فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام، واستجاب منهم نفر كثير فلم تبق دار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم طائفة من يثرب - عشرة من بني الخزرج واثنان من بني الأوس - فلقوه في المكان المعين، وبايعوه أن يتبعوا تعاليمه. وهذه هي البيعة الأولى المعروفة ببيعة العقبة، وسميت بذلك لأنهم اجتمعوا سراً في مكان خفي. وقد أخذوا على أنفسهم (ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف) رجع هؤلاء الإثنا عشر رجلاً بعد ذلك إلى يثرب مبشرين بالإسلام، وبذلك مهد السبيل للدين الجديد، وأقبلوا على نشر الدعوة بحماس ورغبة، حتى انتشر الإسلام سريعاً من بيت لبيت، ومن قبيلة لقبيلة
وقد صحبهم في دعوتهم إلى يثرب مصعب بن عمير. ويقال في رواية أخرى إن الرسول بعثه إلى أهل يثرب بعد أن كتبوا إليه بذلك. كان ذلك الشاب الناشئ أحد معتنقي الإسلام الأوائل. وكان قد رجع حديثاً من الحبشة، بعد أن حنكته التجارب هناك، وأنضجت التنشئة القاسية في ميدان الاضطهاد حماسته، وعلمته كيف يقابل الاضطهاد، وكيف يناضل أولئك الذين كانوا متوثبين للحط من شأن الإسلام من غير أن يعلموا شيئاً من تعاليمه الصحيحة. لذلك استطاع محمد (ص) أن يعهد إليه واثقاً القيام بذلك الواجب العسير، واجب إرشاد حديثي العهد بالإسلام وتعليمهم، وتنمية بذور الحماس والإخلاص الديني، التي غرست فيهم من قبل، حتى تؤتي أكلها طيبة
كان منزل مصعب على أسعد بن زرارة، وكان يجمع معتنقي الإسلام إليه للصلاة ولقراءة القرآن. يفعل ذلك أحياناً في دار مصعب وأحياناً في دار بني ظفر، وكانت في ناحية من المدينة يقطنها بطن بني عبد الأشهل وبطن بني ظفر
كان رؤساء بني الأشهل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وبينما كان مصعب جالساً ذات يوم مع أسعد في دار بني ظفر يعلم طائفة من حديثي العهد بالإسلام. إذ وفد سعد بن معاذ، وكان يبحث عن مكانهم فقال لأسيد بن خضير: (أنطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا ديارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وأنهاهما عن أن يأتيا ديارنا فإنه لولا أن أسعد بن زرارة من حيث قد علمت كفيتك ذلك لأنه كان ابن خالة أسعد. فأخذ سيد بن حضير حربته ثم أقبل(301/35)
على أسعد ومصعب حتى وقف عليهما متشتما وقال (ماذا تفعلان؟ تسفهان ضعفاءنا؟ إعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة). قال له مصعب: (وتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفَّ عنك ما تكره) فركز أسيد حربته وجلس إليهما ليسمع، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. وبعد هنيهة صاح أسيد متهللاً وقال: (كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟) فأجاب مصعب: (تغتسل فَتَطهَّر، وتشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله) فقام أسيد وفعل ذلك، وكرر الشهادة. ثم قال: (إن ورائي رجلاً (يعني سعد بن معاذ) إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن). وبعد هذه العبارة انصرف أسيد، وجاء بعده تواً سعد بن معاذ بنفسه غاضباً حانقاً على أسعد لما منحه مبشري الإسلام من رعاية. فتوسل إليه مصعب ألا يحقرن الدين قبل أن يسمعه. فقبل سعد أن يستمع، ولم يلبث غير قليل حتى تأثر بما قاله مصعب من العبارات التي أدخلت في قلبه الإيمان فاعتنق الدين واصبح مسلماً. عاد سعد إلى قومه يلتهب حماساً، وقال لهم: (يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟) فقالوا: (سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة) قال: (فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله محمد). ومن ذلك اليوم لم يبق في دار بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
عبد العزيز عبد المجيد(301/36)
رواية المصاهرة
بمناسبة زواج حضرة صاحبة السمو الملكي الأميرة فوزية
للأستاذ محمود غنيم
1 - تتألف الرواية من فصلين: زمن الأول قبل الميلاد بنحو خمسة قرون، وزمن الثاني عصرنا الحاضر
2 - أشخاص الرواية:
الفصل الأول
(1) ملك الفرس (2) حاشية ملك الفرس وعلى رأسهم الوزير (3) ملك مصر (4) حاشية ملك مصر وعلى رأسهم الوزير (5) عراف مصري قديم (6) حاجب الملك
الفصل الثاني
(1) ضابط مصري مع فرقة من جنوده
(2) ضابط إيراني مع فرقة من جنوده
(3) جندي يلتقط ورقة من ورق البردي
(4) جندي معه صحيفة تتضمن نبأ المصاهرة الملكية الحديثة
الفصل الأول
المنظر الأول
كسرى وحاشيته المكونة من أربعة أشخاص منهم: الوزير. المكان: إيوان كسرى. الزمان: قبل الميلاد بنحو خمسة قرون
كسرى (يفتخر):
أنا للحُكم والحِكَمْ ... أنا للبأس والكَرَمْ
إنّ عرشي على السها ... قائمٌ راسخُ القَدَمْ
هل درى الدهرُ من أنا؟ ... إنني سيد العجم
إنما يخضع الزما ... ن لكسرى إذا حكم(301/37)
البرايا عبيدُه ... والليالي له خَدَم
أنا كسرى ودولتي ... دولةُ السيف والقلم
الحاشية:
عاش ربُّ التاج كسرى ... عاش للأوطان ذخرا
أنت فقت الشمس نورا ... أنت فقت الشمس قدرا
قد جعلت العدل للم ... ك أساساً فاستقرا
كاد يا مولاي يعنو ... لك أهلُ الأرضٍ طرّا
كسرى: وزيري
الوزير: لبّيك يا سيدي
كسرى: ألا فادنُ مني ولا تبعد
الوزير:
وماذا يريد المليكُ فِداه ... حياتي وما ملكتهُ يدي
كسرى:
هنالك أمرٌ لديَّ خطيرٌ ... ولم أرَ غيرَكَ من مُرْشدِ
وزيريَ إني أفكّر في أن ... أصاهرَ قوماً لهم سُؤْدُدي
أفتش في الأرض عن دولةٍ ... كدولة كسرى فلا أهتدي
(الوزير بعد أن يطرق هنيهة)
أمولاي إن شئت خير الحرم ... إذن فعليك بأرض الهرم
هنالك قوم حسانُ الوجوه ... كرامُ الجدود كبارُ الهممْ
ألا إن فرعون خير الملوك ... وأمة فرعون خيرُ الأمم
ومَن مثلُ فرعون في مجده ... وفي جَدِّه غيرُ شاه العجم؟
كسرى:
أشرتَ بالحكمة والسدادِ ... ملوكُ مصرَ وحدَهم أندادي
غدا تسير مسرعاً من (سوس) ... وتقطع الأرض إلى (منفيس)
سر نحو مصر حاملاً خطابي ... وكن لمولاك من الخطَّابَ(301/38)
المنظر الثاني
فرعون وحاشيته تتكون من أربعة أشخاص منهم الوزير. المكان: قصر فرعون. الزمان: قبل الميلاد بنحو خمسة قرون.
فرعون (يفتخر):
تعرف الأفلاك قدري ... ويطيعُ الدهرُ أمري
إنني فرعون والأنه ... ار من تحتيَ تجري
حسب فرعون جلالاً ... أنه سلطانُ مصر
كم مليك من ملوكٍ ال ... أرض قاسى ذلَّ أسري
يشبه الأهرامَ عزمي ... إنه قطعة صخر
ينقضي عمري ويبقى ... رغمَ أنف الدهر ذكرى
الحاشية:
عاش فرعونُ ودامْ ... عاش مولانا الهمامْ
يا سليلَ المجد يا نس ... لَ الفراعين العظامْ
أنت للكون هلالٌ ... لاح والكونُ ظلام
إنما أنت مُرَبي ال ... كون أستاذُ الأنام
(وزير فارس يصل ويقف بالباب فيستأذن له الحارس)
الحارس (يدخل): مليكي
فرعون: منْ؟
الحارس:
أنا الحارسْ ... رسولٌ جاء من فارسْ
فرعون:
ما خَطبُ هذا الرسول ... اسمح له بالدخول
وزير الفرس (يدخل):
ألا أيُّهذا المليكُ الهمام ... سلامي عليك
فرعون: عليك السلام(301/39)
وزير الفرس:
مليكَ الحمى يا رفيعَ الجنابْ ... معي لك من عند كسرى كتاب
فرعون: كتابٌ وأينَ؟
وزير الفرس:
تفضَّلْ فدْيتُ ... كَ يا خير من سار فوق التراب
(يناوله الخطاب فيقرأه فرعون صامتا ثم يقول):
فرعون: يا وزيري
وزير فرعون: نعمْ نعمْ
فرعون: إن كسرى فتى العجم
جاءنا يخطبُ ابنتي ... أهْو كفءٌ كما زعم
الوزير (بعد أن يطرق قليلا):
وكيف القول يا مولا ... ي في مملكة الفرس
وفي كسرى سليل المج ... د ربِّ السيفِ والترْسِ
مليكُ الفرس إن فُهتُ ... به أُحنى له رأسي
فتى النيرانِ والنورِ ... جديرٌ بابنة الشمسِ
فرعون (بعد أن يطرق قليلا):
قد أجبنا يا رسولْ ... قم فبشّر بالقبولْ
وزير الفرس:
دمتَ يا مولايَ في عزِّ ... وفي عمرٍ يطول
أنت يا فرعون شمسٌ ... ما لها قطُّ أُفُول
(ينصرف وزير الفرس ثم يقف العراف بباب فرعون فيستأذن له الحارس)
الحارس:
مولاي عرافٌ هنا بالبابِ ... تقبضُ يمناه على كتابِ
فرعون:
قم فأت يا حارسُ بالعرَّاف ... قد يكشف العراف بعض الخافي(301/40)
(العراف يدخل):
ألا أيُّهذا المليكُ الهمامْ ... سلامي عليكَ
فرعون: عليك السلامْ
ماذا يقول النجم في المصاهره ... بين ملوك مصر والأكاسرهْ؟
العراف (بعد أن يفتح الكتاب ويقلب صفحاته ثم يتكلم وهو يكتب على ورقة من ورق البردي):
أميرَ الحمى يا مليكَ الزمانْ ... ألا بارك اللهُ هذا القِرآنْ
وسوف يتم قرانٌ كهذا ... إذا الله شاء وآن الأوان
إذا ما مضت خمسة بعد عشري ... ن قرناً إذن تسعد الدولتان
بعرس سعيدٍ به شعبُ مص ... ر ودولةُ فارسَ يرتبطان
وسوف يكون الفريقان حلاّ ... من المجد إذ ذاك أعلى مكان
يكون على رأس كلِّ فريقٍ ... أميرٌ مطاعٌ له الشعب دان
هناك (رضا) وهنا (ابنُ فؤاد) ... يعيش لشعبَيْهِما الملِكان
(ستار)
الفصل الثاني
المنظر: فرقتان من الجند إحداهما إيرانية والثانية مصرية تتكون كل منهما من أربعة جنود ومعهم ضابطهم واقفاً منعزلا قليلا. ويلاحظ أن الفرقة الإيرانية تدخل أولا وبعد أن يتم كلامها تدخل الفرقة المصرية
المكان: ردهة في دار السفارة الإيرانية أو ما يقرب من ذلك.
الزمان: زمننا أي بعد مضي خمسة وعشرين قرنا من حوادث الفصل الأول
الجنود الإيرانيون
نحن نسلُ الفرس أبطالٌ كماةْ ... نحن علَّمنا الورى معنى الحياةْ
سائلوا التاريخَ كم للفرس شاهْ ... تخفضُ الدنيا له شُمَّ الجباهْ
من قِدَم ... نبتني الملكَ كما تُبني الجبال(301/41)
لِلْعَجمْ ... شرف يأبى على الدهر الزوال
الضابط الإيراني
ما لِمَنْ بادوا ومالي؟ ... لست أحيا في الخيالِ
أتباهُون بعصرٍ ... من قديم الدهر خالِ
أتباهُون بعظمٍ ... تحتَ بطن الأرض بال
أنا لا أفخرُ يا قوْ ... مُ بماض بل بحالِ
حاضرُ الفرس كماضي ... هم جلالُ في جلال
قد خُلقنا لسخاء ... وخُلقنا لنضالِ
عن بلاد حرّة ير ... خُصُ فيها كلُّ غال
لم تشوّه بقيودٍ ... أو تدنَّس باحتلال
قد نشِطنا مثل ما ين ... شَط ليثٌ من عقال
وبذلنا للعلا مه ... ريَن من نفس ومال
فاخروا الكونَ بشاهٍ ... قادنا نحو المعالي
جودُه قد فاض فيض الن (م) ... هر بالماء الزلال
بطشه قد بات منه ... راجفاً قلبُ الليالي
(يستمر الفريق الأول في مكانه ثم يدخل الفريق المصري ويقف في مواجهته)
الجنود المصريون
نحنُ أبناءُ الفراعين الشدادْ ... كم بنى فرعون بالأمس وشاد
سائلوا رمسيسَ كم عز وساد ... وانحنى الدهر له بين العباد
مجدنا ... سائل الأهرامَ عنه والنجوما
هاهنا ... نبت العلم مع الفن قديما
الضابط المصري
فَخَرتم بالفراعنة الشِّداد ... وقلتم نحن ساداتُ العبادِ
وليس الفخرُ بالرِّمم البوالي ... وبالعُصُر القديم، من السَّداد
إذا أنا لم أشد مجدي بعزمي ... إذن لا طاب لي مائي وزادي(301/42)
لقد قمنا نشيد لمصرَ صرحاً ... يقوم من العلوم على عماد
جعلنا النيل طَلْق الماء يجري ... بسَلْسال من العذب البراد
وحطَّمنا قيوداً من حديدٍ ... ونلنا ما نحاولُ بالجهاد
لنا سفنٌ على الأمواج تجري ... تبثُّ الرعبَ في روع الأعادي
وجيشٌ بالمدافع قاذفاتٍ ... يصولُ وبالمرقَّقَة الحِداد
وطياراتُنا في الجوِّ تعلو ... تُذلِّلُ متنها بدلَ الجياد
إذا نزل النزيل بأرض مصر ... يحلُّ من النواظر في السواد
لنا كرمٌ لنا همم كبارٌ ... خُلقنا للسلام وللجلاد
فلا تفخر بفرعونٍ قديمٍ ... رميمِ العظمِ مدفونٍ بواد
ولكن فاخر الثقلين طرَّاً ... بفرعونٍ تحدَّر من فؤاد
الضابط الإيراني (للضابط المصري):
عجيب أمرُنا جدّاً ... أرى أنَّا شبيهانِ
سمعت الشعر يا مصريُّ م ... من فيك فأشجاني
الضابط المصري:
أرى يا صاح مجدَ الشر ... ق في مصرٍ وطُهرانِ
فنصف المجد مصريٌ ... ونصفُ المجد إيراني
الضابط الإيراني:
فمن يَفْخَر بتجديد ... فشعبانا جديدان
ومن يفخَرْ بأجدادٍ ... فشعبانا قديمان
الضابط المصري:
مليكُ النيل فاروقٌ ... وشاهُ الفرس نِدَّان
هما في الجَدِّ والجِد ... وفي النهضة سِيَّان
الضابط الإيراني:
وهل في الشرق من دانا ... هما في رفعة الشان
كأن الشرقَ جسم
و ... هما للجسم عينان(301/43)
الضابط المصري:
ألا ما أسعدَ الشرقَ ... لو انضَمَّ المليكان!
(هنا يدخل جندي مصري معه ورقة بردي التقطها)
الجندي:
تحيةً يا جندنا الأحرارا ... هل فيكمو من يقرأ الآثارا؟
الضابط المصري: أنا. لِمَهْ؟
الجندي:
لقيتُ بالعِشىِّ ... ورقةً من ورق البرديِّ
الضابط المصري: إيت بها
الجندي (يعطيه الورقة): خذ
الضابط المصري (يفحصها)
إنها قديمهْ ... خطُّ محا طول المدى رسومَهْ
وهْي بخط كاهنٍ عرّافِ ... من أهل مصر القُدم الأسلاف
الجندي:
ألستَ تستطيعُ أن تتلُوها
الضابط: بل أستطيعُ فاسمعوا ما فيها
أميرَ الحمى يا مليك الزمانْ ... ألا بارك الله هذا القرآنْ
وسوف يتم قرانٌ كهذا ... إذا الله شاء وآن الأوان
إذا ما مضت خمسةٌ بعد عشري ... ن قرناً إذن تسعدَ الدولتان
بعرس سعيدٍ به شعبُ مصرٍ ... ودولةُ فارسَ يرتبطان
وسوف يكون الفريقان حلاّ ... من المجد إذ ذاك أعلى مكان
يكون على رأس كلَّ فريقٍ ... أميرٌ مطاعٌ له الشعبُ دان
هناك (رضاً) وهنا (ابن فؤاد) ... يعيش لشعبَيْهِما الملِكان
الجندي (في دهشة):
هذا كلامٌ واضحٌ صريحُ ... يا حبذا لو أنه صحيحُ(301/44)
الضابط الإيراني:
إن الأوان هذه الأيامُ ... يا حبذا لو صحت الأحلامُ
في ذلك الوقت يدخل جندي حاملا صحيفة فيها نبأ الزواج ويصيح قائلا:
بشرى لكم يا معشرَ الإخوانِ ... في الصُّحف لم تسمع بها أُذنانَّ
أما سمعتم نبأ القرآِنِ ... (فوزية) مليكةُ الِحسَان
قد زفَّت اليوم بمِهْرَجانِ ... إلى وليَّ العهدِ في إيران
الجميع ينشدون هذا النشيد:
أيها الطير تغَّنى ... حلّ ميعادُ الأغاني
أيها الشاهُ تهَنَّا ... تلك أوقاتُ التهاني
بالرِّفاء والبنين ... دائماً طول السنين
إنه عرسُ البدورْ ... قد تجلَّى في السماءْ
عرس أملاكٍ وحور ... لا رجالٍ ونساءْ
بالرِّفاء والبنين ... دائماً طول السنين
التقى التاجانِ فيه ... تاج رمسيس وكسرى
يا بلادَ الفرس تيهي ... يا بلادَ النيلِ بشرى
بالرِّفاء والبنين ... دائماً طول السنين
مصرُ قد حان السرورْ ... طبتِ يا مصرُ وطابا
رقص النيلُ الوقورُ ... وجرى تبراً مذابا
بالرِّفاء والبنين ... دائماً طول السنين
بلَّغ الشرقَ مناه ... ذلك العُرسُ السعيد
دمت في عزِّ وجاه ... أيها الشرقُ المجيد
بالرِّفاء والبنين ... دائماً طول السنين
(ستار)
محمود غنيم(301/45)
كتاب السياسة
للوزير نظام الملك
للدكتور عبد الوهاب عزام
الفصل الأول
في أحوال الناس وتقلب الزمان، ومدح ملك العالم غياث الدين
والدنيا قدس سره
الله تعالى يجتبي في كل عصر واحداً من خلقه، ويجمّله بالفضائل الملكية، وينوط به مصالح الدنيا وراحة الناس، ويغلق به باب الفساد والفتن والاضطراب، ويمكن هيبته وحرمته في قلوب الخلق وعيونهم، ليعيش الناس في عدله، ويأمنوا في سلطانه، ويرجوا بقاء دولته
وإذا عصا الناس الشريعة واستخفوا بها وقصروا في إطاعة أوامر الله تعالى فأراد أن يعاقبهم ويذيقهم جزاء أعمالهم، ويحل بهم شؤم عصيانهم - لا أرانا الله مثل هذا الزمان، ولا ابتلانا بمثل هذا الشقاء - يحرمهم الملك الخيِّر، فتختلف بينهم السيوف وتسيل الدماء، ويغلب كل قوي على ما يريد حتى يهلك هؤلاء المجرمون في هذه الفتن وهذا القتال. كمثل النار تشتعل في القصب فتحرق كل يابس، وتتعدى إلى كثير من القصب الرّطب
الله تعالى يمنح واحداً من عباده السعادة والدولة، ويرزقه الإقبال على قدره، ويهبه العقل والعلم ليسوس بهذا العقل والعلم كل واحد من الرعية على الوجه الذي يصلحه، ويضع كل واحد في مرتبته؛ ثم يختار رجاله وعماله من الناس، ويوفي كلا منهم درجته، ويعتمد عليه في كفاية أمور الدين والدنيا
ويكفل الراحة لمن يسلك سبيل الطاعة ويقبل على عمله من رعيته ليعيشوا مغتبطين في ظل عدله
وإذا تجاوز أحد عماله حدّه وأطال يده فإن أصلحته الموعظة والتأديب والتأنيب، واستيقظ من نوم الغفلة، حفظ عليه عمله ومنصبه، وأن تمادى في غفلته لم يستجز إبقاءه في عمله واستبدل به من هو أهل للعمل(301/47)
وكذلك من جحد من الرعية حق النعمة، ولم يعرفوا قدر الأمن والراحة، واعتقدوا الخيانة وأبدوا التمرد، وجاوزوا حدودهم يعاقبهم على قدر جرمهم حتى يتوبوا
ثم على الملك بعدُ أن يدأب في عمارة المملكة فيحفر القنوات ويشق الأنهار، ويمد الجسور على الأنهار العظيمة، ويعمر القرى والمزارع، ويبني الحصون، ويشيد المدن الجديدة، والأبنية الرفيعة، والقصور البديعة، ويقيم الربط على الطرق السلطانية، فيخلد بهذه الأعمال ذكره، وينال ثوابها في الدار الآخرة، ويتصل الدعاء له بالخير. . .
ولما أراد الله سبحانه أن يجعل هذا العصر زينة العصور الماضية وغرة مآثر الملوك السالفة، ويرزق الناس السعادة التي لم يرزقها أحد من قبل اختار ملك العالم السلطان الأعظم من أصلين عظيمين ورثا الملك والسيادة أباً عن أب إلى أفر أسباب العظيم، وجمله بالكرامة والعظمة التي لم يظفر بها الملوك السابقون
فأنعم عليه بما يحتاج الملوك إليه من حسن المنظر، وجمال الطبع والعدل والرجولة والشجاعة والفروسية ومعرفة أنواع السلاح واستعمالها، والتحلي بالفضائل والشفقة والرحمة بالخلق، ووفاء النذور والوعود، وصحة الدين والاعتقاد وطاعة الحق تعالى، وتأدية النوافل من صلاة الليل، وكثرة الصوم، وإعظام أهل العلم وإكرام الصالحين والزاهدين والحكماء، وتواتر الصدقات والإحسان إلى الفقراء، ومعاشرة الرعية والعمال بخلق حسن، وكف الظالمين عن الرعية. لا جرم سخر الله له ملك العالمين على مقدار جدارته، وحسن نيته، ومد هيبته وسياسته إلى كل إقليم حتى يؤدي الناس الخراج إليه ويأمنوا بالتقرب من سطوته. وإن كان بعض الخلفاء أوتي بسطة في الملك وسعة فما فرغوا وقتاً من القلق وخروج الخوارج. وفي هذا العهد المبارك لا نجد - بحمد الله - أحداً ينطوي على خلاف أو يخرج رأسه من ربقة الطاعة
أدام الله هذه الدولة إلى قيام الساعة وأبعد عن هذه المملكة نظر السوء وعين الكمال ليعيش الناس في عدل ملك العالم وسياسته ويديموا دعاء الخير له
وإذ كانت حال الدولة كما وصفت كان العلم والبصر بالسنن الحسنة على مقدار هذا، والعلم كشمع ينشر ضوءاً كثيراً فيهتدي الناس به الطريق، ويخرجون من الظلمات، ولا يحتاجون إلى دليل ولكن تدبير الملك يعجز عنه العبيد، وهم لا يبلغون درجة عقله وعلمه. فلما أمر(301/48)
هذا العبد أن اكتب طرفاً من السير الطيبة التي لا غنى للملوك عنها، وكل ما عمله الملوك الماضون ولا يعمل الآن من حسن أو قبيح، وكل ما سمعت في ذلك أو قرأت أو علمت فكتبت إطاعة للأمر العالي هذه الفصول بالإجمال وذكرت في كل فصل ما يلائمه بعبارة واضحة، بتوفيق الله عز وجل
عبد الوهاب عزام(301/49)
من برجنا العاجي
ليس على الأرض أخطر ولا أقوى من آدمي يعيش من أجل فكرة. هذا
الآدمي يركز كل وجوده في فكرة كما تتركز أشعة الشمس في عدسة
ليستطيع أن يحدث مثلها حريقاً مخيفاً أو نوراً وهاجاً ساطعاً. إن أغلب
الأنبياء والرسل وقادة الفكر وعظماء التاريخ الذين قلبوا العالم أو ملئوه
ضوءاً وجمالاً كانوا كذلك: أشعة متجمعة في عدسة فكرة. إنهم لم
يعيشوا للحب والحياة؛ إنما عاشوا من أجل فكرة.
ذاك خاطر مر برأس في لحظة من اللحظات. ولست أدري أأنا مصيب فيه أم أنه عزاء جميل أدخله على نفسي كلما ذكرت وأيقنت أني أنا أيضاً آدمي لم يخلق كي يعيش للحب والحياة. لماذا أعطى دائماً الفكرة ثمناً أغلى من حياتي، دون أن أشعر ودون أن أريد؟ آه. . . لو أتيح لي أن أعيش حياتي كما أحب؛ ولو سمح لي أن أقدر الحياة كما يقدرها السعداء من الآدميين! لقد منحني الله من أسباب النعيم ما لم يتيسر مثله للكثيرين، فلم أبسم ولم أسعد؛ فقد عافت نفسي مائدتي المنمقة وسيارتي اللامعة ومسكني الرحب. آه. . . إن أجمل أفكاري ما ظهرت إلا أثناء سيري البطيء على الأقدام. وإن ألذ أكلة عندي ما اقتصرت على لون واحد من الطعام. وإن خير مسكن لي هو حجرة واحدة أضع فيها كل ما يربطني بالوجود من كتب وورق وفراش وثياب. لقد صحت يوماً من أعماق نفسي: (اللهم أتم نعمتك عليّ وجردني من كل هذا النعيم الذي لا أفهمه، واملأ قلبي بحب نورك وحده، فبه تزهر كل فضائلي الآدمية كما يزهر النبت تحت الشمس الحارة البارة!). وكان لي ما أردت، وانقطعت للفكر وتجردت. ولكن. . .
لكن هل كل من تجرد من حياته في سبيل الفكر ينظمه الزمن في سلك العظماء؟ لست أظن. وهنا الكارثة. هنالك رجال خلعوا رداء الحياة دون أن يلبسوا الفكر ثوباً وضاءً. أولئك هم التعساء في الدارين. أخشى أن يكون قد كتب عليّ مصير هؤلاء!.
توفيق الحكيم(301/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
371 - من حق الفتوة أن أكتبها قائماً
قال الكراني: حرّم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة، وركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر بن خارجة يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق فبكى طويلاً وقال:
يا لقومي لما جنى السلطان ... لا يكوننْ لما أهان، الهوان
فهوة في التراب ممن حلب الكرم (م) ... عقاراً كأنها الزعفران
فهوة في مكان سوء لقد صادف (م) ... سعدَ السعود ذاك المكان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يصبر ... عن بعض نفسه الإنسان
قال: فأنشدتها الجاحظ فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائماً، وما أقدر ذلك إلا أن تعمدني - وقد كان تقوس - فعمَدته، فقام فكتبها قائماً. . .
372 - حولها ندندق
في (مجمع الأمثال): قاله - أي هذا المثل: حولها نُدندن - (صلى الله عليه وسلم) لأعرابي قال: إنما أسأل الله الجنة فأما دندنتك ودندنة معاذ فلا أحسنها
الدندنة أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته، ولا تفهمه عنه لأنه يخفيه. أراد (صلى الله عليه وسلم) أن ما تسمعه منا هو من أجل الجنة أيضاً.
373 - وكفى الله المؤمنين القتال
في (تاريخ ابن عساكر والنجوم الزاهرة): كان المتوكل قد ولى على أهل دمشق سالم بن حامد، فأذل قوماً بها كان بينه وبينهم طائلة ودماء، وكان لبني بيهس وجماعة من قريش دمشق قوة ووجاهة ومنعة وكلمة مقبولة، فلما رأوا كثرة تعدي سالم وجوره وأذيته وثبوا عليه فقتلوه على باب الخضراء بدمشق في يوم جمعة (سنة 236) وبلغ ذلك المتوكل فندب لإمرة دمشق أفريدون التركي وسيره إليها، وكان فاتكاً ظالماً، فقدم في سبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف راجل، وأباح له المتوكل القتل بدمشق والنهب ثلاث ساعات!!! نزل أفريدون(301/51)
بيت لهيا، فلما اصبح قال: يا دمشق، أيش لا يحل بك مني في يومي هذا؟! ثم طلب الركوب فقدمت له بغلة فضربته بالزوج على فؤاده فسقط من ساعته ميتاً، فدفن مكانه، وقطع الله أمله، وصار حديثاً ومثلاً، ورجع الجيش إلى العراق خائباً. وبلغ المتوكل ذلك، فصلحت نيته لأهل دمشق
374 - أدب النفس
في (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) للبطليوسي:
المتأدب أحوج إلى تأديب أخلاقه من تأديب لسانه وذلك أنك تجد من العامة الذين لم ينظروا في شيء من الأدب من هو حسن اللقاء، جميل المعاملة، حلو الشمائل، مكرم لجليسه، وتجد في ذوي الأدب من أفنى دهره في القراءة والنظر وهو مع ذلك قبيح اللقاء سيئ المعاملة، جافي الشمائل، غليظ الطبع، ولذلك قيل: الأدب نوعان: أدب خبرة، وأدب عشرة وقال الشاعر:
يا سائلي عن أدب الخبرة ... أحسن منه أدب العشرة
375 - إلا الأنبياء
قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني: قال لي المعري:
لهم أهج أحداً قط
فقلت له: صدقت إلا الأنبياء عليهم السلام. . .
376 - أن الإزار على ما ضم محسود
في (العقد): خرج أبو السائب وابن أبي يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة فمال أبو السائب لأمر وعليه طويلته فانصرف دونها. فقال له أبن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك؟ قال؟: ذكرت قول كثيّر:
أرى الإزار على لبنى فأحسده=إن الإزار على ما ضم محسود!
فتصدقتُ بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني إلى برّ الشيطان؟!. . .
377 - كريح المسك فاح بلا دخان(301/52)
في (ذيل ثمرات الأوراق) لإبراهيم الأحدب: يحكى أن شهاب الدين الخفاجي المصري شرب الدخان هو وجماعة، فاعترض عليهم شيخي زاده، فكتب له الشهاب:
إذا شرب الدخان فلا تلمني ... وُجدْ بالعفو يا روض الأماني
تريد مهذباً لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان؟
فأجابه شيخي أفندي:
إذا شرب الدخان فلا تلمني ... على لومي لأبناء الزمان
أريد مهذباً من غير ذنب ... كريح المسك فاح بلا دخان
378 - أرسلت نفسي على سجيتها
في (تاريخ بغداد). قال اسحق الموصلي: أتيت محمد بن كناسة لأكتب عنه فكثر عليه أصحاب الحديث فتضجر بهم وتجهمهم، فلما انصرفوا عنه دنوت منه، فهش إلي، واستبشر بي، وبسط من وجهه فقلت له: لقد تعجبت من تفاوت حاليك، فقال لي:
أضجرني هؤلاء بسوء آدابهم، فلما جئتني أنت انبسطت إليك وأنشدتك، وقد حضرني في هذا المعنى بيتان وهما:
فيَّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فقلت له: وددت (والله) أن هذين البيتين لي بنصف ما أملك، فقال: قد وفد عليك مالك، والله ما سمعها أحد وما قلتها إلا الساعة. فقلت له: فكيف لي بعلم نفسي أنهما ليسا لي
379 - لو تركته لأورثك السل
روى ابن الجوزي: أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً له، فقال: كيف تراه؟
قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من جوفك، لأنك لو تركته لأورثك السل
380 - دين سوء يدور مع الدول
قال إبراهيم بن عبد الله الكَجَّي: قلت للبحتري: ويحك! أتقول في قصيدتك التي مدحت بها أبا سعيد:
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم ... ويحرمون كلامه المخلوة(301/53)
أصرت قَدَرياً معتزلياً؟
فقال لي: كان هذا ديني في أيام (الواثق) ثم نزعت عنه في أيام (المتوكل)
فقلت: يا أبا عبادة، هذا دين سوء يدور مع الدول. . .(301/54)
أنشودة الذكرى
في عيد الربيع
للأستاذ محمود الخفيف
ياَ حَدِيثَ النَّفسِ في خَلْوَتِهاَ ... ياَ أَغَانِيهاَ وَياَ لَحْنَ بُكاَهَا
ناَمَتِ الأَلْحَانُ لَوْلاَ شُعْلَةٌ ... فيِ حَنَاياَ الصَّدْرِ لَمْ يَخْبُ لَظَاهَا
هَيِ ذِكْرَى لِعُهُودٍ أَدْبَرَتْ ... رَجَّعَ الشَعْرُ مِن الماضِي صَدَاها
مَا لهِذَا الذَّابِلِ المُرْتَعِشِ ... رَفَّ فِي صَدْرِيَ شَوْقاً وَهَفَا؟!
كُنْتَ ياَ قَلْبُ تَأَسَّيْتَ فَمَا ... جَدَّ من عَيْشِكَ أَوْ ما اخْتَلَفاَ؟
أَيَّهاَ الخافِقُ في وَحْدَتِهِ ... فِيمَ ذِكْرَانُكَ عَهْدً سَلفاَ!
أَوْرَقَتْ ياَ قَلُبُ في الروْضِ الغُصُونْ ... وَزَكاَ الوَرْدُ وَرَاقَ الَموْسِمُ
وَمَشَى في الأرْض عُرْسٌ بَهِجٌ ... نَفَحَاتُ الْخُلْدِ فِيهِ تَنسِم
وَالْتَقَى الشَّمْلُ فَبشْرٌ وَمُنىً ... وحبيبٌ لحبيبٍ يَبْسِمُ. . .
إيه يا قَلِبي، دَوَاعِي الأمَل ... لَمَحَتْ في كلِّ غُصْنٍ أَوْرَقَا
لاَ تُلَبِّيهاَ وَقَدْ كُنْتَ إِلَى ... سِحْرِهَا مِنْ كُلِّ قَلْبٍ أَسْبَقَا!
زَمَنُ الوَصْلِ حَلَتْ أَيَّامُهُ ... وَقُصَارَاكَ بِهِ أن تَخفِقاَ!
ياَ فؤادِي كلُّ شَيْءٍ ضَاحِكٌ ... في رَبِيعٍ راقَتْ الدُّنياَ بِهِ
في رَبيعٍ يُنبِت الوُدَّ وَمَا ... يَمْلأُ الأنفُسَ مِنْ أَسْبَابِهِ
طَاف في الرَّوْضِ عَلَى سُنْدِسِهِ ... بِرَحِيقِ الْحُبِّ فِي أَكْوَابِهِ
هَذِهِ ياَ قلبُ أفوافُ الرَّبِيعْ ... مِهْرَجَانٌ بَثَّ فِيهِ خَطَرَاتِهْ
يُبْهجُ الأَنْفُسَ مِنْ أَزْهَارِه ... بَسَماَتٌ حُلْوَةٌ مِنْ بَسَماَتِهِ
وَأَحَادِيِثُ جَرَتْ عَاطِرَةً ... زَاخِرَاتٍ بِمَعاَنِي صَبَوَاتِهِ
الرِّضَا والسِّحْرُ فِيها وَالمُنَى ... والشبَّاَبُ الغَضُ بُوحي نَزَوَاتِه!
ابْتَهجْ واطْرَبْ وَرَفْرِفْ والْعَبِ ... وَتَنَقّلْ في الرُّبُوعِ النَّضِرَهْ
الْتَمِسْ في كُلِّ رُكْنٍ فَرْحَةً ... كاَلْفَراشَاتِ، وَغَازِلْ زَهَرَهْ
واجْتَلِ الرَّوْعَةَ في أَفْوَافِهِ ... أَفْرَغَ السِّحْرُ عَلَيْهاَ صُوَرَه(301/55)
في زَمَانٍ مِنْ تَهاَوِيلَ بِهِ ... كُلُّ حَيٍ رَاحَ يَقْضِي وَطَرَه
مَسْرَحٌ كَمْ جُلْتُ في أَنحْاَئِهِ ... لاَعِباً، لَسْتُ أَمَلُّ الَّلعِبَا
لَمْ يَرُعْ نَفْسِيَ يَوْماً أَنَّنيِ ... سَأَرَي جَنَّتَهُ مُكْتَئِبَا!
في رَبِيعِ العُمْرِ وَالعَيْشُ مُنىً ... عَجَّلَ الدَّهْرُ لِيَ المُنْقَلَبَا
ياَ عِشاَشاً في الرِّياَضِ امْتَلأَتْ ... غَنِمَتْ فِيهاَ الشَّوَادي الفَرَحَا
كُلُّ إِلْفٍ حَلَّ فِيهاَ لِهَجٌ ... بِزَمَانِ الوَصْلِ فِيما صَدَحَا
نَسِىَ الوَحْشَةَ حَتَّى خِلْتُهُ ... عَنْ حَوَاشِي أَيْكِهِ مَا نَزَحَا
ياَ شَوَادِي الأَيْكِ غَنِّي وَاطرَبِي ... قَدْ توافَتْ لَكِ أسْبَابُ المُنَى
هَلْ شَجَا يَوْمَكِ أَمْسٌ أَوْ غَدٌ ... أَوْ عَرَفْتِ الدَّمْعَ يَوْمَاً والضَّنَى؟
اهْتِفِي مَا شِئتِ أَوْ شاَء الهوَى ... وَاتْرُكي لِي ياَ شوادِي الْحَزَناَ
أَنَا إِنْسِيٌّ مِن الطِّينِ فمَا ... أَعْرِفُ النَّعْماََء إِلاَّ حُلُماَ!
عَاَلمِي مِنْ طَبْعِهِ أن أجْتَنِي ... عَقِبَ الّلذّةِ فِيهِ الألَمَا
إِنْ شَرِبْتُ الكأسَ يَوْماً عَسَلاً ... لَمْ يَدُمْ حتَّى أذوقَ العَلْقَماَ
شِقْوَتِي بالْغَيْبِ أَنْ أَجْهَلَهُ ... وقُصَارَى الهمِّ في أن أَعْلَماَ!
جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مُنْذُ الأَزَلِ ... لأِبي آدَمَ كاَنَتْ نُزُلاَ
فَقَضَى اللهُ بِأَنْ يُبْدِلَهُ ... بِرياَضِ الْخُلْدِ هَذَا الْبَدَلاَ!
وَأَناَ مِنْهُ فَحَظِّى حَظَّهُ ... كَمْ أرَى فيهِ لِنَفْسِي مَثَلاَ!
غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَذُقْ من جَنَّتِي ... أَبداً مَا عِشْتُ فِيهاَ أُكلاَ. . .
كانَ لِيَ في الأرْضِ حُلمٌ زَاِهرٌ ... فَمضَى فيهاَ كَماَ يَمْضِي الربِيعُ
رُحْتُ كالطِّفْلِ لدَى صَحْوَتِهِ ... دَامِعاً يَبْكِي رُؤَى الْحُلْمِ الْبَدِيعْ
صَحْوَتِي قَدْ الْبَيْنُ بِهاَ ... أَيْنَ مِنِّي ذَلِكَ الشَّمْلُ الْجَمِيعْ؟
عَادَ قَلْبِي يشتكي الوجد فَهَلْ ... تُطْفِئُ الشَّكْوَى بِهِ هذا السَّعِيرْ؟
عِشْ عَلَى الذِّكْرَى وغَاِلط واخْدَعِ ... فَمَدَى عَيْشِكَ في الدُّنْياَ قَصِيرْ
يَتَهاَوَى الْعُمْرُ فِيهاَ مِثْلَمَا ... يَتَهاَوَى ذَلِكَ الزَّهْرُ النَّضِيرْ!
الخفيف(301/56)
رسَالة المَرأة
صاحبة السمو الإمبراطوري
الأميرة فوزية
للآنسة زينب الحكيم
يا سليلة المجد، يا كريمة المحتد. . . تزوجت من ابن عاهل بلاد عريقة الحضارة، باسقة الدوحة، فشغل هذا الحادث السعيد انتباه الناس، وانصرف كل يحييه بشكل خاص
كنت أمشي مرتاضة على جسر الزمالك ثم إلى جسر إسماعيل، وكان ذلك في الصباح المبكر النادي، حيث ينتعش النبت ويبتهج الزهر ويصدح الطير
ترتفع الشمس من مشرقها فتواجه صنوها أهرام مصر، فينعكس إشراقها على مرآة الدهر؛ وليست عنه تغرب، وإنما هي تحييه كل يوم، وتحيي في هيكله المرصوص نور العلم، وقوة العقل، ونهضة البشرية؛ ثم تخط في سجله دورتها التي لا تنقطع
وقد تزول المدنيات، وتدول العروش، ويفنى الخلق؛ وتبقى الأهرام وتبقى الشمس. . . هذه تسجل وهذه تدور. . . والخلود للنافع الباقي في سجل الأبدية
فيا أميرة الأهرام فوزي بأمير الشمس رضا. . . لقد تنبأت بسعود مستقبلكما وهناء أيامكما وأنا أسير على الجسور. وقد استرعى انتباهي الأعلام المتناثرة المرفوعة على أعالي القصور وفي البساتين والميادين، كلها ترفرف في الجو معلنة صفاء نفسين واتحاد قلبين، مذيعة على موجات الأثير أفراح أمتين شقيقتين، ورجاء شعبين صديقين
في اللحظة الخاطفة الوامضة، التي أيقنت فيها بذيوع النبأ السعيد في العالم أجمع، وأكده تشريف ابن الأكاسرة ديار الفراعين؛ استوقفني بين الجسرين صوت التابع (الخادم) حيث لاحقني من البيت، قال: سيدتي، لقد نسيت هذا الكتاب، فأخذته منه وشكرته وانصرف
وتابعت سيري ووجهني جسر إسماعيل، فلما بلغت وسطه، شعرت أن الكتاب أثقل ذراعي، فوقفت استريح برهة، وقد شغل تفكيري قيمة ما يحتويه الكتاب بالنسبة إلى حجمه ووزنه
وحانت مني نظرة إلى ماء النيل، وهو يخاصر رقائق النسيم؛ ومن عجب أرى ضوء الشمس الفضي ينعكس على جهات خاصة من سطح الماء، فيكوّن من الموج الهادئ نجوماً(301/58)
متلألئة، أما باقي سطح الماء فعادي إذا استثنينا اختلاف ألوان تموجاته في مواضع.
هذه اللوحة الفنية بإطارها المعشوشب، أوضحت أمامي صفحة من صفحات شهيرات النساء منذ أبعد الحقب، ومن ثم اطمأننت أنه يعتمد عليهن في فتح الكتب المغلقة وفهم غوامضها وتكييف الأقدار. وهذه الناحية من سطح الماء، التي تتلألأ عليها النجوم الساطعة، إنما تدل على شهيرات النساء اللائى جذبن انتباه العالم لخطورة مراكزهن كالملكة حتاسو، وفكتوريا، والسيدة خديجة، ومثيلاتهن ممن حكمن المماليك، وشرعن، وشيدن أسس العمران وسُسن مصلحي البشر؛ أو مدام كوري ومن على شاكلتها من العالمات، والمخترعات؛ أو كالسائحات والكاتبات اللائى يدرسن البشرية عملياً ويسجلن تاريخ البشر التجريبي؛ أو كرسولات السلام والمودة من أشباه أميرتنا المحبوبة فوزية.
وفي الحق أنه ينطوي في شخصية مثيلاتها تضحية، وأقوى شجاعة، وأحد نظرة وأجدها.
يا له من مركز خطير! يضطلع به الرجل فيثقله، فما بالنا إذا ما اضطلعت به امرأة؟! من غير شك تكون المسئولية أعظم، والتضحية أوفر، والإرادة أمتن
يا أيتها المرأة إنك ضحية الوجود، وزهرة الوجود، فيا له من شوك وشذى في وقت واحد!
أذكر عندما حمل البشير إلى فكتوريا نبأ تنصيبها ملكة على عرش بريطانيا العظيم، تلقت الخبر السار بذهول لهول المسئولية، وكانت سنها لا تزيد على الثامنة عشرة، ولكن ذاك الذهول، وذاك الهول، لم يثنياها عن المبدأ الذي ألهمته، وكان سبب نجاحها إذ أجابت بعد صمت لحظات سأكون صالحة. قول قصير ولكنه منطق حكيم ومبدأ متين
وهكذا عاشت الملكة فكتوريا عمراً مديداً، وحكمت خمسين عاماً من أحسن وأنفع السنين التي مرّت على بريطانيا. ولا يزال حب فكتوريا مستقراً في القلوب. تعرفت إلى سيدة إنجليزية عجوز في إحدى ضواحي لندن، فلما توثقت عرى الصداقة بيننا، أرادت أن تقدم إليّ هدية من أثمن ما تملك، فسارت معي إلى خزانة أنيقة من البلور، وأخذت منها علبة فضية ثمينة، أخرجت منها شيئين صغيرين، ولكن بدا على السيدة الاهتمام والرعاية لهما
بدأت تفض الأغلفة التي أحاطت بالدرة الثمينة على ما ظننت، وأيقنت أنني سأنال شظية من تلك اللؤلؤة النفيسة، وما كان اشد دهشتي عندما وجدت أن الجوهر المغلفة لم تكن أكثر من قطعة صغيرة من كعكة عرس الملكة فكتوريا!!(301/59)
ثم عادت السيدة فأخرجت من المغلف الثاني نموذجاً لثوب العرس الذي ارتدته الملكة فكتوريا ليلة زفافها، وقد صنع من القصاصات التي تخلفت من قماش ذلك الثوب. أما نموذج الثوب، فكان تحفة ثمينة، وأثراً بارزاً يشير إلى بعض عواطف الإنجليز، وهم ناس تقاليد وناس وفاء وشمائل نبيلة كم أرجو أن ينال أفراد الشعبين: المصري والإيراني منحة تحفظ في ذاكرة الأجيال!! لا يخالجني شك في أن عبقرية الزوجين الكريمين ستكوّن طاقة من الزهر تشم في نسمات الخلود
يا أميرة النيل: إني أتخيلك وأنت آمنة الآن إلى خلجات قلبك، مفكرة في رياض المستقبل بما تحويه من أزهار وأثمار وأطيار، لا تلبث أن تصبح بلابل القصر المرمري العامر؛ ثم أتخيلك وأنت تجولين في بساتين إيران الزاهية وحقولها المخصبة، وأتخيل مواقفك التي ستفوق ديمقراطية إحدى ملكات أوربا
ذلك أنها كانت تكثر من تفقد حال رعيتها خفية، ففي ذات مرة كانت تتجول في الحقول منفردة، فرأت فتاة حسناء تعمل بنشاط في حقلها بحيث لم تنتبه إلى المتجولة العظيمة، فقربت منها الملكة وحيتها وتحدثت معها طويلاً مستفسرة عن محاصيلها وعن معيشتها، وكانت الفتاة تحادثها دون تعمل على طريقتها القروية الساذجة
ولما همت الملكة بالانصراف سألتها الفتاة عن اسمها وماهيتها، فأجابتها ببساطة مستملحة: أنها الملكة فلانة. فطربت الفتاة كما تطرب فتاة الريف الوادعة وسألتها عن عنوانها، فأجابتها الملكة إلى ما أرادت. فلما كان عيد الميلاد بكّرت الفتاة بإرسال زوج من القفازات الصوفية من صنع يدها هدية للملكة بمناسبة العيد، وتقبلتها الملكة راضية وأرسلت خطاب شكر إلى تلك الفتاة ومعه قفاز مملوء بالذهب، وآخر مملوء بالحلوى
وبعد أيام أرسلت الملكة خطاباً آخر للفتاة تستفسر منها فيه عن وصول الهدية، ومقدار ما نالها منها شخصياً، فأجابت الفتاة في حياء جميل: لقد استأثر أبي بالذهب، وتمتعت أختي الصغيرة بالحلوى، بينما أجاهد أنا في الحصاد. فعادت الملكة وأرسلت قفازين أحدهما مملوء بالذهب والآخر بالحلوى، وشفعتهما بخطاب منها شخصياً تقول فيه لوالد الفتاة: (أترك الهدية كاملة للفتاة هذه المرة) فما أجمل عطف المرأة وما أدق مواقفها!
هنيئاً لك يا إيران بابنة فؤاد المصلح، الذي شمل عطفه وبره ورقيه مصر وغير مصر من(301/60)
بلاد المشرق والمغرب، وعم نور عهده الذهبي فتبدد عن العقول ظلام الجهل، وعن النفوس كابوس الملل
إن التاريخ يعيد نفسه. ومن حسن التوفيق أن يكون إشراق النجوم، وبشير السلام والمودة متصل الحلقات بمحور شريف.
فقد سبق أن حدثت مناسبة سعيدة مشابهة لحادث اليوم، بزواج الأميرة نازلي هانم أخت الخديو إسماعيل، وعمه المغفور له الملك فؤاد بأحد الأعيان التونسيين، وكانت تسكن قصراً بديعاً بالقرب من قرطاجنة على شاطئ البحر وسط بساتين غناء.
تحدثت عنها الكاتبة الفرنسية مريام هاري قالت: أدى بي الحديث مع الأميرة نازلي يوماً إلى الكلام عن المرأة المسلمة، فقالت لي: هل تقصدين المرأة المصرية؟ إنه لا توجد امرأة في العالم عرفت ما عرفته من الاستقلال في عهد الفراعنة! فأمريكا ذاتها لم تبتدع جديداً يمكن أن يقارن بالحركة النسوية التي كانت على ضفاف النيل منذ أربعة آلاف سنة.
لقد كانت تتمتع المرأة المصرية بوحدة الزوجية، بل كانت تنعم بما ينعم به الرجل من الحرية والمراتب، عكس ما كانت تعامل به نساء البلاد الأخرى في ذلك العهد كالإسرائيليات والبابليات وغيرهن.
والزوجة الحقيقة كانت تشارك زوجها في التاج والعرش، وكانت تمتاز عن أختها العصرية بالاشتراك مع زوجها في الأعمال الفكرية، وقد وجدت مؤلفات باسم الزوج والزوجة، وفي الألعاب الرياضية أيضاً، فكانت تخرج معه للصيد والقنص، وكانت ترأس الحفلات)
ثم أفضى الحديث بين الأميرة والكاتبة إلى التحدث عن كليوباترا الملكة العظيمة، فقالت الأميرة نازلي: حقاً إنها كانت ملكة قادرة من أسرة البطالسة، ومع ذلك كان أفول نجم المرأة المصرية بعدها. فقد فرض عليها القانون الروماني الذي أخذ عنه الفرنسيون قانونهم، أن تأخذ ترخيصاً من الزوج في أعمالها، وهذا أمر لا يعرفه الإسلام، إذ ليس الإسلام خلافاً لما يظنون هو الذي جعلنا في مرتبة أقل من الرجال وحرمنا حقوقنا، وإنما هو التفسير غير الصحيح للنص المقدس، وإهمالنا وقعودنا نحن النساء).
ولقد أبيح للمرأة المسلمة على الدوام أن تنص في عقد الزواج على أن تكون منفردة بالزوجية، ولو أن الزوج أخل بهذا النص لعوقب بالحبس(301/61)
قالت الأميرة نازلي هذا القول من نحو ربع قرن مضى، فليتها ترى بنفسها اليوم مقدار ما بلغته المرأة المصرية الحديثة من التعاون مع الرجل في أكثر مرافق الحياة، لتعجب بنهضة المرأة الفكرية والرياضية والاجتماعية، ولتسرّ كل السرور بحفيداتها أميرات البيت المالك، إذا ما رأتهن يزرن المدارس ويشجعن التعليم، ويفتتحن المعارض العلمية والفنية من زراعية وصناعية. كم كان ينشرح صدرها لرؤيتهن أثناء لعبهن التنس ولهوهن بالثلج في سويسرا! لو كان ذلك لأدهشها أن ترى الملك المحبوب فاروق الأول مع زوجه جلالة الملكة فريدة وهما يجولان في الصحراء للصيد والرياضة، ولأثلج صدرها ما ألفته بعض الأميرات من نفائس الكتب كالأميرة قدرية حسين
وسمو الأميرة فوزية زهرة تتضوع شذى ذكيًّاً بما تحمله في دمها من عبقريات والديها الكريمين، وتنقل عن أخيها جلالة الملك (فاروق الأول) المحبوب روح الشباب الطامح، وحكمة الشيوخ الأتقياء، وحزم المجرمين الأشداء. وتتأثر بوراثات فوارة عن الأجيال الطويلة التي قطعتها مصر في الرقي العلمي والحضارة
فيا أيتها الوديعة العزيزة أنت خير من يفهم رسالة مصر، وخير من يمثل بلاده الخالدة، فتزدادين منعة وعظمة من رائع خيال إيران، ورفيع فنها، وواسع علومها وفلسفاتها. وإن من كانت مثلك في قوة الذكاء وروعة الحسن مع شخصية قوية وجرأة حازمة وسياسة رشيقة ونبل - وما استمتعت به من رعاية وجوار كريم من جلالة أخيك الملك الصالح - كل هذا، وليس بالقليل، تستطيعين به أن تتصفحي الكتاب الزاخر وتكفلي بهجة الحاضر ونجاح المستقبل ومودة الدهر
زينب الحكيم(301/62)
رسالة العلم
ما هي الحياة
وكيف ظهرت على الأرض؟
انطباق نواميس الطبيعة على الأحياء
للأستاذ نصيف المنقبادي
تكلمنا في مقالنا الأول عن وحدة الحيوانات (ومنها الإنسان) والنباتات وأثبتنا في مقالنا الأخير وحدة الأحياء والجمادات بأن بحثنا عن مظاهر الحياة في الجمادات وقد وجدناها جميعاً بلا استثناء ولكن مبعثرة ومشتتة فيها كالتكوين الدقيق والشكل النوعي والتغذي والتنفس والتحرك والتأثر والنمو الخ
واستكمالاً لهذا التحقيق (وحدة الأحياء والجمادات) واستيفاء له من جميع نواحيه نسلك اليوم الطريق العكسي لنصل إلى نفس النتيجة بأن نبحث في الكائنات الحية عن نواميس الطبيعة التي تدير الكائنات الحية، وسيرى القارئ فيما يلي أن تلك النواميس تنطبق جميعاً بلا استثناء على الأحياء (ومن بينها الإنسان) وأنها هي التي تعمل فيها وتديرها وليس شيء آخر خلافها
نقول إنه يتضح لكل من يطلع على كتب العلوم الديولوجية الحديثة (علوم الحياة كالبيولوجيا العامة والفسيولوجيا وعلمي الحيوان والنبات، وعلم التشريح التقابلي، وعلم تكوين الجنين الخ) أن هذه العلوم أخذت تفسر المسائل الحيوية وتعللها بالنواميس والقواعد المقررة في علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، وقد خطت خطوات واسعة في هذا السبيل، ولا يهدأ للعلماء الآن بال وهم يعالجون أية ظاهرة من ظواهر الحياة حتى التفكير والقوى العقلية إلا إذا عللوها بالعوامل الطبيعية وردوها إليها ووحدوا بينها وبين الجمادات
فوظيفة القلب والحركة الدموية على العموم خاضعة لنواميس الهدروليكا أو الهدروديناميكا. وهضم الأغذية ليس إلا تفاعلات كيميائية محضة. وامتصاص الغذاء بعد هضمه، وإفراز المواد الإفرازية خاضع لقواعد التشرب المقررة في علم الطبيعة، وكذلك الحال بالنسبة لامتصاص الأوكسجين وإفراز الحامض الكربونيك في الرئتين وفي أعضاء التنفس(301/63)
الأخرى وفي الشرايين الشعرية. وتحرك الحيوانات وسيرها على الأرض أو طيرها في الهواء أو عومها في الماء، كل هذا يجري طبقاً لقواعد علم الميكانيكا دون غيرها. وإبصار العين وسمع الأذن وحدوث نبرات الصوت ارتفاعاً وانخفاضاً، كل هذا يحصل بمقتضى القواعد المقررة في علمي الضوء والصوت المتفرعين من علم الطبيعة. وكذلك الحال بالنسبة للتلقيح وانقسام الخلايا وتكوين الجنين وتكوين الزهور والأثمار. . . الخ. وكذلك الحال أيضاً فيما يتعلق بالانفعالات النفسية والغرائز والعواطف والتفكير، فقد توصل العلماء إلى إرجاع الكثير منها إلى ظواهر طبيعية وكيميائية محضة وفسروها بالعوامل الطبيعية التي تدير الجمادات. ويضيق بنا المقام لو أردنا شرح شيء من ذلك لأن هذا يستغرق المجلدات الضخمة العديدة، فنحيل القراء على المؤلفات الحديثة في علوم البيولوجيا والفسيولوجيا والبسكولوجيا. ونقصر حديثنا الآن على الناموسين الأساسيين اللذين تتفرع منهما باقي نواميس الكون وهما ناموس عدم تلاشي المادة وناموس عدم تلاشي الطاقة (القوة سابقاً) '
المادة والطاقة
ينقسم كل ما في الوجود إلى مادة وطاقة ولا ثالث لهما. فالمادة تشمل الكواكب والشموس والسيارات ومنها الأرض وما عليها من المعادن والجبال والبحار والمواد التي تشكلت بشكل خاص كالأجسام المبلورة والكائنات المسماة بالحية كالإنسان وباقي الحيوانات والنباتات
والطاقة تبدو في صور مختلفة معدودة تتحول من الواحدة إلى الأخرى وهي الكهرباء، والجاذبية، والضوء، والطاقة الميكانيكية كالحركة، والطاقة الكيميائية الكامنة في ذرات المادة، والحرارة
والمادة والطاقة ليستا مستقلتين إحداهما عن الأخرى فلا يمكن تصور وجود الواحدة منهما بمفردها دون الأخرى
بل ثبت أخيراً على اثر اكتشاف الراديوم والأجسام المتشععة المماثلة له، أن المادة تتحول إلى طاقة والطاقة إلى مادة، فكأنه لا وجود للمادة في الواقع، وأنها ليست إلا طاقة متكاثفة كما أن السوائل غازات متكاثفة وكذا الجمادات بالنسبة للسوائل.(301/64)
وعلى هذا تكون المادة صورة أخرى من صور الطاقة فوق الصور المتقدم ذكرها
ومن نواميس الطبيعة الأساسية ناموسا عدم تلاشي المادة، وعدم تلاشي الطاقة سالفا الذكر. ومعنى هذا أن مجموع المادة التي في الكون ثابت لا تزيد عليه، ولا تنقص منه ذرة واحدة، وإن كانت المادة تتحول على الدوام من تركيب إلى آخر ومن شكل إلى شكل، وكذلك الحال فيما يتعلق بالطاقة؛ فإن صورها أو مظاهرها في تحول مستمر من الكهرباء إلى الحركة إلى الضوء إلى الطاقة الكيميائية إلى الكهرباء وهلم جرا، ولكنها في مجموعها ثابتة لا تزيد، ولا تنقص منها أية كمية مهما صغرت.
انطباق هذين الناموسين على الأحياء
قلنا وكررنا في المقالين السابقين أنه لا يوجد عنصر من عناصر المادة خاص بالكائنات الحية، وأن العناصر التي تتركب منها أجسامها تدخل في تراكيب معدنية لا عداد لها. وبيّنا كيف أن المواد التي تتألف منها أجسام الأحياء مشتقة من الجمادات رأساً بفعل قوة الشمس أو طاقتها الإشعاعية بواسطة المادة النباتية الخضراء (الكلورفيل). فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى من الحيوانات النباتية، وهذه تتغذى من النباتات. والنباتات تركب المواد التي تتغذى بها وتشيد منها أجسامها من المواد المعدنية - أي من الجمادات - على الوجه المتقدم بيانه، بحيث لا يزيد على الكائنات الحية شيء أكثر مما تتناوله من الغذاء ولا ينقص منها شيء أكثر مما تفرزه أو يتبخر منها
وبعد الموت تتحلل أجسامها وتتحول إلى كمية من بخار الماء ومن الحامض الكربونيك ومن بعض تراكيب أزوتية ومعدنية بحيث يساوي مجموع كل هذا وزن الجسم عند الموت تماماً لا أكثر ولا أقل
وكذلك الحال بالنسبة للطاقة فإن الكائنات الحية تتحرك حركة ذاتية كالانتقال من مكان إلى آخر، وحركة أعضائها الداخلية وحركة نمو الخ، وهي تفرز عصائر وخمائر وسوائل مختلفة وإفرازات داخلية وخارجية متنوعة، وتحلل بعض المواد الكيميائية وتركب غيرها، وتتولد فيها حرارة ثابتة في ذوات الثدي (التي منها الإنسان) وفي الطيور، أو حرارة عرضية في الحيوانات الأخرى وفي النباتات، كما يتولد الضوء والكهرباء في بعضها، وهذه كلها من الطاقة، ولا يمكن أن تأتي من العدم لأن الطاقة لا تخلق ولا تنعدم، ولا بد أن(301/65)
تكون قد اشتقت من صورة سابقة من صورها الأخرى. فما هو مصدر تلك الطاقة التي تدير الأحياء وتحركها وتعمل فيها؟
لقد أثبت علم الفسيولوجيا بالأدلة والاختبارات والمشاهدات القاطعة أن جميع القوى التي تعمل في الإنسان وباقي الكائنات الحية تنتج من احتراق المواد الغذائية داخل أنسجة الجسم وفي خلاياه، وما الغذاء إلا وقود الكائنات الحية يحترق فيها ليولد الطاقة والحرارة اللازمتين لأعمال الحياة كما يحترق الفحم أو البترول في الآلات الميكانيكية لإدارتها؛ وما الحيوانات والنباتات إلا آلات تحول الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء إلى طاقة ميكانيكية كالحركة وإلى حرارة وإلى كهرباء وضوء في بعض الحيوانات
وقد أراد علماء الفسيولوجيا أن يتحققوا مما إذا كانت العوامل الطبيعية، وبعبارة أدق الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية في الأحياء هي التي تدير بمفردها الكائنات الحية وتعمل فيها، أم أن هناك عوامل أخرى من وراء الطبيعة تشترك معها في ذلك. فمن أجل ذلك صنع اثنان منهم وهما الأميريكيان أثوثر وبينديكت جهازاً خاصاً هو عبارة عن كالوريمثر كبير مركب تركيباً دقيقاً من مواد تحفظ الحرارة وتمنع تشععها إلى الخارج وهو في الوقت نفسه يقيس أقل كمية من الحرارة توجد فيه مهما صغرت. ووضعا فيه شخصاً وأحكما غلقه عليه، ويخترق هذا الكالوريمتر تيار من الهواء يمر في أنابيب مصنوعة خصيصاً ومركبة عليها آلات للتحليل والقياس فيقيسون مقدار ما يدخل من الهواء وما يشتمل عليه هذا الهواء من الأكسيجين وغاز حامض الكربونيك، وكذلك مقدار الهواء الخارج من الجهة الأخرى وما نقص منه من العنصر الأول، وما زاد عليه من الغاز الثاني، والفرق يدل بطبيعة الحال على كمية ما احترق مدة العملية داخل جسم الشخص الجالس في الكالوريمتر من المواد الغذائية المدخرة في أنسجته وخلاياه، ذلك لأن كل احتراق حتى في الجمادات يستهلك الأكسيجين ويفرز غاز الحامض الكربونيك
ومن جهة أخرى يقيس الكالوريمتر كمية الحرارة التي تتشعع من جسم ذلك الشخص، والحرارة التي تتحول إليها في النهاية الحركات المختلفة التي يقوم بها كحركاته الذاتية، وكحركات أعضائه الداخلية كالقلب والرئتين.
فكانت النتيجة أن الطاقة (الحرارة) التي تنتج من احتراق المواد الغذائية المدخرة في الجسم(301/66)
تساوي تماماً الطاقة (القوى) التي تعمل في الجسم وتتحول في النهاية إلى حرارة.
وكان بعض الفسيولوجيين قاموا قبل ذلك بمثل هذا الاختبار على حيوانات مختلفة وكانت النتيجة واحدة.
ومعنى هذا أنه لا تعمل في الكائنات الحية بما فيها الإنسان ولا تديرها سوى القوى الطبيعية، وأن هذه القوى ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء، أو بعبارة أصح الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء
وحتى التفكير والقوى العقلية فقد ثبت بالاختبارات والمشاهد العديدة أنها تستهلك كمية من الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية المدخرة في المخ والتي يوردها الدم إلى ذلك العضو. وإننا نكتفي بالتجربة التالية إثباتاً لذلك: فقد صنعوا جهازاً خاصاً دقيقاً لقياس كل زيادة تطرأ على حجم المخ مهما كانت طفيفة، يستخدمون هذا الجهاز في أشخاص يكون قد أصابهم كسر في الجمجمة وتفتت قطعة من العظم حتى صار مكانها مكشوفاً لا تغطيه إلا قشرة من نسيج رقيق، فيضعون قاعدة الجهاز على رسم الجزء المكشوف وقياسه ويغطونه بها. وتتفرع من قاعدة الجهاز هذه أمبوبة من الكاوتشوك تتصل بآلة تدل على أقل زيادة أو احتقان يطرأ على المخ وترسمه رسماً
يرسم هذا الجهاز في الحالة الاعتيادية خطاً متعرجاً ولكنه يكون في مجموعه على منسوب أو ارتفاع واحد، وهذه التعرجات هي أثر نبض القلب. ويكلفون الشخص الموضوع عليه الجهاز بالقيام بأعمال عقلية بأن يطلبوا منه مثلاً إجراء عملية حسابية، حتى إذا بدأ في التفكير أخذ حجم مخه في الزيادة بورود كمية من الدم إليه أكثر من المعتاد يدل عليها ارتفاع منسوب الخط المتعرج الذي يرسمه الجهاز، كما يحدث في كل عضو يؤدي وظيفته، لأن الدم يحمل إليه الغذاء الذي يحترق فيه لتوليد الطاقة اللازمة لقيامه بوظيفته، وعندما ينتهي ذلك الشخص من العملية العقلية التي كلف بها يرجع مخه إلى حجمه الطبيعي بأن ينزل الخط المتعرج إلى مستواه الأصلي
يؤيد هذا أيضاً التجارب التي قام بها كل من شيف من جهة وموسو من جهة أخرى، فإن كليهما استعان بآلات دقيقة جداً لقياس درجة حرارة المخ على مثل ذلك الشخص المكسورة جمجمته صنعها خصيصاً على أساس الكهرباء، وهي حساسة إلى حد أن تقيس واحدا من(301/67)
الألف من درجة الحرارة الواحدة. وقد دلت هذه الآلات بطريقة ظاهرة على أن حرارة المخ ترتفع أثناء التفكير، وهذا الارتفاع لا يمكن أن يأتي إلا بورود كمية من الدم إلى المخ واحتراق بعض المواد الغذائية التي يحتويها أو من المدخرة في المخ شأن كل عضو في حالة العمل
يؤيد هذا أيضاً ازدياد كمية المواد الفوسفاتية في البول لدى الأشخاص الذين يزاولون الأعمال العقلية المتواصلة كما يدل على ذلك التحليل الكيميائي، وهي تنتج من احتراق المواد الغذائية الفوسفورية المدخرة في المخ مثل الليسيتين أو التي يوردها الدم إلى ذلك العضو
ويؤيد هذا أيضاً ما هو معروف للجميع من أن الطفل يكون عند ولادته عديم التفكير ثم تأخذ قواه العقلية في النمو بنمو مخه مع باقي جسمه، وأن كثيراً ما تضعف هذه القوى في الشيوخ حينما ييبس المخ وتتصلب شرايينه ويذهب فريسة كريات الدم البيضاء المفترسة، أو حينما يتناول الإنسان كمية من الخمر أو يصاب بحمى شديدة أو بأي مرض يؤثر في المخ. فلاشك في أن التفكير إنما هو وظيفة المخ وأن مصدره الوحيد الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية شأنه شأن باقي وظائف الأعضاء الأخرى
وبالجملة فإن ناموس بقاء الطاقة وعدم تلاشيها ينطبق على الكائنات الحية ومنها الإنسان وانطباقه على الجمادات
النتيجة
فمن أية ناحية نظرنا إلى الموضوع نجد أنه لا يوجد أي فرق جوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات كما قلنا في ختام المقال الأخير، وهذا يدل دلالة قاطعة على وحدتهما
ولا يسعني إلا أن أختم هذا البحث بالعبارة التي ختم بها أستاذي المأسوف عليه فريديك هوسيه أستاذ علم البيولوجيا بجامعة باريس (السوربون) محاضراته في هذا الموضوع حيث قال: (إذن فكل ما في الطبيعة حي، أو ليس فيها حي) , (يقصد أنه لا يوجد أي فرق بين الكائنات الحية وبين باقي ما في الطبيعة من أجسام أخرى معدنية أو جمادات
وحتى الأخلاق فقد تناولها العلم وأثبت أنها ظاهرة طبيعية تطرأ على الحيوانات الاجتماعية كالنمل والإنسان نتيجة لازمة لحياة أفرادها جماعة، وقد أصبحت - أي الأخلاق - غريزة(301/68)
متأصلة في النمل والنحل، وهي غريزة في دور التكوين في النوع الإنساني لأنه أحدث من تلك الأنواع كما سنبينه في مقال قادم
وسنبين في المقال الآتي كيف ظهرت الحياة على الأرض بعد أن ثبت لنا نهائياً وقطعياً أنها ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)(301/69)
أطفال الشمس
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لاحظ العلماء أن هناك شقة واسعة بين المريخ والمشتري وقالوا: من المحتمل أن يكون فيها سيار يدور حول الشمس، وقد حاولوا أن يكشفوه وأن يعرفوا شيئاً عنه عن طريق الرصد فلم يوفقوا إلى ذلك. وفي بداية القرن التاسع عشر للميلاد كشف بعض الفلكيين أجراماً صغيرة أطلقوا عليها (النجيمات) أو (الكويكبات) عرفوا منها ما يزيد على الألفين، وقد أطلقنا عليها (أطفال الشمس) لأنها صغيرة جداً بالنسبة للسيارات. وقد ظن كثيرون أن هذه الكويكبات دليل الخلل والفوضى في النظام الشمسي، وأن السيارات ستتقلص وتصبح صغيرة يجري عليها ما يجري على تلك الكويكبات التي بدورها ستؤول إلى شهب ونيازك، وعلى هذا قالوا: إن بداية الكون في الدم ونهايته في الشهب والنيازك
ولسنا بحاجة إلى القول بأن هذه الآراء لا تستند إلى علم أو دراسة بل هي مجرد تخمين لا أكثر، وقد اثبت البحث العلمي بطلانها وعدم صحتها، وتحقق لدى الفلكيين والطبيعيين أن لا خلل ولا فوضى في الكون، وأن ما يسيطر على أصغر موجوداته يسيطر على أكبرها، وأن الإنسان كلما تقدم في وسائل الرصد وتفتحت أمامه المغلقات تجلى له أن الكون بأجزائه المختلفة المتعددة لا يتعدى دائرة من القوانين والنواميس لا يتطرق إليها خلل أو فوضى! وأن ما يظهر للإنسان شذوذاً دليل على أنه لا يزال عند عتبة اليقظة العقلية، وقد عجز عن إدراك كنه هذا الشذوذ وحقيقته
إن من يحاول الوقوف على عجائب الكون ويسعى لتفهم ما يجري فيه من مدهشات وغرائب ويعمل على الإحاطة بالقوى الطبيعية المتحكمة فيه يتبّين له أن ما ظنه شذوذاً وفوضى هو في الواقع اطّرادٌ ونظام. . .
والآن. . . ما هي هذه الأطفال؟. . . وما خصائصها؟. . . وما مقامها في النظام الشمسي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه بإيجاز
تسير هذه الكويكبات أو الأطفال حول الشمس في نفس الاتجاه الذي تسير به الكواكب السيارة، وقد حسب العلماء سعة أفلاكها وأقطارها، ووقفوا على كثير من خصائصها فوجدوا أن أكبرها (سيرس) وقطره لا يزيد على (480) ميلاً، ويليه (بالاس) الذي يبلغ(301/70)
قطره (306) من الأميال، ثم (فِسْتا) ويقدر قطره بِ (241) ميلاً. وهناك من الكويكبات ما لا تزيد أقطارها على ميلين، ويتراوح زمن دورانها حول الشمس بين 1. 76 و 13. 7 من السنين، أي أن طول السنة عليها يختلف؛ فبينما سنة أقرب كويكب (سيرس) تعدل 1. 76 سنة من سنينا نجد أن سنة أبعدها (هيدالاكو) تعدل 13. 7 من السنوات
أما أيامها فقصيرة جداً حسب الفلكيون أطوالها فوجدوا أن يوم (إيرس) لا يتجاوز ست ساعات و 12 دقيقة، ويوم (أونوميا) لا يزيد على ثلاث ساعات ودقيقتين، ويوم (سيرمنا) يبلغ تسع ساعات وأربعين دقيقة. وهناك مجموعة من ستة كويكبات تسير وتتحرك بطريقة غريبة بحيث تكوّن مع الشمس والمشتري مثلثاً متساوي الأضلاع. والكويكبات صغيرة جداً حسب الرياضيون أوزانها كلها (المعروف منها) فتبيّن لهم أن الوزن الكلي لا يزيد على جزء واحد من ألف جزء من وزن الأرض. وتدل الحسابات وحركات الكواكب في أفلاكها أنه لا يمكن أن يزيد المجموع الكلي للكويكبات - ما كشف منها وما لم يكشف - على جزء واحد من خمسمائة جزء من وزن الأرض؛ ولو كان الوزن أكثر من ذلك لحدث اضطراب في فلك المريخ ولما التزم طريقه الحالية ولأقصى عنها بعض الإقصاء
ولقد كشف العالم الألماني (وِتْ) في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد كويكباً صغيراً اسمه (إيروس) يقع فلكه ضمن فلك المريخ وفي بعض الأحيان يتخطاه، ويبلغ قطره خمسة عشر ميلاً ويتم دورته حول الشمس في سنة وتسعة أشهر، طول يومه خمس ساعات وست عشرة دقيقة. وهذا الكويكب يدنوا أحياناً من الأرض حتى يصير على بعد (13840000) ميل، ولقد ساعد هذا القرب الفلكيين على رصده واستطاعوا من ذلك حساب بُعد الشمس عن الأرض وكتلة الأرض بدقة متناهية. واختلف الفلكيون في منشأ هذه الكويكبات فمنهم من ذهب إلى أنها تناثرت من صدام كوكبين، ومنهم من قال بأن سياراً حلّ به القضاء أي التمزيق والتناثر عندما اقترب قليلاً من المشتري، والحقيقة أن العلم لم يصل في هذه النقطة إلى درجة يرضى عنها العلماء ويطمئنون إليها. وقد تبدو هذه الكويكبات لا أهمية لها في علم الفلك، فهي لا أكثر من أجسام صغيرة جداً تسير حول الشمس، ولكنها في الواقع ذات قيمة وشأن في بحوث الفلك الرياضي، فمن حركاتها واقتراب بعضها من الأرض ومن دراسة تأثير المريخ على البعض الآخر من هذه جميعاً وغيرها تتكون لدى(301/71)
الفلكي مادة يمكن بها تحقيق بعض القياسات المتعلقة بالأرض والشمس كما تتكون لدى الرياضي مسائل طريفة في حلها شحذ للعقول ومتعة للأذهان.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(301/72)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الموسيقى روح ومعان
للأستاذ عزيز احمد فهمي
- أهنئكِ فقد أتقنتِ القهوة اليوم. أين أخوك؟
- ألا تسمعه؟ هو هذا الذي يعزف على العود في الحجرة المجاورة. تعال. . . تعال اسمع تلميذك النابغة
- لعله الدرس الأول هذا الذي يراجعه
- لا. إنه قطع شوطاً بعيداً في دراسة الموسيقى. إنه يتردد على المعهد الملكي منذ سنتين. وهذا الذي يعزفه لحن صاغه هو
- أعوذ بالله!
- مم؟
- من هذا الخبط الذي يخبطه. أي معنى له؟ وأي إحساس فيه؟
- ليس هذا شأني، وإن كان هذا هو رأيي
- نِاديه!
- قيل لي إنك برمت بلحني يا أستاذ، فهل هذا حق أو هي الماكرة تريد أن توقع بيني وبينك الشر؟ على أني أريد أن أحذرك منها فقد ربتها أمها تربية غربية فهي لا تتذوق فننا الشرقي؛ فإذا كانت قد نقدت أمامك موسيقاي فإنما ذلك لأنها أعجمية الحس
- ما شاء الله! منذ متى وأنت تقسم الناس إلى عرب الحس وعجم الحس؟
- منذ دخلت معهد الموسيقى وعلمت أن للشرق موسيقى ينقسم المقام فيها إلى أربعة أرباع بينما لا ينقسم المقام في الموسيقى الغربية إلا إلى نصفين
- أعظم بهذا علماً. أفما كنت تدريه من قبل وأنت تعلم أن في حروفنا العربية (قافاً) و (عيناً) و (حاء) عدمها الغربيون وأن عندنا ستة عشر بحراً من بحور الشعر لها مجزوءات لا تصل إلى عددها أوزان الشعر الغربي. . .(301/73)
- ولكن هذين الفرقين لا صلة لهما بالحس، فالشعر فيه من المعاني والأخيلة والأحاسيس ما يصلح للترجمة، فإذا ترجم إلى لغة غير العربية راع أهلها جماله وليس لهم بعد ذلك شأن بقافاته وحاءاته ولا أوزانه وضروبه. . .
- وهل تحسب الموسيقى أعصى على العقل والحس من الشعر؟ إنها أسلس منه قياداً لأنها تتجرد مما يغل الشعر من الألفاظ والكلمات، فهي لغة النفس التي يفهمها الناس على اختلاف ألسنتهم. . هي اللسان الذي لم يتبلبل. . والذي لا يحتاج إلى ترجمة
- إذن فلماذا لا يطرب الغربيون لموسيقانا؟
- أو لا تطرب أنت لموسيقاهم؟ أو لا يستسيغ المصريون والشرقيون هذه الألحان الغربية التي يدسها بعض الملحنين المصريين في ألحانهم؟
- بلى!
- أتعرف لماذا؟ لأن هذه الموسيقى الغربية موسيقى. . . وعليك بعد ذلك أن تسأل نفسك ومعهدك لماذا لا يستسيغ الغربيون موسيقانا. . . فإذا تعجلت الجواب فهو عندي.
- هاته
- لأن موسيقانا ليست موسيقى. . .
- كلها؟
- لا. أستغفر الله فإن عندنا موسيقى لن تعرفها أنت وأضرابك الصغار إلا يوم يكف المعهد عن الموسيقى.
- وما هي هذه الموسيقى. . . أظن أمك تناديك يا أختاه. . .
- لماذا كذبت عليها وأخرجتها. . .
- لأني بدأت أشعر أنك ستهاجمني هجوماً عنيفاً. وأنا لا أطيق أن أتردى فريسة بين مخالب منطقك أمام ابتسامتها الساخرة الشامتة. والآن هاهي ذي قد خرجت فماذا تريد أن تقول؟
- أريد الآن أن تجيب عما سأوجهه إليك من الأسئلة.
- سل ما شئت.
- ما هو التعريف الذي اتفقنا على أن نحدد به معنى الأدب؟(301/74)
- لقد قلنا إن الأدب هو الفن الذي يتجه إلى الحياة بما فيها من مناظر تراها العين، وأصوات تسمعها الأذن. . . واحساسات تشعر بها النفس، وأفكار يدركها العقل
- حسن. وما الذي يجب أن يتوفر في الأديب تبعاً لهذا؟
- قلنا إن الأديب لا بد أن يعيش مفتوح العين ليرى ما يحيط به، مرهف الأذن ليسمع ما يتعالى حوله من أصوات وما يتخافت، مرقرق النفس ليشعر بما يرفرف حوله من البشائر والنذر وبما ينتاب غيره من انفعالات، متحفز العقل ليتلقط ما ينبت حوله من أفكار وليتخطف ما يتطاير في جوه من آراء، فيعبدها نهجاً، وينظمها مسلكا، ويزيد عليها إذا شاء، وينتقص منها إذا أراد، ويبدل منها ويغير ما يحب
- حسن. وما هي الأدوات التي تلزم للأديب في عمله؟
- القلم، والمداد، والورق. فهو ينقش بالقلم المسقي مداداً على الورق حروفاً وكلمات يراعي في كتابتها صحة الهجاء، وصحة التركيب، وجمال التعبير، ثم بلاغته آخر الأمر
- أو لا يمكنك أن تتصوره يعمل بغير هذه الأدوات؟
- أما القلم والمداد والورق فيستطيع الأديب أن يستغني عنها. فقد عرف التاريخ كثيرين من الشعراء الأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون. وأما صحة التركيب وجماله وبلاغته فكلها مما تهدي إليه الإنسان سليقته وفطرته
- فإذا لم يكن الإنسان مفطوراً على الأدب. . . أفما من سبيل لترويضه عليه؟
- قد تكون هناك سبيل، هي التربية. فكثرة القراءة تربي فيه الذوق، وإغراؤه بالنقد يمكنه من تبين المحاسن والكشف عن المساوئ، وإرشاده إلى ما في الحياة من موضوعات صالحة قد يحمله على معالجة بعضها. . . على أنه مهما تعلم ومهما تدرب فإنه لن يثمر كما يثمر الأديب الموهوب أدباً ناضجاً شهياً
- فإذا اكتفى (الأديب (بتعلم القراءة والكتابة، وتاريخ الحروف وتطور أشكالها فماذا يكون؟
- لن يكون أكثر من خطاط!
- يكفيني هذا منك. وعليك منذ اليوم أن تقلع عن الموسيقى فلست منها إلا كالخطاط من الأدب
- لا يا أستاذ. إني أدرس الموسيقى في المعهد الملكي منذ سنتين، وأنا أحفظ عشرين(301/75)
بشرفاً، وعشرة موشحات، وخمسة أدوار، وقد بدأت فلحنت هذه القطعة التي سمعتها اليوم
- ليتك لم تفعل. فأنت اليوم إذ لحنت هذه القطعة كنت كشيخ الكتاب الذي حفظ القرآن ولم يفهمه، والذي حفظ المعلقات السبع ولم يقرأ لها شرحاً ولا تفسيرا، والذي يكتب فلا يخطئ في الهجاء. . . ثم سولت له نفسه بعد ذلك أن يكون شاعراً فصنع كلاماً حسبه شعراً وما هو بالشعر. . . أسمع يا بني. . . إذا كنت تريد أن تلحن فاختبر نفسك أول الأمر وانظر: هل هيأك الله للتلحين؟ فإذا لم يكن قد هيأك له فاعدل عنه يا بني واكتف بالعزف
- ولكني أحب التلحين
- إذن لحن في السر، ولا تطلع أحداً على بليتك
- لا حول ولا قوة إلا بالله. . . ولكن كيف أستطيع أن أعزف إذا كان الله قد هيأني للتلحين أو أنه قد ضن علي بما يؤهلني له؟
- كم هي الحواس التي أنعم الله بها على الإنسان؟
- خمس. . .
- لنفرض هذا جدلاً
- وهل اختلفوا في عدد الحواس أيضاً؟
- وما أشده من خلاف. . . الدنيا تتقدم يا بني وأنتم في معهدكم لا تزالون آخذين بخناق ذلك اليوم الذي أغرى فيه مديركم بالعزف على القانون. . . هم يقولون اليوم يا بني إن للإنسان حاسة سادسة اسمها الحاسة العامة، ويقولون إن له حاسة سابعة هي الحاسة الدينية، ويقولون إن له حاسة ثامنة هي الحاسة الفنية؛ ولكني أقعد بك عند الحواس الخمس فلست أريد أن أتعب نفسي كثيراً معك. . . والآن لعلك تعرف أن كل حاسة من الحواس الخمس تشغل المخ بما يؤثر فيها إذ تنقل إليه ما انتابها من الأثر. . .
- أعلم هذا فقد درسته في علم النفس. . .
- في المدرسة لا في المعهد طبعاً. . . أريدك الآن أن تتخيل نفسك وقد وقفت في ميدان إبراهيم باشا خمس دقائق. . . فما الذي ترى أن نفسك أو (مخك) قد اشتغل به. . .؟
- تمثال إبراهيم باشا. المتاجر الكثيرة. المشارب العامة والجالسون فيها. المارون في الطريق وأخصهم الحسان. السيارات الرشيقة. الدواب المتعبة(301/76)
- كفى كفى. . . لو أنهم سألوك هذا السؤال حين أردت أن تدخل المعهد فأجبت هذه الإجابة، وكانوا يعلمون، إذن لوفروا عليك جهدك ولأنبأوك بأنك فاشل في الموسيقى، فاشل، فاشل. . .
- عجباً. . . وما دخل ميدان إبراهيم باشا وما فيه من مركبات ومتاجر. . . في المعهد والموسيقى. . .
- أسمع يا بني. . . لو أنك راجعت ما سردته على مما يشغلك وأنت في ميدان إبراهيم باشا لرأيت أنك لم تحص غير منظورات تراها العين، وأنك حتى حين أحصيت السيارات وصفتها بأنها رشيقة وهو وصف فيما أظن ينصب على شكلها وحركتها ولا ينتبه إلى صوتها ولا يلتفت إليه. . . وهذا يدل على أن نفسك تطل على الحياة من عينيك لا من أذنيك. . . والموسيقى يا بني يستطيع أن يعمى وأن ينتج، ولكنه لا يقوى على الإنتاج إذا صمت أذناه
- وما رأيك في بتهوفن الذي كان يلحن وهو أصم؟
- إن الصمم لم يدركه إلا على كبر بعد أن اختزن في نفسه من صور الأصوات وخيالاتها ما جعله بعد صممه مادة لفنه؛ ولو أنه ولد وهو أصم لما استطاع أن يتكلم فما بالك بالموسيقى والتلحين. . . هل سمعت أبكم يغني. . . أو هل رأيت أعمى يرسم؟ الفنون يا بني ليست شيئاً غير تركيب (الخامات) التي تحصل عليها النفس وتأليفها تأليفاً منسقاً
- وما هي هذه (الخامات) التي تحصل عليها النفس؟
- هي الأحاسيس والانفعالات التي توصلها الحواس إلى المخ. هذه هي المنظورات، والمسموعات، والمشمومات، والمذوقات، والملموسات، والمدركات. . . تستقر في النفس مختلف عددها، وصاحب الفن يؤلف منها فنه. . . فإذا كانت نفسه تتلقى بطبعها منظورات أكثر من المسموعات فهو أصلح للرسم منه للموسيقى؛ وإذا كانت نفسه ترحب بالمدركات المعنوية المجردة أكثر مما ترحب بغيرها فهو أصلح للفلسفة والأدب العقلي؛ وإذا كان الله قد منحه قوة في أنفه فهو يشم ويميز الروائح أكثر من غيره كان أصلح الناس لإنتاج الروائح العطرية وتأليفها، وأظنك لا تنكر على أصحاب الروائح الجميلة أنهم كأصحاب الألحان الجميلة، فهم الذين يلهمهم ذوقهم إضافة البنفسج بنسبة خاصة، إلى الليمون بنسبة(301/77)
خاصة، إلى الورد بنسبة خاصة فيخرجون بعد ذلك رائحة تطيب للغواني وعشاقهن
- ما هذا؟ لقد فتحت ليّ باباً لم أكن أحسب أنه مسلك إلى الفن. . .
- ولا مسلك غيره يا بني. . . ولا يمكنك أن تخطو في سبيل الفن خطوة واحدة حتى تعبر هذا المدخل. . .
- فإذا عبرناه وأردنا أن نخطو في سبيل الموسيقى الخطوة الأولى فكيف نخطوها؟
- كما خطونا في دراسة الأدب الخطوة الأولى. فكل صوت في الموسيقى يشبه الحرف في الكلام، والنغمة تعادل الكلمة، ومجموعة النغمات تعادل العبارة أو الجملة وهي التي تسمونها في معهدكم (فرازا) وهي كلمة إيطالية معناها (عبارة) ولكنكم قد لا تعلمون هذا. . . ومجموعة العبارات الموسيقية هذه يتألف منها اللحن الذي نسمي ضريبه في الأدب موضوعاً، وفي الرسم صورة. وموضوع الأدب تقرأه فتخرج منه إما بفكرة وإما بعاطفة وإما بشيء من هذه الأشياء التي اتفقنا على أن الأدب يعالجها. واللحن، أو الموضوع الموسيقي، إذا لم يؤد ما يؤديه الموضوع الأدبي لم يكن شيئاً. وأنت إذا لم تستطع أن تعبر بلحنك عن عاطفة أو فكرة أو صورة صوتية لم تكن موسيقياً، وكان من الخير لك - كما كررت عليك - أن تقلع عن الموسيقى
- لم أفهم شيئاً
- لأنك من تلاميذ معهد الموسيقى. اسمع مرة أخرى. في الطبيعة موضوعات تصلح مادة للأدب، وفيها موضوعات تصلح مادة للرقص (وهي الموضوعات الحركية) وفيها موضوعات تصلح مادة للموسيقى. . وهكذا. . . أما الموضوعات التي تصلح للأدب فقد تعرفناها، وأما الموضوعات التي تصلح للرسم فلعلك تعرف أنها هذه الأشكال وهذه الألوان التي تراها العيون فينقلها الرسام الجامد نقلاً أميناً، ويلفقها الرسام المهندس تلفيقاً جديداً، ويؤلف منها الرسام ذو الروح، والفكرة، والعاطفة موضوعاً ذا أشكال وألوان يعبر بها عن فكرته وعاطفته. . . والأمر في الموسيقى لا يختلف عن هذا. . . فأصلها مأخوذ من أصوات الطبيعة، فأهون الموسيقيين هو من يقلد صوت البلبل، وحفيف الشجر، واصطخاب الموج، وقصف الرعد، وهزيم الريح. . . كل صوت على حدة. وأشد منه تمكناً من الفن هو الذي يجمع هذه الأصوات في موضوع صوتي أو في لحن كما تسميه.(301/78)
وهناك من الموسيقيين ملحنون اجتماعيون يصفون بألحانهم بيئات الناس المختلفة وطوائفهم المتباينة، ومن الموسيقيين مزخرفون نقاشون يرصون الأنغام بعضها إلى بعض في أسلوب هندسي يلذ للأذن فيطرب النفس ولكنه لا يحمل إليها معنى من المعاني، وليس يشبه هؤلاء أحد في الأدباء إلا إذا كان هناك أدباء يرصون الألفاظ رصاً جميلاً لا يهمهم بعده ما يحملون هذه الألفاظ والجمل من المعاني والاهتزازات النفسية. . . وإنما لهؤلاء أشباه في الرسامين الذين ينظمون الخطوط مربعات ومخمسات ومسدسات ودوائر وقطاعات في نظام جميل ترتاح له العين ومن ورائها ترتاح النفس وإن لم يكن لرسومهم معنى. فأي واحد من هؤلاء أنت؟
- أنا لم أسمع بهذا من قبل. . . وأرجو أن توضحه لي بأمثلة
- لا بأس. هل سمعت في معهد الموسيقى بسيد درويش؟
- نعم وأحفظ له دور (أنا هويت)
- ولا شيء غير (أنا هويت). إنهم يخفون عنكم سيد درويش لأنهم لو أظهروكم عليه لنفرتم منهم. . . ولكني لا أظن ذلك أيضاً. . . فأغلب الظن أنهم لا يعرفونه. . . كما أنك لا تعرفه إلا كما قد تعرف محمد عثمان. فأدوار سيد درويش على ما تحررت من قيود الصناعة فإنها لا تزال مقيدة بنهج (الدور)؛ فإذا أردت أن تعرف ذلك الرجل الذي هو المثل الكامل للموسيقي المصري فعليك أن تسمع مسرحياته. ففي هذه المسرحيات ترى أغلب هذه الألوان الموسيقية التي حدثتك عنها، ففيها ألحان عرض فيها سيد درويش العواطف والنزعات النفسية المختلفة فكانت هذه العواطف موضوعات ألحانه؛ وفيها ألحان كانت موضوعاتها الطبيعية الجامدة فصور فيها الرياض والجنان، والصحاري والبحار؛ وفيها أيضاً ألحان كانت موضوعاتها البيئات الاجتماعية المختلفة للمصريين وغير المصريين. وأما زخارفه الموسيقية فتلمسها في موشحاته وأدواره على الرغم من أنه لم يستطع أن يكبت إذ صاغها روحه فخرج بها عن تقاليدها القديمة ونفث فيها من الحياة ما قربها من الموسيقى التمثيلية وإن استبقى لها اتجاهها الزخرفي الهندسي. وذلك لأنه كان موسيقياً له وراء الأذن الحساسة المرهفة نفسٌ حساسة مرهفة، وعقل ذكي حاد
- إذن فما الذي تريدني أن اصنعه حتى أكون موسيقياً خالقاً ما دمت أشعر في نفسي الميل(301/79)
إلى الموسيقى؟
- أما أنت فإني يائس منك. ولكن الذي يريد أن يكون موسيقياً مبتدعاً فعليه أول الأمر أن يسمع الدنيا، ثم عليه أن يشعر بها، ثم عليه بعد ذلك أن يحاول التعبير عن شعوره بالموسيقى؛ فإذا اهتم بنقد غيره ممن سبقوه إلى التعبير عن أنفسهم بها فإنه قد يبدأ إنتاجه الفني مقلداً ثم لا يلبث حتى يتميز بطابع خاص به في موسيقاه
- وهل للملحن أيضاً طابع خاص كالأديب؟
- وهل في الدنيا صاحب فن خلاق وليس له طابع خاص به إلا في مصر حيث يباح السطو والترقيع؟!
- الآن كأني بأهل المعهد لا يعلموننا شيئاً. . . فهم لا ينهجون في تربيتنا الموسيقية هذا النهج. . .
- أستغفر الله. إنكم تتعلمون العزف فيما أظن كما يتعلمون الكتابة والقراءة في الكتاتيب. . . ويكفي معهدكم فخراً أن به آلات كثيرة مختلفة الأشكال متباينة الأصوات. . . وهو في فخره بهذا كمدرسة الفنون الجميلة العليا عندما تفخر بأن فيها مجموعة كبيرة من ألوان الماء، وألوان الزيت، وألوان الرصاص. . . دعنا الآن من هذا واتل عليّ موضوع الإنشاء الذي اتفقنا على أن نكتبه
- أرجو أن تسمح لي بسؤال قبل أن أقرأ الموضوع
- سل ما شئت
- هب أنك مدرس في معهد الموسيقى وأنك أردت أن تضع أسئلة امتحان الدبلوم للطلبة فكيف كنت تضعها. .؟
- كما أضع لك أسئلة الأدب كل عام. فليست الموسيقى إلا أدب الأذن. . .
- أرجو أن تملي عليّ بعض هذه الأسئلة لأحاول الإجابة عنها. . .
- لا بأس. . . أكتب:
1 - صف باللحن قرية مصرية عند الفجر، أو حبيبين التقيا بعد غيبة طويلة
2 - صف باللحن جماعة من الفلاحين في الحقل
3 - ضع لحناً يصور أسرة تودع فتاها الذاهب إلى الحرب(301/80)
4 - أنقد موشحة (منيتي عز اصطباري) لسيد درويش ووازن بينها وبين موشحة (طاف محبوبي) لكامل الخلعي
5 - أذكر تاريخ حياة موسيقي مصري، واذكر العوامل الاجتماعية والطبيعية والدراسية والاقتصادية والعاطفية التي أثرت في موسيقاه، موضحاً إجابتك مع الشرح بالأمثلة
6 - ما الفرق بين الموسيقى التمثيلية والموسيقى الزخرفية، ومن من الموسيقيين المصريين الأحياء تراه ينهج النهج الأول ومن منهم تراه ينهج النهج الثاني؟
7 - سمعت لأول مرة دور (إمتي الهوى ييجي سوا) وسمعت لأول مرة مونولوج (يا غائباً عن عيوني) فأدركت أن الأول من تلحين زكريا أحمد، وأن الثاني من تلحين محمد القصبجي فكيف استطعت الوصول إلى هذا الحكم؟
8 - ما هي العيوب التي تلاحظها في موسيقى عبد الوهاب أنقد أغنيته المعروفة (بلبل حيران) مع الإشارة إلى أصولها في الموسيقى الشرقية والغربية
9 - وازن بين عصري عبده الحامولي وسيد درويش مبيناً أثر كل عصر من هذين العصرين في موسيقى كل من هذين الملحنين
10 - ما هي الميزات التي كان يمتاز بها سلامة حجازي من حيث الصوت ومن حيث الفن، وما هي الميزات التي يمتاز بها محمود صبح من حيث الفن فقط؟
. . . وأخيراً فإنك تستطيع يا بني أن تضع بعد هذه الأسئلة وأشباهها أسئلة مما يدور حول الصناعة والآلات. . . وأنا أجهل هذا ولكنهم يعرفونه عندكم في المعهد. . .
- وهم في المعهد لا يعرفون شيئاً مما تقول. . .
- الله وحده يعلم أينا أدرى بالموسيقى!
عزيز أحمد فهمي
خريج كلية الآداب ومعهد التربية العالي(301/81)
السيدة ملك. . .
من الوجهة الفنية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
أعتقد أن أعظم اللغات ذيوعاً وقوة لا تستطيع أن تكون لغة عالمية يفهمها الجميع، ويتخاطب بها الجميع. ولكن الموسيقى: ملك اللغة الصامتة السامقة التي تؤثر في النفوس جميعاً، وتأسر الأرواح جميعاً، وتربط بين النفوس برباط قوي مكين، هي وحدها ملك اللغة (العالمية) التي تترجم الخوالج المختلفة، والاحساسات المتنافرة. . .
على أن أسماها وأبقاها وأدناها إلى القلب والروح ما كان صادراً عن قلب وروح. ولن تجد قلباً وروحاً يؤثران في النفس، ويأسران الحس كقلب (ملك) وروحها التي وهبتها للفن خالصة
موسيقية عظيمة قديرة، تعيش عيشة مثالية، هي جماع ما في الإنسانية من مثل عليا. أقول: (موسيقية). ولا أقول: (مطربة). لأنها انفردت - وحدها - من بين جميع مطرباتنا بدراسة واسعة، وبثقافة علمية مكنتها من إتقان اللغات الفرنسية، والإنجليزية، والعربية، وبثقافة موسيقية أتاحت لها أن تلحن جميع ما تغنيه بنفسها تلحيناً إن دل على شيء فعلى قدرة قادرة، وعلى مكنة ودراسة عميقة هيأت لها هذا التوفيق، وهذا اللون الذي يزجي إلى النفوس أرفع ما في الفن من جمال ونبل!
أصغر مطرباتنا سناً، وأعظمهن إلماماً بعلم الموسيقى، وأقدرهن على العزف بالعود عزفاً يضعها في الصف الأول بين عازفينا الكبار؛ وليس ثمة من يقرب منها في العزف بين المطربات إلا نادرة، وأم كلثوم، وهما الوحيدتان اللتان تلمان بالعزف. . .
يتركيب صوتها من خمسة عشر مقاماً وهو من نوع: (الكونتر ألتو، والتينور، والميزوسوبورانو). وهذه المطربة الوحيدة (بين النساء) في التاريخين الحديث والقديم التي يمتاز (ديوانها) الأول بأنه (تينور).
صوت غني بذبذباته (نريولاته) حتى ليهيئ للسامع حين شدوه أن هناك أكثر من صوت واحد يغرد، وهو يتمتع (بنفس) طويل يمكنه من الاستمرار في الغناء أكثر من دقيقة دون أن ينقطع للزفير أو الشهيق، ولولا أن صاحبته تضم فكيها عند الغناء لأهلكت من يسمعها،(301/82)
ولعل هذا من رحمة الله بالناس
خرجت على الناس بلون جديد من التلحين الشرقي العربي البحت الذي تجري السلامة في أعطافه ولم يخضع لشهوة السرقة والمزج باللون الغربي، فعرف كيف يملك القلوب بسحره الآسر، وأثره الساحر، وعرف كيف يلجم هؤلاء الذين يرمون الموسيقى العربية بالعقم والضعف وانعدام التصوير والتلوين وعدم إبراز العواطف الإنسانية في إهابها الحق الذي يترجمها الترجمة الصادقة
قلنا إنها تغني وبروحها، ولهذا سميت (مطربة العواطف)؛ وليس معنى هذا أنها تعتمد كغيرها على الآهات والأنات واللون المسترخي البغيض الذي يشيع تخنثاً وشهوة، والذي لا يعتمد إلا على استغلال أحط الغرائز في جمهرة السامعين
ولو أتيح للقارئ أن يسمعها مرة لسمع شعراً قوي الأسلوب سامي الخيال، رفيع الغاية، ولسمع تلحيناً شرقياً عربياً يأخذ بمجامع القلوب. ولعل (ملك) أول من غنى شعراء حماسياً يلهب الجوانح ويدفع دفعاً إلى التضحية. فقد أخرجت للناس سنة 1928 قطعتها الخالدة:
بني مصر صونوا حياة الوطن ... فقد حاربتها عوادي الفتن
تعتد بنفسها اعتداداً يبلغ حد الكبرياء، وتسمح للغضب أن يستحوذ عليها ليجعل منها (عصيبة لا تطاق): تمتاز بثروة فنية عظيمة، فهي تحفظ جميع قصائد المرحوم الشيخ أبي العلاء، وجميع أدوار المرحوم الشيخ سيد درويش، وعدداً كبيراً من الموشحات القديمة الغنية بالنغمات المختلفة و (بالضروب) المتباينة، وبمجموعة عظيمة من أدوار: الحمولي، ومحمد عثمان، والمسلوب الخ
أكبر الظن أن أغلب القراء لا يعرفون أن (ملك) حاصلة على (البكلوريا) وأنها تقدمت عام 1931 لتجتاز امتحان (الليسانس) ولولا زواجها وقتئذ من أحد قضاة الدرجة الأولى لكانت الآن (الأستاذة ملك) ولكنها فضلت حياة البيت، وحياة الزوجية، وكانت المثل الأعلى للزوجة الرحيمة الوفية، وكان بيتها (جنة) ولكن (آدم) لا يحب أن يسكن الجنان. . . فخرج منها بعد خمس سنوات مضت كالسراب الخاطف، ورجعت هي إلى فنها لتعول نفسها بصوتها، بصوتها، بصوتها، وأكررها ألف مرة حتى يعلم الناس جميعاً كيف ينحنون أمام قدس الشرف الرفيع الذي لا يعجب بعض الناس في هذا الزمن فيحاربونه بأحط الوسائل،(301/83)
ثم بعد هذا يرفعون رؤوسهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ما داموا قد انتقموا لشهواتهم من أقوات الشريفات الطاهرات اللاتي يعتقدن أن الرزق بيد الله وحده. . .!
رب قارئ يقول وكيف لم تسع إليها محطة الإذاعة وهي التي تقدم من لا تجرؤ على أن تكون تابعة لها في إطار المطربة الكبيرة، والجواب عند المحطة نفسها وأظن هذا يكفي لكشف الحقيقة للقارئ. . .!
قد نعجب إذا علمنا أنها ابتدأت حياتها الفنية وهي بنت عشر سنوات (عند نعيمة المصرية في كازينو الهمبرا) بمبلغ عشرين جنيهاً في الشهر فلم تمض سنوات ثلاث حتى كانت تشتغل في (مونت كارلو) والبوسفور (ماتنيه وسواريه) بمبلغ ثلثمائة جنيه في الشهر. . .
سنراها قريباً على الشاشة ولعلها تنجح في التمثيل السينمي كما نجحت في الموسيقى، وأظنها ناجحة
محمد السيد المويلحي(301/84)
البريد الأدبي
حول إنسانية الرسول
قرأت ما كتبه الأستاذ محمد أحمد الغمراوي تحت هذا العنوان في مجلة الرسالة الغراء عدد (300) فعجبت لأنه ينسب إلي خطأ أعجب من خطأ الأستاذ زكي مبارك فيما رددت به عليه في العدد 298 وهذا لأني بحثت فيما أخذه عليّ فلم أجد فيه ما يصح أن يكون خطأ، أو أن يشغل وقته الثمين بالرد عليه. ولقد قرأ كلمتي كثير من علماء الأزهر وطلابه، فسروا بها سروراً عظيماً، وبلغ من سرور بعضهم أن سعى إليّ فأخبرني بأنه كان في نفسه شيء من مقال معروف لي، فذهبت هذه الكلمة بما في نفسه، وأظهر لي من السرور بكلمتي ما أظهر
أما الذي أخذه الأستاذ الغمراوي عليّ فهو تكلف لم يكن هناك داع إليه، لأني إذا كنت أطلقت في أمور الدنيا التي قلت إنه لم يكن للوحي شأن بها، فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً حين قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ولا شيء في هذا الإطلاق، لأن كل شخص درس دين الإسلام، يعرف أن المراد بأمور الدنيا في ذلك هي ما يعرفه الناس بالتجربة من نحو حرث وزرع وسقي وصناعة وتجارة، وما إلى ذلك من كل ما لم يأت الدين ليعلمهم إياه. وأما غير ذلك من أمور الدنيا مما يدخل في قسم المعاملات، كالبيع والنكاح والطلاق، فهو من أمور الدين، كما هو من أمور الدنيا، وشأنه في ذلك شأن العبادات سواء بسواء، وقد عنيت كتب الفقه الإسلامي ببحث القسمين حتى صارا في نظر المسلمين جميعاً كشيء واحد، ولهذا فهم كل من سر بكلمتي أن القسم الثاني من أمور الدنيا داخل في أمور الدين التي ذكرت اختلاف العلماء في جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكذلك وجوب تنبيهه صلى الله عليه وسلم بالوحي إذا أخطأ أمر مقرر في كتب الأصول، وهي في متناول أيدي الناس والسلام ورحمة الله على الأستاذ.
عبد المتعال الصعيدي
للبستي لا لأبي تمام
عزا الأديب الكبير الأستاذ عبد الرحمن شكري في مقالته (أبو تمام شيخ البيان) في الجزء(301/85)
السابق من (الرسالة) الغراء هذا البيت:
من كل بيت يكاد الميت يفهمه ... حسناً ويعبده القرطاس والقلم
إلى أبي تمام (أستاذ كل من قال الشعر بعده) - كما قال المتنبي - والحق أن هذا القول من خير ما يوصف به شعر حبيب. ولكنه ليس له ولم يشتمل عليه ديوانه، وبعض ما عند أبي تمام أو أبي التمام كما يسميه الحسن بن رجاء يكفيه. وهل من الإنصاف أن يعطي العظيم القوي الغني قوت المساكين
عجباً للناس في أرزاقهم ... ذاك ظمآن وهذا قد غرق
والبيت الميمي إنما هو للبستي. وقد نسبه إليه نسبة صادقة صديقه الإمام عبد الملك الثعالبي في (اليتيمة) في أول سيرته قال: (أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريفة لطيفة. وقد كان يعجبني من شعره العجيب الصنعة البديع الصيغة قوله:
من كل معنى يكاد الميت يفهمه ... حسناً ويعبده القرطاس والقلم
وبعد فما جئنا إلى الأديب الكبير الأستاذ (شكري) ناقدين وإنما أقبلنا مثنين على أدبه العالي وبحثه ومحيين
(القارئ)
مسألة فيها نظر
للدكتور إسماعيل احمد أدهم رأي في سياق دراسته لمطران نشر في المقتطف يتصل بتأثير بعض الأدباء في بعض، وقد عقب عليه الأستاذ عبد الرحمن شكري في العدد الأخير منها، فأرسل الدكتور أدهم إلينا هذه الكلمة تعليقاً على ذلك التعقيب، والمسألة لاتصالها بتاريخ الأدب تحتاج إلى تمحيص ودرس
حضرة الأستاذ صاحب الرسالة
قرأت كلمة الأستاذ عبد الرحمن شكري مدروجة بعدد المقتطف الذي صدر في أول أبريل سنة 1939 تعليقاً على دراستي عن خليل مطران: وإن ما أعلمه من تبحر الأستاذ الشاعر في الأدب يسمح لي بأن أذكره بان الناقد لا يأخذ برأي المنقود أخذاً تاماً، وقد يخالفه في(301/86)
نفس معتقده ولو مس شخصه، وهذا غير خافٍ عن مثله. وبناء على ذلك فقد كتبت ما كتبت وقد خالفت فيمن خالفت الأساتذة طه حسين والزهاوي وأبو شادي وتوفيق الحكيم وغيرهم في الدراسات التي كتبتها عنهم
ويقيني المستخلص من مطالعاتي أن الأستاذ عبد الرحمن شكري تأثر باتجاهات مطران تأثراً قوياً. وللأستاذ شكري أن يتبرأ من ذلك، ولكن مثل هذا التبرأ لن يغير من استنتاجاتي شيئاً لأنها تقومّت بأسباب دقيقة إن لم أذكرها في ختام دراستي عن مطران حين أعرض لأثر مطران الكبير في الشعر العربي الحديث، فإن لها مكانها في بعض الدراسات الآتية
وأكرر بهذه المناسبة تقديري العميق لأدب الأستاذ شكري وزميليه الفاضلين، وليس لي أي غاية من دراساتي سوى التحقيق من سبل الدرس التحليلي حسب المقدمات التي تجمعت تحت يدي
أما إذا كان الأستاذ شكري يرى نقصاً في هذه المقدمات فله أن يظهره، وعلى كل حال فأنا في انتظار البيان الذي يعدني بنشره والذي فيه بعض ما يخالف ما جاء في البحوث التي نشرتها إلى اليوم من دراساتي عن مطران. وإلى أن ينشر بيانه فأنا على اعتقاد بصحة ما جاء في سلسلة البحوث التي نشرتها
إسماعيل أحمد أدهم
الإسلام والدعاية النازية
أعلن الهر جوبلز وزير الدعاية في الريخ أن خمسة وعشرين ألفاً من الألمان سيعتنقون الإسلام، والمسلمون في أقطار الأرض يغتبطون أن يهتدي إلى دينهم هذا العدد الضخم من أعداء السامية، ولكن إعلان هذا الخبر على لسان وزير الدعاية النازية يشككنا في إيمان هؤلاء الإخوة، ويحملنا على أن نظنهم فرقة من الجيش صدرت إليها الأوامر بالقيام إلى (مهمة حربية) بهذا السلاح وعلى هذه الصورة. وقد علمنا نابوليون وفلبي ولورنس أن اعتناق الإسلام قد يكون في بعض الأحيان أقصر الطرق إلى الغاية الاستعمارية. على أن المسلمين اليوم أنفذ بصيرة وأصح تمييزاً من أن تدخل عليهم هذه الحيل المكشوفة، فهم يعتزون بوطنيتهم كما يعتزون بعقيدتهم، وهم مصممون على أن يدفعوا عن وطنهم كل(301/87)
دخيل طامع، كما يدفعون عن دينهم كل عابث خادع
حول عباس بن أبي ربيعة
سيدي الأستاذ الزيات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد فلقد قرأت في العدد رقم 300 من (الرسالة) الغراء كلمة الأديب الفاضل درويش الجميل في البريد الأدبي فحمدت له نقده لبعض ما جاء في قصة عياش؛ غير أنه وقف عند رواية أبن هشام في سيرته فحسب
ولو أن الكاتب الأريب ضم أشتات القصة من مظانها - وهي مبثوثة في أضعاف كثير من التاريخ والتفسير - فجمع رواية ابن هشام في سيرته، إلى رواية ابن جرير الطبري في تفسيره، إلى رواية الواحدي في كتابه (أسباب التنزيل)، إلى غيرها. . . لاطمأن إلى ما كتبت، ولأنصف ما جاء في مقالي عن عياش
ولست الآن بسبيل أن أنشر على عيني الأديب الفاضل ما جاء في الروايات المختلفة ليقارن هو بينها، فيستخلص رأياً هو الرأي الذي تحدثت به آنفاً، فالمكان ضيق وأنا في شغل
كامل محمود حبيب
وحي الشاعرية
وقع في هذه القصيدة التي نشرناها للسيد حسن القاياتي تحريف يسير نصححه فيما يأتي:
كم فاتك حرس الجمال مَخافة ... أن يستثير من الحسان الأعينا
إن الذي خلق الصباحة زينة ... قالوا تغضَّب أن تلوحَ فنُفتَنا
يا موحياً سور الأشادة رقية ... أنا شاعرٌ صِفْني، ولكن من أنا
تطبيع
جاء في البيت الثاني من قصيدة الأستاذ أحمد الصافي النجفي (قلعة بعلبك) المنشورة في العدد الماضي من الرسالة كلمة (حرتُ) وصوابها (صرتُ)
عصبة الأمم، غايات العصبة ووسائلها وأعمالها(301/88)
نشرت سكرتارية العصبة هذه الأيام نسخة عربية لكتابها المعروف باسم (غايات العصبة ووسائلها وأعمالها) ولم ينشر هذا الكتاب من قبل إلا باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وقد أظهرت العصبة بهذا العمل تقديرها العظيم للمنزلة التي تنالها اللغة العربية يوماً بعد يوم في ميدان الثقافة والسياسة
وكان الدافع إلى نشر هذا الكتاب باللغة العربية كثرة الطلبات التي أبداها عدد عظيم من الجماعات الدولية لكتاب عربي يتناول أعمال العصبة ويقبل الناس على قراءته إقبالاً كبيراً
وقد ظهرت الطبعة الأولى باللغة الإفرنجية في سنة 1935 وكانت موضوعة في أسلوب سهل واضح، ولاقي الكتاب نجاحاً عظيماً في أنحاء العالم باللغتين الإنجليزية والفرنسية فكان هذا النجاح حافزاً إلى إعادة طبعة عدة مرات
والكتاب في هذه الطبعة الحديثة المنقحة مقسم إلى أربعة أقسام
القسم الأول: وقد خصص للشؤون التي يهتم بها الرأي العام في العالم مثل النظام الدولي قبل وجود العصبة ومثل نظام العصبة وغاياتها ووسائلها
القسم الثاني: ويصف أعمال العصبة سياسية وفنية
القسم الثالث: ويتناول أعمال محكمة العدل الدولية الدائمة في لاهاي (وهي المحكمة التي أنشأنها العصبة) وأعمال مكتب الممل الدولي
القسم الرابع: ويتضمن النص الكامل لميثاق العصبة
وقد وضع هذا الكتاب خالياً من النزعات الخاصة، ولم يحاول فيه إخفاء الأزمة السياسية التي تجتازها العصبة الآن، على أن الآمال المعقودة على مستقبلها العظيم لم يرد ذكرها بين سطوره. وإن في الطعن والسخرية اللذين يوجههما إلى العصبة أعداؤها المكابرون في كثير من الإلحاف والشدة لدليلاً واضحاً على الاعتراف بالنتائج الجليلة التي ينتظرها العالم على أيدي هذه العصبة
والكتاب يحتوي على 214 صفحة وثمنه شلنان أو 18 فرنكا فرنسياً. ويطلب من قسم النشر بسكرتارية عصبة الأمم بجنيف(301/89)
الكتب
كتابان
1 - التربية النظامية: تأليف البكباشي علي حلمي
2 - الجيش المصري في عهد محمد علي:
تأليف اليوزباشي عبد الرحمن زكي
- 1 -
لا شك أن القوة هي الأداة المسيطرة على كيان الأمم وحياة الشعوب، ولا شك أن النظام هو الأداة التي تهيئ للقوة وتعد النفوس والأجسام لاستكمالها، ونحن أمة في مطلع حياة جديدة، حياة الجهاد والنهوض، فأحوج ما نحتاج إليه إنما هو الأخذ بأسباب النظام ومظاهر القوة حتى نستطيع أن نحفظ كياننا ونأخذ مكاننا بين الأمم والشعوب. . .
وهكذا كتاب في (التربية النظامية) وضعه حضرة الفاضل البكباشي علي حلمي أركان حرب مدرسة البوليس والإدارة ومدرس نظام البوليس، والكتاب جملة طيبة من المعلومات الدراسية، والتجارب التي حصلها المؤلف الفاضل بالرحلات العلمية في مصر وخارجها، إذ تم له زيارة مديريات القطر، والمرور بأغلب الشواطئ المصرية، والواحات الخارجية، وبلاد النوبة والسودان، كما تم له زيارة فرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوغسلافيا وتركيا واليونان والحجاز وسوريا ولبنان وفلسطين. . . قال المؤلف: وقد عنيت أثناء هذه الرحلات بالبحث عن كل ما يتصل بالتربية النظامية وأنظمة البوليس والإدارة وأعمالها، والنظم القضائية والاجتماعية المرتبطة بالأمن العام وشؤون السجون والإصلاحيات ومصير المفرج عنهم وكل هذا إلى جانب ما اكتسبه بالخبرة من الخدمة الطويلة التي تبلغ نحو ثمانية وعشرين عاماً بين وحدات الجيش والحرس الملكي والتدريس والإدارة بالمدرسة الحربية، ومن هذا المعين استمد المؤلف مادة كتابه، وهو كما ترى معين فياض حافل بالدراسة والاطلاع والتجربة والمشاهدة والنظر والاقتباس(301/90)
فالمؤلف الفاضل قد حفِل لكتابه، ووفر له من المادة والمعلومات ما يكافئ خطر الموضوع الذي يعالجه، وهو موضوع مجهول في أكثر نواحيه من قراء العربية على شدة الحاجة إليه والرغبة فيه، ولقد وضع المؤلف كتابه على نسق قويم من النظام المرتب، والتقسيم المبوب، فهو يشتمل على ستة أبواب، وكل باب يشتمل على جملة فصول؛ ففي الباب الأول تكلم عن النظام وأثره في نهضة الأمم، وعلاقته بالفرد والمجتمع ومظاهره في الأمم الراقية في القديم والحديث، ومدى حظنا من ذلك، والوسائل التي تأخذ بأيدينا إليه، ولم ينس في ذلك القرية المصرية وإصلاحها الاجتماعي، ووسائل الثقافة العامة للشعب. وفي الباب الثاني تكلم عن سلامة الدولة، وتعاون الشعب والبوليس على حفظ الأمن والنظام واحترام القانون. ثم تكلم في الباب الثالث عن نصيب الجمهور في مكافحة الأجرام ووقاية الأمن من الجرائم والمعاونة على ضبط الحوادث. وفي الباب الرابع تناول الكلام على نظام المرور في الأمم الأوربية ومدى اهتمامها بشأنه وحاجتنا إلى الأخذ بنظمهم ووسائلهم. وفي الباب الخامس تكلم عن التدريب العسكري والتربية البدنية في المدارس والمعاهد والجامعات والمناهج التي قررتها وزارة المعارف في ذلك. فلما كان الباب السادس وهو آخر أبواب الكتاب تحدث المؤلف عن مفاخر الجيش المصري، فجاء في ذلك بعرض تاريخي شامل من عهد الفراعنة، أيام تحتمس الثالث حتى أيام جلالة الفاروق حرسه الله، إذ جعل للجيش من عنايته ورعايته أكبر نصيب، فسار الجيش في طريق النجاح إن شاء الله
وقد زّين المؤلف كتابه الفاضل بكثير من الصور والرسوم، يوضح بها فكرته، ويشرح غرضه، وعنى على الخصوص بالصور الشمسية لأسلحة الجيش الحديثة في نظامه الجديد، فجاء الكتاب في بابه وافياً يشبع العقل، أنيقاً يمتع الذوق. وإنها ليد كريمة أسداها المؤلف لأمته، وبرنامج شامل وضعه للذين يعنيهم الترقي بالأمة المصرية في مدارج الرقي والنهوض، والأخذ بأسباب النظام والقوة والبناء السليم. وإنا لنرجو أن يكون المؤلف الفاضل قدوة صالحة لإخوانه ومن هم في مثلعمله ممن يحصرون مواهبهم ومعلوماتهم بين جدران الوظيفة، وفي حدود الرسميات، وإنها لحدود ضيقة تقتل المواهب وتودي بالنبوغ، وإن من الخير لأنفسهم ولأمتهم أن يجلوا معلوماتهم وتجاربهم للناس فيفيدوا ويستفيدوا
- 2 -(301/91)
وهذا الكتاب آخر هو في الواقع حلقة تتصل بنظام الكتاب السابق، وضعه مؤلفه الفاضل اليوزباشي عبد الرحمن زكي أمين المتحف الحربي عن (الجيش المصري في عهد محمد علي باشا الكبير) ولقد كان الجيش في عهد محمد علي - كما يقول المؤلف - هو كل شيء، ومن أجله كان كل شيء. فلخدمته أنشئت مدارس الطب والهندسة والفنون العسكرية، ولنهضته قامت صناعات الأسلحة والذخائر والملابس، ولتموينه كان العمل على تقدم الزراعة والتجارة والعمران، ومن ثم استطاعت البلاد أن تقوم بأعباء الكفاح الحربي ومطالب الإمبراطورية الناشئة، وأن تحقق مطامع العاهل العظيم
وخبرة المؤلف الفاضل تتصل بالعمل، وتتصل بالتاريخ، وعلى هذا المعنى جرى في تأليف كتابه، ففيه رواية التاريخ، وخبرة العامل. فهو من ناحية يتكلم عن تاريخ الجيش في عهد محمد علي ممهداً لذلك بمقدمة عن قوات الدفاع قبل محمد علي، ثم يتحدث عن جهود البطل العظيم في خلق الجيش، ومواقع إبراهيم وانتصاراته برواية التاريخ المستمدة من أوثق المصادر مما كتب الإفرنج والعرب ومما هو محفوظ من السجلات والوثائق التاريخية بقصر عابدين العامر، ومن ناحية أخرى يتكلم المؤلف عن الجيش في ميدان العمل، وهو في هذا يفسر الرواية بالدراية، ويعلل للتاريخ بالعلم والواقع، وهذه الناحية هي لا شك أهم ما في الكتاب، لأن الدراسة العلمية للتاريخ الحربي ليست مما تقتضيه الحاجة العلمية فحسب! بل هي كما يقول الأستاذ شفيق غربال - مما تقتضي به الحياة القومية المستقلة وعمادها الذود عن الوطن. وفي تلك الدراسة يجد أولياء الأمور الإجابة عن الكثير مما يعترضهم من مسائل الدفاع، كما يجد فيها رجال الجيش ما يفيدهم في مسائل الحرب وشئون التعليم العسكري
ولقد حرص المؤلف الفاضل على شرح وقائع التاريخ بالصور والرسوم والمصورات الجغرافية، وجاء في آخر الكتاب بثبت حافل من الأرقام والإحصائيات التي تنطق بعظمة الجيش في عهد محمد علي وضخامته، وحسن نظامه وترتيبه، وكأنه يقول: هذا ما فعل أجدادنا فأين جهادنا؟! والواقع أن كتاب المؤلف خدمة علمية قومية، فهو يسد حاجة المؤرخ الباحث، ويفيد الجندي المجاهد. وإنها لخدمة يشكر عليها ذلك المؤرخ الفاضل، والجندي الباسل. وما أشد حاجتنا إلى مثل هذه المؤلفات النافعة في مطلع حياتنا الجديدة.(301/92)
محمد فهمي عبد اللطيف(301/93)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
(يجب أن تكون حرة بعيدة عن البيروقراطية الحكومية)
بهذه العبارة استهل حضرة الأستاذ راشد رستم حديثه معي
قلت للأستاذ رستم: الفرقة القومية مؤسسة حكومية، هل قامت برسالتها الثقافية والفنية؟ فأجاب:
- لا شك أن للفرقة القومية رسالة يجب أن تؤديها. . . ولكن المسألة الآن ليست مسألة رسالة أدتها الفرقة أو لم تؤدها. إذ هي بنت سنوات قليلة، كما أنها ولدت في ظروف قاسية ولاقت صعاباً، بل ولا تزال الصعاب قائمة، بل وستلقى صعاباً شداداً عند نظر ميزانية الدولة فيما يخص الفن (ويا ويل الفن من أربابه وغير أربابه! سيلاقيها من أين ومن أين. . .) بل إن الفرقة القومية ولدت في زمان خيف فيه على التمثيل جميعه من طغيان السينما، ذلك الطغيان الذي خافت منه البلاد العريقة في التمثيل على تمثيلها، فما بالك بمصر!
على أنه لا بد من مطالبة الفرقة بأن تؤدي رسالتها نحو الفن وتظهر همتها في ذلك، وأن نرجو لها تحقيق ذلك، ونزيد على هذا الرجاء ألا نعيق طريقها، وأن يفسح الأدباء والغيورون على الفن صدورهم، ويعملون لتسهيل مهمتها دون العمل على تصعيبها
قلت: ألا ترى شذوذاً في تكوين لجنة القراءة وتقصيراً وإهمالاً في الإدارة يدعوان إلى التشاؤم من نجاح هذه الفرقة؟
قال: أول كل شيء لا يصح للعاملين والمصلحين أن يتشاءموا، ولا أعرف للتشاؤم معنى ولا موجباً
أما لجنة القراءة فلست واقفاً على دقيق أسلوبها في القراءة، ولكن يلوح لي أنها غير نظامية وأنها تتشدد مرة وتتساهل أخرى، وهذا لاشك عيب يجب الخلاص منه
كما أنه من الواجب أن يكون تكوين لجنة القراءة للفرق التمثيلية بحيث لا يقتصر همها على اللغة وما يخصها، وإنما فوق ذلك لا بد أن يكون أعضاؤها ملمين بفن الرواية، من وضعها وحوارها وعرضها كما يجب إدراك نفسية الجماهير وتتبع تطوراتها
قلت: ما هي الوسائل الفعالة لإصلاح المسرح؟(301/94)
-: إنني أستشف من روح هذا السؤال ابتعاد فكرة التشاؤم التي جاءت في السؤال السابق، فالحمد لله!
بعد ذلك يجب أن نكون بنائين محافظين لا هدامين. وإنه لمن العدل ومن حب التمثيل والفن أن ننظر إلى الفرقة القومية الناشئة نظرة من يرى العيب فيعمل لإزالته، وليس كمن يرضى فلا يرى عيباً، ولا كمن يسخط فلا يرى إلا المساوي
الفرقة القومية حديثة العهد، وهي فضلاً عن هذا مؤسسة حكومية، ولا يصح لنا أن ننسى ما للمؤسسات الحكومية من مساوئ البيروقراطية، خصوصاً فيما يتعلق بأعمال فنية رفيعة، فإلى أن يتاح للفرقة الخلاص من هذه البيروقراطية الهادمة والتمتع بصبغتها الفنية الحرة لا بد لنا من:
أولاً: أن نعمل للإصلاح دون الهوى الشخصي
ثانيا: أن يعلم كل عامل - فني وغير فني - في نفس الفرقة أن له رسالة فيها يجب أن يؤديها عن طريق الإخلاص للعمل والاجتهاد فيه.
ثالثاً: أن يزداد عدد الذين يفهمون الفن (عارياً) جنب الذين يفهمونه (اعتبارياً) وذلك في إدارة الفرقة، إذ لا بد من وجود هذين العنصرين في الإدارة
رابعاً: أن تبني للفرقة دار خاصة للتمثيل
خامساً: أن تبعث البعوث للممثلين والمخرجين
سادساً: أن تزيد الحكومة للفرقة مواردها المالية وتسهل عليها مهمتها، وألا تضن عليها بالمعونة من كل نواحيها، وبكل مظاهرها مثلما تفعل مع معهد اللغة العربية، لأن رسالة الفن قوية في حياة الشعوب قوة معاهد اللغة. بل إن الفن هو الذي يجعل اللغة حية متحركة غير جامدة
سابعاً: أن يكون أعظم اهتمام الفرقة موجها لتنشيط التأليف المسرحي المصري فتجود بالمال والمكافآت والجوائز والإقدام على تمثيل الرواية المصرية المؤلفة
- هل يحسن أن نستعين بالروايات الأوربية أم يجب أن نشجع التأليف المصري ونقدمه على سواه
- لا شك في أن من أول الواجبات تشجيع التأليف المصري؛ وإذا كان لا بد أن يقال الحق،(301/95)
فإن الفرقة بدأت بتشجيع هذا التأليف المصري، بل والذي أعلمه يقيناً أن مديرها خليل بك مطران جعل همه الأول منذ اللحظة الأولى أن يكون افتتاح عمل الفرقة برواية مؤلفه من مؤلف مصري، وقد تم له ذلك
وأظهر به مبدأه الذي يريد إعلانه، وهو تفضيل الروايات المؤلفة من مؤلفين مصريين
على أنه يلوح لي أنها استعانت بالرواية المترجمة أو المقتبسة، كي تجعل لها اسماً بين رواد التمثيل، وقد تعودوا ذلك، لكي تجذب إليها الجمهور، وكذلك لكي تعرض أنواع الروايات المختلفة التي احتوتها عصور التمثيل القديمة والحديثة حتى يتكون عند الجمهور الذوق الروائي فيقبل على هذا التمثيل الراقي. غير أني أرى أن يكون معظم مجهود الفرقة موجهاً إلى تشجيع التأليف، وإلى خلق مؤلفين مصريين، وإلى إيجاد طائفة من هؤلاء المؤلفين
أما الموضوعات فأنها معروضة في حياة العالم فهي كثيرة متوفرة مستمرة، والمهم أن يوجد المؤلف الذي يأخذ منها مادة لروايته.
وليس من مانع أن تمثل الفرقة روايات أجنبية كما تفعل كل الأمم، ولكن الأهم أنها تخلق أولاً مسرحاً مصرياً ممتازاً برواياته وبمؤلفيه.
وقال عن لغة الرواية وصياغتها (إن لكل رواية ما يناسبها، غير أنه يجب أن تتراوح لغة المسرح بين أرقى أنواع الفصحى، (وليس معنى هذا اللغة المعقدة المقعرة) وبين السهلة الكلامية الصحيحة النظيفة (وليس معنى هذا اللغة المبتذلة)
هذا وفي التاريخ المصري القديم والحديث مجال واسع للتأليف؛ فإن مادة التاريخ وحوادثه تجذب الجمهور، كما أنها تربي الروح القومية، والأمة عطشى إلى من يسقيها ذلك وأريد هنا لفت النظر إلى مادة التاريخ لجذب هذا الجمهور النافر
ثم ختم كلامه بشهادة طيبة لمدير الفرقة الواسع الصدر، فلولا تحمله وصبره وجلده في هذه السن، ولولا مكانته الشخصية البارزة لضاعت الفرقة. فهو دعامة ارتكزت عليها الفرقة يعرف فضلها كل واقف على دخائل الأمور ثم حمد تحمس سعادة العشماوي بك لرسالة الفرقة وإنقاذه سفينتها من الغرق.
أبن عساكر(301/96)
العدد 302 - بتاريخ: 17 - 04 - 1939(/)
هل تقوم القيامة!
نفخة الصور
بعد ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ مصر الخالدة نفخ جندي في بوق فرعونها الشاب توت عنخ آمون، فدوَّى صوته الندىُّ في أرجاء العالم وهو يمور موران البحر، ويفور فوران البركان، وتتدافع شعوبه المكلوبة المكروبة عمياناً وصُماَّ إلى مهاوي الموت! فليت شعري ما الذي أخطر ببال المتحف والإذاعة هذا الخاطر الغريب في هذا الحين وفي هذه الحالة؟ أهو القدَر الإلهي الراصد الذي يقول كلمته في كل حادث، ويعلن مشيئته في كل مشكل؟ أم هو الروح المصري الخالد الذي بدأ حضارة العالم، وأنشأ معرفة الناس، ولا يزال يوحي بكل فكر ويشارك في كل أمر؟
من كان يقع في حسبانه من فراعين النيل ودهاقين الوادي أن بوقهم الذي كان يدعو إلى الطعن والضرب، ويقضي في السلام والحرب، يحتفظ به الدهر الطحون ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام لُيبلغ به اليوم أذن الدنيا جمعاء صوتَ مصر الذي لا يخفت، ومجد مصر الذي لا يبيد؟
ما كان أروع هذا الصوت الفضي القوي وهو ينبعث من جوف الماضي العميق السحيق، وينتشر جهيراً جباراً على أمواج الأثير، فينصت الفلك، ويدهش العالم، ويتذكر التاريخ، ويغوص الخيال الشاعر في خضم القرون ويطفو!
أيها النافخ في صور إسرافيل! أهي الراجفة وانصعاق الأحياء، وانشقاق السماء، وزلزلت الأرضيين، واندكار الجبال، وفناء العالم؟ أم هي الرادفة وانبعاث الأمواج، وميزان الحسنات والسيئات، ثم استئناف الحياة الباقية الصافية التي تموت فيها المطامع، وتفني الأحقاد، ويعيش بنو آدم في ظلال الله إخواناً على سرر الحب، وضيفاناً على موائد الجنة؟
لتكن نفختك يا إسرافيل ما شاء الله أن تكون، فإنها لمصر القاعدة المتخلفة صيحة نشور ونذير أهبة! فقد درجت على هامها القرون وهي مطمئنة إلى الخمول، راضية بالعجز، يستغل خيرها الواغل، ويستقل بحمايتها المغير، حتى خشن على أيدينا السيف، وثقل على ظهورنا العتاد، وجثم على رجولتنا الجبن، وأصبحنا إذا طلبتنا القرعة نهرب، وإذا انتخبتنا الجندية نبكي، وإذا سمعنا بالحرب من بعيد يضطرب البال من الهم، ويطير الفؤاد من(302/1)
الفزع. ثم كان من أثر هذه الحياة السليمة الوادعة، وهذه التربية المدرسية البليدة، أن فشا بيننا داء العجائز وهو الكلام، وداء الضرائر وهو الحسد؛ فأفواهنا الثرثارة لا تفتر عن قرض الأعراض والعلائق، وعيوننا الطامحة لا تغمض عن الحسد الأرزاق والمواهب، حتى اتسعت الأحداق وطالت الألسن، بمقدار ما ضاقت الأخلاق وقصرت الأذرع. فلو كنا نشأنا على الجندية، وتمرسنا بالحروب، وارتضنا في الشدائد، لكثر فينا رجال القيادة والنظام، وقل بيننا أهل السياسة والكلام، وكان عندنا من الشركات والجمعيات والمصانع والمجامع أضعاف ما عندنا من المؤتمرات والأحزاب والمقاهي والصحف. . .
هذه هي القارعة التي تهتك حجب الأسماع وأغشية الأبصار وغُلف الأفئدة. فاليوم لا كسل ولا جدل ولا اتكال ولا استكانه. لقد سلكنا متن الحياة بعد أن كنا نسير على الهامش، وخضنا عباب الأمر بعد أن كنا نعيش على الشاطئ، وحملنا تكاليف مصر العزيزة بعد أن كنا نلقيها من الخور والهون على الأكتاف الغريبة كتفاً بعد كتف
لشدَّ ما يشرق في تاريخ النيل ذلك اليوم الذي يزحم فيه البحر والبر والجو أسطولُه الماخر وأسطوله الطائر وجيشه الجرار، ثم يستقتل في سبيله بنوه البواسل الميامين في الحصون والخطوط والخنادق، ليكون لثراه الحبيب من دمائهم رِي، ومن أشلاء عدوهم سماد، فيغصب فيه جدب العقول، ويزكو به غِراس البطولة!
مرحباً بالنار إذا كانت تذيب غش الأخلاق وزيف العزائم! وأهلاً بالحديد إذا كان يجذب ميت الأصول وذاوي الأفرع! ونِعِماَّ يبتلينا به الله إذا كان من ورائه جمعة من هذه الفرقة، وحياة من هذا الموت!
لقد استنفرَنا الماضي ببوق فرعون، واستفزنا الحاضر بوعيد بيرون، فلم يبق إلا أن نميط اللثام عن الوجه الحر، وننفض الغبار عن المعدن الكريم، ثم نولي وجوهنا شطر الحدود المقدسة، ونقوم للوطن كما نقوم لله صفَّا صفَّا، طائعين خاشعين، متحدين مستعدين تنتظر نداء العلَم الموموق وأمر القائد الأعظم!
احمد حسن الزيات(302/2)
الطفل وحقيقة الإنسان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارتني، ذات يوم، سيدة، ومعها طفلة تناهز الرابعة، فسقيت السيدة القهوة المرة التي تحبها، وحرت في الطفلة: ماذا أسقيها أو أطعمها، أو بماذا ألاعبها، وليس في مكتبي ما يصلح لها؟ ثم خطر لي أن أبعث بالخادم ليشتري لها (شوكولاته). فقالت السيدة: (إنك تدللها وتفسدها). قلت (دعيها تتدلل وتفسد - على قولك - فلن ترى ارغد من أيامها هذه). قالت: (وستحبك بالشوكولاته!)، وضحكت. قلت: (هل تعلمين أن كل حب لإنسان آخر هو من حب النفس؟). ولم أطل في هذا المعنى فإني أعرفها تكره الفلسفة وإن كانت ذكية لبيبة. وجاءت الشوكولاته فأخذتها الطفلة من الخادم وابتسمت له مسرورة. فقالت لها السيدة - وأشارت إلي -: (إنه أولى بابتسامك، فقومي إليه واشكريه بقبلة). فانحدرت عن مقعدها خفيفة ضاحكة ولثمت خدي. وعادت إلى الشوكولاته، وهمت أن تنزع عن بعضها الورق وتأكل؛ فنهتها السيدة عن ذلك وقالت لي إنها ستدخل طعام على طعام، وليس هذا بمحمود أو مأمون. ولفت لها الشوكولاته في ورقة وناولتها إياها وربتت لها كتفها وقالت: (أبقيها معك إلى ما بعد). فأطاعت الطفلة ووضعت اللفافة في حجرها، وجعلت تقلبها وتعبث بها، وذهبنا نحن نتكلم، وإذا بالسيدة تغمزني بعينها مشيرة إلى طفلتها، فنظرت فألفيتها قد فكت الورقة وأقبلت عل قطع الشوكولاته تحركها بإصبعها، فهززت رأسي مستفسراً. فقالت السيدة: (إنها تعدها). قلت: (لعله يفرحها أن تعرف عددها). قالت: (لا) وهزت رأسها: (ما أظن بها إلا أنها تعدها للمرة الثانية). قلت: (ماذا تعنين؟). قالت: (أعني أن أكبر الظن أنها عدتها حين أخذتها. ثم أخذتها أنا منها ولففتها في هذه الورقة، فهي تعدها مرة ثانية لترى أنقصت أم بقيت كما كانت). قلت: (اتقى الله!). قالت: (لك رأيك، ولكنها بنتي فليس تَخفي عليّ من أمورها خافية)
وصارت الطفلة تعرفني بعد ذلك (يا بابا شوكولاته) وهي خليقة أن تعرف اسمي، وأن تستطيع النطق به، فما هو بأثقل أو أصعب من لفظ الشوكولاته، ولكن الشوكولاته حلواوها الأثيرة، وأنا أتحفها بها كلما لقيتها، فهي تهمل اسمي وتطلق عليّ ما تحب، ولو أهملت أن أقدم لها الشوكولاته، أو قصرت في هذا الواجب، لزهدت في لقائي وانصرفت عن ذكري،(302/3)
وتركت حث أمها على زيارتي.
وليست هذه الطفلة بالشاذة، فإن كل طفل على غرارها، حتى ولديّ أراهما أحفى بأمهما منهما بي، لأنها لا تنسى أن تزودها بما يحبان، وإن كنت أنا المتعب المكدود والذي لا يزال يسعى ويشقي ليسعدا.
وأحسب أن الإنسان يبدو على حقيقته في طفولته، أي قبل أن يصبح إنساناً مصقولاً منجورا أو مهذباً كما نقول، والطفل أثرة مجسدة، يحب ويكره، ويقبل ويدبر، تبعاً لما يلقي منك. وقد يكون أبوه أحنى عليه، وأعمق حباً له، وأعظم شغلاناً به، ولكنه لا يلاعبه، ولا يعني بأن يحشو له جيوبه باللطائف المشتهاة، ولا يجئه كل بضعة أيام بلعبة، فلا يعبأ به الطفل أو يجعل إليه باله، على حين تراه يتعلق بأهداب صاحب لأبيه لأن لا ينسى حين يجيء في زيارة، أن يحمل لهذا الطفل ما يسره أو لأنه يشغل نفسه معه بضع دقائق بالهذر الفارغ. وكان صديق لي يقول: (إنك سيئ الظن بالإنسان) فكنت أبتسم ولاأجيب، وأنتقل به إلى موضوع آخر استثقالاً لهذا البحث الذي لا يطيب للنفس في كل وقت، حتى لفتتني تلك السيدة الذكية إلى المظهر الحقيقي للإنسان، فدرسته في أبنائي، وانتهيت إلى أن كل ما في الإنسان من خير وفضيلة اكتساب وليس بطباع فيه؛ والطفل - قبل أن نعلمه خلاف ذلك - لا يعرف إلا نفسه، ولا فرق بينه وبين الوحش في الفلاة أو الغابة. وعجيب أن ينسى الإنسان أنه حيوان!؟! فهو يضرب أخاه، ويمزق له ثيابه، ويريق الحبر على أوراقه أو كتبه، ويحطم له لعبه، أو يتلفها، ويغضب أو يستاء إذا رآه يلبس الجديد قبله أو دونه، ويعذب العصافير والقطط، ويذوي الورود والأزهار، ولا يقف في العبث والإتلاف عند حد؛ ولا يدركه عطف على أحد، ولا يشعر برقة لإنسان أو حيوان. ولسنا نحن الكبار خيراً منه، وأنا لأحسن ضبطاً لأنفسنا، وكبحاً لأهوائها ونزعاتها، ولكنا نحتاج إلى الضبط والكبح لأن النزعات موجودة تلج بنا وتدفعنا؛ ولو أمنا العاقبة لأطعنا أهواء نفوسنا وأملينا لها فيها. ولو جمحت بنا لما نفعتنا اللجم والأعنة التي اعتدنا في حالت الاتزان أن نصدها بها عما تهم به. ونحن في كل حال نراقب ما هو أوفق لنا وأصلح، والأمر في الأطفال أوضع وأبين، لأن اللجم الكابحة ليست هناك، أو لأن التدريب عليها ناقص، ونمو العقل مع التجربة يساعد على حسن استخدام اللجام، ورياضة النفس على طاعته(302/4)
ولست أقول إن الإنسان شرير بطبيعته، فليست المسألة مسألة خير أو شر، وإنما هي طباع فيه وفطرة يبنى عليها، والطباع لأخير ولا شر، وإنما وهي طباع. وقد أحتاج الإنسان إلى مقدار من النظام لما أحتاج أن يعيش في جماعته، والجماعة لا تصلح بالانطلاق مع السجية، وإنما تصلح بإقامة حدود وعلى أن روح الجماعة ليس فيها لأخير ولا رحمة ولا رفق ولا شئ مما يجري هذا المجرى، والشر الذي يذعر الفردَ مجرد التفكير في ارتكابه تقدم عليه الجماعة وهي ترقص وتباهي، وهذا ما يحدث في الثورات. وقد رأيت بعيني جماعة حانقت في أبان الثورة المصرية تمزق رجلاً بأيديها فوليت هارباً من هذا المنظر. وما أظن أن أقسى فرد يستطيع أن يفعل ذلك وهو وحدة. وأحسب إن الذي يرد الجماعة إلى الطبيعة الحيوانية وهو أن الطباع الحيوانية المشتركة - وهي واحدة - تتغلب على المزايا المكتسبة التي تزعمها صفات إنسانية - وهي متفاوتة
وما زالت القاعدة الحسابية هي صحيحة، أعني أن الذي يقبل الجمع هو المتشابه لا المختلف؛ ولست تستطيع أن تقول إن عندك أربع تفاحات وأنت تعني أن عندك تفاحتين وبرتقالتين ومن هنا ذهب ماكس نوردو بحق إلى أن برلماناً من أعظم الرجال مثل جوته وشكسبير ونابليون الخ لا يكون خيراً برلمان من الأوساط العاديين: لأن برلماناً هكذا يكون مؤلفاً من مائة صفه مشتركة تتغلب على كل مزية مفردة لكل واحد من هؤلاء العظماء
ولست أذم أو أمدح، وإنما أصف الواقع، والواقع أيضاً أن المدينة معناها التنظيم، أي الكبح والصقل ودفع الحياة في المجاري التي هي أصلح للجماعة وأجلب لخيرها
إبراهيم عبد القادر المازني(302/5)
من برجنا العاجي
طالما صحت قائلاً: إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد، بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب. وأقول اليوم إن الأدباء أنفسهم لا يريدون أن يحملوا الدولة على الإيمان بحقيقة الأدب. بل إن الآداب وقد أنكرتهم الدولة وأنكرت بضاعتهم لم يفعلوا شيء ولم يبدوا حراكا. بل إن الأمر قد بلغ من السوء حداً رأى فيه الآداب نتائج أذهانهم يسقط في التراب كما تسقط ثمار الشجرة الناضجة، فلا يتحركون ولا يصيحون في الناس: أن اقبلوا واجمعوا هذه الفاكهة وانتفعوا بها واطلبوا المزيد حتى تنشط الشجرة للأثمار ولا يجف ماؤها من الترك والإهمال. من العجب أن يلحظ الأدباء أن ثمار مواهبهم لا تصل إلى أيدي كثيرة فلا يجتمعون ليبحثوا هذه المشكلة. ومن العجب أنهم يرون أن زبده جهودهم تتلقفها أيدي الوسطاء من التجار الذين يتربصون بهم كما تتربص جوارح الطير بصغار العصافير فلا يحاولون المداولة فيما بينهم للخلاص من هذا المصير. إن انعدام روح النظام بين الأدباء وتفرق شملهم وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعاً من مصالح وما يعنيهم جميعاً من مسائل قد فوت عليهم النفع المادي والأدبي، وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة، ولقمة باردة سائغة في فم التجار والوسطاء. تلك حال الناضجين المعروفين من أدبائنا، أولئك الذين يتخذهم الناشئون من الأدباء مطمحاً لأنظارهم، ويرون فيهم حلماً ذهبياً جميلاً، ويتحرقون عجلة وشوقاً لبلوغ مراتبهم، ويتوسلون إليهم أن يأخذوا بأيديهم ويقودوهم في هذا الطريق. . .
واجب الأمانة يدعوني أن أصارح الناشيئن: إياكم أن تعقدوا الآمال الكبار على الأدب في بلادنا اليوم، إذا أستمر الحال على ما ترون. فما أرض الأدب الآن سوى مستنقع مهمل، حرام أن تلقى فيه بذور. وحسبكم تلك الزهرات القليلة الوحشية التي نبتت من تلقاء نفسها على حواشيه فلم يأبه لها أحد ولم يعن بتعهدها وريها إنسان!
توفيق الحكيم
البحتري أمير الصناعة
للأستاذ عبد الرحمن شكري(302/6)
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وللبحتري في ثنايا أبواب شعره أبيات كثيرة في الحكم والأمثال، بعضها يدل على فطنة لبعض نواحي الحياة والنفس، وبعضها معان مطروقة كساها ثوباً قشيباً. فمن حكمة وأمثاله قوله:
أُرَاِقبُ صول الوغد حين يهزه اق ... تدار وصول الحر حين يضام
وقوله:
هو الحظ ينقص مقداره ... لَمِنْ وزن الحظ أو كاَلهُ
وقوله:
لولا التباين في الطبائع لم يقم ... بنيان هذا العالم المجبول
وقوله:
ولستَ ترى عود القتادة خائفاً ... سموم الرياح الآخذات من الرند
وقوله:
واليأس إحدى الراحتين ولن ترى ... تعباً كظن الخائب المكدود
وقوله:
كالكوكب الدُّرِّيِّ أخلص ضوَءهُ ... حلكُ الدجى حتى تألق وانجلى
وقوله:
تَنَاس ذنوبَ قومك إن حفظ ال ... ذنوب إذا قدمن من الذنوب
وقوله:
خلت جهلاً أن الشباب على طو ... ل الليالي ذخيرة ليس تفنى
وقوله:
أدَعُ الصاحب لا أعذله ... لاُ يسَمَّى بِعَقُوقٍ فَيعِقّ
وقوله:
وقديماً تداول العسر واليس ... ر وكلُّ قَذَّى على الريح يطفو
وقوله:(302/7)
صعوبة الرزء تُلْفَى في تَوَقِّعهِ ... مستقبلاً وانقضاء الرزء أن يقعا
وقوله:
أغشى الخطوبَ فإما جئن مأربتي ... فيما أُسَيِّر أو أحكمن تأديبي
إن تَلْتَمِس تَمْرِ أَخْلافَ الأمورِ وإنْ ... تلبثْ مع الدهر تسمعْ بالأعاجيب
وقوله:
كأنما شرف الشريف إذا انتمى ... جُرْمٌ جناه على الوضيع الأصغر
وقوله:
إذا مَحاِسِنيَ اللاتي أُدِلُّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وقوله:
ما أضعف الإنسان لولا همة ... في نُبْلهِ أو قوة في لُبِّهِ
وقوله:
والشيءُ تُمْنعُهُ تكونِ بفَوته ... أجد من الشيء الذي تُعطاهُ
وقوله في التأسي بمصارع الموتى:
إذا شئتَ أن تستصغر الخطب فالتفت ... إلى سلف بالقاع أُهْمِلَ نائمة
ومثل هذا كثير من شعره.
وعندي أن غزل البحتري في مجموعه أرق وأحلى وأكثر نصيباً من الوجدان الفني من غزل أبي تمام. فمن قصائد غزله المشهورة قصيدته التي يقول فيها:
تمشى فتحكم في القلوب بِدَ لَّها ... وتميس في ظل الشباب وتخطر
وقصيدته التي يقول فيها:
ذو فنون يريك في كل يوم ... خلقا من جفائه مستجدا
اغتدى راضياً وقد بتُّ غضبا ... ن وأمسى مولى وأصبح عبدا
وقصيدته التي يقول فيها:
أيها العاتب الذي ليس يرضى ... نم هنيئاً فلست أطعم غمضا
وهي رقيقة ومشهورة. ومن بديع غزله قصيدته التي يقول فيها:
(ردي على المشتاق بعض رقاده) والقصيدة التي يقول فيها:(302/8)
دنتْ عند الوداع لو شك بين ... دنو الشمس تجنح للأصيل
وفيها يقول:
وذَكَرَنيكِ والذكرى عناءٌ ... مَشابِهُ فيكِ بينةُ الشُّكولِ
نسيم الروض في ريح شمال ... وصوبُ المزن في راح شمولِ
والتي يقول فيها:
وجدت نفسك من نفسي بمنزلة ... هي المصافاةُ بين الماء والراحِ
والتي يقول فيها:
وهجر القرب منها كان أشهى ... إلى المشتاق من وصل البعاد
والتي يقول فيها (مِنِّى وصل ومنك هجر) والتي يقول فيها:
بات أحلى لديَّ من سِنَةِ النو ... م وأشهى من مفرحات الأماني
والتي يقول فيها:
إذا ما الكرى أهدى إليَّ خياله ... شفى قرُبهُ التبريح أو نقع الصدى
والتي يقول فيها:
وفيهنّ مشغولٌ به الطرف هارَب ... بعينيه من لحظ المحب اُلمَخالِس
وهي ملاحظة فنية جميلة. والتي يقول فيها:
لم يُرْوَ من ماء الشباب ولا انجلت ... ذهبية الصبوات عن أيامه
وفيها يقول:
أُترِيكَ أحلامُ الكرى ذا لوعة ... كِلفَ الضلوع يراك في أحلامه
والتي يقول فيها:
أأنتِ ديار الحي أيتها الربى ال ... أنيقة أم دار المها والنعائم
وأيامنا فيك اللواتي تَصَرَّمتْ ... مع الوصل أم أضغاث أحلام نائم
لعل الليالي يكتسين بشاشة ... فيجمعن من شمل النوى المتقادم
والبحتري شاعر وصاف بماله من شهوة تذوق المرئيات بجمال فنه، فإن الفنان يتذوق مناظر الطبيعة والمرئيات عموما ًكما يتذوق الطعام من له ذوق خاص في الطعام والشراب؛ وقد لا يكون شره النظر أو قد يكون، كما أن الذي له ذوق خاص في الطعام(302/9)
والشراب قد يكون شره البطن وقد لا يكون
ومن أجل شهوة تذوق الأمور بفنه أشك في أن البحتري قد تعمد أخْذَ كل ما أخَذَ من، المعاني فقد تكون شهوة التذوق بالعاطفة الفنية هي التي ساقته إلى هذه المعاني سواء أكان قد اطلع عليها أم لم يطلع وهي على أي حال مفردات. ومن قصائده المشهورة في الوصف قصيدة ووصف آثار الفرس الفنية التي يقول في أولها (صنت نفسي عما يُدنَّس نفسي) وقصيدته في وصف بركة المتوكل التي يقول فيها:
كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصَّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولاً حواشيها
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ... ورَيِّقُ الغيث أحياناً يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلاً حسبتَ سماَء ركِّبتْ فيها
ومن أوصافه المعروفة وصفه الشقائق في الأبيات التي يقول فيها: (سقى أكناف الحمى من محلة) وقصيدته التي يصف فيها الربيع وآثاره وفيها يقول:
وقد نَبَّهَ النوروزُ في غلس الدجا ... أوائلَ وردكن بالأمس نُوَّما
يُفَتَّقها برد الندى فكأنه ... يبثُّ حديثاً كان قبل مُكَتمَّا
وله قصيدته البائية المشهورة في وصف صيد الفتح بن خاقان للأسد، والدالية التي فيها وصف لقائه (أي البحتري) الذئب في البيداء، ويعاود وصف الربيع كما فعل في قصيدته الرائية التي يقول فيها: (ألم تر تغليس الربيع المبكر) والميمية في وصف قصري المتوكل الصبيح والمليح وهي التي يقول فيها:
حلل من منازل المُلكِ كالأنجم ... يلمعن في سواد الظلام
وقصيدته في وصف البيان وهي التي يقول فيها:
لتفننتَ في الكتابة حتى ... عَطَّل الناس فن عبد الحميد
وهي مشهورة. وله أوصاف أخرى منتشرة في قصائده من وصف للنبات والطبيعة أو للحروب وآثارها مثل القصيدة الفريدة التي يقول فيها:
أسيت لأخوالي ربيعه إذ عفت ... مصايفها منها وأقوت ربوعها
ومراثي البحتري مراثي صنعة تكاد تغطي على الصنعة لأن العاطفة الفنية فيها تغنى على(302/10)
العاطفة الحقيقية أو قد تكون مقرونة بشيء منها، وقد ظفر بنو حميد بمراث بلغت غاية الروعة الفنية من شعر أبي تمام ومن شعر البحتري. ولعل أبدع قصائده فيهم قصيدته التي يقول في مطلعها:
أقصر حميد لا عزاء لمغرم ... ولا قَصْرَ عن دمع وإن كان من دم
أفي كل عام لا تزال مُرَوَّعاً ... بفَذِّ نَعِيٍ تارة أو بتوأم
إلى أن يقول:
فصرتَ كعُشٍ خلَّفتْه فراخهُ ... بعلياء فرع الأثلة الُمتَهَشَّمِ
ثم يقول:
سلام على تلك الخلائق إنها ... مُسلَّمَةٌ من كل عار ومأثم
ومن المختار له في الرثاء قصيدته في سليمان بن وهب التي يقول فيها:
أَأُخيَّ نهْنِهْ دمعك المسفوكا ... إن الحوادث ينصر من وشيكا
وقصيدته التي يقول فيها (ابني عبيدٍ شد ما احترقَت لكم) والتي يقول فيها (جحدنا سهمة الحدثان فينا). ومن أشهر قصائده في الرثاء رثاء المتوكل وقد قيل إن ابنه المنتصر ولي العهد دس له من اغتاله وإلى ذلك يشير البحتري في قوله: -
أكان وَلُّيِ العهد أضمر غدرة ... فمِنْ عَجَبٍ أَنْ وُلَّيَ الأمر غَادِرُهْ
وهو لم يتمتع بالخلافة إلا بضعة أشهر. ويقال إن ضميره أفسد عليه تلك الأشهر من حياته. ويخيل إلي أن البحتري لم يعلن هذه القصيدة إلا بعد وفاة المنتصر إلا يكون قد تنبأ بها وأجاب الله دعوته في قوله:
فلا مُلِّيَ الباقي تراثَ الذي مضى ... ولا حملتْ ذاك الدعاء منابرُهْ
وفيها يمدح المعتز بن المتوكل فيقول:
وإني لأرجو أن تُرَدَّ أمورُكم ... إلى خلَف من شخصه لا يغادرُه
مُقلَّب آراء تخافُ أناته ... إذا الأخرق العجلان خيفت بوادرُهْ وإني أشك في صدق قوله
وأرى أنه من شواهد ما قدمت من اختلاط الخيال بالعاطفة:
أُدَافعُ عنه باليدين ولم يكن ... ليثنى الأعادي أعزلُ الليل حاسرُهْ
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي ... درى الفاتك العجلان كيف أساوره(302/11)
إذا أنه لو فعل كما قال إنه فعل لقتله الفاتكون. ولكن المشهود في القصيدة روعة الصنعة وفخامتها لا عمق العاطفة. والحق أن البحتري إذا ملك صناعته ولم يتكلفها أتى بها وهي في بهجتها وحلاوتها حقيقة بالمدح الذي مدح به البحتري منزلة ممدوحة في قوله:
منيت أحاديث النفوس بذكرها ... وأفاق كلُّ منافس وحسود
وأصدق قول يقال في البحتري وأبى تمام هو ما قاله البحتري نفسه إذ قال إن جيد أبي تمام خير من جيدة، ورديء أبي تمام شر من رديئة. ومثل هذا القول يصح أن يقال أيضاً في البحتري وأبن الرومي، ولا نعني بالجودة الصناعة فحسب بل كل ما ينهض به الشعر من ميزات. وللبحتري قصائد في العتاب هي من أجل ما كتب في اللغة العربية في هذا الباب ولا سيما عتابه للفتح بن خاقان في قصيدته البائية التي يقول فيها:
ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا
والميمية التي يقول فيها:
أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبيّن أو جرم إليك تقدّما
وفي صنعة عتابه كما في صنعة مدحه حلاوة وسهولة المتناول، وليس فيها اللجاجة الفكرية التي بذلها ابن الرومي في قصيدته في العتاب التي يقول فيها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء). على أن هذه القصيدة لابن الرومي لا تمثل إلا ناحية واحدة من نواحي مقدرته في العتاب فله نواح أخرى منها ناحية العتاب الممزوج بالهجاء، ومنها ناحية العتاب الذي فيه خضوع للمعاتب. وابن الرومي أوسع مقدرة من البحتري وأكثر نصيباً من ذخائر اللب وإن كان البحتري أوفر نصيباً من بهجة الصنعة.
وقد جاء في كتاب الأغاني وصف إنشاد البحتري لشعره: فقال المؤلف إنه كان يتشادق في إنشاده، ويتزاور، ويتمايل، ويلوح بكمه، ويتقدم ويتاخر، ومعنى هذا الوصف أنه كان يُمَثَّل كما يصنع الممثل على المسرح، وإني أميل إلى تصديق هذه الرواية إذ أنها تؤيد ما ذهبت إليه من أن البحتري كانت عنده صفة يكثر ظهورها في بعض الممثلين، وهي اختلاط الأحاسيس التي يمثلونها بحقائق الحياة حتى يصعب التمييز بينهما، وقد ضربت من أمثال ذلك مثلاً من غزله ومن رثائه للمتوكل. ولم يكتف البحتري في إلقائه بطريقة الممثلين في الإنشاد، بل كان ينظر إلى الحاضرين ويطلب منهم الاستحسان ويلومهم إذا لم يظهروا(302/12)
الإعجاب والاستحسان؛ وطلبُ الاستحسان من المشاهدين والحرص عليه والانتشاء به من صفات الممثلين أيضاً. وقد ضجر منه المتوكل يوماً لمغالاته في هذه الأعمال. فأغرى به شاعراً صغيراً عبث به في شعره. ولو جاز أن نتمنى سماع إنشاد البحتري لشعره لتمنينا أن نسمعه ينشد بهذه الطريقة التمثيلية قطعة من شعره تساعد على إظهار مقدرة الممثل قوله في قتاله للذئب:
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته ... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء تحسب ريشها ... على كوكب ينقض والليل مسود
فما ازداد إلا جرأة وصرامة ... وأيقنت أن الأمر منه هو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخرَّ وقد أوردته منهل الردى ... على ظمأ لو أنه عذب الوِرد
ونلت خسيساً منه ثم تركته ... وأقلعتُ عنه وهو منعفر فرد
ولا غرابة أن يكون عند الشاعر الذي عماده الصناعة اللفظية صفة الممثل الذي ينتشي بما يقول حتى يخلق له القول عاطفة فنية لا تكاد تميز من الأحاسيس الناشئة من حوادث الحياة في نفوس بعض ذوي الفنون. وفي الأخبار التي وردت عن البحتري نرى أنه كان يمدح شاعرين هما: أبو تمام، والعباس بن الأحنف. وفي شعر البحتري أثر محاكاته للأول في الصنعة البيانية ومعانيها وللثاني في بعض الغزل من شعره.
عبد الرحمن شكري(302/13)
أعلام الأدب
درامات سوفوكليس
للأستاذ دريني خشبة
حددّ سوفوكليس الفرق بينه وبين إسخيلوس، ثم بينه وبين يوريبيدز فقال:
أنا أصور البشر كما كان ينبغي أن يكونوا
ويصورهم يوريبيدز كما هم
أما إسخيلوس فقد كان يوحي إليه بالحق فينطق به دون أن يعرف ما هو
وذلك من سوفوكليس تحديد جميل ينتفع به مؤرخو الأدب الكلاسيكي، لأن سوفوكليس كان حقيقةً يلتزم في جميع دراماته هذا التسامي نحو مَثَله الأعلى الذي كان يجهد ألا يضحي به ولو عارض الأوضاع ونافى التقاليد وثار بالشرائع
لقد رأى إسخيلوس يقسو على الفتى أورست الذي قتل أمه لأنها قتلت أباه فأسلمه لطائف من الجنون، وسلط عليه ربات العذاب تُشقيه وتقص آثاره وتسد عليه المسالك. لأن جريمة قتل الوالدين هي أشنع الجرائم فيما تواضع عليه الدين اليوناني الأسطوري من غير نظر إلى ما في ذلك القتل من حق أو غيره. . . ومع أن إسخيلوس كان لا يرى أن يُعد أورست مجرماً بدليل ما ذكره على لسان أبولو أمام محكمة مينرفا إلا أنه أجرى درامته في حدود المعتقدات اليونانية فجعل ربات العذاب تلاحق أورست كما تلاحق المجرمين لتأخذه بما جنت يداه. ثم توسل إسخيلوس بهذه الهيئة القضائية التي كانت مينرفا بمقام الرئيس فيها، كما كان أبوللو بمقام المحامي، وكما كانت ربات العذاب بمقام المدعي في حين كان أورست في مقام المتهم. . . فلما رأت مينرفا أخذ أصوات الحضور بوصف كونهم محلفين، ثم لما تساوت الأصوات ضد أورست ثم له، عمد إسخيلوس إلى مينرفا فجعلها تنحاز إلى جانب أورست، وبالأحرى إلى فكرة إسخيلوس في عدم حسبان الفتى مجرماً لأنه قتل أمه التي قتلت هي أيضاً أباه، لأنه ضَحّى بابنتها إفجنيا كما تقدم ذكر ذلك جميعا
رأى سوفوكليس نده القوي يتناول المأساة على هذا النحو فترك سبيله وسلك سبيلاً أخر. . . أنه لمُ يسلم أورست لطائف من الجنون ولم يُلاحقه بربات العذاب كما فعل إسخيلوس، بل هو قد أهمل الشريعة الأسطورية كلها وأظهر أورست في ثوب البطل الذي يرى أن أمه(302/14)
قتلت أباه بغير الحق وصَبَت قبل ذلك إلى عشيق مجرم من أعداء أسرته وآذت أبناءه وأهدرت كرامتهم فهي لكل ذلك تستأهل أن تقتل، بل يجب أن تقتل بيد أبنها، فإذا هم أبنها بقتلها وتوسلت إليه بدموعها مرة وثدييها مرة أخرى خشيت (إلكترا) - وهذا هو اسم الدراما - أن يضعف أخوها أو أن يستخذى فحضته على قتل أمه - وأمها - (لأنها لم ترحم أحداً من قبل!)
وهكذا صور سوفوكليس الناس كما ينبغي أن يكونوا، ولم يلف طويلاً كما صنع إسخيلوس. . . أما كيف أتقى ثورة الناس لإهماله شريعتهم الأسطورية فقد كانت حجته أن في الأساطير ما يذكر أن ديانا قد أنقذت الفتاة إفجنيا من الذبح وذلك بفدائها بذبح عظيم على نحو ما نعرف من قصة إبراهيم وولده إسماعيل. . . لذلك كان حنق كليتمنسترا في غير موضعه، وكان باطلاً كل ما كانت تبرر به مسلكها نحو زوجها، وكل ما ترتب على هذا المسلك من نتائج
وليس من عيب في مأساة إلكترا إلا ما أقحمه فيها سوفوكليس على لسان الرسول من وصف الألعاب البيثية وصفاً طويلاً يفضي إلى الإملال.
2 - أجاكس:
قد تكون مأساة أجاكس أقدم ما وصلنا من درامات سوفوكليس سليما كاملا. . . وهي مثل إلكترا يصادفك فيها المعجب المطرب من الفكر الرائع والفن البارع، كما يصادفك المشهد السمج والحوار الثقيل خصوصاً إذا كان ذاك المشهد أو هذا الحوار فيما يتعلق بتقليد يوناني تطاول عليه العهد فلم يعد سائغاً عندنا اليوم
بعد مقتل أخيل بطل أبطال اليونانيين اتفقت الآراء على ان تُمنح دروعه وعدته الحربية التي صنعها له فلكان الحداد إله النار لأشجع الأحياء من أبطالهم المحاربين، وبالرغم من أن أجاكس كان أشجعهم جميعاً فقد رأى القضاة أن يخلعوها على أودسيوس لأنه كان إلى شجاعته أبرع اليونانيين حيلة وأكثرهم حكمة. . وكان ينبغي أن يخضع أجاكس لهذا الحكم، إلى أنه ثار وتولاه الغضب واعتزم أن يقتل القضاة الظلمة الذين جرحوا كبرياءه بما فضلوا عليه أوديسيوس. . . لكن أثينا (مينرفا) التي كانت تحابي أوديسيوس دائماً، لم تدعه يفعل، بل أسلمته لطائف من المس وفورت من الجنون، فامتشق سيفه وراح يقتل قطعان الشاء(302/15)
والْنعم وهو يحسب أنه يقتل أعداءه القضاة من قادة الإغريق. . . ثم يفيق أجاكس ويعلم ما كان من أمره، وينظر إلى نفسه فيراه رجلاً لم تعد له كرامة بين عشيرته، ويري الجميع يصدون عنه. . . فيألم ويضيق بحياته، ويزيده ألماً ما ظن من حنق أثينا عليه، وما عرف من تحقيره أَمَتَه الجميلة تكماسا، فينطلق إلى مكان موحش مهجور عند شاطئ البحر، ثم يتكئ بصدره على سنان سيفه، فيسقط على الرمال ويتشحط في دمه. . . ويجتمع القادة حول جثمانه فيختلفون ساعة على دفنه، ولكن أودسيوس ينسى سخيمته، ثم يتولى الدفاع عن عدوه في عبارة كلها تمجيد له واعتراف بفضائله، فلا يسع الباقين وفي مقدمتهم منالوس إلا أن يوافقوا على الدفن وأقام الشعار الدينية على جثته. . . ويقع ثلث المأساة تقريباً بعد انتحار اجاكس، وهذا عيب درامي وقع فيه سوفوكليس حين غلبه الشاعر المستكن فيه على الدرامي الذي هو أروع نواحي شخصيته العجيبة العظيمة. . . وتمتاز هذه الدرامة بالكلمات الجميلة الخلابة التي كان يتبادلها الزعماء فوق جثمان أجاكس، ثم أوديسيوس منه بعد الانتحار. . . ثم هذه النجوى وذاك الوداع الذي فارق بهما أجاكس دنياه وهو يشحذ سيفه وجعلهما آخر أنفاسه. . . على أن أثر إسخيلوس واضح جداً في هذه المأساة التي صور فيها الشاعر صراع الإنسان ضد المقادير وما يلقى في تمرده على القضاء من شقاء. . .
3 - أنتيجونى (445 ق. م)
تعتبر مأساة أنتيجونى أجمل فرائد سوفوكلس، وقد نظمها سنة 442. وتكاد تكون الحلقة الرابعة في ثلاثية إسخيلوس التي ثالثها (سبعة ضد طيبة). فقد شهدنا كيف تبارز الشقيقان: إتيوكليز، وبولينيسيز، وكيف قتل كل منهما الآخر في مأساة إسخيلوس. هنا ينهض بالملك الطاغية كريون أخو الملك أوديب غير الشقيق، وتكون مهمته شاقة لأنه يلي أمر مملكة منهوكة جائعة حزبتها الحرب التي أثارها بولينيسيز، والتي استعان فيها على وطنه بجيوش الأجانب مما جعل مواطنيه ينقمون عليه ويبغضونه أشد البغض. من أجل هذا احتفل كريون بجناز إتيوكليز وأقام الشعائر الدينية على جثته. ثم أمر في الوقت نفسه أن يترك جثمان بولينيسيز منبوذاً بالعراء تنوشه الجوارح، وتغتذي به بواشق الطير وجياع السباع. لكن الفتاة أنتيجونى تسخر بأوامر الملك وتعرض نفسها للمهالك حيث تذهب إلى(302/16)
جثة أخيها فتحثو عليها التراب وتدفنها وتؤدي لها شعائر الدين التي لا تستقر أرواح الموتى إلى بعد أدائها. هنا تثور ثائرة الملك، ويأمر بالقبض على الفاعل الذي استهزأ بقوانين الدولة؛ فلما يعلم أن أنتيجونى هي التي أتت هذا الأمر لا يبالي أن يأمر بدفنها حية بالرغم من إنها مخطوبة لولده هايمون الذي يحبها ويهيم بها ويعبدها عبادة. ويحضر الابن فيجادل أباه في محبوبته، بل معبودته لكن الرجل ينسى كل شئ إلا انه ملك. فينصرف هايمون بعد أن ينذر أباه أنه لن يراه بعد اليوم، ويذهب فينتحر عند باب القبو الذي دفنت فيه أنتيجون. ثم تنتحر أمه عندما يأتيها نعيه، تلك الأم الرءوم المعذبة التي فقدت ولدها ميجاريوس من قبل، إذ ضحى أبوه من أجل صوالح الوطن. ويتلفت كريون فيراه وحيداً في هذه الحياة العبوس الجائحة، يبكي قلبه من غير أن ينفعه أن حفظ سلطان القانون فيتمنى، ولن ينفعه التمني، لو أنه سمع لنصيحة الكاهن الذي محضه النصح أن يترفق بولده حتى لا يصب الويلات على رأسه
لقد كان سوفوكليس فناناً عظيماً في هذه المأساة الخالدة. . . لقد صور فيها شخصيات رائعة لم تظفر بمثلها درامة في تاريخ المسرح. . . فهذه هي أنتيجون العنيدة الصارمة التي لا تبالي سلطان الملك وجبروت الدولة، وهذه أختها إسمنيه الضعيفة الساذجة المضطربة التي لا تقر أختها على فعلتها، ولا تنكث بها مع ذاك. . . وذاك الفتى هايمون الذي يجادل أباه بالحق والمنطق، فلما يعييه إقناعه يرتخص الحياة بعد عروسه ويتخلص منها غير باك عليها، وهذا كريون الملك الذي يتغطرس ويغلو في غطرسته، لكنك لا تستطيع مع ذاك إلا أن تعجب به بصفته حاكما، ولا ينبغي أن يكون الحاكم إلا صلباً لا يبالي غير الحق ولا يتهاون في شأن من شئون السلطان. . . ثم أولئك المنشدون (الخورس) الذين يحبذون أنتيجونى حين تصرح أنها لم تأت منكراً حينما دفنت أخاها، ويرثون لها يمون العاشق حين يحاول إقناع الملك بخطل سياسته فلا يقتنع، في حين لا ينتقدون الملك حين يشتط في التمسك بأوامره ووجوب معاقبة الخارجين عليها لأنهم يكونون خوارج على الدولة. . .
هذا إلى فن سوفوكليس وروعة أسلوبه الذي يقول فيه جيته: (إن كل شخصيات سوفوكليس قد أوتوا نعمة الفصاحة، وجمال البيان، فهم أبداً مداره الباء يعرفون كيف يسوقون حججهم ويقيمون براهينهم بحيث يكون السامع إليهم في صف المتكلم الأخير منهم دائماً!)(302/17)
4 - أديبوس تيرانوس (أوديب الملك)
عرضنا خلاصة هذه المأساة في إسخيلوس عندما لخصنا (سبعة ضد طيبة). ودرامة فوكليس تتناول حياة أوديب بعد أن رقى أريكة الملك ثم تتسلسل الحوادث حتى يعرف السر الهائل: أنه قتل أباه وأنه تزوج من أمه وأنه أولدها أبناءه جميعاً. . وأروع مشاهد المأساة ذلك المنظر الذي يعترف فيه كل من أوديب وأمه أحدهما للآخر عن الماضي المؤلم المشجي. ثم تلك النهاية التي تقتل الأم فيها نفسها، ويسمل الابن عينيه. وبالرغم من روعة الماسة وسموها الفني قد لاحظ عليها النقاد ضعفاً في الحبكة الدرامية، إذ كيف يسيغ الذوق الدرامي أن يتزوج شاب قوي فتى جميل مثل أوديب امرأة عجوزاً شمطاء تكبره مرتين أو أكثر من مرتين مثل أم هذا الفتى!؟ ليس في تاريخ الجمال اليوناني ما يسيغ هذا الوضع وخصوصاً على المسرح. وقد اعتذر أرسطو عن ذلك بأنه عيب يضيع في روعة حوادث المأساة وجمال تسلسلها وشدة أسرها. . . ثم لماذا تنتحر الأم ولا ينتحر أوديب؟ لماذا يكتفي بأن يسمل عينيه ويعيش بقية حياته أعمى في تيه الغابات؟! يعتذر أرسطو لذلك أيضاً بأن الأسطورة كانت مشهورة قبل سوفوكليس فلم يشأ أن يتناولها بالتبديل والتحوير، ويُرد على ذلك بأن سوفوكليس كان يصور الناس والحوادث بما كان ينبغي أن يكون فِلمَ لم يطبق قاعدته على مأساة اوديبوس؟!
5 - عذارى تراشينيا
لا ندري لماذا أطلق سوفوكليس ذاك الاسم على مأساته هذه إلا أن تكون قد حدثت هنالك. . . وكان الأحرى أن يسميها ديانيرا أو مقتل هرقل يعترض طريق هرقل في إحدى مغامراته نهر عظيم لا يستطيع أن يعبره وتكون معه زوجة الجميلة المفتان ديانيرا فيبدو لهما سنتور عظيم ويعرض أن يحملهما إلى العدوة الأخرى. . . وتركب ديانيرا على ظهر السنتور ويخوض بها في اليم فيحس نحوها بغرام شديد فيعتزم أن يهرب بها من هرقل، فلما يبلغ العدوة الأخرى ينطلق بها فتصرخ فينتبه هرقل فيرسل أحد سهامه المسومة بدماء هيدرا فيخترم السنتور. . . وقبل أن يموت السنتور يهب ثوبه لديانيرا فتفرح به لأنه كما زعم لها يرد إليها محبة زوجها إذا تحول عنها قلبه بشرط أن يلبسه. . . وتحتفظ ديانيرا بالثوب سنين عدداً ثم يمضي هرقل في أحد مجازفاته فتعلم انه صبا إلى حبيبته شبابه وخليلته(302/18)
الأولى فتضطرم الغيرة في قلبها وتذكر ثوب السنتور، ثم ترسل أحد خدمها ليلقي هرقل وليقدم له ثوب السنتور فيلبسه (لأنه يعيد إليه ما خار من قواه في مجازفاته الشاقة)، وما يكاد هرقل يلبس الثوب حتى يسري سم السنتور في جسمه فيعذبه ويضنيه حتى يموت. . . وتعلم ديانيرا بموت زوجها فتعرف حقيقته الثوب وأن السنتور وإنما أراد أن ينتقم من هرقل لأن قتله فتحزن ثم تنتحر في
هذه المأساة والمأساتين التاليتين نلحظ تبديلاً في سوفوكليس ونرى أنه تأثر بالشاعر الشاب يوريبيدز. . ثم نلحظ ضعفاً في الحبكة الدرامية سببه الهرم وتقدم السن، فقد نظمها بعد الثمانين وفي عصر تقلقل وصراع بين أثينا وإسبرطة.
6 - فيلوكتيتس (409 ق. م)
عندما حضرة الوفاة هرقل منح سهامه المسمومة لرصيفه البطل فيلوكتيتس الذي صحب اليونانيين في حملتهم على طروادة. . . لكن أفعى لدغته في رجلة في جزيرة لمنوس، وأحدثت بها جرحاً بليغاً سبب له ألماً شديداً، وخشي المحاربون أن يكون سبب في طاعون يذهب بريحهم فتركوا البطل المسكين وحيداً فوق الشاطئ ثم أبحروا إلى طروادة. . . واستمرت الحرب عشر سنوات سجالاً بين الفريقين، ثم جاءتهم نبوءة أن طروادة لا تسقط إلا إذا حظر الحرب فيلوكتيتس ومعه سهام هرقل. . فذهب البطل أودسيوس ومعه البطل نيوبتوليموس بن أخيل إلى حيث ثرى فيلوكتيتس ليحتالا عليه فيحضر معهم إلى طروادة بسهام هرقل. . . وقد شق على البطل أن يفعل وعز عليه أن يصحب قوماً أهملوه في كربته وغادروه وراءهم وهو في شدة الحاجة إلى معونتهم، وكان جرحه ما يزال يؤلمه ويبرح به. . . ولكن شبح هرقل يبدو له في شبه حلم وينصح له بالذهاب إلى طروادة لنصرة قومه، ولأن هناك الطبيب ماشيون الذي يستطيع مداواة جرحه فيهش فيلوكتيتس وينهض من فوره، ويمضي إلى طروادة. . . وحل عقدة الدرامة على هذا النحو يدلنا على مبلغ تأثر سوفوكلس بيوريبيدز
7 - أوديبوس في كولونوس
لا ندري لماذا عاد سوفوكليس فجأة وبعد نصف قرن تقريباً إلى مأساة أوديب؟ لعله أراد أن يرد على آرسطو قبل أن يولد (384 - 322)، كما أراد أن يقول لماذا لم ينتحر أوديب(302/19)
كما انتحرت أمة!
بعد أن سمل أوديب عينيه نفاه كريون باتفاق بينه وبين أبنيه المتنازعين على العرش مما جعل أوديب يرسل لعنته على ولديه. . . وذهب الملك الأعمى ليأوي إلى الأحراج والكهوف فتبعته ابنته أنتيجونى لتعينه وتقوده وتسليه، وكانت ابنته الثانية إسمنيه تختلف إليه في الخفاء لتنهى إليه أسرار طبية. . . وتمضي السنون. . . ثم تقول نبوءة إن أوديبوس إذا مات في أرض أجنبية وأشتملت جثمانه تلك الأرض فإنها لا تلبث أن تغزو طيبة وتنتصر على أهلها. . ويذهب أديبوس على وجهة في الأرض، تقوده أنتيجونى حتى يأتيا أحراج يومينيدز أو ربات اللطف والرحمة فما يكاد الملك يمس بقدمه أرضهن حتى يشيع فيه إحساس الرضى والشعور بالرحمة فيعلم أن الربات قد عفون عنه وغفرن له ذنبيه العظيمين: قتل أبيه وزواجه بأمه. ثم تأتيه بذلك النبوة، وتشمله حماية الربات، ويتلقاه ثيذيوس عظيم كولونوس فيكرم مثواه ويعطيه عهده على أن يحميه ضد ولده وضد كريون على السواء. . . وهكذا تنتهي آلام هذا الرجال التعس، وتعود إليه طمأنينته بعد أن كفر عن ذنبه. . .
والمأساة لا عقدة لها، بل هي سلسلة من الآلام عرضها سوفوكليس عرضاً جميلاً رائعاً، واستجمع لها رصانة الأسلوب ودقة الأداء وفتنة الفن. . . وقد مات سوفوكليس ولم يشهد مأساته تمثل، وقد تولى إخراجها حفيده المسمى باسمه فجمع لها قدسية الأكروبوليس وشدو البلابل وعظمة أثينا التي حطمتها إسبرطة
وبعد، فهذا عرض سريع مقتضب لا يغني عن قراءة الأصول شيئاً.
دريني خشبة(302/20)
يا غازي. . . عليك رحمة الله!
للأستاذ علي الطنطاوي
عليك رحمة الله (يا غازي) الحبيب، يا فخر الشباب، يا من لم يمتع بالشباب! يا سيد العرب، يا من روع فقده العرب. يا بدر العراق الآفل، يا أمل الشام الذاهب يا دنيا من الفتوة والبطولة والنبل طواها كف الموت (يا غازي) عليك رحمة الله!
بالأمس استصرختك وأنت أملنا وملاذنا، وأنت عوننا على الدهر الظالم، والعدو الغاشم، أفأقوم اليوم لأرثيك يا أملنا ويا ملاذنا؟ أأقف على قبرك الطريّ مودعاً وباكياً، وقد كنت أقف على بابك العالي مستغيثاً ومستصرخاً؟ أأخاطبك اليوم من وراء القبر وقد كنت بالأمس ملء الكون حياة وقوة وشباباً؟ ليتني ما عشت حتى أرى هذا اليوم! ليت يدي ما طاوعتني حتى أكتب هذا المقال! ليتني ما بقيت حتى أرثيك يا غازي! (يا غازي) جل المصاب وما لنا فيه يدان! (يا غازي) عظم الخطب وضاقت الحيلة! (يا غازي) لو كان يفتدى ميت لفداك العرب بأنفسهم! (يا غازي) قد فقدناك فعليك رحمة الله!
على شبابك الكامل، على بطولتك النادرة، على أيامك الحلوة، على ذكرياتك الخالدة، على روحك الطاهرة (يا غازي) رحمة الله!
أفي عشرة أيام يدور الفلك، وتتبدل الدنيا، ويستحيل عيد مولد الملك الشاب الحبيب، إلى مأتم الملك الشاب الحبيب؟
أفي عشرة أيام تمر دنيا كاملة، تبدأ بأعظم عيد عرفه هذا الشعب هو عيد ميلاد (غازي) وتختم بأجل مصاب رآه. وهو المصاب (بغازي)؟
من كان يظن وهو يشهد أفراح هذا الشعب في (21 آذار) يوم الربيع الطلق، ويوم (غازي) الذي كان أمرع من الربيع وأبهى، أن الفجيعة الكبرى كامنة في الغد القريب، وان هذا الشعب سيلطم وجهه ويمزق ثوبه حزناً على (غازي)؟ أأحسست بالغد القريب فذهبت تستعجل القدر لتهيأ لأمتك كل شيء قبل أن تمضي، فعرضت جيشك يوم الثلاثاء لتؤكد لها القوة والأيد، وفتحت السدة يوم الأربعاء لتضمن لها الحضارة والخصب، وعطفت على آلام سورية لتنشئ لها الوحدة والعزة، وأجريت الخيل يوم الجمعة لتعلم وليدك الصغير كيف يكون فارساً قبل أوانه، كأنك شعرت أنا سنفجع فيك قبل الأوان؟(302/21)
لقد كنت قريباً منك يوم (عرض الخيل) فرأيت في عينيك وأنت تراقب أبنك معنى من معاني الغيب ولكنا ما أدركته، ومن أين يخطر على بالي أنك كنت تودعه، وتفكر فيه كيف يفقد أباه ويجد الملك، فلا يدري ما الملك ولا بني ينادى: بابا. . .؟ من كان يظن أن الملك الشاب أبن الخمس والعشرين يموت؟
من كان يظن أن هذه الهبة الكبرى إنما هي استعجال للقدر، وأن هذه الأيام العشرة إنما هي الخاتمة البارعة لتلك الحياة البليغة؟: ولكن هل تم كل شئ حتى تستريح (يا غازي)؟ لقد وعدت (وفد العروة) أن تشرفهم بلقائك وما عهدناك أخلفت قبل اليوم وعداً. لقد كمل الجسر العظيم الذي لم ينشأ مثله في عهد الرشيد والمأمون، فأين أنت لتفتحه بيدك، وتخطو فيه أول خطوة؟ لقد وصل الخط الحديدي إلى الموصل أفلا تفضلت فرعيته وافتتحته؟ لقد أجمعت أمه الشام على نصبك ملك، وتسليمك عرش أبيك على رغم الظالمين، فأين أنت لتسكن قصر أبيك في دمشق وتحتل عرشه فيها؟ لقد تهيأ العرب ليمشوا تحت لوائك إلى قمم المجد وذرى العظمة، فتقدم يا قائد العرب يا مليك؟
وأين قائد العرب؟ أين المليك؟
لقد مشى إلى رحمة الله، فإنا لله وأنا إليه راجعون!
أحين اشتدت المعظلة، واستحكم الأمر، ورجوناك للخطب لا يرجى فيه إلى أنت. .؟
أحين تعلقت بك الآمال، وأقبلت عليك القلوب، وغدوت حبيب الشعب المفدى. .؟
أحين تمت بك الأفراح، وكادت تتحقق بك المنى. . .؟
اللهم لقد حرمت كل شيخ منا ابنه، وكل فتى أخاه، وكل صبي أباه، حين أخذت سيدنا وحبيبنا وملكنا غازي!
اللهم فارزقنا الصبر، وأين منا الصبر؟
(يا غازي) أرفع رأسك ساعة وانظر إلى شعبك. إنه يحار ماذا يصنع، فهو يسكن واجماً ثم يثور نادباً، ثم يستفزه الألم فيقرع الطبول ويرقص رقصة اليأس. إنه يحمل صورتك مجللة بالسواد فلا يراها أحد حتى يبكي. على أنهم حملوا صورتك في الأفئدة ونقشها على صفحات النفوس، فأنت من كل قلب حبته، ومن كل عين سوادها؛ اسمك آهة على كل لسان، ودمعة في كل مقلة، وخفقه في كل فؤاد، ومناحة في كل بيت عربي. . .(302/22)
فيا غازي، عليك رحمة الله!
لقد لحقني اليوم طفل ما أحسبه بلغ الرابعة، فجعل يطلب مني بإلحاح ويشير بيديه؛ فأعطيته فلسين فألقاهما في وجهي، فزدتهما فرما الأربعه، فتفهمت قصده فإذا هو يطلب شارة سوداء كالتي أضعها في صدري ليعلن بها الحزن عليك، فدفعتها إليه فانصرف وهو يذكر اسمك ويبكي!
لقد رأيت عجوزاً تنظر إلى رسمك المجلل بالسواد وتبكي بحرقه كأنما تبكي فيك ولدها الوحيد، وهي تظن أنه ما يراها من أحد إلا الله!
لقد أغمي على كثير من الطلاب والطالبات لما سقط عليهم الخبر الأسود. لقد احمرت من اللطم صدور وخدود يؤذيها مس النسيم!
يا غازي، يا أيها الفتى القوي، يا أيها الفارس الطيار، ألم تعد تستطيع أن ترفع رأسك مرة أخرى لترى ما صنع شعبك؟
لقد مت من القضاء مرت ولكنا متنا من الحزن ألف مرة، وسنموت من الحزن ألف مرة، ولن ننساك (يا غازي)، مثلك ما ينسى! إن الشام الذي نادى بك مليكاً منذ أيام وكنت أنت أمله لم يبقى له أمل، فهو يبكي فيك اليوم كل شهيد من شهدائه. إنه كان يحبس دمعه من أجلك فلم يحبس الدمع من بعدك؟
إن العجوز التي كانت تتلقى أبنها وهي تهتف باسمك، لم يبقى لها من تهتف باسمه من بعدك!
(يا غازي) من لأطفال الشام، من لنسائه، من لضعافه الذين يسومهم القوي ألوان الخسف؟ (يا غازي) من لهم، وباسم من يهتفون من بعدك؟
(يا غازي) ما تيتم لفقدك فيصل الصغير وحده ولكن فقدك يتم كل عربي. ما يتم فيصل الصغير، أبداً ماتيتم، إن كل عربي له أب وخادم وصديق، إن له في قلب كل عربي مكاناً!
أحقيقة أنهم أودعوك جوف الثرى؟
(يا غازي) إني والله ما أصدق أنك مت!
(يا غازي) لقد سمعت الخبر فكذبته، ولعنت ناقله وانتظرت أن أراك طالعاً علينا، تمر مر النسيم الناعش، مرّ الرجاء الحلو بخيال الآيس الحزين، تحي شعبك، وتسبغ عليه القوة(302/23)
والحياة بابتسامتك المنيرة وفتوتك الباسلة؛ وطفقت أراقب الساعة أحسب الوقت فلم تمرّ، فشككت ولكني لم أصدق ما قال المرجفون، ورأيت النساء يبكين ويندبن، فبكيت والله ولكني لم أصدق ما قاله المرجفون. . . وشاهدت بغداد وملء شوارعها البكاء والحسرة والندب، ولبثت أشك ولبثت أرجو، حتى سمعت المدافع ووعيت صحيحة، فلم يبقى شك ولم يبقى رجاء. . . لقد تحقق النبأ فواحسرتاه. . . لن نراك (يا غازي) طالعاً علينا، لن نبصر من بعد موكبك ولا ابتسامتك ولا تحيتك، فيا غازي في ذمه الله وأمانه، يا غازي عليك رحمة الله.
يا أهل بغداد!
مات غازي فابكوا واندبوا، فعلى مثل غازي يحلو الندب والبكاء.
يا أهل بغداد!
ما فجعتم فيه وحدكم، ولكنها فجيعة العرب بسيد العرب. لقد كان منار رجائنا (معشر الشاميين) فانطفأ المنار. لقد كان لنا مناط الأمل. لقد كان لنا كل شيء. . . فيا أهل بغداد كلنا في المصيبة سواء ولكننا سنتبع طريق غازي، وسنمشي تحت لواء خليفته. حتى نبلغ الغاية التي سعى إليها ويقول التاريخ: إن العرب يبكون سيدهم الراحل لأن لهم عواطف وقلوباً، ولكنهم يخلصون لسيدهم الجديد لأن لهم مطامح وعقول. فيا غازي أذهب إلى رحمة الله مشيعاً بالحب والإكبار. ويا أبن غازي اعل العرش، وانشر اللواء واحمل التاج، فإنه ليسر روح غازي في سمائها، وعظامه في ثراها أن يخلص شعب غازي لخليفة غازي كما أخلص له.
يا غازي عليك رحمة الله. ويا خليفة غازي ابسط يديك فهذه بيعتنا، وسر بنا إلى الأمام فهذه سواعدنا وهذه أرواحنا. . . إلى الأمام. . . وعلى غازي رحمة الله والسلام.
