حَيَاتُهُم لا يَستَسِيغُونَهاَ ... حَتَّى تُرَى شَاحِبِةً غَارِبَه
يَا عَجباً حِين يَلُوحُ الرَّدى ... تَلمَحُهُ أنفُسُهُمْ هَائِبه!
ابتَسِميِ يا نَفسُ لا تَعبِسي ... لا خَيرَ لَلعَابِسِ مِن دَهرِهِ
الحُرُّ لا يَأسَى عَلَى فَائِتٍ ... والدَّهرُ لا يَقْوى عَلَى قَهْرِهِ
هذا هُوَ الماضِي خُذِي وَحيَهُ ... واسْتَقبِليِ الغَيبَ عَلَى ذِكرِهِ
مَاضِيكِ لا تَذهَبُ أطيَافُهُ ... أو تُطفِئُ الأيَّامُ من بِشرِهِ
باَتَ مِن الأقدَارِ فيِ نَجوَةٍ ... هذا هُوَ المعُجِبُ مِن سِرّهِ
ما غابَ من عيش الفَتَى من أسىً ... لا يُقِدمُ المَرءُ عَلَى نَشرِهِ
أمَّا سَنَا الماضي فيوحي لَهُ ... ما كَرَّتْ الأيَّامُ، مِن نورِه
ما لَذَّةُ العَيشِ إذا ما خلا ... من رَوعِةَ الماضي ومِن سِحر
مَوتٌ من الموتِ بِقَلبِ الفتى ... نِسيَانُهُ السَّالِفَ مِن عُمْرِه
آليتُ لا آسَى عَلَى ذاهِبٍ ... أوْ أذْرِفُ الدَّمعَ عَلَى دَارِس
هواي لن أشقَى بِهِ بَعدَ مَا ... عِشتُ زَمَاناً عِيشَةَ اليائِسِ
سَّيانَ عنِدي بَعدَهُ ما أرى ... من بَاسِمِ الأيامِ والعابِس
لكنني أمِضي إلى غايَتِي ... أحنو على المحزُونِ والبائِس
أصِغي من الماضِي إلى ماثِلٍ ... من طَيِفْهِ في مِسمعِي هَامِسِ
أحيا عَلَى الذِّكرَى حَياَةَ امرِئِ ... ما كانَ من دُنَياهُ بالآيِسِ
إن فَاتَهُ فِيها لذيذُ الجَنَى ... كفاَهُ مِنهاَ لَذَّةُ الغاَرِسِ
عِندَ الثلاثين قفي وَانظرِي ... وَغَازِلِي يا نَفسُ حُلوَ الأمَلْ
مَن لَمْ يُشَمِّرْ للِمعَالَي فَتىً ... هَلْ يَعرِفُ العَزمَ إذا ما اكتَهَلْ؟
العَيْش في الدُّنيا قَليِلٌ فَهَل ... مِن مَوضِعٍ فِيِه لغَيِر الجذَلْ؟
كَم شدَّةٍ يا نفسُ مخبوءة ... وَلَذّةٍ في عَيِشكِ المُقَتَبلْ
لا تَلعَنِي دَهرَكِ أو تحَمِدي ... الدَّهْرُ لا يُسألُ عَمَّا فَعَل
هَّيا إلى الزورَقِ خُوضي بِه ... غِمَارِ هذي اللُّجَجِ القَاذفَهْ
لا تَطرَبي للرِّيح إن سْالمت ... أو تَرْهبي أنواَءهَا القاصِفه(294/60)
السَّبْقُ أن تَجرِي عَلَى ثائِرٍ ... وَالفَخرُ أن تَقتَحِمي العاصفه
الضفَةُ الأخرى إذا ما دنت ... لا تَنِفري مِن قُرْبَها خائفه
الخفيف(294/61)
رسالة المرأة
فن التجميل
للآنسة زينب الحكيم
التطور سنة الحياة، ومعناه النمو التدرجي والتكشف، ومعناه أيضاً نشوء الأشكال العليا من الدنيا في الحياة كما يقول القاموس
إذن نفهم من هذا أن كل شيء حي، وأي شيء يمت لذلك الحي بأدنى صلة، يسري عليه ناموس التطور التدرجي في الحياة. ومن غير الضروري أن نثبت منطقياً أو علمياً سلسلة تطور الإنسان مثلاً من عصور ما قبل التاريخ إلى البربرية الأولى فالثانية فالثالثة، ولا أن نعدد الأطوار التي قطعها حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. فلسنا في حاجة إلى ذلك في هذا المجال. إن هذه أشياء مقطوع بصحتها على الأقل من ناحية التدرج النشوئي الذي استغرق آلاف السنين
إنما الذي يعيننا هو أن نوضح أن الحياة في مختلف نواحيها تخضع للناموس ذاته؛ فكلما تطورت حالة الإنسان اختلفت بيئته وتغيرت طرقه ووسائل معيشته من تجارة وصناعة، وعادات ونظم، وتعاليم ومبادئ، وعلوم وفنون وغير ذلك
وفن التجميل ولو أنه يبدو فناً كمالياً، فانه في الواقع فن ضرورة ولزوم إذا أخذنا بالمبدأ القائل بسذاجة الطبيعة وأنها جرداء قاحلة ما لم نضف عليها من رائع خيالنا وبديع تصويرنا
فإذا وضحت النظرية الآن، وصح تطبيقها على الجمادات والعجماوات، فمن الضروري لزومها للكائن المفكر الذي يسوقه تفكيره إلى بلوغ أقصى درجات الكمال في كل شيء. ولا جناح عليه إذا لحظ أنه يعمل للارتقاء في جهات قبل أخرى، أو إذا تباينت درجات ذلك التطور، فهذه سنة الحياة ونظام تكوينها
وفن التجميل على هذا الأساس من اعرق الفنون وأكثرها حركة واشدها اقتحاماً. فالكوخ لم يبق ذلك الشكل الساذج، بل تحول وتحور حتى صار بيتاً، والبيت تطور وتطور على أشكال وأنماط. . .
والقدر لم يبق ذلك الإناء الضروري لحمل الماء أو غليه، وإنما تطور فتحور وهذب،(294/62)
واختلف أنواعاً وأشكالاً، ونقش تارة، ولون وزركش أخرى
وكذلك الناس تطوروا، ولم تعد المرأة تلك البربرية التي كانت تحمل نفسها الأحجار وقطع المعادن الثقيلة للتزين مثلا، وإنما تطورت زينتها إلى ما هو ألطف وأجمل
لهذا نقول: إن فن التجميل في كل العصور بالنسبة للمرأة في الشرق والغرب، يتغير مثله الأعلى بالنسبة لدرجة تطورها، وإن اتفقت بعض مظاهره في أشياء
فمثلاً من زمن بعيد كانت منضدة التزين هي المرآة التي انعكس عليها نشاط المرأة. وقد وجد المنقبون في بلاد أشور، وفي مصر، مناضد للزينة تكاد تكون محملة بضروب من وسائل الزينة، كما قد يرى على أفخم مناضد التزين اليوم في البيوت، وفي محال التجميل العامة
والتاريخ يبرهن، مع الأسف أو مع الغبطة، على أن الجمال لم يكن طبيعياً أبداً (وهذا يتفق مع النظرية التي أشرنا إليها في أول هذا المقال) ثم قرر العقل البشري إثبات ذلك في الشرق والغرب، بدليل ما اتخذه الناس من وسائل للتجميل، ومن تحايل لأسبابه انتفعت به النساء بوجه خاص؛ وإذا اختلفت وجهات النظر في ذلك، فإنما تختلف من حيث التقدم في التطور لا من حيث المبدأ
ففي الغرب اخترعت محسنات البشرة ولون الوجه وفق أسس فنية وعلمية. أما الشرق فقانع بهذه النتائج غير المتقنة، التي يمكنه الحصول عليها من أنواع الكريم والحناء، والكحل الأزرق الذي تكحل به الجفون من الداخل، فيحدث تهيجاً في العين بسبب ملأها بالدموع، ويجعلها شديد اللمعان، ويعتبر ذلك من الجمال، وهو خطأ مضر بالعين
ويستعمل الروائح العطرية القوية التي تضعف من أعصاب نساء الشرق البدينات فتزيدها وهناً على وهنها، وبالجملة فإن نساء الشرق لا يحسن استعمال وسائل تزين الغربيات، وكثيراً ما يخطئن في تطبيقها العملي، ويخلطن بينها مما يؤذي أجسامهن ويسيء إلى أخلاقهن بوضعهن الأشياء في غير موضعها
كل ذلك لجهلهن تراكيبها، وعدم دراستهن لأنفسهن بحيث يعرفن ما يلزم لهن، وكذلك لعدم استعمالهن مبتكرات بلادهن، التي تكون وليدة حاجاتهن، وما يتناسب مع طبيعتهن
إن غفلتهن عن التعليل المنطقي تجعلهن مقلدات مسرفات في التقليد، فكثيرات منهن قلدن(294/63)
وما زلن يقلدن النجمة السينمائية فلانة، والممثلة المسرحية علانة، وغاب عنهن أن زينة الفتاة الممثلة على المسرح أو السينما، لا يمكن أن تجعلها جميلة أو متزينة بالمعنى الذي يقصد من التزين، لأن المقادير الهائلة التي تصبغ بها وجهها، إنما يقصد بها أولاً أن تساعد على إظهارها بوضوح على المسرح الشديد الضوء، أو أمام أنوار التقاط الأفلام السينمائية، كيلا تظهر شاحبة ذابلة، غامضة الملامح إذا ما سطعت عليها تلك الأنوار القوية.
والصورة البشعة، التي نراها هنا وفي كل مكان من المعمورة بوجوه النساء، إنما تدل على الجهل الذي تحمل المرأة عنوانه على ابرز جزء فيها، مما ينفر من مزاولة فن التجميل الذي يعتبر من أرقى الفنون وأعرقها.
لو عاشت جدتنا لتسمع ما نقوله اليوم عن التزين، ولو رأت بعيني رأسها حال وجوه السيدات اليوم، لذهلت وطار لبها، لأنه ما كان يستعمل للتزين في أيامها إلا أنواع من الصابون الصحي غير المهيج للبشرة كصابون القطران والكبريت الممتازين.
بينما كان الرجال في ذلك الزمن، يوضحون رجولتهم بنحو قدم أو أكثر من لحية مربعة مهذبة حول ذقونهم.
أما وسائل التزين التي يعلن عنها بلا انقطاع في جميع المجلات النسائية وغيرها الآن، أو ما يسمع عن علاجات البشرة المختلفة وما شابه ذلك، فكان غير مألوف، ولم يطق سماعه أو السماح باستعماله السواد الأعظم من الناس في القرن التاسع عشر
وقد اعتبر استعمال الدهون وأصباغ الوجه - من أحمر وذرور وغيرهما - من الجرائم الخلقية. والغواية في المجتمع، واعتبر استخدام أصباغ الشفتين وتزجيج الحواجب من علامات الانحراف، ومنتهى التبجح، بل دليل الفساد والشر
لهذا طالما انتهرت الجدة العزيزة بناتها إذا ارتابت في حمرة وجنتي إحداهن، أو إذا هي صففت شعرها بأداة التجعيد المحماة. ولعمري ما عساها كانت تفعل الآن، إذا رأت بعض الفتيات االمتطرفات، اللائي ينمين أظافرهن حتى تصير كمخالب الحداة، أو يلبسن أحذية طول كعوبها أربع بوصات أو خمس؟! من غير شك كانت تثور وتفور ولها الحق، وليست معارضتها في هذه الحالات وأشباهها مما تؤاخذ عليه، والشيء إن زاد عن حده انقلب إلى ضده(294/64)
وفي الواقع، لا يوجد شيء تطور في العالم بسرعة مثل ما تطورت وسائل الزينة وطرق استعمالها
وأصبح استخدامها باعتدال وفن من التقاليد المرعية والعادات المقبولة.
فالسيدة التي تظهر بأظافر غير معتنى بها مثلاً، أو بشعر لا تظهر عليه دلائل العناية والتهذيب والتجميل، أو بوجه شائه وكان في استطاعة صاحبته أن تقلل من شوهه، تعتبر خارجة على التقاليد، مقصرة في حق نفسها، وفي حقوق المجتمع. وهل هذا العصر إلا عصر تجدد ونشوء؟!
لهذه الاعتبارات من جهة، ولإسراف السيدات وبعض الرجال في التزين الخاطئ من جهة أخرى، ارتفعت تكاليف التزين جداً، بحيث أصبح ما ينفق على وسائله من نقود مقادير لا تصدق بسهولة لو لم تثبت صحتها الإحصاءات الرسمية
لقد قدر الآن في الولايات المتحدة أن المرأة تنفق ثلاثمائة مليون جنيه في السنة على معالجة التجميل، والدهون من كل نوع. وقد قسم الإحصائيون هذا المبلغ الضخم بين أصباغ الشفاه، وأصباغ الوجنتين والذرور، ودهانات تغذية بشرة الوجه والكريم بأنواعه، وأصباغ الحواجب والأهداب، ودهونات الشعر وغير ذلك
أما في إنجلترا، فإن أرقام ما ينفق على هذه الأشياء ليست إلى هذا الحد من الغلو، والمصاريف في إنجلترا على التجميل خمسون مليوناً من الجنيهات، أو ربما كانت 70000000 جنيه
أما في مصر، فليست لدينا إحصائيات يمكن الاعتماد عليها في هذا الصدد، ولابد أن يكون الإنفاق في منتهى الإسراف، لأن مصر سوق دولية، والعرض كثير والمهارة في التصريف ممتازة، والعقول ساذجة، والإرادة ضعيفة في اغلب الحالات
كثيراً ما ألحظ وأنا أشتري شيئاً من الصيدلية، أو من متاجر الأدوية، سيدات يستغلهن مهرة الباعة فيها استغلالاً سيئاً، وكثيرات من السيدات يفوضن أمرهن للبائعة اللبقة، أو البائع ذي الحيلة لينصحا لهن بما يشترين، مما يكون أقوى أثراً في زينتهن
ولنا أن نتصور أي نوع وأية كمية من البضاعة يبتاع هؤلاء السيدات!
أما الحالة في العراق، فانه ولو لم أعثر فيه أيضاً على إحصائيات يستدل منها على مقدار(294/65)
ما تنفقه السيدات هناك على التجميل، فإني بما شهدته من تهافت المرأة، وطنية وأجنبية، على الأصباغ والدهون والعطور، والتغالي في عمل التواليت بوجوههن وأيديهن بل وأرجلهن، باستعمال أجود أنواع الزينة وأغلاها ثمناً، أستطيع أن أقول أن المبالغ التي يصرفنها حتماً تكون ضخمة.
ويأتي بعد سيدات العراق السيدات اللبنانيات
أما السوريات (وعلى الأخص الرشيقات) فكثرتهن لا يحسن استعمال هذه الأشياء، ولا يسرفن فيها
والسورية العادية لها طرق تزين أهلية، فتستعمل أنواعاً من تربة أرض بلادها وأعشابها، وتستعمل أنواعاً من الصابون من صناعات حلب. وبالضرورة قد تحتوي هذه الأشياء أنواعاً من العناصر الضارة التي تتلف الأجزاء التي توضع فوقها من الجسم، ولكن المرأة لا تبالي كثيراً بذلك لجهلها من جهة ولشدة اقتصادها من جهة أخرى، ولا تستطيع أن تدرك أنها تسرف من حيث تقتصد
أما المرأة التركية فتسرف في استعمال وسائل الزينة ولكنها تتزين بفن وحسن وذوق
والمرأة اليونانية الحديثة قد سبق لنا ذكر شيء عن زينتها، والأغلب عليها الاعتدال والبساطة في التجميل وفي النفقات
أما المرأة اليوجسلافية، فأشد نساء أوربا الحديثة تطرفاً، ولكن بحسن تصرف وإتقان، ويغلب عليها الإسراف الشديد.
والنساء الفرنسيات لهن شهرة معروفة عالمية في فن التجميل، ومع إسرافهن الشديد في عمل التواليت، وانفاق الكثير جداً على أسبابه، فانه مشهود لهن بالدقة والصنعة وحسن التصرف.
أما المرأة الألمانية، فتكاد تكون مسترجلة في هذا الصدد، والتزين الصناعي قليل عندهن، ولذلك فكثرتهن يعانين حياة سقيمة مع أزواجهن، ومن العجيب أن العلم وحده لا يفيد كثيراً في الحياة، فانه بقدر ما تمتاز به المرأة الألمانية من علم وثقافة، وتفرغ لفن الأسرة، بقدر ما يتعلل الرجل عليها. وهي تكلف نفسها فوق ما تحتمل النهوض به من مسؤوليات الحياة العملية، فتهرم قبل أوانها، ولا تحاول كثيراً أن تخفي هذه المظاهر بعمل التواليت.(294/66)
هذه إلمامة سريعة بفن التجميل بالنسبة للمرأة في العصر الحاضر، فهل كانت وسائله قديماً مشابهة لما تستخدمه الآن؟ هذا ما سنطالعه في الأسبوع القادم إن شاء الله.
