصنع البترول والمطاط ويصنعونه من الجير، والصابون ويصنع من الفحم، والزبدة وتصنع من الزيت، وتعيش الأمة جميعها على هذه المصنوعات. وهنا تحضرنا الفكاهة القديمة وهي عجز ألمانيا في المعادن، وقلة ثقتها بإخلاص الحليفة؛ وتحت هذا التأثير ولا شك يتفكك محور رومه برلين
فإذا قامت الحرب فستكون ألمانيا عاجزة كل العجز عن إعداد المال الكافي إذ أنها ستشتري مئونتها ومعادنها من الخارج.
هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها. فقد أصبحت ألمانيا تستورد 20 % من مواد الأطعمة من الخارج فضلاً عن الأجور العالية التي يتقاضاها المزارعون فيها.
ونحن نرجع في هذا الموضوع إلى ما قاله الكاتب الألماني فرتس استرنبرج في كتاب (قوة ألمانيا الحربية). فقد أورد كثيراً من المعلومات والإحصاءات الهامة التي تدل على عجز ألمانيا عن التموين، واضطرارها إلى زيادة نسبة الوارد إليها من مواد الأطعمة، وتلجأ ألمانيا إلى طريقة المقايضة في كل ما تريد من الدول. فتقول: أعطني بترولك وأنا أعطيك عقاقيري. وكل هذه الوسائل المفتعلة لا قيمة لها أبان الحرب. فإذا أطلقت رصاصة واحدة(310/74)
لا يمكن بعد ذلك أن يعطي: البترول أو الحديد أو النحاس أو الشعير نظير حبوب الصحة وآلات الموسيقى
نحن مسوقون في تفكيرنا هذا وراء رائد التاريخ، ونعتقد أن زعيم الانقلاب في ألمانيا سيتراجع عن فكرة الحرب، إذ أن مسئوليته كبيرة في أمر هو حياة أو موت لأمته، ونود لو يذكر لأجل الإنسانية والمدنية قول شكسبير:
(إن في السماء والأرض أموراً غير التي تحلم بها في فلسفتك يا هروتيو!)
القرد وحياة الإنسان - عن مقالة للدكتور هوفمان
الدكتور منريت يعد من رجال الطب المشهورين، لقد أجرى في هذه الأيام تجربة نفسية لم يسبق لها مثيل.
فمنذ عشر سنوات عاد من سياحة له في أواسط أفريقيا، يصطحب قرداً صغيراً من نوع الشمبانزي يبلغ من العمر سنتين
وقد بذل كل ما في وسعه هو وزوجته وأولاده، لإبراز هذا القرد الذي أسموه - فاتو - في مظهر الإنسان العاقل بحيث ينسى منشأه الحيواني ويعيش معيشة الآدميين - دون أن يعملوا أي عمل لتدريبه كالعتاد. وهذا عمل بلا شك له أهمية عظيمة، إذ إنه يجعل الحيوان الأعجم يحيا حياة الإنسان
وكان أول مرة خرج فيها فاتو في مجمع من الناس، في حفلة غداء أقيمت في منزل منريت حديثاً دعا إليها لفيفاً من الأطباء والعلماء المختصين بدراسة نفسية الحيوان ورجال الأدب والصحافة. فدخل عليهم فاتو منتصب القامة يسير على ساقيه الخلفيتين كالإنسان. وأغلق الباب من ورائه في خفة ولطف. ومر يحيي الضيوف ويصافحهم واحداً بعد واحد في أدب ورقة، وصاحبه يقدمه إليهم كما يقدم الصديق العزيز، ثم أخذ مكانه في مؤخرة المائدة، وساهم في الطعام معهم، ولم يبد على تصرفاته أي مأخذ.
وكان الطعام الذي قدم إليه من نفس الطعام الذي تناوله المدعوون وهو حساء وسمك ولحم وخضراوات وحلوى وفاكهة. وكان فاتو يتناول الطبق من جاره ويملأه لنفسه بنفسه ويأكل بأدب ونظام. وكل ما لوحظ عليه في تناول الطعام أنه يكثر من أكل الخضراوات والفاكهة ويتناول منها أكثر من غيرها. وكان يحتسي كأس النبيذ فيمسكها بيده فيرتشف منها الجرعة(310/75)
بعد الجرعة في اعتدال وهدوء. فلما انتهى من الطعام قام فوضع ذراعه على كتف مدام منريت وأشار إلى زجاجة من نبيذ بردو عرفها لمجرد النظر إليها، وكان يخاطبها باسم ماما فقدمت إليه شيئاً منها
وفي أثناء تناول القهوة دعاهم الدكتور للتدخين، فقام فاتو دون أن يشير إليه أحد بذلك فقدم إليهم لفافات التبغ. ولم ينس أن يوقد لكل منهم لفافته ثم تناول لفافة فأوقدها وجلس يدخنها بلذة واستمتاع
وكان فاتو يرتدي قميصاً فسيحاً وسروالاً خفيفاً وينتعل حذاء من الخيش. وقد أعد له الدكتور حجرة خاصة تحتوي على منضدة وكرسي وسرير ومشجب وبها حمام خاص يستعمله بنفسه وهو يتنقل في حجر المنزل بحرية تامة
وقد شرح الدكتور منريت طريقته في تربية هذا الحيوان فقال: إنه لم يدربه على شيء كما يفعل أصحاب السيرك، وإنه ألف هذه الحياة من تلقاء نفسه ولم يعلمه أحد من الأسرة أي شيء. وقال إن تربيته تختلف عن تربية الأطفال، فقد تعلم من تلقاء نفسه كيف يفتح الباب أو يغلقه، وكيف يفتح النور وكيف يستعمل الشوكة والملعقة والسكين عند تناول الطعام، وهو ينطق كلمة (ماما) أحسن من أي كلمة أخرى وقد حفظها عن أطفاله. ومن رأى الدكتور منريت أن هذه الكلمة هي أول كلمة نطقها الإنسان بدليل وجودها في جميع اللغات وينطقها القرد آلياً بمجرد فتح الفم وإغلاقه مرتين(310/76)
البَريدُ الأدبيّ
1 - مناوأة الخدر والنعاس
في العدد السابق من الرسالة كتب الصديق الفنان الأستاذ زكي طليمات (تعليقاً وتذييلاً) لقصة الفتور في الأدب المصري فراجع بعض ما يراه الأستاذ توفيق الحكيم وبعض ما ذهب إليه فجاءت كتابته جياشة بالمعاني؛ ولعل القراء وقفوا عندما قال فيهم وتدبروه، قال: (فإذا كان النتاج الأدبي في مصر لا يقابل من الجمهور بالحماس الواجب، فلأن الفتور مفروض على كل شيء يجري في مصر، ولأن عدم الاكتراث صفة - ويا للأسف - من صفات الأكثرية الغالبة من الجمهور المصري لا سيما فيما له علاقة بالأدب والفن). غير إني لا أرى كل هذا الرأي، فالذي عندي ما كتبته في هذا الباب من الرسالة لعددين مضيا، ومجمله أن الجمهور المهذب من القراء يرغب عن أدب التسلية والإنشاء التعليمي ويقدر ما يستحق التقدير إلا أنه قليل
2 - ديوان يظهر في قلب الصيف
ستخرج مطبعة مصرية ديوان شعر بعد شهر وبعض شهر، والديوان مهيأ للطبع منذ ثلاثة أشهر، وإن أنت عجبت للأمر فقلت: كيف يخرج ديوان في العهد الذي فيه يقعد الحَرُّ الناس ويصرفهم عن القراءة ويسيرهم إلى الشواطئ والمصايف القريبة والنائية، فأعلم أن بهذا الديوان غني عن جمهور القراء، إذ أن مؤلفه من أصحاب الحظوة العالية في وزارة المعارف، وحسب ما تقتنيه الوزارة من النسخ. . . قصة معروفة: إن المال الموقوف على تشجيع التأليف في وزارة المعارف لمحبوس - إلا أقله - على إعانة رجالها وأصدقائهم!
3 - في النقد الأدبي
يعنى الدكتور إسماعيل أحمد أدهم بكتابة فصول في الأدب العربي الحديث. فأخرج مبحثاً في الدكتور طه حسين بك وآخر في الأستاذ توفيق الحكيم (في مجلة الحديث الحلبية) وهو يواصل نشر مبحث في الأستاذ خليل مطران في مجلة المقتطف. ومزية كتابة الدكتور أدهم أنها منصرفة إلى النقد القائم على الوجهة الموضوعية لا الذاتية، كما نقول اليوم. والحق أن النقد عندنا أكثره مجرى على الطريقة التأثرية. وهكذا ترى الدكتور أدهم يميل مع ناقدين(310/77)
أو ثلاثة من أهل مصر ولبنان إلى جمح التأثر وتحديده ومراقبته حتى تتغلب المعرفة على الإحساس. ألا أني أرى فيما يكتب الدكتور أدهم موضوعين للنظر: الأول اعتماده على الآراء القبلية والمسلّمات والمقبولات. وترى ذلك في الفصل الأول والثاني اللذين كتبهما في خليل مطران، ومثل هذا الأسلوب أجنبي عن طريقة النقد الموضوعية؛ لأن هذه الطريقة تذهب من الواقعات إلى النظر ومن الخاص إلى العام: فلا يتكلم الناقد مثلاً على لون من ألوان الشعر ليدل بعد ذلك على أن شاعراً من الشعراء ينظم على ذلك اللون، بل يجري على عكس ذلك. ومن هذا أيضاً أن الدكتور أدهم يقرر القضية من باب الارتجال فيستخلص منها ما يستخلص: من ذلك قوله في مطران (المقتطف يونيو 1939 ص 87): (وقد خلص الخليل من هذه السنين (سنين الطفولة) بطبيعته الاجتماعية التي تميل إلى خلق جملة صلة اجتماعية مع الناس). فإني لا أفهم هذا النحو من التفكير (الموضعي) وكأني بالدكتور أدهم اقتبس مني (انظر (مباحث عربية) ص 76) هذا التعبير: (جملة صلة اجتماعية) مع ما ينظر إليه باللغة الفرنسية، من دون أن يحسن استعماله في مجرى حديثه، على ما يبدو.
وأما الموضع الثاني فإهمال الدكتور أدهم لاستقصاء المصادر. من ذلك ما فاته من مراجع فن توفيق الحكيم. فقد كان يحسن به أن يلتفت إلى ما كتبته في هذا الباب في مجلة الشباب (9 مارس سنة 1936) ومجمله: أن كلام توفيق الحكيم في مسرحياته الأولى على أن (الكائنات ظواهر لا حقائق) وما يترتب على ذلك من صراع بين الواقع والحلم، وبين الزمان والتاريخ وبين الشهوة والرغبة، إنما هو أصلاً لكاتب مسرحي فرنسي يدعى ومن تآليف هذا الرجل (إنما الزمان حلم) (سنة 1919) و (آكل الأحلام) (سنة 1922) و (الرجل وأشباحه) (سنة 1924). ثم إن في قصص توفيق الحكيم مظهراً آخر مستمداً من الأول وبيانه: أن الإنسان يسيّره ما لا يعرفه وما لا يقدر على مقاومته. وهذا الرأي الآخر يرجع إلى كاتب بلجيكي يدعى موريس ميترلنك (وإلى إبسن قبله). بقى أن الأستاذ توفيق الحكيم ينحو نحو ميترلنك في إنشاء ما يقال له في فن المسرح (الجو)، وجو القصة المسرحية قائم على بث الأنوار، وتوزيع الأثاث وإجلاس الممثلين، إلى غير ذلك. وجو المسرحية عند الحكيم كجو المسرحية عند ميترلنك من حيث الميل إلى بسط الإبهام على(310/78)
المناظر وإثارة الأوهام في نفس الناظر.
وليس معنى هذا أن توفيق الحكيم لم يأت بشيء من عنده. فقد كتبت قبل اليوم أنه (يحكم سرد الرواية ويحكم الحوار ويحكم تهيئة البيئة؛ فهو صاحب فن حقاً)، وقد استشهد الدكتور أدهم فيما كتبه بهذه الجملة (ص 357)
وبعد، فإني أدعو من يعني بالفصل الذي كتبه أدهم في الحكيم - وهو فصل حقيق بالعناية - أن يرجع إلى نقد الأستاذ صديق شيبوب لذلك الفصل في صحيفة البصير (12 مايو 1939)، فإنه جم الفائدة.
بشر فارس
الأتراك والحرف العربي
كنت نشرت في الجزء (226) من السنة الخامسة للرسالة الغراء - مقالة عنوانها (الحرف العربي والإفرنجي) نعيت فيها على هؤلاء الترك استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقلت فيها: (وأما ذلك التجديد فليس لليوم أن يقضي فيه قضاءه، وللغد الحكم فننظر أأحسن القوم أم أساءوا) وبينت أن الحرف الإفرنجي هو الحرف العربي نفسه، وأصل الحرفين معلوم، غير أن الزمن قد حسن الثاني أي العربي وهذبه
وإن ما صنع الترك هو أنهم انقلبوا يسطرون أو يخربشون من الشمال مبذرين مضاعفين الكلمة، وكانوا يكتبون من اليمين موفرين الوقت الثمين والكاغد
وقد قرأنا اليوم في الصحف هذا الخبر من أنقرة:
(أنقرة - أخذت الأوساط التركية تفكر باستعمال الحروف العربية بعد أن قامت عدة صعوبات في استعمال الحروف اللاتينية، ويقال إن حكومة الجمهورية قد تفكر في إلغاء القرار القاضي بمنع استعمال تلك الحروف)
فإذا صدق هذا الإعلام - ولا أستبعد صدقه - فقد عقل القوم من بعد السفه، وصحوا من سكرهم، وأحسنوا إلى أنفسهم وأدبهم وتاريخهم - على ضؤولة
قدرها - وإلا فإصرار المبطل على الضلالة والباطل لا يدل على أنه محق
الإسكندرية(310/79)
* * *
على فراش الموت
أصدرت دار الهلال أخيراً كتاباً عنوانه (على فراش الموت) من تأليف الأستاذ طاهر الطناحي. وهو كتاب محكم الوضع طريف الموضوع مختلف الجني بين اللذة والفائدة والعبرة، وقد أهداه إلى الأستاذ أمين الخولي فكتب إليه هذا الكتاب:
إلى الأديب الكبير الأستاذ طاهر الطناحي. . .
تحية وسلام. وبعد فقد تلقيت كتابكم عن اللحظات الأخيرة وأثر فيّ تناولكم الدقيق لتلك اللحظات من اليقظة التي تتكشف فيها النفس عن جوهرها السماوي، وتستقبل الحياة الثانية بصفاء كدرته طوال تلك الحياة الدنيا أوهامها وأخاديعها
نظرت فيما دونت من حال العظماء في تلك الدقائق الرهيبة، آخر عهدهم بالدنيا وأول عهدهم بالآخرة، فتجسم لي قول من سلف: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وشعرت أن من كمال الترجمة لعظماء العالم أن تعرض لنا حياتهم في تلك الأويقات الختامية؛ وكأنما (فراش الموت) بساط ساحر لا ينتهي مداه، فهل أقول لك: ابسط منه ما استطعت وحدث الناس في أجزاء أخرى عن تلك اللحظات على باب الأبدية، وعتبة الحياة الثانية، واكشف من نفوس المعدودين ما لا ينكشف إلا في تلك البرهة الدقيقة الجليلة؟
إن الموضوع رائع رهيب؛ وقد بدت تلك الروعة والرهبة في تناوله. وفي لمحات قصيرة نظرت فيها إلى هذا المؤلف غمرتني تلك الروعة والرهبة، وشعرت فيما شعرت به حين كتبت فصلك عن (الحب والموت) على ما أظن. . . مزيج من الخشية والتسامي إلى عوالم اللانهاية
أشكرك وأحييك، وأبعث إليك مع سلامي أطيب تمنياتي
أمين الخولي
اصطلاح جديد
سيدي الأستاذ الزيات(310/80)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فلقد قرأت مقال أستاذنا الفاضل أحمد أمين (أدب الروح وأدب المعدة) فألفيتُ مطلعه هكذا: (هذا اصطلاح جديد أضعه لنوعين من الأدب يتميزان كل التميز، ويختلفان كل الاختلاف، لعل في وضعه فائدة في تقويم الأدب وصحة تقديره). وما بي من عزم على أن أعرض لما جاء في ثنايا الموضوع من آراء، فأنا أحترم رأي الأستاذ وإن بعُد ما بيني وبينه، ولكني أريد أن أقول: إن هذا النوع من المقابلة - وهو طريف - لم يكن ابن الساعة، فطالما سمعته يجري على لسان أستاذنا المرحوم الرافعي في صور، وهو جرى على قلمه أيضاً في صورة أخرى. ففي وحي القلم الجزء الأول ص 84 س 1 جاء ما نصه: (. . . لستُ المدير بما في نفس أحمد، ولا بمعدته وبطنه. . .) وفي ص 135 س 12 من نفس الجزء جاء: (أفيؤرخ الإنسان يومئذ بتاريخ معدته وما حولها، أم بتاريخ نفسه وما فيها؟) وفي ص 212 س 4 من الجزء الثاني جاء: (. . . ويتعامل الناس في الشرف على أصول من المعدة لا من الروح. . .) ولو ذهبت أتقصى هذا التعبير فيما كتب الرافعي - رحمه الله - لكلفت نفسي شططاً، وحسبي هذا برهاناً على ما رأيت، والسلام
كامل محمود حبيب
كيفية ظهور الحياة على الأرض
سيدي رئيس تحرير الرسالة:
سلاماً وتحية. أما بعد فقد قرأت مقالة الأستاذ المنقبادي في عدد الرسالة الأخير (309) عن كيفية ظهور الحياة على الأرض. فوجدت فيها كثيراً من الخطأ أبين وجهه وصوابه فيما يلي:
فالأستاذ يبني كلامه على حقيقة لم يقل العلم فيها إلى الآن كلمة (الفصل): فهو يقول إن الكائنات الحية خاضعة لنواميس الطبيعة. ولكن الواقع أن كثيراً من ظواهر الأحياء كالحركة والتفكير والغرائز - لا زالت تحير العلماء - ولما يجدوا لها تفسيراً مقبولاً. ولا زال علماء الحياة يعتبرون أن هناك قوة أسمها الحياة لا يدركون كنهها، ولكنهم يرون أثرها.(310/81)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأستاذ يستنتج من هذه الآراء نتائج غير صائبة. فيقول: إن السبب الطبيعي لنشوء الحياة هو حرارة الشمس، والأشعة البنفسجية التي كانت تبعثها في فجر الحياة. فلو سلمنا أن حرارة الشمس كانت حينئذ أشد منها الآن بمراحل - كما يقول الأستاذ - فإن هذا يدحض رأيه. فالحرارة الشديدة لا تساعد على نشأة الحياة وازدهارها، وإن كانت تساعد التفاعل الكيميائي. وذلك لأن البروتوبلازم (المادة الحية) يصاب بالضرر إذا اشتدت الحرارة كما هو معروف لكل من درس علم الأحياء. . . والواقع أن الشمس لم تتغير كثيراً منذ نشأة الكواكب السيارة، ومنذ ظهور الحياة على الأرض. فإن ثلاثة الآلاف من ملايين السنين ليست إلا يوماً في حياة الشمس): (النجوم في مسالكها تأليف السير جيمس جينز وترجمة الدكتور الكرداني)
ولو سلمنا برأي الأستاذ لتحتم أن توجد الحياة في بعض الكواكب السيارة الأخرى التي وقعت تحت نفس الظروف التي وقعت تحتها الأرض كالمريخ مثلاً. ولكن (يظهر أن احتمال وجود الحياة على المريخ أو على أي كوكب سيار آخر في المجموعة الشمسية لا يمكن أن يسمى احتمالاً قوياً) (النجوم في مسالكها السالفة الذكر)
ويخبرنا علم الجيولوجيا أن الحياة لم تظهر غالباً إلا بعد مدة طويلة من نشوء الأرض. وأقدم الحفريات (وهي بقايا الكائنات الحية الموجودة ضمن الصخور) يقل عمرها عن نصف عمر الأرض، أي إن الحياة لم تظهر غالباً إلا بعد انقضاء نصف الزمن الجيولوجي. وهذا يخالف ما يذهب إليه الأستاذ من أن الحياة نشأت حينما نشأت الأرض
وقصارى القول أن منشأ الحياة لا يقدر أحد أن يجزم بزمانه أو كيفيته. ولعل تقدم العلم - المبني على التجارب والحساب لا على الخيال - ينير لنا هذه المسائل. والسلام.
منير أمين ملطي
توحيد المصطلحات الطبية في العربية
وافق مجلس الوزراء على مذكرة لوزارة الخارجية قالت فيها: إن الجمعية الطبية المصرية طرحت موضوع (توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية) على مؤتمرها الأخير الذي عقدته في أوائل سنة 1938 في بغداد فأصدر قراراً اقترح فيه مقترحاً فصلت الجمعية(310/82)
الطبية قواعده فيما يلي:
أن تتصل الحكومة المصرية بحكومات الأقطار العربية في الشرق الأدنى للاتفاق على ما يأتي بصفة رسمية:
أولا: أن تؤلف كل منها في بلادها لجنة من الأطباء واللغويين للنظر في موضوع توحيد المصطلحات العربية للعلوم الطبية أي اختيار أفضل تلك المصطلحات للاستعمال، ويراعى في اختيار هذه اللجان أن تمثل فيها الجمعيات الطبية المختلفة
ثانياً: أن تنتدب كل من تلك الحكومات من أعضاء اللجان المشار إليها عضوين للاشتراك في لجنة دائمة تجتمع بالقاهرة شهراً في كل سنة على نفقة تلك الحكومات لبحث المصطلحات العربية المقترحة بواسطة اللجان المشار إليها أو الوارد في المعاجم الطبية العربية والبحوث اللغوية الطبية في مختلف البلاد واختيار أصلحها للاستعمال
ثالثاً: أن تكون قرارات اللجنة الدائمة المشار إليها معترفاً بها للاتباع في جميع المعاهد التعليمية والطبية في الدول المشتركة بحيث تتوحد المصطلحات الطبية العربية في جميع معاهدها وبالتالي في جميع مؤلفاتها ومجلاتها وعلى ألسن أطبائها
رابعاً: أن يكون انعقاد اللجنة الدائمة في كلية الطب أو مجمع فؤاد الأول اللغوي بالقاهرة، وتتولى الجمعية الطبية المصرية الإشراف على سكرتيرة اللجنة، وتتحمل وزارة المعارف المصرية النفقات الخاصة بالسكرتيرة والمراسلات والمطبوعات التي تصدرها اللجنة
جائزة (أمير ونجن)
تلقت قنصلية الأرجنتين في الإسكندرية من جمعية مكافحة السرطان الفرنسية أنها منحت الأستاذ الدكتور انجل روفو مدير معهد الأبحاث الطبية في (بونس إيرس) عاصمة الأرجنتين جائزة (أمير ونجن) ومقدارها 100 ألف فرنك، وذلك لتقديمه إلى الجمعية أفضل الأبحاث الطبية الدولية عن (تأثير الطعام في إنماء السرطان) وقد سلمت الجمعية قيمة الجائزة إلى الدكتور كركانو وزير الأرجنتين المفوض في فرنسا، لإبلاغها إلى الفائز بها
وقد قرر الدكتور روفو الاكتفاء بالشهادة الممنوحة له من الجمعية، أما الجائزة المالية فقد تبرع بها لحكومته لتنفقها في الأبحاث الطبية، على أن ينتدب لهذا الغرض طبيب أرجنتيني يسافر إلى فرنسا لمدة سنة لأجراء أبحاثه هناك، وطبيب آخر فرنسي يقدم إلى الأرجنتين(310/83)
لعمل مثل هذه الأبحاث
الشعبة المصرية لمعهد التعاون الفكري
بين القرارات التي اتخذتها الشعبة المصرية لمعهد التعاون الفكري، تحديد قيمة الاشتراك السنوي الذي تدفعه مصر للمعهد وجعلها خمسمائة جنيه في العام
ودرست الشعبة مشروع مرسوم بتنظيم أعمالها ومشروع لائحتها الداخلية وبحثت مسألة اختيار أعضائها، واستقر الرأي على أن يكون بعضهم ممثلاً لهيئات علمية وأن يختار البعض الآخر بصفتهم الشخصية
واقترح سكرتير الشعبة الأستاذ محمد العشماوي بك وكيل المعارف أن تمثل الشعبة في المؤتمر المزمع عقده في مصر لتوحيد الثقافة بين البلدان العربية، فوافق المجتمعون على هذا الرأي على أن يمثل الشعبة في الأعمال التمهيدية للمؤتمر: الدكتور منصور فهمي بك مدير دار الكتب، والأستاذ أحمد أمين رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر
ووافق الأعضاء على تأليف مكتب مؤقت يضم سعادة لطفي السيد باشا رئيس الشعبة، والدكتور علي إبراهيم باشا وكيلها ومحمد العشماوي بك سكرتيرها العام، والدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك
وعرضت على اللجنة مذكرة مقدمة من الأستاذ محمد قاسم بك عميد دار العلوم ومندوب الحكومة المصرية في المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية الذي عقد في أغسطس الماضي بمدينة زوريخ بسويسرا. وقد تضمنت المذكرة طائفة من المقترحات خاصة بوضع فهرس عام يجمع شتات المصادر المطبوعة للتاريخ المصري، ووضع قاموس للتراجم المصرية، ووضع مصور تاريخي يبين أهم تطورات التاريخ المصري إلى غير ذلك. وقد عهدت الشعبة إلى لجنة مؤلفة من مقدم المذكرة، والأستاذ محمد شفيق غربال عميد كلية الآداب ومسيو دريوتون مدير مصلحة الآثار، ومسيو فييت مدير الآثار العربية - درس هذه الاقتراحات
جمعية الفنانين المصرية
ستقام مباراة في فن الخط العربي للفنانين المصريين والأجانب يدور موضوعها حول كتابة(310/84)
اسم الجمعية. وللمتسابق الحرية في انتقاء نوع الخط وحجمه على أن يذيل النماذج بإمضائه واسمه وعنوانه، ويرسلها إلى مقر الجمعية رقم 6 شارع فؤاد الأول مصر، في موعد لا يتجاوز يوم 27 يونيو عام 1939
وقد تقرر لها جائزة مبلغ جنيه مصري. وللمتسابق الحق في أن يتقدم بأكثر من مخطوط
ج. روفائيل(310/85)
الكتب
تاريخ التعليم في عصر محمد علي
تأليف الأستاذ أحمد عزت عبد الكريم
للأستاذ علي إبراهيم حسن
ألف حضرة الأستاذ أحمد عزت عبد الكريم مدرس التاريخ الحديث المساعد بكلية الآداب كتاباً عن (تاريخ التعليم في عصر محمد علي). وقد درست هذا الكتاب أو بالأحرى هذا المجلد الضخم الذي تزيد صفحاته على ثمانمائة صفحة فوجدته درساً دقيقاً وإحاطة شاملة وبحثاً مستفيضاً لتاريخ التعليم في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهي الحقبة الهامة التي شهدت تكون إمبراطورية محمد علي وتحول مصر إلى دولة عسكرية فتية آخذة بأسباب الحضارة الحديثة.
وقد نحا المؤلف نحو العلماء الباحثين في بحثه، فسرد الوقائع وأردفها برأيه الشخصي، وعلق على الحوادث بآرائه التي تدل على الفطنة ودقة الحكم والتمييز. وقد استند المؤلف في بحثه إلى مراجع كثيرة ما بين عربية وإفرنجية وتركية. كما استند إلى وثائق ومخطوطات بقسم المحفوظات التاريخية بديوان جلالة الملك.
ولسنا نستطيع في هذه العجالة أن نفيض في الحديث عن كل فصول هذا الكتاب الضخم، وحسب القارئ أن يرجع إلى الفهرس التحليلي الذي أورده المؤلف في صدر الكتاب.
قسم المؤلف فصول كتابه تقسيماً منطقياً إلى ستة كتب وثلاثة وعشرين فصلاً، فتكلم أولاً عن التعليم قبل محمد علي وهو التعليم الديني في الأزهر والكتاتيب والتربية التي كان يأخذ بها الأمراء مماليكهم، والتأثير الفكري الذي استحدثته الثورة الفرنسية في الثقافة المصرية. وانتقل المؤلف من هذا الفصل إلى فصل ألم فيه إلماماً عاماً بسياسة محمد علي في التعليم فعرض لنا فصولاً شائقة في جهود العاهل الكبير في إنشاء المدارس وبعث البعوث وترجمة الكتب ونشرها والأغراض التي كان يتوخاها من النهضة التعليمية. ثم عرض المؤلف مسائل هذه السياسة عرضاً تمهيدياً مبيناً ما بينها وبين وسائل التربية الفرنسية من شبه ومن خلاف، والأثر الغربي في النظام التعليمي الحديث في مصر. ثم أخذ المؤلف في(310/86)
شرح تطور هذا النظام التعليمي في عصر محمد علي، فتحدث عن نشأة التعليم الحديث في مصر من 1811 إلى 1833 ثم عن إنشاء شورى وديوان المدارس وقد حقق تاريخ إنشاء هذا الديوان واختصاصه وكبار موظفيه تحقيقاً قال عنه أستاذنا شفيق غربال إنه (يصح أن يكون مثالاً لكيفية استخراج الحقائق التاريخية من الوثائق الرسمية)
ثم انتقل المؤلف إلى حركة التعليم في سنة 1841 والنهضة التعليمية التي جدت في السنوات الأخيرة من عصر محمد علي والتي كانت ترمي إلى تجديد الأساليب التعليمية وإلى نشر التعليم بين الأهالي. وفي الكتاب الثالث فصل المؤلف الكلام على معاهد الدراسة الابتدائية والتجهيزية والخصوصية ومناهج التعليم في مراحله الثلاث وخططه، وأتى بإحصاءات دقيقة لهذه المعاهد وعدد تلاميذها وكتب الدراسة بها طوال عصر محمد علي
وقد عنى المؤلف بالحديث عن البعوث العلمية فنقد نظامها وتحدث عن أوجه انتفاع البلاد بأعضائها، ثم سرد إحصاءات طريفة عن البعوث المختلفة في عصر محمد علي. وقد خصص المؤلف فصولاً ممتعة في الحياة المدرسية وكل ما تعلق بها. ثم أعاد بحث المسائل التي ابتدأ بها مستعيناً في نقده بما أورد في الكتب السابقة من التفصيل، فتحدث - في الكتاب الأخير - عن العلاقة بين التعليم القديم والتعليم الحديث ومدى تأثير كل منهما في الآخر وعلاقة الدولة والمجتمع بكل من التعليمين. وفي الفصل الثاني من هذا الكتاب نقد المؤلف النظام التعليمي الحديث في عصر محمد علي مبيناً ما به من أوجه الضعف وأخصها إهمال التعليم الأول وضعف الصلة بين مراحل التعليم والمركزية في إدارة التعليم وضعف مناهج الدراسة. ثم انتقل المؤلف إلى بيان الصلة التي نشأت بين المدرسة المصرية والمجتمع المصري في النصف الأول من القرن التاسع عشر
ولم يختم المؤلف كتابه إلا بعد أن عقد فصلاً ختامياً تحدث فيه عن مدى نجاح النظام التعليمي الذي أنشأه محمد علي في مصر من حيث توجيه البلاد إلى التعليم الحديث واتصالها بالحضارة الأوربية وتوطيد زعامة مصر في الشرق العربي ونهضة اللغة العربية. وختم المؤلف كتابه بفصول إضافية في تاريخ المعاهد الخارجة عن النظام القومي كمدارس الجاليات الأجنبية والطوائف الدينية غير الإسلامية، وبصور عن بعض الوثائق الهامة كلوائح الدراسة وتقارير الامتحانات والتفتيش، وبنقد للمراجع التي رجع إليها، وبيان(310/87)
مفصل لسجلات الوثائق الرسمية التي استمد منها مادة البحث وخاصة السجلات التركية والعربية لديوان المدارس في عصر محمد علي، وفي نهاية الكتاب يرى القارئ (لوحات) طريفة لنماذج من الوثائق التركية والعربية والفرنسية يرجع عهدها إلى عصر محمد علي، قصد بها المؤلف - كما قال في مقدمته -: (نقل بعض الوثائق ذات الأهمية التاريخية العظيمة وبيان أسلوب ذلك العصر في تقييد أوامر الوالي ومكاتبات الدواوين وطريقة العمل في الدفاتر التركية والعربية لديوان المدارس، وتقييد نتائج الطلبة المبعوثين لطلب العلم في فرنسا). نذكر من بين هذه اللوحات - على سبيل المثال - الوثيقة الأصلية لأمر محمد علي بإنشاء ديوان المدارس وأختام ديوان المدارس التي كانت تبصم بها قراراته وسجلاته، ومضبطة أول جلسة عقدها شورى المدارس، والجلسة التي أعلن فيها إنشاء الديوان، وصورة التقرير الذي كتب بالفرنسية عن امتحان الخديو إسماعيل عند الالتحاق بمدرسة سان سير بفرنسا في أكتوبر سنة 1848 وفيه بيان أسئلة الامتحان والدرجات التي نالها في كل منها الخ. . .
وقد صدر الكتاب بتقديم تاريخي نفيس في أربع عشرة صفحة بقلم أستاذنا المؤرخ الجليل (محمد شفيق غربال) عميد كلية الآداب وأستاذ التاريخ الحديث بجامعة فؤاد الأول وصاحب الفضل في تخريج عدد كبير من الشبان الباحثين في التاريخ. تحدث أستاذنا في مقدمته عن الوثائق التاريخية (وحق المؤرخ) فيها وجهود المغفور له الملك فؤاد - طيب الله ثراه - في حفظها وتشجيع الباحثين على الاستفادة منها، ثم تحدث عن اتجاه (المؤرخين الشبان) نحو دراسة (الإصلاح المحمدي العلوي) وذكر منهم مؤلف الكتاب الذي نتحدث عنه اليوم فأظهر النواحي التي أهلته للكتابة في تاريخ التعليم في مصر. ثم انتقل أستاذنا العلامة إلى الحديث عن محمد علي والتعليم فعرض لنا صورة بديعة (لمنظر الرجل الذي لم يتزود من تعليم المدارس يستحث رعيته على طلب العلم، وينفق النفس والنفيس في تهيئة وسائله لهم) ودرس خطة محمد علي في التعليم وأهميتها (لأهل الجيل الحاضر في مواجهتنا مستقبل الثقافة في مصر).
و (التعليم) عند المؤلف يمثل ناحية هامة من نواحي النشاط السياسي والاجتماعي لمصر الحديثة. وعلى هذه الفكرة بنى المؤلف بحثه حتى جاء كتابه بحثاً تاريخياً بيداجوجياً يجد(310/88)
فيه المؤرخون بحوثاً واسعة في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، كما يجد فيه رجال التربية والتعليم بحوثاً أخرى في نظم التربية وتطورها في مصر في ذلك العصر ونظريات بيداجوجية عن تعليم الطفل والبالغ وعلاقة المدرسة بالمجتمع ومدى تأثير كل منهما في الآخر. ولذلك فهو مجموعة لا غنى عنه لطلبة (التاريخ) بكلية الآداب، وطلبة المعاهد والمدارس التي تدرس التربية كدار العلوم ومعهدي التربية للبنين والبنات ومدارس المعلمين والمعلمات والمهتمين بدراسة التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر الحديثة والمشتغلين بالتربية والتعليم.
علي إبراهيم حسن
مدرس التاريخ بالمدرسة الخديوية(310/89)
العدد 311 - بتاريخ: 19 - 06 - 1939(/)
من صور الماضي. . .
كان الفلاح في القرن الماضي يكابد صِنفاً من الخَلق صورهم الله على مثال عجيب من خفة الصقور وفتكة النمور وهيئة الناس ليكونوا مذكرين بجبروته ومنذرين بعذابه! كانوا من الأرناءود أو الجركس؛ وكان عملهم جباية الضرائب على كل شيء، ومن كل شخص، وفي كل وقت، وبكل صورة؛ أو اقتحام الدور للبحث عن المحظور أو المحكور من الملح والصابون إذا اقتناهما أحد من غير طريق الحكومة. وكان سبيلهم إلى ذلك سبيل الإرهاب والعنف؛ فمتى دخل أحدهم قرية من القرى دخلها الفزع والروع فلا يملك السائر أن يتقدم، ولا الواقف أن يتكلم، ولا الداخل أن يخرج؛ ثم تخشع في القرية الحياة فلا تسمع حساً ولا حركة إلا هرير الكلاب وقوقأة الدجاج وصراخ الصِّبية! فإذا خرج منها (الجندي) كما كانوا يسمونه انطلقت من ورائه ضجة شديدة في البلد من بكاء المضروب وصراخ المنهوب ودعاء المضطرب!
فلما انتظمت أداة الحكومة بعد الثورة العرابية أنكمش هذا النوع حتى انحصر رهبوته في ضياع الأمراء و (جفالك) السادة. وكانت قريتنا وسبع قرى أخرى متجاورة قطائع لعلي باشا شريف في أواخر القرن الماضي؛ وكانت الإمارة والإدارة فيها لهؤلاء والأرناءود أو (الأرنطة) كما كنا نقول، ففرضوا عليها نظاماً في العيش أخذوه عن حياة الحيوان وعيشة العبد. فكان الناس، كما يحدثنا الباقون منهم، لا يملكون مالاً ولا حرية ولا حياة؛ وإنما كانوا يعملون بالتعذيب ويُغَلون بالكره، كما تعمل الماشية بلسعات السوط وهي صابرة، وتُغَلُّ الأرض بضربات الفأس وهي صامتة. وكان لفظ (المأمور) معناه الموت الذي لا عاصم منه ولا مهرب. ذلك أنه كان يخرج كل يوم على جواده إلى الحقول، شاكي السلاح، كاشر الوجه، منفوخ اللغاديد، مفتول الشارب، متوقد النظر، كأنه تمثال الرعب أو صورة الهُولة! ثم يسير متلفتاً ذات اليمين وذات الشمال لا لتفقد العمال ويتعهد الزروع، ولكن ليبحث عن إنسان يعذبه أو حيوان يضربه. والناس قد تعودوا منه ذلك فهم لا ينفكون طول النهار يرقبون ناحيته ويرصدون طريقه؛ حتى إذا أبصروه من بعيد غابوا في مخابئ الأرض كأنهم لم يكونوا! فإذا عاد من طوافه خائب السوط جلس أمام الدوار وأمر أن ترش الأرض وأن يلقي في وحلها من جاءه في طلب حاجة أو رفع مظلمة! ثم يصيح بالجلاد أن ينهال عليه بالكرباج، وهو في خلال ذلك يميد من الغضب ويبربر من الغيظ حتى تهدأ ثورته(311/1)
وترضى كبرياؤه بعد لأي! وكان العمد والمشايخ منوطين به، فلا يسمعون الأمر والنهي إلا منه، ولا يرفعون مشاكل القرى وقضاياها إلا إليه. لذلك ظل أهلوها يجهلون أن لهم خديوياً غير علي شريف، و (نظاراً) غير نظار الزراعة، و (مأموراً) غير مأمور التفتيش. وكان هذا (الحاكم) كسائر بني جنسه مغلق الذهن مطبق الجهالة؛ يجهل الزراعة ولكنه يأمر، ولا يعلم القضية ولكنه يحكم، والجاني المحكوم عليه هو الذي يجرؤ على أن يعقِّب أو يعارض. وكان سادته لا يفوقونه في الذكاء ولا في الرحمة؛ فكانوا إذا زاروا هذه القرى - وقليلاً ما كانوا يزورون - تنكبوا بنادقهم وخرجوا يقتلون الوز في البرك، والحمام في الأجران، والكلاب على التلول والغربان على الشجر. ويراهم الناس فيرنون إليهم دهشين من طرابيشهم الحمر على وجوههم البيض، ويظنون أن وراء هذا الرواء جمال القلب وكرم النفس؛ فإذا دنوا منهم يسألونهم الإحسان والعدل زموا بأنوفهم ومضوا مستكبرين لا ينظرون ولا يجيبون!
أذكر وأنا صبي دون اليفاعة أن الناس كانوا يتحدثون عن جبار من هذا الطراز اسمه (زينل). كانوا عه كما يتحدثون عن البلاء، ويؤرخون بعهده كما يؤرخون بالوباء، لأنه أذلّ الفلاحين بالخوف والجوع، وأضاع شبابهم بين التربة والغربة. ولا تزال الألسنة هنا وهناك تتناقل هذه المأساة من مآسيه:
يقولون إنه كان في القرية من هذه القرى شاب لم تلد نساؤها أجمل منه وجهاً ولا أشجع منه قلباً ولا أرقعاطفة. وكان هذا الشاب بحكم شبابه وجماله وكرمه حبيباً لكل فتاة وصديقاً لكل فتى، ولكنه كان كلفاً ببنت عمه، فهي وحدها حافز عمله وغاية أمله وروح حياته
وفي ذات عشية من عشايا الصيف كان علي وليلى عائدين من الحقل وهما ينسمان بالحب الخالص، ويبسمان للغد المرجو، فغلبت على العاشق نشوة الطرب من جلال الطبيعة وجمال الفتاة، فقال وهو يقدم إليها آخر قطعة بقيت في يده من الحلاوة:
- ألا تشتهين شيئاً في الدنيا غير هذه الحلاوة يا ليلى؟
فقالت له ليلى بعد لحظة من الصمت الحالم:
- لا أشتهي بعد قربك يا علي إلا عنقوداً من العنب!
عنقود من العنب؟ إن الثريا أقرب إلى يديه من هذا العنقود! وهل رأى في دنياه العنب إلا(311/2)
في حديقة (التفتيش)؟ وماذا يصنع والدنو من سياجها هلاك محقق؟ ولكن الحب لا يدرك البعيد ولا يعرف المستحيل. فكمن عليٌّ بعد رجوعه من الغيط في كومة من دريس (الوسية) حتى جنه الليل فقام يتسلق سور من جانبه المظلم، فما بلغ أعلاه سقط في الحديقة فكانت سقطته في يد الحارس!
وبات علي في سجن الدوار. وأصبح الصباح فجلس المأمور والمعاونون والنظار، ورشت الأرض، وطُرح الجاني، وتعاقبت على جسده المعرَّى عذبات الكرابيج، والناس من حوله يضجون بالبكاء ويضرعون بالرجاء؛ و (الأغوات) يتلذذون برؤية الدماء المنزوفة والدموع المذروفة، ويطربون لسماع الأنات الضارعة والصرخات المتصلة، حتى كلت يد الضارب وخفت صوت المضروب فحملوه إلى السجن. وشفع العمدة لأهله أن يأخذوه. فلما دخلوا عليه لم يجدوا فيه وا أسفاه إلا حشاشة نفس لفظها على صدر حبيبته أثناء الطريق!
أحمد حسن الزيات(311/3)
كتاب فرويد عن موسى
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشارت الأنباء البرقية منذ أسابيع إلى كتاب العلامة فرويد عن أصل موسى الكليم عليه السلام وكان يومئذ على وشك الصدور باللغة الإنجليزية
والعلامة فرويد كما هو معروف أستاذ الأساتذة العالميين في علم التحليل النفسي، بدأ بالكتابة فيه عند أوائل القرن الحاضر ثم تفرعت على مذهبه فيه مذاهب أتباعه ومريديه ومعارضيه تارة بالتوسع والتأييد، وتارة بالتعديل والتنقيح، وتارة بالمناقضة والتفنيد
ونحن على مخالفتنا إياه في الرجوع بكل خليقة من الخلائق وكل عارضة من عوارض النفس إلى الغريزة الجنسية، وعلى إيثارنا لآراء بعض مريديه ممن يضيفون إلى الغريزة الجنسية النزوع إلى امتداد الشخصية، وعلى مما في نظرته إلى الفنون والآداب من الضيق والجفاف، نعتقد أن الرجل قد أضاف إلى معارف الإنسان ذخيرة قيمة من التحقيقات والتوجيهات التي لا تضيع سدى ولا تزال موضعاً للتصحيح والإتقان على تعاقب الأيام
وقد صدر كتابه عن موسى الكليم بالإنجليزية فإذا هو أعجوبة الفروض والاحتمالات، أو باعترافه هو أعجوبة التلفيقات والتخمينات؛ إذ كان من المتعذر عليه أن يرجع إلى حقائق التاريخ أو أساليب العلم في الاستقصاء، فأعتمد على الفروض وقال بصريح العبارة إنه لا يعتمد على شيء غير الفروض
وربما كان العجب الأعجب في الكتاب أن مؤلفه من بني إسرائيل وهو يحاول ما يحاول للرجوع بنسب موسى عليه السلام إلى مصر لا إلى إسرائيل
ولهذا استهدف الرجل للغضب من أبناء قومه قبل الغضب من الأجانب عنه وممن يخالفونه في الرأي والاعتقاد
ظنه الأول قائم على الاسم ومنشأه من اللغتين العبرية والمصرية القديمة
فبعض العبريين يزعمون أن موسى مأخوذة من (موشى) العبرية بمعنى المنتشَلْ أو المرفوع، ويقولون إن بنت فرعون انتشلته من النيل فسمته لذلك بهذا الاسم الذي يدل عليه
وفرويد يشكك في تصريف الكلمة، ويشكك في سبب التسمية، ويقول إنه على فرض صحة المعنى المنسوب إليها بالعبرية فليس من المعقول أن ابنة فرعون كانت تعرف لغة إسرائيل(311/4)
معرفة الفقهاء والنحاة المتعمقين في النحت والتصريف
أما الرأي الذي يؤثره فرويد فهو أن الكلمة مصرية عريقة معناها الطفل أو الابن، وأصلها البسيط (موس) باللغة المصرية القديمة، ولم يتغير معناها بعد ذلك في عصر من العصور
وقد كان المصريون يسمون أبناءهم تحوت موس أي طفل تحوت أو توت الإله المعروف
ويسمون أبناءهم بتاحموس أو أحموس ومعناها طفل بتاح ويسمونهم (راعموس) أي طفل راع وهو الاسم المشهور رعمسيس أو رمسيس
ثم كانت هذه الأسماء تختصر مع السرعة والترخيم والتدليل فيكتفي منها بالمقطع الأخير وهو (موس) أو موسى
وذلك على مثال الاكتفاء باسم (عبده) في نداء عبد الله وعبد الحميد وعبد الكريم، وعلى مثال جونسون وروبنصون وستيفنسون وموريسون واختصارها أحياناً بحذف مقطع منها في المناداة بين الأعزاء والأخصاء
فموسى على هذا هو اختصار اسم من هذه الاسماء، وهو لفظ عريق في لغة المصريين
والظن الثاني الذي يدعو فرويد إلى تخمينه هو فريضة الختان التي أخذها بنو إسرائيل من المصريين ولم تكن معروفة بينهم قبل هجرتهم من وادي النيل
فإذا كان بنو إسرائيل قد خرجوا من مصر ناقمين عليها وعلى أهلها فكيف يتشبهون بهم وهم خارجون منها أو خارجون عليها؟
إنما التأويل المعقول في رأي فرويد هو أن موسى كان أميراً مصرياً حانقاً على بني وطنه فهجره مع بني إسرائيل المتمردين ثم فرض عليهم عادات مصر وشعائرها فأطاعوه حباً ومجاملة واضطراراً ثم نكسوا في وادي التيه ومزجوا بعقيدته عقائد البادية فيما بين سيناء وفلسطين
ويعرض فرويد هنا كثيراً من الفروض والتخمينات ثم يرجح منها لأسباب يطول شرحها فرضاً يراه لتلك الأسباب قريب الاحتمال
ذلك الفرض هو أن موسى عليه السلام كان أميراً من أمراء البيت المالك على أيام الملك الموحد الداعي إلى الإله الفرد الصمد (أخناتون)
وإن أخناتون خلع من الملك واستبد خلفاؤه بأصحاب الأديان المخالفة لهم، فضاقت سبل(311/5)
البلاد بموسى وهو على عقيدة التوحيد ولم يجد أمامه أحداً يثور به ويطاوعه في تأسيس دينه ودولته غير هؤلاء الغرباء من الإسرائيليين وهم مثله يشكون ويتململون، فوثبهم وهاجر بهم إلى الحدود المصرية في انتظار الفرصة السانحة أو في طلب الملك والعقيدة الصالحة بمعزل عن كهان الوثنيين
والذي يعزز هذا الاحتمال أن اللاويين من بني إسرائيل كانوا يتسمون بأسماء فرعونية لا علاقة لها باللغة العبرية، وما كان هؤلاء اللاويون إذن إلا حاشية الأمير وذوي قرباه، إذ كان من المستبعد جداً أن يهجر وطنه منفرداً بغير ولي ولا قريب
قلنا: بل هناك احتمال آخر كان أولى بفرويد أن يرجحه على ذلك الاحتمال
فلماذا لا يقول مثلاً إن موسى كان إسرائيلياً من أسرة الرؤساء في بني إسرائيل فرباه فرعون مصر على سنة الملوك في تربية أبناء الرؤساء الذين يدينون لهم بالطاعة ويعترفون لهم بالرعاية؟
أليس هذا الرأي أقرب إلى التوفيق بين النقيضين من عادات مصر وعادات إسرائيل؟ ألسنا قادرين بهذا الفرض أن نفهم اقتباس موسى للعادات التي درج عليها وغيَّرته على أبناء جنسه في آن؟
وقد عرض فرويد لنشوء التوحيد في مصر وهو أمر ثابت لا جدال فيه ولا اعتراض عليه
وقال فرويد: إن بوادر التوحيد ظهرت بين المصريين قبل ظهور أخناتون الذي أتم هذه العقيدة وأفرغها في قالبها المحفوظ
وعلة ذلك عند فرويد أن اتساع الإمبراطورية المصرية قد استدعى توحيد الإيمان بإله واحد كما استدعى توحيد الطاعة لملك واحد
فإن فرعون مصر ما كان ليطيق العبادات الكثيرة والأرباب المتعددة التي لا تجتمع إلى وحدة موصولة ولا تزال سبباً متجدداً من أسباب الفتنة والتفرق والعصيان، فجعل للإمبراطورية كلها داخلها وخارجها رباً واحداً تشترك فيه وتثوب إليه، وكان هذا مبعث التوحيد الأول على صورته الساذجة التي أصلحها أخناتون ثم تعاقب الرسل بإصلاحها بعد ذاك
تخمينات!(311/6)
ولكنها تخمينات علماء مخلصين، وهي لهذا حقيقة بالنظر والاعتبار
عباس محمود العقاد(311/7)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
تعود الناس أن يسألوا: (ما الذي بين فلان وفلان؟) حين يرون غبار المعارك الأدبية؛ وقلَّ في الناس من يتصور أن تقوم معركة أدبية في سبيل الحق بين صديقين متصافيين كالذي أصنع اليوم في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين
والواقع أن ذلك الفهم لأسباب المعارك الأدبية هو صورة بشعة من ضعف الأخلاق عند من يتوهمون أن الأدباء لا يهجم بعضهم على بعض إلا طلباً لشفاء المكتوم من أمراض الحقد والبغضاء. . .
فما الذي بيني وبين الأستاذ أحمد أمين حتى يصح أن أهجم عليه هذا الهجوم العنيف؟
أنا لا أذكر أبداً أن هذا الرجل وجَّه إلي إساءة في محضر أو مغيب، وإنما أذكر أنه كان مثال الصديق الوفيّ الأمين في مواطن يستظهر فيها الصديق بالصديق، وتنفع فيها كلمة الإنصاف عند طغيان الأغراض
والواقع أيضاً أن الأستاذ أحمد أمين لم يعان متاعب الحيرة إلا فيما يقع بينه وبيني، فهو يقرأ ما أهجم به عليه من وقت إلى وقت فيضجر ويمتعض، ثم يراني بغتة فيقرأ في وجهي آيات من المودة لا يشوبها خداع ولا رياء، فتأخذه الحيرة والاندهاش
فما معنى ذلك؟
ألا يكون معناه أن لي مبادئ وعقائد أدفع عنها السوء ولو وقع من أعزّ الأصدقاء؟
ولكن ما هي المبادئ والعقائد التي أجاهد من أجلها في هذه الأيام. . .؟
أنا أومن بأن الأدب العربي أدب أصيل، وأعتقد أن من الواجب أن ندعو جميع أبناء العروبة إلى الاعتزاز بذلك الأدب الأصيل لأنه يستحق ذلك لقيمته الذاتية، ولأن الإيمان بأصالته يزيد في قوتنا المعنوية، ويرفع أنفسنا حين ننظر فنرى أن أسلافنا كانوا من المبتكرين في عالم الفكر والبيان
وقد درج الأستاذ أحمد أمين في الأيام الأخيرة على الغض من قيمة الأدب العربي، وكان من السهل أن نتركه يقول ما يشاء لو كان من عامة الأدباء، ولكنه اليوم رجل مسئول: لأنه(311/8)
من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية، ولأغلاطه سناد من تلك الأستاذية، فهو يقدر على زعزعة الثقة الأدبية في أنفس طلبة الجامعة حين يريد، وذلك خطر لا نسكت عليه رعاية لما بيننا وبينه من أواصر الوداد
فإن بدا لهذا الصديق أن يغضب من هجومنا عليه فأمامه طريق الخلاص: وهو الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية إلى أن يعرف أن الأدب لا يؤرخ على طريقة الارتجال
ولعل هذا الصديق يرجع إلى نفسه في بعض لحظات الصفاء فيذكر أنه لم يخلق ليكون أديباً، وأنه لم يفكر في دراسة الأدب دراسة جدية إلا بعد أن جاوز الأربعين
لو رجع هذا الصديق إلى نفسه لعرف أنه لا يجيد إلا حين يشغل وقته بتلخيص المذاهب الفقهية والكلامية
ولو شئت لكررت ما قلت في الكلمة الماضية من أن موقفه في جميع أبحاثه موقف (المقرَّر) ولم يستطع مرة واحدة أن يكون من المبتكرين في الدراسات الفقهية والكلامية
وإذا كان هذا حاله في الفقه والتوحيد، فكيف يكون حاله في الأدب، والأدب يرتكز على الحاسة الفنية، وهي حاسة لم توهب لهذا الرجل قبل اليوم، ولن توهب له بعد اليوم، لأنها من الهبات التي لا تنال بالدرس والتحصيل؟
أحمد أمين ليس بكاتب ولا أديب وإن سودّ الملايين من الصفحات
فليس من الإسراف ولا التجني أن ندعوه إلى الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية. وسيرى كيف نقفه حيث وقفه الله فلا يزعزع الثقة بماضي الأدب العربي لتصح كلمة المفترين في ذلك الماضي المجيد
أُيحكم على العصر العباسي بالفقر والخمود من أجل قالة خاطئة يتنفس بها أحمد أمين؟
أُيهدم ماضينا الأدبي بمحاولة رجل محروم من الذوق الأدبي؟
إن ذلك لا يقع إلا يوم يصح أن المصريين تنكروا لماضي اللغة العربية مرضاةً لمواطن عزيز يسره أن يتطاول على الأدب وهو غير أديب
وأغلب الظن أن المصريين يؤذيهم أن يقع ذلك وهم ينفقون الملايين من الدنانير كل عام في سبيل إعزاز الأدب العربي
والجامعة المصرية أمرها عجب!(311/9)
في الجامعة المصرية تُدرَس الآداب الإنجليزية والفرنسية والفارسية والعبرانية واللاتينية واليونانية، ولتلك الآداب أساتذة يهمهم قبل كل شيء أن يوحوا إلى الشبان أنها آداب جديرة بالخلود. ولو رأت الجامعة المصرية أن تدرس اللغة الزنجية لوجدت أستاذاً يقول بأن لغة الزنوج أحسن اللغات فكيف تفردت اللغة العربية بالضيم والهوان في أنفس أساتذة الجامعة المصرية؟
وبأي حق يرضى أحد الأساتذة أن يقضي العمر في تدريس الأدب العربي وهو يراه (ينحدر مع التاريخ شيئاً فشيئاً ليكون أدب معدة)؟
ومن هذه النقطة نمسك بخناق الأستاذ احمد أمين
هذا الرجل ينظر إلى الأدب وإلى الوجود نظرة عاميّة، فهو يقسم الأدب إلى قسمين: أدب معدة وأدب روح
والسخرية من المعدة لا تقع إلا من رجل يفكر كما يفكر الأطفال. فالمعدة التي يحتقرها هذا الرجل العاميّ هي سر الوجود. وعن قوة المعدة تنشأ قوة الروح. والأدباء الكبار كانوا أصحاب معدات كبار. وسر العظمة عند فيكتور هوجو يرجع إلى معدته العظيمة، وما ضعف الغزالي في أحكامه الأخلاقية إلا لأنه ألف كتاب الأحياء وهو ممعود
والظاهر أن معدة أحمد أمين معدة ضعيفة، لأنه يواجه الوجود بعزائم الضعفاء؛ وإلا فكيف اتفق له أن يؤلف في الأخلاق بدون أن يستطيع الثورة على موروث الأخلاق؟
إن المباعدة بين المعدة والروح عقيدةٌ هندية الأصل، وتلك المباعدة هي التي قضت بأن يعيش الهنود فقراء. ولو احترم الهندي كما يحترم الإنجليزي معدته لما استطاع الإنجليز أن يكونوا سادة الهنود؟
أنا أعرف أن أحمد أمين يتخلق بأخلاق الأسماك. وآية ذلك أنه لم يُغضب الجمهور مرة واحدة. وهل اتفق للسمك أن يقاوم التيار مرة واحدة؟
وهيام أحمد أمين بتحقير المعدة نشأ من رغبته في مجاراة الرأي العام في الأخلاق السلبية، الرأي السخيف الذي يحمل الدراويش والرهبان أعظم أخلاقاً من تشمبرلن وهتلر وموسيليني، والذي يجل زهديات أبي العتاهية أشرف من غراميات الشريف الرضي
وهذه العلمية في التفكير هي التي فرضت على أحمد أمين رضى الله عنه أن يرى الغزل(311/10)
الفاجر أدب معدة، على حين يرى وصف الطبيعة أدب روح.
وهذا الكلام ضعيف إلى أبشع حدود الضعف.
فالغزل القوي هو من شواهد الحيوية الدافقة في الرجال.
أما وصف الطبيعة فهو إحساس دقيق يأنس إليه من حرموا الأنس بالجمال الحساس الذي يملك التعبير عن العواطف والشهوات ولو شئتُ لاستشهدتُ بقول مؤلف (مدامع العشاق) إذ يقول:
(وماذا أصنع بالأشجار، والأزهار، والثمار والأنهار، والكواكب، والنجوم، والسهول، والحزون، والطيور الصوادح، والضباء السوانح؟
ماذا أصنع بكل أولئك إذا لم يكن معي إنسان أطارحه القول وأساجله الحديث، وأساقيه صهباء هذا الوجود؟
وما قيمة الليل إن لم تظلني في الحب ظلماؤه؟ وما قيمة البدر إن لم يذكرني بالثغر لألاؤه؟ وما جمال الأغصان إن لم تهزني إلى ضم القدود؟ وما حسن الأزهار إن لم تشقني إلى لثم الخدود؟ وكيف أميل إلى الضباء لو لم تشه بعيونها وأجيادها ما للحسان من أعناق وعيون؟ وكيف أصبو إلى غُنّة الغزال لولا تلك النبرات العذاب التي يسمونها السحر الحلال)؟
ذلك أيها الأستاذ رأي مؤلف (مدامع العشاق) وهو رجل له معدة وروح، ولا ينكر ذلك إلا من حرموا قوة المعدة، وقوة الروح.
وقد أراد أحمد أمين - على طريقته في التودد إلى الجماهير - أن يزج بالقرآن في مجال التفرقة بين أدب المعدة وأدب الروح، مع أنه يعرف أن القرآن لا يقيم وزناً لأمثال هذا الاصطلاح. ولو أنه تأمل قليلاً لعرف أن القرآن يفيض بالأفكار التي توجب الاهتمام بالمطالب الجسدية. وعقيدة الإسلام تقوم على أساس الاعتراف بأن الإنسان مكون من جسد وروح. والمؤمنون في نظر القرآن سيصيرون حين يرضى الله عنهم (على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين، يطوف عليهم ولدان مخَّلدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصَّدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاءً بما كانوا يعملون)
ويحدثنا القرآن بأن أصحاب اليمين سيكونون (في سدْر مخضود، وطلح منظود، وظلّ(311/11)
ممدود، وماءٍ مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة)
أيكون هذا أدب معدة لتصح سخرية أحمد أمين من المحسوسات؟ ألحق أن القرآن أقحِمَ بلا موجب في كلمة أحمد أمين. والمزية الأساسية في القرآن هي تخليص العقيدة الإنسانية من أوهام الأحبار والرهبان، ودعوة المسلمين إلى اغتنام المنافع الدنيوية والأخروية. وأظهر الأدلة على ذلك هو النص على ما في الحج من شهود المنافع، وهو نص صريح في أن مطالب المعدة تساوي في نظر الشرع مطالب الروح.
وهل يجد أحمد أمين حين يحتقر المعدة؟
هل يجدّ احمد أمين حين يحكم بأن مقالات (الكاتب) التي باعثها الأول الاستيلاء على الأجرة أدب معدة؟
أشهد أنه احتاط حين قيد هذه الحالة بقيود، ولكن تلك القيود جعلت فرضه من المستحيلات
فما هو الباعث الأول لأعمال أحمد أمين في كل ما يباشر من الشؤون؟
هل يرضى أن يعمل في الجامعة المصرية بالمجان؟
هل يرضى أن يشترك في تأليف الكتب المدرسية بالمجان؟
هل يرضى عن نشر إعلان بالمجان في مجلة الثقافة لطبعة من طبعات المصحف الشريف؟
هل يقبل الخروج من ثروته لإطعام الفقراء والمساكين؟
فإن لم يفعل - ولن يفعل - فلأية غاية ينشر هذه الآراء بين الناس؟
وهل يحق للمعلم أن ينشر من الآراء ما لا يستطيع التمذهب به في أي وقت؟
إن السر في نجاح أحمد أمين يرجع إلى أنه يحترم الواقع في مذاهبه الأدبية والمعاشية. وهو في سلوكه الشخصي نموذج للرجل الحصيف، لأنه لا يقبل على عمل إلا حين يعتقد أنه عمل ينفع
والخطأ الذي وقع فيه هذه المرة خطأ مقصود، وهو نافع في حكم المعدة، وإن كان ضارا في حكم الروح
وإنما كان هذا الخطأ نافعاً في حكم المعدة لأنه يصور صاحبه بصورة الراهب المتبتل، وتلك غاية قد تنتفع بها الأمعاء(311/12)
إن من الخسارة الجسيمة أن يصبح مثل هذا الرجل الفاضل من الذين يزخرفون المقالات في شؤون تضر المجتمع وتعود عليه وحده بالنفع (وتعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر) كما يحلو له أن يقول
قامت نظرية أحمد أمين على غير أساس
وما كانت نظرية، وإنما كانت حيلة (باعثها الأول ملء أعمدة من الصحف والمجلات) وقد وصل إلى ما يريد وأضيف إلى حسابه مبلغ صغير أو كبير من المال
ولولا أني أحترم المال لكرهت النص على أن هذا الصديق يعمل للمال
وهل يحتقر المال إلا من كتب عليهم أن يعيشوا أذلاء؟
نحن جميعاً نعمل للمال وللمعدة، وما في ذلك من عيب، ولكن العيب هو في تنفير الجمهور من المال طلباً لحسن السمعة بين من ورثوا السخرية من المال بفضل ما وصل إلى عقولهم المريضة من أقوال الدراويش والرهبان
وليس معنى ذلك أني أنكر مطالب الروح، فلولا مطالب الروح لما استبحت أن أخلق لنفسي عداوة رجل يضر وينفع مثل أحمد أمين
لقد فكرت كثيراً قبل أن أقدم على هذه الجملة الأدبية، وصح عندي بعد الروية أن الغض من قيمة الأدب العربي هو عدوان على كرامة الأمة العربية، فأنا استهدف لعداوة هذا الرجل وعداوة أصدقائه في سبيل المبدأ والعقيدة، فليضف هذه المقالات العنيفة إلى أدب الروح، إن كان من الصادقين!
أشرت من قبل إلى مركز هذا الرجل في الجامعة المصرية وقدرته على تلوين آراء الطلاب حين يشاء، فهل يكون من الشطط أن نقول له حين يخطئ: قِف مكانك!
لو كان أحمد أمين أديباً لقلنا إن من حقه أن يبتدع من الصور الأدبية ما يريد، ولكنه ليس بأديب، وإنما هو مؤرِّخ أدب، ولأحكامه الخاطئة في تاريخ الأدب تأثير سيئ لا يدرك خطره إلا من عرفوا أنه رجل محترم يقبل الشبان آراءه بلا مراجعة ولا تعقيب
ونسارع فنقرر أن ضمير أحمد أمين سليمٌ من الوجهة الأخلاقية، فهو يكتب ما يكتب ويقول ما يقول عن اقتناع، وإنما يصل إليه من الخطأ من طريقين: الأول عدم تمكنه من تاريخ الأدب العربي؛ والثاني عدم تعمقه في درس سرائر النفسية والوجدانية. ومن هنا كثرت(311/13)
أغلاطه في فهم أصول الأدب وأصول الأخلاق
والهجوم على هذا الرجل قد ينفعه أجزل النفع فينقله من حال إلى أحوال، ويحبب إليه التروي والتثبت، ويصرفه عن التحامل البغيض على الأدب العربي، ويقنعه بأن أدب الفطرة أفضل من أدب الافتعال
وأحدد الغرض من هذه الجملة فأقول:
تورط أحمد أمين في أحكام جائرة وهو يلخص تاريخ الأدب بطريقة صحفية
وقد دلتنا تلك الأحكام على أن هذا الرجل صرفته السرعة عن مراعاة المنطق والعقل؛ فما الذي سنصنع في محاكمة هذا الصديق الذي نضيّعه آسفين في سبيل الحق؟ سنقدم إليه من البينات ما يقنعه بأنه يجني على الأدب العربي أشنع الجنايات. وسنريه أن جنايته على نفسه أبشع وأفظع. وسنروضه على الاعتصام بحبل الصبر الجميل، فليس من سيف الحق خلاص ولا مناص
ويعز عليّ أن أوجه إليه هذه السهام وهو يتهيأ لقضاء الصيف في الإسكندرية. ولكن يعزيني أن أعرف أن نسمات الأصيل في الإسكندرية فيها الشفاء من كل داء
في الإسكندرية متاع العيون والقلوب والاذواق، وفي الإسكندرية (صبايا الخُلدِ تسبَح في الرحيق) وفي الإسكندرية مراتع ظباء ومرابض أسود
فاذكرني بالشر يا صديقي أحمد أمين وأنت تواجه الفتن المائجة بين الشواطئ. واذكرني بالشر حين ترى البحر وحين تخطر بشارع الكرنيش. واذكرني بالشر حين تذكر (أدب المعدة) وأنت تأكل طيبات الأسماك بالمكس، وحين تذكر (أدب الروح) وأنت تتفكر في ملكوت السابحين والسابحات، في ظمأ شديد إلى أن أذكر بالشر في ذلك المصيف الجميل!
آه ثم آه! امثلي يؤذي روحاً يصطاف بالإسكندرية وطن الشعر والخيال؟
انتظر يا صديقي، فستراني حيث تحب في المقال المقبل، وإنه لأقرب إليك من رجعة الموج الفاتن إلى الموج المفتون. والحديث ذو شجون
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(311/14)
الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق
للأستاذ بيير فيينو
بيير فيينو نائب البرلمان الفرنسي ووزير سابق لعب دوراً هاماً في عقد المعاهدة الفرنسية السورية سنة 1936. وقد اطلعنا في العدد الأخير من مجلة (السياسة الخارجية) على محاضرة ألقاها عن بلاد الشرق الأدنى آثرنا أن نلخصها في هذه الظروف التي تضطرب فيها سوريا في جحيم من القلق السياسي
لم أختر المعاهدة الفرنسية عنواناً لمحاضرة اليوم، ذلك لأن هذه المعاهدة ليست في ذاتها إلا جزءاً من القضية الكبرى التي تتناول صلتنا بالشرق الأدنى، ونفوذنا فيه، وسياستنا معه، وردود الفعل التي تنبعث عن هذه السياسة في بلاد شمال أفريقية
الانتداب والمعاهدة
لماذا كانت المعاهدة الفرنسية السورية مفاجأة للرأي العام؟
يتجه الرأي العام الفرنسي إلى الاعتقاد بأن فرنسا (تملك) سوريا، ولكنها لا تعاملها كما تعامل المستعمرات. بل إن واجبها أن تقوم على إرشادها والدفاع عنها، ورعاية المصالح الفرنسية فيها
والواقع أنه لا يمكن تطبيق أي لون من ألوان النظم الاستعمارية في بلاد الشرق الأدنى، ولذلك لن أبسط الحديث عن عقم الاستعمار في سوريا، ولا عن ضعف العلاقات الاقتصادية بيننا وبين بلاد الانتداب.
والناحية الجوهرية التي يجب أن ننبه إليها هي أن الاستعمار يوافق الشعوب المتأخرة التي لا تستطيع أن تقوم على إدارة نفسها. فما هو مدى الرقي في بلاد الشرق الأدنى؟
إن نسبة الأميين في لبنان تبلغ 16 % وقد ترتفع النسبة في سوريا إلى أكثر من ذلك فتبلغ 50 %، وإلى جانب هذه الطبقة المتعلمة نجد نخبة مختارة أصابت قسطاً وافراً من المعرفة والذكاء والعلم. وامتاز كثيرون منها بالقيام بأعباء الإدارة في الدولة التركية.
إن فكرة الانتداب (1) التي نصت عليها معاهدات 1919 للبلاد المقتطعة من جسم الدولة العثمانية ليست وهماً، ولكنها تطابق حقيقة اجتماعية واقتصادية وسياسية خاصة بالبلاد المذكورة، وهذه الفكرة تختلف كل الاختلاف عن الحماية، ونستطيع أن نجمل مميزاتها(311/16)
الأساسية بالتعريف الآتي:
(إن السلطة المنتدبة هي التي تمارس الحكم لتأمين تطور البلاد تحت الانتداب وتوجيهها نحو الاستقلال)
فالسلطة المنتدبة تشرع وتحكم، ولكن كل غايتها تهذيب الشعب وإرشاده. ومهمة المنتدب أشبه بمهمة الوصي، لأن سلطته محدودة لا تتسع، زائلة لا تدوم
قد لا يرضي تعريف الانتداب على هذا الشكل بعض الناس. وقد تكون ثمة اعتبارات نظرية أخرى، ولكن هذه الاعتبارات تقتصر على وجهة النظر الفرنسية. أما الشعوب الشرقية فإنها ترفض هذه الاعتبارات في إباء وقوة، وتنظر إلى الانتداب على أنه عرض زائل ومهمة مؤقتة تنتهي مع بلوغ سن الرشد
والانتداب يتضمن في ثناياه وعداً بالاستقلال، وقد أثار هذا الوعد انتباه السكان في البلاد، وكان عاملاً في نماء الفكرة الاستقلالية، كما أن الخلاف بين الترك والعرب كان عاملاً آخر من العوامل المهمة في هذا النماء
وفي معرض التدليل على نهضة هذه البلاد يجب أن نذكر الاضطرابات السياسية التي كانت تطغي على سوريا قبل الحرب. . . وألا ننسى أن الشعوب العربية قد حاربت في صفوفنا ضد الأتراك وأن قادة الحركة العربية رفضوا نظام الانتداب منذ 1919 لأنهم إنما جاهدوا في سبيل الاستقلال والوحدة. . . ويكفي أن نعرض لذكر المليك (فيصل) فقد وجد نفسه بعيداً عن العرش السوري حين حاول أن يقنع القادة بقبول أسس الاتفاق الذي ارتضيناه معه
لعل من الإنصاف ألا نغفل أثر الوطنية المصرية في بلاد الشرق، فقد ولّد انتشار المقاومة السلبية في مصر صعوبات كثيرة اصطدمت بها إدارتنا في سوريا
وقد اتجهت سياسة فرنسا بعد الثورة السورية الكبرى اتجاها شديداً، ونستطيع أن نذكر هنا مجموعة من الوعود التي صدرت عن الحكومة الفرنسية حول هذا الموضوع
ففي سنة 1927 أكد مسيو بريان رغبة في فرنسا في أن تبقى أمينة على انتدابها. وفي عهد المفوض السامي مسيو بونسو كانت أولى المحاولات في سبيل عقد معاهدة بين فرنسا وسوريا. وقد تمخضت هذه المحاولات عن معاهدة سنة 33 التي وقعها مسيو دومارتل(311/17)
وفي نفس الوقت صدرت تصريحات فلاندان بقرب انتهاء الانتداب، كما نشر خطاب (هنري بيرانجيه) الذي رحب فيه بدخول العراق في عصبة الأمم، في شيء كثير من الحماس، وأشار إلى أن فرنسا ستنهج في سوريا نفس السياسة التي انتهجتها إنكلترا في العراق
وفي سنة 933 عرض مسيو دلادييه في مجلس النواب لمفاوضات مسيو بونسو وأظهر اغتباطه بعقد المعاهدة بين سوريا وفرنسا
على أن بيان العميد السامي المسيو دومارتل كان أقوى هذه التصريحات كلها. ففي أول مارس سنة 1936 صدر هذا البيان بموافقة مسيو فلاندان وزير الخارجية، وتضمن وعداً صريحاً بعقد معاهدة سورية فرنسية على مثال المعاهدة العراقية الإنكليزية
أما فيما يتعلق بالانتداب الفرنسي في بلاد الشرق فنحن نواجه وضعاً خاصاً يجب أن ننظر إليه بعين الاعتبار إذا نحن أردنا أن ندرك المعنى العام لنظام هذه المسألة المعقدة
إن الانتداب الفرنسي واحد في الشرق، ولكن ثمة دولتين مختلفتين هما سوريا ولبنان تحتاجان إلى نظام خاص يربط علاقتهما في المستقبل. ومن الخير لفرنسا أن يكون هناك معاهدتان مختلفتان لكل من هذين البلدين تأميناً للمصالح الفرنسية وحرصاً على سلامتها
ويرجع الانتداب في سوريا إلى عهد قريب. . . فقد نشأ بعد ثورة العرب ضد الترك، ولكن الانتداب على لبنان يرجع إلى مدى أبعد، ويتصل بأيام حماية مسيحي الشرق ولا سيما المارونيين في لبنان
ولقد كان هذا الانتداب في لبنان مستساغاً مقبولاً، وكانت اللغة الفرنسية شائعة، وهذا يصادف دون ما شك هوى في نفوسنا لأن لبنان يهمنا بوجه خاص كقاعدة منيعة فرنسية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط
وإذن فنحن مضطرون إلى عقد معاهدتين مختلفتين. . . وقد أشار إلى ذلك (لوسيان هوبرت) في تقريره عن المعاهدة في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، ولاحظ كيف قوبلت هذه المعاهدة في سوريا بشيء من الحيطة والحذر، بينا وجدت في لبنان رواجاً وارتياحاً عظيمين
(ولكن الواقع أن التعاقد مع سوريا شرط أساسي للتعاقد مع لبنان، ومصالح فرنسا وفائدتها(311/18)
من الانتداب يجب أن ترجى في لبنان لا في سوريا)
(البقية في العدد القادم)
تلخيص
شكري فيصل(311/19)
أسرار حياة بلاد العرب السعيدة
'
تأليف الكاتب الإيطالي سلفاتوري آبونتي
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
(بقية المنشور في العدد 309)
انتهى ما أردنا نقله من كتاب السنيور آبونتي ص 24 وما بعدها. والأستاذ الريحاني صاحب (ملوك العرب) له كلمة بصدد القات قال في ص 91 من المجلد الأول: (إن في القات على ما يظهر خاصية الحشيش الأولى، أي الكيف، وشيئاً من خاصة الأفيون المخدرة، وبعض ما في المسكرات مما ينبه الفكر. وبكلمة أخرى هو يطرب النفس، ويخدر الحواس، ويشحذ الذهن. وأهل اليمن يعتقدون كذلك بأنه يبعث فيهم النشاط ويقويهم على السهر والعمل في الليل. وقد تحققت بنفسي أنه يؤرق ويحدث في المعدة يبوسة وانقباضاً وفي الفم جفافاً وعفوصة مثل البلوط، فيطلب صاحبه الماء كثيراً. ولكني لم أحس بشيء من الكيف، أي خفة النفس، ولم ينبه الفكر إلى غير الأوهام التي تستحوذ على الناس فتفعل بحكم التأثير الطويل المتوارث فعل الحقائق المحسوسة. وقد يكون هذا وهما لأن تأثيره فيمن يستعمله مرة غير تأثيره فيمن يستعملونه دائماً ويفضلونه على خبز يومهم؛ وكل الناس في اليمن: من رجال ونساء وأولاد وأغنياء وفقراء يأكلون القات. . .
(ولا شك أن القات مضر بالصحة والنسل: فهو يفقد المرء شهوة الأكل، ويفسد أسباب الهضم، ويحدث أمثل الأفيون، شللاً في مجاري البول، ولا يقوي ألباه بل يضعفه!).
ومواطنونا اليمانيون لهم قصائد من عيون الشعر في هذا الحشيش. وقد كان الإمام يحيى من الذين (يخزنون) وله حماسة غريبة في الدفاع عنه. يحدثنا الريحاني في كتابه ص 165 أن رفيقه في الرحلة ثار وهجا القات، فانبرى له الإمام يحيى وعارضه بقصيدة من فيض الخاطر فذكر عشراً من مزايا القات منها:
فللعيون جلاء ... للضعف منه ذهاب
وللثغور صباغ ... زمردي يذاب(311/20)
أحسن بثغر مليح ... له المذاب رضاب!
يا ما أحيلاه ظلماً ... تحتفي به الأحباب
وللنفوس مريح ... وللنشاط انجذاب
ويشحذ الفكر حتى ... يخاف منه التهاب
ويطرد النوم عمن ... له الجليس كتاب
وفي هجاء القات يقول شاعر عدني:
عزمت على ترك التناول للقات ... صيانة عرضي أن يضيع وأوقاتي
وقد كنت المضر مدافعاً ... زماناً طويلاً رافعاً فيه أصواتي
فلما تبينت المضرة وانجلت ... حقيقته بادرته بالمناواة
فقيمة شاري القات في أهل سوقه ... كقيمة ما يدفعه في ثمن القات
ثم يغادر السنيور آبونتي مدينة تَعِز فينطلق في رحاب سهل المخا، فتبدو له المروج الخضراء، والبساتين الواسعة، فلا تحرك عواطفه، ولا تثير اهتمامه. إذ كانت نفسه تواقة متحفزة لرؤية المخا المدينة العالمية، مدينة البن الرفيع. فتصدمه الحقيقة، ويقف أمام الأمر الواقع؛ وإذا به يرى هذه المدينة التي يدين لها العالم قد أخنى عليها الدهر فقضى على مجدها وسلب شهرتها، فأصبحت يباباً وأطلالاً خراباً، انفض عنها سكانها فلم تبق بها إلا أكواخ حقيرة، وقوارب ملقاة على الشاطئ، يأوي إليها السكان. . . أما مجدها فقد ألقى رحاله على الحديدة وعدن، فأصبحتا قبلة العالم في ارتقاب البن اليمني!
وخلص من المخا واندفع في تهامة حتى بلغ الحديدة - ميناء اليمن - فمكث بها أياماً. وبعد ذلك تابع مسيره ووجهته عاصمة حِمْير؛ وكان المؤلف في أثناء سيره يعجب من هذه الجبال الشجراء، وتلك الوديان التي تتدفق مياها ونباتاً. فقد كانت من أعظم المرفهّات عن نفسه من وعثاء السفر. . . وساءته جداً حالة السكان وما هم عليه من شظف الحياة والبؤس الصارخ في جميع المرافق. كما أن هذه الأكواخ الحقيرة والعشش المهدمة التي تسيء إلي روعة هذه المناظر الطبيعية تبعدها من بلاد العرب السعيدة، وتجعلها جزءاً من أفريقيا (ص 54).
ودخل صنعاء - مقر الملوك السيارة - فأطلق لخياله العنان ووصفها بما هي خليقة به:(311/21)
(هذه قصور شامخة تصافح السحاب، وهذه القباب تتألق ناصعة في رائعة النهار، وهذه منائرها ناحرة جوف الفضاء فيرتد عنها الطرف. . . هذه صنعاء المدينة العجيبة، مدينة الخرافة والأساطير. أليست صورة صادقة من ألف ليلة وليلة؟) ص 62.
ويقف السنيور آبونتي على ناصية شارع من شوارع صنعاء فيرمي بطرفه على الأقوام التي تسيل بها عاصمة اليمن، فتحتدم في نفسه صور وأحاسيس، وتتحرك فيه الشاعرية، فيبرز لنا وصف صورة حية ناطقة كأنا نحسها ونشاهدها. قال (ص 62):
(. . . هاهم أولاء يمرون سراعاً ممتطين صهوات خيولهم المطهمة ومن ورائهم الحشم، متدثرين بالثياب البيضاء، وعلى أكتافهم تسيل العصائب من حمراء وخضراء. وهاهن أولاء النساء يسرن محجبات؛ وهؤلاء هم البدو وقد تهدلت شعورهم الكثة الرهيبة على الأكتاف، وانكشفت صدورهم المسيلة عليها مسادر الجلود. ثم هؤلاء ذوو المناصب وأهل المقامات يحف بهم الإجلال، وعلى رؤوسهم العمائم البيض، يتبعهم بعض الخدم حاملين الرُّشب البراقة. . . ثم هاهم أولاء رجال القبائل، وقد لفحتهم الشمس فبدت ألوانهم زيتونية، مسلحين بالجنابي المعقوفة المزمتة في خواصرهم بسيور من الجلد. . . وهاهم أولاء العبرانيون في قاماتهم الضامرة وقد استشزرت غدائرهم من الأصداغ تمييزاً لهم. . . وذه هي الجمال تمشي وئيداً، وتلك الأغنام تمثل الفوضى، وقد سالت بها الشوارع. . .)
(ثم يا للعجب من هذه العمارات المذهلة! متى شيدت؟ أبالأمس؟ أم من آلاف السنين؟!)
(إنه ليحق لليمنين أن يفخروا بهذه العاصمة الفتانة، وليس عليهم بغريب أن يسموها: (عرش اليمن) و (أم الدنيا). ألم يؤسسها قحطان أبو يعرب العظيم الذي أخذ منه العرب اسمهم ولغتهم؟)
ويخرج المؤلف الإيطالي من هذه الصور الشائفة إلى ما هو أبدع منها وأغرب فقد حدثنا عن ظهور الإمام وجلوسه على عرش التبابعة. . . وعن كنوزه التي تذكرنا بكنوز ملكة سبأ. فقد تحدث السائح في ص 76 عن مخابئ الإمام يحيى في جوف الأرض وأحشاء الجبال. تلك المخابئ التي تفيض ذهباً وفضة، والتي يقوم على حراستها رجال مخلصون!
وأبدع ما في هذا الكتاب، وما يهم العالم العربي الاطلاع عليه: هي شخصية الإمام يحيى تلك الشخصية العجيبة التي تناولها المؤلف في صفحات عديدة من كتابه. فيهمنا جداً أن(311/22)
الجميل هذه الشذرات، وطْرح ما لا يليق نشره، لأن الإمام شخصية شهيرة يحوطها الغموض، ويجهلها كثير من الناس وهو إلى كل هذا ملك يمثل نوعاً من الحكم المطلق ما زالت آثاره في أقاص بعيدة من الأرض. قال المؤلف في ص 90 وما بعدها:
(الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، المتوكل على الله، وأمير المؤمنين شخصية من تلك الشخصيات المهمة المدهشة التي تعيش على وجه الأرض. هو رجل وعالم. . . فهو رئيس الحكومة اليمنية التي تعيش ضمن حدودها، وهو إلى ذلك عالم ديني كبير، وزعيم لمذهب يعد أتباعه من أشد المتحمسين والمتطرفين هو واحد من أولئك الحكام أهل النفوذ المطلق، والحكم الذي لا يقابل إلا بالتسليم. يقُّر الزيود بأنه رئيسهم الديني والمدني، فهم يطيعونه طاعة عمياء، ويحترمونه الاحترام العميق. ويدفعون له المغارم الثقيلة؛ وإشارة منه كافية لإشعال حرب. ويفعلون هذا، لأن الله أراد ذلك: (إذ فوض إليه أن يحكم بلادهم، ويتسلط على أرواحهم). فشؤون الدولة اليمنية جميعها في قبضة يده ومجتلى بصره؛ وإذا كان له وزراء فإنهم صوريون يخضعون لأوامره ويخلصون له الإخلاص التام، ولا ينفذون أمراً من الأمور إلا بعد عرضه على أنظاره وموافقته عليه. ومن المسلم به أن هذا النظام من الحكم المطلق سيكلف السياسة اليمنية متاعب خطيرة. . .
(إن الإمام يحيى شخصية مقدسة لدى الكثير من اليمنيين؛ تفد إليه من أقصى (بلاد الرحل) جماعات كثيرة من البدو، يدقون القاع، ويقطعون شاسع البقاع، وقد برحت بهم الأمراض وعجز أطباؤهم عن شفائهم، فلم يبق إلا دواء الإمام، وكرامة الإمام، فتهل هذه الوفود على صنعاء، وتشخص نحو (المقام) فيمر الإمام يحيى يده على رؤوسهم وأكتافهم فيزول الشر، وتحل العافية كما كان يفعل في إنكلترا وفرنسا منذ قرون مضت: ,
(يعتقد العالم الأوربي أن الإمام يحيى شخصية غامضة ذات أسرار عجيبة ولكن هذه نظرية خاطئة نحن مسؤولون عنها فالإمام يحيى يختلف جد الاختلاف عن أئمة اليمن السابقين ذوي العجائب والغرائب!
كان أولئك الأئمة، في وقت من الأوقات، يعيشون في أبراج من العاج بعيدة عن أنظار الجمهور؛ في وحشة صامتة! وهذه الخرافة ومنهم من أعماق التاريخ القديم؛ ذلك أن ملوك سبأ كما تقول الخرافة، لا يستطيعون أن يغادروا قصورهم الفخمة فيتعرضوا لأنظار(311/23)
الجمهور فيقذهم هذا بالحجارة!
ووالد الإمام الحالي قد حافظ على هذه العادة العجيبة، وذلك بعكس الإمام يحيى الذي كثيراً ما يتصل بشعبه، ويميل إلى الظهور في المجتمعات
هناك في فصل الصيف، في ساحة من ساحات (المقام) وتحت شجرة عظيمة وارفة الظلال يتربع الإمام يحيى وحوله ثلة من الجند، فيستمع إلى شكاوي الناس، فينصف المظلوم، ويأخذ الحق من القوي!
وقد تفد إليه من أقصى بلاد المشرق: من أرض سبأ جماعات من البدو يرجون إنصافاً، فيهدفون على المقام فينحرون الذبائح على الأعتاب جرياً على عادات قديمة
الإمام يحيى رجل عالم ومثقف، يملك مكتبة واسعة زاخرة بشتى أنواع المخطوطات العربية القيمة! وهو ميال على وجه أخص إلى علم الفلك وعلم السحر؛ كما أنه مغرم جداً بمسائل التجارة وإجادة القريض وإنشاد القصيد!
يلبس من الثياب الأبيض. وهو ذو وجه أسمر تحوطه لحية ناصعة البياض وعينين سوداوين جميلتين جذابتين. تشع منهما دلائل الذكاء والفطنة والحذر: وهو اليوم في الخامسة والستين)
هذه بلاد اليمن وعاهلها مصورة بقلم السنيور آبونتي صاحب (أسرار الحياة في اليمن) أما نصيب هذه البلاد من التقدم وحظها من الحضارة فالأمر مشكل ومحزن، فهذه البلاد التي لها ماض مجيد تعيش في القرن العشرين عيشة عجيبة بعيدة عن أنظار العالم؛ بعيدة عن الحياة التي تتمشى اليوم بحرارة في أعراق الأمم؛ منتبذة مكاناً قصياً ظانة أن الحياة في الوحدة؛ وما درت أنها تعد نفسها لأن تكون لقمة سائغة لكلاب الاستعمار!
إن أبسط مظاهر الحضارة الحديثة ما زالت اليمن تتنكر لها، وتتحرج من تتبع آثارها. فالسيارة، وقد عرفها سكان المريخ! ما زال ينظر إليها في اليمن نظرة ريبة وامتعاض. حدثنا المؤلف في ص 93 أن سيارة أهديت إلى الإمام فأراد تجربتها إلى أحد المساجد فما ظهرت لدى باب المقام حتى التف خلق كثير لرؤية (عمل الشيطان) وما كاد الإمام يظهر ليعتليها حتى انسل من بين الجمهور أحد أنجال الإمام يتبعه جماعة من المتصلبة في الدين ووقف أمام والده في رباطة جأش، وعيناه تقدحان بالشرر وصاح قائلاً: وحتى أنت يا إمام(311/24)
الزيدية تجرؤ على اعتلاء هذه الآلة الجهنمية؟؟
ولكن الإمام رده رداً لطيفاً وأخذ طريقة نحو المسجد على قدميه!
وتوجد في اليمن كلها محطة راديو؛ وعدة كهرباء؛ يأخذان موضعهما من (مقام) الإمام فقط؛ يحدثنا السنيور آبونتي في ص 92 عنهما فيقول:
(هناك في زاوية قصوى من حديقة المقام توجد بناية ضخمة عليها محطة راديو وهي الأداة الوحيدة التي تصل اليمن بالعالم الخارجي
(يمر أمامها رجال القبائل فيحولون أنظارهم عنها من دون أن يفهموا شيئاً عن أسباب تأسيسها! وإذا جنّ المساء تألقت الأنوار على مقام الإمام فيأخذهم العجب؛ ويتألمون لهذا الحدث الجديد؛ ولكن يتمتمون في سرهم اعتقاداً أن هذا من عمل (الجن) الذين يهيمن عليهم (المتوكل على الله) أيضاً. . .
وأخيراً يأتي دور النفوذ الإيطالي في بلاد اليمن، فقد لمسنا أنفاس المستعمرين تتمشى في صفحات عديدة من هذا الكتاب. ولم يستطع الكاتب الإيطالي أن يضبط نفسه ويكبح قلمه؛ فهو يقول لنا في صراحة متناهية: إنهم يعدون أنفسهم للاستفادة من أية فرصة شرعية قانونية قد تحين؛ فينتهزونها لجعل نفوذهم ملموساً في اليمن؛ وهو في أثناء هذا يشيد بأعمال إيطاليا في اليمن وما أسدته إليها من الخدمات الجلي؛ فهناك مستشفى لهم في صنعاء على مقربة من قصر الإمام؛ وجميع ما يحوي قصر الإمام من أثاث ومحطات راديو، وعدد كهرباء؛ وسيارات؛ ومصاعد للقصور كلها من عمل. . . (الطليان) بل وهناك في صنعاء شارع يسمى شارع الطليان!
هذه (المكارم) الإيطالية ستؤتي أكلها ولو بعد حين. . . ومكائد الاستعمار كثيرة منها ما يأتي عن طريق الشركات، وبذل الامتيازات، وغير ذلك؛ والسادة الإيطاليون اليوم في بلاد اليمن لهم وجود محسوس؛ ومشاريعهم هناك كثيرة، أهمها أن لهم اليوم مستشفى في صنعاء وأربعة أطباء: اثنان في صنعاء وواحد في الحديدة وآخر في تعز. وبالتأكيد أن هؤلاء لا يقومون بالخدمة الإنسانية ولكنهم ذئاب كاسرة في صورة ملائكة، وأعين خطيرة لوزارة المستعمرات الإيطالية؛ واليمانيون يعرفون هذا؛ والإمام يحيى يدرك أكثر من هذا. وإذا سألتهم: هل لهذا الليل من آخر؟ أجابوك: (الإيمان يمان؛ والحكمة يمانية!) وحياتنا في(311/25)
الوحدة (والوحدة عبادة!)
ولا يفوتنا بعد هذا كله أن نشير إلى أن المؤلف كان في مواضع كثيرة من كتابه هذا يشيد في أسلوب استعماري صارخ بما في اليمن من ثروة طبيعية هائلة أهمها الذهب والفضة والنحاس والحديد والأحجار الكريمة والنفط والكوارتز والميكا وغير ذلك.
وخلاصة القول أن الفكرة الاستعمارية واضحة لا شية عليها؛ وهي على أشدها في ص 157 وما بعدها. فليحذر الإمام يحيى، فإنه المسئول أمام الله والتاريخ عن مصير هذه البلاد.
هذه أسرار من (أسرار الحياة في اليمن) وهناك أسرار تجنبنا ذكرها حرصاً على سمعة بلادنا وكرامة مواطنينا، ولكن للأسف ستكون معلومة لدى الاستعمار؛ بل هي الجسر الذي يتوصل به إلى تحقيق أغراضه ومطامعه؛ ومن أنذر فقد أعذر.
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي
دبلوم دار العلوم(311/26)
الحب العذري في الإسلامية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
بنو عذرة بطن من قضاعة، وقضاعة من القبائل اليمنية التي نزحت من اليمن بعد سيل العرم، فنزلت بشمال الجزيرة العربية إلى بلاد الشام
وقد اختص بنو عذرة من بين قبائل العرب بكثرة عشاقهم، وامتاز عشاقهم على غيرهم بأنهم كانوا يلحون في الحب إلى حد الاستهانة بالموت فيه، وأن الواحد منهم كان يخلص إلى من يعشقها، ويهبها نفسه وحبه وكل شيء يعزه في هذه الدنيا، وفي ذلك يقول جميل بثينة:
أُصلي فأبكي في الصلاة لذكرها ... ليَ الويْل مما يكتب الملكانِ
ضمنتُ لها ألاَّ أهيمَ بغيرها ... وقد وثقت مني بغير ضمانِ
ويقول المجنون، وقد كان من بني عامر:
وَلَماَّ أبى إلا جماحاً فؤادُهُ ... ولم يَسِلُ عن ليلى بمال ولا أهل
تَسلىَّ بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تُسلى
وكان بنو عذرة يفتخرون بعشاقهم افتخار غيرهم بفرسانهم أو أجوادهم، ويرون عشقهم مزية شرف ونبل، ودليلاً على رقة القلب وصفاء النفس. وقد أخرج التنوخي عن عروة بن الزبير أنه قال: قلت لعذرى: إنكم أرق الناس قلوباً - يريد أصباهم إلى الحب، فقال: نعم، لقد تركت ثلاثين شاباً خامرهم السُلُّ، ما بهم داء إلا الحب
ولقد كان لجمال نساء بني عذرة أعظم الأثر في امتيازها بكثرة الحب، لأن الحب في الغالب يجري وراء الجمال، كما أن الجمال يورث القلب رقة، والنفس صفاء، فتستهويهما النظرة وتسترقهما الابتسامة. ومما ورد في جمال نساء هذه القبيلة ما روي أن فزارياً قال يوماً لعذرى: أتعدون موتكم في الحب مزية وهو من ضعف البنِية، ووهن العُقدة، وضيق الرئة؟ فقال: أما والله لو رأيتم المحاجر البُلُج، ترشق بالعيون الدُّعج، تحت الحواجب الزُّجّ، والشفاهَ السُّمر تبسم عن الثنايا الغر، كأنها شذر الدر لجعلتموها اللاَّت والعُزَّى وتركتم الإسلامية وراء ظهوركم(311/27)
وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: استنطقت أعرابياً عند الكعبة واستنسبه فإذا هو فصيح عذري، فسألته: هل علقه الحب، فأنبأ عن شدة ولوع، فسألته ما قال في ذلك فقال:
تَتَبَّعنَ مَرَمى الوحش حتى رمْينَنا ... من النَّبْلِ لا بالطائشات المخاطفِ
ضعائفُ يقتلن الرجال بلا دَمٍ ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف
وللعين مَلهًى في البلاد ولم يُفِدْ ... هوى النفس شيء كاقتياد الظرائف
وبالجملة فليس حي أصدق في الحب من بني عذرة، ولا تضرب الأمثال فيه إلا بهم، كما قال في ذلك صاحب البردة:
يا لائمي في الهوى العُذريَّ معذرةً ... مني إليك ولو أنصفتَ لَم تَلُمِ
وكما اشتهروا بالحب إلى ذلك الحد اشتهروا بالعفة فيه أيضاً وقد روي عن سعيد بن عقبة الهمذاني أنه قال لأعرابي حضر مجلسه: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. فقال: عذري ورب الكعبة. ثم سأله عن علة ذلك فقال: لأن في نسائنا صباحة، وفي فتياتنا عفة
ويحكى من عفة عشاقهم أن جارية وشت بجميل وبثينة إلى أبيها وأنه الليلة عندها، فأتى وأخوها مشتملين معتمدين سيفهما لقتله، فسمعاه يقول لها بعد شكوى شغفه بها: هل لك في طَفءِ ما بي بما يفعل المتحابَّان؟ فقالت: قد كنت عندي بعيداً من هذا، ولو عدت إليه لن ترى وجهي أبداً! فضحك ثم قال: والله ما قلته إلا اختباراً، ولو أجبت إليه لضربتك بسيفي هذا إن استطعت وإلا هجرتك، أما سمعت قولي:
وإني لأرضى من بثينةَ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلابله
بلا وبألاَّ أستطيع وبالمُنى ... وبالأمل المرجوَّ قد خاب آمله
وبالنظرة العَجلى وبالحول ينقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
فقالا: لا ينبغي إيذاء من هذا حالته، ولا منع زيارته لها، وانصرفا
وقد فتن كثير من الناس بهذا الحب العذري، ونظروا إلى أصحابه نظرة العطف والحنان، وأشاروا بذكرهم في الكتب، وأعجبوا بصدقهم وعفتهم في ذلك الحب، وحاولوا أن يجعلوا من الشهداء من يموت بسببه، ورووا في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عشق فعف فمات دخل الجنة. وفي رواية من عشق فعف فظفر مات شهيداً. وفي أخرى وكتم، وقد صحح هذا الحديث بسائر طرقه مغلطاي، واعله(311/28)
البهيقي والجرجاني والحاكم في التاريخ
ولم يكد الشعراء يعرفون ذلك الحديث حتى أولعوا به وعملوا على إذاعته في أشعارهم، وتضمينها إسناده ومعناه. ومن ألطف ما جاء في ذلك ما حكاه التاج السبكي عن أبي نواس أنه قال: مضيت إلى باب أزهر والمحدثون ينتظرون خروجه، فما كان إلا أن خرج وجعل يعظم واحداً بعد واحد، حتى التفت إليّ فقال: ما حاجتك؟ فقلت:
ولقد كنتم رويتم ... عن سعيد عن قَتَاده
عن سعيد بن المسيب ... أن سعد بن عُباده
قال من مات مُحباً ... فله أجر شهادة
فقال أزهر: نعم، وذكر الحديث
ولأبي نواس في تضمينه أيضاً:
حدثنا الخفاف عن وائلِ ... وخالد الحذّاء عن جابر
ومسعرٌ عن بعض أصحابه ... يرفعه الشيخ إلى عامر
وابن جريح عن سعيد وعن ... قتادة الماضي وعن غابر
قالوا جميعاً أَيما طَفلَةٍ ... عُلّقَها ذو خُلُقٍ طاهرٍ
فواصلته ثم دامت له ... على وصال الحافظِ الذاكر
كانت لها الجنة مبذولةً ... تمرح في مَرتَعها الزَّاهَر
وأَيُّ معشوقٍ جَفاَ عاشقاً ... بعد وصال ناعمٍ ناضر
ففي عذاب الله مثوىً له ... بعداً له من ظالمٍ غادر
ولابن المبارك الإمام في تضمينه:
حدثنا سفيان عن جابرٍ ... عن خالد عن سهل السَّاعدِي
يرفَعُهُ من مات عشقاً فقد=استوجب الأجر من الماجد
وكان كثير من العظماء والعلماء يعطف على أولئك العشاق، ولهم في ذلك آثار ونوادر لا تحصى، ومنها ما روى عن المهدي أنه قال: أشتهي أن أصلي على جنازة عاشق مات في الحب
ومنها ما روي أن ابن الليث قاضي مصر كان يكتب في فتيا، فسمع جارية تقول:(311/29)
تَرى (؟) الحكومة يا سيدي ... على مَنْ تَعشَّقَ أن يُقتَلا
فرمى القلم من يده وهو يقول: لا
وقد أخرج الخطيب البغدادي عن الغزي أنه قال: رأيت عاشقين اجتمعا فتحدثا من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة، وقد قال في ذلك بعض الشعراء:
لله وقفةُ عاشقين تلاقيا ... من بعدِ طول نوىً وبُعدِ مزارِ
يتعاطيان من الغرام مُدامة ... زادتهما بعداً من الأوزار
صدق الغرام فلم يمل طرفٌ إلى ... فُحشٍ ولا كفٌ لحِلَّ إزار
فتلاقيا وتَفَرقَّا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أوزار
وهذا كل شان الحب العذري على ما يقرأه الناس في كتب الأدب، وهي تأخذ الأشياء باللطف، ولا تدقق في أمرها كما يدقق غيرها. وقد كنت أقرأها كما يقرؤها سائر الناس، فلا ألتفت فيها إلا إلى ما يلتفتون إليه، ويصرفني التأثر بأحاديث ذلك الحب عن التدقيق في أمره، إلى أن قرأت مرة قصة وفود جرير وابن أبي ربيعة وجميل وكُثَيَر والأحوص والفرزدق والأخطل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد طلبوا الإذن بالدخول عليه؛ فكان يذكر لمن يطلب الإذن لهم بعضاً مما قاله كل واحد منهم في الغزل، ثم يأبى أن يأذن له بسببه، ولم يأذن إلا لجرير من بينهم. وقد سوى في ذلك المنع بين ابن أبي ربيعة والأحوص والفرزدق والأخطل وهم من فساق الشعراء، وبين جميل وكثير وهما من أصحاب ذلك الحب العذري؛ فكانت هذه المفارقة سبباً في لفت نظري إلى التدقيق في ذلك الشأن، وبحثه من جهة الدين بحثاً صحيحاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا تشديد ولا تساهل، لأن دين الله وسط بين ذلك.
ولا بد لي قبل هذا من ذكر قصة وفود أولئك الشعراء على عمر بن عبد العزيز ليرى القارئ تشديده في أمر أصحاب ذلك الحب العذري، بعد أن رأى تساهل غيره فيه.
عبد المتعال الصعيدي(311/30)
جولة في عرصات القيامة
للأديب محمد محمد مصطفى
حدث سهيل بن النعمان قال:
. . . ونفخ في الصور فلفضتنا القبور حفاة عراة سواء منا ملك وصعلوك وعذراء حصان وبغي هلوك، لا تستطيع امرأة أن ترنو إلى رجل تجتبيه، وما يستطيع رجل أن يرنو إلى امرأة تدانيه، فكل ذاهل اللب له شأن يغنيه
ورف ملاك فوق رؤوسنا وبيده إبريق، يصب منه ماء لفريق منا دون فريق، فقلت اسقني يا هذا إني لفي صدى شديد وضيق. قال: أفأعطيت في حياتك لابن سبيل ثمداً من غدقك؟ قلت: قد كنت في حياتي نضو إملاق. قال: إن نبيك مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير. فما كانت صناعتك في الدنيا؟ قلت: شرطي. قال: أفحررت عبداً من رقه، أو كبتَّ مجرماً وكفيت الناس شره؟ قلت: لم يكن في زمني رق ولا رقيق. فرمقني وقال: يلوح لي أنك أتيت في دنياك حوباً كبيراً، وهذا الماء لمن وقى شريداً أو أطعم فقيراً. فسفحت دمعي عله يرق لي. . . لكنه تركني وانصرف
ووضع الكتاب في عرصات القيامة، وأذن في الناس إبراهيم، وجيء بالمنعمين في الدنيا فعرضوا على جهنم فسمعنا لها شهيقاً وهي تفور، وصاح صائح: إنا اعتدناها لهؤلاء نزلاً، وسيرون الآن فيها العذاب قبلا.
ورأيت قوماً تجذبهم الملائكة وتقف بهم بين يدي الله، وينادي المنادي بأعلى صوت: هؤلاء هم الشرطيون الذين كانوا في حياتهم يرتشون، والذين كانوا لا يتركون بائعاً جوالاً إلا وهم من بضاعته آكلون؛ تقوم الدنيا إلى جانبهم وهم بباعة العرقسوس لاهون!
وسئل أولهم عما كان يحشو به منديله المحلاوي من لب وفشار، وبطاطا وخيار، وما كان يرشي به من درهم ودينار. ونظرت إليه فإذا هو ناكس رأسه حزناً وألماً يقول:
قد رأيت يا رب قلة راتبي وكثرة أطفالي وإن أحدهم كانت تهصر نضارته الحمى وأمه قائمة إلى جانبه يرفض كبدها لصوت أنينه، فلم أملك رفض الدراهم التي كانت تقدم إليّ لأدفعها للطبيب ثمن الحياة لطفلي، إذ لم يكن ينتفع في الدنيا بطب الطبيب سوى الأغنياء. ولم أسمع أن أحداً منهم خصص يوماً للفقراء، وكان زمني كله شرور فذوو السعة يغلون(311/31)
أيديهم لا يبسطونها إلى لشهوة أو نزوة أو لوليمة تقام للأمراء والأغنياء، ولم أر موسراً دعي إلى مأدبة فقراء
وكان في زمني مبنى يسمى (متحف الآثار)، كانت تكدس به تماثيل وقطع من الأحجار، يهرع لرؤيتها الأغنياء من الأقطار والأمصار، وكان يكفي ثمن القطعة منه لبناء أكبر دار تضم بين جدرانها العرايا والمشردين من الأطفال الصغار، الذين كانوا يفترشون الأرصفة فتهطل على أجسادهم الرقيقة الأمطار، على أن أحداً لم يحفل ببيع ما تماثل أو تشابه من هذه الآثار، ليدفعوا ببعض ثمنها عني وعن أولئك الأطفال الدمار، بحجة أن في بيعها لمصر عاراً. مع أن تركيا فعلت ذلك واشترت بثمن آثارها أسطولاً في الجو وآخر يمخر البحار، ولم نسمع في زمننا أن أحداً أشار إليها بعار أو شنار. . . وكنت أقف النهار يلوحني الهجير، وأسهر الليل يقضقض عظامي الزمهرير، ولا يدفع لي عن ذلك إلا أجر يسير؛ فقيل له: ألك شاهد بذلك؟ قال: رَسِل باشا. فهتف مناد: يا رسل يا ابن حواء! فأشخص إلى المولى وسئل فوافق على ما قاله رجاله، فدخلوا بشهادة الجنة آمنين. . .
ومر مثل عمري في الدنيا حتى حان دوري في الحساب فشدهت من هول الموقف وفرقاً من هيبة الله وجعلت أسبح وأستعيذ والملاك يغذ بي السير حتى مثلت بين يدي الله فغشي بصري من نوره، وثقلت سيئاتي، فسئلت: لم فسقت عن أمر ربك؟ فألجمني الفزع الأكبر. فهتف هاتف: عذبوه. فانطلق بي الزبانية وإذا بي من جهنم على شفير، فريع قلبي وصرخت صرخة رجعت أصدائها أطباق الجحيم وجأرت بالشكوى إلى الله أن يكشف عني الضر (إنني من أمة حبيبك محمد الأمين). . . فرأيت خاتم الرسل يطوي إليّ رحب السماء على البراق وهو يهتف بي: (لا تثريب عليك فقد غفر الله لك). . . ووكل بي حورية هيفاء حملتني وانطلقت بي إلى جنة الخلد التي وعد الله بها المتقين
وأخذت أخبط في جنبات البساتين فإذا بقصور من در تتغلغل في رياض الجنة وورودها لتفئ إلى عزلة سعيدة، فسألت حوراء من حور الجنان: لمن يكون هذا الحي فقالت: إنه لصرعى الغرام. قلت هل تدليني على قيس بن الملوح) إنه مات وجداً بليلاه. فقالت: أنا بك إليه
ودلفت وراءها إلى فناء قصر تتوسطه بركة ملئت ماء ورد قد خلط بمسك وزعفران، وإذا(311/32)
فتى إلى جانبها يتدفق الشباب في برديته ويلتهب بحمرة الورد خداه قد أجلس على ركبتيه فتاة في مثل تهاويل الزهر قد أسبغت عليها الجنة جمال أنوثة الدنيا وبهاء الملائكة، ينظر إليها وترنو إليه. . . وبدا لي أنهما لم ينتبها لي كأن بيني وبينهما آفاقاً بعيدة، فصحت مسلماً فنهضا وسلما. . . فقلت إن شعرك يا قيس ظل يتلى حتى قامت الساعة وأنا أعرفك من شعرك. فرحب بي وسهل، واقترحت ليلى أن توصلنا السابحات إلى عين السلسبيل، وقال قيس: سيكون العشاق لك ندامى وسترقص لك وتغني حور عين. وعلى شاطئ النهر دارت بنا كؤوس من زبرجد أخضر نعب منه خمراً لذة للشاربين، وأفعمت حورية أفئدتنا بصوتها السماوي الساحر، ولعبت الراقصة بقلوبنا برقصها المائس الباهر. وتلبثت وقتاً بينهم في بلهنية وخمر. ولما تعالم العشاق إزماعي الرحيل عن حيهم ألجموا إلي فرساً من نور طفت بها أحياء الجنة والملائكة حولي تهتف: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
محمد محمد مصطفى
بإدارة مدرسة البوليس(311/33)
من الأدب التركي الحديث
الجزيرة الكبرى في الليل
للكاتبة التركية الآنسة معزز أونكان
. . . في ليلة جميلة من ليالي آذار:
(نسمات الربيع تتلألأ حتى تذوب على سطح البحر البراق المشتعل باللمعات الفضية التي قبسها من سنا الأزهار. . . والنجوم المنثورة على السماء الزرقاء تخفق قلوبها ابتهاجاً وسروراً لقدوم الربيع. . . والبحر في هذه الليلة متقبع بملابسه الخضراء. . . وظلام النجوم تغسل أبد الدهر بمياه هذا البحر. . . والقمر في عليائه كأنه تاج فضيّ على رأس الليل. . . أو زهرة ناضرة على صدر الكون. . .)
خلال هذا المنظر الفاتن ترى الجزيرة الكبرى من بُعد كأنها إحدى بلاد الجان في عزلتها وهدوئها وجاذبيتها، وجمالها وسحرها. . . وفي وسط تلك الجزيرة وبين أشجار الأرز الكثيفة في نقطة مرتفعة أضواء مشعشعة كبيرة، يخيل إلى الناظر إليها من بُعد أن نجمة كبيرة هبطت من السماء على تلك البقعة. أو أن تلك الأضواء التي تغمر الأرز باحمرارٍ رهيب هي نار حريق اندلعت ألسنته هنالك. . .
اجمل قصور الجزيرة مغمور بالكهرباء، كأنما خرج ليباري أضواء النجوم والقمر؛ وأزهار هذا القصر الفخم وأشجاره قد تعودت كأهله هذه الحفلات. . . فهي سكرى تتمايل على هدأة الليل.
وحينما ترفع أجمل النغمات العذاب إلى علياء السماء تنصت الريح إجلالاً وإكباراً، والبحر يضم هذه النغمات إلى صدره كما يضم الطفل الحالم أغنية أمّه إلى صدره الصغير. والعنادل تردد اجمل ألحانها على أغصان الأرز ثم تصمت حزينة آيسة، حينما تسمع هذه النغمات الشجية الرائعة - نغمات الليل - وحينما تدرك عجزها عن أن تأتي بمثلها. والقمر الذي يطل من كل مساء من فرج الأشجار المرتفعة، والنجوم التي تطل من السماء بغبطة وحسد. كل هؤلاء كان يعرف أن هذه الجزيرة محل الأنس والطرب، لا يمكن للشقاء والبؤس أن يعيش فيها. الحياة هنالك سعادة دائمة وهناء متواصل.
(بغداد)(311/34)
نجدة فتحي فيردار(311/35)
صلاح الدين موسى
المعروف بقاضي زاده الرومي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
من الغريب أن نجد في تاريخ الرياضيات لسميث في الجزء الأول ص 289 أن غياث الدين يعرف بقاضي زاده الرومي وأيضاً بعلي القوشجين وهذا خطأن فغياث الدين لم يعرف بأحد هذين الاسمين بل إن غياث الدين وقاضي زادة وعلي القوشجي هم ثلاثة أشخاص اشتهروا باهتمامهم في العلوم الرياضية والفلكية، وقد يكون الخطأ الذي وقع فيه سميث ناتجاً عن كون الثلاثة اشتغلوا في مرصد سمرقند وعاونوا ألفي بك صاحب المرصد وأمير تركستان وما وراء النهر في إجراء الأرصاد وعمل الأزياج
إن قاضي زادة الرومي هو صلاح الدين بن محمد بن محمود من علماء الرياضيات والهيئة الذين اشتهروا في القرن التاسع للهجرة، ولد في بروسة في النصف الأخير من القرن الثامن للهجرة وتوفي في سمرقند بين 830هـ و40 هـ. درس مبادئ العلوم على علماء زمانه ثم لازم علي شمس الدين منلا فنارى ودرس عليه الهندسة وقد مدح له علماء خراسان وما وراء النهر وذكر له الشيء الكثير عن تفوقهم في الهيئة والرياضيات مما أوجد رغبة عند صاحب الترجمة في الذهاب إلى تلك البلاد للاجتماع بعلمائها والاغتراف من فيض علمهم ونبوغهم
ولقد شعر قاضي زادة أن أهله سيمانعون في سفره، ولذلك عوّل على تنفيذ عزمه مهما كلفه الأمر. ويقال إن إحدى شقيقاته شعرت بذلك وخافت أن يقع أخوها تحت غوائل الحاجة والفاقة في بلاد الغربة فوضعت بعض مجوهراتها بين كتبه التي ستصحبه في السفر. وفي أواخر القرن الثامن للهجرة اختفى قاضي زادة بغتة وإذا هو في طريقه إلى خراسان وبلاد ما وراء النهر حيث درس على علمائها العلوم الرياضية وقد وصل فيها إلى درجة يحسده عليها معاصروه من فحول العلماء وكبار الحكماء
اشتهر في سمرقند وذاع صيته، واستدعاه ألفي بك وقربه وأغدق عليه العطايا وعيّنه أستاذاً له. ولا شك أن الفضل فيما نجده في ألفي بك من رغبة في مواصلة الدرس والبحث يرجع إلى قاضي زاده الرومي(311/36)
ولقد دفعته هذه الرغبة إلى تأسيس مدرسة عالية وعهد إلى قاضي زاده بإدارتها. وقد بنيت المدرسة على شكل مربع في كل ضلع من أضلاعه قاعة للدرس عُيِّن لها مدرس خاص. وكان قاضي زاده يدرس للطلاب ومدرسي القاعات ويحاضرهم مجتمعين. ومما يؤثر عنه أنه كان شديد المحافظة على كرامة العلماء والأساتذة لا يرضى بالتعدي على استقلالهم ويقف دون أية محاولة للضغط عليهم، كما كان من القلائل الذين يحملون روحاً علمياً صحيحاً، اشتغل للعلم لا لغيره، لم يبغ منه مكسباً أو جاهاً
عزل ألفي بك أحد المدرسين في المدرسة المذكورة فاحتج قاضي زاده على ذلك وانقطع عن التدريس وإلقاء المحاضرات. ويظهر أن ألفي بك شعر بخطئه فذهب بنفسه لزيارته وسأله عن سبب الانقطاع، فأجابه: كنا نظن أن مناصب التدريس من المناصب التي تحيطها هالة من التقديس لا يصيبها العزل وأنها فوق متناول الأشخاص. ولما رأينا أن منصب التدريس تحت رحمة أصحاب السلطة وأولي الأمر وجدنا أن الكرامة تقضي علينا بالانقطاع احتجاجاً على انتهاك حرمات العلم والعبث بقداسته.
إزاء ذلك لم يسع ألفي بك إلا الاعتذار وإعادة المدرس المعزول وإعطاء وعد قاطع بعدم مساس حرية الأساتذة والمعلمين
قد يمر كثيرون بهذا الحادث ولا يعيرونه اهتماماً؛ ولكن إذا نظرنا إلى حاجة قاضي زاده إلى الوظيفة ومعاشها وإلى سطوة الأمراء في تلك الأزمان وإلى الجرأة النادرة التي ظهر بها، نجد أنه لا يقدم على ما أقدم عليه إلا من أنعم الله عليه بروح علمي صحيح وبثقة في النفس عظيمة لولاهما لما وصل قاضي زاده إلى ما وصل إليه من مكانة رفيعة ومقام كبير عند العلماء وأصحاب الثقافة العالية
امتاز قاضي زاده على معاصريه بعد اعتقاده بالتنجيم أو الأخذ به؛ وكان لا يرى فيه علماً يستحق الاعتناء أو الدرس بعكس ألفي بك الذي يعتقد به ويسير أموره بموجب أحكامه. وقد أَدى هذا الاعتقاد إلى وقوعه في مشاكل وصعاب انتهت بالقضاء عليه كما يتبين لنا من ترجمة حياته
رغب ألفى بك في علم الفلك ورأى فيه لذة ومتاعاً وأحب أن يتحقق من بعض الأرصاد التي قام بها فلكيو اليونان والعرب وأن يتقدم به خطوات، لهذا بنى مرصداً في سمرقند كان(311/37)
إحدى عجائب زمانه. زوده بالأدوات الكبيرة والآلات الدقيقة وطلب من غياث الدين جمشيد وقاضي زاده أن يعاوناه في إجراء الرصد وتتبع البحوث الفلكية. وقد توفي غياث الدين قبل بدء الرصد كما توفي الثاني قبل إتمامه، فعُهد إلى علي القوشجي بأعمال الرصد ليكملها
ومما لا شك فيه أن الأرصاد التي أجراها قاضي زاده مما تزيد في قيمة الأزياج التي وضعت على أساسها. فقاضي زاده لم يكن من علماء الهيئة فحسب، بل كان أيضاً من اكبر علماء الرياضيات في الشرق والغرب. درس عليه كثيرون، وبرز بعض تلامذته في ميادين المعرفة، وإلى هؤلاء يرجع الفضل في نشر العلم والعرفان في بعض الممالك العثمانية. يقول صالح زكي: (. . . إن هناك كثيرين اخذوا عن قاضي زاده وقد انتشر بعضهم في الممالك العثمانية ففتح الله الشيرواني الذي درس العلوم الشرعية علي الشريف الجرجاني والعلوم الرياضية علي قاضي زاده، وذهب إلى قسطموني حيث اشتغل بالتدريس وكان ذلك في حكم مراد خان الثاني، وكذلك علي القوشجي الذي دعي إلى زيارة استامبول، وبقي فيها مدة يعمل على نشر العلم وكان ذلك في عصر محمد الثاني. . .)
ولقاضي زاده رسائل نفيسة ومؤلفات قيمة منها:
رسالة عربية في الحساب، وقد ألفها في بروسه سنة 784هـ قبل ذهابه إلى بلاد ما وراء النهر ولها شرحان.
وكتاب (شرح ملخص في الهيئة) وهو شرح لكتاب (الملخص في الهيئة) لمحمود بن محمود بن محمد بن عمر الخوارزمي وضعه بناء على طلب ألفي بك
ورسالة في الجيب وهي رسالة ذات قيمة علمية تبحث في حساب جيب قوس ذي درجة واحدة.
وكذلك له شرح (كتاب ملخص في الهندسة) تأليف محمود بن محمود الخوارزمي، وقد عمل الشرح بناء على رغبة ألفي بك
وشرح كتاب أشكال التأسيس في الهندسة تأليف العلامة شمس الدين بن محمد بن أشرف السمرقندي - وهذا الكتاب خمسة وثلاثون شكلاً من كتاب أقليدس
(نابلس)
قدري حافظ طوفان(311/38)
العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 5 -
تحدث المحرر في مقالاته السابقة عن طريف مشاهداته في الصحراء الغربية ووصف بعض صفات الأعراب وأخلاقهم وطرق معيشتهم. وهو في هذا المقال يتحدث إلى القراء عن (مرسى مطروح) عاصمة الصحراء الغربية حديثاً طريفاً
مرسى مطروح
هي ميناء صغيرة تحمي مدخلها من أمواج البحر الأبيض صخور طبيعية في وسها مدخل صغير يسمح بمرور البواخر العادية الحجم. ومن الصعب على البواخر دخول الميناء في أوقات العواصف والأنواء. وحول الميناء عدد من البحيرات يفصل بينها حاجز رملي بسيط لا يلبث أن يطغي عليه البحر فيملأ هذه البحيرات بمياهه. وهناك على رابية مرتفعة شرقي الميناء تقع طابية أثرية قديمة يغلب أنها من العهد الروماني. ثم حولها الأتراك إلى طابية تركية وجعلت أخيراً حصناً منيعاً للدفاع عن الميناء، وكان ذلك في سنة 1926
ومرسى مطروح بلدة قديمة كان للتجارة فيها شأن عظيم وازدهرت في عهد الرومان وكانت تشتهر بتصدير الشعير والإسفنج والبلح والأغنام، وقد شيدت الملكة كليوبطرة قصراً فخماً بها. وكانت تقيم فيه مع القيصر أنطونيوس. ومنه كانت تدبر حركة جيوشها في مصلحة الأخير ضد أغسطس الذي أقام بها بعد موقعة أكتيوم.
كذلك كانت لمرسى مطروح شهرة ذائعة في عهد اليونان أيام حكم اسكندر الأكبر المقدوني؛ وكانت تسمى في ذلك الحين (برننيوم) كما كان بعض القدماء يسمونها (أمونية) ويغلب أنهم أطلقوا عليها هذا الاسم نظراً إلى أنها كانت بداية الطريق الموصلة إلى سيوة حيث يوجد معبد الإله أمون ويسمي (جوبتره أمون) ويقال إن الإسكندر حين قام برحلته الشهيرة لزيارة هذا المعبد في سيوة والتبرك به ابتدأ من هذه المدينة
وفي الأيام الأخيرة قرر الإمبراطور (جوستنيان) تحصينها وجعلها نقطة أمامية في خط(311/40)
الدفاع عن القطر المصري إذا هوجم من الجهة الغربية. على أنه يغلب أن يكون الحصن المقام بها والسابق ذكره يرجع إلى عهد هذا الإمبراطور. ويظهر أن التاريخ يعيد نفسه، فقد كانت أيضاً نقطة دفاع مهمة في السنة الماضية وفي هذه السنة ضد الهجوم الإيطالي المتوقع من الجهة الغربية
وليست هناك في الواقع آثار يمكن الاستدلال منها على مركز مرسى مطروح قديماً وما كان لها من الأهمية في العصور السابقة. والظاهر أن البحيرة الممتدة غرب الميناء الحالي هي التي كانت مستعملة قديماً للرومان واليونان وهي بحيرة منيعة. ولا تزال بها آثار رصيف حجري يقع على مقربة من طرفها الشرقي
وبالقرب من موقع جامع البلدة الجديدة توجد آثار بناء قديم به بعض النقوش. ولهذا البناء ممر (نفق) تحت الأرض يصل إلى شاطئ البحر، ويسمى هذا البناء (فيلا كليوبطرة) وأحياناً (حمام كيلوبطرة)
أما البحيرات الشرقية من الميناء فيوجد بها بعض درجات صخرية قديمة توصل من الشاطئ إلى شرفة من الصخور المطلة على البحيرة، ولا يعرف تاريخها بالضبط، وفي نهاية هذه البحيرة من الجهة الشرقية أقام بنك مصر ملاحة كبيرة معطلة للآن عن العمل. وفي جنوب البلدة سلسلة من التلال المرتفعة بها عدد من الكهوف الصخرية يظهر أنها كانت مستعملة كمقابر وعلى مقربة منها برج مرتفع يشرف على البلدة جميعها وبجواره سلسلة مواقع حربية حصينة.
البلدة الحديثة
أما البلدة الحديثة فمشيدة بنظام هندسي بديع على أرض مستوية يقع أمامها البحر، وسلسلة صخور. وإلى الخلف سلسلة من المرتفعات الحصينة الصخرية وبها محافظة الصحراء الغربية، وهي مركز تجاري عظيم للقوافل بينها وبين سيوة، وبها سنترال عام للمواصلات الخارجية، وهي آخر محطة في الخط الحديدي الواصل من الإسكندرية. وبها فنادق حديثة. ويعتبر فندق (الليدو) من فنادق الدرجة الأولى إذ أن كل غرفة فيه مجهزة بحمام للمياه الساخنة والباردة. وأما شاطئ البحر الرملي اللامع فيعد من أحسن شواطئ العالم جمالاً وهدوءاً، بل إنه يضارع شاطئ الريفيرا نفسه. وقد أصبحت البلدة الآن محطة عظيمة(311/41)
للطائرات المحلية والأجنبية، وهي من أحسن الأمكنة لقضاء صيف هادئ جميل
وسكانها من العرب والمهاجرين من الطرابلسيين واليونان، ومنازلها مبنية كلها بالحجر على نظام حديث
المياه العذبة
ومشكلة المياه العذبة في مرسى مطروح من المشاكل الدقيقة. وكان الرومان يحفرون خزانات صخرية عند منحدرات التلال تملأ بمياه الأمطار في وقت الشتاء. وتوجد بالبلدة عدة آبار، ولكنها غير عذبة تماماً؛ ويشرب منها الأهلون والحيوانات. على أنه يمكن الحصول على المياه العذبة إذا حفر الإنسان قليلاً بالقرب من الشاطئ. ويزرع الأهلون بعض الحدائق من مياه هذه الآبار وترسل المياه النيلية من الإسكندرية على بواخر مصلحة السواحل
أما الآبار الرومانية الشهيرة فتقع على بعد 12 كيلومتراً تقريباً من البلدة، وهي آبار عجيبة جداً، إذ هي عبارة عن نفق صخري طويل تسير فيه المياه وطوله عظيم ويمكن للإنسان أن يسير فيه مسافات طويلة تحت الأرض، وله فتحات محفورة في الصخور لإدخال النور وتسهيل تنظيفه. والمياه فيه وفيرة، وقد استغلها الجيش البريطاني في الحركة الأخيرة عام 1926 فركب عليها آلات خاصة ومواسير تصل بها المياه إلى مرسى مطروح، ولا تزال بها حتى الآن، ومنها تمد البلدة بالمياه بسهولة جداً
صيد الإسفنج
صناعة صيد الإسفنج في مرسى مطروح قديمة يرجع تاريخها إلى عدة قرون ويعتبر إسفنجها من أحسن الأنواع في العالم. ويبدأ فصل الصيد من شهر مايو إلى أكتوبر سنوياً حيث تزدحم مياه البحيرات في الميناء بأسطول عظيم من مراكب الصيد كلها من اليونان. أما طريقة الصيد هناك فغريبة وخطرة إذ يغطس الصياد بثقل من الأحجار ويذهب كثيرون منهم في بعض الأحيان ضحية لهجوم وحوش البحر. ويقدر محصول الإسفنج سنوياً بآلاف الجنيهات. أما الصيادون أنفسهم فأكثرهم من سكان الجزائر اليونانية، وهم قوم أتقياء جداً وقد بنوا كنيسة بالبلدة، ولهم قساوسة. وأظن أن هذه الكنيسة هي الوحيدة في الصحراء(311/42)
الغربية.
عبد الله حبيب
-(311/43)
من برجنا العاجي
(هتلر) ذلك الرجل الذي يعيش وحيداً قوياً لا يعرف المرأة ولا يذوق اللحم ولا الخمر ولا يفكر إلا في السيطرة على العالم وقيادة البشر، ذلك الرجل الذي لو خرجت من بين شفتيه كلمة رقيقة على مائدة السياسة الخضراء لتغير وجه التاريخ. قد شاء القدر أن يجلس أخيراً إلى مائدة غذاء في مونيخ، منفرداً مع كوكب لامع من كواكب الغناء، وقد خرجت من بين شفتيه هذه الكلمات:
- إن صوتك لصافٍ صفاء البلور النقي!
فقالت المغنية الجميلة في ابتسامة ساحرة:
- شكراً
فقال المستشار:
- أنا الذي ينبغي له أن يشكرك
فقالت الغانية في شيء من العجب:
- على ماذا؟
- على مجرد وجودك في الدنيا لا أكثر ولا أقل!
قرأت خبر ما تقدم في إحدى المجلات الأوربية. وقد ختمت المجلة الخبر بقولها: (وقد سافرت المغنية بعد ذلك إلى باريس، فأراد هتلر أن يضع طائرة تحت تصرفها. أتراه قد وقع في الغرام؟ أي خلاصة البشرية إذا قنع هتلر منذ الآن بمكان رحب بالقرب من المرأة!)
واحب أن أعلق أنا على هذا الخبر بقولي: أترى المرأة تنتقم دائماً من ذلك العظيم الذي قضى حياته في البعد عنها وكرس جهوده لغير التفكير فيها؟ أو ترى الرجل العظيم الذي طرح المرأة من حسابه وأخرجها من حياته يعيش إلى آخر أيامه قانعاً ناعماً أم أنه يشعر فجأة في لحظة من اللحظات أن امتلاك العالم بأسره لا يعدل أحياناً امتلاك قلب امرأة؟!.
توفيق الحكيم(311/44)
الدين الصناعي
للدكتور محمد البهي
الأستاذ بكلية أصول الدين
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ أحمد أمين في مجلة الثقافة رقم 22 بتاريخ 11 ربيع الآخر سنة 1358 - 30 مايو سنة 1939 يشرح الدين الصناعي ويحدده
وقد تناوله من ناحيتين: من ناحية ماهيته ومن ناحية أخرى وهي مظهره العملي أو ناحية التدين به
فأما من الناحية الأولى فقد وصفه بأنه (كصناعة النجارة والحياكة يمهر فيها الماهر بالحذق والمران
. . . ويحمل صاحبه على أن يحيا به ويتاجر به ويحتال به
. . . ويحمله على أن يلوي الدين (دين الحق!!!) ليخدم السلطان ويخدم السياسة)
أما مظهره العملي في نظره فهو: (. . . عمامة كبيرة وقباء يلمع وفرجية واسعة الأكمام
. . . هو نحو وصرف وإعراب وكلام وتأويل
و (الشهادة) فيه إعراب جملة وتخريج متن وتفسير شرح وتوجيه حاشية وتصحيح قول مؤلف ورد الاعتراض عليه
وأخيراً هو. . . تحسين علاقة صاحبه بالإنسان لاستدرار رزق أو كسب جاه أو تحصيل مغنم أو دفع مغرم)
وعهدي بكتابة الأستاذ أحمد أمين أن تكون لغاية إيجابية تقصد، وعهدي بأسلوبه في التفكير أن يكون مرتب الفِكرِ يصل بالقارئ إلى تلك الغاية بدون مشقة أو تكلف
قرأت مقال (الدين الصناعي) مرة ثم تكررت القراءة لأقف على الغاية العلمية التي يبغيها الأستاذ الكبير، لأن اتجاهه العلمي في أبحاثه هو الذي حملني على أن أطلب هذه الناحية أولاً فلم أخرج منه بالعناصر التي تكون الطابع العلمي للبحث والتي من بينها بل وأخصها (الاعتبار العام)
فما ذكره على أنه مظهر (الدين الصناعي) ليس له صفة العموم في كل بلد تدين بالإسلامية أو تدين أكثريته به. فا (العمامة الكبيرة والقباء الذي يلمع والفرجية الواسعة الأكمام) ليست(311/45)
من مظاهر التدين الحقيقي أو الصناعي بين مسلمي الهند أو مسلمي شرقي أوربا مثلاً في عصرنا الحاضر. ولم اعرف أن (النحو، والصرف وإعراب الكلام والتأويل) رمز العمل الذي يتناوله محترف الدين أو صاحب الدين الصناعي في أي بلد إسلامي، في مصر أو في غيرها من البلدان الأخرى، كما أعرف أن (الشهادة) عنده هي (إعراب جملة وتخريج متن وتفسير شرح وتوجيه حاشية وتصحيح قول مؤلف ورد الاعتراض عليه).
نعم قد يتناول الباحث اللغوي مثل هذا العمل، كأي راغب آخر في بحث موضوع بعينه قد يتناوله ويعالجه من جهات لا تلذ لبعض القراء أو يقبل ميل السامع إلى الإصغاء إليها، ولكن ذلك لا يدل على تفاهة البحث في ذاته فضلاً عن دلالته إذا ما تناوله رجل ينتسب إلى الدين على أنه مظهر تدينه أو عنوان احترافه بالدين
الأستاذ أحمد أمين، كثيراً ما كتب أيضاً في بعض النواحي الاجتماعية والخلقية في مصر، وكثيراً ما حاول في كتابته علاج تلك النواحي بعد الدقة في وصفها وتشخيصها. لهذا عمدت بعد عجزي عن محاولة جمع العناصر التي تكون الطابع العلمي من مقاله (الدين الصناعي)، إلى التفتيش عن الظاهرة الاجتماعية التي يريد الأستاذ علاجها أو عن المعنى الخلقي الشائع الذي يبغي شرحه ليوقف قراءه على شيء جديد لا يستطيع الرجل العادي أن يهتدي إليه
عرضت أمام نظري، مستعيناً بالمشاهدات، المظاهر الاجتماعية المألوفة في مصر التي يبدو فيها النقص والتي قد تؤخذ على أمة تطلب الكمال في معاني المدنية، وعرضت كذلك كثيراً من الصفات السلبية للخلق السائد فينا
حقاً وجدت (تحايلاً) وكفاحاً من طبقات مختلفة حول هذا التحايل. وجدت تحايلاً باسم (البحث العلمي) وتحايلاً باسم (حرية الفكر) وتحايلاً باسم (الديمقراطية) وتحايلاً باسم (الدين). كل طائفة تبغي قضاء رغباتها الخاصة، وكل تسلك هذه الطريق، طريق (التحايل)، مستغلة سذاجة الشعب وجهله. فكما يسند (التحايل) و (الاحتراف) (والاتجار) إلى الدين فينشأ بهذا الإسناد ما عنون الأستاذ با (الدين الصناعي) يجوز أن تسند كذلك إلى نظائر الدين مما يحترف به في مصر ويتحايل ويتجر به فيها من البحث العلمي، وحرية الفكر، والديمقراطية. . . الخ ويصح أن ينشأ أيضاً عن هذه النسبة ما يسمى بالبحث العلمي(311/46)
الصناعي، وحرية الفكر الصناعية، والديمقراطية الصناعية. . . الخ
فليس إذاً (التحايل) الذي جعله الأستاذ مقوم الدين الصناعي ومكوناً لأهم جزء من ماهيته خاصاً (بالدين الصناعي) ولا يتحتم أن يكون مصدره صاحب العمامة الكبيرة والقباء اللامع والفرجية الواسعة الأكمام، ولا من يتناول الأبحاث اللغوية أو يشرح التآليف، بل يصح أيضاً أن يكون صاحب البحث العلمي الحر أو من يهيم بأدب الإغريق وفلسفتهم أو خطيب المحافل السياسية
وإذا فالدين الصناعي ليس هو الظاهرة الاجتماعية التي يجب أن تعالج، ولا صاحب العمامة الكبيرة هو الملوم في إحداث هذه الظاهرة، وإنما الذي يجب أن يداوى هو (التحايل والاحتراف) بأي موضوع من موضوعات الثقافة: الدين أو العلم أو السياسة الخ. والملوم في ذلك هو جهل الأمة، وعدم استطاعتها وضع مقاييس صحيحة للقيم الرفيعة.
ولما لم أتبين الظاهرة الاجتماعية التي، ربما، أراد الأستاذ علاجها في (الدين الصناعي) وحده كما لم أنجح في تكوين طابع علمي لمقاله هذا، غلب على ظني أن الأستاذ ربما أراد أن يمتع قراءه بقطعة أدبية، وأن يهيئلهم لذة نفسية من وراء جمالها الرائع، وكثيراً ما يكون ذلك مقصد الأديب في الشرق.
والأستاذ أحمد أمين فوق ما له من الأبحاث العلمية والاجتماعية أديب وفنان!
محمد البهي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا(311/47)
من أدب العمر
لغة الإدارة. . .
للشيخ حسن عبد العزيز الدالي
وقع في يدي صباح الأمس خطاب لأحد عساكر البوليس كان قد أرسله إلى أبي رحمه الله في سنة 1915 وهو يومئذ عمدة البلد يخبره فيه أن نزاعاً حدث بين أخته وزوجها ويطلب إليه أن يفصل في هذا النزاع، وفي آخر الخطاب يقول: (والحذر من التأخير)!
لا أعلم ماذا كان وقع هذه الجملة على مسمع العمدة؛ والغالب أنه حملها باسماً على محمل السذاجة والجهل؛ ولكني أعلم أن هذه الجملة لا توجد إلا في قاموس الإدارة فأين وقع عليها هذا الجندي المسكين؟ لقد كان يعمل في أقسام القاهرة، وكان يلاحظ أن هذه الجملة البليغة لازمةٌ رسمية تختم بها الرسائل والطلبات الصادرة من المأمور إلى الجمهور، فرسخ في ذهنه من طريق القدوة الحسنة أن هذا هو الأصل في التحرير، لكل صغير وكبير!
هل تظن يا سيدي القارئ أن هذه العبارة، سقطت من لغة الإدارة، بعد أن انتشر التعليم، في العواصم والأقاليم، وشاع الذوق الكتابي والخطابي بين كل الناس، من حامل القلم إلى حامل الفاس؟ لقد رجعت إلى دفتر الإشارات التليفونية الصادرة إليّ عن المراكز في شهر مايو الماضي فوجدتها سبعين إشارة، ثلاثة أرباعها ينتهي بهذه الجملة التقليدية: (والحذر من التأخير) والربع الباقي ينتهي بعبارات مختلفة، منها (وإلا فالمسؤولية شديدة)، (فلا تلومون (كذا) إلا أنفسكم)، (ومن يهمل سننظر في أمره بشدة). . . الخ الخ. فقلت في نفسي: عجيب! أيمر عليّ خطاب (الجاويش مرسي) ربع قرن ولم يتول الكتابة من خلاله للمأمورين والمعاونين كاتب من حملة البكالوريا يعلَّم سادتنا (الكتاب)، آداب الخطاب، ويفهمهم أن هذه اللهجة وإن صلحت للخفير فلا تصلح للعمدة، لأن العمدة يمثل الحكومة في بلده، كما يمثلها المأمور في مركزه، وإذا كان بينهما فرق فهو أن المأمور يعمل مأجوراً مشكوراً، والعمدة يعمل متطوعاً ومتبرعاً. فهل يجوز أن يكافأ على ما يتحمله من المسؤولية والمشغولية والغرامة، بحرمانه من الأجر والشكر والكرامة؟!