علي الطنطاوي(302/24)
فتح في عالم الطب
يوفق إليه بحاثة وطني
للأستاذ فليكس فارس
إذا كان رجال العلم في الأقطار الغربية يترصدون كل اكتشاف ويرقبون كل اختراع يوفق إليه التفكير الإنساني أيان كان التماعه ومن أية أمة كان انبثاقه، وإذا كنا نحن في بد نهضتنا لا يتتبع منا إلا النذر اليسير خطوات العلم في مجاهل الجسم البشري ومجالات الطبيعة في مختلف مظاهرها، فقد حق علينا على الأقل أن يستوقفنا ما يوقف إليه الباحثون من أبناء وطننا، وأن يهتم الخاصة والعامة منا بأية ظاهرة من ظاهرات العبقرية التي تتجلى من حين إلى حين في أبنا هذه السلالة العربية الشرقية كأنها تباشير الشفق ودليل انبعاث لعهدنا القديم
لقد أراد البعض ممن يدعوننا إلى اتباع القافلة العلمية الغربية أن يدعوا تفرد السلالات الآرية في الذهنية الاستقرائية قائلين: إن ذهنية الشرقي لا تخصب ألا بالاستحياء والاستلهام من النفس، وإنها تقصر في مجالات التدقيق أما الظاهرات الكونية، وأن ليس لنا نحن أبناء السلالة السامية ألا الاقتباس والعمل بما يكتشف الغرب، فقلنا لهم: إن أجدادنا قد تسلموا تراث العلم مما سبقهم من الشعوب ودفعوا به إلى التكامل وتوسعوا فيه وزادوا عليه، فما أقنعهم دليل الواقع في التاريخ القديم؛ غير أن الزمان يمشي بخطواته والشرق العربي يستعيد أمه في يومه ويتهيأ لوثبته الكبرى في غده، فيعلم دعاة التقليد في مجال التفكير أن الله لم يخلق العقل من مغانيم متعددة متفاوتة الصفات في جماجم الناس؛ وأن الشعوب إذا انفرط شملها على سبل الثقافة في عواطفها وتمتعها في حياتها فأنها لا تجد أمامها إلا صراطاً واحداً في التفكير، وهي متجهة إلى العلم ومعرفة الحقائق الواحدة في جوهرها
هذه كلمة لم أر بداً من إيرادها عطفاً إلى ما سبق لي نشره في مبحث الشرق والغرب لا تدرج إلى قول كلمة في ظاهرة من مظاهر نهضتنا العلمية يحق لنا أن نباهي بها، وقد أقرها من الغرب من لهم ردُّ ما بني على التوهم والاعتراف بما يؤيده العلم الصحيح
من الأمراض التي أضلَّت أسبابها الباحثين قديماً وحديثاً داء الروماتزم أي الالتهاب(302/25)
المفصلي الحاد بأنواعه. فكان دهاقنة الطب يعرفون عنه انه داء عضال خفيت أسبابه، وعزُّ على الطب التحكم فيه إطلاقاً لأنهم لم يوفقوا إلى اكتشاف العامل الحقيقي الذي يلهب المفاصل بسمومه، ولا عرفوا نوع هذه السموم إلى أن قيض الله لطبيب مصري من هذا الشرق العربي، وهو: الدكتور نجيب فرح المقيم في الإسكندرية ان يكشف هذا العامل الخفي، ويهتك بإظهاره للعلم سلسلة من أسرار المناعة والدفاع لا في داء الروماتزم فحسب بل في غيره أيضاً من الأدواء التي لا يزال العلماء يعالجون خفاياها وحين عقد المؤتمر الطبي العربي أوائل فبراير الماضي في القاهرة تقدم الدكتور فرح إليه بتقرير مستفيض عن أبحاثه التي أعترف له بها دهاقنة أطباء الغرب واستشفوا من ورائها آفاقاً جديدة للطبابة فأورد بالأسلوب العلمي شذرات قد لا يسبر كنهها إلا رجال الطب فرأينا التحدث إلى طبيبنا الوطني استجلاء لحقيقة هذا الاكتشاف. وهكذا تسنى لنا أن نضع هذا المقال، ونحن على جلية مما نعرض
لقد وفق مواطننا سنة 1933، وهو يعالج المصابين بالروماتزم إلى العثور على جرثومة البنموكوك ثائرة في دمهم، فاستوقفته هذه الثورة في داء لم يكن يُعرف من قبل أن له بها علاقة مباشرة إذ كان من المقرر فَّنا أن البنموكوك كما تدل تسميته وهي جرثومة ذات الرئة لا يسبب إلاّ التهاب الرئة عند تهيؤ الأسباب له للخروج من استكانته
وعندما لجأ إلى طريقة (نوفلد) للتفريق ما بين البنموكوك والستربتوكِوك (وهي تقوم بإضافة صفراء مرارة الأرنب أو الأملاح الصفراوية في أنبوبة المعمل على هذه الجراثيم فتحل النوع الأول ولا تؤثر على النوع الثاني) خطر له وهو يعاين هذا التفاعل في الأنابيب أن يقيس معدل هذه المادة المعروفة باسم (بيلسيروبين) في دم المصابين فثبت لديه أنها ترتفع ارتفاعاً متفاوتاً في شدته تبعاً لقوة رد الفعل الشخصي دون أن يكون في مجاري الصفراء أي انسداد وفي الكبد أية علة يسند إليها ارتفاع معدل المادة الملونة للصفراء في الدم بالتحول، فأدرك بهذه الخطوة الموفقة أمرين هما الحلقة المفقودة في علة الروماتيزم وفي علل أخرى كما سيأتي البيان. وأثبت أن الروماتيزم الحقيقي إنما هو نتيجة لثورة البنموكوك عندما تضعف مقاومة الجسم، وأن السم الذي ينبعث عنه إنما هو المسبب لالتهاب المفاصل كما أثبت في الوقت نفسه أن ارتفاع معدل المادة الملونة للصفراء في الدم(302/26)
في هذه الحال ليس عبارة عن يرقان مَرَضيَّ بل هو رد فعل داخلي قد يبدو تحت سيطرة الغدد الصماء لحشد ما يمكن (لشبكة آشوف) الغارشية أن تمد به الخلايا من مادتها الملونة للصفراء لمقاومة البنموكوك المجتاح بتلبيده في السدم ثم حله ثم هضمه
وما احتفظ الدكتور فرح لنفسه بهذا الاكتشاف بل ذهب يكرر اختباراته وينشر عنها في كبريات المجلات الطبية، وقد سبق أن أدلى عنها ببيان في المؤتمر الثامن للاتحاد المصري للأطباء عام 1936 ونشر مثل هذا البيان في مجلة لا نسيت عام 1937، وفي مجلة أمراض البلدان الحارة في لندن عام 1938، ثم عرضه على مؤتمر أوكسفورد العالمي في جلسة ليمانفتون فدون في محضره. فكان لما جاء به هذا الطبيب الوطني من الملاحظة والاستقرار والتعليل شأن كبير لدى رجال الغرب المقطعين إلى استكشاف مجاهل الجسم واستجلاء أسرار العلل فيه
وعندما عقد المؤتمر الطبي العالي في بات من أعمال إنكلترا في أبريل سنة 1938 ووقف النطاسي (هانش) يعرض مشاهداته السريرية عن تأثير اليرقان في الالتهابات المفصلية والعضلية مكتفياً بسرد الحوادث دون الذهاب إلى تعليلها، وقف مواطننا الدكتور فرح فتناول شرح هذه الظاهرة بما اكتشفه في اختباراته انه طوال السنين من تأثير اليرقان تأثيراً ناجعاً في الروماتيزم مثبتاً أن المادة الملونة للصفراء تلبد البنموكوك وتحله وهو أصل الداء في ثورته. وهكذا جاء مواطننا في مجتمع من أكبر المجتمعات العلمية العالمية بتعليل يعززه الاستقراء والتحقيق لظاهرة كان يقف عندها الأطباء كأنها تصادف بين حلول داء الروماتيزم وظهور اليرقان دون أن يعلموا أن ثورة البنموكوك هي كلمة السر في حركة الهجوم والدفاع
أما الأمراض الأخرى التي اكتشف الدكتور فرح تأثير المادة الملونة الصفراء عليها، فمنها ذات الرئة وبعض أنواع الربو والحمى القرمزية التي تهبط الحمى والنوب فيها ويتماثل العليل بها إلى الشفاء بمجرد ظهور اليرقان وانتشار المادة الملونة للصفراء لحل البنموكوك وإبادته. ومنها داء السل والحمى التيفوئيدية التي تجد جراثيمها مرتعاً ملائماً في المادة الملونة للصفراء فتؤدي إلى استفحال الداء على عكس ما يحدث في ذات الرئة والروماتيزم والحمى القرمزية، لذلك يعمد الجسم في دفاعه إلى إنقاص معدل هذه المادة في الدم حين(302/27)
يصاب بالعلل الأولى
وهكذا أثبت مواطننا أن هناك دفاعين: دفاعاً إيجابياً ودفاعاً سلبياً تؤمَّنه الشبكة الغارشية لإمداد الجسم بقوى الدفاع عن سلامته بحسب نوع الجراثيم التي تجتاحه
هذا وإنك لتجد في تقرير الدكتور فرح من تجاربه في دم الأرنب ما يدلك على مبلغ دقته واجتهاده في التوصل بالتجارب العملية إلى نتائج لا تترك مجالاً للشك في صحة القاعدة التي يضعها، فقد تحقق أن الأرنب ذو مناعة طبيعية ضد التيفوئيد لأنه لا مادة ملونة للصفراء في دمه، ولكنه تمكن من قتل هذا الحيوان بهذا الداء بمجرد حقنه يومياً بهذه المادة بعد تلقيح دمه بباشلس ابيرت
وفي هذا التقرير عن سير السل وما يؤدي إليه ظهور اليرقان من اشتداد العلة، والاتجاه إلى نزف الدم، وعن الحمى القرمزية، والربو وتأثير المادة الملونة للصفراء فيهما، ما يطول إيراده تفصيلاً في هذه العجالة.
وبعد أن أورد الدكتور بيانه مستشهداً باختباراته وبما جاء مؤيداً لها من اختبارات من أخذوا بنظريته من علماء الغرب يقول:
إننا لا نغالي إذا نحن أكدنا أن أشد أعداء الإنسانية خطراً إنما هي البنموكوك، وباشلس كوخ لأن عليهما تقع تبعة أكثر ما نشاهد من عاهات، وما يقع من وفيات. هذا فضلاً عن أن أعراضهما المرضية تتخذ أشكالاً جد متعددة؛ وإذا ما احتلا مرتعاً من الجسم توافر الاستعداد فيه أو انكشف إحساسه فإن الأول يؤدي إلى الإصابة بالروماتزم الحقيقي، والثاني إلى ما يشبه الحقيقي، وإلى داء المفاصل على اختلاف أنواعه وفقاً للتفاعل الخاص في كل فرد.
وبعد أن يعرض الدكتور البحاثة لأنواع الأمراض التي يلعب البنموكوك دوره فيها كذات الرئة والالتهابات الشعبية والربو والحمى القرمزية والسل يعود فيضع حدوداً للتمييز بين ما تثيره سموم البنموكوك وما تثيره سموم السربتوكوك من علل مختلفة مثبتاً تأثير المادة الملونة للصفراء وأملاح الصفراء على الروماتيزم الحقيقي بعد أن يثبت البنموكوك هو المسبب له عند ثورته
ومما لاحظه مما يؤيد اكتشافه هو أن المرأة المصابة بالروماتيزم تزول أعراض هذا الداء(302/28)
منها بمجرد حبلها، لأن المادة الملونة للصفراء يرتفع معدلها إطلاقاً في دم الحامل طوال مدة الحمل
وقد حدد الدكتور فرح الأحوال التي تصح فيها معالجة المرضى بالحقن بالمادة الملونة للصفراء والأحوال التي تزيد فيها هذه المعالجة من خطورة الداء؛ وهنا تظهر الدقة البالغة حدها في الاستقراء إذ يتوصل البحاثة إلى تخطئة بعض دهاقنة الغرب في اعتقادهم أن كل روماتيزم يمكن معالجته مطلقاً بالمادة الملونة للصفراء لأن هنالك أنواعاً من الروماتيزم السلي (بونسه) تزيد خطورتها عند المعالجة بالمواد الصفراوية
من الصعب أن يتوصل كاتب إلى تلخيص كل ما أورده الدكتور فرح في تقريره من ملاحظات عززها بالرسوم العديدة المأخوذة عن مجالات المجهر ليبين التفاعل الذي تثيره مقاومة الجسم بين بعض أنواع الجراثيم والمادة الملونة للصفراء؛ فلمن تروق له هذه الأبحاث من غير الأطباء أن يرجع إلى المجلة الطبية حين صدورها ناشرة محاضرات أطباء البلاد العربية ولكل منهم أثر بين في دقة الملاحظة في الموضوع الذي تناوله مما يسجل للنهضة العلمية في الشرق العربي ما يرد قول القائلين بانحصار العبقرية السامية ضمن نطاق الذات المستلهمة وقصورها في الاستقراء والتحليل والاستنتاج في رحاب العلم والتحقيق العملي
إن القصور في نهضتنا لا يتجلى في جهود الأفراد ولا في استعدادهم فكرياً وعملياً، بل القصور كله كائن في هذا التفكك بل التناحر الذي يسود كل فئة من الجامعات في أوطاننا، إذ بينما تجد التضامن سائداً بين تجار البلاد الراقية وزراعها وصناعها وأطبائها وعلمائها وأدبائها لا تعرض لك هذه الفئات عندنا سوى التناحر والمزاحمة مما يؤدي إلى تقلص الهمم وانكماش العبقريات على نفسها. وقلما تجد كاتباً لم تنزل به النوائب من كاتب، أو تاجراً لم يزعزع تجارته تاجر، أو زراعاً لم يقطع أشجاره زارع، أو طبيباً لم يهزأ به طبيب. تلك هي علتنا، وإن نحن سجلناها على أنفسنا فما نقصد مجاراة من قالوا بضعف طبيعة الشرقي ونفور فطرته من كل تعاون، إنما نسجل هذا العيب على أنفسنا، وفي تاريخ أوربا في بدء نهضتها ما يشبه عيبنا بل ما يتعداه بمراحل؛ وليت وقائع كولومبس وغاليله وباستور متوارية وراء غياهب التاريخ. هذا وإننا نرجو آن يأخذ العقلاء بيننا بعبر الأيام(302/29)
وحوادث الدهر ليعلموا على لمَّ الشمل وتوحيد الجهود وأن ينال علماء البلاد قسطهم من تعضيد الحكومة للنهوض بهذه الأمة المتفجرة ذكاءً وعبقرية ونبلا فتتبوأ المقام الذي حق لها في ماضي الحقب وهو حق لها في آتي الزمان
فليكس فارس(302/30)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأدب يصور البيئة العامة
قلنا إن الأدب هو البيان المعرب عما يكنه ضمير الإنسان، وما تشعر به عاطفته، وما يصوره خياله من هذا العالم خيره وشره وجماله وقبحه؛ فهو صورة للبيئة التي يعيش فيها، والواقعات التي تنزل به، والآلام واللذات التي يحسها، والآمال والمكاره التي يرتقبها
يرى في إقليمه المروج والرياض في بهجتها ونضرتها، والجبال والبحار في عظمتها وروعتها، والغابات والصحارى في وحشتها ومخاوفها، فيبين عما يرى كما توحي العاطفة ويصور الخيال.
ويرى ألوانا ًمن العيش الرغد أو العيش النكد، وضروباً من السرور واللهو أو فنوناً من الحزن والغم
ويرى دولات من الظفر والغلب، وأخرى من الخيبة والهزيمة، فيتعاون على الإبانة عن هذا وذاك فكره وعاطفته وخياله
ويشهد شقاقاً في أمته، ونزاعاً بين عشيرته، أو يرى المودة والسلام والألفة والوئام، فيطبع في نفسه صورة الشقاق والنزاع والحرب والطعان، أو يتمثل في ضميره صور المودة والسلام والحب والإخاء
ويحيط به سلطان جائر يتحكم في فكره ووجدانه، ويسومه صنوف الذلة والعذاب، فيستنيم ويستكين حتى تموت المعاني في وجدانه، وتجف الألفاظ على لسانه، أو يأبى مجادلاً، ويصيح مغاضباً، ويتخذ البيان حجته وسلاحه، وجداله وكفاحه أو يتاح له سلطان عادل صالح يوسع له في الحرية ما وسعت الحرية الصالحة، فينطلق فكره في العالم، ويترجم عما يدرك وبشعر جهد بيانه، وملء قلمه ولسانه، لا يخشى حسيباً، ولا يخاف رقيباً
ثم البيان في هذا كله على قدر الفكر الساذج والمعارف القليلة، أو العقل الواسع والعلم الغزير، يختلف باختلاف مدارك القائل ومعارفه، ومشاهده وتجاربه
تغير الأدب(302/31)
فإن يكن الأدب صورة للبيئة والحادثان، وترجماناً لحالات الأمة ومشاعر الإنسان فتغير هذه الأمور يغير الأدب. فإن كان التغير ارتقاء إلى الأحسن والأعلى مثل الأدب هذا الارتقاء، وإن كان ارتكساً في القبيح والأدنى صوّر الأدب هذا الارتكاس. فالأمم تختلف آدابها باختلاف بيئاتها وأحوالها، والأمة الواحدة تتغير آدابها بتغير عصورها وأطوارها، والأفراد في الأمة الواحدة تختلف آدابهم باختلاف فطرهم ومشاهدهم، وافتراق حظوظهم من العيش، وأنصبائهم منن المعرفة. وهلّم جرّا
المؤثرات في الأدب
فالمؤثرات التي تغير الأدب متشابكة، ظاهرة وخفية يعسر إحصاؤها والإحاطة بها، ولكن يمكن تعداد أصولها فيما يأتي:
(أ) البيئة الطبيعية:
إذا تغيرت بيئة الإنسان تغير أدبه ارتقاء أو انحطاطاً، أو رقياً في ناحية ونزولاً في أخرى. والتغير هنا له سببان: الأول اختلاف المرائي والموضوعات بين البيئة الحديثة والبيئة القديمة، والثاني تغير الإنسان نفسه بتأثير البيئة وذلك لا محالة يظهر في أدبه
فالعرب حينما هجروا مواطنهم في الجزيرة إلى العراق وفارس والشام ومصر والمغرب والأندلس تغير أدبهم تغيراً واضحاً: ضعف إحساس البداوة القوي الذي يظهر في وصف الصحراء والإبل والخيل وُحمرُ الوحش والظباء والنعام، وفي وصف السفر والكد والحروب - واستبدلوا به رفاهية الحضارة ورقة شعورها. فنشأ الشعراء الذين عرفوا في الأقطار الإسلامية بعد أن اطمأنت الأجيال العربية إلى البيئات التي طرأت عليها
(ب) واختلاف أحوال الحضارة ومنها:
1 - الحال العقلية: فشيوع العلم والفلسفة واتساع المعارف يجعل الأدب أعمق. وأشمل لحقائق العالم ودقائق الطبيعة والحياة.
فشعراء الدولة العباسية وشعراء الأندلس (مثلاً) أبعد غورا وأوسع مجالاً في تفكيرهم، وتصويرهم من شعراء الجاهلية، وصدر الإسلام.
وتأثير المعارف في الأدب يظهر في النثر أكثر من الشعر. لأن النثر أولى بمباحث الفكر،(302/32)
وأقبل للنظر العميق؛ ولذلك نرى سعة المعارف أبين في كتابة ابن المقفع والجاحظ، وبديع الزمان والتوحيدي، وابن العميد، وابن شهيد، منها في شعر أبي نواس والبحتري وأبي فراس. وربما يقارن انتشار العلوم ضعف الأدب لأسباب أخرى كسوء السياسة، وقلة المكافأة، والإسراف في الترف. وليس الضعف من انتشار العلوم، ولكن من هذه الأحوال المقارنة
فإذا رأينا القرن الخامس الهجري أوسع علماً وفلسفة من القرنين الثالث والرابع ولكنه في الجملة أضعف أدباً منهما، فذلك لا يرجع إلى اتساع المعارف بل يرجع إلى أسباب أخرى
وإذا رأينا الأدب قليلاً بين العلماء المنقطعين للعلوم فذلك بما اغفلوا الأدب أو قلت عنايتهم به؛ أو لأن فطرتهم التي وجهتهم إلى درس العلوم لا يلائمها درس الآداب. فأما إذا تساوى اثنان في الفطرة الأدبية والاتجاه إلى الأدب فأوسعهم معرفة أعظمهم أدباً وأقرب إلى نفوس الخاصة من الناس. وربما يفوقهم الآخرون حظوة عند العامة بما شاركوهم في الشعور ولم يرتقوا عنهم بالمعرفة والفكر كثيراً
2 - الأحوال الاقتصادية:
إذا شغلت الأمة بتحصيل قوتها وأنفقت معظم وقتها في كسب معيشتها لم تزدهر فيها العلوم والآداب والصناعات. وإذا وجدت فراغاً بعد تحصيل القوت انصرفت إلى شئون الحضارة من العلم والأدب وغيرهما
فانتظام ثروة الأمة ورغد عيشها يعين على إزهار الآداب بما تجد النفوس من فراغ وبما يكثر أمامها من ألوان الحضارة وبدائع الصناعة والعمران التي تحرك الشعور للبيان
وانظر الحجاز قبل الإسلام وفي صدر الإسلام ثم بعد قرون تجد خلافاً بيناً في الثروة وفي الشعر. فالعرجيّ وعمر بن أبي ربيعه وكُثّير وابن قيس الرقيات، يبنون عن شعور دقيق وإحساس رقيق لم يكن لشعراء الحجاز قبلاً
وانظر ما فعلت مراثي الحضارة بالبحتري في وصف قصور الخلفاء، وما وصف شعراء الأندلس من مظاهر العمران والنعيم
وإن يكن إلحاح الفقر أحياناً يجوّد الأدب في بعض الناس فذلك يكون في أمة قد مكّنها ثروتها العامة أن تنتج أدباً. وأما الأمة التي يعمها الفقر وتُبرّح بها الفاقة، فلا ينبغ فيها(302/33)
أديب إلا على الندرة والشذوذ
عبد الوهاب عزام(302/34)
على هامش الفلسفة
طريقة الأخلاق أيضاً
للأستاذ محمد يوسف موسى
إذا كان استنتاج الأخلاق من الدين وربطها به حسب ما كان يراه رجال الدين المسيحيون منقوداً كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار فلاسفة ما وراء الطبيعة.
شغل كثير من الفلاسفة أنفسهم ببحوث ما وراء الطبيعة التي أهمها تعرّف القوة الموجدة لهذا الكون والتي إليها الأمر والنهي وهي مصدر الخير كله، ثم استنتاج الأخلاق منها، سواء منهم من تقدم بهم الزمن أمثال أرسطو وأفلاطون أومن تأخر بهم أمثال: ديِكارْت، لِيبْنز، سْبيِنوزا، مَالبْراَنشْ.
هذه الأخلاق المبنية على مباحث ما وراء الطبيعة لها حظها من السمو والجلالة بجعلها للخلقية الإنسانية معنى كبيراً نبيلاً إذ تربطها بالله العلي الحكيم. على رغم ما بين علماء ما وراء البيعة من اختلافات جوهرية في حل مشكلة العالم، تراهم جميعا متفقين على الاعتقاد بأن للمرء عقلاً نظرياً يصل من نفسه بلا حاجة لتجربة ولا لشيء آخر إلى معرفة الحقيقة الطلقة أي إلى معرفة الله تعالى، ومن هذه المعرفة العالية المباشرة تصدر الأخلاق. فالله هو مصدر كل حقيقة موجودة، والكائن الكامل ومبدأ الحياة الأخلاقية؛ فكرة الكمال هذه هي نقطة التحول مما وراء الطبيعة للأخلاق. كما أن نسب الكثرة هي موضوع الرياضيات، تكون نسبة الكمال موضوع الأخلاق والأساس الذي نبني عليه حكمنا على الأشياء والأعمال. الدابة كما يقول مالْبرانْش أوفر حظاً من التقدير من الحجر لأنها أقرب منه للكمال. والأمر على العكس بين الدابة والإنسان لأن نسبته من الكمال أوفى وأكبر من نسبتها منه؛ فالذي يحترم مثلاً حصان عربة أكثر من سائقها يكون ضالاً في حكمه متنكباً سواء السبيل. كذلك من الواجب أن نلاحظ أنه يوجد في المرء نسب متفاوتة من الكمال بين مختلف أعضائه، وهذه النسب تتباعد تارة وتتقارب أخر إلا أنها تتفاوت على كل حال؛ فالروح مثلاً أكمل من الجسم، والعقل أكمل الحواس
من أجل هذا يجب أن يعيش المرء كإنسان لاكحيوان، وأن يكون في سلوكه حسب النظام(302/35)
الذي يوحي به إليه أكمل ما وهبه الله وهو العقل، ومعرفة هذا النظام هو أصل الخليقة. يجب على المرء أن يحيا طبقاً لأكمل عضو إنساني فيه وهو العقل الذي يؤلف بين الناس، بينما تفرقهم الشهوات والعواطف والمصالح الخاصة. بسلوك المرء هذا السبيل يصل للسعادة. ليس القصد السعادة الخارجية التي مردها الحظ أو الثروة أو الجاه أو كل ذلك وأمثاله معاً، بل السعادة الداخلية والغبطة النفسية التي هي أسمى ما يطمح إليه إنسان والتي ينالها المرء من التخلق بالفضيلة والوصول للكمال بالقدر المستطاع.
بهذا ونحوه يؤكد فلاسفة ما وراء الطبيعة إمكان استنتاج الأخلاق من تلك الأبحاث. إلا أن هناك صعوبة لا يسعنا تجاهلها تقف دون نزولنا على ما يريدون. أمامنا تاريخ الفلسفة يؤكد لنا بلا ريب أن الآراء في جميع مسائل ما وراء الطبيعة، والحلول التي عرضت لمشاكلها كانت جد مختلفة على نحو لم يعهد في الآراء الأخلاقية التي يرون استنتاجها منها وابتناءها عليها. حقاً من الممكن أن نقرر بلا مغالاة تقارب النظريات الأخلاقية في المثل العليا الأخلاقية؛ هي تأمر بفضائل واحدة، بينما لا تجد مثال هذا التماثل، ولا قريباً منه في حلول مشاكل ما وراء الطبيعة. من السهل أن نأخذ كثيراً من الآراء الأخلاقية عن سقراط، أو أفلاطون أو أرسطو، أو سبينوزا مثلاً دون أن نتقيد بشيء ما من آرائهم فيما وراء الطبيعة. ذلك معناه أن معين الأخلاق ليس فلسفة ما وراء الطبيعة، لهذا نرى أن هؤلاء الفلاسفة في حاجة شديدة لمهارة جدلية فائقة لربط المبادئ الأخلاقية التي جاءتنا عن الضمير الإنساني، والتي أمدتنا بها أمثل التقاليد العالمية الإنسانية بآرائهم في مسائل ما وراء الطبيعة. وإذاً فلنقل بحق إن ربط الأخلاق بما وراء الطبيعة ليس إلا سفسطة في الغالب من الحالات
إذا كان لم يسلم استنتاج الأخلاق من فلسفة ما وراء الطبيعة، كما لم يسلم القول بأخذها من الدين على النحو الذي أسلفنا، فهل من الممكن استنتاجها من بعض العلوم؟ هذا ما رآه (أوُجست كونت) إذ بنى أخلاقه على العلم الذي تنتهي إليه العلوم، وهو علم الاجتماع
علم الاجتماع يقرر أن الفرد ليس إلا أثراً من آثار المجتمع والإنسانية. الإنسانية هي الموجود الأكبر الذي يستمد الفرد منه كل كيان ومقوماته، فهو يتقبل من المجتمع الماضي والحاضر كل ماله وكل ما هو. ما نأكل وما نلبس وما نتمتع به في مختلف مناحي الحياة(302/36)
ليس إلا نتيجة عمل الإنسانية الخالدة التي لا تفتر عن العمل لحظة من اللحظات لخير المجتمع كله. أليس ما ننعم به اليوم من سيارات وطائرات وراديو ولا سلكي وكهرباء بعض أعمال شركائنا في الإنسانية الذين عانوا في سبيل ابتداعها أو كشفها كثيراً من الآلام وعملوا لأجلها مالا يستهان به من التضحيات؟ ثم من الناحية العقلية والأدبية نجد اللغات والعلوم والآداب إرثا اجتماعيا أمدتنا به الإنسانية على طول الأيام.
لهذه النظريات الاجتماعية يستنتج (كونت) هذه النتيجة الأخلاقية وهي: أن الفرد يجب أن يعيش لأجل العائلة والإنسانية، وبعبارة أخرى يجب أن يكون مبدأه (الحياة لأجل الغير). إذن تكون الأخلاقية أو الخلقية هي أن نمكن للإيثار على حساب الأثرة. بل يقول أحد من يرون هذا الرأي وهو الأستاذ (جوبلو (ليس الإحسان عطية يقطعها المرء من ماله، بل هو تعويض واجب عليه دفعه)
حقاً هذا استنتاج جميل تعلق به الأفئدة ويتفق مع أعلى التجارب الأخلاقية للإنسانية، ولكن نقطة السير في هذه الأخلاق المبنية على هذه النظريات ليست من القوة والتسليم بحيث تفرض نفسها على العقل بطريقة جازمة. كون الفرد ليس إلا أثراً من المجتمع محل نزاع قوى. الضمير النفسي الذي يكشفه الإنسان في نفسه حقيقة من الحقائق، أل (أنا) حقيقة يقينية لا شك فيها، بل ربما كانت الحقيقة الآكد من سواها. لأنه كما يقول (ديكارت): (من الممكن أن أشك في العالم الخارجي ولكن لا يمكن أن أشك في شكي هذا. لا يمكن أن أشك في فكري. ليس من الممكن أن أشك في وجودي ككائن مفكر. إذن أنا أفكر فأنا موجود)
ثم هذا الاستنتاج الكُونتي يصلح حقيقة لإثارة النفوس المتشبعة بالمثل الأعلى الأخلاقي، إلا أنه لا يفرض نفسه منطقياً على كل النفوس والعقول. هذا امرؤ يعتقد الواجب ويؤمن به، فحينما يفهم أنه صنيعة العالم والإنسانية وأنه بدونهما لا يكون شيئاً، يجد من المنطق أن يرد الجميل وان يحيا في سبيل الغير. وذاك الذي ليس عنده أية فكرة سابقة عن الواجب، أية مخالفة للمنطق في قبوله كل مقوماته من المجتمع دون أن يرد له شيئاً، حقيقة ليس من الأخلاق أن ينفق المرء في سبيل لذائذه الأنانية الأموال التي جمعت بطريق الغير، والقوى المركزة فيه من الأسلاف السابقين. لكن هذا إن لم يكن من الأخلاق ليس من السهل وصفه بأنه لا يتفق مع الروح العلمية المنطقية(302/37)
والنتيجة العامة بعد ما تقدم كله أنه لا يمكن استنتاج أخلاق صالحة مقبولة من الجميع من الدين - على نحو ما كان يفهم رجال الديانة المسيحية - أو من فلسفة ما وراء الطبيعة أو من علم الاجتماع الذي يعتبر نهاية العلوم. إذن فلنترك مؤقتاً الطريقة الاستنتاجية، ولنوجه البحث نحو الطريقة الثانية وهي الرجوع في الأخلاق إلى الحاسة الإلهامية، وإلى اللقاء إن شاء الله
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(302/38)
ربيع وربيع!
هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة ويا طفلتي الجميلة: صفاء من سلام النفس يفيض بشراً في العين وطلاقة في الوجه، ورُواء من ألَق الشباب يشع نوراً في السماء وسروراً في الأرض، ورخاء من نعيم الطبيعة ينتشر عطوراً في الجو وزهوراً في الروض، وانتشاء من رحيق العيش يشيع لذة في الحس وبهجة في القلب، وهدهدة على أرجوحة الحب تذهب مع الأمل الباسم وترجع مع الرضى السعيد
هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة ويا طفلتي الجميلة: استغراق في أمان الله، وإطلاق لمتاع الحياة، واتساق ربيع العمر مع ربيع العام، واتحاد الجمال البشري بالجمال الإلهي الماثل في وشاء الحقول وأفواف الخمائل وأعطار النسيم وألحان الطير وأنفاس الأحبة. فأين - بالله ربكما - أجد الفرق بينكما وبين ملكين يعتنقان في نشوة الخلد، ويأتلقان في وضاءة الفردوس؟ أفي النظرة الساهمة، أم في البسمة الحالمة، أم في الفتنة النائمة، أم في الخلو الحقيق بالطهر، أم في الحنو الخليق بالأمومة، أم في الذهول الغريق في اللذة، أم في الصبي الذي يضوع بريح الجنة، أم في الحلم الذي يصل باللانهاية؟
هذا ربيعكما يا فتاتي الفاتنة ويا طفلتي الجميلة؛ وما كان أحرى الناس أن يكون لكل امرئ ربيع مثله! ولكن النفوس إذا عاث فيها الشر أجدبت فلا تُربْع، واضطربت فلا تطمئن! هذا ربيعنا يا زهرتي النضيرتين يلفح بالسَّموم ويطفح بالهموم ويضطرم بالعداوة! كأنما استخلف الله الشياطين على حكم الأرض؛ ففي كل دولة إبليس، وفي كل أمة جهنم. ومن طباع الأباليس كراهة الفراديس. فهم لا يريدون سلاماً في وطن، ولا يحبون ربيعاً في زمن، ولا يدعون آدم في جنة. هذا مَفيستو فولِس النازي وشمهورش الفاشي أصابهما الله بنمو القرون فجأة، فتأبَّها وًتألها ونازعاه ملكوت الأرض، فأحدهما يريد أن يعبده الغرب، والآخر يريد أن يعبده الشرق؛ وهما لذلك يحشدان كل ما في الجحيم من سُموم ونيران وحُمم ليدمرا في أيام معدودات سكان الدنيا وحضارة الدهر! والعالم كله قد وقف أمام الشيطانين موقف الدفاع لا تنتج معامله غير الخراب، ولا تخرج مصانعه غير الموت، ولا تحرك دوله غير الجيوش، ولا يفكر ناسه إلا في الحصون والخنادق والأسلحة والمخابئ والأقنعة!
فكيف يكون لربيعنا في هذا الجدب ازدهار، ولنفوسنا على هذا الفزع استقرار، ولحضارتنا(302/39)
مع هذا البلاء استمرار، ولحياتنا على هذا الحال المحزنة جمال ولذة؟!
لعن الله يا ابنتي حوا شياطين الإنس وشياطين الجن، فإنهم لو لم يخلقوا لكانت الأرض كلها جنة، والناس كلهم ملائكة!. . .
ابن عبد الملك(302/40)
من ذكريات شم النسيم
يوم لا أنساه. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
كان ذلك في طنطا منذ ست سنين، وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية قد جمعْتنا على الوداد أواصر لا تنفصم، فما نفترق إلا على ميعاد. وكان لنا من دار صديقنا أمين. . . ندوة نختلف إليها في مواعيد رتيبة، نقرأ ونتزود ونناقش الجديد من مسائل العلم والأدب، لا يكاد يفوتنا شئ مما تخرج المكتبة العربية؛ فإذا التقينا فثمة مذاكرة أو مناظرة أو رأى جديد؛ وإذا افترقنا فلكي يخلو كلُّ منا إلى نفسه وقتاً يتهيأ فيه لموضوع يطرحه على الجماعة في الاجتماع التالي؛ وما كانت الفترة بين الاجتماعين تزيد على يومين اثنين. . .
كنا نعيش عيش الرهابين قد فرغوا من الدنيا واخلصوا أنفسهم لما هم فيه؛ فما لهم من دنياهم إلا التسبيح والعبادة، وما لشيء عليهم من سلطان إلا ما اختاروا لأنفسهم!
وجاء (شم النسيم) فقال قائل منا: (أين تقترحون أن نقضي ذلك اليوم؟)
وما اختلفنا على الرأي، فما كان يعنينا أين نقضي يومنا، إذ كان كل ما يعنينا أن نكون معاً نعمل ما نعمل على النهج الذي فرضناه على أنفسنا منذ تعارفْنا: أي نقرأ ونتذاكر!
واجتمع رأينا على أن نخرج في ذلك اليوم إلى ضاحية قريبة من المدينة لا أسميها، حيث نقضي يومنا هناك في مصلَّى كبير يعرفه بعض أصحابنا على حافة ترعة من تلك الضاحية. . .
والتقينا على موعد قبيل الشروق وما أفطرنا بعد، فاتخذنا طريقنا بين الحقول الناضرة إلى حيث نريد، يحمل كل منا في يده أو تحت إبطه ما يقدر عليه من طعام وفاكهة وحلوى، ومن دفاتر يقدّر أن سيقرأ منها ما يقرأ في ظل شجرة الصفصاف الحانية على ذلك المصلى. . . ولم يغب عنا تدبير الماء الرائق، فحملنا ما يكفينا في زجاجات بأيدينا. ولم يتخلف عن الجماعة في ذلك اليوم إلا صديقنا الذي اختار لنا هذه الرحلة، لأنه آثر أن يساف لزيارة خطيبته في القاهرة، وقد أراد الله لنا وأراد له. . .
سارت الجماعة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، نتجاذب أطراف الحديث في صفاء وانشراح؛ لا يكاد يخطر في بالنا شيء إلا ما يجرى على ألسنتنا من فكاهة أو حديث مرتجل. . .(302/41)
وخلّفنا المدينة وراءنا، فما تقع عيوننا إلا على زرع وماء، وقطرات الندى تلمع على أوراق البرسيم صافية تترقرق، وأشعة الصبح تداعب عِشاش الطيور في أعالي الشجر، والنسيم الرقراق يهمس في آذاننا بشرى ميلاد يوم جديد من أيام الربيع الضاحك!
واستخفنا الطرب؛ فأخذنا نمزج لاهين عابثين، وتخفَّفْنا من بعض ما كنا نحمل على كواهلنا من وقار، وانبعثت فينا روح جديدة لم يكن لنا بها عهد في أنفسنا قبْل، فإذا نحن ناس كالناس حين تصفو لهم الحياة ويعتدل الجو. . .
ومددت نظري إلى بعيد، فإذا المرحوم الرافعي على مدَّ البصر يمشي على حافة قناة بين زرعين يتنسم نسيم الصباح، شأنه كل يوم. قلت لصحابتي: (وهذا رفيق مؤنس!) ثم أقبلت عليه أسأله أن يرافقنا؛ فقال: (وددت ولكن في غير هذا اليوم. . . أسأل الله لكم العافية!)
ومضينا على وجهنا نمزح ونضحك لا يعنينا من أمر شيء؛ وأغفلْنا ما كنا نلتزم من تزُّمت الشيوخ ووقار المعلمين؛ وكان صديقنا (م) أسرعَنا إلى التخفُّف من وقاره على أنه أكبرنا سنَّا؛ فلما ثقل عليه ما يحمل من طعام وماء وكتاب، خلع المعطف الأبيض عن كتفيه، فبسطه على الأرض، فألقى عليه ما كان يحمل، فَصَرَّه فيه وحمله على كاهله. وراقتْ فكرتُه زميلاً منا، فألقى إليه بما كان يحمل كذلك، وتعاوَنا على حمل المعطف من طرفيه وعليه ما عليه كما يبسط بساط الرحمة في جنائز بعض الموتى. . .
. . . ورأينا باباً جديداً إلى المزاح، فألقى كل منا في المعطف بما كان يحمل، وتركنا لزميلينا أن يحملا وحدهما ما كنا نحمل جميعاً، لنفرغ إلى المزاح والسخرية والضحك!
ودنونا من المكان الذي نريد؛ وبدت لنا القرية على مقربة؛ فمررنا بنسوة يملأن جراتهن من الترعة على مورد قريب من المصلى الذي نهدف إليه؛ فما كدن يريننا حتى استهواهن المنظر، فقذفن إلينا بعض نكات مازحات في مرح، أو عابثات في دلال!
أما طائفةٌ منا فعادَهم وقار المعلمين وتزُّمت الشيوخ، فطأطئوا رؤوسهم يهرولون في خجل إلى حيث يريدون؛ وأما طائفةٌ فأجابت نكتة بنكتة ونادرة بنادرة. . .
وبلغنا المصلى وتركنا النساء حيث كنّ. . . وخلعنا أحذيتنا، وتخفَّفنا من بعض ثيابنا، واتخذنا من أغصان شجرة الصفصاف مشجباً نعلق عليه من طرابيشنا ومن ثيابنا؛ وافترشنا الأرض وبسطنا السفرة نأكل. .(302/42)
وجلس اثنان يداولان الرأي في مسألة، وانتحى اثنان من المصلى ناحية، وتناول خامس كتاباً بين يديه، وتوسد سادس ذراعه، واشتغل كل بشأن. . .
وخلع (زهران) طربوشه، فبدت صلعته مصقولة لامعة تحت الشمس؛ فما تعرف أين ينتهي جبينه وأين يبدأ رأسه. . . وكانت مادة حديث. . .
ومر بنا طائفة من الفلاحين فنظروا نظرة ثم مضوا يتهامسون ووقف غلامان يشيران إلينا من بعيد، وتجاوزنا طفلان يُلقي أحدهما في إذن صاحبه حديثاً يضحك منه. . .
وتثاءب زهرانُ وتمطَّى وقال لي: هل لك أن تسابقني عَدوْاً على هذا الطريق؟ فأجبته إلى ما دعا. . . ولم أكن أعلم أن ثمة شراً يتربص!
وأخذنا نعدو ليس في أرجلنا نعل تقينا وخزات الحصى، ورأسي عار إلا من الشعر، ورأسه عار من كل شيء وترامت إلينا كلمات ساخرة وعبارات لم تألفها أذناي؛ فنال منى أن يسخر الفلاحون منى ومن صديقي. . . وأتممنا في السباق دورة؛ وهممت أن أجلس لأستريح، ولكن صديقي أباها علي؛ وعدنا إلى السباق، وعادت كلمات الساخرين تسك مسمعي!
وقلت لصديقي: (تعال نَعُد إلى إخواننا!) ولكنه وقد كان رأسه موضوع السخرية ومحور حديث الساخرين، أبى إلا أن يأخذ بحقه!
إن الفلاحين في مصر لأكرم نفساً وأرحب صدراً من ذلك؛ فما كان بهم أن يسخروا منا ولكنهم أرادوها تحرشاً وكيداً. . . ترى ماذا ظنوا بنا فحملونا على ما لم نكن نقصد إليه؟
وكان ثمة غلام في يده منجل يحش به البرسيم، وعلى شفتيه كلام، فقصد إليه صاحبي يعتب عليه معتبة؛ فما كانت إلا كلمة وجوابها ثم رأيت المنجل المسنون يحزّ في يد صاحبي فيسيل دم. . . وتجاوبت في الفضاء صيحتان، ثم سال الوادي فتياناً وكهولة مسلحين بالعصي والهراوات والشر يلمع في عيونهم!
وأحيط بنا فما وجدنا سبيلاً إلى الخلاص، واشتجرت العصي على رؤوسنا وأبداننا فلا نجد ما نحتمي به إلا أن نعقد من أيدينا على رؤوسنا مجِنّةً تقينا ضربةً قاتلة؛ وحاولنا الكلام فما أطقنا، ولو أطقنا لما وجدنا في هذا الجيش الثائر من يسمع؛ وأسلمنا أرجلنا للريح نعدو ونتعثر وما تزال العصي تنال من أبداننا وهم يحصبون أرجلنا بالحصى والحجارة. . .(302/43)
ورأى أصحابنا على مبعدة ما نالنا فخفَّوا إلينا سراعاً حفاةً عراة الرؤوس؛ فما كان سعيهم إلا لينالوا نصيبهم من هذه المعركة الدامية؛ معركة لم يكن لنا فيها يدٌ ولا لسان وما نعرف لها من سبب! وأسرع من أسرع منا إلى دار العمدة يستعينه على تهدئة هذه الفتنة فأغلق دونه بابه. . .
وما كان لنا من وسيلة للدفاع عن أنفسنا غير الهرب، وهيهات. . .!
وبلغْنا المصلَّى عدْواً فقذفنا بأنفسنا بين متاعنا نلتمس الحماية والأمن في جوار الله فما أجدى ذلك علينا. واشتدتْ هجمة الفلاحين علينا، فإذا نحن محصورون بين نارين: العدوّ من أمامنا والبحر من ورائنا!
وأسرع واحدٌ منا إلى المتاع يجمعه فصاح منهم صائح: هذه هي الزجاجات! وقال آخر: يشربون الخمر في بيت الله! وقال ثالث: ويل لهؤلاء الفجرة!
. . . وفي هذه الُحمَّى الثائرة ثاب إلي عقلي ففهمت، فابتسمت، وإن الدم ليسيل من يدي ومن جبيني! لقد انكشف السر. . .
وما أدري ماذا كان بعد؛ فقد سقطت على أرض المصلّى فاقد الرشد!
وأفقت بعد قليل، وإن الماء الذي كانوا ينضحون به وجهي ليصل إلى كل جزء من جسدي؛ وكان جزء من جسدي؛ وكان شيخ البلد جالساً يحقّق ويدقق وقد أحاط به أصحابي مكلومين ملطخي الثياب بالدم والوحل كأنهم أشلاء معركة!. . .
وعرفت القرية كلها بما كان، فخفّ إلينا شيوخها وأعيانها معتذرين يحاولون أن يزيلوا من أنفسنا ما كان من أثر هذه المعركة المشئومة!
وقال العمدة معتذراً: (أحسب أن أثرها سيزول من أنفسكم بعد إذ عرفتهم ما كان من ظنهم بكم وإن قريتنا لكريمة مضيافة؛ فما استفزّ أشرارها إلى ما كان إلا اللعينُ الذي زوًّر عليهم الخبر بأنكم تشربون الخمر في مُصَلىَّ القرية. . .!)
ومازال بنا العمدة وحاشيته حتى صفحنا وتناسينا؛ ولكننا على ما بنا لم نطق بقاء في القرية بعد، فحملنا متاعنا وفارقْنا القرية قبل ان ينتصف النهار، يشيعنا بالاعتذار من شيّعنا من أهلها وما منا أحدٌ إلا في وجهه أثر باد يشير إلى ما كان!
فلما صرنا على مقربة من المدينة، وقد عاد المشيعون من أهل القرية أحسسنا التعب،(302/44)
فجلسنا في ظل شجرة على الطريق نستريح، وهممنا أن نبسط ما كان معنا من طعام شهي لنأكل، فما وجدنا في أنفسنا رغبة، فتركناه لجماعة من القرويين لم ننتفع منه بشيء!
وأخذنا نسترجع ما فات، فتعاهدنا على الكتمان حتى لا يعلم أحد بما نالنا، فإن لنا في المدينة لسمعة نحرص عليها أن تنوشها ألسنة السوء بالباطل؛ ثم أصلحنا من ثيابنا ما استطعنا واستأنفنا المسير إلى بيوتنا فبلغنا عند الأصيل. . . وقضيتُ في فراشي بضع عشرة ساعة أتلوّى من الألم لا يحس أحد ما بي. . .
وفي الصباح توكأت على نفسي إلى المدرسة لا تكاد تحملني قدماي، في غيظ مكظوم وألم صامت. ولقيت في المدرسة بعض رفقائي في الرحلة المشئومة؛ فأكَّدنا ما تعاهدنا عليه أمس من كتمان ما كان. . .
وسألني ناظر المدرسة عن بعض ما ينكر من حالي فتعّللتُ بعلة، وسأل زميليّ فما أخطأ الاعتذار!
وتحدثت إلى سائر زملائي في مدارسهم بالمسرة لأطمئن عليهم فأجابوني. وانتصف النهار، وإذا داعِ يدعوني من حجرة الدراسة إلى لقاء جماعة من الُّزوَّار، فذهبت إليهم حيث كانوا فإذا عمدة القرية وجماعة من حاشيته وبينهم زميلاي وناظر المدرسة، وابتسمتُ وابتسموا، وقال العمدة: (لقد جئت لأكرر اعتذاري وأسألكم الصفح!)
ونال مني الغيظ، فقلت: (لقد كنت صفحتُ أمس، أما اليوم فلا، مادمتم أذعتموها بعد كتمان!) ولم أستطع أن أغالب الضحك جواباً على فكاهة رائقة من ناظر المدرسة. وعاد العمدة الغبي يقول: (لقد مررت بإخوانك جميعاً فاعتذرت إليهم في مدارسهم. إنني منذ الصباح أطوف المدينة على قدميّ ألتمس الوسيلة إلى رضاكم؛ ولكنى لم أذهب بعد إلى الأستاذ فلان المدرس بالمعهد الديني، وهاأنذا ذاهب إليه!)
قلت: (فلان المدرس بالمعهد الديني؟ حسبك معذرةً؛ سأنوب عنك في الاعتذار إليه، وقد صفحتُ وصفح إخواني!)
وما جاء المساء، حتى كان الخبر على كل لسان في المدينة؛ فقائل: (أخزاهم الله؛ لقد انكشف مستور هم!) وآخر يعقّب: (يا شيخ؛ حسبهم ما نالهم!)
ولقيت الرافعي بعدها فقال لي شامتاً: (. . . هو ذلك. إن الشر ليتربص بالمسلم الذي(302/45)
يحتفل لهذا اليوم اكثر مما يحتفل لمطلع المحرّم! هذه وصية أب!)
وما ذقت حلواً ولا مرًا واحدة في يوم شم النسيم من بعد!
محمد سعيد العريان(302/46)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وان يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
مازالت إنجلترا وفرنسا بالسلطان حتى استطاعتا إقناعه بعزل إسماعيل فخلفه على أريكة مصر ابنه توفيق، وفي عهد توفيق قدر لمصر أن تنبعث فيها ثورة وقدر لأحمد عرابي أن يكون زعيم تلك الثورة. . .
وما أشبه توفيقاً في بلويس السادس عشر ذلك الملك المسكين الذي قال عنه بعض المؤرخين إنه ورث عن أسلافه الثورة والعرش معاً؛ فلقد تجمعت عوامل الثورة الفرنسية قبل عهده، وما زالت تنمو وتتزايد، وما زالت تلك الأقلام الجبارة أقلام فلتير وروسو ومنتسكيو وإضرابهم تحدوها وتمهد الطريق لها حتى جاء عهد ذلك الملك فاضطرب البركان ثم انفجر فكانت الرجفة التي زلزلت فرنسا زلزالاً شديداً
وأرى توفيقاً قد ورث عن سلفه كذلك العرش والثورة، فلقد تجمعت عوامل الثورة العربية في عهد ذلك السلطان، ثم راحت تحدوها وتمد لها الطريق أقلام جمال الدين وتلاميذه حتى جاء عهد توفيق فانبعثت الرجفة!
لم تكن الثورة العرابية حركة عسكرية فحسب كما يحلو لكثير من المؤرخين أن يصوروها عن عمد أو عن غفلة، وإن الذين يفعلون ذلك منهم ليأتون من ضروب الخطأ ما نعجب كيف يحملون على قبوله أنفسهم وعقولهم، وإنما كانت الثورة العرابية إذا أردنا وصفها في جملة: التقاء الحركتين الوطنية والعسكرية واندماجهما. فلما ذهب عرابي إلى الخديو على رأس جنده ذهب يحمل إليه مطالب الجيش ومطالب الأمة معاً، ومن ذلك الوقت صار سلاح الثورة السيف وقد كان سلاحها القلم، أو بعبارة أخرى حارت قيادتها بين السيف والقلم!
أخذت إنجلترا وفرنسا تتنافسان ففي بسط نفوذهما في مصر منذ حملة بونابرت؛ ولكنهما(302/47)
وجدتا في محمد علي رجلاً لا كالرجال يمد سلطانه لا يفقد ذلك السلطان، فاكتف أولاهما بالسعي إلى تحطيمه، وفرحت الثانية بمصاحبته.
وجاء عهد إسماعيل، وفتحت قناة السويس، وازداد مركز مصر بذلك خطراً، فنصبت كل من الدولتين شباكها وعولت كل منهما أن تسيطر على مصر من طريق المال أولاً ثم من طريق التدخل السياسي ثانياً.
وراح إسماعيل يستدين ويسرف في الاستدانة حتى تراكمتِ على مصر الديون. ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلاَّ سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتدخل في شئون مصر وتتربص بها الدوائر.
وما هي إلا سنوات معدودة ثم منيت البلاد بالمراقبة الثنائية، وأصبح أمر داخلها ومنصرفها في أيدي المراقبين الأجنبيين. ثم نظرت مصر فإذا وزير ماليتها إنجليزي، وإذا وزير الأشغال فيها فرنسي، وإذا مصالحها تمتلئ بالموظفين من الأجانب يتمتعون فيها بالمرتبات العالية، وإن أهلها لتثقل كواهلهم الأعباء حتى يضيقوا بالحياة.
واشتدت الضائقة على الأهلين لكثرة ما كانوا يؤدونه من الضرائب؛ وأحس المتعلمون منهم أنهم خرجوا من حكم الخديوي المطلق ليدخلوا في نير الأجانب الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة.
وهبط السيد جمال الدين مصر يبث فيها مبادئه، ويحمل إليها قبسه، وكان جمال ذلك الرجل الذي أطلعه الشرق ليضيفه إلى كواكبه الزهر، يرى أن علة العلل في الشرق المغلوب على أمره أن شعوبه سليبة الإرادة: تحكم على رغمها، وتسخر لحساب الحاكمين؛ ولا مخرج لها إلا أن تعود حرة كما كانت من قبل حرة؛ ولن يكون هذا إلا أن تقوم الشورى مكان الاستبداد وأن ينسخ نور العلم ما تراكم في الشرق من ظلمات بعضها فوق بعض.
وكانت التربة في مصر صالحة لبذوره فنمت نمواً سريعاً يحمل على الدهشة؛ فما أسرع ما ظهرت في البلاد حركة وطنية كأعظم وأجمل ما تكون الحركات القومية؛ وراح تلاميذ جمال يذيعون في البلاد مبادئه. يقول في ذلك الشيخ محمد عبدة أنبغ تلاميذه وأحبهم إليه: (وكان طلبة العلم - طلبة جمال الدين - ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت(302/48)
عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصاً في القاهرة).
وظهرت في تلك الأيام الصحافة العربية، وراح الناس يقرؤون فيها نفثات الوطنية، وأخذت تهب عليهم من بين سطورها نسمات الحرية، والتمع لهم فيها وميضها، فانتعشت أرواحهم وهفت إلى الانطلاق من الأسر قلوبهم.
وأدى اتصال المصريين بالأجانب إلى تتبع الأنباء العالمية في الحرب والسياسة. فزادت معرفتهم بأحوال العالم وقارنوا بين الشعوب الحرة وبين أنفسهم، وراحوا يستنبطون أسباب ما باتوا فيه من شقاء وذلة.
واهتدى الناس إلى منهجهم فعرفوا أن منجاتهم في أن يتخلصوا من الحكم المطلق ومن نفوذ الأجانب جميعاً، وظهر فيهم الزعماء فراحوا يعقدون الاجتماعات ويتدارسون أمرهم بينهم، وظاهرهم الخديوي آخر الأمر فأصابوا حظّاً كبيراً من النجاح، ورأى المصريون لأول مرة في تاريخهم وزارة وطنية تخضع لمشيئة مجلس يجلس فيه فريق منهم يعبرون عن مشيئتهم
ولكن المصريين ما لبثوا أن فجعوا في آمالهم بتدخل الدولتين تدخلاً جريئاً في شئونهم أدى إلى عزل الخديو وتركهم ذاهلين، تتنازع أفئدتهم عوامل الحنق والخوف والتشاؤم من المستقبل
وأسلمت قيادة السفينة إلى توفيق، فما كادت تسير حتى اكتنفتها الرياح الهوج، وقامت أمامها العقبات من كل جانب؛ فهاهم أولاء المصرين تتأجج نيران الحقد في قلوبهم على الأجانب ولن يطيقوا بعد اليوم أي جنوح إليهم، وهاهي ذي إنجلترا تتحفز وتتربص، ثم هاهي ذي فرنسا تتحين الفرص لتتغلب على منافستها. . وهناك تركيا جاءت آخر الأمر تطلب أن تعيد سلطانها في مصر سيرته الأولى فتردها الدولتان المتنافستان على عقبيها
والربان غير عليم بالسياسة وأنوائها، ولكنه على الرغم من ذلك راح يستغني عن أعلم رجاله بها، فتخلص من شريف وهو أحوج ما يكون إليه! وتنكر للحركة الوطنية وكان حقيقاً أن يعطف عليها عسى أن يحبه الوطنيون وعسى أن يحملهم هذا الحب على تناسي ما لحق بمنصب الخديوية من هوان صغر به في أعينهم؛ ولكن توفيقاً غفل عن هذا أو تغافل عنه لما رآه من إقصاء أبيه عن منصبه على ما كان له فيه من جاه وقوة(302/49)
وحل رياض محل شريف فآلم ذلك دعاة الحركة الوطنية وأزعجهم أن يروا رياضاً يجارى الخديو في استكثار الدستور على المصريين فيقنع بما لا يقنع وطني مكتفياً بمبدأ مسؤولية الوزارة عن أعمالها مستغنياً عن مجلس شورى النواب الذي يحرص عليه الوطنيون كل الحرص
وجاء قانون التصفية فازداد الوطنيون به آلاماً على آلامهم، ورأوا ما فيه من غبن شديد يتجلى في إلغاء دين المقابلة وقد أخذ من جيوبهم كما رأوا ما فيه ما هو أكثر من الغبن ألا وهو عدم التنازل عن شئ من الدين وهم يعلمون كيف كانت تقترض تلك الأموال ومبلغ ما كان يصل مصر منها؛ وهم يعلمون كذلك مجازفة الأجانب بأموالهم مما يحملهم كثيراً من المسئولية. هذا إلى أنهم رأوا مرتبات الموظفين من الأجانب في الحكومة المصرية تبقى على حالها من الارتفاع فلم يدر يخلد من قاموا بالتصفية أن يراعوا ذلك في قرارهم فينزلوا بها إلى الحد اللائق
تلك هي الحركة الوطنية أو تلك هي نذر الرجفة. أما الحركة العسكرية فأول ما نتحدث به عنها أنها بدأت كذلك في عهد إسماعيل وتجلى أول مظهر من مظاهرها في تلك الحركة التي اعتدى فيها فريق من الضباط على نوبار أمام وزارة المالية عام 1878م. وكان ما دفع الضباط إلى تلك الحركة ما لحقهم بسبب الارتباك من الاستغناء عن عدد منهم ومن تأخر مرتباتهم عنهم بينما كان الجراكسة في الجيش لا يلحق بهم شيء من هذا. . .
ولقد استغنى عن عدد كبير من الجند في أوائل عهد توفيق حتى نزل عدد الجيش المصري عما اتفق عليه أخيراً في بداية هذا العهد. وولى وزارة الجهادية في حكومة رياض عثمان رفقي الجركسي فكأنما جعل أساس سياسته الكيد للمصريين ما وسعه الكيد؛ فلقد راح يذيقهم من نكاله بقدر ما راح يفيض على الجركس من عطف وإحسان. ولم يكن ذلك عجيباً من جانبه ففي دمه ما في دم جنسه من بغض قديم للمصريين الذين كانوا في رأيهم فلاحين لا يصلحون إلا ليكونوا عبيداً
وكان طبيعياً أن تقتصر الترقيات في الجيش على الجركس. وراح عثمان رفقي يعد مشروع قانون يمنع به ترقية الجند من تحت السلاح لكي يبقى العنصر الجركسي في الجيش هو العنصر السائد. أما عن كبار الضباط فقد بدأ يقصيهم عن مراكزهم كما حدث(302/50)
في أمر احمد بك عبد الغفار قائمقام السواري إذ فصله رفقي وعين مكانة الجراكسة، وكما حدث في نقل عبد العال حلمي إلى عمل في الديوان ووضع جركس آخر طاعن في السن محله
أما عن الجند فقد كانت الحكومة تسخرهم في أعمال لا تمت إلى الجندية كحفر الترع والزراعة في أراضي الخديو وغير ذلك. ومما يذكر عن عرابي هنا أنه عارض معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي؛ وهو موقف من مواقف شجاعته، تلك الشجاعة التي يأبى خصومه أبداً إلا أن يروها تهوراً، والتي نراها في أكثر الأحوال على خير ما تكون شجاعة الرجال ذوى الحمية والإخلاص. . . وأي مأرب في هذا الموقف؟ وفيم تكون معارضته في أن يسخر جنده في مثل تلك الأعمال إن لم يكن مبعثها الإنصاف والغيرة؟ وما يكون إنصافه وغيرته في موقف كهذا إلا بسالة وإقداماً
تلك هي المشاكل العسكرية. ولو أن تلك المشاكل عولجت بما يقتضيه العدل لما قدر للحركتين أن تلتقيا فتكون منهما تلك الثورة التي اقترنت باسم عرابي. ولكن كان دون علاجها عقبات؛ فهناك تعصب رفقي وغطرسته، وجهل رياض بالشؤون الحربية وترفعه عن هؤلاء الفلاحين من الجند لأنه يترفع عن الفلاحين جميعاً. ثم هناك دسائس الجراكسة في الجيش وكيدهم للمصريين ذلك الكيد الذي لا يفتر
وكان عرابي في أوائل عهد توفيق قد أخذ يتصل برجال الحركة الوطنية، أو على الأقل أخذ يتصل بالحركة نفسها؛ وهو من أول نشأته متحمس لبنى وطنه، وشارك عرابي في هذه النزعة الوطنية بعض ضباط الجيش. ولا غرابة في هذا فإن المسألة العسكرية في وضعها هذا كان لابد أن تدب إليها الروح الوطنية فتكون في مظهرها أمراً متعلقاً بالجيش بينما هي في الواقع كانت شعبة من تلك الحركة العامة التي كانت تشغل أذهان المصريين منذ أواخر عهد إسماعيل
وكان طبيعياً أن تبدأ المتاعب من جانب الجيش وقد أخذت رجال الحركة الوطنية حيرة منذ أن استقال شريف. ولقد كانت مسئولية الحكومة عن هذه المتاعب وتعقدها مسئولية جسيمة هي عندي من أكبر سوءات ذلك العهد. . .
على أن عرابياً نفسه قد رقي في أول عهد توفيق إلى مرتبة أميرالاي، ومع ذلك فقد أدت(302/51)
سياسة الحكومة أو على الأصح سياسة رفقي أن يكون هو على رأس المتذمرين
بدأت حركة التذمر بأن قدم بعض الضباط المصريين شكوى إلى وزارة الجهادية عن مرتبات لهم متأخرة، وكان عرابي ممن وقعوا على هذه الشكوى. ونظرت الوزارة في الأمر، وكان قنصلا إنجلترا وفرنسا قد تدخلا في الأمر، والفت لجنة للتحقيق أقرت مطالب الضباط، وكان ذلك في مايو سنة 1880، ولكن رياضاً ووزيره رفقي رأيا في ذلك العمل القانوني حركة جريئة وخروجاً على النظام!
(يتبع)
الخفيف(302/52)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاِشيبي
381 - لقد أحدثتم بدعة وظلما
في (الاعتصام) للشاطبي: ذُكر لعيد الله بن مسعود أن ناساً بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد. فأتاهم وقد كوّم كل رجل منهم بين يديه كُوماً من الحصى. فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة وظلماً.
382 - البدعة تعتبر في الشر
في (محاضرات الأدباء) للراغب: قُدّم إلي مالك بن أنس حيث يراه المهدي (العباسي) - الماء ليغسل يده للطعام، فقال: هذا بدعة
فقال المهدي: يا أبا عبد الله، البدعة تعتبر في الشر، فأما أبواب الخيرات فإحداثها سنة
383 - لا جرم أنكم تأكلوني
الصفدي: قال بعض الرؤساء لشهاب الدين الفوصي: أنت عندنا مثل الأب، وشدّد الباء.
فقال لا جرم إنكم تأكلوني.
قلت: لا يخفى ما في التندير من اللطف لأن الأب مشدد الباء هو المرعى. وقال بعضهم هو للدواب مثل الخبز للأناسي ومن يشدد الباء من الأب لا يكن إلا دابة
384 - حتى يعذب نفسه هذا التعذيب
ذُكر عند أعرابي رجل بشدة الاجتهاد وكثرة الصوم وطول الصلاة، فقال: هذا رجل سوء، وما يظن هذا أن الله يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب
385 - فقلت لعلها
كان عروة بن أذينة نازلاً في دار عروة بن عبيد الله بالعقيق فسمعه ينشد:
إن التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلّها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها!(302/53)
فدنا فقال: لعلها معذورة ... من أجل رقبتها فقلت: لعلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوه ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
وقال عروة بن عبد اللهً: فأتاني أبو السائب المخزومي وأنا في داري، فقلت له بعد الترحيب: هل بدت لك حاجة؟ فقال: نعم، أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه. فقلت له: وأي أبيات؟ فقال: وهل يخفى القمر؟! قوله (إن التي زعمت فؤادك ملها) فأنشدته إياها فلما بلغت إلى قوله: (فقلت لعلها) قال: أحسن والله، هذا (والله) الدائم العهد، الصادق الصبابة، لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عني فأهلي بي أضن وأرغب
أذهب لا صحبك الله ولا وسع عليك - يعنى قائل هذا البيت، لقد عدا أعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك (يعني عروة) لحسن ظنه بها، وطلبه العذر لها. قال عروة بن عبد الله: فعرضت عليه الطعام، فقال: لا والله، ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاماً إلى الليل
386 - من حرقة النار أم من فرقة العسل
أبو اسحق إبراهيم بن عثمان ألغزي:
أشكو إليكم هموماً لا أبينها ... ليسلم الناس من عذري ومن عذلي
كالشمع يبكي ولاُ يدرى أدمعته ... من حرقة النار أم من فرقة سالعسل
387 - رسالة. . .!
في (طبقات الشافعية الكبرى): ركب اسحق بن راهَويْه دين فخرج من مرو وجاء نيسابور، فكلم أصحابُ الحديث يحيى بن يحيى في أمر اسحق، فقال: ما تريدون؟ قالوا: تكتب إلى عبد الله بن طاهر رقعة - وكان عبد الله خراسان وكان بنيسابور - فقال يحيى: ما كتبت إليه قط، فألحوا عليه فكتب في رقعة:
(إلى عبد الله بن طاهر. أبو يعقوب اسحق بن إبراهيم رجل من أهل العلم والصلاح)
فحمل اسحق الرقعة إلى عبد الله بن طاهر، فلما جاء إلى الباب قال للحاجب: معي رقعة يحيى بن يحيى إلى الأمير. فدخل الحاجب فقال: رجل بالباب زعم أن معه رقعة يحيى بن يحيى إلى الأمير، فقال: يحيى بن يحيى؟ قال: نعم، قال: أدخله؛ فدخل اسحق وناوله(302/54)
الرقعة، فأخذها عبد الله وقبلها، وأقعد اسحق بجنبه، وقضى دينه ثلاثين ألف درهم، وصَّيره من ندمائه.
388 - كأنه من كبدي مقدود
قال على بن عبد الله بن سعد: أنشدت دعبلا قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصراني الحربي:
زنّارُه في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود
فقال: والله ما أعلمني حسدت أحداً على شعركما حسدت بكرا على قوله: (كأنه من كبدي مقدود).(302/55)
أمل العرب الراحل
للأستاذ خليل هنداوي
(قد خططنا للمعالي مضجعا ... ودفنا العز والمجد معا)
فيصلُ ما إن نسينا يومه ... فاجعلوا يوماً لغازي أروعا
فيصل ما نضبت أدمعنا ... فامزجوا بالدم هذى الأَدمعا
لم يكن مصرع غازي واحداً ... إنه كان لشعب مصرعا
ليس يدرى من نعاه أنه ... قد نعى العرب جميعا إذ نعى
أيها الناعي رويداً إنها ... لأماني تهاوت صُرَّعا
إنه بنيان قوم ينحني ... إنه مأمل شعب ودعا
كفنوا غازي بأَبراد العلا ... واجعلوا مثوًى لغازي إلا ضلعا
مفزع العُرب إذا ما فزعوا ... من لهم بعدك يبقى مفزَعا؟
أصبح الشعب يتيماً واجماً ... أسفاً، والدار أمست بلقعا
والأماني مضت تبكي فتى ... ضم كشحيه عليها أجمعا
فهي تمشى رامقات نعشه ... تذرف الدمع وتروي المدمعا
والمروءات على جبهته ... يتهاوين حزانى وُقعا
والسموات على مصرعه ... مقلة ذارفة لن تقلعا
أبت الأيام إلا حربنا ... وأبينا أبداً أن نخضعا
فعلى كل ثرًى يجرى دم ... الثرى بالدم أمسى مترعا
وعلى كل سبيل فدية ... لم يضيعها الذي قد ضيّعا
وعلىَ كل شهيد بسمة ... وهي للحق إذا الحق وعى
وعلى كل حًمى تضحية ... حدَّث المربعُ عنها المربعا
والشهادات على أعناقنا ... لا ترى صرفاً ولا منقطعا
كل هذا مرحباً! أهلاً به ... إن يكن يحمل صبحاً ألمعا
(مرحباً بالخطب يبلونا إذا ... كانت العلياء فيه المطلعا)
إن يمت في كل يوم مبدع ... من بني العُرب خلقنا مبدعا(302/56)
لا يفت الدهر من غرمتنا ... لا يلاقي اليأس فينا موضعا
قد نذرنا للمعالي نفسنا ... واستطبنا الموت فيها مشرعا
لا نرى إلا العوالي مركبا ... لا نرى إلا المعالي مطمعا
(دير الزور)
خليل هنداوي(302/57)
رسالة العلم
ترى ما وراء هذا الكون؟
علاقة بين الكون المحدود وأصغر ما فيه
للدكتور محمد محمود غالي
بحث الرجل منذ القدم عن معرفة الكون فكانُ يقسم النجوم التي يراها في السماء إلى مجموعات تشبه على وجه التقريب بعض الحيوان أو الأشياء. وقد وُجدت في السويد أشكال من هذه المجموعات الشبيهة بشكل الحيوان، منقوشة على الحجر منذ العصر البرنزي. واليوم يُقسم الفلكيون في مؤتمراتهم السماء إلى 89 مجموعة تجد أسماءها في الدليل الفلكي. وقد كان (باير) في سنة 1603 أول من أطلق الحروف الإغريقية الأولى على أسماء النجوم، لكي يُفرَّق بين نجوم المجموعات الكوكبية المختلفة. ولم يلبث أن تقدم علم الفلك تقدماً جعل هذه الحروف الإغريقية لا تكفي هذه المسميات لكثرتها؛ فلجأ العلماء إلى الأرقام، وأصبحت النجوم تحمل الرقم الوارد من الدليل الفلكي. وتقدم المنظار الفلكي كما تقدمت الطريقة الفوتوغرافية، فأصبح الدليل يحوي مليوناً من النجوم، وتقترب معارفنا الآن من عشرات الملايين.
جُل بنظرك في الشكل الأول ترَ جزءاً من المجرة في برج الثور يدلك على بقعة صغيرة من عالمنا الذي يحوي مئات ألوف الملايين من النجوم والأجرام. ثم تأمل الشكل الثاني وهو السديم الشبكي في الدجاجة تر واحداً من ملايين ملايين العوالم الأخرى المكونة للكون - ثم تصور جسما صغيراً في الكون مثل إحدى أشواك التين؛ وتصور أصغر ما يعرفه العلماء من الجسيمات المكونة لهذه الشوكة، وهو الإلكترون الذي تحوي الشوكة الصغيرة ملايين منه. إن عدد إلكترونات الكون يتعدى كل خيال، ومع ذلك فقد تمكن العلماء من الوصول إلى علاقات معقولة بين الكون في مجموعه وبين الإلكترون المتناهي في الصغر. وسأحاول في هذه الأسطر أن أحيط القارئ علماً بالطرق التي يتبعها العلماء في هذا السبيل ذكرنا أن العلم التجريبي قد أثبت ابتعاد جميع العوالم عنا، وابتعاد كل واحد منها عن الآخر بسرعة تزيد على 500 كيلو متر في الثانية لكل 26 , 3 مليون سنة ضوئية، وذكرنا أن(302/58)
النظريات الأولى للعالم دي ستير كانت تتنبأ بتمدد الكون، وأن النظريات عامة وإن عرفت تمدد الكون لم تعين في المبدأ الدرجة التي يتمدد بها. وأضيف اليوم أن العلم النظري الحديث لا يحتم الفكرة القائلة بابتعاد جميع العوالم بعضها عن بعض فحسب، بل يُعين السرعة التي تبتعد بها هذه العوالم كما يُعينها العلم التجريبي.
على أن النسبية وحدها لا تزودنا بهذه المعلومات الجديدة، ولكن للعلم منابع أخرى وجدت طريقها بعد النسبية لأينشتاين؛ وأهم هذه المنابع اليوم الميكانيكا الموجبة التي أسسها العالم الشاب دي بروي الحائز على جائزة نوبل، أستاذ السربون وعضو المجمع العلمي الفرنسي؛ وباتباع الطريق العلمي الجديد نجد - مع إهمال القوة الجاذبية بين العوالم إذ هناك ما يبرر إهمالها علمياً - إزاء قوة التنافر للكون، أن سرعة ابتعاد العوالم بعضها عن بعض تقع بين 500 و1000 كيلو متر في الثانية لكل 26 , 3 مليون سنة ضوئية
ومما يلفت النظر أنه للوصول إلى هذه النتيجة الحسابية التي تتفق مع النتائج العملية لم يلجأ الباحثون إلى أي عمل تجريبي أو إلى الأرصاد الفلكية
ويجدر بالذكر أن كل ما يتعلق بحساب الكون أو بحساب الإلكترون يرتبط إلى حد كبير بتعيين سرعة ابتعاد العوالم بعضها عن بعض. على أن هذا النجاح الأخير الذي يظهر في الاتفاق بين العلم النظري والعلم التجريبي لم يقف عند هذا الحد، بل استبنَّا من العلوم النظرية علاقة بين البروتون والإلكترون على وجه خاص بين كتلتيهما. ولكي يفهم القارئ شيئاً عن البروتون نذكر أنه بين مكونات المادة. فذرة غاز الهيدروجين مثلاً مكونة من مركز رئيسي هو بروتون واحد يدور حوله إلكترون واحد كما يدور القمر حول الأرض. ومن ثم أضحى العلماء بفضل تقدم الميكانيكا الموجبة بصدد نظريات تعين أمرين في آن واحد:
الأمر الأول: سرعة تمدد الكون ومنها القوة التنافرية، كذلك الثابت الكوني.
الأمر الثاني: النسبة بين كتلة البروتون والإلكترون
إلى هنا لازال يبعد عن ذهن القارئ العلاقة بين الكون والإلكترون، كما يبعد عن ذهنه أيضا علاقة يرى فيها وزن الكون. ولكي أعطي القارئ فكرة سريعة عن هذا أدله على وجود علاقتين توصل لهما العالم الكبير أينشتاين في سنة 1916. يرى في إحدى هاتين(302/59)
العلاقتين كتلة الكون.
(الأولى) علاقة تربط نصف قطر الحيز عند مبدأ تكوين الكون بالثابت الكوني (الثانية) علاقة تربط ثابت الجاذبية وكتلة الكون وسرعة الضوء مع نصف قطر الحيز السابق الذكر.
كنت أود أن أطلع القارئ على شيء من هذه العلاقات، ولكن
تدخل معظمها في الواقع حسابات لم يتعودها ومعادلات من
الصعب تبسيط مدلولها. فمثلاً بينما حجم كرة نصف قطرها
نق يعادل 34ط نق3 (ط النسبة التقريبية) فإن حجم حيز
كروي له نفس نصف القطر هو 2ط2 نق3 أي 4. 71 حجم
كرة عادية. والحيز الكروي ليس كرة معتادة بل غلافا لكرة
زائدة ذات أربعة أبعاد، وفي كل هذه الأبحاث يفرقون بين
قطر الحيز الفارغ الذي هو متوسط أنصاف أقطار مختلفة وفق
التوزيع المادي للكون من نصف قطر الكون قبل التمدد، وفي
هذه الأبحاث نرى أن تقوس المناطق الفارغة في الكون أقل
من المناطق الآهلة بالمادة. كل هذه الاعتبارات التي تربط
نصف قطر التقوس الكروي لقطاع ما ذي ثلاثة أبعاد مجال
ذي أربعة أبعاد للحيز والزمن الخيالي، صعب على القارئ
الدخول في تفاصيلها، ولكن يهمني أن يعلم أن العلماء توصلوا
إلى علاقات تجد فيها نصف قطر الكون المتقدم وسرعة ابتعاد(302/60)
العوالم وسرعة الضوء أو علاقات بين نصف قطر الكون
وعدد الإلكترونات وشحنة الإلكترون وسرعة الضوء. . .
الخ. ولكنى لا أترك هذا الجزء دون أن أذكر أن معادلة من
أهم المعادلات الأساسية في هذه الأبحاث تلك المعادلة الموجبة
الخاصة بذرة الهيدروجين ' ' أي لمجموعة مكونة من
بروتون واحد، وإلكترون واحد مرتبط به كما قدمنا، هذه
المعادلة تعين حجم الذرة وتوزيع شحنتها الكهربائية، ولا
أذكر هنا كيف أدخل العلماء وحدة الطول الجديدة التي هي
نصف قطر الكون في معظم هذه العلاقات، ولكن أرجو أن
يستقر في ذهن القارئ أن كل هذه الموضوعات تكَوَّن في وقتنا
الحاضر وحدة في العلوم، تستمد قوتها من الناحيتين العملية
والنظرية معاً، وأنه بالاستقراء طوراً، والبحث التجريبي تارة،
توصلوا لكثير من العلاقات التي تربط الكون بأصغر ما فيه
والتي سبق ان أعطينا النتائج الخاصة بها في جدول سابق.
كل ما أود أن يعلق بذهن القارئ أن يعرف أن الاستنتاج العلمي لا يقف عند المحسوسات. وسبق أن قدمت أننا لسنا بحاجة لنرى الليل والنهار لنعرف دورة الأرض، كذلك لسنا بحاجة لنحصي أجرام السماء لنعرف وزن الكون، وعدد ما يحويه من الكترونات، وضربت للقارئ مثلاً بعمل فوكوه عندما استدل على دورة الأرض من بندوله الذي علقه من قبة البانتيون.(302/61)
وأعود فأقول: لو أن المريخ، وهو الذي يحجب الضوء عنه سحب كثيفة، كان مسكوناً بكائنات تفكر مثلنا نسميها المريخيين لما استحال عليهم أن يعرفوا أن سيارهم أيضاً يدور حول نفسه، كما تدور الأرض حول نفسها، ولاستطاعوا أن يؤكدوا ذلك برغم ما يحيط به من سحب كثيفة تحجب عن أهله ضوء الشمس، وهي سحب لم نعهد مثلها حول الأرض، بل لما استحال عليهم أن يحددوا فترة الليل والنهار الخاصة بهم، فما عليهم إذا كانوا ينعمون بدرجة ذكائنا، وكانت لهم طريقتنا في استقراء الأشياء، إلا أن يعقلوا كرة من خيط طويل يدعونها تهتز، فإنهم سيدركون أن الكرة لا تهتز فحسب، بل إن المستوى الذي تهتز فيه يدور حول نفسه، وبحساب بسيط يمكن للمريخيين إذن أن يحددوا فترتي الليل والنهار.
عسى أن يكون قد علق بذهن القارئ بعد هذا الجهد الذي واصلناه مدى أربع مقالات عن (الكون يكبر) ثلاثة أمور: الأول أننا أبناء كون محدود مكون من عوالم كلها على حيز وغلاف كروي. الثاني: أن هذا الغلاف الكروي يتسع ويتمدد على نحو كرة من المطاط، وان ثمة قوة تدعو لهذا التمدد الذي يجعل كل العوالم يبتعد بعضها عن بعض، وأننا الآن في هذه المرحلة من الابتعاد والتمدد التي بدأت منذ بلايين من السنين.
الثالث أن ثمة علاقات ثابتة بين الكون في مجموعه وأصغر ما فيه وهو الإلكترون
وأضيف إلى هذه الأمور الثلاثة انه ليس لنا أن نحاول نعرف شيء خارج عن هذا الكون المحدود.
هذا هو الكون وفق احدث الآراء. وقد يتساءل فريق من القراء عما وراء الكون المحدود. وقد يجيز هذا الفريق لنفسه أن يتصور عوالم خارجة عن نطاقه، ولعل السبب في ذلك هو مطالبتنا له بالاعتراف أن الكون محدود وليس لدينا اليوم جواب على هذا سوى أن نكرر أن الكون الذي نرى ونسمع ونتحرك فيه ونعرف منه قوانيننا الطبيعية الحالية هو كون محدود ليس لنا أن نتساءل عن غيرة مادامت الظواهر الطبيعية التي نعرفها تنتشر في مثل هذا الكون وكل شئ يدل على إنها لا تتعداه. ولكن ماذا بعد الكون؟ سؤال يتردد على الذهن!
إن نمله نّفْتّرُضها متأملة خرجت لأول مرة من كومة صغيرة من الرمل وجدت نفسها بطريقة المصادفة إزاء ثقب في سجاد مفروش في سرادق فسيح مقام في جهة قضى نحبه(302/62)
فيها رجل له بين أهله مكانة، فمد الأهل الأبسطة والمقاعد، وأضاءوا الأنوار وازدحم المكان بالمعزين
تجولت النملة المتأملة الحديثة العهد بالحياة على هذه الأبسطة المتسعة تائهة لا تهتدي إلى المكمن الذي خرجت منه، ترى أنواراً تعلوها، وأبسطة ممتدة أمامها، وأناس يرحون ويغدون، وتسمع فقيهاً يُرَتَّلُ الآيات بصوت رخيم، وترى نادلا يقدم قهوة للقادمين، وكلما مر الوقت انطبعت هذه الصور في ذهن النملة الحائرة
لنفرض بعد ذلك أنه لسوء حظ النملة التعسة انطفأت الحياة فيها بأن داستها أقدام المعزَّين، فإنه يغلب على الظن أن الدنيا عندها هي فضاء تضيئه أنوار، ويحيط به سرادق، وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل الآيات، ونادل يتحرك جيئة وذهاباً إن وجود القاطرة البخارية وحديقة الحيوان ومعرض نيويورك والاستعداد للحرب، أمر غير معروف لديها، فكل هذه أشياء خارجة عن حدود مداركها
قد تكون ملايين السنين التي يقدر الجيولوجيون والطبيعيون أنها الفترة التي مرت على الإنسان منذ وجوده بالنسبة للخليقة كهذه اللحظات بالنسبة للنملة الحائرة، وقد لا يمثل ميراثنا العلمي الذي لا تتسع له دور كتب العالم قاطبة الوجود في شيء، وقد يشبه معارف النملة عن الكون الذي لم تر المسكينة منه إلا ليلة عزاء محصور كل حوادثها بين قطع محدودة من الأقمشة، ويكون الكون ذو الحيز المتقوس وفق ريمان وأينشتاين، المتمدد وفق دي ستير واديجتون، المحدود وفق سان ولميتر، ذرة واحدة، لا نقول بين ملايين ذرات مماثلة لها، بل بين ملايين أكوان لا يمثل هو فيها شبيهاً، ويكون كوننا مثالا خاطئا لحقيقة الوجود، بل قد يكون كأحد جسيمات الدخان لمصنع لا نعلم عنه سوى إحدى ذرات دخانه المتصاعد، ونكون معشر الناس ككائن نفترضه داخل هذا الجسيم من الدخان، لا يرى إلا ما يكوَّن الجسم الذي هو بداخله. فالقطن الذي يدخل هذا المصنع والوادي الذي زرع فيه هذا القطن، والنهر الذي رواه، والمهندس الذي صمم القناطر على هذا النهر؛ كل هذه أمور غير معروفة بالمرة لهذا الكائن الذي افترضناه داخل الجسيم
كم يغلب على ظني أننا لا نختلف كثيراً عن هذه النملة الحائرة أو عن هذا الكائن السجين!
على أن شيئاً جديداً. اكتشفه العلماء يقع داخل هذا الكون المحدود وينتقل بين أرجاء هذا(302/63)
السجن الفسيح الذي نعيش في داخله. هذا الشيء يشغل بال العلماء اليوم لقوة اختراقه العجيبة وصفاته النادرة، ويسمونه الأشعة الكونية، وهو ما سأجعله موضوع حديثي في العدد القادم
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(302/64)
رسالة المرأة
الإسلام والآداب العامة
آداب تتأول الطعام
للآنسة زينب الحكيم
أوضحنا في مقال سابق نشأة (الإتيكيت) وضرورته في الحياة. واليوم نتحدث عن آداب تناول الطعام. وكل ما أرمي إليه هو التذكير بأشياء بسيطة كثيراً ما تغيب عن أذهاننا مراعاتها دون قصد أو لعدم معرفة
وأريد أيضاً أن أوضح عادات بعض البلاد الأجنبية في تناول طعامهم، ولا سيما أن كثيراً من أهل الشرق يزورون تلك البلاد الآن أكثر مما كانوا يفعلون قبلاً. ومن المستحسن أن يعرف الإنسان عادات الناس حتى لا يضايقهم ولا يضايق نفسه، كما لا يصح أن يكون عرضة للنقد وفي استطاعته تلافي ذلك
وإني لا أنكر أنه قد أثرت في نفسي بعض الحوادث التي كثيراً ما تحدث من الرجل أو من السيدة أثناء حضورهما الحفلات أو ولائم الغداء أو العشاء. وإني لا أنسى أبداً ذلك السيد وزوجه وقد كانا عروسين جديدين احتفى بهما بعض أقاربهما بمناسبة زفافهما فدعوهما إلى وليمة غداء. كان من بين ألوان الطعام الأكلة المصرية المشهورة (ملوخية) من النوع السائل لا (البوراني). ولما حان دور أكل الملوخية وضع النادل (السفرجي) ملعقة صغيرة على طرف كل صحن أمام الآكلين لترفع بها الملوخية إلى الفم ثم يؤكل الخبز
لكن السيد العريس لم ينتبه لاستخدام الملعقة، كما لم يلحظ كيف يتناول الباقون الملوخية، فقرصته عروسه في الخفاء ونبهته إلى مراعاة الإتيكيت، ولكنه استمر يصنع من الخبز ملعقة يرفع بها الملوخية من الصحن إلى فمه. ولم تطق الزوجة المسكينة صبراً على أن يُنتْقد زوجها في وليمة شبه رسمية، فنبهته مرة أخرى بينها وبينه، ولكنه ثار في هذه المرة ولم ير أن يستمع إليها وقال في صوت مرتفع غاضب: (سبيني خليني أَغَمّس)
بالضرورة كان الحادث مضحكا للجميع، وقد قابلوه ببساطة حتى مرّ بسلام بين الزوجين. ولكنه كان على كل حال إيلاماً من جانب الزوج لزوجته وإحراجاً لهما معا أمام الحضور(302/65)
مهما تقبلوه
كذلك لا أنسى الآنسة الشرقية التي كانت مسافرة مرة على إحدى البواخر إلى أوربا، ولما كانت تتناول الشاي حاولت استخدام الشوكة في أكل البسكوت الجاف والخبز المقدد، وكانت في كل مرة تأول ذلك ترسل قذيفة إلى وجه الجالس أو الجالسة أمامها أو إلى جانبها مما دل على النقص الشديد في معرفة إتيكيت تناول الطعام
لهذه الحوادث وأشباهها أردت أن أتحدث لحضراتكم عن الغداء في أمريكا، والعشاء في إنجلترا، وآداب الوجبتين عند العرب.
وليمة الغداء العادي في أمريكا
إذا قارنا الغداء الرسمي في أمريكا بالغداء الرسمي في إنجلترا وجدنا أن الغداء الإنجليزي يشبه العشاء الرسمي كثيراً.
أما في أمريكا فتكاد تكون ولائم الغداء مقصورة على السيدات دون الرجال الذين يكونون مشغولين عادة في أعمالهم بمكاتبهم، ولا يستعملون تلك الولائم لأغراض خاصة، في حين أن رجال الإنجليز كثيراً ما ينّتهزون فرص هذه الولائم لنقاش المسائل المهمة الحاضرة ويتبادلون الآراء في كثير من الأمور
ولهذا تكون ولائم عشائهم خالية من كل ما يجهد العقل، وإنما تكون أوقات مفاكهة ومرح بريء
وولائم الغداء الأمريكية يدعى لها ببطاقات بسيطة قبل ميعادها بعدد قليل من الأيام، وتكتب عادة بضمير المخاطب لا بضمير الغائب كما يتبع في الأحوال المهمة، وتحدد ساعة الغذاء أو لا تتحدد فليست هذه مسألة دقيقه كما في ميعاد وليمة العشاء
طريقة توزيع الطعام على نوعين
إما أن يتناول المدعوات أنفسهن من ألوان الطعام الموضوعة على منضدة جانبية على شكل (بوفيه)، وتكون الألوان عادة واردة (كلحوم جافة باردة، وخضر محمره، وحلوى الخ)
وإما أن يمر النُدل كما في وليمة العشاء بألوان الطعام الساخن
مائدة الغداء العادي(302/66)
تكون مائدة الغذاء العادي غير مغطاة بغطاء كبير عادة، وإنما تستخدم أغطية صغيرة من الدنتلة أو التيل المخرم (دُيلن كما في هذا الشكل
وتكون قائمة الغذاء ملائمة لفصول السنة (كملاحظة ابن عبد ربه)، ولا يقدم الشاي أو القهوة مطلقاً في حجرة المائدة عقب الغذاء غير الرسمي. وإذا قدم شيء منها فيكون عقب الطعام مباشرة.
والسيدة المدعوة للغذاء العادي لا تبقى بعد تناول الغذاء تنصرف، إلا إذا أعدت المضيفة تسلية خاصة بعده.
إذا استنفد تناول الغداء ساعة مثلاً، فلا بأس من محادثة ربة المنزل بعد ذلك نحو نصف ساعة، ثم يجب أن ينصرف الزوار إذ ربما تكون مشغولة بعد الظهر، ولا يليق أبداً أن يكونوا سبباً في تأخيرها.
وليمة الغداء الرسمي
تشبه العشاء الرسمي كثيراً فيما عدا استعمال المفارش الصغيرة (ديلن) عوض غطاء المائدة الكبير
ويبدأ بتناول بعض الفاكهة - ثم الحساء، فسمك مايونيز أو ما شاكله، وليس السمك ضرورياً، وبعض الأسر تحذفه
يأتي بعد ذلك الصحن الرئيسي: مثل الديك الرومي أو الدجاج أو الفطائر أو اللحوم مع الخضر، فأنواع من السلطة، فالحلوى كالمهلبية أو ما يشبهها كما في وليمة العشاء. ثم المثلجات كالجيلاتي أو الألمزية
وليست العادة أن يستريح المدعون بعد الغداء في الصالون أو أن يتناولوا القهوة فيه، وإنما تشرب على المائدة، فإذا كان الطقس مناسباً ورغب المدعون شربت في الفرندة. ويحسن ألا تقيم ربة البيت وليمة غداء إذا كانت مشغولة بعد الظهر في اليوم نفسه، ولهذا يمكن أن يبقى الزوار وقتاً أطول مما في حالة الغداء العادي
ومن المتبع ترتب تسليات كالموسيقى، وتلقى قطع شعرية، أو تمثل قطع صغيرة
الملابس(302/67)
تكون ملابس ولائم الغداء على نسق ثياب بعد الظهر الممتازة للسيدات، أما ملابس الرجال فمعروفة
هذا ومن أهم ما يراعيه الأمريكان في ولائمهم الرسمية بوجه عام، أن يكون في كشف المدعوين ستة أو ثمانية من المتصادقين وقد يهبط هذا العدد إلى أربعة فقط، ولكن على أي حال من المهم عندهم مراعاة أنواع المدعوين. كما يراعى عدم زيادة الحضور في الوليمة على ما تطيقه ربة البيت حتى يمكنها العناية بهم جميعاً وملاحظة ما يناسب مزاج كل منهم.
آداب المائدة
أهم الآداب التي يراعيها الأمريكان في ولائمهم آداب المائدة الصحية. فهم مثلاً يعتبرون الحركات الخشنة أو غير المضبوطة منافية للآداب إذا حصلت أثناء تناول الطعام، ويعدونها نقص تربية، ويعتقدون أن من صدرت عنه لم يدرس آداب المائدة بعناية
كذلك يوجهون أهمية كبرى لسلوك الإنسان على المائدة فيشيرون إلى أنه كثيراً ما يلحظ على رجل تظهر عليه سمات الثقافة والرقي وهو جالس حول مادة بعض المطاعم أو الفنادق الراقية، أنه يلعب بأدوات المائدة، أو يضرب الأكواب بعضها ببعض دون وعي.
وقد يتغاضى عن أشباه هذا السلوك في الفنادق أو المطاعم، ولكن حدوث أعمال كهذه على مائدة وليمة رسمية يعتبر من أكبر النقائص الأدبية، فإنه حينما لا يحتاج إلى استخدام الأيدي يحسن وضعها على الحجر في سكون، كما لا يحسن وضع المرفقين على المائدة إذا أسئ السلوك في فعل ذلك، ولا أن يوضع الكرسي قريباً جداً من المائدة، ولا بعيداً جداً عنها. فكلا الأمرين غير مقبول.
زينب الحكيم(302/68)
رسالة الفن
دراسات في الفن
النحت فن الصمت
على ذكر معرض مختار
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من طين فكان الإنسان تجسيداً لما جرى في علمه تعالى من صوره، وكان الإنسان مجالاً لطائفة من آيات الله أراد لأمر أن يراها حية على مسرح الكون
هذه حقيقة لا أجبر القارئ على أن يؤمن بها معي وفق ما أرضاه، وإنما أدعه يؤمن بها على هواه، فإذا كان من أصحاب الدين فهو معي، وإذا لم يكن منهم فهو معي أيضاً، ولكن بعد فرقة قصيرة لابد إن يلقاني إثرها ليشهد أن الإنسان كان التمثال الذي يرجع إليه المثالون جميعاً مستوحين مستلهمين، ومتعلمين دارسين، وباحثين مدققين، ومعجبين مأخوذين وليشهد أيضاً أن الإنسان ما يزال هو هذا المنبع الذي لم ينضب منذ تعقبه الفن، وليشهد بعد هذا وذاك أن الإنسان لن ينفك أن يكون المورد الذي يقصد إليه كل من يبهره الفن الناضج الكامل
هذه هي البداية التي يجب أن نلتقي عندها لنمشي معاً ولننظر بعدها إلى الإنسان - وهو مرجع الفن - كما ينظر إليه النحات الفنان.
أي شيء في هذا الإنسان؟ وأي شيء في الحيوان معه؟ وأي شئ أغرى المثالين بأن يكثروا من تماثيل الناس إكثاراً ملحوظاً، فلم يحيدوا عنها إلا إلى الحيوان قليلاً، ثم لم يرضوا بعد ذلك أن يعرجوا على النبات والجماد فيستقوا منهما فناً؟
إنها هي الحياة من غير شك - والحركة مع الحياة - فليس شيء يميز الإنسان ومعه الحيوان أمام النحت على النبات والجمال غير الحياة الحركة. فإذا قلنا (الجمال) رأينا في الزهر والجوهر جمالاً؛ وإذا قلنا (الجلال) رأينا في الدوح والجبل جلالاً، وإذا قلنا (الصوت) رأينا النحت يهمله لأنه يقصر عنه. . . فلم يبق - فيما أظن - للإنسان(302/69)
والحيوان مميزاً على غيرهما في رأي النحت إلا الحياة والحركة كما قدمت. فما هي الحياة؟
أهي في نظر النحات هذا النمو الجسدي الذي يقود الإنسان من طفولته إلى شيخوخته؟ أم هي هذا الاضطراب النفسي الذي لا يهدأ فورانه بين جنبيه مادام حيا والذي ينتاب وجهه وتقاطيعه وقسماته بالتعبير المتواصل الذي تصور كل حالة من حالاته رعدة من رعدات هذا الفوران أو هدأة من هد آته؟ أم هي هذا وذاك؟
بعض المثالين يذهب في فنه - سواء أكان متعمداً أم غير متعمد - إلى المذهب الأول، وبعضهم يذهب المذهب الثاني، وبعضهم لا يذهب مذهباً من هذين وإن كان يجمع في فنه ما يوفق إليه الأوائل، وما يهتدي إليه الأواخر. . . توفيقاً وهديا
أما أصحاب المذهب الأول فقد كثروا في مصر في هذه الأيام، فكل معارض النحت التي تقام في مصر الآن لا تحوي من التماثيل إلا ما تقف أمامه لتقول إن هذا التمثال يمثل رجلاً في السبعين، أو فتاة في العشرين، أو صبياً في العاشرة، أو طفلة في الرابعة. . . أما هذا الفوران الذي نذكره فهو بعيد عنهم، وهم بعيدون عنه. ولعل ذلك يرجع إلى أن النحت فن لا يزال ينتفض تحت أثقال السنين التي تراكمت عليه في مصر فدفنته وكتمت أنفاسه دهوراً
وأما أصحاب المذهب الثاني فهم الذين كنا نتوقع أن نرى لهم أثراً ملحوظاً في معرض المختار الأخير. فقد طلب من المتسابقين في هذا المعرض أن يسجل كل منهم في تمثاله معالم الصلاة ومعانيها أو ما شاء من هذه المعالم والمعاني، فما كان من حضراتهم - أومن أغلبهم - إلا أن سجلوا من حركات الصلاة ما طاب لهم، موجهين كل اهتمامهم إلى إظهار تمكنهم من دراسة التشريح، وإبداء مقدرتهم على محاكاة جثة الإنسان. وعلم الله أني لا أعرف ممن كانت تتألف لجنة التحكيم في هذا المعرض وإن كنت موقناً بأنها ضمت صفوة مختارة من المثقفين الأفاضل؛ غير أنه يخيل إلي أنهم كانوا بعيدين إلى حد كبير عن هذا الذي نسميه (ما وراء المظهر). والدليل على ما أقول انهم منحوا الجائزة الأولى تمثالا أزرق يمثل شيخاً معمما مهندما جالساً على حصيرة آنية جلسة يجلسها المصلون إذا ما فرغوا من صلاتهم وراحوا يسترجعون في أذهانهم ما أنفقوه وما كسبوه في يومهم،(302/70)
ويستعيدون إلى ذاكرتهم ما قيدوا أنفسهم به من مواعيد أعمالهم أو لهوهم. . . كل هذا والمسابح في أيديهم تجري حباتها بين أصابعهم! حبة تضرب حبة كدقات الساعات في جيوبهم لا هم انشغلوا بها، ولا هي لفتتهم إلى أوقاتهم. هذا التمثال الذي لا يطالع ناظره بأي معنى من معاني الصلاة أعطى الجائزة الأولى لأن مظهره حسن في أعين حضرات المحكمين. والحق أنه أهل لجائزة ولكن على أن يقدم في مسابقة يكون موضوعها: (الجلوس على الحصيرة) لا (الصلاة)!
أما تمثال الصلاة فقد كان له أشباهه في المعرض لست أدري كيف غمضت عنها عيون المحكمين، فقد كان في المعرض تمثال لشيخ فانٍ يقرأ التحيات، ويومئ بسبابته اليمنى شاهداً أن لا إله إلا الله، ويميل بكتف إلى جنب ميلة من ثقلت عليه الحياة فصبر، ولكنه تخاذل فضعف وآن له أن يتحطم، ولكنه استعان على ماضيه وحاضره ومستقبله. . . بالصلاة. وكان في المعرض أيضاً تمثال لرجلين أحدهما كَبَّرَ ووقف يتلو الفاتحة، والآخر لحقه فائتم به ورفع يديه ينوي الصلاة وراءه. . . وقد ألقيت النظرة الأولى على هذا التمثال فلم أملك إلا أن أَتَلوّى، فقد نخسني وجه ذلك الرجل المتلهف على الصلاة نخسة موجعة. ذلك أن صاحبه أفرغ في وجهه روحاً من البله والعته كانت أمر سخرية من صلاة الكثيرين!
كان هذان التمثالان في المعرض وأولهما يكاد يفعم قلب الناظر إليه إجلالاً وخشوعاً إذا كان الناظر قد جرب الصلاة مثقلاً بالذنوب وبالحياة، مؤملاً في رحمة الله ومغفرته، مسلماً له شأنه، مفوضاً له أمره. وثانيهما كما رأيت فيه هذه الفكرة العجيبة الجريئة الشاذة التي ينقد بها صاحبه صلاة الكثيرين من المصلين. . ومع هذا فإن هذين التمثالين قضيا ما قضيا من الأيام والليالي في صالة الكنتننتال، وحظيا ما حظيا بشرف المثول بين يدي معالي وزير المعارف وزملاء معاليه وزميلاته، ولم يلق عليهما واحد من هؤلاء تحية، ولم يسعدهما من أولي الحل والربط في فنون هذا البلد نظرة تقدير أو إعجاب
ولندع الآن الحديث عن معرض مختار لنعود إلى ما كنا فيه من الحديث عن فن النحت نفسه، ولنحدد مكان هذا الفن من الفنون الجميلة. واحسبني الآن في غنى عن تكرار التدليل على أن الحواس الإنسانية هي منافذ النفس، وعلى إن النفس تحصل عن طريق هذه(302/71)
الحواس على أحاسيس وانفعالات وعواطف مختلفة، فتخلطها وتمزجها وتنتجها بعد ذلك فناً تعبر به عن اتجاه صاحبها في الحياة. فإذا كنت في غنى عن هذا فإن عليَّ أن أقف عند النحت وقفة خاصة أقرا فيها أن النحت هو فن الصمت وأنه بهذا كان أقرب الفنون من التصوف. فالنحات يسجل في تمثاله خفقة واحدة من خفقات الروح لا يفتأ ينتظرها ويتوقعها ويبحث عنها حتى إذا ما سطعت له مرتسمة على الجسم عامة، وعلى الوجه خاصة، تعلق بها وطبعها على روحه أو قل إنه يطبع روحه عليها ويرصدها عنده أرصاداً ويقفها عليها وقفاً. وهو بهذا يختلف عن الأديب الذي يتنقل في موضوعه من خاطر إلى خاطر، والذي يطلق وصفه لهذه الخفقة نفسها من ناحية إلى ناحية، والذي يأخذ قارئه في طوافه بها من جانب إلى جانب، وهو في هذا غير الموسيقى الذي يسلسل اللحن ويوالي التنغيم ليؤدي باللحن بعد تمامه ما يؤديه النحات باللمحة التي خطفها من الطبيعة وثبتها في تمثال فخلدها عليه. وهذا الأداء الذي يؤديه النحات لهو أشق وأعصى ما يرجوه الفن من الفنان، فليس يسيراً أن يلحظ الإنسان كل ما ينتاب الناس من اهتزازات الروح؛ وإذا كان من هذه الاهتزازات ما يبقى مواجهاً للعين والحس لحظة أو لحظات، فإن فيها ما يتلاشى أثناء تكوينه!. . . كلهفة الإعجاب التي تنتاب امرأة متزوجة عندما تلمح تحت بصر زوجها وسمعه شاباً يروقها، فهي لا تكاد تسمح لوميض الإعجاب أن يلمع في عينيها إلا ريثما تهب عليه نسمة من خجلها وريائها أو عفتها تطفئه وتخمده. هذه اللهفة قد يصفها الكاتب، وقد يصفها الشاعر، وقد يصفها الموسيقي موصولة بغيرها؛ وقد تؤديها ممثلة خيراً من أدائهما إذا كان بين النساء ممثلات فيهن من دقة الفهم والحس ما يقف بهن عند هزة خاطفة من هزات الروح كهذه؛ وقد يؤديها أيضاً رسام مستعيناً عليها بالألوان والظلال. . . ولكنن لا أتصور أن فناً من هذه الفنون جميعاً يؤتمن عليها مثلما يؤتمن عليها النحت الهادئ. ذلك أن قلة الأدوات التي يستعملها النحات في فنه تبعثه على الاستعاضة عن التيسير الذي تتيحه الأدوات لأصحاب الفنون الأخرى بطاقة كبرى من روحه يجود بها على فنه، إذ ما قد يستطيع غيره أن يمسك من شعاع النفس لا يملك النحات إلا أن يبذله
والنحات لا يهتدي إلى أمثال هذه اللمحات السريعة التي رأينا أحدها إلا إذا عاش وهو حديد البصر يكاد يلتهم كل ما يراه التهاماً، فإذا ما وقع على شيء مما يطلبه جمدت عنده نفسه.(302/72)
وما أشق جمود النفس على صاحب الفن، ولكنه عند النحات هو السبيل الوحيد الذي يرصد به فنه لا يغنيه عنه التسجيل على الورق، ولا ترضيه عنه الاستعادة والاستذكار، فهو إذا قنع بهما رأى آخر الأمر أنه فقد شيئاً مما كان يطلبه، وهو لا يريد أن يفقد مما يطلب شيئاً لأنه يطمع دائماً في التوفيق إلى محاكاة صنع الله لأنه يدرك أنه ليس وراء فن الله فن. لهذا كان أكمل المثالين هو هذا الذي يستغرق في موضوعه منذ أن يهتدي إليه إلى أن يؤديه؛ وهذا الاستغراق - كما قد يعلم القارئ - يركز إحساس النحات أو المثال في لمحة من حركة أو سكنه من سكنات وضع. وعلى من يريد أن يتصور مشقة هذا وثقله على النفس والروح والبدن أن يجربه وان يرى كم من الزمن يستطيع أن يستمر فيه. . . فليبتسم ابتسامة رضى وليشعر معها بالرضى وليظل هكذا ولير كم يستطيع أن يظل؟ فليقطب تقطيبه أسى، وليشعر معها بالأسى وليظل هكذا ولير كم يستطيع أن يظل؟!
هذا عمل لا يستطيع غير النحات أن يؤديه، وهو لن يكون نحاتاً متمكناً إلا إذا استطاع أن يؤديه. . . ومن العجيب أن النحات يطلب من أنموذجه أن يكون مرآته، وأن يعينه على تهيئة الجو الذي يريد أن يندمج فيه، وهو في هذا معذور مسكين. . . فهو حين يؤدي بروحه وبجوارحه ما يريد أن يسجله لا يرى نفسه ولا يستطيع أن ينقل عن صورته. . . عندئذ يضطر أن يشرح للأنموذج ما يطلب أن تكون عليه هيأته؛ وقليلاً ما يوفق النحات إلى طلبته، ولعل قلة التوفيق هذه هي التي تلقي في نفوس النحاتين الغرام بنماذجهم المطاوعة، فكم سمعنا بنحات يتزوج من أنموذجه بعد أن يفرغ من صنع تمثالها مهما كانت هذه الأنموذج فقيرة أو جاهلة أو ساقطة. . . فهو لا يرى فيها إلا أنها مرآة تتلقى حسه وتعكسه في وجهها
هذا هو النحات الحساس كما يريده الفن أن يكون
وهناك نحات آخر فيلسوف صاحب فكرة يرمز إليها بتمثال. ولعل مختاراً رحمه الله كان من هذا النوع حين أراد أن يكون من النوع الثاني فلم تسعفه موهبته. ونظرة واحدة إلى نهضة مصر مع نظرة واحدة أخرى إلى تمثال سعد زغلول في القاهرة أو في الإسكندرية تؤيدان هذا الرأي الذي أذهب إليه، فَهمَّة أبى الهول في التمثال الأول ليست إلا رمزاً لفكرة معجزة في سهولتها أدى بها مختار معنى النهضة بما لا يمكن - في إيماني - أن يهتدي(302/73)
فنان إلى ما هو أسهل وأبلغ إعجازاً منها في الوقت نفسه. فكم من العيون رأت أبا الهول القديم رابضاً ربضته، وكم من القلوب أحست أيام الثورة بنزعة مصر إلى التوثب، وكم من العقول اهتدت إلى التوفيق بين ما تراه العيون وما تحسه القلوب غير عقل مختار
كان مختار إذن صاحب فكرة، فهل كان من الحس في مقام بدائي في مقامه من الفكر؟
قد يحب أنصاره وأصدقاؤه أن يجاملوه - وعلى الأخص بعد وفاته - فيعترفوا له بهذا الذي أريد أن أتريث قبل أن أقول كلمتي فيه؛ بل الذي لا أريد أن أقول كلمتي فيه إلا بعد أن أحيلهم على تمثال سعد زغلول وأرجوهم أن يصدقوا أنفسهم حين يرجعون إليها بما ينتابهم من الشعور بعد النظر إلى التمثالين، فإن لم يكفهم النظر فليخضعوا إليهما زمناً وليروا: هل يقف بهم مختار حين يقف عند واحد من هذين التمثالين أمام زعيم كانت له مميزات سعد زغلول الصارخة التي أقل ما سجلها له أعوانه وخصومه: جبروته، وكبرياؤه، ونفوذه؟ أما أنا فأتحاشى المغالطة حين أقول إني لا أشعر في وقفتي أمام أي من هذين التمثالين بشيء من هذا الشعور. . .
وما دمت قد عرجت على مختار، فإني أرى أنه من الوفاء لذكراه أن أسجل له إخلاصه لأساتذته المثالين الفراعنة، واصطناعه أسلوبهم الذي يميل إلى الجلال مع التبسط، وهو الأسلوب الذي جرى عليه مختار تماثيله جميعاً، والذي عشقه مختار لأنه كان مصريَّا صادقاً في مصريته، ولأنه أراد باصطناعه أن يفاخر به الأساليب الغربية المتأنقة ليشهد معه أصحابها أن مصر أم الفن القديم لا تزال خصبة لم يصبها عقم، ولم يعبث بأسلوبها الفني القدم، ولم يقلل من روعته مر الزمن
ولقد أنشأ مختار بصنيعه هذا مدرسة جديدة في النحت لهما اليوم من طلبة الفنون الجميلة العليا وخريجيها تلاميذ، وفيها من زملائه المدرسين فيها أساتذة، ولكن الفرق بين مختار وبين أبناء مدرسته هؤلاء أنه شغف حباً بالفن المصري من غير أن يرسم لحبه هذا خطة بينما هم قديمو الخطة ولما يتلاشوا إلى اليوم في هذا الفن كما تلاشى فيه مختار. فأنت لا تجد اليوم واحداً من النحاتين المصريين إلا وتراه يحدثك في إسراف عن الفن القومي، فإذا نظرت إلى التماثيل المصرية التي تنصب في المعارض اليوم تعذر عليك أن تؤمن - مهما تعمدت هذا الإيمان - بأن الذين أنتجوا هذه التماثيل مصريون. ولو أن هؤلاء الشبان ربوا(302/74)
تربية فنية قومية صحيحة لأنتجوا فناً مصرياً صحيحاً. ولعل وزارة المعارف إذا كانت تهتم بأن تنتج فناً قومياً تفكر منذ اليوم في نقل قسم النحت من مدرسة الفنون الجميلة العليا إلى أسيوط
وأخيراً، فإني لا أستطيع أن أدع هذا الموضوع قبل أن أذكر الفن العصري أو الفن الحديث أو الفن (المودرن) كما يسمونه وقد بدأ يزحف إلينا، وراح يروج له أنصار السرعة من النحاتين الذين لا يطيقون دراسة الصناعة اللازمة للفن. فهم يجيزون اضطراب النسب في الأجسام، ونشوز الحركات والأوضاع، معللين هذا التجاوز بأنهم قوم لا يعبئون إلا بالفكرة والروح. . .
هؤلاء لهم دينهم ولغيرهم دين يؤمن أصحابه بالله وبفن الله، ويسبحون به مرحباً وموئلاً، فهو سبحانه وتعالى النحات الأول، وإنه سبحانه وتعالى لهو الفنان الأول، فأي تمثال كإنسانه؟ وأي كلام كقرآن؟ وأي أغنية يمكن أن تكون أبلغ وأصدق من أناشيد زبوره وألحانه
عزيز أحمد فهمي(302/75)
من هنا ومن هناك
عصبة البنادق!!
للكاتب الفرنسي موريس برا
(ملخصة عن البتي باريزيان)
من في العالم يفكر الآن في مجلس عصبة الأمم المسكين وهو معلق من خناقه في جنيف؟
إن عصبة الأمم تضمحل ويتلاشى أثرها إن كان ثمة شيء يحمل هذا الاسم. ولقد تبتسم ونحن نفكر في تلك الشخصيات البارزة التي شغلت ردحاً من الزمن بالعمل المتواصل حول تلك المائدة الخضراء في جنيف!
أجل. يحق للإنسان أن يبتسم، بل يحق له أن يضحك ملء شدقيه لو كان في القلب مكان للضحك!
ما مصيرك بعد نورمبرج يا جنبف؟ إنها لفكاهة مريرة قاسية! ماذا تصنع عصبة الأمم الوديعة أمام أحاديث هتلر المتدفقة بالبلاغة وتصريحاته السياسية الملتهبة التي تدوي في أنحاء العالم؟ إن عصبة الأمم لا تملك غير المداد والكلمات في ميدان جرت فيه أبلغ الأحاديث وظهرت فيه احزم الأفكار وأدق الآراء
إن عصبة الأمم المسكينة قد فقدت اعتبارها - ويا للأسف - بعدِ أن افتقرت إلى الأمم وأعوزتها القوة والنفوذ. ولكننا في هذه الساعة الرهيبة الحالكة الظلام، يصح لنا أن نفكر ونتأمل
ألم يكن الحق مقره جنيف؟ ألم تقم دعامة للسلم في جنيف لمكافحة الحرب، لمكافحة القوة، لمكافحة التسليح الذي يهدد العالم بالخراب؟ أيوجد تدبير أحكم من اتحاد أمم العالم في مجلس قوى منظم لحفظ السلام؟
ألم يكن الخلاص في جنيف؟ ألا يمكن أن يكون الخلاص في جنيف؟!
إنهم يقولون حلم بعيد التحقيق ويضحكون ويقهقهون. ولكن هل من العقل أن نظل كذلك إلى الآن؟
هل من العبث أن نتباحث ومن العقل أن نتحارب؟ هل من العبث أن نبحث عن حلول(302/76)
سلمية عادلة لشئوننا المختلفة، ومن المنطق أن تحكم القنابل في كل ما نختلف فيه من الأمور؟
أمن العبث أن تقدر الضمير الإنساني، ومن العقل أن نقبل حكم المدافع والقنابل بغير تبصر أو تفكير؟
إنها ليست عصبة الأمم التي أفلست. وإنما هي المدنية التي أفلست. . . إنها الإنسانية قد أصبحت (عصبة بنادق). . . وعلى الدنيا السلام. . .
إيطاليا وقناة السويس
بقلم الكاتب الإيطالي ف. بارتو
يقول هيرودتس أبو التاريخ إن العواهل من الحكام الأقدمين كانوا يحملون بقطع تلك البقعة الصغيرة من الأرض التي تفصل خليج العرب الممتد من البحر الجنوبي (البحر الأحمر) عن الخليج الممتد من البحر الشمالي (البحر الأبيض المتوسط) وإلى الآن لم يختلف اثنان في أهمية وصل هذين البحرين
ولقد كان نابليون بونابرت في العصور الحديثة مأخوذاً بهذه الفكرة. . . ولم يكن نابليون بالرجل الذي يعدل عن فكرة اتجِه نظرة إليها، ولكنه عدل عنها تحت تأثير مهندسه (لابير) الذي أكد له أن بين مستوى الماء في البحرين اختلافا عظيما قدّره بتسعة أمتار، وان هذه الفكرة مستحيلة التنفيذ
وفي سنة 1820 حاول جيتانو جاديني الإيطالي أن يفند تلك الفكرة القائلة بوجود اختلاف بين مستوى سطح الماء. وجاء إيطالي آخر يدعى نجرللي فتقدم بأول اقتراح لشق تلك القناة، وبناء على اقتراحه تألفت جماعة الفرنسيين والإيطاليين للبدء في هذا المشروع الذي يعد اعظم مشروع حيوي في ذلك العهد
ولكن أصغ إلى ما قالته إنجلترا في هذا المشروع حين نمى إليها خبره: أعلن لورد بالمرستون في البرلمان الإنجليزي أن أقل ما يمكن أن يقال عن هذا الشروع البعيد التحقيق أنه خرافة لا مثيل لها وتغرير لا حد له بعقول السذج الذين لا عقول لهم. كان ذلك في أول يونية سنة 1859(302/77)
وفي 6 من نوفمبر 1869 افتتحت القناة، أو الخرافة العظيمة، في موكب حافل مؤلف من ستين مركباً لمختلف الأمم، مقلعة من بورسعيد إلى السويس وهكذا أصبح الطريق ميسراً من أوربا إلى غرب أفريقية
ولقد تبرعت إنجلترا - على غير انتظار - بمبلغ عظيم من المال لتتقدم ذلك الموكب بسفينة عظيمة من سفنها
وقد كتبت التيمس قبل ذلك ببضع سنين تقول: إن هذا المشروع تعترضه مصاعب جمة، وإن إتمامه أمر لا يستطيع أن يتصوره العقل قبل حدوثه. وإذا افترضنا وتمت هذه المعجزة بحال من الأحوال وأصبح مشروع قناة السويس أمراً واقعاً فإننا لا نستطيع إلا أن نعلن أن هذا المشروع يجب أن يكون إنكليزياً قبل كل شيء.
وإذ كانت هذه نظرة الإنجليز للمشروع، وكان هذا مبلغ شكهم في إمكان تحقيقه فإن موقف الفرنسيين أدهى وأمر! فقد اختلسوا من إيطاليا فخر تنفيذه!
إننا نحن الذين أوجدوا المشروع وأذاعوا نبأه في العالم. ولقد كان لنا نصيب وافر في الأحوال التي بذلت في سبيل تنفيذه. وإننا نحن الذين قدموا العمال والصناع للعمل فيه وقمنا بنشر الدعاية اللازمة في الدوائر الاقتصادية المختلفة لمتابعة السير فيه
وكل ما للفرنسيين من الفضل في هذا المشروع هو تقديم المهندس الذي قام بتأسيس القناة وهو المسيو فرديناد دي لسبس الذي كان لحظه صديقاً لسعيد باشا حاكم مصر في ذلك الزمان.
وتظهر قيمة دي لسبس الحقيقية حين هم بإنشاء قناة في بنها مثل قناة السويس وهنا الفضيحة التي لا يجهلها إنسان!
وذلك أن دي لسبس لم يكن له مرشد حينما أراد أن يسير في ذلك الشروع، فلم يكن له سند ولا دليل من الإيطاليين
فقد كان جاتينو جديني الإيطالي هو الذي قام فأثبت خطأ النظرية القائلة بالتفاوت بين ارتفاع سطح المياه، وتجرللي الإيطالي هو الذي قدم تصميم بناء القناة بينما قام بترمو بلوكابا الإيطالي أيضاً بالعمل، وادوادو جوايا الإيطالي الذي قام بالقسط الأوفر في التأسيس، وتوسللي أخيراً الذي دافع عن الفكرة أمام خصومها وأعد حملة من الكتاب والصحفيين(302/78)
لنشر الدعاية لها. . .
ماذا يضايق الإنجليز؟
نشرت مجلة تصدر في برلين مقالاً تحت هذا العنوان نلخصه فيما يأتي:
للإنجليزي مقدرة عجيبة على التضجر ينفرد بها عن سائر الناس. فهو يتعمد أن يدوس على الأقدام عامداً متعمداً ليبدو أنه سيد العالم
فما يضجر الإنجليزي أن تأكل أمامه ونفسك مفتوحة للطعام، وحسبك أن تمضغ لقمة لتكون قد خرجت عن حدود اللياقة والعرف
لا بأس لدى الإنجليزي أن يراك ثملاً، مادمت تستطيع أن تسير في الطريق في هدوء واعتدال،
ويتضايق الإنجليزي إذا جلست معه إلى طعام وأدخلت ملعقة الحساء مثلاً في فمك، فإنه يعد ذلك من علائم الانحطاط وسوء التربية
ومما يضايق الإنجليز أن تدخن وأنت في لباس السهرة - وقد فعل ذلك سفير أمريكا - فقوبل عمله بنقد شديد. وعلى أن هذه العادة أخذت تزول منذ ظهر مستر بلدوين يدخن لأول مرة في لباس السهرة ومما لا يقبله العرف الإنجليزي أن تطلب فتاة أو زوجة حديثة السن للرقص قبل أن تقدم إليك إذا جمعكما منزل واحد
ولا يطيق الإنجليزي أن يراك تتكلم في الفلسفة أو الدين إلا إذا دعاك هو للكلام في هذه الشئون، لأن الإنجليزي يعتقد في نفسه العصمة من كل ما يسبب الضجر للآخرين. وهو يميز نفسه دائماً عن الأجنبي، لأن الأجنبي لا يعرف ما يضايق الإنجليز
وهذا المظهر من عادته أن يجعل الأجانب من رجال السياسة الذين يفدون إلى إنجلترا على حذر في كل ما يأتونه هناك إن لم يكن عندهم شيء من الرصانة والثقة بالنفس
فإذا عرف إنسان ما يضايق الإنجليز في بلادهم، فقد أصبح إنجليزيا في عرفهم مهما تكن جنسيته
وقد نقلت هذه النبذة مجلة إنجليزية تحت عنوان (ماذا يقولون عنا) وعلقت عليها بنبذة من كلام أمرسون عن الخلق الإنجليزي جاء فيها:
(إن الإنجليزي لا يقدم على عمل بنصف قواه، ولكنه يقدم عليه بكل قواه. أنه لا يطيق حياة(302/79)
الرخاوة والكسل بحال من الأحوال. والإنجليز على جانب عظيم من المقدرة في سياستهم وإن شك بعض الحمقى في ذلك
إنني اعتقد أن في الإنجليزي قدرة على تجديد قواه الكامنة في كيانه، وذلك يدل على أن هذه الأمة قادرة على التجديد دائما. وكل شيء يقدر عليه الإنجليزي يفعله بغير تردد)
ونحن نرجو أن تكون هذه المساجلات كل ما يقع بين الأمتين.(302/80)
البريد الأدبي
أبو تمام - خليل مطران
1 - أرجو أن يثق الأستاذ الجليل (القارئ) أن البيت (من كل بيت يكاد الميت يفهمه) لأبي تمام لا للبستي. ولو أن الأستاذ الجليل أعاد قراءة ديوان أبي تمام وديوان البستي لو جد فيه قوة أداء أبي تمام وهي قوة الأداء التي يفتقد (مثلها) في ديوان البستي. أما قوله إن البيت ليس في ديوان أبي تمام فسهو منه لأنه في ديوان أبي تمام في باب المعاتبات صفحة 409 من الطبعة التي قرظه فيها الأستاذ إسعاف النشاشيبي، وهو في قصيدة مشهورة موجودة في الديوان وفي غير الديوان قالها يعاتب بها محمد بن سعيد كاتب الحسن بن سهل وأولها هكذا:
محمد بن سعيد أَرْعِنِي أُذُناً ... فما بِأذْنِك عن أُكرومَة صَمم
لم تُسقَ بعد الهوى ماءً على ظمأ ... ما كقافية يَسْقيكهُ فَهِمُ
من كل بيت يكاد المَيْتُ يفهمه ... حسناً ويعبد القرطاسُ والقلمُ
مالي ومالك شِبْهٌ أنشده ... إلا زُهَيْرٌ وقد أصغى له هرم
الخ. ويروي الشطر الثاني من البيت الثاني في بعض الكتب (كماء قافية) وأظن أن الأستاذ (القارئ) أخطأ فهم قول الثعالبي فإنه أراد أن يمدح قول البستي ببيت أبي تمام على سبيل الاستشهاد والتضمين فقال الثعالبي: يعجبني قوله من كل بيت الخ أي يعجبني قوله من الأبيات التي صفتها كيت وكيت. وأرجو أن يسامحني الأستاذ الجليل (القارئ) في هذا البيان
2 - قال الدكتور أدهم إني تأثرت بطريقة خليل بك مطران. وهذا يشرفني لو كان حقيقة، ولكنه ليس حقيقة، فإني لم أتأثر بطريقة خليل بك لا في قليل ولا في كثير. وإذا استطاع الدكتور أدهم أن يجئ بشواهد فإنها تكون شائعة بين الشعراء فليجئ بها، وإذا ساعدني اطلاعي الضئيل وذاكرتي الضعيفة أثبتُّ أني احتذيتها إما في شاعر آخر وإما لأنها شائعة بين الشعراء. وقد أرسلتُ لمجلة (المقتطف) المقالة الأولى في الرد على قوله عقب قراءتي مقالته في مجلة المقتطف. وليطمئن الدكتور أدهم فإني سأثبت له بمقالات عديدة وشواهد وأسباب كثيرة أنه واهم في قوله كل الوهم(302/81)
أولاً: لأني اطلعت على الأدب العربي والأوربي في سن مبكرة بالمدارس الابتدائية والثانوية وذكرت الأدلة وقارنت بين كل قصيدة لي والقصائد التي احتذيتها في مقالة (المقتطف)
ثانياً: إن قوله إن شعري يغلب عليه التشاؤم خطأ، ولا أظن أنه يرفع قدر شعر مطران لو صح، وفي شعري التفاؤل والتشاؤم
ثالثاً: أن ثقافتي الأوربية في أول نشأتها كانت ثقافة إنجليزية، وثقافة مطران في أول نشأتها كانت ثقافة فرنسية. ويتضح ذلك من توجيهي قصيدة في الجزء الأول من ديواني إلى الشاعر بيرون، ومن تعلمي اللغة الإنجليزية واتساع المجال إلى قبل سفري إلى إنجلترا وبعده للاطلاع على الأدب الإنجليزي
رابعاً: إن الأدب الفرنسي الذي اطلعت عليه اطلعت عليه في كتب مترجمة إلى اللغة الإنجليزية لا في شعر مطران، وإذا شرفني الدكتور أطلعته عليها وعلى ما أشرت به في هامشها خامساً: إن كثيراً من شعري ونثري يغلب عليهما التحليل النفسي أو السخر أو التفكير في مذاهب التفكير الأوربية الإنجليزية والفرنسية والألمانية الخ. ولم أر ولا أظن أن أكثر القراء رأوا مثل ذلك في شعر مطران، وسأوضح مراجع هذا التفكير الذي تأثرته في الأدب الأوربي
سادساً: إني لم أطلع على ديوان مطران إلا بعد نشري جزءاً من شعري على الأقل. وقد كنت قرأت شعر البارودي في الصغر ورثيته بقصيدة نشرها خليل بك نفسه في مجموعة مراثي البارودي، وكانت قراءتي لشعر البارودي لنشر أستاذه المرصفي الكبير كثيراً من قصائده وقصائد من عارضهم في كتاب (الوسيلة الأدبية) الذي وجدته في مكتبة أبي وأنا تلميذ بالمدارس الابتدائية
سابعاً: أني لم أقابل الأستاذ مطران غير ثلاث مرات، مرة في قهوة نلسون في الصيف بالإسكندرية على غير قصد، ومرة أخبرني الدكتور أبو شادي أن خليل بك يرحب بأن أزوره، والمرة الثالثة قابلته أخيراً في مكتب العشماوي بك في وزارة المعارف (أو هما مرتان). ولم يحاول في مرة منها أن يجعلني تلميذه أو أن يشجعني، ولم يشر إلى أتى أقاربه في مذهبه؛ بل إني ظننت وبعض الظن إثم، أنه في حديثه عن الأدب في قهوة(302/82)
نلسون في اللقاء الأول كان ينتقد مذهبي من غير إشارة انتقاداً مراً، وكنت قد نشرت أربعة أجزاء. والذي أعرفه خليل بك في ذلك العهد كان يتنصَّل من أن يكون قد أثر في الشعراء الشبان. وإذا كان قد شجع شباباً غيري فإنه لم يشجعني مطلقاً إلا بنشر رثائي للبارودي قبل ذلك العهد وقد أرسلته بالبريد ولم أكاتبه مرة أخرى. والحقيقة أن كلمة التجديد في ذلك العهد كانت يساء بها الظن كما لا يزال يساء بها الظن، وأن هذا كان من دواعي موقف خليل بك، وقد تحول الآن قليلاً
ثامناً: إنه من سوء حظي أني عندما اطلعت على شعر خليل بك لم أطلع على أحسنه وأروعه وأفخمه، بل اطلعت على القصائد التي نظمها لمداعبة الآنسات السوريات وجعلها على قدر فهمهن فظننت أن كل شعره من هذا القبيل. وزاد هذا الاعتقاد أني قرأت له شعراً يشبه بعض شعر الحفلات والحياة الفرنسية والاجتماعية. وقوى هذا الاعتقاد إكثاره من شعر المناسبات اليومية التي لا أكتب فيها ولا أرى أنها من خير الشعر، وقلة اهتمامه بنشر شعره لاشتغاله بالتجارة مما أخمل شعره الجليل وقلَّل أثرة؛ ومَدْحُ بعض الشعراء المتطرفين في التجديد له جعلني أشك في شعره وأزهد في قراءته ومنعني من تأثره والاستفادة منه كما كان ينبغي
عبد الرحمن شكري
عبث الوليد
قرأت ما كتبه الأستاذ الكبير عبد الرحمن شكري عن أمير الصناعة البحتري فكان عندي موضع إعجاب وإجلال. وإني لمعجب ومقدر لما يكتبه الأستاذ من الأبحاث القيمة والموضوعات الأدبية الطريفة فأقرأه بشغف وأتزود منه وأنتفع به. غير أن لي ملاحظة على قوله إن المعري (شرح ديوان البحتري وسماه عبث الوليد. ولعمري لو كان شعر البحتري عبثاً ما احتفل له أبو العلاء ولما سلخ له زماناً من عمره في شرحه وإلا كان المعري عابثاً لإضاعة وقته في شرح العبث الخ)
فإن المعري لم يشرح ديوان البحتري كله. وحاشا المعري أن يسمي سلاسل الذهب عبثاً. وكيف يصح ذلك منه وهو الذي يقول: (المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري)(302/83)
وهذه شهادة منه تعتبر أرقى من أهم شهادة في هذا العصر
وإنما اختار أبياتاً ارتكب فيها البحتري ضرورة من الضرورات أو استعمالاً شاذاً أو مذهباً نحوياً غريباً فشرح هذه الأبيات وبين ما فيها وأسماها عبث الوليد
وهذا الكتاب طبع بدمشق ويوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية مأخوذة بالتصوير الشمسي برقم 7957. وهذه بعض أمثلة منه
حرف الهمزة من التي أولها: زعم الغراب منبئ الأنباء:
فلعلني ألقى الردى فيريحني ... عما قليل من جوى البرحاء
الأكثر في كلامهم لعلي وبها جاء القرآن وربما جاء لعلني
وهذا البيت ينشد على وجهين:
أريني جواداً مات هزلاً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
ومنهم من ينشده لأنني وهو بمعنى لعلني الخ
وقال في محل آخر:
لم تقصر علاوة الرمح عنه ... قيد رمح ولم تُضِعْهُ خَطآء
خطآء بفتح الخاء رديء إلا انه جائز وقد حكي عن بعض القُراء المتقدمين: (أنه كان خطآ كبيرا) بالفتح والمد. والكسر أجود ليكون مصدراً لخاطأ لأنهم قد قالوا تخاطأته المنية قال الشاعر:
تخاطأت النبلُ أحشاءه ... وأُخَّرَ يومي فلم يَعْجَلِ
ويجوز أن يكون خطآ وهو مأخوذ من الخطوة كما يقال خطأه الله السوء أي جعل السوء يخطوه فلا يمر به، وقال:
وما دول الأيام نعمى وأبؤساً ... بأجرح في الأقوام منه ولا أسوى
قوله أسوى تسامح من أبي عبادة لما كان الأسو ظاهر الواو وكذلك قولهم أسوته في الفعل فأنا آسوه آنس بالواو، فجاء بها في أفعل الذي يراد به التفضيل وإنما القياس ولا آسى وما علمت أن أحداً استعمل هذه الفظة التي استعملها أبو عبادة وكأنه قال: ولا أوس ثم نقل الواو إلى موضع العين إذا بنى من أسا يأسو مثل أفعل فالأصل أن يجتمع فيه همزتان إلا أن الثانية تجعل ألفاً كما فعل بها في آدم فهذه الألف جاء بها أبو عبادة في أسوى بعد الواو(302/84)
يجب أن تكون الهمزة المخففة وقد أبدع في استعماله هذه الكلمة ومن التي أولها:
أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فرط إعجابه
ولكنه في الفعال الكريم ... والخلق الأشرف النابه
جاء بالنابه مع إعجابه فجمع بين الهاء الأصلية وهاء الإضمار وذلك قليل إلا أن الفحول قد استعملوه واستحسنه كثير من المحدثين. وقالت امرأة من العرب تهجو ضرتها وتخاطب زوجها:
بطون كلب الحي من جدارها ... أعطيت فيها طايعاً أو كارهاً
حديقة علياء من مدارها ... وفرساً أنثى وعبداً كارهاً
ومن التي أولها: وكان الشلمغان أباً مولهاً:
بنو الأطروش لو حضروا لكانوا ... أخص مودة وأعم رأياً
قوله الأطروش يقول بعض أهل اللغة إنها كلمة لا أصل لها في العربية وقد كثرت في كلام العامة جداً وصرفوا منها الفعل فقالوا طرش يطرش وأفعول بناء عربي كثير. ويجوز أن يكون من أنكر هذه اللفظة من أهل العلم لم تقع إليه لآن اللغات كثيرة ولا يمكن أن يحاط بجميع ما لفظت به القبائل. وكان عبد الله ابن جعفر بن دستوريه يذهب إلى أن كلام العرب لا يمكن أن يدرك جميعه إلا نبي إذ كان غاية ليست بالمدركة. وممن كان ينفي الأطروش عن كلام العرب أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني الخ
هذه طريقة هذا الكتاب هو كتاب جليل على صغر حجمه نافع لا يصح أن يكون مجهولاً غير معروف بين الأدباء والسلام على الأستاذ
إبراهيم يسن القطان
المبتدأ الذي لا خبر له
لا شك في انه يوجد في علومنا ما يحتاج إلى التمحيص، ولقد درست النحو في هذه السنة فدرجت فيه على عادتي في الدرس من إيثار تمحيص المسائل على ترديدها كما دونها المؤلفون. ومن ذلك مسألة المبتدأ الذي لا خبر له، وهو الذي أشار إليه ابن مالك في قوله:
وأول مبتدأ والثاني ... فاعلٌ أغنى في أسَار ذَانِ(302/85)
وهم يقولون في إعراب هذا المثال: الهمزة للاستفهام، وسار مبتدأ، وذان فاعل سد مسد الخبر. وفي هذا الإعراب المشهور مؤاخذة من وجهين: أولهما أن هذا الوصف ليس مبتدأ في المعنى، لأن المبتدأ في الجملة الاسمية هو المحدث عنه أو المسند إليه أو المحكوم عليه، الخبر هو المحدث به أو المسند أو المحكوم به، والوصف في ذلك المثال جار مجرى الفعل، فهو محدث به لا محدث عنه، ومسند لا مسند إليه، ومحكوم به لا محكوم عليه
وثانيهما انه كلما كان هناك مبتدأ وجب أن يكون هناك خبر، فلا يمكن وجود مبتدأ لا خبر له، وهذا كما لا يمكن وجود خبر بدون مبتدأ، ولا وجود فعل أو فاعل بدون الآخر، وذلك لأنه لا يعقل وجود محدث عنه أو مسند إليه أو محكوم عليه بدون وجود محدث به أو مسند أو محكوم به، ولا يمكن أن يسد الفاعل الذي بعد ذلك الوصف مسد الخبر، لأن الفاعل مسند إليه، والوصف إذا كان مبتدأ يقتضي مسنداً لا مسنداً إليه فإذا قيل إنه ليس معنى المبتدأ هو المسند إليه أو نحوه، وإنما هي تسمية اصطلاحية بمعنى الاسم العاري عن العوامل اللفظية، فيكون ذلك الوصف مبتدأً بهذا المعنى، وإن كان مسندا لا مسنداً إليه، فالجواب أن هذه التسمية الاصطلاحية لا نظير لها في علم النحو، فلا يسمي فيه فاعل إلا إذا كان في المعنى فاعلاً، ولا يسمى فيه مفعول إلا إذا كان في المعنى مفعولاً، ولا يسمى فيه حال إلا إذا كان في المعنى حالاً، وهكذا. فيجب أن يكون المبتدأ كذلك، ولا يصح أن تكون تسميته تسمية لفظية صرفه، لأنه لا يوجد في النحو إعراب لا معنى له
والذي أراه أنه لا يجب أن يعرب مبتدأ كلً اسم عربي عن العوامل اللفظية، وقد استثنوا من ذلك اسم الفعل فلم يعربوه مبتدأ. وأنا أستثني منه ذلك الوصف فلا أعربه مبتدأ أيضاً، وإنما يعرب عندي اسم فاعل مرفوعاً لتجرده من العوامل، كما يرفع الفعل المضارع لتجرده منها، فإذا كان اسم مفعول أعرب اسم مفعول، وهكذا. وبذلك يستقيم جعل ذلك الوصف مسنداً، وجعل مرفوعة مسنداً إليه.
عبد المتعال الصعيدي
مباراة موسيقية غنائية تنظمها جماعة الأسايست في القاهرة
نظمت جماعة الأسايست بالقاهرة مباراة علمية في البحوث الموسيقية والغنائية، واعدت(302/86)
للفائزين فيها أربع جوائز، اثنتين منها للبحوث المقدمة باللغة العربية، والأخريين للبحوث المقدمة باللغتين الفرنسية أو الإنجليزية
أما الموضوعات التي اختيرت لهذه المباراة فهي:
الموسيقى العربية - بحث في أحد أعلامها (أعماله، منبع إلهامه، أثره في الموسيقى العربية، الخ.) وآخر في الأغاني الشعبية المصرية، وثالث في الموسيقى المصرية الحديثة الموسيقى الغربية - بحث في ترجمة حياة أحد الأعلام الثلاثة: باخ - بيتهوفن - دبوسي، وبحث آخر في السوناتا، وثالث في عصر من العصور الموسيقية: العصر القديم (الكلاسيكي)، العصر الإنشائي (الرومانطيقي)، الموسيقى بعد الحرب، الموسيقى المقارنة، بحث في المقابلة بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية والصلة بينهما قديماً وحديثاً والاشتراك في هذه المباراة مباح للمقيمين في مصر، بشرط ألا تزيد سنهم على الثلاثين، وألا تستغرق البحوث أكثر من ثلاثين صفحة من القطع الكبيرة مع عدم النقل الحرفي من المراجع. وتقدم طلبات الاشتراك حتى آخر الشهر الحالي، والبحوث إلى يوم 31 مايو المقبل مع رسم قدره 15 قرشاً باسم سكرتيريه الجماعة بشارع المغربي رقم 9 بالقاهرة
أما لجنة التحكيم فقد ألفت من حضرات الدكتور محمود احمد الحفني رئيساً ومدام بتسي ستروس وكيلة، ومصطفى رضا بك، والأستاذ توفيق الحكيم، والدكتور. ب. شيفر الستر، والأستاذان ج. هوتيل، وا. تيجرمان، والدكتور هانس هيكمان: أعضاء، والمسيو سالتيل سكرتيراً
دار الثقافة في السودان
من بين المهتمين بإيجاد دار تجمع المثقفين من المصريين والبريطانيين والسودانيين لتبادل الرأي وتوثيق التعارف، المستر ولسن مساعد السكرتير الإداري بالخرطوم. وقد ذكر أن ثلاث شخصيات كان لها الفضل في اقتراح هذا المشروع وتأييده هم المستر كوكسن مدير المعارف والمستر نيوبولد والمستر كمنجز. وقال إن بعض الناس يطلقون عليها أسم نادي القلم، وهذا خطأ إذ أن الاسم المراد إطلاقه عليها هو دار الثقافة
وسيباح الاشتراك في هذه الدار لجميع الأجناس. وستزود بالكتب الإنجليزية والعربية، وستلقى فيها محاضرات في شئون تهم الوطنيين والبريطانيين وتهم السودان بصفة عامة(302/87)
عودة البعثة الألمانية من القطب الشمالي
وصلت البعثة الألمانية العادة من القطب الجنوبي إلى كوكسهافن على الباخرة شوابنلند وقد حصلت على نتائج مهمة. وكان المارشال جورنج قد أمر بتأليفها ضمن استكشاف منطقة تمتد إلى شرقي خط جرينتش وغربية في القارة المتجمدة الجنوبية. وقد بلغت الباخرة شوابنلند تلك الأصقاع في يناير الماضي وبدأَت البعثة أعمالها في الحال
وقامت برحلتين جويتين وضعت بهما الخرائط لإقليم لم يستكشف بعد وتبلغ مساحته 350 ألف كيلو متر مربع، ويبلغ مجموع مساحة الأراضي التي استكشفت من قبل 600 ألف كيلو متر مربع. ويتألف الإقليم الذي استكشف من بقعة واحدة يحدها من الشرق نجد من الجليد يرتفع فجأة ويمتد في اتجاه القطب ويحتوي على سور من الصخور يختلف ارتفاعاً وهبوطاً إلى أن يتصل بالقطب. وقد جاءت الخرائط التي وضعت لكل ذلك فريدة في بابها
ونزلت البعثة في أثناء طيرانها على حواجز من الجليد ورفعت العلم الألماني على كثير من القمم وجعلت تلقي كلما اجتازت 15 كيلو علماً من أعلام الصليب المعقوف. ثم إن البعثة استكشفت الحاجز الجليدي حتى الدرجة 18 , 30 شرقاً وجابتَ الشاطئ حتى الدرجة 20 شرقاً. وفي 6 فبراير شرعت السفينة في العودة لأن سوء الطقس وحالة الجليد كانت تنطوي على أخطار كبيرة. وأثبتت الطائرات المائية جودتها الفائقة في استخدامها في تلك الأصقاع. وتبلغ أقصى نقطة جنوبية وصلت إليها البعثة الدرجة 72 والدقيقة 44 جنوباً والدرجة الصفر من خط الطول. أما أقصى نقطة غربية فهي الدرجة 71 والدقيقة 33 جنوباً والدرجة 4 والدقيقة 5 غرباً. وبلغت أقصى نقطة شرقية الدرجة 22 والدقيقة 10 جنوباً والدرجة 16 والدقيقة 30 شرقاً. ووضعت الأعلام الألمانية على هذه الدرجات لتعيينها. وقامت البعثة إلى جانب كل ذلك بجس بالراديو في 119 موضعاً، وكان 31 موضعاً منها على علو يزيد على 20 ألف متر. وقام الأستاذ باركلي العالم السيولوجي بأبحاث تتعلق باحتمالات صيد الحيتان أجرى تجارب بالشباك ودرس حياة الحوت
الأدب المصري في نظر المستشرقين
سبق للرسالة أن أشارت إلى أن الأستاذ المستشرق الكبير بروكلمن ينشر الآن الجزء الثالث(302/88)
والأخير من تكملة كتابه (تاريخ الآداب العربية) والذي فيه يتناول مظاهر الأدب المصري شعراً ونثراً. هذا إلى جانب المحاضرة التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين المنعقد في بروكسل في السنة الماضية والذي عرضت له الرسالة في حينه. وقد لفت الأستاذ بروكملن في محاضرته هذه، أنظار المستشرقين إلى ضرورة نقد كتب الأدب العربي الحديث. وقد ظهرت بوادر ذلك في عدد فبراير سنة 1939 من مجلة المشرقيات وهي أهم مجلة ألمانية موقوفة على النقد في دوائر الاستشراق حيث نشر المستشرق المعروف هاج ببرلين نقداً لمسرحية الدكتور بشر فارس (مفرق الطريق). بدأ المستشرق نقده بذكر مؤلفات الدكتور بشر فارس في الأدب والعلم وأشار إلى مكانتها، ثم تطرق إلى المسرحية فبين الفكرة البعيدة المرمى التي تدور عليها المسرحية من الناحية الفلسفية، ووصف الطريقة الرمزية في التعبير عن العواطف والحركات على المسرح، فقال إن الحوار في المسرحية بين النطق والإشارة مما يتطلب من المخرج مقدرة ويترك له مجال الافتنان. أم لغة المسرحية فيراها الناقد منتقاة. وقد يتفق للقارئ أن يقف أحياناً لتفهم تعبير جديد في الأدب العربي. وهنا يرى المستشرق هاج أن النقاد عندنا أثبتوا قدر هذه المسرحية على اختلاف مناحيهم: فذكر أنها نالت من الناحية الأدبية تقدير الدكتور زكي محمد حسن (أهرامِ 25 أبريل سنة 1938) ومن الناحية الفنية اعتراف الأستاذ زكي طليمات بأنها حدث جديد (الرسالة عدد 250 في 18 أبريل سنة 1938) ثم ذكر رأي الناقد ميخائيل نعيمة بأنها كزي جديد في الأدب العربي (الرسالة عدد 251 في 25 أبريل سنة 1938) ثم عقب المستشرق هاج بأن هذه المسرحية تمهد طريق الاستحداث الأدبي في العالم العربي كما وقع ذلك في الأدب التركي. ثم يختم المستشرق بهذا السؤال: هل يقدر المؤلف أن يصل إلى الغاية التي يقصد إليها؟ فجاء جوابه أن هذه المسرحية إن لم يتفق لها أن تحقق الغاية في المستقبل فإنها قوبلت بارتياح عظيم. وزاد على ذلك أن المؤلف لا يشك في أنه قد حان الزمن الذي فيه أصبح الإيجاز والإيماء في الإنشاء الرفيع أحب إلى القارئ العربي المهذب من التطويل والتذييل
م. ك(302/89)
الكتب
من بواكير الشباب
قصص وشعر
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
في شبابنا يقظة أدبية وثابة، ولهفة على التأليف في الأدب خصوصاً في القصص والشعر، وما من يوم يمضي دون أن يحمل إلي البريد قصة أو ديواناً يطلب مني صاحبه أن أقدمه للقراء! ومهما يقل بعض الناس في شأن هذه اللهفة، فإنها لا شك بشرى طيبة لعلها تصل بأصحابها إلى نهضة أدبية قويمة متى وجدت المدد والبخور والعطف والتشجيع
وهذه باقة من نتاج الشباب في القصص والشعر نضعها بين يدي القراء الكرام، وإن فيها من طيب الشذا ما ينعش النفس ويغمر الإحساس والشعور، وهل الشباب إلا إحساس وشعور!
في سبيل الخلافة
قصة تاريخية مسرحية، وضعها الأديبان: إبراهيم حسن جعفر وعبد الغفار الجنبيهي، وموضوع القصة موضوع تاريخي يتصل بالصدر الأول للإسلام. ذلك العصر العظيم بأبطاله، الزاهي بتراثه، الفخور برجاله، والقصة جميلة في تسلسل حوارها، وانسجام أسلوبها، وتحري الصواب في سرد حوادثها، فغاية الفن فيها التهذيب والتزويق، لا الكذب والتزوير، فأنت إذ تراها قصة أدبية قوامها الحوار والتمثيل، فأنت تجدها في الوقت نفسه قطعة رائعة من التاريخ لها كل مميزات الكتابة التاريخية، وإنها لتبشر بمستقبل لمؤلفيها في الأدب، وتدل على استعداد للقصة
قبل الانتحار
وهذه قصة بقلم الأديب خليل منصور الرحيمي، وقد قدمها إلى القراء الأستاذ الكبير إبراهيم عبد القادر المازني وقال في تقديمها: هذه قصة منتزعة من صميم الحياة، فلا تقليد ولا محاكاة ولا تمصير ولا شيء إلا صورة نفس مصرية على قدر ما وسع صاحبها أن يتقصى جوانبها، ويغوص في أعماقها، ويلم بألوانها، ولقد أجاد بحق، وليس فيه من العيوب(302/90)
إلا ما لا بد منه ولا معدي عنه في سن الشباب، والزمن والتجربة علاج كاف مضمون!
والقصة في موضوعها هي قصة المؤلف في الحياة، وما لاقاه فيها من حوادث، ومأثر على نفسه من مؤثرات. والناس جميعاً متشابهون فيما يقاسمون من صروف الدهر، وعنت الأيام، ولكن القليل فيهم هو الذي ينتفع بالتجربة، ويتدبر العواقب، ويستخلص النهج الذي يجب أن يسلكه هو وأمثاله. والأديب حينما يقدم لك صورة من نفسه، فإنه في الواقع يقدم لك صورة من الحياة، ولكن بعد أن يقربها لعقلك وإدراكك، ومن ثم تكون اللذة والإفادة. فلعل الذين يطالعون هذه القصة يجدون فيها كما وجدت صورة رائعة تمثلت في حياة نفس مصرية
في غرفة التحقيق
وهذه قصة كسابقتها، هي صورة من حياة مؤلفها الأديب محمود محمد علوان، ولكنها حافلة بتعدد الشخصيات وكثرة المناظر؛ وكأني بها قطعة صادقة من الحياة الواقعية، أراد صاحبها أن يتحرى فيها الصدق والإخلاص فبلغ غايته ووفق إلى ما أراد.
صدر القصة سرد لتاريخ المؤلف وصلته بالحياة وبالناس وهو في كنف والده أيام الدراسة، وهي إلى هذا الحد قصة عادية أشباهها في الحياة كثير. ولكن المؤلف بعد ذلك يقص حياته في العمل بسكرتارية التحقيقات بنيابة دمنهور، وهو في هذه المرحلة لا يحفل بشخصه، ولكنه يهتم بتصوير ما يصادفه من الحوادث العجيبة، والشخصيات الغريبة، والوقائع التي تبكي وتضحك مما يتصل بأعمال النيابة في الضبط والمعاينة والتحقيق، ولا شك أن المؤلف قد تأثر كثيراً بالأستاذ الحكيم في يوميات نأب في الأرياف وإن كان بينهما البون الشاسع في سرد الوقائع، وترتيب الحوادث، والوضع الفني للقصة وأسلوب الكاتب أسلوب سهل قريب إلى النفس، يدل على طبع موهوب وإن كان لا يخلو من هفوات لا يسلم منها الناشئ
القصتان
وهما قصتان من صميم الحياة المصرية، إحداهما بعنوان (ثورة) والأخرى بعنوان (الرضيع) وضعهما مؤلفهما الأديب عبد الحفيظ أبو السعود دعاية للفضيلة، وانتصاراً(302/91)
للأخلاق الكريمة التي عصفت بها روح العصر، وطغت عليها مدنية زائفة كلها الأذى والشر والتبذل والفساد لنفوس الشباب، وقلب الأوضاع الثابتة، والتقاليد المرعية
والمؤلف الفاضل بارع في السرْد القصصي، وحبك الوقائع حتى ليسير بالقارئ في تسلسل وانسجام، فلا نبو ولا شذوذ ولا اقتضاب، ولكنها طبيعة الحياة، واطراد الحوادث. وأسلوبه قوي سليم، ولكن يكثر فيه الترادف والتعابير الضخمة التي لا تلائم روح القصة. إن من الواجب على الكاتب أن يجيد الربط بين المعنى وبين لبوسه من الألفاظ والتعابير، وأن يكون أسلوبه ملائماً لمواقع الكلام. وتلك ناحية يستطيع المؤلف أن يخلص منها في يسر وسهولة، حتى يتم له الاتصال بنفس القارئ في يسر وسهولة.
نجوى المنى
جملة طيبة من المقطوعات الشعرية، نظمها الأديب الشاعر عبد الله حسين رزق في موضوعات تتصل بنفسه، فهي آلام وآمال وعواطف وأحاسيس اعتلجت في نفس الشاعر فجلاها للناس في أسلوب مشرق صادق، وترجم عنها بالأداء أحسن ترجمه. وإذا كان ما يخرج من القلب يصل إلى القلب كما يقول الجاحظ فلا شك أن الشاعر الأديب قد استطاع ان يصل إلى قلب قارئه.
أما الملكة الشعرية والأداة الشعرية فأنهما كما يقول الأستاذ خليل شيبوب في مقدمة الديوان - قد استقامتا للناظم، وليس عليه إلا أن يتعهدهما حتى يستكملهما، وما كثير من المعاني التي يتلمسها، ويمر بها دون أن يستوفيها إلا ومضات ذهنية لا تزال تموج بها ميعه الصبا، ولعلها تنجلي عن شمس الضحى في النهار المشرق.
ألحان الفجر
وتلك مقطوعات أخرى نظم عقدها الشاعر محمد المصري محمود، وهي قطع من عواطف المؤلف في الوطنية، وشعوره نحو الجمال وتقديره للعاملين من أبناء الوطن في السياسة والعلم والأدب.
وألحان الفجر باكورة تدل على استعداد صاحبها للشعر وتنبئ عن ملكة لا بدل لها من المران والتدريب حتى تنمو وتنضج. وإنك لتطالع فيه كثيراً من الأبيات المفردة،(302/92)
والمقطوعات التي تفيض بالعاطفة القوية والإحساس الشريف.
شرح منهج التعليم الإلزامي
ذلك هو جاد الجندي المجهول يؤديه لأمته ووطنه لا يرجو عليه جزاءاً من أحد إلا أداء مهمته وإشباع رغبته واطمئنان نفسه وضميره
والجندي المجهول في مصر هو ذلك المعلم الإلزامي القابع فيك صميم الريف يهذب النفوس ويهيئ العقول ويشحذ المواهب في النشء ويعدهم لفهم الحياة ومزاولة العيش. والمعلم الإلزامي لا شك يجد كثيراً من الصعوبة والمشقة في تقويم أطفال كسغب القطا حمر الحواصل. ولقد يعنيه اختيار الطريقة الملائمة لإدراكهم في الشرح وربما يتنكب القصد. ولقد فزع الأديب عبد المؤمن محمد النقاش في جماعة من إخوانه الذين يزاولون التعليم في المدارس الإلزامية لتسهيل ذلك العمل لأبناء طائفته فقاموا بشرح منهج التعليم الإلزامي لجميع الفرق في الأخلاق والدين والتربية الوطنية والمحادثة والإنشاء والإملاء والمحفوظات والصحة والتعليم المنزلي والأشياء والتاريخ والجغرافيا على ما هو مقرر في تلك المدارس
وقد زينوا الشرح بالخرائط والرسوم لتبسيط الفكرة وتوضيح الرأي، وزادهم تمكنا في الشرح مزاولتهم التدريس في تلك المدارس، فجاء عملهم كاملاً يقوم على العلم والعمل، نافعاً ينير الطريق لإخوانهم ويسد نقصاً هداهم الله إلى تمامه ووفقهم إلى كماله.
م. ف. ع(302/93)
العدد 303 - بتاريخ: 24 - 04 - 1939(/)
مغزى رسالة الرئيس روزفلت
اقتلوا الجوع تقتلوا الحرب
عالجت الرسالة في بضع عشرة مقالة آلام الجوع وآثام الفقر وما ينجم عنهما من مآسي الحياة؛ وكان في ظننا يومئذ أن الناس متى هذبتهم المعرفة وصقلتهم المدنية يصبحون أعلم بحكمة الله، وأفهم لسياسة الدين، وأجدر أن يحكِّموا العقل والعدل فيما شجر بينهم على قسمة الدنيا وغلة الأرض؛ ولكنا تركنا الموضوع قانطين من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تبعد عن البكاء والاستبكاء، مادام الحكم لأيدي الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء، والغَلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. وقلنا ونحن نمسح عن القلم سواد الحظوظ: لا يزال في قدر الله أن يكابد بنو آدم عقابيل البهيمية الأولى، فيوطأ الواني، ويُسترق العاني، ويؤكل الضعيف، ويكون هنا الطمع والكزازة والأثرة، وهناك الحسد والحزازة والثورة، ثم لا يفصل بين الواجد والفاقد غير الحرب. فالحرب لا تنفك مشتعلة بين الفرد والفرد، وبين الأسرة والأسرة، وبين الأمة والأمة، بالقول أو بالفعل، وفي السر أو بالجهر، حتى يتدارك الله عباده فيهيئ نفوسهم لفض هذه الخصومة، بغير هذه الحكومة
والخصومة بين الناس أولاً وأخيراً هي المادة؛ والنكبة الأزلية على النظام والخُلق هي الفقر؛ وكل ثورة في تاريخ الأمم، أو جريمة في حياة الأفراد، إنما تمت بسبب قريب أو بعيد إلى الجوع. حتى الشهوة: شهوة الغرام أو الانتقام لا تقع في تاريخ الجناية إلا في المحل الثاني بعد الجوع، لأنها لا تكون إلا عرضاً من أعراض الشِّبع. من أجل ذلك جاء دين الله يخفف عن الفقير بالإحسان والعدل، ويدفع عن الضعيف بالمودة والرحمة؛ ولكن عُرام النفوس كان أقوى من أن يرده الثواب المغيِّب والعقاب المؤجل، فنبت على أمر الله، وعللت نفسها بالنجاة من باب التوبة المفتوح، ومن طريق المغفرة الواسع. ثم حاولت فلسفة الناس أن تجد سلام المجتمع في أنظمة متناقضة يدفع بعضها في صدر بعض؛ فوقع العالم من جراء النزاع بين الفردية والاشتراكية، والصراع بين الدكتاتورية والديمقراطية، في حرب عنيفة رعناء لا تأصرها آصرة، ولا تدركها شفقة، حتى أكلت من أمة الأسبان وحدها مليوناً وربعاً من شبابها الآمل العامل؛ ثم أخذت تخمد في هذا الميدان الضيق المحدود لتستعر في ميدان لا حد لعرضه، ولا نهاية لطوله: هو العالم!(303/1)
أينما يكن الغني يكن السلام، ما في ذلك ريب ولا جدل. ففي أمريكا وإنجلترا، وفي فرنسا وسويسرا، تجد الناس في ظلال الأمن مقبلين على الإنتاج المعمِّر والاستهلاك المرفِّه، لا نكاد نرى بينهم عيناً تحسد ولا قلباً يحقد ولا يداً تجترح
وفي ألمانيا وإيطاليا أصيب الناس بسُعار من الجوع زاده طمع الطاغيتين التهاباً واستكلاباً فانقلب إلى نوع من عبث نيرون أو انتقام شمشون أو مقامرة اليائس الذي يضرب الضربة الحمقاء ليربح الكل أو يخسر الكل!
فلو أن الله أتاح لأبناء برلين ورومه من سعة الدنيا ونفاق التجارة ووفرة المال ما أتاح لأبناء لندن وباريس؛ ولو أن الله لم يبتلي أبناء رومه وبرلين بمن طحنهم بالعمل، وعصرهم بالضرائب، وقهرهم بالحرمان، واتخذ من أجسادهم وأرواحهم وأقواتهم مدافع تقذف بالنار، وطوائر ترمي بالسم، لما رأيتهم يكفرون بالإنسانية ويتنكرون للمدنية، ويفعلون فعل القوي المحتاج: تضطره الحاجة إلى السرقة، وتدفعه القوة إلى القتل، فهم يخرجون اليهود من ديارهم ليأخذوا المال، ويحتلون الأمم بجيوشهم ليملكوا الأرض، ويلقون الدول القوية في بُحْرانٍ من القلق والفزع والذهول، ليضعوا أيديهم الجارفة على أرزاق الدول الضعيفة
رأى خليفة ولسون وهو في دنياه الجديدة السعيدة أن الجوع الذي ولدته الحرب الكبرى في قصر فرساي قد أشتد أسره، وصلب عضله، وفحش طوله، وضخم بدنه، حتى انشق إلى تِنْينين فظيعين لكل منهما مليون رأس، ومليون يد، وفي كل رأس ناب يقطر السم الزعاف، وفي كل يد مخلب ترسل الموت الوحِيَّ. فبعث إليهما برسالة من بقايا النبوة الأولى، فيها الدعوة إلى الحق بالقول اللين كدعوة موسى التي لم تُصِبْ أذناً في مصر، وبالمنطق المؤيد بالقوة كدعوة محمد التي لم تخطيء أذناً في العالم
يطلب الرئيس روزفلت من الجوع المتجسد المتنمر أن يحبس لعابه المتحلب، ويكفكف سعاره المضطرم، ويقبض لسانه اللاهث، ويتخذ هيئة الإنسان ليلتقي بخصومه في مؤتمر عام يجمع والغرب والشرق على المبادئ التي شرعها الله فكفروا بها، والخطط التي نهجها المصلحون فحادوا عنها؛ ثم يضعون لهذه الدنيا المتدابرة المتناحرة سياسة جديدة تجعل أرض الله مضطرباً لكل كادح، وخير الأرض مشاعاً لكل مستغل. ويومئذ يكون الفصل بين(303/2)
عالم عاش فيه الحيوان بغرائزه الوحشية، يقوى فتنتشر مخالبه بين شعره المنفوش، ويضعف فتنطوي تحت حريره المفوف؛ وبين عالم يعيش فيه الإنسان بطباعه المدنية، يعدل بين جنسه وغير جنسه، ويحب لغيره ما يحب لنفسه، ويطمس في ذهنه حدود البيت والأسرة، ومعالم الوطن والأمة، ليصبح الناس كلهم أسرته، والدنيا بأسرها وطنه.
ويومئذ تستطيع الإنسانية أن تتبجح بميزة العقل والعلم وتقول لقافلتها الضاربة في مجاهل الأبد وهي لا تملك مشاعرها من القلق والفرق: لقد زال الطمع فزالت العداوة، ومات الجوع فماتت الحرب.
احمد حسن الزيات(303/3)
رقم!. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
مليون ومائتا ألف!
هذا هو الرقم في الحساب، وهو عدد الذين قتلوا في الحرب الأسبانية الأهلية من رجال ونساء وأطفال، ومن مقاتلين وموادعين. بل كان عدد القتلى من الجنود أقل من عدد القتلى الذين لم يحاربوا ولم يحملوا السلاح؛ لأن هؤلاء قد بلغوا ثلاثة أرباع المليون!
رقم!. . . وماذا في الرقم من دلالة؟ كل ما هنالك أن ألوفاً كثيرة أصبحوا اليوم موتى وكانوا بالأمس أحياء
إلا يعرف الإنسان هذا من قديم الزمان؟ ألا يعرف أن ألوف الألوف وملايين الملايين كانوا في عداد الأحياء فأصبحوا في عداد الأموات؟
فماذا في هذا الرقم الجديد؟ وأي شيء فيه يستوقف نظر القارئ أو يعوقه لحظة عن إتمام بقية السطور؟
لكن كاتباً من الكتاب يعمد إلى واحد من هذه الرمم فيخلق حوله مأساة، أو يبسط المأساة التي خلقتها الحوادث عياناً كأفجع ما يتخيل الخيال
يرينا إياه إنساناً له آمال، وأباً له أطفال، وقريناً له قرينة، ومحباً له محبة، وعدواً له ضغينة
يرينا أطفاله عراة جياعاً مشردين في العراء وقد كان موضعهم من الحياة فوق مهاد وبين أحضان
ويرينا الفتاة اللعوب التي كانت نظرة من عينيها أو لمحة من بين أهدابها أملاً تتعلق به حياة الخاطبين، فإذا هي جيفة يعرض عنها الناظر، أو بغياً يبتذلها الطريق
ويرينا على الجملة قلب إنسان واحد يتمزق بين هذه القلوب، فإذا بصدر القارئ يخفق، وبعينه تدمع، وبرأسه تقيم فيه الخواطر، وبالدنيا تضيق في وجهه، وبالرقم المهمل شيئاً مرعباً تقشعر له الأبدان وتجفل منه الأبدان
ما أبلد خيال الإنسان!
نعمة من النعم في بعض الأحايين أن يمني الإنسان ببلادة الخيال. وإلا فأين هي النفس التي تتخيل ما وراء ذلك الرقم أو ما وراء ذلك المليون والآلاف المائتين من المآسي والفواجع(303/4)
والآلام والأحزان والأهوال والأثقال ثم تقوى على مس تلك الصدمة إلا كما تقوى على مس التيار الصاعق من الكهرباء؟
لكنها نقمة من النقم أن تبلغ بلاده الخيال ذلك المبلغ الذي لا يرى من وراء الملايين المقتولة إلا رقماً من الحساب
نقمة تجر إلى شتى النقم، لأن الناس لو تخيلوا بعض ما ينبغي أن يتخيلوه من أهوال الحروب وأثقال الفواجع لبطلت منذ عهد طويل
فاللهم لا ذلك الحس الذي يصعق كما تصعق الكهرباء، ولا هذه البلادة الصماء التي تلحق الآدمي بالبهيمة العجماء
اللهم ذلك الحس الذي يبكي لمصرع مليون يتخيلهم مصروعين كما يبكي لمصرع فرد واحد يراه بعينيه ويعلم ما في مصابه من شقاء لذويه ومحبيه
فهل تعلم ما للخيال من شأن في تمثيل المصائب والثورة عليها والتمرد على مقترفيها فلا نضن عليه بالتغذية ولا نستكثر عليه ما نسميه لهو البطالة وإزجاء الفراغ؟
وكأنما (المريخ) مخلوق له طالع من طوالع السعود، وجد لا يصيبه تقلب الجدود
ففي كل عصر له رزق مسوق إليه على حسب ما يكون في ذلك العصر من علم أو صناعة أو تدبير
قيل أن الناس قد لطفت خلائقهم في العصر الحديث حتى لا يطيق أحدهم أن يبقر البطون ويبتر الأوصال ويشهد اختلاج الأرواح المزهقة في الأجساد الممزقة كما كانوا من قبل يصنعون قبل ألوف السنين
قيل هذا ولعله صحيح أو قريب من الصحيح، ثم هممنا أن نرجو بعض الرجاء، وهم المريخ أن يقنط بعض القنوط، فأقبل العلم الحديث برزق جديد لذلك المخلوق المجدود: إله الحرب الذي أنذره أبو العلاء بسوء المصير حين قال:
ولنار المريخ من حدثان الد ... هر مطف وأن علت في اتقاد
فما أدركه النذير؟
لأن الحرب الحديثة تحول بين القاتل وصرعاه فلا يرى ما هو صانع من فتك وتمزيق وتهشيم(303/5)
فإذا ركب متن الهواء وألقي بالنار في الفضاء، فلا عليه بعد ذلك أن يلبث في مكانه هنيهة واحدة ليشهد الخراب والشقاء، ويسمع الصياح والبكاء، ويندم على ما أساء، إن ظن أنه أساء
أما الذي يرى الفجيعة بعينيه ويسمع الصيحة بأذنيه فليست الرؤية بمانعة له أن يصنع بأعدائه ما صنع به أعداؤه، بل لعلها حافزة له إلى الشر ومثيرة له إلى القصاص، ومضيفة إلى رزق المريخ الذي خيفت عليه المسغبة في العصر الحديث: عصر الشعور اللطيف والإنسانية المهذبة، والرفق بالحيوان قبل الإنسان!
ولكل سم ترياق!
العلوم الحديثة قد حالت بين القاتل والفريسة، ولكنها لم تحل بينه وبين أشباحها وأطيافها
فإذا احتجبت عنه جرائر صنعه فهنالك الصور المتحركة تعيدها إلى عينه وإلى كل عين ناظرة كأنها ضمير النادم أو لسان التبكيت والتعزير.
فهل في العلوم ترياق لسم العلوم؟ عسى أن ينفع ذلك الترياق إن صح أنه ترياق
فليس أبشع من صورة الحرب المكسوبة إلا صورة الحرب المفقودة، كما قال ولنتون ونحن نعلم من هو ولنتون. . هو كاسب المعركة التي هيهات أن يفرح بالنصر أحد إن لم يكن فيها سرور لقائدها المنصور، لأنه كان نصراً على نابليون سيد المنصورين والمهزومين
فإذا كان قصارى النصر أن يهون البشاعة فأخلق بالناظرين الذين لا ينتصرون فيها ولا ينهزمون أن يلمسوا كل ما فيها من بشاعة مرذولة بغير تهوين، وأن يقاوموا بشعور المقت والنفور ما أبطله الحجاب بين القاتل وصرعاه في حروب هذا الزمان
ولكل ترياق آفة!
نعم لكل ترياق آفة تفسد ما فيه من شفاء، إن لم تعالجه يد تحسن العلاج
فمن أين لنا أن الصور المعروضة على الناظرين تعودهم أن ينظروها ولا تعودهم أن يمقتوها ويغضبوا على آثميها؟
من أين لنا أننا نشحذ الضراوة ولا نشحذ الرحمة بذلك التمثيل والتقريب؟
الأمر كله موقوف على طريقة التناول وطريقة التلقي وطريقة التعويد، وذلك الذي يقف بالترياق الناجح بين الآفة والشفاء(303/6)
تحدثت الأديبة الرحالة (روزيتا فوريس) إلى طاغية الروس ستالين فوصفت له ما شهدت من صرعى المجاعة والتشريد وحاولت أن تلمس ضميره من قريب أو من بعيد
فالتفت إليها سائلاً: كم قتيلاً مات في الحرب العظمى؟
وأسرع الترجمان فقال: سبعة ملايين!
فعاد ستالين يقول: سبعة ملايين ذهبوا لغير غاية معلومة. أما نحن فنبني حضارة جديدة ونقيم الإنسانية بأسرها على أساس جديد، فماذا يضير أن يموت في سبيل ذلك من يموت بالمجاعة والتشريد؟
لو كان ستالين يتخيل كل واحد من أولئك الهالكين بالعرى والجوع فيأخذهم مأخذ الفنان الراوية لما أجاب ذلك الجواب. ولكنه يأخذهم رقماً في الحساب، وليس للرقم نعيم ولا عذاب. ولن تبطل الحرب مادامت مصاير الأمم بأيدي الحاسبين من أمثال ستالين
عباس محمود العقاد(303/7)
لعبة التخادع في الحياة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كثيراً ما يخطئ المخادع المحتال إذا حسب أن الناس قد انخدعوا بمكره، وكلما كان نصيب المخادع من الذكاء أقل كان اعتقاده في قدرته على خدع الناس أعظم فلا يتخذ في وسائل خداعه من الأساليب ما يحتاط به لفطنة الناس إلى خداعه
أما المخادع الذكي فإنه يفطن إلى أن الناس كثيراً ما يتظاهرون بالانخداع ويدعونه أما لكي يعرفوا غاية المخادع ومأربه، وأما لأن لهم لذة في أن يخدعوا المخادع وأن يضحكوا منه في سرهم، وأما لأن لهم مأرباً لا ينالونه منه إلا بإظهار الانخداع له. ومن أجل ذلك ترى المخادع الذكي يحاول أن يستفيد من ادعائهم الانخداع قدر ما كان يستفيد لو أنهم انخدعوا حقيقة. والقدرة على الاستفادة من ادعاء الناس الانخداع هي سر النجاح في الحياة، وليست بمستطاعة لكل إنسان. والحياة في كل عمل أو مظهر أو رأي أو مطلب ومكسب وفي كل حاجة من حاجاتها يوجد يجانب ما بها من الصدق شيء من الخداع والانخداع وادعاء الانخداع، وهذه هي أقانيم الحياة الثلاثة أو ثالوثها المقدس
وقد تدرك الحيرة الشاب الذي يزاول الخداع في الحياة في أول عهده بالفطنة لما يتطلبه النجاح من الخداع، فإنه قد يبدأ في خداع إنسان فإذا بذلك الإنسان يحاول أن يخدعه بأن يدعي أنه انخدع به حقيقة. وهذا يكون كالنشال الذي يقابل إنساناً يتوسم فيه السذاجة وهو لا يدري أنه نشال مثله فيسلم عليه بيد ويمد اليد الأخرى بخفة إلى ثياب ذلك الإنسان يبحث بها عن حافظة نقوده، فإذا به يشعر أن يد ذلك الإنسان الأخرى تبحث عن حافظة نقوده هو، فتدركه الحيرة ويكاد لا يعرف أيهما النشال
وهذا يذكرني بما جاء في كتاب الكامل للمبرد عن أخذ البيعة بالخلافة ليزيد بن معاوية، فقد أطنب الناس في مدحه وأسرفوا إسرافاً جعل يزيد، وقد كان ذكياً، يعرف أنهم غير منخدعين بصفات المدح التي وصفوه بها وهي ليست من صفاته، وأدرك أن لهم مأرباً في ادعاء الانخداع بخلقه وصفات نفسه، فالتفت إلى أبيه معاوية وقال: يا أبي هل نخدع الناس أم هم الذين يخدعوننا؟ فقال له معاوية: يا بني، إنك إذا أردت أن تخدع إنساناً فَتَخادَع لك حتى تنال منه ما تريد فقد خدعته. أي أن ادعاء الناس الانخداع وأن كان باطلاً فهو(303/8)
وانخداعهم سيان مادام المرء ينال منهم ما يريد. وهذه حكمة من معاوية تدل على أنه كان بصيراً بالنفس الإنسانية ومسالكها في الحياة.
وهي حقيقة تُحسُّ في كل مجلس من مجالس الناس، وفي كل بيئة. فهي ليست بالأمر الصعب إدراكه. بل لولا ادعاء كل معاشر أنه انخدع بمعاشره في أمور الحياة ما طابت الحياة. ومن أجل ذلك لا يمقت الناس أحداً قدر مقتهم الرجل الذي يريد أن يرفع غطاء الرياء عن الحياة، ويختلقون له أسباباً يسوِّغون بها مقتهم. وكأن لسان حالهم يقول له: دعنا نخادعك وخادعنا أنت أيضاً كما نخادعك، وادَّع أنك انخدعت بنا، ودعنا ندَّعي أننا انخدعنا بك. فإن من الإنصاف، أو من الذوق، أو من الرحمة أن يدَّعي كل عشير أنه انخدع بعشيره ما دامت النفوس لا تستطيع الحياة إلا على هذه الأخلاق، ولا تستطيع أن تغيرها. وكأنما يقول لسان حالهم أيضاً: إن تبادل ادِّعاء الانخداع مَثلهُ مَثلُ من يعطى هدية، ويأخذ هدية في قدر قيمتها. ومطالب الحياة لا تنال إلا على هذا النمط. أما الذي يريد من الناس أن ينخدعوا له ويغضب إذا اتضح له أنهم لم ينخدعوا، بل يدعون الانخداع، ويعد ادعاءهم الانخداع له عملة زائفة لا يقبلها، ويطلب منهم العملة غير الزائفة، أي انخداعهم الحقيقي؛ ثم هو لا يعطيهم لا انخداعاً ولا ادعاء للانخداع، فمَثلهُ مَثلُ من تقدم له هدية فيغضب إذا لم يُعط أعظم منها، وهو لا يُعطى مثلها.
وينبغي للإنسان إذا ادَّعى الانخداع لعشير أو رئيس أو مرءوس أو عميل أن يلازم الحذر من أن ينقلب ادعاؤه الانخداع انخداعاً حقيقياً؛ فيكون كمن يرى لصّاً في منزله فيدَّعي النوم حتى يجد من اللص غفلة ليتمكن منه، فإذا بادعائه النوم قد صار نوماً، فيغط في النوم حتى يأخذ اللص كل ما يريد من البيت ويتركه، وصاحبه قد ادعى النوم حتى نام.
وهذا أيضاً شبيه بمن يريد أن يحتال على إنسان فيقدم له قطعة من الذهب ويدعي أنه وجد كنزاً كي يخدع ذلك الإنسان، ويسلبه ماله، فيدعي ذلك الإنسان السذاجة وأنه انخدع، ويأخذ القطعة كي يسأل عن قيمتها ثم لا يعود.
وهو أيضاً شبيه بصاحب الورق المقامر على الورق المقلوب من ورق اللعب، يدعي الخسارة ويعطي اللاعب جنيهاً كي يستدرجه ويسلبه ماله فيدعي اللاعب أنه ساذج، ويظهر رغبته في استئناف اللعب، والقمار، ويستأذن في قضاء حاجة ضرورية من حاجات الجسم(303/9)
ثم يذهب بالجنيه ولا يعود.
وهذه الأعمال لها نظائر وأشباه بالقياس في أعمال الناس الجليلة الكبيرة المشروعة المحترمة. فالحذر عند ادعاء الانخداع ضرورة. أما أن يفتخر المرء بأنه لا يستطيع أحد أن يخدعه فإذا كان يراد به التملق لمن يتظاهر مع ذلك بالانخداع لهم فهو دهاء، ووسيلة كسب بالمكر. أما إذا أريد به مضايقة الناس وتحريك عوامل خوفهم وبغضهم فهو سذاجة أو بلاهة، ولا شيء يدعوا إلى الفشل في الحياة كاعتقاد الناس في إنسان أنه لا ينخدع، ولا يدعي الانخداع؛ وهذا الاعتقاد يؤدي إلى بغض الناس من يعتقدونه فيه حتى وأن كان اعتقادهم باطلاً لا أساس له، وهذا التظاهر بالانخداع هو ما جعله أبو تمام من أسباب السيادة وسماه بالتغابي في قوله:
ليس الغبيُّ بِسَيَّدٍ في قومه ... لكنَّ سيد قومه المتغابي
وتبعه البحتري فقال:
وقد يتغابى المرء في عَظْمِ مَالِهِ ... ومِنْ تحت بُرْدَيْهِ المُغيَرُة أو عمرو
عبد الرحمن شكري(303/10)
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا أرض الرستمية!
عليك السلام من عيني اللتين تدوران فيك دورات زائغة زئبقية مروعة وتلقطان الصور من حياتك ومواتك وآفاقك وذراتك. . .
ومن قلبي الذي قدست أسراره وقدس أسرارك وخلدته وخلدك. . .
ومن فكري الذي صقلتِه وأرهفتِه وجعلتِه يتصل بأصول الحياة ويرتبط بوثيق الأسباب. . .
لقد توسعت نفسي من رحبك وتعددت بتعدد مرائيك، ورقرق خواطري نهرك الوديع اللعوب، في ابتسام الفجر وبكاء الغروب، وأحسست سلامة النبات وهدوءه وصبره وصمته ونموه وإشراقه يدب في جسدي. . .
لقد اختلطت فيك الرؤى بالأحلام، والصحو بالذهول والمنام، فتوسع عالمي ورأيت في دنياي وفي نفسي مخابئ وعجائب ومدخرات وكنونات. . .
لقد خلدت في خيالي صور الأعواد الجافة والخضراء، والربى والوهاد والزهر والمطر حتى لأوشك أن أعد كل أولئك واحداً واحداً من ترديد النظر وانطباع الصور. . .
وهل أنسى كئوس النور والظلام التي أدرتها على عيني مخضبات بأصباغ الشفقين، مشعشعات بالندى والطل، مطيبات بنفح الزهر وأنفاس السحر؟
لقد شربت عيناي فيك من النور والظلام فسكرت سكراً أبدياً أفرغ في كل خلية من خلاياي نشوة وفتوناً
لقد دخلتك كارهاً فراق بغداد. . . فكنت كالذين يقادون إلى الجنة بالسلاسل!
ثم انطلقت في رحابك انطلاق رياحك وأطيارك، أحمل قلبي إلى كل مكان كما تحمل الطير قلوبها على الأغصان، أقف على كل ما فيه حياة ونبض لآخذ لقلبي منه وطاقة يستعيض بهما عما يبذله ويسرف في بذله
فإني حين رأيت عيني عاجزة أن ترى (سر الوجود) جعلت أرمي بنفسي في مواضع يده. وكأنه عندما بدت مني لهفتي الدائمة إليه أوسع لي من عطفه فأخذني إلى قطعة فاتنة من الطبيعة المكشوفة التي لا حجاب بينها وبين حواسي الداخلية والخارجية، لأرى يده دائماً(303/11)
من وراء ستر شفاف فقادني إلى الرستمية
وقد عشت مختنق الحواس في المدن، لا أرى إلا حجارة ميتة موضوعة بهندسة الإنسان، ولا أرى من الطبيعة إلا قطعة من السماء في سمت شارع أو من نافذة دار. وهيهات كان تيقظي إليها. . .
وكنت لا أتذكر الطبيعة إلا برؤية شجرات في الشوارع تكاد تنكر وجودها في هذه الأماكن الصناعية، وتكاد عيني تحسبها صنعة إنسانية كالأثاث في وجهات الحوانيت، وكنت أزور الطبيعة المكشوفة التي في خارج أرياض المدن كما يزور السائح الأمريكي متحفاً للآثار في الشرق. . .
وحقاً استحالت الطبيعة البكر المكشوفة كمتاحف للآثار التي كان يستعملها أجدادنا وصارت لانقطاعنا عنها غريبة علينا. وصرنا لا نرى مشاهدها إلا من عدسة التصوير أو من ريشة فنان أو ألفاظ قصيدة. . .
ثم قصر الناس صلاتهم على الأنصاب والهياكل والأماكن المظلمة الضيقة التي لا يرون فيها إلا أجسادهم، وتركوا المحاريب التي بناها رب الحياة بيده هو لعبادته بالفكر والقلب. . .
تركوا المعبد المفروش بالأعشاب والرمال، المسقوف بالمصابيح الزهراء، القائم على جدران من سامقات الجبال وأعمدة من بواسق النخيل وفارعات السرو، المغسول بشعاع الشمس والقمر؛ وكأنهم بنوا معابدهم لتحمي أجسادهم من فيضه وفيض طبيعته، وتركوا قلوبهم تختنق فيها بالبخور والعطور والأصوات الفردية التقليدية
أما أنا. . . فورب الحياة لأعبدنه في الطبيعة تحت الهواطل والصواعق، في حرارة الهواجر وبرودة الأسحار، في وضوح النهار وانبهام الليل، في جمرات الظهيرة وفحمات العَتمَة، ولو طارت بي الريح. . . ولو وقع عليّ سقف الدنيا!
ولأُنادينَّ على اسمه: الصلاة جامعة أيتها الأحياء. . . إلى الإحساس بالحياة ورب الحياة. . . قومي مصطفة في أماكنك المحدودة الموزونة. . .
فيسجد كل كائن في مكانه ويسجد قلبي معه. . .
وسأعود إلى أحضان الطبيعة أغني في أذنها كطفل يغني في أذن أمه ويدفعه قلبه العاشق(303/12)
الراهب إلى التمسح فيها والاحتماء بها. . .
وسأحمل قلبي إلى كل مكان فيها كما تحمل الطير قلوبها إلى كل شجرة. . .
وسأسجل خواطري عنها في كل ساعة تتعرض لي فيها بفتنة من فتونها، وأرصدها وهي يقظة أو نائمة، خَفِرة محتشمة أو عاهرة متبرجة، ضاحكة أو باكية، حبلى مكدودة تعاني آلام الحمل والطلق والوضع أو فارغة خفيفة. . .
لقد احتكرتني لنفسها ولم تدع في قلبي مكاناً لحب غيرها إلا يكون مَرَدُّه إليها وجماله من جمالها
فيا ابن الإنسان! هلم معي إليها. لقد كنت تتخذ الحجارة وكثيراً من الأشياء التافهة آلهة من شدة شعورك بها فتسجد لها. أفلا تصلي معها الآن لربها الذي اهتديت إليه؟
هي لا تزال شاعرة بربها كما كانت وكما تكون. وذهب شعرك أنت بها وبربها. وصرت تسجد لنفسك. فمن يعبدك معك؟ لا شيء. . . أن الحجارة تأبى أن تعبدك كما عبدتها أنت في ضلالك القديم!
1 - قبيل الربيع
الطبيعة تلد من كل جسمها. . . جاء ابتداء دورة زمنية. . . الأجنة تتحرك للانفصال من العالم الغائب. . . الأنواع من نباتها وحيوانها تزدحم لتسير في المواكب. . . يستعرضها صاحب الوقت القائم على الزمان.
أنا لا أشترك في الموكب لأني عقيم لم أقدم قرباناً ما للحياة بإلقاء بعض الأحطاب إلى شعلتها؛ ولذلك جعلتني من الواقفين على هامش طريقها يهتفون لها بالقصائد اللفظية.
لعلها غاضبة عليّ، لأني عاق لها بالعمل، وأن كنت باراً بها في الشعر. أما أبناؤها البررَة فقصائدهم: شجرة أو ثمرة أو ورقة أو زهرة أو فرخ بيضة، أو كتلة لحم تصرخ في أذنها وتتكلم! يقدمون ذلك لها في كل عرس من أعراسها كبرهان ولاء وطاعة وشعر حقيقي. . .
قد يخاف الفيلسوف من موت الثمرات أو مرضها أو فسادها. . . ولكن الطبيعة تود الثمرات ولو كانت معطوبة. تود حياة الأمل والألم لا حياة العقل الجامد. تود أن تسمع عويل الثكل وصوت النعي، كما تود أن تسمع صوت البشير وضجيج الميلاد.
تريد دائماً أَمَّا أن تصرخ في أذنها إما من الطلق والوضع، وإما من الفقد والثكل. تريد(303/13)
جنيناً محمولاً في ظلمات البطن، ورضيعاً ملفوفاً في لفائف القماط، أو محمولاً في بطن النعش ملفوفاً بلفائف الكفن. . .
قانونها هذا: أرحام تدفع، وأرض تبلع!! لأنها لا تدور على فراغ، ولا تسمح ببقاء دائم
2 - الربيع
أنظر بعينيك في كل مكان في السماء والأرض، وأحذر أن يشردا منك ولا يرتدا إليك. . .
أدرهما على كل طفل من أطفال الطبيعة. . . وأحذر الخاتلات الناعسات من عيون الأزهار.
العشب والزهر كأطفال خرجوا في صباح عيد. . . والصبح ممشوق القوام واضح الجبين، والليل فاتن الملامح. . .
أخلع نعليك وسر حافياً على جسم أمك، وتمسح فيها حتى يجددك ملمس الحياة الجديدة.
لاعب اخوتك الصغار الذين تفتحت عنهم الأكمام، وقذفتهم الأرحام، ونسجتهم ظلمات الأرض، ولونتهم أضواء السماء، وخذ لشفتيك قبلات من المواليد الجديدة.
أفتح حواسك جميعاً ليدخل شباب الدنيا إلى نفسك، واختزن في قلبك قوت سنة من الحياة والجمال.
أملأ عينيك بالأضواء والأصباغ، وأذنيك بالأغاريد والموسيقى السائلة الذائبة في الأجواء والأنهار.
ضاعف إحساسك بالحياة وتيقظ، واخلق لنفسك أعصاباً جديدة ثم امنع فكرك عن الدوران في الأرقام والحروف والعفونات القديمة. . . وألق كل قديم من قلبك وتجدد. . . وافتح فؤادك الجائع الذي لا يمتلئ، فإن كل هذا الجمال والحياة له. . .
أنظر إلى الربى والوهاد والتلاع والسهول والأغوار، تجد الزينة والأعلام في كل مكان. . . ما تركت السحب مكاناً بدون أن تفرشه بالسندس والأقحوان، وما تركت النسمات مكاناً بدون أن تمر عليه منبهة ما فيه إلى وجوب الطاعة لحركة الحياة بالتماثيل والحفيف والتصفيق. . . حتى شجرات العوسج والشوك أورقت وأزهرت!
ضع وجهك وجسمك بين الأعشاب والأزهار. . . واستقبل الأنداء والأشعة، وأهدب بأجفانك كالنرجس. . . ودر بعينيك مع الشمس (كعَّبادِها) ودع النحل والفَراش تقبل فاك(303/14)
وعينيك. . . أرسل نفَسك ندِيّاً خافتاً بسيطاً بدون تعقيد ليحمله النسيم مع العطور. . . ثم لا تفكر! حتى لا تحترق أوراق الورد، وتختنق أنفاس النسيم.
وانظر إلى المطفلات من البهائم، وإلى أطفالها بحنان، وهي ترعى سعيدة تخضم نبتة الربيع ثم تخور وتجتر حالمة. . .
فإذا جاء الليل فاخرج إلى الحدائق المعلقة في السماء، وانظر فيها حالماً ساهماً تحت ضوء القمر الباهت، ودر بعينيك في نفسك وفي أغوار الأزل والأبد. فلعلك أن ترى هناك الربيع الدائم. . .
نعم. فليس قلبك قانعاً بهذه اللحظات الفانية من ربيع الأرض. . . أن قلبك ليس ورقة من ورقات الأشجار تخرج ناظرة ساهمة بلهاء، ثم تفارق الكون مكرهة إلى غير رجعة. بل هو عقدة ثمرة خالدة في الربيع الخالد الذي لا يحرقه صيف ولا يحوله خريف إلى هشيم تذروه الرياح وتلوى به الصبا والدبور إلى الدثور.
ولئن عز عليك أن تفنى بين يديك وأمام عينيك أرواح الأزهار الأرضية، وتتساقط أجسادها جثثاً بالية ناصلة الألوان مسلوبة العطر. . . فأنظر إلى حدائق السماء ذات الزهور الخالدة التي تصل إليك ألوانها وعطورها من بعد. وتَعزَّ بهذا البقاءَ عن ذاك الفناء. وكن على يقين بأن قلبك مخلوق دائم لهذا الربيع الدائم الذي تراه في الحدائق المعلقة. . .
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف(303/15)
أعلام الأدب
يوريبيدز نشأته وشبابه
للأستاذ دريني خشبة
في غار جميل غير موحش، مشرف على بحر الأرخبيل، فوق تلعة من تلاع جزيرة سلاميس، كان يأوي ألمع رجالات الأدب، وأعظم أعلام المسرح، يوريبيدز بن مِنْسَارْخيدز. . . يقرأ، ويكتب. . . ويتأمل.
وُلد في فِلْيا، في واد يعبق بالورد، وتظله أفنان الدوح وتغني فيه البلابل. . . ثم اختلفوا في العام الذي ولد فيه فقالوا: إنه عام480 ق. م. . . أي عام سلاميس، وأنه توفي سنة 604 أي في العام نفسه الذي توفي فيه سوفوكليس.
ويعتبر تقويم المؤرخ اليوناني (فيلوخورس) المسمى (التقويم الأتيكي)، والذي وضعه في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، عمدة المؤرخين الذين ترجموا ليوريبيدز، ومن أشهرهم المؤرخ اللاتيني سويداس
وتقويم فيلوخورس في اليونانية، يشبه تقويم القلقشندي المسمى (صبح الأعشى) في العربية، وذلك من حيث عنايته بإيراد المعاهدات السياسية والكتب التي كان يتبادلها الملوك اليونانيون. . . ثم هو يشبه تقويم الثويري المسمى (نهاية الأرب) وتقويم ابن فضل الله العمري المسمى (مسالك الأبصار)، وذاك من حيث عنايته بوصف أحوال اليونانيين من مواسم، وأعياد، وعادات ومعتقدات، ومن حيث عنايته بتأريخ رجالاتهم من ساسة وقادة وفلاسفة وأدباء.
وقد ذكر فيلوخورس أن يوريبيدز قد ولد عام سلاميس، أي سنة 408. . . على أن الرخامة التذكارية التي اكتشفت في جزيرة باروس في القرن السابع عشر الميلادي، والتي أقيمت ثمة تخليداً لذكرى يوريبيدز سنة 264ق. م تذكر أنه إنما ولد سنة 484. . . وقد فضل الأستاذ جلبرت موراي - وعليه جل اعتمادنا في هذا البحث - الأخذ بهذا التاريخ، لأنه اعتبر الرخامة دليلاً مادياً لا سبيل لدحضه ولا مُسوّغ لإنكاره.
ولم يذكر المؤرخ اليوناني (ساتيروس) (أواخر القرن الثالث ق. م) شيئاً في كتابه (حياة يوريبيدز) عن هذا التاريخ.(303/16)
أما الكتاب فهو محادثات جميلة بينه وبين سيدة لم يذكر لنا من هي، وهو مع ذاك مؤلف جليل فيه عرض وفيه تضمينات، وأقاصيص ونقد، وفيه أخبار ساعدت المتأخرين على معرفة الكثير مما تبعثر أوضاع من درامات يوريبيدز.