زينب الحكيم(294/67)
رسالة العلم
النظام الشمسي للمادة
كلمة لازمة قبل التعرض للحياة
للدكتور محمد محمود غالي
تجزئه المادة والرجوع بها إلى علاقات زمنية مكانية - الذرة
في المادة تمثل نظاما شمسيا - أمثلة من هذا النظام في المواد
المختلفة
يرى القارئ وهو يقلب صفحات هذا المقال أشكالاً تشبه الأشكال التي كان يحاول كل منا رسمها وهو على مقاعد المدرسة عندما ملك كل منا لأول مرة بركاراً (برجلاً) للرسم، وقد يعتقد القارئ بادئ الأمر أن هناك خطأ مطبعياً لورود هذه المنحيات المنتظمة التي حاولها كل منا في حداثته وسط مقال يتعلق بالمادة وبالحياة ويحاول كاتبه أن يجد تفسيراً لهما، وبدهى أن تتملكه الدهشة عندما يطالع في عنوان المقال (كلمة لازمة قبل التعرض للحياة)، ثم يتأمل هذه الأشكال: ترى ما العلاقة بين المادة أو الحياة وهذه الرسوم المنتظمة؟ أية رابطة بين الكائن الحي وأغرب ما فيه الإنسان المفكر، وهذه المنحيات والقطاعات التي تذكرنا بعبثنا في حداثتنا. . . هذا ما سيجده القارئ بين هذه الأسطر وفي المقال الذي يليه
كل ما في الكائنات في حركة دائمة - عندما ترى قطرة ماء صافية على ورقة من أوراق الشجر وسط حديقة في يوم هادئ خف نسيمه ووجم كل ما في المكان من كائنات، قد يخيل إليك أن كل ما هو حولك في هدوء تام، والواقع أن أياً من هذه الكائنات، حتى نقطة الماء، بعيدة كل البعد عن هذا الوصف من الهدوء، فلا نقطة الماء في سكون ولا ورقة الشجرة التي تحملها؛ إنما السكون جزئي بالنسبة إليك وليس بالنسبة للكون. نعود إلى نقطة الماء فكل جزء منها مركب من ذرات من الأكسجين والهيدروجين، كل ذرة من هذه مجموعة شمسية تشبه الشمس والأرض وسياراتها التسعة وأقمارها
ليتأمل القارئ معنا أصغر ما في هذه المجموعة وهو الإلكترون يجده يدور حول نفسه ثم(294/68)
حول النواة مركز الذرة، كما تدور الأرض حول نفسها ثم حول الشمس، على أن هذه المجموعة من الذرات تكون جزءاً دقيقاً من الماء ذكرنا فيما تقدم أنه في حركة دائمة ذهاباً وإياباً، صعوداً وهبوطاً، بالنسبة لمجموعة الجزيئات الأخرى المكونة لنقطة الماء. هذه الحركة الأخيرة كبيرة جداً بالنسبة لحركة الإلكترون الدورية المتقدمة، حتى أننا نرى أثرها إن لجأنا إلى تلوين هذه النقطة بأية مادة كولويدية واستخدمنا الالترابيكروسكوب. على أن هذه الجزيئات المكونة للنقطة تدور مع الأرض حول محورها بل تدور مع الأرض حول الشمس - على أن الشمس بدورها تدور ومعها الأرض والسيارات التسعة دورة أخرى مداها حوالي 300 مليون سنة لتعود إلى وضعها الأول بالنسبة لمجموعة الشموس التي هي إحداها. على أن هذه المجموعة من الشموس ومنها شمسنا تبتعد في الحيز بالنسبة للمجموعات الأخرى المجاورة لها، وتبلغ سرعة ابتعاد بعض هذه المجموعات أو العوالم بعضها عن بعض 25 ألف كيلو متر في الثانية أي أنها تقطع في الثانية الواحدة مسافة كالتي تفصلنا عن الصين، وهكذا لو أردنا أن نبحث حركة الإلكترون، أصغر ما في نقطة الماء أو حركة جسيم آخر في الورقة الحاملة نقطة الماء، بالنسبة للحيز، لتملكنا الدهشة، ولأدركنا أن كل ما في الحديقة، على ما يبدو عليها من هدوء ظاهر، بعيد جد البعد عن السكون والراحة
إنما ذكرنا ما تقدم لأن العلوم اليوم تتقدم نحو مقصد جديد، ذلك أنها تحاول الرجوع بالأشياء إلى علاقات مكانية زمانية - وعندما يصل الإنسان إلى الرجوع بكل الظواهر إلى مثل هذه العلاقات، في الزمن وفي المكان، نكون قد اقتربنا من قمة العلم ونهاية المعرفة. أما وقد تعرضنا للحياة وهي التي تبدو لنا مظهراً من مظاهر المادة فلنحاول أن نعرف إلى أي مدى وصل بها العلماء في هذا السبيل.
قبل أن نتكلم عن المادة الحية كالخلية وجسم الإنسان ونبحث هل تمكن العلماء في تجديد جسيماتها بعلاقة مكانية زمنية يجمل بنا أن نشرح للقارئ إلى أي درجة وصلوا بالمادة الصماء (عادمة الحياة) إلى مثل هذا التحديد.
يتكون الجزئي للعناصر المادية كالحديد والذهب من مجموعة من الذرات وقد ثبت أن الذرة ليست أصغر ما في المادة، ذلك أنه أمكن عمليا فصل الإلكترونات عن الذرة وإثبات(294/69)
وجودها فيها، وقد تبين ذلك في بادئ الأمر أولاً لوجود ما نسميه الذرات المتأينة في المحاليل وهي ذرات فقدت أو اكتسبت إلكترونات وهذا ما يثبت وجود الإلكترون في الذرة؛ وثانياً لما يمكن أن تصدره الذرة من الإشعاع، وما دام الضوء موجات كهربائية فلابد أن هذا الإشعاع نتيجة لعملية كهربائية حدثت داخل الذرة نعلم الآن أنها حركة الإلكترونات أي ذرات الكهرباء داخل الذرة
ويطول الشرح لو أردنا أن نذكر للقارئ سلسلة التجارب الطبيعية التي تثبت ذلك. ولعل النتائج التي نشأت عن اكتشاف (بكارل) الفرنسي للنشاط الإشعاعي واكتشاف مدام كيري أستاذة السوربون للراديوم، لا تجعل اليوم مجالاً للشك في إثبات حقيقة تفتت الذرة الكيميائية وأنها تتركب من مركز رئيسي يسمى النواة ومن عدد الإلكترونات تدور حولها
هذا التركيب الذري كان وما زال هدفاً لسلسلة من الدراسات الطبيعية التي ترمي إلى معرفة النموذج الذي تتألف منه الذرة أي صورتها المكانية سواء فيما يخص النواة أو الإلكترونات التي حولها. ولقد كان للعالم الإنكليزي المعروف رذرفورد الخطوة الأولى لمعرفة هذه الصورة المكانية للذرة. وتنحصر دراسته الأولى في قذف الذرة أي ضربها بإشاعات مختلفة، ودراستها ودراسة هذه الإشعاعات بعد ذلك. وقد اثبت بهذا أن الذرة مجموعة لجسيمات منفصلة الواحدة عن الأخرى ولكنها مرتبطة بعضها ببعض بقوة جاذبية تعادل قوة دوران هذه الجسيمات حول الذرة وبعبارة أخرى اكتشفت (رذرفورد) في الذرة نظاماً شمسياً يشبه نظام مجموعتنا الشمسية، ولكن يختلف عنه في أن القوة الجاذبية في المادة قوة كهربائية بين شحنة موجبة وشحنة سالبة بينما القوة بين الشمس والأرض هي القوة الجاذبية النيوتونية أي بين الكتلة والكتلة
على أن نظريات (رورفورد) وغيره الخاصة بنماذج الذرات المختلفة لم يكن التقدم في كل حالة حليفها، فقد تقدمت تارة وعثرت أخرى، ونرى ونحن نطالع الآن اجمل باب تعثر عليه في فلسفة العلوم الطبيعية كيف اتخذ نظام رذرفورد الشمسي للمادة طريقاً متعرجاً غير مستقيم، وإن شئنا أن نسطر هنا ما صادف هذه الآراء من عقبات ووثبات لسطرنا نصف العلوم الطبيعية الحديثة، ولكن لا مناص من أن نلخص يوما هذه المسائل وهي من أبدع ما وصل إليه الفكر البشري من الجمال والتنسيق، عندئذ نذكر قصة بالمير ثم انتصارات(294/70)
بوهر الدنمركي الذي كان مساعداً لرذرفورد. فليست هذه من المسائل التي يجوز إغفالها، ونكتفي الآن أن نذكر أن الأخير وفق بين النماذج الشمسية لرذرفورد، وبين نظرية الكم للعالم الكبير بلانك ولبوهر تعزى فكرتان أساسيتان في الفلسفة الحديثة، الأولى تتلخص في أنه يجوز لنا أن نفترض كل الأقطار أي الأطوال في مسارات المجموعات الشمسية الخاصة بالعالم الكبير بينما لا يجوز لنا أن نفترض إلا أطوالاً معينة لمسار الإلكترونات. والفكرة الثانية: أن الإشعاع وفق آراء (بوهر) هو جهد حادث من وثبة للإلكترون حول النواة من مسار إلى مسار أقرب منه لها
إنما أذكر ذلك ليعلم القارئ أن النموذج الشمسي (رغم ما دخل عليه من تعديل بعد الميكانيكا الموجبة للعالم (دي بروي) لم يكن مجرد العلم التخميني أو النظري بل كان يتصل بكل الفروع الطبيعية الأخرى وبخاصة التحليل الطيفي، وعندما تتاح لي الفرصة لأطلعك على الانتصارات الكبرى التي حازها بوهر وغيره تصبح هذه الحركات الإلكترونية في المادة الصماء أمراً عند القارئ لا يقبل الجدل.
نعود للنموذج الشمسي ونترك البراهين عليها في الوقت الحاضر؛ فالذرة وفق (رذرفورد) مجموعة شمسية تتوسطها نواة كالشمس شحنتها موجبة وتدور حولها إلكترونات كالسيارات التسعة شحنتها سالبة، ويصح أن تحوي النواة عدداً من الوحدات السالبة تتعادل مع عدد من الإلكترونات، وكلما كانت النواة ثقيلة زاد عدد وحداتها الموجبة. وأخف ما نعرفه من النواة نواة الهيدروجين التي تحوي شحنة واحدة موجبة يدور حولها إلكترون واحد كالأرض يتبعها القمر. أما الهيليوم فلنواته شحنتان وبالتالي يدور حولها إلكترونان، ويحضر الذهن بعد ذلك في جدول العناصر الليتيوم الذي لنواته ثلاث شحنات ويدور حولها ثلاث إلكترونات كما هو مبين بالشكل (1)
ولقد أمكن البرهنة على أن واحداً من الإلكترونات الثلاثة لا يجتمع مع الآخرين في غلاف واحد (الغلاف الجزء المحدد بالمسار) وهذا الإلكترون الثالث يشبه في هذه لمجموعة الشمسية الصغيرة كوكب بليتون في مجموعتنا الشمسية الكبيرة، والذي ذكرنا أنه يدور بعيداً جداً عن الشمس ويتم دورانه في 252 سنة وهكذا كان لذرة كل عنصر عدد من الإلكترونات يتزايد من عنصر لآخر حتى نصل إلى الذرات العليا مثل الرصاص الذي(294/71)
يدور في غلافه 82 إلكترونا وهو بذلك مجموعة شمسية معقدة. كذلك الايرانيوم وتعد ذرته أثقل الذرات إذ يدور حول نواته 92 إلكترونا ولعل هذه الكثرة هي السر في عدم اتزانه وفي كونه المواد المشعة
وفي (الشكل 2) مثال آخر لنموذج ذرة النيون وهو الغاز الذي استعمله لأول مرة جورج كلود أستاذ كلية فرنسا والذي يكثر استعماله في الإعلانات في المساء فتملأ أنابيبه شوارع القاهرة. وفي هذا النموذج ترى للنواة مسارين لإلكترون وثمانية مسارات لثمانية إلكترونات أخرى
هذه هي المادة كما يراها العلماء وقد ذكرنا في مقالنا السابق أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية (الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت) وإن العلماء يعتقدون أنه قد حدث في وقت من الأوقات أن مجموعة من هذه الذرات ترتب بطريق الصدفة بالطريقة الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وتساءلنا هل المادة الحية مجموعة من الذرات أو مجموعة من الذرات مضافاً إليها الحياة؟ وقد بدأنا اليوم بهذا الوصف للمادة وفق آراء العلماء، وبقي لنا أن نتناول المادة الحية ونعرف في أي الأوجه تختلف عما وصفناه
لقد اعتدت أن اعد القارئ في آخر كل مقال بما سأتناوله في المقال الذي يليه وإن ادله عند الوصول إلى خطوة بلغناها على الطريق الذي تبعها في استعراض هيكل العالم وسير الحقائق. على أني أتقيد هذه المرة بتناول موضوع الحياة بعد أن انتهينا اليوم من وصف المادة وصفاً كان لازماً لتناول مثل هذا الموضوع. وها قد وصلنا معاً إلى طريق وعرة ولكني سوف لا أدخل بالقارئ مكاناً أشعر انه لا يتعلم منه شيئاً جديداً. وإني أنتهز الفرصة لأقدم شكري للذين أرسلوا أليّ كلماتهم الطيبة بخصوص هذه الجولات، وسأواصل جهدي على صفحات الرسالة في تبسيط ما نصل إليه من المعرفة
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة، دبلوم(294/72)
المهندسخانة(294/73)
رسالة الفن
بركسيتلس
للدكتور أحمد موسى
كان للانقلاب المدني الذي جلبته حرب البيلوبونيز (431 - 404ق. م) وتطور العقلية والنفسية الإغريقية أثر عظيم في النهوض الفني واتجاهه. ولذلك يمكن اعتبار المدة المحصورة بين نهاية تلك الحرب وبين عصر إسكندر الأكبر (400 - 330ق. م) مدة (الازدهار المتأخر) أو (عصر الرفعة الثاني).
ولا يهم مؤرخ الفن المشتغل بالأركيولوجية الإغريقية أن يتناول في مقال كل ما أحاط بالحياة الإغريقية من سياسية واجتماعية إلى مدنية إلى حياة خاصة بسبب الحرب؛ وإنما يهمه أن يتلمس النتائج التي ترتبت عليها في الآثار الموجودة أو على الأقل بين دفات الكتب الموثوق بقيمتها العلمية كمراجع يعتمد عليها ومصادر أثبت البحث صحة ما جاء فيها.
ولما كان الفن الإغريقي قد اتجه في النحت بعد حرب البيلوبونيز اتجاهاً صادق التعبير عن التغير والمنهج الجديد الذي مال كثيراً وفي وضوح إلى تمثيل الفردية بعد أن كان ممثلاً للجماعات؛ فقد جاء من حيث الجوهر أقوى إفصاحاً عن النظرة الشخصية للفنان.
ولذلك - ولا نبعد عن الصواب - نجد أن التماثيل في مجموعها انتقلت انتقالاً هائلاً من ناحية تعريفها للحياة في صدق ومحاكاتها للطبيعة البشرية في قوة، لما ظهر عليها من حسن التكوين والحركة، كما تمكن الفنان من التعبير عن خوالج النفس، وهذه ناحية لم تكن إلى هذه المرحلة مما يستطاع تمثيله أو محاكاته ولا سيما أن المشاعر النفسية والعوامل التي يتأثر الجسم منها تأثراً يبدو في حركته وينعكس على ملامح الوجه، مما لا يتاح لنحات أن يخرجه إلا بعد وصوله إلى درجة عليا من المقدرة الفنية
فبينما نرى اهتمام الفنان كان قبل هذه الآونة متجهاً نحو تمثيل المقدرة والشجاعة والقوة، نراه في هذه المرحلة أكثر ميلاً نحو صدق المحاكاة ومراعاة التعبير عن النفسيات،(294/74)
والرغبة في التأثير على المشاهد بإشراك حواسه في الاستمتاع والسمو قبل الشعور بالرهبة والتأثر بالعظمة.
وهذا ما انبني عليه تقهقر النحت التذكاري والتجسيم المعماري وتقدم التماثيل المستقلة ذات الفكرة المحدودة. وهكذا ترى انتشار التماثيل الرخامية (لاسيما في اتيكا) واختفاء غيرها من تلك التي كانت تنحت من سن الفيل والذهب، هذا فضلاً عن الكيفية التي سار عليها النحات لإبراز التفاصيل دقيقة وإظهار القدرة في القطع الرائع.
تم هذا على أيدي فنانين مبدعين الذكر منهم ديمتريوس وسيلانيون الأثيني وسكوباس الذي يعد أول نحات إغريقي في القرن الرابع قبل الميلاد. كما يعتبر في مقدمة زعماء المدرسة الأتيكية الحديثة.
بعد هذا التطور وفي وسط هذا المحيط نشأ الفنان العظيم بركسيتلس بن كيفيسودتس الذي ينتمي إلى عائلة أتيكية. وكان أصغر سناً من سكوباس فرأى الكثير قبل البدء، كما أنه أقام معظم سني حياته في أثينا حتى عصر إسكندر الأول، وقد خلدت شهرته كنحات للرخام دون غيره بالرغم من أن له بعض قطع عملها من البرنز
وبدراسة ما تركه هذا النحات الفذ نحصل على قسط وافر من ميزات طابعه الشخصي الذي يتلخص في أنه عنى عناية فائقة ونجح نجاحاً باهراً في التعبير عن الجمال النابض، واختار مادته منه في ربيع الحياة، فمثل الشباب تمثيلاً رائعاً خلاباً وأبرز أسمى صفاته وهي الصبا والزهو والقوة والنشاط وحسن التكوين.
وهذا لا يمنع من وجود بعض القطع التي مثلت ناحية الجد والنضوج، فجمع بين حالتين جعلت منه أستاذاً في تصوير العوامل النفسية دون نزاع. كل هذا بالنظر إلى الدرجة العليا التي وصل إليها في هذا المجال؛ فمن الهدوء إلى الحركة ومن اللين إلى العنف فضلا عن أنه جاء بجديد له قيمته العظمى في دراسة فن النحت، فقد استطاع الجمع بين التكوين الجسماني في وضع ما، وبين ما يلائم هذا الوضع من ملامح ترتسم على الوجه وتنسجم مع تكوين الرأس فكأنه اكسب رؤوس تماثيله حياة اتفقت مع تمثيل الواقع، وانسجمت مع المجموع الإنشائي، فجاءت دليلا على أن الفنان بلغ الذروة في دقة الإخراج من ناحيتيه الفنية والعملية، كما أنه سار بالنحت خطوات واسعة نحو التأنق في التكوين.(294/75)
أما من حيث الناحية الإنشائية فانه كان واسع الأفق غير محدود الخيال، فأخرج إلى جانب تماثيل الآلهة تماثيل للإنسان (تمثال ديادومينوس وغيره).
ولبركسيتلس ناحية أفرغ فيها حبه وهيامه، تلك هي الناحية التي عبر بها عن جمال أفروديت آلهة الحب، وشباب إيروس إله الحب وابن أفروديت وهو الذي تحدثنا القصة الإغريقية عنه بأنه كان ولداً جميلاً بجناحين أو شاباً يحمل قيثارة أو قوساً، وموسيقى أبولو بن زويس إله النور والغناء والعزف، ونشوة ديونيزوس إله الزراعة والحصاد وزراعة الكرم.
واهم إعماله الباقية وأحسنها تمثال هرمس ابن زويس إله الطبيعة والرعاة ورسول الآلهة (واله التجارة والطرق والرحل واللصوص) والنوم والأحلام. وهو التمثال الذي وجد أثناء أعمال الحفر سنة 1877 ولا يزال محفوظاً بمتحف أوليمبيا.