حسن عبد العزيز الدالي(311/48)
عمدة كفر دميره القديم(311/49)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
حل البارودي محل الشريف وفي البلاد ما فيها من أثر تلك المذكرة التي جاءت في تلك الظروف التي بينا دليلاً على سوء تدبير واضعيها وعلى قصر نظرهم ورعونتهم. ولكن ما لنا نشير إلى قصر نظر الدولتين فيما فعلتا ونحن لا يتداخلنا شك في أنهما كانتا تريان عاقبة فعلتهما، وأنهما إنما أرادتا إثارة الخواطر وزيادة أسباب الخلاف بين الخديو وزعماء البلاد المدنيين منهم والعسكريين، فبهذا يتيسر لهما الوصول إلى الغرض المرسوم
وكان طبيعياً أن يسير البارودي على نهج غي الذي سار عليه شريف، فهو بحكم مركزه بين الزعماء العسكريين وبحكم الظروف التي أدت إلى استقالة شريف، لم يكن أن يحمل نفسه على الهوادة والملاينة، وإلا ففيم كان إحراج شريف ثم إخراجه من الحكم؟
ومن ذلك يتبين لنا أن السياسة التي جرى عليها البارودي في وزارته لم يكن له منتدح عنها، وأن مردها في الواقع إلى مسلك الدولتين وعلى ذلك فمن الظلم أن نرجع باللوم كله على تلك الوزارة فيما ارتكبت من أخطاء، فإن جانباً كبيراً من اللوم بل لعل اللوم كله يقع على الذين دفعوا الوزارة بقبح تدبيرهم وسوء نيتهم في تلك الطريق التي ما لبثت أن رأت نفسها فيه تخرج من أزمة لتدخل في أزمة غيرها
وهكذا تدفع الدولتان البلاد في طريق العنف والثورة ثم تتهمانها مع ذلك بالفوضى وتجعلان من مبررات تدخلهما القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية وإنها لمن صنعهما؛ ولن يكون في صور الظلم أبلغ وأوجع من أن يضرب مضعوف على رأسه فإذا نفر من الضرب وتأوه عد نفوره جموحاً واعتبر تأوهه ثورة. . .!
وكان عرابي وزير الجهادية في وزارة البارودي، وأنعم عليه برتبة الباشوية؛ وهو يقول إنه قبلهما هذه المرة كارهاً، فلولا أنه رأى أن المنصب يقتضي قبول الرتبة ما قبلها. وأنا(311/50)
أميل إلى تصديقه فيما يقول فليس في الأمر ما يحمل على الريبة في قوله، وهو لا يسوق هذا القول مساق الفخر وإنما يسوقه بين براهينه على أنه لم يكن يوماً يدعى خصومه تحكه الأطماع الشخصية
وأما عن قبوله المنصب فما نظن أنه كان يستطيع أن يبقى بمعزل عن الوزارة وقد صار له في سياسة البلاد هذا الشأن بعد حادث عابدين. وإنا لنعجب أشد العجب للذين يعيرون رجلاً لقبوله منصباً من المناصب ويتخذون ذلك القبول دليلاً على أنه يطلب الخير لنفسه فحسب، فهل كانت المناصب عند الناس جميعاً وسيلة إلى إشباع المطامع وجلب المنافع الذاتية؟ وأي شيء يجعل هذا لازمة حتمية للمنصب؟ وأي شيء يمنع من أن يكون المنصب عند بعض الناس وسيلة إلى غاية جليلة شريفة هي العمل للصالح العام؟ وأي قرينة تمنع من أن نسلك عرابياً في سلك هؤلاء الداعين إلى الخير العام والذين يتخذون من المناصب أداة لخدمة المجتمع؟ إن ابسط قواعد العدالة تضع المتهم على قدم المساواة مع البريء حتى تثبت إدانته، فأية إدانة يلصقها بعرابي أولئك الذين عابوا عليه دخول الوزارة؛ إنهم إذ يتهمونه بالسعي إلى صالحه هو لا يعدون بذلك حدود التهمة، فله أسوأ الفروض من موضع البريء من العدالة حتى تثبت إدانته، وما أيسر أن تكال لأي فرد من الناس في غير حساب، وما أصعب البينة على الذين يفترون الكذب وهم يعلمون. . .
إن الذين يرون في الحكم مغنماً لهم إنما هم أولئك المفرطون في حقوق أوطانهم الممالئون للدخلاء فيها، والمستضعفون من الرجال، والذين في قلوبهم مرض، والمغترون بالحياة وأوهامها، والمالئون بطونهم كما تأكل الأنعام؛ أما أولو النخوة والعزة من الرجال فلن تلهيهم عن دوافع نفوسهم الأبية الحياة الدنيا وزينتها؛ ولن تطفئ الحمية في قلوبهم ما يحلي بها الأغرار صدورهم من أوسمة، أو تزدهي أنفسهم الكبيرة الرتب والألقاب، أو يزيغ أبصارهم بريق الذهب، لأن هذه جميعاً عندهم مظاهر وهم يحتقرون كل مظهر، لأنهم يطلبون الجوهر. ومن كان في هذه الدنيا كبيراً بنفسه فما بحاجة إلى أن يتكبر، ومن تكبر وهو بنفسه صغيراً فما زاد على أن أضاف إلى حقارة نفسه ما هو أحقر
ولقد كان عرابي كبير النفس كبير الآمال فكان المنصب عنده باباً من أبواب الجهاد ووسيلة من وسائله؛ فما يعيبه أن يدخل الحكم وإنما يعيبه أن يعرض عن الحكم وعلى الأخص في(311/51)
مثل تلك الشدة التي ساق الطامعون إليها البلاد على غير إرادتها. . .
على أن الناس ما كانوا ينظرون إلى عرابي نظرتهم إلى وزير من الوزراء فحسب، بل كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى الرجل الذي تعلق عليه الآمال فيما كانت البلاد مقبلة عليه، وإنما كانت تقوم نظرتهم على ما بلوا بأنفسهم من إخلاصه، وما شهدوا من بسالته وحميته، وعلى ذلك فما زاده المنصب في أعين الناس مثل ما يطلبه غيره ليزداد به من جاه أو شرف، وأي شرف يطمع فيه الرجل هو أعظم من أن يكون في بني قومه معقد الرجاء وموضع الثقة؟
ولقد كان عرابي في الوزارة إذا أردنا الحق أكثر من وزير فكانت الكلمة كلمته وكان الرأي رأيه، أراد ذلك أم لم يرده، ونقول أراده أم لم يرده لأنه بات في الزعماء رجلاً ليس للزعماء مثل ما له في قلوب الناس من مكانة وسحر. وهل كان سعد زغلول في كرسي الرياسة كسواه من رؤساء الوزارات، ليس لشخصه من تأثير في قلوب الناس إلا ما تبعثه هيبة المنصب ورهبته؟ أم كان سعد في الناس رجلاً غير ما ألفوا تحف به هالة من أمجاده فتخلق له شخصية وسطاً بين الملائكة والناس؟ وهل ازداد سعد بالمنصب شيئاً في أعين الناس أم أن المنصب هو الذي ازداد به علواً ومهابة؟ على هذا القياس صور لنفسك شخصية عرابي بين قومه يومئذ مع تذكر الفرق بين جيل عرابي وجيل سعد ومواهب عرابي
كان على وزارة البارودي بادئ الأمر أن تواجه أزمة الميزانية؛ وكان عنصرا هذه الأزمة الدولتين المتجنيتين على البلاد ونواب الشعب الغاضبين لكرامة بلادهم المتمسكين بحقهم أمام باطل أعدائهم، وكان من الطبيعي أن تعمل وزارة البارودي أحد الزعماء العسكريين والتي كان عرابي نفسه أحد وزرائها، على تحقيق آمال البلاد، بل لقد كان أمراً حتمياً على تلك الوزارة أن تفعل هذا فعلى هذا الأساس كان قيامها بالحكم
قامت وزارة البارودي على إرادة الأمة ما في ذلك ريب؛ فإن النواب حينما أظهروا أسفهم لشريف أن يكون المجيب لمطالبهم رجلاً غيره، وحينما ذهبوا إلى الخديو يشكون إليه أمرهم كانوا معبرين في ذلك عن مشيئة الأمة، وآية ذلك أن الخديو لما سألهم بأي حق يطلبون إقالة شريف كان جوابهم (هذه إرادة الأمة)(311/52)
ولم يسع الخديو إلا أن يذعن - ولكن على طريقته - لإرادة الأمة هذه، فدعا شريفاً والقنصلين الأجنبيين وعرض عليهما الأمر فلم يكن أمام شريف غير الاستقالة. ثم إن الخديو دعا إليه زعماء النواب وسألهم كما أسلفنا عمن يرضون لرياسة الوزارة، فبعد أن بينوا له أن ذلك من حقه اختاروا البارودي واشترطوا أن يكون قيام وزارته على أساس إجابة مطالب النواب
ولقد أضاف الخديو إلى أخطائه خطأ جديداً بقبوله هذا الأساس فمن حقه وحده اختيار رئيس وزرائه، ولكنه خطا حتى هذه الخطوة بإشارة القنصلين فلقد أوهماه أن في هذه خيراً له، فبه يخلو من التبعة ويلقيها على عاتق النواب والزعماء. . . ولكنهما في الحقيقة كانا يريدان أن يوسعا مدى الخلف بين الخديو والبلاد؛ ومن السهل عليهما أن يوحيا إليه على لسان أعوانهما بعد ذلك أنه أصبح وليس له من الأمر شيء
على أن مالت وكلفن وأشياعهما ما لبثوا أن أذاعوا في مصر وفي أوربا عن الوزارة كل سوء ورموها بكل باطل من الاتهام، فهي وزارة عسكرية محضة لا تعترف سياسة أو تنظر في عاقبة أمر من الأمور وإنما قوام أعمالها العنف والثورة؛ وهي وزارة لا تحسب لأي سلطة غيرها حساباً فليس للخديو وجود فعلي أمامها، وليس للأجانب على ما لهم في مصر من ديون أي حق أو شبه حق. . . إلى غير ذلك من اللغو والإفك
أما عن عرابي نفسه فقد خرج بأوفر نصيب من التهم الباطلة، ومن هذه التهم ما عزي إليه على لسان جريدة التيمس أنه هدد شريفاً وأنه شهر سيفه في وجه سلطان باشا رئيس المجلس وهدده بتيتيم أطفاله. ولقد بلغ من رواج هذه الإشاعة أن أثبتا ماليت في يومياته، بل لقد أثبت ما هو أشد خطراً منها ألا وهو أن الخديو ما قبل استقالة شريف إلا تحت تأثير تهديد لا يقل عن هذا
ولقد استاء سلطان من هذه الفرية وحاول جهده تكذيبها. يقول مستر بلنت في مذكراته: (وقد ذهبت إلى منزل سلطان باشا فوجدت فيه طائفة كبيرة من النواب وكثيرين من ذوي الحيثيات والمكانة في مصر وهم: الشيخ العباسي وعبد السلام باشا المويلحي وأحمد بك السيوفي وهمام أفندي وشديد بطرس أحد كبار النواب الأقباط وغيرهم. وقد أنكر هؤلاء جميعاً هم وسلطان باشا أنهم عملوا تحت تأثير أي تهديد، وتكلم سلطان باشا بلهجة شديدة(311/53)
مستنكراً القصة التي اخترعت عنه وقال: إن أحمد عرابي إنما هو بمثابة ابن لي، وهو يعرف حقي وواجبه، فمكانه في وزارة الحرب، ومكاني في البرلمان، وهو ينتصح لرأي وليس يعتدي على حقوقي. أما من حيث استلاله السيف أمامي فهو لا يفعل ذلك إلا إذا رأى أعداء يهاجمونني، وهذه حكايات لا يصدقها رجل يعرفنا نحن الاثنين وهي حكايات كاذبة لا أساس لها من الصحة، ولك أن تثق أن أصغر نائب هنا يمثل الناس يحسن الحكم على ما يحتاجه أولئك الناس أفضل من أعظم جندي. ونحن نحترم أحمد عرابي لأننا نعرف أنه صادق الوطنية عظيم المواهب السياسية وليس لأنه جندي). . .
ثم يستطرد بلنت قائلاً: (وقد نقلت كلمات سلطان باشا هذه عن مذكرة لي أثبتها فيها يومئذ، وقد أنحى الشيخ على ماليت لنشره مختلف الأباطيل وطلب مني أن أنقل إليه الحقائق وأن أبلغها لغلادستون وأنشرها في الصحف، وقد أرسلت الحكاية بالتفصيل إلى التيمس، ولكنها لسبب لا أعرفه لم تنشرها، وأرسلت تلغرافا بالمعنى نفسه للمستر غلادستون ثم أرسلت خطاباً مستفيضاً ضمنته رأيي في الموقف كله)
هذه هو كلام بلنت عن هذه الفرية، وما أجمل ما وصف به سلطاناً عرابيا فهو لا يحترمه لأنه جندي ولكنه معجب بوطنيته مقدر لمواهبه السياسية، ومثل هذا الكلام لا يصدر عن مثل سلطان عن خوف أو تملق، فقد كان أكبر من أن يخاف وأعظم من أن يتملق؛ وهو بطبعه شديد الكبر كثير المباهاة بجاهه والاعتزاز بثروته؛ بل إن صدور هذا الكلام عن رجل هذه هي صفاته إنما يزيد في قيمته ويجعله منه وثيقة خطيرة ندعو الذين يجهلون حقيقة عرابي إلى قراءتها في روية وحسن طوية
ويذكر بلنت أن التيمس لم تنشر تكذيبه لسبب لا يعرفه، والأمر في ذلك ظاهر لا يحتاج إلى طويل شرح، فالتيمس وإضرابها من الصحف الإنجليزية تخدم قضية الاستعمار أبداً، وهي خير من يدرك نيات الساسة في بلدها وأول من يطلع على حقائق الأمور، فلم تكن تجهل يومئذ ما تبيته إنجلترة لقضية الأحرار في مصر، بل وما تنتويه السياسة الإنجليزية العليا من الاستيلاء على مصر قبل أن تستولي عليها فرنسا، ولذلك فهي ما كانت لتنشر رأياً مثل هذا الرأي يأتي على لسان رجل مثل بلنت فيكون به من الإنجليز شاهداً من أهلهم عليهم(311/54)
(يتبع)
الحفيف(311/55)
ترانيم وتسابيح
تمثال العذاب
وحي الطيف والعزلة والسلون
(إلى نورها في ظلمات القيد!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ضَمِئتْ روحي فلا كأ ... سٌ ولا نَجوىَ سرابِ
غيرُ طيفٍ في حِمى العُزْ ... لةِ مَجنون التَّصابي
رُحتُ أَجثو بين كَفَّيْ ... هِ فَحَيَّاني تُرابي
وأَمحَتْ ذاتي وأَصبَح ... َتْ كصمت في خراب
وانتَهى حِسّي فأَطرَقْ ... تُ كتمثالِ العَذابِ
مَرَّت الأحلام بي حَيْرَى فمالتْ
وجَثَّتْ حيناً وريَعَتْ فتوارتْ
وهيَ تبكي غمغمتْ حولي وقالتْ:
يا نَبيَّ الصمتِ! يا نَعْ ... شَ الهوى! يا ابنَ الترابِ!
أَترعِ الأقداحَ واشربْ - نَغَمَ الحُلُمِ المُذابِ
قلتُ: مات الصَّفوُ! يا أَح ... لام خَلِّيني وما بي. . .
يا ابنة الفتنةِ والتَّق ... ديس يا فجر الأماني
يا ابنة الحيرةِ والأهْ ... والِ يا جُرحَ زماني
يا صدىً في قَلبي الث ... اَّئرِ مَفطور الحنان
يا غراماً هُوَ قُدسُ ... م الله يجري في كياني
مَلَّتْ العُزلَةُ شكوا ... يَ ومَلَّتني الأغاني
فطرحتُ النّاي عني وصَمَتُّ
ودَعوتُ الطيفَ مِنيَّ وانتظرتُ
فنأى عَنيَّ سناهُ فَبَكيتُ(311/56)
وأَذَبتُ الشِّعرَ من دمْ ... عي وشجوي وهواني
فإذا مرَّ يًغنِّيهِ ... عَلَي دًنياكِ فانِ
فاخشعي فهو عبادا ... تُ الهوى، نُسك الجنانِ
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(311/57)
رد التحية
إلى شقيقي أكرم. . . وحي زهرة طوى عليها إحدى رسائله
إلي ليشعرني بربيع دمشق
للأستاذ أمجد الطرابلسي
بعثتِ هوايَ لو أن الهوى ... خوَت في فؤادي أنوارهُ
وأذكيت في الصدر نار الحنين ... لو أَن الحنين خبَتْ نارهُ
وهجت به ذكريات الصِّبا ... لو أن الصبا مات تذكارُه
وأذكرتِني الأمس لو عاقني ... عن الأمس يومي وأَعذارُه
وأهلي. . . ولكنَّ أهلي هُمُ ... أحاديثُ قلبي وأخباره
وصحبي. . وكيف وهم سامري ... إذا مُلَّ ليلي وسُمّاره
ولكنني كنت أَعصي القريض ... إذا ضجَّ في الصدر زخاره
أُهدهِدُهُ بكذوبِ المنى ... فيُغضي وقد ماج موَّاره
فأيقضته بعد طول السُّباتِ ... تُجَنُّ بِكَفَيهِ أوتاره
وفجرتِهِ جدولاً ناغماً ... تَغَنَّي رباه وأطيارُهُ
أيا زهرة الشوق لا صَّوحتْ ... مغاني حماي وأَدوارُه
ودامت على الدهر جناته ... تمُدُّ لها الخير أنهارُه
لقيُت بك الأهل بعد الفراقِ ... فبُثَّ الهُيامُ وأسرارُه
رأيتك فإنجاب هذا المدى ... وزالتْ دجاهُ وأَستاره
فذا منزلي في حواشي الحِمى ... تلوحُ لعَيْنَيَّ أشجاره
تَناغى بأُذني عصافيرُهُ ... وتلمعُ في النَّور أثمارُه
ونافورة الماءِ في ساحِهِ ... لها نغمٌ لذَّ تكراره
تروم السحاب فيلوي بها ... نسيمٌ تمايلَ خَطَّارُهُ
يحطُّ على حوضها طائرٌ ... ويمضي وما بُلَّ منقارُهُ
ومن حولها اخوتي ضمَّهم ... صفاء الإخاء وإيثارُهُ(311/58)
إذا مرَ حوافي ربيع الشباب ... تولى الوقار أخطارهُ
وإن ضحكوا ضحكت حولهم ... طيور الغناء وأزهارُه
أَمشعرتي بالربيع الضحوك ... تَلَد ضحاه وأسحاره
ومنسيتي وحشتي والنوى ... وبيناً تطاول إمرارُهُ
شكرتكِ زائرة برَّةً ... للهفانَ شاقته زُوَّارُهُ
شَققتِ إلى فؤاد النَّوى ... وليلاً تلاحظً أقدارهُ
وتيهاً ترامت مفازاتهُ ... وموجاً تواثَبَ هَدارُهُ
فجئت عليك شحوب الطريق ... وفيك من الجهد آثارُهُ
فحييْت فيك الرسول الأمين ... تَشقُّ على الصبر أسفارهُ
وقبلتُ فيك الوفاء الجميل ... إذا نسي العهد غدارهُ
أيا زهرتي جاد زهر الحمي ... كريم السحاب وثَّرارُه
بلغت فمن مُبلغ جيرتي ... سلاماً تَضوَعَ معطاَرُه
نأيت عن الدار لا عن قِلى ... فأحلى مغاني الفتى دارهُ
ولكنني سِرتُ يَحتَثَني ... طموح الشباب وأوطاره
تخيرتُ بُعدي ولو أنني ... هُديتُ لما كنت أَختاره!
(باريس)
أمجد الطرابلسي(311/59)
رِسالَة الفَّن
الشيخ سيد الصفتي
لفظ أنفاسه الأخيرة صبيحة الأحد الماضي وترك فنه وديعة غالية بين
يدي التاريخ
للأستاذ محمد السيد المويلحي
لعل الفنان الحق هو أقرب الناس إلى قلب الطبيعة وروحها، ولعله أقدرهم على معرفة أسرارها وأخبارها فهو وحده الذي يترجم لها أسرارها وكلامها، وهو وحده الذي يصور حسنها وجمالها التصوير الرائع الصادق الذي يحملنا على العجب والإعجاب
ولعل هذا الفنان هو أقرب الناس إلى الشذوذ والخروج على تلك الأوضاع البشرية التي وضعت للحد من الطباع والغرائز والرغبات. فله دستوره وحده. . . وله طباعه وتصرفاته التي يفرضها على الناس فرضاً. ثم هو بعد هذا أو قبله. . . الإنسان المرهف الحس، العظيم النفس، الممتلئ نبلاً ورجولة وكرماً
وسيد الصفتي من هؤلاء الذين أضفت عليهم الطبيعة كل ما فيها من فن وجمال وإقبال وشذوذ حتى خط لنفسه في كتاب الحياة وسجل الخلود صفحة نيرة مشرقة سوف يتلوها على سمع الأجيال المقبلة
كان قصير القامة يلتهب نشاطاً ويمتلئ قوة، وجبروتاً. . . يزين رأسه (عمامة) صغيرة تمتاز برشاقتها وأناقتها، (وشالها) الحريري المفتول الذي يعطيك صورة واضحة لأناقة صاحبه وحرصه الدائم على أن يظهر في أجمل المناظر
ابتدأ حياته قارئاً يجيد تلاوة القرآن فعُرِف وسعى الناس إليه، ولكنه رأى أن يكون كالشيخ إسماعيل سكر قارئ مولد ومادحاً للبيت الشريف وصاحبه (ص)؛ فخرج على الناس سنة 1902 بهذا اللون الجديد الذي قربه اكثر من ذي قبل إلى نفوس المصريين، وما مضت سنة حتى زاحم الشيخ إسماعيل نفسه. . . وتفوق عليه تفوقاً محسوساً. وفي سنة 1904 انظم إلى بطانته الشيخ إبراهيم المغربي الموسيقي المعروف الذي لحن له كثيراً من الموشحات الجديدة التي كانت السبب فيما ناله الشيخ سيد من شهرة طائرة، ومن ارتفاع(311/60)
سريع لم يكتف به وقد ذاق حلاوة الشهرة والإقبال، فكان يقرأ أول الليل قراناً ثم يثني بالقصائد النبوية، حتى إذا كان الهزيع الأخير من الليل غنى أدوار الحمولي ومحمد عثمان وغيرهما بمصاحبة العود. . .
أتراه قد اكتفى بهذا التجديد الغريب. . . لا. . . ولعله رأى أن هذا الخلط ينفر الناس فترك القرآن والقصائد النبوية وظهر عام 1905 على تخته الموسيقي القوي يرسل على الناس سحر صوته وقوة فنه حتى تحكم في سوق الغناء وفي مسامع الشعب، فكان يشتغل تباعاً طول أيام السنة. ولكي نعطي القارئ صورة قريبة عن شهرة هذا الرجل العجيب في صدر شبابه نقول إنه استمر خمس سنوات كوامل يغني دون أن ينقطع ليلة واحدة. . . ومثل هذا في الشام!
كان صوته مركباً من خمسة عشر مقاماً تقريباً (12) بريتون (3) باص، وكان يمتاز بسلامة تامة وبأداء بارع لم يعرف (النشوز) طول حياته. ولعله من الأصوات النادرة التي كافت (تَفرْش) في غنائها حتى لتسمعها الآلاف بوضوح وجلاء.
كان أول موسيقي شرقي اعتنى (بالبروفات) اعتناء عظيماً، فكان يشتغل طول نهاره فيها دون أن يتعب أو يمل أو يشكو ألماً وتوعكاً، ولعل سحر الذهب والإقبال والمجد هو الذي كان يمد هذا الرجل بالقوة الخارقة التي لا يكاد العقل يصدقها. وإلا فهل يصدق العقل أن بشراً يشتغل أغلب يومه وأكثر ليله دون أن يستريح إلا ساعة أو ساعتين. . .؟!
عبّأ في حياته أكثر من أربعة آلاف (اسطوانة) وهو رقم تاريخي لم يصل إليه مطرب ولا مطربة في الشرق والغرب. وقد اكتسب منها الآلاف، ولكن إسرافه أضاع كل شيء إلا ذكره ومروءته وكرمه. . .
نعم باع ماله وأضاع آلافه ليشتري بها مجده وخلوده. وما بالك برجل كانت اسطواناته توزع في الشرق والغرب كأنها الغذاء الذي لا يستغني عنه حتى ظن (الشام) أن الصفتي هذا لا بد أن يكون مارداً لا تقع العين على نهايته. فلما سافر هناك ورأوه بحجمه الضئيل النحيل خابت ضنونهم واعتزموا ألا يسمعوه إلا في حفلة أو حفلتين من قبيل (الفرجة والاستطلاع). وكان الشيخ رحمه الله قد علم بهذا، فأعد العدة لحفلة الافتتاح، ثم راح يشدو ويرسل سحره وقوة فنه في عقد سحرية على هؤلاء الذين يظنون أن القوة في (العرض(311/61)
والطول) فماجوا وهاجوا وتقبلوا وصرخوا والشيخ يضحك، حتى إذا تأكد من النصر أراد أن ينتقم فاسكت التخت وسكت، ثم نزل وصرح للمتعهد بأنه يرغب في السفر والعودة إلى مصر بعد (يومين) لأنه قصير لا يحسن الغناء. ولا تسل عما حصل من الشفاعات والتوسلات
ولكن الشيخ رحمه الله كان ظريفاً خفيف الظل وقد أراد أن يلهو ويضحك فكلف المتعهد أن يأمر السامعين بكتابة (يفط) بهذا الشكل حرفياً (الشيخ سيد الصفتي طويل. . . الإمضاء) فنفذ الأمر في الصباح واجتمعت لدى الصفتي كل وسائل البهجة والسرور، فاستمر خمس سنوات لا يستريح فيها ليلة واحدة اكتسب فيها الآلاف. فلما رجع إلى مصر لم يرجع (بمليم واحد منها). كان في أخريات أيامه يعيش عيشة فلسفية زاهدة في كل شيء فلم يكترث (كغيره) لأن محطة الإذاعة تناسته وأهملته، بل كان يحيا حياة الأسرة الهادئة: حياة الرجل الذي شبع وشبع حتى مل كل ما يتهافت الناس عليه
لقد فُني سيد كما فُني غيره، لكن فنه سيبقى لأنه من الخلود نشأ وإلى الخلود انتهى. . .
محمد السيد المويلحي(311/62)
كامل الخلعي وناحية الشذوذ في حياته
بمناسبة ذكراه الأولى
للأستاذ محمد يوسف دخيل
ينقضي العام الأول على مغادرته الدنيا، ومع ذلك فهو لا يزال مجهولاً، وسيبقى مجهولاً إلى الأمد البعيد؛ لا لأنه كان شخصية تافهة ضئيلة الأثر في نفوس الجماهير، ولا لأنه كان غامضاً يمز على إفهام الناس كشف حقيقته، بل لأنه ظهر في عصر من الغموض والركود، بحيث لا يعني الجماهير بغير مظاهر الحياة وأشباحها البارزة للأبصار المجردة. ولو كانت الحياة الفكرية ذات وضع يمكن أن يحسه الناس في مصر لما مرت عليهم صورة من صور الأحداث الشاذة دون أن يتفهموا ويستكشفوا غامض الشذوذ فيها. وإذن لحفلوا بحياة (كامل الخلعي) لا من الجانب الموسيقي، فحسب، بل من جانب لم يعن به القوم في حياة هذا الفنان: وهو الجانب الفلسفي.
لقد كان (كامل الخلعي) صاحب رسالة خاصة في الفلسفة، لا أدري أكانت في كنهها فوق متناول العقلية المعاصرة، أم أن الناس لم يحفلوا بها عامدين لانصرافهم إلى حياة المادة الهينة بعيدة عن الفكر، وما يحيط الفلسفة من غموض، وما يستلزمه بحثها من تكاليف.
وسواء جهلت الجماهير شخصية (كامل الخلعي) عن عمد أو امتنع عليهم فهم رسالته في الفلسفة، فهو قد غادر الدنيا تشيعه أسراب من سحائب الغموض وثوى في مرقده بين صبابات من مجاملات الأقلام جافة الدموع
كان (الغموض) هو شعار الفلسفة التي انطبعت بها حياة (كامل الخلعي) ولذلك ظل الناس يجهلون حقيقته حتى أقرب الناس إلى نفسه. وقد كان مسرفاً في الحرص على أن تفيض روحه الفلسفية على كل مجهول. وفي هذا المنحى الدقيق تلمس الإيمان الصحيح في عقيدة (كامل) وتحس تمكن الدين من نفسه لأنه رغب عن متاع الدنيا واستطاب أن يجوع ليختفي عن سمعه صوت الجياع حتى لا يثير عواطفه توجع الغير وآلامه. فيكون من الأمور العادية عنده أن يدفع بكل ما في جيبه لمستجد شعر بمرارة حاجته. ثم يعود إلى بيته ماشياً على قدميه، وليس عند أولاده طعام اليوم، وكلما نازعه الإحساس بالندم أمام عسرته لتفريطه في قوت أولاده تذرع بقوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(311/63)
استطاع (كامل الخلعي) أن يفهم الدنيا فهماً صحيحاً في دقة وإمعان، واستطاع أن يستوعب المجتمع ويتفهم نواحي التقارب والتباعد من حياة الأفراد في بيئاتهم المختلفة، وأن يندمج في الجماعات اندماجاً كاملاً. ومع ذلك لم تستأثر به بيئة دون أخرى، لأن العقلية الشاذة التي تهيأت لهذا الفنان العبقري كفلت له أن يهتضم البيئات دون أن تجتذبه إلى صميمها واحدة منها، ولهذا كان له عديد من الشخصيات التي لو وجد صاحبها في غير مصر لانصرف لدراستها علماء النفس والفلاسفة
إذا أثيرت في مجلس ذكرى (كامل الخلعي) انطلق المتحدثون في تناول ذكراه بشتى أنواع الحديث وليس فيهم من يضع إصبعه على نقطة الصواب من أحاديث المجلس. . . وأغلب ما يجتمع عنده حديثهم أن الرجل كان مخبول العقل! وهي كلمة طالما ترامت إلى سمع (كامل) وهو حي يرزق، فكان يبتسم لها في اطمئنان غير مبال بما يذهب إليه الناس في شأنه من مذاهب. ذلك لأنهم ما كانوا يجدون لأنفسهم مخرجاً من التفكير في عقلية (كامل الخلعي) إلا أنه مخبول ذلك الذي يطوف الحارات والأزقة باحثاً عن الكلاب الضالة والقطط المشردة ليدفع إليها من الطعام ما يباعد بينها وبين الجوع
استقبل كامل الدنيا طفلاً لعوباً كما يستقبلها أترابه من أبناء الذوات والمترفين. ولكنه لم يلبث أن اصطدم بأول حادث هز عواطفه البكر في مستهل حياته. لم يكن قد تجاوز الخامسة حين بدت نذر الثورة العرابية، وكان والده يومئذ من ضباط الجيش المقيمين بالإسكندرية. ففي ساعة واحدة صدرت الأوامر بتأهب الجيش، ولم يجد الضابط الباسل فرصة لتوديع ولده الطفل واكتفى بأن بعث إلى منزله (بكوم الشقافة) من نقل زوجه وطفلها الصبي سريعاً إلى دمنهور مستقر العائلة. والطفل المبكر في نموه العقلي يستطيع أن يحس هذا الموقف كما أحسه (كامل) إذ أدرك أن والده الضابط قد لا يعود إليه لأن القتال قد بلغ حماسته بين المصريين والإنجليز. ولم يشك كامل في أن والده قد لقي مصرعه في خط النار عند كفر الدوار، ولكن مفاجأة أخرى اصطدمت بها أعصابه الغضة بعد انتقال ميدان القتال إلى التل الكبير وبعد عام كامل فإذا بالضابط يعود إلى أسرته حياً بعد أن أدى في سبيل الوطن واجبه، وأن انتهت الحرب على غير ما يبغي الأحرار
وبالرغم من أن (كاملاً) قد استعاد الحياة في كنف والده بعد يأس من لقائه، إلا أن الحادث لم(311/64)
يغادر ذاكرته ولم يزايل الأثر أعصابه، بل بقيت ذكرى هذا الألم متغلغلة في نفسه وصدره فحولته إلى مخلوق كثير الدموع دقيق الإحساس رقيق الشعور بكل ما يحيط به من ألم وسرور، يبكي لبكاء الباكين ويفرح لسرور الفرحين
وفي القاهرة بدأت المرحلة الأولى لشخصية (كامل) إذ كانت المدرسة أول تجربة أظهرت النزوع المرتكز في عقليته، وهو عصيانه لكل نظام يحد من الحرية وإن أوجبت هذا النظام طبيعة الوجود. وقد جنت هذه النزعة على (كامل) في حياته ومستقبله إذ قطعت عليه طريق الدراسة التي يلتمس من ورائها المستقبل المادي في الحياة، فما انتهى من دراسته الابتدائية حتى تمرد على هذا النوع من التعليم المحدود في نطاق البرامج
وصادفته صدمة أخرى أكرهته على التشرد بعيداً عن حضانة الوالدين، إذ تفرق ما بين هذين الوالدين من رباط. فانطلق كامل يضرب في الأرض أفاقاً يلتمس الحرية والتعزي عن فجيعته في حضانة والديه. وعبثاً حاول والده أن يخضعه لطاعته التماساً لدفعه إلى المدرسة يستكمل دراسته. واستقر الفتى بعد ذلك على اختلاس التردد على مكتبة والده في ساعات متقطعة استطاع من ثناياها في مدى عامين أن يقرأ كتاب (العقد الفريد والأغاني) وتاريخ ابن الأثير والجبرتي وطائفة من دواوين شعراء العرب؛ وهو لما يجاوز الخامسة عشرة.
في هذه الفترة كان (كامل الخلعي) يتهيأ لأن يستمع إليه الخاصة مطرباً يحيي موات النفوس ويراه الناس خطاطاً ورساماً قد دق إحساسه بروح الفن. وهو في هذا المجال من الصبا ينطلق بين الجماعات المختلفة: فتارة نراه في مجلس العلماء وأعلام الأدب من طراز (السيد توفيق البكري) نقيب الأشراف يومئذ وقد اصطنع (كاملاً) لنفسه، أميناً لمكتبته؛ وتارة تراه يدارس أساتذة الموسيقى في عصره ويستلهمهم أسرار الفن وأصوله وقواعده
وفي هذا السياق من التخبط في الحياة، انتقل والده إلى ربه بعد أن ضعف بصره ووهنت قواه. فلم يتريث (كامل) في طريقه بل واصل حياته مستهيناً بكل ما اعترضه في جهاده؛ واستطاع بعقله الخصب أن يصل إلى قمة الشهرة عن جدارة، فكان الأديب واللغوي والفقيه والشاعر والخطاط والرسام بل الموسيقي الذي استهوى القلوب، وتزاحم الأعيان وخاصة(311/65)
العلماء والأدباء على التماس الاستئثار به في مجالسهم يحادثهم في الأدب ويطربهم بسحر أغانيه العذاب
لقد نضج (كامل الخلعي) قبل الأوان، وشارك أساتذته في ثروتهم من الأدب وعلم الموسيقى، فلم يكن كثيراً على نبوغه المبكر أن يفاجئ الناس وهو في سن السادسة والعشرين بكتابه (الموسيقى الشرقية) فيأخذ به بين علماء الموسيقى في مصر والشرق مكانة (العالم المتمكن) ولكنه ابن السادسة والعشرين
واستطاع (كامل) أن يتعلم من اللغات التركية والفارسية والإيطالية وأن يجيد الفرنسية إجادة الرسوخ. وهو بعد أن تطاول كتابه (الموسيقى الشرقية) إلى أقطار العالم تترامى إليه رسائل المعجبين من كل صوب، مما أوجد في نفسه الرغبة إلى اقتحام مخاطر الرحلات، فزار الشام وتركيا وإيطاليا وفرنسا وتونس، وقضى في كل منها عدة من السنين اتصل فيها بعلماء الموسيقى وأعلام الأدب حتى اندمجت شهرته بشهرتهم وتبادل معهم كل جديد من الرأي في الموسيقى العربية والإفرنجية
ثم هو يستقر بعد ذلك في مصر أستاذاً كاملاً في علم الموسيقى يرجع إليه المشتغلون بها في كل ما استشكل عليهم من غامض الفن. وهو في نفس الوقت يتهيأ لأن يفاجئ المصريين بنوع لم يتعرفوا إليه في الموسيقى من قبل هو نوع الأوبرا والأوبريت التي أبرز فيها شخصية السيدة منيرة المهدية على المسرح الغنائي لأول مرة في التاريخ سنة 1916 تركز بعدها كيان الأوبرا الغنائية في فن التمثيل
ويواصل (كامل) بعد ذلك جهاده الفني بين المسرح و (جوقات الطرب) بما قدم لفن الغناء من تلاميذه النوابغالذين علا نجمهم وإن تنكروا بعد ذلك في محنته. ولكنهم اليوم أصحاب السمعة والصيت دون أستاذهم المجهول الذي ساهم في وضع أساس الفن ومهد له سبيل الحياة. ثم مات عن خصاصة وعاش تلاميذه في رخاء من تركة أستاذهم الفنية، وهي ليست من القلة بحيث تفقد وجودها وسط هذه الفوضى العابثة من الألحان والأغاني التي يخرج علينا بها مطربو هذه الأيام. فقد تجاوزت تركة (كامل الخلعي) من الألحان الأربعين رواية بين الأوبرا والأوبريت موزعة بين فرقة السيدة منيرة المهدية وشركة ترقية التمثيل العربي (شركة مصر للتمثيل والسينما اليوم) وفرقة الكسار. بل من إنتاج (كامل الخلعي)(311/66)
تزودت أشهر المطربات في مصر فسمون بأغانيه إلى مرتقى مجدهن الذي من عليائه تكونت لبعضهن ثروة تغني مئات من طراز الخلعي الذي مات فقيراً معدماً بعد أن مهد لتلاميذه الطريق إلى الشهرة والثراء. وكان من أشد ما لاقاه (كامل) في أخريات أيامه من مرارة وألم أن مغنية كبيرة ممن لحن لهن (كامل) بلغ بها الشح إلى اغتياله في حق له عندها من ثمن قطعة لحنها لها ربحت منها مئات الجنيهات ضنت عليه بعدها بأجره، وكان من حقه عليها أن تكفيه شر ما لاقى من فقر ومسغبة.
فبقدر ما أسرف (كامل) في العطف على الفقراء والمكدودين وبسط لذي الحاجات كفيهن جحد الناس فضله ونسوا أياديه على الفن وتنكروا لأولاده من بعده. وهو لم يكن يجهل هذا المصير الذي آذنه عند تدهور قواه وسقوطه على فراش الموت، لأنه خبر المجتمع ودرس حياة الجماعات وأمعن في فهم الأخلاق التي تسود القوم من تنكر وجمود وأثرة
كان (كامل الخلعي) مخلوقاً غريب الأطوار في حياته وعقليته. لم يضع كيانه في بيئة خاصة ولم يلتزم جماعة معينة في المجتمع. فبينا تراه نديم العظماء في سهراتم الخاصة وسمرهم الطروب، إذا بك تشهد له في نفس اليوم مجلساً متواضعا بين جوقة من (أولاد البلد) في حي (العشماوي) أو غيره من الأحياء الوطنية في القاهرة، يلقنهم أغانيه الشعبية المرحة التي احتكرها جماعة (الصهبجية) وجوقات الطرب في الأفراح الشعبية. وفي نفس الوقت تكون إحدى درره الفنية ساطعة الضوء على مسرح من مسارح التمثيل الغنائي تجتذب بروعتها لب الجماهير. وقد يلزمه فنه الموحي من روح الطبيعة مجالسه إحدى الطبقات من الشعب لتطبيق أغانيهم على لحن صادفه في رواية مسرحية جديدة وقد عهدت إليه (شركة ترقية التمثيل العربي) يوماً بتلحين رواية (طيف الخيال) وفي الرواية مشهد من مشاهد (الحواة) فدفعة إخلاصه لفنه إلى أن يجوب أحياء القاهرة باحثاً عن أحد الحواة ليشركه معه في وضع اللحن الملائم لهذا المشهد. فكان حظه من التوفيق مطابقاً لما سبق له من نجاح دائم في ألحانه المسرحية
وإذ كانت حياة (كامل الخلعي) الموسيقية قد طغت على قيمته العلمية فحجبت عن الجماهير شخصيته كأديب وعالم خصب، فإنه من غير شك كان ينحو في الحياة منحى فلسفياً أفرد له شخصية شاذة ذهب الناس في تكييفها مذاهب شتى. فلم يوفق باحث من كتاب الاجتماع إلى(311/67)
إبراز شخصية من حيز الغموض والمجهول.
ولقد تناول حديثي عن (كامل الخلعي) مرة مع صديقي الأستاذ أحمد خيري سعيد ناحية شاذة في ميول الرجل ونزعاته الإنسانية، فذكرت لصديقي أنني مرة كنت أرافق (كاملاً) في حي (باب الخلق) وصادفنا صاحب عربة (من عربات النقل) أثقل على حصانه العبء فما كان من (كامل) إلا أن اندفع على الرجل في حالة عصبية ثائرة وأبى إلا اقتياده إلى قسم البوليس! أي جريرة ارتكبها الرجل؟ لقد استعمل القسوة مع الحيوان المسكين وصديقي هذا هو الإنسان الوحيد فيمن اعرفهم الذي وضع الجواب الصحيح لتصوير (كامل الخلعي) في هذا الموقف الشاذ، إذ قرر أن الرجل من غير شك له عقلية فيلسوف ولكن من نوع لا يعيش في هذا الجيل!
هذا هو (كامل الخلعي) الذي كسب من فنه آلاف الجنيهات ومات معدماً إلا عن تركة من الألحان يتناهبها جيل جديد من الملحنين كل مجهودهم أنهم يجيدون نقل الحان (كامل الخلعي) وأغانيه من رواياته القديمة إلى مقطوعات جديدة، ثم هي بعد ذلك ألحان وأغان يكتسب بها ناقلوها ومغنوها أقواتهم ويجمعون ثرواتهم، وأصحاب التركة من أولاد (كامل الخلعي) في عزلة عن الناس وعن الوجود
محمد يوسف دخيل(311/68)
رسالة العلم
جزيئات المادة
حركة الجزيئات سبب للعمليات الحرارية
للدكتور محمد محمود غالي
في مشاهداتنا اليومية دليل على التقسيم الجزيئي للمادة - حركة (الهابوش) حول المصباح - كيف انتصرت النظرية السينيتيكية في القرن الماضي - قوانين الضغط والحجم والحرارة تجد تفسيرها في الحركة الداخلية لجزيئات المادة - الحرارة عامل أساسي في حركة الجزيئات - الحرارة هي الحركة ذاتها
عندما تطالع مقالاً في صحيفة أو تقرأ موضوعاً في كتاب فيحدثك الكاتب في هذا أو ذاك عن الجزيء وعن الذرة تنظر إلى لهذه الموضوعات كأنها فروض علمية أكثر من نظرك إليها كمسائل عملية وحقائق ثابتة يعترف بها العلم التجريبي. ولكنك إذا أنعمت النظر فيما يعرض لك في حياتك اليومية من أحداث فإنك لست في حاجة إلى اللجوء إلى تجارب العلماء الدقيقة لإثبات الفكرة الذرية، بل إن شيئاً من الملاحظة والتأمل حقيق بأن يثبت لك بأدلة محسوسة أن المادة مكونة من جزيئات متناهية في الصغر تمثل في الواقع وسطاً منفصلة أجزاؤه وحالته غير مستمرة
موضوع يعجب لها لقارئ كيف يتسنى له أن يدرك النظرية الذرية من التأمل في بعض المظاهر التي يصادفها؟ وكيف تحمل هذه بين طياتها أكبر الأدلة على ثبوت بعض القضايا العلمية الدقيقة؟ لذلك نسرد للقارئ طرفاً منها
من العادات الشرقية أن نطلب في بيوتنا من الخادم كوباً من الماء البارد ونطلب منه في الوقت ذاته أن يضيف إليه نقطة أو بضع نقط من ماء الورد، ليكون للماء ونحن نشربه عبير نرتاح إليه. شيء من التأمل يدفعنا إلى فهم فكرة الجزيئات، إذ نعرف ونحن نتجرع ما في الكوب من شراب أن هذه النقطة من ماء الورد التي يعد حجمها ضئيلاً بالنسبة إلى حجم ما في الكوب من ماء، انتشرت قبل تذوقنا إياه في كل أنحائه، ولم يستأثر جزء من مياه الكوب بها دون الجزء الآخر(311/69)
هذه الظاهرة من امتزاج نوعين من السائل: الماء النقي المتدفق من المثلجة، وماء الورد المحفوظ في الزجاجة، لا يمكن أن تحدث إلا على حساب انتشار جزيئات صغيرة من ماء الورد بين جزيئات الماء الصافي، لأنه على صغر حجم نقطة الورد أصبحت موجودة في كل مكان بين جزيئات الماء
خاطر آخر: ليس ثمة ما يمنع أن نصب ما في الكوب في حوض كبير مملوء بالماء، إننا عندئذ نشعر بعبير الورد في كل أجزائه ولو بدرجة طفيفة، هذه القطرة الأولى امتزجت في الحوض الكبير الذي نعرف فيه أثرها بعبيرها والذي بات مسرحاً للجزيئات العديدة للنقطة من الورد، تكمن هذه الجزيئات تارة وتنتقل تارة أخرى في أرجائها المترامية
ولو أن هذه النقط كانت من الحبر بدل ماء الورد لحدث ثَمَّ تعديل طفيف في لون الماء داخل هذا الحوض لا شك يعم كل أجزائه التي تميل عندئذ إلى الزرقة بانتشار الجسيمات الصلبة الصغيرة للحبر في كل أرجاء الحوض الفسيح
كذلك نرى النوعين من الزجاج الملون، كلاهما أحمر اللون ولكنهما يختلفان في درجة الإحمرار، هذا الاختلاف الشديد في ألوان الزجاج أو أقمشة الملابس هو نتيجة لاختلاف نسبة جسيمات المادة الملونة بالنسبة للمادة المراد تلوينها
كذلك من السهل معرفة مخلوط من البروم والكلوروفورم من رائحة الأخير، وإذ كان العلماء يستطيعون بعد ما سردناه من أمثلة أن يميزوا نسبة الأوكسجين والأزوت في الهواء بكل تفاصيلهما بدراسة أطيافهما، ابتداء من الأشعة تحت الحمراء إلى الأشعة فوق بنفسجية، فإن لهم في هذا طريقة في التحليل الطيفي ليست من عمل الرجل العادي، ومع ذلك فهم يصلون إلى النتيجة ذاتها التي تتلخص في أن الأوكسجين والأزوت مادتان مركبة كل منهما من جزيئات كماء المثلجة وماء الورد، بحيث إذا اعتبرنا قدراً صغيراً من الهواء الذي نستنشقه نجد فيه دائماً هذين المخلوطين بنسبة معينة هي التي يعرفها العلماء من التحليل الطيفي كما أن الورد أو الحبر امتزجا مع الماء بنسبة معينة، هيا لتي تميزها حاسة الشم أو النظر التي تقوم في هذه العملية بما تقوم به الأجهزة الدقيقة في تجارب العلماء المتقدمة
ومع ذلك فإنه من غير المعقول أن مادتين مستقلتين تندمجان أو تختلطان أو يتداخل بعضها في البعض الأخر إلا إذا فرضنا وجود جزيئات صغيرة لكل منهما وأن هذه الجزيئات(311/70)
تتحرك فتنتشر بعضها بجوار البعض
في مشاهداتنا اليومية عندما يقرع الجرس في إحدى المدارس يخرج الطلبة جميع الفرق إلى فناء المدرسة، ويختلط جميعهم بحيث يصح في كل لحظة أن ترى طالباً من فرقة معينة محاطاً بطلبة من جميع السنين الأخرى، بحيث أن في كل بقعة من فناء المدرسة يوجد طلبة من جميع الفرق تتحدث وتجري وتلعب، كل منهم مستقل بذاتيته، ولا يمنع هذا أن دقة أخرى من الجرس واتفاقاً كان نتيجة التدريب والتهذيب، يجعلان هذه الشخصيات المستقلة والجزيئات المبعثرة تتجمع مرة أخرى في صفوف منتظمة بحيث نرى بعد مرور فترة من الوقت هذه الأفراد تدخل فصولها كل على مقعده الذي كان عليه منذ أمد قصير
كذلك لا بد من أن هناك عملية طبيعية تجعلنا نفصل مرة أخرى ماء الورد من الماء وجسيمات الحبر من ماء الحوض ونزيل عن الأقمشة ألوانها ونفصل الكلوروفورم من البروم، كما أن ثمة عملية أخرى تفصل الأكسيجين من الأزوت بحيث تصبح جزيئات الأكسيجين بمفردها منفصلة في وعاء معين وجزيئات الأزوت في آخر، كما يجتمع طلبة فرقة معينة في ردهة معينة وطلبة الفرقة الأخرى في الردهة المجاورة
إنما سردت للقارئ ما تقدم ليدرك أن في مشاهداته اليومية وعملياته العادية يجد منطقاً للفكرة الذرية، بحيث أن فكرة الجزيء ووحدته هي في الواقع نتيجة فعلية أكثر من أن تكون عملاً من قبيل الفروض
على أننا سنرى فيما نتابعه أن هذا الجزيء مكون مما يسمونه الذرات، وقد كان للكيمياء الدور الأكبر في معرفتها. وسنرى أن كل ما نعرفه في الكون محصور في عناصر مختلفة لا يزيد عددها عن 92 عنصراً، وأنها تبدأ من الهيدروجين أخف هذه العناصر وتنتهي بالايرانيوم أثقلها، وان الاختلاف بينها راجع إلى التركيب الذري. وسنرى بعد ذلك أن العلماء توصلوا إلى حسر الستار عن حقيقة هذه الذرات، وأنهم استطاعوا أن يضغطوها تارة (أعمال ويهدموها تارة أخرى (أعمال رذرفورد وموريس دي بروي وجوليو وفرمي وأخيراً برايش)، وأنهم في ذلك أعلنوا على المادة حرباً ضروساً لا نعرف مداها، ولا نعرف إلى أي حد يبلغ أثرها، وهم في ذلك كمن أعلن علينا حرباً شعواء مدمرة عبثت بنا نتيجة لطمع الطامعين، حرباً جالبة للأسى وقعت في أثنائها قنبلة تطايرت شظاياها في فناء(311/71)
المدرسة السابقة، فدكتّها دكاًّ ومزقت الأطفال فتطايرت أشلاؤهم ظلماً وعدواناً، واختلط الأمر وعم الذعر والخراب، فلا جرس يعيد القوم إلى فصولهم ولا شخص واحد منهم نستطيع التعرف عليه. هذا التهدم المدرسي شبيه بالتهدم الذري الحادث في ذرات الجزيئات وهو يشغل بال العلماء اليوم، وسيكون موضوع أحاديث لنا في الرسالة لخطورته وأهميته ولئن كان التهدم في مثال المدرسة نتيجة الجبروت، دليلاً على الفناء، فهو في جزيئات المادة وذراتها انتصار للعلم ومفخرة للعلماء، حتى أن فريقاً منهم يفكر جدياً فيما قد يكمن وراء هذا التهدم من أسباب تمكننا من تسخير المادة تسخيراً يختلف عن تسخيرنا لها اليوم واستخدامها بطرق تختلف عن كل ما ذهبنا إليه
ونعود للجزيء الشخصية الكاملة التي تحوي قطرة واحدة من ماء الورد ملايين الملايين منه فنقول إن جزيئات الورد هذه وتلك التي هي من الماء مستقلة في ذاتها استقلالاً تاماً وإن ما يظهر لنا من أن مزيج الماء والورد أو البروم والكلوروفورم أو الأكسيجين والأزوت مندمجة جزيئاته في الآخر هو مظهر لفعل حواسنا التي لها قوة محدودة في تمييز الأشياء، وإن وجود ماء الورد في كل نقطة من الحوض الكبير أول دليل على تركيبه الحبيبي وأنه مكون من جزيئات عديدة هي التي انتشرت بين جزيئات الماء الصافي في أرجاء الحوض كما ينتشر الطلبة في أرجاء المدرسة
هذه الأمثلة ومثال المرونة في الأجسام الذي قدمناه في مقالنا السابق ترجح الفكرة الذرية للمادة، ولكن لا تقيم عليها الدليل القاطع، وهكذا وبالغم من كل ما ذكرناه ظل العلماء في حاجة قصوى إلى حجة أخرى تكون مستقاة من مصدر آخر.
إن نجاحاً كبيراً أحرزته العلوم الطبيعية للفكرة الذرية الحديثة أتى عن طريق ظاهرة أخرى. فقد تكونت بجوار الظواهر التي ذكرناها مجموعة أخرى من الظواهر تفسر الذرية وتنتصر لها؛ وهذه المجموعة تتجلى في الظواهر الخاصة بالتغييرات الحرارية، وبذلك قدمت ظاهرة الحرارة في الأجسام حجة جديدة لم يفكر فيها الذريون الأقدمون، وعلى أكتاف التقدم الحراري بالطريقة التي تمت في القرن الماضي وضع الطبيعيون للذرية أساسها الحقيقي
ولكي نفسر العلاقة بين الحرارة والذرية، نذكر للقارئ الفكرة الأساسية لهذه العلاقة: وهي(311/72)
أن الجسيمات المادية صلبة كانت أم سائلة أم غازية في حالة هياج دائم وحركة مستمرة، وأن ثمة علاقة بين هذه الحركة وما نسميه حرارة الجسم. فكلما كانت حرارة الجسم مرتفعة كانت جسيماته اكثر حركة ونشاطاً. هذه النظرية التي كانت من أكبر الانتصارات العلمية للقرن الماضي يسمونها (النظرية السينيتيكية)
صفة من الحركة، وهي تقرر أنه في حالة الغازات تتحرك جزيئاتها حرة حركة غير منتظمة في جميع الجهات، وفي حالة السوائل تتحرك الجسيمات حرة أيضاً في جميع الجهات، ولكنها لا تتركه، وفي حالة الأجسام الصلبة تتذبذب هذه الجزيئات في مكانها دون أن تنتقل فيه.
مثال نقدمه للقارئ ليفهم النظرية السنيتيكية: في القاهرة بجوار النيل والحدائق والمياه يكثر في فترة معينة من السنة نوع من البعوض الصغير يطلقون عليه (الهابوش) يغدو حراً طليقاً في الفضاء، وتتصادم هذه الكائنات الصغيرة المتحركة في كل اتجاه مع كل ما تقابله، وطالما تضايق الإنسان لدنوها من الوجه أو العين، وهي على هذا النحو تشبه جزيئات الغازات في حركتها الدائمة غير المنتظمة.
على أن هذه الحرية المطلقة تصبح محدودة إذا وجدت هذه الكائنات قريباً من طريقها الأعمى نور مصباح؛ فهي في هذه الحالة تتجمع بالمئات والألوف تدور حول المصباح وترتطم به.
هذه الاجتماعات الليلية تختلف عن الاجتماعات الاختيارية التي تحدث لنا معاشر الإنسان عندما نتوجه للاجتماع في قاعة للمحاضرات أو ناد أو حفلة؛ فأن هذه المخلوقات المسكينة لا تذهب مختارة إلى حيث يسطع الضوء القوي، ويتألق المصباح، بل إن ثم (تأثيرات فوتوكيميائية) - وإفرازات معقدة تحدث داخل أجسامها نتيجة للضوء، تأثيرات تجد تفسيرها اليوم في الكيمياء الطبيعية. هذه التغييرات الكيميائية الطبيعية التي سببها الضوء تحرك عضلاتها حركة إجبارية وتوجه هذه المخلوقات التعسة أرادت هي أم لم ترد نحو مصدر الإضاءة. هذه الألوف من الكائنات تدور وتعلو وتهبط ويصطدم بعضها ببعض وبالمصباح ويستمر هذا فترة طويلة، وهى في هذا تمثل عندي جزيئات السائل التي تتحرك بداخله في جميع الاتجاهات كما يصطدم بعضها ببعض، وكما أن هذه المخلوقات(311/73)
عاجزة عن أن تترك الصباح، كذلك جزئيات السائل داخل الكوب عاجزة عن أن تتركها، وليس خروج أحد هذه المخلوقات بعيدا عنً منبع الضوء إلا حادثاً نادراً يحدث تحت تأٌثير عوامل خارجية مثل هبوب الهواء شديداً في اتجاه معين بحيث يكون سبباً لبقائها حية فترة أخرى من الزمن، وهي في نجاتها من المصباح، بعامل الهواء، تشبه الذرات المائية التي تخرج من السائل تحت عامل التبخر
وتمر الساعات ويطول الليل ويتكرر اصطدامها بالمصباح الساخن وتفقد نشاطها في المقاومة فيلتصق الكثير من هذه الكائنات بالصباح الكهربائي أو السقف الحامل له، وتقترب ساعتها الأخيرة فنرى طبقة كثيفة مكونة من آلاف الآلاف قبل موتها متلاصقة في مكانها تتذبذب يميناً ويساراً قبل أن تفقد كل أمل في أي حركة وقبل أن تصبح في عداد الأموات. هذه المخلوقات المتلاصقة المتمايلة طوراً إلى اليمين وتارة إلى اليسار تشبه عندي جزيئات الأجسام الصلبة التي لا تستطيع أن تنتقل في مكانها ولكنها تستطيع أن تتذبذب فيه
وهكذا في هذه المخلوقات التي نطلق عليها (الهابوش) نرى صورة صادقة لما يحدث في المادة على أشكالها الثلاثة المعروفة الصلبة والسائلة والغازية
هذه الحركة الداخلية بين جزيئات المادة الواحدة ومعرفتنا إياها كانت انتصاراً للنظرية السينيتيكية، وقد نشأ عن ذلك في بادئ الأمر أن وجد العلماء تفسيراً لضغط السائل أو الغاز على جدران الأوعية التي تحتويها، ذلك أن تصادم جزيء واحد لا يحدث أثراً واضحاً محسوساً، ولكن العدد الكبير من المصادمات الفردية الحادثة في الثانية الواحدة يسبب ضغطاً موزعاً بالتساوي وناتجاً من مجموع الضغوط الفردية
على أن تحديد مقدرتنا بالإحساس هي تجعلنا بدل أن نشعر بمصادمات عديدة منفردة نشعر بضغط موزع توزيعاً منتظماً. هذه المقدرة المحدودة في الإحساس هي التي تجعلنا نخطئ طبيعة وعمل هذه المجموعات للجزيئات فنشعر في العادة بضغط منتظم لجسم متصل
هذه المصادمات الفردية التي تسبب تفسر رأساً القانون الأساسي الذي يربط الضغط بالحجم في الغازات والذي تعلمناه جميعاً في المدارس وهو القانون القائل: إنه عندما نقلل حجم غاز إلى النصف مثلاً فان ضغطه يزيد بمقدار الضعف. والواقع أنه عند ما نضغط الغاز إلى نصف حجمه الأصلي فإنه لا يكون لجزيئاته فراغاّ لحركتها سوى نصف المقدار الأول،(311/74)
وعلى ذلك فإنها تضرب في الثانية الواحدة السطح الجانبي للإناء الحامل للغاز ضعف عدد المرات الأولى قبل تقليل حجمه. هذا التضعيف في عدد المصادمات يسبب نفس الزيادة في الضغط، وهى ظاهرة ممكن قياسها بطريقة مباشرة
على أن النظرية السينيتيكية للغازات تأخذ في محل الاعتبار أيضاً العامل الحراري، وبهذا انتهى العلماء إلى قانون أعم من القانون السابق، بحيث إذا رفعنا درجة الحرارة لغاز معين فإن سرعة جزيئاته تزيد، ويزيد بهذا الأثر الذي تحدثه هذه المصادمات وينتج عن ذلك زيادة في الضغط، فزيادة الضغط بتسخين الغاز مع حفظ حجمه ثابتاً تنشأ عن زيادة القوة الحادثة من كل مصادمة فردية
هذه الفكرة وغيرها أمكن وضعها في الوضع الرياضي حتى أصبحت النظرية السينيتيكية لا تفسر المظاهر المختلفة بشكل نوعي فحسب. بل أصبحت تفسر كل التغييرات الكمية الحادثة في كل هذه الظواهر. وهكذا انتصرت النظرية السينيتيكية وأخذت مكاناً ممتازاً في العلوم الطبيعية، حتى أننا لا نعرف اليوم طبيعياً يطعنها أو يضعها بشكل جدي محل الشك
ولم تقف الدراسة الكمية عند الحد الذي ذكرناه من تفسير قوانين الحجم والضغط والحرارة بل إن سباق الجزيئات الذي لا نظام له والذي يتبع خطوطاً منكسرة، هي نتيجة تصادمها المستمر، أمكن دراسته من الناحية الكمية دراسة أدت إلى حساب عددي للاحتكاك الداخلي للسوائل والغازات الذي يعد العقبة في هذه الحركة بالتصادم المستمر
على أن سرعة هذه الجزيئات كبيرة لدرجة عظيمة ففي درجة الحرارة العادية تبلغ سرعة جزيئات الهواء داخل غرفنا حوالي كيلو متر في الثانية، أي ستة أضعاف أكبر سرعة نعرفها للطائرات الحربية الحديثة، وهي بهذا تزيد سرعتها عن كل ما نعرفه من المركبات الأرضية
لقد اكتفينا حتى الآن بأن نقرر أن رفع الحرارة يزيد في سرعة الجسيمات، وأن ثمة علاقة بين الحرارة والتهيج الجزيئي، ولكنا نريد أن نقدم للقارئ أمراً جديداً، نريد أن نقول إن هاتين الظاهرتين أمر واحد
هنا تستوقفنا أزمة جدية في التفكير الطبيعي الحديث. ونكرر القول بأنه ليس هناك حالة خاصة بالحرارة وحالة أخرى خاصة بالحركة بمعنى أن الحركة ليست نتيجة للحالة(311/75)
الحرارية بل إنها هي الحالة نفسها
هذا النوع الجديد على معارفنا والذي أدخله ليبننز أصبح أمراً عادياً في العلوم الطبيعية لدرجة أن الطبيعيين يطبقون هذه المعارف الجديدة دون أن يعيروها أي التفات، ومع ذلك فإنه مما لا شك فيه أن ما نذكره هنا مدعاة للاستغراب للشخص العادي الذي يميل إلى أن يعتقد أن الحرارة تسبب زيادة في الحركة، أكثر من أن يميل إلى الاعتقاد بأن الحرارة هي الحركة بذاتها، وليس لنا أن نطالب القارئ بتصديق ذلك قبل أن نحدثه في المقال القادم عن انتصارات روبير ماير وبولتزمان التي أحدثت انقلاباً عظيماً في التفكير الحديث
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(311/76)
من هنا وهناك
الديمقراطية والإذاعة - عن تلسكرن كوبنهاجن
الاستماع بمعناه الحق فن عظيم ليس من السهل إدراكه. وكثير من الناس يتعذر عليهم الإصغاء عن أي شيء آخر؛ وقد عملت تجارب نفسية للبحث فيما إذا كان الإنسان يفهم ويذكر ما يسمع أو ما يقرأ. وهل للكلمة المسموعة أكثر تأثيراً في النفس أو الكلمة المكتوبة. ولم يهتد إلى حل مرض في هذا الموضوع؛ ولكن انتشار المذياع ألقى ضوءاً جديداً على هذه المسألة.
فالصلة الشخصية بين المتكلم والسامع لا وجود لها في الإذاعة، إذ أن السامع لا يستفيد برؤية المذيع، والرؤية لها تأثير لا شك فيه. فأنت محتاج حين تسمع إلى تركيز ذهنك إلى حد لا تحتاجه حين ترى المتكلم وجهاً لوجه. لذلك يتحتم أن تكون الإذاعة قصيرة، ويجب أن يكون لها نظام خاص وأسلوب معين.
نحن نعيش في أزمة عظيمة لم يشهد مثلها العالم من قبل، إذ تصطدم المثل والأساليب بقوة ووحشية لم يسبق لهما مثيل. فمن الواجب والحالة هكذا أن تتحرر الإذاعة من هذه الحالة: يجب أن تعطينا صورة صادقة عن الأحوال والشؤون التي تشغل العالم، وتبين الأسباب الحقيقية لها، بصفة موضوعية بقدر المستطاع، بعيدة عن طرق الإيهام والإغراء.
على أن المذياع إذا حل محل الكتاب في التأثير على المدنية، فلغة المذياع لا تستطيع أن تجاري لغة الكتاب. وقد أوضح ذلك البروفيسور لويد جيمس فقال: إن الصحافة الإنجليزية وطدت طريقتها في الأسلوب ووسائل الإيضاح منذ مئات السنين، بينما المذياع حديث لم يتجاوز استعماله ثماني عشرة سنة. وهناك فرق كبير بين الكلمة التي تنطق والكلمة التي تقرأ. فالكلام الذي يبحث ويشرح بالكتابة على الوجه الأكمل لا يمكن أن يذاع
ويقول لويد جيمس: من الخطأ أن نظن أن أساتذة الكتابة ورجال الصحافة هم أصلح الناس للإذاعة.
ويقول: إننا نتلقى كل معارفنا على التقريب عن طريق العين، وإن 90 % من معلوماتنا مأخوذ عن الكلمة المكتوبة، وقد ظهرت فجأة آلة المذياع وهي تعتمد على الأذن وحدها، وهذا تطور لا شك فيه في طرق تربيتنا وتعليمنا، ومن الواجب أن تعد له الأساليب(311/77)
والتعبيرات التي تلائمه إذ أنها تختلف كل الاختلاف عما عداها.
ولم تعرف بعد طرق التعبير التي تجعل من المذياع آلة صالحة لنشر الثقافة والتعليم، ولكن من الممكن أن يقال إذا كان التعليم العام والخاص والثقافة هي الطرق المؤدية إلى الديمقراطية، ولا نقول الديمقراطية المعروفة فحسب، ولكن الديمقراطية التي يتطلع إليها العالم في المستقبل: فمن المستطاع أن يكون للمذياع أكبر فضل في بناء صرحها وإعلاء كلمتها.
إن الدكتاتورية تعتمد على نشر الدعاية بين الجماهير، والديمقراطية تعتمد على ذكاء الفرد ومقدرته الخاصة على فهم الأمور والحكم عليها. والمذياع هو ذلك الصوت الذي يرتفع من جانب الحجرة، لا ليجبره على اعتناق فكرة دون الأخرى، ولكن ليفتح ذهنه لمختلف الآراء، ليحكم عليها بنفسه، ويختار ما يلائمه منها.
الخرافة وأثرها في حياة العالم - عن محاضرة للورد
بونسونبي
كل إنسان في هذه الحياة عرضة للخرافات والأوهام تلعب دورها معه. ولا غرابة في ذلك فمنذ خرج من عالم الحيوان نظر إلى ما حوله فنسب كل ما لا يستطيع فهمه إلى قوة خفية خارقة. ويقال أن الإنسان ما زال على فطرته الأولى فهو يتعلق بالخيالات ويتعشق الأوهام
ويبدو هذا صحيحاً إذا اعتبرنا ما يسود العالم من الخرافات الآن. وقد اعتمدت الدعاية في العصر الحديث على خداع الإنسان بمختلف الوسائل، ولم يخطئها النجاح إذ أن الإنسان بطبيعته ميال عن الحق
وما زلنا نرى بين الناس من يعتقدون بالحسد ومن يعتقدون بفكرة الجن والعفاريت. وقد رأيت في الفلاحين من يتشاءمون من زراعة بعض النباتات. ويتشاءم كثير من الناس بكسر المرآة أو بالمشي تحت السلم أو بجلوس ثلاثة عشر على المائدة. وقد أصيب طفلي مرة بسعال ديكي مما يعتري الأطفال عادة، وقد حاولت عجوز أن تشفيه من هذا المرض، فأحضرت ثلاث شعرات من ذيل أتان وخاطتها في كيس ثم ربطتها في عنق الطفل ومن حسن الحظ أنه شفى بعد ذلك(311/78)
أما مسألة الحظوظ فلها دور كبير في حياتنا. ويلجأ المقامرون إلى طرق غريبة لمطاردة الحظ السيئ. ويتشاءم الكثيرون لبعثرة الملح، ولا يزول الحظ السيئ الذي يترتب على ذلك إلا إذا رميت قليلاً من الملح من وراء كتفيك. وإذا ولد طفل يجب أن يصعد به إلى أعلى السلم في الحال حتى يسير قدماً في الحياة ويرتقي معارج الرقي والفلاح
وقد عرفنا في التاريخ كيف كان القساوسة ورجال الطب يستغلون عقائد الإنسان التي من هذا القبيل، لاكتساب النفوذ والقوة، وإذا كان سلطانهم قد ضعف في هذه الأيام، فمرجع ذلك إلى انتشار العلم. على أن الإنسان ما زال ميالاً إلى أن يخدع ويغرر به على الدوام
ولم يكن حظنا في بلاد الغرب في التخلص من تلك الخرافات بأكثر من حظ الشرقيين، وقد ظهرت عقائد كثيرة في الولايات المتحدة. وما زالت الأفكار الروحانية تلاقي نجاحاً في بلادنا. على الرغم من الاضطراب والحيرة اللذين يسودان العالم
وقد اعترف لي طبيب فرنسي بأنه كان يعطي مرضاه حبوباً مصنوعة من مادة الخبز وكانوا ينالون الشفاء باستعمالها لمجرد الاعتقاد. ويقول بعض الأطباء إن بعض القرويين يتأثرون لغياب الدواء عنهم فيعطيهم الطبيب ماء ملوناً، فيقبلون عليه في غالب الأحيان ولو أنه لا يجديهم شيئاً
وقد انتشرت الميول الروحية بعد الحرب العظمى لما نال العالم من الأشجان والآلام بسببها فهي تتجر بعواطف الإنسان ومخاوفه والأحزان التي تخامر فؤاده على من فقد من الأهل والخلان
إنني أتنبأ بما سيكون للمذياع من الأثر في إخضاع الأمم فإذا ظهرت أزمة سياسية فسوف تقهر على سماع ناحية واحدة من نواحي الموضوع. وأنت موقن بأنه لا يوجد شر محض كما لا يوجد خير محض؛ ولكن رجال السياسة يمزجون الحق بالباطل لينالوا قوة الإقناع. وهم لا يحتاجون إلى كثير من العناء، ليحرزوا الفوز في ذلك الميدان الذي تعبد وتوطد مع التاريخ، فيسيرون قدماً في طريقهم لإقناعنا بأشياء لا قاعدة ولا أصل لها. ولا جرم فقوتهم مستمدة من الضعف الكامن في نفوسنا
إن مثل هذه الأمور لا تدرك بازدياد الثقافة، ولكنها تفهم بنمو الذكاء
نابليون والتاريخ الحديث - عن ذي نشنال ريفيو(311/79)
كتب مؤرخ بلجيكي نظرية جديدة يثبت فيها فرار نابليون من جزيرة سنت هيلانا. فإذا صحت هذه النظرية وجب أن تجمع كتب التاريخ ويعاد كتابتها من جديد. والحقيقة أن بقاء نابليون في تلك الجزيرة لم يكن متوقعا، وقد كان الكثيرون منذ اللحظة الأولى لنفيه لا يستطيعون أن يسلموا بأن النسر سيظل قابعاً فوق هذه الصخرة حتى الممات. وعلى الرغم من هزيمة نابليون فقد ظل سلطانه باقياً في نفوس غالبية الشعب، وكان من الطبيعي أن يفكروا في إعادته
كان نابليون يسير على الطريقة التي يسير عليها هتلر الآن، فهو يعد شخصاً مشابهاً له في الخلقة كل المشابهة ليحله محله في ظروف معينة. وقد وصف ليدرو في مذكراته المطبوعة في لينج عام 1840 كيف رأى فرنسوا يوجين روبو المولود في باليكورت عام 1771 وهو يشابه إمبراطور فرنسا كل الشبه، وقد قبل نابليون قيامه بهذه الوظيفة
ويقول ليدرو إن روبو عاد إلى تلك القرية بعد موقعة واترلو، ولم تمض أشهر معدودات حتى أعلن عمدة باليكورت إلى البوليس غياب شبيه نابليون. وقد أثيرت ضجة عظيمة بهذه المناسبة، ولكنها لم تلبث أن خفتت وذهبت إلى عالم النسيان
فهل حل روبو مكان الإمبراطور؟ إن لدينا من الوقائع ما يغري بتصديق هذا، وقد أثبت في سجل الوفيات في باليكورت هذه العبارة: (توفي في جزيرة سنت هيلانة فرنسوا يوجين روبو المولود في هذه القرية في. . .) وقد محى التاريخ لماذا؟ ألا يكون 5 مايو سنة 1821، يوم وفاة الإمبراطور؟ ويكون روبو هو الشخص الذي استقرت عظامه تحت قبة (الأنفاليد)؟ وليس من المعقول أن يموت روبو في جزيرة سنت هيلانة وهو لم يحل بها في يوم من الأيام كما هو ثابت في السجلات البريطانية
ومما يقوي هذا الرأي ويسنده مذكرات مس مودريشو وقد زارت نابليون في سنت هيلانة فأدهشها التغير الذي رأته، ولم تصدق أنه الرجل الذي تعرفه في باريس، وقد كتبت تقول: (لقد وجدت من العسير على أن أصدق أن المرض يغير الرجل كل هذا التغيير)
وفي سنة 1828 حينما اشتعلت نيران الحرب بين تركيا وروسيا قدم رجل أجنبي وعرض خدماته على السلطان وقد وصل إلى تلك البلاد في مركب أمريكي. وقد قاد هذا الأجنبي جيش تركيا في إيراكشا تحت اسم حسين باشا، ويقال إن حسين باشا هذا هو نابليون،(311/80)
ويستند أصحاب هذا القول على فذلكة مكتوبة في ليبزج. فهل لهذه القضية سند من الحقيقة؟ إنها بعيدة عن التصديق، ولكن جنود روسيا في إراكشا يؤكدون أنهم رأوا الرجل القصير في ثياب الأتراك(311/81)
البريد الأدبي
حول مناوأة الخدر والنعاس في الأدب المصري
كتب الصديق البحاثة الدكتور بشر فارس في بريد العدد الماضي من الرسالة بما يقطع في أمر أسباب الكساد الذي يرين على السوق الأدبية في مصر بأنه لا يرى كل الرأي فيما سبق أن ذهبت إليه في مقالي السابق من أن انصراف الجمهور عن الإقبال على النتاج الأدبي في مصر إنما مرده إلى ما قلت: (إذا كان النتاج الأدبي لا يقابل من الجمهور بالحماس الواجب، فلأن الفتور مفروض على كل شيء يجري في مصر، ولأن عدم الاكتراث صفة - ويا للأسف - من صفات الأكثرية الغالبة من الجمهور المصري ولا سيما فيما له علاقة بالأدب والفن) وعاد الصديق الدكتور إلى ترديد ما سبق أن صرح به في هذا الصدد، ومجمله: (إن الجمهور المهذب من القراء يرغب عن أدب التسلية والإنشاء التعليمي ويقدر ما يستحق التقدير)
وشد ما أرغب في الأخذ بهذا الرأي، وشد ما أود أن أحسن الظن بالجمهور الكبير وبالجمهور المهذب حتى أسري عن نفسي كمداً أهمني، ولكن ما الحيلة وقد دل الإحصاء الأخير على أن متوسط ما يباع من المؤلف الأدبي الواحد في السوق المصرية لا يتجاوز خمسين نسخة في العام الواحد!
ومعنى هذا أنه لولا وجود أسواق للأدب المصري في الأقطار الشرقية الأخرى لكان مقضياً على هذه المؤلفات الأدبية بأن تصبح غذاء مستساغاً للسوس والجرذان. . .
ومعنى هذا أيضاً أن هذا (الجمهور المهذب) صفوة قليلة العدد لا يؤبه لأثرها في تصريف المؤلفات الأدبية التي تكتظ بها المكتبات المصرية، حتى ولو كانت مؤلفات من الأدب الرفيع
وإذا جارينا الدكتور بشر فيما يذهب إليه، وهو أن الجمهور المهذب إنما يقبل على ما هو أسمى من أدب التسلية والإنشاء التعليمي فهل للدكتور الصديق أن يدلي لنا بعدد النسخ التي باعتها المكتبات المصرية من مؤلفيه (مفرق الطريق) و (مباحث عربية)، وهما مؤلفان ينفردان بطابع جديد في النتاج الأدبي الرفيع، وليس فيهما من أدب التسلية قمحة ولا من التعليم الإنشائي قطرة؟(311/82)
بماذا يفسر الدكتور بشر فتور هذا (الجمهور المهذب) إزاء هذين المؤلفين؛ وأمام سواهما من الآثار الأدبية الرفيعة؟
وأين (التقدير) الذي يكنه هذا (الجمهور المهذب) للأعمال الأدبية الرفيعة؟
ومتى يتحرك هذا (التقدير) ليوفي مؤلفيه السابقي الذكر حقهما من الذكر والرواج؟
أخشى بعد هذا كله أن أقول إن صديقي إنما يصدر فيما نحن بصدده عن وحي إحساسه الخالص، وهو إحساس أديب أصيل مشبوب الهوية بالأدب، مشغوف بأن يرى للأدب دولة في مصر قوامها جمهور القراء قبل أي شئ آخر، وهذا من مزالق التفكير الذي يشوبه الإحساس الطاغي.
زكي طليمات
في النقد الأدبي
حضرة الأستاذ الفاضل محرر (الرسالة):
تحية وسلاماً. وبعد. فقد قرأت في العدد 310 من (الرسالة) الغراء ما كتبه الدكتور بشر فارس عن الفصول التي أكتبها عن الأدب العربي الحديث؛ فحمدت له غايته من النقد. غير أنني لاحظت بعض أشياء على قوله:
1 - إن كتاباتي وإن كانت منصرفة إلى النقد القائم على الوجهة الموضوعية - كما لاحظ الدكتور بشر فارس في كلمة في (الرسالة) - والأستاذ صديق شيبوب في مقاله في البصير (12 مايو سنة 1939)؛ والأستاذ خليل شيبوب في مقاله في (الأهرام): (29 مايو سنة 1939) - إلا أن منحى الموضوعية فيها مستنزل من الطريقة (التركيبية، التحليلية) التي تذهب من النظر إلى الواقعات عيناً، ومن الواقعات إلى النظر عيناً آخر؛ والتي هي نتيجة ثقافتنا الرياضية.
2 - إن هذه الطريقة من صميم الأساليب العلمية، والطرائق الموضوعية، لأن الطريقة العلمية تذهب: إما من النظر إلى الواقعات وإما من الواقعات إلى النظر. والمذهب الأول أكثر ما يتظاهر في الأساليب الخاضعة للنهج الرياضي بعكس المذهب الثاني، فإن أساليبه أكثر ما تتمثل في منهج البحث الاجتماعي.(311/83)
3 - إن الدكتور بشر فارس وثقافته اجتماعية صرفة قد نظر إلى بحثي من الطرائق الاجتماعية التي اتصل بها - أثناء تلقيه العلم في السوربون - فدارت عقليته منها، وكان أقل ما يجب عليه أن يوسع نظرته وينظر إلى منهجي في البحث في النطاق العام للأسلوب العلمي.
4 - كان في إمكان الدكتور بشر فارس أن يتعرف الدافع الذي دفعنا في دراستنا عن مطران إلى الكتابة عن (الشعر والشعراء) في المبحث الأول، وعن (الشعر العربي) في المبحث الثاني، وذلك لأنه ليس من المستطاع - ومطران رأس حركة جديدة في الأدب العربي - فهم حقيقة مذهبه واتجاهاته دون مراجعة الشعر العربي وخصائصه حتى يمكن عن طريق المقابلة معرفة الأثر الذي استحدثه مطران في الشعر العربي ومدى التجديد الذي قام به
5 - كان في مستطاع الكاتب أن يستنبط من البحث الثالث والبحوث التالية له في المقتطف خطتنا في الدلالة على معنى شاعرية مطران من شعره، تلك الخطة التي تقوم على إرجاء المقدمات - التي انتهت بنا إلى الأحكام التي أصدرناها عن منحى الشاعرية عند الخليل - إلى موضعها الطبيعي من الدراسة.
6 - رأى الكاتب أننا استعرنا اصطلاح (خلق جملة صلات اجتماعية) من كتابه (مباحث عربية) والواقع عكس ذلك. فإن هذا الاصطلاح قد دار على قلمنا من قبل صدور كتابه هذا: تجده في دراستنا عن إسماعيل مظهر حين تكلمنا عن آرائه الاجتماعية (التقدمة العربية لدراستنا عن مظهر في م 36 ص 411) هذا فضلاً عن أن هذا الاصطلاح من جملة ما يجري على أقلام كتاب عصرنا هذا، وإذن فلا يمكن القول بأنه من الاصطلاحات التي استحدثها الكاتب.
7 - ارتأى الكاتب أن الجملة التي أوردنا فيها هذا الاصطلاح مرتجلة بحيث أنها لا تتسق ومنحى البحث الموضوعي الذي أخذنا أنفسنا به. والواقع عكس ما رأى. بيان ذلك أننا رأينا في بحثنا المذكور أن المجتمع الشرقي - عادة - ينعزل أفراده بعضهم عن بعض بحيث ينقبض كل على نفسه. وقد كان ظهور خليل مطران بطبيعة مغايرة لطبيعة هذا المجتمع الذي نشأ فيه ما استوقف نظرنا. وقد رجعنا في بحثنا بهذا الأصل الثابت من(311/84)
نفسيته إلى طفولته التي ترك فيها حَّداً يتعامل مع أقرانه من الأطفال فخلص من ذلك بطبيعته الاجتماعية التي تجعله ينسحب على الجماعة ويشتبك مع أفرادها في (جملة صلات اجتماعية). وواضح إذن أن هذا من باب التحقيق لا ارتجال، ومن ثم فاستعملنا لهذا الاصطلاح استعمال له في موضعه الطبيعي من الكلام لا في موضع غير متسق مع مجرى الكلام كما رأى!
8 - أخذ علينا الدكتور بشر فارس إهمالنا لاستقصاء المصادر في دراستنا عن توفيق الحكيم، ودليله على ذلك أننا لم نلتفت إلى ما كتبه في مجلة الشباب عن توفيق الحكيم كما ينجلي في مسرحيته (أهل الكهف) وأظن أن الدكتور بشر فارس لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاء للمصادر بدليل أن بحثنا عن توفيق الحكيم قد رجعنا فيه إلى نيف ومائة مرجع. ويظهر هذا من مراجعة سريعة لبحثنا. أما عدم التفاتنا إلى بعض ما كتبه المعاصرون عن آثار الحكيم فهذا يرجع إلى أنه ليس في مستطاع كاتب بالعربية استقصاء كل ما يتصل بمادة معينة في الأدب العربي الحديث. ولا وجه للاعتراض علينا بأن الباحثين الغربيين يظهر في بحوثهم استقصاء تام لجميع ما كتب عن مادة موضوع بحثهم لأن هؤلاء يجدون من مهيئات البحث عندهم في لغاتهم فهارس شاملة تجمع كل ما يتصل بمادة معينة فيسهل من ذلك الاستقصاء عندهم
9 - أرجع الدكتور بشر فارس في مقالة مجلة الشباب (9 مارس سنة 936) فن توفيق الحكيم المسرحي في آثاره الأولى إلى فكرة الكاتب المسرحي من حيث يتفق الكاتبان المسرحيان في اعتبار الكائنات (ظواهر لا حقائق) والواقع أن الكاتبين في هذه الفكرة متأثران بالنظرية الاعتبارية التي بثها في مؤلفاته الرياضي الفرنسي الشهير هنري بوانكاريه. وقد أشرت إلى هذا الأصل بالنسبة لتوفيق الحكيم في دراساتي عنه (ص 69 من الطبعة الخاصة وص 361 من طبعة عدد مجلة الحديث) فلا معنى إذن لقول الدكتور بشر فارس من أن توفيق الحكيم تأثر بزميله الكاتب المسرحي الفرنسي خصوصاً وأن توفيق الحكيم من الذين قرءوا هنري بوانكاريه وتعمقوا في دراسة آثاره (أنظر قطعة برجنا العاجي لتوفيق الحكيم عدد 245 ص 404 - 14 مارس سنة 1938 من مجلة الرسالة)
10 - يقول الدكتور بشر فارس بأن الأصل في مسرحيات توفيق الحكيم اعتبار (الكائنات(311/85)
ظواهر لا حقائق) ويترتب على ذلك - عنده - صراع بين العقل والحلم، وبين الزمان والتاريخ (؟!. . .) وبين الشهوة والرغبة (؟!. . .) فإن صح معنا أن فكرة كون الكائنات ظواهر لا حقائق تسوق إلى فكرة الصراع بين الواقع والحلم فإننا لا نرى صلة بين هذا وما يحاول أن يظهره الكاتب من صراع بين الزمان والتاريخ، وبين الشهوة والرغبة. ذلك لأننا نعرف أن التاريخ منبسط الزمان والشهوة متفرعة من الرغبة (قوة النزوع عند فلاسفة العرب) وليس في هذا أي معنى يحتمل إفادة الصراع
11 - يرى الدكتور بشر فارس أن جوّ المسرحية عند توفيق الحكيم متأثر بجو مسرحيات ماترلنك من حيث الميل إلى بسط الإبهام على المناظر وإثارة الأوهام في نفس الناضر. وهذا صحيح إلى حد، وقد أشرنا إليه؛ ويمكن أن نزيد على ذلك فنقول بأن جو المسرحية عند توفيق الحكيم منبثق من طبيعته الفنية التي دارت حول الكتابات الرمزية نتيجة إعيائه عن معرفة حقيقة النفس ولوامعها وبوادرها والتي تأثرت بمبادئ علم النفس الحديث وعلى وجه خاص تجارب شاركو في التنويم والإيهام، وريبو في الأمراض العصبية، وفرويد في أحوال اللاواعية، وبرجسون في تقليب المنطوي في النفس على الظاهر منها (ص 69 من دراستنا من الطبعة الخاصة وص 361 من الطبعة العامة)
وبعد فإني شاكر للدكتور بشر فارس عنايته بالإشارة إلى دراستنا كما أني شاكر له عنايته بالنقد. وهو إن أخطأ النظر فيما كتب فله حسن القصد والغرض
إسماعيل أحمد أدهم
كتبنا وتآليفنا: محاضرة للأستاذ كرد علي
ألقى الأستاذ الكبير محمد كرد علي محاضرة عن (كتبنا وتآليفنا) في أحد نوادي دمشق، استمع إليها نفر من أدباء الشام ورجالاتها وطلابها، بينهم الأستاذ عبد الحميد الحراكي بك مدير المعارف العام، والأستاذ خليل مردم بك، والأمير مصطفى الشهابي، والأستاذ فارس الخوري، والأستاذ زكي الخطيب وغيرهم
وكانت محاضرة الأستاذ موجزة تقريباً، بدأها بذكر معنى التأليف والتصنيف لغة، ثم حدد الوقت الذي بدأ فيه التأليف عند العرب بتدوين القرآن والسنة والشعر. . . ثم تخطى(311/86)
الأستاذ القرون مسرعاً، حتى أدرك العصر العباسي، حيث التأليف المزدهر المثمر. فلما كانت المائة الثالثة للهجرة، بدأ الضعف يدب في التأليف، لضعف الدول والممالك، فلم يلق التأليف آنئذ ملكاً يحميه أو سلطاناً يغذيه. وأتت بعد ذلك كارثة بغداد وهمجية جنكيز خان، فخلت مدينة السلام، وبخارى، وسمرقند، وخوارزم، وطوس، من العلماء وضاع منها كثير من المؤلفات
وجاء الترك، فسعت إلى القضاء على العرب قضاء لا حياة بعده، فرقد العرب، حتى هبت مصر فأيقظتهم بعد سبات طويل
ويصف الأستاذ كرد علي حالة مصر في أوائل عصر النهضة فيقول إن أدباءها وعلماءها كانوا ما يزالون متأثرين بمؤلفات عصور الانحطاط. أما الأزهر فكان شبحاً بلا روح واسماً بلا مسمى، فلما جاء الشيخ محمد عبده سعى في إحياء التأليف، وأخرج الكتاب من الركيك إلى النثر الذي كان في القرنين الأول والثاني. ثم ذكر أثر الأستاذ الإمام في إصلاح الأزهر، وأثر الجامعة المصرية القديمة في نشر العلم بوساطة المحاضرات التي كانت تلقى فيها، حتى إذا اطلع الشرقيون على مؤلفات الغربيين، سعوا إلى تقليدها، فبدأت الفواصل في الكتابة، وعنى بأمر المسارد بأنواعها من تاريخية ولغوية وغيرها
أما أثر الصحافة في تشجيع التأليف فكان ظاهراً لما كان للنقد - على سخفه - من أثر بالغ في نفوس المؤلفين
وقايس الأستاذ بين الشيخ بخيت المحافظ والشيخ أحمد إبراهيم المجدد، وذكر كيف قاوم الأزهريون الشيخ النجار
ثم انتقل الأستاذ إلى التأليف في وقتنا هذا بمصر، فقال إن التأليف الحديث ناتج عن اضطرار لا عن رغبة، لأن معظم المؤلفين في مصر، إنما يؤلفون بحكم الوظيفة والمنصب. وقال إن هناك مؤلفات لها شأنها، ولو أننا اتبعنا الطرق التي اتبعها (حافظ باشا عفيفي) في كتابه (على هامش السياسة) وحاولنا أن نحرر أفكارنا كما فعل (قاسم أمين) فيما ألفه و (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه
(طبائع الاستبداد) لبلغ التأليف عندنا درجة رفيعة
وأنتقل الأستاذ بعد ذلك إلى الكلام عن الشام، فذكر احمد فارس وأثره في التأليف واهتمام(311/87)
المسيحين به، ولا سيما آل اليازجي وآل البستاني
أما في العراق وتونس فلم يبدأ التأليف إلا عقب الحرب العظمى. وساعدت جامعتا بيروت الكاثوليكية والبروتستانتية على ازدياد التأليف، كما ساعد ذلك في دمشق الجامعة العربية والمجمع العلمي
ثم ذكر الأستاذ حاجتنا إلى التأليف وقايس بين مؤلفينا الذين يقنعون بكتاب أو كتابين ومؤلفي الغرب الذين لا يفتأون يخرجون للناس كتباً، وقال إن التأليف يجب أن يزداد وأن يرمي إلى نزع الحواجز بين الخاصة والعامة
وختم الأستاذ محاضرته بقوله إن التأليف هو رمز الحضارة وعنوان المجد، فلنسع لإظهار هذا المجد وإبراز تلك الحضارة
والمحاضرة بالجملة موجزة، سهلة اللغة مرسلتها، ولكنها لا تظهر ما للأستاذ من علم واسع واطلاع شامل
ونحن نشكر للأستاذ جهوده، ونتمنى لو أنه يترك من حين إلى حين برجه الذي بُني من الكتب، والذي ينزوي فيه ويطل على الناس يريهم آياته ويسمعهم نتائج قراءاته
(دمشق)
ص. م
الشعر والشعراء في سورية محاضرة للأستاذ صلاح الدين
المنجد
سيلقي الأستاذ صلاح الدين المنجد في راديو الشرق (بيروت) سلسلة من المحاضرات عن الشعر والشعراء في سورية. وسيبدأ إلقاءها في النصف من يونية الحاضر، فيقايس بين حالة الشعر قبل ثلاثين وحالته اليوم، ويبين خصائص الشعراء السوريين التي امتازوا بها وقصر دونها شعراء مصر والعراق. وسيعالج الأستاذ أمر تأثير الغرب في شعراء سورية ونتائجه ومداه.
أما الشعراء الذين سيدرسهم، فهم: الزركلي، البزم، الخطيب، جبري، مردم بك، بدو الجبل، أبو ريشة، العطار، الطرابلسي(311/88)
وسيعقب الأستاذ المنجد هذه المحاضرات بمحاضرات أخرى الشعر في مصر ثم عن الشعر في العراق
فرعون الصغير
إن الأستاذ محمود تيمور من أوفر أدبائنا إنتاجاً، ودليل ذلك تلك القصص التي يذيعها في الناس من حين إلى آخر. وهاهو ذا يخرج اليوم مجموعة جديدة من الأقاصيص عنوانها: (فرعون الصغير وقصص أخرى). وبهذه المجموعة يدل الأستاذ تيمور على أن فنه بلغ الاستواء الأوفى من جهة السرد ولمّ الفكرة والخروج من الحوادث بالعبرة التي لا تجري إلى غاية محسوسة، ولكنها تقصد إلى إيحاء شعورٍ ما. وهذه القصص تتنازعها طرائق مختلفة: منها (الرومانسية) (أي التخيلية) من ذلك قصة (فرعون الصغير)، والواقعية، من ذلك (زمان ألهنا)، والواقعية الملونَّة بالباطنية، من ذلك (المخ العجّالي)
هذا وللمجموعة تصدير عنوانه: (المصادر التي ألهمتني الكتابة). وهو جم الفائدة من حيث أنه يبسط كيف اقبل المؤلف على التأليف القصصي وبأي أنواع التأليف تأثر وعلى أي أسلوب جرى فيه
ثم إن المؤلف رأى أن يستعمل الشكل كلما جاءت كلمة متخيَّرة أو مشتركة في النطق أو داعية إلى اللبس. وهكذا نفع التلميذ والقارئ الناشئ. وعسى أن يظفر (فرعون الصغير) بما يستحقه من النجاح لطرافته ونفاسته ثم شكله اللطيف وطبعه الأنيق
مجلة أدبية في دمشق
علمنا بان الأستاذ محمود كرد علي بك قد عزم على إصدار مجلة (أديبة في دمشق) بالاشتراك مع الأستاذ خليل مردم بك، والدكتور محسن البرازي، والدكتور جميل صليبا، والأستاذ سعيد الأفغاني، وبعض المتأدبين الناشئين كالأساتذة: جمال الفراء، يوسف العش، خلدون كناني
ونحن نشكر للأستاذ صنيعه، ونرجو أن تكون هذه المجلة مظهراً جيداً من مظاهر النهضة الأدبية في سورية
(م. . .)(311/89)
كتاب الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة
تعد دار الكتب الظاهرية أحفل مكتبات العالم بمخطوطات الحديث الشريف فإن فيها من النفائس النادرة ما لا نظير له في الدنيا ومن جملة مخطوطاتها القيمة هذه الرسالة التي لا ثاني لها، فهي مسودة المؤلف بخطه الذي (قل من يحسن استخراجه) وعليها خطوط لكبار الأئمة مثل ابن طولون الصالحي والرملي. . .
وقد أخرجها الأستاذ سعيد الأفغاني على خير نسق تحيا عليه الرسائل العلمية القيمة، ولم يدخر وسعاً في بذل الجهد ليكون إخراجاً علمياً كاملاً، فجاء آية في الترتيب والدقة والصحة والجمال.
صنفها المؤلف أبواباً ثلاثة:
الباب الأول - في خصائص السيدة عائشة وشيء من سيرتها
الباب الثاني - في استدراكها على أكثر من عشرين من أعلام الصحابة الأجلاء مثل أبي بكر وعمر وعلي وابن عمر وابن عباس
الباب الثالث - في استدراكات عامة
ويتجلى في هذه الرسالة ذكاء المرأة ونقدها وفطنتها ومواهبها العلمية ومدى ثقافتها الواسعة التي نعمت بها بفضل الإسلام. وهو كتاب ضروري لكل من درس شيئاً عن الإسلامية من شرقي وغربي وفقيه وعالم ومحدث وأديب واجتماعي وكل مثقف
وقد صدر في 230 صفحة من القطع الكبير.
بواسل
يعتمد الكثير من الأدباء في التحقيق اللغوي على المعجمات العربية، ويضربون صفحاً عن التنقيب في النصوص الأدبية القديمة التي تعتبر أصلاً لهذه المعجمات
ولقد كتب أديب فاضل في عدد 307 من مجلة الرسالة يخطئ جمع باسل على بواسل، معتمداً على ما انتهى إليه استقراء القواعد النحوية وما أحصته المعجمات اللغوية. وذكر أن الجمع الصحيح الذي ورد لهذه الكلمة هو (بسل وبسلاء وباسلون)
ولقد أسعدت المصادفة فالتقيت بالجارم بك وسألته فيما جاء بالرسالة خاصاً بهذا الجمع(311/90)
فأنشد:
وكتيبةُ سفع الوجوه (بواسل) ... كالأسدِ حين تذب عن أشبالها
قد قُدْتُ أول عنفوان رعيلها ... فلقفتها بكتيبة أمثالها
فقلت: ولمن هذان البيتان؟ فقال: هما من قصيدة (لباعث ابن صريم اليشكري) من شعراء الجاهلية في ديوان الحماسة فرجعت إلى القصيدة فوجدتها ص 149 من طبعة الرافعي
حسن علوان(311/91)
رسالة النقد
مباحث عربية
تأليف الدكتور بشر فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
هذه مجموعة مباحث في شئون (عربية، إسلامية) تجمع بين التدقيق الاجتماعي اللغوي - في مسائل اجتماعية وأخرى لغوية - وفي مستهل المجموعة استطلاع لشئون جماعة مسلمة في أقصى الشمال جهة (فنلندة). وقد نشر بعض هذه المباحث بالعربية هنا في مصر كما نشر البعض الآخر بالفرنسية هناك في باريس أو روما. غبر أن كاتبها الباحث المحقق الدكتور بشر فارس جمعها في هذا الكتاب بعد أن أجرى فيها قسطاً من التهذيب ثم الحذف والزيادة. لأنه وجد في نشر هذه المباحث بين دفتي كتاب ما يجعلها أدل منها وهي متفرقة، وأبين منها وهي مشتتة. هذا وقد رجا صاحبها بإصدارها أن يوطئ من حيث المنهج والأسلوب الأذهان لرسالته القيمة (العِرض عند عرب الجاهلية) التي نال عليها إجازة الدكتوراه من باريس، ونشرها بالفرنسية لأعوام خلت، وهو اليوم يستعد لإخراجها في اللغة العربية.
وهذه المباحث من جهة المنهاج متأثرة بأساليب البحث الاجتماعي التي لا تعرف مجالاً للافتراض، فهي من هنا أقرب إلى أساليب البحث العلمي الوضعي منها إلى أساليب العلم البحت. ومثل هذا النهج من حيث أنه يعتمد على تسليط النقد على الواقعات مع ردّها إلى مصادرها من طريق الوصف المباشر والاستشهاد بالنصوص الصريحة مقدمة لا بد منها للبحث العلمي البحت. أما عن النهج: فهو التحقيق في الأصول والتدقيق في الفروع قدر ما يسمح به الموضوع، والرجوع إلى المصادر والإشارة إليها في الحواشي التي تجمع إلى المراجع والمصادر والإشارة إليها في الحواشي التي تجمع إلى المراجع والمصادر إضافات وتهذيبات شتى يستخدم في سردها نظام الرموز والإشارات؛ ومن هنا يمكن أن يقال إن منحى نهج الكتاب الطريقة الجامعية في التأليف، وأسلوب المباحث علمي يمتاز بالوضوح والإشراق والتدقيق في اختيار الكلم مع شيء كثير من الصقل للعبارات والكاتب بذلك(311/92)
يصون لغته من الأساليب المبتذلة التي جرت العادة أن تدور على أقلام الكتاب في هذا المصر من أدباء العصر
غير أنه وإن كان من مظاهر التدقيق في التعبير، التدقيق في اختيار الكلم، والتدقيق في وضع المصطلحات العربية للألفاظ الفنية الإفرنجية، فإن هذا التدقيق الذي ينتهي به الكاتب - عادة - إلى نتائج قيمة من أسلوب واضح دقيق، ووضع كلمات عربية تجري مجرى الاصطلاح الإفرنجي يخونه التوفيق بعض المرات، وله بعد ذلك جانب السعي المشكور. من تلك الحالات التي خانه فيها التدقيق في التعبير واختيار الكلم قوله (وتسليط النقد النافذ من جهتيه - الخارجي والباطني - ص 12 و 42 من الكتاب. ومن المعروف أن كلمة داخل تقابلها من الجهة الأخرى خارج، كما أن لفظة باطن تقابلها ظاهر؛ فيكون تعبيره وإن دل على المعنى، ضعيفاً من وجهة السياقة اللغوية العربية الخالصة. وقد استعمل بعضهم هنا في مصر ومنهم الأستاذ أحمد أمين اصطلاح النقد الداخلي والنقد الخارجي - ضحى الإسلامية ج 2 ص 130 - 131 - وقد جاراه في ذلك الأستاذ أمين الخولي - أنظر تعليقه على أصول من الترجمة العربية لدائرة المعارف الإسلامية، م2 ص280 - وكان فيإمكان الباحث أن يجري الكلام على هذا الوجه، فذلك أدل على المعنى من جهة وأقوم من الوجهة التعبيرية العربية الخالصة من جهة أخرى فضلاً عن أنها جرت على الأقلام، فمن هنا اكتسبت قيمة المصطلح الفني.
كذلك قوله: (الاعتماد على المشاهدة دون الفرض والتحقيق دون التخيل) فهو لو قال: (الاعتماد على المشاهدة دون التخيل والتحقيق دون الفرض) لاستقام معه المعنى والتعبير. ولقد جرى قلم الباحث بلفظة (أسلوب) في بعض مواضع من أبحاثه محملاً اللفظة أكثر مما تحتمل من حيث تدل على الطريقة أو النهج في الكتابة أو التفكير. فكان من ذلك أن قال: (وإذا بدا لك بعد هذا أن تعدل عن النقد الخارجي وهو النظر في الأسانيد إلى النقد الباطني وهو النظر في الأسلوب) ص 42؛ ومن المعلوم أن النقد الداخلي ينظر في المتن، والمتن ينقسم إلى معنى وعبارة، أو مادة وشكل، أو فكرة وأسلوب، فالعبارة أو الشكل أو الأسلوب شِقّ يعرض له النقد الداخلي، وليس بكل ما يعرض له (انظر لفظة أسلوب في لسان العرب) ومن هنا يبدو قصور تعبير الباحث عن أن يمد المعنى الذي في(311/93)
ذهنه ظله على ما يلبسه من معنى
ولقد جرى قلم المؤلف سلوك تارة (ص 56) وبلفظ أخلاقيات تارة أخرى (36، 56) مقابلاً لاصطلاح فرنسياً، والسلوك من حيث يفيد النهج يقابل إفرنجياً. أما اصطلاح فيفيد الآداب؛ أما الأخلاق عربياً فتقابل واستعمال لفظ السلوك لأحد مشتقات المصدر تارة ولفظ أخلاق لمشتق آخر لنفس المصدر، يوقع في اللبس والاختلاط (راجع ص56 من الكتاب). كذلك يعتبر الباحث كلمة (البصيرة) مقابلاً لـ (ص 57) ونحن نرجح لفظة (الحدس) لأنها فلسفياً كما جرت على أقلام فلاسفة العرب كابن سينا والفارابي تفيد معنى الانتقال دفعة واحدة من المبادئ إلى النتائج، وهذا ما تفيده معنى اللفظة اصطلاحياً ولغوياً كما يستفاد من مراجعة معاجم اللغة الفرنسية
وثم عندك قول الكاتب: إن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى) ففي هذا التعبير لفظة التجاور تفيد إفرنجياً معنى إفرنجياً والقصور واضح في التعبير العربي. ولكي تتسق مفادات العبارة لا بد من إبدال لفظة (المتجاورة) من الجملة بالمتشابهة، لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة.
وقد كان بودي أن أمر بكل هذا الذي ذكرته - لأنه ملاحظات
شكلية لا يخلو من أمثالها كاتب - ولكن تدقيق المؤلف
وعنايته الظاهرة بالشكل، هي التي دفعتني لمجاراته في
التدقيق. وبعد ففي موضوع المباحث مسائل تقف النظر،
وموضوعات تستحق وقفة للتدبر، ففي المبحث الأول وهو عن
(المسلمين في فنلندة) وهي رسالة نشرت في الأصل بالفرنسية
في مجلة الدراسات الإسلامية بباريس (13ص 181934) تجد
الباحث يقول إن هؤلاء المسلمين من (الترك - التتر)
الضاربين فيما وراء جبال أورال، وقد هجروها إلى الشمال،(311/94)
وحلوا بفنلندة عقب الانقلاب السوفيتي في روسيا. وهو في
قوله هذا يعتمد على ما رووه له، وما تحدثوا به إليه دون أن
يتعداه إلى سبل التحقيق للتأكد من صحة أقوالهم. فنحن نعرف
أن المصادر التركية تتحدث عن رحلة جموع من (الأتراك -
المسلمين) إلى الشمال في القرن السادس عشر للميلاد، وأنهم
نزلوا بلاد (الفنوا) - أنظر خير الله أفندي في دولت عَلِية
عُثمانية تاريخي ج 6 ص 138 - 145 - فهل تحقق الباحث
من أن مسلمي فنلندة الذين شاهدهم عن كثب ليسوا من نسل
هؤلاء؟ وأن قولهم بأنهم أتوا فنلندة عقب الثورة الاشتراكية
الكبرى في روسيا حقيقة لا تخلو من الريب؟ هذه أسئلة
خطرت بالذهن حين تلونا للباحث كلامه في صدد أصل
هؤلاء.
ومسألة أخرى في هذا البحث، فالباحث يذكر أن جموع هؤلاء المسلمين الأتراك تنزل العاصمة ثم بمدينتي (تمبري) و (توركو) وهو لم يذكر لنا شيئاً عن المدينة الثانية وهل هناك صلة بين أسمها ولفظة (تورك) خصوصاً أنهم على ما يروي من (الترك - التتر). ولا شك أنه في فترة خمسة عشر عاماً ليس في مستطاع هذه الجموع (التركية - التترية) أن تخلع على المدينة اسماً مشتقاً من أصول جماعتها، خصوصاً وهم أقلية؛ وإذن فللموضوع شأن أعمق من القول بأن هؤلاء من الذين نزلوا (فنلندة) بعد الثورة البلشفية في روسيا(311/95)
على أنه يظهر أن الباحث أُخِذ بجدة الموضوع فلم يتعمق في البحث، آية ذلك أنه يقول: (إن لغة التعليم عندهم هي التركية وحروف هجائهم هي الحروف (اللاتينية - التركية) التي وضعت وشاعت بأمر أتاتورك) - ص24 - وهو بهذا يستدل على أنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (؟) إلى أنقرة - ص23 - ولكن لتصح له الدعوى حتى يصح له الاستنتاج، والدعوى لا بد لصحتها من التثبت من أن حروف الهجاء التي يتخذونها هي الحروف (التركية - اللاتينية) التي أخذ بها الأتراك في تركيا الكمالية، وليست الحروف (التركية - اللاتينية) التي توافق عليها أتراك آسيا الوسطى والقوقاز والأورال في مؤتمر تفليس عام 1925: (أنظر في - باب التعليم الوطني -). ذلك أن هنالك بعض الفروق الطفيفة بين أحرف الهجاء اللاتينية، كما هي عند أتراك الجمهورية التركية وأتراك الاتحاد السوفيتي، وهذا الفرق يظهر واضحاً في بعض الحروف التي تدل على حركات معينة، وفي إمكان الباحث بمراجعة هذه الفروق أن يدلي برأي نهائي في الموضوع.
على أنه بعد ذلك في هذا الفصل استطلاعات اجتماعية قيمة تسبغ على البحث أهمية لا تنال مها هذه الملاحظات
والمبحث الثاني عن (مكارم الأخلاق) وهي محاضرة في الأصل ألقاها الدكتور بشر فارس عام 1935 في مؤتمر المستشرقين بروما باللغة الفرنسية ونشرها بمجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم في روما. وقد قام بترجمتها والتوسع فيها بعض الشيء في الأصل العربي، والبحث في العموم دقيق في أصوله، ضارب إلى التثبت العلمي في تفاصيله، وكان بودنا أن نناقش الباحث آراءه التي أتى بها في الموضوع ولكن المصادر أعوزتنا. لهذا صرفنا النظر عن مناقشتها. على أنه يظهر أن الباحث وفيَ الموضوع حقه من التحقيق والفحص العلمي.
(البقية في العدد القادم)
إسماعيل أحمد أدهم(311/96)
العدد 312 - بتاريخ: 26 - 06 - 1939(/)
على ذكر الضرائب الجديدة
تكاليف الاستقلال
وهل تكاليف الاستقلال، إلا ضرائب الدماء والأموال؟
لقد كنا قبل أن نبلغ رشدنا الدولي نعيش في كنف الحكومة وحمى
الاحتلال، كما يعيش النشء الأغرار في ظلال الأبوين ورعاية
الأسرة! تنفق علينا الحكومة ولا نعلم من أين تكسب، وتدفع عنا الحليفة
ولا ندري بماذا تضرب. وكنا نسمع بما تجود به الأمم لأوطانها من
الأموال والأثمار والأنفس، ونرى ما نحن فيه من البال الفارغ والعيش
الأبله، فنحسب أن حياتنا هي الحياة، وغبطتنا هي الغبطة. ولكننا كنا
نرى من الجهات الأخرى أن عزتنا وقومنا لا تقاس على عزات هذه
الأمم وقواها؛ فهي في أوطانها حرة الإرادة مطلقة السيادة، وفي العالم
مرفوعة الرأس مسموعة الكلمة؛ ونحن في وطننا قطيع يسام ويسمن،
وفي العالم سلعة تُساوم وتؤمّن، فلا نشعر هنا كما يشعر الناس هناك
أننا نحن الوطن والثروة، والحكومة والسطوة، والدولة والسلطان. فلما
بلغنا التكليف وأدركنا الاستقلال وملكنا زمام الأمر، أصبحنا فإذا
أخطار المجد تحوم على كل نفس، وأثقال الدفاع تنحط على كل كاهل:
فالضرائب تجبى من المال، والكتائب تجمع من الدم، والتضامن الدولي
العام يقتضينا المساهمة في حفظ السلام وإقرار العدل بالمعاهدات
الدفاعية والمواثيق الاقتصادية؛ وفي سبيل ذلك تستعد كل نفس للموت،
ويتهيأ كل شيء للبذل؛ ومن أجل ذلك يجب أن يكون صوتنا هو الأرفع
في السياسة، ورأينا هو الأعلى في الحكم(312/1)
نحن الذين ننفق فلا بد أن يكون لنا الحساب؛ ونحن الذين نموت فيجب أن يكون في أيدينا الأمر!!
ما كنا قبل اليوم نشعر هذا الشعور ونفهم هذا الفهم. والفضل في هذا الوعي وفي هذه اليقظة يكاد يرجع إلى ضريبة الدمغة من دون الضرائب. فإن ضرائب العقار والدخل والإنتاج إنما هي ضرائب خاصة، تُجبى من قوم دون قوم، وفي وقت بعد وقت؛ فالشعور بوجودها محدود، والتفكير في أمرها مؤقت. أما ضريبة الدمغة فهي ضريبة عامة، تُجبى من أي إنسان في أي زمان ما دام له عمل أو حاجة. فهي لذلك لا تنفك تشعرك وتشعرني أننا ننفق على الحكومة؛ فرؤساؤها وكلاؤنا، وموظفوها أجراؤنا، وأموالها أموالنا؛ فنحن حقيقيون أن نراقب الوكيل، ونحاسب الموظف، ونرعى الخزانة؛ ونحن خليقون أن نقول للوزير: إن جهدك للدولة فلا تبذله على هواك الفرد، وللموظف: إن وقتك للأمة فلا تشغله بعملك الخاص، وللنائب: إن رأيك للناس فلا تصرفه إلى متاعك الباطل
لقد كنا ندرك معنى الوطن إدراك الشيوع والإبهام والغفلة، فلا نكاد ندري ما يقدم إلينا وما نقدم إليه. فالترع تشق، والطرق تنهج، والجسور تنصب، والعمارة تمتد، والثقافة تنتشر، والأمن يستقر، والحضارة تزدهر، ونحن نستمتع بذلك كله استمتاع الغريب لا نجد فيه ريح الفخر ولا روح المجد، كأن غيرنا هو الذي قام به وأنفق عليه! ولو أن عابثاً عبث به، أو عائثاً عاث فيه، لما ألقينا بالنا إلا لخبر السرقة أو الخيانة أو المحاباة، نرويه كما نروي أخبار البرق للتفريج والتفكهة في حديث القهوة أو في سمر البيت. وتلك حال كانت أشبه بحال الأمير أو الغني الذي أوتي الملك عفواً من غير حيلة، واستولى على ريعه صفواً من غير كلفة؛ فشعوره به شعور بأثره لا بعينه، وحرصه عليه حرص على ثمره لا على شجره. أما لذة الملك في ذاته فلا يستشعرها إلا المالك الذي اشتراه بجهده، والفلاح الذي استغله بعرقه
كذلك كنا نفهم معنى الوطن قبل أن نفهم معاني الاستقلال والسيادة والعزة، فلما فهمناها وفهمنا لوازمها من الإخلاص والإيثار والتضحية، أصبحنا نعتقد أن كل قوة هي من قوات الوطن العامة، وكل ثروة هي من ثرواته المشتركة، فالقادر لا ينبغي أن يعطل قوته لأنه حر، والغني لا يجوز أن يبدد ثروته لأنه مالك(312/2)
إن للوطن حقاً معلوماً في أملاك المواطن وملكاته، وإن للمواطن حقاً مشاعاً في أمجاد الوطن وخيراته. فأنا من حقي أن أقول للأمير الذي يهلك ثروتنا وسمعتنا على الفتون والمجون، وللغني الذي يخمد نهضتنا وحيويتنا بالكزازة واللؤم، وللأديب الذي يزيف أدبنا وتاريخنا باللغو والباطل، وللوزير الذي يوزع المناصب بالهوى ويقسم الأرزاق بالمحاباة، وللموظف الذي يتصرف في أشياء الدولة تصرف المالك، فسيارتها في (جراجه) وسعاتها على بابه، وأموالها في جيبه، وللعضو البرلماني الذي لا يدخل أحد المجلسين إلا ليقبض مكافأته أو يلقى أصحابه أو يتلقى بريده؛ من حقي وحقك أن نقول لهؤلاء جميعاً على التوالي: إنكم علق تعيشون على دماء الناس، وأنكاد تتلذذون بكفران النعم، وافدام تتطفلون على موائد العلم، وأوغاد تدلسون الحكم على الوطن، ولصوص تعيث أيديكم في مال الأمة، وعيال تبهظ أثقالكم عاتق الفقير؛ فحياتكم على الأرض غرور ولهو، ونسبتكم إلى الوطن زور وباطل
ذلك ما يحق لكل مصري أن يكرر قوله؛ وذلك ما يجب على كل مصري أن يتقي سماعه. ولا خوف علينا بعد اليوم من غفوة العيون وغفلة البصائر، فإن كل طابع نشتريه من طوابع الدمغة منبه عنيف الحركة في اليد، شديد الصوت في الأذن. وإنما الخوف كل الخوف على زعيم الأمة إذا ضل، وعلى أمين الخزانة إذا أسرف!
أحمد حسين الزيات(312/3)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 3 -
تطايرت الأخبار بانزعاج الأستاذ أحمد أمين، وكثُر المتحدثون عن الوفاء والأوفياء. فليت شعري كيف يكون العزم على تصحيح أغلاطه ضرباً من العقوق، ولا يكون إلحاحه في الغض من قيمة الأدب العربي ضرباً من العقوق؟
إن هذا الصديق حدثنا ألف مرة أنه لا يغضب من النقد إذا كان فيه تقويم للأفكار والآراء
ونحن سنضع شجاعة الأستاذ أحمد أمين في الميزان، وسنختبر صبره على كلمة الحق، وسنرى كيف يجزينا على ما نقّدم إليه من جميل
إن هذا الرجل يحكم على الأدب العربي أحكاماً تشهد بأن طريقته في فهم الأدب والحياة طريقة عامية، فكيف يكون حاله إذا صححنا بعض ما وقع فيه من أغلاط؟
أيرجع إلى الحق؟
أيوجه إلينا كلمة ثناء؟
هنا تُعرف قيمة الأخلاق في نفس الرجل الذي ألف أول ما ألف في الأخلاق
وأقسم أني أهجم على هذا الرجل وأنا كارهٌ لما أصنع، فأحمد أمين رجل محترم، وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة الأدبية، وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي، وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي لأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين
ولكن كيف أسامح رجلاً يحاول أن يلطخ ماضينا الأدبي بالسواد؟
إن هذا الرجل يؤرخ الأدب بالجامعة المصرية، وهو بذلك قدير على تلوين الاتجاهات الأدبية عند شبان هذا الجيل، فتصحيح أغلاطه لا ينفعه وحده، وإنما ينفع معه ألوفاً من الشبان الذين يدرسون في كلية الآداب من مصر ومن أقطار الشرق
يرى هذا الرجل أن (المديح والهجاء) هما أظهر الفنون في الأدب العربي، وبذلك يكون الأدب العربي في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح
ولو كان هذا الرجل يدقق لعرف أن المديح والهجاء هما السجل الصحيح للأخلاق العربية،(312/4)
فمن المديح نعرف كيف كان العرب يتمثلون المناقب، ومن الهجاء نعرف كيف كانوا يتصورون المثالب، ومن المحاسن والعيوب يعرف الباحث صور المجتمع في الحياة العربية والإسلامية
ولو ضاعت قصائد المديح والهجاء لضاع بضياعها أعظم ثروة يستعين بها علماء النفس لفهم تطورات الأفكار والأذواق فيما سلف من عهود التاريخ
فمؤرخ الأدب لا يؤذيه أن تكثر قصائد المدح والهجاء إلا حين يزهد في فهم المشارب والميول، وتعقب المنازع والأهواء، كأن يكون رجلاً يؤرخ الأدب وهو غير أديب
يضاف إلى ذلك أن المادحين والهاجين لم يكونوا جميعاً طلاب أرزاق، وإنما كان أكثرهم أصحاب مبادئ وعقائد، وكانوا يؤدون في خدمة الدولة ما تؤديه الصحافة في هذه الأيام، وهي تؤرخ الصراع بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين
وقصائد المديح والهجاء كان لها تأثير نافع في تقويم الأخلاق. ولو أن أحمد أمين كان من المطلعين لعرف أن تلك القصائد كان لها تأثير في أكثر ما غنم العرب من الحروب
لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن شيوع المديح والهجاء في البيئات العربية يدل على خلق عظيم من أخلاق العرب وهو (النخوة)، فالعربي يسره أن يُذكر بالجميل ويؤذيه أن يُذكر بالقبيح، ومن هنا كانت المدائح والأهاجي لا توجّه في الأغلب إلا إلى عظماء الرجال
وما رأي أحمد أمين في حسان بن ثابت؟
ما رأيه إذا حدثناه أن الرسول كان يرى المدح والهجاء باباً من أبواب الجهاد؟
ما رأيه إذا حدثناه أن الرسول كان يرى حسان بن ثابت جنديًاً نافعاً لأنه كان يخوّف خصوم النبوّة بأشعاره في الهجاء؟
أتكون أشعار حسان في الهجاء من أدب المعدة؟ قل بذلك يا أحمد أمين، إن استطعت، ولن تستطيع!
وما رأي أحمد أمين في مدائح الكميت وأهاجيه؟
ما رأيه في قصائد الفرزدق وقصائد دعبل في الثناء على أهل البيت؟
ما رأيه في الشعراء الذين أوقدوا نار الحرب بين بني أمية وبني العباس؟
ما رأيه في قصائد مسلم بن الوليد في الثناء على بعض الأبطال؟(312/5)
ما رأيه في قصيدة أبي تمام يوم فتح عمورية؟
ما رأيه في مدائح البحتري وهي تسجيل للشمائل العربية؟
أيكون عيب أولئك الشعراء أنهم كانوا يعيشون في ظلال الأمراء والخلفاء؟
وما العيب في ذلك؟
ألم يكن شعراء المشرق والمغرب يعيشون في ظلال الأمراء والملوك؟
وكيف يعاب على أمثال البحتري والمتنبي ما استباحه أمثال فولتير ولافونتين؟
إن أولئك الشعراء كانوا يؤدون لدولهم خدمات اجتماعية وسياسية، ومن حقهم أن يعيشوا بفضل تلك الخدمات، لأنهم لم يخلقوا بلا معدة كما خلق الأستاذ أحمد أمين الذي يخدم الأمة المصرية بالمجان، لأنه لا يتناول من الجامعة في كل شهر غير مبلغ ضئيل لا يتجاوز الستين ديناراً، ولا يتناول من أعماله الأدبية في كل شهر غير دنانير لا تعد بغير العشرات!
ما الذي يعيب الشاعر والأديب حين ينتفع من الشعر والأدب؟ ما الذي يعيبه وهو من جنود المعامع الاجتماعية والسياسية؟ ما الذي يعيبه حين يطمع في أموال الملوك والخلفاء، وكان شعره السناد لدول الملوك والخلفاء؟
وهل يعاب جوبلز لأنه يعيش بفضل الدعاية للسيطرة الألمانية؟
هل يعاب الصحفيون الذين يعيشون بفضل الدفاع عن الحكومات والأحزاب؟
إن الشاعر القديم هو نموذج للصحفي الحديث، وكلاهما يؤدي مهمة اجتماعية وسياسية
لو كان الأستاذ أحمد أمين يدقق لعرف أن رجال الأخبار يؤدون مهمة خطيرة، فهم في حكم الواقع رجال شرفاء وإن احتقرهم المجتمع عن جهل وسخف، فكيف نهين الشعراء والصحفيين وهم يرشدون الدول عن طريق العلانية، ويوجهون أممهم إلى سبيل المجد والاستعلاء؟
ولولا بُناة الشعر في الناس ما درى ... بُناةُ الندى من أين تُبنَى المكارمُ
أنرضى أن يكون شعراء العرب شحاذين ومتسولين لتصح أغلاط أحمد أمين؟
أيكون أسلافنا من الأدباء والشعراء مرتزقة لأنهم لم ينسوا حظوظهم من أموال الملوك والخلفاء، وبفضل مدائحهم وأهاجيهم عاش الملوك والخلفاء؟(312/6)
إن الأمم العربية والإسلامية لم تضعف حيويتها إلا حين عدمت الأريحية وزهدت في مدائح الأدباء والشعراء
وهل تستطيع حكومة في هذه الأيام أن تعيش بلا سناد من تشجيع الكتاب والخطباء والصحفيين؟
وهل قامت حكومة أو سقطت حكومة إلا بفضل أسنّة الأقلام؟
إن الأقلام تصنع في مصير العالم مالا تصنع جيوش البر والبحر والهواء
وكلمة (مأجور) كلمة ابتدعها أحمد أمين، وما كان (الأجر) عيباً إلا في نظر هذا الناسك المتبتل، فقد كان (الأجر) من قبله كلمة شريفة أقرها القرآن المجيد
ومن الله ألتمس (الأجر) على تصحيح ما وقع فيه هذا الصديق من أغلاط
وما رأي صاحبنا في هتلر وموسوليني وهما يُرهبان العالم بالأقوال قبل الأفعال؟
ما رأيه إذا علم أن هتلر يهمه أن يكون لأقواله ومؤلفاته قيمة مادية؟
بل ما رأيه إذا علم أن العراك حول مشيخة الأزهر له أسباب دنيويه؟
ما رأيه إذا علم أن (البابا) يجتذب مريديه بثمرات النخيل والأعناب؟
ما رأيه إذا علم أن الغض من قيمة المعدة ليس إلا رهبانية نهى عنها الإسلام؟
ما رأيه إذا عرف أن من يحتقرون الأمعاء كانوا كتبوا مرة أو مرتين في تأثير (الهضم) على العقول؟
نحن لا نريد مؤرخاً للأدب يفهم الدنيا بالمقلوب، وإنما نريد مؤرخاً يفهم أن الأدب صورة الحياة، ويعرف أن شعر ابن الرومي في وصف (الرقاق) لا يقل شرفاً عن شعر ابن المعتز في وصف (مداهن الطّيب) لأن الشاعر لا يطالب بغير إجادة الوصف لما تراه العيون، وما تحسه القلوب
نريد مؤرخاً للأدب يدرك أن من حق الأديب أن يصف ما يرى ويسمع.
نريد مؤرخاً للأدب يدرك الفروق بين الأشياء، ويتأثر بجميع المناظر، ويطرب لجميع ما في الوجود، ويتابع النبرات الموسيقية في نقيق الضفادع، على نحو ما يصنع وهو يتسمع لأسجاع الحمائم. وذلك يوجب أن يكون رجلاً له ذوق وإحساس
نريد مؤرخاً للأديب يغلل أسباب الحسن وأسباب القبح مع العطف على جميع مظاهر(312/7)
الوجود
نريد مؤرخاً للأدب يرى السخرية من العيوب ويرى مكر الثعلب لا يقل جمالاً عن بلاهة الغزال
قد يسأل القارئ: وما محصول هذا التصحيح؟
ونجيب بأن له أهمية عظيمة لأنه يضع تاريخ العرب في نصابه من حيث الأخلاق، فأتباع الأمراء والوزراء والملوك والخلفاء من أهل الشعر والأدب لم يكونوا في جميع أحوالهم صعاليك كما يريد الأستاذ أحمد أمين؛ وإنما كانوا قوماً يؤدون خدمات سياسية واجتماعية وأدبية، وكانوا يؤلفون جماعات منظمة تنشط الروح المعنوي في الدولة وتشيد بمكارم الأخلاق. وكان الطائشون منهم يمثلون ما في أرواح بعض الجماهير من عناصر الزيغ والارتياب. فهم الصورة الصحيحة لما كان عند العرب والمسلمين من عناصر الشك واليقين
وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إنهم خلقوا العصبيات القومية، وأمدوا التاريخ بروح الحياة. فهذه مصر مرّ بها كثير من الخمول في مطلع حياتها الإسلامية، ولم يبق من ولاتها وحكامها من هو أسير ذكراً من كافور والخصيب بفضل مدائح المتنبي وأبي نواس
ولو شئت لقلت إن المداحين والهجائين كانوا يقيمون بقصائدهم مدارس لتعليم الأخلاق، وكانوا يقيمون بقصائدهم معاهد لتعليم اللغة والأدب والتاريخ. وقد كانوا بالفعل معلمين، لأنهم كانوا أساتذة الأدب في تلك الأزمان، وبفضل صوابهم وخطئهم كان يعيش النحاة واللغويون
والأستاذ أحمد أمين الذي يجعل وصف الطبيعة من أدب الروح ينسى أن الإنسان هو خير ما في الطبيعة. وهل يكون مدح الغصن المزهر أشرف من مدح الملك المفضل إلا في ذهن من ينظر إلى حقائق الأشياء نظرة عامية؟
أقول هذا وأنا أزهد الناس في هذا اللون من الحياة، لأن الاتصال بالملوك يتطلب ألواناً من التلطف والترفق لا يحسنها رجل مثلي، فلي شمائل تغلب عليها الشراسة والجفوة وتثقلها بداوة الطبع.
ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن الشعراء الذين اتصلوا بالملوك وتفيئوا ظلالهم لم(312/8)
يكونوا في كل حال من ضعفاء النفوس، وإنما كانوا في الأغلب ناساً عقلاء يعرفون روح الزمان
والمرتزقون منهم كانوا انساقوا إلى تلك المزالق بفضل القالة الحسنة التي جعلت الشعر من أطيب ما يشتهي الملوك والخلفاء، فقد مرت أزمان كانت فيها الهبات الرسمية باباً من الشرف قبل أن تكون باباً من المعاش
قد يسهل على الأستاذ أحمد أمين أن يخرج من هذا المأزق بأن يلوذ بما اصطلح الناس عليه في العصر الحديث من الانصراف عن مدح الملوك، ولكنه، إن فعل، سيصطدم بصخرة قاسية، لأن الحكم الأخلاقي مرجعه إلى تصور الدواعي والأسباب، فما نتحرج منه اليوم لم يكن يتحرج منه القدماء، وما قد نعده عيباً كان الأسلاف يعدونه من التشريف
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد أن أنزه تاريخ العرب عن وصمة المعدة، والمعدة ليست وصمة إلا في ذهن الأستاذ أحمد أمين، أمدني الله وإياه بالمعدة القوية لنستطيع مواصلة الجهاد!
آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا
أيرى القارئ أني استطعت إفحام هذا الباحث المفضال؟
لن أُفحمه حتى يشرب صبابة الكأس: (وكل صبابةً في الكأس صابُ). كما قال شوقي
أحمد أمين يقول:
(نرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح. هذا البارودي (رحمه الله) اختار لثلاثين شاعراً من خيرة شعراء الدولة العباسية. . . وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار. فكان ما أختاره من المديح 24185 بيتاً، ومن الأدب 1697 بيتاً، ومن الغزل 4616 بيتاً، ومن الهجاء 1229 بيتاً، ومن الوصف 3993، ومن الزهد 473 بيتاً. ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش: إذ يتبين لنا طغيان أدب المعدة - وهو المديح والهجاء - على أدب الروح، طغياناً كبيراً).
ذلك هو أحمد أمين بقضّه وقضيضه كما كانوا يعّبرون. ذلك هو أحمد أمين الذي يدرس الأدب بالإحصاء، والذي يقيس الدواوين الشعرية بالمتر والباع والذراع.
لقد كنت أحفظ أكثر مختارات البارودي ولم يخطر ببالي أن أعّدها. فهل أستطيع اليوم أن(312/9)
أقول للأستاذ أحمد أمين: (أفادك الله!)
هل بلغت المدائح في مختارات البارودي 24185 بيتاً؟
ذلك (إحصاء) أحمد أمين، ولا موجب لمراجعته لأنه من النوابغ في الإحصاء!
ولكن هل فكر هذا الرجل في (إحصاء) الأغراض المبثوثة في تلك المدائح؟ هل يضنها جميعاً من قبيل: (أنت شمسٌ أنت بدرٌ؟).
ألم يكن أكثرها تسجيلاً لوقائع حربية، ومواسم تشريف؟ هل خطر بباله أن (يُحصي) ما في تلك المدائح من الأوصاف والحِكم والأمثال؟
هل خطر بباله أن يلتفت إلى القصائد التي استوجبت عناية النحاة واللغويين فأمدت اللغة العربية بفيض من الحيوية لا ينضب ولا يغيض؟
أحمد أمين يرى أن محصول المدائح في العصر العباسي أكبر محصول، ويرى محصول الزهد أصغر محصول!
فهل استطاع هذا الرجل أن يستخلص العِبرة من الموازنة بين النسبتين؟
لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن طغيان المديح على الزهد كان من علائم الحيوية في العصر العباسي. فهو الشاهد على أن العرب كانت حياتهم تزدحم بالأخطار الدنيوية. وهو الشاهد على أنهم كانوا أهل نخوة وأريحية. وهو الدليل على أنهم كانوا يحيون حياة تفيض بمعاني الأفراح والأحزان، وتتسم بعلائم القوة والكفاح.
وما كانت الأهاجى أقل قيمة من المدائح في الدلالة على هذه الشؤون.
فالأهاجي كانت في الأغلب تمثل صوت المعارضة السياسية، وكان لها تأثير شديد في كبح الطغيان، وبفضل الأهاجي قلّمت أظفار الاستبداد، وخشي الطغاة بأس القلم واللسان.
وهل تفرّد العرب بالهجاء؟
ألم يكن الهجاء فناً ظاهراً في جميع الآداب الشرقية والغربية؟
وهل خلت الكتب المقدسة من الهجاء حتى نعده من السيئات؟
وما هو الهجاء حتى نحكم عليه ذلك الحكم الجائر؟
ألم يكن صورةً للنفوس التي تغضب وتثور على ما تنكر من ألوان الضمائر والأعمال؟
وكيف نعيش إذا نجونا من ثورة الحب والبغض؟(312/10)
كيف نكون إذا لم نقل للمحسن أحسنت، ولم نقل للمسيء أسأت؟
إن الملائكة يرضون ويغضبون، ويفرحون ويحزنون. وكل ما في الوجود من طبائع وأرواح يدرك معاني الرضا والغضب والابتهاج والابتئاس. فكيف يعاب علينا أن نكون صبحاً يتنفس وليلاً يتمرد، من حين إلى حين.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(312/11)
الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق
للأستاذ بيير فيينو
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ما هي الظروف التي أحاطت بمفاوضات المعاهدة؟
ولنتساءل الآن: ما هي الظروف التي أحاطت بمفاوضات المعاهدة السورية الفرنسية؟
ليست البلاد السورية بلاداً منعزلة في محيط بعيد، ولكنها على النقيض من ذلك تقع في قلب العالم وتخضع لتيارات من التأثيرات العميقة: أهمها سياسة إنكلترا في البلاد العربية المجاورة كمصر والعراق
ومهما يكن شأن تلك السياسة فنحن لا نستطيع أن ننكر أنها ساعدت في مختلف مراحلها على إثارة الشعور العام في البلاد التي تخضع لانتدابنا
وأول ذلك أن إنكلترا وعدت الشريف حسين سنة 1914 بالمساعدة على تأليف الإمبراطورية العربية، ثم إنها اتخذت بعد الحرب سياسة تختلف كل الاختلاف عن سياستنا نحن، فقد عقدت سنة 1930 معاهدة مع العراق كانت نهاية للانتداب البريطاني وفاتحة لانتظام العراق في سلك جامعة الأمم. وفي سنة 1935 بدأت مفاوضاتها مع مصر لعقد معاهدة صداقة وتحالف. . . وما من شك في أنه كان لهذه السياسة أثر كبير في سوريا التي كانت ترقب مجرى الحادثات في غليان وقلق
وقد أثبت ذلك سلسلة الوقائع المتأخرة، ففي 10 يناير 1936 قرر الحزب الوطني اتباع سياسة سلبية مطلقة وإعلان الإضراب العام إلى أن تجاب مطالب سوريا في الوحدة والاستقلال. وضم الإضراب سلسلة من المآسي وأسفر عن 60 قتيلاً ومئات من الجرحى، واضطر مندوبنا في سوريا مسيو (دومارتل) أن يستشير وزارة الخارجية، وكان على رأسها المسيو فلاندان فأشار بفتح باب المفاوضات مع وطنيّ سوريا
وقد انبثق عن هذه المفاوضات بين زعماء الحركة الوطنية وبين المفوض السامي تصريح أول مارس سنة 1936 الذي نص على وجوب عقد معاهدة في باريس بين وزارة الخارجية ووفد مفاوض تنتخبه البلاد، على ألا تقل هذه المعاهدة عن معاهدة إنكلترا(312/12)
والعراق
ولا شك أن هذا التصريح كان يحمل طابع الضعف، لأنه صدر إثر تهديد شعبي قوي لم تتمكن الإدارة الفرنسية من أن تصمد له، ولكنه مع ذلك ضروري لازب، لأنه كان على فرنسا أن تختار بين العناد والمقاومة وبين الاتفاق والمسالمة - كما أبرق بذلك المندوب السامي في فبراير 1936 - وطبيعي جداً ألا تزج فرنسا بنفسها في مغامرة جديدة بعد تجربة الثورة السورية الكبرى فضلاً عن أنها ترغب في أن تفي بوعودها المتقدمة
ولقد وجهت بعض الاعتراضات على انتخاب أعضاء الوفد المفاوض، ولكن الواقع يضطرني إلى أن أقول إن هؤلاء الوطنيين المفاوضين هم الذين ناضلوا في سبيل بلادهم، وإنهم كانوا مصدر الصعوبات التي وجدناها في سوريا، وإن فشل معاهدة سنة 1933 أظهر في كثير من الجلاء ضرورة التعاون مع الجماعات الوطنية للوصول إلى تعاقد مُرضٍ حاسم
يقولون إن رجال الوفد المفاوض ليسوا أصدقاءنا - ولكنه قول خاطئ - لأن خصومة الانتداب لا تعني بالضرورة خصومة فرنسا
ولنسلم جدلاً أن ذلك صحيح، أو ليست السياسة أن يسالم الرجل أعداءه لا أصدقاءه؟
المعاهدة
لقد كان الغرض الرئيسي من التعاقد استبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدتين مع سوريا ولبنان. وابتدأت المفاوضات في منتصف شهر مارس، وكانت تقتضي منا أن نوجه انتباهنا إلى كل ما يجري حولنا. . . ففلسطين كانت تخوض غمرات ثورة حمراء كنا نخشى أن يمتد لهيبها إلى سوريا، وفي المغرب تتماوج الاضطرابات العنيفة ضد فرنسا عند كل بلبلة في الشرق الأدنى، ولهذا لم يكن في وسعنا أن نقف في المفاوضات موقف الآمر الناهي؛ وإنما كنا نستمع إلى جلسائنا ونناقشهم ونجادلهم وسأبدؤكم بالحديث عن المعاهدة السورية:
لقد كان تصريح أول مارس مؤكداً لاستقلال سوريا، أما المعاهدة فتصرح أن هذا الاستقلال يتحقق في انتساب سوريا إلى جامعة الأمم كما تشترط فترة انتقال تمتد ثلاث سنوات تمتحن فيها مقدرة السوريين على الإدارة والحكم.
على أن أطراف المشكلات التي اعترضت المفاوضات مشكلة العلاقات السورية اللبنانية؛(312/13)
ويهمنا كفرنسيين أن يبقى لبنان في نجوة من طغيان الوحدة السورية.
ومع هذا فيجب أن نقرر أن الوطنية السورية تجد في لبنان عناصر مؤيدة فعالة؛ وذلك أن عدد سكان لبنان 850. 000 أكثرهم من المسيحيين، ولكن بعض المدن مثل طرابلس التي تنتهي فيها أنابيب بترول الموصل مسلمة كلها. وقد أثبتت التجارب أن من الصعب أثناء الاضطرابات والقلاقل السياسية أن تحول السلطات دون ظهور الشعور الفعال في الأطراف الأخرى. . .