أما أبوه فقد كان رجلاً ذا مال من رجال الطبقة الوسطى من أهل فليا، وكان رئيساً لسَدَنة هيكل أبوللو
وكانت أمه (كليتو) من أسرة نبيلة عريقة ذات محتد، ولا عبرة لما ذكره عنها أرستوفان من أنها كانت تبيع الفجل والخس والخضرة في شوارع أثينا، فقد كان أرستوفان هجاء مقذعاً، وسنعرض لما كان بينه وبين يوريبيدز من عداء وبغضاء. . . ثم هي كانت أماً وفية مخلصة لأبنها، حدبة عليه، وكان لها أكبر الأثر في تنشئته. وسترى من روائع هذه الأمومة آثاراً طيبة في كثير من دراماته
وكان يوريبيدز سيئ الحظ في حياته الزوجية. ولم يذكر التاريخ لماذا كان ذلك. . . فقد كانت زوجته الأولى (ميليتية) من عنصر كريم وذات خلق طيب، بدليل أن أرستوفان نفسه لم يجد ما يقدح به فيها، وهو العدو اللدود الساخر الذي كان يتسقط ليوريبيدز كل منقصة
وقد تزوج يوريبيدز مرة ثانية فلم يكن أكثر توفيقاً. . . وربما كان هو نفسه أصل الداء. . . فقد كان أديباً عظيماً وشاعراً عبقرياً؛ وكان فيه انقباض عن الناس وبغض شديد للضوضاء والصخب، وكان يقضي أكثر وقته في غاره المقدس المشرف على البحر يقرأ أو يكتب أو يفكر ويتأمل. . . وهذه حال من الزوج لا تطيقها الزوجة ولا تصبر عليها. . . والأدب الذي أكثره فكر وفلسفة يدل على ما في صاحبه من صرامة وشموس. . . لهذا كان الشغب الطويل بينه وبين كل من زوجتيه، وهو شغب جميل أفاد الأدب وأفاد المسرح، لأنه بدا في أكثر ما ألف يوريبيدز. . . ثم هو شغب خلق من يوريبيدز عدوّاً للمرأة شديد النقمة عليها، كما خلق من الأثينيات أعداء أشد عليه نقمة وأكثر لددا
أما أبناؤه الثلاثة فقد كان أحدهم تاجراً، وكان الثاني ممثلاً؛ أما ثالثهم وكان يسمى باسم أبيه، فقد كان شاعراً يحترف التأليف للمسرح، وقد أخرج ثلاث درامات من تأليف أبيه بعد موته نالت إحداهما جائزة
ولعل أكثر ما نعرف من نشأة يوريبيدز أنه كان يساعد أباه في سدانة الهيكل صغيراً، وأنه(303/17)
كان رياضّياً ماهراً شابّاً وأنه عمل في الجيش فترة لا هي القصيرة ولا هي بالطويلة. . . وقد تكون حقبة قصيرة بعد سنتي الإجبار يقال أنه عمل أثناءها مجدفاً في إحدى جندولات الأسطول، ثم التحق بإحدى الوظائف القنصلية فترة قصيرة بعد ذلك
أما أصدقاؤه فكان أحبهم إليه أبو زوجته، ولذا كان ألصق به من كل شخص آخر إلا من خادمه أو ناموسه سفيسون الذي لم يكن يبرح منزله إلا لماماً
ومع شدة غرام سقراط العظيم بيوريبيدز فلم يؤثر أن شيئاً من وشائج الصداقة انعقد بينهما، مع أن الفيلسوف الفذ لم يكن يذهب إلى المسرح قط إلا ليشهد درامات يوريبيدز، فيروى أنه كان يتجشم في سبيل ذلك ما ليس يحتمله إلا الأشداء الأقوياء، فكان يمشي الأميال والأميال لكي يصل إلى المسرح ويستمتع بما تفيض به قريحة فخر الشعراء الدراميين كما كان يسميه. هذا ولم يعقد أفلاطون في محاوراته الشائقة حديثاً مّا بين الرجلين، على شدة إعجاب كل منهما بالآخر واعتباره إياه أعظم ذهن يعيش في عصره
وعلى شدة كراهية يوريبيدز للاختلاط بالناس فقد كان له أصدقاء قليلون معجبون به من رجال الفن والفلسفة والأدب، وإليه يعود الفضل في نبوغ الموسيقار الخالد تيموتيرس الذي أوشك مرة أن ينتحر لإخفاقه في توقيع إحدى مقطوعاته لولا أن نشر عليه يوريبيدز ظله، وأخذ يشجعه ويبعث فيه روح الأمل، حتى نبغ نبوغه العظيم.
ومن أصدقائه زعيم السفسطائيين بروتاجوراس (أبديرا480 - 410 ق. م) الذي كان يتجول في الأقاليم اليونانية يحاضر الناس ويعلمهم دروسه في السياسة والاجتماع، ويحارب أوثانهم ويسفه معتقداتهم حتى إذا انتهى إلى (فليا) وعرف يوريبيدز، وخلبه بيانه وسحرته دراماته بما تفيض به من ثورة ونقد لزمه وقرأ في بيته كتابه (في الآلهة) الذي ينكر فيه ذوات أرباب الأولمب (لأني لا أستطيع أن أثبت وجودهم أو أن أنفيه للعوائق الجمة التي تحول دون المعرفة الصحيحة، والتي من أهمها غموض الموضوع وقصر عمر الإنسان!)
وقد ثار الناس ببروتاجوراس وأحرقوا كتابه جهرة في أوسع ميادين أثينا، ورمّوه بالإلحاد، وكادوا يفتكون به لولا أن فر في سفينة إلى صقلية غرقت به في الطريق. وعزا الناس غرقها إلى غضب الآلهة وحنقها عليه. . . ويبدو أنه كان متأثراً بسوفوكليس حين جعل محور فلسفته الإنسان مقياس كل شيء.(303/18)
أما الفيلسوف الكبير أناجزاجوراس فقد كان أستاذ يوريبيدز وصديقه في وقت معاً. وأناجزاجوراس هو أول من حمل الفلسفة من شطئان إيونيا في غرب آسيا الصغرى إلى أتيكا أرقى أقاليم اليونان. وهو أول من ثار على الفلسفة المادية البحتة ولفت الناس إلى القوة العليا التي تدبر كل شيء وتسهر على كل شيء. . . ثم هو الذي أربك الماديين بتفريقه بين المادة المجسدة التي زعموا أنها كل شيء، وبين العقلية المجردة التي زعم هو أنها تسيطر على كل شيء. فوضع بذلك الحدود بين الجسم والعقل وبين الطبيعة والإنسان.
وقد كان أناجزاجوراس صديقاً لبركليس العظيم ومستشاراً له وكان في أثينا حزب يناوئ بركليس، فاستغلت السياسة الذميمة مذهب الرجل الفلسفي فرمته بالإلحاد واتهمته بالتجديف على الآلهة، وكادوا أن يبطشوا به بعد أن لفقوا له التهم وساقوه إلى المحاكمة أمام هيئة قضائية من رعاعهم. . . لكن بركليس لم يتخلى عنه، بل دبر له الهرب من أثينا، فارتحل إلى موطنه في آسيا الصغرى حيث وضع رسالته في فلسفته التي انتفع بها سقراط
بهذين الرجلين، بروتاجوراس وأتاجزاجوراس، تأثر يوريبيدز. . . ولم يكن تأثره بهما هيناً يسيراً، بل كان آثرهما فيه كبيرا بالغاً: فقد عرَّفه الأول ما في أسطورة الآلهة من سَفَه وتخريف، وعرفه الثاني أن ليست المادة في هذه الدنيا كل شيء. . . زيف له الأول أسطورة الآلهة فذهب إلى غاره الجميل الهادئ المشرف على البحر من ربوة في جزيرة سلاميس يفكر ويتأمل ويبتسم. . . يبتسم لأنه يتذكر حاله في شرخ شبابه إذ يكلفه أبوه سادن أبوللو بحمل الكأس الإلهية في الرقصة المقدسة، رئيساً لفريق حاملي الكؤوس من سادة شباب الأثينيين. . . ثم يبتسم أيضاً لأنه يتذكر حاله حينما كان يحمل الشعلة المقدسة في موكب أبوللو عند رأس زوستر، فيظل يتهادى كالظبي من ديلوس إلى أثينا، مشتركاً في زهو وخيلاء في حماقة البشر وخرافة الآلهة
وزيف له الثاني تلك المادة المجردة التي يعكف عليها الناس ويفني فيها الفلاسفة أحلامهم، ثم يُصوّر له القوة العليا المدبرة، والعقل المجرد الجبار، فيلتفت إلى ما ركب في صميم الإنسان من قوى خارقة تستطيع أن تصنع كل شيء وتستطيع أن تتغلب على كل شيء، فيذكر هذه الأيام العبوس القمطرير التي اضطر فيها شيوخ الأثينيين وعجائزهم وأطفالهم - وهو منهم - إلى الهجرة من أثينا إلى جزيرة سلاميس وغير سلاميس، لأن إجزرسيس(303/19)
عاهل فارس وطاغية البربر قد أقبل بخيله ورجله، وملأ البر والبحر بعساكره، وراح يهلك الحرث والنسل، متقدماً نحو أثينا. . . وهاهو ذا يحرق الدور والمعابد ويخرب كل شيء. . . وهاهي ذي ألسن النيران تلتهم الأكربوليس الشاهق، ويوريبيدز الطفل يشهد المنظر المروع الموحش فيمن كان يشهده من الأطفال والشيوخ والعجائز. . . ويبكي كما كان يبكي هؤلاء لما يصنع الطاغية بوطنهم الجميل الضعيف، ومعابدهم الخالية الخاوية. . . وآلهتهم. . . نعم آلهتهم. . . تلك الأوثان التي لم تغن عنهم ولا عن أنفسها شيئاً. . . ثم يتصايح الناس من كل فج، ويتسامعون فرحين مستبشرين، فيعلمون أن أسطولهم الضعيف البائس قد مزق أساطيل إجزرسيس، وأن أجنادهم الجائعة المنهوكة قد فتكت بأجناد جبار الفرس، وأن أثينا وحدها. . . أثينا الديمقراطية الحرة العالمة الأديبة المتحدة قد بطشت بالجبابرة العتاة الطغاة فخلصت هيلاس من شرورهم. . . ويقبل تيمستوكليس قائد اليونان المجرب المنتصر فيقول للناس: (تالله ما نحن صنعنا كل هذا!) فيحفظ الناس قالته ويحفظها يوريبيدز حين يكبر، ويتذكرها حين يلقى الفيلسوف أتاجزاجوراس ويتأثر بفلسفته فيعرف لماذا غلبت أثينا فارس، وكيف عصفت المعرفة بالجهل، والنظام بالتبربر، والعقل بالمادة. . .
لقد كان محور فلسفة بروتاجوراس كلمته الخالدة (الإنسان مقياس كل شيء)، كما كان محور فلسفة أتاجزاجوراس أن المادة ليست كل شيء في الوجود، بل أن فوق المادة قوة أرفع منها وأسمى لأنها مسلطة عليها تديرها وتوجهها. . . تلك القوة هي العقل في الإنسان والقوة المدبرة في الوجود. . . إذن فليع يوريبيدز كل هذا، وليطبقه على ماضيه المفعم بالعبر، وليهزأ هو أيضاً بالآلهة بعد أن كان يحمل الخمر المقدسة والشعلة المقدسة في مهرجان أبوللو. ولا يكتفي بالسخرية بالآلهة. بل يشتط فيحطم أوثانها ويغضب عُبَّادها، وليخسر الجوائز السنية التي يسيل من اجلها لعاب الأدباء، ولينل من هذه الجوائز أربعاً فقط في حياته العامرة التي جددت الأدب، وثبتت دعائم المسرح. . . وليضحك حين ينال سوفوكليس عشرين جائزة أولى وثلاثين من الثواني لأن سوفوكليس لا يجرح كبرياء الجماهير ويترفق بآلهتهم ولأنه لا يعني إلا بفنه، في حين يعني يوريبيدز بالغاية والمثل الأعلى.(303/20)
لقد كان يحب الفن ويشغف به مثل سوفوكليس. وكاد يكون فناناً مثله لولا أن ساق إليه القدر هذين الصديقين. يروى أنه كان قد شدا شيئاً من النقش في الصغر؛ ويروى أنه كان يعجب بمشاهد مآسي فرينيخوس، ولم يكن قد شب عن طوقه بعد؛ ويروى أنه كان يقف، إذ هو غلام مسبوهاً أمام روعة المناظر التي صورها بولجنوتوس فوق جدران الأكروبول؛ ويروى أنه شهد درامة الفرس لإسخيلوس ولم يعد الثانية عشرة. ويذكرون أنه أعجب بدرامة (سبعة ضد طيبة)، وتأثر بها كثيراً ولم يعد السابعة عشرة. وهو ولاشك قد شهد كل مآسي زميليه بطلي الدرام العظيمين.
هذا هو شباب يوريبيدز وهذه هي نشأته، وهؤلاء هم بعض أساتذته وأصدقائه، وتلك هي العوامل التي كونته فجعلت منه أديباً وفناناً وشاعراً وفيلسوفاً ومبشراً بالأدب الرومانتيكي، ثم الأدب الواقعي.
دريني خشبه(303/21)
بمناسبة ذكرى جمال الدين الأفغاني
إنما ينهض بالشرق مستبد عادل
للدكتور محمد قرقر البهي
لكي نتعرف هذا المبدأ أو هذه الحكمة التي قد يخيل إلينا أنها طابع لنزعة لا تتلاءم وأساليب الحكم في المدنية الحديثة، ومع ما يسعى إليه الفرد من حرية، يجب أن نبحث الدوافع التي حملت حكيم الشرق وباعث نهضته السياسية في القرن التاسع عشر على أن ينادي بهذا المبدأ بعد اعتقاد جازم به، ثم نبحث كذلك مدى علاقة الحكم الفردي بالمشورة التي هي أساس الحكم الديمقراطي ومدى علاقته كذلك بالحرية التي يسعى إليها الإنسان
جمال الدين لم يعتقد هذا المبدأ بناءً على شغفه بالبحث النظري، ولم تمله عليه رغبة علمية مجردة عن مراعاة الواقع، وإنما هي التجارب وأحوال الشرق في ذلك الوقت التي قادت تفكيره وأوحت إليه بهذا المبدأ العملي.
جمال الدين رأى تفرق الأمم الشرقية ليس بعضها عن بعض فحسب، وإنما الأمة الواحدة موزعة إلى شيع وأحزاب، رأى المصالح الشخصية هي التي تملي على القائمين بالأمر في ذلك الوقت قواعد السياسة في الحكم وتصريف أمور الشعب. رأى أن الأمة لم تعرف بعد ما يسمى (بالصالح العام) أو كما يقول عنه الفلاسفة (مبدأ حيوية الدولة واعتبارها الكائن الحي الأعلى الذي يندمج فيه كل الأفراد). رأى تدخل الأجانب في سياسة الشرق الإسلامي كله وإذلالهم شعوبه على يد أفراد من بنيها لقاء تلبية بعض رغبات شخصية أو ضمان سعادة مؤقتة لهؤلاء. رأى تفكك أواصر القرابة وتحكم الظلم في الطبقات الفقيرة.
كل هذه العوامل أو هذه المشاهدات لم تترك في نفس جمال الدين أثراً من الشك في وجوب معالجة أحوال الأمم الشرقية والنهوض بها. ولكن على أي أساس؟ بالتربية؟ نادى بذلك منذ فارق بلاده في رحلاته إلى الهند، وتركيا، ومصر، وبالأخص هنا في القاهرة منذ أن عاد من مقر الخلافة العثمانية في 22 مارس سنة1871 فقد مكث يحاضر في الأزهر مرة، وفي تلاميذه الأخصاء مرة أخرى، ويحملهم على الكتابة في الصحف ونشر الدعوة، مدة ثماني سنوات (1871 - 1879) ولكن بعد ما تبين له أن عوامل الانفكاك داخل الشعوب الشرقية تتزايد، والمصلحة الخاصة للأفراد يتفاقم أمرها في الأداة الحكومية صمم على(303/22)
الدعوة إلى حكومة يديرها فرد عادل يمت إلى الأمة بنسب قوي، بنسب الدم والدين حتى يجمع شتاتها، ويوحد كلمتها، ويوجه أحزابها المختلفة إلى غاية واحدة (الصالح العام) وجهر بها في باريس على منبر (العروة الوثقى) في سنة 1884 وأيد حكومة هذا الفرد العادل في كل تدبير تتخذه للوصول لهذا الغرض حتى استعمال العنف والشدة ولكن بعد التبليغ والإرشاد
جمال الدين لم يشجع استمرار حكم الفرد العادل، وإنما جعل ذلك لأجل معين، وهو الوقت الذي تنضج فيه الأمة وتعتقد بمبدأ (الصالح العام).
وربما يبدو في عصرنا الحاضر - أن رأينا أن هذه الدوافع التي حملت جمال الدين على النداء بهذا المبدأ ما زالت باقية - أن هذا الذي ذهب إليه فيلسوف الشرق من سيطرة حكومة الفرد العادل ردحاً من الزمن لا يتفق ومبادئ الديمقراطية التي سعت إليها الشعوب منذ القدم ووصلت إليها بدم الثورة الفرنسية وأصبحت أساس الحكومة الراقية، أساس الحكومة العادلة
ولكن ما هي تلك المبادئ؟ حكومة برلمانية وضمان حرية الفرد. هاتان الظاهرتان هما عنوان الديمقراطية ولا يتحقق وجودهما في ظل حكومة الفرد العادل. هكذا يزعم من يدعي أن جمال الدين الأفغاني لم يقدر حقوق الإنسان الطبيعية تقديراً دقيقاً يوم نادى بهذا المبدأ
ولكن أحقّاً أن الحكومة البرلمانية تمثل الديمقراطية؟ وأن حرية الفرد مكفولة فقط في ظل النظام البرلماني؟. لنتبين ذلك! إن أساس النظام البرلماني هو المبدأ الحزبي، وعلى الدعاية الحزبية وما تتضمنه من الوعود للطبقة الشعبية يكون نجاح الحزب ودرجة تمثيله داخل البرلمان. ثم صاحب الأغلبية لأنه مظنة العدالة طبقاً لكثرة الأصوات التي أخذها وهو الذي يتولى رياسة القوة التنفيذية. هل لنا أن نتأكد الآن أن صاحب الأغلبية يبني تصريف أمور الدولة على أساس مشورة كل أتباع كل حزبه واحترام رأي كل منهم في تقرير مصير الأمور؟ وهل نضمن أن كل نائب من نواب حزب الأغلبية يصدر في مشورته هذه عن رعاية المصلحة العامة دون تدخل العاطفة الحزبية أو ما يؤمله من قضاء مصالحه الخاصة على أساس طاعته لقيادة الحزب طاعة عمياء؟ وإذا افترضنا ذلك فهل نتأكد أيضاً أن الدعاية الحزبية التي أتت بالأغلبية قد أتت كذلك بصالح عادل، وهو زعيمها، يسير في(303/23)
حكومته طبق ناموس العدل ولو النسبي ولا يراعي العصبية الحزبية أو ما يسمى (بالمحسوبية؟) وعلى جواب هذا السؤال تتوقف المقارنة بين حكومة الفرد العادل وبين الحكومة البرلمانية في نسبتهما قرباً وبعداً من (الديمقراطية) التي تقوم على رعاية المصالح العامة ممن يحسون بإحساس الشعب ويعترفون بما للطبقة الشعبية من حقوق طبيعية في هذا الوجود على الأقل كغيرهم من الطبقات الأخرى
كذلك يجب علينا أن نعرف: هل حرية الفرد مكفولة في ظل النظام البرلماني فحسب دون حكومة الفرد العادل حتى يكون الحكم على ما رآه جمال الدين واعتقده من مبدأ بأنه يتفق أو لا يتفق مع ما تصبو إليه الشعوب من حكومة راقية عادلة. لهذا يجب أن نحدد أولاً: ما هي الحرية؟ أهي الفوضى واستباحة الحرمات والخروج عن قوانين الجماعة والعرف والنيل من كرامة الآخرين وشرف الذين لا حول لهم ولا قوة؟ أم هي التمتع بالحقوق الفطرية في ظل العرف والقانون، في ظل مراعاة الحرمات وتقدير كرامات الآخرين؟ لا أظن أن أي عاقل يشجع على أن يكون المعنى الأول مفهوماً (للحرية) كما لا أظن أن هذا الذي ذكر ثانياً على أنه مدلول (الحرية) يفنى في ظل حكومة الفرد العادل
إن صلاحية أي أسلوب من أساليب الحكم نسبية، تتوقف على أحوال الأمة وعلى درجة تطورها الاجتماعي والخلقي فكما أن الحكم البرلماني ليس المثل الأعلى على الإطلاق كذلك الحكم الفردي ليس عنوان الظلم دائماً وإهدار الحريات
وقد كان جمال الدين الأفغاني (حكيماً) إذ ربط أسلوب الحكم بأحوال الأمة الخاصة بها وعلق تطوره أو تغييره بتغيير تلك الأحوال
فالتعصب للحكم البرلماني بدون قيد ولا شرط، ورمي حكم الفرد بالجور بدون قيد ولا شرط، غلو في الخيال وإيمان غير محدود بالنظر المجرد عن حقيقة الواقع مادامت العدالة ليست رهينة أحد النظامين على الإطلاق
محمد قرقر البهي
دكتور في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا(303/24)
من برجنا العاجي
أذاع المتحف المصري حديثاً في أنحاء العالم من خلال بوقين أحدهما من الفضة، والآخر من النحاس، هما من مخلفات توت عنخ آمون. وقد كانت هذه الإذاعة أول صوت يخرج منهما منذ ثلاثة آلاف عام. قرأت هذا الخبر في الصحف كما قرأه الناس. وجاء الليل فتخيلت هذين البوقين قد أعيدا إلى مكانهما في المتحف، وقد سكنت الأصوات، ونامت الكائنات، فإذا هما ينهضان مستويين كأنهما ثعبانان، وجعلا يتحادثان:
البوق الفضي - عجباً! ما هذه اللغة التي خرجت من فمي هذا اليوم؟
البوق النحاسي - أنها لغة غير مفهومة لعلها لغة بعض العبيد أو الأسرى الذين نأتي بهم إلى أرضنا من آن لآن
البوق الفضي - نعم. إنها ليست لغة توت عنخ أمون! لكن كيف سمح الحراس للعبيد والأسرى أن يحملونا ويدنسوا أفواهنا برطاناتهم!
البوق النحاسي - هذا ما يثير دهشتي
البوق الفضي - يا للعار! فمي الفضي يخرج منه مثل هذه الرطانة! هذا لم يحدث لي من قبل الآن!
البوق النحاسي - وأنا لم يقع لي مثل هذا قبل اليوم قط!
البوق الفضي - وبعد. أنذعن لهذه الكارثة؟!
البوق النحاسي - لا. لا ينبغي أن نذعن
البوق الفضي - وماذا نستطيع أن نفعل؟
البوق النحاسي - نستطيع أن نصيح وأن نرفع أصواتنا في أرجاء المكان ساخطين متضرعين، طالبين صيانة حرمتنا وكرامتنا. فلا ينفخ فينا بعد الآن نافخ بغير لغة توت عنخ آمون. فمن أجلها صنعنا ووجدنا فلتخرس أفواهنا إلى أبد الآبدين، إذا نطقت بغير لغة توت عنخ آمون!
البوق الفضي - وإذا أجبرنا على النطق بغيرها؟
البوق النحاسي - حقت اللعنة على من يجبرنا على ذلك!
وذهب من أمام عيني شبح البوقين. وثبت إلى نفسي وأنا أقول (أهي لعنة أخرى كلعنة المومياء، مازال أمرها خافياً على العلماء!).(303/25)
توفيق الحكيم(303/26)
من أدب الغرب
للأستاذ فليكس فارس
الشاعر الإيطالي ليونلو فيومي، من أشهر حملة الأقلام في هذا العصر، وقد أوقفه كبار النقاد في أوربا والعالم الجديد إلى جنب جبرائيل دانونزيو في تاريخ آداب القرن العشرين
إن ليونلو فيومي يكتب وينظم باللغتين الإيطالية والفرنسية، وله مؤلفات وترجمات عديدة في التاريخ والعلم والأدب؛ وهو يصدر في باريس منذ تسع سنوات مجلته (دانتي) باللغة الفرنسية، وهي منتشرة بين الطبقات المثقفة ويكتب فيها عدد من أشهر رجال العلم والأدب
وقد أصدر ليونلو أخيراً ديواناً من الشعر المنثور باللغة الفرنسية بعنوان (صدر عن الأرخبيل) كان له دوي في عالم التجديد الأدبي، وترجمت منه قصائد إلى لغات عديدة. وقد رأى أصدقاء الشاعر أن قصيدة (نذر) من الديوان قد اختارها عدد وفير من المترجمين فاستكملوا ترجمتها إلى ست وعشرين لغة منها الصينية واليابانية والأرمنية والتركية. وقد طلب لينا أن ننقل هذه القصيدة إلى اللغة العربية، فنزلنا عند إرادة اللجنة التي تولت نشر هذا الديوان لقصيدة واحدة وقد أرسلته إلينا فرأينا أن نقدم لقراء الرسالة ترجمتنا آملين ألاَّ نكون قصرنا في هذا المضمار الذي تسابقت فيه لغات الدنيا في معرض البيان. ولعلنا أثبتنا أن أم اللغات هي المجلية بما فيها من مرونة وجزالة وبلاغة تقتنص المعاني فتوردها بروعة تفوق روعة أصلها
نذر
ما تجلَّيتِ لي ولن تتجلى إلا كلمح السراب؛ لذلك أتوق إلى أن أقيمك تمثال عذراء، أيتها الزنجية، أسوة بالأقدمين من أبناء إيطاليا الذين كانوا يُبدعون من نساء أحلامهم رسوماً يناجيها المتعبِّدون
أنَّ أُمنيتي هي أن أطبع على رافدة هيكلٍ في (المارتينيك) صورة عينيك المتوهجتين بلمعان الماسة الربداء لأقف أمامهما متوسلاً بغير لغة الكلام، وقد أشجاني الاضطراب، أن تقرّ عيناي لحظة عليهما، فأجيل ناظريَّ على غدائر شعرك الجعد الفاحم المنعطف كالجدول إلى ما وراء أذنيك وأرسم منشى أنفك الخافقين كأنهما جناحا طائر صغير. وكأنهما ينفتحان برعشة الشهوة لاستنشاق عطور جزيرتك المسكرة هابة من منابت الكاكاو والروم والفانيلا(303/27)
لأبذلنَّ كل ما في الوله من عناية في اختيارِ العنبر لأمدَّه أظلالاً فأداعب إهابك حين أرسمه غضّاً ناعماً كأن عليه زغبَ الثمرةِ الندية فتبدين فتَّانة القوام باسطةً ذراعيك بمعصميهما الضامرين
وعندما أستنفذ ما على لوحة الألوان فلا أجد ما أرسم به لين طفولتك، وهي كأنها تأود القصب النديّ في جزيرتك؛ ويمتنع عليّ رسم ما في صفاء فطرتك وعطفك وذكائك من غوامض الفتنة، لن يسعني وقد خانني الفن إلا أن أعتصر على الرافدة آخر ما احتبس في قلبي اليائس من قطرات شوقه وإلهامه
وإذا ما أتممت هذه الصورة المنذورة أسارع إلى رفعها على هيكل من هذه الهياكل الصغيرة المشرفة على غابات القصب المزهرة وعلى مراوح الموز الوسيعة؛ عندئذ أجد مكافأتي في تعبُّدي لعذرائي الزنجية، فأسجد أمامها صامتاً خاشعاً والغسق يمد أظلاله على الأشجار الباسقة التي لا أسم لها كأن الغسق ليلٌ ثان ينتشر على ظلمات الغاب في بلاد الهجير حين تهتاج الصراصرُ مرسلةً أزيزها في الليل فتجاوبها الحُباحبُ بأشعةٍ لا عِدادَ لها كأنها قطراتُ ندىً تلتمع في ليلة مقمرة
وهذه قصيدة أخرى بعنوان (مولد) للشاعر الكبير جيوفاني باسكوالي استوقفني ما فيها من عاطفة فياضة وروعة فآثرت نقلها إلى العربية أيضاً
مولد
ثلاثون عاماً تتالت منذ ولدتني يا أماه، منذ آلمتك أولى شهقاتي الضعيفة بأكثر من أوجاعك الشديدة الفائرة
وغذيتني من ثدييك المتفجرين حناناً وأنت صبور تساورك المخاوف والأشجان، حتى إذا تكامل لحمي من لحمك ودمي من دمك فاستقرَّ قلبك بأكمله في قلبي، جاء اليوم الذي تواريت فيه منذ عشرين عاماً
وهأنذا أحاول عبثاً أن أجسِّم عينيك وسيمائك لأشاهدك بخيالي. لقد أذبل الزمان ناضر تذكاري فلم أعد أعرفك يا أماه!
أما أنت فلا تزالين حيث يستقر الأموات في مرابع الصقيع تستوقفين أحلامَك لتداعب أناملك غدائر طفلك الصغير(303/28)
(الإسكندرية)
فليكس فارس(303/29)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تابع)
(ج) ومن المؤثرات في الأدب والحرية:
وإنما يترعرع الأدب في ظلال الحرية، فإذا منع البغيُ أمة أو طائفة أن تُبين عن آرائها وعواطفها وتعرب عن آلامها وأمالها، لا يزدهر فيها الأدب
وإذا اشتد الحجر على أمة فانبرى جماعة من أُباتها يجاهدون في حريتها ويجالدون جبابرتها لم يكن لهم بدّ أن يتخذوا الأدب القوي لبث الدعوة وإيقاظ النفوس وتنفيرها من المذلة وحفزها إلى الإقدام ومجادلة الخصم بالحجة البالغة والبرهان الدامغ، فينشأ لهم أدب حيّ قويّ. ولا يزالون في جهادهم حتى يدال لهم فتسع الحريةُ الأمةَ كلّها، وتنشط النفوس للإبانة عن سرائرها والإعراب عن ضمائرها. وأدب المجاهدين في كل عصر من أروع أنواع الأدب لأنه أدب النفس الإنسانية وهي تدفع عن كيانها، وتجادل عن حياتها
فالحرية العامة والجهاد لها من أجدى الأمور على الأدب
وإذا نظرنا إلى الأدب في فرنسا قبل الثورة وأثناءها وبعدها، وإلى الأدب في تركيا قبل مائة سنة والأدب فيها حين الجهاد للحرية كشعر نامق كمال وأمثاله، ثم الأدب في الثلاثين سنة الأخيرة؛ وإذا نظرنا أيضاً إلى الأدب في مصر قبل عشرين سنة وإلى الأدب فيها اليوم عرفنا فرق ما بين الحرية والعبودية، وما يجدي الجهاد للحرية على آداب الأمم
وكم أنتج جدال الأحزاب السياسية من خطب ومقالات لها في الأدب أثر لا ينكر
والحرية الفكرية أوسع من الحرية السياسية فربما تنال الأمة حريتها السياسية ولكن يسيطر عليها أو على فرقة منها مذهب أو عادة قديمة فيمنعها بعض حريتها في التفكير، وانظر إلى المعتزلة والحنابلة في تاريخ المسلمين تدرك كيف أجدت على الأدب حرية الأولين، وجنت عليه عصبية الآخرين، وكذلك التزام موضوع أو أسلوب في الأدب اتباعاً للقدماء يسلب الأمة بعض حريتها الأدبية ويمنعها أن تفتن في موضوعات النظم والنثر وأساليبها
على أن الفوضى في الأدب، وركوب كل إنسان رأسه على غير بينة، وحيد الناشئين عن(303/30)
سنن الأئمة دون بصيرة - تجني على الأدب، ما يجنيه التضييق والحجر، أو شراً من ذلك
(د) الحروب:
النزاع بين فريقين يهيج كل ما عندهما من قوى نفسية ومادية؛ وكلما كان الخطر أعظم كان الاهتمام والإعداد أكبر. وفي الحروب تتعرض النفوس والأموال والأوطان للتهلكة فتثور أقسى ما في الإنسان من غريزة وأسمى ما فيه من عاطفة. فتدعو كل أمة أحزابها وتحرضهم على قتال العدو؛ وإذا أتيح لها الظفر عظمت أفعالها، وأكبرت مآثر أبطالها، وفي هذا الإعداد للقتال والتحريض عليه والتغني بالظفر والإشادة بالبطولة مجال واسع للأدب
ومن أروع ما أنتجت الآداب القصص الحماسية: فالمهابهارثة والإلياذة والشاهنامة والقصائد الحماسية في الشعر العربي الجاهلي والإسلامي ولاسيما شعر أبي الطيب المتنبي، وقصة عنترة وقصص أبي زيد الهلالي وغيرها كل هذا من آثار الحرب ومآثر الأبطال فيها
(هـ) الدين:
والدين له على الفنون سيطرة عظيمة، فهو يستولي على العقل والعاطفة فيسيرهما كما يشاء، ويصبغ كثيراً من نتائج الأدب بصبغته. ولعل أروع أبنية العالم وأبقاها على العصور المعابد؛ فحيثما سار الإنسان على وجه الأرض وجد علوم الأمم وفنونها وعواطفها ممثلة في المساجد والكنائس والمعابد الأخرى
والأدب الديني من أقدم آثار الأمم الأدبية. فكتاب الموتى عند قدماء المصريين، وأناشيد فيدا عند الهند، وسفر أيوب في التوراة، وأناشيد جاتا في كتاب زرادشت الذي يسمى الأبستا؛ كل أولئك من آثار الدين في الأدب. وإذا نظرنا إلى الدين الإسلامي وتصورنا ما أحدثه القرآن في الأدب العربي والآداب الإسلامية عامة، وما يحدثه اليوم، عرفنا مبلغ تأثير الدين في الأدب، وتصور ما أنتج الإسلام من خطب ومواعظ وقصص في العصور المتطاولة لتعرف جانباً من تأثيره. ثم هذا الشعر الصوفي الرائع في الآداب الإسلامية - ولاسيما الفارسية - نفحة من نفحات الدين
(و) المحاكاة:(303/31)
ومما يؤثر في الأدب المحاكاة والتقليد - تقليد أمة آداب أمة كما قلد الرومان والأوربيون أدب اليونان، وقلد الفرس والترك وغيرهم الأدب العربي، وقلد الترك والهند الأدب الفارسي، وكما قلد الترك في العصر الحديث الأدب الفرنسي وقلد المصريون الآداب الأوربية
وكذلك تقليد النابغين في الأمة الواحدة؛ فإذا نبغ شاعر أو كاتب حاكاه معاصروه، ثم لم يعدم مقلداً في كل عصر. ويكاد تاريخ الأدب يكون تاريخ النابغين في العصور المختلفة ومن عداهم مقلدون أو كالمقلدين. فالجاحظ، وابن المقفع، وبديع الزمان، وأبو تمام، والمتنبي، لهم تأثير بين في الأدب العربي حتى عصرنا هذا
فإن فتح النابغة للناس فنوناً من الأدب الجيّد والأساليب الحرة كان رائد خير في الأدب، وكان قد سنّ سنة حسنة لا تزال تزيد في إحسانه على كر الأيام كما فعل أبن المقفع والجاحظ وأبو العلاء؛ وأن سلك سبلاً وعرة وخلق أساليب مصنعة متكلفة قد غطّى نبوغُه على عيوبها سار الناس وراءه. وربما ورثوا عيوبه دون مزاياه، وأورثوا الأدب صنوفاً من القيود تضيق الأدب وتميت الابتكار في نفوس المنشئين كما فعل مسلم وأبو تمام في البديع، وأبو العلاء في التزام ما لا يلزم، والحريري في المقامات، وغير هؤلاء في ضروب المحسنات التي شغلت الشعراء والكتاب عن المعاني بصناعة الألفاظ.
وكثيراً ما يخلق التقليد رجلاً في غير عصره. كما تجد اليوم من يقلد أحد النابغين القدماء فيشبه هذا القديم أكثر ما يشبه معاصريه. وكثيراً ما أحيا التقليد الأدب بعد موته. فتقليد القدماء من أدبائنا كان فاتحة نهضتنا الأدبية الحديثة كما كان تقليد اليونان والرومان باعث الأدب الأوربي في عصر النهضة. فقد تخطى البارودي - مثلاً - الأجيال وحاكى الجاهليين والإسلاميين فأتي بنمط من الشعر الجزل هو خير مما كان معروفاً في وقته، وقبل وقته. فكان طليعة الشعراء العصريين.
(ز) والاستطراف
ومما يؤثر في الأدب أيضاً الاستطراف أو حُب التجديد، والنزوع إلى الطريف. ففي الأدب كما في غيره طرائف (مودات). يملّ الأديب موضوعاً مبتذلاً أو طريقاً مسلوكة قد سار(303/32)
عليها الخاصة والعامة، ويأنف أن يكون واحداً في هذا السواد فيسلك طريقاً آخر في الموضوع أو البيان؛ فإن وفق فقد سنّ للأدباء سنة جديدة، ومهّد في الأدب سبيلاً محدثة. وهكذا حتى يظهر أديب آخر يحل هذه الطريقة فيحيد عنها وهلم جراً. وقد يُستطرف بعد أجيال موضوع أو أسلوب بعد أن ابتذل وهجر وهلم جراً.
فهذا الاستطراف والاستهجان له أيضاً أثره في تحوّل الأدب
(ح) النقد
وأحسن المؤثرات في الأدب وأنفعها النقد الصحيح؛ فإن الناس يسيرون على النهج المألوف لا يرون خطأه ولا يبصرون عيبه حتى يرشدهم النُّقّاد فيبيّنوا لهم الخطأ والصواب، والرشد والغيّ، والحسنُ والقبيح في سيرتهم. وإذا تناول النقد مسألة أدبية كشف عن الحق فيها أو ثار حولها الجدال؛ وما يزال المتجادلون حتى تنجلي الحقيقة من تصادم الحج. فالنقد إيقاظ الأفكار النائمة، وتنبيه الآراء الغافلة، ومثار جدال تتبين فيه الحقائق إذا صحبه الإخلاص وقارنه الصدق
(ط) المكافأة:
وتحريض أصحاب المواهب على الإنتاج بالاعتراف بفضلهم والإشادة بأعمالهم أو منحهم الأموال التي تعينهم على الفراغ للأدب وإتقانه، مما أجدى على الأدب في عصوره، وحفز همم الشعراء والكتاب إلى الإجادة والإبداع؛ ولذلك نرى تاريخ الأدب وكبار الأدباء متصلاً بالملوك والأمراء والكبراء الذين أثابوا القائلين على إحسانهم وحثوهم على الازدياد
وإذا نظرنا إلى تاريخ الخلفاء العباسيين وما أفادوا الأدب بمثوبتهم الشعراء والكتاب ونظرنا إلى تنافس ملوك المسلمين في المشرق والمغرب في الاستكثار من الأدباء حولهم وتزاحم ملوك الطوائف في الأندلس على الاستئثار برجال الأدب - عرفنا كيف يُجدي التحريض والمكافأة على الآداب. وحسبنا أن نتذكر ازدحام الشعراء والأدباء حول سيف الدولة الحمداني حين رأوا فيه أميراً ألمعيا وفتى عربيا يجزل الثواب ويسخو بالمال
هذه من أسباب تغيّر الأدب. والباحث في الأدب العربي يستطيع أن يتبينها في أطوار كثيرة منه؛ فإذا بحثنا في صور الأدب العربي في الجاهلية وما فعل بها الإسلام، ثم نظرنا(303/33)
إلى شعر الفتوح الإسلامية، وشعر الوقائع العربية، والمذاهب السياسية، وعصبيات العدنانيين والقحطانيين، ثم عصبيات العرب والعجم، ومدائح الخلفاء والأمراء، وتهاجي الشعراء، وما نشأ في الدولة العباسية من ضروب في النثر والشعر وأثر اختلاط الأمم، والترجمة عن اللغات المختلفة، وقرنا شعراء المشرق بشعراء مصر والمغرب والأندلس، واستعرضنا بعض الحادثات السياسية والاجتماعية في هذه المواطن، ودرسنا تاريخ النابغين المجددين. . . الخ. وجدنا في كل هذا تطبيقاً لما ذكر من مؤثرات الأدب
عبد الوهاب عزام(303/34)
الدعوات المستجابة. . .
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
استمنحتُ الثروة، فمُدْتْ لي أكنافُ التوفيق، وأسبغت عليّ آلاء النوال الطائلة، وتحوْل كلُّ ما لمسته يداي إلى ذهب إبريز. . . ولكن. . . وا حسرتاه! لقد تضاعفت همومي ومتاعبي، وتناقصتْ راحتي ورفاهيتي، حين فلج سهمُ طلبتي، وزكا منبتُ رجائي، وأخصب زرع ابتهالي. . .
استوكفتُ المجد والعزّ، فسمعت ذكري يشّيع بالحمد، ويذيل بالثناء، من الولدان الروقة الميامين، الذي لحظهم الفلك بعنايته، ووسمهم الكمال بنهايته؛ ومن الشيب السارين في طريق الرشد، بمصباح الكبر، المتحلين بأبهة الحنكة وشيمة الوقار، الجامعين بين قوة الشباب واستحكام التهذيب والتحليم وتناهي الحلال. ولكن. . . أواه! أواه من الآلام والخسار والمضار التي تجيء في مواكب الشهرة. حقاً، إني لم أكن سعيدة إذ ذاك. . .
اجتديتُ الحب، وركبتُ إليه ظهور التوسع والضراعة، ففاز قلبي بمبتغاه، واغتبط بنجج مسعاه، وعاد بمصداق أمانيه، ولكن لهب نيران الحب الآكلة أندلع إلى قلبي المتضور، وجسمي المنهوك. وتلذع أوراها في عقلي المتلظي، بيدَ أنها قد كبتْ، ولم يبقَ منها إلاّ ما غادرت في القلب والجسم والعقل جميعاً، من وسوم لعجها وصفعات حروقها. . .
اتصلتُ ببابه تعالى، ونزعتُ إليه برجائي، أن يمنحني عقلاً راضياً قانعاً. . . وأخيراً! بزغ على قتام روحي المكتئبة نور عظيم، وغمرني أمنٌ تام، واطمئنان كامل. ووردت عليّ قوة جلىّ استأنفتْ نشاطي، وشددت عزمي، وشرحت صدري. فيا ليتني كنت التمست هذه الطلبة الغالية قبل كل طلبة أخرى.
(الزهرة)(303/35)
يوم وقعت الواقعة. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
أما رثاء الفقيد، وبيان جلال الرزء فيه، ومبلغ الحزن عليه، فتلك أمور كبرت عن أن يحيط بها (نظم من الشعر أو نثر من الخطب)، وبُعد منالها عن كاتب مثلي قصير القامة واليدين، فليكن همي أن أروي (ما رأيت وما سمعت)، ولقد رأيت عجباً وسمعت أعجب منه، وشاهدت أحوالاً ربما ظنها القراء الذين هم في غير بغداد مبالغة من نسج الخيال، ولكن الله يعلم وأهل بغداد يشهدون أن الذي أقوله حق كله، وأني ما زدت فيه ولكن نقصت منه، وأني لو ذهبت أتزيد فيه ما استطعت ولا بقي للخيال بعد الذي كان مجال
والذي رأيت أني نزلت من (الأعظمية) مبكراً على عادتي، فلم أرى على الطريق ما أنكر إلا حركة عند (البلاط) ما ألقيت إليها بالاً، حتى إذا شارفت المدرسة (ومدرستنا في ظاهر بغداد قريبة من باب المعظم) رأيت طائفة من الطلاب مجتمعين يتهامسون، ولكن الوجوه غير الوجوه، فلما أبصروني أسرعوا إلي يسألونني عن (الحادثة)، فقلت وأنا خالي البال: أي حادثة؟ إني ما سمعت بعد بشيء!
قالوا: لقد شاع في البلد أن الملك. . .
فاضطربت وتوقعت أن أسمع عنه نبأ لا يسر، ولقد أحببت الملك منذ شهور خلت حبّاً شديداً لم أكن أحبه من قبل مثله، وصرت أرى فيه معقد الأمل وباب الرجاء، فلما قال التلميذ ما قال خفق قلبي من توقع المكروه، وحب الاستطلاع، وروعة المفاجأة، وما يصيب المرء في العادة في موقف مثل هذا، وصحت بالولد أسأله: أن ما للملك؟ وبالغتُ في الصياح حتى روّعتُه، وأثرت أحزانه، فقال متعثراً يجرُ الحروف من فيه جرّاً:
- يقولون أنه. . . قد مات!
فقلت: أعوذ بالله، أسكت ويحك، إن هذا كذب، فلا تنطق به. . .
وأسرعت إلى المدرسة، والطلاب معي، وأنا أرجو وهم يرجون أن يكون الخبر كذباً. وتلبث بعض الطلاب قائمين على الطريق ينتظرون مرور الملك كما يمرّ كل يوم. فلما بلغنا المدرسة وجدنا كل من كان فيها من مدرسين وطلاب قد سمعوا الذي سمعنا، وهم بين مصدق ومكذب. ومرت ساعة ونحن على هذه الحال من القلق نسأل كل آت فلا نلقى عنده(303/36)
جواباً، ونستخبر الهاتف (التلفون) فلا نسمع خبراً. ثم أبصرنا علم الثكنة العسكرية التي أمامنا قد نكس، وجاءنا الأمر بتنكيس العلم، وجمع الطلاب في غداة الغد للتشييع. . .
فعلمنا أن الناعي قد صدق، وأن الأمل قد خاب!!.
وخرج المدير وهو الرجل القويُ المكتمل الرجولة ليعلن الأمر. فما تمالك نفسه أن بكى وهو ينعى لشباب المدرسة (الغربية المتوسطة) سيد شباب العرب. وما أمسك الطلاب أنفسهم أن يصيحوا: (وهم ثمانمائة شاب يعدون مثال النظام) صيحة واحدة، وأن يبكوا بنحيب وعويل، وأن يمزق بعضهم ثيابه، وأن يغمى على بعض. وما أكتم القارئ أني حسبت ذلك رياء وتصنّعاً، وكرهته أول الأمر، واشمأزت منه نفسي، ولكني ما لبثت أن أيقنت أنه حق وصدق، وأنه منشأة هذا الحب العجيب للملك الجندي، وهذا الحزن البالغ على وفاته الفاجعة. . .
وخرج الطلاب بعد ذلك، وخرجت على الأثر. فما دنوت من (باب المعظم) حتى سمعت نواح النساء ونحيبهّن، ورأيت الميدان كله ممتلئاً بالناس، يتدافعون ويستبقون إلى البلاط باكين مفجوعين. مشهد للحزن ما أحسب أن أروع منه يكون؛ فخالفت الجماهير وقصدت شارع الرشيد، فلم أبلغ (الصابونية) حتى رأيت مئات من النساء، تحكي ثيابهّن ومظاهرهن الغنى والحشمة، وهن ينشدن شعراً عامياً، أو شبه شعر، ما فهمته ولكني تبينت فيه ذكر غازي وشبابه الغض، وذكر الموت. . . وكلما قلن بيتاً لطمن وجوههن بشدة، وبكين بحرقة وألم. . . فما رآهن أحد إلا بكى أشد بكاء؛ ورأيت من بعد آلافاً من الناس قد حملوا شاعراً عامياً فهو يقرأ لهم شعراً كله تفجع وألم، وهم يلطمون ويضربون صدورهم أو يشيرون باللطم، فلم أطق المسير ولا الشهود فملت إلى المدرسة (الثانوية) وكانت خالية مقفرة، وعلى بابها علمان متشحان بالسواد، فغادرتها أفتش عن أخي أنور العطار. فما هي حتى جمعني الله به. فقلت له: إن المسير في شارع الرشيد مستحيل، والصبر على رؤية هذه المواكب الباكية أشد استحالة، وحسبنا ما في نفوسنا من الألم، فهلم بنا إلى الدار (في الكرخ) فإنها أهدأ. ورأى ما رأيت، فسرنا نؤم الجسر، وكان اليوم عاصفاً مخيفاً، والنهر مضطرباً مرعباً؛ كأن الطبيعة قد روّعها من النبأ ما روّعنا؛ ففقدت هي أيضاً اتّزانها وهدوءها، فما ظننا والله إلا أن الجسر منقطع بنا، لما كان يضطرب ويرقص، وتلعب(303/37)
الرياح والمياه بالعوامات التي يقوم عليها، ولكن الله سلّم فبلغنا الكرخ، وإذا بالكرخ قد نشرت الأعلام، أعلام (السباية) السود، ودقت طبول المأتم وخرج أهلوها على بكرة أبيهم، مواكب مواكب: النساء ينحن ويلطمن الوجوه، والرجال ينشدون ويضربون الصدور، وقد تعروا وتكشفوا فعل المتهيئ للصراع، حتى رأيت الصدور وهي من الاحمرار كأنما دامية. والأطفال، يا لله ما فعل الأطفال! لقد تعروا مثلما فعل الرجال، وطفقوا يضربون صدوراً علم الله أنها ما تحمل الضرب ولا تطيقه. . . وكانت المواكب في كل شارع، وفي كل زقاق. فكلما تركنا واحداً منها اصطدمنا بآخر، حتى أزمعنا آخر الأمر أن نعود إلى جانب الرصافة من الجسر الآخر، فما بلغناها حتى رأينا فيها ما أنسانا فعل أهل الكرخ، وكان كل موكب يحمل صورة للملك الشاب مجللة بالسواد، وينشد أشعاراً لم أحفظها ولكن فهمت منها كثيراً، فما فهمت مقالة قوم:
الله أكبر يا عربْ ... غازي انفقدْ من دارَهْ
واهتزتْ أركانْ السماء ... من صدمةِ السَّيارةْ
وقول قوم ما معناه: قولوا لفيصل في القبر يستقبل وليده. . . في أشعار كثيرة هذا سبيلها، ولعل القراء لا يدركون قوتها ووزنها، لأني لم أحسن كتابتها ونقلها، ولكنهم لو سمعوها من أفواه أصحابها ورأوا بكاهم، وشاهدوا صدورهم المحمرّة، لعرفوا أي شيء هي، ولعلموا أن بغداد تعرف كيف تفرح وكيف تغضب وكيف تحزن!
ومن أعجب ما شاهدت فتيات المدارس وهن يلطمن وجوهاً يؤذيها المسّ، ويدميها النسيم، لا يشفقن على أنفسهن، ولا يفتأن ما سرن يَبكين ويُبكين، ويا ليتني فهمت ما كنّ يقلن فإنه أشجى وأعجب مما كان الرجال يقولون!
وبقيت المدينة على هذه الحال إلى صباح اليوم التالي، إلى ساعة التشييع التي أعلن العجز عن وصفها. فلما تم الدفن، وأودع الثرى الملك الشاب الذي كان يفيض قوة وحياة، وحوّمت الطيارات الوطنية تحمل شارات الحزن السود الطوال على الملك الطيّار، وانطلقت المدافع تعلن انتهاء الدفن، وأيقن الناس أن المصيبة قد تمت، وأن الرجاء قد أمحى، أفاقوا كمن يفيق من نومة مزعجة رأى فيها الحلم المروّع، فيرى الواقع أشد إزعاجاً وترويعاً، فأسلموا الأمر إلى الله، وصمتت هذه الألسن التي طالما أنشدت ورثت، وتفجعت، وجفت هذه(303/38)
الدموع التي طالما جرت وذرفت، وانفضت هذه الجموع واجمة ما فيها من يتكلم أو ينبس، وفي القلوب نيران تتأجج، وبين الأضالع لهيب يستعر، ولم تسكت آخر طلقة من طلقات المدافع التسع والتسعين، حتى عمّ المدينة صمت عميق، وغدت كأنها قبر واحد، قبر غازي الملك الحبيب الذي أمّ الناس قصره قبل عشرة أيام مهنئين بالميلاد السعيد، فانصرفوا الساعة من زيارة قبره الجديد، مودعين حبيباً لن يروه إلى يوم القيامة. . .
وهمس رجل، فسار الهمس على كل لسان:
رحمة الله على غازي، ولفيصل أبنه التوفيق والسعادة والحياة!
(بغداد)
علي الطنطاوي(303/39)
المدرسة الابتدائية
وتعليم اللغة الأجنبية
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
تعليم اللغة الأجنبية في مدارسنا الابتدائية مشكلة من مشاكل التربية والتعليم التي برزت اليوم أمام وزارة المعارف فألفت لدراستها لجنة برياسة حضرة صاحب العزة الوكيل الساعد. وقد رفعت هذه اللجنة تقريرها عنها في الشهر الماضي، ولازال هذا التقرير بين يدي معالي الوزير لبحثه ودراسته قبل البت في أمره. وبالرغم من أن هذا الموضوع كان من بين المشاكل الكثيرة التي عالجتها في مؤلفي الجديد (التعليم والمتعطلون في مصر) فقد رأيت أن أفرد له بحثاً خاصاً يذاع على صفحات الرسالة الغراء لأنه أصبح مشكلة الساعة؛ ولا يصح أن يقطع فيه برأي إلا بعد درسه دراسة مستفيضة، فجدير بكل ذي رأي أن يدلي فيه برأيه، وجدير برجال التعليم جميعاً أن يبحثوه وحداناً وأن يمحصوه زرافات وجماعات حتى يتبن أولو الأمر أوجه الخير والشر فيه، ويتعرفوا أوجه المصلحة العامة في جميع نواحيه.
ولا يسعنا أن ندلل على أهميته وأهمية غيره من مشاكل التربية والتعليم عندنا إلا بتلك الكلمة الخالدة التي قالها المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول طيب الله ثراه، إذ قال: (إن أم المسائل في مصر مسألة التربية والتعليم. فلو أن كل مصري وضع في تشييدها لبنة لأقمنا للوطن صرحاً يبقى ما بقي الزمان). ولا غرو في ذلك لأن مسائل التربية ولتعليم لا تتعلق بأفراد أو بطوائف معينة فحسب، ولكنها تتعلق بكل منزل وكل أسرة وتتعلق بأبناء هذا الوطن جميعه بنين وبنات، فتيان وفتيات؛ ففيها جماع مشاكل الأمة أو هي تشمل مسائل الأمة جمعاء
ولقد أصبح لزاماً علينا بعد أن أخذنا الأمر كله بيدنا ألا نتعصب لأنفسنا ولا أن نتحزب لقديمنا بل يجب علينا أن نفتح عيوننا لكل ما يجري عندنا وعند غيرنا وأن نتعرف سريعاً شذوذنا وأخطاءنا وأن نعمل بحزم وهمة ونشاط على التخلص مما تتعثر فيه معاهدنا من شذوذ وأخطاء. لعلها هي السبب الأساسي في تعثر شبابنا وتنكبهم الطريق السوي وانحطاط مستواهم الخلقي والعلمي عن مستوى غيرهم ممن يتعلمون بين ظهارانينا تعليماً أجنبياً(303/40)
يصحبه نجاح في الحياة مضمون وحظ موفور. فلقد جاء في محاضرة الأستاذ الغطريقي رئيس مكتب تخديم الشبان بوزارة المالية التي ألقاها قريباً بمدرج دار العلوم أنه لا ينجح من شبابنا المتعلمين بمعاهدنا الحكومية ممن يتقدمون للخدمة في الأعمال الحرة كأعمال الشركات والبنوك إلا واحد من كل ثلاثة عشر مرشحاً بينما يؤخذ الباقون من الشبان الذين تعلموا في معاهد أجنبية. فهلا يحق لكل مفكر أن يتساءل ويبحث عن أسباب كل هذا الإفلاس! لا شك أن ذلك راجع إلى نقص جوهري في تربيتنا وتعليمنا. فلقد ذكر حضرته أيضاً أنه حتى هؤلاء القليلين الذين تأخذهم الشركات للعمل فيها تشكوا تلك الشركات سوء نظام الكثيرين منهم وقلة اكتراثهم بالمسئولية وقلة اهتمامهم بالمواظبة والمحافظة على المواعيد الخ الخ
فبين معاهدنا إذن عيوب أساسية كثيرة تستدعي التفكير والعمل، وتستدعي التغيير والتبديل، وتستدعي وضع سياسة تعليمية قويمة يسير الجميع من رجال التعليم على هديها. ولعل من أبرز العيوب وأقوى الشذوذ في نظم تعليمنا قيام المدرسة الابتدائية إلى اليوم بجوار المدرسة الأولية والمدرسة الإلزامية والمعهد الديني الابتدائي وجمعية تحفيظ القرآن الكريم الخ مما يشتت أبناء البلد الواحد في أنواع مختلفة من المعاهد ذات طرائق مختلفة ومذاهب مختلفة وثقافات مختلفة! فالمدرسة الابتدائية بما فيها من لغة أجنبية هي ذلك السدُ المنيع بين المدرسة الإلزامية والأولية من جهة، وبين المدرسة الثانوية والعالية من جهة أخرى، مما لا مثيل له في ممالك العالم أجمع! ونتيجة ذلك أن الطالب المتفوق بين جدران مدارسنا الإلزامية والأولية إذا تعدت سنه العاشرة (وكثير من التفوق لا يظهر إلا بعد هذه السن) استحال عليه إتمام تعليمه تعليماً مدنياً لأن المدرسة الثانوية لا تقبل أحداً من طلابها إلا عن طريق المدرسة الابتدائية حيث اللغة الأجنبية مادة أساسية في جميع سني الدراسة فيها، وفي إقفال أبواب المدارس الثانوية أمام طلاب المدارس الأخرى عدا الابتدائية مضيعة للتفوق والمتفوقين من أبنائنا الذين بدؤوا لسوء الحظ حياتهم التعليمية في مدارس التعليمين الإلزامي والأولي، وقضاء على ذوي الملكات الطيبة منهم وإهدار الكفايات لو استثمرت لجلبت كثيراً من الخير على مصر والمصريين. فما السر يا ترى في وجود هذا السد المنيع الحاجز للمتفوقين من طلاب التعليمين الإلزامي والأولي عن التعليمين الثانوي والجامعي!(303/41)
هذا السد قد أوجدته السياسة العتيقة من عهد قديم. حتى لا يقوى على ارتقائه إلا العدد القليل من الذين كانت تعدهم المدرسة الابتدائية للعمل في دواوين الحكومة بدليل ذلك التقرير الذي رفعه سنة 1880 علي باشا إبراهيم ناظر المعارف إلى مجلس النظار (الوزراء) وقد جاء فيه:
(إن التعليم الابتدائي قليل الاتساع لأنه لم ينشر في أية جهة بين الأهالي ما خلا المحروسة. وهذا لا يسمح للمدرسة التجهيزية بانتخاب تلامذة نجباء ومستعدين للتعليم التجهيزي ويترتب على ذلك أنه لا يوجد إلا عدد قليل من التلامذة الضعفاء جداً الخارجين من الدراسة التجهيزية فتجبر المدارس العالية في أكثر الأحوال على قبول تلامذة لم يستوفوا الحالة التجهيزية اللازمة، ويستمر هذا الخلل عند خروج التلامذة بعد انتهاء مدة الدراسة، ودخولهم في الوظائف العمومية الخ.)
لهذا وجدت قديماً المدرسة الابتدائية إذن على غرار المدرسة الأوربية ولبس أبناؤها الملابس الأوربية، وتعلم أبناؤها اللغة الأوربية، وكانت فرنسية في بادئ الأمر، ثم انقلبت بعد الاحتلال إلى إنجليزية واستمرت إلى اليوم! كل ذلك في سبيل إعداد أبنائها لرغد العيش في وظائف الحكومة بين جدران الدواوين! فلم يكن إذن الغرض من وجودها تثقيف أبناء الشعب أو إعدادهم للحياة العامة، لأن المدرسة الشعبية أو الكتاب قديماً والمدرسة الإلزامية أو الأولية حديثاً هي التي تقوم بإعداد أبناء الشعب لحياة الشعب! وإذن فقد وجدت المدرسة الابتدائية بما فيها من ميزة وهي اللغة الأجنبية لتفصل طبقة الموظفين ولترفعهم إلى مكان خاص بل إلى مركز خاص يمتاز بميزات خاصة عن مركز أبناء باقي الشعب، فهي إذن السد المنيع بين أبناء الشعب وغوغائه وبين أبناء سادة الشعب وحكامه! وهي إذن السد المنيع بين الديمقراطية والأرستقراطية! فهل يصح أن يبقى هذا السد إلى اليوم بعد الوضع الذي أصبحنا فيه؟ هل يصح أن يبقى هذا السد بين أبناء أمة حطمت قيودها وقالت بملء فيها إنها أصبحت أمة ديمقراطية ينص دستورها على المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، وعلى أن الأمة مصدر السلطات؟ إلا إن بقاء المدرسة الابتدائية بعد هذا يعد مهزلة بين الديموقراطية والديموقراطيين إن كانوا جادين
(يتبع)(303/42)
عبد الحميد فهمي مطر(303/43)
استطلاع صحفي
مدرسة الهندسة التطبيقية
بمناسبة عيدها المئوي
لمندوب الرسالة
(ينتظر أن يتفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بتشريف العيد المئوي لمدرسة الهندسة التطبيقية وافتتاح مبانيها رسمياً في 28 أبريل الجاري. وقد أسسها المغفور له محمد علي باشا الكبير في مارس سنة 1839 وسماها مدرسة العمليات لتعد الطلبة للأعمال الصناعية التي تحتاج إليها البلاد. ولكن الزمن غدر بها إذ أقفل عباس باشا الأول جميع معاهد العلم وهي منها إلى أن أعاد فتحها سعيد باشا باسم مدرسة العمليات أيضاً. ثم تغير اسمها فأصبح مدرسة الفنون والصنايع، وتغير مرة ثالثة فأصبح مدرسة الهندسة التطبيقية)
خرساء تتكلم
في مواجهة المدخل الرئيسي لمدرسة الهندسة التطبيقية نافورة جميلة الصنع من حجر الجرانيت الأسود، وفوق الباب تاج أسود يضم بين ثناياه قطع مستطيلة من النحاس الأصفر يرى الناظر في وسطها أنواطاً يرجع تاريخها إلى سنة 1873 إذ أهديت إلى المدرسة من بعض المعارض الدولية. وعلى جانبي الباب مدفعان ضخمان يبدو عليهما القدم، ويظهر في بنائهما بساطة التركيب، ولونهما أسود أيضاً. فإذا سألت عن تاريخ هذين الأثرين أجابك محدثك: (رأيتهما عندما التحقت بالمدرسة سنة 1904). فإذا حاولت المزيد فلن تصل إلى نتيجة صحيحة. فالمدرسة قديمة العهد استنشقت النسمة الأولى للحياة في شهر مارس سنة 1839 فعمرها الآن مائة عام وإن كان عمر مبانيها بضعة أعوام
تدخلها فإذا هي بنت اليوم. فحجرات الدراسة فيها على أحدث طراز ومعاملها ومصانعها مجهزة بأحدث الآلات. ولكنك بين هذه المظاهر المتعددة تلمس القدم في كثير من حجراتها إذ ترى آثار الماضي في لوحة قضى الزمن على ذكرياتها، أو تجد صورة إسماعيل باشا وهي تحمل اسم صانعها وضريبة الزمن على ألوانها. وأقدم من هذا أن تجد لوحة باسم إبراهيم باشا، وكتب تحت الاسم 1204 - 1265.(303/44)
فإذا سألت عن تاريخها قابلك محدثك بألفاظ تفهم منها:
(لا أعرف، فإذا رجعت إلى كتب التاريخ، وقابلت بين السنة العربية والإفرنجية وجدت 1204=1789، وسنة 1265 تقابل 1848 والأول هو تاريخ ميلاد إبراهيم باشا، والثاني هو تاريخ وفاته في نوفمبر من تلك السنة. فهل تشك بعد هذا في أنها لوحة تذكارية لتخليد ذكرى ذلك البطل الفاتح؟ وهلا تأسف بعد هذا أن تجد لوحة تذكارية تحتاج إلى ما يذكرنا بها؟ ولكنها ضريبة الزمن وضريبة حياة المكاتب التي يعيشها موظفونا بل ومعلمونا، أنستنا لا لوحاتنا التذكارية فحسب، بل أيضاً تاريخ هذه اللوحات فأصبح سرها في بطون المقابر بدل أن يحيا في أذهان الناس وقلوبهم. فهذه المواد الخرساء عاشت على رغم إهمالها فتكلمت عن ماضينا ونددت بحاضرنا إذ كشفت جهلنا الفاضح.
حياة عملية
والحقيقة أن هيئة التدريس بالمدرسة أجهدت نفسها لكشف تواريخ هذه الآثار، إلا أن كل من قابلناهم من طلبة المدرسة القدماء لا يذكرون من أمرها إلا أنهم التحقوا بالمدرسة فوجدوها. وهم يؤاخذون لأنهم تجاهلوها منذ ذلك التاريخ فلم يهتموا بأمرها ولم يسألوا عن سبب وجودها. ولو اهتم أحدهم بالسؤال عنها وقتئذ لكانت هذه الآثار أكثر أهمية مما هي الآن. فإن قيمة الأثر تزداد كلما زادت معلوماتنا عنه وتقل كلما قلت. وإذا كنت أحب أثراً فإني أحبه لأنه يرجع بي إلى الماضي فيعطيني صورة ذهنية لما كان يحدث في تلك الأيام سواء أكانت قريبة أم بعيدة.
ولعل أساتذة هذه المدرسة كانوا في شغل عن تتبع هذه الذكريات بما عهد إليهم من عمل. فالحياة في هذا المعهد خليط من النظريات العلمية والخبرة العملية. وهي تشغل في عهدها الجديد مساحة ثلاثين فداناً منظمة على أحدث نظام ومعدة بأحدث الآلات. ويمكننا أن نقسمها إلى ثلاث أقسام: الورش والمعامل وحجرات الدراسة. وقد أعدت جميعها على آخر طراز بحيث يتخرج الطالب من المدرسة وهو معد بكلا السلاحين العلمي والعملي.
ففي الورش يجد الطالب المجال متسعاً أمامه ليتقن الصناعة التي ارتضاها لنفسه. وفي حجرات الدراسة يجد النظريات العلمية التي يمكنه أن يستفيد منها في مهنته. وفي المعامل يجد الآلات الكيميائية والطبيعية معدة للبرهنة على النظريات التي لم تطبق بعد في الإنتاج(303/45)
الصناعي كما يستطيع أن يجرب - إذا شاء - لينشر على الناس ما هو خير من الأساليب المستعملة في الإنتاج الصناعي الآن
مصنع مستقل
وفي تلك الورش يعمل الطلبة بأيديهم. ففي قسم العمارة يمسك الطالب بأدوات البناء ويقيم الحائط تبعاً للرسم المعطى له، فإذا كان تمرينه في عمل نقوش من الجبس أو المصيص قام بتلك العمليات بنفسه. وما يحدث في قسم العمارة يحدث في غيره من الأقسام، إذ يباشر الطلبة بأنفسهم تطبيق العلم على العمل، ولذلك يلبسون أثناء العمل في الورش ملابس خاصة وهي عبارة عن سترة بيضاء لتقي ملابسهم الاتساخ
وهذه الورش في مجموعها مستعدة لصنع أية آلة يطلب عملها ففي (ورشة السباكة) مثلاً يستطيعون تشكيل أية قطعة معدنية كما يريدون، والطريقة المتبعة لذلك أن يصنع للآلة رسمها بأبعاده ومقاطعه على الورق؛ ثم يوكل إلى طلبة اختصوا بصناعة النماذج الخشبية فيصنعون أدوات الآلة من الخشب بطريقة خاصة، فإذا انتهى نجار النماذج ذهبت القطع الخشبية إلى السباك فوضعها في نوع خاص من التراب بحيث يتشكل برسمها ثم ينزع الخشب ويصب في الفراغ المعدن المطلوب صنع الآلة منه
وتنتقل المواد بعد هذا إلى أقسام البرادة والخراطة وغيرها حيث تتولى تلك الأقسام تنظيف الآلات مما علق بها من زوائد معدنية، ثم تعد بما يتفق والرسم المطلوب. وعلى وجه الأجمال فإن جميع أقسام المدرسة تعمل في صناعة هذه الآلة لاختلاف فنونها وتركيبها، فهي تبدأ من المكتب حيث يضع المهندس رسمها الميكانيكي وتمر بأدوار عدة إلى أن تصل إلى وضعها النهائي الذي يعدها للاستعمال
وقد قامت المدرسة بصنع عدة آلات، ففي إحدى السيارات ركب الطلبة بدلاً من المحرك العادي آلة ديزل، وهم يقولون إن ذلك يوفر كثيراً من أثمان استهلاكها للوقود. فإن آلة الديزل تشتغل بالغاز الوسخ وفرق كبير بين ثمنه وبين ثمن البنزين. وهكذا كلما دخلت إحدى الورش شاهدت فيها شيئاً أصلياً من صنع طلبتها وحدهم ولذلك يفخرون به
فيللا ثمنها 800 جنيه(303/46)
وأراد قسم العمارة أن يتساوى مع غيره من الأقسام من حيث ابتكار الأشياء المفيدة فوضع الطلبة والأساتذة رسماً لفيللا من طابقين يتكلف بناؤها 800 جنيه وتصلح لسكنى عائلة متوسطة، ويشتغل طلبة قسم العمارة في تشييدها في أوقات فراغهم وقد تم منها حتى الآن بناء الطابق الأول وينتظر عند إتمامها أن يتولوا تجهيزها بالأدوات الصحية وغيرها من الأثاث. ففي المدرسة ورشة نجارة كبيرة تصنع كثيراً من الأثاث، وقد شاهدت بعض المكاتب التي صنعها الطلبة لأساتذتهم فأعجبت بما هي عليه من متانة ودقة في الصناعة
وتحتل ورش المدرسة صفاً طويلاً يليه صف المعامل حيث توجد معامل الطبيعة والكيمياء والهيدروليكا وقسم مقاومة المواد وكل هذه المعامل مجهزة بالأدوات التي تيسر للطالب فهم النظريات العلمية المختلفة كما تعطيه صورة واضحة عن أكبر الأعمال الصناعية التي أسست إذ يحتوي على نماذج مصغرة لبعض هذه المشروعات
ويحتاج الطالب دائماً أن يعرف قوة احتمال المواد التي يشتغل بها ولذلك تجد في قسم العمارة آلة يمكن بواسطتها معرفة قوة احتمال مخلوط من الأسمنت. وفي قسم السيارات آلة يقول الاختصاصيون في المدرسة أنها الثالثة من نوعها وبها يمكن معرفة قوة فرامل السيارة ومقدار استهلاكها للبنزين. أضف إلى ذلك معملاً قائماً بذاته اختصاصه اختبار مقاومة المواد من ضغط وشد وانحناء
قاعة للسينما
ومدرسة الهندسة التطبيقية كما قلنا حديثة العهد بالتنظيم على الطرق الحديثة ولذلك تجدها معدة بقاعة للسينما حيث تعرض الأفلام العلمية التي تعطي للشاهد فكرة عن سير العلوم وعن تطورات بعض الصناعات. وتستعمل هذه القاعة للمحاضرات فيجتمع الأساتذة والطلبة لإلقاء بعض المحاضرات. وقد شاهدت في إحدى المرات ناظر المدرسة وهو يعرض على أبنائه الطلبة أن يبدوا آرائهم في كيف يحتفلون بمرور مائة عام على إنشاء مدرستهم فكانت الروح تدل على مدى الحرية الممنوحة لهم
فقد كان عدد الطلبة كثيراً جداً ضاق بهم المدرج على سعته فكان كل منهم يدلي بما لديه من الاقتراحات؛ وأخيراً زاد عدد الاقتراحات وتضاعف عدد المتكلمين، فاقترح عليهم ناظر(303/47)
المدرسة أن يكتبوا ما يريدون. وبذلك ترك للطلبة أن يعدوا بأنفسهم الاحتفال المئوي لمدرستهم. وقد وكل للطلبة أنفسهم تنفيذ ذلك البرنامج وإظهار براعتهم في فن الصناعة والأعمال الإدارية مع إشراف بسيط من ناظر المدرسة الدكتور أمين سيد ومدرسيها
ويتعود الطلبة حياة الابتكار، فإذا دخلت قاعة الرسم شاهدت مشروعات كثيرة. فهذه لناد يقترح الطلبة إنشاءه وقد راعوا فيه أن يتناسب مع الغاية التي سينشأ من أجلها. ولذلك كان فيه قاعات كثيرة بعضها كبير والبعض الآخر صغير. وقد تجد اقتراحاً لتنظيم ميدان تتوافر فيه الأسباب الصحية مع جمال الذوق وإبراز سحر الطبيعة، فإن الطلبة يعدون الإعداد اللازم لأن يكونوا رجال عمل وأهل تفكير وابتكار وذوق حسن.
فوزي جبر الشتوي(303/48)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وفي يناير من السنة التالية صدرت من ثلاثة من الضباط على رأسهم احمد عرابي حركة أخرى كانت هي الجريئة حقاً، حركة جرت في أعقابها حركات فكانت بمثابة الشرارة التي أوقدت النار
نمى إلى عرابي، وهو في منزل أحد أصدقائه أن وزير الجهادية قد اعتزم عزله وزميله عبد العال بك حلمي، وعلم عرابي أن عدداً من الضباط في منزله ينتظرونه، فخف إليهم فوجدهم يعلمون ما يعلم فتشاوروا في الأمر، واختار عبد العال بك وعلي فهمي بك عرابياً رئيساً لهما ولمن يتبعهما من الضباط في حركتهم الوليدة التي دارت حول طلب عزل رفقي باشا من الجهادية ورفع المظالم عن رجال الجندية
ويذكر عرابي في مذكراته أنه بين للضابطين خطورة الحركة ولكنهما أصرا عليها فطلب إليهما أن يقسما له أن يخلصا النية، فأقسما. ولنا أن نتساءل هنا: لم اختير عرابي قائداً لهذه للحركة دون غيره، وقد كان فهمي على رأس حرس السراي وله صلات برجال الحاشية، ولم يكن عبد العال دون عرابي مرتبة وخبرة؟
إن اختيار رجل من الرجال دون غيره لقيادة حركة من الحركات أمر ينطوي لا ريب على معنى. وما ولدت الزعامات في الغالب إلا بهذه الطريقة. ففي ذلك الرجل توجد صفات يتميز بها من سواه فتجتمع عليه القلوب والأهواء في لحظة لا يكون للتنافس الشخصي فيها مجال. وهذا عندي خير مقياس للزعامة، وبخاصة إذا كان هذا الرجل المختار معروفاً من قبل لمن يختارونه فلا يكون إقبالهم عليه إعجاباً وقتياً لا يلبث أن يتبين خطأهم فيه.
ولن يشذ عرابي عن هذه القاعدة فإنما اختاره الضباط لما عرفوا فيه من صفات الجرأة والحماسة والإخلاص، ولما جربوه عليه من الصدق وحسن الطوية. هذا إلى أنه كان يفوقهم(303/49)
من ناحية لا غنى عنها لزعيم من الزعماء ألا وهي فصاحة اللسان، فلقد كان هذا الرجل الذي جعل الجهل في مقدمة عيوبه أفصح الضباط لساناً. ولقد كانت الخطابة إحدى ملكاته حتى ليعد من أخطب رجال ذلك العهد لا في الجيش فحسب بل وبين المواطنين جميعاً
أعد الضباط عريضة بمطالبهم ووقع عليها عرابي وزميلاه وذهب ثلاثتهم فرفعوها إلى رياض باشا وإنهم ليعلمون ما كان ينطوي عليه مثل هذا العمل من جرأة في ذلك الوقت، وكان عرابي هو الذي يتكلم باسم زميليه وباسم الضباط جميعاً كما كان سعد يتكلم حينما ذهب مع زميلين له في مستهل الثورة الثانية إلى مقر المعتمد البريطاني يرفع مطالب المصريين عقب الهدنة
وكان رياض يكره سياسة تقديم العرائض مهما كان من عدالة المطالب، وكان يلقي في السجن أو يحكم بالنفي على من يخطون هذه الخطوات كما حدث للسيد حسن موسى العقاد فقد نفي إلى السودان لأنه انتقد إلغاء قانون المقابلة على الصورة التي جاءت بها لجنة التصفية وكما حدث لكثير غيره ممن أخرجوا من مصر بسبب آرائهم الحرة
وقابل رياض الضباط مغيظاً محنقاً وخاطبهم في كبرياء وغلظة كما يقول عرابي في مذكراته فقال لهم: (إن أمر هذه العريضة مهلك وهو أشد خطراً من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان)، وكان هذا الفتى قد نفي أيضاً لأنه طلب المساواة في المعاملة مع غيره من موظفي الديوان محتجاً على ما كان يجري من محسوبية، ذلك الداء الوبيل الذي لا نعرف متى تتخلص هذه البلاد منه!
أما عن فحوى العريضة فإن عرابي يذكر أنه قد طالب بعودة مجلس شورى النواب إلى جانب المطالب العسكرية، ومع أن أكثر المؤرخين يذكرون أن هذا الطلب لم يأت ذكره إلا فيما بعد. ولكن عرابياً يصر على دعواه في كل ما كتب من تاريخ حياته
على أن الأمر الذي غضبت منه الحكومة هو المطالبة بعزل عثمان رفقي فقد رأت في هذا الطلب نوعاً من التمرد فما دخل الجيش في سياسة الحكومة ليطالب بعزل وزير. وقد كانت الحكومة لا ريب محقة في هذا الغضب، بيد أنها من جهة أخرى لم تسلك إزاء هذه الحركة ما كانت تقتضيه السياسة الرشيدة، فكان عليها أن تبحث في مطالب الجيش فتجيب ما كان منها في جانب الحق ثم تقنعهم بعد ذلك بأن ليس من حقهم المطالبة بعزل رفقي(303/50)
سكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط لسحب العريضة وهم يصرون عليها. وغضب توفيق أشد الغضب وأشار عليه المحيطون به باتباع العنف مع الضباط، ثم نمى إلى رياض أن سكوته قد يفسر بأنه ممالأة للجيش وعدم موالاة للخديو. ويقول مستر بلنت في مذكراته إن الخديو أراد أن ينتهز هذا الحادث للانتقام من رياض فيوقع بينه وبين رجال الجيش.
ولما فطن رياض إلى ما قد يفسر به سكوته وافق على محاكمة الضباط، ووقع الخديو على أمر بمحاكمتهم، ودعي وزير الجهادية الضباط الثلاثة إلى ديوان الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات وهناك ألقي القبض عليهم. . . وبذلك تفتتح لعرابي صفحة في سجل تاريخ مصر
وكان الضباط على علم بما دبر لهم. فلم يكن من العسير عليهم في مثل ذلك الموقف أن يدركوا ما عسى أن تبيته الحكومة لهم من كيد. ولقد قيل أن قنصل فرنسا كان على اتصال بهم فأخبرهم بما عقدت الحكومة النية عليه
واتفق ثلاثتهم مع فرقهم أن تذهب إليهم إذا تأخرت عودتهم عن ساعتين؛ ثم ذهبوا إلى حيث طلب إليهم أن يحضروا، فما كادوا يدخلون وزارة الجهادية حتى ألفوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الجركس فألقي القبض عليهم وسيقوا إلى السجن ثم إلى المحاكمة وقد انعقد لهم مجلس يحاكمهم برياسة عثمان رفقي باشا.
ويحسن أن نورد هنا ما وصف به عرابي موقفهم ساعتئذ قال: (ولما أقفل باب الغرفة تأوه رفيقي علي بك فهمي وقال: لا نجاة لنا من الموت وأولادنا صغار. ثم اشتد جزعه حتى كاد يرمي بنفسه في النيل من نافذة الغرفة فشجعته متمثلاً بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
وتمثل عرابي بأبيات أخرى نسبها إلى السيدة زينب رضي الله عنها إلى أن قال: (فلا والله ما كانت إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاى الحرس الخديو وأحدق رجالهما بديوان الجهادية وأسرع بعض الضباط والعساكر فأخرجونا من السجن، ففر ناظر الجهادية ورجال المجلس وغيرهم من المجتمعين وقصدوا جميعاً إلى سراي عابدين)(303/51)
وإنما نورد ما ذكره عرابي لأنه من جهة يصور لنا جانباً من شخصيته وناحية من ثقافته ويرينا نزعة اتكاله على الله تلك النزعة التي سوف لا تنخلع عنه حتى بعد أن تنخلع عنه عزيمته في مأساة التل الكبير؛ ثم لأنه من جهة أخرى متفق مع ما يقول الرواة فلا ضير أن نورد القصة على لسانه
(يتبع)
الخفيف(303/52)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
389 - لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا
قال مالك بن أبي السمح: سألت ابن سريج عن قول الناس:
فلان يصيب وفلان يخطئ، وفلان يحسن وفلان يسيء، فقال:
المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسّن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النبرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات
فعرضت ما قال على معبد فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا
390 - أحمد الله فقد نقهت
ابن الجوزي: مر غراب الماجن بسائل يقول: أنا عليل وأنا جائع!
فقال: احمد الله فقد نقهت
391 - يوم الأربعاء
ياقوت: لما ولي الحسن بن زيد المدينة منع عبد الله بن مسلم ابن جندب الهذلي أن يؤم بالناس في (مسجد الأحزاب) فقال له: أصلح الله الأمير، لِمَ منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي قبلي؟
قال: ما منعك منه إلا يوم الأربعاء يريد قوله:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهي طربا
إذ لا يزال غزال فيه يفتنني ... يأتي إلى (مسجد الأحزاب) منتقبا
يخبر الناس أن الأجر همته ... وما أتى طالباً أجراً ومحتسبا
لو كان يطلب أجراً ما أتى ظهراً ... مضمخاً بفتيت المسك مختضبا
392 - حتى في القبور!!!
يحيى بن حكم البكري الجياني:(303/53)
أرى أهل الثراء إذا توفوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وتيهاً ... على الفقراء حتى في القبور!
393 - جهال الأطباء هم الوباء في العالم
في (الآداب الشرعية) لابن مفلح: ينبغي (للمرء) أن يستعين في كل شيء بأعلم أهله كما عليه نظر عقلاء الناس؛ لأن الأعلم أقرب إلى الإصابة. ولمالك في الموطأ: (عن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصابه جرح، فاحتقن الجرحُ الدم، وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه، فزعما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لهما: أيكما أطبّ؟ فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء). فأما الجاهل فلا يستعين به. قال ابن عقيل في (الفنون): جهال الأطباء هم الوباء في العالم، وتسليم المرضى إلى الطبيعة أحب إليّ من تسليمهم إلى جهال الطب
394 - الأعميان الخبيثان. . .
ابن الجوزي: أخبرنا علي بن المحسن عن أبيه قال: أخبرني جماعة من شيوخ بغداد أنه كان بها في طرف الجسر سائلان أعميان، أحدهما يتوسل بعليّ والآخر بمعاوية، ويتعصب لهما الناس، ويجمعان القطع، فإذا انصرفا اقتسما القطع، وكان يحتالان بذلك على الناس
395 - فينظر أيهدى له أم لا؟
في (كتاب الأم) للشافعي: استعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلاً من الأزد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي إليّ. فقام النبي (صلى الله عليه وسلم) على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليّ؟ فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيُهدى له أم لا؟
936 - يا لون شعر الصبا
قال أبو بكر يحيى بن محمد الأنتقيري: كنا مع العجوز الشاعرة المعروفة بـ (ابنة ابن السكان) المالقية فمر علينا غراب طائر فسألناها أن تصفه فقالت على البديهة:
مر غراب بنا ... يمسح وجه الربى(303/54)
قلت له: مرحباً ... يا لون شعر الصِّبى!
397 - أتتكم شهود الهوى تشهد
دخل أبو القاسم نصر بن احمد الحميري على أبي الحسين بن المثنى في آخر حريق كان في سوق المربد، فقال له أبو الحسين المثنى: يا أبا القاسم، ما قلت في حريق المربد؟ قال: ما قلت شيئاً. فقال له: وهل يحسن بك وأنت شاعر البصرة - والمربد من أجل شوارعها وسوقه من أجل أسواقها - ولا تقول فيه شيئاً؟ فقال ما قلت ولكني أقول وأرتجل هذه الأبيات:
أتتكم شهود الهوى تشهد ... فما تستطيعون أن تجحدوا
فيا مريديون ناشدتكم ... على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صُعُداً نحوكم ... فمن أجله أحترق المربد
وهاجت رياح حنيني لكم ... وظلت به ناركم توقد
ولولا دموعي جرت لم يكن ... حريقكم أبداً يخمد(303/55)
الغرام الجديد
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
تفضلت فسألت مرة أو مرتين أو مرات عن سبب احتجابي عن قراء الرسالة، وكانت حجتي في الاعتذار أن كتاب (ليلى المريضة في العراق) لم يُبق من قواي ما أصلح معه لمقابلة الناس في جِدٍ أو مزاح، وقد تلطفت فقبلت عذر أخيك، وصفحت عن تقصيره إلى حين
فما رأيك إذا حدثتك بأني كنت في نشوة شعرية لم أصح منها إلا اليوم؟
كنت يا صديقي مشغولاً بنظم قصيدة (الغرام الجديد) وهي تقع في مائة بيت، وذلك الغرام هو يا صديقي نفحة من نفحات القاهرة في مطلع الربيع. هو ثورة وجدانية تعتاد من يفيق من غفوة القلب حين يتنسم أرواح الأزاهير على ضفاف النيل
أعاذني الله وإياك من غفوة العواطف، وحماني وإياك من الغفلة عن تنادي القلوب!
يا قلبُ هذا نعيمٌ ... من الصفاء وليد
يا قلب هذا سعيرٌ ... من الغرام جديد
لقِيتُه وفؤادي ... غافٍ قَريرُ السرائر
فعدتُ أحيا بروحٍ ... مشرّد الأنس حائر
مَن مُخبري عن نصيبي ... من ظلّ هذا النعيم؟
من مخبري عن مصيري ... في لفح هذا الجحيم؟
كيف انتهينا؟ أجبني ... يا قلب كيف انتهينا؟
أللنعيم وصلنا؟ ... أم في الجحيم ثوينا؟
وبالوصال اصطباحُكْ ... يا قلبُ أم بالصدود؟
وبالسهاد اغتباقك ... يا قلب أم بالهجود؟
يا قلبُ طالت شكاتُكْ ... من الخدود الأسيلة
فكيف تُرجَى نجاتُك ... من العيون الكحيلة؟
أحبُّ نور الضلال ... في ضافيات الغدائر(303/56)
ويزدهيني الخبال ... في غافيات النواظر
رباهُ ماذا تريد ... من فتنتي بالعيون؟
رباهُ ماذا تريد ... من محنتي بالشجون؟
أأنت يا ربّ راضٍ ... عن حيرتي في الهُيام
إن كان هذا فإني ... إذاً نبيُّ الغرام
عصرت راح غرامي ... من زاهرات الخدود
وكان نُقل مدامي ... من ناهدات النهود
يطوف بالحسن روحي ... في صبحهِ والمساء
فيجتني من شَذاهُ ... وشوكهِ ما يشاء
عن أكؤسي ودموعي ... روى رحيقُ الخلود
عن مهجتي وضلوعي ... رَوَى سعيرُ الوجود
عن شقوتي في هيامي ... رَوَى ظلامُ الليالي
وعن صفاء زماني ... رَوَى صفاء اللآلي
أنا الشقيُّ السعيد ... في لوعتي وشجوني
أنا الغويّ الرشيد ... في صبوتي وفتوني
من الهوى والأماني ... ومن زهور الجنان
ومن فنون المعاني ... رسمتُ وجه الزمان
لولا غنائي وشعري ... لمات رُوح الوجود
لولا بياني ونثري ... لضاع سرُّ الخلود
في الثغر والصبح معنىً ... لمن أُحبُّ شرحتُهْ
في الحِبر والليل سرٌّ ... أظنني قد فضحتهْ
السحرُ يأخذ عني ... عِلم اختدِاع النفوس
والخمر تنقل عني ... عِلم انتهاب الرءوس
ما السيف في يد عاتٍ ... مضلَّل الرأي جاني
يوماً بأفتك مني ... إذا امتشقت بياني(303/57)
الغيُّ لو شئتُ ركنٌ ... من الرشاد ركينُ
والشكُّ لو شئتُ حصنٌ ... من اليقين حصينُ
للعقل عندي فنون ... وللجنون مذاهب
عندي بياض الصباح ... عندي سواد الغياهب
إن كان في الناس قومٌ ... رأوا هلال السماء
ففي سرائر قلبي ... والروح ألف ذُكاء
ما عندكم؟ حدثوني ... يا أخوتي في الجنون
فبي غرامٌ وشوقٌ ... إلى حديث الفُتون
من الذي طاف منكم ... ليلاً بتلك المناسك
ومن هداه هواهُ ... إلى ضلال الزمالك؟
في ذلك الدوح غصنٌ ... لولا العفافُ هصرتُهُ
في ذلك الروضُ زهرٌ ... لولا الحياء قطفْتُه
أباحني في التداني ... والبعد عزّ الفضيحة
وذاك لو يرتضيهِ ... في الحبِّ خيرُ مَنِيِحه
لقيتُهُ ذات يومٍ ... في العصر عند الجزيرة
والنيل سكرانُ صاحٍ ... مثل العيون الكسيرة
لقيتُ من لو دعاني ... إلى الفداء فديتُهُ
لقيتُ من لو دعاني ... بعد الممات أجبتُهُ
لقيتُ فيه وجودي ... وكان بالصحو زالْ
فعدتُ نشوانَ حيَّا ... أعيش عيش الضلال
رأيتُ حين رأيتُهُ ... ما سوف يجني الصفاء
فصاح روحيَ يهذي ... ما الحبُّ إلاَّ بلاء
أذاك نورٌ جديد ... يلوح في قلب شاعر
أم ذاكَ روحٌ مَريد ... يصول في قلب ساحر
كان الفؤاد استراح ... من فاتكات الشجون(303/58)
فمن إليهِ أتاح ... كيد الهوى والفتون
أفي ظلال الجزيرة ... وفي شِعاب الزمالك
يهيم روحي ويشقى ... ويلاهُ مما هنالك!
يا ليتني ما رأيتُكْ ... يا أجمل الحافظين
يا ليتني ما عرفتُكْ ... يا أقبح الغادرين
ما أنت والزهرات ... على خدود الملاح
يا لوعتي في المساء ... وفتنتي في الصباح
أثرتَني للصِّيال ... يا أُقحُوان الرياض
وهجِتني للقتال ... يا أُفعُوان الغياض
أأنت ترمي وتمضي ... إلى رِحاب الخلاص
غرتْك نفسُك فاعلمْ ... أن الجروحَ قصاص
في لحظ عينيك نبلٌ ... وفي عيوني نبال
ونظرةُ الليث قيدٌ ... لألفِ ألفِ غزال
حاول خلاصك واسلُكْ ... إلى النجاة المذاهب
فلن يفوتك سهمي ... ولو علوتَ الكواكب
الرأيُ، الرأيُ عندي ... إذا نشدتَ الأمان
أن تستحيل نسيماً ... ونفحةً من حَنان
عندي وفي ظل حبي ... تحسُّ روح الوجود
وفي ضريم غرامي ... ترى شُعاع الخلود
أنا النجيُّ القريب ... من القلوب الشوارد
أنا الظلوم الحبيب ... إلى الصدور النواهد
رباهُ ما الصادحات ... من ضاحكات الأماني
رباهُ ما النائحات ... من شاديات المثاني
رباه ما الشارقات ... من النجوم الثواقب
رباه ما الغاربات ... من الظنون الكواذب(303/59)
رباه كيف تراني ... وكيف حاليّ عندك؟
هل كنت في كل حالٍ ... إلا فتاك وعبدك؟
الكون، ما الكون؟ قل لي ... يا مُبدعَ الكائنات
هل كان إلا مَراحاً ... لأنفُسٍ حائرات؟
أريتَنِي في هواك ... ما يُوحش الصابرين
فهل أرى من نداك ... ما يؤنس الشاكرين
رباه أنت الأمين ... على خفايا الغيوب
فهل تكون المُعين ... على مآسي القلوب
خاصمتُ فيك أناساً ... حجبتَهم عن جمالِكْ
فأرجفوا بي وظنوا ... أني ضللت المسالَك
قلبي وعقْلي وروحي ... نسائمٌ من شذاك
فهل يكون ضلالي ... إلا بقايا هداك
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(303/60)
رسالة العلم
الأشعة الكونية
للدكتور محمد محمود غالي
(تحجب ورقة رقيقة أشعة الشمس عن أعينا ولا تحجب كتلة من الرصاص سمكها بضعة أمتار الأشعة الكونية التي تخترق أسقف منازلنا أينما وجدت وأجسامنا أينما تكون)
تحدثنا عن نملة افترضنا أنها تتأمل خرجت لأمل مرة في حياتها من مكمنها، فوجدت نفسها بطريق المصادفة في سرادق تكسو أرضه أبسطه وتعلوه أنوار ويؤمه كثير من الزائرين. انطفأت الحياة فيها قبل أن تتاح لها الفرصة لتعرف ما عسى أن يكون في الوجود غير ما يجول بداخل السرادق الفسيح، وذكرنا أن الدنيا عند هذه النملة فضاء تضيئه أنوار وتحيط به أقمشة وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل آيات، ونادل يتحرك بين الحاضرين
دخلت السرادق نملة أخرى، ظلت تسير على الأبسطة وتحت الأنوار وتتابع السير في مأمن من النادل والفقيه، وعوضاً عن أن تقضي نحبها اهتدت إلى كومة الرمل التي خرجت منها الأولى وصادفت داخل الكومة إحدى بنات جنسها تتأمل عالمها الذي تراه لأول مرة من ثقب السجاد، هذا العالم الذي لازال ينحصر عندها في سرادق وفقيه ونادل وأنوار وزائرين
تحدثت الزائرة إلى جارتها: لا تظني أن الدنيا هي هذا السرادق المحدود، فقد رأيت رأى العين قبل الدخول فيه قاطرة يتصاعد الدخان منها، ورأيت فريقاً من بني الإنسان يجتمع في مركبات تجرها القاطرة، وعند ظني أنهم اجتمعوا لغاية واحدة، هي أن يصلوا جميعاً إلى مكان معلوم، يغلب على ظني أنه بعيد جد البعد عنا، فقد كانت القاطرة تنهب الأرض بسرعة تختلف كثيراً عن سرعة إخوانهم الراجلين
شد ما تختلف هذه المعلومات الجديدة لدى النملة التي تتأمل، وشد ما تختلف هذه الصورة الجديدة للدنيا عندها، فهذه القاطرة وهذه السرعة طفرة في معارفها، لم تخطر لها على بال
في العلوم وثبات تحدث في فترات بعيدة من الوقت، تُعد للإنسان كهذه المعارف بالنسبة للنملة
عندما اكتشف رنتجن في سنة 1895 الأشعة السينية كانت هذه الأشعة وثبة في العلوم لم(303/61)
يسبق للناس عهد بها. وعندما وفق (بكارل وكيري لاكتشاف المواد المشعة كالراديوم، ظن فريق من الناس أن طاقة هذه الأشعة الجديدة التي تزيد مئات وألوف المرات على كل ما نعهده من طاقة وإشعاع، ستكون نهاية ما نعرفه من الغرائب، ولكن عندما اكتشف العلماء، وفي مقدمتهم العالم هيس الأشعة الكونية التي تزيد طاقتها آلاف المرات على طاقة إشعاع الراديوم، أيقنا أننا لا زلنا في مهد الطفولة في العلوم بالنسبة لما يخبئه لنا القدر من معارف يتضاءل إزاءها كل ما بلغناه
هذه الأشعة الكونية التي تتصل بصميم العلوم الطبيعية الحديثة تنبئنا بأغرب ما نعرف من المعلومات عن الكون الذي نعيش فيه. وقد شَغَلتُ نفسي بموضوعها في السنين الماضية عندما كانت موضوع رسالتي الثانية، للحصول على دكتوراه الدولة في العلوم من السوربون. وإنه ليسرني أني حاضرت عنها الأسبوع الماضي فريقاً من طلبة كلية الطب في جمعيتهم العلمية كما سأحاضر عنها جمعاً من زملائي في جمعية المهندسين الملكية في يوم الخميس 4 مايو القادم. وهأنذا أحاول أن يقف قراء الرسالة في مصر والبلاد الشرقية على أغرب ما يعرفه العلماء اليوم، فأحدثهم عن موضوع بات يشغل بال الكثيرين منهم، وغايتي أن أعطي القارئ لمحه سريعة عن الحقائق المعروفة بصدد هذا الموضوع، وعن التطورات التي تناولته، فيلم بموضوع تزداد أهميته كل شهر عن سابقه، ويهتم له كثير من الباحثين في كل أنحاء المعمورة، نذكر منهم بلاكت في إنجلترا وكونتون ومليكان بأمريكا، ورُوَّسي وتلميذه بيندتي بإيطاليا، وزميليّ بْيِير أوجبيه ولبرانس رينجيه بفرنسا، وأخيراً العالم الإيطالي فرمى الحائز على جائزة نوبل للطبيعة في ديسمبر الماضي
ربما كان وصف هذه الأشعة بالكونية أقرب للواقع، فسوف نرى أنها لا تمت إلى مجموعتنا الشمسية بشيء، بل ربما لا تمت لعالم المجرة المكون من حوالي مائة ألف مليون نجم، والتي شمسنا إحدى نجومه، بأي صلة. وربما كان وصفها (بالأشعة النافذة) قريباً للواقع أيضاً، لأنها تمتاز بقوة اخترقتها العجيبة للأجسام، فبينما نستطيع عندما نتحول في الخلاء أن نحجب أشعة الشمس بقطعة رقيقة من الورق، فإن أسقف بيوتنا لا تكفي لتمنع هذه الأشعة من اختراق منازلنا فحسب، بل أجسامنا بعدها لا تكفي لذلك. وبينما لا تنفذ الأشعة(303/62)
السينية (أشعة إلا في بضعة مليمترات من المادة الصلبة، كما لا تخترق أشعة الراديوم سوى بضعة سنتيمترات مثلاً منها، فإن كتلة من الرصاص يبلغ سمكها متراً لا تحجب سوى نصف الأشعة الكونية. وإنه لا تكفي أحياناً كتلة من الرصاص سمكها حوالي عشرة أمتار لكي تحجب كل جسيمات هذه الأشعة. وسنرى كيف يسجل العلماء على الورق الحساس، مسار جسيمات هذه الأشعة العجيبة بعد اختراقها كل هذه المادة، وكيف ابتكروا جهازاً ينذر بسماع كل جسيم يمر من هذه الجسيمات النافذة والسريعة التي تمطرنا بها السماء والتي لا تمت لعالمنا بشيء
في محاضرة للعالم الشاب بيير أوجيه ألقاها في جماعة العقليين في باريز سنة 1934 عن الأشعة الكونية سمعت لانجفان العالم المعروف باكتشاف للأيونات الكبيرة وباكتشافه طريقة لمعرفة أعماق البحار بواسطة الموجات الصوتية، يقول مقدماً (أوجيه):
(إن الأشعة الكونية موضوع الأسرار والعجائب فهي تخترق أجسامنا طُرّا ولا زلنا عاجزين عن أن نعرف مصدرها أو أثرها علينا)
هذا ما يَجْهَرُ به (لانجفان) العالم الكبير؛ وليس ما يجهر به لويس دي بروي (العالم الشاب المعدود اليوم من أكبر أساطين العلماء) في تقدمة كتاب زميلنا (لبرانس رنجيه) متكلما عن الأشعة الكونية بأقل شأناً من ذلك. يقول دي بروي:
(أي ثروة عظيمة امتازت بها العلوم الطبيعية منذ بضعة سنوات، وأي باب هام وجديد في العلوم لا زال يدخر لنا بلا شك مفاجآت أخرى عجيبة ونادرة)
ويكفي، لمعرفة موضوع الأشعة الكونية، أن يذكر القارئ أن المؤتمر الدولي للعلوم الطبيعية الذي انعقد في لوندرة سنة 1933، حصر دراسته في ثلاث مسائل:
الأولى: الحالة الصلبة
الثانية: الاكتشافات الحديثة في تهدُّم المادة وتحول العناصر بعضها إلى بعض
الثالثة: الأشعة الكونية.
تختلف طاقة الأشعة الكونية أو النافذة كما قدمنا عن طاقة الأشعة الراديومية. فبينما لا تتجاوز طاقة أشعة الراديوم عشرة ملايين إلكترون فولت. تبلغ طاقة الأشعة الكونية مئات بل ألوف الملايين الإلكترون فولت، وهذه الطاقة تجعلنا في الواقع إزاء ظواهر تختلف(303/63)
كثيراً عن الظواهر التي اعتدناها.
على أن ما يجعل الأبحاث الخاصة بهذه الأشعة تختلف عن كل ما عداها من الأبحاث العلمية: هو عدم الجزم بمعظم النظريات الخاصة بها حتى الآن. فمعلوماتنا ما زالت لا تُجيز معرفة خواص إشعاع له مثل هذه الطاقة، حتى أنه لا يجوز لنا أن نُعامل هذه الظواهر بالطرق المعروفة في الضواهر الطبيعية الأخرى، فمثلاً لا يجوز لنا أن نجزم بأن طاقة هذه الأشعة تتناسب مع قوة اختراقها للمواد. ومما يزيد في صعوبة دراسة هذه الأشعة العجيبة افتقارنا إلى نظريات معقولة بصددها؛ وليس الأمر أن لدينا من النظريات ما نُفاضل بينها ونَتخير الأوفق منها، بل إنه ليس لدينا نظريات معقولة إطلاقاً. حتى أن بعض العلماء يميل إلى اعتبار الأشعة الكونية حالة علمية جديدة، تختلف قوانينها عن حالة العالم، أو الكون الذي نعيش فيه اليوم؛ وإنه ليس من المحال أن تكون هذه الأشعة بقايا (أركيولوجية) ترجع إلى تاريخ بعيد جداً في الوجود، يقدر من السنين بالآلاف من الملايين، كانت الدنيا فيه أحدث عمراً، وكانت تختلف الطاقة والقوى والقوانين كل الاختلاف عن عهدنا بها اليوم
على أننا ندع مؤقتاً فكرة العلماء هذه، ونسير بالقارئ أولاً إلى التعرف عن الناحية الشَّيْئِية أو الفعلية عن هذه الأشعة.
ثلاثة أمور أدركها العلماء، وعرفوها في الظروف العادية، خاصة بهذه الأشعة:
الأمر الأول: تصل لنا جسيمات صغيرة مكهربة كأنها قذائف وتخترق أجسامنا بسرعة كبيرة، وقد دلت عليها مسارات مستقيمة هي أثر لعملية التأيين الحادثة من مرور هذه الجسيمات
الأمر الثاني: عندما تلتقي هذه الجسيمات السريعة بالمادة، وبالأحرى بكتلة هامة منها كقطعة سميكة من الرصاص، تظهر في المادة حزمات لجسيمات أخرى مثل نيترونات أو بوزيتونات أو ذرات ثقيلة، تقذف من المادة نفسها بعيدة عن مركزها الأصلي بسبب مرور جسيمات هذه الأشعة فيها.
الأمر الثالث: يحدث كل هذا، أي تصل هذه القذائف، ويقع هذا التخريب في المادة، في أي زمان ومكان على سطح الأرض تقريباً بالنسبة ذاتها، فترانا معرضين لفعل القذف المستمر(303/64)
بمعدل مقذوف في كل دقيقة على كل سنتيمتر مربع في الوضع الأفقي من سطح الأرض؛ فمثلاً تستقبل راحة اليد (باعتبار مساحتها حوالي 60 س م2) مقذوفاً في كل ثانية، ينفذ منها كما تنفذ الرصاصة من قطعة من الكارتون، وعلى حد تقدير روسي أستاذ بادو، تُضرب الأرض بمعدل مقذوف واحد في كل ثانية لكل ديسمتر مربع من سطحها.
يعترضنا بعد هذا الوصف الموجز مسألتان:
الأولى: ما اثر هذه المقذوفات على المادة التي تقابلها؟
الثانية: ما هي طبيعة وأصل هذه القذائف؟
والمسألة الأولى تخص فيزيقا النواة، والثانية تخص الفيزيقا الأرضية، وكلاهما موضوعان حديثان لهما خَطَرهُما في العلوم الطبيعية ويختلفان عن الموضوعات العادية، وذلك بصغر الظاهرة المراد قياسها ودقة التجارب الخاصة بهما، وخطورة الرحلات المتعلقة بهما، سواء ما كان منها في الجو أو على قَمِم الجِبال أو في أعماق البحار؛ كذلك مهارة التحليل العلمي وعظمة الاستنتاج وقوة الاستقراء. كل هذه تجعل من الموضوع بالنسبة لنا موضوعاً يشبه موضوع القاطرة بالنسبة للنملة التي افترضنا أنها تتأمل: وهو ما أود أن يشعر به القارئ في مقالاتنا القادمة
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(303/65)
اكتشاف أشعة جديدة
اكتشف الأستاذ ألفريد توما مدير معهد الشرق - أشعة ايثيرية واصله إلى أرضنا من مصدر الكون الأعلى وقد ألقى عنها محاضرة بالحفلة التي أقيمت بالدار الماسونية الكبرى مساء يوم الخميس 30 مارس سنة 1939 حيث تكلم عن حياتنا القادمة في العالم الأيثيري وعن مصدر الأشعة الأيثيرية التي اكتشفها وقد اثبت منافع اكتشافه للطب في مختلف الأمراض كالروماتزم، والشلل الحديث، والتهاب المفاصل، والربو، وكثير من الأمراض الصدرية؛ فعرضت عليه في نفس الجلسة مرضى بحالات مستعصية ومزمنة فأتت في الحال بنتائج حسنة كانت موضع إعجاب ودهشة الحاضرين من الأطباء والخبراء وضباط البوليس وأساتذة المحفل الماسوني وغيرهم، مما حمل الكثيرين للتوجه لإدارة معهده الكائن بشارع الخليج المصري 719 بغمرة لتحقيق بعض التجارب في حالاتهم المستعصية، ومما يؤيد هذا توقيعات بعض الحاضرين من ذوي الحيثيات والشخصيات البارزة:
الدكتور أيفانوف، الدكتور سليم إبراهيم، اللواء علي باشا شوقي، القطب الأعظم، طه أفندي السيد (الضابط)، الأستاذ نسيم فهمي ميخائيل (مدير كلية أكسفورد)، الأستاذ عباس غالب (المدرس)، الأستاذ نصيف ميخائيل (المحامي)، محمد بك سعيد هيبه (مفتش عام مصلحة التلغرافات)، الأستاذ سعيد بخيت (الخبير بالمحاكم الأهلية)
ما هي الحياة وكيف ظهرت على الأرض؟
غريزة الخير والشر
وكيف نشأت في الإنسان والحيوانات الاجتماعية؟
للأستاذ نصيف المنقبادي
تتبعت بإمعان المقالات الممتعة التي يتحف بها العالم الأخلاقي المحقق الأستاذ محمد يوسف موسى قراء الرسالة. ولكني رأيت فيها المفكرين والفلاسفة حيارى لا يدرون كيف يعللون قيام الأخلاق أو الغريزة الأخلاقية في الإنسان تعليلاً صحيحاً، وهم يتخبطون في البحث عن مصدرها الحقيقي، شأن كل تحقيق لا يستند إلى العلم ولا يدخل في حسابه نواميس الطبيعة وفعل العوامل الطبيعية ولا يقوم على المشاهدة والاختبار. وقديماً كانت المذاهب(303/66)
التي لا تستند إليهما، بل الفلسفة كلها (عدا الفلسفة اليونانية وفلسفة ابن رشد المأخوذة عنها) حجر عثرة في سبيل تقدم العلم، وهو - أي العالم - لم ينهض نهضته العظيمة الحالية إلا حينما تحرر من تلك المذاهب القديمة وأساليبها العقيمة البالية ووقف أمام الطبيعة يستقصي منها رأساً النواميس التي تدير الكون بأسره بما فيه كرتنا الأرضية المتواضعة، وما عليها من ظواهر ومواد متنوعة، منها الكائنات الحية والبشر وخواصها وتفاعلاتها وطبائعها منفردة ومجتمعةً
لهذا رأيت أن أبين هنا رأي علم البيولوجيا في الأخلاق باعتبارها ظاهرة طبيعية قائمة في الإنسان وفي الحيوانات الاجتماعية الأخرى كالنمل وغيره
وفي الوقت نفسه سيأتي هذا البحث مكملاً لما جاء في المقالات الأخيرة التي نشرناها على صفحات الرسالة عن وحدة الكائنات الحية (بما فيها الإنسان) والجمادات واشتقاق الأولى من الثانية وكيف أنه لا يدير الأحياء ولا يعمل فيها إلا النواميس الطبيعية، وأن جميع ظواهر الحياة حتى التفكير والغرائز (ومنها الغريزة الأخلاقية التي سيأتي الكلام عليها) والقوى العقلية على العموم ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء أو بالأحرى الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء كما شرحنا ذلك كله بالتفصيل في مقالاتنا الأخيرة.
الحياة الاجتماعية منشأ الغريزة الأخلاقية
كان أجدادنا البعيدون اللذين تسلسلنا منهم يعيشون فرادى في الغابات يتسلقون أشجارها ليقتاتوا ثمارها، ثم في المغاور والكهوف في العصر الجليدي الذي دام نحو مائة ألف سنة، فكان الواحد منهم عرضة لجميع أنواع المهالك كهجمات الحيوانات المفترسة لا يستطيع أن يردها بمفرده، كما أنه كان يعجز عن القيام بالصعب من الأعمال في سبيل الحصول على غذائه كصيد فريسة كبيرة مثلاً، أو في سبيل تهيئة مأوى صالح له
ولكنهم لحظوا، مع مرور الزمن، أنه كلما سار فريق منهم مجتمعاً سهل عليه التغلب على العدو المهاجم واستطاع القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً
وهكذا دلتهم خبرتهم شيئاً فشيئاً مدة ألوف السنين على أن بقاءهم مجتمعين أجدى عليهم وأصلح. وهذا هو منشأ الحياة الاجتماعية وأول صورة من صورها
غير أن اجتماعاتهم هذه كانت في بادئ الأمر قصيرة الأجل لأن الواحد كان يبطش بالآخر(303/67)
كلما سنحت له الفرصة ليستولي عنوة أو خلسة على إناثه أو ما يكون قد حصل عليه من فريسة أو غذاء أو مأوى أمين، فلا تطيق الجماعة الحياة المشتركة، ولا يلبث أفرادها حتى يتفرقوا تخلصاً من اعتداء بعضهم على بعض. وحينئذ يشعر كل منهم بضعفه وهو منفرد أمام الأخطار التي تهدد حياته في كل حين وأمام الصعوبات التي يلاقيها في سبيل الحصول على غذائه
وهنا تدعوهم الظروف الطارئة مرة أخرى إلى مقاومة عدو قويّ أو زحزحة صخرة ضخمة، أو مهاجمة فريسة كبيرة، ثم يتشتتون، ثم يجتمعون، وهكذا. وفي كل مرة يزدادون اقتناعاً - أو بعبارة أصح - يزدادون شعوراً بفوائد الحياة الاجتماعية ومزاياها لكل واحد منهم
وأخيراً فطنوا إلى أنه لا بد لبقائهم مجتمعين من اتباع بعض قواعد كانت في أول الأمر على أبسط صورها مثل احترام حياة الغير وإناثه وملكيته. وهذا هو بدء ظهور الأخلاق بين أفراد النوع الإنساني، وهي كما ترى وليدة المنفعة - منفعة الجماعة وبالتالي منفعة كل فرد منهم على حدة - فمنفعة الجماعة أو الهيئة الاجتماعية هي أساس الأخلاق، فهي التي دعت إليها وحملت الناس على اتباعها والتحلي بها، لأن الحياة الاجتماعية التي اقتنع بنو الإنسان بفوائدها وجنوا ثمارها لا بدّ للمحافظة عليها من احترام حياة الغير وملكيته وغير ذلك من القواعد التي سُمَّيت بالأخلاق، وإلا اضطر كل فرد أن يهرب من غيره فتضيع عليهم تلك المزايا، مزايا الحياة جماعة
وعلى هذا النحو تكوّنت الجماعات القليلة العدد ثم العشائر ثم القبائل ثم الشعوب. وكلما زاد ارتباط الأفراد وعاشوا مجتمعين تقدمت الروح الاجتماعية أو روح التضامن وارتقت الأخلاق واتسعت قواعدها ورسخت أصولها في النفوس إلى أن أصبحت غريزية في الإنسان أو كادت. ذلك لأن كل صفة مكتسبة تصبح غريزةً مع الاستعمال والاعتياد ومع انتقالها بالوراثة من جيل إلى جيل ومن نسل إلى نسل. وهذه هي ماهية الغريزة كما عرفها هربرت سبنسر وإدمون برييه وغيرهما من علماء البسيكولوجيا والبيولوجيا. فإذا درّبنا مثلاً الكلاب العادية على الصيد وفعلنا هذا مع ما يتعاقب من نسلها فإن الأمر ينتهي بنا إلى أن نحصل على نسل من الكلاب يعرف بغريزته أساليب الصيد ومقتضياته بلا أي تدريب.(303/68)
وما كلاب الصيد المعروفة الآن بهذا الوصف إلاّ كلاب عادية تدرّب أجدادها على تلك الصفة إلى أن أصبحت غريزة فيها
ومن أهم العوامل التي قربت بين أفراد النوع الإنساني في بادئ الأمر ظرف طارئ طبيعي محض هو قيام العصر الجليدي الأمر الذي اضطر أفراد الإنسان أن تلجأ إلى المغاور والكهوف لتتقي البرد القارس الذي اشتد في ذلك العصر البعيد. ونظراً لأن عدد تلك الملاجئ كان محصوراً عاشت الناس فيها بطبيعة الحال جماعات جماعات. وإلى ذلك العصر يُعزى تعلم الناس تغطية أجسامهم بجلود الحيوانات الأخرى ليحموا أنفسهم من البرد الشديد. فترتب على ذلك من جهة قيامُ غريزة الحياة فيهم، ومن جهة أخرى زوال معظم الشعر الذي كان يُغطي أجسامهم
وحين وصل النوع الإنساني إلى درجة تذكر من التفكير نشأت الأنظمة السياسية البسيطة والشرائع الأولية فزادت في تقريب الناس بعضهم من بعض، وتوثيق عرى الروابط الاجتماعية بينهم، ونظمت قواعد الأخلاق ورغّبت الناس فيها بما صورته لهم من العقاب لمن خالفها والثواب لمن اتبعها
ومن الأسباب التي ساعدت أيضاً على ربط الناس بعضهم ببعض التجارة والمعاملات وتبادل المحصولات والصناعات بين الأفراد والجماعات
ومن العوامل القوية في تحضير الجماعات البشرية وتمدينها ووضع حد لحالة البداوة والتنقل، الزراعة وما تستوجبه من البقاء في الأرض لرعاية المزروعات وجني محصولاتها. ولا يفوتني أن أنوه هنا بفضل نهر النيل العظيم وفيضاناته السنوية وما يعقب كل فيضان من خصوبة في الأرض لا مثيل لها، وأن بعض علماء الاجتماع يرى أنه هو الذي علم الناس الزراعة، ولذلك كانت مصر منشأ المدنية وأصل الحضارة في العالم
ثم ارتقت الحياة الاجتماعية فنشأت فوق الغريزة الاجتماعية (التي بين مظاهرها القومية أو الوطنية) عاطفة جديدة في الأمم الراقية هي عاطفة الإنسانية أي حب مجموع البشر بلا تمييز بين الأجناس والملل، كما وجدت فوق القواعد الأخلاقية الأصلية التي أصبحت غريزية أو كادت على الوجه المتقدم بيانه، ما يسمونه بآداب السلوك وقواعد التربية وحسن المعاملة(303/69)
وبالجملة فإن الأساس العلمي الصحيح للغريزة الأخلاقية أو غريزة الخير والشر إنما هو المصلحة - مصلحة المجموع قبل كل شيء - وعلى هذا يكون التعريف الطبيعي للفضيلة أنها كل ما يعود على المجتمع الإنساني بالخير، والرذيلة كل ما يلحق به من الضرر. وفي مصلحة المجموع مصلحة كل فرد على وجهها الصحيح كما تقدم بيانه
على أن الغريزة الأخلاقية قد رسخت الآن في نفوس الأمم المتمدينة وعلى الأخص في شمال أوربا، وتجردت في الظاهر من صفتها المصلحية أو النفعية إلى حد أن أصبحت تلك الشعوب تحب الفضيلة لذاتها وتمقت الرذيلة وتنفر منها لأنها رذيلة ليس إلا
وليس النوع الإنساني هو النوع الاجتماعي الوحيد بين الحيوانات، فإنه توجد أنواع أخرى أعرق منه في الحياة الاجتماعية وأقدم مثل أنواع النمل التي تغلبت فيها الغريزة الاجتماعية وبالتالي الأخلاقية على الفردية أو غريزة حب البقاء. فترى أفراد تلك الأنواع تقوم بأشق الأعمال مثل حفر السرادب تحت الأرض، أو البحث عن الغذاء، ونقله المسافات الطويلة وادخاره لمصلحة المجموع. وهي تفعل هذا في نشاط، وبمحض إرادتها دون أن يأخذها الكلل أو الملل، ودون أن يكون عليها رقباء منها يدفعونها إليه. بل هي الغريزة الاجتماعية، وما يتبعها من الغريزة الأخلاقية، التي تحملها على ذلك. وكثيراً ما تضحي أفراد النمل بنفسها، وتقدم حياتها عن طيب خاطر إذا ما دعت مصلحة الجماعة إلى ذلك، وهي تتحلى بهذه الفضائل الحميدة بفطرتها الغريزية نتيجة حياتها مجتمعةً مدة ملايين السنين منذ أوائل العصر الثاني من الأعصر الجيولوجية.
أما النوع الإنساني فلم تتمكن فيه بعد الغريزة الاجتماعية والأخلاقية إلى هذا الحد، لأنه حديث العهد بالحياة الاجتماعية حيث أنه لم يمض عليه إلا نحو مائتين وخمسين ألف سنة، وهو على هذا الحال لأنه ظهر في أواخر العصر الثالث.
وخلاصة القول أن الأخلاق ليست وليدة تعاليم خاصة، ولا هي وقف على مذهب دون آخر أو طائفة دون غيرها، وإنما هي ظاهرة طبيعية تطرأ على الحيوانات الاجتماعية مثل الإنسان والنمل نتيجة لازمة لحياة أفرادها جماعة، وقد أصبحت غريزة متأصلة في أنواع النمل، وهي غريزة في دور التكوين في النوع الإنساني
على أن الأخلاق سوف تتأصل في الإنسان مع مرور الزمن الطويل، وترتقي بارتقاء حياته(303/70)
الاجتماعية فيأتي يوم في المستقبل يسود فيه التضامن التام بين الناس وتعم الروح الاجتماعية ويزول الشر من النفوس، وتمتنع الجرائم والحروب وتنتشر الفضيلة، ويصبح الإنسان مطبوعاً على الخير وحب المجموع بغريزته وتقفل المحاكم والسجون أبوابها.
وقد تزول الحكومات على ما يتوقع هربرت سبنسر، وغيره من علماء الاجتماع، ويخلص الناس من نير الأحزاب السياسية ومساوئها وغرور زعمائها وعبثهم بعقول الناس، وتمجيد الجماهير البلهاء لهم؛ ويكون العلم قد قهر الأمراض، وعالج الشيخوخة، وتغلب عليها (وما هي إلا مرض كسائر الأمراض الأخرى، عبارة عن تسمم تدريجي نتيجة التغذية يضاعفه فعل كريات الدم البيضاء المفترسة) فتطول حياة الإنسان، وقد يمتنع الموت وهو ليس بنتيجة لازمة للحياة بدليل الحيوانات والنباتات الخالدة، وهي الأحياء الأولية ذات الخلية الواحدة، مما سنشرحه في مقال قادم. ويكون بنو الإنسان قد حلوا المشكلة الاجتماعية الكبرى الخاصة بتوزيع العمل وخيرات الطبيعة بينهم توزيعاً عادلاً، فيعيش البشر في سلام ونعيم دائمين، ذلك النعيم الذي ظلوا العصور الطويلة يحلمون به ولن يحققه لهم إلا العلم.
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)(303/71)
من هنا ومن هناك
دكتاتورية هتلر - للكاتب الألماني توماس مان
قد يفاخر فاتح برخستجادن (هتلر) بأنه حمى الشعب الألماني، وأحرز فوزاً وإنتصاراًعظيمين، دون أن يشهر سلاحاً أو يريق قطرة من دماء
فإذا كان هذا مبلغ فخاره، فيحق لي أن أسأل: في أي لحظة عرف أنه قد أمن عواقب عمله، وأنه نجا من حملة لا تخفى عواقبها على أحد؟ فإن الأمر كان يستدعي أن تهب فرنسا لمناصرة الأمة المحالفة لها، وهنا تقع الكارثة
من المحتمل أن يكون قد عرف ذلك، ولكن بعد كل إنسان! فقد ظهر أخيراً أن تحذير جورنج وموسوليني له في الأيام الأخيرة من سبتمبر كان ضرورياً لمنعه من الانزلاق بأمته نحو الهاوية، فيدفعها إلى حرب لا يستطيع أن يصمد لها وهزيمة محققة، رأيا من الشفقة أن يحمياه شرها. ومما يقال على ما فيه من السخرية، إن بعض الفاشست من الإنجليز قد توسلوا إليه أن يتفضل بقبول النجاة التي تعرض عليه!
إن الحكام الإنجليز لا يريدون أن يوقعوا كارثة بالفاشست ولا يودون ذلك على الإطلاق. إنهم لا يريدون الحرب، لأنهم يكرهون أن يحرزوا فوزاً تشاطرهم روسيا فيه؛ ولميلهم إلى السلام قد ظهروا أمام العالم الجزع بمظهر المخلصين المنقذين. وإلا فقد كان من المنتظر أن تحل الكارثة بإيطاليا وألمانيا في أربع وعشرين ساعة، ولكن الإنجليز هم الذين أبوا ذلك. لم يسمح لهتلر أن يحطم الفاشية. ومع ذلك فهو يزعم أنه نال كل شيء بغير عنف، وهو مهدد بالدمار لو استعمل شيئاً من ذلك
أيها المنتصرون المباهون، أنتم لا شيء. إننا لا نعد أنفسنا قد انهزمنا وخرجنا من الميدان. . . إن العقل والروح قد اعتادا الاضطهاد في هذه الأرض منذ آلاف السنين، ولكنها لم يهزما ويقتلا بمثل هذا الانتصار
لا تخف! إن الحق والفكر قد يخمدان لحظة قصيرة، ولكنها قويان في أعماق نفوسنا
ومن قمم الفن الصادق تطارد الروح هذا الانتصار الكاذب. ولا يغرنك أنها في عزلة وانفراد، فهي في تحالف وألفة دائمين مع كل ما يفيد العالم الإنساني
إن الدكتاتورية تناقض نفسها بادعائها محو السيئة وتحرير الضمير الإنساني وتلقين(303/72)
البطولة، بينما تحط من قيمة الإنسان وتستعبده ولا تعتد بكرامته معتقدة أن هذا حظه في الحياة وليس له حظ سواه، وكل ما عداه لغو وهباء. فأي مخالفة للمنطق هذه؟
إن فهم البطولة يحتاج إلى فكر أعمق وفلسفة أدق من تلك الفلسفة التي تستند إلى القوة والتضليل، تلك الفلسفة التي تسوق وراءها الدهماء
رقص الحياة - عن الأفننج كرونيكل
في الشعر والتصوير والنحت صورة معروفة يرمز إليها برقصة الفناء. يصورن فيها هادم اللذات، وهو يحصد نفوس البشر من كافة الأجناس
فيمثلون الموت يجذب النفوس من كل سنخ وجنس، في قسوة القاهرة المستبد، وهي تدفعه عنها بكل ما رزقت من قوة، وتتشبث بالحياة في جزع ورهبة، والموت يقتادها إلى حيث يريد وهو مكتوب له النصر دائماً، فيرقص منتشياً بالفوز والظفر وهي مسوقة إلى مقرها الأخير، ومن هنا رمزوا إلى تلك الصورة (برقصة الفناء)
ولكن الكاتب المعروف (هافيلوك أليس) يخالف هذه الصورة، فيترك رقصة الفناء ويتكلم عن رقصة الحياة
فهو يقول إن الحياة فن. وكل شيء فيها وكل مخلوق يدب على أرضها فنان يصور حياته كما يصور الرسام لوحته، أو المثال تمثاله. ويدلل على أن التفكير فن والكتابة فن؛ حتى الأديان والأخلاق فنون جميعها، وأن الرقص أساس قوي في تلك الفنون ويعده التعبير الأسمى للحياة
ونظرية (أليس) هذه تفتح أمامنا باباً واسعاً للتأمل والتفكير. فنحن نعرف منها كيف كان الرقص في كيان الإنسان وفي صميم كل مدنية، وكيف يكون معبراً عن الحياة!
إن الحياة تعبر عن لحن جميل في الحقيقة، والألحان ينبوع الرقص. ليست الحياة وحدها هي التي تعبر عن هذا اللحن بل الكون أجمع يشترك في هذا التعبير. وهذا يفسر قول الإنجيل: النجوم ترقص في الصباح. إنها بلا شك تخفق وتهتز على تلك النغمة التي تشمل الحياة
وكما كان الرقص مصوراً لحركاتنا والنفسية، فقد كان كذلك أول معبر عن الأديان، وقد نشأ الرقص مع الإنسان(303/73)
ويقول لفنجستون الرحالة المشهور إنه شاهد في أنحاء أفريقيا قبائل يحيي بعضهم بعضاً بقوله: أين ترقص. وذلك أن رقص الإنسان يدل على قبيلته ويميط عن أخلاقه الاجتماعية والدينية
ويقول فريزر: إن الإنسان الأول لم يكن يلهج بدينه بل كان يرقصه. ويقول الكثير من علماء الشعوب: إن الأديان فيما مضى من الزمان كانت قائمة على الرقص، وإن الإنسان الأول تعلم الرقص قبل أن يتعلم الدين)
ولعل في هذا البحث ما يبعث على التفكير في أساليب بعض رجال الطرق في مصر، وفي غيرها من البلاد الشرقية
مدارس للاستعمار - عن لافرانسيز دي أوتر مير
في ألمانيا الآن مدرستان للاستعمار، إحداهما في وتزنهوس، ولها قسم للتعليم العملي في بترفيلد، والأخرى في رندسبرج. فالأولى تعد رجالاً ذوي قدرة على الاستعمار والاستغلال، والثانية تعد الزوجات الصالحات لهؤلاء الرجال.
وعلى مسيرة ساعة من المدينة يرى هؤلاء التلاميذ مكبين على أعمالهم في معزل عن العالم، ليألفوا هذا النوع من الحياة، التي لا تختلف عن حياة (روبنسن كروزو). وهم يقومون بتشييد المباني وتجديدها، ويستخدمون في أعمالهم أبسط الآلات.
والمدرسة تقوم على تعليمهم النظريات العالية بطرق عملية بسيطة، فإلى جانب العلوم التي يلقنونها داخل الفصول: في الزراعة والتاريخ والطب والصيدلة ونظام المكتبات، واللغات الشرقية، وإدارة المستعمرات يتدربون على الشئون العملية في الحياة تدريباً عجيباً؛ فمن الصباح الباكر يستيقظون لحلب البقر وحمل لبنها إلى حيث يصنعون الجبن والزبد.
ويقوم تلاميذ هذه المدرسة بزراعة الحبوب، ويتولون شأنها في جميع الأحوال من الحرث إلى الحصد، ويقومون بطحنها، وعجنها. وهم فوق ذلك يتعلمون الهندسة الكهربائية، وهندسة الري والبناء والطرق والجسور، وأعمال النسف والتدمير
والمستعمر الألماني يتدرب على صناعة الطوب الذي يستعمله لبناء المساكن، وعليه أن يتعلم النجارة، وإصلاح الأخشاب وإعدادها، وصناعة السفن وعمل السروج والحدادة على اختلافها. وأخيراً يجب عليه أن يتعلم فنون الحرب ويلم إلماماً تاماً بالتعاليم النازية. أما(303/74)
البنات فلا يختلف نظام تعليمهن عن هذا النظام من حيث الدقة والإحكام، ويتفق معه من حيث الجمع بين التعليمين النظري والعملي
فهن يتعلمن لغة الزنوج ويتدربن على رعاية المرضى والأطفال، ويتعلمن طهي الطعام على الطرق المعروفة في مختلف المستعمرات، مما يختلف والطهي المعهود في ألمانيا كل الاختلاف
ويجب عليهن أن يتعلمن رتق الملابس، ويتدربن على ركوب الخيل وقيادة السيارات وحمل السلاح
ويراعي في هؤلاء الزوجات أن يكن قادرات على تكوين الخلق المطلوب، بحيث يكون لهم نصيب واف في بناء الدولة
فإذا استعادت ألمانيا مستعمراتها، وجه إليها هذا الجيش من المستعمرين والمستعمرات فيقومون ببناء مساكنهم بأيديهم أو بمساعدة بعض الخدم، ويحرثون الأرض ويحصدون الثمار. فإذا أتوا بنسل درج على هذه الصفات. فلا تمضي سنوات حتى يكون في تلك المستعمرات شعب ألماني قوي متين(303/75)
البريد الأدبي
تاريخ الآداب العربية لبروكلمن
قد سبق لي أن أخبرت قراء هذا الباب من الرسالة أن المجلد الثالث من (تكملة تاريخ الآداب العربية) للمستشرق الكبير بروكلمن قد أخذ في الظهور؛ فوصفت الجزء الأول منه وقلت إن المجلد كله موقوف على الأدب العربي الحديث. وهذا الجزء الثاني يصلني وفيه مواصلة الحديث في الشعر المصري منذ هبوط الإنجليز هذا القطر (ويقول بروكلمن: منذ احتلال الإنجليز له)، ويجري الحديث على حافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرافعي واحمد محرم والكاشف وأحمد نسيم وحسن القاياتي، وهم ممن نحوا نحو البارودي في النظم على الطريقة الاتباعية. ويجري الحديث بعد هذا على البكري وعبد المطلب وهما من أصحاب تلك الطريقة مع بعض الإفراط. وينتقل الحديث إلى خليل مطران على لأنه صاحب مذهب جديد في الأداء مع بقائه على المبنى القديم. وممن حذا حذوه أحمد زكي أبو شادي؛ وممن يلتف حوله عبد الرحمن شكري. وقد أفاض صاحب الكتاب في تحليل شعر مطران، ومما قاله إنه جاء بالملاحم وألف بين النظم الإفرنجي والأسلوب العربي، وأفاض أيضاً في وصف شعر أبي شادي
ومن المراجع العربية التي عوّل عليها المؤلف أو ذكرها: (حياة حافظ) لمحمد كرد علي، (حافظ وشوقي) لطه حسين، (المختارات) للمنفلوطي، (على السفّود) للرافعي (ثورة الأدب) لمحمد حسين هيكل، (الفصول) للعقاد. ومن المجلات العربية المذكورة في سياق البحث: المقتطف والهلال والرسالة ومجلة المجمع العلمي العربي ومجلة الأزهر
ب. ف
عبث الوليد
أشكر الأستاذ الجليل إبراهيم يسن القطان على مكارمه وفضله وأدبه وسعة اطلاعه. أما عن قول المعري (عبث الوليد) فقد جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في ترجمة المعري ما نصه:
(واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه (ذكرى حبيب). وديوان البحتري وسماه (عبث(303/76)
الوليد)، وديوان المتنبي وسماه (معجز احمد) وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيهم ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم والتوجيه في أماكن لخطئهم) فهذا التفصيل وهذه الإطالة في شرح محتويات هذه الكتب تدل على الاطلاع أو تفهم القارئ أن الكاتب واثق من قوله. فهو يقول اختصر كل ديوان من الدواوين الثلاثة ولم يقل إنه أخذ محاسن أبي تمام والمتنبي في كتابية عنهما واكتفى بعيوب البحتري في كتابه عنه، بل قال إنه ذكر للثلاثة محاسن ومساوئ، وذكر للثلاثة أخطاء وعيوباً ودل على ما امتاز كلّ به من المعاني الخ، ومع ذلك مَيَّزَ بينهم في عنوان كل كتاب، وهذا التميز هو الذي عنيته بنقدي. على أنه لو صح أن ابن خلكان أخطأ في شرح هذه الكتب وكان كتاب المعري عن البحتري مقصوراً على العيوب والمساوئ ولم يقصر المعري على مساوئ أبي تمام والمتنبي الكتابين الأخريين لكان هذا ظلماً من المعري للبحتري، إذ أن لأبي تمام والمتنبي مثل هذه الأشياء التي ذكرها الأستاذ الجليل القطان فَلَمْ نُرَجَّحْ إذاً أنه قصر الكتاب على عيوب البحتري لهذا السبب وأخذنا بوصف ابن خلكان محتويات الكتاب والتمييز في العنوان بالرغم من ذكر المعري مساوئ شعر أبي تمام والمتنبي في كتابيه عنهما - وإذا لم يكن غير نسخة واحدة في مصر من كتاب عبث الوليد مأخوذة بالتصوير الشمسي فهذا قلة استيفاء بحثها. ومما جعلنا نصدق قول ابن خلكان ومن قال مثل قوله علاوة على الأسباب المتقدمة أننا لم نستكثر على المعري ألا يقدر صنعة البحتري قدره حكمة المتنبي في شعره الذي سماه معجزة احمد. ومما يدل على ذلك أيضاً أنه لم يمدح شيخ البيان أبا تمام كثيراً في عنوان كتابه إذ جعله ذكرى، والذكرى لا تقارن بالمعجزة. وقد سُمِعَ عن المعري انتقاص للشعراء الذين يهتمون كل الاهتمام للصناعة والأسلوب الخطابي، فقد روى أنه قال عن شعر محمد بن هاني الأندلسي: (إن شعره كطاحونة تطحن قروناً لإحداث قعقعة) وابن هاني الأندلسي له شعر يقارب طريقة أبي تمام ومسلم بن الوليد التي احتذاها البحتري أيضاً ولم نستبعد أن يكون صاحب اللزوميات التي ملأها تفكيراً في معضلات الحياة قد صنع ما نسبه إليه ابن خلكان وغيره من مؤلفي السَّير وقدَّم التفكير على الصنعة في الشعر وجعل الصنعة عبثاً إذا قورنت بالحكمة وإن لم تكن عبثاً إذا لم تقارن بها. ومما ينبغي أن نلاحظه أنه كان في نفس المعري كما كان في نفس(303/77)
تولستوي الأديب الروسي صراع عنيف بين نشدان جمال الصنعة في الآداب والفنون وبين البحث عن الحقيقة الروحانية، وهذا الصراع قد يفسر اختلاف قوله في البحتري. وبعد كل ذلك نرجو الأستاذ القطان أن يرجع مرة ثانية إلى هذه النسخة المأخوذة بالتصوير الشمسي ليرى هل هي كاملة، وهل هي مقصورة على عيوب البحتري، فإذا كانت كاملة (لا ناقصة كما في بعض الكتب النادرة) وإذا كانت مع تمامها مقصورة على عيوب البحتري كان ابن خلكان مخطئاً في وصفه لمحتويات الكتاب، وكان المعري ظالماً إذا اختص البحتري في كتابه عنه بالعيوب ولم يختص أبا تمام والمتنبي، وهذا أمر مستبعد ولكنه لو صح لكان حجة لنا أيضاً
عبد الرحمن شكري
حول مقال المبتدأ الذي لا خبر له
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي جولات في ميادين العلم والأدب خرج في بعضها ظافراً أيما ظفر. . .
وفي العدد الماضي من الرسالة إحدى جولات الأستاذ في علم النحو أساجله فيها والله أعلم أينا يكون له الظفر؟
درس الأستاذ علم النحو في هذا العام ودرج فيه - كما يقول - على عادته من إيثار تمحيص المسائل على ترديدها كما دوَّنها المؤلفون. أي كما يفعل كثير من الناس! ونحن نحمد للأستاذ طريقته هذه لأننا نعتقد أنها الطريقة المثلى التي يعم نفعها وتجنى ثمرتها، ونأمل أن ينتهجها كل من يتصدى لدراسة المسائل العلمية.
وكان مما محَّصه الأستاذ من مسائل النحو وخرج منه بنتيجة مسألة (المبتدأ الذي لا خبر له) وهو الوصف الذي له مرفوع يغني عن الخبر في مثل قول ابن مالك: إسارٍ ذانِ.
ومجمل بحث الأستاذ في هذه المسألة أمران خرج منها إلى نتيجة، ووضع قاعدة جديدة في علم النحو.
الأمر الأول: مؤاخذة النحاة في إعرابهم الوصف في مثل هذا الموضوع مبتدأ (لأن المبتدأ - في الجملة الاسمية - هو المحكوم عليه، والوصف هنا في مقام الفعل فليس محكوماً عليه(303/78)
وإنما هو محكوم به.) هذا تعليل الشيخ؛ وإن كنت لم أفهم معنى لتقييد المبتدأ بكونه - في الجملة الاسمية -
فهو يرى أن المبتدأ لا يكون إلا محكوماً عليه والذي نعرفه من كلام النجاة في تعريفهم للمبتدأ أنه يكون محكوماً عليه في مثل: العلم نافع، ويكون غير محكوم عليه في مثل ما نحن بصدده. وهذا هو تعريفهم للمبتدأ:
(المبتدأ هو الاسم العاري عن العوامل اللفظية: مخبراً عنه أو وصفاً رافعاً لمكتفى به)
والمعنى الذي أدركه الشيخ في المثال (وهو أن الوصف قائم مقام الفعل فهو مسند لا مسند إليه ومحكوم به لا محكوم عليه) هذا المعنى الذي يبدو أن الشيخ قد انفرد به لم يهمله النحاة فقد قالوا في شرح التعريف المتقدم ما خلاصته:
ليس معنى اكتفاء الوصف بالمرفوع عن الخبر أنه ذو خبر أغنى المرفوع عنه لأن الوصف هنا لا خبر له أصلاً لقيامه مقام الفعل والفعل لا خبر له
الأمر الثاني: قاعدة وضعها الأستاذ وهي أنه كلما كان هناك مبتدأ كان هناك خبر. ومن الواضح أن هذه القاعدة لم تنشأ إلا من حصر المبتدأ في المحكوم عليه كما فعل الشيخ. وبالنظر في التعريف المتقدم يعرف أن الصواب أن تكون القاعدة هكذا: كلما كان هناك مبتدأ كان هناك خبر أو فاعل يغني عن الخبر. ومعنى أنه مبتدأ في هذه الحالة أنه اسم مجرد من العوامل اللفظية. الأمر الذي استبعده الأستاذ بحجة أنه لا نظير له لأن النحاة لم يسموا الشيء فاعلاً إلا إذا كان فاعلاً في المعنى، وهكذا
ونحن نقول له إن هذا مسلم. وهم كذلك لا يسمون الاسم مبتدأ إلا إذا كان مبتدأ في المعنى أي إلا إذا كان اسماً مجرداً من العوامل اللفظية وهو إما مخبر عنه أو وصف رافع لما يغني عن الخبر وإنما يكون معدوم النظير إذا أنحصر معنى المبتدأ فيما قال الشيخ
والنتيجة التي وصل إليها الأستاذ من تمحيصه لهذه المسألة أن مثل هذا الوصف لا يسمى مبتدأ، بل يسميه الشيخ اسم فاعل أو اسم مفعول لتجرده من العوامل اللفظية. كما استثنوا اسم الفعل مع تجرده من هذه العوامل فلم يسموه مبتدأ. والمعروف أن اسم الفعل إنما استثنى مع تجرده من العوامل لأنه ليس واحداً من النوعين اللذين يكون منهما المبتدأ، لأنه قائم مقام لفظ الفعل على الصحيح؛ وأما على الرأي القائل بأنه قائم مقام معنى الفعل فهو(303/79)
مبتدأ مستغن بمرفوعه عن الخبر كاسم الفاعل في مسألتنا
وبعد. فهذا ما أردت أن أعقب به على كلام الشيخ وأرجو أن أكون قد وفقت فيه كما أرجو أن يتقبله الأستاذ بما يجب أن يكون عليه من يتصدى لتمحيص المسائل العلمية بغية الوصول إلى حقائقها.
والسلام على الأستاذ ورحمة الله
أبو حجاج
مدرس نحو
مشروع جديد لتنظيم مجمع فؤاد الأول للغة العربية
يعتزم صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف في هذه الأيام تنفيذ مشروع جديد لتنظيم أعمال مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وكان معاليه قد سبق أن أدلى بكثير من آرائه في تنظيم مهمة المجمع في مقالات نشرها في جريدة السياسية قبل أن يصبح وزيراً للمعارف. وقد رأى معاليه أن الوقت حان لتحقيق آماله في هذا الإصلاح والتنظيم، فأعاد مراجعة مقالاته السابقة كما ضم إليها كثيراً مما كتبه كبار الكتاب في الصحف والمجلات في هذا المعنى، ووضع بعد دراسته لمختلف هذه الآراء النواة التي يرى أن يبني عليها المشروع الجديد
ولكي نعرف ماهية الإصلاح المراد تهيئة أسبابه لهذه المؤسسة نقول إن عمل المجمع اتجه من إنشائه حتى اليوم إلى وضع معجم عام للغة، ومعجم تاريخي لها، ومصطلحات للعلوم والفنون، ودراسة اللهجات القديمة والحديثة. والمشروع الجديد يتجه بالمجمع إلى ما يأتي:
أولاً: أن يواصل المجمع عمله في وضع معجم اللغة ومعجمها التاريخي.
ثانياً: أن يترك وضع المصطلحات العلمية والفنية وغيرها إلى الهيئات والجماعات المختصة بها، على أن يسجل منها في معاجمه ما يستقر في التداول منها، وما تقره اللغة
ثالثاً: أن تترك دراسة اللهجات الحديثة للجامعة، ويكتفي المجمع بدراسة اللهجات القديمة
رابعاً: أن يقوم المجمع بعمل إيجابي في إحياء اللغة وذلك بتشجيع الإنتاج الفكري الحديث، وإقامة مسابقات أدبية، وتقرير مكافآت للمنتجين، مقتفياً في ذلك أثر (المجمع الفرنسي)(303/80)
هذا وينتظر أن تصدر وزارة المعارف قريباً قراراً بتأليف لجنة برياسة الوزير لوضع مشروع القانون بإعادة تنظيم المجتمع
ذكرى السير إقبال
حفلت (قبة الغوري) مساء الخميس الماضي بجمهرة من أبناء الأمم الإسلامية اللذين تربط بينهم جماعة (الأخوة الإسلامية) ليحتفلوا بالذكرى السنوية لوفاة الشاعر الهندي الفيلسوف الإسلامي المرحوم السير محمد إقبال
وقد استهل الاحتفال بتلاوة آي من الذكر الحكيم ثم استمع المحتفلون إلى طائفة من الشباب ينشدون (نشيد إقبال) ثم ألقى الأستاذ الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام كلمة ممتعة تناول فيها بالتحليل مذهب الشاعر الهندي في الفلسفة والتصوف ونظرته إلى الإسلام. ثم أعقبه السيد محمد حسن الأعظمي سكرتير الجماعة فألقى كلمة مستفيضة عن منزلة الشاعر إقبال بين شعراء الهند. وأعقبه الأستاذ أبو الحسنات البقالي فتحدث عن الشعر الغزلي الذي أنتجه السير إقبال، ثم ألقى الأستاذ محمود جبر مرثية تناول بعدها الأديب الصيني الأستاذ بدر الدين إيوان الشاعر إقبال فأمتع وأبدع
وقد انصرف المحتفلون وهم يعرفون - من هذه الكلمات الشائقة - كثيراً من روائع الشاعر الهندي وآثاره الخالدات.
أبو تمام - الأستاذ عبد الرحمن شكري
جاءتنا كلمة بهذا العنوان من الأستاذ الجليل (القارئ) بعد طبع هذا العدد فاضطررنا إلى إرجائها إلى العدد القادم(303/81)
رسالة النقد
4 - في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
في صفحة 86 وردت في كلام الجاحظ حكمة أكثم بن صيفي وهي: المرء يعجز لا محالة. فعلق عليها الشارحان بقولهما: (أي لا تضيق الحيل ومخارج الأمور إلا على العاجز، والمحالة: الحيلة. ويروى المحالة كما في اللسان. أ. هـ)
ولهذه الحكمة كلام طويل عريض تناولناه في مثل هذه الأيام من العام الماضي في صحيفة البلاغ الغراء، وكنا نود أن يرجع الشارحان يوم ذاك إلى كلامنا في تحرير هذه الحكمة حتى لا يقعا فيما وقع فيه غيرهما من الإيمان بكل ما يقول السابقون من غير إجراء حكم العقل عليه.
نرى أن هذا الشرح الذي شرحه الميداني ونقله الشارحان خطأ ظاهر. لأننا إذا نظرنا إلى العبارة من وجهتها التركيبية رأينا أن هذا الشرح يستلزم أن تكون العبارة هكذا: (المرء يعجز لا محالة). ويكون المعنى كما شرح الميداني إن المرء هو الذي يعجز لا الحيلة.
وإذا نظرنا إلى المقام الذي وردت فيه العبارة رأينا أن أكثم كان ينصح لقومه فيقول لهم:
(أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة. يا قوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين. ورب عجلة تهب ريثاً). فالرجل يثبط قومه عن القتال وينهنه من نزعاتهم الجامحة إليه. فهو يقول لهم: إن العجز من شأن الإنسان، وإنه لا حيلة له في توقيه.
فنرى أن الأسلوب من ناحية والمقام الذي وردت فيه الحكمة من ناحية أخرى يوجبان أن يكون المعنى غير ما ورد في الميداني، وردده الشارحان الفاضلان من غير مناقشة للرجل في رأيه مع أنه إنسان يخطئ ويصيب، فكيف بهما إذا علما أنه كان ناقلاً للمعنى عن آخر سبقه بالخطأ.
ذلك أن الميداني من أهل القرن السادس الهجري، وقد سبقه أبو هلال العسكري المتوفى(303/82)
سنة 395 هـ في كتابه جمهرة أمثال العرب، فروى المثل هكذا: (المرء يعجز لا المحالة)، وقال في شرحه: إن المرء يعجز عن طلب الحاجة فيتركها، ولو استمر على طلبها والاحتيال لها لأدركها. فإن الحيلة واسعة فهي ممكنة غير معجزة. ثم يروي أبياتاً جعلها في مقام الاستشهاد على معناه الذي رآه، وهي قول الشاعر:
حاولت حين هجرتني ... والمرء يعجز لا المحالهْ
والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعالهْ
والذي نقوله إن الشعر لا يسعف العسكري بمراده لأن الشاعر يقول: إني حاولت يوم هجرتني أيتها المحبوبة أن أقنعك بالرضا وأن أردك إلى عادة الوفاء لي فلم أفلح، والمرء لا بد عاجز، فهو ضعيف يلعب به الدهر ما شاء، ويغير عليه من إرادته ما شاء. فإذا ما حاول أن يظفر بالدهر ويتغلب عليه راغ منه، وفر كما يروغ الثعلب ويفر من قانصه. فهل يرى القارئ الكريم في الشعر رائحة للتنديد بضعف الإنسان وقعوده عن المحاولة؟ أليس الشعر ناطقاً بأن المحاولة لم تجد صاحبها شيئاً، وأن العجز من شيمة المرء؟ فبان إذاً أن هذا الشعر الذي يستظهر به العسكري على معناه لا يسعفه بمراده. بل إنه يرد عليه زعمه، ويبالغ في تخطئته.
وقد نرى للعسكري مندوحة فيما قال. ذلك أنه لم ينسب الكلمة إلى أكثم، فلعل غيره قالها على هذا الوجه، كما أن شرحه مساوق للفظ الذي أورده (بتعريف المحالة) وكل خطئه إنما كان في دعواه أن الشعر يتمشى مع شرحه الذي رآه. فإذا بالشعر ينطق بغير ما يريد.
وليس في الشعر ما يساعده على رواية المحالة (بالتعريف) لأننا نستطيع حذف أداة التعريف من الكلمة ولا ينكسر الوزن.
والخطأ ظاهر في صنيع الميداني لأنه لفق بين نص وشرح وارد لغير هذا النص.
وهذا الخطأ أظهر في صنيع الشارحين لأنهما نقلا كلام الميداني من غير تمحيص، واستعزا بنقل صاحب اللسان، وصاحب اللسان لم يخطئ في مهمته وهي النقل إذ لم يزد على قوله: ويروى لا المحالة. فهو لم يتعرض لتمحيص الرواية، وليس ذلك من شأنه. ولكنه شأن الشارحين وهما لم يفعلا من ذلك قليلاً ولا كثيراً.
في ص 75: حكى الجاحظ أنه عاد يوماً في وقت القيلولة، والشمس حامية شديدة الوقع(303/83)
على الرأس. ثم قال: أيقنت بالبرسام فيعلق الشارحان بقولهما نقلاً عن القاموس وشرحه: البرسام علة يهذي فيها. وهو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، وهو يتصل بالدماغ. ثم يقولان: ولكنا نظن أن المراد هنا هو الرعن كما هو ظاهر من سياق الكلام. ففي القاموس رعنته الشمس: آلمت دماغه فاسترخى لذلك وغشي عليه
وأمر الشارحين عجيب جداً في هذا المقام، لأن الذي منعاه ليس بممتنع، إذ البرسام كما نقلا علة تتصل بالدماغ. أليس اتصاله بالدماغ كافياً لافتراض نشوئه عن تعرض الدماغ للشمس؟ ثم كيف يغيران على القائل قوله ويوجبان عليه أن يقول ما يريدان؟ أليس القائل هو الجاحظ الذي يعرف اللغة ومدلولات ألفاظها، ويعرف طب زمانه وحدود علله وأسبابها؟ فكيف استساغا أن يقولا له: كان يجب عليك أن تقول فأيقنت بالرعن في موضع فأيقنت بالبرسام؟!
هذا والله أعجب ما رأينا من شأن الشارحين. فهما لم يكتفيا بأن يفرضا علينا آراءهما ويوجباها على طلاب المدارس ومدرسيها بعد أن دمغاها بالصبغة الرسمية التي حصلا عليها لشرحهما، حتى أرادا أن تمتد سلطتهما على الجاحظ وزمنه.
لو أراد الشارحان أن يغيرا على الجاحظ رأيه في معاني الألفاظ وبينا أنه أخطأ المراد في لفظ البرسام لوجب عليهما أن يعودا إلى كتب الطب القديم ليستشيراها في معناه، فإذا وجداه بعيداً عن المقام الذي يتكلم فيه الجاحظ فعند ذلك يقولان له أخطأت المراد وكان الواجب عليك أن تستعمل كلمة الرعن، ولكنهما لم يفعلا شيئاً من ذلك، وكل ما في الأمر أنهما عرفا معنى الرعن فشاءت لهما سلطتهما اللغوية التي يمدانها على طلاب المدارس ومدرسيها، أن يغيرا على الجاحظ رأيه كأنما هما مفتشان أولان على الجاحظ أيضاً
في ص84 ورد ما يأتي:
(وقال لي هذا الرجل: أكلنا عنده يوماً وأبوه حاضر وُبني له يجيْء ويذهب فاختلف مراراً، كل ذلك يرانا نأكل)
وقد ضبط الشارحان كلمة كل في عبارة (كل ذلك يرانا نأكل) بالضم وعلقا على العبارة بما يأتي: (أي كل ذلك حاصل والصبي يرانا نأكل. ويظهر لنا أن العبارة كانت هكذا: كل ذلك وهو يرانا نأكل. فسقط من النسخ (وهو)) أ. هـ(303/84)
ونقول إن التعسف في التقدير ظاهر جداً وما جر على الشارحين كل هذا إلا ضبطهما لكلمة (كل) بالضم. ولو أنهما أتيا الأمر من أيسر طرقه لضبطا الكلمة بالفتح فتعرف ظرف زمان لأن لفظ ذلك إشارة إلى الزمن المنقضي في المجيء والذهاب والاختلاف مراراً. والقاعدة التي يعرفها حضرتا المفتشين في كتاب (قواعد اللغة العربية) وغيره أن لفظي كل وبعض إذا أضيفا إلى الزمان أعربا أسمي زمان
في الصفحة عينها يقول الشارحان في السطر الذي قبل الأخير (المذار (بفتحتين)). وما هكذا يفعل أهل اللغة لأن هذا الضبط لا يمنع أن تكون الذال مشددة مع الفتح، فيكون ذلك خطأ في ضبط الكلمة. وإنما الذي يقال هو ما ذكره صاحب القاموس وهو قوله: المذار كسحاب
في ص87 في نصيحة خالد بن يزيد لابنه: (وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكل حيلة ثم إن لم يكن لك معين من نفسك ما انتفعت بشيء من ذلك بل يعود ذلك النهي كله إغراء لك، وذلك المنع تهجيناً لطاعتك)
فيعلق الشارحان على العبارة (وذلك المنع تهجيناً لطاعتك) بقولهما: يعني أنك لو أطعت في حال انصراف نفسك كان ذلك قبيحاً بطاعتك، لأنها تكون إذاً مغتصبة وغير صريحة.
لا، لا أيها الشارحان. إنما المراد: إنك تقف من نهيئ لك موقف الذي لا ينتهي عما نهاه عنه أبوه، وتكون تلك سبة لك بأنك لن تطع والدك، وهذا يشين خلق الطاعة فيك، لأن أولى الطاعة طاعة الآباء
وإن كان من العجب أن يكون هذا رأي الشارحين في عبارة الكتاب، فأعجب منه أن يكونا قد شرحا ما قبلها شرحاً لائقاً بالمقام فجمعا بذلك بين متناقضين في سياق واحد
فقد قالا في شرح العبارة التي قبلها: (يعني أن نفسك إذا لم تقبل على ما وجهتك إليه صار النهي لها بمنزلة الإغراء والحض على ارتكاب النهي عنه)
وهذا منهما حسن يوافق ما أراده القائل للعبارة، فالعجب العاجب أن يعطفا على الجملة وهذا معناها في نفسهما جملة أخرى مناقضة لها على حسب ما شرحا، إذ الأولى أثبتت أنه عصى أباه في نصحه، والثانية أرادا منها أنه أطاعه ولكن بالكره لا بالرضا. فجمعا في كلامهما بين العمل والترك أو بين الضد والضد. فهل شرح كل واحد منهما جملة ثم ضما(303/85)
عملهما وصفا حروفهما من غير أن يستشير أحدهما الآخر فيما رأى؟ هذا هو الأشبه بعملهما. وفي الصفحة عينها يقول الولد لولده: (وقد بلغت في البر منقطع التراب، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك ألا ترى ذا القرنين)
ويعلق الشارحان على هذه العبارة بقولهما: ويشير بقوله: ألا ترى ذا القرنين، إلى قصة ذي القرنين المذكورة في القرآن الكريم، يعني أنا كاف عنه
ولم أر إدماجاً في شرح مثل الذي أراه في عمل الشارحين. إنهما لم يكلفا أنفسهما الاطلاع على قصة ذي القرنين واستخلاص المراد من الإشارة التي يقولان عنها. ولذلك أورد كلامهما بهذا العموم
والذي أفهمه من كلام الأب لأبنه أنه يقول له: إني مجرب عرفت ما في الدنيا وجبت عامرها براً وبحراً فاستفدت تجارب كثيرة وزودتك بخلاصتها. فإذا عملت بها كنت كأنك شاهدت ما شاهدتُ، وجربت ما جربت، وإني في تطوافي بالأرض وجوبي لأقطارها بمنزلة ذي القرنين الذي بلغ مطلع الشمس، فإذا فاتك أن تكون رأيت ذا القرنين فقد رأيت نظيره وهو أبوك
في ص 88 يأتي:
(دع عنك مذاهب ابن شرية فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر)
وقد علق الشارحان على (ابن شرية) بقولهما: لم نقف لهذا الرجل على خبر في كتبنا، ولم نفهم ما يقصد من مذاهبه؛ وفي نسخة شرية أهـ
وبهذه المناسبة نقول إن الشارحين قد أعلنا عجزهما عن معرفة كثير من الأعلام التي وردت في الكتاب، ونحن نعذرهما في كثير من ذلك لأن الجاحظ يتكلم عن خلطائه، وليس كل هؤلاء قد رزقوا الشهرة حتى تدون أسماؤهم في كتب الطبقات. فهما في بعض ذلك بمنجاة من اللوم؛ ولكن ليس ينبغي أن يسري هذا العجز إلى هذا العلم المشهور وهو (عبيد بن شرية) فهو رجل معاصر لمعاوية بن أبي سفيان وكان عالماً بالأخبار، وكان معاوية يستمع منه قصص الماضين وتدابير الملوك لينتفع بها في ملكه. وقد ورد اسمه في كتب كثيرة نذكر منها الآن من غير استقصاء: معجم الأدباء لياقوت، وفهرست ابن النديم، ومقدمة ابن خلدون وفي الحديث كتاب فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين(303/86)
فقول الشارحين أنهما لم يقفا له على خبر لا يعفيهما من اللوم. ثم إن عدم وجوده في كتبهما لا يكفي لنفي وجوده في كتب غيرهما؛ فلو أنهما اعتصما بالصبر في البحث لوجدا على حبل الذراع تراجم كثيرة لهذا الأنباري النابه الشأن.
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى(303/87)
المسرح والسينما
مدير الفرقة القومية وسكرتيره
وحكاية الأب لويس شيخو
لقيني أحد ممثلي الفرقة فقال وهو يبتسم ابتسامة تحمل الكثير من معاني
الفرح والشماته والانتقام، ويشير إلى مجلة مطوية في يده: هاهو ذا
العدد الأخير من (الرسالة) أحمله إلى حضرة المدير. قلت: ما الداعي
إلى اللهفة والمسألة بسيطة عادية؟ فأجاب: حقاً إن المسالة عادية
ولكنها غير بسيطة في نظر المدير وسكرتيره المحجل كما أسميته
أنت. قلت: أوضح، فقال:
اعتاد هذا السكرتير تقطيع مجلة الرسالة إرباً حتى لا يطلع حضرة المدير على ما ينشر فيها
قلت: ألا يطلع مديركم على كل ما تكتبه الصحافة في الفرقة؟
فقال: أحسب أن وفرة مشاغله المتنوعة لا تمكنه من ذلك، ولكن سكرتير الفرقة يطلعه من وقت إلى آخر على خلاصة بعض ما ينشر في الصحف
دعوت لهذا الممثل ولفرقته بالنجاح وانصرفت!
ولمناسبة هذا الحديث البسيط أروي القصة التالية:
ألف المرحوم الأب لويس شيخو الأديب العالم اليسوعي كتاباً اسماه (شعراء النصرانية) وطلب له لسبب من أسباب مهنته حشر طائفة من شعراء جاهليين وغير جاهليين قال إنهم نصارى؛ فانبرى له المرحوم الشيخ محمد الخياط أو خليل الخياط يفند مزاعمه ويعيد الفروع إلى أصولها ويصحح أغلاطاً عروضية ولغوية في الكتاب، ولم يأبه لصحيفة البشير لسان حال الجزويت التي لم تكن تتغاضى عن هنة ولو بسيطة تمسّ النصارى من قريب أو بعيد
ترقب الناس وقوع الواقعة بين البشير النصرانية وبين صحف المسلمين وتوجس عقلاء(303/88)
الطائفتين من تطورات الحملة الأدبية وانقلابها إلى ضدها
مضى الشيخ الأديب في نقده لا يصده عنه صاد، وهو يعلم أن للآباء اليسوعيين سلطة نافذة وطرائق ذات شعاب أخطبوطية فتاكة ولكنه لم يأبه لها لأنه كان ينافح عن حق لوجه الحق
صدرت جريدة البشير وتلتها مجلة المشرق في الصدور خاليتين من كلمة واحدة في الرد على الشيخ الناقد
شدد الناقد الحملة وزاد العيار. . . وأخيراً ذهب يدفع باب الجزويت يستطلع سر سكوتهم وكنه استلانتهم وهم الجبابرة الأشداء
رحب الآباء اليسوعيون بالزائر الناقد خير ترحاب، وأكرموه الإكرام اللائق بعلمه وأدبه، وأطلعوه على سرهم فقالوا إنهم ألفوا لجنة برياسة الأب لويس معلوف لدراسة نقده وتصحيح أخطاء وقع فيها كبيرهم الأب شيخو، ولم يدعوا الشيخ ينصرف إلا بعد الاتفاق معهم على مواصلة حملته الصارمة عليهم لإظهار الأغلاط التاريخية والعروضية واللغوية في كتابهم
أرجو ألا تنسى أن كتاب شعراء النصرانية محدود الغرض يطالعه الخاصة من الأدباء في حين أن الفرقة القومية أوسع مدى وأفسح أفقاً من الكتاب وأنفذ إلى مشاعر الشعب وأحاسيسه وخلائقه منه، وأن للفرقة القومية رسالة فرضتها وزارة المعارف حين إنشائها قالت: (إن غايتها رفع مستوى التأليف والتعريب المسرحي وترقية الإخراج وترقية الموسيقى المسرحية والغناء المسرحي بحيث تكون صالحة للتمثيل العربي والأجنبي، وإعداد الممثلين والمخرجين إعداداً فنياً صحيحاً) فأين الفرق بين جماعة ألفوا لجنة من خيرة علمائهم لتصحيح أغلاط في كتاب، من سكوت الفرقة القومية عن كل ما يقال فيها؟
دع عنك العمل الصبياني الصادر من سكرتير الفرقة لأنه غير مستغرب وقوعه منه، فجهل النعامة التي تطمر رأسها في الرمال كيلا ترى الصياد يماثل مجلة (الرسالة) لكيلا يقرأها مدير الفرقة
دع عنك أيضاً أن وزير المعارف ووكيله وآلافاً من الناس يقرءون الرسالة، فتقطيع عدد أو مائة عدد لا يصد الناس عن قراءة عيوب الفرقة وعلل إدارتها
حدثني صديقي قال: إن مدير الفرقة يعزو حملة الرسالة على الفرقة بسبب قبض يده عن(303/89)
إمدادها بالإعلانات، ولكنه دهش وتعجب حين قال له صديقي: إن الأساتذة تيمور، وطليمات، والحكيم، ورمزي، وناجي، ورستم، وفارس، أجمعت أقلامهم على طلب إصلاح الفرقة، وقد عددوا وسائل الإصلاح وأبانوا مواطن الضعف، وقد فعلوا ذلك لا طمعاً في أجر ولا رغبة في انتقام. فأجاب: إنه لم يطلع على ما كتبه هؤلاء الأساتذة!!
نعود إلى موضوع أحاديث الأدباء فنجمل أجوبة الأستاذ بشر فارس، وقد سألناه: هل المسرح في تقدم؟ وهل الروايات المترجمة أنفع لنا أم المؤلفة؟ وهل في المباراة ما يحفز المؤلف على التأليف؟ فأجاب:
(إن المسرح عندنا لا يزال في جانب النشأة، حتى جانب التكوين لم يبلغه، فكيف لنا أن نتكلم عن تقدمه أو تأخره؟ إنه يحق لنا أن نلقي مثل هذا السؤال: هل المسرح عندنا متجه في نشأته اتجاهاً مرضيَّا؟ والجواب قريب ذلك أنه لا بد للمسرح أيام قيامه من عناصر معروفة، منها المسرحيات المؤلفة والممثلون والممثلات والنظارة والمخرجون والناقدون. فإذا نظرنا إلى ما بين أيدينا في مصر وجدنا المسرحيات المؤلفة (ما عدا واحدة أو اثنتين (أهل الكف) لتوفيق الحكيم مثلاً) بعيدة عن طرائف الفن الخالص، بل مجراه على أسلوب طفلي، لأن المقدمين على التأليف المسرحي يجهلون مبادئ هذا الفن ويظنون أن اللغو والخطابة والنواح والتعريض والوعظ غاية الغايات. وإن كان لدينا ممثلون لهم دراية، قلت أو كثرت، بفن التمثيل فإن ممثلاتنا إلا أقلهن إنما يرين أن التمثيل إلقاء وهياج لقلة ثقافتهن وعجزهن عن الاتحاد بالنص. وأما النظارة فقد تعودوا مشاهدة لونين من المسرحيات: المهزلة التهريجية، والمأساة المفرطة، وكلتاها من النوع الأسفل، كما أنهم تعودوا الإخراج الواقعي، فمن المتعذر عليهم أن يميلوا إلى المسرحيات الضاربة إلى التفكير أو الشعر أو الاختلاج الباطني أو إلى الإخراج الإيهامي. ثم إن للفرقة مخرجاً أجنبياً وكان لها فيما قبل مخرج مصري حاذق هو الأستاذ زكي طليمات، ولكن الإخراج مرتبط بالمسرحية نفسها والممثلين والنظارة. وأما النقاد فلا أكاد أرى اثنين يحق لهم أن يعالجوا الكتابة في المسرح)
وقال رداً على السؤال الثاني: (الترجمة أولاً حتى يتهذب النظارة ويظفر المؤلفون بأمثلة يحتذونها بل يلتفتون إليها، والتأليف لمن يصيب من نفسه قدرة على وضع مسرحية تمتاز بالطرافة والقوة والاتساق والفكرة الناهضة)(303/90)
(أما الترجمة فالذي أراه أن الفرقة القومية ينبغي لها أن ترغب إلى الكتّاب الذين يجيدون اللغات الأجنبية إلى جانب العربية أن ينقلوا المسرحيات النفيسة إلى لغتنا؛ وأما التأليف فلا مباراة ولا رغبة إلى أحد من الناس، وإنما المؤلفون الحقيقيون - أعني المنجذبين إلى التأليف المسرحي من ذات أنفسهم لا الطامعين في جائزة - ينشرون ما يؤلفون، وللفرقة القومية أن تقبل عليه إذا رأت له شأناً)
وللدكتور فارس رأي طريف في النقد والناقد أؤجل نشره لفرصة مواتية لاتصاله برأي طريف أيضاً من نوعه قاله عالم غير سربوني
ابن عساكر(303/91)
العدد 304 - بتاريخ: 01 - 05 - 1939(/)
على ذكر خطبة هتلر في يوم الجمعة الماضي
هذا رجل!. . .
نعم هذا رجل! ولا يستطيع أن ينكر عليه هذه الصفةَ في الدنيا صديق ولا عدو ولا محايد. هذا رجل كما نعتقد، لا رسول كما يدعي؛ لأن الرجل لأمته والرسول للناس. وحسب الفوهرر أن يكون رجلاً، فإن الله تعالت حكمته لا يخلق الرجل إلا كل قرن. والأمم تنتظر في انحلالها الرجل، كما تنتظر الخليقة في ضلالها الرسول.
منذ أسبوعين انتظر العالم كله ماذا يقول هتلر ليبنى على قوله ما يفعل، ويرتب على حكمه ما يرى. وفي خلال هذه الفترة القصيرة الطويلة أوشك نبض الحياة العادية أن يقف انتظاراً لما عسى أن يكون هذا الكوكب. فلما وقف المستشار على منصة الريخشتاغ أصاخ لأمواج الأثير كل سمع في الوجود العاقل. وأعلن الدكتاتور رأيه الصريح بالمنطق الموهوب والبلاغة القوية، فملأ صوته الدنيا، وشغل قوله الناس. وقديماً قيلت هذه الكلمة في المتنبي؛ ولكن دنيا أبي الطيب كانت مملكة الإسلام، وناسه كانوا أمة العرب. أما هتلر فهو أول رجل في تاريخ الخليقة سمع خطابه أو ترجمته في يوم واحد كل دولة في الأرض، وكل مدينة في دولة، وكل بيت في مدينة، وكل راشد في بيت. ذلك لأن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلوا تبددت أعضاؤه في كل وجه؛ فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدول الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو الحرب. كل ذلك فعله كما قال من غير ثورة ولا حرب، فكان حرياً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي بقوله: (ألست بعد هذا حقيقيا بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟)
في كل أمة ما شئت من القوى الحسية والمعنوية؛ ولكنها تتفرق في أفرادها فتضعف، ويغشاها الكسل في نفوسها فتخمد. فإذا ما قيض الله لها رجلا منها يجمع قواها في قوته، ويوحِّد إرادتها في إرادته، استطاع أن ينيلها نصيبها الكامل من الحياة، وينهج لها طريقها القاصد إلى الغاية. ولكنك لا تجد هذا الرجل دائماً في كل أمة؛ فإن خصائص رجولته تكون(304/1)
أشبه بخصائص النبوة. والدنيا أبخل على الناس بمعدن هذه الخصائص لندرته. وهل في الدنيا أندر من عناصر الإيمان والبطولة والصدق والإيثار والنزاهة؟ هل يدور بخلدك أن هتلر الذي تمثلت فيه دولة، ونهض به جيل، وقام عليه تاريخ، تتعلق نفسه في لحظة من اللحظات برغبة حقيرة كمظاهرة في حفل، أو ثروة في بنك، أو أبهة في ديوان، أو قريب في وظيفة، أو مدحه في صحيفة؟ إن القادة الذين يهيئهم القدر لمداولة الأيام وخلق الشعوب يطهر الله من وساوس الهوى ودسائس الطمع، فلا ينظرون في الأرض، ولا يصغون إلى الفتنة، ولا يستجيبون إلا للصوت السماوي البعيد الذي لا يفتأ داعياً إلى السمو أو التقدم
هذه مصر مثلاً، فيها الثروة الموفرة، والقوى المذخورة، والعدد العديد، والموقع الملائم، والتاريخ الحي، والمجد التالد، والهوى المتحد، والحس المشترك؛ فتستطيع بهذه المزايا النادرة أن تكون دولة مطاعة لها في الثقافة لسان وفي الحضارة يد وفي السياسة رأي؛ ولكن مزاياها لا تزال كامنة أو موزعة أو مشاعة؛ فلم يتح لها الله إلى اليوم ذلك الرجل العمَري الذي يجمع من نسماتها اللينة إعصاراً يدوِّي، ومن رغباتها الشخصية طموحاً يحلِّق، ومن قواها المفرقة جيشاً يرعب، ومن قصائدها الفردية ملحمة قومية ينشدها الليل والنهار ويرويها سجل الأبد
عندنا رجال من صاغة الكلام، وحفظة القانون، ومحترفي السياسة، أفلحوا في إثارة الصخب، وتمزيق العلائق، وتفريق القوى، وإغراء المطامع بكراسي الحكم وأبهة الألقاب وأموال الدولة، ولكنهم لم يفلحوا مجتمعين أن يعملوا في عشرين سنة ما عمله هتلر وحده في ست سنوات وستة أشهر.
لا تقل إنه الجهل أو العلم فلسنا أجهل من تركيا، ولا ألمانيا أعلم من فرنسا؛ ولكنها القوى الشعبية الطبيعية تتجمع وتتحد بالإرادة الصادقة والتوجيه النزيه فتفعل قِلتها المجمَّعة في تركية وبولندا، مالا تفعل كثرتها الموزعة في الهند والصين
معاذ الله أن يقع في ظنك يا قارئي العزيز أني أحب فردية الحكم لأني أحب أن يتولى قيادتنا رجل. فإن الرجل الزعيم الذي نرجوه، نرجوه للقيادة لا للسيادة، وللإِشارة لا للإِمارة، وللجهاد والتضحية لا للاستعباد والأثرة. وإن الرجل الذي نرجوه لنا ولكل أمة حبيبة في الشرق لا يمكن أن يطغي لأنه مؤمن، والإيمان من طبيعته كف السلطان وقتل(304/2)
الشهوة؛ ولا يمكن أن يستبد لأنه مسلم، والإسلام من شريعته حرية الإنسان وشُورى الحكم.
أحمد حسن الزيات(304/3)
المرأة في حياة الأديب
(على ذكر مقال للأستاذ توفيق الحكيم)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كتب الأستاذ توفيق الحكيم مقالاً في مجلة الثقافة عن المرأة في حياة الأدباء، أو لا أدري ماذا كان العنوان على وجه الدقة فقد غاب عني عدد الثقافة تحت أكداس من الورق والكتب والمجلات. وفي هذا المقال يذكر (أو يقرر) أن كل أديب أو كل عظيم لا بد أن تكون في حياته امرأة؛ وهو يعنى بالمرأة (على ما يؤخذ من ظاهر المقال إلا إذا كان له معنى أعمق خفي علي) امرأة معشوقة، أي امرأة تكون علاقة الرجل بها جنسية، شرعية كانت أو غير شرعية. وقد ذكر من أبناء الشرق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام، ثم طوى كل هذه القرون التي مضت ووثب إلى الدكتور طه حسين ثم إلى الأستاذ أحمد أمين ثم إلى الأستاذ العقاد، وعين المرأة التي يراها في حياة كل منهم؛ ثم قال عني إن (الكذب) هبتي (يعني الخيال والاختراع وإن كان التعبير (بالكذب) غير موفق) وقال إن الخيال يختلط بالحقيقة في كتابتي حتى ليتعذر الاهتداء إلى المرأة التي كان لها تأثير في حياتي، ولكنه أعرب عن يقينه أن في حياتي امرأة (ما في هذا ريب عنده). وقد اغتنمت فرصة كتاب جديد له (راقصة المعبد) تفضل فأهدى إلى نسخة منه فكتبت إليه كلمة وجيزة في الموضوع على سبيل التصحيح؛ ولكني أرى هنا أن أتناول الموضوع من ناحية أعم
وأنا أولاً لا أرتاح إلى هذا التناول لحيوات الناس الخاصة. وليس كونهم أدباء أو مشهورين لسبب ما، بمجيز في رأيي أن نجعل من حياتهم الخاصة وأحوالهم الشخصية (معرضاً)؛ وهذا عندي فضول أكرهه وأقل ما فيه أنه يُفقد المرء حريته واستقلاله. وإذا كنت أروى كثيراً مما أكتب على لساني وأورده بضمير المتكلم فليس معنى هذا أن ما أرويه وقع لي وإنما معناه أني أرتاح إلى هذا الأسلوب في القصة وأراه أعون لي على تمثّل ما أحاول وصفه وتصويره. فليس فيما أروي شيء شخصي، وكثيراً ما نبهت إلى هذا، ولكني أهمله أحيانا اعتماداً على فطنة القارئ
ثم إني ثانياً لا أرى الأستاذ توفيق الحكيم موفقاً في رأيه، فليس ضروري أن يكون للرجل امرأة في حياته أو للمرأة رجل في حياتها، أي أن تكون هذه المرأة المعينة هي التي وجهت(304/4)
حياته وجهتها وأثرت فيها تأثيراً جعلها كما هي. والقول بذلك لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون مظهر تقليد لبعض ما يكتبه الغربيون. وقد ذكر الأستاذ توفيق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام على سبيل التمثيل، واراه في هذا المثال مبالغاً فما تزوج النبي السيدة خديجة لأنه عشقها، بل الذي حدث هو أنه عمل لها في مالها وتجارتها فأعجبت بأمانته وسرها حسن سيرته واستقامته فرغبت هي أن يكون زوجها. وجاءه رسول يدعوه إلى ذلك أو يقترحه عليه وكان هو يعرف لها فضائلها فقبل. وكانت له نعم الزوجة الحكيمة الوفية الرزينة المخلصة. ولكنه ليس هناك عشق بالمعنى المعهود، ولا يمكن أن يقال إنها وجهته أو أثرت في حياته التأثير الذي يقصده الأستاذ توفيق حين يذكر المرأة في حياة الرجل، وإن كان غير منكور أنها كانت إلى حد عامل استقرارٍ وأمن وراحة في حياة النبي. وقد سألت الأستاذ توفيق في كتابي الخاص إليه عن المرأة المعينة في الحياة المتنبي أو أبي العلاء أو الشريف الرضي؛ ولا بأس من سؤاله أيضا عن هذه المرأة المعينة في حياة أبي نواس وبشار ومن إليهما. كلا. ليس من الضروري أن تكون في حياة الأديب امرأة معينة بالمعنى الجنسي وإن كانت حياة الرجل لا يمكن أن تخلو من المرأة على العموم. وفرق بين الأمرين. على أن كل شيء في الحياة ليس عند الأديب أكثر من (مادة) وإن كان الأمر في بعض الأحيان يبدو غير ذلك عند النظر السطحي أو السريع
وقد جعل الأستاذ توفيق مزيتي أو هبتي (الكذب) وأنا أشكر له أن رأى لي مزية أو هبة، ولو كانت (الكذب)؛ وإذا كنت أخلط الخيال بالحقيقة فإني أحسب أن هذا لا مفر منه، ولا أدب إلا به. وما أظن الأستاذ توفيق نفسه يفعل غير ذلك أو يشذ عنا معشر الأدباء (الكذابين) فما كان الأديب قط ولن يكون عدسة آلة تصوير. وإذا كان الأستاذ توفيق يظن أن الأستاذ العقاد لم يفعل في رواية (سارة) أكثر من أن يروي حادثة كما وقعت فإنه يكون قد ركب من الوهم شرَّ الحُمُر؛ فإن مزية (سارة) الغوص في لجة النفس لا الحكاية بمجردها، والكشف عن أخفى خفاياها، والتحليل الدقيق للخواطر والخوالج الخ. ولا قيمة لكون القصة حقيقية أو غير حقيقية وإلا هبطنا بالأدب إلى الإعلانات التي يقول فيها أصحابها إن القصص التي ينشرونها في مجلاتهم وقعت فعلاً
وليس ما يمنع أن تكون في حياة الأديب أو سواه (امرأة) معينة، ولكنه ليس من الحتم أن(304/5)
تكون هذه المرأة المعينة زوجة أو خليلة، أي معشوقة على العموم، ولا أن تكون العلاقة بها علاقة جنسية فقد تكون أمًّا أو أختاً أو صديقة أو بنتاً. وقد كانت في حياتي امرأة دللتُ الأستاذ توفيق عليها في رسالتي إليه وهي أمي، فقد كانت أمي وأبي وصديقتي، وليس هذا لأنه لم يكن لي أب، فقد كان لي أب كغيري من الناس، ولكنه آثر أن يموت في حداثتي، فصارت أمي هي الأب والأم، ثم صارت على الأيام الصديق والروح الملهم. وقد استنفدت أمي عاطفتَيْ الحب والإحلال، فلم تُبق لي حباً أستطيع أن أفيضه على إنسان آخر، أو إجلالاً لسواها. ومثلي في ذلك كمثل من يمص عوداً من القصب ويعتصر كل مائه، فلا يبقى من العود بعد ذلك إلا الحطب الذي لا يصلح إلا للوقود. ومن هنا عجزي عن الحب بالمعنى الشائع. نعم أستطيع أن أصادق واصفوا بالود، ولكن العشق على مثال مجنون ليلى أو كما يصفه لنا الشعراء حال لا قبل لي بها ولا طاقة لي عليها لأن ذخيرتي من هذه العاطفة نفدت وليس في وسع نفسي أن تبذل هذا المجهود مرة أخرى
ومع ذلك أقول إني أرى في عاطفتي لأمي غير قليل من جهد الخيال وإرادة النفس، وهي في الأصل ولا شك عاطفة صادقة قوية ولكنه يخيل إليَّ أني غذيتها وقويتها بالإيحاء المستمر إلى النفس، لأني كالخروف دائم الاجترار لما في جوفي. واحسب أن العاطفة قد راقتني وفتنتني إلى حد ما، أو أني وجدت فيها ريًّا لنفسي أنشده فأخطئه، فتعلقت بها وضخمت أمرها، وقويتها بالدؤوب في الإيحاء كما تقوى النار بالحطب حتى استغرقت نفسي كلها وعمرت صدري أجمعه وما أظن إلا أن هذا سبيل كل إنسان فإنه لا يفتأ يقوي عواطفه المختلفة من حب وبغض الخ بالإيحاء وإن كان هو لا يشعر بذلك ولا يفطن إليه
فإذا كان لابد من امرأة في حياة الأديب فهذه امرأة، أفلا تكفي الأستاذ الحكيم؟. ولست بعد هذا (عدواً للمرأة) كالأستاذ توفيق إذا صح هذا عنه، ولم يكن أكثر من إعلان على الطريقة الأمريكية - معذرة يا صاحبي - وأنا أنشدها أبداً ولا أرى الحياة تطيب، أو يكون لها معنى إلا بها، ولكني لا أطمعها في الحب المستغرق الآخذ بالكلْيَتين، لأنه لا قدرة لي على ذلك، ولأني أشد اعتزازاً بحريتي وحرصاً على استقلال شخصيتي من أن أسمح بأن تتسرب نفسي في نفس أخرى أو تفنى فيها أو تجعلها محور وجودها. ولكل امرئ منا طباعه وفطرته، وأنا في طباعي هذا التمرد الساكن الذي ليس فيه ضجة، وتغليق الأبواب التي(304/6)
تجيء منها الريح لأستريح. ثم أنه لا يعنيني أن تكون في حياتي امرأة أو سواها لأكون أديباً على ما يحب الأستاذ توفيق، وأنا قانع بنفسي، جداً. ولست بعد ذلك بأديب وإنما أنا رجل صناعته القلم، وقد قلت مرات - وأكرر الآن - إني كالنجار الذي فتح دكانا وعرض فيه بضاعة له مما صنع فذاك رزقه يكسبه بهذه الوسيلة، وكهذا النجار تجد عندي الخشب الجيد المتين، والصنعة الدقيقة والخشب الأبيض والقشرة والصقل المغني عن النفاسة حسب الطلب وتبعاً لحالة السوق ومبلغ استعداد الزباين للبذل. فضعني بالله حيث أضع نفسي واكفني شر الفلسفات، وإليك التحية وعليك السلام.
إبراهيم عبد القادر المازني(304/7)
من برجنا العاجي
قرأت لك في مقال أنك تساعد ناشئة الأدب. واشترطت لذلك شروطاً. وإني راض بها واليك ما يزيدك معرفة بي: أني قراض تذاكر. أجري ضئيل يبلغ 120مليماً في اليوم. وإطلاعي محدود. وذلك ناتج عن فقري. لا أقرأ غير الرسالة والرواية والثقافة. ولم أقرأ من الكتب غير بعض مؤلفات المنفلوطي وكتب أخرى. وكانت كتاباتي جيدة في الموضوعات الخيالية فقط. ولكني منذ بدأت أتأثر بكم تغلبت طريقتكم علي. وأنا قوي الذاكرة وأميل إلى التفكير. وأستطيع أن انفق في شراء الكتب الأدبية ما يقرب من نصف الجنيه شهرياً كما أني أستطيع أن أختلس للأدب خمس ساعات يومياً. لعل في هذه الإيضاحات ما يهون عليكم أمر مساعدتي على السير في طريق الأدب الذي تصفونه بأنه وعر شائك. ولقد زاد إغرائي به ما نشرتموه في (الرسالة) من تحذير للشبان من الاشتغال به في هذا العصر. . .!
نشرت هذه الرسالة التي جاءتني ضمن عشرات الرسائل في هذا الموضوع لسبب واحد: هو عجبي وإعجابي بقارىء تلك حاله. يبذل عن طيب خاطر سدس مرتبه الشهري وقسطا وافراً من وقته في سبيل الأدب. إنه ذكرني بقراء أوربا. أولئك الذين يخصصون جزءاً ثابتاً في ميزانياتهم للكتب ووقتاً منتظماً معلوماً للقراءة. مثل هؤلاء القراء هم الذين قامت على أكتافهم نهضات أوربا الأدبية. وهم الذين ظهر من بينهم أدباء أوربا العظام. فأن الأديب لا يتخرج في مدرسة. إنما ينبت في حقل الكتب والمطالعات الشخصية. وفي الأدب الفرنسي الحديث مثل صارخ لأديب من أصل بلقاني هو: (باناييت استراتي) لم يكن يعرف الفرنسية ولكنه غرق سنوات في المطالعة وضنّ بماله القليل على الطعام وأنفقه في شراء كتب جعل يلتهم صفحاتها التهاماً. وإذا هو في يوم من الأيام قد استطاع الكتابة بالفرنسية وإذا هو كاتب معروف يربح من كتبه الألوف. أعطوني إذن ألفين من طراز هذا القارئ وأنا أضمن لمصر نهضة أدبية رائعة وأدباء جددا يسيرون في طريق المجد.
توفيق الحكيم
التفاؤل والتشاؤم في الشعر
للأستاذ عبد الرحمن شكري(304/8)
إذا درس الإنسان في التاريخ اندثار الحضارات والأمم وتمكنت تلك الدراسة من نفسه لا يروعه زوال عمل عمره كما كان يروعه لو لم تتمكن ذكرى مشاهد ذلك الاندثار من نفسه، ومن أجل ذلك كنت قد طبت نفساً عما بذلت من جهد وعمل في الأدب وفي غير الأدب. لكن بعض الأفاضل لا يكتفون مني بذلك بل يريدون أن يغالوا في انتقاص ما قدَّمت من عمل، وبعضهم لا يكتفي بانتقاص عملي ويأبى إلا أن يتخطاه إليَّ. وليسوا كلهم من هذا القبيل، فبعضهم أو أكثرهم يستهويه غيره فيتكلم أو يبدأ في منطقه وتفكيره من العام إلى الخاص فيضع رأياً نظرياً أولاً ثم يلتمس الشواهد ويفسر الأمور على أن تكون أدلة لرأيه، وكان الأليق به أن يتقصى معرفة الأمور أولاً ويستخلص من شواهدها الشاملة الكاملة رأياً. لكن حضرات الأفاضل النقاد كثيراً ما يخادعون أنفسهم ويظهرون الغيرة على الرأي لا حباً للحق وللصواب.
والذي يريد أن يضع رأياً ثابتاً عاماً، إن كان في هذا الوجود أمر ثابت لا يتغير، ينبغي له أن يُفْنِي جزءاً كبيراً من عمره للتقصي والبحث والإلمام بكل ناحية من نواحي الموضوع حتى لا يكون حكمه مخطئاً. والأساتذة الأفاضل الشبان يحسبون أنهم قد قتلوا الموضوع بحثاً وأن إدراكهم له أكثر من إدراك الشيوخ؛ فهم إذا تكلموا عن التفاؤل والتشاؤم في قول - ناثر أو شاعر لم يميزوابين أثر الحالات العارضة الزائلة، وبين نظره إلى مستقبل الإنسانية؛ ولم يفرقوا بين التشاؤم الذي هو تثبيط وبين التشاؤم الذي هو استحثاث للهمم؛ ويحسبون أن كل وصف للشقاء تشاؤم كأنهم لا يعرفون أن الغفلة عنه والتفاؤل بها هو تشاؤم أحَرُّ من التشاؤم، ويخلطون بين ما تظهره الدراسات النفسية السيكولوجية من حقائق مُرة وبين التشاؤم. كأنهم يريدون أن يبقى الناس على جهلهم بنفوسهم، وهذا هو التشاؤم حقاً؛ وإنما يكون التفاؤل أن تعرف النفس نفسها، وأن يكون لهذه الدراسة والمعرفة أثر في صلاحها ورقيها؛ وهم أيضاً لا يميزون بين ما قد يدعو إليه شعر العاطفة والدراسات النفسية من وصف حالات النفوس على اختلاف تلك الحالات من حسنة وكريهة، لا دعوة للتثبيط بل دعوة إلى أن يكون الشعر شعراً حيًّا لا أدباً ميتاً متكلفاً للتفاؤل ومكفناً به. ولا يميز هؤلاء الأفاضل بين يأس العجز والقنوط والتراخي، ولا بين يأس الاستبسال الذي هو قوة تفوق أمل أحلام المخدرات وأماني ذوات الخمار. والذي يدعو إلى التشاؤم حقاً هو أن(304/9)
تنُشر في الرسالة قصيدة (العصر الذهبي) التي نظمت لتمجيد جهود الإنسانية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومحاولتها تحقيق ذلك العصر الذهبي الذي نحلم به؛ وقصيدة (نحو الفجر) التي جُعل الفجر في آخرها رمزاً لفجر مستقبل للإنسانية؛ وقصيدة: (شهداء الإنسانية) التي تدعو إلى نصرة من ضحوا بحياتهم وسعادتهم في خدمتها، وإنما يكون الانتصار لهم بالانتصار للمُثل العليا التي ضحوا بحياتهم وسعادتهم لتحقيقها؛ وقصيدة (الشباب) التي تعبر عن أمل الإنسانية في جهود الشباب وآماله وأحلامه؛ وقصيدة (الباحث) الذي خلده البحث والأمل، والذي ينشر للإنسانية الحق والرقي؛ وقصيدة (إلى المجهول) التي تدعو إلى تقصِّي أسرار الحياة والخليقة؛ أقول مما يدعو إلى التشاؤم حقاً أن يأتي إلى قراء الرسالة كاتب يقول: إني أدعو إلى التشاؤم بعد ما نشرت فيها. وليست هذه كل قصائد الأمل؛ فقد نُشر فيها أيضا قصيدة: (الأمل) الطويلة في وصف آثار الأمل في الحياة. وقصيدة: (النجاح) و (فن الحياة) تقديساً لمسرات الفنون والحياة وجعلها فناً في جميع مظاهرها، وقصيدة (سر الحياة) وفي آخرها إظهار عبث الشكوى منها، وأن الشكوى ليست مؤسسة على حقيقة ثابتة، بل على حالة نفسية. ونُشر لي في الرسالة في وصف محاسن مشاهد الكون والحياة: (ليلة حوراء) وبين الجمال والجلال) و (الفصول) و (سحر الطبيعة) و (على بحر مويس) و (الصحراء). . . الخ. ومما يدعو إلى التشاؤم حقاً أن يكتب الأديب الفاضل في المقتطف لقراء المقتطف: أني أدعو إلى التشاؤم وقد نُشر لي فيها: (بين الحق والحسن) وهي وصف للصراع النفسي بين نشدان الجمال وطلب الحقيقة؛ وفي آخرها ذكر أن طلب الحقيقة في الحياة والحياة نفسها لا يدومان إلا مع نشدان الجمال فيها. ونشر لي فيها أيضاً قصيدة (قيد الماضي) وهي دعوة للإنسانية أن تأخذ من الماضي عظاته، وألا تتقيد بطباع الأثرة والأحقاد التي خلفتها الدهور الطويلة. ونشر لي فيها قصيدة: (النشوء والارتقاء) وهي دعوة لمساعدة هذه السُّنة في الأمور النفسية والخلقية كما سرت وتسري في الأمور العقلية. ونشر لي فيها أيضاً قصيدة (أمنيتان للنفس) وفي الأمنية الثانية أي طلب القوة كل أمل ولذة في الحياة. ونُشر في المقطم قصيدة (الأبد في ساعة) وهي دعوة إلى استرسال النفس في مطالبها غير المحدودة. لقد كنت أفهم قول الدكتور أدهم لو نقد ما نُشر لي قائلاً إنه دعوة إلى التفاؤل بولغ فيها وغولِيَ بها؛ وقديماً قد ميزت بين(304/10)
أمل وأمل ويأس ويأس، فقلت في الجزء الثاني: إن أمل الغفلة والأثرة وقلة الاهتمام بشؤون الإنسانية هو أمل مخضب بالدم:
هل يَنْفعنِّي ذلك ال ... أملُ المُخَضّبُ بالدم
يدحو شقاء الأبريا ... ء وينثني لم يُكْلَمِ
وميزت بين يأس الكسل والعجز والخمول ويأس السخط والمساورة:
وفي اليأس يأس يبعث المرء بعثة ... إلى الغاية القصوى من السعي والجد
وقلت إن الخير أغلب على الإنسان:
صَرَّحَ الخير والأذى ... فيه والخير أغلبُ
فإلى العُجْمِ نسبة ... والى الله يُنْسَبُ
وقلت إن الأمل والعمل من صفات العظمة:
أعاظم الناس في اللأواء كم صبروا ... إن العظيم عظيم السعي والأمل
وقلت إن الأمل هو حسن الحياة:
كأن حياة المرء حسناء أرمل ... إذا قيل ساءت حالها طاب حالها
لها شافع يدعو إلى الحزن حكمه ... وآخر يخشى أن يزول جمالها
وقلت إن ألم النفس قد يكون حلية لها:
ألم تَرَ أنَّ القُرْطَ ليس بحلية ... على الأذْنِ حتى تؤلم الأذن بالثقب
وإن الآمال النبيلة هي دواء الشر والشقاء ومبعث إلى الرقي:
آمال تنْسى الفتى شقاوته ... وتُعْدِم الشر أي إعدام
تسمو بنفس المحب عن دَنَس ... فيها ولؤم جَمٍّ وأوغام
وفي قصيدة أخرى:
يرقى الوجود بعيش الصالحين له ... من ليس يدركهم عجز ولا كلَلُ
إن الحياة جهاد لا خفاء به ... فليس يُفلح إلا الأغلب البطل
وفي أخرى:
وعِشْ مع هذا الكون كَوْناً مُعَظَّما ... وكُنْ في قواه بين ناهٍ وآمر
وفي أخرى:(304/11)
فإني رأيت النفس كالأفْق بَهْوُها ... تسير بها الآمال سير الكواكب
وفي قصيدة (المجاهد الجريح):
ولا أشتكي أني جرعت مريرها ... فيا ليت عمراً في الحياة يعادُ
فأجرع منه الحلو والمر إنما ... مشارب من يهوى الحياة بِرادُ
جهلنا فما ندري على العيش ما الذي ... يراد بعيش نحن فيه نُقَادُ
سوى أن عيش المرء بالشك فاسد ... وأن يقيناً في الحياة رشادُ
وعلى ذكر (المجاهد الجريح) أقول إن أكثر عنوانات قصائدي يدل على الدعوة إلى الأمل كما يتضح من ذكر ما ذكرت من القصائد وما لم أذكر كالإيمان والقضاء والحياة والعمل والعظيم والبطل وقوة الفكر والكونان وعلالة العيش والمثل الأعلى وخلود التجارب والملأ الأعلى وزورة الملائكة
ففي قصيدة (الحياة والحق):
لولا فروض العيش لم أعبأ له ... جيشاً من الآراء والعزمات
إن التجارب كالأزاهر جمة ... أو ما اغتفرت الشوك للزهرات
يا قلب لا يُغْنيك ذعرك للأسى ... فالخوف أول مهبط المهواة
وفي (العيش والرجاء):
لو أدرك الإنسان آماله ... وصابه منها كقطر المطر
ولم يَعُدْ يعرف ما يبتغي ... ولم يجد في العيش ما يُنتَظَر
لكان أشقى الناس في عيشِهِ ... حتى تقول النفس أين المفر
لا عيش إلا بِطِلاب المنى ... لولا المُنَى في عيشه لانتحر
وفي قصيدة (مرحباً بالأقدار):
أدِرْ علىَّ كؤوس العيش قاطبة ... سعد ونحسٌ وإهوان وإكرام
إلى:
هذي مرارة كأس لذ شاربها ... خمارها فهو عَبَّاسٌ وبَسَّامُ
وفي خلود التجارب:
وما العيش إلا حكمة وتهادن ... فتخلط مجهولاً لديه بمعلوم(304/12)
وتخلط حلواً في الحياة بحنظل ... وتأخذ من عيشٍ حميدٍ ومذموم
وقد صحَّ أن الجد يُلهى عن الأسى ... وإنْ كان جداً لا يجيء بمغنوم
وفي قصيدة المثل الأعلى:
والعيش إنْ لم تَبْغِهِ لعظيمة ... فالعيش حُلْمُ طوارق الأعوام
والنفس إمَّا شئتَ كانت عالماً ... يسع الدنى في طوله المترامي
وفي قصيدة الملأ الأعلى:
مرحباً بالملأ الأعلى الذي ... شرفت داريَ منه والفِناء
أَسعدوني أقتبس من نوركم ... بُلغة النفس ورِياً للظماء
طهرت نفسيَ في أضوائكم ... مثلما تطهر أجسام بماء
وشممتُ الخلد من أنفاسكم ... نفس يشفى من الداء العياء
وأرى في النفس رسماً منكُم ... مثل رسم النجم في متن النِّهاء
وعبيراً كشذى الأزهار إنْ ... خَلَّفَتْ في الأنف ذِكْرَى كالذِّماء
وفي الملك الثائر:
والشر والخير لا يُرْجَى افتراقهما ... فارفض إذا اسْطَعْتَ نعمائي ولذاتي
حتى العقول وحتى الفضل أجمعه ... ولذة النفس في بذل المروءات
وحتى قصيدة الموت جُعِل الموت باعثاً للأمل:
وهيهات أن يسلو عن العيش جازع ... من العيش حتى يصبح العيش ماضيا
وحتى يموت الحب والذِّكْرُ والمُنى ... وتتلو نواعي الشائقات المناعيا
وحتى يموت الموت لولاه ما بكى ... حريصٌ على دنياه يخشى المرازيا
وفي قصيدة (طيرة الفرخ):
فَسَلْ قلب الشهيد عن البلايا ... يُخَبِّرْكَ الشهيد عن الحبور
وفي قصيدة (الشجر والغراب):
إذا أنت ما ذقتَ مِنْ ضُرِّها ... أتعرف ما الخير مِنْ شَرَِها
وفي الصبر صبرٌ يُريكَ الدنى ... كأنك رُفِّعتَ عن أمرها
وفي قصيدة (أصبر):(304/13)
اصبر لعل النحس في لونه ... إذا دجا ظِلٌ لدانى النعيم
لعل دمعا منك لم تَحْتَسِبْ ... يُنْبِتُ زهرا في اليباب العقيم
لعل دمع النحس در له ... يُسْلَكُ في عقد الرخاء النظيم
كم خيبة تعقد عزم الفتى ... للنهر لولا الصخر خطو السقيم
وفي (علاله العيش):
وإن ضياء العيش يزهو رواؤه ... لأنْ حاطه بين الأنام ظلام
وأما وصف محاسن الكون والطبيعة، ففيه قصائد كثيرة مثل (سحر الربيع) و (خميلة الحب) و (الفصول) و (ليلة حوراء) الخ.