وقف الإله الشاب عارياً يحمل ذراعه اليسرى المتكئة على جذع شجرة الطفل ديونيزوس (ش2 تمثل نصف التمثال فقط) ويمسك بيمناه عنقود العنب متجهاً به نحو الطفل. والساق اليمنى مستقيمة (هكذا في الأصل الكامل) والوسط محدود بخطوط غاية في الدقة مما تميز به نحت الفنان. والإنشاء المجموعي والوضع الكلي لهذا التمثال كله مليء بالحياة، عظيم بالجانب المتوفر فيه من الجمال، ولا سيما الرأس الدقيق الصنع البديع التكوين. أما الابتسامة الهادئة التي ارتسمت على وجه صاحبه (ش4) فهي من ادق ما شوهد منحوتاً في الرخام.
ولعل تمثاله لإفروديت كينتوس هو أهم وأعظم عمل فني قام به (ش6)، وقد فهم الأقدمون ذلك ونظروا إلى التمثال نظرة تقدير وإعجاب واستمتاع بروعته. تريد أفروديت النزول إلى البحر، فتخلع ملابسها وتلقي بها على آنية الزهر. وقد اتخذ من فكرة الرغبة في الاستحمام والتهيؤ للنزول في الماء موضوعاً للإنشاء الفني الخلاب، فبدا التمثال هائلاً، وظهر الوجه وعليه أثر ابتسامة أقل ما يقال فيها أنها التوفيق الكامل.
ولم يكن أثر يدل على هذه العظمة الفنية إلا الصورة التي رسمت على العملة، إلى جانب تماثيل نقلت عن الأصل، أحسنها التمثال المحفوظ بالفاتيكان (ش4) وآخر محفوظ في ميونيخ فيه بعض التغيير.(294/76)
وفي إنجلترا رأس أفروديت (ش5) وله تماثيل لأفروديت في لباسها نذكر منها ما عمله لمدينة كوس
وله أربعة تماثيل لإيروس موجود أحدها بالفاتيكان وآخر في نابولي. وتماثيله لأبولو تحاج إلى شرح وإفاظة. وكل ما نبتغيه من هذا المقال ومن غيره أن يلتفت القارئ إلى النحو الذي سار عليه أساطين الفن ومقارنة ذلك بالاتجاه السقيم الذي يتجه نحوه بعض الشباب من المشتغلين بالنحت في هذه الأيام، وهم يعتقدون أنه الاتجاه الصحيح على حين أنها العجز في معناه الكامل.
أحمد موسى(294/77)
السيدة فتحية أحمد
من الوجهة الفنية
للأديب محمد السيد المويلحي
من أثبت المطربات قدماً في فنها، وأعظمهن خبرة بصناعتها. تعتبر ثانية مطربات الشرق بعد (أم كلثوم)، وإن كان بعض جهابذة الفن يرفعها عليهن جميعاً لقدرتها وتصرفها العجيب الذي يجمع بين سحر القديم وقوته، ورونق الجديد ورقته، والذي لا يعجز عن إرضاء جمهرة السامعين ولو كانوا حشدا مختلفا في ذوقه متباينا في عمره.!
سمعتها مرة تغني في دار (الاتحاد الموسيقي) الذي يرأسه الأستاذ إبراهيم شفيق وكان على رأس الجميع مصطفى رضا بك مدير المعهد الملكي للموسيقى العربية، والدكتور محمود أحمد الحفني مدير إدارة الموسيقى بوزارة المعارف؛ والآنسة أم كلثوم، فإذا بها تبتدئ من نغمة (النهاوند) فعملت من (النوا) بياتي ثم نهاوند. وحولت النوا عشاق وقفلت (نركيز) على أساس النغمة، ثم النوا راست وقفلت (زاريل)، ثم رجعت للنوا حجاز وطلعت على جواب الكردان وعملت نهاوند وراست على (الكردان)، ثم صبا علي الحسيني، ثم قفلت (نهاوند)!
وكل هذا متآلف مع النغمة الأصلية مما أخرج (أم كلثوم) عن طورها فلم أرها في موقف لمطرب أو مطربة (تصرخ) كما كانت تصرخ أمام (فتحية). ولقد أراد البعض أن يرجوها في الغناء بعد أن انتهت. . . فما كان منها إلا أن قالت حرفياً (وماذا أقول بعد هذا)!
يبلغ صوتها خمسة عشر مقاماً تقريباً. وهو من نوع (الكونتر آلتو) وإن كان البعض يقول أنه من فصيلة (التينور). . .!
يمتاز بلمعته ونبرته وقدرته حتى أطلق عليه جميع الموسيقيين والموسيقيات لقب (الفتوة)! لأنه ينفرد بقوة عجيبة غريبة؛ فلو استمر شهوراً يشتغل كل ليلة ما شكا وما نقص وما (خستك) كغيره من الأصوات. . جيد الإلقاء. دقيق المحاكاة.
هي أول (مطربة) جمعت بين أشياء متناقضة متنافرة لا سبيل إلى جمعها أبداً! جمعت (الشرف) والفن والأمومة المنتجة الرحيمة التي تبذل دمها وروحها لتهذب وتعلم أولادها من مالها (الحلال) الذي جمعته من كدها، وتعبها، وصوتها!(294/78)
(يا ليل). . . أشهد أنني أكره هذا النداء الذي قتله مطربونا ومطرباتنا نداء، وأوجعوه وانحنوه مناجاة. ولست أدري السر في هذا، القصور فني، أم لضعف صوتي؟؟ إن كان هذا أو ذاك فقد كنت أكره نداء الليل ومناجاته حتى سمعت هذا النداء العجيب من (فتحية)
سمعتها تناجيه وتناغيه بتصرف حيرني، ثم أدهشني وأعجبني حتى حول كراهتي حباً وافتناناً. . . وصرت لا أود ولا أسعى إلا لأسمعها تقول: يا ليل. . .! بقوة تخجل الرجال، وبقدرة تذهل النساء، حتى اعترف لها الجميع وأولهم (أم كلثوم) و (عبد الوهاب) بأنها أقدر مطربة في العصر الحديث فاقت المطربين والمطربات في مناجاة (الليل) وغناء (الموال).!!
هاجرت إلى الشام مراراً وراحت تذيع رسالتها هناك فذاع اسمها ذيوعاً قل أن يدركه غيرها، ولكن الحنين عاودها إلى مصر فرجعت لترى أن القدر قد أعد لها (مزحة) تهد الجبال وتقتل الرجال. رجعت وكان لها (رصيد) في البنك يبلغ سبعة آلاف من الجنيهات فإذا به (ستة مليمات) فحسب. . .! فإذا أردت أن تعرف السبب فهو (رجل) وضعت فيه ثقتها بحكم قرابته لها فإذا به يستغل جهلها بالقراءة والكتابة - وقتئذ - وينتزع منها ومن أولادها هذا المال الذي جمعته كما قلت قبلا بكدها وسهرها وصوتها. . .!
لا عيب في مطربة (القطرين) إلا أنها كغيرها من مطرباتنا قطعت شوطاً عظيماً، وزمناً طويلاً في الجو الموسيقي فلم تستفد، ولم تتقدم، ولم تتعلم، اعتماداً على صوتها وحسن تصرفها الذي وهبها الله إياه
تحب الفن للفن، والموسيقى للموسيقى، ولا تستطيع أن تملك نفسها وتكبت شعورها وتحبس إعجابها - كما يفعل غيرها - عندما تسمع الجيد المتقن، فتراها تثني وتصفق (وتزن) كأي فرد عادي تماماً ولعلها المطربة الوحيدة التي تسعى وراء كل مطرب أو مطربة لتسمع وترخي أذنها وفنها. ولا يظن القارئ أن تلك الصفة التي توصف بها فتحية (عادية) لأنها أن كانت عادية معه ومعي إلا أنها معدومة مفقودة في الوسط الفني. ما من فرد من أبناء الموسيقى سواء أكان مطرباً أو مطربة تسأله رأيه في زميل إلا سمعت الثناء أولاً ثم التعقيب بكلمة (ولكن. . .) ولكن هذه كفيلة بتشويه جميع الحسنات، وتدنيس جميع المزايا، وتحقير جميع الهبات. . .(294/79)
أما فتحية فرأيها صريح واضح، قاطع صادق، وما أندر الصدق بين المطربات!
محمد السيد المويلحي(294/80)
البريد الأدبي
في الاستشراق
ظهر الجزء الأخير من المجلد الثاني لكتاب (تكملة تاريخ الآداب العربية) من تأليف المستشرق الكبير الذائع الصيت الأستاذ كارل بروكلمن، وهذه (التكملة) تستدرك ما فات المؤلف في (تاريخ الآداب العربية) المطبوع سنة 1898. ثم تأتي بكل ما حدث في جانبي النشر والبحث منذ ذلك العهد. وهي على جانب عظيم من التدقيق والتحقيق، وإن رأى بعضهم أنها موضع مراجعة من هنا ومن هنا. والحق أن الأستاذ بروكلمن جدير بالإعجاب فضلاً عن الشكر؛ ذلك أن عمله جليل ونافع، وما نظن أحداً من المشتغلين بالشرقيات يستطيع أن يهمل (تاريخ الآداب العربية) و (تكملته) فانهما مصدر عرفان لا يعدله مصدر في بابه. ودليل هذا أن جميع من كتبوا في الآداب العربية رجعوا إليه بل اعتمدوا عليه؛ ولهذه التكملة جزء ثالث سيبرز هذه السنة في أجزاء متوالية، وسيكون موقوفاً على الأدب العربي الحديث
مكارم الأخلاق
للدكتور بشر فارس مبحث عنوانه: (مكارم الأخلاق) عبارة أخاذة ترجع إلى الأخلاقيات التقليدية نشر من عهد قريب باللغة الفرنسية في (مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم) في روما (الجزء 5 - 10 لسنة 1937) وهي من أعلى المجلات العلمية مكانة في أوربا، وكان الدكتور بشر فارس ألقى هذا المبحث محاضرة في مؤتمر المستشرقين المنعقد في روما سنة 1935، واليك فصول هذا المبحث: رواج عبارة (مكارم الأخلاق)، مفادها، مصدرها، مضمونها، علاقتها بالفتوة والمروءة، اتصالها بزمن الجاهلية، الخاتمة: عبارة إسلامية محضة، رخصة، مبهمة، أخاذة. ويمتاز هذا المبحث بالمنهج العلمي وبإثبات المصادر الأولى. وقد بلغنا أن صاحبه سينشره بالعربية هذه السنة في مصر طي كتاب يضم مباحث أخرى عنوانه (مباحث عربية).
هل في القرآن الكريم أسلوب غير عربي!
ذكر الشيخ الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل الألفية ابن مالك في النحو أن قوله(294/81)
تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي) يجوز أن يكون وضع اسم الإشارة للمذكر فيه وهو هذا موضع المؤنث لأن لغة إبراهيم كانت لا تفرق في اسم الإشارة بين المذكر والمؤنث، فجرى القرآن في ذلك عليها، وأشار إلى الشمس وهي مؤنثة باسم الإشارة الموضوع في لغة العرب للمذكر
وقد نبهت طلابي في الدرس إلى خطر هذا الرأي وأحببت أن أبين هذا لقراء مجلة الرسالة الغراء
فالأمر في هذا يرجع إلى الأسلوب، ولم يختلف أحد في أن أسلوب القرآن يجب أن يكون عربياً، فلا يصح أن يتقدم فيه مثلاً المضاف إليه على المضاف، ولا غير هذا من أساليب اللغات الأخرى، وإن كان كلامه مترجماً عنها، لأنه يسلك في ترجمته أسلوب الترجمة المعنوية، ولا يتقيد فيها بشيء من أسلوب ما يترجم عنه
وهذا الذي أمنعه مما يرجع إلى الأسلوب غير ما اختلف فيه العلماء من وقوع المعرب في القرآن الكريم، لأن ما يرجع إلى الأسلوب يرجع إلى نحو العربية، فتكون مخالفته خطأ. أما وقوع المعرب في القرآن فيرجع إلى إيثار لفظة أعجمية على لفظة عربية، وهذا لا يمكن أن يتوجه إليه الخطأ، ومع هذا اختلف علماؤنا فيه ورأى بعضهم أنه يقدح في عربية القرآن الكريم
وقد ذكر الشيخ الخضري مع ذلك الاحتمال الذي نخالفه فيه احتمالات أخرى تسيغها العربية، ولا تكلف القرآن أن يجري على أسلوب لغة أخرى غيرها، فقال: يجوز أن يكون تذكير اسم الإشارة في ذلك مراعاة لتذكير الخبر، أو أن يكون تذكيره لتنزيل الشمس منزلة المذكر. وإني أرى أن إبراهيم كان يشير إلى جرم الشمس في ذلك الوقت لا إلى لفظها، ولفظها هو المؤنث في العربية، أما مدلولها فكوكب من الكواكب كالقمر وغيره، والكوكب مذكر لا مؤنث، ولهذا أشار إليه إبراهيم بلفظ المذكر
عبد المتعال الصعيدي
الأدب المصري في رأي كاتب لبناني
ننقل عن زميلتنا (المكشوف) البيروتية ذلك الرأي الجريء الذي أشار إليه في هذا العدد(294/82)
الأستاذان: توفيق الحكيم وابن عبد الملك، فإن في الاطلاع عليه فائدة من جهة صوابه ومن جهة خطأه. قال الكاتب:
(لست مكابراً، ولكنني أنكر مستنداً إلى الوقائع الحقيقية التي قررها الأستاذ سامي الكيالي في رده على كلمتي البريئة حول إشارته إلى (امتداد الأدب المصري والثقافة المصرية في أجواء البلاد العربية). فقد بنى الأستاذ زعمه هذا على ما تخرجه المطبعة المصرية من مؤلفات عربية
فما هي هذه المؤلفات؟
أكثرها غير مصري. والأستاذ الكيالي لا يجهل أن المطبوعات الصادرة عن مصر هي في الغالب كتب قديمة أعيد طبعها، أو مخطوطات نادرة تطبع للمرة الأولى. فهي إذن ليست مصرية لأن أصحابها من خارج مصر. وليدلني إن استطاع على كتاب واحد ذي قيمة لمؤلف مصري صميم
أما المؤلفات المصرية الحديثة فلا أعرف أين هي مخبأة لا تظهر على وجهي، فإن أكثر هذه المؤلفات أنشأه كتاب مصريون، ولكن بمادة أجنبية مستوردة من الخارج
تأمل أن مصر التي يقول الأستاذ صاحب (الحديث) أنها تسيطر بثقافتها على البلاد العربية قد عجز أدباءها وأعلامها عن وضع الموسوعة الإسلامية فلجأ بعض المعلمين الرسميين إلى ترجمتها عن لغة أجنبية، ويا ليتهم أجادوا الترجمة، إذن لهانت المصيبة، ولكن ترجمتهم جاءت فاسدة مشوهة تضلل، والمفروض فيها أنها تهدى!
وتأمل أن مصر التي يريد بعضهم أن يجعلها زعيمة العروبة، ينادي أكبر أديب فيها بفرعونيتها ويقول: إن الإسلام لم يغير شيئاً من عقلية أبنائها على الرغم من مرور ثلاثة عشر قرناً على قيامه في وادي النيل!
وتأمل أن مصر العظيمة هذه لم يخلق فيها بعد ناثر أو شاعر يسجل في ملحمة شعرية أو نثرية الأحداث الخطيرة التي تعاقبت عليها منذ الهدنة إلى اليوم، ويخلفها تراثاً خالداً للأجيال الآتية!
وتأمل أن أكبر مفكري مصر وأدبائها من طه حسين، إلى حسين هيكل، إلى أحمد أمين، إلى محمد لطفي جمعة، إلى غيرهم وغيرهم، قد عجزوا في مؤلفاتهم التي خلقت شهرتهم(294/83)
الأدبية عن الإتيان بنظرة واحدة طريفة لم يستعدوا روحها من أجنبي. فالشك في صحة (الشعر الجاهلي) مسبوق إليه، و (حياة محمد) مقتبسة من كتاب أميل درمنكهيم، و (ضحى الإسلام) ليس لمؤلفه فيه إلا العنوان بدليل الأسماء العربية الواردة مشوهة في طبعته الأولى أمثال زافار وأصلها ظفار، وأريتاس وأصلها الحارث، و (فلاسفة العرب) وأصله بالفرنسية (مفكرو الإسلام) لكاراديفود
أتكون هذي هي الثقافة المصرية التي تريد يا أستاذ سامي أن تتأثر بها البلاد العربية؟
إنني أنكر هذه الثقافة اللقيطة، ويعز على كلبناني عربي أن تؤخذ بلادي بالتدجيل وتخدع بالدعايات المجانية أو المأجورة).
زهير زهير
مصر في مختلف العصور
فرغ الأستاذ محمد قاسم بك عميد دار العلوم من تقريره عن مؤتمر العلوم التاريخية الثامن في دورته الأخيرة التي عقدت بمدينة (زوريخ) ومثل هو مصر فيه ثم رفعه إلى معالي وزير المعارف
ويقع هذا التقرير في 23 صفحة، تحدث فيها الأستاذ قاسم بك عن النظام السياسي والفكري في سويسرا، ثم أشار إلى أهم الموضوعات التي عرضت على بساط البحث، ولا سيما ما يتصل منها بالبلاد الشرقية والمسائل التي تتخذ صبغة عامة
وانتقل إلى الكلام عن رسالته التي عرضها على المؤتمرين - وهي خاصة (بالبحث العلمي) - وانتهى من هذا إلى ذكر طائفة من المقترحات رأى أن تنفيذها يجعل مصر تتابع الأبحاث التاريخية التي تجري في البلاد الأخرى.