ولقد عرفنا ذلك 1920 - 1921 في لبنان الجنوبي ومنطقة العلويين؛ وفي سنة 26 كان اتحاد الدروز مع وطنيّ دمشق مثلاً رائعاً لهذه الألفة. وفي يناير 1936 خضعت طرابلس المدينة اللبنانية إلى حركات الوطنيين في دمشق فشاركت في الإضراب العام. ومن هنا ظهرت لنا ضرورة العناية باستقلال لبنان وانفصاله لما له من أهمية رئيسية بالنسبة إلى فرنسا
ولقد كانت المفاوضات في هذه الناحية - ناحية العلاقات بين سوريا ولبنان - صعبة عسيرة، ولكنها انتهت أخيراً إلى عزلة كل من البلدين عزلة كاملة؛ لأننا عارضنا بقوة وشدة كل محاولات طغيان سياسي أو اقتصادي سوري على لبنان
أما مستقبل العلاقات بين فرنسا وسوريا، فقد كانت مدة التعاقد التي نصت عليها المعاهدة خمسة وعشرين عاماً تقوم سوريا خلالها باستشارة فرنسا في الأمور المشتركة بين البلدين
وأما الناحية العسكرية فقد سويت في ملحق خاص واعترضها بعض العقبات الكثيرة التي استطعنا أن نتغلب عليها بفضل مهارة المفاوض السوري ومرونة خلقه السياسي
ويختلف الملحق العسكري في المعاهدة السورية عن الملحق العسكري في المعاهدة العراقية - الإنكليزية، التي تنص على بقاء قاعدتين جويتين لسلاح الطيران الإنكليزي، وعلى تحديد مناطق النفوذ البريطاني، بينا يمتاز الملحق العسكري للمعاهدة السورية بأنه يدع مناطق النفوذ من غير تحديد ويترك لفرنسا حق الاحتفاظ بمركزين لجيوشها في مقاطعتي العلويين وجبل الدروز
أما حماية الحقوق والمصالح الفرنسية فمن الطبيعي أن نقول إن المعاهدة صانت هذه الحقوق في نصوص واضحة، ولا سيما ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية والحقوق المكتسبة(312/14)
للأشخاص الماليين والفنيين، وتعهدت بالإبقاء على نظم المؤسسات العلمية الحاضرة وبعثات الحفريات ومعاهد الدراسة الأجنبية؛ ونصت كذلك على استخدام ثمانين مستشاراً فرنسياً في نواحي الإدارة. وقد كان هذا كله ضرورياً من أجل البلاد التي انتشرت فيها ثقافتنا بفضل البعثات التبشيرية واللادينية
هذا فيما يتعلق بالمعاهدة السورية، أما عن المعاهدة اللبنانية فأستطيع أن أقول إنها نسخة ثانية من المعاهدة السورية، ولكنها تمتاز بأن مدة التحالف التي حددت بـ 25 سنة في المعاهدة السورية يمكن تجديدها ثانية في المعاهدة اللبنانية لمدة مساوية؛ وأن القواعد العسكرية لا تخضع لحدود معينة في التمركز والتنقل والمناورات.
وأخيراً قد استطعنا بواسطة هذا النظام الجديد أن نوطد مقامنا في لبنان وأن نثبت أركانه.
تلخيص
شكري فيصل(312/15)
في بلاط الخلفاء
بين المازني والواثق والمتوكل
للأستاذ علي الجندي
لم تر البصرة بعد سيبويه من كان أعلم بالنحو وأحسن استنباطاً لمسائله، وتخريجاً لعلله من أبي عثمان بكر بن محمد المازني نسباً أو ولاءً على الخلاف في ذلك
ولم يشأ المازني أن يقصر همّه على قواعد النحو الجافة، شأن كثير من رجالات البصرة، بل أراد أن يكون وسطاً بين سيبويه والأصمعي، فاتجه إلى تحصيل اللغة والأدب برغبة صادقة، فأخذ عن أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأخفش والأصمعي، حتى صار إمام عصره، وحتى كان من تلاميذه المبردُ وعبد الله بن سعد الورّاق وغيرهم من كواكب العربية الساطعة
وكان - إلى تمكنه في النحو واللغة والأدب - على حظ عظيم من قوة اللّسن، وخلابة المنطق، وبراعة الاحتجاج، فما تعرّض لمناظرته أحدٌ إلا افتضح، لدقة مسلكه في الجدل، وامتلاكه مذاهب القول، وتصرّفه في ألوان البيان
وقد ناظر أحد شيوخه الأخفش في مسائل عدّة، فقطعه وتركه ساقطاً مغلّباً!
ولم ينس المازني نصيبه من الشعر فنظمه على قلة. ولشعره حلاوة، وعليه ماء ورونق، وإن لم يخرج في جملته عن نطاق شعر النحاة والفقهاء والمعلمين الذين يعتمدون على حسن الرصف وإبداع الصياغة أكثر من اعتمادهم على الخيال الموشى والتصوير البارع
فمن أبياته السائرة قوله في الحكم:
ثِنْتان يعجِز ذو الرياضة عنهما ... رأيُ النساء وإمْرة الصّبيان
أما النساء فإنهن نواشز ... وأخو الصِّبا يجري بكل عِنان
وله تعزية حسنة لبعض الهاشميين تفيض سلوى وتأساء على الكبد المقروحة والقلب الصديع، لما انطوت عليه من الذكرى النافعة، والحكمة البالغة التي تقود النفوس طيعةً إلى التسليم بقضاء الله وقدره. قال:
أني أعزيك، لا إني على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
ليس الُمعَزَّى بباقٍ بعد ميِّته ... ولا المعزِّّى وإن عاشا إلى حين(312/16)
وكان المازني يمنح نفسه حرية المتشرع في فهم المسائل وإدراكها على الوجه الذي يسوغ في الذوق والعقل دون التعبد بآراء السلف. ومن أثر ذلك: تفسيره للحديث المشهور (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) بأن المراد منه: إذا كان الفعل الذي تريد إتيانه لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت. وهو رأي حسن لم يسبق إليه
ولهذا الاستقلال الفكري الذي عرف به، كان المبرّد يقول: ما رأيت نحوياً أشبه بفقيه من المازني!
وللمازني رأي غريب في جماعة المشتغلين بالعلوم يحسن أن نورده لطرافته ولدلالته على شغف الرجل بدراسة أخلاق الناس، ودقة فطنته إلى ما يتمايزون به من صفات. يقول: - وقد سئل عنهم - أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأصحاب الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار: الظرف كله. والعلم: هو الفقه
وقد يكون المازني جانب الصواب في بعض هذه الأحكام، ولكنه قد صدق على الأقل في حكمه على النحويين!
ومن نوادره السائغة قوله: مررت ببني عقيل فإذا رجل أسود قصير أعور أبرص أكشف قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق منه، ويتغنى بأعلى صوته:
فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي ... فمثلك موجود ولن تجدي مثلي
فقلت له: صدقت. ومتى تجد - ويحك - مثلك؟! فقال: بارك الله عليك! واسمع أخيراً. ثم اندفع يغني:
يا ربة المِطْرف والَخلخال ... ما أنت من همي ولا أشغالي
مثلك موجود ومثلي غالي
ويمتاز المازني بسمة واضحة عرف بها شيخ شيوخه الخليل ابن أحمد، وهي القناعة بالكفاف، والميل إلى العزلة والانفراد، والأنفة من التكسب بالعلم، وإيثار البعد عن الخلفاء وحاشيتهم والزهد في احتجان جوائزهم وصلاتهم ما لم يتقدموا بأشخاصه إليهم رغبة في الاستفادة منه، فيصدر عنهم معزّزاً مكرماً.
ومع أنه من المتعارف لدى الناس أنه قلّما يكون النحوي دّيناً. فقد كان المازني ثقة في دينه(312/17)
صدوقاً، كثير التزمت والورع، وإن كان منحرفاً عن أهل السنة إلى المعتزلة، ولهذا كان يلقى جفوة من أستاذه الأصمعي السنّي المتشدد فقلّت روايته عنه. وقد بلغ من زهده أن يهودياً بذل له مئة دينار ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك! فقال له تلميذه المبرد: جُعلت فداك! أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فكان جوابه: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ، ولست أرى أن أمكّن منها يهوديّاً غيرةً على كتاب الله وحمية له.
ونرجو أن يثاب المازني على حسن نيته، وإن كنا لا نقره على هذه العصبية. ومهما يكن من شيء فإنه لم تمض غير برهة قصيرة حتى أرسل الخليفة الواثق في طلبه ونفحه بالأعطيات السنية، فعدّ الناس ذلك إكراماً من الله له وإخلافاً عليه.
أما سبب طلب الواثق له فقد حدث أن مخارقاً غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي.
أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهْدَى السلامَ تحيةً ظُلْمُ
فذهب بعض الحاضرين إلى نصب (رجل)، ورأى آخرون رفعه، واشتد اللجاج في ذلك، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين فذكروا له المازني، فتقدم بحمله وإزاحة علله وإحسان تجهيزه ليفصل في هذا الخلاف.
وقد يتساءل بعض القراء: ما شأن الواثق بالنحو، وما قيمة رفع (رجل) أو نصبه حتى يزعج المازني من البصرة، ويعقد لذلك مجلساً من القضاة والمحكمين؛! والجواب: أن الواثق كان من أجلّ الخلفاء وأكثرهم اشتغالاً بالعلم والأدب وأطبعهم على قول الشعر الرقيق، وأبصرهم بالنقد، وأشدهم تمحيصاً للرواية وأميلهم للغناء. ولولا خشية الإطالة لجلونا ناحية من نواحيه الأدبية المشرقة ليعرف الناس كيف كان خلفاء هذا الزمان!
بلغ المازني دار السلام فأدخل إلى الواثق. فقال له: ممن الرجل؟ قال: من مازن. قال: من مازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟ قال: من مازن ربيعة.
وكانت اللغة الفاشية في مازن ربيعة قلب الميم باءً والباء ميماً. فقال الواثق يخاطبه بلغته بسطاً لنفسه وإدخالاً للأنسة عليها: باسمك؟ يريد: ما أسمك؟!
وهنا تتجلى لباقة المازني وسلامة ذوقه ورفاهة حسه وحسن تأتيه في مخاطبة الخلفاء؛ وأحسبه لو كان نحوياً فقط لارتطم في الهوّة، ولكن ذوقه المكتسب من معاناة الأدب فتق له(312/18)
عن وجه الحيلة في الخروج سالماً من ورطة دفعته إليها دُعابة الواثق من غير قصد.
لقد عرفنا أن اسم المازني (بكر) والجري على مقتضى القياس في القلب أن يقول: اسمي (مكر) ولكن كيف يرضى المازني الأريب أن يقذف في وجه الخليفة بهذه الكلمة الكزّة الجاسية؟
رفع المازني رأسه إلى الخليفة قائلاً: اسمي بكر، يا أمير المؤمنين
رفّت هذه الكلمة رفيفاً نديّاً على كبد الواثق، واستنار منها وجهه واستضحك لها! وعرف أن هذا الذي يقف بين يديه رجل فيه كيس ودراية، وله طبع مهذب مصقول. فقال (مستمراً في مفاكهته): اجلس فاطبئن. أي فاطمئن
ويجب ألا ننسى بهذه المناسبة أننا في العصر العباسي، حيث ورفت ظلال الحضارة ولان العيش وفشا النعيم واستفاض الظرف ورقت حواشي الأخلاق، وارتفعت مقاييس الأذواق، فكلمة ناعمة منضورة أمام خليفة أو وزير قد تنبّه من شأن قائلها وتحله منازل السعادة! وربّ كلمة حوشية جافية تهوى به إلى أسفل سافلين!
خذ لذلك مثلاً ما حدثوا به من أن مؤدب الرشيد كان عند والده المهدي (وهو يستاك) فقال له: كيف الأمر من السواك؟ فقال: اسْتك يا أمير المؤمنين. فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون! التمسوا لنا من هو أفهم من هذا. فقالوا له: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريباً. فكتب بإحضاره، فساعة مثل بين يديه قال له: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سُك. قال: أحسنت وأصبت وأمر له بعشرة آلاف درهم!
وقد حرم الأصمعي التوفيق في بعض مواقفه مع الرشيد على علمه وفضله فقد سأله عن مسألة، فأجاب: على الخبير بها سقطت! فقرعه الوزير يحيى بن خالد ونسبه إلى السوقة والأغتام!
على حين فطن لها أبو أحمد العسكري - وقد سأله الصاحب ابن عباد، فقال: الخبير صادفت. فقال الصاحب: يا أبا أحمد تُغرب في كل شيء حتى في المثل السائر! فقال: تشاءمت من السقوط بحضرة مولانا، وإنما كلام العرب: على الخبير بها سقطت
لهذا نَبُل المازني في نفس الواثق وحليّ في عينه، لأنه توسم فيه سجاحة الخلق وسلاسة(312/19)
الحاشية ودقة الفطنة. وما زال الناس يستدلون بحديث المرء على دخيلة نفسه وصحيفة لبه ومبلغ تهذيبه وثقافته
ولنعد إلى ما انقطع من الحديث، فنقول: إن الواثق سأله عن البيت المتقدم فقال: الوجه النصب، لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيدي النحوي يعارضه. فقال المازني: هو بمنزلة: إن ضربك زيداً ظُلمٌ. فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه: أن الكلام معلق إلى أن نقول: ظلم، فتتم الفائدة
فأعجب الواثق بهذا الفقه الدقيق. فقال: صدقت. ثم أردف قائلاً: ألك ولد؟ قال: بنت لا غير. قال: فما قالت لك حين ودعتها؟ قال: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيل ... أرانا بسوء كمن قد يتم
أبانا فلا رِمْتَ من عندنا ... فإنا بخير إذا لم تَرِمْ
فقال الواثق: كأني بك وقد أنشدتها قول الأعشى أيضاً:
تقول بنتي وقد قرّبتُ مُرْتحلاًِ ... يا رب جنّب أبي الأوصابَ والوجعا
عليك مثل الذي صلّيت فاعتصمي ... يوماً، فإن لجنب المرء مُضَّجَعا
ولا ندري أقال المازني لابنته هذا الشعر أم لم يقله؟ ولكن ذوقه الذي كشفنا جانباً منه أبي إلا أن يصدق ظن الخليفة.
فقال: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك وزدتها عليه قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال الواثق: ثق بالنجاح إن شاء الله.
وخطر للواثق أن يكل إليه امتحان معلمي أولاده فقال له: إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان عالماً ألزمناه إياهم، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. وقد امتحنهم المازني فلم يجد فيهم طائلاً. فجزع المعلمون المساكين، وأيقنوا بالشر. ولكن المازني كان له دين يعصمه من قطع أرزاق الناس، فقال لهم: لا تُراعوا. ثم مضى إلى الخليفة. فقال له: كيف رأيت؟ فأجاب بجواب أبرأ بة ذمته وخلص منه إلى غرضه. قال: رأيتهم يفضل بعضهم بعضاً في أمور، ويفضل الباقون في غيرها، وكلٌ يُحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً فكان غايةً في الجهل خطاباً ونظراً! فقال المازني: يا أمير(312/20)
المؤمنين أكثر من تقدّم من المعلمين بهذه الصفة! وقد قلت فيهم:
إن المعلم لا يزال مضعفاً ... ولو ابتنى فوق السماء بناَء
من علم الصبيان أضنوْا عقله ... مما يلاقي بُكْرة وعشاء
فاهتز الواثق طرباً وقال: كيف لي بقربك؟ فقال المازني: يا أمير المؤمنين، إن الغنم لفي قربك والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضُرُ بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال الواثق: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقال: السمع والطاعة.
وقد أمر له الخليفة بألف دينار، وأجرى عليه في كل شهر مئة، فانصرف إلى البصرة موطنه، وظلت تجري عليه الوظيفة حتى مات الواثق فقطعت عنه.
وقد ذُكر المازني للمتوكل فاستدعاه، فدخل إليه وقد جلس وزيره وصفيه الفتح بن خاقان بين يديه، وحفّت به كوكبة من فتيان الأتراك مدججين بالسلاح فهاله ما رأى من روعة الحضرة وأبهة البلاط، وكثرة العدد والعُدد، فطارت نفسه شعاعاً، وانتشر عليه فكره، وخشي أن يسأل فلا يسعفه الجواب لما داخله من الهيبة. فحين سلّم على الخليفة، ابتدر قائلاً: يا أمير المؤمنين أقول كما قال الأعرابي:
لاتَقْلُوَاها وادْلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غَدْوا
ولم يكن المتوكل كالواثق في ثقافته العربية فلم يفهم ما أراد المازني، فاستُبرد وأُخرج. ولكن المتوكل لم يستغن عنه، فعاد فاستدعاه وقال له: أنشدني احسن مرثية قالتها العرب:
فقال المازني قول أبي ذؤيب الهزلي:
أمن المنون وريبها تتوجع
وقول كعب الغنوي:
تقول سليمي ما لجسمك شاحبا
وقول متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك
وقول محمد بن مناذر:
كل حي لاقى الحمام فمودي(312/21)
وهذه القصائد من الشرّد السائرات في الشعر العربي، وبخاصة قصيدة متمم في أخيه مالك التي كان يسميها الأصمعي أم المراثي! ولكن المتوكل لم يطرب إلى واحدة منها، فكان كلما سمع قصيدة قال ليست بشيء!
ثم قال المتوكل: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قال المازني: عبد الصمد بن المعذّل. قال: فأنشدني له
ولم يشأ المازني أن يُقل عليه بالشعر الجزل الرصين، فأنشده أبياتاً قالها ابن المعذل في قاضي البصرة ابن رباح:
أيا قاضية البصرة (م) ... قومي فارقصي قَطْره
ومرّي بِرَوْيسيجٍ ... فماذا البرد والفتره
أراك قد تثيرين ... عجاج القصف يا حرّه
بتجذيفك خديك ... وتجعيدك للطره
وهذا الشعر من السخف والغثاثة والثقل بمكان! والمتوكل شاعره البحتري أولى من استحق لقب شاعر على الإطلاق، فكان من المظنون ألا يطرب لهذا الشعر البارد المخشوب، ولكن من العجب أنه استطير له ومالت به النشوة كل مميل فوصل المازني بجائزة سنية!
وعرف المازني من ذلك أن المتوكل يستروح إلى الشعر المهلهل النسج، القريب الغور، من مثل المقطعات الرقيقة في الأهاجي والمجون والدعابات والإخوانيات، فكان يتكلف أن يحفظ له من ذلك الشيء الكثير، فينشده إياه إذا استدعاه، فيغمره بالخلع، ويملأ يديه بالصفراء والبيضاء! والسلطان سوق يحمل إليه ما ينفق عنده. وقد توفي المازني سنة ثمان وأربعين أو تسع وأربعين بعد المائتين عن ثروة ثمينة من التآليف الحسان في عدة فنون. نضر الله وجهه وأجزل مثوبته!
علي الجندي(312/22)
دراسات إسلامية
الزندقة في الإسلام
للأستاذ عبد الرحمن بدوي
للزندقة في الإسلام تاريخ شائق، عنى المستشرقون بدراسته عناية شديدة، فكتبوا فيه الرسائل القصيرة أو المقالات الطويلة المستفيضة التي تظهر باستمرار وأغلب ما فيها جديد طريف. ولكنهم لم يبلغوا من هذا كله شأواً بعيداً، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يلقوا ضوءاً قوياً ساطعاً على أغلب نواحيه
عنوا بدراسة هذا التاريخ لأنه بدون إيضاحه وتعمقه لن نستطيع أن نفهم كيف نشأت بعض النظريات في علم الكلام بل بعض المذاهب الكلامية التي ازدهرت خصوصاً في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إذ أن الكثير من نظريات مذهب كمذهب المعتزلة لا يمكن أن يفهم بدون معرفة هذه الخصومات الكثيرة العنيفة التي كانت تقوم بين كبار المعتزلة وبين الزنادقة، والتي كان يثيرها هؤلاء الأخيرون فيضطر أصحاب الاعتزال إلى أن يتخذوا موقفاً بازائها خاصاً. حتى أنه لو أتيح لنا أن نبحث في تكوين النظريات المختلفة التي يشتمل عليها مذهب المعتزلة بحثاً دقيقاً، يتابع تطوره ويرسم المنحنى الذي عليه سار، إذن لوجدنا للزندقة أكبر الأثر وأعظم الخطر في هذا التكوين
كما لا نستطيع أن نفهم أيضاً تلك الحركة السياسة الحضارية الخطيرة التي ظهرت خصوصاً في أوائل حكم العباسيين، وأعني بها حركة الشعوبية. ودون أن نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في كتاب (حديث الأربعاء) من إرجاع حركة الزندقة كلها أو معظمها إلى حركة الشعوبية، نستطيع أن نؤكد على أقل تقدير أن بين كلتا الحركتين صلة قوية شديدة، حتى كان بعض أنصار العربية ضد الشعوبية يتخذون من الشعوبية وسيلة للدلالة على الزندقة كما سنرى بعد حين
وإلى جانب هذا كله لا يمكن أن ندرك التطور الروحي في بلاد الإسلام والحياة العقلية عامة على حقيقتهما، إلا إذا نظرنا إلى حركة الزندقة باعتبارها عاملاً من أخطر العوامل التي لعبت دورها في ذلك التطور وهذه الحياة، فسيرت الأول في اتجاه معين وحددت له خطوطاً رئيسية مشى فيها؛ وكيّفت الثانية تكييفاً معيناً وصبغتها بصبغة خاصة لم تبهت(312/23)
على مر الزمان
فلهذه الأسباب كلها ولغيرها من الأسباب وجه المستشرقون عنايتهم إلى هذه الدراسة؛ ولكن دراستهم هذه لا تزال حتى اليوم ناقصة، فيها الكثير من التشويه واللبس. وذلك راجع إلى أن تاريخ الزندقة في الإسلام موضوع غامض كل الغموض، مضطرب كأشد ما يكون الاضطراب، يشق علينا كثيراً - الآن على اقل تقدير - أن نتبينه في وضوح وان نتمثله في جلاء
فلفظ (زنديق) لفظ غامض مشترك قد أطلق على معان عدة، مختلفة فيما بينها على الرغم مما قد يجمع بينها من تشابه. فكان يطلق على من يؤمن بالمانوية ويثبت أصلين أزليين للعالم: هما النور والظلمة. ثم اتسع المعنى من بعد اتساعاً كبيراً، حتى أطلق على كل صاحب بدعة وكل ملحد. بل انتهى به الأمر أخيراً أن يطلق أيضاً على من يكون مذهبه مخالفاً لمذهب أهل السنة، أو حتى من كان يحيا حياة المجون من الشعراء والكتاب ومن إليهم. وقد كتب الأستاذ هانز هينرش شيدر فصلاً ممتعاً عن أصل هذا اللفظ واستعماله عند الكتاب غير الإسلاميين وجمع الأستاذ ماسينيون معاني اللفظ كما استعمله الكتاب الإسلاميون في البحث الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة (زنديق) وفي كتابه عن (عذاب الحلاّج). ويظهر من هذين البحثين أن اللفظ قد اتسع معناه إلى حد لا يسمح بتحديده تحديداً دقيقاً مما يحملنا على الحذر والانتباه الشديد للمعنى المقصود به في السياق الذي نجده فيه
ثم إن المصادر التي تحدثنا عن الزندقة والزنادقة قليلة غير مأمونة. وهذه القلة إما لأن كتب الزنادقة قد فقدت كلها تقريباً، ولم يعد بين أيدينا منها إلا شذرات ضئيلة نعثر عليها بعد عناء طويل في كتب الردود، مثل هذه الشذرات التي عثر عليها الأستاذ كراوس في كتاب (المجالس المؤيدية) وهي شذرات لابن الراوندي مأخوذة من كتابه (الزمرذ) قد رد عليها داعي الدعاة مؤيد الدين الشيرازي في هذه المجالس الموسومة باسمه؛ أو لأن بعض المصادر التي تحدثنا عن الزندقة والزنادقة لا تزال مخطوطة حتى اليوم فليست في متناول يد الباحثين. وأهم المصادر من هذا النوع كتب الشيعة مثل كتاب (الاحتجاج) للطبرسي
كما أنها غير مأمونة من ناحيتين: الأولى أن الروايات المكتوبة في بعضها لم يتحر(312/24)
أصحابها الدقة في إيرادها، فجاءت في الغالب مهوشة ناقصة. والثانية أن البعض الآخر من هذه المصادر، وهو أغلبها، قد كتبه الخصوم وأوردوا فيها آراء الزنادقة بعد أن أدخلوا عليها شيئاً غير قليل من التبديل والتغيير، بما يوافق أغراضهم في الخصومة والحجاج، ومما يتلاءم مع الإلزامات التي يريدون أن يستلخصوها منها. ولهذا يصعب على الباحث أن يتبين أقوال الزنادقة الحقيقية وأن يعرف كيف كانوا يوردونها
ومن أجل هذه الصعوبات مجتمعة كان الباحثون من المستشرقين يقتصرون على دراسة ناحية صغيرة من نواحي الزندقة، أو واحد من كبار الزنادقة الذين يستطيعون أن يجدوا منهم في المصادر شيئاً. ولم يستطع واحد منهم حتى هذه الأيام الأخيرة أن يكتب بحثاً شاملاً لهذه الحركة يتناولها من جميع نواحيها
فعن صالح بن عبد القدوس ألقى جولد تسيهر بحثاً قيماً في المؤتمر الدولي التاسع للمستشرقين سنة 1893. ثم من بعده كتب ا. كريمسكي رسالة صغيرة (في 65 صفحة) بالروسية عن أبان ابن عبد الحميد اللاحقي طبعت في موسكو سنة 1913. وكان ابن المقفع خصوصاً موضوعاً لدراسات عدة أشهرها ما كتبه عباس إقبال في كتابه (شرح حال عبد الله بن المقفع، فارسي) وهو مكتوب بالفارسية؛ ثم فرنشسكو جبرييلي في مقاله المنشور (بمجلة الدراسات الشرقية) سنة 1932 بعنوان (مؤلفات ابن المقفع) وهو أحسن بحث كتب عن ابن المقفع حتى الآن. وقد أثار بحثين آخرين كتب أولهما كارلو ألفونسو نلينو في المجلة نفسها بعنوان (تعليقات على ابن المقفع وابنه) وكتب الثاني الأستاذ بول كراوس في المجلة عينها سنة 1933 تحت عنوان (حول ابن المقفع) وقد ترجمنا هذه البحوث الثلاثة وربما أتيحت لنا فرصة قريبة لنشرها أو للتحدث عنها. وبعد أن كتب جبرييلي مقاله ظهر بحث عن ابن المقفع كتبه رشتر وكانت أفكاره فيه أجرأ وأصرح من أفكار جبرييلي في مقاله
ونحن قد أشرنا من قبل إلى المقال الذي كتبه الأستاذ كراوس عن ابن الراوندي بمناسبة الفقرات التي عثر عليها في (المجالس المؤيدية) مأخوذة من كتاب (الزمرذ) لابن الراوندي. وهو مقال طويل (في ثمانين صفحة) مملوء بالمعلومات؛ وهو حتى الآن أحسن بحث كتب عن ابن الراوندي، وقد ترجمناه أيضاً(312/25)
وأخيراً كتب الأستاذ فرنشسكو جبرييلي: (تعليقات على بشار بن برد) ظهرت في مضبطة مدرسة الدراسات الشرقية سنة 1937.
وكل هؤلاء الباحثين لم يحاول واحد منهم حتى الآن أن يكتب عن حركة الزندقة كلها كما ظهرت في الإسلام. ولكن بين يدي الآن فصل ممتع كتبه الأستاذ جورج فيدا سنة 1935 ولم ينشر إلا في سنة 1937 في (مجلة الدراسات الشرقية) أراد فيه أن يدرس تاريخ الزندقة الظاهري - إن صح هذا التعبير - دون التعرض للمناظرات التي قامت ضد الثنوية والمانوية ولما عسى أن يكون هناك من أثر للمانوية في الحياة الفكرية في ذلك العصر (أوائل العصر العباسي)، معتمداً في ذلك على المصادر التاريخية الخاصة باضطهاد الزنادقة، وبأشهر الزنادقة في خلافة العباسيين الأول. وأول هذه المصادر وأهمها كتاب (الفهرست) ويليه كتاب (الأغاني). ثم كتب التاريخ الكبرى مثل: (تاريخ الطبري) و (مروج الذهب).
بدأ الأستاذ فيدا بحثه بأن أورد في القسم الأول منه الفقرات الموجودة في كتاب (الفهرست) لابن النديم، وبعضها خاص بتاريخ المانوية في بلاد الإسلام واختلافهم حول الإمام بعد ماني، واضطهاد كسرى لهم وتشتتهم في البلاد وأسماء رؤسائهم. والبعض الآخر من هذه الفقرات يتعلق بالمتكلمين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، وبأسماء الرؤساء والأمراء الذين اتهموا بالزندقة في أيام العباسيين.
وفي القسم الثاني تحدث صاحب المقال عن اضطهاد الزنادقة اضطهاداً رسمياً في أيام الخلفاء العباسيين الأول. فقال: إن المصادر لا تسمح لنا بتتبع هذا الاضطهاد إلا في الفترة القليلة التي مضت بين سنة 163هـ إلى سنة 170 هـ أي في السنوات الأخيرة من خلافة المهدي وإبان خلافة الهادي القصيرة الأجل.
ففي سنة 163 بدأت حملة المهدي العنيفة على الزنادقة بأن أمر عبد الجبار المحتسب، والذي يلقبه صاحب الأغاني بلقب (صاحب الزنادقة) بالقبض على كل الزنادقة الموجودين في داخل البلاد. فقبض على من استطاعوا القبض عليه، وأتوا به إلى الخليفة الذي كان حينئذ في دابق؛ فأمر بقتل بعضهم، وتمزيق كتبهم. واستمر الحليفة في هذا الاضطهاد في السنوات التالية، حتى بلغ الاضطهاد غايته في الفترة ما بين سنة 166 هـ وسنة 170(312/26)
هـ. وكان يقوم على أمر هذا الاضطهاد قضاة مخصوصون، أشهرهم: عبد الجبار الذي ذكرناه آنفاً، وعمر الكلوزي الذي عين في سنة 167، ثم محمد بن عيسى حمدويه الذي خلف عمر.
وكان الزنادقة يقبض عليهم لأقل شبهة ويأتون أمام القاضي فيطلب إليهم أن يرجعوا عن الزندقة إن اعترفوا بها ويطلق سراحهم إن رجعوا عنها ويقتلون إذا استمروا عليها ورفضوا الخروج عنها.
ولكي يتأكدوا من أنهم رجعوا عن الزندقة حقاً كان الخلفاء يستخدمون وسائل شتى أشهرها تلك التي يروون عن القضاة في عصر المأمون أنهم كانوا يستخدمونها، فهم يذكرون عنهم أنهم كانوا يطلبون إلى الزنديق أن يبصق على صورة ماني، وأن يذبح طائراً بحرياً اسمه التزرج. أما البصق على صورة ماني فالمقصود به تحقير صاحب مذهب المانوية وهو ماني، وهذا دليل على أن الزنديق قد رجع عن هذا المذهب؛ أما الحكمة في ذبح هذا الطائر فلا تكشف عنها المصادر التي بأيدينا. ولكن مؤلف المقال الذي نحن بصدده يقول بأن المقصود بذلك هو أن يفرض على الزنديق أن يذبح كائناً حياً، وذبح الحيوانات تحرمه المانوية. ولا بد لنا من قبول هذا التفسير لأن كل المصادر التي تحدثنا عن المانوية لا تذكر مطلقاً أن المانوية كانوا يقدسون طائراً بعينه، سواء أكان هذا الطائر التزرج أو كان غيره. وقد حدث مثل هذا في أيام محاكم التفتيش سنة 1239 مع طائفة الكاتار التوسكانيين فقد طلب إليهم بحضور البابا جورج الرابع أن يبرهنوا على إخلاصهم في الارتداد بأن يأكلوا اللحم أمام جمع من الأساقفة
ولم يكن كل هؤلاء الذين يتهمون بالزندقة زنادقة حقاً؛ وإنما كان منهم من يتهم بالزندقة لأسباب سياسية. فقد اتخذ الخلفاء من هذا الاتهام وسيلة للقضاء على خصومهم من الهاشميين. وعلى هذا النحو اتهم ابن من ابناء داود بن علي ثم يعقوب بن الفضل وأتى بهما إلى الخليفة المهدي. ولما كان الخليفة المهدي قد ارتبط من قبل بعهد ألا يقتلهما، فانه لم يستطع أن يأمر هو بقتلهما، وإنما حبسهما وأشار إلى ابنه الهادي أن يقتلهما حينما يتولى الخلافة، ولكن الهادي لم يستطع أن يقتل غير يعقوب، لأن ابن داود بن علي مات في سجنه قبل أن يشغل الهادي مركز الخلافة.(312/27)
ولسنا نعرف على وجه التحقيق ماذا كان يوجه إلى الهاشميين من تهم. وكل ما ترويه لنا المصادر هو ما يرويه لنا الطبري (أخبار سنة 169 جـ 3 ص 549) وما لخصه عنه ابن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول) (ص 221) من أن ابنة يعقوب بن الفضل قد اعترف أثناء محاكمتها بأنها حبلى من أبيها! والمانوية تحلل زواج الآباء بالبنات في الروايات الإسلامية.
ولم يقتصر الأمر على الخلفاء في اتهامهم الخصوم بالزندقة لأغراض سياسية، بل كان هناك من الوزراء من يتخذون الاتهام - الباطل غالباً - بالزندقة سبيلاً للكيد والوقيعة بنظرائهم أو خصومهم الذين يحقدون عليهم. ومن هنا نستطيع أن نفهم تلك الرواية التي ذكرها الطبري (ج 3 ص 490) ثم الجهشياري في (كتاب الوزراء والكتاب) (ص 89 - ص90)، ثم صاحب الأغاني وغيرهم، عن اتهام أبناء أبي عبيد الله الوزير بالزندقة. فقد اتهم الربيع صاحب الخليفة المهدي ومنافس أبي عبيد الله الوزير أبناء هذا الأخير، أو واحداً من أبنائه - كما في بعض الروايات - بأنهم زنادقة. وقد أفلح الربيع في هذا الدس عند الخليفة الذي أمر بأن يقتل عبد الله بن أبي عبيد الله الوزير. وكان ذلك سبباً في توتر العلاقات بين المهدي وبين أبي عبيد الله، حتى أن الخليفة عزله من منصب الوزارة، ولى يعقوب بن داود بدلاً منه
والطبري يذكر صراحة أن اتهام ابن أبي عبيد الله بالزندقة كان يقصد به زعزعة مركز أبيه عند الخليفة المهدي. وقد كان أبو عبيد الله موضوعاً لدسائس موالي المهدي. ويذهب صاحب الأغاني إلى أبعد من هذا فيقول إن المهدي أدرك من بعد السبب الذي من أجله أبلغه الربيع أخباراً عن زندقة ابن الوزير (الأغاني 21 ص 122)
والآن، وبعد هذا العرض الموجز للاضطهادات التي عاناها الزنادقة، أو من اتهموا بالزندقة، في الفترة ما بين سنة 163 وسنة 170، نسائل أنفسنا: ما هي هذه الزندقة التي اتهم بها هؤلاء، وبأي معنى يجب أن تفهم؟
يرى صاحب المقال أن الزندقة التي حاربها المهدي والهادي في شخص هؤلاء الزنادقة هي المانوية، أولاً وبالذات. ودليله على ذلك ما ذكرناه من قبل من الوسائل التي كان يمتحن بها القضاء قيمة رجوع الزنادقة عن الزندقة، وإنكارهم لها، حينما يقدمون إليهم. ويؤيد هذا(312/28)
الرأي أيضاً تلك الرواية التي ذكرها الطبري والتي يمكن اعتبارها صادقة وهي التي تقول بأن أحد الزنادقة قدم إلى الخليفة المهدي فطلب إليه الخليفة أن يتبرأ من الزندقة ولكنه رفض فأمر بقتله، والتفت من بعد إلى ابنه موسى، وقال له كلاماً يحثه فيه على محاربة هذه العصبة من الزنادقة. ووصف له مبادئ هذه العصبة وصفاً يكاد ينطبق كله على مذهب المانوية؛ مما يدل على أن المقصود بالزندقة كان حينئذ مذهب المانوية
ومع هذا كله فإن هذا اللفظ قد اتسع معناه في هذه الفترة ذاتها اتساعاً كبيراً كما سنرى في مقالنا التالي عن أشهر الزنادقة في أيام الخلفاء العباسيين الأول.
عبد الرحمن بدوي(312/29)
ألفريد دي موسيه
بين العبقرية والحب!. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
سلك ألفريد دي موسيه في شعره طريقاً ما سلكه أحد قبله. فلقد أذاب أناته عبرات في قصائده وأخرجها للناس، فإذا فيها معان رائعة لا تنفد: تبسم بالذكرى، وتموج بالزفرات، وتنسم بوقد الجوى ساعة، وعطر الهوى ساعات. . .
وإنك لتجد في حياته الخاصة أطاريف كثيرة تتجلى في حبه اللاهب وصباه الفاجر وطفولته اللاهية. فقد كان فتى غرانقاً خلب نساء، ذا شعور من ذهب استرسلت إلى كتفيه. وكان أنيقاً في لباسه، رقيقاً في طباعه، رفيقاً بأصدقائه. حفلت طفولته بالترف والنعيم؛ فقد كان أبوه ذا يسار وسعة، فنشأه تنشئة فيها إدلال ونعومة؛ يلهو في النهار مع ابنة عمه بين الزهر، ويصغي في المساء إلى أحاديث عمه عن نابليون - الذي كان آنئذ قد ملأ الدنيا وشغل الناس - وأقاصيص جده عن الأيام الخوالي، وأعاجيب (ألف ليلة وليلة) و (دون كيشوت)، وغيرها؛ فكان يشعر بلذة عميقة في تخيل تلك العوالم التي تفيض بالحب، وترّف بالبطولة، وتسجو بين السعود والنحوس.
وعشق شاعرنا ابنة عمه، ولما يبلغ الرابعة من عمره؛ وقد كانت تقص عليه تحت الشجر وبين الزهر أحلى الأقاصيص فسألها الزواج ذات يوم، وهو لا يدري من أمره شيئاً. فضحكت منه. وتضطر بعد شهور إلى الرحيل عنه، فيبكي لفراقها، ويحزن لبعدها؛ وتكون هذه الدموع أول ما ذرف الشاعر في سبيل الحب. . .
وكان لهوه وترفه يدفعانه إلى أعمال فيها عبث الطفولة الساخر الذي لا يخشى شيئاً، أو يخاف أحداً؛ فلقد ألقى بكرة البليارد يوماً على مرآة في البهو فحطمها، وعمد إلى نجف الصالة في يوم آخر فمزقها؛ فلم يُسأل عما فعل خشية أن يثور حسه الرهيف فيجهد جسمه النحيف.
ولما التحق شاعرنا بكلية هنري الرابع لقي من رفقائه أذى كثيراً: كانوا يسخرون منه ويهزءون به ويسمونه (بالآنسة) لشعره الأشقر الجعد، ولربطة عنقه الزاهية. فكان يصبر صبراً جميلاً، ويدعهم يلعبون ويمرحون؛ حتى إذا ما أتى الامتحان أراهم الجد كيف يكون،(312/30)
والجوائز كيف تنال!
وما كاد ينهي درس الفلسفة حتى ظهر ميله للأدب، ولكنه كان يريد أن يبرع فيه. كتب ذات مرة إلى صديقه (بول فوشيه) يقول له:
(أنا لا أريد أن أكتب الآن، فإذا كتبت فيجب أن أكون شكسبيراً أو شيلر)
ودرس شاعرنا الحقوق وقليلاً من الطب، وعنى بالرسم والأدب والموسيقى. وتركته أسرته يفعل ما يشاء، فلم يكن بحاجة إلى العمل الذي يدر المال، وكان الزمان أنيقاً والعيش رقيقاً وأهله كما قلنا من ذوي اليسار
واستطاع صديقه (فوشيه) أن يعقد أواصر الصداقة بينه وبين هوغو، وأن يدخله في مجمعه الأدبي فتعرّف هناك على (دفيني) و (دوماس) والنقادة (سانت بوف)
وكان هذا النفر يقضي أمساء الآحاد عند القصصي الكبير (شارل نودييه) مع (لامرتين) و (بلزاك) و (جيرار دي نرفال) العاشق المجنون و (غوتييه) و (دي لا كروا)؛ فكانوا يستمعون إلى أقاصيص (نودييه) ويتناشدون الشعر على حين تجلس ابنة صاحب الدار ماري إلى البيان (ورأسها الجميل الأشقر يلمع كالشقيقة بين سنابل القمح كما يقول موّسيه، وأناملها الناعمة تتنقل هنا وهناك، ونحن نستمع إلى الشعر، أو نجد في الرقص)
وكان موسيه إذ ذاك وضيء الطلعة متلألئ الوجه يخلب الفتيات. حتى ليصفه (بانفيل) بأنه كان (كالإله الشاب الجميل لتجعيد شعره المسترسل إلى كتفيه كأنه الموج الراعش تحت أشعة الشمس)؛ فأخذ يغشى المجالس ويتنقل بين الفتيات، وينظم الأشعار ويكتب أقاصيص أسبانيا وإيطاليا. فردد الناس اسمه، ثم جذبه المسرح نحوه، فإذا بصاحب (الأوديون) يطلب منه مسرحية شديدة الحماسة: فكتب الشاعر (ليلة البندقية) فمثلت (بين الصفير والضجيج) وباءت بفشل عظيم.
على أن هذا الفشل لم يبعد شاعرنا عن المسرح، فلقد كتب بعد ذلك مسرحيات كثيرة أخفق بعضها ونجح بعضها، واستطاع بفضل ذلك أن يصبح مخبراً أدبياً لمجلة (باريس) و (الطان).
ثم نشر أشعاره في مجلة (العالمين). وفي هذه الفترة مات أبوه.
عندئذ عاش فتىً مغامراً يرتاد الملاهي، ويضاحك الحسان، ويعاقر الخندريس. والتقى ذات(312/31)
يوم بجورج صاند، وكانت قد نبه ذكرها، واشتهرت بأقاصيصها ومغامراتها، وصرمت حبال (ساندو) عشيقها. . . فأعجبته وأعجبها، ثم دعته بعد أيام إلى دارها وهناك تعاهدا على أن يبقيا صديقين ويعيشا معاً
وبدأ الحب يشب وينمو، فعاش معها في عالم زاخر بالأماني مائج بالرؤى، فظلّلته بعطفها ووصلها، وأذاقته طعم الوجد والهوى، وأسمعته أغاني الحب فسكر وانتشى، وعاش معها في غيبوبة رف النعيم في جنباتها، وضحكت على حفافيها المنى: قصف، جنون، لهو، شباب، لذة، سكر. تلك كانت حياتهما؛ على أنهما لم يمتعا بهذا كله طويلاً وأتت رحلتهما إلى إيطاليا ليذهب كل شيء. . . وليودعا آمالهما الضاحكات، ويعود الشاعر إلى وطنه ليمعن في البكاء
فلقد أرادت جورج أن تذهب إلى (البندقية) مدينة الحب والشعر؛ فلم ترض أمه عن هذه الرحلة خوفاً على أبنها. فأقسمت لها جورج لتعنين به العناية كلها. وسافر العاشقان إلى البندقية فوصلا إليها في يونية من عام 1843
وكانا لا يزالان في نشوة الحب وفوران الأحلام. فعاشا فيها أياماً لذة كانت آخر أيام الهوى؛ فقد أصابت جورج حمى مذ مرت على البندقية في جيئتها، فعني بها الشاعر؛ ثم مرض ألفريد بعد شهور، فأحضرت له طبيباً اسمه (باجيلّو) أعجبها. . . فتركت موسيه في غرفته مريضاً وتبعت الطبيب، فتخاصم الشاعر وحبيبته وانكب على الخمر يعاقرها لينسى الفاجعة التي أصابت حبه وقلبه، ثم ترك جورج مع الطبيب وعاد إلى باريس وحيداً
لم ينس موسيه في باريس جورج. فكان يمر على مغاني حبهما، ينظر إليها فيذكر ليالي الوصل، فتشجيه الذكرى ويعود إلى نفسه يذرف الدموع، وينظم (الليالي) ويتسلى بالرسائل التي كانت ترسلها إليه وتنصح له أن يحب غيرها، وأن يتذوق الملذات كلها. (ليرتشف قلبك لذات الحياة جميعها. . . ولكن ليؤد رسالته جيداً لتستطيع أن تردد يوماً إذا نظرت إلى الماضي فتقول: لقد تألمت كثيراً وخدعت أحياناً، ولكني ارتشفت وأحببت. . . لقد عشت أنا بنفسي. . . لم أكن شخصاً خلقته كبريائي وأوجده وهمي. . .)
وانكب شاعرنا يكتب ويؤلف، ثم عمد إلى اللذات يرتشفها وإلى الخمور يعاقرها، وهو يتألم ويبكي ويقول:(312/32)
(دع هذا الجرح المقدس. . . دعه يتسع)
(فلا شيء يجعلنا عظماء. . . كالألم الشديد. . .!)
وفي سنة 1848 قبل الشاعر في المجمع العلمي الفرنسي عضواً، وهو في إحدى الحانات. . . على أنه لم ينتفع بالعيش بعد جورج أبداً: فقضى حياته بائسة، وخبت تلك العبقرية الوهاجة وانطفأ ذلك الذكاء المشع، وغاض الجمال الخلاب ومات وله من العمر سبعة وأربعون عاماً وهو يقول:
(وأخيراً. . . أريد أن أنام. . .!)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(312/33)
على هامش الفلسفة
مرجع الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
تتمة البحث
رأينا في الكلمة الأخيرة أن الأستاذ العلامة ليفي برهل - يرى في كتابه (الأخلاق وعلم العادات أن الأخلاق ترجع أولاً إلى علم العادات الذي مرجعه استقراء التاريخ وملاحظة الحاضر، ثم يتداخل فيها النظر العقلي لتعديل ما يجب تعديله من الظواهر الأخلاقية والاجتماعية. هذا هو ملخص ما يدعو إليه. فما الرأي فيه؟
لا ريب أن هناك فائدة كبيرة من علم العادات الذي يشير باستيحائه. لأن النظريات والأفكار الأخلاقية التي تعاقبت على الزمن هي وليدة المجتمعات، وإذا ليكن من الواجب دراستها أولاً بالعقل العملي الدقيق. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من هذا أن علم العادات يختلط من الناحية العميقة بالأخلاق بحال من الأحوال
يقفنا التاريخ على أن كثيراً من أرباب الضمائر العالية عورضوا في أيامهم بآراء أخلاقية تقليدية كانت ضد مثلهم العليا، إلا أن المستقبل كان يحكم دائماً لهم، وإذا تكون ضمائرهم الشخصية سبقت الضمير الاجتماعي المستقبل وأعدته لما أرادوا له، وإذاً يكون من الممكن والواقع أن الخلقية تقوم على قتال النظريات الأخلاقية والعادات الاجتماعية التي توجد في زمنها. هاهي ذي أخلاق (بوذا) لم تكن متفقة مع عادات الهند البرهمية في القرن السادس قبل الميلاد، كما لا تتفق الأخلاق التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام مع عادات الأمم والشعوب التي بعثوا فيها ولها.
لا يقول لنا علم العادات كيف نختار عندما تتعارض المثل العليا للثورات الأخلاقية مع الآراء والحقائق الاجتماعية التي توجد معها! لننظر مثلاً للحرب، نجدها تكشف حقيقة اجتماعية لا شك فيها؛ هي تسيطر العواطف والمشاعر الحربية على جميع الشعوب، ومع ذلك لا يرضى أحد أن يرفض مثالاً أعلى هو السلام العالمي متى وجد لذلك سبيلاً. وبعبارة أخرى إن تحقق أية حقيقة ولو اجتماعية لا يلزم المرء بالانحناء أمامها واعتبارها مبدأ(312/34)
أخلاقياً جديراً بالتقدير
وبعد فعلم الاجتماع وعلم العادات من العلوم التي لها قيمتها وجدواها، ولكنهما لا يحلان محل الأخلاق التي تقدر الأعمال وتضع لها قواعد للسير عليها. الاستقراء المطبق على تجارب التاريخ يعلمنا حقيقة ما كان في الماضي وما هو كائن الآن لا ما يجب أن يكون. ذلك أن دراسة ماضي مسألة من المسائل من الوجهة التاريخية كمركز المرأة وحقوقها مثلاً معناه الوقوف على ما كان خاصاً بذلك من نظريات مما يجعل الدارس أكثر صلاحية من غيره لمعرفة ما إذا كان من الخير الاحتفاظ بالحالة الراهنة فيها أو تناولها بالتعديل قليلاً أو كثيراً؛ لكن هذه المعلومات التاريخية والاجتماعية التي أمدّنا بها البحث لا تكتفي وحدها لفرض حلّ حازم سواء أكان حلاً محافظاً أم معدلاً أم ثائراً. هذا حق لا شبهة فيه؛ إذ كيف يمكن تاريخياً معرفة ما يمكن أن يكون في المستقبل! أكبر دروس الماضي أنه مضى لطيته، وأن الحاضر يجب أن يتبعه أيضاً. والأخلاق لا يكفيها هذا بل تسعى كما قلنا لمعرفة ما يجب أن يكون.
وأخيراً، إذا كنا لم نرتض نظرية من النظريات السابقة التي تواردت بشأن الطريقة التي تتبع لتعرف القانون والمثل الأعلى الأخلاقي، فما هو إذا الحل الذي نرضاه؟ هذا الحل هو ختام هذا البحث الذي قد طال وقوفنا عنده
التجربة الأخلاقية
ليست الحياة الأخلاقية إلا مجموع أعمال نفسية واجتماعية خاصة، فمن الممكن أن نقول بتطبيق الطريقة الاستقرائية عليها، ولكن على نحو آخر غير الذي رآه الأستاذ (ليفي برهل). والعقل العلمي لا يتطلب منا أن نلتزم في كل موضوعات البحث طريقة واحدة، إذ يتطلب فقط أن يلائم المرء بين موضوع البحث وطريقته، وأن يعني الأخلاقي بأن يقارب بالقدر الممكن بين الطريقة التي ينتهجها في الأخلاق والطريقة التي يستخدمها العالم في العلوم التجريبية؛ أي أن يصدر عن تجارب واسعة وصدر رحب وروح غير متحيزة لا تدع للخطأ سبيلاً. هكذا عالج العلامة روه) موضوع طريقة الأخلاق في مؤلفيه القيمين، وهما: (التجربة الأخلاقية، ودراسات الأخلاق)
يرى هذا البحاثة أن العالم يقبل كمبدأ لبحثه اكتشافات أسلافه وآراءهم كفروض على الأقل(312/35)
يأخذ في بحثها وتمحيصها بكل ما يملك من وسائل. كذلك الأخلاقي يجب أن يبدأ بحثه من التقاليد فيمحصها ويزنها بما تمده به تجاربه الخاصة والحقائق الدينية التي لا ريب فيها والضمير القادر على الحكم الصحيح. بعض هذه الأفكار التقليدية توسع من قلوبنا وعقولنا، وتبث فينا يقيناً شريفاً وسعادة نبيلة، ونحن بعد تمحيصها لا يسعنا أن نضعها موضع الشك، كما لا يشك العالم في فروض محصها وظهر له صحتها
حقاً يجب السير مما اتفق عليه الأديان ثم من التقاليد؛ فالحياة تولد من الحياة، حياتنا الأخلاقية لم نبتدعها بل جاءتنا من حياة أسلافنا الأخلاقية إلى حدّ ما، فمن الادعاء والعبث الذي لا معنى له أن يهمل باحث كل تجارب الإنسانية الأخلاقية. ومن الغباء أن يزعم أحد قدرته وحده على أن ينشئ أخلاقاً، كما ليس في مكنة أحد أن يبني وحده علم الهندسة أو الطبيعة مثلاً
لكن حذار أن نقتصر على تقاليد البيئة الأسرية أو القومية الخاصة. يجب أن يعنى الباحث الأخلاقي بتقاليد الأمة كلها فيجتهد في تعرف أصولها في زوايا الماضي البعيد والقريب وآثارها في الحاضر؛ ومن ثم يكون لعلم التاريخ فائدته وخطره وخاصة تاريخ الفلسفة والأديان. على أنه ليس للمرء أن يحد نفسه باستشارة المكاتب؛ عليه أن يخالط - مصغياً مستطلعاً باحثاً - المساجد والكنائس وسائر دور الدين بلا تمييز، وألا ينسى المجتمعات المختلفة للأوساط الاجتماعية، بعد هذا يجب أن يبحث ويقارن ويحقق ما جمعه بهذه الوسائل من الآراء والنظريات الأخلاقية المختلفة وأن يستخلص منها ما يكون متماثلاً ومشتركاً، ويختار من بينها الأصلح حينما تتعارض حسب تجار يبه وضميره وفكرة المنزه عن الهوى
بعد هذا أيضاً يجب ألا يكتفي بتقاليد أمته وجنسه، بل يكون واسع الأفق عالمي البحث حتى يصل إلى مبادئ يمكن الحكم بصلاحيتها للجميع. والسياحة بما تهيئ لنا من فرصة تعرف تقاليد الأمم والشعوب المختلفة الدينية والاجتماعية في مواطنها الخاصة يمكن أن تمدنا بهذا البحث الأخلاقي الواسع الدقيق بمبادئ أخلاقية عامة لها قيمتها وخطرها. من أجل هذا يقول أحد الكتاب الإنجليز - بعد ما ساح كثيراً بين أوربا وأمريكا وأقام أخيراً باليابان - ما دمنا معاشر الأوربيين لم نعش إلا في نصف الكرة، فليس لنا إلا أنصاف أفكار وآراء).(312/36)
وإذاً لكي نصل إلى مبادئ وأحكام صحيحة، يجب أن نسائل هذا وذاك، لا نخص بحثنا بأمة دون أمة ولا بجنس دون جنس، ولا بعصر دون عصر. يجب أن نجمع شهادات كل الضمائر التي لها قيمتها، وأن نبحث لنفهم نفسية الأفاضل والأبطال والحكماء ثم نعمل التحقيق غير المتميز في كل هذا المجموع من الآراء الأخلاقية لنعد بذلك العقيدة الأخلاقية غير المغرضة على طريقة (المروحة) حسب تعبير (روه - نفسه، وإذا يكون القانون والمثال الأعلى الأخلاقي هو نقطة الانتهاء لطرق متعددة متنوعة.
هذه هي الطريقة الحية المنتجة التي أرى أنه باتباعها نصل إلى تقرير حقائق أخلاقية صالحة لكل العقول، وإلى تعرف المثل الأعلى الأخلاقي الذي يقبل من كل الضمائر المستقيمة والإرادات الطيبة في كل البيئات والعصور.
إلى هنا انتهيت مما أردت بحثه، ولم يبق إلا أن أتوجه بالشكر لله تعالى، وإلى حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)، وحضرات القراء الذين تفضلوا بتشجيعي على جهد المقل برسائلهم وكلماتهم الطيبة. وأخص حضرة الباحث الجليل الأستاذ نصيف المنقبادي الذي لا أجدني أهلاً للثناء الذي وجهه إليّ بعدد (الرسالة) الغراء رقم 303 في ابتداء الكلمة القيمة التي بحث فيها غريزة الخير والشر من الناحية البيولوجية أي من ناحية أصلها ونشأتها وتطورها وذلك غير الناحية التي حاولت بحثها.
وإلى اللقاء بعد العودة من فرنسا إن شاء الله تعالى في أول العام الدراسي الآتي.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(312/37)
من برجنا العاجي
أبصرت اليوم من نافذة برجي (شهر يوليو) مقبلاً بخطى سريعة وهو متدثر برداء أحمر كأنه قطع اللهب، وقد تصبب من جبينه العرق، وهو يقرع باب برجي ويصيح:
- أيها الغافل عن جسمه، القابع بين جدران سجنه. انطلق قليلاً إلى نسيم البحار وهواء الجبال، وأرح نفسك واسترح من نفسك!
فسمع الجواب من أعماق نفسي:
- وكيف يستريح من هذه النفس وهي تمتطي وجوده امتطاءً؟
- أو نذعن لهذا الفارس القاسي حتى يسحق المطية سحقاً؟!
فقالت النفس (لشهر يوليو):
- أهي رحمة منك بالمطية أم أنك تريد أن تأخذها مني لنفسك أيها الشهر اللعين!
- إنها ستجد عندي الراحة والنعيم. وسأقدم لها (علفاً) من فاكهة الجبال الغضة وزهر الغابات الجميل ونسيم صيفي العليل. . . أما أنت فماذا تجد عندك؟ إنك لن تقدمي إلى هذه المطية النحيلة غير (علف) من الحبر والورق والسهاد المضني والعمل المرهق والتفكير الطويل!
- سأعطيها النور الذي يضيء لها السبيل!
- لا تخدعيها بهذه الكلمات. ومع ذلك فإن عينيها في حاجة كذلك إلى الراحة والبعد عن النور. أقصى عن وجهها شهراً واحداً ذلك المصباح الذي لزمها طول الشهور!
- إنها لا تستطيع السير خطوة بغير ذلك المصباح
- أقسم لك أن الزيت قد نفد من هذا المصباح. دعيني أذهب بها إلى حيث تملؤه من جديد زيتاً خالصاً نقياً، يرسل الضوء وهاجاً قوياً، لها وللآخرين من القراء والمريدين، طول عامها القادم. . . آمين!
توفيق الحكيم(312/38)
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
مقدمة
أمل ويأس: في هاتين الكلمتين يتلخص تاريخ القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين. كانت تقوم الحركة تلو الحركة، وفي كل مرة ينبعث الأمل ويظن الناس أن الحياة قد بعثت من جديد وأنهم صاروا قاب قوسين أو أدنى من السعادة الإنسانية، ولكن سرعان ما تذوي الحركة وتموت، فيتحول الأمل يأساً، وينقلب النعيم بؤساً، وتحل الحسرة محل السرور، ويأخذ الألم مكان اللذة، وبذلك تقتم الحياة وتظلم أكثر من ذي قبل حتى لا تبشر بعد ذلك بخير
ففي مستهل القرن التاسع عشر قامت الحركة الصناعية، فهلل الناس وكبروا استفاقوا كأنهم من كابوس مريع. ولكن لم تلبث هذه الحركة أن خلّفت أضعاف ما كان موجوداً من بؤس وشقاء، فازدحمت المدن حتى ضاقت بسكانها وتوزعت الثروة ولكن توزيعاً غير عادل؛ فكان من جراء ذلك أن مال الناس عن هذه الحركة وتعلقوا بأهداب حركة أخرى ناشئة هي الحركة العلمية التي قامت نتيجة للمستكشفات العلمية والمخترعات الحديثة؛ فأّمل الناس فيها واستبشروا بها حتى صدمتهم الحقيقة المرة وتبينوا أن العلم قد يعطي الإنسان قوة فوق قوة ولكنه لا يهبه السعادة ولا الهناء
وعلى أثر يأس الناس من هذه الحركة ناصروا الحركة السياسية التي قامت تحت زعامة جلادستون أملاً في أن الدعوة إلى الحرية وإلغاء الفوارق بين الطبقات والتخلص من امتيازات الطبقة العليا هي سبيل السعادة المنشودة. ولكن ما كاد عميد الحركة يقضي حتى قضت الحركة إلى جواره، ثم أتت هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية فكانت ضغثاً على إبالة وكالت الضربة القاضية للحركة لأن فرنسا كانت نصيرة الحرية ورمزاً لها في ذلك الوقت
وبهذه الطريقة بلى الإنسان باليأس المرة بعد المرة حتى نضب معين أمله، وزال عنه تفاؤله، وصار لا ينظر إلى الحياة إلا بمنظار أسود، بعد أن تبين له أنه إنما يحارب عدواً لا قبل له به، وأنه قد كتبت عليه الهزيمة مهما قاتل ومهما استبسل. لذلك رأى أن لا مفر له(312/39)
من اجتناب هذه الحياة والابتعاد عنها، فكانت الفنون خير مكان يلجأ إليه. . . فهناك في دنيا الخيال يسبح الإنسان في عالم من صنع يده، عالم هو مبدعه وخالقه، بعيداً عن صخب الحياة وضجيجها. ولكن ما كاد يبزغ فجر القرن الجديد حتى تبين للناس أن الفنون ما عادت تصلح لأن تكون ملجأ الإنسان إلى الأبد، وزاد إيمانهم بهذا عند نشوب حرب جنوب أفريقيا واستعداد ألمانيا للحرب بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. عند ذلك أدرك الناس أن الوقت قد حان كي يتركوا عالم الخيال جانباً ويعودوا إلى الحياة ومواجهتها
وقامت في ذلك الوقت مدارس عديدة تدعو إلى مبادئ متباينة. فقامت مدرسة ريارد كبلنج، ومدرسة برناردشو، وهـ. ج. ويلز، ثم مدرسة ج. ك. تشسترتون. وكان هم كل واحدة منها نقد مبادئ المدرستين الأخريين ودعوة الناس إلى اعتناق مبادئها هي، حتى قامت الحرب العظمى التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الأفكار والمبادئ التي كانت تسيطر على عقول البشر في ذلك الوقت خاطئة تحتاج إلى التعديل أو التغيير، وعلى هذا الأساس قامت مدارس أخرى، وعلى رأس هذه المدارس قامت مدرسة لورنس
وبرغم أن لورنس في نظر بعض ضيقي العقول لا يعدو كونه كاتباً مفحشاً أو رساماً لا خلاق له، إلا أنه يعتبر في رأي أئمة المفكرين نابغة عصره. فقد بذ معاصريه الكتاب في عالم الروايات الطويلة والقصص القصيرة والروايات المسرحية، كما فاق غيره من الرسامين بلوحاته الفنية، وظهر على الموسيقيين بمقطوعاته التي وضعها بنفسه. وكان يحدوه في ذلك كله أمل واحد وغرض واحد: هو القضاء على هذه الحياة التي غلبها التكلف وساد فيها التصنع حتى صارت حياة ملق ورياء، فكان همه أن يهدم هذه الحياة من أساسها ليقيم على أنقاضها حياة جديدة
ولما كان هذا هو غرضه وجب عليه أن يكون صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة، وأن يتوخى الصدق في كل ما يقوله، لا يهمه في ذلك نوع الموضوع الذي يعالجه ولا رأي الناس فيما يقوله، فلا يجد فارقاً بين أن يكتب في موضوع العلاقة الجنسية وبين أن يكتب في موضوع مناجم الفحم أو ما إلى ذلك من الموضوعات العادية. وهم يعيبون على لورنس صراحته وصدقه وأنه يحاول أن يخدع نفسه ويخدع الناس كما يفعل غيره من الكتاب. يعيبون عليه لغته وجرأته في التعبير وهم يعلمون أنهم يستعملون نفس اللغة في أحاديثهم(312/40)
في منتدياتهم الخاصة، ويعيبون عليه الموضوعات التي يعلجها وهي لم تخرج عما يفعله الإنسان منذ الخليقة حتى يومنا هذا
ولما كان لورنس صريحاً لا يعرف للمداراة معنى فقد حذر الناس من تيار المدنية الحديثة الذي يجرفهم إلى هاوية الدمار وهم لا يشعرون. فهذه المدنية الحديثة وليدة العقل والتفكير قد قامت على حساب كبت الغرائز الإنسانية. فبعد أن كان الإنسان وحدة كاملة بعقله وجسمه انفصل الاثنان، ثم تغلب العقل حتى أصبح الجسم مسجوناً لا يستطيع التنفيس عن رغباته؛ فيرمي لورنس من كتاباته أن يفك قيود الجسم ويطلق سراحه كي يستعيد الفرد كليته الأولى. ولما كانت العلاقة الجنسية وتنظيمها هي التي تكفل للإنسان الوصول إلى هذا الغرض فقد اهتم بها لورنس وعالجها في معظم كتبه
ولورنس من ذلك الصنف من الكتاب الذي يخلق في قرائه الذوق الذي يعينهم على فهم كتبه واستساغتها، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى وقت ليس بالقصير. ونلاحظ على كتب لورنس أنها سهلة القراءة صعبة الفهم، وهذا سر خلودها. فلورنس يعتقد أن الكتاب خالد ما دام يسبر غوره أحد. وكثيراً ما يقرن اسم لورنس باسم جيمس جويس أو فيرجينيا ولف أو بروست أو غيرهم من رواد المدارس الحديثة في الأدب. والحقيقة أن لورنس يختلف عنهم اختلافاً بيناً، فكتب هؤلاء صعبة القراءة في أول الأمر سهلة الفهم بعد ذلك، لأن صعوبتها هي في لغتها الجديدة وتعبيراتها غير المألوفة في حين أن موضوعاتها لم تخرج عن المطروق المألوف. وأما لورنس فعلى العكس من ذلك، فهو يكتب في لغة مفهومة مألوفة، ولكن شخصيات رواياته وحوادثها وموضوعاتها أبعد ما تكون عن المألوف، وكلها ترمي إلى غرض واحد هو شق طريق جديد في الحياة
وكان من يجرؤ على قول الصدق بين قوم ألفوا الكذب وتعودوه يحاكم محاكمة صورية تنتهي بحرقه أو بزجه في أعماق السجون. أما في عصرنا هذا عصر المدنية الحديثة و (حرية القول) فتقوم الصحافة مقام محاكم التفتيش القديمة؛ فإذا لم يعجبها كاتب بأن كان صريحاً أو مخلصاً فيما يقول قامت تشوه اسمه وتسيء إلى سمعته حتى تنفر الناس منه وتبغضه إليهم. وهذا ما فعلته الصحف المغرضة بكاتبنا، وساعدها على ذلك ميل الناس في عصرنا هذا إلى تصديق كل ما يقال دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة بحث هذه الآراء(312/41)
وتمحيصها. ولهذا نرى عدداً كثيراً من الناس لا يعرفون عن لورنس أكثر من أنه وضع كتاباً اسمه (عشيق لادي تشاترلي) صادرته الحكومة وأمرت بحرقه. وهم يعرفون كذلك أن رجال البوليس داهموا معرضاً لصوره في لندن وحطموا كل ما وصلت إليه أيديهم، ثم بعد ذلك لا يعرفون عنه شيئاً. وكان الأولى بهم أن يقرءوا كتبه بعد أن يدرسوا المؤثرات التي دفعته إلى كتابة ما كتب، وبعد ذلك يصدرون على الكاتب حكمهم.
وبرغم كل هذه الظروف المعاكسة ورقة حال الكاتب ومرضه الذي لازمه طول حياته حتى قضى عليه وهو لا يزال في زهرة شبابه، وبرغم عدم فهم الناس لكتبه وبعدهم عن تقدير صاحبها، وبرغم تنكر أصدقائه له وانفضاضهم من حوله كان لورنس كاتباً مكثاراً ما ولج باباً إلا نبغ فيه. فرواياته الطويلة كثيرة، وقصصه الصغيرة ممتعة وشعره رائع، وكتبه في الفلسفة وعلم النفس هدمت النظريات القديمة، ومجموعة رسائله كنز أدبي لا يفنى
عبد الحميد حمدي
مدرس بمدرسة شبرا الثانوية(312/42)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
450 - والله ما شعرت بذلك
في (معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان): كان (الإمام) محمد بن سحنون ذات يوم يؤلف إلى أن حضر العشاء. فجاءته جاريته أم مدام بالعشاء. فقال لها: يا أمّ مدام، أنا مشغول عن العشاء بما أنا فيه. فلما طال انتظارها أخذت تلقمه وهو على حاله يؤلف حتى أتت على جميعه. وما زال كذلك حتى أذّن المؤذن لصلاة الصبح، فطوى كتابه وقال: يا أم مدام، هات ما معك من العشاء!
فقالت: يا سيدي، إني أطعمتك إياه!
فقال: والله ما شعرت بذلك!
451 - لو كان من كلام النظام لكان كبيرا
في (الأغاني): عتب المأمون على عريب (المغنية) فهجرها أياماً. ثم اعتلت فعادها. فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟
فقالت: يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عُرفت حلاوة الوصل، ومن ذمّ بدء الغضب حمِد عاقبة الرضا.
فخرج المأمون إلى جلسائه، فحدثهم بالقصة. ثم قال: أتُرى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيراً؟!
452 - . . . فيستثنون فتبطل أيمانهم
(وفيات الأعيان): قال الربيع صاحب المنصور: يا أمير المؤمنين هذا أبو حنيفة يخالف جدك: كان عبد الله بن عباس يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثنى بيوم أو بيومين جاز الاستثناء. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلاً باليمين. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة. قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم. فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تتعرض لأبي حنيفة. فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردت أن تشيط بدمي. قال: لا.(312/43)
ولكنك أردت أن تشيط بدمي فخلصتك وخلصت نفسي.
453 - . . . أن يجلسوا على حائط
(روح المعاني) للآلوسي: عن ابن سيرين أنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق، فقال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ القرآن من أوله إلى آخره، فإن صعقوا فهو كما قالوا
454 - وكريم أنظر له
في (الإيجاز والأعجاز) للثعالبي: سمعت مأمون بن مأمون خوارزم شاه يقول: همتي كتاب أنظر فيه، وحبيب أنظر إليه، وكريم أنظر له.
455 - الجلهكية
في (الملل والنحل ونهاية الأرب): الجلهكية أي عُباد الماء في الهند، يزعمون أن الماء ملك، ومعه ملائكة، وأنه أصل كل شيء، وبه كل ولادةً ونمو ونشوء وبقاء وطهارة وعمارة. وما من عمل في الدنيا إلا وهو يحتاج إلى الماء. فإذا أراد الرجل منهم عبادته تجرد وستر عورته. ثم دخل الماء حتى يصل إلى حلقه (أو وسطه) فيقيم ساعة أو ساعتين أو أكثر. ويأخذ ما أمكنه من الرياحين، فيقطعها صغاراً، ويلقى في الماء بعضها بعد بعض، وهو يسّبح ويقرأ. فإذا أراد الانصراف حرّك الماء بيده، ثم أخذ منه فنقط على رأسه ووجهه وسائر جسده خارجاً، ثم سجد وانصرف.
456 - من عدم الناس عاشر القردة
في (تتمة اليتيمة): كان أبو سهيل الحراني ينادم قردة له، فقيل له في ذلك، فقال:
ملت إلى قردة أنادمها ... فأنكرت ذاك زمرةُ الَحسَدهْ
فقلتُ: يا بُلْهُ لا عقولَ لكم ... من عدم الناس عاشر الِقردَهْ
457 - التمثالان في تدمر
في (معجم البلدان): كان من جملة التصاوير التي بتدمر صورة جاريتين من حجارة من بقية صور كانت هناك، فمر بها أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس في البصرة،(312/44)
فنظر إلى الصورتين فاستحسنهما فقال:
فتاَتيْ أهل تدمرَ خبَّراني ... ألَمّا تسأما طولَ القيام
قَيامُكما على غير الحشايا ... على جبل أصمَّ من الرُّخام
فكم قد مرّ من عدد الليالي ... لعصركما وعامٍ بعد عام
وإنكما على مرّ الليالي ... لأَبقى من فروع ابنيْ شمام
قال المدائني: فقدم أوس بن ثعلبة على يزيد بن معاوية، فأنشده هذه الأبيات، فقال يزيد: للًه درّ أهل العراق! هاتان الصورتان فيكم يا أهل الشام، لم يذكرهما أحد منكم، فمر بهما هذا العراقي مرة فقال ما قال
458 - مفرق. . .
في (مروج الذهب، والكنز المدفون): بلغ خالد بن عبد الله القسري، وكان عاملاً لعبد الملك بن مروان على مكة قول الشاعر:
يا حبّذا الموسمُ من موفِد ... وحبذا الكعبة من مشهد
وحبذا اللائى يُزاحِمْنَنا ... عند استلام الحجر الأسود
فقال خالد: أما هن فلا يزاحمنك بعدها. فأمر بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف. فهو أول من فرّق بين الرجال والنساء في الطواف. فاستمر ذلك إلى اليوم، وكان يُجلس لهن حرساً عند كل ركن، معهم السياط، يفرقون بيتهم.
459 - ثم اطووه إلى يوم القيامة
في (زهر الآداب): شرب كوران المعنى عند الشريف الرضي فافتقد رداءه وزعم أنه سُرق. فقال له الشريف: ويحك! من تتهم؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوى بما عليه. . .؟
قال: انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائي ثم اطووه إلى يوم القيامة. . .(312/45)
موت كريزيس
للأستاذ زكي المحاسني
(ضعني على قلبك كالميسمِ ... فالحب مثل الموت للمغرمِ)
صغت هذا البيت من قول (مارلين ديتريش) ليلة رأيتها في الصور المتحركة وقد باتت عند عمتها؛ فلما تهيأت للنوم أخذت بكلتا يديها كتاب العهد القديم ثم وضعته على صدرها وفتحته ثم تلت نشيد الأناشيد بصوت ملائكي خافت قالت في آخره: (ضعني كالخاتم الواسم على قلبك فالحب كالموت)
صار بها هذا النشيد إلى الموت فماتت في روايتها حرقاً ولقيت جزاء قلبها. تفننت في كلام الحب وفنيت في صباباته حتى هشمت بمطرقة كبيرة تمثالها الذي صنعه عاشقها النحات، لتدخل في أغوار العدم
هكذا فكرت في غادة نشيد الأناشيد حين مرت في خاطري (كريزيس) في الإسكندرية القديمة وقد اغتسلت ذات مساء بالعطور ونادت جاريتها الهندية (دجالان) فقالت لها: نشفيني وألبسيني وزينيني ثم ضمخميني بالطيوب
خرجت كريزيس تشق رواق المساء بنور وجهها الساطع وتخطر في مشيتها حتى بلغت شاطئ البحر. وكان هناك على متكأ الشاطئ النحات (ديمتريوس) الذي صنع تمثال (آفروديت) ملكة الإسكندرية. وقف على الشاطئ وفي سمعه أنغام الزامرتين وقد ابتعدتا عنه وغابتا في تضاعيف الظلام. وقف ينظر إلى البحر فيرى نفسه في موجه الصاخب ويحسن تلك الثورات الخفية التي يثور فيها روحه ثم يصطدم في حدود جسمه فيعود مستكيناً حبيساً
فكر في الملكة التي تعشقه وفكر في آلاف الرعابيب اللواتي ارتمين على قدميه وما حظين منهما بالتقبيل. وإنه لكذلك سادر في تأمله إذ مرت به كريزيس فتيمته حبا. فلحقها فعزت عليه وتجنت. ثم اشترطت الهوادة غوالي الشروط وأشدها هولاً. فسرق من أجلها وهو الشريف. وقتل من أجلها وهو البريء. وهزئ بالآلهة جرّاها وهو الحكيم الرزين. ثم أنقذ نفسه فجأة من مهاوي العدم وبؤرة العار؛ فصدف عنها واجتواها، وكان كرهه لها حبا، واجتواؤه إياها هياماً. ولما صارت إلى السجن قدم إليها السجان كأس الشوكران وقال(312/46)
اشربي
مدت يدها وأخذت الكأس فرفعتها إلى فمها وشربت نصفها، ومدتها بالنصف الباقي إلى ديمتريوس، وقد جاء ليشهد مصرعها، فنحى عنه كأسها. فاستردتها إلى فمها وشربت السم حتى الثمالة. . .
سألت كريزيس السجان: ماذا أفعل؟ فقال لها سيري جيئة وذهاباً. ففعلت حتى عمل فيها السم، وارتمت كما يرتمي غزال قد صيد. . . وماتت
عاد إليها ديمتريوس وهي في لفائف الموت قد سُجيت على سرير. فجلس حيالها يناجيها بصمته، ويستودعها بروحه. وبدت له على سرير الموت أروع جمالاً وأشع نوراً مما كانت في الحياة
جلب معه عجين التراب الذي يصنعه للتماثيل، وأقبل على السرير فنضا الثياب عن الضحية، ثم أقعدها في وضعٍ فنيٍ رائع ثم أخذ منقاشه وظل من الصباح حتى سد عليه المساء نافذة السجن، فانتهى من صنع تمثال (كريزيس الخالدة) حين دفنتها صديقتاها (روديس وميرتو) قطعتا من شعريهما خصلة دفنتاها معها ثم بكتا على قبرها أحر البكاء. . .
فكرت في نهاية (كريزيس) التي قص قصتها العبقري بيير لوئيس، فاستطعت بسبب فاجعتها أن أفهم نشيد الأناشيد في كتاب العهد القديم.
زكي المحاسني(312/47)
ترانيم وتسابيح
أنشودة الصباح. . .
(إلهامات من سحر الحب وجمال الطبيعة في ضفاف الجزيرة)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سَبقْتِ إلى النيلَ خَطوَ الصباح ... فَتيَّمِتهِ بالصِّبا والفُتونْ
وخَمْرٌ إلهيّة في يَدَيكِ ... وكأسٌ من الَحُبِّ ملآى جنون
وثَغْرُكِ تَغريدَةٌ ما وَعَى ... ترانيمَها غَيْرُ قَلْبي الحزينْ
عَشِقْتُ صَداها فَغنَّيتُها ... ولَقَّنتُها لِشِفاهِ السِّنينْ
وما كُنتُ أدْرِي الْهوَى والحياهْ
ولا السِّحرَ في أُغْنِياتَ الشِّفاهْ
ولا كُنتُ أعلَمُ سِرَّ الإْلهْ
سِوَىَ بَعدَ ما لُحْتِ لي فِتنةً ... وأْقبلْتِ لي مَرَّةً تَبسمينْ!
وعَيناك عَلّمتاني السُّجودَ ... وكيفَ أخِرُّ مَعَ العابِدينْ
لَهمْ دِينُهم في زِحامِ الصَّلاةِ ... وَديني الضِّياءُ الذي تَنشرينْ
عَبَدْتُ بِكِ الله. . . ما في دَمي ... ولا في فَمي غَيْرُ هذا الرَّنينْ
فيا ولَهاً ناعِساً في الجُفونْ ... ويا سَجْدَتانِ بِدَيْر الجَبينْ
ويا قُبلْتانِ بِخَدِّ الصَّباحْ
ويا بَسمتانِ بِثغْرِ الأقاحْ
طفَتْ بَيْنَ جَنْبيَّ نارُ الجِراحْ
فَرُدَّيِ لبَلْوايِ سِحرَ المُنَى ... وبُثِّي حديثَ الهْوَى يا عيونْ!
وإيقاعُ صَوتِك فوقَ الضِّفاف ... أهازيجُ رفَّافةٌ بالحَنينْ
سَمِعتُ لُغاهُنّ تحتَ الظّلالِ ... أناجيلُ تُتلَى على الرّاهبينْ
وأنغامَ رقْصٍ بَعيدِ المَدَى ... حَلَمتُ به في سَماءِ الظُّنونْ
مَحا شَجنَ الطَّيْرِ إغْرادُهُ ... وتَيِّمَ في عُشِّهِنَّ السكونْ(312/48)
فَهَّللن بين خَميلٍ وأَيْكِ
وهَفْهفْنَ مِثلي حَناناً إليكِ
وكِدْن يقبِّلن طُهراً يديْكِ
ويَسجدْنَ حَولكِ فوق الرُّبى ... وتخشعُ لِلحبِّ هامُ الغصون!
وقلتِ: هنا النهرُ! قلتُ: اصمُتي ... هُنا الله يَرعَى هوانا الأمينْ
هنا قَدَرٌ في الضُّحى نائمٌ ... أساريرُهُ طَلْسمتها القرونْ
يسمونه (النيل)! وهْوَ الذي ... يُنيل ويشفى صدى الظِامئينْ
سقَى الدهر من جامه فارتْوى ... ورَوّى بِخَمرتِهِ الملْهَمينْ
فَغنَّى بِأسرِارِه الشَّاعِرُ
وكبَّر في شطِّهِ الكافرُ
وخَرَّّ لَهُ السحرُ والساحرُ
وَلَمَّا تهادَتْ عَليهِ الصَّبا ... تَصابَى فحَيَّا خُطا العاشقين!
أَتَيناهُ والصُّبحُ طِفلٌ غَريرٌ ... تهدهدُهُ سَكرةُ الحالمين
طَهورُ الْمسارِبِ ما لَوَّثتْ ... خُطا شَمسهِ قَدمُ العابِرِينْ
سِوَى بائِسينَ إلى قُوتِهم ... تَنادوْا: سَلامٌ على البائِسين
أفاقوا مَعَ الفجرِ فوق الثَّرَى ... حَيارَى على أرضهم مُتعبينْ
وصيَّاد رزْقٍ على الشاطِئْينْ
مِنَ اليأسِ قَلَّب نار اليدَينْ
وفي وَجههِ مِنْ كلالٍ وأَينْ
بَقايا مِنَ الَّليلِ يَمْشي بها ... إلَى كوخِهِ في شعاب الأنين!
وَنجْوَى يَمامِيَّةٌ في العشاشِ ... تَحجَّبُ إلاَّ عَنِ المغرَمِينْ
فَهِمنا لُغاهَا وأَسرارها ... فهمنا بها في الضُّحى حَائِرين
وفي ظِلِّنا لِلهْوى رِعشةٌ ... وقَفْتِ على طيفها تسألينْ
وصدْركِ يَهتَزُّ تَحت السَّنا ... كأُنشودةٍ في أكفِّ الحنينْ
شجاها التَّغنِّي فهزّتْ لنا(312/49)
تحايا مِنَ الله طافتْ بِنا
ونجْوَى مِنَ الله رَفَتْ هنا
وقالتْ: سلامُ الهوى والعفافِ ... على قُبلَةٍ في فَمِ الخائِفينْ. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(312/50)
الشاعر والأمة
للأستاذ إيليا أبو ماضي
خير ما يكتبه ذو مِرْقم ... قصة فيها لقوم تذكره
كان في ماضي الليالي أمة ... خلع العز عليها حَبره
يجد النازل في أكنافها ... أوجهاً ضاحكة مستبشره
ويسير الطرف من أرباضها ... في مغان حاليات نضره
لم يقس شعب إلى أمجادها ... مجدها الباذخ إلا استصغره
همها في العلم تعلي شأنه ... بينها، والجهل تمحو أثره
ما تغيب الشمس إلا أطلعت ... للورى محمدة أو مأثره
فتمنى الصبح تغدو شمسَه ... وتمنى الليل تغدو قمره
ومشى الدهر إليها طائعاً ... فمشت تائهة مفتخره
كان فيها ملك ذو فطنة ... حازم يصفح عند المقدره
يعشق الأمر الذي تعشقه ... فإذا ما استنكرته استنكره
بلغت في عهده مرتبة ... لم تنلها أمة أو جمهره
فإذا أعطت ضعيفاً موثقاً ... أشفقت أعداؤه أن تخفره
وإذا حاربها طاغية ... كانت الظافرة المنتصره
مات عنها فأقامت ملكاً ... طائش الرأي كثير الثرثرة
حوله عصبة سوء كلما ... جاء إدّاً أقبلت معتذره
حسّنت في عينه آثامه ... وإليه نفسه المستكبره
وتمادى القوم في غفلتهم ... فتمادى في الملاهي المنكره
زحزح الأمة عن مركزها ... وطوى رايتها المنتشرة
ورأت فيها الليالي مقتلاً ... فرمتها فأصابت مدبره
فهوت عن عرشها مصروعة ... مثلما ترمى بسهم قبّره
كان فيها شاعر مشتهر ... ذو قواف بينها مشتهره
كلما هزت يداه وتراً ... هز من كل فؤاد وتره(312/51)
تعسُ الحظ وهل أتعس من ... شاعر في أمة محتَضَرة؟
يقرأ الناظر في مقلته ... ثورة ظاهرة مستتره
ما يراه الناس إلا واقفاً ... في مغاني قومه المندثره
حائراً كالريح في أطلالها ... باكياً كالسحب المنهمره
وهي في أهوائها لاهية ... وكذاك الأمة المستهتره
ما رأت مهجته المنفطرة ... لا ولا أدمعه المنحدره
فشكاه الشعر مما سامه ... وشكاه الليل مما سهره
ثم لما عبث الناس به ... مزق الطرس وشق المحبره
مر يوماً فرأى أشياخها ... جلسوا يبكون عند المقبره
قال: ما بالكمُ ما خطبكم ... أي كنز في الثرى أو جوهره؟
ومَن الثاوي الذي تبكونه ... قيصر أم تبّع أم عنتره؟
قال شيخ منهم محدودب ... ودموع اليأس تغشى بصره:
إن من نبكيه لو أبصره ... قيصر أبصر فيه قيصره
كيف يا جاهل لا تعرفه ... وحداة العيس تروي خبره
هو مَلْك كان فينا ومضى ... فمضت أيامنا المزدهره
ولبثنا بعده في ظُلَم ... داجيات فوقنا معتكره
والذي كان بنا (معرفة) ... لصروف الدهر أمسى نكره
فانتهى التاج إلى معتسف ... لم يزل بالتاج حتى نثره
كل ما تصبو إليه نفسه ... مُعْصر أو خمرة معتصره
مستهين بالليالي وبنا ... مستعين بالطغام الفجره
كلما جاء إليه خائن ... واشياً قرّبه واستوزره
فإذا جاء إليه ناصح ... شك في نياته فانتهره
مستبد باذل في لحظه ... ما ادّخرناه له وادخره
يهب المرء وما يملكه ... وعلى الموهوب أن يستغفره
هزأ الشاعر منهم قائلاً: ... بلغ السوس أصول الشجره(312/52)
رحمة الله على أسلافكم ... إنهم كانوا تقاة برره
رحمة الله عليهم إنهم ... لم يكونوا أمة منشطره
إن من تبكونه يا سادتي ... كالذي تشكون فيكم بطره
إنما بأس الألى قد سلفوا ... قتل النهمة فيه والشره
فاحبسوا الأدمع في آماقكم ... واتركوا هذى العظام النخره
لو فعلتم فعل أجدادكم ... ما قضى الظالم منكم وطره
ما لكم تشكون من محنتكم ... رضتمُ ألسنتكم أن تشكره
وجعلتم منكمُ عسكره ... وحلفتم أن تطيعوا عسكره
كيف لا يبغي ويطغى آمر ... يتقي أشجعكم أن ينظره
ما استحال الهر ليثا إنما ... أُسد الآجام صارت هرره
وإذا الليث وهت أظفاره ... أنشب السنور فيه ظفره
(الولايات المتحدة)
إيليا أبو ماضي(312/53)
القصص
الباب المقفل
للأستاذ محمود تيمور بك
ذهبت إليه، وسألته أن يعطيها الكتاب الذي وعدها به فوقف هنيهة يفكر: أين وضعه؟. . . ثم تمتم:
لعله في حجرة البيان!
وتقدمها إلى الحجرة، فدخلاها. إلا أنها تنبهت إلى شأن غير عاديّ بدر منه. لقد أقفل الباب بالمفتاح!. . . فتسارعت دقات قلبها، واختلست إليه النظر، فوجدته قد اتجه إلى الخزانة، واندفع يقلب محتوياتها. . .
كيف اجترأ أن يقفل الباب بالمفتاح وهي معه؟!. من يظنها؟! ورمته بنظرة حادة. . .
وأبصرت خصلة من شعره الذهبي قد تهدلت على جبهته. . . يا لله! لم تره على هذه الفتنة قبل الآن. . . قامة مبسوطة، ومنكبان عريضان، ووجه صبيح عليه طابع الرجولة الحق!
لم تره قبلُ في هذه الفتنة، على أنها نشأت وإياه في منزل واحد، وكان يكبرها بعشر سنين، فهو ينظر دائماً إليها نظرات الأخ الكبير إلى أخته الصغرى. . .
ووقع بصرها على خيالها في المرآة، فتذكرت معابثته إياها إذ كان يلقبها أحياناً بالضفدع، لقصر قامتها!
ورفعت عينيها إليه ثانية
ها قد حبسها معه في حجرة واحدة، هذا الفتى المبسوط القامة، العريض المنكبين. . .!
إنه يتظاهر بالبحث عن كتاب، ويطيل التقليب فيما بين يديه، وقد يكون الكتاب المقصود على قيد أنملة منه!
ما أجهله بعقول الفتيات!. . . إنه ما برح يتوهمها طفلة، على حين أنها استقبلت منذ أيام عامها السادس عشر!
ولكن أية مفاجأة تلك التي يفكر فيها؟
أهجوم مصحوب بقبلة حرّى؟
إن يدها على استعداد لدفع هذا الهجوم!(312/54)
صفعة قوية تثيب إليه رشده. . .
وجعلت ترنو إليه، وهو منهمك يبحث عن الكتاب، وكان مرتدياً منامةً حريرية تتموج على جوانب جسمه الرياضي البديع، الذي يحسده عليه أجمل كواكب (السينما). . .
وأطالت النظر إلى ساعديه القويين، فاختلج جسمها بهزة كهربية. . .
لقد أنبها أخيراً لأمور تتعلق بسلوكها. . . أتكون الغيرة قد بدأت تتسلل إلى قلبه؟!
هو قليل التحدث معها، ولكنه كثير التفكير والسهوم. وهل تنسى يوم سارقها النظر، فتضرج وجهها؛ فغضب لافتضاح أمره، ونهرها بشدة؟!
ما أشد كبرياءه! ولكنها ستهزم اليوم هذه الكبرياء هزيمة ساحقة. . .
سيجثو تحت قدميها، ويقول لها: (كم أحبك. . . كم أحبك يا عصفورتي الصغيرة!. . . فتجيبه، وهي مهتاجة: (دعني أخرج!. . افتح لي الباب. . .) ثم يمسك بيديها، ويغمرها بقبلاته وهو يكرر: (ارحميني!. . . ارحميني!. . .)
وأخيراً رفع رأسه عن كومة الكتب، ثم التفت إليها، فرآها تبتسم له، فأجابها بابتسامة سانحة!
تلك هي العاصفة توشك أن تهب، فلتستعد لها. . .
إنها لم تره على هذه الوسامة قط. . .
أتراه يفكر في حملها بين ذراعيه، ثم يقفز بها من النافذة إلى الحديقة، ثم يظل يعدو بها. قد يعقد الذعر لسانها، فلا تستغيث ولا تتحرك. . . فلا يفتأ يجري ويجري. . . فإذا ما امتلكت نفسها، واستعادت شجاعتها، وأرادت أن تصيح، أسكتها بقبلة طويلة!
لم يعد يبحث عن الكتاب، إنه في تفكير شارد مضطرب. يُعد برنامج الهجوم. . . أفلا تتقدم إليه من فورها، وتباغته بقولها:
لقد كشفت عن خططك. . . سأفسدها عليك. . . افتح الباب، ودعني أخرج. . .)؟!
والتفت إليها في هذه اللحظة، ثم رأته يدنو منها. . .
يا لله! ما أشد خفقان قلبها!. . . إنها تسبل جفنيها. . .!
وسمعته يقول:
هذا هو الكتاب.(312/55)
فرفعت إليه بصرها، فإذا به يمد إليها يده بالكتاب الذي كان وعدها به. وقد زوى ما بين حاجبيه. . . فأخذته منه في صمت!
وأبصرته يفتح الباب بالمفتاح، وينفذ منه، وهو يصيح بالخادم قائلاً:
ألم آمرك غير مرة بإصلاح هذا الباب؟ إن المرء ليضطر لاستعمال المفتاح كلما دخل أو خرج تفاديا من هذا التيار الشديد!. . . ثم اختفى عجلاً.
ولبثت الفتاة طويلاً تحدق في الجهة التي اختفى منها. . . ثم وقع بصرها عفواً على الكتاب في يدها فاندفعت إلى النافذة، وقذفت به!
ثم ارتمت على المتكإ، وانكبت على منديلها تمزقه بأسنانها. . .
محمود تيمور(312/56)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن شعور
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يأبى بعض علماء النفس إلا أن يسرفوا كل الإسراف في التقيد بالتجارب المادية فلا يرضون أن يقرروا الحقائق النفسية إلا بعد أن يقيسوها ويزنوها بمقاييس وموازين مادية من الأجهزة البارعة التي استحدثوها. ولست أدري كيف غاب عن هؤلاء العلماء الأجلاء أن المادة لا تستطيع أن تقيس وأن تزن إلا المادة وهم - على ما يعترفون بجهلهم المطبق بالنفس ذاتها - لا يجرؤ أحدهم على القول بأنها مادة. فإذا قال قائل: إن هناك طريقاً غير سراديب المعامل وأقبيتها قد تؤدي إلى بعض العلم بالنفس كان من حسن المجاملة التي يجب على علماء النفس اصطناعها أن يسكتوا عنه - إذا تكبروا عن متابعته - كما سكت عنهم وتركهم يقيسون ويزنون بما يستحدثون ويصنعون ما لا يعرفون ولا يعلمون ويقولون مع هذا إنهم علماء، وإنهم ينهجون في علمهم النهج القويم الوحيد
فإذا أرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم وقالوا إنهم لم يستحدثوا حدثاً، ولم يبتدعوا بدعة وإنهم لم ينهجوا في علم النفس إلا النهج الذي ينهجه العلماء في بقية العلوم، وإنهم لا يطلبون شططاً من الناس ولا يحملونهم فوق ما يطيقون حين يسألونهم الإيمان بعلمهم كما يؤمنون بأمور الكهرباء التي يذيعها علماء الطبيعة فيقبلها الناس ويستغلها المخترعون من غير أن يطالبوا علماء الطبيعة بإدراك كنه الكهرباء. . . إذا قالوا هذا قلنا لهم: وعلماء الطبيعة مثلكم أيضاً يكتشفون ويخترعون ولكنهم لا يعلمون، وهم إذا جاز لهم أن يقعدوا عن فهم أسرار الطبيعة الصماء وقنعوا باستغلال قواها مستفيدين آكلين شاربين، فإن لهم عذرهم في هذا ما داموا يرون الطبيعة التي يقيسونها ويزنونها بأجهزتهم شيئاً خارجاً عن أنفسهم بعيداً عنهم، أما أنتم يا علماء النفس فتستطيعون أن تجولوا في أنفسكم بأنفسكم ولكنكم تزدرون أنفسكم زراية ما بعدها زراية حين تأبون إلا أن تسألوا عنها أجهزتكم، وأجهزتكم وحدها كالمبصر المفتوح العينين الذي يسير في وضح النهار ويأبى إلا أن يتحسس الأرض بعكازة لها(312/57)
وحدها الأمر في خطواته، وهي وحدها التي تأذن له بالتقدم، وتشير عليه بالتريث، وتميد به ذات الشمال وتميل به ذات اليمين
ولعل واحداً من علماء النفس الطبيعيين يتواضع ويسألنا عما يمكن أن يسلكه علم النفس من السبل التي قد تصل به إلى العلم الصحيح والتي لا تقف به عند الباب موقف التجسس المريب. هذا ندعوه إلينا، أو نتطفل عليه فنأتمّ به ونرجوه أن يقودنا بعلمه وأجهزته ونحن من ورائه تابعون، ولكن متيقظون
سنسأله أول ما نسأله: أين هي النفس؟ فإننا لا نستطيع أن نتجه إلى شيء من غير أن نعرف مكانه
وهو عندئذ سيقول: النفس في الإنسان وفي الحيوان
. . . فهو رجل طيب متواضع يعترف للحيوان بالنفس بينما غيره من العلماء يجهده هذا الاعتراف، ولا شك أن حظنا السعيد هو الذي هدانا إلى هذا العالم الطيب المتواضع، فعلينا إذن أن نشكره كل الشكر لأنه لم يترفع بجنسه على الحيوان، ثم أن علينا بعد ذلك أن نمضي في البحث عن العلم فنوجه إليه السؤال الجديد
- أليس هناك فرق بين نفس الإنسان ونفس الحيوان؟
وهنا سيطرق أستاذنا قليلاً ثم يقول:
- إن هناك فرقاً من غير شك. فالإنسان عاقل والحيوان غير عاقل. . . ونحن نفرح بالحق، فلا نملك إلا أن نعترف لأستاذنا بأن ما يقوله صحيح، ولكننا ملحون نريد أن نمضي في الطريق ما دمنا نستطيع أن نمضي فيه، فنخطو وراء أستاذنا خطوة جديدة لنقف به أمام سؤال جديد فنقول له:
- إن الطبيعة حين تودع كائناً ما قوة من القوى فإنها تقصد من هذا أن ينتفع هذا الكائن بهذه القوة، والذي لا شك فيه هو أن الإنسان انتفع في حياته بعقله، ولكننا لا نشك أيضاً في أن هذا العقل يلتوي على الإنسان في كثير من الأحوال فيضره بل إنه يبسط أذاه على الآخرين، كما أنه يحار أحياناً في تصريف أمور صاحبه فيرتبك ويضطرب ويصيب أحياناً ويفشل أحياناً، بينما نرى الحيوان يقضي طول حياته لا يؤذي نفسه، ولا يلحق الضرر بفصيلته، ولا يعجز عن حفظ حياته، ولا يضطرب ولا يرتبك إلا عندما يدهمه ظرف(312/58)
خاص غريب على الطبيعة فلا بد إذن أن يكون في الحيوان شيء آخر غير العقل هو الذي يصونه هذه الصيانة، ويحفظه هذا الحفظ ويقوده إلى السلامة، ولا بد أن يكون هذا الشيء أنفع من العقل. . . فهل هو موجود عند الإنسان أو مفقود؟ فإذا كان موجوداً فلماذا يغفله الإنسان ولا ينتفع به؟
ويهتز أستاذنا حينئذ طرباً لأنه تمكن من مغمز في كلامنا فهو يأخذ بخناقنا ويقول: إن الإنسان أيضاً لا يرتبك ولا يضطرب ولا يعجز عن صيانة نفسه وحفظها إلا إذا دهمه طارئ غريب على الطبيعة
فنبتسم نحن في دورنا ونسلم له بهذا جدلاً مع أنه كلام مبتور ولكننا نسأله:
- ما بال الإنسان إذن يكثر من صناعة العجائب والغرائب بعقله، وما باله يتعمد الحيدة عن الطبيعة، وفي هذه الحيدة الأذى والضرر. . . لا بد أن يكون العقل إذن هو الجنون
ويزور أستاذنا عن هذه النتيجة فيعبث بلحيته قليلاً ثم يسعل سعلتين، ومع أنه رجل طيب متواضع إلا أنه عالم يعتمد في علمه على العقل، وعلى العقل وحده، فإذا آمن معنا بأن العقل مجنون كان عليه أن يغيب عنا ساعة يمزق فيها كتبه، ويحطم فيها أجهزته ثم يعود ألينا نحن الجهلاء ليجلس إلى جانبنا معتمداً رأسه بكفه ينتظر الفيض من الكريم. . . عز على أستاذنا الطيب المتواضع أن يغيب عنا هذه الساعة لأنه فيما يظهر أحبنا ولم يعد يطيق البعد عنا. . . ونحن قوم نستجدي الله عطف المحبين
انتصب الرجل، وتحجرت عضلاته - فتحجرت نفسه - ووضع يديه في وسطه وهز لنا رأسه وقد ركبته كبرياء العلم وزجرنا متسائلاً، أو سألنا زاجراً:
- والآن ماذا تريدون؟
فخفضنا الرؤوس ذلاً ورجاء، وزفرناها جميعاً قائلين:
- اللهم إنا لا نطلب إلا الهدى فاجعلنا من المهتدين
فسألنا ساخراً:
- ومن يهديكم غير عقولكم؟
فقلنا: - قد رأينا العقلاء مجانين
فقال: - وكيف إذن تهتدون؟!(312/59)
فقلنا: - لا بأس في أن نتعلم من غير العاقلين، هذا هو الحيوان يجوع فيسعى إلى الطعام، ويظمأ فيطلب الماء، ويحن إلى الأنثى فيدلونه إليها، ويزيد نشاطه فيلعب ويتعب فينام، ويطمئن فيهدأ، ويخاف فيتقي ما يخاف، ويستطيب فيألف، ويستنكر فينفر، ويصح فيعتدل، ويعتدل فيصح، فإن مرض عالج نفسه بنفسه، وهو لا يمرض إلا إذا ألم به ما هو غريب على الطبيعة، وحياة الحيوان بهذا كحياة الإنسان فيها كل مظاهر الحياة، وفيها كل معاني الحياة، وليست تنقص عن حياة الإنسان إلا هذه العقد التي أنشأها العقل. فهي لا يمكن أن تعاب بهذا النقص لأن فيه سلامتها؛ فما الذي يدبر هذه السلامة لها. . .
هذا يا أستاذنا هو السؤال الذي نحب أن نبدأ به جدلنا. . .
. . . وأصاب أستاذنا الرد سريعاً فأجاب: إنها الغرائز، أي نعم الغرائز. فالحيوان ينقاد لغرائزه في حياته فيسلم ما دامت حياته طبيعية لا تمتد إليها المؤثرات المصطنعة. . .
. . . وهذا كلام طيب لا نستطيع نحن الجهلاء أن ندفعه. فعلماء النفس عندهم مقاييس وموازين وأجهزة أثبتوا بها أن الحيوان يعيش بالغرائز، ويحفظ نفسه طول حياته بالغرائز؛ ثم يموت أيضاً بالغرائز. . . ولكننا نرى في حياة الحيوان أعاجيب تشهد بأن الحيوان يدرك من أسرار الطبيعة ما لا يدركه العقلاء بعقولهم، ولما كان علماء النفس لا يقولون إن غرائز الحيوان تزيد على غرائز الإنسان شيئاً لم نر بداً من أن نسأل أستاذنا سؤالاً رأيناه يرتعش قبل أن نسوقه إلى مقام الأستاذ، ولكننا سقناه فسألناه: هل في غرائز الحيوان ما يدعى (غريزة الغيب)؟!
فأسرع أستاذنا ولطمنا معترضاً: وهل ترون الحيوان يدرك الغيب؟
فقلنا والخجل يكاد يخنقنا: نعم. فالحيوان يبدر منه أحياناً ما يدل على أنه يدرك ما يشبه الغيب، أو أنه يشبه أن يدرك الغيب عندئذ نفخ أستاذنا وقال: مثال ذلك؟
فحمدنا الله لأنه لم يتعجل فينكر علينا دعوانا قبل أن نحاول إثباتها، فقد تعودنا من كثيرين من العلماء الذين يشغفون بالمقاييس والموازين والأجهزة أن ينكروا كل ما يعتصم على مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . استبشرنا وتوقعنا الخير، وقلنا عساه يريد أن ينزل عن علمه وأن يسلك معنا طريق الفن أو طريق الجهل، وأسرعنا فضربنا له المثل قائلين:
- يحدث في ليلة العيد الكبير في مدن المسلمين أن يرتفع ثغاء الأضاحي أكثر من ارتفاعه(312/60)
في الليالي السابقة، وأكثر بيوت المسلمين تختزن أضاحيها قبل ليلة العيد بليال عدة ليلعب الأطفال معها قبل أن يأكلوا منها. . . فلماذا يتزايد ثغاء الأضاحي ليلة العيد، ولماذا تلمس فيه الأذن الحساسة معاني الاستغاثة والشكوى والفزع واليأس؟
. . . وطلب هذا السؤال لأستاذنا نكتة فراح يضحك ويقهقه ويقول:
- وماذا أيضاً؟!
. . . وجدنا نحن سنداً لملحوظتنا هذه في ملحوظة أخرى فرضناها هي أيضاً عساها ترد سخريته واستهزاءه فقلنا:
- ويحدث أن يموء القط وأن يعوي الكلب في بيت المحتضر قبيل الوفاة بزمن قليل. فلماذا يموء القط وقتئذ، ولماذا تلمس الأذن الحساسة معاني الموت والإنذار، في مواء القط وفي عواء الكلب؟
. . . فلما رأى أستاذنا أننا مصرون على المضي في سبيلنا عدل عن التهكم بالضحك إلى التهكم بالكلام فقال:
- كأني بكم كأولئك المخرفين الذين يلصقون ببعض الحيوان الشؤم، فيتطيرون منه جرياً وراء الذي روجه القدماء الجهلاء عن هذا الحيوان من حديث الشؤم والسوء.
. . . ولم نر نحن في هذا عيباً، فنحن لا نشك في أن حضارتنا زادت على حضارة القدماء، ولكننا نرى في هذه الحضارة تنائياً عن الطبيعة، فالمتحضرون لا يمارسون الاحتكاك بالطبيعة والتفاعل معها مثلما يفعل الهمج والبدو، وهذه المسألة التي نحن بصددها من مسائل الطبيعة المحضة لا من مسائل الحضارة، فلا يبعد أن يكون الأقدمون الأقربون من الطبيعة قد اهتدوا إلى سرها بينما ابتعدنا نحن عن هذا السر بحضارتنا التي أضرمت الغرور في عقولنا فلم نعد نكلف أنفسنا مؤونة البحث في علوم القدماء وقنعنا باتهامهم بالتخريف لأننا رأيناهم تخبطوا أمام بعض الحقائق وعجزوا عن الوصول إليها بينما أتيح لنا نحن أن نكشفها، فساقنا هذا إلى أن نتهم علومهم جميعاً بهذا التخريف مع أننا عاجزون إلى اليوم عن إدراك بعض ما اهتدى إليه الأقدمون
أما نحن الجهلاء فإننا لا نزدري الأقدمين كما أننا لا نزدري المحدثين، وإنما نطلب الحكمة عند هؤلاء كما نطلبها عند هؤلاء، ونكتفي بالتحنيط الفرعوني شاهداً على اهتداء الأقدمين(312/61)
لنخفض الرؤوس أمامهم بالاحترام والتقدير.
فقلنا لأستاذنا: فلندع هؤلاء المخرفين وغربانهم تنعق فوق رؤوسهم أو فوق رؤوسنا حيثما طاب لها النعيق، ولنحاول تعليل هذا الذي نراه في أضاحي العيد، وهو شيء لا يمكن أن ينكر، ولنحاول معه تعليل هذا الذي نراه من القط والكلب في بيت المحتضر قبيل وفاته. . . هل في علمكم هذا التعليل؟ وهل هي أيضاً غريزة تنذر الحيوان بالغيب، أو ماذا تقولون؟!
فلم يهن على أستاذنا أن يكف عن القول. . . قال:
- إن الأضاحي تثغو ليلة العيد، ويزيد ثغاؤها مصادفة، وبالمصادفة أيضاً يموء القط، ويعوي الكلب في بيت المحتضر قبيل الوفاة.
. . . وهكذا العلماء. كلما حيرتهم ظاهرة من الظواهر عللوها بالمصادفة، ولم يفكر واحد منهم أن يبحث للمصادفات عن قانون! ولماذا لا يكون للمصادفات قانون، ولكل شيء في هذا الوجود قانون؟ الهم هديك! على أننا مؤمنون بأن الظاهرتين اللتين أوردناهما لسيدنا العالم ليستا مما يخضع لقانون المصادفات، فليس الذي يتكرر في ملابساته تكرارا متواصلاً مستمراً بالذي يدخل في حساب المصادفات مهما أصر سيدنا الأستاذ على ما يقول. . . ومع هذا فقد أمسكنا عن مناقشته فيه فنحن لا نستطيع أن نقنع المكابر بأن البيضة من الدجاجة وأن الدجاجة من البيضة إذا أصر على أن يقول إنها المصادفة وحدها هي التي تخرج إحداهما من الأخرى، فانتقلنا به من هذا إلى ما ذكرناه من تعبير ثغاء الأضاحي الهاتفة مصادفة فقط ليلة العيد بالاستغاثة والفزع والشكوى وغير ذلك من المعاني التي يمكن أن تضطرب في نفس المسوق إلى الموت، سألناه عن هذه المعاني: ألا يستشعرها، فضحك وقال:
- وهل تشعرون أنتم بها؟
فقلنا: نعم والحمد لله، وإنك أيضاً تستطيع يا أستاذنا الجليل أن تستشعرها إذا أردت، وإن كنت تأبى أن تشعر إلا بمقاييس وموازين وأجهزة فإنك تستطيع أن تكتب ما شئت من ثغاء هذه الأضاحي بالنوتة الموسيقية، وتستطيع أن تطلب من عازف فنان أن يعيدها على سمعك بآلة يشبه صوتها صوت الخراف، ولعل الفيلونسيل هو أقرب الآلات الموسيقية إلى(312/62)
تقليد هذه الأصوات، فإذا لم يشعرك الفيلونسيل بهذه المعاني التي نحدثك عنها، فإنه عجز المادة عن قياس النفس ووزنها، ولا بد لك إذن من الاستعانة بجهاز يشبه الحيوان من حيث وجود النفس فيه، وليكن هذا الجهاز إنساناً مغنياً؛ أو إنساناً ممثلاً تطلب منه أن يقلد لك أصوات الخراف ليلة العيد تقليداً أميناً فيه الصوت وفيه ما يبعث الصوت من الشعور.
. . . وهنا تعجل أستاذنا وقطع علينا الطريق متسائلاً:
- فإذا لم أشعر بما تشعرون؟
فقذفنا بها عندئذ مجبرين وقلناها محرجين:
- لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في الناس فريق يشعرون وفريق لا يشعرون وإن كانوا يعقلون.
. . . وعادت إلى الأستاذ طيبته، وعاد إليه تواضعه فسألنا كمن يريد أن يعرف:
وهل في الناس حقاً من يشعرون؟
ولم ندهش لهذا السؤال، فقد صدر من عالم، فقلنا له: نعم يا سيدنا الأستاذ. نقسم لك بالله أن في الناس من يشعرون بأضاحي العيد. بل أن فيهم من يشعر كأضاحي العيد.
. . فذعر الأستاذ لهذا، وضاق عقله عنه، وسأل من فمه سؤال أبله معتوه وقال: إذا كان هذا حقاً. . . فكيف يحدث. . . هل تعرفون؟!
فتبادلنا فيما بيننا النظرات لأننا كنا نظن أن العلماء مهما جمدوا بعقولهم دون الحق فإنهم يستطيعون أن يستنبطوا أسباب المظاهر التي يلمسونها ما دامت ظاهرة لهم، وما داموا يلمسونها، وما دامت لهم عقول، وما داموا يقولون إن عقولهم تكفيهم وتهديهم وتلبي مطالبهم وحاجاتهم. . . وكنا نظن هذا لأننا نسينا أن سادتنا العلماء ينفضون أيديهم من العلم ما انفلتوا من معاملهم وما نفضوا أيديهم من مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . وجل من لا ينسى. . . ولكننا عدنا فذكرناه وقلنا لسيدنا الذي هجر الشعر رأسه إلى لحيته:
- أنتم صدقتم داروين حين قال لكم إن بدن الإنسان تطور من بدن الحيوان، ثم صدقتم علماء آخرين قالوا لكم إن جنين الإنسان يمر في بطن أمه بالأدوار التي مرت بها الإنسانية في سلسلة رقيها، فهو يبدأ خلية ثم دودة ثم زاحفة حتى يتم تكونه الإنساني فينقذف إلى الحياة إنساناً ولكنه يمشي على أربع، إنساناً ولكنه أبكم، إنساناً ولكنه بلا عقل. فلماذا لا(312/63)
تتأملون هذا الإنسان العجيب، ولماذا ترضون أن يكون الجنين تلخيصاً للرقي البدني البشري، ولا يخطر في بالكم أن حياة الطفولة تلخيص هي أيضاً للرقي الروحي البشري، وأن الطفل فيها يتخلص من بعض الخصائص ويستكمل خصائص أخرى غيرها، ولماذا لا تدرسون المرحلة الأولى التي يتجلى فيها العقل عند الطفل وترون على حساب أي شيء يتجلى هذا العقل، وما الذي يستره من نفس الطفل كلما ازدهى وازدهر وساير الحياة العاقلة؟ ولماذا لا تتابعون في الطفل ائتلافه بالطبيعة لتروا كيف يضمحل هذا الائتلاف عن بعض الأطفال وكيف ينمو عن الآخرين؟ ولماذا لا تحاولون أن تفسروا ما يتاح لبعض الناس من القوة على إدراك أسرار الطبيعة بشعورهم بينما لا تتاح هذه القوة لغيرهم؟
أليس هذا كله مما يصلح للدرس؟!. . .
ثم ألا تلحظون أن الأطفال يهجمون على حقائق الحياة الطبيعية غير محاذرين ولا مشفقين لا لشيء إلا لأنهم لا يعقلون، وأنهم يقيسون الأشياء ويزنون الناس بشعورهم (لا بعقولهم) فيصدق قياسهم ويصدق حكمهم أكثر مما يصدق قياس الكبار العقلاء وحكمهم. لا لشيء إلا أن الكبار يزحمون أنفسهم بمعايير مصطنعة يقدرون بها الحقائق ويزنون بها الأشياء، وكثرة هذه المعايير واضطرابها هما اللذان يورثان أحكامهم وتصرفاتهم الغلط والشطط
لماذا لا تفكرون في هذا يا سادتنا العلماء؟ ولماذا تغفلون شعوركم وشعور الناس؟!
فأطرق الأستاذ مرة أخرى. ولكن إطراقته طالت هذه المرة ما شاء علمه وتفكيره أن تطول. . . ثم رفع رأسه وقال:
- وهل هناك من يجول في ميادين الشعور؟
فقلنا غير مفاخرين:
- نعم إنهم أهل الفنون وهم الذين يرقى شعورهم كما يرقى عقلهم فيحتفظون بتوازنهم الإنساني ولا يعطلون بإرادتهم ولا بالجشع المادي قوة يرونها تحفظ حياة الحيوان وتصونه وتهديه، فما بالك لو صاحبها العقل والتفكير السليم. . .
عزيز أحمد فهمي(312/64)
رسالة العلم
نحو فلسفة جديدة
للدكتور محمد محمود غالي
الحركة (البراونية) - عمل كوتون وموتون - مشاهدات بيران
- المجهودات الأولى لأينشتاين - توحيد الظواهر الطبيعية -
غاية العلوم
حدثنا القارئ عن فلسفة ليبنز بأن الحرارة عنده هي الحركة، وذكرنا أن جزيئات جميع الأجسام في حركة مستمرة وهي الظاهرة المعروفة بالحركة (البروانية) نسبة إلى العالم (براون)، وعند ظني أن الذين يبحثون عن الحركة الدائمة يجدونها في جزيئات أية مادة تقع عليها العين، فهي في حركة دائمة لا تعرف للسكون سبيلاً، وهذه الحركة تُحدث فينا شعوراً نسميه الحرارة، وهو حركة جزيئات الجسم لا أكثر ولا أقل، وكما أنه لا يوجد جسم دون أن يكون له حرارة معينة كذلك لا يوجد جسم لا تتحرك جزيئاته بسرعة معينة، وعندما نصف أي جسم بالبرودة الشديدة فإنه على درجة من الحرارة مهما انخفضت عن الصفر الحراري العادي فإنها تفوق الصفر المطلق
وهكذا عندما تحقق للعالم المعروف (دي باي) في السنين الأخيرة الحصول على درجة - 271ْ، أي درجتين فوق الصفر المطلق فإنه بقي لجزيئات المادة عند هذه الدرجة الخفيضة نوع من الذبذبة لازمها دائماً على ضعف مقداره
قد يقسو علينا الشتاء وتبرد الكائنات وتحرمنا الشمس الجزء الأكبر من حرارتها لبعدنا عنها في هذه اللحظة المعينة من السنة، وقد يتجمد معظم حاجاتنا. . . أجل أذكر في شتاء سنة 1929 وكنت أقطن ضاحية (مونت روج) من ضواحي باريس - أن تجمد كل ما نحتاج إليه مما يباع عند البدال، فاللبن والزيت وكل ما يباع سائلاً تجمد وأضحى في عداد الأجسام الصلبة حتى مياه المنزل داخل المواسير ومياه نهر السين تحولت وباتت جسماً صلباً لا يتحرك، ولكن جزيئات هذه الأجسام على برودتها الشديدة التي بلغت في بعض الأيام عشرين درجة تحت الصفر احتفظت بنوع من الذبذبة هو دليل حرارتها مهما كانت(312/65)
منخفضة
هذه الحركة الدائمة في الغازات والسوائل والذبذبة المستمرة في الأجسام الصلبة أصبحت من الأمور التي لا تقبل الجدل، وقد سألني بعض القراء الذين تابعوا مقالاتي هل توصل العلماء إلى رؤية حركة الجزيئات داخل الأجسام أو أنهم اعتبروا هذه الحركة موجودة لأنها حققت الكثير من الظواهر الطبيعية؟ وبعبارة أخرى، هل هذه الحركة مجرد فروض علمية أو هي حقيقة واقعة يمكن أن ترى أثرها العين؟ هل من سبيل أن نرى مثلاً حركة الجزيئات في نقطة من الماء؟
وجوابي أن هذه الحركة بين الجزيئات حقيقية يمكن أن نرى أثرها، وأنه من الأمور العادية أن تقوم داخل المخبر ببعض التجارب التي ترى خلالها أثر حركة الجزيئات داخل السوائل وتصادمها مع غيرها، وهكذا عندما ذكرنا في مقال سابق نقطة الماء على ورقة من الشجر داخل حديقة ساكنة، وقلنا أن هذه النقطة بعيدة جد البعد عن السكون وأنها مكونة من ملايين العوالم وأن كل عالم منها في حركة دائمة، كنا رأينا كغيرنا الحركة الناتجة من اصطدام هذه العوالم بعضها بالبعض وما على الذين يريدون أن يستمتعوا برؤية أثر هذه الحركة الداخلية بين الجزيئات إلا أن يمزجوا بهذه النقطة من الماء نقطة من سائل كولويدي أي مكون من الجسيمات الصغيرة المعلقة كمحلول البرمنجانات أو الحبر ويفحصوا المخلوط الجديد تحت الألتراميكروسكوب. إن هذه الجسيمات الغريبة من البرمنجانات أو الحبر تقع بين ملايين العوالم المكونة لنقطة الماء، تلك العوالم التي تتحرك دائماً حركة لا يؤثر عليها سكون الحديقة ولا يغير فيها تعاقب الليل والنهار، وهي بهذا تصطدم مع الجسيمات الداخلة بينها والتي نرى حركتها بشكل واضح
أذكر يوماً تقدمت فيه للأستاذ كوتون رئيس المجمع العلمي الفرنسي لأقوم بأبحاث طبيعية في مخبره بالسوربون. قدمني الأستاذ الكبير لزميله موتون واقترحا عليّ في ذلك الحين أن أستغل قليلاً ببعض العمليات الألتراميكروسكوبية، وهكذا ظللت أعمل بضعة أيام بذلك الألتراميكروسكوب التاريخي الذي كان من اكتشافهما. كل من يطالع اليوم التاريخ المجيد الذي حازته العلوم الطبيعية في القرن الحالي يعلم أن في أوائل هذا القرن نشر الشابان كوتون وموتون طريقتهما الجديدة في رؤية الأشياء الصغيرة التي لا يراها الميكروسكوب(312/66)
العادي وأن لهما في ذلك أبحاثاً هامة
إن العين تتأثر بأشعة الضوء عندما تقع طول موجاته بين
حدود معينة هي من 100004 إلى 100008 من المليمتر،
بحيث أنه يمكن للعين أن ترى الجسيمات الصغيرة بواسطة
الميكروسكوب ما دامت لا تصغر هذه الجسيمات عن حد معين
مرتبط بطول موجة الضوء المرئي، ولكن كثيراً من
الجسيمات التي نصادفها تقل عن هذا الحد من الصغر، لهذا
وقف في بادئ الأمر التقدم الطبيعي عند هذه الحدود
إن جسيما يقل في العادة عن 101 أو 201 من الميكرون
(الميكرون 10001 من المليمتر) لا يعطينا بالميكروسكوب
صورة واضحة للجسيم، ولا يمكن بمجرد النظر فصل أجزائه
المختلفة، ولكن كوتون وموتون فهما أننا لا نرى في المساء
الكواكب بذاتها وإنما نرى مواضعها، وهكذا استطاعا بإنارة
معينة أن يريا في مجال الميكروسكوب الجسيمات المتناهية في
الصغر، وأدركا أن هذا الجسيم الذي لا نراه بالميكروسكوب
إذا أضيء إضاءة جانبية مماسة يرسل في كل الجهات أشعة
مبعثرة بحيث يظهر في الميكروسكوب بقعة مضيئة لا تشبه
الجسيم، ولكن تدل على وجوده.(312/67)
وتتلخص تجربتهما في أنهما وضعا نقطة من السائل المراد فحصه، والحامل للجسيمات الكولويدية على كتلة من الزجاج ووضعا عليها شقفة رفيعة من الزجاج، وقد استعملا لإنارة السائل قوساً كهربائياً من الفحم بحيث كونا صورة طرفي الفحم المضيء داخل نقطة السائل المراد فحصها، والموضوعة على كتلة الزجاج، وتحت الشقفة في محور الميكروسكوب.
على أن الجزء الهام في تجارب كوتون وموتون هو أن الأشعة
مائلة للدرجة التي يحدث فيها الانعكاس على السطح
الفاصل بين الهواء والشقفة الزجاجية بحيث لا يصل إلى
الميكروسكوب إلا الضوء المنبعث من الجسيمات
الألتراميكروسكوبية التي نراها في هذه الحالة كما نرى
النجوم، ويعتقد زيجموندي أنه استطاع أن يعرف وجود
جسيمات من الذهب يبلغ قطرها 100006 من الميكرون أي
أصغر بكثير من واحد على مليون من المليمتر
إنه لمشهد رائع أن ترى هذه النجوم تروح وتجيء وترتفع وتهبط ويطول سيرها طوراً ويقصر تارة أخرى وهي بهذا تذكرنا بالمناورات الليلية البديعة التي يقوم بها سلاح الطيران المصري خاصة بالكشف عن الطائرات، فهذه النقط المضيئة في السائل تشبه الطائرات المرتفعة ليلاً في كبد السماء عندما يقع على إحداها أنوار الكشافات من كل صوب، فإننا نرى جسماً ساطعاً في السماء يتحرك جيئة وذهاباً وهي تسطع كالنجوم في الليل الدامس
وهكذا عندما صعدت إلى تلك الغرفة أول مرة لأقوم فيها ببعض التجارب على هذا الجهاز التاريخي رأيت في نقطة من المحلول الكولويدي السماء كأنها ترتسم أمامي. . . رأيت في النقطة الصغيرة الجسيمات كالنجوم الساطعة في ليلة حالكة مع هذا الفارق وهو أن الأجرام(312/68)
الصغيرة داخل النقطة في حركة دائمة شاءتها أسباب طبيعية كما شاءت أسباب فوتوكيميائية (الهابوش) المسكين أن يجتمع مجبراً ويدور قسراً ويتصادم عفواً طول الليل حول المصباح المتألق
على أن ما يجعل لهذه التجارب أثراً في نفسي أنني لم أقم بها على الألتراميكروسكوب التاريخي فحسب، بل في ذات الحجرة المتواضعة التي أجرى فيها (جان بيران) تجاربه الخالدة، تلك التجارب الخاصة بالحركة البراونية، والتي استعمل فيها الجهاز الألتراميكروسكوبي المتقدم الذكر، ففي هذه الحجرة المتواضعة الواقعة في الطابق الثالث من السوربون، والتي تطل على مكتب بريد الحي اللاتيني في شارع كيجا، استطاع جان بيران أن يعين بطريقة تدعو للإعجاب شحنة الإلكترون، وهي الطريقة التي سنشرحها للقارئ عندما ننتهي من الكلام عن الجزيء والذرة ونشرح الإلكترون
وقد تتبع بيران حركة الجزيئات أياماً طويلة واستطاع بالاستعانة بقوانين وضعها العالم الكبير أينشتاين، قوانين كانت باكورة أعماله في سنة 1906، أن يعطي أهم النتائج التي نعرفها عن الحركة البراونية أو الداخلية للأجسام، تلك الحركة التي اكتشف فيها توزيعاً لوغاريتمياً يشبه التوزيع الذي اكتشفه لابلاس لجزيئات الهواء، وهذه التجارب الأخيرة جزء من الأعمال التي أتمها بيران في سنة 1909 والتي منحه من أجلها المجمع السويدي جائزة نوبل للطبيعة لعشرين عاماً بعد ذلك التاريخ
وهكذا يستطيع اليوم أي طبيب بعيد عن المختبرات أن يعيد تجارب كوتون وموتون بأن يكوّن داخل النقطة المراد فحصها صورة مصباح على طريقتهما، ويتأمل الحركة الأبدية داخل أصغر نقطة من رذاذ الماء
وهكذا نجحت طريقة كوتون وموتون اللذين فهما من أول لحظة أنه لا بد في فكرة إنارة الجسيمات من وجود طريقة لرؤيتها، وهكذا يتعلق النجاح في الأعمال على درجة فهم الإنسان لأصول الأشياء ودرجة إدراكه للحقائق، وعند ظني أن شيلز وشيل، وودجود الذين مهدوا لاكتشاف جهاز التصوير الشمسي بأبحاثهم الخاصة بأثر الضوء على نترات الفضة، أدركوا قبل كل شيء أن في أشعة الشمس أسراراً تمكننا من أن نرى الأشياء مرة أخرى بل أن ليبمان أستاذ السوربون لم يكتشف فيما بعد التصوير الشمسي بالألوان إلا لأنه فهم(312/69)
بدرجة دقيقة فكرة التداخل الموجي للضوء
نعود الآن بالقارئ إلى فكرة ليبنز من أن الحركة بين جزيئات السائل التي ذكرت للقارئ إمكان رؤيتها عملياً، لا تسبب الحرارة بل إنها هي الحرارة نفسها، فنقرر أن اختلاف إحساسنا للحرارة عن إحساسنا للحركة لا يدل على أن الظاهرتين مختلفتان، والواقع أن بين أعصابنا ما يجعل شعورنا يختلف إزاء الحركة أو الذبذبة المستمرة للجزيئات، فلا نسجلها كشعور للضغط ولكن كشعور لكمية جديدة نسميها الحرارة
هذا الجمع بين الظاهرتين في ظاهرة واحدة يعد تقدماً كبيراً للعلوم وللإنسان وريث هذه العلوم، ولا شك أن النجاح العلمي معقود اليوم على ربط الظواهر الطبيعية بعضها ببعض وإزعاجها ما أمكن إلى أصل واحد، وعند ظني أن ليبنز وبيران وغيرهما يقدمون بهذا النوع من التوحيد في الظواهر الطبيعية من الخدمات للإنسان أكثر من هؤلاء الذين اخترعوا لنا القاطرة أو الطائرة
أن نترك على جريدة موضوعة على منضدة كوباً من الماء فيهب النسيم بشدة على هذه الجريدة فيرفعها بعنف ويرفع معها الكوب فيقع على الأرض ويتدفق منه الماء - أمر لا يدهش. ولكن أن نعرف حركة ما بداخل الكوب من جزيئات ونعرف أن هذه الحركة هي ظاهرة الحرارة - أمر يعتبر في صميم تقدم معارف البشر
كذلك أن ترفعنا قطعة من الألمونيوم، رتبنا فيها مقاعد للجلوس، من الأرض إلى طبقات الهواء، وأن نجعل الظروف الطبيعية التي وقعت على الجريدة والكوب من رفع الهواء لهما ظروفاً مستمرة بالنسبة لقطعة الألمونيوم فنسافر على هذه القطعة من القاهرة إلى الإسكندرية أو من القاهرة إلى لوندرة وذلك بالسيطرة على عاملين: العامل الأول دائرة كارنو واحتراق البنزين، والعامل الثاني دوران المروحة لدفع الهواء - مسائل يجب ألا تدهشنا ولا نعتبر أنها ذهبت بنا بعيداً في التقدم - وأما أن نعرف ما يدعونا إليه ليبنز وأمثاله، وأما أن نعرف طبائع المسائل ونرجع بالظواهر إلى صورها الحقيقية، وأما أن نحاول توحيداً في ظواهر الكون، فإن هذه خطوات جريئة إلى الأمام.
وعند ظني أنه في اليوم الذي يُرجع فيه العلماء كل مظاهر الكون إلى قليل من الظواهر، وكل جزيئاته إلى قليل من العوامل والمكونات الأولى، نكون قد صعدنا أرفع الدرجات في(312/70)
سلم المعرفة
أجل: أن في اليوم الذي نرجع فيه كل ما في الكون من مادة حية وأخرى عديمة الحياة من إنسان وحيوان ونبات وجماد، من كل مظاهر الضوء والمادة والكهرباء بل والقوى، إلى حوادث زمنية مكانية - يلعب على مسرحها عدد قليل من المكونات التي يغلب على ظني أنها لا تتعدى الإلكترون والبوزيتون والفوتون والنيترون نكون قد سرنا بالعلوم إلى لأقصى الدرجات وبالفلسفة إلى أعلى المراتب بحيث يصبح كل ما نراه ونسمعه ونشعر به، وكل ما يخطر على بالنا ويجول بأنفسنا يجد تفسيراً مادياً في اختلاف موضعي وزمني لهذه المكونات وما يتفرع منها
عندئذ نكون قد فهمنا من الكون أكثر مما نفهمه اليوم. ولو أننا وُفقنا بعد ذلك إلى التغلغل في معرفة حقيقة الزمن والحيز فإن التقدم عند ذلك يفوق كل قدر
لا شك أن ليبنز وبيران وغيرهما خطوا بنا في هذا السبيل. لقد أردت أن أتحدث إلى القارئ عن نتائج فلسفة ليبنز فأحدثه عن عمل (ماير) و (بولتزمان) ولكن تجارب كوتون وموتون الإيجابية وأسئلة القراء التي تكرموا بتوجيهها إلينا والرد عليها بذكر تلك التجارب التي تعد آية في العلم التجريبي طغت على كل تفكير، لذلك آخذ العدة لمل فاتني في مقال آخر.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(312/71)
من هنا ومن هناك
نابليون العرب - عن مجلة (في الباريسية
ابن السعود، وهو يحكم منطقة تعادل المناطق المجاورة له جميعها، ويملك جيشاً كبيراً مجهزاً بالأسلحة الحديثة، ويستمتع بشهرة عظيمة بين الممالك الإسلامية بمقدرته على حماية الأماكن المقدسة، سيكون له تأثير كبير ونفوذ دائم على الشرق الأدنى
لذلك يلجأ إليه كل من تحدثه نفسه بالشئون السياسية في تلك البلاد
وهو رجل قوي رزين لا يطلع أحداً على أسراره، حتى أخص أصدقائه ومعاونيه أمثال عبد الله الفادي وحافظ وهبة
وابن السعود مسلم محافظ يحكم بقواعد القرآن وتعاليمه. وهو لا يشرب الخمر ولا يدخن، ويؤدي فروضه الدينية خمس مرات في اليوم. ويزيد طوله قدماً على المستوى المألوف في الرجال. جميل الطلعة ذو لحية وأنف طويل، وفم عريض يدل على القوة والمرح
وقد مرض مرضاً طويلاً أصاب إحدى عينيه، حتى لا يكاد يبصر بها. أما فيما عدا هذا فهو قوي صحيح لم يؤثر فيه الكفاح بحال من الأحوال
وهو رجل ثابت كالطود يطيل التفكير فيما يعرض عليه، ويتكتم أموره عن كل إنسان حتى ليتساءل الناس ماذا عسى أن تكون نياته في مشكلة فلسطين
ومن المعروف عنه قوله: (إنني مسلم أولاً وعربي ثانياً) وحياة ابن السعود جهاد مستمر في توجيه قوى العرب نحو المصلحة العامة. وهو يعمل بجد لإزالة العراقيل التي يضعها الشيوخ في سبيل تنفيذ مبدأ ضم الدول الصغيرة في الشرق الأدنى
ويبلغ الملك ابن السعود الآن الثامنة والخمسين من عمره، وينحدر من سلالة سعود العظيم الذي أحرز ملك العرب في أواخر القرن الثامن عشر. وقد تبع والده في منفاه بالكويت حين أمر بنفيه ابن رشيد حاكم الكويت
وما كاد يبلغ ابن السعود العشرين حتى ترأس فريقاً من البدو وهاجم الرياض واحتل حصونها. وبضربة واحدة استطاع أن يضع نصف نجد تحت إمرته. . . وقد كان هذا في أوائل القرن العشرين!
وما زال ابن السعود ينال انتصاراً يتلوه انتصار في ميادين الحرب والسياسة حتى تغلب(312/72)
على منافسيه وأنداده وأصبح أمير العرب
وقد نجح في تطهير بلاد العرب من اللصوص والقتلة، وأصلح الحالة المالية وألف في بلاده أقوى جيش عرف في الشرق الأدنى
ولابن سعود كل الخصائص التي تجعله يقود أمة عظيمة؛ فهو على ما هو عليه من المهابة يجمع بين قوة القائد العربي والرجل السياسي. ومع أنه رجل محافظ متدين لا يأبى أن يفكر في الواقع ويساير المدنية بقدر الإمكان
وقد استحدث في بلاده العربات الضخمة والسيارات الحربية التي تطوي الأرض من نجد إلى الحجاز. وأنشأ محطة للإذاعة بالرياض ووضع خطوط التليفون التي تصله بجميع أنحاء العالم. واستنبط الآبار الارتوازية تتفرع منها الجداول والغدران لري الأرض. ويقال إن ابن السعود أمر بقتل أحد ضباطه لارتكابه جرماً يخالف الدين، وإنه عرض حياته للخطر لإنقاذ طفل صغير.
هل تستطيع إيطاليا أن تهاجم تونس - عن الديلي تلغراف
تسعة أعشار سكان تونس من العرب المسلمين لا ينظرون إلى إيطاليا بعد تلك الكارثة التي أوقعتها بألبانيا بعين الراحة والاطمئنان
وقد استطاعت فرنسا أن تهيمن عليها، وتخمد كل حركة من شأنها أن تغل من يدها، أو تقلل من نفوذها. وقد كان فتح إيطاليا لألبانيا من أقوى المحرضات للعرب وعددهم 2250000 نفس على كراهية الحكم الإيطالي. وقد بدأت الدعايات تبث في تونس ضد الحكم الإيطالي، والألسنة تلهج بشرح مبادئ حامي الإسلام!
وقد تحمل هذه الدعايات كثيراً من المبالغة في شرح وحشية الإيطاليين. فقصة رمي الناس من الطائرات قد تكون من اختراع الخيال؛ إلا أن مثل هذه السير تنتشر في تونس ولها أثر غير قليل في تسوئ سمعة الإيطاليين
وتؤلف الآن في تونس بعض الفرق من الجنود غير النظاميين، بقيادة بعض الضباط الفرنسيين، وهمها أن تهاجم طرابلس في وقت من الأوقات
أما باقي السكان وقدرهم مليونان فهم يميلون إلى الفرنسيين ويفضلونهم كثيراً على الإيطاليين الذين يسكنون تلك البلاد. فالإيطاليون يزاحمون السكان في شئون الحياة(312/73)
والمعيشة وينافسونهم في الأعمال الصغيرة مما لا يقبله الفرنسيون
ومن الإحصاءات الفرنسية لسنة 1936 المعدلة في 1939
أن عدد السكان الفرنسيين في تونس يبلغ 108000 فرنسي وعدد الإيطاليين 98000 إيطالي وقد تجنس بالجنسية الفرنسية من السكان الإيطاليين 16000 نفس
وقد اتخذت فرنسا تدابير قوية ضد الأعمال السرية التي تقوم بها إيطاليا، فوضعت الحراسة الحربية على الطرق والكباري والمرافق العمومية، وقد قامت بعدة تجارب لصد أية محاولة من قبيل إيطاليا في صقلية وفي ألبانيا أخيراً، وقد زرع خليج تونس بالرجال والمعدات الحربية على طول الطريق ووضعت مضادات الطيارات في جميع الأنحاء
وبدأت فرنسا تحصي عدد العمال الإيطاليين في تونس وتراقبهم. وقد استبدل بالإيطاليين الذين كانوا يشغلون مراكز كبيرة غيرهم من الفرنسيين. إذ أن الإدارة الفرنسية تعتقد أن عشرين ألفاً من الإيطاليين أي 20 % منهم فاشست عاملون. أما الباقي فينتسبون إلى صقلية ويعيشون في تونس منذ أربعة أو خمسة أجيال ولم يحدث منهم ما يكدر السلام؛ وهؤلاء سيبقون مدة الحرب على ما هم عليه
وما زالت فرنسا تزيد في استعدادها، وقد أنشأت خطاً حديدياً يمر من الجزائر إلى تونس وهي على استعداد وتأهب لمقابلة الحرب في أي وقت
فمهاجمة تونس على هذه الحالة تعد نوعاً من المجازفة والجنون
بحث في مشكلة المستعمرات
(عن (ذي جورنال أوف رويال سوسايتي أوف أورتس))
مسألة المستعمرات من المسائل التي تتعارض فيها رغبات الأمم الديمقراطية: إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، مع رغبات الدول الثلاث المتحدة: ألمانيا وإيطاليا واليابان. وحجة هؤلاء هي أن دول الديمقراطية تملك من المستعمرات ما يكفيها ويفيض عن حاجتها، بينما هي لا تملك ما يسد عوزها
فالمشكلة في هذا الموضوع هي المشكلة الأبدية بين الذين يملكون والذين لا يملكون، مشكلة الراضين المكتفين والمحتاجين المتبرمين(312/74)
فماذا يجب أن تفعل الدول ذوات المستعمرات العظيمة الشاسعة؟ لقد مضى الوقت الذي كان يتمتع فيه أصحاب الثراء ولا يجدون من ينازعهم هذه المتعة ويحقدها عليهم
إن ضريبة الثراء موجودة منذ أقدم العصور. ولعل مما يزيدها ويضاعف أثرها نظرة إلى المال الذي يكتسبه أصحابه بالجد والعمل المضني، والمال الذي يئول إلى أربابه دون أن يبذلوا في سبيله أي جهد، فإما أن يكون قد آل عليهم عن طريق الاغتصاب والظلم أو عن طريق الميراث
ولقد أخذ الناس يفكرون في أصحاب الثروات الكبيرة، ويفرضون رقابتهم عليهم حتى يتحققوا من أن هذه الثروات لا تنفق في سبيل الملذات والأهواء الشخصية، دون أن يكون للمواطنين نصيب من الانتفاع بها. وقد تقدم هذا المذهب فأصبح يشمل الدول كما يشمل الأفراد. وليس لهذا المذهب من سلطة غير قوة الرأي العام التي تفرض إرادتها على الأفراد.
ونحن الآن نرى حركة جديدة بين الأمم، لإلزام كل أمة مراعاة ذلك: وهذه الحركة ترمي إلى مطالبة الأمم التي تملك المستعمرات بأن تكون وفية أمينة لأبناء تلك المستعمرات من ناحية، وأن تراعي المصلحة العامة في استغلالها
يقال أن الاستعمار طريقة لتخفيف ازدحام السكان، والواقع خلاف ذلك؛ فعدد الأوربيين في أواسط أفريقيا يدل على أن الدول الأوربية لا تستفيد من هذه الناحية. فمن الواجب ملاحظة الجو في تلك المستعمرات، وإعداد رأس المال لإصلاح تلك البلاد، وملاحظة حقوق الأهلين.
مما لاشك فيه أن لكل أمة تقاليدها وأحوالها الاقتصادية؛ ومعنى هذا بالبداهة أن الأمم التي لا تستطيع أن تعيش على غير الصناعة، يجب أن تستولي على أرض تستخرج منها المواد التي تتطلبها.