ولو أن الأستاذ الفاضل تقصى كل ما كتبت من نثر وشعر لعلم أن ثقافتي غير مقصورة على مذهب واحد، ولا أحتذي احتذاء أعمى، وإنه حتى القصائد التي بها وصف الشقاء أو مقابح النفس أو الموت أكثرها به أيضاً وصف محاسن الحياة. وإذا كنت قد أخطأت الذوق الفني الصحيح في دراسةٍ نفسيةٍ فهذا من خطأ المبتدئ المغالي الذي أراد أن يقلب الأدب من صناعة فحسب إلى دراسات سيكولوجية ربما لا يعجب بها الأستاذ؛ وربما كان من الخطأ عملها والأستاذ أوسع ثقافة من ألا يرى تعدد مذاهب الثقافة في قولي حتى يقصره على مذهب واحد شأن الذي لم يطلع عليه. وإذا لم يكتف الناقد الفاضل بهذه الشواهد والقصائد العديدة ذكرنا له غيرها، وليس أربنا تخليد قولنا، فقد رضينا باندثاره لو رضى أمثال الناقد الفاضل. وقد كنا هجرنا الكتابة والنشر من سنة 1918 إلى سنة 1935 وما عدنا إلا بسبب التحرش من ناحية، والتأنيب من ناحية أخرى.
عبد الرحمن شكري(304/14)
أعلام الأدب
بين أرستوفان ويوريبيدز
وبين يوريبيدز والمرآة
للأستاذ دريني خشبة
كان يوريبيدز شذوذاً كبيراً في العصر الذي كان يعيش فيه. . . لقد كان ثورة جامحة هدامة لا تدع شيئاً إلا أتت عليه، ولا ترى شيئاً يقدسه الناس إلا سخرت منه واستهزأت به وتهكمت عليه. . . وكانت سخريته مع ذاك لاذعة ضارية لا يهمها أن تكون وحدها في جانب وكل أعدائها وهم جمهور الأثينيين أو كثرتهم الساحقة في جانب أخر
وكان الناس حزبين في يوريبيدز: كثرة محافظة من الرعاع ورجال السياسة والتجار يسوؤها أن تهان آلهتها وتستباح تقاليدها فهي ضده وهي تكرهه وهي تنقم عليه وتهزأ به وتسخر منه كما يسخر منها، ولكن على طريقتها البورجوازية في السخرية والاستهزاء. . . وكانت مع ذاك تتخذه هُزُواً وتجري وراء أرستوفان كيما يضحكها عليه، ويؤلف لها المهازل في ثلبه والطعن عليه والتشهير به وتسفيهه ونهش عرضه وإرسال لسانه في أبيه وفي أمه على السواء. . . وقلة مستنيرة مثقفة كانت تعرف ليوريبيدز حقه، وكانت تؤمن بأنه صاحب رسالة عالية ستعود بالخير الجزيل على الإنسانية في كل زمان ومكان، وستظل مَعيناً نَميراً سائغاً يقبل عليه الظماء فيروون منه ويعالجون آلامهم ويلتذون فيه الأدب والفن والفكر والجمال والعبقرية
لكن هذه القلة كانت تخشى الرعاع الناقمين على يوريبيدز، وحق لها أن تخشاهم لأنهم ليسوا رعاعاً جَهَلة مثل رعاعنا، بل كانوا رعاعاً متعلمين، لأنه لم يكن في أثينا في عصر يوريبيدز رجل واحد غير متعلم!
كانت هذه القلة إذن لا تستطيع أن تنفع يوريبيدز العظيم، لأن الرعاع الذين يؤلفون كثرة الجمهور الأثيني وجدوا لهم شاعراً آخر لا يقل عبقرية عن يوريبيدز، لكنه شاعر جامد مغلق التفكير محافظ أشد المحافظة على تراث السلف، فكان يؤلف كوميدياته في الطعن على شاعر القلة المهذبة المستنيرة والنيل منه والإزراء بأدبه وتفكيره، وكان يجد جمهوراً(304/15)
كثيراً ضخماً يصفق له ويقبل عليه، ويستزيده من ذلك التضحيك المؤلم المرير الذي كان يعصف بنفس يوريبيدز؛ وكان ذلك الجمهور يدفع مع كل هذا ثمن التضحيك والسخرية أموالاً جمة ضخمة، فإذا شهد التمثيل خرج نشوان بما سمع، ثملاً بما رأى، وراح يجادل في مُثُل يوريبيدز من غير هدى ولا برهان مبين. . . إلا هذه النكات التي صنعها فيه أرستوفان، وصنعها شائكة نافذة حامية، وإلا هذه المشاهد التي تظهر فيها الحمير على المسرح ويظهر فيها أقرباء يوريبيدز من الرجال المحترمين متنكرين في زي النساء الساقطات اللائى لا أخلاق لهن، حتى إذا عرف الجمهور حقيقتهن أغرق في ضحك طويل مرير وانطلق يصفق ويصفر وهو يقبض على الكبود والقلوب من كثرة الضحك وشدته
وكانت النساء في أثينا من حزب أرستوفان على يوريبيدز، لما كن ينقمن منه تناوله حياتهن الخاصة في دراما ته تناولاً لم يكن سائغاً في ذلك العصر، بل كان تمزيقاً للحجب الكثيفة التي كن يعشن وراءها قابعات في الخدور أو مقصورات في الخيام، مما عددنه منه قلة أدب وقلة وحياء وقلة ذوق، بل قلة في كل مظهر من مظاهر الفضيلة والحفاظ، وسنة السلف الصالح.
لقد كانت مِسِزْ جراندي التي هيمنت طوال العصر الفكتوري على المنزل الإنجليزي وعلى الفتاة الإنجليزية تهيمن بشدة وعنف على المنزل الأثيني والفتاة الأثينية. . . والمسز جراندي هي تلك العجوز الشمطاء المتزمتة التي كانت تكره للفتاة الإنجليزية كل تقدم وكل رقي، وكل ثورة على العرف، وخروج على التقاليد، وكانت تفرض سلطانها على البيئة الإنجليزية فتحترم وتطاع احتراماً كلياً وطاعة عمياء. وكان الوسط الإنجليزي يقدس أوامر مسز جراندي ويأخذ بها نفسه، ومسز جراندي مع ذلك شخص خرافي لا وجود له، لكنها كانت تمثل التقاليد الإنجليزية الموروثة بحيث لا تسمح لأحد بالثورة عليها. فإذا ظهر أديب مثل يوريبيدز لا يبالي سنة السلف صاحت برعاياها أن حذار، ثم سلطت عليه السفهاء الجامدين من أمثال أرستوفان يشعبذون عليه، ويسخرون به، لكنها شعبذة لم تكن قط تبلغ عشر معشار ما بلغت شعبذة مسز جراندي في البيئة الأثينية. . . وكان يثير مسز جراندي الأثينية على يوريبيدز ما كان يبديه هو من ثورة على التقاليد التي كانت تفرضها مسز جراندي على قومه. . . فلقد كان يتناول في دراماته العلاقات الشائكة بين المرأة والمرأة،(304/16)
والعذراء والعذراء والمرأة والرجل، بل غالى مغالاةً مخيفة فتناول موضوع الميل الجنسي الشاذ عند الذكور في درامته المفقودة (خريسبُّوس)، وموضوع الصبوة الزوجية في مثل مأساة امرأة عزيز مصر مع النبي يوسف في مأساته هيبُّوليتوس - التي سنلخصها للقراء - والتي عالج فيها مشكلة الطلاق، ومأساته المفقودة (ستينبويا) التي عالج فيها المشكلتين معاً.
وكان يوريبيدز لا يستحي في معالجته هذه المشكلات أن يستشهد بتجاريبه هو، وأن يطبقها تطبيقاً صريحاً، ولكنه تطبيق علمي سيكولوجي. كان له الفضل في ابتداعه ومحاربة الخجل الذي يخفي بسلاحه، ولذلك أطلقوا على يوريبيدز (إبسن القديم) إشارة إلى المسرحي العظيم هنريك إبسن الذي نقل الرواية التمثيلية من عالمها الرومانتيكي إلى عالم الحقيقة والواقع في عصرنا الحديث. . .
لقد كان يوريبيدز شذوذاً كبيراً في العصر الذي كان يعيش فيه، ولقد كان كما قدمنا ثورة جامحة على تقاليد عصره، ولن ينسى التاريخ يوم جال أرستوفان وصال، وراح يستصرخ نساء أثينا عليه، ويغري بينه وبينهن العداوة والبغضاء، ويهتف بهن أن يثأرن من يوريبيدز لشرفهن وحفاظهن وتقاليدهن استباحها جميعاً في مأساته (ميديا) تلك المأساة التي كانت نجاحاً رائعاً ليوريبيدز؛ بل كانت تكفي وحدها لتخليد الاسم الذي يتشرف بأنه اسم مؤلفها. ومع ذاك فقد انتصر الجمود عليها، وظفرت الرجعية الذميمة بها، فسقطت سقوطاً شنيعاً بعد العرض الأول
قال جيته: (لا أدري إذا كان أي مسرحي في أية أمة خليقاً أن يحمل نَعليْ يوريبيدز فيقدمهما إليه!!)
كلمة ساخرة من جيته!! وقد أرسلها في أعداء يوريبيدز، وناقدي دراماته وخص بها قبل كل شيء عدوه الأكبر أرستوفان لكن أرستوفان، وإن يكن أديباً رجعياً شديد المحافظة على تراث السلف الصالح، إلا أنه كان موضع إعزاز أفلاطون. وأفلاطون لا يجعل أحداً موضع إعزازه عبثاً. فقد كان يشهد لأرستوفان أنه وحده الذي عرف قيمة الحياة. فضحك ثم ضحك ثم ضحك. وجذب إليه الناس ليضحكهم عليها وعلى الحقيقة وعلى يوريبيدز!
والآن، ما هي ميديا هذه التي أحفظت نساء أثينا على يوريبيدز والتي استغلها أرستوفان في(304/17)
إعلان الحرب على الرجل الذي ألهمه فنه إذ هو طفل أو غلام في السادسة عشرة حينما كان يذهب إلى المسرح في حرقة وتشوق للتمتع بدرامات يوريبيدز؟ إنها مأساة دامية تذيب نياط القلوب بما حشده فيها يوريبيدز من العواطف المتضادة المتنافرة، وألوان القسوة التي لا تتورع المرأة من ارتكابها في سبيل لذتها وحبها. إنها مأساة مشتقة من خرافة جاسون التي لخصناها للقراء منذ عامين. ثم هي حلقة مكملة لمأساة أخرى نظمها يوريبيدز في التاسعة والعشرين وسماها: بنات بلياس
وجاسون ابن ملك تساليا هو بطل الدرامتين، وقد كان له عم يدعى بلياس طمع في الملك واستعان على أخيه بجيش أجنبي فخلعه وتولى هو مكانه. ثم قبض على الملك وزوجه وأقام عليهما رقابة شديدة صارمة. وأرسل الملك المخلوع ولده الطفل جاسون إلى السنتور الخرافي شيرون ليعلمه الفروسية. حتى إذا شب ذكر له ما كان من عمه مع والديه، وأهاب به أن يثأر لهما ولنفسه وأن يخلع ويتربع هو على العرش لأنه به أحق. وعاد جاسون بعد إذ استوى عوده وزوده أستاذه بالنصائح الغالية، وأوصاه بمكارم الأخلاق، وأن يحترم كلمته ويبر بوعده. وقد فوجئ بلياس الظالم بحضور ابن أخيه، وكانت نبوءة قد حذّرته منه لأنه سيكون سبب قتله، فلما طلب إليه جاسون أن يخلي له مكانه من الملك عمد بلياس إلى الحيلة، فانتهز فرصة غناء المطربين، وإنشاد المنشدين في حَفل كان قد أقامه لعقر القرابين للآلهة، ولفت انتباه جاسون إلى قصة الفروة الذهبية التي يحتفظ بها الملك إيتيس - ملك البربر ووالد ميديا - وحرضه على الحصول عليها. واستثار فيه نخوة الشباب وخيلاءه، فوعده جاسون بها. وبعد مجازفات وصعاب ومحن وصل جاسون إلى الملك إيتيس حيث لقيته ميديا فمالت إليه؛ بل جنت به، حتى إذا عرفت ما جاء له وعدته بالمساعدة، وكانت تعرف من فنون السحر ما تتغلب به على كل محال. فأعدت له مخدّراً أدناه من التنين الهائل الذي كان يحرس الفروة الذهبية فاٍستغرق في سبات عميق. وذبحه جاسون وحمل الفروة الذهبية وفر بها مصطحباً ميديا وأخاها الصغير أبستروس حتى إذا كانوا عند البحر ركبوا في السفينة التي أعدها جاسون لهذا الغرض - وكان اسمها الآرجو - فأقلعت بهم تحت جنح الظلام
وفي الصباح اكتشف الملك إيتيس الأمر فجن جنونه لفرار ابنته، ثم لأنها صحبت معها(304/18)
ولي عهده وولده الأوحد أبستروس، ثم لضياع كنزه الثمين الذي لا يقدر بملء الأرض ذهباً. . . فيعد سفينة عظيمة ويبحر في نفر من صفوة بحارته وأجناده في إثر الآرجو. . . وتمضي بضعة أيام، وتدنو سفينة الملك من الآرجو حتى تكاد تلحق بها، فيشتد ذعر ميديا، ولا تصغي إلى توسلات أبيها الذي تعتقد أنه معذبها أشد العذاب إذا وقعت في يديه أو استسلمت إليه. . . وهنا تذبح أخاها ولي العهد وتقطعه إرباً ثم تلقى في اليم وراء الآرجو بالقطعة منه وراء القطعة، فيضطر الملك البائس إلى انتشال أشلاء ولده باكياً متفجعاً، فتبطيء سفينته وتغيب الآرجو وتفلت ميديا وجاسون
لقد وعد جاسون ميديا أن يتزوجها إذا هي ساعدته في الحصول على الفروة الذهبية، وقد فعلت، فلما آب إلى وطنه بنى بها وعاشا في رغد وبُلهْنية، ورزقا غلامين جميلين
هنا تبدأ الدرامة الأولى (بنات بلياس). . يظل جاسون زماناً لا يستطيع الحصول على العرش، ويضم إليه أبويه المحطمين الهرمين، فترثي لهما ميديا؛ وبصنعة جميلة من سحرها ترد عليهما شبابهما فيرتدان أجمل مما كانا في شرخ صباهما؛ ويتسامع الناس بما كان من ذلك، وتعلم بنات بلياس اللائى كن قد أبدين السخرية بميديا وأشعرنها احتقارهن، بما تم لعمهن وزوجته من ارتدادهما إلى الشباب بسحر ميديا، فيأخذن في ملاطفتها، ثم يسألنها أن تعيد إلى أبيهن شبابه حتى تطول أيامه في الملك، وهنا تشير عليهن أن يذبحن الملك بعد أن ينام ثم يقطعنه إرباً حتى تحضر هي فترده إلى الحياة كما ترد إليه شبابه وتخلع عليه بُرْد صباه. . . ويطيعها بات بلياس فيقتلن أباهن. . وبذلك يتخلص منه جاسون. ويصبح البنات مجرمات في نظر الشرع والقانون؛ لكن جاسون يستطار من شناعة ما تصنع ميديا، فلقد ذبحت أخاها دون أن تأخذها فيه رأفة ودون أن يتحرك قلبها لتوسلاته وعبراته، ثم راحت تمزق بدنه وتلقي بأشلائه في اليم. . . وهي اليوم تصنع مثل الذي صنعت بالأمس فتحرض بنات عمه على تلك الفعلة الشنعاء. . .
لقد تبدلت نظرة جاسون، ورفع عن بصره غطاؤه. . . لقد كره ميديا!
ثم تبدأ الدرامة الثانية، التي هي مفخرة يوريبيدز، والتي سماها (ميديا)، والتي أقامت نساء أثينا وأقعدتهن، والتي ألف من أجلها أرستوفان ملهاته (محاكمة يوريبيدز) أو -
يفر جاسون مع زوجته وولديه إلى كورنثة حيث يحل ضيفاً على ملكها كريون العجوز(304/19)
الشيخ الذي لا نَسل له إلا فتاة بارعة الجمال. . . ويكرم الملك مثوى ضيفه الذي طبقت شهرة شجاعته الآفاق ثم يسر إليه أنه يرغب في أن يتخذه ولداً ويزوجه ابنته على شرط أن يقطع ما بينه وبين زوجته ميديا الساحرة ابنة ملك البربر. . . ويتردد جاسون ثم يقبل عرض الملك، لكنه يبقى الأمر سرّاً بينهما حتى يدخل بزوجته الجديدة، ثم يرسل الملك بعض جنوده للقبض على ميديا التي تكون قد عرفت كل شيء، وقهرها على مغادرة كورنه هي وولداها. . وتحتال ميديا فيمهلها الملك يوماً واحداً حتى تأخذ أهبتها للسفر، ثم تحتال فيلقاها جاسون حيث يفرغ كل ما في سريرته للآخر، ويكلمها جاسون في برود وتكلف، وتخاطبه ميديا في ازدراء وخشونة وأسلوب كله بَرَم ومَن. . . ثم يلقاها مرة أخرى فتبدو كأنها غفرت له كل شيء أو كأنها نسيت كل شيء، ثم تسأله أن يذهب هو وولداها إلى زوجته الجديدة بهديتها التي يسعدها جدّاً أن تتقبلها من امرأة محطمة كسيرة القلب مهيضة الجناح، فيهش جاسون ويذهب بالهدية وهي ثوب من دمقس وحرير مفتل فيقدمها لزوجته التي تفرح بها. . . لكنها ما تكاد تلبس الثوب حتى تحس بإبر الموت تخزها وتنفذ بالآلام المبرحة إلى نخاعها. . أوه!. . إنه ثوب مسموم احتفظت به ميديا لمثل هذا اليوم!! لقد ثأرت ميديا لنفسها كما ثأرت لكبريائها. . لقد ماتت الزوجة التاعسة من برحاء الألم!. . . لكن ميديا لا تكتفي بهذا الثأر يقع على فتاة بريئة أو قد تكون بريئة. . . إنها تذهب في ثأرها إلى أبعد حدود القسوة البشرية وأشقها. . . لقد قتلت أخاها أبستروس ومزقته إرباً ورمت بأشلائه في البحر لتعرقل أباها من أجل جاسون وفي سبيل حبه. . . فلماذا لا تقتل ولديها نكاية في أبيها، ومبالغة في تمزيق قلبه؟!. . . يا للثأر؟!
ويعلم جاسون بما انتوته فيسارع لإنقاذ الطفلين. . . ولكن! واأسفاه! لقد ذبحتهما الشقية! وهاهو ذا جاسون يقف على جثيتيهما باكياً محطوم القلب مشبوب الجوانح بالحزن الذي ليس مثله كمد ولا حزن
وفي هذه الثورة تبتسم ميديا. . . وتزدري جاسون. . . ثم تركب تنّينها السحري فيطير بها في الفضاء تاركة وراءها الزوج الشقي والجثتين الحبيبتين!
ثارت الأثينيات على يوريبيدز بعد هذه المأساة ثورة جامحة لأنه صرح فيها بأن ميديا صورة من بنات حواء جميعاً، وأنه ليس فيهن من يفضلها قط، وأن كل امرأة تصنع من(304/20)
أجل لذاتها أسوأ مما صنعت ميديا التي خانت أباها في كنزه، وذبحت أخاها وولى عهده، وفرت مع عدوه، ثم مكرت ببنات بلياس فهيأت لهن قتل أبيهن، ثم لم تتورع من أن تقتل طفليها غير آبهة ببكائهما الذي يفتت الصخر لا الكبود وذلك لتتم لها اللذة المجرمة الفتاكة، لذة الانتقام، كما تمت لها الآلام والنكبات لذة الحب. . .
وكان يوريبيدز بارعاً في جميع دراماته التي شنّ بها حربه السيكولوجية على المرأة والتي سنعرضها في الفصول التالية، فأنت لا تقرأ له درامة من تلك الدرامات إلا وتنتهي منها إلى الرثاء للمرأة مهما تكن شريرة عاتية، بل ربما أعجبت بهذه المرأة الشريرة العاتية وشعرت بالعطف عليها، وتمنيت لو كانت خاتمتها خيراً لولا ذلك الأسلوب البارع الذي يسلسل فيه يوريبيدز حوادث مآسيه، والذي يقتضي تلك الخواتيم التي لا يكون محيص منها ما دامت الحوادث تتسلسل هكذا!
لقد جعل أرستوفان من يوريبيدز موضوعاً لكثير من مهازله. وقد حفظ لنا الأثر ثلاثاً من هذه المهازل كلها عن يوريبيدز، وقل أن تجد لأرستوفان مهزلة غير هذه الثلاث لم يتعرض فيها ليوريبيدز بنكتة أو غمزة أو سخرية. . . وكان يوريبيدز يتألم أشد الألم وأبلغه لسخرية الشعب به، وتهكمه على أفكاره، حتى إذا طفح الكيل، لم ير بداً من الهجرة إلى مقدونيا كما سيمر بك
دريني خشبه(304/21)
العالم
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
يسير الخير على هينته، ويمشي على رود لطيته
ويغذ الشر في سيره الحثيث على أوفاز، ويهتلك في عدوه، كميش الإيزار، فتتزلزل الأرض من وقع فيالقه الشهباء، ونسمع الجلبة والقعقعة فيقال:
إن العالم يزداد انغماساً في المعاصي والسيئات، ويوغل في ارتكاب كل محظور ومحرم. . .
ولكن هذا ليس بصحيح، لأن الفضيلة تتريث في مسيرها وتتئد في خَطْوها وتنثر بذرها بيد التمهل والترزن
في حين ينفض الإثم أجواز الأمصار معلناً أوزاره التي تستفيض هيعتها المنكرة في الأقطار، ويطير ذكر سوءتها الفاضحة في الآفاق، فتنصت لها الأصداء، وترّجعها الأنحاء. . .
وكما أنه ليس ثمة ريب في أن الأرض تتحرك وتدور حول الشمس المضيئة
كذلك نعلم أنه لا بدّ أن يتمّ الله تعالى أمر الذي يقضي: بأن يُصلح شأن جميع الجنس البشريّ
وعلى الرغم من جيشان أمواه الشرّ، وارتفاع هديرها، وغزارة طموّها، فإن حصيد الحقّ الذهبي ينضج بسرعة، وتسطع أنوارُ حافره الباهرة، وتكسف بسناها شموس الماضي فترتفع بأفكار الناس إلى كبد العلاء وتصيرها أرقى مما كانت. . .
إن الذي يسير موغلاً قد يقرأ هذه الحقيقة التي أرددها قائلة: اعلم أن الإثم يتجوّل راكبا عربة ترتفع لعلعة عجلاتها الصاخبة في الحزون والسهول
في حين يذرع الصلاح فراسخ السماء، ويعلو رونقه حين يطلّ من محرابه النقيّ على أرض الشقاء، متألقاً تألق النجمة الزهراء
فيتوقل العالم كل يوم في معارج السمو والارتقاء.(304/22)
خواطر
للأستاذ فليكس فارس
لا أعلم ماذا عني واضع تعبير الشعر المنثور، ويخيل إليّ أن هذا الترتيب المستحدث في اللغة العربية إنما ترجم حرفيًّا عن (فير ليبر) بالفرنسية؛ غير أن المترجم التوى عليه المعنى لظنه أن كلمة (فير) تترجم بكلمة (شعر) في حين أنها لا تعني إلا المنظوم من الكلام بوزن وقافية. ولا أرى في العربية ما ينطبق على هذا التعبير الفرنسي إلا (النظم المنفرط) أو حل الشعر وإطلاقه من وزنه وقافيته لإرساله نثراً، وذلك ما يكلفه التلامذة لتسهيل فهم الشعر عليهم ولتعويدهم سبك المعنى الواحد على صور متعددة.
أما (الفير ليبر) في الأدب الأوربي فليس إلا بدعة جاء بها المتأخرون كما جاءوا بأنواع الرسم المكعب والشعر المستغرق في الرمزية، وما هي على ما اعتقد إلا ظاهرة لتقلص الأعصاب في المدنية المتعبة
وإنني لأعجب للأدباء في الغرب يضعون كلمة (فير ليبر) ولا يفطنون لما في مبناها من التناقض، فإن النظم مقيد إلزاماً، فإذا أطلق من أوزانه خرج عن صفته وأصبح نثراً
إن البيان من الفكر كلام، ومن العواطف نغمات؛ والنظم معلق بين الكلام والنغمات، يتناول من الأول نتاج الفكر، ومن الثاني خطرات الهوى؛ غير أنه أقرب إلى القلب منه إلى الدماغ، لأنه لا يقوم على حجة ودليل، بل يخاطب ما انطوى في السرائر وما يطمح الناظم إلى وضع مقدمات لاستخراج ما يريد استهواءك إليه، إذ حسبُه من بيانه أن ينفذ إلى ما استقر فيك من مقدمات إن خلت سريرتك منها انزلق عليك بيانه فإذا أنت ضاحك من بكائه، مستهزئ بشجوه وتحنانه
ما النظم المنثور الذي يسمونه شعراً منثوراً إلا بيان حائر، بل هو جنين تمخض به الخيال وضعف عن مدّه بالتكامل فلفظه مسخاً لا يصلح للحياة
إن للنثر أوزانه الخفية وبحوره التي لا ساحل لها، وللنثر الناضج موسيقاه المطلقة كأمواج البحر تتالى ولكل موجة شكلها وتعاريجها؛ ذلك لأن خطرات الفكر نبضان لا يتكرر على وتيرة واحدة في الدماغ، في حين أن النظم وهو صورة نبضان القلب لا يطلق موسيقاه إلا على نظام الوحدة في تكرار ضرباته(304/23)
ولعلك إذا نظرت إلى هذه الأشرطة التي تطبع عليها كهرباء القلب صورة خفقانه يدهشك منها ما تمثله لديك من أبحر الشعر في أنواعها، فمن القلوب ما تبسط على الرسم البحر (الطويل) في هدأتها، ومنها ما تصور البحر (المتدارك) في ثورتها، ومنها ما حلا لها كبعض أدباء هذا الزمان أن تمسخ نظمها نثراً فتراها تأتيك بالطويل والقصير والرجز والمتدارك متداخلة متركبة، ومثل هذه القلوب قد استنفدت كهرباءها وآذن اختلالها بقرب انصداعها
من غرائب التقليد في هذا الزمان أن يترجم لنا بعض أدبائنا قصائد أو مقطوعات من منظوم الفرنجة فيأتوا به صورة طبق الأصل في ترتيب السطور؛ فهم يصلون الجملة حيث يجب قطعها، ويقطعونها حيث يجب وصلها، جرياً مع الناظم الذي حكم الوزن والقافية على ترتيبه، وهم لا يفطنون إلى أنهم مطلقون في ترجمتهم من كل وزن وقافية
ما وقع نظري مرة على هذه المنظومات المترجمة وقد كتبت بشكل قصيدة وليس فيها من إلزامات القصائد شيء إلا وحسبتني أرى سابحاً يخرج من البحر ويستمر على دفع الهواء بيديه كأنه لا يزال يسبح على اليابسة ويخشى الغرق ورجلاه ثابتتان عليها. . .
وأغرب من هذا، بل وأنكى، أن تقرأ لبعض المجددين. . . شعراً منثوراً. . . تتوالى سطوره وفي كل سطر أربع إلى سبع كلمات نضدت على سلك لا وجود له إلا مخيلة الكاتب؛ فهو مضطر ولا أدري لماذا، أن يقطع جملته إذا بلغت الخمس أو السبع ليستطرد الكتابة في السطر الثاني، وليس بوسعه أيضاً أن يقف بجملته حتى يتم معناها إذا كان لم يزل لديه متسع من المقياس الذي انطبع في ذهنه من تلاوته قصيدة ترجمت على هذا الشكل عن أحد كبار الشعراء
وقى الله الأدب العربي من آفات التقليد والمقلدين!
(الإسكندرية)
فليكس فارس(304/24)
حياة محمد
باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة
عبد الفتاح السمرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد العزيز عبد
المجيد
بهذا الحماس وذلك الجد تقدمت الدعوة الإسلامية حتى لم تمض على الإسلام سنة هناك (في المدينة) إلا وكانت كل أسرة عربية قد ساهمت بدخول بعض أفرادها في حوزته، ما عدا شعبة واحدة من بني الأوس وهي التي استمرت منعزلة بعيدة عن الإسلام وذلك بتأثير أبي قيس بن الأسلت الشاعر
وفي السنة التالية حينما جاء موسم الحج وفدت إلى مكة طائفة من معتنقي الإسلام حديثاً، وعددها ثلاثة وسبعون رجلاً، وبصحبتهم جماعة من مواطنيهم كفار يثرب، وقد عهد إلى هذه الطائفة أن تدعو محمداً (ص) إلى أن يلجأ إلى يثرب تجنباً من غضب أعدائه، وأن يبايعوه على أنه رسولهم وقائدهم، وفد إلى مكة لهذه المناسبة العظيمة كل معتنقي الإسلام الأولين الذين كانوا قد لاقوا الرسول من قبل في الموسمين السابقين، ومعهم مصعب ابن عمير معلمهم، فأسرع على أثر وصوله إلى الرسول، وأخبره بالنجاح الذي لاقته بعثته. ويقال إن أمه لما سمعت بقدومه بعثت إليه رسولاً فقال له: (أيها الابن العاق، أتدخل مدينة فيها أمك من غير أن تبدأ بزيارتها؟) فكان جوابه: (كلا، إنني لا أزور منزل أحد قبل رسول الله). ثم ذهب إلى أمه بعد أن فرغ من تحية الرسول (ص) والتحدث إليه؛ فقالت له أمه زاجرة: (أخالك إذاً لا تزال خارجاً منشقاً). فقال: (أتبع رسول الله ودين الإسلام الصحيح). فردت عليه قائلة: (أقانع أنت بطريق الشقاء الذي انتهجته في الحبشة وفي يثرب؟). أدرك حينئذ أن أمه تفكر في سجنه فخاطبها متعجباً: (ما خطبك؟ أتكرهين إنساناً على أن يغادر دينه؟ إن كنت تدبرين أمر سجني فإنني سأقتل أول من يضع يده على). فقالت له: (أخرج إذاً من عندي) وأخذت تبكي. فتأثر مصعب لذلك وقال: (أماه. خذي مني(304/25)
نصيحة المخلص! أشهدي أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله). ولكنها أجابته بقوله: (والنجوم اللامعة، لن أكون قط حمقاء بدخول دينك. إنني أنفض يدي منك ومما أنت فيه، وأعتصم بعقيدتي)
وكان قد ضرب موعد ليجتمع سراً بالعقبة من أسلموا في العام الماضي وذلك لكيلا يثيروا حولهم شبهات القرشيين أو عداوتهم؛ وجاء محمد ومعه عمه العباس الذي كان لا يزال وثنياً حينئذ ولكن سمح له أن يحضر هذا الاجتماع السري. أفتتح العباس هذا الاجتماع الجليل موصياً بابن أخيه، ومشيراً إلى أنه ينتمي إلى أسرة من أشرف أسرات قبيلته التي وإن كانت لم تقبل تعاليمه إلا أنها ما زالت تحميه؛ أما وقد أبى إلا الانحياز إلى أهل يثرب واللحاق بهم فإن عليهم أن يتدبروا الأمر بحكمة قبل أن يأخذوا العهد على أنفسهم، وأن يصمموا ألا ينكثوا عهدهم متى قبلوا تحمل هذا الأمر الخطير، فاحتج البراء بن معرور الخزرجي قائلاً: إنهم واثقون من عزمهم على حماية رسول الله، وتوسل إلى العباس أن يذكر ما يريدهم أن يعاهدوا الرسول عليه
بدأ محمد يقرأ بعضاً من القرآن، ويحثهم على أن يصدقوا في دينهم الذي اعتنقوه من وحدانية الله ونبوة محمد رسوله، ثم سألهم بعد ذلك أن يمنعوه وأصحابه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: (نعم! والذي بعثك بالحق لنمنعك كما نمنع أنفسنا، ونعاهدك على طاعتك، وأن تكون لنا هادياً. فنحن أبناء الحروب، وأهل الحلْقة، ورثنا كابراً عن كابر). وهكذا أخذ الجميع يد الرسول واحداً بعد آخر، وبايعوه على الطاعة.
ولما علمت قريش بهذا الاتفاق السري عادت إلى اضطهاد المسلمين مرة أخرى، فنصحهم الرسول أن يهاجروا من مكة، وقال لهم: (اخرجوا إلى يثرب فإن الله قد جعل لكم إخواناً في تلك المدينة، ودارا تأمنون بها) فخرجوا إلى يثرب إرسالا، حيث لاقوا إكراماً عظيماً، وكان إخوانهم في الدين من أهل يثرب يتنافسون فيما بينهم كل يريد أن يحظى بشرف الإكرام، وليقدموا لهم ما يحتاجون. ولم يمض شهران حتى هاجر من مكة تقريباً كل المسلمين - وقد بلغ عددهم مائة وخمسين - اللهم إلا أولئك الذين قبض عليهم أو سجنوا، وأولئك الذين لم يستطيعوا الخلاص من الأسر. وتحدثنا الأخبار عن أحد أولئك المسلمين - صهيب - الذي(304/26)
لقبه الرسول (بأول ثمرات اليونان) (ولقد كان عبداً إغريقياً أعتقه سيده فجمع ثروة عظيمة بطريق تجارته الرابحة). وذلك أنه لما عزم صهيب على الهجرة من مكة استوقفه أهلها وقالوا له: (أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك) فقال لهم صهيب: (أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟) قالوا: (نعم)، وهاجر هو تاركاً كل ثروته. ولما بلغ محمداً صلى الله عليه وسلم الخبر قال: (ربح صهيب، ربح صهيب)
أخر محمد صلى الله عليه وسلم هجرته من مكة - قاصداً بذلك ولا ريب أن يصرف أنظار أعدائه عن أعوانه المخلصين - حتى تنبه إلى مؤامرة مدبرة ضده، وأدرك أنه إن أبطأ في الهجرة ربما قضي عليه، فعمل على الهجرة بحيلة
وكان أول ما فعل بعد أن وصل إلى يثرب أو المدينة كما سميت بذلك منذ تلك الحادثة (مدينة الرسول) أن بنى مسجداً ليكون مكاناً للعبادة، وموضعاً لاجتماع أتباعه، وكان المصلون أولا يولون وجوههم شطر بيت المقدس، وربما كانت هذه سياسة اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم لاكتساب اليهود. وقد حاول محمد (ص) بطرق أخرى مختلفة أن يجتذب إليه اليهود، فقد أمر باحترام كتابهم المقدس، ومنحهم حرية العبادة، والمساواة في المعاملة، وحاول أن يصافيهم ولكنهم قابلوا كل ذلك بالتحقير والتسفيه. ولما أصبح الأمل في إدماجهم في الإسلام عقيما واتضح أن اليهود لن يعترفوا بمحمد (ص) رسولاً لهم، أمر محمد أتباعه أن يولوا وجوههم في صلواتهم شطر الكعبة بمكة (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وما الله بغافل عما يعملون، ولئن أتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)
ولقد كان لتغيير القبلة في الصلاة مغزى أسمى مما يظهر لأول وهلة، فقد كان ولا شك مبدأ حياة جديدة في الإسلام. إذا أصبحت الكعبة في مكة المركز الديني لكل المسلمين كما كانت منذ الأبد مكان الحج لكل قبائل جزيرة العرب. وهناك مغزى آخر شبيه بالسابق في أهميته، وذلك هو إدماج عادة العرب القديمة - الحج إلى مكة - ضمن ما افترضه الإسلام وذلك لأن الحج فرض على كل مسلم مرة واحدة على الأقل في العمر(304/27)
وفي القرآن آيات كثيرة تثير روح الشعور بالتكوين القومي وتحث العرب على أن يقدروا الميزة التي منحوها بإنزال الرسالة الإلهية بلغتهم وعلى لسان واحد منهم
(إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (وكذلك أوحينا إليكم قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة، وفريق في السعير)، (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أَأعجمي وعربي؟ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، أولئك ينادون من مكان بعيد، ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون، وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدًّا)
(يتبع)(304/28)
لما رأيته رأيت القدر
(مهداة إلى (علاء) الصغير)
للآنسة جميلة العلايلي
عندما يبتسم يتكلم القدر من بين شفتيه، وعندما ينظر ليتأمل تشيع الفلسفة من عينيه، وعندما يتحرك تعلن الحياة معانيها في أسلوب رمزي فاتن
هكذا كان طفلي الحبيب (علاء) عندما شاهد فلم (آلام فرتر)، وقد رأيته على غير ميعاد وعرفته دون سابق معرفة. . .
إنما فهمته كأنني جالسته الأعوام الطوال، وعاشرت روحي روحه الأجيال. . . جذبت روح الطفل بسماحتها وحلاوتها روحي التي تشرئب دائماً إلى الصفاء الصرف والنقاء الأكيد. . .
وهل يمكن أن يأخذ الصفاء مكانه إلا في معين ذلك الطفل النضير؟ كنت أحاول أن أطالع فلسفة الحياة من عينيه، فكان يولي وجهه ويسبل أجفانه. فهل كان يدري أن الحقائق الأكيدة المسجلة في أم الكتاب مرقومة واضحة في مقلتيه؟ هل كان يدري أن معاني الخلود مرسومة على شفتيه؟ هل كان يدري أن أسرار الوجود منقوشة كظلال من النور على جبينه؟
هل كان يدري ذلك الطفل النضير؟
كان يسأل والده الذي احتضنه بجوانحه، وحباه بعواطفه، كلما تراءت له عواطف الإنسانية في شبه صور متحركة: ما هذا؟ ولم هذا؟
وكان يجيبه الوالد في إيجاز عن الاسم والسبب
ويا للفارق بين فلسفة الصغير وفلسفة الكبير!
الصغير يعرف ويجهل، والكبير يجهل ويعرف!. . .
يا حبيبي البريء، يضلك الوالد عندما يقول لك: الحياة أمامك. مع أن الحياة فيك. . .
لا تتكلم يا حبيبي ودعه يفهمك لتعرف أن الحياة تشوه العقل الفطري بأضاليلها. . .
أنت الفيلسوف الحكيم، وأنت العاطفة المثالية العليا. . .
إنك تفهم أمك، وتفهم والدك، وتحسب أنهما مثلك لهما براءتك وفلسفتك فتخاطبهما بأسلوبك(304/29)
الرمزي في إيجاز. . .
يا حبيبي البريء. . .
ما زلت تعيش في سماء الإنسانية وترقب الحياة على ضوء ذهنك الخلاب راجيا أن تسير عجلة الحياة بأمضى سرعتها لتكون رجلاً مثل من سعد بحظ أبوتك، فهل تعرف يا صغيري ما يحمله عقل ذلك الرجل الذي دعوته في لطف وحلاوة باسم (الجدع)؟ هل تعرف يا صغيري أنك بطفولتك النقية الملائكية أعظم منه برجولته المعقدة الآدمية؟
هل تعرف أنك كلما زدت في أعوام عمرك عاماً نقصت من إدراك حقائق الوجود أعواماً مهما قالوا إنك غنمت؟. . .
هل نعرف أنك بقلبك الصغير المليء بالحب العف الطهور،
أجل منك بقلبك الكبير المليء بالحب المادي الزاخر بأباطيل الوجود؟
هل تعرف أنك أحب إلى قلب أمك وأبيك من كل حبيب؟
وغداً عندما تكبر يحاسبك الوالد بميزان العقل، ويراك ندًّا له، فيحبك إذا أوليته من نفسك قدر ما تطمع إليه عاطفته، ويمقتك كأي شخص غريب إذا خالفته وخرجت عن تقاليده وأوضاعه؛ والصلة الروحية الوثيقة التي يقبض على زمامها ملاك الأبوة في الصغر يتهاون في شدّها رويداً رويداً لتشعر بأنك فرد لك حريتك وسلطتك وقلبك وعقلك ولا شأن لك بأمك أو أبيك. . .
هذه هي مرحلة السعادة الأكيدة التي يقضيها الإنسان في حياته. . .
سعادة الطفل بحب أبويه كاملاً
وسعادة الأهل باستسلام الصغير. . .
اليوم لا يحب الطفل غير أبويه، وغداً يحب ويحب ويحب، وقد يكون الأهل أول ضحية تقدم على قربان الحب الذاتي
واليوم يحب الوالد طفله، وغداً يتلاشى الفارق بينهما وتؤدي المساواة رسالتها، وقد يكون الابن أول من يحاربه الوالدان تحت تأثير مخدرات أباطيل الحياة ليقيم لنفسه وزناً في عالم لا وزن له. . .
يا طفلي الحبيب. . . تمنيت لو أحفظ لك طفولتك وأدفع الثمن من دمي، لأحفظ للإِنسانية(304/30)
روح الصدق والحب والطمأنينة والسلام. . .
اليوم لن تفهم ذلك الأسلوب الذي تعارف عليه الناس وأسموه أدباً لأنك لا تؤمن بغير أسلوب روحك الرمزي النقي. . . وغداً عندما تضلك الحياة وتغريك أضواء الوجود. . . تفهم وتدرك
وسوف تقول: ليتني ظللت طفلاً لأتمتع بحب أبوي الشامل وأحرك المشاعر بأنفاسي العطرة، وأسِّير الأقلام بإلهامي. . . ليتني. . . ليتني. . .
ولكن هيهات. . .
فبعد أعوام. . . أسمع عنك وقد أراك، فأجد الحياة المادية تسيرك، وألمح روح الحياة العلوي ينسحب في بطأ وحسرة ليتقمص كيان وليد جديد. . .
أدام الله لك قلبك بعاطفته البريئة النقية. . . ولتتصرف الحياة في كل ما تملك. . . عدا قلبك. . . عدا قلبك. . . لتكون كأبيك تحب لتخلد.
لما سألت والدك: لم مات فرتر؟ أجابك: لأنه أحب وأخفق.
فابتسمت ابتسامة عميقة أعمق من فلسفة الوجود لو ارتسمت
في شبه بسمة وقلت: (يعني لما الواحد يحب واحدة ولا تكونش مراته يموت)، فضحك وقال: أجل
فهل علم الوالد أنك تفهم أكثر منه وأنك تضلله بسؤالك
آه. . . لو قال لك: إنه مات لأنه جعل الحب غاية، وكان يريد أن ينتصر في المعركة، فلما انخزل وجد الموت مع الكرامة أشرف من الحياة مع المهانة، لو قال ذلك. . . لارتسمت تلك الحروف في ذهنك مدى الأعوام ولصرت بطل جيلك. . .
يا صغيري الحبيب!
إنني أتوسم فيك سمات البطولة
وألمح في عينيك شعاع المجد المرتقب
وأرى حركاتك بشير الصراع الحيوي الشريف. . .
فعش لأبيك ذكرى خالدة، ولوطنك شعلة الحب والحق والحرية. . .
جميلة العلايلي(304/31)
من تاريخنا النسوي
أستاذة الصحابة
للأستاذ سعيد الأفغاني
سلخت سنين في دراسة السدة عائشة كنت فيها حيال معجزة لا القلم إلى وصفها سبيلاً. وأخص ما يبهر فيها: علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج، وسعة آفاق، واختلاف ألوان. فما شئت إذ ذاك من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير أو علم بشريعة أو آداب أو شعر أو أخبار أو أنساب أو مفاخر أو طب أو تاريخ. . . فإنك واجد منه ما يروعك عند هذه السيدة، ولن تقضي عجباً من اضطلاعها بكل أولئك وهي لا تتجاوز الثامنة عشرة
ولست بسبيل بيان ذلك الآن، وإنما أخبرك أني وقعت وأنا أنقب في كنوز المكتبة الظاهرية بدمشق على مجموعة خطية في آخرها رسالة نفيسة للإِمام بدر الدين الزركشي الشافعي المصري قصرها على موضوع واحد هو: استدراكات السيدة عائشة على الصحابة
من خصائص المرء ذي الطبيعة العلمية أن يكون طُلَعة كثير السؤال، لا يهدأ له بال حتى يرضى طمأنينته ويجلو لنفسه كل خفي مما يحيط به. وكانت السيدة عائشة بهذه الصفة، ساعدها على بلوغ ما بلغت من المعرفة أنها ربيت في حجر أبي بكر الصديق أعلم الناس بأنساب العرب وأخبار قبائلها وميزات بطونها، فحازت من ذلك علماً كثيراً. ثم انتقلت إلى بيت الرسول ومهبط الوحي فكانت أقرب الناس من معين العلم، فغرفت منه ما لم يتيسر لأحد غيرها لمكانها منه كزوجة، ولما تفردت به من ذكاء نادر وفكر واسع. وكلما عظم حظ الإنسان من المعرفة كثر تطلعه إلى ما فوقه. أما الجاهل فليس بمعنىّ أن يبحث أو أن يسأل، فإذا أصاب من المعرفة حظاً بطريق العرض كان أبعد الناس عن أن تطلب نفسه مزيداً أو تثير له شكوكاً تحدثه بسؤال يسأله وقد أوردت السيدة على الرسول من الأسئلة في كل ما مّر بها من موضوعات: في الفقه والقرآن والأخبار والمغيبات وأمور الآخرة، وفيما يعرض له من أحداث وخطوب، وما يفد عليه من وفود
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، كان علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه. . .
ومع حمل الأصحاب إلى الأمصار طائفة صالحة من الأحاديث والأحكام حتى كانوا ثمة(304/33)
مرجع طلاب العلم ورواة الحديث، بقيت المدينة - لأسباب أهمها وجود عائشة - دار الحديث ومنبع العلم. فحين يشكل على أهل الأمصار أمر من الأمور، يكتبون إلى أصحاب رسول الله في الحجاز يسألونهم عن حكم الله فيه، فكان هؤلاء إذا فاتهم علم شيء رجعوا إلى علماء بينهم اشتهروا بحمل العلم وفقهه كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعروة وابن الزبير. . . تروى عنهم الأحاديث وتنشر الأحكام حتى صاروا مقصد الرواد. ومقام السيدة بينهم مقام الأستاذ من تلاميذه، فكان عمر بن الخطاب يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء أو بأحوال النبي البيتية، لا يضارعها في هذا الاختصاص أحد من الرجال ولا النساء
ويصل إلى مسمع السيدة عن أولئك العلماء روايات وأحكام على غير وجهها، فتصحح لهم ما أخطئوا فيه أو خفي عليهم، حتى عرف ذلك عنها، فصار من شك في رواية أتى عائشة سائلاً، وإن كان بعيداً كتب إليها يسألها. ومن هنا طار لها ذلك الصيت في التمكن من العلم، ورجع إلى قولها كبار الصحابة كأبيها أبي بكر وعمر وأبنه وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير. . . وصار معاوية في خلافته يكتب إليها سائلاً عن حكم أو حديث أو شيء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطمئن إلى يقين مما يسمع من غيرها حتى يرد عليه جوابها فيبرد صدره
وستجد أن خطأ الصحابة كثيراً ما يرجع إلى أنهم حضروا آخر الحديث وفاتهم أوله، وسترى في كل ما تستدرك: صحة النظر وصواب النقد وحضور الذهن وجودة النقاش. وأغلب الأسباب في تخبط الروايات أن الرواة يستنبطون الحكم من الجملة التي حضروها. وكثيراً ما يكون الرسول ذكرها في معرض حكاية أو إنكار، وترى ذلك في مرويات أبي هريرة خاصة.
وكما استدركت على أبي هريرة ضياع أول الكلام عليه أو آخره، استدركت على كثيرين فهمهم لحديث، أو خطأ استنباط حكم من آية، أو ضلالا في معرفة أسباب النزول، أو اجتهاداً فيه مشقة على الناس، وكان الناس يقعون منها في كل ذلك على علم غزير وفهم حصيف ورأي صائب، ولا غرو فقد كانت السيدة عائشة الملجأ الأخير الذي ترفع إليه مسائل الخلاف والروايات وأحكام الشريعة لتمحيصها والقضاء فيها القضاء الفصل(304/34)
ومن هنا توقن أن حياة السيدة قد بنت مجداً باذخاً لتاريخ المرأة العلمي في الإسلام، بل إن عبقريتها وحدها كفيلة بملء تاريخ كامل، فلست أعلم في عبقريات الرجال والنساء ما يداني مكانة السيدة. وما أجدر سيداتنا - ونحن في مطلع بعث ونهضة - أن يصلن حلقات هذا التاريخ الذي بدأته امرأة منهن في صدر الإسلام، فتتلمذ عليها مشيخة المهاجرين والأنصار من كل حبر وعالم وفقيه وقارئ وراوية، وعنها وحدها نقل ربع الشريعة كما قال الحاكم في المستدرك، وليس هذا بكثير على من غبرت نحواً من خمسين عاماً بعد وفاة الرسول تنشر سنته وتفنى وتحدث وتستدرك، حتى كونت لنفسها مدرسة من أقوى مدارس الحديث والفقه والتفسير وأوسعها
(دمشق)
سعيد الأفغاني(304/35)
العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 1 -
في هذه الأيام يتجاوب البرق في أنحاء العالم بذكر حدود مصر الغربية وتتطلع الدول إلى ما يجري في هذه الحدود من التحصين والاستعداد وتحرك الجيوش من الجانبين: المصري والإيطالي. وقد ارتحل المحرر إلى هذه الأنحاء النائية فقضى بها أربعين يوما، وهو في المقالات يصف الطريقة ويتحدث إلى القراء بأنفع المعلومات في أسلوب سهل موجز
سحر الصحراء
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كان الربيع قد أطل على الوجود بوجهه المزدهر الباسم - وفي الربيع تتجاوب الذكريات - فذكرت فيما ذكرت رحلتي الأولى إلى الصحراء الشرقية، وتمثل في خاطري سحر الصحراء وما يلقى المرتحل إليها من عناء هو أحب إلى النفس من الراحة والدعة والاطمئنان
ذكرت رحلتي تلك إلى صحراء سيناء فتطلعت نفسي إلى رحلة ثانية أرتحلها إلى الصحراء الغربية
ومحافظ الصحراء الغربية صديق قديم، وهو من رجال السيف والقلم يمجد الأدب ويحب الأدباء. . . فلتكن رحلتي الثانية إليه. وفي رحابه ومعونته سأجوب الصحراء وأرتاد نجوعها وأنزل على قبائلها، واشرف على هضابها، وأهبط إلى وديانها، وأقطع شعابها ومفاوزها
هتف بي سحر الصحراء ودعاني فلبيت. . .
ولقد كان للعرب من قبل - كالمقريزي والمسعودي واليعقوبي وأبي الفداء وغيرهم - شرف السبق في ارتياد الصحارى واجتياز مجاهلها مستهدفين لأخطارها في وقت لم يعرف عنها غيرهم إلا النذر اليسير؛ وكانت هذه الصحارى - ولا تزال - سراً مجهولاً مهما قال عنها العارفون.(304/36)
وفي رمال الصحراء المنبسطة، وهدوئها الشامل، وعظمة جبالها الشامخة، وفي صفاء سمائها، وجلال نورها، وفي لياليها الساحرة؛ في هذا، وفي أروع من هذا ما يخلب لب روادها، ويجذبهم إلى ارتيادها، وفيه ما يغري النفس بالتغلب على وعورة طبيعتها ليشعر بعد ذلك بلذة الانتصار والغلبة.
أما ساكنو هذه الصحارى من البدو، وما فطروا عليه من بساطة العيش فإنك حين تخالطهم سر عظمتهم وبعد نظرهم وبساطة حكمهم، وسلامة شرائعهم ومعرفتهم للنجوم، واتجاهاتهم وهبوب الرياح وعلاماتهم وأوقاتها، وتدرك على الجملة سر سيادتهم على هذه الصحارى وجملهم أدلتها.
وفي هذا المقال سأتحدث إلى القراء في كلمات وجيزة عن المعلومات التي على كل مصري معرفتها في وقت يهتم العالم فيه بهذه البقاع التي تقع في داخل حدودنا المصرية
لغة البدو وديانتهم ومعارفهم
يتكلم البدو بلهجة عربية تختلف عن اللهجة الفصيحة اختلافا بسيطاً، ومن السهل أن يتفهمها سكان المدن. وهم يكثرون في كلامهم من ضرب الأمثال. أما ديانتهم فهي الإسلام. لكن القليل منهم من يعرف قواعده. وأكثرهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، ولكنهم يعبرون عن العدد بأصابع اليد، ويعرفون فصول السنة والجهات الأربع، ويجعلون مواعيدهم طلعة الهلال أو طلعة القمر.
لهم رشاقة القد، وخفة الحركة، وجمال العيون، وذكاء النظرة، وسمرة اللون، وقلة شعر العارضين، ودقة الأنف، ولنسائهم ولع شديد بوشم الشفاه، وهو عندهن آية الجمال
تقوم زراعتهم على الأمطار إلا في بعض الواحات وحول الينابيع والآبار، وهم يزرعون الشعير والاذرة والبطيخ والقمح أحياناً، ويصنعون البيوت من شعر الإبل والغنم وكذلك يصنعون منها ملابسهم وخيامهم، ويعتنون بتربية الإبل والخيل والغنم ويستدلونها ويتجرون بها كما يتجرون بالبلح والعجوة وهو محصول النخيل
يسكن البدو خياماً من الشعر يحيكها نساؤهم ويقيمونها على شكل ظهر الثور جاعلين أبوابها نحو الشرق. ويلبس البدوي قميصاً قصيراً فوقه آخر أطول ثم يلبسون فوق ذلك عباءة، وذلك لباس متوسطي الحال منهم، أما الطعام فالشعير والأذرة والقمح والأرز والبلح(304/37)
وما يمزج من الحليب والسمن والدقيق، وهم يحبون أكل اللحم حباً مفرطاً، وقلما يأكلون الأسماك
اشتهر البدو بحب الفضيلة والضيافة والكرم والغزو والنجدة والأخذ بالثأر والشجاعة وعزة النفس والشورى، لكن فقرهم يفقدهم كثيراً من هذه الأخلاق، ويحمل أكثرهم السيوف وهي محدبة وتتحلى أغمادها بالفضة، ويحمل بعضهم البنادق من الطراز القديم، ويحمل رعاة الإبل (الدبوس) وهو عصا قصيرة في رأسها كتلة، أما حليهم فهي العقود من الخرز والفضة ويلبسون خواتم ضخمة من الفضة والقصدير
أما خرافاتهم فكثيرة، وهم يعتقدون في الإصابة بالعين ويعلقون الخرز في رقابهم ورقاب حيواناتهم منعاً للحسد. وليس عندهم من آلات الموسيقى غير الربابة والصفارة والمقرون (الزمارة)؛ وهم يغنون الشعر، وغناء الرقص عندهم يقال له (الدحية) والسامر، أما الدحية فهي أن يقف المغنون صفاً واحداً وبينهم شاعر يرتجل الغناء وأمامهم غادة ترقص بالسيف وهم يرقصون ويرددون ويهزون رؤوسهم يميناً وشمالاً بشكل منتظم. وأما السامر فهو تقريباً مثل الدحية فلا يختلف إلا في أن يقف الرجال على صفين متقابلين وأما كل صف حسناء ومعها سيف للرقص به.
أما القضاء عندهم فموكول إلى قضاة من خواص رجالهم يحكمون بينهم بالعرف والعادة على أوضاع عديدة، وأما محاكمهم فعلى درجات ثلاث، وأحكامهم وشرائعهم لا يمكن حصرها في هذه السطور، فلكل جريمة شريعة خاصة، وتسمى هذه الشرائع بروابط القبائل ومنها شريعة القتل وشريعة الجروح وشريعة النساء وشريعة الإبل
(يتبع)
عبد الله(304/38)
استطلاع صحفي
الأندية الأدبية في مصر
كازينو باب الخلق
لمندوب الرسالة
باب الخلق أو باب الخُرْق كما يسمى في الخطط القديمة، ميدان يقع من القاهرة في الصميم، وكأن الحكومة رأت فيه هذا المعنى. فأقامت به دار المحافظة لتكون في الوسط لكل مواقع المدينة يخترق شارع محمد علي، وهو مجاز المواكب الرسمية والعسكرية بين القلعة والعتبة، والقلعة والعباسية، والقلعة وعابدين. ويمر به الطريق الواصل بين الحسين والسيدة والإمام، فما تكاد تنقطع منه جموع القرويين الذين جاءوا إلى مصر يوفون بالنذر لأهل البيت، ويستعطفون الأسياد بالنظرة. وفيه تقوم دار الكتب المصرية وهي كعبة يحج إليها طلاب الثقافة والمعرفة من أبناء الأزهر، وشباب الجامعة، وتلاميذ المدارس، ومن في نفسهم الرغبة في الأدب والعلم من مختلف الهيئات وشتى الجهات. . .
وكأن وجود دار الكتب في هذا الحي هو الذي صبغه من قديم بالصبغة الأدبية، وجعله مهوى كثير من الشعراء والأدباء والصحافيين، وكم لهم في هذا الحي من سهرات عامرة، ومجالس حافلة، وذكريات كلها البهاء والرواء، والأدب والشعر، والمضاحيك الحلوة الخالدة، وناهيك بمضاحيك حافظ ونسيم وإمام العبد وصاحب (الصاعقة) ومنشئ (الحمارة) وإخوانهم من الذين ذهبوا في الذاهبين، أو تخلفوا إلى حين!
في هذا الميدان الأدبي العامر، وفي المثلث الحادث من تقاطع شارع محمد على بدرب الجماميز وأمام جامع الحين الذي لا أعرف إلا اسمه، يقع كازينو باب الخلق. ولهذا الكازينو تأريخ قديم، وذكرى غابرة، فكل ما فيه من مظاهر الأبهة، فهو طريف مستحدث، قضى به العصر، وتطور به الزمن، عن أصل كان هو المظهر السائد في مصر القديمة!
كان هذا الكازينو من قبل يسمى (قهوة باب الخلق) وكانت هذه القهوة بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، ندياً من أندية الأدب في مصر، على ما يحكي الصحافي العجوز، فكان يجلس فيها الشيخ أحمد الفتاح، والشيخ محمد المهدي، والشيخ الحملاوي،(304/39)
ومحمود بك أبو النصر، وحفني بك ناصف، والشيخ محمد الخضري، تحيط بهم نخبة من طلاب الأزهر ومدرسة المعلمين الناصرية - أي دار العلوم - فيأخذون في أمشاج من أحاديث الأدب واللغة والدين والسياسة في بعض الأحايين.
ثم فعلت الأيام ما فعلت وقامت دولة مكان دولة واحتل القهوة الشيخ محمود حسن زناتي، والشيخ طه حسين، والشيخ أحمد حسن الزيات، والشيخ إبراهيم مصطفى، ومن على شاكلتهم من تلاميذ المرصفي والمهدي والشنقيطي ممن تمردوا على حوشي الأزهر ومتونه وهوامشه، فلما شب عمرو عن الطوق انصرف كل إلى شأنه في الحياة وقد بقي في نفسه شيء من تلك الحياة. أما الدكتور طه فسخر بماضيه وتمرد على إخوانه وراح ينعتهم (بأدباء باب الخلق) زراية عليهم وغضاً من شأنهم. وأما صديقنا الشيخ محمود زناتي فما زال يذكر تلك الأيام بالخير، وما زال يتشهى شطير الجبن والعجوة الذي طالما تناوله من يد عم أحمد - هو وصاحبه طه - في ذلك المكان. وأما أستاذنا الزيات فإذا ما سألته الخبر في ذلك نظر إليك ساهما وهو يقول: تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. صحيح صحيح! لقد كان ما كان!
ثم كان بين الغابر والحاضر فترة من الزمن للتمول والتمور، فقد وفد على مصر وافد الرقي والحضارة، وقامت في رؤوس القوم النية في تنسيق القاهرة وتجميلها، وكان لا بد لباب الخلق من أن يتسع فناؤه ويعلو شراعه وأن يصير إلى نظام أنيق يلائم روح العصر، وكان لابد أيضاً لقهوة باب الخلق أن تتطور وتتحور وأن تلبس لباس الجديد، فأصبح اسمها الكازينو بدل القهوة، وصار بناؤها من الزجاج الشفاف وقد كان قبل من حجر المقطم، وغدت وهي في عصمة شاب مصري ناهض من صميم الريف وقد كان يقوم عليها من الذين ابتلى الله بهم مصر حيناً من الدهر
واليوم يقوم الكازينو في باب الخلق نادياً أدبياً يقصده كثير من الأدباء والشعراء ورجال الصحافة والفن، فتجد السيد حسن القاياتي يهبط عليه في الفينة بعد الفينة؛ وإذ يجلس السيد القاياتي فإنما يحفل مجلسه بالأدب والشعر والرواية والتاريخ والمواليا والزجل، وما ينفض المجلس إلا وقد تحمل الشيخ لحسابه ما ينوء به جيب الأديب. ولكن الله قد بارك في جيب الشيخ(304/40)
وبين الحين والحين يعرج على الكازينو صديقنا الأستاذ الشاعر أحمد الزين وهو عائد من عمله في دار الكتب، فإذا وجد موضعاً للحديث تحدث كعادته حديثاً شاملاً يتناول كل الأدباء والشعراء في مصر، وإلا أخذ فنجاناً من القهوة وانصرف في صمت رهيب!
وفي ركن من الكازينو يجلس الأستاذ إسماعيل صبري الشاعر ومؤلف الأغاني لشركتي أوديون وبيضافون، فيظل في مجلسه طول النهار وبعضاً من الليل منفرداً كأنه يستوحي شيطانه ويستلهم وجدانه. وفي ركن مقابل يجلس صديقنا الشيخ رفعت فتح الله في جمع من إخوانه يحقق رأياً لسيبويه، أو يحدثهم فيما كان بينه وبين الرافعي من مناظرة، على كركرة النارجيلة ولعب الشطرنج
ولما مات الهراوي رحمه الله، انفضّ سامره في الحلمية، ولم يتحمل إخوانه الجلوس حيث كان يجلس، فجاء بعضهم إلى الكازينو، فتجد الأستاذ مرتضى الخطاط يجلس ساهماً شارداً كأنه في غمرة من ذكر صاحبه
ويستبد بصدر الكازينو طائفة من شباب الأدب وفتيان العصر الذين أصيبوا بدائه وانطبعوا على غراره، وما داؤهم إلا كما وصف ألفرد ده موسيه في اعترافاته، فهم ينطلقون على سجيتهم، ويستقبلون الحياة بروح يقظة طليقة متمردة على كل القوانين والحواجز، وبهذه الروح الحرة يشدون الأدب، وينظمون الشعر، ويأخذون في النقد، وإنهم لفي ثورة دائمة على الأدباء في مصر وفي الأقطار العربية، ولقد ينقلبون بالثورة على أنفسهم، كالنار تأكل نفسها إذا لم تجد ما تأكله، ولكنهم يخلصون من هذا كله بالمرح والضحك والمزاح الصريح
تجد في هذه الحلقة من الشباب، شاعر الفنون والإذاعة أحمد فتحي، وشاعر البؤس والشقاء المهدي مصطفى، والشاعر البوهيمي طاهر أبو فاشا، والشاعر النحوي الفقيه حسن جاد وشاعر البيت الأباظي أحمد عبد المجيد الغزالي، والشاعر المقل أحمد مخيمر والأستاذ أحمد حمدي المحرر بالبلاغ والشيخ طه أفندي حراز محرر مجلتي الراديو والبعكوكه، والرفيقان عبد العليم عيسى والسعيد علوش؛ يجلس هؤلاء في حشد من إخوانهم وإضرابهم من طلاب كلية اللغة العربية والجامعة ودار العلوم، فينفض كل منهم ما في جعبته، ويتقدم بآخر ما أحدث في الأدب والشعر، وما من يوم يمضي إلا ولهم حدث في الأدب والشعر. . .(304/41)
يعجبني في هؤلاء الفتيان ذوق دقيق، وتقدير صحيح، ونظر صائب في الحكم على الآثار الأدبية، ووضع الأشخاص في مراتبهم اللائقة بهم، فلا يجوز عليهم الزيف، ولا تخدعهم الألقاب، ولا تغرهم الأسماء، بل إنهم لينظرون، ويتدبرون، فكثير من أعلام الأدب في مصر ليسوا في رأيهم بشيء، ولكل فيما يحاول مذهب!
لهم شغف بالاطلاع، فما يخرج كتاب من المطبعة حتى يكون في أيديهم، يقرءونه ويقدرون له قيمته، وما أعرف بحثاً أو قصيداً نشر في صحيفة أو مجلة قد فاتهم الاطلاع عليه، والنظر فيه، فإذا لم يعجبهم كان بينهم مادة للهزء والضحك والمعارضة بالمثل!
ولهم غرام بترتيب القالب، ولكنها المقالب الأدبية، كأن ينحلوا واحداً منهم قصيدة على صفحات الجرائد، أو يسرقوا أشعار بعضهم المطوية ثم ينشرونها بأسماء غير معروفة، أو يوقعوا بين أديب وأديب فينشروا لأحدهما نقداً صارماً للآخر، ولهم في أبريل كثير من الأكاذيب، ولكنها من الكذب الأدبي المقبول. ولقد كان كذبهم في هذا العام من النوع الطريف العجيب، علموا بأن فلانا الأديب قد أهدى إليه الشاعر إلياس أبو شبكة نسخة من ديوانه، وما رأى أحدهما الآخر قط، فراح هذا الأديب يفضل أبا شبكة على سائر الشعراء، فتخيروا واحداً منهم يجيد حكاية اللغة السورية، واتصلوا بذلك الأديب في بيته، وأخبروه بأن أبا شبكة قد حضر إلى مصر، وأنه يرغب في زيارته فحدد لهم الموعد على لهفة، وذهبوا إليه وكان ما كان من الإجلال والإكبار والاحترام، وخرج القوم على موعد بالغداء في يوم آخر. . . ولكنهم وقفوا في المسخرة عند هذا الحد
حتى أساليبهم في الدعابة إنما هي أساليب أدبية، كأن يقيموا لواحد منهم حفلة هجاء، أو حفلة رثاء. وآخر ما حضرت لهم من ذلك (حفلة تكريم من غير مناسبة) للشاعر المهدي مصطفى. وقد اشترك فيها جميع إخوانه وأصدقائه، وقام بتقديم الخطباء والشعراء الأديب الشاعر سيد قطب، وقد استطاعوا أن يوفوا صاحبهم حقه من التكريم، أقل من التهليس. وقام هو أيضاً يرد صنيعهم بمطولة يقول فيها على طريقتهم:
يا قلب كالقبقاب حيرك الجما ... ل فتارة تدعى وأخرى تزجر
صبحاً برجل فهيمة، وعشية ... في رجل سلمى والزمان تجرجر
إلى أن يقول لأصحابه:(304/42)
أو مكرميَّ؟ فشرتموا! الله يك ... رمني ويعرف قيمتي ويقدر
ليست قصائدكم بمغنية الأدي ... ب عن الفلوس إذا الجيوب تصفر
فتعلموا صوغ القروش فإنها ... تذر الكفيف مفتحا فتصوروا
لقد كان ابن أبي ربيعة قائماً بالحجر يصلي بعد أن نسك، فمر به فتيان جميلان، فلما فرغ من صلاته أدركهما ثم قال لهما: يا ابني أخي، لقد كنت موكلاً بالجمال أتبعه؛ وقد رأيتكما فراقني جمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه.
فيا إخواني في باب الخلق: إن البقاء في هذه الدنيا قليل، والدهر يعدل تارة ويميل. فخذوا طريقكم، وامضوا في سبيلكم، واستمتعوا بشبابكم قبل أن تندموا علية.
(م. ف. ع)(304/43)
خلود الأمومة
(مهداة إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات)
للكاتبة الفاضلة (وفيقة)
لست أدري لماذا أثرت في نفسي أيما تأثير هذه الصورة التي في أعلى هذه الصفحة! منذ رأيتها وأنا أحاول التغاضي عن هذا التأثر الشديد بها؛ ولكني لم أفلح. وكلما هممت بقراءة كتاب أو كتابة مقال، شتت انتباهي ذلك المنظر، وأخيراً لم أر بُداً من الكتابة عن الصورة ذاتها.
إن كل أمر مهما كان طفيفاً يؤثر تأثيراً عظيماً في حياة البشر وأخلاقهم.
قال وست المصور: (إن قبلة واحدة من أمي جعلتني مصوراً).
وكتب فول بكستن إلى أمه بعد أن نال منصباً عالياً يقول: (إنني أشعر على الدوام بنتاج المبادئ التي غرستها في عقلي).
ووقفة جلالة الملكة نازلي في هذه الصورة بين كبرى بناتها وصغراهن: صاحبة السمو الإمبراطوري الأميرة فوزية، وسمو الأميرة فتحية، وقفة الأم الرءوم العطوف.
أنظر إلى سمات الحنو الأموي على محياها، وإلى التأثر البادي على قسماتها!!
لعمري أيتها الأم الكريمة، ماذا يكون جواب سمو الأميرة فوزية لو سئلت عن أثر هذا الحنو الدافق من كفك إلى كفها في أرهب لحظة تفارقان فيها أرض الوطن العزيز، وعن مبلغ أمومتك الكريمة في حياتها وتكوينها؟!
سيكون جوابها دون تردد كما قال لورد لنديل، عندما فطن إلى قدوة أمه الصالحة: (إذا وضع العالم بأسره في كفة ميزان وأمي في الكفة الأخرى رجحت عليه رجحاناً عظيماً).
إنها تستمد من جلالتك القوة والشجاعة التي تستعين بهما على حياتها المستقبلة. . . ولست بهذين ضنينة ولا متكلفة. فاغتبطي يا سمو الأميرة، واهنئي بأمك الجليلة.
إن كل أم قوية كالطود، صابرة كالزمن، وادعه كالزهر. . . إلا فيما يمس أولادها من قريب أو بعيد، فهي إذن الرعد المدوي، والفزع الثائر، والقدر الذي لا يرحم. فالأولاد ثمرتها في الحياة، وبهم خلود الحياة؛ وهم رأس مال آمالها، ومعين سعادتها، ومعقد رجائها على الدوام.(304/44)
يا لله! إني لا أحتمل النظر إلى يمناها التي تحوط الأميرة الصغيرة؛ ولا أستطيع أن أنظر إلى عينيها المسبلتين فراراً من مجابهة الواقع. . . مبارحة وطن إلى حين، ثم فراق ابنة عزيزة بعد حين، تسلمها طائعة نزولاً على سنة الله ورسوله، وانصياعاً لما هيأته الأقدار!
يا أيتها الأم العظيمة والملكة الكريمة، إن صبر الملوك ملك الصبر، وإن حنوّك حنوّ غامر في رقة سجايا ودماثة خلق؛ وإذن فرحمة قلبك تفيض على عالم بأسره فيطمئن
أيتها الأمهات. . . أمام أعينكن نموذج الأم الصالحة المدبرة الشجاعة فاقتدين بجلالتها، فإن مصر والشرق في حاجة قصوى إلى الأمهات اليقظات الحكيمات.
والأم الصالحة المهذبة قوام الأسرة الكريمة الناجحة، وما الوطن إلا مجموع أسرات، ونعم وطنا تكون هذه حال أسراته
(وفيقة)(304/45)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وذهب الضباط على رأس من أخرجوهم إلى الخديو يسمعونه شكواهم، وكان بعض أعوان الخديو يشيرون عليه بأخذهم بالشدة ومعاملتهم معاملة الثائرين ولو أدى الأمر إلى إطلاق النار عليهم، وقال البعض إن من العبث أن تلجأ الحكومة إلى البطش وليس لديها وسائله، فالفرق جميعاً تؤيد عرابياً ومن معه، والرأي أن يسلك الخديو معهم جانب اللين فيطفئ بذلك نار الفتنة
وتغلبت الحكمة على الطيش ووضع اللين في موضع البطش، فأوفد الخديو إلى الضباط الثلاثة ومن ظاهرهم من الجند تحت نوافذ قصره يخبرهم بإجابة مطلبهم الأول فقد عزل رفقي، وطلب إليهم أن يختاروا من يحل محله حتى لا يعووا إلى الشكوى، فوقع اختيارهم على محمود باشا البارودي؛ ووعد الخديو بالنظر في بقية مطالبهم والعمل على إنصافهم. وطلب الضباط الإذن على الخديو فمثلوا بين يديه وأعربوا له عن امتنانهم وولائهم لشخصه وإخلاصهم لعرشه، ثم انصرفوا وانصرف الجند فرحين مستبشرين
وكان على الخديو أن يتدبر الأمر منذ بدايته وينظر ما إذا كان لديه قوة يقمع بها الحركة إن كان لا بد من وضع العنف موضع العدل؛ فإن عدم القوة كان أمامه أن يلجأ إلى اللين غير مكره ولا مغلوب على أمره. . . ولكنه تصرف في الأمر على نحو ما رأينا فأفضى إلى نتائج خطيرة سوف تؤثر أثرها في مجرى الحوادث، فظفرُ الجند بمطالبهم في عنف وعجز الحكومة عن مقاومتهم قد وضع الخديو وحكومته في موضع الضعف وأحل عرابياً وحزبه محل التوثب والتطلع وجعلهم مناط الرجاء والأمل هذا إلى ما تركه هذا الحادث من سخيمة في نفس الخديو يصعب بعدها كل تفاهم ويلبس فيها كل حق بالباطل؛ ثم من حذر وريبة في نفوس الجند يلقيان على كل حركة من حركات الحكومة شبح الغدر ويلبسان كل عمل(304/46)
من أعمالها ثوب الرياء
على أن ما يعنينا فيما نحن بصدده أن هذا الحادث قد أدى إلى ذيوع صيت عرابي على نحو لم يسبق لفلاح غيره في مصر، فسرعان ما دار اسم ذلك الفلاح على كل لسان في القاهرة وسمع بذلك الاسم الأجانب ومن لم يكن يعرفه من المصريين؛ ولم يقف الأمر عند القاهرة بل لقد رن هذا الاسم في القرى فأفاق على رنينه الساحر أولئك الأعيان والمشايخ الذين تعودوا منذ القدم أن يخضعوا خضوعاً مطلقاً للترك والجركس، الذين كانوا ينظرون إلى الفلاحين نظرتهم إلى دوابهم
وعجب أولئك الفلاحون أن يجرؤ رجل منهم على تحدي الخديوي والرؤساء الجراكسة، فتعلقوا بهذا الرجل ولم يروه، ورغب كثير منهم في رؤيته، فقدموا إلى القاهرة يحملون إليه الهدايا ويعربون له عن محبتهم وإخلاصهم وإعجابهم بمبادئه التي تدور حول إنصاف الفلاحين في الجيش، وراح هو يخطب فيهم شاكراً مطمئناً
وليت شعري ماذا تكون الزعامة إذا لم تكن هذه زعامة؟ ألسنا نرى الآن في عرابي شخصيتين: شخصية الضابط الذي يسير في مطالب الجيش على رأس الجند، ثم شخصية الفلاح الزعيم الذي بدأ الفلاحون به يرفعون رؤوسهم وقد خفضوها من قبل أجيالاً طويلة؟ إني لألمس في تلك الصحوة فجر عصر جديد للقومية المصرية، كان عرابي أول مؤذن أذن به، ألمس ذلك الفجر الذي سوف يسفر صباحه عما قريب على صيحة فلاح آخر سوف يبرز من القرى كما برز عرابي، هو سعد بن مصر العظيم مفخرة أجيالها ورأس رجالها
ولئن كان جمال قد أيقظ الغافين في المدن، لقد بعث عرابي بإقدامه أهل القرى من مراقدهم، فإن عمله هذا أوحى إليهم أن من الممكن أن يخرج من بينهم من يشمخ برأسه على أولئك الجركس الذين طالما استذلوا في مصر الرقاب!
ويعنينا كذلك من حادث قصر النيل أمر آخر لا يقل عن ذلك أهمية، ألا وهو التفات الوطنيين إلى عرابي، فعند هذه النقطة التقت الحركتان الوطنية والعسكرية فتولدت من التقائهما الثورة العرابية في أصح مظاهرها وأصدقها
رأى الوطنيون ما أصاب رجال الجند من ظفر سريع، بينما قد لحقهم هَم الفشل، واستطاع(304/47)
توفيق أو بالأحرى استطاع رياض أن يأخذ عليهم مسالك القول والعمل، فسرعان ما اهتدوا إلى الطريق الذي يوصلهم إلى أغراضهم فتقربوا إلى عرابي، فأخذ شريف يراسله ويعقد بينه وبينه أواصر المودة
وحذا حذو شريف زعماء حركة الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا ذلك الذي كان يمثل الأعيان كذلك بحكم أنه منهم، واتضح لهؤلاء أنه يجب عليهم أن يستعينوا بهذه القوة الجديدة لإقصاء رياض عن مركزه، وبعث الدستور الموءود وتحقيق الإصلاح المنشود.
وأصبح منزل عرابي مقصد الكثيرين من الأحرار كما كان موئل رجال الجيش؛ ولم يكن موقف عرابي في الحركة الوطنية موقف الأداة كما زين البغي لبعض المؤرخين أن يقولوا، فلقد كان هو من جانبه من المتمسكين بمبدأ الشورى منذ نشأته، وإنه ليؤكد في كل ما كتب أنه قد طالب في عريضته، فوق ما طلب، بإعادة مجلس شورى النواب، ليكون فيه موئل للمظلومين من الوطنيين في الجيش وغير الجيش.
وكان البارودي وزير الجهادية الجديد، من دعاة الدستور، ومن حزب شريف، ولذلك كان حلقة الصلة بين الجند وبين الوطنيين، وكان كثير الاتصال سراً بعرابي بواسطة علي الروبي حتى لا تدعو كثرة الصلة به جهراً إلى ريبة رياض وحزب رياض، وبهذه الوسيلة كان الجند على علم بكل ما تريده الحكومة بهم.
وهكذا أصبح عرابي ملتقى الآمال، يحرص على الصلة به الوطنيون والجند والفلاحون؛ ولقد بلغ من ذيوع صيته أن أصبح توفيق يغار منه حتى ما يستطيع أن يخفي تلك الغيرة.
ولو أن توفيقا عرف يومئذ كيف يتخذ سبيله وسط هاتيك الأنواء لجنب البلاد ما كانت مقبلة عليه ولتغير تاريخ مصر الذي كان لا يزال مطوياً في حجب الغيب، وما كان للخديو من سبيل يومئذ إلا أن ينضم إلى الحركة الوطنية فتكون البلاد كلها تحت لوائه نوابها وجيشها، ووجوه البلاد وأهلوها؛ وفي ذلك دون غيره سلامتها وأمنها
كانت سياسة توفيق إن كان ثمة له من سياسة عقب حادث قصر النيل أهم العوامل في تطور الحوادث بعده على النحو الذي سوف نراه؛ فلقد وقف موقفاً أشبه ما يكون بوقف لويس السادس عشر من مجلس طبقات الأمة حين أجاب نواب العامة فيه إلى ما طلبوا في(304/48)
مسألة التصويت على القوانين وفي نيته أن يغدر بهم متى حانت الفرصة
أدرك الضباط لا ريب أنه أجابهم إلى ما طلبوا إذ لم يكن له من ذلك بد، ولذلك أحسوا أنه لا بد متربص بهم فتربصوا هم كذلك به
وكان توفيق من ناحية أخرى يكره رياضاً ويعمل على التخلص منه؛ لذلك وضع نفسه في موضع عجيب حقاً، فبينما هو يكره الضباط ويمقت حركتهم وينتوي المكر بهم إذا به يتخذ منهم أداة للكيد لوزيره بغية إقصائه عن منصبه
وهكذا تشاء الظروف أن يكون رجل كتوفيق هو الذي يحرك دفة الأمور في مثل ذلك الزمن العاصف؛ ولم يكن أمامه كما أسلفنا إلا أن يتخذ سبيله إلى الوطنيين فيتخذ من نواب الأمة سنداً له كما فعل أبوه في أواخر أيامه
ولو أنه فعل ذلك لضعف شأن الحزب العسكري إذ كان يحس الوطنيون أن لا حاجة بهم إلى معونة الضباط، ثم كان الضباط أنفسهم يجدون في وزارة وطنية تحقق رغائبهم ما يطمئن نفوسهم ويكبح في الوقت نفسه جماحهم بطريقة غير
مباشرة
ولكن توفيقاً لم يلجأ إلى ذلك الحل، وما نشك أنه كان يفطن إليه، ولكنه كان يقتضيه أن ينزل عن سلطانه إلى نواب الأمة وهو ما نشك كل الشك في أنه كان يستطيع أن يحمل نفسه عليه، ومن هنا أحدقت به وبمصر الأخطار، هذا فضلاً عن دسائس الأجانب الذين أحكموا شباكهم من مدة لاقتناص الفريسة الغالية في هذه الأيام الكدرة!
وقع حادث قصر النيل في فبراير عام 1881 م؛ وفي أعقاب الحادث مرت على مصر بضعة أشهر ما نظن أنه مر على البلاد فترة مثلها في كثرة ما حيك فيها من الدسائس على قصر أمدها
سمع الضباط أن أعوان الخديو يغرون بالمال والمناصب بعض رجال الآليات ليكونوا في الوقت الموعود إلى جانب الخديو، ونمى إليهم أن رياضاً يفكر في طرق إجرامية للفتك بهم، ومن ذلك ما علموه من أنه كان يدبر مشاجرة في أحد الشوارع يندس فيها من يقتل عرابياً أو من يحضر من زميليه.
ومما يذكره عرابي في مذكراته أن أحد الغلمان الجركس في منزل عبد العال بك حلمي،(304/49)
وهو ابن زوج حرمه المتوفى، قد وضع له السم في اللبن بإيعاز غلام جركسي آخر من غلمان الخديو، ولولا أن تنبهت الخادمة لراح عبد العال ضحية هذا الغدر الأثيم
وكذلك سمع الضباط أن الحكومة تنوي أن ترسل الآلاي السوداني بقيادة عبد العال بك إلى السودان، بحجة أن القوة الموجودة فيه غير كافية لحفظ النظام. فأحس الضباط من ذلك أن النية متجهة إلى تشتيتهم للقضاء عليهم متفرقين
واتهم تسعة عشر ضابطاً أحد رؤسائهم بأمور نسبوها إليه أثبت التحقيق بطلانها، فأبعدتهم الوزارة عن مناصبهم. فبادر الخديو بإعادتهم، الأمر الذي حنق له زعماء الجيش. إذ رأوا فيه أن الخديو إنما يعضد حركة التمرد في صفوف صغار الضباط ويستميلهم إليه ضد رؤسائهم.
وترامى إليهم أن الخديو يمرن حرسه في الإسكندرية على إطلاق النار، وأنه يشهد ذلك بنفسه وينثر الذهب على الجند متظاهراً بمكافأة المجيدين في إصابة المرمى؛ ولن يفسر مثل هذا العمل في ظروف كهذه إلا بأنه استعداد من جانب الخديو لما هو مقبل عليه من قمع وبطش.
هذا بينما أرادت الوزارة أن تسخر الجند في الآليات الأخرى في حفر الرياح التوفيقي، وكان عليهم أن يسلموا أسلحتهم إلى مخازن الجهادية قبل ذهابهم إلى ذلك العمل؛ ولقد رفض عرابي الموافقة على ذلك، وأيده البارودي وزير الجهادية
وأرسل الخديو من الإسكندرية كما يقول عرابي في مذكراته على فهمي رئيس الحرس إلى زميليه في القاهرة ليقول لهما إن الخديو يرغب في عزل البارودي لما رأى من ذبذبته وسوء سياسته، وإن الخديو يعطف على مطالبهم (فهم ثلاثة وهو رابعهم) وإن سموه يطلب ألا يعلم أحد بإيفاد علي بك.
وعزل البارودي فعلاً، وكان رياض قد أمره أن يبعد عرابياً وعبد العال بفرقتيهما من القاهرة، فأبى عليه ذلك
وجاء إلى البارودي، وكان بالقاهرة، أمر أن يسافر فوراً إلى عزبته.
ولقد كان البارودي على صلة برجال الجيش ينبئهم كما أسلفنا بكل ما تريد الحكومة بهم، واتفق معهم أن يكون خروجه من الوزارة علامة اقتراب الخطر.(304/50)
وحل محل البارودي داود يكن باشا صهر الخديو فلما لبث إن لجأ إلى الصرامة في معاملة رجال الجيش، فحظر عليهم الاجتماع بالمنازل أو ترك مراكزهم ليلاً أو نهارا وأنذرهم بأشد العقاب إن خالفوا أوامره؛ ومع أن عرابيا وأنصاره قد هنأه بمنصبه، وطلبوا إليه أن يعمل على إجابة مطالب الجيش التي كان البارودي يسعى في إجابتها، فإنه اكتفى بالوعود ولم يفعل شيئاً.
وأحيط بيت عرابي وعبد العال بالجواسيس، وجرت الشائعات بالنذر فملأ القاهرة نبأ عجيب وهو أن الخديو قد استصدر فتوى سرية من شيخ الإسلام بقتل عرابي، وكانت الظروف يومئذ تساعد على تصديق هذا النبأ الكاذب أكبر المساعدة.
وطلب رجل مجهول الإذن على عرابي في منزله فلم يأذن له وشوهد أنه عاد إلى أحد مخافر البوليس؛ وذهب عرابي إلى منزل زميله فعلم أنه حدث لهما مثل ما حدث له فأيقنوا أن حياتهم قد باتت في خطر، وكان ذلك في 8 سبتمبر سنة 1881 م. لذلك كله عول الضباط على أن يخطوا خطوة حاسمة، وكانوا على صلة دائمة في تلك الشهور التي أعقبت حادث قصر النيل برجال الحركة الوطنية
(يتبع)
الخفيف(304/51)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
398 - كأنا له زغب الفراخ يقوتها
ابن فيروز البصير:
وروضةْ لَهو قد جنيت ثمارها ... بدير العذارى بين روض وأنهار
تخال به وجه المدير وكأسه ... هلالاً وشمساً بين أنجم نُوَّار
يطوف بإبريق مفدّى، كرامة ... علينا، بأسماع كرام وأبصار
كأنَّا زُغْبُ الفراخ يقوتها ... بمثل مُذاب التبر من شطر منقار
399 - لا يسمع ذم صديقه
في (مرآة المروءات) للثعالبي: جلس أبو نواس إلى نفر من قريش، فذكروا صديقاً له فعابوه، فقام أبو نواس فاستجلسوه فقال: ليس من المروءة أن أجالس قوماً يذمون صديقاً لي، وأنشأ يقول:
لا أعير الدهر سمعي ... ليعيبوا لي حبيباً
احفَظِ الإخوان كيما ... يحفظوا منك المغيبا
400 - شريكك
قال صلاح الدين الصفدي: رأيت الشيخ الإمام الفاضل ركن الدين محمد بن القريع غير مرة ينكر على من يضرب كلباً أو بهيمة ويقول له بحنق: لأي شيء تفعل به هذا وهو شريكك في الحيوانية؟!
401 - ولا تصحب الأردا فتردى مع الردى
وُجد على ظهر نسخة من (المفصل) بخط عتيق: سئل ابن ابن الأخضر بمحضر ابن الأبرش: علامَ انتصب قوله: (مقالة إن قد قلت سوف أناله؟). فقال: (ولا تصحب الأردأ فتردى مع الردى). فقال السائل: سألتك عن إعراب كلمة فأجبتني بشطر بيت. فقال ابن الأبرش: قد أجابك لو كنت تفهم. وهذا الشطر من قول النابغة:
أتاني - أبيت اللعن - أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع(304/52)
مقالة إن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
يروى (مقالة) بالرفع على أنه بدل من أنك لمتني الفاعل وبالفتح على ذلك إلا أنه بناه لما أضافه لي مبني
402 - فتوة
في (مفيد العلوم ومبيد الهموم) لجمال الدين الخوارزمي: كان رجل نيسابوري يدّعي الفتوة، فاجتاز يوماً بمفرق الطرق، فرأى شاباً مريضاً يتأوه ويستغيث، فتقدم إليه وقال: وما تشتهي؟ قال: أشتهي رؤية أمي والرجوع إلى وطني. قال: أين منزلك؟ قال: ببلخ. فأخذ الرجل بمجامع لحيته ولطم نفسه (وكان اسمه أبا الحسن)، فقال: يا أبا الحسن، كنت أظن أنه يشتهي فُقاعاً، أو قصعة هريسة. ادعيت الفتوة فهات المعنى. فرجع إلى بيته وباع داره، واكترى راوية وحمولة وآلات وحمل الرجل، وأوصله إلى منزله.
303 - الفتوة
في (الذخائر) للأشبيلي: سمع بعض السلف بعض الفتيان يقول: الفتوة إنما هي الظرف والانهماك والمجون. فقال له: ويحك! يا بني، حدت (والله) عن طريق الحق، وجرت عن القصد. والله ما الفتوة إلا مال مبذول، وبشر مقبول، وطعام موضوع، وأذى مرفوع.
404 - ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم
في (الكشاف): (ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم): ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمونه من المقاصد الركيكة، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضاً، وفشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم(304/53)
تقهقر نابليون عن روسيا
لفكتور هوجو
(مهداة إلى الدتشي بعد وضع الرمل مكان الثلج)
كانت السماء تُساقِطُ الثلج؛ وكان الفاتح قد قهره فتحه، والنسر لأول مرة تَطامن رأسه
يا للأيام العوابس! لقد تقهقر الإمبراطور وئيد الخطى تاركاً وراءه (موسكو) داخنة تحترق!
كانت السماء تساقط الثلج؛ والشتاء القاسي يتدهدى قطعة فقطعة، والبقاع البيض تتعاقب بقعة فبقعة، والجيش قد وقع في غمَّاء فلا يُعرف له قائد ولا عَلَم؛ وكان بالأمس أعظم الجيوش فأصبح اليوم قطيعاَ من الغنم؛ واضطرب الأمر وتشعث النظام فلا يتبين له جناحان ولا قلب
كانت السماء تساقط الثلج، والجرحى يلوذون ببطون الخيل المبقورة؛ ونافخو الأبواق على مداخل المعسكرات الليلية المحطمة قد جَّمدهم الصقيع، وغشَّاهم البَرَدُ، فظلوا في أماكنهم واقفين على العتبات، أو صامتين على السُّرُج، وأفواههم الحجرية قد التصقت بأبواقهم النحاسية؛ والسماء تندف بالرصاص والقنابل مختلطة بكبب الثلج؛ وجنود الحرس الإمبراطوري يفجأهم الروع فيمشون مفكرين وقد انعقد رُضابُ الجليد على شواربهم الغُبر
كانت السماء تساقط الثلج، والريح الصرصر تهب، والجنود يمشون حفاة على الطوى في مجاهل الأرض، فلم يعودوا تلك القلوب التي كانت تنبض، ولا تلك النفوس التي كانت تحارب، وإنما أضحوا حلماً يهيم في الضباب، وسراً يجول في الظلام، وموكباً من الأشباح يضرب في الأجواء القاتمة؛ وكانت الوحدة الشاملة المروعة تبدو في كل مكان صامتة منتقمة، والسماء الساكنة تجعل من طباقها ومن ركام الثلج كفناً عظيماً لهذا الجيش العظيم. وكان كل جندي يحس في نفسه دبيب الموت في وحدة ووحشة
هل يتيح لهم القدر أن يخرجوا من هذه الأرض المشئومة؟ لقد كانوا أمام عدوين: القيصر وريح الشمال، والشَّمال كانت عليهم أشد. كانوا يلقون المدافع ويشعلون النار في خشبها ليستدفئوا؛ وكان كل من رقد منهم لا يصحو من رقاده؛ وكانوا يفرون شراذم في وجوه الضلال والهم فتتخطفهم المنايا وتبتلعهم الصحراء، فلو نظرت من صدعات الجليد لرأيت كتائبهم تحت أطباقه راقدة(304/54)
يا لسقطة هنيبال وعُقبى أتيلا! لقد كان المهزومون والجرحى والموتى وصناديق الذخيرة وناقلات المرضى يتساحقون على الجسور ليعبروا الأنهر؛ وكان الجند ينامون عشرة آلاف فيستيقظون مائة؛ و (ني) الذي كان يتبعه جيش من قبل، فر الآن بعد أن نازع ثلاثة من القوزاق ساعته
كانت الهتفات لا تنفك طول الليل تشق الآذان: من هذا! هيا! هجمة! حملة! فيتناول هؤلاء الأشباح بنادقهم فيرون أن قد هجمت عليهم كتائب من الخيالة الفظاع، وزوابع من الرَّجَّالة الشقر، لهم صور كصور الهُوَل المفزعة، وأصوات كأصوات البُزاة الصُّلع! وهكذا باد في غياهب الليل جيش بأسره!
وكان الإمبراطور واقفاً هناك ينظر! كان كالسنديانة العملاق تفرعت ذراها المصونة نكبةُ الدهر، وهي الحطاب المشئوم، ثم أخذ يهين عظمتها بفأسه، والسنديانة الحية ترتجف أمام شبح الثأر الفاجع وتنظر إلى فروعها تتساقط من حولها فرعاً بعد فرع. كان الجيش يموت قادته وجنده. لكل امرئ حِينه وَحينه. وكانت بقية السيوف من رجال الإمبراطور يحفون من حول خيمته في إجلال وحب، ويرون ظله على الأستار يذهب ويجيء، فيتهمون القدر بالغيب في ذاته، ولا يخامرهم الشك في يمن طالعه. ولكنه هو أدرك فداحة الخطب؛ واتجه رجل المجد إلى الله وهو من الهول الهائل في دهشة ورعشة وحيرة. وعلم نابليون أن ما أصابه إنما هو تكفير عن شيء. فقال ووجهه الساهم ينم عن القلق، وكتائبه على الثلج منثورة أمامه:
- أهذا هو العقاب يا رب الجيوش؟. فسمع من وراء الغيب منادياً يناديه باسمه ويقول له: (كلا)
(ابن عبد الملك)(304/55)
من دخان المجتمع!
(في ذكرى قاسم أمين)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
جَفَّ الخَمْيلُ. . . فَلاَ ظِلٌّ وَلاَ ثَمَرٌ ... وَلا نَشِيدٌ إِلَيْهِ يَظْمَأُ الوَتَرُ
إِلا بَقايا أَغانٍ هَاهُنَا وَهُنَا ... مُصَرَّعَاتٌ عَلَيْهَا الصَّمْتُ يُحْتَضَرُ
وقُبْلَةٌ مِنْ شِفاهِ الطَّيْرِ ثاكِلَةٌ ... عَلَى الغُصُونِ، تَهَاوَتْ حَوْلَها الذِّكَرُ
وَشاعِرٌ في يَدَيْهِ أَدْمُعُ وَدَمٌ ... وَجَذْوِةٌ مِنْ أَسىً تَغْلي وَتَسْتَعِرُ
وَيَشْتَكي فَيَقُولُ النَّاسُ هَزَّ صَدًي ... وقال شعرا. ضلَلْتُمْ! إِنَّهُ ضَجِرُ
طَوَى الرَّبيعَ عَلَى أَقْدَاحِهِ مَزِقاً ... مِنْ قَلْبِهِ، في هَجِيرِ العُمْرِ تَنْفَطُرِ
ونَغْمَةًَ في صَحارَى النَّفْسِ حَائِرَةً ... ما في فَمي نَبْأَةٌ عَنْهَا وَلاَ خَبَرُ
دُفِنْتُ فِيها، وَذَرَّاني بِحيرتِها ... إِعْصَارُ يَأْس كَلَيل الجِنِّ مُعْتَكُرُ
ما يَبْتَغي عاشِقُ التَّغْريِد منْ نَغَمي ... وَالكَوْنُ حَولَيِ زَندٌ خَانهُ الشَّرَرُ
والأرْضُ بَرْ كانُ آجَالٍ يَكادُ بِها ... لَولاَ العْنَايَةُ في الآفَاقِ يَنفَجرُ
وَالنَّاسُ مِثْلُ الضَّوَاري لا خَيالَ لُهْم ... إِلا المْخالِبُ والأنْيابُ والظَّفرُ
وما بِهِم جائِعٌ عَزَّتْه لقمَتُهُ ... ولا شَرِيدٌ تَجَافى جَنْبهُ المَدرُ
فما لُهم جَيَّشوا الأَرْزاَء واحْتِشَدُوا ... للمْوتِ فانين لا هَابوُا ولا حَذِرُوا
وَجَنَّدوا الغَازَ. . . وارْتجَّوا له فزَعاً ... وتَحْتهُم فَغَرَتْ أَشْدَاقَها الحُفَرُ
في كُلَّ يومٍ سَريرٌ ذَابَ صَولَجُهُ ... وَدَولَةٌ في رِياءِ السِّلْمِ تندَثِرُ
فإِن تَبَرَّجَ فتَّاكٌ. . . وَطُلَّ دَمٌ ... فالنَّسْرُ جَوعانُ في الآجامِ ينْتَظرُ
وَلْيذّهَبِ العَصرُ مطعوناً بِخنجَرِهِ ... تُبْلي حَضَارتَهُ الأطْماعُ والأشَرُ!
قُنَّعتمُ. . . وعشاشُ الطَّيْر عَاريَةٌ ... والأفرخُ البيضُ والأطفالُ والزّهرُ
حَتَّى الربيعُ. وما ذَنْبُ الصَّباحِ به ... والنَّهْر يَحلمُ والأنْسامُ والشَّجَرُ؟
مهَازِلٌ أَبْدعَ الطّاعونِ فِتنتها ... ما هَزَّني هاجِسٌ منها ولا أَثَرُ. . .
أنا ابْنُ من أَعيتِ الدُّنيا حَضَارتُهُم ... ونوَّرُوا وَظلامُ الأرضِ مُعتَكرُ
وأنْطقُوا مُعِجزَاتِ الفَنَِ قاهِرَةً ... والدَّهرُ لَجلَجَهُ الإعْياءُ والحَصْرُ(304/56)
قُمْ غَنَّني منْ دَمِ الأبْطَالِ أُغْنِيةً ... يَحْلُو لشادِي العُلاَ في ظِلِّهَا السَّمَرُ
وهَاتِ عنْ سيِرةِ الأَحْرَار في وَطَنٍ ... ما أَيْقظتْ قَلْبَهُ الأحداثُ والغِيرُ
واهتِفْ (بِقاسِمَ): قُمْ فانظُرْ صحائِفَهُ ... تَضيقُ عنْ وصفها الأخْبارُ والسِّيرُ
شهدْتَ في الدُّورِ قَيدَ الذُّلَّ محتدماً ... قلبُ الخُدُورِ على بَلواهُ يَنْفطِرُ
أَزاهرُ النِّيلِ أَفنى السِّجنُ بهجَتها ... وَمَسَّ أَكمامَها مِنْ هَولهِ خَدَرُ
فرُحتَ تزأَرُ حَوَلَ القَيدِ عاصفَةً ... ما شلَّ فورتها جُبْنٌ ولا حَذَرُ
وَحَولَكَ الرَّأْيُ تحكيِ نارُ غَضَبتهِ ... أَسنَّةً في قتامِ الحَرْبِ تَشْتجِرُ
فقائِلٌ: مُصلحٌ أَوفى بمشعِلِهِ ... على الضِّفاف. كما يُستَشرَفُ القَمُرُ
أَلقى الْمَبَادِئَ ما في رُوحِها ضَرَرٌ ... مَسَّ الحجابَ، ولا في شَرْعِها خَطَرُ!
وَقائلٌ: شِرعَةٌ قَبْلَ الأَوانِ أَتتْ ... والعَصْرُ في وهدَةِ الأخلاقِ مُنْحَدِرُ!
وَقَائلٌ: زَنبَقُ الوادي بِربوتِهِ ... تَحْتَ الخَمائِلُ عُذْريُّ الشَّذى نضرُ!
فإن تَنقلَ مَاتَ العِطرُ. . . وانْتَثَرَتْ ... كمِامُهُ، وَطَواهُ التُرْبُ والوضَرُ!
وَبيْنَ هَذا وهَذا. . . أقبَلَتْ زُمرٌ ... ضَلَّتْ سبيلَكَ. تَتْلُو رَكبَها زُمَرُ
هَوَى على كَفِّهم نَجْمُ العفافِ. . . فما ... هَزُّوا لمِصرعِهِ جَفناً ولا شَعُرُوا
باسْمُ السُّفُور أَقاموا كُلَّ مجْزَرَةٍ ... يَكادُ يَلطمُ منْ أَهوالها القَدَرُ
عَاثُوا فَضَجَّ الحِمى منْ رِجس خُطْوتهِمْ ... وفُزِّعَتْ منهُمُ الأَخلاَقُ والأُسَرُ
نَعشُ الفضِيلَةَ يمشي في مَواكبهمْ ... فما يحِسُّ بِهِ سمعٌ ولا بَصَرُ
قالوا: شأَى الغربُ! قلتُ: الشّرقُ سابقُهُ ... وَإِن تبدَّلَتِ الأَشكالُ والصُّوَرُ
وما بِعاداتِهِ نُعْلي دعائِمنا ... لكِنْ بما تُلهِمُ الأحداثُ والعِبَرُ
وَكَيْفَ يَعَلو جبينُ الدَّهرِ قي بَلَدٍ ... بكَفِّ شُبَّانهِ الأخلاق تنتحرُ؟!
فقُمْ لهُ (قاسمٌ) واهتِفْ بساحَتِهِ ... يا عَلّما بعدْ هذا الغَيِّ يزدَجِرُ!
أَوْ لا فَنَم هَانئاً في الخُلدِ، لا صَخَبٌ ... يُضنيْ الحَياةَ ولاَهمٌّ ولا ضجَرُ. . .
مَجَّدتُ ذِكراكَ علَّ اليَومَ خافقَةً ... منْ أَرْغُني بِصَدَاها النَّفْسُ تَعْتَبرُ
أَنا الذّي يُسمِعُ الأبطالَ ذِكرهُمُ ... وإن تَزوي بِهِم تَحت الثّرى حَجَرُ!
عَزِيفُ جِنَىَ فَوقَ الشَّمسِ دارتُهُ ... وتَحتِيَ اللغوُ والتَّهريجُ والهَذَرُ. . .(304/57)
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(304/58)
رسالة الفن
دراسات في الفن:
التمثيل تلخيص الحياة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ينحو التمثيل في مصر نحوين:
أما النحو الأول فهو صناعة التمثيل، وزعيم مدرستها في مصر الأستاذ جورج أبيض. والواحد من أبناء هذه المدرسة يتلقف الدور الذي يعهد إليه بتمثيله، فينكفئ على جمله وعباراته يدرسها جملة جملة وعبارة عبارة، ويرى أي شيء يقصد إليه المؤلف من كتابة هذه الجملة أو هذه العبارة. فإذا كان المراد بها استفهاماً عرف الممثل الصناع هذا الغرض، وأدرك أن هذه الجملة أو هذه العبارة يجب أن تلقى كما يلقي الإنسان سؤالاً يُشعر بإلقائه سامعه بأنه ينتظر منه الجواب. فإذا كان المراد بالجملة أو العبارة إظهار الشكوى والتوجع أَنَّ وهو يلقيها وأرسل صوته متهدجاً متقطعاً. وإذا كان المراد بالجملة أو بالعبارة إعلان الثورة والغضب استلزم تمثيلها عند هذا الممثل أن يصرخ فيها وأن يزعق، وأن يشير بيديه - إذا أحب - إشارات تتفق في معناها ومعنى الغضب والثورة الذي يعلنه بعبارته أو جملته
وهذا أسلوب في التمثيل كان الفرنسيون يصطنعونه حتى السنوات الأولى من هذا القرن وهي السنوات التي أدرك فيها الأستاذ جورج أبيض أستاذه (سيلفان) الذي تعلم التمثيل على يديه في البعثة التي أوفده فيها الخديو عباس، وهذا الأسلوب فيه عيب هو أخطر العيوب التي ينكب بها فن من الفنون وهو التكلف، ذلك أنك لا تستطيع أن تشاهد ممثلاً يمثل بهذه الطريقة وتستطيع أن تنسى أنك تشاهد تمثيلاً، فأنت تلحظ - مهما تناوم حسك - أن كل كلمة مما يلقى أمامك قد درست حروفها حرفاً حرفاً، فلا حرف من حروفها يخرج من بين شفتي ملقيها إلا بعناية مبذولة، ولا جملة ترسل من فيه إلا بتنغيم وتلحين يصرخ في أذنيك بأنه لم يرد عبثاً وبأنه يراد به أن يحوز إعجابك، إعجابك أنت أيها المتفرج! وهذا شيء تزورُّ عنه الطبيعة ولا ترضاه. فليس في الدنيا ناس يكلم بعضهم بعضاً مثلما يكلم أفراد هذا(304/59)
الفريق من الممثلين بعضهم بعضاً وهم واقفون على خشبة المسرح. فهو تمثيل أجدر به أن يقضي الإنسان أمامه الساعات يشاهده و (يتفرج عليه) ولكنه لا يساهم فيه بعواطفه وشعوره، ولا يشارك فيه ممثليه بوجدانه ولإحساسه. . وكيف يصدقهم وهو يذكرونه في كل كلمة من كلماتهم بأنهم ممثلون، وبأن هذا الكلام الذي يسمعه رواية تخيلها كاتب من الكتاب، وأن هذا المقعد الذي يجلس عليه فوتيل ممتاز أجره في السواريه عشرون قرشاً يضاف إليها قرشان ضريبة على لهوه وعبثه!
وهذا هو ما حدا بي أن أسمي هذا النوع من التمثيل صناعة التمثيل، وهو ضرب من التمثيل يستطيعه الموهوب كما يستطيعه غير الموهوب لأنه لا يحتاج في إتقانه إلا إلى تدريب صوتي تتم بتمامه الصنعة، ويقعد بعد تمامها الفن الصادق محزوناً محسوراً
أما النحو الآخر الذي نحصيه للتمثيل فهو هذا الضرب الذي لا يعبأ بالصنعة، والذي لا يعبأ بالصوت، والذي لا يهتم كثيراً بمخارج الحروف، والذي لا هم له في هذه الناحية الصناعية إلا أن يكون الصوت واضحاً مسموعاً مفهوماً؛ ولكنه يتطلب قبل هذا من الممثل أن يكون قد وهب نفسه وروحه وبصره وسمعه وإحساسه وكل قوة من قواه للتمثيل، لا مختاراً، فلا سبيل للاختيار في المواهب، بل مفطوراً مطبوعاً. فإذا لم يكن الله قد خلق الممثل ممثلا فإنه لن يستطيع أن يبلغ من المجد الفني إلا مثلما بلغه الأستاذ الكبير جورج أبيض: دراسة وإلقاء
فالممثل الصحيح هو هذا الذي يشب وهو يراقب الناس فرداً فرداً ويدرس أشخاصهم كاملة لا ممزقة؛ فهو لا يعني بأصواتهم واهتزازتها المختلفة في أصواتهم النفسية المختلفة من تساؤل وغضب وفرح وحزن، وإنما هو يتوغل في نفوسهم إلى ما هو أعمق من هذا؛ فهو ينفذ بروحه إلى حيث مكامن العواطف والانفعالات في نفوسهم، فيتعرف الأسلوب الذي تجرى عليه نفوسهم في تفهم الأشياء وفي الإحساس بالمؤثرات المتباينة. ويجب أن يكون هو نفسه إلى جانب هذه الدراسة التي لا تتاح لكل إنسان صافي الروح سهل الوجه صريح الملامح والقسمات بحيث ينضج وجهه وصوته عفواً بما ينتاب نفسه من المؤثرات. فإذا اكتمل له هذان العاملان أمكن في غير تحرج أن نقول إنه ممثل كامل. ويقف نجيب الريحاني في الصف الأول من هذا النوع من الممثلين المصريين الذين نذكر منهم مختار(304/60)
عثمان وبشارة يواكيم
والواحد من هؤلاء الممثلين الموهوبين يتلقف دوره فيبدأ أولاً في تقليب ذاكرته والبحث فيها عمن مروا به في حياته من الناس الذين يشبهون صاحب هذا الدور الذي عهد إليه بتمثيله. فإذا عثر في ذاكرته على هذا الشبيه المطلوب فقد عثر على كنز. لأنه لن يحتاج في إخراج الدور الجديد إلا أن يتقمص روح هذا الشبيه، وأن يلاشي نفسه أثناء تمثيل الدور، وأن يُحل محلها نفس ذلك الذي بحث عنه ذاكرته واهتدى إليه. فإذا تم له هذا التقمص، فإنه سيكون على المسرح - أو أمام الكامرا - صورة هي أقرب الصور إلى هذه الصورة الأصلية الطبيعية. فإذا كان المؤلف قد أسعده بالتطابق التام بين الصورة المرسومة في الرواية والدور، وبين الصورة الأصلية الطبيعية، فإن الممثل الموهوب لن يبذل من الجهد أكثر من هذا التقمص الذي ذكرناه، وهو بعد ذلك يستولي عليه منذ أن يصطنعه إحساس يشابه تمام المشابهة الإحساس الذي ترتكز عليه الصورة الطبيعية الأصلية في كيانها. فهو يتكلم كما تتكلم ويشير كما تشير، ويمشي كما تمشي، ويجلس كما تجلس، ويغضب كما تغضب، ويسأل كما تسأل، ويحب كما تحب، ويعلن حبه كما تعلن حبها، ويكره كما تكره، ويعلن كراهيته كما تعلن كراهيتها. . . فهو أولاً وأخيراً قد فَنِيَّ في هذه الصورة التي يمثلها، وهو لا يفيق منها إلا إذا غادر المسرح. بل إن من الممثلين الموهوبين مَن يتلاشون في أدوارهم تلاشياً فلا يستطيعون أن يستعيدوا طبيعتهم إلا بعد أن يفرغوا من تمثيل الدور الذي يستغرقون في تمثيله هذا الاستغراق. ولعل الهواة يلحظون أن علي الكسار قد استحال بربرياً من كثرة تمثيله لدور البربري. ولعل منهم من سمع (عزيز عيد) وهو يقول إنه عاش مدة طويلة من الزمن خليفة للمسلمين أيام كان يمثل دور السلطان عبد الحميد
وهذه الصورة الطبيعية، أو هذه النماذج الإنسانية الأصلية الصحيحة هي مراجع الممثل الفنان، وبها تحصى ثروته الفنية. فما دام قد شاهد منها صوراً كثيرة، وما دام قد تمكن من دراسة هذه الصور، وما دام قد درب نفسه على التبطل التام ليحل محلها صوراً من نفوسها بالتقمص والانصهار والتحول، فهو إذن ممثل غني قادر متمكن
وهذه الصور تستلزم وقتاً طويلاً من الحياة يبذله في معاشرة الناس وفي دراستهم، ولا يمكن(304/61)
لهذه الدراسة أن تتم إلا بهذه المعاشرة التي لا منطق فيها ولا إعداد لها. لذلك كان مما يشبه العبث أن يتعلم الشبان التمثيل في المعاهد التي لا تستطيع أن تعرض عليهم النماذج المتعددة من الصور النفسية الإنسانية، والتي تقعد عند تمرين الطلاب على الإلقاء وإحسان إخراج الحروف. أما التمثيل الصحيح فمعهده الدنيا كما أنها معهد لكل فن صحيح
وقد يسألنا هنا سائل: ما الذي يستطيع الممثل أن يصنعه إذا عهد إليه بتمثيل دور تاريخي قد مات صاحبه وانطفأت شعلة روحه، فلا يستطيع الممثل أن يراقبه ول أن يدرسه عن كثب ليتمكن بعد ذلك من أن يصهر نفسه ليصوغها بعد ذلك في القالب النفسي الذي كانت عليه نفس هذا الشخص التاريخي الذي يراد تمثيله!؟
ونحن نقول رداً على هذا السؤال: إن القراءة والدرس في مثل هذه الحالة يجبان وجوباً، وأنهما يعوضان جانباً كبيراً من الخسارة الفنية التي يخسرها الممثل بحرمانه الاتصال المباشر بالصورة الإنسانية التي يريد أن يمثلها. فبالقراءة والدراسة يستطيع المثل أن يقف على أسلوب هذا (الأصل) في الحياة، وبهما يستطيع أن يتعرف أخلاقه وعاداته، وما كان يفضل من ألوان اللهو. . . وألوان اللهو مهمة جداً في نظر الفنان، فهي الأعمال التي يمارسها الإنسان برغبته الخالصة والتي يستطيع الممثل أن يعرف بها ميول هذا الذي يريد أن يمثل دوره. ومتى استطاع أن يعرف هذه الميول وما ينبتها من المزاج الخاص استطاع بعد ذلك أن يرسم بالتمثيل صورة تطابق إلى أبعد الحدود الصورة الأصلية الطبيعية التي يريد أن يمثلها
وقد يحدث أن يمثل ممثلان نابغان ذاتاً واحدة - أو أصلاً واحداً - ولكنهما يختلفان في التمثيل فلا تتطابق الصورتان اللتان يظهر أن كلا منهما هي الأخرى كما حدث ذلك قريباً إذ خرج كل من الممثلين العالميين هاري بور وجون باريمور دور (راسبوتين) فقد خرج الذين شاهدوا جون باريمور في دوره بصورة عن راسبوتين تطابق هذه الصورة الشائعة التي صورته لنا بها المقالات التي كتبت عنه في الصحف، والروايات التي ألفت عنه وروجتها دور الطبع والنشر، والروايات الأخرى التي مثلتها عنه المسارح. . وقد كانت هذه جميعاً تمقت راسبوتين وتراه شراً أخبث من الشر، وتبخل عليه حتى باخس صفة من الصفات الإنسانية تنسبها إليه؛ فهو عندها الجاهل الذي يدعى العلم ويلزم الناس إلزاماً بأن(304/62)
يروه عالماً؛ وهو القرد الذي ما يكاد يرى أنثى حتى يسيل لعابه وتهيج فيه أحط الغرائز فيرسلها ثائرة ويطلقها جامحة لا يكبحها ولا يلوى عنانها؛ وهو السكير الذي لا تكف أمعاؤه عن الصراخ في طلب الخمر والذي لا يستقر رأسه بين كتفيه على حال من أثر الشرب، وهو الدجال في مسوح القديس؛ وهو آخر الأمر الخائن الذي يبيع وطنه وأهله وذويه بالثمن البخس، فهو إذن الرجل أو الكوم من اللحم الذي لا إنسانية له ولا كرامة ولا عفة ولا شرف ولا قومية ولا دين!. . .
هذا بينما هاري بور في تصوير راسبوتين إلى اتجاه آخر، فقد أخذ على عاتقه ألا يسترسل في نقد راسبوتين هذه الاسترسال الذي يهدم إنسانيته هدماً، فاستبقى هاري بور لصاحبه من شره ما لم يستطيع أن ينكره لإجماع المصادر التاريخية عليه فأظهره سكيراً محباً للنساء، ولكنه عدل بعد ذلك عن تلوينه بألوان الدجل والخيانة فأظهره صريحاً صادقاً يقول للناس إنه يعالج مريضاته المختبلات من الإناث بعلاج طبيعي هو عند الرجال جميعاً ولكن الناس لا يرضون أن يصدقوا هذا ويأبون إلا أن يسبلوا عليه مسوح القديس صاحب المعجزات فلا يملك إلا أن يسخر منهم وأن يتأنق في المسوح، كما أظهره أيضاً مخلصاً لقيصره ووطنه إذ يلح بالنصيحة على القيصر ألا يزج بالروسيا في الحرب لعلمه بعجزها عن المضي فيها
وهكذا اختلفت صورتا (راسبوتين) اللتان عرضهما جون باريمور وهاري بور، وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف دراسة كل منهما لراسبوتين، والى مطاوعة كل منهما لمؤلفه. . .
وأخيراً، فقد يعهد إلى الممثل بتمثيل دور عادي طبيعي لا شذوذ فيه ولا أصل له متميزاً في الطبيعة. عندئذ يستطيع الممثل أن يسترجع نفسه هو، ولا بد له إذن أن يكون قد راقب روحه ورأى كيف تستقبل الحوادث والمفاجآت والمؤثرات وعليه في مثل هذه الأدوار أن يمثل نفسه في رداء الدور
عزيز أحمد فهمي(304/63)
رسالة العلم
كيف كشفت الأشعة النافذة
للدكتور محمد محمود غالي
لمحة تاريخية - أعمال جوكل وهيس وكولهورستر - المناطيد
المسجلة - صعود الأستاذ بيكار في طبقة (الستراتوسفير)
إذا أردنا أن نسميها الأشعة الكونية، أو أردنا أن نسميها الأشعة النافذة، فإن الأسماء لا تغير الوقائع في شيء، فهي كونية لأننا لا نعرف مصدرها، وهي نافذة لأنها تخترق ما يقابلها. ونعيد القول أنه بينما تحجب ورقة رفيعة أشعة الشمس على قوتها، فإن كتلة من مادة الرصاص يبلغ سمكها متراً لا تحجب إلا نصف عدد الجسيمات المكونة للأشعة الكونية
لم يختلف الفضاء منذ آلاف السنين عن الفضاء الذي نعيش فيه، ولم تختلف الظواهر الطبيعية والقوانين المرتبطة بها منذ عشرات آلاف الأعوام؛ ومع ذلك فقد مضت المدنيتان المصرية والإغريقية كما مر عهد العرب دون أن يستمتع أحد منهم بالراديو كما نستمتع به اليوم، ذلك لأنه كان لزاماً أن يتقدم العالم للحد الذي أمكن لمكسويل الإنجليزي أن يضع الأسس الرياضية لنظرياته الكهرومغناطيسية للموجة، ولهرتز ليدلنا على أن سرعة الكهرباء هي سرعة الضوء، ولماركوني الإيطالي وبرانلي الفرنسي ليضعا مع غيرهما الأسس التجريبية التي تيسر لنا اليوم أن نحصل من التاجر على جهاز نسمع منه، ونحن في وسط الصحراء أو فوق جبل عتاقة، بعيداً عن كل أثر للمدن أو الحياة، موسيقيا من القاهرة أو خطيباً من باريس
كذلك الأشعة الكونية، لم يختلف الفضاء الحامل لقذائفها منذ عهد بعيد، بل لم تختلف درجة وصولها إلينا منذ أمد طويل. وفي ظني أهرام الجيزة تصاب في هذا العصر بالعدد الكبير الذي كانت تصاب به في أقدم العهود، هذا العدد أقدره بأكثر من مليون مليون قذيفة في اليوم الواحد تقع كلها على أحجار الأهرام وتتغلغل فيها لمسافات بعيدة تبلغ العشرات من الأمتار
وإذا كان الألمانيان توصلا منذ بضعة أسابيع فقط إلى إيجاد عنصر التوريوم بينما كانا(304/64)
يقذفان عنصر الإيرانيوم بإشعاع تقل درجة اخترقه عن الأشعة الكونية، فماذا جرى في الأهرام منذ بنائها؟ وماذا تكوَّن فيها من ذرات جديدة لم تكن في عداد ذرات أحجارها الأولى؟
كانت الأشعة الكونية موجودة بلا شك منذ القدم، وهي ما تزال تحدث أثرها في كل زمان ومكان، تحدث هذه الآثار في الأهرام كما تحدثها على قمم الجبال أو على سطح البحيرات بعيداً في أعالي النيل، ومع ذلك لم تكن معروفة للإنسان إلا منذ عهد قريب، وقد تمضي سنون عديدة قبل أن نعرف شيئاً وافياً عن أثرها في المادة التي تقابلها، أو عن أثرها في حياتنا. ولا شك أنه عندما نخطو هذه الخطوات تتغير معارفنا، بل تتغير إلى حد أساليب استعمالنا الأشياء، ويرى اللاحقون بنا جيلاً يختلف عن الجيل الذي نعيش فيه
تبدأ معارفنا الأولى عن الأشعة الكونية في سنة 1900، فمنذ ذلك الحين كانت الظاهرة المسماة (التَّأيُّن المتبقي) معروفة لدى الطبيعيين، وتبدأ الأعمال الخاصة بهذه الظاهرة بالعالمين الستر وجيتل اللذين بينا بطريقة دقيقة كما بين العالم الكبير س. ت. ر. ولسون منزلاً في البحث عنهما، أن الهواء الجاف المحصور في وعاء مقفل ليس عازلاً كهربائياً تاماً، بل إنه موصل كهربائي، مهما كان ضعيفاً، فإنه لا شك في حالته الكهربائية، ومعنى هذا أن لكل حجم معين من غاز مصون من جميع الأشعة كالأشعة السينية (أشعة قدرة على التَّأيُّن أي على التوصيل الكهربائي، وبعبارة أخرى تظهر في الغاز شحنات كهربائية تمثل أو تدل على ظاهرة غير مفهومة. هذه المعلومات الأولى جعلت العالم س. ت. ر. ولسون يظن أن إيجاد اليونات ? في الهواء الخالي من جميع المواد المعلقة (كالأتربة الرفيعة) قد يُعزى لإشعاع خارج عن الغلاف الهوائي المحيط بكرتنا الأرضية، إشعاع شبيه بأشعة رتنجن أو الأشعة الكاثورية ولكن له قوة اختراق عجيبة
وقد شاءت الظروف أن ننتظر سنين طويلة، ليكون هذا الإلهام أو الوحي الذي أوحى به هذا العالم حقيقة لا تقبل الجدل، بل شاءت الظروف أن يمضي عشرة أعوام قبل أن تتحقق التجارب الأولى التي تفسر بمقتضاها هذه الظاهرة التي تحدث من تلقاء نفسها وبدون عوامل تتعلق بالأرض أو ما يحيط بها
وتنحصر التجارب الأولى في قياس الوقت الذي يمر لتفريغ(304/65)
(الكتروسكوب) ذي ورقتين من أوراق الذهب، في حالة نضمن
فيها بكل الوسائل عدم إمكان مرور الكهرباء خلال كل
الأجسام العزلة المتصلة به. ومع معرفة أن وقت التفريغ
يتناسب مع حجم وضغط الغاز، وجد الباحثون أن عدد
الأيونات الحادثة في 3الس م في الثانية في درجة الحرارة
والضغط العادي يساوي من 10 إلى 20 أيونا عند سطح
البحر لألكتروسكوب معرض للجو في حالته الطبيعية.
وقد أصبح معروفاً أننا لو حجبنا الألكتروسكوب من جميع
الجهات بعنصر ثقيل مثل الرصاص، فإن الرقم السالف
ينخفض إلى أيون لكل 3س م في الثانية، ويعللون هذا
الانخفاض بامتصاص الرصاص لأشعة (جما) الراديومية
الصادرة من المواد الأرضية وغيرها من المواد المحيطة
بالألكتروسكوب كالمباني القريبة منه مثلاً
ولكي نثق أن لعملية التأيُّن مصدراً غير المواد الراديومية الموجودة في الأرض، حمل العلماء الألكتروسكوب على سطح بحيرات عميقة جداً، كذلك في مناطيد أرسلوها لارتفاعات كبيرة، وكانت النتيجة أنهم أثبتوا أن عملية التأين موجودة دائماً، وأنها تزداد كلما ارتفعنا في طبقات الجو
ولقد كان لجوكل وهيس وكولهورستر بين سنة1911 وسنة 1913، الفضل في القيام بتجارب في الهواء بإرسال مناطيد إلى ارتفاعات مختلفة تحمل معها غرفة للتأيُّن مصونة(304/66)
من أي إشعاع، وقد بحث هؤلاء في التغير الحادث في عملية التأين في الحيز الواقع بين سطح البحر، وبين منسوب 9000 متر. وقد دلت التجارب كما قدمنا أن التأين يتزايد في الطبقات المرتفعة من الجو. وهذا ما جعل الأفكار تتجه إلى أن سبب التأين أشعة متجهة من أعلى إلى أسفل في طبقات جو الكرة الأرضية، وليس أشعة تتجه من الأرض إلى الطبقات العليا
كذلك قام فريق من العلماء بتجارب عديدة تحت سطح الماء بأن حملوا الأوعية التي تحدث فيها عملية التأين ويسمونها: غرفة التأين ? في أعماق البحيرات، ووجدوا أن عملية التأين تقل كثيراً تحت سطح الماء. ولقد كان لكولهورستير وميليكان وكامرون فضل كبير في هذه المباحث بتجاربهم التي قاموا بها في البحيرات الجبلية المختلفة الارتفاع، وأهم ما توصلوا إليه من نتائج، هو أن درجة التأين. أو قوة الأشعة الكونية تختلف مع كمية المادة الموجودة فوق غرفة التأين سواء كانت المادة ماء أو هواء
هذه الدراسات بلغت درجة كبرى من الدقة في أعمال ريجنيه الذي أدلى غرفة مسجلة للتأين في مياه بحيرة كونستانس إلى عمق 230 متراً. كذلك أرسل بغرفة أخرى في منطاد بلغ في صعوده 25 كيلومتراً حيث يبلغ الضغط الجوي عند هذا الارتفاع 22 مليمترا وحيث يتبقى من كتلة الهواء3 % من كتلته الأصلية وترى نتائج (ريجنيه في الشكل1) حيث ترى كيف يتغير عدد الأيونات المزدوجة في كل س م3 من الهواء في الثانية مع العمق، وكيف يرتفع هذا العدد في طبقات الجو العليا؛ وكيف ينخفض جداً تحت سطح البحيرات. وقد دلت التجارب الأخرى أن الأشعة الكونية تصل مخترقة الماء لمسافات تزيد على500 متر
هذه المناطيد التي استعملها ريجنيه وغيره من النوع الذي يطلقونها بعد أن يضعوا فيها أجهزة طبيعية تسجل الأرصاد المختلفة التي تتبين للعلماء بعد العثور على هذه المناطيد التي ترد في العادة من الأماكن البعيدة التي تقع فيها، وتسمى هذه المناطيد بالمناطيد الجاسة
وقد بلغت هذه المناطيد شأواً كبيراً من التقدم منذ استطاع أيدراك وبيروه في سنة 1927 أن يحصلا بطريقة لاسلكية على كل المعلومات التي تسجل داخل البالون، وترسل(304/67)
باللاسلكي إليهما دون أن يكون داخل البالون الصغير شخص للقيام بهذه المهمة. وقد قدمت في أعداد مضت من الرسالة أنني استطعت مع العالم بيروه المتقدم الذكر أن أضع طريقة لتسجيل منسوب النيل أو كمية ما تحمله المياه من طمى دون أسلاك ومعرفة ذلك مهما بعدت المسافة
كل هذا لم يصرف بعض العلماء عن أن يقوموا بتنفيذ فكرة جريئة خطرت لهم وهي الصعود إلى الطبقات العليا من الجو التي يطلقون عليها (ستراتوسفير)
ولقد كان الأستاذ من فكر في القيام بنفسه بهذا العمل الجريء، الذي كان يجوز أن يودي بحياته وحياة تلميذه كوزين عندما صعد لأول مرة من 18 أغسطس سنة 1933 ومعهم كيبير إلى طبقة الأستراتوسفير للقيام بدراسات طبيعية عديدة كانت الأشعة الكونية أهم الأغراض فيها، وقد تبين لبيكار وزميليه كيف تتغير الأشعة الكونية مع الارتفاع، والشكل (2) يعطي النتائج العملية الهامة التي توصل إليها بيكار فهو يبين كيف يتغير عدد الأيونات في ال س م3 في الثانية مع الضغط الجوي أي مع الارتفاع
كل هذا يدا على أننا مغمورون بأشعة تصلنا من أعلى إلى أسفل ولها قوة اختراق عجيبة تزيد على الخمسة أمتار من الرصاص أو ال500 مترا من الماء، وهي إما أن يكون مصدرها الطبقات العليا من الجو، أو أن يكون مصدرها خارجاً عن الغلاف الهوائي المحيط بالأرض.
على أننا سنرى أن تغير شدة هذه الأشعة مع خطوط العرض يحتم الرأي الثاني. وسنبين في مقال قادم أن الشمس بدورها لا يمكن أن تكون مصدراً لها كما سنبين أثرها على المادة التي تخترقها ونتكلم عن الوسائل الدقيقة لقياسها، وتسجيل مسارات جسيماتها وسماعها عند مرورها، وهي وسائل تختلف عن غرفة التأين السابقة وتعد اليوم أقصى ما بلغه العلم التجريبي من القوة والتقدم.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم(304/68)
المهندسخانة(304/69)
من هنا ومن هناك
كتاب جديد لهتلر - ملخصة عن (باريس ميدي)
يقال إن أحد رجال السياسة المعدودين أراد مقابلة هتلر في الساعة الرابعة بعد ظهر أحد الأيام، فأجيب بأن الفوهرر لا يمكن مقابلته ما بين الثالثة والخامسة لاشتغاله بوضع كتاب.
فإن دكتاتور ألمانيا يشتغل إلى جانب أعماله السياسية بالأعمال الأدبية والفنية ويوليها جزءاً كبيراً من وقته.
وقد اتفقت وزارة الدعاية الألمانية أخيراً مع دار للنشر في أمريكا على طبع كتاب لهتلر. ويقال إن صاحب هذه الدار بعد أن قدمت إليه رسالة عن تاريخ حياة الدكتاتور استفسر عن اسم الكتاب، فأعلن بأنه كتاب ثان لكتاب (كفاحي) من المحتمل أن يصدر تحت عنوان: (كفاح ألمانيا). ويليه كتاب ثالث باسم: (كفاح أوربا).
وتقول بعض المصادر العلمية إن لهتلر كتاباً رابعاً سيصدر بعنوان: (بين الإدارة والطاعة)، وهو كتاب يجمع آراءه الفلسفية والدينية.
إن هتلر بلا شك قد أخرج أروج كتاب ظهر في القرن العشرين، فكتاب كفاحي بيع منه 20 مليون نسخة في ألمانيا وحدها.
كيف يقوم هتلر بتأليف هذه الكتب؟ إن كتاب كفاحي كتب في السجن ومن المعروف أنه قبل أن يكتب آراءه في هذا الكتاب، عمد إلى بحثها مع كارل هانشوفر، ورودلف جميس، والفريد رونزتبرج. ولكنه في كتابه الجديد لم يسترشد بأحد، ولم يذكر لأحد.
ويملي هتلر آراءه على كاتبه فيلتقطها على الآلة الكاتبة في سرعة عجيبة، ويشتغل على الدوام من الساعة الثالثة إلى الخامسة بعد الظهر. وإنما يفعل ذلك لأن مشاغله المتعددة لا تترك لديه مجالاً للاختيار. فإذا تعذر العمل في ذلك الوقت لظرف من الظروف أجل الإملاء إلى ما بعد ظهر اليوم التالي، على ألا يكون ذلك قبل الساعة الثالثة، ولا بعد الساعة الخامسة بعد الظهر. وهو يلتزم هذه القاعدة لأنه يحب أن يقيد نشاطه الأدبي بوقت معين
ويشاع أن نظرية الكتاب الجديد الذي يشتغل به هتلر، مبنية على فكرة جديدة لحل مشاكل العالم جميعاً بالطرق السلمية.
فهل تحقق الأيام القريبة نظرية هذا الكتاب؟ إنه الآن في مركز يجعله أكثر من غيره فطنة(304/70)
إلى ذلك.
المرأة في ظل الدكتاتورية - ملخصة عن (ذي هبرت
جورنال)
الفاشية بطبيعتها لا تتفق وحرية الرأي. فهي في الحقيقة تقوم على حكم القوة. ومن ثم كان مركز المرأة فيها مركزاً ثانوياً، تحت نفوذ الرجل الذي أعد للحرب والقتال
وعلى ما هو معروف عن الفاشية من المبادئ المنفرة، نجدها قد وضعت المرأة في مركز لا يبيح لها أن تكون أكثر من آلة صماء لخلق الرجل وخدمته في إبان الحروب
ويقول موسوليني في حديث له مع إميل لودفج: المرأة يجب أن تطيع. إنني لو صرحت للمرأة بالدخول في ميدان الانتخاب لأضحكت مني العالم، إن النساء في حالة كحالتنا من الواجب ألا يحسب لهن حساب. وقد أضاف إلى ذلك أنه قد أعجب بشخص من أسلافه قتل زوجته لأنها لم تحتفظ بشرفه. هذا ما يفعله أهالي روما الذين انحدرت من أصلابهم. وقد أصدرت الحكومة الفاشية منذ نشأتها قانوناً يقضي بمنع المرأة من تعليم الطفل إذا بلغ الحادية عشرة أمراً ما قد يكون له تأثير في تكوينه الخلقي، وما زال هذا المبدأ يعمل به إلى الآن.
إن الذين يعرفون ما تقاسيه المرأة في ظل النظام الفاشي - خارج إيطاليا - قليلون.
لقد كانت السن الدنيا للزواج في إيطاليا للبنات خمس عشرة سنة، وللرجال ثماني عشرة، فنقص ذلك إلى أربع للبنات وست عشرة للذكور - في ظل النظام الفاشي -
وقد سن في قانون العقوبات الجديد في إيطاليا مبدأ لا يجعل الرجل مدانا في حالة الاعتداء على أسرته، إلا إذا كان اعتداؤه هذا يترتب عليه عاهة يصعب علاجها، وفي هذه الحالة يحكم عليه بالسجن ستة أشهر بدلاً من خمس سنوات في القانون القديم، فإذا ماتت الفريسة ترتفع العقوبة إلى ثماني سنوات بدلاً من الإعدام. وعلى ذلك فللإيطالي أن يضرب زوجته وأولاده كيف يشاء، ما دام هذا الضرب لا يسبب لهم كسراً في العظم، أو فقداً لحاسة من الحواس. وكثيراً ما يشمله العفو في مثل هذه الظروف، على أن الفريسة يندر أن ترفع أمره إلى القضاء.(304/71)
فإذا هربت إحدى الفتيات من سوء المعاملة، وقد تكون من هؤلاء اللائى لا يتجاوزن الرابعة عشرة، فإن البوليس يطاردها ويقدمها للمحاكم حيث يحكم عليها بالسجن سنة كاملة، أما الرجل فلا يسأل عن سوء معاملته لها.
أما نظام النازي فقل أن يختلف عن هذا النظام من حيث الاستهتار بحقوق المرأة، فالمرأة الألمانية تستوي مع أختها الإيطالية في المعاملة التي تعامل بها في ظل الحكم الاستبدادي، ولا تزال الشكوى ترتفع إلى العالم مما تلاقيه. وقد أشارت الفيننشيال تايمز الألمانية إلى أن المرأة لا تضايق الرجل بمشاركتها إياه في الحياة فقط، بل بمنافستها له في كسب الخبز أيضاً.
وقد أرغمت المرأة الألمانية على التخلي عن حقوقها الانتخابية وحرمت الحق في التوظف في مصالح الحكومة والمجالس البلدية والمستشفيات، وكذلك بعض المدارس إلا إذا كانت سنها تزيد على خمس وثلاثين سنة. على أنها تفصل من وظيفتها إذا تزوجت من رجل له وظيفة يكتسب منها أو كان من غير العنصر الآري. ويقضي قانون 1933 بفصل المرأة من عملها إذا تزوجت وثبت للسلطات أن إيراد زوجها كاف للقيام بنفقاتها. وكذلك إذا كان لها والد أو أخوة يستطيعون القيام بأمرها فإنها تفصل من عملها ولو لم تكن متزوجة
وقد أخرج النازي آلافاً من النساء اللائى كن يقمن بأعمالهن دون أن تسمع لهن شكوى
ولا يصرح بدخول الجامعات في ألمانيا الآن إلا لعشر في المائة من الفتيات اللائى يحصلن على شهادة البكالوريا
وقد سيق آلاف من النساء العاطلات إلى معسكرات للاشتغال بأعمال الغسل والنظافة والطهي
لقد أنقذت المدنية المرأة منذ أجيال من الاشتغال بالأعمال الزراعية المرهقة؛ ولكن النازية قد ساقت إلى الحقول الكثيرات من نساء ألمانيا الذكيات حيث قضى عليهن بأن يقمن بأشق الأعمال(304/72)
البَريد الأدبي
حماية نفائس دار الآثار العربية
قد سبق لهذا القلم أن عاتب وزارة المعارف في هذا الباب من الرسالة، ولا سيما يوم عرض لدار الأوبرا الملكية ولمعهد الموسيقى العربية. ويحلو له اليوم أن يذيع أن وزارة المعارف حمت نفائس دار الآثار العربية إذ منعت خروجها من مصر. وهكذا تذكر الحسنات إلى جانب غيرها
والقصة أن جمعية (مصر - فرنسا) - القائمة في باريس رغبت إلى المستشرق المسيو فييت مدير دار الآثار العربية في مصر (وذلك بعقد يجدد كل سنتين) أن يظفر بموافقة الحكومة المصرية على الإرسال بأجمل القطع المحفوظة بالدار إلى باريس حتى تُمدّ معرض الفن الإسلامي المزمع إقامته هنالك. فاختار المسيو فييت نحو ثمانمائة تحفة وأوعز إلى معاونيه بجمعها وإعدادها للرحيل؛ وإذا وزارة المعارف تقف في وجه الأستاذ فييت وترفض أن تقره على عمله
ولا شك أن في عمل المسيو فييت بعض الشطط. ذلك أن قانون دار الآثار العربية - فيما أعلم - يحظر خروج محفوظاتها منها وإن قال قائل إن الدار سبق لها أن ترسل بتحف إلى معرض الفن الفارسي سنة 1931 وأُخرَ إلى معرض بروكسل سنة 1937، فالذي في الواقع أن تلك التحف كانت معدودة. وأما هذه الدفعة فقد حاول الأستاذ فييت أن يخرج من الدار ثمانمائة تحفة كلها من النفائس التي لا مثيل لها في سائر البلدان والتي بها تفخر دار الآثار العربية وتعتز مصر. ولو اتفق لهذه التحف أن تنفذ إلى باريس فما يكون مصيرها لو وقعت حرب أو تحطمت أو تثلمت أو أثر فيها الجو؟ من أين نجلب أشباهها؟
والوجه أن الآثار لا تخرج من بلد إذا كانت فريدة لا أخوات لها، ثم إنه يحسن أن تخرج نماذج لها بدلاً منها. وعلى هذا أقيم معرض النحت الفرنسي لهذه السنة في الجزيرة في مصر، وعلى هذا أكثر المعارض الرفيعة
وبعد، فالمأمول أن تعد وزارة المعارف نفسها معرضاً للفن الإسلامي تكل أمره إلى دار الآثار العربية، لأن مصر أحق البلدان في إقامة مثل ذلك المعرض، فنفائس دار الآثار لا تجاريها محفوظات المتاحف الأخرى؛ فضلاً عن أن عددها يبلغ هذا الرقم الجليل: 14350(304/73)
بحسب الإحصاء الذي دونه الأستاذ فييت نفسه باللغة الفرنسية لشهر مضى في (الدليل الموجز لمعروضات دار الآثار العربية) على حين أن آثار الفن الإسلامي المحفوظة في باريس لا تكاد تتطلع إلى ذلك الرقم
بشر فارس
المبتدأ الذي لا خبر له
قرأت ما كتبه الأستاذ (أبو حجاج) في رد ما ذهبت إليه في إعراب المبتدأ الذي لا خبر له، فوجدته أولاً لم يحاول رد إعرابي بشيء، وهذا كسب عظيم لذلك الإعراب الجديد، وكنت أحب للأستاذ أبي حجاج أن يبطل إعرابي هذا قبل أن يحاول تسويغ إعرابهم، وإذا لم يكن إعرابي باطلاً - وهذا ما أرجوه إن شاء الله - فإني كنت أحب أيضاً أن يوازن بين الإعرابي ليرى كيف يستقيم أمر المبتدأ على إعرابي، فيكون مسنداً إليه باطراد، كما يستقيم ذلك في الفاعل ونائب الفاعل واسم كان واسم إن، وكيف يضطرب أمره في إعرابهم، فيجعل مسنداً إليه تارة ومسنداً تارة أخرى؛ مع أن الأصل فيه أن يكون مسنداً إليه. وليس هناك ما يدعو إلى جعله مسنداً إلا ذلك الإعراب الذي يغني عنه إعرابي، ولا شيء في أن يوضع هذان الإعرابان في ميزان واحد. وإن كان أحدهما متقدماً والآخر متأخرا، لأن مثل هذا الاعتبار لم يعد له وزن في عصرنا، وكم من متأخر رجح متقدماً
ووجدته ثانياً يحاول تسويغ إعرابهم بما أنكرته عليهم، فهو يسلم ما قلته من أنهم لم يسموا الشيء فاعلاً إذا كان في المعنى فاعلاً، وهكذا، ثم يقول إنهم كذلك لا يسمون الاسم مبتدأ إلا إذا كان مبتدأ في المعنى، أي إلا إذا كان اسما مجرداً عن العوامل اللفظية وهو إما مخبر عنه أو وصف رافع لما يغني عن الخبر. ولا يخفى أن هذا قياس مع الفارق كما يقولون، لأن ما سلمه من ذلك معناه ظاهر، وهو أن الشيء لا يسمى عندهم فاعلاً في الاصطلاح إلا إذا كان فاعلا في الواقع؛ أما الذي ذكره في المبتدأ فمعناه أنه سمى في الاصطلاح لأنه مبتدأ في الاصطلاح، وهذا تهافت ظاهر. ثم هو عين ما أنكرته عليهم، لأنه اصطلاح يلزم عليه إخراج المبتدأ عن أصله، وإدخال ما لا معنى لإدخاله فيه
والحق أن الوصف في مثل ذلك جار مجرى الفعل؛ وكما لا يصلح أن يكون الفعل مبتدأ، لا(304/74)
يصلح أن يكون ما جرى مجراه مبتدأ، ولهذا لم يصلح اسم الفعل لأن يكون مبتدأ لأنه جار مجرى الفعل، والفعل لا يصلح للابتداء به. فكذلك ما يجرى مجراه، وهذا هو الحق في اسم الفعل ولو قلنا إنه موضوع للدلالة على معنى الفعل، لا على لفظ الفعل، لأن الخلاف في ذلك يشبه أن يكون لفظياً، ولأن الفعل لا يصلح لفظه ولا معناه للابتداء به، وليس هذا الحكم قاصراً على لفظه فقط
وقد قال صاحب التصريح إن اسم الفعل يعرب مبتدأ على القول بأنه موضوع لمعنى الفعل، وهو قول غير مسلم عندي، وما أظن أن أحداً سبقه إليه، لأن الفعل لا يصلح لفظه ولا معناه للابتداء به، فكذلك ما يدل على معناه من اسم الفعل ونحوه، ولأنهم قصروا المبتدأ الذي لا خبر له على الوصف المعنوي، وهو ما دل على ذات ومعنى قائم بها، وقد أخرجوا منه المصدر لأجل هذا، إلا أن يكون مؤولاً بالوصف، ولا شك أن اسم الفعل مثل المصدر في أنه ليس وصفاً بذلك المعنى، فلا يصح أن يكون مبتدأ مثله. وما أحرى الأستاذ أبا حجاج أن يسلم لي مذهبي بعد هذا كله، والسلام عليه ورحمة الله
عبد المتعال الصعيدي
نقابة جديدة للموسيقيين. . .
وأخيراً وبعد هذا الزمن الطويل الذي قطعه الموسيقيون في تنافر وتنابذ وشقاق استطاع بعض المصلحين المثقفين منهم أن يلموا الشمل وأن يمهدوا لفكرة التعاون الصادق والإخاء الذي لا ينفصم فاجتمعت الآنسة أم كلثوم بالأستاذ محمد عبد الوهاب، حتى إذا اتفقا وتصافيا ونسيا كل شيء إلا خير الموسيقى ورفعتها والأخذ بيد أبنائها انتقل هذا الاجتماع من (سان جيمس) إلى دار الاتحاد الموسيقي الذي يرأسه الأستاذ إبراهيم شفيق. وقد حضر الاجتماع الذي انعقد يوم السبت 22 أبريل سنة 1939 بالدار من الموسيقيين والمطربات الأساتذة: الدكتور محمود أحمد الحفني مدير الموسيقى بالمعارف، وصالح عبد الحي، وإبراهيم شفيق، ومحمد بخيت، ومحمد القصبجي، وكامل إبراهيم، والسيدة فتحية أحمد. وقد استمر الاجتماع منعقداً أكثر من ثلاث ساعات ذلل فيها أكثر العقبات ورسم فيها أكثر الخطا. . . وقد انصرفوا على أن يجتمعوا بعد أسبوع لتكملة مشروعهم. ولعل الفرح الذي كانت تفيض به(304/75)
نفوس إخوانهم المنتظرين في أبهاء المعهد خير حافز لهم على التوفيق والنجاح. ولعل هذه الحركة المباركة هي المسمار الأخير الذي سيدق في نعش تلك الفوضى التي كانت تسود الجو الموسيقي والتي كانت تحرم الموسيقيين من نقابة ترعى حقوقهم وتسهر على مصالحهم. . .
المويلحي
إلى شباب الجامعة والأزهر
عرض الأستاذ الكبير العقاد في مقاله القيم: (يهتمون به فهل يعرفونه) المنشور في عدد الرسالة (الممتاز) لبعض الخلط والتمويه الذي يتطرق له الكثير ممن يتصدون للكتابة عن العرب والإسلام من أبناء الغرب. وبين يدي كتاب عن: (لورنس في جزيرة العرب) لرحالة أمريكي يدعى لوول ثماس رافق الكولونيل لورنس ردحاً من الزمن في جزيرة العرب أثناء الثورة العربية، حشاه بكثير من الأغاليط لا يعدو الباعث عليها أحد الأسباب التي أشار إليها الأستاذ الكبير في مقاله الآنف الذكر.
لو يتسع لي المجال لقدمت لقراء الرسالة طائفة من عجائب ذلك الكتاب، بيد أني سأقتصر على عجيبتين فقط
قال في ص51 أثناء كلامه عن الحجاج: (. . . وبعد أن يقوم الحجاج بتأدية الشعائر الدينية في مكة، يعودون إلى أوطانهم فيخضبون لحاهم ويعرفون بعدها بالحجاج، أو الرجال المقدسين. وقبل مغادرتهم مكة تسلم لهم تذاكر تضمن دخولهم الجنة).
واستطرد في ص223 إلى ذكر الوهابيين فقال: (وهؤلاء المدققون في أمور الدين، يريدون إبطال الحج، وإزالة كافة المزارات: كالكعبة المقدسة، وقبة النبي في المدينة).
وجل ما يكتب في الغرب عن العرب والإسلام على هذه الوتيرة وأثر هذه الكتابات سيئ وخيم العاقبة! فمكتبة شبابنا المتعلمين اليوم هي المكتبة الغربية، أصلية في الغالب، مترجمة في النادر. فحبذا لو تألفت لجنة من شباب جامعة فؤاد الأول، والأزهر، لنقد وتمحيص ما يكتب عنا، لا ليعلم أبناء الغرب حقيقتنا نقية غير مشوبة فقط، ولكن لنقي أبناءنا ما وسع الجهد من هذا الوباء الفتاك أن يسمم عقولهم. وما عهد الحملة التي وجهت في مصر لكتاب:(304/76)
(حياة محمد) ببعيد.
(البحرين)
(ت)
مخرج حاذق يفقد
من أخبار السينما المصرية أن شركة مصر للتمثيل والسينما رفضت تجديد عقد الأستاذ نيازي مصطفى المخرج المعروف وهذا أمر لا يفرح به من يهمه تقدم صناعة السينما المصرية، ولا سيما بعد ما شهدنا ما بذله من جهد في إخراج روايات ضئيلة الموضوع. وهو ممن تعرف قدرته في ألمانيا، بحسب اعتراف أساتذة فن الإخراج هنالك
حتَّامَ يُستبعد أهل الكفاية في هذا البلد، إذا بدت منهم الدراية؟
ب. ف
العلاقات الثقافية بين مصر والبلاد الشرقية
تعنى وزارة المعارف بالعمل على توثيق روابط الثقافة بين مصر والبلاد الشرقية، وقد ألفت لجنة لهذا الغرض من رجال الخارجية والوزارة برياسة صاحب العزة الأستاذ الوكيل لبحث الموضوع ولكن الرأي اختلف فيه فطلبت وزارة المعارف إلى وزارة الخارجية أن توافيها بما تتضمنه الاتفاقات المعقودة بين الدول الأجنبية في هذا الشأن. فأرسلت إليها نص الاتفاق الذي عقد أخيراً بين فرنسا ورومانيا، وهو يقوم على القواعد الآتية:
تأليف جمعية تعنى بتشجيع حركة التعاون الثقافي بين البلدين وإلقاء المحاضرات وطبع الكتب وتبادل الأساتذة والطلاب بين معاهد البلدين. وإنشاء صناديق ادخار مشتركة لطلبة الشعبين. والأخذ بمبدأ المساواة في الدرجات العلمية والتزاور بين الشخصيات الكبيرة المعروفة في عالم الفن والعلم والأدب. وتشجيع سفر الفرق الفنية والتمثيلية والموسيقية إلى البلدين. وإنشاء جمعيات واتحادات (فرنسية ورومانية) للطلبة في فرنسا ورومانيا، والدعاية لنشر الكتب والمؤلفات الموسيقية والأدبية والأفلام والاسطوانات التي تصدر في أحد البلدين بين سكان البلد الآخر، وكذلك تشجيع السياحة وتنظيم الرحلات وتبادل الإذاعات(304/77)
اللاسلكية بين البلدين
ومما يذكر أن مثل هذا الاتفاق عقد بين ألمانيا واليابان وبين هذه الأخيرة وإيطاليا، وبلغ من اهتمام الحكومة الأمريكية بهذا الموضوع أنها أنشأت في وزارة الخارجية قسماً خاصاً لتنمية العلاقات الثقافية بينها وبين الدول الأخرى
التسليح الأدبي خير من التسليح المادي
روت المقطم أن 800 محافظ ورئيس بلدية في مدن كندا وبلادها اجتمعوا وقرروا أن تضع حكومة كندا برنامجاً تعرضه على جلالة ملك الإنكليز وملكتها عند زيارتهما لكندا مؤداه أن التسليح الأدبي خير من التسليح المادي في حفظ كيان الأمم وراحتها ورفاهتها
ومن أخبار بلاد أسوج في شمال القارة الأوربية أن200 أستاذ من أساتذة 25 جامعة من جامعات أوربا وغيرها، وعدداً كبيراً من تلامذتها اجتمعوا في جبال تلك البلاد ونظروا ملياً في الطريقة الواجب اتباعها في التعليم والتربية والتثقيف لتكون الجامعات بأساتذتها وتلامذتها في طليعة البانين للهيئة الاجتماعية الإنسانية على أسس العدل والحق وحب الإنسان لأخيه الإنسان وما إلى ذلك من الأسلحة الأدبية التي هي خير من الأسلحة المادية لحفظ كيان الأمم وراحتها رفاهيتها - فنحول إلى ذلك أنظار جامعاتنا الشرقية في مصر وسوريا ولبنان وغيرها(304/78)
أشباح القرية
تأليف الأستاذ كرم ملحم كرم
للسيدة وداد سكاكيني
الأستاذ كرم ملحم كرم من أكبر أدباء القصة في بلاد العرب ومن أكثرهم إنتاجاً وجهداً موزعا بين فنون الأدب، فهو موهوب في الفن القصصي، نشر رواياته الثلاث: (المصدور) و (صرخة الألم) و (بونا أنطون) فكان لها دوي بعيد، وكتب أقاصيص رائعة في مجلته (ألف ليلة وليلة) أبدعها قلم مرهف مطواع وتلقاها قراؤه بلهفة وإعجاب، لا سيما ما كان منها يعبر عن أحداث رأوها رأى العين أو طرقت مسامعهم، وكان لها مساس بحياتهم. وقد أتخذ الأستاذ كرم الصراحة ديدناً لأسلوبه فما يخشى بأساً إن عرض في قصصه لشخوص بخصائصهم ودخائلهم حتى أنه اكتسب من جراء قلمه الحر عداء وحسداً فوقف تجاههما كالرواسي الشامخات لا تحفل قصيف الرعد ولا تعبأ بهزيم الرياح. وإليه يرجع الفضل في نهضة القصة بلبنان لأنه أول من شق طريقها الجديد منذ أكثر من عشر سنوات فكانت قصصه خير قدوة ودعوة لمن سار على دربه
إذا شئت أن ترى القرية اللبنانية وتتعرف إلى حياتها الصحيحة وأهلها رجالاً ونساء فاقرأ كتاب كرم (أشباح القرية). في هذه القصص ترى الحياة الخالية من كل تبرج وتصنع، وكيف أن القرية على خلوها من كل زيف وزخرفة لا تسلم من مساوئ المدينة التي تنتقل إليها على أيدي بناتها وأبنائها الذين يهجرونها لتغذية مطامعهم الوثابة، فما يتركون قريتهم حتى تتولاهم الحيرة والدهشة في طريق البلد الذي يبتغون، حتى إذا حطوا رحالهم باتوا كالمخمورين، وكلما تغلغلوا في حياتهم الجديدة امتدت آفاق العيش أمامهم دون أن تقف على حد. كل هذا بأوصافه الملونة ودقائقه المصورة تراه مثبتاً في (أشباح القرية) كأنك تتطلع على ألواح بارزة ورسوم ناطقة بكل ما في الجبل اللبناني من ألوان وظلال
ففي (جبور في بيروت) يصور سحر المدينة لابن القرية وإيثاره العمل الشائن فيها على خدمة الأرض التي عاش عليها آباؤه وأجداده بين الزراعة وجمع الحطب ورعاية الماشية فجوزي على جحوده وطمعه بارتكاب المنكر من فسق وميسر ومراهنة في سباق الخيل وقتل نفس حتى وقع في السجن ولحقته الشماتة والندامة فرجع إلى القرية مريضاً بعيداً عن(304/79)
الساخرين
وفي (رزوق عاد من أميركا) يمثل لك صاحب الأشباح طموح الفلاح والتماسه الرزق وراء البحار وكيف يعود رجلاً آخر يسخر من القرية وأهلها فيضيع ثروته في حياة المدنية ومستواها الذي لم يخلق له
إن في (أشباح القرية) لروعة في الوصف وإبداعاً في التمثيل ونكتة في السياق. غير أنها قد حملت في بعض رسومها ألواناً قاتمة، ولعلها ندت في بعض أطرافها عن تصوير الحقيقة، كأن يصف روائي لبنان عجوزاً بأنها كتعاء عوراء عرجاء، فهذا الغلو في التعبير قد يخرج الصورة عن إطارها الذي يليق بها. ولعل لموهبته المولدة وبصيرته النفاذة وقلمه السيال يداً في هذه ألهناه التي تنجم عن وفرة الإنتاج وجموح الخيال؛ فالأستاذ كرم يخلع على قصصه ألواناً من لإبداعه حتى تتسع أفياؤها ويلتبس على قارئها أهي واقعة من الحياة أم ابتدعتها مخيلته في الرواية، ولكني أعتقد أن مذهبه في الفن القصصي مبني على الحقيقة والواقع، مستمد روعته من مسارح الخيال بدليل أن (أشباح القرية) تمثل لك الأشخاص كأنك عشت بينهم ووعيت حياتهم وعرفت طبائعهم وميولهم. وصفوة القول أن الأستاذ كرم ملحم كرم من بناة النهضة الأدبية الحديثة في لبنان، وكتابه (أشباح القرية) جدير بالمطالعة والإعجاب لأسلوبه الجميل ولهجته السليمة وصبغته الخاصة على ندرة هذه الميزات في كتاب القصة.
وداد سكاكيني(304/80)
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
عطيل
بين الإخراج والتمثيل
ما أظنك رأيت ناسكا من قطان الصحارى والكهوف الواردة أساطيرهم في الكتب يستيقظ في الفجر يسبح ربه ويقضي نهاره على وتيرة واحدة في الأكل والصلاة ثم يودع الشمس الغاربة بأدعية الحمد والتوسلات إلى الباري العظيم أن يدني اليوم العظيم يوم الخلاص من الحياة الدنيا. فإذا شاقك أن ترى شبيهاً لحياة البلادة والكسل وتزاحم أيام الأسبوع وتدافعها حتى ينقضي اليوم الأخير من الشهر، فانظر إلى الفرقة القومية وراقب أعمالها تر ذلك الناسك بعجزه وبجره، لا فرق بينهما إلا في صيغة الدعاء والابتهال إلى الله العظيم أن يصرف أذهان نواب الأمة عن مناقشة ميزانية وزارة المعارف التي تمنح إعانة لنساك من الممثلين كهوفهم قهوات عماد الدين وكتبهم أوراق البوكر والكونكين
وإذا أردت مثلاً صارخاً لبلادة الناسك ومحافظته على الهدوء كالتمساح يهضم ما ابتلعه من فريسة على مهل فاذهب إلى دار الأوبرا واحضر تمثيل رواية عطيل، فأنت ترى نفس أبطال الممثلين والممثلات الذين لعبوا أدوار هذه الرواية بعينها سنة 1912 فلا فارق فيما كانوا عليه قبل سبع وعشرين سنة إلا ما سوف أذكره بالتفصيل، وفيما يجب عليهم إدخاله على فن التمثيل من محسنات وتصحيحات لمواقفهم السابقة. ولا شك في أنك تسائل نفسك ما معنى استقدام مخرج أوربي ليحل محل مخرجين مصريين أقصاهما مدير الفرقة ليتيسر له دفع راتب المخرج الأوربي الذي لم يستطع أن يغير حرفاً من الناموس القديم؟
المخرج الأوربي على شيء من فهم فنه ولا شك، وقد أقام البينة على ذلك، ولكنه ويا للأسف تأقلم فسرت إليه عدوى الموظف الراكن إلى الراتب الفاتن، المكتفي بإبراز عمل يرضي الرئيس ولا يغضب الممثلات والممثلين فصار يساير هذا ويجاري ذاك كأنه كتلة أصيلة من بيئة المسرح المصري
وعلى هذا القياس تم التجانس والانسجام بين رجل الإدارة ورجل الفن ورجل التمثيل،(304/81)
بدليل أنه لما طاب للفرقة إخراج آخر رواية ترجمها الأستاذ مطران لم يجد المخرج بداً من مسايرة السيدة دولت أبيض والسيد منسي فهمي، بإسناد دور ديدمونة إلى الأولى ودور ياجو إلى الثاني، وبإبقاء دور عطيل مع الأستاذ جورج أبيض، أي بإبقاء القديم على قدمه. فهل قام هؤلاء بتمثيل أدوارهم قياماً مقبولاً؟ وهل أكسبتهم الأعوام اختبارات فنية أضافوها إلى صناعتهم في التمثيل؟ وهل استطاع المخرج الأوربي تلقيحهم بمعلومات خاصة من عنده؟
أزعم أن المخرج لم يكلف نفسه عناء تصحيح أي موقف لممثل من مواقف هذه الرواية الجبارة، ولو فعل حقاً لكان اختار لدور ديدمونة غير الممثلة دولت أبيض، لا لأنها لم تحسن فهم دورها، ولا لأنها لم تُجد إخراج مقاطع صوتها بحنان وعطف، ولا لأنها لم تجهد نفسها لإظهار الحب البريء البكر بأطهر مظاهره، بل لأن تقاطيع وجهها ونظرات عينيها كانت كأنها من صنع رسام فاشل توحي إلى الناظر أكثر من معنى واحد، وتجعله يراها تبكي بينما هي تضحك، أو تضحك بينما هي تبكي. والمفروض في المخرج البارع ملاحظة هذه الحالة الفسيولوجية التي لا دخل لإرادة الممثل واجتهاده فيها، بل والواجب عليه تفاديها، وليس ثمة من سبيل إلى التفادي إلا باختيار ممثلة أخرى وهن في الفرقة كثيرات
وهناك تقصير من المخرج يستوجب اللوم من أجله، ولا أجد سبباً لوقوعه فيه سوى سبب المسايرة والمجاراة وإرضاء الجميع على حساب (الضمير الفني) فالممثل الذي لعب دور ياجو وسبق له أن لعبه مرات في خلال ربع القرن الماضي، إنما كان فهمه له خطأ، وكان تدريب معلميه له خطأ أيضاً، وبذلك دلل على أنه صدى يردد، وأنه لو كان التفت المخرج إلى هذه الناحية الفوتوغرافية فيه لكان طبعه طبعة صحيحة تظهر نفسية ياجو على حقيقتها وعلى ما هي مفطورة عليه
قد يفهم المخرج الأوربي معاني (الكيد والتحدي والجريمة) وهي عناصر رئيسية في الحيوان الشرير الذي يدعى الإنسان، وأن عوامل التهذيب والتثقيف تصقل هذه الخلائق أو تبرقعها ببراقع في علم السلوك والاجتماع، وهي تغوص أو تطفو وفق الانفعالات والظروف. وقد يفهم أيضاً أن شخصية ياجو التي رسمها شكسبير العظيم إنما هي بعينها هذه الشخصية اللعينة المهذبة، المريضة المثقفة، وأن لا محيص لصاحبها أن يكون كيساً(304/82)
لبقاً لماحاً مرهف الحس، لا ضحاكا مهرجاً كما فهمه الممثل منسي فهمي، وبعبارة أصح كما تركه المسيو فلاندر يلعب دوره على هذا الأساس الخاطئ. فهذا المخرج يستأهل اللوم، لا لأنه أهمل فقط تدريب الممثل بل لأنه يستهين بثقافتنا وبنهضتنا الأدبية متوهما أن محيطنا الأدبي وبيئتنا الثقافية تجللهما سحابة خانقة مكفهرة كالتي تشوب الجو المسرحي
لم تكن كل المواقف التي وقفها الأستاذ منسي فهمي خاطئة، فإنه مثل ببراعة المرح البسام والسخرية المريرة إذ يجتمعان في النفس ومثل السخرية من المخلوقات التي تعميها حيوانية الغرائز، ومن تحفزهم طبيعة الطمع ولاقتناص المال واستلابه من هؤلاء الذين جاءهم عفو الإرث من الآباء أو الأجداد، ومرح الرجل العارف مبلغ قوته ومقدار معرفته طبائع الحياة وأخلاق الناس
قبيل الذهاب إلى الأوبرا أخذت أسال نفسي: هل نضب الأستاذ أبيض أم ركد أم ما برحت حيويته وثابة تنتهز الفرص الحافزة وتترقب سنوحها بصبر؟ ثم قلت إن رواية عطيل خير مسبار يبرز نوع معدن الرجل على حقيقته
جلست في مكاني أعير تمثيل الرجل كل انتباهي. فعلت ذلك لسببين الأول لأني شاهدت تمثيل هذه الرواية على مسارح فرنسية وإيطالية، والثاني لأقول لبعض الأصدقاء من الناقدين إن النقد فضلاً عن أنه موهبة فهو فهم، وحس، وسعة اطلاع، ولا يطالب الناقد المسرحي بزيارة عواصم العالم ومسارحه كلها ليكون ناقداً مسرحياً فالعبرة إذن ليست بالسياحات بل بما ذكرت من المواهب الطبيعية والاكتسابية
أعرت الأستاذ أبيض انتباهي ويقظة نفسي فألفيته يمثل دوره على نقيض ما مثله فيما مضى. وقد أعجبني منه تحوله عن اللهجة الخطابية وانصرافه عن مظاهر الحماسة إلى تمثيل انشغاله الذهني في شؤون وظيفته العسكرية واضطراب عاطفته المستثارة بلواذع الغيرة، ولما كانت تعضه الآلام بأنيابها السامة كان يصرخ صرخة هي كومضة البرق في ليل ملبد بالسحب القاتمة، ثم يعود إلى نفسه ليسكن لواعجها فيداهمه ياجو بمواد من سمومه القتالة. وهكذا مشى الممثل جورج أبيض يقبض على ناصية المسرح وبعبارة أصح يضم أذهان النظارة وأحاسيسهم في قبضة يده
إني وإن كنت أسجل بفخر للمسرح المصري وقفة الأستاذ أبيض فيجب ألا أنسى الآنسة(304/83)
فردوس حسن لأنها على قصر الدور الثانوي الذي مثلته أظهرت كفاية جديرة بالإعجاب والتقدير.
وبعد فأرجو أن يحمل نقدي على محمل الإخلاص الصادق لفرقة يعز علي كثيراً أن أقرأ الفاتحة على روح النشاط والمجد والغيرة المفروضة فيها والمعدومة منها
ابن عساكر(304/84)
العدد 305 - بتاريخ: 08 - 05 - 1939(/)
في وزارة المعارف
تدريس اللغة العربية
في الغرفات الكبرى من وزارة المعارف ضجة منذ أسبوعين ما بين رجال الإدارة ورجال التعليم في البحث عن أمثل الطرق لتدريس اللغة العربية في المدارس المصرية. والموضوع لخطره وقوة أثره يستحق هذه الضجة في الوزارة، ويستوجب هذه العناية من الوزير، ويسمح لغير الرسميين من رجال القلم أن يصدعوا فيه بكلمة الحق التي لا توحيها رغبة رئيس ولا مجاملة مؤلف. فإن من القضايا المسلَّمة أن خيبة الوزارة في تعليم الأدب العربي وقواعده كانت خيبة للنهضة الثقافية في مصر الحديثة، لأن الذين يبتغون العلم من العامة لا يملكون أن يقرءوا، والذين يريدون التعليم من الخاصة لا يستطيعون أن يكتبوا؛ فبقيت الأمة أمية في عصر فرغت فيه الأمم من البحث في الألف والباء، والأفعال والأسماء، لسبر أغوار المجهول من النفس والطبيعة
صحيح أن خيبة الوزارة عامةٌ في فروع الثقافة المختلفة، ودرجاتها المتعددة، لأنها إلى اليوم لم تستطع أن تخرج الإنسان المثقف الذي يعرف كيف يعيش، ولا الرجل الموظف الذي يدري كيف يعمل؛ ولكنها لو كانت نجحت في تعليم العربية لخلقت من تلامذتها قراء يكملون نقصهم بالدرس، ويقوّون ضعفهم بالاطلاع، ويتصلون من طريق القراءة بالفكر البشري العام في مناحي تصوره وتطوره وإنتاجه. فإني أومن بأن تعليم الشعب لغته هي أصل الأصول في ثقافته العامة؛ فإذا صلح محا الأمية، وخلق القومية، وكون الأخلاق، ووحد الميول، وقوى المواهب، ونشر المعرفة، وروّج الأدب، ووسع النهضة؛ وإذا فسد أصحاب الأمة بنمط عجيب من الأمية المغرورة والجهالة السفيهة، فيكثر العلماء ويقل العلم، وينتشر الأدباء ويموت الأدب
منذ أن ذهبت ثورة الاستقلال بدنلوب وسياسة دنلوب حاول البانون على أثره أن يرفعوا البناء فلم يرتفع، ثم جهدوا أن يدعموه بتقارير الخبراء ومناهج اللجان فلم يندعم. ذلك لأنهم لا يزالون يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم (بروتين) النظام حتى أصبح لهم فطرة. فإذا كان القيم على أمر الوزارة قويًّا انطوت هذه(305/1)
الفئة انطواء القنافذ، وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم والخبرة، فغّيروا المناهج، وقوّموا الخطط، ورسموا الغاية، وبدّلوا الكتب، وبدءوا التجربة؛ وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة، ورجعيتها على تجديد، فاحتسبت الإيرادات في الرءوس، واستقرت الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء بالتأليف المريب لجواز الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة الجيل الذي يكون له مع العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. ومن أجل ذلك لا نبالغ في تقويم الفوائد المرجوة من هذه اللجان ما دام الأمر لا يخرج عن جلسات تعقد، ومقترحات تناقش، وتقريرات تقدم، وقرارات تصدر، ثم لا تبقى إلا بقاء الوزير في الوزارة
ليس من شأن المدرسة ولا في مقدورها أن تخرج الطالب عالماً يبتكر ويخلق؛ وإنما شأنها وجهدها أن تخرجه متعلماً يقرأ ويبحث؛ فإذا لم تصنع القارئ فأنها لم تصنع شيئاً. والقارئ الطُّلعَة من صنع معلم اللغة، لأن القراءة أداة اكتساب البلاغة، واللغة والأدب قبل كل شيء تقليد ومحاكاة؛ فواجبه أن يشوق الطالب بروائع الفن، ويغريه ببراعة الذهن، ويأخذه بدوافع التكليف حتى ينطبع على القراءة بالمران والعادة. ومتى أخذ الرجل يقرأ فقل إنه أخذ يَعلم. فهل استطاع تدريس اللغة العربية في مدى مائة عام خلت أن يجعل مصر أمة قارئة؟ قد تجيب مصلحة الإحصاء بأنه علم الخط كذا رجلاً في المائة؛ ولكنها لا تحير جواباً إذا أردنا من القراءة التتبع والفهم والتحصيل. والقراءة بهذا المعنى هي الفارق بين شاب تعلم في المدارس في المصرية، وبين آخر درس في المعاهد الأجنبية
قضيت في تعليم العربية وآدابها خمساً وعشرين سنة لا أفتري على الحق إذا قلت إنها كانت مثمرة. ولعلها آتت هذه الثمار لأني على ما كان في نفسي من حب الأدب لم أتقيد بطريقة كتاب ولا نصيحة مفتش ولا نص منهاج. وقد لخصت تجارب هذه الحقبة في مقال نشرته بكتابي (في أصول الأدب) أستطيع أن أجمله في كلمتين: أن تكون طريقة المعلم استنتاج القواعد من الأدب ودرس الأدب في المطالعة، وأن تكون غاية المتعلم قراءة ما يُكتب وكتابة ما يُقرأ. وسبيل ذلك كتاب ومعلم ورابطة. فالكتاب شرطه أن يكون أدباً ليصقل الذوق ويربي الملكة؛ والمعلم شرطه أن يكون أديباً ليملك ما يعطى ويحسن ما(305/2)
يختار؛ والرابطة بينهما هي الضمير الفني الذي يهدي إلى الحق ويغني عن المفتش. فإذا كان أمل الأستاذ الوزير قد تعلق بإحياء اللغة العربية وإذكاء النهضة الأدبية، فليسئ الظن بالسياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس؛ وليبحث في الديوان وفي خارج الديوان عن الخبير الذي ينهج، والكتاب الذي يشوق، والمفتش الذي يوجه، والمعلم الذي يسلك؛ وليطهر التعليم من المدرس الذي يضع القواعد في أشجار وجداول، والمفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهه الاسم؛ فإنه إن فعل ذلك جاز لنا أن نعتقد أن هذه اللجان هي غير تلك اللجان، وأن حدثاً جديداً يوشك أن يقع في الديوان.
أحمد حسن الزيات(305/3)
رسالة الأديب
للأستاذ عباس محمود العقاد
في الرسالة التي صدرت (يوم 17 أبريل) كتب الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي يقول: (إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب)
ثم يقول: (إن انعدام روح النظام بين الأدباء وتفرق شملهم وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعهم من مصالح وما يعنيهم جميعاً من مسائل قد قوّت عليهم النفع المادي والأدبي وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة)
وفي الثقافة التي صدرت (يوم 25 أبريل) كتب الأستاذ توفيق في هذا المعنى يسأل عن أدبائنا المعاصرين هل فهموا حقيقة رسالتهم؟ ويذكر ما يصنعه أدباء أوربا (كلما هبت ريح الخطر على إحدى هذه القيم - وهي الحرية والفكر والعدالة والحق والجمال - وكيف يتجرد كل أديب من رداء جنسيته الزائل ليدخل معبد الفكر الخالد ويتكلم باسم تلك الهيئة الواحدة المتحدة التي تعيش للدفاع عن قيم البشرية العليا)
ثم يقول بعد أن وصف سوء حال الأدب في مصر:
(أمام كل هذا وقف الأدب ذليلاً لا حول له ولا طول، وضاعت هيبة الأدباء في الدولة والمجتمع، وأنكر الناس ورجال الحكم على الأديب استحقاقه للتقدير الرسمي والاحترام العام. فالعمدة البسيط تعترف به الدولة وتدعوه رسمياً إلى الحفلات باعتباره عمدة. أما الأديب فمهما شهره أدبه فهو مجهول في نظر الرجال الرسميين ولن يخاطبوه (قط). . . على أنه أديب)
كلام الأستاذ الحكيم في هذين المقالين هو الذي ابتعثني إلى التعقيب عليه فيما يلي من خواطر شتى عن رسالة الأديب، وشأن الأديب والدولة، ومستقبل الأدب في الديار المصرية أو في الديار الشرقية على الإجمال
فهل من الحق أن الأدب محتاج إلى اعتراف من الدولة بحقوقه؟
أما أنا فإنني لأستعيذ بالله من اليوم الذي يتوقف فيه شأن الأدب على اعتراف الدولة ومقاييس الدولة ورجال الدولة(305/4)
لأن مقاييس هؤلاء الرجال ومقاييس الأدب نقيضان أو مفترقان لا يلتقيان على قياس واحد
فمقاييس الدولة هي مقاييس القيم الشائعة التي تتكرر وتطرد وتجري على وتيرة واحدة
ومقاييس الأدب هي مقاييس القيم الخاصة التي تختلف وتتحدد وتسبق الأيام
مقاييس الدولة هي عنوان الحاضر المصطلح عليه
ومقاييس الأدب هي عنوان الحرية التي لا تتقيد باصطلاح مرسوم، وقد تنزع إلى اصطلاح جديد ينزل مع الزمن في منزله الاصطلاح القديم
مقاييس الدولة هي مقاييس العرف المطروق، ومقاييس الأدب هي مقاييس الابتكار المخلوق
مقاييس الدولة هي مقاييس الأشياء التي تنشئها الدولة أو تدبرها الدولة أو ترفعها الدولة تارة وتنزل بها تارة أخرى
ومقاييس الأدب هي مقاييس الأشياء التي لا سلطان عليها للدول مجتمعات ولا متفرقات. فلو اتفقت دول الأرض جميعاً لما استطاعت أن ترتفع بالأديب فوق مقامه أو تهبط به دون مقامه، ولا استطاعت أن تغير القيمة في سطر واحد مما يكتب، ولا في خاطرة واحدة من الخواطر التي توحي إليه تلك الكتابة
ومن هنا كان ذلك العداء الخفي بين معظم رجال الدولة ومعظم رجال الأدب في الزمن الحديث على التخصيص
لأن رجال الدول يحبون أن يشعروا بسلطانهم على الناس ويريدون أن يقبضوا بأيديهم على كل زمان، فإذا بالأدب وله حكم غير حكمهم، ومقياس غير مقياسهم، وميدان غير ميدانهم، وإذا بالعصر الحديث يفتح للأدباء باباً غير أبوابهم، وقبلة غير قبلتهم التي توجه إليها الأدباء فيما غبر من العصور
ولو بلغنا إلى اليوم الذي تعترف فيه الدولة بالأدباء لما اعترف بأفضلهم ولا بأقدرهم ولا بأصحاب المزية منهم، ولكنها تعترف بمن يخضعون لها ويرضون كبرياءها ويهبطون أو يصعدون بغضبها أو رضاها
ولسنا في مصر بدعاً بين دول المغرب والمشرق، فما من دولة في العالم تعترف بأمثال برناردشو وبرتراندرسل ورومان رولان كما تعترف بالحثالة من أواسط الكتاب
هذا عن الأديب وشأنه المعترف به بين رجال الدول، فماذا عن التفرق والتجمع، أو عن(305/5)
أثر هذا أو ذاك في تقويم أقدار الأدباء؟
أصحيح أن الأدباء في حاجة إلى الاجتماع؟
أنفع من هذا وأقرب إلى تبيين الصواب أن تسأل: هل صحيح أن شاعرين يشتركان في نظم قصيدة واحدة؟ وهل صحيح أن مصورين يشتركان في رسم صورة واحدة؟ وهل صحيح أن الأدب في لبابه عمل من أعمال التعاون والاشتراك؟
الحقيقة أن الأدباء حين يخلقون أعمالهم فرديون منعزلون، فلا حاجة بهم إلى محفل يسهل لهم الخلق والإبداع، ولا فائدة لهم على الإطلاق من اتفاق أو اجتماع
والحقيقة أن التعاون إنما يكون في مسائل الحصص والسهوم والأجزاء، ولا يكون في مسائل الخلق والتكوين والإحياء
لأن الفكرة الفنية كائن حي ووحدة قائمة ليس يشترك فيها ذهنان، كما ليس يشترك في الولد الواحد أبوان
فإذا كان تعاون بين الأدباء، فإنما يكون على مثال التعاون بين الآباء
إنما يكون تعاوناً على رعاية أبنائهم وحماية ذرياتهم، وقلما يحتاج الآباء إلى مثل هذا التعاون إلا في نوادر الأوقات
فإذا اجتمع الأدباء فلن يرجع اجتماعهم إلا إلى حواشي الأدب أو (ظروف) الأدب كما يقولون دون الأدب في صميمه
وإذا اجتمع الأطباء فهناك طب واحد، أو اجتمع المحامون فهناك قانون واحد وقضاء واحد، أو اجتمع المهندسون فهناك هندسة واحدة وبناء واحد، فكيف يجتمع الأدباء كما يجتمع الأطباء والمحامون والمهندسون وكل أديب منهم نموذج لا يتكرر، ونمط لا يقبل المحاكاة، وأدب تقابله آداب متفرقات
وإن محامياً قديراً ليغني عن محام قدير، ولكن هل يغني أديب كبير عن أديب كبير؟ وهل ينوب خالق في الفنون عن خالق آخر في الفنون؟ كلا. . . لن ينوب هذا عن ذاك ولن يختلط هذا بذاك، كما أن الوجه الجميل لا ينوب عند عاشقه عن الوجه الجميل ولو اشتركا معاً في صفة الجمال
كل أديب نمط وحده، وكل أديب في غنى عن سائر الأدباء إلا أن يتعاونوا كما أسلفنا في(305/6)
الحواشي والظروف دون الجوهر واللباب.
أللأديب رسالة؟
نعم، ليس بالأديب من ليست له في عالم الفكر رسالة، ومن ليس له وحي وهداية
ولكن هل للأدب كله رسالة تتفق في غايتها مع اختلاف رسائل الأدباء وتعدد القرائح والآراء؟
نعم. لهم جميعاً رسالة واحدة هي رسالة الحرية والجمال
عدو الأدب منهم من يخدم الاستبداد، ومن يقيد طلاقة الفكر، ومن يشوه محاسن الأشياء
وخائن للأمانة الأدبية من يدعو إلى عقيدة غير عقيدة الحرية أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - خطب الثقافة الإنسانية الذي يخشاه دوهامل ويشفق منه كتاب أوربا كافة على مصير الذوق والتفكير والفن والشعور المستقيم؟
أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - سر الفتنة الحسية التي غلبت على الطبائع والأذواق وتمثلت في ملاهي المجون أو ملاهي الأدب الرخيص؟
سرها الأكبر هو وباء (الدكتاتورية) الذي فشا بين كثير من الأمم في العصر الأخير
لأن الدكتاتورية كائنة ما كانت ترجع إلى تغلب القوة العضلية على القوة الذهنية والقوة النفسية
ولأنها ترجع بالإنسان إلى حالة الآلة التي تطيع وتعمل بغير مشيئة وبغير تفكير
وأين تذهب المعاني والثقافات، بين القوى العضلية والآلات؟
وأين الأديب الذي يستحق أمانة الأدب وهو يبشر بدين الاستبداد؟
لهذا بقيت عقول تكتب وقرائح تبدع في الشعوب الديمقراطية، ولم يبق عقل ولا قريحة في بلاد الدكتاتورية
فإذا تعطلت الكتابة والإبداع بعض التعطيل في أمة ديمقراطية فإنما تتعطل من حالة فيها تشبه أحوال الاستبداد، وهي انتشار الكثرة العددية بين جمهرة الشعراء، والرجوع بالذوق إلى العدد الكثير دون المزية النادرة، أي الرجوع به إلى (الثورة العضلية) لا إلى الحرية أو المزية الفردية
لكل أديب رسالة(305/7)
ورسالة الأدباء كافة هي التبشير بدين الحرية والانحناء على صولة المستبدين، فما من عداوة للأدب ولا من خيانة لأمانة الأديب أشد من عداوة (القوة العضلية) وأخون من خيانة الاستبداد
عباس محمود العقاد(305/8)
أعلام الأدب
نساء يوريبيدز
للأستاذ دريني خشبة
أكثر أبطال يوريبيدز وأقواهم وأزخرهم بالحياة الصاخبة والعواطف المضرمة المتضاربة هم من النساء. . . لقد كان ينظر إلى المرأة كما كان إبسن الأسكندنافي ينظر إليها. . . كان يرى أنها محور الحياة وقطب دائرتها؛ وكان يرى إلى الرجل بجانبها كأنه لعبة، فهي لا تفتأ تلهو به وتتخذ منه ميداناً لنشاطها وفريسة لأهوائها، فإذا أرضاها فهو هالك، وإذا أسخطها فهو هالك، وهو هالك إذا لم يرضها أو لم يسخطها، لأنها تقف منه دائماً موقف السبع الجائع الذي لا يعرف إلا السطو والنهش وإهراق الدماء لا حباً في هذا كله، ولكن لأن هذا كله مركب في طبيعته وجزء من جبلته ولعل السبب في هذا ما لقي يوريبيدز من التعاسة في حياته الزوجية، فلقد كان الشك يمزق قلبه من ناحية زوجته الأولى التي اتهمها التاريخ بأنها خانت زوجها، كما يتهم زوجته الثانية بأنها لم تكن أخلص له ولا أوفى من سابقتها. . . والمؤرخون المحققون على أن التهمتين باطلتان، ولو أن فيهما ظلاً من الحق لما أهمله أرستوفان عدو يوريبيدز اللدود ومعاصره ومتسقط أنبائه ومحصي عثراته. . . إلا أن قسوة يوريبيدز على المرأة ونظرته الصارمة إليها وما دأب على تحليل أخلاقها به في أكثر دراماته، كل ذلك دليل على ما كان يتردد في أعماقه من أصداء حياته الزوجية، تلك الأصداء التي كانت تتجاوب في شدة وفي صرامة وعنف في ثنايا دراماته. . . ولعل أقوى هذه الأصداء جلبة وأشدها ضوضاء ما صور به بطلته البربرية ميديا التي شغفها جاسون حبا فلم تبال أن تخون أباها وتذبح أخاها في سبيل الفرار معه؛ ثم لم تبال بعد ذلك أن تذبح ابنيها لكي تشب سعيراً من الألم في نفس حبيبها الذي هو أبوهما لأنه أبغضها لكثرة ما رأى فيها من الميل إلى الأذى والتوسل إلى مآربها بسفك الدماء خصوصاُ بعد إغرائها بنات بلياس بقتل أبيهن. . . وكان عزائها عن كل ما جنت يداها أن تقف على جاسون وهو يسفك روحه دموعاً بل دماً على ولديه فتشفي حَردَ نفسها ودَخل قلبها لأنه لن يبتسم للحياة بعد، ولن ينعم بلذائذها بعد أن تركته وحيداً فريداً لا أنيس له ولا مواسي فيواسيه(305/9)
لقد كان يوريبيدز جباراً في ميديا سنة 431 بقدر ما كان جباراً حتى في أرق دراماته وأروع مآسيه (هيبوّليتيس) التي غزا بها ميدان الحب الباكي الحزين، والتي نال بها أولى جوائزه الرسمية سنة 428 أي بعد ميديا بثلاث سنوات. ومأساة هيبوليت هذه هي تلك المأساة الغرامية الأولى التي خلصت كلها للحب بعد إذ كان المسرح اليوناني لا يعرف هذا اللون من ألوان الدرام. . . فكانت مفاجأةً مربكةً من يوريبيدز وثورة، ولكن من النوع اللذيذ المحبب، على تقاليد البيئة الجافية التي عرفت المسز جراندي قبل أن يعرفها العصر الفكتوري بثلاثة وعشرين قرناً. . . فيدرا زوجة ثيذيوس الملك، تحب ابنه هيبوليت الشاب الجميل اليافع، لأنها هي أيضاً شابة جميلة يافعة، ولأن زوجها رجل شيخ وإن كان بطل أبطال اليونان! هذه هي المأساة!! فكيف يجرؤ يوريبيدز على تناول هذا الموضوع الغرامي الشائك في درامة تعرض على الجمهور الأثيني الذي كانت تسيطر عليه المسز جراندي الرجعية المحافظة الشديدة الحفاظ على آداب السلف الصالح؟ وكيف يكون أجرأ من سقراط الذي كان لا يرى أن تشارك المرأة في الحياة العامة، بل أن تظل نسياً منسياً. بل كيف يكون مقاحماً أكثر من بركليس ممثل العصر، وصاحب نهضته الفكرية، ورمز مدينته؛ وبالرغم من هذا كان يوصي أن تظل الفتاة قابعة في عقر دارها، متجملة بسنن السلف وتقاليده. . . لكن يوريبيدز كان سوُفسطائياً قبل كل شيء، والسوفسطائيون كانوا (صناع الحكمة) كما تدل عليه كلمة التي تعني الحكمة أو أي الفضيلة، والتي اشتق منها اسمهم أي الناس الذين يتناولون البحث في الحكمة. وليس صحيحاً أنهم كانوا ثرثارين كما اتهموا بذلك ظلماً، ولكن الصحيح أنه كان منهم العظماء وغير العظماء، وكان منهم الكبار، وكان منهم الأحداث، وكان منهم الأغنياء وغير الأغنياء، وكان منهم كل صنف من صنوف الشعب؛ لكنهم كانوا جميعاً ينشدون الحق، ويهذبون الناس، وينشرون النور، ولا يبالون في سبيل ذلك مصادرة ولا نفياً ولا تقتيلاً. ويقولون إن يوريبيدز كان يتأثر بسقراط ولو لم يختلط به، وكان تأثره بالفيلسوف العظيم ينعكس في دراماته. كما قيل من أن شاكسبير كان يتأثر ببيكون، وإن يكن ما يقال عن هذين يعدو حدود التأثير إلى حدود النّحل. فالمبالغون من مؤرخي الأدب الإنجليزي يدّعون أن أكثر درامات شاكسبير هي من تأليف بيكون، وإنما نحلها شاكسبير نفسه. . . ونحن ننفي أن يكون يوريبيدز قد تأثر بسقراط في كثير أو(305/10)
قليل من أدبه. بل نرى أن عكس ذلك هو الذي وقع. فقد ذكرنا أن سقراط كان لا يذهب إلى المسرح إلا ليشاهد درامات يوريبيدز، وأنه لم تكن تفوته إحداها قط ولو كلفه ذلك ما ليس يحتمله إلا الأشداء من جهد ومشقة. ثم أين نظرة يوريبيدز إلى المرأة وما كان يجنح إليه في تحليل أخلاقها من عنف وصرامة، من نظر سقراط إليها؟
لقد ألف يويبيدز أكثر من تسعين درامة كانت البطولة في أكثرها للمرأة. وقد ضاع من هذه الدرامات التسعين أكثرها بحيث لم يصلنا إلا تسع عشرة، ومع ذاك فللمرأة البطولة الأولى في معظم هذه الدرامات الباقية. . . ويأتي الرجل في المرتبة الثانية دائما ألاً في عدد قليل منها. . .
لقد كان يوريبيدز يقسو على المرأة في غير هوادة كما قسا عليها في ميديا وكما قسا على فيدرا كما سنرى فيما بعد، فإذا لم يقس عليها عرض لنواحي ضعفها الذي تسميه الأخلاق وفاءً أو حناناً أو حفاظاً وتسمية السيكلوجية ضعفاً أو تلبية لنداء الطبيعة إذا كان هذا الضعف زناً أو مروقاً من ربقة الزوجية.
1 - ففي ميديا تذبح المرأة أخاها وتنثر أشلاءه من أجل لذتها، ثم تغري بنات بلياس بقتل أبيهن من أجل الملك الضائع من زوجها، ثم تذبح ابنيها اشتفاءً - أو تشفياً - من هذا الزوج بعد أن تقتل زوجته الجديدة بالسم حتى تضع حداً لسعادته بعدها.
2 - وفي هيبوليت تعشق الزوجة ابن زوجها، فإذا أبي واستعصم ضاقت بها الأرض وذهبت لتنتحر، ولكنها تخشى أن يدافع عن نفسه عند أبيه فيفضحها فتزور خطاباً تتهم فيه هيبوليت بأنه راودها بل هم بها بالفعل، ثم تشنق نفسها بعد ذاك.