ومن هذه المقترحات تحويل الشعبة التاريخية المحلية إلى جمعية تاريخية تعنى ببحث تاريخ مصر، وإنشاء متحف تاريخي ووضع فهرس سنوي خاص بشؤون التاريخ
ومما جاء في هذه المقترحات أن تعمل الحكومة على وضع أطلس تاريخي لا ليسد حاجة المدارس ومعاهد التعليم وحدها بل يفي بجميع حاجات الدولة. وإن يوضع معجم تراجم يبين تاريخ كل من اشتغلوا بالشؤون التاريخية في أجيال مصر المختلفة(294/84)
ومن أهم هذه المقترحات وضع تاريخ عام لمصر تنهج فيه الحكومة منهجاً قومياً، أسوة بما حدث في الممالك التي نهضت حديثاً كبولندا وتركيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها
ترقية الأغاني وإعداد أناشيد مدرسية قومية
أشرنا من قبل إلى مشروع وزارة المعارف لترقية الأغاني المصرية ورفع مستواها والتوسع في أغراضها ومدلولاتها بما يفي بحاجات الوطن المعنوية لاطراد النهوض والتقدم
وقلنا أنها اعتزمت أن تعهد إلى عدد من كبار الشعراء والموسيقيين تأليف وتلحين خمسين قطعة غنائية، متجهة في ذلك إلى العدول عن نظام المسابقات
ونزيد اليوم أنه تألفت لجنة من حضرات على الجارم بك ومصطفى رضا بك مدير معهد فؤاد للموسيقى والدكتور محمود الحفني مفتش الموسيقى بوزارة المعارف للنظر في تفاصيل هذا المشروع وطرائق تنفيذه وإنجاحه
أما اختيار الشعراء الذين يعهد إليهم وضع القطع فسيترك إلى رأي معالي زير المعارف، وسيبدءون في عملهم عقب إبلاغهم ذلك مع التوجيهات التي تحرص الوزارة على إحاطتهم بها دون المساس بحريتهم في التأليف
وسيكون من عمل اللجنة أن تنظر في إعداد الأناشيد المدرسية التي تريد الوزارة أن تكون نموذجاً للأغاني التي تنشدها وذلك في مناسبة احتفالها باستقبال صاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران.
توحيد الثقافة بين مصر والأقطار الشرقية
من الخطوات أو الوسائل التي فكر فيها أولو الأمر في وزارة المعارف للوصول إلى توحيد الثقافة بين مصر والأقطار الشرقية إنشاء معاهد علمية مصرية في بعض هذه البلاد الشرقية تنشر من أبنائها الثقافة المصرية والمناهج العلمية الحديثة التي يراعي فيها أن تتوحد بالتدريج ثقافة الشرق العربي. وقد صادف هذا التفكير قبولا من بعض الهيئات التي يهمها أن تشتد أواصر الصداقة بين مصر وشقيقاتها العربية، وإن تحمل مصر علم الزعامة العلمية في هذا العهد الجديد
ولكن هذا المشروع ما زال مبدئياً، ولا بد أن تخطو به وزارة المعارف خطوات كثيرة،(294/85)
فتخرج من حيز التفكير إلى حيز العمل، ومنها الاتفاق مع الدول الشرقية التي ينتظر أن يبدأ بإقامة المعاهد المصرية فيها، وتدبير المال اللازم للبدء في المشروع. وقد اتصلت الوزارة ببعض وزراء الدولة المفوضين في الدول الشرقية وطلبت إليهم إبداء رأيهم في إنشاء هذه المعاهد وينتظر أن تتصل بالبعض الآخر لتتكون لديها فكرة واضحة ذات تفصيلات صحيحة عن الموقف كله ولتبدأ بعد ذلك في السير في المشروع إذا استطاعت اجتياز عقبة تدبير المال
إحياء الأدب العربي القديم
عزمت وزارة المعارف رغبة منها في تقريب الأدب العربي القديم من نفوس الطلاب وناشئة المتأدبين أن تعمل على تهذيب طائفة من كتب الأدب
وقد استقر رأيها على البدء بتنفيذ هذا المشروع في 30 مؤلفاً بين كتاب وديوان على أن تدع باب الاشتراك في هذا العمل مفتوحاً أمام من يريده من الكتاب حتى 15 مارس القادم، وإن يكون أجل تقديم الكتب والدواوين بعد إعادة وضعها على الأسلوب الذي تشير به الوزارة يوم أول سبتمبر سنة 1939 وفيما يلي أسماء هذه الكتب:
العقد الفريد. الصناعتين. الخطط للمقريزي. الطالع السعيد للأدفوي. تاريخ الجبرتي. علم الدين لعلي مبارك. المستطرف للابشيهي. محاضرات الأدباء. مختارات من الأغاني. مسالك الأبصار للعمري. نهاية الأرب للنويري. طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. صبح الأعشى. النجوم الزاهرة. مختارات من مقامات الحريري. الضوء اللامع للسخاوي. حسن المحاضرة للسيوطي. مختارات من قصة عنترة. مختارات من رسائل الجاحظ. تراجم من ابن خلكان. تراجم من خزانة الأدب البغدادي. تراجم من معاهد التنصيص. ديوان أبي تمام. ديوان ابن النبيه. ديوان البحتري، ديوان المتنبي. مقدمة ابن خلدون. ديوان البهاء زهير. ديوان ابن سناء الملك. ديوان ابن نباته
هذا وستمنح الوزارة مكافأة كبيرة لكل كتاب يقبل، وقد ألفت لفحص هذه الكتب لجنة من الأساتذة: أحمد أمين، ومحمد جاد المولى بك، وعلي الجارم بك.
اللغة الفارسية في الجامعة الأزهرية(294/86)
ندبت مشيخة الأزهر الأستاذ توفيق محمد تقي القمي العالم الإيراني نزيل مصر الآن لتدريس اللغة الإيرانية بكلية اللغة العربية. وقد بدأ الدراسة في الأسبوع الماضي وحضرها من الطلبة ثلاثون طالباً وقدمه صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم حمروش شيخ الكلية بكلمة طيبة فرد عليه مبينا فضل اللغة العربية على العالم الإسلامي وأشر إلى ما بينها وبين اللغة الفارسية من الروابط الثقافية مما يجعلهما متلازمتين.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الدرس الأول في اللغة ولم يشأ أن يعلم في هذا الدرس الطلبة غير كلمات ثلاث وهي (الله والملك والوطن)
وسيشمل تدريس اللغة الإيرانية تاريخ الأدب الإيراني وينتظر أن يمتد تدريس هذه اللغة إلى كليات أخرى.
الدكتور زكي مبارك
مضت أسابيع وأصدقاء (الرسالة) يسألون عن السبب في احتجاب الدكتور زكي مبارك، وقد خشينا أن يكون أصيب بمرض الكسل الذي يؤاخذ به من يناوشهم من الأدباء. ومن عاير ابتلى! ثم عرفنا أنه كان في ضيافة (ليلى المريضة في العراق) وإن كتابه عنها وصل إلى ثلاثة مجلدات ضخام. وقد وصلت إلينا مقدمة هذا الكتاب وسننشرها في العدد المقبل
أما أبحاث الدكتور زكي مبارك في النقد الأدبي فسنواجه بها القراء بعد أيام
جمعية تركية مصرية
تلقينا أنه قد تألفت في مدينة القاهرة جمعية باسم (الجمعية التركية المصرية الخيرية) غرضها إيجاد صلة من التعاون والتعارف بين الأتراك والمصريين وتقوية الروح الفكرية والروحية والخيرية بين الشعبين.
وستعمل الجمعية للوصول إلى هذا الغرض على إلقاء محاضرات تتناول الموضوعات العلمية والاجتماعية والأدبية وغيرها، كما أنها ستنشئ مدرسة تقوم بتعليم اللغتين العربية والتركية لأعضائها مجاناً؛ وستقوم كذلك بمساعدة المحتاجين وإنشاء المستوصفات الخيرية لمرضاهم، وتسهيل السياحة بين مصر وتركيا، وما إلى ذلك من الأعمال التي تقوى العلاقات بين المصريين والأتراك.(294/87)
وترحب الجمعية براغبي الانتساب إليها، وترجو منهم مقابلة سكرتيرها في مقرها رقم 51 بشارع إبراهيم باشا
إلى الأستاذ فيلكس فارس
أحييك تحية الأدب وأشكر لك تلك الروح الطيبة، وأتقدم إليك بموفور الشكر على كلمتك الممتعة التي صدرت بمجلة الرسالة الغراء بعنوان (أقلام الناشئين) فقد لمست فيها عظمة جبارة وروحاً عالية وتقديراً صحيحاً وميزاناً عدلاً
وحقاً ليس الأديب من يدبج بليغ المقالات ويبتكر غريب المعاني ويظهر للملأ أقوم الأساليب فحسب. إنما الأديب هو الذي يضم إلى ذلك نقداً صحيحاً، وتقديراً حقاً، ويحكم للأديب أو عليه بأحكام هي الصواب. فمحكمة الأدب إذا كانت عادلة فإنها مع إحقاق الحق لذويه مدرسة عالي، وثقافة جد نافعة ومرآة عامة تتجلى فيها صورة الحقائق فيشهدها الناس ويتخذون منها درساً مفيداً
وانك بما حللت به نفسية الشاب أحمد جمعه الشرباصي وكلامه قد وضعت نفسك أو وضعك أدبك موضع عظماء الحكام فشكراً لك وسلام عليك
مصطفى الصاوي
مدرس أدب بمعهد القاهرة الأزهري
إلى الأستاذ دريني خشبة
بمناسبة الفصول القيمة التي تنشرها في الرسالة الغراء عن هوميروس - أود أن أعرف هل هناك ترجمة مطبوعة للإلياذة والأوديسة، وإذا كانت هذه الترجمة حلماً لم يتحقق بعد، فلماذا لا يفكر الأستاذ في طبعها في كتاب ينشره على الناس بعد أن وال نشرها في الرسالة والرواية قلمه المهذب الرصين، وأسلوبه الساحر البليغ؟!
إن هذا أمل الأغلبية الساحقة من قراء الرسالة في مصر والشرق الذين يقدرون إنتاج هوميروس، ويعجبون بالأستاذ دريني خشبة، ويعرفون قيمة الأدب القوي الرفيع.
أحمد أحمد العجمي(294/88)
تصويب
وقعت أخطاء مطبعية في مقال (يوم الفتوة في العراق) في العدد 292 من الرسالة تصحيحها كما يأتي:
السطر
الخطأ
الصواب
الصفحة
العمود
2
مركب الفتوة
موكب
253
1
3
لثلثمائة
لثمانمائة
254
2
21
للقائد
للتائه
254
2
28(294/89)
البارح
البارع
254
2
9
على أن
على أن رأى
255
1
7
ولم تخاف
ومم تخاف
255
2
29
جروا
صبروا
255
1(294/90)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
نجاحها وفشلها
ووسائل إصلاحها
ينفرد الأستاذ محمود تيمور بك بين من أعرف من أصدقائي الأدباء، بطبيعة مسالمة، وخلق سبط منسجم، يحاول جهد المستطاع الابتعاد عن مسالك الخصام الأدبي ومواطن الشحناء. ومجمل ما قد تسمعه منه - إذا احتكت الآراء واصطدمت الغايات في موضوع قصة أو كتاب أدبي - رأى بيديه بدون ما تصلب أو تشدد، أو حد يوقفك عنده إذا توعرت وتصعبت. يفعل ذلك ولا تفارقه ابتسامة رخية تطوى تحتها كل شيء، وتجعلك لا تطالع في تقاطيع وجهه ما نم عن تكتم مقصود، أو في رفات جفونه عن نفس كظيمة، ولكني لمحت فيه في هذه المرة وهو يحدثني عن الفرقة القومية ما لا يتفق وما وصفت من طباعه. وأحسب مرد ذلك إلى ألم في النفس من أمل خائب. وهل من ألم أشد على نفس الأديب من صدمة يصدم بها من هذه المؤسسة الثقافية في مثل هذا الوقت؟
سألته ما رأيه في الفرقة القومية، هل نجحت في رسالتها أم فشلت؟ فأجاب:
الفرقة القومية نجحت وفشلت في وقت واحد. نجحت في أنها قدمت لنا بعض الروايات الفنية في إخراج مبتكر وتمثيل متقن، نذكر من ذلك: أهل الكهف، وتاجر البندقية، والجريمة والعقاب.
وفشلت في أن ما قدمته لنا من مثل هذه الروايات كان قليلاً جداً في السنوات الماضية التي اشتغلت فيها؛ وهذا يدل على أن المجهود المبذول من القائمين بأمرها ضعيف
والأقوال كثيرة في أسباب هذا الفشل، وقد عالجها بعض النقاد في حملاتهم على الفرقة، كما أن البعض الآخر أدلى برأيه في الدفاع عنها، فمن ذلك يقال: إن الفرقة تشتري الروايات ولا تمثلها إذ يتضح لها عدم صلاحيتها أو عدم رضا بعض المقامات.
كذلك يقال إن كثيرين من المؤلفين المصريين قدموا روايات جيدة ولكنها أهملتها لأسباب لا محل لذكرها. ولو صحت هذه الأقاويل لدلت على أن الإدارة ليست مستقلة تمام الاستقلال(294/91)
في عملها، وأنه يعوزها إدارة مركزة تتحمل كافة المسؤوليات
ويمكننا أن نتأكد من فشل الفرقة في عملها بمراجعة ميزانيتها المادية والأدبية، أي مقدار ما ربحته ومقدار ما قدمته من الروايات الناجحة لجمهور. وليس هناك سر إذا أذعنا أن الفرقة القومية تتكبد اليوم خسائر مادية جسيمة لولا الإعانة السخية التي تمدها الحكومة بها لكان قضى عليها في بدء عملها
أما الخسارة الأدبية كما أوضحنا سابقاً فالفرقة لم تقدم لنا من الروايات الناجحة خلال الأعوام الأربعة سوى ثلاث روايات أو أربع، وأنها لضعفها لجأت إلى استعارة روايات سبق تمثيلها كمجنون ليلى، وأنها تزمع في موسمها المقبل تمثيل روايات فرقة جورج أبيض القديمة، مع أن الروايات الإفرنجية الجديدة مثلاً تعد بالمئات، وأقصد بهذه الروايات تلك التي تساير نهضة الفن الحديثة. فمصر محرومة من هذا النوع، مع أن الوسائل كلها متوفرة لترجمة وإخراج هذه الروايات، كما أن مصر لها من المؤلفين المصريين المجيدين من يستطيع أن يمد الفرقة ويغذيها بروايات فنية
ويمكننا إنصافا للفرقة أن نقول أن من دواعي فشلها سببا عالمياً يشكو المسرح منه على وجه العموم، ألا وهو طغيان السينما. إنما يمكننا أن نعالج هذا الداء بوسائل في استطاعة المسرح صد تياره القوي، فلقد ثبت للفنيين أن لكل من الفنين المسرحي والسينمائي ميدانه المستقل، فإذا فهمنا ذلك حق الفهم، استطاع المسرح أن يعمل في ميدانه دون أن يخشى قضاء السينما عليه
والفرق بين السينما والمسرح أن الأول يعني بالمظاهر إذ يعطينا أروع المناظر بصورها المفصلة وجوها الحقيقي، بينما المسرح لا يطلب منه في الوقت الحاضر مثل هذه الزخارف الدقيقة، لأنه مهما أوتي من الدقة في إظهارها فانه يعجز دائماً عن تأديتها على وجهها الصحيح، ولكن يطلب منه العناية بإبراز الفكرة ناضجة قوية كما يعنى بروح الانسجام الواجب بين الممثل والجمهور، وهذا ما نطالب به الفرقة
- ماذا ترون من علاج للإصلاح؟
- لعلاج الفرقة وإصلاحها أوجه اذكر منها ما يأتي:
أولاً: هو ما سبق لنا ذكره من ضرورة تركيز الإدارة واستقلالها استقلالاً تاماً أي جعلها(294/92)
تتحمل مسؤولية أعمالها وحدها أمام وزارة المعارف، وتوضيحاً لذلك نقول أنه يجب ألا تتلقى الإدارة أوامر لتنفذها، بل يجب أن تصدر هي الأوامر وتتحمل مسؤولية إصدارها. ويجب أيضاً أن يكون للجنة القراءة رأي استشاري فقط وتكون هي ضمن الإدارة المشرف عليها مدير الفرقة
ثانياً: يجب دعوة المؤلفين المصريين بصفة جدية، والعمل على تشجيع مؤلفاتهم بكافة الوسائل. وحسبنا أن الجمهور هو الذي سيصدر حكمه على هؤلاء المؤلفين أو عليهم، كما أن هذه الدعوة ستمهد لمؤلفين المغمورين طريقاً إلى تبوئ مراكزهم بحق
ثالثاً: إيجاد مسرح دائم للفرقة تمثل فيه طوال الموسم ليتم الاتصال بينها وبين الجمهور
رابعاُ: أرى أن يتبع في نظام المرتبات التي تدفع لهيئة الإدارة والممثلين النظام الآتي:
يدفع للموظف نصف مرتبه الحالي والنصف الآخر يكون بمثابة أسهم تدر عليه ربحاً يقل أو يكثر وفق نجاح الفرقة أو فشلها. والمقصود بذلك إشعار العامل في الفرقة موظفاً كان أم ممثلاً بمسؤولية نجاح الفرقة، وإن عليه واجباً يؤديه كأنه يعمل لفرقة هو أحد أصحابها، وليس موظفاً يتقاضى مرتبه الشهري، وسيان عنده نجحت الفرقة أو فشلت كما هي الحال الآن
خامساً: أرى تحبيباً في المسرح وتقليلاً من منافسة السينما له أن ترخص الإدارة أسعار الدخول رخصاً نسبياً بحيث تكون أسعار نصف كراسي الصالة تساوي ثمن الكرسي في السينما، وتكون أسعار النصف الآخر من الكراسي مخفضة أيضاً. كذلك يجب عمل تخفيض خاص لطلبة وطالبات المدارس، والموظفين، وأعضاء الهيئات الأدبية، والنوادي، والصحفيين بأن يكون لهم حق الدخول بنصف الأجرة
سادساً: يجب تحديد التذاكر المجانية تحديداً دقيقاً فلا تبعثر ذات اليمين وذات الشمال، كما يشاع ويقال، بعثرة زهدت الناس في الفرقة تفادياً لما يقال عن هذه الدعوات التي تأتيهم بالمجان أو تطرح عليهم طرحاً. انتهى
أشار حضرة الأستاذ الفاضل تيمور بك إلى أشياء أرى لزاماً علي توضحيها، وهي استقلال الإدارة، ونفوذ لجنة القراءة، والسعي إلى قبول بعض الروايات ورفض بعضها فالإشارة وحدها في مثل هذا الموقف لا تفي بالمرام ولذلك سأعود إليها في فرصة مواتية(294/93)
ابن عساكر(294/94)
العدد 295 - بتاريخ: 27 - 02 - 1939(/)
إن في ذلك لعبرة
غني فقير. . .!