إن الطبيعة قد حرمت الأمم كافة من أن يكون لديها الأرض التي تغلها جميع المواد التي تحتاجها. فالولايات المتحدة تعتمد على المصادر الخارجية لاستكمال ما تحتاجه من المواد؛ وكذلك بريطانيا وألمانيا واليابان. ولا توجد أمة واحدة تملك الأرض التي تغلها كل ما تريد إلا إذا كانت تملك العالم أجمع(312/75)
فيجب والحالة هكذا أن يكون الموقف متعادلاً بين الذين يملكون والذين لا يملكون. ولا يكون ذلك بالتنازل عن المستعمرات، ولكن بمراعاة مصالح الدول المحرومة منها وإيجاد الطرق الودية التي تكفل لها الراحة والسلام(312/76)
البريد لأدبي
1 - المرأة القارئة
في الأعداد السابقة من (الرسالة) دارت بيني وبين الصديق الأستاذ زكي طليمات، مناظرة محدودة الأطراف، على جمهور القراء. والمتحصل مما أذهب إليه أن اعتقادي أن في مصر طائفة من المهذبين الذين يميلون إلى الأدب الرفيع والإنشاء الجد. ولا شك أن الجانب الأكبر من تلك الطائفة من الرجال. وإذا أنت وازنت بين جمهور قرائنا وجمهور قراء البلدان الأوربية الراقية تبين لك أن النساء هنالك يقرأن بقدر ما يقرأ الرجال. ولقد رأيت في ألمانية نساء يسرن في الطرق ويجلسن في القهوات والكتاب رفيقهن. وعرفت في فرنسة نساء يرشدن أزواجهن وأصدقاءهن إلى نفاسة الكتب الخارجة. وكثير من نساء الفرنجة يقبلن على قراءة ما يقال له في مصر: (الأدب الدسم) (كأننا نعني الأدب الذي يكلف القارئ مشقة حتى إنه ينفّره. والغريب أن الطعام المصري - في غالب الأمر - ذو دسم شديد. فلم نخشى على أذهاننا ولا نخشى على بطوننا؟!)
إن جمهور القراء لن يزالوا على حالهم من الخدر والنعاس حتى ترغب المرأة عن القراءة المسلية: عن روايات الجيب، والمجلة المشحونة بالصور، والكتاب الذي يكثر فيه البكاء ورسائل الغرام الشاحب؛ وحتى تكشف للرجل عما وراء الحس المباشر من خلجات وبدوات ولوامع هي أقدر منه على الشعور بها والانتفاض لها
المرأة هي المهذبة الأولى والقارئة الوفية
2 - تاريخ الأدب العربي
وصلني الجزء الثالث من المجلد الثالث لتكملة (تاريخ الأدب العربي) لصاحبه المستشرق العلامة كارل بروكلمن الألماني. وقد سبق لي أن خبّرت قراء هذا الباب من (الرسالة) بمجمل ما في الجزء الأول والثاني.
أما هذا الجزء فيتم الكلام على الشعر في مصر لهذا العهد؛ ومن الشعراء الذين نظر المؤلف في شعرهم: أحمد رامي، والهراوي، وعماد، وعثمان حلمي، وخليل شيبوب، وإبراهيم ناجي، والعقاد، والمازني، وحسن كامل الصيرفي، وعلي محمود طه، وصالح جودت، والهمشري، وعلي الجارم، ومحمود حسن إسماعيل، وسيد قطب، ومختار الوكيل،(312/77)
وبشر فارس. على أن العقاد والمازني شغلا ما يقرب من ربع الجزء (وهو يقع في ثلاثة وستين صفحة).
ومما حاوله المؤلف الفحص عن مصادر الأخذ والاستلهام. فجاءت المصادر على نوعين: عربي وإفرنجي. أما العربي فالشعر الاتباعي القديم؛ ثم شعر شوقي وصبري؛ ثم شعر خليل مطران؛ ثم شعر مدرسة أبوللو، وعلى رأسها أبو شادي؛ ثم شعر العقاد. وأما الإفرنجي فالابتداعيون الفرنسيون، وطائفة من الشعراء الإنجليز؛ ثم فرلين وبودلير.
وجاء الكلام بعد هذا على الشواعر، فذكر المؤلف عائشة التيمورية وأمينة نجيب وجميلة العلايلي ومنيرة طلعت.
وختم المؤلف الكلام على الشعر بفصل في الزجل، فذكر خليل نظير ومحمد عبد النبي وعزت صقر ومحمود رمزي نظيم. ثم انتقل إلى الشعر في السودان
هذا وإن المؤلف أجرى الكلام على غير الشعر إذا كان الشاعر ممن يعالج صناعة النثر. من ذلك فصوله في كتب العقاد والمازني وبشر فارس
وأما مراجع المؤلف فالدواوين والمؤلفات المطبوعة ثم المقتطف والهلال والرسالة وأبوللو والحديث. بقي أن هذا الجزء يستهل في آخره باباً جديداً موقوفاً على القصص والاسترسال في مصر أيضاً، وفيه تناول المؤلف بالبحث المتصل: جميل نخلة المدوّر وجرجي زيدان وأحمد حافظ عوض وفرح أنطوان
وبعد، فلي فيما ذهب إليه الأستاذ بروكلمن من الفحص عن مصادر الأخذ والاستلهام نظر سأبسطه يوم يخرج المجلد الثالث كاملاً
في اقتباس الكتّاب
كتب الدكتور إسماعيل أحمد أدهم رداً طويلاً في العدد الماضي من الرسالة على كلمتي في بحث له. وإني أكره أن أطلق قلمي في مناظرة تنحرف فيها القضايا وتجتلب الحجج وينبو القلم
إلا أن هنالك أمراً محسوساً لا أستطيع إهماله. وقصة ذلك أني قلت في كلمتي (الرسالة رقم 310 ص 1176) (. . . وكأني بالدكتور أدهم اقتبس مني (انظر (مباحث عربية) ص 76) هذا التعبير: (جملة صلات اجتماعية) مع ما ينظر إليه باللغة الفرنسية أي (. . .(312/78)
وفي رد الدكتور أدهم: (رأي الكاتب (يعنيني) أننا استعرنا اصطلاح (خلق جملة صلات اجتماعية) من كتابه (مباحث عربية) والواقع عكس ذلك. إن هذا الاصطلاح قد دار على قلمنا من قبل صدور كتابه هذا وتجده في دراستنا عن إسماعيل مظهر حين تكلمنا عن آرائه الاجتماعية في م 36 ص 411 هذا فضلاً عن أن هذا الاصطلاح من جملة ما يجري على أقلام كتاب عصرنا هذا، وإذن فلا يمكن القول بأنه من الاصطلاحات التي استحدثها الكاتب)
على أن الدكتور أدهم لم يثبت الجملة التي ورد فيها ذلك التعبير في دراسته لإسماعيل مظهر، ولم يستشهد بما (يجري على أقلام الكتاب)، حتى أتبين على أي وجه ورد التعبير. ثم إن المجلة التي نشر فيها دراسته لإسماعيل مظهر لا أعرف كيف يكون الاهتداء إليها حتى أراجعها (وأرجو منه أن يبعث بها إليّ) وسواء استعمل الدكتور أدهم ذلك التعبير قبل ظهور كتابي أم لم يستعمله، فالمهم أن يقول لي هل كتب إزاءه التعبير الفرنسي: كما صنعت في كتابي؟ وأنا أدري من باب التجربة العملية أن علم الدكتور أدهم باللغة الفرنسية لا ييسر له ذلك.
وبعد فإن الدكتور أدهم قد اقتبس مما جرى به قلمي غير هذا التعبير. وحسبك الموازنة بين ما جاء في بحثه في توفيق الحكيم، إبريل 1939 (ص 361 س 6 و7؛ ص 368 س 19 - 21) وما جاء في صدر توطئة (مفرق الطريق) (مارس 1938) وفي نقدي لكتاب شهرزاد (المقتطف يونيه 1934 ص 733)
هذا وكأن الدكتور أدهم شاء أن يبذل لنا الدليل على ذلك، إذ كتب في بحثه في توفيق الحكيم ص 361 ما حرفه (وازن أيضاً بين هذا الفصل وما جاء في ردّ الدكتور أدهم في العدد الأخير من الرسالة ص 1226): (وكان كلف توفيق الحكيم باستنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر أن اضطراب عقله (؟). . . ومن هنا جاءت اليقظات الرمزية في فنه. . . ولقد قوى من الاتجاه الرمزي في فنه أنه نتيجة لإعيائه عن معرفة حقيقة النفس ولوامعها وبوادرها (كذا) جعلته يلتفت لعلم النفس الحديث ويخلص من دراسة تجارب (شاركو) في التنويم والإيهام و (ريبو) في الأمراض النفسية و (فرويد) في أحوال اللاواعية و (برجسون) في تغليب المضمر الذي في النفس على البارز. . .)(312/79)
والآن خذ ما سطّره قلمي في الرسالة رقم 251 ص 712 (25 إبريل 1938): (إن المسرح الحديث وإن سماه أهل الفن: المسرح الرمزي، من باب الاصطلاح، لينهض على عناصر تزيد على التي عرفتها الرمزية الأولى: ينهض على نتائج علم النفس الحديثة (تجارب شاركو في التنويم والإيهام، وريبو في أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية، وفرويد في أحوال العقل الباطن، وبرجسون في تغلب المضمر الذي في النفس على البارز. . .)
هل رأيت كيف يكون النقل مع استبدال لفظة مكان أخرى أحياناً (هنا: (العقل الباطن)، وهناك: (اللاواعية)؛ ثم هنا: (أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية)؛ وهناك: (الأمراض النفسية)؟
أما هذان التركيبان: (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر) فمأخوذان أخذاً من مسرحيتي (مفرق الطريق) (ص6 س 7، 8) حيث يجري الكلام على عرض طريقتي الرمزية. وكذلك هذا التركيب: (لوامع النفس وبوادرها)؛ إلا أن الدكتور أدهم قرأ: (بوادر)، وفي الأصل (بواده)، وهو الوجه هنا. واللوامع والبواده من اصطلاحات الصوفية، وقد شرحهما القشيري في رسالته، وعلى الدكتور أدهم التفتيش
وبعد: فهذه كلمة كتبنها مكرهاً لأني غير ميال إلى مثل هذا اللون من (وضع الشيء موضعه). ففي شؤوننا الثقافية ما هو أجل شأناً. غير أن القلم ربما حركه ما لا يرضيه. وعليّ عهد أني غير عائد إلى مثل هذه الكلمة مهما كتب الدكتور أدهم
بشر فارس
التبادل الثقافي بين مصر والسودان
عقدت في وزارة المعارف لجنة لدراسة المقترحات التي قدمت في موضوع التبادل الثقافي بين مصر والسودان.
وقد اتخذت هذه اللجنة قرارات علمنا أن من بينها ما يأتي:
إيفاد خبير تعليمي إلى السودان، وإسناد هذا المنصب إلى ناظر مدرسة الخرطوم الثانوية المزمع إنشاؤها في العام القادم على أن يكون متصلاً بخبير مصر الاقتصادي في السودان.
وضع سياسة لتبادل البعثات العلمية، فتفد إلى مصر بعوث الأساتذة والتلاميذ السودانيين في(312/80)
الإجازات الدراسية، وتزور السودان مثل هذه البعوث. وأن يكون تبادل الرحلات العلمية بين البلدين في نطاق أوسع، وأن تنشأ مكتبة تلحق بمكتب الخبير الاقتصادي. وذلك رغبة في نشر الثقافة المصرية في السودان، على أن تهيئ مصر للسودان نظاماً يقف المصريون به على الإنتاج الفكري لإخوانهم السودانيين
وهناك اقتراح بتبادل الأفلام السينمائية الثقافية بين البلدين ومعاونة النادي المصري في السودان على التوسع في الغايات التي قام من أجلها. وكذلك أقترح توفير العناية بالثقافة الدينية، والعمل على إنشاء فرق لحفظ القرآن الكريم، أسوة بما هو متبع في مصر.
وقد درست اللجنة مسألة تنظيم قبول التلاميذ السودانيين في المدارس المصرية، وخاصة بعد إنشاء المدرسة الثانوية الجديدة في الخرطوم، وانتظار زيادة المتخرجين فيها، ورغبتهم في الالتحاق بكليات جامعة فؤاد الأول في مصر.
إلى ناقد تصحيح البخلاء ومنه
حضرة الفاضل المحترم الأستاذ محمود مصطفى
جاء في نقدكم لتصحيح كتاب البخلاء المنشور في العدد 309 من الرسالة في الصفحة الأخيرة ما يلي:
(ونحن نعترض على ضبط العبارة وشرحها. فأما الضبط فنرى أنه ينبغي أن يكون هكذا:
(إذا حبس زف السحاب، وأما المعنى فهو: لو قدم إليه من الطعام مقداراً إذا جمع بعضه فوق بعض. . . الخ)
وأنا أعترض عليكم جميعاً، فإن في العبارة تصحيفاً، وصحة العبارة هكذا:
(. . . إذا حيس) بالياء المثناة من تحت لا بالباء الموحدة.
أي خلط وعجن. والمعنى: لو قدم إليه من الطعام مقدار إذا عجن نزف السحاب
وهذا خير من تفسيركم حبس بجمع بعضه فوق بعض، فإنه تفسير بعيد
أرجو أن تدفعوا هذا للرسالة لتنشره ما دام الغرض تصحيح الكتاب، ولا يهمكم بعد ذلك أن تعرفوني، ويكفي أن تعرفوا أني من المعجبين بنقدكم وجرأتكم، وسداد رأيكم
(؟)(312/81)
حضرة الأديب الجليل الأستاذ الزيات صاحب (الرسالة):
ورد لي هذا الخطاب من مرسله الفاضل الذي ضن بذكر اسمه، وله رأيه في ذلك. وقبل أن أعلق على كلامه أشكره أجزل شكر على حسن ظنه بي، واستكثر على نفسي وصفه لي بالجرأة و. . . فليس ما قمنا به إلا زكاة يجب على من ملك نصابها أن يؤديها خالصة لوجه الأدب برّاً به واعترافاً بحقه على خدامه.
أما رأي الأستاذ في أن تكون كلمة حبس (بالباء) محرفة عن حيس (بالياء) وتفسيرها بمعنى عجن، فهو رأي لا بأس به، وإن اتجه إليه النقد أيضاً، لأننا في سبيل الأخذ به سنتكلف أن نحمل الحيس معنى العجن مع أن أصل معناه الخلط. ثم إذا راعينا الدقة اللغوية كان خلطاً خاصاً، لأنه كما ذكروا خلط الأقط بالسمن والتمر، والعجن، كما نعلم، إنما يكون عادة للدقيق والماء. ويساعدنا على هذا أننا لم نر (في حقيقة ولا مجاز) من قال حيس الدقيق أو الخبز.
محمود مصطفى
الاعتماد على المصريين في علم الاستشراق
دعت اللجنة القائمة على نشر (الكنز العبري) الدكتور مراد كامل إلى معاونتها على إخراج ذلك المعجم الضخم للغة العبرية وهو الأول من نوعه. وهذه اللجنة أعضاؤها من كبار المستشرقين وعلماء العبرية. ولا شك أن الذي حملهم على دعوة الدكتور مراد كامل إلى معاونتهم ما ألفه الدكتور في اللغات السامية المختلفة. من أعماله العلمية نشرة (تاريخ اليهود) ليوسف بن كريون باللغة الحبشية مع موازنته بالنص العبري والنص العربي
واشتراك عالم مصري في ذلك المعجم الجليل إيذان برفعه قدر الاستشراق عندنا
أبو تمام والرمزية (تأخرت سهواً)
جرى قلم الأستاذ الكبير عبد الرحمن شكري في رمزية أبي تمام حين عالج البحث فيه بالرسالة فتنكر لهذه الرمزية ورمى بها من حالق غير متلبث ولا وان. وقال فيما قال: (وأستطيع أن أفهم سبب عد أبي تمام من شعراء الرمزية وإن لم يكن كذلك فإنه يكثر من استخدام التشبيه والاستعارة والمجاز، والاستعارة رمز والكتابة رمز، ولكن شعراء الرمزية(312/82)
في أوربا تخطوا منزلة الاستعارات والكنايات وصاروا يرمزون إلى حالات نفسية بأشياء مادية وبألفاظ أو جمل ويقطعون الصلة بين الرموز التي يرمز لها اعتماداً على خيال القارئ وإحساسه وأحلامه وهواجس نفسه الغامضة الخ. . .) ولعمري لو طلبنا من أبي تمام أن يستخدم تلك الرمزية الأخيرة لأقلقنا ترابه الصامت في برزخه إذ تلك الرمزية التي عناها الأستاذ الكبير إنما هي الرمزية الناضجة التي استحصدت قواها في أواخر القرن التاسع عشر في أوربا وبالأخص في فرنسا وقامت على أسس لم تعرفها الرمزية في عهدها الأول ومن تلك الأسس التجاريب النفسية كأحوال العقل الباطن والتنويم وسوى ذلك، وقد برز في هذه الرمزية أبطال منهم بريستلي، وهنري باتاي، وطاغور شاعر الهند الأكبر، وجبران خليل جبران. فليس من الإنصاف أن تقاس رمزية أبي تمام على رمزية هؤلاء المتأخرين وإلا تبخرت الأولى بلا مراء، إذ لا بد أن تقام المفارقات التاريخية على أصول بعضها الزمان والمكان؛ وأبو تمام عربي تنبسط أمامه الصحراء وتنسدل حوله آفاق السماء فلا يمكن بحال أن تطلب نفسه الرمزية بهذا اللون وتؤدي بها إلى الحد الذي أدت بهم إليه، وأما في عهدها الأول فهي بلا ريب تبسط أجنحتها على أبي تمام لتضعه إلى أعلامها. وما الرمزية إلا اتجاه نفسي يسلك للتعبير عما في متاهات النفس من الأشباح العصبية المتغلغلة في الإبهام والغموض فتبدو مرموزاً إليها فقط كي يدل الرمز على المعنى المقصود من قريب أو بعيد، وفي ذلك جهد الشاعر. وإذا ما بسطنا بين أيدينا ديوان أبي تمام وجدناه حالياً بكثير من الشواهد الرمزية على هذه الطريقة وأسوق منها طاقة صغيرة فيما يلي:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب
بخديه دقائق لو تراها ... إذاً لسألت عنها في المعاني
وقديماً ما استنبطت طاعة الخا ... لق إلا من طاعة المخلوق
لي عبرة في الخد سا ... ئرة وبيت سائر
وبوجنتيه بدائع ... للجلنار ضرائر
نقشت كف الملاحة في ... وجنتيه أظرف النقش
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
تفاحة جرحت بالدر من فيها ... أشهى إليّ من الدنيا وما فيها(312/83)
حمراء في صفرة علت بغالية ... كأنها قطفت من خد مهديها
وفي الديوان انتزاعات نفسية وألوان حسان تؤيد ذلك وبالأخص في قصاره التي دبجها في الغزل والنسيب.
أحمد عبد الرحمن عيسى
كتاب الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة عل الصحابة
أرسل إلينا الأستاذ الجليل (القارئ) مقالاً عن هذا الكتاب قبل أن يصدر العدد (311) بيومين، وقد ضاق عنه هذا العدد أيضاً؛ فنعتذر للأستاذ من هذا التأخير، وسننشره شاكرين في العدد التالي.(312/84)
رسالة النقد
مباحث عربية
تأليف الدكتور بشر فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أما المبحث الثالث ففي (المروءة) وقد نشر في الأصل بالفرنسية في (تكملة دائرة المعارف الإسلامية). وفي هذا المبحث يبرز الباحث رجلاً مدققاً عرض للموضوع في إحاطة عجيبة. ولكن الحقيقة رغم كل هذا جانبته. ذلك أن الباحث دخل الموضوع وهو يعتقد أن لفظ المروءة من الألفاظ التي ذهبت بذهاب العصر الجاهلي. والحقيقة أن استعمالات اللفظة في أوضاع متباينة هي التي خلعت على اللفظة معاني متباينة وألقت شيئاً من اللبس على أصلها. على أننا نلاحظ أن اللفظة في الأصل تفيد معنى الفرد الإنساني (الهوامش 10، 11، 12 من المبحث) واتسع معناها من الفرد إلى أن حملت معنى الإنسان الاجتماعي. وشاهد هذا استعمال اللفظة في هذا المعنى في بعض مواضع القرآن وفي بعض ما تنوقل عن العصر الجاهلي من الشعر في أعمال معهد الدراسات الإسلامية بموسكو: م 31 ج 10 ص 914 - 916) ومن هنا أصبحت اللفظة تشتمل على معنى الفضائل الاجتماعية، وأصبحت تدل على معنى الإنسانية في عصرنا الراهن. ونزول المروءة منزلة الفضيلة هو الذي جعلها جامعة كل الفضائل والأخلاق الكريمة. ومن هنا دارت عليها الآداب الجاهلية في م1 ص1 - 40)
فإذا أخذنا هذا موضعاً للنظر لم نجد معنى للإشكالات التي يثيرها الباحث والتي إن أورثت بعض الحيرة فهي لا تقنع الإنسان بوجهة نظر، ولا تجعله يرفض الأصل الذي ذهب إليه (جولد زيهر). ومن الإشكالات التي تصادفنا في هذا البحث ما ينقله الباحث عن العقد الفريد من تساؤل معاوية عن معنى المروءة - ج 1 ص 221 - وهو يستدل بذلك على التباس معنى اللفظة. غير أنه من الملاحظ أن مثل هذه الأسئلة التي ترد في كتب الأدب وفي كتب اللغة منحولة لأغراض واضحة ظاهرة منها، وإذن يكون الاستدلال بهذه(312/85)
الروايات في حدود دائرتها الحقيقية، لا تحميلها وجهاً لا تدل عليه. ثم عندك الروايات التي يأتي بها الباحث محملاً كل رواية دلالة خاصة للفظة (المروءة) التي ترد فيها، وهو بهذا يريد أن يقرر أن معنى المروءة كان ملتبساً على الناس. على أنه لو لاحظنا التفسير الذي قدمناه والذي يسير عليه أعلام الاستشراق في أوربا فإن كل هذه الروايات تتسق معانيها وتتوضح من أصل جامع للفضائل التي تقوم على الصلات بين الفرد والجماعة، والتي يتقوم بمفهوم فضائلها لفظ السيد. وإذا كان الباحث لا يجد غير قول واحد ينزع فيه معنى المروءة إلى السيادة في العربية، فلا أظنه جمع شوارد العربية وأوابدها واستعمالات ألفاظها في كل النصوص التي انتهت إلينا حتى يحكم بهذه الدعوى. هذا ولولا حظنا أن دعوى الباحث تستند إلى أن ابن قتيبة لم يثبت في باب (المروءة) غير وجه واحد تنزع فيه اللفظة لمعنى السيد، فإننا نجد استنتاج الباحث أكثر مما يساعد عليه النص.
ومما يحسن بي الإشارة إليه أن كلمة (المروءة) وردت في اللغة العبرية وهي من أخوات اللغة العربية نازعة فيها لمعنى السيادة (دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91)
والبحث الرابع وقف على (التفرد والتماسك عند العرب) وهو في عمومه مراجعة - فيها نظر - لأقوال المستشرقين. وفي هذا البحث ينكر الدكتور بشر فارس نظرية التفرد المنسوبة للعرب، ويرى للعربي صلات اجتماعية في حدود الحي والقبيلة. وفكرة الباحث وجيهة، ولكن ما رأيه في كون التحاق العربي بقبيلته أو حيه مظهر من الأصل الطوتمي - عند العرب القدماء، والطوتمية مصدرها فردية صرفة؟ (أنظر عن طوتمية العرب 23 وماكلينان 53 - 56 ولنا علم الأنساب العربية ص 12)
ولنا أن نتساءل هنا: هل يرى الباحث أن صلات العربي تتجاوز جماعته ممثلة في الحي أو القبيلة؟ وإذا كان لا يرى ذلك كما يستفاد من مضمون كلامه، فلماذا؟ وإذا كان يرى سبب ذلك - كما يبدو من كلامه - العصبية، فما منشأ العصبية عند العربي؟ سيعود بها الباحث إلى الأسرة، ولكن لماذا تدفع الأسرة العربي للعصبية؟ أليس في ذلك شعور بالانعزال يقوي رأي الذين ينسبون التفرد للعربي؟. . .
والبحث الخامس يتكلم فيه عن (البناء الاجتماعي عند عرب الجاهلية) وهو بحث قيم(312/86)
مستخلص من كتاب الباحث (العرض عند عرب الجاهلية)) ومما نلاحظه على هذا البحث أن الكاتب يقول: (ولا شك أن القبيلة بنو أب واحد من حيث تحتمل تجمع أسر أرومتها واحدة - ص 85 - وهو في هذا الكلام يستند إلى المخصص لابن سيده. ولكنا على الرغم من ذلك نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة (ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج 3 ص 187) والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التي تناثرت في الصحراء من القبائل العربية التي تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب (الفهرست ج 3 ص 187 وكذا لنا علم الأنساب العربية ص 13 - 14)
أما المبحث السادس فوقف على (تاريخ لفظة شرف) ومطالعات الباحث في هذا المبحث جديرة بالنظر فيها والتأمل في مواطنها لقيمتها. والبحث السابع والأخير فمن تحقيق في (بعض) الاصطلاحات) وملاحظاته في هذا المبحث قيمة
هذا هو كتاب (مباحث عربية) وهو كتاب فريد في موضوعه وفي نهج بحثه وفي منحى تحقيقه؛ يدل على أن صاحبه صاحب ذهنية علمية متزنة يتصدى للموضوعات على أساس من التقصي للأصول والفروع مع دراية تامة بأساليب البحث. والمآخذ التي أخذها على أهميتها لا تنال من قيمة البحوث ولا من الجهد العلمي المبذول فيه. والواقع أن الدكتور بشر فارس حمّل اللغة العربية بكتابة هذا بحثاً جدياً في مسائل اجتماعية وأخرى لغوية على أساس من التحقيق العلمي ومن الطريقة العلمية الصحيحة. وتنظيم الكتاب يدل على ذوق فني وعلى تمكن من أساليب التنظيم العلمي والأخذ بسبل التبويب الصحيحة، ولا شك أن الدكتور بشر فارس بكتابه هذا شق الطريق للبحث العلمي الجديّ ولو لم يكن له غير هذا الجهد لكفى ذلك التقدير
إسماعيل أحمد أدهم(312/87)
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
(تتمة)
ص 158 عند الكلام على أن تثمير المال في بناء البيوت يعود على أصحابها بالضرر بسبب مماطلة السكان وتقطيع الأجرة عند الدفع قال:
(فصارت لذلك غلات الدور - وإن كانت أكثر ثمناً ودخلاً - أقل ثمناً وأخبث أصلاً من سائر الغلات)
وإن نظرة عارضة إلى العبارة توجب علينا مراعاة المقابلة التي أراد أن يعقدها القائل للعبارة فإنه يقول إنها وإن كانت في الأصل أكثر ثمناً ودخلاً صارت الآن بمعاملة السكان لأصحابها أقل ثمناً وأخبث دخلاً) ومن هنا ظهر خطأ الشارحين في إثبات كلمة أصلاً بدل دخلاً، ومحاولتهما ما لا يستقيم من الشرح على هذا الاعتبار حتى اضطرا أن يقولا: (في العبارة شيء من التجوز يظهر للمتأمل) والواقع أن الذي يظهر للمتأمل هو تحريفهما أو قبولهما لتحريف كلمة دخل إلى أصل
في ص 160 يرد في الحديث عن إساءة السكان إلى صاحب المنزل (إن عفا عفا على كظم ولا يوجه ذلك منه إلا إلى العجز، وإن رام المكافأة تعرض لأكثر مما أنكره) فيعلق الشارحان بقولهما: (وإن أراد أن يكافأ بالمعروف على معروفه وبالإحسان على إحسانه كان عرضة لأن يلحق به من الأذى أكثر مما أنكر هو منه واستفظعه. ولا شك في أن الشارحين لا يفهمان المكافأة إلا على أنها المقابلة الحسنة، وهو المعنى الذي يفهمه منها صغار التلاميذ حين يسمعون من معلميهم أسماء المكافآت ومنحها عقب الامتحان أو القيام بعرض ألعابهم في حفلات آخر العام.
فأما المكافأة بمعنى المقابلة مطلقاً أو المجازاة بخير أو شر فهي في كتب اللغة فحسب، لم تخرج بعد إلى خير الموجود ولم يسمح لها بطروق آذان الشارحين؟!
وغريب جداً من أمر الشارحين أن يدورا في كلامهما ويتجنبا الوقوع في هذا المعنى كأنما(312/88)
هو منكر لا يريدان أن يقعا فيه مع أن استقامة الكلام تستلزمه ولكنهما يحيدان عنه عملاً بالأمانة اللغوية التي في عنقهما لمعنى المكافأة!
في ص 165 وردت هذه العبارة: فمدحتم من جمع صنوف الخطأ وذممتم من جمع صنوف الصواب. فاحذروهم كل الحذر ولا تأمنوهم على حال
وفي الشرح يقول الأستاذان الفاضلان: (من جمع صنوف الصواب) أي وهو من سميتم (بخيلاً) و (من جمع صنوف الخطأ) أي وهو من سميتم (جواداً) ثم يعلقان على عبارة (فاحذروهم) بقولهما الضمير يرجع إلى الذين تسمونهم أجواداً وهو التفات من صيغة المفرد إلى الجمع.
ومعنى ذلك في رأي الشارحين أن القائل للعبارة استعمل اللفظ مفرداً ثم أعاد عليه الضمير جمعاً لأن لفظ (من) في نظرهما مفرد بدليل تفسيرهما بقولهما (أي وهو من سميتم بخيلاً) فقوله بعد ذلك فاحذروهم يكون خروجاً عن مقتضى الظاهر إذا الظاهر في رأيهما أن يقول فاحذروه ما دام الضمير عائداً على (من)
وفي هذا الكلام خطآن ظاهران: أما أولهما فبلاغي وهو اعتبار مثل هذا الخروج عن الأصل (إن كان) التفاتاً، والالتفات لم يعهد إلا في العدول عن الخطاب إلى الغيبة أو عكس ذلك أو ما أشبهه مما لا نطيل به، فأما إرجاع الضمير جمعاً إلى لفظ مفرد فلم يدخل في حساب البلغاء أن يعقدوا له هذه التسمية أو غيرها
وأما الخطأ الثاني فهو عدم تنبه الشارحين إلى أن لفظ (من) من الألفاظ التي يصح اعتبارها مفرداً وغير مفرد فيعاد عليها الضمير على حسب ذلك الاعتبار وهنا اعتبرها القائل جمعاً فأعاد إليها الضمير كذلك. ونرى أن هذا الكلام من الوضوح بحيث نعد أنفسنا مسرفين إذا توسعنا فيه أكثر من ذلك
في ص 178 في الحديث عن آداب السلف على الطعام وأنهم كانوا لا يمدون أيديهم إلى الجدي الذي يقدم آخر الطعام لعرفانهم أنه إنما يقدم ليجعل علامة الختام والفراغ، حتى قال أبو الحارث جمين حين رآه لا يمس (هذا المدفوع عنه) ويعلق الشارحان على هذه العبارة الأخيرة من كلام جمين بقولهما: أي هذا الذي لا تناله الأيدي بالأذى. والمراد التعجب
والذي نقوله: إنه لا تعجب ولا شبه تعجب، بل هو إخبار بالواقع لأنه لما رآه لا تمد إليه(312/89)
الأيدي لأنه جاء بعد الشبع وصفه بهذا الوصف فأين التعجب الذي في كلام الرجل؟
في 183 يحكي الجاحظ حال ابن أبي المؤمل في معاملة ضيفانه وذيادهم عن طعامه، فإنه كان إذا قدم عليه زائر ابتدره قبل أن يستقر في مجلسه وقبل أن تذهب عنه وحشة المكان بقوله لخادمه هات يا خادم شيئاً لفلان ينال منه. فإذا قال الضيف قد فعلت سجل عليه تلك الكلمة ثم يقول الجاحظ:
فإذا استوثق منه رباطا وتركه لا يستطيع أن يترمرم لم يرض بذلك حتى يقول في حديث له: كنا عند فلان فدخل عليه فلان فدعاه إلى غدائه فامتنع ثم بدا له فقال: في طعامكم بُقيلة أنتم تجيدونها
وهنا يضع الشارحان علامة الاستفهام بعد كلمة تجيدونها ووضع الاستفهام هنا خطأ لأن الجملة خبرية والمعنى أن الضيف بدا له أن يعدل عن الاعتذار من الأكل فأحب أن يتطرق إليه بقوله إنكم تجيدون عمل هذه البقيلة التي أراها على المائدة أي فهو يقدم لقيامه إلى المائدة بهذه المقدمة، وابن أبي المؤمل إنما يحكي لضيفه هذه الحكاية ليأخذ عليه طريق هذه الحيلة فالكلام خبر على وجهه ولا رائحة للاستفهام فيه
وفي ص 185 يرد كلام ابن أبي المؤمل:
ومن لم يشرب على الريق فهو نكس في الفتوة دعي في أصحاب النبيذ وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب) فيذكر الشارحان في معنى النكس أنه المقصر عن غاية المجد والكرم وأنه الرجل الضعيف ثم يقولان يعني أن من لم يشرب على الريق فهو ضعيف الكرم مقصر فيه، وهذا خطأ وإنما المراد أن من لم يشرب على الريق فهو ضعيف في فتوته ناقص الصلابة في جسمه بدليل قوله بعد ذلك وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب.
ولا ندري السبب الذي من أجله حشد الشارحان في شرحهما معاني النكس من غير أن يكونا بحاجة إلا إلى معنى واحد منها على حسب ما رأيا في شرحهما. وما نرى ذلك إلا تضليلاً للقارئ وتردداً من الشارح. وإنما الواجب تلمس ما يناسب المقام ثم المضاء في القصد إليه وحده. فأما هذا الاستكثار من أقوال أصحاب المعاجم فليس فيه كبير فائدة لمن أسلم ذهنه إلى شارح وثق به واعتمد عليه في هدايته إلى الصواب(312/90)
قد انتهينا وما انتهينا من التعليق على شرح أستاذينا الفاضلين، ذلك أننا تركنا كثيراً من القول رأينا أن فيه تطويلاً، وأنه لا يتضح فيه الصواب إلا ببسط كثير وتعليل واسع، ولكنا نكتفي بما أثبتنا معتقدين أننا أدينا الخدمة خالصة لكتاب الجاحظ ولقرائه ولشارحيه، والسلام
محمود مصطفى(312/91)
العدد 313 - بتاريخ: 03 - 07 - 1939(/)
من هذيان الحر. . .
نحن يا صديقي القارئ من سموم تموز على حالٍ سواء: أنا لا أحسن الكتابة، وأنت لا تحسن القراءة؛ فتعال أهذِ أنا وتسمع أنت؛ فإن الهذيان في الحر كالهذيان في الحمى تنفيس عن الروح المكروب، وتخفيف عن الدم الفائر، والهذيان كلام كفورة الإناء ليس له نظام ولا فيه عقل؛ ولكنه كحلم النائم لا تغلب فيه جملة على جملة، ولا تظهر به صورة دون صورة، إلا لأن لهما في العقل الباطن أثراً، وبالروح اليقظان صلة. ولعلك واجد في لواغي المحموم والملموم والنشوان والنائم من ومضات الحق ما لا تجده أحياناً في بعض الكلام. ولقد كان في قرى الريف جماعة من الممسوسين المستهامين يعتقد الناس أن وسوستهم من كشف الغيب وإنذار القدر؛ وربما أصابوا في لحونهم توجيهاً إلى منفعة أو تنبيهاً إلى مضرة!
يقولون: في شهر تموز، يغلي الماء في الكوز، ويجري الشر على البوز! فهل صمم الفوهرر أن يفتح في (دانزيج) طاقة من جهنم تجعل البحر حميماً على كل مستجم، والجبل جحيماً على كل مصطاف؟ ما ضر هتلر أن يمهل الأغنياء المدللين حتى يبذروا الذهب في مدن المياه، كما أمهل الفقراء المساكين حتى حصدوا الحنطة في قرى اليابسة! ماذا يصنع ذلك الأمير أو ذلك الكبير الذي وقف دخل العام كله على هذا الشهر، فقسم أمواله بين موائده الخضر في كل ساحل، وفرّق آماله على مواخيره الحمر في كل حضيض؟ أيجوز أن يحرمه هتلر غدوات القمار وأصائل الغزل وأماسي الرقص وأسحار الفتون، لأنه يريد أن يتسع وطنه، ويرتفع شعبه، وينتشر سلطانه؟ هل هانت الأرستقراطية على الناس إلى هذا الحد؟
لو كنت ذلك الأمير أو ذلك الكبير لصحت ملء فمي: لعن الله
الديمقراطية والدكتاتورية! فإنهما منذ رفعتا كلمة الشعوب فوق إرادة
السادة، ونقلتا سلطان الملوك إلى الساسة والقادة، هوت الأرستقراطية
إلى الدرك الأسفل من بناء المجتمع، وأصبح أهلها كدُمى الأثاث توضع
للزينة، أو كذلاذل الثياب ترسل للحلية. لقد كانت الحرب في عهد العزة(313/1)
الأرستقراطية لا تقوم بين إمارتين أو مملكتين إلا لأن الأمير أو السيد
أراد أن يصيد فصُدّ عن الأرض، أو يخادن فدُفع عن المرأة، أو ينفق
فعجز عن المال. أما اليوم فمن مهازل الدهر أن تشب الحرب بين
دولتين أو قارتين لأن عاملاً فقيراً أراد ليده عملاً فلم ينل، أو تاجراً
حقيراً طلب لبضاعته سوقاً فلم يجد!!. وفساد الأمر كله إنما جاء من
وضع الحكم في أيدي المتعلمين من أبناء الصناع والزراع والعملة!
آمنت أن الله خلق في الناس العُلّيق والعلق. فالعلّيق نبات يتسلق ما يقربه من الشجر فيعلوه ويلتف به ويعرش عليه حتى يحرمه نسم الريح وضوء الشمس وجلال الرفعة. والعلق دود يتعلق بمن يمسه من الحيوان فينشب فيه خرطومه، ثم يمتص دمه ويستلب حياته.
فهؤلاء الأتباع والأوزاع الذين يلتفون حول (أبناء الذوات) يهرّجون لهم في الحديث، ويروجون لهم المنكر، ويتطالون من وراء أكتافهم إلى فخفخة الحياة، هم علّيق.
وهؤلاء (البلطجية) الأوشاب الذين يلقون أبدانهم الثقيلة على عواتق البغايا الضعاف والتجار المساكين فيفرضون عليهم بالقوة ملء البطون والجيوب من السحت والأثم، هم علق.
وأولئك المتزعمون المتبطلون الذين قصروا جهدهم في الحياة على أن يتخاطفوا عصا القيادة ويتنازعوا كراسي الحكم، ووسيلتهم إلى ذلك أن يقوموا على هامش الطريق أبواق فتنة، أو يقفوا في سوائه أحجار عثرة، هم علّيق.
وأولئك المترفون المسرفون الذين استولوا على الأرض من غير ثمن، وتسلطوا على الفلاح من غير سلطان، فأكلوا ثمرة الزرع حتى انتفخوا وشربوا عرق الزارع حتى طفحوا، هم علق.
وأولئك النقاد المتخرصون الذين يتهجمون على أعيان العلم والأدب باللغو والجهل والسفه، ليدركوا نباهة الذكر من بلاهة العامة، هم علّيق.
وأولئك المؤلفون المزيفون الذين يستغلون ضعف المعلمين وفقر الأدباء فيكلفونهم أن يكتبوا المقالات وهم يمضونها، ويضعوا الكتب وهم يستلحقونها، ويربحوا الأموال وهم يقبضونها،(313/2)
هم علق.
وأولئك الرؤساء البلداء الذين يحملون على الموظف الصغير بالإعنات والقهر حتى يكفيهم كل رأي في التقارير، وكل نظر في الأضابير، ولا يدع لهم إلا نفخة الشدق بالأمر، ولطعة الإمضاء بالخاتم، هم علّيق. وأولئك الموظفون المخادعون الذين يسرقون جهود زملائهم بالمكر، ويكسبون رضى رؤسائهم بالملق، ويلقون التبعات عن كواهلهم بالحيلة، هم علق
ولو شئت لحدثتك عن العليق والعلق في كل طائفة؛ ولكن مالنا نبغّض الهابط إلى الصاعد، ونحرض الساعي على القاعد، ولا نترك شؤون الخلق للخالق؟
إن عقرب الساعة يهدف إلى السابعة في خُطى غير منظورة؛ وإن أنفاس المساء الندية قد أخذت ترف بطراءتها على الغرف المحرورة. وهأنذا أشعر شيئاً فشيئاً بحمّاي تذهب، وبرشدي يثوب، وبدمي يسكن، وبذهني ينتعش، وبفكري يتجمع، وبقلمي يجري على الورق بكلام لا أدريه، وبالغلام يطلب المقال للجمع فلا أستطيع أن أصرفه لأعيد النظر فيه!(313/3)
بيلاطس (باشا)
للأستاذ عباس محمود العقاد
بيلاطس هو الوالي الروماني الذي حكم البلاد اليهودية من قبل الإمبراطور طيبريوس عشر سنوات ظهر في أثناءها السيد المسيح وسيق إليه متهماً بما نسميه اليوم (الخيانة العظمى) والانتقاض على النظام القائم والدولة الحاكمة. فخشي بيلاطس أن يطلقه وأشفق من الحكم عليه وهو لا يدينه بجريمة، فأسلمه إلى قومه يدينونه بما عندهم من شريعة، ويجزونه بما اصطلحوا عليه من عقاب
وكان بيلاطس رجلاً حاذقاً أريباً ولكنه في بعض الأمور معوج الأساليب معرض للريبة والشكاية إلى (المراجع العليا) كما نقول اليوم
فمن أساليبه أن اليهود ثاروا عليه بتحريض الكهنة والرؤساء فلم يقمعهم بقوة القانون، ولم يرسل عليهم الجند ظاهرين، ولم يحمل أمام الناس وأمام المراجع العليا تبعة القمع والقسوة في علاج هذه الثورة، بل ألبس الجند ثياب الشعب وسلحهم بالمدى والخناجر وأمرهم أن يندسوا في غمار الشعب الهائج فيمنعوا فيه تجريحاً وتقتيلاً حتى يتفرق الجمع وتثوب المدينة إلى السكينة، ولا جناح عليه فيما زعم، فإنما هي مشاجرة جامحة بين يهود ويهود!
أمثال هذه الأساليب مع شيء من الطمع وشيء من الترف هي التي أخافته من اليهود ومن رفعهم أمره إلى عاهل الرومان فأسلمهم السيد المسيح وهو يقول في ضميره كما هو رأيه: يهود في يهود!
هذا هو بيلاطس. فمن أين جاءته الباشوية التركية ولم تظهر لها دولة في أيامه، ولم يكن لها معنى في ذلك العهد معروف؟
لم تجئه الباشوية التركية ولكنها جاءت إلى رجل يشبهه أقرب الشبه في العصر الحديث، وهو حاكم الإقليم المعروف ببحر الجاموس من أقاليم السودان في أعالي النيل، وهو كسائر الحكام هناك إنجليزي صميم لعله لا يحمل اللقب من الترك ولا من المصريين، ولكنه (وال) والوالي هناك لا يكون إلا (باشا) في لسان رعاياه، مجاراة للعرف الذي شاع في تلك الأقاليم النائية منذ سمعوا بالولاة العثمانيين
ولم يكن اسمه بيلاطس ولكنه عرف باسم بريدج، أو قد شاء المؤلف أن يعرفه لنا بهذه(313/4)
التسمية، وقد عالج مسألة كالتي عالجها الوالي الروماني على نحو كالذي انتحاه ذلك السلف القديم، فهو من ثم بيلاطس حديث!
وبيلاطس باشا هو اسم الرواية التي تقص لنا نبأه مع مسيحه عيسى بن النجار، وتشرح لنا من أحوال السودان الأعلى ما يغني عن مطولات في السياحة والتاريخ، وتتمثل لنا بقلم مؤلفها ميكائيل فوسيت صحيحة من وثائق الاستعمار البريطاني في القارة الأفريقية
أول فائدة تستفاد من قراءة هذه الرواية أن يأتي عليها القارئ الذي له معرفة يسيرة بأهل السودان فلا يلبث أن يقول: نعم! هذا يحصل!
ثم يرجع إلى تاريخ السيد المسيح فيرى من الموافقة والمخالفة ما يدله على الجائز وغير الجائز من ذلك التاريخ، ويقول على بصيرة: نعم هذا محتمل الحصول، وهذا لا يقع في الاحتمال
ولا ريب عندنا في أن المؤلف قد جهد بعض الجهد لتقريب الموافقة والمشابهة بين التاريخين
فاسم المهدي السوداني الذي تحدث عنه (عيسى)، واسم أمه (مريم)، واسم الخاطئة التي صبت على رأسه الطيب مريم المغربية، وصناعة الرجل الذي دل عليه الصرافة، وكراماته أو الكرامات المنسوبة إليه شبيهة بمعجزات السيد المسيح، والحوار بينه وبين المدير بريدج كالحوار بين المسيح عليه السلام وبيلاطس، ولأسباب التي أثارت الجمهرة ورجال الدين على مهدي السودان الأعلى هي الأسباب التي أثارت الجمهرة والأحبار على رسول الناصرة، والموعد يوم عيد، وكل شيء متفق متقارب حتى رجاء الشعب من الحاكم أن يطلق لهم نخاساً سفاكاً للدماء كعادته في العفو عن بعض المسجونين في أيام الأعياد
ولكن العجيب من أمر الرواية أن من يجهل تاريخ المسيحية يقرأها فلا يستغربها ولا يشعر بجهد المؤلف في ذلك التقريب والتوفيق لأنها إذا حصلت فأغلب الظن أن تحصل هكذا بغير اختلاف كبير
وقد سمعنا نحن بأنباء مهديين متعددين ظهروا في تلك الأقاليم، وسمعنا عن واحد منهم أباح بعض المحرمات ورفع بعض التكاليف، واحتج لذلك بما شاء من التعلات والتأويلات. ويخيل إلينا أنه هو هذا الذي عناه صاحب الرواية لقربه من مكانها، وقربه كذلك من(313/5)
زمانها، وهو حوالي مقتل (لي ستاك) حاكم السودان، فإن كان في الرواية توفيق مقصود فليست فيها مبالغة ولا شذوذ عن المعقول
على أن القارئ لا يستفيد هذه الفائدة وحدها من قراءة الرواية لأنه يعرف منها أشياء شتى عن أساليب الإنجليز في استعمارهم لأمثال تلك الأرجاء، وسياستهم لأمثال تلك الشعوب، واضطلاعهم بتصريف الأزمات وهم بعيدون عن الرؤساء كلما طرأ من الحوازب ما يدعو إلى تصريف سريع
فالحاكم (بريدج) يعرف العربية معرفة جيدة، وهو ومساعدوه يقرءون تاريخ النوبة وتاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه السلام ومذاهب العلماء في الظواهر النفسية والنقائض الاجتماعية، ويتتبعون أخبار الاستعمار في الدول الأخرى فيعتبرون بها أو يقيسون عليها ويأخذون بصوابها ويجتنبون أخطاءها
فإذا شغلوا الناس بالألعاب والمسابقات في المواسم الوطنية أو المواسم الإنجليزية فلعلة يصنعون ذلك لا لمجرد اللهو وتزجية الفراغ. أو كما جاء على لسان واحد منهم وهو يتكلم عن الحاكم: (لقد تعلم مما قرأ عن مجرى الأمور في ميلانيزيا وغيرها من جزائر المحيط الهادي، فإن المبشرين هنالك قد غيروا من عقائد أبناء البلاد، فأعرض هؤلاء عن العراك فيما بينهم وزهدوا في الرقص وليالي السرور، وضعفت في نفوسهم حمية الحياة وشهوة البقاء. إنهم لا يعيشون أو لا يرسلون شعلة الحياة إلى ما بعدهم من الأجيال فهم على وشك الانقراض. وهكذا يحدث هنا فيوشك أن ينقرض القوم أو هم على الأكثر متماسكون لا ينمون مع الأيام. لقد منعنا العراة أن يقتتلوا، ومنعنا العرب أن يغيروا على العراة، فشق على هؤلاء وهؤلاء أن يشغلوا أنفسهم وأن يفثأوا ما في طبائعهم من شوق إلى الصيد والنضال، وفارقتهم حماسة العيش. فهذا الذي جعل الحاكم بريدج مهموماً بإيقاظ تلك الطبائع وتوجيهها بعد تهذيبها إلى حب الرياضة والمغالبة في هذا المضمار.
وجاء على لسان أحدهم: (من هم المسلمون حق الإسلام في زماننا هذا؟! إنهم لنحن نحن طلاب الحقائق العلمية. إنهم لنحن نحن أصحاب الإيمان بالتوحيد الشامل لأبعد الكواكب وأصغر الذرات، وعلى ديننا هذا يدور العمل وتأتي الأعاجيب من اليابان إلى فلباريزو، ومن رأس الرجاء إلى سبتزبرجن، إلى ماوراء هذه وتلك من أرجاء القطبين. نحن نطلب(313/6)
الحق وليس غير الحق نطلب. ونحن لا نتبع نبياً واحداً ولكننا نستقصي كل شيء، ونمحص كل شيء، وننبذ كل باطل، ونرفض كل ضلال)
ومع عناية هؤلاء الحاكمين بالخفايا النفسية في الرعايا الفطريين أو ذوي النصيب المحدود من الحضارة تراهم لا ينسون العناية بإرضاء القوم ومجاراتهم فيما يشتهون مما لا ضرر فيه
فيبعث الزعيم من الزعماء البدويين إلى الحاكم في طلب طبيب يشفيه من عرج مزمن فلا يرده الحاكم ولا ييئسه من الشفاء، بل يكلف خير أطبائه أن يحمل معه الجهاز الكهربائي والبلاسم الضرورية ويزوده بالنصائح التي تنفعه عند الرجل وذويه. . . ثم لا ينسى أن يهمس في أذنه وهو منصرف: ولا تنس أن تأخذ معك شيئاً من عقاقير الباه فإنهم سائلوك عنها لا محالة وفي مقدمتهم المريض!
وإذا حسن لديهم أن يتوخوا مظاهر الهيبة بين المحكومين فليس ذلك بمانعهم أن يحتالوا على تمليقهم ومجاملتهم كأنهم خدم مسخرون في طاعة السادة ذوي الأهواء والبدوات. وهكذا يساس الملك في جميع الأقطار، ولا سيما في أقطار يلخص حاكمها مشاكلها كلها فيقول: إنها تنحصر في مشكلة واحدة وهي: (مسافات الأماكن ومسافات الأحوال)
عباس محمود العقاد(313/7)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 4 -
عجب ناسٌ حين رأونا نقول بأن الأستاذ أحمد أمين ينظر إلى الأدب وإلى الوجود نظرةً عامية، واستكثروا أن نحكم هذا الحكم على رجل من أساتذة الجامعة المصرية
ونجيب بأننا لم نظلم هذا الصديق، وإنما نفسه ظلم، فهو الذي يبني أبحاثه على قواعد المسلّمات والمقررات عند عوامّ الباحثين، وذلك يشهد بأن الابتكار والابتداع بعيدان كل البعد عن ذهن هذا الباحث المفضال
يعلن الأستاذ أنه يحتقر المعدة ليصح له التطاول على ماضي الأدب العربي؛ واحتقار المعدة لا يقوم على أساس من الواقع ولا من المنطق، وإنما هو مجاراةٌ للعوامّ الذين يصعب عليهم أن يدركوا أن النفس تتبع الجسم في الصحة والمرض، والقوة والضعف، والنشاط والخمول، ويعسر عليهم أن يفهموا أن الإنسان يرى المعنويات والمحسوسات بأشكال مختلفة في وجوه متباينة تبعاً لاختلاف الذوق والحسّ والمزاج
والواقع أننا عبيد لحواسنا وأعصابنا، وأن جمهورنا مدين في تكوين ذوقه وحسه وعقله إلى ما يأكل وما يشرب وما يلبس وما يرى وما يذوق. وقد راعى ذلك فقهاء الشريعة الإسلامية حين وضعوا آداب القضاء، فقد استحبوا للقاضي أن يمتنع عن الحكم إذا شعر ببعض عوارض المرض أو الظمأ أو الجوع
قلنا من قبل إننا لا نهجم على هذا الرجل بلا تأثّم ولا تحرّج، فالله وحده يعلم أننا نهجم عليه كارهين، لأنه صديق لم نر منه غير الجميل، ولأن له أصدقاء كنا نحب أن لا نؤذيهم بالهجوم عليه، فلنا فيهم إخوان أعزاء
ولكن هل يجوز أن يكون أحمد أمين وأصدقاؤه أعز علينا من الحق؟
هل يجوز أن نترك هذا الرجل يتحذلق ذات اليمين وذات الشمال مراعاةً للأخوة الغالية التي جمعت بيننا وبينه منذ نحو عشرين عاماً؟
إن أحمد أمين يجور على ماضي الأدب العربي بلا تحفظ ولا احتراس، وأغلب الظن أنه ما كان ينتظر أن يقول له أحد: (قف مكانك، يا أحمد أمين، حتى تدرس الأدب العربي(313/8)
دراسة تمكنك من الحكم له أو عليه)
وساعده على الاطمئنان إلى السلامة من عواقب ما يصنع أنه يصدر أحكامه الخواطئ في وقت خمد فيه النقد الأدبي. فهو يظن أنه لن يجد من يرشده إلى التصدر لأستاذية الأدب العربي يوجب حتماً أن يكون ذلك المتصدر أدبياً يتذوق المعاني ويدرك الفروق بين أساليب البيان.
فإن كان القراء في ريب من ذلك. فإنّا ننقل إليهم أحكامه على مقامات بديع الزمان، ومقامات الحريري؛ ننقلها بالحرف ليستطيعوا متابعتنا في تبيين ما فيها من خطأ وضعف.
قال الأستاذ أحمد أمين:
(ثم انظر بعدُ إلى الفن المبتكر في العصر العباسي، وهو فن المقامات، فقد ابتدعها بديع الزمان الهمذاني، فلم يجعل محورها حبّاً ولا غراماً كما يفعل الروائيون اليوم. ولم يجعل محورها شيئاً يتصل بأدب الروح، ولكنها كلها (أدب معدة). فأبو الفتح الإسكندري بطل المقامات كلها، رجل مكر واحتيال، يصطنع جميع المهن لابتزاز الأموال. نراه مرة قرّاداً يسلي الناس ويضحكهم، ومرة واعظاً مزيفاً يعظ وينصح؛ ثم تنكشف حيلته فإذا هو مهرج؛ ومرةً مشعوذاً يحتال على الناس بشعوذته ليفتحوا كيسهم ويغدقوا عليه من مالهم، وهو في كل ذلك مستجد سائل محتال. وجاء الحريري فجعل مكان أبي الفتح الإسكندري أبا زيد السروجي، وهو كصاحبه دناءة نفس، وخساسة حرفة. يشحذ ثمن كفن لميت يدّعيه، ويتعامى فتقوده امرأته إلى المسجد ليبتز أموال المصلين، ويجمّل غلامه ليوقع الوالي في شركه فيسلبه ماله وهكذا، ويتخذ الفصاحة والبلاغة وسيلة للتكدي والسؤال. . . أليس هذا كله أدب معدة؟)
ذلك كلام الباحث المفضال أحمد أمين نقلناه بحروفه لئلا نتّهم بالتجنّي عليه حين نحكم بأنه رجل لا يدرك أسرار الحروف، أبهذه الجرأة يحكم أحمد أمين على فن المقامات؟
لن نقول شيئاً يمس أحمد أمين، ويكفي أن نقف عند الملاحظات الآتية:
1 - نلاحظ أولاً أن أحمد أمين لم يفهم أغراض الحريري وبديع الزمان، فهو يتوهم أنهما يحاولان إغراء الجماهير بالإقبال على ما في تلك المقامات من شمائل وخصال، ومن هنا جاز له أن يضيف أدب المقامات إلى أدب المعدة، ولو كان أحمد أمين درس مقامات(313/9)
الحريري ومقامات بديع الزمان لأدرك بلا شك أن لهذين الرجلين غاية ما كان يصح أن تخفى على رجل يؤرخ الأدب بالجامعة المصرية.
فما هي تلك الغاية؟
هي غاية واضحة لمن يقرأ ويفهم، وهو بحمد الله ممن يقرءون ويفهمون، ولكنه لم يقرأ المقامات
الغرض من نظم المقامات عند بديع الزمان هو نقد الحياة الاجتماعية والأدبية في القرن الرابع. وفي سبيل هذا الغرض تعرض بديع الزمان لوصف ما رآه في زمانه من مثالب وعيوب، واهتم بتدوين ما عاناه الناس في تلك الأيام من حيل الدجالين والمشعوذين. وقد وصل إلى أبعد حدود الإجادة حين حدثنا عما كان يعرف أهل ذلك العصر من فنون الأدب ومذاهب المعاش، ولم يفته أن يقيد حيل اللصوص في تلك الأيام، بحيث صارت مقاماته سجلاً صادقاً لبعض أحوال المجتمع في القرن الرابع بأقطار فارس والعراق
وكذلك كان الغرض عند الحريري، فقد أراد أن يصور ما عرف الناس لعهده من ألوان الحياة، وأن يبين كيف كانوا يجدون وكيف كانوا يمزحون
وهناك غاية ثانية عند الحريري لم يفطن لها الأستاذ أحمد أمين وهي تقييد ما شاع في زمانه من ضروب الرموز والكنايات
ولا موجب لإيراد الشواهد، فسيعرف ذلك أحمد أمين حين يقرأ تلك المقامات
2 - ونلاحظ ثانيا أن أحمد أمين غفل عن نظرية تعد من البديهيات، وهي أول ما يدرس طلبة الكليات، وهي النظرية التي تقول بأن للفن والأدب غاية أصيلة هي الصدق في وصف ما ترى العيون، وما تحس القلوب، وما تدرك العقول؛ وليس من الحتم أن يكون الأدب والفن جنديين في جيش الأخلاق، فبعض أشعار ديك الجن وأبي نواس أرفع قيمة من بعض ما كتب ابن مسكويه والغزالي، أرفع من الوجهة الأدبية والفنية، وأن كانت أضعف من الوجهة الدينية والخلقية
3 - ونلاحظ ثالثاً أن أحمد أمين ينظر إلى الأخلاق نظرة سطحية، فلو أنه كان تعمق في دراسة الأخلاق لعرف أن الأخلاق تغلب عليها الصفة الاعتبارية، فما نعيبه اليوم من طرائق التعبير لا يجب أن يكون كذلك في أذهان من سبقنا من الأدباء في الأعصر(313/10)
السوالف
4 - ونلاحظ رابعاً أن أحمد أمين توهم أن فن المقامات وقف عند الحدود التي رسمها الحريري وبديع الزمان، ولو كان أحمد أمين من المطلعين على تاريخ الأدب العربي لعرف أن فن المقامات اتسعت آفاقه فشمل الزهديات والفقهيات، وتحول مع الزمن إلى أن صار من الأساليب التعليمية، ولذلك تفصيل سيهتدي إليه حين يقرأ تاريخ المقامات، وهو سيقرأ ذلك التاريخ لأنه يؤرخ الأدب بكلية الآداب
5 - ونلاحظ خامساً أن أحمد أمين لم يعرف أن فن المقامات الذي ابتكره الهمذاني وأجاده الحريري قد انتقل إلى اللغة الفارسية واللغة العبرية واللغة السريانية، فهو من الفنون العربية التي وصل تأثيرها إلى ما جاورها من اللغات، وأدب المعدة لا يؤثر كل هذا التأثير
6 - ونلاحظ سادساً أن الأستاذ أحمد أمين الذي أساء الأدب مع الحريري فجعل راويته مثالاً في (دناءة النفس وخساسة الحرفة) لم يعرف أن مقامات الحريري خدمت الأدب واللغة خدمة عظيمة جداً، فقد شُرحت تلك المقامات مرات كثيرة وشغلت الأدباء واللغويين في المشرق والمغرب، وكتبت بالذهب مئات المرات، وتهاداها الأمراء والملوك، وكان لها تأثير شديد في النهضة الأدبية الحديثة لأنها من أقدم ما نشرت مطبعة بولاق. وحديث عيسى بن هشام وهو أول كتاب مبتكر في الأدب الحديث له صلة بأسلوب المقامات
7 - ونلاحظ سابعاً أن أحمد أمين لم يخطر بباله أن في مقامات بديع الزمان تحفة فنية نستطيع أن نباهي بها أدباء العالم في الشرق والغرب، وهي المقامة المضيرية، فقد بلغت من الروعة مبلغاً لم يصل إليه كاتب في قديم ولا حديث، ولو ترجمت إلى اللغات الأجنبية لعدها الأجانب من الأعاجيب
8 - ونلاحظ ثامنا أن الجانب التعليمي في مقامات الحريري خفيت دقائقه على فطنة أحمد أمين، وما أحب أن أزيد!
9 - وألاحظ تاسعاً أن أحمد أمين لم يدرك أن للكاتب حرية ذاتية في طريقة التأليف، فهو كان ينتظر أن يكون في المقامات حب وغرام كما يصنع الروائيون في هذه الأيام، وهو أيضاً يجهل أسلوب الروايات بعض الجهل، فالحب ليس ركناً أساسياً في تأليف الرواية كما يتوهم الناقد، وإنما هو وسيلة لدرس الشخصيات وللمؤلف الروائي أن يغفله حين يشاء(313/11)
10 - ونلاحظ عاشراً أن أحمد أمين لم يبتكر الهجوم على المقامات، وإنما نقله عن الأستاذ سلامة موسى، وسلامة موسى له عذر مقبول هو بعده عن التغلغل في أسرار الأدب العربي. فما عذر أحمد أمين وهو يتصدر لتدريس الأدب بالجامعة المصرية؟
ألم أقل لكم أن أحمد أمين يعتمد على ما يقرأ ويسمع بلا نقد ولا تمحيص؟ إن أحمد أمين يتوجع فيقول:
(أصبحنا إذا قرأنا ما يقوله الإفرنج عن تعريف الأدب بأنه (نقد الحياة) عجبنا من هذا التعريف، لأنا لا نرى الأدب العباسي ينقد الحياة، وإنما يصف نوعاً من حياة القصور، فأما الشعب فلم يوصف إلا قليلاً)
ولو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن مقامات الهمذاني والحريري هي من الصميم في (نقد الحياة)
وكيف يكون وصف القصور بعيداً عن (نقد الحياة) يا أحمد أمين، وأنت تعرف أن القصور في تلك الأزمان كانت محور الحياة؟
وهل يستطيع الأدب أن يخرج على واجبه في (نقد الحياة) حين يتحدث عن الوزراء والملوك والخلفاء؟
وهل كانت المدائح والأهاجي إلا دساتير لحياة الناس في تلك الأزمان. . .؟
و (الشعب) الذي يتحدث عنه أحمد أمين هو نفسه الذي كان يتلقى المدائح والأهاجي بالقبول، وهو الذي كان يروي ما يقوله الشعراء في الرؤساء والملوك، فهو قد اشترك فعلاً في مسايرة الاتجاهات الأدبية في العصور الخالية
أحب أن أعرف رأي الأستاذ أحمد أمين في التصحيحات التي قدمناها إليه
ألا يزال يعتقد أن الهمذاني والحريري كانا يضعان دستوراً لحياة الصعلكة والتشرد والاحتيال؟
أيكون انتفع بهذا الدرس فعرف أن فن الهمذاني والحريري يقوم على أساس السخرية من بعض أخلاق الناس في تلك الأزمان؟
أحب أن أعرف كيف يحرم على أمثال الهمذاني والحريري أن ينقدوا المجتمع بالرسائل والقصائد والأقاصيص، وهو مذهب استحله كتاب الإنجليز والفرنسيين والألمان؟(313/12)
لو كان أحمد أمين من المطلعين على تاريخ الأدب العربي لعرف أن أدباء العرب فهموا أن فن المقامات ليس إلا وسيلة للتعبير عن طوائف من الأغراض، ومن أجل ذلك تصرفوا فيه فنقلوه من ميدان إلى ميادين، وحملّوه ما شاءوا من المذاهب والآراء
وما فهمه أدباء العرب فهمه أدباء الفرس حين اتخذوا المقامات وسيلة لشرح المذاهب الدينية والفلسفية، وعرض الصور الفنية والأدبية، وكذلك فعل بعض اليهود وبعض السريان فضمنوا المقامات طوائف من العضات والأخلاق
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم يقول الأستاذ أحمد أمين:
(وانتشر بجانب أدب المقامات نوع آخر من أدب المعدة بمعناه الحقيقي هو أدب التطفيل. . . وخلف لنا الأدب وصيتين طويلتين يوصي بهما نقيب الطفيليين ولي عهده: إحداهما من إنشاء أبي اسحق إبراهيم بن هلال الصابي الأديب المعروف، والثانية من إنشاء المولى تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني)
ذلك ما قال أحمد أمين، وهو بما قال رهين
فهل يفهم هذا الرجل أن الصابي كان يجّد حين أنشأ تلك الوصية؟
لو كان أحمد أمين قرأ كتاب النثر الفني لرأى المؤلف يقول:
(ومن أظرف ما كتب على طريق الهزل والفكاهة (عهد التطفل) وهو عهد أنشأه أبو اسحق الصابي على لسان طفيلي اسمه (عليكا) كان يقع على مائدة معين الدولة بن بويه، والطريف في هذا العهد أنه يجري على نمط العهود السلطانية فيبدأ بعرض خصائص العهود إليه، ثم يعيّن المهمات التي كُتب من أجلها العهد)
إن الأدب هو (نقد الحياة) كما يقول الإفرنج، فهل يكون من الفضول في (نقد الحياة) أن يعمد كاتب مثل الصابي إلى السخرية من طائفة طفيلية كانت تعيش على هامش المجتمع في القرن الرابع؟
وهل يطلب من الكاتب أن يغفل وصف الطفيليين لئلا يقال إن أدبه أدب معدة؟
وما قيمة الأدب إن سكت عن وصف عيوب المجتمع؟
إن العصر العباسي هو من العصور التي اشتبكت فيها النوازع الإنسانية فكثر فيه الجدل(313/13)
والهزل، والعفاف والمجون
فكيف يجوز أن يقف الأدب عند غاية واحدة هي وصف الجانب الرزين من المجتمع؟
إن ذلك لا يجوز إلا في ذهن رجل يجهل أن غاية الأدب هي (نقد الحياة)
أتحبون أن تعرفوا من أين وصل الخطأ إلى الأستاذ أحمد أمين؟ وصل إليه الخطأ من التلمذة للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين، فقد حكم الدكتور طه بأن العصر العباسي عصر شك ومجون، لأن فيه عصابة مشهورة بالزيغ والفسق، وهي جماعة أبي نواس ومطيع بن إياس، مع أن العصر الذي عرف أمثال هذين الرجلين هو نفسه العصر الذي نبغ فيه كبار الفقهاء والنساك والزهاد، وهو الذي بلغ فيه الفكر العربي غاية الغايات في فهم أصول الفلسفة وأصول الأخلاق
فهل خطر في بال أحمد أمين أن العصر العباسي لا يصح الحكم عليه بإيثار المعدة وإغفال الروح من أجل كلمة أو كلمات في وصف الاحتيال على الطعام والشراب؟
تذكّر يا أستاذ أمين أنك أستاذ مسئول، وتذكّر أنك بالفعل رجل محترم، ولأغلاطك تأثير سيئ في تلاميذك، وفيمن يثقون بك فيأخذون عنك بلا مراجعة ولا تدقيق.
تذكر، يا أستاذ، أن للدنيا آفاقاً أوسع مما تظن، وأن من واجب الأديب أن يتعقب بالوصف تلك الآفاق.
تذكّر أننا قد نطالبك بوصف زمانك، وفيه (طفيليون) يتقربون إليك بتجريح الرجل الذي يواجهك بكلمة الحق، وأنت تعرف ما أعني ومن أعني.
تذكّر، أن من العيب أن تقول إنك نظرت في الأدب العربي فوجدته (ينحدر مع التاريخ شيئاً فشيئاً ليكون أدب معدة)، وأنت تعرف بلا ريب أن من ذكرتهم من الأدباء لم يكونوا يصورون إلا بعض الجوانب من الحياة الاجتماعية.
وهل غاب عنك أن العصر الذي جعلته يعيش من أجل المعدة هو نفسه العصر الذي نشأ فيه أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي وجار الله الزمخشري، وهو نفسه العصر الذي نبغ فيه ابن مسكويه والحلاج والجيلي إخوان الصفاء؟
أنت رجل فاضل فيما أعتقد وفيما يعتقد عارفوك، فأنت أستاذ على جانب عظيم من أدب النفس، وقد أنصفتُك مرات كثيرة في مؤلفاتي، فمن جنايتك على نفسك أن ترتجل في(313/14)
مواطن لا ينفع فيها الارتجال.
أما بعد فقد دعانا كثير من الزملاء إلى نقض ما كتبه الأستاذ أحمد أمين عن جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي.
ونجيب بأننا سنؤدي هذا الواجب بعد أن نشرب معه فنجاناً من قهوة أبي الفضل على شوا طي الإسكندرية، الإسكندرية الجميلة التي لم يخلق الله مثلها في البلاد.
وهنالك، على شاطئ البحر، وفي رعاية الألوف من أسراب الملاح، سأصاول صديقي أحمد أمين
(للحديث شجون)
زكي مبارك(313/15)
التجني على أحمد أمين
للأستاذ نديم الجسر
لقد استوقفت نظري في العدد 311 من الرسالة الغراء عنوان الكلمة التي كتبها الأستاذ العلامة الدكتور زكي مبارك عن الأستاذ العلامة أحمد أمين، فحسبت أن قول الدكتور في العنوان (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) يطوي وراءه معنى غير المعنى الصريح؛ لأن الأستاذ أحمد أمين، إن لم يستأهل أن يسمى أديباً بكل ما في الكلمة من معان، فهو، بلا ريب، من أعاظم العلماء الذين خدموا العلم والفلسفة والأدب العربي بدراسات لا مثيل لها في لغة العرب؛ فأسدى بذلك إلى كل أديب ومتأدب عربي لا يحسن الاستقاء من معين الفرنجة خدمة لم يسبقه إليها سابق بمثل الطريقة التي سلكها. فكيف يكون من هذا شأنه في خدمة العلم والفلسفة والأدب جانياً على الأدب جناية يستحق عليها التشهير بين الناس؟
لو قرأت هذا العنوان في جريدة سياسية أو كانت الكلمة لغير الدكتور زكي مبارك ما حملت نفسي عناء مطالعتها، لأني كنت أذهب إلى أنها كلمة عدو أو حسود أو جاهل؛ ولكن المجلة مجلة (الرسالة) وما أدراك ما الرسالة، والكاتب هو الدكتور زكي مبارك فماذا أقول؟
إن الدكتور زكي مبارك هو أحق الناس بعرفان فضل أحمد أمين، وإن الدكتور زكي مبارك لأولى الناس بالدفاع عن أحمد أمين لو حاول هدمه شخص آخر. هكذا رأيناه قد فعل عندما غضب لكرامة الأدباء في مصر يوم حاول النيل منهم ناشئة الأدب في لبنان.
قد لا تكون كلمة الدكتور في حقيقة أمرها تطوي الشيء الكثير من الظلم لأحمد أمين، ولكن الظلم والقسوة يبدوان في العنوان؛ وطالما كانت ضخامة العناوين أشد أثراً في تحويل أفكار المتأدبين الناشئين وتضليلها مما وراء العناوين. فهل يرضي الدكتور مبارك أن يستقر في أذهان هؤلاء أن أحمد أمين من الجناة على الأدب العربي؟
لا ريب في أن الأستاذ أحمد أمين لم يكن موفقاً في المقالات التي كتبها في (الثقافة) مؤخراً: لا أقول هذا مجاراة للدكتور مبارك بل هو شيء لاحظته منذ شهرين، وقلته لبعض عشاق أحمد أمين، وأنا منهم. فكل من قرأ مقالاته التي كتبها بعنوان (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) أدرك أن العلامة الكبير لم يأت بشيء في هذا المضمار: لأن التأثر بالأدب القديم ليس مما يستطيع الأديب التفلت منه كما يتفلت من اللفظة الوحشية عند صوغ الكلام؛(313/16)
بل هذا التأثر نتيجة لازمة للعناصر التي تتكون منها نفسية الأديب بحكم الوراثة والتقاليد والذوق والثقافة. وظهور القليل منه في أدب اليوم برهان على أننا نجاري طبيعة التطور بالتدريج.
ونظن أن أستاذنا الكبير أحمد أمين الذي يحدثنا في (ضحى الإسلام) بحديث دونه السحر عن تطور العقلية العربية في مضمار العلم والأدب، لا ينكر أن أثر الأدب الجاهلي قد ضعف في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية، وكاد يتلاشى في شعر شوقي وحافظ. وهكذا سوف يسير الأسلوب الأدبي مع الزمن ويستقي من تطوراته عناصر جديدة تحل محل القديمة حتى لا يبقى من القديمة إلا ما يتخذ أمثلة لدراسة تاريخ الأدب.
وبعد فأي بأس في بقاء ذلك الأثر الضعيف من الأدب الجاهلي؟ ألسنا نجد لذة وطرباً ونشوة في هذه الصلة الحلوة بين القديم والحديث؟
ثم أليس من جملة أعمال الأدب أن يحفظ شخصية الأمة بربط حاضرها بماضيها، وتوجيه عواطفها نحو قبلة واحدة تجتمع عندها أحزان تلك الأمة وأفراحها ومفاخرها وتقاليدها وأساطيرها؟
وهل يجوز لنا أن نترك كل ذلك الماضي ونتجرد منه كما نتجرد من الثوب الخلق لنكّون لأنفسنا أدباً جديداً تزعق فيه السيارة بدلاً من حداء الحادي، وتهب فيه نسمات الخرطوم أو مالطة بدلاً من صبا نجد؟
إن هذا سوف يكون مع الزمن كما حصل حتى اليوم؛ وأما التخلي دفعة واحدة عن أذواق وعواطف داخلية كونتها الأجيال فينا فهو عمل يتم بقوة الجيش إذا شاءت الحكومة، ولكنه عندئذ لا يسمى أدباً تخاطب به الأرواح، بل يسمى (أوامر عسكرية) تنفذ بقوة السلاح. . .
وبعد فإنك إذا أردت أن تجد في كلمة الدكتور زكي مبارك شيئاً من الإنصاف فاطلبه في قوله في صدر مقاله الأول:
(إن الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين في العصر الحديث ولكنه على أدبه وفضله لا يجيد إلا حين يصطحب الروية ويطيل الطواف في الموضوع وذلك سر تفوقه) فهذه كلمة الحق وأما ما تلاها من لواذع فهو ظلم
ونريد أن نرجح أن المقالات التي كتبها الأستاذ أحمد أمين في الثقافة بعنوان (جناية الأدب(313/17)
الجاهلي على الأدب العربي) هي التي حملت الدكتور مبارك على أن يسمي قلة توفيق الأستاذ أحمد أمين في مباحثه هذه (جناية على الأدب العربي). ونحن لا نقول عن هذه التسمية إنها (جناية) على أحمد أمين بل نسميها (تجنياً على أحمد أمين). ولعل الدكتور يبدل عنوان هذه السلسلة بعنوان آخر يستحسنه، فإنه إن لم يفعل ذلك من باب الإنصاف والرقة في النقد فليفعله من باب الكياسة، كيلا يمنح أحمد أمين، من حيث لا يشاء، زعامة قوية في الأدب العربي، فأن من يستطيع بمقال أو بمقالين أن يجني على الأدب العربي لا بد أن يكون زعيماً من زعماءه إن لم يكن كبير زعمائه.
(طرابلس الشام)
نديم الجسر(313/18)
مدينة قونية
(يا حضرة مولانا)
للدكتور عبد الوهاب عزام
فصل من رحلات الدكتور عبد الوهاب عزام التي تطبع الآن
في مطبعة الرسالة ننشره بمناسبة ذكرى انتصار الجيش
المصري في قونية على الجيش التركي.
- 1 -
من أسكيشهر إلى قونية
أمضيت يوم الأحد في أسكيشهر ثم ركبت قطار المساء والساعة ست ميمّماً قونية؛ وكانت زيارة قونية منية في النفس حاولتها حينما سافرت إلى استانبول من قبل فحال دونها بُعد الشقة؛ وبينها وبين استانبول أكثر من عشرين ساعة بالقطار.
وكنت حينئذ أهاب اختراق الأناضول، فلما اخترقته في هذه السفرة وأنست بالسفر فيه عزمت على الرجوع إلى الشام من الطريق الذي أتيت منه؛ وكانت قونية أحبّ بلاده إليّ وكانت نفسي على رؤيتها أحرص. وإنما أربي من قونية زيارة مولانا جلال الدين
كان معي في القطار شاب من قونية معه زوجه فحدثني عن الترك وتمسكهم بدينهم وما فعلوا في الحرب، وكيف توغل اليونان في الأناضول حتى قذفهم أبطال الترك في البحر. وقال: إنهم قاربوا قونية ولكن مولانا جلال الدين ردّهم عنها. قلت في نفسي: هذه كلمة ظاهرها خرافة وباطنها حق؛ فإن ما يبثه جلال الدين في النفوس من قوة وإيمان وجهاد وحرية جدير أن يرد كل عدوّ عن حماه
- 2 -
بلغ القطار قونية والساعة ست ونصف من الصباح فمضيت إلى فندق اسمه فندق سلجوق فاسترحت بمقدار ما حال التعب الشديد بيني وبين مشاهدة المعاهد التي طال اشتياقي إليها.(313/19)
ثم خرجت إلى المكتبة (ملت كتبخانه سي) فألقيت نظرة على فهارس المكتبة ولا سيما العربية منها فلم أجد فيها من نفائس الكتب أو غرائبها ما يستوقف الباحث. وأرسل معنا قيم المكتبة رجلاً من الموكلين بالآثار فذهب بنا إلى حيث يدفعنا الشوق ويدعونا الحب إلى البقعة التي ترسل الشعر والحكمة والتصوف في آفاق الإسلام منذ ستة قرون، إلى المزار الذي استبدل به صاحبه قلوب العارفين:
فلا تطلبن في الأرض قبري فإنما ... صدور الرجال العارفين مزاري
إلى الذكرى العظيمة التي لا تزال تدوي في القلوب تقي وشعراً، وفي العقول حكمة وإيماناً، وفي الآذان موسيقى وغناء؛ إلى النبوغ الذي مزج الحكمة والتصوف والشعر في أحسن تقويم؛ إلى الرجل الذي أنبته بلخ وظفرت به قونية ولكن لم يسع قلبه وعقله مكان؛ إلى الحكيم البكري الذي لا تحده الأنساب والأوطان؛ إلى صاحب المثنوي والديوان مولانا جلال الدين الرومي الذي تنسب إليه الطائفة المولوية المعروفة في مصر والأقطار الإسلامية، وقد اشتهرت مجالسهم في السماع، يجتمعون على نظام خاص ويدورون بترتيب محكم على نغمات الناي وإنشاد المثنوي؛ والناي عند المولوية رمز إلى الحنين الدائم إلى العالم الروحي وقد بدأ مولانا جلال الدين كتاب المثنوي بنشيد الناي وأوله:
استمع للناي غنى وحكى ... شفّة البين طويلاً فشكا
مذ نأى الغاب - وكان الوطنا - ... ملأ الناس أنيني شجنا
من تشرده النوى عن أصله ... يبتغي الرجعى لمغنى وصله
أين قلب من فراق مُزّقا ... كي أبثّ الوجد فيه حُرّقا
كل نادٍ قد رآني نأدباً ... كل قوم تخذوني صاحبا
ظن كلٌّ أنني نعم السمير ... ليس يدري أي سر في الضمير
إن سري في أنيني قد ظهر ... غير أن الأذْن كلّت والبصر
إن صوت الناي نار لا هواء ... كل من لم يَصْلَها فهو هباء
هي نار العشق في الناي تثور ... وهي نار العشق في الخمر تفور. الخ
وكان للمولوية في تركيا شأن عظيم وكان رئيسهم (جلبي قونية) يقلد سلاطين العثمانيين السيف حين يتولون الملك(313/20)
وكذلك كان لهم أثر عظيم في الأدب، وحسبك من شعرائهم الشيخ غالب
هذه دار المولوي ولكن لا أري الوفود متزاحمة على بابها، ولا أرى الدار آهلة بنزّالها، قد أقفر الندىّ، وخلا السامر، وعدت الدار من الآثار، يدخل إليها بالمال الصالحون والفجار
يلقى الداخل سور يتوسطه باب عتيق فوقه ظلة وعليه ثلاثة أبيات بالتركية تدل على أن السلطان مراد خان بن سليم خان بنى هذه الخانقاه سنة 992 هـ. ومراد هذا هو مراد الثالث ابن سليم الثاني ابن سليمان القانوني (982 - 1003 هـ) فإذا ولج رأى فناء ينتهي إلى الشمال بحجرات كانت مساكن المولوية ومجالسهم ومطابخهم ومأوى ضيوفهم. وإلى اليمين حجر رفيعة اتخذت الآن مكتبة. وأمام الداخل بناءٌ كبير تعلوه في الجهة اليمنى قبة خضراء مخروطية تحلّق فوق قبر جلال الدين، وفي الجهة اليسرى مأذنة وقبتان كبيرتان، ويُدخل إلى البناء من باب جميل مصنّع تعلوه كتابة فيها هذا الشعار الذي يرى على كثير من أبنية المولوية: (يا حضرت مولانا) ويفضي الباب إلى حجرة فيها آثار للمولوية فيها كتب ونسخ من المثنوي هي أقدم نسخة وأنفسها، ثم باب آخر يفضي إلى قبور المولوية والمصلى ودار السماع (سماعخانة): إلى اليمين رواق عليه قبة ويفصله سياج وسُتُر تمنع الناس أن يدخلوا إليه أو يروا ما فيه إلا أعالي ضريحين كبيرين أحدهما لجلال الدين والآخر لأبيه بهاء الدين ويبدو ضريح الأب من وراء السياج مستطيلاً رأسياً فيقول العامة: لقد قام بهاء الدين في قبره إجلالاً لأبنه
وفي وسط البناء رواق بناه السلطان الفاتح، وإلى اليسار مصلى ودار للسماع من آثار السلطان سليمان القانوني
وفي البناء من عجائب الخط والنقش والتذهيب والكتب والبسط ما يبهر الناظر، وفيه من ملابس مولانا وآثاره وآثار بنيه
رأيت أربع قلانس قيل إن إحداها قلنسوة مولانا، وأخرى لابنه سلطان ولد، والثالثة لشمس الدين التبريزي، والرابعة لحسام الدين جلبي من كبار أصحاب جلال الدين
ورأيت ثلاثة مصاحف كتبت في أواخر القرن التاسع فيها ترجمة تركية ومصحف سلجوقي بين سطوره ترجمة فارسية ونسخا من شروح المثنوي، ونسخة من الفتوحات يقال إنها بخط الشيخ الأكبر(313/21)
ورأيت سجادة عليها صورة الكعبة قيل أنها كانت لأم جلال الدين مؤمنة خاتون بنت السلطان جلال الدين خوارزمشاه، وسجادة أخرى يقال أن السلطان علاء الدين السلجوقي أهداها لجلال الدين يوم عرسه، عليها الآية: (أقم الصلاة لدلوك الشمس). . . الخ
وقناديل صنعت في مصر. . . الخ الخ
أطفنا بجوانب المكان نستمع إلى الدليل، وللذكرى في نفوسنا صوت أبين من صوته وأصدق وأجّل، ولكني أستعيذ بالله من قول القائل:
يك طواف مرقد سلطان مولاناي ما ... هقت هزار وهفصد وهقت وحج أكبر ست
(طوفة بمرقد مولانا سبعة آلاف وسبعمائة وسبعون حجا أكبر)
ثم خرجت وفي النفس حنين إلى البقاء وعزم على العودة:
خرجت أمشي يقول قلبي ... للرِّجل بالله أنظريني
وعدت في اليوم التالي فلقيت أمين الدار وكنت واعدته اللقاء لاشتراء بعض الصور، فقلت: أريد تجديد العهد بالمزار فدخل معي يطوف في أرجائه ويصف ما يرى ويروي من التاريخ.
وخرجت ولم أقض حاجات الفؤاد من رؤية ما وراء السياج.
ونعوذ بالله من الحجاب! إن شرّ ما يلقى الصوفيّ أن تسدل الحجب دون آماله ويحال بينه وبين مقصوده. خرجت كارهاً أتثاقل لأمضي مع الرجل إلى داره فيعرض عليّ ما صوّر من آثار قونية.
قال: أأنت أستاذ؟ قلت نعم. قال: انتظر، ثم أشار إليّ فتبعته فرجع إلى المزار وتلفت ثم أشار إليّ وفتح باب السياج فتبعته. قال: نحن نمنع العامة من الدخول ونمكّن الأساتذة الباحثين من رؤية ما يشاءون. فشكرت له وسرت إلى ضريح جلال الدين بين قبور كثيرة لشيوخ المولوية من أولاده. وقفت وقفة أناجي الروح العظيم وأستلهم حكمته وعظمته؛ ثم خرجت وفي النفس ما فيها من جلال الذكرى وثورة الشوق
- 3 -
ورأينا من آثار قونية مسجد علاء الدين وقصره وهما من أعظم آثار السلاجقة هناك؛ يقومان على ربوة في المدينة تسمى ربوة علاء الدين (علاء الدين تبه سي)(313/22)
ورأينا على مقربة من الربوة مدرسة قرة داي وزير السلطان علاء الدين ولا يزال فيها من عجائب الصنعة، ولا سيما الكاشاني ما يخلّدها على رغم الزمان الذي ذهب برونقها وكثير من نقوشها
وعلى باب المدرسة آيات وأحاديث وكلمات عربية منها: رب أوزعني أن أشكر نعمتك. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. السماح رباح. العسر شؤم. الحزم سوء الظن. الولد مجبنة مبخلة
وفي المدرسة بهو عليه قبة، وإيوان وحجر قليلة كانت للطلاب، وحجرة فيها ضريح صاحبها
وزرنا مدرسة خربة تسمى صرجه لي مدرسة بنيت سنة 640 هـ ومدرسة صغيرة لحفظ القرآن كتب على بابها:
أنشأ هذه البقعة في أيام دولة السلطان محمد بن علاء الدين خلد الله مملكته صاحب الخيرات والحسنات محمد بن الحاج خاصبك الخطيبي أعلى الله شأنه وجعلها دار الحفاظ سنة أربع وعشرين وثمانمائة
وهذا تاريخ محرّف فيما أظن فقد انتهت دولة السلاجقة قبل هذا التاريخ. والظاهر أن البناء شيد سنة أربع وعشرين وستمائة في عهد علاء الدين كيقباد الأول (616 - 634) إلا أن يكون السلطان المذكور هنا من سلاطين بني قرمان الذين خلفوا السلاجقة في قونية
(البقية في العدد القادم)
عبد الوهاب عزام(313/23)
لجاجة الجدل
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قد ترى إنساناً يسخر من إنسان آخر لأنه في حديثه معه يذكر حقائق مبتذلة يعرفها كل الناس؛ وهذا الساخر قد يعرف أن أحاديث الناس في جملتها من هذا النوع الذي يسخر منه، وأن كونها من هذا النوع يسهل الحديث بين الناس على اختلاف ما يؤهلهم للحديث من علم وفطنة، أو ما لا يؤهلهم له من جهل وغباء. فهذا النوع المبتذل من الحديث الذي يسخر منه الساخر يؤلف بين الناس في مجالسهم ويساعدهم على أن يقضوا وقتاً يريدون إفناءه، ويمنع من انقطاع الحديث زمناً للبحث عن فكرة صائبة غير مبتذلة، كما قد يمنع من الحقد الذي ينشأ بسبب الخلاف على فكرة غريبة غير مبتذلة، أو بسبب حسد جليس لجليسه إذا ظهر عليه بفكرة جليلة. والساخر من الحديث المبتذل قلما ينقم في سريرة نفسه على محدثه إذا كانت آراؤه سخيفة أو مبتذلة قدر ما قد ينقم عليه إذا بذه بالحجة وفاقه بأصالة الرأي. فليس شر الحديث المبتذل، وإنما شر الحديث ما كان لجاجة وحبّاً للظهور بالعظمة وأثرة ورغبة في الانتصار وفي إرغام الناس على إجلال فكر. فان بعض الناس - حتى بعض أفاضلهم وعلمائهم - يرتاد المجالس كي يزهى بعلمه وينتصر بالجدل. وبعض الذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم يشعر بنقص إذا جالس الناس فيعمد إلى إخفاء ما يشعر به من نقص بما يظهر ذلك النقص، فتراه يحول الحديث من الموضوعات الشائعة المبتذلة إلى الأمور العلمية ويحاول أن يسيطر على الحديث باللجاجة وادعاء العلم والإصرار والتهجم على مخالفه، وقد ينفعل انفعالاً نفسياً شديداً، وليس انفعاله من شدة انتصاره للحق ولا من ذعره أن يسود الباطل العالم، وإنما انفعاله من غيظه إذا لم يُمكّن من الانتصار في الحديث ومن إسكات مجادله كي يوهم نفسه وكي يوهم جلساءه أنه لا يشعر بنقص علمه، وقد يفطن جلساؤه إلى أن باعثه على اللجاجة والانفعال شعوره بنقص تعلمه ولا يفطن هو إلى فطنتهم لنقصه فيضع نفسه في منزلة الخزي من غير داع
وتشبث المرء بالحق في المجالس واجب، أما إعلان هذا التشبث بالجدل الذي يؤدي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء والتضارب أو التقاتل فمن الضعف وقلة كبح النفس والعجز عن ضبط اللسان. وهذا العجز ليس من الحكمة في شيء بل هو من الطيش الذي قد يندم(313/24)
المجادل عليه ولو كان الحق في جانبه، فإن أحاديث الناس في مجالسهم ليس فيها ما يزكي اللجاجة التي تدعو إلى الخصومات. ويستطيع الجليس إذا خشي أن يُعدّ سكوته عن الجدل واللجاجة مشاركة في خطل الرأي أو إثم الغيبة أن يترك ذلك المجلس وأن ينصرف عنه إلى غيره بعد إعلان رأيه في رفق وتؤدة وحلم
وبعض الناس قد طُبع على أن يجادل لنصرة ما يراه حقاً حتى ولو أدت المجادلة إلى المهاترة أو المضاربة، وكأنما يشعر شعوراً غامضاً أن مصير الدنيا وبقاء الكون موقوف على انتصاره لما يراه حقاً، وقد يكون هذا المجادل اللجوج صادق النية مخلصاً في شعوره كأنه لم ير كيف أن العلماء والفلاسفة يأتون كل جيل أو كل عصر بآراء تخالف ما أتى به أسلافهم، والحياة قائمة بالرغم من خطأ السابقين أو اللاحقين، والسماء لم تنهد ولم تسقط على الأرض والدنيا على حالها يخالطها كثير من الخطأ، فلأي أمر إذاً يتضارب الناس في مجالسهم أو يتخاصمون من أجل اللجاجة والجدل
على أن في الناس من يحترف الجدل مكراً ودهاء كي يكون اعترافه بأصالة رأي مجادله أوقع وكي يكون انهزامه في الجدل أحب إلى جليسه الذي يجادله، وكي يفهم ذلك الجليس أن قوة بيانه ورجاحة حجته وفرط ذكائه هي الصفات العالية والهبات النفيسة النادرة التي مكنته من إقناع ذلك المجادل الذي إنما يجادل كي ينهزم وكي يمدح صفات جليسه العقلية تقرباً إليه لحاجة في نفسه، وهذه وسيلة من وسائل الدنيويين الذين يريدون النجاح في الحياة، وقد شاهدنا مثل هذا الجدل والاقتناع الكاذب في حديث الرؤساء والمرءوسين وفي حديث الوجهاء ومن هم أقل منهم منزلة
وهناك نوع آخر من الجدل يثيره خبيث يعرف أن جليسه عصبي المزاج ينفعل إذا جادل فيحب أن يعبث به وأن يضحك من انفعاله، وأن يتخذه لهواً وقد يكون رأيه في الأمر الذي يجادل فيه مثل رأي ذلك العصبي المزاج ولكنه يخالفه كي يتفكه بضجيجه وصراخه وحركاته حتى إذا نال بغيته من الفكاهة أقرّ برجحان رأي ذلك العصبي المزاج فينال نوعاً آخر من الفكاهة إذا رأى عظم سروره وخمود ثورة أعصابه.
وقد شاهدنا نوعاً آخر من الجدل إذ يرى أحد الجليسين أن جليسه سفيه لا يريد توضيح الحق بالجدل وإنما يريد الظفر في الحديث بأية وسيلة، ولا يترك جليسه إذا سكت بل كلما(313/25)
طال سكوته أحس ذلك السفيه أن سكوته إنكار لرأيه فيلج في الجدل كي يرغمه على الخروج من صمته وصاحبه لا يرى فائدة في الخروج من صمته فيكتفي بأن ينطق بمقاطع لا تدل على مخالفة أو موافقة كأن يقول: أومْ. إيمْ. آ. إمْ. وهذا على أي حال خير من التقاتل أو التضارب من أجل الجدل
ونقرأ في الجرائد عن تضارب يؤدي إلى قتل وكان سببه نزاعا على مليم أو على قطعة من البطيخ، ومثل هذا التقاتل يرجع إلى اللجاجة في الجدل أكثر مما يرجع إلى شدة الفقر إلى المليم أو إلى قطعة البطيخ؛ ومثله مثل اللجاجة في الجدل وفي النزاع على رأي سياسي أو في التنافس في البر وعمل الخير، فهذا أيضاً قد يدعو إلى التقاتل كما حدث بين شابين تجادلا في أيهما أحق بالتأذين والدعوة إلى الصلاة فانقلبت لجاجة الجدل إلى تشاتم ثم إلى تضارب فتقاتل. ونقرأ في الجرائد أن اللجاجة في الجدل قد تؤدي إلى الخصومات والتقاتل بين الأسر أو بين البلدان المتجاورة
واللجاجة في الجدل عند بعض الناس مرض يظهر خبث النفوس فترى بعض الناس يحقد على من يجادله ويسعى في أذاه إما سعياً ظاهراً وإما في الخفاء. ويخيل للرائي أن بعض المجادلين يكاد يجن إذا لم ينتصر في الجدل، وقد يكون هذا المجادل طيب القلب سمحاً إذا وافقه الجلساء على رأيه وهواه، وقد يمدح من يوافقه في حديث المجالس على رأيه فيقول: - فلان رجل ذكي لا يجادل بالباطل ويدرك الصواب إدراكا سريعاً. . . وقد يكون هذا الممدوح مخفياً غير ما وافقه عليه وساخراً برأي المادح في سريرته وهازئاً بلجاجته
والطوائف والأمم مثل آحاد الناس فإننا نقرأ في تاريخ الإنسانية عن تقاتل الطوائف من الناس على ألفاظ لا طائل تحتها وعلى أخيلة وأوهام بعيدة عن العقل فنعجب هل كانوا حمقى أم مجانين
وستأتي عصور يتساءل أهلها عن تقاتلنا على الألفاظ والأوهام، ويتعجبون من حماقة هذه الأجيال كما تتعجب هذه الأجيال من حماقة أهل العصور القديمة، ولم يعظنا ما رأيناه من عبث التقاتل على الألفاظ والأوهام والآراء التي تتبدل في كل عصر حتى كأن العقل البشري من قلة اتعاظ النفوس لا أثر له في الحياة وحتى كأن الحياة لا تستقيم إلا بأن يجد الناس لذة في خلق أسباب الألم والعذاب لأنفسهم بخصومات الجدل وعداواته كما يجد بعض(313/26)
المتدينين لذة في أكل النار وطعن أنفسهم بالخناجر في بعض الحفلات الدينية. والجدل في مناظرة الكتب والصحف والمجلات كالجدل في مناظرة الكلام فمنه ما يكون من العبث المضي فيه، ولعل أشد المناظرة عبثاً وضيعة ما يدعو إلى مجادلة الذي يزكي بالمصطلحات قلة خبرته بالحياة، وهي مصطلحات لا يستقيم مذهبها إلا في الأمور النظرية التي لا تتصل بأمور الحسّ، أو مجادلة من يشبه المؤرخ الذي لا ينتقد مصادر تاريخه كما ينتقد الصيرف نقوده وتطغى حماسة الشباب في قوله وتطغى الثقة بالأصدقاء على الرغبة في الإنصاف وفي تخليد حكمه وصيانته من أن ينقضه بحث باحث
وقد يكبر الوهم للمشتغلين بالسياسة قيمة جدلهم ومناظراتهم في الصحف، ويحسب كل فريق أن خراب الوطن رهن بانخذاله في أية مناظرة مهما يكن سببها فيستبيح ضمير كل فريق من الوسائل في خصومات الجدل ما كان يعده إجراماً لو نظر إلى الأمور بعين المؤرخ الذي يرى زوال الجهود البشرية وغثاثة أمر الكثير منها وتفاهة ما كان الناس يعدونه جد جليل خطير
ولما كانت السياسة شغل الناس الشاغل في العصور الحديثة فإن الأخلاق التي يستبيحها الجدل في شؤونها، وما قد يظن معينا على هذا الجدل، تتفشى وتفسد أمور الحياة التي يراد إصلاحها بهذا الجدل فيأتي فساد الأمور من سبيل إصلاحها، ويأتي سقمها على يد طبيبها. ولا يقتصر هذا الفساد على المشتغلين بالأمور السياسية؛ فإن كل إنسان وكل قوم يبيح فيمن يعدهم من خصومة وإن لم يكونوا خصوماً في أمور المعاش، ما تبيحه السياسة من الكذب والخساسة في العداوة والإجرام؛ فإن الرجل من عامة الناس أو أشباه العامة يرى بين الخاصة والعظماء المشتغلين بالسياسة من يستبيح كل وسيلة مهما كانت مرذولة، فيبيح لنفسه في أمور المعاش واللهو والتلذذ بالكيد ما تبيحه السياسة في الأمور العامة، ويصير نشر الدعوة الكاذبة في أمور السياسة خطة يتأثرها الناس في أمور المعاش أو اللهو أو الغرور، ويصير التحزب ونصرة الجماعة بالحق وبالباطل في أمور السياسة عادة يتبعها الناس ويغالون في باطلها في أحقر الأمور وأصغرها أو في أبعد الأمور عن تلك الخطط والعادات وأقلها حاجة إليها وأكثرها فساداً بها، ويكون فسادها أعظم والمغالاة بها أشد في البيئات التي تعودت في تاريخها التخاذل في الحق والتحزب والتقاتل في أتفه الأمور أو(313/27)
أجلها وأبعدها عن التحزب بالباطل.
عبد الرحمن شكري(313/28)
دراسات إسلامية
كبار الزنادقة في الإسلام
للأستاذ عبد الرحمن بدوي
رجحنا في العدد الماضي من الرسالة أن تكون الزندقة التي عناها المهدي والهادي في هذه الاضطهادات العنيفة التي قاما بها بين سنة 163 وسنة 170 هي المانوية، وأن يكون هؤلاء الذين اتهموا بالزندقة ممن كانوا يقولون بأن للعالم أصلين قديمين هما النور والظلمة ويحرمون ذبح الحيوان واللحم إلى آخر هذه المبادئ التي أعلنها ماني مؤسس مذهب المانوية.
ولكن هذا لم يمنعنا أن نقول كذلك أن معنى الزندقة قد اتسع وامتد حتى أصبح يشمل أشياء أخرى لم يكن للمانوية بها صلة ولا سبب. ولم يكن هذا الاتساع وليد السنوات التالية والقرنين الثالث والرابع فحسب، بل بدأ من قبل، في هذه الفترة عينها التي مضت فيها السنوات الأخيرة من خلافة المهدي وسنوات خلافة الهادي كلها.
ولا سبيل لمعرفة نواحي هذا الاتساع، وكيف تشعب وتنوع، فكانت فيه فروق ودقائق، إلا بدراسة كبار الزنادقة والتحدث عنهم.
والزنادقة طوائف وأنواع، والدوافع التي حدت بهم إلى الزندقة كثيرة متعددة. أما طوائفهم فنستطيع أن نحصرها في ثلاث: الأولى طائفة هؤلاء الذين يسميهم صاحب (الفهرست) رؤساء المنانية في الإسلام؛ والثانية طائفة المتكلمين؛ والثالثة طائفة الأدباء من كتاب وشعراء. والدوافع تكاد ترجع كلها إلى ثلاثة أيضاً: فمن هؤلاء الزنادقة من كانوا يؤمنون بالزندقة (ونقصد بها هنا المانوية) إيماناً صحيحاً صادراً عن رغبة دينية صادقة، فكانوا مخلصين في اتخاذها مذهباً، حريصين عليها كأشد ما يكون الحرص
ومنهم من وجد في الزندقة (بمعنى المانوية أيضاً) تراثاً قومياً خلفه الآباء فيجب الحرص عليه وتعهده؛ لا لصلاحيته في ذاته، ولا لأنه يستحق الإيمان به كما هو، وإنما لأن في هذا الحرص وذلك التعهد نوعاً من الإرضاء للنعرة القومية، والإشباع للنزعة الشعوبية. وفيها أيضاً موضع للمفاخرة ومجال لكي يقارنوا به تراث العرب ودين العرب بما خلفه لهم الآباء من تراث ودين.(313/29)
ومن أجل هذا كان جميع هؤلاء من الموالي الفرس. وبين هؤلاء وهؤلاء وجدت طائفة من الزنادقة كانت تتخذ من الزندقة وسيلة من وسائل العبث الفكري التي يلجأ إليها الشكاك دائماً، يرومون من ورائها أن يعبثوا بعقائد الناس، بأن يعقدوا حلبات النضال بينها، ويساعدوا الضعيف منها على القوي السائد، ويظهروا ميلهم إلى الأول؛ وكل هذا لا شيء إلا ليجدوا السلوى حيث لا سلوى، ويعثروا على العزاء وليس ثم عزاء. فهي حالة نفسية عنيفة تتملكهم فتدفعهم إلى ما هو أشبه باللهو الفكري والمجون الشكي منه إلى شيء آخر.
وتكاد الطوائف والدوافع يقابل بعضها بعضاً تمام المقابلة. فالطائفة الأولى، ونعني بها طائفة رؤساء المانوية (أو المنانية فالمعنى واحد)، يغلب على دوافع أصحابها الإيمان بها إيماناً صادقاً، وهذا هو الأليق بأن يكون عليه الرؤساء. والطائفة الثانية يغلب على أصحابها الدافع الأخير، دافع الشك الفكري والفكر المتشكك، ولا عجب فهم متكلمون أي أنهم رجال فكر وأصحاب مذاهب ومقالات يعتمدون على الأفكار والعقل، دون المصالح أو الإيمان. والطائفة الثالثة، وإن كان للدافع الثاني أثر كبير في اتخاذها الزندقة، إلا أن أعظم دافع أثر فيها كان نزعة الشعوبية. وليس هذا بغريب فالشعراء والكتاب لا يستهويهم الإيمان، ولا قبل لهم بالإمعان في الشك الفكري، وإنما تستهويهم الأحداث العنيفة التي تلهب عواطفهم وتثير ثائرة خيالهم، وليس أدعى إلى إلهاب العاطفة وإثارة الخيال من نزعة الشعوبية؛ أولاً لأنها تتصل بالسياسة وأحداثها، والنزاع القائم بين طائفة وطائفة أخرى. وثانياً لأن الشعوبية تذكرهم بمجد تالد يعتزون به، ويتغنون بعظمته. والشعراء يميلون دائماً إلى التغني بالماضي سواء بالافتخار به أو البكاء عليه، لأن الماضي زمن قد فات ولم يعد له وجود إلا في الذاكرة التي تعيه، فيستطيع الخيال أن يشكله على النحو الذي يبغيه، وأن يتصرف فيه كما أراد وحيثما شاء، وهو مطمئن آمن. بينما الحاضر يحدق في عينه فلا يستطيع أن يزور فيه أو يكذب عليه في أثناء وجوده!
والآن فلنتحدث عن أشهر رجال هذه الطوائف
أما الطائفة الأولى فأشهر رجالها أبو علي سعيد، وأبو علي رجاء، وأبو يحيى ويزدانبخت. وقد استطاع الأستاذ فيدا صاحب المقال الذي أشرنا إليه والذي نعتمد عليه كثيراً في مقالنا هذا، أن يعثر على اثنين منهم في المصادر الأخرى في يقين. ثم حاول أن يتعرف إلى آخر(313/30)
ثالث
فأبو علي سعيد ذكره الشهرستاني الذي يقول عنه إنه كان في أيام خلافة المعتمد وكان يكتب في سنة 271 هـ
ويزدانبخت ذكره أحمد بن يحيى المرتضى، كمؤلف لكتاب أخذ عنه المرتضى نظرية تتابع الأنبياء. ويحاول فيدا أن يجد أبا علي رجاء في شخص ذكره الجاحظ في كتاب الحيوان حينما أشار إلى أنه جرت مناظرة في حضرة المأمون بين محمد بن الجهم والعتبي والقاسم بن سيار من جهة وبين أبي علي الزنديق. فلما لم يفلح هؤلاء في مناظرة الزنديق قام المأمون نفسه بمناظرته فألقى عليه سؤالاً أفحمه ولكن الزنديق لم يرجع عن خطئه ومات على دينه. ولكي يثبت فيدا صحة هذا الافتراض، ونعني به أن أبا علي المذكور في رواية الجاحظ هو أبو علي رجاء. قال إن هذا الزنديق لا يمكن أن يكون أبا علي سعيداً، الذي ذكرناه آنفاً لأن أبا علي سعيداً كان يكتب وكان حياً في سنة 271، بينما الجاحظ الذي مات سنة 255 يتحدث عن أبي علي صاحبنا، باعتباره ميتاً. وعلى ذلك فليس هناك من مانع، اللهم إلا إذا ورد دليل مخالف، أن نفترض أن الزنديق الذي ذكره الجاحظ هو أبو علي رجاء الذي ذكره ابن النديم
أما الزنادقة من المتكلمين فأشهرهم ابن طالوت ونعمان، اللذان كانا أستاذي ابن الراوندي الزنديق المشهور، كما كان من أساتذته أيضاً أبو شاكر الذي يذكر عنه الخياط أنه كان متصلاً بهشام بن الحكم، المتكلم الشيعي المعروف. ويرى فيدا أن الرابطة بين أساتذة ابن الراوندي الثلاثة هؤلاء يظهر أنها كانت التغالي في التشيع. وهذا كان كافياً لكي توضع أسماؤهم بين أسماء الزنادقة. ويضاف إلى هؤلاء جميعاً صالح بن عبد القدوس. وقد أشرنا من قبل إلى البحث الذي كتبه جولد تسيهر وعسى أن تتاح لنا فرصة قريبة للتحدث عن هذا البحث
وهم جميعاً إما بعيدون عن المانوية أو أن معلوماتنا عن مبادئهم الدينية ضئيلة جداً. ولكن هناك شخصية أخرى بين الزنادقة من المتكلمين نعرف عنها بعض الأشياء ونعني بها شخصية عبد الكريم بن أبي العوجاء. ولا نتعرض هنا للكلام عنه كمحدث أسرف في اختراع الأحاديث ووضع المكذوب منها، ولا عن صلته بحسن البصري وجعفر الصادق،(313/31)
وإنما يعنينا هنا أن نقول عنه شيئاً يتصل بزندقته فنقول إنه كان كما يقول البغدادي مانوياً يؤمن بالتناسخ ويميل إلى مذهب الرافضة ويقول بالقدر. ويتخذ من شرح سيرة ماني وسيلة للدعوة وتشكيك الناس في عقائدهم ويتحدث في التعديل والتحوير، كما ذكر البيروني في كتاب (الهند)
ولكن أظهر شخصية في هؤلاء المتكلمين الزنادقة بعد شخصية ابن الراوندي (الذي نؤجل الحديث عنه إلى أن نفرد له فصلاً خاصاً إن كان هناك ثم مجال)، هي شخصية أبي عيسى الوراق وقد كان هو أيضاً أستاذاً لابن الراوندي
كان أبو عيسى الوراق معتزلياً في البدء ولكن المعتزلة طردته لآراء له ذكرها خصومه ولسنا نعرف مبلغ صحتها على وجه التحقيق فيذكرون عنه أنه كان شيعياً رافضياً، ويقول عنه الخياط إنه كان مانوياً يقول بأزلية المبدأين (النور والظلمة) ويعتقد في خلود الأجسام؛ والخياط معتزلي فهو خصم لأبي عيسى. ومن هنا لا نستطيع أن نؤكد تماماً أنه كان مانوياً. ولذلك فإن الأستاذ ماسينيون يميل إلى وصفه بالناقد المستقل الفكر)
وهنا ننتهي من الكلام عن الطائفة الثانية وننتقل إلى الطائفة الثالثة ونعني بها طائفة الأدباء والشعراء
وأول هؤلاء وأشهرهم من غير شك بشار بن برد، ولكنا لا نستطيع هنا أن نفصل القول في زندقة بشار، ويكفينا الآن أن نقول إن نزعة الشعوبية عند بشار كانت أكبر دافع له على الزندقة كما كان للعبث والمجون الذي طبع عليه بشار، وروح التشاؤم والسخرية من الناس أثر في هذه الزندقة غير منكور.
وهنا نلاحظ بإزاء بشار ما لاحظناه من قبل عند الكلام عن ابن أبي العوجاء وأبي عيسى الوراق من أن الاتهام بالزندقة كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة كما لاحظ الأستاذ فيدا بحق، ومن هنا كان الشك في معنى هذه الزندقة التي تنسب إلى بشار؛ ولذلك يميل الأستاذ فيدا إلى أن يرى في بشار شاكاً من الشكاك فحسب
ولكن زندقة خصم بشار، ونعني به حماد عجرد، أظهر بكثير من زندقة بشار. وعلى الرغم من أنه لا يمكن القطع بشيء فيما يتصل بعلاقته بالمانوية إلا أنه يمكن اعتباره ممن كانت لهم نزعة مانوية واضحة، خصوصاً إذا لاحظنا أن شعره وقصائده كان يتغنى بها في دوائر(313/32)
أتباع ماني وتستعمل في الصلوات
أما حظ النزعة الشعوبية في تكوين الزندقة فلم يكن كبيراً في شاعر من الشعراء أو كاتب من الكتاب بقدر ما كان عند إبان بن عبد الحميد اللاحقي. فقد كان يعرف الفارسية ويترجم عنها؛ وكان على اطلاع وسعة علم بأدب الفرس القديم، فكان ذلك داعياً له إلى التعلق بتراث الفرس والتغني به في جميع مظاهره. ولكن هذا ليس دليلاً قاطعاً على أنه كان مانويا حقاً، أو أنه أعتنق المانوية كدين أخلص (؟) على الرغم مما ذكره أبو نواس عنه في إحدى القصائد التي هجاه بها فاتهمه بأنه كان حسياً لا يؤمن إلا بما يراه فلا يعتقد إذن بالجن ولا بالملائكة. وهذه التهمة عينها قد وجهت إلى بشار من قبل. واتهمه أيضاً بأنه أشاد بماني وسخر من المسيح وموسى. وهنا يبدو الخلط والاضطراب في كلام أبي نواس لأنه إذا كان مانوياً فلن يسخر من المسيح. والصلة بين المانوية والمسيحية كبيرة واضحة لا تسمح بهذه السخرية. ونرجح نحن أن السبب الأكبر في اتهام إبان بالزندقة كان نزعته الشعوبية الواضحة فاتخذ أنصار العربية من اتهامه بالزندقة سلاحاً يستعملونه ضده في الخصومة الحضارية بين الشعوبية والعربية
وهؤلاء الشعراء الثلاثة قد اتفقوا جميعاً في غلبة روح الاستخفاف والعبث فيهم. ولذلك فإن أبا نواس كان صادقاً حقاً في تسميتهم (بعصابة المجّان) ولو أنه كان فرداً من أفراد هذه العصابة! فهم أقرب إلى الشك والمجون إذن من الإيمان والجد وهم أولى باسم الشكاك العابثين من اسم الزنادقة المخلصين
وأكثر من هؤلاء جداً وأبعدهم عن العبث والمجون أبو العتاهية. وقد لخص الأستاذ فيدا آراء أبي العتاهية أحسن التلخيص فقال: إن أول ما نلاحظه في معتقدات أبي العتاهية أنه كان يؤمن بالأثينية بكل صراحة. فالعالم الظاهر مكون من جوهرين متعارضين، والوجود تنازعه طبقتان إحداهما خيّرة والأخرى شريرة. وهو يرجع الوجود كله في النهاية إلى الجوهرين المتعارضين اللذين نشأ عنهما العالم وتكوّن. غير أن أبا العتاهية صاغ نظرياته الأثينية في صيغة واحدية، إذ جعل الله الواحد عند بدء الأشياء وقال: إنه خالق الجوهرين وأن العالم ما كان له أن يوجد بدون الله وحده. طارحاً بذلك أسطورة الخليط الأزلي بين الجوهرين أو المبدأين ونعني بهما النور والظلمة(313/33)
وهنا نقف قليلاً بعد أن استعرضنا كبار الزنادقة وشرحنا كيف كانوا موضعاً للاضطهاد في أيام الخلفاء العباسيين الأول لكي نتبين ما وصلنا إليه من نتائج
فنلاحظ أولاً أن الزنادقة الذين وجه إليهم الخلفاء ما وجهوه من اضطهاد كانوا مانوية إما بتحولهم عن الإسلام أو منذ ولادتهم في الفترة ما بين سنة 163 و170. أما بعد ذلك فإنا لم نستطيع أن نثبت المانوية لواحد ممن اتهموا بالزندقة، اللهم إلا لعبد الكريم ابن أبي العوجاء. أما الآخرون فلم نستطع أن نفصل في أمرهم فصلاً أخيراً
ثم نلاحظ كذلك أن الزنادقة كانوا في أماكن عديدة فكانوا في بغداد وفي حلب وفي مكة، ثم في البصرة والكوفة على وجه الخصوص.
وإن أشهر ما كان يوجه إليهم من تهم هو ترك الفرائض (كالصوم والصلاة والحج)، ثم ادعاء الشعراء منهم والكتاب أنهم يستطيعون أن يكتبوا خيراً من القرآن؛ وأخيراً موقفهم بإزاء وحدانية الله
وأنه كانت هناك رابطة بين الزندقة والشيعة، قد رأينا كيف كان الانتساب إلى الشيعة الرافضة دليلاً على الزندقة وداعياً إلى الاتهام بها
ونلاحظ أخيراً أن الكثير من كبار الزنادقة قد قضوا شبابهم وأوائل حياتهم في أواخر أيام الدولة الأموية. فيجب أن نستنتج كما يقول الأستاذ فيدا: (أنه للكشف عن أصل التأثيرات الإيرانية التي لعبت دوراً خطيراً منذ ظهور الدولة الجديدة (أي الدولة العباسية) فلا بد من البحث في الأوساط العلمية العقلية في داخل خراسان وبين أعوان أبي مسلم الخراساني السريين كما نبحث عنه في البصرة والكوفة) ففي منطقة خراسان التقت جملة حضارات مختلفة في طابعها. فكان فيها في أواخر الدولة الأموية حركة صراع فكري بين عدة حضارات. وكان لهذا الصراع الفكري أكبر الأثر في تكوين العقلية الجديدة التي سادت العصر العباسي أو الجزء الأول منه على أقل تقدير. ولن نستطيع أن نفهم هذه العقلية الجديدة وتطورها طوال ذلك العصر إلا إذا درسنا هذا الوسط الذي اصطدمت فيه العقليات المختلفة واختمرت فيه بذور الحياة العقلية التي جعلت من العصر العباسي الأول عصراً من أخصب العصور الفكرية في تاريخ العالم كله.
عبد الرحمن بدوي(313/34)
الحب العذري في الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
قال ابن الكلبي: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفدت إليه الشعراء، كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله، فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول، حتى قدم عديُّ بن أرطاة على عمر ابن عبد العزيز، وكانت له منه مكانة، فقال جرير:
يأيُّها الرجل الْمزْجِي مَطَّيتهُ ... هذا زمانُكَ إني قد مضى زمني
أبلغْ خليفتنا إن كنت لاقيَهُ ... أني لدى الباب كالمصفود في قَرنِ
وحْشُ المكانة من أهلي ومن ولدي ... نائي المَحلَّة عن داري وعن وطني
قال: نعم أبا حزرة ونُعمى عين. فلما دخل على عمر قال:
يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك، وأقوالهم باقية، وسنانهم مسنونة، قال: يا عدي، مالي وللشعراء! قال: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مدح وأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم. قال ومن مدحه؟ قال: عباس بن مرداس، فكساه حُلّة قطع بها لسانه، قال: وتروي قوله؟ قال نعم:
رأيتك يا خير البريَّة كلّها ... نشرت كتاباً جاء بالحقُ مُعلَمَا
ونورت بالبرهان أمراً مُدَمَّساً ... وأطفأت بالبرهان ناراً مُضَرَّما
فمن مبلغٌ عني النبيَّ محمداً ... وكلُّ امرئ يجْزي بما قد تكلما
تعالى عُلُوًّا فوق عرش إلهنا ... وكان مكانُ الله أعلى وأعظما
قال: صدقت، فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة قال: لا قرب الله قرابته، ولا حيّا وجهه، أليس هو القائل:
ألا ليت أني يوم حانتْ مَنِيَّتي ... شَممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم
ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم
فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا، ويعمل عملاً صالحاً، والله لا دخل عليّ أبداً، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جميل ابن معمر العذري، قال: هو الذي يقول:(313/36)
ألاَ ليتنا نحيا جميعاً وإن نُمتْ ... يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ... إذ قيل قَد سوى عليها صفيحها
أظلّ نهاري لا أراها ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
أعزب به، فوالله لا دخل عليّ أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: كُثير عزّة، قال: هو الذي يقول:
رهبانُ مدَيْن والذين عهدتهمْ ... يبكون من حَذَر العذاب قعودَا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خَرُّ والِعَزَّةَ راكعين سجودَا
أعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: الأحوص الأنصاري، قال: أبعده الله وأمحقه، أليس هو القائل وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية هربت منه:
الله بيني وبين سيدها ... يَفرُّ عني بها وأتَّبعُ
أعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: همام بن غالب الفرزدق، قال: أليس هو القائل يفخر بالزنا:
هما دلَّتَانِي من ثمانين قامةً ... كما انقضَّ باز أقتم الريش كاسره
فلما استوتْ رجلايَ في الأرض قالتا ... أحيٌ يُرجَىَّ أم قتيلٌ نحاذره
وأصبحتُ في القومِ الجلوس وأصبحت ... مُغَلّقَةً دوني عليها دساكره
فقلتُ ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ... وولَّيْتُ في أعقابِ ليلٍ أبادره
أعزب به. فوالله لا دخل عليّ أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأخطل التغلبيّ، قال: أليس هو القائل:
فلستُ بصائمٍ رمضانَ عمري ... ولستُ بآكلٍ لحم الأضاحِي
ولست بزاجرٍ عَنْساً بَكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالْعَيْرِ يدعو ... قبَيل الصبح حَيِّ على الفلاح
ولكنِّي سأشربها شَمولاً ... وأسجد عند مُنْبلَج الصباح
أعزب به. فوالله لا وطئ لي بساطاً أبداً وهو كافر. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جرير بن الخطفي، قال: أليس هو القائل:
لولا مراقبةُ العيون أرَيْنَنا ... مُقَلَ المها وسوالفَ الآرامِ(313/37)
هل يَنهينَّك أن قتلن مُرقَّشاً ... أو ما فعلن بعُروة بن حِزَامِ
ذُمَّ المنازلّ بعد منزلة الِّلوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهذا. فأذن له، فخرجت إليه فقلت: أدخل أبا حزرة، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبيَّ محمداً ... جعل الخلافة في إمام عادلِ
وَسِعَ الخلائقَ عدلُهُ ووفاؤه ... حتى أرعوي وأقام مَيلَ المائل
والله أنزل في القرآن فضيلةً ... لابن السبيل وللفقير العائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفسُ مولعةٌ بحب العاجل
فلما مثل بين يديه قال: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً، فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاَء أرملةٍ ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
من يَعُدُّك تكفي فَقْدَ والده ... كالفرخ في العيش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوةَ ملهوف كأنَّ به ... خبْلاً من الجن أو مساً من البشر
خليفةَ الله ماذا تأمرَنَّ بنا ... لسنا إليكم ولا في دار مُنْتَظَر
ما زلتُ بعدك في هّمٍ يؤَرِّقُنِي ... قد طال في الحيِّ إصعادِي ومنحَدَري
لا ينفع الحاضرُ المجهودُ بادِيَنَا ... ولا يعود لنا بادٍ على حَضَر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
أتى الخلافة إذ كانت له قَدَراً ... كما أتى رَّبُه موسى على قدر
هذى الأرامل قد قَّضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله؛ يا غلام، أعطه المائة الباقية. فقال: يا أمير المؤمنين، إنها لأحب مال كسبته إلى. ثم خرج، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: مايسوؤكم، خرجت من عند أمير المؤمنين يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول:
رأيتُ رُقَي الشيطان لا يستفزُّه ... وقد كان شيطاني من الجن رَاقيَا
ولا شك أن وجهة عمر رضي الله عنه ظاهرة في منع ابن أبي ربيعة لأنه كان لا يتورع في شعره عن التشبيب بالنساء من يعرفها ومن لا يعرفها، ويتعرض للمحصنات المتعففات(313/38)
ويترقب خروجهن للطواف والسعي، ويصفهن وهن محرمات حتى صرن يخفن الخروج إلى الحج. وقد نفاه عمر بسبب هذا إلى دهلك، وهي جزيرة ببحر القلزم أمام مدينة مصوع. أما أبياته المذكورة فهي وإن كانت محمولة على المبالغة لا تليق برجل يحافظ على أمور دينه لأن فيها شيئا من الاستهتار بعذاب الله، وما كان لمثل عمر رضي الله عنه أن يقبل هذا منه وأن تنسيه رقته الشعرية ناحيته الدينية، كما أنست قبله عمه عبد الملك بن مروان وقد اجتمع ببابه ابن أبي ربيعة وكُثير عزّة وجميل بثينة، فقال لهم: أنشدوني أرق ما قلتم في الغواني، فأنشده جميل:
حلفتُ يميناً يا بُثَيْنَةُ صادقاً ... فإن كنت فيها كاذباً فَعمِيتُ
إذا كان جلدٌ غير جلدكَ مسنَّي ... وباشرني دون الشِّعار شَرِيت
ولو أن راقِي الموت يَرْقِي جنازتي ... بمنطقها في الناطقين حييت
وأنشد كُثير:
بأبي وأمِّي أنتِ من مظلومة ... طَبِنَ العدوُّ لها فغيَّر حالَها
لو أن عَزَّةَ خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند مُوَفّق لقضى لها
وسعى إلىَّ بصَرْمِ عزة نسوةٌ ... جعل المليك خدودهن نعالها
وأنشد ابن أبي ربيعة:
ألا ليت قبري يوم تُقضى منيَّتي ... بتلك التي من بين عينيك والفم
وليت طَهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم
ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي ... هنا أو هنا في جنة أو جهنم
فقال عبد الملك لحاجبه: أعط كل واحد منهم ألفين، وأعط صاحب جهنم عشرة آلاف
وكذلك الأمر في منع عمر رضي الله عنه الأحوص والفرزدق والأخطل من الدخول عليه، فأما جميل وكثير فالأمر في منعهما غير ظاهر، لأنهما كانا من أصحاب ذلك الحب العذري السابق، ولم يكونا مثل ابن أبي ربيعة والأحوص والفرزدق والأخطل، وإن كان في بيت كثير ما يمكن أن يؤخذ عليه من الناحية الدينية ولكنها مؤاخذة ضعيفة لا يلتفت إليها، لأنه أسند السجود لعزة إلى أولئك الرهبان، وهم يدينون بعبادة الأيقونات والتماثيل، فلو أنهم سجدوا لعزة إذا رأوها لكان لهم في هذا شأنهم، ونحن لا نسأل في ديننا عن شأن غيرنا،(313/39)
وهذا إلى أن الأمر محمول على المبالغة، والمبالغة ضرب من التجوز
وهذا ليس له محمل عندي إلا أن عمر رضي الله عنه كان لا يرى التساهل في شأن ذلك الحب العذري، وإن كان أخف ضرراً من الحب المستهتر، فهو في ذلك يأخذ جميلاً وكُثيراً بحب واقع قد شغلا به، وأمعنا فيه، وملآ بذكره أشعارهما، وصرحا فيها للناس باسم محبوبتهما، ومثل هذا لا يقبله أدب الإسلام وإن كان يحمد لأصحابه ما يأخذون به أنفسهم من العفاف
أما جرير فكان يتعاطى الغزل في الشعر قضاء لحق الصناعة الشعرية، ولم يكن يشتغل بالحب كما اشتغل به ابن أبي ربيعة وغيره من فساق الشعراء، ولا كما اشتغل به جميل وغيره من العشاق العذريين، ولا شيء أصلاً في تعاطي ذلك الغزل على ذلك النحو الصناعي، كما يفعل الآن في الروايات الغرامية، بشرط ألا يكون في ذلك شيء من الفحش الذي لا يبيحه دين ولا خلق. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وفيه كثير من ذلك الغزل ومن ذلك غزل كعب بن زهير في قصيدته (بانت سعاد) وقد بلغ من أمره أن يقول فيها:
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً ... لا يُشْتكى قِصَرٌ منها ولا طولُ
تجلو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ ... كأنَّهُ مَنْهَلٌ بالرَّاحِ معلول
وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم من كعب ذلك الغزل على ما فيه من ذكر الأعجاز، والتشبيه بالخمر المعلول، لأن كعباً قال ذلك قضاء لحق الصناعة، ولم يصف فيه أمراً واقعاً، ولم يتحدث عن اشتغاله بالنساء أو بالخمر على مثل ما تحدث به الشعراء الفساق
وكذلك لا حرج في رواية ذلك الشعر بالغاً أمره ما بلغ، لأنه قد يكون في حفظه وروايته فوائد لغوية أو تاريخية، ومهما بلغ أمره فإنه لا يبلغ ما أجازه الإسلام من حكاية الكفر على طريق النقل؛ إذ حكم بأن ناقل الكفر ليس بكافر، وقد كان أبن عباس رضي الله عنه يروي شعر عمر بن أبي ربيعة على ما فيه من ذلك الحب الفاجر، والفسق الظاهر، ولا يعبأ بانتقاد الخوارج المتشددين في الدين عليه، لأن دين الله يسر ولا عسر، واعتدال محمود بين الجمود والتفريط
وإني أرى في الحب العذري رأي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فهو عندي من(313/40)
الأمور التي لا ينبغي الاشتغال بها، ولكن لا بأس به إذا كان يراد لغاية حميدة كالزواج، فإذا لم يظفر صاحبه بزواج من يحبها فليقلع عن ذلك الحب، وليشتغل بما يفيده في هذه الحياة لأنه لم يخلق لذلك العبث الضاربة في نفسه، والضار بالمجتمع في أخلاقه وصيانة أعراضه، وإنما خلق للعمل النافع، وإيثار مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؛ فإذا لم يمكنه أن يتغلب على نفسه في حبها، فليكتم فيها ذاك الحب، وليحفظها عن آثامه، وليصبر على تلك البلوى صبراً جميلاً ولو أدى به ذلك إلى إهلاك النفس، لينال في أخراه من الأجر ما يعوض عليه ذلك الحرمان في الدنيا، ولا يكون جزاؤه الحرمان فيهما معاً.
أما الذي قد يقترن بذلك الحب من شكوى الصبابة والتصريح باسم المحبوبة والخلوة بها وغير ذلك مما يفعله العشاق العذريون ولا يصل بهم إلى مجاوزة حد العفاف، فقد تساهل فيه بعض العلماء كما سبق ولم ير فيه بأساً. ومن ذلك ما يحكي أن ابن سحنون دخل على مالك فقال: يا إمام، اجعلني في حل من أبيات قلتها فيك، فقال وقد ظن أنه هجاه: أنت في حل من ذلك، فأنشده هذه الأبيات بين يديه:
سَلُوا مالك الُمْفتِي عن اللهو والغِنَا ... وُحبِّ الحسان المعجباتِ الفَوَارِكِ
يُنَبِّئْكُم أني مصابٌ وإنما ... أُسَلِّي همومَ النفس عني بذلك
فهل في مُحِبٍ يكتم الحبَّ والهوى ... أثامٌ وهل في ضَمَّةِ الُمتهالِكِ
فضحك وقال: لا إن شاء الله
وإني أشك في صحة هذه القصة، ولعلها كانت مع مالك من غير ابن سحنون، أو كانت مع غير مالك منه، لأن ابن سحنون لم يدرك مالكا، وأبوه سحنون هو الذي أدركه، ولكنه لم يجتمع به، وكان قد نشأ بالقيروان وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى مصر وسمع من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم، ثم رحل إلى المدينة ولقي علماءها بعد وفاة مالك رضي الله عنه.
والحق أن بعض تلك الأمور كالخلوة مما لا يصح التساهل فيه أيضاً، لأنها تعد من وسائل الزنا، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولكنها لا تصل في الحرمة إلى حد الزنا، لأنه من الكبائر، أما هي فمن الصغائر. نعم قد تنفع عفة أولئك العشاق في تكفير تلك الصغائر عنهم، لأنه قد ورد أن اجتناب الكبائر مما يكفر الصغائر، كما قال تعالى (إن(313/41)
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما)، ولعل هذا هو مراد من أفتى برفع الحرج عن تلك الأمور، فيكون مرادها أن إثمها يكفر عنهم، لا أنه لا إثم فيها، وفرق كبير بين الأمرين، لأن في رفع الإثم عنها إذناً بفعلها، أما تكفيرها بذلك فيبقيها على حرمتها، وليس فيه إذن بذلك الفعل، لأنه لا يصح لأحد أن يفعل ما حرم عليه اعتماداً على الوعد بتكفيره، وهذا إلى أن الإصرار على الصغائر قد يجعلها من الكبائر، فلا ينفع فيها ذلك التكفير، ولا يفيد فيها إلا التوبة عنها
وهذا هو رأيي في ذلك الحب العذري، وإذا كان فيه بعض القسوة على أولئك العشاق، فهو غاية ما يمكن أن يتساهل فيه معهم. وإني أرى أن هناك قوماً قد يقع ما يكون في ذلك الحب من الإثم عليهم أكثر مما يقع على ذلك العشاق أنفسهم، وهم الآباء أو الاخوة الذين يرون في زواج أولئك العشاق فضيحة أو عاراً، فيحولون بين زواجهم، ويعملون على إذكاء نار الحب بذلك المنع، وعلى وجود الفضيحة والعار من حيث يريدون الفرار منهما. وقد كان زواج أولئك العشاق هو السبيل إلى إطفاء نار ذلك العشق، وصيانة المجتمع من الاشتغال بأخباره وأحاديثه، وما فيها من هتك العرض، والاستهتار بتلك الصغائر. وإني أرى أن ما كانوا يفعلونه من ذلك ليس إلا من بقايا عوائدهم في الجاهلية فلا يقره الإسلام، ولا يأذن بتلك القسوة التي يدعو إليها الجهل، بل يندب إلى ذلك الزواج، ويثيب كل من يعمل على إنصاف أولئك العشاق، وهذه هي أصوله وفروعه بيننا، وليس فيها ما يمكن أن يستند عليه في تلك العادة الآثمة؛ ومما يؤيد رأينا في ذلك ما نسوقه من هذه الرواية
روى المسعودي أنه كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد عثمان وكان طريفاً يختلف إلى قينةٍ لبعض قريش، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم، ويحبها ولا تعلم، ولم تكن محبة القوم إذ ذاك لريبة ولا فاحشة، فأراد يوماً أن يبلو ذلك، فقال لبعض من عنده: امض بنا إليها، فانطلقا، ووافاهما وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، وما كان فيهم فتى يجدُ بها وجدهُ، ولا تجد بواحد منهم وجدها بالأموي، فلما أخذ الناس مواضعهم قال لها الفتى، أتحسنين أن تقولي:
أُحُّبكم حُبّاً بكل جوارحي ... فهل عندكم علم بما لكم عندي
أتجزون بالودِّ المضاعَفِ مثله ... فإن كريماً من جزى الودَّ بالودِّ(313/42)
قالت: نعم، وأُحسنُ أحسنِ منه. وقالت:
لِلَّذِي وَدَّنا الموَدَّة بالضِّعْ ... فِ وفضْل البادي به لا يُجازَى
لو بَدَا ما بنا لكم ملأ الأرْ ... ضَ وأقطار شامها والحجازا
فعجب الفتى من حذقها وحسن جوابها وجودة حفظها، فازداد كلفاً بها وقال:
أنت عذْرُ الفتى إذا هتك السَّ ... تْرَ وإن كان يوسف المعصوما
فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فاشتراها بعشر حدائق، ووهبها له بما يصلحها، فأقامت عنده حولا ثم ماتت، فرثاها، وقضى في حاله تلك، فدفنا معاً، وكان من مرثيته لها قوله:
قد تمنَّيْتُ جنة الُخْلدِ للخلْ ... دِ فَأدْخِلْتُها بلا استئهالِ
ثم أخرجت إذ تطمعت بالنع ... مة منها والموت أحمد حال
فقال أشعب الطامع: هذا سيد شهيد الهوى، انحروا على قبره سبعين بدنةً، وقال أبو حازم الأعرج المدني: أما محبٌّ لله يبلغ هذا؟
وأنا أقول: جزى الله عمر بن عبد العزيز عن ذينك المحبين خير الجزاء
عبد المتعال الصعيدي(313/43)
على منهج الأغاني
بقلم أبي الفرج الإسكندراني
صوت
بأبي من حرَّم النوم على عيني وناما
بأبي من أضرم القلب اشتياقاً وهياما
فقضى الله علينا فنزحنا وأقاما
أذكري من ليس ينساك وإن لاقى الحماما
إن من نام لعمري يحسب الناس نياما
حدثنا الأستاذ أحمد رامي قال: إن هذا الشعر للدكتور ناجي، وفيه لحن للأستاذ محمد عبد الوهاب يضرب بكل أصابع اليدين على البيان. .
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: إن الشعر ليس للدكتور ناجي، وإن للأستاذ رامي عذره الجلي في نسبته إليه؛ فالنفس الشعري متقارب بينه وبين العباس بن الأحنف. فكلا الشاعرين من شعراء اللهفات، تحس في أبياته حرارة أنفاسه، ورقة عواطفه. ولو أني كنت قد وضعت كتاباً عن شعراء القرن الثاني، لكان ذلك أجدى على القراء وأليق بي من كتاب (النثر الفني) في القرن الرابع، ولكن الفرصة لم تفت على كل حال. وإنّ من بدأ حياته الأدبية بالكتابة عن عمر بن أبي ربيعة، لجدير بأن يجعل للعباس بن الأحنف موضعاً في حياته الطويلة المباركة، إن شاء الله.
قال أبو الفرج: وهذا وعد ننتظر من الدكتور زكي مبارك وفاءه. ولقد عجبنا من إيثاره (الشريف الرضي) على العباس بتصنيفه كتاباً عنه أثناء إقامته في بغداد! فالشريف وإن جلّ قدره شاعراً , وسمت مكانته رجلاً، فإن العباس أشبه بأن يكتب عنه الدكتور زكي مبارك طبيب (ليلى المريضة في العراق). أو لعل اسمها ليلى العريقة في المراض، كما يزعم بعض الناس.
الدكتور إبراهيم ناجي وأخباره:
حدثنا الأستاذ صالح جودت قال: إن الدكتور ناجي غضب من نسبة رامي إليه هذه الأبيات(313/44)
وقال: إن فيها تحريفاً، فصحة البيت الثاني:
بأبي من أضرم القلب اشتياقاً واهتياما
وصحة البيت الثالث:
فقضى الله علينا ... فشحطنا وأقاما
قال الدكتور ناجي: ولست أنا بالذي يقول: (اهتيام) و (شحط)؛ ولا بالذي يبدأ البيت بقول (بأبي) فهذه لغة أستسيغها منسوبة إلى أبناء عصرها، ولكني لا أقبلها من أبناء عصري. ولقد كان العباس رقيقاً دمثاً لما قال شحط، ولم يقل افرنقع؛ وقد كانت الكلمة الثانية تقال في عصره، فعمد إلى أرق الكلمتين. ولكن عصرنا فيه ما هو أرق وأعذب وأصدق في التعبير عن خوالجنا المهذبة؛ ولكن رامي (عفا الله عنه) ينسب لي من شعر القدماء ليرميني بالعدول عن مذاهب المجددين، وسأحاربه هو وأمثاله بمثل هذا السلاح حتى يستقيموا. ثم أنشد:
لأروين لهم من غير قولهم ... حتى أجدد فيهم عهد حماد
قال أبو الفرج الأسكندراني: والغريب أن الدكتور ناجي يذكر أحد الحمادين، ويتهدد بأن يسلك مسالكهم، ولا يرى أنه بذلك قد (شحط) عن التجديد. وقد همّ أبو الفرج بأن يبدي هذه الملاحظة، ولكنه خشي أن يؤخذ بها لو أذاعها. فإنه هو أيضاً يعارض كتاب الأغاني وينتحل لنفسه لقب: (أبي الفرج)
قال الدكتور زكي مبارك، وقد أدرك لفطنته ما جال بخلد الأسكندراني وإن لم يقله: لا عليك من ذلك، فالتجديد لا يكون إلا من الراسخين في العلم بالقديم. وهذا مارتن لوثر ما استطاع إنشاء المذهب البروتستانتي إلا لأنه كان قسيساً كاثوليكياً، وإنني ما أنشأت مذهب البروتستانتية في الأدب العربي إلا لأني أزهري
حدثنا الدكتور زكي أبو شادي. . . بل لم يحدثنا بشيء لأنه صاحب مجلة تتعرض للناس بالسوء.
وحدثنا صالح جودت قال: إن حماداً الذي يذكره الدكتور إبراهيم ناجي في قوله.