3 - وفي ألستيس (438ق. م) يصور لنا أدميتوس الملك الأناني الذي يعشق الحياة، حتى إذا كان لابد له من الموت تقدمت زوجته لتفديه فيقبل الفداء، وبذا تموت هي عوضاً عنه ويمضي البطل هرقل بعد ذلك ليعود بالزوجة من الدار الآخرة هيدز. فليس وفاؤها هذا وفاء إنما هو ضعف سيكلوجي لأنه حصل من أجل رجل دنئ أثر أناني
4 - وفي هكيوبا (424ق. م) يعرض لك هذه المرأة العظيمة النبيلة زوجة بريام ملك طروادة بعد إذ حل بها ما حل من هوان وأسر ثم سبي، وكيف تلقي كل ذلك بأجمل الصبر حتى إذا اشتد بها الضيق وذهبت لتعرض شكواها على أجاممنون عظيم الإغريق الذي آثر(305/11)
نفسه بابنتها كاسندرا، تلك الفتاة النقية التقية التي احتفظت بعذريتها وتسامت بإنسانيتها حتى غدت نبية الطراوديين فيأتي الملك أجاممنون فيؤثر بها نفسه ويرغمها على أن تكون (حظيته!) إشباعاً لشهواته الوضيعة. . . ومع كل ذاك فإن الأم هكيوبا تصبر لهذه المحن، وتتذرع بكل ما في طوقها من تجلد حتى إذا فاضت الكأس وسيقت ابنتها الشجاعة الصابرة بولكسينا إلى حيث يضحي بها فوق قبر أخيل كما طلب رعاع الجيش ثار ثائر هكيوبا ومسختها الآلام فصيرتها كلبةً من وحوش جهنم الخرافية تتضور وتلهث، فهي تسمل عيني بوليسومور وتذبح ابنيه لتثأر لآلامها.
5 - وفي يون (420ق. م) يعرض لك يوريبيدز مشكلة غرام وزنا بين كريزا بطلة الدرامة وأبوللو إله الشمس والموسيقي فقد أحبها الإله وفسق بها قبل أن تخطب على زوجها إجزوتوس فلما أجاءها المخاض خافت الفضيحة فطمأنها الإله الفاسق وأخذ طفلها يون إلى دلفي حيث خبأته وراء ستائر المذبح في سفط به. شالها وبضعة أشياء أخرى. . . وبعد سبع عشرة سنة عاشها إجزوتوس وكريزا من غير ما ولد تمنى الرجل على أبوللو - في دلفى - أن يرزقه وليا يرثه، فقال له: إن أول من تلقاه حينما تخرج من هنا هو ولدك. . . فلما لقي الرجل الشاب يون احتضنه وفرح به، وعجب الشاب لهذا الرجل الذي يناديه كأنه ابنه؛ ثم تلقاه أمه كريزا فيكون بينهما من التشابه والحنان ما يحير الفتى؛ ثم ترى كريزا السفط فتعرفه وتذكر للفتى أنه سفطها وأنها هي التي أحضرته فيه إلى المعبد فيمتحنها الفتى بسؤالها عن محتويات السفط فتذكرها له جميعاً فيعانقها على أنها أمه، فإذا سألها عن أبيه ألهمها أبوللو الجواب الكاذب فتقول إنها كانت قد اتصلت بأجزوتوس في أحد أعياد دلفي فحملت به. . . وإذ هي تقول ذلك إذا بكاهنة المعبد تبرز فجأة وتقول الحق الصراح عن نشأة الغلام وأنه ابن زنا من أبوللو. . . فتضيق الدنيا بالزوجة وتذهب لتنتحر لولا أن يلقاها أحد العبيد فيشير عليها بأن تقتل الغلام فترضى. . . أما يون فإنه يثور ويجدف تجديفاً مضحكاً ضد أبوللو. . وتنتهي الدرامة بأن تتدخل مينرفا في الأمر فتصلح بين الجميع وتهدأ العاصفة ويرضي الكل بالأمر الواقع!
فانظر كيف سخر يوريبيدز من المرأة وكيف استهزأ بالآلهة وفضح أبوللو ومعشوقته ثم أركس مينرفا رمز الحكمة في بؤرة ذاك الضلال!(305/12)
6 - وفي النساء الطرواديات (415ق. م) لم ينشئ مؤامرة ما ولم يحبك عقدة درامية ولكنه صور ضعف الأمهات الطرواديات إذ يذهبن إلى المعسكر الإغريقي يسألن القادة الظافرين أن يأمروا لهن بجثث أبنائهن ليدفنها بدل أن تترك بالعراء تنوشها الذئاب وجوارح الطير ومن غير أن تؤدي لها الفرائض الجنازية. وتنتهي الدرامة بأن يتدخل بعض القادة ممن تأثر بدموع الأمهات فيأمر بالأجساد فتحرق ويعطي التراب المتخلف عنها للأمهات. . . درامة ضعيفة إلا أن يوريبيدز قصد فيها إلى شيئين. . . تصوير ضعف أولئك الأمهات وجبروت الظافرين من جهة، ثم ذم الحرب والدعوة إلى السلام من جهة أخرى، لأنه كان أول مبشر بالسلام عرفه التاريخ إذا استثنينا إخناتون المصري وسنعرض لذلك في الفصول التالية إن شاء الله
7 - أما في إلكترا (413ق. م) فيتناول يوريبيدز المأساة المشهورة التي رأينا إسخيلوس يتناولها فيفسر الحوادث، ورأينا سوفوكليس يتناولها فيصور كيف كان ينبغي أن تكون الخاتمة لا كما تم من أمرها. . . لكن يوريبيدز يتناولها على طريقته الخاصة. . . إنه يقصد الناحية السيكلوجية، ولذا فهو لا يبالغ فيصيب أورست بالجنون بعد قتل أمه كما فعل إسخيلوس ولا يبالغ في تحميل العاطفة الإنسانية وإرهاقها بما لا تستطيع من ابتهاج بالقتل وفرح به وحض عليه كما فعل سوفوكليس. . . لا. . . إن يوريبيدز صنع ما صنعه بعده دستوئفسكي الروسي في قصته الجريمة والعقاب باثنين وعشرين قرناً من الزمان. . . إنه جعل أورست يقتل أمه ويده ترتجف بحركة آليه لا إرادة فيها كما قتل روسكلنيكوف اليهودية المرابية العجوز. . . حتى إذا تمت الجريمة عادت إلى نفس الفتى والفتاة مرارة عميقة لا هي من الندم ولا هي مما يشبهه، لكنها مرارة التحسر لكل ما حدث. . . ومرارة التحسر مما اضطرهما إليه سياق الحوادث وتسلسلها
8 - وفي هيلينا (412ق. م) يبني يوريبيدز درامته على أساس فكرة المؤرخ ستاسيخورس الذي يزعم أن هيلين التي تسببت في حرب طروادة لم تذهب قط مع باريس إلى هذه المدينة بل ظلت طوال سني الحرب في مصر تعبث بملكها وتلهو به حينما حاول أن يتزوجها رغماً عنها ويقتل جميع الإغريق الذين ينزلون في أرضه. . . وتنتهي حروب طروادة وتضل سفينة منالوس زوج هيلينا طريقها في البحر حيث ترسو على الشاطئ(305/13)
المصري ويلتقي الزوجان فيعرف أحدهما الآخر ويفران بمساعدة أخت الملك إلى اليونان. ويعيب المؤرخون هذه الدرامة بخروجها مما عودنا يوريبيدز من أدب الواقع إلى أدب الخيال؛ بيد أن في الدرامة من تحليل أخلاق هيلينا، تلك المخلوقة الخلاسية (لأنها ابنة إله وامرأة) اللعوب التي لا تعرف من مبادئ الأخلاق أو الفضيلة عشر معشار ما تؤثر من الحب ومغامرات الهوى؛ في الدرامة من هذا ومن تحليل أخلاق ألكتر ما يغطي ذلك النقص الذي عابه المؤرخون وكم كان ظريفاً من هيلينا أن تعير ألكترا حينما عيرتها هذه بالعهر والالتواء الأخلاقي بأنها غير جميلة، ولو كانت كذلك وواتتها الفرص لما أمتنعت من إتيان أضعاف ما أتته هيلينا؟!
9 - أما إفجينا في أوليس فهي درامة عجيبة لأنها من هذا النوع الشاكسبيري الجميل الذي تمتزج فيه المأساة بالملهاة؛ والدموع الحرار بالضحك الكثير. . ويقال إن يوريبيدز ليس مؤلفها بل تركها غير كاملة فأتمها شاعر آخر قد يكون ابنه الذي أشرنا إليه في كلمتنا الأولى. . . والحقيقة أن في هذه الدرامة من الفن الجديد ما لم يعرفه يوريبيدز وما لم يعرفه المسرح إلا في عصر شاكسبير. . . وإفجينا هي تلك الفتاة ابنة الملك أجاممنون قائد الحملة على طروادة والتي تنبأ الكاهن كالخاس بضرورة ذبحها قرباناً لآلهة الريح ليتحرك الأسطول. . . يزوّر أجاممنون رسالة إلى زوجته كليتمنسترا كي ترسل ابنتها للاحتفال بعقد قرانها على البطل أخيل فتذهب الأم مع ابنتها وتلقي أخيلاً بما يليق في مثل هذه الحال من الترحيب وتناديه بخطيب ابنتها فيدهش أخيل لأنه خالي الذهن من كل ما دبر، وينقلب الموقف إلى التضحيك على أخيل فيثور، ثم يعرف الحقيقة ويأتي عبد فيخبر الملكة أن ابنتها ستذبح قرباناً لآلهة الريح فتحزن الأم وتبكي الفتاة ويقسم أخيل أن يحميها من هذه الفعلة. . . ثم يعلم الجنود أن أخيلاً هو الذي يحول بين سفرهم وبين ذبح القربان فيثورون ويهجم رجال (الميرميدون) عليه يحصبونه حتى ليوشكوا أن يقتلوه. . . وهنا تتقدم الفتاة فتحميه وتهب نفسها ضحية كريمة من أجل أخيل الذي تفضل روحه أرواح عشرة آلاف فتاة مثل إفجنيا ولأنه خرج مغازياً في سبيل هيلاس. . . وتودع الفتاة أمها ثم تخرج بسامة راضية. . . وهنا يدخل رسول فجأة حاملاً بشرى طيبة. . . لقد أنقذت ديانا الفتاة إفجنيا وطارت بها إلى بلاد البربر. . .(305/14)
10 - أما إفجنيا في توريس (413ق. م) فهي بقية قصة إفجينا؛ وفيها يعرض يوريبيدز لوناً صارماً من ألوان العراك الداخلي الذي يشب في نفس الفتاة بين السخط على قومها الذين أوشكوا يقتلونها لغير ذنب وبغير جريرة، وبين محبتها الطبيعية لوطنها هيلاس فخر الأوطان. لقد ذهبت بها ديانا (أرتميس) إلى ملك التوريين (غير الطورانيين) لتكون كاهنة لمعبدها هناك، وقد أكرم الملك مثواها، وعهد إليها بإعداد الغرباء لتحريقهم بالنار (لأن هذا كان دأب الملك، فكل غريب أو أجنبي يحل بأرضه وخصوصاً إذا كان إغريقياً) أحرقه بالنار. ثم يحدث أن يكون أول غريب يعهد إليها بأعداده للتحريق هو أخوها وشقيقها أورست الذي طارده قومه بعد قتله أمه. . . لقاء هائل بعد سبعة عشر عاماً. . . تتحرك العاطفة، وتترقرق الأحاسيس في الدماء. يعرف كل منهما الآخر فيبكي. . . يا للمشهد المؤثر الذي يرتفع فيه يوريبيدز إلى القمة!!
ثم تطمئن الفتاة أخاها وتدبر له طريق الهرب إلى شاطئ البحر حيث القارب المعد لفرارهما، وحيث البحارة الأمناء!
هذه طائفة من نساء يوريبيدز عرضها في دراماته عرضاً شاقاً يمتزج فيه الشعر بالأخلاق بالسيكلوجية، بطريقة أهاجت عليه البيئة الأثينية عامة، ونسائها خاصة، لأنها بيئة محافظة لم تتعود أن تُشرح أسرار نسائها على المسرح على هذا النحو الذي أنتحاه يوريبيدز فأخجلها وأغراها به.
وكم كان بودنا لو خلصنا لكل من هذه الدرامات بفصل خاص حتى نتفادى تشويهها بهذا العرض السريع لولا ما نتوخاه من عدم الإملال، وما نخشاه من فتور نشاط القراء.
دريني خشبة(305/15)
التفاؤل والتشاؤم أيضاً
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إذا كان لقائلٍ قولان: قول ينم عن تفاؤل، وآخر ينم عن تشاؤم، فليس من إخلاص الناقد للأدب أو للإنسانية أو للقائل أن يشير إلى اليأس في بعض قوله وألا يذيع الأمل في بعضه حتى ولو كان الأمل في الأقل من قوليه؛ فإذا كان الأمل في أكثر القولين أو إذا تعادلا كان إخلاص الناقد أقل. ومعاذ الله أن أقول إن الدكتور أدهم غير مخلص للأدب، وإنما يجيء البعد عن الإخلاص من الإسراع في النقد من غير تدبرٍ لهذه الحقائق أو من غير قلة التقصي والبحث التي هي صفة عامة في الناس تظهر في أحكامهم على أكثر الأمور. والناس في ذلك سواسية لا فرق بين عادل وظالم، ورفيق وغير رفيق، وعاقل وغير عاقل. وإني أحمل حكم الأديب الفاضل على هذه الصفة العامة في الإنسان وأقول إنه إذا كان لقائل قولان، وكان أحسن قوليه في التفاؤل فمن الواجب إذاعة هذا القول ولا سيما أنه ليس تفاؤله بالقليل المنزور. ولا نحسب أن منصفا يقول أن ما ذكرنا من الشواهد ليس من أحسن ما قلت؛ وسواء أكان في نفسه حسناً إذا قورن بقول غيري أم غير حسن، فهو إذا قورن بما وصفه الناقد بالتشاؤم في قولي أجود وأحسن وأليق بأن يذاع إذا كانت هناك ضرورة للإذاعة والنشر والنقد، ولم ير الناقد أن من الخير اندثاره كله بما فيه من جيد ورديء، ومن تفاؤل وتشاؤم. وفي قولي من الرديء ما أسفت لنشره.
ولم أذكر جميع الشواهد والقصائد التي تثبت ما فصلته في مقالي السابق، ففي قصيدة (مصارع النجباء) أيضاً أمل وتفاؤل وطموح ومنها:
إنّ الحياة جمالها وبهاءها ... هبةٌ من النجباء والشهداء
لولا طماح الحالمين وهمهم ... بقي الورى كالتربة الغبراء
الحالمون بكل مجد خالدٍ ... سامي المنال كمنزل الجوزاء
الشائدون الهادمون ذوو النهي ... والعقل أعظم هادم بناء
الخالقون المهلكون الشاعرو ... ن المرسلون بآية غراء
فحياتهم وفعالهم ودماؤهم ... مثل الهدى وكواكب الإسراء وأرجوزة (قوة الفكر) وقد نشرت
في المقطع وفي الجزء الخامس تدعو إلى تقديس مظاهر الفكر في الحياة والتفاؤل حتى(305/16)
بالخطوب التي يسببها الفكر ومنها:
إن الخطوب سنةُ التجدد ... فلا ترعْ من سهمها المسدد
وأول الفكر الكبير خطبُ ... ثم يظلُّ خيره يُربُّ
وقصيدة (عبث الشكوى) في عنوانها ما يدل عليها. وقصيدة (أبناء الشمال) تدعو إلى السعي والعمل والأمل ومنها:
هُم لداعي السعي والآ ... مالُ عمال عجالُ
تعرف البيداء مسعا ... هم وتنبيك الجبال
وقصيدة (صوت الله) تدعو إلى الاطمئنان إلى إرادة الله في الحياة وإلى الالتجاء إليه ومنها:
وإنما نفس الفتى معبد ... يضيئها الله بنور عميم
وقصيدة (جهاد المصلحين) تصف ما يعترض الناس عامة من ترك آمال الإصلاح ومساعيه وتدعو إلى التشبث بها ومنها:
ترى دنس الأشياء رؤية آلفٍ ... يرى أن أحلام النفوس لغوب
يظن جهاد المرء في العيش ضلة ... وأن مساعي المصلحين تخيب
يرى أن خير الكون ما هو كائنٌ ... ووحي النفوس السامياتُ مريب
ويحسب أن الشر ضربة لا زبٍ ... وأن أساليب الحياة ضروب
ويصبح في مجرى الحوادث ريشةً ... تجوب به الأيام حيث تجوب
ويطفئ نور النفس حتى كأنما ... دواعي النفوس الساميات عيوب
فلا تعجبنْ إن الشرور كثيرةٌ ... ولكن يأس العاملين عجيب
وقصيدة (سنة العيش) تصف أمل المصلحين في أن تلطف طباع الحرص والشر في النفس وتصف كيف أن فشل المصلحين ينبغي ألا يعوق عن الأمل ومنها:
طبعٌ قديمٌ سينضو المرء خلعته ... مثل الأديم نضته صمه الصممِ
لا بد من فشلٍ من بعده فشلٌ ... حتى يفيق سواد الناس من صممِ
لا يسعد الناس سن الحرص سنتهم ... حتى يُطهرَ داءُ الحرص بالندمِ
وقصيدة (البطل المنتظر) تصف صلاح أمور الناس وتصف تفاؤلهم وأملهم وعملهم بعد الركود واليأس ومنها:(305/17)
تُمردُ هورٌ والحياةُ كآجنٍ ... أمر وقدما كان وهو طهورُ
إلى أن يحل الغيث حبوه مائه ... فيترع منه جدول وغدير
كذلك حال الناس فالناس آجن ... مرير وماء النابغين نمير
وبارقة تجلو الظلام وصاعق ... يشب لهيباً والأنام قشور
فيضطرم القلب الذي كان خامداً ... ويصبح روض النفس وهو نظير
وتعظم نفس المرء حتى كأنها ... عوالم فيها الكائنات تدور
وقصيدة (الإيمان والقضاء) تصف أثر الإيمان في بعث القوة والأمل في النفس ومنها:
كنفٌ مانعٌ وظلٌ ظليلٌ ... وشرابٌ يشفي أوام الظماء
وهناك مقطوعات كثيرة مثل:
كل ما في الوجود مما يريق ال ... دمع أو يستميح شجو الرحيم
كل شرٍ مهما تعاظم لو قد ... س بشأن الوجود غير عظيم
فليست للتفاؤل عقيدة أعظم مما في هذين البيتين. وقصيدة: (الحياة والفنون). كلها تفاؤل بجمال الفنون في الحياة ووصف لجمال كل فن من الفنون الجميلة والفنون النافعة وأولها:
جملكِ الله يا حياة كما ... جمل وجه السماء بالشهب
والدعوة إلى بلوغ النفس غايتها بالطموح منتشرة في أكثر القصائد كما في قصيدة (غل السرائر). ومنها:
وإن رضاء النفس ما ينبغي لها ... وليس رضاء النفس ما هو كائن
وفي قصيدة أخرى:
والندب يحمل بين جنبيه الدنى ... روعَ الغريب وراحةَ المألوف
إن الذي درس الزمان وفعله ... لأجل من حدث الزمان الموفي
ويشيم أسرار الحياة بحكمة ... تُعدى على المجهول والمعروف
وفي قصيدة (العظيم) وصفٌ لاستنباط فضائل النفس من تجارب الحياة حتى تجارب الشر والشقاء. ومنها:
وفضائلٌ ليست لغير مجرب ... إن التجارب حجة الرجحان
وأرجلُ خير النفس بعد بلائها ... فالعيش حرب فضيلة الغفلان(305/18)
وفي قصيدة (الشمطاء الفتية) وصف للرجاء الذي هو عبادة وللاعتقاد الذي تزيده الأرزاء:
نصبٌ خالدٌ وأعظم منه ... اعتقادٌ تزيده الأرزاءُ
ورجاءٌ هو العبادة والإيم ... ان درعٌ يرتد عنه الفناءُ
وقصيدة (العدل والكسب) تصف كيف أن الأمل والصبر أعظم حتى من العدل:
فطوبى لمظلوم رأي العدل معوزاً ... قضي أن فوق العدل صبر المحارب
وفي (حقوق الفرائض) تقديم للفروض على الحقوق، وما تستلزمه الفروض من أمل وعمل:
لن يبلغ المرء العُلى بحقوقه ... إلا إذا بلغ العلي بحقوقها
وقصيدة (البطل) تصف ما يكون من أثر الأمل والعمل في مجرى الحوادث والأقدار ومنها:
ترمي الحوادث بالظلال أمامها ... فترى خُطى الأمر الذي هو آتي
يا راكب الأيام تجري تحته ... مأموقة الخطوات والعداوات
إن المقادر تنتحيك لأنها ... ريضت لديك بحكمة وحصاة
كالخيل تعرف رائضاً ومذللاً ... عند اعتقاد السرج والصهوات
وهذه الشواهد كلها شواهد جديدة لم نشر إليها في المقال السابق. ولو شاء الناقد الفاضل الزيادة زدناه ولكنا نختم هذا المقال بالأبيات الآتية أولاً في وصف أمل النفس في أن تتغلب جهود الشباب على طاغوت الحياة وهذا غاية التفاؤل:
ويُذلُ طاغوت الأمور فتغذي ... شرع الحياة شريعةُ الرحمن
وثانياً في وصف تفاؤل النفس واعتقادها فجراً للإنسانية مستقبلاً:
وأملتُ للدنيا صباحاً مؤجلاً ... سيكشف عنها ظلمة الضيم والشر
فكل صباح رمزه ومثاله ... ووعد به يحدو إلى الزمن النضر
نُسرُ بنعماه وإن لم تكن لنا ... وننشده فيما يكون من الدهر
وثالثاً في وصف الاستبشار بقبول الشقاء لتحقيق سعادة الإنسانية المقبلة:
أيفدح أن تقاسوا العيش نحساً ... ليسعدً بعدكم صحباً وآلا
وكم من نعمة لولا شقاءٌ ... قديماً لم تكنْ إلا وبالا
فكم خبرَ الأوائل من شقاء ... فنلنا من شقائهمُ نوالا(305/19)
ورابعاً في أن السعادة واللذة شعور لا يستقيم إلا إذا شعر المرء بالألم:
لا يطعم السعد الشهي وشهده ... من لا تورد فؤاده الآلام
وإذا أراد الأستاذ الفاضل زيادة من شعر التفاؤل فإنه يجده كما في قصيدة (حياة جديدة) ومنها:
تلك قلوبٌ كأنها قبسٌ=يضئ دجنً القضاء والغيب
قد آمنت بالعلاء واعتقدت ... كما يقنا الإله في الحجب
وكما في قصيدة الباحث:
عشت دهري بالبحث والأمل الحل ... وولولاه لم أرحْ بالنجاء
من سهام المنون إن صروف ال ... دهر فينا كثيرة الإصماء
أنشد الحق بالتقلبِ في العي ... ش وأبغي سريرة الأشياء
وقد قلنا قديماً إن في النفس البشرية قوة تستطيع أن تحول التشاؤم إلى غرض من أغراض التفاؤل، وإلى قوة من قوى الاستبسال في طلب الأمل (إنما اليأس سبيل للمنى). ونعود فنقول إنه من الإخلاص للأدب أو الأديب أو الإنسانية ترك أحسن ما في قول القائل. وهذا قول لا ننعت به الناقد الفاضل
عبد الرحمن شكري(305/20)
من برجنا العاجي
كلما ارتقى فكر أمة انصرفت إلى إتقان الصناعة وحذق الوسائل الفنية، وشعرت في الحال بافتقارها إلى المواد الأولية. فالصناعة غول فاغر فاه يريد أن يلقف أكبر مقدار من المادة ليحيلها إلى خلق جديد له وزن وثمن. أما الأمم العادية فهي مشغولة في أغلب الأحيان بإنتاج المادة الخام
كذلك الحال في دولة الأدب والفن. فإن الأديب أو الفنان قبل أن يصل إلى مرحلة الانقطاع للفن والصناعة يكون شأن عامة الأفراد يعيش الحياة المفعم بشتى الحوادث الزاخرة بألوان المادة الصالحة، حتى يدعوه الفن إلى سمائه، فإذا هو يرى أن حذق أساليب الفن وإتقان أسباب الصناعة أمر لابد له من تكريس حياة بأكملها. فإذا هو قد أنصرف عن حياة الناس العادية بما فيها من وقائع هامة وتافهة وأحداث هائلة أو حقيرة، وانزل في شبه (معمل) فني أو مصنع فكري يجود فيه وسائله ليملك ناصية ملكاته، إلى أن يحس من نفسه أنه قد قطع في هذا السبيل شوطاً كبيراً وأنه قد غدا صاحب صناعة. فيلتفت فإذا أيامه التي قضاها في مصنع الفن قد فصلته عن مصنع الحياة الرحبة الصاخبة الزاخرة، وإذا حياته الآن فارغة إلا من جواهر الفكر ولباب التأمل وتجاريب الصناعة القلمية أو الفنية. وإذا هو محتاج لاستعمال فنه وصناعته إلى مواد أولية لا يدري من أين يأتي بها. فهو تارة يرجع إلى حوادث الماضي فينسج من ذكرياتها تلك الأثواب الجميلة التي تخرج عن مصنع فكره وفنه. لقد لحظ ذلك مرة شارلز ديكنز فقال وهو في سن الستين:
(إني دائماً أتغذى وأغذي قصصي ومؤلفاتي بذكريات الطفولة والصبا)
ما الأديب ذو الصناعة إذن إلا دولة صناعية في حاجة إلى المواد الأولية.
توفيق الحكيم(305/21)
هتلر
لأستاذ جليل
لو رام اليوم جرماني مشغوف بهتلر أن ينشئ كتاباً كبيراً في تقريظ إمامه وزعيمه جاهداً نفسه متنوقاً محتفلاً في كلامه مستنجداً ببلاغة غوته - ما استطاعَ عندي أن يأتي في كتاب بمثل الذي قاله أبو تمام في بيت. وسأروي بيت حبيب وأبياتاً ثلاثة قبله، والشاهد هو، وتلكم مقدمات نفيسات. قال ابن أوس الغواصي على المعاني:
قد علمنا أن ليس إلا بشق النفس ... صار (العظيم) يدعى (عظيما)
طلب المجد يورث المرء خبلا ... وهموماً تقضقض الحيزوما
فتراه وهو الخليّ شجيّا ... وتراه وهو الصحيح سقيما
تميته العلا فليس يَعُد البؤس ... بؤساً ولا النعيم نعيما
وإن امرؤاً ترك في الدنيا هذا الدويّ وبلغ بنفسه الكبيرة ما بلغ (من الرفش إلى العرش) لعظيم حق عظيم، كل العظيم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم
وإذا تذكر الهر الفوهرر صيور غشمشمين مخاطرين مثل نونابرته - كما يسميه الجبرتي - وغليوم نزيل هولاندة، وتدبر قول المهلب بن أبي صفرة، الجملة الأولى منه: (الإقدام على الهلكة تغرير، والإحجام عن الفرصة جبن شديد) ونال بالتهويل وبالوعيد، بالكلام لا بالمدفع والحسام أمانيه، وفارق الدنيا دون أن يحرقها ويحرق الإنكليز والفرنسيين وصحبه الطليان ويحترق - فإذا تذكر وتدبر وقام اللسان مقام السنان كان فوق الرجل العظيم، كان (والله) عجيبة، كان نبي الجرمان، على أنه اليوم نبي القوم
وإني لأنوه به تنويهاً لبطولته وعظمته وإن شتم الشتامة وقال في أجناس الناس غير الحق. إنه من قادة الأمم العظماء، لا من الباحثين الفاحصين العلماء، وإن جهل ألماني أو غير ألماني أصوله الكريمة وأعراقه الدساسة. . . فليرجع إلى كتاب الأنساب لغير السمعاني، وليقرأ مؤلفات الأستاذ أرنست هيكل العالم الجريء الجرماني، حتى يعرف متغطرس منتفخ من هو، ومن جده وأبوه
إن هتلر من الزعماء لا من العلماء، فقوله في الأصل والفصل والجنس والنوع هراء(305/22)
بهرج، المحقق لا يقوله
وإنه والله يا أخا العرب، على العلات لعظيم أي عظيم
ولقد ذكرتني خلائق في ابن هتلر: إخلاصهُ وزهده وبطولته، بأبطال كرام عظيمين من العربيين والمسلمين السابقين سادة الدنيا وهداة العالمين
محمد! أبعث لنا واحداً من مثلهم، واحداً من مثلهم!
(الإسكندرية)
(* * *)(305/23)
صلوات فكر
في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
3 - الاستيعاب
أيدري ناظر في الطبيعة ماذا يحدث أمامه كل لحظة؟
الطبيعة تعمل أعمالها العظيمة المتعددة في كل لحظة. . تدير الأجرام، وتبني الأجسام وتسكب الشعاع، وتسوق الريح، وتوزع الدورات، وتملأ جميع القوالب، وتعطي الإذن والمشورة والرأي لكل شيء. . .
لا اصطدام ولا تناقض ولا فطور ولا صدوع. تجيب كل حي بلسانه وتكلمه وتوصيه وتوجهه وتلد وتدفن وتضحك وتعول. لا تنام، ولا تستريح. قلبها لا يقف عن الدوران والنبض. كل بذرة، كل بويضة، كل ورقة، كل حشرة، كل ذرة تحتاج إلى عنايتها وإرشادها، وهي تعطي العناية والمشورة ولا تخطئ!
من يكذبني فليذهب إلى حديقة الحيوان بالقاهرة أو إلى أي حديقة مثلها، حيث تجتمع فيها نماذج حياة الأرض، ليرى ويسمع (الجوق) ويهو يعزف (أوبرا) الحياة جميعها. . .
إن حديقة الحيوان موضع عناية الله البارئ! إنها عندي معبد أذهب إليه كثيراً بالجسم حين أكون في القاهرة، وأذهب إليه الآن وأنا في العراق بالروح والفكر لأقف مع الأحياء جميعها أمام الله!
إنها معرض دائم للمنتوجات الحية المجموعة من كل مكان في الأرض. إنها حسنة من حسنات الإنسان لولا أنه فعلها غير مقصودة، بل للهو والمتاع بدون فكر وروح. . .
إن الملائكة يتفرجون بها أكثر مما يتفرج الناس. . . ليروا فعل ربهم في غير عالمهم. . . في عالم الطين. . . إنهم يعجبون من تصنيف القلوب والشكول والعقول فيها. . . وإن القلوب والطباع هناك أمرها عجيب. الأضداد والأعداء ينظر بعضها إلى بعض من خلال الأقفاص ويتعجب كل منها من هذا الوضع الشاذ في حياته. وترى تناقصاً بين ما في قلوبها وبين حياتها وهي مجموعة ينظر بعضها إلى بعض نظرات متدافعة من خلال القضبان. .(305/24)
قف هناك طويلاً وانظر هيآت الأجسام والنفوس المتعددة. . . أنظر نظرات العيون المختلفة وفكر: كم للدنيا من أشكال متعددة عند كل نوع من أنواع ساكنيها. . . أنظر نظرات العيون المختلفة واسمع أصوات الحناجر المختلفة واستحضر روح سليمان بن داود مفهم الطير والبهائم والمردة. . .
أمسح على الجلود والريش والشعر والقشر وشق البطون والجلود وانظر الآلات التي تدور بها هذه الأجسام. . .
افقه شجاعة الأسد وجبن الفأر وحقد الثعبان ووداعة الحمل وشراهة الذئب ومكر الثعلب و. . . قد خلق ربك كل هذا من طين يا أخي! كل قلب من قلوبها يختص بصفة واحدة من الصفات التي جمعها في قلب الإنسان: خلاصة الحياة والأحياء والابن البكر للطبيعة. . .
(حديقة الحيوان) تسمية أولى منها أن يقال (حديقة الحياة)
4 - لمن هذا كله؟
كل يوم تفرش الدنيا بالضياء أمام الإنسان ليسير، وتسدل عليها أستار الظلام لينام. . . وسواء أكان على الأرض قدم تسير أم لم تكن. . . وسواء أكان على المهاد جسم ينام أم لم يكن. . . فإن الآلات الإلهية تدور في دءوب عجيب وعدم اكتراث بالإنسان
فالصباح يشرق على العاهل والباهل والنابه والخامل، والمساء يستر السهران والنائم المكدود، والربيع والخريف والصيف والشتاء تتداوله وجه الأرض؛ يحيا الإنسان ويموت وهي عاملة ناصبة لا تبالي. . .
فالدنيا تدور باطراد ويدور معها كل شيء لا فكر فيه، ولا يتخلف إلا الإنسان فإنه قد يقف في مكانه حقباً تطول، أو قد يدور دورة عكسية إلى الخلف! لأن فيه قوة الاختيار. . .
ويخيل للمتأمل أن الدنيا قد دارت (على الفاضي) كثيراً عندما لم يعمل الإنسان عملاً يقدمه إلى الأمام، وقد ضاعت قوى كثيرة من عمر الزمان سدى. . . ضيعها جهل الإنسان وبطؤه في إدراك وجهة الحياة
فمن المنتفع بالحياة؟ من الذي خلقت له الحياة؟
هو الذي لا يضيع شعاع ضوء من أضواء النهار سدى، ولا قطرة من ماء السماء سدى، ولا بذرة من بذور الأرض سدى، ويحتفل احتفالاً ليرى صنعة الله!(305/25)
هذا الذي يلقي أمامه الإله العطايا فيلقطها في يقظة لينتفع وينفع. . .
هذا الذي عرف قيمة الحياة هبة الله العظمى! وأحسها إحساساً عميقاً وفكر فيها فكراً، وأقبل عليها في شغف إقبال الأطفال على (السينما). . . فرأى كل شيء، وقرأ كل شيء، ووضع قلبه وفكره على كل شيء. . .
هذا الذي يستعمل مواهبه من الله ليريه أثر صنعته العجيبة في الإنسان. . . وليؤدي دوره كاملاً بين الكائنات كما تؤدي أدوارها بقية جنود الله. . .
هذا الذي يفكر ويأكل ويغني ويندب ويضحك ملء رئتيه ويبكي ملء عينيه، ويلد ويدفن ويعمل بيده ويمشي برجله: أعني لا يعطل شيئاً ولا يتمرد. . . هذا الذي لا يغلق حواسه عن جمال دنياه. . . ولا يترك باباً من أبواب المعرفة إلا قرعه ودخل منه إلى سر من أسرار الله. . .
هذا الذي تتمثل فيه مجموعات الأحياء وينطوي فيه العالم الأكبر. . .
كل شيء يؤدي خواصه خلقته وتكوينه إلا الإنسان. فقد شغل عن خاصته التي له وحده وذهل عنها دهراً طويلاً إلا أفراداً قلائل. . .
فتشوا كم من الناس عاشوا كما يريد رب الحياة في النوع؟
مليون؟ ثلاثة؟ ألف مليون؟
يا ضيعة الإنسان إن كانت نسبة (العارفين) منه في جميع الأزمان كنسبة الذين نراهم الآن في زماننا!
كلمة! سوف لا يدخل إلى الله إلا الذين عرفوه وعرفوا سر صنعته هنا. . . أما غيرهم فيذهبون إلى جحيم الحرمان والنسيان. (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون. . .)
5 - صور من الأوهام في الغمام
أمامي الآن في السماء دنيا كاملة من الصور والأشكال. . . نسقتها الصدفة وحبكتها الأوهام. . . كلها من وهمي وليس فيها من الحقيقة شيء. . . لو أرادت عبقرية أي مصور أن تخرج مثلها لعجزت. . . إنها دنيا من همسات الظنون وخافيات الأحلام في نفسي. . .(305/26)
أنظر إليها ولا أمل كما ينظر الطفل إلى فقاقيع الصابون التي تكون وتنفجر في لحظة، وأجد راحة في نفسي لا تنتهي، ولا عمق لها
إني أجد في الأرض آثار النظام والإحكام والتحديات والقوالب القاسية التي لا تسمح للخيال بالانطلاق وتكوين ما يريد. ولكني أجد في فوضى الغمام ومزج الصور فيه انطلاقاً وحرية في تركيب الصور، وفي ذلك ما يرضي ويشبع حاستي باللانهائية ويجعلني غير خاضع لمنطق الصور الأرضية وأصول التجسيم
فعالم الأجسام والأحجام والصور الحقيقية في الأرض هو عندي روايات تمثيلية يمثلها أناس وحيوانات حقيقية، وعالم أشباح الغمام كعالم الصور المتحركة التي يمثلها (ميكي ماوس) وأضرابه، مما يعطي كل جماد وكل حيوان ونبات روح فكر ورمزية وحركة وحياة
ولو كنت مصوراً لأخذت من تهاويل الغمام في ساعة واحدة آلافاً من (رءوس الأفكار) في أوضاع الأجسام وإخراج البدائع. ولا شك أن هذا هو أصل التماثيل الخرافية الأسطورية التي لم يتقيد صانعوها بما هو كائن حقيقي ولا بالقوالب المعروفة للأجسام. بل ركبوا متناقضات وجمعوا مفارقات وأخرجوها ليرضوا بها نزعات الانطلاق في النفس الإنسانية زمان طفولتها
فيا عالم الانطلاق! أنا أنظر إليك سجيناً بأغلالي وأصفادي مربوطاً بالعقل الأرضي والمنطق الإنساني. . . لم يشبع خيالي تنوع الصور الأرضية ولم أقف عند حد. وإنما في نفسي إدراك عميق تام أن الصور التي عند ربي لا تنتهي
فأطلق اللهم خيالي من العالم (المتبلور) إلى العالم المائع الذي لا أجسام فيه ولا أحجام. . . أطلق خيالي ولا تضيعه! أسعدني به على القيود ما دمت قد حبوتني هذا النزوع الحاد الدائم إلى الرحلة في عجائب ما تصنع وما تستطيع أن تصنع؛ ولا حد لاستطاعتك!
أن عالم الجمال الأرضي لم يملأ عيني ونفسي، ولم يزدني إلا تطلعاً إلى ما عندك مما خفي على قدرتي المحدودة. ولست طماعاً. ولكني أدركت السر الذي خلقت من أجله، فلن أنام عنه بعدُ، ولن أصبر، ولن أميت أشواقي وإطرابي إليه. وأقسم لك بجلال وجهك! إني ما قصرت في السعي لإدراك أمرك ولن أقصر. . . وكيف أخلق هكذا بصيراً ثم لا أسعى لأرى؟ كيف أبصر النجم العالي، والقرار الداني، والعقل الإنساني، ثم أقف عند حد وأتقيد(305/27)
بقيد؟ إن سر أمرك دائماً في أفكاري وفي أحلامي، ولا أملك غيرهما من معنى الحياة. أما نومي العميق الخالي من الأحلام فذلك ما لا أملك من أمري. . .
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف(305/28)
المدرسة الابتدائية
وتعليم اللغة الأجنبية
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
لاشك عندي في أن كل من تناول بالتفكير بعض المشاكل الاجتماعية، لا بد يعلم أن أساس التفاهم الحق بين أبناء الأمة الواحدة هو التعليم الموحد. فلقد شهدنا ظروفاً لم يفرق فيها اختلاف التعليم، واختلاف طرائقه وأساليبه بين لهجة ابن مصر العليا، وابن مصر السفلى فحسب، بل فرق فيها ذلك بين أبناء القرية الواحدة إن لم يكن بين أبناء الأسرة الواحدة الذين وقعت بهم الظروف في أحضان معاهد مختلفة بين: مصرية أو أجنبية مدنية أو دينية. وما نشأت تلك الفرقة التي كثيراً ما تؤدي إلى الجفاء إلا من اختلاف نوع الثقافة، ذلك الاختلاف الذي يخلق عقلية خاصة يصحبها تفكير خاص ومزاج خاص. ثم إننا نجد على العكس من ذلك أن التعليم في المدرسة الواحدة يؤلف بين المتباغضين، ويقرب بين المتباعدين، ويوحد بين المتنافرين، لأنه يجمع بينهما في أهم وسائل التفاهم: اللغة واللهجة وطرق التفكير ووحدة طرق التنشئة. فترى الآن الصعيدي والبحراوي متجاورين في دواوين الحكومة متفقين متفاهمين كاتبين كانا أو قاضيين، مهندسين أو معلمين، مديرين أو وزيرين؛ حتى لا تكاد تعرف أيهما الصعيدي، وأيهما البحراوي، لأن المدرسة التي نشآ فيها كان لها الأثر الفعال في تنشئتهما تنشئة واحدة مهما كان نوعها. فهل هناك إذن من سبيل إلى التوحيد والتفاهم غير المدرسة الموحدة التي سبق أن أثبتنا أنها السبيل الوحيد أيضاً إلى المساواة في الحقوق بين الجميع أو إلى الديمقراطية الصحيحة؟ إنك لا تجد مطلقاً أن من السهل خلق جو من التفاهم الأكيد بين الأزهري والأفندي كما لا تجد من السهل إيجاد تفاهم تام بين: المعلم الإلزامي وخريج دار العلوم، أو بين هذا وخريج معهد التربية. ولذلك تجد مشاكل وزارة المعارف لا تنتهي للخلافات المستمرة بين تشكيلة رجال التعليم الذين نشأوا في معاهد متعددة مختلفة الثقافة. ثم هل استطاعت وزارة العدل بما يملأ أرجائها من العدل وبما تنشره من المساواة بين الناس جميعاً في الحقوق يحكم القانون أن تنشر جواً من التفاهم الصحيح بين القاضي الأهلي والقاضي الشرعي اللذين نشآ في مدرستين متباعدتي الثقافة! ألم تشغل طويلاً وزارة العدل ولا زالت تشغل بالخلاف القائم بين القاضيين(305/29)
المتآخيين في الموطن المتباعدين في النشأة؟ وهل انتهى حق اليوم شيء من الخلاف القائم بين خريج الأزهر الشريف وخريج الجامعة المصرية وخريج دار العلوم! وإذا كان وزراؤنا وكبراؤنا لا تثقلهم تلك المشاكل الطائفية التي تواجههم بسبب الاختلاف في الثقافة فإنهم على الأقل يضيعون الكثير من وقتهم ومجهوداتهم التي نحس أننا أحوج ما نكون إليها الآن في أمور تافهة أو ثانوية بالنسبة لما تحتاج إليه مصر من مجهودات في شتى النواحي العمرانية والاجتماعية. وما بال هذه الصيحات المتعددة بدعوة الزعماء والأحزاب والمتحزبين إلى المهادنة وضم الصفوف في الأوقات العصيبة التي تجتازها، فهل وجدت إلا إعراضاً وإهمالاً وإمعاناً في الخصومة؟ وإذا كان بعض المفكرين ينسبون ذلك إلى أخلاقنا فهلا يرى القارئ معي أن بعضه يرجع إلى الاختلاف الواقع في صفوفنا منذ نشأنا النشأة الأولى في معاهد مختلفة الثقافة بعضها فرنسي وبعضها إنجليزي وبعضها مصري مدني والبعض الآخر ديني الخ! ألا إن تماسك الشعب المصري ووحدته المتمثلة في فلاحية الجهلاء لتتناثر وتتفتت إلى قوى متنافرة متخاذلة في قادته وزعمائه المتعلمين الذين رضعوا لبان ثقافات مختلفة في معاهد مختلفة فتفاوتت عقلياتهم وتضاربت آراؤهم وأصبحوا أميل دائماً إلى الخصومة منهم إلى التعاون والألفة!
لقد أصبحنا في أشد الحاجة إلى وضع حد لكل ذلك. ووضع هذا الحد لا يكون بالكلام والصياح ولكنه يكون بالعمل، والعمل على التوفيق بين مختلف الطوائف والأحزاب أمر يصعب تحقيقه للأسباب السالفة الذكر في جيلنا الحاضر. فلنضع الحجر الأساسي لبناء جيل جديد دعامته التعاون والاتحاد. وتنشئة هذا الجيل الجديد لا تكون إلا بإيجاد المدرسة الموحدة، ولن تكون لنا مدرسة موحدة ما دامت اللغة الأجنبية تفرق بين أبناء المدرسة الابتدائية وأبناء المدرسة الإلزامية والأولية والدينية.
ورد في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) تحت عنوان (خلق الطبقات) ص195 ما يأتي:
(فهذه المدارس الشعبية الأولى المتعددة التي تتنازع أطفالنا (ويقصد بها الأولية والإلزامية والابتدائية والدينية الخ) تخلق أول تصدع في بناء الأمة الواحدة لأنها تخلق نظام الطبقات المختلفة في جسم هذه الأمة ذات الدين الواحد والعادات المتحدة واللغة الواحدة. وخلق(305/30)
الطبقات بين أمة هذا حالها لا يقره دين ونظام؛ فالديمقراطية تنفر منه كل النفور لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى الاشتراك في الميول والرغبات، ولا يمكن أن يؤدي إلى الاتحاد في الفهم العام الذي هو أساس التفاهم بين الأفراد، فهو إذن ينزع إلى التفرقة الشاملة بين أفراد الأمة الواحدة. ولعل قيامه بهذا الشكل هو السر الأول في هذه الفرقة التي نحسها في ديارنا في كل شيء. وطالما هو قائم في هذه المدارس المتباينة التي نرى في كل منها اختلافاً في الطرائق والأساليب والمذاهب فلن تكون لنا وحدة متماسكة ولن نستطيع أن نخلق من أبناء النيل أمة متحدة في الفهم والقصد ترمى إلى غرض واحد وتتعاون في طريق واحد). هذا ولقد دفعتنا العناية الكبيرة التي اضطررنا إلى توجيهها إلى التعليم الابتدائي فالثانوي تبعاً - إلى إهمال شأن التعليمين الإلزامي والأولي إهمالاً كبيراً تدل عليه تلك الإحصائية الواردة بصفحة 176 من مؤلفي السابق الذكر حيث ورد فيها أن تلميذ التعليم الابتدائي ينفق عليه 24 جنيهاً في العام وتلميذ روضة الأطفال ينفق عليه 22 جنيهاً في العام، بينما تلميذ الإلزامي والأولى ينفق عليه جنيه واحد في العام. وهذه تفرقة كبيرة جداً بل هي مؤلمة وليس لها من مبرر غير ذلك الهدف القديم الذي كنا نرمي إليه في التعليمين الابتدائي والثانوي من حيث إعداد خريجيهما للوظائف والتوظف، وهو هدف بدأ يزول من أدمغة القادة ولكنه مع الأسف لا زال راسخاً في أدمغة الطلبة وسواد الشعب، ويجب أن نعمل على نزعه من تلك الأدمغة سريعاً بإزالة الميزات التي تمتاز بها المدرسة الابتدائية عن باقي مدارس الأطفال وإدماج الجميع في مدرسة شعبية موحدة تخرج لنا الوطني المستنير ذا التفكير الموحد، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بإزالة اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية. ولا ضير في ذلك على اللغة الأجنبية لأنها ستعلم بعناية واهتمام وإتقان في المدارس التي أبناؤها في حاجة إليها وهي المدارس الثانوية ومدارس التجارة المتوسطة. أما طلاب المدارس الصناعية والزراعية المتوسطة ففي غير حاجة إليها ولا يصح إثقالهم بتعليمها، وهم فوق ذلك في حاجة إلى صرف وقتها فيما هم أحوج إلى تعلمه من ضروب المسائل العلمية المختلفة
وإذا كان هذا البحث وما سبقه قد اقتضيا من الوجهتين القومية والاجتماعية زوال اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية، بل زوال المدرسة الابتدائية نفسها وإدماجها مع أترابها من(305/31)
المدارس الشعبية المخصصة للأطفال فإني أعتقد أن بحث هذا الموضوع نفسه من وجهاته التعليمية والبيداجوجية البحتة فيما بعد في الأعداد التالية سيؤيد هذا الرأي كل التأييد
عبد الحميد فهمي مطر(305/32)
من أدب الغرب
للأستاذ فليكس فارس
كنت أقلب رزماً من أوراقي القديمة فعثرت على صفحتين
خطهما قلمي منذ عشرين سنة حين كانت الحرب العامة ترمي
على الدنيا آخر رجومها وتطرح بالأوشحة السوداء على
هامات الأرامل والأيتام
وهاأنذا أنقل للرسالة ما ورد في هاتين الصفحتين، ولعل السريرة الخفية قادت يدي إليهما لنشرهما في هذه الأيام. . .
(هذه قصة كلها شعور وجمال قرأتها في إحدى الصحف التي ترد إلى غرفة الاستخبارات من المقاطعات الفرنسية المحتلة فوقفت عندها أتنصت منها إلى قلب الإنسانية خافقاً على جبهات النار تحت وابل القنابل وهواطل الشرر
هذه صفحة كتبها إنسان برئ حساس تقوده العاصفة إلى المجزرة ليمسى قاتلا أو قتيلاً
هذه قصة جندي على سيفه جريمة الحرب وعلى قلمه صرخة الإنسانية أترجمها واطرحها بين دفينات أوراقي)
حلب في غرة يناير 1918
ف. ف
وكان يوم عصيب في تاهور!
بذلنا كل ما في وسعنا من جهد في المعركة ونحن الآن نتوقع صدور الأوامر للعودة إلى النار
لم نتمتع بالراحة إلا يوماً واحداً فكفانا هذا التوقف عن العراك لنشعر بانحطاط قوانا وارتخاء أعصابنا
وصلنا إلى المعسكر فأشعلنا النار وقعدنا حولها لننشد بعض الأغاني العالقة بالذكر منذ الطفولة فخيل إلينا أننا نعود إلى أوطاننا على نغمات هذه الأناشيد(305/33)
وكان أحدنا يعزف على الأرمونيكا فيسود أنينها ما حولنا من أجواء عافية نحشد عليها تذكاراتنا وآمالنا
وشعرت بيد ناعمة الملمس تمر على جبيني وسمعت صوتاً مرتجفاً حسبته في غمرات تذكاري صوت أمي الشيخة العليلة تناديني من بعيد قائلة:
- مسكين، الولد الصغير
والتفت فرأيت ولداً لا يتجاوز الخامسة من عمره يلبس جلباباً واسعاً وقبعة صغيرة وكان يحدق بالنار وعيناه السوداوان تلتمعان وهو يكرر قوله:
- مسكين، الولد الصغير!
فهتف الرفاق: آه! هذا فرنسي صغير.
وتقدم جندي شيخ إلى الطفل فرفعه وأجلسه على ركبتيه، وبدأ يلاطفه ويلاعبه فزالت سحابة الخوف عن سحنة الطفل فإذا هو يضحك ويلعب.
وجاء وقت تناول الطعام فقدم الجنود له شيئاً من البطاطس، وجرعوه قليلاً من القهوة وكنت الفائز باكتساب ثقته إذ قدمت له قطعة من الحلوى وكلمته بلغته فقال لي: إن أباه ذهب إلى الحرب، وإن أمه ماتت منذ شهور. وكنت أترجم للرفاق حديثه، وهو يورده بلغته، ويدس في كلامه بعض ألفاظ ألمانية علقت بذاكرته منذ احتل الألمان مقاطعته؛ وقال إن اسمه أميل بوفيه فأسميناه كوكو الصغير.
ولما حان وقت انصرافنا إلى مضاجعنا تمسك الطفل بي طالباً أن ينام معنا فحملته وذهبت به إلى بيته.
وعندما اجتمع الجنود في اليوم التالي رأيت الطفل يدخل في حلقتنا مفتشاً عني وهو يقول: كوكو الصغير.
وما كان وجود القائد بيننا ليمنع كوكو من القيام بحركاته، وألعابه وعندما ذهبنا إلى ضاحية القرية لإجراء التمرينات العسكرية لحق بنا حتى آخر حدودها.
وكان كوكو يباكرنا كل يوم فيقف مسلماً برفع قبعته ثم يبادر إلىّ ويمسك بيدي ليتبعني، وأنا أمشي مع الفرقة. وبعد العودة من التمرين كان الطفل يدخل معي إلى مرقد الجنود ويلتف بطرف دثاري مستسلماً للكرى. وهكذا أصبح هذا الطفل يلازمني ملازمة خيالي؟ وما منعه(305/34)
تودد الجنود إليه من الاحتفاظ بتفضيله لي، فكان يصافح رفاقي فرداً فرداً إلى ان ينتهي إليّ فيطوقني بذراعيه الصغيرتين ويقبلني تكراراً، أنا الغريب. . . أنا العدو! ويطرح جسمه الناحل على صدري.
وجاء يوم السفر. انتهت أيام الراحة وحان وقت العودة إلى الجهاد، فقلت للطفل وكان جالساً أمامي في الباحة الواسعة عند المساء: غداً سأسافر قلت هذا متكلفاً السكون وفي قلبي ثورة وغصص، فهب الطفل من مقعده مضطرباً هاتفاً:
- ولكنك ستعود
- لعلني أعود
- متى؟ بعد غد؟
- قد لا أعود أبداً
فصرخ الولد مذعوراً: أبداً. . . لا. لا أريد، فسوف تبقى وطوقني بذراعيه كأنه يريد تقييدي
وامتنع كوكو ذلك المساء عن الذهاب إلى بيته فرجوت مربيته الشيخة أن تسمح له بالبقاء عندي فرضيت وقالت:
- إن أمه قد انتحرت شنقاً هنا وراء هذا الباب بعد سفر أبيه إلى الحرب إذ لم يقو دماغها الضعيف على مقاومة هذه الصدمة وأمضى كوكو ليلته مضطرباً فكان يتقلَّب ويهذي مردداً الاسم الذي لقبته به
وعند بزوغ الفجر نهضنا من الرقاد وبدأنا بإعداد لوازم السفر على نور الشموع المرتجف، وكان كوكو جالساً يتبع حركاتي وسكناتي بلفتاته الواجفة
ولما هممنا بالخروج هرع الطفل إلىّ قائلاً:
- ستعود
فأجبته متمالكاً روعي: أرجو أن أعود
وسحب يده الصغيرة من يدي وتولى. وبينما كنت سائراً مع رفاقي في الساحة كان الولد يتقدم نحو مسكنه يتوقف أحياناً دون أن يلتفت إلينا
وقطعنا القرية بخطواتنا العسكرية فكانت تفتح النوافذ وتلوح منها أوجه المتفرجين عليها(305/35)
مسحة الوسن وفي الأعين جمود وبرود وشعرت بغتة بوصول قادم لقربي وهو يلهث تعباً ويقول:
- كو. . .
وما تمكن الطفل المسكين من التلفظ بالقطع الأخير من اسمه ومددت يدي إليه فخنقته العبرات واندفع مرتمياً على منحدر التله وغلبه الأسى فأخذ يفرك عينيه براحتيه
وناديته: أي كوكو الصغير
ولكن صوتي لم يصل إلى مسمعه إذ ضاعت نبراته في صرخة القائد:
- هيا إلى الأمام!
واندفعت الفرقة إلى المجهول
الوداع أيها الصديق الصغير، أيتها البسمة الأخيرة من ثغر الحياة. . .
وبينما كان وقع خطواتنا يرن في أذنيَّ كنت أشعر بيد من حديد تربط على قلبي، تلك يد الإشفاق على الطفل اليتيم وعلى الإنسانية وعلى نفسي!
هنريك أولكه
جندي من لاندشروم
من يعلم ما حل بهنرك أولكة منذ عشرين عاماً؟ لعله قضى قتيلاً يوم كتب هذا المقال. ولعله لم يزل حياً في العقد الخامس من عمره، وقد يكون ابنه جندياً في هذه الفيالق الجوية فيأمر غداً بإسقاط القنابل والغازات على المدن الآمنة
والحق إن الإشفاق قد بلغ حداً بعيداً في آفاق الروح الإنسانية
لقد كان الرجال ينازلون الرجال حتى اليوم فتبقى النساء والأطفال في مهامه الترمل واليتم. فعلى المدنية الراقية أن تحول دون هذه الجناية. عليها أن تخنق المرأة قبل أن تترمل والطفل قبل أن يتيتم. . .!
فليكس فارس(305/36)
الدعاية الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة عبد الفتاح السرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد
العزيز عبد المجيد
انتشار الإسلام في الأمم المسيحية في غرب أسيا
بعد وفاة محمد (ص)، وجه أبو بكر الحملة التي قصد الرسول إرسالها قبل وفاته، إلى بلاد الشام، بالرغم من الاعتراض الذي أعلنه بعض المسلمين لأن أحوال الجزيرة كانت في اضطراب. ولقد أسكت أبو بكر كل معترض على ذلك بقوله: (لن أبطل أي أمر قرره الرسول. ولو كانت المدينة فريسة للوحوش الضارية فلابد أن تنفِّذ الحملة رغبات محمد). تلك كانت أولى الحملات المتتابعة العجيبة التي اكتسح بها المسلمون الشام، وفارس، وشمال أفريقيا، محطمين أركان دولة الفرس القديمة، ومكتسبين من إمبراطورية الروم بعض أقطارها الخصبة الغنية. وليس الغرض من هذا الكتاب أن نتتبع تاريخ هذه الحملات والوقائع المختلفة، ولكن لما كانت غايتنا أن نشرح كيف انتشر الإسلام عقب الفتوحات العربية كان من المهم أن نميط اللثام عن الظروف والعوامل التي مكنت الإسلام من الانتشار.
ولقد ضمن أحد ثقاة المؤرخين المسألة التي نحن بصددها الآن العبارة الآتية: (أكان ذلك الحماس الديني الحقيقي نتيجة لتلك العقيدة القوية الطاهرة المترعرة في بكورتها، والتي جعلت جنود العرب ينتصرون في كل موقعة، ويؤسسون في مدة قصيرة أكبر إمبراطورية شهدها العالم؟ إننا في حاجة إلى برهان لإثبات ذلك: لقد كان قليلاً جداً عدد أولئك الذين اتبعوا الرسول وتعاليمه طواعية، وبإخلاص من أعماق قلوبهم. أما العدد الأكبر فهم أولئك الذين أدخلوا في صفوف المسلمين كرهاً أو رغبة في متاع الدنيا. وهاهو ذا خالد - سيف سيوف الله - أوضح مثال لطريقة القوة الممتزجة بالإقناع التي أتبعت معه ومع كثيرين من القرشيين لكي يعتنقوا الإسلام. ولقد قال هو فيهم حينئذ: إن الله قد قبض عليهم من أفئدتهم وشعورهم وساقهم لإتباع الرسول. ولقد كان أيضاً لروح الافتخار بالقومية العربية المشتركة(305/37)
أثر قوى تلك الروح التي كانت أقوى عند العرب في ذلك الوقت منها في الغالب عند أية أمة أخرى؛ وتلك الروح وحدها هي التي حدت بالآلاف منهم أن يؤثروا واحداً من بني جلدتهم ودينه على أي مصلح أجنبي عنهم. وأقوى من هذا وذاك ما رغبهم فيه الرسول (ص) من غنى مؤكد باكتسابهم الغنائم الوافرة في الجهاد للدين الجديد، ومن استبدال الأقاليم الخصبة المثرية: كفارس والشام ومصر بصحرائهم المجدبة العارية التي تجود عليهم بالكفاف فقط.
وفي الحقيقة لم تكن تلك الفتوحات الرائعة التي وضعت حجر الأساس للإمبراطورية العربية نتيجة للجهاد والحروب الدينية التي أوقدت نيرانها لنشر الإسلام. ولكن تبع هذه الفتوحات ضعف عظيم في العقيدة الدينية المسيحية، ذلك الضعف الذي ظن أنه الغاية المقصودة من هذه الفتوح. وهكذا اعتبر المؤرخون المسيحيون السيف الآلة التي اتخذها المسلمون للدعاية لدينهم. وغطى ذلك النجاح المعزو إلى السيف على الأدلة التي تشير إلى نشاط التبشير الإسلامي الصحيح بطريق سليمة. ولم تكن الروح التي خلقت الحماس في الجنود من العرب الذين اكتسحوا أطراف الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية الإيرانية، روح تبشير لإدخال الجاحدين في الإسلام. بل الأمر على عكس ذلك، إذ يظهر أن المصلحة الدينية لم تتمثل إلا قليلاً في تفكير القادة للجيوش العربية
إن انتشار الجنس العربي ليتضح بحق في هجرة تلك القبائل القوية النشطة، ساقها الجوع والعوز إلى ترك الصحراء الكزة، والانتشار في أقاليم أكثر خصوبة، في تلك الأقاليم التي يقطنها السعداء.
وبعد، فلقد كان تأسيس الحكومة الدينية في المدينة العامل الذي خلق الوحدة في تلك الحركة (حركة الفتح والتبشير) وكذلك كان عاملاً على الوحدة نظامُ الأمة الحديثة الذي بدأه أصحاب الرسول المخلصون، والحجج الثقاة الذين اضطلعوا بتعاليمه أولئك الذين حفظت متانةُ خلقهم وحماُسهم الإسلامَ حياً، ودينا رسميا، وذلك بالرغم من عدم اكتراث أولئك العرب الذين انتسبوا إلى الدين ولما يدخل الإيمان في قلوبهم
وإذاً فلا يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي دعت إلى انتشار الدين الإسلامي بتلك السرعة، في حوادث الجنود الفاتحة، ولكن الأولى أن نبحث عن هذه الأسباب في الأحوال(305/38)
التي كانت عليها الشعوب المغلوبة
إن ما امتازت به حركة الهجرة من كونها ذات جنسية عربية واحدة قد اجتذب إلى جيوش العرب الغزاة، ممثلي القبائل العربية ورؤساءها، تلك القبائل التي كانت تعيش في أطراف الجزيرة، والتي تمر بها طرق الجيوش الفاتحة. ولذلك فليس غريباً أن نجد كثيراً من أهل البدو المسيحيين قد اكتسحهم مد تلك الحركة القوية، ونجد تلك القبائل العربية التي دانت بالمسيحية عدة قرون تهجرها حينذاك وتعتنق الدين الإسلامي. ومن هؤلاء قبيلة الغساسنة الذين كان لهم السلطان في الصحراء الواقعة شرقي فلسطين وجنوبي الشام، والذين قيل عنهم إنهم (سادة في الجاهلية ونجوم في الإسلام) وبعد موقعة القادسية سنة 14 هـ التي هزم فيها جيش الفرس بقيادة رستم اشد هزيمة جاء كثير من المسيحيين من قبائل العرب البدوية المقيمة على شاطئ الفرات، إلى القائد العربي وقالوا له: (لقد كانت القبائل التي اعتنقت الإسلام في باكورته أعقل منا، أما الآن وقد قتل رستم فسندخل في الدين الجديد)
وشبيه بهذا أيضاً ما حدث بعد فتح شمالي الشام فإن معظم أهل القبائل البدوية انظموا بعد تردد قليل، إلى أتباع الرسول (ص)
إنه لمن الممكن أن نحكم أن القوة لم تكن العامل القاطع في حوادث اعتناق الإسلام، من العلاقات الطيبة التي كانت بين المسيحيين والمسلمين العرب. فقد عقد محمد (ص) نفسه تحالفاً مع بعض قبائل مسيحية، واعداً أن يحميهم، وكافلاً لهم الحرية الدينية، ولرجال دينهم أن يتمتعوا بحقوقهم القديمة وسلطانهم من غير أي تدخل. وقد ألفت مثل هذه العلاقات أيضاً بين أتباع الرسول وبين أفراد عشيرتهم من أصحاب الدين القديم (يعني المسيحية) وقد تقدم كثير منهم طوعاً ليساعد المسلمين في بعثاتهم الحربية، مدفوعين بروح الطاعة للحكومة الجديدة. وتلك الروح نفسها قد أبقتهم منعزلين عن حركة الردة العظيمة التي رفع أصحابها راية العصيان في جميع أنحاء الجزيرة العربية عقب موت الرسول (ص) مباشرة
ويرى بعض المؤرخين أن العرب المسيحيين الذين كانوا يحمون حدود الإمبراطورية البيزنطية من ناحية الصحراء قد غامروا بنصيب مع جيش المسلمين الفاتحين حينما رفض هرقل أن يدفع إليهم ما كان يجري عليهم من العطايا، مقابل خدماتهم الحربية كحراس لأطراف الإمبراطورية(305/39)
وفي موقعة الجسر سنة 13هـ لما بدت طلائع هزيمة قاضية، وأنحصر العرب - وقلوبهم خاوية - بين الفرات والجيش الفارسي، تقدم رئيس مسيحي من قبيلة طي (كما تقدم من قبل سبوريوس لأريوس لمساعدة هوريشس) إلى صنف العرب لمساعدة المثنى قائد جيوش المسلمين ليحمي الجسر الذي كان عبارة عن مجموعة من الزوارق الصغيرة، وكانت حينئذ الطريق الوحيد للتراجع المنتظم، ولما أخذ المسلمون في جمع الجنود ليستردوا مكانتهم، وليمحوا ما لحقهم من عار كان من بين المدد الحربي الذي انصب عليهم من كل جانب وناحية قبيلة مسيحية تدعى بني نمير، وكانت تقطن داخل الحدود البيزنطية. وفي واقعة بويب التي حدثت سنة 13هـ، والتي كانت قبل الهجوم الأخير للعرب الذي كان الهجوم الفاصل الذي نالوا فيه الفوز. في تلك الموقعة ركب المثنى إلى الرئيس المسيحي وقال له: (إنك من أبناء جلدتنا فتعال إذا وحارب معي كما أحارب) وقد تراجع الفرس وتقهقروا أمام ما لاقوه من هجوم عنيف. وبذا أضاف المسلمون نصراً جديداً في صفحة المجد إلى انتصاراتهم. وكان من أكثر مغامرات ذلك اليوم شجاعة ما قام به شاب من قبيلة مسيحية أخرى في الصحراء وكان هذا الشاب قد قدم في جماعة من أصحابه - وهم طائفة من البدو تجار الخيل - حينما كان الجيش العربي قد أخذ ينسجم في صفوف المعركة. اندفع هؤلاء التجار البدو إلى ميدان القتال في صف مواطنيهم، وبينما كان القتال في أشد عنفوانه إذ هجم ذلك الشاب إلى قلب الجيش الفارسي. وقتل قائده، ثم قفز على جواده الموشى، وقفل راجعاً بين حماس المسلمين وإعجابهم به وثنائهم عليه وكان يصيح في عودته منتصراً ويقول: (أنا من تغلب. أنا الذي قتلت قائدهم)
(يتبع)(305/40)
العالم يتطلع إلى حدودنا الغربية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 2 -
الحكام
كان من حسن حظ الصحراء الغربية أن قيض الله لها محافظاً هماماً من رجال الجيش البارزين هو صاحب العزة الأميرلاي عبد السميع بك عجرمة الذي تولى هذا المنصب خلفاً لسلفه الإنجليزي فكان أول محافظ مصري يتولى منصب الحاكم لهذه البقاع النائية. وقد شعر سكان الصحراء الغربية منذ ذلك الحين بمصريتهم، واعتزوا بها أكثر من ذي قبل، وكان حاكمهم الجديد خير مصري يشعر بآلام مواطنيه وحاجتهم إلى النهوض والإصلاح. وخير عون لهذا المصري الكفء في هذه الأنحاء هم رجاله الضباط المصريون. وفي طليعة هؤلاء القائمقام محمد بك كامل، والصاغ رفعت الجوهري. وهذا الأخير يعتبر بحق وجدارة أكفأ ضابط مصري ملم بأحوال الصحراء، وطباع أهلها وطرقها. وقد نشر له نادي السيارات الملكي كتاباً قيماً عن صحراء سيناء، ثم وضع في هذه الأيام كتاباً آخر عن الصحراء الغربية لا تزال بين يديه مهيأ للطبع. وقد طالعت أكثر فصوله واستعنت بكثير مما يحوي من المعلومات الطريفة على ما دونت في رحلتي فلا بد من الاعتراف بفضل مؤلفه وشكره.
معلومات عامة
في عهد (الفاروق) ملك مصر الصالح أسبغ الله على صحاري مصر نعمة الأمن والرخاء، وأعاد إليها عهدها الأول في الحضارة والعمران. وكان عصر الفاروق من أزهى العصور التي مرت بهذه الصحاري والقفار، وأغدق نعمه وعطاياه فهطلت الأمطار يوم تبوأ عرشه، وجادت هذه الأمطار بأطيب الثمرات بعد سبعة أعوام مرت بها قاحلة جرداء عجاف.
وقد أقبلت حكومة جلالته تنفق عن سعة على جميع ما يقوي الروابط بين الأهليين ويعزز وسائل الإصلاح والتعمير فارتبطت أجزاؤها بالسكك الحديدية والطرق الممهدة(305/41)
وإنه ليثير الدهشة حقاً أن يرى المسافر ذلك التباين العجيب بين هذه المروج الناظرة المحيطة بوادي النيل وبين هذه الصحارى المقفرة القاحلة التي تجده من الجانبين. نعم إن هناك صحارى مجهولة في مختلف بقاع العالم كآسيا وأستراليا وغرب أمريكا. إلا أن هذه البقاع لا تعد شيئاً إذا قورنت بصحراء مصر الغربية ووحشتها وخلوها من الحيوان والنبات. ذلك لأن حالة الجدب فيها تثير الدهشة حقاً ولست في حاجة لأن تتوغل في مفاوزها وشعابها لكي تتبين مقدار ما بها من الجدب، فإن مسير مسافة قصيرة يكفي لينقلك من مروج ناضرة وأرض خضراء يانعة غنية بطمى النيل السعيد إلى هضاب متسعة مقفرة تكتنفها الصخور والرمال إلى أبعد مدى يصل إليه النظر.
الصحراء الغربية
يسمى القسم الشمالي (البحري) من صحراء لوبيا بالصحراء الغربية أو محافظة الصحراء الغربية، وهي تشمل الجهات الواقعة غربي النيل من الإسكندرية ومديريات البحيرة والجيزة وبني سويف والمنيا إلى السلوم وحدود طرابلس غرباً. ثم من البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى حدود الصحراء الجنوبية جنوباً وتتبعها واحات سيوة والبحرية والفرافرة
والجزء الأكبر من هذا الإقليم أرض قاحلة، عدا المنطقة الغربية من ساحل البحر الأبيض التي تزرع على الأمطار وبعض الآبار القليلة الممتدة على الساحل أو القريبة منه أو التي توجد في الواحات المشار إليها
وتبلغ مساحة هذه الصحراء نحو 240 ألفاً من الكيلومترات المربعة. وتنقسم إلى أربعة أقسام رئيسية:
1 - القسم الشرقي: ومركزه مدينة العامرية، وهو يشمل العامرية والحمام والواحات البحرية والفرافرة.
2 - وقسم مطروح: ومركزه مدينة مرسى مطروح، وهو يشمل مطروح والضبعة
3 - وقسم براني: ومركزه مدينة براني، ويشمل سيدي براني والسلوم
4 - وقسم سيوة: ومركزه سيوة، ويشمل سيوة والواحات الغربية وواحة الجارة
ويبلغ سكان هذه الصحراء نحو 55 ألف نسمة معظمهم من البدو الرحل من قبائل أولاد(305/42)
علي الأبيض وعلي الأحمر
الحالة العامة
ويمكن القول إجمالاً عن الصحراء الغربية - إذا استثنينا الشريط الأخضر الرفيع الذي يطوق شاطئ البحر الأبيض المتوسط - إنها عبارة عن إقليم لا مطر فيه ولا حياة. ويكاد يكون هبوب العواصف الرملية عليها من الأمور العادية التي لا تخلو منها في سنة من السنين
أما على الساحل فإن حالة السكان تتوقف دائماً على الزراعة ومقدار الحاصلات وما يتوفر من المراعي للإبل والغنم من هطول الأمطار. ومما يذكر أن السكان في هذا العام والذي قبله أسعد حالاً منهم في الأعوام الماضية التي توالى عليهم فيها الضيق من جراء جدب أراضيهم بسبب قلة الإمطار
ولكن الحاصلات الناجحة لا تكفي لسد الديون التي تراكمت على العربان في سبيل حصولهم على حاجيات المعيشة في السنوات الخمس العجاف الماضية
ولقد كان لزيادة المنشئات الجديدة واشتغال العربان في أعمال السكك الحديدية ومد الطرق وهطول الأمطار ومساعدة الحكومة بتوزيع البذور وهبة جلالة الملك لمناسبة قرانه السعيد وهبة صاحب السمو الأمير محمد علي لمناسبة شفائه؛ كان لكل ذلك أثر واضح في تعميم الرخاء واليسر بين العربان، فشعروا بنعمة الحياة، وعاد أكثرهم إلى بلدانهم بعد أن كانوا هاجروا منها، وبدؤوا يزرعون أراضيهم ويقومون بتربية مواشيهم
واحات الصحراء الغربية
وقد منّ الله على الجزء الجنوبي وعوضه خيراً من الأمطار بعدد من الواحات الخصبة الغزيرة المياه. وهذه الواحات يسكنها قوم من العرب وشعب آخر ليس من سلالة الأعراب وهم جميعاً يأخذون المياه من ينابيعها المتفجرة من عيون دائمة التدفق
ويقال إن لفظة (واحة) كلمة مصرية قديمة معناها (مكان الراحة) وهي بقعة من الأرض الخصبة في وسط الصحراء، وكل واحة تعرف غالباً باسم العين أو البئر التي تمدها بالماء
وفي الصحراء الغربية عدة واحات:(305/43)
(سيوة) وهي تشمل سيوة والزيتون وفوريشت والأرغومي وخميسة وأبو الشروق والليج والمراغي
وفي شرقيها مجموعة الواحات البحرية وتشمل البحرية والفرافرة
كثبان من الرمل تنتقل
تمتد على طول الجزء الجنوبي الغربي من الصحراء كثبان عظيمة من الرمل تنتقل إلى مساحات واسعة وهذه الرمال تطغي على الأرض وتدفن تحت رمالها الناعمة الغزيرة مساحات شاسعة من الأرض قد تزيد على مئات الأميال، وتتجمع هذه الرمال فتحدث كثباناً أو (تلالاً) من الرمال الناعمة تسير متوازية بارتفاع كبير ممتدة من الشمال أو الشمال الغربي إلى الجنوب أو الجنوب الشرقي في نفس اتجاه سير الرياح التي تهب على الصحراء
وهذا التكوين يجعل اجتياز هذه المناطق في اتجاهات عرضية من الغرب إلى الشرق أو بالعكس صعباً عسيراً إلا عند فتحات أو ممرات ضيقة معينة معروفة، كما أن هذا التكوين جعل الكثبان تعد حاجزاً منيعاً للحدود المصرية. ويقال إن طغيان هذه الرمال أخذ في الاتجاه نحو الجنوب بدليل أنها طغت على طريق للقوافل كانت ممتدة بين الواحات الداخلة وواحة الكفرة فاختفت هذه الطريق تماماً كما اختفى تحتها من قبل جيش قمبيز ملك الفرس سنة 525 ق. م. وكان عدده 50. 000 من الغزاة، وذلك عندما أراد غزو واحة سيوة. ولم ينج من هذا العدد أحد، على أن الواحات نفسها لم تسلم من هبوب عواصف الرمال فهي تطغي على الزرع وتحدث به أضراراً جسيمة.
وقد شهدنا بعض هذا الهبوب حين توغلنا في جوف الصحراء إلى واحة سيوة في رحلة بالسيارات قطعناها في نحو تسع ساعات وبسرعة لا تقل عن 60 كيلومتر في الساعة وشهدنا في منتصف هذا الطريق (الاستراحة) التي أقيمت به في عهد الخديو السابق فأقمنا بها بعض الوقت وتناولنا فيها قليلاً من الزاد كنا حملناه معنا وهي غرف شيدت من الخشب أشبه بـ (فيلا) قائمة وسط الصحراء القاحلة يستريح فيها المحافظ والضباط خلال تجوالهم في أنحائها.
(يتبع)(305/44)
عبد الله
ملحوظة: مصدر هذه المعلومات المشاهدة أثناء الرحلة وما
دونه صديقنا الصاغ رفعت الجوهري مأمور مرسى مطروح
عن الصحراء الغربية.(305/45)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
واتفق الضباط وحلفاؤهم أن يسير عرابي على رأس الجيش إلى عابدين في اليوم التالي ليطالبوا الخديو بوضع حد لتلك الحال التي ضجت منها البلاد؛ وأرسل عرابي خطاباً إلى الخديو في صباح ذلك اليوم المشهود في قصر الإسماعيلية، وكان الخديو قد حضر في شهر سبتمبر إلى القاهرة، ينبئه فيه بما اعتزم أن يقوم به عصر ذلك اليوم!
يقول عرابي في مذكراته: (ولما كثرت دسائس الحكومة وبان ختلها وعزمها على اغتيالنا، أخذنا حذرنا منها، وسهرنا على إحباط تلك الدسائس المنكرة، وكان السير مالت مالت قنصل إنجلترا بمصر كثير التردد على الخديو ليلاً ونهاراً دون غيره من وكلاء الدول الأوربية، فأوجسنا من ذلك خيفة على مصير بلادنا، وخشينا من مطامع إنجلترا التي كانت ترمي إلى التهام وادي النيل أسوة بما فعلته فرنسا بتونس حتى يتم التوازن التي تدعيه أوربا؛ فعرضنا مخاوفنا على جلالة أمير المؤمنين ليحيط علماً بما كان جارياً في مصر ولكيلا يتورط في تصديق ما قد يصل إليه من دسائس أعداء البلاد. وذيلنا العريضة المذكورة بإمضائي وإمضاءات إخواني علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي وأحمد بك عبد الغفار بالنيابة عن الجيش، وأحمد بك أبو مصطفى وأحمد بك الصباحي وعثمان باشا فوزي وغيرهم من وجوه الأمة بالنيابة عن جميع المصريين. . .)
وفي عصر ذلك اليوم 9 سبتمبر سنة 1881 تحرك الجيش يقصد عابدين؛ فحطت الثورة الوليدة أجرأ خطواتها وأبعد أثراً في تطور حوادث ذلك العهد.
وكان الخديو في قصر الإسماعيلية. فأرسل يستدعي السير أوكلند كلفن. ولما حضر سأله ماذا عسى أن يفعل في هذا الموقف. قال كلفن: (فنصحت إليه أن يقاوم؛ فقد أخبرني رياض باشا أن في القاهرة فرقتين مواليتين، لذلك أشرت على الخديو أن يدعوهما إلى(305/46)
عابدين مع ما يمكن الاعتماد عليه من الحرس الحربي، وأن يضع نفسه على رأسهما. فإذا ما وصل عرابي قبض عليه بشخصه. فأجابني أن لدى عرابي بك المدفعية والفرسان، وربما أطلقوا النار فأجبت أنهم لن يجرءوا على ذلك؛ ومتى توفرت له الشجاعة للمقاومة، وعرض نفسه شخصياً، فأنه يتسنى له أن يقضي على المتمردين، وإلا فأنه ضائع)
هذا ما أشار به كلفن، وما نراه في ذلك يدفع بالتي هي أحسن، وما نراه يحمل - كما يقول كرومر - إلى الخديو: (قسطاً من تلك الروح التي تحيي جنسه الإمبراطوري) وإنما نراه يلقي الزيت والحطب على النار حتى لا تبقى ولا تذر، وبعدها تقتنص الفريسة بدعوى إنقاذ البلاد من نار الفتنة. وما أظن ذلك القول محتاجاً إلى دليل. فهذا الذي يدعو إليه كلفن لو وقع لن يكون إلا حرباً أهلية شرها مستطير، وأمرها خطير:
وتوجه الخديو إلى عابدين قبل حضور الفرق، ومعه كلفن ورياض وستون باشا. فاستدعى علي بك فهمي رئيس الحرس، وأشار عليه بالدخول إلى القصر بفرقته والتحصن بالنوافذ العليا وقد نصح للجند بقوله: (أنتم أولادي وحرسي الخصوصي، فلا تتبعوا التعصب الذميم، ولا تقتدوا بأعمال الآلات الأخرى) فأطاع الجند وأخذوا يتأهبون.
وسار الخديو بعد ذلك إلى القلعة، ولكنه لم يجد من فرقتها مثل ما ظهر له من ولاء الفرقة السالف ذكرها. فسار إلى العباسية حيث كانت فرقة عرابي، ولكنه علم هناك أن عرابياً سار منذ ساعة على رأس جنده، ومعهم المدافع بطريق الحسينية إلى عابدين فقفل أدراجه إليها. . .
وتلاقى عرابي في ميدان عابدين بالفرق الأخرى بقيادة أحمد بك عبد الغفار وعبد العال بك حلمي وإبراهيم بك فوزي وفوده أفندي حسن وغيرهم من أنصاره، وأرسل عرابي يستدعي علي بك فهمي فحضر من داخل القصر فعاتبه فرد بقوله: (إن السياسة خداع) ثم ذهب فعاد بفرقته، وانضم إلى الجيش فأصبح القصر خلوا من كل عناصر المقاومة.
وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة الذين أخذتهم الدهشة لا ريب لهذا المنظر؛ واشرأبت أعناق الشعب التي طالما ألفت الذل، وتطلع من فوق أكتاف الجند، ومن خلال صفوف الفرسان لينظر ماذا يكون في هذا الوقف الرهيب؛ وأسم عرابي يجري على الألسن في حين تدور الأبصار باحثة عن موضعه، وهو على ظهر جواده أمام جنده يتأهب(305/47)
لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي ألبس جده العظيم بالأمس الكرك والقفطان دون رجوع إلى السلطان. وما أعظم هذه الكلمة ينطق بها فلاح من أعماق الوادي نبت ونما على ثراه!
ووصل الخديو إلى عابدين بعد أن فشلت سياسة طوافه على الآليات، تلك السياسة التي تدل في ذاتها على منتهى الضعف، والتي لا يشفع له في اتباعها سوى أنها كانت آخر سهم في جعبته إن كان هذا شفيع. والحق أن الخديو قد لاقى في ذلك الطواف ما تنخلع له أفئدة أقوى من فؤاده. وحسبك أن فرقة القلعة قد ثارت في وجهه حينما أمسك بتلابيب قائدها مهدداً حتى لقد وضع العساكر الأسنة في بنادقهم بأمر من هذا القائد وتجمهروا حول الخديو حتى صاح بالقائد (أفسح لنا الطريق يا بكباشي).
ودخل الخديو السراي من باب خلفي. ويقول مستر كلفن إنه قفز من عربته وأشار على الخديو أن يسير توا إلى الميدان ففعل توفيق ذلك، وسار إلى حيث اجتمع الجند، ووراءه ستون باشا وأربعة أو خمسة من الضباط الوطنيين، وواحد أو اثنان من الضباط الأوربيين؛ ويذكر عرابي أنه كان معه المستر كوكش قنصل انجلترة بالإسكندرية والجنرال جولد سمث مراقب الدائرة السنية
وتقدم الخديو ثابت الخطى، فأشار عليه كلفن أن يأمر عرابياً بتسليم سيفه إذا ما دنا منه وأن يأمره بالانصراف ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر
وسار عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو صاح به الخديو: (ترجل وأغمد سيفك). ففعل عرابي دون إبطاء، ومشى نحو الخديو ومن خلفه نحو ثلاثين ضابطاً فأدى التحية العسكرية
الموقف رهيب بالغ الرهبة! ففي هذا الجانب إذا نظرنا إلى حقائق الأمور نرى مصر التي أيقضتها الإحن والفواجع تتمثل في هذا الجندي الفلاح تحرى على لسانه كلمتها في غير التواء أو تلعثم؛ وفي الجانب الآخر صاحب السلطان والجاه الموروث، تغضبه هذه اليقضة وتذهله، مع أنه رآها منذ بدايتها ورأى أباه على جلالة قدره يوسع لها صدره ويخفض لها جناحه فيزداد بذلك رفعة. . . هنا الحرية الوليدة، والديمقراطية الجديدة؛ وهناك التقاليد العتيدة، والأوتوقراطية العنيدة؛ ومن وراء ذلك كله الثعالب وبنات آوى تتمسكن لتتمكن،(305/48)
وتتربص لتنقض!
والتاريخ شاهد يثبت للقومية المصرية موقفاً من أروع مواقفها، ومظهراً من أجل مظاهرها، ويضيف بذلك إلى صفحات الحرية في سجله صفحة جديدة لن تبلى الأيام جدتها، أو تبخس أغراض المبطلين قيمتها
همس كلفن في أذن الخديو: (هذه هي ساعتك) فأجاب الخديو: (نحن بين أربع نيران) فقال كلفن: (كن شجاعاً) فتهامس الخديو وأحد الضباط الوطنيين ثم التفت إلى كلفن قائلاً: (ماذا عسى أن أصنع؟ نحن بين أربع نيران، إنهم يقتلوننا)
ويحسن أن نورد ما حدث بعد ذلك على لسان عرابي كما جاء في مذكراته قال: (ثم صاح بمن خلفي من الضباط: أن اغمدوا سيوفكم وعودوا إلى مكانكم. فلم يفعلوا وظلوا وقوفاً خلفي ودم الوطنية يغلي في مراجل قلوبهم والغضب ملء جوارحهم. ولما وقفت بين يديه مشيراً بالسلام خاطبني بقوله: (ما هي أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟) فأجبته بقولي:
(جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة وكلها طلبات عادلة). فقال: (وما هي هذه الطلبات؟) فقلت: (هي إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوربي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها). فقال: (كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا). فقلت: (لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم)
فتلفت الخديو إلى كلفن قائلاً: أسمعت ما يقول؟) فأشار عليه هذا بالعودة إلى القصر إذ لا يجمل أن يزيد الأمر بينه وبين عرابي عن هذا الحد. فانصرف الخديو وبقى الجيش في مكانه لا يتزحزح
وأقبل مستر كوكش يناقش عرابياً في غلظة. ويخيل إلي أن هذا الرجل كان ممكن يحسنون دس أنوفهم في كل شيء وكان ذلك منه لغاية كان يخفيها! ومما وجهه إلى عرابي قوله: ألا حق له أن يطالب بالمجلس النيابي وإسقاط الوزارة فذلك من شأن الأمة، أما عن زيادة الجيش فمالية البلاد لا تساعد على ذلك(305/49)
ورد عرابي بقوله إن الأمة أنابت الجيش عنها. ثم وجه نظر محدته إلى الجموع المتراصة خلف الجند قائلاً هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها
فراح ذلك الإنجليزي يتهدد ويتوعد في فضول مخجل، ورد عرابي على ذلك بأنه لن يسمح لأحد بالتدخل في شؤون مصر الداخلية. وهنا سأل كوكش محدثه سؤالاً يتجلى فيه خبثه وقد ظن أنه به أحكم الرمية فقال: (وماذا تفعل إذا لم تجب إلى ما تطلب؟) فانظر إلى رد هذا الجندي في هذا الموقف الذي تخف فيه أحلام الرجال والذي تزدهي القوة فيه القلوب فتسلب ذوي العقول اتزان عقولهم! أنظر إلى عرابي في موقف الثورة يقول له: إنها كلمة لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط)
وأخذ كوكش يروح ويغدو بين عرابي والخديو حتى جاءه آخر مرة ينبئه بقبول الخديو إسقاط الوزارة القائمة وأن سموه سينظر في بقية الطلبات فلا بد في بعضها من مشاورة السلطان؛ وقبل عرابي ذلك. فعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرياسة الوزارة القادمة ولكنهم رفضوه؛ وجرى على الألسن أسم شريف، فعاد كوكش بعد حين يعلن إلى عرابي الخديو تعيين شريف باشا فقوبل ذلك بالهتاف بحياة الخديو. والتمس عرابي الإذن على الخديو، فلما وقف بين يديه أخذ يعبر له عن ولائه وولاء الجيش. وذكر له الخديو أنه وافق (على تلك الطلبات بنية صافية)؛ ثم انصرف الجيش بعد ذلك في هدوء كل فرقة إلى مركزها
هذا هو يوم عابدين الذي اعتبره خصوم عرابي من أكبر سيئاته، والذي نعتبره في غير مغالاة أكبر حسناته. وليت شعري كيف يغفل هؤلاء عما ينطوي عليه هذا الموقف من معان؟ إلا إنهم ليتغافلون ليطعنوا الرجل في أجمل مواقفه وأعظم خطواته، وهم إنما ينالون بذلك من أنفسهم دون أن ينالوا منه
طالب عرابي بالدستور فكان في طلبه هذا زعيم ثورة تقوم على أجل المبادئ التي شاعت في القرن التاسع عشر والتي اعتبرها المؤرخون والناس من أعظم خطوات البشرية وأجلها نحو الرقي والكمال فكيف يكون مع ذلك داعية فوضى واضطراب؟ ولقد كثرت في أوربا المواقف الشبيهة في معناها بهذا الموقف فسجلتها الشعوب في ثبت مفاخرها واعتبرتها من أيامها المشهودة التي سوف تمجد إلى الأبد ذكراها(305/50)
(يتبع)
الخفيف(305/51)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
405 - أشيب
ابن سيسنبر الزوزني (علي بن أبي علي):
كفى الشيب عيباً أن صاحبه إذا ... أردت له وصفا به قلت: أشيب
وكان قياس الأصل (إن قست) شائباً ... ولكنه في جملة العيب يحسب
406 - لقد طال وجدي بعدها وحنيني
حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت له نسخة كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضي أبو القاسم علي بن الطاهر بستين ديناراً وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن القالي وهي:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار، عليهم تستهل شؤوني
فقلت - ولم أملك سوابق عبرة ... مقالة مكوي الفؤاد حزين:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين)
407 - وأخرى تداويت منها بها
في (العقد): قال هرون بن داود: شرب رجل عند خمار نصراني فأصبح ميتاً، فاجتمع عليه الناس وقالوا للخمار: أنت قتلته
قال: لا والله، ولكن قتله استعماله قوله:
وأخرى تداويتُ منها بها
408 - أنا خير البرية
في (الصلة) لابن بشكوال: كان (القاضي) أبو عمران الفاسي بالقيروان، فقال رجل: أنا خير البرية! فلُبب، وهمت به العامة. فحمل إلى الشيخ أبي عمران، فسكن العامة ثم قال:(305/52)
كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال. فقال له: أأنت مؤمن؟
قال: نعم.
قال: تصوم وتصلي، وتفعل الخير؟
قال: نعم.
قال: اذهب بسلام. قال الله (تعالى):
(إن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، أولئك هم خير البرية) فانفض الناس عنه.
409 - حور الجنان على مثالك
أبو العتاهية:
إن المليك رآك أحسن (م) ... خلقه ورأى جمالكْ
فخذا بقدرة نفسه ... حور الجنان على مثالكْ
410 - الشيخ بلا شك إبليس
قال مخارق بن يحيى: رأيتُ وأنا حدث كأن شيخاً جالساً على سرير في روضة حسنة فدعاني فقال لي: غنني يا مخارق، فقلت: أصوتاً تقترحه أم ما حضر؟ فقال: ما حضر، فغنيته:
دعي القلب لا يزدد خبالاً مع الذي ... به منك أو داوي جواه المكتما
وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه قد خالط اللحم والدما
فقال لي: أحسنت يا مخارق! ثم أخذ وتراً من أوتار العود فلفه على المضراب ودفعه إليّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ، والوتر ينتشر ويعرُض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة عليه، وصار في يدي علماً، ثم انتبهت فحدث برؤياي إبراهيم الموصلي فقال لي: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لك لواء صنعتك، فأنت ما حييت رئيس أهلها
411 - ما فهمت غير مفرداته
في (الغيث المنسجم): قال العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم ابن ساعد الأنصاري: حضر يوماً الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبكي شيخ خانقاه (سعيد السعداء) عند الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد (رحمه الله) وأخذ يتكلم في طريقهم وأحوالهم، ويتحدث على(305/53)
العرفان زماناً والشيخ تقي الدين ساكت لا يفوه بكلمة. فلما قام من عندهم قال الشيخ تقي الدين للحاضرين: هل فيكم من فهم تراكيب كلامه؟ فإني ما فهمت غير مفرداته. . .(305/54)
قالوا: سكت؟
للأستاذ أمجد الطرابلسي
قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا ... في مسمع الأكوان رَجْعُ غنائي
غنَّيتُ في أُذُن النهار سعادتي ... وهمستُ في قلب الظّلام شقائي
وَوَعتْ أناشيد الطيورُ وردّدتْ ... همسي الخفَّي كواكبُ الظّلماء
فسلوا الجداولَ عن غِناء مياهها ... هل غير ألحاني غناء الماءِ
وسلوا الخمائلَ عن ندى أزهارها ... هل غير دمعي لؤلؤ الأنداء
والورد والشّفَق المُخَضّب واللّظى ... هل هُنَّ إلا من وَميضِ دِماء
والبحر هذا الهادي الصَّخّاب هل ... أمواجُه إلا صَدى أهوائي
والريح هل هبَّاتها بعد الونى ... إلا انبعاثي بعد موت رجائي
اللّيلُ والأرماسُ بعضُ كآبتي ... والفجرُ والأعراسُ بعض هنائي
والعِيدُ صورةُ فَرْحتي ومبَاهِجي ... والبِيدُ صورة وَحْشتي وفَنائي
والرعد يحكي ثورتي في قَصفه ... وزفيفُ أجنحة الطّيور رضائي
ولقد مَلأتُ الفُتون جَوانحي ... وطويت فوق فنونه أحنائي
وكرعتُ أكوابَ الجمال ولم أزل ... أشكو له نَهَمي وحرَّ ظِمائي
أحببتُ ما شاء الهُيام وشاء لي ... قلبٌ غمرت بحبِّهِ أعدائي
قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا ... ما في يد الينبوع حبسُ الماء
خُلِقَ الرّبيع مُصَوِّراً في كفّهِ ... قَلَمُ الأديب وريشة الوشاء
ما دغدغ الأغصانَ أو لَمَسَ الرُّبى ... إلا ضحكنَ تَضاحكَ العذراء
وَرَفَلْنَ في أفوافِ وَشْىِ بَنانِهِ ... متبرّجاتٍ أو ذواتِ حياء
فسلوه: هل يستطيعُ إبداعَ الأسى ... فعلَ الشّتاء الواجم البَكّاء؟
والزهر، هل يستطيع في أَلَق الصِّبا ... ضَنُّا بنفحٍ عاطرٍ وذكاء؟
والشمس هل تستطيع في رَاْدِ الضُّحى ... أَلاّ تجودَ بباهر الأضواء؟
لكنْ هَزَارُ الرّوض ليس يهيجه ... للشّدْو صُمت دُجُنَّةٍ نكراءِ
ما حيلةُ الشّادي الرفيقِ غناؤه ... بمسامع تَلْتَذ بالضّوضاء؟!(305/55)
يشدو فيعصر في اللحون فؤادَه ... كيما يؤوبَ ببسمة استهزاء!. . .
قالوا: سكتّ عن الغناء؟ فقلت: بل ... عن أّن أُريقَ على الجحودِ وفائي!
أمّا الغنِاءُ فقد جرت نَغَماتُهُ ... مَجرى دمي الدَفّاق في أعضائي
حَسبي من الألحان قلبٌ لم يذقْ ... بين الأضالع هَدْأَةَ الإِغفاء
غَرِدٌ كما هَبّ النّسيم وتارةً ... كالزّعْزَعِ المجنونةِ الهَوْجاء
رَحْبٌ تَموجُ به اللُّحون كأنها ... من كلّ أرضٍ جُمَّعتْ وسماء
أبداً ترفُّ به ملائكةُ الهوى ... هذا بمزمار وذاك بناءُ
ومواكبُ الجِنّانِ تعصف وسْطه ... وتضجُّ تحتَ الرّايةِ الحمراء
ما ضرّني إن كنتُ عِنْدِي شاعراً ... ألاّ يَعدّوني من الشّعراء
لا كان قلبي إن طلبتُ بذوبِهِِ ... من كفّ هذا الدهر بعضَ جَزاء!
لا كان شعري إن رفعتُ لواءه ... بين الأنامِ على رُفات إبائي!
يستعبدونيَ ويحهم! وأنا الذي ... حَطَمَ القيودَ تَمَّردي ومضائي
حلَّقتُ أرمقُ من بعيدٍ ساخراً ... ذلَّ العبيدِ الراسفينَ ورائي
هم يصنعون قيودَهم بأكّفهم ... وأنا أمدُّ لجانحيَّ جوائي
عشقوا القيودَ كأنما هي حليةٌ ... ذهبيةٌ في معْصَم الحسناءِ
واستعذبوا سوطَ القويّ يؤزُّهم ... في كلّ صبحِ ناعمٍ ومساءِ
فتمرَّغوا شَغَفاً على أقدامهِ ... كي لا يَضنَّ بهذه النَّعماء
لولا غرامُ القيد لم تكن الدُّنا ... هذه الُّسجونَ تضيقُ بالسجناء
لولا التَّلَذُّذُ بالأذى ما ألهبتْ ... تلك السياطُ نواصِيَ الضَّعفاء
يا من يريدُ تحرّراً من قِدِّه ... هلاً بدأتَ بنفسك الشّوهاء
هي بالقيودِ مؤودةٌ لكّنها ... ما إن تحسُّ لحرَّها بعَناء
إني نظرتُ إلى العَبيدِ فلم أجد ... رقّا كرقّ النّفس والآراءِ
فأشمخْ بأنفكَ رفعةً وتمرُّداً ... وذرِ النفاقَ ولا تَدِن بِرياء
وأتركْ لصيحاتِ الطبول فراغَها ... واسخر من العظَماء والكُبَرياء
فإذا قيودُكَ قد هوت من نفسها ... عن ساعِدَيْك هشيمةَ الأشلاءِ(305/56)
قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا ... في مسمع الأكوان رَجْعُ غنائي
قلبي لقد وسعَ الحياةَ جميعَها ... من شقوةٍ وسعادةٍ وهناءِ
والكونُ لحني كله رَتَّلتُهُ ... في نشوةِ الإصباح والإمساء
ألفْتُهُ من آهتي وتَبَسُّمي ... فاستنشدوه يُعِدْ لكم أصدائي
(باريس)
أمجد الطرابلسي(305/57)
نجوى موسيقية (سيرانادة)
(تحت نافذة المرأة التي لم تخلق بعد)
للأستاذ صالح جودت
ما أنتِ إلا امرأة في الخيالْ ... رأيتُها بالقلب رُؤيا المثالْ
لو قَدرتْ ليلةُ قَدْرٍ على ... تأويلها، لم أَرْضَ هذا المحالْ
مُنَايَ أن تحيا بفكري ولا ... تخطر في الدنيا لغيري ببال
وما أَنانيٌّ أنا، لكنما ... أخشى عليها من قلوب الرجال
وهي التي صَوَّرها شاعرٌ ... مبتكرٌ أَبدع فيها المقالْ
من عُنصر الوهم اجتلى رسمها ... والوهمُ في الدنيا أَعزُّ اللآلْ
آمنت بالله، وما شِمْتُهُ ... إلا بعين الوهم خلف الظلال
ونُؤْتُ بالحب وعانيتُهُ ... في امرأةٍ من غانيات الخيالْ
كنتُ أنا الباري الذي صاغها ... فكيف أُمسي أنا عبد الجمالْ؟
كناحِتِ (العَزَّى) إذا ما رمى ... مِعْوَلَهُ، ذلَّ لذات الجلالْ
فهل رأى العالَمُ مخلوقةً ... دَلًّت على الخالق هذا الدلال؟
وهو الذي بَارَى بها ربَّهُ ... واسترخص الهَدْىَ وأَغْلَى الضلال
وسار في الناس بأوصافها ... حتى أحبوها بغير اعتدال
وفتشوا في الأرض عن وكرها ... وفي السموات العَوَالي العَوَلْ
تسوَّلَ الناسُ أحاديثها ... والناس لا تسأم ذل السؤال
وقيل إني الغيبُ قد لَفَّها ... وإِن حُجْبَ الغيب ليستْ تُذَالْ
وقيل في يمناي مفتاحها ... وقيل يَطْوِي قَلْبَها في الشَّمال
يا طيبَ ما لاقيتُ في حبها ... وطيب قيلٍ في هواها وقَالْ
صالح جودت(305/58)
رسالة العلم
أقصى ما بلغه العلم التجريبي
يستدل العلماء على مرور إلكترونات الأشعة الكونية بسماعها
ويحصلون على صور مسارات هذه الإلكترونات
للدكتور محمد محمود غالي
لو أن الساسة اليوم وجهوا عنايتهم إلى العلماء والعاملين على التجديد العلمي لما كان ثمة شك في الخطوات العجيبة التي يخطوها العلم إلى الأمام، ذلك أن الميراث العلمي بلغ حداً يمكن الإفادة منه أكثر من أي عهد مضى
ولو أن الأموال التي تنفقها الحكومات المتعددة على الاستعداد للحرب وعلى الإكثار من آلات التهلكة والدمار، أخذت طريقاً آخر للخير العام، فأنفقوا جانباً منها على المعامل العلمية؛ ولو أن الساسة أحسنوا استعمال النتائج العلمية التي يتوصل إليها العلماء واستفادوا للخير لا للشر من انتصارات العلم الباهرة لاقتربنا من جيل يختلف كثيراً عن العهد الذي نعيش فيه، ولشهد الإنسان حضارة أرقى كثيراً من الحضارة التي يستمتع بها الآن، ذلك أن العلم التجريبي بلغ حداً تعجب له عندما تقف على بعض تفاصيله الأخيرة
وإني استعرض مع القارئ بطريقة مبسوطة مثالاً في البحث التجريبي وما أصبح له اليوم من قوة، فأدله في هذا المثال على طريقة قياس الأشعة الكونية وتعيين مسارات جسيماتها السريعة التي لا يمكن للعين أن تراها
لو أني ذكرت للقارئ أن وزن الإلكترون هو (10 27)
1060 من الجرام وأن العلماء يستطيعون اليوم رسم صورة
لمساره ويسمعون مروره لما تملكه العجب، ذلك أن النظر إلى
الأرقام لا يدل بطريقة واضحة وسريعة على ضآلة الشيء أو
جسامته، على صعوبته أو سهولته، بقدر ما تدل على ذلك(305/59)
الأمثلة وما تنطوي عليه من مقارنة
ولو أني ذكرت للقارئ أن الإلكترون هو من الضآلة والصغر بحيث أن النسبة بين كتلته وبين كتلة أحد أزرار البدلة التي يرتديها، كالنسبة بين كتلة هذا الزر وكتلة الكرة الأرضية بأسرها، لعجب القارئ كيف أمكن معرفة شخصية هذا الجسيم المتناهي في الصغر ورسم مساره على الورق الحساس، وكيف يمكن أن نسمع بمروره بيننا، هذه أمور يحار لها العقل
هذا الإلكترون (الوحدة السالبة للكهرباء) وشقيقه البروتون (الوحدة الموجبة) يصل كل منهما بسرعة كبيرة وتتركب جسيمات الأشعة الكونية منهما. ولكل من هذه الجسيمات طاقة تفوق حد الوصف، ومع ذلك فبرغم صغرها وسرعتها يتمكن العلماء اليوم من تسجيل مرور كل منها على حدة ومن رسم مساراتها وسماعها عند مرورها، وهم يضعون لذلك وفي طريق هذه الجسيمات من شباك الصيد والأجهزة الدقيقة ما يساعدنا على سماع إنذار عند مرورها، ومن رؤية آثارها في المادة، وتسجيل الطريق التي مرت فيها
ولعل هذا يدعو القارئ إلى شيء من الدهشة يزيد على دهشته عند استماعه من الراديو حفلة غناء تدور حوادثها بعيدة عنه وهو واقف بسيارته في قلب الصحراء
هذا الإلكترون، الزائر العجيب، كان هدف العلماء؛ هذا الطائر السريع الآتي من عوالم بعيدة ما زلنا لا ندرك مصدرها، كان ولا زال محل اهتمام العلماء لتحقيق شخصيته، وقدرته على اختراق المادة وإحداث التفتت الذري فيها - هذا الجسيم الذي ربما بدأ رحلته حول الكون قبل بدء العصر الكمبري، وهو العصر الذي لم يترك لنا أي أثر من الكائنات الحية على الأرض، لا زال محل بحث المعامل قاطبة لمعرفة كنهه وأثره وطبيعته
ومن يدري! فقد يكون الوقت الذي استغرقته عملية نشوء الكائنات الحية وتطورها من انفيبيا إلى أسماك، ثم إلى زواحف وطيور وثديات وإنسان، لا يُعد إلا فترة بسيطة بالقياس إلى الزمن الذي قطع فيه هذا الجسيم رحلته الطويلة حول الكون المقفل على نفسه ومع ذلك فقد وصل إلى مكان وجد فيه إنسان مُفكر، يستطيع أن يقف على شيء من دخائل هذا الجسيم الصغير، أن يكشفه، أن يرى مساره، أن يستمع مروره؛ بل يضع له شباكاً من ألواح الرصاص السميكة ويرى رأى العين كيف يخترقها طوراً ويتعثر فيها تارة، بل يرى(305/60)
آثار التهدم الذي يحدثه هذا الزائر السريع في ذرات المادة، ويرى الانفجارات العديدة التي تقع بسبب مروره وبفعله وفعل طاقته العظيمة. وفي الشكل (ا) يرى القارئ صورة لجسيمات الأشعة الكونية وحزمة من الجسيمات الأخرى ويرى هذه الجسيمات الكونية تخترق لوحاً من الرصاص محدداً بالخطين الأفقيين، كما يرى شيئاً من التهدم الذي حدث في هذه المادة. وفي الشكل (2) يرى حزمة أخرى من هذه الجسيمات المتناهية في الصغر، وبالأحرى يرى مواضعها تظهر دفعة واحدة داخل جهاز ولسون الذي سنتكلم عنه في مقال قادم؛ وهذه الحزمات وهي جسيمات من المادة حدثت بسبب الأشعة الكونية التي لها هذه القوة العجيبة من اختراق ما يقابلها من مادة
ولتعرف شخصية جسيمات الأشعة الكونية، إلكترونات كانت أم برويتونات، وتسجيل مرورها، طريقتان:
الطريقة الأولى تنحصر في استعمال جهاز خاص لعد هذه الإلكترونات ويسمونه (عداد الإلكترونات) وفي هذه الطريقة لا يرسم مسار الإلكترون وإنما يستطيع الجهاز أن يَعدّ الجسيمات التي تمر فيه.
والطريقة الثانية تسمى طريقة (غرفة ولسون) ويمكن بها رسم مسارات هذه الإلكترونات أو البرويتونات، وتعيين أثرها على المادة التي تقابلها وسنشرح الطريقة الثانية في المقال القادم.
أما عدد الإلكترونات فهو اليوم أبسط جهاز معروف في العلوم الطبيعية رغم صغر الظاهرة المراد قياسها، ويتكون (شكل3) من أنبوبة معدنية داخلها سلك من النحاس المتأكسد وبطرف الأنبوبة سدادتان حيث لا يجاوز ضغط الغاز داخل الأنبوبة بضعة سنتيمترات من الزئبق، وحيث يتفاوت المجال الكهربائي بين السلك والأنبوبة من 1000 إلى 2000 فولت.
ويتصل السلك الداخلي إما بالإلكترومتر، وإما بمكبر ذي صمام، فعندما يمر في الغاز داخل الأنبوبة أحد الإلكترونات المكونة للأشعة الكونية يحدث عدد من اليونات، وهذه تُحدث زيادة في الظاهرة الكهربائية، وهذه الزيادة البسيطة يمكن بعد أثر المكبِّر للتيار أن تُحدث حركة آلية من السهل أن تؤثر على جهاز آخر تسمع منه ضربة تدل على مرور أحد(305/61)
الجسيمات الكونية التي مرت في هذا الوقت داخل الأنبوبة.
ومن تتح له زيارة معهد الراديوم في باريز في شارع (بيير كيري) ويصعد برج هذا المعهد يجد جهازاً لعد الجسيمات الكونية حيث تتملكه الدهشة عند سماعها
على أن مرور أي إلكترون سواء من الأشعة الكونية أو من أي أشعة راديومية، يكون مصدرها المواد المستعملة في الجهاز نفسه أو المباني المجاورة، يحدث هذه اليونات داخل الغاز التي يتبعها هذه الضربات
ولكي نميز بين الضربات الحادثة بسبب الأشعة الكونية من الضربات الحادثة بإشعاع آخر محلي، فكر العلماء في وضع ثلاثة عدادات بينها ستائر تمنع مرور الجسيمات الأخرى التي تقل طاقتها عن طاقة الأشعة الكونية
وقد تم توصيل ثلاثة العدادات بحيث لا تسجل إلا مرور الجسيم الذي يستطيع اختراقها معاً، وبعبارة أخرى، لا تسجل إلا جسيمات الأشعة الكونية
وهذه الطريقة كان لروسي الفضل الأكبر في نجاحها وسنأتي شرح طريقة ولسون في المقال القادم.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون.
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(305/62)
رسالة الفن
التذوق الفني في الشرق والغرب
للأستاذ محمد السيد المويلحي
أحسب أننا مهما تغالينا في التجني على الغرب باتهامه بالإباحية، وبالاندفاع وراء شهواته اندفاعاً لا يعرف حياء، ولا يقيم وزناً لما اصطلحت عليه الأخلاق من قيود وحدود، فلن نستطيع أن نقول إن هذا هو الواقع، وإننا نصور حالة صادقة لما هو عليه من عادات، ولما هو فيه من حرية فضفاضة سعى إليها سعياً متواصلاً حتى نالها. . .
صحيح أن عاداته تختلف عن عاداتنا، ونظرته إلى الحياة وإلى الأخلاق تتغير عن نظرتنا إليها، ولكن ليس بصحيح أنه أكثر منا اندفاعاً وحباً لشهواته ونزواته. لأنه - على الأقل - يمتاز عنا بأنه ينظم وقته تنظيماً دقيقاً: فيعطي لوطنه، ولبيته، ولعمله ما لا يعطيه لقلبه وملاهيه. ثم هو لا يعرف أبداً التسكع والخمول الذي يحملنا حملاً على أن يجلس الواحد منا طول يومه أو طول ليله على قهوة لا لعمل شيء يعود عليه بفائدة، بل للنظر إلى المجهول أو للعب النرد أو للتفرج على حركة المرور. . .!
بل هو يمتاز عنا بأكثر من هذا: يمتاز بتذوق فني رفيع لا دخل للشهوة فيه أبداً فهو حينما يسمع يسمع بإذنه فقط لا بقلبه ولا بحبه ولا (بجسمه) كما هو الواقع عندنا!
لا يحكم على مطربة من مطرباته بأنها حلوة العينين، دقيقة الشفتين مستقيمة الساقين، ممتلئة الجسم، رقيقة الاسم. . . الخ. بل يحكم عليها بأنها. . قوية الصوت. لامعة النبرة. متمكنة من فنها، واسعة في ثقافتها، مجتهدة في عملها، لا تعتمد في معيشتها وحياتها إلا على صوتها، لا تمنعها دمامتها من احتلال المكانة التي يؤهلها لها صوتها، ولو كانت في الذروة!
نعم لا تستطيع مطربة هناك أن تثبت إلا (بفنها) فحسب مهما بلغ جمالها وحسنها، ومهما نضج جسمها واكتمل سحرها، ومهما سالمت واستسلمت، وصادقت عظماء وطنها وحكامه فلن تكون أكثر من جميلة ساحرة ذات جسم! أما أن تُفرض على شعبها كمطربة، فهذا هو المستحيل الذي لن يكون ولن يعترف به الشعب ولو تبدلت الأرض غير الأرض
ثم إن بناته ونساءه لا يحكمن على مطرب من مطربيهن بأنه صغير السن، جميل الشكل،(305/63)
أنيق، رشيق، بل يحكمن عليه بقدر ما يتمتع به من قوة الصوت وسلامته، وجمال الإلقاء، والقدرة على التوزيع والتنويع، والتوفيق في إلباس الكلمات والمعاني (الموسيقى) التي تلائمها وتترجمها وتبرزها في إطارها المضبوط الذي تجري السلامة في أعطافه، ويشيع السحر منه!
ثم إن العواطف الشخصية والإعجاب بالكتفين العريضتين، وبالذراعين المفتولين، وبالقوام السمهري، وبالوجه الصبوح؛ كل هذا لا يجعل من الرجل عندهن مطرباً، فإذا تمتع بعد هذا بمال أو بتقدير، فإن هذا لا يكون إلا بشكل فردي شخصي لا يغرم فيه الشعب مليماً واحداً. . .!
لقد كان (بيتهوفن) رجلاً أصم، و (فجنر) شخصاً دميماً. و (موزارت) مهملاً في زيه. فهل منع هذا عنهم التقدير والخلود؟ وهل وقفت عاهاتهم أمام فنهم القوي لتسد عليهم إعجاب الشعب بعملهم. . .؟؟
(وآل جولسون) الأصلع، (ومستنجيت) العجوز الشمطاء، و (بول روبصون) الزنجي، هل ظُلموا في هذا العصر، ولم يُقدروا لأنهم حرموا ما يبعث الحمية في الأجسام عند الغربيين؟ أي شرقي أو مصري بنوع خاص يشجع فناناً شرقياً أو مصرياً ذا عاهة؟؟ وأي مصري الآن يقبل على سماع مطربة (كفيفة) بقدر ما يقبل على سماع المبصرة، ولو كانت الأولى أقوى صوتاً، وأتقن صنعة، وأعظم أداء؟
قد يقال إن المصريين قبل نصف قرن كانوا يبزون الغربيين في هذا فكانوا لا يهتمون إلا بالفن وبالصوت بدليل أنهم رفعوا (عبدة الحامولي) وزوجه (الماس) إلى ذروة التقدير والشهرة مع أنهما كانا من أشد الناس دمامة وقبحاً. . . وقد يقال إن العرب أنفسهم كانوا من أشد الناس تقديراً للفن وحده بدليل أنهم أفسحوا مكاناً محسوداً (لأبن سريج) الذي بلغ من قبحه ودمامته أنه كان يطرح على رأسه ووجهه غطاء حين الغناء. . . حتى لا يفسده بشكله. . .
وهذا صحيح لا مرية فيه، وهذا ما امتاز به العربي عن الغربي من قرون إبان أن كان الموسيقار العربي يعيش معززاً مكرماً والموسيقار الغربي ممتهناً يعيش كما يعيش المنبوذ المحروم من أبسط مظاهر الحياة وهي نعمة التمتع بالإنسانية وبالوجود. إبان أن كان يقتل(305/64)
كما يقتل الكلب فلا يكون جزاء قاتله إلا ضرب (ظله) بالسيف. . .!
قد يقال هذا وأكثر منه ولكن بحث اليوم ومقارنة الساعة لا تنسحب على الماضي وإلا كان هذا أدعى إلى تعنيفنا إذ كيف يستسيغ الإنسان هذا التطور الأخلاقي السريع الذي لا يسير إلا منحدراً. . .؟؟
لقد كان آباؤنا وأجدادنا من خمسين سنة أسلم منا حكماً وأعدل تقديراً، وأضبط عاطفة، وأسمى غرضاً
كانوا لا يعيشون لشهواتهم وجسومهم كما نعيش نحن الآن مع أنهم لو فعلوا ما استطاع اللوم أن يصل إليهم فقد كانوا أوفر منا مالاً وأقل انشغالاً بتهيئة وسائل المعيشة. وكانوا أقرب إلى (الفطرة) منا إليها، وكانت جميع المحرمات والممنوعات التي تستلب الإحساس وتمنع التقدير السليم موفورة لديهم، ومع ذلك كله استطاعوا أن يقدروا الفن ويتساووا مع الغرب الآن. . . أي أنهم كانوا يعيشون من نصف قرن كما يعيش الغرب الآن من حيث تفكيره وتقديره الموسيقي. . .!
قد يكون للاحتلال نصيب، وقد يكون للانحلال الأخلاقي الذي يتغلغل في عظمنا ونفوسنا نصيب، وقد يكون لتلك النفوس التي طبعت بطابع الزلة بعد الحرب وبعد الثورة المصرية نصيب
تلك النفوس التي استساغت هذا اللون المسترخي وهذا التخنث الذي يطفح من كل أغنية، ثم تدرجت بعد هذا إلى السيطرة على بقية النفوس حتى أصبحنا ونحن على هذا الحال البغيض
فالجمهور لا يشجع إلا الجميلة من المطربات أو الظريفة منهن أو كثيرة الأصدقاء. . .
هبط معيار التقدير حتى أصبح منحصراً في الجسم وفي كل ما يرضي الجسم. أما الروح. أما الفن بصرف النظر عن كل شيء فلا. . .!
ولهذا أصبح جونا الموسيقي جو جسم بحت، وأصبحت تربته لا تنبت ولا تصور إلا الشهوة. أما الصوت، أما الفن، فهذه أشياء تافهة في عرف الذوق الشرقي عامة والذوق المصري خاصة!
محمد السيد المويلحي(305/65)
رسالة المرأة
آداب إنجليزية
مأدبة العشاء الرسمي
للآنسة زينب الحكيم
ترتيب المائدة وما يترتب عليها
ولائم العشاء من أهم أشكال العزائم عند الإنجليز. وإنه لمن الفخر في العرف الإنجليزي أن يدعى الإنسان لوليمة عشاء أكثر من أن يدعى لوليمة غداء، أو لشاي بعد الظهر، أو لسهرة بسيطة في المساء، فإن وليمة العشاء غالية الثمن، لا يدعى إليها إلا علية القوم، ولذلك فهي إكرام له قيمته وأهميته. وعلى ذلك لا ينتظر من الأفراد صغيري الموارد ومتوسطي الحال أن يقوموا بولائم كهذه. وليس معنى هذا أنهم لا يستطيعون عمل ذلك في محيطهم الخاص وإنما نقصد إلى أن المفروض في ولائم العشاء الرسمية أن تكون مستكملة اللوازم والمسرات والإكرام
الدعوة لوليمة العشاء
كيف ترسل الدعوى؟
إما تكتب على شكل مذكرة، أو تطبع على بطاقة، وعادة ترسل قبل الميعاد بعشرة أيام إلى ثلاثة أسابيع حسب أهميتها بالنسبة للغرض الذي تقام من أجله، وبالنسبة للفصل من السنة
فتكون مهلة الدعوة أطول إذا كان الفصل فصل عمل، فتراعى ظروف الأفراد، ويقدر أن كل واحد عنده مشاغل كثيرة
وتكون المهلة أقصر في الأوقات الأقل مشغولية (وبالطبع لكل قاعدة شواذ)
فإذا كان يتراوح عدد المدعوين بين 12و18 فمهلة أسبوعين أو ثلاثة كافية لأن تكون الدعوة بين أيدي المدعوين لكي يوجدوا لها وقتاً من بين أوقاتهم
وعشرة أيام إلى ثمانية عشر يوماً تكفي إذا كان عدد المدعوين 8 - 12 شخصاً، وأسبوع أو ثمانية أيام كافية جداً لوليمة تقام لأصحاب قريبين من الجيران حيث الولائم قليلة. والأسرة التي ليس لها معارف يحسن بها أن تترك مهلة أطول لمدعويها خلاف الذين لهم(305/67)
معارف كثيرون وفي استطاعتهم اختيار مدعويهم من بينهم
وإذا كانت الوليمة صغيرة كأن كانت لستة أو ثمانية أشخاص فيمكن دعوتهم بالتلفون، على أنه يحسن تأكيد دعوتهم ببطاقات أو خطابات
ويستطيع المدعو أن يحكم على نوع الوليمة كبراً وصغراً وأهمية من الزمن المتروك بين تاريخ إرسال الدعوة وميعاد الوليمة
الضيف الذي لا يبالي
الضيف الذي لا يبالي بعواقب الأمور هو الذي يهمل الرد على الدعوة الموجهة إليه؛ فإن كانت بالإيجاب فليرسل رده تواً، فليس من الحزم ولا من المروءة أن تترك المضيفة حائرة غير متأكدة من العدد الذي سيلبي دعوتها ممن دعتهم
وليكن معلوماً ومقدراً أنه لن يزيد من مقدار الشخص الذي توجه إليه دعوة لوليمة عشاء أن يرفضها برفق. فإن هذه الدعوات يجب أن تلبى إلا إذا وجدت ظروف قهرية حقاً تمنع من قبولها، وهنا يصح أن يعتذر عنها بكل أدب وأناقة ممكنين
أما الأفراد الذين يتركون اعتذارهم أو قبولهم الدعوة للوليمة لآخر الوقت، يقل توجيه الدعوات إليهم تدريجياً، وبذلك ينسحبون من المجتمع على الرغم منهم
السيدات والرجال في الوليمة
يلاحظ في الولائم المدعو لها سيدات ورجال، أن يكون عدد الفريقين متساوياً بقدر الإمكان، لأن من نظام ولائم العشاء الإنجليزية أن تحادث كل سيدة الرجل الذي صحبها إلى حجرة المائدة ويجلس عادة إلى يسارها، وكذلك تتحادث إلى الرجل الذي عن يمينها - وبما أن هذا تقليدٌ من التقاليد التي يجب أن تنفذ أثناء الجلوس حول المائدة فيتحتم أن يراعي الجميع آداب المحادثة، وأن يكونوا جميعاً طيبي السمر والحديث. لهذا كان من أول واجبات صاحبة الدعوة أن تراعي تناسب أماكن الأفراد بعضهم إلى جانب بعض حول المائدة. وإذا لوحظ أن البعض لا يستحسن صحبة من جلس إلى جانبه فلينقل إلى محيط آخر بلباقة حتى يمضي وقتاً سعيداً. غير أن التوفيق بين الشخصيات ليس سهلاً وبذلك يتعقد الموقف قليلاً أحياناً.(305/68)
بقيت مسألة هامة، تلك هي أن يراعي دعوة الزوج مع زوجه إلا إذا حالت ظروف طارئة دون ذلك. والمضيفة اللبقة هي التي تستطيع توجيه زوارها وزائراتها إلى الوجهة التي تؤدي إلى إنجاح وليمتها دون أن يشعر أحد بما ترمي إليه، كأن تسوق الحديث إلى موضوعات نقاش وسمر تسر الجميع، ولا تتعرض للشخصيات ولا للأحاديث غير المرغوب فيها، كالتي تعطي فرصاً للبعض لإظهار دخائل نفوسهم بالمناسبات
والفرد الذي يقبل الدعوة لوليمة عشاء، يجب عليه أن يقدر مسئوليته بالنسبة لمضيفته، ولهذا يجب أن يضبط نفسه ويؤدي واجباتهِ نحو من كلف رعايتهن ولو لم يكن ممن كان لا يفضلهن لو ترك له الخيار في مجالستهن
مواعيد ولائم العشاء
تختلف من الساعة 7. 45 إلى الساعة 8. 15 ويقدم العشاء في الثامنة والنصف في الحالة الثانية. أما الحالة الأولى 7. 45 فهي المحببة لدى (الفئة المحافظة)
وهذه المواعيد تتبع بدقة، لهذا يتحتم على المدعوين أن يحافظوا عليها بدقة أيضاً. والتأخر عن ميعاد العشاء يعتبر من قلة الذوق، كما لو وصل الزائر إلى بيت داعية متقدماً أكثر من خمس أو ست دقائق قبل الميعاد المحدد.
استقبال الزوار والتعارف
يجب أن يكون المضيف والمضيفة على استعداد تام في حجرة الاستقبال قبل الموعد المحدد بعشر دقائق على الأقل. ويلزمهما التسليم باليد على ضيوفهما، وعند وصول المدعو إلى المنزل المقصود لا يجب عليه أن يسأل إذا كانت ربة البيت موجودة فإن هذه مسألة لا شك فيها. وعند دخول الزائرة بهو المنزل، تخلع معطفها وتسلمه للخادمة الموجودة به إلا إذا دعيت للذهاب إلى الحجرة الخاصة بوضع أمتعة الزوار، فيمكنها ترك معطفها أو أي شيء آخر.
وفي الولائم الكبيرة يقف رئيس الخدم بالمنزل على الدرج الصاعد إلى حجرة الاستقبال إذا كانت بالطابق العلوي، أما إذا كانت بالطابق الأول فيقف بالصالة أو المدخل، ويفتح الباب خادم آخر، ويأخذ خادم ثالث أغطية الرأس والمعاطف من الرجال.(305/69)
أما في حالة السيدات فالخادم في خدمتهن كما تقدم.
وعمل رئيس الخدم هو أن يسأل الزوار عن أسمائهم، ويجب أن تعطى له واضحة صحيحة، وعليه أن يفتح باب (الصالون) ويذكر اسم الزائر عند دخوله إليه.
وعادة يدخل الزوج والزوجة أحدهما إلى جانب الآخر، أو متأبطي الذراعين، وسواء دخلا متفرقين أو مجتمعين فإن الخادم يعلن اسميهما مقترنين فيقول مثلاً: السيد فلان والسيدة فلانة أو الآنسة فلانة.
وبعد أن يحي أصحاب الدار زوارهم تجلس السيدات؛ أما الرجال فيبقون وقوفاً يحادث بعضهم بعضاً، أو يحادثون من يعرفونهم من السيدات. فإذا وجدت إحدى الزائرات أن لها من الحضور عدداً موفوراً تعرفه، فلا يحسن بها أن تدور في الحجرة لتسلم عليهم جميعاً. بل تسلم على القريبات والقريبين منها، وتكتفي بتحية الأخريات البعيدات بانحناء الرأس أو الابتسام، وإذا كان لها معارف من الرجال فتحيهم بالانحناء، وإذا لم يكن يتحدث إلى أحد، فعليه أن يذهب إليها ويحادثها.
التعريف
وإذا كانت الوليمة صغيرة فعلى المضيفة أن تقوم بتعريف الزوار بعضهم ببعض إذا لم يكن قد سبق لهم المقابلة، أما في الولائم الكبيرة فهذا العمل غير ممكن، ولو أن ربة المنزل تقدم بعض زوارها لبعض قدر ما يسمح لها وقتها بالمناسبات وملاءمة الفرص.
ترتيب جلوس المدعوين حول المائدة
تجلس السيدة أكبر الحاضرات مقاماً إلى يمين رب الدار، ويجلس الرجل الذي في مستواها إلى يسار ربة الدار
ويبقى المضيف واقفاً في مكانه على المائدة حتى يأخذ جميع المدعوين مقاعدهم، وعليه أن يكون عالماً بالمكان الذي يجلس فيه كل شخص وأن يكون مكانه متناسباً وحالته، وعلى رئيس الخدم أن يعلم ذلك أيضاً. أما في الولائم الكبيرة فتوضع بطاقة باسم المدعو في المكان المعد على المائدة
ويراعى في جميع الولائم صغيرها وكبيرها أن تجلس السيدة إلى يمين الرجل الذي(305/70)
يصحبها إلى حجرة المائدة. وفي ولائم العشاء لا يقصر المدعو حديثه على من صحبها فقط ولا هي أيضاً وإنما يكون التحادث لكليهما مع من يجلسون بجوارهما من الجانبين
متى يرحل الزائر
ينصرف الزائر نحو الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة إذا كان ميعاد الوليمة مبكراً إلا إذا أقيمت سهرة موسيقية أو تسلية أخرى مما يجري في العادات الإنجليزية (كالرقص أو اللعب بالورق) فيمكن إطالة المكث بحيث لا يتعدى الساعة الحادية عشرة والنصف إلى الثانية عشرة.
عند الانصراف
في حالة تناول زوجين عشائهما في غير منزلهما، على السيدة أن تلاحظ الانصراف في الوقت المناسب فتملي إرادتها بلطف ودقة على زوجها فينصرفان دون قطع محادثة طريفة، أو حديث في موضوع هام. وعلى كل زائر وزائرة أن يحيي المضيفة تحية الوداع، ويسلم على باقي المدعوين إذا كانوا قريبين منها. ويكون السلام على أصحاب المنزل باليد، ويمكن عمل ذلك مع المعارف إذا لم يترتب عليه إقلاق المجتمع وإلا فالتحية بالانحناء تكفي. ولا بأس من أن يذكر لربة الدار بعض جمل الشكر والاستحسان على الوقت الجميل الذي أمضوه عندها، ويراعي الأفراد ألا يشغلوا ربة الدار أكثر مما يجب، فإن عليها أن تجامل كل مدعويها ومن واجب كل أن يساعدها على ذلك
وعلى رب الدار أن يودع الزوار حتى باب الصالون أو إلى الصالة إذا استطاع ترك باقي الزوار منفردين.
تحية الانصراف
من العادات الإنجليزية تقديم تحية الانصراف، فتوضع منضدة صغيرة خارج حجرة الاستقبال أو في مكان قريب منها، ويكون عليها مشروبات باردة، وسجاير تقدم وقت الانصراف
خلع القفازات
على كل سيدة تجلس إلى مائدة العشاء وهي لابسة قفازيها أن تخلعهما تواً. فإذا كان خلع(305/71)
القفازين من يديها يستدعي بعض الوقت، فعليها أن تضع فوطتها على حجرها حتى لا يقدم إليها الحساء وهي غير مستعدة
استخدام فوطة المائدة وآنية غسل الأصابع
على الزائر أن يبسط الفوطة ويضعها على حجره، ولا تستعمل فوطة المائدة كمناشف للأيدي فالغرض منها حماية الملابس أثناء تناول الطعام، وتلمس بها الشفتان عند الضرورة القصوى فقط. وقد تجفف بها الأصابع برفق بعد وضعها في آنية غسل الأصابع بعد الفاكهة ولا تطبق الفوطة بعد تناول الطعام بل تترك على طرف المائدة(305/72)
من هنا ومن هناك
النازية فكرة مؤلف إنجليزي - نقلا عن مجلة تيت بيتس
يقول الفريد روزنبرج وهو من اخصاء الفوهرر، أن أول من مهد الطريق أمام مؤسس ألمانيا الحديثة هو رجل إنجليزي
والحقيقة أن أول من أوحى فكرة النازية هو رجل من هامفشير وليس جندياً من أوستريا كما يزعمون. لقد كان لهذا الرجل نفوذ عظيم في ألمانيا ما زال يزداد وينمو سنة بعد أخرى وقد كتب ثلاث تراجم، ونشر عنه منذ توفي عام 1927 ما لا يحصى من المقالات على صفحات الجرائد الألمانية بأقلام زعماء النازي المعروفين
من هو ذلك الإنجليزي العجيب؟ ذلك هو هوستن ستورد تشمبرلن. وهو من الأسر الإنجليزية العريقة المعروفة في إنجلترا كما يتبين من أسمه. ومن المأثور عنه أنه كان يقول أول ما سكن ألمانيا (إن أبي إنجليزي وأمي من اسكتلندة وجدتي من ويلز فيحق لي أن أقول إنني ابن حق لبريطانيا العظمى) وقد درس علم النبات والطب في جامعة جنت وسمع أوبرا واجنر في بيروت وقرأ جيتي وكانت في ورسدن. وقد استولى عليه شغف جنوني بكل ما هو ألماني، من أدب إلى موسيقى إلى علم إلى فلسفة إلى صناعات وآلات حربية تدهش العقول
وأتيح له أن يتقن اللغة الألمانية أيما إتقان، حتى أصبح يفضل الكتابة بها على الكتابة بلغة بلاده؛ ومن ثم كان يكتب بها كل مؤلفاته
وقد هداه البحث إلى كتابة تاريخ للعالم أسماه أصول القرن التاسع عشر برهن فيه على أن خير الطرق لفهم شعب من الشعوب هي أن تفهمه في ظل تاريخ المدينة وأطوارها
ودلل على أن كل رقي أو نجاح في أوربا الغربية، كان منشأه الجنس الآري الذي نزح إليها في الأصل من شمال الهند، وانحدرت منه السلالة التوتونية الموجودة الآن. وزاد على ذلك، أن المدينة الغربية لا يمكن الأخذ بناصرها إلا إذا سادها قبيل شديد من الجنس الألماني العريق
وقد نال هذا الكتاب رواجاً عظيماً في ألمانيا بصفة خاصة. واشترى منه القيصر ولهلم الثاني ألفي نسخة ليجعلها هدايا لمن يريد وصار منذ ذلك الوقت صديقاً شخصياً لهوستن(305/73)
تشمبرلن
وفي سنة 1908 أو سنة 1912 وقع هذا الكتاب في يد شاب نكد، لا عمل له في فينا
وهنا ظهر الإنجيل الذي يبحث عنه أودلف هتلر الشاب! فقد أوحت إليه نظرية هوستن تشمبرلن، سر كل ما يحيط به من العار والشرور
متاعب إيطاليا في الحبشة - ملخصه عن لورب نوفيل
نشرت صحيفة (كريتكا فاشستا) التي تصدر في روما نبذة عن مركز القوة الإيطالية في الحبشة نقلاً عن مراسلها الخاص جاء فيها: (لقد أصبحنا الآن في حالة نستطيع فيها أن نصرح بأن مركز إيطاليا في إمبراطوريتها آخذ في الانحدار. ويظهر هذا بجلاء في أديس أبابا أكثر من غيرها يوماً بعد يوم. ويستطيع الإنسان أن يشعر بذلك في أحاديث الناس وفيما تكتبه الصحافة نقلاً عن مراسليها وفيما ينقله إلينا أصدقاؤنا وزملاؤنا الذين يهتمون بشئون الحبشة)
ونحن لم يغب عن ذهننا بعد تلك الحملات التي وجهتها الحكومة الإيطالية إلى بريطانيا وفرنسا أثناء الحرب الحبشية، ولا تلك المزاعم الخرافية التي كانت تدعيها عن الكنوز والخيرات التي تنتظرها في تلك البلاد، مما جعلها تنجح في تهيئة الرأي العام في إيطاليا إلى استعمارها
فماذا وراء هذا التغير الملحوظ الذي طرأ بعد ثلاث سنوات من فتح الحبشة؟
إن هناك تقارير لا تحصى عن المصاعب الحربية والاقتصادية التي تلاقيها إيطاليا في بلاد النجاشي، ونحن وإن كنا لا نستطيع أن ننكر رسوخ أقدامها في تلك البلاد، إلا أن التقارير التي ترد عن المصادر الإيطالية نفسها تدل على أن الحرس الحربي ضروري لإجراء أي عمل فيها، وأن الحالة في إيطالية بعيدة عن المألوف.
ويظهر أن الناحية الاقتصادية في هذه المسألة أشد بكثير مما يتصوره العقل. وقد كتب الجنرال تروزي السكرتير الثاني للإدارة الإفريقية في إيطاليا تقريراً على جانب كبير من الصراحة في هذا الموضوع، وقد ظهرت مقالات شتى بهذا الصدد في الصحف الإيطالية على اختلافها.
ويلاقي الإيطاليون مصاعب لا حد لها في مجاراة الحالة الاقتصادية المألوفة لدى السكان.(305/74)
ومن الغريب أنهم لم ينجحوا بعد في إحلال الليرة الورقية محل العملة الفضية القديمة التي كان يصدرها النجاشي باسم ماريا تريزا، حتى اضطروا إلى إصدار قطع فضية جديدة من هذا النوع كان لها تأثير كبير في هبوط أسعار الليرة الإيطالية.
ولقد وضعت إيطاليا يدها على الشئون التجارية في الحبشة، كما وضعت يدها على مصادرها الطبيعية، ولكن تروزي يقول في تقريره: إن الأحباش لا يقبلون على شراء المصنوعات القطنية التي ترد من إيطاليا، لأن القطن الذي تصنع منه ممزوج بأنسجة قصيرة تجعله أقل صلاحية من غيره، ولقد سقطت هذه التجارة في الحبشة إلى درجة شديدة.
أما ما كانت تنتظره إيطاليا من الأرباح في تصدير البن، فقد ظهر أن الأجر والتكاليف التي تدفع فيه تقضي على كل أمل في ذلك، وهكذا الشأن في باقي المحصولات.
وقد يكون من المستطاع التغلب على مثل هذه الأحوال، ولكن إيطاليا التي استنزفت في الحرب الأسبانية، وأنفقت الأموال الطائلة في التسليح، قد أعوزها المال والرجال لاستثمار تلك البلاد.
ومما يستحق الذكر أن العمال الإيطاليين الذين لم ينقص عددهم سنة 937 عن 115 ألفاً قد نقصوا إلى 38 ألفاً في مارس سنة 938 و21 ألفاً في شهر يوليه من العام المنصرم.
الحقيقة في المشكلة الفلسطينية ملخصة عن (ذي ساين)
بدأت أسباب الثورة تظهر في فلسطين منذ بدأت التجربة الصهيونية فيها، ولكن تلك الأسباب قد أخذت في الازدياد تحت تأثير الظروف الحاضرة، وقد تزعزع النفوذ لبريطاني نوعاً ما في تلك البلاد، بعد أن أظهرت إيطاليا عدم احترامها لقواعد عصبة الأمم، وفهم العرب الذين لا يقدرون المثل العليا التي تعلن في جنيف أن تلك السياسة السلمية تستند إلى القوى الحربية دائماً
ولقد أخذت علاقة العرب باليهود في فلسطين تضعف باستمرار هجرتهم إليها، وأعلنوا الثورة على القانون ليضطروا الحكومة البريطانية إلى تغيير سياستها نحوهم
إن المرء ليتساءل عن الأسباب التي تدعوا إنجلترا إلى ذلك النظام الذي أنشئ لمصلحة اليهود، مع ما في عملها هذا من إضعاف مركزها في تلك البلاد التي نالت فيها مزايا(305/75)
عظيمة بعد ذلك الانتصار الذي أحرزه لورد اللنبي لها؟ إن حكم هذه البلاد كان من أهم نتائج الحرب العظمى، فلماذا تضع إنجلترا مركزها في تلك البلاد في ذلك الموقف الشائك الذي سبب لها كثيراً من الارتباك؟ مع أن هذا النظام لم يطلبه الرأي العام في انجلترا، ولم تناد به هيئة قوية في مجلس الجيش!
إن الرأي الحقيقي في هيئة الجيش لم يعلن بعد، ولكن هذه الفكرة قد نبتت في وقت عصيب كانت فيه جيوش الحلفاء في أشد الحاجة إلى المساعدة المالية التي قدمها إليهم اليهود إذ كانت جيوشهم تحت ضغط عظيم. تلك الروح الطيبة التي ظهروا بها أمام العالم كان لها أبلغ الأثر في تصريح بلفور الذي جاء في نوفمبر سنة 1917
لقد كان بلفور سكرتيراً أجنبياً للحكومة الإنجليزية في ذلك العهد، ولكنه كان أكثر اهتماماً بالحركة الصهيونية من كل شخص فيها. وعلى الرغم من أن هذه الحركة قد طبعت بطابعه وظهرت تحت اسمه، فقد أعلن أنها عملت برضا حكومة الحلفاء. وظاهر أن الحركة الصهيونية تشمل ألمانيا والنمسا وغيرها من بلاد العالم
ولقد تضمن هذا التصريح إشارة من الحكومة الإنجليزية بأنها تنظر بعين الاعتبار إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وأنها تبذل كل ما في وسعها في ألا يمس هذا الحقوق المدنية والدينية للمقيمين فيها من غير اليهود
ولا نذيع سراً إذا قلنا إن أكثر الأعضاء الذين وافقوا على ذلك لم يكن لهم رغبة ملحة في تلك التجربة، ولكن بعض رجال الجيش رأوا أن الشعب اليهودي على ما هو معروف عنه من الذكاء والرقي مشتت في بلاد العالم، دون وطن يلجأ إليه، فتحمسوا للفكرة على سبيل العطف في ذلك الحين
إن للمسألة الفلسطينية أهمية أكبر مما يتراءى. وليس الأمر فيها على إثبات حسن نية اليهود أو سوء نيتهم، أو انتشار التجارة البريطانية أو كسادها؛ ولكن الأمر أهم من ذلك بكثير إذ أنه يتعلق بمركز بريطانيا في البحر الأبيض المتوسط
إن الانتصار الذي أحرزته إيطاليا في الحبشة قد أصبح يهدد المواصلات البريطانية بلا شك، فإذا لم تعمل معها اتفاقات متينة واسعة النطاق في هذه الظروف فمن الواجب تقوية الأسطول الإنجليزي عدة سنين(305/76)
فإذا كان الأمر كذلك فإن الأنظار لتتجه نحو فلسطين كقاعدة ذات أهمية لا يستهان بها للجيوش الإنجليزية
إن مركز بريطانيا في الشرق الأوسط قد أصبح مهدداً بعد انتصار موسوليني في بلاد الحبشة
فإذا كانت بريطانيا لا تستطيع أن تحكم فلسطين فإنها عند ذلك تكون أقل مقدرة من إيطاليا، إذ تكون قد عجزت عن حكم بلاد أخذتها باعتراف عصبة الأمم(305/77)
البريد الأدبي
بين مصر وفرنسا
أصدرت جريدة (الطان) عدداً خاصاً عن مصر، وهو عدد نفيس يقع في عشرات الصفحات، وفيه أبحاث طريفة عن وجوه النشاط الأدبي والاقتصادي، وهو تحية يراد بها توكيد ما بين مصر وفرنسا من صلات
وهذا العدد مفتتح بكلمتين كريمتين:
أما الكلمة الأولى فهي رسالة وجهها حضرة صاحب الجلالة ملك مصر إلى فرنسا. وأما الكلمة الثانية فهي رسالة وجهها حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية إلى مصر.
وافتتاح العدد بهاتين الرسالتين يمثل الاحتفاء بتجسيم عواطف المودة بين الشعب المصري والشعب الفرنسي
وفي الرسالة الأولى يقول حضرة صاحب الجلالة ملك مصر: (أريد أن أقول لفرنسا: إني أعرفها وإني أحبها
(أعرفها في ثنايا تاريخها الطويل الشائق، وفي مناحي آدابها وفنونها. . .
(أحب علمائها وفلاحيها وصناعها. أحب أناقتها، وأحب أيضاً بساطتها العائلية، وأحب وطنيتها وكرمها
(أحبها في أحيائها وفي أمواتها: أمثال شامبوليون ومريت ودي لسبس وسليمان باشا)
وفي الرسالة الثانية يوجه فخامة رئيس الجمهورية الفرنسية تحية طيبة إلى مصر ويرجو أن تواصل جهودها في طريق التقدم الخلقي والاقتصادي والسياسي برعاية مليكها الشاب الذي تحفظ له فرنسا أطيب الذكريات
ونجد بعد ذلك تحية ثانية موجهة إلى مصر من وزير الخارجية الفرنسية، وتحية ثالثة من وزير فرنسا في مصر، ثم تحية موجهة إلى فرنسا من وزير مصر في باريس
وبعد هذه التحيات الرسمية التي تبلغ النهاية في الكياسة واللطف نجد كلمة المسيو دي كومنين عن حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق؛ وهي كلمة في غاية من العذوبة صور بها شمائل الملك المحبوب أجمل تصوير، وفيها تجلت عبقرية الوصف في الأدب الفرنسي(305/78)
إذ يقول:
(نبيلٌ عظيم، أشقر بعيون زرق، له ابتسامة الفتاة وضحكة العملاق. . .).
ثم نجد كلمة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا عن مصر الحديثة؛ وكلمة صاحب الدولة عبد الفتاح يحيى باشا عن مركز مصر الدولي؛ وكلمة صاحب المعالي الدكتور أحمد ماهر عن مركز مصر المالي؛ وكلمة صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا عن التربية والمدينة؛ وكلمة صاحب المعالي الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك عن الاتجاهات الدينية في مصر الحديثة؛ إلى آخر ما في هذا العدد من شائق البحوث.
وقد وقفنا طويلاً عند الكلمة الشائقة التي كتبها سعادة صديق بك عن: (مصر وطن الإنسانية). وقد كتبها بروح شعري جذاب، ودعا إلى زياتها عشاق المعاني من أصحاب الأذواق
قلت: إن هذا العدد نفيس، وإنه يؤكد ما بين مصر وفرنسا من صلات
فلم يبق إلا أن أنظر إليه نظرة نقدية: فما الذي فات من اهتموا بتنظيم هذا العدد من الطان؟
كنت أحب ألا تغلب عليه هذه الصبغة الرسمية التي جعلت أكثر كتابه من الوزراء وأصحاب الشأن في الميادين الاقتصادية والسياسية.
كنت أحب أن يكون في هذا العدد مكان ظاهر للحياة العلمية والأدبية والاجتماعية. كنت أحب أن يكون فيه فصل عن الصحافة والتأليف، وفصل عن تطور الحياة التعليمية في المعاهد العالية، وفصل عن تأثير مصر في توجيه الحياة الأدبية والعلمية بالشرق. . .
وذلك كان يوجب على مراسل (الطان) في مصر أن يستعين بجهود المشتغلين بالصحافة والتأليف والتعليم. ولو أنه فكر في ذلك لوصل هذا العدد إلى الكمال المنشود.
وهذه النظرة النقدية لا تمنع من تكرير الاعتراف بأن هذا العدد قدم مصر إلى قراء (الطان) بروح مشبع بالحب والجاذبية، فإلى تلك الجريدة العظيمة نوجه أصدق الثناء.
زكي مبارك
أبو تمام - والأستاذ عبد الرحمن شكري
لا أظن أن أديباً عربياً عُني بأبي تمام كما عنيت به، فقد بالغت في مطالعة ديوانه أيما(305/79)
مبالغة، وجمعت أمثاله وشرحتها شرحاً طويلاً، نشرت منه أكثر من ستين صفحة في إحدى المجلات، واخترت طائفة من شعره سميتها (جوهرة الجوهر من شعر الطائي الأكبر) نشرت في مجلة، وربما كان (البيت الميمي) مما جمعتُ واخترت. ولما رجعت إلى الصفحة (409) من طبعة الديوان التي أشار إليها الأديب الكبير (الأستاذ عبد الرحمن شكري) - أدام الله نفع العربية بطول بقائه - وجدتني قد خططت عند ذلك البيت خطًّا علامة اختيار
وإذا ما شاء الله أن يضل العالم أو الأديب في الأحايين فمن أين نظفر بهذه الثروة الأدبية اللغوية الضخمة الفخمة في النقد؟ وكيف تتجلى الحقائق التجلي الباهر التام؟ وهل أغلاط نوادر أبي زياد الكلابي، وأغلاط نوادر أبي عمرو الشيباني، وأغلاط النبات لأبي حنيفة الدينوري، وأغلاط الغريب المصنف، وأغلاط إصلاح المنطق، وأغلاط الجمهرة، وأغلاط المجاز لأبي عبيد، وأغلاط كامل المبرد، وكتاب التصحيف للحسن العسكري، وأغلاط الجوهري للصلاح الصفدي، والتنبيه على أوهام أبي علي في أماليه، والفلك الدائر على المثل الثائر. والجاسوس على القاموس لأحمد فارس الشدياق، وأغلاط أكبر لغوي وأكبر أديب في هذا العصر التي لم تظهر بعد. فهل كل ذلك إلا من فضل ضلال العلماء؟
وإن (وهماً) أفادنا تلك الفائدة، وأدى إلى ذلك التحقيق (الشكري) الكريم المشكور - لخليق بما هو به خليق. . .
جاء في كلمة الأستاذ شكري: (وأرجو أن يسامحني الأستاذ الجليل في هذا البيان). أما بيان الأستاذ الكبير فهو مما يشكره مثلي كل الشكر عليه، وأما سؤال (المسامحة) في الجملة فإني أسامح الأستاذ فيه هذه النوبة لإحسانه إلى العلم وإلى بيانه
(القارئ)
في ذكرى الهراوي
في أواخر الأسبوع المنصرم - والرسالة تحت الطبع - أقام أصدقاء (الهراوي) وإخوانه حفلاً لتأبينه بمسرح حديقة الأزبكية؛ فخطب الدكتور منصور فهمي بك، وأنطوان بك الجميل، وعبد الله بك عفيفي، والأستاذ عبد الوهاب خلاف؛ وأنشد الأساتذة الأفاضل: أحمد(305/80)
الزين، وحسين شفيق المصري، وأحمد محرم، والأسمر، والماحي، وناجي قصائد من الشعر
هذا خبر قد أذاعته الصحف اليومية، ونشرت كل ما قيل في الحفل من نثر وشعر. ولكنا نريد أن نشير هنا إلى معنى قد لحظناه من ذلك الحفل؛ ذلك أن قيام مثل هذا التأبين إنما هو في الواقع مظهر من مظاهر الوفاء والخلق الطيب عند الأحياء. ونحن إذ نسأل عن مدى هذا المظهر في تأبين الهراوي وذكراه نجد الجواب لا يسر، فإن الذين قاموا بتأبين الهراوي من إخوانه وأصدقائه الأوفياء قد توجهوا بالدعوة إلى رجال القلم والأدب في مصر على اختلاف مذاهبهم وألوانهم، ولكن دعوتهم مع الأسف لم تقع موقع القبول إلا عند الرجل النبيل معالي وزير الأوقاف، ومعالي وزير الحقانية، والسيد الببلاوي، وصاحب الرسالة، ونخبة من رجال الصحافة، وطلاب الأزهر والجامعة ودار العلوم إلى جانب أسرة الشاعر وإخوانه الذين حفلوا بتأبينه!
أما وزير المعارف الأديب، وأما الأستاذ لطفي السيد الذي عمل معه الفقيد فترة من الزمن، وأما رجال لجنة التأليف والترجمة والنشر وقد كان الهراوي عضواً بارزاً في جماعتهم، وأما الدكتور زكي مبارك صديق الهراوي على مر السنين، وأما رجال الأدب الذين يتولون زعامته، ويزعمون رعايته، فكل هؤلاء كان تأبين الهراوي، بل قل كان الأدب أهون عندهم من أن يلبوا نداءه ويؤدوا واجبه!
(م. ف. ع)
كتاب حياة الرافعي
أخي الأستاذ سعيد العريان
أشكر لك تفضلك بإهدائي كتابك (حياة الرافعي)، وأهنئك مخلصاً على ما أصبت من توفيق يكاد يكون منقطع النظير.
لقد قرأت الكتاب في ثلاثة أيام، وما أعرف أني استمتعت بكتاب ككتابك - وفي موضوعه - منذ أمد بعيد. نعم، أذكر كتاب (أناتول فرانس في مباذله) وأنه من خير ما قرأت في هذا الموضوع، ولكن كتاب فرانس مبعثر الفصول، مقطع الأبواب ولكتابك مزايا كثيرة ليست(305/81)
في ذلك.
إنك لم تجلُ حياة الرافعي فحسب، بل جلوت الاتجاهات الأدبية، والعوامل النفسية - الخفية - في أدب جيل كامل من الأدباء.
لقد عشتُ في مصر مدة من الزمن تبلغ قرابة سبع سنوات، وكنت أقرأ ما أقرأ حول الرافعي - رحمه الله - وخصومه - عفا الله عنهم -، وله ولهم، ولكني كنت كمن يعشو في ظلماء موحشة، لا أكاد أتبين سر ما أنا بسبيله من نقد وتأليف، وخصومات، إلى أن جاء كتابك فأنار السبل وأوضح المقاصد، وردّ علي ماضي ما قرأت في صورة نيرة مبينة.
لا أريد أن أطيل عليك، ولكن في نفسي إعجاباً ذا شعب ما أستطيع أن أحبسه في نفسي.
لقد وفقت في الأسلوب بقدر ما وفقت في استقصاء المؤثرات النفسية واستكشاف العوامل الخفية في أدب الرافعي. وبذلك أصبح كتابك جزءاً من كتب الرافعي لا بد لمن يقرأها من أن يقرأه. بل هو من أدبه كالفصل الرئيسي من الرواية لا يمكن أن تتم وتستبين بدونه
وما أكتمك أني كنت ممن لا يستهويه أسلوب الرافعي، ولكن كتابك أوضح أن الرافعي كان نسيج وحده في أسلوبه وتفكيره وميوله. وبهذا دفعت عنه ما اتهم به، وأغريت الناس بقراءته بعد أن مزجتهم بنفسه؛ وكسبت له الإعجاب منتزعاً من أعماق القلوب
الحق يا أخي أنك وفقت، فلك التهنئة الخالصة، والشكر الجزيل والود الصادق من أخيك.
(القدس)
اسحق موسى الحسيني
ذكرى الرافعي في محطة الإذاعة المصرية
يذيع الأستاذ محمد سعيد العريان حديثاً عن المرحوم الرافعي في الساعة الثامنة والدقيقة العاشرة من مساء يوم الأربعاء 10 مايو من محطة القاهرة، لمناسبة الذكرى الثانية لوفاة فقيد العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي.
وموضوع الحديث: شخصية الرافعي في أدبه.(305/82)
الكتبُ
كتابان
1 - آرائي ومشاعري: للآنسة فلك طرزي
2 - أشعة ملونة: للشاعر أحمد الصافي النجفي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
- 1 -
منذ عام أو أكثر التقيت بالآنسة فلك طرزي في دار الرسالة فتعارفنا، وجلسنا نتحدث على طبيعة المجلس في تلك الدار الحافلة فأخذنا في كلام يتصل بالأدب والسياسة وبرجال الأدب والسياسة، وامتد بنا الحديث إلى الأخلاق والتقاليد والقومية وما يتفشى في شباب الشرق من داء العصر. وكانت الآنسة تتحدث وكنت أنا أستمع وأتأمل، فظهر لي وراء ذلك الشخص الناحل ثورةٌ جامحة، ونفس طامحة، وإحساس كبير مرهف، واعتزاز بالقومية العربية، والكرامة الوطنية، تبديه الآنسة الفاضلة في صرامة وعنف حتى لقد فارقتها وأنا أشفق عليها مما هي فيه!
ومنذ أيام جاءني كتاب الآنسة - آرائي ومشاعري - عن طريق الرسالة لأقدمه إلى القراء، فما كدت أجيل النظر بين صفحاته حتى رأيت فيه روح الفتاة كما رأيته بالعيان، وتبينت لي شخصيتها بين السطور كما تبينتها بالنظر من قبل، شخصية صريحة واضحة، وروح - كما قلت لك - ثائرة متمردة على الناس وعلى نفسها، فهي لا تهدأ ولا تقر، وهي تكشف لك عن هذا الجانب من شخصيتها فتقول: إن نفسي لا تكاد تريح ذاتها من بعض ما تنوء به من أعباء الفكر، حتى تشعر أن ما خرج منها ليس إلا جزءاً من العبء الذي يزخر فيها فيعاودها القلق والاضطراب، وكلما حاولت التخلص منهما رجعا إليها بصورة أشد وأقوى، لهذا قلما تنعم نفسي بالراحة وتسعد بالاستقرار، وإن هي بلغتهما فسعادتها بهما لا تتجاوز اللحظات. . .
وماذا تكون آراء ومشاعر هذه النفس الثائرة وهذه الروح الشرود؟(305/83)
هي آراء صارمة تتخطى القيود والحواجز، آراء تستمد الحجة من منطق القلب أكثر مما تستمده من منطق العقل، وإنها لتشتد صرامة وعنفاً إذا ما انطلقت في جانب الوطن والقومية العربية، فأنت إذ تسمعها في (يوم الإسكندرونة) وفي (موقف لبنان من الأقطار العربية) وفي تحيتها (إلى شباب النادي العربي) وفي حديثها عن (أثر المرأة في النهضة القومية) نعم أنت إذ تسمعها في هذه المواقف وأشباه هذه المواقف فإنما تسمع زئير الأسد الهائج لا بغام الظبية الشادية!
وهي مشاعر مرهفة تفيض بكثير من حر الجوانح والألم الممض، فأنت إذ تنصت إليها وهي تتحدث عن (النفس الحيرى) و (الوفاء المفقود) و (الضحكة التي تخرج من أعماق النفس) وفي رسالتها (إلى مي) خلبك منها الشعور الدقيق الرقيق، والأناقة الفنية، والنعومة الرافهة، كما يقول الأستاذ خليل مردم
وهذه الآراء وتلك المشاعر هي زفرات متقطعة صعدتها الآنسة المهذبة في فترات مختلفة على صفحات الصحف المصرية والسورية فجاءت قطعة من نفسها وروحها تجري في أسلوب له رنين صوتها وجرسه، وإن كان لا يخلو من هفوات في اللغة والنحو. وإذا كان للآنسة من الآراء والمشاعر ما لا يوافقها عليه القارئ فأحسبها قد تحللت من هذه المؤاخذة إذ سمت كتابها (آرائي ومشاعري)، ولكل إنسان رأيه في الحياة، وليس من الإنصاف أن يتحكم إنسان في شعور إنسان!
- 2 -
قد يكون من الصعب على الباحث وخصوصاً في الأدب العربي أن يتبين شخصية الشاعر واضحة صريحة في قصائده ومطولاته التي يحفل لها بقوة الأسلوب، ومتانة القافية، ونباهة الموضوع. فكثيراً ما يضطر الشاعر في مثل هذه المواقف إلى تملق العواطف في الناس، أو مراعاة الرغبة عند حاكم مسلط، ولكنك قد تتبين شخصية هذا الشاعر على أجلى ما تكون في مقطوعة يرسلها على هواه، أو أبيات صغيرة يقولها فيما بينه وبين نفسه!
وهذه الأشعة الملونة للشاعر أحمد الصافي النجفي هي نبرات متقطعة، وألحان قصيرة أرسلها في لحظات متباينة؛ ونظمها في ظروف مختلفة، وفي نواح متعددة من نواحي الحياة، وفي مكنونات النفس البشرية، ورسوم الأخلاق، وشواذ الكون، وغرائب البشر،(305/84)
وبالجملة فهي شعور الشاعر تجاه ما يحس وما يرى، وناهيك بإحساس الشاعر المرهف، ونظره الفاحص المستوعب، وكأن هذا هو الذي أطمع الشاعر في أن يقول:
كل بشعري واجد نفسه ... ففيه أسرار الورى المودعة
وقد يكون في هذا إسراف من الشاعر في جانب قرائه، ولكنه لا شك ليس بإسراف في جانب شخصيته هو، فأنا لا أعتقد أن كل إنسان سيجد نفسه في شعر الشاعر الصافي، وإن كنت أعتقد أنك ستجد نفس الصافي في هذا الشعر شفافة مترقرقة، وحسب الشاعر الخالد هذا، وحسب الصافي أن يقول في الكشف عن نفسه:
عندي عيوب بنفسي سوف أظهرها ... لأن إخفاءها مكر وتدجيل
والعيب يجدر أن يبدو ليعرفه ... كل الأنام فلا يعروه تضليل
إني وإن كنت في جهل له صغرت ... نفسي فأجهل مني العصر والجيل
بعوضة أنا في الدنيا وحين أرى ... بعض الورى فكأني بينهم فيل
وأن يقول:
أنا طائر لا يرتضي الأرض مسكناً ... كأني بين الجو أبحث عن عرش
ولكن دهري قص جنحي وأرجلي ... فما حال طير لا يطير ولا يمشي؟
ويعجبني من الصافي روح متمردة على التقليد بين قومه فيقول:
تقلد يا شرقي غيرك دائباً ... فتحسب موجوداً وما أنت موجود
لقد سلبك التقليد عقلك كله ... فشخصك موجود ورشدك مفقود
تقلد في أكل وشرب وملبس ... ويعروك للتقليد في الليل تسهيد
تقلد حتى في انتحار وميتة ... فعيشك تقليد وموتك تقليد
وإنه لينكر ذلك التقليد على نفسه فيقول:
كم سرت متبعاً غيري لتهلكة ... وكم ندمت لدن أحسست بالألم
ندمت دهراً ولكن لم يفد ندمي ... وهاأنا نادم دهراً على ندمي
وأحب أن أنبه الشاعر الصافي إلى العناية بالأسلوب، فإن قوة الأداء وروعته ضرورة لازمة للشاعر حتى يستطيع أن يؤثر، ولا شك أن اللفظ قوة تشد أزر المعنى وترفع من قيمته، ولكن الأستاذ يتهاون في هذه الناحية حتى ليهمل حق اللغة في بعض الأحيان، وحتى(305/85)
ليبدو أسلوبه مهلهلاً كالثوب الخلق. هذا وإنه ليحرص على أبيات تافهة فجاء ضوءها في الأشعة الملونة ضئيلاً باهتاً كما يقولون
محمد فهمي عبد اللطيف(305/86)
المسرح والسينما
قبل وداع الفرقة القومية
المال والبنون
حديثنا اليوم عن رواية (المال والبنون) وهي واحدة من الروايات التي فاز مؤلفها بجائزة في المباراة التي أقامتها الفرقة، وعن حظ هذا المؤلف، وقد مثلت له الفرقة في هذا الموسم أيضاً رواية أخرى اسمها طبيب المعجزات
الكلام عن الروايتين لازم واجب، أما الحديث عن الحظ فقد يجرنا إلى التساؤل، وإلى الحدس والتخمين، وإلى نقل ما يقوله الأدباء في مجالسهم عن الحظ والمحظوظين، وعن الوسائل التي توصل الأديب المغمور إلى الحصول على كلمة السر التي تجعل منكود الطالع سعيداً وإن كان جبل في الأصل من طينة فيها جميع خصائص الشقاء وعناصر التعاسة. ولذلك سنضرب صفحاً عنه لأن غايتنا من نقد الفرقة كما قلنا هي تقويم اعوجاجها وذلك أمر مستطاع لا شك فيه. وإن رجال الفرقة في زعمنا مهما تصاموا عن سماع كلامنا، وتغاضوا عن نقدنا، وأسرفوا في تأويل البواعث على متابعة الكتابة في إظهار العيوب التي أوصلت الفرقة إلى المنحدر الخطر، ومهما حاولوا المكابرة في احتمال سهام الحقيقة الجارحة فإنهم ولا بد راجعون إلى أقوالنا وإلى نصائحنا، وإن الغفوة التي تثقل أجفانهم سيعقبها ولا شك يقظة وانتباه. ورب دغدغة أو وخزه تنجي من خطر محقق، وسيان أكان المدغدغ أو الواخز حبيباً أو عدواً، فضلاً عن الناقد الذي لا يعرف الحب والبغض في الأدب والفن
لن نتكلم إذن عن حظ المؤلف بل نقصر كلامنا على الروايتين، فالرواية الأولى (طبيب المعجزات) لم تتحدث الصحف عنها بخير ولا شر، والإهمال أقصى عقوبة يجازي بها المؤلف الفاشل. وقد انفردنا بتلخيصها للقراء ولم نشأ أن نعلق عليها مخافة أن نرمي بحب الهدم الذي يضعضع الناشئين أمثال مؤلفها الشاب، ولكيلا يقال إننا نتخذ أمثلة عليا من أدب المسرح الغربي نقيس بها أعمالنا وما برحنا في دور التكوين بعد. وسألخص رواية المال والبنون) أيضاً فأضعها نصب عين القارئ، وليسأل هو عن الباعث على تمثيل روايتين هزيلتين في موسم واحد لمؤلف واحد؟(305/87)
والرواية حكاية شاب طبيب يدعو الناس بحرارة إلى اعتناق مبادئه التي يؤمن بها، وهي تتلخص في أن البنين آفة الزواج، وأن كثرة الأولاد مسغبة وفقر، وأن منع الحمل يساعد على الزواج المبكر، وأن تربية النسل متعة يجب أن تقتصر على الأغنياء، وأن تكرار الولادة خطر على صحة الأم، وأن لابد من تنظيم الحمل، ومن إيجاد مركز لرعاية الطفل، ومن فرض ضريبة على العزاب
وهذا الطبيب صاحب هذه (التشكيلة) من المبادئ له أنصار من الفتيات اللواتي يستمعن إلى القائل لا إلى ما يقول، وله معارضون ممن تعلموا في مدرسة الزمن أن مثل أقواله هراء في هراء، والطبيب هذا يحب ابنة عمه ويرغب في الزواج منها؛ غير أن والدها يمانع في هذا الزواج ويصرح باستحالته للطبيب، وقد حضر ليطلب يدها من والدها، لأنه قد اتفق مع عمه على تزويجه بابنته، والفتاة تصغي إلى نصيحة أبيها ولا تلتفت إلى عواطف الشباب ونزواته وتقبل أن تتزوج من عم الدكتور وترفض الدكتور نفسه وتجابهه بهذا الرفض
وإذ يسمع الطبيب بانصياع الفتاة لأقوال أبيها ورضاها بالزواج من عمه الهرم يهرب من المدينة ويذهب إلى إنجلترا في بعثة يعود منها بعد خمس سنوات فيجد أن عمه قد مات وأن زوجة عمه رزقت غلاماً منه قد ورث كل ما تركه
استيقظ الحب الهائج في نفسه فعاد يطلب الزواج من أرملة عمه على الرغم أن لها ولداً، ولما تزوج منها أحب ولدها وصار يتمنى أن يكون له ولد من صلبه
كاشف زوجته بالأمر فناقشته في آرائه ومبادئه فأعلن تنازله عنها، واقتادها إلى طبيب أخصائي قال إن زوجته عقيم لا تلد قامت قيامة الطبيب يسائل من أين جاءت زوجته بابن عمه وهي عقيم، وثارت ثورته عليها فيلعنها ويصارحها بأنها امرأة عقيم مرذولة وأنها رضيت بالزواج من عمه لتستولي على ماله وتحرمه إياه. ويظهر أخيراً أن الولد الذي يقال إنه ابن عمه إنما هو ابنه قد استولده من فتاة خادمة أغواها وقد جاءت به جدته إلى هذه العائلة لترعاه، أما أمه فقد ماتت بعد الولادة
لقد أسميت مبادئ الدكتور بطل الرواية (تشكيلة) وقد افتن المؤلف حقاً في جعل وقائع الرواية تشكيلة تشبه (ألبوم) طوابع البريد فيه مجاميع مرتبة، هذه للدولة الفلانية، وتلك(305/88)
للجمهورية العلانية؛ أما قيمة الألبوم فلا يقدرها إلا المهووسون العاطلون الذين ليس للوقت عندهم قيمة
أنا لا أقول إن تقدير رجال الفرقة القومية لهذه الرواية ولأختها التي صنفها المؤلف ومثلتهما الفرقة في موسم واحد هو من نوع تقدير الهاوين لمجاميع طوابع البريد؛ ولكني أسأل هل الإفلاس حفزهم إلى تمثيل روايتين ضعيفتين عرضاً وموضوعاً، أنهم قدروا في مؤلفهما نبوغاً قصرت مداركنا المتواضعة عن فهمه؟
تدل المسارح القومية الناس في فرنسا وفي غيرها على تطوير الروح القومي، وعلى معيار فهمه للحياة، فهل مسرحنا القومي بمديره اللوذعي، ورجال لجنة القراءة، وأبطال التأليف، وما مثلته الفرقة خلال أربع سنوات يدل من قريب أو بعيد على تطور الروح القومي المصري، وعلى معيار فهمه للحياة؟
اللهم كلا!
من المفهوم (أن حياة الأب إن لم تتصل بنفس الأديب وروحه، وإن لم يظهر وحيها في آثار حياته كان الأدب فاتراً ضعيفاً. وهذا عين ما لمسناه من فتور وضعف في روايتي المال والبنون وطبيب المعجزات اللتين طاب للفرقة القومية أن تتحف الناس بهما في موسم واحد
ومن المعروف أيضاً عند الأدباء أن خير ما يكفل وضوح ذاتية الأديب في أدبه أن يتصل ما يكتب بقلبه وعقله وكل حياته، وليس ذلك بمستطاع إلا حينما نصف حياتنا وحياة آبائنا والبيئة التي أنبتتنا، والوراثة الكامنة فينا، فنصل بذلك حاضرنا بماضينا، ونصور حياتنا، وحياة قومنا ووطننا، وكل ما توحي هذه الحياة للعقل، والقلب، والحس، والشعور. فهل في هاتين الروايتين الموضوعتين ما يلمس هذه القواعد المعروفة عند كتاب الرواية؟
المفروض أن الرواية إنما تصور الحياة تصويراً صادقاً تمليه العاطفة، ويحلله العلم، ولكن مؤلف رواية المال والبنون إنما ترك الحوادث للمصادفات، ولم يلتفت ألبته إلى تحليل هذه الحوادث ومراقبتها، وتقدير احتمالاتها، واستشعار المستهجن فيها والنابي عن الذوق، والمتنافر مع الواقع، والبعيد عن الحياة المصرية وبيئتها
لم يبق مما تمثله الفرقة في موسمها الحالي سوى رواية واحدة. وأرى لزاماً علي، خدمة(305/89)
للفرقة التي يحرص على بقائها كل أديب يتمنى الخير لأمته ويفاخر بنهضة هذه الأمة الفتية، أن أواصل النصح في إظهار العيوب التي رآها الناس رأى العين وشعروا بها بارزة في أعمال هذه الفرقة التي أسموها قومية، فإن أفلحت في إيقاظ ما هجع من هم رجالنا فذلك حسبي، وإن لم أفلح فسأدأب حتى تفوز الفرقة القومية بالنجاح والظفر والمجد
ابن عساكر(305/90)
العدد 306 - بتاريخ: 15 - 05 - 1939(/)
مناسبة الأربعين
حزن المليك الطفل
هذا اليوم هو الأربعون لمصرع الملك الشهيد غازي الأول. واليوم الأربعون هو في عرف الناس أو الناسين آخر الخطوات في تشييع الحي للميت! فهل آن للجوانح الحرار أن تبرد على سلوان ابن فيصل ونسيان أبي فيصل؟! كل حي إلى حين؛ وكل ذكرى إلى نسيان؛ وكل أثر إلى طُموس؛ ولكن أمثال غازي من ملوك الأرض وشباب الملوك وأزيان الشباب هم ملء السمع والبصر والقلب والتاريخ، فلا يملك الدهر أن يمحو ما لهم في صحيفة الخلود من ذكر وأثر. وإذا استحال على الزمن أن ينسى دولة العراق، استحال على العراق أن ينسى أسرة فيصل. لأن أسرة فيصل هي الأساس المكين لبنيان العراق الحديث: قام على جهادها استقلاله، وورفت على رِيّ دمائها ظلاله، وسارت على نور هداها نهضته.
كان الملك فيصل الأول برد الله بالرحمة ثراه، مثال الرجولة العليا التي يتيحها القدر المديل لإحداث ثورة وإنشاء دولة وإقامة عرش. وكان هو وصحبه البهاليل من أبطال الثورة العربية رموز الحيوية الثائرة والخبرة القادرة والإرادة الحكيمة. جاهدوا حتى تحرر الوطن، ونادوا حتى استيقظ المجد، وأسسوا حتى بني الشباب. ثم قضى وقضوا شهداء في سبيل العراق الخالد، ولا تزال أرواحهم الطاهرة تشرق في جوه، ودماؤهم الزكية تعبق في صعيده.
وكان الملك غازي الأول سقى الله بالرضوان ضريحه، قائد الجيل الذي نشأ معه على قوادم الصقر القرشي الجبار؛ فكان من طبعه الموروث - مهما أبطأ نمو الريش أو أرعد عليه الأفق - أن يرتفع بشعبه الطموح الناهض. وكان بشبابه الفتيان الواعد عنوان الأمل المعقود على فتوة العروبة في توثيق العقدة وتحقيق الوحدة، ثم كان بأريحيته العربية وسماحته الهاشمية نموذج الحكم الرضيِّ الرفيق الذي تسود في عهده الشورى، ويخصب في ظله الفكر، وتعز في كنفه الديمقراطية. فلما صرعه القدر هذه الصرعة القاسية ارفضَّ لهولها صبر الشباب والكهول من العرب، لأنه كان في رأي هؤلاء سر الماضي وذكرى يقظته، وكان في نظر أولئك رجاء المستقبل وروح نهضته.
نعم كان فيصل الرجل، وكان غازي الشباب! وما آلم الإخبارَ بالكون الناقص عن الكون(306/1)
التام! ولقد كان الظن بالأيام أن تُبقي على فرع الحسين النابت على دجلة حتى يستغيل ويتشعب؛ ولكن أعاصير الخطوب كانت أقوى من منى القلوب وأصدق من أحاديث الأنفس؛ فلم يبق من أرومة فيصل الحرة إلا غُصنَةٌ غضَّة النبات تميل حزينة على الجذع المحطم، كما تهوِّم الزهرة الوحيدة على القبر الموحش!
وا رحمتا للوليد المليك! كان له بالأمس صديق لا يخلق الله من نوعه غير واحد لكل. وكان هذا الصديق يقبس نور عينه من نوره، وسرور قلبه من سروره، وغبطة حياته من غبطته؛ ثم لا يرى وجوده كاملاً إلا به، ولا عيشه سعيداً إلا معه. فهما متلازمان كطيفي الجمال والحب، يتجولان يداً في يد بين رياض القصر، أو يتنزهان جنباً إلى جنب في أرباض المدينة، ويوزعان هنا وهناك البسمات الحلوة والتحيات الطيبة على حواشي الطريق أو في مماشي الحديقة، ثم يعودان إلى الأسرة الملكية بالرخاء الطلق والأنس الشامل، فتشرق غرقاتُ القصر السعيد بسناً باهر من جلال الملك، وجمال الطفولة، وعطف الأبوة، وحنان الأمومة، وأمان القدرة، ضمان الغد بالسطوة والثروة والولد!
وا رحمتا للمليك الطفل! أصبح اليوم وحيداً في القصر المظلم والعراق الحزين كأنه بصّة الأمل في القلب اليائس، أو ومضة المنارة في البحر المضطرب؛ ينظر فلا يرى الوجه المتهلل الذي كان يهش له، ويصغي فلا يسمع الصوت الحنون الذي كان يهتف به، ويمشي فلا يجد اليد الرفيقة التي كانت تمسكه، ويسأل فلا يجد اللسان الحلو الذي كان يجيبه، ويجلس على المائدة فلا يرى الفم الباسم الذي كان ينادمه!
أين أبي يا أماه؟ لقد خرج في الصباح من غير أن يسلم على وليده، ولم يعُد في المساء ليقبّل وجنة وحيده!
أين ملكي يا خالاه؟ لقد اختفت السيارة والموكب، وذهب الأمناء والحرس، وغاب الوزراء والقادة! ما لي لا أرى الناس إلا من وراء السواد؟ وما لهم لا ينظرون إليّ إلا من خلال الدموع؟ فهل غيبة أبي هذه الفترة القصيرة تجعل الناس غير الناس، والدنيا غير الدنيا؟
ثم وقف المليك الطفل ساهم الوجه حالم النظر، يسأل فلا يجاب، ويفكر فلا يدرك، ويبحث فلا يجد، وينتظر فلا يلقي، حتى أعياه الأمر فأستسلم لشواغل الطفولة، واستنام لوعود الحاشية، وراح ينشد أُنسه الوقتي في صحبه خاله، ريثما يعود إليه أُنسه الدائم بعودة أبيه!(306/2)
ولكن أربعين صباحاً وأربعين مساء مضت ثقيلة الأطراف موحشة العشايا مظلمة البُكَر، والصديق لما يعد إلى الصديق، والوالد لما يسأل عن الولد! واستيقظ فيصل الصغير الكبير من نومه القلق وحلمه المزعج، فوجد ظهره يبهظه عبء فادح، وجبينه يعلوه تاج ثقيل؛ وأبصر حواليه فوجد مهده الذي كان ينام فيه قد عظم حتى عاد عرشاً، وقصره الذي كان يلعب به قد أتسع حتى أصبح وطناً، وأباه الذي كان ينتظره قد تعدد حتى صار أمة!
احمد حسين الزيات(306/3)
ابن الشارع. . .
للدكتور محمد البهي
بائع الصحف. . .
وبائع (اليانصيب). . .
والذي يقفز إلى (الترام) أو إلى (الأوتوبيس) ليقدم لك بضاعته التي لا تساوي كذا. . مليما. .
والمتسول الملح في سؤاله. . . وحامل صندوق (الورنيش) الذي يزعج المار والجالس بصوت فرجونه وترديد ندائه. . .
وجامع أعقاب السجائر. . . و. . . و. . . أبناء الشارع
الشارع إذاً معرض لكثير من الحرف والمهن، وسوق لعدد وفير من العارضين بضاعتهم التي إذا قومت فلا تقوم إلا بثمن زهيد، ويعرضونها في إلحاح ومذلة، ولكن في صبر وجلد ما الذي حمل هؤلاء على أن يدفعوا بأنفسهم في هذا السبيل؟ سؤال يلقيه على نفسه من يحضر لمصر للتنزه أو لدرس حالتها الاجتماعية، ويلقيه كذلك المصري دقيق الملاحظة. هل حملهم على اعتساف هذه الطريق الربح من غير تعب؟ لا أظن ذلك، إذ أن التعب شديد والربح ضئيل، وبعبارة اقتصادية العمل كثير شاق والإنتاج قليل الأثر، أي شيء إذاً؟ ألميل إلى (حفظ البقاء؟) وهو - كما يقول علماء النفس - أساس كل الميول الفطرية أو أساس لكل التصرفات النفسية غير الإرادية.
ربما يكون لك باعثاً لهم على السعي لجلب القوت فحسب. ولكن لماذا تحتم أن يكون الشارع ميدان الكفاح؟
هذه ظاهرة اجتماعية مزدوجة: تنم أولا عن شدة الحاجة من جانب (ابن الشارع) واستباحته الطرق والميادين العامة ومركبات النقل وإزعاج الراجل والراكب كوسائل لسد هذه الحاجة ودفعها، وثانياً عن مقدار الرعاية من جانب الحكمة لأفراد الأمة، أو عن مقدار اتجاهها نحو المصلحة الشعبية وبعدها أو قربها من المنفعة الشخصية.
كثير من الناس يلوم (ابن الشارع) ويزجره لأنه في نظره قد انتهك حرمات الغير بإزعاجه، وأساء استخدام المنافع العامة التي يجب أن تبقى مضمونة من العبث.(306/4)
وكثير من الناس كذلك تدفعه العاطفة الإنسانية أو الرابطة الأخوية، رابطة الدم والوطن، إلى إجابة (السائل) أو مساعدة (جامع أعقاب السجائر) أو على الأقل إلى تأثره لحال (ابن الشارع) على العموم غير ناظر إلى ما يأتيه من أعمال لا تتناسب مع مظهر الجماعة المهذبة من البشر، بل بالعكس هو لا يرى فيها جرماً اجتماعياً ولا خلقياً من جانب فاعلها لأنه مرغم على فعلها، ليس من مرغم له - في نظره - غير حكومته.
فليست غاية الحكومة - في رأي هذا الأخير - فرض الضرائب وجمعها، ثم توزيع ما جمع منها على جماعة من أفراد الأمة، وهي طائفة من الموظفين كان المبدأ الحزبي أو العصبية والمحسوبية أساس اختيارها؛ لأن هذا معناه استغلال فئة خاصة لثروة الشعب من طريق هو أميل إلى الخداع منه إلى تعويضه عن ذلك بعمل إيجابي. وإنما غاية كل حكومة رعاية المصلحة العامة وضمانها لكل فرد سبل العيش بتنظيمها ثروة الأمة، وإنتاج الشعب، ولها مقابل ذلك طاعته لما تفرضه عليه من قوانين أو التزامات، وعلى مقدار تهذيبها للفرد وعنايتها به تكون درجة إنتاجه الذي هو جزء من الإنتاج الشعبي العام.
رأيان إذاً في تكييف هذه الظاهرة الاجتماعية وشرحها، وبينهما فرق كبير. فابن الشارع إما مذنب في نظر العرف الاجتماعي أو على حسب مقياس أخلاق الجماعة، وإما بريء لأنه بعمله هذا قد استخدم حقه الطبيعي، وهو رعاية نفسه بنفسه حفظاً لبقائه بعد تحلله من رابطة الجماعة تحللاً نفسياً، لأنه شعر ووقر في نفسه كذلك عدم فائدة تلك الرابطة له. فليس ما يأتيه إذاً من إزعاج الغير وتجاوز الغاية المعروفة من الطرقات والميادين العامة منكراً؛ وإن جاز أن يعده قانون الجماعة منكراً، ولكنه اصبح لا يعترف به.
قد يكون هذا شرحاً لتلك الظاهرة من الوجهة الخلقية. وهو أيضا له أثره في الناحية القانونية. فالذي يرى براءة ابن الشارع هذا لا يعترف نفسياً بعقوبة القانون الذي يحاكمه على مباشرته لعمله (الطبيعي) وإن كان يتقبلها على أنها ظلم حل به.
وعلى ممر الأيام سيعتقد بما آمن به بعض قدماء الإغريق من أن (القانون الوضعي جعل لرعاية المصالح الذاتية، مصالح الولاة والحكام، مصالح الأقلية القوية الحاكمة ضد الرعية التي هي أكثرية ضعيفة). وإذاً فعقاب (ابن الشارع) على ما يأتيه مما ظاهره منكر من جانب واحد وهو جانب العرف الاجتماعي اضطهاد لوجوده أو هو عمل على فنائه.(306/5)
ولكن هل هذا هو ما يشعر به حقاً ابن الشارع أو المنتصر له الذي يعطف منه أو تصدقه عليه؟ قد يكون؛ ويغلب أن يكون ذلك لأنك لو سألت ابن الشارع لماذا لا تعمل عملاً منتجاً أكثر وأحسن من هذا لأجابك على الفور: أين؟ وأي شيء هو؟
وما دام يسيطر عليه مثل هذا الشعور فقلما يكون منه احترام للقانون العام الذي هو قانون الجماعة، وقلما يعرف حرمة لعلاقته بغيره، وقلما يميز بين (مشروع وغير مشروع) حتى تشعره الحكومة بالرعاية وتعترف بوجوده وتعبد له طرق الحياة الشريفة.
ولعل من يلوم ابن الشارع على عمله يلومه لأنه يرى أن حكومة الدولة لم تذخر وسعاً في تعميم تلك (الرعاية) فأنشأت الملاجئ للمعوزين، والمستعمرات الزراعية للأطفال المتشردين، ثم منعت التسول، ثم نظم صاحب السعادة محافظ العاصمة الشاذلي باشا، بائعي الصحف (واليانصيب) بتميزهم بقمصان زرقاء أو صفراء. . . الخ
والواقع أن التدابير التي تتخذها حكومتنا في معالجة المسائل الاجتماعية ليست مبينة على أساس، لان الذي يحملها على ذلك إما التقليد غير الموفق، أو الثائر الوقتي لأمر ما، وغالباً تكون الدعاية الحزبية.
ولن تأتي (تدابير) رعاية ابن الشارع بثمرة ما دامت الحكومة لا تأخذ بمبدأ التدخل في تنظيم الاستغلال والإشراف على الإنتاج العام.
وسيظل ابن الشارع غير مجزم في نظر نفسه؛ وسيظل تضرر الغير به ما دام يباشر عمله؛ وسيستمر هو في مباشرته حتماً حفظاً لوجوده وتلبية لغريزة حفظ البقاء.
محمد البهي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا(306/6)
من برجنا العاجي
من المسؤول عن فتور الحركة الأدبية الملحوظ في مصر؟ لا ينبغي أولاً أن نعلل ذلك بالحوادث الدولية، فإن الفتور كان دائماً موجوداً في جونا الأدبي قبل أن تنشأ هذه الظروف. ثم إن المشاكل السياسية وتأثيرها في النفوس والشعوب لم تحل في أوربا دون اهتمام الناس بشؤون الفكر وعناية الجمهور بالكتب والأدب، فما زالت الصحف الأدبية تتحدث هناك عن ظهور الكتب الجديدة والأدباء الجدد بعين الحماسة التي تتحدث بها في كل زمان. وما زالت المسابقات الأدبية والجوائز السنوية تهز الناس وتثير نشاط الكتاب كما تفعل في كل حين فأحداث السياسة مهما عظم خطرها لا يمكن أن تشل في أي بلد متحضر حركة الفكر والفن فيها. فالأمة الراقية شأنها شأن الإنسان الحي مهما عرضت له من الحوادث فإن رأسه دائماً هو الرأس اليقظ الذي لا يني عن التفكير.
إذن ما بال هذا الرأس في بلدنا نائماً؟ وما بال الناس لا يشعرون أن في مصر أدباً يتحرك ويتطور؛ وان فيها أدباء يعملون وينتجون؟ ما يكاد يمضي شهر حتى تخرج المطابع كتباً في الشعر والنثر، وما يكاد يمر يوم حتى يجيئني البريد بكتاب جديد أو بديوان شعر جديد. كم من الأدباء الجدد والكتاب الناشئين يخرجون عندنا في كل عام أعمالاً جديرة بالكلام؛ بل كم من الأدباء الناضجين ينشرون آراء خليقة بالمناقشة؛ ولكن كل شيء يمر في فتور كأنها نسمات في مدينة الأموات. ما العلة؟ العلة بسيطة. ما من أحد في هذا البلد يبدو علي التحمس الملتهب لشؤون الفكر والأدب. إن علة الفتور هي الأدباء أنفسهم. إنهم في ميدان الأدب أقل نشاطاً منهم في ميدان السياسة مثلاً. إنهم يكتبون في الأدب وكأنهم ناعسون. إن أقلامهم لا تثير في جو الفكر حراكا. وهنا الفرق بين أدبائنا وأدباء أوربا. إنهم هناك في يقظ أدبية ومن كان في يقظة استطاع أن يوقظ الآخرين.
توفيق الحكيم
طريق علاج المشكلة
وبعد. . . يا أيها الأغنياء؟!
للأستاذ علي الطنطاوي(306/7)
ألم يأنِ لكم أن تخشع قلوبكم، وتلين أفئدتكم؟ أفقدت من حجر؟ إن آيات (الزيات) البينات تلين الحجر، فما لقلوبكم ما رقت ولا لانت؟ إلا تكلفون نفوسكم تحريك أجفانكم وفتح عيونكم لتروا صرعى البؤس، وضحايا الفاقة، ماثلين لكم في كل سبيل، فتأخذكم بهم رحمة الإنسان، وتعرو قلوبكم لهم رقة المؤمن؟ أني لأحاول أن أفهم كيف تزينون لأنفسكم حالكم، وتبررون أعمالكم، فلا أستطيع. . . لا أستطيع أن أتخيل كيف يهنأ صاحب القصر بطعامه وشرابه، وكيف يدلل صبيته ويضاحك عياله، وعلى عتبة قصره، وتحت شبابيكه، صبية مثلهم برءاء، ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم جريرة، يبكون من الجوع ويشتهون قطعة من الرغيف الذي يلقيه الغني لكلبه السمين، يتمنون ويتمنى آباؤهم قرشاً من الجنيه الذي يرميه الغني في الهاوية الخضراء التي يسموها (مائدة القمار) أو يذيبه في كاس السم التي يدعونها (الشمبانيا) ثم يخرج جنيهاً غيره بعد لحظة ليتبعه الأول، ويتبع به عشرات. . . يتمنون هذا القرش الواحد ليعيشوا به يوماً، ويملئوا به بطونهم خبزاً، فكيف تضنون على الإنسان المسكين بالقرش، وتنفقون الألوف على الشيطان، وعلى خراب الأبدان والأوطان والأديان؟
إننا نقرأ في الصحف من أنباء أوربا وأمريكا أن لأغنياء لقوم مآثر وعطايا، ولهم في كل مكرمة السهم الراجح والقدح المعلّى، ونسمع أن فيهم من يعطي العطية وهو مستتر مستحٍ لا يحب أن يدعى باسمه، وإنما يتسمى من التواضع والحياء بـ (فاعل الخير). . . فما لأغنيائنا الذين يقلدونهم في عيوبهم ومثالبهم، لا تشبهون بهم في مزاياهم وفعالهم؟ وما لأغنيائنا دون أهل الأرض قد اختصوا (بفضيلة. . .) الترفع عن الفقراء، والتعالي على أبناء هذه الأمة التي انحدروا منها وبفضلها عاشوا، وإنكارها إنكاراً ظنوا معه أنهم من طينة غير طينتها، وأن الله صنعهم من الأسمنت حين صنع البشر من الطين، وأنهم أنباء ماء السماء والناس بنو (ماء الأرض. . .؟).
أكانت علة ذك أنهم شرقيون، وكان لسبب هذا الشرق المظلوم، المتهم بكل نقيصة؟
قد يقول ذلك المفتونون بالغرب من ضعاف الأحلام ومرضى العقول، في حين أن الكرم والإيثار بضاعة شرقية، من الشرق قد صدرت. . . ولقد بلغ بالعرب حب اكرم مبلغ الإفراط، وزاد حتى كاد ينقلب نومة يؤخذون بها، فكيف يستقيم في المنطق (مع هذا) أن(306/8)
يكون هؤلاء الأغنياء بخلاء لأنهم شرقيون، أو لأنهم عرب؟ وهذه عادات العرب، وهذا دينهم هو القانون الأوحد الذي يحل مشكلة الغني والفقير، والذي يرد عن العالم هذا الوحش الكاسر الذي جاء يحتويه بين فكيه اللذين هما الشيوعية والفردية، ويدعه أثراً من الآثار، فكيف تظهر مشكلة الغني والفقير في البلد الذي يدين أهله بهذا الدين؟
لا. ليست الشرقية علة هذه المشكلة، ولكن العلة كفر هؤلاء القوم بالشرقية ودينها وعاداتها كفراً لا يصلح معه تنبيه ولا بيان، وإنما يصلحه أن ينشأ أبناء هؤلاء الأغنياء الأشحة على الخير، الأسخياء على الشر، نشأة أخرى ينقلبون معها ناساً آخرين، ولا يكون ذلك إلا بالمدارس والأدب، ولقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق فصل (صف) فيه أبناء أفقر الفقراء، وأنباء أغنى الأغنياء، وكانوا في الفصل منفصلين. . . كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم يحملون كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة، ويدخلون الفصل مزهوين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون محسورين ملوعين. فما زالت (والله) بهم أبين لهم أن الفضل بالعلم والخلق والجد لا بالمال والثياب والمظاهر، وأضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبد العزيز ولنكولن والشيخ طاهر، وانزل بالأغنياء لأعلمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزة، حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كليهما تلاميذ نابغون ما كانوا لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلة الفقر وكبرياء الغنى واستبدلوها بعزة الكرامة وعظمة التواضع!
فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيسدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله أجراً، فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسمو عليه ابن الغني. وأنا (قد) أحمل ما أرى من صلف الغنى وأوهم نفسي انه قد كسب ماله بيده وجده فحق له أن يستمتع بثمرته، أما أن أرى الصلف من ابنه فلا. . . فيا أيها الأغنياء لا تحملوا أبناءكم على رقاب الناس، فأنكم لا تدرون كم عدواً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال، وتترفعوا بهم إلى حيث تبلغ أيديكم وأموالكم، حين(306/9)
تمكنونهم من أولئك الذين ساقهم الفقر إليكم، واضطرهم فكانوا لكم خولاً أو أجراء، فيشمخون عليهم بآنافهم الصغيرة ويذيقونهم ألوان الأذى، والطفل (في الطبع) لا يعرف الرحمة، ولا يدري ما العقل فكيف وهو ابن الغني قد ورث القسوة وتطبع عليها وقلد فيها أباه؟ وإنا لنرى نحن المدرسين من ذلك العجب. . . هذا تلميذ يأخذ كل يوم من أبيه ما يقيم أود أسرة من هذه الأسر الجائعة فلا ينفقه إلا في الشر، والمال يذهب من حيث أتى. . . رأيته يضن على رفيق له فقير بقرش يقرضه إياه قرضاً ليشتري به رغيفاً يتغدى به، ويشتري بسعة عشر قرشاً فرنّية (كاثو) يطعمها على مرأى منه لكلب له صغير مدلل يسوقه معه إلى باب المدرسة ثم يعود به الخادم في السيارة. وأبوه الغني يسمع بهذا فلا ينكره ولا يأباه. كأن الله قد خلق الناس بقلوب، وخلق هؤلاء بجيوب، فأبدلهم بالعواطف المال، فهم لا يحسون ولا يشعرون ولا يدركون أن الله ما نقص من مال الفقير إلا ليتخذ له في الآخرة إن صبر ذخراً، ولا زاد في مال الغني إلا لينظر أأعطى وشكر، أم بخل واستكبر، ثم لا يكون الغني إلا خازناً لهذا المال يحاسب به يوم القيامة فيشدد عليه الحساب. أفرأيت خازناً في مصرف أو شركة يطن أن المال ماله، فيخالف فيه أمر أصحابه، ويمنعه عمن هو حق لهم؟
المال أيها الأغنياء مال الله فإن زاد لم يمكن إنفاقه إلا على الخلق (عيال الله)، فأروني كيف تأكلون الذهب، وتلبسون (البنكنوت)، وتسكنون صناديق الحديد؟ أن هي إلا معدة تمتلئ بما يقذف فيها والجوع لها خير أدام، وجسد يستقر بما يلقى عليه والنظافة له أحسن حلية، وبيت يكِن من الحر والقر، ولذائذ محللة ميسورة، وما وراء هذا إلا أكل يفسد الهضم، أو وزناً يهد الجسم، وخمر تحر الأحشاء، وبلايا معها بلايا أخرى من عذاب الضمير والغفلة وضياع الإيمان، أو مآثر تنفع الناس، وترضى الله، ويجد صاحبها مكافأتها الاطمئنان والمجد في الدينا، والثواب من الله في الآخرة، وهذه حكمة واحدة من حكم الله في الغنى والفقر لو تدبرتموها لفتحت آذانكم فسمعتم كلمة الحق، وكشفت الغشاوة عن عيونكم فقرأتم في خلق الله وفي كتابه آيات الهدى، ولكن اللذاذات قد شغلتكم يا أيها الأغنياء الأغبياء!