قد يكون مع بعض الفقر عزاء ورجاء وسكينة؛ ولكن فقر هذا الغني البائس الذي سأقص عليك نبأه ألمٌ لا يهاون، وهمٌّ لا يهادن، وحمَّى لا تُقلع
سأسوق إليك خبر هذا المسكين بقلمي لا بقلمه، فإن الرسالة التي كتبها إليّ كلماتٌ كحسرات النادم لا تتصل، ومقاطع كأنّات المحتضَر لا تبين. على أنني سأحاول ترجمتها لك ترجمة الشعور للشعور، لا ترجمة اللفظ للفظ، لترى كيف يشقى المرء بخطأ نفسه، أكثر مما يشقى بخطأ غيره
قال بعد أن سلم وعظم وشكر:
(قرأت وأنا في وحدتي السامة وعلتي القاتلة ما كتبتَ من مآسي الحياة في الرسالة، فراعني أن يبلغ البؤس ببعض النفوس إلى هذا الحد، وفي أرض الله رزق لا ينضب، وفي يد الناس مال لا ينفد!
ولا أكذِبُ الله لم أفطن إلى معنى الحرمان والإحسان إلا بعد أن نيفت على الستين وأقعدني الكُساح، وسلبني حريتي وثروتي وغبطتي من جعلت حياتي له، ووضعت أملي فيه
أنا أملك ربع مليون من حر المال وخالص الذهب. وكان يخيل إليّ قبل أن ينكشف الغطاء عن العين أني أسبح في بحر أحمر لا أدري أكانت حمرته من الذهب أو من الدم أو من الدمع، فإني كنت مصمت القلب لا يختلج فيه شعور ولا ترف عليه عاطفة. فلما بلغت الشاطئ لأستجم وجدتني على ساحل الحياة، هنا الموت الراصد، وهنا المرض المثْبِت، وهنا الضمير المعذب، وهنا الوارث الحاقد الذي دفنني وأنا أشعر، وورثني وأنا أنظر، وحرمني وأنا أريد. فإذا كان في بؤس الفقراء ما يستدرُّ ماء العيون، فإن في ذل الأغنياء ما يذيب شِغاف الأفئدة!
أتدري كيف جمعت هذا المال يا سيدي؟ جمعته بالسعي الدائب، والتدبير المعجز، والربا الفاحش، والشح الدنيء، والتقتير المهلك؛ ثم أمات الله في نفسي نوازع الأبوة والقرابة والإنسانية فلم تبضّ يدي في سبيل شيء من ذلك، فنما المال واتسع وامتد حتى صرفني عن الناس وشغلني عن العالم. ثم حسبتني بهذا الثراء الضخم أستطيع أن أشتري السعادة(295/1)
والسيادة والإيمان والجنة، فإذا بي وا حسرتاه أملك مفاتيح قارون ولا أملك عصا موسى!
كان رأسمالي جنيهات معدودات ادخرتها من نفقاتي وأنا طالب بالأزهر، فلما عدت إلى بلدي استثمرتها في الربا والتجارة، فكنت أقرض الزراع المأزومين والعمال المعوزين والتواجر والأرامل بربا خمسة قروش في الشهر للجنيه الواحد. ثم اتخذت من فناء بيتي قُنا للدواجن، ومن سطحه مزرعة للبقول؛ فكنت أبيع الدجاج والأرانب من تحته، والفجل والكراث من فوقه؛ وألححت على نفسي بكبت الشهوة وقتل الرغبة إذا اعتدنا على المال، حتى كنت أرى الفاكهة عند الفاكهاني فأتقزز، وابصر اللحم عند القصاب فأهوع، ولكني إذا لمحتهما في يد إنسان تبعتهما نفسي وتحلَّب عليهما فمي. ثم اقتنيت العقار والضياع؛ أكثرها بغلق الرهان وأقلها بالشراء؛ وقمت عليها أحسن القيام بالرعاية والجباية والتوفير حتى غدت غلتها سيلاً لا ينقطع عن الأهراء والخزائن. ثم فرضت نفقة أسرتي من الطعام والإدام على مستأجري المزارع والدكاكين يؤدونها فوق الأجرة يوماً بيوم؛ واقتصرت في غذائي على الأبيضين: الماء والثريد، وفي كسوتي على جلابيب من القطن للبيت والغيط، وبذلة من الصوف للاحتفال والسفر. ثم وقع في نفسي أن حماية هذه الثروة العريضة لا بد لها من لقب (بك) فاشتريته أيام كانوا يبيعون الألقاب، بقبضة من الذهب؛ ثم شيدت قصراً وبنيت دوراً وجعلت في رأسه دائرة، فاتسع النفوذ وامتد السلطان، وصرت آمر ولا أرجو، وأغتصب ولا أختلس. ورأيت الناس يلقونني بالإجلال والهيبة لفخامة اللقب وضخامة الثروة، فازدادت نفسي شراهة ويدي كزازة؛ وأفرط عليّ الغنى فغطى على بصيرتي وبصري، فلم أعرف أن لي ديناً له حرمة، وزوجة لها حق، وأولاداً لهم رعاية؛ وعشت لنفسي بل لمالي، أقضي النهار له، وأسهر الليل عليه، حتى كرهتني أسرتي، وحقرتني عشيرتي، وسئمتني حياتي، وأصبت بمرض عقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطع المشي ولا النهوض؛ واستولى ولدي البكر على مفاتح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع؛ فأنا أشتهي كل شيء، وأبتغي كل معنى؛ ثم أنظر في يدي الجماعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة(295/2)
الموحشة فأرى أطياف الذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهل مدامعي أنهال القطر على خدي الغائر الشاحب؛ وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة! حتى الدواء لا أناله؛ وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي وأبقى على نصفي الشاعر لأدرك بعيني وفكري وخيالي مضَّ الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.)
ثم يلي ذلك شكوى ضارعة من زوجه الفارك وابنه القاسي وصهره المتعجرف لا تتسع لها الصفحة!
سيدي البك! إن حالك لا تغني فيها دمعة تذرف ولا كلمة تقال. أدع الله معي أن يتغمد خطاياك بالعفو، ويقطع بلاياك بالموت. وإن كنت في حياتك للضعيف شقاء وللأهل حسرة، فإنك في موتك للفقير عزاء وللغني عبرة!
أحمد حسن الزيات(295/3)
الشهرة والجماهير
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
في سنة 1909 كنت ألازم من الأدباء صديقنا المرحوم الأستاذ محمد السباعي صاحب كتابي (الصور) و (السمر) ومترجم قصة (المدينتين) لدكنز و (الأبطال) لكارليل و (التربية) لسبنسر وعشرات من الكتب الأخرى. وما أظن بأبناء هذا الجيل إلا أنهم يجهلونه ولا يعرفونه ولا يخطر لهم أنه عاش على ظهر هذه الأرض، وكان له فضل على الأدب الحديث. واحسب أنه سيكون عليَّ أن أعرفهم واذكرهم به إنصافاً له وقضاء لحقه على فإن له لدينا في عنقي
وكان السباعي - رحمه الله - منهوماً بالأدب لا يشبع، وعاشقاً لا يسلو؛ وقلما رآه أحد إلا وفي يده كتاب أو كراسة. ولا أدري ماذا لفته إلى ابن الرومي، ولكن الذي أدريه أنه كان يذهب إلى دار الكتب وينسخ ديوان ابن الرومي في كراسات ويحفظ أكثر شعره عن ظهر قلب فأعداني بحب هذا الشاعر المنكود الحظ فقلدته واستنسخت شعره؛ فلما كملت عندي نسخته شرعت أبيضها في كراسات بعد تصحيح ما يوفقني الله إلى تصحيحه من الأغلاط التي لا آخر لها في نسخة دار الكتب
وكان صديقنا الأستاذ السيد عبد الرحمن البرقوقي قد أصدر مجلة البيان فاقترح عليَّ أن أكتب عن ابن الرومي ففعلت؛ وكان هذا حافزاً آخر لدرسه، ولكن الحرب صرفتني عن مواصلة الكتابة فانقطعت عنها إلى سنة 1924. وفي أثناء ذلك ظهر الجزء الأول من ديوان ابن الرومي شرح المرحوم الشيخ شريف ثم الثاني بعد وفاته، ومختارات من شعر ابن الرومي جمعها الأستاذ كامل الكيلاني، فوصلت ما انقطع وعدت إلى الكتابة عن ابن الرومي في جريدة الأخبار وجمعت ذلك كله ونشرته في كتابي (حصاد الهشيم) وكان من توفيق الله بعد ذلك لهذا الشاعر المغمور أن عنى به صديقنا الأستاذ العقاد فتناوله بالبحث الوافي والدرس الدقيق في كتابه الجليل عنه
وهكذا برز ابن الرومي من ظلمة الخفاء ونضيت عنه الأكفان التي ظل ملفوفاً فيها أكثر من ألف سنة
خطر لي وأنا أدير هذا في نفسي أن العالم من أبناء اللغة العربية أكثر من مائة مليون، وأن(295/4)
من هؤلاء نحو عشرة ملايين يقرءون ويكتبون، فكم من هؤلاء يقرأ ابن الرومي والمتنبي والمعري والشريف وأبا تمام والبحتري وأبا نواس وغيرهم وغيرهم. . .؟ لا أكثر من بضعة آلاف قليلة. وجل هؤلاء يقتنون الكتب كما يقتنون التحف ويرصونها للزينة لا للاطلاع، ويتخذونها كما يتخذون السجاجيد والزهريات والصور وما إلى ذلك. والذين يفتحونها، منهم من يفعل ذلك للتسلي وتزجية الفراغ، والأقلون هم اللذين يعنون بالدرس والتحصيل؛ فهم في هذا العالم العربي الطويل العريض لا يعدون بضع مئات. فكأن خلود الأديب في إخلاد الناس ليس معناه أن السواد الأعظم منهم يعبئون به، بل معناه أن قلة ضئيلة هي التي يرجع إليها الفضل في بقاء اسم الأديب مذكوراً وآثاره منشورة
وهذا هو الخلود - ثلاثة أو أربعة أو أكثر من المجانين بشيء لا يزالون يقرعون الطبول باسم من الأسماء ويلحون به على الناس حتى يوقظوا النفوس لهذا الاسم ويوحوا إليها أن صاحبه جدير بالذكر وأن آثاره تستحق الاقتناء
ومن كان لا يصدق فليسأل نفسه: هل شهرة المتنبي مثلاً ترجع إلى تعليق رجل الشارع به. . . أليس الواقع أنه لو كانت شهرته رهناً بعناية الرجل العادي به لما طال عمرها أكثر من بضعة أيام - أسبوع على الأكثر. . . والمتنبي مه ذلك أشهر شعراء العرب، وحكمه لا تزال تدور بها الألسنة وتجري بها الأقلام، وديوانه يعاد طبعه كل بضعة أعوام مرة. ولكن كم نسخة تطبع من ديوانه في كل مرة؟ ألفان. . ثلاثة آلاف. . أربعة آلاف. . في عالم عربي يبلغ عدد القراء فيه عشرة ملايين أو خمسة على الأقل إذا جادلت. . . فما ظنك بحظ الذين هم أقل منه شهرة. .؟
والمدارس والجامعات تخرج في كل عام - في هذا العالم العربي - عشرات من الآلاف تلقوا دروساً في الأدب، وعرفوا أسماء الأدباء وألموا إلى حد ما بخصائص فنونهم ومميزات آثارهم، ومع ذلك تبقى ثلاثة آلاف نسخة من ديوان شاعر كالمتنبي محتاجة إلى أكثر من عشرات سنوات لتنفد. . . ولولا أن في كل جيل بضعة مجانين بالأدب لا يكفون عن الصياح بأن المتنبي شاعر فحل وأنه رجل عظيم، وأنه جدير بأن يقرأ ويدرس لبقيت هذه الآلاف القليلة من نسخ ديوانه مكدسة في مخازنها لا تجد لها طالباً
هؤلاء المجانين القليلون هم الذين ينقذون الشهرات من الفناء ويبقونها حية جيلاً بعد جيل.(295/5)
فإن لكل جيل مجانينه الذين لا يزالون يبحثون وينقبون حتى يعثروا على عظيم مقبور كما يفعل المنقبون عن آثار المدنيات التي عفى عليها الزمن - لا يعروهم فتور ولا يدركهم ونى؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أنه لا خوف من بقاء عظيم مدفوناً وحقه مهضوماً وفضله مطوياً أو مجحوداً. وقد لا يكون في هذا ما يعزى العظيم، ولعله شبيه بمنح القتيل في ساحة الحرب وساما على سبيل الاعتراف ببسالته، والشهادة بحسن بلائه، ولكنه على كل حال يجدي بأن يمنع اليأس من إنصاف الدنيا ولو بعد الأوان.
وحتى حين يفوز المرء في حياته بالشهرة التي يستحقها - أو لا يستحقها كلها - عند الجماهير يكون الفضل في بقاء هذه الشهرة للقلة المتحمسة، لا للكثرة التي لا تلبث أن تذهل عما أحبت ومن أحبت. وبهذا وحده تظل الجماهير تذكر وهي لا تفعل ذلك عن اقتناع أو فهم وإدراك صحيح لاستيجاب الشهرة، بل لأن هؤلاء المجانين الذين لا يخلو منهم زمن يقولون لها عشرة آلاف مرة أو عشرين ألف مرة إن فلاناً عظيم وحقيق بالذكر والتخليد، فتصدق وهي لا فاهمة ولا مدركة. ويقصد آحاد من هذه الجماهير التي فعل الإيحاء في نفوسها فعله - إلى المكاتب ويشترون ديوان المتنبي ويضعونه على الرف ويفركون أيديهم وهم فرحون باقتناء هذه التحفة التي آمنوا بأنها خالدة وأنها أبقى على الزمن من الزمن
وتسأل: لماذا يجن هؤلاء الأقلون بخارجيات السلف، فلا تجد جواباً يقنع العقل وتسكن إليه النفس. ولن تعدم من يقول لك إن سر هذا الجنون هو ما في هذه الآثار من الحق والحكمة والفكاهة والجمال، ولكن هذه لا تزال ألفاظاً تتطلب معانيها التحديد، ومن العبث أن تلعب لي بها وتصنع لي منها توافيق وتباديل، وتزعم أن هذه هي المعاني التي تفهم من هذه الألفاظ التي نشعر بدوران معانيها في النفس وتعيننا العبارة الدقيقة عنها. . . أو هذا على الأقل حالي أنا معها. وإذا كان شاعر مثل (كيتس) يستطيع أن يقنع نفسه بأن الجمال هو الحق، وأن الحق هو الجمال، ولا يحتاج بعد ذلك إلى كلام أو شرح أو بيان، فإني أنا مع الأسف لا يكفيني هذا وإن كنت آنس من نفسي حب كلمته هذه والسرور بها سروراً ليس مرجعه إلى الفهم.
إبراهيم عبد القادر المازني(295/6)
اسمعوا صيحة الحق
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
ما هذا الذي نشرته في مجلتك لبعض أدباء لبنان؟ وكيف جاز أن تقول: (إن في الاطلاع عليه فائدة من جهة صوابه ومن جهة خطأه) وهو بعيد كل البعد من الصواب؟
أفي الحق أن أدباء لبنان ينافسون أدباء مصر؟
ليت ذلك كان صحيحاً. فقد شقينا من غير طائل في البحث عن المنافسين حتى خشينا أن تفتر عزائمنا لقلة من نصاول ونقاتل من أقطاب البيان
إن ذلك الأديب اللبناني دلنا على أن العقل في بعض البيئات الأدبية في لبنان لا يزال في طور الطفولة البريئة، وكل شيء من الأطفال الأبرياء مقبول
ألم يقل إن مصر لم يصدر فيها كتاب واحد ذو قيمة لمؤلف مصري صميم؟
فإن لم يكن هذا الحكم من أحكام الأطفال الأبرياء، فكيف تكون أحكام الأطفال الأبرياء؟
ولنفرض أيها الأخ أن مصر ليس لها وجود أدبي كما يتوهم بعض أهل لبنان، فهل لكم أن تدلوني على الأسباب الصحيحة التي قضت بأن يبذل المستعمرون ما يبذلون ليشوهوا سمعة مصر في الأقطار العربية؟
هل لكم أن تدلوني على الأسباب التي قضت بأن يشقى المستعمرون في الحيلولة بين مصر وبين الأقطار العربية؟
إن المستعمرين يعرفون أن مطامعهم في الشرق لن تتحقق إلا يوم تضعف اللغة العربية ويضعف سحر المصحف؛ وهم يعرفون أن مصر تستقتل في سبيل اللغة العربية وفي سبيل المصحف؛ ولبعض ساستهم الكبار كلمة مأثورة وصلت إلى أسماع من في القبور وإن لم تصل إلى آذان بعض الأحياء!
وأنا لا أتهم من يشوهون سمعة مصر الأدبية بأنهم يخدمون بعض الأغراض الشيوعية أو الاستعمارية، فذهني لا يسيغ أن يكون فلان وفلان من أهل الضلال؛ ولكني أرجو أن ينتبه فلان وأشياع فلان إلى أنهم يخدمون المستعمرين من حيث لا يشعرون. والغفلة قد تكون أقبح من الإثم الصريح(295/8)
وما الذي يغنم بعض أدباء لبنان من الطعن في الثقافة المصرية؟ أيستطيعون أن يدعوا لأن في مقدورهم أن يمدوا أهل بلادهم بكل ما تتطلع إليه الأذواق والعقول؟
أيستطيعون أن يدعوا أن أهل بلادهم من القناعة والزهد بحيث يكتفون بما يصدر في لبنان من مؤلفات وجرائد ومجلات؟
أيستطيعون أن يدعوا أن أدباء مصر لا يملكون من وسائل العناد والغطرسة ما يملك بعض أدباء لبنان يوم يستعر الجدال؟
أيستطيعون أن يدعوا أننا سنصفح أبد الدهر عن تطاول بعض الناس فلا نجزيهم عقوقاً بعقوق؟
لقد زرت لبنان، فماذا رأيت؟
رأيت الطبيعة ورأيت الناس، ويعز عليّ أن أصرح بأن بعض الناس في لبنان يصدون النفوس عن التطلع إلى جمال الطبيعة في لبنان.