لأروين لهم من غير قولهمو ... حتى أجدد فيهم عهد حماد
ليس أحد الحمادين الذين يشير إليهم الدكتور زكي مبارك، ولكنه الأستاذ محمد علي حماد(313/45)
محرر مجلة (الشعلة) فهو أقرب إلى خيال ناجي من هؤلاء الذين علت ذكرياتهم طبقات من غبار القرون. وما كان لناجي ولا لأحد منا نحن المجددين أن يلتفت هذا الالتفات، فنحن إنما نستمد الوحي الشعري من الحياة لا من الكتابة عن الحياة، ولا من الكتابة عن الكتابة عن الحياة. نحن نذكر حماد الشعلة لأننا نراه ونتصل به عن طريق الحواس، وهي صلة الفنان بالحياة؛ ولكننا لا نكتب عن العباسين لأننا لا نتصل بهم إلا عن طريق الكتب. . . والكتب نؤلفها نحن ويقرؤها غيرنا. . . إلا أن تكون بالطبع كتباً أجنبية، فدراسة ناجي لشكسبير أمر معقول، وليس كذلك ما كان قد يفعله لو لم يكن مجدداً فيدرس من يقولون إنهم أشباهه كابن الدمينة والعباس بن الأحنف.
قال الدكتور زكي مبارك: هذا بعض الفوارق بيني وبين ناجي ومدرسته الحديثة. فأنا منطيق ولا أرى كلام صالح يتمشى مع المنطق. أنا أدرس الحياة في حاضرها عن طريق الحس، وأدرس ماضيها عن طريق الدرس والخيال، وأدرس مستقبلها عن طريق التنويم المغناطيسي. ولقد أفدت من التنويم وما يتصل به من الدراسات أن صار في وسعي تعرف ما يجول بنفس محدثي من الأفكار والخواطر. وليس ذلك مجرد ذكاء، وإن كنت ذكياً وزكياً بالذال والزاي، ولكن عن طريق العلم والدرس. ولن تمر غير أشهر قلائل، فأجوز امتحان الدكتوراه للمرة الرابعة ولكنها ستكون في هذه المرة في (المازمارتيرم) وسيكون في استطاعتي أن أتعرف ما في الكتب دون أن أقرأها. فأكتب عن الشافعي مرة أخرى دون أن أعيد قراءة كتاب الأم، وأنقد شعر السيد الحميري، وإن كان شعره قد ضاع.
عود إلى حياة الدكتور ناجي
هو زعيم المدرسة الحديثة؛ ولهذه المدرسة طلبة وفيها مدرسون ولكن ليس لها دراسة ولا موضوع قابل للدرس. ولكن في التعليقات الشفوية المتفرقة على قصائد الشعراء المعاصرين مادة لو جمعت لكانت موضوعاً طريفاً لها. وهذا بعض ما سنتناوله في هذا الكتاب
وسنتبع طريقة أبي الفرج الأصفهاني في تحقيق الرواية والإسناد. ولن نخترع ولن نلفق إلا أن يكون ذلك من مستلزمات الكتابة. وكذلك كان يفعل الأصفهاني
ولقد ننسب إلى شاعر من غير شعره لأنه كان الواجب أن يقول هذا، فإن حاد عن هذا(313/46)
الواجب فالذنب ذنبه هو ولا علينا أن نؤكد صدق الرواية. وسنضرب المثل المقنع بأن لنا الحق كله في ذلك
تتلخص الفكرة العامة لآراء المدرسة الحديثة في هذه النظرية: ما دمنا مجددين في اللغة العربية فالاقتباس عن الغرب تجديد لأنه في لغتنا سيكون جديداً. ولكن محاكاة العرب محرمة لأنها تكرار لما في هذه اللغة
إنهم لا يقولون ذلك ولكن أحسب هذا هو الذي يجب أن يقولوه. أما وقد قالوا غيره فالذب عليهم، وما دمت أدون آراءهم فهذه هي آراؤهم. أما الذي يقولونه فهو أنهم إنما يرون الجديد جديداً بصدوره عن انفعال نفسي جديد، وهم لذلك يزعمون أنهم ينكرون الاقتباس من الأدب الغربي كما ينكرون محاكاة العرب الأقدمين
ولكن الأمر لا يقف عند هذا بل حياة هذا الجيل مقتبسة من الحياة الغربية إلى حد كبير؛ فالاقتباس عن الغرب في الحياة ينشئ في الأدب اقتباساً أصيلاً لا يتنافى مع التجديد. وبذلك لا يختلف ما قلته عنهم في حقيقته مع ما يقولون، ولكن الذي ينكرونه من الإعراب عن الرأي الذي يدينون به يبيح محاكاة العرب والاقتباس من الغرب وعليهم القول وعليّ التوضيح
استطراد في الغرض من هذا الكتاب
وقبل أن نستأنف التحدث عن حياة الدكتور ناجي وشعره نقول إن أبا الفرج الأصفهاني كان يذكر شاعراً والموسيقار الذي لحن له. هذا في بعض العصور، وفي عصر آخر يذكر شاعراً ومن وقف الشاعر نفسه على مدحه أو هجوه، وفي عصر ثالث يذكر شاعراً وراويته، وفي عصر رابع يذكر شاعراً والأمير الذي يتولى رعايته أو يتولى خصومته
هذا بأن الشاعر في بعض هذه العصور كان يخشى على شعره من النسيان فيتخذ راوية. وفي عصر آخر كان لا يستطيع الحياة إلا في كنف أمير، وفي عصر ثالث لا يستطيع الحياة إلا مناوئاً مشاغباً، وهو في كل العصور على السواء محتاج إلى من يضع له ألحاناً لشعره، لأن الشعر غناء قبل كل شيء.
من أجل ذلك رأيت أن الشعراء المعاصرين ليسوا في حاجة إلى راوية فحسبهم من الرواية المطابع، وليسوا في حاجة إلى من يحميهم فللشعوب الآن ما كان للأمراء في سالف الزمان،(313/47)
ولكن الذي يحتاج إليه الشاعر المعاصر هو الناقد النزيه.
ولقد وجدت بحمد الله هذا الناقد فسأذكر تاريخ شعرائنا وشعراء الأقطار العربية مشفوعاً بتاريخ ناقده وبنقده إياه. ومشفوعاً كذلك بتاريخ الموسيقار الذي لحن له.
عود إلى حياة الدكتور ناجي
هو طبيب متأثر بالثقافتين الإنكليزية والفرنسية عصبي المزاج ثائر الأعصاب مرهف الحس يكلمك فيهتز جسمه كله حماسة وشدة اقتناع
قضت حرفته بأن يكافح الموت في كل مريض وهو واسع الرجاء واسع الأمل. فرسالته في الأدب لا يمكن أن تكون كرسالة أدباء الهند في العصر الحاضر رسالة إذعان وتسليم. وعلى رغم الأمل والرجاء المستفادين من حرفة الطب فلا يستطيع أن يخلص من أثر المشاهدة للمريض والمكافحة للمرض. وإذا كان السيد يحاكي المسود كما يقول الاجتماعيون فشعر الدكتور ناجي في ساعة إخلاده إلى نفسه واستجماعه ألوان تأثره - شعره هذا يحاكي أنين مرضاه وتوجعهم
نوع الشعور الذي يبشر به هذا الطبيب الشاعر هو التفريج عن الهم بالتعبير عنه
لذلك يعنيه صدق التعبير وهو من أدق الشعراء المعاصرين إبرازاً للفكرة محدودة بحدودها في تصوره، فليس في شرح شعره مجال للتأويل وليس فيه شيء من الغموض. ولكن مجال الحياة التي ينظر إليها وينقدها مجال شديد الضيق؛ وفي نفس ناجي ثورة مكبوتة منشؤها أنه لم يقل كل ما يريد أن يقول. فهو مع أمانته في الإفضاء عما شعر به فيما قال لا يزال يختزن الكثير من التجاريب والمشاعر وبمنعه حرصه على صدق الأداء أن يقول اللفظ حائماً حول معناه أو قريباً منه أو شبيهاً به فيفرج عن نفسه بوسيلة ما بالتعبير عنها. وسيظل هذا الكبت ما دام محترفاً الطب التي تشغل الوقت كله والفكر كله، ولكنها لا تشغل كل المشاعر
هذا ما يقوله ناقده عنه وناقده هو الدكتور زكي مبارك فإن لم يكنه فقد كان الواجب أن يكونه
أما ملحنه فهو الشاعر الموسيقار صالح جودت
صوت(313/48)
ليلى العريقة في المراض ... بيضاء شاحبة البياض
مصفرة العينين تت ... قل بالدلال وبالتغاضي
مكنونة ليست تعد ... من الطوال ولا العراض
فإذا رأيت ذبولها ... أبصرت نرجسة الرياض
وإذا سمعت أنينها ... شاقتك ضفدعة الحياض
أصغى فيبعث صوتها ... كل انشراحي وانقباضي
الشعر للدكتور ناجي وفيه لحنان أحدهما لم يسمع قط، والآخر لم يصنع بعد: وكلاهما من صنعة الأستاذ صالح جودت.
(يتبع)
عبد اللطيف النشار(313/49)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
في مثل هذا الجو الذي كدرته دسائس الماكرين والطامعين، راحت وزارة البارودي تعالج ما كانت تشكو منه البلاد، ومن ورائها نواب الأمة يشدون أزرها، وإنهم ليعلمون ما كان يحيط بوطنهم من الكيد والإعنات.
وأحسن البارودي من أول الأمر بتزايد الجفاء بينه وبين الخديو. فما كان ليسيغ توفيق أن يصبح الأمر بينه وبين الوزارة قائماً على أساس غير ما ألف من مبادئ السيطرة ونوازع الاستبداد؛ ولكن الوزارة استعاضت عن معاونة الخديو بمؤازرة البلاد. . .
وكان أول ما واجهته الوزارة من الصعاب بطبيعة الحال هي مسألة الميزانية؛ أو بعبارة أخرى لائحة المجلس التي بسببها استقالت وزارة شريف؛ أو على الأصح أجبرت على الاستقالة.
ويجمل بنا أن نأتي بالحديث على سرده في هذه المسألة لنتبين إلى أي حد كان افتيات الدولتين على البلاد، وليرى الذين رموا حركتها الوطنية ورجلها بمختلف التهم مبلغ ما في مزاعمهم من جهل أو عدوان.
جاء في خطاب شريف باشا الذي تقدم به إلى المجلس بعد انعقاده؛ وقد خطت الحركة الوطنية خطوة واسعة بعد يوم عابدين قوله: (فإنه لم يحجر عليكم في شيء ما، ولم يخرج أمر مهم عن حد نظركم ومراقبتكم. إنما لا يخفاكم الحالة المالية التي كانت عليها مصر مما أوجب عدم ثقة الحكومات الأجنبية بها، ونشأ عن ذلك تكليفها بترتيب مصالح، وتعهدها بالتزامات ليست خافية عليكم، بعضها بعقود خصوصية، والبعض بقانون التصفية. فهل يتيسر للحكومة أن تجعل هذه الأمور موضعاً لنظرها أو نظر النواب؟ حاشا لأنه يجب علينا قبل كل شيء القيام بتعهداتنا وعدم خدشها بشيء ما، حتى نصلح خللنا، وتزداد ثقة(313/50)
العموم بنا، ونكتسب أمنية الحكومات الأجنبية. ومتى رأت منا تلك الحكومات الكفاءة لتنفيذ تعهداتنا بحسن إخلاص بدون مساعدتها. فنتخلص شيئاً فشيئاً مما نحن فيه).
بهذه الكلمة مهد شريف لخطته فيما يتعلق بلائحة المجلس، أو ما نسميه نحن دستوره، وعلى الأخص فيما يتعلق بالميزانية. ثم جاءت اللائحة تنص على أن: (لمجلس النواب أن ينظر في الميزانية ويبحث فيها، وتعتمد بعد إقراره عليها وعلى رئيس المجلس أن يبلغ ذلك إلى ناظر المالية لغاية اليوم العشرين من شهر ديسمبر بالأكثر).
(ولا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للأستانة أو للدين العمومي، أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية).
هاتان هما المادتان: الثالثة والثلاثون، والرابعة والثلاثون؛ من لائحة المجلس. وبمقتضى أخراهما يحرم المجلس من النظر في نحو نصف الميزانية، لأن هذه الأبواب المستثناة من الميزانية كانت تقرب من نصفها.
ولقد كان المجلس يطمع في أن ينظر في الميزانية دون أن يستثني منها شيئاً ما دام هو القيم على حقوق البلاد. ولكن الحكمة قضت عليه أن يتواضع فيقبل لائحة شريف على ما بها من نقص.
ففعل ذلك ولكنه لم يفد من حكمته وا أسفاه شيئاً. . . فقد كبر على الدولتين أن ينظر المجلس في أي جزء من الميزانية، فرمتاه بالمذكرة المشؤومة التي كان من نتائجها ما رأينا من تطرف المعتدلين وثورة المتطرفين، والتقاؤهما جميعاً، وتمسكهما بالنظر في الميزانية مهما يكن من العواقب. الأمر الذي طاح بوزارة شريف، وأحل محلها وزارة البارودي. . .
وجاءت وزارة البارودي. فلم يكن أمامها إلا طريق واحدة: هي السير وفق رغبة النواب، والرأي العام الوطني في البلاد. فخطت تلك الخطوة مستندة إلى مؤازرة الأمة لها معتمدة على حقها. فكان ما قررته في مسألة الميزانية ما يأتي: (لا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للآستانة أو الدين العمومي أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية)
(وترسل الميزانية إلى مجلس النواب فينظرها ويبحث فيها (بمراعاة السند السابق)، ويعين(313/51)
لها لجنة من أعضائه مساوية بالعدد والرأي لأعضاء مجلس النظار ورئيسه، لينظروا جميعاً في الميزانية ويقرروها بالاتفاق أو بالأكثرية).
ووافق المجلس على اللائحة الجديدة التي تقدمت بها إليه وزارة البارودي، وكان هذا الرأي الأخير، أعني تكوين لجنة من أعضاء المجلس مساوية في العدد لأعضاء مجلس النظار قد عرض كحل من الحلول على وزارة شريف. فأبت الدولتان قبوله؛ فلما قضت وزارة البارودي في الأمر حسب مشيئة النواب، ثارت ثائرة الدولتين اللتين جاءتا لنشر روح المدنية والحرية في الشرق!
ولقد جعلت الوزارة الأمر للأمة فيما إذا وقع خلاف بين المجلس والوزارة. فنص في دستور المجلس أو ما سماها اللائحة على ما يأتي:
(إذا حصل خلاف بين مجلس النواب ومجلس النظار، وأصر كل على رأيه بعد تكرار المخابرة وبيان الأسباب، ولم تستعف النظارة فللحضرة الخديوية أن تأمر بفض مجلس النواب وتجديد الانتخاب على شرط ألا تتجاوز الفترة ثلاثة أشهر من تاريخ يوم الانفضاض إلى يوم الاجتماع. ويجوز لأرباب الانتخاب أن ينتخبوا نفس النواب السالفين أو بعضهم).
(وإذا صدق المجلس الثاني على رأي المجلس الأول الذي ترتب الخلاف عليه ينفذ الرأي المذكور قطعياً).
هذا هو الحل الذي عالجت به وزارة البارودي مشكلة الميزانية والذي من أجله حقت عليها لعنة الدولتين، وحق عليها عقابهما. مع أنه لا يمكن أن يكون هناك تساهل في مثل هذا الأمر، وفي مثل تلك الظروف من هذا الذي جرت عليه الوزارة.
هؤلاء نواب شعب يجتمعون باسمه للنظر في صالحه، فكيف يتسنى لهم ذلك إن لم يكونوا قوامين على ماليته وهي أساس كل شيء ودعامة كل إصلاح؟ وكيف يكون الحكم قائماً على أساس ديمقراطي إذا حيل بين نواب الأمة وبين النظر في الأموال التي تجبى من أفرادها؟
وإذا كانت لمصر ظروف خاصة ناشئة من ديونها التي لم يكن لأهلها يد فيها، فأي شيء كان يطمع فيه من نوابها أكثر من أن يتركوا ما يتعلق بالدين دون تدخل فيه؟(313/52)
ولكن الدولتين كانتا تحاربان المجلس فحسب مهما بلغ من اعتداله وحكمته. كانتا تحاربانه، فتحاربان فيه الوطنية المصرية والقومية المصرية، لأنهما إن نمتا وازدادتا قوة، ضاعت الفرصة، وخرجت مصر سالمة مما كان يدبر لها! أنظر إلى الاحتجاج الذي كتبه المراقبان الأجنبيان في 12 يناير سنة 1882 عندما علما نية النواب في وزارة شريف، قالا: (يظهر أن مجلس شورى النواب يتهيأ لأن يطلب حق تقرير الميزانية، ولهذا نرى من واجبنا أن نقول: إن إعطاء النواب هذا الحق ولو اقتصر على الإدارات والمصالح التي لم تخصص إيراداتها للدين يفسد الضمانات المعطاة للدائنين. لأنه سيكون من نتائجه الضرورية أن تنتقل إدارة البلاد من يد مجلس النظار إلى يد مجلس النواب).
ولا تسل عن مبلغ غضب هؤلاء الطامعين الكائدين لمصر من وزارة البارودي حينما حلت المشكلة على النحو المتواضع الذي بيناه، فلقد انطلقت ألسن الساسة منهم مع ألسن السفهاء من مراسلي الصحف بكل فاحشة وجارحة في الوزارة والنواب جميعاً على نحو خليق بأن تخجل منه الإنسانية. فهذا نظام موضوع بأسره تحت سيطرة جيش ثائر كما صوره كلفن في تقاريره؛ وهذه وزارة جامحة تسوق مصر إلى الخراب، وهؤلاء نواب لا يعرفون من معاني الوطنية إلا التعصب الأعمى فضلاً عن جهلهم وضيق عقولهم.
كتب ماليت يصف النواب: (إن ما يتظاهرون به من طموح إلى العدل والحرية قد انتهى بأن حلت سلطة الجيش الغاشمة محل كل سلطة مشروعة).
وقال كوكسن يصف قانون الانتخاب الذي وضعته الوزارة السامية: (إن الغرض منه في هذا البلد أن تكون كل المزايا الانتخابية لمن رشحتهم السلطة الحاكمة، والسلطة الحاكمة الآن هي سلطة الجيش).
وأوعز ماليت إلى وكلائه في الأقاليم أن يكتبوا تقارير عن مبلغ ما وصلت إليه الحل من سوء في البلاد، وأرسل تلك التقرير إلى حكومته، وبلغ من الجرأة على الحق، بل بلغ من صفاقة أحد هؤلاء الطامعين لتغلب الجشع الاستعماري على لبه أن يكتب يندد بإلغاء الكرباج. فقال وما أعجب ما قال: (إن الحاكم الشرقي إذا حرم كرباجه، وحظر عليه أن يسجن من يشاء عجز عن سياسة قوم اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكومة فردية قوية. إن الطريق الذي سارت فيه الحركة منذ عام، جعل الفلاح يعتقد أنه يستطيع الوصول طفرة(313/53)
إلى ما يسمونه له حرية، في حين أن ما اكتسبته هذه الحركة من قوة جديدة بإسلام أزمة الأمور إلى طائفة من الخياليين النظريين جعل أثرها في السلطة على وجه العموم أثر الماء تصبه على قطعة من السكر).
هذا هو ما قاله ذلك الإنجليزي الذي تفتخر دولته بأنها سبقت الدولة إلى الحرية، والتي ما فتئت منذ عهد كرومر في مصر تفاخر بأن معتمدها هذا هو الذي أبطل الكرباج في هذه البلاد!
وإنا لنسأل الذين يقرءون هذه المفتريات، والذين يتتبعون أساليب إنجلترا وفرنسا في الكيد لمصر - نسأل هؤلاء السادة - الذين يعلمون هذا، ومع هذا يعيبون على عرابي وزملائه تطرفهم: أكانوا يفعلون غير ما فعل عرابي وأصحابه إذا كانوا يحبون أوطانهم حقاً، وكانوا يعيشون في مصر في تلك الأيام؟
أما الذين كانوا يجهلون تاريخ هذه الدسائس التي كانت تبثها إنجلترا في مصر، وحملوا لجهلهم بها على عرابي ما حملوا مجاراة منهم لما أشيع عنه، فحسبنا أن نريهم حقيقة الأمر ونكل المسألة بعد هذا إلى فطنتهم وضمائرهم.
وما ندافع عن عرابي إلا لأننا نعتقد أنه ظلم، وأن الذين ظلموه هم أعداء البلاد الذين استباحوا ذمارها وألحقوا بها الذل والهوان، وما يجدر بمصري وبلاده فقيرة في الأبطال أن يشايع الذين حاولوا أن يمسوا بالباطل تاريخ رجل كانت البطولة في مقدمة صفاته.
على أنه ما كان لباطل أن يطمس نور الحق إلا أن يطمس ظلام الليل نور النهار؛ وهيهات أن يتفجر نور النهار ولا تذوب في أمواجه الوضاءة المشرفة ظلمة الليل، وإن تراكمت من قبل بعضها فوق بعض. . .
ولقد جعل الكائدون لمصر الجيش هدفهم فيما راحوا يشيعونه من مفتريات. أنظر إلى قول ماليت في تقرير له عن: (تزايد اختلال الأمن في البلاد لقلة اكتراث الأهالي بأولياء الأمور الملكيين، ويعزى ذلك إلى سلوك رجال الحزب العسكري الذين لا يعاملون زملاءهم الملكيين بالاحترام الضروري لإدارة البلاد، وقد أخذت الرشوة تعود إلى سابق عهدها بين الموظفين، ومما يساعد على انتشارها كثرة التغيير والتبديل في كبار الموظفين). . . ثم يقول في وصف ما زعمه من الضيق الذي وقع فيه الفلاحون في سبيل الحصول على(313/54)
المال: (ويعزو الملاك قلة رؤوس الأموال وما هم فيه من الضيق إلى سياسة الحكومة الحاضرة التي لا تبعث على الثقة بها، ويجهرون بأنهم إذا عجزوا عن دفع الضرائب فالتبعة واقعة على الوزارة).
وليس عجيباً أن يسلك كلفن وماليت وأشياعهما هذا المسلك في الطعن على الوزارة، وقد أدركا ما كانت تنويه حكومتهما من العمل على تمهيد السبيل للتدخل المسلح بعد هذا التدخل السياسي
ولقد كانت تلك المذكرة المشؤومة خطوة واسعة نحو هذا الغرض المرسوم. فبسببها كان لا بد أن تتفاقم الحوادث لتصل بالبلاد إلى كارثة الاحتلال. كتب قنصل فرنسا إلى حكومته يوم 29 يناير يقول: (إن الرغبة البادية على مجلس النواب من جانب في أن يصير برلماناً، والخطة القوية التي رأت الدولتان من جانب آخر أن تختارها، والتي كانت مذكرة (7 يناير) تعبيراً عنها، هما السببان الجوهريان اللذان اصطدم كل منهما بالآخر. فأوجدا الموقف الحالي). وكتب في يوم 6 يناير يقول: (يمكن أن يقال إن الانقلاب الذي أحثه مجلس النواب المصري جواب منه على مذكرة (7 يناير). فلقد أعلنا في هذه المذكرة أننا نحتفظ بالنظام الحالي ضد الجميع. فأجاب المجلس على ذلك بأن غيّر هذا النظام تغييراً جوهرياً. وبذلك وضعنا أنفسنا في موضع صارت الضرورة قاضية علينا فيه بأن نتدخل أو نعدل سياستنا).
وهذا الذي ذكره ذلك القنصل يصور الحال تصويراً صادقاً، وما كان موقف الدولتين يخفى على أحد من الوطنيين، وعلى ذلك يقضي الأنصاف على الذين يحكمون على أعمال رجال ذلك العهد، وفي مقدمتهم عرابي أن يضعوا في أذهانهم قبل كل شيء أطماع هؤلاء الساسة، وأن يصوروا تلك الأعمال على هذا الأساس.
(يتبع)
الخفيف(313/55)
رسالة الفن
الرقص قديما وحديثا
للأستاذ محمد السيد المويلحي
ينظر الشرق في هذا الزمن إلى فن الرقص نظرة احتقار واستنكار لأنه لا يعلم عنه أو لا يحب أن يعلم عنه إلا أنه مجلبة اللهو والسرور، وإرضاء للغرائز الحيوانية، ثم هو يعتقد اعتقاداً يبلغ حد الإيمان - ولعله صادق - أن جميع محترفات الرقص من الطبقة الفقيرة التي لا تكترث لعوامل الشرف والتقاليد لا كثيراً ولا قليلاً. . . أولئك اللائى لا يرقصن لأنهن يجدن فن الرقص ويلممن بأنواعه الكثيرة، بل لأنهن يرقصن لملء البطون وستر الجسوم وإرضاء الرجال ليس إلا. . .!
هو لا يعلم أو لا يحب أن يعلم أن الرقص من أروع الفنون وأبدعها إن لم يكن أروعها وأبدعها جميعاً، فقد ظهر مع الإنسان الأول (على الأرض) من غير تعليم أو تدريب، ومن غير قواعد مرسومة أو أصول موضوعة، ومن غير أن يعرف أن هذا الذي يقوم به ويؤديه سيصبح مع مرور الزمن وكر الدهور فنّاً ككل فن آخر له قواعده وأصوله، وقيوده وحدوده. . .
فالطفل الصغير الذي لا يفرق بين الجمر والتمر، تراه إذا صفا ناغى وناجى وأخذ يهز جسمه، ويحرك رأسه، ويلعب بيديه في حركات بريئة منتظمة تعطي للناظر صورة بديعة (للرقص) الساذج الفطري الذي يجري مع الدم ويتحرك مع كل حركة للطفل حركات مضبوطة (موزونة) كأنما تعلمها وتلقنها عن مدرس ماهر!
والعجيب في الأمر أن تلك الحركات الطبيعية التي تصدر عن الطفل لو وزنت (فنيّاً) وقدر لها مثلاً (نواراً) زمنياً لكل حركة لرأينا أنها تجري على هذا النمط، وعلى هذا التقدير دون أن تزيد أو تنقص أو تخل بهذا الحساب الدقيق!
هذا الطفل بذاته لو غضب، أو خاف، أو تألم لعبر عن غضبه وخوفه وألمه بحركات تختلف تمام الاختلاف عن أختها، ولأعطانا صوراً مختلفة صادقة لهذا الفن الطبيعي الذي يجري مع دمه كما قلنا والذي يسجل خلجاته تسجيلاً دقيقاً لأنه يقوم في هذا الدور مقام الكلام ومقام التعبير. . .(313/56)
والصبي الصغير الذي لا يفهم من الدنيا إلا أنها أكل وشرب ولعب ولهو ويقظة ونوم تراه إذا سمع لحناً أو عزفاً (رقص) معه وتابع موسيقاه وتنقل معه من نغم إلى نغم ومن مقام إلى مقام بإتقان يثير الدهشة ويبعث على العجب والحيرة عند من لا يعلمون أن الصبي لم يفعل شيئاً أكثر من أنه أسلم حواسه وأدمج خوالجه حتى نسي نفسه ونسي كل شيء يحيط به إلا هذا اللحن الذي حرك هذا الشيء الخفي الذي يجري في دمه وهو الرقص. . .!!
والمرأة والرجل، والفتاة والشاب!! ما بال الجميع عندما يسمعون (الموسيقى) التي تلائمهم وتوافق ميولهم يتمايلون برؤوسهم ويضربون الأرض بأرجلهم ويحركون أصابعهم وأيديهم في حركات منتظمة مستمرة؟؟ إنه الرقص الذي يجري مع الدم والذي تؤديه الأجهزة العصبية في حركات غير إرادية!!
(والزار) الذي يقولون عنه إنه ترضية للجن حتى تترك الأجسام أو تعفو عن أصحابها فيبرءون من أمراضهم (وكساحهم)
لو أسقطنا من حسابنا الدجاج الأبيض (أبو منقار أحمر وذيل أصفر) والخروف البني الذي لا شية فيه، والحمام اليمني الذي يرضى عن صوته الجن، والدم الذي يشربه المريض ويلوث به ملابسه وجسمه. . . لو أسقطنا من حسابنا هذا والبندق والفستق والفطير والبلح، ألا يبقى غير الطبل والرقص المنتظم تتثنى له المرأة وتنقبض وتنبسط في حركات إيقاعية سليمة؟؟
قلنا إن الرقص فن فطري نشأ مع الإنسان من يوم أن خلقه الله وقد كان قدماء المصريين يستخدمونه في لهوهم وحزنهم، وحروبهم وقرابينهم، وعبادتهم لآلهتهم لأنه كان عندهم في منزلة التقديس. . . تحترمه الكهنة وتعتقد أن الآلهة لا تقبل الصلاة ولا القرابين إلا إذا سبقها، الرقص لذلك كانوا يسمحون به ويشجعون عليه. وقد بلغ أنواعه في الدولتين القديمة والحديثة أكثر من عشرة أنواع كل منها يقوم على أساس مكين من الفن الصحيح الذي نقلته أوربا عن أوائلنا وأهم الأنواع:
1 - الرقص الجميل، وكانت تقوم به النساء شبه عاريات إلا ما يستر عورتهن وكن يحلين صدورهن ونحورهن بالحلي والأربطة، ويرتدين بعد ذلك ثوباً شفافاً طويلاً وإن كان لا يستر شيئاً إلا أنه كان يزيدهن فتنة وسحراً، وكان رقصهن رقصاً مهذباً بديعاً راقياً يمتاز(313/57)
بالبطء والرشاقة، وكان على شكل جماعات تتجه اتجاهاً واحداً الواحدة خلف الأخرى كما يتضح من الشكل رقم (1) وكان بعضهن يصفق ليحفظ الإيقاع الموسيقي.
2 - الرقص السريع، وكان يقوم به الرجال في حركات سريعة منتظمة قابضين بأيديهم على قطعتين صغيرتين من الخشب تقرع في أثناء الرقص قرعاً متتالياً سريعاً يتمشى مع حركاتهم ش (2)
3 - الرقص الفني (الكلاسيك)، ويمتاز بنشاطه ولونه الفني البديع وجماعاته المنتظمة. وهذا الرقص الذي ابتكره قدماء المصريين من آلاف السنين هو الذي نقلته أوربا الحديثة عنهم واستعملته في أوبراتها وسمته. .! ش (3)
4 - الرقص الحي، وهو أبدع أنواع الرقص القديم لأنه كان ترجماناً صادقاً للتفاعيل الطبيعية والخوالج النفسية فكان يمثل الانتصار والاندحار فيجثو المغلوب خاشعاً خاضعاً تحت قدمي الغالب كما ترى في الشكل رقم (4) الجزء الأيمن، وكان يمثل زقزقة العصافير، وتغريد البلابل ومداعبة النسيم للأغصان كما ترى في الشق الثاني من الشكل (4). . .!
5 - وهناك أنواع مختلفة عرفها قدماء المصريين، منها: رقص الحصاد وكان يقوم به الرجال وهم يصفقون بالأذرع المصفقة الواحد خلف الآخر في اتساق ونظام، والرقص بالآلات الإيقاعية كانت تقوم به نساء ذوات دل، وكن لا يرتدين إلا غلالات شفافة تنم عن جسوم غضة بضة يرقصن ويعزفن في آن واحد، والرقص بمتابعة الصاجات والرءوس المصفقة وكان الراقص غير العازف كما ترى في شكل (6) ضارب بالصاجات (الأول من اليمين) ثم راقص ومصفق وضارب بالرءوس المصفقة. . . والرقص الحربي وتتمثل فيه القوة والعظمة، ويظهر فيه الجبروت
هذه هي أهم أنواع الرقص المصري القديم أما أهم أنواع الرقص الأوربي والأمريكي فهي:
الفالس، سلوفالس (بوستون) التانجو، الرومبا، الكاريوكا، الفوكس تروت، سلو فوكس، اللامبتوك، الشارلستون، الشّيمي، سونج، بج آبل، جافا، وان استب، توستبس (بازودوبل)، فايف ستبس، جيج، لانسبيه، كادرييه، بلوز، مازوركا، كلاسيك دانس، دانس سور بوانت، كونتننتال. . .!(313/58)
وفيها القديم والجديد فيها المنقول عنا كما قلنا وفيها المنقول عن زنوج أمريكا كرقصة (الرومبا) وهي قريبة جداً من رقصة (شنجا) التي يرقصها العبيد والتي يسميها العامة من المصريين (شنجه رنجه). . .!
وأهم ما يلاحظ في هذه الرقصات كثرة اللف، والدوران، والحركة. والطابع الذي تمتاز به هو طابع النشاط والرياضة العنيفة أحياناً كرقصة الدانس سوربوانت وتقف فيها الراقصة طول الوقت على أصابع القدمين. . .!
على أن هناك رقصات داعرة ماجنة تشمئز منه الأخلاق، وتنفر منها التقاليد كرقصات البج آبل. اللانسييه والكاردييه وتكون فيها البطن فوق البطن والصدر فوق الصدر والفم قرب الفم وتلعب فيها الحيوانية دوراً كبيراً ولا يقوم بها إلا الشباب والشواب الذين يفيضون بالحيوية الكاملة، وبالجرأة المستهترة وبعدم الاكتراث بما يقال أو يثار وتحرم هذه الرقصات بعض الشعوب الأوربية كالإنجليز
أما الرقص الشرقي والمصري الحديث ونعني بالحديث الذي نراه في هذا العصر فلا يخرج عن الرقص الإيقاعي الذي أدخلته وزارة المعارف في برامج مدارس البنات ورياضة الأطفال وهو رقص بديع أشبه بالألعاب الرياضية منه بالرقص، والرقص البلدي ويقوم به عامة الشعب وبخاصة من طبقة الصعايدة (والفتوات) وهو أشبه الأشياء برقص الحصاد الذي كان يؤدى في الزمن المصري القديم ويمتاز بعزف (الوحدة الثابتة)
وأما رقص الراقصات المصريات والشرقيات فلا شيء فيه من الفن أبداً، ولا غاية من ورائه، ولا غرض من أدائه إلا إرضاء الرجال والاستحواذ على (جيوبهم وقلوبهم)!
فالجمهور لا يصفق للراقصة ولا يشتد ويغالي في تحيتها والإشادة باسمها إلا بقدر ما وُهبت من جمال، وبقدر ما تتمتع به قامتها السمهرية من اعتدال، وبقدر ما توزع من بسمات، وبقدر ما تمنح من لثمات!. .
فالرقص هنا لا يعتمد على فن أو ذوق أو رياضة، وإنما يعتمد على هز الصدور، ورج البطون، واستفزاز أحط الغرائز، وتنبيه (الحيوانية) تنبيهاً عنيفاً صاخباً يدفع الموظف الفقير إلى سرقة مال الحكومة ليتمتع ولو على حساب مستقبله وبيته وأولاده، ويحمل الفلاح الذي حصل أمواله أن يبددها ويصرفها ولو خرب بيته وطلقت زوجه، وشرد بنوه(313/59)
وبناته!
ويرمي إلى هاوية الخراب والدمار شبابنا الذي لا يعرف قيمة مال أتاه من غير كد أو جهد. . .
ويحفر حفرة الخيبة لكل طالب يسمح له والده بالتردد على هذه المباآت التي لا تعلمه إلا التفكير. . . لا في الدرس والفحص ولكن في حلاوة العينين، وسحر الشفتين ونار القلب والحب!
هذا هو رقصنا (الآن). وهو الذي تحميه الحكومة، وتحافظ عليه وتتغاضى عن صيحات العقل التي طالبت بإلغائه. . .
وهذا هو رقصنا الذي يستنزف أموالنا ويخرب بيوتنا ويدفع شبابنا إلى التخنث والتزين ثم الهلاك. . .
الحكومة تطارد الباعة الذين يكسبون (الملاليم) بعرق جبينهم ليصرفوها على أولادهم وزوجاتهم، ولا تطارد الراقصات اللاتي لا عمل لهن إلا الخراب لكل من يحتك بهن.!
الحكومة تحذف بعض المناظر الهينة اللينة من روايات بعض المصريين المساكين ولا تحذف هذه الدعارة وهذا الطاعون الذي يفتك بصغار تلاميذنا ومجانين وارثينا، والساذجين من عمدنا وفلاحينا. . .!
هذا هو الرقص عندنا ويا له من رقص لم يعلمه أو يلهمه إلا الشيطان!!
محمد السيد المويلحي(313/60)
القصص
وحي نفرتيتي
معجزة الإيمان والحب
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
1 - مع الربيع
في إبريل من إحدى السنين ولد أدولف، فانساق إلى الحياة مع الربيع
أول نسمة أنعشت رئتيه كانت مشربة بروح من العطر والطيب، وأول صورة وقعت على عينيه كانت مزركشة بزخارف صاغتها يد المبدع البديع، وأول صوت طرق أذنيه كان تنهيدة من نسمة رشيقة حنون، وأول ما رشف من عصير الحياة كان رحيقاً من روح الثمر الطيب الذي تتبرج به الدنيا في الربيع
ويا شقاء الذي يهبط الأرض في الربيع. . . أو. . . يا سعده؟ يتدلى إلى الدنيا فيراها أول ما يراها: باسمة راقصة، مرتلة فرحة، قد أسكرتها نشوة التسبيح. وهو ينطلق إليها وكله روح وكله شعور: لم يعشش فيه العقل، ولم يعفّن نفسه الحذر. . . فلا عجب إذا صدّق الدنيا وأحبها، ولا عجب إذا اطمأن لها، ولا عجب إذا بادلها تسبيحاً بتسبيح
وإن هو إلا حين، ثم يعقب الربيع صيف، ومع الصيف لفحات من سعير؛ ثم يتلو الصيف خريف، ومع الخريف أشباح من فناء معتم مخيف؛ ثم يعقب الخريف شتاء، ومع الشتاء صقيع من موت معربد ينخر الصدور
ولكن وليد الربيع يحتضن صورة الربيع، فمهما تلونت الحياة بين ذراعيه، ومهما أفاق لهل مع الحادثات فرآها الحرباء التي لا تثبت على لون. . فهو لا يزال يرجو منها الخير ويأمل أن تعاوده صورة الربيع
وإنها لتعاوده. توافيه وتبارحه؛ وعلى أمل لقياها وفي ذمة فرحتها يصبر على شقوتها وعلى وحشة ظلمتها
أحبها. ومن حبه لها استشف الحسن في قبحها، والخير في شرها، وما فيها من شر! وإن هي إلا صور!(313/61)
ولكن الناس يعقلون! يعقلون أنفسهم وأرواحهم! وهم من شدة تعقلهم يتعثرون
يا ليتهم حنوا كما جن وليد الربيع!
2 - فنان
في معسرة أحب أدولف أن يستكمل من لوازم العيش حاجته، وأن يصارع على صدر الزمان فاقته، فلم يمتشق إلا ريشته. . .
طرق أقرب الأبواب منه ولم يكن إلا باب الجمال والفن. . .
فرحب به الجمال، وأكرم الفن وفادته
حقاً إنه لم يكن في المصورين بارعاً مبرزاً. . . ذلك أنه روى من الفن سجعته وقوت صنعته، وما كان الفن إلا فطرته
3 - محارب
وزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وصبت الأقدار أهوالها، فخف صاحبنا لها مشدوهاً يلاطم أوحالها، يغربل بالفن أشكالها ويلقف بالصبر أحمالها، فلانت ونامت وقد نال منها مضاعف ما قد أهدي لها
4 - شرير
صهره الزمن حتى لتكاد نفسه تسيل حسا، وتراكمت تحت قدميه التجارب فرفعته ورفعته حتى لتكاد تخرق السماء هامته.
حلق في جو يقصر عنه الترف والرغد. فلم يعد يرضى أن يعيش كما يعيش الناس، ولم يعد يطيق الحياة مستنقعاً بين جنتين، وإنما أرادها ساحة زاهية نيرة باسمة كالربيع، راقصة مرتلة مسبحة. فسالم الناس وسالم الأرض وسالم السماء
ما كان يبغي من هذه الدنيا غير ما يمسك به الرمق فما ملأ جوفه حتى سعى ليملأ سمعه بالنغم، وليملأ بصره بالصور. تدثر بالفن، وأغمض عينيه ونام على الصخب يسترجع الربيع إذا غاب عنه، ويستجديه الراحة إذا حضره
ولكنه لم يعتزم أمراً، ولم يخلبه هدف. فراح يخبط في الشرق وفي الغرب راضياً آمناً، ولكن رضاءه وأمنه شابتهما حيرة إذ كان يحس هتافاً يتلوى في نفسه غامضاً مبهماً مبعثراً(313/62)
في جوانحه تعجز اللغة عن حشده وجمعه وإنشاده كلاماً ولفظاً، ولم يكن يحس شيئاً أهنأ من هذا الغموض البنفسجي الشفاف، فاستسلم له يداعبه ويناغيه متلمساً إفصاحه ودعوته
5 - دعوة الحب
كان الجمال يستهويه فيستقصيه في مجال السمع ومجال البصر ومجال الحس ومجال الوعي. فكان يتردد على رياض الجمال ما يغفل روضة، وكان يتعطف على معارج الحسن يُسري به فيها فيلمس من أسراره مالا يراه غيره، فكانت له عند كل جميل وقفة
والتقى هذا المستعشق في جولة من جولاته بتمثال رصد فيه فنان حساس لمعة من لمعات روح نفرتيتي فلم يملك إلا أن يسكن أمام التمثال وقد اختبل حسه وتذبذب بين نزعة الرقص للفنان والسجود لنفرتيتي ومبدع نفرتيتي
رآها أنثى قائدة موجهة فوقف بين يديها وقفة مرن عليها في الجيش. . . وسمعها تسأله:
- وماذا تريد أن تصنع؟
فقال: لا أدري
فعادت وسألته: ألست تحس شيئاً؟
فأجابها: إني أحس
فأمرته: أن لبّ نداء حسك
وسكتت، وشعر بها وكأنها تنصرف عنه أو تنخطف من تمثالها فاستأذن وانفرد
6 - في الوحدة
راح يقول لنفسه:
- أما أنها حدثتني وأني حدثتها، فقد حدثتني وحدثتها، وأما أن هذا المعروض للناس تمثال، فإنه تمثال لم يحدث أحداً ولم يحدثه أحد. فلا بد أنه تعرفني، ولا بد أنه اختارتني من بين زوارها، ولعلها تسللت من وطنها المستحي لتلقاني دون غيري، (هي) قطعت إليّ آفاقاً وآباداً فكيف أغفل عنها و (هي) تنتقل بين أعطاف الوجود باحثة عني. لابد أنها المكتوبة لي. . .
وإلا فما لي لم تعجبني امرأة. . . وما لي قد آمنت قسراً عني أنه لن تعجبني بعدها امرأة؟!(313/63)
إذن. . . فيا لقرب الحبيبة!
واللقاء بيدها. . . فيا رحمة الحبيبة!
عليّ أن أسترضيها. إنها طلبت مني أن ألبي حسي، فإلى أي شيْ قصدت. . . وأنا. . . بماذا أحس؟ وأي حس هو الذي تفيض به نفسي حتى ليخفى ما عداه من الأحاسيس؟
أما أنا. . . فإني محروم. إني أرى نقائص كثيرة ويخيل إليّ أني أملك إصلاحها ولكني غير متمكن من شيء أصنعه
ولست وحدي المحروم، فإني أشعر أن حولي كثيرين محرومون، منهم المحروم من قوته. بل إني محاط بجمع. . . بحشد. . . بجيش. . . بشعب من المحرومين. . . إني أعيش في وطن محروم. . . بل في جيل محروم مظلوم. واحتمال الظلم والحرمان نقص. . . ولعلها لا ترضى عن منقوص
فمن هو الظالم؟ أين هو؟. . .
. . . وخرج أدولف من حديثه مع نفسه بأن عليه عبئاً ألقاه على كتفيه أهل جنسه من الجرمان يريدون أن يتوحدوا. . .
وما أكبره من عبء!
7 - معها مرة ثانية
ودلف إليها مرة أخرى فوجدها تنتظر منه إشارة تعرف بها أنه قد حدد في ذهنه قيمة مهرها من مادة ومعنى. فأطرق خجلاً وقال:
- أليس عسيراً توحيد جرمانيا؟
- ما من شيء في الحياة عسير. وكل ما أردت ميسور. كان لي صهر، وكان يحب المال. . . ومع هذا فقد استطاع أن يوحد الله. . . وأنا. . . وقد كنت وثنية استطعت أن أعبد الله. . .
- وما لله ومالي؟ أترين أني جدير بصنع المعجزات؟ لقد مضى زمان المعجزات يا سيدتي
- إنك كسلان!
- كلا
- أثبت!(313/64)
وانطفأ التمثال. . .
8 - مؤمن ونائمون
وبدأ أدولف الكفاح. فجمع حوله الشباب. . . وجاهد ما جاهد حتى استولى على ألمانيا. . .
وقضى هذا الدهر وهو يتردد على محبوبته فلا ينعم منها إلا بومضة وبسمة من علامات الرضى
. . . حتى اشتاقت حكومة مصر إلى تمثال الملكة فطلبت من حكومة ألمانيا أن تعيده إلى وطنه. . . يومئذ زارها فإذا هي ضاحكة تسائله:
- مالك؟
- إنهم يريدونك في مصر
- وما مصر؟
- وطنك
- وطني أنا؟ أنا وطني أينما كنت وإذ ما أكون. لست أحل أرضاً ولا أشغل مكاناً
- ولكنك كنت ملكة مصر
- ومصر الآن في زاوية من ملكي
- أي إنسان أنت؟
- كان الإنسان بعض أزيائي!
- فأي كائن أنت؟
- إنه كائن واحد!
-. . .!! وهل يفهمونك في مصر. . . هل يحسونك؟ واضمحل أدولف وتخاذل. . . وقال:
- لا يمكن. . . فلتبق هنا أيها التمثال فإني أرى فيك عجباً. . . واعتذر (هتلر) لحكومة مصر وقال إنه يحب الملكة المخلدة. . .
9 - الناس يسخرون
وطابت للناس سخرية وأضحوكة. . . وما أكثر المآسي التي يضحك منها الناس ويسخرون، وما أكثر العبر التي يمرون بها غافلين متجهلين!(313/65)
فن نبع من فن وأفرغ في فن
درة من منح الله سجلها مؤمن يتعبد بالنحت، وتلقاها عاشق متيم بالجمال والحسن فاندلع رجلاً يبهر المتعقلين والمتفلسفين! إنه اندلع. . . وقال: إنه يحبها ولم يزد فسخروا منه. . . فما باله لو قال: إنه يحادثها. . .
منذ إذ أسرها!
10 - توت عنخ آمون
احتل الألمان (الرين) وعاد أدولف ليلتها إلى مخدعه متعباً مضني. وكان يحن إليها. وكان صادقاً في حنينه. فناداها فلبته فإذا هو معها، وإذا هي تسأله:
- أحسبك ارتحت الآن قليلاً؟!
- الحمد لله
- وأحسبك تريد جزاء؟
- لا. فقد تعلمت منك تناسي الجزاء
- إذن هيا معي
- إلى أين؟
- إلى وليمة صغيرة. . . ألا تحب أن تعرف توت عنخ آمون؟
- قد أتساقط بين يديه
- لماذا؟
- لأنه صاحب الحق فيك
- وهل مسست أنت حقه؟. . . تعال. . . فهو يريد أن يراك. . . وقادته إلى العرش وقدمته إلى الملك
- هذا هو أدولف
- مرحباً. . . هل تشرب خمراً من خمرنا؟
- قد تروقني. . . ولكنكم قد تحسنون إلى لو أسمعتموني ترنيمة من ترانيم صلاتكم
- وماذا لو حيتك الملكة برقصة أو أغنية؟!
- قد تكون متعبة(313/66)
- أظنه لا يتعبها ما يرضيك. . . أليس كذلك أيتها الملكة؟ ورفعت المائدة. . . ورفع الملك والملكة. . . وهبط أدولف وعاد إلى مخدعه محزوناً. . .
لقد كان يحسن أن يتقي هذه المقابلة. إنه لم يربح منها شيئاً إلا غيرة خاطئة صوبها إليه قلب صاحب حق
. . . ولكن. . . لا. . . أو هل يمكن أن يكون قد طاب لها أن تعبث به. . . ولماذا لا تكون هذه الصلة كلها من أولها إلى آخرها مؤامرة دبرتها مع نفسها، أو أغرتها بها شيطانة عابثة. أو دبروها معاً
بدأ الشك والقلق يخزان نفسه
11 - يتخبط
إنهار المسكين!
كان قد أحس حبه المتجرد قد رسا به في مرفأ جديد من مرافئ الوجود: كله ربيع!
رسا فيه. وهم أن ينزل إليه فإذا به يضع قدمه في هذه الدنيا من جديد وفي بقعة من بقاع برلين.
إنه يحب برلين، ويحب ألمانيا. إنه وطني عنيف. ولكن حبه لوطنه لا يزيد على حبه لتمثاله. . . فهل التمثال هو المقصود بالحب؟
و (هي). . . قد قالت إن وطنها القديم لم يعد اليوم إلا جانباً من مسرحها الجديد. وهو لا بد أن يكافئها. . . ولا بد أن يضم إلى ملكه هذا المرفأ البعيد الذي رأى نفسه قد رسا فيه. . .
فما الطريق إليه؟. إلى أين؟. إلى المرفأ البعيد؟ أي مرفأ؟ وأين هو؟!
ويل أو طوبى لمن طلب البعيد!
12 - عتاب
في هذا الاضطراب الموجع القاسي أخطأ بعض أصحاب أدولف في حقه وفي حق كفاحه فقتلهم بيده. . .
وليس القتل بالفعلة التي يرتكبها الإنسان ثم يسهل عليه النوم. انتابه الأرق ليلتها وثارت به نفسه. كان صرعاه يحبونه، وكان هو يحبهم. حقاً إنهم أخطئوا، ولكن من في الناس(313/67)
المعصوم؟ ثم من ذا الذي منحه السلطان على الأبدان والنفوس؟
أولا يمكن أن يكون هؤلاء الضحايا أبرياء. . . من يدري؟!
وكيف يقتل المتطهر البريء؟!
العين بالعين. والسن بالسن. وإذا كان في الغفران فضل ففضله للباذل الواهب.
فهل يغتفرها لنفسه؟. كلا. . . كلا. . . فهو إذن منقوص معيب، و (هي) لا تحب المنقوص المعيب. . .
هاهي ذي! تمد يدها بالمسدس إلية. . . مد هو أيضاً يده. تناول المسدس، ورفعه إلى رأسه، وأطلقه. فقد أرادت (هي) أن
يموت مكفراً عن خطيئته.
ولكنه كان قد استنفد الرصاص في رؤوس صرعاه. وكانت الطلقة كاذبة. نظر إليها يعتذر عن جرأته على الحياة بعد ما أرادت فإذا هي تقول:
- هل رأيت. . . ما كانت بك حاجة إلى قتل إخوانك بيدك. فالشر وحده كفيل أن يقتل المخطئين. . . لا تلطخ يدك بالدم بعد اليوم، ولا بالدنس. وليكن منذ اليوم سلاحك الصدق ودرعك الإيمان. . .
- ما هذا؟ كأني سأكف عن المضي في كفاحي. . . فأنا أناضل خصوماً كل منهم جبار عنيد. ولن أصل إلى ما تريدين مني إلا بعد مجزرة أردم بأشلاء قتلاها هذه الهوة التي تفصل ما بيني وبينك
- إذن فأنت لم تبلغ ما أريدك أن تكون. ولست إذن إلا كغيرك من المفتونين!
وغادرته يرتجف وهو يقول:
- كأنها تريد مني أن أقول للشيء كن. . . فيكون
13 - تجربة
وخانه خائن جديد من اخوته المقربين. . . فانطلق إليه. . . ولكنه أحسها تنطلق إليه معه. . . حتى إذا جاءه ربض أمامه، ومد إليه بالمسدس يده. فتناول المسدس الصديق الخئون وأفرغ رصاصه في رأس بدنه، وخر أمام صاحبه رمة لوثتها الخطيئة، وجثت روحه عند قدميها (هي) باسمة شاكرة إذ هونت عليها سكنى الرمم فاشترت بها براح الخلود. . .(313/68)
فآمن أدولف بما هدته إليه صاحبته
ومع هذا فقد يحسبه حتى حواريوه من هواة الحروب
14 - سر نحو الخاتمة
إذن فالحق لا يقف أمامه شيء. والإيمان به هو الطريق إليه. ضمت ألمانيا النمسا. استولت ألمانيا على أراضي السوديت. . . وحدث وحدث، وأمم الأرض كلها كانت مشفقة مما حدث، ولكن أدولف أحدثه ولم يرق قطرة دم
وهو الآن لا يزال يغربل حقائق الحياة وحقوق الناس. وهو مشرف على الدنيا من صومعته المترفعة. . . أما إذا أقر كل حق في موضعه (فهي) راضية عنه. أما إذا طغى فقد تزوره مرة أخرى في مخدعه تعاتبه أو تعاقبه. . .
نفرتيتي ملكة مصر الخالدة لا تسمح أن يصيب بلادها السوء!. . .
(القاهرة في أول يونية سنة 1938)
عزيز أحمد فهمي(313/69)
رسالة العلم
فلسفة ليبنز
إرجاع الحرارة والحركة إلى أصل واحد
للدكتور محمد محمود غالي
بقاء الطاقة يجد تفسيراً في حركة الجزئيات - عمل روبير ماير - المبدأ الثاني في الترموديناميكا - هذا المبدأ يقرر استحالة الحياة في مستقبل الزمن - كيف فسر بولتزمان المبدأ المتقدم - أول دعامة في فكرة الاحتمال والمصادفة.
قدمنا كلمة عن فلسفة جديدة يحاولون بها توحيد الظواهر الطبيعية في الكون والرجوع بها إلى قليل منها، وذكرنا أن كل محاولة في هذا السبيل تُعد تقدماً للإنسان يفوق العديد من الاختراعات التي تبهرنا أحياناً ولا يمكن أن نعتبر الكثير منها خطوة حقيقية في سبيل التقدم، وذكرنا حالة خاصة باكتشاف ليبنز من توحيد ظاهرتي الحرارة والحركة والرجوع بهما إلى ظاهرة طبيعية واحدة، وقد ذكرنا ذلك في معرض الكلام عن النظرية السينيتيكية للغازات والسوائل التي استعرضناها لنثبت للقارئ فكرة الجزيء، وشرحنا تجارب كوتون وموتون واكتشافهما للألتراميكروسكوب الذي نرى به رأى العين أثر ما تحدثه جزيئات السائل على الجسيمات الصلبة الكولويدية التي تتصادم مع هذه الجزيئات، فترى حركة الجسيمات مضاءة داخل نقطة من الماء كما نرى الطائرات في الليل تُضيئها أشعة قوية، وذكرنا أن العلماء توصلوا إلى تفسير هذه الحركة غير المنتظمة والدائمة للجسيمات الصلبة الموجودة داخل السائل، وحسروا الستار عن مشاهدة قديمة للعالم النباتي براون الذي شاهد هذه الحركة منذ سنة 1827 والتي يُروى أن الطبيعي الإيطالي سبالانزاني شاهدها من قبله
ونعود الآن إلى فكرة ليبنز، فللقارئ أن يطالبنا حتى كتابة هذه السطور بأن نقيم الدليل على فلسفته في إرجاع الحرارة إلى الحركة، هذه الفلسفة التي تقدمت اكتشاف براون وسبالانزي بأكثر من قرن، وتقدمت أعمال كوتون وموتون وبيران بقرنين
لقد أقامت العلوم الطبيعية على إثبات وحدة الظاهرتين والرجوع بهما إلى أصل واحد، من(313/70)
الأدلة مالا يقبل اليوم جدلاً. وقد كان أول هذه الأدلة عن طريق أحد المبادئ الأساسية للعلوم وهو المبدأ القائل ببقاء الطاقة وعدم فنائها، هذا المبدأ يعزز أيضاً النظرية السينيتيكية للحرارة بحيث أصبحت نظرية بقاء الطاقة دليلاً على فكرة ليبنز فضلاً عن إثباتها للنظرية السينيتيكية. ولقد كان ثاني هذه الأدلة تفسير بولنزمان لما يسمونه المبدأ الثاني للترموديناميكا وهو ما سنتكلم عنه فيما يلي، وهو أيضاً عمل على تحقيق النظرية السينيتيكية
أما القانون القائل ببقاء الطاقة الذي يعممه العلماء الآن في كثير من الظواهر الطبيعية فقد وجد أساسه في بادئ الأمر في الظواهر الميكانيكية حيث كان لروبير ماير الفضل في الكشف عن تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية تحولاً حقق وجود علاقة عددية بينهما بحيث تُعيّن دائماً كل كمية من الشغل الميكانيكي كمية من الحرارة تتناسب معها
يذكر كل الذين تخرجوا من كلية الهندسة التجربة المعروفة لتعيين المعادل الميكانيكي للحرارة المعروفة بتجربة جول ويذكرون أن طاقة ميكانيكية معينة ممكن قياسها بعجلة محملة تدور، ترفع حرارة مسعّرٍ وتنقل إليه كمية معينة من الحرارة تتناسب مع الطاقة الميكانيكية بحيث يكون بين الطاقتين نسبة ثابتة هي معامل جول المتقدم الذكر
هذا التحول من طاقة إلى طاقة كان انتصاراً لماير، إذ أصبحت الحرارة مظهراً من مظاهر الشغل الميكانيكي. على أن هذا التحول يجد تفسيره في النظرية السينيتيكية إذا اعتبرنا أن الحرارة هي هذه الكمية من الشغل الموجودة في الحركة غير المنتظمة للجزيئات الداخلية للسائل، أي هذه هي الطاقة الموجودة في بلايين المصادمات الصغيرة، بحيث أن الشغل الميكانيكي هو نتيجة حركة موحدة الاتجاه للجسم، معتبراً وحدة، أي نتيجة حركة جزيئاته متجهة اتجاهاً واحداً
وعلى هذا فتحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة حرارية هو انتقال من حركة منتظمة إلى أخرى غير منتظمة والعكس صحيح، بحيث أن بقاء الطاقة وعدم فنائها دليل جديد على صحة النظرية السينيتيكية التي يصح أن نطلق عيها النظرية الميكانيكية للحرارة
أما عن الدليل الثاني لفكرة ليبنز من أن الحرارة والحركة أمر واحد فقد أتى عن طريق فكرة استحدثت في العلوم الطبيعية كان لها خطرها وأهميتها وكانت فوزاً جديداً للسينيتيكية،(313/71)
هذه الفكرة خاصة بما يسمونه المبدأ الثاني في الترموديناميكا وهو المبدأ الذي يعين اتجاه الحوادث الطبيعية
كم من حوادث نعتبرها عادية لأننا اعتدناها فلا نسائل أنفسنا عن أسبابها. عندما تنفصل تفاحة عن شجرة فإنها تقع على الأرض بدل أن ترتفع إلى أعلى، ولقد كان الحادث عند نيوتن رغم بساطته لافتاً النظر وسبباً لأن نرث عنه اليوم مسائل من أعظم ما عرفه الإنسان من تفكير منظم، أجل، مسائل إن تزعزعت أركانها اليوم قليلا بعبقرية أينشتاين وغيره فما زالت لها مكانتها من الصحة فيما يخص الكثير من ظواهر الكون. وهكذا عند السؤال عن سبب بعض المظاهر الطبيعية تتعين أمامنا معارف لها من الخطر والأهمية مالا يخطر ببال، فماذا يحدث مثلاً عندما تضع يدك على جسم ساخن؟ إن ثمة نتيجة حتمية هي ارتفاع في درجة حرارة اليد وانخفاض في درجة حرارة الجسم الساخن، فهل تساءلت مرة لماذا يحدث هذا؟ إننا نعلم جميعاً أنه عندما نضع جسماً ساخناً جداً على منضدة فإنه ترتفع حرارة الجزء من المنضدة الملامس لهذا الجسم ويقابل ذلك انخفاض هين في حرارة الجسم الساخن، ونعلم جميعاً أنه لم يحدث بتاتاً أن تفقد المنضدة شيئاً من حرارتها الأصلية لتزيد هذا الجسم الساخن حرارة على حرارته
هذا الموضوع، على بداهته، الذي يتلخص في انتقال الحرارة من جسم ساخن إلى جسم بارد، يعود بنا إلى فكرة أساسية في العلوم الطبيعية، وهي خاصة بتقسيم الظواهر إلى ظواهر عكسية أي ممكن تحولها من حالة إلى حالة كما يمكن العودة من الحالة الثانية إلى الحالة الأولى، وظواهر غير عكسية أي إن قبلت التحول من حالة إلى حالة فهي لا تقبل الرجوع إلى الحالة الأولى
ولزيادة الإيضاح نقول: يحوي الجسم البارد مهما بلغ من البرودة كمية من الحرارة، ومن الجائز أن نزيد في برودته باللجوء إلى وسائل طبيعية مختلفة، بحيث يفقد شيئاً من حرارته، وعليه فليس ما يمنع أن نتصور أن ينقل هذا الجسم البارد جزءاً من حرارته إلى جسم حار، بحيث يرفع الجسم البارد حرارة الجسم الحار على حساب أن يزداد هو في برودته، ولا يتنافى هذا بحال مع مبدأ بقاء الطاقة السالف الذكر؛ ولكن مما يلفت النظر أنه لا بد من عملية خاصة وطاقة أخرى جديدة نصرفها ليكون هذا الانتقال جائزاً، فهو ليس(313/72)
أمراً طبيعياً يحدث من تلقاء نفسه.
وهكذا لم يحدث أبداً أن فكر إنسان في أن يضع قطعة من الثلج ليرفع بها حرارة فنجان ساخن من الشاي، أو يضع عموداً ساخناً في وعاء به ماء بارد ليزيد في برودة الماء ويرفع حرارة العمود.
إن الذهن العادي لا يستسيغ ذلك، وهو يدرك بالبداهة أن عملاً كهذا ضرب من المحال، وهو يعلم بدون حاجة للرجوع إلى المعادلات الرياضية الصعبة أن قطعة الثلج تعمل على تبريد الفنجان الساخن، كما أن العمود الملتهب يعمل على تسخين الماء ويطفأ عادة فيه، بحيث لم يحدث أبداً لصانعي العجلات الذين يلجئون إلى تسخين الأطواق الحديدية قبل وضعها حول أجزاء العجلة الخشبية أنه عند وضع هذه المجموعة في الماء لتقلص الطوق الحديدي ويشد العجلة، أن برد الماء وازدادت حرارة الطوق، وإنما المشاهد أن يبرد الطوق ويسخن الماء وقد يبلغ الغليان
وهكذا تحتم المشاهدات البسيطة قبل أن تحتم العلوم والمعادلات العويصة أن ثمة نزولاً حتمياً واقعاً من الحرارة العليا إلى الحرارة المنخفضة وأن هذا السير وهذا الاتجاه موجودان في جميع العمليات الحرارية، ولا يتغير ما دمنا لا نلجأ إلى وسيلة خارجية وإلى استعمال طاقة أخرى. ولقد وضح الطبيعيون ذلك بإدخال فكرة يسمونها (الأنتروبي) وهي بالتعريف مجموع تكامل كميات الحرارة الصغيرة الحادثة أثناء الانتقال مقسومة على درجة الحرارة المطلقة، وقرروا أن (الأنتروبي) تزداد دائماً في كل العمليات الحرارية. وأود ألا يشغل القارئ نفسه بموضوع (الأنتروبي) فهي في الواقع طريقة رياضية للتعبير عن القانون الثاني للترموديناميكا هذا القانون الحراري البسيط الذي يلاحظه القارئ في كل مشاهداته اليومية والذي يحتم انتقال الحرارة من جسم عالي الدرجة إلى جسم خفيضها، تقرر كمبدأ عام يربط العلوم الحرارية بمعارفنا الطبيعية، ويقرر أن العمليات الحرارية تتم جميعها في الكون على طريقة التوزيع المتساوي لكل الكميات الحرارية المستعملة. ولئن كانت الشمس التي هي في الواقع المصدر البارز في حياتنا تفقد بالأشعة من وزنها ما يبلغ أربعة آلاف مليون طن في الثانية الواحدة فهي في طريق الفناء كما يعتقد الكثيرون من العلماء أو أنها تزيد حرارتها كما ذكر ذلك حديثاً في النشرات الأمريكية الأستاذ جاموه أي أنها في دور(313/73)
النمو، فإن حوادثها في كلتا الحالتين تسير وفق المبدأ الثاني للترموديناميكا - هذا المبدأ الذي يعين الاتجاه الحراري من الدرجات المرتفعة إلى الدرجات المنخفضة، ثابت لا يتبدل.
إنما يهمنا من هذا المبدأ الثاني أمران: الأمر الأول خاص بفلسفة الوجود والتطور ولا نتعرض أكثر من أن نقول إنه موضوع يدعو التأمل فيه إلى شيء من الأسف، إذ يدلنا هذا المبدأ الثاني على طريق السير الحراري فيما يتعلق بالكون الذي يسير وفق هذا المبدأ نحو نهاية محتومة، نهاية يسميها العلماء الموت الحراري وتفسير ذلك أنه عندما تتوزع الطاقة الكلية للكون توزيعاً متساوياً تصبح حرارة المادة المكونة لأجزاء الكون المختلفة متساوية. والذين تابعوا مقالاتنا الأولى في وصف الكون والحيز المتمدد وقلة ما به من مادة، يفهم أن هذه الحرارة تكون منخفضة بحيث لا تسمح لأي نوع من الحياة بالبقاء، على الأقل على الصورة التي نفهمها من الحياة والحركة.
والأمر الثاني خاص بعلاقة هذا المبدأ الثاني بالنظرية السينيتيكية، والواقع أنه لم يكن عسيرا أن يتوصل الطبيعيون إلى هذا المبدأ الثاني الذي يشترك في مشاهدة نتائجه اليومية الشخص العادي بقدر العالم الطبيعي، ولكن كان على الطبيعيين أن يجدوا لهذا المبدأ تفسيراً يلتئم مع بقية المعارف الطبيعية، وقد كان لبولتزمان الفضل في أن يجد هذا التفسير الخاص بانتقال الحرارة من جسم حار إلى جسم أقل منه حرارة وعدم إمكان العملية العكسية باللجوء إلى النظرية السينيتيكية، وبذلك وجد بولتزمان مرة أخرى وبطريقة غير مباشرة دليلاً جديداً على فلسفة ليبنز. وها نحن أولاء نسرد في هذه الأسطر لمحة من تفكير بولتزمان وأثره على النواحي الطبيعية الأخرى:
عندما نقول أن لهذا الجسم حرارة معينة فإننا نعني أن لجزيئاته سرعة معينة، هذه السرعة للجزيئات ليست متساوية فمنها ما هو سريع ومنها ما هو بطيء. إلا أن ثمة متوسطاً عاماً لسرعة جميع الجزيئات تمثل حركته المتوسطة، وهذا المتوسط العام يدل على حرارة الجسم، هذه السرعة المتوسطة تزيد كلما زادت حرارة الجسم
وعندما يتلاصق جسمان حرارتهما مختلفة فإن جزيئاتهما تتصادم وتختلط - على أن كل أنواع الحوادث جائزة وقوعها في كل تصادم فردي، حتى أنه من الجائز أن يصطدم جزيء بطيء مع آخر سريع وينقل إليه سرعته الخاصة به كما يحدث هذا بين كرتين من كرات(313/74)
البلياردو، ولكن مثل هذا الحادث نادر وأكثر شيوعاً منه مصادمات من نوع آخر تتساوى فيها السرعات على قدر الإمكان بحيث أن التعادل الحراري يحدث من تعادل سرعات غالبية الجزيئات المختلفة، وهكذا تكون نتيجة التلاصق نزولاً حتمياً في حرارة الجسم الحار وارتفاعاً حتمياً في حرارة الجسم البارد
على أن أعظم ما في هذا التفسير وهذا القانون الثاني للترموديناميكا أنه يحول هذا الاقتراح السابق إلى قانون إحصائي، ويتساءل القارئ كيف يصبح قانون أساسه إحصاء مبني على المصادفة قانوناً طبيعياً ثابتاً؟ ولكن لم يعد لهذا السؤال محل بعد أن انتصر منطق المصادفة في معظم فروع العلوم الطبيعية ولا سيما بعد (الكوانتا) وما أدخلته من تعديلات جوهرية على معارفنا، وكما يقول ريشنباخ في محاضراته التي أذاعها في برلين: عندما ندخل في حجرة فإننا لا نسائل أنفسنا بتاتاً عن الخطورة التي قد تحدث من اجتماع جميع جزيئات الأكسجين الموجود في الحجرة في ناحية منها واجتماع جزيئات الأزوت في الناحية الأخرى، بل إننا على ثقة دائماً ومهما طال الزمن أن الهواء داخل الحجرة خليط من الأكسجين والأزوت وأن اختلاطهما نتيجة لمصادمات فردية بين جميع جزيئات الأوكسجين وجميع جزيئات الأزوت، ولا شك أنها حادثة نادرة جداً لا يجيزها العقل أن يجتمع في ناحية من الحجرة كل الجزيئات المكونة لأسرة الأوكسجين وفي الجزء الآخر الجزيئات المكونة لأسرة الأزوت، بحيث يصبح جزء هام من الحجرة خانقاً الآخر مساعداً على الاشتعال
ومهما يكن من الأمر فإنه عندما تكون حادثة ما جائزة ولكنها قليلة الاحتمال فإننا لا نأخذها في محل الاعتبار في تسيير حياتنا اليومية - وهكذا نسافر للاصطياف في جبال لبنان العليلة الهواء أو حول بحيرة ليمان في سويسرا المعروفة بمناظرها الخلابة، رغم ما يدل عليه الإحصاء من أنه في مجموع ألوف البواخر المسافرة في العالم يتعرض حتماً بعضها للغرق أو الحريق. وهكذا تراني على استعداد لتكوين ابني ضابطاً بحرياً، لو وجدت لدينا مدارس بحرية منظمة تدرس العلوم الصحيحة، وذلك لأجعل منه شخصاً نافعاً يعتمد عليه، رغم أن الحوادث سجلت في هذا الشهر ثلاث حوادث تأسف لها الإنسانية، وهي غرق ثلاث غواصات لأمريكا وإنجلترا وفرنسا، بحيث أنه يعد ضرباً من السخف أن أمنعه من(313/75)
تعلم البحرية وأسمح له في نفس الوقت بالخروج من المنزل لشراء حاجياته أو للتوجه إلى المدرسة، لأنه في هذا أيضاً معرض ليلقى حتفه بطريقة أسرع من احتمال غرقه في غواصة قد تغرق في كل بضعة آلاف من الغواصات
وهكذا نغادر جميعاً منازلنا في الصباح بشيء من التفاؤل يملأنا ثقة أننا سنلتقي بأطفالنا في المساء، ولو أن بين مئات الألوف الذين يخرجون كل صباح من مدينة القاهرة يوجد دائماً وكل يوم واحد أو اثنان يُصاب بحادث يحرمه من هذا الاجتماع
إن فهمنا للطبيعة انقلب رأساً على عقب بهذه الفلسفة الجديدة التي أدخلها بولتزمان، فلأول مرة دخل في العلوم الطبيعية قانون إحصائي مبني على مجموع الحوادث الفردية واحتمال حدوثها بدل القوانين القديمة التي كانت لا تستند على هذا النوع من التفكير
من هنا بدأ مجال جديد في جميع المسائل؛ ومن هنا تغلغلت فكرة بولتزمان في النواحي الأخرى للعلوم الطبيعية. ولا شك أنني عندما فكرت يوماً أن أحصل على حالة الماء المشبع بالطمى من دراسة فوتو كهربائية للماء الحامل للطمى كنت متشبعاً بنوع من التفكير الإحصائي لبولتزمان، على رغم أن كل العوامل كانت تؤول بنا إلى الابتعاد عن الطرق النيفولومترية وهكذا رغم العوامل المنفرة استعملت الطرق الضوئية بنجاح لمعرفة كمية ما بالنيل من طمى ووضعت مع العالم بيروه أخيراً أساساً لمعرفة كمية الطمى عن بعد وبدون الالتجاء لاستعمال الأسلاك الكهربائية على أن هذا النجاح مرتبط بوجود متوسط عام لملايين الجسيمات من طمى النيل، متوسط يدل على كمية هذا الطمى ونوعه
وهكذا باتت العلوم كلها مسرحاً لنتائج الإحصاءات الفردية وحساب الاحتمالات، والذين يستطيعون اليوم أن يتتبعوا (الكوانتا) وما أحرزته من نجاح ويفهمونها كما فهمها (بلانك) يدركون أن التقدم الإنساني آتٍ من هذه الناحية الجديدة الخاصة بالاحتمال والمصادفة والتي يظل اسم بولتزمان علماً فيها
ونختم هذا البحث الخاص بالجزيء بأن نذكر للقارئ أن النظرية السينيتيكية قد ساعدت جدياً على فكرة الجزيء وأفهمتنا كنهه وطبيعته بدرجة بلغت الآن اليقين، بحيث أن ترك السينيتيكية يجعلنا عاجزين عن تفسير أحد قوانين الطبيعة وهو قانون بقاء الطاقة وعدم فنائها، ونكرر للقارئ أن السينيتيكية ساعدت أمثال بولتزمان على تفسير بعض مظاهر(313/76)
الكون مما جعلتهم يتوصلون إلى نوع جديد من التفكير الطبيعي بات أساساً لمعظم معارفنا
وهكذا انتصرت فكرة ليبنز هذا الفيلسوف الألماني الذي طالع في سن صغيرة جدا أعمال كيبلير وجاليليو واستوعب ديكارت، والذي درس الرياضة في جامعة أينا
وسنقيم الدليل بعد الذي كتبناه عن تقسيم الجزيء إلى ذرات ونرى كيف مهدت الكيمياء وانتصرت في هذا الباب وسندخل بالقارئ بعد حين في الذرة ليرى هذا العالم العجيب، والعظيم نسبة لما يحدث في داخله، وبهذا يلمح طرفاً من أعظم ما نعرفه عن الكون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(313/77)
البريد الأدبي
وفاة العلامة الشيخ محمد شاكر
في صباح الخميس الماضي نُعي الإمام الجليل والعالم المحقق الشيخ محمد شاكر، فشق نعيه على المسلمين والعلماء وأهل الأدب؛ فقد كان - رحمه الله - رجلاً من رجال الجيل، وعلماً من أعلام الدين، وداعية بعيد الصوت صريح القول قوي البرهان.
ولد المرحوم الشيخ محمد شاكر في مدينة جرجا، في منتصف شوال سنة 1282 (مارس 1867)؛ وحفظ بها القرآن، وتلقى مبادئ العلم؛ ثم رحل إلى الأزهر فتلقى العلم عن كبار الشيوخ في ذلك العهد، وعين أميناً للفتوى مع الأستاذ الجليل المرحوم الشيخ العباسي المهدي في مارس سنة 1890. وفي فبراير سنة 1894 تولى منصب (نائب محكمة مديرية القليوبية، ومكث به حتى اختير قاضياً لقضاة السودان في سنة 1900؛ وهو أول من ولي هذا المنصب، وأول من وضع نظم القضاء الشرعي في السودان على أوثق الأسس وأقواها، وله في هذه الفترة تاريخ عجيب لا يُذكر مثله لغير علماء الصدر الأول في الدولة الإسلامية.
ثم عين في سنة 1904 شيخاً لعلماء الإسكندرية فوضع الأساس لتنظيم المعاهد الدينية الإسلامية كي تؤتي ثمرها وتخرج للمسلمين رجلاً هداة يعيدون للإسلام مجده في أنحاء الأرض.
وفي إبريل سنة 1909 صدرت الإرادة السنية بتعيينه وكيلاً لمشيخة الجامع الأزهر فبذر فيه بذور الإصلاح، وتعهد غرسه حتى قوى واستوى، أو كاد. . .
ولأمر ما لم يستمر في منصبه ذاك فاختير عضواً في الجمعية التشريعية في سنة 1913، واعتزل منصبه في مشيخة الجامع الأزهر
ومن يومئذ خرج المرحوم الشيخ شاكر من قيد الوظيفة إلى ميدان الجهاد الحر - في سبيل الله وفي سبيل مجد الإسلام.
فكانت له في الصحف مقالات رنانة ما يزال صداها يتردد بين أقطار العربية.
ولما نهضت الأمة المصرية نهضتها الكريمة في سنة 1919، كان من دعاتها الأولين ومن أشهر قوادها فكتب في الشئون السياسية عشرات من المقالات في الصحف المصرية، دلت(313/78)
على بعد نظره وصدق فراسته. على أنه إلى ذلك لم يكن له ضلع مع حزب من الأحزاب السياسية في مصر، مؤثراً أن يكون قياده في يده لا يُصدر إلا عن رأيه.
وبجانب ذلك لم يدع مسألة شرعية أو اجتماعية مما يصطرع الرأي حوله إلا قال فيها قالته، صادعاً بما أمر الله، معرضاً عن المنكرين. وكان من أبرز صفاته: صلابته في الدين، وشجاعته في الرأي. واستمر - رحمه الله - على النهج، مجاهداً لإعلاء كلمة الله؛ لا يرى لأحد عيه سلطاناً، ولا لنفسه عليه حقاً، حتى أصابه الفالج فألزمه فراشه منذ ثماني سنوات، يعاني ألام المرض صابراً محتسباً راضياً عن ربه، حتى غاله الموت فذهب إلى جوار الله راضياً مرضياً.
ولقد نشأ أولاده نشأته؛ فما منهم إلا له مقام معلوم بين المجاهدين لمجد الإسلام والعرب. فإلى أولاده الأساتذة: الشيخ أحمد شاكر، والشيخ علي شاكر، وإلى صديقنا الأديب الأستاذ محمود محمد شاكر، ومحمد محمد شاكر؛ وإلى سائر أسرته والمسلمين عامة، تتقدم أسرة (الرسالة) بالتعزية، راجية ألا يُخلي الله مكان الفقيد العزيز بجهاد أبنائه، وتولاهم الله بتوفيقه وبره. . .
وفاة الأستاذ فليكس فارس
تنعى أسرة الرسالة إلى قرائها عضواً من كرام أعضائها كان له في كل ميدان من ميادين الأدب جولة وفي كل باب من أبواب الإصلاح مدخل؛ ذلك هو المحامي المدره والسياسي الخطيب والكاتب الشاعر الأستاذ فليكس فارس. توفاه الله في منتصف الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء الماضي في مستشفى المواساة بالإسكندرية عن سبعة وخمسين عاماً وهو أنشط ما يكون عملاً لأسرته ولقومه
ولد الفقيد الكريم في المريجات من قرى لبنان العليا من أب عربي وأم فرنسية؛ ثم درس الحقوق وثقف الأدب في اللغتين العربية والفرنسية؛ ثم زاول المحاماة وجاهد في سبيل استقلال بلده وحريته بلسانه وقلمه، فكان حيناً من الدهر موضع الخشية للسلطان ومعقد الرجاء للشعب. ثم اختلف الزعماء بينهم في وجهة النظر، ونبا العيش بالزعيم الكريم فوفد على مصر منذ ثماني سنوات وفادة الغائب على أهله، فأكرمت مصر مثواه وجعلته كبير المترجمين في بلدية الإسكندرية بمرتب قدره خمسون جنيهاً مصرياً في الشهر، فعاش(313/79)
الأستاذ هو وأمه الحنون وزوجه المخلصة وأطفاله الثلاثة عيش الخفض والدعة. وتوثقت صلاته بأدباء الإسكندرية والقاهرة فكان من عوامل الإذكاء في نهضة الأدب والفكر فيهما. ثم اتصل سببه بأسرة الرسالة والرواية فأختصهما بمترجماته ومساجلاته وخطراته، حتى اشتدت عليه في الأشهر الأخيرة وطأة مرضه الدخيل وهو تضخم الكبد فذهب كما يذهب النور من العين والسرور من القلب والأمل من الحياة. والله وحده يعلم مقدار ما خلف من الأسى المسعور في نفوس أهله وأصدقائه وقرائه
كان الأستاذ فليكس فارس من أنبل الناس خلقاً وأنقاهم ضميراً وأوفاهم ذمة؛ وكان مفطوراً على الخلال العربية النبيلة والروح الشرقية السامية؛ يدعو لها ويدافع عنها ويفخر بها. وكانت الأديان السماوية الثلاثة قائمة في نفسه مقام الوحدة المتصلة لا يرى بينها فرقا ولا حداً ولا معارضة؛ فهي في رأيه ثلاث طرق تؤدي إلى غاية واحدة. لذلك كانت كتابته في الإصلاح الديني والاجتماعي ترضى كل نفس وتساير كل مذهب. وكانت صلته بالرافعي رحمه الله تشبه أن تكون صلة عقيدة لا صلة مودة. والناظر في كتاب (رسالة المنبر) يجد الأستاذ فليكس فارس بروحه وأدبه ورأيه وفلسفته. رحمه الله رحمة واسعة، وألهم أهله وصحبه الصبر على فقده
مجلة الدراسات الإسلامية
بعث إليّ أستاذي وصديقي المستشرق لويس ماسينيون بالمجلد الرابع لسنة 1938 من المجلة التي يخرجها في باريس على أربع دفعات في السنة. وهذا المجلد نفيس جداً، لأنه موقوف على إثبات المؤلفات المختلفة التي ظهرت في السنوات الأخيرة وموضوعاتها فنون إسلامية ومسائل عربية. وهذا المجلد يتم ما عرضت له مجلدات سابقة. وهكذا يقف المطلع والباحث على مجرى التأليف الخاص بالمشرقيات سواء في الغرب أو في الشرق. . . وأين هذا في مصر ونحن ندعي زعامة؟!
وثبت تلك المؤلفات على هذا الترتيب: تاريخ العلوم في البلدان الإسلامية - الفلسفة والكلام - فقه اللغة والتربية (وفي فقه اللغة ما يتعلق بالعربية والبربرية والفارسية والتركية) - الاجتماع وأحوال الأمم (وفيهما ما يتصل بتحول البلدان الإسلامية، والمرأة، والزواج، والمسكن، والبداوة، والنظام، والعرف، والاقتصاد السياسي، ثم العادات والعقائد الشعبية، ثم(313/80)
الجغرافية البشرية) - الأدب العربي والفارسي والتركي واليهودي: العربي - القانون والتشريع والتدبير - العقائد والتصوف والفرق - الاستعمار الأوربي وسياسة العصر - الفهارس والسير
وقد ذُيّلت طائفة من المؤلفات بتعليقات موجزة مفيدة من حيث إنها ترشد القارئ إلى أوجه النفاسة والطرافة وتنبهه إلى مواطن الذلل أو الضعف. وفيمن قاموا بالتعليقات لويس ماسينيون، ور. بلاشير صاحب كتاب (المتنبي)
ومن المؤلفات العربية المثبتة: (نشوء اللغة العربية ونموها وابتهالها) للأب أنستاس ماري الكرملي، و (إحياء النحو) لإبراهيم مصطفى و (زاد المعاد) لميخائيل نعيمة (لا نعجة كما ورد خطأ) و (مع المتنبي) لطه حسين. (وقال المستشرق بلاشير في هذا الكتاب إنه مقتبس مما ألف في المتنبي حديثاً في أوربة)
بشر فارس
الرمزية وأبو تمام
تفضل الأستاذ أحمد عبد الرحمن عيسى فأشار إلى ما ذكرته عن أبي تمام والرمزية، وأرجو أن يثق الأستاذ أني لم أقصد الانتقاص من الرمزية فإني أعرف أنها ضرورة من ضرورات النفس البشرية في بعض حالاتها ومظاهرها ويستوي في الالتجاء إليها العالم والجاهل، ويستوي الفيلسوف والشاعر والرجل من عامة الناس. ولعل من ألذ التجارب السيكولوجية أن يدرس الباحث مظاهر الرمزية في أفكارهم اليومية وأقوالهم وآرائهم التي يرجعونها إلى العقل والتفكير، وقد لا تكون من مظاهر العقل الظاهر، فإن بعض المبادئ والآراء ولأقوال إنما هي رموز تؤثر في إحساس كثير من الناس وتدعوهم إلى أعمال الخير والشر من غير إدراك لها بالعقل الظاهر. والرمزية في الأدب الحديث في أوربا في بعض نتاجها محاولة دراسة ما في أعماق النفس مما لا يصل إليه التفكير المعتاد. ولكن هذه الدراسة ليس لها طريق سلطاني معروف، فهي قد تكون إبعاداً في بحر الظلمات على غير هدى. وليست كل الرمزية محاولة الفنان المسيطر على فنه وإرادته في عمله، بل لها أسباب كثيرة، وقد تكون أشبه بإشارات الثقافة التي تشير إلى حقائق ثقافية معروفة، أو(313/81)
أشبه بمصطلحات الفلاسفة أو رموز الكيميائيين، وقد تكون مزاجاً في النفس ناشئاً عن مزاج الجسم. وهي قديمة جد القدم لجدها في أقوال كهان المعابد وكاهناتها ونجدها في الأحلام المشهورة. وقد استخدم الرمزية أدباء كثيرون، فجيتي يستخدمها وشلي يستخدمها وإبسن القصصي يستخدمها، وكل منهم يستخدمها أكثر من أبي تمام ولكنهم لا يحسبون في حساب أدبائها. ولا مانع عندي من عد أبي تمام من أدبائها، ولكنا إذا فعلنا ذلك عددنا خلقاً كثيراً من أدبائها وسلكنا في زمرتهم من لم يتفق الأدباء على عدهم من أدبائها. ويستطاع عد كتاب الرؤيا في الإنجيل من كتبها وهو أقدم من زمن أبي تمام. ومعاذ الله أن نطالب أبا تمام بغير ما قال. وقد كان شكسبير وشعراء عصره يكثرون من استخدام رموز التشبيهات والكنايات والاستعارات كما فعل أبو تمام ولكنهم لم يعدوا من شعرائها. وقد وجدت أن أحسن استعمال للرمزية هو استعمال كبار الشعراء الذين لم يعدوا من مذهبها. وقد كان أحسن استعمال لأنهم لم يقطعوا الصلة بين فنهم وبين العقل الظاهر كل قطع، فإن استخدام العقل الظاهر ألزم وأوجب عند بحث ظلمات النفس، كما أن استخدام الملاح لفنه وعقله وعلمه ألزم وأوجب في بحر الظلمات. فإذا كان هذا أيضاً هو رأي الأستاذ أحمد عبد الرحمن عيسى فلا مانع عندي من عد أبي تمام من شعراء الرمزية
عبد الرحمن شكري
بشر فارس ومصطلحاته
صديقي بشر أديب جليل وبحاثة قدير في الموضوعات التي يديرها سنين في ذهنه ويستقصيها على وجوهها بالبحث والتمحيص
على أن الدكتور بشر فارس بعد ذلك لا ينجح في الكتابات الارتجالية ولا يصلح كاتباً ناقداً ولا يفلح في أن يكون صاحب مطالعات ونظرات تفيد (البوادر واللوامع) التي تطوف بالنفس من حين إلى حين. ولا أدل على ذلك مما تجده من التهافت في الكتابات من المرتجلة التي يكتبها
نقول هذا بمناسبة ما كتبه في العدد الأخير من (الرسالة) تعليقاً على ردي على نقده لدراستي عن (توفيق الحكيم)؛ وأنت إذ تقرأ كلمته هذه تجده قد انصرف عن الردّ على(313/82)
الإشكالات التي أثرتها حول صميم نقده والمآخذ الجمة التي أخذتها على كلمته إلى بحث شكلي يدور حول افتراض اقتباسي لبعض المصطلحات الفنية التي يرى هو أنه استحدثها في اللغة العربية؛ على أنني ألاحظ على هذا الكلام الجديد الذي خرج به ناقدنا المفضال أشياء أجملها فيما يلي:
أولاً - يعتقد صديقي بشر وحده دون كل المشتغلين بصناعة القلم في الشرق والغرب أن المصطلحات الفنية التي يضعها كاتب ملك لهذا الكاتب وحده.
ثانياً - هذا الاعتقاد الخاطئ الذي يدين به صاحبنا يتناقض مع الفكرة العلمية التي ترى أن قيمة المصطلحات الجديدة ليس في وضعها وإنما هو في جريها على أقلام الكتاب. والدكتور بشر فارس واقع في هذا التناقض حين يقول: (إني فرحت فرحاً شديداً لما أصبته يستعمل في مقاليه بعض تراكيب جرت على قلمي. . . وما فرحي إلا لأني أرى تراكيب اجتهدت في سياقتها تنطلق على الأقلام، وكنت أخشى أن تموت يوم ولدت).
ثالثاً - إذا كان الدكتور بشر فارس يرى حياة المصطلحات في جريها على الأقلام، فهل هو يرى من المحتم أن يشير الكاتب فيما كتب إلى مواضع الاصطلاحات التي استحدثها والتي أخذها عن غيره والتي دارت على الأقلام فجاءت على قلمه؟ وإذا كان لا يرى ذلك بدليل أن كثيراً من الاصطلاحات تجري على قلمه وهي ليست له وهو لا يشير إلى أصحابها فيما يكتب، فما معنى ما كتبه في نقده لكتابنا (بعدد الرسالة 310 ص 1176) من أن التعبير (جملة صلات اجتماعية) الذي جرى به قلمنا في بحث لنا عن (خليل مطران) أصلاً في كتابه (مباحث عربية؟) وما معنى ما كتبه في العدد الماضي من الرسالة؟
رابعاً - نسب إلينا الدكتور بشر فارس أننا اقتبسنا تعبير (جملة صلات اجتماعية) منه وأننا لم نحسن استعماله في مجرى حديثنا. وقد رددنا على الوجه الأول فقلنا إن هذا التعبير قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه. ورددنا عليه في الوجه الثاني من اعتراضه فبينا وجه اتساق التعبير وموضعه من الكلام.
خامساً - خرج الناقد في رده بسؤال عجيب عما إذا كان ورد في كلامنا في المصدر الذي أشرنا إليه، وهو مجلة المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، ما ينظر لتعبير (جملة صلات اجتماعية) في الفرنسية، وهذا تعنت لا معنى له خصوصاً وإن الجملة الفرنسية التي تنظر(313/83)
إليها العبارة العربية ليست من خلقه فقد تكرر ذكرها في كتابات العالم الاجتماعي (دوركايم)، وخصوصاً في مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون (ص 11، 13، 24، 26 مثلاً) ومن الأعاجيب التي أتى بها الدكتور بشر فارس أنه ذهب يتحدث عن درايتنا بالفرنسية وهل هي تمكننا من الإيمان بمثل هذا التعبير كأن اللغة الفرنسية وقف عليه، وكأن محاضرات (دوركايم) لم يطالعها سواء من الذين لم يرحلوا إلى باريس، ولم يدرسوا في السوربون!
سادساً: قال الدكتور بشر فارس إن عبارة: (توفيق الحكيم يحكم سرد الرواية ويحكم الحوار ويحكم تهيئة البيئة؛ فهو صاحب فن حقاً) التي وردت في موضعين من دراستنا عن (توفيق الحكيم) (ص 357 من العدد ص 368 س 19 - 21 من طبعة مجلة الحديث وص 65 من العدد وص 76 س 19 - 21 من الطبعة الخاصة) مقتبسة منه. ولكن هل اقتبسناها منه ولم نشر إلى مصدر الاقتباس؟ هذا هو الموضوع في الواقع. وأنا اترك الرد على الدكتور بشر فارس في هذه النقطة لنفسه؛ فهو يقول في نقده لدراستنا عن (توفيق الحكيم) في الرسالة (عدد 310 ص 1175 س 25) بعد أن يذكر هذه الجملة: وقد استشهد الدكتور أدهم فيما كتبه بهذه الجملة ص 357) فما معنى الاستشهاد؟ معناها أن العبارة أسندت إلى الدكتور بشر فارس، وإذاً فلا معنى لتعنت الدكتور بشر فارس واتهامنا بالاقتباس الذي يغفل الاستشهاد بالمصدر وإثارة المظنة بكتاباتنا
سابعاً: ارتأى الدكتور بشر فارس أن عبارتنا التي جاءت في الكلام عن الرمزية عند توفيق الحكيم (ص 361 من طبعة مجلة الحديث وص 19 من الطبعة الخاصة) ذات أصل من مسرحية (مفرق الطرق) ومن مقال له عن الرمزية في الرسالة وقد يكون هنا له بعض الحق - لا كله - فليس يبعد أن تكون عبارته عن الرمزية قد علقت بذهننا فجرت على قلمنا ونحن نعرض الفكرة الرمزية عند الأستاذ توفيق الحكيم وذلك بحكم قاعدة التداعي. ومما يدل على صحة هذا التفسير ما يرى من التغيير والاستبدال في بعض المصطلحات التي تضمنتها العبارة المذكورة مما يدل على التمثيل من حيث إدارة العبارة في ذهننا وتصحيح بعض المصطلحات فيها
وأنا إذ أختم هذه الكلمة لا يسعني - وأنا أردّ الأشياء إلى مواضعها - إلا أن أذكر الدكتور(313/84)
بشر فارس بأنني حين أكتب بالعربية فأنا أكتب بلغة غير لغتي الأصلية، ومن هنا بعض ما يجيء على قلمي من التعابير الخاصة لكتاب اليوم استدراكاً للمعنى الذي في ذهني من تعابيرهم، ولعل في ذلك بعض ما يعتذر عني في بعض ما رأى وارتأى والسلام
إسماعيل أحمد أدهم(313/85)
الكتب
الإجابة
لإيراد ما استدركة عائشة على الصحابة
(ألفه الإمام الزركشي وحققه الأستاذ سعيد الأفغاني)
لأستاذ جليل
الأستاذ سعيد الأفغاني - العربي الشامي - مسلم مؤمن، وفاضل مهذب، وأديب محقق. ومن رافقه وقرأ أقواله ظهرت له هذه السجايا والمزايا ظهوراً. ومن خطط هذا السيد أن يُطرف فيما يؤلفه أو ينشره من كتب السلف الصالح. فمصنفه (أسواق العرب في الجاهلية والإسلام) مباحثه طريفة ذات جدة. وكتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة تأليف الإمام بدر الدين الزركشي) الذي أظهره اليوم - من أدلة هذا الإطراف. وترجمة الكتاب تنبئ عن غرابته وطرافته
وإن نشر الباحث مؤلفاً قديماً محقًقاً إياه تحقيق الأستاذ الأفغاني كتاب الإجابة - تأليف وزيادة
وعملُ العرب الحق في هذا الوقت - كما يرى اكثر الفضلاء - إنما هو نشر مصنفات الأقدمين ونقل مقالات الغربيين ليس غير. وحجتهم في ذلك أن (البعث) حديث وأن ليس عند العرب اليوم شيء، والمفلسون المساكين لا يكلفون إنفاقاً ولا جوداً. على أن حاجة العرب العظيمة إلى ذينك النشر والنقل لا تصدعن التأليف فلينشر الناشرون، ولينقل الناقلون مكثرين. وليؤلف - بعد البحث الطويل، والتفكير الكثير، والمراجعات المديدة - المؤلفون مقلين، مقلين
الحديث والمحدثون في الإسلام عالم عجيب. وليس في الدنيا أمة عنيت بما يعزى إلى صاحب نحلتها عنايتنا بأحاديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم). ومما بعث على هذه العناية الكبرى أن أقواله (صلوات الله وسلامه عليه) لم تقيد بالكتاب في أيامه، ولا أيام صحابته (رضوان الله عليهم أجمعين)، ولم يكن إلا الألسنة تنقل أو تروى (وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا) وعند أهل السنة أحاديث غابت عن الأمامية، ومع(313/86)
هؤلاء مالا تعرفه الجماعية، السنية؛ وعند الصوفية والإسماعيلية، وسائر الباطنية غرائب تنكرها تانك الفرقتان. وقد بذل الأئمة (رحمهم الله) المجهود بل فوق المجهود في أمر الحديث ورجاله. وأبدعوا في مؤلفاتهم وتفننوا، وأفردوا كل نوع منه ومن رواته بالتصنيف المجوّد (لقد كانوا في دقتهم وتحريهم وإحاطتهم وإتقانهم معجزة الله في المؤلفين)
ولقرأ من أراد الإلمام باهتمام القوم (مقدمة ابن الصلاح) في علوم الحديث. ففيها إشارات مبينات؛ وهي في هذا الفن مثل مقدمة ابن خلدون في بابها كما قال فقيه الشام كله العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار.
ومن أدلة الإحفاء أو الاستقصاء في شأن الحديث، ومن بدائع التنويع والتخصيص فيه كتاب (الإجابة) الذي صنفه الإمام الزركشي، وحققه وأنشأ مقدمته وعلق عليه وفهرسه الأستاذ سعيد الأفغاني.
يبدأ الكتاب بمقدمة الأستاذ الأفغاني، وقد نشر شيئاً منها في الجزء (304) من (الرسالة) الغراء. ذكر فيها مطنباً موضحاً مكانة أم المؤمنين (رضي الله عنها) وسيرة المؤلف وأسماء مصنفاته الثلاثة والثلاثين.
وتجيء بعد ذلك مقدمة المؤلف وقد أشار إليها محقق (الإجابة) في مقالة له في الجزء (19) من (الثقافة) الغراء.
ويليها الباب الأول في سيرة (السيدة): (رضي الله عنها) وخصائصها وفيه فصلان: الفصل الأول في ذكر شيء من حالها؛ وقد جاء فيه:
(رُوى لها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ألفا حديث، ومئتا حديث، وعشرة أحاديث)، (2210).
وفي هذا الفضل: (. . . عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فلما بلغتها قالت: (وصلاة العصر) سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قلت: وفي (كتاب المصاحف) للسجستاني نحو من هذا. وعزا الزمخشري هذه الحكاية إلى حفصة (رضي الله عنها) وقال في كتابه أيضاً: (روي عن عائشة وابن عباس (رضي الله عنهم) والصلاة الوسطى وصلاة العصر بالواو، وقرأت عائشة (رضي الله عنها) والصلاة(313/87)
الوسطى بالنصب على المدح والاختصاص) وعزتها رواية في الطبري إلى أم سلمة (رضي الله عنها) وذكرت رواية فيه حميدة ابنة أبي يونس لا أبا يونس. وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره (جامع البيان) روايات كثيرة، كلها تبين للصلاة الوسطى فقط منها هاتان الروايتان:
(. . . قتادة عن أبي أيوب عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر. . . عن سليمان التيمي عن أبي أيوب عن عائشة مثله)
فالسيدة (رضي الله عنها) مفسرة. وفي الجزء 211 من (الرسالة) الغراء كلمة أشارت إلى ما أشارت إليه، وجاء في ختامها هذا: (إن كان كتاب كل أمة أو ملة فيه تبديل وتحريف وفيه زيادة ونقصان، وفيه الخطأ والخطل، وكان كاتبه غير صاحبه. ف (ذلك الكتاب لا ريب فيه) (إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون).)
الفصل الثاني في خصائصها (رضوان الله عليها) وهي اثنتان وأربعون، وقد بين المؤلف كل خاصية من هذه الخصائص أو الخاصيات. قال في السادسة عشرة: (اختاره صلى الله عليه وسلم أن يمرض في بيتها. قال أبو الوفا عقيل (رحمه الله): انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب، فما هذه الغفلة عن هذا الفضل والمنزلة؟!)
وقال في السابعة والعشرين: (جاء في حقها (خذوا شطر دينكم عن الحميراء) سألت شيخنا الحافظ عماد الدين بن كثير عن ذلك فقال: كان شيخنا حافظ الدنيا أبو الحجاج المزي (رحمه الله) يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثاً في الصوم في سنن النسائي)
قلت: بطلان ذلك المقول ظاهر مثل الشمس، وقد قال الإمام العلامة الكبير (علي القاري) في رسالته في (الموضوعات): (ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً) وذكر أموراً كثيرة: (منها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه فيدل بطلانه على أنه ليس من كلامه كحديث (إذا غضب الرب أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية) وحديث (خذوا شطر دينكم عن الحميراء)، وحديث (من لم يكن له مال يتصدق به فليلعن اليهود والنصارى)، فإن اللعنة لا تقوم مقام الصدقة أبداً)
ويلي هذا الفصل الباب الثاني والباب الثالث في استدراكاتها (رضي الله عنها) على أعلام(313/88)
الصحابة (رضي الله عنهم). وهذان البابان هما معنى الكتاب. وفي الأول أربعة وعشرون استدراكا، وفي الثاني أحد عشر استدراكا. وقد ذيلهما محقق الكتاب بأربعة استدراكات، قطفها من (مسند أحمد) - رحمه الله - وهي تدل على عظم تفتيشه واحتفاله في البحث.
جاء في الباب الثاني من الاستدراكات على عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما): (أخرج البخاري ومسلم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة. . .)
فهذا الإمام المهذب المحقق يذكر أخا سيدنا معاوية (رضي الله عنه) كما ترى، ونابتة في هذا العصر تغبى عن النسبة الحق وتضلها أساطير في أمثال كتاب (العقد).
إن زياد بن أبي سفيان (رضى الله عنهما) من أبطال العرب ومن رجال الإسلام الكبار؛ فيعلم ذلك من يجهل.
ومن استدراكاتها على ابن عباس (رضي الله عنهم): (ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى (وظنّوا أنهم قد كُذبوا) بالتخفيف فأخرج البخاري في التفسير عن أبي مليكه قال ابن عباس (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا) خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: معاذ الّله! والله ما وعد الله رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم، فكانت تقرأها (كذّبوا) مثقلة)
قلت: القراءة بكسر الذال والتخفيف هي المشهورة، ولها معنى غير الذي خمنه ابن عباس وقرى بكسر الذال مشددة وبفتحها مخففة ومشددة
وفي (جامع البيان) للطبري (الجزء 13 الصفحة 47) روايات ذوات فوائد في قراءات هذه الآية وتفاسيرها.
وقال (الكشاف) في قراءة ابن عباس وتفسيره: (وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس(313/89)
على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح)
ومن استدراكاتها على أبي هريرة (رضي الله عنهما): (. . . عن أبي هريرة قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً) فقالت عائشة رضي الله عنها: لم يحفظ الحديث؛ إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً هجيت به)
قلت إن من يجتزئ بحديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ليدهاه ما يدهى من يجهل السبب في وحي آية الشعراء
قال الإمام الطبري في (جامع البيان): (قال عبد الرحمن ابن زيد: قال رجل لأبي: يا أبا أسامة، أرأيت قول الله (جل ثناؤه): والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال أبي: إنما هذا لشعراء المشركين وليس شعراء المؤمنين. ألا ترى أنه يقول: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى آخره. فقال: فرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك!)
وقال الكشاف في تفسير الآية: (هم شعراء قريش عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي، ومن ثقيف أمية بن أبي الصلت، قالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم)
وروى الزمخشري عن الخليل: (كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير الكلام، ولكن كان لا يتأتى له)
وجاء في (الإجابة) في باب الاستدراكات: (نقل أهل التفسير في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) إن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟! فقال مروان: يا أيها الناس هذا الذي قال الله فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) فسمعت عائشة فغضبت وقالت والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قضيض من لعنة الله)(313/90)
قلت: روى فضيض وفظاظة وأنكرها الخطابي، وفي أكثر كتب الحديث وغريبه وكتب اللغة التي روت هذا الخبر أو شيئاً منه - (فضض) بالفاء.
وهذا الحديث في (البخاري) وقد أشار إليه الزركشي ولم يورده، وهذه رواية أبي عبد الله (رحمه الله):
(. . . عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري)
ومن استدراكاتها (رضي الله عنها) على أزواجه (صلى الله عليه وسلم) ورضى عنهن: (أخرج البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) حين توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت عائشة لهن: قد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا نورث، ما تركناه صدقة)
ويتبع هذين البابين والذيل في الاستدراكات الفائقات فهارس الكتاب: فهرس الأعلام، فهرس الجماعات، فهرس الأماكن، فهرس الكتب، فهرس الموضوعات
إن هذا الذي خططناه إنما هو إشارة إلى كتاب الإجابة لا تبيين ولا توضيح. ومن شاء من الفضلاء أن يعرفه ويستفيد منه اشتراه وقرأه، ودعا للمؤلف، وأثنى على (السعيد) المحقق
بارك الله فيه، وأكثر في شباب العرب والمسلمين من أمثاله.
القارئ(313/91)
العدد 314 - بتاريخ: 10 - 07 - 1939(/)
من فكاهات العهد التركي في بغداد
حدثني المرحوم الزهاوي. . .
تركية القديمة - غفر الله لها - كانت في دول الأرض معنى من معاني الإرهاب حروف لفظه السُّم والَيُّم والسجن والسيف والسوط! جمعت في يدها القوية أطراف الشرق والغرب، ثم أدارت حول تاجها الرهيب هالة من خلافة الرسول فعنت لجلالها الوجوه، وخشعت لسلطانها الأفئدة؛ ولكنها لم تستطع أن تثبت ملكها بقوة الروح وبراعة الذهن وعبقرية البيان كما فعل العرب، فظلت واقفة أمام شعوبها الثائرة عابسة الوجه معقودة العنق منشورة الشارب مشهورة السيف، فحرمها ذلك الموقفُ نصيبها من طمأنينة السلم ومدينة العلم ونعمة الثقافة. وكان ولاتها على الأمصار الخاضعة يحكمون الناس بهذه العقلية الجهول، فيظهرون الأبهة وينشرون الرهبة ويحصدون الأموال والأنفس بالضرائب والرُّشى والمصادرة والقتل. فإذا طالت الولاية واكتظ الوالي ورضى (المابين) وأراد الباشا أن يفكر في الدين أو في العلم أو في الإصلاح دل على فهم بليد وغفلة عجيبة!
كنا ذات يوم نتحدث في هذا وفيما جره على الأمة العربية من الجهل والذل والفقر ونحن جلوس في ندوة السيد صبحي الدفتري محافظ بغداد يومئذ؛ وهي ندوة تقوم في داره المضياف ضحى يوم الجمعة من كل أسبوع فيندو إليها الوزراء والزعماء والأدباء والقادة، فيكون لكل طائفة منهم حلقة وحديث. ولكن الزهاوي إذا تكلم أصغت إليه الدار وتحلقت علية الندوة؛ لأن جميلاً كان آية الله في فكاهة الطبع وظرف المحاضرة وحلاوة الدعابة ورقة العبث. وكان له في إلقاء النادرة لهجة وإشارة وهيئة لا يبرح سامعها مستطار اللب نشوان المشاعر من غرابة ما يرى وطرافة ما يسمع
كان الحديث أول ما بدأ دائراً بيني وبين السيد ناجي الأصيل على أن الحرب وأوزارها استقلت بمواهب الترك فلم تدع لهم كفاية للسياسة والثقافة؛ وأخذنا نضرب الأمثال على ذلك مما جرى في العراق ومصر. وكان المرحوم الزهاوي بجانبي، ولكنه كان مشغول الأذُن بكلمة منافقة في العقاد والرصافي أُلقيت إليه في خفوت وخبث. فلما تشربها سمعه وأجاز عليها القائل ببسمة وهزة وسيكارة، أقبل علينا فسمع طرفاً من الحديث نبض له نابضة فقال: هُوهُوه! إذا حدثتك مولانا عن حمق الولاة من الترك لا ينتهي الحديث ولا ينقضي(314/1)
العجب!
ثم أرسل نكتته الحاضرة وضحك ضحكته الساخرة فتنبه المجلس إلى أن الزهاوي سيتحدث، فسكت المتكلم وأصغي المستمع وتهيأت النفوس للسرور الشديد والضحك المتصل؛ وأخذ الشاعر يقول:
أرسلت إلينا الدولة العلية بعد جفاف الريق والمداد من شكوى الجهل والفساد، والياً يسير بالعراق في طريق العمارة والعلم، فقابله البغداديون باحتفال عظيم وفرح شامل. وكان لي يومئذ يد في إدارة التعليم كما تريده الدولة، فقال لي الوالي ذات يوم: أنا نريد أن ننشئ مدرسة للبنات فابحثوا عن دار تصلح أن تكون لها مكاناً. وكان تعليم البنت في ذلك العهد أملاً من آمال المصلحين تتقارع حوله الأقلام بالحجج في غير طائل. فقلنا إن الرجل رحب الباع في الإصلاح، ودللناه على جملة من الدور الكبيرة الصالحة، فكان كلما دخل داراً قال إن الأبصار تجرح البنات من هنا، والأسماع تسرق الأصوات من هناك؛ حتى لم يدع في بغداد داراً إلا عابها هذا العيب من طريق التوهم أو التخيل! وظهر من تصرف الرجل أن به بلاهة وغفلة، فخطر لي أن أتداعب عليه لأكشف حاله للناس فلا يستنيموا لحكمه. فقلت له: أفندم! لم يبق في البلد كله إلا مكان واحد أرجو أن يقع من هواك موقع الرضى. فقال: امض بنا إليه. فذهبت به إلى (منارة سوق الغزل) وصعدنا فوقها، فلم تكد قدمه تستقر على شرفتها العليا، وعينه تقع على سطوح بغداد وهي متطامنة تحت المأذنة العالية، حتى شهق من الفرح وصاح بملء فيه: نعم! نعم! هذا هو المكان المناسب!
ثم نزل وفي نيته أن يتخذ الأهبة من المقاعد والأدراج ليفتتح المدرسة! فقلت له: مولانا! لا بد أن تجمع الناس قبل الافتتاح لتقنعهم بتعليم بناتهم فإنهم سيئو الرأي في ذلك التعليم. ونجاح الأمر موقوف على أن يعتقدوا فيك التقى والورع. وسأدلك على أقرب الطرق لتحقيق هذا الاعتقاد:
إذا اجتمع الناس واكتظ بهم الديوان جلست أنت في الصدر، وجلس عن يمينك وعن يسارك رجال المعارف؛ ثم تشعل (شبقك) وتأمر كلا منهم أن يفعل فعلك؛ ثم تبتدئ فتذكر الله بصوت موقَّع على ضربات كفي وأنت تُميل رأسك من الشمال إلى اليمين تارة، ومن الخلف إلى الأمام تارة، وأنا والحافُّون من حولك نتابعك في كل كلمة وفي كل حركة. ثم(314/2)
حاول أن تأخذك الحال ويستخفك الذكر؛ فكلما أزبد الفم وأرعد الصوت وتشنج الجسم وهاج الدم، كان ذلك أحمل للناس على أن يعتقدوا فيك الولاية فتقودهم صاغرين إلى ما تريد
وصدق الوالي كل ما قلته له تصديقاً لا تتخالجه فيه شبهة. وجاء يوم الجمع واحتشد الأعيان والوجوه يسمعون ماذا يقول الوالي. وجلس الباشا وأنا بجانبه وشيوخ المعارف من حوله، وأمر فأشعلت (الغلايين) الطويلة، وأخذ يذكر ويترنح وأنا أرسم له، والشيوخ يذكرون معه. ثم غمزته بعد حين فتهور و (تطور) وأرغى. وتظاهرت أنا بجذبة الوجد وسكرة التجلي فقرعت غليونه بغليوني، ثم أخذت بلحيته البيضاء ورأسه الأصلع، ففعل بي مثل ما فعلت به، وأخذنا نتدحرج على البساط، فمرة أكون فوقه، ومرة يكون فوقي، والشيوخ يعجون بالذكر، والناس يضجون بالضحك، وأنا والوالي قد ملكتنا حميا الولاية فدخلنا في صراع عنيف لم يخرجنا منه إلا انقطاع النفَس. فجلسنا مسترخيين نلهث من الإعياء وكلانا ينظر إلى صاحبه نظر الديك المنتوف إلى الديك المهيض. وذلك يا مولانا هو الوالي الذي اختير لتعليم الجاهل وتصحيح المريض!
احمد حسن الزيات(314/3)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 5 -
رأينا أن نقف وقفة قصيرة نحادث فيها القراء قبل أن نأخذ في محاسبة الأستاذ أحمد أمين على الأغلاط التي وقعت في مقالاته السالفة وهو يحاول تزهيد الناس فيما ورثت اللغة العربية من ألفاظ الشعراء والخطباء
فماذا نريد أن نقول اليوم؟
نريد أن نؤرخ الظاهرة العقلية التي بدت شواهدها حين واجهْنا الجمهورَ بعيوب الطريقة التي يفكر بها الأستاذ أحمد أمين، فقد انقسم ذلك الجمهور إلى فريقين: فريق راضٍ، وفريق غضبان
والفريق الأول يستأهل اللوم قبل أن يستحق الثناء، لأن هذا الفريق يمثل جمهور المشتغلين بتدريس اللغة العربية؛ وهؤلاء قد ركنوا في الأعوام الأخيرة إلى التغاضي عن نقد ما يُكتب أو يقال في السخرية من ماضي اللغة العربية. وقد يكون لهذا التغاضي أسباب: فهم في كدح موصول بفضل ما يحمل المدرس من ثقال الأعباء؛ وهم قد رأوا المجادلات السياسية شغلت الناس عن المجادلات الأدبية؛ وهم قد سمعوا أن كلية الآداب صار إليها الأمر كله في توجيه التلاميذ والمعلمين إلى قواعد الدراسات الأدبية، فلا حرج عليهم إن انسحبوا من الميدان
تلك جملة الأسباب التي صرفت أساتذة اللغة العربية عن المشاركة في النقد الأدبي
فهل يعرفون أن سكوتهم هو الذي أطمع بعض الناس في أن يبغي ويستطيل؟
لو كانت كلية الآداب تعرف أن في مصر رقابة أدبية لما وقعت في المضحكات حين قررت أن تدرس لطلبة السنة الأولى أسلوب أحمد أمين وأن تمتحنهم في أسلوب أحمد أمين
ومن المحنة جاء الامتحان!
أحمد أمين له أسلوب؟
آمنت بالله!
ومن هم المدرسون الذين يدرسون لطلبة كلية الآداب ذلك الأسلوب (الأحمدي)؟(314/4)
هم شبان تخرجوا في كلية الآداب وموقفهم في هذه القضية أحرج المواقف، لأنهم يعرفون أن أحمد أمين من أساتذة الكلية، ولأنهم يعرفون أنه رجل سريع الغضب والاكتئاب. وهم أيضاً يعرفون - وا أسفاه! - أن كلمة الحق في أحمد أمين قد تحمل بعض المتملقين على وصفهم بالجهل!
ولم يقف الأمر عند كلية الآداب بجامعة القاهرة - جامعة فؤاد الأول - بل تعداه إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية - جامعة فاروق الأول - فهنالك الأستاذ أحمد الشايب وهو الأديب الفاضل الذي ألف كتاباً لطيفاً سماه (الأسلوب) وفيه يقرر أن أسلوب أحمد أمين له مزايا وخصائص
فهل لأحمد أمين أسلوب حتى تخلق لأسلوبه مزايا وخصائص؟
أشهد مرة ثانية أن الجامعة المصرية أمرها عجب!
فالدكتور طه حسين الذي وقف بقصر الزعفران في ربيع سنة 1927 يلقي كلمة الجامعة في مهرجان شوقي، ثم رأى أن تكون خطبته في الأخطل لا في شوقي بحجة أن الجامعة لا تؤرخ الأحياء، هو نفسه الذي ارتضى أن يدرس أسلوب أحمد أمين بكلية الآداب!
فكيف يكون الحال لو اعتدل الزمان وقيلت كلمة الحق في التدريس بكلية الآداب؟
أيستطيع إنسان أن يفرض على مدرس أن يعترف بأن أحمد أمين له أسلوب؟
وماذا نقول للشبان الذين يفدون من أقطار الشرق وقد عرفوا من قبل أن أحمد أمين قد يكون من الباحثين ولكنه لن يكون من الكتاب ولا الأدباء؟
وكيف تكون حجتنا أمام الأقطار العربية إذا سمعت أننا ندرس أسلوب أحمد أمين كما ندرس أساليب العقاد والمازني وهيكل وطه حسين والزيات؟
أتريدون الحق؟
إن أحمد أمين لم يكن له أسلوب يدرس في كلية الآداب إلا لأنه أستاذ في كلية الآداب، وإلا فكيف غابت قيمة أسلوبه عن أساتذة الأزهر وأساتذة دار العلوم وهم لم يلتفتوا إليه حين التفتوا إلى أساليب الكتاب في العصر الحديث؟
إن الرجل لا يكون له أسلوب إلا يوم يصح أنه يحس الثورة على ما يكره، والأنس بما يحب، فعندئذ تعرف نفسه معنى الانطباعات الذاتية ويعبر عن روحه وعقله وقلبه بأسلوب(314/5)
خاص
لقد اشتغل أحمد أمين بالقضاء الشرعي بضع سنين، فهل قرأتم له مقالاً أو قصة تدل على أنه توجَّع مرةً واحدةً للمآسي الإنسانية؟
لقد عاش أحمد أمين مدة بالواحات، فهل سمعتم قبل أن تسمعوا مني أنه عاش بالواحات؟
لو كان أحمد أمين أديباً لحدثكم عن تلك المروج التي يجهلها المصريون
ولكن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما كان موظفاً مخلصاً لواجب الوظيفة لا يرى ما عداها من الشؤون، ثم قال له طه حسين كن أديباً فكان!
وهنا أوجه القول إلى من أغضبهم هجومي على الأستاذ أحمد أمين فمن هم أولئك الغاضبون؟
منهم محام فاضل ألف عدة كتب في الحياة الأدبية والاجتماعية وقد كتب إليّ مرتين يدعوني إلى الترفق في الهجوم على هذا (الأديب)
وهذا المحامي الفاضل يعجب من أن نصحح رأي الأستاذ أحمد أمين في القرآن، وهو يظن أن اللذات الحسية التي سينعم بها المؤمنون في الجنة إنما هي لذات روحية
وأقول إن القرآن وعد المؤمنين بأن سيكون لهم في الجنة لحم طير مما يشتهون، وحورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وسيقال لهم: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)
وظاهر النصوص هو الأصل، فهل يرى هذا المحامي الفاضل أن نؤول كلام الله ليصح كلام أحمد أمين؟!
ومنهم كاتب مشهور أخذ يوسوس ذات اليمين وذات الشمال بأن زكي مبارك مولع بهدم الرجال، وأنه لو عدم مجالاً للخصومة لخاصم نفسه بلا ترفق!
وأنا أترك الرد على هذه التهمة لمن يعرفونني معرفة شخصية من أمثال العقاد والمازني وهيكل والزيات، بل أترك الرد على هذه التهمة لحضرة الأستاذ أحمد أمين
كيف تشيع عني هذه المقالة السيئة وأنا الكاتب الوحيد التي احترم معاصريه فتحدث عنهم في مقالاته ومؤلفاته بما يحبون، وسجل آراءهم في الأدب بنزاهة وإخلاص؟
ما هو الشر الذي تنطوي نفسي عليه حتى يستبيح الزملاء اتهامي بحب المناوشات والمشاغبات؟(314/6)
لقد تأدبت منذ أعوام طوال بأدب أبي منصور الثعالبي رحمه الله فتحدثت في رسائلي ومؤلفاتي عمن عاصرت من الرجال كما تحدث الثعالبي عن معاصريه من الكتاب والشعراء
فأين تكونون يا أدباء الجيل من هذا المسلك النبيل؟
إن أدباء العراق والشام ولبنان ينكرون عليكم ما تتهمونني به من حب الشغب والصيال، ففي جرائدهم ومجلاتهم وأنديتهم تحدثت عن أدباء مصر بالخير والجميل
بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأصرح بأني عاديت كثيراً من الناس في سبيل الدفاع عن أعدائي من أهل الأدب والبيان. ولو شئت لأقمت الشواهد على صحة ما أقول
فكيف يصح أن يتهمني أدباء مصر بالتحامل عليهم وأنا الذي أحسنت السفارة عن الأدب المصري في كل بلد حللت فيه؟
الحق أن أكثر أدباء مصر يحبون أن يعيشوا مدلَّلين في زمن لا ينفع فيه الدلال!
الحق أنهم استمروا العافية من مكاره النقد الأدبي، فهم يصرخون كلما هجمنا عليهم لنعود إلى مهادنتهم من جديد
ولو أنهم فكروا قليلاً لعرفوا أني أؤدي الزكاة عن النشاط المصري. فقد شاع في كل أرض أن الأدباء المصريين تنكروا للنقد الأدبي ولم يعودوا يعرفون غير مقارضة الحمد والثناء
وأوجه القول مرة ثانية إلى من أغضبهم هجومي على الأستاذ أحمد أمين فأقول:
إن هذا الرجل أراد أن يؤرخ العصر العباسي من الوجهة الأدبية فجعله عصر معدة لا عصر روح، وشاء له أدبه أن يختص البصرة بحكم من أحكامه القاسية فزعم أنها عرفت (نقابة الطفيليين)
فهل خطر في بال هذا الباحث المفضال أن البصرة عرفت أكرم نوع من نكران الذات حين كانت مهداً لإخوان الصفاء؟
هل خطر ببال أن البصرة حين آوت هؤلاء الباحثين العظماء قهرت التاريخ على أن يشهد لها بقوة الروحانية؟
ومن الذي يصدق أن رسائل إخوان الصفاء وهي أعظم ذخيرة أدبية وفلسفية وضعت أصولها في البلد الذي زعم أحمد أمين أنه أنشأ أدب التطفيل؟(314/7)
هل يعرف أحمد أمين من هو مؤلف (رسالة الطير والحيوان) وهي رسالة لم يكتب مثلها في مشرق أو في مغرب؟
إن هذه رسالة وضعت في البصرة، أو ألفها رجل استوحى أهل البصرة، أفما كانت تصلح هذه الرسالة شفيعاً للبصرة فتنقذها من قالة البهتان على لسان أحمد أمين؟
ثم ماذا؟
ثم استطاعت البصرة أن تنشئ مذهباً في النحو شغل الأمم الإسلامية نحو اثني عشر قرناً
ولو أن أحمد أمين كان يدقق لعرف أن البصريين لم يصلوا إلى ذلك إلا بقوة الروح، فكيف شاء له هواه أن يجعلهم أصحاب معدات؟
لو أن معدتي كانت كما أحب من القوة والعافية لأكلت لحم الأستاذ أحمد أمين وأرحت الدنيا من أحكامه الجائرة في الأدب والتاريخ
ولكن الدهر حكم بأن أكون من أصحاب الأرواح فلم يبق لي في محاسبته غير شيطنة الروح، وفي الأرواح شياطين!
وتحامل أحمد أمين على البصرة وعلى العصر العباسي هو الذي أثارني عليه، فإن كان في الناس من يتوهم أن بيني وبينه ضغينة وأنني أشفي صدري بتنغيصه، فهو من الآثمين وسيلقى الجزاء يوم يقوم الحساب
ولن ينقصني عجبي من أهل هذا الزمان
فما كنت أظن أن أهل مصر يستكثرون على رجل أن يقول كلمة الحق لوجه الله؟
ما كنت أظن أن من واجبي أن أكف قلمي عن رجل يتطاول على ماضي الأدب العربي وهو بشهادة نفسه غير أديب!
أليس من المزعج أن يكون من تقاليد الصحافة الأدبية في مصر أن تمجد رجال الغرب وتنتقص رجال الشرق؟
أليس من المزعج أن تكون عيوب الناس في الأعصر الماضية مقصورة على أسلافنا وهم الذين احيوا الثقافة الأدبية والعقلية في عصور ألظلمات، وبفضلهم حُفِظ أكثر تراث الهند والفرس والروم؟
أليس من المؤلم يقال لمن يغار على ذلك الماضي المجيد (إنك ذو ضغينة وإنك تشفي(314/8)
صدرك بتكلف الغيرة على ماضي اللغة العربية)؟
إن الرجل الذي يملك الفصل في هذه القضية هو الأستاذ أحمد أمين، فليذكر متى عاديته؟ ومتى حقدت عليه؟ ومتى وقع بيني وبينه ما يورث الشحناء؟
إن أحمد أمين لم يوجه إلي أية إساءة، وربما جاز أن يقال إنه لم يؤذ أحداً من معاصريه، فقد كان ولا يزال مثال الطيبة واللطف
ولكن أحمد أمين الذي كف شره عن الأفراد وجّه شره إلى التاريخ، فهو يدوس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولا رفق، ولو تركناه شهرين اثنين يؤرخ الأدب على هواه لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين.
فإن كان هناك شيء يكتب لوجه الله فهو ما أكتب عنك يا صديقي أحمد أمين
أما بعد فقد بقيت معركة حامية حول ما سماه أحمد أمين (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) فإن اتسع صدر (الرسالة) لتلك المعركة فسأخدم الأدب العربي خدمة باقية. وإن ضاق صدر (الرسالة) عن هذه المعركة فسأنقل الميدان إلى مجلة أو مجلتين أو مجلات في مصر والشام والعراق، وحسبنا الله وهو نعم الوكيل.
(مصر الجديد.)
زكي مبارك(314/9)
الصديق الراحل
فليكس فارس
1886 - 1939
للأستاذ كامل محمود حبيب
حملتك الأمواج غصنا من الأر ... ز كسيراً يفوح منه العبير
فتعاليت في الجلاد صبوراً ... علم الناس كيف يحيا الصبور
وتراميت من سما المجد صقراً ... علم الدهر كيف تفضي الصقر
فليكس فارس
عزيز على النفس أن تتحدث عنك ميتاً، وقد كنت (بالأمس) ملء القلب، ملء الفؤاد، ملء السمع والبصر ملء هذه الحياة الفارغة. . .
انطوى هذا الفكر الوقاد، وانطفأ هذا القبس اللامع، وانحبس هذا الصوت الرنان، وثوى العبقري الثائر في رمسه، وفي قلوب صحابه آهة عميقة وفي أعينهم عبرات حرى
هذا النغم الحادي كان حلواً تتطرب له النفس!
هذه النفس العالية كانت طيبة رفافة لم تشبها نزوة من نزوات الكبرياء!
هذا القلب كان كبيراً. . . كبيراً لم تفسده ثرهات الحياة!
ففي ذمة الله أيها النغم الحادي، وأيتها النفس العالية، وأيها القلب الكبير!
فليكس فارس! هذا هو الرجل!
أخ العلم من كتاب الحياة فما تشرّب روح المدرسة، وفي المدرسة عسف وظلم، وفيها إغضاء عن النبوغ الفطري، وفيها كَبْت للمواهب المتأججة، فسما بنفسه، وعلا بروحه، وتفتح الكمْ عن زهرة يانعة وهو ما يزال عند التاسعة عشر، شاباً ريْق الشباب وفتى غضّ الفتوة؛ فدخل المدرسة - أول ما دخل - أستاذاً للبيان العربي في مدرسة عبية؛ ثم لمعت أول مقالاته الأدبية في جرائد سوريا ولبنان.
وأعلن الدستور العثماني سنة 1908 فتدفق البيان على لسانه، وتراءى خطيباً تتقطع دون بلاغته ألسنة الخطباء، فتألق نجمة. ثم ألقى عن نفسه عبء التدريس ليخوض غمار(314/10)
السياسة عضواً فذاً في جمعية الاتحاد والترقي العثمانية، واختارته لجنة سالونيك - بعد حين - ليكون عضواً عاملاً فيها يؤسس الجمعيات الدستورية في أرجاء البلاد.
وجرفته السياسة في تيارها فأصدر جريدته (لسان الاتحاد) تتحدث عن نوازع نفسه، وآمال قلبه في السياسة والأدب جميعاً. ثم. . . ثم عُيّن أستاذاً للخطابة والأدب الفرنسي في المدرسة السلطانية بحلب.
واستعرت نار الحرب العظمى فما برح مكانه حتى دخل الجيش العربي البلاد فتخيرته الحكومة الهاشمية سكرتيراً لحكومة حلب، ثم مديراً عاماً لإدارة حصر الدخان، فما شغله المنصب عن أن يقوم - بين الفينة والفينة - خطيباً يدعو إلى الوحدة العربية وإلى رفض الانتداب الأوربي
وفي سنة 1920 أبحر إلى أمريكا يطلب إلى المهاجرين من بنى وطنه العودة إلى بلادهم، وقد عزّ عليه أن ينأى جماعة من أفذاذ قومه عن ديارهم أحوج ما تكون إليهم، وفيهم العالم والصانع والتاجر، فقضى سنة يضرب في أنحاء أمريكا يخطب المهاجرين بالعربية مرة وبالفرنسية أخرى، علّهم يثوبون؛ وهناك تعرّف إلى أعضاء الرابطة العربية جميعاً ووصل بينه وبينهم برباط من المحبة، وتوثقت بينه وبين جبران خليل جبران العبقري الفنان صلات من الهوى والصداقة.
وعاد إلى لبنان وفي خياله أن يستطيع أن يقنع الجنرال بيرو المندوب السامي الفرنسي بوجوب التفاهم مع العناصر الوطنية، وتشجيع المهاجرين على العودة إلى وطنهم. ومال الجنرال بيرو إلى رأي الأستاذ غير أن الحكومة الفرنسية رأت أن ترسل الجنرال فيجان ليشغل منصب الجنرال بيرو. . . فانفجرت الثورة وتطاير شررها هنا وهناك، ولكن اليأس لم يجد طريقه إلى القلب الكبير. . . قلب الأستاذ فليكس، فراح يكتب إلى صديقه المسيو جوسران سفير فرنسا في واشنطن، وإلى ذوي المكانة العليا في فرنسا، يكشف لهم جميعاً عن خطل السياسة الفرنسية في بلاده؛ غير أن صرخاته ذهبت نهب الرياح، فكبر عليه أن يعمل مع حكومة تسير على مبدأ لا يقره، فنبذها جانباً، ولبس ثوب المحاماة.
وفي أواخر سنة 1930 عين رئيساً للتراجمة في بلدية الإسكندرية فترك بلاده ومهنته ليستقر في الوطن الثاني الجميل. . . في مصر، وليجد هنا أصدقاء أحباء يعوضونه ما فقد(314/11)
في وطنه الأول
تلك لمحة عاجلة عن حياة الأستاذ الفقيد فيا عظة وحكمة
لم يكن للأستاذ فليكس أن يكبح جمحات نفسه، بعد إذ لمس الإخفاق في وطنه الأول، وهو قد هبط وطنه الثاني شعلة من نشاط تتقد، فاندفع يتعرف على جماعة من أدباء هذا المصر. . . ثم قرأ للأستاذ الزيات - أطال الله عمره - وجمع أعداد (الرسالة) لا تفوته فيها شاردة ولا واردة؛ وعكف دراسة أدب الرافعي - رحمه الله - حين استهوته مقالاته في (الرسالة)؛ وترجم له مقالته (رؤيا في السماء) إلى الفرنسية وعلق عليها، ونشرها هي والتعليق في غير واحدة من الجرائد الفرنسية، وأعجب بعاهلي الأدب العربي الحديث وتمنى لو رآهما
وفي صيف سنة 1936 تعرف إلى الأستاذ الرافعي - رحمه الله - وطلب إليه أن يزوره في داره في كامب سيزار برمل الإسكندرية فلبى الدعوة وأنا برفقته. . . فألفيت رجلاً هادئ الطبع، طلق المحيا، كريم الخلق، جميل الصحبة. وكان وجهه - ونحن في داره - يتهلل بشراً وسروراً. . . وهكذا ابتدأت أول وشيجة بينه وبين أسرة (الرسالة) الغراء، ومضت أيام فإذا صوت صرير قلمه يرن على صفحات (الرسالة)
ثم انطلق يتلمس الطريق إلى الأستاذ الزيات ويستزيره في إلحاح. وفي صيف سنة 1937 دخل الأستاذ الزيات دار صاحبه فليكس - لأول مرة - وأنا إلى جانبه. يا عجبا. يا عجبا! إنني أرى صاحب الدار يهتز من فرط الفرح كأنه يلاقي حبيباً طال اغترابه؛ وإنه ليتراءى لي أنه يهم أن يضم الأستاذ الزيات إليه لولا هيبته. وتقدمت الأيام وفي قلب كل منا لصاحبه المحبة والإخلاص والوفاء
عرفنا الأستاذ فليكس فعرفنا فيه الأديب الفذ والشاعر الرقيق، وفقدناه ففقدنا فيه الأخ الوفي والصديق الصادق
ففي ذمة الله، وفي رحمة الله. . . يا صديقي!
كامل محمود حبيب(314/12)
في بلاط الخلفاء
حماد وهشام بن عبد الملك
للأستاذ علي الجندي
ضمت الكوفة في وقت واحد ثلاثة نفر يُقال لهم: الحمادون، وهم حماد عَجْرد، وحماد الراوية، وحماد الزَّبرِقان أو أبن الزبرقان. كان هؤلاء الثلاثة يتعاشرون بثلاثة أجساد تُصرَّفها روح واحدة. ولم يكن غريباً أن يجتمعوا على هذا الود الوثيق، فقد ألفت بينهم رابطة الأدب، ولحمة الزندقة، وآصرة أخرى تُسامي رضاع الثدي وهي رضاع الكأس! ولله دِعْبل إذ يقول
أذكرْ أبا جعفر حقًّا أمتُّ به=أني وإياك مشغوفان بالأدب
وأننا قد رضعنا الكأس دِرَّتها=والكأسُ درتها حظ من النسب
والذي يعنينا من هذا الثالوث العجيب المتّحد في الاسم والنزعة والهوى والنَحلة، حماد بن ميسرة الديلمي مولى بكر بن وائل. كان هذا الرجل آية دهره في العلم بأنساب العرب وأيامها وحفظ لغتها وأخبارها وأشعارها، فخلع عليه معاصروه - على بخل المعاصرة وحقدها - لقب الراوية؛ وهو لقب فخم رفيع لم يمنحه جزافاً بل انتزعه انتزاعاً عن استحقاق وجدارة
يتحدثون أن الوليد بن يزيد سأله: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: لأني أَرْوي لكل شاعر تعرفه - يا أمير المؤمنين - أو تسمع به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً لقديم ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال الوليد: إن هذا لَعلم - وأبيك - كبير. فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير. ولكنني أنشد على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة طويلة، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام!
وكأن الوليد استراب بحفظه فقال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد حتى نال منه الضجر! فوكل به من يسمع منه واستحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة جاهلية، ورفع الأمر إلى الوليد، فأجازه بمائة ألف درهم
ولكن مما يحزّ في النفس أن حماداً لم يكن متحلّياً بتلك الشرائط التي تعدّ قوام الرواية من(314/13)
أمانة وصدق وإخلاص!
فقد شاء ألا يقنع بما أفاء الله عليه من مواهب عالية، وبما حصّله بجهده من ثروة أدبية ضخمة تتقطّع دونها أعناق الفحول! فاستغلّ حفظه للشعر وبَصارته بمنازع الشعراء، وقدرته على النظم، ودقة مسلكه في التقليد، وَغرامه بالتزيّد في الوضع والتلفيق والتدليس! فكان يقرض الشعر وينْحَلُه من يشاء من شعراء العرب، ويجوز ذلك على أكثر الناس لفرط المشابهة بين الأصيل والدخيل!
ومن السهل على من رُزق علم حماد وقوة طبعه وحدة قريحته وبارع زكانته، أن يفعل مثل فعله لا فرق بين متقدم ومتأخر!
يقول الثعالبي: إن الصاحب يوماً قال لجلسائه - وقد جرى ذكر أبي فِراس الحمداني -: لا يقدر أحد أن يزوّر عليه شعراً. فقال البديع الهمذاني: ومن يقدر على ذلك وهو القائل:
رويدَك، لا تصِلْ يدَها بباعك ... ولا تُغْرِ السباع إلى رباعك
ولا تُعِنِ العدوَّ عليّ إني ... يمينٌ إن قطعتَ فمن ذِراعك
فقال الصاحب: صدقت! فقال البديع: أيد الله مولانا قد فعلت! - أي زوّرت عليه -
والغريب في أمر حماد أنه لا يستحي أن يتبجّح بهذا الضلال البعيد! فكان يقول: ما من شاعر إلا أدخْلت في شعره أبياتاً حملت عنه إلا أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قط غير بيت واحد. فقيل ما هو؟ قال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ ... من الحوادث إلا الشّيْب والصلَعا
وأغرب من هذا أن جرأته كانت تطوّع له الكذب على الخلفاء المعروفين بدقة الفطنة وسعة المعرفة! فقد روَي صاحب الأغاني بسنده عن جماعة ذكر أنهم كانوا في دار الخليفة المهدي إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبيّ الراوية، فدخل فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد الراوية وحسين الخادم، وقد بان وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط. ثم نادى الخادم: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يُعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها. ووصل المفضّل الضبي بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً مُحدَثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية(314/14)
صحيحة فليسمعها من المفضل
وقد كان السبب أن المهدي قال للمفضل - لما دعا به وحده -
إني رأيت زهير بن أبي سُلمى افتتح قصيدته بأن قال:
دع ذا، وعدِّ القولَ في هَرِم ... خير البُداة وسيد الحَضْر
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئاً، إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يُروَّى في أن يقول شعراً فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا. أو كان يفكر في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا. أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه المهدي ودعا بحماد فسأله في ذلك. فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين. قال: فكيف قال؟ فأنشده:
لَمِن الديارُ بقُنَّة الحِجْر؟ ... أقْويْنُ مُذْ حِجَج ومذ دَهْر
لعب الزمان بها وغيّرَها ... بعدي سوَافي المُور والقطر
دع ذا. . . الخ
فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل عليه فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه! ثم استحلفه بأيْمان البيْعة - وكل يمين مُحْرجة - ليَصْدقَنَّه عن كل ما يسأله عنه. فحلف بما توثق منه. فقال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير. فأقرّ له أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه
هذا الضعف الخُلُقي الذي عُرِف به حماد هو ما حدا الأصمعي أن يقول فيه: كان حماد أعلم الناس إذا نصح (يعني إذا لم يزد وينقص) وكذلك قال فيه المفضل الضبي: قد سُلَط على الشعر من حماد الرواية ما أفسده فلا يصلح بعده أبدا! فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في الرواية أم يَلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يُشَبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويُحمَلُ عنه ذلك في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟)
وقد هجا حماداً أحمد بن يحيى هجاء طريفاً يمكننا أن نقف منه على شكله وهيئته وزيه ورأى الناس فيه. قال:(314/15)
نعم الفتى لو كان يعرف ربَّه ... ويُقيم وقت صلاته حّمادُ
بسطَتْ مَشافرَه الشَّمولُ فأنفُه ... مثلُ القَدوم يَسُنُّها الحدّاد
وأبيضّ من شرب المُدامة وجهُه ... فبياضُه يوم الحساب سواد
لا يُعْجبنّك بَزّه ولسانُه ... إن المجوسَ يُرَى لها أسباد
وقد نشأ حماد في العهد الأموي سنة خمس وتسعين هجرية، وكان أثيراً لدى خلفاء بني مروان، يستزيرونه فيفد عليهم ليحدثهم عن أيام العرب وأخبارها وينشدهم أشعارها، فيظهرون إعجابهم به وينفحونه بالأعطيات السنية
وقد خفّ على قلب يزيد بن عبد الملك منهم فانقطع إليه واختص به ونادمه، فحصّل منه دنُيا عريضة وعاش في حال رافهة
ولكن هذه النعمة السابغة كادت تحوُل جائحة مستطيلة لولا ما قُدَّر له من طول السلامة! فقد كان بين راعيه يزيد وأخيه هشام جفوة شديدة مردها إلى أنهما من أبناء العلاَّت، فأم يزيد عاتكة بنت يزيد بن معاوية الأموية، وأم هشام عائشة بنت إسماعيل المخزومية، وأهم من ذلك أن يزيد كان يريد أن يبايع لابنه الوليد القاصر، فصرفه أخوه مسلمة بلباقة وكياسة إلى مبايعة أخيه هشام الراشد، ولكن يزيد ندم بعد أن تم الأمر، فاستشرت العداوة بين الخليفة وولي عهده حتى اضطر هشام أن يعيش خارج دمشق، وتبع ذلك أن حقد على حاشية أخيه وبطانته، ومنهم حماد زينة البلاط ونجمه اللامع!.