على أنه ليس اشد على الفقراء من منع الغنى المترف صاحب الأطيان والمتاجر وبخله وصلفه وتبذيره. . . إلا الموظف الكبير الذي ينال وهو قاعد على كرسيه لا عمل له إلا(306/10)
تشريف أوراق الدولة بتوقيعه الكريم فينال الثمرة التي يتعب فيها الفلاحون، يجدون ويشتغلون في وقدة الضحى تحت الشمس المسعرة، وفي زمهرير الليل تحت النجوم التي ترتجف أشعتها من البرد، ليقدموا لهذا الموظف الكبير ثمن سيارته التي يسوقها ابنه خلال الحقول تياهاً مستكبراً، وقصره الذي يلوح بين بيوت القرية كالجبار العابس الباسر، وثمن كأسه المحرّمة ولذته المنكرة، ويذهبون فيأكلون خبز الشعير وينامون على الحصير. هذا الموظف الذي لا يكفيه وحده ما يدفعه أربعون من صغار (المكلفين) تباع فرشهم من تحتهم وقدورهم وثيابهم لتؤدي من تحتها الضريبة. هذا الموظف يستعلي ويستكبر ويقبض يده عن الإحسان ويبسطها في سبل السوء، ويتشبه بأولئك الأغنياء الأغبياء وقد يسبقهم في ذلك أشواطاً، ومن كان في شك مما أقول فليذهب إلى القرى والدساكر. . .
ولسنا والله شيوعيين ولا يرانا الله ندعو إلى هذه اللعنة (الحمراء) ولا نؤلب الناس بعضهم على بعض، ولكنا ندعو إلى (الشعور) الذي لا يكون الإنسان إلا به إنساناً، والإحسان هو شعبة من شعب الدين الإسلامي. . . فمن اختار من الأغنياء وأرباب المرتبات الضخام ألا يكون إنساناً ولا مسلماً فليفعل!
على أن ما قلنا ليس إلا صدى لمقالات الأستاذ الزيات التي تتجاوب اليوم أصداؤها في البلاد العربية، وفي الذي يقول الزيات بلاغ وزيادة.
(بغداد - الأعظمية)
علي الطنطاوي(306/11)
الفلسفة الصغرى للحياة
1 - كيف ينبغي أن نعمل؟
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
ترجمة الأستاذ صلاح الدين المنجد
هذه أولى خمس محاضرات ألقاها لثلاثة شهور خلت، الكاتب الاجتماعي الكبير (أندريه موروا) عضو المجمع العلمي الفرنسي، جلا فيها على القراء فن العمل، والتفكير والحب، والزعامة؛ وبين في إحدى المحاضرات كيف نسقى سعداء ناعمي البال، إذا خلا الشباب واشتعل الرأس شيبا.
وقد نقلنا هذه المحاضرات إلى العربية لما لافتة من إعجاب، ولما فيها من آراء ذات شأن.
(المنجد)
هل علينا من حرج إن ذكرنا ما يقوله المعجم عن (العمل) فناقشناه وبينا النقص الذي فيه؟. . . فإن حديثنا هذا ربما ملك علينا أمرنا فدفعنا إلى الإفاضة فيه. يقول المعجم: (العمل هو إنفاق جهد متعب لإتمام شيء). ولكن هذا التعريف ناقص غير واف، لم يكون الجهد متعباً؟. . . لندع المعجم إلى أربابه ولنضرب الأمثال: هذا صانع جرار يعمد إلى قطعة من صلصال فيسويها شكلاً يريده ويرضاه. وهذا حارث يشق الأرض ويذللها للزرع، فلا تلبث أن تهتز وتنبت الخيرات. وهذا كاتب قصصي يخلق كائنات يخلع عليها من عبقريته وخياله جمالاً، ثم ينضج فيها من روحه سحراً. . . مستمداً عناصرها من البيئة التي تحيط به فتملأ سمعه وبصره، فيأتي بأثر رائع لا يفنيه الحدثان.
فالعمل - كما اعتقد - هو تسليط قليل من التبديل والتحوير على العناصر التي نأخذها عن الطبيعة؛ مما يجعلها أكثر فائدة وأشد جمالاً. وهو كذلك دراسة القوانين التي يخضع لها ذلك التبديل، وتبيان حدوده ومداه.
ولقد عرف (باكون) العمل عند ما عرف الفن، فهو يقول: الفن هو الطبيعة مضافة إلى الرجل؛ أي هو ما نأخذه من الطبيعة، وما نضيف إليه من أشياء، يظهر فيها أثر تفكيرنا وعبقريتنا. والحق أن كل عمل يجب أن يكون فنا.(306/12)
وسأذكر بادئ الأمر القوانين التي لها صلة بكل عمل، ثم أفصل أحكام عمل الصانع اليدوي، وعمل المرأة في منزلها، والطالب في مدرسته، والفنان في مصنعه، والكاتب في مكتبه.
وعلى الرغم من وفرة الأعمال وتعددها، فإن هناك قوانين تصلح لها كلها. فاختيار العمل الذي نجد في أنفسنا قدرة عليه وحباً له، هو أول ما يجب أن نفكر فيه. فإن قوة المرء وذكاءه محدودان لا يتسعان إلا إلى مدى. والمرء الذي يريد أن يقوم بكل عمل لا يتقن شيئاً. ألا تنظرون إلى أولئك الذين أوتوا مواهب شتى؟ يقول أحدهم: لو أني عانيت الموسيقى لحذقتها. ولو أني عالجت السياسة لسار ذكري واستفاضت شهرتي. فكل عمل هين لديّ. إنهم يكونون من هواة الموسيقى لا من غواتها. . . ومن المفلسين في التجارة لا الرابحين منها. . . ومن الفاشلين في السياسة لا الناجحين. لقد كان يقول نابليون: إن فن الحرب يوجب أن يكون المرء قوياً كأشد ما تكون القوة، في مضمار واحد. وأنا أقول إن فن العيش يوجب أن يستهدف المرء في هذه الدنيا أمراً، فلا يزال يوجه إليه قواه، ويسخر له مواهبه حتى يظفر به. ولذا كان خطأ أن ندع للأقدار دائماً مصير عملنا في الحياة. فالحياة جهاد ونضال، ومن لم يعدّ نفسه لها فقد باء بفشل عظيم. . . يجب أن يسائل الرجل نفسه فيقول لها: ترى أي عمل أستطيع أن أكون له كفؤاً؟. أنظر إلى ميولك ومواهبك، ثم فكر طويلاً، في نفسك، وفي أبنائك؛ فإذا كان لديك ولد ذو بأس شديد وقوّة، فأرسله إلى الجيش، ودربه على الطيران، لأنه لا يصلح لأن يكون رئيس ديوان.
فإذا اختار المرء مهنة رضى عنها. . . فإنه واجد فيها أموراً لابد من أن ينتخب منها أمراً واحداً، ترضاه نفسه، ويقبله هواه. فالكاتب لا يستطيع أن يبدع الأقاصيص أو الروايات كلها، والسياسي لا يستطيع إدارة الوزارات جميعها. . . والمسافر يعجز عن اجتياز الأرض من شمالها إلى جنوبها. ولابد لنا من أن نكون في بعض الأحايين صماً لما تهمس به أهواؤنا في خاطرنا. . . فتسيطر على إرادتنا وتدفعنا إلى تنفيذ شيء. فكرّ طويلاً، وقدرّ كثيراً، فلديك الوقت المتسع، ولديك التفكير، وكن كقائد الجند الذي يقضي على كل شغب بكلمة واحدة يلفظ بها أمام جنوده. . . فيستمعون إليه وينفذون أمره. نفذ أمر إرادتك كما ينفذ الجند أمر قائدهم، وقل لنفسك: ما عسي أن أصنع في عامي هذا؟. أأصلح للامتحان؟(306/13)
أأطوف في البلاد. .؟ أأعمل في مصنع؟. . فكر طويلاً، وناقش آراءك نقاشاً هادئاً في زمن محددّ؛ واجعل لنقاشك نتيجة ترجع إليها، وتمضي في سبيلها، فإن التردد قاتل، والهوى مخيف.
فإذا اطمأن الرجل إلى عمله. . . فليتأت له، وليضع حيال ناظريه ما يستهدفه في سيره البعيد وهو واثق بأنه سيبلغ القمة يوماً، وإن عظم الجهد، أو طالت الطريق، لأن أول كل صغير كبير. . .
لقد جاء (ليوتي) إلى مراكش، فوجد بلاداً عاث فيها الساسة، لا رئيس ولا ذخيرة ولا مال. ولو أن من أتي إليها كان غير (ليوتي) لدب الرعب في قلبه، وسيطر اليأس على نفسه. ولكنه كان ليوتي العظيم. لقد بدأ بالمدن فجمع كلمتها، ووحّد صفوفها، وسخرها لما يشاء بما يشاء. ثم انتقل إلى البادية، فما زال يؤلف كلمة كل قبيلة، ويسيطر على كل نزعة، حتى بلغ ما أراد. . . بعد أن جهد طويلاً وتعب كثيراً. إن الحصار لا يحصد سنابل القمح. . . في الحقل. . . بنظرة، ولكن عوداً بعد عود. وإن منظفة الثياب لا تنزع الأوساخ عنها بلحظة، ولكن ثوبا بعد ثوب. . . والعامل الحق لا يهمه شيء، ولا يعرف الخيبة أو الفشل. . ويعلم انه سيبلغ ما يريد إذا اختار عمله، ثم قسمه، ثم مضى فيه. . . وويل للجبان. . .! يخاف كل عمل. . . فلا يعمل. أما الشجاع فهو الذي يستحق الحياة. .!
وأنا لا أعجب لشيء كعجبي لأولئك الذين يرسلون الشكوى من هذه الحياة وطولها. أنا أسألهم: هل يعيشون ثماني ساعات في اليوم؟ هل يعملون فيها عملاً حقاً؟ فإن الكاتب مهما كان هزيل القريحة إذا سوّد كل يوم صفحة واحدة يد في أيام شيخوخته تراثاً عظيما يجعله بين النابغين، كبلزاك وفولتير.
ولكن هل يكفي أن نجلس إلى المنضدة؟ ألا يجب أن نخضع لنظام في عملنا؟ فلا ندع عملاً قبل أن نفرغ منه، لأن اللذة بالعمل تتزايد تزايداً هندسياً إذا لم ننقطع عنه، وهذا الأمر حق عند الكاتب الذي يطلب وقتاً ينسى فيه العالم الخارجي ويتفرغ إلى أفكاره وآرائه، وهو أيضا حق عند الصانع أو الرئيس لكي يتقن العمل وينجو من شر المحيط.
وخليق بالعامل أن يبتعد عن البيئة الخارجية إذ ابدأ العمل، لأن هناك طفيليين لا يفهمون عنه ولا يشفقون عليه، فهم يتكلمون ويثرثرون، ولا يفكرون في أنهم لو تركوا من يتكلمون(306/14)
معه، لاستطاع القيام بعمل ذي شأن. فهؤلاء لا يزيدون المرء إلا ضراً. إنهم يسخرون منه، ويستهزئون به ثم يدعونه متحسراً على ما فات ضاحكين.
بوركت يا غوته! لقد أدركت الحقيقة من سنين وسنين. لقد قال: (يجب ألا تضيع وقتك مع أناس يأتون إليك دون أن تعلم. إنهم يفيدون منك عاماً ثم يدعونك. إن هذه الزورات لا تفيد شيئاً. إنها تفسد عليك آراءك، وتنقلك إلى عالمك الخارجي الذي هربت منه، بعد أن اصطفيت منه صوراً جئت لتخلع عليها مسحة من عقلك فتجعلها آية للناس. أنا غني عن أفكارهم فعندي ما يكفيني) وليحدد طرائق العمل، فإذا نظر فيما اختطه لنفسه بعد سنوات لقي كل شيء هيناً، فيثق آنئذ بقدرته ويرضى عن سعيه فلا يتقاعس، ولا يخلد إلى الراحة والهدوء. على أنه يجب أن نعلم الأشياء التي تطلب عملاً مباشراً كي نقوم بها ثم نتكل على خطتنا ونسعى وراءها بملء قلوبنا. وليكن قلبك وعقلك متجهين دائما نحو الهدف. فإذا أصبته يوماً استطعت أن ترج على خُطاك.
تتلمس الطريق على هدى وتنظر إلى العقبات التي اعترضتك فتستمد من ذكرى ظفرك بها قو لعملك القادم وأملاً لعيشك الجديد إن النوابغ يدأبون بشغف على العمل. فلا يدعونه حتى يفرغوا منه، ولا ينكبون على عمل آخر قبل أن يتموا الأول، وتكون عقولهم متجهة نحو طريق واحدة كما يقول المثل الأمريكي. وربما كان ذلك باعثاً على الضجر مسبباً للملل، ولكن ما أهناها ساعة يتغلب المرء فيها على العقبات، ويصل إلى هدفه ظافراً!
فإذا اخترت لنفسك عملاً، فانك تختاره حسب ما تستطيع أن تقوم به قواك، وتوصلك إليه مواهبك. ومن الخطل اتباع أمر لا نجح لك فيه. والفشل يشل القوى ويفقد النشاط. كان (غوته) ينصح للشعراء الشباب أن ينظموا قصائد قصاراً عوضاً عن ملحمة واحدة كبرى، لكيلا يفشلوا فيأسوا على ما فآتهم.
وكان صموئيل بوتلر يقول: (إذا أكلتم العنب، فابدءوا بما ينضج من حبّه) وجدير بالمرء في عمل صعب متشابك أن يجزئه إلى أقسام، ثم يعمد إلى كل قسم فيتمه. فإذا كانت أمامك طريق صعب طويلة تود أن تسلكها فقسمها إلى مراحل لأن من الصعب أن تمضي فيها وتصل إلى منتهاها في لحظات، ثم اقطع كل يوم مرحلة. . فلا تلبث إلا قليلاً حتى تجد نفسك في غايتك، دون إن تلغب نفسك أو تجهد جسمك. كن كالمصعد في الجبل الآمل في(306/15)
بلوغ القمة؛ إنه لا ينظر أليها دائماً لأنه منهمك في الخطوة التي سيخطوها. . . أما القمة فإن بعدها سحيق. . . يخيفه ويشل قواه إذا حدق فيه. . فليمض رويداً. . وعسى بالعامل الدائب أن يصل إلى مبتغاه.
أن تدوين تاريخ لأمة من الأمم منذ أيامها الخاليات إلى أيامها الحاضرات لعمل صعب يخافه الناس. . . لأنه يبدو من أعمال الجبابرة الذين سما مقامهم وعظمت قدرتهم. ولكنك إذا قسمته إلى عصور وبحثت في كل عصر فإذا فرغت منه انتقلت إلى آخر غيره، لم تلبث أن تجد يوماً عملك الضخم بين يديك فتقف متعجباً دهشاً. ثم يثبت القلب بعد التجاريب، وتدب الحماسة في النفس، ويستولي عليها الاطمئنان؛ فإن الكاتب الذي ألف كذا وكذا من الكتب لا يصعب عليه إتمام كتاب بدأه. إنه يجسر كما جسر (مارتان دوكارد) و (دوهامل) و (جول رومان) و (لا كروتيل) على وضع عدد عظيم مما لا أستطيع معه صبراً. . .).
وقال أيضا: (إن الذي يتوق إلى الخلود ويود إخراج آيات فنية رائعة لجدير به ألا يدع هواه يسيطر على نفسه).
يقول الطفيليون لك: أين أنت؟ إننا لا نراك! تعال غداً لنلهو أو لنصيب طعاما معا. . .! فقل لهم ولا تخش شيئاً لست بحاجة إلى لهوكم وغدائكم. . . فدعوني وحيداً. . .
وكان (غوته) لا يجالس أحداً إذا انغمس في الكتابة أو النظم. . . فإذا جاء إليه رجل على الرغم من خادمه العجوز أرسل يديه إلى ظهره ولاذ بالصمت وتكلم بحاجبيه وعينيه، فيمل الزائر منه. . . ويدفعه هذا الصمت القاتل إلى الهرب. أما رسائله فكان ينتزع منها ما فيه فائدة وعلم، ويرمي بالتي يطلب أصحابها منه شيئاً إلى النار ويقول: (ويحكم يا شباب هذا العصر، إنكم لا تعرفون للوقت ثمناً. . .).
يقول نفر من الناس: هذا غرور بالنفس واحتقار للزائرين. فكم رجال عظماء كانوا يجيبون على الرسائل! وكم طفيليين هم جديرون بالرحمة والعطف. ويغالي هذا النفر. . . فيصم غوته بأنه رجل غير إنساني. ولكني أسألهم: هل يستطيع رجل غير إنساني أن يبدع لنا (فوست) الخالدة أو يخلق (وليم مستر) الرائعة؟ إن من يهمل أمره. . . يأكله الناس. . فيمضي دون أن يترك لنا أثراً نفيد منه. . . والرجل الذي يحب العمل، ويجد فيه لذة(306/16)
ومتعة، ويقبل علي بشوق وحماسة. . . لا يريد إلا رجالا على شاكلته.
هو يساعد الناس. . . ولكنه يفر من الحديث السخيف، والثرثرة المخيفة. ولذا كان (غوته) ينصح أيضا للأديب أن يهمل حوادث يومه العامة، إذا لم يكن فيها ما يغذي خياله أو يهيج نفسه. فلشد ما نكون أغبياء، عندما تقضي ساعة من يومنا في الاستماع إلى أخبار الحرب القادمة، وساعة في نتائجها. . . وأخرى في أسبابها. . . ولم نتقلد بعد كرسي الوازرة، أو نحمل عصا القيادة، أو نمسك بقلم الصحافة. . . إننا نسيء إلى بلادنا. . . لأننا ننفق الأوقات فيما يضرنا ولا ينفعنا، فحياتنا قصيرة. . . وبلادنا ترنو إلينا على أن النظام الذي اتبعه (غوته) في عمله وخضع له، هو نظام الإحساس الرهيف. ونحن لا نستطيع أن ندع أحاسيسنا تسيطر على أنفسنا، فتعجزها عن العمل. انظروا إلى العامل البأس الذي غدا إلى عمله، وترك ابنه في داره، فيعالج الحمى. . . فالفكر التي تملأ رأسه تغشى على سمعه وبصره، فيخلد إلى الأحلام. . . وتحف به الطيوف السود والأشباح المرعبة. وربما أمسك بالقلم ليخط رسالة. . . ولكنه يبقى صامتاً حيران. . . أمام ورقته البيضاء. . . تفر منه الكلمات. . . ويلتاث عليه الكلام
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(306/17)
أعلام الأدب
يوريبيدز
لغته. فنه. وطنياته
للأستاذ دريني خشبة
أعظم الآثار الفنية في عالم الآداب هي تلك التي لم يستطع أحد إلى اليوم نقلها من لغته إلى لغة. . . فالقرآن مثلاً لا تعرف قيمته الفنية إلا في اللسان الذي نزل به، وقد فشل الكثيرون في ترجمته ترجمة فنية سائغة تحتفظ ولو بالقليل جدا مما اختص به أسلوبه القوى البارع المسبوك المتين من بلاغة واتزان وموسيقى وشدة أسر. . . وكذلك الإلياذة والأوديسة والأنييد وفردوس ملتون. . . إنه لا توجد لهذه الآيات الأدبية الفنية البارعة ترجمات تعادلها فيما امتازت به من خصائص لُغَاها التي ألفت بها، فما تستطيع الترجمة إلا أن تشوه جمل الأصل وتمسخه مسخاً. . . ومثل هذا يقال في درامات يوريبيدز، فإنه لم يستطع أحد ممن نقلوها إلى لغاتهم أن يحافظ على روح الشاعر العظيم وقوة بيانه. وهذا شللي أحد عباقرة الشعراء الإنكليز وأحد المعجبين بيوريبيدز والمتمكنين في اللغة اليونانية القديمة. . . لقد أحصى له النقاد أخطاء كثيرة في ترجمته درامة السيكلوبس. . . ثم عدوا له ضروباً من الشطط ابتعد بها عن الشاعر العظيم. . . ولقد كان شللي معذوراً من غير شك، فلقد بلغ يوريبيدز الذروة بالبيان الأتيكي واللغة الاتيكية. وقد كان مثل أبي الطيب في الشعر العربي، ارتفع ثم ارتفع، فلما مات لم يخلق الله له ندا يحلم بمرتبته في الشعر والحكمة. هذا ولقد أوتي يوريبيدز أضعاف ما أوتيه أبو الطيب من قوة الأسلوب وعمق التفكير، لا في بيت، أو مقطوعة، أو قصيدة، أو مرثية أو مدحة؛ وإنما في درامة طويلة فيها حوار وفيها خطاب وفيها غناء وفيها بكاء وفيها تدبير وفيها تصور لحادثة متشعبة، هي كالكائن الحي، يملأ المسرح، ويملأ الآذان، ويملأ الأبصار، ويملأ القلوب.
أنهت الدرامة بعد يوريبيدز في تاريخ الأدب اليوناني. . . هكذا يقول المؤرخون. . . وهم يقصدون الدرامة العالية ذات الفن الرفيع. . . وقد عاش يوريبيدز يؤلف للمسرح قرابة خمسين سنة، ومع ذلك فقد عاش غريباً في قومه، بغيضاً إلى غالبيتهم المغيظة المحنقة(306/18)
لشدة ما ثار بتقاليدها وسخر من أفهامها. . . فلما مات. . . أخذ يعيش بأدبه العالي من جديد، وأخذ يخلب القلوب ويسحر الألباب بدراماته التي نيفت على التسعين، والتي ظلت تمثل بعد موته ستمائة سنة أو يزيد، والتي ظلت شغل النحويين واللغويين من علماء الأمم المختلفة في اليونان وفي رومة وفي بيزنطة إلى ما قبل ألف سنة من الزمان. . . فما نجد لغويا من مؤلفي المعاجم إلا وهو يستشهد به في أكثر ما يستشهد على صحة كلمة أو سلامة تعبير على نحو ما يستشهد مؤلفو القواميس عندنا بأشعار الجاهلية والقرآن الكريم.
ومع هذه المرتبة الرفيعة في اللغة فلم يستحدث يوريبيدز شيئاً ذا بال من وجهة الفن المسرحي، بل هو قد أخذ ما استحدثه سوفوكليس دون أن يغير منه شيئاً. ويبدو أن اشتغاله بالفكرة العميقة واستعراض الآراء السيكلوجية التي استحدثها في أكثر دراماته، والتي لم يعرضها تاريخ المسرح قبله، ثم استعراض الآراء الفلسفية التي طبعها فيه أساتذته، وأصدقاؤه السفسطائيون، ثم عنايته الشديدة بالصوغ الشعري، وتجويد أغاني الخورس، كل ذلك حال بينه وبين التجديد المسرحي الفني، أو ما يعنون به (تكتيك) المسرح من وجهة الشكل لا من وجهة الموضوع.
على أن ليوريبيدز مع ذلك خصائص ميزته من أقرانه، ومن أهمها تلك المقدمات الطويلة الطلية الاستهلالية التي يهيئ بها الأذهان لمشكلته الدرامة والتي يقصها بلسان شبح كما في (هيكوبا) أو بلسان إله كما في (هيبوليتس) أو بلسان أحد أشخاص الدراما كما في (هيلينا). . . الخ. . .
وليس يعترض على ذلك بأنه لم يتبع تلك السبل (إفجنيا أوليس) لأنه لم يكمل هذه الدرامة كما أسلفنا بل أكملها غيره، وربما بدله غيره أيضا.
ومن ذلك أنه كان يحل عقدته الدرامية في اللحظة الأخيرة بظهور شبح أو إله أو سرد نبوءة، فيظهر ما كان مطوياً عن الأفهام، وهو ما يسميه نقاد الآداب الكلاسيكية - أو (إله من الآلة) أو تسخير إله لغرض درامي كما تسخر الآلة.
وكان ارسطو يكره ذلك في درامات يوريبيدز، وإن كان سقراط من قبله لا يرى في ذلك ما يعاب به الشاعر - والحقيقة التي اتفق عليها نقاده، وفي مقدمتهم الدكتور فيرال إن هذا أشق عيوب يوريبيدز بالإضافة إلى طول جواره الذي يجعله إلى الخطب الرنانة اقرب منه(306/19)
إلى الحوار المسرحي، فقد يطول ما يلقيه الممثل الواحد في القالة الواحدة عن صفحتين أو ثلاث، وهذا ما كان يسخط ارسطو، وما يزال يسخط مترجمي يوريبيدز.
هذا، وينبغي ألا ننسى له براعة تنقله بالنظارة من المشهد إلى الآخر وما يثيره فيهم من الشغف والشوق والتشوف لما بعد. . . ثم ينبغي كذلك أن نذكر أن أجمل الأغاني - ولاسيما أغاني الحب - هي ما نظم يوريبيدز.
أما ما يعيبه بعض النقاد على الكورس في دراماته وعدم قيامه بما جعل الخورس له في سائر الدرامات اليونانية من وصل للحوادث وتمهيد لما يجيء بعد ثم شرح لبعض الوقائع الطويلة التي يتيسر تشخيصها على المسرح، فهل قول مردود لأن الذي صنعه يوريبيدز وحصر به مهمة الخورس في الموسيقى والغناء وسمو منه بوظيفة الخورس، واختفاء ظلاله خلابة من لذة الألم في المشاهد المشجية وجمال الاتعاظ في مشاهد العِبر، وتذوق الجمال في المشاهد المنتزعة من صميم الطبيعة. . وعلى هذا فقد قصر يوريبيدز خورسه على إلهاب الشعور وإذكاء الحس بالموسيقى التي تتفق وكل مشهد من المشاهد، والغناء الذي لا يجيء (نشازاً!) كما نشهد في بعض دراماتنا العصرية.
وطنيات يوريبيدز
لم يتأثر شاعر يوناني بروح بركليس كما تأثر به يوريبيدز، ولم يبد هذا الروح واضحاً جلياً في أدب شاعر كما بدا واضحاً جلياً في كثير من دراماته. . لقد سمعه يخطب قبيل حرب البلوبونيز الأولى وهو يشيد بمناقب أثينا وما حملته من قسط عظيم في تأريخ اليونان حينما حررت شعوبها من أربقة الفرس وتعرضت وحدها للدمار والحريق حتى إذا ظفرت بعدها وطهرت منه البر والبحر عادت تنشئ لجميع الشعوب الهيلانية حضارة رفيعة قوامها الديمقراطية والفن والأدب والفلسفة. . . ثم قال بركليس كلمته الخالدة التي أوردها في تلك الخطبة: (لم لا تحدق الشعوب والقبائل اليونانية كعصبة من العشاق المعاميد حول أثينا؟) ثم ذكر ما لأثينا من الفضل في التعريف بالفضيلة ونقلها من حيز النظريات إلى عالم الدولة ومعائش الشعب وسياسته العليا، وقد خاض يوريبيدز معظم حروب البلوبونيز (بين أثينا وإسبرطة) وكان حظ الوطن يعمر فؤاده بالإيمان، وكان يحزن أشد الحزن لهذه المجازر التي تنشب لأسباب تافهة بين شعبين شقيقين وإن تكن الحرب في(306/20)
الحقيقة بين ديمقراطية أثينا وأتوقراطية إسبارطة. . . وقد كان يوريبيدز من أنصار السلام آخر الأمر وإن يكن قد ظل جندياً من سن الثامنة عشر حين اعتبر رسمياً (إفيبوس) أي شاباً لائقاً للجندية إلى أن بلغ الستين. . . وقد أثار عليه ميله للسلام حفائظ مواطنيه، تلك الحفائظ التي منها ما عرفنا من ثورته على التقاليد السلف وما كان يتناول به النساء في دراماته من تحليل ودفاعه السيكولوجي عن الزناة والقتلة وجنايات المأفوكين، وما سنعرفه عنه في هذا الفصل من سخريته بالآلهة وتجديفه في دين الإغريق ورمي أرباب الأولمب بأقسى التهم وأفتك سهام التجريح. . . لكن يوريبيدز مع ذلك كان يحب أثينا لأنه كان لا ينسى إذ هو طفل والأثينيون ينقلون إلى سلاميس العجائز من الرجال والنساء والأطفال - وهو منهم إذ ذاك - والفرس البرابرة يحرقون القرى والمعابد على الشاطئ فتندلع ألسن النيران لتكتب في صفحة التاريخ وقائع هذه الحرب بحروف من نار. . . لم يكن يوريبيدز ينسى هذا المنظر الفظيع، ولم يكن يربح ذهنه بعد إذ شب أثينا الضعيفة الديمقراطية قد انتصرت على فارس القوية المستبدة، وأن الأثينيين القليلين الجياع قد انتصروا ذلك النصر لأنهم كانوا غير معتدين على أحد ولا طامعين في ملك أحد. . . ولأنهم (أحرار أيها الملك، ولكنهم غير أحرار في عمل أي شيء، لأن لهم سيداً واحداً يخض له الجميع يدعونه القانون!) كما قال أحد الإسبرطيين لعاهل الفرس أجزرسيس وهو يسأله لماذا لا تفر هذه الحفنة القليلة من الناس أمام عسكره اللجب الكثير!
هكذا أحب يوريبيدز وطنه أثينا الذي أشاد به في كثير من دراماته. وهكذا أحب يوريبيدز الديمقراطية، لكنه سخط على الديمقراطية جميعاً حينما ثار وطنه عليه مع أنه من أعظم أسباب رفعته، وحينما رأى الديمقراطية ترفع الأوشاب وتُكوّن منهم زعماء الشعب فيتحكمون في السادة الأخيار من رجال الذهن والخلاصة الصالحة من نجباء الأمة ثم يظل هؤلاء الأوشاب محترفي سياسة، وموضع تقديس الرعاع والدهماء؛ والويل كل الويل لمن يجرؤ أن ينقذهم بكلمة ولو كانت كلمة الحق، أو أن يرسل فيهم لساناً ولو كان لسان الصدق. . .
من وطنياته في ميديا
حينما لقي جاسون زوجته ميديا بعد إذ كشفت سره دار بينهما حديث طويل فيه مرارة وفيه(306/21)
ثورة وفيه جائحة من السباب والشتائم والتعبير صبتها ميديا على رأس جاسون الذي خدعها وغدر بها ولم يذكر ما صنعت في سبيله يجزها جميلاً بجميل:
جاسون:. . . كيف تزعمين يا امرأة أنني لم أجزك على ما قدمت إلى من جميل؟ لقد أخذت أضعاف أضعاف ما أعطيت! لقد نقلتك من أرض البربرية الخبيثة إلى فراديس اليونان ألفياحة، حيث عرفت لأول مرة جمال العدالة، وبهرك سلطان القانون فأقلعت إلى حين عن وسائلك الوحشية. . . وها قد ذاعت حكتك بين جميع الاغريق، ولو تلبثت بين عشيرتك لما عرفك ولما أحس بوجودك أحد، بل لم يجر ذكرك على لسان!!
ومن هذه القالة نفسها في ذم النساء:
(إنك لا تعذلينني هذا العذل إلا لأن نفسك مقروحة من غريمك؛ ولكن هذا دأبكن جميعاً يا بنات حواء، إذا طابت أهواؤكن في أكناف أزواجكن فقد تمت نعماؤكن، فإن لفح مهاد الزوجية لافح من سوء حظكن فقد تبدلت الحال غير الحال وانقلب كل ما كان خيراً فأصبح شراً مستطيراً. . . كم كان خيراً للإنسان أن يستطيع النسل بطريقة أخرى غير طريقة النساء!! ثم ما كان أجمل ألا يخلق جنسكن؟! إذن ما حاق بنا شر ولا عرف وجه الأرض موبقة من الموبقات!!)
ومن أغاني الخورس في تمجيد أثينا ص97 نقتطف هذه السطور:
(يا أبطال شعب إركتيوس! يا أنسال الآلهة. . يا من يطعمون ثمار الحكمة الناضجة، وينشقون ألطف أنفاس النسيم، وينعمون أبداً بالسماء الصافية، ويضربون في تلك الدروب المأهولة حيث كانت عرائس بييريا ترطب أرواح الآباء بطهر المسرة وتلقن آلهة الألحان كيف تتغنى قصتها الأولى)
والسطران الأخيران من الفقرة الثانية من ذاك الخورس نفسه: يخطر الحب في مهرجان الحكمة في ناديك، وتُدل كل فضيلة وتختال حين تؤثرها آلهة الجمال برعايتها التي تنميها وتشيع فيها المجال!)
أطفال هرقل
عندما مات البطل العظيم هرقل (هركيولز) استبد ملك آرجوس بزوجه وأطفاله، وظل يسقيهم من الهوان ألواناً حتى اضطروا إلى الفرار من راعيهم يولوس. . . وقد رفضت(306/22)
جميع الممالك اليونانية إيواءهم خوفاً من بطش ملك آرجوس حتى ينتهي بهم المطاف إلى المدينة الحرة أثينا فيعطف عليهم ملكها الشجاع الذي يوبخ قائد الأرجيف الذي جاء يقص أثرهم ويعود بهم إلى آرجوس. . . ويثور القائد ويهدد بإعلان الحرب على أثينا في الحال إن لم يُسلم ملكها (ديموفون) الفارين من الأرجيف. لكن الملك يثبت كالصخر وينتهر القائد، لأنه لا يخاف الحرب من أجل المحافظة على الكبرياء الوطنية، ولأن الذي يلوذ بأثينا فإنه آمن، لأنه يلوذ بالمدينة الحرة.
القائد كربيوس: إذن يهرع الأشرار من كل مكان ليلوذوا بأثينا؟
ديموفون: هذا الهيكل حل لكل لاجئ!
القائد: سيرى أولو الأمر في مسينا غير ما ترى؟
الملك: أولست ملك هذه البلاد إذن؟
القائد: فلا تجر على رؤوسهم الويل بسوء عملك!
الملك: أفأنت تعد ما أرفض من استباحة هياكل الآلهة سوء عمل؟
القائد: لست أحب لك أن تجازف بحرب ضد الأرجيف!
الملك: أنا قرينك في محبتي للسلم وتعلقي به، لكني مع ذلك لن أخيب رجاء هؤلاء المساكين!
القائد: بيد أنني مكلف بالقبض على من هم منا!
الملك: إذن فلا تحسب أنك ستطيع العودة إلى آرجوس بسهولة. . .
القائد: سأجرب لأعلم ما وراء التجربة!
الملك: إذا خيل لك أنك قادر عليهم فستندم على مجرد مسهم!
ويستمر الحوار على تلك الوتيرة ثم يمضي القائد ثائراً مرعداً وتعلن الحرب! والدرامة تكبر من أساليب الديمقراطية في الحكم وتسفه الوسائل الاستبدادية فيه.
وفي درامة (نسوة متضرعات) التي تدور حوادثها على توسل نساء الأرجيف لدى قادة أتيكا في رد جثث أبنائهن قتلى الحرب بين أثينا وآرجوس، منظر وطني رائع بين قائد طيبة وملك أثينا. . .
فإن القائد يدخل متقحماً سائلاً: (من الحاكم بأمره في هذه البلاد؟). فيصبح له الملك خطأه(306/23)
ويجيبه: (ليس هنا حاكم بأمره يا صاح. . . إن هذه لمدينة حرة. . . وإذا قلت مدينة حرة فإني أعني أن كلاً من أفراد الشعب يأخذ في دوره بنصيب في الملك، وليس للأغنياء عندنا من دون الفقراء امتيازات ما!) وليوريبيدز درامات وطنية مفقودة نظمها قبيل حرب البلوبونيز الأولى أو عقبها يطول بنا البحث إذا تناولناها هنا فنكتفي بالإشارة اليها، وبحسبنا أن نذكر منها درامات إيجيوس، وثيذيوس،، وإيرختيوس.
دريني خشبة(306/24)
الحاجة
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
أيتها الحاجة التي طالما حسبتها عدوتي الكاشحة، أنت أيتها السيدة الجافية ذات المحيا الشتيم المكفهر لقد أصبحت أعرف جيداً الآن وقد عز اللقاء بيننا، أنك كنت لي صديقة عزيزة، بريئة مما رميتك به من اللائمة منزهة عما عرضته لك بالنكير. . . حقا إن أفضل ما قمت به من الأعمال وأبرع جولات خيالي المجنح، قد كانت من فيض وحيك.
وقد أهاب بي صوتك القوي الحازم، إلى ركوب ظهور العوائق، وتخطي رقاب الموانع، كما أقدم بي تحضيضك، على حسن السعي وشحذ عزيمتي على الجد والكفاح.
وأغراني بأن أضرب للحياة جأشاً، وأثبت للوجود عقداً ولولا ما كنت تنفحينه في من روحك لخمدت تلك الجذوة المحتدمة في طين نفسي.
ولولا مهمازك الحاد الذي لم يدعني ألوي عنان السير عن عقلة، أو أنكل لحظة عن خظة، لما عرضت مدى قوتي وحددت جهد طاقتي ولولا سيادتك القاصرة على حياتي وما ألجأتني إليه مراراً من، حمل الأعباء، والنهوض بالبزلاء، والتسامي عن آفاق اليأس والقنوط لما اهتديت إلى منجم الكنوز الدفين في غيابات نفسي ولئن كانت قد تفرقت سلبنا، وتشعبت طرقنا، واختلفت متجهاتنا، وبعدت نوانا، وانشقت عصانا اليوم.
ولئن لم يتح لي أن ألقاك ثانية، إلى أن يقطع بي السبب ويضحو ظلي وتطوى صحيفتي، فأني أريد أن أضفر لك من هذه الأزاهير الشذية إكليلاً أزين به مفرقك، لكي تتعرف القلوب الأخرى إليك وتجد فيك أبر صديقة.
الزهرة(306/25)
عود إلى التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قلت إن الشاعر أو الناثر لا يحكم عليه ولا يقال إنه متفائل أو متشائم بما يقوله في حالات نفسه العارضة المتغيرة، لأن كل نفس تفيض بالسرور والأمل تارة، وتنقبض بالحزن تارة، والنفس التي لا تستطيع إلا السرور في موطن الحزن إنما هي كالأبله الذي لا يستطيع إلا الضحك، وحالة هذا ليس فضيلة ولا قوة.
وقد يتاجر بعض تجار الأدب باسم التفاؤل، وإنما تفاؤلهم سلعة مغشوشة وعملة زائفة يريدون أن يربحوا بها الحمد والثناء، وأن يغروا بها الناس؛ وهذا التفاؤل أيضا ليس فضيلة في النفس، بل هو نقيض الفضيلة، وإنما يحكم على القائل بما يقوله في وصف أمله في الحياة، وحثه إلى المُثل العليا، وما يقوله في تمجيد جهود الناس فيها كما في قصيدة: (أبناء الشمال) أو (شهداء الإنسانية) أو (إلى المجهول) أو (الباحث) أو (قو الفكر) أو (العصر الذهبي) أو (الحق والحسن) أو (النشوة والارتقاء).
ويحكم عليه أيضا حكماً صادقاً إذا نظر الناقد فيما قاله القائل في وصف محاسن الحياة والأرض والكون؛ فإذا استطاع أن يُجمل الحياة بقدرة فنه على وصف آيات الكون والطبيعة، لم يستطع الناقد أن يقول إن التشاؤم غالب عليه، ولا أدري كيف يستطيع ناقد أن يقول هذا القول إذا قرأ لي وصف محاسن (الصحراء). . . حتى الصحراء تجد فيها النفس، وفي مظاهرها المختلفة محاسن. . . وقصيدة: (البحر). وقد نشرت في الرسالة أيضا وفيها وصف تلون البحر وتغير مناظره ووصف جزره:
ومن جزر مثل الجنان مضيئة ... كأن جهلتها الصائلات الدوائر
ووصف (عيون الندى):
فليس عيون الغيد أشعلها الصبي ... بأحسن في لألائها حين تعطف
ووصف الربيع في قصيدة (الفصول):
أهواكِ يا روح الربيع فهيئي ... جسماً كجسم الغيد في لألائهِ
ووصف النهر المترقرق في قصيدة (على بحر مويس):
عهدتْهُ في صيفه لؤلؤاً ... لو أَنَّ للؤلؤ سيلا يسيل(306/26)
ووصف مناظر الغابة وأصواتها التي تحكي جميع شجون النفس في قصيدة: (الغابة). أما وصف: (شريعة الغابة) من فتك في آخر القصيدة، فهذا ليس من التشاؤم. بل هو تحليل لصفات النفوس يدل عليه تقاتل الآحاد والأمم في العالم، ويعترف بصدقه كل إنسان ما عدا الإنسان الذي لا يستطيع إلا الضحك دائماً، وما عدا الإنسان الذي يتخذ الباطل في وصف النفس تجارة ربح ويسميها التفاؤل. ووصف مظاهر الضوء ومباهجه ومحاسنه في قصيدة: (الضوء) دليل آخر على التفاؤل الصحيح غير المزيف:
أو مثل فجر الآمال إنَّ لها ... فجراً وليلاً يَضاء بالذكرِ
كأنك أنتَ سُلّمُ لعلا ... ء النفس تسمو لآية العَمر
تُخالُ من رقة المراسم مع ... نى لا يراه البصير بالبصر
والساخر الذي يستطيع بالرغم من سخره أن يقول كما قلت في قصيدة (سؤر العيش):
والسخر مرآةَ إبليس التي نصبت ... إن تبُصر الحق فيها عاد كذَّابا
فيجعل السخر مرآة الباطل ومرآة إبليس في بعض الأحايين لا يكون التشاؤم غالباً عليه، والذي يستطيع أن يصف سحر: (ضحكات الأطفال) كما استطعت في قلبه نور الأمل لأن الأطفال هم أمل الحياة:
ضحكة منك صوتها صوت تغري ... د العصافير تستلين القلوبا
ضحكة ردت المشيب شبابا ... وأماتت من الوجوه الشحوبا
ضحكات كأنها كلمات ال ... له تمحو مآثماً وذنوبا
إلى آخر القصيدة. وقد قلت في وصف أثر مظاهر الجمال في قصيدة (قبس الحسن):
يا شمس حسن حياتنا ثمرٌ ... ينضج في ضوء حسنك الثمر
على أن الحسن في الأحياء والأشياء ذوق رمز ومعنى واصطلاح تخلقه النفس. ومن أجل ذلك كانت سعادة المرء في نفسه كما قلت في قصيدة (طائر السعادة):
ومن لم يجد في نفسه ذخر عيشه ... فليس له بين الأنام نصير
وكره الإنسان للعيش هو من حبه للعيش كما في هذه القصيدة أيضاً:
قلى العيش حب العيش قد شط رغده ... كما يَبغضُ المهجور وهو أسير
كمن يبغض الحسناء يقلى دلالها ... وفي الصدر منه لوعة وزفير(306/27)
وقلت في وصف أثر النفس في النفس في قصيدة: (النعمان ويوم بؤسه) وكيف أن الوفاء في أحد الناس جعله يلغي يوم بؤسه ويقول:
ألا علِّلاني يا خليليّ أنمّا ... على العيش بالإحسان والصدق والندى
وأعترف حتى في قصيدة: (ثورة النفس) بما في النفس البشرية من حسن:
تريدين أن الجسم يغدو كأنما ... يضيء به منك الضياء المحجّب
وفي جمال فجر النهار وفجر العمر من قصيدة (فجر الشباب):
وكان للفجر قلب خافق أبداً ... من الحياة ووجه كله لطف
وفي إضاءة الحياة بالجد والعمل والأمل في قصيدة (العظيم في قوله):
رأيت حياة المرء في نفع قومه ... ولا خير في كنز إذا كان خافياً
وما نُصِيب المصباح إلا لضوئه ... وإن كان في أحشائه الدهن فانياً
وفي حب الشعراء للحياة من قصيدة (الشاعر وجمال الحياة):
نحن كالنحل لا نحب من الزه ... ر سوى كل غضة مطلولة
وفي وصف محاسن الأرض والطبيعة:
وكأنما نسج الإله جنانها ... شرك النهى وحبالة الأهواء
وفي أشد القصائد حزناً كما في قصيدة (بين الحياة والموت) وهي من شعر الحالات العارضة أقول في وصف العيش:
ولكنه كالخمر تحلو لشارب ... وإن سُلبتْ منه النهى والسرائر
وفي النسيب اعتراف قصيدة بجمال الحياة بالرغم من مرارة تجاربها:
وأنت جميلٌ كالحياة مُحَبَّبٌ ... وإن كنت مثل العيش مر التجارب
وفي قصيدة (حكمة التجارب) قلت في عزاء التجارب:
خذ بِنصحي فقد حييت كثيراً ... ولو أني لم أُمض عمراً طويلا
عشتُ في كل ساعة أبد الده ... ر وعالجت نَضرَةً وذبولا
ورمتني الحياة بالحلو والم ... ر فطوراً رغداً وطوراً وبيلا
ورفعت الستار عن خدعة العي ... ش وقهقهت وانتحبت عويلا
وصحبت الحياة في حالتها ... وَخَبرْتُ القنوط والتأميلا(306/28)
إلى أن قلت:
ورأينا الحياة من كل وجه ... وعشقنا كمالها المستحيلا
ورجعنا إلى الحقائق حتى ... لم نعد نطلب المحال بديلا
فهذا ليس من التشاؤم بل هو ما يناله المرء من حكمة الحياة وهو لم يمنع من وصف آمال الإنسانية كما في القصائد التي ذكرت في أول المقال. وقصيدة (الحسن مرآة الطبيعة) عل ما بها من ذكر الموت في آخرها جمعت مظاهر الحسن ومنها:
أنت مرآة ما يجيء به الكو ... ن من الحسن بكرةً وأصيلا
فأرى في الصباح منك ضياءً ... وأرى في المساء منك ذبولا
وأرى منك في الخريف شبيهاً ... ثمراً يانعاً وزهراً جميلا
وما أذكر الموت في آخرها إلا أنه يدعو إلى محاسن الحياة والتزود منها. وقد وصفت أثر تفاعل الكون والنفس في قصيدة (الشعر والطبيعة) ومنها:
إذا غنت الأطيار في الأيك صُدَّحا ... تغنت لأشجان الفؤاد طيور
وللريح هبات وللنفس مثلها ... تُغَنِّي رُخاءٌ فيهما ودَبُور
نرى في سماء النفس ما في سمائنا ... ونبصر فيها البدر وهو منير
إذا كنتُ في روض فقلبيَ طائر ... يُغَنِّي على أفنانه ويطير
وإنْ كنتُ فوق البحر فالقلب موجة ... تَسَرَّبُ في أمواجه وتسير
وإنْ كنتُ فوق الشُّمِّ فالقلب نسرها ... وللنسر في شم الجبال وكور
وفي قصيدة (الشاعر المحتضر) يتعلل بأنه قبل موته جمل الحياة بفنه:
وجَمَّلْتُ الحياة بنظم شعر ... شبيه الضوءِ في الأفق الأغَرِّ
وقد جعلنا مثل هذا القول علالة لأن بين الأدباء من يتعلل به وإن كنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه العلالة ولا نأسى لضياع عمل عمر بأكمله.
وفي قصيدة (خواطر الحياة) أثناء التألم أستطيع أن أقول:
والسخطُ غربال جَاهدٍ قصد ال ... سيل كأن الأَتيَّ مردود
أي أن حوادث الدهر لا تدفع بالسخط والحزن كما أن السيل لا يرد بغربال.
وفي قصيدة (كعبة النفس) جعلت الرجاء من الإيمان والعبادة:(306/29)
أيا كعبة الآمال ذات المحارم ... مكانك من قلبي كمحراب صائم
فلا تأخذوني بالرجاء فإنما ... رجائِيَ إيمانُ النفوس الحوائم
وفي قصيدة (بيت اليأس) جعلت الحزن ترياقاً يقي من الحزن كما أن القليل من السم قد يقي من السم:
كشارب السم كي يُصادِي ... مَنْ عَلّهُ سمه صريحاً
ورددت هذا المعنى في قصيدة (عدوى الحياة) وذكرت أن مصل الجراثيم وقاية منها:
كما يتداوى بمَصْلٍ عليلٌ ... وفي المصْلِ من بعض ما تَبّرَه
وفي (عصير الحياة) جعلت لذتها وأنغام فنونها من الآم تجاربها:
أسعى على ساعات عمريَ واطئا ... كالكرم يعصره الجناة فيخمر
وأحيلها نغماً يروق سماعه ... وأعيدها شعراً يلذ ويُسكِرُ
وقلت إن دجن السماء مثل حزن النفس قد يكون لذة وذلك في قصيدة (يوم مطير) فانظر كيف تستخرج النفس اللذة والأمل من الحزن والسحاب:
ثقيل على القلب البهيج عبوسه ... ولكنه قد يسحر القلب كارُبهْ
كذلك بعض الحزن للنفس شائقا ... تعاقره في نشوةٍ وتقارُبهْ
وهل تفاؤل أعظم من تفاؤلي في البيت الآتي من قصيدة (عجائب الحياة):
وأبغي صلاح الكون والناس مثلما ... مضى في بناءٍ عاملٌ وأجير
وقد جعلت حتى تعلل المتعلل بذكر الموت مظهراً من مظاهر حب الحياة:
وما عَلَّلْتْ نفس الفتى بمَنِيةٍ ... ستطوي هموم العيش طي الدساكر
سوى رغبةٍ في العيش يرهب صرفه ... فيعدو على البؤسي بذكرى الغوابر
والتلذذ بوصف مظاهر الأمل وأحاسيسه في قصيدة (السكون بعد النغم) يدل على التفاؤل ومنها في وصف الإحساس بالسكون بعد النغم:
كسكوت اللهيب فوجئ بالبش ... رى ويخشى من حسنها أن تخيبا
أو سكوت الشباب في حُلُم الآ ... مال من قبل أن تعاني المشيبا
أو سكوت الأم الرءوم حنانا ... وابنها نائم وقته الخطوبا
حلمت حلمها بما سوف يسعى ... في مساعيه جيئة وذهوبا(306/30)
من ثمار الحياة تختار أحلا ... ها له نعمة وسعدا وطيبا
وقد جعلت الأمل بهجة العمران في قصيدة (الأمل):
أيا بهجة العمران لولاك لم يكن ... فلا شيد الباني ولو كدّ كادحُ
وهي قصيدة طويلة كلها في مباهج الأمل ولذاته ومحاسنه، وأحاسيسه وفي قصيدة (شهداء الإنسانية) جعلت النعمة في الحياة مستخرجة من الشقاء.
وكم من نعمة لولا شقاءٌ ... قديماً لم تكن إلا وبالا
فكم خبر الأوائل من شقاءٍ ... فنلنا من شقائهمُ نوالا
وقد ذكرنا في هذه المقالات وغيرها أسماء قصائد عديدة جداً لا هي من شعر التشاؤم، ولا من المذهب الطبيعي الإنكليزي، والشعر العربي ليس في حاجة إلى مذاهب أو مسميات جديدة، وإذا لم يكتف حضرة الناقد الفاضل بهذه القصائد والشواهد ذكرنا له غيرها ونعتقد انه حسن النية في قوله، فعسى أن تكون عقيدتنا فيه صواباً. ونكرر للأستاذ الدكتور أننا طبنا نفساً عما قدمنا من عمل، ولا يهمنا أفنى أم بقى، ولكن الذي يهمنا ألا يتخذ وسيلة للنيل منا حتى ولو كان ذلك عن حسن نية.
عبد الرحمن شكري(306/31)
من ذكريات لندن
دعاية. . .
للأستاذ عمر الدسوقي
في العراق شباب ملء يومه ملء غده، يتقد حماساً لوطنه وعروبته، ويدأب ليل نهار في الدعاية لنفسه وقوميته؛ عرفته فعرفت الثورة الملتهبة المتأججة، والنفوس الطماحة المتوثبة، نفض عنه غبار القرون، واستيقظ فالتفتت الدنيا ليقظته، ثم زأر فارتاعت الأفلاك من زأرته؛ أينما حل فمعمعة ونضال، أو ضجة وجدال.
وفد على مصر منذ عشرة أعوام أول بعث للفتية العراق، ليطفئوا صدى نفوسهم من كوثر العلم، وينشروا بين أبناء الكنانة فكرة جليلة سامية، تشبعت بها نفوسهم، وامتزجت دماؤهم، وتراءت لهم في الحلم عزة وقوة، وفي اليقظة عظمة وفتوة؛ ولكن راعهم أنا بنهضتهم جاهلون، وعن دعوتهم معرضون.
دعوا للوحدة العربية، فألفوا قلوباً غلفاً وآذناً صماء وعقولاً سيطرت عليها فكرة الفرعونية، وبلبلتها السياسية المصرية؛ فلم ينكصوا على أعقابهم، أو يقنطوا من نجاحهم، بل طفقوا يبدون دياجير هذا الجهل، ويعرفون أبناء النيل ببلاد تعجب بهم، وتعلم عنهم أكثر مما يعلمون عن أنفسهم، ويرسلونها صيحة من فؤاد مؤمن بما يدعوا إليه، موقن بأن هناك من سيستجيب له: أن تعالوا إلى كلمة تجمع شملنا المبدد، وتعيد إلى الحياة مجدنا الغابر، وتحلنا بين الأمم مكاناً عالياً، يبعث في قلوبهم الهيبة والرهبة، ويغدوا شجي في حلوق الطامعين، وقذى في عيون المستعمرين، ويحبط كيدهم ويبطل إفكهم؛ فينشدون ودنا بدلاً من عدائنا، وحلفنا عوضاً عن استعمارنا.
لبى ندائهم من فطن إلى ما انطوت عليه جوانح المستبد الغاصب ورأى في تلك النزاعات الإقليمية هوة سيتردى فيها أبناء العروبة وهم في غفلة ساهون؛ فما البربرية، والفرعونية، والفينيقية، والآشورية، إلا شباك نصبها الطامع الشره ليحول بيننا وبين الوحدة المنشودة التي يخشى أن تزلزل الأرض تحت قدميه، وتضع السيف والنار أمام عينيه، إن عاد إلى ما ألف من عبثه بهذه الديار وذويها أو لم يمزق أوصال الشام، وقد مرت عليها العصُر وهي لا تعرف من دواعي الفرقة شبحاً، وهي تلك الصخرة الشماء من العزة والإباء،(306/32)
تنحسر عنها أو أذى الكائدين كليلة خائبة؟
عزة عليه وقد خرج من معمعان الحرب نشوان بحميا الظفر أن يرى ديار العروبة تتحفز للوثوب، وتجثم للنهوض، فعالجها بضربة خالها قاضية، وفرقها أباديد، حتى لا تطمع في قوة أو تأمل في عزة، وحتى لا تعيد على مسرح التاريخ تلك الأنفة والحمية والأيد والجلد والاستهتار بالموت، في سبيل الكرامة والشرف والعقيدة، أيام أن حشدت أوربا جموعها وشنتها حرباً شعواء على هذه الديار باسم الدين، فأصبحت العراق في قبضته، ومصر في حوزته، والشام أشلاء ممزقة. فما فلسطين وسوريا، ولبنان، وجبل العلويين، وجبل الدروز، والإسكندرونة، إلا أعضاء جسد واحد كان من قبل رمزاً للجد والنشاط والشهامة؛ وأخذت طرابلس الغرب تسير وئيداً في سبيل الفناء، وأحال تونس والجزائر بلاداً لا هي شرقية ولا غربية، فمسخت مسخاً، وتبلبلت ألسنة بينها برطانة لا هي فرنسية فتفهم، ولا هي عربية فيفخروا بها، وعمد إلى مراكش فكان للإسلام والعروبة كيداً، وحاول أن يهدم هذا الدين بعرف قد عفت عليه القرون ولا يصلح لحضارة ولا يبعث رقياً.
فطن من لبى نداء هؤلاء الفتية الأخيار إلى كل هذا، وإلى أن ذاك التراث المجيد قد كان بالأمس منبعاً للنور والمجد والرحمة والإنسانية، يفيض على الدنيا وقد جللتها سحب الجهل والظلم، وإلى أن هذه البلاد على تباين أسمائها تلهج بلغة واحدة، وتعتز بتاريخ واحد اشتركت فيه البؤساء والضراء، وتشعر بشعور واحد، وتنحدر من اصل واحد.
وإذا لم تكن اللغة أداة التعبير ورمز التفكير ووسيلة تصوير الشعور والوجدان، عاملاً من عوامل الوحدة وتأليف الأفئدة، فما يكون؟
وإذا لم يكن التاريخ والأدب والدم، صلات وثيقة، توحد بين الصفوف، والأهداف والغايات، فماذا يكون؟ أسسوا جمعية صغيرة متواضعة تدعو إلى ذلك الغرض النبيل السامي، وتعمل في إخلاص على توثيق عرى المودة بين أبناء العروبة في مصر، فانضوى تحت لوائها شباب طاهر بريء من نزاعات الأحزاب القديمة وحزازاتها الشخصية.
ولكن ما لبث أن سعي إليها الشيوخ يريدون أن يسخروها لأهوائهم؛ وطفق هؤلاء يستهوونها بالمال، وهؤلاء يمنونها بالتأييد، وهي بين ذلك تلقى من السخرية والتهكم ما يضعضع العزائم الثاقبة، ويثبط الهمم الصارمة.(306/33)
يا طالما كنت أعتذر لهؤلاء الرفاق عما يبديه بنو جلدتي من جفوة وإعراض، وأقول: إنهم متى فرغوا من صراع العدو الغاصب، ونفضوا أيديهم من نزاله، فيسمدون إليكم الأيدي طواعية، وستنفتح قلوبهم لدعوتكم الرشيدة، إن راموا عزاً ومجداً لهم ولبلادهم؛ فلا تهنوا ولا تحزنوا، وثابروا على جهادكم، فإن جلائل الأمور لا تنجز بين طرفة عين وانتباهتها.
غادرت مصر، ونزلت مدينة (إكستر)، ووفد علينا جماعة من العراقيين يطلبون العلم بجامعتها فقلت: ها. . . إن الميدان قد تحول من ضفاف النيل إلى ربوع إنجلترا، ولكن وا أسفاه!، قد استمرأ هؤلاء الفتية حياة اللهو والدعة، فإذا دعوتهم إلى الجد وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصروا واستكبروا استكباراً.
ثم رحلت إلى لندن، ووجدت فيها نخبة طيبة من أبناء العراق وفلسطين، قد اتخذوا الجد قبلة يولون إليها وجوههم صباح مساء، وحرصوا كل الحرص على أن يملئوا كنائبهم لا بسهام محطمة من الخزعبلات والدنايا، ولكن بالثقافة العالية والدراسة المجدية؛ حتى يكونوا في ساحة الجهاد أولى قوة وبأس شديد، حتى يحطموا عن شرقنا المسكين هذه الأغلال التي كبلته، وعاقته عن النهوض والرقي زمناً طويلاً؛ حتى ينازلوا الجهل بالحكمة، والأفن بالعقل، والميول النابية والأحقاد المزمنة والأغراض الحقيرة، بالصرامة الحازمة والعقيدة الجازمة.
أجمعوا أمرهم على تأليف جمعية عربية في لندن، تبث تلك الدعوة الصالحة بين شباب العرب، وتقرب بين آمالهم وأهدافهم فإذا ما تشربتها قلوبهم، واطمأنت إليها ألبابهم، كانوا رسل الوحدة العربية في ديارهم، وتعرف الإنجليز بنا، وبحضارتنا، ونهضتنا. ثم بدا لهم أن يكونوا كذلك لفلسطين جنوداً على ضفاف التاميز يهبونها من حرارة إيمانهم، وثمار عقولهم، ما شاء لهم حبهم الطاهر لبلادهم، وقصدهم النبيل في إسعادها.
لليهود في إنجلترا سطوة وقوة، وتجارة واسعة عريضة نامية، ودعاية سديدة منظمة، ينفقون عليها الأموال الطائلة؛ ولهم في دار النيابة خطباءهم أمراء البيان، يذودون عنهم بكل ما أوتوا من قوة وفصاحة.
وأنى لنا، ونحن شباب لا تظاهرنا حكومة، أو يشجعنا ثري أو تشد أزرنا سفارة، مباراتهم في الدعاية التي آمن بها الإنجليز عامتهم وخاصتهم لكثرة ترددها على أسماعهم، اللهم إلا(306/34)
ذاك النفر القليل الذين ساحوا في البلاد العربية، وفقهوا سر شكواها وكنه مصابها. ولقد وجدنا في هؤلاء نصيراً شد عضدنا، وسدد خطانا، وبذل في سبيل قضيتنا الوقت والمال عن سماحة وطيب نفس.
أخذنا ندمج المقالات الضافية، تنطق بالحقائق الناصعة، ونذيعها تارة بالخطابة، وأخرى بالكتابة، على الرغم من إيصاد الصحف أبوابها دوننا. وقد مُهد لنا السبيل لمناقشة فريق من أعضاء المجلس النيابي، فكان منهم من يرى رأينا ويشد أزرنا، ومنهم من يشيح بعطفيه ويزور جانباً.
لم نقصر دعوتنا على طبقة دون أخرى من الناس، بل جلنا جولات صادقات في كل مجتمع وندى، وهتفنا باسم فلسطين العربية ما أتيحت لنا الفرصة.
جاءت وفود العرب تترى لحضور حفلات التتويج، يقدمهم أمراء العرب الأمجاد، فقلنا: لنا لن يجتمع في هذه البقاع من أبناء العروبة جمع مثل هذا يحميه ويؤيده ويزينه سلائل الملوك الصيد من أبناء عدنان وقحطان. . .!
فلنصرخ صرخة مدوية تخترق شغاف هذه الأفئدة التي أغواها الصهيونيون، ولكن زأرة الأسد ربع حماه، لحمتها الشمم، وسدها الإياء، لا عويل الذليل يسترحم القلوب بالنحيب والبكاء. . .
رغب صحبي في أن يقيموا حفلاً نجتمع فيه بأمرائنا الأخيار، فنؤدي واجب التكريم والتبجيل، ونعلن لهم عزم الشباب على الفناء في سبيل العروبة واتحاد القوى؛ ورأوا أن ما بأيديهم من المال قليل، فغضوا الطرف عن دعوة ذوي الرأي والجاه في إنجلترا، وكنت أرى نمد الدعوة إلى رجال الصحافة وكبار القوم، حتى يروا رأي العين جمعنا الباهر، واتحادنا المتين، وحتى تصل كلماتنا إلى قلوبهم لعلها تلين. وهبت زوبعة من الجدال والنقاش كادت تعوقنا عن بلوغ هذا الشرف الرفيع، لولا أن شد أزري صديق كريم وتعهدت وإياه أن نقوم بسداد ما يزيد من النفقات إذا لم تهز الأريحية أفئدة أمرائنا الغر الميامين ذوي السماحة والندى، فيهبوا للحمية من نفحاتهم ما يعز مقامها ويعلي منارتها.
وكان حفلاً لم تشهد لندن نظيره من قبل روعة وبهاء وعظمة ورواء بل كان حفلاً فريداً قل أن يجود التاريخ بمثله. وكيف لا. . . وقد شرفه أمراء العرب، وتلاقوا فيه لأول مرة(306/35)
جميعاً ملبين نداء الشباب، ومنافحين عن فلسطين الشهيدة.
كبت به من خال أن اتفاق العرب محال، لشدة تنافرهم وتحاسدهم، وتباين أهوائهم ومطامعهم، بيد أن عزمات الشباب تذلل الصعاب وتحقق الرغاب.
وقرعت دعواتنا أسماع من طالما صدفوا عنها، وفتحت الصحف لنا أبوابها بعد أن أطنبت في وصف ذاك المشهد الفخم وهذه المظاهرة العربية الجليلة الوقورة.
وقد حقق أمراؤنا الأبطال آمالنا، فما إن سمعوا نداءنا حتى جاشت في قلوبهم حميا النخوة والكرامة، ففاهوا بكلمات تفصح عن نفوس عامرة، وأفئدة ملؤها النبل والإباء، وقالوا: إن بلاد فلسطين ومحنتها تقص منا المضاجع، وتحز القلوب حزاً، وإن خروجها من المعمعة سليمة مستقلة ظافرة لأمل نضعه نصب أعيننا وصلاة نرتلها صباح مساء، فثقوا بنا وبجهادنا والله يرعانا ويرعاها.
وغمرت عطاياهم جمعيتنا الفتية، فأصبحت في الجهاد أثبت قدماً، وأشد باساً، وأعلى صوتاً، حتى ضاق بها الصهيونيون ذرعاً، فما قام منهم خطيب ينفث في الناس سمومه وتخرصاته، إلا وجدنا أمامه نبطل كيدهم وندحض باطله.
وعدت ذات مساء إلى داري، فرأيت ربة الدار محزونة مكتئبة فسألتها: ما بالها؟ فقالت:
- جاء اليوم فتيان من أبناء صهيون، ينم حديثهما عن خبث طوية ولؤم حاد، وطلبا إلى أن أسدي لك النصيحة بالحسنى عن لسانهما، وأناشدك الله واهلك وغربتك إلا أقلعت وصحبك عن مناوأة جهادهم، وإن أبيت إلا اللجاج والعناد، فلهما معك يوم ما بعده ثم قالت: أني أخشى عليك هؤلاء القوم، إذ لا تؤمن لهم غائلة، ولا يتعففون عن دينة؛ وما كان لي أن أزج بنفسي في خاصة أمورك لولا انك نزيل داري؛ وأنا لهؤلاء الصهيونيين مبغضة وعليهم حانقة.
فقلت: شكرا لكي - سيدتي - هذا العطف الجم، والشعور الكريم، ولا عليك من هؤلاء فلن يضيرني منهم شيء، وسنرى.
عمر الدسوقي(306/36)
تأملات وتفكرات
شارلي شابلن العبقري
في الخمسين من عمره!
(مهدأة إلى السيدة أ. ش)
للأستاذ زكي طليمات
سرعان ما تجري الأيام وتمر السنون!
يرتقي شارلي شابلن علم الأعلام في دنيا السينما أول درجات العقد السادس بعد أن سلخ من عمره خمسين عاماً.
بلغ شارلي شابلن هذه السن ونال كل ما تتوق إليه النفس من الجاه ونباهة الذكر وقلائد الذهب وأكاليل الغار، إلا انه بقي محروماً من دفء الحنان وراحة العيش في ظل امرأة صالحة، لأن الحظ السعيد الذي وأتاه في كل شيء أبى أن يواتيه في النساء.
والنساء في حياة الفنان المرهف الحس القوي الطبع. عنصر لا غنى عنه في استكمال السعادة المنشودة.
ومع هذا فإن شارلي شابلن قد تزوج ثلاث مرات إلا أن كل زواج منها كان ينتهي دائما بالخيبة!
تدخل المرأة في حياة شارلي شابلن فينطوي عليها وتغدو نصفه الثاني ويتفانى فيه كما تتفانى فيه وقتاً من الزمن، وينفخ العبقري الفنان في النصف الجديد أنفاساً من روحه الخلاق فتغدو شيئاً وينبه لها ذكر، ويعلو لها شأن، وتسود الألفة بينهما بما يستجلب عليها حسد الحاسدين ثم. . .
ثم يأخذ النفور بعد ذلك يدب بينهما فتخمد الجذوة المتقدة في قلب الزوجة المعجبة بزوجها، وتنتهب الزوجة آلام الخيبة والجحود، وينتهي الأمر بينهما بالطلاق!
عجيب هذا الأمر، وأعجب منه وقوعه مع رجل دمث موفور الحظ من اللباقة والظرف، عرك الحياة، وعرف طباع الناس!
اختلفت الآراء في تفسير هذه الظاهرة، وانبرى الكتاب يفسرونها حسب أهوائهم، ولم(306/37)
يتورع بعضهم عن اتهام العبقري الممثل بشذوذ في الطبع وبخرق في الرأي وإن لم ينكروا عليه لطف المعاشرة ولين الجانب وبسط اليد.
ألا إن المتأمل في حياة شارلي شابلن، الفاحص عن أمر طبعه ومنزعه بما يطالعه له من آثار وحيه عن الشاشة البيضاء، يرى غير ذلك إذا توخى الإنصاف والدقة، وتعمق في استكناه في ما وراء وعي هذا العبقري الممثل.
إن شارلي شابلن عبقري فنان. والفنان الحق خّلاق، والخلاق من طبعه البذل والتضحية والإسراف في الجهاد.
تعود شارلي أن يصدر عن كل هذا في عمله، ومؤلفاً كان أو ممثلاً أو زوجاً.
وما كان هذا شأنه فإنه يتطلب الكثير من الناس، ولا يقنع بالغذاء العادي الذي تقدمه المرأة من عطفها وحنانها. هذا والفنان الصادق أثر يحب نفسه وهو لا يشعر، فهو يميل إلى الاستئثار بكل ما يعمر قلب المرأة التي يهبها قلبه، وينزع إلى سوء الظن بما يلقاه من تقصير أو فتور غير معتمد، ويعده جحوداً ونكران جميل. . .
وهكذا كان شارلي شابلن يتطلب من زوجاته أن يعطينه مثل يعطيهن.
هذه هي العلة، وهذه هي غلطة شارلي شابلن مع النساء أو بالأحرى هي غلطة كل فنان خلاق كبير القلب دافق الروح، شاعراً كان أو ممثلاً، أو مصوراً، بل لعلها هي غلطة كل كريم نفس يشرف هذه بذل حبه وكريم عواطفه لإحدى بنات حواء.
ونخرج من هذه المأساة العاطفية بشيء واحد، وهو أنه وهو واجب على الرجل ألا يأمل كثيراً ما عسى أن تمنحه المرأة إياه وأن تقنع منه بظرف المعاملة، بينما ببسماتها الوردية، وبلمسات شعرها العطر، وبومضات جسدها الشاب المضيء. إن لم يفعل ذلك - وواجب عيه أن يفعل - فإنه لا يجني من حياته العاطفية سوى أشواك الجحود والخيبة.
أما ذوي القلب الكبير والروح الخلاق، الصادي الذي لا تروى علته جرعات من الماء فخير له ألا يبحث عن السعادة في ظل امرأة.
لم يكن غريباً بعد هذا أن نلمح في ابتسامات شارلي شابلن أفواه الجروح، وأن نسمع في صدى ضحكاته أنات العويل. إن المسكين يضحك خشية أن يسترسل في بكاء.
ولا عزاء للمسكين في محنته هذه، وفي عزلته. لقد تجاوز السن التي تجعله مرموق(306/38)
الحسان. إن ابن الخمسين لا يصلح إلا أن يكون ملجأ لمنكودات الحظ في الحب أو في الزواج أو طالبات العيش الهادئ في كنف الرجل كان ما كانت سنه، أو العوانس اللواتي يكابرن الدهر والدهر يتطاول عليهن، أو الغواني من قانصات المال والجاه العريض، وهذا الصنف من المخادعات إذا قابلن رجلاً في منحدر العمر، همسن في أذنه أنهن لا يحببن الشباب لنزقه وتيهه، ولكن يعشقن الشيوخ لرجاحة عقولهم وفيض حنانهم.
وشارلي العبقري الفنان، ابن الخمسين، لا يجهل ذلك. ولهذا فقد قدر عليه أن يعيش محاطاً بكل لذائذ الحياة، من مال وجاه وفخار إلا لذة الهجوم إلى صدر امرأة يخفق قلبها بحب خالص له. قدر عليه أن يكابد مرارة الحرمان الدائم، وقسوة الوحدة، وحمى الضمأ الذي لا يرويه ماء.
وهذا كله فدية الروح الخلاق والطموح الذي لا يتطامن، وهذا أيضا فدية المجد الذي علقه شاباً ورجلاً وكهلاً.
زكي طليمات(306/39)
العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 3 -
تحدث المحرر في المقالين السابقين عن بعض مشاهداته في الصحراء الغربية فوصف سحر الصحراء، وأني في كلمات وجيزة على ذكر كثير من عادات العرب وصفاتهم، وتحدث عن حكامها ودون عنها معلومات عامة طريفة. وهو في هذا المقال يتحدث إلى القراء عن ساحل الصحراء الغربية وهطول الأمطار وموارد المياه على الساحل وسكة مريوط الحديدية وسكان الساحل وقبائل الصحراء الغربية حديثاً شائقاً طريفاً.
ساحل الصحراء الغربية
يمتد القسم الساحلي من الصحراء الغربية - وليس له اسم معين معروف - اسم من الشمالالغربي من الإسكندرية شرقاً إلى السلوم غرباً؛ ويبلغ طوله نحو 500 كيلو متر.
وقد أطلق عليه القرطاجنيون اسم (ساحل ليبيا) وورد ذكره في كتابات هيرودوت عند وصف رحلات الفينيقيين والقرطاجنيين إذ وصف سكان هذا القسم بما لا يخرج عن حالتهم في الوقت الحاضر وطرق معيشتهم بعد الفتح الإسلامي. قال: انهم يرتدون ملابس اللوبيين، وتضع النساء خلاخيل في أرجلهن ويرسلن شعورهن تنمو وتطول؛ ومن عاداتهم أن للزواج وقتاً ومعيناً، وهو عندهم عيد عظيم، إذ تحضر القبائل - عند افتتاح موسمه - أجمل الفتيات الراغبات في الزواجفيقفن أمام ملكهم ليختار لنفسه منهن زوجة جديدة قبل أي مخلوق آخر.
ولكن هذا الشعب قد انقرض الآن واندمج في القبائل العربية بعد الفتح الإسلامي، واصبح سكان هذا الإقليم من العرب قبائل أولاد علي.
والقسم الساحلي هو شريط رفيع من الأرض المتعرجة الصالحة للزراعة. ويتراوح عرضه من الساحل جنوبا بين 20 و 50 كيلو متر، وبتسع من جهة الشرق - العامرية - ثم يأخذ في الضيق عند ما يتجه غرباً، وينهي تقريباً عند السلوم حيث تقترب هضبة ليبيا الكبرى(306/40)
من الشاطئ وتدخل في مياه البحر
أما أسماء التلال ورؤوس الخلجان فلها تاريخ اثري قديم، ولا يزال العربان يعثرون على آثار ذات قيمة وخاصة من العصر الروماني. ونذكر من أسماء هذه التلال بعضها وهي: رأس الكنائس (وكانت تعرف برأس حرموم)؛ ومرسى مطروح وكانت تعرف براننيوم؛ وميناء النجيلة وكانت تعرف بجازيس، وميناء جرجوب وكانت تعرف بأيبس، والسلوم وكانت تعرف ببرانومس، ورأس الملح في طرابلس وكانت تعرف بأردينس، وميناء البردي وكانت تعرف ببترامجنا.
هطول الأمطار
تعد مسألة هطول الأمطار في هذا الإقليم من المسائل العجيبة حقاً، فبينا يهطل المطر بغزارة في مكان ما، إذ تراه ينحبس عن مكان آخر قريب من الأول جداً؛ غير أنه يهطل بحالة دائمة في مناطق معلومة مبعثرة عن الشاطئ يعرفها العرب انفسهم؛ ويستمر من ثلاثة أشهر إلى أربعة في السنة؛ تبدأ من أكتوبر أو نوفمبر وتنتهي في شهر إبريل؛ وفي بعض الأحيان يهطل المطر مرة واحدة وذلك في شهر مايو، ويسميه العرب (مطر البطيخ).
وبعد نزول الأمطار في الواحات كواحة سيوه مثلاً من الأمور النادرة؛ وإذا استمر سقوطها قليلاً سبب هدم منازل الواحة المصنوعة من (الجالوص) وقد حدث ذلك في سنة 1919 م؛ وكذلك في شهر إبريل سنة 1937 م؛ واستمر هطول الأمطار يومين كاملين؛ فأوقع ضرراً بالمنازل وهدمها، وبقى السكان هناك مدة بلا مأوى.
موارد المياه على الساحل
تنتشر في المنطقة الساحلية خزانات المياه الرومانية، وهي محفورة في الصخر بنظام هندسي عجيب يمنع تسرب المياه منها، وتبقى فيها لمدة سنين، وكان الرومان يستعملونها قديماً ولا يزال العربان يستعملونها إلى الآن؛ وبعض هذه الخزانات كبير الحجم يتسع في بعض الأحيان لآلاف من الأطنان تكفي لأعوام طويلة كالخزانات الموجودة في العامرية ومطروح وسلوم؛ وتهتم الحكومة بتنظيف هذه الخزانات وإصلاحها وطلائها بالأسمنت؛ وتوجد المياه كذلك في بعض آبار (جمامات) على الشاطئ ويسميها الغرب (بالثواني) وهي(306/41)
أكثر ما توجد في المناطق الرملية.
وتوجد الدواوير والزوايا بكثرة حول المناطق الغنية بالمياه وخاصة ما كان منها قريباً إلى الشاطئ. ويزرع السكان حولها الزيتون والتين والعنب وبعض أصناف الخضر.
سكة مريوط الحديدية
هي إحدى منشات الخديو السابق، وكانت تمتد قديماً إلى بلدة فوكة على بعد 120 كيلو من الإسكندرية. ثم نزعت قضبانها في أثناء الحرب العظمى سنة 1916 لأغراض حربية وانتهت عند بلدة الضبعة على بعد 102 ميل من الإسكندرية.
أما الآن فقد تم مدها إلى مرسى مطروح أي إلى مسافة 312 كيلو متراً من الإسكندرية ولهذه السكة تاريخ غريب: فقد كان الخديو السابق يزمع مدها إلى السلوم على حدود مصر - طرابلس، أي نحو 514 كيلو متراً من الإسكندرية. وكان غرضه من ذلك أن تقرب السفر إلى أوربا يومين، وكان يرمي إلى مد فرع آخر منها من مرسى مطروح إلى سيوة أي مسافة 300 كيلو متراً أخرى وذلك لنقل محصول البلح والفواكه واستغلال أملاكه الكثيرة التي يملكها في هذه الواحة. ويتضح لمن ينعم النظر في هذا المشروع أنه لا يأتي بالفائدة المرجوة منه ولا يسد تكاليفه الباهظة. ولقد أدى ذلك إلى تدخل المعتمد البريطاني في أمره وشرائه باسم الحكومة المصرية تفادياً من استخدامه لأغراض حربية.
سكان الساحل
يقطن المنطقة الساحلية قبائل من العربان الرحل تعرف بقبائل أولاد علي. وكلهم من البدو الذين يعيشون عيشة غير مستقرة فيزرعون الشعير والحنطة على الأمطار ويشتغلون في وقت الجفاف بنقل حاصلات بلح الواحات إلى الساحل ويعودون بالحبوب والسكر والشاي وسائر الحاجيات إلى الواحات ثانية.
والبدوي بطبيعته يفضل السير في الدروب المطروقة الظاهرة للوصول إلى مقصده، وهو لا يفكر في اختراق أرض مجهولة. ولكن إذا انفق أن أمطرت السماء وغمرت بعض الأراضي ونبتت فيها المرعى فسرعان ما يتجه إليها البدو من كل الجهات لترعى مواشيهم؛ ورعاية الماشية تتطلب السير في مختلف أراضي المنطقة، وبهذه الوسيلة يسير(306/42)
البدوي فيها فيتعرف على دقائقها جيداً. وللعربي خاصية حفظ الأشياء والمناظر الطبيعية والعلامات الأرضية فهي تنطبع في ذهنه لأول وهلة. على أن هذه الخاصية لا تتوفر لجميع البدو، بل هي تتوافر عند قليلين منهم يعرفون بالأدلاء. وللدليل البدوي مهارة عجيبة مدهشة في تعرف الطرق وسهولة ارتيادها وتمييز الجبال والتلال والقدرة على السير ليلاً في أشد الليالي حلكة وظلاماً.
قبائل الصحراء الغربية
يسكن صحراء ليبيا من النيل إلى جالو والكفره فريقان من البدو: السعادي والمرابطون، وهم جميعاً من نسل (سعدي). وهم ثلاثة فروع:
سعدي. وقد أنجبت جبريل وبرغوث وعقار. ومن ذرية جبريل: العواقير والعربيات والمغاربة والجوازي. ومن ذرية برغوث: عبيد والعرفة والفوايد. ومن ذرية عقار: علي والحرابي والهنادي وبني عونة والجمعيات، ومن ذرية علي: أولاد علي الأبيض وعلي الأحمر والسننة. وأولاد علي الأبيض هم: أولاد والسنافره والعزايم والأفراد. وأولاد علي الأحمر وهم: القنيشات والعشبيات والكميلات. والسننة هم: العزوة، والقطيفة، والمحافيظ، والعجنة.
ويسكن أولاد علي الصحراء الغربية.
أما (المرابطون) فهم أقدم من السعادي ولكنهم متفرقون وكل قبيلة منهم في حمى قبيلة من السعادي، ولعل ذلك يرجع إلى أن السعادي جاؤا البلاد فاتحين؛ ويعرف المرابطون أحياناً بالصدقان أو الأصدقاء. وأهم قبائلهم: زوي، والمجابرة، والمنفة، والموالك، والشواعر، والجرارة، والقطعان، والحونة والجبابل، والتراكي، والشهيبات والفواخر، وترهونه، والعوامة والصوانقة الخ. . .
وهؤلاء موزعون في الصحراء وفي حمى السعادي. وكل قبيلة منهم مسؤولة عن الدفاع عمن تحميهم من المرابطين.
ويقدر عربان هذه الصحراء بنحو 55 ألفا. وهم جميعاً معروفون بشدة الولاء والإخلاص لجلالة الملك وآل بيته الكريم لما لاقوه من عطف محمد علي باشا الكبير رأس الأسرة العلوية، وما منحه إياهم من امتيازات لا يزالون يذكرونها، ويفخرون بها ويتوارثونها جيلاً(306/43)
بعد جيل.
عبد الله حبيب
ملحوظة: أكثر ما ورد في هذا المقال والذي قبله من البيانات المفيدة مأخوذ مما دونه صديقنا الصاغ رفعت الجوهري مأمور مرسى مطروح عن الصحراء الغربية.(306/44)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
أما عن ذهاب الجيش على تلك الصورة إلى عابدين فالمسئول عنه الخديو ووزراؤه، فلقد كانوا يعلمون ما في صفوف الجيش من تذمر وهياج ثم كانوا يعلمون مع ذلك مبلغ مقدرتهم على المقاومة فبدل أن يطفئوا النار زادوها بأساليبهم اشتعالاً، هذا فضلاً عن ذلك الموقف المزدوج الذي وقفه الخديو تجاه الضباط وتجاه الوزارة ولقد كان القصر أمام الجيش خلواً من أية قوة. فروعيت حرمته أحسن مراعاة؛ وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه ذلك الجندي الثائر عن طوره، بل تمالك نفسه فترجل وأدى التحية لمولاه. ثم ذهب فأعرب له عن ولائه، وشكره حينما أجيب إلى ما طلب باسم الأمة. . . ألا إنا لتعجب بذلك ونفخر به إذ نكتبه، وما نجد من الأدلة التي نسوقها على رجولة عرابي وشهامته وبعده عما رميه به خصومه أقوى من هذا الذي نشير إليه.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كان يدبر في خبث من الدسائس في ذلك الموقف الرهيب، وذكرت كيف أحبطها عرابي بمزيج من البسالة والصبر يدعو إلى الإعجاب، ازددت لا ريب إكباراً لموقفه في ذلك اليوم. ولقد كانت أية كلمة نابية أو أية إشارة يساء فهمها كفيلة بأن تسيل الدماء في تلك الساحة. قال عرابي: (لو حاول الخديو قتلي لأطلقت النار عليه).
ولن يفوتنا أن نذكر أن عرابياً قبل ذلك كله قد اتصل بقناصل الدولة، وأفهمهم قبل أن يتحرك نحو عابدين أنه يقصد بعمله هذا مظاهرة سليمة، وأكد لهم بالغ حرصه على الأمن.
كما أنه كتب إلى الخديو قبل أن يذهب. فكان بذلك كله حكيماً موفقاً لا يدع مسلكه غميزة، أو يهيئ سبباً لملامة. . .
نجحت حركة عرابي إذاً أتم نجاح وأجمله وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهداً يسود فيه الإصلاح والنظام؛ فلقد كان قبول الخديو مطالب عرابي التي أشرنا إليها ينطوي على معنى(306/45)
عظيم ألا وهو مرافقة حاكم البلاد على التخلص من الحكم الاستبدادي الرجعي، والعودة إلى حكم الحرية الدستورية الذي سبق أن وافق عليه يوم تبوأ عرشه ثم عاد فتنكر له حين اطمأن في مصر إلى كرسيه.
وقد عارض شريف باشا أول الأمر في قبول الوزارة، وكانت حجته في ذلك أنه بقبوله الحكم دون قيد ولا شرط إنما يضع نفسه تحت سلطة الحزب العسكري، الأمر الذي لا يستطيع أن يحمل نفسه على قبوله؛ ولذلك دارت بينه وبين رجال هذا الحزب مفاوضات استمرت بضعة أيام تحرجت الأمور فيها حتى أوشك أن يتنحى شريف عن قبول الوزارة نهائياً.
ولكن لاحت بوارق الأمل عقب ذلك، وكم كان جميلاً أن تلوح من جانب ذاك الذي لا يزال نفر من المصريين حتى وقتنا هذا يرمونه بالفوضى ويعودون بأسباب ما لحق مصر من ويلات إليه، فيقيمون الدليل بذلك على أنفسهم أنهم إما ذووا أغراض أو أولو جهل معيب بحقائق الأمور.
كان جميلاً أن يبرق الأمل من جانب عرابي، فلقد دعا يومئذ أعضاء مجلس شورى النواب المعطل وعرض القضية عليهم وكان على رأسهم سلطان باشا ذلك الذي كان يعتبر في تلك الأيام من أكبر زعماء الحركة الوطنية.
وذهب إلى شريف وفد من هؤلاء يرجون منه قبول الحكم، فعرفوا منه انه يشترط ألا يتدخل الجند في شيء، ويريد أن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكانين يختاران لهما، وأن يترك قبل ذلك حراً في اختيار وزرائه لأن عرابي كان يطلب إليه إعادة البارودي وإدخال مصطفى باشا فهمي في الوزارة، وكان شريف يرفض ذلك لأنهما لم يثبتا على عهدهما فدخلا وزارة رياض عقب إقالة وزارته.
وتعهد هؤلاء الزعماء برياسة سلطان أنهم يضمنون لشريف خضوع الحزب العسكري، وكان بين هؤلاء من ذوي المنزلة في البلاد سليمان أباظة والشريعي والمنشاوي والمويلحي والشمسي والوكيل، وهم أهل جاه وسلطان يعرف شريف قيمة انضمامهم إليه.
وذهب عرابي بنفسه إلى شريف، قال عرابي: (وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1881 قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة فأصر على الرفض فقلت له: (إن لم(306/46)
تؤلف الوازرة اليوم فسنطلب غيرك ولا تظن أن ليس بالبلاد سواك فيها بعون الله العلماء والحكماء ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز الخطير. . . فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جواباً ثم خرجنا من عنده وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور (وكيل زراعته) وقال إن الباشا قبل ما عرضته عليه).
وألف شريف وزارته الثالثة وكانت هذه أولى ثمار الثورة، وقد قبل الوزيرين اللذين أشار بهما عرابي، كما قبل ما رجا منه قبوله رجال العسكرية وهو النظر في القوانين الخاصة بالجيش وذلك في نظير أن يخضعوا لحكمه ويبتعدوا عن كل تدخل.
وراحت مصر تستقبل في تاريخها فترة من أسعد الفترات فلقد نالت أمانيها دون أن تراق نقطة دم، وخرجت سالمة آمنة من ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب أهم الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية؛ ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب ثورة سنة 168 في إنجلترا وإلى جانب الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية الكبرى؛ ولولا ما كتبه المغرضون المبطلون من الأجانب عنها، وما ضربه الاحتلال على الآذان والقلوب فحال بين المصريين وبين تاريخ قوميتهم الحقيقي لكان لتاريخ هذه الثورة شأن غير هذا الشأن في هذا البلد المسكين.
ولقد كان المستر بلنت في مصر يومئذ فوصف تلك الأيام السعيدة بقوله: (إن ثلاثة الشهور التي أعقبت هذا الحادث لهي من الوجهة السياسية أسعد الأيام التي شهدتها مصر، ولقد أسعدني الحظ بمشاهدة ما جرى فيها بعيني رأسي فلم أتلق معلوماتي عنها بطريق السماع ولو كان ذلك لشككت في حقيقتها. إني لم أر في حياتي ما يشبه هذه الحوادث وأخشى ألا أرى مثلها في المستقبل إن كل الأحزاب الوطنية وكل أهالي القاهرة قد اتفقت كلمتهم هنيهة من الزمن على تحقيق هذه الغاية الوطنية الكبرى، لا فرق في ذلك كما يظهر بين الخديو والأمة، وسرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها على ضفاف النيل منذ قرون فكان الناس في شوارع القاهرة حتى الغرباء منهم يستوقف بعضهم البعض يتعانقون وهم جذلون مستبشرون بعهد الحرية العظيم الذي طلع عليهم على حين غفلة طلوع الفجر إثر ليلة مخيفة حالكة الظلام).
تقدم زعماء والعلماء إلى شريف بالعرائض يطلبون إعادة تشكيل مجلس شورى النواب؛(306/47)
وما كان شريف في حاجة إلى مثل هذا الطلب إذ كان في مقدمة ما ينتويه تقرير مبدأ الشورى وتثبيت قواعد الدستور وليست هذه أولى محاولاته في هذا السبيل.
ودعا وزير الحربية عرابياً، فأفهمه رغبة الحكومة أن يسافر بفرقته إلى رأس الوادي، وأن يسافر عبد العال إلى دمياط. فقبل عرابي ذلك، ولكنه اشترط أن يصدر أمر الخديو بانتخاب النواب قبل السفر، ولا ريب أن هذا الشرط من جانب عرابي خروج منه على ما أخذه على نفسه من عدم التدخل في شؤون الحكومة؛ وهي نقطة لا يسعنا إلا أن نحسبها عليه. بل ونلومه عليها مهما كان ما ينطوي عليه طلبه من خير للبلاد، ومهما كان في هذا الطلب من معاني حرصه على الدستور والحياة النيابية، وبخاصة إذا كان على رأس الحكومة رجل مثل شريف.
أما عن امتثاله لأمر الحكومة بقبول السفر، فهو أمر في ذاته - على الرغم ما أحيط به من اشتراط - يعد من محامد عرابي. إذ يدل على مرونة وكياسة ورغبة في التفاهم شتان بينها وبين ما يعزوه إليه خصومه وجاهلوه من الحماقة والنزق والعنف في كل ما يطوف بهم من سيرته. كما أنه يقدم بطاعته هذه دليلاً آخر على حسن طويته ونبالة غرضه فيما سعى إليه.
وفي اليوم الراب من أكتوبر سنة 1881 رفع شريف إلى الخديو مذكرة يلتمس فيها موافقته على دعوة مجلس شورى النواب، ولم يكن للخديو من إجابة رئيس وزرائه إلى ما طلب وما كان أغنى توفيقاً عن أن يعطل هذا المجلس لو أنه كان يحسن النظر في عواقب الأمور. إن البلاد اليوم لتحس أنها تصل إلى بغيها نيلا لا سؤالاً، ولسوف يكون لهذا الإحساس أثره فيما هي مقبلة عليه من الحوادث.
وخرج عرابي في اليوم الثامن من ذلك الشهر يقصد السفر بفرقته إلى رأس الوادي، وكان قد سبقه إلى السفر إلى دمياط عبد العال. وسار عرابي بطريق الحسينية حتى وصل إلى مسجد الحسين رضى الله عنه. (فوقف الآلاي مقابلاً للمسجد تعظيماً وإجلالاً لسبط الرسول علي الصلاة والسلام)؛ ودخل عرابي المقام الحسيني مع الضباط: (وأمر بيرق الآلاي على الضريح الشرف). ثم سار بعد ذلك نحو المحيطة. فما كاد يتوسط المدينة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ،(306/48)
ويلقون في طريقه الزهر والرياحين.
وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري وجمهوراً من الأعيان وذوي الحيثية وعدداً هائلاً من عامة الناس فاحتفوا بمقدمه، وكانت توزع الحلوى وتنثر الزهور في فناء المحطة؛ وكان يتسابق الخطباء والشعراء في تمجيد ذلك جرى اسمه على كل لسان في مصر؛ ووقف عرابي في هذا الجمع خطيباً فقال: (سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد وقطعنا غرس الاستبداد، ولا ننثنى عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادً ولا تدميراً، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستبعاد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة، وقد ساعدتنا العناية الإلهية ومنحنا مولانا وأميرنا الخديو ما طلبناه من سقوط وزارة المستبد علينا السائر بنا في غير طريق الوطنية، وتمتعنا بمجلس الشورى لتنظر الأمة في شؤونها وتعرف حقوقها كباقي الأمم المتمدنة في العالم، ومن قرأ التواريخ يعلم أن الدول الأوربية ما تحصلت على الحرية إلا بالتهور وإراقة الدماء وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم أو نخيف قلباً أو نضيع حقاً أو نخدش شرفاً، وما أوصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا الاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد). وهتف عرابي بحياة الخديو واهب الحرية، وحياة الجيش، وحياة الحرية، ثم امتدح الوازرة ورئيسها ووصف البارودي بقوله: (رئيسنا الوطني الحر القائم بخدمة الوطن وأهله). وحذر إخوانه في الجهادية من الوشاة والحساد، وحثهم على الاتحاد قائلا: (البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه). ولنا في هذه الفقرة الأخيرة في خطبته عودة كما أن لنا عودة إلى فقرة غيرها نكتفي الآن بالإشارة إليها وهي قوله: (وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة ويجانب حدوث ما يكدر صفو الراحة).
واستقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار كما حدث في الزقازيق حيث كان على رأس مستقبليه فيها أمين بك الشمسي ووقف عرابي يخطب الناس هناك فكان مما قاله (أما القوة فنحن رجالها، ولا ننثني عن عزمنا في الجسم نفس، وأما الفكر فهو(306/49)
منوط بأميرنا الأعظم ووزرائه الكرام. وأما العمل فهو منوط بكم فإن القوة والفكر يعطلان بفقد ثروة تربتنا الطيبة المباركة، وقد طلبنا لكم مجلس الشورى لتكون الأمور منوطة بأهلها، والحقوق محفوظة لذويها).
وقال عرابي في خطبة أخرى بالزقازيق (وأنتم الآن مهيئون للانتخاب فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم ويرفعون المظالم عنكم) ولم يسه في هذه الخطبة عن امتداح الخديو ووزرائه وهتف في ختامها قائلاً (يعيش الجناب الخديو).
وفي الزقازيق دعى لوضع أساس المدرسة الأميرية فذهب ووضع الحجر الأساسي باسم الخديو قال (وتلوت على الحاضرين خطبة ذكرت لهم فيها فوائد التعليم ومنافعه وفضل العالم على الجاهل والبصير على الأعمى، وحرضتهم على الاهتمام بأمر تعليم أولادهم ليكونوا مستعدين لخدمة بلادهم في المستقبل).
ثم سافر عرابي إلى رأس الوادي بعد أن أولمت له عدة ولائم في دور بعض وجوه مديرية الشرقية مسقط رأسه، وليس يخفى ما ينطوي عليه من معان تكريم هذا الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء؛ ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية الوليدة في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زماناً طويلاً لمظاهر السيادة والأرستقراطية
(يتبع)
الخفيف(306/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
412 - والله لا أدري أنا
أمين الدين الحوباني الصوفي:
مت في عشقي ومعشوقي أنا ... ففؤادي من فراقي في عنا
غبتُ عني فمتى أجمعنى؟ ... أنا من وجدىَ مني في فنا!
أيها السامع تدري ما الذي ... قلتُه؟ والله لا أدري أنا. . .
413 - أراني وإياكم طرائق قددا
في (ثمار القلوب): قال ابن عائشة: كان للحسن بن قيس ابن حصين - ابن شيعي: وابنة حرورية وامرأة معتزلة، وأخت مرجئة، وهو سني جماعي فقال لهم ذات يوم: أراني وإياكم طرائق قددا.
414 - أول من قال (واي ويه، واي ويه).
في (الأغاني): لما قال ابن مناذر (في رثاه عبد المجيد الثقفي):
ولئن كنت لم أمت من جوى الحزن (م) ... عليه لأبلغن مجهودي
لأقيمن مأتماً كنجوم الليل (م) ... زهراً يلطمن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحرى (م) ... عليه وللفؤاد العميد.
قالت أم عبد المجيد: والله لأبرن قسمه؛ فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواريه مأتماً عليه، وقامت تصيح عليه: (واي ويه! واي ويه!) فيقال: إنها أول من فعل ذلك، وقاله في الإسلام.
415 - الجد
قال أبو حيان التوحيدي: قال أبو غسان البصري - وقد ذكر جاهلاً مجدوداً - إن الجد ينسخ خال الأخرق ويستر عيب الأحمق، ويذب عن عرض المتلطخ، ويقرب الصواب بمنطقة، الصحة برأيه، والنجاح بسعيه. والجد يستخدم العقلاء لصاحبه، ويستعمل آراءهم وأفكارهم في مطالبه، ولو عرفت خبط العاقل وتعسفه وسوء تأتيه وانقطاعه إذا فارقه الجد،(306/51)
لعرفت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه.
قال أبو حيان: فقلت له فما الجد؟ وما هذا المعنى الذي علقت عليه هذه الأحكام كلها؟
فقال: ليس لي عنه عبارة معينة، ولكن لي به علم شاف استفدته بالاختبار والتجربة والسماع العريض من الصغير والكبير، ولهذا سمع من امرأة من الأعراب ترقص ابناً لها وتقول: رزقك الله جدُّا يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الجدود.
416 - البياض لباس حزن
قال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد:
ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب
لبستم في مآتمكم بياضاً ... فجئتم منه في زي عجيب
صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشد من المشيب
417 - الفضيلة الجامعة والرذيلة المفرقة
في (الكلم الروحانية): قال أفلاطون: الفضيلة تجمع أهلها على المحبة، والرذيلة تفرق بين أهلها بالتنافر والبغضة: ألا ترى أن الصادق يحب الصادق، ويستنيم إليه، وكذلك الثقة مع الثقة، والحسن الخلق مع الحسن الخلق، وترى الكاذب يبغض الكاذب، والسارق يخاف السارق، وكل واحد منهما حذر من مجاورة صاحبه.
418 - دعوة مظلوم!
في (تاريخ بغداد) لابن الخطيب: قال جعفر لأبيه ابن خالد ابن برمك - وهم في القيود والحبس -: يا أبت، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟! فقال له أبوه: يا بُني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها. ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدو في نعمة ... زمنا والعيش ريّانُ غدق
سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق
419 - الإرشاد في خرق الأدب المعتاد(306/52)
في (فتوحات محمد بن عربي):
بتنا ليلة عند أبي حسن بن أبي عمر ابن الطفيل بأشبيلية سنة (592) وكان كثيراً ما يحتشمني ويلتزم الأدب بحضوري، وبات معنا أبو القاسم الخطيب وأبو بكر ابن وسام وأبو الحكم بن السراج وكلهم قد منعهم احترام جانبي الانبساط، ولزموا الأدب والسكون فأردت أعمال الحيلة في مبساطتهم. فسألني صاحب المنزل أن يقف على شيء من كلامنا، فوجدت طريقاً إلى ما كان في نفسي من مبساطتهم فقلت: عليك من تصانيفنا بكتاب سميناه (الإرشاد، في خرق الأدب المعتاد) فإن شئت عرضت عليك فصلاً من فصوله. فقال لي: أشتهي ذلك. فمددت رجلي في حجره، وقلت له: كبسني! ففهم عني ما قصدت، وفهمت الجماعة فانبسطوا، وزال ما كان بهم من الانقباض والوحشة، وبتنا ليلة في مباسطة دينية.(306/53)
(النيل) نعسان. . .
نفثة من لياليه الساحرة
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ذهبتُ لهُ. . . والأنجمُ البيضُ حوَّمٌ ... على خمِره كالطير تحسو وترشُفُ
لها رعشةٌ مسحورةٌ في جَنانه ... وهمسُ حديثٍ في الحنايا مرفرف
صبتْهُ الرؤى فانساب نعسان مثلما ... على راحةِ المحبوبِ هوَّم مُدْنفُ. . .
وتمتمَ كالجبَّار ميلَهُ الكرى ... وفي فمهِ ذكرى البطولاتِ تهتف!
عَتِىٌّ يهابُ الدهرُ حرمةَ ساحِه ... ويفزَعُ إعصارُ الزمانِ المطَوِّفُ
فكيف تَغشّاه الكرى؟! وسجابِه ... وسجَّاه في الأحلام سِرٌّ مُغلَّف؟!
خشوعٌ وتسبيحٌ وطهرٌ. . . كأنهُ ... بِكفِّ الليالي أو بِكفِّيَّ مصحفُ!
وصمتٌ على الشطْآنِ أسمع خلفه ... صدى الأبد المخنوقِ للرُّوح يعزف
وألمحُ أشباحَ الفراعينِ فوقهُ ... رهابينَ تتلو اللوحَ والليلُ (أسقف)
ودنيا أغانٍ في الضِّفافِ نشدتها ... فعدت وأوتاري من اليأس تهرف
فيا (نِيلُ) كاشِفني السريرةَ واسقني ... منَ الغيبِ سُلواني إذا كنتَ تعرف
أتيْتُك مذبوحَ الخيالِ معذَّباً ... وكأسِي من سمَّ البّلياتِ تنزف
وفي صدريَ المهدودِ جُرحٌ وخنجرٌ ... ونارٌ على خدَّيْهِ بالرُّوحِ تعصفُ
وذكرى على شطّيك حن لعهدها ... وجُنَّ عليها عاشقٌ متلهّفُ
فهلْ فَيك للمحزونِ دَمعةُ راحِمٍ ... تُراق على ذِكرى الحبيب وتذرفُ؟!. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(306/54)
سوانح طائفة!
للأستاذ أحمد فتحي
قضيت بالشعر من دنياي أوطارى ... طوبَى لدنياي أو طوبى لأشعاري
هذا البيان، وعندي تبْر معْدِنه ... أدَّى إلى المجدِ معياراً، بمعيارِ
يا للرَّوائع، كم تجلو عوارِفُها ... ليلَ الحوادثِ عن صُبْح وأنوار
ودِدت أدرك من شعري وحكمته ... ما غابَ عن فِطنتي في غيب أستار
قَلّبْتُ فيه وجوهَ الرأي أجْمَعها ... وطالَ في البحثِ تَجوالي وتَسياري
ثم انثنَيت إلى نفسي أسائِلها ... هل يكسونَّ البيان الهيكل العاري
وما انتفاعُ أخي الأشعار عاليةً ... بصاغة الحمدِ، من حَشد وسُمَّار
وليس كالهاتِفِ المصغِي، وإن خَلقَتْ ... ديباجتاهُ، ولا كالكاتِبِ القاري!
ألست بالصائغ الشعر الذي هتفتْ ... به المواكبُ في ساحٍ ومِضمار
ماذا أفَدْت بأشعاري ورَوعتِها ... سوى عُلالةِ تخليدٍ لآثاري؟!
وما الخلود بميْسور لعارِيَة. . . ... غير الخسيسين من ترب وأحجار
ماذا أصابَ امرؤ القيسِ الذي عرفوا ... من عَبْقَرِيَّتِهِ مأثورَ أخبار؟!
غَنَّت بآياته الأجيال واسْتبقتْ ... تُزْجى له الحمدَ في مَوروث أسفار
ولاتَ حينَ ثناءٍ ليس يَسَمعُهُ ... إلا الذي صاغَهُ من جود مَكاّر!
فِيمَ الثناءُ على الموتَى، أتمْنحُهم ... دُرَّ المدائح، قنطاراً، بقنطار؟
وهل يَردُّ عليهمٍ طيب عيشِهمو ... طِيبُ الثناءِ، إذا وافَى بمقدار؟
يا ضيعةَ الشعر، إن لم تَمْتلئْ يَدُهُ ... بدرهمٍ، يكفُلُ الدنيا، ودينار
يا هاتِفَ الوحيِ أقْصِرْ زِدْتَنا شَجَناً ... وهْجِتَ بَرْحَ الجوَى، من بَرْح تَذْكار
ما حيلةُ الشعر في قوم إذا حشَدوا ... في أهلِهِ كلَّ طبَّال وزمَّار؟!
حِمَى البيانِ استباحوهُ، وكان له ... محض التجلة في قُدس وإكبار
قضُوا بذّلته في الأرض وانبعثوا ... يستأثرون بغاياتٍ وأوطار
إني لأبْصره هَيمان مَّطرَحاً. . ... يشكو الجنايةَ من إيذاءِ أغرار
مُرَوِّعاً تترامَى الكارثاتُ به. . ... وتَبْتَلِيهُ بزلزالٍ وإعصار!(306/55)
بضاعةً تهبطُ الأسواق كاسدةً ... لا بائعٌ رابحٌ فيها، ولا شارِ
وكان بالأمس أغْلى ما يُعزُّ به ... مَجدُ القبائلِ، في بيدٍ وأمصار
يُعِلى ويُدِنى، كما شاَءت رغائبُه ... رفعاً وخَفضاً، لأقدارٍ، وأقدار
يَبني ويهدِم دنيا الخلق من عَجبٍ ... كأنه قُدْرة في كفِّ جبَّار!
ويرزُقُ الناسَ دنيا من فواضلِهِ ... فيحاَء، تُزَهى بجنَّات وأنْهار
إذا تَبسَّمَ فالأكوان باسِمةٌ ... كأنها الروضُ في إشراقِ آذار
وإن تَجَهَّمَ فالأيامُ عابِسةٌ ... نكراءُ تَرْمِى بأكدارٍ وأوضار
فما لِدولته دالَت، ومال بها ... إلى الحضيض ملام الشانئ الزاري
كأن قومي رأَوْا فضل الجحود على ... أصحابه، فأثابونا بإنْكارِ!
والشعرُ أوْلَى بإعلاءٍ وتكرمَة ... لكن جُزينا على فضلٍ بأصغار!
أم هذه شِرْعةُ الأيام، من سَفهٍ ... تختالُ ما بينَ إقبالٍ وإدبارِ
وقد تعزَّيت عن يومي بأمس، وفي ... غدي القريب رجاءٌ غير مُنُهار!
بني العروبةِ هذا صوتُ شاعركم ... كأنهُ نغمٌ من عزْفِ أوتار
تلمّسوا المثلَ الأعلى لديه، وكم ... يستلهم الحقُّ من آياتِ أشعار
ولا تضيقوا به إن يَرْم غادِيَكمُ ... بموجعٍ من شديدِ القولِ هَدَّار
قد يبلغُ الشعبُ بالآداب ساميةً ... ما ليس يبلغُه بالسيف والنار
دعوكمو من قديم المجدِ، وانتبذوا ... ذاكَ الفَخارَ، بتاريخ وآثار!
المجدُ يحظَى به الساعِي إليه وفي ... جنبيه قلبُ جَليدٍ غير خَوَّارا!
(القاهرة)
أحمد فتحي(306/56)
أمنية
(لما ابتسم الربيع ابتسمت)
للآنسة جميلة العلايلي
يا خالق الحسن هبني الحسن أجمعه ... عّلى من الحسن أروي روح ظمآن
قد شفنى الحسن ممنوعاً فأرقني ... صوت ملحٌّ وراء الأفق نوراني
روح تهادت وشاق الروح فتنتها ... إلى عوالم لَمْ تخطر بحسبان
هبني الكمال وهبني صورة وضعت ... في الخلد ما بين أضواء وألحان
قلبي من الشوق أوصال ممزقة ... يرجو لقاء فؤاد حالم حان
روحاً أذوب روحي في مناعمها ... كأنها لم تكن روحاً لإنسان
جميلة العلايلي(306/57)
رسالة العلم
غرفة ولسون
اتجاهات حديثة في العلم التجريبي - هذه أنابيب النيون عيون خير من عيوننا - كيف كشف أندرسون االبوزيتون - غرفة ولسون هي أقصى ما بلغه العلم التجريبي من العظمة والدقة.
للدكتور محمد محمود غالي
دعوت ذات مرة العالم الكبير جييه أستاذ السوربون لمشاهدة بعض تجارب كنت أقوم بها خاصة بدراسة ميوعة السوائل، فلبى دعوتي وشرفني بحضوره من السوربون إلى معهد باستير، وظل ردحاً من الوقت يروح جيئة وذهاباً أمام الحوض الزجاجي الذي أعددته لإجراء هذه التجارب.
مضت أيام صعدت بعدها سلم السوربون واستأذنت في زيارة الأستاذ، وعندنا دخلت معمله وجدته يقوم ببعض التجارب العلمية الخاصة بالميوعة أيضا، ولا أدري إن كانت زيارته السالفة هي التي جعلته يهتم بهذه الناحية التجريبية من البحث العلمي، التي أعلم أنها عند الأستاذ أقل شأنا من غيرها، ولا سيما في وقت كنت أعلم درجة اهتمامه بالخطوات التجريبية الخاصة بالمرناة (التلفزيون).
أما موضوع دراسة الميوعة الذي شغل الأستاذ جييه فهو خاص بالطيران، ذلك أنهم يؤملون أن تتمكن الطائرات يوماً ما أن تطير في الطبقات العليا من الجو التي يسمونها (ستراتوسفير) ويزيد ارتفاعها عن 14 كيلو متراً، وقد دلت التجارب على أن الطائرة في هذه الحالة تخترق طبقات من الجو تزيد درجة الحرارة فيها عن 50 درجة، وطبقات أخرى تنقص فيها درجة الحرارة عن الستين، وهو ما حدث للعالم بيكار، عندما صعد في كرته التي صنعها من الألمنيوم.
ويتحتم مع هذا الاختلاف في درجة الحرارة دراسة خواص الزيوت المستعملة في الطائرات: أي دراسة ميوعتها مع درجة الحرارة، والعوامل الطبيعية الأخرى، وإلا صعب استعمال هذه الزيوت في محركات الطائرات.
وجدت الأستاذ أمام بندول بسيط من الخشب من صنعه أو صنع عامل في معمله، وهذا(306/58)
البندول يوصل تياراً كهربائياً ويقطعه في كل مرة يهتز فيها، ورأيت أمام العالم أنبوبة صغيرة من أنابيب النيون التي شاع استعمالها الآن في الإعلانات ليلاً في الشوارع، وكرة نحاسية معلقة بسلك يحمل في أحد أطرافه مؤشراً يدور دوران السلك فتدور معه الكرة في السائل المراد اختباره، وكلما أكمل البندول هزة اتصل أحد أطرافه بحوض من الزئبق، فيمر التيار الكهربائي وتتوهج الأنبوبة التي لا تلبث أن تنطفئ بمبارحة البندول للزئبق، وهكذا كلما كان السائل مائعاً تأخرت الكرة قليلاً في دورانها عن السلك الحامل لها أي عن المؤشر، وهذا المؤشر لا يظهر للعين إلا في الفترات القصيرة التي تتوهج فيها أنبوبة النيون.
التفت إلى الأستاذ وقال مشيراً إلى أنبوبة النيون: (هذه عيون أحسن بكثير من عيوننا)، وهو بهذا التعبير الصادق يلخص لنا الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، الذي بات لا يعتمد على حواسنا كما كان الحال في زمن قريب بقدر ما يعتمد على الوسائط الطبيعية.
والواقع أن العين وهي أعظم ما نملكه من حواس هي جهاز متوسط لا يعد شيئاً مذكوراً بجانب الوسائط العلمية الأخرى التي تفوقها حساسية وتعظمها دقة، ولو أن الإنسان اعتمد في كل ما يرجوه من تقدم في أعماله التجريبية على حواسه، لما تقدم العلم للحد الذي هو فيه اليوم، ولما اختلف كثيراً العهد الذي نعيش فيه عن أقدم العهود.
إنما ذكرت تجارب جييه واستعماله غاز النيون والظاهرة المعروفة باسم (الستروبوسكوبي) لأبين للقارئ الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، فلا ترجعن المسائل للمحسوسات وحدها، وإلا عدنا لعصر الإغريق عندما كان الدليل الفلكي لا يزيد عن بضع مئات من النجوم، أو عصر العرب عندما كنا نقضي عشرة أيام لكي نسافر من القاهرة للإسكندرية، حيث كنا مجبرين أن نتبع فوق ظهر الإبل حركتها الدورية أكثر من مائة ألف مرة، وهي الحركات الناشئة عن خطوات الجمل الذي يحملنا بتثاقل لقطع مثل هذه المسافة البعيدة جداً في العهد المنصرم والتي أصبحت على طرف الثمام في العهد الذي نعيش فيه.
وهكذا في معظم التجارب الطبيعية اليوم لا تأتي العين إلا في المرحلة الأخيرة منها. ولعل أحسن ما أقدمه من مثال للقارئ هو أن أشرح له (غرفة ولسون)، وهو جهاز يرسم لنا مسارات الأشعة الكونية، وهي الأشعة التي قدمنا أنها آنية من عوالم بعيدة لا نعرف(306/59)
مصدرها، وتخترق طبقات الجو وما يقابلها من مادة، والتي قدمنا أنها مكونة من إلكترونات وبوزيتونات سريعة، وهي أصغر ما نعرفه من الجسيمات المكونة للذرة.
هذه الغرفة يتضاءل مجهود العين بجانب ما يدور فيها من حوادث جسام، لا تدركها العين إلا بعد أن تصبح لهذه الحوادث آثار تدل عليها، وهو نوع من التحايل التجريبي، وفق إليه العلماء كل التوفيق.
ويتكون الجهاز من وعاء بداخله مكبس يغير ضغط ما بداخله من غاز أو بخار، فعند مرور جسيم من جسيمات الأشعة الكونية يحدث عدد من الأيونات في هذا الغاز وتساعد حركة المكبس في نفس الوقت على تكاثف قطرات الماء الرفيعة على الأيونات الحادثة وذلك من تخفيف الضغط دفعة واحدة - وهذا التكاثف الذي يحدث عند مسار الجسيمات الكونية يمكننا من رسمها على اللوح الفوتوغرافي فنرسم بهذا في الواقع مسارات الجسيمات الكونية وتسمى هذه الطريقة بطريقة ولسون أو طريقة الضباب لولسون. ولا يفوتنا أن نذكر أن سنة 1929 كان أول من قام برسم مسارات لجسيمات تفوق طاقتها طاقة جسيمات المواد الراديومية، فكان أول من استعمل طريقة الضباب المتقدمة في أبحاث خاصة بالأشعة الكونية، وطريقة ولسون هذه تسمح بمعرفة الطبيعة والطاقة التي عليها جسيمات الأشعة الكونية من درجة انحناء مساراتها واتجاه هذه المسارات ودرجة التأين الحادثة من هذه الجسيمات، وذلك بتعريض الغرفة لمجال مغناطيسي قوي.
وكم كان عظيما للعلم ورافعا للعرفان أن تتقدم الأبحاث الخاصة بغرفة ولسون للحد الذي سمحت فيه للعالم الكبير الذرة الموجبة للكهرباء التي نسميها بوزيتون منحه المجمع السويدي من أجل هذا الكشف جائزة نوبل للطبيعة.
لقد استعان أندرسون في بادئ الأمر في تجاربه التي قام بها
في باسادينا، تجاربه التي قام بها في روستوك، بمجال
مغناطيسي قوي يبلغ 18 ألف جوس، فوجدا أن مسارات جميع
الجسيمات المكنة للأشعة تنحني في مثل هذا المجال القوي،
وبفرض أن كتلة هذه الجسيمات هي كتلة الإلكترون فإن(306/60)
طاقتها تقع بين 108، 106 إلكترون فولت، بل تبلغ طاقة
بعضها 1010 الإلكترون فولت، وقد وجدا بادئ الأمر أنه
بينما ينحني نصف هذه الجسيمات في اتجاه معين داخل غرفة
ولسون، ينحني النصف الثاني في الاتجاه الآخر، مما يدل على
أن شحنة نصف عدد هذه الجسيمات سالبة وشحنة النصف
الآخر موجبة.
على أن استمرار البحوث في دراسة المسارات المنحنية في اتجاه الجسيمات الموجبة الذي قام به أندرسون أدى إلى كشف غريب بعد من أهم اكتشافات العلوم الطبيعية الحديثة، ففي إحدى الفوتوغرافيات العديدة التي قام بها أندرسون ظهر بوضوح مسار لجسيم اخترق لوحة معدنية موضوعة داخل الغرفة ففقد هذا الجسيم باختراقه اللوحة جزءاً من طاقته لدرجة وضح فيها اتجاه الجسيم الذي دل باتجاهه على أن شحنته موجبة. ولقد كان مساره طويلاً للحد الذي لا يمكن اعتباره مع طول هذا المسار (بروتوناً) (نواة الهيدروجين) وكتلة هذا الأخير، أي البروتون، تساوي 1850 مرة قدر كتلة الإلكترون، عندئذ اقترح أندرسون إمكان وجود جسيم موجب الشحنة قائم بذاته يختلف عن البروتون، وهذا الجسيم الذي كشفه تقرب كتلته للإلكترون عن البروتون وقد سمى فيما بعد (بوزيتون).
ولقد ثبت رأى أندرسون هذا بتجارب أخرى عديدة قام بها اللذان توصلا لتحسين طريقة غرفة ولسون كما توصلا لإثبات ما هسر أندرسون عنه الستار.
وينحصر عمل بلاكت وزميله أوشياليني في أن تمكنا من أن يجعلا الجسيمات الكونية هي التي تقوم بنفسها بعمل الفوتوغرافيات لها في الوقت الذي تمر فيه، وذلك بأن تمر أولاً هذه الجسيمات في عدادين من العدادات التي سبق أن شرحناها، فينتج عن التأين الحادث في هذه العدادات زيادة في فرق الضغط الكهربائي وبالتالي حركة ميكانيكية، هي التي تقوم بتحريك المكبس في غرفة ولسون، بحيث أن الغرفة لا تعمل إلا عند مرور جسيم كوني.(306/61)
عندئذ بات من المؤكد ألا تحصل هذه الفوتوغرافيات إلا عند مرور الجسيمات الكونية، ومما يجدر بالذكر أنه قبل استعمال هذه الطريقة كان يلزم أن يقوم الباحثين بعمل مئات الفوتوغرافيات ليحصل على واحدة أو اثنتين من الصور التي يرى عليها مسارات هذه الجسيمات الكونية، لأنه عندما يقوم الباحث بتحريك المكبس والجهاز الفوتوغرافي لا يعلم إذا كان يمر في نفس الوقت جسيم من الأشعة الكونية، أما الآن فإنه في كل مائة صورة ترى حوالي 75 صورة مرسوماً عليها مسارات هذه الجسيمات المتناهية في الصغر.
ويتلخص الموقف اليوم أنهم توصلوا لعمل أجهزة تسمى عدادات الإلكترونات وتوصيلها بعضها ببعض، بحيث لا تتأثر إلا بمرور جسيم كوني يخترق العدادات معاً، وأنه بتأثر هذه العدادات يتحرك المكبس الموجود في جهاز آخر، يسمى جهاز ولسون، كما يتحرك الجهاز الفوتوغرافي، بحيث أن أصغر مكونات الكون وهو الإلكترون عند مروره أو مرور شقيقه البوزيتون بسبب كل منهما حركة كل هذه الأجهزة، فتسمعه أولاً ثم ترى مساره ثانياً، بل ترى أثر ما أحدثه من تهدم وتفتت في ذرات المادة التي اخترقها.
وفي الشكل (1) ترى غرفة ولسون وترى حزمة من الجسيمات تظهر في الجزء الأعلى من هذه الغرفة كما ترى حزمة من الجسيمات المطرودة من لوحة الرصاص الموضوعة داخل الغرفة. وفي الشكل (2) يرى القارئ زوجين إلكترون، وشقيقه البوزيتون، الجسيم المكتشف حديثاً، يظهران فجأة في غرفة ولسون، وتعد غرفة ولسون، وما يدور فيها من حوادث جسام أعظم ما توصل إليه العلماء في البحث التجريبي.
وإلى اليوم الذي قد يتاح فيه القيام بتجارب أعظم أثراً من التجربة السابقة، عندما يتاح للعلماء أن ينتفعوا مثلاً بالطاقة والنشاط الموجودين في المادة في مرافق حياتنا المختلفة، عندما لا نعتمد فيما نحتاج إليه من طاقة إلى ما هو معروف من الفحم، والوقود والكهرباء، عندما يصبح مصدر ما نحتاج إليه القليل من المادة والتافه من الأشياء؛ فأن التجربة الخاصة بغرفة ولسون ستظل حتى هذا الوقت من أعظم وأدق التجارب العلمية التي تحققت في وقتنا الحاضر.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون(306/62)
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(306/63)
رسالة الفن
دراسات في الفن
طابعنا المصري في فننا
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
منذ أحس المصريون حاجتهم إلى أيجاد كيان ذاتي خاص بهم يميزهم من غيرهم، وأهل الفن منهم يجهدون أنفسهم سعياً وراء فن قومي يكون له طابعه المصري الخاص الذي إذا اتضح وتجلى ثبت للعالم كله أن مصر لها ذوق فني قائم بذاته، وأنها بذلك الفن أمة جديرة بالاعتناء حقيقة بأن تمضي بين الشعوب الحية في هذا الزمان؛ فإنه لا شيء يميز أمة من أمة إلا الفن، لأنه النتاج النفسي المعبر عن إحساسهم والذي لا يحسه غيرهم، ولا يمكن أن يحسه غيرهم إلا إذا عاش معهم في ثنايا مجتمعهم وعلى أرضهم وتحت كل المؤثرات المادية والمعنوية التي تؤثر فيهم. وهذا شيء يستلزمه الفن وحده؛ وهو في هذا يختلف عن العلم الذي تستطيع كل العقول البشرية أن تساهم فيه وأن تتشابه. فأنت إذا ذكرت لأي إنسان الرقم (5) لم يبعد أن يطوف بذهنه أن الخمسة مجموعة من الاثنين والثلاثة، أو من الواحد والأربعة، ولكنه لا يمكن أن يخطر على بال أحد من غير المصريين أن الرقم (5) له معنى آخر وهو مقاومته للحسد، ذلك أن هذا التحول بمعنى الرقم الأصلي إلى هذا المعنى العرفي الجديد شيء اصطلح عليه المصريون وحدهم وقد هيأتهم له عوامل ودوافع لم تتخلق في غير البيئة المصرية، وهذا التحول الجديد اسمه عند أصحاب البلاغة كناية أو مجاز أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي تشير إلى أن الكلمة قد خرجت عن معناها الأصلي إلى معنى جديد. . . ولا شيء يصنع هذا الصنيع بالكلمات إلا الفن.
هذا والمصري يتعلم الحساب كما يتعلمه الفرنسي ولكنه لا يعرف للرقم (5) المعنى الذي نعرفه. إن الفرنسي يدرس الهندسة النظرية كما يدرسها الياباني، ولكنه حين يطبقها وحين يخرج بها من العلم النظري إلى الفن المنفوث فيه من ذوقه وروحه كانت عمارته التي يجمع علمه بالهندسة لإنشائها مختلفة اختلافاً تاماً في مظهرها وتكوينها عن عمارة الياباني التي ينفث فيها هو أيضا من ذوقه وروحه ما ربته اليابان في نفسه بمناخها، وطبيعة(306/64)
أرضها وعادات أهلها، ودينهم وأخلاقهم أيضا.
فإذا اتفقنا على أن الفن وحده هو الذي يميز الشعوب بعضها من بعض - وهذا أمر أظن أنه قد أصبح ميسوراً أن نتفق عليه - رأينا أهل الفن المصريين الذين أحسوا وجوب ابتداع فن مصري حديث محقين منصفين وطنهم المسكين الذي طال شوقه إلى العزة الذاتية التي لم يعد لنا سبيل إلى تحقيقها إلا عن طريق الفن ما دمنا قد أدركنا أن الصناعات والعلوم إذا تشابهت في الأمم لم يكن هذا مما يمس كيانها الذاتي، وما دمنا مؤمنين بأننا متخلفون في هذه الآفاق جميعاً عن غيرنا فلن نلحقهم فيها إلا بعد جهد.
نحن إذن لا نملك إلا أن نعجب بكل فنان مصري يعمل لإنشاء الفن المصري أو ينادي بإنشائه لأن في عمله هذا سعياً إلى تثبيت عزتنا القومية.
ونريد الآن أن نتعرف الطريق الذي يؤدي بنا إلى هذه الغاية النبيلة، وقد يرى القارئ بعد الكشف عن هذا الطريق أن مصر لا تزال عذراء وهي المليحة الحسناء، وأن الفنان المصري الظمآن إلى الجمال لا يزال بعيداً عنها كل البعد يبحث عن عروسه في الفضاء، وفي الهواء، وهي تكاد تتخاذل من الشوق اليه، وتكاد تستخذى من كثرة ما تبرجت وازينت وخطرت أمام بصره وتهادت أمام بصيرته، وهو يأبى إلا أن يغمض دونها عينيه، وأن يغلف دونها نفسه كأنما هو يتقيها اتقاء وكأن بينه وبينها ثأراً. وقد يحسن قبل أن نزف هذه العروس إلى هذا المتعشق الحيران أن نحدثه عنها قليلاً. فما هي مصر؟
هي أولاً هذه الأرض التي تعرفها والتي تتشكل الطبيعة فيها بثلاثة أشكال بارزة قد ترادفها أشكال أخرى، أما هذه الأشكال البارزة فهي هذه البيئات الجغرافية الثلاث: بيئة الصحراء، وبيئة الريف، وبيئة السواحل. وأما البيئات الأخرى فنذكر منها بيئات المدن، والواحات، والبحيرات. ومصر هذه يشقها من الجنوب إلى الشمال نهر النيل، وتتناثر في شمالها وشرقها البحيرات، ويجاورها من الجنوب السودان فيلون أهل جنوبها ببعض لونه الذي يمتصه من بيئته الجغرافية. وتكاد مصر بعد ذلك تنعزل عن أراضي جيرانها.
أما سماء مصر فصافية مكشوفة لا تتلبد إلا عند السواحل فقط، وأما مناخها فمعتدل هادئ أميل إلى الحرارة لا يصطخب ولا يبرد إلا عند السواحل أيضا.
هذه هي بيئة مصر الجغرافية وهي كما ترى بيئة سهلة لا تعقيد فيها، وقد طبعت هذه البيئة(306/65)
السهلة أهلها بهذه السهولة، فالمصريون فيهم من الطفولة البشرية ما في أرضهم وجوّهم من الطفولة والسلاسة، وهذه الطفولة نفسها هي أخصب مجال للفن إذا اتفقنا على أن الفن الصادق هو ما كان مبعثه الحس لا التفكير. والشعب المصري يشهد بهذه الحقيقة؛ فما من مصري إلا وله اتجاه فني خاص؛ وأغلب المصريين يتجهون إلى الغناء والنكتة، والغناء فن، والنكتة فن. هذا إلى جانب ما يشيع في المصريين على مر الزمن من إدمانهم لفن (التدين) الذي آثروه على بقية الفنون فتيسر لهم من ألوانه ما تتابع عليهم وعلى حياتهم منذ ألهوا فراعينهم إلى هذا الزمن الذي وحدوا فيه الله توحيداً صريحاً، ولكنهم مع هذا التوحيد أبو إلا أن يتزلفوا بالتقديس إلى أرباب القباب من الموتى، وأهل الزعامة من الأحياء.
فالشعب المصري إذن شعب فنان لأن أرضه تبعث الفن بما لها من السهولة والنقاء.
فإذا فرغنا من دراسة مصر جغرافياً وجب علينا أن ندرسها بعد ذلك اجتماعياً. وقد لا يجهدنا هذا الدرس إذا سلكنا إليه أقرب السبل فقلنا: إن المصريين سكان هذه الأرض المتشكلين بأشكالها، هم إما صحراويون طبعتهم الصحراء بطبعها، وإما ريفيون شكلهم الريف بشكله، وإما ساحليون لونهم البحر بلونه. . . ولعلنا نعرف أن كل بيئة من هذه البيئات الجغرافية تؤثر في طباع أهلها تأثيراً خاصاً، فابرز ما يميز أهل الصحراء الشمم لدوام حريتهم وإبائهم الضيم؛ وأبرز ما يميز أهل الريف الصبر لخضوعهم الإجباري لنظام الزراعة ومواقيتها؛ وأبرز ما يميز أهل السواحل روح المغامرة التي يبعثها في نفوسهم التجول في البحر. وإلى جانب هذه الصفات البارزة في أهل كل بيئة من هذه البيئات الجغرافية صفات أخرى لابد أن يحسها الفنان، وقد يستطيع الباحث المتفهم أن يستطلعها.
فرغنا الآن من مصر المعاصرة فألمنا بها أرضاً ومجتمعاً. ولكن مصر المعاصرة هذه ليست مصر كلها، فأن لمصر تاريخاً ماضياً، وإن لها آمالا في المستقبل؛ وإن لها في الحاضر نفسه صلات بغيرها من الشعوب؛ وتاريخ مصر الماضي يتمم كيانها الحاضر، ويساهم في رسم طريق المستقبل وتعبيده، وإن آمالها التي ترجوها في المستقبل تحيا في حاضرها وتوقظ من ماضيها ما تستلزمه وما تريد أن تعتمد عليه، وإن صلاتها الحاضرة بغيرها من الشعوب والأمم تعمل هي أيضا في تبلور كيانها، ولعل هذه الصلات هي أشد العوامل تأثيراً في الذات المصرية الناشئة، ولعلها أشدها خطراً على استقلال هذه الذات،(306/66)
فهي إذا دبت إلى العلم والصناعة ارتقت بالمصريين، ولكنها إذا تمكنت من الفن المصري مضغت مصر وقذفتها إلى المحتكمين بها لقمة سائغة.
وقد يكون من الخير للإنسانية كلها أن تندمج وأن يتوحد ذوقها وحسها، ولكن يظهر أن هذه أمنية يصعب تحقيقها، ويظهر أيضا أن تحقيقها لن يتم إلا إذا سرى قانون بقاء الأصلح، فإذا كان هذا حقاً فإنه يتعين علينا أن نجاهد كي نكون من الصالحين حتى لا تلتهمنا الإنسانية إذا كانت ماضية إلى التوحد. وأنها لماضية إليه. وكل الدلائل تدل على هذا المضي وإن كنا نظن أن الفن وحده هو الذي سيبقى مميزاً لأصحاب الأوطان المختلفة بعضهم من بعض، وإن كان هذا التمييز سيتقلص كثيراً حتى ينحصر في شكل الفن وأسلوبه وبعض روحه إلى أن يشاء الله غير ما شاء منذ جعل الناس شعوباً وأمماً ليتعارفوا.
وعلى أي حال فنحن لا نزال في حاجة إلى فن مصري قوي. وهانحن أولاء رأينا أن الشعب المصري مفطور على الفن بطبعه: خلقته فيه بيئته وأرضه؛ فهل استطاع المتصدون لإبداع الفن في مصر هذه الأيام أن يشبعوا هذا الشعب فناً مصرياً؟
هل يقرأ المصريون من أهل البيئات المصرية المختلفة ما يكتبه أدباؤنا المصريون؛ وهل يفهمه ويحسه الأميون منهم إذا قرى عليهم؟ وهل يستطيع المصريون أن يستمتعوا بالصور التي يرسمها رساموهم؟
وهل يتغنى المصريون بهذه الأغاني التي يرتلها المغنون اليوم؟ وهل ينشد المصريون هذا الشعر الذي يكتبه شعراؤهم وهل يعطفون عليه ويحبونه؟
هل يقرر الواقع شيئا من هذا؟ كلا؟ فالواقع يقرر أن أهل الفن عندنا في واد وأن الشعب المصري في واد. ويظهر أن ذلك راجع إلى نهضة الفن عندنا صاحبت نهضة الثقافة فخرج الفنانون المصريون من بين المثقفين، والثقافة المصرية الحديثة كما هو واضح ثقافة مترجمة منقولة؛ وليتها كانت مترجمة عن أصل واحد قريب من طبعنا، وإنما هي أمشاج من ثقافات شعوب مختلفة لكل منها ذوق ولكل منها طبع. ولقد كان هذا الاضطراب سبباً في اضطراب العقل المصري المثقف، واضطراب النفس المصرية المثقفة. فالفنان المصري المثقف يخرج فناً قد عبثت به الثقافة المضطربة هذه فهو كالخيط المتباعد(306/67)
الأخلاط، وليس كالمزيج الذي اندمجت عناصره فأصبح بهذا الاندماج عنصراً جديداً له ذات جديدة وكيان جديد.
لهذا يستوحش المصريون هذه الفنون المثقفة، ولهذا يحب المصريون فنونهم الساذجة البلهاء التي ينتجها فنانون لا يعرفهم المثقفون وقد لا يعرفهم الشعب نفسه وإن كان يتعشق فنونهم لهذا كان علينا إذا أردنا أن ننشئ الفن القومي أن نسلك سبيلاً من سبيلين: فإما أن نصبر على هؤلاء الفانون المصريون من غير المثقفين حتى يروقوا وينضجوا فيحتلوا مكانتهم التي تؤهلهم الطبيعية لاحتلالها ويكون هذا أمراً طبيعياً لا يعترضه معترض، وإما أن نحز نفوس المثقفين من أهل الفن عندنا ليتيقظوا من ثقافتهم وليعودوا إلى الطبع المصري، وأظن أنه ليس من العسير على الإنسان أن يسترد نفسه، وأن يسترجع أصله، وأن يستعيد طبعه وأن يغسل نفسه مما لصق بها من الزيف.
ها هي ذي مصر أمام الرسام، وهاهي ذي بيئاتها المختلفة ماثلة أمام عينيه بما فيها من ناس وحيوان ونبات وجماد، وهاهي ذي أخلاق أهليها وعاداتهم تناوش نفسه ما دام يعايش أهلها ويعاشرهم. أفلا يستطيع الرسام المصري إذن أن يقف وقفات كثيرة عند مظاهر كثيرة ومعان كير من مظاهر الجمال ومعانيه في هذه البيئات المصرية المختلفة؟! إنه يستطيع لو أنه فتح عينيه واستقبل الصور التي تتلقيانها بنفس مصرية. ولا ريب أن هذا القارئ قد لحظ أن عقائد المصريين - مثلاً - لا تزال بعيدة عن التصوير المصري. فمن من المصريين رسم صوراً لقصة السيد البدوي! وللسيد البدوي عند المصريين أقاصيص فيها مواقف تستحق الرسم والتصوير؟ ومن من المصورين المصريين صور الحاوي المصري؟ ومن منهم صور (شيخ الطريقة) ومن منهم صور (بطولة أحمس) ومن منهم صور (غزوة السودان) و (أهل الكهف) و (زفة العروسة) و (رقصة البدو) و (صيد الترسة) و (معركة في الإسكندرية) و (البحث عن أم الحلول) و (صانع القلل) و (عامل المحلة) و (نكتة رشيد) وما إلى ذلك من الموضوعات المصرية البحتة التي لو أخرجت في ألوانها المصرية الطبيعية الصحيحة لأرضت كل إحساس وكل فكر.
وهاهي ذي مصر عند سمع الموسيقى: لماذا لا يغني أهل الصعيد هذه الألحان التي تصاغ في القاهرة؟ ألأن لهم لهجة في الكلام غير لهجة القاهريين؟ كلا، فلهجات الكلام لم تكن يوماً(306/68)
حجاباً دون النغم. فها هي ذي الأوبرات الإيطالية تستبقي ألحانها وأنغامها كما صاغها ملحنوها ويستبدل بنظمها نظم إنجليزي في إنجلترا وفرنسي في فرنسا وألماني في ألمانيا فلا ينفر الإنجليز ولا الفرنسيون ولا الألمان من الموسيقى الإيطالية في هذه الأوبرات مثلما ينفر أهل الصعيد من الموسيقى القاهرية. . . فهل يدل هذا على شيء أكثر من أن اعوجاجاً أصاب الذوق الفني في القاهرة فخرج به على الطبع المصري إذا أراد التجديد؟ أولا يدل على هذا على أن أصحاب التجديد قد انخدعوا في تجديدهم إذ أرادوا أن يلاحقوا به تجديد سيد درويش وهم لا يذكرون أن موسيقاه كانت رجعة إلى الطبيعة الإنسانية وصحوة ارتجفت بها الروح المصرية. والدليل على ذلك أن الحالة التي صور بها بيئات المصريين كانت تعبيراً صحيحاً صادقاً عن النفس المصرية فراجت بين المصريين رواجاً رائعاً، ومنها ما لا يزال يطن في الأذن إلى اليوم مثل (طلعت يا محله نورها شمس الشموسة) و (مليحة جوى الجلل الجناوي) و (يا ولد عمي يا بوي) و (يا صلاة أم إسماعيل في وسط عيالها). . .
ويحق علينا ما دمنا نرمى إلى إحقاق الحق أن ننصف الموسيقيين المصريين فنقرر أن الأصوات الطبيعية التي يمكن أن تنقل عن البيئة المصرية الطبيعية قليلة، فليس في مصر زوابع ولا أعاصير ولا أمطار ولا رياح ولا غابات تصفر فيها الريح وتزأر فيها الأسود، ولا شيء من هذا الذي تنعم به البيئات الأخرى، ولكن ليس معنى هذا أن بيئتنا المصرية مجدبة مما يوحي الموسيقى، فإن في هدوئها وتخافت أصواتها ورهبتها وجمالها وخفتها وجلالها، وما في مجتمعها وتاريخها وآمالها ما يصلح لتأليف أنصع الموضوعات الموسيقية المنشودة. لا يتوقف ذلك إلا على شعور الموسيقيين المصريين ببيئتهم المصرية وما فيها.
نحن الآن مع الأدباء أمام الحياة المصرية. وللأدب في مصر مشكلتان لا مشكلة واحدة: أولهما مشكلة (الموضوع) التي تعرضنا لها في الرسم والموسيقى، وأخراهما مشكلة (اللغة) فنحن في مصر نتكلم لغة ونكتب أخرى. ولغتنا على تقاربهما الشديد مختلفان لا يمكن أن ينكر اختلافهما إنسان. وعلى أساس ما قررناه كان أقرب الأدب إلى طبع المصري هو أقربه إلى لهجته وكلامه إذا عالج موضوعات من حياته كما يفعل الأديب المصري الصادق محمود بيرم التونسي، فأدبه مستخلص من الحياة المصرية ومؤدى باللسان المصري.(306/69)
على أننا نستطيع أن نتصور اللغة العربية الفصحى، وقد راجت بين المصريين إذا تعلموا القراءة والكتابة، ومع هذا فإننا لن نستطيع أن نتصور أن هذا سيمحو ضرورة اتصال الأدب المصري بالحياة المصرية. فالتساهل في أمر اللغة لا يؤثر في روح الأدب. وإن للمصريين ذوقاً وطبعاً إذا لم يظهر في الأدب المصري كان أدباً عربياً أو غير عربي، ولكنه على أي حال لن يكون أدباً مصرياً. وقد يحس القراء مع أن في شعر الشاعر الفذ محمود حسن إسماعيل تحقيقاً لهذا الذي نرجوه. فهو وإن كان يكتب باللغة العربية الفصحى فإنه لا يطرق إلا موضوعات مصرية صحيحة، ولا يؤديها إلا أداء مصرياً سليماً يلحظ فيه الذوق المصري وإن لم يتقيد فيه باللفظ المصري.
فإذا تركنا هذه الناحية الناعمة من الذوق المصري وعرجنا على الأدب في جوهره رأينا الأقلية من الكتاب والأدباء هم الذين يعالجون الموضوعات المصرية، ورأينا هؤلاء الذين يبسطون للناس أدباً مصرياً صحيحاً متهمين بأنهم أدباء (شعبيون) بعد تحويل الوصف الشعبي من معنى المدح إلى معنى الدم.
عزيز احمد فهمي(306/70)
من هنا ومن هناك
الدعاية في ألمانيا
نشرت مجلة ذي انترنشنال نازي التي تصدر في لندن مقالاً طريفاً عن الدعاية الألمانية رأينا أن نلخصه لقراء الرسالة ليلموا بنوع جديد من أنظمة النازي يشمل سائر بلاد العالم.
في ألمانيا نظام للدعاية واسع النطاق كثير الشعب والأنحاء حتى ليعج عن الوصف.
ولا يقف هذا النظام على وكالة واحدة قتوم بهذا الغرض، ولكن الدعاية في ألمانيا لا أقسام وإدارات مختلفة متصلة جميعها بوزارات الحكومة وإداراتها. وقد تمتد مراكزها إلى أقصى جهات المعمورة وتجتمع جميعها في مركز واحد يدبر شئونها ويشرف عليها ووزارة الدعاية في ألمانيا يشرف عليها دكتور جوبلز، ولها جيش من مراسلي الصحف في جميع أنحاء العالم يدخلون في عداد موظفي الحكومة، وهي تشرف على ما لا يقل عن ثلاثمائة جريدة في مختلف الممالك. ولها مخبرون أكفاء يغذون تلك الصحف في بلاد كجنوب أمريكا والشرق الأقصى. وقد أنشئت محطات عديدة للاسلكي لنقل الأخبار إليها من الجهات النائية كجزائر الهند الشرقية. وهي تسخر لأغراضها وكالات السياحة الألمانية وبواخر الريخ وتسيطر على جميع وسائل الدعاية.
ويراقب قسم الدعاية الصحف الأجنبية في مختلف بلاد العالم حتى إذا كتبت صحيفة في أية جهة شيئاً لا يتفق وروح الدعاية الألمانية يصل إليها علمه في الحال. وتزاع التعليمات السرية على الصحف يومياً؛ وكل مخالفة لهذه التعليمات تعد خيانة.
وأهم وكالة للدعاية العامة هي الوكالة الأجنبية للحزب الاشتراكي الوطني وتتصل بالجمعيات الألمانية في جميع أنحاء العالم ولا يقل عددها عن ثلاثين ألفاً ويشرف عليها أرنست بوهل الذي قضى أيام طفولته في جنوب افريقيا، ولم يدخل ألمانيا إلا سنة 1920 وهو في السادسة عشرة من عمره.
والألمان الذين يعيشون في الخارج يجب أن يكونوا تحت تصرف القنصلية الألمانية في البلاد التي يعيشون فيها، ويتصلون بجمعيات النازي المحلية على الدوام، وبذلك يكونون تحت تصرف الحكومة. وكل مخالفة لأوامر النازي قد تعرض الشخص للحرمان من الجنسية الألمانية، وإلغاء تصريح السفر الذي منح له، كما أنها تعرض أسرته للضغط(306/71)
والاضطهاد داخل ألمانيا.
وهناك نظام خاص لتعليم هؤلاء الذين يقومون بالدعاية في الجهات الأجنبية، ففي ألمانيا مدرسة تحت أشراف دكتور روزنبرج، وأكاديمية في ميونيخ يديرها كارل هوشونز.
وكل أستاذ ألماني أو معلم بقبل الخدمة في الخارج، لابد أن يقضي وقتاً في الدراسة بهذه الأكاديمية، والطلبة الذين يسافرون إلى مناطق بعيدة عن ألمانيا يجب أن يلتحقوا بجماعة (الطلبة الألمان) في تلك الجهات.
وتوضع رقابة شديدة في الموانئ على المؤلفات التي تصدر إلى البلاد الأجنبية أو التي ترد منها، فلا يخرج منها كتاب يخالف مبادئ النازي في شيء من الأشياء، ولا تبيح للأدب المخالف للنازي الدخول إليها. وهذه الرقابة تشمل المسافرين على المراكب الألمانية كيفما كانت جنسيتهم.
ولم تكتف الدعاية الألمانية بمراقبة القراء الألمان واتصالهم بالرأي العام في الخارج، فقد أصرت على سحب النسخة التي طبعت في فرنسا من كتاب (كفاحي) لبعض كلمات علق بها على معاملة هتلر لفرنسا.
وترتكب حوادث القتل والخطف في سبيل الدعاية تحت إشراف الحكومة وبمعاونتها؛ ومن أشهر تلك الحوادث خطف الصحف اليهودي برنولد جاكوب، ومقتل دكتور دولفوس.
هل نحن مسوقون إلى الهمجية؟
تتضارب الأفكار في العصر الحديث، فهو عصر تطورت فيه شؤون العالم، واختلفت فيه المبادئ المقررة إلى درجة لم يعهد لها مثيل! كل ما فيه جديد يدعو إلى إطالة التفكير، فهل نحن مسوقون مع هذا إلى تحقيق آمال الإنسانية في التقدم والرقي، أم نحن مسوقون إلى الهمجية؟
والمقال التالي ملخص عن ذي أنديان ريفيو، التي تصدر في مدارس بقلم أستاذ بجامعة الهند، وهو يبين وجهة من وجهات النظر في هذا الموضوع: (إذا كان معنى المدينة تقدم العالم ورفاهته، وتضحية الفرد في سبيل مصلحة المجموع؛ وإذا كان معنى المدينة ضبط النفس وكبح جماحها، فيجب علينا أن نقول إننا منذ الحرب العظمى نسير بخطى واسعة نحو الهمجية.(306/72)
ففي مدى القرن التاسع عشر كانت آمالنا تمتد وتتسع، حتى أصبحنا نعتقد أننا لسنا بعيدين عن عصر ذهني عظيم! فالعلوم تسير بخطى كبيرة نحو التقدم، تاركة للإنسان السيطرة على قوى الطبيعة المختلفة؛ والديمقراطية تنشر لواءها على سائر بلاد العالم المتمدن؛ والرأي العام يحترم في كل مكان؛ والمثل العليا تقود الإنسان نحو التقدم في سائر أنحاء الحياة.
ولقد جاءت الحرب العظمى بعد ذلك بقواها المدمرة، فشتتت العائلات، وأزالت عن المرأة قناع العفة والحياء، ولم يكن أحد ليفكر في هذه الحال إذ ذاك، لانصراف الأمم جميعها إلى أمر واحد وهو كسب الحرب.
فبعد أن وضعت الحرب أوزارها أنشئت عصبة الأمم، فطرب لها العالم وظن الناس أن العصر الذهبي المرموق قد ظهرت بشائره تحمل معها الأمن والاخلاص، حيث يحل حكم العقل والعدالة في كل مكان، وينصرف الخوف والجزع عن الأمم الضعيفة، فتصبح في مأمن من اعتداء جاراتها القوية.
ولكن تلك الأماني لم تلبث أن تقشعت، وحل محلها ذلك التفكك في عرى الروابط العائلية والوشائج الوطنية. وحلت الإباحية محل العفة وضبط النفس، وذهب الإخلاص والطهر من الرجل كما ذهبا عن المرأة، وحل محلهما الطمع وإشباع الشهوات واختفت الرغبة في الزواج فراراً من تحمل أعباء الزوجية.
إن هذا الانقياد للشرور وعدم الخضوع لقانون العقل والعرف يدلان على أن الهمجية تهددنا وتقترب منا يوماً عن يوم.
ولقد ظهرت هذه الميول الوحشية في شؤوننا السياسية. لقد كانت الأمة تخجل أن تهاجم أمة أخرى قبل أن تمهد لذلك بأعذار يقبلها العقل، وكان الرأي العام يحسب له حساب.
ولكن القاعدة المتبعة الآن تخالف ذلك كل المخالفة، فيكفي أن تكون الأمة راغبة في التوسع والرقي وتبوئ مكانها تحت الشمس كما يقولون، لتعتدي على استقلال جاراتها.
لقد جاء زمن كان الواجب يقضي فيه على الأمة المحاربة أن تعلن الأمة الأخرى بأن تستعد لمحاربتها، ولكن قد بطل كل ذلك في ضمير الأمم الآن. والرأي أن تأخذ عدوك على غرة وتسلط الهزيمة مباشرة عليه.(306/73)
ولم يعد في عرف الأمم الحاضرة ضرورة لحماية الأطفال والنساء من خطر الطيارات. وقد بطل العمل بالقوانين التي تمنع الاعتداء على المستشفيات وأماكن التعليم والعبادة، وأملت الوحشية على تلك القلوب المتحجرة أن الخسائر التي تحلها الطيارات بالنفوس البشرية عمل من أعمال الإنسانية حيث تقضي عليها في أمد قصير!
ولا يباح الآن للأمة الصغيرة أن تضع سياستها بنفسها، ولكن الأمم القوية هي التي تضع لها السياسة التي تسير عليها، فإذا رفضت أن تعمل تحت إمرتها كان رفضها كافياً لتدميرها. ولقد فقدت ثقة كل أمة بمقاصد جاراتها فلا ثقة اليوم إلا بالتسليح.
إن ما انتهت إليه حال عصبة الأمم، وما كان يوضع فيها من الآمال والمبادئ السامية التي أصبحت أثراً بعد عين، لما يدعو إلى الأسف الشديد.
ولقد رأينا كيف يقضي على حقوق الفرد ويعتدي على حرية الرأي حتى أصبحت أسماء لا مسمى لها في بلاد كألمانيا وروسيا وإيطاليا، واصبح كل نقد يوجه إلى هذه الحال يقابل بمنتهى الشك وهكذا حيثما وجهنا النظر وجدنا المدينة تتدهور يوماً بعد يوم والعالم المضطرب يسير وسط هذه الزعازع كسفينة بغير سكان، يقودها ملاحون مخبولون نحو الهاوية التي ستدفعها إلى القاع.(306/74)
البريد الأدبي
1 - على هامش محاضرة حافظ عفيفي باشا
كلام حق ومنطق سديد؛ وآراء في التربية والتعليم يندر أن نسمعها في هذا البلد، لأن الجرأة فيه متقاعدة والصوت المخالف يرق فجأة حين يجب الصراخ.
سرد حافظ عفيفي باشا محاضراته (الجامعة الأمريكية 28 أبريل سنة 1939) عيوب التعليم في مصر، فأخذ فيما أخذ على الشباب انصرافهم إلى السياسة عن التحصيل، وقعودهم عن مواصلة الدرس والاطلاع بعد نيل الشهادة، وشغفهم بالتوظف وقلة (ثقافتهم المعنوية)، وفي رأي المحاضر أنه لابد من إصلاح نظم التعليم. وفي رأيه أن أساس الإصلاح إنما هو إعداد المدرس الصالح.
وما أظن أحداً من أهل الفطنة والدراية يخالف حافظ عفيفي باشا في تلك الآراء، بل أعرف نفراً من المفكرين المصريين يرونها، إلا أن قصة المدرس الصالح والمربي العارف لا تتم على الوجه المرضي ما دام أمر التدريس والتربية في أيدي (أولئك الموظفين المخضرمين الذين نشأهم المستشار دنلوب على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم بـ (روتين) (أي بجمود) النظام حتى أصبح لهم فطرة. . .) كما قال الأستاذ أحمد حسن الزيات في العدد السابق من الرسالة.
اطلبوا الشباب وانظروا إلى الدول الناشطة: إلى ألمانيا وإيطاليا وأمريكة الشمالية. أما سئمتم الخدر والنعاس؟!
2 - حماية نفائس دار الآثار العربية
في الرسالة رقم 304 أخبرتك بأن المسيو فييت، وهو مدير دار الآثار العربية في مصر أقبل على الإرسال بثمانمائة قطعة من نفائس الدار إلى باريس لتمد معرض الفن الإسلامي المزمع إقامته هنالك، وزدت أن وزارة المعارف وقفت دون ذلك.
ومما اتصل بي أن المسيو فييت لا يزال يسعى في إخراج تلك النفائس من الدار. وقد بينت في المقال السابق الأسباب التي من أجلها يمتنع خروجها امتناعاً. وحسب وزارة المعارف أن تتمسك بقانون دار الآثار. وحسبها أن تسأل المتحف المصري هل يأذن في خروج محفوظاته كلما قام معرض في بلد من البلدان. ولا أحب أن أعود إلى التبيين والتدليل،(306/75)
لعلمي أن أصحاب الأمر في وزارة المعارف يغضبون لخروج تلك النفائس غضبي لذلك، وأنهم يغارون عليها وبها يعتزون. أعلم هذا، لذلك أسألهم أن يأمروا بإعادة القطع إلى الحيطان؛ إذ بعضها لا يزال في الصناديق المجهزة للرحيل، وبعضها مطروح على الأرض ينتظر أن يفصل في أمره. رحم الله الفن. . .!
هذا وما فاتني أن أذكره لك في المقال السابق أن طائفة من نفائس دار الآثار العربية ليست مما تملكه الدار. بل هي مودعة لديها من جانب وزارة الأوقاف. وإني أعلم أيضا أن على رأس وزارة الأوقاف من يكره أن يتجوز في مثل هذا.
3 - الاعتراف بجلال الفلسفة العربية
في المجلة الفرنسية في مرسيلية (عدد فبراير سنة 1939ص185 - 189) أن الأب هكتور أساتذة المعهد الكاثوليكي في باريس ألقى محاضرات في الفلسفة العربية واليهودية للعصور الوسطى؛ ومما قاله:
(إن العرب في ذلك العهد يسبقون اللاتين بمئات من السنين؛ ومذاهبهم تنشأ وتتحول على خلاف المذهب المسيحي. بل لنا أن نتحدث عن غلبات الإسلام المعنوية للفكر اللاتيني. فإن العرب الأرسطوطاليين فتحوا الأذهان فتحاً بالرغم من الحروب الصليبية (يعني ما وراءها من الكراهية والبغض) فانبثت كتبهم فيما يلي ديارهم، فهزوا بذلك من عقولنا الراكدة وفرضوا الفكر اليوناني على اللاتين بعد أن صفوه وذهبوا به حتى الشطط.
وهكذا ترى أرسطو المعرب أو قل العرب الأرسطوطاليين يعينون على تفسير العقيدة المسيحية. . . وأنه ينبغي لنا أن نصحح نظراتنا التاريخية (يعني الاعتراف بتأثير العرب في التفكير المسيحي).
(وما أقرب الفلسفة العربي من الإنساني! والدليل أن أصولها تجاوز مبادئ الإسلام والمسيحية لتصير إلى الفلسفة بمعناها الأعم. وفي هذه الفلسفة من الجلال ما جعل شراح العقيدة المسيحية يقعون تحت سليطانها. . إنما العرب أساتذة المدرسة الكبرى للفلسفة!).
4 - والمخرج الآخر؟
في الرسالة رقم 305 عجبت كيف رفضت شركة مصر للتمثيل والسينما تجديد عقد الأستاذ(306/76)
نيازي مصطفى المخرج الحاذق. وقد فطن صاحب الأمر الأعلى لتلك الشركة أن استبعاد الأستاذ نيازي ليس من الحكمة في شيء، فما أبطأ أن أمر بتجديد العقد وإذا الشيء بالشيء ذكر فهل نسأل من بأيديهم أمر الفرقة القومية: متى ييسر للأستاذ زكي طليمات أن يسترد عمله، وهو المخرج المصري، بل المخرج الوافر الخبرة الكثير الفن؟
حتام يستبعد أهل الكفابة في هذا البلد إذا بدت منهم الدراية؟
بشير فارس
إحياء ذكرى عبده الحامولي
عقد معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف اجتماعاً للنظر في وضع برنامج للاحتفال بذكرى الفنان المرحوم (عبده الحامولي). وقد شهد هذا الاجتماع معالي مصطفى عبد الرزاق بك ومعالي جعفر والي باشا وخليل مطران بك ومصطفى بك رضا والأستاذ محمد عبد الوهاب والأستاذ زكريا أحمد وغيرهم من رجال الفن والأدب.
وقد بدأ معالي الوزير الاجتماع بإشارته إلى ما في إحياء ذكرى العظماء من تربية الشعب على الطموح، وتذوق نواحي العظمة في الغابرين من رجاله، فضلاً عما في ذلك من توجيه القلوب إلى تقدير الفن ومحبته.
وقد استقر الرأي على تأليف لجنتين فرعيتين إحداهما من الأدباء، والثانية من الموسيقيين، لدراسة النواحي الأدبية والفنية في حياة (عبده الحامولي) وعصره ثم وضع برنامج للاحتفال بذكراه.
ثم ختم معالي الوزير الاجتماع بقوله: إن وزارة المعارف ستقوم في مناسبات مختلفة بإحياء ذكرى العظماء الذين مروا في تاريخ مصر في مائة السنة الأخيرة.
المكتب الفني في وزارة المعارف
تفكر وزارة المعارف في إنشاء مكتب فني يضم طائفة ممتازة من أدباء المدرسين، ليكون صلة بين وزارة المعارف والأدب الحر، ويكون له الرأي في الكتب العربية التي تختار الوزارة أن تكون في أيدي تلاميذ المدارس. وهي فكرة نافعة تتحقق كثيراً مما دعت إليه الرسالة في مناسبات عدة. على أن النجاح في هذا المشروع مشروط بحسن اختيار الوازرة(306/77)
لأعضاء هذا المكتب، بحيث لا يضم إلا الممتازين حقاً من المدرسين والأدباء؛ وإنهم لكثيرون في وزارة المعارف، ينقصهم حسن الرعاية ليكونوا من عوامل الإصلاح في الأدب الجديد.
كتاب منتقى الأخبار
جاء في كتاب المفصل في تاريخ الأدب العربي للأساتذة المحترمين: أحمد الإسكندري. أحمد أمين. علي الجارم. عبد العزيز البشري. أحمد ضيف. في الصفحة 258 من الجزء الثاني (ترجمة ابن تيمية هو أحمد بن عبد الحليم ولد بحران سنة 661 هـ وقدم مع والده إلى دمشق وهو صغير. . . إلى أن قال وبلغت مصنفاته ثلاثمائة مجلداً أكثرها في التفسير والفقه والأصول والرد على الفلاسفة والمبتدعة وأشهر هذه الكتب منتقى الأخبار الخ)
وكتاب منتقى الأخبار مشهور متداول معروف بين الناس وهو في أحاديث الأحكام ونسبته لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية المشهور بتقي الدين شيخ الإسلام خطأ عظيم ولا سيما من مثل رجال هم من أعلام العلم والأدب في هذا العصر. وإني مع احترامي لمقامهم لا أرضى لهم هذا؛ ولو أنه صدر عن أناس لا شأن لهم لما نبهت عليه ولما أبهت له، وكتاب المفصل متداول بين الطلبة وغيرهم فلا يصح أن تبقى غلطة هذه شائعة فيه بدون تنبيه.
أما صاحب منتقى الأخبار فهو الشيخ مجد الدين عبد السلام ابن تمية وهو جد أحمد بن تيمية المشهور المترجم له في كتاب المفصل، وقد شرح كتاب منتقى الأخبار الشوكاني وأسماه نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار وطبع عدة مرات وكذلك منتقى الأخبار طبع منفرداً.
ونبه الشوكاني في أول شرحه على الفرق بين مجد الدين عبد السلام بن تيميه صاحب منتقى الأخبار وبين أحمد بن تيمية المشهور بشيخ الإسلام، فقال في أول كتابه: (وسميت هذا الشرح بنيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار. . . إلى أن قال: وقبل الشروع في شرح كلام المصنف نذكر ترجمته على سبيل الاختصار فنقول: هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق أبو البركات مجد الدين عبد السلام المعروف بابن تيمية قال الذهبي في النبلاء ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريباً. . . قال: وقد يلتبس على من لا معرفة له بأحوال الناس صاحب الترجمة بحفيدة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم شيخ ابن(306/78)
القيم الذي له المقالات التي طال بينه وبين أهل عصره فيها الخصام وأخرج من مصر. وليس الأمر كذلك. . . الخ).
هذا كلام العلامة الشوكاني وهو جلى ظاهر لا يحتاج إلى تعليق وقال صاحب كشف الظنون: (المنتقى في الأحكام لمجد الدين ابن تيمية شرحه السراج عمر بن الملتن الشافعي المتوفى سنة 804 ولم يكمله. . . الخ).
إبراهيم يسن القطان
هل تتكرر ما لنفي النفي؟
ذكر ابن عقيل في شرح ألفية ابن مالك أنه يشترط في عمل ما عمل ليس ألا تكون مكررة. فإن تكررت بطل عملها، نحو - ما يزيد قائم - فالأولى نافية، والثانية نفت النفي، فصار الكلام إثباتاً.
وكان على ابن عقيل قبل أن يشترط ذلك الشرط الذي انفرد به أن ينظر: هل تجيز العربية هذا الأسلوب أو لا تجيزه؟ وإني لا أذكر أنه مر على في كلام العرب منظومه ومنشوره مثل ذلك الاستعمال، وإنما يتكرر حرف النفي فيها للتأكيد، مثل قول الشاعر في تكرار ما:
لا يُنسك الأسى تأسياً فما ... ما من حمامٍ أحدٌ معتصما
ومثل قول الآخر في تكرار لا:
لا لا أبوح بحب بثينةَ إنها ... أخذتْ عليّ مواثقاً وعهودا
ولست أدري لم تقول العرب في الإثبات - ما ما زيد قائم - ولا تقول من أول الأمر - زيد قائم - وقد قامت لغتهم على مراعاة الدقة في الأسلوب، بحيث لا يزيدون فيها ولا ينقصون إلا لسبب من الأسباب.
قال بعض طلابي في الدرس: إنه يجوز أن يكون أصل ذلك الأسلوب أن شخصاُ قال (ما زيد قائم) فترد عليه قوله بقولك له (ما ما زيد قائم).
فقلت له: إني إذا رددت عليه بذلك أكون مخطئاً، لأنه حينئذ يكون منكراً لقيام زيد، فيجب أن أرد عليه بكلام مثبت مؤكد، فأقول له (إن زيداً قائم) ولا يصح أن أرد عليه بذلك النفي المتكرر غير المؤكد، وهذا أمر معروف في علم المعاني.(306/79)
وقال بعض الشيوخ: إن ذلك الأسلوب لم يرد مثله عن العرب، ولكنه يصح لنا أن نقوله، وهذا يكفي في تسويغ كلام ابن عقيل فقلت له: إن مثل هذا قد مضى زمنه، ولا يمكن أن يقبله الآن أحد منا، لأن النحو موضوع لكلام العرب لا لكلامنا.
وقد رد أسلوب نفى النفي في لغة العرب على نحو آخر مقبول يدخل فيه الاستفهام الإنكاري على النفي لأجل نفيه، لأن الاستفهام الإنكاري يفيد النفي، ونفى النفي إثبات، وهذا كما في قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) فهو بمعنى قولنا: - الله كاف عبده - ولكنه يفيد ذلك على أبلغ وجه وأحسن أسلوب. وقد قام الإنكار فيه مقام التأكيد اللازم في الرد على إنكارهم، بل هو أقوى من التأكيد في اقتلاع الإنكار من أنفسهم. ومن ذلك الأسلوب أيضا قول الشاعر:
ألستم خير من الركب المطَايا ... وأندى العالمين بطون راحِ
وقد قيل إنه من أجل هذا كان أمدح بيت قالته العرب، ولا شك أن الفرق كبير بينه وبين ذلك الأسلوب الذي أجازه ابن عقيل، ومع هذا نحب أن نشترك قراءة الرسالة في أمره، فلعل بعضهم يحفظ عن العرب شاهداً له.
عبد المتعال الصعيدي
وفاة السيد عبد الرحمن الإمامي
فجع المغرب الأقصى في الأيام الأخيرة بفجيعة كان لها وقع كبير في نفوس الشعب المغربي ألا وهي موت أحد علمائه الكبار السيد عبد الرحمن القرشي الإمامي في العشرين من المحرم؛ فكانت المصيبة التي ذهل الكل لها. وقد كان الفقيد رحمه الله من الساهرين على المصلحة العامة والمناضلين عنها مضحياً في ذلك بكل نفيس.
تقلب الفقيد في وظائف شتى فكان قاضياً مثل العدل والنزاهة ثم كان وزيراً لم يشهد المغرب قط مثله وزيراً صارماً
وقد قنع الفقيد رحمة الله عليه بما في يديه فانقطع لعبادة الله ونشر العلم تاركاً الدنيا ولم يخلف فيها ديناراً ولا درهماً.
وتقديراً لهذه الحياة العامرة بجلائل الأعمال قامت نخبة ممتازة من شباب جامعة القرويين(306/80)
وأسست لجنة دعت الناس إلى الحفلة تأبين للفقيد في اليوم الأربعين من وفاته، فكان الحفل رائعاً.
ووافق يوم الأربعين يوم الخميس 29 صفر سنة 1358 وكان يوماً مشهوداً تجلت فيه العواطف المغربية حزينة كئيبة. وقد اختارت اللجنة أن يكون محل التأبين الدار التي كان يقطنها الفقيد آخر حياته وقد افتتح الأستاذ احمد الشبيهي الحفلة مرحباً بالحضور، ثم أعقب ذلك آيات من الذكر الحكيم فسكوت مقدار قراءة الفاتحة على روح الفقيد، فمقال الأستاذ الرئيس أتى فيه على حياة القيد بإسهاب، فمقالة لوزير المعارف الأستاذ محمد الحجوي، فقصيدة لقاضي مدينة سكات أحمد سكيرج. فقصيدة لقائد قبائل أولاد جامع محمد بوعشرين، فقصيدة لعيبة سمو الخليفة السلطاني بفاس الأستاذ محمد غريط، فمقال للأستاذ لجامعة القرويين العباس المراني، فمقالة لفتى سلا أبي بكر زنبير، فمقال للكاتب بالبلاط السلطاني العربي ابن سوده، فمقال لعالم مدينة مراكش محمد بن الموقت. فخطب وقصائد كثيرة للنخبة الممتازة من طلبة الجامعة.
(فاس)
اللجنة القروية
حول تشبيه
سأل سائل من كرام العراقيين في الموصل عن وجه الشبه في تشبيه هجرة الأميرة فوزية إلى طهران بهجرة الرسول الكريم إلى المدينة في الصفحة الثالثة من عددنا الهجري الممتاز. وجوابنا أن هجرة الرسول كانت عاقبتها قوة الإسلام وعزة المسلمين ووحدة العرب، وهجرة الأميرة نعتقد أنها قبل كل شئ في سبيل الله وستكون عقابها المؤاخاة بين دولتين من أقوى دول الإسلام فرق بينهما الدار واختلاف اللغة والمذهب؛ وفي هذه المؤاخاة ضمان لحسن الجوارين بين إيران والعراق، وتوفيق لصلات التعاون بين المسلمين والعرب. والتشبيه بعد ذلك كله كما يقول البيانيون إلحاق ناقص لكامل. فلابد أن يكون وجهة الشبه في المشبه به أقوى منه في المشبه ولو ادعاء، وإلا عدل عن التشبيه إلى المشابهة 1. ع.(306/81)
تصويب
وقع في المقال الأخير للأستاذ الكبير العقاد خطآن مطبعيان نصححهما معتذرين:
في صفحة 889 سطر 22 جمهرة الشعراء والصواب: جمهرة القراء وفي صفحة 897 سطر 26 يقبضون على كل زمان والصواب: على كل زمام.
ذكرى صديق
دار الفلك دورتين منذ أن ضرب القدر بينك وبيننا يا رافعي بحجاب لا نستطيع أن نظهره ولا تستطيع أنت. . . دار الفلك دورتين، والحياة ما تنفك هي الحياة، والناس من حولها فراش يتهافت على بريق من شعاعها يخطف الأبصار، ويصرف القلوب إلا عن نوازع العيش وحب البقاء، وأنا على حيد الطريق أتشوف، وآسى على قلوب رانت عليها ظلماء الحياة فما تبصر، غير قلبي. . غير قلبي وهو قد ضم على هوى لك فيه، هو به ضنين، فلا يكاد ينسى انك أنت يا رافعي. . .
يا عجباً! هذا الدار على قسوتها لذة يهفو نحوها كل قلب؛ وهذه الدنيا على ما فيها من بلاء جميلة تصبو إليها كل نفس؛ وهذه الحياة على ما نجد فيها من عناء جذابة يبسم لها كل إنسان! تلك سنة الخلق.
لو تواريت عنا ليقول فيك التاريخ كلمته، وخلصت إلى نفسك علَّ القلوب تنزع عنها سخائمها؛ ولكن ماذا كان؟
إنه لا يحزنني ألا أجد المنصف البريء، فما الخلد مرتبة تؤخذ عن شفاه الناس؛ وليس يؤلمني أن أرى طائفة من الناس تضطعن عليك وتذهب وتريد أن تنال منك ميتاً بعض ما عجزت عن وأنت حي، فالتاريخ من ورائهم له لسان صدق.
ما الإيمان، وما العقيدة، وما الصبر، وما الدأب، وما النشاط، وما الحزم، وما الجد، وما السمو، وما الكرم، وما الوفاء، وما. . . وما. . .؟ أشياء كنت تعرفها وتدين بها وترى فيه الغاية العظمى والمثل الأعلى. فرحمة الله عليك.
كامل محمود حبيب(306/82)
الكتب
حياة الرافعي
تقدير ونقد
للأستاذ أبو الفتوح رضوان
كتاب (حياة الرافعي) للأستاذ محمد سعيد العريان من أجدر الكتب الحديثة باحتفاء الأدباء، وأحقها بأن يتناولها القارئ تناول تمعن ودرس، وأن يقول الناقد فيه كلمة تضعه موضعه بين كتب العربية. (فحياة الرافعي) كتاب فريد في المكتبة لأن فن التراجم لم يستقم لأي من كتاب العربية حتى الآن.
نعم إن في العربية كتباً فيها تراجم لشعراء وأدباء طالت أو قصرت لكنها ليست من ذلك في شيء، إن هي إلا ذكر بعض أخبار الشاعر ونوادره أو بعض ما اتفق له مما يكون بين الإنسان وبين معاصريه. وقد تكون غالبية هذه الأخبار ملفقة مزورة صنعها الرواة إثباتاً لأمر يريدون إثباته أو تعالماً على غيرهم بأخبار الشعراء؛ أما ترجمة التي يقصد بها إلى تصوير المؤثرات التي خلقت أدب الأديب ووجهت شعر الشاعر ولونت فلسفة الفيلسوف، فليس وجود في العربية قبل (حياة الرافعي). ومن هنا وجب أن يختفي الأدباء بهذا الكتاب إذ كثيراً ما تموت فنون من الأدب لأنها وجدت فلم يلتفت إليها أحد. فإذا كان أدب الرافعي فصلاً منقطع النضير في الأدب العربي، فكتاب سعيد العريان عن الرافعي كذلك فصل منقطع النضير.
والكتاب حقيق بأن يختفي به أيضا لأنه عن الرافعي الذي أضاف إلى العربية ثروة ضخمة من المعاني والأساليب والبيان والفن، ثم عقه أدباء عصره فما كان أحد منهم ينظر إليه أو إلى أثر من آثاره إلا بعين مطروفة. ذلك في حياته، أما بعد وفاته فرحم الله أهل الوفاة. ولقد كتب أحدهم أخيراً مقالة عن أثر المرأة في أدباء العصر، فذكر من شاء إلا الرافعي، مع أن رسالة حزن أو سحابة حمراء أو ورقة ورد واحدة كافي لأن يضعه الإنصاف المزعوم في مقدمة من ذكر.
وثمة ميزة أخرى لهذا الكتاب، وهي أنه تاريخ حافل صحيح للأدب العربي في أحدث(306/83)
أطواره. يكشف بجلاء عن كثير من الحوادث التي أثرت فيه ووجهته، ويوضح حوادث أديبة هامة مرت على أعين قراء العربية دون أن يتبينوا حقيقة دواعيها، ولم يأخذوها على وجهها الصحيح. ثم هو تفسير لابد منه لأدب الرافعي عامة ولعيون كتبه خاصة لابد لفهمها من قراءة فصوله.
ولقد قرأت (حياة الرافعي) منجمة على صفحات الرسالة، ثم قرأتها مجموعة في الكتاب، فكان لي فيها بعض الرأي، أحببت أن أبديه في هذه الكلمة وفاء للرافعي، وتقديراً لعمل أحد أولئك الشبان الذين يحسنون ويجيدون ثم يضيع إحسانهم وإجادتهم وسط دوي الأسماء الضخمة في هذا البلد.
لقد بينت فيما سبق قيمة الكتاب من حيث هو كتاب. على أن فيه حسنات أخرى كثيرة لو ذهب القارئ المتمعن يحصيها لاستغرقت مقالة على حدة. ففي الكتاب تمحيص للحوادث دقيق، وفيه اتزان ونزاهة في الحكم، وفيه لطف في العرض، وفيه أسلوب مشرق لا يستغرب من أحد أصحاب الإمام الرافعي، وفيه ما يضطر القارئ الدارس إلى الالتفات والوقوف.
على أن في الكتاب بعض ما كان ينبغي أن يسلم منه، وهذا ما نحب أن تنبه إليه، فإن جودة العمل محسوبة على ميزان النقد، والجمال المفرط يظهر أبسط القبح، وأشد ما تكون الذبابة إيلاماً أن تقف على وجه حسن.
ففي الكتاب بعض هنات في الترتيب والتبويب، أتت من أن المؤلف النابه كتب مادة كتابه مقالات في أول الأمر، ثم لما عن له أن يجمع تاريخه مسلسلاً في كتاب تقيد بترتيبها في المقالات فكان في بعض فصول الكتاب ما هو قلق في موضعه يحتاج إلى تقديم أو تأخير. فما موضع فصل (بين أهله) بين فصلي (شعراء عصره) و (من الشعر إلى الكتابة)؟ أليس موضعه الطبيعي بعد (في الوظيفة) حتى تتساوق فصول الرافعي الأديب؟ والحديث عن الرافعي الشاعر موزع بين فصول عديدة متفرقة ولو جمعت كلها بعضها إلى بعض لكان أجدى على وحدة الكتاب. وفصل (شعراء عصره) وهو أشبه بفصل (في النقد) وقد نبه المؤلف إلى ذلك، فأشار إليه عندما بدأ يتحدث عن الرافعي الناقد، وفصل (في النقد) مجزأ غير متتابع لأنه نشر في الكتاب كما كان في المقالات ولم يدمج بعضه في بعض، وفي(306/84)
أوائل الفصول كثير من وصل ما انقطع كان ضرورياً في المقالات المتباعدة وهو في الكتاب المتلاحق تعطيل للقارئ ومضايقة له، وأشد ما يظهر ذلك في فصل (في النقد)، وفي الكتاب بعض تعبيرات لا تتفق مع أسلوب كتاب كأن يقال: (وهذا له موضع غير هذا المقال) مع أن الكتاب لا يكون فيه مقالات وإنما يكون فيه فصول، ولو لم يتقيد المؤلف بمقالاته في الرسالة ذلك التقييد الشديد لقال: (وهذا له موضع في غير هذا المقام) أو في (غير هذا الفصل).
وفي الكتاب بعض الآراء والحقائق تستوقف نظر القارئ المتمعن، تشير إليها على حساب ترتيب ورودها في الكتاب
ففي ص 13 إشارة إلى حارة سيدي سالم قال عنها المؤلف إنها (حارة ضيقة أوى إليها السيد البدوي أول ما هبط من طنطا منذ ألف سنة). وقد كان قدوم السيد إلى طنطا في سنة 634 للهجرة أي منذ 724 سنة فقط. وليس هذا من صلب الكتاب ولكنه ما يحسن تصحيحه.
وفي ص 19 يقول المؤلف إن الرافعي (كان بلغته ولهجته كأنه لم يقدم من سوريا إلا منذ قريب) وهو قول لا أظن الأستاذ يعني به ما يفهمه القارئ منه، فان لهجة الرافعي - كما سمعناه يتحدث - لم يكن فيها أي أثر للهجة السورية. وكل ما يستغرب منها هي تلك النغمة الحادة التي تشبه الصراخ، والتي أشار المؤلف إلى أنها من آثار ذلك المرض التي أصابه في شبابه، فيها حبذا لو أعاد الأستاذ تحقيق هذه النقطة بالرجوع إلى تصوره وهو أعلم بها على كل حال.
وأستند المؤلف النابه فكرة الحب عند الرافعي إلى ما قرأ من أشعار العذريين من شباب العرب. فهل لم يقرأ الرافعي غير أشعار العذريين مع كثرة ما تناول من دواوين الشعراء. ولماذا لم يتأثر بشعراء (الأغاني) وقد قرر الأستاذ أنه كان دائم النظر في هذا الكتاب وفيه من الشعر والأخبار ما فيه. أليس الأجدر أن يستند ذلك إلى نشأته الدينية التي أشار إليها المؤلف (ص22) وإلى تقاليد أسرته وإلى أنه نشأ تبعاً لكل ذلك (عفيف النظر والشفة واللسان).
ثم ألا يرى المؤلف معي أن عدم شهرة الرافعي بين عامة القراء ليست راجعة إلى أناته(306/85)
وشدة تأنقه فيما يكتب وما ترتب على ذلك من عدم إكثاره من النشر في الصحف، بقدر ما ترجع إلى بعده عن تملق الجمهور واحتفاظه بأرستقراطية أدبه، وأنه فضل لقرائه ولنفسه أن يرتفعوا هم إليه على أن ينزل هو إليهم، كما أظن أني قرأت له في بعض أحاديثه منذ زمن بعيد.
(البقية في العدد القادم)
أبو الفتوح الرضوان
1(306/86)
العدد 307 - بتاريخ: 22 - 05 - 1939(/)
مصر العظيمة تستعد!
في يوم وليلة
في يوم وليلة رأينا مصر المبعوثةَ من مرقد الخلد تدخل في عهدها الجديد الجدّي فتنهض بما توجبه الحياة الحرة من تكاليف الاستقلال وتبعات السيادة!
كان ذلك اليومُ يومَ الخميس الماضي، وكانت تلك الليلة ليلة الثلاثاء قبله! ففي هذا اليوم كان عرض القاهرة لجيشها الفتيِّ في آلته الحديثة وعدته الكاملة؛ فخرج من عرائنه الشُّم والصباح الضاحي يتنفس بأريج مايو الجميل، وسار في الشوارع الحاشدة يعرض على الأنظار الدَّهِشة قوى الدفاع وأسلحة الأمن وما لا بد منه لمن يعيش في زمن استذأب وضَرِي حتى أنكر حق الحياة على نوع الحمل.
لم تكن المدافع القصيرة والطويلة، ولا الدبابات الخفيفة والثقيلة، هي التي ملكت الألباب وأثارت الإعجاب وفجرت الحماسة؛ فإن منظر آلات الدمار والموت أصبح لطول ما ألِفه الحس لا غرابة فيه ولا عجب منه؛ وإنما الذي ملك الألباب حتى أذهل، وأثار الإعجاب حتى أدهش، وفجَّر الحماسة حتى أطغى، هو منظر جنود مصر بشبابهم الفاره، وخَلْقهم السِويِّ، وملامحهم الدالة، ومظهرهم الأخاذ، ونظامهم الرائع؛ فكأنما جنود إبراهيم لم يلقوا السلاح منذ ارتد قائدهم عن الآستانة. فأين كان مكمن هذه الروح الحربية القوية مدى حقبةٍ من الرخاوة والكسل لو مرت على الضواري لطمست في وجوهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس؟ لقد كان لنا قبل سبتمبر الماضي جيش من الأرقام متواضع العدد والعدة، يعيش في أكناف الشعب عيش الأمان والغفلة، لا يعرف الحدود إلا على الورق، ولا يشهد الحروب إلا في السينما، ولا يدرك معنى الدفاع عن النفس في وجود إنجلترا إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه. فكيف انقلب هذا الجيش الصغير الغرير في سبعة أشهر جيشاً من المردة العتاة يقيم المعاقل على البحر، وينحت الخنادق في الصخر، ويروض أوعار الأرض لإقدامه، ويذلل أخطار السماء لقوادمه، ويضع الخطة فلا تخطيء، ويسدد الرمية فلا تطيش، ويقف جنباً إلى جنب مع الجيش الذي قهر نابليون وهزم غليوم وغنم الدنيا، فلا يفوقه في نظام، ولا يفوته في سبق، ولا يبذه في مناورة؟ السر في معدن هذه الأرض التي جعلت للزمان تاريخاً وللإنسان(307/1)
مدنية. والسحر في طبيعة هذا الفلاح الذي طبع آثاره على جباه القرون وسلطانه على قلوب الأمم. وفرخ النسر لا يعلَّم كيف يصيد، وشبل الأسد لا يدرَّب كيف يفترس!
وفي تلك الليلة كانت تجربة الدفاع الجوي عن القاهرة. ففي عتمة الليل والناس لاهون صاحت الأبواق المنذرة بالغارة في كل حيّ، فأطفأت الأنوار وأسدلت الأستار وخشعت الأصوات وسكنت الحركات، وأقفرت الشوارع إلا من رجال الشرطة والمطافئ والإسعاف، وجثم على صدر العاصمة كابوس من الرهبة والقلق، فامتدت العيون خلسة من وراء السجوف ومن خلال النوافذ فلم تر إلا الظلام يموج، والنجوم تضطرب، والرقابة تحت الحنايا الآمنة تتهامس، والمدافع فوق العمائر العالية ترتقب. ثم أقبلت من الحدود الغربية النسور المغيرة فرنَّقت في جو المحروسة على علو لا يُرى ولا يسمع؛ ولكن آلات الرصد نبهت الكشافة فأرسلتْ على أطباق الجو الحالك أفواجاً من الأشعة الخاطفة، تتطاول وتتعارض، وتتعانق وتتشابك، حتى لم تدع طائراً يطير إلا صوَّرته في عدسة مدفع. وفي آخر الهزيع الأول من الليل أعلنت الأبواق بأصواتها المتصلة انقطاع الغارة، فأشرقت المدينة، واستأنف الناس حياة اللهو والأنس وهم يشعرون انهم اصبحوا خلقاً كسائر الخلق لهم قوة لا تُزدرى، وكرامة لا تمتهن، وحمى لا يستباح.
في هذه الليلة وفي ذلك اليوم أدركنا أن مصر الناهضة قد بلغت سن التكليف وجاوزت حد العبث؛ فهي تستعد للحرب والسلام، وتبنى بالفعل لا بالكلام، وتقد إلى ساحة الدفاع المقدس شيوخ دينها وشباب دنياها، وهي راضية بهذا البذل فخورة بهذه التضحية. والفضل كله للأحداث التي تذيب الغش وتفضح الزيف وتمحص الكفاية.
لا جرم إنا كسبنا مغانم الحرب وأن لم تكن حرب. لأننا بما عملنا أوجَدنا شيئاً لا بد من إيجاده، وبما بذلنا سددنا عوزاً لا مناص من سداده. أما الدول الأخرى فدفاعها مكين الأساس مرفوع القواعد منيف الذرى، فكل ما تنفقه عليه يضطرها الخوف إليه لتأمن الفشل وتضمن العاقبة.
ماذا كنا قبل أن ينتشر الجراد الرومي المسلح على حدودنا المهملة؟ كنا قوماً من سادة الماشية وعبيد الأرض تركوا أزمتهم للقدر وثروتهم للغريب وحمايتهم للحليف، ثم أقبل بعضهم على بعض يتنافسون في الهزل من غير غرض، ويتراشقون بالتهم من غير بينة،(307/2)
ويتسابقون إلى الحكم من غير غاية. فلما أينع الحصاد وأزّ في الأفق الجراد وزأر بالوعيد الطغاة، تيقظت مصر الصادقة الحرة على ضفاف النهر وأحقاف الرمل ورياض الريف، ثم وقفت في شِكتها الكاملة موقف الواثق الحذر وهي تنظر إلى الشفق الدامي في وجه الغرب، وتقول للطامع الساعي لإثارة الحرب: حذار! فإن على عرشيَ الفاروق خليفة الله، لا كليو بطرة صديقة قيصر!
أحمد حسن الزيات(307/3)
لقاح العقول أو لقاح الأنساب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أسرته الأصيلة من الفلمنك
وانتقل جد من جدوده إلى النمسا فأقام في الأقاليم البوهيمية واتصل هو وأبناؤه من بعده بخدمة آل هابسبرج
وبنى جده لأبيه بيونانية من جزيرة أقريطش، وبنى أبوه بيابانية من أذكى نساء اليابان
ذلك هو مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده، واسمه الكونت (ريتشارد كودينهوف كاليرجي)
أما اسم الكتاب فهو (حكومة الاستبداد حيال الإنسان)
قرأت هذا الكتاب فقرأت عجباً من تآلف الأفكار الغربية، وتقارب الأقطار البعيدة، واختلاط الأساليب التي انغزلت مع الماضي مئات القرون.
هنا شيء من اليابان لا شك فيه، وشيء من اليونان لا شك فيه، وشيء من تعبد الفلمنكيين، وشيء من جماح البوهيميين، وشيء من أدب البلاط، وشيء من مساواة الحرية، ولكنك لا تستطيع أن تفرزها ولا أن تستخرج كل خليط من خيوطها مستقلاً عن سائر شباكها.
وكل ما تستطيعه انك تحس لكل جنس من هذه الأجناس أثراً في مزج الأفكار وصياغة الألفاظ وتنسيق الحلية الكتابية. وقد تجزم الجزم الأكيد أن الياباني وحده لن يصنف الكتاب على هذا الأسلوب، وكذلك اليوناني والبوهيمي والفلمنكي ورجل البلاط وجوَّاب الآفاق، ولكنهم إذا اتصلوا بالأنساب والثقافات كما اتصلوا في ذهن هذا المصنف نتج من تلاقح أذهانهم وثقافتهم مثل هذا الكتاب.
خذ مثلاً هذه الكلمات:
(الإنسان من صنع الله،
والحكومة من صنع الإنسان.
الإنسان غاية وليس بوسيلة،
والحكومة وسيلة وليست بغاية.
قيمة الحكومة هي قيمة ما تؤديه من الخدمة لمن فيها من الخلائق الإنسانية. فكلما خدمت الإنسان وعاونته على التمام والكمال فهي حسنة، وحيثما بدر منها التعطيل لتمامه وكماله(307/4)
فهنالك الشر والسوء
الحكومة ليست شيئاً حياً ولا جسداً حياً ولا عضواً حياً؛ ولكنها آلة أو أداة مجعولة لخدمة الإنسان في صراعه للفوضى والاختلال
الإنسان مخلوق حي، والحكومة أداته للخير أو للشر، وللنفع أو للإضرار إذ ليست الحكومة كائناً إنسانياً ولكنها مع هذا تريد أن تكون أكثر من إنسان
ليست هي إلهاً فهي إذن تصبح صنماً
يصنعها الإنسان وتطلب منه العبادة
وهذه المصنوعة الإنسانية تعدو طورها فتتخذ لنفسها مكان الوساطة بين الله والإنسان!
هذه الآلة المصطنعة تحسب نفسها مخلوقة عضوية حية. . . وهذه الخادمة التابعة تتخايل أمام بني الإنسان في زهو السيادة!
إننا لنعيش اليوم في أخطر عصور الانقلاب التي مرت بها الدنيا؛ لأنه عصر انقلاب الحكومة على نوع بني الإنسان!
إننا لنعيش في أسوأ ما عهدنا من عصور عبادة الأصنام؛ لأنه عصر تأليه الحكومات)
ومثل آخر من خواطر هذا الكتاب النفيس ما جاء منه في مستهل الكلام على الديمقراطية والنظم النيابية حيث يقول:
(الحرية مثل أعلى وغاية منشودة
الديمقراطية مبدأ وقاعدة
النظام البرلماني هو وسيلة أو طريق
والخلط بين هذه المعاني يؤدي إلى تشويش مريج
فإنجلترا حرة ولها نظام برلماني؛ ولكن دستورها يعتمد على الديمقراطية بعض الاعتماد؛ لأن المجلس الأعلى والتقاليد الوراثية ليست من الديمقراطية بلا خلاف
وروسيا وألمانيا وإيطاليا ليست بحرة وإن كان لكل منها دستور قائم على سيادة الأمة وعلى مبدأ الكثرة في ولاية الحكومة كما تقضي أصول الديمقراطية
والولايات المتحدة وسويسرا حرتان وديمقراطيتان ولكنهما على غير الوضع النيابي مذ كانت الحكومة فيهما لا تسقط إلا بانتزاع الثقة البرلمانية منها(307/5)
واليابان لها نظام برلماني ولكنها ليست بالديمقراطية، لأن دستورها لم يؤسس على سلطان الأمة بل على سلطان الإمبراطور. وهو - أي الإمبراطور - يقبل باختياره أن يشرك معه الحكومة البرلمانية
ومن المحتمل جداً أن تتصور حكومة حرة تحترم حقوق الأفراد على أيدي قلة متسامحة، كما تتصور حكومة متعسفة تقيد الحريات جميعاً على أيدي كثرة تدين بعقائد الاستبداد
فالروح الموحية أهم وأقوم من نصوص الدساتير. وحيثما بطل اليقين بالإنسان والاعتداد بحقوق الأفراد لم يكن عجيباً أن يفضي بنا الانتخاب العام إلى الاستبداد؛ لأن المستبد والمشعوذ السياسي ليسا بالنقيضين، ولكنهما قرينان متماثلان)
وكل فصل من فصول الكتاب حافل بهذه الدقائق وهذه القضايا وهذه التعريفات
هنا ولا شك أناقة الياباني في التنسيق وخفة الياباني في الحركة
وهنا ولا شك نفاذ اليوناني إلى بواطن المعاني الفلسفية والحدود المنطقية
وهنا ولا شك جنوح الفلمنكي إلى صبغ الحقائق بصبغة العبادة والأسرار
وهنا ولا شك طلاقة البوهيمي، وكياسة الرجل البلاطي، وثقافة الإنسان الحديث
انك لا تشك في خصلة من هذه الخصال كما لا تشك في اختلاف المنهج والأداء لو كان الكاتب يابانياً أو يونانياً أو فلمنكياً أو بوهيمياً غير مختلط بما عدا سلالته وثقافته من السلالات والثقافات
ولكن أين هذا وأين ذاك؟
أين يبتدئ هذا التفكير وأين ينتهي ذلك التفكير؟
وما وسيلتك إلى منع عنصر من تلك العناصر أن يظهر في منهج الكتاب وأدائه أن كانت بك حاجة إلى إمتاعه؟
وما وسيلتك إلى زيادة عنصر من تلك العناصر أن كانت بك حاجة إلى ازدياده؟
لقد شغلني التوجه إلى هذا المعنى أثناء القراءة حتى خيل إليَّ أنني في معمل من معامل الطبيعة أرقب فيه براعتها في الخلط والمزج والجمع والتفريق
أو خيل إلي أنني أمام مسرح التاريخ الكبير يتناول اللاعب القدير على خشباته نسيج الأحقاب والأعقاب منذ ألوف السنين فيداخل بينها ويواشج بين خيوطها على نمط من(307/6)
السرعة لا تضبطه بعينك في مكان واحد، ولكنك تضبطه كله حين ينتهي إلى النتيجة فإذا هو هناك حيث لا تدري من أين اتصاله ومن أين انفصاله في مجمل النسيج
ورب كلمة من كلمات الكتاب لها اتصال بجزائر اليابان، وكلمة أخرى لها اتصال بشعاب البوهيميين، وكلمة مجاورة لها قد جاءت من أقصى المغرب أو من أقصى الشمال
ان النظر إلى هذا لأمتع من النظر في حقائق الكتاب، وإن كانت حقائقه من المتعة بمكان
ثم يجول في الذهن خاطر آخر هو فضل هذا اللقاح العجيب في تحسين العقول أو في تحسين الطباع.
هل تستفيد (الإنسانية) بامتزاج كهذا الامتزاج يعم جميع الأجناس في المشرق والمغرب، ويعم جميع الثقافات وجميع المذاهب والآراء؟
أو هل هي قيمة واحدة من القيم الكثيرة نحتفظ بها ونحتفظ معها بصفاء الأصول وافتراق السلالات، وما في كل سلالة من مزية ورثتها واستقلت بها بعد تحضير طويل في معمل التاريخ؟
يحضرني في هذا الصدد ما يصنعه مولدو الأزهار من مختلف الأحجام والألوان والأصول
يروقهم أن ينبتوا الوردة السوداء فيستفيد عالم النبات فائدة لا شك فيها إذا أضيف ذلك اللون إلى ألوان الورود
ولكنه يجني على الورد وعلى عالم النبات لا مراء إذا تمادى في تجاريبه حتى يزول الورد الأحمر والورد الأبيض والورد الذي يولد على ألوان مختلفات بغير تخليط وتهجين.