وما الذي يهمنا من الجبل وهو صامت لا ينطق؟ وما الذي يهمنا من جبل لبنان يوم يصح أن أبناءه يؤذون العروبة جاهلين أو عامدين؟
لقد تعقبتني إحدى مجلاتهم وأنا في بغداد فكتبت تقول:
(سفير العروبة المصرية في العراق يطعن صدر لبنان)
وقد كتبت رداً مفحماً على ذلك المقال الجائر الظلوم، ثم طويته ترفقاً بلبنان الذي أرجو أن يظل بإذن الله من حصون اللغة العربية. وأنا مستعد لنشر ذلك المقال إن أذن أصدقائي الكرام من أهل لبنان
إن أدباء مصر يملكون من الثروة الذوقية ما لا يملك بعض الناس، فأدباء مصر هم الذين يشيدون بمحاسن الأقطار العربية، وهم الذين يضفون الجمال على كل بلد يحلون فيه؛ والى أقلامهم يرجع السحر الذي يتمتع به جبل لبنان
وأنا مع ذلك أشهد بأننا نرد إلى أهل لبنان بعض ما طوقوا به أعناقنا من وداد: فلمصر في لبنان مكانة عالية. وفي أدباء لبنان رجال أبرار لا يذكرون مصر بغير الجميل؛ ومن أجل هؤلاء الرجال الأبرار تتسع صدورنا لما نسمع من فلان وأشياع فلان، لأننا نعرف أن المرء لا يمثل أمته حين يخطيء، وأنما يمثلها حين يصيب(295/9)
ثم ماذا؟
قالوا: إن مصر مدينة في بعض نشاطها الأدبي إلى ناس كان أجدادهم من لبنان
وهذا حق
ولكني أتحداكم أن تثبتوا أن لبنان نبغ فيه أديب واحد ولم يكن مصدر نبوغه الاتصال بالثقافة المصرية
أتحداكم أن تثبتوا أن في مقدوركم أن تنقلوا إخوانكم في مصر إلى مرابعهم في لبنان
إن الأدباء السوريين واللبنانيين لم يذوقوا طعم المجد الأدبي إلا بعد أن شربوا ماء النيل، وفلان وأشياع فلان سيظلون من النكرات إلى أن يذوقوا ماء النيل
فتعالوا إلينا أيها الإخوان لنحولكم إلى رجال عظماء يسيطرون على الأدب والتاريخ
إن القاهرة تصنع بعقول العرب في العصر الحديث ما كانت تصنع بغداد في عصر بني العباس؛ فإن استطعتم طمس نور الشمس فامضوا في عنادكم آمنين!
أتشتم مصر في لبنان وبفضل مصر تنبه العرب إلى جمال لبنان؟
ثم ماذا؟
ثم زعم فلان وأشياع فلان أن أمثال الدكتور طه حسين والدكتور هيكل والأستاذ أحمد أمين والأستاذ لطفي جمعة لم يصنعوا شيئاً وأنهم في مؤلفاتهم لم يكونوا مبتكرين
فهل يستطيع فلان وأشياع فلان أن ينكروا أن لهؤلاء الرجال فضلاً عظيماً في نشر الثقافة الأدبية والعلمية والذوقية؟
هل ينكر أحد أن الدكتور طه حسين رجل موهوب وأن صوته وصل إلى المشرقين؟
هل ينكر أحد أن الدكتور هيكل من أعاظم المتحدثين عن شخصية الرسول؟
هل ينكر أحد أن الأستاذ أحمد أمين وضع أحجاراً متينة في تاريخ الحضارة الإسلامية؟
هل ينكر أحد أن لطفي جمعة له أبحاث وفصول تعد من الروائع؟
ومن هو الأديب الذي يسمح له ضميره بأن يتجاهل أقدار هؤلاء الرجال؟
قد يتطوع أحدكم فيبعث ما كنت قلته في طه حسين وأحمد أمين وأنا أعرف أني قلت في هذين الرجلين ما قلت باسم النقد الأدبي، ولكني مع ذلك أعرف أنهما من أقطاب هذا العصر، وليس لهما نظير في لبنان أو غير لبنان، وسيكون لهذين الرجلين صدى مسموع(295/10)
في الأقطار العربية يمتد إلى أجيال وأجيال
احب أن أعرف لحساب من يتعب بعض الناس أنفسهم في الغض من الثقافة المصرية؟ فمن المستحيل أن يكون هذا التحامل خالصاً لوجه الله والأدب. ومن البعيد أن تكون تلك النزوات بريئة من شوائب الأغراض
لقد آن أن نعرف أن الاستعمار يغزونا من كل جانب. آن أن نعرف أن الاستعمار يريد أن يتخلص أولاً من تفوق مصر في خدمة اللغة العربية، لأنه يفهم جيداً أن سيطرة الثقافة المصرية تقوم بفضل اللغة العربية، وهو يرجو أن يخرس لسان العرب لتحتل مكانه ألسنة روما ولندن وباريس
الاستعمار يفهم أن القاهرة صارت محور الحركة العربية، ففيها تُعقد المؤتمرات، وفيها يلتقي العرب بعضهم مع بعض، وفيها تحل المعضلات، وإليها يرجع الأمر في فض الخصومات العربية، وهو من أجل ذلك يبذل جهده الأثيم في تنفير العرب من الثقة بالأمة المصرية
فكيف يغفل بعض إخواننا في لبنان عن هذه الحقائق؟
كيف ينسى بعض إخواننا في لبنان أن للمستعمرين مكراً يخفي على إبليس؟
كيف يجهل بعض إخواننا في لبنان أن تلك الحركة قد تسوق أهل مصر إلى نفض أيديهم من صداقة لبنان؟
وهل يظنون أن أهل مصر من الملائكة وأنهم لا يعرفون في جميع الأحوال غير الصفح الجميل؟
أرجو أن يعرف بعض إخواننا في لبنان أننا نلاقي كثيراً من العًنت والمشقة في تبديد ما يحيطون به أغراضهم من ظلمات وشبهات.
أرجو أن يعرفوا أن قالة السوء قد تطِّوق أعناقهم إذا فكرت الصحافة المصرية في دفع ما يوجهون إلى مصر من زور وبهتان
أرجو أن تعرفوا جميعاً أن يد الله مع الجماعة. أرجو أن تعرفوا أن العروبة تستطيع أن تنسى أن في الدنيا بلداً اسمه لبنان يوم تثق بأنه يضع الأشواك في طريق الوحدة العربية، ولكن ذلك اليوم سيكون مشئوماً لأن العرب يؤذيهم أن يضيع لبنان(295/11)
هل تصدقون أنني دافعت عنكم في دمشق وبغداد؟
هل تصدقون أن الحزن يفعم قلبي كلما تذكرت أن الدسائس الاستعمارية قد تبعدكم عنا إلى غير معاد؟
هل تصدقون أني طربت حين رأيتني أُشتَم في بعض مجلاتكم باللغة العربية لا باللغة الفرنسية؟
وأؤكد لكم أيها الإخوان أني لا أتصدق عليكم بهذا العطف الصادق، فلو جُمع ما نُشر في جرائدكم ومجلاتكم من الدعوة إلى الثقة بمصر لتكوّن منه محصولٌ أدبيٌّ نفيس. ونحن نعرف منزلتنا في قلوبكم، ونحرص على أن تبقوا أصدقاء أوفياء، ولكنكم تعرفون أن الطبيعة الإنسانية يغلب عليها الضعف، فهي قد تذكر السيئات وتنسى الحسنات. فأرجوكم بالله ألا تحبطوا أعمالكم بمظاهر الغدر والجحود، فقد تلقون منا من يقابل العدوان بالعدوان
أما بعد فهذه كلمة صريحة أردت بها وجه الحق، وما أنكر أن فيها بَدَوات لا تخلو من خشونة وعنف، ولكن يعزيني أني كنت فيها مخلصاً كل الإخلاص
ولكم أن تثقوا بأن مصر لن تقف إلا حيث تحبون، ولن تروا منها غير الصدق والوفاء.
زكي مبارك(295/12)
من برجنا العاجي
هل ينتظر اللغة العربية والأدب العربي الحديث في مصر مستقبل سعيد؟ لقد بدرت البوادر بشروع بعض الأجانب في الإقبال على تعلم اللغة العربية والاهتمام بمعرفة كتاب مصر البارزين. من رأيي أن الحياة لن تدب في هذه اللغة وهذا الأدب إلا إذا ظفر بقراء كثيرين من هذا العنصر النشط المثقف. وإني لأتخيل اليوم الذي يتم فيه ضم أجانب مصر أو أغلبهم إلى حظيرة قرائنا في لغتنا. هؤلاء الأجانب الذين يعدون القراءة غذاء ذهنياً له ضرورته في حياتهم اليومية، شأنهم في ذلك شأن الحاجات الأولية؛ هؤلاء الآلاف القليلة من الأجانب الذين استطاعوا أن يكفوا لرواج حوانيت الكتب الأجنبية التي لا يخلو منها شارع كبير في أي مدينة كبيرة من مدن هذه الدولة العربية اللغة؛ هؤلاء النفر الذين استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم صحفاً ومجلات بلغاتهم المختلفة وأن يضمنوا لها حياة وازدهاراً. ترى ما الذي يحدث لو أن هؤلاء فهموا أخيراً أن استقلال مصر وسيادتها معناه سيادة لغتها وآدابها وفنونها على الأقل فوق أرضها وفي حدود بلادها وأن الخير والكياسة والمصلحة تقضي عليهم أن يكفوا عن تجاهل لغة الدولة وأن يعيشوا بيننا كما يعيش كل أجنبي في دولة محترمة، يعني بتعليم لغتها والاطلاع على أدبها ومسايرة الحياة الذهنية والاجتماعية فيها؟ لا ريب عندي، لو وقع ذلك الحدث، في أن أدبنا سيتغير ويتطور في مثل لمح البصر تطورات تثير الدهشة والعجب. ليس فقط لأن نتاج فكرنا سيرتفع شأنه في السوق، بل لأنه سيرتفع في ذاته من حيث الصنف والقيمة. فإن القارئ الجيد يخلق الكاتب الجيد، و (الزبون) المحترم يوجد الحانوت (المحترم).
لكن. . . كيف نحمل الأجانب على ارتياد (حانوتنا) الفكري وأكثره قد
استقرت في نفسه بغير علة فكرة الاستخفاف بلغتنا؟ ما هي الوسائل
التي ينبغي أن نتخذها لنزع هذه الفكرة عنه وترغيبهم في بضاعتنا؟
هذا سؤال مطروح على القراء المثقفين
توفيق الحكيم
بين القديم والجديد(295/13)
لأحد أساطين الأدب الحديث
عاب الأستاذ الغمراوي على عميد كلية الآداب الدكتور طه أنه اختار في كتاب (حديث الأربعاء) مجموعة من شعر المجون العباسي، ولا أريد أن أتعرض الآن لهذا الاختيار بنقد مطول وإن كنت أعتقد أنه جعل الكتاب غير لائق إلا لقراءة المؤرخ الباحث في آداب الشعوب في العصور المختلفة، وأنه ليس للقراء عموماً؛ وهذا لم يكن رأي مؤلفه عندما ألفه، فإني أذكر أنه عاب على الشيخ الحضري حذفه المجون من نسخة الأغاني التي هذبها وقال: إن دارس الأدب لا بد أن يقرأ هذا الشعر كيلا يخطئ في الحكم على عصره. وكان الدكتور يجد له طلاوة خاصة يستحق من أجلها الصيانة. ولا ادري هل الدكتور لا يزال على هذا الرأي أم أن جلال المنصب قد حوره؛ لكني أريد أن استخلص من ذكر الأستاذ الغمراوي كتاب (حديث الأربعاء) حجة على الأستاذ الغمراوي؛ فالشعر الذي اختاره المؤلف فيه شعر عربي، والأستاذ الغمراوي يقول إن الأدب الأوربي هو الذي أفسد المذهب الجديد في الأدب بمجونه. فكأنما يريد الأستاذ الغمراوي أن يقول إن اطلاع الدكتور طه حسين بك على الأدب الأوربي هو الذي دعاه إلى اختيار شعر الحسين بن الضحاك وشعر أبي نواس وغيرهما. فإذا كان هذا قصده ومعناه فأن الأستاذ الغمراوي يكون على حد اصطلاح الأوربيين كمن يضع العربة أمام الفرس بدل أن يضع الفرس أمام العربة وهو الترتيب الطبيعي، لأن الدكتور طه قرأ الشعر العباسي قبل أن يقرأ الأدب الأوربي، وتأثر بالشعر العربي قبل أن يتأثر بالشعر الأوربي، وإني واثق أنه اطلع في الأدب الأوربي على الوقور وغير الوقور من الشعر. اطلع على شعر سوفوكليز ويوربيدس وإسكيليس. فهل يريد الأستاذ الغمراوي أن يقول إن اطلاع الدكتور طه حسين على شعر سوفوكليز مثلاً هو الذي أغراه باختيار شعر الحسين بن الضحاك؟ إنه إن قال هذا القول دل على أنه لم يطلع على شعر سوفوكليز وقس على ذلك غيره من الشعراء ولا أدري أي الشعراء الأوربيين هم الذين أوعزوا إلى الدكتور باختيار شعر مجان العرب. هل قراءته لشعر بودلير أم قراءته لشعر فرلين؟ إني لم أقرأ في شعر بودلير وفرلين (وقد قرأت بعضه) ما يماثل بعض شعر أبي نواس والحسن بن هاني في صراحته. ولا أظن أن(295/14)
الجمهور الأوربي كان يطيق من بودلير أو فرلين صراحة كصراحة أبي نواس والحسين بن الضحاك. إذاً يستحيل أن يكون بودلير أو فرلين هو الذي أغرى الدكتور باختيار شعر الحسين بن الضحاك أو شعر أبي نواس، لأن الأشد صراحة في المجون هو الذي يبيح ما هو أقل منه شدة. فأبو نواس هو الذي يبيح فرلين وبودلير، وليس بودلير هو الذي يبيح أبا نواس. وإذا عرفنا أن الدكتور تأثر بالشعر العربي الأشد صراحة في صباه ولم يطلع على الشعر الأوربي الأقل صراحة إلا بعد أن رسخ أثر الأول في نفسه علمنا أن ما زعمه الأستاذ من أثر الشعر الأوربي خاصة والأدب الأوربي عامة في التأثير على المؤلف وفي تعيين اختياره لما اختار في كتاب (حديث الأربعاء) زعم غير رجيح. وعلى هذا القياس يكون أيضاً زعمه غير رجيج في تعليل اختيار الدكتور طه حسين بك للقصص الفرنسية التي كان ينقلها إلى العربية، وكان ينشرها هيكل في السياسة الأسبوعية، وهي القصص التي يشكو منها الأستاذ الغمراوي فإنها مهما بلغت في صراحتها، أقل صراحة مما قرأه الدكتور طه في صباه من القصص العربية في كتاب (مصارع العشاق)، وغيره؛ وإذا يكون مثل الأستاذ الغمراوي في تعليله كمثل من يحسب السبب نتيجة والنتيجة سبباً، أو كمن يقوم بتجربة كيميائية في المعمل فيبدأ التجربة من آخر خطواتها سائراً إلى أولها. والحقيقة أن الأستاذ الغمراوي أحياناً في مقالاته يتخلى عن التعليل الطبيعي ويفضل التعليل المصطنع، ويتخلى عن ترتيب المؤثرات الطبيعي ويفضل الترتيب المصطنع. فهو مثلاً يقول إن في المذهب الجديد شططاً، وبدلاً من أن يعلل هذا الشطط التعليل الطبيعي القريب بما اكتسبته العقول والنفوس من شغف بتذوق التجارب النفسية والعقلية بسبب الحوافز الاجتماعية وغير الاجتماعية، وهذا الشغف قد يؤدي إلى الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بازدياد الحرية السياسية والقانونية وهي قد تؤدي إلى هذا الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بأنه من أثر نشر الطباعة العربية الحديثة للكتب العربية التي فيها أمثال ما يشكو منه كما علل المؤرخون الأوربيون بعض الشهوات في نزعة التجديد والإحياء في القرن السادس عشر في أوربا بطبع كتب الأدب الإغريقي القديمة - أقول بدل أن يأخذ بهذه الأسباب الطبيعية التي لها نظائر في التاريخ - والتاريخ يفسر بعضه بعضاً - تراه يغفل كل هذه الأمور ويقول: إن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين رأوا أنهم لا يستطيعون النيل من الإسلام قدر ما(295/15)
ينالون منه بمؤلفات الدكتور طه حسين ومؤلفات هيكل باشا القديمة قبل كتاب (حياة محمد) و (منزل الوحي). وقد يسيء القارئ فهم تعليل الأستاذ الغمراوي ويتساءل: هل يعني الأستاذ الغمراوي أن نزعة التجديد دسيسة مقصودة مدبرة؟ أرجو ألا يجسم الوهم المسألة للأستاذ إلى هذا الحد، فإنه عالم قد اختبر البحث العلمي، وهو كالعلماء لا بد أن يترك التعليل البعيد ما دام هناك تعليل طبيعي له شواهد ونظائر في التاريخ كما أوضحنا بذكر ما كان من الشطط في نهضة إحياء العلوم في أوربا في القرن السادس عشر. فلو أن مؤرخاً زعم أن الوثنيين خفية راموا القضاء على المسيحية ببثهم الشهوات والمفاسد في الكتب الإغريقية ما كان تعليله بعيداً عن طريقة الأستاذ الغمراوي في تعليل شطط النزعة الحديثة إلى التجديد. أو لو أن مؤرخاً زعم أن الفرس والروم في صدر الإسلام أرادوا النيل من الإسلام ببثهم المفاسد والترف حسداً وحقداً ما كان تعليله بعيداً عن تعليل الأستاذ. أو لو أن مؤرخاً زعم أن مفكري الإغريق حاولوا إفساد العقائد الإسلامية في عصر الدولة العباسية ببثهم روح التفكير الحر المطلق من قيود الدين حنقاً وحقداً على الدين الإسلامي ما كان تعليله بعيداً عن تعليل الأستاذ. والحقيقة أننا ربما نكون قد فهمنا من كلامه عن أعداء الدين الإسلامي ومحاولاتهم القضاء على الدين الإسلامي بنزعة التجديد ومؤلفات المجددين المصريين أكثر مما يقصد الأستاذ، لأننا لا نستطيع أن نتصور أن عالماً جليلاً كالأستاذ الغمراوي يريد أن يقول: إن بين الدكتور طه مثلاً وبين أعداء الدين من الأوربيين تفاهما واتفاقاً على الدين الإسلامي. إنما ينبغي ألا يترك الأستاذ لجمهور القراء موضع لبسٍ، لأن اللبس في هذه الأمور قد تكون له عواقب خطيرة. ولا أدري لماذا اعترف الأستاذ الغمراوي بما في الأدب القديم من مفاسد ولم يستطع أن يعترف بما لهذه المفاسد من أثر في الأدب الجديد، وما هذه إلا خطوة بعد تلك الخطوة، وهي نتيجة لها؛ ولا يستطيع أن يخطو خطوة إلا وهو ينظر إلى خطوته الثانية؛ وقد خطونا خطوتين فاعترفنا أن الأدب الجديد به عيوب وأن بعضها يرجع إلى بعض المؤلفات الأوربية؛ فالخليق بالأستاذ أن يعترف بأن بعضها أيضاً أو أكثرها يرجع إلى قدوة المؤلفات العربية؛ والخليق به أن يعترف أن ليس كل الأدب الأوربي من نوع القصص التي كان يشكو من نشر السياسة الأسبوعية لها، وأن يتعرف أنه إذا كان بعضها صريحاً في تصوير الشهوات فإن بعضها جليل؛ وأن الصريح(295/16)
منها أقل صراحة من بعض ما في كتب القصص العربية؛ وأن يعترف أن شاعراً كشكسبير لا خطر منه على الإسلام، فلا هو مبشر بالمسيحية ولا هو ملحد وداعية للإلحاد. وما يصدق في الكلام عن شكسبير يصدق في الكلام عن ألف شاعر وألف كاتب من شعراء الأوربيين وكتابهم. وخليق بالأستاذ أن يعترف أيضاً أن بين الكيميائيين وعلماء الطبيعة الأوربيين من هم أشد خطراً على الإسلام من كثير من أدبائهم، لا لأنهم يحقدون على الإسلام ويريدون الكيد له، بل لأن علمهم الطبيعي شط بهم عن الأديان. وأظن أن لنا بعض العذر إذا فهمنا بعض ما فهمنا من قول الأستاذ عن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين إذ قال أنهم أرادوا ألا يهاجموا مواجهة بل بحركة التفاف، وأن حركة الالتفاف هذه هي نزعة بعض الكتاب المصريين إلى التجديد، وذكر مؤلفات الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب ومؤلفات هيكل القديمة، فبالله كيف لا يكون للجمهور العذر إذا فهم من قول الأستاذ الغمراوي أن الدكتور طه حسين وهيكل من دعاة أعداء الدين الإسلامي ومن عمالهم السريين القائمين بحركة الالتفاف هذه بدل مهاجمة الدين الإسلامي مواجهة، وعلى فرض أن تأليف الدكتور طه كتاب (على هامش السيرة) وتأليف هيكل (حياة محمد) و (منزل الوحي) لم يقنع الأستاذ الغمراوي بخطأ رأيه فيهما ألا يقنعه تأليفهما هذه الكتب أنهما لا يريدان معاونة الحاقدين على الدين الإسلامي من الأوربيين للقيام بحركة الالتفاف كما يقول الأستاذ وأنه إن كان في تأليفهما القديم أو الحديث شطط فأسبابه ما أوضحنا من الأسباب الاجتماعية، ومن شغف جديد بالبحث قد يخطئ وقد يصيب، لا لأنهما يريدان معاونة الحاقدين على الدين في القيام بحركة التفاف. ولو أن كاتباً في أوربا في بدء نهضة الأحياء في القرنين الرابع عشر والخامس عشر اتهم رواد النهضة في أوربا بأنهم يريدون القيام بحركة التفاف معاونة لمن يكره المسيحية من المسلمين لما تعدى قوله قول الأستاذ الغمراوي. ولا أظن أن الأدباء في أوربا يسعون سعياً حثيثاً لمهاجمة الإسلام؛ وإن كان بعض الكتاب الأوربيين يفعل ذلك فإنه لا يفعله كأديب ولا كمفكر عالم ولكن كمبشر بدين آخر. وإذا كان بين أدباء المسلمين ومفكريهم وبين الأدباء والمفكرين في أوربا صلة فهي ليست صلة عداء لدين بل صلة بحث وتفكير قد يخطئ وقد يصيب. وبالرغم من أن الأستاذ الغمراوي قد فسر قوله (إرادة تغليب دين على دين) تفسيراً جديداً فإنه يحوم ويحلق(295/17)
دائماً في جو المعنى الذي فهمناه من قوله.