فلما آلت الخلافة إلى هشام خافه حماد على نفسه خوفاً شديداً فانزوى في كسر بيته مدة عام في خلالها - إذا ضاق صدره - ينسل في سر من الناس إلى الثقات من إخوانه خائفاً يترقب؟ ولما انقضت هذه الفترة ولم يتوجه إليه طلب، ظن أنه قد بلغ مأمنه، فبرز من مخبئه وصلى الجمعة في الرُّصافة، ولم يقنع بذلك حتى جلس عند باب الفيل، وإذا شرطيان كأنما نبعا من الأرض قد وقفا عليه وقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف ابن عمر (والي العراق) فانخلع قلب حماد من الرعب، وقرع سِنّ الندم على خروجه، وتوسل إليهما أن يستأنياه حتى يأتي أهله فيوصي بهم وإليهم، ثم يصير معهما إلى حيث يريدان، فأجاباه في خشونة الزبانية: ما إلى ذلك من سبيل! وأخذا بعضديه، فاستبسل للموت واستقاد لهما حتى بلغا به الأمير وهو جالس في الإيوان الأحمر، فسلم عليه حماد بصوت مصحول فكان رد(314/16)
السلام أن ألقي إليه كتاباً فيه ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مُروَع ولا مُتعتع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق
ففاضت بشاشة الطمأنينة على قلب حماد، وقبض الدنانير الصفر وقد امتزج لألاؤها ببريق السرور الخاطف على وجهه!
وفي الحق أن حماداً كان مسرفاً في خوفه من هشام، فقد كان هذا الخليفة غزير العقل راجح الحلم عفيف النفس جامعاً لأدوات الرياسة، حتى كان الأشياخ يقولون: أُديِل من الشرف وذهبت المروءة بموت هشام! ومن كانت هذه صفاته فكثير عليه أن ينكل بأديب مستضعف كل جريرته أنه كان متصلاً بسلفه
وقد هيئ لحماد جمل مرحول فركبه من ساعته، وسار يُغذّ في السير اثنتي عشرة ليلة حتى وافى دمشق ووقف بباب هشام مستأذناً في الدخول إليه، فأذن له.
(البقية في العدد القادم)
علي الجندي(314/17)
وسائل الاغتياب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كل إنسان من الناس لا يعد الاغتياب اغتياباً إلا إذا كان قد أتى من غيره في حقه أو في حق عزيز عنده أو مرضيًّ عنه لديه. أما إذا أتى الاغتياب من غيره وقُصد به انتقاص غير عزيز عنده ولا مرضيٍ عنه؛ أو إذا كان هو الذي يغتاب فإنه لا يعد الاغتياب في هذه الحالات اغتياباً بل يعده مكرمة وفضيلة، فيعده انتصاراً للحق وهداية إلى الفضيلة وإظهاراً للنقص ومحاربة للرذيلة وتحذيراً للسامع من الشر. وهكذا تتغير حقائق الأمور حسب أهوائه، وبذلك يسيطر على ضميره ويخدع ضمائر الناس. فالاغتياب منه فضيلة ليس بعدها فضيلة؛ أما من غيره فالاغتياب دليل على لؤم النفس وخساستها. وهو إذا اغتابه أحد الناس لم يعد اغتياب المغتاب له فضيلة وهداية إلى الفضل ومحاربة للنقص كما يعد الاغتياب الذي يجيء من نفسه في حق الناس. وكثيراً ما يلجأ المغتاب إلى أساليب عجيبة كي يقبل اغتيابه فيقول: إني لا أريد أن أنتقص فلاناً أو أن أذمه فإنه رجل فاضل، ثم يغتابه بما لا يترك له فضلاً ولا فضيلة. وقد يمدح عمل الرجل في صنعته كي يقبل الناس ذمهُ له في أخلاقه؛ وذلك لأن الفضل في العمل قد لا يخفى على البصير الحاذق الذي يستطيع أن يزن فضل القول أو العمل في الصنعة أو المهنة. أما فضل الأخلاق فأكثره غير مكتوب في طرس ولا مرصوف في بناء ولا منحوت في تمثال حتى يزن الوازن فنه ولونه وحقيقته، بل أكثره وديعة في نفوس الخلطاء أو من ليسوا بخلطاء ولا عشراء إذا كان المرء معروفاً بالذكر عند من لا يعرفه في حياته الخاصة. والخلطاء قد لا يؤدون الأمانة وافية ولا الوديعة غير منتقصة وغير الخلطاء إنما يحكمون بالصدى
وكثيراً ما يرشو المغتاب سامعه بالمدح إذا كانت إثارة شره وحقده على من يعرفه أو لا يعرفه تحتاج إلى مدح المغتاب لسامعه الذي يريد إثارة شره، أو قد يهدد المغتاب سامعه بالذم إذا لم يقبل أن يُستشار شره وحقده على ذلك الغائب الذي يغتابه المغتاب، وقلما يجرؤ أحد الناس إذا سمع ذماً لغائب أو شبه غائب على رفض الذم وتزكية المذموم خشية أن يعد الناس مدحه للمذموم مشاركة له في نقصه الذي ذمَّ به، فترى أكثر الناس إلا من ندر إذا اغتاب إنسان إنساناً يسرعون إلى إظهار تصديقهم قوله خشية أن يعدوا مشاركين للغائب(314/18)
المذموم إذا كذَّبوا مغتابه. وهم يسرعون إلى هذا التصديق وإن كانوا من أهل الخير، وإن كانوا من أبعد الناس عن التلذذ بالحقد من غير سبب للحقد، وإنما يصدقون المغتاب وقاية لأنفسهم، وكل إنسان به شيء قليل أو كثير من الجبن أو الخوف أو الحذر فيخاف إذا لم يعاون المغتاب على اغتياب الغائب - وأقل المعاونة المعاونة بالسكوت والإنصات والابتسام والإقبال - أن يُعدَّ مشاركا للغائب فيما اغتيب به. وإذا كان هذا شأن أهل الخير فما ظنك بغيرهم من الناس وأكثر الناس يجدون في أنفسهم لذة ومسرة - إما قليلة تكاد تكون خفية غير ملحوظة وإما لذة عظيمة - إذا سمعوا ذماً لإنسان. وأقل أسباب هذه اللذة وأطهرها أن الذم لم يقع بهم بل بغيرهم فَيُسرون لنجاتهم من الذم بوقوع الذم بغيرهم كما يسرون من أجل أنَّ ذم غيرهم بالحق أو بالباطل إذا سمعوه أو قالوه يزيدهم عظمة عند أنفسهم فيشعرون أنهم صاروا أعظم من المذموم حتى ولو كان ذمه بالباطل، فالذم كالجمر كل يريد أن يلقيه على غيره. فإذا أحس السامع في نفسه أنه أحق بذلك الذم الذي اغتاب به المغتاب غائباً أسرع في معاونة المغتاب على الغيبة كيلا يفطن المغتاب وكيلا يلحظ من عينيه أنه أحق بالذم من الغائب. ومن أجل ذلك يكون الاغتياب أشيع ما يكون بين أهل النقص الحقيقين بالذم الذين يخفون من أسرار أنفسهم ما هو حقيق بالذم فيرتعدون خوفاً من ظهوره فيندفعون إلى الغيبة من الخوف، كما قد يُقبِلُ الأرنب من خوف إلى الثعبان، أو كما قد يُقبِلُ الهِرُّ من خوف إلى الأسد. وهم قد يندفعون في نقصهم ويُهونون على أنفسهم النقص بذلك. وقد يُصَرَّحُ المغتاب للسامع بالتهديد ولا يكتفي بالتلميح في تهديده فيقول: لا يدافع عن أهل الرذيلة إلا من كان من أهل الرذيلة، فيسرع السامع إلى تصديق المغتاب، وربما صار من خوفه أشد شَرَهاً في الاغتياب من ذلك المغتاب الذي هدده إذا لم يقبل منه قوله. وقد تجتمع في نفس السامع أسباب الاغتياب كلها، بل إن الخوف من مشاركة الغائب المهجو في الذم قد يجعله السامع عذراً لنفسه إذا وجد لذة في الشر والانتقاص، وإيقاع الأذى بغيره بمعاونة المغتاب؛ فبعد أن يكون قبوله الاغتياب والمعاونة عليه خوفاً يصبح القبول وتصبح المعاونة لذة في إيقاع الأذى وتعاظماً بانتقاص غيره، فترى أن أقل أسباب قبول الغيبة إثماً وأطهرها شكلاً يسوق النفس إلى أكثر أسباب قبول الاغتياب والمعاونة عليه إثماً، وإلى أخبثها أصلاً في النفس. وهذا من عجائب النفس الإنسانية التي في أول أمرها(314/19)
قد تتحرج من أقل الخبث والشر؛ فإذا قبلته مُكرَهةً كارهة قد لا تتحرج في أن تجد لذة في أشد الشر والخبث. والخوف من مشاركة المذموم في الذم سنة عامة قد تتخذ شكلاً مضحكاً. فقد ترى جماعة من الناس يتحدثون في مودة وصفاء ثم يرون على قرب منهم اثنين يتضاحكان، وقد يكون تضاحكهما لأمر لا صلة له بهم، ولعل ذكرهم لم يمر على لسان المتضاحكين، ولكن شدة الذعر من السخر والذم قد توهم تلك الجماعة التي تتحدث في مودة وصفاء أن تضاحك المتضاحكين منهم أو من أحدهم فيبتسم كل منهم كي يوهم أصحابه وجلساءه أنه واثق في سريرة نفسه أنه غير مقصود بضحك المتضاحكين. وقد يكون ابتسامه مخلوطاً في شكله بمظاهر الخوف والارتياب فيتخذ ابتسامه شكلاً مضحكاً حقاً. أما إذا استطاع أن يخفي ما في سريرة نفسه من الارتياب والخوف فإنه قد يقنع جلساءه أن تضاحك المتضاحكين على مقربة منهم ليس سخراً به بل بأحدهم وقد ينظر مبتسماً إلى جليس كي يوهم جلساءه أن المتضاحكين إنما يسخران بهذا الجليس الذي ينظر إليه فهو يتوقى السخر الموهوم بإلصاقه بجليسه كي يقي نفسه من أن يُظَنّ موضوع اغتياب المتضاحكين. وهذه ظاهرة مشاهدة في الناس وقد قال أحد الأدباء الماكرين:
إذا رأت إنساناً في جماعة على مقربة منك وارتبت في أنه يغتابك فما عليك إلا أن تختار صديقاً أو جليساً يجيد الضحك ثم حدثه حديث فكاهة يثير ضحكه ولا علاقة لحديثك بالإنسان الذي ترتاب في أنه يغتابك فإذا أكثرتما من الضحك وجعلت تنظر غليه أثناء الحديث ارتاب ذلك الإنسان أيضاً في أنك تذكره بسوء. بل قد ينذعر بعض جلسائه خشية أن يكون هو المقصود بالضحك. فينصرفون عنه، وقد يسعون إليك مبتسمين إذا كانوا يعرفونك كي يوهم كل منهم الآخر أنه واثق في سريرة نفسه أنه ليس مدعاةً للسخر والضحك، وإنما يكون انفضاضهم عن ذلك الإنسان على صوت ضحككما كانفضاض قوم عند سماع صوت إطلاق قذيفة من مدفع غير مُعَبأ بما يميت. وهذه الحيلة ليست من مكارم الأخلاق وربما ألجأ إليها الظن المخطئ وربما لا تستطاع إلا بشيء من الصفاقة لا يملكه كل إنسان ولكنها على أي حال من أخلاق الناس ومشاهد الحياة.
والمغتاب الذي لا يستطيع الناس أن يجدوا سبباً لحقده على من يغتابه أكثر المغتابين نجاحاً في الاغتياب، ومن أجل ذلك يحاول المغتاب الماكر أن يخفي سبب حقده وكرهه، وقد يكون(314/20)
السبب بطبعة بعيداً عن الأذهان، وقد يكون المغتاب نفسه غير فاهم سبب حقده الذي يخامر نفسه كل الفهم، وأخلق بهذا السبب ألا يفهمه الناس إذا كان صاحبه لا يفهمه.
عبد الرحمن شكري(314/21)
كتاب في (الدين الإسلامي)
للأستاذ علي الطنطاوي
كان الأعرابي الجلف الجافي، يقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ساعة من الزمان يستمع فيها إليه، فلا يقوم إلا وقد فهم الإسلام وعرفه، وصار من المبشرين به والداعين إليه. وكان يصحب النبي أياماً فلا تنقضي حتى يغدو عالماً، يبعثه النبي إلى قومه معلماً ومرشداً، فيعرفهم الحدود، ويبيَّن لهم الحلال من الحرام. . .
كان هذا يوم لم يكن تدوين، ولم تصنف المصنفات، ولم تجمع الأحاديث. . . وهانحن أولاء نملك أكثر من مائة ألف كتاب ورسالة في التفسير والحديث والفقه والأصول والتصوف والسيرة والخلاف وكل ما يخطر على بال باحث من المسائل المتصلة بالإسلام، ولكنا لا نجد فيها كتاباً واحداً لخص الإسلام كله تلخيصاً وافياً، وعرضه عرضاً واضحاً، يقرؤه الشاب فيفهم، فيفهم فيه الدين كله كفهم الوافدين على النبي الدين، حين دخلوا فيه أفواجاً. . .
ولقد أحسست بهذا النقص منذ ابتداء عهدي بالطلب، وعرضت له في رسائل (في سبيل الإصلاح) التي نشرتها في دمشق (أثر عودتي من مصر سنة 1929). بيد أني لم أعرف خطره إلا أمس، حين درست الدين في مدارس العراق، وشرحت للطلاب مزاياه، وكشفت لهم عن عظمته، فكانوا يتشوقون إلى زيادة الاطلاع، ويرغبون في متابعة الدرس. فيسألونني عن الكتاب الذي يجدون فيه خلاصة الدين، كما يجدون خلاصة الطبيعة أو الهندسة في كتاب واحد، فأفكر فيه فلا أجده، ولا أجد إلا علوماً كثيرة من كلام وفقه وحديث وتفسير فيها آلاف من الكتب، يعتدها المؤرخون أثمن تراث للعقل البشري وأغناه، ولكنها أصبحت اليوم بالية الأسلوب، قديمة الطراز، كحلية من الذهب، ما نقص الذهب ولا خاس، ولكن أنكر الشكل وتغيرت الأذواق، والصائغ الماهر يحول الحلية من حال إلى حال. . . وكنت أخاف أن ينصرف الطلاب عن دراسة الإسلام، وتموت في نفوسهم الرغبة فيه، إذا أنا دللتهم عليها وأردتهم على قراءتها. وليت شعري أأقول للطالب الذي تدع له دروسه الكثيرة، إلا بقية من وقت، آثر أن يشغلها بدراسة الدين عن أن ينفقها في حق نفسه وراحتها، أأقول له، إنك لا تفهم الإسلام حتى تقرأ (النسفية) و (السنوسية) وأشباهها(314/22)
وتدخل في كل باب من أبواب الفلسفة الفارغة. . . والجدل العقيم. . . وتدور مع المذاهب الباطلة والرد عليها، والآراء الخاطئة ودفعها، وتحفظ كفر أقوام انقرضوا وانقطع دابرهم، كل ذلك لتفهم التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه واضحاً سهلاً لا فلسفة فيه ولا جدال. . . وتقرأ (الطخطاوي) والشرنبلاني أو (الباجوري) أو غيرهما من كتب الفروع، وتملأ الرأس منك فروضاً مستحيلة، واحتمالات بعيدة، تتخلل الأحكام، وتجئ مع قوانين الشريعة، كل ذلك لتعرف كيف تصلي وتصوم، وقد كان البدوي يتعلم الصلاة والصيام في ساعة واحدة ويؤديها من بعدها على وجه الكمال. . . وتقرأ (شروح النار) أو (جمع الجوامع (وتكسر دماغك في كلام هو (والله العظيم) أشبه بالطلاسم والأحاجي منه بالعلم وأسلوبه المبين، لتفهم أصول الفقه، والأصول في هذا الدين ثابتة ثبوت الجبال، واضحة وضوح الشمس، مستقيمة كخيوط النور لا عوج فيها ولا التواء، ولا غموض ولا إبهام. . . وتقرأ (النخبة) أو (مقدمة ابن الصلاح) لتفهم مصطلح الحديث، وتقرأ بعد ذلك شيئاً كثيراً. . . ثم لا تنجو بعده من أن يتهمك الحشويون بأنك وهابي، والسلفيون بأنك قبوري، ولن تعدم من يتبرع بتكفيرك من أجل بحث في كرامات الأولياء، أو كلام في السفور، أو رأي في ابن عربي. . . فأين الشاب المشغول بدروسه المتهيئ لفحصه من هذا الخضم الذي يغرق فيه لو خاضه؟ أو لا يعذر الشبان إذا لم يقدروا على درس الدين في كتبه، ولم يجدوا من يفهم عنهم أو يفهمون عنه من علمائه، فآثروا السلامة، وابتغوا من العلوم والدراسات ماله كتب مفهومة، وخلاصات واضحة؟
أحسست بهذا النقص البين، فكتبت في وصفه وخطبت مراراً وسألت من توسمت فيه من العلماء سده وإكماله، فوجدت من (علمائنا) والجمهور منهم لا يحسن شيئاً إلا إقراء الكتب التي كان قرأها على مشايخه من قبل، وشرحها كما شرحت له، فإن خرجت به عن الحواشي والشروح، عاد عاميَّاً لا يكاد يصلح لشيء , ووجدت أكثرهم بعيداً عن الأدب ليس من أهل البيان، ومنهم من لا يزال يظن (جهلاً) أن الإسلام كره الشعر وحرمه ويحتج بحديث: لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . ولقد ثبت أن الذي يروونه جزء من الحديث رواية ويل للمصلين. ومن ابتعد عن الأدب، ولم يتمرس بأساليب البلغاء، لم يأت منه خير لأن علمه يقتصر عليه، فلا يقدر على بثه بقلم ولا بلسان. . . ووجدت أكثر (علمائنا) يعيش في(314/23)
دنيا أهل القرن التاسع، ويفكر بعقولهم. ومنهم من شغله منصب يحرص عليه، أو مال يبالغ في جمعه وادخاره؛ ومنهم من أخلد إلى الراحة، وابتغى الجاه والغنى من شر الطرق وأقصرها، فمخرق على العامة وأظهر الورع فيهم والتواجد. فإن قلت له: صباح الخير، أو سألته عن مسألة. . . أجابك بـ (لا إله إلا الله) أو بالحوقلة والاستغفار، يقلب سبحته في يده، ويغمض عينيه، ويصمت حيناً خاشعاً مراقباً، ثم يصرخ في وجهك صرخة من أفلت من (العصفورية) أو (العباسية). ورأيت من هؤلاء من العجائب ما لو قصصته لخفت أن أكذب فيه لغرابته. . . فأيست منهم أو كدت، ودفعني هذا اليأس إلى محاولة الكتابة في هذا الموضوع، على قصر يدي فيه، وقلة بضاعتي، وأعددت (في نفسي) أكثر مباحثه، ثم رأيت أن أفتح هذا الباب في الرسالة (بإذن الأستاذ الزيات) لكل من أراد أن يكتب فيه وارتضي الأستاذ ما كتب، ورجوت أن يقبل على الكتابة العلماء والباحثون، ينشئ كل منهم فصلاً من الكتاب ينشر اليوم في الرسالة. ثم إذا اجتمعت الفصول ونقحها أصحابها وأعادوا النظر فيها أودعت صفحات كتاب يبقى إن شاء الله وينتفع به الناس. . . ولعل الذي يمنع تحقيق هذا الرجاء أن أكثر من يكتب من الشباب ويملك الأسلوب المشرق المبين لا اطلاع له على كتب الدين، ولا إلمام له بها. وأكثر العلماء (كما قدمت القول) غير مشتغلين بالكتابة. وعلاج ذلك أن يشترك في البحث عالم مطلع، وأديب كاتب، فيمشي الشاب الذي يحسن الكتابة إلى عالم يدلّه على المراجع، ويبيَن له الأحكام، وينشئ هو الفصل بعد ذلك، فيجتمع له فوائد، منها أن البحث قد كتب وتم، ومنها أنه اطلع على نواحٍ من العلم جديدة، ومنها أنه ألف هذه الكتب القديمة وعرف أسلوبها. . .
ولنأت الآن إلى الموضوعات التي ينبغي أن يشتمل عليها الكتاب، ما هي وما حدودها. ولست أحب أن أحددها وحدي بل أبين المراد إجمالاً. والمراد أن يلخص الدين الإسلامي في كتاب يضم بين دفتيه الإسلام الذي جاء به النبي محمد خالياً من الحشو والزيادات والبدع والخلافات، يقرؤه الشاب المسلم الذي لا يعرف الدين، فلا يحتاج بعده إلى شيء، ويقرؤه العامّي فيفهم منه دينه، ويقرؤه الغربي (مترجماً) فيحصل له عن الإسلام فكرة واضحة صحيحة
وإذا كان المسلم الكامل هو الذي أخذ الإسلام علماً وعملاً واعتقاداً؛ وإذا كان حديث جبريل(314/24)
المعروف قد قسم الدين إلى إيمان وإسلام وإحسان، وشرح الأول بأنه التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وشرح الثاني بأنه النطق بالشهادة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وفسر الإحسان بأنه عبادتك الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإن من المستطاع تحديد موضوعات كتاب (الدين الإسلامي) بأنها:
الإيمان وما يتصل به - الإيمان بالله (التوحيد) - الإيمان بالملائكة والجن والشياطين - الإيمان بالكتب - القرآن، وما يتصل به من نزول، وجمع وإعجاز - الرسالة والرسل - حياة النبي محمد ورسالته - اليوم الآخر - القضاء والقدر - الصلاة: حكمتها وفائدتها وكيفيتها وبيان المتفق عليه من أحكامها - الصوم - الزكاة - الحج - الأخلاق الشخصية في الإسلام - الأخلاق الاجتماعية في الإسلام - الإسلام من الناحية التشريعية - الإسلام من الناحية السياسية - فكرة عامة عن العلوم الإسلامية - المذاهب الأربعة والكلام عليها الخ. . .
هذه هي المباحث المهمة، وأهم منها أن تكتب بأسلوب لا هو بالأسلوب العلمي الجامد، ولا هو بالأسلوب القصصي الخيالي، وأن تكون تعليمية قبل أن تكون علمية، وأن ترتفع عن كل خلاف أحدثه المتأخر ون، وتعود إلى المنبع الصافي الذي استقى منه المصدر الأول خير القرون.
هذا وفي الموضوع مجال للإيضاح والنقد والتعديل، ولعل صفحات الرسالة لا تخلو من ذلك.
(دمشق)
علي الطنطاوي(314/25)
مدينة قونية
(يا حاضرة مولانا)
للدكتور عبد الوهاب عزام
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
من عجائب الآثار وبدائع الصنعة مدرسة إينجه منارة (مدرسة المنارة اللطيفة) وأنا أعفي القارئ من وصفها وأكتفي بما تنطق به الصورتان المثبتتان هنا
ولا يسعنا أن نغفل جامع صاحب عطا (صاحب آتا) بناه أحد وزراء السلاجقة الكبار فخر الدين علي بن الحسين بن أبي بكر المتوفى سنة 684، وقبره في إيوان داخل المسجد ومعه خمسة قبور. وتدل الكتابة على مدخل الإيوان أنه بني في مفتتح المحرم سنة 682
وفي أطراف المدينة على مقربة من المزارع جامع صغر فيه قبر العالم الكبير صدر الدين القونوي المتوفى سنة 671؛ وكان من الأساتيذ في علوم الدين والتصوف. وكان واسطة بين الشيخ الأكبر محي الدين ومولانا جلال الدين. تزوج محي الدين أمه ورباه وعنه أخذ جلال الدين فيما يقال. وله مؤلفات في التفسير والحديث والتصوف
ذهبت إليه وحيداً قبيل الغروب فما زلت أسأل حتى اهتديت إليه فألفيته مقفلاً فسرت قليلاً وعدت فإذا رجلان جالسان بجانب الباب أحدهما ضرير: فلما اقترب المغرب قلت: ألا يفتح المسجد؟ ففتحا الباب فدخلنا إلى مسجد صغير عطل من جمال الصنعة والزينة فتقدم أحد الرجلين فألقى قبعته ووضع العمامة فعرفت أنه الإمام، وتقد الآخر وعلى رأسه (كاسكت) فأداره وأقام الصلاة فصلينا المغرب وحدنا. وسألت عن ضريح صدر الدين فأشير إلى نافذة تطل إلى الحديقة صغيرة فنظرت فإذا قبر بجانب النافذة فوقه عريش من الكرم وبجانبه أشجار
ولم تقر نفسي دون أن أرى مثوى الصوفي العجيب الغريب الذي اتصل بجلال الدين فحوله من الدرس إلى الخلوة، ومن أستاذ درس إلى مريد طريقة، الرجل الذي أثار حوله الظنون والأيدي حتى قتل في إحدى الثورات عليه، فما زال جلال الدين يشيد بذكره ويهيج به في شعره حتى سمى ديوانه الكبير باسمه. ذلكم شمس تبريزي (شمس الدين محمد بن(314/26)
على التبريزي) الذي يقول فيه جلال وما أكثر ما قال فيه:
نه من تنها سرايم شمس دين وشمس دين ... مي سرايد عندليب أزباغ وكبك أزكو هسار
باسمه الوُرْق والعنادل تشدو ... لست وحدي أنوح: (شمس الدين)
عزمت على زيارته فقيل إن المزار مغلق لا يفتح لأحد. فاكتفيت بمشاهدة البناء على بعد. ثم لجّ بي التطلع فسرت إليه ليلاً فجارت بي طرق متعرجة ضيقة فرجعت آسفاً وأعجلنى السفر المبكر عن المسير صبحاً، وإن قدر لي الرجوع إلى قونية كانت زيارة شمس الدين أول ما أفعل
- 4 -
وقونية مدينة كبيرة في ولاية واسعة تسمى باسمها، وهي على حافة صحراء كبيرة يمر بها نهر صغير ينتهي إلى بحيرة غربيها. وهي على 450 كيلاً من استنبول إلى الجنوب الشرقي منها ويتصل بها سهل خصب جداً تكثر خيراته إذا أصابه مطر جود، لأن نهرها وينابيعها لا تفي بإروائها. وصناعة النسيج بها رائجة
وهي كثيرة المساجد بها زهاء 150 مسجداً و50 جامعاً. وأهلها معروفون بالدين والتقوى
وبها كثير من آثار السلجوقيين إذ كانت حاضرة دولتهم في آسيا الصغرى
وهي مدينة قديمة عرفت أيام اليونان والرومان. ومن الأساطير التي تروي أن تنّيناً سلط عليها فكان يبلع النساء والصبايا حتى قتله برسبوس بن جوبيتر (المشتري) فوضع أهلها على أحد أبوابها تمثالاً لهذا البطل الذي نجاهم من التنين فسميت المدينة ايكونيوم أخذاً من كلمة ايقون أي الصنم أو التمثال
إذا وقف الإنسان على ربوة علاء الدين رأى أمامه ميداناً كبيراً فيه أنصاب حديثة للجمهورية التركية، وأبنية ومساجد، وينتهي النظر إلى قبة مولانا جلال الدين تبدو من وراء الأبنية وبها شوارع مديدة واسعة. منها الجادة التي تمتد من الربوة إلى المحطة وفيها تمثال عظيم للغازي ويرجى لها مستقبل عظيم. ولا ريب أنها كانت أيام السلاجقة أعظم عمراناً وأكثر سكاناً
وقد زارها ابن بطوطة بعد زوال دولة السلاجقة واستيلاء أمراء بني قرمان عليها فقال:
(مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والأنهار والبساتين والفواكه وبها المشمش المسمى(314/27)
بقمر الدين - وقد تقدم ذكره - ويحمل منها أيضاً إلى ديار مصر والشام. وشوارعها متسعة جداً وأسواقها بديعة الترتيب. وأهل كل صناعة على حدة. ويقال إن هذه المدينة من بناء الاسكندر، وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان وقد تغلب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم
نزلنا منها بزاوية قاضيها ويعرف بابن قلم شاه، وهو من الفتيان وزاويته من أعظم الزوايا. وله طائفة كبيرة من التلاميذ ولهم في الفتوّة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس
الصوفية الخرفة وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم من صنيع من قبله وأجمل، وبعث ولده عوضاً عنه لدخول الحمّام معنا
وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا وكان كبير القدر. وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويعرفون باسمه فيقال لهم الجلالية كما تعرف الأحمدية بالعراق، والحيدرية بخراسان. وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد والصادر)
ولا أنس مسيري في قونية ليلة الوداع وانتحائي منتدى قرب المحطة وجلوسي تحت أشجار هناك إلى نافورة كأن وسوستها في صمت المكان مناجاة أو حديث النفس
وبيننا يجول الفكر في مشاهد قونية وتاريخها، ويطير بيني وبين الوطن والأهل في لمحات، انبعث المذياع مبلغاً رسالة مصر كأنها جواب النجوى. ولست أدري أعرف صاحب المنتدى أني مصري فآنسني، أو كان اتفاقاً أجاب حديث الضمير. وكثيراً ما سمعت في استنبول وقونية صوت مصر، لا سيما حين تلاوة القرآن
عبد الوهاب عزام(314/28)
من تاريخنا النسوي
عائشة والسياسة
للأستاذ سعيد الأفغاني
لم يتح للسيدة عائشة أن يكون لها أدني أثر في السياسة على عهد الخليفتين العظيمين أبي بكر وعمر؛ بل كان شأنها شأن بقية أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: يُستفتيْن في المسائل من أمور الدين، وخاصة فيما لا يعانيه إلا النساء. فبقين بعد وفاة الرسول مثابة لرواد الفقه وحملة الشريعة، وهذا من حكمة الله ورحمته بهذه الأمة، إذ جعل من أزواج صاحب الرسالة من تعيد سيرته المطهرة خمسين سنة تنشر تفاصيلها للناس، كأن الوحي لم ينقطع، وكأنهم من أنواره في شمس لا يلم بها أفول ولا تحجبها ظلمة. وليس كل السنة يتسنى للرجال معرفتها، ولولا ما نشرن منها لضاع علم كثير، فكان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة، كثيراً ما يسألونهن في دقائق المسائل وجلائلها وعلى هذا اقتصر عمل عائشة لهذا العهد. وكان في ذكائها (رحمها الله) وفي علمها ما جعلها مقدمة على عامة أزواج النبي (ص): يعرفن ذلك من حقها، ويرجعن أمورهن إليها. . . وكان الناس حين يفزعون إلى أزواج النبي لا يبدؤون إلا بها. . . فمكانها فيهن مكان الزعيم. . .
فلما كان عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، سارت السيدة في الشطر الأول من خلافته (سيرتها على زمن صاحبيه): تفتي وتحدث وتنشر العلم. . . لكنه لم يكد لين عثمان يجرئ الناس عليه، ولم تكد القالة تفشو ناقمة على بعض تصرفاته، حتى انقلب الأمر، ورأينا السيدة عائشة تقود حركة المعارضة، ورأينا عثمان يتبرم بموقفها كل التبرم ولم تزل السيدة توغل في تدخلها السياسي حتى أدى إلى ما لم تكن تحب، وحتى خرج الأمر من يدها في النهاية إلى يد الغوغاء، فكانت أشد الناس ندماً على ما قدّمت. . .
كان مما أخذ الناس على عثمان عزله من ولاية الكوفة القائد المغوار صاحب رسول الله سعد بن أبي وقاص، وتوليته الوليد ابن عقبة أخاه من الرضاعة. فلما حضر وفد أهل الكوفة متذمرين إلى عثمان من عاملهم الجديد انتهرهم وأوعدهم. . . فلجئوا إلى أم المؤمنين عائشة الصديقة مستجيرين. وأصبح عثمان، فصلى بالناس الفجر في مسجد(314/29)
رسول الله (ص)، فسمع من حجرة عائشة صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلطة. فقال: (أما يجد مُرّاق أهل العراق وفساقهم ملجأً إلا بيت عائشة؟!). فسمعت عائشة فغضبت. ورفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (تركت سنة رسول الله صاحب هذه النعل). فتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد. فمن قائل: (أحسنت)؛ ومن قائل: (ما للنساء ولهذا) حتى تحاسبوا وتضاربوا بالنعال. ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: (اتق الله ولا تعطل الحد، واعزل أخاك عنهم). فعزله عنهم! وهكذا استطاعت السيدة بما لها من المكانة والذكاء أن تهيئ لمعارضتها نجاحاً باهراً. فغيرت هذا العامل على رغم الخليفة. وخير ما نطلقه عليها أنها كانت: (زعيمة المعارضة) - على اصطلاح هذا العصر - مدة الخليفتين عثمان وعلي. . .
ثم جاءت شكوى المصريين من عاملهم ابن أبي سرح على نحو شكوى أهل الكوفة من عاملهم. وقامت السيدة في ذلك مقاماً حميداً كما قام غيرها من مشيخة الصحابة مثل علي وغيره. إلا أن ابن أبي سرح لم يعمل بكتاب عثمان، وقتل أحد الذين كانوا شكوه؛ فرجع المصريون إلى المدينة، وشكوا إلى أصحاب النبي وأزواجه ما صنع ابن أبي سرح. فقام طلحة؛ فكلم عثمان بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشة: (قد تقدمت إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل؛ فأبيت أن تعزله؛ فهذا قد قتل رجلاً منهم فأنصفهم من عاملك. . .)
ولما رجع المصريون بكتاب عثمان المزور، وضج الناس، كانت عائشة تذمه كثيراً، وكانت هي نفسها تقول (فيما بعد): (إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، وموقع السحابة، وإمرة سعيد والوليد. فغضبنا لكم من سوط عثمان. . .)
ومواقف عائشة هذه من عمال عثمان وإرغامها إياه على تغييرهم، قد آذته كثيراً حتى خرج مرةً عن وقاره واعتداله، وما يليق به من الاحتمال والحلم. قال صاحب (البدء والتاريخ):
(كان أشد الناس على عثمان طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وعائشة. وخذله المهاجرون والأنصار، وتكلمت عائشة في أمره وأطلعت شعرة من شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعله وثيابه وقالت: (ما أسرع ما نسيتم سنة نبيكم!) فقال عثمان في آل أبي قحافة أسرة عائشة ما قال، وغضب حتى ما كان يدري ما يقول) هـ.(314/30)
هذا ما كان من آثارها، ودع لنفسك أن تقدر ما يبلغ مثل ذلك من نفوس الناس، وهم حينئذ أولو الحمية للإسلام، وأقرب الناس عهداً بالرسول وصاحبيه - كم يبلغ من نفوسهم الوجد على عثمان حين فرّط حتى بلغ السيل الزبى، وحتى تغير عليه امرأة - ثم لا تكون تلك المرأة إلا أم المؤمنين عائشة: ترفع عليه في المسجد صوتها وتبرز للمسلمين نعل الرسول مرة، وشعره مرة، وثوبه مرة، تنصبه في حجرتها وتقول للداخلين عليها: (هذا ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَبلَ، وقد أبلى عثمان سنته). وكان عثمان مرة يخطب فدلّت عائشة قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: (يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته). فقال عثمان: (رب اصرف عني كيدهن، إن كيدهن عظيم!).
إن الأثر الذي أثرته في قلوب الناس لجد بليغ. ولست أغلو إن قلت: إن هذا التغير في النفوس يكمن؛ ثم هو لا يزداد على الأيام إلا شدة. وهذا يفسر لنا بجلاء سبب تقاعس أهل المدينة عن نصرة عثمان حين حزبه الأمر واغتاله أهل الأمصار.
وزعم بعض الرواة أنها أول من سمته (نعثلاً) و (نعثل) اسم يهودي أو نصراني طويل اللحية، لقب به عثمان تشبيهاً له به. وأنها كانت تقول: (اقتلوا نعثلاً. قتل الله نعثلاً). وكان الناس يسبون عثمان حول فسطاط عائشة بمكة، وعثمان يمر، ولم ترث السيدة له ولم تغير شيئاً.
ولقد تضافرت روايات من طرق مختلفة على سعي عائشة على عثمان. ولما آلت الخلافة إلى علي ونهضت هي تطالب بدمه. قال لها عمار: (أنت بالأمس تحرضين عليه واليوم تبكين عليه!) وقال لها ابن أم كلاب: (والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين، اقتلوا نعثلاً فقد كفر).
وإذا علمت أن أشد الناس على عثمان - وهو طلحة - يرجو أن تكون إليه الخلافة بعده، وأن طلحة ابن عم أبي بكر (رحمه الله)، وأمعنت في الحوادث التي حفت بهذا العهد، وجالت بنفسك الخواطر، وجدت في رواية الطبري الآتية (وهي مصنوعة بإتقان) حل المسألة فاسترحت إليه:
(خرج ابن عباس إلى موسم الحج بكتاب عثمان، فمر بعائشة في (الصُلصُل) فقالت: (يا بن(314/31)
عباس أنشدك الله فقد أعطيت لساناً إزبلاً (نشيطاً) أن تخذل عن هذا الرجل وأن تشكك فيه الناس، فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد حُمّ. وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن المفاتيح، فإن يل يسرْ بسيرة ابن عمه أبي بكر). فقال ابن عباس: (يا أمه، لو حدث بالرجل (يعني عثمان) حدث، ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا (يعني علي). فقالت عائشة وقد يئست منه: (أيها عنك، لست أريد مكابرتك ومجالدتك)). أهـ
وعلى هذا تكون السيدة لم تكتف بزعزعة مركز عثمان، بل تطمح إلى فرض رأيها في تنصيب الخلفاء أيضاً
وزعم ابن أبي الحديد أن عائشة لما بلغها قتل عثمان قالت: (بعداً لنعثل وسحقاً! أبعده الله، ذلك بما قدمت يداه) وكانت تطمع أن يكون الأمر إلى طلحة وتقول: (إيه ذا الإصبع (تعني طلحة لأن إصبعه شلاء) إيه أبا شبل، إيه يا ابن عم! لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع، حثوا الإبل، لله أبوك، أما إنهم وجدوا طلحة كفواً. . .) ولما بلغها بيعة علي قالت: (تعسوا، تعسوا، لا يريدون الأمر في تيم (قومها وقوم طلحة) أبداً. . .) ثم أمرت برد ركابها إلى مكة وتقول: (قتلوا ابن عفان مظلوماً) فقال لها قيس بن أبي خازم: (يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفاً تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبلُ أشد الناس عليه وأقبحهم رأياً فيه!) فقالت: (لقد كان ذلك، ولكني نظرت في أمره وأمرهم فرأيتهم استتابوه، حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً في شهر حرام فقتلوه) أهـ
وهي رواية أسخف من التي تسربت إلى الطبري رحمه الله. وهذا موضوع لفق له بعض الناس من الأخبار ما يرضي أهوائهم على ما نرى اليوم من الأحزاب السياسية. بل إن بعضهم كان يتعبّد بوضع الروايات التي تنصر صاحبه وتدين خصمه. وما نسب إلى السيدة - في رواية ابن أبي الحديد خاصة - لا يصدر عن الأطفال، بله من كان في مثل عقل السيدة ودينها وحصافتها
سعيد الأفغاني(314/32)
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
2 - ترجمة حياته
كان الأبوان على طرفي نقيض. ولقد كان لذلك كل الأثر على حياة لورنس الأولى وبعضه على الجزء الثاني منها، فضلاً عن أن هذا الاختلاف هو الذي طبع أولى كتبه بطابع خاص
فبينما كان الأب لا يكاد يجيد القراءة والكتابة إذا بالأم وقد نالت حظاً وافراً من التعليم. وبينما كان الأب يعمل كعامل بسيط في أحد المناجم إذا بالأم تنحدر من سلالة أسرة عريقة في المجد والنبل. ولكن كان الأب وسيم الشكل تبدو عليه كل إمارات الرجولة. يفخر دائماً أن الموسى لم تمس لحيته في يوم من الأيام. وكان هذا مما جذب الأم وأوقعها في حب الأب برغم ما بين طبقتيهما من فوارق. وكان كل منهما يرى في هذه الزيجة ما لا يراه الآخر، فكانت للأب وسيلة حصل بها على زوجة شابة فتانة. أما الأم فكانت ترى فيها سبباً في زجها في بيئة لم تتعودها أو تألفها طول حياتها. وكانت نظرتاهما إلى مستقبل أولادهما أبعد ما تكون عن الاتفاق، فاقترح الأب أن يذهب الأولاد إلى العمل في المناجم بينما تخدم البنات في البيوت، وهذا ما حاربته الأم بكل قواها، لأنها كانت تربأ أن يعيش الأولاد عيشة أبيهم أو أن تحيا البنات حياة أمهن البائسة
ظل هذا النضال قائماً بين الأب والأم حتى أتت الأطفال فأولتهم الأم كل عنايتها وصاروا سلوتها الوحيدة فعاشت لهم ومن أجلهم. أما الأب فقد شعر أن عاطفة زوجته كانت منصبة على الأطفال دونه، فصار لا يرتاح إلى البقاء طويلاً في المنزل، وأصبح يفضل عليه المقاهي والحانات حيث يجتمع بمن هم على شاكلته وبمن يفهمهم ويفهمونه حتى أتى الوقت الذي صارت له فيه الحانة منزلاً ثانياً. كانت زوجته تعد له طعامه وتنتظر الساعات الطوال حتى يحضر قبيل طلوع الفجر وهو ثمل لا يكاد يعي كلمة مما يقول، حتى إذا عاتبته أو أنبتته بكلمة أو عبارة انقلب وحشاً ضارباً وعاملها بمنتهى القسوة حتى إنه لم يتورع مرة أن قذفها بأحد الأدراج فشج رأسها
كان (أرنست) أول أطفالها وقد صوره لورنس صورة ناطقة في روايته (الأبناء والمحبون) تحت اسم ويليام. كان متفوقاً على كل إخوانه في المدرسة وكان لا يضيع دقيقة من وقته،(314/33)
فكان يدرس اللغات في بعض المدارس الليلية في أوقات فراغه، وبهذه الطريقة حصل على وظيفة رفيعة في إحدى شركات الملاحة بلندن. وكان المستقبل يبدو أمامه زاهراً، حتى عالجته المنية وهو لا يزال في العقد الثاني من عمره، فكان موته ضربة قاضية على قلب الأم، حتى كانت ما تفتأ تكرر مقدار شوقها إلى ذلك اليوم الذي تموت فيه حتى تقابل أرنست
بعد أرنست أتت إميلي ثم أدا، وأخيراً دافيد هربرت لورنس في 11 سبتمبر سنة 1885. وكان في طفولته لا يميل إلى الألعاب التي كان يغرم بها من هم في سنه لأنها كانت من ابتكار غيره، وكان يفضل عليها الألعاب التي يبتكرها هو، لأنه ما كان يكره شيئاً قدر كراهيته للتقليد. ولما بلغ السادسة عشرة تعرف إلى عائلة تشمبرز حيث قابل حبيبته الأولى التي وصفها في كتابه (الأبناء والمحبون) تحت اسم ميريام. جذبته الفتاة بعينيها العسليتين الواسعتين، وشعرها الأسود المموج، وميلها إلى الرزانة والجد على خلاف بنات حيها، فضلاً عن أنها كانت توليه أذناً صاغية عندما يتكلم معها عن آرائه الغريبة. لذلك كانت زياراته لبيت حبيبتهٍ تزداد يوماً بعد يوم لدرجة أقلقت بال الأم وأقضت مضجعها حتى إنها لم تتمالك نفسها ذات يوم أن قالت له في تهكم وغيظ: إن الأولى به أن يجمع ملابسه ليقيم مع حبيبته دواماً
وعلى رغم أن لورنس لم يعترف لحبيبته بحبه لها في صراحة إلا أنه كثيراً ما كان يردد نظريته التي تقول: إن كل عظيم خلقته امرأة؛ وأنه كان يرى فيها المرأة التي سوف تخلق عظمته. ولكن كان لورنس حساس القلب إلى أقصى درجات الحساسية لم يفته ما عانته الأم المسكينة من زوجها القاسي فتعلق قلبه بأمه وفاض بحبها، وعلى العكس من ذلك كان شعوره تجاه أبيه. وقد بادلته أمه حباً بحب حتى تعوض ما فاتها من حب زوجها. ولقد كان هذا الحب هو علة لورنس الأولى وداؤه الذي ذاق من أجله الأمرين، ولكنه في الوقت نفسه كان سبباً في توجيه تفكيره إلى درس موضوع لم يسبقه إليه أحد. كان لورنس يشعر في قلبه بحبين ينازع أحدهما الآخر ويعمل على استئصاله، وكان كل منهما من القوة بحيث بات لورنس ضحيتهما ردحاً من الزمن. فهو يحب أمه، وفي الوقت نفسه يحب ميريام. ولما كان حبه لأمه هو أول حب طرق قلبه فقد كانت حاجته شديدة إلى امرأة تحبه حباً قوياً(314/34)
جارفاً يخلصه من الأغلال التي كان يرسف فيها، ولكن للأسف كان حب ميريام من ذلك النوع الروحي مما كان سبباً في تغلب الأم في النهاية.
وكانت ميريام قد أرسلت خمساً من قصائده إلى أحد الناشرين فنشرها له، وشجعه هذا على أن يرسل إليه أولى رواياته (الطاووس الأبيض) وقد ظهرت الرواية في يناير سنة 1911 أي بعد وفاة أمه بشهر واحد
وبموت أمه وفشل حبه ينتهي الجزء الأول من حياة لورنس وفي أحد أيام أبريل من عام 1912 قصد لورنس إلى منزل الأستاذ أرنست ويكلي كي يتوسط له لدى إحدى الجامعات الألمانية بغية الحصول على إحدى وظائف التدريس بها. وفي هذه المقابلة الأولى وقع لورنس في حب زوجة الأستاذ الألمانية. ولدهشته شعر أنها قد بادلته حباً بحب فكتب إليها يبثها غرامه ويطلب منها أن تطلع زوجها على ما بينهما فلم تتردد أن تفعل ذلك برغم شدة تعلق زوجها بها وبرغم أنها قد أنجبت منه ثلاثة أطفال
سافرت فريدا بعد ذلك مع لورنس إلى متز حيث قابل لورنس والدها البارون فون رتشتوفن حاكم الألزاس واللورين بعد الحرب البروسية، وكانت مقابلة جافة بين الأب الأرستقراطي وبين لورنس الذي ينحدر من طبقة الدهماء. بعد ذلك سافر لورنس وحده إلى أرض الرين. ثم قابلته هي في ميونيخ، وهناك تحت سفح جبال الألب وعلى ضفاف نهر الإيزر بدآ حياتهما معاً. ومن هناك ذهبا إلى بحيرة جاردا حيث نقح روايته (الأبناء والمحبون) ثم أرسلها إلى أحد الناشرين فردها هذا إليه ثانية بحجة أنها أقذر كتاب وقعت عين الناشر عليه. ومن غريب الأمر أن الرواية نفسها نالت تقريظ الكتّاب بعد نشرها وأجمعوا على أنها من أروع ما كتب في الأدب الإنجليزي. وفي هذا المكان كتب (الشفق في إيطاليا) وكذلك مجموعة من أشهر قصائده
وعادا إلى لندن دون أن يمكثا بها طويلاً. فذهبا إلى بافاريا حيث كتب لورنس قصة (الضابط البروسي) التي تنبأ فيها بالحرب العظمى مع أنه كتبها عام 1913
وفي الشتاء التالي ذهبا إلى إيطاليا حيث كتب روايته (قوس قزح) وأرسلها إلى جارنت - أحد الناشرين - فلم تصادف هوى في نفسه. فكان يأس لورنس لا يوصف، لأنه كان يعتقد أنه إنما يحاول أن يعلم الناس كيف يعيشون فكان ينتظر منهم الحمد والثناء فلم يجد سوى(314/35)
الجحود والنكران
وفي ربيع عام 1914 ذهبا إلى لندن حيث عقدا زواجهما وتعرفا هناك إلى الشاعر الشاب روبرت بروك الذي راح ضحية الحرب. وكان لورنس من أعدي أعداء الحرب لا يني عن مهاجمة مبدئها وإظهار سخطه عليها. وفي ذلك الوقت ظهرت روايته (قوس قزح) فقال الناس عن كاتبها إنه مجنون يشكو من عقدة جنسية، وأمرت الحكومة بمصادرة الكتاب وإحراق كل النسخ التي ظهرت منه، وحتى أصدقاؤه الذين كان ينتظر منهم أن يؤازروه في محنته ويقفوا إلى جواره انفضوا من حوله وانهالوا عليه نقداً وتجريحاً. عند ذلك أقسم لورنس أنه لن يكتب رواية أخرى بعد ذلك، وقد بر بقسمه خمس سنوات، وكان يعتقد أنه رجل سابق لعصره، يراه الناس بعيداً عنهم فيبدو في نظرهم صغير الجسم ضئيل الحجم، ولو أنهم أوسعوا خطاهم واقتربوا منه لرأوا فيه رجلاً أعظم منهم وأكبر حجماً
وذهب بعد ذلك إلى مقاطعة كورتوول يقضي بها سني الحرب، ولكن كانت زوجته الألمانية سبباً في خلق كثير من الصعاب في طريقهما فظن مواطنوه أنه يتجسس للألمان فكانوا يقتحمون منزله كل يوم ويقلبون أثاثه ويبعثرون أوراقه حتى يتأكدوا من حسن نياته. وحدث مرة أن كان عائداً مع زوجته وهو يحمل حقيبة على ظهره، فلم يكد يراه حرس السواحل حتى انقضوا عليه بحجة أنه يحمل آلة تصوير في الحقيبة، وتسابقوا إلى فتحها ولخيبتهم لم يجدوا بها سوى رغيف من الخبز. وكان لورنس يصبر على كل هذه المكاره على مضض حتى زاره ضابط في منزله ذات يوم وقرأ عليه أمراً حكومياً يقضي بأن يغادر مقاطعة كورتوول في بحر ثلاثة أيام على الأكثر. استشاط لورنس غضباً عند سماع هذا الاتهام الصريح في أعز شيء لديه، فهو الذي كان يفني نفسه حتى يرفع من شأن مواطنيه ويدلهم على طريق الحياة الصحيح ويعلمهم ما لا يعلمون، ثم يتهم في وطنيته وإنجليزيته، كانت هذه أقسى ما ناله من الطعنات
وصل لورنس إلى لندن إبان شن الغارات الألمانية الجوية عليها فكان جميع أهل لندن يلجئون إلى الأقبية والمخابئ فراراً من هذه الغارات، ما عدا لورنس الذي كان يرفض أن يترك فراشه أثناءها
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ذهب وزوجته إلى فلورنسه ومنها إلى جزيرة كابري(314/36)
حيث كتب مجموعة قصائده المسماة (الطيور والحيوان والزهور) وكتب كذلك روايته (الفتاة المفقودة) وأخيراً كتب الكتاب الذي لم يغير فيه حرفاً واحداً وهو (البحر وسردينيا)
ثم ذهبا بعد ذلك إلى استراليا واستقلا القطار من سدني على أن ينزلا في أية مدينة يروقهما منظرها من نافذة القطار. فنزلا في ثيرول حيث كتب روايته الشهيرة (القنغر) التي ضمنها كل آرائه في استراليا وما لاقاه في كورنوول من اضطهاد أثناء الحرب العظمى.
وهناك وصلته دعوة من مابل رودج للذهاب إلى تيوس في المكسيك كي يتعرف إلى الهنود الحمر الذين كثيراً ما كان يظهر إعجابه بهم. فلم يتردد في قبول الدعوة، وكان هناك بعد وقت قصير. ثم انقل من تيوس إلى مدينة المكسيك على أثر خلاف قام بينه وبين مابل رودج. وعلى بحيرة تشبالا كتب روايته الفلسفية (الثعبان ذو الريش) وفي الخريف التالي كتب (الصباح في المكسيك)
ثم اشتدت عليه وطأة المرض فجأة، ولما عاده الطبيب قرر أنه مريض بذات الرئة وفي الدرجة الثالثة. ولكن لم يمنعه هذا أن يكتب وهو مريض مسرحيته المسماة (داوود) وقصته الطويلة (المرأة التي رحلت)
وفي الصيف التالي عاد إلى أوربا واستأجر فيللا بالقرب من جنوا، وكان وهو في فلورنسا قد كتب رواية أسماها (عشيق لادي تشاترلي) ولكنه تركها مهملة في أحد أدراج مكتبه خشية أن تثير عليه ضجة من جديد، لأنه كان فيها صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة. ثم قر رأيه أخيراً أن يخرجها إلى عالم الوجود. فأرسلها إلى أحد الناشرين فردها إليه مظهراً استهجانه لما جاء بها ثم أرسلها لورنس إلى آخر فرفضها هذا بشدة. وأخيراً لم ير لورنس بداً من أن يأخذها إلى مطبعة إيطالية لا يعرف صاحبها من الإنجليزية حرفاً واحداً. فوافق هذا على طبعها دون أن يدري مما يطبع كلمة واحدة. وظهر الكتاب عام 1928 ولكنه صودر لتوه. وفي العام التالي صودرت أيضاً مجموعة قصائد له. وزاد الطين بلة أن بلغه خبر مداهمة البوليس لمعرض صوره في لندن، وتحطيم جل صوره. فزادت وطأة المرض عليه ونقل إلى مصحة في فنس حيث التف حوله كل أصدقائه يبذلون قصارى جهدهم لإنقاذه، ومن بين هؤلاء الأصدقاء عائلة بروستر وهكسلي وإيدا رانه وهـ. ج. ويلز وأغا خان وزوجته. ثم نقلوه بعد ذلك إلى الفيللا على مقربة من المصحة، ولكن كان قد سبق(314/37)
السيف العذل، فما كاد يصل إلى هذه الفيلا حتى ساءت حاله وفاضت روحه إلى بارئها في يوم الثاني من شهر مارس سنة 1930
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
مدرس بشبرا الثانوية
خريج جامعة اكستر بإنجلترا(314/38)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولقد ارتخص هؤلاء الساسة من دعاة المدنية الناقمين على أهل الشرق ما كانوا فيه من تأخر، كل كرامة بغية الوصول إلى أغراضهم، وانقلبت عندهم الأوضاع التي تعارف الناس عليها، وشهد التاريخ على مسرح السياسة من المضحكات ما يبكي، ومن المبكيات ما يضحك؛ فلقد عز على هؤلاء السادة الذين راحوا يُدِلون بمدنيتهم ويتطاولون بما فعلوا في سبيل الحرية الإنسان أن يروا أهل مصر ينزعون حقاً من الحرية، ويعملون على الرقي بوطنهم جادين غير متوانين، يتعاونون على الحق ويتناسون ما بينهم من دواعي الخلاف، ويطرحون الأثرة بل ويحرمون على أنفسهم الطيبات حتى يتم لهم ما أرادوا
وذعر هؤلاء الكائدون لمصر الطامعون فيها أن أفاق أهلها على هذا النحو وقد كانوا يظنونهم أمواتاً أو كالأموات، وهالهم أن يروا فريقاً من هؤلاء الفلاحين يستلبون سلطة الخديو تدريجياً ويحاولون أن يضعوا أنفسهم بحيث تكون الأمة وهم نائبون عنها مصدر كل سلطان، وأدركوا أن هذا البعث الذي أفاقت عليه مصر من نومها الطويل هو الصبح الذي يهتك أسدا لهم ويبدد آمالهم، فما ونوا يوماً كما بينا عن محاربة مصر وزعماء مصر ورميهم بكل فاحشة، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً ذلك الرجل الذي خطا نحو الحرية الخطوة الأولى وصرخ في وجه الظلم الصرخة الأولى. . .
ولم ير هؤلاء لوزارة البارودي حسنة واحدة. وكيف كانوا يرون لها حسنة ووجودها في الحكم كان ذاته عندهم أقبح السيئات وأكبر الأوزار، وإنهم ليفترون الكذب عليها وينسبون إليها من السيئات والأخطاء ما ليس لها به من علم
ولكن هذه الوزارة - وتلك عندي أكبر حسناتها - كانت لا تعبأ بما يرجف المبطلون فتمشي إلى غايتها على الشوك وقد عقد أعضاؤها النية على إنقاذ بلادهم من طمع الطامعين وكيد(314/39)
الكائدين، وعلى تعهدها بضروب الإصلاح في شتى مرافقها حتى تقوى فتعز على كل باغ ظلوم من خصومها
وما كان في الوزارة من عوامل الضعف سوى جهل رئيسها وأعضائها باللغات الأوربية، إلا وزير الخارجية مصطفى فهمي باشا؛ ولقد ضم إلى الوزارة ليكون لسانها في الصلة بالأوربيين، ولكنه كان من رجال العهد القديم على حد تعبير مؤرخي الثورة الفرنسية، فلم يكن ينظر إلى الوطنيين نظرة الاحترام والتقدير، وإنما كان يرى فيهم فريقاً من الفلاحين يتطلعون إلى ما ليسوا أهلاً له، شأنه في ذلك شأن الجراكسة وأشباههم من سادات مصر وكبرائها في ذلك العهد. وعلى ذلك فقد كان وجود هذا الرجل في وزارة الخارجية عبئاً يضاف إلى أعباء الوزارة، وذلك أمر لم تفطن إليه إلا بعد فوات الوقت
وفيما عدا ذلك كانت وزارة البارودي وزارة وطنية حقاً تعمل صادقة مؤمنة على تحقيق آمال البلاد والنهوض بها على الرغم مما كان يحيط بها من دسائس وما كان يملأ أسماع رجالها من نباح وعواء
انتهى دور انعقاد مجلس النواب في 26 مارس فقضى بذلك في العمل نحو ثلاثة، أشهر وهي مدة وجيزة كان يشغل بال الأعضاء فيها ترتيب أعمالهم، ولكن المجلس على الرغم من ذلك قسم أعضاءه إلى لجان مختلفة أخذت تتصل بالوزارات وتبحث معها الشؤون العامة التي تهم البلاد، وجدَّ المجلس في دراسة نصوص المعاهدات والمعاقدات العامة والخاصة المبرمة بين الحكومة المصرية والحكومات الأجنبية ورعاياها
وأخذت الوزارات تعد مشروعات الإصلاح المختلفة لعرضها على المجلس في دور انعقاده القادم؛ فكانت تنظر فيما يتطلبه التعليم وتفكر في إنشاء مصرف زراعي ينتشل الفلاحين من وهدتهم، وتعمل على إصلاح المحاكم المختلطة واختصاصاتها كما تناولت قانون الانتخاب وراحت تدرسه لتعد قانوناً جديداً يجعل للمحكومين الرقابة الفعلية على الحاكمين
ولكن حدث أنه كانت كلما تقدمت وزارة في خطى إصلاحاتها ازدادت لهجة الصحف الأوروبية في العيب عليها والطعن فيها، واشتدت وطأة الساسة في نقد أعمالها، وتزايدت دسائسهم من حولها، وعلى رأس هؤلاء كلفن ومالت اللذان أدركا الآن، أو على الأصح وجَها، إلى أن مهمتهما في مصر أصبحت استعجال الحوادث تمهيداً للتدخل العسكري(314/40)
(وقد جد عرابي بنوع خاص في إصلاح نظارته التي كانت في منتهى الفوضى والخراب وذلك ليستعد للطوارئ كلها فأظهر همة فائقة في إصلاح حصون السواحل ونظم احتياطي المدفعية ووزعه على تلك الحصون)
والحقيقة التي لا يمارى فيها إلا المغرضون المبطلون أن البلاد كانت تشيع فيها روح الوطنية الصادقة التي تبرهن على صدقها بالأعمال لا بالأقوال. ولو أنه قدر للوزارة السامية أن تسير على هذا النهج لكان أثرها بعيداً في تاريخ مصر بل وفي تاريخ القرن التاسع عشر كله، فلقد كانت المسألة المصرية تعتبر من كبريات المسائل في ذلك القرن
وليس أدل على وجود الروح الوطنية في مصر يومئذ من هاتين العبارتين اللتين نوردهما في هذا المجال، وأولاهما ما كتبه دي فريسنيه في كتابه (المسألة المصرية) حيث يقول في تعليقه على مجلس النواب واختصاصاته: (إن كتاب ذلك العصر اجتهدوا في أن يسخروا من طلب الذين كانوا يطلبون توسيع اختصاص المجلس، حتى ليخيل إلى الذي يقرأ خطابات بعض الخطباء أن الوطنية المصرية كانت في ذلك الوقت تلفيقاً، وأن وادي النيل لم يكن يحتوي إلا على الفلاحين تحني العصا ظهورهم. فكل ما نرد به على هؤلاء الكتاب والخطباء، هو أن آباءنا كانوا أقل من هذا امتهاناً للوطنية المصرية في عهدهم؛ وذلك أن نوابنا في سنة 1840 لم يترددوا في أن يتكلموا في خطبهم عن الرعاية الواجبة للوطنية المصرية الناشئة. فقد كانت هناك إذاً وطنية مصرية ناشئة تستحق الرعاية في سنة 1840. ولست في هذا مبالغاً، ولا أنا ممن يحبون المبالغة، ولكن لا ريب في أنه كانت توجد في قلوب المصريين من أربعين سنة مضت مطامح كان من الممكن أن تراعي في حدود معتدلة. تلك حقيقة لا تحتمل جدلاً؛ غير أن الذين كانوا يقبضون على خط مصر لم يكونوا يرون في المصريين غير قوم مدينين. فلم يكونوا يعرفون في معاملتهم إلا مصلحة واحدة: هي مصلحة الدائنين الأوربيين التي يجب أن تقدم على ما عداها. وبذلك لم ينتبهوا إلى أن مثابرتهم على اعتبار مصر رهنا، وتدخلهم في شؤونها تدخلاً أدى بحكومتها إلى أن تصير في أيدي الأجانب، كانا قد انتهيا على طول الأيام بأن يجرحا شعور الشعب المصري الذي هو شعب حي مهما يقل القائلون في تعوده الطاعة والخضوع من أجيال).
وأما ثانية العبارتين فهي ما كتبه من باريس سنت هيلير إلى قنصل فرنسا العام في مصر(314/41)
17 أكتوبر سنة 1881 قال: (ليس من السهل علينا أن نقدر من هنا قوة هذه المطامح الشرعية ولا كيف يمكن إرضاؤها، ولكن هذه المطامح حقيقية إلى أعظم حد، ومبررة من بعض الوجوه إلى أعظم حد أيضاً، فلا يمكن إهمالها ولا يمكن على الخصوص التفكير في خنقها)
من هاتين العبارتين يتبين لنا أنه كان في مصر يومئذ حركة وطنية، فليتدبر ذلك أيضاً من يريد أن يحكم على رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي، وليشفق على أنفسهم الذين يرمون عرابياً ورجاله بالفوضى والجهل والأنانية. ليشفق هؤلاء على أنفسهم فلن يجدر بهم أن يظلوا يجهلون تاريخ هذا الرجل فيحملون الذين يعلمون حقيقة هذا التاريخ على الزراية بهم والاستخفاف بعقولهم، إذ ليس أدعى إلى الاستخفاف بعقل رجل من أن تراه يجهل أمراً من الأمور ثم إذا هو يدلي فيه برأي قاطع في لهجة يتردد في إتباعها الراسخون في العالم. . .
ما كان عرابي طائشاً ولا داعية فوضى، ولكن كان زعيماً مخلصاً يعمل بوحي من وطنيته ويصيب ويخطئ كما يصيب الزعماء غيره ويخطئون كل على قدر ما اجتمع له من الكفاية والمقدرة! والخطأ والصواب من خواص البشر ومردهما إلى العقل وسعته أو ضيقه؛ أما الصدق والإخلاص وما إليهما من صفات الزعامة والبطولة فلا تسامح فيها ولا تهاون، بل لا يصح أن تكون هذه أموراً يجوز فيها التفاوت إذا عقدت المقارنة بين زعيم وزعيم وبين بطل وبطل! وكيف يجوز في عقل أن يكون هناك صدق ونصف صدق وإخلاص ونصف إخلاص؟ إن هذه أمور جلالها وجمالها بل وجوهرها في أن تكون غير قابلة لزيادة أو نقص؛ وعلى الذين لا يزالون يخاصمون عرابياً أن يأتوا بدليل واحد عللا كذبه أو مروقه. أما الخطأ والصواب فليقولوا فيهما ما شاءوا وبيننا وبينهم حوادث هذه الثورة الوطنية على قدر ما وصل إلينا منها ترينا مبلغ ما في مزاعمهم هم من خطأ أو صواب
زار مستر بلنت قبل سفره إلى إنجلترة عرابياً في وزارة الحربية زيارة وداع، ويجدر بنا أن نثبت هنا بعض ما كتبه ماليت عن عرابي في هذه الزيارة قال: (تناقشنا في كل الموضوعات التي كانت محل الكلام في الدوائر الوطنية بما فيها من مشروعات للإصلاح وأمان ومخاوف في الداخل والخارج، وكانت بضعة الأسابيع التي قضاها عرابي في(314/42)
مركزه الجديد قد أنضجته وقوته؛ فناقشني في كل الموضوعات برصانة واعتدال عظيمين سواء في التفكير أو في اللهجة! وقد أكد لي أنه هو وزملاءه الوزراء يرغبون كثيراً في أن يصلوا إلى تفاهم ودي مع الحكومة البريطانية في كل المسائل التي يختلفون فيها مع الوكالة البريطانية في القاهرة، وطلب إلى أن أبلغ رسالته هذه بصفة رسمية إلى غلادستون! وقد شكا شكوى مرة من كلفن وماليت اللذين ظهر مسلكهما العدائي من الخطة التي جريا عليها فيما يختص بتشويه سمعة الوطنيين في الصحف البريطانية وقال لي: (إن السلام لا يمكن أن يوطد في القاهرة ما بقى هذان، وما بقيت علاقتنا مقصورة عليهما، فإننا نعرف أنهما يعملان لإيذائنا سراً أن لم يكن جهراً، وسنقف بمعزل عنهما جميعاً، ولكننا لا نريد أن نختلف مع إنجلترة كرامة لها. دع المستر غلادستون يرسل لنا أيا كان خلافهما لنتفاهم معه ونحن نستقبله بأذرع مفتوحة)
هذا هو جانب من حديث عرابي مع بلنت نضعه تحت أعين اللذين اتهموه بالنزق وعدم التبصر في عواقب الأمور ليقولوا لنا: هل فيه كلمة واحدة في غير موضعها؟ هل يتهدد فيه عرابي الإنجليز، ويتوعد كما كان حرياً أن يفعل لو كان كما وصفه أعداؤه؟ إنه يشكو من كلفن وماليت ويطلب غيرهما حتى يتسنى لمصر أن تتفاهم مع إنجلترا وإنك لتراه بذلك يلقي تبعة اضطراب السياسة الإنجليزية على كاهل هذين الرجلين فيرمي الإنجليز جميعاً رمية ماهرة كيسة في شخصهما، فهو يعلم أنهما يمثلان نيات حكومتهما، ثم هو يفتح الباب بذلك للتفاهم فلا يدع في مسلكه مجالاً لأعدائه؛ كل ذلك دون أن يفرط في حقوق بلاده أو يشتري بها ثمناً قليلاً وهو الذي جعل خصومه الخيانة في أوائل ما اتهموه به
(يتبع)
الخفيف(314/43)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
460 - أرى الدعوات قد صارت قروضا
في (محاضرات الراغب): ذكر بعض الكتاب أنه كان يعاشر سوقياً. فاتفق أن دعاه يوماً، قال: فلما تمكنت اشتغل عني صاحب الدعوة فعثرت على رقعة بخطه فيها: (فلان دعاني مرتين ودعوته ثلاث مرات فعليه دعوة، وقد ذكرنا على هذا أسامي كل من يعاشرنا). فلما انتهيت إلى اسمي فرأيته قد حصل له على دعوات - خرجت وقلت له: لا أتناول طعامك حتى أرد ما علي، وقلت في ذلك:
أرى الدعوات قد صارت قروضا ... وديناً في البرية مستفيضا
فأكره أن أجيب فتى دعاني ... ولا أدعو فيلقاني بغيضا
461 - لا لباس للرأس. . .
قال ابن سعيد في (المُغْرب): الغالب على أهل الأندلس ترك العمائم ولا سيما في شرق الأندلس. وقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان وإليه الإشارة وقد خطب له بالملك في تلك الجهة وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم من تراه بعمة في شرق منها أو غرب. وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته بجميع أحواله ببلاد الأندلس وهودون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده.
462 - أخاطب بالتأمير وإلى منبج
كان البحتريّ مقيماً في العراق في خدمة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان، وله الحرمة التامة، فلما قُتلا رجع إلى منبج وكان يحتاج للترداد إلى الوالي بسبب مصالح أملاكه، ويخاطبه بالأمير لحاجته، ولا تطاوعه نفسه إلى ذلك، فقال:
مضى جعفرٌ والفتحُ بين مُرَمَّل ... وبين صبيغٍ بالدماء مضرَّج
أأطلب أنصاراً على الدهر بعد ما ... ثوى منهما في الترْب أوسي وخزْرجي؟
مضَوْا أَمَماً، قَصْداً، وخُلّفتُ بعدهم ... أخاطب بالتأمير وإلىَ مَنْبِج!(314/44)
463 - شكوى في الصحف
لما اشتد بلاء عبد الرحمن بن أم الحكم على أهل الكوفة قال عبد الله بن همم شعراً، وكتبه في رقاع، وطرحها في مسجد الكوفة:
إلا أبلغْ معاوية بن صخر ... فقد خرب السواد فلا سودا!
أرى العمال قد جاروا علينا ... بعاجل نفعهم ظلموا العبادا!
فهل لك أن تدارك ما لدينا ... وتدفع عن رعيتك الفسادا؟
وتعزل تابعاً أبداً هواه ... يخرب من بلادته البلادا!
إذا ما قلت أقصر عن هواه ... تمادى في ضلالته وزاد!
فبلغ الشعر معاوية فعزله.
464 - فأين الرعاية والتذمم؟
(شرح النهج) لابن أبي الحديد: قال عمر لرجل همّ بطلاق امرأته: لَم تطلقها؟ قال: لا أحبها!
قال: أو كلّ البيوت بُنيت على الحب، فأين الرعاية والتذمم؟؟!!
465 - دعوة قبل ألا تنتفع به
(محاسن البيهقي): ابن مزروع عن أبيه: كنت أسير في موكب يحيى بن خالد. فعرض له رجل من العامة، ومعه كتاب فقال: أصلح الله الأمير! أختم لي هذا الكتاب. فبادر إليه الشاكرية يزجرونه من حوشي موكبه. فقال: دعوه قبل ألاَّ ننتفع به (يعني خاتمه) واستدناه فختمه له، وتعجب مسايروه من اغتنامه المعروف، وعلمه بأفعال الرجال.
466 - التوءمون العراقيون
في (الحوادث الجامعة في المائة السابعة) لابن الفوطي: في سنة (645) ولدت امرأة فقيرة أربعة في بطن، فشاع ذلك وأنهى خبرها إلى الخليفة، فأمر بإحضار الأولاد، فأحضروا في جونة، فتعجب من ذلك، وأمر لهم بست مائة دينار وثياب، وكانت المرأة وزوجها في غاية من الفقر لا يملكان حصيراً!
قلت: نعش خليفة ذاك العصر التوءمين العراقيين نعشاً عظيماً وقد أخبرتنا الصحف في هذه(314/45)
الأيام أن كندية أمريكية قذفت بتوءمات خمس، فكفلتهن الدولة كفالة بليغة، ووظفت للناجلين في كل شهر وظيفة، وقد أمست مدينتهن بهن محجا، وأخبارهن في صحف العالمين مستفيضة. ولما زار ملكا البريطانيين ذاك الإقليم في هذا الوقت شاهداهن وناغياهن، وتعجبا من التوءمات تعجب آخر الخلفاء في بغداد من التوءمين
467 - اتحدا روحاً وجسداً
في (شذرات الذهب): في سنة (352) بعث صاحب أرمينية إلى ناصر الدولة رجلين ملتصقين خلقة من جانب واحد فويق الحقو (الخاصرة) إلى دوين الإبط ولدا كذلك، ولهما بطنان وسرتان ومعدتان، ولم يمكن فصلهما، وكان ربما يقع بينهما تشاجر فيختصمان، ويحلف أحدهما لا يكلم الآخر أياماً ثم يصطلحان، فمات أحدهما قبل الآخر فلحق الحي الغم من نتن الرائحة فمات
468 - ودنيا تناديك أن ليس حر
ابن مقلة:
زمانٌ يمرُّ، وعيشٌ يمرُّ ... ودهر يكرُّ بما لا يسرُّ!
وحالٌ يذوبُ، وهَمٌّ ينوبُ ... ودنيا تُناديك أن ليس حرُّ!!
469 - صحبة الأكابر تورث السلامة
حكى عن شيخ العارف أبي العباس المرسي أن امرأة قالت له: كان عندنا قمح مسوس فطحناه السوس معه، وكان عندنا فول مسوس فدششناه فخرج السوس حياّ
فقال لها: صحبة الأكابر تورث السلامة
470 - من قبل أديس
قال يا قوت: من عجيب ما مر بي من الكذب حكاية أوردها غرس النعمة قال: كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالب، وكان معروفاً بالكذب. فأذكر وقد حكى في مجلسه والناس حضور عنده أنه كان في معسكر محمود بن سبكتكين صاحب خراسان ببخارا معه، وقد جاء من البرد أمر عظيم، وأن الناس كانوا ينزلون في المعسكر، فلا يسمع لهم صوت ولا حديث ولا حركة؛ حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات. فإذا أصبح الناس وطلعت الشمس(314/46)
وحميت ذاب ذلك الكلام؛ فسُمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات، وحديث الناس، وصهيل الخيول، ونهيق الحمير، ورغاء الإبل. . .(314/47)
وحي الشاعرية
نفسيَّاتٌ
للأستاذ حسن القاياتي
خطَراتُ لاهٍ في تفجُّع باكي ... لا راحمي ألمي ولا أنا شاكي
كيف الصدود عن ابتسامة واجدٍ ... خُضِبت بدمع الناظر السَّفاك؟
آسٍ كما أَعطشْتَ ورد خميلةٍ ... فسما إليك بثغره الضحَّاك
اللاعجُ البسَّامُ تُرْمض نارُهُ ... في الخدِّ مثْنى النور في الأسلاك
دَهرى متى يُوحي إلى أفلاكه ... ألاّ نُباح لدورة الأفلاك؟
حرٌّ كوردات القفار مُضيِّعٌ ... لا النُّبل سادَ ولا الأريجُ الذاكي
يا سبورة ما كنتُ أصدُق وصفَها ... إلا كما صدق الصبابة (حاكي)
رقّ الشبابُ على حُلّة ناسكٍ ... طَرّزتُها بحلاوة الفُتّاكِ
مُلكُ الجمال على رشاقة جوره ... كم رُعتُهُ بِتصلُّف الأملاك
أقني لدى الحسن الحياَء فأنثني ... والحسنُ حظ اللاهج الفتاكِ
أهلاً بكاسيةِ الدلال بشاشةً ... هات الحديث عن الصدود وهاك
تِيهي كما أمَرَ الدلالُ فإنه ... أغرى فؤاديَ بالأسى ونهاك
أهواك مِلْء جوانحي وكأنني ... من فرط ما أخشاك لا أهواك
يشتاق طرفي أن يراك قريبةً ... يا قُرّة الأبصار حين تَراك
رُدِّي لي الليلَ البهيِّ كأنما ... كُحلت بطيب سواده عيناكِ
أخلو إلى زهر الرياض كأنني ... أخلوا إلى مَرْآكِ أو ذكراكِ
وأدير سَمعي للطيور فصيحةً ... فكأنما أُصغي إلى نجواك
ِللهُِ من شادٍ أَطلّ بسجعه ... كالشاديات نظرن من شُبّاك
في الروضة المعطار منك شمائلٌ ... رياكِ في زَهرتها وحُلاكِ
وَرْدٌ يميل مع النسيم كأنما ... أقبلت باسمةً لألئم فاكِ
عطفاً حياة الفاضلين مريرةً ... إن رُعتِ فاتنةً فما أحلاكِ
(السكرية - دار القاياتي)(314/48)
حسن القاياني(314/49)
لي!. . .
(تذكار لجلسة في شرفة كان يضيئها نور النجوم)
للأستاذ العوضي الوكيل
لي سحرُ وَجهِكِ دُونَ الناسِ أْقبِسُهُ ... وَلِي جمالُكِ تَسْبيِني مَرائيهِ
ولي جَبينُكِ حُلواً عاطراً نَضِراً ... وَلِي التفاتُكِ في شَتَّى معانيهِ
ولي قوامُكِ، لا الأغصانُ تُشْبِههُ ... حسناً، ولا الأسْيُفُ البيضاءُ تَحْكيهِ
ولي خَيالُكِ ما باتَتْ شوارده ... تَحُوطُني بين إخفاءٍ وتَنْويهِ
يا سوسْنَ الرَّوضِ مالي فيكِ منْ غَزَلٍ ... إلاّ جمالك بالأنغام أرْويهِ
لم أْنسَ ليلةَ رقّ الجوّ رقّتَنا ... ورفّهَ اللثم عنّا أيّ تَرْفيهِ
وللسماءِ هدوءٌ في تَطَلُّعِها ... وللنسيم خُفُوقٌ في مَساريهِ
وللأحاديث سحرٌ في تَبَلْبُلِها ... ومجلسُ الحبّ قد رقّت حَواشيهِ
وازدانَ وْجهُك بالنورين: نورِ هَوىً ... فيه، ونورِ النجوم الزُّهرِ تُزْجيهِ
قد كان يبهجني فيما أشاهده ... نورٌ على وجهك السحريِّ بل فيهِ
وجاذبيّةُ فنٍّ لا شبيهَ لها ... وربَّ فنٍّ سما عن كل تَشبيهِ
حينُ أطالَ حياتي فهي خالدةٌ ... بما ارتوت - فتسامت - من مساقيهِ
(دماس - دقهلية)
العوضي الوكيل(314/50)
رسالة الفن
دراسات في الفن
متابعة العلم ليست فناً
على ذكر الفن الرمزي الحديث
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كنا نعرف الفن الرمزي فيما مضى على نوعين: إما أن يكون تجسيداً للمعاني يتدلى به الفنان إلى جمهور الأذهان، وإما أن يكون على العكس من ذلك تلويحاً بالبعيد دون القريب يتعالى به الفنان على جمهور الأذهان. ولم يكن هذا لينتزع من الفن الرمزي طبع الفن ولا خواصه، فقد احتفظ بكيانه كاملاً، فهو سابق وهو حر، وهو صادق وهو شاعر
واليوم يراد بنا أن نعرف نوعاً ثالثاً من الفن الرمزي هو - فيما يقول أهله - تابع يمشي وراء العلم، علم النفس، يشرح نظرياته وقواعده وما يثبت عنده من طباع النفس وأحوال حياتها. فهل يجوز لنا أن نقبل هذا النوع الثالث على أنه فن صحيح؟
إننا إذا فعلنا ذلك جرَّأنا كثيراً جداً من الأعمال العقلية على المطالبة بالارتفاع إلى مستوى الفن، وقد يجرنا هذا إلى نوع من البلشفية الروحية التي تسوى ما بين الحق والزيف؛ فتصبح ألفية ابن مالك فناً شعريا لأنها نظم يشرح النحو، كما أصبح الخشب في هذه الأيام حريراً، وكما خرج السمن في هذه الأيام من زيت جوز الهند.
وكي ندفع عن رأينا هذا، فإنه يلزمنا أن نتعرف في الفن بعض النواحي التي لو فقدها لفقد طبيعته فأصبح شيئاً آخر قد يكون حلواً لذيذاً، ولكنه لن يكون بحال من الأحوال فناً صحيحاً.
فما هي هذه النواحي التي يتحتم على الفن أن يستوفيها كي يكون فناً صحيحاً؟
أولها من غير شك هذا الحس الصادق الذي تبعثه الحياة نفسها. وهذا الحس هو الذي يملأ نفس الفنان حتى يفعمها، ثم يفيض منها فناً يتلقاه الناس فيشعرون أنه نبع من نفس صاحبه رغم أنفه، لأنه لم يكن يملك من يكتمه بعد أن ازدحم في نفسه وكثف. والفنان الحق لا يبحث عن الأحاسيس ولا يتكلفها، وإنما هو منطلق في الحياة كما ينطلق بقية الناس، أو كما(314/51)
تنطلق بقية المخلوقات لا يعتزم أن ينتج فناً، ولا يتهيأ لذلك، ولا يتعلم من الناس طريقة التعبير عن نفسه.
ومع هذا الحس الصادق سبق يطير بالفنان إلى حقائق الكون على جناحين من هذا الحس نفسه. فالفنان الحق لا يمكنه أن ينتظر حتى يقول له المعلم إنه ثبتت لديه حقيقة من الحقائق على وجه من الوجوه، وإنه يأذن له على أساس هذا الثبوت أن يتخذ من هذه الحقيقة مادة لفنه. هو لا يمكنه أن ينتظر حتى يحدث هذا وإنما هو يصل من تلقاء نفسه إلى هذه الحقائق فيعلنها والعلم لا يزال يحبو في الطريق إليها مثاقلاً متلكئاً؛ وقد يصيب الفنان هذه الحقائق، وقد يخطئها، ولكنه على أي حال يصل إلى شيء ما، - بعيد عنها أو قريب منها - على أنه هو نفسه لا يعنيه من هذا كله إلا أن ينطلق، وأن ينطلق فقط.
ومع هذا الحس، ومع هذا السبق به، فإنه لابد للفنان أن يدفعه إلى إنتاجه الفني دافع نفساني من العواطف التي ينفثها في فنه رضي أو سخطاً أو غير ذلك، وإلا كان الفن بارداً برودة الموت، لأنه خلا من العاطفة وهي روحه وباعثة الحياة فيه
ومع هذا وذاك فلا بد أن يكون الفن حراً لا يرضى لنفسه أن خضع في الأغلال والقيود، ولا يقبل أن يتحكم فيه شيء، وإن رضخ له كل ما ينتجه العقل البشري من علم وصناعة.
هذه (أوليات) لا يمكن أن يكون الفن فناً بدونها. فهل تتوفر هذه (الأوليات) في هذا النوع الثالث من الفن الرمزي الذي يطالعنا به هذا العصر الحديث؟
أما الحس الصادق فهارب من أهل هذا الفن، وليس هو وحده الذي هرب منهم وفر، وإنما تسلل من نفوسهم معه كل حس فلم يعودوا يحسون إحساساً صادقاً ولا إحساساً كاذباً. وليس هذا لأن الله خلقهم هكذا (مبرشمين) بل لأنهم هم أنفسهم أرادوا أن يكونوا هكذا. فلم يقبلوا أن يكون في الناس من يزيد عليهم علماً، ولا من يزيد عليهم اطلاعاً، ولا من يزيد عليهم إلماماً بما يكتب وبما في الكتب، ولا من يزيد عليهم إحاطة بما يحدث في هذه الدنيا من اختراعات واكتشافات ونظريات ومعلومات، فأدمنوا القراءة، وأدمنوا التعلم، وأدمنوا الاطلاع، وهذا كله يشغل العقل ويجهده، ويأخذه بالمران على سلوك نهج الناس في التفكير. والذي لا شك فيه هو أن هذا العصر الحديث قد اختلط لنفسه نهجاً خاصاً في التفكير ربما تكون الإنسانية قد اصطنعته في يوم ما، ولكنها على أي حال لم تقطع فيه شوطاً بعيداً كهذا(314/52)
الذي قطعته فيه هذه الأيام، ذلك هو طريق المادة، فلإنسانية اليوم تحشد مواكبها جميعاً في هذه الطريق، والقوي القادر هو من تقدم إلى الطليعة يتلقط الثمر الذي يبعثره الشيطان أمام هذا القطيع البشري، والضعيف الهزيل هو من تأخر إلى آخر الموكب يتلقط القشور والنوى في الطريق خاطئ كله رذيلة وكله شر. ومهما ادعى الفنان المشغوف بالعلم اللاهث من الجري وراءه أن في استطاعته الاعتصام بنفسه عن نزوات العقل والعلم والحضارة الحديثة، فإنه إما مخادع في هذه الدعوى وإما مخدوع، لأن طابع العقل والعلم والحضارة في هذا العصر هو طابع المادة، فالعقل لا يقر من الحقائق إلا ما ثبت ثبوتاً ماديا، وأول ما ينكره إذن هو الحس والروح. والعلم لم يعد الناس يطلبونه ليجدوا فيه المتعة الروحية أو ليصلوا عن سبيله إلى ما هو أكبر وأعز وأنفس من هذه الحياة. . . وأما الحضارة فها هي ذي: عمارات، وطيارات، وبوارج، وغازات سامة! وكفى هذا القرن العشرين سبة أنه عند ما قال له فرويد: (إن الإنسانية تحركها في حياتها قوة الغريزة الجنسية) اطمأن إلى هذا اطمئناناً ثبت في النفوس وتأصل وتفرع وتسلقت منه أغصان سامة هاصرة التفت حول كل شيء حتى أعناق الفنون تريد أن تعقها لتتفرد البهيمية في نفوس الناس على أساس من العلم وليجئ يوم تنضم فيه مستشفيات المجاذيب وحدها على الذين يؤمنون بالحس والروح، وليجئ بعده يوم تبرأ فيه الإنسانية من الحس والروح ويكون أمرها إلى الغريزة الجنسية أولاً وأخيراً
وياله من يوم. . .! يوم يقول فيه الناس: عاش على هذه الأرض فيما سبق مجنون كان يدعى غاندي وقد كان تلميذاً لمجانين من أساتذته السابقين! فهل يرضي الفن عن هذا وهو المسكة من روح الله في نفوس الفنانين. . .؟
لا! إنهم سيثورون على هذا العقل وعلى هذه الحضارة، وسترى الإنسانية عن قريب يوماً يكون الهداة فيه كتاباً، ورسامين، وموسيقيين، وممثلين، وشعراء، ومغنين وسيصرخ هؤلاء في وجوه الذين يدحرجون الإنسانية إلى الهاوية ليبيعوا لها الحديد والنار للقتال، وليبيعوا لها الخبز والماء لإمساك الرمق من أجل القتال وحده. وستكون أهون صرخاتهم كتلك التي صاح بها شارلي شابلن في وجه (العصر الحديث) بقصته الأخيرة. . .
ولعل العالم لما ينس قصة (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) وغيرها من قصص السينما(314/53)
والمطبعة التي كشفت الستر عن مآسي الحرب وما بعثها من جنون العقل، وما ألهبها من هوس العلم، وما غذائها من اختبال الحضارة وجشع المادة. كانت هذه القصة كما كانت غيرها من القصص الداعية إلى الروح والسلام فناً، وكانت حية، وكانت حارة. وقد خلقتها جميعاً في نفس منشئها عاطفة واحدة هي الاشمئزاز من العقل والعلم والحضارة الحديثة، لأن الفنان الحق لا يملك أن يقف من العقل والعلم والحضارة الحديثة إلا موقف المشمئز الكاره لا موقف المحب التابع، أو العبد الخاضع، ما دام يرى هذا اللون الأحمر الذي تصطبغ به الحضارة القائمة على أساسين من العقل والعلم والخالية من الحس والروح
أما القول بأن علم النفس لا يدعو إلى الحرب فلا تصح كراهيته، وإنه من الجائز للفنان أن يتبع وأن يجني الحق من فضله فهو قول يلجأ إليه المكتوف المعصوب العينين، ولا يقبل أن يقول به فنان منطلق لا يشعر بحاجته إلى العلم كي يرى ويسمع لأنه بعينيه يرى وبأذنه يسمع. . . وإلا فعليه أن يطمس عينيه، وأن يسد أذنيه وأن يقنع بقراءة الكتب التي تؤله الغريزة الجنسية، وأن يجرى وراءها.
سيقولون إن أسمى الفنانين هو الذي ينتج فناً إنسانياً عاماً تتذوقه النفوس جميعاً. وسيقولون إن القواعد التي يقررها علم النفس قواعد عامة تنطبق على النفوس جميعاً انطباقاً تاماً سليماً، وهذا وحده يكفي - عندهم - أن يغري الفنانين بالإقبال عليها والتعلق بها. وردنا على هذا أن هذه الطريقة التي يصطنعونها طريقة عقلية تجارية ليس فيها من خير إلا أنها مريحة جداً للفنان الذي يسلكها إذ يستغني فيها بكتاب يشتريه بدراهم معدودة فيقرأه فيتخذ منه مادة الفن. . . عن سنوات أو أشهر أو أيام ينفقها من عمره في هذه الحياة تأكل من أعصابه وتشرب من دمه لتجود عليه بعد ذلك بمثل ما جادت به على من أخرجوا البؤساء، وآلام فرتر، ومتروبوليس، وفاوست، وسائر هذه الجمرات الخالدة التي التهبت جهنمات في نفوس أصحابها لا كتلاً من الثلج المصنوع من الماء والأحماض والأملاح لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما استطاع في كثير من الأحوال أن يهدي الصناعة والتجارة
فإذا كان أتباع العلم هؤلاء فنانين حقاً فلماذا لا ينشرون إحساسهم على العالم فيحيطون به ثم يطالعوننا بما ينطبع في حسهم وهم يرون العالم على ما هو عليه، وهم يعرفون ما هو عليه؟(314/54)
لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما كان الفن على مر الزمان سباقاً
وغني أريد أن أتصور واحداً من هؤلاء الذين يتبعون العلم في فنهم وهو يريد أن يضع قصة مثلاً، كيف يضعها؟ إنه يقرأ في كتاب من كتب علم النفس أن الذاكرة تغيب عن الإنسان أحيانً فيبتلعها العقل الباطن، ويعيش الإنسان مدة طويلة أو قصيرة وهو بغير ذاكرة فتصدر منه أقوال وأفعال لا تستقيم مع حياته الظاهرة. وقد يحدث بعد ذلك حادث يعيده إلى ذاكرته أو يعيد إليه ذاكرته، أو قد لا يحدث له هذا الحادث عفواً، فهو إذن محتاج إلى التنويم المغناطيسي يرد إليه ذاكرته
يقرأ الكاتب المثقف هذا فيقول في نفسه: والله إن هذا الموضوع يصلح قصة؛ فلأركبها إذن من رجل وزوجته فتغيب عنه ذاكرته فتشقى هي لهذا، وأخيراً يسعدان بشفأئه، ثم يعود فيقول لنفسه: وما هي الحوادث التي سأوقع بهذا الرجل فيها، على أن تكون حوادث مسلية لذيذة، وعلى أن تكون في الوقت نفسه غامضة حتى يثبت للقراء أنني من أدباء الرمز الذين يستغلق فهمهم على عامة الناس. . . آه. . . فلتكن هذه الحوادث كيت وكيت وكيت. . . وعلى هذا النمط الكيميائي الصناعي يسير صاحب الفن العلمي في فنه فيؤلف قصته أو يركبها فيقرأها القارئ وينفق فيها وقته وهو لا يشعر مطلقاً بأن الفنان الذي (عمل) هذه القصة يختلف في كثير أو قليل عن العالم الذي كتب التقرير العلمي صاحب الفضل الأول في تأليفها.
فهل من طبع الفن أن يسبه طبع العلم؟ لا. . . ليس الفن هكذا ولا إنشاء القصة هكذا. . .
هوجو ابتأس فأخرج البؤساء. هوجو شقي فخلد الشقاء، وعرض منه صوراً لا يقول أحد إنه رآها جميعاً، أو أن كتاباً دله إليها، ولكنه هو أحسها لأن روحه طافت بها. روحه كانت تغادره وتحل في البؤساء على اختلاف ألوان بؤسهم فتتوق للبؤس طعوماً مختلفة ليس أقساها بؤس (جان فلجان) اللص الذي سرق رغيف الخبز، وإنما قد يكون أقساها بؤس (جافير) رجل البوليس الذي كان يتنطع في مخاصمة (جان فلجان) وتتبعه وإحراجه لا لأنه يمقته ولكن لأنه كان يخشى أن يقصر في واجبه، فيكون في نظر القانون مجرماً وهو ما لم يكن يحب أن يتردى إليه بعد أن أحسن المجتمع تنشئته وقد كان لقيطاً رباه المجتمع ليكون حامياً من حماته(314/55)
ما أعجب هذه النفس التي عرضها هوجو في بؤسائه. نفس أصابتها العقد - على حد تعبير العلماء - فأصبحت تتحجر دون الرحمة لأنها كانت تخشى ألا يرحمها أحد، كما لم يرحمها أب ولا أم وهذه نفس قد يحللها فرويد، وقد يحللها سبيرمان أو غيرهما من علماء النفس ولكن تحليلهما وتحليل غيرهما ليسجد أمام هذا الجلال الذي أسبله عليها هوجو الفنان الذي لم يقرأ علم النفس ولا نظريات علم النفس، والذي كان يعيش بروحه فيحس ويشعر، والذي لو لم يكن أديباً بطبعه لما أنشأها هذا الإنشاء الرائع، والذي لو كان موسيقياً لأرسلها باكياً
الفنون يا أصحاب الفنون يمكن أن يترجم بعضها إلى بعض، لأنها لا تكون فنوناً إلا إذا كانت من وحي العواطف، والعواطف لا تستعصي على أي فن. فما هي العواطف التي تتحرك في نفوس الذين يجرون وراء العلم العاقل والتي تصلح للترجمة إلى بقية الفنون؟. لا شيء إلا عواطف مصنوعة مركبة. أما العاطفة الصادقة في نفوسهم فهي لا تتحرك إلا نحو غرض من أغراض الطبع والنشر والإذاعة
لا. ليس هذا فنَّا
وأخيراً. ما الذي يقبل من الفنان أن يكون عليه؟. . .
لا شيء أكثر من أن يعيش وهو لا يدبر في نفسه أنه سيخرج فنَّا. . . فليترك نفسه للحياة، وليسع إلى الصدق ما أمكنه السعي. وليبحث عن الجمال ما أمكنه البحث. ليقرأ، ولكن عليه أن يقرأ في صفحات الوجوه قبل أن يقرأ في صفحات الكتب. عليه أن يلتفت إلى الناس وإلى الحيوان وإلى النبات وإلى الجماد. فليعط كل نفسه لكل ما يحيط به من مظاهر الوجود. . . فليعاشر هذه الحياة، وليبادلها الحس، وليغتبط بكل ما تؤاتيه به سعادة أو محنة، وبكل ما يراه الناس من خير أو شر، وبكل ما يطالعه في الطبيعة من أحسن الصور وأقبحها فهذا وحده هو سبيل الفن، وليس من الضروري بعد ذلك أن يكون الفن كتابة أو ألحاناً أو صوراً. . . وإنما الفن هو حياة الهدى. . . ى وكم في جماهير الناس من ثقاة فنانين، وكم في الفنانين من مرتزقة أو - على الأقل - حائدين!
عزيز أحمد فهمي(314/56)
من الجزيء إلى الذرة
للدكتور محمد محمود غالي
مستقبل الكون والمبدأ الثاني للترموديناميكا - هذا المبدأ شيء ورجوع الحياة شيء آخر - اختلاط الجزيئات عملية طبيعية واتحاد الذرات عملية كيميائية - ملاحظة (بروست) - الفكرة الذرية عند (دالتون)
إن ما يستشعر القارئ أحياناً من الصعوبة بينا يتابع هذه الأحاديث عن وصف الكون وما يكتنفه من مظاهر لأمر هين، بجانب معرفته في النهاية شيئاً جديداً عما يحيط به من أسرار فهذه غاية تكون بلا شك مدعاة لارتياحه
أذكر أن في مارس الماضي عندما كنا نواجه القارئ بأحدث ما نعرفه عن الكون وعن تمدده وأبعاد ما فيه من عوالم بعضها عن بعض - حدث أن اضطررنا عند الكلام عن حيز (ريمان) وحيز (لوباتشفسكي) وعند الكلام عن الحيز الطبيعي وفق رأى (أينشتاين) ووفق رأى (دي سيتير) إلى اللجوء إلى مناقشة مسائل لا شك في أن القارئ وجد في إدراكها شيئاً من الغموض - هذا الغموض الذي اضطررنا إليه اضطراراً كان لزاماً علينا أن نذهب إليه كما كان لزاماً علينا أن نخفف على القارئ بعض الشيء فيما تبع ذلك في مقالاتنا عن الكون الممتد، ولم يكن في طوقي أن ألج موضوعاً دقيقاً كهذا وأخطو بالقارئ فيه خطوات أخرى دون أن يتخلل حديثي فيه فترة من الراحة
كذلك كان مقالنا الأخير عن الجزيء الذي لجأنا فيه إلى تفسير بعض القضايا التي يلاقي فيها القارئ بعض الصعوبة، ولم يكن هناك بُد، وقد أخذت على عاتقي أن أقص عليه أهم ما وصل إليه الإنسان من تفكير مُنَظَّم، من أن نذكر فلسفة ليبنز وألا نغفل رأيه القائل بأن الحرارة هي الحركة، وألا نغفل أيضاً كيف فسَّر بولتزمان انتقال الحرارة من جسم حار إلى جسم أقل منه حرارة، وكيف بين عدم إمكان العملية العكسية.
لقد طالعت المقال السابق بعد نشره أكثر من مرة وأعتقد أن الكثيرين من القراء قد فهموا هذا التفسير لبولتزمان وأدركوا هذا النزول الحتمي في الحرارة كنتيجة حتمية لما يحدث من تعديل في حركة جزيئات الجسمين المتلاصقين، بحيث لو تصورنا فريقين مزدحمين من لاعبي كرة القدم، فريقاً سريع الحركة وآخر بطيئها، اختلطا في فناء واحد فإن النتيجة(314/57)
الحتمية لتصادم الفريقين في أثناء اللعب أن يكتسب الفرق البطيء شيئاً من السرعة ويفقد الفريق السريع جانباً منها، ولا يمنع هذا وقوع بعض الحوادث الفردية التي تشاهد أثناء اللعب من أن ينقل لاعب بطئ سرعته إلى لاعب سريع الحركة، إنما النتيجة الحتمية للمجموعة هو اقتراب من تعادل سرعتهما ما دام الصدام مستمراً بينهما.
هذا التفسير البولتزماني مفهوم للقارئ، ولكن مما قد لا يستوعبه بالدرجة التي أرغبها هو النتيجة المرتقبة لمصير الكون من أثر هذا القانون الحتمي القائل بالتعادل الحراري، أي التعادل في حركة جزيئات المادة، وهي النتيجة التي لخصناها في أن الكون في مجموعة - الكون الذي فيه نسمع ونرى - سائر حتماً إلى خاتمة يسمونها الموت الحراري، أو الاقتراب من السكون، أو - عند ظن بعض العلماء - عدم إمكان عودة أي شكل من أشكال الحياة بالنسبة لمجموع الحيز. هذه الخاتمة التي تتلخص في التساوي الحراري مع مرور الزمن نتيجة الانخفاض في الدرجات المرتفعة، والارتفاع في الدرجات الخفيضة، يجعل من الكون في مستقبل العمر وعاء لا تصلح الحياة فيه.
وإنما ذكرت للقارئ هذه النتيجة التي يحتملها المبدأ الثاني للترموديناميكا مما يبعث الأسف في نفوسنا ليعرف شيئاً عن تفكير العلماء - هذا التفكير الذي يلجأون إليه نتيجة للمشاهدات والحوادث
كل ما أريد أن أطمئن إليه: هو ألا تؤثر هذه النتائج العلمية على القارئ، فتزعزعه عن بعض عقائده الموروثة والخاصة بعودة الحياة. تلك الفكرة التي لا تتعارض عندي والمبدأ الثاني للترموديناميكا، لأنني كما قدمت لم ألجأ في تعريف الحياة بالحركة بل أعتقد أن ثمة اختلافاً جوهرياً، وغير مفهوم لنا، بيننا وبين التفاحة التي نأكلها، أو المحبرة التي نُملي منها هذا المقال. . .
إنما أردت في مناقشة علاقة المبدأ الثاني للترمودينا ميكا بمستقبل الكون أن أوجه نظر القارئ إلى ناحية م نواحي تفكير العلماء: كيف يتسنى أن تكون لمسائل نعتبرها طفيفة نتائج خطيرة على تفكيرنا وفهمنا للكون. . . وله أن يتأمل الآن قليلاً: كيف، من حقيقة يلمسها كل يوم تتلخص في أن الجسم الحار يعمل دائماً على تسخين الجسم البارد، وأن العكس غير صحيح، يجد العلماء من هذا الموضوع على بساطته منفذاً للحكم على مستقبل(314/58)
الكون؟
ألان قطعة من الثلج تعمل على تبريد فنجان من الشاي الساخن بوضعها فيه يسير الكون في مجموعة إلى نوع من الموت بلا رجعة؟! هذا ما يقرر العلم، فهو يقرر أن من اختلاط وتصادم مجموعتين من الأفراد، مجموعة دأبها السرعة وأخرى ديدنها البطء، تنشأ مجموعة جديدة لا هي بالسريعة وهي بالبطيئة بل لمجموعة أفرادها سرعة متوسطة واقعة بين سرعة المجموعتين
أود أن يستشعر القارئ أنه إذا كانت المشاهدات تدل على هذا التعادل في الحركة أي هذا التساوي في الحرارة، وإذا كانت الرياضة والمنطق يحتمان هذا النوع من التعادل نتيجة لحساب دقيق، فإن جسيمات الكون في مجموعه مصيرها الهدوء وأن الكون مصيره الموت الحراري. أما أن نقرر أن الحياة مصيرها فناء بلا عودة فهذا أمر آخر لا نستطيع في سهولة أن نقبله أو أن نساير العلماء فيه
أجل إنما أردنا أن ندل القارئ على طرائق التفكير الحديث، كيف نتسلسل المسائل، وكيف يرتبط بعضها ببعض، وكيف يتعلق المعقد منها على البسيط، وكيف يقسمون الظواهر في منطق العلم إلى ظواهر حتمية وأخرى احتمالية، وكيف يفرق القارئ بين الظواهر العكسية والأخرى غير العكسية، وكيف، من أبسط المعارف والمشاهدات، نجد سبيلاً للتحدث عن أروع المسائل المعلقة بعميق الفلسفة ومستقبل الكون؟
والآن ننتقل من الكلام عن الجزيء إلى الكلام عن الذرة قدمنا عند الكلام عن الجزيء أن فكرة تقسيم المادة إلى جزيئات لم تكن حاصل المشاهدات المباشرة بقدر ما كانت حاصل البحث العلمي العميق والوسائل الطبيعية الدقيقة. لئن تكن المادة منفصلة غر متصلة، أو بعبارة علمية لئن تكن مكونة من جزيئات منفصلة ومستقلة فهذا أمر لم نكن نعرفه بداهة أو مشاهدة، وإنما كان لدراستنا للتطورات الحرارية أكبر الأثر في معرفته
كذلك لا يمكن بالعين المجردة أن نُقيم الدليل على تقسيم الجزيء إلى ذرات. وكما أن نظرية الجزيئات والاستدلال عليها جاء عن طريق العمليات الحرارية كذلك صادفت النظرية الذرية أي تقسيم الجزيء إلى ذرات مستقلة نجاحها في العمليات الكيميائية
ففي هذا العلم - الكيمياء - شبت النظرية الذرية وترعرعت، ولقد كان ذلك في بادئ الأمر(314/59)
راجعاً إلى قانون معروف بقانون النسب الثابتة ظل الأساس الذي بُنِيت عليه النظرية الذرية، وهو يعلمنا الفرق بين المخلوط والمركب الكيميائي:
عندما نشرب الماء ممزوجاً بقليل من ماء الورد فإنه ليس ثمة حدود تقف عندها درجة المزج للحصول على المزج. إننا نستطيع أن نحصل على المزيج من الماء وماء الورد بنسب مختلفة فنستطيع أن نجعل النسبة من ماء الورد 1 إلى 10 من ماء أو 1 إلى 100 وهكذا. كذلك عندما نصنع لوحاً أحمر من الزجاج فإنه بقدر كمية اللون التي نضعها في مواد الزجاج، وهو في حالته السائلة وقبل أن يتجمد، نحصل على لوح تتعلق درجة احمراره بنسبة ما وضعناه من مادة ملونة، ولنا حرية مطلقة في الحصول على مئات بل وألوف الأنواع من الأنواع من الألواح الزجاجية كلها حمراء ولك تتفاوت في درجة الاحمرار. هذه العمليات اختلاط طبيعي بين جزيئات المادة.
ولكن عندما تتحد كمية من الهيدروجين بكمية أخرى من الأكسيجين اتحاداً كيميائياً تحت تأثير شرارة كهربائية ليتكون الماء جرامين اثنين من الهيدروجين يتحدان مع 16 جراماً من الأكسيجين، بحيث لو تعمدنا أن تكون كمية الهيدروجين الموجودة مع كمية الأكسيجين السابقة خمسة جرامات فإن جرامين اثنين يتحدان منها فقط الـ 16 جراماً من الأكسيجين الموجودة لدينا وتبقى الثلاثة الجرامات الأخرى من الهيدروجين حرة لا تتحد هذه النسبة الثابتة في المركبات الكيميائية تختلف كما يرى القارئ عن موضوع مزج الجزيئات الطبيعي الذي يمكن أن نحصل عليه بأي نسبة في أنواع المعادن المختلفة (فالبرونز) مثلاً نحصل عليه من الهيدروجين والأكسيجين بالنسبة التي تعينها لنا الطبيعة والتي لا تتغير
هذه الأجسام البسيطة كالأكسيجين والهيدروجين التي تدخل كيميائياً في المركبات المختلفة والتي يمكن بوسائل كيميائية الحصول عليها منفردة مرة أخرى، عرفها العلماء بالعناصر حيث كان من المشاهد منذ لافوازبيه أن كمية معينة من عنصر معين يمكن إدماجها في عشرات التركيبات الكيميائية كما يمكن الحصول عليها مرة ثانية بحيث لا يزيد وزنها أو يقل مهما كان نوع التركيبات الكيميائية التي دخلت فيها. فإذا كانت الكمية من الأكسيجين التي اتحدت في المركبات في بادئ الأمر 16 جراماً فإنه من المعروف أننا نحصل دائماً وبالطرق الكيميائية المختلفة على 16 جراماً من الأكسيجين وأن هذه الكمية غير قابلة بأي(314/60)
حال للزيادة أو النقصان
كذلك يتكون الغاز الكاربوني من احتراق الفحم في الأكسيجين بنسبة 3 جرامات من الأول إلى 8 جرامات من الثاني، وظلت هذه النسبة هي الأساس في تركيب الغاز الكربوني بحيث لم يتسن للكيميائيين بوسائل مختلفة وأساليب متباينة (مثل وضع هذه المجموعة من الكاربون والأكسيجين تحت ضغط شديد أو غير ذلك) أن يتحد ثلاثة جرامات من الكاربون مع 1. 8 جرامات من الأكسيجين مثلاً. وليس معنى هذا أن الكاربون والأكسيجين يتحدان دائماً بنسبة 3 إلى 8 فإنه يصح للحصول على مركب غير الغاز الكاربوني أن يتحد ثلاثة جرامات من الكاربون بأربعة جرامات من الأكسيجين، ولكن الفارق بين الحالتين عظيم. فثمة حالة غير متصلة تختلف عن حالة الخلط والمزج المعروفة في اختلاط الجزيئات
كان لا بد تحت هذه العوامل والمشاهدات من أن يُعمم العلماء هذه الوقائع المقدمة ويحصونها ويدرسونها، وهكذا توصلوا إلى قانون النسب الثابتة الذي يحدد النسب التي تتحد بها العناصر الكيميائية المختلفة، هذا القانون المعروف منذ العالم (دالتون والذي كان الفضل الأكبر فيه للعام (بروست يتلخص في أن النسبة التي يتحد به عنصران لا يمكن أن تتغير بحالة مستمرة
وهكذا كان من الصعب ألا نفترض أن هذا الأكسيجين المتحد مع الهيدروجين ليكون الماء استقل دائماً بنفسه وحافظ على استقلاله في أثناء هذه العملية الكيميائية ما دمنا نستطيع أن نعيده سيرته الأولى وهكذا أمكننا أن نرجح أن هذا الذي نسميه عنصر الأكسيجين كان مستقلاً في كل المركبات الأكسيجينية التي يمكن أن تدخل فيها مثل الماء والماء الأكسيجيني والأوزون وثاني أكسيد الكاربون والسكر الخ بحيث إذا كان السكر مركباً من جزيئات مشابهة تمام التشابه فإنه من المتعين أن في كل جزئ من هذه الجزيئات قد دخل الأكسيجين كشخصية مستقلة كما دخل الكاربون والهيدروجين اللذان هما المركبان الآخران للسكر شخصيات أخرى مستقلة. من هنا ومن أمثال ذلك حاول العلماء أن يعرفوا الصورة التي يجب أن تكون عليها هذه المواد الأولية أو العناصر البدائية التي تتفق أجزاء منها تحت عوامل لا محل لذكرها وتتقارب لتكوين جزئ من السكر، هذا المولود الجديد(314/61)
والمركب من هذه العناصر المتقدم ذكرها
هذه الملاحظة من جانب (بروست) الفرنسي في وجود نسب ثابتة بين العناصر عند اتحادها أدت بالعالم الإنجليزي (دالتون) إلى أن يفرض فرضاً ذرياً يمكن أن يجيب على هذه الحالة المتقدمة:
كل العناصر مكونة من ذرات، ويحدث في مختلف العمليات الكيميائية المتباينة أن تجتمع ذرات الأجسام وتكوَّن كل مجموعة جديدة جزيئات من جزيئات المركب الجديد، بحيث يجوز لذرة من مادة معينة أن تلتصق أو تجتمع بذرة واحدة من مادة أخرى كما يمكن أن تجتمع باثنتين أو أكثر، فالماء مثلاً يتحد فيه ذرتان من الهيدروجين بذرة واحدة من الأكسيجين (إن اجتماع جرامين من الهيدروجين مع 16 جراماً من الأكسيجين راجع إلى وزنهما ذلك أن قوة الكائنة بين هذه الذرات وبعضها هي بحيث أن اجتماعهما في هذه الحالة اجتماع واحد باثنين، وإذا اجتمعت ذرة واحدة من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسيجين تكون الماء الأكسجيني الذي نستخدمه في الجروح بدل الماء العادي الذي نشربه.
هذه الخطوة الموفقة من جانب العالم الكبير دالتون التي مهد لها (بروست) ظلت أساساً للعلوم الكيميائية، وفي آلاف المواد التي نستخدمها والتي هي في الواقع مركبات من عناصر مختلفة متحدة بنسب ثابتة أو ممزوجة أمكن تقسيم العالم المادي إلى 91 عنصراً تبدأ بالهيدروجين والهيليوم وتنتهي بالبروتوكتينيوم والإيرانيوم. هذه العناصر تقوم لنا كمرجع دائم يدلنا على هذه المركبات المكونة لكل ما نراه ونعثر عليه من مادة في الكون، كما تدلنا الشمس والنجوم الثابتة بمواضعنا المختلفة في الأفق بالنسبة لها على معرفة الوقت نهاراً أو ليلاً
وسنرى فيما سيأتي ما استفاده العلماء من هذا الفرض الذري ونحاول أن ندرك كنه الذرة وما يجري بها ونستخلص من أعمال العلماء سيرة ما يحدثونه اليوم فيها من تهدم، ما سيكون له أكبر الأثر في تقدم معارف الإنسان
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون(314/62)
ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهند سخانة(314/63)
القصص
لصوص الفيء
للأستاذ نديم الجسر
ذكرني وصف أستاذنا الزيات لصورة من (صور الماضي) في مصر بصورة من هذا الضرب المضحك المبكي، حُدثت بها من عهد غير بعيد. فأخذت بمجامع قلبي لما فيها من روعة، ولأنها تكاد تكون حقيقة لا أثر للخيال فيها، ولأنها تصدق عندنا على الماضي والحاضر. . . ويا للأسف
كنا في صيف عام 1933 في قرية سيْر، ذلك المصيف الذي عشقه الدكتور فارس نمر، وأعجب به الباشا سيد البنك المصري وسيد الأعمال المالية في بلاد العرب، حتى كاد يفكر في إمداده وتمْصيره. وقد اجتمعنا ليلةً على جاري عادتنا في شرفة الدار التي يتطأ من تحتها وادي سير الفتان، ومن ورائه ينبسط البحر ساجياً وقد ازدان منه (خليج عَرْقَة) الفينقي بطائفة من قوارب الصيادين تحمل في مقاديمها مشاعل تبهر الأسماك وتستهويها. فليساعد تجمعها حول القوارب على صيدها. وكانت تلك القوارب تختفي في الظلمة الليل فلا يبدو منها إلا أنوار المشاعل كصفّ من مصابيح نُصبتْ في شارع طويل؛ حتى كنا نوفَّق في دعاباتنا أحياناً إلى أن تخدع بها طائفةً من زوارنا فنوهمهم أنها أسكلة (ميناء) طرابلس، على حين أن الأسكلة تحتجب وراء الجبل، فإذا عادوا إلينا في النهار سألوا عن الأسكلة! فقلنا لهم: سرقها الصيادون. . .
وكنا نتحدث، كما يتحدث المصطافون في هذه القرية الهادئة المحرومة مرح المصايف الأخرى في لبنان بأحاديث تشوبها كآبة الضجر الذي يلازم المكرر الوحيد النغم المملول من كل شيء. وساقنا الحديث إلى ذكر أحوال القضاة ومظالمهم، وندرة (قضاء الجنة)، وكثرة (قضاء النار)؛ وكان معنا في هذه الجلسة سيد القرية، وهو رجل كثير الصمت طويل الروية، سليم المنطق بالفطرة الموهوبة لا بالقوة المكسوبة، رقيق الحاشية، لين العريكة، شديد الحذر من إطالة اللسان، والخوض في أحوال الناس. لا نشكو من طيب عشرته إلا أنه يتركنا الساعات الطوال نتحدث، وهو معتصم بالصمت يسمع. فإذا سكن الحوار، وخمد الجدل، ألقى بكلمة أو كلمتين فيهما زبدة الفول وفصل الخطاب. . .(314/64)
وطال حديثنا عن قضاة النار وأحوالهم فقال صاحبنا بعد صمت طويل: هؤلاء يسمونهم عندنا في الجبل (لصوص الفيء). قلنا: وما لصوص الفيء؟ فأغرب في الضحك وتشبث على عادته بصمت المحترز فما زلنا به حتى رضي أن يحدثنا فقال:
(يحكي أن مكاريا من أهل القرى كان يملك من وسائل العيش بغلاً يكاريه الناس ويعيش من كرائه مع زوجه وأطفاله، فمرض البغل يوماً مرضاً أقعده وأقعد صاحبه عن العمل، فقام مع عياله في الجانب البغل يداوونه ويدعون له بالشفاء. ولما اشتدت وطأة الداء نذر الرجل على نفسه أن يعطي رجلاً مشهوراً عندهم بالصلاح والتقى والولاية مائة قرش إن شفى الله بغله. ولكن الله لم يقبل نذره ومات البغل، فبكاه الصغار والكبار ما شاء الله أن يبكوه. وفي اليوم الثاني أخذ الرجل ما يستغني عنه من متاع البيت فباعه واشترى بثمنه بغلاً آخر. فما كاري عليه أياماً حتى سرت للبغل من المعلف عدوى المرض فقام بجانبه الليل والنهار يصلي ويبتهل وينذر النذور لأكبر الأولياء وأعظم الأبرار، ولكن البغل مات ولم تنفع فيه النذور للصالحين. فبكاه أصحابه المساكين الثكالى ثم جمعوا بقية ما في البيت من متاع فباعوه واشتروا بثمنه بغلاً ثالثاً. وما مضت عليه أيام حتى سرت إليه العدوى، فطاش لب لبرجل وضاع صوابه ورأى أن نذوره للأولياء الأبرار الأطهار لم تشفع ولم تنفع، فأصابه ما يصيب كل مفجوع عند هول الكارثة من ذهول وسخرية واستخفاف، فبدا له هذه المرة أن يجعل نذره لأشد الناس شراً؛ وعظم النذر فجعله ألفاً.
وشاءت حكمة الله أن تكون عدوى المرض خفيفة وأن يقوي عليها البغل الجديد فشفى. وعاد الرجل إلى عمله، فما زال يشتد في طلب الكسب حتى اجتمع لديه النذر فحمله وهبط به المدينة يتلمس فيها من يستوجبه فعمد إلى أشهر بيت للفسق والفجور وانتحى ناحية يراقب منها الناس حتى اختار أشدهم تهتُّكاً وأشنعهم فسقاً فاقترب منه وحدثه بحديث نذره ثم قال له والخوف يعقد لسانه: (لا تغضب يا هذا وارحم ضعفي وذلتي فإني أردت وفاء نذري فلم أجد من هو أعظم منك شراً فحق علي أن أوفيكه)
فما سمع الرجل مقالته حتى أغرب في الضحك؛ ثم أطال الصمت حتى أوجس القروي من طول صمته وكآبته شراً. ثم استعبر حتى وجمت القاعة الصاخبة لنحيبه، ولما سكنت نفسه قال: (لقد ضللت يا صاح والله بغيتك؛ وكدت تعطي نذرك من لا يستحقه. فما أنا بأعظم(314/65)
الناس شراً، وإنما أنا رجل ابتلاني الجبار بذُلَّ الشهوات فلا أستطيع إلى فكاك نفسي من أسرها سبيلاً. ولو رأياني كيف أصحو نادماً ذليلاً لرثيت لي ولرجوت أن يغفر الرحمن ذنوبي. . . فإليك عني، وعليك باللصوص وقطاع الطريق فهم أحق بنذرك مني)
فخرج القروي من الحانة وقد سره أنه وجد ضالته واسترشد برأي (سوقيّ) يعرف حقائق الأمور، وما زال يسأل عن قطاع الطريق أين مكمنهم ومن أشدهم فتكا وبطشاً، حتى استرشد. فركب بغله وسار في حلك الليل حتى أشرف على الكمين الذي يقطع الشرير منه الطريق مع عصبته؛ فما شعر اللصوص بالرجل حتى اكتنفوه فقال لهم: على رسلكم فإنما إليكم قصدت. أين رئيسكم؟ فدلوه عليه فحدثه بحديث نره فأطرق اللص إطراق الحزين، ثم استعبر حتى ابتلَّت لحيته ثم قال: (إنك يا هذا ضللت بغيتك فما نحن إلا فقراء عضتنا الفاقة وضاقت بنا سبل العيش فتخذنا السلب حرفة نكسب بها قوت عيالنا، ولو وجدنا إلى الرزق سبيلاً غير هذا لسلكناه. ولو كشف الله لك قلوبنا لرأيت ألماً وندماً، ولرجوت لنا عند الرحمن عفواً وكرماً. إذا أردت يا صاح الوفاء بنذرك فدعنا نحن (حرامية الشمس)، ولصوص التعب والنصب والخوف والخطر واذهب إلى (حرامية الفيء)؛ فإنهم أحق بنذرك. . .)
فقال القروي: ومن هم حرامية الفيء لأذهب إليهم؟
فقال له شيخ العصابة:
أولئك هم القضاة الذين ولاهم الله أمور عباده وحكمتهم في الدماء والأعراض والأموال ليقضوا فيها بالحق وجعل كلمتهم هي العليا، وأنعم عليهم بجاه كبير ورزق كثير وعيش غزير فما رعوا الله في عباده ذمة، ولا في حقوقه وحدوده حرمة، فلا ظالم إلا نصروه، ولا مظلوم إلا خذلوهن ولا عرض إلا انتهكوه، ولا مال ولا وقف إلا أكلوه. . .
أولئك هم حرامية الفيء وأولئك هم شر البرية. . .
فرجع القروي المسكين بذل الخيبة وقصد إلى قاضي المدينة فرأى شيخاً يفيض الجلال عن جوانب عمامته، ويتفجر النور من قسمات طلعته، ويتقطر التقى من أطراف لحيته، فقال: يا سبحان الله كيف يكون هذا شر البريّة وكيف تتحرك شفتاي بحديث النذْر إليه؟
وما زال واقفاً حتى انتهى القاضي من القضاة (على) حقوق العباد، فرآه في جانب القاعة(314/66)
فدعاه إليه وسأله عن حاجته فقصّ عليه قصة نذْره والحياء يعقد لسانه، فقال له القاضي:
(على المستحق سقطت. . . ولكن يا بني نحن لا نستحل أخذ أموال الناس بلا سبب شرعي. والوجه الشرعي الذي يحل لنا به أخذ هذا النذر منك هو أن نقلبه إلى مبايعة. . .)
فانتفض الرجل وقال: أستجير بك يا مولاي. إني أخشى إن أخذت منك لقاء النذر شيئاً ألا يتقبل الله نذري، فقال القاضي: (نحن لا نبيعك شيئاً مذكوراً بل هي صورة نحلل بها أخذ المال منك. . . هاك في جانب الباب كوْمة من الزبل هل اشتريتها مني بالألف الذي نذرته؟) فقال الرجل:
سمعاً وطاعة. وتم التعاقد بالوجه الشرعي. . . وقبض القاضي الألف وذهب الرجل إلى قريته فرحاً مطمناً
وبعد يومين أفاق المسكين على صوت طارق يوالي قرع الباب ويستفتح، فإذا جندي يبادره بالشتم ويقول: (أيها الرجل المخادع الماكر الخبيث الشرير! أتشتري المزبلة من مولانا القاضي وتتركها في مكانها فتصبح مجمعاً للذباب ومبعثاً لكريه الروائح. . .؟ لقد حكم عليك مولانا القاضي بنقل المزبلة وبغرامة مقدارها ألف قرش جزاء تركك إياها بعد شرائها وبأن يصادر بغلك لقاء الغرامة. . .)
قال الجندي قوله هذا ودخل الدار فاقتاد البغل من مربطه وسار به إلى المدينة. فوجم الفلاح المسكين وجوم من خولط في عقله وما زال يشيع بغله بعينين دامعتين حتى توارى عن بصره ثم رجع وهو يدمدم قائلاً:
- حقاً إن حرامية الفيء هم شر البرية؛ وقد أصاب نذري أعظمهم شراً
(طرابلس)
نديم الجسر(314/67)
من هنا ومن وهناك
هل يظفر الأمير عبد الله بملك فلسطين؟
(عن مجلة الباريسية)
لا يستطيع الناظر المتأمل مهما أوتي من قوة الفراسة والمقدرة على
تحليل النفوس واستنباط ما وراء الوجوه من المعاني والأفكار، إذا نظر
إلى وجه الأمير عبد الله أمير شرق الأردن، أن يحكم لأول وهلة أن
صاحب هذا الوجه، على الرغم مما يبدو عليه من الهدوء والاتزان،
يحمل حملاً ثقيلاً منذ عشرين عاماً
فإذا جلست إليه ورأيته يمسح بكفه على لحيته الصغيرة المنسقة ويتكلم بصوته المهذب الرقيق، لا تصدق أن هذا الرجل بعيد عن الاستمتاع بالراحة
وإذا كانت الدودة الصغيرة تغادر أثراً ما على السنديانة العظيمة، فلا غرابة أن تترك المطامع البائدة، والأحلام الضائعة، أثرها العميق في نفس الأمير
لقد كان الأمير عبد الله يحلم في شبابه - وهو ابن شريف مكة في ذلك الوقت - بحياة ذات مجد حربي عظيم؛ ولكنه خسر أول معركة قادها بجنود أبيه. وإذا كنت ممن يعرفون قونين الصحراء غير المسطورة، أمكنك أن تعرف مقدار تأثير هذه الهزيمة
إن العرب قد يغتفرون للسارق؛ وقد يتسامحون مع الرجل الذي يقتل أباه، ولكنهم لا يغترون جريمة القائد المنهزم بحال من الأحوال
ومما يستحق الذكر أن الأمير عبد الله في ثورة الصحراء، والحملة التي يقودها لورنس، لم يكن سوى ظل بسيط في مجرى الحوادث على الرغم مما هو معروف عنه من الشجاعة والذكاء
وإذا كان قد حكم على الأمير بأن يحيا حياة مدنية وإخوانه يخوضون غمار الحروب، فقد وضع آماله في شيء واحد وهو عقيدته الثابتة بأنه إذا جد الجد وجاء يوم الانتصار سيدعى ولا محالة للجلوس على عرش من العروش التي تقسمها بريطانيا العظمى بعد زوال(314/68)
الإمبراطورية التركية
وما كادت الحرب تضع أوزارها حتى تولى والده الحسين ملك مكة والحجاز، وتولى أخوه الأكبر ملك جدة، وتولى فيصل أخوه الأصغر ملك سوريا ثم ملك العراق؛ وبقى عبد الله وحده بغير تاج حتى أتيحت له إمارة شرق الأردن بعد جهد شديد
وتبلغ مساحة شرق الأردن مقدار مساحة إيرلندا، ويبلغ سكانها 300000 نفس يعيش ثلثاهم معيشة الصحراء
وإذا كان قد انقضى عشرون عاماً منذ اتخذ الأمير ذلك الطريق المقفر نحو عمان بدً من دخول دمشق وبغداد دخول الفاتحين، فإنه لم يعلن أمنية واحدة من أمانيه التي كان يفكر فيها ولورنس يخترق الصحراء، وهو منذ عشرين عاماً يري الطعم لملك فلسطين
وقد أدرك بذكائه وقوة استنتاجه أن العرب واليهود لا يمكن أن يتفقا، وأن هذين الشعبين لا يمكن أن يعيشا معيشة أمان وسلام، وأن بريطانيا لا تستطيع أن تجد حلاً لمشكلة فلسطين يتفق ومصلحة الإمبراطورية
وعلى الرغم من الانتظار الذي طالت مدته لم يزل الأمير مصراً على أمنيته العزيزة. وكثيراً ما حرضه أصدقاؤه وأقرباؤه على أن يعبر الأردن ببدوه، ولكنه كان على الدوام يأبى أن يستبق الحوادث. . .
وعقيدته أن الحالة في فلسطين كلما ازدادت تحرجاً كان ذلك في مصلحته وأدعى إلى تحقيق أمانيه
وإذ كان الأمير قد استطاع أن يكبح جماح نفسه عشرين عاماً، فنحن نعتقد أنه لا يوجد واحد من المشتغلين بالسياسة في الشرق الأدنى يظن أن شخصاً في حالة تقسيم فلسطين سيكون أولى منه بالجلوس على عرشها
ويقال إن هذه الولاية في تلك الحال سوف تكون مرتبطة بشرق الأردن، وبارتباطها تجد بريطانيا حليفة قوية في شرق الأدنى. . .
هل تحتفظ السويد بحيادها - عن باري سوار
إن أصوات المدافع التي تدوي في استكهلم، وتنقلات الجنود وتدريبها في عاصمة البلد التقليدي في الحياد، مما يدل على أن الثقة بالنازي قد تزعزعت في تلك البلاد(314/69)
لماذا تشتغل السويد بتلك التدريبات الحربية، وقد احتفظ بحيادها مدة الحرب السابقة؟ هل هي تتوقع أن تكون عرضة للهجوم في الحرب القادمة؟
إن الذين لا يتتبعون السياسة السويدية، قد يذكرون حياد السويد نحو ألمانيا القيصرية في حرب 14 - 18، ويظنون أن الآريين من السويد يحتفظون بشعورهم نحو المدنية والثقافة الألمانية، والحقيقة أن تغيراً عظيماً قد حل في نفوس الرأي العام!
أما المسئول الأول عن هذا التغيير فهو أولدف هتلر. فقد كانت خطة النازي من البدء مثيرة لشعور الحرية والتقدم الاجتماعي في نفوس السويديين.
وإذا كان الملك جوستاف على الرغم من بلوغه سن الثمانين يعد من رجال أوربا الملحوظين، فإن السويد الآن يحكمها الاشتراكيون. وقد تقدمت تلك البلاد تقدماً محسوساً ووصلت الصناعة الحديثة فيها إلى درجة لم تصل إليها الولايات المتحدة.
لقد وصل صدى تهديد هتلر إلى تلك البلاد. وقد أشار القائد الألماني هانشوفر في إحدى محاضراته باستكهلم إلى أن عدد السكان في السويد قليل بالنسبة إلى مساحتها، وأنها تستطيع أن تمنح الأماكن الفسيحة لسكنى ملايين من الناس.
وقد كان في السويد بعض الفرق النازية، وكان بها الكثير ممن يعتمد عليهم الفوهرر، وقد أرادت ألمانيا أن تجعل تلك الفرق فرقة واحدة تحت إمرة رجل واحد يدعى (لندهولم)، ولكن خاب مسعاها، إذ تبددت تلك الفرق ولم تبق للنازي فرقة واحدة على الإطلاق.
إن إخفاق الهتلرية في السويد لم يكن في الحقيقة تعبيراً عن كراهية للألمان، فإن الارتباطات الجنسية والتعليم يجعلان لألمانيا منزلة في تلك البلاد، وإن كان لفرنسا تأثيرها الثقافي الملحوظ.
ولكن الشعور السائد قد انقلب على ألمانيا الآن. وإذ كان للسنما أثرها الكبير في اسكاندينافيا فقد بدأ الألمان يستأجرون كواكب السنما من السويد لنشر دعايتهم تحت أسماء هؤلاء الكواكب ولكن ذهب مجهودهم هباء. فالأفلام الألمانية لا تقابل باستحسان بينما تنجح الأفلام الفرنسية على الدوام
على أن هذا جميعه لا يدل على أن السويد قد فقدت رغبتها في الحياد، ولكن من السهل أن يقال إن السويد لا يبعد أن تساق إلى الحرب ضد ألمانيا(314/70)
ويقول رجال السياسة بها من الاستعداد الحربي الذي تقوم به الدول الآن يمنعهم من المهادنة. وأكثر من هذا طلب الذهب والحديد؛ فالسويد تستخرج كميات عظيمة من هذين المعدنيين، وإن حديدها النادر أليق من غيره لآلات الحرب. فألمانيا ولا شك تحتاج إلى حديد السويد لعمل السلاح، وإنجلترا وفرنسا تريان من الواجب عليهما أن تمنعا توريده إليها
فإذا هوجمت السويد فسوف تحارب. وكل فرد فيها على أهبة لعمل ما يجب عليه. وإذا كان جيشها ليس بالجيش العظيم فإن لديها ثلثمائة طائرة، وقد خصص أكثر من ضعف ميزانيتها للتسليح(314/71)
البريد الأدبي
موسى (عليه السلام)
للغربيين أقوال غريبة في موسى وعيسى (عليهما السلام)، وفي
كونهما. وقد اطلع قراء (الرسالة) الغراء على ما رواه الأستاذ العقاد
من مقالة (فرويد)، وللعالم (سلمون ريناك) في كتابه: أرفيوس الذي
ألفه منذ أكثر من ثلاثين سنة بحث عن موسى (عليه السلام) أروي منه
هذه الأسطر مضافة إلى ما سطره الأستاذ من كتاب (فرويد) وكلا
الرجلين من يهود. قال:
' , , ' ' ; ' ; ' ' ' ; ; ' ' ' ' , ,
وترجمتها: (إن وجود موسى (ولعل موسى مأخوذ من الكلمة المصرية ميزو بمعنى طفل) لا تؤيده أسفار التوراة التي عزيت إليه خطأ. وليس من حقنا أن نذهب إلى إنكاره. إنه موجود؛ ولكن وجوده سيظل موضع الشك فقط. ليس الدين من صنع الإنسان؛ ولكنا لا نستطيع أن نتصور انتشار دين من غير نفوذ إرادة قوية لرجل من رجال العبقرية أمثال: موسى وبولس ومحمد)
قلت: يشك علماء غربيون في كثير من أصحاب النَحل. بيد أنهم لم يتجاسروا أن يطوروا (أن يحوموا) في شكهم بحضرة سيد الوجود (صلوات الله وسلامه عليه). والإسلامية الصحيحة موحيها واحد أحد، لا كما قالت عبارة ريناك في سائر الأديان.
* * *
لم ينجح أحد!
أعلنت مدرسة الفنون الجميلة العليا هذا العام فضيحة كان يجب عليها أن تتدارك أسبابها أو أن تسترها على الأقل
أما هذه الفضيحة فهي أنه (لم ينجح أحد) من طلبة قسم النحت في هذه المدرسة هذا العام(314/72)
وفي قسم النحت بمدرسة الفنون الجميلة العليا أربعة طلاب فقد موزعون على سني الدراسة المختلفة. ومعنى هذا أن هؤلاء الأربعة هم عدة هذا الجيل للنحت في مصر. ويلحظ إلى جانب هذا أن المدرسة وقفت عليهم أساتذة أكثر منهم عدداً. فإذا لم تكن مدرسة الفنون الجميلة العليا تستطيع أن تتعهد أربعة طلاب نحاتين فماذا تستطيع أن تصنع؟!
يقال إن هذه الكارثة الفنية يرجع سببها إلى تنافر بين أستاذ النحت في المدرسة (وهو سويدي) وبين ناظر المدرسة وصديق له مدرس بها. والناظر وهذا الصديق المدرس مصريان. ويقال إن هذه النتيجة لم تحدث عفواً وإنما أريد بها أن تحجم وزارة المعرف عن تحديد عقد الأستاذ الأجنبي هذا العام، وأن ترفع المدرس المصري إلى درجة الأستاذية
وإذا كان مما يسعد كل مصري أن يرى قسم النحت في مدرسة الفنون الجميلة العليا يرأسه أستاذ مصري فإنه مما تشمئز منه الإنسانية أن يُبعث في سبيل الوصول إلى هذه النتيجة بمستقبل أربعة من الطلاب هم كما قلنا عدة الجيل في هذا الفن
زد على ذلك أن ناظر الفنون الجميلة العليا وصاحبه المدرس المصري متهمان في مقدرتهما الفني. فالناظر لا يحمل شهادات فنية مطلقاً وليس لديه من المؤهلات الفنية إلا أنه رحل إلى الحبشة في زمن ما ورسم بعض الصور لنجاشيها السابق ورؤوس دولته. ومظاهر (العصبية) التي تبدو عليهم والتي استطاع بها أن يقنع أهل الحكم في الوزارة السابقة بأنه يصلح لأن يكون ناظراً لأكبر معهد فني في مصر
أما صاحبه المدرس فهو رجل من رجال الصناعة أعدته ثقافته وأهله تعليمه لأن يكون مدرساً للصناع في مدرسة الفنون التطبيقية لا أستاذاً للفنانين في مدرسة الفنون الجميلة العليا وشتان ما بين الصناعة والفن
وأنا أكتب هذا وقلبي يتمزق لأني أنصر به أجنبياً على مصريين، ولكنني أفضل هذا على التدليس باسم الوطنية الشفوية. ولا ريب أن الاعتراف بالضعف مع السعي إلى استكمال أسباب القوة خير من المغالطة والادعاء وإنكار الحق
والآن، ماذا تصنع وزارة المعارف في مدرسة الفنون الجميلة. . .
إنه يحدث فيها أكثر مما ذكرناه. . .
ع. ا. ف(314/73)
الفن المنحط
تألفت في مصر جماعة من الفنانين سمّت نفسها (جماعة الفن المنحط) وهي اليوم في طريقها إلى التفرق والتحلل لأنها لم تجد عند الفنانين والصحافة والجمهور ما كانت ترجوه من تشجيع، إذ لم يزرها في دارها بشارع المدابغ كاتب ولا صحافي ولا زائر عادي يستمع إلى دعوة أفرادها
(والفن المنحط) الذي تدعو إليه هذه الجماعة لا يمكن أن يقال إنه منحط فعلاً ما دام يجد من يقول عنه إنه فن. إذ أنه لا يمكن أن يكون الفن فناً ومنحطاً في الوقت نفسه إلا إذا كان كاذباً. فالفن هو نتاج الحس لا الفكر. ومتى توفر فيه الصدق فإنه سام رفيع، ولا يفسده شيء ولا يخفض من شأنه شيء إلا أن يكون تكلفاً، فهو عندئذ ليس فناً وإنما هو تهريج وتجارة. وإذا دعا شاعر إلى الفسق في شعره وحسّنه للناس وزينه لأنه يحبه ويجد فيه لذته النفسية، ولأنه يعبر عن هذا الذي يجده تعبيراً صادقاً فلا ريب أن فنه يبهر القارئين لأنه ينفذ من نفسه إلى نفوسهم فإما أن يرضيها وإما أن يؤلمها ويسخطها. وكذلك الرسام المعجب بالأجسام الذي يصور محاسنها ولو في أوضاع يستقبحها العرف وتزورُّ عنها التقاليد والآداب العامة فهو عند الفن ناجح وقادر وعال ما دام يتذوق هذا الذي تستقبحه التقاليد والآداب ويعبر عنه صادقاً في تذوقه وتعبيره
فإذا تصدى شاعرنا للمعاني الروحية المجردة التي لا يحبه هو ولا يتذوقها وأراد بتعرضه لها أن يجاري أصحابها وأن يقال عنه إنه مثلهم روحاني متصوف فإن فنه سينحط ويضعف لأنه سيحتاج في إخراجه إلى الكذب والتزييف والتزوير. وكذلك رسامنا إذا انحرف عن مزاجه الخاص إلى التكلف ما لا تلتفت إليه نفسه من الجمال الروحي لغرض من الأغراض فإنه يكون عندئذ كاذباً ومنافقاً ويكون رسمه منحطاً حقاً
فإذا كانت جماعة الفن المنحط قد تألفت من أفراد صادقين في شعورهم وتعبيرهم ففنهم رفيع من غير شك مهما تواضعوا وقالوا إنه منحط. أما إذا كانوا يتكلفون هذا الانحطاط ففنهم منحط حقاً لا لشيء إلا هذا التكلف. . .