وخير لبني الإنسان أن يتعلموا التآلف وهم مختلفو العناصر متعددو المزايا جامعون بين فضائل العنصر القح والعنصر الهجين من أن يتآلفوا وهم لون واحد فقير المزايا قليل الاختلاف.
على أنني أحمد هذا اللقاح وأتمنى لو يظفر الفكر الإنساني بأنماط شتى من غير هذا القبيل كما ظفرنا بذلك النمط من ذلك القبيل.
عباس محمود العقاد(307/7)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
الشعر والنثر
قدمنا أن الأدب ينقسم إلى الأدب الإنشائي والأدب الوصفي. فالان نبين أن الأدب الإنشائي ينقسم قسمين: شعراً ونثراً
فالشعر أو القريض، كلام موزون مقفَّى
الوزن أن يكون للكلام مقادير محدودة من الحركات والسكنات متتابعة على نسق خاص. فينشأ من هذا التتابع نغمة وتختل هذه النغمة إذا زادت الحركات والسكنات أو نقصت، أو اختلف تأليفها.
والتقفية أن تكون أبيات القصيدة الواحدة متشابهة في أواخرها ولا سيما الحرف الأخير. ففي قول المتنبي:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... وثغرك وضّاح ووجهك باسم
نجد البيتين على وزن واحد تتوالى الحركات والسكنات فيهما على نسق متفق وينتهيان بكلمتين متشابهتين في الوزن وفي الحرف الأخير. وهما نائم وباسم. وسيأتي تفصيل هذا في باب الشعر
أما النثر فكلام لا يلتزم فيه وزن ولا قافية
وتعريف الشعر والنثر بهذين التعريفين فيه نظر إلى الألفاظ لا إلى المعاني
وأما تعريفهما من جهة المعنى فالشعر كلام تنشئه عاطفة قوية أو خيال والنثر كلام مطلق يكون أحياناً مبنيّاً على الفكر المرتب، وأحياناً ناشئاً من العاطفة والخيال كالشعر. فالنثر من جهة المعنى أعم من الشعر
والتعريف المأثور عن أدباء العرب هو التعريف الأول - التعريف اللفظي
وقد نظر قدماء اليونان إلى معنى الشعر دون لفظه فقالوا أنه الكلام المبنى على الخيال المؤثر في النفس بالترغيب أو التنفير
والحق أن العرب حين نظروا إلى صورة الشعر فعرفوه التعريف السابق لم يهملوا جانب(307/8)
المعنى فيعدّوا كل منظوم شعراً. بل كان الشعر عندهم من جهة معانيه كالشعر عند اليونان. قال قدامة في نقد النثر: وإنما سُمِّي شاعراً لأنه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره. وإذا كان إنما يستحق اسم الشعر بما ذكرنا فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفى
وإنما نظروا إلى الجانب اللفظي لأنه الجانب المحسوس الواضح الذي لا يشارك الشعر فيه النثر. وربما كان أول من عرّف الشعر العربي رجال العروض الذين ينظرون إلى ألفاظ الشعر دون معانيه.
وكذلك اليونان حين عرفوا الشعر من جهة المعنى لم يكن شعرهم خالياً من الوزن والقافية ولكنهم نظروا إلى ناحية دون أخرى
والشعر والنثر مشتركان في قواعد البلاغة وقوانين الكلام وإن كان الشعر في جملته أميل إلى المجازات والاستعارات من النثر. قال قدامة بن جعفر في كتابه نقد النثر:
(وقد ذكرنا المعاني التي يصير بها الشعر حسناً وبالجودة موصوفاً، والمعاني التي يصير بها قبيحاً مرذولاً. وقلنا أن الشعر كلام مؤلَّف، فما حسن فيه فهو في الكلام حسن، وما قبح فيه فهو في الكلام قبيح. فكل ما ذكرناه هناك من أوصاف حد الشعر فاستعمله في الخطابة والترسل، وكل ما قلناه عن معايبه فتجنَّبه هنا).
ولكن يختلف الفنان فيما يعالجان من الموضوعات وفي طريقة البيان إجمالاً. فالأصل في الشعر أن يتناول الأمور التي هي أدخل في العاطفة والخيال، وإن يتانق في التصوير والتجوّر. والأصل في النثر أن يتناول الموضوعات الطويلة التي تحتاج إلى تفكير وتوضيح وإن يبين إبانة طبيعية، وربما يشارك النثر الشعر في موضوعاته فقد كتب الكتاب منذ القرن الرابع في الفخر والهجاء والمدح والعتاب والغزل الخ. وربما يشاركه في عباراته وأساليبه كذلك. ولكن يبقى بعد هذا أن الشعر والنثر في أصلهما مختلفان في الموضوع وطريقة البيان، ولولا اختلاف الشعر والنثر في الموضوع والتصوير لكان الكاتب المجيد شاعراً مجيداً إذا استطاع أن ينظم، ولكان الشاعر المجيد أجود في كتابته حين يتحلل من قيود النظم، ولكن الإجادة في الاثنين معاً لا تتفق لأكثر الناس. وقد سئل أبو إسحاق الصابي عن الفرق بين الكتابة والشعر فقال:(307/9)
(ان طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه وأعطاك سماعُه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخم الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة) ثم علل الصابي قوله هذا بفسحة النثر وضيق النظم
وكلام الصابي ليس صحيحاً على هذه الصورة لأن الغموض لا يحسن في النثر ولا في الشعر وكأنه أراد أن يقول: أن الشعر أقرب إلى الإجمال في بيانه. وقيوده تحول دون الإيضاح الذي يملكه الناثر.
فطبيعة النظم تبيح للشاعر شيئاً من الغموض والتقديم والتأخير لا يباح في النثر، ولكن الغموض ليس مستحسناً في منظوم ولا منثور
وقال ابن خلدون في الفرق بين الشعر والنثر:
واعل أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله ولا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد المختص بالخطابة، والدعاء المختص بالخطابات وأمثال ذلك
وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام القافية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن)
عبد الوهاب عزام(307/10)
من برجنا العاجي
(. . . لم يتيسر لي قراءة كل كتبك. إنما الذي قرأته لك هو مقالات وقصص ومساجلات في الصحف والمجلات ومع أن كل آرائك حرة وجريئة إلا أن رأياً واحداً هو الذي ملك شعوري وكياني: (إن من ملك قلباً حاراً ولساناً حراً فهو الذي يستطيع أن يسود العالم). سيدي: أن قلبي لحار وإن لساني لحر وبهاتين الوسيلتين يعظم أملى في المستقبل. إني أعشق الجمال وأحب الأدب الرفيع ولكنهم يريدونني أن أكون معلماً بإحدى المدارس الإلزامية. أن جو القرية يكاد يخنقني. أريد أن أؤدي رسالتي في الحياة، وهي رسالة الكاتب الموهوب، لا أن أعيش على هامش الحياة! أنه ليسرني أني استطعت إسماعك صوتي. فإن رأيت يا سيدي أن هذه النواة أهل للحياة فتعهدها بالغرس والري. لي من حسن الأمل فيك ما يجعلني أطمئن إلى انك لن ترمي برسالتي في سله المهملات. . .)
قبل كل شيء أحب أن أقول لصاحب هذه الرسالة أن يحسن ظنه بحياته. فلئن كان هنالك إنسان يعيش على هامش الحياة فهو أنا صاحب هذا البرج القصيّ. أن جو القرية لا يمكن أن يكون خانقاً للقلب الشاعر. وإن مهنة التعليم والعمل على تكوين نفوس نبيلة، ونفخ روح الجمال في نشء ساذج، وإيقاظ عيون صغيرة على حسن الطبيعة؛ كل هذا خلق فني في ذاته. ولكننا لا نريد أن نرى الخلق إلا في مقال يكتب، ولا المجد إلا في هراء ينشر. هنالك شعراء عظام ما فارقوا قراهم قط وما تركوا صناعاتهم الصغيرة قط. أن القلب الحار يسبغ الخير والجمال على ما حوله. ولو كان لصاحب هذه الرسالة قلب حار حقيقة لظهر لهذا أثر في قريته ومدرسته أولاً ثم في مادة نفسه ثانياً. فالقلب الحار يحتاج إلى وقود ليشع ولا يخمد وأيسر الوقود الكتب. وصاحب الرسالة لا يقرأ كتباً ولكنه يطالع مطالعات سطحية سريعة ناقصة. كم من الأعوام وكم من أكداس الكتب تلزم للقلب وقوداً حتى يقال أنه (قلب حار)!
توفيق الحكيم
خواطر
للأستاذ فليكس فارس(307/11)
- 1 -
(لم يكد صاحب الأحذية السيد فيكاني السوري العربي يصنع أحذية عقيلة الرئيس روزفلت حتى اهتمت البلاد كلها باختراعه فأصبح الرجل الفاشل المعدم بالأمس (رجل الساعة في الصناعة) تنهال الطلبات عليه من كل صوب، وتحوّل مصنعه لتصليح الأحذية العتيقة معملاً كبيراً يجتذب ملايين الزبائن. وهكذا حقق (الصغير الفيكاني) في الولايات المتحدة ما حلم به في قريته منذ ثلاث وأربعين سنة في وطنه النائي)
(استبان والاس)
هذه كلمة من إحدى كبريات جرائد الولايات المتحدة موقعة بإمضاء كاتب من أشهر الكتاب في العالمين الجديد والقديم
وقد وقعنا على مقال في مجلة (المناهل) التي تصدر في بونس إيرس عن قصة الفيكاني فاخترنا تلخيصها:
(قدم السيد الفيكاني من سوريا وقد ضاقت بوجهه سبل الارتزاق من حرفته. فنزل في بلدة (كربندال) حيث اتخذ له دكاناً لترقيع أحذية الفقراء فكان دخله يكاد لا يفي لتأمين معيشته. ولكنه لم يستنم للضيم واخذ يفكر ويجرب على نور اختباراته في صنعته حتى وفق أخيراً إلى اختراع قالب لحذاء يتمتع منتعله بالراحة التامة مهما كان شكل قدميه ومهما تجشم من مشقة السير أو الوقوف، وسجل اختراعه. وما عتم حتى أقبل أهل القرية على استعمال أحذيته؛ فابتسم له الحظ، إلا أنه بقى يزاول عمله بيديه لعدم وجود رأس مال كاف يستعين به على بناء مصنع كامل العدة إلى أن وقع نظره يوماً على صورة للسيدة إليونور عقيلة الرئيس روزفلت فتأكد من ملامح وجهها أن حذاءها يؤلم رجليها، فقصد العاصمة. وهناك بدأ من جهة يتسقط المعلومات اللازمة لتهيئة الحذاء الذي سيفتح له باب الشهرة والثروة، ومن جهة أخرى يراجع ذوي الشان للحصول على مقابلة السيدة الأولى حتى بلغ القصد بعد انتظار دام تسعة أشهر. وما مثل لديها وعرض الحذاء المبتكر حتى انتعلته وسارت تتخطر في القاعة جذلة راضية وهي تردد عبارات الثناء؛ ثم أوصته بصنع أزواج عديدة فكان هذا الطلب فاتحة شهرة الرجل وباب ثروته)(307/12)
ليبتسم من يشاء لهذه القصة من الشبيبة المثقفة الحالمة بتربع دسوت الوزارات والتهافت على باطل الأمجاد وكاذبات الاماني، المحتقرة لكل عمل لا تدور به عناصر التحكم بالناس والترفع عن كل حرفة، فإن من هذه الشبيبة فئة علمتها عثرات الآمال أن تعتمد على نفسها وتنطلق في ميادين الأعمال الحرة من أي نوع كانت، وهذه الفئة تباهي بالإكساف الوضيع الذي عرف أن يجعل السيدة الأولى في أعظم الأمم ثروة وعدداً وجهداً تشهد بفضله وتثني عليه لأنه ابتكر طريقة تريح الناس من عناء تحملوه عبثاً حتى كشف سره وهو لا يحمل شهادة الفلسفة بل لعله أميٌّ لا يعرف من العلم شيئاً
ليس من عمل حقير في العالم إلا العمل الذي تديره يدٌ متواكلة بتفكير حقير. . .
إن من حرفة الكناسة مجالاً للعبقرية، كما أن في مهمة إدارة الأمم مجالاً للحماقة والغرور. ولو أن كل فرد في هذه الأمة اتجه إلى إتقان عمله باذلاً فيه كل جهده لبدت طلائع الرقي بين الطبقات الوضيعة قبل أن تبدو بين الطبقات العليا.
إن حياة الأمم تبدأ بانتباهه الفرد ونشوء فكرة التضامن بين جماعاته الصغرى. فلو عملت الفئة الناهضة المثقفة في هذه البلاد على إثارة هاتين القوتين في المزارع والقرى الصغيرة لقضت على التواكل والخمول ولرأينا بدلاً من الشعب الذي يتوقع من حكومته كل شيء، شعباً واثقاً من نفسه يقيم كل شيء على سواعده
أما يكفي الأمة لتحيا أن يكون حاكموها منها ولها وإن يعدل القضاء بين أفرادها؟
- 2 -
كلمة قد تجيء ثقيلة على بعض الاسماع، وقد يتلقاها من توجه إليه بالصمت والتبرم ولكنها كلمةٌ حقَّ الجهر بها علينا لأننا اعتقدناها حقاً
لقد كثر عدد الكتاب والشعراء الذين يملكون البيان الصحيح ولكن قل بينهم من ينطق بهذا البيان بلهجة العربية الأصلية محررة من كل لكنة دخيلة أو رطانة أجنبية
وان نحن أردنا تصنيف اللهجات التي تصدها فصاحة اللغة وتتململ منها مقاطعها وحروفها وحركاتها وسكناتها أمكننا أن نردها إلى أصلين: اللهجات التي أدخلتها العامية على الفصحى، فمنها ما حولت الجيم إلى جيم إفرنجية تتنافر وسائر الحروف الحلقية، والألف إلى ألف فارسية تخرج مفخمة من الخياشم كان عليها (أكسانسير كونفلكس) مزدوجة، ومنها(307/13)
ما حسبه بعض المتحذلقين نهاية الإبداع بالاحتفاظ بالحركات النحوية في أواخر الكلمات وبخاصة عند الوقف فتأتي الحركة نافرة كأنها الشجي في حلق المتكلم أو كالقرار الموسيقي الإفرنجي المقطوع على بقية كذَنبْ كلب الراعي
أما الأصل الثاني فرطانة جميع لغات الدنيا نازلة منزلة الضيف غير المحتشم على مخارج حروفنا وموسيقى مقاطعنا
إن الفرنسي عندما يتكلم بلغة أجنبية لا يكاد يتلفظ بجملة واحدة حتى تسمع لغة أمه نافرة بغنتها من فمه مشوِّهة اللغة الأجنبية، وهكذا الإنجليزي والألماني والإيطالي الخ. .
أما نحن أصلح الله عيب التقليد فينا، فإننا نتكلم لغات العالم محتفظين لكل منها بفصاحتها، وبيننا من يبزُّ الإنكليز والفرنسيين بنقاء لهجته، غير أن الكثيرين ممن تلقوا العلم في المدارس الأجنبية أو تسَّنى لهم أن يمضوا ولو مدة صيف واحد في أوربا تُشلُّ عضلات أحناكهم أو تتشنج أعصابها فيأتون السامعين بعجائب الفصاحة وغرائبها حتى ليصعب عليك لأول ما يطلق الخطيب أو الشاعر صوته في الراديو أو على المنبر أن تتميز اللغة العربية فيما يقول، ولكم من عربي ابن عربي بيننا نحسبه أحد الآباء القادمين من فرنسا أو أحد المرسلين من إنجلترا. . .
دخلت امرأة أجنبية إلى مخزن لتشتري قماشاً فطلبت من المستخدم أن يريها بضاعة شرحت أوصافها على قدر ما تسمح لها معرفتها بالعربية فأوردت ضمير المخاطب بدل ضمير الغائب وقلبت المذكر مؤنثاً والمؤنث مذكراً، واستبدلت بالفاء والعين والقاف حروفاً من لغتها فإذا بالمستخدم العربي يتقدم مدلياً ببيان طويل عما لديه من الأصناف باللغة التي خوطب بها دون ارتكاب خطأ واحد فوقفت السيدة تتفرسه قائلة:
- آجيب هو انتي من مملكت بتاع أنا.
وإذ أجاب المستخدم نفياً أطلقت لسانها بالسباب والشتم وخرجت من المخزن معتقدة أن حضرته يهزأ بها ويقلدها ليحتقرها.
مسكين هذا المستخدم، أنه ساير الأجنبية تملقاً بقصد تصريف بضاعته، فأية بضاعة يريد تصريفها بعض المقلدين بيننا حتى من رجال الأدب، وأي معنى لهذه المسايرة السخيفة التي تضحك الأجانب أنفسهم.(307/14)
بقيت كلمة لن أدعها عالقة بقلمي، وإن كنت أعلم أنها ستغضب كل من سطت العادة على ذوقه سواء أكان سليماً أم غير سليم.
من أية لغة اقتبس حرف (أ) في كلمة (أب)؟ وليس في لغات العالم ما يشبه هذا الصوت الذي تحسبه قرعة دفٍ فلا يمكن كتابته إلا إذا خلقت ألفاً جديدة تتركب من سائل القاف ومسحوق الضاد وشيء من صيحة الاستنفار ثم أتيت بالباء مشددة بأربع شدات، وقد لا نصل بهذا الإملاء إلى تمثيل خشونة هذه الكلمة وثقلها مع أنها من ألطف ألفاظ العربية ومن أروعها تمثيلاً لعطفة الطفل على والده.
وأخيراً أتمنى لو عمل هؤلاء المصابون بداء الرطانة والحذلقة على الاستشفاء بإصغائهم إلى فصحاء هذا الجيل كالأستاذ الأكبر المراغي والأستاذ أمين الخولي مثلاً في النثر، وكالأستاذ الجارم والأستاذ أحمد رامي في الشعر، فإن تصحيح اللغة على الألسن ليس بأقل أهمية من تصحيحها في الجرائد والكتب
(الإسكندرية)
فليكس فارس(307/15)
أعلام الأدب
هجرة يوريبيدز
للأستاذ دريني خشبة
ساءت حالة أثينا والاثينيين بعد موت بركليس (429 ق. م)، وأخذت المصائب تتري عليها في الداخل والخارج. . . في الداخل على أيدي تلك الطغمة الشقية من زعماء الشعب وقادته الذين نبتوا فجأة فورثوا الزعامة كما ورثها ألسبيادس النزق الطياش عن بركليس العظيم، أو تملقوا الجماهير الغافلة التي لا إرادة لها. فأسلست لهم قيادها فأوردوها المهالك بعد ما ضللوا بها تضليلاً كبيراً متخذين من فساد الديمقراطية بعد موت بركليس سلاحاً يشهرونه في وجوه العقلاء والمفكرين.
أما في الخارج فقد تتابعت الهزائم على جيوش أثينا، وأحرق الإسبرطيون حقول أتيكا وقراها ودسا كرها كما صنع الفرس من قبل، ثم حطموا قوة أثينا البحرية التي كانت تلقى الرعب في قلوب الدويلات الهيلانية.
كان يوريبيدز يرى ما حل ببلده الأثير المحبوب وهو جالس كالقديس في كهفه الجميل الفريد في صخرة سلاميس فيأخذه الوجد، ويخزن أبلغ الحزن على ما آلت إليه الحال في أثينا من انحطاط مستوى الشعب الخلقي، وتضليل الزعماء بالناس، واقتتالهم على جاه الرياسة الزائف في حين قد أصبحت حرمات الوطن حلاً لكل والغ، ففي كل يوم غزو، وفي كل يوم قهر لعزة الوطن، والإسبرطيون في كل فج يذلون العزة القومية، وينشرون الفقر، والأقوات منقوصة في أثينا، والأمراض تفتك بالاهلين، والاهلون لاهون عن كل ذلك بالجدل السياسي العقيم، وبإلقاء التهم جزافاً على رأس كل وطني مخلص. فيوريبيدز كان يدعو للسلم لأنه كان يتمنى الهزيمة لبني وطنه. . . فليُنْبَذ يوريبيدز إذن. . . وليذكر ماضيه الزاخر بعداوته للمرأة وإلحاده بالآلهة، واستهتاره بتقاليد السلف الصالح، والفت بدعوته للسلم في أعضاء الجند. . . ثم هو يسخر بالديمقراطية فهو من شيعة الاستبداد. . . ثم هو تلميذ السوفسطائيين الملاحدة وصديقهم، وأحد المبشرين بآرائهم. . . فليؤخذ أخذاً شديداً لا هوادة فيه ولا مرحمة. . ولتشرك زوجته في خلق المتاعب المنزلية له فتصبح حياته جحيماً في المنزل، وجحيماً في المجتمع، وجحيماً في أثينا كلها. . . ولماذا يبالي(307/16)
الشعب الضال، والزعماء الأوشاب من طعن يوريبيدز في شرفه؟! أليس قد اشتهر أن زوجته الأولى قد خانته؟ فلماذا يتورعون من إرسال التهمة نفسها عن زوجته الثانية! ثم لماذا لا يدسون إليه من يحدثه بذلك! أليست هي فضيحة والسلام؟ أليس المقصود هو وخز هذه الروح العالية الكريمة المتأبية؟ فماذا ينفع في وخزها إلا صغار هذه الشائعات؟ ألا لا أفلح شعب لا يحرص زعماؤه على الأخلاق، ولا أفلحت أمة يبلغ لها الهوان أن تعبد أمثال أولئك الزعماء!
كان يوريبيدز معتزلاً جميع الناس في كهفه المنفرد، وهذه الضائقة الأخلاقية تفتك بمواطنيه، وكانت أنباء الأزمة تبلغه فيبتسم ساخراً، ثم يعبس عبوسة عميقة مريرة ظهرت آثارها في درامته التي كان ينظمها في ذلك الحين (أورست 408 ق. م) والتي حلل فيها أخلاق رجل ملتاث أو به مس لأنه قتل أمه، وكيف أعدي هذا الرجل جميع من حوله بجنونه وخصوصاً أخته ألكترا وصديقه بَيْليدز، وكيف انتهى أعوانه إلى حرق القصر الملكي في آرجوس ليكون أول مشهد من نوعه يعرفه المسرح اليوناني. . .
وبالرغم من روعة أورست وأنها من أقوى ما نظم الشاعر فقد سقطت لأنها من نظم عدو الشعب، الرجل الغني البخيل الذي طالما بخل بأمواله على بلاده في أشد أوقات محنتها. . . هذه تهمة جديدة حاكها الرعاع حول يوريبيدز، لأنه كان يقتني مكتبة من أحفل مكتبات أثينا بالكتب بل من أحفل المكتبات الشخصية في العالم في ذلك العصر الذي كانت تبلغ فيه قيمة الكتاب الواحد مالا قبل للفقير به
إذن فليهاجر يوريبيدز!
ولْيُلب دعوة أهل مجنيزياله، ليحل عليهم ضيفاً حيناً من الزمان، فإن بينه وبينهم صداقةً قديمة ومحبة كانت تجعل لهم منه في أثينا سفيراً يسهر على صوالحهم وييسر حوائجهم. . . وليتلبث عندهم أياماً ثم فَلْيُلَبّ دعوة ملك مقدونيا العظيم الملك آرخيلوس، الذي كان يجمع حوله بلاطاً زاهياً زاهراً من أعظم رجال الفكر والفن في العالم، والذي كان يعتقد أن انتهاء أثينا على هذا النحو المزري لا يعني انتهاء المجد اليوناني، بل يعني هجرة هذا المجد، وما دام أعظم رجال الفكر والفن اليونانيين قد هاجروا، واختاروا بلاط مقدونيا مُهاجراً لهم، فسترث مقدونيا هذا المجد الأثيني الباهر العظيم، وستنهض مقدونيا في عالمي الفكر(307/17)
والحرب. وسيكون من ملوكها الملك فيليب وابنه الإسكندر ومن أضيافها العظماء الفيلسوف آرسطو المعلم الأول!
كان آرخيلوس ملك مقدونيا وواضع اللبنة الأولى في بناء نهضتها يطمع من قديم في اجتذاب الشاعر يوريبيدز إلى بلاطه لشدة إعجابه به، وكان يعرف ما يلقى يوريبيدز من قومه من الهون وسوء التقدير، فدعاه مرة وأطمعه في حياة هادئة هانئة لا يعكر عليه فيها صفاءه معكر، لكن يوريبيدز شكر واعتذر، فلما هاجر إلى مجنيزيا وعرف الملك ذلك جدد دعوته وشدّد، فلبى يوريبيدز وأجاب، وشد الرحال إلى البلاط المقدوني المتلألئ حيث وجد من رجال الفن نريكسيز أعظم مصوّري عصره، وحيث وجد الشاعر التراجيدي العظيم أجاثون، والموسيقي الخالد تيموتيوس الذي كان يوريبيدز قد أنقذه من الانتحار كما مر بك. . . ومما يؤثر في قليل من الشك أنه لقي ثمة المؤرخ العظيم تيوسيدز
أقام يوريبيدز في هذا البلاط الزاهر فكافأه الحظ السعيد لأول مرة في حياته مكافأة معنوية عالية لم يكافئ بها الزمان أحداً من الأدباء قط. . . لقد وردت الأنباء من سيرا كوزه حاضرة صقلية بأن أسرى الحملة اليونانية التي أرسلها ألسبيادس لغزو الجزيرة والذين بلغ عددهم سبعة آلاف أسير قد اشترط الصقليون لإطلاق سراحهم أن يلقوا مقطوعات من شعر يوريبيدز، فمن استطاع منهم ترتيل شيء من هذا الشعر واو كان بيتاً واحداً فقد أطلق سراحه وصار حراً، ومن لم يستطع فقد حل للصقليين استرقاته! أي مكافأة هذه يجود بها الزمان على شاعر؟! وأية منزلة بلغها يوريبيدز في الأوساط المثقفة المستنيرة في الزمن الذي كان يعيش فيه! ولكن ماذا كان أثر هذا الجميل في أثينا والأثينيين؟! لقد كان أثراً بالغاً من غير شك، لقد شعروا بالخزي لأن أمماً أخرى غير أثينا قد أخذت تستيقظ وتتنبه، ثم تسمو نحو المجد الأدبي حتى لقد عرفت من أدب يوريبيدز الأثيني ما لم يعرفه الأثينيون!
لم يسكن يوريبيدز إلى الدعة في مقدونيا، ولم يزهه إعجاب البلاط به فيستنيم إلى نشوة الخيلاء، بل لعل الفضل الأكبر يرجع إلى هذه النشوة في نظمه أعظم دراماته جميعاً (الباخوسية) أو سكارى باخوس
وتشبه الباخوسية من حيث الفكرة العميقة وجمال الموضوع برومثيوث المصفّد لأسخيلوس، وقد نسى فيها يوريبيدز أدب الواقع قليلاً. ثم تغلغل في صميم الأساطير القديمة وغرق في(307/18)
الأدب التقليدي الذي كان هو زعيم الثورة عليه. . . ولا ندري لم لم يعِر المؤرخون هذه الرجعة من يوريبيدز اهتماماً، فلم يعللوها ولم يعرضوا لبحث أسبابها. . . على أن مما لا ريب فيه أن أكبر أسباب هذا التحول هو البلاط المقدوني نفسه والبيئة المقدونية التي كان الشاعر يعيش فيها. . . فأحلام رجال البلاط بالرغم من الأفراد الممتازين الذين جذبهم الملك إليه كانت أحلاماً بدائية مما يزدهيها أدب الملاحم والأساطير ولا يروقها الأدب التحليلي الذي ابتكره يوريبيدز ونظم فيه أروع آثاره. . . أما البيئة فقد ترددت أصداؤها في الباخوسية بهذه القطع الخالدة التي صور فيه الشاعر كثيراً من مناظر الطبيعة في مقدونيا تصويراً حياً رائعاً لا يكاد يدانيه شيء في جميع ما نظم
والعجب أن تكون الباخوسية مع ذاك أروع درامات يوريبيدز بالرغم من أنها نكسة في مذهبه، وربما كان العنصر الإلهي الذي امتازت به هو الذي جعل لها هذه المرتبة بين دراماته. . وهو العنصر نفسه الذي ارتفع بروائع الأدب الأخرى وأكسبها الخلود مثل كوميدية دانتي وفردوس ملتون ورسالة الغفران لأبي العلاء وفاوست لجيته
والباخوسية تفيض بروح لاذعة من السخرية، وفيها مناظر تضحيكية مرة تقف بالإنسان ليتساءل: ترى هل بين هذه المناظر وما جاء مثلها في درامة إفجنيا في أو ليس التي لم يكملها يوريبيدز، صلة؟! هل من الحق أن المناظر التضحيكية التي تفيض بها إفجنيا ليست من صنع يوريبيدز؟ وهل الفن الذي نشهده في إفجنيا هذه هو فن غريب عن يوريبيدز لأنه لم يرد في دراماته أيضاً؟ فلم إذن حشد يوريبيدز هذه المناظر التضحيكية في الباخوسية التي نظمها في مقدونيا كما نظم أختها إفجنيا هناك؟!
وهذه أسئلة ترغم الإنسان على إعادة النظر في كل ما قيل عن فن يوريبيدز!! لقد رأينا كيف تأثر سوفوكليس الشيخ بيوريبيدز الفتى في أخريات حياته، أفلا يكون يوريبيدز هو الآخر قد تأثر بعدوه أرستوفان؟
يقدم إله الخمر باخوس - أوديونيزوس - متنكراً في رهط من نسائه السكارى المتوحشات إلى طيبة فيذوده ملكها بنثيوس عن القصر الملكي، ويغلو هو ونساء الحاشية الملكية في انتهاره والإزراء به، والتهكم عليه. ثم يأمر الملك بتكبيله بالقيود والأصفاد ثم بإلقائه في غيابة السجن ذليلاً محسوراً. . . وهنا تتجلى المقدرة الإلهية العجيبة، فإن ديونيزوس الذي(307/19)
يصبر لهذا الهوان من أحد رافضي عبادته يرسل طائفاً من الجنون يجتاح سيدات القصر الملكي كله بما فيهن أجاف أم الملك فينطلقن مهرولات مولولات لينخرطن في صفوف ديونيزوس، وليعكفن على عبادته. وينصح أشياخ الشعب الطيبي للملك أن يحد من غلوائه ضد الإله وإن يشرب قلبه محبته عسى أن يغفر له، لكن الملك لا يزداد إلا شموساً، فلا ييأس ناصحوه من النصح له حتى يقبل آخر الأمر أن يستخفي في زي امرأة ثم ينطلق إلى جبل كيثارون حيث يختبئ في بعض الأدغال القريبة ليشهد كيف يقبل نساؤه الملكيات على عبادة الإله وليقف بنفسه على مدى خشوعهن له. . . وما يلبث الملك المستخفي أن يفتضح أمره فيضبطه نساؤه في مخبئه، وتهجم عليه أمه وهي فيما هي فيه من طائف الجنون المقدس فتقتله ثم تمزقه إربْا، وتنثر في الهواء أشلاءه، وتنطلق برأسه نشوانة بخمر النصر وهي تحسب أنها قد قتلت أسداً، وإن الرأس الذي تحمله هو رأس ذلك الأسد!
فإذا انتهت إلى القصر، وراحت تفتخر بفعلتها التي فعلت، لقيها أبوها قدموس الذي آب هو أيضاً من جبل كيثارون حاملاً أشلاء حفيده، فيقول لها وتقول له، وقد فاءت قليلاً من طائف الجنون المقدس:
أجاف - ماذا؟ ما الذي تنكرون؟ فيم أسفكم أيها الأهل؟
قدموس - دوري بعينيك قبل كل شيء في الهواء الذي حولك!
أجاف - أدور بعيني؟ ولماذا أفعل يا أبتاه؟
قدموس - ألم يتبدل الأمر غير الأمر؟ ألم يحدث أي تغير!
أجاف - لله ما أجمل وما أبهى! أبداً ما رأيت مثل هذا أبداً؟!
قدموس - أما تزال خيلاؤك تهيمن على روحك!
أجاف - لست أدري ماذا تقصد! إني أفيق قليلاً. . . أن عقلي المضطرب يصحو. . .
قدموس - ألا تستطيعين أن تنتبهي وتجيبي على ما أسألك؟
أجاف - لقد نسيتُ يا أبتاه كل ما قلت!
قدموس - أتذكرين إلى من زففناك عروساً يا بُنيّة؟
أجاف - إلى إخيون الذي يدعونه ابن التنين!
قدموس - وتذكرين ابنه الذي حملت في أحشائك؟(307/20)
أجاف - بنثيوس، الوشيجة المقدسة التي تربط قلبينا!
قدموس - إذن رأس من هذا الذي تحملين في كلتا يديك؟
أجاف - رأس أسد! هكذا قال رفاق الصيد!
قدموس - انظري إليه إذن فلن يكلفك النظر إليه عناء!
أجاف - ماذا أرى؟ ما هذا الذي أحمل في يدي؟
قدموس - انظري إليه مرة ثانية. . انك توشكين أن تعرفي!
أجاف - إني أرى الفزع الأكبر الذي ما رأيت مثله أبداً!
قدموس - هل هذا يشبه الأسد؟
أجاف - كلا! وا تعساه! أنه رأس ولدي بنثيوس!
قدموس - ومع ذلك فلم تذرف عليه عيناك عبرة واحدة قبل الآن!
أجاف - من قتله؟ وكيف انتقل رأسه إلى يدي؟!
قدموس - أيتها الحقيقة المرة! لقد أتيت في غير الأوان!
أجاف - تكلم! أن قلبي يخفق حتى ليكاد يثب من بين أضالعي!
قدموس - أنت يا ابنتي التي ذبحته. . . أنت وأخواتك!
أجاف - وأين! هنا؟ أم في أي مكان؟!
قدموس - هناك. . . حيث انقضت عليه كلاب أكتيون فمزقته إربْا!
أجاف - ولم ذهب إلى كيثارون ولدي التَّعس؟
قدموس - ذهب ليستهزئ بالإله! وليسخر بالسَّكارى من عابداته!
أجاف - ولكن كيف وفيم ذهابنا نحن إلى هناك؟
قدموس - لقد أصابك طائف من الجنون، وقد جُنّت المدينة كلها معك!
أجاف - وا أسفاه! لقد أهلكنا ديونيزوس؟ الآن عرفت ذلك!!
قدموس - هذا جزاء ما سخرتم به. . . لقد نسيتم أنه إله!!
أجاف - وأين جسمان ابني يا أبتاه!!
قدموس - هاهو ذاك. . . لقد لقيت العناء في جمعه!
أجاف - وهل كل أشلائه سليمة. . . و. . . هل أصابه ما كان قد أصابني؟(307/21)
ثم تبكي ألام ولدها ويبكي قدموس حفيده، ويشتد في بكائه إياه لأنه سيظل بلا عقب ولا وارث لملكه ولن تكون له ذرية من الرجال. . . ثم يبدو الإله ديونيزوس فجأة فيصمت الجميع، ويأخذ رب الخمر في إصدار أحكامه وإبرام إرادته فينذر قدموس أنه سيمسخه فيكون تنيناً، وستكون زوجته هولة شائهة الوجه. أما أجاف فستكون هولة أيضاً وستنفى من طيبة إلى أقصى الأرض. . . فإذا تضرعت إليه أن يترفق بها ذكرها بما كان من استهزائها به وتهكمها عليه. . . ثم تودع أباها ووطنها وداعاً مؤثراً وتنطلق من فورها إلى منفاها السحيق
أما الإله فأنه يسمو صَعَداً في الهواء ليلحق بدولة الأولمب!!
فهل رأيت سخرية كهذه السخرية؟! لقد حشد يوريبيدز طائفة كبيرة من الطعن في أهل البربر في الباخوسية، كما لجأ كعادته إلى الإشادة بذكر الهيلانيين. . . وقد أقام في مقدونيا عاماً ونصف عام فيهما صفى الملك وحبيبه وصِدِّيقه. . . ثم مات يوريبيدز متأثراً بجراحه التي يزعمون أن كلاب الملك وكلاب المقدونيين أحدثتها به حينما انطلقت عليه تعقره وتعضه وتمزق جسمه؟!. . . فهل هي رواية صادقة؟! وهل بين هذه الرواية وبين ما طعن به على البربر علاقة ما؟ وهل المقدونيون من البربر؟ أم أن استخلاص الملك له وإيثاره إياه أثار في قلوب رجال الحاشية حسدهم له وموجد تهم عليه فأغروا كلابهم به؟!
لقد زعموا أن الملك وجد على يوريبيدز وجداً شديداً. . . وأنه رفض إرسال جثمانه إلى أثينا ليدفن هناك وقد ألح الأثينيون في طلبه وتوسلوا إلى ملك مقدونيا بشتى الوسائل، لكن الملك آثر أن يدفن صديقه بالقرب منه في (سنة 406).
دريني خشبة(307/22)
رجعة إلى البحتري
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أبدى لنا بعض الأدباء الأفاضل شكاً في وصفنا للبحتري من حيث غلبة الصناعة على العاطفة في شعره واختلاط الحقيقة بالخيال في تلك الصنعة مما جعل بعض القراء يغترون بها ويحسبونها عاطفة. ولم نكن نريد انتقاص البحتري إذ عددناه ممثلاً في صناعته، يمثل العواطف المختلفة تمثيلاً متقناً؛ ولم نُرَجِّح صحة رواية كتاب الأغاني عن طريقة إنشاده وعن طلبه الاستحسان من الحاضرين وزجرهم إذا لم يُظْهِروا الإعجاب، إلا لأن ذلك يفسر تناقض ما يمثل من العواطف والأحاسيس في شعره، كما سنوضح، ويتفق وطريقة الصناعة اللفظية التي ينتشي فيها الصانع بما يقول، وقد أغفلنا الإشارة إلى ما يروى عن بخله إذ لا دخل لذلك بفنه، وكذلك أغفلنا ما روي عن قلة اكتراثه بثيابه ونظافته. . . الخ.
والحقيقة أننا نعجب بصناعة البحتري إعجاباً كبيراً، لكن الإعجاب لا يمنع من الوصف والدراسة النفسية والسيكولوجية. وربما أخذ علينا بعض حضرات الأفاضل قولنا أن رثاءه للمتوكل كان صنعة وإننا نشك في قوله: (أدافع عنه باليدين. . . الخ). وقد رفضنا ما قرانا في بعض الكتب من رواية لعلها رواية عدو أو رواية مازح أراد أن يداعب قوله: (أدافع عنه باليدين الخ). فقد قيل أنه اختبأ أثناء مقتل المتوكل. ويكفي أن نقول أن الفتح ابن خاقان هو الذي حاول أن يدافع عن المتوكل بيديه وبجسمه فقتله الفاتكون وهو من زعماء الترك مثلهم، فما كانوا يتعففون إذا عن قتل البحتري إذا صح أنه دافع عنه باليدين أن لم يكن لغضب منه فلكي يصلوا إلى المتوكل. ولم نسأ أن نذكر أنه مدح المنتصر بعد أن هجاه في رثاء المتوكل، ومدح زعماء الفاتكين وعرَّض بهجاء المتوكل في مدحه للمنتصر كما سنوضح، ومدح المستعين الذي خلف المنتصر والذي كان منافساً للمعتز بن المتوكل الذي مدحه البحتري في رثائه للمتوكل ورجاه للخلافة، ومدح ابن المستعين ورجاه للملك أيضاً. كل ذلك والمعتز أسير حبيس، ثم بعد أن ثار الجند الترك على المستعين الخليفة واضطروه أن يخلع نفسه وفتكوا به هجاه البحتري بقوله:
وما كانت ثياب الملك تخشى ... جريرة بائلٍ فيهنَّ. . . ري
وكان الغدر والخيانة والانتقاص أموراً شائعة في ذلك العهد. وفي رثاء المتوكل يهجو(307/23)
المنتصر فيقول: (إذا الأخرق العجلان خيفت بوادره) ويقول:
ولا وأل (المشكوك فيه) ولا نجا ... من السيف ناضي السيف غدراً وشاهِرُهْ
وهذا يشمل المتهم بالتحريض غدراً وهو المنتصر ويشمل الذين شهروا السيف وقتلوا المتوكل وهم الذين مدحهم البحتري بعد ذلك. ورب قائل يقول: أن الشاعر لا دخل له بالسياسة فهو يمدح الحكومة القائمة. ولكن البحتري لم يكتف بمدح كل حكومة كانت قائمة بل كان يهجو الحكومة التي قُضِيَ عليها. وقد رأينا هجاه للمنتصر في رثائه للمتوكل فانظر كيف يمدحه ويقول:
سروا موجِفِين لسعي الصفا ... ورمي الجمار ومسح الحجر
حججنا البنية شكراً لِمَا ... حبانا به الله في المنتصر
أي أنه حج كي يشكر الله على أن المنتصر تولى الخلافة وهو الذي يصفه في المرثية بالأخرق العجلان ويرجو أن لا ينجو من أن يُقْتَل بالسيف لأنه متهم بالتحريض على قتل أبيه، ولم يكتف بالحج شكراً بل وصف المنتصر بالحلم بعد وصفه بالخرق فقال:
من الحِلْمِ عند انتقاض الحلو ... م والحزم عند انتقاض المرر
تَطَوَّل بالعدل لما قَضَى ... وأجمل في العفو لما قدر
ودام على خُلُقٍ واحد ... عظيم الغناء جليل الخطر
ويقول:
ولكنْ مُصَفىًّ كماء الغما ... م طابت أوائله والأخَر
تَلافَى البرية من فتنة ... أَظَلَّهُمُ ليلها المعتكر
رددت المظالم واسترجعت ... يداك الحقوق لمن قد قُهِر
وآل أبي طالب بعد ما ... أذيع بسربهم فابْذَعَرْ
وصلتَ شوابك أرحامهم ... وقد أوشك الحبل أن ينبتر
وهذا المدح طويل جيد، ولا يقل صناعة عن مدحه للمتوكل بل أن فيه تعريضاً بحكومة المتوكل وهجاءً له، إذ أن المتوكل هو الخليفة الذي غالى في اضطهاد آل أبي طالب. وقوله (رددت المظالم) هجاء صريح للحكومة السابقة، وقال:
بقيت إمام الهدى للهدى ... تُجَدِّدُ من نهجه ما دثر(307/24)
فإذا كان الهدى قد دثر وجدده المنتصر فمعنى ذلك أن المتوكل هو الذي كان الهدى في عهده مندثراً.
وفي مدح العباس بن المستعين يقول:
تَوَلًّتْهُ القلوب وبايعته ... بإخلاص النصيحة والوداد
هو الملك الذي جُمِعَتْ عليه ... على قدر محبات العباد
بعد أن كان لا يرضى بعد المتوكل خليفة إلا بالمعتز ابنه، وقد قال في ذلك (وإني لأرجو أن تُرَدَّ أموركم الخ)
وفي مدح المستعين يقول:
تِلْو رسول الله في هَدْيِهِ ... وابن النجوم الزهر من آله
وهذا ليس مدحاً شكلياً لكل حكومة قائمة بل هو يُمَثِّل عاطفة الولاء الشديد والاقتناع بالصلاح وإلا ما قال (تلو رسول الله)
وبعد أن جعل المستعين مثل رسول الله عاد بعد تعذيب الجنود له وقتله فقال: (وما كانت ثياب الملك تخشى الخ) وقال أيضاً فيمن شبهه قبل ذلك برسول الله:
ثقيل على جنب الثريد مراقبٌ ... لشخص الخوان يبتدى فيواثبه
إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاَء شهاب الملك أو كلَّ ثاقبه
تخطَّي إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطوراً ينازيه وطوراً يشاغبه
وبعد قتل المعتز مدح أيضاً الحزب المناوئ له وخليفة ذلك الحزب وكان في مدح كل خليفة يذكر مدحاً يصح أن يحمل على محمل التعريض بالخليفة السابق الذي كان قد رفعه البحتري إلى السماء كما فعل مع المستعين
وهذه الخطة لم تكن خطته نحو الخلفاء والوزراء فَحَسْب، بل أنه أيضاً صنع النسيب والتشبيب في علوة الحلبية حتى ظن بعض النقاد أنه من أصدق النسيب وهو ليس كذلك، فهو في القصيدة الواحدة يصفها بالصيانة والتبذل فقال:
بيضاء رود الشباب قد غُمِستْ ... في خجل دائمٍ يعصفرها
لا تبعث العُد تستعين به ... ولا تبيت الأوتار تخفرها
وبعد هذا الوصف بالتصون يقول في القصيدة نفسها:(307/25)
وليلة الشك وهو ثالثنا ... كانت هناتٍ والله (يغفرها)
وعلى فرض صحة حدوث ما يستوجب (الغفران) أيليق ذكر ذلك في النسيب الذي يصفها بالتَّصوُّن؟ وأدهى من ذلك أنه عاد وهجاها أفحش هجاء بقول لا يتفق وما وصفها به من التصون وهو قول لا يمكن الاستشهاد به (صفحة 109 من طبعة الجوائب) وفيه أنكر عليها التصون والعفة والجمال والأنوثة. وقصته مع نسيم غلامه معروفة إذ كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يعود فيهدد الذي اشتراه حتى يرده إليه هدية كي يكسب المال. ونسيبه فيه نسيب ظاهره الرقة وباطنه فساد الذوق الذي يكون عندما تنعدم العاطفة وتُدَّعى تمثيلاً قال فيه:
فقل لنسيم الورد عنِّي فإنني ... أعاديك إجلالاً لوجه (نسيم)
ولو كانت عنده عاطفة لقال:
فقل لنسيم الورد أَقْبلْ فإنني ... أحبك مِنْ حبيِ لوجه نسيم
أو مِنْ حبي لطيب نسيم، أو ما شابه ذلك إذ لا يُعقَل أنه يكره الرائحة الزكية لأن نسيم الورد اسمه مثل اسم نسيم. ما بقى إلا أن يتغزل في الرائحة الكريهة إجلالاً لوجه نسيم كما يقول. وقال أيضاً فيه:
لم تجِدْ مثل ما وجدتُ وما إن ... صفْت أن أنت لم تجد مثل وجدي
كيف يكون من الذوق والصدق أن يطلب من ذلك المملوك الصغير أن يعشقه ويحس بوجد مثل وجده به والبحتري شيخ كبير والمملوك غلام صغير؟ أظن أن هذه الشواهد كلها تزكي وصفنا للبحتري وكنا لا نريد الإطالة - وهو وصف على أي حال لا يطعن في علو صنعته.
فقد وصفنا في مقالة (صيانة العقيدة من احتيال النفوس) أن النفس البشرية تستطيع أن تخفى عن نفسها قبح رذائلها وأن تزكيها بأن تلبسها لباس الفضيلة أو الدين
ومن نظراته الصادقة أيضاً قوله:
وما القرب في بعض المواطن للذي ... يرى الحزم إلا أن يشطّ ويَبْعُدَا
فقد يكون في البعد من الإبقاء على المودة ما لا يكون في القرب. وهذه النظرات الصادقة ليست قليلة في شعره بالرغم من فساد نظرته أحياناً. وأختم قولي عن البحتري بأن أعيد(307/26)
بيتاً له أعجب به وهو قوله:
ما أضعف الإنسان لولا همة ... في نُبْلهِ أو قوة في لبه
إذ يعجبني منه اختصاصه النبل بالهمة واللب بالقوة وجعل قوة الإنسان في همة نبله كما جعلها في قوة لبه
والغريب في أمر البحتري أنه قد يخطئ في المعنى إذا كان نسيباً ويصيب فيه إذا كان مدحاً كان الرُّغْبَ في قلبه أشد من الحب. انظر كيف فسد ذوقه في قوله في النسيب وقوله في مملوكه نسيم:
فقل (لنسيم الوَرْدِ) عنى فإنني ... أُعادِيك إجلالاً لوجه نسيم
ثم إلى قوله في المدح:
إني لأضمر (للربيع) محبة ... إذ كنتُ أَعْتَدُّ الربيع أخاكا
وأصابته في البيت الثاني كانت خليقة أن تجعله يقول في البيت الأول أنه يحب نسيم الورد لمشابهة الورد للنسيم، كما أحب الربيع لمشابهته للممدوح، ولكن له سقطات في وصف الأحاسيس وما تقتضيه من القول شان القائل بالصنعة لا بالعاطفة وأن كان أميراً لها. وأدهى مما ذكرنا أن عظيماً من بني حميد ماتت ابنته فحزن لموتها فنظم البحتري قصيدة يعزيه فيها فقال أن العاقل ينبغي ألا يحزن لموت أنثى أيَّة كانت لأنها قد تجلب العار:
واستذلّ الشيطان آدم في الج ... نة لَّما أغرى به حَوَّاء
والفتى مّنْ يرى القبورِ لَما طا ... ف به من بناته الأكفاء
نعم أنه يُعرِّض بمعنى العار ولا يصرح ولكنه تعريض كتصريح، ففي القصيدة يقول: أن أعاظم العرب ما كانوا يئدون بناتهن فقراً (بل حَمِيّةً وإباء) وذكر احتمال العار كي يعزي به أباً حزيناً على فقد ابنته، والمُعزَّى من أعاظم الناس والفتاة التي ماتت من كريمات النساء. فساد في ذوق الصانع حتى مع احتمال حدوث العار لو عاشت إذ يكون من فجاءات الحياة التي لا تتفق وكرم محتد التي يرثيها. هذا هو خطأ ذكاء الصنعة، أما إذا أسلم نفسه لذكاء الطبع والبصيرة النفسية (السيكولوجية) أتى بنظرات صادقة في النفوس والحياة مثل قوله:
إذا أحرجت ذا كرم تخطَّى ... إليك ببعض أخلاق اللئيم(307/27)
واختياره كلمة اللئيم للكريم المُحْرَج ليس فيه مبالغة كما يعرف المفكر في أخلاق الناس، كما أنه ليس من المبالغة قوله في البخل أو اللؤم أو ما شابه ذلك:
وتماحكوا في البخل حتى خلته ... ديناً يدان به الإله ويُعبَدُ
عبد الرحمن شكري(307/28)
في الأدب العربي الحديث
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عنى الباحثون في الآداب العربية من الإفرنج في العصور الأخيرة باتجاهات الأدب العربي الحديث من سبل التحقيق العلمي ووسائل الدرس الفنية؛ وسرعان ما ظهرت عناية هؤلاء الباحثين في الدراسات والمباحث التي قاموا بنشرها في السنين الأخيرة في مختلف اللغات الأوربية عن الأدب العربي الحديث. وخير هذه الدراسات الفصول القيمة التي يكتبها المستشرق الألماني الكبير (كَارْلْ بُرُوِكلْمان) في (ملحق تاريخ الآداب العربية) وقد صدر منها أخيراً جزان عن الشعر المصري في العصر الحديث. غير أن ساحة الآداب العربية الحديثة (رغم هذه الدراسات) لا تزال غير مطروقة في جميع نواحيها بالبحث، والنواحي التي طرقت منها لم تتعد دائرة رسم الاتجاهات العامة والخطوط الأساسية. لهذا كانت الحاجة ماسة لدراسات مستفيضة عن الأدب العربي الحديث من طرق التحليل العلمي وسبل التحقيق الذي درج عليه الباحثون في تاريخ الآداب ووسائل الدرس الفنية
وتحت تأثير هذه الحاجة ومعرفتنا للغة العربية التي حصلنا عليها لظروف عائلية بين تركيا ومصر اندفعنا إلى دراسة الأدب العربي الحديث في اتجاهاته وأعلامه في دراسات مفصلة، ظهرت آثارها فيما نشرناه منذ عام 1936 في اللغات الألمانية والروسية والتركية والإنجليزية والعربية. وكان أن رغب إليّ بعض الزملاء من أدباء العربية أن انشر دراساتي في اللغة العربية لفائدة الناطقين بها من جهة، ولإمكان استفادة كل الباحثين من المستعربين الإفرنج في آداب العرب من جهة أخرى، مما لا يتحقق فائدته على نفس الوجه في الكتابة في لغة من اللغات الإفرنجية التي قلمنا بها
وتحت تأثير رغبة هؤلاء الزملاء وتشويقهم، لخصت جانباً من دراستي التحليلية التي كتبتها في الألمانية عن (شاعر العراق الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي) ونشرتها بالعربية كما ترجمت بحثي عن الأستاذ الدكتور (طه حسين) ومضيت أضع دراسة عن الأديب الكبير (توفيق الحكيم) صدرت في الشهر الفائت ثم انثنيت أدرس الأديب الشاعر (خليل مطران) وأضع دراسة مفصلة عنه، تكلفت بنشرها متتابعة مجلة (المقتطف) شيخة المجلات العربية. وحدث أن عرضت في الفصل الثالث من دراستي للطريقة التي(307/29)
استحدثها خليل مطران في نظم الشعر، وتناولت بالكلام العام الأثر الذي تركه مطران بمحاولته التجديدية في جيل من الأدباء الذين نشأوا في عصره وقلت في معرض الكلام ما نصه:
(على أن الأثر - أعني الأثر الذي استحدثه مطران - توضح واستبان في العقد الثاني من قرننا هذا؛ إذ ظهر في مصر شاعران كبيران هما: أبو شادي وشكري. ثم ظهر في أواخر الحرب خليل شيبوب الذي ينفرد من بين كل المتأثرين باتجاهات مطران بأنه لا يزال إلى يومنا هذا أميناً للعناصر التي يقوم عليها مذهب الخليل في نظم شعره. وهو في ذلك عكس زميليه أبي شادي وشكري اللذين استقلا بمذهب لهما في قول الشعر مع الزمن، وأن كان مذهبهما يتقوَّم على أساس من مذهب الخليل، فعبد الرحمن شكري كان ذهابه لإنجلترا سبباً لوقوعه تحت تأثير المذهب الطبيعي الإنجليزي، وكان أن تغلبت عليه نزعة من التشاؤم نتيجة لعوامل تتصل بنفسه. فاستقل بمذهب في الشعر يقوم على أساس التأمل والتفكير الخصب الذي يماشي الشعور العميق الذي يشوبه مسحة من الكآبة. . .)
غير أن هذه السطور رغم ما تنطق من عظيم التقدير لأدب الشاعر الجليل (عبد الرحمن شكري) فإنها لم ترضه. فكتب في المقتطف وفي الرسالة، وعاود الكتابة فيها يناقش مطالعاتنا مقرراً براءة شعره من أثر مطران مبدياً التذمر من نسبتنا نزعة التشاؤم له، محملاً رأينا أنه وقع تحت تأثير المذهب الطبيعي الإنجليزي أكثر ما يحتمل!
وكان بودي أن أصحح الموقف عقب الكلمات الأولى التي كتبها الأديب الفاضل شكري، ولكني لست أملك من وقتي وصحتي ما يملكه هو حتى أبادر إلى التصحيح في حينه، فليعذرني لهذا وهو خير من يتفهم الأعذار.
وقبل كل شيء يستحسن أن أحدد نقطة الخلاف الأساسية. فأنا أقول أن خليل مطران استحدث في الأدب العربي أسلوباً جديداً في النظم يقوم على أساس قول الشعر باعتبار وحدة الشعور واطراد الخواطر وتسلسل المشاعر واتساق المعنى. وأظن أن الشاعر الفاضل عبد الرحمن شكري لا يختلف معي في هذه القضية. ثم إني أقول أن مطران أثر فيمن جاءوا بعده من الشعراء، وأقرر أن هذا التأثير بدا بصورة قوية عقب ظهور ديوانه عام 1908، وهذا التأثير يعترف به على شعره الدكتور أبو شادي والدكتور إبراهيم ناجي(307/30)
كما يعترف بذلك الشاعر الفاضل خليل شيبوب. وهناك روايات مستفيضة ترددت نحو ثلاثين سنة في المجلات والصحف الأدبية في مصر وسوريا ولبنان والمهجر ناطقة بأثر مطران التوجيهي فيمن أتوا بعده من الشعراء المجددين فضلاً عن أثره في بعض معاصريه من شعراء العربية الأعلام، وهذه الروايات تحمل في تضاعيفها فكرة تأثر شكري بمطران، وهي حين تتكلم عن هذا الأثر لا تتكلم عن تأثير شكري بأخيلة مطران وعبارته، وإنما تتحدث عن تأثره بطريقة مطران في النظم: وحدة في الشعور واطراد في الخواطر وتسلسل في المشاعر واتساق في المعاني تترسل بضبط وتتمشى بإحكام في مختلف أجزاء القصيدة أو المنظومة
وإذاً يكون كل تفسير من شاعرنا الجليل يخرج الكلام عن حقيقته وإنكار للواقع لا نرضاه من أديب مثله.
هذا وأنا بصفتي مستعرباً - ويلاحظ هذا أديبنا المفضال جيداً - مهتم بدراسة الأدب العربي في اتجاهاته وتطوراته، ومناحيه، وفي أعلامه، أتخذ طريقة من البحث منهجية، أمزج فيه التحقيق بالافتراض، والاستقراء بالتخيل، فأتناول بعض الأشياء تناولاً - أو قل التحقيق في كل نوع غير مستطاع. لهذا اقف في بعض النقط من دراساتي عند مجمل الشيء دون أن انزل إلى تفاصيله تاركاً التفصيل والتحقيق لمواقف أخرى. ومن المعروف في الأساليب المنهجية أن طريقة الحدس في الدرس ترجع إلى مراجعة سريعة للمبادئ والانتقال دفعة واحدة منها إلى النتائج دون وقوف طويل ولا تحقيق مستفيض في الحلقات الوسطى. وأنا لم أخرج في بحثي عن تأثير شكري بمطران عن حكم هذا النهج؛ فكل المراجع تقرر أن شكري من المجددين كأقرانه تأثر بمطران. وليس في استطاعتي مخالفتها إلا بتحقيق، لأن البحث عن مطران والتحقيق غير مستطاع. لهذا أخذت كلام المراجع قضية أولية في مثل هذا الموضوع الفرعي الذي لا يمكنني أن أستقصيه إلا وانزل لدقائقه وتفصيله، والبحث لا يستلزم مني كل هذا، ولكن للتثبت من صحة هذه القضية الأولية اكتفيت أن انتقل إلى نتائجها الأخيرة، أتحقق من وحدة الطريقة عند مطران وشكري؛ ومراجعة سريعة لديوان مطران ودواوين شكري لا تضع مجالاً للشك في هذه الحقيقة. والفروق الممكن رؤيتها ترجع إلى الاختلاف في الشخصية والأصل الثابت في طبيعة كل(307/31)
منهما كفردين تقوَّم كل منهما بشخصية أصيلة. وعند هذا الحد وقفت على أن أعود إلى الموضوع أحققه في تفاصيله ووقائعه فيما كنت أريد أن أكتبه عن شكري من دراسة.
على هذا الوجه تتضح المقدمات الأولية في بحثنا التي جعلتنا نقدر تأثير شكري بمطران. ويستبين من ذلك أنه ليس هنالك في فكرنا ما يتوهمه الشاعر الفاضل شكري من تقليل من شانه، وأنه لم يدر بخلدنا أن ننتقص من أمره في كلامنا؛ وأن بحثنا مستقيم من مناهج البحث القويمة، لا ضعف في التخرج ولا تهافت في الرأي ولا قصور في النظر إلى جوانب الموضوع كما راح يغمزنا ويغمز دراستنا الأديب الفاضل
بقيت مسألة تتفرع من فكرة تأثير مطران في جيل من الأدباء الذين عاصروه أو جاءوا بعده. وهذه المسألة تقوم على أساس تفهم وجه التأثر؛ فقد يكون التأثر بشعر مطران، وقد يكون بالأثر الذي تركه مطران في المحيط الأدبي. أما عن الوجه الأول فذلك يكون إما باحتذاء مطران في طريقته كما هو الحال عند شيبوب، أو التأثر بالطلاقة الفنية عند مطران كما هو الحال عند أبي شادي، أو التأثر بجو شعر مطران وأخيلته كما هو الحال مع إبراهيم ناجي. وهذه الحالات كلها وأن تباينت فيما بينها، إلا أنه يجمعها شيء واحد هو التأثر المباشر بشعر مطران. أما عن الوجه الثاني فبيان ذلك في مجاراة النسق الجديد الذي أتى به مطران؛ نزولاً على أحكام الجو الأدبي والبيئة الفنية التي تطعمت بمحاولات الخليل التجديدية. ومثل هذا واضح في محاولات أحمد شوقي في إقامة طرز جديد من الشعر في الفترة التي جاءت عقب الحرب العظمى. ولا يعترض علينا بأن الحاجة كانت ماسة لهذه الضروب من الشعر نزولاً على أوضاع الحياة الجديدة التي دلف إليها المجتمع الشرقي. لأن روح التردد والإحجام عن استحداث مثل هذا الحدث كان يسود المجتمع. فضلاً عن أن الشخصية التي تتقوَّم بأوضاع الحياة الجديدة على وجهها الجديد وتماشي حاجة العصر لم تكن وجدت، لأن الجميع كانوا تحت تأثير سريان الشعر القديم. ولا شك أن العصر من حيث أدرك نفسه في شخص مطران الرائد الأول لحركة التجديد في ميدان الشعر في الأدب العربي، حمّل الجو الأدبي لوناً وجعله يتطعم بصورة جديدة: تلك التي تطالعنا من حركة الجديد اليوم
ولا شك عندي في أن حذق الخليل وتحايله على جمود عصره هو الذي مكن أقدام الشعر(307/32)
الجديد. عناية مطران بأن يكسو شعره ديباجة عربية خالصة، واتخاذه الأغراض الاجتماعية التي تدور عليها الحياة في عصره، هي التي جعلت الناس تتشرب الجديد ولا ترى غضاضة في تذوق أخيلته ومعانيه المستحدثة. والحق يجب أن يقال أنه لولا مطران لما كان لنا أن نرى اليوم تلك المحاولات التي قام بها الشعراء المجددون من شعراء الثقافة الحديثة في مصر
وعلى هذا لنا أن نفهم مناحي تأثير مطران في جيل من الأدباء الذين عاصروه والذين أتوا من بعده ولحقوه. وعلينا لكي ننصف التاريخ الأدبي أن نقدر كل ذلك، وفي ضوئه نصدر أحكامنا وندلي بمطالعاتنا عن الأدب العربي الحديث
وقد حاول الشاعر الفاضل عبد الرحمن شكري في مقاله بالمقتطف أن يخرج بالموضوع عن دائرته الحقيقية إلى بحث في العوامل التي أثرت في نفسه فقومت شخصيته على النمط الذي يظهر في مطالعة شعره. ولست براغب في نقاشه في المسائل التي ذكرها، لأنها من أمس الأشياء بذاته وشخصه، والإخلاص الأدبي يضطرنا إلى تصديقه فيها. ولكن كل الذي أرغب أن أقدره هنا أنه كشف بما كتب عن العوامل التي أثرت في نفسه فجعلته يميل لقرض الشعر؛ إلا أنها لا تبين الأدوار التي مر بها حتى قومته على النمط الجديد الذي يظهر من مطالعة شعره في الدواوين الأخيرة، وفي بعض الأجزاء من روايته الأولى، ولا شك أن شاعرنا لا يعتقد أن شخصيته الأدبية وضحت واستقامت من الأدب القديم بدون أن يكون للجديد أثر عليه. فصحيح أن الأستاذ شكري تأثر بشعراء الصنعة العباسية وبشعر العرب القديم وبشعر البارودي في الطور الأول من حياته الأدبية، وذلك على الوجه الذي أشار إليه في مقاله الأخير بالمقتطف؛ على أن ما استقامت به شخصيته من نمط جديد لا أظنه ينكره، وهذا النمط هو الذي يعنيني ويعني كل باحث في تصرف شاعريته
ونحن نعتقد أن في إمكانه أن يخرج المسألة تخريجاً يوافق دعواه التي يدّعيها، ويقول أن ما ظهر به من نمط جديد إنما يرجع لارتياضه في دواوين الشعر الأوربي، ولكن لكي نصحح هذه القضية يجب على شاعرنا أن يثبت عدم تأثره بمطران في الوجهين المباشر وغير المباشر. وهو يستطيع أن يزعم أنه لم يقرأ مطران وأنه لم يتأثره؛ ولكن لا أظن أن في إمكانه أن ينفي عن نفسه تأثره بالجو الذي استحدثه الخليل في الحياة الأدبية(307/33)
في إمكان شاعرنا الفاضل أن ينفي بصيغة البات، ولكنه لا يقنع بذلك أحداً من الذين تقومت لهم شخصية في دراسات التاريخ الأدبي
وأظن أنني بهذا المقال أوضحت الموقف وأجليت الفكرة دون نكران للواقع أو انتقاص لمكانة شاعرنا الجليل عبد الرحمن شكري في عالم الأدب الحديث. وليطمئن الأستاذ فإني في طليعة المعجبين بشعره والعناصر الأدبية والفنية الطيبة التي يتميز بها شعره، وعبارتي في المقتطف عنه ناطقة بهذا الإعجاب: (شعر يقوم على أساس التأمل العميق والتفكير الخصب الذي يماشي الشعور العميق). أما حديث التفاؤل والتشاؤم فله مقال آخر.
(أبو قير)
إسماعيل أحمد أدهم(307/34)
المدرسة الابتدائية وتعليم اللغة الأجنبية
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
ورد في تقرير اللجنة التي شكلت بوزارة المعارف برياسة سعادة الوكيل المساعد لدراسة هذا الموضوع ما يأتي:
(تكاد تجمع نظم التعليم بالبلاد الأجنبية على أن ليس من المصلحة أن يبدأ الطفل تعلم لغة أجنبية قبل أن يلم إلماماً كافياً بلغته القومية وقبل أن تتسع مداركه لاستيعاب تلك اللغة الأجنبية
ويرجع هذا الإجماع إلى أن المسؤولين عن تربية الطفل يرون أن في التبكير بتعليمه لغة أجنبية إرهاقاً له وإضعافاً للغته الأصلية، وأن تعليمه اللغتين في وقت واحد يؤدي إلى عدم تمكنه من إحداهما. وهذا أن وافق دولة ما فالأحرى به أن يكون أكثر موافقة لمصر التي يختلف فيها تعلم اللغة الأصلية عن غيرها من الدول، وذلك لأن لغة الكتابة هنا غير لغة الكلام مما يجعل العبء أثقل على كاهل التلميذ المصري)
وورد في تقرير المستر مان الخبير الفني الذي رفعه إلى وزارة المعارف منذ أكثر من عشر سنوات بصفحة 94 ما يأتي:
(ان العبء الثقيل الذي تضعه هذه المحاولة اللغوية الغريبة على كاهل الصبي المصري تتجلى لنا شدة وطأته بوجه خاص إذا راعينا ما بين نشوء الفكر في الذهن والتعبير عنه بالكلام من الاتصال الوثيق، لأن من الصعب كما لا يخفى إدراك ما إذا كان في الإمكان أن يوجد أحد هذين الأمرين مستقلاً عن الآخر. وعلى أية حال فإن من المؤكد أن توقيف تيار الفكر في الصبي بتكليفه التعبير عنه بوساطة لغة أجنبية لا بد من أن يعوق نمو ملكة التفكير فيه. وهناك ما يجعلني أعتقد أن الوسط الذي تنشر فيه لغتان من شانه أن يؤخر نمو القوى المدركة في الأفراد الذين يعيشون فيها حتى ولو كانت هاتان اللغتان حيتين وشائعتي الاستعمال، وعلى ذلك فإن بيئة الصبي المصري الدراسية التي تتغالب فيها لغتان إحداهما ميتة لا بد من أن يكون أكثر تعويقاً لنمو مداركه من الوسط انف الذكر. فبدلاً من أن تكون المراحل الأولى من تعليمه أطوار نمو طبيعية يكاد لا يشعر بها فأنه يراها شاقة إذ أنه لا يقضيها أحياناً إلا في الكدح في تحصيل قواعد كلامية)(307/35)
وقال هنري سويت في كتابه: (دراسة اللغات العملية) ما يأتي:
بما أن اللغات ليست عقلية إلا في بعض عناصرها فإن تحصيلها لا بد أن يكون إلى حد كبير بطريقة آلية، والدراسة الآلية لا تحتاج إلى عقل مبتكر ولا إلى ملكة ممحصة ناقدة)
ومنذ سنوات طويلة نبهنا الخبيران الفنيّان: مان وكلاباريد إلى النقص المخيف في تكوين شبابنا وتنمية عقولهم في نواح متعددة أهمها في ملكات الابتكار والنقد والتفكير. وجاء في هذا العام مكتب تخديم الشبان بوزارة المالية فأثبت لنا ذلك النقص عن طريق الشركات التجارية والصناعية التي أقدمت على استخدام بعضهم فظهر لها عجزهم في كثير من الأمور. ولست أشك لحظة في أن سبباً هامّاً من أسباب هذا النقص يرجع إلى دراسة اللغات الآلية التي نركز فيها همنا وهم الطفل منذ أول اتصاله بالمدرسة من غير أن نفسح مجالاً ما لظهور تلك الملكات الضرورية وإنمائها! ويكفي أن ندلل على ذلك بأن الطفل بمجرد التحاقه بالمدرسة الابتدائية يصطدم بتخصيص 21 درساً من 38 درساً أسبوعيّاً لدراسة اللغتين العربية والإنجليزية أي بمعدل 46 في المائة تقريباً من وقته الدراسي، وهذا الوقت موزع بمعدل 9 دروس للغة الإنجليزية و 12 للغة العربية؛ أي بنسبة 24 في المائة للغة الإنجليزية و 32 في المائة للغة العربية. فأين تجد المدرسة وقتاً (بعد صرف هذا الوقت كله) للبحث عن ملكات التلميذ الضرورية وتشجيعها وإنمائها والعمل على تكوينه التكوين الصحيح الملائم؟
فإلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية إذن يرفع عن كاهل الطفل المصري المبتدئ في التعليم عبئاً ثقيلاً ينوء به، شهد بوجوده العلماء والخبراء وأحس بثقله الكثيرون من رجال التربية والتعليم في مصر، وأقرت بقيامه اللجنة الرسمية التي درست هذا الموضوع. وإلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية يمكن المدرسة من إصلاح حالها في مواطن متعددة لأنه يعطيها فرصة واسعة للعمل مع زيادة تثقيف أبنائها في شتى النواحي القومية والخلقية، كما أنه يساعدها على اتباع أصول التربية وقواعدها المهملة إلى اليوم بين جدرانها. إذ المدرسة في جميع بلاد العالم لا تقف عند واجب التعليم فقط كما هو الحال عندنا، ولكنها تتعدى ذلك إلى أمور تتصل بحياة الطفل وبمستقبله اتصالاً وثيقاً وتؤثر في نفسيته وتكوينه تأثيراً عميقاً يجعل المدرسة الحديثة تنكر نفسها إذا هي أهملتها أو أنقصت(307/36)
من أهميتها. فلقد أصبحت دراسة ميول كل تلميذ على حدة وتوجيهه وتشجيع مختلف الملكات فيه بمجرد ظهورها والعمل الدائم على إنمائها - أموراً لا يمكن للمدرسة الحديثة أن تحيا بغيرها! والمدرسة المصرية الحالية مع الأسف العميق لا تعني بشيء منها! ولا يمكن أن تعنى بشيء منها ما دام 56 في المائة من وقتها ضائعاً في الدراسة النظرية استعداداً للامتحانات!
هذا ولا يذهبن الظن ببعضنا إلى أن إلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية يضعف حالة هذه اللغة في المدارس الثانوية أو يقلل من أهميتها، فالأدلة المحسوسة كثيرة على أن هذا العمل يرفع من قيمة هذه اللغة ويقوي مركزها في التعليم الثانوي والمتوسط التجاري بصفة خاصة ويجعل الاهتمام بها أكبر وأعظم لأن التلميذ الذي انتهى من التعليم الابتدائي حيث تكون تكويناً ملائماً يأتي إلى المرحلة التالية مليئاً بالحيوية والنشاط متجها اتجاهاً جديداً تدفعه جدته إلى الحماس في الأخذ به. ثم أن القوة في دراسة لغة من اللغات لا تتوقف فقط على طول المدة التي يقضيها الطالب في دراستها لأن هذه المدة عامل ثانوي بجانب الطريقة نفسها التي تتبع في تدريسها وبجانب حماس المعلم وقدرته. وهي أمور إذا أحسنت واستكملت أسبابها دفعت بالطالب دفعاً إلى الاطلاع والقراءة وهي الغاية القصوى التي يجب أن يسعى إليها المعلم والمدرسة معاً. ولا نستدل على ذلك بأكثر ما نراه رأى العين في مدارسنا اليوم إذ نرى مستوى طلاب البكالوريا في اللغة الفرنسية لا يقل كثيراً عن مستواهم في اللغة الإنجليزية بل قد يزيد أحياناً مع انهم أنفقوا طوال أربع سنوات بالمدارس الابتدائية في دراسة اللغة الإنجليزية من غير أن يدرسوا كلمة واحدة في اللغة الفرنسية، ثم أخذوا يدرسون اللغة الإنجليزية طوال مدة التعليم الثانوي بمعدل تسعة أو ثمانية دروس في الأسبوع في نفس الوقت الذي لا يدرسون اللغة الفرنسية إلا بمعدل أربعة دروس في الأسبوع فقط في مرحلة التعليم الثانوي وحدها، فماذا يقول أنصار إعطاء مدد طويل لتعليم اللغات بعد هذا الدليل المادي القوي؟ فإذا رجعنا ببصرنا بعد ذلك إلى الماضي وجدنا عجباً، وجدنا أن معظم وزرائنا ومستشارينا وقضاتنا الذين تعلموا على النظم القديم ولم يدرسوا اللغة الفرنسية إلا في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي استطاعوا بعدها أن يدرسوا مواد العلوم المختلفة في مدرسة الحقوق باللغة الفرنسية وأن ينبغ الكثيرون منهم(307/37)
فيها
فهل يصح بعد كل هذا أن نخشى على اللغة الإنجليزية إذا نحن أخرنا البدء بدراستها إلى ما بعد مرحلة التعليم الابتدائي؟ لا شك في أنه لا خوف عليها مطلقاً إذا ألغيناها من التعليم الابتدائي كم أنه لا خوف على اللغة الفرنسية إذا أجلنا البدء بتعليمها إلى ما بعد سنتين من مرحلة التعليم الثانوي
وفوق هذا وذاك فإنا نعلم أن الطريقة المتبعة في تعليم اللغة الإنجليزية بالمدرسة الابتدائية الآن هي نفس الطريقة المتبعة في تعليمها بالمدرسة الثانوية وهي يقف الأمر عند ذلك بل نجد أن الكتب التي يدرسها التلميذ في المدرسة الابتدائية يعيد دراستها هي نفسها في المراحل الأولى من المدرسة الثانوية، وفي هذا اعتراف رسمي عملي بعدم أهمية دراسة اللغة الإنجليزية بالمرحلة الأولى وبان الطالب إنما يبدأ بتعلمها فعلاً بمرحلة التعليم الثانوي
أما ما نستفيده عملياً من تعليم اللغة الأجنبية في المدرسة الابتدائية فيتبين بصفحة 238، من مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) إذ قد ورد فيه (أما النتيجة العملية التي يستفيدها الطلاب، وتستفيدها البلاد من تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية فتبين من الإحصائية التي تنتقل بناجحي الشهادة الابتدائية إلى البكالوريا حيث ينتظر أن يفيدوا أو يستفيدوا من تعلم اللغة الأجنبية. وهنا أوردنا إحصائية يتبين منها النسبة المئوية لناجحي البكالوريا إلى ناجحي الابتدائية في عدة سنين تقع بين 17 و 26 في المائة. ثم قلنا: (فإذا علمنا أن نحو ثلثي الناجحين في الابتدائية يقفون عند هذا الحد من التعليم وأن ناجحي البكالوريا لا يتمكنون جميعاً من الالتحاق بالجامعة، وأن الكثيرين منهم يرسبون بعد ذلك خلال مرحلة التعليم الجامعي، وإذا علمنا أن الطالب كان يتعلم اللغة الإنجليزية إما للوصول إلى التعليم العالي أو التفاهم بها مع الموظفين الإنجليز العديدين الذين كانوا يملئون دواوين الحكومة عند توظفه. وقد زال هذا السبب الآن واقتصر في تعلم اللغة على الغرض الأول وهو البحث العلمي والاتصال بالآراء الحديثة، عرفنا مقدار التضحيات الجسام التي تضحي بها مصر الآن من مجهودات أبنائها ومن أموالها علاوة على إرهاق الطلبة في سبيل توصيل عدد ضئيل من أولئك الأبناء إلى التعليم الجامعي للانتفاع بتلك اللغة)
بعد هذا كله لا نرى أمامنا غير طريق واحد للسير بالتعليم قدماً نحو الديمقراطية الحقة(307/38)
ونحو النظم التعليمية والاجتماعية السليمة ونحو مصلحة مصر وشعبها وذلك بإلغاء اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية إلغاء تاماً وإدماجها مع غيرها من مدارس الأطفال في مدارس شعبية موحدة
عبد الحميد فهمي مطر(307/39)
على هامش الفلسفة
طريقة الأخلاق أيضاً
للأستاذ محمد يوسف موسى
رأينا عدم غناء الطريقة الاستنتاجية في الوصول إلى مُثُل عليا مرضية من الجميع؛ وهذا ما دفع فريقاً من الفلاسفة للتوجه وجهة أخرى في تعرف الخير والشر والحسن والقبيح؛ هذه الوجهة هي الحاسة الأخلاقية أو الملهمة، حاسة المعرفة المباشرة التي لا تحتاج لنظر واستدلال، بل يكفي أن نلجأ إليها لتهدينا سواء السبيل
هذه رسالة كل فلاسفة أخلاق العاطفة تقريباً كرجال المدرسة الإنجليزية والايكوسية في القرن الثامن عشر أمثال: شاْفِتسْبِرِى، وهَتْشون، وآدم سْمِيثْ. ثم جان جاك روسو الفيلسوف والكاتب الفرنسي المعروف، وشارل جُوسْتَافْ جَاكُوبِي العالم الرياضي الألماني الذي عاش في القرن التاسع عشر
(هتشون) مثلاً يرى أن هذه الحاسة تميز الخير من الشر كما تميز العين الألوان، وتجعل المرء يحس مسرات وآلاماً معنوية خاصة هي نتيجة ما يعمل من خير وشر. و (روسّو) يرى فيها، وبعبارة أخرى يرى في الضمير لأنهما اسمان لمسمى واحد، القوة التي تلهمنا القانون الأخلاقي. تراه يناجيه مناجاة خالدة يقول فيها: (أيها الضمير، أيتها القوة الفطرية الخالدة، أيها الصوت السماوي، أيها القائد الأمين للإنسان الجاهل المحدود - وأن كان ذكيّاً - حراً في إرادته، أيها القاضي الذي لا يضل في تمييز الخير من الشر. . . أنه أنت أشرف جزء في طبيعته، وأنك الفضيلة في أعماله. بدونك لا أشعر بما يرفعني عن الحيوانات ما عدا الميزة التي تجعلني أضل في ميدان الأخطاء، وهي أداة الفهم التي لا قاعدة لها، والعقل بدون مبادئ يسير عليها). أما (جاكوبي) فيقول: (ما هو الخير؟ كل امرئ يملك في قلبه إلهاماً مباشراً به قوة إلهامية تبينه له)
هذا الفهم؛ هذه الطريقة في تعرف القانون الأخلاقي يستحق ما وجّه له من نقد شديد من كبار المفكرين وخاصة الأستاذ العلامة (ليفي بْرِهْلِ مؤلفه القيم (الأخلاق وعلم العادات) حين يقول: (هذا المذهب يفترض أن الطبيعة الإنسانية هي واحدة في نفسها لا يعتورها التغير في جميع الأزمان والبيئات، وأن محتوى الضمير الأخلاقي يكون مجموعاً منسجماً(307/40)
منظماً، ولكنا علمنا سابقاً كيف كان اختلاف الأفكار الأخلاقية شديداً حسب العصور المتعاقبة، وكيف اختلف وتختلف أيضاً الآراء الأخلاقية باختلاف الأمم والشعوب. كيف كان من الممكن إذاً - لو أن هذا المذهب صحيح - أن توحي هذه الحاسة التي لا تضل كما يقولون هذه المبادئ المختلفة أشد الاختلاف بل المتناقضة في بعض الحالات! ثم إننا نحس أحياناً كثيرة تنازعاً وخصومة مؤلمة حادة في ضمائرنا حتى ليكون أسهل على المرء أن يعمل واجبه متى تبين له من أن يعرف بوساطة هذه الحاسة
أنه من المستحيل أن يحدّ المرء نفسه بكتابة الأخلاق تحت إملاء الضمير، وإذاً فلننتقل إلى بحث الطريقة الأخيرة لمعرفة المثل الأعلى الأخلاقي، وهي طريقة الاستقراء، علّنا نصل إلى تحديده على نحو مقنع مرض للجميع
يرى فلاسفة مذهب اللذة الشخصية أمثال (أَرِيستيبْ و (أبيقور اللذين عاشا في القرن الرابع قبل الميلاد، أن الناس جميعاً يتطلبون اللذة في كل ما يعملون كما يفرون من الألم دائماً، على اختلاف بينهم فيما يعنون باللذة وفي تطبيق هذه القاعدة التي هداهم إليها استقراء ما فطر عليه الناس من طباع. كذلك ترى بعض فلاسفة الأخلاق المحدثين يصدرون عن هذا المذهب. هاهو ذا (جرمي بنتام) الفيلسوف الإنجليزي المعروف في القرن الثامن عشر يؤكد بعد استقراء طويل أن جميع الناس تبعثهم المنفعة أو السعادة على أعمالهم حتى في الحالة التي يضحون فيها بعض المنافع أو يقبلون شيئاً من الآلام، لأن ذلك معناه تطلب منفعة أكبر وأفضل. إلا أنه يضيف إلى هذا تأكيداً آخر هو أن اللذة تكبر وتتسع حتى تشمل أكبر عدد ممكن من الناس، وأن سعادة كل امرئ لا تنفصل عن سعادة الجميع. من أجل هذا يجب على الإنسان باسم سعادته أو منفعته الخاصة أن يبحث في أعماله عن (أكبر مقدار من السعادة لأكبر عدد ممكن). وفي القرن التاسع عشر نجد (سْتيوارتْ ميل) يبدأ بحثه بأن جميع الناس يبحثون عن السعادة، فيرى لهذا أن تكون الغاية الإنسانية والمثل الأعلى الأخلاقي هي (السعادة النبيلة التي تأتي من اللذائذ العالية، مثل لذة التضحية في سبيل إسعاد الغير والإنسانية).
حقاً هذا كله مقنع مرض في نتائجه إلى حد ما، وحقائق نفسية لا شك فيها. ولكن بأي طريق وصلوا إليها؟ هانحن أولاء نقبل مؤقتاً فكرة أن جميع الناس يبحثون ويجرون وراء(307/41)
لذاتهم أو منافعهم أو سعاداتهم، غير أننا أن وقفنا عند هذا التحقيق الاستقرائي بقينا دون مستوى الأخلاق التي تبحث فيما يجب أن يكون لا فيما هو كائن بالفعل. وأن أردنا من المرء أن يوازن ويختار بين هذه اللذائذ الخاصة أو العامة أو بين هذه الوسائل والأعمال التي تؤدي اليها، تدخل حقيقة في مملكة الأخلاق ولكن في الحين نفسه تترك مملكة التجارب والاستقراء!
فضلاً عن هذا فأخلاق المنفعة العامة تصطدم بهذا الاعتراض الذي لا محيص منه وهو أننا في عديد من الحالات نجد تعارضاً بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة؛ منفعتي أن يقتتل الناس للدفاع عن حقوقي ووطني وألا أخاطر بنفسي بالدفاع عنهم، وصالحي الخاص أن يكون مال الغير على حبل الذراع حتى انتفع به كما أريد، وأن أقبض يدي وأحفظ مالي فلا أساعد به سواي. وإذاً في مثل هذه المنازعات بين المنفعتين أرى أن أخلاق (مِيلْ) التي تدعو للإيثار تدعوني لجعل منفعتي تابعة للمصلحة العامة ولتضحية تلك في سبيل هذه متى تطلب الأمر التضحية. ولكن كيف يمكن قبول هذه التضحية أي تضحية المنفعة الخاصة في سبيل العامة مع ما سبق أن قرروه من أن جميع الناس يجرون وراء لذاتهم ومنافعهم الخاصة! أليس من التحايل المفضوح أن نضع تحت عنوان أخلاق المنفعة الخاصة أخلاقاً هي الإيثار الصريح؟
ان من التعسف بل من المستحيل أن نأخذ من التأكيد الذي سبق تقريره وهو أن الناس يبحثون وراء لذاتهم أو سعاداتهم انهم يجب أن يختاروا بين مختلف هذه اللذائذ والسعادات وأن يضحوا باللذات الدون التي مرجعها إرضاء عاطفة الأثرة في سبيل الحصول على لذة من نوع أسمى وأعلى يحسها المرء من التضحية في سبيل سعادة الآخرين! ذلك التأكيد الاستقرائي وهذا الاختيار الواجب أخلاقياً طرفان لا يلتقيان على رأي (باسكال).
وأخيراً فكل المذاهب الأخلاقية التي تدخل فيها تجارب الحياة واستقراء ما فيها من البواعث والغايات تتحطم أمام هذه الحقيقة، وهي أن الاستقراء يعرفنا ما كان، بينما تقول لنا الأخلاق ما يجب أن يكون.
هناك بعض الاجتماعيين الأقرب عهداً من سابقيهم عرضوا ضرباً آخر من الأخلاق الاستقرائية، هو أن الأخلاق ترجع أولاً إلى علم العادات الذي مرجعه استقراء التاريخ(307/42)
وملاحظة الحاضر، يتداخل فيها فن عقلي ينظر في الظواهر الاجتماعية والأخلاقية لتعديل ما يجب تعديله منها. هذا هو المذهب الذي عرضه الأستاذ البحاثة (ليفي برهل) في كتابه الآنف الذكر: (الأخلاق وعلم العادات). الأخلاق أعنى مجموع الواجبات التي تفرض على الضمير، لا تستند إلى مبادئ نظرية قامت عليها. إنها عمل، إنها حقيقة؛ عمل اجتماعي، وحقيقة اجتماعية كذلك؟ (إننا لا نعمل أخلاق شعب أو أخلاق تمدن لأنها عملت سابقاً)
إنه بلا شك قد يحصل أن يعارض المرء الحقيقة الأخلاقية بمثل أخلاقي أعلى وصل إليه بالنظر. ولكن هذا البحاثة يجيب عن هذا بقوله: (في الواقع ليس هذا المثل إلا ظهوراً في غير آنه مع بعض التغيير لحقيقة اجتماعية في ماض بعيد أو مستقبل ليس أقل منه بعداً؛ وهذا يكون بالدقة بعض الشيء من هذه الحقيقة التي يجعلونه معارضاً لها).
هذا ملخص ما يراه هذا العالم. فما الرأي فيه؟ موعدنا في بيان ذلك الكلمة الآتية وهي تمام هذه البحوث إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(307/43)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
(أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟)
للأستاذ محمود الخفيف
ولندع الآن عرابياً في رأس الوادي ولننظر ماذا كان من أمر شريف ووزارة شريف. وهنا أبادر إلى القول إن هذه المرحلة من تاريخ مصر كانت أهم المراحل الماضية جميعاً منذ الحملة الفرنسية وأدقها وأبعدها أثراً فيما هي مقبلة عليه بعدها من مراحل.
ظن الناس أن قد انجلت الغاشية على نحو ما صور المستر بلنت ولكنهم لم يكونوا يعلمون أو لم يكن يعلم إلا الأقلون منهم أن وراء هذا الصفو كدراً، وأن سماء السياسة كانت يومئذ كسماء الطبيعة صفت هنيهة لتتلبد بعدها بالسحب المركومة، ولتتلاقى في جوانبها غرابيب سود من الغربان الناعبة فتكون حلكتها وطيوفها بعد هذا الصفة أقبح ما تكون منظراً وأشد ما تكون إيلاماً للنفوس وإزعاجاً للخواطر.
وكيف كان يرجى دوام الصفاء وقد كانت الشباك منصوبة وقد أخذ الصائدون يدفعون الفريسة إليها دفعاً بعد أن أعياهم الأمر فلم يستطيعوا أن يأخذوها بالحيلة أو أن يعصبوا عينيها كما كانوا من قبل يفعلون؟
كيف كان يرجى الصفاء وقد كان الخديو يضمر عكس ما يظهر كأن لم يكفه ما أصاب البلاد من جراء سياسته وتنكره للحركة الوطنية وإيجاده بما فعل الثغرة التي كان ينفذ منها الدخلاء والمتربصون بمصر إلى صميم حركتها وقلب نهضتها؟
وما أشبه توفيقاً في ذلك الموقف، بل وفي معظم مواقفه كما أسلفنا بلويس السادس عشر، ذلك الملك الطيب القلب الذي كان يدفع الثورة في بلاده بمسلكه دفعاً، والذي يعزى إلى سياسته الملتوية المذبذبة أن تنكبت تلك الثورة منهاجها السلمي العاقل واندفعت في طريق جرت فيها الدماء وتطايرت على جانبيها الأشلاء
ظهر ذلك الملك للنواب أول الأمر في جلد الأسد، ثم استخدى بعد وثبة ميرابو، ولكن(307/44)
الشائعات طافت بأهل باريس أن الملك أخذ يستعد ويجمع حوله الجند، فما لبثت أن جرت الدماء في باريس ودك الناس الباستيل رمز العبودية والجبروت؛ ثم رأى أهل باريس بين الدهشة من الملك والزراية عليه والتهزئ به أنه يركب في جماعة من النواب كان في مقدمتهم ميرابو فيزور باريس ويطوف بأنحائها ويمر بخرائب الباستيل مظهراً عطفه على الثورة والثوار، ولكنه يعود بعد ذلك فيأتي من معاني التحدي والنزق ما يجعل الشعب يذهب فيقتحم عليه غرف قصره في فرساي ويعود إلى باريس ليكون رهينة فيها، ويتم الدستور فيرفع إليه فيوافق عليه ولكن ريثما يعد العدة للهرب، ثم يضبط المسكين وقد أوشك أن يجتاز الحدود فيقضي هذا العمل عليه وتمضي الثورة في طريقها مجنونة لا تلوي على شيء حتى تأكل آخر الأمر نفسها
ولقد كان توفيق يسلك تجاه الثورة العرابية مسلك لويس تجاه الثورة الفرنسية مع فارق واحد وهو أن الخديو، كان من ورائه الإنجليز فلما لجأ إليهم توفيق كما هرب لويس لم يقض هذا العمل عليه وإنما قضى على البلاد
تخلص توفيق من رياض وقد كان يسعى إلى التخلص منه، فكيف أراد أن يسلك شريف مسلك رياض ولقد كان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الاستبداد والديمقراطية؟
لقد عادت الظروف من جديد تبين للخديو بأجلى وضوح أن الطريق الوحيدة هي الانضمام إلى الحركة الوطنية ومشايعتها في صدق وإخلاص، ففي ذلك منجاته من تطرف هذه الحركة وجموحها، وفي ذلك منجاة البلاد من تدخل الأجانب باسم المحافظة على عرش الخديو، ثم من احتلال البلاد باسم القضاء على الفتن والقلاقل
ولكن الخديو تنكب هذه الطريق فدفع تيار الثورة بمسلكه هذا كما كان لويس يدفع تيار الثورة في بلاده. ولقد رأينا كيف آنس الثوار في أنفسهم القوة منذ انضم العساكر إلى الحركة، وكيف فهم الزعماء انهم حصلوا على ما حصلوا عليه عن طريق الإرهاب والقوة، بعد أن عجزوا عن ذلك عن طريق المسالمة والرجاء
ومن عجيب الأمور انه لما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه حمل زعماؤها كل أوزارها وخرج عرابي المسكين بالنصيب الأوفى من هذه الأوزار؛ مع أن الحوادث تثبت عكس ذلك، وهي لو درست على حقيقتها وردت فيها الأمور إلى أصولها لرد ما يعزى إلى(307/45)
عرابي أو أكثره إلى الخديو دون أن يكون في ذلك أقل تجن على هذا ولا أدنى تحيز لذاك
سار شريف على نهج حكيم فأرضى الأجانب بقبوله المراقبة الثنائية، وأرضى الوطنيين بتحقيق الآمال الوطنية، ولكنه ما لبث أن أحس أن هؤلاء الأجانب لا يدعون وسيلة لضم الخديو إليهم حتى لقد ترك شريف بعد مدة وجيزة يعمل وحده، وكأنما وضع الخديو نفسه بنفسه في عزلة
ولو أنها كانت عزلة عن الوطنيين دون اتصال بالأجانب وعلى الأخص بالإنجليز لهان أمرها؛ ولكن توفيقاً قد سبب بعزلته أول الأمر ريبة ومخاوف في قلوب العسكريين؛ ثم تطورت الحال إلى كراهة وأدت الكراهة إلى المقاومة من جديد. ولقد كان أمام توفيق في الواقع هيئتان: الوطنيون برياسة شريف، والعسكريون بزعامة عرابي. وكان يستطيع بشيء من الكياسة والمهارة أن يرضي الوطنيين حتى لا يدع مجالاً لتدخل العسكريين من جديد، ولقد رأى بنفسه ما كان من أمر هذا التدخل بالأمس القريب
افتتح مجلس شورى النواب في يوم 26 ديسمبر سنة 1881 وجاء في خطاب توفيق في حفلة الافتتاح ما يأتي: (أبدي لحضرات النواب مسروريتي من اجتماعهم لأجل أن ينوبوا عن الأهالي في الأمور العائدة عليهم بالنفع، وفي علم الجميع أني من وقت ما استلمت زمام الحكومة عزمت بنية خالصة على فتح مجلس النواب ولكن تأخر للان بسبب المشكلات التي كانت محيطة بالحكومة، فأما الآن فنحمد الله تعالى على ما يسر لنا من دفع المشكلات المالية بمساعدة الدول المتحابة ومن تخفيف أحمال الأهالي على قدر الإمكان، فلم يبق مانع من المبادرة إلى ما أنا متشوق لحصوله وهو مجلس النواب الذي أنا فاتحه في هذا اليوم باجتماعكم)
هذا هو كلام الخديو فهل كانت هذه نياته؟ تلك هي المسألة ونرى أن خير ما نجيب به هو أن نعرض الحوادث التي تلت ذلك ومنها يستبين إلى أي حد كان الخديو ينوي ما يقول
دأب الذين كانوا يعملون من وراء ستار على تخويف الخديو من ناحيتين: ناحية الحركة الوطنية وناحية تركيا موحين إليه في الأولى أن حكم الدستور معناه ضياع سلطة الخديو، وفي الثانية أن تركيا لا ترتاح إلى توفيق وأنها تبيت له ما لا يحب. وغرض هؤلاء الذين كانوا يعملون في الظلام واضح وهو أن يركن الخديو إليهم ليخلص من هذا كله(307/46)
أما عن حكم الدستور فكان ذلك يقتضي حقاً أن يتنازل الخديو عن جانب كبير من السلطان المطلق إلى نواب البلاد وتلك هي المشكلة، وما كانت مشكلة في مصر وحدها، بل لقد كان لها مثيلات في جميع الحركات الدستورية التي شهدها العالم، فما قام الخلاف بين الملكية والشعب في فرنسا إبان ثورتها إلا من هذه الناحية. وما استمرت القلاقل قروناً بين الملكية والشعب في إنجلترا إلا بسبب ذلك. وما استقرت الأمور في الدولتين إلا حينما أثبت الشعبان قوتهما. وإذاً فكان لا بد أن يتفاقم الخلاف بين الشعب والخديو في مصر حتى يثبت الشعب قوته أو يتنازل الخديو عن مبدأ الحكم المطلق، ومن هذا الخلاف كانت تتاح الفرص للأجانب ليسيطروا على الخديو
وأما عن تركيا فقد كان توفيق يستريب ويخاف من سياستها. فكر السلطان أولاً أن يرسل جيش احتلال إلى مصر ليعيد فيها نفوذ الخلافة سيرته الأولى قبل عهد محمد علي؛ ولكن إنجلترا وفرنسا مازالتا به حتى استطاعتا بالسياسة حيناً وبالتهديد من بعد حيناً آخر حتى أقلع عن هذه الفكرة. ولقد أفادتا من ذلك فائدتين: بقاء مركز مصر على ما هو عليه بحيث يسمح لها بالتدخل في شؤونها؛ والتأثير على الخديو بهذا انهما هما الملاذ والسند
ولقد كان الأمير عبد الحليم بن محمد علي في الآستانة يدس الدسائس ويسعى سعياً متواصلاً لخلع توفيق وتولي حكم مصر بدلاً منه، وكانت سيرة ذلك النشاط تزعج توفيقاً وتقلق مضجعه.
وأخيراً أوفد السلطان وفداً إلى مصر برياسة علي نظامي باشا، وقد فعل السلطان ذلك دون علم الدول الاوربية، ولم تعلم بذلك حتى الحكومة المصرية نفسها إلا عندما وصل الوفد
وكان عرابي قد كتب إلى السلطان قبل يوم عابدين كما أشرنا. ولعل السلطان أوجس خيفة من الحركة القائمة في مصر، وظن أنها تنطوي على عناصر استقلالية ترمي إلى خلع سيادة الأتراك. وقد كان عبد الحميد يومئذ يقاوم الحركات الحرة في بلاده ويبطش بالداعين إليها. ولكن الوفد كتب تقريراً عن الحال في مصر جاء فيه على لسان الخديو أن البلاد هادئة ليس فيها ما يخيف. وجاء على لسان رئيس الوفد أن رجال العسكرية والزعماء جميعاً يؤكدون ولاءهم للسلطان، وإنه لذلك يثني عليهم ولا يخالجه شك في حركتهم. ولقد قامت الدولتان بمظاهرة بحرية في مياه الاسكندرية؛ فلما سألتهما الحكومة المصرية عن(307/47)
سبب ذلك أجابتا أن سفنهما تغادر الإسكندرية في اليوم الذي يسافر فيه الوفد العثماني عائداً إلى الآستانة؛ وقد تم ذلك فعلاً حينما غادر الوفد البلاد، ومعنى ذلك أن الحكومتين لن تسمحا للسلطان صاحب الحق الشرعي في البلاد حتى بمجرد النظر في أحوالها، ومعنى ذلك أيضاً أن يزداد تأثيرهما في قلب الخديو فيلجأ إليهما إذا لزم الحال حتى ضد السلطان نفسه!
ورب قائل يقول إن في مسلك تركيا ودسائس عبد الحليم ما يدع الخديو العذر في الاعتماد على الدولتين، ولكن هذا زعم باطل؛ فرجال مصر جميعاً لم يكونوا في تلك الأيام يفكرون مطلقاً في الخروج عن سيادة تركيا، كما أنهم كانوا لا يسمحون للسلطان أن يزيد حقوقه في مصر عن القدر المقرر في الفرمانات. ولنفرض جدلاً أن للخديو الحق في أن يخاف جانب السلطان أفلا يكون بالتجائه إلى الدولتين كالمستجير من الرمضاء بالنار، كما يقول المثل العربي؟ وهل كانت الدولتان تحميانه إلا لغرض؟ وهل كان هذا الغرض إلا رغبة كل منهما أن تحل في مصر محل السلطان؟
إن الحوادث كلها كانت تشير للخديو إلى الطريق الوحيدة التي كان عليه أن يسلكها، ولكنه كما ذكرنا اختار الانحياز إلى جانب إنجلترا منذ حادث عابدين مع تظاهره دائماً أنه يعطف على أماني البلاد، وفي ذلك الخطر كل الخطر وفيه من أجل ذلك مسؤولية الخديو عن اتجاه الحوادث بعد ذلك إلى تلك السبيل التي أفضت بالبلاد إلى كارثة الاحتلال
ونعود إلى عرابي فنقول: إن الحكومة قد استدعته من مقره في رأس الوادي وأسندت إليه منصب وكيل وزارة الحربية؛ وهو يعزو هذا العمل إلى ما بلغ الحكومة على لسان جواسيسها أنه يجول في بلاد مديرية الشرقية فيتصل بالوجوه ومشايخ العرب محرضاً داعياً إلى نشر مبادئه وأغراضه. ويذكر عرابي أنه أنعم عليه وقتئذ برتبة اللواء (باشا) ولكنه رفضها مخافة أن يتهم أنه يعمل لشخصه. ولئن صح هذا وهو ما لا نستبعده، لكان لنا في مغزاه حسنة نضيفها إلى حسنات هذا الرجل؛ حسنة نعتبرها من كبرى الحسنات فإن التهافت على الرتب والألقاب لم يزل حتى اليوم في بلادنا المسكينة داء عياء يتغلغل في نفوس سادتنا وكبرائنا!
ونقول لئن صح ذلك لأن الخبر من جانب عرابي فهو في مرتبة الدعوى! ونقول إنا لا نستبعده مستندين في ذلك إلى شاهد قوي، فهذا الرجل كان بطل الانقلاب يومئذ وعلى يده(307/48)
وصلت مصر إلى ما وصلت اليه؛ فلم يفد من وراء ذلك أية فائدة شخصية. ولو كان في نفسه يومئذ أطماع من هذا القبيل لرأيناه يصل على الأقل إلى مرتبة الوزير، ونقول على الأقل لأنه كان في موقف تحكم فيه من الخديو وفرض عليه الشخص الذي يؤلف الوزارة، وهو موقف يوحي إلى الأنفس الغرور، فلو خالج نفس عرابي يومئذ طمع في جاه أو منصب لما وقف دونه إلى ما يبتغي حائل
ولقد اتصل بعرابي في منصبه الجديد المستر بلنت وطلب صداقته فأجاب عرابي في سرور إلى ما طلب وتصافحا. ولسوف تتمكن بينهما الصداقة وتتوثق عرى المودة سنين طويلة بعد ذلك
وجرى بين عرابي وبلنت في هذا اللقاء حديث أثبته كل منهما في مذكراته وفيه أشار عرابي إلى ارتياحه إلى تخلص مصر من مساوئ حكم إسماعيل ومن دسائس الجراكسة، ولكنه أبدى مخاوفه من سياسة إنجلترا وفرنسا نحو مصر، وعبر عن أمله في أن تعطف إنجلترا على حركة الحرية في مصر وهي الدولة التي تقدر الحرية، وكان عرابي يتوقع العطف من إنجلترا أكثر مما يتوقعه من فرنسا ولا سيما من جانب المستر غلادستون الذي اشتهر بعطفه على الحرية في كل مكان
وليت شعري ماذا يطلب الذين يرمون عرابياً بالطمع والجهل والنزق، أكثر من هذه البراهين التي نسوقها على أنه كان بريئاً من هذا كله؟ ألم يأن لهؤلاء أن يقرءوا سيرة هذا الرجل في غير تحامل عليه حتى يعرفوا لهذا المصري المجاهد قدره وأثره في نهضتهم القومية؟ وهل يوجد في المعايب القومية عيب هو أشد قبحاً من جهل قوم برجالهم في الوقت الذي يرون غيرهم يمجدون ذكرى رجالهم فيوحون إلى الأجيال القادمة معاني الرجولة بما يقدمون لهم من الأمثلة؟
لقد أعجب بلنت بعرابي ووقعت عباراته من نفسه موقعاً حسناً. يقول بلنت في ذلك: (وكان لهذا اللقاء الأول من حسن الأثر على رأيي في الضابط الفلاح ما حملني على الذهاب في الحال لصديقي الشيخ محمد عبدة لأفضي إليه بحقيقة هذا التأثير)
ولقد بلغ من تأثر بلنت أن اقترح وضع تقرير عما أخبره عرابي به ليرسله إلى المستر غلادستون، ثم اشترك مع الشيخ محمد عبدة في كتابة برنامج الحزب الوطني وأطلعا(307/49)
البارودي عليه فوافقهما ثم أطلعا عرابياً عليه أيضاً فأقره وتولى بلنت رفعه إلى غلادستون.
(يتبع)
الخفيف(307/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
420 - والجروح قصاص
كان فتى يجلس إلى أبي الحسن الحراني، وكان يشرب الخمر فسكر ذات يوم فسقط على زجاجة فشجّ وجهه، فاختفى إلى أن برئ ثم عاد إلى مجالسة الشيخ فلما رآه انشد:
أجريحَ كاسات أرقت نَجيعَها ... طلبُ التِّراتِ يعزّ منه خلاص
لا تسفكن دم الزجاجة بعدها ... إن الجروح (كما علمتَ) قصاص
ففهمها الشاب فتاب
421 - فلا تعلمني وهو لك. . .
في (الحيوان) للجاحظ: قال صاحب الأهواز: ما رأينا قوماً أعجب من العرب. أتيت الأحنف بن قيس فكلمته في حاجة إلى ابن زياد، وكنت قد ظلمت في الخراج، فكلمه فأحسن إليّ وحطّ عني. فأهديت إليه هدايا كثيرة فغضب وقال: إنا لا نأخذ على معونتنا أجراً. فلما كنت في بعض الطريق سقطت من ردائي دجاجة فلحقني رجل منهم فقال: هذه سقطت من ردائك. فأمرت له بدرهم، ثم لحقني بالأُبُلِة فقال: أنا صاحب الدجاجة. ثم لحقني بالأهواز فقال: أنا صاحب الدجاجة. فقلت له: إن رأيت زادي بعد هذا كله قد سقط فلا تعلمني وهو لك. . .
422 - . . . والريح في فمي فاعزم وتوكل
قال زنام الزامر: قال لي المتوكل: تأهب معي إلى الشام. فقلت: يا أمير المؤمنين، الناي في يدي، والريح في فمي، فاعزم وتوكل
423 - وقت شرابها نار العذاب
قال الثعابي: بلغني أن ديوان شعر ابن مطران حمل إلى حضرة الصاحب فأعجب به فقال: ما ظننت أن ما وراء النهر يخرج مثله، ومر له في الشراب المطبوخ:
وراحٍ عذبتها النار حتى ... وقت شُرّابها نارَ العذاب
يذيب الهمَّ قبل الحسو لونٌ ... لها، في مثل ياقوت مذاب(307/51)
ويمنحها المزاج لهيب خد ... تشرّب ماؤه ماء الشباب
فتعجب من حسن البيت الأول وتحفظه، وكان كثيراً ما ينشده كأنه مقلوب قول السريّ في الخمر:
هات التي هي يوم الحشر أوزار ... كالنار في الحسن عقبى شربها النار
424 - مغن. . .
الثعالبي في (خاص الخاص) سمعت أبا بكر الخوارزمي غير مرة يقول:
أنا أحفظ في هجاء المغنين ما يقارب ألف بيت، وليس أبلغ وأوجز وأطرب من قول أبي الفتح كشاجم:
ومغن بارد النغمة مختل اليدين
ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين
425 - في فساد الأحوال لله سر!
صوفي:
في فساد الأحوال لله سِرّ ... والتباس في غاية الإيضاح!
فتقول الجهال قد فسد الأمر ... وذاك الفساد عين الصلاح!
426 - كان ماذا؟
في (طراز المجالس): سمع عن العرب كان ماذا، ووقع في شعر ابن المرجل فأنكره ابن أبي الربيع، فصنف في الرد عليه مصنفاً، وأنشد فيه لنفسه:
عاب قوم (كان ماذا) ... ليت شعري لم هذا؟
وإذا عابوه جهلاً ... دون علم كان ماذا؟
427 - عاشق مفلس. . .
مرت جارية للقاسم بن الرشيد جميلة، وفي كفها نرجس، فجمشها أبو نواس، فلم تكلمه، فقال: ما أقبح الهجر بك يا سيدتي. فقالت: أقبح من هجري إفلاسك. فانشأ يقول:
قلت لها يوماً ومرت بنا ... رُعبوبة في كفها نرجس:
ما أقبح الهجر! فقالت لنا: ... أقبح منه عاشق مفلس(307/52)
شبح الحرب
للأستاذ محمود غنيم
هو الموت أن قامت على ساقها الحرب ... وإلا فحسب الناس ما يفعل الرعب
يلوح لهم في النوم والصحو طيفها ... ودون انتظار الخطب أن يقع الخطب
فُزعنا فلا جفن من الخوف مطبِق ... ولا مستقر في مضاجعه جنب
ولا أنف إلا عالق بكمامة ... ولا دار إلا شُق في جوفها جب
وما اكتوت الأيدي ولا احترق الحشا ... بجمر كجمر لا يشب ولا يخبو
فيأيها الليث المكشر للورى ... حنانيك إما الانصراف أو الوثب
مطامع غر الغرب ومض سرابها ... فأصبح يصلى نارها الشرق والغرب
كأني بها قامت وشُب أُوارها ... وقد جفت الأقلام وانطوت الكتْب
سفين بلج البحر يرميه مثله ... وسر بأعلى الجو يقذفه سرب
وبينهما تمشي المنايا كأنها ... طيور وأرواح الأنام لها حب
وغى لا الدروع السابغات موانع ... أذاها ولا مُجدٍ بها الصارم العَضْب
تثلم حد السيف وانقصف القنا ... وأصبح لا طعن هناك ولا ضرب
كأني بها ترمي مدافعها فلا ... يطيش لها سهم ولا مضرب ينبو
تدمر ما تأتي عليه لو أنها ... تصوَّب نحو الألب دُلئبها الألب
هي البرق خطافاً هي الرعد قاصفاً ... هي الشهب إذ تهوي من الفلك الشهب
فمن كان يصطاد الحمام بنبله ... فأن لنا نبلاً يصاد بها القطب
كأني بها والطائرات بغازها ... تجود كما جادت بوابلها السحب
يمد إلى الأرواح كفيه خلسة ... فلا الرأس مقطوع ولا الدم منصب
رقيق الحواشي لا تكاد تحسه ... وألين منه الصخر والمعدن الصلب
له قطرات لا يبل بها صدى ... ولا يابس تبقى عليه ولا رطب
إذا انتشرت في الأفق لم ترع حرمة ... لأنثى ولا شيخ علا رأسه الشيب
إذا انتشرت في الأفق تصرع كاعباً ... وتخنق أمَّاً خلفها طفلها يحبو
لقد شِيب بالسم الهواء فهل ترى ... يشاب من الأنهار رسائلها العذب(307/54)
أرى الغرب يدنو كالفَراش من اللظى ... أللقوم من إحراق أنفسهم إرْب؟
ويا رُب حرب منذ عشرين حجة ... بكل فؤاد من جراحتها ندب
أضرت بحزبيها وإن تم نصرها ... لحزب وقاسى ذل خذلانها حزب
إذا ما ذكرناها اقشعرت جلودنا ... إذ الناس كالأنعام قوتهم العشب
وإذ هم بأكناف الخنادق ما لهم ... مضاجع غير الترب لو نفع الترب
يقاسون حراً ما لضب بحمله ... يدان وبرداً ليس يحمله دب
وحشو أنوف القوم غاز مسمم ... وللنار في أجسامهم مرتع خصب
فيا لحروب لا تجف دماؤها ... ويا لشعوب كلما نهضت تكبو
أجدكمو يا قوم طال بنا السري ... ولم يسترح حيناً من السفر الركب
لقد سار نحو المجد قوم فأدلجوا ... ولم يعلموا أين انتهى بهم الدرب
ولو أنفقوا في الخير ما ينفقونه ... على الحرب عم الخصب وانقطع الجدب
ولم يبق طاو ليس يملك قوته ... ولم يبق عار ليس يستره ثوب
شعوب بعصر النور يفتك بعضها ... ببعض كما يعدو على الحمل الذئب
يمثَّل بالإنسان في الغرب بينما ... يعيش قرير العين في ظله الكلب
إذا قنص الليث الغزالة ساغباً ... فما ذنب شعب بات يقنصه شعب
ذنوب الضعاف العاجزين كثيرة ... وما لقويٍّ إذ تحاسبه ذنب
كأنْ ليس بين العالمين شرائع ... ولا خلفهم حشر ولا فوقهم رب
ولا في قوانين البرية رحمة ... ولا شيء في الدنيا يقال له الحب
ولم يبق معبوداً سوى القوت وحده ... فكل فؤاد مستهام به صب
عزاء لنا أن الحضارة أفلست ... فرونقها زيف ومنطقها كذب
إذا ما تمثلت الحضارة خلتها ... لباة لها جوف وليس لها قلب
سل العلماء الفاخرين بعلمهم ... أجاءوا بنور العلم أم ناره شبوا
تقدم فن الموت أي تقدم ... وسار بطيئاً عاثر القدم الطب
فظائع لم يحلم أوائلنا بها ... فيا ليت شعري ما الذي يضمر الغيب؟
فسحقاً لعصر النور سحقاً لأهله ... فكل بني حواء دأبهم السلب(307/55)
كذلك شأن الناس من عهد آدم ... تباينت الأشكال واتحد اللب
وحسب بني حواء عيباً حروبهم ... إذا لم يكن غير الحروب لهم غيب
(مدرسة الأورمان)
محمود غنيم(307/56)
المليك الطفل فيصل الثاني
للآنسة زينب الحكيم
صورة صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني تدل على شخصية طامحة للعظمة. . . رجل صغير في الثالثة من عمره، يمتاز بسمات النجابة، والنظرة اليقظة، والرجولة البادية آثارها في يديه المعقودتان وراء ظهره، ولباس الضابط الذي يحتوي هذه الشخصية الكبيرة الوثابة على الرغم من حداثة السن ومن الطفولة البريئة، إنما يشير إلى النفع والمساعدة والتضحية. ويكمن في قسماته غموض عميق
لقد كان لي شرف مقابلة جلالة والده المغفور له الملك غازي الأول، وكان ذا شخصية كريمة، وسجايا عربية سمحة، وهمة بدوية نافذة مع تقلب الظروف حوله
انصرفت من حضرته، وقد أثر في نفسي طلاوة حديثه، وإيمانه بالاعتماد على نفسه بعد الله في الأخذ بيد شعبه إلى مراقي السمو والفلاح؛ مستمداً من شعبه الكريم الهمة والشجاعة.
إن في سيرة فيصل الأول وابنه الراحل بسبب الحادث المشئوم، ما يظهر للناس كيفية البلوغ إلى العظمة؛ ولهذا فكانا ملكين من أحكم الملوك وأعظمهم.
إني قوية الأمل شديدة الرجاء في أن يهيئ قادة الرأي في العراق أجمل الفرص للمليك العزيز فيصل الثاني، لأن يتصفح تاريخ أبيه وجده، فهو سفر ذو صفحات زاخرة، فيها إصلاح وتجديد، وفيها حِكم وعبر، وفيها قدوة حسنة
لعمري ماذا تكون رسالتك (يا غازي) رحمة الله عليك وأنت في عالم الأبدية إلى الأحياء؟ لسوف تتكلم من عالم الحقيقة ولسوف تُسمع كلماتك ويطاع أمرك بحماس وينفذ بقوة
إني استمع موسيقى رسالتك بين طبقات الأثير، ولا تلبث الرسالة أن تصل إلى إدراك الأحياء. وأشعر أن أول رسالة منك هي لابنك العزيز وستكون نفسه أسرع لالتقاطها، وكنت الأب العطوف عليه وهو شديد التعلق بك. إن رسالتك إليه رسالة معنوية صامتة، تدركه فترحمه من انزعاجه لفقدك، وتقوي من عزيمته لتكوين مستقبله الذي سيكون زاهراً بإذن الله.
أما الرسالة الثانية: فهي إلى الزوجة الثكلى؛ وهي رسالة من شهيد ينعم برضاء ربه، رسالة زوج تحرر من قيود الملك وعناء الشكليات، ولذلك فهي رسالة عطف غامر طاهر، ترد(307/57)
عليكِ بعض لهفتك يا والدة فيصل الثاني وتقوي من احتمالك للمصيبة، وتستنهض همتك لإدراك روح غازي في ابن غازي (فيصل طفل اليوم)، وبفضلك وحزم رعايتك يكون رجل الغد المسؤول.
من أهم ما لفت نظري وأنا أتتبع تاريخ حياة الملكة فكتوريا الطريقة التي اتبعتها في تربية أولادها. روي عنها أنها كلما أرادت اختيار مربية لأولادها، كانت تكلف بعض خلصائها أن يبعثوا إليها ببعض من يثقون بهن من المربيات، وكانت لا تقابلهن في بادئ الأمر، وإنما تأمر بأن تقدم المربية إلى الأطفال مباشرة وهي تراقبها معهم من وراء ستار. وكان يتوقف قبولها أو رفضها للمربية على تلك المقابلة الأولى مع أطفالها. سئلت مرة عن السر في قبولها إحدى المربيات وقد أثنت عليها دون تحفظ وودت لو كان جميع المربيات مثلها فقالت: لقد رأيت فيها حنو ألام الطبيعي وتضحيتها الصادقة في معاملة الأطفال مما دعاني إلى الظهور لها من وراء السجف لأشكرها وأشعرها برضائي عنها
وهكذا كان لها رأي خاص بالنسبة لاختيار الرائضين من الرجال، وكانت تختار من تتوسم في معاملاته للأطفال الأمراء في غير وجودها سمات الأبوة الرصينة.
والسيدات العراقيات على ما خبرت من أحوالهن، أمهات صالحات بارات مضحيات، وسيدة البلاد الأولى. . . أم فيصل الثاني. . . تبزهن جميعاً في يقظة الانتباه، وصدق النظرة، وقوة الطموح.
نرجو للعراق وأهل العراق السلامة من كل مكروه، وأن يسلم رجاله العاملون، بفناء الخصومات، واندثار الشرور التي تعكر صفو النفوس وتهد أركان الوطن المفدى.
رحم الله سيد البلاد الراحل وعزى أهله وشعبه أجمل العزاء.
زينب الحكيم(307/58)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الغناء بين الارتجال والربط
بمناسبة ذكرى عبده الحامولي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أشير على وزارة المعارف أن تفكر في إحياء ذكرى عبده الحامولي فحدث أن استجابت للإشارة وفكرت. وجمعت وزارة المعارف - كعادة الوزارات كلها حين تعزم التفكير في جلائل الأمور - حزمة الرؤوس المفكرة كانت درتها المتألقة رأس معالي وزير المعارف الأديب الفنان. وطرحت مسألة الذكرى أمام هذه الرؤوس المفكرة ففكرت فيها وفكرت، ساعة أو ساعتين، فكرت ثم خرجت بتفكيرها أو خرجت من تفكيرها بأن المسألة عقدة معقدة، وإنها ليست من المسائل التي يحلو التفكير فيها للرؤوس المفكرة بحيث تطيق أن تستوعبها وأن تلم بأطرافها أو تعتصرها في جلسة واحدة فأفسحت للتفكير فيها من وقتها خمسة شهور تبدأ في مايو هذا وتنتهي في أكتوبر المقبل تنفرط فيها حزمة الرؤوس المفكرة لتملك كل منها التفكير فيها، وهي على حدة في مسألة ذكرى الحامولي المعقدة ثم تجتمع بعدها ليقول كل رأس منها لاخوته: أي حل يَسَّره، أو أي تيسير قدَّره
وأخشى ما نخشاه هو أن تعود حزمة الرؤوس المفكرة بعد هذا الاجتماع فتنفرط، ثم تعود فتجتمع، ويطول بها الانفراط والاجتماع حتى تصبح ذكرى الحامولي من مشكلات الدولة المستعصية كما استعصت على الدولة قبلها مشكلة الأوقاف الاهلية، ومشكلة مياه الشرب في القرى، ومشكلة تعليم اللغة العربية وغير ذلك من المشاكل الملعونة الجاحدة التي طالما أجهدت - في غير رحمة ولا استحياء - حزماً من الرؤوس المفكرة
على إننا لا نزال مستبشرين خيراً، فإنه لا يبعد على الله، ولا يكثر على الله، أن يسأل رأس من هذه الرؤوس المفكرة نفسه في بحر هذه الشهور الخمسة عن عبده الحامولي: من هو؟ فعندئذ لا بد أن يجيب هذا الرأس نفسه بأن عبده الحامولي كان مغنياً. وقد يحدث بعد أن يطرب هذا الرأس المتسائل لتوفيق الله الذي مكنه من إصابة هذه الحقيقة البعيدة النائية(307/59)
أن يذكر أن عبده الحامولي كان مغنياً من نوع كاد ينقرض من بين أهل الحرفة اليوم، لا لأن أهل الحرفة قد سمن إحساسهم، وإنما لأن الحياة نفسها استدعت هذا الانقراض، وهي لا تزال تستدعيه.
فقد كان المغنون في الجيل الماضي يغنون في اجتماعات عامة من حيث إقبال الناس عليها، ولكنها كانت خاصة من حيث الأنفاق عليها والدعوة إليها، وكانت الأفراح هي الفرص المتلاحقة التي كان يدعى فيها المغنون إلى الغناء، وكان صاحب (الفرح) هو الذي يختار المغني الذي يدعوه، وكان يرهق نفسه في إكرامه إرهاقاً كانت تستلزمه روح التفاخر التي كانت شائعة في ذلك الحين بين المصريين أغنياء وفقراء، وكان يبذل له العطاء كما كان يتأنق في إعداد المائدة له ولأفراد فرقته؛ فكان يطعمهم طعاماً شهياً خفيفاً حتى يكتفوا، وكان يسقيهم خمراً سائغة مشعشعة حتى ينتشوا؛ وكان يصبر عليهم لا يطالبهم بعزف ولا غناء حتى يستخفهم الطرب، فيعمد منهم صاحب القانون إلى قانونه، وصاحب العود إلى عوده، وصاحب الدف إلى دفه؛ والمغني لا تزال روحه تترنح من الشرب والطرب والبهجة والفرح حتى يطيب له أن ينطلق فينطلق
وكان المغني يصيح وهو يعلم أن بين مستمعيه مغنين ومطربين خفوا إليه ليمتعوا أنفسهم بحلاوة ترتيله وبهاء نشوته. والذين حضروا أمثال هذه الحفلات يروون لنا أن محمد عثمان كان يجري وراء عبده الحامولي ليسمعه، وأن عبده الحامولي كان يلاحق محمد عثمان ليستردّ منه الدين متعة وطرباً، وهم يقولون أيضاً أن محمد عثمان كان يسمع من الحامولي الدور فلا يتحرج من الاستيلاء على نظمه وكلامه فيلحنه تلحيناً جديداً ويغنيه غناء يجبر الحامولي على أن يترك له الدور مسلماً فيه أمره الله ولصناعة محمد عثمان المنظمة المنسقة
وقد كان محمد عثمان يختلف عن الحامولي اختلافاً بيناً. فقد كان الحامولي أقرب إلى الطبيعة من صاحبه، فكان أكثر غنائه ارتجالاً لا يعدُّه ولا يهيئه، وكان صوته الممتاز الحلو النقي، ونفَسه الطويل المشبع، وروحه الصافية المرفرفة. . . كان هذا كله يمكنه من السيطرة على نفوس سامعيه والتحكم فيها والخروج بها من حال إلى حال بما لم يتح بعده إلا لسيد درويش الذي أغناه صدقه وعوضته قوة روحه عن حلاوة الصوت وعذوبته(307/60)
أما محمد عثمان فكان يربط ألحانه قبل إنشادها، وكان لا ينطلق ولا يتحرر مما ربطه إلا في فترات من ليلته ثم يعود بعد ذلك إلى ما ربطه وقيده. وانقسم المغنون والمطربون في ذلك الحين إلى مدرستين: مدرسة الارتجال التي كان يتزعمها عبده الحامولي وكان من أساطينها محمد سالم العجوز؛ ومدرسة الربط التي كان يتزعمها محمد عثمان وكان من أساطينها يوسف المنيلاوي ثم سيد الصفطي. على أن الربط في ذلك الحين لم يكن مقيداً مكتوفاً كل الكتف وإنما كان - كما تقدم - يفسح للمعنى مجال التصريف والتخليق، متى أتيح له التصرف والتخليق
والذي نريد أن نصل إليه من تقرير هذه الحقائق كلها هو أن مجالات الطرب في الجيل الماضي كانت تعنى بتهيئة جو الغناء للمطرب، فكانت تتملقه بالأجر المغري، وتتزلف إليه بالكأس والطاس، وتحفزه بالتشجيع من جانب المستمعين، والتحدي من جانب المطربين، وهذا كله كان يلهب المغني إلهاباً ويشعل روحه إشعالاً وينقل روحه إلى حال من حالين: فإما نشوة ورضى، وإما ركوداً وغماً. فإذا ما أصابه التوفيق بالنشوة والرضى فقد غنت روحه ورقصت؛ وإذا ما ركد وتخاذل فإنه كثيراً ما كان يعتذر عن الغناء ويتهرب منه. ولا يزال هواة الطرب من المخضرمين يذكرون لنا أن عبده الحامولي كان يفسح في تخته مجالاً لمحمد عثمان ويدعوه إلى الغناء في بعض لياليه، كما انهم يذكرون لنا أن عبد الحي حلمي كان يضرب الغلاظ من مستمعيه أحياناً بطربوشه ويبكي ويصر على إبعادهم عنه وإلا يروغ من (الفرح)
هذا يدل دلالة قاطعة على أن المغنين في الجيل الماضي كانوا يغنون لأنفسهم كما كانوا يغنون للناس، أو إنهم في الحق كانوا يغنون لأنفسهم في مناسبات يهيئها لهم الناس ويدعونهم إليها
ولعله لم يبق في هذا الجيل الذي نعيش فيه من أهل هذا المزاج إلا فئة من المقرئين فهم وحدهم الذين يرتجلون الترتيل، وهم وحدهم الذين (يتفاعلون) مع جمهورهم أثناء إنشادهم وقراءتهم. أما المغنون فكلهم كما نعلم يسترجعون في حفلاتهم ما علمهم إياه الملحنون، وأما الملحنون فكلهم يعدون ألحانهم إعداداً تاماً قبل غنائها أمام الجمهور إذا ما دعوا للغناء أمامه. وليس يشذ عن هذه القاعدة من ملحني اليوم إلا زكريا أحمد ومحمود صبح. فهما وحدهما(307/61)
اللذان ينطلقان في الغناء بما توحيه إليهما نفساهما. أما زكريا فتنساب نفسه في غنائه بأسلوب مصري رقيق، وأما محمود صبح فتجمع روحه في غنائه بأسلوب تركي متعجرف مكنته منه دراسته التي صرفته عن طبيعته المصرية فأصبح وله لون خاص به في غنائه، ليته كان مصرياً قريباً من نفسه ونفوسنا
ونعود الآن إلى غناء الماضي لنلحظ فيه ملحوظة تعزز ما ذهبنا اليه، ذلك أنه كان غناء شراب وفرح وبهجة؛ وقد نجهد أنفسنا في البحث إجهاداً كبيراً إذا حاولنا أن نعثر فيه على شيء غير الشراب والفرح والبهجة التي كانت تبعثها مناسبات الغناء في نفوس المغنين. وقد كان المغنون في الجيل الماضي يعيشون في أفراح متواصلة متتابعة ولعل القارئ يعجب حين يعلم أن موسراً من الموسرين أراد أن يحيي له ليلة فرحه المطرب الشيخ سيد الصفطي؛ فلما قابله أخبره الشيخ الصفطي بأنه مقيد بتسعين ليلة مقبلة لا يمكنه أن يتحلل من إحداها، فاضطر الموسر أن يؤجل فرحه ثلاثة شهور متتالية. فإذا كان هذا هو حال الشيخ الصفطي الذي لم يكن ملحناً ولم يكن أستاذاً لمدرسة في الغناء فكيف كانت حال عبده الحامولي، ومحمد عثمان؟ إنهما لم يكونا يملكان إلا أن يعيشا في أفراح بعد أفراح. ولقد نضحت أغانيهما بهذه الأفراح حتى ما كان منها يجنح نظمه إلى الشكوى والألم، فقد كانا يغنيان في فرح وفي مرح تستسيغهما المناسبة وإن كان الفن والمعنى يزوَرَّان عنهما
ولكن هذا ليس معناه انهما كانا يغنيان على وتيرة واحدة هي نمط البهجة، وإنما كانت روحاهما تنتفضان أحياناً بالأنين والألم. وقد سجل التاريخ لعبده الحامولي وقفة خالدة من وقفات الفن الرائعة إذ جاءه نعي وحيده في ليلة زفافه وكان عبده هو الذي يحييها بغنائه، فغنى عبده ليلتئذ غناء أسال قلوب سامعيه دموعاً، وعصر نفوسهم دماً، وطبع أرواحهم بطابع أسود خدرهم وهم في مقاعدهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يسائل عن سره أو منشئه، حتى إذا طلعت الشمس شاع بينهم الخبر فلزموا مجالسهم حتى جهزت الجنازة فخرجوا بها مشيعين العروس الذي خفوا ليشاطروه الفرح
هذه هي حال الغناء في الجيل الماضي، وهذه هي حال إمامه عبده الحامولي، وهي كما ترى أقرب الأحوال إلى الغناء الطبيعي الذي يصدر عن النفس الصادقة في لون صادق من ألوان العواطف هو الفرح. فإذا قلنا أن الغناء يكاد ينقرض فإنما نقصد بذلك هذا اللون(307/62)
الطبيعي أو الأقرب من الطبيعة.
فكيف إذن يمكن أن يُحيا غناء كهذا، أو كيف يمكن أن نحيى بنوع من الغناء ذكرى مغن كعبده الحامولي؟
خطر لحزمة الرؤوس المفكرة التي اجتمعت في وزارة المعارف أن يغني مغن في حفلة الذكرى شيئاً من أغاني عبده الحامولي؛ فأشبه هذا الخاطر خاطر لذيذاً مر برأس صاحب لنا كان صوته يشبه صوت سعد زغلول، فرأى أن يلقي أحد خطب سعد زغلول في حفلة من حفلات ذكراه، ولم يمنعه من تنفيذ فكرته هذه إلا أنه عجز عن الاتصال بأصحاب الأمر والنهي في هذه الحفلات. ولعله لو كان قد وصل إلى أصحاب الأمر والنهي هؤلاء لكان قد استطاع أن يقدم للمحتفلين بذكرى الخطيب العظيم الراحل هذه (النمرة الكوميك). فيدخل على نفوسهم شيئاً من الراحة قد يشعرون بالحاجة إليه خلال ذلك الألم الذي ينتاب نفوسهم حين يذكرون الفقيد.
فهل تريد وزارة المعارف أن تكون لذيذة كصاحبنا هذا حين تريد أن تكرم رجلاً من أساطين الفنانين المصريين؟
أن عبده الحامولي لا يمكن أن يستعاد ولا يمكن أن يسترجع، وليس كل عظيم بمستطاع أن يكرم ذكره بتكريم من نوع موهبته وفنه. فالأمريكان إذا أحبوا أن يذكروا إديسون في حفلة فإنهم لا يستطيعون أن يعرضوا في هذه الحفلة مخترعاً يخترع أمام الجمهور اختراعات إديسون!
إنما هناك وسائل أخرى لتكريم أمثال هؤلاء الذين تتصل كرامتهم بأشخاصهم وذواتهم، فلأمثال هؤلاء يمكن أن تقام التماثيل، وبأسماء هؤلاء يمكن أن تتوج المسارح القومية ومعاهد الفنون. وأما ترجيع فنهم نفسه فمحال إلا إذا كان الفن مربوطاً مقيداً مثل فن سيد درويش فهو الذي تستطيع وزارة المعارف أن تحمل الفرقة القومية على تمثيل رواياته الخالدة.
أما إذا أصرت وزارة المعارف على أن تحيي ذكرى عبده الحامولي بغناء وألحان من المحفوظ عنه فإننا نرجوها أن تتريث كل التريث قبل أن تختار المغنين الذين ستعهد إليهم بإحياء هذه الذكرى الجليلة، وعليها أن تعرف أن عبده الحامولي كان مغنياً صاحب صوت(307/63)
قوي جميل كامل لا يمكن أن يجود الزمن بمثله إلا بين دهر ودهر، وأنه كان يسلط روحه الصافية على صوته هذا وحده فيتسلط به على سمع الزمن، فهل بين المطربين المصريين اليوم من أتيحت له هذه القوة؟
قد يكون الشيخ علي محمود وحده أشبه الأحياء به. . . فلو أنه راجع مع المخضرمين من المطربين أغاني الحامولي فقد يتاح له أن يوفق إلى صورة من الغناء هي أقرب الصور إلى غناء الفقيد الكريم. أما أصدق الصور وأشدها أمانة فهي لا ريب هذه الصور التي طبعها الفقيد بصوته على (الاسطوانات) القليلة التي عبأها، فأين هي؟. .
عزيز أحمد فهمي(307/64)
رسالة العلم
فروض
للدكتور محمد محمود غالي
تخترقنا جميعاً الأشعة الكونية أو الأشعة النافذة كما يسمونه، أحياء كنا أم أمواتاً، شباباً كنا أم شيوخاً، تنفذ فينا جميعاً بقدر واحد. تُرى هل يًعد هذا التفتت الدائم في أجسامنا الذي يلازمنا من المولد حتى الممات ملائماً لوجودنا ومساعداً على بقائنا؟ أو هو على النقيض من ذلك. أميل إلى الاعتقاد بأنها مُبيدة لنا مهلكة لحياتنا. ومتى كان الهدم من عوامل البقاء، والتفتت مدعاة للحياة لا للفناء؟
إلى المتحف المصري والى الطابق الثالث منه نقلوا حديثاً من المنزل الذي أقام فيه مسيو لاكو المدير السابق لمصلحة الآثار، عشرين مومياء لفراعنة مصر الأقدمين، يمثلون ثلاثين قرناً أو يزيد من أزهى العصور في تاريخ البشر. ويكفي لتعريف هذه الفترة السعيدة التي خلت أن نذكر، أنها الفترة التي كوّن الإنسان فيها معارفه الأولى وعلومه البدائية التي كانت سبباً وأساساً لمعظم ما نملكه اليوم من معارف وعلوم. فالحلقة متصلة إذ كان لهؤلاء الملوك الأولين والمؤتمرين بأوامرهم والآخذين بنظمهم الفضل الأول في كثير مما نعرفه اليوم.
هذه المومياء الهامدة ظلت مستريحة قروناً عديدة، لا يحميها ما حولها من لفافاتٍ عديدة، أو ما يُحيط بها من صناديق محلاة بالذهب والنقوش، من التهدُّم الذرى والتَّفتُّت الداخلي الحادثين حتماً من اختراق جسيمات الأشعة الكونية لها، بقدر ما تحميها طبقات الرمال والصخور التي تعلو الأماكن التي وجدت فيها، فإن هذه الطبقات المفصولة عن سطح الأرض بعشرات الأمتار تمتص هذه الأشعة أو الجزء الأكبر منها.
قليل من التأمل وعود إلى الحساب البسيط يجعلنا ندرك العدد الكبير من هذه الجسيمات التي تخترق هذه المومياء التي لا يحميها الآن من هذا التهدم سوى سقوف المتحف المصري، فهذه القذائف الكونية الدائمة تخترق المومياء الخالدة بمعدل قذيفة على كل سنتيمتر مربع في كل دقيقة، أي أن خمسة آلاف من هذه القذائف الفاتكة تخترق في كل دقيقة كل واحدة من المومياء الممدودة؛ بينما كان لا يخترقها في مثل هذه الفترة وهي في وضعها الأول، مصونة بالرمال والصخور، سوى قذيفتين أو ثلاث؛ وقد لا يخترقها واحدة(307/65)
من هذه القذائف. وفي ظني أن الذين قاموا بنقلها من مكانها الأولي وأزعجوها من راحتها الابدية، لم يعيروا هذه القذائف الدائمة أية التفاتة، فهم لا يعرفونها. ومن يدري؟ فقد تكون هذه القذائف مدمرة لها على طول الزمن ومتلفة لعناصر وجودها. أو يصح لنا إذن أن نعتقد أنه كان لخوفو منشئ الهرم الأكبر نوع من الغريزة جعلته يشعر بضرورة بناء ضريح في ضخامة الهرم لحماية رفاته من كل عوامل التبديد؟
لا شك أن خوفو وأمثاله كانوا يجهلون الأشعة الكونية؛ وكأنهم عمدوا إلى الاحتياط من تلك الأشعة الكونية التي نلخص في هذا المقال موضوعها، والتي تعد من أعجب ما نعرفه في مراحل العلم الحديث بقوة طاقتها التي تفوق آلاف المرات طاقة أشعة الراديوم وقوة اختراقها للأشياء، فتخترق ما يبلغ سمكه بضعة أمتار من الرصاص. وقد شرحنا كيف يستطيع العلماء تسجيل صور مسارات جسيماتها بعد اختراقها كتلة كبيرة من المادة، وشرحنا كيف يسمعون إنذاراً بمرور قذائفها التي لها أقوى الأثر على المادة التي تخترقها
ونتكلم اليوم عن الفكرة في مصدر أو أصل هذه الأشعة الخارقة لما اعتدناه من إشعاع. ويَجمُل قبل ذلك أن نذكر كلمة أخيرة عن بعض النتائج الهامة في دراسة هذه الأشعة. وهذه النتائج هي مادة لموضوعات مختلفة نكتفي هنا بالإيماء إليها:
الموضوع الأول هو تقسيم العلماء هذه الأشعة إلى نوعين: النوع الأول جسيمات رخوة نتجت عن الأشعة الكونية وليست هي الأشعة ذاتها. والنوع الثاني جسيمات صلبة جزء من الأشعة الكونية نفسها قبل اختراقها طبقات الهواء أو الأرض.
وهذا التقسيم إنما جرى تبعاً لمقدار المادة التي تستطيع الأشعة النفاذ فيها. وللعالم روسي تجارب تدعو للإعجاب في وضع ستائر من الرصاص يعرف بواسطتها أولاً اتجاه الأشعة، وثانياً درجة نفاذها في المادة التي تصادفها وأثرها عليها. وفي ذلك يستعمل روسي عدادات الإلكترونات وغرفة ولسون مجتمعة في تجربة واحدة
الموضوع الثاني هو دراسة تغير هذه الأشعة تبعاً لخطوط العرض؛ ولهذا أثر هام في معرفة ما إذا كان منشأ الأشعة خارجاً عن نطاق المحيط الأرضي. وقد أدت هذه الدراسة إلى أن هذه الأشعة تنقص بمقدار حوالي 14 % عندما تقترب من خط الاستواء. وهذا ناتج من أثر المجال المغناطيسي الأرضي واختلاف شدته من منطقة إلى أخرى. وقد بَيَّن ذلك(307/66)
كلاي في أبحاثه التي تبَعتها دراسة دولية تولاها العالم كونتون في سنة 1930 إذ قامت 69 محطة مختلفة في المعمورة بدراسة الأشعة. وهذه المحطات منتشرة بين خطي عرض 78 شمالاً و 46 جنوباً. وفي سبتمبر سنة 1933 قام زميلانا بيير رينجيه هامة بين الهافر وبونس إيرس ذهاباً وإياباً حيث سجلا 170 ألف مسار للأشعة الكونية. وفي الـ 170 ألف شعاع التي سجلها هذان الباحثان نرى أن الأشعة الكونية تنقص بمقدار 16 % عند خط الاستواء
الموضوع الثالث دراسة تَغَيُّر شدة الأشعة تبعاً لنظام تعاقب الليل والنهار أي مع الوقت الشمسي. ولهذا أثره في معرفة ما إذا كانت الشمس مصدراً لهذه الأشعة. وقد دلت الدراسة على أن الأشعة لا تتغير مع تغير الليل والنهار. وفي هذا الشكل ترى كيف تتغير شدة الأشعة مع ساعات اليوم.
فالإحداثي الرأسي ويُسمى محور الصادات يبين مقدار شدة الأشعة، والإحداثي الأفقي ويسمى محور السينات يبين الوقت. وفي المنحنى (1) نرى كيف تَتغَيَّر شدة الأشعة مع مرور اليوم دون أن تخترق الأشعة مادة على الإطلاق
وفي المنحنى (2) نرى تَغيُّر شدة الأشعة بعد أن تكون قد
اخترقت 21 س م من الرصاص. وفي الحالتين نرى حوالي
الساعة 12 ازدياداً طفيفاً في الأشعة، وهذه الزيادة نرى أثرها
مرة أخرى في المنحنيين (3) و (4) اللذين يمثلان تَغيُّر
الأشعة بعد اختراقها 1. 5 س م من الرصاص و 3 س م
منه. أما المنحنيان (5) و (6) فيمثلان شدة الأشعة وتغيرها
مع الزمن بعد اختراق 10 س م من الرصاص و 20 س م
منه، ولا نرى فيهما أثراً لأي تَغيُّر في شدة الأشعة بل نرى
ثباتها على مرور الساعات، وهذا يثبت أن الجزء الصلب من(307/67)
الأشعة الكونية أي الأشعة الكونية الأولى قبل اختراقها الجو
غير مرتبط بالشمس بأي حال من الأحوال
والموضوع الرابع هو دراسة الأشعة مع المجال المغناطيسي الأرضي، وهو دراسة رياضية وطبيعية عويصة قام بها علماء كثيرون نذكر منهم ستورمر ونرى ألا نتعرض له في هذه السطور لصعوبته وعدم فائدته للقارئ
على أن استعراض هذه المسائل ولو على هذا النحو المختصر يفيدنا الآن في مناقشة أصل الأشعة الكونية وسرد كل الفروض التي يعتقدها العلماء في مصدرها.
في نشرات العالم الكبير س. ت. ر. ولسون بين سنتي
1925 و 1929 يفرض أن يكون منشأ الأشعة النافذة هو
المجال الكهربائي الحادث من العواصف الجوية وقد بين أن
الإلكترونات تقذف في هذا المجال بقدر مجموع الطاقة الحادثة
من فرق الضغط الكهربائي بين الغيوم المشبعة بالكهرباء،
وتبلغ هذه الطاقة آلاف الملايين من الفولتات. على أن اختراق
بعض جسيمات الأشعة الكونية أعماقاً من المياه تزيد في
بعض الأحيان عن الـ 500 متر يتطلب طاقة أكبر بكثير من
الطاقة المذكورة. ومن السهل أن نرى أيضاً أنه لا يمكن
بإتباع الرأي المتقدم أن نفسر التغيير الحادث في شدة الأشعة
مع خطوط العرض وهو التغيير الذي سبق أن شرحناه. وعلى
وفق آراء ولسون تقذف الإلكترونات في العواصف لأعلى(307/68)
السحب المحملة بالكهرباء ثم تنحني مساراتها بوجود المجال
المغناطيسي حتى تصل إلى سطح الأرض. ومع ملاحظة أن
نصف قطر الانحناء لإلكترون له هذه الطاقة المتقدمة لا
يتجاوز 700 كيلو متر وملاحظة أن هذا جزء يسير بالنسبة
إلى نصف قطر الارض، فأنه من السهل أن ندرك أنه لا يمكن
لهذه الإلكترونات أن تكون موزعة بالتساوي حول سطح الكرة
الأرضية، وحيث أن توزيع العواصف نفسها ليس توزيعاً
متساوياً فوق سطح الأرض فانه من الصعب تعليل ثبات
الجزء الرئيسي من الأشعة الكونية ثباتاً لا يزيد التغيير فيه
عن 10001
وما يقال عن الإلكترونات الحادثة عن العواصف يقال عن الإلكترونات الحادثة عن السحب العادية. فهذه وأن كانت أكثر انتظاماً في توزيعها حول الأرض إلا أن الطاقة الحادثة عنها لا يمكن أن تُسبب الطاقة العظيمة الموجودة في إلكترونات الأشعة الكونية. كل هذا لا يمنع أن السحب المصحوبة بعواصف شديدة يمكن أن تكون قسماً من الجزء الرخو في الأشعة الكونية، وقد بين ذلك شونلاند
على أن من الصعب جداً أن نتخيل علة أرضية أخرى تكون منشأ الأشعة الكونية. فمثلاً يستحيل مهما كانت الحالة الكهربائية للطبقات العليا من الجو أن نتصور مجالاً كهربائياً عمودياً على الأرض يكون عظيماً بحيث يكون مستمراً وتكون له مثل هذه الطاقة.
ولو أننا وافقنا على أن يكون منشأ الأشعة الكونية خارجاً عن نطاق الكرة الأرضية فإن ثبات شدتها المتناهي ثباتاً في الزمن يضطرنا إلى أن نفترض أن لها الخواص ذاتها في(307/69)
الحيز المكون للكون في مجموعه
فالشمس لا يمكن إذن أن تكون مصدراً لهذه الأشعة. كذلك النجوم المكونة للمجرة، لأن هذه النجوم غير موزعة توزيعاً منتظماً حول الأرض. فلو كانت الشمس مصدرها لاختلفت شدتها مع الوقت الشمسي. ولو كانت المجرة منشأها لاختلفت شدتها مع الوقت النجمي. وهذا الاختلاف أو ذاك لا وجود له بالمرة، وبخاصة في الجسيمات الصلبة أو القوية من هذه الأشعة
وما يُقال عن المجرة يُقال عن العوالم الأخرى التي ليست موزعة توزيعاً منتظماً حول الكون المغلق.
على أنه لا يمكن أن يكون مصدر الأشعة المكونات الداخلية للنجوم، لأن طاقة الأشعة في هذه الحالة تصبح ضعيفة لاختراقها كل مادة النجم
ومهما يكن من الأمر فإن مصدر الأشعة الكونية يجب أن يسمح كما قدمنا بتفسير خواص إشعاع طبيعته وقوته واحدة في جميع الجهات حول الأرض. وقد وضع يجيز تولد هذه الأشعة في وقت ابتداء تطور العالم، بحيث أصبحت خواصها الطبيعية مع مرور الزمن واحدة في جميع وذلك بسبب رحلتها المستمرة داخل الكون المغلق
وقد وضح النظرية الاركيولوجية بفكرته في أن الكون في مجموعه لا يكون سوى ذرة كبيرة جداً تشع هذا الإشعاع على طريقة هي فوق طريقة النشاط الراديومي -
أما عند مليكان فأنه يغلب على ظنه أن بعض الحوادث الطبيعية الحادثة باستمرار في المواد الواقعة بين الأجرام السماوية ربما تعطي هذه الدرجة من إشعاع له نفس الخواص حول الأرض.
أما فرض انعدام المادة فهو لا يكفي أيضاً لتفسير إشعاع له مثل هذه الطاقة. ومن المعروف أن الطاقة الحادثة عن انعدام كتلة البروتون تساوي حوالي الألف مليون إلكترون فولت، وهي طاقة أقل من التي نعهدها في الأشعة الكونية.
كذلك ليس من المحتمل أن يكون سبب الأشعة تحول نواة معقدة وثقيلة بانعدامها وانتقال طاقتها إلى الإلكترونات أو الفوتونات، كما أنه ليس من المحتمل أن يكون السبب في الطاقة الحادثة من تكوين نواة معقدة من ذرات أبسط منها، فإن مثل هذه الطاقة تقل أيضاً عما(307/70)
نعهده في الأشعة الكونية.
ويتساءل أدنجتون لماذا لا تكون هذه الأشعة بقايا تهدم حدث قديماً في المادة وشاءت الأقدار أن تصلنا أخبار هذا التهدم الآن
ويمكن القول أن كل الفروض التي تقدم بها الباحثون حتى الآن لتفسير منشأ وسبب الأشعة الكونية غير ممكنة في ناحية وإن جاز إمكانها في ناحية أخرى.
على أن نظرية العواصف هي النظرية الوحيدة التي ترجع بالأشعة الكونية لسبب مصدره الكرة الأرضية، فإذا لم يكن الدفاع عن هذه النظرية، وهو الأمر الواقع، فإن مسألة أصل الإشعاع الكوني ترتبط رأساً بنشأة الكون
وقد بين لميتر أن الطاقة الكلية للأشعة الكونية مع فرض
توزيعها توزيعاً منتظماً في الحيز تبلغ 10001 من مجموع
الطاقة لكل ما في الكون من نجوم وأجرام ومادة بينها
وعلى كل حال فدراسة منشأ ومصدر هذه الأشعة يبدو حتى يومنا هذا خفياً على الأذهان، وإذا اتضح كما تظهر التجارب الحديثة أن نصف الجسيمات أو أغلبها المكونة لهذه الأشعة العجيبة هي (بوزبتونات)، فإن من المحتمل جداً أن البوزبتون النادر على الأرض هو مكون هام للكون خارجاً عنها.
ومهما يكن من أصل الأشعة الكونية، فأنه عندما نعلم ذلك نكون قد خطونا خطوة كبرى في المعرفة وفي حل موضوع يتصل بمنشأ الكون وسر الخليقة وعظمة التطور.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
الهندسخانة(307/71)
من هنا ومن هناك
كفاح الدكتاتورين لأجل المعادن - عن ذي سينتفك وركر
تقاس قوة الأمم في هذه الأيام بمقدار ما لديها من الصناعات؛ فالصناعة هي أساس المدنية الحديثة، تستطيع الأمة بها أن تتوفر على المصادر الأساسية التي يتوقف عليها كيانها وهي إحراز الثروة المالية، والمحافظة على الحدود، وزيادة السلاح. . . والصناعة هي السند الوحيد الذي يمكن أن يعول عليه لتحمل أعباء الإدارة الحديثة، وإحراز المال الوفير لتدبير شؤونها. ومما لا شك فيه أن الأمم التي لها شهرة في عالم الصناعة تحرص دائماً على الاحتفاظ بكيانها الصناعي، ولا يتيسر ذلك إلا بوجود الخامات الجيدة التي تتوقف عليها الصناعات.
فإذا أتيح لنا أن تفحص الآلة الميكانيكية لإحدى الطائرات وجدناها تتركب من معادن كثيرة قد لا تقل أنواعها المختلفة عن عشرين نوعاً. ولا يمكن أن يضحي بمادة واحدة من المواد التي تتركب منها دون أن نضحي بشيء من قيمتها.
قد يقال عن تغيير الخامات واستبدال مواد صناعية بها، ولكن هذا إذا صح فإلى حد محدود، إذ أن الخامات المعدنية لها قوى وخصائص لا تغني إحداها عن الأخرى كل الغناء
وتستخرج المعادن من المناجم الخاصة بها، فإذا أعوز وجودها لا يمكن الحصول على ما يقوم مقامها في الصناعة. فإذا لم توفق الدولة إلى الحصول على معدن لصناعة من الصناعات، فإن الخسارة لا تقف عند ضياع هذه الصناعة فيها، ولكنها تقع على نظام المملكة على وجه العموم.
فالأمم التي تريد التوسع والنفوذ، يجب أن تستحوذ على أكبر مقدار من الخامات لصناعاتها. فإذا كان الأمر كذلك، تبينت لنا تلك الصلة التي تربط بين النشاط السياسي والحصول على الخامات.
فإذا دققنا النظر في مركز إيطاليا مثلاً، وجدنا أن هذه الأمة لا تملك مورداً واحداً لنوع من المواد المعدنية. وليس في مقدور موسوليني أن يخلق من إيطاليا أمة قوية إذا اتكل على الزراعة وحدها، فهو يلجأ إلى استصدار الفحم والزيت والحديد والنيكل والمغنيسيوم والصفيح وهي المواد الأولية للصناعات، من بلاد غير بلاده(307/72)
ولم تكن بلاد الحبشة قد عرفت جيولوجيا قبل الفتح الايطالي، ولكن قد تبين أخيراً أن هذه البلاد تحتوي على أكبر مناجم للبلاتين والذهب والفضة والنحاس والحديد والبوتاس والرصاص والفحم والزيت (وهو أهم ما تصبو إليه إيطاليا) وهذه مواد ذات قيمة لا تقدر، وهي ولا شك تستحق ما بذل لأجلها من المشتقات. فلا يصح أن يقال أن التوسع الإيطالي في تلك البلاد كان يقتضيه ازدياد عدد السكان في إيطاليا مع ما هو معروف من رداءة الجو في تلك البلاد، وعدم ملاءمته للإيطاليين بحال من الأحوال
أما ألمانيا فهي تحصل على ما يكفيها من الفحم، إلا أن ضياع الألزاسي واللورين جعلها تتكل على بلاد أخرى في الحصول على الحديد والذهب. وقد استورد منها في العام الماضي 20 مليون طن. ولا شك أن ألمانيا يهمها أن تطمئن على توريد هذه المواد إبان الحرب، ولا يمكن ذلك إلا إذا وضعت البلاد التي توردها تحت إشرافها (بقصد تشيكوسلوفاكيا)
أما إسبانيا فماذا تقدم للأمم التي تهتم بها سياسياً؟ مما لا شك فيه أن الثروة المعدنية لتلك البلاد لا يستهان بها، فهي تحتوي على موارد عظيمة للحديد الممتاز والصلب والنحاس وغيرها من المعادن التي تستوردها ألمانيا من الخارج. . .
وهكذا حيثما وجهنا النظر وجدنا المواد الصناعية هي المحرك لتلك الأمم والحافز لها على التطاحن والحرب
الحب والخوف - عن مجلة (جون أولندن)
لكي نتخلص من مخاوفنا في الحياة، يجب علينا أن نكون على وفاق معها. قال أحد الحكماء: (إن الحب الخالص يزيل الخوف، إذ أن الخوف يناقض الحب. ولا يوجد قول أصدق من هذا القول). فنحن حين نكون على وفاق مع الحياة، معارفها وتجاربها وكل خليقة فيها فلا شيء نخافه. إذ إننا في هذه الحالة نعيش مع كون صديق. . . وكما يقول إدوارد كاربتتر في شعره المنثور: تسرع كل القوى العلوية إلى تحقيق مسراتنا الأبدية.
فإذا دب الحب إلى قلب الإنسان، واتصلت وشائجه بشأن من الشؤون، أصبح هذا الشان قريباً من نفسه كل القرب، فهو لا يخيفه ولكنه يسره ويؤدي به إلى السعادة.
ليس من العسير أن نوثق عرى الألفة مع الكون حتى ترتبط نفوسنا بكل ذرة فيه. وعند(307/73)
ذلك نرى أن كل شيء يعما لأجلنا - بدل أن يعمل ضدنا - ويبحث عن سرور دائم يشملنا فلا نخاف شيئاً تبتلينا به الحياة، لأننا نعلم أن الحياة التي توالينا ستوصلنا إلى ما نريد، وتقودنا إلى سعادة أكبر مما كنا نظن. إن كل شيء يعمل لسعادة هؤلاء الذين يعملون مع الله! يجب أن نكون أصدقاء للكون، أصدقاء للحياة وتجاريبها، أصدقاء لكل خير، أصدقاء لكل نظام واتساق لنكون في وحدة تامة مع الحياة.
إن الحياة لحن عظيم يوقعه الحب، فلو عرفنا أن نؤدي دورنا في هذا اللحن، وسرنا على توقيع نغماته الصحيحة، كانت حياتنا جزءاً من لحن الحياة العظيم، فتفارقنا المخاوف جميعها إذ ماذا عسى أن تفعل بنا الحياة سوى أن تزيد من سعادتنا وتمدنا بالسرور الأبدي؟
إن الانسجام الأبدي والنظام يشملان الكون على الدوام، فعلينا أن نضع أنفسنا وفق إرادتهما ونسايرهما. فنظام الحياة لا يمكن أن يتبدل ليسرنا بشيء أو يضرنا به، وليس من الضروري أن يكون كذلك. ولكن الواجب أن نساير نحن الحياة، عند ذلك نجد أن لا شيء يخيفنا فيها، لأننا نكون قد دخلنا في وحدة الكون الذي ارتبطنا وإياه بالحب والوئام.
حول مشكلة العاطلين في أمريكا - عن ذي لسنر الإنجليزية
يظن الكثيرون أن أمريكا أمة غنية لا يعرف الفقر إلى أهلها سبيلاً. ويعتقد الكثيرون أن مستوى المعيشة في هذه البلاد يمتاز عن غيره في سائر بلاد العالم؛ ولكن قل أن يعرق هؤلاء أن في هذه الأمة التي يبلغ عدد سكانها مائة وثلاثين مليوناً من الانفس، عدداً غير قليل من أبنائها يعانون أشد أنواع الفاقة والفقر.
وأستطيع أن أقول إن نسبة هؤلاء البائسين الذين يعيشون في فقر مدقع في بلاد أمريكا أكثر منها في بريطانيا العظمى. إذ أن عدد العمال العاطلين في أمريكا يزيد كثيراً على عددهم في بريطانيا. وإذا كان هؤلاء العمال لا يعرف عددهم بالضبط إلى الآن، فهم لا يقلون على أي حال عن عشرة ملايين من سكان تلك البلاد. ولا شك أن للنظام الإداري والاجتماعي في أمريكا أثراً كبيراً في هذا البؤس الذي يشمل عدداً غير قليل من الأهلين، وعلى الأخص نظام المدن والولايات الثماني والأربعين، فإن هذا النظام المحلي في أمريكا لا يزال على جانب عظيم من الجمود.
وقد كان الرئيس روزفلت أول من فكر جدياً في إصلاح هذه الحال. ولا غرابة فهذا الرجل(307/74)
معروف بمشروعاته العظيمة وخططه الناجحة في إصلاح تلك البلاد. وقد انتخب رئيساً للولايات المتحدة سنة 1933 في أشد الأوقات وأحرجها بالنسبة لحالة البلاد التجارية. فقلب وجوه النظر لإصلاح هذه الحال، وقد كان أهم المشروعات التي وضعها في هذا الصدد، هو مشروع (مساعدة الضرورة) الذي شمل اتحاد البلاد، وانتفع به ملايين من العمال العاطلين لمدة سنتين.
وقد كلف الحكومة هذا المشروع 150 مليون من الجنيهات، وهو مبلغ ليس بالكثير لإحياء أمة. ولم يكتف روزفلت بهذه التجربة التي استفاد بها عدد كبير من السكان، فأوقف قانون الضرورة وأحل محله نظاماً دائماً للعمال العاطلين. وقد بذل في هذا الشأن أعظم مجهود رآه العالم في مثل هذه الأحوال. . . فأعلن أن حكومة الولايات المتحدة لا تتحمل كل هذه الحاجة، ولا تستطيع أن تقوم بأود كل بائس أو مسكين، ولكنها ستأخذ بيد العمال القادرين الذين لا يجدون لهم عملاً، لا بإمدادهم بالمال ولكن بإيجاد عمل دائم لهم
إن نظام إعانة العمال العاطلين في إنجلترا لم يرق روزفلت، فأعلن أن أمريكا لا توافق على نظام الإعانات المالية بحال من الاحوال، لاعتقاده أن إعطاء المال بدون عمل مفسدة للأخلاق.
وإذا كان لابد من المعونة فهي تعطى في حالات المرض، ويمد بها العجائز والأمهات ذوات الأطفال.
وقد أبدى روزفلت شجاعة عظيمة في تنفيذ هذا الرأي، فاستدعى صديقه مستر هاري هوبكن وهو رجل ذكي قضى حياته في ممارسة الأعمال، وعينه وزيراً وكلفه بإيجاد سلسلة من الأعمال العامة في البلاد، لتشغيل العمال العاطلين من ألسكا إلى بنما، ولم يقيده بقيود كثيرة، ولم يشترط عليه شروطاً ثقيلة، ولكنه حتم عليه أن يجعل سائر الأعمال التي يقوم بها هؤلاء العمال نافعة للدولة.
وقد قام مستر هوبكن بهذا العمل بكفاية وجدارة وأوجد في الحال أعمالاً دائمة لثلاثة ملايين من العمال العاطلين. ونستطيع أن نؤكد أن هذه الأعمال على جانب كبير من الفائدة للبلاد.
ومن أهم هذه الأعمال وأكثرها طرافة تسخير الكتبة الذين لا عمل لهم في عمل مراجع لجميع الأعمال الفنية في أمريكا، وتسخير النساء في عمل ملابس للعمال العاطلين، وإنشاء(307/75)
مسارح للممثلين والفنانين العاطلين. هذا عدا الأعمال الزراعية والمنشآت والمؤسسات التي تتطلبها البلاد. وقد أنفقت الحكومة الأمريكية مبالغ طائلة في تنفيذ هذا المشروع، وهي وإن كانت لا ترى أن إيجاد أعمال لهؤلاء يكلفها أموالاً أكثر من التي تتكلفها لو اكتفت بإعطاء المعونة المالية لهم إلا أنها تعتقد أن في عملها هذا محافظة على كرامتهم ورعاية لأخلاقهم.(307/76)
البريد الأدبي
1 - (مناوأة الخدر والنعاس) - وضع الشيء موضعه
في العدد السابق من الرسالة ختمت التعليق على محاضرة حافظ عفيفي باشا بهذه الجملة: (أما سئمتم الخدر والنعاس؟). وكان غرضي التعريض بقناعة من بأيديهم أمر الثقافة في هذا البلد بـ (الموظفين المخضرمين) مع إهمالهم الشباب القادرين المستنيرين.
وأما (وضع الشيء موضعه) فيدخل تحته كلامي على دار الآثار العربية وعلى استبعاد أهل الكفاية عندنا.
وعلى هذا المحورين سيدور بعض ما أنا كاتب في هذا الباب من الرسالة؛ وذلك بعد استئذان صاحبها وهو ممن يقصد وجه الإصلاح. ولن أطلب فيما أكتب غير الحق فلا أوثر هوىً ولا أخشى غضباً.
2 - فتور الحركة الأدبية في مصر
من غريب الاتفاق أن يصرح الأستاذ توفيق الحكيم في العدد السبق بنُعاس الأدباء إذ يقول: (كل شيء (يعني الكتب والتأليف) يمر في فتور. . . العلة البسيطة، ما من أحد في هذا البلد يبدو عليه التحمس الملتهب لشؤون الفكر والأدب. إن علة الفتور هي الأدباء أنفسهم. . . إنهم يكتبون في الأدب وكأنهم ناعسون. إن أقلامهم لا تثير في جو الفكر حراكاً. وهنا الفرق بين أدبائنا وأدباء أوربا).
إن يكتب الأدباء (كأنهم ناعسون) ذلك لا يقع موقع العلة، بل ذلك مظهر من مظاهر الفتور أو قل مظهره الأسطع. إنما العلة تذهب إلى ما وراء هذا. العلة في انطواء كل واحد من الأدباء على نفسه وتشبثه بأسلوب واحد وتهاونه بالقارئ.
ترى الأديب المصري لا يعنى بما يجري حوله كأنه المؤلف الفرد. على أن الأديب سجلّ عصره إذ يدون مجرى التأليف، وينبه الأذهان إلى كتاب أو منحى أو مذهب أو ظاهرة اجتماعية أو ضيق معنوي. ولربما فطن أديب إلى ذلك فإذا به في غالب الأمر وأكثر الحال ينوه بصديق أو يقع في عدو أو يهمل كتاباً من الكتب جهلاً بفنه أو إنكاراً لنفاسته أو اتقاء لصاحبه أو تسامياً. أما التسامي فيدل على ذهاب بعضهم بأنفسهم على كل أحد وذلك من باب الغرور، وقصة الغرور معروفة. وأما الاتقاء فيدل على ضيق الصدر بالنقد، ومردّ هذا(307/77)
إلى الحداثة في إقبال أمّةٍ على صناعة التأليف. وأما إنكار النفاسة فمرجعه إلى خفة الثقة بالنفس وما ينشأ عن ذلك من خشية المنافسين. وأما الجهل بفن الكتاب فلتشبث الأدباء بأسلوب واحد.
وتشبث الأدباء بأسلوب واحد أن ينجذبوا إلى طريقة من التأليف أو يهيموا بأدب من الآداب، فيقفوا عندهما ظناً منهم أن ما يليهما أو يخرج عنهما لا وزن له.
وأما تهاون الأديب بالقارئ فملمسه في تلك الكتب التي تخرج للناس وإن هي إلا طائفة من (المسترسلات) مجموعة من المقالات اللاحقة بفن الإنشاء (بمعناه المدرسي) فلن يزال الأدب عندنا قاعداً حتى يدرك الأديب أن المقالات الإنشائية لا تسوّى كتاباً: المقالات للجمهور الضخم، وفيه الأستاذ والبقال وفراش الوزارة، والكتاب للقراء. ثم إن المقالات تهبط بذوق القراء إذا كانوا من الغافلين وتفتُّ في نشاطهم إذا كانوا من العارفين. . . الكتاب ينشر ليبقى فيما أعلم، والمقالات لتذهب، على الغالب. وكل ما تعده للبقاء يستلزم الروية والاجتهاد والمراجعة بل الخلق، والخلق لا يواتيك كل يوم.
إني أكره أن أوافق غيري على أن القراء المصريين لا يقبلون سوى أدب التسلية والإنشاء التعليمي. فإني - وان عرفت جناية منهج دنلوب وأعوانه على نشاطهم الذهني - لأعتقد أن فيهم من يرغب عن الشعر الذي لا تهب فيه عاصفة، ولا يصفق موج، وعن النقد الآخذ بالظواهر دون البواطن، وعن القصة المسرودة سرداً، وعن المسرحية الباكية أو المهذِّبة، وعن المقالة العابرة كما يُقال اليوم، وإن قلتَ: أتحرمني سائر القراء؟ قلت: لك ما تشاء، ولكن الأدب لا يحيا على أيدي قارئ يفتح الكتاب ليستعين به على ركوب قطار السكة الحديدية أو على إغماض الجفن إذا كان ممن يشكون الأرق.
هذا ومن مساوئ العلة الأولى - وهي انطواء الأديب على نفسه - أن أدباءنا يعوزهم التماسك المعنوي. فهذان حادثان كريهان وقعا هذه السنة لأديبين؛ فلم يعضد الأول إلا واحد، وأما الثاني فمن نصره؟ أين الغضب للفكر الحر؟ ألا عسى أن يذكر أدباؤنا أن الفرد مستضعف.
كل ذلك يعلل فتور الحركة الأدبية. ومجمل القول أن الكتاب لا يحدث حدثاً إلا في الندرة، إما لإغفال حملة الأقلام له أم لدقة شأنه؛ وأن القارئ الجدَّ لا يكاد يصيب أدباً رفيعاً يلهج(307/78)
به، وأن جمهرة الأدباء لا يضمون أصواتهم بعضها إلى بعض حتى يُحس الناس انهم مستيقظون.
بشر فارس
حفلة تأبين الملك غازي الكبرى في بغداد
كان يوم الأحد 14 مايو من أيام بغداد الغر. وما أكثر الأيام الغرّ في بغداد! وكانت حافلة بوفود العربية من كافة أقطارها. وكان الناس في كل ندىّ وقهوة ومنزل مصغين إلى صناديق الإذاعة التي لم تنقطع منذ الغداة الباكرة إلى ثلث الليل عن بث الخطب والكلمات والقصائد والمقطوعات تتخللها آيات الذكر الحكيم يتلوها المشيخة من قراء بغداد، وعلى رأسهم القارئان الأشهران الحاج محمود عبد الوهاب والمّلا مهدي
أما الحفلة الكبرى التي شدت إليها الرحال، فقد أقيمت في (بهو الأمانة) في منتصف الساعة الرابعة فافتتحها الملا مهدي بتلاوة آيات (وما محمد إلا رسول) وكان موفقاً في اختيارها، ثم أعلن عريف الحفلة الأستاذ السامرائي مدير الدعاية والنشر أن الكلام لفخامة نوري السعيد باشا الذي رحب الضيوف، وتكلم عن العرب في الجاهلية ووصف ما كانوا عليه من تأخر وجهل وما صاروا إليه بعد اتباعهم محمداً من التقدم والعلم، وعرض لوفود العراق على النبي صلى الله عليه وسلم ووصف هذه الوفادة بأنها ابتداء الصلة بين العراق والأسرة الهاشمية. ثم تكلم عن أثر العراق في نشر الإسلام وصلتهم على الأيام بهذه الأسرة الماجدة، وخلص إلى الكلام على الملك حسين وما قام به من أعمال وعلى ابنه وحفيده عليهم رحمة الله. ثم صرح بأن العراق سيواصل العمل في سبيل القضية العربية، وختم كلمته برفع الشكر إلى الأمة العربية الممثلة في وفودها.
ثم قدم العريف دولة لطفي الحفار بك رئيس الوزارة الشامية السابقة الذي ألقى كلمة طيبة بيّن فيها عظم الفاجعة بغازي، وأثر الحسين وأسرته في تاريخ العرب، وذكر بالشكر موقف الملك غازي من الشام شماله وجنوبه؛ وأعلن أن الشام وأهله سيبقون ذاكرين له شاكرين، وصرح بوحدة المشاعر والأماني بين البلدين
ثم قدم سعادة حمد الباسل باشا فألقى كلمة افتتحها بذكر الاتفاق في الموضوع والفكر في(307/79)
الخطب كلها، وأن ذلك يدل على اتفاق العواطف والشعور، ثم تكلم عن ثورة الحسين وعن أسرته إلى أن انتهى إلى غازي وفيصل الثاني (الصغير بنفسه الكبير بأمته) وأثنى على حسن اختيار الوصي وعزى العراق باسم مصر وَرَجَا لَهُ التقدم والمجد
ثم تكلم جمال بك الحسيني مندوب اللجنة العربية باسم فلسطين فبيّن أن الكوارث تنشئ القوة وأن امتحان العراق بالنكبات لم يكسبه إلا قوة وصبراً. ووصف روعة المصاب بغازي وآلام البلاد العربية ولا سيما فلسطين وعمل غازي في سبيلها، وأعلن أنها لن تنسى عمله ولن تحيد عن مبدأ جده الأعظم الرسول المصطفى
ثم ألقى الأستاذ علي الجارم مندوب وزارة المعارف المصرية قصيدة دالية افتتحها بالبكاء على النضار الحرّ (فما أغنى البكاء ولا أجدى)، وعلى النبات الذي ذوى، وجذوة النار التي انطفأت ووصف (لوعة مكلوم الفؤاد) وذكر أنه الدهر (هو الدهر ما بضت بخير يمينه، يجمعنا سهواً (؟) وينثرنا عمداً) وأنه لا يفرق بين ملك وعبد، ووصف المصاب أوصاباً عامة تنطبق على كل مصاب، وتصلح لكل ميت، فهدّ (على عادته في كل رثاء) هدّ العلياء، وأطفأ نور الشمس، وفرق الأنفس، وأبكى الترك والهندا (ولا تنس أن القافية دالية). أما ما يخص به الراحل الكريم ويصفه به، فهو أنا فقدناه ريان الشباب، وأن شمائله تفيض مسكاً وآثاره نداً، وأنه كان حساماً بيد الله فصارت الأرض له غمداً، وذكر اسمه بعد فقال:
يقودهم الغازي إلى خير غاية ... فأكرم به ملكاً وأكرم بهم جندا
كأن غبار السيف في لهواتهم ... سلاف من الفردوس مازجت الشهدا
وجاء في القصيدة أبيات حلوة جيدة، ولكنها على حواشي الموضوع كقوله:
لهم في سجل المجد أول صفحة ... كفاتحة القرآن قد ملئت حمدا
ومن كتب المجد المبين بسيفه ... على جبهة الدنيا فقد كتب الخلدا
ثم خاطب (حمامة وادي الرافدين) وسألها الترفق ودعاها إلى الصبر، وتكلم عن دجلة والنيل وجاء بأبيات حلوة ثم أحس بأنه لم يقل إلى الآن شيئاً عن الملك غازي بالذات فعاد يصفه. . .
مضى الهاشمي السمح زين شبابهم ... وأعرقهم خالاً وأكرمهم جدا(307/80)
فتى تنبت الآمال من غيث كفه!!
واكتفى بذلك، فانتقل إلى وصف سفره إلى بغداد والقلب واجف، وسلوكه الصحراء، وعده الساعات وسأمه، وأنه جاء يقضي للعروبة حقها. ثم ختم قصيدته بالسلام على غازي وعلى الذي من بعده (كما كان يقول المتقدمون. . .) وقد كان إلقاؤه مؤثراً. وأسلوب القصيدة حلو سلس، وأن كانت في غير الموضوع، وكان في الإمكان رد معانيها إلى مواضعها من الدواوين المطبوعة. . .
ثم قرأ الأستاذ بهجة الأثري المفتش في وزارة المعارف كلمة معالي الدكتور هيكل باشا الذي أعلن أسفه على حرمانه من حضور الحفلة، ووصف أثر الأسى في جمع القلوب، وبين أن العرب كلهم أسرة واحدة كان الفقيد من أقطابها وإن الفاجعة فيه عظيمة، إذ فقده شعبه ملكاً، وفقد ابنه أباً براً. وتكلم عن اتجاه العراق إلى الوحدة العربية، واستشهد بحديث له مع فخامة نوري السعيد باشا، ثم بين رجاء العرب في العراق ومليكه الجديد، ومشاركة مصر إياه في آماله وآلامه
ثم قرأ طالب مشتاق بك طائفة من البرقيات الواردة من رفعة النحاس باشا من مصر، وسعادة الدكتور شهبندر من دمشق، والعشماوي بك، وخليل ثابت بك، والأستاذ خليل مطران من مصر، وعصبة العمل القومي من دمشق، والأستاذ صبري العسلي، ومعالي شكري بك القوتلي.
ثم ألقى الأستاذ الشيخ يوسف الخازن كلمة لبنان، فبيَّن أن روابط الجهاد تؤلف بينه وبين العراق، وذكر فضل البيت الهاشمي على العرب، وأن قد (تحدث به الركبان في الحل والجزم!) ووصف شباب غازي وضمّن كلامه أبياتاً في الشباب، ووصف جماله وذكر أن الله جميل يحب الجمال. . . وبيّن موقفه من الفتنة الاثورية بكلام كله استعارات ومجازات وتضمينات شعرية. . . وشبه غازي بهنري الرابع الذي وصفه شاعر بأنه أخذ الملك بالإرث وبالفتح معاً؛ وشبه فيصل الصغير بلويس الرابع عشر الذي ولى الملك صبياً ورجا لَهُ مثل أيام لويس، وكانت كلمته حافلة بالمعاني، وفيها وصف للفقيد.
ثم ألقى السيد بهاء الدين طوقان قصيدة الشاعر الشيخ فؤاد باشا الخطيب وهي لامية أولها (الذكر باق والعروش تزول) وصف فيها نشأة غازي في أرض الحرم، ونخوته ونفسه(307/81)
الأبية. ووصف حياته بأنها حلم أعقبه حيرة وذهول، ووصف حزنه على الفقيد، وتمنى أن يكون له مزامير داود ليرثه ولكنه عاجز، ووصف عيه وعجزه وتمدح بأنه الطليق الحر، ولكنه غدا اليوم مقيداً. والقصيدة قصيرة أشبه بمقطوعة من شعر الخطيب منها بقصائده الطوال
ثم ألقى مندوب الأزهر كلمته فافتتحها باسم الله، وانفرد بهذا الافتتاح المبارك دون سائر خطباء الحفلة، وبين أن للحياة مراحل أربعاً كل واحدة أوسع من التي قبلها وأطول مدة، وهن حياة الجنين وحياة الدنيا وحياة البرزخ وحياة الخلد في النعيم أو الجحيم. وتكلم عن الوحدة الإسلامية وأنها في وسائل السلام العام، وبيّن مبلغ الفجيعة بغازي والأمل في فيصل، ودعا إلى القوة ونفي اليأس. وكانت كلمة طيبة ولكنها كانت أشبه في مفتتحها ببحث علمي منها بخطبة تأبينية
ثم ألقى الأستاذ أكرم زعيتر من فلسطين كلمة حماسية قوية وصف فيها جهاد فلسطين، وتكلم عن اهتمام المليك الراحل بقضيتها، وعرض صورة خيالية مؤثرة لليالي المليك التي أحياها مفكراً في فلسطين وتوهم حديثاً بينه وبين أهله، واستنجد العراق باسم فلسطين، وطلب لها انتداب العراق وحمايته؛ وذكر أن الأمل في فيصل الصغير، ومدح حكومة العراق وشعبه.
ثم ألقى الأستاذ سليمان الأحمد (بدوي الجبل) قصيدة دالية بدأها بصور خيالية، وصف فيها مصرع الشمس، وجعل حمرة الفجر مقتبسة من دم غازي. ووصف عرس الجنان، وسدرة المنتهى. ثم وصف كيف ضمت آلام فتاها الشهيد وصور روعتها وحنانها، ووصف بغداد (دنيا الرشيد، تفني الحضارات، وتبقى كالدهر دنيا الرشيد)، وكيف لاحت فهتف الهاتفون فجنت السيوف، وانتخت في الغمود)، وانتقل إلى ذكر غازي:
وتجلى غازي فكبرت الدنيا ... وقال الجلال هل من مزيد
وبيمناه راية الوحدة الكبرى ... فميدي يا راية الله ميدي
ووصف عيد المليك، وصوّر المهرجان في دمشق، وما أعدت له من زهر الغوطة وعطورها. ثم ذكر كيف كان ذلك كله حلماً وانطوى، (فمن رأى النسر بادرته المنايا، فهوى وهو ممعن في الصعود). وبين روعة الشام لجلال الحادث:(307/82)
أشفقوا أيها النعاة على الشام ... ولا تجهروا بنجوى البريد
فربما كان كذباً، ربما كان اختلاقاً. ثم تحقق الخبر، ولم يبق من شك فسألهم أن (أذيعوه يرجف البر والبحر، واحملوه إلى ابن حمدان، وألموا بخالد وأمية وغسان. . . ثم انتقل إلى ذكر الملك الطفل فجعل له:
تاج بغداد والشام ولبنان ... وبحر للروم طاغ عنيد
أيها البحر بعض تيهك لست للروم ... (أنت للملك نضار بتاجه المعقود)
أيها البحر أنت مهما افترقنا ... ملك آبائنا وملك الجدود
وبين أنه: (هاشمي الهوى أحب فما داري، وعادي على هواهم وعودي) - وكانت القصيدة على الجملة أحسن ما ألقي في الشعر في هذه الحفلة، وإن كانت في أسلوبها دون الجارمية وقد اختتمها بذكر الوحدة:
ليس بين العراق الشام حد ... هدم الله ما بنوا من حدود
ووصف جيش العراق الذي يغزو قبة الفلك. . . وتسجد له الدنيا. . . وجعل الشام في ذمة الوصي على عرش العراق وذمة العراق. . .
ثم ألقى الدكتور عبد الوهاب عزام كلمة الجامعة المصرية فوصف كيف شجاها الخطب، وبين التعاون بين القطرين على بناء المجد، وذكر روعة الخطب وعظمه، ولكنا أعظم منه لأننا بنو الشدائد، وعرض إلى عبرة الخطوب وثمراتها في جمع الكلمة والوحدة، وأعلن أن هذا المصاب مصاب المسلمين كلهم، وختم كلمته بمقطوعة شعرية جيدة، بين فيها أن الرخاء بعد الشدة، وأن البدر يبزغ من بين الغيوم، وأن ضحك الأرض من بكاء السحب، وبعد غيض الماء فيض دجلة، وأن في كل خطب للفراتين دعوة إلى المجد والقوة والحياة. وكانت كلمة طيبة بإلقاء أطيب.
ثم ألقى الأستاذ الشريقي قصيدته فافتتحها بوصف حزنه، ونضوب دمعه، وأثر الحزن في دجلة:
وما الحزن إلا ما ألم بدجلة ... ففاضت دموعاً فهي تندب غازيا
وجعل غناء الأطيار مراثياً، والاقمار تبكي مؤملاً: أطلّ على الدنيا هدى وأمانيا. ووصف غازي وصفاً مجملاً:(307/83)
فلله من أدى الأمانة حقها ... ووهّج للضوء الذي كان خابيا
وأنه تمرس بالأخطار، وأنه فتى الأمل المزهو، وأنه خير من قاد العتاق المذاكيا، وأنه هو الفجر إشراقاً، وله الهمة القعساء، وطلب لقبره سقيا الغيث:
ويا لشهيد المجد حياه هاطل ... من الغيث لم يبرح على القبر هاميا
في أوصاف هذا سبيلها، ثم عرض للأمل ببغداد وأنها:
تواثب دهر العرب حتى ترده ... وقد كشفت عنه الأذى والعواديا
والقصيدة من باب الجارمية وإن كانت لا تحمل مثل أسلوبها وليس لها سلاستها وحلاوة ألفاظها
ثم ألقى الشاعر اللبناني الأستاذ شبلي الملاط قصيدة وصف فيها الفاجعة بغازي أحسن وصف، ولكنه لم يملك ناصية الأسلوب ولم يستطع أن يجعل ألفاظه كمعانيه فهو على الضد من الجارم، وانتقل من وصف الفاجعة التي حدد تاريخها وصور دقائقها إلى الكلام على فيصل:
بدر العروبة وابن عم محمد ... نسباً وأعرق دوحة ميلادا
وأعاد أيام الرشيد وتاجه ... واستصرخ المجد القديم فعادا
ثم انتقل إلى غازي ووصف أخلاقه وأنه يلين عند اللين ويشتد عند الشدة:
وتثور ثورة نفسه إن حاولت ... أيدي الغريب لقومه استعبادا
ثم وصف فلسطين وأطال ثم خلص إلى الكلام على نصرة غازي إياها، وعرض لذكر فيصل الصغير وندائه أباه، وتفتيشه عنه في سريره، وذكر عبد الإله والعراق ولم ينس أن يتحدث عن نفسه وأن يتشبه بـ. . . هوميروس!
ثم ألقى الأستاذ اليعقوبي قصيدة طويلة جداً ليس في مبناها ولا معناها ولا إلقائها ما يذكر بالجودة. يقول فيها:
أبا فيصل أحبب بها لك كنية ... ورب رجال لا تحب كناها
وجاء فيها (وأسفرن ربات الحجال) على لغة (أكلوه البراغيث)، وجاء فيها (ولا مرحباً في نهضة أو قضية إذا كنتم لا تحملون لواها)، وكان خيراً لو ختمت الحفلة بشبلي الملاط. ثم ختم الحفلة فخامة رئيس الوزارة العراقية بالشكر والدعاء(307/84)
(بغداد)
(ع. ط)
جمع الباسل
قال فاضل مشهور في قصيدة في هذه الأيام:
طرحنا رداء اليأس عنا بواسلاً ... وأن هزنا يوم العراق وأن أدّا
فجمع (باسلاً) على (بواسل) والبواسل للباسلة، لا للباسل، ولهذا البُسْل - كالبُزْل - والبسلاء، وفي الصحيح الباسلون. قال (الكتاب): (وإذا لحقت الهاء فاعلاً للتأنيث كسر على فواعل، وكذلك أن كان صفة للمؤنث ولم تكن فيه هاء التأنيث وإن كان فاعل لغير الآدميين كسر على فواعل وإن كان لمذكر أيضاً وقد اضطر فقال في الرجال وهو الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار)
وقد شذت شاذات ذكرها الصحاح والتاج. قال الأول: (أما مذكر ما يعقل فلم يجمع عليه - أي على فواعل - إلا فوارس وهوالك ونواكس، فأما فوارس فلأنه شيء لا يكون في المؤنث فلم يخف فيه اللبس، وأما هوالك فإنما جاء في المثل فجرى على الأصل لأنه قد يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها، وأما نواكس فقد جاء في ضرورة الشعر) وقال الثاني: (قد جاء أيضاً غائب وغوائب، وشاهد وشواهد، وفارط وفوارط، وخالف وخوالف)
وإن قال أدباء بسلاء: (إن بواسل كفوارس شيء لا يكون في المؤنث فلم يخف فيه اللبس) فجواب هذا القول عند (العربيات المصريات) البواسل. . .
محاضرة هامة في جمعية المهندسين الملكية
ألقى الأستاذ الدكتور محمد محمود غالي من مصلحة الطبيعيات محاضرة عن الأشعة الكونية حضرها كثير من المهندسين والعلماء يتقدمهم صاحب المعالي محمد شفيق باشا وزير الأشغال السابق ورئيس الجمعية الذي أهتم بموضوع الأشعة منذ العام الماضي عندما طرح الدكتور غالي بدار الجمعية أبحاثه القيمة عن طمي النيل، فطلب منه أن يحاضر زملائه المهندسين عن أحدث ما يعرفه في العلم التجريبي(307/85)
والدكتور غالي محاضر ممتاز بتبسيط المواضيع العويصة وبمهارة التحليل العلمي وقوة الاستنتاج وعظمة الاستقراء.
والرسالة تقدم لأحد أفراد أسرتها التهنئة لما يصادفه في جميع محاضراته من نجاح(307/86)
رسالة النقد
5 - في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
كان يصح أن أجعل موضوع حديثي اليوم ما أفضى إليّ طالب بالسنة التوجيهية بإحدى مدارس وزارة المعارف بالقاهرة، فقد جلس الطالب إلى جانبي في بعض مراكب (الترام) وجعل يشكو إليّ (على غير علم بأني ناقد كتاب البخلاء) من أنه قد يعرض للطلبة توقف في فهم بعض أغراض الشارحين للكتاب فيبدو لهم أن يناقشوا أستاذهم في ذلك، فيوصد باب التفاهم معهم بقوله: إذا قال الجارم بك وجب الإذعان. وهكذا يميت الأستاذ في نفوس طلابه حب البحث ومعالجة الحقيقة بكلمة لعله يرجو أن تصل إلى صاحبها فتكون شفيعاً له. ولكن ما أدناها من شفاعة إذا كان الأستاذ يعلم صواب ما يريد طلابه مناقشته فيه فيحتجنه عنهم ابتغاء مرضاة رئيسه.
ولكنا نعود إلى عملنا في نقد الكتاب راجين من حضرات المدرسين بالسنة التوجيهية، وهم الذين يدرسون الطلاب هذا الكتاب ويعدونهم للامتحان فيه بمناقشة معانيه وتوجيه مراميه راجين منهم أن يزنوا كلامنا حتى إذا آمنوا بصدقه عادوا إلى طلابهم فصححوا ما كانوا قد مروا به من سقطات الكتاب ليؤدوا بذلك أمانة العلم كاملة إلى طلاب لا لوم عليهم إذا قبلوا حقائق تقول وزارة المعارف إنها محضتها فارتضتها غذاء لعقولهم.
ص 91 يقول خالويه المكدي لابنه:
(ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لاحقاً بالآباء، لأني لم أبالغ في محبتك)
هكذا أورد الشارحان كلمة (محبتك) وعلقا على الجملة بقولهما:
(ولست أرضاك) أي لسري وثقتي. (وإن كنت فوق البنين) أي فوق أبنائي منزلة. (ولاحقا بالآباء) أي لأنك كبير السن. (لأني لم أبالغ في محبتك) لأني لم أجاوز الحد في تقدير محبتي إياك(307/87)
وهذا التفسير خطأ في ذاته ينقض آخره أوله؛ إذ كيف يجعله أولاً فوق البنين ثم لا يكون مبالغاً في محبته! وهل فوق محبة البنين محبة؟!
كان يكفي هذا التناقض لعدول الشارحين عن شرحهما وبحثهما عن تصحيف أو تحريف لعله يكون قد وقع في الجملة، ولكنهما لم يفعلا وقبلا هذا التناقض في سطرين متوالين من شرحهما.
والذي أراه أن كلمة (محبتك) مصحفة عن كلمة (محنتك)، والمحنة الاختبار. فيكون الذي منع الوالد من أن يجعل ابنه موضع سره ليس نقص محبته ولكن نقص تجربته له
أما كون الأب لم يجرب ابنه فذلك معقول، جائز خصوصاً إذا كان الأب كخالويه هذا قضى حياته موكلاً بفضاء الأرض يذرعه
وفي الصفحة عينها يقول خالويه هذا متحدثاً عن ماله: (ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس)
والمعنى في ذلك واضح، فهو يقول أن بعض هذا المال صار إليّ من غير تعب أو محاولة في جمعه، كان صار إليه من هبة أو ميراث، فلا يكون له فضل في الحصول عليه. ولكن الشارحين يقولان في معنى الجملة الأخيرة: (لأني لم أسلك في جمع بعضه طريق الحكمة والحزم).
وهذه عبارة ناطقة بأنه سلك في جمع هذا البعض طريقاً غير طريق الحكمة والحزم
في ص 106 يصف الجاحظ رجلاً بأنه عضب اللسان عارف بالغامض من الأمور فاهم للدقيق من المحاسن لا يسكت على عيب في الناس إلا ندّد به وشهّر، ثم يقول عنه بعد ذلك:
(وإن ثريدته لبلقاء إلا أن بياضها ناصع، ولونها الآخر أصهب. ما رأيت ذلك مرة ولا مرتين).
فيقول الشارحان بعد أن فسرا البلقة بأنها بياض وسواد أو بياض وحمرة: ويظهر أن هذا التلون في الثريدة يكون من قلة الدسم أو رداءة المرق وقلته، حتى ليكون بعض الثريدة مشبعاً به وبعضها ليس كذلك. اه
والظاهرة العجيبة في هذا الشرح أن الشارحين يذكران فيه شيئاً غير معقول لأحد، حتى(307/88)
لهما أنفسهما، ذلك أنهما ينسبان هذا التلون في الثريدة إلى قلة الدسم، فكيف يتصوران هذا؟ لاشك أنهما فرضا هذا الدسم صبغاً كصبغ الحيطان أو صبغ البيض في شم النسيم! حين ذاك حقيقة تكون قلة الدسم كافية لأن يظهر بعض الثريدة بلون الخبز الأصلي وهو البياض، وبعضها وهو الذي ناله الصبغ يكون من نصيبه تلك الصهبة، كذلك تعليلهما هذا التلون بقلة المرق أو رداءته. وما ندري كيف جاز هذا في رأيهما ولم يقل به طاه ولا طاهية؟
إنما الذي يصح أن يفهم من اختلاف لون الثريدة أن الرجل كان يقدمها إلى ضيفانه وقد كسي بعضها باللحم وترك جانب منها لا لحم عليه، فظهر هذا أبيض ناصعاً بلون الخبز، وذلك أصهب بلون اللحم. ويكون ذلك عيباً كبيراً ومسبة شنيعة في كرم الرجل لأنه لم يجر على عادة الناس من تغطية جميع الثريدة باللحم. فإذا كان قد زاد على ذلك أنه جعل ما يليه من الثريدة هو المغطى باللحم يكون قد ارتكب إلى جانب البخل رذيلة أخرى هي رذيلة الأثرة على من يجب نحوهم الإيثار
ويؤنسك بهذا المعنى قول الجاحظ تلو هذا الكلام: (وكنت قد هممت قبل ذلك أن أعاتبه على الشيء يستأثر به ويختص به. . . فلما رأيت البلقة هان على التحجيل والغرّة)
يريد أنه كان يرى من هذا الرجل استئثاراً بالشيء دون جلسائه، ولكن ذلك يكون خفي الوضع ليس في شناعة تمييزه لنفسه على الخوان بجعل الثريدة التي يأكل منها على حال غير التي يجعلها أمام الناس من مضار مائدته، فلما رأى منه ذلك لم يروجها لنصحه لأنه لا يقدم على هذا إلا مصرّ غير مبال بذم الناس ونقدهم
ص 109 يقول الجاحظ للحزامي وقد اتهمه بالإسراف وتضييع الحزم حين رآه يلبس من ملابس الشتاء قبل أبانه: (وأي شيء أنكرتَ منا منذ اليوم). فيعلق الشارحان على قوله (أنكرت) بقولهما: أي جحدت واستقبحت من أمرنا.