إن المؤرخين المعاصرين في أوربا يميل الكثير منهم إلى الاعتقاد أن النزعة إلى التجديد في أوربا في القرن السادس عشر كانت لا بد واقعة بمحاسنها ومفاسدها لأسباب أصيلة في دول أوربا حتى ولو لم يكن للعرب أثر فيها. وربما يدعونا هذا الرأي إلى بحث رأي يقابله والى أن نتساءل إلى أي حد كان التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحديث في مصر مؤدياً حتماً إلى النزعة إلى التجديد بمحاسنها ومفاسدها حتى ولو لم يكن للأدب الأوربي أثر فيها قل أو كثر وإني واثق أن الأستاذ لو بحث هذا الموضوع وجد في هذا الرأي من الحقائق ما يصح الاعتراف به حتى ولو لم يقره كله على علاته.
قارئ(295/18)
على هامش الفلسفة
الحقائق الأخلاقية أيضاً
للأستاذ محمد يوسف موسى
قلنا إن من الخير والواجب عند تاريخ التقاليد والحقائق الأخلاقية أن يلاحظ الباحث ما كان من اختلاف بل تناقض أحياناً بين كثير من التقاليد الضيقة، وما كان من تشابه عجيب وانسجام نادر بين المثل الأخلاقية العليا التي عارض بها دعاة الإصلاح وفلاسفة الأخلاق ومعلمو الإنسانية تلك التقاليد. وذلك ما يدعو للقول بأن هؤلاء المصلحين كانوا يصدون عن معين واحد فيما وقفوا أنفسهم على تحقيقه
من الممكن أن نذكر في معرض التمثيل لذلك في الأزمنة العريقة في القدم حكيمي الهند والصين (بوذا وكونفشيوس) وسقراط الإغريق وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماءهم، وأخيراً المسيح ومحمداً عليهم أفضل الصلاة والسلام
في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية يجد الباحث تعاليم أخلاقية صالحة حقاً، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس. منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته. هذا بعض التعاليم السلبية؛ وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى ونكران الذات والتضحية في سبيل الغير. يقول بوذا نفسه في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة: (إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن). وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان هو (أن أرنباً لا يملك قوته عز عليه أن يرد سائلاً طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرجع خائباً) هذا المثل يبين بإعجاب كيف يجب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، بل وبذات نفسه أيضاً. ويحضرني في هذه المناسبة قول الشاعر العربي:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فلْيتق الله سائله
وإذا تركنا الهند إلى الصين نجد كونفشيوس حكيمها الأكبر يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كأن يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، بالشفقة البنوية، بالإخلاص الأخوي، بالأدب الذي منبعه القلب، بالمعاملة الحسنة لجميع الناس على السواء. بعض كلماته تمثل نمطاً عالمياً من التفكير(295/19)
وأخلاقاً تفرض نفسها فرضاً. هاهو ذا يقول: (من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفاً ويعلم أنه عارف، أو جاهلاً ويعلم أنه جاهل. العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير. يجب مقابلة الخير بالخير (لعل هذا خطأ مطبعي وأن الصواب مقابلة الشر بالخير) والظلم بالعدل. أحبوا الآخرين كأنفسكم). ولما حانت ساعته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله وقال في نبل وإيمان: حياتي كانت عبادتي وصلاتي)
وفي اليونان القديمة نرى سقراط مؤسس علم الأخلاق يأمر، ضمن ما يأمر به، بأن يكون المرء سيد نفسه؛ بالشجاعة، وبالعدالة إلى غير ذلك من الصفات الأخلاقية العامة. وفي ساعة موته دفع بشجاعته إلى حد البطولة حين يقول لقضاته، وقد قدم للمحاكمة متهماً ظلماً بالسفسطة والإلحاد وإفساد الشباب: (لشد ما أنتم في الضلال إذا كنتم تعتقدون أن رجلاً يعرف لنفسه بعض القيمة يفاضل بين حظوظ الحياة والموت، وبين البحث دائماً عما إذا كان ما يعمله عدلاً أو غير عدل) وحين يقول لتلميذه: (كريتون لا ينبغي أن نجترح أي ظلم حتى ولو كنا ضحايا الظلم الآخرين. عمل الشر للغير هو الظلم بعينه. لا يجب مقابلة السيئة بمثلها).
وإذا تركنا اليونان، وعرجنا على بني إسرائيل، نجد أنهم كانوا في فجر تاريخهم لا يعتقدون واجباً إلا لإلههم المحلي وأنفسهم حتى جاءهم أنبياؤهم وحكماؤهم بالمبادئ الأخلاقية الرحبة الواسعة. وفي ذلك يقول أحدهم في القرن السادس قبل الميلاد: (ليس لجميع الشعوب إلا إله واحد كل العالم معبده، وتكريمه أن يكون الكل عادلاً). وفي التلمود: (أحبب غيرك كنفسك. لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به). وهذه الحكمة أخذها أحد حكمائهم وهو: (هلِّي الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد مبدأ له. فهي عنده كلمة الشريعة وما عداها مجرد تفسير لها. وفيه أيضاً: (من يفعل الخير حباً في الخير يكن من أصدقاء الله). وجاء في كلمة للكاتب الروسي الكبير (مكسيم غوركي) هذه الحكمة السامية لهلَّيل الحكيم السابق ذكره: (إن لم تكن لنفسك فلمن تكون؟ ولكن إن كنت لنفسك فقط فلم تكون؟). وقد تأثر غوركي بما في تلك الكلمة من معنى إنساني نبيل، وحكمة عميقة حتى ليقول: (إن حكمة هلِّيل هي النبراس الذي هداني السبيل وما كان سهلاً سوياً)
بعد هؤلاء جميعاً نذكر عيسى عليه السلام الذي جاء معارضاً لما وجده من تقاليد عتيقة(295/20)
ضيقة بمثل أخلاقي عال صالح للناس جميعاً. كان مما بَّشر به: (حب المرء لله أن يحب قريبه كنفسه) وليس القريب هنا هو الإسرائيلي مثلاً، بل الإنسان للإنسان: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. إن وصيتي لكم أن يحب بعضكم بعضا كما أحببتكم، لا يوجد حب أعظم من أن يعطى المرء من حياته لأصدقائه).
أما محمد: صفوة الخلق كافة، خاتم الأنبياء والمرسلين. فقد جاء في الأخلاق بما يعتبر بحق المثل الأعلى الكامل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا). . . إلى آخر هذه الأوامر الحكيمة الذهبية العالمية التي احتوتها تلك الآيات الكريمات: (وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون). ويضاف لهذا ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (الدين المعاملة).
وهكذا نرى أن كثيراً من ذوي الضمائر الإنسانية عارضوا التقاليد والإفهام الضيقة التي كانت مقبولة في أزمانهم وبيئاتهم بمثل عليا؛ وبعبارة أخرى بمثل أعلى أخلاقي حكموا حقاً بصلاحيته للجميع دائماً. وصلوا لذلك لأنه أتيح لهم أن يتخطوا الجماعات التي كانوا يعيشون بينها، ونجحوا في الدخول في حظيرة الإنسانية الخالدة والحياة العامة التي لا يحدها مكان أو زمان
هذه الأفكار الأخلاقية العالمية التي وصل إليها أصحاب الضمائر العالية النيرة بعد تفكير عميق تجاوزوا به أزمانهم وبيئاتهم وأممهم إلى الإنسانية العامة في أوسع حدودها. هذه الأفكار السامية التي يجب أن تكون مقبولة منا جميعاً، أليس لنا أن نقرر أنها حقائق أخلاقية عامة فتكون الأخلاق لذلك علماً من العلوم؟ بلى وربي، إنه مما لا مرية فيه أن هذه الآراء ليست شعاراً ومبادئ مقدسة للناس جميعاً يصدرون عنها في أعمالهم دائماً. هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقائق العلمية لا تزيد عليها في هذا المعنى
حينما يعرف العلماء الحقيقة العلمية بأنها الاتجاه العقلي العام نحو مركز واحد أو نتيجة واحدة، أو بأنها الشيء الذي تتجه إليه العقول كلها وتقبله - حينما يعرفونها بهذا أو ذاك لا(295/21)
يقصدون أن هذا الاتجاه العام محقق، بل يقصدون أنه أمنية يرجون يوماً ما أن تكون. وفي الواقع لا يقبل كثير من الناس الذين لا يزالون على الفطرة والجهالة الأولى التفسيرات العلمية الصحيحة لكل الظاهرات الكونية كالرعد والبرق والمطر والكسوف والخسوف، بل لا يزال منا معشر المصريين من يعلل هذه الظواهر ونحوها بما لا يتفق مع العقل في شيء. ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. فحين يعلن العلماء أن الحقائق العلمية محل اتفاق جميع العقول، يكون الغرض العقول الموهبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل أنها تكون حقاً ذات يوم محل اتفاق جميع العقول بلا استثناء. إذن لنا أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وإنها من الآن مقبولة من كل وهب القدرة على الحكم الصائب كما أنها ستكون يوماً ما، قريباً أو بعيداً، مقبولة من الجميع عندما ينظر المرء نظرة واسعة تنتظم العالم بأسره وتعتبر الناس اخوة متساوين فيما لهم من حقوق وعليهم من واجبات
هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئاً فشيئاً لعوامل عديدة. هناك قوى هامة مختلفة تعمل للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما حصل ويحصل كذلك من الناحية العلمية. من ذلك انتشار العلم وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض وسرعة ذلك الاتصال وحدته وتزايده يوماً فيوما لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهم من الأجناس المختلفة. هذا الاتصال مستمر الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيراً من المظالم والآلام، ولكنه عمل أيضاً على تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على كثير من التقاليد الأخلاقية الضيقة الخاصة، كما عمل على تبادل المبادئ الأخلاقية واختيار انفعها الضيقة الخاصة، كما عمل على تبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها. وسيؤدي استمرار هذه العملية الواسعة إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعاً مداركهم ويسموا بترتيبهم حتى يجاوزوا بذلك الدود الطبيعة من محيطات وبحار وأنهار وجبال ويصلوا إلى أبعد الآفاق. حينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة خلقه أو كشفه من حقيقة وجمال، ويركزون في ضمائرهم ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة(295/22)
والآن وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة نرى الضمير المستقيم مجبراً على قبولها، ونرى من الواجب أن يقبلها الجميع يوماً من الأيام. لنا الآن من غير إسراف أن نقرر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملاً من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى لا وليد التقاليد أيا كان مصدرها. الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة من تفكير وذاكرة وتخيل وتعليل واستنتاج للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع
بعد هذا لنا أن نتساءل: ما هي الطريقة التي تتبع في دراسة هذا العلم، في تحديد المثل الأعلى الأخلاقي تحديداً صالحاً طيباً يقبله الناس بلا استثناء؟ ذلك موضوع البحث التالي إن شاء الله.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(295/23)
في الحرب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كل زعيم ينشد نشيد السلام ويقف في محرابه على منبره يقدم له الترتيلات والقرابين والنذور. . .
ويلكم! إن السلام هو أن تسكتوا جميعاً عن النقيق والنعيق باسمه. . .
أتذبحونه وتذكرون اسم الله عليه؟!
إن السلام ألا تفكروا في مستقبل الذريات لإسعادها بأشقاء آبائها وطحنهم برحي حروب زَبون. . . بل أن تفكروا في حاضر الآباء الحاضرين الذين تأخذون لقمة بطونهم وتضعونها في بطون المدافع آكلات الأجسام، وهاضمات المدن والخيام!
عدتم إلى فلسفة الردة تمجدون الحرب للحرب، وتضعون لها مكاناً في قلوب الرجال كمكان الأجنة في بطون الأمهات. . والأمهات الوالدات تخرج لكم الكتل اللحمية البشرية كما تخرج معامل الأسلحة مصنوعاتها. . . فتولد كل يد ومعها أظفورها وقنبلتها ومدفعها. . . ويولد كل وجه ومعه قناعه. . .
والشياطين والزبانية تجمع الأحطاب من نغل القلوب وإحن الأفئدة. . وتضع الألغام على منابر الساسة وألسنة الزعماء. . . والإنسانية - العروس الهندية! - تسمع إلى صلوات كهنة النار قبل أن يقذفوها فيها بصبر وعجز، وربما بطرب وسرور؟
وصار كل كاهن يلقي خطبه وتصريحاته المشئومة بإلقاء جميل وإشارات تمثيلية باهرة. . .
ووقفت (العروس الهندية) تنظر إلى أَلسنة الخطباء نظر الأحطاب إلى أعواد الثقاب. . .
واجتمعت في قلوب الزعماء أحقاد أممهم تغلى على الألسنة، فصار كل زعيم يصر على أضراسه لأنه يحس سُعار السلاح في يده. . .
ونظر كل زعيم إلى قرينه قبل أن ينظر إلى مصالح أمته. . . والحرب تتجرد من ثيابها لتبرز إلى الميادين راقصة عارية. . .
عليها تَنُوس ذؤاباتٌ سود وعقود من الجمرات الحمر. . .
وقد خرست أصوات الكهان والمعلمين والدعاة. إن كل هذا يختفي عند لزوم ظهوره وإلا(295/24)
عد أسلوباً من أساليب الخيانة والتثبيط والفت في الأعضاد. . . أن الحيوان المقدس المتمدن لا يزال يعيش بغرائزه على رغم معابده ومحافل السلام فيه ومعاهد العلم عنده. . .
وتكتلت المحصولات والأثمار والذهب لتقذف في النار مع الجماجم والأيدي التي صنعتها وتعهدتها. . .
إذاً لماذا تبنون ناطحات السحاب وتجملون المدن وتقيمون التماثيل والأنصاب وتفرغون على ما تصنعون كل ما تملكون من فن وعلم ما دمتم تهدمون كل أولئك في لحظة؟
أين الحياة التي يحياها الإنسان في الأرض؟ ومتى؟ إن كل ما في العالم الآن من علم ودين وفن إنما هو إعداد للموت السريع. فأين العمل للحياة والاستقرار؟
أما والله لو لم تكن (الآخرة) التي تصير فيها الإنسانية إلى مصير آخر، أمام عيون الحكماء فلقد يضل ضلالهم ويجن جنونهم!
لقد أسبغت الإنسانية على مظاهر الحرب خلاصة من فنها المغري بها؛ إذ زينت الجنود بزينة فاتنة، وجعلت ثيابهم أفخر الثياب وادعاها إلى العشق والإعجاب، وعشق النساء رجال الحرب أكثر مما عشقن رجال السلم والعلم والفن.
أية خدعة محبوكة الأطراف هذه الحياة يا رب الحياة! إنك تدفعنا فيها إلى غايات مستورة ببعض الحلوى والزينة. . .
تدفعنا بمظاهر الضعف: بالحب، إلى النسل والولادة والعمران وتدفعنا بمظاهر القوة: بالحرب، إلى الموت والعقم والخراب. . .