ع. ا. ف(314/74)
اختصاص المجمع اللغوي في رأي المكتب الفني
كانت وزارة المعارف قد وكلت إلى مكتبها الفني دراسة اختصاص مجمع فؤاد الأول للغة العربية والنواحي التي يتناولها هذا الاختصاص، فدرس المكتب هذا الموضوع من مختلف وجوهه، ورفع مذكرة وافية بشأنه إلى معالي الوزير تحدث في بدايتها عن المجامع العلمية اللغوية فقسمها ثلاثة أقسام هي: المجامع العلمية، والمجامع اللغوية والأدبية، ومجامع الفنون؛ وأشار إلى ما تؤديه كل طائفة من هذه المجامع في مختلف الممالك في العصور الحديثة، فتكلم عن مهمتها في إيطاليا، وبلجيكا، والدنمارك، وإنجلترا، وأيرلندة، وأسبانيا، والبرتغال، وروسيا، وعن طبيعة الأعمال التي تنهض بها. ثم انتقل إلى المجمع المصري فأتى بنبذة عن نشأته وأغراضه التي حددها مرسوم إنشائه، وعرض بعد ذلك آراء كبار الكتاب الذين طرقوا هذا الموضوع في الصحف السيارة وفي داخل البرلمان
وقد رأى المكتب الفني أن مثار الخلاف في الرأي هو اختصاص المجمع اللغوي المصري، مع أن اختصاص أي مجمع قد يتسع فيشمل الكثير من النواحي العلمية واللغوية، وقد يضيق هذا الاختصاص فينحصر في علم أو فن أو ناحية من أحدهما؛ وذكر أن اختصاص المجامع اللغوية مركز في وضع المعاجم اللغوية والتاريخية في وضع الاصطلاحات العلمية والفنية، وأنه يجب ألا يقتصر عمل المجمع على تسجيل الألفاظ التي تستقر في التداول، كما أنه لا ينبغي أن يعهد إلى الهيئات العلمية والفنية بالانفراد في وضع الاصطلاحات، وإنما يجب أن يتعاون المجمع مع العلماء والفنيين في الوصول إلى تحقيق هذا الغرض، بأن يطلب إلى كل منهم - كل دائرة اختصاصه - أن يقدم إنتاجه اللغوي، ثم يجتمع اللغويون في مؤتمرات سنوية أو نصف سنوية لفحص هذا الإنتاج ودراسته رغبة في الوصول إلى اختيار الألفاظ الصحيحة والتراكيب السليمة التي تقابل، في دقة ووضوح، المعاني المطلوبة مع موافقتها لروح اللغة وأصولها
وكذلك يتركز اختصاص المجامع في دراسة اللهجات القديمة والحديثة، إذ هي أساس اللغة وقوامها، فلا غنى عن دراستها
وأشار المكتب في مذكرته إلى ضرورة الاقتصار في الوقت والمجهود من هذه الدراسة. أما(314/75)
الدراسة الواسعة المستفيضة بلهجات قديمة فإنها من شأن هيئات أخرى تتولاها
وقال في صدد دراسة اللهجات الحديثة: إن أهميتها تقوم على أنها تتصل بالحياة مباشرة، فهي لغة الكلام والتفاهم، وإنه مما لا شك فيه أن هذه اللهجات أقوى من حيث استعمالها وانتشارها وقربها إلى الأذهان، فلا يجوز إذن إهمالها أو التجاوز عنها، لأن دراستها توضح ما طرأ على اللغة الصحيحة من التغييرات والانحرافات في كثير من الألفاظ والتراكيب.
ثم ذكر أن إحياء الأدب العربي أو التشجيع عليه يحسن أن تتولاه هيئات أخرى غير المجمع اللغوي مثل الجامعة ووزارة المعارف ودار الكتب والجمعيات وهيئات الترجمة والنشر. وأشار إلى أهم التعديلات التي يجب أن يؤخذ بها، وهي أن يزاد عدد أعضاء المجمع العاملين إلى ثلاثين عضواً من العلماء المعروفين على ألا يزيد الأجانب منهم على عشرة؛ وأن يتألف المجمع من هيئتين إحداهما مؤتمر المجمع ويتكون من كامل الأعضاء، والأخرى مجلس المجمع ويتكون من الأعضاء المقيمين في مصر.
عناية مدير بلدية الإسكندرية بأسرة المرحوم فليكس فارس
عرض صاحب السعادة مدير بلدية الإسكندرية العام على لفومسيون الإداري في جلسة 5 يوليه مسألة مكافأة المرحوم الأستاذ فليكس فارس كبير مترجمي البلدية، فذكر أنها ضئيلة نظراً إلى أن مدة خدمته كانت قليلة، ولكنه خدم البلدية بإخلاص ونشاط، كما كانت له خدمات صادقات للأدب والعلم. وقد ترك أسرة مؤلفة من أرملة وثلاثة أطفال صغار. ثم اقترح المدير منحهم معاشاً شهرياً عدا المكافأة التي كان يستحقها. فوافق القومسيون على ذلك وقدر هذا المعاش بعشرة جنيهات في كل شهر. وهذا العمل من صاحب السعادة المدير يستحق أجزل الشكر وأجمل التقدير.
اللورد لويد والإسلام
ألقى اللورد لويد خطبة في اجتماع عقد بلندن في الأسبوع الماضي قال فيها: يجب على الحكومة، حينما تبحث المسألة الفلسطينية أو مخاوف مسلمي الهند من الاضطرابات التي يثيرها الهندوكيون، أن تبحثها على ضوء الاعتبارات التي شهدناها في العشر أو الخمس(314/76)
عشرة أو العشرين سنة الماضية والتي على أن العالم الإسلامي دخل في مرحلة جديدة بقوته المتزايدة وبكل ما يتضمنه الدين الإسلامي العظيم من قوة، مضافاً إلى التعاليم الحديثة.
وختم اللورد لويد خطبته قائلاً: (إن تطوراً جديداً قد طرأ على العالم الإسلامي وهو تطور يجب أن نحسب له حساباً دقيقاً)
حول الجناية على الأدب العربي
حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)
تحية وسلاماً. وبعد. فإنني على فرط إعجابي بالدكتور زكي مبارك وتقديري لآثاره الأدبية لم أرض منه هذا الضرب من النقد الذي يتناول الشخصيات دون الآثار، ويدافع عن الأدب من طريق الجناية على الأدباء. ولو أن نقاد الأدب العربي اتبعوا الطريق التي اختطها الدكتور إسماعيل أحمد أدهم في رده على الدكتور بشر فارس (عدد الرسالة 311)، أم النهج الذي سلكه الأستاذ عبد المنعم خلاب في مقاله (النبوة - الوحي - المعجزة) رداً على مقال نشرته مجلة (الأماني) (العدد 310 من مجلة الرسالة) لكان النقد - كما يرضاه الأدباء - أداة صالحة لتوجيه الأدب الصحيح ولتنقيته من أدران الضعف وشوائب الخطأ
ولعمر الحق إن هذا الطريق التي سلكها الدكتور زكي لملتوية شائكة. بل هي ضرب من الجناية على الأدب ما كان أجدره أن يتحاماه.
إن من أهم مميزات النقد الذي يجعل الإصلاح الأدبي هدفه ومرماه، اللفظ اللين والنقاش الهادئ والحجة الدامغة مع احترام صاحب الرأي المنقود وعدم التعرض لشخصه. فإن كان صاحب الرأي صادق النية نزيه القصد فيما كتب فليس عليه من ضير أن يُنْقَد؛ أما إن كان سيئ النية نفعي القصد، والنقد كفيل بإظهار كل خبيثة، فحسبه ما يجر على نفسه من تفنيد الرأي وتسفيه الحلم وما يتبع ذلك من هبوط سعره في سوق الأدب وأوساط المجتمع (وعلى نفسها جنت براقش)
(الخرطوم)
محمود أحمد عبد الحميد(314/77)
هل في الحيوان غريزة الغيب؟
قرأت في الرسالة رقم 312 المقال الممتع الذي كتبه الأستاذ عزيز أحمد فهمي فكان أعجب شيء التفت إليه نظري وامتلأ به تفكيري هو ما أورده من تلك الظواهر التي تميل إلى القول بوجود إدراك الغيب عند الحيوان. فقد عاد بي قوله هذا إلى ذكر ليالٍ خلت، أيام كانت فلسطين تتهيأ لتقوم بثورتها الكبرى. ويالها من ليال كانت تملأ قلبي فزعاً وهماً!
حينما يسجو الليل، ويهجع السامر، ويخشع كل جرس، كانت تقوم (وهوهة) حزينة في جبل النار يرجعها بنات آوى كترجيع النائحات، فما كان يخيل إلي ساعتئذ إلا أن في كل بيت من بيوت البلدة مناحة قائمة. وشد ما كنت أتشاءم من ذلك الشعور الذي ينتابني لدى ظهور تلك الأصوات الكئيبة الباكية! فقد كان يذهب بي خيالي إلى أن هذه الأصوات طبيعية بالنسبة إلى ذلك الحيوان، ولكن أذني تحولها إلى تلك الصورة الكئيبة إيذاناً بمصيبة ستلم بي لا قدر الله
وهكذا لم تكن بنات آوى لتخطئ مواعيدها في كل ليلة؛ ولم يكن خيالي ليخطئ في تصوير أبشع ما يتوقعه المرء من شر وسوء
وكانت الثورة، وما أدراك ما الثورة! فطاحت رؤوس، وتمزقت نفوس؛ وإذا البلدة لا تمضي عليها ساعات معدودة في كل يوم دون أن تفجع بحبيب إليها أثير لديها. وكان القوم يوارون الضحايا في سفح جبل النار مثنى وثلاث
ونظرت. . . وإذا الله يستبدل مناحات الأمهات، والزوجات، والأخوات بمناحات بنات آوى. فالأصوات هي هي بعينها، والوحشة تملأ البلدة في وضح النهار فضلاً عن الليل. وذهبت نفسي حسرات، وتصاعدت آلامي المكبوتة زفرات. وما كانت لتطلع الشمس أو تغيب في كل يوم إلا على مأساة من هذه المآسي
وها قد انتهى أمر الثورة. وهاأنا أصيخ بسمعي في كل ليلة عساي أسمع تلك الوهوهة الباكية، أو قل تلك المناحات التي كانت تقيمها بنات آوى فما أسمع صوتاً ولا ركزاً.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(314/78)
قواعد العربية الفصحى
هذه ترجمة عنوان الكتاب الذي أخرجه في الشهر الماضي الأستاذان (جودفروا دومامبين) من أساتذة اللغة العربية في السوربون سابقاً، و (بلاشير) أستاذ اللغة العربية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس. والكتاب يتناول في نحو خمسمائة صفحة، الصرف والنحو بالتفصيل والتمثيل. ومزيته أنه مؤلف على أسلوب حديث مغاير لكتب قواعد العربية المنشورة باللغات الإفرنجية ولا سيما الفرنسية. وبالأسلوب الحديث نعني ما وصل إليه علم اللغة في هذا العهد من طريق مراجعة أصول فقه اللغات الهندية - الأوربية، ومن طريق النظر في مذاهب اللغات السامية
والكتاب مطبوع في باريس واسم '(314/79)
رسالة النقد
حول مناظرة وكتاب
نقد ومراجعة
للدكتور بشر فارس
شيء واحد لفت نظري فيما كتبته - في العدد الماضي من الرسالة - الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم خريج جامعة موسكو لسنة 1933 كما جاء في مجلة الحديث، حلب 1938
وأما الذي يكتنف ذلك الشيء من الكلام المرتجل ارتجالاً فلا شأن لي به. وقد أخبرت القارئ من عددين أن قلمي لا يقوى على مجاراة غيره في ذلك الضرب من الكلام. ولولا غضبي للعلم الحق وغيرتي على النقد الصحيح ما كتبت هذا الفصل
قال الأستاذ أدهم: (إن الجملة تنظر إليها العبارة العربية ليست من خلقه (يعنيني)، فقد تكرر ذكرها في كتابات العالم الاجتماعي دوركايم وخصوصاً في مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون: ص 11، 13، 24، 26 مثلاً)
بهذه العبارة يريد الدكتور أدهم أن يقيم البرهان على أن تلك الجملة الفرنسية التي (ليست من خلقي) قد وصلت إلى علمه قبل قراءة كتابي (مباحث عربية). وأني لأرى الأستاذ أدهم يتقول عليَّ: فإني لم أقل قط إني (خلقت) تلك الجملة الفرنسية، إذ أني في (مباحث عربية) (راجع ص 16) أضع الاصطلاحات العربية - من طريق المطالعة أو الاجتهاد - ثم أثبت إزاءها ما ينظر إليها في اللغات الإفرنجية، وذلك رغبة في إغناء لغتنا (وهل أنا أغني لغات الفرنجة؟). وعندي أنه كان يغني الأستاذ أدهم عن عبارته المذكورة أن يثبت لنا الجملة التي استعملها في (مجلة المعهد الروسي للدراسات الإسلامية) - وذلك على وجهها - ولكنه لم يفعل بل لم يبعث إلى بالمجلة كما رجوت منه. وكان بودي أن أرى كيف استعمل المصطلح العربي الخاص بعلم الاجتماع دون غيره، الموضوع في كتابي وضعاً فلسفياً
ومن الظريف أن يذهب الأستاذ أدهم في إقامة برهانه إلى ما لا نرضاه له. فقد استشهد على وجه التخصيص بـ (مجموعة محاضرات دوركايم عن علم الاجتماع في السوربون)(314/80)
ثم عين فقال: - ص 11، 13، 24، 26) ثم تلطف فقال: (مثلاً)
والذي في الحقيقة أن دوركايم استعمل هذه الجملة غير مرة، وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته، وعلى الأستاذ أدهم التفتيش. غير أن دوركايم لم يستعمل هذه الجملة في (مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون)، وذلك بالرغم من الحكمة: (مثلاً) التي جرت على قلم الأستاذ أدهم، وفيها ما فيها من قوة الإيهام
إني لم أسمع قط بـ (مجموعة محاضرات دور كايم عن علم الاجتماع في السوربون)، مع أني قرأت كتب دوركايم - وهي غير كثيرة - راضياً أو كارهاً، وأنا أحصل علم الاجتماع على ألوانه - فيما أحصل من فنون الفلسفة - في السوربون نفسها، وذلك زهاء سبع سنين. وقد سألت اليوم زميلي في التحصيل في السوربون، الصديق الدكتور علي عبد الواحد وافي - مدرس علم الاجتماع بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - هل يعرف تلك (المجموعة)؟ فأخبرني قال: (لا وجود لها). أضف إلى هذا أن بين يدي الآن كتاباً فيه ثبت المؤلفات في علم الاجتماع (ولا سيما التي تهم الطالب، وأي شيء يهم الطالب مثل المحاضرات، بل محاضرات دوركايم وهو إمام مدرسة علم الاجتماع الحديث في فرنسة؟). وهذا الكتاب عنوانه: ' وليس فيه ذكر لتلك (المجموعة). واعلم أن هذا الكتاب مطبوع في باريس ثماني سنين بعد وفاة دوركايم فضلاً عن أن أحد صاحبيه من تلامذة دوركايم نفسه، واسمه فهو أعلم منا بما أخرج أستاذه لطلاب علم الاجتماع
هذا إلا إذا خرجت تلك (المجموعة) في موسكو حيث تلقى الأستاذ أدهم شتى العلوم. فرجاني منه إذن أن يعين لي (المجموعة) بحيث يثبت العنوان الفرنسي وتاريخ الطبع ومكانه. فإني جد حريص على أن أخبر أساتذتي وزملائي من علماء الاجتماع بوجود تلك (المجموعة)؛ وما أظنهم إلا ناشطين لها، وما أخالها إلا واقعة موقع الحدث
ولعل تلك (المجموعة) - وكلها سر - موجودة على خلاف ما أقوله وما يقوله صديقي الدكتور علي عبد الواحد وافي، وعلى خلاف ما جاء في الكتاب المتقدم ذكره. فتكون القصة أن الأستاذ أدهم لم يحسن نقل عنوان الكتاب من الفرنسية إلى العربية، وذلك لسببين:
أما الأول فلأن العربية ليست (لغة الأصلية)، كما قال في العدد السابق من الرسالة حين أخذ يعتذر إليّ من اقتباس تعبيرات لي.(314/81)
وأما السبب الثاني فلأن علمه باللغة الفرنسية لا ييسَر له مثل ذلك النقل. وقد ذكرت هذا وعللته مكرهاً، لعددين مضيا، فردّ الأستاذ أدهم قال: (إن اللغة الفرنسية ليست وقفاً عليّ)
معاذ الله أن تكون الفرنسية وقفاً على! غير أني ماذا أصنع وفي نقد الأستاذ أدهم لكتابي (مباحث عربية) ما يؤيد ما ذكرته من عددين؟ ففي رأي الأستاذ أدهم (راجع الرسالة العدد 311 ص 1229) أن استعمالي لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسي تارةً، ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر للمصدر نفسه (وهو بمعنى تارةً أخرى مما (يوقع في اللبس والاختلاط). والواقع الذي أثبته على كُرهٍ أن الأستاذ أدهم لم يدرك الفرق القائم بين اللفظين الفرنسيين: (راجع (مباحث عربية) ص 36، 56 خاصة)، فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية (الأخلاقية)، والثاني يفيد (علم الأخلاق). وحسب الأستاذ أدهم أن يستفسر معجماً فرنسياً للمدارس ذينك اللفظين.
ولك أن تقول: فإذا شقَّ على الأستاذ أدهم أن يحسن النقل من الفرنسية إلى العربية فكيف ارتجل مصدراً ارتجالاً ثم استشهد به وأثبت بضع صفحات (على جهة التمثيل)؟
الحق أني أود أن أعجب عجبك، ولكن ما قولك في هذا الاختلاق:
قال الأستاذ أدهم في نقده لكتاب (مباحث عربية) (الرسالة العدد 31 ص 1229): (يعتبر الباحث (يعنيني) كلمة البصيرة مقابلاً (كذا) ص 2257، والغريب أني لم أثبت كلمة إزاء كلمة البصيرة الواردة في ص 57 من كتابي ولا في صفحة غيرها. فمن أين جاء الأستاذ أدهم بكلمة وكيف جعلني (أعتبر) ما يجهل هل أنا (معتبره)؟
ثم لم لا يترجل الأستاذ أدهم المراجع ويبتدع المصادر، وهو الذي استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من المعهد القديم (الكتاب المقدس) ثم بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم، يوم نقد (مباحث عربية) (الرسالة العدد 312 ص 1274 ثم ص 1275). وإليك بيان ذلك:
أولاً - قال الأستاذ أدهم: (ومما يحسن بي الإشارة إليه أن كلمة المروءة وردت في اللغة العبرية، وهي من أخوات اللغات العربية، نازعةً فيها لمعنى السيادة (دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91)
والذي في كتاب (ملتقى اللغتين: العبرية والعربية) للأستاذ مراد فرج: (مرا: فتح فكسر(314/82)
ممال ممدود بمعنى السيد وولي الأمر - دانيال 14 - 19 والأصل العبري 16) (يريد، على أسلوب جمهور العلماء: الإصحاح 14 والآية 19 في الأصل العربي والآية 16 في الأصل العبري)
ومن المستحيل أن يكتب الأستاذ فرج: الإصحاح 14 (الرابع عشر)، لأن (سفر دانيال) اثنا عشر إصحاحًا فقط ومن هنا تبين لي أن الإصحاح 14 من غلطات الطبع. فسألت في ذلك زميلي الدكتور مراد كامل - مدرس اللغات السامية بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - فأخبرني بعد المراجعة قال: (إن الصواب هنا: الإصحاح 4 (الرابع) والآية 16 و21)
وهكذا ترى كيف جاء الأستاذ أدهم ونقل ما في كتاب الأستاذ فرج من غير تحقيق ولا روية. والظريف أنه استشهد بسفر دانيال أول ما استشهد، إذ قال: (كيت وكيت: دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91) كأنه اطلع على سفر دانيال قبل (ملتقى اللغتين) لفرج
ثانياً - قال الأستاذ أدهم - عند الكلام على أنساب العرب -: (ولكنا على الرغم من ذلك، نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة: ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج3 (كذا) ص 187. والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التي تناثر في الصحراء من القبائل العربية التي تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب: الفهرست ج3 (كذا) ص 187 وكذلك لنا (يعني كتاباً له): علم الأنساب العربية ص13 - 14)
على هذا النحو ترى الجزء الثالث (؟) من (الفهرست) لابن النديم يثبت مرتين على سبيل المرجع. وليس للأستاذ أدهم أن يستنجد بغلط الطبع، إذ في كتابه الذي ذكره: (علم الأنساب العربية): (مجلة الحديث، حلب 1938 ص14) ما جاء في نقده حرفاً بحرف.
هذا والمعلوم أن (الفهرست) لابن النديم طبع مرتين: مرةً في 1872، ومرة في مصر سنة 1348 للهجرة. وفي كلتا المرتين خرج (الفهرست) في جزء واحد والذي حدث في هذا الموطن أن الأستاذ أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنَّة، دأبه مع (سفر دانيال). ولو راجعها لعلم أن الكلام على الأنساب يقع في (المقالة الثالثة) (الفن الأول: في أخبار الإخباريين والنسابين. . .) من كتاب(314/83)
الفهرست، لا في الجزء الثالث منه. ومن هنا يتبين أنه ظن المقالة جزءاً لحظة اقتبس المرجع. وأما الصفحة التي يعينها (ص187) فلا أثر فيها لما يذكره. بل إني قرأت الفن الأول من (الجزء الثالث) كله (طبعة مصر، وهكذا للأستاذ أدهم أن يقول أن حديثه في طبعة ليبتسج!) ولم أعثر على حديث الأستاذ أدهم.
وأما قوله في مرجعه: (ابن حزم نقلاً عن الفهرست. . .) فغاية الاشتباه. لأنه إذا قال ابن حزم من غير تعيين أراد صاحب (الفصل في الملل والأهواء والنحل). وعليه فلنا أن نسأل الأستاذ أدهم أي كتاب لابن حزم يعني، ولابن حزم المولود سنة 383 (أيَّ ست سنوات بعد تصنيف الفهرست) ستة وثلاثون مؤلفاً؟ راجع: بروكلمن (تكملة تاريخ الآداب العربية) ليدن 1937 جـ1 ص694 - 697. ثم إني أعلم أن لابن حزم كتاباً لا يزال مخطوطاً، عنوانه: (جمهرة النسب)، وقد نشر جانباً منه في كتابه: فهل يعني الأستاذ أدهم في مرجعه ذلك المخطوط؟ وإذن فأين اسم الكتاب وأين الصفحة، كما يصنع الناقد الثبت والباحث الثقة؟
وغاية القول هنا: أين الجزء الثالث من الفهرست، وأين النص المستشهد به في ص187، بل في الفن الأول من المقالة الثالثة من الفهرست؟ ثم من ابن حزم هذا، وما كتابه؟
إني والله ليحزنني أن لأثبت كل ذلك، وليزيدنَّ في حزني أن الأستاذ أدهم حدثته نفسه بأن يكتب: (وأظن أن الدكتور بشر لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاءً للمصادرة) (الرسالة العدد 311 ص1225). فليطمئنَّ الأستاذ إلى أني لا أنكر عليه ذلك، وليطمئن أيضاً إلى أن (الكاتبين في العربية) لن ينازعوه الغلبة في استقصاء المصادر على طريقته. إنما العلم دقة وأمانة. . .
وإذا امتد الحديث إلى استقصاء المصادر فما ضرَّ الأستاذ أدهم لو راجع معجمات الفلسفة وكتبها حين تكلم على كلمة في نقده لمباحث عربية كما تقدم. فقد قال: (وهذا (أي: الانتقال دفعة واحدة من المبادئ إلى النتائج) ما يفيد معنى لفظة اصطلاحاً ولغوياً كما يستفاد من مراجعة معاجم اللغة الفرنسية)
فهل يصاب المصلح الفلسفي على وجهه التام والخاص جميعاً في (معاجم اللغة)؟ إني هنا أرشد الأستاذ أدهم إلى (المعجم الاصطلاحي والنقدي للفلسفة) للأستاذ (باريس 1932)(314/84)
فثمة يدري كيف يذهب الإصلاح الفرنسي إلى أبعد مما يظن. وله أن يقرأ أيضاً - ليحكم معرفة المصطلح لهذا العهد مثلاً - كتابين للفيلسوف برجسون وهما ' (الباب الثاني) ثم كتاباً للعالم بوانكاريه (الفصل الأول من الباب الثالث
وإذا أراد الأستاذ أدهم أن يعرف ما تحت مصطلح قبل هذا العهد فعليه ببعض ما كتبه خاصةً في (نقد العقل الصرف) ثم شوبنهاور
هذا من جهة المصطلحات الفلسفية، وأما من جهة المواضعات العربية فما ضر الأستاذ أدهم لو راجع معجمات اللغة ونظر في دواوينها قبل أن يكتب في نقد (مباحث عربية) (الرسالة، العدد 311 ص1229): (ثم عندك قول الكاتب (يعنيني) إن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى). ثم يزيد: (ففي هذا التعبير لفظة المتجاور تفيد إفرنجياَّ معنى والقصور واضح في التعبير العربي (كذا!) فضلاً عن أن التعبير غير مستقيم من جهة البناء اللغوي (كذا!) ولكي تتسق مفادات العبارة لا بد من إبدال لفظة: المتجاورة من الجملة بالمتشابهة لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة)
على أني لا أحب أن أسأل الأستاذ أدهم كيف يناقشنا في لغتنا وهو لا يزال يأخذها عنا، كما اعترف بذلك في خاتمة مقاله المنشور في العدد الماضي. إن كل ما أبتغيه أن أرشده إلى كتب اللغة العربية ليتبين أن معنى لفظة تؤديه في العربية الفصحى لفظة (المترادف) (وما هذه اللفظة عنيت في جملتي المذكورة قبل). وأعلم أن كلمة في الإفرنجية هي الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (أو متقارب). وإلى الأستاذ أدهم (مثلاً) فصلاً قريب المنال في (المزهر) للسيوطي (النوع السابع والعشرون)
العلم في مصر أمسى شيئاً مقدساً له سدنته وله حراسه. فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبيت والدراية؟. . .
فالرؤية الروَّية عند الإقبال على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه. والنقد أمر لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده. والنقد للعلم مصباح على أن يكون الزيت لا دخل فيه!
بقى أن أودع القارئ، وأنا راحل إلى أوربة بعد أربعة أيام. وإني لشاكر له صبره، فقد أطلت الكتابة في سبيل (وضع الشيء موضعه). ورجائي منه أن يتحقق ما جاء في هذه(314/85)
الكلمة: فكتاب (الفهرست) و (سفر دانيال) - مثلاً - مبذولان لكل أحد. وإني لمطمئن إلى أن القارئ سيعرف - من طريق المراجعة والتحقيق - كيف ينظر عني فيما يبدو لهذا أو لذاك أن يكتب ويكتب والسلام، وإلى اللقاء بعد أربعة أشهر
بشر فارس
دكتوراه في الآداب من السوربون(314/86)
العدد 315 - بتاريخ: 17 - 07 - 1939(/)
بين بطء الماضي وسرعة الحاضر
من الأحاديث العابرة. . .
- اجلس قليلاً يا صديقي نتحدث! لقد أصبحت كالطيف النافر لا نسمعك هُتافاً إلا لمحاً ولا نجالسك إلا لماماً
- عصر السرعة يا صديقي! لقد اشتد سائق الركب وأسرع في النغم حاديه! فمن تخلف عن قافلة الحياة افترسه الجوع وتخطفه العدم!
- أوه! أجل يا صديقي! عصر السرعة، أو عصر الآلة، أو عصر الإنسان ذي الزمبلك! أسماء مختلفة لمرض واحد: هو كَلَب هذه الحضارة الغربية!
- أتسمى نشاط الحياة وسرعة العمل ومساورة الرزق مرضاً؟ وأين تكون الصحة إذن؟ أفي الخمود أم في القعود أم في التخلف؟
- رويدك يا صديقي! هل تستطيع أن تقول لي: لماذا يسرع الناس؟ أليقطعوا العمر في أعوام؟ أليفنوا الشباب في أيام؟ أليقضوا اللذة في ساعات؟ وما قيمة كل ذلك في دَرَك السعادة؟ لقد كنا نشتغل بعض اليوم، فأصبحنا نشتغل كل الليل؛ وكنا نعمل باليد، فأصبحنا نعمل بالآلة؛ وكنا ننتقل بالجمل، فأصبحنا ننتقل بالطيارة؛ وكنا نأكل مطمئنين في البيت، فأصبحنا نأكل مضطربين في الشارع؛ وكنا نقيم العرس أربعين يوماً والمأتم سنة، فأصبحنا نقتصر من الفرح على ساعة العقد، ومن الحزن على تشييع الجنازة؛ وكنا نخلق الكائن الفني في دهر طويل من العمر ليكون متعة الذوق والذهن والعاطفة طول الأبد، فأصبحنا نصوره في ليلة ليفرغ الناس من تقديره في لحظة. فهل وجدنا من رخاء الصدر وسكينة الروح مقدار ما فقدنا من راحة البدن وفسحة الأجل؟
- وما يدريني؟ لو أنني أدركت العهدين لجاز أن أحسن الموازنة وأصيب الحكم؟
- أنا الذي أدركت العهدين، وأستطيع أن أقول لك إني أشعر بالفرق بين بطء العيش وسرعته، كما يشعر الظامئ الآمن بالفرق بين الرشيف والجرع، وأدركه كما يدرك المتنزه الشاعر الفرق بين اجتياز الروض على القدم واجتيازه في السيارة. لا ريب أن الشارب إذا ترشف وتمززه كان ذلك أنضح لغليله وأبرد على كبده من العَب الذي يعجل الري ولكنه يؤجل الهناءة. كذلك المتنزه على قدميه يجد في كل خطوة عالماً من الجمال، وفي كل وقفة(315/1)
فيضاً من اللذة؛ على حين لا يجد راكب السيارة إلا الخوف في كل نظرة، وإلا الخطر في كل كرَّة!
أنظر! هذا الذي تراه واقفاً بعربته أمام الدار عامل من عمال (أورزدي باك). طلبنا من هذا المتجر بالتليفون بعض متاع البيت وحاجة العيش، فأرسله بالسيارة، وتسلمه الخدم، ولم نجد نحن الذين كلفتنا هذه الصفقة عشرة جنيهات ما كان يجده المشترون المتذوقون من لذة الانتقاء وفرحة الاقتناء وغبطة القدرة
هذه (العملية) التي لم تستغرق غير ساعة من النهار كانت في حياتنا القروية الذاهبة تقتضي من الزمن أسبوعاً ينقضي بين سوابق اللذة وآثارها مذهَّب الأطراف بالأحلام، مطرز الحواشي بالصور، لا تكاد الأسرة تفيق من نشوته ولا تنتهي من حديثه!
دعني أَعُد بالذاكرة إلى حدود الماضي البعيد فأذكر لك كيف كان رجال القرية يشترون حاجة عامهم من السوق. كان بين القرية والمنصورة ساعة ونصف بالحمارة السريعة، فأصبح بينهما اليوم ربع ساعة بالسيارة البطيئة! وكان القوم متى باعوا القطن أكثروا الحديث عن المتاع والكسوة والمنصورة، فتتهيأ الأذهان من قبلُ للسوق كما يتهيأ قلب المؤمن في رمضان للحج، وفكرُ (المتمدن) في أبريل للاصطياف. فإذا جاء يوم السوق الذي تواطأ رجال (الحارة) على الامتياز فيه، كان كل شيء على تمام الأهبة: فالبرادع المنجدة على الحمير، والإخراج المخططة على البرادع، والعصيُّ الدقيقة في الأيدي الغليظة، والدنانير الذهبية في الأكياس العميقة، والفطائر الدسمة في المقاطف الوعيبة، وكبير (الحارة) قد تنفس عليه الصبح وهو على حماره في جرن القرية يحبس المتقدم ويستحث المتأخر؛ حتى إذا اجتمعت العِير واكتمل العدد ساروا في سكة السوق سطراً منضوداً يتناسق على نظام المقام والسن. وتسمع ضوضاءها من بعيد فتحار أذنك بين الكلام والضحك والنهيق وحث المطايا بالزجر والضرب، واصطكاك الحوافر بالتراب والحصى. فإذا بلغوا (طلخا) أودعوا حميرهم في (الوكالة) وهي (الجراج) بلغة اليوم، ثم وضعوا الإخراج على المناكب ومضوا صامتين إلى المعبر يركبون منه الفُلك إلى شاطئ المنصورة
وهنا يرفضُّ عن القوم النشاط والزياط والجرأة فيخشعون خشوع الطائر المهيض، لأن(315/2)
النيل غير الترعة، والسفينة غير النورج، والمدينة التي يسكنها الأفندية غير القرية التي يخيفها كلها أفندي واحد! هاهم أولاء يخرجون من ضيق القارب إلى زحمة الشارع فيمشون في سَواء الطريق أو على إفريزه سلاسل سلاسل يتماسكون عند الخوف، ويتكومون لدى الهلع، ويتصايحون عند الشتات، ويقفون اللحظة بعد اللحظة ريثما يعود الشارد ويلحق المتخلف، حتى ينزل بهم الدليل على (الخواجة) المقصود، ننزل الغيث على الثرى المجهود، فيجلس الكهول على الكراسي، والشباب على الأرض؛ وينشر تاجر القماش وعماله الأثواب المختلفة على عيونهم الشاخصة وأيديهم الفاحصة، فيختلفون على النوع أو على اللون أو على السعر، فتعلو الأصوات، وتعنف الحركات، وتطول المساومة، حتى تخور القوى وتصحل الحناجر ويذهب الوقت فيقبلون أخيراً كل نوع يُعرض، ويرضون كل ثمن يُفرض!
ثم يقومون للغداء فيتخيرون شارعاً غير مطروق يجلسون حلقاً على حاشيتيه ويأكلون فطائرهم بالحلاوة والعنب والبلح وهم فرحون مبتهجون، ثم يعودون إلى البدال والعطار فيستأنفون النزاع على الصنف والسعر حتى يغشاهم الليل فيخرجون من سوق (الخواجات) بُجْرَ الإخراج والغرائر لا يهتدون في النور، ولا يأنسون بالناس، ولا ينتبهون للدليل، فينقطع الضعيف، ويضل الغافل، ويكون عند المعبر افتقاد ونشدان وضجة!
فإذا خلصوا بما معهم من المدينة والنهر واقتعدوا ظهور المطىّ ونشقوا نسيم الحقول انبسطت المشاعر وانطلقت الحناجر فخاضوا في أحاديث السوق، وأفاضوا في أعاجيب البندر، وادعى كل منهم أنه كان أبصر بالبضاعة وأخبر بالسعر وأقدر على الخواجة!
وكان شباب القرية قد انتشروا مع الظلام في طريق العودة يلقون العير ويكفونها مخاوف الليل. وكان نساء الغائبين وأطفالهم يتراقصون على أنغام المنى، ويتسمعون على السطوح لجب القافلة. فإذا دخلت البلد قابلوها بالزغاريد والأناشيد، وقضت (الحارة) معظم الليل في أكل البلح ومص القصب وتساقي الحديث. ثم يصبح الصباح فتفتح الحقائب وتوزع الكُسى وتفرق الهدايا، وتغرق هذه الأسر في فيض من الفرح والمرح مدى أسبوع!
الواقع يا صديقي أن السرعة محنة هذه الحضارة. وذلك أنها وفرت على الناس الصحة وأخرت عنهم الموت حتى نموا وكثروا، فمنهم يتزاحمون على موارد الرزق، ويتسابقون(315/3)
إلى مظان القوت، فأصبح من لا يجعل جناحيه في رجليه لا يسبق، ومن لا يصل بالعمل يوميه لا ينال!
احمد حسن الزيات(315/4)
ضريبة الجمال
للأستاذ عباس محمود العقاد
الشاطئ عامر ولكنه ليس بالمزدحم، والبحر مائج له زئير، والهواء هائج له صفير، والراية السوداء كالقافية المحزنة تتكرر على مسافات متساويات أو متقاربات؛ قافية محزنة والقصيدة مفرحة تضج بالحركة والحياة!. . . وهذا من عجيب النظم في شعر البحار والحمامات!
وإذا اتسع الأفق أمام العينين حتى كأنهما تنظران إلى مكان واحد، وتجاوبت الأصداء على الأذنين حتى كأنهما قد كفَّتا عن السماع بعد طول التكرار، فهنالك تنطلق الخواطر شتاتاً كما تنطلق خواطر الأحلام بعد تعطيل السمع والنظر، فهي تارة تستقصي إلى ما وراء الأعماق، وتارة تستقرب فلا تتجاوز أدنى المحسوسات، مما علق بالذهن قبيل لحظات معدودات
وهكذا جلست أرقب الشاطئ وكأنني أحلم بما أراه. ومن حق الشاطئ وايم الله أن يحسب في عداد الأحلام
هاهنا وهاهناك تماثيل من خلق الله في المعرض الحافل المتجدد: بعضها ولا ريب تحفة من تحف الخلق والتكوين، وبعضها ولا ريب لازم للمناوبة بين شعور الإعجاب وشعور الرثاء، أو للمناوبة بين إبداء المحاسن وإبداء العيوب
نعمة جزيلة وأي نعمة هذا الجمال الذي لا يقوم بمال
نعمة يستمتع بها أصحابها وغير أصحابها، وربما كان نصيب لابسيها دون نصيب الناظرين إليها، لأنهم يعرضونها ويعطونها والناظرون هم الآخذون
بل هم حريصون على عرضها وإعطاء العيون منها كل نصيب تشتهيه
وإلا فما بال هؤلاء العارضين قد تهيئوا لنزول الماء والماء لا يقبل النازلين فيه!
سيقولون: للشمس لا للبحر!. . . لا تصدقهم!. . . فالشمس أيضاً من وراء سحاب، قلما تسفر من ذلك الحجاب
إنما يتهيئون لحمام من أشعة النظر لا من أشعة الشمس ولا من أمواج الماء، ويا له من حمام مريء على الجمال(315/5)
وكنت حديث عهد بالضرائب ولجاج الموازنة بين الموارد والمصروفات
ويشاء الحلم أن يستقرب في هذه المرة فيسنح لي خاطر كأسرع ما يكون وأقرب ما يكون:
ما للدولة لا تشارك الجميل في نعمة جماله كما تشارك الغني في نعمة ثرائه والصانع في نعمة ذكائه أو عضلاته!
كل نعمة فللدولة منها حصة. فما بال الجمال لا يحسب من النعم عند مصلحة الضرائب الأميرية؟ أو ما باله يحسب من النعم ولا يدخل في الحساب؟
علم الله لو فرضت ضريبة الجمال لجمعت الدولة الملايين واستراحت من المحصلين، لأن أصحاب الضريبة يؤدونها عن يد وهم شاكرون، ويشكون إن قل نصيبهم منها. . . ويحمدون الله أن خرجوا بها مثقلين مرهقين
وخطر لي قلم المراجعة والمظالم وما يتوالى عليه من الشكايات والمراجعات
أفلانة تطالبها الدولة بألف جنيه ضريبة جمال ولا تطالبني أنا بأكثر من بضع مئات؟ من هو هذا الأعمى الذي ترتضيه الحكومة عاملاً لها في لجنة التقدير؟ ومن هي هذه (الضعيفة الذليلة) التي تذعن لهذا الحيف وتصبر على هذا الظلم المبين؟
وخطر لي ما قبل الشكاية وقبل الرجوع إلى لجنة المراجعة
خطر لي الزوج المسكين وهو داخل على الزوجة العابسة المتحفزة للشجار: تشاجره هو لأنها لا تجد بين يديها الموظف (الأعمى) الذي ظلمها بذلك النصيب من الضريبة، ولا تأمن العقبى من (التعدي في أثناء تأدية الوظيفة) والإصرار على تطفيف ذلك النصيب المنزور
- ما بالك يا عزيزتي مهمومة البال؟
- مالي أنا؟ بل قل مالك أنت بين الأزواج؟ قل مالك أنت بين الرجال؟ قل مالك أنت بين خلق الله؟
- أنا؟ وما خطبي يرحمك الله يا أمة الله؟
- نعم أنت!. . . أنت دون غيرك!. . . أنظر إليّ! افتح عينيك في وجهي. افتحهما جيداً وقل لي: هل أنا دون فلانة في الحسن والرشاقة والفتنة والأناقة؟ هل أنا دميمة ذميمة أم هي خيبتي فيك - وا حسرتاه - هي التي خيبتني بين النساء؟(315/6)
وبعد بكاء واستغراق في البكاء
وبعد جفاء وإمعان في الجفاء
وبعد مائة سؤال ومائة جواب تظهر الحقيقة فإذا هي (تظلم من قلة الضريبة) وإرغام للزوج المسكين على المطالبة بمضاعفاتها في غمضة عين، وهو هو الذي (يغرمها) ويكتوي بنارها. . . وإلا فليس هو برجل بين الرجال، وليست هي بزوجة ترضاه بهذه الحال!
ويخيل إلى صاحبنا أنه يخدعها عن هذا الطلب ببعض الوعود وبعض الهبات، فيعود إلى المراوغة والإغراء:
- يا عزيزتي! يا زينة النساء. . . يا أجمل من خلق الله: أتهمك هذه الفلانة وهي لا ترتقي إلى مقام الجارية تحت قدميك؟ أليس أولى من بذل المال في الضريبة المضاعفة حلية تزيدك جمالاً عل جمال، وحلة تنفردين بها بين الأتراب والأمثال، وشارة تغار منها فلانة، وقُنية بعد ذلك باقية للحفظ والصيانة؟
ثم تشتد الحيرة بالمباركة فلا تدري أي الحسنيين تختار، ولا بد أن تستقر ولا سبيل إلى قرار
هنا الحلية والحلة وما رفضتهما قط بنت من بنات حواء
وهنا الجمال بشهادة الحكومة واعتراف القانون وتسجيل الأوراق الرسمية، وهي حجة تخرس اللسان، ولا تدفع بالبرهان مشكلة!
ولا طاقة للمباركة بحلها
فليحلها الزوج المسكين، بالجمع بين الحسنيين!
خطرت لي هذه الخواطر، وتمثلت القائمين على خزانة الدولة بين إغراءين كاللذين حارت فيهما المباركة صاحبة المظلمة من تطفيف الضريبة
فماذا يصنعون؟
هل ينتفعون بإقبال الناس على البذل والإعطاء فيقبلون من كل باذل، ويستجيبون لكل طلب، ويشهدون لكل راغبة في شهادة؟
أو يؤثرون أمانة الذوق وصدق النظر ونصفة الفن على ضخامة المورد وموازنة الأبواب؟(315/7)
مشكلة!
لكنها ليست بالمشكلة العويصة فيما أحسب، وليست بالمشكلة التي تحل بالجمع بين الأمرين فيما أعتقد. . . لأن الأمانة في تقويم الجمال، سر قابل للاستغلال، وباب جديد لفرض الضرائب على الخاطبين السائلين، وعلى مسابقات الجمال في غير حاجة إلى محكمين، وعلى أفانين شتى قد تظهر بعد حين، فإن فات الخزانة ربح الطمع فلن يفوتها الربح من هذه الأفانين.
عباس محمود العقاد(315/8)
حول الوحدة العربية
إلى الدكتور طه حسين
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
أيها الأستاذ:
لقد مضى نحو ستة أشهر على نشر الانتقادات التي وجهتها إليهم - في مجلة (الرسالة) - بمناسبة حديثكم المنشور في مجلة (المكشوف) البيروتية، حول (الوحدة العربية وموقف مصر منها)، وعلى نشر (الفصل الجوابي) الذي أرسلتموه إلى (الرسالة) رداً على تلك الانتقادات
لم أكتب إليكم شيئاً حول هذه القضية خلال هذه المدة لأسباب ستظهر لكم من الأسطر التالية، ومع هذا أشعر الآن بدافع قوي يدفعني إلى مخاطبتكم في هذه المسألة، بالرغم من مرور هذه الأشهر الطويلة، لمواصلة البحث فيها والمناقشة عليها
كنت غادرت بغداد إلى المغرب الأقصى قبل وصول عدد الرسالة الذي نشر فيه ردكم، فلم أطلع عليه إلا في بيروت قبل سفري منها بالطيارة. قرأت الرد هناك فوقعت في حيرة عميقة، لأنني انتهيت من قراءته دون أن أجد فيه كلمة واحدة يصح أن تعتبر رداً على ملاحظاتي الاعتراضية، أو جواباً على أسئلتي الانتقادية. . . لأن الآراء المسرودة في الفصل كانت تحوم حول قضية (وحدة الثقافة) و (واجب مصر في أمر هذه الوحدة) في حين أن هذه القضية لم تكن في القضايا التي اختلفت معكم فيها، بل كانت في القضايا التي شكرتكم عليها! فإنني ختمت مقالتي الانتقادية بالعبارات التالية:
(هذا، وأرى ألا أختم اعتراضاتي، دون أن أتوجه إليكم بكلمة شكر؛ فإني أشكركم من صميم فؤادي على مناداتكم بتوحيد الثقافة بين البلاد العربية، لأنني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. فأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم كل ما بقى من ضروب الوحدة. . .)
فكان من الطبيعي أن أقع في دهشة عميقة من قراءة الفصل الذي نشرتموه في الرسالة تحت عنوان (الرد)
وأخذت أفكر - وأنا أقطع الفضاء فوق أجواء البحر الأبيض المتوسط - في تعليل الخطة(315/9)
التي انتهجتموها في هذا الباب: (كيف سوغ الدكتور طه حسين لنفسه أن يسمى هذا الفصل ردا؟)
قلت في بادئ الأمر: يظهر أن الأستاذ قد شعر بالخطأ الذي وقع فيه فلم يجد مجالاً للرد على الانتقادات التي وجهت إليه، ولم يرد مع هذا أن يعترف بذلك، فأراد أن يتظاهر بالرد بنشر فصل لا علاقة له بموضوع الانتقاد والاعتراض
غير أنني لم أرتح لهذا التفسير والتعليل، لأنني استبعدت منكم أن تسلكوا مثل هذا المسلك في مناقشة قضية هامة مثل قضية الوحدة العربية، فواصلت التفكير في الأمر إلى أن خطر على بالى تعليل آخر أقرب إلى العقل من التعليل الأول. يقول الدكتور طه حسين: إن الرد هو فصل من كتاب تحت الطبع؛ أفليس من الممكن أن يكون قد حدث سهو في نقل الفصل من الكتاب؟ قد يكون في الكتاب فصل يتضمن الرد؛ غير أن الدكتور قد سها في رقم الفصل؛ فالمطبعة أرسلت إلى (الرسالة) فصلاً آخر غير الفصل المقصود
عندما لمحت هذا الاحتمال، ركنت إليه كل الركون وقلت في نفسي: قد ينشر الدكتور في العدد التالي من الرسالة تصحيحاً لما حدث؛ غير أن سفراتي السريعة سوف لا تترك لي مجالاً للاطلاع على ذلك قبل عودتي إلى بغداد. . فلابد لي من الانتظار إلى ذلك الحين للوقوف على التصحيح، أو لقراء الكتاب
ولهذا السبب، عندما عدت إلى بغداد بعد إتمام رحلتي في المغرب الأقصى والجزائر وتونس وصقلية - أسرعت إلى تصفح أعداد الرسالة التي صدرت في غيابي؛ ولما لم أجد فيها شيئاً يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده، طلبت نسخة من كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)؛ وأخذت أقرأ بانتباه شديد باحثاً فيه عن (الرد). . . غير أنني وقعت في دهشة أشد من دهشتي الأولى عندما انتهيت من قراءة فصول الكتاب بأجمعها، دون أن أصادف فيها أيضاً ما يصح أن يعتبر جواباً على أحد أسئلتي الانتقادية. . . فقلت في نفسي: لم يبق مجال لتعليل الأمر بغير الملاحظة التي كانت وردت على ذهني عقب مطالعة الرد المنشور في مجلة الرسالة
مع هذا لم أشأ أن أكتب شيئاً حول هذا الموضوع، للملاحظتين التاليتين: أولاً، كان قد مضى على نشر ردكم مدة تناهز ثلاثة أشهر بسبب ظروف رحلتي. ثانياً، إن (تباعد الرد(315/10)
عن موضوع البحث والمناقشة) كان من الأمور الجلية التي لا تحتاج إلى التوضيح والتنبيه؛ كما ظهر لي ذلك من أقوال الشبان الذين حادثتهم خلال رحلتي في باريس، وتونس، وسورية
فقلت في نفسي: لا داعي إلى كتابة شئ في هذا الموضوع بعد انقضاء هذه المدة، ما دام رد الدكتور طه حسين لم يكن من النوع الذي يستطيع أن يخدع أحداً من القراء الأذكياء
ولذلك لم أعد إلى هذا البحث منذ ذلك الحين
غير أنني اطلعت أخيراً على مقالكم المنشور في العدد الممتاز من مجلة الهلال، عن (العقل العربي الحديث). ورأيت أنكم عرضتم في ذلك المقال لمسألة (الوحدة العربية) بطرق ملتوية: بعد أن سردتم بعض الآراء حول (تطور العقل البشري) بوجه عام، وتطور (العقل الأدبي الحديث) بوجه خاص، بحثتم عن وجوب (تجديد العقل العربي)، وذكرتم ما تعتقدونه في وسائل هذا التجديد. . . وفي الأخير، انتقلتم إلى مسألة (الوحدة العربية) بطريقة (ظريفة وطريفة) إذ قلتم ما يلي:
(وربما كان من الأمثلة الظريفة الطريفة التي تبين الفرق بين العقل العربي القديم، والعقل العربي الحديث في هذا العصر الذي نعيش فيه، مسألة الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية التي يكثر فيها الكلام وتشتد فيها الخصومة؛ فما أظن أن الناس يختلفون في أن هذه الوحدة نافعة للشعوب العربية وللشعوب الإسلامية أشد النفع، وفي أن مصالحهم تدعوهم إليها وتدفعهم إليها دفعاً، ولكنهم مع ذلك يختلفون ويختصمون لا لشيء إلا لأنهم يختلفون في تصور هذه الوحدة حسب ما يتاح لهم من العقل القديم أو العقل الحديث. فأما أصحاب القديم فيفهمون هذه الوحدة كما فهمها القدماء في ظل سلطان عام شامل يبسط عليها جناحيه ويحوطها بقوته وبأسه، وليسمَّ هذا السلطان خلافة، وليسمَّ ملكاً كما كان يسمى قديماً، ويجوز أن يسمى إمبراطورية ليكون له حظ من الطرافة، فقد عرف القدماء الإمبراطوريات واحتفظ بها المحدثون من الأوربيين. وكذلك يخدع العقل القديم نفسه فيظن أنه أصبح حديثاً. وأما أصحاب العقل الحديث فيفهمون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المحتضرة بالحضارات الحديثة الأوربية. يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تفيد إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم(315/11)
في حياتهم الداخلية والخارجية وقامت على الحلف الذي لا يفنى أمة في أمة، ولا يخضع شعباً، وإنما يمكن الأمم من أن تتعاون على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة. فإذا قال صاحب العقل الحديث مقالته هذه ضاق به صاحب العقل القديم أشد الضيق، لأن عقله لم يتطور بعد، ولم يستطيع أن يكون من أهل العصر الذي يعيش فيه، وإنما هو محتفظ بكل مشخصات القرون الوسطى، وهيهات لمشخصات القرون الوسطى أن تسيغ ما يقع في القرن العشرين. . .)
يظهر لي من كلماتكم هذه أنكم بعد أن تهربتم من مناقشة مسألة الوحدة العربية مناقشة مباشرة - حين دُعيتم إليها - أردتم أن تعودوا إليها عن طريق التعريض والتلويح، كما وددتم أن تستهووا أذهان قرائكم عن طريق اتهام معارضيكم بالتمسك بـ (مشخصات القرون الوسطى)، وإلباس رأيكم حلة قشيبة من (مقتضيات العقل العربي الحديث).
فاسمحوا لي إذن أن أتبعكم في هذه الطرق الملتوية، وأن أزن ملاحظاتكم بميزان (العقل العربي الحديث) الذي تشيرون إليه.
لا أدري إذا كان الانصراف عن مناقشة المسائل مناقشة مباشرة، والالتجاء إلى طرق (التعريض والتشويش) في أمرها مما يفيد - في عرفكم - في مقتضيات العقل الحديث. غير أنني أعتقد أنكم تسلمون معي - على كل حال - بأن العقل العربي الحديث يجب أن يكون على غرار العقل الأوربي الحديث، ولا تنكرون - بالطبع - أن (العقل الأوربي الحديث) يتطلب السير على مناحي الأبحاث العلمية، على أساس استنطاق الوقائع والحادثات واستقرائها متجرداً عن تأثيرات الميول النفسانية والآراء القبلانية. . .
فلننعم النظر في الملاحظات التي نقلتها آنفاً عن مقالكم لنرى مبلغ ملاءمتها لمقتضيات (العقل العربي الحديث) الذي تدعون إليه:
أولاً، إنكم تبحثون في كلامكم هذا عن الوحدة العربية والوحدة الإسلامية كأنهما مسألة واحدة، في حين أن إحداهما تختلف عن الأخرى اختلافاً كلياً. فإن فكرة (الوحدة العربية) ترمي إلى توحيد الشعوب التي تتكلم بلغة واحدة، في حين أن فكرة (الوحدة الإسلامية) ترمى إلى توحيد الأمم التي تتكلم بلغات مختلفة، بالرغم من تدينها بدين واحد؛ فالبون بينهما شاسع جداً، فإن الدعوة إلى (الوحدة العربية) لا تتضمن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية(315/12)
الشاملة؛ كما أن عدم الإيمان بإمكان تحقيق (الوحدة الإسلامية) لا يستلزم إنكار إمكان تحقيق (الوحدة العربية). ولذلك أقول بلا تردد إن خلط هاتين المسألتين، والنظر إليهما بنظرة واحدة، يخالف أبسط حقائق علم الاجتماع، وأبرز وقائع تاريخ السياسة، ولا يتفق مع الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه
ومن الغريب أنكم لا تكتفون بالخلط بين هاتين المسألتين، بل تحشرون بينهما مسألة الخلافة أيضاً بصورة غريبة، وتنظرون إلى هذه المسائل كلها بنظرة واحدة. لقد تعودنا أن نرى آثار مثل هذا الخلط، في كتابات بعض الساسة من الأوربيين المستعمرين، لأنهم ينظرون - عادة - إلى هذه المسألة كلها من وجهة نظر أطماعهم الاستعمارية، ويسعون إلى وصم جميع الحركات القومية والوطنية بوصمة (التعصب الديني) ليثيروا الرأي العام الأوربي عليها. . . غير أننا ما كنا ننتظر منكم أن تقتفوا أثر هؤلاء الساسة من حيث لا تشعرون، وأن تخلطوا بين هذه المسائل بهذا الشكل الغريب.
فأرى من واجبي أن أصرح لكم في هذا المقام، بأنني مع عدد كبير من المفكرين القوميين الذين أعرفهم وأتصل بهم على الدوام أنظر إلى قضية (الوحدة العربية) كقضية مستقلة عن قضايا (الوحدة الإسلامية) و (الخلافة الإسلامية) كل الاستقلال. وأؤكد لكم أنني - بقدر ما أومن بفكرة العروبة، وبقدر ما أعتقد بإمكان الوحدة العربية، وبقدر ما أقول بوجوب السعي وراء تحقيقها - أعتقد باستحالة (الوحدة الإسلامية)؛ وأقول إن (إثارة فكرة الخلافة) مضرة بـ (قضية الوحدة العربية) و (فكرة التضامن الإسلامي) في وقت واحد
هذا ومن جهة أخرى ألاحظ أنكم تسلمون - في مقالكم هذا - بأن (الوحدة) نافعة لـ (الشعوب العربية والإسلامية) أشد النفع؛ وتقولون بأن الناس لا يختلفون في منافع هذه الوحدة، إنما يختلفون في (تصورها حسب ما يتاح لهم من العقل القديم والعقل الحديث). . . كما تصفون لنا نوعي هذا التصور وصفاً بارعاً: بالنوع الذي يقول به (صاحب العقل القديم)، وهو الذي (يتصور الوحدة تحت ظل سلطان شامل)؛ والنوع الذي يقول به (صاحب العقل الحديث)، وهو الذي يتصور الوحدة على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة. . .)
أنا لا أود أن أبحث عن مبلغ مطابقة وصفكم هذا للحقائق الراهنة؛ غير أني أرى من(315/13)
الضروري أن أقول لكم في هذا المقام إنني قد اطلعت - قبل مدة - على رأى في (الوحدة العربية) يختلف عن هذين الرأيين في وقت واحد: فإن صاحب ذلك الرأي، كان لا يقبل (الوحدة)، (ولو كانت على أساس المساواة)، ولا يرضي بالوحدة، (ولو كانت على نمط اتحاد يشابه الاتحاد الأمريكي أو السويسري). . . فهل تسمحون لي أن أسألكم: أتعتبرون موقع هذا الرأي في العقل القديم أم العقل الحديث؟
لا أشك في أنكم لن تطلبوا مني أن أذكر لكم اسم صاحب هذا الرأي؛ غير أني أظنكم سوف تعذرونني إذا ذكرت ذلك تنويراً للقراء:
إن صاحب هذا الرأي - الذي يخالف مقال صاحب العقل القديم ومقال صاحب العقل الحديث في وقت واحد - هو صاحب (الحديث) المنشور في مجلة (المكشوف)!. . . ذلك الحديث الذي كان مبدأ ومنشأ لجميع هذه المناقشات!
فقد قرأت في ذلك الحديث، العبارة التالية، بحروفها:
(مصر لن تدخل في وحدة عربية، حتى ولا اتحاد عربي، سواء أكانت مساوية فيه للأمم العربية الأخرى أو مسيطرة عليها. . .) (المكشوف - العدد: 175 - الدكتور طه حسين يتحدث عن العروبة. .)
كما قرأت في مكان آخر من ذلك الحديث العبارة التالية، بنصها:
(الوحدة العربية، كما يفهمها ذووها يجب أن تتحقق بشكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري)
(المكشوف - العدد: 175 - الدكتور طه حسين يتحدث عن العروبة. . .)
ترون من كل ذلك أيها الأستاذ أن مسألة الوحدة العربية ليست من القضايا التي يمكن أن تناقش وتعالج بالصناعة الكلامية والاندفاعات الارتجالية. . . كما ترون أن الخطة التي سلكتموها في معالجة هذه القضية تجركم دائماُ ً إلى مواقف تخالفون فيها الحقائق الراهنة مخالفة صريحة، كما جرّتكم في بعض الأحيان إلى مواقف تناقضون فيها أحاديثكم الذاتية أيضاً. . .
إنكم تدعون المفكرين إلى بذل الجهود في سبيل (تجديد العقل العربي). . . وكم كنت أود أن أراكم تعملون بهذه الدعوة في المناقشات التي تخوضون فيها، ولا سيما إذا كان موضوع(315/14)
المناقشة من الموضوعات الهامة مثل (فكر العروبة) و (الوحدة العربية). . .
(برمانا)
أبو خلدون(315/15)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 6 -
أرى من الواجب في مطلع هذا المقال أن أوضّح مسألتين خفيتا على بعض القراء فجرت ألسنتهم بالعتب والملام.
المسألة الأولى، هي الحكم بأن أحمد أمين ينظر إلى الأدب، وإلى الوجود نظرة عامّية؛ فقد ظن فريق من الناس أننا نقول بأنه من العوامّ في حدود الاصطلاح المألوف، على معنى أنه بعيد عن الجو الذي يعيش فيه العلماء.
وذلك غير ما نريد. فأحمد أمين تلقى العلم في مدرسة القضاء الشرعي وظفر بإجازتها العالية، وجلس للقضاء في المحاكم الشرعية بضع سنين. ثم اشتغل بالتدريس في الجامعة المصرية. فهو ليس عامّياً بالمعنى المعروف، وإنما نريد أن نقول إن أحمد أمين على كثرة ما قرأ في الكتب وما سمع من العلماء لا يزال يفكر كما يفكر العوام.
ولتوضيح ذلك نقول: إن في أهل العلم من يكون أقل اطلاعاً من زملائه، ولكنه قد يكون أقوى منهم في صحة الفهم وسلامة التمييز وقوة الإدراك، فيكون محصوله القليل أجدى وأنفع، ويكون له في أحكام العقل مجال
وفي مقابل ذلك نرى بعض العلماء المزودين بكثير من الثقافات ينظرون إلى الوجود نظرات عامية لا تمتاز بشيء عن نظرات العجائز من قعائد البيوت.
وأحمد أمين قليل الاطلاع في ميدان الأدب العربي بلا جدال، وهو مع قلة اطلاعه يحكم على الأدب أحكاماً عامية، بعيدة كل البعد عن أحكام الخواص، وقد أسلفنا الشواهد التي تؤيد رأينا فيه، وسنسوق شواهد جديدة.
المسألة الثانية، هي التعرض لأعماله المعاشية: فقد استنكر بعض القراء أن نقول إنه يكسب كيت وكيت، وعدوها مسألة شخصية
ونقول إننا تعرضنا لذلك لغرضين: الأول هو النص على أن أحمد أمين مشغول عن الفكر والقلم بشواغل تصرفه عن التجويد في البحث والتفكير والإبداع، والغرض الثاني هو تذكيره بأنه لا يجوز لمثله أن يعيب على أدباء العرب أن يشغلوا بمعاشهم وهو يقتل وقته(315/16)
بتدبير المعاش
ولو شئت لقلت إن الرجل الذي يدعو إلى هجر الأدب الجاهلي جملة واحدة بحجة أنه يشل التفكير هو نفسه الرجل الذي اشترك في تأليف الكتاب (المجمل) والكتاب (المفصل) والكتاب (المنتخب) بأجر معلوم تعرفه خزينة وزارة المعارف
فإن كان أحمد أمين صادقاً في حكمه على الأدب الجاهلي فكيف جاز عنده أن يشترك في تلك المؤلفات وفيها مكان ظاهر للأدب الجاهلي وهي خليقة بأن تشل عقول التلاميذ؟!
وكنت قلت إن الأستاذ أحمد أمين لا يستطيع أن يخدم الجامعة المصرية بالمجان، وإنه يأخذ منها في كل شهر ستين دينارً، فكتب إلينا أحد المطلعين يقول إنه يأخذ من الجامعة في كل شهر خمسة وثمانون لا ستين
فهل يجوز للرجل أن يأخذ هذا المبلغ بطمأنينة خلقية في تدريس الأدب العربي وهو يعتقد أنه أدب لا يستحق العناية وأنه كان في ماضيه الطويل أدب تسوُّل واستجداء؟
وبعد توضيح هاتين المسألتين أرجع إلى هذا الرجل رجعة قاضية.
لقد دل على مبلغ فهمه للأدب حين ساق هذين البيتين في مقاله الثالث في جناية الأدب الجاهلي:
فما روضة زهراء طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثَها وعرارَها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... إذا أوقَدَتْ بالمندل الرطب نارَها
فقد ضبط هذين البيتين على نحو ما يرى القارئ: فجعل الندى في البيت الأول فاعلاً وجعل الجثجاث والعرار مفعولين، وجعل (أوقدت) في البيت الثاني مبنياً للمعلوم ونصب النار على المفعولية
فهل سمعتم قبل ذلك أن الندى يمج الزهر والنبات؟
لو كان أحمد أمين يتأمل ما يقرأ لعرف أن الندى في البيت الأول من هذين البيتين لا يمكن أن يكون فاعلاً، ولعرف أن (أوقد) في البيت الثاني فعل مبني للمجهول ليجعل الشاعر معشوقته عقيلة تخدمها الوصائف
فهل يستطيع أحمد أمين أن ينكر أنه أخطأ في ضبط هذين البيتين؟
وهل يمكن لمن يثقون بكفايته الأدبية أن ينكروا أن لمثل هذا الفهم الخاطئ دلالة على مبلغ(315/17)
إدراكه لدقائق المعاني؟
نترك هذا وننتقل إلى أحكامه على الشعر العربي في العصر الإسلامي، وهو يراه لم يتغير من حيث الموضوع فظل كما كان محصوراً في المديح والهجاء والفخر والحماسة والغزل والرثاء
والظاهر أن أحمد أمين لم يدرس الشعر الأموي دراسة تمكنه من فهم الفرق بينه وبين الشعر الجاهلي، فليس بصحيح أن الموضوعات لم تتغير، وليس بصحيح أن الشعراء الأمويين كانوا يتناولون الأغراض الشعرية على نحو ما كان يتناولها الجاهليون
وإذا صح أن الشعر الجاهلي والإسلامي متحدان في الموضوعات فهناك فرق ظاهر جداً بين العصرين في تصور تلك الموضوعات
فالغزل في العصر الأموي فن جديد لا يعرفه العصر الجاهلي، وهل يتصور أديب أن أشعار عمر بن أبي ربيعة كانت لها سوابق عند الجاهلية؟
هل يتصور أديب أن تائية كثير في أغراضها ومراميها كانت لها نظائر في الشعر الجاهلي؟
وهل يصح لأديب أن يقول بأن غزليات العرجي وجميل والحارث بن خالد كانت لها أشباه قبل العصر الإسلامي؟
إن الأمويين تغزلوا كما تغزل الجاهليون، ولكنهم تفردوا بابتكار فن جديد هو القصص الغرامي، فهل فطن لذلك أحمد أمين؟
وهل يمكن نكران ما وصل إليه الأمويون من الرقة والظرف في النسيب؟
أليس فيهم الذي يقول:
إن لي عند كل نفحة بستا ... نٍ من الورد أو من الياسمينا
نظرةً والتفاتةً أترَّجى ... أن تكوِني حللت فيما يلينا
أليس فيهم الذي يقول:
يا أم عمران ما زالت وما برحت ... بنا الصبابة حتى مسَّنا الشفقُ
القلب تاق إليكم كي يلاقيكم ... كما يتوق إلى منجاته الغَرق
تعطيك شيئاً قليلاً وهي خائفة ... كما يمس بنظر الحية الفَرق(315/18)
أليس فيهم الذي يقول:
وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
أليس فيهم الذي يقول:
ولو سلك الناس في جانب ... من الأرض واعتزلت جانباً
ليمعتُ طِيتها إنني ... أرى حبها العجب العاجبا
أليس فيهم الذي يقول:
وإني لأستحييك حتى كأنما ... عليّ بظهر الغيب منك رقيب
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب عليّ ذنوب
إن تفصيل ما امتاز به شعراء العصر الأموي في النسيب يحتاج إلى كتاب خاص سيؤلفه أحمد أمين يوم يعرف أن الأدب لا يكال بمكيال ولا ينظر إليه بالعد والإحصاء
إن من أعجب العجب أن يقال إن الشعراء الأمويين لم يبتكروا شيئاً في التشبيب، وهم الذين أمدوا لغة العرب بثروة وجدانية ستعيش ما عاشت لغة القرآن
ألا يكفي أن يكون العصر الأموي قد ابتكر الاستشهاد في الحب؟
ألا يكفي أن يكون ذلك العصر هو الذي خلق شخصية مجنون ليلى، وهي شخصية شرَّق سحرها وغرب، فكانت لها أصداء عند الشعراء من أهل الشرق وأهل الغرب؟
ألا يكفي أن يكون العصر الأموي هو الذي فهم أن الحج من المعارض الدولية للصباحة والملاحة والجمال؟
ألا يكفي أن يكون شعراء العصر الأموي هم الذين أذاعوا بين الناس فتنة الهيام بأسرار الوجود؟
ثم ماذا؟
ثم جهل الأستاذ أحمد أمين أن العصر الأموي هو العصر الذي تفرد بإجادة الأراجيز، ولكن هل فكر أحمد أمين في الأراجيز الأموية؟
الحق أن العصر الأموي يحتاج إلى أدباء عظام يسجلون فضله على اللغة العربية، ففي ذلك(315/19)
العصر ظهر الشعر السياسي، وهو فن من الأدب يختلف عن التعصب للقبيلة كل الاختلاف، وله مزايا وخصائص تنتظر أديباً له نظرة خاصية لا عامية
فمتى تعرف كلية الآداب ذلك الأديب؟
إن من العار أن يقول أستاذ من كلية الآداب بأن الأدب في العصر الأموي ليس إلا صورة من الأدب في العصر الجاهلي
وهل يستطيع إنسان أن يقول بأن الكميت بن زيد الأسدي كان له نظير بين شعراء الجاهلية؟
إن العصر الأموي ينتظر أديباً يفهم أنه كان صلة الوصل بين العصر الجاهلي والعصر العباسي، ويدرك أنه تحرر كل التحرر من العقلية الجاهلية
فمتى تعرف كلية الآداب ذلك الأديب؟
إن عميد كلية الآداب اليوم هو الأستاذ محمد شفيق غربال، وهو مؤرخ جليل يفهم أن دراسة تاريخ القرون الوسطى أمر واجب، لأن ذلك التاريخ كان الصلة بين القديم والحديث، فهل نستطيع أن نشير عليه بأن ينشئ في كلية الآداب كرسيا للعصر الأموي الذي جهله أحمد أمين؟
ليت، ثم ليت!!
إن المسافة بين العصر الجاهلي والعصر العباسي طويلة جدّاً، لأنها تقع في نحو خمسين ومائة سنة، وهي المدة التي انتظمت عصر النبوة وعصر الخلفاء وعصر الأمويين، وفي تلك المدة كانت الشخصية العربية هي الشخصية التي تهدد ممالك الأرض، والتي تسنّ شرائع الفتوّة وقوانين المجد، والتي تلوّن العالم بألوان مختلفات، والتي مكنت العرب من أن يكون لهم صوت مسموع في أقطار المشرق والمغرب
فهل يُعقل أن يكون أدب العرب في ذلك العهد صورة ثانية من أدبهم في أيام الجاهلية؟
ومن الذي يصدق أن الشعراء المسلمين كانوا يتهاجون على نحو ما كان يصنع الجاهليون؟
وهل خطر ببال أحمد أمين أن العصبية السياسية في العصر الإسلامي كانت لها ألوان لم يعرفها شعراء القبائل في الجاهلية؟
هل فكّر في تحديد الخصائص الشعرية للمدح والهجاء في العصر الأموي؟(315/20)
وهل تنبه إلى ما ابتكره الشعراء الأمويون حين أوقدوا نار العصبية الجاهلية؟
يعزّ عليّ والله أن يقع في هذه الأخطاء أستاذ فاضل من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية، وهي اليوم معهد عظيم يحج إليه طلبة العلم من أقطار الشرق
يعز ّ عليّ أن يكون في رجال الجامعة المصرية من يفهم أن العصر الإسلامي صورة من العصر الجاهلي في التفكير، وطرائق التعبير مع أن ذلك مستحيل
وهل يتصور عاقل أن خطب علي بن أبي طالب صورة من خطب أكثم بن صيفي مثلاً؟
هل يقول مفكر بأن رسائل عبد الحميد صورة مكررة لما كان يكتب الجاهليون؟
وهل يمكن القول بأن معاوية كان يكتب بأسلوب عمر بن الخطاب؟
إن التطور شريعة طبيعية يا صديقي، فكيف تتوهم أن يكون العرب خرجوا وحدهم على تلك الشريعة؟
إن العرب في أدبهم وتصورهم وعقليتهم قد انتقلوا من حال إلى أحوال، وإن غاب ذلك عن فطنتك الواعية
وأين أنت من القصص الرائع الذي عرفته المساجد في العصر الأموي؟
أين أنت من الشعر الرقيق الذي ابتكره الأمويين في وصف مجالس الأنس والشراب؟
وهل تعرف يا حضرة الفاضل أن العصر الأموي ظلم أقبح الظلم حين اعتدى عليه خلفاء بني العباس بالمحو والتبديل؟
هل مرّ في خاطرك أن العصر الأموي رُزِئ بمؤامرة سياسية حَرَمتْ تاريخه الأدبي من نعمة الوجود؟
ثم ماذا؟
ثم يتحذلق الأستاذ أحمد أمين فيقرر أن الخضوع للأوزان الجاهلية والقوافي الجاهلية جنى علينا جنايات كبرى، لأنه (حرمنا من الملاحم الطويلة التي كانت عند الأمم الأخرى وحرمنا من القصص الطويلة الممتعة)
وهذا الحكم يشهد بأن أحمد أمين يجهل طبيعة الأمة العربية بعض الجهل، ويجهل طبائع الأمم الأخرى كل الجهل
إن أحمد أمين لا يعرف أن العرب ليس في طبيعتهم أن يأنسوا بالمنظومات المطولة في(315/21)
القصص والتاريخ، وهو يتوهم أن العرب كان يجب عليهم أن يسلكوا في الشعر مسالك اليونان، وذلك خطأ فضيع
إن عبقرية العرب ليس في القصص، وإنما عبقرية العرب في الغناء والتعبير عن الأنفاس الروحية. وفي بلاد العرب نشأت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية، وفي بلاد العرب نشأت أحاديث القلب والوجدان، وهم بلا جدال أصدق من تحدث عن الأرواح والقلوب
فإن امتازت لغات الشرق والغرب بالمنظومات الطويلة في القصص والتاريخ فقد امتازت لغة العرب بأكرم أثر عرفه الوجود وهو القرآن، وهو حجة اللغة العربية يوم يقوم التفاخر بين اللغات بالأحساب
والى الأستاذ الجسر أوجه الكلمة التالية:
أنت تعجب أيها السيد من أن نمنح أحمد أمين (قدرة الجناية على الأدب العربي) وأجيب بأن أحمد أمين ليس من النكرات حتى نتركه يتحذلق كيف شاء. إن أحمد أمين أستاذ بكلية الآداب يا حضرة السيد، وكلية الآداب من أكبر معاهدنا العالية، وما يصدر عن أساتذتها الأفاضل قد يتلقاه أكثر الناشئين بالقبول
وما الذي تخشاه من منح أحمد أمين ما لا يستحق؟
إن كان هجومنا عليه يعطيه فرصة جديدة من فرص الشهرة فلا بأس، فهو صديق عزيز، والتنويه بشأنه من أوجب الفروض
المهم (يا حضرة السيد) أن يعرف أحمد أمين أن في مصر رقابة أدبية تزجر المتطاولين على ماضي الأدب العربي وتصرفهم عن اللجاح فيما لا يفيد
ونحن لا نحارب أحمد أمين بالذات، وإنما نحارب الآراء التي نقلها نقلاً عن خصوم اللغة العربية، وسنرى في المباحث الآتية ما يشفي صدور قوم مؤمنين
(للحديث شجون)
زكي مبارك(315/22)
في اللغة
إخوان الفوارس
لأستاذ جليل
إخوان الفوارس (أي هذا الجمع الشاذ) هم أكثر من السبعة اللذين ذكرهم الصحاح والتاج، وجئبهم في جزء سابق من (الرسالة الغراء) والسبعة هم: الفوارس، والهوالك، والنواكس والخوالف، والفوارط، والغوائب، والشواهد
فهناك ستة غيرهم أظهرهم موهوب بن أحمد الجواليقي في (شرح أدب الكتاب) وأودعهم البغدادي (خزانته) وهناك اثنان ذكرهم التبريزي في (شرح ديوان الحماسة) وهذه جريدة الثمانية:
1 - الحوارس جمع حارس
2 - الحواجب جمع الحاجب، من الحجابة
3 - الخواطئ جمع الخاطئ، من ذلك ما جاء في المثل: مع الخواطئ سهم صائب
قال التاج. يضرب لمن يكثر الخطأ ويصيب أحياناً، وقال أبو عبيدة: يضرب للبخيل يعطى أحياناً
4 - الروافد جمع الرافد
قال ضمرة بن ضمرة النهشلي:
وطارق ليل كنت حَم مبيته ... إذا قل في الحي الجميع الروافد
قال الأنباري شارح المفضليات: الروافد جمع الرافد كقولك فارس وفوارس، وهي أحرف (يعني كلمات) يسيرة. والرافد المعونة، وحم مبيته: قصد مبيته
5 - الحواج: جمع الحاج
6 - الدواج: جمع الداج
ومن أيمانهم - كما جاء في اللسان -: أما وحواج بيت الله ودواجه لأفعلن كذا وكذا.
والداج - كما يقول الأساس - هم الذين يمشون مع الحاج من أجير أو جمال أو نحوهم من دج دجيجاً بمعنى دب دبيباً، ومنه الدجاج، وفي التاج: الداج التباع والجمالون، والحاج أصحاب النيات(315/23)
وفي الفائق: رأى ابن عمر قوماً في الحج لهم هيئة أنكرها. فقال: (هؤلاء الداج وليسوا بالحاج). قالت النهاية: أي هؤلاء لا حج لهم إلا أنهم يسيرون ويدجون:
7 - الخوارج: جمع الخارج
8 - البواسل: جمع الباسل
قال التبريزي في شرح بيت الحماسي:
وكتيبة سفع الوجوه بواسل ... كالأسد حين تذب عن أشبالها
(بواسل رده إلى الكتيبة، وفواعل في صفة الرجال قليل. يقال: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وناكس ونواكس، وخارج وخوارج). . .
وممن لم يذكروهم (عواذل) دعبل و (لواحي) علي بن الخليل من شعراء الأغاني. يقول الأول في قصيدة زواها أبو علي في (أماليه):
قال العوازل: أودي المال. قلت لهم: ... (ما بين أجرٍ وفخرٍ لي ومحمدة)
أفسدت مالك. قلت: المال يفسدني: ... (إذا بخلت به والجود مصلحتي)
ويقول الثاني، وعنده العوازل واللواحي:
إذا ما كنت شاربها فسرا ... ودع قول العواذل واللواحي
وفي التاج: اللواحي: العذال، والعذال من جموع العاذل. وفي اللسان: اللواحي: العواذل
وقال الجوهري في (صحاحه): قول الراجز:
لقد علمتُ والأجلِّ الباقي ... أن لا تردُّ القدرَ الرواقي
كأنه جمع امرأة راقية أو رجلاً راقية بالهاء للمبالغة. أو رجلاً راقياً بغير هاء حتى ينضوي هذا الجمع إلى ذاك الجيش. . .
هذه جريدة ما وجدناه، وقد يكون هناك ما ذهب علينا، وهي العربية المتبحبحة في كلماتها ولغاتها. قال الإمام محمد ابن إدريس الشافعي في رسالته في أصول الفقه: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً. ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي)
(ق)(315/24)
دمعة على الصديق الراحل
فليكس فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(دمعة عل جثمان الصديق الراحل فليكس فارس المسجى بين
الورود ألقيت في الحفل الكنائسي الذي أقيم للصلاة على روحه
عصر الأحد 2 يوليه 1939 ببهو الكنيسة المارونية)
هناك من الناس من تعرفهم فتشعر كأن لك بهم معرفة من قبل. ذلك لأنهم لا يعرفون عن طريق الصلات الزمنية، وإنما هم يعرفون عن طريق الجو الذي يخلقونه حولهم. وما كان الصديق الراحل فليكس فارس إلا واحداً من هؤلاء: عرفته صيف عام 1936 فسرعان ما تآلفنا وتآخينا. ولم يمض القليل من الزمن حتى أصبحنا آلفين لا ينقضي الأسبوع دون أن نتقابل فنتجاذب الحديث في شأن من شئون الحياة التي نحياها. وكثيراً ما كان يدور هذا الحديث على عوالم الفكر والشعور. وظلت صلتي بالراحل الكريم قوية حتى آخر لحظاته. فقد كنا حوله في الأيام الأخيرة وهو يجود بأنفاسه الأخيرة. لهذا كان نبأ نعيه لنا معشر أصحابه وخلانه صدمة أليمة. وكان قاسياً علينا أن نراه أمس حيّاً بيننا يملأ جونا بروحه حياة وأنساً، وإذا به اليوم قد همد فيه عنصر الحياة الذي كان يطوف على شفتيه ابتسامة وعلى شغاف قلبه حنواً وعطفاً. . .
إن هول فجيعتنا في فليكس فارس كبيرة، جعل الدموع تجمد في أعيننا فظللنا بسحابة قاتمة أرسلت سوداها على صفحات قلوبنا فغمرتنا موجة من الكآبة، فإذا لم تظهر على صفحات وجوهنا - نحن معشر خلانه - فداحة المصاب دموعاً. . . فذلك لأن مصيبتنا بموت الصديق أقوى من أن يظهرها بكاء أو دموع. . .
إيه أيها الرجل الكريم!. . . إن تلك الدموع التي جرت من عينيك وتجمعت في مآقيك ثم سالت على صفحات وجهك يوم زرتك للمرة الأخيرة؛ وإن كلماتك التي خرجت من أعماقك مختلطة بنشيجك توصيني خيراً بفلذات كبدك، كل هذه دخلت في عالم ذكرياتي ولن تذهب من نفسي، فلقد دلت كلماتك وعبراتك على أن في الحياة عنصراً أقوى من كل القيود(315/25)
والسدود التي يقيمها البشر أبناء الحياة الواحدة للتفرقة فيما بينهم، هذا العنصر يتجلى ساعة يأخذ الإنسان في الانحدار من عالم الحياة، وساعة يحس بانحسار عنصر الحياة عن جسده؛ في ذلك الحين يحس بشعور أقوى من كل إحساس بعوامل التفرقة بين أبناء الحياة الواحدة، أقوى من الإحساس بالدين والوطن والجنس. وهذا الشعور يدفعه إلى أن يمد نفسه على رحاب الحياة وينسحب عليها متعلقاً بمظهرها الخالد المتأجج ناراً والمتجدد في أبناء الحياة من جيل إلى جيل، فيرى في كل إنسان أباً لأولاده.
إيه يا أبا حبيب!. . إن آخر الكلمات التي تزودتها منك دارت حول الأيمان والحياة، وهي كلمات لن تذهب معانيها وصورها من رأسي لأنها تدل على إيمانك العميق بالحياة، ومن هنا كانت رحابة اعتقادك التي تجوّز أن تكون الحقيقة حتى في كلام خصمك. . . خصمك في الاعتقاد والرأي، ومن هنا أيضاً فهمت سرّ اتساع أفق اعتقادك لآرائي التي كانت تقف على نقيض آرائك.
إيه يا أبا أديب!. . . لقد فقدْتُ بارتحالك شيئاً من نفسي كُنتَ ترده عليَّ حين ألقاك. وفقد أصدقاؤك بارتحالك إنساناً ودوداً براً. . . وما أقل الأناسي في هذا الزمان!. . . أنظر أيها الراحل الكريم من وراء أكفانك تجدنا جمع أصدقائك قد بلبلت أذهاننا فداحة مصابنا فيك. ها هو ذا صديقك (خليل) وأخوه (صديق) أنظرهما يبكيان فقدك. وهاهو (أدهم) الحبيب إلى نفسك الذي كنت تداعبه باسم (الحكيم) فقد اليوم حكمته؛ فقد تبلبل منه الذهن واختلطت في صدره المشاعر. لقد صدم الكل بارتحالك فذرفوا الدموع سخينة من أجلك. . .
إيه يا أبا سلوى!. . . لقد كنت باتساع أفق شعورك ورحابة مدى نفسك تغمرنا بروحك وترتفع بنفوسنا وتضرب لنا مثل الإنسان كما يجب أن يكون في هذه الحياة. ولو لم يكن لك غير هذا الأثر في نفوسنا معشر أصحابك لكفى أثراً لا تزول ذكراه
أما عن الأثر الأدبي الذي تركته للغتك فأغنيتها بأسلوبك الحي وبيانك الرفيع فإنه باق ما بقيت العربية. وأما عن الحياة التي حييتها نموذجاً لأصحابك فإنها باقية ما بقى أصحابك. فارقد في ظلال الأبدية تحت أشجار الأرز الخالد التي كنت تتمنى أن ترقد تحتها أيها الصديق الكريم. ولتنزل على روحك السكينة فإن أصدقاءك الذين تركتهم يبكون فقدانك سوف يؤدون دينهم نحوك وسيقومون بالعمل في الميدان الذي كنت تعمل فيه لتحرير هذا(315/26)
الشرق النائم
إسماعيل أحمد أدهم(315/27)
في بلاط الخلفاء
حماد وهشام بن عبد الملك
للأستاذ علي الجندي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
كان هشام بن عبد الملك من الخلفاء الذين يُؤثرون أن يتمتعوا بالطيبات من الرزق، ويظهروا نعمة الله عليهم، ويوفّروا الأبهة والجلال لمقام الخلافة! فلم يكن في آل مروان من كان أسرَى منه ثوباً، ولا أعطر رائحة، ولا أكثر زينة، حتى إنه حين خرج حاجا حُمِلت ثيابه على ستمائة جمل!
فماذا رأى حماد حين دخل إليه؟
رأى داراً قوراء مفروشة بالرخام، تضم مجلساً فرش كذلك بالرخام بين كل رخامتين قضيب من ذهب!
وفي بُهْرة المجلس فوق طِنْفِسة حمراء جلس هشام عليه ثياب من الحزّ الأحمر، وقد تضمّخ بالمسلك الأحمّ والعنبر الأشهب! وبين يديه آنية من ذهب فيها مسك مفتوت يقلبه بين يديه فتعِجّ رائحته في المكان فتفَغم الأنوف!
فاستطير عقل حماد، واعتاقت الهيبةُ جنانه، فثقُلت خُطاه ورَبا لسانه في فمه! ولكنه استنجد بكل قواه، وسلّم على هشام بالخلافة، فرد عليه السلام واستدناه منه، فدنا حتى قبل رِجْله!
ثم نظر بِمُؤْخِر عينه فإذا جاريتان كأنما التمستا غِرّة من رضوان، فهبطتا من فراديس الجنان! في أذنيْ كل منهما حَلْقتان تُطِلّ منهما لؤلؤتان لامعتان يَرِفّ سناهما على تلك الوَجَنات البضّة رفيفَ سقيط الطلّ على أكمام الورود!
فأخذ حماد يُسارقهما النظر وهو مشتَرك اللب موزَّع الفؤاد! ولكن الخليفة لم يلبث أن هتف به: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟
فاسترجع عازب عقله، وأجاب ومتلعثماً: إني بخير يا أمير المؤمنين
- أتدري لم بعثت إليك؟
- لا يعلم الغيب إلا الله(315/28)
- بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله
- ما هو يا أمير المؤمنين
- قول القائل:
ودَعوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءتْ ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ
- هذا يقوله عَدِيّ بن زيد العِبادي من قصيدة له
- أَنشِدِنيها
فأنشد حماد:
بكَر العاذلون في وَضح الصُّبح (م) ... يقولون لي: ألا تستفيقُ
ويلومون فيك يا ابنةَ عبدِ الله (م) ... والقلبُ عندكم موثوق
لستُ ادري إذ أكثروا العَذْلَ فيها ... أَعَدُوٌّ يلومني أم صديق
زانَها حُسنها وفَرعٌ عَميم ... وأَثِيثُ صَلْتُ الجبين أَنيق
وثَنَايَا مُفَلّجاتٌ عِذَابٌ ... لا قِصار تُرى ولا هنَّ رُوق
ودَعوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريق
قدَّمَتْه على عقارٍ كعين الدِّيك (م) ... صَفّي سُلاَفَها الرَّاوُوق
مُرَّةٌ قبل مَزجِها فإذا ما ... مُزِجت لَذَّ طعمَها مَن يَذوق
وطَفَت فوقها فقاقيع كالدُّرِّ (م) ... صِغارٌ يُثيرها التصفيق
ثمَّ كان المِزاجُ ماَء سحابٍ ... لا صَريً آجنٌ ولا مطروق
فاستخفّ الطرب هشاماً! فصاح بإحدى الجاريتين: اسقيه فسقته شَرْبة ذهبت بثلث عقله!
ثم قال هشام: أَعِدْ يا حماد؛ فأعاد الأبيات. فازدهاه السرور حتى نزل عن فراشه! وصاح بالجارية الأخرى: اسقيه!
فسقته شربة طاحت بثلث عقله الباقي! فقال في نفسه: إن سقتني الثالثة حقت عليَّ الفضيحة!.
ثم التفت إليه هشام قائلاً: سل حاجتك يا حماد. فأجاب: كائنة ما كانت؟ قال: نعم.
وهنا نحبّ أن نقول: إنه كان من عادة الخلفاء والملوك إذا استطاع النديم الظريف أو المسامر البارع أن يحرّك فيهم ساكن الطرب، ويهزّ كامن الأريحية، أن يعلنوا رضائهم عنه(315/29)
بالاقتراح عليه أن يسأل ما يشاء، وهي على كل حال فلتات نادرة يسوقها الحظ لمن أراد الله أن يرزقهم من حيث لا يحتسبون!
ولهذه التمنيات آداب معروفةُ يعدّ تجاوزها سفها وحماقة وسوء أدب تلحق أصحابها بالسوقة والإغفال، فلا يصح لمن واتته هذه الفرصة الغالية أن يتمنى على الخليفة ما يحرج به أو يندم عليه أو يقدح في مروءته، فإن ذلك جرأة قد يكون من ورائها رَدى النفوس واستئصال النعم ولو بعد حين!.
فمن أمثلة ما حدّثوا به: من أن الهادي كان عنده يوماً ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ بن الطيب، فقال: مَن أطربني منكم اليوم فلهُ حكمه! فغنّاه ابن جامع غناء لم يحركه؛ وكان الموصلي قد فهم غرضه فغناه في هذا الشعر:
سُلَيمى أجمعتْ بَيْنا ... فأين تقولها أيْنا
فطرب الهادي حتى قام عن مجلسه! ورفع صوته: أعد بالله وبحياتي. فأعاد. فقال الهادي: أنت صاحبي فاحتكم! فقال الموصلي: حائط (بستان) عبد الملك بن مروان، وعينه الحرارة بالمدينة! فغضب الهادي حتى اتقدت عيناه! وقال: يا ابن اللخناء أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فاقتطعت! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك وفكرك، لضربت الذي فيه عيناك! وعبرت فترة قال فيها الموصلي: لقد رأيت ملك الموت قائماً بيني وبينه ينتظر أمره!
ولما سكت عنه الغضب دعا بالقيم على خزائن الأموال، فقال: خذ بيد هذا الجاهل ودعه يأخذ ما يشاء! فلما بلغ بيت المال قال له القيم: كم تأخذ؟ قال: مائة بدرة! قال: حتى أؤامره. قال: تسعين. قال: حتى أؤامره. قال: ثمانين. قال: لا. فعرف إبراهيم غرضه. فقال: آخذ سبعين، ولك ثلاثون! قال: شأنك. قال الموصلي: فانصرفت بسبعمائة ألف درهم وانصرف ملك الموت عن الدار!
ومن ذلك أيضاً: أن دجمان المغني غنى الرشيد يوماً:
إذا نحن أَدْلجنا وأنتِ أماَمنا ... كفى لمطايانا برؤياكِ هاديا
ذكرتك بالدَّيرين يوماً فأشرفت ... بناتُ الحشا حتى بلغن التراقيا
إذا ما طواك الدهر يا أمَّ مالك ... فشأن المنايا القاضيات وشانيا(315/30)
فطرب الرشيد طرباً شديداً واستعاده مرات! ثم قال له: تمنّ عليَّ. فقال: الهنيء والمريء، وهما ضيعتان تُغِلان أربعين ألف دينار في السنة. ولم تكن للرشيد شراسة الهادي وشكاسة خلقه وضيق صدره، فأمر له بهما على كره منه!
فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن هاتين الضيعتين من جلالهما ما يجب ألا يُسمح بمثلهما! فقال: لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت. فاحتالوا في شرائهما منه بمائة ألف دينار! فأمر الرشيد له بها. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن. فدفعوها له منجمة خمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها
ونعود إلى حماد فنقول: لقد فتح له هشام باب التمني على مصراعيه فهل يقع في السفه والجهل؟
لقد كان الرجل زنديقاً، والزنادقة في هذا العصر كانوا مضرب المثل في الظرف حتى كان الرجل يتعمّل الزندقة ليوسم بهذه السمة المستملحة!
ثم هو بعد ذلك يعرف جيداً أنه لم يأت خليفة مثل هشام الأموي والمنصور العباسي في ضبط المال وحسن القيام عليه والضن به إلا في حقه. بل لعله لا يجهل أن هشاماً رمى بالبخل الشديد إن صدقاً وإن كذباً، وأنه كان أبغض الأشياء إلى نفسه أن يبتدئه إنسان بمسألة، فمن فعل ذلك فأدنى جزائه الحرمان!
أترى أيستطيع الظرف أن يعصم حماداً من الانزلاق إلى الطماعية المردية؟
لم تخُنَّا فراستنا في الرجل! فالحق أنه كان مهذباً وكان قنوعاً
لقد رفع رأسه إلى الخليفة وعلى فمه ابتسامة حيية حائرة فقال: إحدى الجاريتين يا أمير المؤمنين
وكأنّ هشاماً أُعجب بهذه القناعة التي لا تنتظر في مثل هذه المواقف! ولعله أعجب أكثر بهذا الذوق الرقيق الذي شاء أن يمنحه نصيباً من هذا الجمال الفريد!
فضحك وقال: هما جميعاً لك يا حماد بما لهما وما عليهما!
وأراد أن يتوِّج ذلك بعطفه عليه ورضائه عنه! فهتف بالجارية الأولى: أن اسقيه! فمشت إليه الجارية بكأس دهاق، وعيناها الساجيتان تفعل بنفسه ما لا تفعل الخمر والسحر! فطار ما كان باقياً من عقله، وخر لليدين وللفم صريع الكأس والأعين النُّحل(315/31)
وحُمل - وهو ما يَبتُّ سكراً - إلى دار أعدت له. فلما تنفس الصبح أفاق من غشيته الطويلة! فإذا الجاريتان عند رأسه تمسحانه وتروِّحانه، فيصافح وجهه النسيم الرطب مشوباً بأنفاس الغالية والملاب!
وإذا عدة من الخدم يحمل كل واحد منهم بَدْرة وهم وقوف ينتظرون صَحْوته من خُماره!
فتقدم أكبرهم في أدب واحتشام فقال: أمير المؤمنين - أطال الله بقائه - يقرأ عليك السلام! ويقول لك: خذ هذه البِدَر فأصلح بها شأنك
فبالغ حماد في الدعاء! وأستنفد الوُسْعَ في الثناء! ثم قفل راجعاً إلى بلده بثلاث غنائم: بالأمان والجمال والمال! وقد أدركته المنية سنة خمس وخمسين ومائة، فرثاه ابن كِناسة الشاعر يقول:
لو كان يُنجي من الرّدى حذَرٌ ... نجّاك مما أصابك الحذرُ
يَرْحُمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو ودّه كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفنى العلم (م) ... فيه ويدرُس الأثر
علي الجندي(315/32)
ضرب من الفروسية في اليابان
للأستاذ صلاح الدين المنجد
يجد الباحث في فروسة اليابان وتقاليدها أفانين لذيذه تفيض بالبطولة والنبل والإباء، تهز المرء حتى ليحسب أنها من عمل الخيال الرائع والتصوير البارع والوصف الجميل. فإذا تأملتها علمت بأن اليابانيين قوم قدسوا الشرف في مغالاة ومقتوا الذل بأنفة، ولم يصبروا على ضيم يراد بهم أو هون يساق إليهم. وحسبك أن تعلم بأن الفروسة عندهم معناها الشرف والذود عنه والموت في سبيل بقائه طاهراُ، ودفع كل ما يشين المرء ويعيبه؛ فلضربة بسيف في عز خير عندهم من لطمة أو شتيمة في ذل. فإذا طعن الياباني في شرفه، فلديه أمران لا مَدْفع لهما: قتل من أهانه، أو قتل نفسه
ولعل أروع مثال لذلك أمر القائد العظيم (نوجي) الذي كان له - كما يقولون - روغان الثعلب وختل الذئب ووثبة الأسد، والذي أوتي النصر في موقعه (بور - آرثر) على الروسيين ففض حرمتهم وأوهن بأسهم وظهر عليهم، فأدهش الغرب ورجاله، وملك على فتيان اليابان قلوبهم، والذي يسمونهم (بصاحب الربع ساعة) لقوله: (الحرب صبر ربع ساعة)
وقصة هذا القائد طريفة غريبة فيها بطولة وشمم، وفيها إباء وشجاعة، فلقد استيقظت اليابان ذات يوم على تذراف الدموع وتصعيد الزفرات، وقد وجم الناس وانتشر الأسى وأعلن الحداد لموت ابن الآلهة الميكادو (موتزو - هيتو) الذي دفع باليابان الحديثة إلى ذروة المجد وجعلها أمة ذات بأس وقوة، يخشاها الغرب ويفرق منها. وبينما الناس في حزنهم غارقون، فوجئوا بنبأ آخر كان على الشباب والجنود أشد هولاً. فلقد أعلنت الصحف أن الجنرال (نوجي) منقذ اليابان من الروسيا قد قتل نفسه. . فطفق الناس يسأل بعضهم بعضاً عن سر انتحاره، وهو ازدهار مجده وتألق سعده، وحسبوا يومئذ أن ذلك كان حزناً على الميكادو
على أن بعضهم ما زالوا يتسقطون أسراره ويستطلعون أخباره حتى علموا بأن (نوجي) كان في ماضيات أيامه تلميذاً في مدرسة حربية، فكلمه أستاذ له ذات يوم بما يهينه ويشينه. . . وما هي إلا ساعات حتى عزم على قتل نفسه ليتقي العار وسوء المقالة، لأن نظم(315/33)
المدرسة تمنع الانتقام من أساتيذها، وكان له صديق من العائلة المالكة، أخلص له وأحله من نفسه محلاً رفيعاً، فأخبره بما عزم عليه وطلب منه أن يشهد الانتحار
وللانتحار في اليابان طرائق وتقاليد. فالرجل الذي يريد قتل نفسه يطعن صدره إلى جانب القلب بخنجر حاد، فإذا تدفق الدم تقدّم منه صديق مخلص له ممن أوتوا النبل والشرف، فيضرب عنقه أمام المذبح بين روائح البخور الشذىّ
وطلب (نوجي) من الأمير أن يضرب عنقه إذا طعن صدره؛ وكان الأمير ذا شأن وسلطان فمنعه عن الانتحار. وكان مما حدّثه به يومئذ: (عش لليابان يا صديقي. . . فما ينبغي لك أن تقتل نفسك ووطننا بائس يعوزه الشباب. لقد أهنت وعليك أن تموت، ولكني أقبل الإهانة، أنا الأمير ابن الآلهة، لنفسي وما عليك بعد ذلك. ابق يا صديقي وعش لليابان!)
وصدع نوجي بالأمر. وتصرمت أعوام فأضحى الأمير إمبراطوراً وأصبح (نوجي) أعظم قائد عرفته اليابان الفتاة، فيشتهر بالمغامرة والبطولة ويذيع صيته ويتردد على الأفواه اسمه وتستفيض شهرته ويدحر جيوش الروسيا ويكسب المعارك ويصبح المثل الأعلى للفتيان
وظلت الإهانة عالقة بالإمبراطور طوال حياته. . . ولا بأس عليه منها وهو ابن الآلهة التي تغفر لمن تشاء، وتعذب من تشاء وترضى عمن تشاء، فلما قضى الميكادو نحبه عادت الإهانة إلى (نوجي) فلم يطق العيش ذليلاً. . . فأمر أن تشعل الشموع، وأن يحرق البخور، وجثا تحت قدمي الإله، وأغمد الخنجر في قلبه على مهل، فتدفق دمه الفوار. . . وتقدم صديق له فضرب عنقه، وهو يبتسم راضياً مطمئناً؛ فقد أنقذ الشرف، وابتعد عن العار.
ومات (نوجي) بعد أن تخطى الستين من العمر، رضي البال مثلوج الفؤاد لأن ذلك أدعى لطيب الذكر، وخلود الاسم
صلاح الدين المنجد(315/34)
من تاريخنا النسوي
عائشة والسياسة
للأستاذ سعيد الأفغاني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولا يقعنّ في وهم أحد أن السيدة عائشة كانت تود أن يقتل عثمان، فالصحيح أنها لم تكن تتوقع كل هذا. ولعلها كانت تقنع باعتزاله، على رغم تصريح الكثيرين بأنها سعت في قتله. ومن هؤلاء المغيرة بن شعبة، فإنه دخل على عائشة بعد حادثة الجمل فقالت له: (يا أبا عبد الله، لو رأيتني يوم الجمل قد أنفث النصل هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي.) قال لها المغيرة: (وددت والله أن بعضها كان قتلك.) قالت: (يرحمك الله، ولم تقول هذا؟) قال: (لعلها تكون كفارة لك في سعيك على عثمان.) قالت: (أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أريد قتله. ولكن علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت (تعرض بما وقع لها يوم الجمل) وأردت أن يرمى فرميت، وأردت أن يعصى فعصيت؛ ولو علم مني أني أردت قتله لقتلت.)
وهي الصادقة فيما قالت، ولعل الله أن يرضى عنها ويرضى خصومها بما ندمت وكفّرت. ولئن قال سعد بن أبي وقاص وقد سأل من قتل عثمان؟ -: قتله سيف سلته عائشة وشحذه طلحة وسمه عليّ -، فما كان يريد سعد بقولته هذه إلا بيان الأثر غير المباشر لكل منهم؛ فإن من تتبع مجرى الحوادث بإمعان علم بعد الجميع عن هذه الظنة
وليس أدلّ على ترفع السيدة عن مثل هذه الخواطر من دعوتها على قتلة عثمان، الدعوات البليغة الصادرة عن نفسٍ متأثرة ملتاعة (واعلم أن في القتلة أخاها محمداً) قالت: (قتل الله مذمّماً (تعني أخاها) بسعيه على عثمان، وأهرق دم ابن بديل على ضلالته، وساق إلى أعين بن تميم هواناً في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه) فما منهم من أحد إلا أدركته - على رواية الطبري وابن عبد ربه - دعوة عائشة
وذكر صاحب العقد أنها لما قالت بعد مقتل عثمان: (مصصتموه موحى الإناء (الموحى: الغسل اللين) حتى إذا تركتموه كالثوب الرحيض (الغسيل) نقياً من الدنس، عدوتم عليه(315/35)
فقتلتموه). قال لها مروان: (هذا عملك؛ كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه). فقالت: (والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسواد على بياض حتى جلست في مجلسي هذا) فكانوا يرون أنه كتب على لسان عليّ وعلى لسانها كما كتب على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر. فكان اختلاق هذه الكتب كلها سبباً كبيراً من أسباب الفتنة
وغاية ما يؤخذ عليها عدا أقوالها السابقة الشديدة في عثمان أنها تركته (حين بلغ الحزام الطُبْيَيْن، وحين طمع فيه من لا يدفع عن نفسه) - كما وصف هو نفسه - في أشد الحصار وأحر الظمأ وخلصت إلى مكة. وقد كان راسلها عثمان في أمرها وطلب نجدتها وجاءها مروان بن الحكم فقال: (يا أم المؤمنين لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل). فقالت: (أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة ثم لا أجد من يمنعني؛ لا والله ولا أُعيَّر، ولا أدري: إلام يسلم أمر هؤلاء؟)
كان طلب مروان في محله، وكان مقامها - لو هي أقامت - ربما نفع وردّ عن عثمان، ولكنها استسلمت رحمها الله لموجدتها، واكتفت أن استتبعت أخاها محمداً أكبر المحرضين على عثمان فأبى
لقد وضح من كل ما تقدم أن أثرها لم يكن ضئيلاً في الحوادث التي انتهت بشهادة عثمان: هذه الفاجعة المشؤومة، بل كان بعيداً بليغاً. وليتها وقفت عند هذا الحد فلم تؤلب الناس على علي وتنغص عليه ولايته. فإن طلحة والزبير لما آلت الخلافة إلى عليّ - وكانا يرجوانها كل لنفسه - وعقدا النية على المطالبة بدم عثمان وتسليم قتلته الذين انضموا إلى جند علي، وهماّ بما هماّ به؛ رأيا أن أمرهما لا يتم إلا بالسيدة عائشة فكانت فتنة ثانية أشأم على المسلمين من سابقتها
طالبت عائشة بدم عثمان واندفعت في هذه السبيل - على رغم تحذير المحذرين، ونصح أمهات المؤمنين - اندفاع الأتيّ الجارف، حتى جمعت الجموع وأحاط بها كل طامع وكل ذي ثأر من أصحاب علي وكل كاره لعلي وخلافته، مع آخرين خرجوا معها عن عقيدة بريئة مغيرين منكراً أو مطالبين بإقامة الحدود. ثم خرجت بهذه الجماهير من الحجاز حتى وافت بها العراق. فلم يكن من محيص دون القتال، ومؤرثوا الشر منتشرون في جماعتها(315/36)
وجماعة علي، فكان ما كان مما لا نتعرض له في هذه الكلمة لأن أمره مشهور معروف. وسميت هذه الحرب الجمل لأن عائشة كانت فيها في هودج على جمل؛ وانقشعت هذه النكبة المؤلمة عن عشرة آلاف قتلوا على أقل تقدير.
رحم الله عائشة، لقد كانت المرأة الوحيدة في التاريخ التي قوضت مركز خليفة وحاولت نصب خليفة، وأعلنت حرباً وقادت جموعاً ثم أرادت تحاشي القتال؛ فخرج الأمر من يدها إلى يد غوغائها شأنها في ذلك شأن علي رضي الله عنه، فكان ما ترتعد له فرائص كل مسلم، كلما ذكر فتنة الجمل وما استتبعت من ويلات.
فلنطو أمر هذه الحرب، ولنذكر أن عائشة نفسها صارت كلما ذكرتها بكت حتى تبل ثيابها ندماً وتوبة. ولننظر كيف كان معاوية الداهية الحليم يداريها ويخشى بأسها
بقى الناس ينظرون إلى السيدة عائشة وسائر أمهات المؤمنين نظرهم إلى الموئل الذي يسعهم كلما نزلت بهم نازلة. هذا إلى نظرة التقديس والإجلال التي كانت تزداد كلما امتد الزمن وبعد عهد الناس بزمن الرسول. فكانوا - زيادة على قصدهن للتعليم والاستفادة - يشكون إليهن ما يلقون من عنت الأمراء وحيف الحكام، وكن يتوسطن لهم بما لهن من النفوذ والطاعة على جميع المسلمين: الخلفاء فمن دونهم. سألها رجل كتاباً توصى به زياداً في العراق، فلما قرأه زياد قضى حاجة الرجل وأكرمه، وكان أهم ما دفعه إلى التلبية أنها نسبته فيه إلى أبي سفيان، فجعل زياد يعرض الكتاب على كل زائر مزهوّاً به فرحاً. وقد حسب لها معاوية أكبر الحساب فجعل يداريها ويلاطفها ويكتب إليها يسألها مرة عن حديث، ومرة طالباً موعظة وما به من حاجة إلى سؤال ولا طلب، وكان جانبها أعظم ما يخشاه. أحرق قائده معاوية بن خديج جثة أخيها محمد في مصر؛ فبلغها فجزعت أشد الجزع، وصارت تقنت على معاوية وعمرو بن العاص دبر كل صلاة ولما أراد معاوية البيعة ليزيد كان صوت أخيها عبد الرحمن أقوى صوت ارتفع بالمعارضة فجبه والي معاوية على المدينة مروان بن الحكم بقوله الصادع: (جئتم بها هرقلية كسروية كلما مات كسرى قام كسرى) ولما نال مروان من أخيها بالكلام لقي من السيدة ما لم يكن في حسبانه حتى تذلل لها وخاف بأسها ثم تكفل دهاء معاوية بالباقي حتى غاب صوت الحق في إنكار هذه البدعة التي ابتدعها معاوية في أصول الحكم. ولم تتنح السيدة عن معالجة الشؤون العامة، ولولا(315/37)
أن يوم الجمل هد منها ومن قوة نفسها لرأينا لها في عهد معاوية صولات وجولات ومع هذا فإليك مثلاً حادثة حجر بن عدي:
كان حجر من سادات أهل العراق ذوي السطوة والمكانة، ممن كانوا مع علي وبقوا على عهده بعد مماته، وقد تحدى سلطة الخلافة مراراً عديدة، وعبث بالأمراء الذين يرسلهم معاوية حتى ضاق به وبرهطه ذرعاً، فأمر بحمل حجر وأصحابه، ثم أشهد عليهم وقتلهم، بعد أن كثر الوسطاء في أمره نظراً لمكانته، ولكن ذلك لم يشف ما في نفس معاوية من الغيظ، وكانت عائشة أرسلت رسولاً إلى معاوية في ذلك، ولما وصل الرسول كان حجر قد قتل، فقال الرسول - وهو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - لمعاوية: (أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟) قال معاوية: (حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سُمية (يعني زياداً عامله) فاحتملت) وبلغ عائشة الخبر فحزنت أشد الحزن، وليس مثلها من يسكت لمعاوية، ولكن نكبة الجمل زعزعت عزائمها فصارت تخاف أن يجر الأمر إلى فتنة تراق فيها الدماء وهو ما لا تستطيع أن تتصوره، وقد أشارت إلى ذلك حين قالت: (لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر. أما والله إن كان - ما علمت - لمسلماً حجاجاً معتمراً)
ولما حج معاوية أستأذن على عائشة فأذنت له، فلما قعد قالت: (يا معاوية، كيف أمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟) قال: داهية الأمويين (بيت الأمن دخلت!) قالت: (يا معاوية، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه!) قال: (لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم.)
وهكذا نال الخليفة العظيم ما يستحق من التأنيب في حجرة الرسول على لسان زوجته أم المؤمنين
هذه هي المرأة في صدر تاريخنا المجيد ولكم هو مقامها، فلننتفع بسيرتها ولنأخذ لزماننا من كل شئ أحسنه. أما عبرة هذه الحوادث: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في الخلافات السياسية. وكأن الله الذي جعل النساء لتربية الرجال وتدبير البيوت أراد أن يعظ المسلمين عظة عملية كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة؛ ليعلموا: أن لو كان أمر من أمور الرجال يقوم بامرأة لقام بهذه السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب الذكاء والعلم والصلاح ما لم يؤته رجال كثيرون. وبقية حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين كلما نزغ(315/38)
بهم من الشيطان نزغ فهموا أن يخرجوا بالمرأة عما خلق لها وخلقت له، قالوا لأنفسهم: أخفقت هذه التجربة في أول تاريخنا فما بنا من حاجة إلى أن نهرق في سبيلها دماء جديدة؛ ومن لنا مع هذا بمثل السيدة عائشة
(دمشق)
سعيد الأفغاني(315/39)
تلك سبأ!
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
هناك نحو الشرق من صنعاء عاصمة اليمن، على بعد خمسة أيام فوق متون المطايا؛ تمتد منطقة واسعة الأطراف، مترامية الأكناف، عامرة بأسرار تاريخ، وفيرة بخبيئة ماض بعيد، يجد فيها عالم الآثار مادة خصبة ومجالاً واسعاً فسيحاً لاختباراته وأبحاثه
في تلك البقعة الساحرة المسحورة التي فاضت عليها أنفاس الرياح الغرائب فطمرت معالمها، وأخفت ما شخص منها، ونسجت عليها أثواباً رقيقة شفَّافة من الطمي الأملس، تَلبد في ذمة التاريخ وتحت أنقاض العصور خرائب سبأ، مدينة الملكة العظيمة بلقيس عروسة سليمان ابن داود. . .
هذه بقاع منسية في جزء مهم من بلاد العرب، لعبت أدواراً خطيرة في مجال التاريخ القديم؛ تدل الآثار الضئلية التي قذفتها هذه الأراضي الضنينة التي جاءت من قبيل الصدف بأن ما تحويه في أحشائها يفوق الوصف، ويثير التاريخ!
ومعلوماتنا عن هذه البلاد السبئية ضئيلة؛ فبالرغم من كثرة الرواد الذين اجتاحوا هذه البلاد فإن خطراتهم بين خرائبها كانت سريعة خاطفة، فلم يعرف عنها إلا أشياء مقتضبة مشوَّهة لا تقوم على إسناد علمي يركن إليه الباحث، وتطمئن له نفس المنقّب؛ وهذا عائد إلى طبيعة الأرض وجفوة سكانها وقساوتهم ضد الأجنبي. . . وما عرفنا أحداً تغلغل في صميم هذه البقاع سوى ثلاثة من الأوربيين أتاحت لهم الظروف الوصول إلى قلب مدينة سبأ فجمعوا كتابات كثيرة جداً منقوشة على الصخر الأصم!
هؤلاء الأشخاص هم أرنود (1843) وهاليفي (1860) ثم (1888). وبعد هؤلاء الباحثين لم يتقدم أحد من الأوربيين مطلقاً. فبقيت أرض سبأ إلى هذه الساعة محتفظة بأسرارها الرهيبة الهائلة. . .
هناك في الناحية الغربية من مدينة بلقيس؛ بنى السبئيون في أحد الأودية العظيمة سداً عظيماً، متين البنيان، وطيد الأركان، مشمخر الأنف، تتجمع فيه أمواه السيول المنحدرة من أعالي الجبال فتسقي الأرض، وتحيي الضرْع؛ حتى غدت هذه البلاد مثلاً سائراً في خصوبة الأرض؛ وكرم التربة!(315/40)
أما أبرز المظاهر الاقتصادية التي كان يتداولها سكان هذه البلاد مع الأمم التي تناوحهم فهي تلك الأعواد العطرية الفواحة، والنباتات الكريمة التي تتفوغ بها أوديتها العميقة وشعابها المشجرة المعطرة
وبناؤهم في غاية الفخامة والجلال؛ قصور شاهقة، وبناء محكم، وحيطان وسقف مموَّهة بالأحجار الكريمة، مرصعة بالعاج؛ وآنيتهم من الذهب والفضة الخالصين!. . .
ولكن السبئيين كانوا يعبدون الشمس والقمر والوعل والعجل؛ ولهم معابد فخمة واسعة منتشرة في كل الأنحاء؛ ثم لما بطروا بأنعم الله عاقبهم الله بانهيار السد، فغشى المدينة من الماء الجارف ما غشيها فجعل عاليها سافلها، وأهلك سكانها وأباد ضرعها وزرعها فكانت مثلاً
ويعدُّ انهيار السد حديثاً عظيماً في تاريخ الشعب العربي؛ ذكره (القرآن الكريم) في جملة ما ذكر من القصص؛ ومع كل هذه الحقائق التاريخية الثابتة أصلاً فإنها لم تؤثر في تفكير اليمنيين وتغير مجرى اعتقادهم في أن يعيدوا إلى الوجود وإلى ضوء الشمس آثار ذلك الماضي اللمّاع المجّسم في خرائب هذه المدينة ذات الجلال والإبداع، ولم يفكروا مطلقاً في استنطاق هذه الألواح الصخرية المنقوش عليها حرف (المسند) ليعرفوا حقيقة الماضي البعيد
أما علماء الآثار الذين مكنتهم الظروف فاخترقوا هذه الآفاق واستهدفوا لضروب من المتاعب والأخطار، فما استطاعوا أن يقدموا لنا عن هذه البلاد إلا معلومات ضئيلة لا تشفي غلة الباحث الصادي
نعم، إن إدوار غلازر نجح في مهمته، وتنكر في شخصية مسلم واستطاع إبان وجوده بصنعاء أن يتفق مع أحد أشراف مأرب ليكون له قائداً ودليلاً إلى حيث السد
فمن صنعاء أخذ الاثنان طريقهما في واد عميق يقع بين ذُرى بلاد نِهْم وخولان؛ ثم انحدرا إلى وادي شبوان فأخذا طريقهما إلى خرائب السد ومن هنا تابعا سيرهما في ثلاث ساعات إلى مركز الحضارة السبئية: مدينة بلقيس!
وترامت أخبارهما بين القبائل المتعصبة المتحمّسة فعقدوا العزم على ذبحه وذبح دليله. ولكن غلازر درى بحقيقة الأمر فاحتاط لنفسه كثيراً فكان يقوم ليلاً ويختفي نهاراً. . . ولما(315/41)
انتهى من أبحاثه وهم بالرجوع هاجمته جماعة من البدو المسلحين ولكنه نجا بأعجوبة!
وبالرغم من هذه المتاعب الكثيرة التي صادفت هذا المغامر، وبالرغم من افتقاره للآلات العلمية المتممة لأبحاثه فقد نجح هذا العالم الأستَرْيِى في طرق اختباراته فجمع ما يناهز 850 نقشاً حِمْيرياً وبان لعلماء الآثار أن هذه المنطقة، من أرض سبأ، غنية بآثارها عميقة في أسرارها!
أما الإمام يحيى فقد توعد بالعقاب الصارم كل من تحدثه نفسه ببيع هذه الحفريات للأجانب؛ كما أنه أقفل أبواب سبأ في وجوههم ولكن أحد هؤلاء المجازفين حاول الوصول إلى مأرب من حضرموت فاكتشف أمره وقبض عليه، ودفع إلى ما وراء الحدود!
ودفعت المغامرة غيره في وقت قريب، فوصل هذه الأرجاء فعثر على شظايا أثرية، وتماثيل عجيبة لدى جماعات من البدو فابتاعها منهم وشحن منها صناديق. . .
وكل من لاقيته في هذه البلاد وسألته عن أسباب هذه المتاعب الجسيمة التي يلاقيها الرحالة في أرض سبأ راح يشرح لي أسباباً كثيرة، وأموراً غريبة!
أخبرني أحد العلماء قال: (هناك في أرض سبأ تعيش قبائل مخيفة من البدو لا يعلمون عن العالم شيئاً، بل يجهلون كل الجهل من حولهم؛ يعبدون الله ولكن على صورة تخالف ما عندنا، ويأكلون اللحم النيئ؛ وفي قبائلهم تعيش جماعات من النبلاء والأشراف يستبدُّون بالضعيف، ويسخرونه في حرث الأرض، والدفاع عن الحوزة؛ لهذا ترى من الحكمة، وسداد الرأي، أن الإمام مصيب في منعه الأجانب من دخول هذه الأقاليم الرهيبة التي لا تعرف من سلطة الإمام إلا القليل. . .)
وتشرفت بالمثول بين يدي الإمام، وبما أنه معروف عن جلالته الطبع السمح. والخلق اللين؛ فقد بادهته بهذا السؤال:
- هل يأذن لي صاحب الجلالة في زيارة بلاد سبأ؟
ولشد ما كانت دهشتي عظيمة عندما رأيت ابن حميد الدين يستوي في جلسته ثم يصيح بي قائلاً:
- سبأ؟ أرى أن مشاهدتك واستكشافك هنا خير وأولى! أمكث في صنعاء إلى ما تشاء! وإذا لم يعجبك هذا فدونك ما حوالينا من القرى الجميلة، والأودية النضرة، فانهب من الجمال ما(315/42)
شئت واملأ ناظريك من محاسن الطبيعة اليمنية!
- ولكن يا مولاي، أريد سبأ، فهل تتركني أذهب إليها؟
- لا! إن سبأ بعيدة المنال، صعبة الوصول، فأنا لم أرها منذ سنين، وزيادة على ذلك فما هناك طريق واضح؛ فهل من المعقول أن أتركك تذهب حيث لا طريق معبد؟ أنا أريد أن أراها ولكن لا سبيل إلى الوصول إليها. . . هناك حتى يومنا هذا لا يزال جزء عظيم من بقايا السد قائماً في شكل يثير الإعجاب! تصور جيداً أنه شيد كله من الصخر الأصم؛ وهذه الصخور تتألف من ثلاثة ألوان: خضراء وحمراء وشهلاء. . . وعلى مقربة من السد تقوم نقرة عظيمة حفرت جداول توزع منها المياه إلى الحقول والبساتين التي جمع منها السبئيون كل غناهم وجاههم!
- والمدينة يا مولاي؟
- حطمها السدّ وغزتها المياه من كل جانب فغمرتها رواسب كثيرة شفافة، وما زالت أطرافها شاخصة في عظمة واستكبار. . . فهناك على مساحة عظيمة تطفو على وجه الأرض أعمدة وأحجار؛ وأجل هذه الآثار شخوصاً (عرش بلقيس) ذلك المعبد العظيم الذي شيده سليمان لملكة سبأ. . . واليوم عزمت على تعبيد الطريق من صنعاء إلى مأرب فتخترقها السيارات بسهولة!
إن الآثار المدهشة التي تكشفت عنها بلاد العرب الجنوبية تراها اليوم موزعة بين متاحف أوربا؛ وليس لها أثر كبير في بلاد اليمن اللهم إلا أشياء ضئيلة في متحف صنعاء مجموعة في نظام يستدر الشفقة، ويبعث الحسرة!
ففي متحف تِرْمى بروما يمكنك أن تتمتع بمشاهدة آثار سبأ وحْمير وسائر ممالك اليمن القديمة. . .
فهناك نقوش كثيرة وقطع من الفن الهندسي الرائع، وتماثيل ضخمة منحوتة من الصخر جمعها الدكتور أنسالدي أثناء رحلته إلى بلاد اليمن أخيراً واستطاع أن يأخذها إلى إيطاليا بموافقة الإمام!
أما المتحف الذي أنشأه الإمام يحيى في العاصمة اليمنية فهو عبارة عن (غرفة!) من قصر خصِّص لنزول البعثات الأجنبية تتكدس في هذه الغرفة آثار اليمن القديمة!(315/43)
ولما كانت هذه الغرفة محروسة من المساند والمناضد فقد طرحت أرضاً هذه النقوش والقطع الأثرية؛ وبعضها مرصوص على جوانب الجدران؛ والجزء الأعظم من الآثار الصغيرة محشوٌ في أجواف صناديق النَّفْط. . .
والزائر الذي يأتي لمشاهدة هذه الآثار لا يسمح له بدخول هذه الغرفة بل يقوم الحارس بعرض بضاعته من الداخل فيطرحها على أرض الشباك بحيث يتمكن الزائر من المشاهدة والملاحظة وهو في الخارج؛ وفي أغلب الأحيان تَمْلُص من يدي الحارس بعض التماثيل فتهوي إلى الأرض محطّمة؛ وفي جلافة وعدم مبالاة، يركلها برجليه إلى إحدى الزوايا!
إن الله وحده الذي يعرف كم تحوي هذه البقاع اليمنية من الآثار والتماثيل ذات الجلال والسموّ. وما ذلك الفن السامي الذي ازدهر في هذه الربوع المتمثل في هذه الخرائب الأبدية وفي هذه التماثيل العديدة للنساء والرجال المفرغة في المرمر الحرّ والرخام المجزع، إلا صورة حية ناطقة لذلك الفن الرفيع العريق في هذه البلاد منذ أقدم العصور! يدلنا على هذا كله وجود تمثالين في متحف صنعاء بلغا حد الإتقان والإبداع.
أولهما (ش1) يمثل رأساً من البرنز لشاب أو شابة من أبناء تلك البلاد على وضع فني جميل يشبه إلى حد ما أحسن التماثيل الإغريقية القديمة، وقد وجد في غيمان
والثاني (ش2) تمثال عظيم مصوغ من البرنز وجد في خرائب النخلة الحمراء يمثل بطلاً عارياً منسجم الأعضاء جليل الصورة. ومما يدعو للأسف أن العمال الأغرار أثناء الحفر تناولوه بالتهشيم فذهب شئ كثير من روعته، ولكن الآن لحسن الحظ أعيدت صورته الأولى، وأجبرت كِسْراته وصقلت حواشيه، واستقام على قدميه بقوة أسلاك معدنية
والحق أن مثل هذه الآثار كثيرة الوجود تحت الأنقاض وفي بطن الأرض ولكنها تتطلب مجهوداً عظيماً يكلف كثيراً في بلد يقوم على هذا الوضع من الحياة والعزلة
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي(315/44)
كتاب الأغاني
بقلم أبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
وأطلس عسال وما كان صاحباً ... رأى ضوء ناري موهناً فأتاني
فقلت ادن دوني أيها الذئب إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
البيتان من قصيدة للفرزدق، والفرزدق ليس من الشعراء المعاصرين بالطبع؛ ولكن اللحنين اللذين صنعا فيهما عصريان. أما أحدهما فللأستاذ أحمد أمين على نغمة مصرية هادئة، وأما الآخر فللدكتور زكي مبارك على نغمة باريسية ثائرة
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: أو لم أقل لكم إن أفضل تقسيم للأدب أن يكون على أساس من اختلاف الثقافات؟ فالأستاذ أحمد أمين مثال للثقافة المصرية المشبعة بالروح الإنكليزية. والدكتور زكي مبارك مثال لثقافة المصرية المشبعة بالروح الفرنسية؛ ومن ثم كان الفارق بينهما؛ فهذا هادئ رصين والآخر ثائر صاخب
قال الأستاذ الشايب: وسأحدثكم عن مثل يبين اختلاف الثقافتين: قيل إنه قد طلب إلى ثلاثة من الأدباء أحدهم إنكليزي والثاني فرنسي والثالث ألماني أن يكتبوا شيئاً عن الجمل، أما الفرنسي فذهب إلى حديقة الحيوانات وكتب في وريقة ما معناه:
(يا لله! ما أعجب وما أغرب! خف لين، وصبر بين، ووسادة تحت الصدر، وسنام فوق الظهر! يا لله!)
وعدداً آخر من النثر المشعور أو الشعر المنثور، ثم عاد أدراجه ودفع بما كتبه ارتجالاً إلى من ألقى عليه السؤال.
وأما الإنكليزي فارتحل إلى بلاد العرب، وأقام فيها سنين اشترى في خلالها جمالاً ونوقاً وراقبها من يوم مولدها إلى يوم موتها وأحصى مقدار ما تأكل كل يوم، ومقدار ما يؤخذ من لبنها، ومن وبرها، وعدد ما تنتج. فلما انقضت الأعوام عاد فوضع كتاباً عن تاريخ الجمل.
قال الأستاذ الشايب: ولا علينا الآن أن نقول شيئاً عما فعل الألماني، ولكنني أكتفي بهذا(315/45)
القدر من المثل لأن الأستاذ أحمد أمين مثقف ثقافة إنكليزية فهو يؤرخ الأدب العربي على طريقة تربية الجمال وملاحظتها وتدوين الملاحظات. والدكتور زكي مبارك يتناول الأدب العربي على طريقة (يا لله ما أعجب وما أغرب!)
قال أبو الفرج الإسكندراني هذا ما يقوله الأستاذ الشايب ولولا أن الشايب مثقف بالثقافة الإنكليزية دون الفرنسية، لولا ذلك لعددناه شاهد عدل في خصومة بين هذين الأديبين الكبيرين. ولكن لا شهادة لمن له ضلع مع أحد الخصمين
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: لقد صنعت لحناً لهذه الأبيات الرائعة من شعر الفرزدق وإن كنت أعلم موضع الضعف فيها فهي بعض الشعر الإسلامي الذي جنى عليه أدب الجاهلية
قال امرؤ القيس الجاهلي:
وواد كجوف العير قفر قطعته ... به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا ... قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته ... ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
فكان في وصفه هذا اللقاء للذئب معرباً عن إحساس صادق وماذا قال امرؤ القيس؟
لقد وازن بين شروده في القفار وبؤسه وهو مطرود حائر محروم، وبين الذئب في مثل هذه الحالات فعوى عواءه
وكثر الدخيل على اللغة بإسلام من أسلم من أهل اللغات الأخرى فكان للشعر الجاهلي أثر غير أثره الطبيعي: ذلك أنه عماد هذه اللغة التي أصبحت عماداً للدين الجديد. فوقف شعراء الإسلام أمام أسلافهم من شعراء الجاهليين موقف العابد من المعبود لاقتران حاجتهم إليه بحاجتهم إلى المحافظة على اللغة واقتران محافظتهم على اللغة بحاجتهم إلى المحافظة على الدين، فمن أجل ذلك وضع الفرزدق قصيدة يصف فيها لقاء الذيب ووضع الشريف الرضي والبحتري قصيدتين في نفس الغرض ولكن وصف الثلاثة الإسلاميين للقاء الذيب كان وصفاً غير طبيعي لأن همهم الأول كان أن يفعلوا كما فعل شاعر جاهلي يقدسونه
قال الفرزدق إنه قابل الذئب ولكن بماذا أحس؟ بماذا شعر؟
يقول إنه أحس بأنه يريد أن يعطيه زاده فهل كذلك يشعر الناس عند لقاء الذئاب
فلما دنا قلت ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان(315/46)
فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرة ودخان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
على أن مجال التفكير كان حول الطعام، كان في شأن العشاء والشاعر لم يتجه هذه الوجهة إلا لأنه مداح أكثر شعره في مدح الملوك لنيل الجوائز، أفلا يحق لي أن أصف هذا الأدب بأنه أدب معدة وبأن الشعر الجاهلي قد جنى عليه؟
قال الأستاذ أحمد أمين بك: والبحتري مادح آخر يتناول الهبات مكافأة على المديح وقد وصف الذئب وإن لم يلقه متأثراً بامرئ القيس فماذا قال وإلى أية ناحية كان اتجاهه؟ إنه اتجه أيضاً وجهة غير طبيعية في الإعراب عن إحساس من يقابل الذئب فقد قال:
عوى ثم أقعى فارتجزت فنهجته ... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
إلى أن قال:
وقمت فجمعت الحصى فاشتويته
فهل عرفت الآن ماذا فعل بالذئب لقد أكله الشاعر البحتري بعد أن شواه على الحصى!
أو ليس هذا أدب معدة؟ أو ليس هذا مما جنى عليه الشعر الجاهلي؟ على أنني أترك التحدث عن وصف الشريف الرضي للقاء الذئب إجلالاً للشريف
لكن في بيتي الفرزدق مع ذلك روعة وجلالاً وقد صنعت فيهما لحناً هادئاً يضرب بالشوكة والسكين الفضيتين على طبق من أطباق الذهب قبيل الطعام
حدثنا الأستاذ عبد العزيز البشري قال وقد سمع هذا الحديث: أما إنه للحن عذب يفتح الشهية لكن على ألاّ يكون الطعام من لحم الذئب الذي شواه البحتري
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال في صخب وضجة: لقد والله ظلموا البحتري وظلموا شعراء الإسلام. أو لم يقرءوا بقية القصيدة؟
قال البحتري:
وقمت فجمعت الحصى فاشتويته ... فلم يبق إلا اللحم والعظم والجلد
فماذا أكل البحتري وقد استبقى اللحم والعظم والجلد؟ إنه لم يأكل إلا الرأس والأكارع، وهل في أكل الرأس والأكارع ما يستحق اتهام البحتري بأنه من أدباء المعدة؟ هذا والله هو الإجحاف والجحود لمآثر الأسلاف! ولماذا يكون الفرزدق محاكياً لامرئ القيس في وصف(315/47)
الذئب؟
إنه إنما قال ما قال في وصف ذلك اللقاء معرباً عن شعور أصيل في نفسه هو شعور الكرم والنخوة فهو يطعم حتى الذئاب. وهو يعني ذئاب الإنسانية؛ فالأمر لا يعدو المجاز
حدثنا الدكتور بشر فارس قال: هذه الأبيات من الشعر الرمزي ولا شأن للذئب فيها سوى أحرف اسمه
وحدثنا الأستاذ عبد العزيز البشري قال: وأي كرم ونخوة في إطعام ذئب سواء أكان ذئباً حقاً أم كان مكنياً به عن الإنسان؟ إنه ليس في مصر كلها رجل واحد لا يطعم الذئاب دون أن يجد في ذلك مجالاً للفخر، ففي كل مكان فيه ذئب يخرج مصري معمم أو مطربش فيقول:
. . . أيها الذئب إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... . . . . . . . . . . . . . .
ألا إنه لا كرم ولا نخوة في أمر شائع بين الجميع، وإنما الكرم والنخوة أن تفعل ما لا يفعله خاصة الخاصة من الناس
أخبار الفرزدق وشعره
حدثنا الأستاذ على الجارم بك قال: كان الفرزدق مفتشاً أول للغة العربية في حكومة بني مروان وكان من أصحاب العزة الجاهلية ففيه عجرفة يغتفرها له ما أفادته اللغة العربية من ثروة في شعره. وليس وصفه للذئب محاكاة لأبيات امرئ القيس ولا الذئب الذي وصفه من ذئاب الصحراء وأنشد:
صوت
وأنا الفرزدق غير أني ... لا أسف إلى الهجاء
يا جارة الوادي ... عففت فصنت أعراض النساء
لا كالفرزدق إنه ... قد كان مفقود الحياء
الشعر للأستاذ على بك الجارم وقد اشترك في تلحينه كل مدرسي اللغة العربية بوزارة المعارف(315/48)
(يتبع)
عبد اللطيف النشار(315/49)
التاريخ في سبر أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولنعد إلى حديث بلنت مع عرابي، ولما كان هذا الحديث يكشف لنا عن نواح كثيرة من تلك الشخصية التي نعنى بدراستها نرى الخير في أن نورده على تمامه كما جاء في مذكرات مستر بلنت قال: (وقد نفذ كثير من تلك الإصلاحات بعد أن عزى للموظفين البريطانيين في عهد الاحتلال، وادعى لورد كرومر أنه مبتكر كثيراً منها. فمن ذلك إلغاء السخرة التي كان يضربها الباشوات الترك على الفلاحين، واحتكار بيع الماء في مدة الفيضان، وحماية الفلاحين من المرابين اليونانيين الذين انشبوا فيهم الأظفار بسبب فقدان العدل في المحاكم المختلطة. ومن هذه الإصلاحات أيضاً إنشاء بنك زراعي تشرف عليه الحكومة، وهذا هو البنك الذي باهى به كثيراً المرحوم اللورد كرومر. . .
كذلك تناقشنا في الإصلاحات القضائية، وكانت دوائر القضاء يعمها الفساد؛ وكذلك تكلمنا في نظم تربية الذكور والإناث، وفي طريقة الانتخاب للبرلمان الجديد ومسألة الرقيق، وقد أطال عرابي الكلام في هذه المسألة الأخيرة، وكان الموظفون الأجانب في مصلحة الرقيق قد خشوا أن يتناول الاقتصاد في المرتبات مراكزهم، ومن ثم كانوا يزعمون أن إحياء الإسلام معناه إحياء الاسترقاق. وقد أظهر لي عرابي ضعف هذا الزعم وما فيه من الافتراء، وبين لي أنه ليس في مصر من يود أن يكون له عبيد غير أمراء البيت الخديو والباشوات الأتراك الذين تعودوا استعباد الفلاحين، وأن الإصلاحات الجديدة سوف توطد المساواة بين الناس مهما اختلفوا في الجنس واللون والدين، وليس مع هذا الإصلاح محل للاسترقاق. أما فيما يختص بضرورة الاستعداد لحرب محتملة - ذلك الاستعداد الذي يجب أن يشغل ذهن وزير الحرب فقد تكلم عنه بصراحة وقوة فقال إن الحكومة الوطنية لا تنزع سلاحها ولا تخفضه حتى يوطد الحكم الدستوري وتعترف أوربا به. وكان يرجو ألا يتجاوز(315/50)
مربوط وزارة الحرب الذي اتفق عليه مع كلفن وإلا يضطر إلى زيادة عدد رجال الجيش على ثمانية عشر ألفاً. أما إذا استمر التهديد بالتدخل فلا مناص له من اتباع الطريقة البروسية أي التجنيد العام لمدة قصيرة ليتمكن من إنشاء احتياطي كبير، وقد سأل عن رأيي في احتمال وقوع الحرب فقلت له صراحة إني بما علمته من اجتهاد كلفن في إحداث التدخل وبما أراه من الهياج الذي بثه في الصحف أعتبر أن الخطر حقيقي. وإني ذاهب إلى إنجلترا لا لشيء إلا لأضع حداً لحملة الكذب التي ثارت في الصحف، وستكون مهمتي هناك نشر الدعوة للسلام وحسن النية، وفي الوقت نفسه لم أستطع أن أنصح له إلا بالثبات والحزم في موقفه وبأن أفضل وسيلة لضمان السلم إنما هي الاستعداد للدفاع. وقلت إن شر أعداء مصر ليس الحكومات الأوربية بل الماليين الأوربيين وإن هؤلاء لابد أن يفكروا طويلاً قبل أن يعرضوا مصالحهم للخطر بالحض على إثارة حرب طويلة ذات نفقات طائلة، وقل أن يسئ أحد إلى أمة مسلحة مستعدة للدفاع عن حقوقها. وأذكر أني اقتبست من شعر لورد بيرون قوله: (لا تأمن الفرنج عل الحرية) فوافق عرابي على ذلك، وكانت هذه فيما أظن آخر كلماتنا، وقد وعدته أن أعود وأنضم إلى الوطنيين إذا شاء القضاء ووقع السوء)
وهذا الكلام من جانب ذلك الفلاح الذي تمخضت عنه مصر في تلك السنين السود في غنى عن كل تعليق. وما ندري ماذا يرى فيه أولئك الذين أرادوا ألا يجعلوا لذلك الرجل مكاناً بين أبطال قومهم، بل أولئك الذين يسلكونه في المجرمين الخائنين لوطنهم فيرتكبون بذلك من ضروب الإجرام ما لن يزال عالقاً بأعناقهم حتى يروا الحق فيصدعوا به وهم راضون؟
ماذا يرى في هذا الحديث أولئك الذين تنفر أسماعهم من اسم عرابي، وأولئك الذين يضحكون من جهله ويسخرون من تطاوله؟ على أننا لا نعبأ بما يقولون وما يهزءون فإنا لنستشف من هذا الحديث وطنية رجل ونلمس فيه عزيمة رجل على خير ما تكون الوطنية وأحسن ما تكون العزيمة. ولئن كان لرجل من ذوى الجاه والثراء أن يفخر بصنيع أداه إلى بني قومه، فأجدر منه بالفخر كل الفخر رجل درج من عش الفاقة وبرز من عامة الناس ففعل ما لم يفعله غيره من أكابر الناس! وإن هذا الرجل الذي يستشرف القلم في غبطة(315/51)
وفخر إلى تاريخه ليقدم لنا بما فعل الدليل الناصع والبرهان القاطع على أن تربة هذا الوادي الذي أنبتت بالأمس الفراعين لا تزال تنبت أولى العزم والبأس من الرجال؛ وأن بين هؤلاء الذين يجيلون الفؤوس في غيطانها ويعملون صامتين صابرين في الهجير والزمهرير رجالاهم كالدر المخبوء لو أزيح عنه ما يطمره من تراب لتلألأ وسطع وسحر بريقه المتوهج القلوب والأبصار.