وقد جمعا في التفسير بين معنيين متضاربين فإن الجحود ادعاء جهل الشيء مع علمه وهو لا يلتقي مع الاستقباح، إذ هو إعلان الرأي بقبح الشيء
والواقع أن الإنكار يفسر بالمعنيين، ولكن ليس يلزم من هذا أن يفسر بهما معاً في مقام واحد. فالمراد هنا هو المعنى الثاني فقط وهو الاستقباح، فأما الجحود فلا محل له كما هو(307/89)
واضح من مقام الكلام
وقد وقع الشارحان في هذه الغلطة نفسها في ص 129 حين أورد الجاحظ وصف الجارود لطعام عبد الله بن أبي عثمان فقال: (يُعْرَفُ ويُنْكَر). فقال الشارحان في التعليق على ذلك: ينكر من الإنكار وهو الجحود والمراد يُحَبُّ ويُكْرَه. فجمعا في التفسير اللغوي وبيان المراد بين المعنيين وهما الجحود والاستقباح لأن مقصودهما من قولهما (يُكْرَه) إنما هو أنه مستقبح. فبان من ذلك استساغة الشارحين للمعنيين معاً وجمعهما في تفسير كلمة الإنكار حيث وجدت، مع أنها إذا فسرت بأحدهما امتنع تفسيرها بالآخر في نفس المقام. وهذا ظاهر
ص 114 يحكي الجاحظ عن الحزامي:
(كان يقول: أشتهي اللحم قد تهرأ وأشتهي أيضاً الذي فيه بعض الصلابة
وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال أشتهي لحم دجاجتين)
فيعلق الشارحان على قوله: (وقلت له مرة) بقولهما: أي لما قال أشتهي اللحم. . وكان مقتضى الظاهر أن يقول فقلت له. اه
يتعب الشارحان أنفسهما في محاولة ربط الكلام بعضه ببعض ولكنهما في سبيل ذلك يعدلان عن صواب إلى خطأ ويحملان اللفظ ما لا يحتمله من المعاني، ويتقولان على القائل ما لم يقل، أو يستظهران ما لا داعي إلى استضهاره. ومن ذلك قولهما هنا: كان مقتضى الظاهر أن يقول فقلت له (أي بدل وقلت)
ونرى أنه لا داعي لهذا فإن عبارة الحزامي (أشتهي اللحم الذي قد تهرأ) كانت هجيّراً، ومن لوازمه المأثورة عنه فقال له الجاحظ في مرة من المرات التي كان يرددها فيها: ما أشبهك الخ.
والدليل على ذلك قول الجاحظ: (وكان يقول) ولو كان قد قالها مرة واحدة كما ظن الشارحان لقال: (وقال مرة) فتكون ملاحظتهما جائزة
فبان أن الخروج عن مقتضى الظاهر لم يكن من الجاحظ وإنما كان من الشارحين
ص 115 يروي الجاحظ قصته فيقول:
(وكنا عند داود بن أبي داود بواسط أيام ولايته كَسْكر فأتته من البصرة هدايا فيها زقاق(307/90)
دبس فقسمها بيننا، فكل ما أخذ منها الحزامي أعطي غيره). فيضبط الشارحان كلمته كل بالضم ويعلقان على الجملة بقولهما: (أي فجميع الذي أخذه الحزامي من هذه الزقاق فرقه على أصدقائه. فمفعول أعطى الثاني محذوف)
وهذا الضبط خطأ ويتبعه خطأ الإعراب أيضاً، والواجب ضبط الكلمة بالفتح فتكون مفعولاً ثانياً مقدما لأعطى. والقاعدة أن الفعل إذا كان يطلب مفعولاً فما دام في حيزه ولا مانع من وصوله إليه لم يجز منعه عن العمل فيه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة أعطى الحزامي غيره كل ما أخذ من الزقاق
(ملاحظة): سنراعي جانب الإيجاز البالغ فيما بقى من المآخذ على الكتاب. وربما انتهينا من ذلك في مقال أو اثنين لأننا نعتقد أن على الرسالة حقاً لقرائها في تنويع القول وتلك هي سنتها معهم.
محمود مصطفى(307/91)
الكتب
حياة الرافعي
تقدير ونقد
للأستاذ أبو الفتوح رضوان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وفي ص 57 نكتة من الأسلوب أظنها تريد أن تلقي في ذهن القارئ أن الرافعي ترك الشعر إلى النثر لأنه عجز عن الصياغة الشعرية. يقول المؤلف: (فما أراه كان يقول ذلك - يعني قيود الشعر - لا تعبيراً عن معنى تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به، وفي رأيي أن الرافعي لم يقصر في مضمار الصياغة الشعرية وإنما كان تركه الشعر نتيجة لما تصدى له من فنون الأدب. فالشعر لا يتسع لأكثر من الخواطر السريعة والخلجات النفسية القصيرة، على حين قصد الرافعي إلى الفلسفة والتطرق إلى بواطن المشاعر والوجدانات، ولو أنه نظم فلسفته في الجمال والحب لما استساغ ذلك إنسان، وفي رسائل الأحزان وأوراق الورد شعر جيد قد لا يتفق لغيره ممن اشتهروا بالشعر دونه. فأداة الرافعي في الشعر لم تكن عاجزة ولا قاصرة. ولكن تدفق عاطفته وغزارة خواطره وعمق فلسفته هي المسؤولة عن هجره الشعر. ثم ألم يكن من الخير للعربية أن يتجه الرافعي إلى النثر؟
ويرد المؤلف (ص 67) تقديم شوقي لنشيده بعد أن طلبه إليه ذلك وإحجام حافظ، إلى إباء في طبع هذا وحرص في طبع ذاك على أن يقال في كل مناسبة قال شوقي. ولو كان الأمر كذلك لقدم شوقي نشيده من أول الأمر. والحق أنه استكبر أن يتقدم في مسابقة مع صغار الشعراء، وأنف من أن يضع شعره موضع الامتحان؛ فلما وعد بأن نشيده هو الفائز تقدم به، أما حافظ فكان عضواً في اللجنة، وعلى ذلك فهو يعرف اتجاهها نحو نشيد شوقي فلم يتقدم حفظاً لكرامته.
وخرج المؤلف من فصل (شيوخه في الأدب) بالنتيجة الصحيحة التي لا يتطرق إليها باطل، من أنه ليس للرافعي في الأدب شيوخ، وإنما هو فريد في فنه وفي أسلوبه، وأنه في ذلك مبتكر لم ينسج على منوال أحد. ولكن مادام الأستاذ قد حاول أن يصل إلى بعض من(307/92)
أثروا في أسلوبه، ألا يجد شيئاً من ذلك في حبيبته (فلانة). ثم ألا يجد الأستاذ بعض الدليل على ذلك بالموزانة بين أسلوبه وبين أسلوبها في كتابها الذي نشر قبل رسائل الأحزان بقليل؟ ثم ألا يكون لميلها إلى المعاني البكر والديباجة المشرقة بعض ما وجهه في فنه البياني هذا الاتجاه؟
وفي ص 141 يقول المؤلف أنه لما غضب الابراشي باشا من الرافعي نشر قصيدته في مدح جلالة الملك فؤاد جنباً إلى جنب مع قصيدته (الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك). والصواب أن الأستاذ عبد الله عفيفي لم يلحق بمعية جلالة الملك إلا بعد هذا التاريخ، وإنما كان حينئذ يشتغل بالتدريس. وظل يشتغل به إلى ما بعد نشر مقالات على السفود في نقد قصائده
وحاول المؤلف عند الكلام عن نسخة الرافعي الخاصة من كتاب (كليلة ودمنة) أن يعدد ما كتبه الرافعي من هذه الفصول. فعد ثمانية فصول في كتاب (تحت راية القرآن). ثم قال أنه أهمل هذه النسخة الخاصة من كليلة ودمنة إلى سنة 1933 عندما دارت المعركة حول (وحي الأربعين). فنشر الفصل التاسع وهو (الثور والجزار والسكين). والصواب أن الرافعي عاد إلى تلك النسخة قبل ذلك بكثير، فقد نقل عنها فضلين على ما أذكر في (على السفود). وقد كتبت هذه المقالات في سنة 1929. وجاء فيها حكاية (حبة القمح وحجر الطاحون)؛ وحكاية البعوضة والمنطاد (زبلن). وعلى ذلك فهما الفصلان التاسع والعاشر من كليلة ودمنة الرافعي. ثم عاد الرافعي إلى هذه النسخة ثانية عندما كتب (أوراق الورد) الذي تم طبعه في 1931، ففي ص 229 و 230 من هذا الكتاب حكاية (الغزال والأسد) وهي الفصل الحادي عشر من نسخة الرافعي من كليلة ودمنة؛ وهي حكاية طريفة أدارها على بعض ما كان بينه وبين حبيبته فلانة، وأشار في هامش الكتاب إلى أنها فصل من كليلة ودمنة ووعد بإتمام فصول الكتاب. وعلى ذلك تكون حكاية (الثور والجزار والسكين) هي الفصل الثاني عشر لا التاسع من كليلة ودمنة الجديد
هذه ملاحظات عنت لي في أثناء قراءة الكتاب، وهي لا تنقص شيئاً من قيمته التي قدمت من خبرها في صدر المقال. ولا أختم كلمتي قبل أن أهنئ الأستاذ سعيداً على توفيقه في هذا الكتاب الفذ. وقبل أن أنوِّه بتلك الفصول القيمة التي كتبها عن (رسائل الأحزان) و(307/93)
(السحاب الأحمر) و (أوراق الورد)، وهي فصول لم يكتب على منوالها في التعريف بالكتب. وأظن القارئ في حاجة إلى أن يعيد قراءة هذه الكتب على ضوء تحليل الأستاذ سعيد مهما كان قد أطال فيها النظر والدرس قبل ذلك
أبو الفتوح رضوان(307/94)
العدد 308 - بتاريخ: 29 - 05 - 1939(/)
البلاغة من لوازم القوة
من سنن الله في الناس أن البلاغة تلازم القوة فلا تنفك عنها إلا في النُّدرة. والمراد بالقوة قوة الروح لا قوة العضل؛ فإن قوة العضل مظهرها قوة الحركة؛ أما قوة الروح فمظهرها قوة الكلمة. فكلما قويت الروحية في المرء قويت الفكرة؛ وكلما بلغت الإنسانية فيه بلغ البيان. وليس من السهل تعليل سطوع النفس وإشعاع الروح بالمنطق البيّن، فإن ذلك لا يزال فوق الفهم ووراء المعرفة. وحسب المدارك المحدودة أن تقف لدى الظواهر والآثار فتحكم بالاستقراء وتبنى على الواقع. والواقع أن قويّ الرجولة بليغ الكلام ما في ذلك شك. كأنما قوة الحيوية في الرجل تستلزم قوة الشاعرية فيه. ومتى أشرق المعنى في الذهن النفاذ، وتمثل الخيال في الخاطر المجلو، أوجبت الطبيعة بروزهما في المعرض الرائع من وثاقة التركيب وأناقة اللفظ وبراعة الإيجاز.
أولئك علي والحجاج وطارق؛ وهؤلاء الاسكندر وقيصر ونابليون؛ وأولاء هتلر وموسوليني ومصطفى كمال! كلهم كانوا مُثُلاً عالية في شجاعة القلب واللسان، ومضاء السيف والقلم، ونفاذ الرأي والعزيمة، وسمو الفكرة والعبارة. أجادوا القول في الخطبة كما أجادوا الفعل في المعركة، وحذقوا السياسة في السلم كما حذقوا القيادة في الحرب، وأحسنوا مناجزة العدو بشدة البأس كما أحسنوا مناغاة الحبيب برقة الغزل؛ فلا تدري أتجعلهم فيمن جرى على أيديهم أدب الموت، أم فيمن جرى على ألسنتهم أدب الحياة. والرجل القوي يغلب عليه من الألقاب والصفات ما تُغَلِّبه طبيعة عمله. فهو قائد أو سياسي أو مصلح أو كاتب أو شاعر على حسب ما تتجه إليه قواه وميوله من الحرب أو الحكم أو الخير أو الجمال. فخالد ونابليون، وبِسمرك، والجاحظ وفلتير، والمتنبي وهوجو، لا يختلفون في عبقرية الرجولة وإن اختلفوا في دلالة اللقب. والنبوغ في هؤلاء جميعاً لا يكاد يتفاوت في قيمته ودرجته؛ وإنما يتفاوت في شهرته ونفوذه تبعاً لاتصاله بالعامة كالزعيم، أو اعتماده على القوة كالقائد.
قد تقول إن النابغ ممتاز في أكثر صفاته لأنه منتخَب الطبيعة ومختار القدرة؛ ولكني أقول لك إن البلاغة تلازم القوة حتى في الاوزاع والهمج. فالرجل العامي القوي الروح الكبير النفس الصارم الإرادة تجده قويم الفكرة، بليغ الجملة، قوي الجدل؛ ومثل هذا في المدينة أو في القرية يكون دائماً موضع المشورة في الازمة، ومقطع الحكم في النزاع.
وازن بين عصر وعصر في الأدب، أو بين أديب وأديب في الاسلوب، تر الفرق بينهما(308/1)
حللته لا يخرج عن قوة الرجولة في هذا وضعفها في ذاك. فعصر الجاهلية عند العرب واليونان، وعصر الفتوح عند المسلمين والرومان، وعهد الفروسية عند الفرنسيين والطليان، كانت أزهى عصور البلاغة، لأن الرجولة كانت فيها بفضل النزاع والصراع في سبيل الحياة والغلبة والمجد والمرأة أشد ما تكون تماماً واضطراماً وقوة. فلما قتل الترف الرجولة، وأذل العجز النفوس، زهقت روح الفن وذهبت بلاغة الأسلوب، وأصبح أدب الأديب سخفاً وزيفاً وثرثرة.
لماذا يقوى الأدب في الثورات والحروب؟ لأنها أثير ليقظة الشعور، ومظهر لحياة الرجولة!
لماذا قلَّ الأدب في العبيد وضعف في النساء؟ لأن الروح الشاعرة ماتت في إرادة العبد، والنفس المريدة فنيت في شعور المرأة!
أرجو ألا تفهم أني عنيت بقوة الأدب ما كان موضوعه شديداً كالحرب، وبضعفه ما كان موضوعه ليناً كالحب؛ فإن ذلك معنى لا يتجه إليه الذهن الباحث. وأي فرق تراه بين سفر أيوب الباكي، ونشيد الأناشيد الغزِل، وإلياذة هوميروس الحمِسة، في قوة الروح وفحولة الفن؟ إن القوة الروحية الشاعرة التي تخرج الأنشودة للجندي هي نفسها التي تخرج الأغنية للعاشق والمرثية للحزين. ولا يجوز أن تفرق بين هذه المقطوعات الثلاث إلا على الوجه الذي تفرق به بين آية من القرآن في وصف النار وبين آية أخرى في وصف الجنة. إنما عنيت بالأدب القوي ما صدر عن قوة الروح وصدق الشعور وسمو الإلهام وألمعية الذهن فدق معناه وصدق لفظه واتسق أسلوبه؛ وبالأدب الضعيف ما انقطع فيه وحي الذات عن آلة الفن، واحتجبت فيه صُوَر الحياة على مرآة الذهن، فهو تقليد قرد، أو ترديد صدىً، أو شعوذة مهرج!
إن الأدب البليغ كامنٌ في البطل على أي صورة كان. فهو إن أنتجه برّز فيه، وإن لم ينتجه شجع إليه. لذلك ازدهر الأدب في ظلال أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. وما دام كبراؤنا لم يخلقهم الله من الأبطال ولا من عباقرة الرجال فهيهات أن ينتجوا الأدب أو يفهموه أو يحبوه أو يعضدوه أو يقدموا أهله. وسيظل هذا النور الضئيل من الأدب القوي الحر محصوراً في ظلام العمى والجهل حتى تقوى الأمة فينتشر، وينبغ فيها القادة فيزدهر. وسيعيش رجاله القلال المخلصون معتكفين في المكاتب اعتكاف النساك في الصوامع،(308/2)
يمثلونه على بصر الطبيعة، وينشدونه على سمع الزمن، حتى تقوى دولة الحق والجمال فيجلسوا في الصدر ويمشوا في المقدمة!
أحمد حسن الزيات(308/3)
في أربعين الملك الشهيد غازي
بني قومنا!
للدكتور عبد الوهاب عزام
ممثل جامعة فؤاد الأول في حفلة التأبين التي أقيمت ببغداد
أيها السادة!
أقوم بينكم مبلّغاً رسالة الجامعة المصرية مديرها وأساتذتها وطلابها المصريين والعراقيين وغيرهم. هذه الجامعة التي شجاها ما شجا معاهد العلم بالعراق من هذا الخطب الجلَل والرزء العمم.
تشارك جامعة فؤاد الأول معاهد العلم العراقية أحزانها، وتحتمل معها آلامها، وتناشدها أن تعزي معها الأمة العربية كلها وتثبتها في مصابها؛ فإن العلم الذي يهدي الأمم طريقها وينير لها في ظلماتها، حريّ أن يثبتها في خطوبها، ويعصمها في محنها.
يا إخواننا لا أبغي إثارة الشجن فما أيسر إثارة الأشجان والمصيبة فادحة، والقلوب دامية؛ ولا أريد استدرار الدمع فما أهون استدرار الدمع والرزء جليل والنفوس باكية، ولكن أريد أن أعرب لكم باسم الجامعة المصرية أننا معكم في السراء والضراء، شركاؤكم في الشدة والرخاء، وأننا وإياكم متعاونون على العمل للمجد وعلى احتمال النوائب.
إن هذا الخطب لم يخصكم، ولا نزل بساحتكم وحدكم، ولكنه خطب العرب على اختلاف ديارهم ومذاهبهم من شرقيّ دجلة إلى بحر الظلمات، وخطب المسلمين على اختلاف أجناسهم وأقطارهم. إنه رزء العرب، وقد استقاموا على طريقتهم وأقسموا ليبلغن غايتهم، ورفعوا الراية ومضوا إلى الغاية - رزؤهم في أحد قادتهم - في ملك عربي شاب طموح استوى على عرش المنصور مبشراً بعهد الرشيد والمأمون. إنه رزء العرب والمسلمين في ملك هاشمي من أبناء فاطمة لمصرعه القيامة في مكة والمدينة، وفي بغداد دار العباسيين، ودمشق دار الأمويين، والقاهرة دار الفاطميين، وبلاد العرب والمسلمين جميعاً.
إنه لخطب عظيم؛ ولكنه ليس أعظم من عزائم هذه الأمة، ولا أكبر من كبريائها ولا أشد من أخلاقها؛ ونحن بنو الشدائد ألفتنا وألفناها، وعركتنا وعركناها.(308/4)
يا بني قومنا: إن للأمم في معترك الحياة نعمى وبؤسا وفرحاً وترحاً ورخاء وشدة. والزمان قُلَّب تدور غِيره بالخير والشر. والأمم العظيمة الحازمة تأخذ عدتها من مسراتها وأحزانها، ولا تفيت فرصة من لذة أو ألم وفرح أو غم، ولا تمر بحادثة إلا تدبرت في أمرها وأخذت لحاضرها وتزودت لمستقبلها وتأهبت لأحداث الزمان وتقلب الحدثان. بل الأمم في أحزانها أقرب إلى الوقار والجد وأدنى إلى التآخي والإيثار والتفدية، وأجدر بإدراك الحقائق والاعتبار بالوقائع وجمع الكلمة وإرهاف العزيمة، فإن الأحزان تجلو النفوس وتنبهها من الغفلة، وترهق الأكباد، وتذهب بالأحقاد.
يا بني أبينا وأمنا: كانت وفاة الغازي رحمه الله عليه قدراً لا حيلة فيه ورزءاً لا قدرة عليه، ولو كانت نائبة تجدي فيها النجدة وتُغني الهمة وتنفع الشجاعة والتفدية لوجد أبو فيصل منا جميعاً نفوساً تفدّيه، وقلوباً تستميت دونه، وعزائم تردّ الخطب صاغراً، وجلاداً يرجع الموت خزيان ناظراً، ولكنه قدر من وراء الأسماع والأبصار والجنود والأنصار.
فلتفزع الأمة العربية إلى عقلها وخلقها وإبائها وصبرها وثباتها وجلدها، ولتنظر إلى تاريخها تستمد منه الصبر على المصيبة، والاستكبار على الجزع، والإباء على كل خطب، والثبات لكل هول.
ليكن من اجتماعنا على مصيبة الغازي اجتماع كلمتنا واستحكام أخوتنا. لتكن من هذه المصيبة الجامعة أُخوة جامعة وكلمة جامعة.
أيها الإخوان: مضى فيصل الأول بعد أن أدى أمانته، ولحق به غازي وهو يسير للمجد سيرته، وقد أورث الله فيصلاً الثاني جهاد جده وطموح أبيه؛ وإن لنا فيه لعزاء، وإن لنا فيه لخلفاً. فلتحطه النفوس ولترعه الافئدة، ولتجتمع حوله الأفكار والآمال، والعزائم والأعمال، وكل ما في العراق وما في العرب من ود ووفاء وإخلاص وبر وكرم، حتى يترعرع ملكاً كريماً في رعاية الله وحضانة أمته ووفائها وإخلاصها، ترجو فيه العراق والعرب جميعاً كوكباً تأوي إليه كواكبه، وسيداً فؤولاً فعولاً لما سن السادة الكرام من آبائه.
وإن في حكمة أهل العراق ووفائهم، وإن في هممهم وعزائمهم لضماناً للمستقبل الوضاء والمجد الباسم بعد هذه الخطوب المكفهرة والوقائع العابسة.
بني قومنا تقسو الخطوب وتربدُّ ... ويُشرق في أعقابها الصبر والمجد(308/5)
وإن ظلام الليل يُعقب صبحه ... وبعد غروب النجم إشراقه يبدو
وبعد محاق البدر يبدو هلاله ... وبعد طلوع النحس يرتقب السعد
وبين ظلام النقع نصر منوّر ... لمن صابر الأهوال والبأس محتد
وعند اسوداد الغيم غيث ورحمة ... يقهقه في حافاتها البرق والرعد
وبعد بكاء السحب خصب ونضرة ... تضاحك من أزهارها الغور والنجد
ومن بعد غيض الماء فيض لدجلة ... ومن بعد جزر الشط ينتظر المد
وفي كل خطب للفراتين دعوة ... إلى المجد في أعقابها النصر والحمد
فلا تحزنوا وارموا الخطوب بعزمة ... يذل لها الخطب العصيّ ويرتد
وسيروا إلى العليا من حول فيصل ... وأنتم له حصن وأنتم له جند
عبد الوهاب عزام(308/6)
في سبيل الإصلاح
الأدباء الرسميون
للأستاذ علي الطنطاوي
ما كان لي أن أعرض إلى هذا الموضوع بعد ما تكلم فيه الأستاذان الكبيران العقاد والزيات، لولا أن في النفس منه أشياء. وإن آراء العامة فيه يعمها الضلال البين، ويعوزها التقويم؛ وإن من الناس من يدعي الأدب ثم يزن أهله بميزان الحكومة، فيضع قيمتهم الأدبية في كفة، ويضع في الكفة الأخرى درجتهم في (الوظيفة) ومبلغ ما يقبضون من مرتب. فالشاعر الذي يعلم في مدرسة ابتدائية، لا يساوَى بالشاعر المدرس في الثانوية؛ والأديب الذي يعمل في تفتيش اللغة العربية أكبر من الأديب الذي يشتغل بالتدريس. أما الشاعر الذي جعلته الوزارة أو أصارته الأيام أول المفتشين، فواجب وجوباً أن يكون شاعر الشرق كله، أو شاعر العرب على الأقل الأدنى. . ويدللون على هذا المنطق السقيم بأن الحكومة لو لم تجده أعلم العلماء وأبرع الأدباء ما أحلته هذه المنزلة؛ فالطعن في تقدمه طعن في الحكومة ونفي لحسن التقدير عنها. . . وامتد هذا الجهل إلى الصحف، فصارت تقدم من الأدباء من قدمته الحكومة، وتكتب في رأس المقالة كما يكتب صاحبها في ذنبها، ودرجة الوظيفة الحكومية التي يقوم بها، كأنها هي الشهادة له بتمكنه في الأدب وعلو كعبه فيه، وغدا من المستحيل أن يقدم شاعر مجوّد محسن ولكنه مدرس عادي، على مفتش أو رئيس ديوان ولو كان دونه إحساناً وتجويداً، كأن شعر الوزير في الشعر كشخص الوزير في الناس، يتقدمهم ويعلوهم ولا يوزنون به ولا يتقدمون عليه. ومشى هذا المنطق السقيم وهذا الجهل البيّن في الناس، حتى صار هو القاعدة المقررة والأصل الثابت، وصار غيره هو الفرع الذي يحتاج إلى دليل. . .
وما من أحد يدرك هذه العلة إدراك الأديب الموهوب الذي اضطرته الحاجة إلى (الوظيفة) وأجبره الكدح للعيش على أن يفكر برؤوس رؤسائه الفارغة لا برأسه هو، فلا يكتب إلا ما يشتهون، ولا يقول إلا ما يريدون، وعلى أن يضع أدبه وذكاءه ومواهبه بين يدي مفتش قد يكون جاهلاً أو يكون مخطئاً أو يكون لئيماً ينتقم لغباوته وجهله من الأذكياء العلماء. والمدرس على ذلك كله ملزم باتباع رأيه والصدور عن مشورته. وإذا كتب ينقده في(308/7)
صحيفة أو يسمّع به في مجلس، قامت عليه القيامة ونفى إلى أقصى الأرض، أو أخرج من الوظيفة إخراجاً، ثم لا ينصره عليه أحد لأن الناس قد استقر في إفهامهم أن المفتش أعلم وأبرع من المدرس، ولا سيما إن كان دكتوراً أو كان أستاذاً في جامعة، فإن مثله لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا من فوقه ولا من تحته. . . والمدرس يركبه الخطأ من جهاته الست لا لشيء إلا لأن مرتبه أقل، ووظيفته أصغر. . . ثم إن عندك الموظفين الجاهلين المتزلفين الذين يتقربون إلى المفتش الشاعر أو الرئيس الأديب بإذاعة فضله، والثناء عليه، ومنحه الألقاب جزافاً، ويستمرون على ذلك ما استمر قاعداً على كرسيه لأنهم عباد صاحب الكرسي. . . فتؤثر هذه (الدعاية) - على بطلانها - في نفوس الاخلياء، وينال هذا المفتش الشاعر شهرة ومنزلة لم تقم على أدبه وإنتاجه، وإنما قامت على أرجل كرسيه الأربع وألسنة أتباعه التي تشبه أرجل الكرسي. . . وربما خدع التاريخ بهذه الشهرة - والتاريخ يخدع أحياناً - فانطمس الحق وعمت البلية. . .
فما هو سبيل الخلاص من هؤلاء (الأدباء الرسميين) الذين يستغلّون هذه الشهرة الزائفة وهذه المنزلة الكاذبة فيقيمون أنفسهم أو تقيمهم الحكومة مقام الأئمة من أهل الأدب، فيرسمون للناشئين خططه ويضعون مناهجه ويملكون تحويله من وجهة إلى وجهة، ويستطيعون أن يؤثروا في مستقبل الأدب بما أوتوا من السلطان، وأن المدارس في أيديهم، وأموال الدولة تحت إمرتهم، تأثيراً لا يقدر على بعضه الأدباء غير الرسميين الذين لا يملكون إلا أقلامهم وعقولهم بل إن الأدباء الرسميين قد يستطيعون والحكومة من ورائهم أن يسخروا بعض الصحف لغاياتهم ومقاصدهم. ولو كان هؤلاء (الأدباء الرسميون) الذين تعتمدهم الحكومة وتثق بهم يُختارون دائماً من ذوي المنزلة الرفيعة في الأدب وممن لهم فيه تمكن ورسوخ لهان الخطب؛ ولكنهم قد يكونون على الضدّ مما قلت؛ بل قد يسيّر الأدب في وزارات المعارف من ليس بينه وبين الأدب رحم ولا قرابة. . . فإلى أين يسير الأدب في حالة مثل هذه؟ وكيف ندفع عن الأدب ذلك المصير المحزن؟
لقد أشار الأستاذ الكبير الزيات في فاتحة الرسالة (305) إلى هذه المشكلة والى دوائها؛ فرأى أن دواءها العدول عن (السياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام(308/8)
التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس) وتطهير التعليم (من المفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهة الاسم). ثم إنه لابد بعد ذلك من تصحيح مقاييس الناس وإفهامهم أن قيمة الأديب بإنتاجه ومواهبه، لا بوظيفته ومرتبه، وأن الأدب لا يقاس بهذه المقاييس الجامدة، ولا بد من التفريق بين شخصية المفتش والوزير الرسمية، وبين شخصيته الأدبية؛ فأنا أرعى للوزير حق مكانته، وأعطيه كل ما ينص القانون على أنه حق له من الطاعة والاحترام. أما الوزير الاديب، والمفتش الشاعر، فإنهما عاطلان من هذه الحصانة، معرضان للنقد، أستطيع أن أدرس أدبهما وشعرهما كما أدرس أدب أي أديب وشعر أي شاعر، وأستطيع أن أحكم لهما أو عليهما، ولا يدخل في حساب النقد وظيفة عالية ولا مرتب ضخم. وإذا اقترح الوزير اقتراحاً في تعديل خطط التعليم، أو رأى رأياً يتبعه أذى للأدب أو خوف على مستقبله، فإنني أستطيع أن أناقشه وأرد عليه. وبغير ذلك لا تنمو المواهب ولا تثمر ثمرها، ولا يزدهر الأدب ولا يعطى أكله. بقي أمر واحد وهو حماية هذا الموظف الأديب الذي يتقد ويبحث، ويقوم بحق الأدب من غير أن يقعد عن حق الوظيفة، حمايته من انتقام الرئيس، وتشفي المفتش، ولا يكون ذلك إلا بقانون ينظم علاقة الرئيس بالمرءوس، ويوضح لكل منهما ما له (بالضبط) وما عليه، أما إذا بقى أمر المدرس بيد المفتش والرئيس، وترفيعه وتنزيله تابع لرأيهما و (تقريرهما)، فلا حرية في البحث، ولا ازدهار في الأدب، ولا استثمار للمواهب، لأن المدرس لا يستطيع أن يضحي بوظيفة وهي سبيل حياته ومورد رزقه من أجل بحث أو فص أدبي، فيسكت على مضض، ويتوالى سكوته، فتموت قريحته، وتذهب ملكته، ولا يبقى فيه بقية لإنتاج. وإذا ذكرنا أن وضعنا الاجتماعي الشاذ ساق أكثر الشباب طوعاً أو كرهاً إلى وظائف الحكومة قدرنا مبلغ الخسارة الأدبية التي يُمنى بها الأدب، ويبلغ الأذى الذي يصيبه به (الأدباء الرسميون) الذين يعملون عمداً وبغير قصد على تقييد حرية الأدباء، وقتل المواهب، وسد الطريق على الناشئين المتأدبين. . .
هذا وإن الأديب لا ينتج ولا يعمل إلا معتداً بنفسه واثقاً بها، وهذه العزة وهذه الكبرياء الأدبية هما عدة الأديب، فإذا خسرهما لم يصلح بعدهما لشيء. ومن نظر في حياة الموظف الصغير نظر مدقق ناقد، رأى أنه لا يستطيع أن يجمع بين إرضاء رؤسائه وبين الشعور(308/9)
بهذه العزة الادبية، وما له في نقد أحدهما بدّ، وهو يؤثر (على الغالب) أن يفقد عزته الأدبية على أن يخسر وظيفته. وكم من موظف أديب نابغ معتد بنفسه، رأى ألوان الإيذاء، واتهم بالشذوذ والعناد، وعاداه صحبه ورؤساؤه، لأنه لم يبع كرامة نفسه وعزتها بهذا المرتب القليل؛ وربما كان هذا الموظف المغضوب عليه، المنسي المهمل، من خير الموظفين علماً وكفاية وقياماً بعمله، وحرصاً على الواجب عليه. . . ولكنهم الرؤساء، أولئكم (الأدباء الرسميون). . .
بغداد (الأعظمية)
علي الطنطاوي(308/10)
من برجنا العاجي
الرأي الصريح الحر قوة ينبغي ألا تخلو منها أمة من الأمم الآخذة بأسباب الحضارة. ووجود هذا الرأي ألزم من وجود البرلمانات في ضمان العدالة والحد من طغيان السلطات؛ لأن هذا الرأي لا يتطرق إليه عادة ذلك الفساد الذي يشوب أعمال النظم السياسية والاجتماعية، فهو صادر عن قلب حار نبيل قد ارتفع عن دنيا الأغراض والمجاملات.
على أن المشكلة هي دائماً: كيف نعثر على هذا الرأي؟ قد نستطيع أن نعثر على العنقاء، ولكننا لن نستطيع أن نظفر في كل زمان بصاحب الرأي الحر الصريح. لماذا؟ لأن هذا المخلوق ينبغي أن يكون مركباً تركيباً مخالفاً لتركيب أغلب البشر. فلا بد أن يكون قد عرف كيف يستغني عن الناس، وأن يكون قد وطن نفسه على أن يمضي في طريقه دون أن يعبأ بسهام الناس التي أصابت جسده. وألا يكون له عند أحد حاجة ولا مطمع. وأن يكون محباً للوحدة معتاداً العزلة، قانعاً من الدنيا بأبسط متاع وأقل مؤونة. ذلك أن أول خطوة في هذا الطريق الوعر يصادفها صاحب الرأي الحر، هي فقد الأصدقاء والأعوان. ثم يلي ذلك تألب الجميع عليه، لأنه لم يرض أحداً ولم يمالئ فريقاً ولم يعتصم بجاه جهة من الجهات، ولم يستظل بقوة من القوى. إنه وحده منبع كل شيء. وهو بمفرده الواقف في وجه جميع القوى متضافرة. إنه قد ينهزم وقد يتحطم ويتهدم تحت ضربات الجميع، ولكن راية الرأي الحر تبقى خفاقة في الهواء عالية مرفوعة في يده الميتة.
حبذا لو كان لي هذا المصير العظيم! لقد أتاحت لي الظروف أن أطلق رأيي ذات يوم حراً في بعض الأمور فأحسست في الحال أني فقدت كل سند من كل جهة من الجهات، ولم يعد لي صديق. ولم يبق حولي سوى عيون نارية تنتظر ساعة الانقضاض عليّ والفتك بي. غير أن كل هذا لم يزعجني. فلقد شعرت في عين الوقت أن في يدي شيئاً يخفق عالياً، أدركت أنه هو وحده الباقي.
توفيق الحكيم(308/11)
أعلام الأدب
أرستوفان
والكوميديا اليونانية
للأستاذ دريني خشبة
يجمع المؤرخون على أن الكوميديا - أو الملهاة - القديمة قد نشأت في سيراقوزا حاضرة جزيرة صقلية قبل أن تنشأ في أثينا حاضرة أتيكا اليونانية، فقد ثبت أن الشاعر الكوميدي إبيخارموس قد ألف للمسرح الصقلي سنة 480 ق. م، أي قبل أرستوفان، أو قبل أن يولد أرستوفان بثلاثين سنة؛ وقد كان له في صقلية قرناء أجلاء منهم صوفرون العظيم الذي كان يتناول في كوميدياته العلاقات بين المرأة والرجل بطريقة فلسفية. ومما يدعو إلى شديد الأسف أن كل كوميديات شعراء سيراكوزا قد فقدت كما فقدت جميع الكوميديات اليونانية إلا إحدى عشر لأرستوفان - من أربع وخمسين! - ولم يصلنا من كل ما فقد إلا نتف هينة ومقطوعات قليلة هي على قلتها ثروة هائلة تدل على الخسارة التي لحقت بالإنسانية في ميراثها الثقافي.
أما الكوميديا اليونانية فقد أخذت تنتعش منذ سنة 460 ق. م ثم ازدهرت في عصر بركليس على يد الشاعر كراتينوس الذي كان يتخذ من سيد العصر - بركليس نفسه - هُزُواً لجميع كوميدياته، فكان يصوره تصويراً كاريكاتورياً (هزلياً)، فيدعوه: (الإله الأعظم أبو رأس بَصَلة!)، استهزاءً برأس بركليس الذي كان يواريه دائماً لاستطالته بخوذة. . . ويدعوه أيضاً: (طفل كرونوس وابن الغَدْر!. الخ).
وكانت لكراتينوس منزلة رفيعة بين شعراء الكوميديا، ويعده النقاد أرفع مرتبة من أرستوفان وأعنف منه في تجريح شخصيات عصره. وقد قال فيه أرستوفان: (إنه كَصَيِّبٍ يتحدر من فوق جبل فهو يكتسح كل من اعترض سبيله من بشر أو شجر أو حَضَر. . .) ومن أبرع الشخصيات التي كان يصورها فيفتنّ في تصويرها شخصيات السكارى، وكان يؤديها له في كوميدياته الممثل الكاتب الكبير كرانس. . . وقد فاز كراتينوس مرات كثيرة بالجائزة الأولى؛ ولما فاز بها للمرة الأخيرة جاء أرستوفان في آخر قائمة المتبارين. هذا(308/12)
وقد توفي كراتينوس غريقاً سنة 421 ق. م.
وممن نبغ في النظم الكوميدي قبل أرستوفان الشاعر فِرَكْرَاتِسْ، والنتف الباقية من كوميدياته تدل على علو كعبه في فنه، وعلى أنه كان يسمو كثيراً على جميع الشعراء الكوميديين حتى أرستوفان. وقد نال أولى جوائزه سنة 437 ق. م. وكانت كوميدياته تمتاز على غيرها بتنوعها وتناولها المشكلات الاجتماعية الشائكة نحو مسألة الرقيق والبغاء وما إليهما، وهو ضريب أرستوفان في تخيّل الطوبويات وجنات النعيم. . . فمن ذلك ملهاته الضائعة (المنجمون) أي عمال المناجم لا رجال التنجيم، وملهاته الضائعة الأخرى (الرجال النمل!)، وقد نسج على منوالها الأديب الحديث ويلز في إحدى طوبيوتاته.
وكما كان كراتينوس يتخذ من بركليس هزواً لكوميدياته فكذلك كان فراكراتس يتخذ السياسي العظيم المعروف ألسبيادس لمثل ذاك الغرض، وإن يكن لم يَعنفْ عليه كما عنف تيموتيوس.
أما يويوليس فقد كان أعظم الشعراء الكوميديين المعاصرين لأرستوفان. . . وكان نِدّاً قوياً له، وقد اتهم كل منهما أخاه بأنه سرق منه ملهاته (الفُرْسان). . . وكان على العكس من كراتينوس يحب بركليس ويمتدح مزاياه في حين كان يبغض رئيس الوزراء كليون ويمزقه في كوميدياته تمزيقاً لا رحمة ولا هوادة فيه. وكان أرستوفان لا يجرؤ على التهكم على سراة الاثينيين وأغنيائهم، أو هو كان لا يحب ذلك، لأنه كان غنياً مثلهم كما سيمر بك، لكن يويوليس كان لا يبالي أحداً منهم فقد فضحهم وأضحك الدنيا عليهم في ملهاته الضائعة (المداهنون)، وكان مثل فراكراتس يبغض السياسي ألسبيادس ويتخذه سخرياً في ملاهيه. ويختلف المؤرخون في سبب ضياع كوميديات يويوليس كلها مع أن كثيراً منها كان أروع وأفخم من كثير من كوميديات أرستوفان. . . وقد علل الأستاذ موراي ذلك فذكر أنه كان من معتنقي ديانة خاصة بالآلهة كوتيتو، وكانت طقوس هذه الديانة تمارس في السر وفي خفية من الناس، وكان العَوام من أهل أثينا لا يبغضون شيئاً مثل ما يبغضون هذه العبادات التي تؤدى في الظلام فلعلهم ثاروا بالشاعر وأبادوا آثاره بعد موته.
ومن الشعراء الكوميديين فرينيخوس وأفلاطون - وهو غير أفلاطون الفيلسوف - وقد نقلا الكوميديا نقلة شاسعة نحو الأغراض الأخلاقية الخالصة؛ ولذا سقطت ملاهيهما لأنها سبقت(308/13)
الزمن ولم يكن الأثينيون قد استعدوا لتذوق ما فيها من جمال كما حدث لمآسي يوريبيدز.
نشأت الكوميديا اليونانية كما نشأت المأساة من الاحتفالات الشعبية الكثيرة والأعياد الدينية المتعلقة بالإله باخوس (دينزوس) إله الخمر والنماء والحصاد. تلك الأعياد التي كان اليونانيون يمارسون فيها ألواناً عجيبة من (المساخر) تشمل الرقص والغناء والإنشاد والموسيقى والتضحيك وإرسال النكات واتخاذ الملابس التنكرية التي تمثل الطير والحيوان، ووحوش البر والبحر وتمسخ الخلق، وتبعث على العربدة والتضحيك. وكانت ألوان عجيبة من المجون والفحش لا يسيغهما ذوقنا الحديث تمارس في حفلات هذه الأعياد، وكان المشعبذ الناجح هو عادة ذلك الذي يجيد النكتة البارعة التي لا يحتشم في إرسالها عارية مكشوفة، فلا يبالي أن تتناول العورات المستورة، ولا يبالي أن يصيب بها من يصيب لأن كل همه أن يثير عاصفة من الضحك ويطلق الأكف بالتصفيق حماسة واهتزازاً. وقد احتضنت الديمقراطية التي نماها بركليس الكوميديا اليونانية فلم يكن الكوميديون يهابون اقتحام ميادين السياسة والأدب والتعليم والاجتماع، وكانوا يبالغون في ذلك مبالغة تشمئز منها الأخلاق والتقاليد الحديثة، فإذا انتقد أحدهم واحداً من رجال السياسة فليس في القانون الاثيني ما كان يؤخذ به بسبب ذلك إلا إذا أهان الشرف الوطني أو فضح كرامة الدولة في نظر الغرباء. فقد روي أن أرستوفان نفسه حوكم من أجل ذلك، وحكم عليه بغرامة فادحة في عهد كليون - وقد كانت هذه الديمقراطية المطلقة سبباً في سقوط أثينا، ولذلك شن عليها أرستوفان حرباً عواناً في كثير من كوميدياته. ولما كانت الكوميديات تستبيح جميع صنوف العربدة وتناول العورات وقذف الأعراض وتجريح الكرامات بأقذع ما يتصور الإنسان من أساليب الفحش، وعبارات المنكر فقد منع النساء والأطفال من شهودها لما كانت تفيض به من ضروب الفسق ويرد فيها من الشناعات.
والكوميديا اليونانية من أجل هذا تستند إلى هذه الدعامة الوضيعة من الطعن على رجال الدولة والتشهير بهم على نحو ما تفيض به مجلاتنا الأخبارية اليوم من مثالب وما تتناول به شخصياتنا البارزة من تعريض وكاريكاتور.
وهي تستند كذلك إلى الأساطير المحلية والخرافات التي لا يلجأ الكوميدي إليها إلا إذا ضاقت به ميادين السياسة والاجتماع.(308/14)
ولا يمكن - أو قد يكون من الصعب العسير - أن تمثل الكوميديات اليونانية اليوم في مسارحنا؛ أولاً لأن أذواقنا تستنكر أسلوب هذه الكوميديات الفاضح الذي يخرج في الغالب عن آداب مجتمعنا؛ وثانياً لأنها جميعاً كوميديات محلية تدور حول طقوس دينية لا نعرفها وتتناول عادات سحيقة في القدم لا نلم بها، وثالثاً لأن نكاتها إن احتفظت بقليل من الاحتشام - وهذا في النادر - إلا أننا لا نفهمها في سهولة ويسر. . . ورابعاً، لأن المسرح اليوناني كان أليق لعرض هذه الكوميديات من مسرحنا الحديث، لأن المسرح اليوناني كان أشبه بالسيارك الجوالة التي نراها اليوم والتي تصلح لعرض الحمير والضفادع والقرود والتنانين وما إلى ذلك مما تفيض به الكوميديات اليونانية. وخامساً، لأن طريقة الأداء التي كانت تعرض بها الكوميديا اليونانية، أو طريقة تأليفها بقول أصح، هي غير الطريقة التي تؤلف بها كوميدياتنا الحديثة.
فالكوميدية الحديثة تتركب من أربعة أجزاء قد لا نسيغها نحن اليوم. فالجزء الأول هو عرض عام لموضوع الملهاة وتفسير للأشكال التنكرية التي يتخذها الخورس أو بعض الممثلين، ويلي ذلك (خطاب الشاعر) الذي نظم الرواية ويلقيه الخورس، ويتضمن أهم العناصر الهزلية في الكوميديا ويسمى هذه الجزء باليونانية وتتبع هذا الجزء سلسلة غير مترابطة من المشاهد التضحيكية لوصل ما انقطع من حديث الجزء الأول المتعلق بالعرض العام، ثم يأتي بعد هذاالـ أو البسط والتمريح، أي إشاعة الانبساط والمرح في نفوس النظارة، وفيه يستمر الممثلون في الأداء والتطريب والتضحيك حتى تنتهي الكوميدية.
وقد ارتبط أرستوفان بهذا الترتيب في كثير من كوميدياته. وهو وإن لم يخلص من كل الشوائب التي تعيب الكوميدية اليونانية، إلا أنه سما بها شيئاً ما وترفع قليلاً عن إيراد مشاهد الفسق والفجور. ولم يكن كالشعراء الآخرين في طريقة مهاجمة خصومه وإن شذ في معاملة خصمه وأستاذه الأكبر يوريبيدز، فقد يعتبر المسرح الهزلي طريقاً إلى النقد الإصلاحي فيما يعرض له من مسائل السياسة والاجتماع والتعليم وسائر شؤون الحياة العامة، فهو كان يقوم عن طريق المسرح بما تقوم به الصحافة اليوم ولكن بطريقته الفنية التي تفرد بها. . والمحقق أن أرستوفان كان يحفظ درامات يوريبيدز عن ظهر قلب، ولم يكن يكتفي بحفظها فقط، ولكنه كان يعيها وعي الحافظ الدارس الواقف على دقائقها الخبير(308/15)
بأسرارها؛ وقد ترك ذلك كله أثره في نفسه وفي أدبه وفي مُثُله وفي مراميه، فهو كان يسخط على الساسة الأثينيين كما كان يسخط يوريبيدز، وكان يبغض هذه الديمقراطية المطلقة الذميمة التي تنهي بمقاليد الحكم إلى طائفة من الاوشاب، أو تترك للأوشاب الهيمنة على تكييف شكل الحكومة باختيارهم أفراداً بأعينهم لا يمكن أن يختاروا سواهم مهما صنعوا بأثينا من الموبقات. . وكان ملحداً بالآلهة أو أشد إلحاداً من يوريبيدز، وطالما استهزأ بمعبودات اليونان وأضحك عليها نظارته بأسلوبه التهكمي اللاذع حتى لم يترك في أتيكا كلها مؤمناً واحداً بأيٍ ما من أرباب الأولمب!
وكان كذلك يدعو إلى السلم كما كان يصنع يوريبيدز، وكان يسوؤه أن يرى إلى هذه المجازر الدامية التي ذهبت بخيرة الرجال وزهرات الشباب في حروب البلويونيز، وقد تغنى في إحدى كوميدياته بهدنة الثلاثين سنة، وبالغ في ذكر ما يعود على جميع طبقات الشعب من الخير بسببها.
إذن لماذا خاصم يوريبيدز؟! هذا سؤال له جوابه فيما يلي:
ولد أرستوفان سنة 450 ق. م في قرية (كيد أثينايون!)، ومات سنة 385 ق. م، أي أنه عاش خمساً وستين سنة أعطى منها للمسرح وللأدب أكثر من خمس وأربعين، لأنه بدأ نظم كوميدياته وهو فتىً حَدَث السن، فهم يذكرون أن رائعته الأولى (رجال جزلتون)، والتي هاجم فيها التعليم العالي وادعى فيها أنه يتنافى ومكارم الأخلاق!! قد مثلت في المسرح سنة 427، أي أنه كان في الثالثة والعشرين حينذاك، ويذكرون أيضاً أنه لم يشترك في رواياته الأولى لا في التمثيل ولا في الإخراج، بل كان يترك ذلك كله إلى صديقه كللستراتوس، وسبب ذلك فيما يروون صغر سنه وعدم إلمامه بأصول الإخراج وعم استطاعته تمرين أفراد الخورس.
والعجيب أنه لم يقتصر على إسناد الإخراج والتمثيل إلى صديقه هذا، بل كان يبيح له أن ينتحل الرواية لنفسه ويدعى أنها من تأليفه!! وقد صنع بطائفة خالدة من كوميدياته - منها الزنابير والضفادع - مثل هذا الصنع، فقد ترك مهمة الإخراج والتمثيل وحق انتحال التأليف فيها جميعاً لصديق آخر يسمى فيلونيدز. . . وكان الصديقان يهشان لذلك ويبشان لفوزهما بالشهرة الكاذبة، ثم لتناولهما أجر الإخراج من الحكومة وهو أجر يقولون إنه كان(308/16)
عظيماً يسمن ويغني من جوع.
هذا ولم يكن أحد في أثينا يشك في أن أرستوفان هو المؤلف الحقيقي لكوميدياته، وقد يسأل سائل: لماذا ترك لغيره حق الانتفاع بثمرة جهوده خصوصاً بعد أن شب؟ ذلك أن أباه فيلبّوس كان من الأغنياء المثرين، وكان قد أورثه ضيعة واسعة ذات غلة كبيرة في قرية إيجينا، فكان لهذا السبب يعف عنى أجور الإخراج، بل كان يترك الجوائز المالية - وما أكثر ما نالها - لجماعة المنشدين والممثلين. . . هذا ولا تحسبن أنه كان جواداً سخي اليد لصنيعه ذاك. . . لا. . . لقد كان أرستوفان يكره الفقر ويبغض الفقراء.
دريني خشبة(308/17)
الواشي والوشاية
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أيهما أعظم أثراً ونصيباً في إذاعة الوشايات؟ ميل النفس إلى أن تشي بغيرها، أم ميلها إلى أن تقبل الوشاية في حق غيرها؟ هذه مسألة لا نحسب أنه من المستطاع توضيحها على قاعدة واحدة تصدق في كل النفوس على السواء على اختلاف صفاتها من مكر وسذاجة ومن فطنة وغباء ومن خير وشر. على أن الميلين يتصلان في النفس ويتشعبان من شعبة واحدة وهي الأثرة، وما تثير من رغبة في منفعة أو خوف من مضرة، وإن كانت الرغبة في المنفعة ألصق بالواشي، وكان الخوف من المضرة ألصق بقابل الوشاية. على أن هناك أمراً لا شك فيه وهو أنَّ تَنَوُّعَ أساليب الواشي في الوشاية وتهيئتها تهيئة خاصة كي تكون مقبولة في النفوس المختلفة مما يجعل رد الوشاية ورفضها من أشق الأمور. ولا بد من التأثر بها إما قليلاً وإما كثيراً حتى في حالة رفضها وحتى في حالة كره الواشي وقلة الثقة به، وحتى في حالة معرفة كذبه. وإذا استطاع المرء أن يقاوم أثر الوشاية ألف مرة فهو قد لا يستطيع مقاومته مرة بعد الألف. ومن أجل ذلك ترى الرجل العادل الذي كَفَّ نفسه عن الشر يندفع إلى الشر بسبب وشاية واش بعد طول العصمة ويأخذ بالوشاية بعد رفض أمثالها مراراً فيتعجب الرائي المفكر من فجاءات الحياة والنفوس في أمثال هذه الأحوال الغريبة المباغتة. وإذا كان هذا شأن العادل المتحرج من عمل الشر ومن قبول القول من غير بَيِّنة أو دليل، فما ظنك بأكثر الناس وهم يقبلون القول قبل الإطلاع على البينة، وقبل فحص الدليل والتأكد من صحته، ومنهم من يلتقط القول التقاطاً من فم قائله وكأنما ينتزع الوشاية انتزاعاً من بين ثناياه، وكأنما يخشون ألا يخرج القول كله من فمه فيسعفوه بالمسهلات والمقيئات. وأكثر من هذا وذاك أنهم يأخذون بالظنة من غير حاجة إلى وشاية ونميمة؛ فقد يُحيِّي إنسان إنساناً آخر ولا يرد الثاني التحية لخطأ البصر أو بطئه في تبين الأشخاص، أو لانشغال ذهنه أو عينه، أو لسرعة انتقال الأول وفوات الفرصة لرد التحية، فيحسب الإنسان الأول أن الثاني تعمد الإساءة إليه مع عرفانه بسابق إعزازه له ومودته وإكرامه. وقد زاد أبو تمام في هذا المعنى ووضحه فقال:
يَظَلُّ عليك أصفحُهمْ حقوداً ... لِرُؤيا إنْ رآها في المنام(308/18)
وللواشي فطنة بما يؤثر في كل نفس فتراه في بعض الأحايين يتخذ أسلوب التلميح لا التصريح، ويكتفي بالإشارة عن العبارة، لا لرفقه واقتصاده في الشر، بل ليكون قوله أبلغ في الشر، إذ أنه يفطن إلى أن السامع من الذين يفهمون في التلميح أكثر مما كان يبسطه الواشي بالتصريح، ويرون في الإشارة أكثر مما كانت تستفيض به العبارة. ثم إن الواشي يرى في هذا الأسلوب من التلميح احتراساً فيستطيع إذا أُحرِجَ أن ينكر بعض ما فهم السامع أو كله ما دام قوله يحتمل التأويل والتفسير. وفي حالة أخرى يرى الواشي أن الإشارة لا تشغل ذهن السامع ولا تحرك نفسه فيعمد إلى الإطالة والإفاضة والتفصيل والتهويل حتى يكاد السامع يصيبه جنون الخوف أو الغضب من أجل عداء مزعوم أو انتقاص أو تدبير شر أطلعه عليه الواشي فيندفع إلى الشر، وقد يندفع إلى الجرم العظيم، ثم قد يندم أشد الندم ولات ساعة مندم. وتارة يقرن الواشي إلى وشايته وعدا خفياً بمكافأة يجزى بها السامع إذا قبل وشايته؛ ولا نعني مكافأة مالية، وإنما نعني أنه يعده وعداً من وعود المودة والمعاونة والتقديم والإكرام والانتصار له على أعدائه؛ وتارة يُدْخِلْ في ثنايا وشايته وعيداً خفياً يوعد به السامع إذا رفض وشايته، وتهديداً بالعداء إذا عده كاذباً في وشايته وإنذاراً بأنه بعد ذلك الرفض ينصر أعداء السامع عليه أو أنه يُخفي عنه كل ما يدبر له من الشر والكيد فيخشى السامع أن ينقلب الواشي عدواً يناصر أعداءه إذا لم يصدقه أو يخشى أن يصيبه شر من كيد مُدَبَّر يمتنع الواشي من نقل خبره إليه إذا كذبه ولو مرة واحدة فيسرع السامع إلى تصديق الواشي وإكرامه.
ومن أساليب الواشي أنه قد يلاطف السامع ويتحبب اليه، ويكرمه ويمده بنفع، ويطيل في الثناء عليه، ويظهر الحدب عليه، والحزن والخوف من وقوع الشر به حتى يثق به سامعه. ولا شيء تكتسب به ثقة السامع أبلغ من الثناء عليه وذم أعدائه. وإتقان المدح فن قد يُعَدُّ من الفنون الجميلة التي تتطلب صناعة حلوة، وبعد إتقان الواشي مدح السامع ترى ذلك السامع حريصاً على تصديقه كأنه يقول في نفسه هو صادق كل الصدق فيما مدحني به، فلا بد أن يكون أيضاً صادقاً كل الصدق فيما نقله إليَّ من الوشايات؛ ولا يعدها وشايات بل كرامات وهذا هو منطق النفوس البشرية. وإذا أطال الواشي في مدح السامع فقل على الغائب الذي يشي به السلام. فإن كُرْهَ سامع الوشاية لذلك الغائب ورغبته في أذاه وحقده(308/19)
عليه أمور تتمكن من نفسه كلما أجاد وأطال الواشي في مدحه وانتقاص ذلك الغائب. وكيف لا يعد السامع الممدوح الوشايات كرامات وهو يرى مظاهر إخلاص الواشي له وخوفه على جاهه أو سمعته أو حياته أو مكانته ويرى رغبته في صرف الأذى عنه وفي رد كيد أعدائه؟ وقد يصعب في بعض الحالات على الناقل المخلص حقاً الذي إنما يريد بالنقل دفع الشر عن صديقه أن يثبت صدق قوله فيختلط الحابل بالنابل ويضطر السامع أن يقبل من هذا وذاك. على أن الوشاية قد تترك أثراً وخيماً حتى في حالة معرفة السامع كذبها، فإن النفوس البشرية في بعض حالاتها تشك بالرغم من معرفتها ببطلان الشك، وتسيء الظن بالرغم من معرفتها كذب الظن. وهل هذه الحالة أغرب من حالة أشعب الثقفي النفسية، وهو الذي كان يصرف الأطفال عنه فيدعي أن احتفالاً بزواج في حارة مجاورة تُنثَرُ فيه النقود على الناس فرحاً وابتهاجاً فَيسرعُ الأطفال إلى تلك الحارة كي يلتقطوا بعض النقود، وتنخدع نفس أشعب بالقصة التي اخترعها فيعدو خلف الأطفال كي يلتقط أيضاً بعض تلك النقود التي لا وجود لها. على أنه حتى في حالة رفض السامع للوشاية ورفض كل شك في كذبها تراه مهموماً بسبب ما نُقل إليه من الذم أو الرغبة في الأذى لأنه يعد ما نقل إليه قد أنقص من نفسه لدى نفسه وأنقص من اطمئنانه إلى الحياة عامة والى النفوس البشرية فيحسن امتعاضاً وتضايقاً من الغائب الذي نقل الواشي عنه ما لم يقل أو ما لم يفعل لأنه كان سبب ذلك النقل الباطل والوشاية الكاذبة التي آلمته حتى وإن كان سبباً غافلاً عما سببه في نفس الناقل الكاذب ولكن سامع الوشاية المتألم منها بالرغم من تكذيبه لها في سريرة نفسه قد ينقم على ذلك الغائب المكذوب عليه سواء أكان الواشي الكاذب معذوراً أم غير معذور في بغضه له الذي دعاه إلى أن يكذب عليه في وشايته. وهذا أيضاً من منطق النفوس البشرية. ومما يزيد في حنق سامع الوشاية أنها قد تكون مما لا يستطيع ذلك السامع فحصه أو مخاطبة المنقول عنه؛ ولا سيما إذا كان سامع الوشاية عظيماً أو رئيساً فيخشى على رياسته وعظمته أن تبتذل عند التفصيل في كشف الوشاية وفحصها وتحقيقها، ولا سيما إذا كان الغائب المنقول عنه مرءوساً ليس في منزلته؛ فيرى من الانتقاص لنفسه أن يطلعه على ما نقل الواشي إليه لأنه يضطر أن يُحَدِّثهُ بالقول المر الذي قيل عن شخصه، أي شخص العظيم، وهذا فيه إحراج لعظمته فيفضل أن ينتقم من غير بحث ومن غير(308/20)
ظهور بينات أو أدلة على صدق الواشي، وتتلمس نفسه لنفسه الأعذار عندما تحوِّل الشبهات إلى بَيِّنات تخلصاً من إحراج عظمته بالتفوه بما قيل في حقه. وإذا كان هذا شأن من توجب عليه منزلته السير بالعدل فما ظنك بالكثير من الناس الذين يرى كل لنفسه عظمة مثل تلك العظمة، وإن لم تكن له تلك المنزلة التي تفرض عليه ما تفرض منزلة الأول. والذين يقرءون كل يوم ويسمعون عما يسمى بالطريقة الأمريكية في الاحتيال، فلا تمنعهم قراءتهم عنها من الوقوع في شرك المحتالين، ووسائل تلك الطريقة الأمريكية في الاحتيال أسهل من وسائل الوشاة. فالنفس البشرية تنقاد بالخيال والإحساس وبالرهبة والرغبة أكثر من انقيادها بالعقل والمنطق الصحيح والعدل.
ومما يزيد الوشاية تمكناً من النفوس أن النفوس طبعت على الخوف، فكل نفس تقبل الوشاية لا لأنها اقتنعت بصدقها بل لدرء الشر واتقاء الضر المحتمل، وهي قد تسرع بالإساءة إلى الغائب المنقول عنه إذا وجدت أن إساءتها إليه أسهل من ملاطفته وملاينته، وإنما تريد تعجيزه عن الشر بالإساءة إليه قبل أن يسيء إليها. وهي تُزَكيِّ إساءتها إليه قبل التأكد من صدق الوشاية بأن تعد تلك الإساءة من ضرورات الحياة ومكارهها التي لا مناص منها، والتي تدعو إلى المبادرة بالشر حيطة وحذراً؛ إذ أن البدء بالهجوم والمفاجأة به نصف الظفر والانتصار كما يقولون. وهذا أيضاً من منطق النفوس البشرية وأعني المنطق الخفي لا الذي يدرس في الكتب.
أضف إلى كل هذه الأسباب ما يدعو إلى قبول الوشاية من الرغبة في الأذى، وهي قد تكون رغبة مُلِحَّة وشهوة قاهرة في كثير من النفوس ولا سبب لها إلا التمتع بارتكاب القسوة وعمل الشر وإيلام غيرها وهذه الرغبة في الأذى والمتعة في القسوة لا تعجز عن خلق الأعذار والأسباب والشواهد والأدلة والبينات كي تُزَكيِّ نفسها في التمتع بالقسوة وفي ارتكاب الشر، وصاحب هذه المتعة النفسية في إيلام غيره يُرَحِّبُ بالواشي النمّام كما يرحب العاشق بحبيبه الذي طالت غيبته لأن ذلك الواشي يساعده على خلق الأعذار التي يُزَكيِّ بها رغبته في عمل الشر.
عبد الرحمن شكري(308/21)
الموت. . .
حججه اللائحة الملزمة
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
سيدي الأستاذ الجليل الزيات
هل كنت أريد مهادنة لوعتي التي أهاج مدامعها مقالكم المؤثر البليغ بمناسبة الأربعين (في حزن المليك الطفل) حين لجأت إلى ديوان نفيس، لشاعرتي العزيزة أيلا هويلر ولككس، ساعة أن انتهى إلى العدد الأخير النفيس من (رسالتكم) العالية!! وهل كانت المصادفة الرحيمة هي التي طالعتني لأول ما فتحت الديوان بهذه القصيدة وأجرت القلم بترجمتها في الحال، رجاء مغالبة تلك الحسرات العصية التي ما برحت تغلب الجلد وتغذي الجزع، حتى كادت تسد سبيل الصبر، وتصرف عن مواطن الرشد، وتذهل عن سنة الله في خلقه، والدهر في أهله، مذ مضى الملك الشهيد (غازي الأول) فرع الأرومة الزكية، والقائم من منصب السؤدد في الذروة العلية، ذاك الذي غادر قلب العروبة ينعى مهجته، وجعل أمل المحامد يبكي بهجته. وكيف يعزى المصاب من لم يدع لهم المصرع الأليم والخسارة الفادحة فؤاداً يتجلد في وجه الشجون، لندرة الرجال في هذا الشرق الجديب المحزون؟!
أقول هل كانت المصادفة العجيبة، مدداً رحيماً للتماسك عن عزم في النفس لا عن يأسي، بل تذكرة نافعة تلجئ إلى الاقتناع بأن الأسوة في بعض الأمور قد تكون سلما إلى التأسي. . . إذا عجز العزاء وأعيا المعزي. . . على أنه سبحانه المسؤول أن يكتب لآلاف القلوب المكلومة عزاء جميلا، وأجراً على التصبر جزيلا، وأن يعزى بطول بقائكم دولة الفضل والكمال، ويسكب على الفقيد الشاب العظيم سحائب الرحمة والرضوان بمنه وكرمه.
(الزهرة)
يقول الموت:
لِمَ ترتاع من إيذان قدومي، وتتقبض من ارتقاب زورتي أيها الإنسان؟ ولِمَ تهطع مستطيراً مروّعاَ حين آتي لأقبضك إلى رحمة الله وأنتقل بك إلى دار القرار؟ لم تفرّ من أمامي(308/22)
مشيحاً مستهلكاً، وتتشبث بأذيال الحياة مُزَاحِمتي الأفاكة المرجفة، ورصيفتي السرّاجة المرّاجة!
ألستُ أفيئك ظلال السكون العميق وأقلبك بين أعطاف الدعة، إذ أريحك من المشاق وأعفيك من الشقاء فلا تشغل ذرعك بمهمة، ولا تنقل قدمك إلى دَرَك!
فلماذا تحاول أن تحاجزني عن ذاتك، وتقيم بيني وبينك السدود؟ لماذا تتهضمني وتطلق لسانك في حرمتي وتعبث بكرامتي! لماذا تسلط عليّ بأس لعناتك، وتنزل بي أنكى نقماتك!؟
وأنا - مذ خلقني الله قانوناً طبيعياً لا يدفعه دافع في هذا العالم وجعلني سنّة الخلق التي لا تبديل لها ولا تغيير لم أجرّ على أحد مضرّة ولم أمسّه بأذى، بل اسَوْتُ كل جرح ونثثتُه بالبلسم الشافي، وضمدت كل قرح وأنضجته بالمسخن الوافي.
وظللتُ هذه الدنيا بستر راحتي الأبدية، إذ ضربت لها خيمة الطمأنينة الدائمة، وأوجدت لها ملجأ الغبطة القائمة، لكي تأوي إليهما مما يندلع عليها باستمرار من نيران خطوبها اللافحة، ومصائبها اللاذعة، وهمومها الجائحة، وأطماعها الهائجة، ووساوسها المائجة، وألاعيبها المفترسة، وغواياتها المترامية، وزخارفها المتراصفة، وأحوالها المتقاذفة.
وتلك التضرعات العارضة التي طالما خرجت من أفواه ظمأى تلتمس الرحمة للنفس والعزاء فما ابتلت لهاتها بباطل، ولا حليت بتافه. . بل تلك الاستعطافات التي طالما صعدتها قلوب جياشة باستغاثات تنفطر لها المرائر، ولكنها لم تصب منها رغبة، لأن الحياة ولتها من قلبها جانباً صلباً، وأولتها من إعراضها نكيراً وكرباً.
لقد سوّغتها أنا واستجبتها وألقيت عليها رُخمتي، ومددت لها أكناف مرحمتي. . .
فهلاّ علمت أن عديلتي القاسية وقسيمتي الجافية هي التي تقلبك في ردغة الخبال وحمأة النكال، وتقصم ظهرك بوقر العقاب، وتسوقك كل يوم بسوط العذاب، وتخدعك بعقد يسبقه الانحلال والنصب، وتحطمك بزوال لا تتوقعه عن حِجْر النعمة، وصراع يأخذ عليك سبل الهناء، وكفاح يدفعك عن مناهل الرجاء، وإعنات للنفس بما تعلم أن غايتك فيه اللغو والفشل، وحملها على الجهد في مطالب لا يصحب جهدك فيها أمل.
هلاّ علمتَ أن شوكتي هي أعظم شوكة في الوجود، لأني آخر أعمال الحياة في الموجود. فعلام تتمسك بعروتها، وإلام تسكن إليها، ولِمَ تصارمني إذاً وتقلب لي ظهر المجن؟(308/23)
(الزهرة)(308/24)
الدعاية الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة
عبد الفتاح السرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد العزيز عبد المجيد
انتشار الإسلام في غربي آسيا
أما القبيلة التي افتخر ذلك الشاب بانتسابه إليها فهي إحدى تلك القبائل التي اختارت أن تظل على المسيحية، بينما دخل في الإسلام غيرها من القبائل التي كانت تقطن ما بين النهرين كقبيلة بني نمير وبني قضاعة، وكانت قبيلة بني تغلب قد أرسلت من قبل وفداً إلى النبي (ص) في سنة 9 هـ، فأسلم مشركو هذا الوفد وعقد الرسول (ص) تحالفاً مع المسيحيين منهم الذين استبقى لهم عقيدتهم القديمة على ألا يُعَمِّدوا أطفالهم بعد ذلك. وقد حدا هذا الشرط الذي يخالف تماماً ما عهد عن محمد (ص) من صفات التسامح مع العرب المسيحيين الذين سمح لهم أن يختاروا إما الدخول في الإسلام وإما دفع الجزية، ولم يكرهوا مطلقاً على ترك عقيدتهم، قد حدا هذا الشرط إلى الظن بأنه شرط اقترحته العشائر المسيحية نفسها من بني تغلب بسبب عوامل اقتصادية. غير أن بقاء المسيحية مدة طويلة في هذه القبيلة دليل على أن هذا الشرط لم يعمل به. وقد نهى الخليفة عمر ابن الخطاب عن استعمال أي ضغط عليهم أو إكراههم على الإسلام حينما ظهر أنهم غير راغبين في هجر دينهم القديم، وأمر أن يتركوا في أمن ليزاولوا شعائره على ألا يعارضوا في دخول أي فرد من أفراد قبيلتهم حظيرة الإسلام، وألا ينصِّروا أطفال أولئك الذين أسلموا. وقد طلب إليهم أن يدفعوا الجزية، أعني ما فرض على غير المسلمين من الرعية؛ غير أنهم شعروا أن دفع هذه الجزية شائن لفخرهم القَبلِّي، لأن هذه الجزية قد فرضت نظير حماية الأرواح والأموال، ورجوا الخليفة أن يسمح لهم بأن يدفعوا من الأموال كما يدفع المسلمون، ولهذا دفعوا بدل الجزية كفلاً من الزكاة - أو الصدقة - التي هي مال فرض للفقراء من عقار المسلمين ومواشيهم. نعم تضجر المسلمون حقاً أن تبقى قبيلة عربية محافظة على العقيدة المسيحية. وقد أسلم أغلب بني تنوخ سنة 12 هـ حينما خضعوا لخالد بن الوليد مع(308/25)
قبائل أخرى مسيحية من العرب. غير أنه يظهر أن بعضهم ظل محافظاً على العقيدة القديمة نحواً من قرن ونصف، فلقد روي أن الخليفة المهدي (158 - 169) رأى عدداً منهم يسكن قريباً من حلب، فلما علم أنهم مسيحيون غضب وأمر بهم أن يسلموا، وقد أجاب ذلك منهم نحو خمسة آلاف شخص. وقد آثر أحدهم أن يقتل على أن يعتنق الإسلام. وهنا تعوزنا - لتحقيق معظم هذه الروايات - التفاصيل التاريخية التي تشرح لنا زوال المسيحية من بين قبائل العرب المسيحيين الذين عاشوا في شمال الجزيرة. ومن الممكن أن يكونوا قد اندمجوا في العشائر الإسلامية المجاورة، وفي الغالب بطريق التسلل السلمي خفية، وإلا فلو أن المسلمين حاولوا إكراههم على الإسلام بالقوة حينما أصبحوا تحت سلطانهم لما كان من الممكن أن تظل المسيحية حية بينهم إلى عصر الخلفاء العباسيين.
وهاك أهل الحيرة أيضاً فقد قاوموا كل الجهود التي قام بها خالد بن الوليد ليحملهم على قبول الإسلام. وقد كانت هذه المدينة (الحيرة) إحدى المدن الشهيرة في حوادث الجزيرة العربية. وقد حسب ذلك البطل الإسلامي المغوار أن التوسل إلى أهل الحيرة بصلة النسب العربية كاف لحملهم على أن ينضموا إلى اتباع الرسول العربي. ولما بعث سكان المدينة المحاصرة وفداً منهم إلى القائد المسلم ليتفقوا معه على شروط التسليم ويصالحوه سألهم خالد: (من أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب، أم عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟). فقال له عدي، وكان نقيب القوم: (بل عرب عاربة وأخرى مستعربة) فقال خالد: (لو كنتم كما تقولون فلم تحادونا وتكرهوا أمرنا). فقال له عدي: (ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية). فقال: (صدقت)، وقال: (اختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا؛ إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة). فقال عدي: (بل نعطيك الجزية). فقال خالد: (تبّاً لكم، ويحكم، إن الكفر فلاة مَضلَّة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي).
وقد اتخذت كل الوسائل اللازمة لوعظ أولئك الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً وإرشادهم وتعليمهم، لأنه كان من الضروري - وقد أخذت القبائل تدخل في دين الله بهذه السرعة - أن يؤخذ الحذر حتى لا يخطئوا في العقيدة أو العبادات والشعائر، كما يخشى هذا طبعاً إذا(308/26)
كان إرشاد حديثي الإسلام غير صحيح. ولهذا بعث الخليفة عمر بالمعلمين لكل الأقاليم. وقد كانت وظيفة هؤلاء المعلمين أن يعلموا الناس القرآن، وأن يرشدوهم إلى كيفية القيام بشعائر الدين الجديد. وكان على حكام الأقاليم، شباناً كانوا أو شيوخاً، أن يحافظوا على حضور صلاة الجماعة، وبخاصة صلاة الجمعة، وفي شهر رمضان. ويمكننا أن نحكم على مقدار العناية التي وجهت إلى تعليم من دخلوا الإسلام حديثاً وإرشادهم من هذه الحقيقة؛ وهي أن وظيفة التعليم والإرشاد هذه لم توكل إلى شخص أقل خطراً ومقداراً من خازن بيت المال نفسه.
ومن تلك الأمثلة السابقة التي تدل على تسامح المسلمين الظافرين مع العرب المسيحيين في القرن الأول الهجري، ذلك التسامح الذي ظل خلال القرون التالية. نستطيع أن نستنبط واثقين أن تلك القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك باختيارها وطوع إرادتها. والدليل الواضح على ذلك التسامح هو بقاء العرب المسيحيين حتى اليوم في وسط الجماعات الإسلامية.
ويحدثنا (لايارد) أنه مر بعشيرة من المسيحيين في ناحية الكرك، شرقي البحر الميت، وأن هؤلاء لا يختلفون عن العرب المسلمين لا في لباسهم ولا في عاداتهم. ولقد ذكر رهبان جبل طور سينا لبوركهارد أن بضعة بيوت من البدو المسيحيين ظلت حتى القرن الثامن عشر على دينها، وأن أخرهم امرأة عجوز توفيت سنة 1750 ودفنت في حديقة الدير.
وكذلك لا يزال على المسيحية كثير من العرب من قبيلة بني غسان الشهيرة، وهم عرب خلص، وقد اعتنقوا المسيحية حوالي أواخر القرن الرابع الميلادي. وهم يستعملون اللغة العربية في صلواتهم الدينية منذ أن خضعوا للكنيسة الرومانية في القرن السابع عشر.
(يتبع)(308/27)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولست أدري كيف كان يطمع بلنت في أن يقنع غلادستون بالعطف على قضية الأحرار في مصر، وقد كان رجال السياسة في إنجلترا يسعون ما وسعهم السعي إلى الاستيلاء على مصر منذ أن التقى البحران، وهو إنجليزي لا تخفى عليه نيات الإنجليز وأساليبهم تجاه الشعوب الشرقية؟
إني أفهم أن تجوز ألاعيب السياسة الإنجليزية على أولئك الإغفال من أهل الشرق الذين أذهلهم ما هدهم من ضعف عن الحقائق فصدقوا الباطل وهم يجهلون، أو الذين غرتهم بأوطانهم زخارف العيش ووساوس النفس فانغمسوا في الباطل وهم يعلمون؛ أما أن تجوز الأباطيل على إنجليزي عليم بالسياسة وأوضاعها فهذا ما لا أفهمه، ولذلك فلولا ما تأكد لدى من إخلاص مستر بلنت لقضية الوطنيين حتى قضى الاحتلال فيها قضاءه لارتبت في نياته كما أرتاب في نيات الساسة من أهل بلاده أبداً.
وكأن القدر يأبى إلا أن يظهر بين حين وآخر من الإنجليز أنفسهم من لا تطغى على ضمائرهم خدع السياسة، أو يشوه الجانب الإنساني من نفوسهم أوضار العيش، فيكون من هؤلاء حجة على المرائين الماكرين من بني قومهم، ويكونون بينهم شهوداً من أهلهم عليهم تنبعث أصواتهم مجلجلة فتملأ أسماع أولئك الساسة الذين يوصدون أسماعهم دون أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها مهما بلغ من قوة انبعاثها؛ ومن هؤلاء الأحرار روثستين وبلنت ومن حذا حذوهما.
قدر على شريف أن يلاقي عنتاً شديداً من مسلك الخديو من أول الأمر! وأخذت وزارته تشق طريقها في حذر شديد بين تلك الصعاب القائمة، وكان أعظمها دسائس الأجانب وتوثبهم في ذلك الوقت، ولقد هال هؤلاء الأجانب انبعاث الروح الوطنية إذ رأوا فيها(308/28)
بوادر القضاء على ما يمنون به أنفسهم في مصر.
وسارت سفينة الحكم بين هذه التيارات المختلفة، تنكر الخديو لقضية الحرية ونشاط المدافعين عن هذه القضية، وتربص الدولتين بالحركة جميعاً.
وكان طبيعياً أن تفيق البلاد على صيحة عرابي، وأن تنطلق النفوس من عقالها، فلقد أتيح للناس قدر من الحرية وهم إليها عطاش تتحرق نفوسهم؛ فبدأ الوطنيون يعبرون عما احتبس في صدورهم منذ عزل إسماعيل، وعادت الصحف تعبر عن مساوئ التدخل الأوربي وتندد بأساليب الدخلاء في مصر الذين سلبوها أقواتها بالحيلة وحالوا بينها وبين أمانيها زمناً بالإرهاب والبطش؛ والذين كان يحتل الكثيرون منهم الوظائف المصرية الخطيرة ويؤجرون على أعمالهم فيها إن كان ثمة لهم فيها من أعمال أجوراً غالية من خزانة مصر الفقيرة.
وأخذت جريدة الطيف، وكان يصدرها عبد الله نديم، تقاوم البهرج الزائف الذي بدأ يلتمع في مصر فيخطف سرابه أبصار الجاهلين، والذي سماه الأوربيون مدنية ليكون لهم منه سلاح من طراز آخر يضيفونه إلى أسلحة الدس والكيد التي سلطوها على البلاد؛ وحمل الكرام الكاتبون على المراقص وحانات الخمور ودور المجون ومواخير الدعارة وغيرها من مباءات الفسوق الذي كان يذيعها في مصر أولئك الذين جعلوا من مبررات تدخلهم في شؤون البلاد رغبتهم في هداية أهلها إلى المدنية!
وكان بيت عرابي قبل أن يعين في منصبه الجديد مقصد الناس من جميع الطبقات والهيئات الوطنيون والأجانب في ذلك سواء؛ وكانت شهرة عرابي تطغى على شهرة جميع الرجال من حوله حتى البارودي وشريف وكان لهما الحكم والجاه؛ والحق لقد اتجهت الأنظار إلى عرابي منذ يوم عابدين وأصبح من المستحيل أن يعتزل السياسة أو تعتزله السياسة، وقد خطا في سبيلها تلك الخطوة الجريئة التي كان النجاح حليفها.
أخذنا على عرابي أنه حينما طلب إليه أن يخرج من القاهرة بفرقته اشترط أن يكون ذلك بعد صدور أمر الخديو بدعوة مجلس شورى النواب، ونعود فنأخذ عليه أنه تدخل في الأساس الذي يجتمع عليه المجلس. فكان شريف يرى أن يكون ذلك وفق لائحة عام 1866، أي أول لائحة للمجلس على أن يقوم المجلس بالتعاون مع مجلس الوزراء بوضع(308/29)
لائحة جديدة تجعل منه مجلساً نيابياً يلائم حال البلاد؛ وبعد معارضة شديدة وافق عرابي على ذلك.
ثم تدخل عرابي في مسألة أخرى وهي الميزانية المخصصة لإبلاغ الجيش ثمانية عشر ألفاً من الجند، فلقد أبدت المراقبة المالية عدم موافقتها على المبلغ اللازم كله، وبعد أخذ ورد وافق عرابي على ما تيسر دفعه من هذا المبلغ على أن يقوم بتوفير الباقي من وجوه أخرى.
لقد قطع عرابي على نفسه عهداً كما أسلفنا ألا يتدخل في شؤون الحكومة القائمة وعلى هذا الأساس قبل شريف رياسة الوزارة؛ لذلك نرى أن تدخل عرابي في الأمور التي ذكرناها يوجب ملامته ولن يَشفع له أنه كان يطلب الخير ولن يخفف من اللوم عليه أنه رضى آخر الأمر ولم يسبب للحكومة عنتاً، فهذه الأمور من اختصاص الحكومة وهي لن تمس كما نرى جوهر قضية البلاد.
لم ين أعداء هذه الحركة الوليدة عن مناوئتها في مصر وخارج مصر؛ والى هذه المناوئة يرجع سبب جموح هذه الحركة والتوائها على شريف ثم خروجها آخر الأمر من يده، ولو أنه قدر لمصر في تلك الأيام العصيبة أن آزر الخديو كبير وزرائه ضد الدسائس التي كانت تحاك للبلاد لأمكن شريف أن يسير بالسفينة إلى شاطئ السلامة، ولكن الخديو وا أسفاه لم يكتف بعدم المؤازرة بل لقد التجأ إلى الأجانب فكان هذا العمل من جانبه أقوى مساعد على نجاح سياستهم. . .
وكان أوكلند كلفن العضو الإنجليزي في لجنة المراقبة المالية، وإدوارد مالت قنصل إنجلترا في مصر هما اللذان يحكمان الشباك حول الخديو، ولقد كانت لهما سياسة ماهرة غادرة تدور على أسس أحكم وضعها أولهما وفق ما تعلم في الهند؛ فهما يظهران الولاء عند الخديو فيدسان له بذلك السم في الملق، ثم هما يخوفانه أبداً من تركيا والعرابيين جميعاً فيذران قلبه هواءاً، وهما بعد ذلك يضللان الرأي العام في بلادهما ويرسلان التقارير السرية بما يجب أن يتبع إلى وزير الخارجية.
وكانت وسيلتهما في تضليل ذلك الرأي العام؛ السيطرة على الصحف بالسيطرة على مراسليها، وكان كلفن نفسه مراسلاً لإحدى الصحف الهامة، وكان مراسل التيمس يعتمد(308/30)
عليه في استقاء المعلومات، أما شركتا روتر وهافاس، فقد كان يعطى لكل منهما ألف جنيه في العام من خزانة مصر! وقل أن نصادف في تاريخ السياسة عملاً أشد فجوراً من أن تحارب قضية شعب بنقود من خزانته!
وكانت الحركة الوطنية تلاقى أبلغ الكيد خارج مصر من جانب الصحافة أول الأمر، إلى أن منيت بعد ذلك بالتدخل الرسمي الفاجر، الذي لم يدع في تاريخ العالم عرفاً إلا خرج عليه، ولا قاعدة ألا سخر منها وحطمها تحطيماً.
أخذ محررو الصحف في إنجلترا وفرنسا ينددون بثورة مصر ويسخرون من نهضة مصر، ولو أنهم كانوا يحترمون أنفسهم حقاً، أو يحترمون المبادئ التي نادت بها بلادهما لمنعهم ذلك عما فعلوه. . .
وماذا جنت مصر يومئذ حتى تستقبل أوربا حركتها بأسوأ ما تستقبل به الحركات؟ ألم تجر في أوربا الدماء في سبيل تلك المبادئ التي كان ينادى بها المصريون؟ وكيف تكون نغماتها عذبة مشتهاة إذا تغنى بها أهل تلك الشعوب، ثم تكون ممجوجة مملولة إذا هتف بها الشرقيون؟
هذا شعب ينفض عنه غبار القرون، ويخطو نحو الحرية كما خطت أوربا، ثم هو يذب الأجانب عن قوميته، وقد ثقلوا عليها بامتيازاتهم الأثيمة الظالمة ثقل الحشرات والهوام، فماذا كانت ترى أوربا في هذا من معاني الفوضى والهمجية ولم يصحب حركة المصريين عدوان على أولئك الأجانب ما كانوا يلاقونه منهم من عنت وإفساد؟ ألا إنها السياسة تقلب عرف الناس نكراً، وتجعل المبادئ التي ينادى بها دعاة الإنسانية في نظر الساسة أحلاماً لا تجد لها مستقراً إلا في رؤوس الحمقى من الفلاسفة ورؤوس الأغرار من مصدقيهم.
أما السياسة فقد كانوا لا يتوانون عن الكيد، ولا يفتر لهم سعى في تلمس السبيل التي يستولون بها على الفريسة، وكان موقف إنجلترا وفرنسا من مصر ينطوي على كثير من المعاني التي تبعث على الألم والضحك معاً، وكم من المآسي ما تضحك منه النفوس ولكنه ضحك المرارة التي لن يبلغ الدمع مبلغها.
وكان موقف الدولتين كموقف رجلين يطمعان في استلاب شيء وكل منهما يريده لنفسه دون الآخر ولكنه يموه على صاحبه، وكل من الرجلين يفهم حق الفهم أن الآخر يدرك(308/31)
حقيقة موقفه منه، ولكنهما على الرغم من ذلك يتغابيان ويضللان!
هذا هو موقف الدولتين على مسرح السياسة في تلك الأيام، ولكم شهد المتفرجون يومئذ من الأساليب الميكيافيلية وأوضاعها، ولكم شهدوا من أساليب غيرها لو قرنت بها الأولى لكانت منها كالحسنات، ثم يسدل الستار والمتفرجون من أهل مصر لا يملكون أن ينطقوا بكلمة استهجان لما رأوا، بل لقد فرض عليهم أن ينظموا عقود المدح وإلا عد سكوتهم جحوداً وعناداً، وأي شيء أوجع وأنكى من أن يرغم شعب على تقبيل الأيدي التي استلبته حقوقه والأغلال التي دارت حول عنقه.
ويظهر أول شاهد عل السياسة الإنجليزية في تقرير كتبه كلفن بعد الثورة بعشرة أيام جاء فيه: (أرى أن ليست الحال الحاضرة بطبيعتها إلا هدنة، وأن ما وصلنا إليه من التسوية ليعطينا مهلة نستجم فيها ونلم فيها بالقوى التي تعمل حولنا ونسعى في الاستفادة منها أو القضاء عليها).
وليس في هذه العبارة أول شاهد على السياسة الإنجليزية فحسب، بل إن فيها ملخص تلك السياسة؛ فستتربص إنجلترا للحركة حتى يحين الوقت وحتى تستطيع أن تعمل بمفردها دون فرنسا. . .
وكان شريف يقضاً يفطن إلى دقة الموقف ويدرك مرامي السياسة الإنجليزية وأساليبها؛ ولذلك كان لا يفتأ يحض أنصار الحركة الوطنية على اتباع الحكمة ومجانبة الشطط حتى لا يكون من أعمالهم أو أقوالهم ما تسيء أوربا فهمه فتسوء بذلك العاقبة.
وأخذ العقلاء من رجال الحركة الوطنية يعاونون شريفاً على تثبيت قواعد سياسته، وكان من أثر ذلك أن تنازل عرابي عن رأيه في الموقفين السالف ذكرهما، وكان من أثره أيضاً أن خففت الصحف من لهجتها وكفكفت من غلوائها؛ ولقد كان للأمام محمد عبده فضل كبير في توجيه العناصر الوطنية نحو هذا المسلك الحكيم. . .
ولكن الأفق ما لبث أن تجمعت في حواشيه الغيوم وأحست السفينة بوادر عاصفة قوية ما عتمت أن هبت شديدة عاتية نفد لها صبر الربان أو كاد، وتلك هي أزمة الميزانية الشهيرة.
فرغ شريف من إعداد اللائحة الجديدة للمجلس النيابي ثم عرضها على النواب؛ وشد ما كانت دهشتهم أن رأوا شريف يقرر فيها ألا يكون من اختصاص المجلس عند النظر في(308/32)
الميزانية البحث في جزية الباب العالي والدين العام، وكل ما فرضه قانون التصفية على الخزانة من نفقات.
وهال النواب وأغضبهم أن يكون ذلك باتفاق شريف مع المراقبين، فرفضوا ذلك وأصروا على أن ينظروا الميزانية كاملة، واعتبروا ذلك من الحقوق التي لا تقبل مساومة مهما يكن من الأمر.
وأخذ شريف المسألة من الناحية العملية، فلم يشايع النواب في نظرياتهم، وأخذ يطلب إليهم الأنات والحذر ويريهم عاقبة التطرف والتعجل، ولكنهم لم يلتفتوا اليه، وظهرت في الوزارة نفسها بوادر التفكك. فلقد كان البارودي يطمع في الحكم بعد شريف فكان لذلك يشجع الوطنيين في موقفهم سراً.
وكان سلطان باشا رئيس المجلس ينقم على شريف أن لم يسلكه في سلك وزارته فوجد في الخلاف القائم فرصة ينال بها من شريف فسرعان ما اتهم شريف بالاعتدال، ثم حمل اعتداله على الجبن والضعف. . . ثم بلغ الأمر إلى اتهامه بالخيانة.
ووقف الربان يواجه العاصفة في صبر وجلد، وهو يؤمل أن يجنح النواب إلى السلام والاعتدال، ونشط الشيخ محمد عبده في معونة شريف، ومما ذكره في هذا الصدد قوله: (لقد ظللنا ننتظر حريتنا مئات السنين، أفيصعب علينا أن ننتظرها بضعة شهور أخرى؟).
ثم بدا على الأفق بعد حين ما يبشر بقرب انكشاف الغمة! فلقد أخذ النواب يتدبرون عاقبة هذا التشدد، وبدأ العقل يتغلب شيئاً فشيئاً على العاطفة.
(يتبع)
الخفيف(308/33)
مأتم غازي
للسيدة وداد سكاكيني
أينَ غابَ اللحن مِنْ شَدْو الطيور ... أينَ غابْ
كيف صار الزهر من (قصر الزهور) ... في التراب
شعلة للمجد من نار ونور ... كالشهاب
سطعت ثم اختفت بين القبور ... كالسراب
أين غازي سيد العُرب الفخور ... بالغلاب
كان رمزاً فوق هامات العصور ... للشباب
التحيات الطيبات لقبر غازي الندي الريان الجاثم على ضفاف دجلة الجميل، في ظلال النخيل، حيث يرقد قائد العرب فيصل العظيم في مضاجع الخلود. هناك في الحلل السود تحت خفق البنود رفرفت أرواح الأسى والأحزان، من كل الجيران والإخوان؛ وفي هذا اليوم العصيب عادت نساء الشام تسفح الدمع الصبيب، على المليك الحبيب.
إن في كبد الشام زفرات لا هبات، إذ كادت تجدد بيعة فيصل لشبله غازي وتمد إليه الأيدي على الولاء والوئام، ففقدت بموته أملها الباسم وعرشها الحالم، ولكنها عاهدت النفس أن يعيش من بعده أهلوها الأباة إما أعزة أحراراً أو يموتوا كراماً. هذا يوم له ذكراه الأليمة في قلوب العرب. النساء يشاركن العراق في الأتراح بعد أن شاطرنه الأفراح في عهد أشبال الحسين الصناديد من هاشم وعبد شمس، المناجيد في غوث العروبة اللهيفة التي قبَّل أبناؤها الغطارفة الصِّيد على أيديهم الشريفة صفحات السيوف ومسحوا عنها الدماء فاستراحوا في ظلهم الرطيب من غدر الزمان وظلم الإنسان.
لهفي عليك يا غازي يا عبقري الشباب لم تمتع بالشباب؟! لقد تركت قافلة العرب في حومة الصحراء، ظمأى إلى الماء، وكأنها أطبقت الجفون الوسنى على أحلامها فيك وهي تسري على الرمال فتخطفتك المنون من بين العيون، فروعت القافلة، وتهاوت أمانيها العِذاب، فتاهت في أسراب الرمال، وغابت منها الأشباح والظلال، تنادي الآمال وتنشد الرجال.
يا حسرتاه على النسر الطيار كيف هيض جناحاه، وكان في الثريا فهوى إلى الثرى، وثنى رأسه الأشم بعد أن علا بجبينه الوضاح وروحه القاحمة، فزاحم النجوم وحوم في آفاق(308/34)
الحق والجمال حتى حلق في أمجاد العرب، فضجت له البيداء والفيحاء بالتأييد والتمجيد، وأشرقت من تلك المسارب والمحاريب بأنوار الخير والسلام.
مَنْ كان يحسب من العرب أن ذلك فورة العمر ووثبة الموت وهبَّة الضوء قبل الانطفاء؟ لم يكن مأتم غازي في دنيا العروبة واحداً، وإنما كان حسرات موزعة في حبات القلوب، وحسرات منهلة من الصميم. على أن القلوب التي أحبك بها الناس فضموك في شغافها كانت لك في حياتك مهداً، هي التي احتوتك اليوم يا غازي بالذكرى فصارت لك لحداً. نساء دمشق يمجدن الساعة هذه الذكرى الخالدة التي تلاقت فيها مروءة الحسين وبطولة فيصل وشباب غازي وعروبة الهاشميين الميامين.
لقد حملت يا غازي أمانة جدك ورسالة أبيك وأنت طري العود غض الإهاب، فكتبت في سجل العرب الحديث صفحات نيرات، وأعدت المجد التليد، إلى دار الرشيد، ولم تضيع رعاية فيصل للمرأة العربية وعنايته بنهضتها، فكنت على رأيه السديد: لا يقوم بناء قوم إلا بالرجل والمرأة؛ فسرت يا غازي على نهجه ومهدت للإصلاح والفلاح من بعده؛ فعززت ثقافة الإناث وحدبت على نهضة المرأة في العراق. فيا ليت القدر لم يعجل باختطافك حتى تتم رسالتك وترى عبقريتك ممتدة في أرض الرافدين وحيثما ترفع راية القرآن. . .
(دمشق)
وداد سكاكيني(308/35)
العالم يتطلع إلى حدودنا المصرية
أربعون يوماً في الصحراء الغربية
للأستاذ عبد الله حبيب
- 4 -
تحدث المحرر في المقالات السابقة عن بعض مشاهداته في الصحراء الغربية فوصف بعض عادات العرب وصفاتهم وحكامهم وساحل الصحراء وهطول الأمطار وموارد المياه وسكان الساحل وقبائل الصحراء وسكة حديد مريوط. وهو في هذا المقال يحدث القراء عن الطريق إلى مرسى مطروح
الطريق إلى مرسى مطروح
لعل أهم ما يفيد القارئ ويلذه هو حديث اليوم عن الطريق إلى مرسى مطروح. وسأوجز القول إيجازاً كي لا يمل القارئ حديث الصحراء، وسأعتمد في تدوين ما أحدث به القراء على ما شهدته خلال الرحلة وما دونه صديقنا الصاغ رفعت الجوهري في كتابه المهيأ للطبع عن الصحراء الغربية.
يمكن القول إجمالاً أن الطريق الساحلية من الإسكندرية إلى مرسى مطروح صالحة للسير وقطعها بالسيارات سهل ميسور، وهي عامرة بالبلاد وترتبط أجزاؤها بالمواصلات التليفونية، وتتوفر فيها وسائل إمداد السيارات من بنزين ووقود، كما يمكن الحصول على الماء على طول الطريق بسهولة.
ويبلغ طول المسافة من الإسكندرية إلى مفرق العامرية 21 كيلو متراً كلها مرصوفة بالإسفلت، ثم تمتد الطريق بحالة شبه صحراوية إلى مسافة مائتي كيلو متر تقريباً حتى ناحية فوكه، ومن هذه إلى مرسى مطروح، والمسافة بينهما تبلغ 15 كيلو متراً كلها مرصوفة بالإسفلت.
من الإسكندرية إلى العامرية
تبتدئ الطريق في الإسكندرية من ناحية المكس ثم بوابة خفر السواحل، ومنها تجتاز جسراً خشبياً حتى لوكاندة المكس المعروفة، وعندها تعبر شريط السكة الحديد ثم تمتد معبدة إلى(308/36)
الدخيلة، وبعد ذلك بنحو 2 كيلو متراً تتجه الطريق يسرة فتصعد تلاً ثم تأخذ في الهبوط، وبعد نحو كيلو مترين آخرين تسير يمنة ثم يسرة وتمر ببوابة من الحجر خاصة بمصلحة الحدود وذلك للاطلاع على رخص المرور.
يعترض الطريق بعد ذلك جسر طوله أربعة كيلو مترات يقطع بحيرة مريوط التي تنبسط إلى مدى ما يصل إليه البصر، وليس بها إلا بعض زوارق الصيد الصغيرة تروح وتغدو في مياهها المترامية، وتتجه الطريق بعد قطع هذا الجسر إلى تلال تحوط البحيرة من جهة الجنوب إلى أن تتفرع - بعد كيلو ونصف - إلى طريقين: الأولى وهي الطريق الرئيسية تتجه غرباً؛ والأخرى جنوباً فتقطع سكة مريوط الحديدية بعد كيلو مترين من المفرق إلى أن تصل إلى مركز العامرية على بعد ثلاثة كيلو مترات من محطة السكة الحديدية. ومن العامرية تتجه الطريق جنوباً إلى وادي النطرون فالقاهرة عن طريق الصحراء.
العامرية
أما العامرية فهي بلدة صغيرة، ومركز القسم الشرقي التابع لمصلحة الحدود وبها سراي لخاصة جلالة الملك، ومزارع عظيمة لجلالته، وحدائق واسعة للعنب والزيتون، وتقوم بها صناعات عربية حديثة لعمل السجاجيد، وتنبت بها زهور النرجس الأبيض الطبيعي بكثرة.
وعلى بعد أربعة كيلو مترات منها توجد بئر المكادرة التي يبلغ عمقها 12 متراً، ومياهها حلوة. وعلى مسيرة ستة كيلو مترات من هذه البئر في اتجاه الشمال الشرقي يوجد تل مرتفع يستطيع الواقف عليه أن يشرف على منظر بديع جداً لبحيرة مريوط، ومن ورائها يرى الإسكندرية.
من العامرية إلى بهيج
تبتدئ الطريق الرئيسية الموصلة إلى الغرب، ومن مفرق (العامرية - بهيج) الذي يقع إلى شمال محطة السكة الحديدية بنحو كيلو مترين، ومنه إلى الجنوب الغربي موازية لشاطئ بحيرة مريوط، وتفصل بينهما سلسلة صغيرة من التلال، وبعد اثني عشر كيلو مترا من المفرق تمر الطريق ببئر (سينة) وبعدة آبار أخرى.
ولكي نختصر الوصف نكتفي بذكر البلدان التي تقع على طول الطريق بعد ذلك إلى مرسى(308/37)
مطروح مكتفين بذكر البلدان التي لها قيمة تاريخية، وتتصل بها معلومات طريفة:
بهيج
هي مركز لقسم من هجانة الحدود، وبها مغازل (للأكلمة) اليدوية، وهي معروفة لدى المشتغلين بالآثار إذ تقع على بعد أحد عشر كيلو متراً تقريباً منها بلدة أبو مينا وهي سانت ميناس القديمة.
ويرجع تاريخ هذه البلدة إلى القرن الرابع الميلادي، وقد توفي فيها القديس سانت ميناس سنة 296 ميلادية. وتحتوي على كنيسة مبنية على الطراز الروماني وكنيستين أخريين صغيرتين وبعض مبان أثرية أخرى.
قصة غريبة
وللقديس سانت ميناس قصة غريبة إذ يقال إنه كان أحد الجنود الرومانيين الذين اعتنقوا المسيحية في زمن الإمبراطور دقلديانوس الذي أمر بذبح جميع المسيحيين إن لم يرتدوا عن دينهم. أما ميناس فقد أوقعوا به صنوف العذاب ثم قطعت رأسه سنة 296 ميلادية. لكنه كان قد أوصى قبل وفاته بأن يدفن في مصر، فلما نقلت الفرقة التي كان يعمل بها في لوبيا أحضرت معها رفاته تنفيذاً لوصيته. وسارت الفرقة في طريقها حتى إذا وصلت إلى الساحل الإفريقي نقلت الجثة على جمل فمشى بها في الصحراء حتى إذا بلغ هذه النقطة برك ورفض القيام. وكان ذلك بجوار بئر مياه، فاعتبروا ذلك معجزة، وتقرر دفنه في المكان نفسه وسمي باسمه، وبعد ذلك شيدت الكنيسة فوق المكان وعلى مقربة من العين.
أبو صبر الأثرية
هي مدينة كبيرة تقوم على المكان الذي كانت تقوم عليه مدينة (تبازير ليس ماجنا) القديمة وهي إحدى المدن الثلاث الشهيرة الواقعة بين الإسكندرية والسلوم. وهناك على ربوة صغيرة في أحد أطراف البحيرة عند اتصالها بالبحر يقوم بناء فخم قديم على الطراز المصري طوله 295 قدماً، وربما كان أحد معابد الآلهة (أوزيربس)؛ ولم يبق من هذا البناء إلا مدخله وبعض الحجارة المنقوشة، وتوجد على مقربة من المعبد آثار بعض الغرف والمدافن المحفورة في الصخر.(308/38)
منار فاروس الرومانية
على بعد بضع مئات من الأمتار من هذا المعبد كانت تقع المنارة الرومانية القديمة الشهيرة بفاروس، ولم يبق منها سوى قاعدتها وبعض آثارها.
أما المنطقة التي حول بهيج وبرج العرب فتكتسي في فصل الشتاء حوالي شهر فبراير بحلة جميلة من الزهور الزكية الرائحة تنبت طبيعية في الصحراء كما أن أرضها صالحة للزراعة، وأهم حاصلاتها الشعير، وتسكنها قبائل أولاد على ومنهم عدد كبير من الفرسان، وتمتد من برج العرب جنوباً طريق توصل إلى البحرية.
الحمام
هي بلدة تعد مركزاً تجارياً عظيماً للأغنام، والمياه فيها متوفرة وهي مشهورة بطواحين الهواء المنتشرة في جميع أرجائها، ولهذه البلدة تاريخ قديم، وكانت تعرف فيما خلا باسم (مانو كامينوس).
جامع سيدي عبد الرحمن
سميت باسمه محطة السكة الحديدية، ويقال إنها كانت قديماً مركزاً من مراكز السنوسية الشهيرة، ويحج إليها أعراب المنطقة، والجامع مبني على ربوة يشرف الواقف عليها على مناظر عظيمة للمنطقة المحيطة به.
الضبعية
وهي مركز تجاري كبير للبدو، وكانت تدعى قديماً (زيفر يوم)، وبها مبان لخاصة جلالة الملك ومركز للبوليس، ومبان حكومية وجامع. وتشاهد خيام العرب المسماة (بالخيوش) هناك بكثرة وبعضها مقام بحالة منظمة. ومن المناظر الطريفة مشاهدة الأعراب وهم يحرثون الأرض بمحراث يجره جمل بجواره حمار، أو جمل وحصان، والمحراث المستعمل هناك من الأنواع الخفيفة التي يحملها رجل واحد على كتفه.
ويصل المسافر إلى مرسى مطروح وهي عاصمة الصحراء الغربية وبها دار المحافظة. وسنتكلم عنها في المقال الآتي وهو الأخير.
عبد الله حبيب(308/39)
في ذكرى أربعين غازي في باريس
مصرع الصقر
للأستاذ أمجد الطرابلسي
أقبل الليل من وراء الدُّهورِ ... يتهادى تهاديَ المخمورِ
دغدغ الغابَ فاستكانَ إليه ... وسرت فيه رِعشةُ المقرور
وسجا تحت جنحه يعبث النَّو ... م بأجفاِنِه كطفلٍ غَرير
مثلما نام أَرْغَبٌ تحت جنح الأ ... مّ في ظلِّ عشّهِ المضفور
أقبل الليل مثلَ أَجْنحة العقْب ... انِ أو وجهِ بائسٍ مَقهور
يسحب الخَطْو مُتبعاً ويجرُّ الذَّ ... يلَ جراًّ على بَقايا النّور
وغفا الغابُ لا زئيرُ سباعٍ ... يتعاَلى ولا هتافُ طيور
ليس إلا النَّسيم يخطرُ هَوْناً ... خَضِل العِطفُ مُثقلاً بالعَبير
يتثّنى وسْط السُّكون مُطيفاً ... بِعشاشٍ هَنيئةٍ وَوُكور
كطيوف الأحلام تسرى خفافاً ... حول عذراَء في المهادِ الوَثير
يَمسَحُ الأعْيُنَ النّيامَ رَفيقاً ... ببَلالِ الندى ونشرِ الزُّهور
ويهزُّ الغصونَ حيناً فلا تس ... معُ في الجوِّ غيرَ خفْقِ السَّفير
رقدَ الغابُ في حمى الّليل عَيّا ... نَ يَعُبُّ الكرى بطرفٍ قرير
وتلاقى الآلاّفُ فيه على الصَّف ... وِ وناموا عن كامن المقدور
رقد الغاب كلّه غيرَ عيني ... ن تَشُعّانِ في الدُّجَى المنشور
شَرَدَ النّومُ عنهما في الدّياجي ... فهما للسّهاد والتفكير
تستشفّان مُخْبَآتِ الّليالي ... وتُضيئان حالكاتِ السُّتور
يا فتىَّ الصّقور! أيُّ مرام ... يَتَصّباكَ يا فِتيَّ الصقور!
لفَّ هذا الظلامُ أترابَكَ الصِّي - دَ ببردٍ من غبطةٍ وسُرور
أسلموا الأعينَ القريرةَ للحُلْ ... مِ وناموا عن كامِنِ المقدور
وسهرتَ الظلامَ في ذروة الدّو ... حِ تُديرُ الأحداقَ في الدَّيجور
ترمقُ الغابَ تارةً فتراه ... غارقاً في سُكوِنهِ والعُطور(308/41)
وتناجى السَّماَء حيناً فتسبي ... ك الدراريُّ بالحديثِ المُثير
جرد الصقور حوله من بياض الثلج ... جُنحينِ في ائتلاقِ الثُّغور
وانبرى في الفضاء يخترقُ اللي ... لَ بسَيْفَيْه كالشهاب المغير
زفَّ كالبرقِ وأمحى بعده الغا ... بُ وراَء المدَى وخلفَ البحور
ومضى في السماء يسمو إلى النَّج ... م بعزمٍ وسْطَ الظلامِ مُنير
أين تَسمو يا صقر في حُلكةِ اللي ... ل، وماذا يغريك بالتَّشمير؟
ما الذي نَفَّر الرقادَ وأذكى النَّ ... ارَ حَرَّى في صدرك المصهور؟
النهاياتُ، يا ربيبَ السّموا ... ت، تَطَوَّت لجنحك المحرور
وتوارت عنك الدّنى، وتواري ... تَ بعيداً عن طرفها المحسور
فإلى أين تَنطحُ الجوَّ يا صق ... ر وقد آذن السنا بسُفور
وصفا الكونُ ليس تَسمع فيه ... غيرَ همسِ النجوم وسطَ الخدور
رانياتٍ إليك يَرْمقْنِ جُنْحي ... كَ الطليقين في الفضاءِ السحير
يا مغيراً على السحاب تَرَفَّقْ ... بجناحَيْكِ والشباب الطَّرير
وبوكرٍ تركتَهُ في حمى الغا ... بِ مشوقٍ لعطفكَ الَمبرور
رَقَدَتْ زُغْبُهُ وَوَلّيتَ عنه ... نحوَ حُلْمٍ ضافي الظُلال نَضير
أينَ تمضي كالسَّهم في ثَبَج الأوْ ... جِ وتَرَقى في المَهْمَهِ المهجور
لم تدعْ في العَلاءِ بعدُ فخَاراً ... لصُقورٍ تَسمو ولا لنُسورِ
يا فتىَّ الصقور قد هبَّت الريح ... فهلاّ سمعتَ صوتَ النَّذير
أعولتْ توقظُ السحاب فتُزجي ... هـ على لؤلؤ الدّجى المنثور
أي حلم يغريك يا صقر حتَّى ... تتخطَّى إليه كلَّ خطير؟
تركب الليل نحوه راعبَ الوجس ... هـ وتغضى عن شرّه المستطير!
يا كبير المنى! أما كلّ جنحا ... ك الفتيّان في غلاب الأثير؟!
هل لمسراك يا بعيد الأماني ... في الدّجى من مُعرَّسٍ أو مصير؟
اسمُ يا بنَ الطموح! ما كلُّ صقرٍ ... يطلب العزَّ فوقَ هامِ البدور
ليس كل الشباب يفرح بالمج ... دِ ويَعتزُّ بالطموحِ الكبير(308/42)
اسمُ حتَّى يَرضني غُرُورك يا صق ... رُ بما نالَ. . . عاش ربُّ الغرور!
الشبابُ العظيمُ لا عاش يا صق_رُ قَنوعاً يرضى بكل حقير!
الشبابُ الكبير لا كانَ إمّا ... ضَمَّ عِطْفيهِ فوقَ قلبٍ صغير!
جُنَّت العاصفاتُ واضطرب اللي ... ل ودوّى فيه نَذيرُ الثبور
وتبارت فيه الأعاصير غَضبي ... مُعْولاتٍ تهزُّه بالزْئير
تستحثُّ الغيومَ من كلّ فجٍ ... كهضابٍ موَّارة وصُخور
وتَرَجَّى رحبُ الفضاءِ فما في ... هِ شُعاعٌ لمدلجٍ مُستنير
وأفاقتْ عيونُ كلِّ الفجاءا ... ت وماجتْ أرواحُ كلِّ الشرور
وانبرى البرق يصدع الدجية العمي ... اَء صدعاً بلمحِهِ المذعوِر
راسماً باللظى على صفحةِ الأف ... قِ وعيدَ المقدّر المسطور
والرّعودُ الغضابُ زلزلت الكو ... نَ بصيحاتِ ثائِرٍ موتور
قهقهتْ في السماءِ تَضحكُ لِلهوْ ... لِ وتُرغى كالشامت المحبور
لحظةً ثمّ فجِّرَ السّيلً دَفّا ... قاً يجوبُ الدّجى رهيبَ الهدير
تَتَلَوّى حباُلُه بيدِ الرّيح ... وتهمي بلا وَنى أو فُتورِ
يا لَهولِ القضاءِ خلف الدَّياجي ... وألاعيبِ صَرفه المستور!. . .
ساعةٌ كالوُجودِ في طولها المرِّ (م) ... ودنيا المعذَّبِ المأسور
مَزّق الفجْرُ هَولها فتجلَّتْ ... عن صفاءِ السنا وحُسن البكور
وإذا الغابُ أَدْمُعٌ ومَناحا ... تٌ على صقرِهِ أمير الصّقورِ
حَطمت جُنحه الأعاصير في الّلي ... ل فيا رَوْعةَ الجناحِ الكسير
ثم ألقتْ به الرياح إلى الغا ... ب فيا لَوعة الحِمى المْغدُورِ. .
يا ابنةَ المجد والمآثِرِ يا بَغ ... دادُ! يا مَفْخرَ الخلود الفخور
وسِّدي صقرك الصريع ضريحاً ... من جراحاتِ صدرك المفطورِ
واغمري بالزّهور والغار نَضراً ... قبرَ من عاشَ عُمْرَه كالزهور
واجعلي رَمسَهُ منارَ البُطولا ... تِ ورمزَ الهدى وكنزَ الشُّعور
فلقد كانُ حلمنا العذبَ نَرْنو ... لِسنا وجهِهِ الضحوك البشير(308/43)
ولقد كانَ قُرةً للمآقي ... ولقد كان خفْقةً في الصدور
تَتغنَّى به القلوبُ تَسابيحَ ... ويَهفو إليه كلُّ ضمير
إيه بغدادُ! أين مِنِّىَ قبرٌ ... ضَمّ أشْلاءُ حلمِنا المذْرورِ؟!
أنا أبكي له غَريباً فمنذا ... يُبلغُ القبرَ مَدْمعي وزفيري
في بلاد، لا القومُ فيها بقومي ... فَأُعزّي، ولا القصور قصوري
ولو أني هناكَ حيثُ فؤادي ... هائمٌ وحدَه وراَء البحور
في بلادي وملعبي وظلالي ... عندَ أهلي وجيرتي وعشيري
لنثرتُ الزهورَ من صدْري الدّا ... مي على قبرهِ الذّكيِّ الطَّهور!
يا مليكي! يا سِّيدَ الشام إرثاً ... عن أبيهِ المظَفَّر المنصورِ
أرأيتَ الشّآمَ أذْهلها الخ ... طبُ ومادتْ لنعيكَ المسْتَثِير
أمسكتْ قلبها الطَّعينَ بكَ ... فّيها وصاحت كالصارخِ المستجير
نسِيَتْ جرحها البليغَ المدَمَّي ... وشكاياتِ صدرِها المصهور
ونيوبَ الدّخيلِ تَفتكُ فيها ... فتكةَ الذّئب بالقنيصِ الأسير
وتَلَوّتْ مَحلولَةَ الشَّعرِ تبكي ... في مناخاتِ حُلْمِها المقبور
طالما جَمَّعَت لَك الزَّهَر النَّضْ ... رَ وهامتْ على ضِفافِ الغدير
وقَضتْ لَيلَها تصوغُ لكَ التا ... جَ وتمشي في قَيدها المجرور
لم تكنْ وهْي تَنسِج التاجَ تدري ... أنَّ مَنْعى آمالها في البكور!
لهفَ نفسي يا شامُ يا ملعبَ الأب ... طالِ، يا مَسرحَ الحسان الحور!
يا نشيدي في غُرْبتي ولحوني! ... يا حديثي في وحدتي وسميري!
أيّ أشباحِيَ الدّوامي أناغي ... في الّليالي وفي رُقادي النفور
تضحكُ الأرض والعوالمَ حولي ... وأنا في مواجِعي وسَعيري
كم أَتتْ بي إليكِ أخْيلتي الهو ... جُ سِراعاً في زحفها والكرور
تَتخطى المَدى فلا الموج يعتا ... قُ سُراها، ولا لَهيب الهجير
بجناَحيْن من هوايَ وإشفا ... قي شد يَدْين في اختراق الأثير
يا بلادي موجي على نَغَم الهوْ ... لِ وغَنِّي وسْط الدّم المهدور(308/44)
واضحكي للمصاب يَقتحم الغا ... بَ عسيراً على المصاب العسير
أنا أبكيكِ إذْ أُهَدهدُ بغدا ... دَ وأرثى لجنِحكِ المكسور
أنتما في الصفاء والدّمع أختا ... نِ رَبيا تمائِم وَحجور
ضَمَّ شَمليكما طموحٌ وآلا ... مٌ وأَمجادُ أَعصرٍ وَدُهور
يا فقيداً بكى لمصرعه العُرْ ... بُ بدمعٍ ملء الجفون غزير
وحدةُ العرب كم سهرت تناج ... يها مشوقاً لفجرها المنظور!
كم أقضَّت جراحة العربَ جنبي ... ك على مَهدك الهنيء الوثير
وشهدتَ الوعيدَ في أعين الذئ ... ب وكنتَ النصيرَ خَير نَصير
نم قريراً فوحدةُ العُرب سارت ... بسناها النّجومُ كلَّ مسير
وحدةُ العرب قد تَضوّعَ في الجوِّ ... شَذاها مثلَ الخميل النَّضير
وحدة العرب مَزَّقتُ حُجب اللي ... ل وشَعّتْ مِلَْء الفضاءِ المنير
ملأتْ شَمسُها النهارَ فمنذا ... ينكرُ الشمسَ غير كل ضَرير؟
يا لهزلِ المستعبدين! أَلَمّا ... يأنِ أن يَنظروا بعينِ بصير
عَبثوا والزَّمان جَدَّ وهاموا ... في مَوامي حُلْمٍ لهمْ مَغرور
وأقاموا الحدودَ بينَ الأشقّا ... ءِ، فيا حكمةَ العقول العُورِ. .!
أيها الساهرون للكيد في دُهْ ... مِ الليالي. . . يا خيبةَ التدبير!
قلِّبوا الرأَي كيف شِئتم خِداعاً ... واشتروا كلّ خائنٍ مأجور
وابذلوا الوعدَ كاذباً، واقتلوا الح ... ق، وغشّوا الضُّحى بليل الزور
لن تنالوا المنَى ولو قد أقمتم ... ألفَ سور وراَءها ألفُ سور!
أيّها العربُ حيث كنتم من الأر ... ضِ، ومن كلِّ مربضٍ وعشير
جمعتنا الدموعُ في مأتمِ الصّق ... ر، وكم وَحَّد الأسى من شعور
وبكينا حيناً ولا خيرَ في الدَّم ... ع إذا لم يُثر شَكاة الصّدور
فدعوني أَصرخْ فَيَسمعَ قومٌ ... أَنكروا قَوْلَةَ النَّصيح المشير
واستقادوا لكل أمْلَسَ رَوّا ... غٍ وهاموا بصاغَةَ التزوير
غَصّبتْ الكأسُ بالمظالم حتى ... أنفدَ الظلمُ صبرَ كلّ صبور(308/45)
فليكونوا أحلافَنا نُخلص الوُدّ (م) ... لهمْ في الشقاء أو في السرور
وليكونوا أعداَءنا نتلقَّفْ ... طعنهم في صُدورنا لا الظُّهور
لا نحبُّ الخداعَ في حَوْمَة العِزِّ (م) ... ونأبى ميثاقَ كلّ غَدور
عَرَبٌ نحن ما نَذِلُّ لباغٍ ... مُستبيحٍ ولا نَدينُ بنير
مِشْعلُ النّور ما يزال بأيدي ... نا مُشِعّاً رَغْمَ انطفاءِ العصور
وَحّدَتنا مَواجعُ القيدِ حيناً ... فارقبوا اليومَ وَحدَة التحرير!
(باريس)
أمجد الطرابلسي(308/46)
ذكرى
(إلى روح الشاعر م. ع. الهمشري)
للأستاذ صالح جودت
قال لي صاحبي، وقد جُنَّت الشم ... س فألقتْ بجسمها في الماءِ
ألَنا أنْ نسير حتى نرى الصُّبْ ... ح فنُفضي له بسر المساء؟
قُمْ بنا ننتهي إلى ضفة الني ... ل وعشب (الجزيرة) الفيحاء
خُطَواتُ النهار للناس، لكنْ ... خُطَواتُ الظلام للشعراء
نحن من نملأُ العقولَ ضياءً ... ما بنا حاجةٌ لنور ذُكاء
وانتهينا إلى الجزيرة، مغنى ال ... طير والزهر والرُّبى الغنَّاء
لَفَّها النيل في ذراعيه وانْسا ... بَ يُغنِّي لها نشيد الولاء
ورمَى الموج تحت أقدامها السُّمْ ... رِ دُعاباً، فأطرقَت من حياء
وتَعرَّت رضيّةً في يديه ... وتراخت تراخيَ الغيناء
ثم لما خاف الظنون عليها ... لَفَّها في ملاءة خضراء!
جنة الحب يا جزيرةُ شُطْآ ... نُكِ، مَلْهي القلوب والأهواء
جنة الخُلد، غير أن رُباها ... أمَّنَتْ آدماً على حَوّاء
أَمَّهَا شاعر من الخلد يَروي ... بالأغاني صَدَى القلوب الظِّماَءِ
وأَطَلَّ الهلالُ حيناً فألْفَى ... كوكباً في الضفاف حُلْوَ الضياء
وأطل الزمان حيناً فألفى ... أَجَلاً في الشباب جَمَّ الرجاء
وأطَلَّتْ عينُ الخلود فقالت: ... إن هذا مكانه في السماء!
يا رفيق الصبا، وهيهات نِسيا ... نُ الليالي المخلَّداتِ الصفاء
يوم كان الزمان كالزهر في الفج ... رِ، وكنا عليه كالأنداء
يومَ كنا نمَوِّجُ الماء ضِحكاً ... في ضفاف (المنصورة) الحسناء
لم نكن نعرف التواريخ إلاّ ... من وعود الحسان عند الوفاء
لم نكن نعرف العَشِيات إلاّ ... من غناء الكِرْوان عند المساء
ثم مَرّتْ من الزمان صروفٌ ... وهبطنا مدينةَ الضوضاء(308/47)
وبَدَأْنا الكفاحَ في عالم العيْ ... شِ ودنيا منازَعاتِ البقاء
فجعلنا لقاَءنا فَتَراتٍ ... يَنفدُ الصبرُ من خُطاها البِطاء
كم حَثثْنا تَسْيارَها، وجهلنا ... أنها تنتهي لغير لقاء!
أين هذا الشبابُ والأملُ الضا ... حكُ بين الخطوب والأرزاء
وأحاديثُكَ المليئةُ بالأح ... لام في عالَمٍ قليل الرجاء
كنتُ ألقاكَ، والحياة تجافي ... ني وإعصارها يهد بنائي
فإذا ما سمعت ضِحكتكَ العذْ ... بةَ، أحببتُ بَعدها أعدائي
وتَمشَّى السلامُ في جوِّ نفسي ... وتَطهرْتُ من طويل عنائي
وقرأتُ الحياة فيك كتاباً ... شاعريَّ الآمال والآلاء
وشباباً هو الربيعُ الموشَّى ... برقيق الظلال والأضواء
حين تبدو وعُرْوةُ الصدر في ثَوْ ... بكَ تزهو بالوردة الحمراء
واحمرارُ الحياة يُشعلُ خدَّي ... كَ، ونور الشباب في لأَلاء
تَطأُ اليأسَ باعتداء الأماني ... وتُذِلُّ الزمانَ بالكبرياء
وتُغنِّي، وتَنهبُ العيش نهباً ... شَأنَ من أُلهمَ اقتراب الفناء!
ها أنا عُدْتُ للجزيرة وحدي ... أتملاَّكَ خلف تلك المرائي
ومَضتْ قَبضتي تُصافح يُمنا ... كَ، فصافحتُ قبضةً من هواء!
وتَلفَّتُ باحثاً عن أماني ... ك، فلم تهدِني سوى الأشلاء!
غير أني أراك في شعركَ الخا ... لد روحاً تهيم بالإسراء
وأرى طيفكَ المغرِّدَ بين ال ... زهر والطير والرُّبى والماء
فأقول الخلودُ لله، واللهُ ... يريد الخلودَ للشعراءِ!
صالح جودت(308/48)
رسالة العلم
حبيبات المادة والكهرباء والضوء
للدكتور محمد محمود غالي
عندما نعمد في المساء إلى ترتيب ثيابنا، وفي الصباح إلى إخراج كتاب يُلازمنا طيلة اليوم، فالثياب أو الكتب مكونة مما نسميه مادة، كذلك الخزانة أو المكتبة اللذان يحتويانهما مكون كل منهما من مادة هي الخشب أو الكروم الذي تعمل منه الحلية في وقتنا الحاضر.
وتُزَّيَن حجرة استقبالنا بستائر مزدوجة من النسيج الشفاف ونحلي حوائط الحجرة ببعض الصور الفنية، فهذه الستائر وهذه الصور مظهر آخر من مظاهر المادة.
وتصلنا في الأعياد هدية من صديق حميم - تحفه جميلة أو كتاب قيم - هذه آنية من صنع سيفر، وهذا سِفْرٌ هو آخر نتاج (دي بروي) أو (برجسون) وموقع عليه بإمضائه. فالآنية والكتاب والتوقيع مظاهر مختلفة من المادة لكل منها وزنها الخاص وكتلتها المعينة، وهي بهذا مرتبطة بعلاقة معروفة مع الأرض التي نعيش عليها، فهي تجذبها بدرجات مختلفة تتناسب على قدر ما تحويه كل منها من مادة.
ونشعر في القيظ بمسيس الحاجة إلى كوب من الشراب البارد لنطفئ ظمأنا، فإن ما نجرعه من مياه، وما يحويه الماء من عصير الفاكهة، كله مظاهر للمادة، كانت لازمة لبقاء نشاطنا في هذه الفترة من العمل.
ونسوق عربة من طراز جديد هي قطعة رائعة من بدائع ما وصلت إليه مصانع أمريكا النائية، نقلتها إلى بلادنا بواخر ضخمة حملتها أمواج متلاطمة، فالسيارة والباخرة والمياه مظاهر متباينة للمادة.
وتجلس آنسة فتانة أمام المرآة تتزين (ببدرة) ناعمة، لعبيرها على النفس أحلى الأثر، وتتحلى بخضاب أحمر وكحل أسود، لهما على العين فتنة للنظر، هذه (البدرة) وهذه الألوان مظاهر أخرى للمادة.
ونلج حديقة المنزل فنتجول بين الزهور في أصفى أيام الربيع ونتنسم عبيرها المتطاير: هذه الزهور الساحرة، وهذا العبير الشجي الذي يخف لحاسة الشم فينا متواصلاً، هما مظهران من مظاهر المادة.(308/49)
ونبتاع علبة لفائف الدخان (السجاير) ونشعل واحدة منها، فيتصاعد الدخان على شكل كرات نرى بالعين مجموعاتها متراصة ومتتابعة، ونرى بالميكروسكوب جزيئاتها أكثر تفصيلاً ووضوحاً، فهذه العلبة وما فيها من لفائف، وهذه الملايين من الكريات المتصاعدة مظهران من المظاهر المختلفة للمادة.
وترزق مولوداً سعيداً يحمل أسمك وتهبه مجهوداتك، وتوليه محبتك، ويرث خصائصك وعلمك وتؤول إليه ثروتك: هذا المولود أيضاً من أعجب مظاهر المادة.
هذه المظاهر المتفاوتة في المادة وغيرها نصادفها في كل لحظة من لحظات حياتنا، وكذلك نصادف مظاهر الكهرباء أو الضوء في حياتنا اليومية، بل إن أجسامنا هي مجموعة لهذه المظاهر مجتمعة.
فهذه مركبة الترام تقلنا من المنزل إلى حيث العمل؛ فما يجري في الأسلاك الممتدة على طول الطريق خلال انتقالنا هو مظهر من مظاهر الكهرباء.
ونعود في المساء إلى المنزل فنستمع لبرنامج الإذاعة، ونتتبع أخبار العالم، هذه محاضرة شائقة وهذا لحن جميل، ونحن في هذا وذاك إزاء تَردِّدٍ كهربائي، تحول في داخل الجهاز، وفي اللحظة الأخيرة إلى تردد صوتي؛ فهو قبل كل شيء ظاهرة من ظواهر الكهرباء، وانتشار الأمواج الكهرومغناطيسية.
وتضغط زراً فتسطع الأنوار في الغرفة، هذه هي الظاهرة الضوئية في المصابيح هي ظاهرة كهربائية في فتيلاتها، ويتطاير في الثانية الواحدة من فتيلة المصباح من الإلكترونات ملايين المرات عَدد ما في أرجاء المعمورة من بشر.
وترى وأنت تخترق بسيارتك الصحراء في طريق السويس مثلاً السراب بوضوح تام فتظنه ماء وما هو بماء، هذه ظاهرة ضوئية ناتجة من انكسار الضوء على طبقات الجو المختلفة، هذا الانكسار الناشئ من اختلاف كثافة هذه الطبقات تبعاً لاختلاف درجات الحرارة. فهذا السراب وهذا الماء المزعوم ظاهرة ضوئية هذه (فوتونات) تصل إلى مقلة العين بسرعة الضوء.
وترى وأنت مطل من نافذتك تتأمل السماء في وقت منذر بالمطر قوس قزح عريضاً في السماء يمثل نصف دائرة كاملة، هذا القوس ظاهرة ضوئية ناتجة من انكسار الأشعة على(308/50)
قطرات الماء الرفيعة المحمولة في الهواء التي تمثل في هذه الحالة دور المنشور في عمليات الضوء المعروفة عندما يتحلل الضوء إلى ألوانه العديدة المعروفة، هذه أيضاً (فوتونات) تصل إلى العين، لكل لون من الألوان عدد من الذبذبات يؤثر في العين البشرية بتأثيرات مختلفة تجعلنا نفرق ونميز بين كل لون وآخر، هذا القوس وهذا التأثير على العين ظاهرة أخرى ضوئية.
هذه أمثلة مما نقابله كل يوم من مظاهر المادة والكهرباء والضوء، ويتراءى لنا أن كل مكونات الكون والخليقة يمكن إرجاعها إلى ظواهر مادية أو كهربائية (كذلك مغناطيسية) أو ضوئية، أو إلى ظواهر هي خليط من هذه الظواهر الثلاث.
كل هذه الظواهر يمكن الحصول عليها بمقادير متناهية في الصغر، هي التي نريد أن نتأملها ونستعرضها، وهي التي باتت تلعب دوراً فيما نالته العلوم الحديثة من طفرة وتقدم.
على أن أبسط هذه الظواهر هي المتعلقة بالمادة وتقسيمها إلى جزيئات وذرات صغيرة.
إن إرجاع جميع الأجسام مهما كانت صلدة ومهما كانت سطوحها ناعمة، إلى جسيمات صغيرة جداً مركبة تركيباً حُبيبياً فارغة من الداخل هي أول الأفكار التي تطرأ على الذهن. هذه الفكرة ترجع فيما يخص المادة إلى أقدم العهود، وقد تقدمت عن فلاسفة الإغريق، وعمرت على ممر العصور، وبقيت خلال كل التطورات العلمية المختلفة حتى توطدت في أوائل القرن التاسع عشر مستندة على براهين جديدة دعمتها وحققتها بطريقة لا تقبل الشك.
على أن الأفكار التي أدت إلى الفكرة الذرية للمادة مؤسسة في الواقع على ظواهر أولية تفهم بالبداهة ومن دون عناء.
فَثمَّ مجموعتان من الظواهر تؤديان إلى الفكرة الذرية للمادة:
المجموعة الأولى تنحصر فيما يمكن أن يطرأ على المادة من تعديل في شكلها الظاهري، وذلك بما لها من خواص المرونة كضغطها وانحنائها والتوائها، هذا التعديل الذي يصل في السوائل والغازات إلى أقصاه بما لها من سيولة كاملة تأخذ المادة في هذه الحالة شكل الحيز الذي تحل فيه، هذا النوع من الظواهر هو تعديل طبيعي في المادة أي أنه تعديل في مظهرها الخارجي.
أما المجموعة الثانية من الظواهر فتخص التغييرات الداخلية وهذه من موضوعات الكيمياء(308/51)
مثل التغيير الحادث بين العناصر لتكوين مركباتها؛ فالهيدروجين والأوكسجين يتحدان ليكونا الماء.
وكلتا المجموعتين تثبت فكرة واحدة هي أن الأجسام مكونة من جسيمات صغيرة صلبة، وقد أطلقوا على هذه الجسيمات الكلمة الإغريقية القديمة (أتوم)، أي الذرة ومعناها ما لا يمكن تجزئته. ومع ذلك فقد برهن التقدم العلمي الحديث على وجوب التفريق بين التعديلات الطبيعية الظاهرة والتغييرات الكيميائية، ففي الحالة الأولى لا دخل للذرات في هذه التعديلات الحادثة، وإنما الجسيمات المركبة منها هي التي تدخل في هذه التعديلات، وتسمى هذه الجسيمات وبذلك احتفظ بكلمة ذرة للجسيمات التي تتدخل في التغييرات الكيميائية. صغير من الجزيئي.
على أن العلوم الحديثة أدت إلى أن الذرة قابلة للتجزئة فأصبحت كلمة أتوم أي (غير قابل للتجزئة) لا تؤدي المعنى المراد منها، وعلى ذلك فإننا نتساءل عما إذا كانت هناك حدود للتقسيم المادي والكهربائي والضوئي يمكن عندها أن نقف عاجزين عن الوصول إلى تجزئتها إلى وحدات أصغر من التي نصل إليها.
إن كل معارفنا للعالم الخارجي تتطرق إلى أعماق نفوسنا عن طريق حواسنا، وكل تعريف لأي شيء أو ظاهرة في الوجود، مهما كان دقيقاً، لا يتعدى حدود قوة هذه الحواس على الإدراك والتمييز بين الأشياء، حتى خيالنا وكل ما يعرض في مُخيلتنا لا بد وأن يأخذ أشكالاً حِسية مختلفة. فهو بهذا مُعرّضٌ لنفس القانون الذي يحكم معارفنا للعالم الخارجي عنا.
إننا لا نستطيع أن نتخيل صورة في الكون لا يمكن إرجاع عناصرها المختلفة وأجزائها المتباينة إلى مسائل وأشياء اعتادتها حواسنا. على أن الرجوع بكل الفروض العلمية إلى حواسنا وقدرتها على التمييز والتفرقة بين الأشياء لا يمنع من أن نفرض أحياناً على الذهن صوراً لأشياء لا يمكن استيعابها بسهولة بهذه الحواس ذاتها، وهذا النوع من الصور تثبت صحته لا عن طريق الحواس وإنما عن طريق إثبات النتائج المترتبة على فرض هذه الصور، بمعنى أنه إذا اتفقت النتائج مع الظواهر الطبيعية المعروفة لدينا كانت هذه الصور التي افترضناها صحيحة.(308/52)
بمثل هذه الطريقة توصل العلماء إلى الشكل الحُبيْبي أو الذري للمادة وتجزئتها إلى وحدات أولى يسمونها الجزيئات وتجزئة هذه إلى وحدات ثانية يسمونها الذرات، دون أن تكون بحاجة لوضع إحدى هذه الذرات على كفة الميزان.
وبطريقة مماثلة توصل العلماء إلى التجزئة الكهربائية بل إلى قياس وإثبات شحنة الإلكترون كما توصلوا إلى التجزئة الضوئية، ومعرفة الفوتون.
وسنتابع في المقالات القادمة نشر العوامل التي أدت إلى الكشف عن هذه الحبيبات، والمكونات الأولى للخليقة فنستعرض بذلك صوراً رائعة مما توصل إليه العلم الحديث.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخاتة(308/53)
الأجرام السماوية ذوات الأذناب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
أبو تمام والمذنبات
كان الناس في القرون الوسطى يخافون من أكثر الظواهر الطبيعية ولا سيما المذنبات، وكان الملوك والأمراء وذوو النفوذ يأخذون برأي المنجمين قبل الشروع في أي عمل من أعمالهم. ويروى أن المنجمين كانوا حذروا الخليفة المعتصم بالله من فتح عمورية عندما عزم على الاستيلاء عليها، وقالوا له: إنا نجد في الكتب أنها لا تفتح في وقت نضج التين والعنب!
ولكن الخليفة الحازم العاقل لم يسمع لأقوالهم وسار بجيشه وفتح عمورية وكان انتصاره مبيناً. وهنا يأتي دور أبي تمام حبيب بن أوس فيمدح الخليفة المنتصر ويذكر له فتح عمورية في قصيدة خالدة يحمل فيها على المنجمين ويكذبهم في تنبؤاتهم واختلاقاتهم ويقول لهم: إن العلم الحق إنما هو في السيوف وليس في النجوم، وإن أحاديثهم كذب لا أصل لها:
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية، بل أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غَرب
ويظهر أن المنجمين كانوا خوفوا الناس عند ظهور المذنب سنة 837م - 222هـ أي قبل فتح عمورية بسنة واحدة فتراه يقول في ذلك:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وهذا المذنب هو مذنب (هالي)، وقد قال عنه ابن الأثير: (. . . وفي هذه السنة ظهر عن يسار القبلة كوكب، فبقي يرى نحواً من أربعين ليلة وله شبه الذنب، وكان طويلاً جداً فهال الناس ذلك وعظم عليهم. . .).
وبينما نرى أبا تمام لا يعبأ بالمذنبات ولا يعتقد بما نسج المنجمون حولها من خرافات وتنبؤات ويضرب بأقوالهم عرض الحائط نجد أن ملك فرنسا لويس الأول ابن شارلمان قد استولى عليه الخوف من ظهور المذنب الذي ظهر أيام المعتصم، وقلق لذلك أشد القلق، وبلغ به الفزع درجة جعلته يدعو المنجمين ليقولوا شيئاً عن هذا النجم (في رأيه) ولينبئوه(308/54)
عن خبره. فقالوا له إن النجم المشار إليه نذير من الله ينذر باقتراب أيام السوء لكثرة المعاصي التي يقترفها الإنسان. ويقال إن الملك منذ ذلك الحين أصلح حاله ورجع إلى الله فبنى الكنائس وشجع الأديرة. كل ذلك تسكيناً لغضبه تعالى.
وقد ظهر أيضاً مذنب (هالي) سنة 1456م ومر على مقربة من الأرض وامتد ذيله كالسيف المسلول، وكان ظهوره بعد فتح القسطنطينية وإيغال السلطان محمد الفاتح في أوربا.
ولقد تشاءم منه أهل أوربا، واتخذوا من ظهوره علامة سماوية على غضب الله تعالى؛ فلقد دخل العثمانيون القسطنطينية، وفر أهلها منها وامتد الفتح العثماني إلى البلاد الأوربية - فنسبوا كل ذلك إلى المذنبات كما نسبوا إليها كل ما يصيبهم من رزايا وفتن وقتل وخسف وغير ذلك.
المذنبات وأقسامها
والآن. نأتي إلى هذه الظواهر التي تظهر في أوقات مختلفة وفترات متباعدة.
ف ي الفضاء أجرام في أفلاك اهليليجية حول الشمس فتقترب منها ثم تبتعد عنها كثيراً، وهذه الأفلاك غير ثابتة بل تتغير من وقت لآخر. وهناك عوامل عديدة تؤثر في سيرها وفي موقعها ولعل جذب السيارات لها من أهم تلك العوامل.
ولهذه الأجرام ذنب طويل هو السبب في تسميتها (بالمذنبات) أو (ذوات الأذناب) يتكون من مادة لطيفة جداً لا تحجب رؤية النجوم الصغيرة التي ورائها (ولا يسري هذا القول على النواة) وهي ألطف من الهواء المحيط بالأرض ألف مرة. وتتألف أجسام المذنبات من رأس ونواة وذنب. فالرأس يختلف بحسب المذنب، فقد يكون صغيراً جداً حتى يرى كالنجم وقد يكون كبيراً جداً حتى يرى كالقمر. أما النواة فلا ترى دائماً في المذنبات ويرجح أنها مؤلفة من أجسام نيزكية صغيرة وقد تكون (كما في بعض المذنبات) لامعة جداً تضاهي لمعان الزهرة. وأما الذنب فهو مادة لطيفة على هيئة مروحة كبيرة تتجه نحو الجهة المقابلة للشمس، ويختلف طوله فقد يملأ الشقة بين الشمس والأرض. ويقول بعض علماء الفلك أن المذنب هو مجموع أجرام نيزكية يحيط بها ويتخللها جو غازي يجعلها منيرة وظاهرة (للعين) بسبب المجاري الكهربائية.
ويرجح بعض الباحثين أن نواة المذنب تتألف من أجسام نيزكية صغيرة؛ فإذا دنت من(308/55)
الشمس ارتفعت حرارتها كثيراً وخرجت منها غازات تدفعها أشعة الشمس بما فيها من قوة الدفع فتظهر وراء النواة مثل ذنب لها وتكون منيرة بنور الشمس. ويقول آخرون إن أذناب المذنبات تتولد من كهربائية تتكهرب بها دقائق المادة المنتشرة في الفضاء وتظهر كأذناب من نور وراء المذنبات. وهناك رأي ثالث يقول بأن هذه الأذناب ليست إلا ظواهر بصرية أي أن نور الشمس يخترق رأس المذنب ويظهر وراءه كذنب من نور.
ومن الطبيعي أن يكون لهذه المذنبات وزن ولكنه صغير جداً بالنسبة إلى الأرض أو السيارات إذ لا يزيد على جزء من مليون جزء من وزن أحدها.
أشهر المذنبات
تظهر المذنبات في أوقات مختلفة رصد العلماء منها حتى الآن أكثر من خمسمائة كلها تابعة للنظام الشمسي. وقد ظهر مذنب كبير في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد قيل إن طول ذنبه كان كبيراً جداً. وكذلك في سنة 1337م ظهر مذنب كبير، ومذنب سنة 1679م أفزع العالم وبقى ظاهراً أكثر من خمسة شهور وكان قريباً من الأرض. ويقال إنه في سنة 1770م ظهر مذنب شديد اللمعان اقترب من الأرض وكان له ذنب طويل جداً امتد في عرض السماء لمسافة 365 مليوناً من الأميال. وظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد مذنب عظيم جداً حسب (هرشل) الفلكي الشهير طول ذنبه فوجده أكثر من (100) مليون ميل وعرضه أكثر من (15) مليوناً من الأميال. وكذلك مذنب (أنكى) من أشهر المذنبات وهو يدور في فلكه كل ثلاث سنوات وثلث سنة. وقيل إنه في سنة 1826م كشف ضابط نمسوي مذنباً أطلقوا عليه اسم (مذنب بيلا) وقد فزع منه الناس واهتموا له. ووُجد أنه يدور دورة كل ست سنوات و (38) أسبوعاً وقد ظهر عدة مرات بعد كشفه. وفي سنة 1682م شهد (أدموند هالي) ظهور مذنب كبير وقد سماه العلماء (مذنب هالي) نظراً لاعتناء (هالي) بدراسته، وقد استنتج من حساباته أن هذا المذنب يظهر كل 75 سنة وتنبأ بظهوره سنة 1757م وقد حدث فعلاً ما تنبأ به. وفي سنة 1858م ظهر مذنب كشفه العالم (دوناتي) الإيطالي ودرس حركاته وطبائعه وكان شديد اللمعان وقد قيس ذيله فوجد أن طوله بلغ (40) مليوناً من الأميال وكان على وشك الاصطدام بالزهرة.
وظهر سنة 1861م مذنب هائل كشفه (تيوت) في سدني باستراليا وقاس قطر نواته فكان(308/56)
(400) ميل وذنبه مستعرض على غير نظام بلغت سرعته (10) ملايين من الأميال في اليوم. ويقال إنه في يونيو تلك السنة مرت الأرض في طرف ذنبه وشعر الناس بأشعة فسفورية. وهذا المذنب هو الذي أحدث خوفاً وجزعاً في لبنان فكانت العجائز يضرعن إلى الله ويسألنه العفو والمغفرة ويتوسلن إليه أن يرفع عن الناس مقته وغضبه.
الاصطدام بالأرض
قد يقترب مذنب من أحد السيارات وقد ينتج عن هذا انحراف في فلك المذنب. ولكن لحد الآن لم يثبت أي تأثير للمذنبات على السيارات أو على الأرض. ولا عجب في ذلك فكتلة المذنب إذا قورنت بكتلة أي كوكب كانت صغيرة جداً. ولقد سبق ومرت الأرض في ذنب مذنب سنة 1819م وذنب مذنب سنة 1861م ولم يقع عليها ما يؤثر على حركتها أو يزعج سكانها حتى إنهم لم يشعروا بهما. فلولا الحسابات الرياضية والفلكية لما عرفنا شيئاً عن مرورهما واصطدامهما بكرتنا. وإذا اتفق واصطدمت الأرض بنواة إحدى المذنبات العظيمة كنواة المذنب الذي ظهر سنة 1858م فقد تحترق الأرض من جراء ذلك. ولكن هذا بعيد الوقوع لأسباب ليس هنا محل ذكرها أو شرحها.
واستولى على الناس خوف عظيم في سنة 1910م عندما اقترب مذنب (هالي) من الأرض وكان من المحتمل جداً أن يصطدم بها وذهب بعض الفلكيين إلى أن هذا الاصطدام قد يكون بلاءً على الأرض ليس من ناحية تأثيره على حركتها بل من الغاز السام (السيانوجين) الموجود بكثرة في المذنبات. ولكنه بحمد الله مرّ المذنب ولم يحدث للأرض ما يفسد هواءها أو يسمم جوها.
وثبت من الرصد أن المذنبات التي كشفها الفلكيون ووقفوا على بعض تفصيلات تتعلق بحركتها وأفلاكها وأقسامها - تابعة للنظام الشمسي متحركة من أفلاك حول الشمس. وكذلك وجدوا أن بعضها لا تستطيع التماسك بل تتحطم وتتناثر إلى قطع كبيرة ومن ذلك تتكون طوائف تسير حول الشمس في اتجاه المذنب.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(308/57)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الصدق في الفن
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
في هذا الكون ظواهر غامضة يحاول الناس أن يتفهموها بعقولهم، فيعرجوا إليها بعكازات من هذه العقول البطيئة المتثاقلة، بينما يقفز بعض الناس إلى حقائق هذه الظواهر الغامضة بإحساسهم لا بعقولهم فيوفقوا إلى قوانينها توفيقاً من حيث لا يتكلفون ولا يتعمدون. ولعل أبرز ما تصدى له هذا الفريق من أهل الحس فبلغوا غايته، ثم لحقهم العلم بعد أجيال فقرر ما أحسوه، هو هذه النفس الإنسانية التي أحسها الكتاب والروائيون منذ آلاف السنين، فعرضوها في قصصهم وساروا بها في مناهجها الصحيحة؛ ثم خلفوها للعلم الذي أخذ يحاول في القرن الماضي فقط أن يتعرفها على أساس يطمئن إليه هذا العقل الشكاك الذي ينكر الحس.
وإذا كان أهل العلم يعرفون الفن بأنه التطبيق العملي للنظريات العلمية التي تحوم حول موضوع واحد، أو التي تدور حول مسألة واحدة، فإنا نرى في تعريفهم هذا ما يعزز الذي نذهب إليه. ذلك أننا نلحظ أن فنون الناس سبقت علومهم، فقد طار الإنسان على بساط الريح في قصص ألف ليلة وليلة قبل أن يركب متن الهواء في الطائرات والمناطيد بألف سنة على الأقل. وقد حول الإنسان الرصاص والنحاس إلى ذهب في خرافات الأقدمين قبل أن تحول المعامل (السلاؤون) الأحمر إلى ذهب في العصر الحديث. وقد استطلع الإنسان الغيب في كرة البلور الهندية ما شاء من الغيب قبل أن تنتهي الدراسة الجديدة إلى (التنويم المغناطيسي) بقرون وقرون. وقد مُسخ الإنسان قرداً عقاباً له على الشر في قصص القدماء قبل أن يعلن داروين نظرية التطور بدهور ودهور.
فكيف اهتدى هؤلاء (المخرفون) القدماء إلى هذه الحقائق التي لم يثبت أنها حقائق إلا بعد أن تغيرت الأرض ومن عليها؟ هل كانوا يطبقون نظريات علمية تدور حول موضوعات متفرقة فدار كل منهم بنظرياته حول موضوع؟ هل يمكن أن يكون هذا قد حدث مع تسليمنا(308/59)
بأن النظريات العلمية لم تتكشف إلا أخيراً؟
نعم! هذا هو الذي حدث، ولم يحدث شيء غيره، وإنما كل ما كان هو أنهم لم يعرجوا إلى هذه الحقائق بعكازات من عقولهم، وإنما طاروا إليها على أجنحة من إحساسهم. هم أحسوا هذه الحقائق، وبلغوها صادقين، وأعلنوها، وإن كانوا قد عجزوا عن إثباتها لمن لا يريدون أن يفهموا إلا بالعقول!
ومن هذا نرى أن صدق الإحساس يكشف للإنسان ما يستره المستقبل. فهذا الكاتب الذي طير الإنسان على بساط الريح في قصص ألف ليلة وليلة كان يحس أن الإنسان يستطيع أن يطير، هذا إذا لم نقل إنه كان مؤمناً بأن الإنسان سيطير. وهذا (المخرف) الذي حول الرصاص والنحاس إلى ذهب كان مؤمناً بأن هذه المعادن التي يشاهدها ليست إلا مظاهر مختلفة لشيء واحد يمكن إذا عدلت المؤثرات التي تؤثر فيه أن تتعدل الأشكال التي يتشكل بها. كان مؤمناً بهذا وإن لم يكن يعرف أن المادة ذرات، وأن الذرات كهارب، وأن الكهارب إلكترونات إلى آخر هذه الزحمة التي تشغل عقول العلماء. وهذا الهندي الذي اختلق في قصصه كرة من البلور ينظر فيها الإنسان فيعلم الغيب كان يحس أن في الإنسان هذه القوة التي تمكنه من الوقوف على ما يغيب عنه وهو في حالته العادية، ولم يكن يدري أن الإنسان سينوم أخاه تنويماً مغناطيسياً فيسأله عن بعض المحجوب عن عقله، وأنه يستطيع أيضاً أن ينوم نفسه ليصل إلى ما يريد. وهذا (المخرف) الآخر الذي رد الناس في خرافاته قردة كان يحس أن هناك عقداً تنتظم فيه الخلائق متتابعة متسلسلة من حلقة إلى حلقة كل حلقة أرقى من أختها وأشد تعقيداً. . وإن لم يكن قد قرأ كتب داروين.
كل هذه حقائق اهتدى إليها الكتاب بإحساسهم لا بعقولهم فنحن نعلم أن العقل لا يطمئن إلا إلى ما يثبت ثبوتاً صريحاً للعين والأذن والأنف وبقة الحواس المادية.
فإذا سايرنا أهل العلم وقلنا إن عمل العقل هو جمع هذه المدركات الحسية والنفاذ بها بعد توليفها إلى الحقائق الصحيحة، رأينا أهل الفن والحس المرهف أسبق من غيرهم في الوصول إلى هذه الحقائق الصحيحة؛ فنفوسهم تدرك من المحسوسات والمعنويات ما هو قابل لأن ينتظم في سلك واحد بأسرع مما تدرك النفوس المتعقلة المتشككة هذه الدركات نفسها. ولعل هذا هو ما يسميه المتصوفون (العلم اللدني) أي الذي يأتي من لدن الله فيهدي(308/60)
الإنسان إلى الصواب.
أما المتصوفون فيقولون إنهم يستطيعون أن يفسروا علمهم هذا، وأما أهل الفنون فهم غالباً يحتاجون إلى نقاد يصفون فنونهم ويفصلون ما فيها من الحق والبلاغة والجمال، فالفنان إذا أضيف إليه ناقده وشارحه كان مجموعهما إنساناً متصوفاً يهتدي إلى الحق بإحساس الفنان، ويضيء السبيل إلى الحق بدراسة الناقد وشرحه.
وقد أشعر بعد هذا التفصيل أن هذه المسألة قد وضحت بحيث أستطيع أن أتركها مطمئناً إلى ناحية أخرى من نواحي الصدق في الفن، فليس كل الصدق الفني متصلاً بالمستقبل، بل إن هذا الصدق المتصل بالمستقبل هو أندر ما يطالعنا به الفن من الصدق، وإنما يتجلى الصدق في الفنون جميعاً إذ تتصدى للحاضر. فهذا الرسام الذي يسجل الخصائص النفسية للشخص الذي يرسمه حين لا يخط بريشته على الورق إلا خطوطاً رآها في وجه الشخص المرسوم فأحس أنها تخفي هذه المعاني التي يعبر عنها بهذه الخطوط. . . وقد يكون عقله في هذا الطواف كله نائماً لا يدرك الصلة بين الخطوط التي يراها على الوجه والتجاعيد الصاعدة والهابطة فيه، وبين هذه الأحاسيس التي يحسها من يرى الرسم وبين هذه الخطوط التي قيدها على القرطاس. . . هذا الرسام من غير شك صادق الحس، صادق التعبير. وهو موفق في فنه ما دام صادقاً في إحساسه صادقاً في تعبيره، فإذا التوى على نفسه وحاول أن يدرس عقله في فنه لم يصب من هذا الدرس غير التعقيد يشوب الفن، والبعد ينحرف به عن الحق.
وهكذا الصدق في الفنون جميعاً - كما رأينا في الأدب والرسم - فهو دائماً عمدتها في الإحساس بالحياة كما أنه عمدتها في التعبير، وبمقدار ما في الفن من صدق يبلغ الفن شأوه الذي تحسده العلوم عليه، فهو الذي يوجه الإنسانية، وهو الذي يحصي لها خيرها ويحصي عليها شرها، هو ضميرها وروحها.
فإذا أراد القارئ أن أضرب له المثل بالموسيقى فناً يلزمه الصدق أيضاً - فقد تكون صلتها بالصدق متسترة - ذكرته بلحن المارسيليز الذي حرر فرنسا، فهو ليس سوى إحساس صادق بالحرية عربد في أنغام اختلفت في نفوس المستعبدين حب الحرية الصادق فعربدوا كما عربد النغم، وتحرروا كما تحررت روح منشده، وقد كان كل فرنسي منشده وراء(308/61)
مبدعه.
والآن فإني أظن القارئ الكريم قد بدأ يستسيغ هذا الذي عرضته عليه. وكم أحب أن يستعيد القارئ التفكير في هذه المسائل حتى تسري من عقله إلى روحه. ثم كم أحب بعد ذلك أن يبحث القارئ في ذاكرته عمن يعرفهم من الفنانين وأن يبحث بفراسته في أحوالهم، وأن يرى مدى الصدق في أعمالهم وأقوالهم، وأن يقيس هذا الصدق بما يصيبونه من التوفيق في فنونهم. ولست أريد بالتوفيق النجاح التجاري الذي يؤدي إلى الغنى المادي، وإنما أقصد به الإصابة الفنية التي يعتز بها الإنسان أمام ربه إذ تحسب في حسناته وإن لم تكن صلاة ولا صوماً لأنها أثر من آثار الصدق ومظهر من مظاهره، والصدق في النية، والأعمال بالنيات.
بالمشاهدة والتجربة يتضح أن أبلغ الفنانين فناً هم أصدقهم فعلاً وقولاً كما أنهم أصدقهم حساً.
وهذا الصدق كما أنه حس، فإنه خلق، وإذا كان لا بد لنا أن نلجأ إلى أسلوب العلماء لنثبت الحق في قولنا فإننا لا نكره أن نردد ما يقوله العلماء من أن كل خلق ينمو في نفس الإنسان بالتدريب والتمرين، والفنان الأمين على فنه المؤمن به الآمن له يوالي هذا التدريب ليل نهار، سواء فيما هو متعلق بفنه من الأعمال والأقوال وفيما لا علاقة له بالفن: ذلك لأن الفنان يكون دائماً من المؤمنين بأنفسهم، لأن نفسه ترزقه الحق وتلهمه إياه والحق من الله، ولو لم يدرك بعقله هذا الإيمان وسره. وهو لذلك يطلق روحه حرة صادقة في كل أعماله وأقواله لا يتكلف ولا يتعمل كما يتكلف ويتعمل بقية الناس، ولا يتلون ولا يتشكل في النهار مرات وفي الليل مرات كما يتلونون ويتشكلون، وإنما هو يتشكل ويتلون تبعاً لأحاسيسه الصادقة لا تبعاً لحكمة العقل الكذوب!
وأحسبني لست في حاجة إلى أن أثبت أن الناس كذابون، والناس كما نعرف عقلاء أو هم عقلاء كما يقولون، وهم الذين يتوهمون بعقولهم أن تصرفات الفنانين في حياتهم الخاصة والعامة تصرفات (شاذة) غير معقولة، وهي في الحق شاذة وغير معقولة عند عقل الخداع والغش، وإن كانت طبيعية ومنطقية أمام حكمة الحق.
والآن ما رأي القارئ في الرجل يوالي الصدق ويواصل التدريب عليه؟ ألا ينمو الصدق(308/62)
في نفسه حتى يملأها؟ وما رأي القارئ في الرجل امتلأ صدقاً؟ أليس هو رجل الجنة؟ وأنه رجل الفن!
عزيز أحمد فهمي(308/63)
الموسيقى المصرية القديمة
للأستاذ محمد السيد المويلحي
إننا حين نكتب عن هذه المدنية الموسيقية المصرية القديمة التي ترجع بالقارئ إلى ثمانية آلاف عام قبل الميلاد لا نقول ما قاله مندل البحاثة الألماني من أن هذا البحث من أظلم البحوث في التاريخ، ولا ما قاله العلامة الفرنسي فيلوتو من أنه بحث غير مثمر يضيع السعي فيه هباء، والكد فيه عبثاً؛ وإنما نقول ما قاله الدكتور محمد أحمد الحفني شرقي نال الدكتوراه في التاريخ الموسيقي (إنه بحث قائم على حقيقة ثابتة يؤيدها العلم والتاريخ وتنطق بصحتها الصور والنقوش).
وهذا حق فإنه لم يدفع مندل وفيلوتو إلى هذا القول اليائس إلا جهلهما بعلم الآثار المصرية فكانا يبحثان ويفحصان دون جدوى لأنهما لم يتوصلا إلى حل تلك الرموز حتى وافاهما أجلهما فلما حلت الرموز وكشفت المقابر عثر أثناء الحفر المتوالي على آلات قديمة كاملة أو قريبة من الكمال وعلى نقوش موسيقية دلت على حضارة بالعزة ومدنية موسيقية ناضجة وصلت إلى درجة تشعرنا أنها كانت مصدر الثقافة الموسيقية في العالم القديم فكانت إماماً للآشوريين واليونانيين والرومانيين والإيرانيين. وإذا علمنا أن ثقافة أوربا الموسيقية كانت أثراً من آثار الحضارة التليدة أمكننا أن نفخر بأن مصر - وحدها - هي التي تولت إذاعة هذه الحضارة والثقافة الفنية الموسيقية!
ولعل القارئ يعجب حينما يرى فيما سيراه من (الصور) تلك الصورة التي تظهر فيها فرقة كاملة بها عازف بالناي، ومغنّ، وعازف بالصنج، وعازف بالزمارة المزدوجة. . . في الوقت الذي كانت أوربا خالية من كل ثقافة علمية أو موسيقية. ولعل مما يؤيدنا في هذا أن الثقافة اليونانية القديمة التي ندين لها بالشيء الكثير حتى الآن كانت صدى للثقافة المصرية القديمة نقلها أرفيوس وأفلاطون وفيثاغورث عمن تتلمذوا على المصريين وأخذوا عنهم ثقافتهم الموسيقية. ولعل القارئ يعجب أكثر عندما يعلم أن أفلاطون كان يؤثر الموسيقى المصرية على الموسيقى اليونانية (موسيقى بلاده) وكان يصفها بأنها أسمى ما عرفه العالم من فن جميل هو جماع ما في الدنيا من صدق وتأثير وجمال وتصوير. . . حتى أن الأغاني المصرية كانت تنشد في اليونان في كل مكان وعلى كل لسان. . .(308/64)
لو نظر القارئ إلى الصورة رقم (1) لرأى ابن آوى يعزف بالناي الطويل ذي الثقوب العديدة. والناي المصري القديم خشبة طويلة مجوفة بها ثقوب جانبية تصوّت إذا نفخ فيها. ولا يظن القارئ أن المصريين توصلوا إليها طفرة واحدة فقد قطعوا مئات السنين حتى توصلوا إليها وهي قديمة عثر عليها من نقوش سبقت تاريخ الأسر.
أما الصورة رقم (2) فهي لآلة الجنك أو الصنج (الهارب) وهي عبارة عن صندوق مصوت من الخشب ثبتت أوتاره الكثيرة بأوتاد (تقابل المفاتيح في الآلات الوترية الحديثة) وقد قضت هذه الآلة أيضاً زمناً طويلاً حتى تطورت واستقرت كما ترى في شكلها كاملة ناضجة، وإذا علمنا أنها آلة وترية وأن الآلات الوترية هي أحدث أنواع الآلات الموسيقية أمكننا أن نلمس إعجاز قدماء المصريين وجبروت عبقريتهم وعظيم حضارتهم. . .
والصورة رقم (3) وهي التي قلنا عنها إنها تمثل فرقة كاملة فيها المغني والضارب بالجنك أو الصنج والعازف بالناي والعازف بالزمارة المزدوجة. وقد يتكرر أحد أفراد هذه الفرقة فترى أكثر من عازف للصنج أو الناي في الصورة الواحدة كما هو الواقع في شكل رقم (3).
إن الناظر إلى المغني في الشكل المذكور ليلفاه ملوِّحاً بيده في الهواء. ولا يظن أن هذا هراء فقد كان المطرب يستعين بهذه الحركة ليرتِّب الإيقاع وينتقل باللحن من نغم إلى نغم، ويقود عازف الناي أو ضارب الصنك. . . وكان لهذه الحركة أثر عظيم في الموسيقى المصرية القديمة حتى الغناء باللهجة الهيروغليفية كان يسمى (جِسِيْثْ إمْ جِرِثْ) ومعناه الحرفي (الموسيقى بواسطة اليد).
وتُرجِع أوربا أصل التدوين الموسيقي (النوتة) إلى حركة اليد وتسميها لغة إن التي ظهرت بعد أربعة آلاف سنة من هذا التاريخ هي الطريقة المصرية تماماً مع فارق بسيط. فمصر رسمت في الهواء باليد، وأوربا رسمت في الورق باليد!. . .
بل إنها لا تزال إلى هذا العصر تستعملها، وقد استعملها في مصر لتعليم الأطفال الدكتور الحفني فخلد لكل نغمة من النغمات السبع الأساسية التي يتكون منها السلم الموسيقي حركة خاصة تعرف بها وتدل عليها اليد وعممها في جميع مدارس رياض الأطفال. . .
وقد كان المطرب المصري القديم إذا غنى في وضع يده اليسرى تجاه أذنه وخده ليتمكن من(308/65)
التحكم في صوته فيتلاعب به كيف يشاء - كما هو الحال في البلاد الشرقية إلى الآن - وكما هو الحال مع المقرئين المبصرين والمكفوفين!
قلنا إن الآلات الوترية هي أحدث أنواع الآلات الثلاثة، فأقدمها هي آلات النقر ومنها القضبان المصفقة، والأذرع المصفقة، والأرجل المصفقة، والألواح المصفقة، والرؤوس المصفقة والأجراس والجلاجل، والشخاليل، والطبول، والستروم المنحني والناقوسي. وتلى آلات النقر أو الآلات الإيقاعية آلات النفخ كالناي والمزمار والنفير والفليدت الخ. . .
أما الآلات الوترية فمنها العود، والقانون، والكمان، والبيانو وقد استعاضت به أوربا في القرن السابع عشر عن العود لموافقته لموسيقاها وتلاحينها. . .
فإذن كان طبيعياً ألا نرى في النقوش القديمة التي عثرنا عليها إلا الآلات الإيقاعية وآلات النفخ وآلة وترية وحيدة هي الصنج؛ وليس معنى هذا أنه لم يعثر على آلات وترية غير الجنك وإنما المسألة مسألة زمنية طبيعية. . .
فالإنسان القديم لم يستعمل إلا تلك الآلات التي خلقها الله له في جسمه فاستعمل فمه في الغناء، ويده في التصفيق ورجله في الضرب على الأرض (وللآن تستعمل الرجل لضبط الوحدة) ثم تدرج شيئاً فشيئاً حتى وفق إلى صنع القضبان والأذرع والأرجل والألواح المصفقة وكان يصنعها من الخشب أو العظم أو العاج كما يتضح من الأشكال (4، 5، 6) أما الأجراس فكان يصنعها من البرنز على شكل البيضة، والشخاليل كان يصنعها من الخيزران المجدول على شكل الكمثرى (شكل 7، 8).
أما الستروم بأنواعه فهو نوع من الأجراس كان يستعمل للعبادة، وهو عبارة عن قضب منحن تخترقه أسلاك تلتوي من نهايتها في اتجاه عكسي سهلة الحركة تصطدم نهايات أسلاكها بجدران القضيب كلما حركه الإنسان (ش 9، 10) وكان استعماله مقصوراً على النساء (كهنة هاتور) وبعض الملوك.
وقد وصفنا من آلات النفخ القديمة (الناي). أما الزمارة المزدوجة (ش 11) فهي عبارة عن قصبة من الخشب تستعمل دائماً مزدوجة، وتعزف بها السبابة والوسطى؛ أما الخنصر والبنصر فتسندان الآلة من الخلف، والإبهام تسندها من الأمام. ولا تزال هذه الآلة تستعمل في ريف مصر إلى الآن.(308/66)
أما الآلة الوترية الوحيدة التي عثر عليها قبل تاريخ الأسر فهي الجنك أو الصنج، وكانت من النوع المنحني، وقد وصفناها قبلاً.
من هذا ومن الرسوم التي عثرنا عليها قبل تاريخ الأسر وبعده يتضح لنا إلى أي مدى وصلت حضارة المصريين في هذا الفن الجميل الذي فرض نفسه فرضاً على جميع المدنيات القديمة حتى رأينا كما قلنا كيف أن فلاسفة اليونان الذي ثقفوا ثقافة مصرية فضلوا الموسيقى المصرية، وعملوا جاهدين مخلصين - على شيوعها وإذاعتها في بلادهم - فكان لهم ما أرادوا فلم يبق ثمة بيت ولا إنسان إلا ودخل طائعاً مختاراً تحت راية الاستعمار المصري (الفني). .!
بل رأينا إلى أي حد بلغت عبقرية المصريين وقدرتهم الخارقة على الخلق والابتكار والوصول إلى صنع آلات إيقاعية ووترية ونفخ في وقت كان العالم كله يسير في ظلمات بعضها فوق بعض حتى هدته مصر بنورها وبثقافتها، وبعبقرية أبنائها الذين بسطوا نفوذهم وسلطانهم وملكهم على الأرض ومن عليها.
هذا كان من ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد. . .! أما الآن وقد تدرجت الدنيا في معارج المدنية وسارت الأرض في مسالك النور فقد أصبحنا وكأننا كنا نسير طوال هذا الزمن سيراً عكسياً متخلفين عن كل حركة إصلاح وحياة. . فثقافتنا أصبحت محاكاة، وموسيقانا أصبحت ترديداً للموسيقى الأوربية التي لا توافق ميولنا، ولا تتفق وخوالجنا، وقد وصل عجزنا في هذا إلى درجة أصبح فيها كل من يخلط ويمزج الموسيقى المصرية بالموسيقى الأوربية يسمى مجدداً.
أصبح كل من يضرب الرومبا، والتانجو، والكاريوكا، والفالس. . . الخ يعتقد أنه أتى بما لم تأت به الأوائل والأواخر.
أصبحنا لا نملك إلا الذكريات، ولا نفخر إلا بالذكريات، ولا نعمل ولا نتقدم ولا نسعى إلا اعتماداً على الذكريات. . . وويل لشعب لا يعيش إلا على الذكريات!
محمد السيد المويلحي(308/67)
القصص
أقصوصة من (أندرسن) القصصي الدانمركي
الأمير الراعي. . .!
للأستاذ صلاح الدين المنجد
عرَف عزّ المُلك وهو في رفاعة شبابه ونعومة إهابه، وأشرق نور النعيم في وجهه، وهو يتقلب على مفارش الحرير ونضائد الديباج، وضاحَك الحسان النواعم بين ضمائم العشب ولفائف الأزهار، وخلب قلوب الفتيات، فحلمن به كلما طفن في الغدو والرواح بهذا القصر الهادئ حيث يرتع الحب ويرف السعد ويتوهج النضار.
على أنه لم ينعم وا أسفاه طويلاً بالحب والجاه، ولم يذق هنيئاً طعم اللذاذات. . . فقد مات الأب الكهل، فتولى المال على مهل وأصابته جفوةُ الزمان، فعزف عنه الإخوان. . . وأضحى وحيداً في قصره الخالي الكئيب. . .
وكان يعلم أن على بعد مائة فرسخ من قصره أميرة رائعة الجمال فحن صبابة إلى لقياها، وأراد أن تكون معينة له على بؤسه، وشريكة له في عيشه. فأرسل إليها ذات يوم وردة نبتت على قبر أبيه تتفتح مرة في العام فتنشر شذاها فيتضوع في الأجواء ثمانية أيام، يفعم الناس خلالها فينسى الكئيب شجوه والمحزن بلواه. . .!
وكان في روضة الأمير عندليب يردد النشيد المهود في الأسحار فينبه النوَّم ويوقظ الوسنان. فأرسل به إلى الأميرة ليشفع له، فيحظى بالعطف وينال الرضى.
فلما وصلت الصناديق إلى الأميرة، وقد طُلي ظاهرها بالذهب وفوِّق باطنها بالخز، أصابتها هِزّة الفرح فتمايلت طرباً وقالت لوصائفها:
- لئن حسنت الهدية فوالله لأتزوجن المهدي. . .!
وفُتح الصندوق الأول ففاح العبير وسكرت الوصائف وقلن للأميرة: (ما هذا أيتها الأميرة من عبير الورد في الأرض. . . إن هو إلا من عبير الجنان. . .!)
فقالت لهن الأميرة:
- أهي من ورد الطبيعة؟(308/68)
فقالت وصيفة منهن:
- نعم يا أميرتي.!
فأطرقت الأميرة. ثم قالت:
- أواه. .! يا تعس حظي. . . ستذبل أوراقها عند المساء، فتطأها الأقدام عند الصباح. . خذوها، فما أطيق رؤية الجمال يذبل.
وفتح الصندوق الثاني. . .
وصدح العندليب بأغرودة أذهلت السامعين، وتهامست الوصائف، وقالت الأميرة:
- ما هذا؟. . . صوت مسكر. . . ساحر. . . غريب. . .! أرأيتُنَّ يا صواحبي. . . مثل هذا الطير قبل هذا اليوم. .؟
فأجبنها: كلا. . .
وقال شيخ من رجال القصر:
- لشد ما يذكرني هذا العندليب يا أميرتي، بمعزف الملكة السحري الذي كان بالقصر في ماضيات أيامي. فله رنين صوته، ورخامة نغْمه. . .!
فانهلت العيون تذرف الدمع لذكرى الملكة الراحلة. . . ثم قالت الأميرة:
- ترى أهو حي. . . أم ميت. . . ضعوه في الحديد. . .؟
فأجابتها وصيفة معربة:
- كلا يا أميرتي. . . إن الحياة تسمع من صوته الجميل. . . انظري إليه يا أميرتي. . .
فأطرقت الأميرة وقالت:
- دعوه يطير بين الزهر والشجر. . . وينتقل بين الأهاضيب والرياض. . . فما أريد أن أنصت إلى أنغامه تتلاشى. . . غداً إذا مات. . . أما الأمير الذي أرسل الهدية. . . فاطردوه!
وغرِض الأمير إلى رؤية الأميرة. . . ففكر وقدر. وإذا به يترك قصره ذات يوم، وقد خلع ما فخر به من الثياب، وارتدى ما سخف منها. . . ويذهب إلى قصر الأميرة، وبيده ناي. . . يطلب أن يكون راعياً لشاء الملك:
وأدخله الملك في خدمه، ومنحه قليدة من ذهب كتب عليها: (راعي القصر الملكي)(308/69)
وكان يسوق الشاء إلى المرعى التي تحف بالقصر. . . فإذا بج الكلأ بطونها. . . عاد بها، وهو ينظر إلى نافذة الأميرة. لعله يرى وجهها الصبيح. . .
واستيقظ أهل القصر ذات يوم. . . وإذا بأنغام رخيمة تتعالى من كوخ الراعي. فطربت الأميرة لها. . . وأرسلت الوصائف ليفتشن عن مصدر النغمات. . . فإذا بهن يجدن الراعي في كوخه الصغير. . . أما قدر علق في غطائها أجراساً صغيرة، وملأها ماء، ثم سلط عليها النار. فإذا بالماء يغلي. . . فيدفع الغطاء إلى أعلى. . . وإذا بالجلاجل تتذبذب فترسل الأنغام. . .!
وأخبرت الوصائف الأميرة بما رأينه وسمعنه. . . وزين هذه القدر للأميرة، فأتت إلى الكوخ، تتبعها الوصائف. . . لترى القدر المسحورة. . .!
وما كادت تسمع النغم. . . حتى صفق قلبها له. . . وقالت:
- ما أشبه هذا النغم بالنغم الذي عزفته بالأمس على البيان. اذهبي يا لينورا، وسليه أن يبيعنا هذه القدر وتلك الجلاجل. . .
وأتت الوصيفة إلى الراعي فقالت له:
- هل تبيع هذه القدر أيها الراعي. . .؟
قال لها وقد ضحك:
- نعم. . . أبيعها. . .
فقالت له:
- حسن. . . وكم تريد ثمناً لها. . .؟
- عشر قبلات. . . من الأميرة. . .!
- ويل لك. . . ماذا تقول. . . أمجنون أنت؟. . . أم. . .
- القدر قدري. . . والجلاجل جلاجلي. . . وهذا ما أريد. . . وعادت الوصيفة إلى الأميرة خائبة. . . قالت لها:
- ماذا طلب منك؟. . .
-. . . . . .
- تكلمي يا لينورا. . . تكلمي. . .(308/70)
- لا أجرؤ يا أميرتي. . . إنه مجنون
- وماذا قال لك. . .؟
وعادت القدر إلى إرسال النغمات فطربت الأميرة مرة أخرى وقالت:
- هيا. . . تكلمي. . . تعالي واهمسي في أذني. . .
- قال إنه يريد عشر قبلات من مولاتي الأميرة ثمناً للقدر. فصاحت الأميرة:
- يا للوقح. . . يا للسافل. . .!
- وغضبت، وأخذت تقطع الحديقة جيئة وذهوباً، ولكن. . ماذا تفعل؟ هاهي ذي القدر تعود إلى إرسال النغمات، وهاهو ذا قلبها يعود فيضطرب ويثور
ووقفت هنيهة. . . ثم قالت لوصيفتها:
- اذهبي إليه. . . وسليه إن كان يقبل أخذ الثمن منكن وذهبت الوصيفة إليه ثم عادت خائبة. . .
عندئذ قالت الأميرة:
- لابُدَّ مما ليس منه بد. . . أحضروه. . . وحِطن بي لكيلا يراني أحد. . .
وحفّت الوصائف بالأميرة. . . وأقبل الراعي. . . فقبلها عشر قبلات. . فيها الخمر والعسل المصفى. . وأعطاها القدر والجلاجل.
يا فرحتها آنئذ. . . لقد قضت يومها أمام القدر كلما نضب ماؤها. . . ملأنها والوصائف حولها يرقصن ويضربن الأكف بالأكف. . .
وأقبل الليل. وانصرفت الوصائف. . . وقالت لهن الأميرة:
- إيّاكن أن تخبرن أحداً. . . بما دفعته ثمناً للقدر. . .!
وقال الأمير الراعي لنفسه وهو ينصت إلى صلاة الليل:
- لقد حطمت كبرياءها يا نفس. . . وعرفت ما يغريها. . . فلن تجزعي بعد اليوم. . .!)
وتجرمت أيام وليال. . . وإذا بالراعي يبدع معزفاً ما طلبت نغماً إلا سمعته فيه. ومرت الأميرة بالحديقة ذات يوم، فقالت لوصائفها:
- لنعدلن إلى هذا الراعي، فلن نخلو من أعجوبة لديه. . .
وما كادت تقرب الكوخ حتى سمعت نغمات مشجية وسمعت الراعي يغني فنادت وصائفها(308/71)
وقالت لهن:
- اذهبن إليه وسلنه عما يريده ثمناً لمعزفه. . . ولكن. . . احذرن فلا قبلات ولا عناق. . .!
وانطلقت إحداهن إليه فسألته، ثم عادت كاسفة الوجه، مضطربة الشعور. . . فسألتها الأميرة:
- ماذا طلب منك؟
- إنه مجنون يا مولاتي. . . إنه يريد مائة قبلة. . .!
- آه!. . . ويله. . .! وقح. . .!
وفكرت الأميرة ثم قالت:
- لا بأس. . . عشر قبلات مني. . . وما بقي فمنكن
ولكن الراعي أصر ولم يقبل. . . عندئذ قالت: (أحضروه. . . فلن يراني أحد)
مسكينة أيتها الأميرة. . . فها هو ذاك الملك يحدق فيك. . . فإذا رأى ما رأى أقبل إلى الحديقة كالمجنون. . . فيطرد الوصائف. . . ويضرب الراعي. . . ويقول لابنته:
- هيا. . خذيه واذهبي. . . فلن أبقيكما في قصري بعد اليوم
وانطلق الراعي يمشي مع الأميرة على غير هدى. . . في أرض لا تموج بالنبات، ولا ترف بالندى. . . يؤذيهما السحاب الهتون، وتفزعهما الريح العصوف.
وتبكي الأميرة ذات يوم، وهي في واد أغن تستجم، وتقول للراعي: (لشد ما أنا بائسة. . . لو أني قبلت الأمير زوجاً. . . لكنت الآن في قصره. . . ولكنه كان غير. . .)
ولم يسمع ما قالته. . . بل أسرع واختفى تحت الغصون. . . فخلع ثوبه الممزق وارتدى ثوباً فاخراً كان معه. . . وجاء إليها فقال:
- هاأنذا أميرك الذي طلبت. . . ولكني لن أخفض لك جناحي اليوم. . . ولم أهب لك قلبي. . . فإن نفسي تشمئز منك. . . لم تقبلي الزوج الشريف ليكون شريكاً لك في حياتك. . . هه. . . لقد علوت يومئذ واستكبرت، واحتقرت الوردة والعندليب. . ولكنك انحططت وقبلت راعياً من أجل قدر. . .!
وداعاً. . .! وداعاً. . . فلن أراك بعد اليوم(308/72)
وانطلق الأمير إلى قصره وحيداً
لقد لحقت به الأميرة. . . وطرقت أبواب القصر. . . ونادته. . . ولكنه كان في شغل عنها، كان يقول لنفسه: (لماذا أطلب الغناء. . .؟ لماذا أطلب الكبرياء. . .؟ ألا سحقاً لهما. . . شرف وفقر خير من مال وكبر. . . أيها الحارس كن أصم. . . أيتها الجدران كوني عمياء. . . أيتها الأميرة حطمي كبرياءك وتعالي).
(دمشق)
صلاح الدين المجد(308/73)
من هنا ومن هناك
لماذا نضحك - عن (بورسيف) الأميركية
إذا رأينا طفلاً صغيراً يسقط في الطريق فهذا ولا شك لا يثير فينا شيئاً من الضحك.
ولكنن نضحك أو نتكتم الضحك، إذا رأينا رجلاً من ذوي المكانة يسقط على الأرض، وتجري قبعته الحريرية أدراج الرياح.
فإذا كنا نحمل شيئاً من الكراهية لذلك الشخص، فإن ضحكنا ولا شك يكون أشد وأكثر، إذ أنه في هذه الحالة يكون صادراً من أعماق القلوب.
لماذا لا تضحك إذا سقط طفل أو حصان أو امرأة عجوز؟ أنت لا تضحك لأنك لا يمكنك أن تتخيلهم منافسين لك أو متفوقين عليك. ولكن الرجل من ذوي المكانة والوقار، يبرز شخصيته على حسابك، ويدل عليك بمقامه في الهيئة الاجتماعية والشخص الذي تمقته لا تستطيع أن تنسى منافسته لك، وإن كنت لم تفكر في ذلك.
وخلاصة القول أنك تضحك لأنك تشعر برضائك عن نفسك. تشعر بانتصارك، وكأنك تقول في ضحكتك ما أشد سروري وغبطتي!
هذه حقيقة ليس فيها ما يضحك، ولكنك ستحس قوى حانقة تتحفز للدفاع عما يسمونه (طبيعة التفكه).
فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس من تناول الموضوع من الناحيتين: الضحك كما يقول هوس (هو تجلي النفس وصفاؤها) أما طبيعة التفكه فليست بالشيء البريء الذي يجلب السرور. فهي تحمل بذور شر لا شك فيه.
الضحك هو طريقك للتعبير عن زهو التفوق للعالم وللناس.
وزهو التفوق من الكلمات التي استعملها الفيلسوف الإنجليزي أنثوني لدوفيسي في بحوثه العميقة حول نظرية الضحك في كتابه أسرار الضحك، وقد أودعه مناحي كثيرة وآراء عديدة في هذا الموضوع لا نستطيع أن نستوعبها في مقال.
ويشرح زهو التفوق بقصة الضفدعة والكركي: وهي أن ضفدعة دعت كركياً لتناول الغداء، فلما أقبل على الطعام، وجد الضفدعة قد وضعته في إناء مسطح، فلم يستطع الكركي أن يتذوق منه شيئاً، وأقبلت الضفدعة فتناولت منه ما تريد، فعاد الكركي بدوره(308/74)
فأولم وليمة للضفدعة، فلما دنت لتناول الطعام وجدت أن الكركي قد وضعه في وعاء ضيق العنق، فلم تستطع أن تنال منه شيئاً، وأقبل الكركي فتناول كل ما فيه. ففي المثل الأول يتبين زهو التفوق في الضفدعة، وفي المثل الثاني يتبين في الكركي. قد تضحك لأسباب كثيرة تخرج عن زهو التفوق، ولكننا إذا دققنا النظر أمكننا ردها جميعاً إلى هذه الناحية. من ذلك ضحك الطفل حين نطارده، ويرتمي في حجر أمه. إنه ولا شك لا يتفوق عنا، ولكنه يشعر بأنه على مطاردتنا وتعلق بصدر أمه، فهو في هذه الحالة يضحك لأنه قد شعر بالغلبة والتفوق.
أما في القصص والروايات الهزلية فنحن نضحك لشعورنا بزهو التفوق مع شخصيات الرواية، إذا كانت لهم هذه الصفة. أما إذا كانوا على نقيضها فإن هذا النقص من شأنه أن يضحكنا لأنه يشعرنا كذلك بزهو التفوق.
لا تتزوج من حسناء! - عن سمشز ويكلي
إياك أن تتزوج من حسناء. هكذا يقول القصصي الذائع الصيت هـ. ج. ويلز. فالمرأة البسيطة كما يقول هي وحدها التي تستطيع أن تقوم بوظيفة الزوجية.
المرأة البسيطة هي التي تستطيع أن تحبوك بما تصبو إليه نفسك من عيشة هادئة وحياة مطمئنة. إذا لم تكن ممن قدر لهم أن يرتطموا في حب قديم يعاودهم خفية بالآلام الممضة إلى الأبد.
المرأة الجميلة تكون شغلاً شاغلاً لبعلها، فهو مسخر على الدوام لرغباتها ونزواتها، وهو عرضة من أجلها لحسد الحاسدين وحقد الحاقدين. ولو أنه لا تمضي عليه برهة من الزمن وهو على هذه الحال، حتى يعود فيحسد نفسه على أمسه الذي أفلت من يديه وذلك حين يظهر لعينيه ما كان مخبأ عنه من النقائص.
ويختلف الأمر عن هذا مع المرأة البسيطة، المرأة البسيطة بكل معاني الكلمة، فقد لا يمضي وقت طويل على بنائك بها حتى تظهر لك فيها محاسن كانت مغيبة عن عينيك: ابتسامة يحفها الخجل والبراءة تظهر من آن لآخر وتحتجب. نظرة ساذجة توحي إليك الدعة وترسل إلى قلبك السكينة. وحسب المرأة التي على هذا الطراز جمالاً أنها كلها لزوجها وأنها له كنز أمين.(308/75)
فإذا كانت لي نصيحة كرجل حنكته التجارب، وكانت نصيحتي تستحق العناية في هذه الأيام التي كثر فيه لغط الشباب، فنصيحتي لك أن تتزوج من امرأة تفوقك في السن، إذا كان لابد لك من الزواج. وأستطيع أن أقول في هذه المناسبة بعد تجاربي في الحياة وقد عشت فيها طويلاً: إنك قد تكون أكثر سعادة إذا تزوجت من أرملة. ويقول ويلز بعد تجارب السنين الطوال: يجب أن تكون المرأة التي تختارها لزواجك بسيطة بقدر الإمكان، ويجب أن تكون في سنك أو أكبر من سنك، عارية عن كل ما يسمونه المواهب الاجتماعية أو الثقافية مجردة من الأناقة المصطنعة، فقيرة إذا أردت أن تحتفظ بكرامتك.
ولويلز كثير من الآراء في المسألة الجنسية يذكرها في شجاعة وجرأة وقد صور في كتابه الذي ترجم فيه حياته صوراً وفصولاً صريحة عن تجاربه في هذه المسألة تتناول حياته الخاصة وملاحظاته الشخصية على الناحية الجنسية في العصر الحديث.
فيقول عن أول حادث وجداني وقع له وهو في العشرين من عمره إذ قبلته خادمة: إنني شعرت بلذة لم أشعر بمثلها في ذلك الوقت، وابتدأت أحس بالحرمان الذي أعيش فيه ويعيش فيه الكثيرون من أمثالي.
ويرى ويلز أن المشكلة الجنسية لا تختلف عن المشكلة الاقتصادية، فعلة كل منهما الامتلاك، ويرى أن تكون الروابط العائلية روابط جسدية فحسب، أما الشؤون الاقتصادية والثقافية ورعاية الأطفال، فيوكل أمرها إلى الحكومات.
نظام الجاسوسية في العصر الحديث - عن مجلة التيمس
الأميركية
تقوم الدول بتجارب عديدة لقواها الحربية من آن لآخر تنفق فيها أموال طائلة، وتستعد لها استعداداً عظيماً، وتعمل هذه التجارب في الجهات المجاورة لها عادة.
وهي في هذه الحالة لا بد أن تكون على علم باستعدادها الحربي قوة رجالها وأسلحتها والموارد التي تعتمد عليها. فيتصل الجواسيس بالقوات الحربية والبحرية للدول المختلفة، ويتصلون أحياناً بإدارات المباحث السرية لتلك الدول، ويتتبعون حركة الصحافة والتأليف ليستخلصوا منها ما يفيدهم في هذا الصدد.(308/76)
وقد أصبح عمل الجاسوسية من الأعمال الأساسية التي لا يستغني عنها في جميع الدول، وعلى الرغم من العقوبات الصارمة التي جوزي بها بعض الجواسيس فإن الإقبال على هذه المهنة لازال كبيراً.
وقد توجد الجاسوسية بين دولتين ليس بينهما شيء من العداء على الإطلاق ولا ينتظر أن يكون في المستقبل. ففي هذه الحالة يكون العمل موزعاً بين الرقابة العامة، وتكتفي بالتقارير الحربية التي ترد إليها من سفاراتها ومصادرها الخاصة، وبين الجواسيس المحترفين الذين لهم قوة الكلاب في شم أخبار الحوادث المحلية التي تقع في تلك البلاد، ومعرفة الفرص التي يمكن أن تستفاد بسببها.
ويقوم الجواسيس بأعمال هامة في البلاد التي يدخلونها، ولا يقتصر عملهم على تسقط الأخبار فحسب، فهم يعملون على إثارة الفتن والاضطرابات، وتشجيع روح الامتعاض والثورة والاعتداء على الأنفس والأموال.
والجواسيس المحترفون من الظواهر العجيبة في المدنية الحديثة فهم يستفيدون من وطنية الغير لأنهم خلو من الوطنية. وهم في الغالب أناس ليس لهم وطن ولا تعرف لهم بلاد، وذلك أنهم من عناصر مختلفة حتى إنهم لا يعرفون شيئاً عن أنفسهم أو لغتهم.
ويقومون بهذا العمل بادئ الأمر بإغراء المال وبدافع الحاجة، ولكن سرعان ما ينقلب الأمر إلى ميل طبيعي للمخاطرة والتهييج، وكراهية للشرف والكرامة، ورغبة شخصية في إضرار البلاد لأنهم لا بلد لهم.
لا صداقة للإسلام مع الاستعمار. عن جريدة الوحدة المغربية
الاستعمار ينتزع الحرية من المولودين أحراراً، وينتزع الملك من المالكين الأولين، ويمسخ الإنسانية إلى حيوانية سفلي فيجعل من المغلوبين مادة جامدة صماء بكماء عمياء، ويحصر همهم في التدحرج على فتاة الموائد الذي يفضل عن الأسياد الغالبين. وقد أصيبت به أمم الإسلام فكرهته ومقتته مقتاً عظيماً، وأخذت تعمل للتحرر منه ومن الدول التي تمثله مثل فرنسا وإنكلترا. وجاءت ألمانيا وإيطاليا متأخرتين إلى هذا الميدان، وأخذتا تنشران الدعاية ضد الاستعماريين الإنكليزي والفرنسي، ففهم الناس لأول وهلة انهما ستساعدان الشعوب الضعيفة على التحرر، ودخل في روع المغرورين أن إيطاليا ستترك المسلمين الذين أوقعهم(308/77)
سوء الحظ تحت يدها أحراراً مستقلين. فإذا بالزمن يدور دورته، وإذا بألمانيا تطالب بالمستعمرات، وتضع لاستعمارها أسساً (نازية) قوامها احتقار السلالات الملونة، ومنع تعليمها، وعدم السماح بالاختلاط معها؛ وإذا بإيطاليا تنقض على الأمم الضعيفة هنا وهناك، وإذا بتاج الحبشة وتاج ألبانيا يوضعان على رأس (الإمبراطور الجديد) محي مجد روما البائدة.
لقد كان من الممكن أيها الإيطاليون والألمانيون أن تحتلوا قلوب المسلمين لو لم تسيروا سيرة الفرنسيين والإنكليز والأميركان؛ أما وقد سرتم سيرتهم فلا مناص للعالم الإسلامي أن يناصب استعماركم العداء كما ناصب العداء استعمار غيركم من الدول الأخرى وثقوا جميعاً أنه (لا صداقة للإسلام مع الاستعمار).
أكثرت مذاييع السلطات الغربية في بلادها، وفي بلاد الإسلام المبتلاة بها من الدعايات المتعارضة لقصد التأثير على المسلمين. وقد أخذ كل منها يذكر عيوب الآخر وينشر محاسن نفسه. فمذياع إيطاليا يذكر عيوب فرنسا ويستدل عليه بمقالات الوطنيين المغاربة؛ ومذاييع فرنسا تذكر عيوب إيطاليا وتستدل عليها بمقالات المسلمين المدافعين عن حقوق الطرابلسيين والألبانيين والاحباش؛ ومذاييع إنكلترا تذكر عيوب خصومها، وكذلك مذاييع ألمانيا، والغريب أن كبار الساسة - تحت ضغط القلق الدولي - فقدوا التوازن في أعصابهم، واصبحوا يشجعون كثيراً من الأعمال الصبيانية التي لا نتيجة لها مطلقاً. ذلك أن المسلمين قد استيقظوا أو أفاقوا، وأصبحوا يعرفون من الغربيين المسيطرين على ما لا يعرفونه هم عن أنفسهم. وإذا كانوا ينصتون إلى هذه المذاييع فليس ذلك ليتأثروا بدعاية خاصة ويصبحوا في صف خاص، وإنما ليتمموا معلوماتهم عن الاستعمار الغربي بمختلف ألوانه وأشكاله. فلا إيطاليا بالغت فيما تدعيه على فرنسا، ولا فرنسا كذبت فيما تدعيه على إيطاليا مثلاً؛ وإنما الجميع سواسية في الإساءة إلى الإسلام واستعباد المسلمين، وجميع المذاييع الغربية المتعارضة تعتبر صادقة في نظر العالم الإسلامي اليوم.
وإذا كانت الدول الكبرى تتناطح على استرضاء المسلمين ليكونوا في صفها يوم الكريهة المنتظر فإنما ذلك لأنهم في حقيقة الأمر قوة دولية كبرى يجب أن يحسب لها حسابها في مستقبل البشرية وتحديد مصيرها القريب، والواجب يقضي عليهم أن يعرفوا قيمتهم(308/78)
الحقيقية ويقدروها تمام التقدير، وإن يعملوا متى أتيحت لهم الفرصة لحسابهم الخاص حساب العزة والحرية والمجد، لا أن يعملوا لحساب الغير فينتقلوا من يد إلى يد، ويستبدلوا غالباً بغالب! (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).(308/79)
البريد الأدبي
الأدب المصري في اللغة الفرنسية
يسرنا أن نذيع أن قصة (الأطلال) التي نشرها الأستاذ محمود بك تيمور باللغة العربية لبضع سنوات خلت قد نقلت إلى اللغة الفرنسية مع أقاصيص أخر للمؤلف نفسه، وظهرت أخيراً في باريس تحت عنوان وهذا مما يدل على قدر فن الأستاذ تيمور، وهو الكاتب المصري الذي عرف كيف يجيد السياقة ويحسن التصوير ويحكم الخاتمة فيما يبتدع من القصص على الطريقة الواقعية حتى إنه أصبح في مقدمة المهرة في فن القصة، وله أتباعه وله مقلدوه.
والترجمة الفرنسية صحيحة الأداء سليمة العبارة على غير تكلف ولا استكراه.
كتاب نفيس ينشره الأب أنستاس الكرملي
هو (نُخب الذخائر في أحوال الجواهر) لمحمد بن إبراهيم ابن ساعد الأنصاري السِّنجاري المعروف بابن الاكفاني (المتوفى سنة 749 للهجرة). ومزيته أنه يجمع كثيراً من العوائد الخاصة بالجواهر من لغوية واصطلاحية وطبية وعمرانية مما ذكره أكابر كتاب العرب مثل الكندي والجوهري والبيروني والغافقي إلى ما أتى به المؤلف نفسه.
وقد نشر الأستاذ الأب الكرملي هذا الكتاب بالدقة والتحقيق اللذين عودنا إياهما، إذ تعقب متن الكتاب فقرة فقرة فعَلق عليها بإسهاب متمكناً ثم أقام أحد عشر مسرداً (فهرساً) للموضوعات والأسماء على اختلافها والأوضاع اللغوية والحجارة والمعادن والأمراض التي تعالج بالحجارة الكريمة. هذا واعتماد الأب الكرملي في نشر الكتاب على نسخة قديمة سليمة رأى الأب العلاّمة الاستغناء بها عن غيرها مما هو محفوظ في خزائن الكتب لأسباب قويمة (ص 110) إلا أن مثل هذا الرأي مع تلك الأسباب - موضع مراجعة عند بعض العلماء.
نشأة الصحافة المصرية اليومية وتحولها
ذلك عنوان الرسالة العلمية التي نال بها الدكتور كمال الدين جلال، الصحافي المصري القدير، شهادة الدكتوراه من جامعة برلين. والرسالة ظهرت أخيراً في اللغة الألمانية، وهي(308/80)