مضت الوزارة في سبيلها غير عابئة بصراخ أعدائها لا تتخاذل من دون غايتها ولا تستبعد الشقة، وذلك على الرغم من أنها كانت لا تجاوز عقبة إلا قام في سبيلها عقبات
ولقد قبع الخديو في زوايا العزلة، وجعل الغدارون الخوانون بينه وبين وزرائه حجاباً من الأباطيل التي أحكموا نسجها. والواقع أن الخديو لم يكن على شئ مما كان يجب أن يتصف به من يضطلع بأعباء الحكم في مثل هاتيك الظروف، فلقد كان مستطار القلب حائر اللب مما يجري حوله، فهو لا يسيغ الحركة الوطنية ولا يستطيع أن يصالح عليها طبعه؛ وهو مستريب في نيات الحكومة العثمانية نحوه ونحو عرشه؛ وهو فزع مما يشاع من دسائس الأمير عبد الحليم، بل ودسائس أبيه ومساعيه في مصر والآستانة على يد أعوانه؛ ثم هو فضلاً عن هذا كله قد بات تحت سيطرة الأجانب وعلى الأخص الإنجليز منهم فما يقطع أمراً حتى يوافقون عليه بل لا يخطو خطوة حتى يرى رأيهم فيها
ومن كان هذا شأنه في موقف كهذا الموقف الدقيق الذي كانت تقفه مصر من أعدائها يومئذ كان مثل الراعي أحاطت الضواري بقطيعه فما يرجو أكثر من أن ينجو هو بنفسه ولو هلك القطيع جميعاً.
وكانت الدولتان كما سلف القول تراوغ كلتاهما الأخرى، وتغافلها بغية الظفر بالفريسة وحدها؛ وهذه هي حقيقة السياسة الخارجية التي لا تفهم على وجهها الحق دون الانتباه إليها، وإن كان كرومر ينفي هذا في كتابه نفياً قاطعاً قائلاً إنه كان ذا صلة وثيقة برجال ذلك العهد جميعاً. ولو أن هذا كان موقف إنجلترا ما منعه شئ عن الاعتراف به.
ولكن نفي كرومر هذا لا يغير الحقائق. وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد ما كتبه ريناخ أحد أصدقاء غمبتا عن سياسة الدولتين قال: (إن الرأي العام في انجلترة قد وقع تحت تأثير بعض رجال حزب الشورى الذين اعتقدوا أن خير ما يعمل هو استعجال الحوادث جهد(315/52)
الطاقة أملاً في إيجاد فرصة لدخول وادي النيل دون فرنسا)
حسبنا تلك العبارة التي حاول كرومر أن يفندها بما ذكرنا من نفي فلم يستطيع أن يأتي بدليل أو شبه دليل على صحة رأيه فلن يكون النفي المجرد مما ينهض دليلاً يؤخذ به أمر من الأمور
وكان غمبتا من أشد أعداء مصر بل من أشد أعداء الإسلام قاطبة، وكان هذا الرجل يهودياً على صلة برجال المال من الدائنين؛ وكان يحيط به في باريس ريفرز ولسن ونوبار يوحيان إليه بما يريان؛ وكان بطبعه ممن يميلون إلى اللجوء إلى القوة في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين
وكان هذا الوزير يحاول أن يدفع إنجلترا لتأخذ بسياسته ولكن جرانفيل راح يراوغه مظهراً له أن خيرهما في أن يتفقا، وفي الوقت نفسه كان يحذره عاقبة التدخل المسلح في شؤون مصر سواء أكان ذلك من جانب إحدى الدولتين أم من جانبيهما معاً لأن ذلك العمل كان من شأنه أن يجر في أعقابه كثيراً من المشاكل
ولقد رأينا مبلغ تشدده في وجوب إرسال المذكرة المشتركة المشؤومة، ثم إصراره بعد ذلك على عدم تخفيف وقعها بأي وجه من الوجوه. ولقد كانت كل من الدولتين تحرص على ألا تنفرد فتنكشف، لذلك كانت تجارى إحداهما الأخرى وإنها لمستكرهة أشد الاستكراه وأقبحه. . . وكانت إنجلترا تأخذ نفسها بالصبر حتى تحين الفرصة فتقتنصها
على أن غمبتا لم يلبث في الحكم طويلاً فسقطت وزارته في أول فبراير عام 1882 أي قبل تأليف وزارة البارودي بخمسة أيام وحل محله في الوزارة دي فريسنيه. وكان هذا من أول الأمر يرى في المسألة المصرية ما لا يتفق وسياسة غمبتا
ولكن الأمور كانت قد تحرجت في مصر بما فعل غمبتا، وفقدت العناصر الوطنية في البلاد كما أشرنا كل ثقة في الدولتين جميعاً حتى أصبح من أصعب الأمور التفاهم في السياسة العامة
وكان الإنجليز في مصر يعملون جهد طاقتهم لحساب دولتهم حتى إذا حانت ساعة العمل لم يكن بينهم وبين فريستهم حائل؛ ولقد ظلوا متربصين بمصر بعد أن نجحت وزارة البارودي في حل مسألة الميزانية ينتظرون أن تواتيهم فرصة فيعملوا على تنفيذ ما بيتوا(315/53)
وأخيراً وقع في مصر حادث ما نظن في تاريخ الاستعمار الأوربي كله أن استغل حادث كما استغل - في قبح ما بعده قبح - ذلك الحادث على بعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد، وذلك هو حادث المؤامرة الجركسية المشؤوم
نمى إلى عرابي وزملائه أن فريقا من الضباط الجاكسة في الجيش يأتمرون به وأصحابه ليقتلوهم! فكان أن ألقت الحكومة القبض عليهم كما يقضى بذلك واجبها وساقتهم إلى المحاكمة فقضت فيهم قضاءها. وليس في هذا الحادث في ذاته ما يتصل بالسياسة العامة للبلاد بسبب من الأسباب. وما كانت أية وزارة تستطيع أن تسلك فيه سبيلاً غير التي سلكته وزارة البارودي، ولكن الكائدين المفترين ما لبثوا أن ملئوا الدنيا صياحاً وتنديداً وتهديداً ووعيداً، ونسوا كل شئ إلا تحقيق أطماعهم من وراء هذا الحادث، فكان من أقوالهم وأفعالهم ما هو حقيق بأن يسم تاريخ أي شعب من الشعوب بميسم العار والخزي؛ بل ما هو خليق بأن يساق ين أقوى الأدلة وأنصعها عل صحة مبدأ القائلين بأن هذه المدنية المزعومة قد أفسدت بني الإنسان فزادتهم قرباً إلى الحيوانية بقدر ما باعدت بينهم وبين ما كان يرجى للآدمية من سمو روحي ظل أمل الفلاسفة منذ أن أخذوا يحاولون التخلص من هذا الطين وينزعون بأبصارهم وأرواحهم إلى السموات
والحق لقد دل مسلك دعاة المدنية الأوربية على مبلغ ما يمكن أن يصل إليه غدر الإنسان بأخيه الإنسان في عصرنا هذا، وما برح مثل عملهم هذا يوحي إلى ذوي الأحلام والآمال من البشر أن الإنسان لا يزال هو الإنسان، وأنه إذا كان ارتقى في شئ ففي وسائل الكيد والبطش. أما غرائزه الأولى: غرائز السيطرة والأنانية وحب التملك، لا زالت بحيث لم يطرأ عليها أي تعديل، أو سمو على الرغم مما يتبجح به المثاليون والخياليون من حماة الإنسانية. وإنا لنجد في بيان مدى ما وصل إليه هؤلاء الساسة من انحطاط خيراً من أن نعرض المسألة في وضعها الطبيعي البسيط وما كان من أمرهم إزاءها مكتفين بذلك عن كل تعليق عليها، فما كان لكلام أن يبين عما يتحرك في الذهن ويعتلج في أطواء النفس أو يشفي القلب مما يحس من ألم وضيق أمام مثل ذلك العدوان الشنيع.
(يتبع)
الخفيف(315/54)
استطلاع صحفي
جولة في مصلحة الكيمياء
معمل للأمة وللحكومة
لمندوب الرسالة
انتقلت مصلحة الكيمياء من مبناها القديم الضيق في فناء وزارة الأشغال إلى عمارتها الجديدة بشارع الملكة نازلي وبذلك فتحت أبوابها لكل ما يطلبه منها الجمهور من اختبارات كيميائية تكشف عن صلاحية المواد والمنتجات للحياة العملية، وبهذه الخطوة يستطيع الصانع أن يختبر مواده هناك كما يستطيع أن يحصل لمنتجاته على شهادات حكومية بصلاحيتها ولن يكلفه ذلك المال الكثير فأن المصلحة تشجع على ذلك ولا تأخذ عنه إلا أجراً زهيداً؛ ولذلك رأينا بعد استئذان مراقبها الدكتور أحمد زكي بك أن نقدم لقراء الرسالة صورة مما يحدث في ذلك المعهد وإن تكن صورة مقتضبة لأن عمل المصلحة متشعب والصفحات محدودة
مهارة الصانع
قال الدكتور محمد سعيد سليم رئيس قسم تحليل مواد البناء في مصلحة الكيمياء:
(نقوم بتجاربنا هنا على مواد رخيصة القيمة ولكنها خطيرة المسئولية. فقد يكون ثمن مواد الأسمنت أو الجبس أو المصيص زهيداً، ولكن الخطأ في تقدير قوة مقاومتها يؤدي إلى ضياع كثير من الأنفس والأموال. فتصور عمارة تشيد بالأسمنت المسلح لم يراع في خلط مواده النسب القانونية أو زادت على المخلوط كميات الماء حتى ذاب الأسمنت وسال وبقى الرمل وحده ليسند البناء. فلما تمت العمارة أتى الناس من كل جهات القاهرة ليجدوا فيها السكن الموافق؛ فلما نقلوا أثاثهم ونظموا غرفهم ثقل وزنهم على قوة مقاومة تماسك الرمل وقليل الأسمنت فسقطت السقوف وقتلت البنين والبنات، وترملت الأزواج والزوجات)
ثم وضع الدكتور قالباً مصنوعاً من الأسمنت المسلح بين فكي آلة ليختبر قوة الشد الذي تتحمله البوصة المكعبة منه؛ ثم فتح صنبوراً تساقطت منه كرات من الرصاص في وعاء يقع ضغطه على ذراع يجذب أحد أطراف قالب الأسمنت إلى أعلى بينما الطرف الأسفل(315/56)
ثابت. وبعد برهة انكسر قالب الأسمنت وفي الوقت نفسه هبط ثقل الرصاص على يد معدنية وقفت تساقط كرات الرصاص في الوعاء. فلما وزن الوعاء ومحتوياته قال: (البوصة المكعبة من هذا المخلوط تتحمل شداً قدره 620 رطلاً)
وأثبت في جدول أمامه رقم القالب وقوة مقاومته فلاحظت أنه القالب السادس فأوضح ذلك قائلاً: إننا نتبع في اختباراتنا عدة تجارب من نفس النوع وعلى نفس المادة ثم نأخذ متوسط النتائج، فلا يخفى عليك ما ليد الصانع من تأثير على متانة البناء. بل يمكنك أن تلاحظ اختلاف الصناعة من هذه العينات الست التي قام بها عامل واحد وهي مخلوطة من مادة واحدة، فأنت ترى أنها تختلف بين 530 رطلاً و620 رطلاً. ويرجع هذا الاختلاف إلى عنايته ببعض النماذج ثم قلة هذه العناية في غيرها بسبب تعب يده أو سرعته. ولكن في البلاد التي تقوم بعملية صب العينات آلات حركاتها منتظمة تظهر النتائج للعينات المتماثلة ثابتة
معمل الأمة والحكومة
ومصلحة الكيمياء في مقرها الجديد بشارع الملكة نازلي معمل أبحاث يختبر كل المواد من حيث مدى صلاحيتها للعمل، كما يقرر المواصفات التي يجب توفرها في تلك المواد حتى تكون متينة التركيب فتتحمل الاستعمال مدة طويلة. وكذلك يجب أن تكون رخيصة حرصاً على أموال الحكومة. ففي معمل القاهرة (للمصلحة معامل أخرى في الإسكندرية) تختبر جميع مواد المناقصات ويوضع الحد الأدنى لقبول متانة المواد. فإذا أرادت إحدى المصالح أن تعلن عن مناقصة وضعت المبادئ المطلوبة ثم تركت لمصلحة الكيمياء مهمة بحثها وقبول العطاءات التي يتوافر فيها الرخص والمتانة معاً. فهذه المصلحة هي في الواقع معمل الدولة وقريباً تصبح معمل الأمة أيضاً. إذ أن التوسع الحديث في مبانيها أتاح لموظفيها أن يزيدوا ميدان عملهم فسمح للجمهور أن يطلب إلى المصلحة اختبار المواد التي يريدها بأجر زهيد
والعمل الأساسي لهذا المعمل هو اختبار المواد والمنتجات في أي شكل من أشكالها وتعيين مدى صلاحيتها وتركيبها الكيميائي. وهي بهذا تراقب بطريق غير مباشر تنفيذ عقود الحكومة مع مقاوليها في بناء عماراتها أو مورديها عندما يبيعون للحكومة أو لإحدى(315/57)
مصالحها بعض المنتجات الصناعية أو الزراعية أو الكيميائية من أي صنف كانت؛ فعندما تطرح مناقصة في السوق يتقدم التجار بعينات وبأثمان الوحدات التي تتخذها الحكومة قاعدة لمعاملاتها فتتولى المصلحة اختبار تلك المواد وتحديد نوعها ثم تشير بقبول أحد العطاءات
فإذا بدأت العملية الثانية وورد المتعهد منتجاته فعلى المصلحة أن تختبر تلك المواد الموردة لترى إذا كانت مطابقة للعينات الأولى أم أدخل عليها تعديل أو غش. فإن الغش في المسائل الصناعية كثير وخطير ويعرض أموال الدولة وأرواح أفرادها للضياع
ثمانية معامل
ومصلحة الكيمياء ليست مجموعة من المكاتب يجلس خلفها عدد من الموظفين بل هي عدة معامل يقوم فيها الأخصائيون بمختلف التجارب العلمية اللازمة لاختبار المواد التي نستعملها في حياتنا العامة. وتتكون المصلحة من ثمانية معامل أولها لاختبار مواد البناء من أحجار وملاط؛ والثاني خاص بالمنسوجات على اختلاف أنواعها وبه فرع لفحص متانة الورق؛ وقسم ثالث لفحص الأصباغ بأنواعها؛ واختص قسم رابع بفحص الزيوت النباتية والمواد التي تدخل فيه كصناعة الصابون والشمع والجليسرين. ويمتاز معمل المعادن بما يحتويه من أفران ترتفع حرارتها إلى درجة عالية تكفي لصهر أي معدن. وهذه الأفران مصنوعة من مواد تمنع نفوذ الحرارة إلى باقي أجزاء الحجرة. ففي استطاعتك أن تجلس إلى جوار الفرن دون أن تشعر بأن حرارته 500 أو 600 درجة مئوية. واختبار المعادن مسألة دقيقة فمنها الثمين ومنها الرخيص ووسائل الغش فيها كثيرة
ولمواد الوقود قسمان: أحدهما خاص باختبار المواد السائلة كالنفط والبنزين، والثاني خاص بالمواد الصلبة كالفحم. وقد انضم إلى معمل القاهرة أخيراً معمل الدخان الذي كان في الإسكندرية ويقوم بعمل الأبحاث اللازمة لفحص المنتجات، سواء أكان لمعرفة جودتها وصلاحيتها أم لإجابة مصلحة الجمارك إلى طلباتها.
بين المخبار والمجهر
ويمكن تلخيص عمليات الفحص التي تتبع في هذا المعمل بتقسيمها إلى ثلاثة أنواع وهي(315/58)
التحليل الكيميائي والميكروسكوبي والاختبار الطبيعي. ويكاد النوع الأول يسود جميع غرف المعمل فلم أدخل غرفة واحدة إلا شاهدت فيها أنابيب الاختبار وزجاجات المواد الكيميائية. فإن الفحص الكيميائي يبين تركيب المواد فينكشف ما فيها من مواد غريبة ضارة. فإذا قدم لنا البائع قطعة قماش وقال إنها صوف نقي يمكننا أن نعرف مقدار صحة كلامه بأن نضع قطعة من هذا القماش في صودا بدرجة 5 % ثم نغليها على النار فيذوب كل الصوف. فإذا كان القماش يحتوي أي مادة غريبة كالقطن مثلاً فإنها تبقى، وبعملية حسابية بسيطة يمكننا أن نعرف كمية القطن الموجودة في القماش.
ويستعمل التحليل الميكروسكوبي غالباً في قسمي المنسوجات والزيوت النباتية. فالفحص تحت المجهر يمكننا أن نعرف عدد الخيوط في البوصة المربعة فيحدد الفاحص طول البوصة على القماش ثم يضعه تحت المجهر الذي أعد لتسهيل هذه العملية الدقيقة ويقدر أخصائيو المصلحة عدد خيوط القماش الجيد بخمسين فتلة في البوصة سواء أكان ذلك في اللحمة أم في السدى.
وبالمجهر أيضاً يمكننا أن نعرف نوع النسيج إذا كان قطنيَّاً أو صوفيَّاً أو تيليَّاً فلكل فتلة مميزاتها، ففتلة القطن معتدلة بينما فتلة التيل ملتوية إلى غير ذلك من الصفات التي درسها الأخصائيون وشاهدوها في اختباراتهم وتجاربهم
وإذا مر الضوء في سائل فإنه ينكسر بزاوية خاصة تسمى معامل الانكسار ولذلك تختبر الزيوت بمراقبة معامل انكسار الضوء فيها داخل مجهر خاص قسمت زواياه بطرقة خاصة تبين معامل انكساره وبالتالي توضح جودة الزيت أو رداءته
شد وضغط وتماسك
وللتحليل الطبيعي عدة طرق يختبر بواسطتها قوة مقاومة المادة للطبيعة، ويكاد هذا النوع يسيطر على كل الاختبارات في معامل مصلحة الكيمياء. فمواد البناء مثلاً تتعرض في الطبيعة للشد والضغط والتماسك، ولذلك يجب أن تختبر من هذه النواحي الثلاث. وقوة التماسك من العوامل المهمة في تقدير صلاحية مواد البناء. فالأسمنت تبعاً للمبادئ المعمول بها في المصلحة يجب أن يبدأ تماسكه بعد نصف ساعة من بنائه، وأن يتم بعد عشرة ساعات. ويقول الفنيون إن كمية الماء التي تخلط بالأسمنت لا يجوز أن تزيد على 8 %(315/59)
من حجم المخلوط وإلا ضعفت قوة مقاومة الأسمنت وسالت مواده فتركت المخلوط رملاً وزلطاً فقط
وتتأثر الملابس بأشعة الشمس، ولذلك تختبر المصلحة تأثير هذه الأشعة على القماش فتعرض جزءاً منه مدة 5 إلى 7 أيام تبعاً لحالة الجو ثم تلاحظ ما يبدو عليها من تغيير. وتؤثر الرطوبة على المنسوجات فتقوى القماش وتزيد ثقله، ولذلك يحتفظ قسم المنسوجات بغرفة لها درجة رطوبة ثابتة. فلاختبار عينات من القماش تبيت العينة ليلة في تلك الغرفة لتأخذ درجة رطوبتها. ووزن القماش من الاختبارات المهمة فقد يكون عدد الفتل كبيراً ولكنها رفيعة ضعيفة. وتعتبر البفتة السمراء جيدة إذا كان وزن الياردة المربعة منها 160 جراماً وقوة الشد على طولها أو عرضها 350 رطلاً
ويعتبر زيت النفط (البترول) من أحسن أنواع الوقود ويكفي جرام واحد منه لإنتاج 10 آلاف كالورى وهو الوحدة المستعملة لرفع درجة حرارة جرام واحد درجة واحدة سنتيجراد. ويمكن غش النفط بإضافة المازوت أو النفط الوسخ إليه. ويمتاز البترول عن الفحم الحجري بأن الأخير يترك رماداً. ولذلك يضع قسم الوقود أكبر كمية يمكن قبولها للرماد في الفحم وهي 5 % وهو يتأثر أيضاً بالرطوبة ولذلك يجب ألا تزيد درجة رطوبته على 5 % وتختبر مواد الوقود بمعرفة القيم الحرارية الناتجة من المادة
ثلاث أنابيب
ويلاحظ الزائر لهذه المعامل ثلاث أنابيب ملونة تسير في جميع الغرف تقريباً. فأما الأنبوبة البيضاء فهي خاصة بتوصيل الهواء المضغوط إلى أجهزة خاصة تحضر فيها الغازات. فإذا أريد تنقية المكان من هذا الغاز فتحت هذه الأنبوبة فطردت الغازات الغريبة وتستطيع هذه الأنبوبة أيضاً أن تقدم لمن يشاء هواء نقياً
الأنبوبة الحمراء خاصة بغاز الاستصباح الذي يشعل في التجارب المختلفة وقد صنع من اللون الأحمر ليكون إنذاراً للعمال على أنها أنبوبة خطرة. والأنبوبة الثالثة خضراء وهي خاصة بالماء. ويسيطر على هذه الأنابيب عدة محابس كما أن استعمال أنبوبتي الهواء أو الغاز يضاء له مصباح أحمر إلى جوارهما
وللمصلحة مكتبة كبيرة فخمة على أحدث طراز يتبع أمينها أسهل الوسائل لتبسيط إجراءات(315/60)
البحث عن المراجع المطلوبة وصرفها. وقد استعمل لذلك تنظيم الكتب على أحدث طريقة أمريكية، فرتب فهارس الكتب في لوحات طويلة من الحديد مما يسهل على الباحث العثور على كتابه بسرعة. والمجلات هي أكثر المجلدات الموجودة في المكتبة. فإن العلم سريع التجدد والتغير. ولذلك كان الاطلاع على المجلات العلمية الدورية خير من الكتب للباحث المطلع
فوزي جبر الشتوي(315/61)
رسالة الشعر
الشاطئ الخالي
للأستاذ خليل شيبوب
الشاطئ اليوم خال لا قطين به ... إلا بقايا من الأشباح ترتفق
أما الألي مرحوا فيه فإنهم ... سرعان ما اجتمعوا فيه وما افترقوا
كانوا جماعات لهو جد جدهم ... حيناً ولكنهم في العيش ما اتفقوا
لم يمنحوه هواهم مثلما فعلت ... نفسي التي برشاش الماء تعتلق
أخليته لهمُ حتى إذا ارتحلوا ... عنه إذا بي إليه الآن أنطلق
تبسط الرمل فيه اليوم وانتعشت ... فيه الصخور عليها الموج يندفق
وعاد ما كان من أمن ومن دعة ... إليه مذ زال عنه الطيش والنزق
العين آخذة في سمته رَتَلاً ... من التعاريج تبدو ثم تنغلق
والصخر يصغي إلى الأمواج تنشده ... لحن الطبيعة فيه الحب متسق
حلته مسترسلات العشب مسبلة ... غدائراً تلتقي فيه وتفترق
والأفق غشته أستار وأعمدة ... حمراء ماج عليها غيمه اليقق
قصر من الفتن الكبرى تيممه ... شمس الأصيل بها الأكوان تأتلق
كأنما الريح لما رف ناسمها ... سالت حنينا بها أرواح من عشقوا
حملت حبي إليه واعتزلت به ... عن كل سامعة تصغي وتسترق
وفي فؤاديَ رسم ليس يبصره ... سواي والكون حولي صامت فَرق
كأنني عابد حانٍ على صنم ... أخفاه بين الضلوع الحب والفرق
إني تحدثني عن مقلتيك هنا ... هذى البحار وهذى الشمس والأفق
وعن جبينك مرفوعاً تضئ به ... طهارة الحسن مزهواً بها الخلق
أراك في قسمات الغيب سابحة ... يفج حولك فجر الحب والشفق
في واهج من هيولى النور منعكس ... منى بها شهداء الحب قد صعقوا
مجلوة بنشيد السعد لحنه ... معنى الرجاء الذي في الغيب يصطفق
يا جنة فقدت عيني مباهجها ... وفي يدي لم يزل من نشرها عبق(315/62)
هل ساعة ومضت بالسعد راجعة ... أم انقضت وتقاضي نورها الغسق
صبرت لكن هذا الصمت أقلقني ... حتى تناهب عمري الصبر والقلق
إن الأماني في صدري قد انتحرت ... فأين أدفنها والصدر مختنق
لم يبق من مهجتي الحرى سوى رمق ... ينحل فيها ولن يستمسك الرمق
فليتني لم أكن حياً وتأكلني ... نار لعينيك فيها بت أحترق
يا أيها الشاطئ الخالي رحبت مدى ... ولا أطاف به التكدير والرنق
أراك منى أدنى من عرفت لذا ... عمري عليك بما لاقيت ينطبق
كم اجتنبت الورى ما لي ومالهم ... وكم تمنيت أن الناس ما خلقوا
إني قطعت مسافات وصلت بها ... إلى مساء حياتي وهي تستبق
أرى الظلام بما فيه يهددني ... وفي الظلام يطول الهم والأرق
وشاطئ النفس مهجور قد انطمست ... معالم الأنس فيه وأمحى الأفق
والحب بحر صفا لي برهة فإذا ... وراء ذاك الصفا التيه والغرق
يا أيها الشاطئ الخالي هنا وقفت ... بي الحياة على آثار من سبقوا
ما عاد غيرك لي من أستريح له ... وليس غيري قطين فيك يلتحق
مخضتك الود صرفاً فاجزني مقة ... فإنني بك قلبي مولع ومق
(الإسكندرية)
خليل شيبوب(315/63)
النسمات. . .
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
خبِّريني يا نُسيْمات الأصيلْ ... ما الذي نِلتِ من النهر الطروب؟
قد لَثمتِ الماء في رفقِ الخليل ... ولَثمتِ الزورق الجاري الَّلعوبْ
فارتمى الموج على الشاطئ من فَرْطِ الهوى
وتهادى الزورقُ السبَّاقُ حيناً والتوى!
ومَرَرْتِ الآن بالأزهار مَرَّا ... فنفحْتِ الجوَّ من طيبِكَّ لِينَا
ولَثمتِ. كم لَثمتِ الآن زهرَا ... فانثنى خجلان أو فرحان حينا
فزعَ الطيرُ لِمَا يَعْرُو الفَنَنْ
فمضى يشدو بألحان الشَّجنْ
أنتِ ما ألطفكِ الآن! وما أعذب لَثْمكْ!
أُلْثُميها في حنان، ليتني رُوحٌ للَثْمكْ!
تتلقَّاكِ بأنفاسٍ طروبهْ
وتحيِّيكِ تحياتٍ غريبهْ
وهي تصغي لحديثي في سكون ووداعَهْ
مثل طفلٍ مطمئنٍّ بين أحلام الرضاعَهْ
فإذا ما حَدَّثَتْني فهي كالجدول في الروض الأريضْ
والمراعى
نَغَمُ القلبِ لدى الحُلْمِ وأنغامُ القريضْ
في سماعي
خبِّرينى! خبِّرينى يا نُسَيْماتِ الأصيلْ ... ما الذي نِلْتِ من الزهر ومِنَّا؟
هل سَلَبْتِ الزهرَ شيئاً بينما كان يميلْ ... واختطفتِ يا تُرَى لما ابتسمنا
بعضَ أغراضِكِ؟ ماذا
نِلْتِه من كلِّ هذا؟
هزأتْ بي النسماتْ ... فسألتُ المَوَجاتْ(315/64)
وسألتُ الزَّهَرات ... كلُّها بي هازئاتْ
خبِّريني أنت يا مَنْ ... سبَّحَ القلبُ بحُبِّكْ
ما الذي نالتْهُ هاتيك النسائمْ
منكِ؟ ها ثَغْرُكِ وضَّاءٌ وباسِمْ
خبِّرينى في صفاءٍ ... خبِّرينى إِيْ وربِّكْ!
لم تَنَلْ شيئاً، ومَنْ منّا ينالْ!؟
كلُّ ما في الحبِّ أطيافُ خيالْ. . .!
حسن كامل الصيرفي(315/65)
على الشاطئ
للأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن
يا حبيبي أنا في الثغر غريبُ ... قست الأيام لو تدرى عَليْهِ
قلبه من حرقة الوجد يذوب ... وتوارت بَسمةٌ في شفتيه
ذاهلٌ تلقاه كالطير الجريح ... ماتت الأنغام في أوكارهِ
ذابلٌ كالعود يغدو ويروح ... عطّلته الريحُ من أزهارهِ
أين ما لاقيت من صفو الليال؟
في ربيع العمر والدنيا ابتسامْ
والأماني الزهر في دَلٍّ حيالي
ضاحكات راقصات للغرامْ
وأنا في دوحة الحب أغنى ... أسرق الألحان من سحر العيون
بين صفو ونعيم وتمنى ... آهِ. قد طال إلى الماضي حنيني
يا حبيبي ها هنا فوق الرمالِ ... مسرح للغيد يَسبى الناظرينْ
فوقه يرتع أرباب الجمالِ ... في ظلال الصفو في رفقٍ ولينْ
بيد أني لمْ أجد فيه لعيني
في معاني الحسن من معنى حبيبِ
طالما أنت غريب الدار عنى
فأنا الظامئ في قفر جديبِ
أتغنى بك إذا أنت نشيد ... تتمشى في دمي أنغامهُ
وأُمني النفس بالماضي يعود ... أتُرى تهفو لنا أيامه؟
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(315/66)
رسالة الفن
دراسات في الفن
هي مرة واحدة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لي صديق نحات انكسر له تمثال فحزن عليه، فأردت أن أواسيه فقلت له: ألا تستطيع أن تعوضه بغيره؟ فقال لي: قد أوفق إلى ما هو خير منه، ولكني يائس من التوفيق إليه هو. وحدثت بذلك صديقاً لي آخر شاعراً فقال لي: إني مثل صاحبك لو فقدت قصيدة عجزت عن إعادة إرسالها. فاستطلعت الرأي عند صاحب لنا صحافي فنصحني بالخمود عنها لأنها مسألة مغربة. فأهملتها ثم نسيتها ولم أذكرها في جد إلا حين توكلت على الله لأعد لقراء الرسالة حديث هذا الأسبوع. فقد نادتني إليها من جديد وهي تسألني: أما وجدت مخرجاً لصديقك الذي وقع من التمثال فانكسر؟ فأطرقت أبحث عن المخرج فإذا بصديقي الشاعر يتهادى أمام خيالي وعلى شفتيه الساخرتين ابتسامة أعرفها وأستطيب مراقصتها بروحي التي تستجيب إلى صفائه تراحماً وحناناً. قال لي: كنت بالأمس نشوان استخفتني وحشة ذات بهجة فانطلق لساني بشعر طربت له بالأمس كل الطرب ولكني لم أسجله، ولما أصبحت وأردت أن أستعيده لم أسترجع منه إلا أشباحاً فكيف السبيل إليه؟ أو أنت لا تزال عاجزاً مع صديقك النحات لما تجمعا حطام تمثال؟
وصديقاي الشاعر والنحات عزيزان علي معزة كل فنان فلا أقل من الترحيب أستقبل به مسألتهما هذه فهي مما يعرض للفنانين جميعاً، ولا ريب أن استعراضها وتفتيقها سيظهران لنا بعض ما نحب أن نقف عليه من أسرار الفن ومراحل تخلقه في نفوس الفنانين
ولنبدأ إذن بتجديد هذه المسألة حتى لا نتيه فيها كما نتيه أحياناً في تلافيف هذا الفن وثناياه المتكسرة أنوارها بعضها على بعض والتي قد تضل من يجوس خلالها، ولكنه على أي حال الضلال المأمون المعجب
مسألتنا هي: هل يمكن إنتاج القطعة الفنية نفسها مرتين؟
ولكي نقرب هذه المسألة من أذهان المتباعدين عنها، والذين يستغربونها نطرحها هي(315/67)
نفسها، ولكن من ناحية لينة لا يعسر هضمها على ذهن من الأذهان. فنقول: هل تستطيع المرأة أن تلد طفلها نفسه مرتين؟! وسيجزع المستغربون حين يروننا قد قلبنا مسألتنا هذا القلب، وسيستطيع واحد منهم إذا أعانه الله أن يطبق فمه الذي انفتح لتتفجر منه الدهشة منزاحة عن صدره، وسيفتح فمه بعد ذلك ليسيل منه سؤال من أسئلة المستغربين فيقول: وما للولادة والفن؟ وما أطيب عندنا من رد لهفته إذ نقول إن الإنتاج الفني ليس شيئاً غير النسل الروحي كما أن الولادة إنجاب حيواني. . . وكما أن الولادة لا تكون إلا باتحاد عنصري الجنس المختلفين وهما الذكر والأنثى، فإن الإنتاج الفني لا يكون إلا باتحاد عنصري الجنس الفني وهما نفس الفنان والحياة نفسها. وكما أن الولادة لا تحدث إلا بعد وقت يقضيه الجنين في بطن أمه، فإن الإنتاج الفني لا يحدث إلا بعد وقت يقضيه الجنين الفني في نفس الفنان، وكما أن الولادة إذا حدثت قبل أن يكتمل تخليق الجنين في بطن أمه لم تكن إلا إجهاضاً، ولم يكن الوليد إلا سقطاً ناقصاً مشوهاً مضطرباً، فإن الإنتاج الفني إذا حدث قبل أن يكتمل تخليق الجنين الفني في نفس الفنان لم يكن إلا إجهاضاً، ولم يكن الفن إلا سقطاً ناقصاً مشوهاً مضطرباً. وكما أن الطفل بعد ولادته قد يعيش وينمو برعاية أمه أولاً، وبقدرته على الحياة. ثانياً؛ وقد يموت لضعفه بعد قليل أو كثير، فإن الفن قد يعيش وينمو برعاية صاحبه أولاً، وبقدرته على الحياة ثانياً؛ وقد يموت لضعفه بعد قليل أو كثير. وكما أن المولود إذا نما وترعرع أنجب هو أيضاً مواليد ومواليد، فإذا مات خلد في أبنائه وأحفاده، فإن الفن إذا نما وترعرع أنجب هو أيضاً مواليد ومواليد، فإذا مات خلد في أبنائه وأحفاده. وكما أن هناك أمراضاً تناسلية تصيب الأجنة وتظهر في المواليد، فإن هناك أمراضاً روحية تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؛ وكما أن هناك أمهات خبيثات النظر ينسلن لأزواجهن أبناء غيرهم، فإن هناك نفوساً فنية خبيثة النظر تذل لغير الروح ودواعيها، فتنسب للفن ما ليس من الفن وما يصرخ الفن بإنكاره صراخاً له آذان خاصة تسمعه. وكما أن في الأمهات مزواجات، فللواحدة منهن ولد من كل أب، ولكل ولد من أولادها شبه، فإن من الفنانين من يتنقلون بين الأحاسيس والفكر فيتشكل إنتاجهم ويتلون. وكما أن في الأمهات ذات عصمة وقناعة بالتجربة الواحدة، فلأفراد نسلها ملامح مميزة متشابهة، فإن من الفنانين من ينحصر اتجاههم إلى ناحية واحدة يضربون فيها بجُمّاع(315/68)
أرواحهم، فلإنتاجهم طابع هذا الاتجاه وملامحه المميزة المتشابهة. وكما أنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن أنجبت عذراء وليداً مرتجلاً ملهماً، فكان مسيحاً ولم يمت كما يموت الناس وإنما رفع؛ فإنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن ارتجل نبي فناملهما فكان قرآناً وخلد. وبما أن هذه الظواهر جميعاً قد تماثلت وتعادلت في الولادة وفي الإنتاج الفني، فإنها لابد أن تتشابه وتتعادل فيهما من حيث أنها لا يمكن أن تحدث في كل دفعة إلا مرة واحدة.
ونسكت نحن بعد أن نقول هذا كله، وننتظر في سكتتنا أن نرى شيئاً من علائم الفهم يتبدى على وجه صاحبنا المستغرب فإذا به مصغ إلينا في صمتنا كما كان مصغياً إلينا أثناء كلامنا فلا نستطيع أن نملل هذا إلا بأنه يفهم من الصمت ما يفهمه من الكلام. ولما كنا مؤمنين بأنه يمتنع عليه فهم الصمت امتناعاً لوجود كما يقول النحاة فهو من غير شك لم يفهم من كلامنا شيئاً. . . أمرنا إلى الله! لنستفهمه مقدار إدراكه لعله يوفر علينا الإعادة من جديد ولنسأله: ما رأيك يا مولانا فيما كنا نقول؟ ها هو ذا (يا فرحتنا) يسألنا: ماذا كنتم تقولون؟
- استعنا عليك وعلى أنفسنا بالله. . . اسمع؟ هل أنت فنان؟
- نعم.
- وما فن حضرتك؟
- الكتابة. . .
- حسن. قل لنا الآن ما الذي يحدث لك قبل أن تكتب؟ ألا تشعر بأعراض الحمل والوضع؟. .
- هه؟ ماذا جرى لعقولكم؟. أنكم مجانين
- هذا شئ لا نستطيع أن ننكره، وإن كنت لا تستطيع أن تثبته، وهو على أي حال ليس يعنينا الآن قدر ما تعنينا هذه الأعراض التي نسألك عنها والتي نريد أن نعرف إذا كنت تشعر بها قبل (إحداث) إنتاجك الفني، أو أنك تنتجه هكذا، فهو إما أن يكون وحياً، أو لا يكون فناً على الإطلاق
- أنا لا أشعر بأعراض، ولا يمكن أن تكون للكتابة أعراض إلا إذا كانت مرضاً
- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تنزل عليه الوحي ارتجف وتصبب عرقه وغاب.(315/69)
فكانت هذه هي أعراض الوحي: الارتجاف وتصبب العرق عارضان بدنيان، والغياب أو (الانئخاذ) عارض روحي، وقد كان في هذه الأعراض من العنف وحدة المفاجأة ما يناسب الإعجاز الذي يميز القرآن، ولكل فن بعد ذلك ما يناسب قدره من الأعراض، فكم ترتجف حضرتك قبل أن تكتب وكم تتصبب عرقاً، وكم تغيب عن هذه الدنيا؟
- إن شيئاً من هذا لا يحدث لي.
- إذن فأنت لست فناناً، فالفنانون يحدث لهم هذا. كلهم: الكاتب، والشاعر، والموسيقي، والرسام، والنحات، والممثل حين يرسم حدود دوره، ويفصل ملامحه. فالكاتب، إذا رضينا به مثلاً يعيش وهو مرهف الحس مشحوذ العقل كغيره من الفنانين فيرى في الحياة ما يؤثر فيها تأثيراً خاصاً يحدث انفعالاً نفسياً خاصاً، فإذا توالى عليه حدوث هذا الانفعال النفسي تربى عنده ما يسميه علماء النفس بالوجدان، وهم يعرفونه بأنه استجابة باللذة أو بالألم لما يحدث في النفس من الشعور، فإذا تجمعت عدة مؤثرات حول هدف نفسي واحد ولوّنها وجدان واحد بلون واحد فقد تخلقت في النفس عاطفة تحيط بهذا الهدف، ولا تلبث هذه العاطفة تنمو في النفس وتنمو حتى لا يعود حبسها ميسوراً فتتفجر إما فناً منظماً منسقاً، وإما دوياً روحياً لا نظام فيه وإن كان فيه كل ما في الفن أو ما يزيد على الفن بلاغه في التعبير. ففصول الألم والحزن التي كتبها كتاب الأرض جميعاً تخفض الرأس أمام أي دمعه صادقة خشوعاً وإجلالاً. . . فهل كتبت يوماً يا أستاذ ما كان بعض دموعك؟. . .
- وماذا يصنع الموسيقي؟
- ما يفعله الأديب، وكل ما بينه وبين الأديب من فرق أن الأديب يعبر عن نفسه بالكلام، والموسيقي يعبر عن نفسه بالنغم، ولعلك سمعت أنه كان للشاعر من شعراء الماضي راوية.
- نعم. وأحسب الشعراء كانوا يختارون رواتهم ممن قويت حافظتهم.
- كلا. وإنما كان الأمر على العكس من ذلك، فقد كان الرواة هم الذين يختارون شعرائهم، فالرواة لهم من الاستعداد الفني حظ كبير، وهم هواة حقيقيون. لعل الواحد منهم كان يعين شاعره على الحياة. ولقد كان الواحد منهم يشتري صاحبه بالدنيا وما فيها ويلزمه ويتابعه لا لشيء إلا أن ينعم منه بساعات الصفاء التي يتيحها له الزمن. وهو من شدة لهفته وحبه لصاحبه يحفظ عنه ما يقول لا يدفعه إلى ذلك إلا حرصه على هذا الكنز وخشية أن يضيع(315/70)
أو يندثر. وقد كان يمر الوقت الطويل أو القصير فينسى الشاعر شعره ويعجز عن إعادته. أما الراوية فذاكِرُهُ ومعيده كُلما أراد إعادته، فهو من الشاعر كالجارية، ومن الشعر كالمربية يصونه ويدلله. ولعلك سمعت أن من المغنين من كان لهم أيضاً رواة، فكان المغني يطلق ما يهتاج في نفسه من الأحاسيس غناء لا يعبأ بأنغامه، ولا يرتب ألحانه، وإنما هو ينفث الزاخر في نفسه من العواطف، وكان الراوية يلقف منه فنه هذا ويرصده في نفسه ويثبته تثبيتاً، فإذا نزع المغني بعد ذلك إلى اللحن وجده عند راويته ولم يجده عند نفسه، ذلك أن الفن أنًّةٌ لا تصدر إلا مع الموجدة، فمتى صدرت لم يكن بد لترجيعها من موجدة جديدة، وإلا كانت في حرارة الذكرى ولم تكن في استعار النازلة
- إذن فأنت تنكر على الفنانين استلهام ماضيهم
- لست أنكر هذا ولا أستقبحه، ولكني أحفظ للفن المرسل مكانه المتسامي على مكان الفن المختزن، على أني لا أستطيع أن أخفض من قدر هذا الفن المختزن فقد يكون فيه من العنف والقوة ما في غضبة الحليم من الشدة والسعة. ومهما يكن الأمر فإن هذا خارج عن بحثنا، ومن الخير لنا أن نعود إلى ما كنا فيه. فهل هناك شيء تريد أن تستوضحه؟
- إنك قلت إن الفن إذا أخرج قبل أن يكتمل في نفس الفنان تخليقه لم يكن إلا سقطاً. فماذا تقصد بهذا؟
- لا ريب أنك قرأت لكتاب محببين إليك فصولاً أنكرتها عليهم. هذه الفصول كتبوها وهم كارهون لأنهم لم يكونوا استكملوها في نفوسهم ولكنهم لأسباب يعلمونها هم أخرجوها فكان هذا منهم إجهاضاً، وكذلك الأمر مع الشعراء والموسيقيين والنحاتين والرسامين وغيرهم من أصحاب الفنون
- هذا حسن. وكيف تتوالد الفنون بعد ذلك؟
هذه الفنون مخلوقات حية لا أجسام لها، وهي تعيش فيما بين النفوس والأرواح تغازلها وتعاشقها، فإذا طاب فن لروح تزاوجا وكان من نسلهما بعد ذلك فن ونفس جديدان في كل منهما ملامح من الفن القديم وملامح من النفس الأولى. ألم تسمع بالمدارس الفنية والمذاهب الفنية يا أخي؟. . . هذه هي ولكنا نقول عنها أسر وقبائل وشعوب
- يا سلام. . . وما هي هذه الأمراض الروحية التي تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؟(315/71)
- للروح أمراض كثيرة كما أن للبدن أمراضاً كثيرة. وأقسى أمراض الروح وأشدها فتكاً والعياذ بالله المرض الأصفر
- وهل تصاب الأرواح بالكوليرا أيضاً كالأجسام؟
- وما من فرق غير أن كوليرا الروح معنوية لا يعرفها الأطباء!
- وكيف عرفت أنت وكيف ميزت لونها؟
- لست أدري. ولكني ساءلت نفسي يوما عن حكمة الله في الصفرة يلون بها الموت والذهب وما بينهما من الخبث والشر. ألم تر صفرة الذهب؟ أو لو تر صفرة الموت؟ أو لم تر مسكيناً خبيثاً خداعاً منافقاً يصفر وهو يغش الناس ويكذب عليهم؟ أو لم تحاول يوماً أن تلمح بين كل صفرة وصفرة من هذه. . . رابطة؟
- أوه! أنا فاهم. أنت تريد أن تقول إن بعض الفنانين تنتابهم هذه الصفرة فتنتاب فنونهم بالوراثة
- آه لو أن لي حق الإشارة بمنح النياشين!
- أشكرك واحسبني أستطيع بعد ذلك أن أجري في الموازنة بين الفن وهو المخلوق الروحي كما قلت، وبين الناس وهم المخلوقات المجسدة، على هذا القياس الذي رسمته لي
- وأحسبك بعد ذلك ستقول معي إن الفن لا يمكن إنتاجه إلا مرة واحدة
وعدت إلى صديقي النحات والشاعر وقلت لهما: يا صاحبيّ اطلبا العوض من الله فأنتما عاجزان عن استرجاع ما ضيعتما، فلا أنت معيد تمثالك ولا أنت معيد قصيدتك
عزيز أحمد فهمي(315/72)
القصص
من الأدب الرمزي
ورقة من السماء
للقصصي الدانمركي أندرسن
بقلم السيد عارف قياسة
في أوج السماء الرفيع، في الهواء النقي الندي، طار ملاك بزهرة من رياض الفردوس. ولما لثمها أسقط ورقة منها على الثرى وسط الغابة، فما لبثت أن اتخذت جذوراً، ونمت وترعرعت بين الحشائش الأخرى. ولكن أنواع النبات لم تشأ أن تعترف بأنها واحدة منها. . . فكانت تقول: (ما أغرب هذا الغرس. .!) وكان الحَسَك والقُرَّاص أول من رقص على ثغره الهزء، ولمع في عينيه السخر. كان الحسك يقول باحتقار: (من أين أتى هذا. . .؟ هذه بذرة ضئيلة من البقول لم نر أسرع منها نمواً. . . أمن اللائق ذلك. .؟ وهل يدور في خلدها أنا نسندها حين تلويها كف الهواء. . .؟)
وجاء الشتاء، وغمر الثلج محيا البسيطة، ونفض الغرس السماوي على الثلج بهاء رائعاً، ورواء ناصعاً، كأن شعاعاً زاهياً من الشمس رقص تحت حواشيه، فأنارها بفيض من لألائه. . .
وأتى الربيع الضحوك، وحمل الغرس زهرة ما رأت العين أنصع منها بهجة، ولا أبرع فتوناً. . .
وسمع عنها أستاذ علم النبات الذائع الصيت في البلاد، فخف إليها وشهادته الرفيعة تشهد بعلمه الجم واطلاعه الرحيب ومعرفته الغزيرة. وتأمل الغرس بإعجاب، وحلله وذاق من أوراقه
لم يكن ليشبه ما أبصرته عيناه من أعاشيب؛ وما كان في مقدوره أن يرده إلى فصيلته أو نوعه. فلم يتمالك أخيراً أن قال: (هو غرس هجين. . . هو نبات فذ غريب؛ ذلك لا يطَّرد على قاعدة، ولا يجري على قياس). وردد الحَسَك والقُرَّاص: (ذلك لا يطَّرد على قاعدة، ولا يجري على قياس). ورأت الأشجار الفارعة الغليظة وسمعت ما كان، فلم تفه بخير ولا(315/73)
شر، وذلك عين الحكمة حين ترين الغباوة على الأذهان
. . . ودلفت إلى الغابة فتاة فقيرة، عفة الضمير، طاهرة الأذيال، نقية الفؤاد، عامرة القلب بالإيمان، لا تملك من دنياها غير إنجيل عتيق يخيل إليها أن الله يحدثها من خلاله. علمت منه شرور الناس، وخبثهم السافل، ولكنها عرفت أيضاً أن علينا - حين نتلقى جورهم وعذابهم، ونقاسي سخطهم وسخريتهم - أن نذكر يسوع الطاهر، وأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، وأن نردد معه قوله: (اللهم اغفر لهم، فإنهم لا يعلمون ما يصنعون)
ووقفت الفتاة أمام الغرس العجيب، وقد كانت زهرته تضمخ الهواء بأريج عذب لذيذ يترقرق في الأرواح، وتمض في الشمس كطاقة من النيران الصناعية
وعندما دغدغ النسيم أوراقها رنت في أذنها ألحان علوية، وأنغام سماوية
وظلت الفتاة في نشوة من اللذة، وغمرة من الذهول البهيج أمام هذه الأعجوبة. ومالت برأسها نحو الغرس. . . لتتأمله عن كثب. . . وتنشق أنفاسه الندية العطرة. . .
وشعرت بقلبها ينتعش ويتفتح. . . وبذهنها يستضيء بنور الحكمة الإلهية. ومدت يدها، وقطفت الزهرة، وفؤادها خافق بالسرور. ولكنها فكرت في أن في ذلك بعض السوء، وأن نضرت الزهرة ستذوى، وجمالها سيمَّحى. فلم تأخذ غير وريقة خضراء وضعتها بين إنجيلها، حيث ظلت رفافة الطراوة، بديعة الاخضرار
وتعاقبت الأسابيع، ووضع الإنجيل والورقة تحت رأس الفتاة في تابوتها
واستراحت الفتاة فيه بسكون، وفي قسمات محياها البديع الوديع تلوح سعادة خلاصها من الغبار الأرضي، ودنوها من الخالق
وفي أثناء ذلك طفق الغرس ينمو ويزهر، والعصافير العابرة تنحني أمامه بتجلة واحترام
وهمس الحسك والقرامي: (انظروا جيداً هذا الأجنبي. . . وهل يدرون لماذا يسفحون عبرة أعينهم ويريقون ماء أوجههم؟ أبداً لا نحذو حذوهم الغبي)
حتى دويبات الغابة السمجة، فقد كانت تبصق أمام الغرس الساقط من أوج السماء.
واقتلع راعي الخنازير، وهو يضم حِزم العوسج ليشعل ناره، عُلَّيْقاً وحسكاً وقُرّاصاً، وكذلك الغرس الوسيم بجذوره وقال في نفسه: (كل ذلك لا يصلح لغير طهي الطعام.)
وكان ملك البلاد تغشي روحه كآبة سوداء، ما كان شيء ليقشع دياجيرها، ويبدد ظلماتها(315/74)
فانطلق يلهو منهمكاً في مشاغل شعبه، ومطالعات آيات العباقرة المؤلفين، ثم آثار الكتاب التافهة الهزيلة. وما أجدى ذلك ولا عاد عليه بطائل.
حينذاك أحضر أحكم من في الكون، فأجاب أن لديه وسيلة لشفاء الملك وتنفيس كربه! ذلك أن يأتيه بزهرة سماوية نبتت في غابة من مملكته. وطفق يعرض أوصافها، ويسرد خصائصها. وعرف الغرس الذي أثار حب الاطلاع منذ هنيهة.
وقال الراعي في نفسه: (لقد اقتلعته وايم الحق منذ أمد بعيد، ولم يبق منه هشيم. وإلى هذا يقود الجهل)
وخجل الراعي من نفسه واحترس من أن يميط اللثام عما صنعت يداه. واختفى الغرس، ولم يبق منه غير ورقة ترف على رأس الفتاة الراقدة في قبرها، ولكن أحداً لا يعلم بذلك.
وجاء الملك بنفسه إلى الغابة ليتحقق من زوال الغرس. وقال: (هنا إذن قد ترعرع الغرس، فسيقدس المكان منذ الآن)
وأحاط المكان بسياج من الذهب، ووضع حراساً عليه. وكتب أستاذ علم النبات النابه عن صفات الغرس الإلهي بحثاً مطولاً بين فيه كل ما فقد بفقده. وغمر المليك بالذهب كل صفحة من صفحات المؤلف. ولكن المليك ما يزال محزون القلب ولم يجد لشجنه دواء، والحراس المساكين كان يلوي الألم بأفئدتهم في الغابة. . .
(حماه - سوريا)
عارف قياسة(315/75)
من هنا ومن هناك
الفوهرر (فوزي القاوقجي)
(عن مجلة الباريسية)
نشرت مجلة الباريسية عدة فصول ممتعة عن بلاد العرب والرجال الذين يقودون الحركة العربية في هذه الأيام. وقد قدمت تلك الفصول بكلمة قالت فيها: إن هذه الحركة ذات الأثر الفعال في مركز الإمبراطورية البريطانية يقودها سبعة أشخاص كل منهم يعد نفسه أولى بالملك والزعامة في بلاد العرب. وقد نقلنا عنها في عددين سابقين ما كتبته عن الملك ابن السعود بعنوان (نابليون العرب). وما كتبته عن الأمير عبد الله بعنوان (هل يظفر الأمير عبد الله بملك فلسطين؟). واليوم ننقل عنها كلمة عن الثائر العربي فوزي القاوقجي حتى تكون لدى القارئ فكرة وافية عن هؤلاء الرجال الذين يتطلع إليهم العالم كلما ذكرت المشكلة العربية:
ليس في فلسطين من يجهل اسم فوزي القاوقجي. فهذا الرجل الذي تروى عنه القصص والأخبار العجيبة يعرفه كل عربي وكل يهودي، بل وكل بريطاني يمشي على أرض فلسطين، بأنه ذلك البطل الوطني والثائر العربي الذي يخشى بأسه في تلك البلاد
وتدل الأخبار المستقاة من قسم المخابرات البريطانية على أن فوزي القاوقجي يقود جيشاً يتراوح عدده من ثلاثة إلى أربعة آلاف رجل. وهذا الجيش يهدد مواصلات الصحارى والجبال في فلسطين، ويقطع الطريق على من تحدثه نفسه بعبورها
ويعد أتباع هذا القائد من أشجع الرجال وأصبرهم على تحمل المشقات، وهم يستميتون في مقاومة عدوهم اللدود ما دام القاوقجي يشعل في نفوسهم نيران الحقد، ويتجنب كل موقعة مع القوى البريطانية من شأنها أن تؤدي إلى هزيمة
وقد استولت على نفسه عقيدة بأن القوة التي يقودها في فلسطين سيكون لها أثر في يوم من الأيام في رفع شأن الأمة المحمدية، أو إحياء مجد العرب، لذلك لا تطاوعه نفسه على استباق الحوادث والمخاطر بالظروف التي هي في انتظاره يوماً من الأيام.
ويعد القاوقجي مسئولاً عن إثارة حرب العصابات في فلسطين فيتسلل هؤلاء البدو الذين يقودهم في ظلام الليل إلى المدن، ويختفون كالأشباح عند ظهور الفجر تاركين ورائهم(315/76)
المنازل المشتعلة بالنيران والأراضي المخربة، والجثث المضرجة بالدماء. وتعد هذه المظاهر المرعبة شاهداً صامتاً على أن القاوقجي ورجاله قد مروا بهذه المنطقة في المساء.
والقاوقجي رجل متوسط الطول عريض الأكتاف ملتف الساعدين جميل الصورة في كوفيته البيضاء والعقال الذي يلفه على رأسه هو وأتباعه، ولكن الملابس الإفرنجية قد تقلل من مظهره وتعطيه صورة أخرى.
ولقد قضى القاوقجي أيام شبابه في سوريا، وأرسل منها إلى القسطنطينية ليتدرب على الأعمال العسكرية بها. ولقد كان نشاطه وأعماله الحربية في إبان الحرب العالمية من الأعاجيب. ويقال إنه كان يقود فيلقاً من الجيش التركي. ويقال كذلك إنه انضم إلى الحلفاء وحارب مع الكولونيل لورنس. وسواء أكان هذا صحيحاً أو غير صحيح، فمما لا شك فيه أنه ما كادت الحرب تضع أوزارها حتى كان زعيم ثورة في تلك البلاد. وقد قبض عليه الفرنسيون ووضعوه في سجن جبل الدروز وقد حكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، ولكنه فر بأعجوبة قبل التنفيذ بساعات معدودات.
والقاوقجي يؤلف قوة منظمة تمثل الجهة الشمالية من فلسطين. وهو يعتقد ككل فوهرر في الشرق والغرب أنه وحده من دون ملوك العرب وأمرائها وشيوخها أحق الناس وأقدرهم على أن يكون الحاكم الأعظم للعرب بل ولعامة المسلمين
هتلر ليس نابليون
(بقلم المؤرخ الإنجليزي فيليب جواديللا)
في هتلر بعض مظاهر وصفات تدعوا إلى المقارنة بينه وبين نابليون. ولكن هل تصح المقارنة بين هتلر ونابليون؟
لقد كانت مواهب ذلك القائد الكورسيكي وانتصاراته الحربية جديرة بأن ترفعه إلى حيث يسود الأمة الفرنسية. ولم يظهر هتلر بعد شيئاً من مواهبه الحربية إذا كانت له مواهب في هذا الشأن. وهو ولا شك سيكون القائد المسئول في ألمانيا إذا نشبت نيران الحرب.
إن هذا الرجل الذي يتظاهر أمام العالم بعبادة القوة، لم يظهر كفاية حربية من أي نوع في أيام الحرب العظمى التي يمتحن بها الرجال. وكل ما هنالك أنه ارتقى فجأة إلى رتبة(315/77)
جاويش
إن مواهب هتلر ولا شك تظهر في كثير من الشئون الاجتماعية والمدنية. ويزعم الألمان أنه خطيب لا يشق له غبار وأن لديه مقدرة عظيمة على استهواء الجماهير، وإن كان غيرهم لا يطيق تلك الخطب التي تبدو فيها صرخاته العصبية المزعجة وهو يتكلم عن معاهدات السلم أو يتعرض للاشتراكية أو اليهود
لم يكن نابليون فرنسياً خالصاً، وهو ولا شك من عنصر أقوى صلابة من العنصر الإيطالي، إلا أنه عاش لاتينياً طول حياته. لقد كان سريعاً نحو غايته طموحاً مدرباً على الحروب، منطقياً إلى أبعد حد، ميالاً إلى الانتقام، عصبيَّاً في بعض الظروف ولكنه على الرغم من ذلك كان مسلحاً بدروع سميكة من الصبر وضبط النفس عند الملمات - فهل توجد فروق أكثر من هذه بينه وبين ذلك الرجل المفتون بطبيعته، الذي يتولى زمام الأمور في ألمانيا؟ وشتان بين خيالات العزلة والانفراد على القمم والجنون العجيب بمسألة الدم والنشأة وحياة العزوبة - وبين تلك الحياة التي أخرجت قانون نابليون العتيد، وقادت الجيوش المنتصرة في شتى الميادين، ولم يشغلها كل ذلك عن الحب والمرح في أخطر الظروف
إننا لا نجد وسيلة للمقارنة بين تينك الشخصيتين المتناقضتين إلا في شئ واحد: وهو استعمال القسوة التي تفرضها الضرورة على كل مستبد يساق إلى معاداة العالم. لقد محا هتلر تشيكوسلوفاكية واجتاحها بغير رأفة، وذلك يذكرنا بما فعله نابليون في أسبانيا، ولكن أسبانيا قد عاشت بعد نابليون
الحق أن نابليون أزعج العالم بمحاولته التوسع في الامتلاك ولكنه وقف عند حده. وهذه نتيجة تنتظر كل من تحدثه نفسه بمثل ذلك العمل. لقد كانت جميع الأمم تنظر إلى نابليون بعين الاحترام وهو إمبراطور لفرنسا؛ إلا أنه حينما أراد أن يضع يده على الأرض الأوربية أخذت أوربا تجمع قواها شيئاً فشيئاً واستعدت لأن تقهر أكبر جيش في العالم وأقدر جندي عرفه التاريخ. وعبر الأيام تحثنا بأن كل من تحدثه نفسه بأن يلعب دور نابليون لابد أن يلاقيه في النهاية حظ نابليون.
لا جديد تحت الشمس - العالم منذ ألفي سنة(315/78)
(عن مجلة دتش أندشو التي تصدر في برلين)
كان للإِغريق والرومان مدفعية يرجع عهدها إلى أربعمائة سنة قبل الميلاد، وقد تقدموا في رمي القذائف والنبال، فأصبحت تلقى إلى مئات الأمتار، واخترع ديونسيس آلة لرمي النبال تستطيع أن تدور باستمرار فتلقي ما فيها بغير انقطاع.
واستطاع البيزنطيون أن يخترعوا طريقة لقذف النار، ولم يكن البارود قد اخترع بعد، ولكنهم استطاعوا أن يسخروا القوِى والآلات الموجودة في ذلك العهد لهذا الغرض، وقد صنع قدماء الإغريق والرومان كل ما صنعوه في آماد طويلة، إذ أن السرعة التي هي من سمات هذا العصر لم تكن معروفة في تلك العهود. ولم يكن أهلوها يعرفون المثل القائل إن الوقت من ذهب، ولم يكن عندهم عمال ومصالح كما هو معهود الآن
وإذا كان القدماء لم يعرفوا الساعة كما نعرفها الآن فإنه كان لديهم الذكاء الكافي لتقدير الوقت، ومع ذلك فقد استعمل قدماء المصريين ساعة الرمل والماء، وكان الأطباء يحملونها عند فحص المرضى ليقدروا دقات القلب وسرعة النبض. واستطاعوا كذلك أن يخترعوا ساعة تدق ساعات النهار جميعها مبتدئة من الساعة السادسة في الصباح إلى السادسة بعد الظهر
وقد ألف كتاب في الجراحة لأطباء الجيش في مصر منذ ألفين وثمانمائة سنة قبل الميلاد. وعرف الهنود في طب العيون عمليات القدح (إزالة الماء)، وعرفوا خياطة المصران وإزالة الحصوة وذلك منذ سنة ألفين قبل الميلاد
وفي سنة ألفين قبل الميلاد وضع حمورابي قانوناً لتقدير أجر الأطباء وتحديد مسئولياتهم. وكانوا يعرفون كثيراً من الكلمات المألوفة الآن مثل فن تدبير الصحة والفيزيقيا والصيدلة والباثولجي والجراحة والسوداء والإسهال والروماتيزم وكثيراً غير هذه الأسماء
أما أسماء العقاقير والأدوية فقد أخذنا أكثرها عن اللاتينيين كما هو معروف
وإلى اليوم يعتبر هيبوقراط رمزاً لعلم الطب. وإذا كان القدماء لا يعرفون الميكروسكوب فقد كانوا يهتدون إلى كل شئ بفطنتهم ودقة حسهم
أما الأطعمة فقد كان ينقصهم الكثير من الأصناف المعروفة الآن كالبرتقال والليمون والموز(315/79)
والشاي والقهوة والسكر، وكانوا يستعملون عسل النحل بدل السكر ويستعملون الزيت عوضاً عن الزبد. لكن قدماء المصريين كانوا يعرفون صناعة الجعة (البيرة) ويشربونها ومن العادات المألوفة عند القدماء الاهتمام بحديث المائدة، حتى أن أغنياء روما كانوا يدعون العلماء والكتاب إلى موائدهم لتوجيه الحديث إلى ناحية الصواب
هل نحن عرب؟
(محاضرة ألقاها السيد فؤاد مفرج في أحد الأندية العربية
بمدينة نيويورك)
الأمة مجموع من الناس مرتبطون بشعور واحد، ويجمعهم تاريخ مشترك، ومطمح مشترك غايته إيجاد دولة واحدة والاحتفاظ بها ليعيشوا في ظلها ويحققوا أفضل ما ينطوون عليه. . .
وهكذا فإن كل من يشعر بإخلاص أنه عربي، وفي صدره ولاء صادق للمثل العربية العليا، فهو عربي بقطع النظر عن الدم والعنصر. . .
ثم إنه ليس في العالم أمة لم تختلط أصولها. فإنكلترا مؤلفة من النورسيين، والأنجلو، والسكسونيين، والنورمنديين. ومثلها فرنسا. وناهيك بأمريكا. . .
ونحن مثل هؤلاء لا فرق عندنا بين السوري والعراقي والمصري واللبناني والفلسطيني والنجدي
لا جدال في أن شعوباً كثيرة مرت بسورية والعراق ومصر، وتركت في هذه الأقطار آثارها العنصرية. ولكن جميع هذه البقايا البشرية صهرت في بوتقة العروبة، وذابت في الأمة العربية الحديثة. . .
فالأمة العربية - ككل أمة سواها على وجه الغبراء - أصابها الامتزاج، ولكن هذا المزيج عربي، لأن لسانه عربي، وثقافته عربية، وعنصره الغالب السائد عربي. . .
وجميع أجزاء الأمة العربية مترابطة المصالح والفوائد اقتصادياً وسياسياً، وثقافياً، ودفاعياً: -
فاقتصادياً، ليس كاتحاد هذه الدول ما يوفر لها التبادل الحر، وإزالة الفواصل الجمركية،(315/80)
ومنع الإنتاج الصناعي المستغني عنه والحماية السياسية الكافية التي هي شرط جوهري للفلاح والرخاء
وسياسياً، فالاتحاد وحده هو الذي يمنع الاحتكاك بينها، ويغنيها عن الإكثار من المصالح والنفقات التي لا لزوم لها. . .
ودفاعياً، نحن في غنى عن القول بأن الاتحاد العربي، على غرار الاتحاد الأمريكي، هو وحده يحمي ويضمن بقاء الأجزاء التي تؤلفه، والوحدات التي تكونه، ونظرة واحدة إلى حوادث السنين - بل الشهور - الأخيرة تدلنا دلالة كافية على أنه لا أمان للأمم الصغيرة. فنعمة وجودنا أمة مؤلفة من سبعين مليوناً يجب أن تستقر في أذهاننا. . .
إن كثيرين منا لم يتح لهم الإلمام بتاريخ العرب المجيد. ألا إنه لولا ثقافة العرب العالية وتراثهم العلمي لكان وجود الحضارة الحاضرة مستحيلاً. . .
إنه لشرف أن ننتمي إلى العنصر العربي
ويبدأ عمل الحركة العربية في القلوب والأرواح، فمتى تم اتحاد القلوب والأرواح، أصبح الاتحاد السياسي والجغرافي نتيجة طبيعية. . .
فالعروبة حركة قومية فيها الأمن والرخاء والفلاح لجميع العرب وبواسطتهم للإنسانية جمعاء!(315/81)
البريد الأدبي
مصر والأمم العربية
أخي الأستاذ الزيات:
أقدم إليك أصدق التحيات، ثم أذكّرك بما تعاهدنا عليه من أن نكون جنوداً في جيش الأخوّة العربية إلى أن نموت
وأنا من جانبي أذكر مع الأسف أن الحكومة المصرية لن تستجيب بسرعة إلى المطالب التي اقترحتها في كتاب (ليلى المريضة في العراق)
فلم يبق إلا أن ننوب عن الأمة إلى أن تستجيب الحكومة لما اقترحناه، والأمم في كل أرض أسبق من الحكومات إلى الخير والجميل
والذي يهمني هو تذكيرك بما صنع إخواننا العرب هذه السنة في تمجيد مصر: فمجلة الحديث التي تصدر في حلب أصدرت عدداً خاصاً عن وادي النيل، ومجلة العرفان التي تصدر في صيدا أصدرت عدداً خاصاً عن وطن شوقي وحافظ وصبري والبارودي، ومجلة المكشوف التي تصدر في بيروت أصدرت عدداً خاصاً عن الوطن الذي كابد في سبيله الملك فؤاد، وجريدة الهدف التي تصدر في بغداد تستعد لإصدار عدد خاص عن جورجي زيدان وهو لبناني احتضنه وادي النيل
فما رأيك إذا اقترحت عليك أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن سورية ولبنان والعراق؟
وما رأيك إذا اقترحت عليك أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الحواضر المشهورة في البلاد العربية مثل تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز؟
تأكد، أيها الأخ، أنك لن تجد أية صعوبة في تنفيذ ما أقترحه عليك، وتأكد أن هذه الخدمة الأدبية ستحفظها لك مصر، لأن مصر يهمها أن تتعرف إلى سائر الأقطار العربية تعرف الشقيق إلى الشقيق
وفي انتظار جوابك بالقبول أرجو أن تتقبل تحية أخيك المخلص
زكي مبارك
(الرسالة):(315/82)
اقتراح الصديق سديد مفيد. وسنعمل على تنفيذه بعون الله بعد شهور الصيف.
الروحيات والمعنويات في الإسلام
أستاذنا العزيز الزيات:
تحية وبعد فقد كتب أستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد (314) من (الرسالة) الغراء مشيراً إلى ما كتبنا إليه ذاكراً ما ذكرناه من إنّا نرى أن اللذات التي سينعم بها المؤمنون في الجنة لذات روحية، وأن اللذات التي ذكرها القرآن الكريم ليست كلها لذات حسية، وأن القرآن الكريم عندما ذكر النعيم المادي إنما ذكره كجزاء لما قدّم العباد من حسنات تتصل كلها بالروحانيات والمعنويات. فرأينا كلاماً أن أستاذنا أحمد أمين صادق كل الصدق في نظرته إلى أن القرآن كتاب روحانيات وكتاب معنويات، وأنه عند ذكره الأشياء المادية لا يريد بها لذات مادية، وأنه إن أراد بها أو ببعضها أشياء حسية إنما هي نتيجة اتباع لروحانيات، واتصال بمعنويات. هذا هو الرأي الذي يستقيم مع أصل النصوص ويستقيم مع الفكر الإسلامي السليم. وإلا لو أراد أستاذنا الدكتور زكي مبارك منا أن نفهم فهمه لأخذنا بالرأي المضحك السقيم الذي ذكره مثلاً ابن عابدين في الجزء الثالث من حاشية (المختار) الدر المختار ص315 فيما ذكره (من مطلب لا تكون اللواطة في الجنة من أنه قد قيل إنها سمعية فتوجد، وقيل يخلق الله تعالى طائفة نصفهم الأعلى كالذكور والأسفل كالإناث وأن الصحيح الأول. وفي البحر حرمتها أشد من الزنا لحرمتها عقلاً وشرعاً وطبعاً. . .). فلو أخذنا بالرأي الذي يقول به أستاذنا الدكتور لقلنا: إن المراد بالولدان أن يفهم ذكرهم هذا الفهم السقيم، وحاشا لله أن يكون كذلك. والأقرب إلى العقل أن يكون ذكر الولدان التمتع بالفكرة الروحية التي يبعثها الجمال الحسي، وإنه إن جاز إن نأخذ في ذكر الحور العين باللذة الحسية، فإنه لا يجوز أن يفهم هذا عن ذكر الولدان. على أن ما ذكره القرآن الكريم من حور عين ومن ولدان ولحم طير ورحيق وأباريق وفاكهة، لا يجوز بحال أن نفهم أن ذكرها يؤيد أن القرآن يعنى بالحسيات، أو أنه كتاب حسيات، لأنه كما قلت إنما عنايته موجهه للمعنويات وذكرها يراد به اللذات المعنوية. وإن أريد من بعضها أو من ذكر بعضها اللذات الحسية فعلى أنها تابعة للذات المعنوية ويراد من ذكرها تقوية معاني(315/83)
الروحانيات عند المؤمنين لأنها جزاء من عمل صالحاً وجزاء من اتقى
والغريب أني عند صدور عدد (الرسالة) الأخير قابلني في الترام أحد المبشرين الأمريكان يجادلني في هذه الفكرة التي يريد دكتورنا أن يأخذ بها المسلمون. وبعد فالدكتور زكي مبارك عزيز علينا ولكن أعز منه كتاب الله والفكرة الإسلامية السليمة التي يجب أن ندافع عنها، وهي أن الإسلام دين روحانيات ومعنويات وأن ليس معنى هذا أنه لا يعنى بالحسيات والماديات، بل هو يعنى بها وبتنظيمها التنظيم الذي يتصل بأن يرقى بالإنسان إلى الروحانيات، وأنه عند ذكر الماديات الأخروية لا يريد بها جزاءها الحسي، بل يريد بها جزاءها المعنوي الروحي، وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر ما تتصل بالروحانيات والمعنويات، والسلام عليكم ورحمة الله.
محمود علي قراعة
جماعة الفن والحرية
قرأنا في عدد (الرسالة) رقم (314) الصادر في 10 يوليو سنة 939 كلمة جاءت في صفحة البريد الأدبي تحت عنوان (الفن المنحط) وقد ورد في هذه الكلمة أنه بهذا الاسم قد تكونت جماعة من الفنانين هي اليوم في طريقها إلى التفرق والتحلل لأنها لم تجد عند الفنانين والصحافة والجمهور ما كانت ترجوه من تشجيع، وأن الفن المنحط الذي ندعو إليه هذه الجماعة لا يمكن أن يقال عنه أنه منحط فعلاً ما دام يجد من يقول عنه إنه فن، إذ أنه لا يمكن أن يكون الفن فناً ومنحطاً في الوقت نفسه إلا إذا كان كاذباً. فالفن هو نتاج الحس؛ ومتى توفر فيه الصدق، فإنه سام رفيع، ولا يفسده شيء، ولا ينقص من شأنه شيء إلا أن يكون تكلفاً فهو عندئذ ليس فناً، وإنما هو تهريج وتجارة.
وقد جاء في هذه الكلمة أيضاً أنه إذا كانت جماعة (الفن المنحط) قد تألفت من أفراد صادقين في شعورهم وتعبيرهم ففنهم رفيع من غير شك مهما تواضعوا وقالوا إنه منحط؛ أما إذا كانوا يتكلفون هذا الانحطاط ففنهم منحط حقاً لا لشيء إلا لهذا التكلف.
وكل ما جاء في هذه الكلمة صحيح من غير شك في نظر كاتبها فقط بل نظرنا أيضاً، لأننا(315/84)
لا نعتقد أبداً أن جماعة من الجماعات يمكن أن تقوم باسم (الفن المنحط) لتدعو الناس إلى الانحطاط في الفن
لقد تكونت جماعتنا باسم (الفن والحرية) وأعراضها تنحصر في الدفاع عن حرية الفن والثقافة وفي نشر المؤلفات الحديثة وإلقاء المحاضرات وإقامة المعارض الفنية العامة، ثم هي تعمل في نفس الوقت على إيقاف الشباب المصري على الحركة الأدبية والاجتماعية في العالم
هذه هي أغراض جماعة (الفن والحرية) فإذا كان فيها ما يدل على أنها تدعو إلى الانحطاط في الفن فنحن نغتفر للكاتب ما ذهب إليه في أمرها. أما أن يتصدى لنقد جماعة من الجماعات كاتب لا يعرف حقيقة اسمها ولا يعرف حقيقة أغراضها معتمداً في هذا على الإشاعات والأقاويل فهذا ما ننزه كاتباً في (الرسالة) عن خطأ الوقوع فيه
أنور كامل
عن اللجنة الدائمة لجماعة (الفن والحرية)
انحطاط الطاقة ونهاية الكون؟
إلى عالمنا المصري الدكتور محمد محمود غالي:
أقرأ بإعجاب المقالات العلمية العظيمة التي يجود بها يراع العالم الطبيعي المحقق الدكتور محمد محمود غالي على صفحات الرسالة فأشعر بحنين نحو السوربون لأنه يخيل إلى وأنا أطالعها أني أستمع إلى أولئك العلماء الأعلام أساتذة تلك الجامعة الكبيرة التي تلقيت فيها العلم أيام الصبا
وتتبعت على الأخص بإمعان مقالات الدكتور الأخيرة عن موضوع انحطاط الطاقة وتدهورها المستمر المحتم من صورها العليا كالكهرباء والطاقة الميكانيكية إلى صورتها السفلى وهي الحرارة، وكيف أن الكون سائر نحو ما يسمونه (الموت الحراري) على حد تعبير الدكتور العالم أي السكون التام الذي سينتهي إليه في جميع أبحاثه بجميع أجزائه وجزيئاته وذراته ومحتوياتها على النحو الذي شرحه الدكتور بما أوتي من علم وبلاغة، فلا كواكب تدور ولا شموع تسطع، ولا سيارات تُضاء، ولا حركة من أي نوع ولا كهرباء ولا(315/85)
جاذبية ولا ضوء ولا حرارة مرتفعة الدرجة الخ. وبطبيعة الحال لا حياة على الأرض ولا على غيرها بل إن الحياة تكون قد اندثرت من الكون قبل ذلك بملايين وملايين السنين لزوال أسبابها وعدم توفر شروطها وعواملها، وما هي إلا حلقة من تطورات الطاقة تنتج من تحول الطاقة الكيميائية الناتجة من احتراق المواد الغذائية داخل الأنسجة إلى طاقة ميكانيكية كحركة الجسم وحركة أعضائه الداخلية وتفاعلاته الكيميائية البيولوجية وفي النهاية إلى حرارة شأن جميع صور الطاقة أثناء تحولها في الطبيعة
فعاودني حين قرأت هذه الصورة المقبضة لنهاية الكون اعتراض قديم قام في ذهني حين سمعت هذا الرأي لأول مرة فيما مضى عند درس الطاقة البيولوجية، وقد أشار فعلاً إلى هذه النهاية المحزنة أستاذي العالم الفسيولوجي الكبير المأسوف عليه (داستر) في دروسه بالسوربون وفي كتابه النفيس (الحياة والموت)
وإني أطرح هنا هذا الاعتراض على الدكتور غالي لأستقي من بحر علمه الواسع راجياً منه أن يتحفنا بكلمة في هذا الموضوع من كلماته الفياضة تروي غليلي.
أقول إنه لو كانت نهاية الكون هذه تحدث للأسباب المذكورة لحدثت من زمن. ذلك لأنه لو فرضنا أنه يلزم مثلاً مليار أو أكثر من السنين لتحول جميع صور الطاقة العليا في الكون إلى حرارة غير مرتفعة الدرجة لتم ذلك من زمن بعيد لأن المادة (أو مجموعة المادة والطاقة) قديمة، ولأنه مضى على الكون أضعاف أضعاف أضعاف هذه المدة. وهل يمكن أن يتصور العقل أن للكون بداية؟ أليس هذا مخالفاً لأبسط الحقائق العلمية وللنواميس الطبيعية الأساسية، وعلى الأخص لناموسي بقاء المادة وبقاء الطاقة وعدم تلاشيهما؟ فَكل من المادة والطاقة ثابت لا تخلق منه ولا تنعدم منه ذرة واحدة، وإن كانت صورهما في تحول مستمر من الواحدة إلى الأخرى. وإذا كان العلم الحديث أوشك أن يوحد بين المادة والطاقة فيمكن أن يقال إن مجموعهما ثابت لا يخلق منه شيء، ولا ينعدم منه شيء.
وبالجملة فإنه إذا كانت تلك الأسباب (انحطاط صورة الطاقة العليا وتحولها شيئاً فشيئاً إلى حرارة منخفضة الدرجة) من شأنها أن تقضي على الكون بالسكون التام المطلق لحدث ذلك من قديم الزمان
فإذا صح هذا الاعتراض ألا تكون النتيجة الطبيعية المنطقية أن هناك إذا عوامل أخرى(315/86)
مجهولة الآن لم تدخل في حساب العلماء والرياضيين قد يكشف عنها العلم في المستقبل فتغير وجه المسألة ويطمئن حينئذ رجال الغد على مصير الكون؟
نصيف المنقبادي المحامي
عدد المكشوف الخاص عن مظاهر الثقافة في مصر
أصدرت زميلتنا المكشوف البيروتية عدداً خاصاً عن مظاهر الثقافة في مصر في 56 صفحة مزدانة بالصور المختلفة، حافلة بالفصول الممتعة والبحوث المستفيضة في شتى مناحي الأدب المصري، دبجه أكثر من 40 كاتباً وشاعراً مصرياً، وبه حديثان أحدهما لمعالي هيكل باشا، والآخر لسعادة العشماوي بك
وقد وُفق أكثر الكتاب كل التوفيق فيما عالجوه من الموضوعات، ولكن أقلهم غلبت عليه نزعته الخاصة فلم يفطن إلى الحكمة من إصدار هذا العدد فخرج فيما كتب عن أسلوب المؤرخ المقرر الذي تقتضيه هذه الحال
والعدد يباع بمصر في المكتبات التالية: التجارية الكبرى بأول شارع محمد علي، النهضة المصرية - 15 شارع المدابغ، الهلال بشارع الفجالة، زلزل - 3 ميدان سليمان باشا.(315/87)
رسالة النقد
على هامش كتاب
حياة الرافعي
تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان
للأستاذ محمود أبو ريه
أقبلت على قراءة كتاب (حياة الرافعي) لا كما يقبل عليها غيري من أهل الأدب ومحبي الرافعي، وذلك لما كان بيني وبين الرافعي رحمه الله من صداقة امتدت أكثر من ربع قرن فعرفت من أحواله وأنبائه شيئاً كثيراً، فما فتحت عيني على هذا السفر النفيس الذي تحث عن هذه الحياة المباركة حتى رجعت إلى ذاكرتي من ناحية، وإلى كتب الرافعي الخاصة التي لدي من ناحية أخرى، لأرى إن كان صديقنا سعيد العريان قد صدق فيما روى وحقق فيما أرّخ، أو هو قد سلك تلك السُبل التي يتبعها أكثر المؤرخين من العناية بكثرة الحشد، والتلفيق في الرواية من ههنا وههنا بلا تمحيص في ذلك ولا تحقيق، كأن التاريخ لا حرمة له عندهم، والحق لا رعاية لجانبه في قولهم
جعلت ذلك همي من قراءة كتاب (حياة الرافعي). أما البحث في قيمته وأثره في عالم الأدب، وفضل صاحبه في السبق إلى اقتراع هذه الطريقة من الترجمة، وما إلى ذلك من المزايا التي امتاز بها هذا الكتاب، فقد تركت ذلك كله لغيري ممن يعرضون لنقده أو تقريظه حتى لا يقال إن صديقاً يقرظ صديقه
قرأت الكتاب من ألفه إلى يائه قراءة تدبر ودرس فخلص لي منه أن أخانا الأستاذ سعيد قد فاز بالحسنيين: حسنى الوفاء للرافعي - والوفاء في زمننا قد أصبح غريباً بل صار جريمة ومنكراً - وحسنى إحسان العمل من حيث التحقيق في الدراسة واستيعاب كل ما يتصل بحياة الرافعي حتى خرجت هذه الشخصية الجليلة في هذا السفر صورة حية. ذلك بأنه لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولم يذر شاردة ولا واردة إلا قيدها. بيد أن هناك أمرين ما أظن إلا أن اطراد البحث قد أعجله عن استكمال درسهما
ولأني أعرف الحق في هذين الأمرين فقد رأيت إحقاقاً للحق وإنصافاً لمن يتصل بهما أن(315/88)
أستعلن بما أعرف على صفحات الرسالة الغراء ليكون من علم قرائها الذين هم صفوة أهل الأدب في العالم العربي، ومنهم ولا ريب قراء كتاب (حياة الرافعي) لكيلا يفوتهم من أمر هذه الحياة الجليلة شئ
تحدث الأستاذ سعيد في هامش الصفحة 13 من هذا الكتاب قال: (كان للرافعي صلة روحية بالسيد البدوي ترتفع عن الجدل والمناقشة وله فيه مدائح وتوسلات شعرية كثيرة. . .) وهذا القول لو أُخذ على إطلاقه لبدا منه أن الرافعي رحمه الله كان من الذين يعتقدون بالتوسل بأصحاب القبور، فيتخذونهم وسطاء بينهم وبين الله يفزعون في كل ما يهمهم إليهم، ويستعينون بهم في قضاء مآربهم. وإذا صح ذلك كان مغمزاً في أعظم جانب من حياة الرافعي، وهو الجانب الديني؛ لأن التوسل بأصحاب القبور عند المحققين وأهل البصر بالدين إنما هو شرك بالله يبرأ منه كل مسلم صحيح الإيمان. والرافعي رحمه الله كان إماماً في الدين كما كان إماماً في الأدب؛ وكان من دعوته في الحياة أن يعتصم المسلمون بعروة دينهم الوثقى، وأن يرجعوا من وثنيتهم إلى الدين الخالص الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
على أن هذا الأمر الذي أشار إليه أخونا سعيد لا يعرف غيري وجه الحق فيه، ذلك أني كنت في إحدى زياراتي للرافعي بطنطا في سنة 1918 وما كدت أجلس إليه حتى قال لي: (أبشر يا أبا رية، لقد اقتربت ساعة شفائي من علتي إن شاء الله (وهي العلة التي كانت بأذنه). ولما سألته عن مرجع هذه البشرى قال: (لقد رأيت السيد البدوي في المنام ليلة الأمس قد جاءني وبشرني بالشفاء فنهضت من نومي وأنشأت فيه هذه القصيدة) ودفعها إليّ فقلت له إن هذه القصيدة لو نشرت لكانت فتنة للمسلمين، فخير لك أن تطويها حتى نرى تأويلها. ولأنه رحمه الله كان يعتقد في عالم الروح اعتقاداً غريباً وكان يأخذ بالحديث الشريف في أن دعوة المؤمن على ظهر الغيب تنفع، وكان بحسن ظنه يستعين من إخلاصي له حتى كان لا يكتب لي خطاباً إلا ويطلب في آخره ألا أنساه من الدعوات الطيبة، فقد كتب لي في ورقة صغيرة هذه العبارة (أريد أن تذهب الآن إلى جامع السيد وتتوضأ وتصلي بعض ركعات ثم تقرأ ما تيسر من القرآن على نية أن يعجل الله بشفائي ثم تدعوا لي بذلك فإن دعاء المؤمن لا يعدله شيء في سرعة الإجابة مع خلوص النية.(315/89)
وأمس رأيت السيد البدوي في الرؤيا وبشرني بالشفاء ولهذا طلبت منك هذا الطلب)
وعلى أن ما طلبه مني ليس فيه شيء من التوسل بالسيد البدوي وإنما هو صلاة لله وقراءة لما تيسر من كتاب الله ودعاء خالص يَصْعَد إلى الله ليعجل بشفائه
وهذا كله عمل خالص لله وحده فقد حاك بصدري شيء من الشك في عقيدته، ورأيت من أجل ذلك أن أتلطف لمعرفة حقيقة ما يعتقد في التوسل بالمشايخ، فسألته في خطاب بعد ذلك بقليل عما يقوله رجال الصوفية من أنه لابد لكل مسلم أن يتخذ (واسطة) من مشايخهم يصل به إلى الله، وهل هو قد اتخذ هذه (الواسطة) فأجابني في كتاب تاريخه (15 يولية سنة 1918) بما يلي:
(. . . وأنا ألتجئ دائماً إلى الاستمداد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه واسطة الجميع، ولا أدري إن كان فِيَّ استعداد للتلقي عن هذه الغاية البعيدة أم لا)
وبعد أن انقضت شهور على هذه الرؤيا ولم تتحقق البشرى حدثته في ألا ينشر ما وضعه من شعر في السيد البدوي وأن يُبْعِدَه عن ديوانه، فقال: إن هذا ما سأفعله إن شاء الله وسأجعله مما أهمله من شعري
هذا هو نبأ توسلات الرافعي بالسيد البدوي الذي تحدث عنه الأستاذ العريان
ومن يقرأ ما كتبه الرافعي في الدين ووصفه لإسلام المصريين بأنه إسلام فرعوني بما شابه من ذرائع الوثنية، وما اختلط به من البدع الشركية، يتبين له صدق ما قلنا وصحة ما روينا وأنه كان طوال حياته حرباً على الدجل والخرافات، والشعبذة والتوسلات، تلك التي لا يعرفها دين الإسلام؛ وأنه نذر كما يقول الأستاذ سعيد (أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك والضلال، ويدعو إلى الله ويواصل حملة التطهير)
والأمر الثاني في قول أخينا سعيد، من أن السيد رشيد رضا رحمه الله، لما قرأ مقدمة النسخة الأولى من مجلة البيان المنسوبة إلى الأستاذ الإمام محمد عبده قال: (. . . لقد كنت حاضراً مجلس الشيخ وسمعت منه هذا الحديث، ولكن لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته)
وهذا القول لو ثبت على ما رواه صديقنا سعيد من أن مقدمة البيان من وضع الرافعي لكان ذلك طعناً في خلق إمام كبير من أئمة الدين يذهب بالثقة به ويلقي الشك في الأخذ عنه،(315/90)
ولكن الذي جرى على وجه التحقيق أنه لما ظهرت مجلة البيان التي أصدرها الأستاذ الكبير عبد الرحمن البرقوقي قابلها حجة الإسلام السيد رشيد رحمه الله بالترحيب والتقريظ، وكتب عنها كلمة طيبة في مجلته (المنار) ولما تحدث عن حديث الأستاذ الإمام مع الأستاذ البرقوقي لم يقل إنه كان حاضر مجلس الشيخ، ولا إنه سمع هذا الحديث، وإنما قال عن الأستاذ البرقوقي إنه (نقل كلام الأستاذ الإمام بمعناه لا بحروفه قطعاً)
وهذا لا يعني أن الحديث من غير كلام الإمام أو أن الإمام قد تحدث به أمام السيد رشيد
هذا أهم ما رأيت أن أنشره في الرسالة. ولقد وجدت فيما بين يدي من كتب الرافعي رسائل في الأدب والدين واللغة تستأهل النشر لانتفاع الناس بما فيها ولعل الله يقيض لي - إذا وجدت من صدر الرسالة سعة - أن أنشر ما فيه الخير من هذه الرسائل. ورحم الله الرافعي رحمة واسعة.
محمود أبو رية(315/91)
قصص العرب
للأساتذة
جاد المولى بك، علي البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم
للأستاذ أحمد التاجي
أُثِرت عن العرب قصص يرجع أقدمها إلى الزمان الأول، كانت صدى لحياتهم ومرآة لأذهانهم، وجُماعاً لمعارفهم وأساطيرهم ولكنها تحتاج إلى إحياء وتجديد
أما إحياؤها فباختيارها من أسفارها ورفع الأنقاض عنها، وجمعها في كتاب واحد، وبتصحيح عباراتها، وتحقيق حوادثها، ثم يعرض كما قاله العرب، ليتأدب به الناشئون وليتخذوا منه مادة لإنشائهم، وغذاء لأفكارهم. وأما تجديدها فهو الخطوة الثانية وذلك بأن تطعّم بالأدب الحديث، وتسقى من المعارف التي وصلت إلينا، لتناسب أبناء جيلنا ولا تنبو عن أذواقنا
والكتاب الذي نعرض له الآن يخطو الخطوة الأولى، فيجمع قصص العرب كما حكوه وحدثوا به، ويفصّله في أبواب فيضع تحت كل باب ما ورد فيه من القصص
فقصص تدل على عقيلة القوم واعتقاداتهم في الآلهة، وقصص تستبين بها مظاهر حياتهم وأسباب مدنيتهم، وقصص تجلو علومهم ومعارفهم، وأخرى تظهر أخلاقهم من وفاء وكرم وحلم. وهكذا ينتقل من باب إلى باب، والذي يربط بين القصص أغراضها، وكنا نود أن ترتبط بعصورها، فتنفع مؤرخ الأدب وليرى فيها أحوال كل عصر وآدابه ماثلة في قصصه
وكنا نود أيضاً أن تبرأ من الأخبار البعيدة عن القصص فإن ذلك قد تكفلت به كتب الأدب، وما هي بقليلة
على أن للأساتذة جهداً مشكوراً إذ أتاحوا الفرصة لمن يدرس القصة العربية وتدرجها، وعرضوا لنا مادة زاخرة تصلح هياكل لقصص عربي حديث
وقد لاقوا عناء شديداً في تصحيح النصوص وتقويم الأشعار والتنقيب عن أصح الروايات، يشهد بذلك من اطلع على ذلك السفر الجليل الذي ظهر آية في إخراجه - عدا بعض هنات(315/92)
مطبعية - وهذا عمل يقدره من يكابد القراءة في الكتب القديمة، وطبعاتها السقيمة
فلهم ما يستحقون من الشكران
أحمد التاجي(315/93)
العدد 316 - بتاريخ: 24 - 07 - 1939(/)
حلم ليلة صيف
غربت الشمس في الرمال اللوبية المرمضة ومن ورائها في الجو والأرض وهيج كزفير جهنم. وكان القاهريون قد احتشدوا فوق الجسور وعلى الشواطئ وفي الحدائق يَنْسمون نَفَس الماء ونفح المساء وأرج الزهر، فكأنما لم يبق في البيوت والقهوات والطرقات أحد. وكنت أنا في زحمة الناس أسير هَوناً على جسر إسماعيل والذكريات العذاب تنثال على خاطري انثيال الشعاع السينمائي بالأخيلة المتحركة على الشاشة، فأذكر فيما أذكر كيف كان ذوو السراوة والنعمة يخرجون قبل أن يعرفوا أوربا إلى الجزيرة آصالَ الربيع والصيف في زينتهم الفاخرة ووضاءتهم الباهرة ومركباتهم الفخمة تتراقص بها الجياد المطهمة العتاق، فيكون للفقراء من عَرْضها منظر فتان من زَهرة العيش يشغل الهم عن القلوب ساعة. ثم أُبصر فيما أُبصر كيف أصبح الجسر والجزيرة - بعد انتجاع المترفين المرفهين فيشي وكرلسباد، ومونت كارلوونيس - مَرَاداً لذوي الفاقة والعاهة والكرب، لا ترى حولهم إلا بؤساً ولا تسمع بينهم إلا شكوى! ثم انتهى بي هذا السير البطيء الحالم إلى (كازينو الكُبرِى) فجلست وحدي في مكان مظلم، وجعلت وجهي وعيني للنيل المزدان بالقوارب؛ وللشاطئ المزدهر بالمصابيح، وأخذت ذاكرتي تغوص وتطفو بين جوف الماضي ووجه الحاضر، فلا أرى فيما خلَّفه الزمان والإنسان إلا مآسي داميةً ألّفها الطمع والأثرة، ومثَّلها الضعف والقوة. وكان عقلي القاصر يعلِّق أحياناً على ما تعرض الحافظة من هذه الصور، فيعجب كيف عجز إلى اليوم دين السماء وعلم الأرض عن التوفيق بين القوة والضعف ما داما متلازمين في الحياة! أليس منشأ الصراع الأزلي بين المرأة والرجل والعبد والسيد والفقير والغني والمظلوم والظالم والمستعمَر والمستعمِر إنما هو القوة في جهة، والضعف في جهة أخرى؟ لا يحق لنا أن نسأل لأيَّة حكمةٍ كانت القوة هنا وكان الضعف هناك، ولكن من حقنا أن نقول: لماذا أعضل على المصلحين أن يحملوا القوي على أن ينزل للضعيف عن بعض القدرة فيستقيم الأمر بالاعتدال ويتحقق السلام بالعدل؟
كانت ساعة الحرس تعلن بدقاتها المدوية انتصاف الليل حين تهالكت على الفراش وأنا من إدمان الذكر والفكر على حال شديدة من الجهد. فلم تكد عيناي تُغفيان حتى رأيت فيما يرى النائم أن دور الفقراء وأكواخ المساكين في بولاق أمست كالتنانير الموقدة تلفح جدرانها باللهب، وتسيل سقوفها بالبق، ويخنق هواؤها بالنتن، فتركها أهلوها هاربين في عتمة الليل(316/1)
إلى الشوارع والميادين، فظنهم الحراس والعسس (متظاهرين) فطاردوهم بالعصيِّ مطاردة الجراد، فهاموا في الشارع من الذعر هيام القطيع حتى وجدوا قصراً من قصور الأمراء، غريقاً في الأضواء والضوضاء، فلم يتمالكوا أن تدفقوا فيه من أبوابه، على الرغم من دفاع حراسه وحجَّابه. ثم انساب هذا الجمع الفزِع في حديقة القصر الأفيح حتى أحدقوا ببؤرة الضوء، ثم أخذوا يستفيقون من الذهول والرعب على شذا العطور وسطوع النور ونغم الموسيقى، واستطاعوا أن ينظروا فماذا رأوا؟ رأوا حفلة راقصة تحت السماء على بِرْكة الحديقة الواسعة، وأربابُ النعمة وربات النعيم متقابلون على الأرائك، أو متعانقون على الأعشاب، أو متخاصرون في المرقص، أو متنادمون حول المقصف؛ وشموس الكهرباء تسطَع على الظهور البلورية والصدور العاجية وقد انشقت أطواق الفساتين من أمام ومن خَلف إلى تحت الخصور فلم يمسك الثوب عن النزول إلا شريطان على الكتفين رُصعا بالماس وعُقدا بالذهب. وكان الجو البليل مشبعاً بريَّا العطر وعبَق الخمر وأنفاس الغواني وشدْو القيان وهزج المزامير وعزف الاوتار، فلا يدخل فيه ذو حسٍّ إلا هاج واشتهى، ولا ذو وقار إلا عبث والتهى. وكانت البِرْكة المسجورة بماء الورد واللاوندة تموج بالحور والولدان سابحين أو متشابكين، يتواثبون من النشوة، ويتجاذبون من الشهوة؛ وعلى حِفافيها المرمريين يتراقص القوم أزواجاً على أنغام (الجاز) والسواعد ملتفة على القدود، والشفاه مُطبَقة فوق الخدود، والأثداء رجراجة بين الصدور والنحور، والأنظار جوّالة بين البطون والظهور؛ وفوق نافورتها الوسيعة البديعة ترقص حول رشاشها الطائر الوهاج جوقة من عرائس عبقر، في غلائل عسجدية من نسج الجن، وأوشحة مصبغة من صنع السحرة. وكلما ماست الحوريات الرواقص تقلَّب عليهن الوشى، واختلف فوقهن اللون، وانبثق عنهن شعاع من الفتنة يبهر العيون ويضل الأفئدة!
كان القوم في سورة اللهو وسكرة اللذة وحميا الطرب حين أحاط بهم مساكين بولاق في بزتهم الزريَّة وهيئتهم المخيفة؛ فانفغرت أفواه هؤلاء من الدهش، وقَفَّت رؤوس أولئك من الخوف، والتقى الشقاء والسعادة وجهاً لوجه!
ولكن الله لم يشأ أن يصطرع الغني والفقير في هذه اللحظة الرهيبة فرأيت أفواجاً من البق والبراغيث لها أجنحة كالفَراش وخراطيم كالبعوض قد خرجت من ثياب الفقراء وأخذت(316/2)
تلسع الأجسام الغضة والوجوه الناضرة لسع النحل المُهاج! فتراكض الداعون والمدعوون هاربين في الحديقة وهذا الطير الأبابيل في ظهور النساء وأقفية الرجال يخِزُهم بالسم حتى أخرجهم إلى الشارع. وهناك كان الجند يترقبون خروج (المتظاهرين) فلم يكادوا يرون هؤلاء حتى أعملوا فيهم العصيَّ وساقوهم سوق الأنعام إلى القسم فقضوا ليلهم الباقي على الإسفلت. وخلا المقصف والمرقص والقصر لطرائد البؤس والشرطة فأكلوا مريئاً وشربوا هنيئاً وناموا ملء الجفون على الأسرة المذهبة!
ثم كرَبني الحر فصحوت من النوم، قبل أن يريني الحلم في ضوء الصباح فضيحة القوم!
أحمد حسن الزيات(316/3)
حول كتاب:
مستقبل الثقافة في مصر
نظرة انتقادية عامة
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
(مستقبل الثقافة في مصر)
هذا العنوان الذي عنون به الأستاذ الدكتور طه حسين الكتاب الذي نشره قبل بضعة أشهر في مجلدين. . . ذكّرني بعنوان (المطارحات) التي نشرها (المعهد الأممي للتعاون الفكري) التابع لعصبة الأمم بعد الاجتماع الذي عقده في مدريد سنة 1933: مستقبل الثقافة.
وعندما أسجل هذه المشابهة في مستهل مقالي هذا، أرى من الواجب عليّ أن أصرح - في الوقت نفسه - بأن المشابهة بين الكتابين لا تتعدى حدود العنوان. فإذا كان من البديهي أن المؤلف الفاضل اقتبس عنوان كتابه من المطارحات المذكورة، فمن الواضح أيضاً أنه لم يستلهم شيئاً من موضوعاتها أو من مناحي التفكير المنجلية فيها. . .
وأما كيفية تأليف الكتاب، فالمؤلف يشرحها لنا بكل وضوح، في المقدمة القصيرة التي صدّره بها:
إن (فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية) حمل (المفكرين المصريين) على أن يشعروا بأن (مصر تبدأ عهداً جديداً من حياتها). . . (إن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال). إن هذا الشعور شمل الشباب، ودفع فريقاً منهم إلى (أن يسألوا المفكرين وقادة الرأي عما يرون في واجب مصر بعد إمضاء المعاهدة مع الإنجليز. . .) وهذا قد جعل كل واحد من المفكرين المسؤولين (يتحدث إليهم في ذلك حديثاً سريعاً مرتجلاً، بقدر ما كان يسمح له وقته وعمله وتفكيره السريع في حياة سريعة) تمر بهم أو يمرون بها (مرَّ البرق). . . فقد تحدث الدكتور طه حسين نفسه إلى هؤلاء الشبان فيمن تحدث؛ غير أنه لم يقتنع بكفاية ما تحدث إليهم به، ولم ير أنه (قد دلهم على ما كان يجب أن يدلهم عليه، وهداهم إلى ما كان يجب أن يهديهم إليه). واستقر في نفسه أن واجب المصريين (في ذات الثقافة والتعليم بعد(316/4)
الاستقلال أعظم خطراً وأشد تعقيداً) مما تحدث به إليهم (في ساعة من ليل أو في ساعة من نهار، أو في قاعة من قاعات الجامعة الأمريكية. . . وأنه يحتاج إلى جهد أشق وتفكير أعمق وبحث أكثر تفصيلاً) ووعد نفسه بأن يبذل هذا الجهد، وأن يفرغ لهذا البحث، وأن ينهض بهذا العبء. . . ولكنه لم ينبئ هؤلاء الشباب بشيء مما قرره، لأنه أشفق أن تحول ظروف الحياة بينه وبين إنجاز هذا الوعد. وليس أشق عليه من وعد يبذله للشباب ثم لا يستطيع له إنجازاً. . .)
إن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) كتب (لإنجاز ذلك الوعد الذي قدمه الأستاذ إلى الشباب الجامعيين ولم يظهرهم عليه. . .)
إن هذه المقدمة تدل دلالة واضحة على أن الدكتور طه حسين قد شعر بخطورة هذه المباحث حق الشعور، وقدّر عواقب التسرع والارتجال فيها حق التقدير. . . كما تعلن إعلاناً صريحاً أنه لم يكتب الكتاب إلا بعد أن بذل (الجهد الأشق) الذي قال بضرورته، وقام (بالتفكير الأعمق) الذي نوه به، و (فرغ للبحث لينهض بالعبء) الذي أشار إليه. . .
غير أن من ينعم النظر في الكتاب - بعد مطالعة هذه المقدمة - يشعر بشيء كثير من خيبة الأمل؛ لأنه لا يجد فيه من الآراء والملاحظات ما يتناسب مع وعود العنوان وتصريحات المقدمة. فالكتاب يتألف في حقيقة الأمر من مجموعة أحاديث ومقالات قليلة التناسق كثيرة التداخل، يبدو على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، ويتخلل معظم أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات. . .
فكثيراً ما يقع النظر في صفحات الكتاب على فكرة صائبة - معروضة بأسلوب جذاب - غير أنه يلاحظ في الوقت نفسه كثيراً من المآخذ في المقدمات التي سبقت تلك الفكرة والملاحظات التي تلتها فيبقى حائراً متردداً بين مواقف الاستساغة والاستنكار.
إن نظرة إجمالية إلى أولى المسائل المشروحة في الكتاب تكفي للبرهنة على كل ذلك في وضوح وجلاء.
- 1 -
إن المسألة التي يفتتح بها الدكتور طه حسين أبحاث كتابه تتلخص في السؤال التالي:
هل يوجد فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي؟(316/5)
والمؤلف يناقش هذه المسألة في أكثر من ثلاثين صفحة من الكتاب مناقشة مباشرة ثم يعود إليها عدة مرات - بوسائل شتى - في نحو ثلاثين صفحة أخرى. . وأما الحكم الذي يصل إليه من أبحاثه ومناقشاته هذه فيتلخص في العبارات التالية:
(فكل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوربي يمتاز من هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب) (الصفحة: 28)
فمهما نبحث ومهما نستقص فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل المصري والعقل الأوربي فرقاً جوهرياً) (الصفحة: 29)
إنني أشارك الدكتور طه حسين في هذا الحكم الصريح مشاركة تامة. . . فلقد درست وناقشت هذه المسألة فيما مضى مراراً بوسائل مختلفة؛ وانتهيت في جميع تلك الدراسات والمناقشات إلى نتيجة مماثلة لهذه النتيجة، لا بالنسبة إلى المصريين فحسب، بل بالنسبة إلى أمم الشرق الأدنى بوجه عام، والأمة العربية بوجه خاص. . .
ولهذا السبب، يسرني كل السرور أن أتفق مع المؤلف في هذا الحكم اتفاقاً تاماً (ومع هذا يؤلمني جداً) ألا أستطيع موافقة على سلسلة الآراء والأحكام التي سردها حول هذه المسألة وأن أراني مضطراً إلى مخالفته في معظم المقدمات التي بنى عليها حكمه هذا، وفي بعض النتائج التي استخرجها منه. . .
أولاً، يكرر الدكتور طه حسين الحكم الذي ذكرناه آنفاً عدة مرات - جرياً على عادته العامة - ويعبر عنه في كل مرة بشكل جديد، وكلمات جديدة - حسب أسلوبه الخاص -؛ غير أنه لا يتقيد - خلال هذا النكران - بمعاني الكلمات، وحدودها (التقيد العملي) الذي يتطلبه مثل هذه الأبحاث. . . فينزلق إلى مهاوي الغلو والمبالغة انزلاقاً غريباً، فيبتعد عن (الحقيقة) التي كان توصل إليها ابتعاداً كبيراً. . .
مثلاً، يسترسل مرة في الحديث حتى يضيف كلمة الثقافة إلى كلمة العقل، فيقول:
(كلا، ليس بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم وتأثرت به، فرق عقلي أو ثقافي ما. . .) (الصفحة: 25)
أفلا يحق لي أن أسأل الأستاذ في هذا المقام: هل يدعي - عن جد - أنه لا يوجد (فرق ثقافي ما) بين المصري، والفرنسي، والسوري، والإيطالي؟ إن القول بعدم وجود (فرق(316/6)
جوهري) بين (العقل المصري، والعقل الأوربي) شيء، والقول بأنه لا يوجد بين المصري والأوربي (فرق ثقافي ما) شيء آخر. . . فمهما آمنت بالقضية الأولى إيماناً عميقاً، لا يمكنني أن أسلم بالقضية الثانية أبداً. . . وأعتقد اعتقاداً جازماً أن إنكار وجود (الفرق الثقافي) بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم، لا يختلف عن إنكار وجود الشمس في رابعة النهار. . .
كما أرجح أن المؤلف نفسه لم يكتب ذلك عن (تأمل واعتقاد)، بل كتب ما كتبه في هذا المضمار مدفوعاً بدوافع الاستعجال والارتجال - بالرغم من تصريحات المقدمة - ومجروفاً بتيار الألفاظ والكلمات. وربما كان من أبرز الأدلة على ذلك ما قاله في أواخر الكتاب حيث يختم أبحاث الكتاب بسؤال عام: (أتوجد ثقافة مصرية؟) ويجيب على هذا السؤال بالعبارة التالية:
(هي موجودة)، متميزة بخصالها وأوصافها التي تنفرد بها من غيرها من الثقافات. . .) (الصفحة - 525)
ولا أراني في حاجة إلى البرهنة على أن مضمون هذه العبارة، يناقض القول الذي أشرنا إليه آنفاً، مناقضة صريحة. . .
ومما يجدر بالملاحظة أن مغالاة المؤلف في تشبيه المصريين بالأوربيين - وإنكار وجود الفروق بينهما - لا تنحصر في هذه القضية وحدها، بل تتعداها إلى أمور أغرب منها: إذ أننا نراه يدعي - في محل آخر من الكتاب - عدم وجود فرق بينهما من حيث الطبع والمزاج أيضاً. فهو عندما يصرح بأنه (لا يخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين) يبرهن على ذلك بقوله:
(. . . ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج. . .) (الصفحة36)
ليس بين المصريين والأوربيين فرق لا في الطبع ولا في المزاج! لا أدري كيف يستطيع أحد أن يدعي ذلك بصورة جدية؟ فإن الفروق في الطبع والمزاج من الأمور التي تشاهد على الدوام بين الأمم الأوربية نفسها، وهي تبدو للعيان بين الإنكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي. . . حتى بين الشمالي والجنوبي من الفرنسيين، والشرقي والغربي من الألمان،(316/7)
والسهلي والجبلي من الطليان. وبين الريفي والمدني والصانع والتاجر، والمثقف والعامي من جميع هؤلاء. . . فكيف يعقل مع هذا ألا يختلف طبع المصريين ومزاجهم عن طبع الأوربيين ومزاجهم بوجه من الوجوه؟
إنني أميل إلى الحكم بأن الدكتور طه حسين لم يكتب هذه العبارة أيضاً عن تأمل واقتناع. بل كتبها بدافع الاستعجال وتحت تأثير توارد الكلمات.
إني لا أكون من المغالين إذا قلت: إن (نزعة التسرع في الحكم والإسراف في الكلام) من النزعات المستولية على معظم مباحث كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)، وهذه النزعة هي التي ورَّطت المؤلف في مآزق غريبة، وأوقفته مواقف لا تخلو من التناقض في بعض الأحيان.
وللبرهنة على ذلك أود أن أستعرض - علاوة على ما ذكرته آنفاً - ما جاء عن الأزهر في الأقسام المختلفة من الكتاب.
يذكر الأستاذ الدكتور طه حسين الأزهر - في كتابه هذا - أولاً عندما يبحث عن اتصال مصر بالحضارة الأوربية فيتوسع كثيراً في وصف هذا الاتصال، لأنه يعتبره دليلاً على عدم وجود فرق جوهري بين العقلية المصرية والعقلية الأوربية إذ يقول: (إننا لا نجد في هذا الاتصال من المشقة والجهد ما كنا نجده لو أن العقل المصري مخالف في جوهره وطبيعته للعقل الأوربي) (الصفحة 35).
وعندما يتطرق المؤلف إلى حالة الأزهر - خلال هذا البحث - يعرضه لنا كمعهد مسرف في التجديد إذ يقول حرفياً ما يلي:
(كل شيء يدل، بل كل شيء يصيح بأن الأزهر مسرف في الإسراع نحو الحديث، يريد أن يتخفف من القديم ما وجد إلى ذلك سبيلاً. . .) (الصفحة 34).
غير أننا نراه في محل آخر من الكتاب، يتراجع قليلاً عن تعبير (الإسراف) الذي استعمله في هذا المقام؛ لأنه يقول:
(أصبح الأزهر مسرعاً إلى هذه الحضارة، يدفعه إسراعه إلى شيء يشبه الإسراف إن لم يكن هو الإسراف) (الصفحة 61)
كما أنن نراه في محل آخر يتناسى كل ذلك فيقول:(316/8)
(إن الأزهر بحكم تاريخه وتقاليده وواجباته الدينية بيئة محافظة تمثل العهد القديم والتفكير القديم أكثر مما تمثل العهد الحديث والتفكير الحديث. . .) (الصفحة 91).
ثم نراه يضيف إلى ذلك ما يلي:
(شيء آخر لابد من التفكير فيه والطب له؛ وهو أن هذا التفكير الأزهري القديم قد يجعل من العسير على الجيل الأزهري الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناها الأوربي الحديث. . .) (الصفحة 92).
وفي الأخير عندما ينتقل إلى بحث المنافسة القائمة بين الأزهر وبين الجامعة لا يتحرج المؤلف من إبداء رأي يناقض رأيه الأول مناقضة صريحة إذ يقول:
(يقتضي أن يعدل الأزهر عدولاً تاماً عما دأب عليه من الانحياز إلى نفسه والعكوف عليها والانقطاع عن الحياة العامة. وقد يقال: إن الأزهر قد أخذ يترك هذه السيرة ويتصل بالحياة العامة ويأخذ بحظوظ حسنة من الثقافات الحديثة على اختلافها. وهذا صحيح في ظاهره، لكنه في حقيقة الأمر غير صحيح. فالأزهر مازال منحازاً إلى نفسه متمسكاً بهذا الانحياز حريصاً عليه. . .) (الصفحة 475).
أنا لا أود أن أبدي رأياً في الأزهر في هذا المقام؛ غير أني أريد أن ألفت الأنظار إلى الاختلافات الموجودة بين هذه الآراء التي صدرت من قلم واحد في موضوع واحد في كتاب واحد!
غير أن هناك شيئاً أغرب من كل ذلك أيضاً: فإن المؤلف لا يكتفي بالبرهنة على عدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي، بل يحاول أن يبرهن على أن مصر ليست جزءاً من الشرق، ويسير بين سلسلة آراء وملاحظات - يكتنفها الغموض والتضارب من كل الجهات - ويلوم الأوربيين الذين يقولون إن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين؛ ثم يقول:
(إن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق). . . (ص 18).
غير أنه لا يلبث أن يتناسى قوله هذا، ويدخل المصريين في عداد الشرقيين، في عشرات المواضع من الكتاب. . . لا أرى حاجة في هذا المقام - لتعدادها، فأكتفي بذكر ما يقوله المؤلف في هذا الشأن في أواخر الكتاب، عندما يشرح اقتراحه في صدد فتح مدارس(316/9)
مصرية في الأقطار العربية. فإنه يقول إذ ذاك:
(ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية، تحمل إلى أبنائها ثقافة عربية شرقية، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم). . . (ص 522).
(يتبع)
ساطع الحصري(316/10)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 7 -
يشهد الأستاذ أحمد أمين على نفسه فيقول:
(أين الشعر العراقي الذي تجد فيه الشعراء يتغنون بمناظر العراق الطبيعية، ويصفون فيه أحداثهم الاجتماعية؟ وأين الشعر الشامي أو المصري أو الأندلسي الذي يشيد بذكر مناظر الطبيعة وأحوال الاجتماع للشام ومصر والأندلس؟ إنك تقرأ الشعر العربي فلا تعرف إن كان هذا الشعر لمصري أو عراقي أو شامي إلا من ترجمة حياة الشاعر. أما القالب كله فشيء واحد، والموضوع كله واحد: مديح أو رثاء أو هجاء أو نحو ذلك ما قاله الجاهليون).
ذلك كلام أحمد أمين، نقلناه بالحرف حتى لا نُتهم بالتزيد عليه فهل رأيتم أغرب من هذا الكلام؟ يعتقد أحمد أمين أن شعراء العراق لم يصفوا مناظر بلادهم الطبيعية ولم يصفوا أحداثهم الاجتماعية.
ولو أنه كان اطلع على الشعر العراقي في عهوده الماضية، وهي التي تعنيه، لعرف أن شعراء العراق لم يفرطوا في الحديث عن أنهارهم وبساتينهم، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من شؤون المجتمع إلا أفردوها بحديث خاص، وأخبار الفتن والثورات تشهد بذلك.
لو كان أحمد أمين اطلع على الشعر العراقي لعرف أن العراقيين فُتنوا بمناظر بلادهم أشد الفتون. وهل يعرف قراء العربية نهراً أسير ذكراً من الفرات؟
ألا يكفي أن يكون الشاعر الذي قال:
يا ليت ماء الفرات يخبرنا ... أين استقلت بأهلها السفنُ
وقد فُتن العراقيون بطبيعة العراق فوصفوا الحمائم السواجع وتفننوا في وصف الليل، وأجادوا في وصف الأزهار والرياحين، وأسهبوا في وصف الملاحة والصباحة والجمال، وكادوا يتفردون بالتفوق في وصف مجالس الأنس والشراب.
وكلِف شعراء العراق بوصفهم بواديهم وحواضرهم، ولهم أوصاف كثيرة في الديارات وحيوات الرهبان، وهل أقيم في أديم العراق دير غفل عن وصفه الشعراء؟(316/11)
لو كان أحمد أمين من المطلعين لعرف أن العراقيين أحبوا الطبيعة أصدق الحب، فهم الذين أذاعوا في الناس معاني الشغف بالوجود، وهم أصدق من وصف الجآذر والظباء، وكانوا ولا يزالون أقدر الناس على تذوق ما في الحياة من بؤس ونعيم
هل نسي أحمد أمين أن طبيعة العراق هي التي أنطقت من يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
إن العراق الشاعر لا ينتظر حكم أحمد أمين، فقد رقم أمجاده الشعرية فوق جبين الزمان. وهنا أستشهد بقول الشاعر علي الجارم في خطاب دجلة:
نبت القريض على ضفا ... فِك بين أفنان الورودِ
وهي كلمة صدق في شاعرية العراق.
لقد وصف العراقيون كل شيء من مظاهر الطبيعة في العراق حتى الحيات والثعابين والعقارب والزنابير والبراغيث!
وأحمد أمين هو المسؤول عن إيراد الشواهد لأنه من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية.
ويقول هذا الرجل إن العراقيين لم يصفوا أحداثهم الاجتماعية
وأقول إن شعراء العراق يمتازون بالجرأة في وصف أحداث المجتمع، وفي العراق مات مئات من الشعراء مسمومين أو مقتولين بسبب الجهر بكلمة الحق في وصف الأحداث الاجتماعية، وما قامت في العراق دولة أو سقطت دولة بدون أن تظفر بقصيدة أو قصائد من أولئك الشعراء الذين كانت أشعارهم موازين في الحياة السياسية.
وهنا أذكر مسألة سيحتاج إليها أحمد أمين حين يؤرخ الحياة الأدبية في العراق لعهد بني العباس
يجب أن يكون مفهوماً عند كل أديب أن الدواوين التي تحفظ أشعار أهل العراق لا تمثل الحياة الشعرية لأهل العراق تمثيلاً صحيحاً، فالذي بقي من أشعار أهل العراق هو الجزء الذي سمحت له السلطات السياسية أن يعيش. وأكاد أجزم بعد أن خبرت حياة العراق أن الثروة الشعرية هناك ضاعت منها أشياء كثيرة جداً بسبب الخوف من المسيطرين على الحياة السياسية والاجتماعية.
وقد اهتديت إلى ذلك، وأنا أدرس العصر الذي عاش فيه الشريف الرضي: فقد تبينتُ أن(316/12)
العراق في ذلك العصر عرف لونين من الحياة: حياة السر وحياة العلانية. وتيقنت أن الشريف ضاع من حياته الشعرية نحو عشرين سنة بسبب التخوف من عواقب الجهر بكلمة الحق.
وقد صح عندي أن الشريف الرضي هو شاعر الثورة على الاستبداد
ولكن شواهد هذا الجانب من حياته الشعرية قد ضاعت
وهل بقيت أشعار بشار في الثورة على رجال السياسة وأقطاب المجتمع؟
هل بقيت أشعار ابن الرومي في الحقد على معاصريه من الحكام والوزراء؟
لقد بقي منها ما جازت روايته، وذهب شعره اللاذع إلى غير معاد؟
وكيف غاب عن أحمد أمين أن فقهاء العراق أنفسهم قد اشتهروا في آرائهم بإيثار الرموز والكنايات؟
إن كان أحمد أمين ينكر أن شعراء العراق وصفوا الأحداث الاجتماعية فليشرح لنا كيف اتفق أن يموت كثير من شعراء العراق بالقتل والاغتيال
وهل يقتل الشاعر أو يغتال إلا بسبب الحرص على الجهر بكلمة الحق؟
وهل في آداب الأمم كلها أبرع سخرية من الشاعر الذي قال:
أنفوا المؤذن من دياركم ... إن كان ينفي كل من صدقا
وهو شاعر قد تأدب بأدب أهل العراق.
إن ديوان الشريف يصور أكثر ما وقع في العراق من الأحداث السياسية والاجتماعية في الشطر الأخير من القرن الرابع، ففيه نرى ما وقع لأقطاب الكتاب من الكوارث والخطوب، وفيه نرى كيف انتهت حياة الخليفة الطائع، وفيه نرى أخبار القتال الذي دار بين السنة والشيعة، وفيه نرى عدوان بني تميم على بعض أصدقاء الشاعر من الزعماء.
وما يقال عن ديوان الشريف الرضي يقال عن ديوان المتنبي فهو سجل لأكثر الحوادث التي وقعت في الشطر الأول من القرن الرابع. وهو تصوير لأكثر ما عرف من الأقطار العربية والإسلامية. وهو تاريخ لأكثر من اتصل بهم من الوزراء والرؤساء والملوك.
وهل يمكن أن يقال إن أشعار المتنبي وهو في حلب تشابه أشعاره وهو في مصر؟
إن القول بذلك لا يقع إلا من رجل مثل أحمد أمين يستدل بوحدة القوافي والأوزان على(316/13)
وحدة المعاني والأغراض.
وما رأي هذا الباحث المفضال في أشعار مسلم بن الوليد؟ هل خطر بباله أن عند هذا الشاعر قصائد تؤرخ بعض الوقائع الحربية؟
وهل توجّع الناس لمصرع المتوكل إلا بفضل رائية البحتري؟
وهل عرف الناس عزيمة المعتصم يوم عمورية إلا بفضل بائية أبي تمام؟
وبمناسبة هذين الشاعرين اللذين خدما الخلفاء في العراق ننتقل إلى شعراء الشام: فهم عند أحمد أمين لم يصفوا بلادهم ولم يصوروا ما وقع فيها من أحداث اجتماعية.
فهل يعرف أن شعراء الشام كانوا من أحرص الناس على وصف الطبيعة وأقدرهم على تعقب أحداث المجتمع؟
هل سمع أحمد أمين باسم شاعر يقال له الصنوبري أجاد كل الإجادة في وصف المناظر الطبيعية؟
هل يجهل أحمد أمين أن أبا فراس الحمداني سجل الصراع بين العرب والروم أروع تسجيل؟
هل ينكر أحمد أمين أن المعري وصف أحداث زمانه وصفاً نادر المثال؟
هل يعرف أحمد أمين أن شعراء الشام تغنَّوا بمحاسن بلادهم وأسرفوا حتى قيل إن الشام جنة الأرض؟
هل يعرف أحمد أمين أن اسم الغوطة شرق وغرب بفضل ما تغنَّى به أولئك الشعراء؟
هل يذكر أن الهيام بالوصف كاد يصير طبيعة شامية يشهد لها ما صنع البحتري حين وصف إيوان كسرى بالعراق؟
وهل يذكر أن قصيدة أبي تمام في وصف الربيع لا تقل روعة عن أعظم ما قال الأوربيون في الربيع؟
وهل يذكر أن مصاولة الذئاب والأسود لم توصف بأجمل مما صنع البحتري والمتنبي؟
وما رأي أحمد أمين في الصحراء؟
أليست الصحراء من الطبيعة يا حضرة الأستاذ؟
هي من الطبيعة بلا ريب. فهل تستطيع القول بأن شعراء الشام والعراق لم يصفوا(316/14)
الصحراء؟
وما رأي أحمد أمين في حيوان الصحراء؟
أليس من الطبيعة؟ هو من الطبيعة بلا ريب، وقد تعقبه شعراء الشام والعراق بالوصف والتحليل
إن أحمد أمين لا يرى الطبيعة إلا في الشجرة والزهرة، ولو قال هذا رجل غيره لقلنا إنه ينظر إلى الوجود نظرة عامية.
فهل يتفضل الأستاذ أحمد أمين فيدلنا عمن أخذ هذا التعريف؟
إن الطبيعة لها مظاهر كثيرة جداً، فهي تشمل الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وهي تشمل كل ما تراه العيون، أو تحسه القلوب، أو تدركه العقول
فكيف جعلها مقصورة على الشجرة والزهرة؟
ومع ذلك هل قصر شعراء الشام والعراق في وصف الأشجار والأزهار؟
وكيف وهم الذين أذاعوا بين الناس أن النظر إلى الخضرة يزيد في نور العيون؟
هل يذكر أحمد أمين كم ألوفاً من المرات ذكرت الأشجار والأزهار والرياحين في أشعار أهل الشام والعراق؟
هل يستطيع أن يدلنا على شاعر واحد لم يوجه قلبه وشعوره إلى المظاهر الطبيعية؟
وهل يصير الرجل شاعراً إلا بعد أن ينطبع إحساسه بمظاهر الوجود؟
أترك هذه الجوانب وأنتقل إلى حكمه على الشعر المصري، فالشعراء المصريون في نظره لم يكونوا إلا مقلدين لشعراء الشام والعراق. . .
ولأحمد أمين في هذا الحكم الجائر عذر مقبول، لأنه لم يدرس الشعر المصري دراسة تمكنه من الحكم له أو عليه، فلو كان من المطلعين لعرف أن الشعراء المصريين وصفوا بلادهم وتحدثوا عنها بأقوى العواطف، وتغنوا بمحاسن بلادهم أجمل غناء.
وهل رأيتم شاعراً أحس الطبيعة كما أحسها ابن النبيه إذ يقول:
إذا نُشرتْ ذوائبهُ عليه ... حسبتَ الماَء رفَّ عليه ظلُّ
وهل في العربية شاعر صور أوهام بلده وما فيها من مختلف الأحاسيس كما صنع البها زهير؟ وهل عرفتم شاعراً شرب من كوثر الوجود كما شرب ابن الفارض؟(316/15)
اسمع، يا صديقي أحمد أمين، فقد تواترت الأخبار بأنك ستدرس الأدب المصري في كلية الآداب، وليس من الكثير عليك أن تسمع النصيحة من رجل مثلي، فأنت تعرف منزلتك في قلبي، وتدرك جيداً أني أتمنى أن تكون من الموفَّقين!
إن الشعر المصري طراز خاص، وله مزايا تفرد بها بين الأشعار المعروفة في اللغة العربية؛ ولو أُلقيت قصيدة مصرية بين ألوف من القصائد، لعرف السامعون أن أزهارها تفتحت فوق شواطئ النيل. . .
وهل يستطيع - أحمد أمين - أن يقول بأن ديوان ابن نباته المصري تمكن إضافته إلى البحتري أو ابن الرومي أو مسلم ابن الوليد؟
إن أحمد أمين يصرح بأن الشعر العربي لا يدل على مواطن أصحابه إلا بعد النظر في تراجم الشعراء!
فهل يصح هذا القول في أشعار ابن نباته والبها زهير؟
وهل يصح ذلك في أشعار تميم بن المعز؟
وهل يصح ذلك في أشعار ابن النحاس وأشعار البوصيري؟
وهل يصح ذلك في أشعار عمارة اليمني، وقد عاش في مصر حيناً من الزمان؟
إن مصر قهرت من زارها من الشعراء على وصف ما فيها من طبائع وأخلاق، ولعلها كانت السبب في شهرة من زارها من الشعراء، فكيف يصح القول بأنها لم تتفرد بين الأمم العربية بخصائص شعرية؟
وهل يمكن القول بأن أغاريد صفي الدين الحلي وهو في مصر تشبه أغاريده وهو في العراق، أو أن أشعار ابن سناء الملك لا تدل دلالة صريحة على الوطن الذي عاش فيه إلا بعد الاطلاع على ترجمته؟
إن البارودي - وهو شاعر اصطنع مذاهب القدماء في الأخيلة والتعابير - تدل على مصريته لأول نظرة! فما بالك بالشعراء المصريين الذين استوحوا فطرتهم ولم يتابعوا شعراء بني أمية أو شعراء بني العباس؟
بقيت مسألة مفصلة بهذا المقال، ونحب أن نوفيها بعض ما تستحق من الشرح قبل أن نتكلم عن أحكامه على الأدب الأندلسي، وهي أحكام سيحاسَب عليها أشد الحساب!(316/16)
ما رأيُ حضرة الأستاذ في الأشعار العراقية والشامية والمصرية التي صورتْ ثورة أصحابها على الدنيا والناس؟
أيظن أن شعراء العصر الأموي والعباسي في تلك الأقطار تحدثوا عن زمانهم ودنياهم، كما تحدث الجاهليون؟
لقد نشأ في الشعر فنٌ يسمى (شكوى الزمان) فهل يراه من وصف المجتمع؟ أم يراه من الثورات النفسية؟
إن كان من وصف المجتمع؛ فهو ثروة عظيمة تنقض رأي أحمد أمين، وإن كان من الثورات النفسية فهو أيضاً من وصف المجتمع لأنه شرح لأسباب الثورة على الدنيا والناس
لو كان أحمد أمين كلف نفسه عناء الاطلاع على ديوان أو ديوانين قبل أن يصدر تلك الأحكام الخواطئ، لعرف أن من المستحيل أن تكون تلك الثروة الشعرية من لغو القول. فقد حفظ التاريخ الأدبي أكثر من مائة شاعر من الفحول في مصر والشام والعراق، وهؤلاء المائة - ولا نقول المئات - كانت لهم مذاهب في وصف الطبيعة، والتحدث عن المجتمع، والأنس بالحياة أو التبرم بالوجود
وكانت لهم بجانب الشعر فقرات نثرية صوروا فيها آرائهم في حياة المجتمع. وهل كانت رسائل الخوارزمي وبديع الزمان وابن وشمكير إلا صوراً للأحداث الاجتماعية والسياسية؟
وهل يحتاج الباحث إلى النص على أن الشعراء والكتاب كانت تراجمهم فرصة لدرس مشكلات السياسة والمجتمع؟
من الذي يقول بأن شعراء مصر والشام والعراق لم يشتركوا في توجيه بلادهم إلى الأغراض السياسية والاجتماعية؟ وهل كان الشعراء في تلك العهود إلا ألسنة السياسة والمجتمع؟
قد يقال: وأين تقع الأشياء التي تجافت عن السياسة والمجتمع؟
وأجيب بأنه ليس من المحتم أن تكون الأشياء كلها في السياسيات والاجتماعيات، إن صح أن وصف الدقائق الذوقية والوجدانية لا يمس المجتمع
ومن الذي يوجب أن تكون صورة المجتمع مقصورة على الصلات بين الفقراء والأغنياء،(316/17)
والحاكمين والمحكومين؟
إن الأمر في الشعر يرجع إلى عنصر واحد هو الصدق، وإذا صح أن الشاعر صادق الحس والعاطفة فمن حقه أن يتكلم كيف شاء وأن يصف من الأغراض ما يريد.
لقد اتفق لعمر بن أبي ربيعة أن يقف أشعاره على أهوائه الذاتية فهل يمكن القول بأن أشعار ابن ربيعة لا تمثل جوانب من المجتمع الذي عاش فيه؟
وكيف وهي تصويرٌ لثورة العواطف في موسم الحج، وتسجيل لبعض أهواء الناس في ذلك الحين؟
واتفق لأبي نواس أن يقصر أكثر شعره على الخمر والمجون، فهل كان ذلك إلا تمثيلاً لبعض أحوال المجتمع العراقي في ذلك العهد؟
واتفق لأبي العتاهية أن تكون أكثر أشعاره في الزهديات، فهل كان ذلك إلا تخليداً لمظاهر النزعات الروحية في ذلك الزمان؟
وما رأي الأستاذ أحمد أمين في أشعار الزهاد والنساك، وأشعار الماجنين والخلعاء؟ وما رأيه في أشعار الزنادقة والمرتابين؟
أليس ذلك كله تصويراً لأحوال المجتمع؟
وما رأيه في الأشعار التي قيلت في وصف الإخوان والأبناء والأزواج؟
أيراها أجنبية عن المجتمع؟
الحق أني أجاهد في غير ميدان، وأعارك في غير معترك، لأني أشرح البديهيات، وأقيم الأدلة على أن الجزء أصغر من الكل وأن الواحد نصف الاثنين!
ولكن هل كنت أملك أن أصنع غير الذي صنعت؟
إن جمهرة القراء لم تكن تعرف أن الأستاذ أحمد أمين يخطئ ثم يصرّ على الخطأ؛ ولم تكن تنتظر أن أهجم عليه وأنا الذي دافعت عنه في مجلة الرسالة يوم تجنى عليه بعض أدباء لبنان
وقد تفضل بعض أدباء العراق فدعاني إلى أن أنبه الأستاذ أحمد أمين إلى اهتمامه في الأيام الأخيرة بالدعوة إلى تعزيز اللغة العامية
فهل يظنون أني موكَّل بتقويم الأستاذ أحمد أمين؟(316/18)
إن المهم هو تذكيره بعواقب ما يصنع في التجني على الأدب العربي وتخويفه من غضبة من وثقوا فيه يوم رأوه مشغولاً بالدراسات الإسلامية، وكان يستحق الثقة قبل أن يصنع بنفسه وبماضيه ما صنع
وتفضل فريق من الباحثين فقدموا إليَّ شواهد من أغلاط أحمد أمين في مؤلفاته ودعوني إلى عرضها في هذه البحوث النقدية
فليعرفوا - مشكورين - أني لا أستطيع ذلك، لأني لا أحب أن يسوء رأى الناس في مؤلفات أحمد أمين، برغم ما فيها من أغلاط، فقد عانى مثل الذي نعاني من أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح
ليس من المهم أن نهدم الأستاذ أحمد أمين - فتلك غاية صغيرة - ولكن المهم أن نكف شره عن الأدب العربي وأن نزجر من يتطلع إلى مثل غرضه من عوام الباحثين
المهم أن يعرف الأستاذ أحمد أمين أن في مصر رقابة أدبية تصد الجامحين، وتهدي الحائرين، وهو يعرف في سريرة نفسه أني لا أهجم عليه إلا وأنا آسف محزون، لأنه كان مثالاً للصديق الأمين
وبعد مقال أو مقالين أو مقالات سأتركه ليتنسم هواء البحر وهو آمن بشواطئ الإسكندرية بين رفيف القدود وهدير الأمواج
(للحديث شجون)
زكي مبارك(316/19)
بين جناية الأدب الجاهلي والجناية عليه
للأستاذ عبد الجواد رمضان
أنا من أزهد الناس في الكتابة وأقلهم رغبة في المناقضات الصحفية الأدبية والعلمية، على لَذة جامحة في مطالعتها، ورغبة ملحة في تتبعها، وشوق عنيف إلى ما يتخللها من حيلة بارعة وسرعة خاطر، وصراحة مكشوفة ومداورة خادعة، وحجة مصيبة أو خاطئة. . . الخ
ولعل مشهداً من المشاهد لم يثر في نفسي شهوة التدخل بين طرفيه ما أثاره موضوع الموسم بين الدكتورين: زكي مبارك وأحمد أمين، أو الأستاذين العظيمين: أحمد أمين وزكي مبارك (على التغليب يا دكتور). وأعوذ بالله من شهوة الكلام فقلما فصلت خطة أو حسمت موقفاً أو أصابت مقطعاً يحسن السكوت عليه وينتهي على حده الخصام؛ ولولا ما في أمثال هذا الحوار من استعراض الآراء واستثارة شتى المذاهب والبحوث وجلوة القوى العلمية بين المتحاورين مما يعود بالخير على العلم والأدب، ويفتح إغلاق النظر أمام الباحثين لكان في إثارتها جناية أي جناية، وإجرام أبلغ إجرام
المتحاوران في موضوع الموسم عظيمان ما في عظمتهما مطعن، جليلان ما في جلالهما مغمز؛ ولئن اختلفت جهات الجلال والعظمة فيهما، إنهما ليلتقيان في أنهما قطبان ينفرج عن جهودهما في البحث والنظر فضل كبير وخير وفير
عرفنا الأستاذ الكريم أحمد أمين رجلاً رزين المجلس، رصين العقل، حصيف الرأي، بعيد الأناة، عفَّ القلم واللسان. يطالع الناسَ في آثاره سمت العلماء وجلال المتواضعين، ونظرات المجربين وثبات المستقيمين، لا يزهاه النجاح وإن أعجب وبهر، ولا يثيره اللجاج وإن احتدم وزخر، بل يمضي قدماً إلى الهدف الذي قصد، والغاية التي نشد. ذلك أحمد أمين لمن لم يعرفه
وأما دكتورنا زكي مبارك، فذلك الأديب الثائر الشاعر الناثر السنتريسيِّ الباريسيَّ، الأزهري الفرنجي الذي خلص له في هذا الجيل أن يجمع بين أدب الزنادقة، وإخلاص المتصوفة، ويؤاخي بين الإيمان والتمرد، ويوفق بين الأناقة والهرجلة و. . .
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد(316/20)
ترجع معرفتي بالدكتور إلى عهد الصبا، وهو تلميذ للمغفور له الأستاذ السيد مصطفى القاياتي، يختصه بفضل عنايته، ويضفي عليه من أبراد الكرامة، والثناء والإعجاب، ما يبعد في غور الحب بينهما، ويبالغ في تعلق كل منهما بالآخر، تعلقاً يفرع به الأقران ويزهي على كل إنسان؛ ولئن حالت ظروف الحياة دون اتصالي بالدكتور، إنني لأشهد في ثورته - كلما ثار - تلك الروح الجريئة الثائرة، روح أستاذه الكريم حية تتوثب، لا يكبتها ملام، ولا ينهنهها وعيد، ولا تكبحها مخافة، فليت شعري، على أيّ باقعة وقع الأستاذ أحمد أمين؟!
لا جرم أن الأستاذ أحمد أمين كان في جُنة من نبل نفسه وكرم أخلاقه، ومن آثاره القيمة التي لا تدفع عن موارد الخلد، لو أنه جرى على سننه وأخلد إلى غيله الذي لا يقتحم واستخدم تلك الأذن الذي سكّها - قديماً - ما كتبه الدكتور زكي ناقداً به الدكتور طه حسين بك، فجعله يرسل حكمه على أولهما في حثيثته المأثورة: إن الدكتور زكي يلقى مجادلة كما يلقى المصارع المصارع، لا كما يلقى العالم العالم. . . أو كما قال
بيد أني أرى الأستاذ أحمد أمين في عهده الأخير، أغفل من خلاله، ما فتح به للدكتور ثغرة ينفذ منها إلى إدراك ثأره القديم؛ والدكتور - ولا نكران للحق - لَماح يقظ؛ ما لبث أن انتهزها فرصة سنحت، فشفى بها نفسه، بلا ثمن ولا استكراه
مازلت أعرف للأستاذ أحمد أمين فضله ونبله منذ تصورت معنى النبل والفضل، حتى قرأت له عام أول رده على فضيلة الشيخ اللبان في جريدة الأهرام؛ ذلك الرد الذي كان عنوانه: (أدب الخطاب)!! والجواب يقرأ من عنوانه؛ والشيخ اللبان - وإن جردناه من جميع مميزاته - لن نستطيع أن نجرده من جلال السن، ومن الشيب في الإسلام؛ فليس مما يليق في أدب ولا عرف أن يعلم أدب الخطاب
أضحى يمزق أثوابي ويضربني ... أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا؟!
من حق الأستاذ ومَنْ دون الأستاذ أن يردَّ على مخالفه، ولكن من حق المخالف ألا يشتم؛ ولم تكن خشونة الكلام وسيلة من وسائل الإقناع المنطقي، إلا في المواطن التي تنكرها الحجة، ولا يعترف بها العلم؛ والأستاذ في علمه وفضله، لا تعوزه حجة، ولا يعجزه برهان
كانت هذه عندي أول زلة للعالم الجليل. فأما الأخرى، فهي إنشاؤه لمجلة الثقافة التي أزالته(316/21)