الحب والحرب هما المظهران الأكبران للحياة، وعلى هامشهما يحيا الفن والشعر والعلم والعمل. . .
حياة محوطة بنواميس في داخل النفس وفي خارجها هي بهما في جذب ودفع. . .
أنحن آلات لا سعادة لها في دنياها إلا العمل، وليس وراء العمل سعادة؟
أظن هذا هو الأصح والأدعى إلى راحة العقيدة في الحياة
وإلى الآن لم يظفر الإنسان - ذلك المخلوق التائه - بنعمة الاستقرار حتى يتيح الفرصة لعلمائه أن يجاهدوا في الكشف عن عرائس أحلامه. . . لأن زعماء القطيع لا يزالون يتغنون بمجد الأنياب والأظفار. . . ولا تزال خيلاء المجد: مجد الديكة المنتفشة تسوق(295/25)
الناس في ضباب من الشعر والألفاظ المعسولة.
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف(295/26)
أعلام الأدب
إسخليوس والدرامة اليونانية
للأستاذ دريني خشبة
مقدمة
نشأ شعر الملاحم وترعرع في ظلال الأرستقراطية التي سادت الحياة اليونانية طوال عصر البطولة في القرنين التاسع والثامن، أو الثامن والسابع قبل الميلاد
ونشأ الشعر الغنائي وترعرع في ظلال الأرستقراطية كذلك وامتد إلى منتصف القرن الخامس
وبرع في شعر الملاحم هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، وهسيود صاحب الأرجا (الأعمال والأيام) والثيوجونية (نشوء الآلهة) ودرع هرقل
وبرع في الشعر الغنائي كل من سافو - شاعرة الخلود - وأليسوس وأنا كريون وأرخليوكوس. . . وقد كان هؤلاء يقرضون الشعر ويتغنون به تسلية لأنفسهم فحسب، أي أنهم لم يكونوا (محترفين)
أما الشعراء المغنون (المحترفون) فقد ألفوا الفرق الغنائية (للغناء والإنشاد والرقص)، فهم بذلك مبتدعو (الخورس) اليوناني. وقد كان أرسطو يطلق على الأغنية من أغانيهم لفظة (دثرامب) (كتاب الشعر لآرسطو)
ومن زعماء الشعراء المغنين ألكمان الشاعر الغَزل الرقيق الذي يعده المؤرخون مبتدع أشعار الحب، وإن تكن سافو فيما نرى زعيمة هذه المدرسة. وقد اكتشفت ماريت باشا سنة 1855 برديّة مصرية بها قصيدة من روائع هذا الشاعر الفحل مما نظم لفتيات الكورس. وفي القصيدة نفحات من الدرام تدل على بداءة الأدب المسرحي
ومنهم الشاعر آريون الذي يُعزى إليه ابتكار الدثرامب (أغاني باخوس)
ومن أعظمهم الشاعر تيزياس الذي يعدونه في الشعر الغنائي نداً لهوميروس في شعر الملاحم؛ وقد اكتسب الشعر على يديه مزايا عظيمة من حيث التنوع والقصص والمزج بين الملحمة والغناء وابتكار القصة الشخصية التي تفيض بالاعترافات(295/27)
ومنهم الشاعر إبيكوس الذي اهتم كثيراً بقرض أناشيد (الصبيان) ومازج بين الشعر والموسيقى ووشى قصائده بورد الربيع وعصافيره وحبر العذارى
ومنهم سيمونيدز (556 - 468) وهو أوسعهم ثقافة، وهو في شعر الحكمة يشبه شاعرنا أبا الطيب من حيث الفكرة العميقة وقوة السبك وعلو المنزلة؛ وكانوا يتدارسون شعره في مجالس يعقدها جلة العظماء لهذا الغرض. وكان سفير قومه في بلاط الملوك والأمراء الأجانب. وقد ذهب برغم كبره ليعقد الصلح بين أميري صقلية المختصمين فأدى مهمته على خير وجه. ويعزون إليه أنه كان بخيلاً شديد الحرص؛ وذلك أنه كان يطلب لقصائده (ثمناً محدداً) لا ينقص منه مهما ألحف عليه في ذلك. . . وأحسن قصائده ما كان له علاقة بالحرب. وقد كتب عن ترموبيلي أروع غُرره ونظم في قتلاها أجمل فرائده. . . ولذا أحبه اليونانيون وآثروه بلقب شاعرهم الوطني دون بندار
أما بندار، فهو بلا ريب أعظم الشعراء الغنائيين الذين أنجبتهم اليونان على الإطلاق. . . ولقد ولد في إحدى قرى بووطيه حيث نشأ نشأة موسيقية، فتعلم العزف على القيثارة ثم مهر في النفخ بالناي، وكان أستاذه في ذلك عمه الشاعر الذي كان يلازمه ويعلمه الغناء والإنشاد فضلاً عن الموسيقى والشعر. . . ثم ذهب إلى أثينا ليتخصص فيما شداه من هذه الفنون، فأتيح له الاتصال برجالاتها وذوي الرأي فيها. ومما يذكر له في هذه الفترة من فترات التحصيل أنه دخل في مباراة إنشادية غنائية مع زعيمة من زعيمات الغناء في أثينا تدعى كورينّا. فغلبته وتفوقت عليه. . . وتقلب بندار في الإمارات اليونانية جميعاً، وحل ضيفاً كريماً على أكثر ملوك الولايات حيث كان يقابل بالبشر ويُتلقى بالترحاب. . . وكان بندار يكره سيمونيدز، وينقم من الناس تهافتهم على شعره الذي كان يدعوه حكمة ولم يكن يدعوه شعراً. وبندار وسيمونيدز في ذلك مثل البحتري والمتنبي. فقد كان البحتري شاعراً لأنه كان يُغني، أما أبو الطيب فقد كان حكيماً. وحسبه أن ثلاثة أرباع ما يحفظ الناس من أبيات الحكمة هو من شعره. وقد كان بندار ينزع في شعره وفي حياته نزعة لاهوتية، فقد أخذ على عاتقه إحياء سنة السلف الصالح بالغناء للآلهة، وقرض الشعر، ونظم الأناشيد الدينية تسبيحاً بأسمائهم، وله في رها وبان. وأبولو منظومات خالدة. . . ومن هنا منزلته الرفيعة في دلفي، فقد كان كهنة المعبد يحبونه ويعتبرونه قديساً، لأنه أّلف حولهم قلوب العامة،(295/28)
وأعاد للدين بهجته، ولذ خصوه بأرفع منزلة في هيكلهم وأفردوه بغرفة خاصة يحل بها كلما زار دلفي. ونحسب نحن أن هذا هو الذي نفر منه خاصة الأدباء الذين هم قادة الرأي العام. . . والشعب الوثني هو أعرف الناس بآلهته، فلما أغرق بندار في هذه النزعة الدينية انصرف الجمهور عنه إلى سيمونيدز شاعر الحق والحكمة وتمجيد البطولة والأبطال.
وقد انتشرت أشعار بندار انتشاراً واسعاً بلغ مصر، وتغلغل في صحرائها إلى معبد أمون - زيوس في سيوه حيث نقشت أوراده الدينية على جدران المعبد وأعمدته بالذهب الخالص مما أدهش الإسكندر الأكبر وملك عليه لبه. . . لكنه كان إعجاباً طارئاً سرعان ما طغت عليه الذكريات القديمة المؤلمة. . . الذكريات التي لم ينسها اليونانيون لهذا الشاعر الكبير الذي خان وطنه الأكبر (هيلاس) بموقفه المزري في غزوة الفرس الكبرى. . . لقد انضمت بلاده للفرس ضد أثينا، فلم يحتج ولم تثر فيه النخوة الوطنية، بل راح ينظم القصائد في وجوب عقد الصلح. . . هذه صفحة بندار السوداء، الصفحة التي لم تنسخ ظلماتها شموس القصائد الغُر التي نظمها بعد ذلك في تمجيد أثينا وتخليد بطولة أبنائها. وهي قصائد أجود بكثير من كل ما نظم سيمونيدز في هذا المضمار. لكنها قصائد تشبه هدايا عضد الدولة للمتنبي. أغزر من هدايا سيف الدولة وأكثر، لكنها كانت ينقصها الروح!!
ولا نستطيع نحن أن ننقص من قدر أشعار بندار إذا قرأناها ولم نكن ملمين بتاريخه، بل ربما رفعناها إلى أعلى أوج يرتفع إليه شعر قديم أو جديد. . . فأشعاره إلهام رفيع ووحي علوي مما يعز على فحول الشعراء. . . وقد نظم كثيراً غير أوراده الدينية في الرياضة والرياضيين، وقد كانت أولمبيا تستهويه بأبطالها كما كانت دلفى تجذبه بآلهتها. . . وكان بندار يعيش عيشة فنية، فمسكنه كان متحفاً للصور والتماثيل والموسيقى والشعر، وكان مشغوفاً بالجمال ينشده في كل ما تقع عليه عيناه. . . في الطريق. . . في الحديقة. . في الملهى. . . في الماء. . . في السماء. . . في كل شيء
هذه هي الأطوار التي ترقى في مدارجها الشعر اليوناني قبل أن ينهض الدرام نهضته العجيبة الخارقة في القرن الخامس قبل الميلاد، وهؤلاء هم الشعراء المخلدون الذين مهدوا الذهن اليوناني لعصر النور والعرفان. . . عصر بركليس العجيب(295/29)
أما كيف بدأ شعر الدرام، وأما كيف وجد المسرح اليوناني فهذا ما لم يعرفه أحد حتى ولا آرسطو نفسه الذي يعتبر معاصراً لنهضة الأدب المسرحي في أوجه، والذي شهد روائع هذا الأدب تؤديها أقوى الفرق اليونانية في أعظم المسارح التي عرفها التاريخ، والذي أخذ نفسه بالدفاع عن الشعر عامة ونقض نظرية أستاذه أفلاطون في ذم الشعر وامتهان الشعراء
والنظرية الشائعة في ذلك، والتي اتفق على صحتها المؤرخون هي أن الشاعر آريون هو أول من حَوّر الإنشاد الفردي إلى إنشاد يقوم به خورس (فرقة) ويتولى توجيهه رئيس، وأنه هو أول من ابتكر أغاني الدثرامب (أغاني باخوس أو ديونيزوس إله الخمر والمرح والعربدة!) وهي أغان كان يمارسها الشعب على النمط الذي وصفه آريون إبان قطاف العنب
ثم جاء الشاعر ثسبيس (من قرية إيكاريا) فكان يرأس خورساً كبيراً وزع على أفراده أدوار غنائه مستغلا الدثرامب التي وضعها آريون ثم وسع دائرتها بحيث جعلها تشمل أغاني بان إله المراعي، فكان أفراد خورسه يلبسون رؤوساً تنكرية تمثل رؤوس الماعز، ولذلك كان يطلق عليهم لقب (المنشدين العنزيين) ولم يكونوا يمثلون درامات بالمعنى الذي نعرفه اليوم. بل كانوا ينشدون مقامات أشبه بمقامات الحريري والبديع تشمل كل منها حادثة واحدة معينة
ومن لفظة ? اشتقت لفظة تراجيدي للمأساة
ومن لفظة ? أي الأشياء التي تؤدي اشتقت لفظة درامة أي الأداء، وهي ألفاظ كانت شائعة في المحيط الديني في اليونان القديمة ثم أطلقت الدرامة على الرواية المسرحية فيما بعد
هذا وثمة آراء أخرى في أصل نشوء الدرامة، منها أنها نشأت في جزيرة كريت (إقريطش) حيث كان الأهالي يحتفلون كل سنة بإحياء ذكرى مولد سيد الأولمب (زيوس!) فكانوا يمثلون ميلاده ثم زواجه من حيرا كما كانوا يصنعون ذلك في آرجوس وفي ساموس
ثم نهضت أتّيكا - المقاطعة التي كانت حاضرتها أثينا - وعز عليها ألا يكون لها أدبها القومي الخاص فأقلمت الملاحم - كما صنع بيزاستراتوس - وأشعار الغناء، ثم نهضت بأدب الدرام على يدي ثسبيس الأيكاري الذي مثل بنجاح عظيم في سوقها سنة 534،(295/30)
وخُويْريلوس وبراتيناس
ولقد كان الشاعر - وهو رئيس المنشدين - يقوم بأدوار عدة، من دور الملك إلى دور القائد إلى دور الجندي إلى دور الرسول. . . فكان لا بد له من تغيير ملابسه في كل حالة من هذه الأحوال. لذلك أعد له في جانب من جوانب ساحة الرقص (خص) أو خيمة ليبدل فيها ملابسه
وإذا كان الشاعر يقوم بكل هذه الأدوار في المقامة الواحدة فماذا كان يصنع في الأحاديث؟ قالوا إنه كان يستعين بممثل آخر ليكون الطرف الثاني في الحديث، وكانوا يسمون هذا الطرف الثاني ومعناها المجيب، ثم استعملت هذه اللفظة نفسها فيما بعد للممثلين. . . فكانت الفرقة القديمة تتكون عادة من شاعر ومجيبين (اثنين) وثمانية وأربعين راقصاً
وكانت الحكومة هي التي تؤتي الممثلين والراقصين أجورهم كما كانت تنفح الشعراء بجوائزها الثمينة السنية. أما الإخراج فقد كان الأغنياء يتحملون كل نفقاته، وذلك بأن يلجأ الشاعر إلى أحدهم فيعرض عليه أن ينفق على درامته من خالص ماله إلى أن تؤدي في المسرح، فكان المثري يستأجر للشاعر خورساً بأكمله ثم ينفق على الملابس والمناظر حتى يتم الإخراج كله. وكان الأغنياء يتباهون بهذا العمل ويتبارون في مضماره، ولا يبخلون بعزيز أموالهم عليه ولو ذهب بأكثرها، وكل ما كانوا ينشدون من جزاء هو شعور الفخر والزهو الوطني حين تنجح الدرامة التي أنفقوا عليها بعد العرض الأول. ويجب أن نذكر هنا أن جمهور النظارة بل الجمهور الأثيني كله في القرن الخامس قبل الميلاد كان قد أوتي حظاً عظيماً من الثقافة العامة، وكان قد تربى فيه ذوق فني رفيع نمته فيه ديموقراطية هذا العصر التي أكبرت من قيمة الفرد وأشاعت فيه كبرياء الحرية والشعور بالسيادة
وفي ظل هذه الديموقراطية تربى ذوق الأثنيين الفني حتى غدا ذوقاً أرستقراطياً مرهفاً يقدر الفن حق قدره ويزن آياته بالقسطاس المستقيم، فحينما كانت تعرض الدرامات في مسرح أثينا كان الجمهور نفسه هو الذي يصدر حكمه عقب الانتهاء من التمثيل. . . وكان الشعراء يرهبون هذا القاضي الجبار لأنهم كانوا يقدرونه. وكم كان جميلاً من أرسطو فأن في بعض مهازله أن يتملق النظارة ويبالغ في تمليقهم ويطلب إليهم صراحة أن يحكموا له. . . ولنتصور إذن قضاة يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً أو يزيدون يصوتون للشاعر أو عليه، وما(295/31)
يكون لحكمهم من أثر عظيم في نفسه في حالتي السخط أو الرضى. . . لقد يكون في هذه الألوف المؤلفة قضاة غير عدول. . . فقد ذكر الأستاذ ج. ك. ستوبارت أن كثيرين من أهل أثينا كانوا ينظرون إلى التحكيم في المباريات الأدبية بحسبان أنها مصدر عظيم من مصادر رزقهم. . . بل كان بعضهم يعدها المصدر الوحيد لهذا الرزق. . . يقصد بذلك أنهم كانوا يبيعون أصواتهم لمن يدفع ثمناً أكثر. . . وهذا عيب تافه من عيوب الديمقراطية شهدنا مثله في معاركنا الانتخابية، لكنه لا ينهض دليلاً على فساد الذوق الفني عند اليونانيين.
لقد كان غشيان المسارح فرضاً قوميّاً على الأثينيين في أعيادهم. وقد أثر عنهم أنهم كانوا يقولون إن من لم يذهب إلى المسرح في العيد لم يكن له عيد. . . وقد كانت الحكومة تنظر إلى المسرح نظرة كريمة عالية. لقد كانت تعد الجامعة العليا التي لا تعلم حروف الهجاء بل التي تطبع الشعب على أسمى صور الفضيلة والإيثار والتضحية فتخلق منه شعباً راقياً طيب الأعراق يتذوق أمور الحياة العليا بإحساس حي ناضج بصير لا بإحساس بهيمي بليد
وكانت كل طبقات الشعب تغشي المسرح الكبير في أثينا، وكان يظن أن النساء كن محجوبات عن شهوده، لكن الأستاذ روي فلكنجر دحض هذا الظن الذي لم يكن إلا حدساً وترجماً، بل زاد فأثبت بأدلة قاطعة أن الأرقاء أنفسهم كانوا يذهبون إلى المسرح للتمتع بالتمثيل، وكانت الحكومة تدفع لهم ثمن تذاكرهم، وكان ثمن التذكرة أوبولين، قطعة من العملة اليونانية القديمة يساوي من عملتنا المصرية أثنى عشر مليما (ثلاثة بنسات إنجليزية أو خمسة سنتات أمريكية) فيكون ثمن التذكرة قرشين ونصف قرش تقريباً أو ما يعادل ثمن التذكرة بالدرجة الثالثة في أي دار من دور السينما عندنا.
وبعد فهذه لمحة خاطفة عن نشوء الدرامة اليونانية تليها لمحات عن المسرح اليوني في عصر بركليس، العصر الزاهر العجيب الذي حفل بأكبر عدد من شعراء الدرام على رأسهم إسخيلوس وسوفوكليس ويورببيدز.
دريني خشبة
-(295/32)
من برج بابل
ليعذرني الأستاذ الحكيم صاحب البرج العاجي؛ فما اتخذت عنوان
خواطري (برج بابل) تقليدا ومحاكاة. . . وإنما اتخذته تحديا ومباراة!
وأخشى أن ينقلب البرجان أحياناً حصنين. . .
ولكنهما سوف لا يتقاذفان بالرصاص والقنابل. . . وقى الله الإنسانية شرهما، فتلك أبعد عن طبيعتنا السمحة الوديعة المسالمة. . . بل سيتراشقان إن تراشقا بسهام من أغصان الزيتون. . .
وأخشى أن تزعجه ثرثرة برجنا، فتقطع عليه هدوءه وعزلته وتفكيره وأبحاثه الفلكية أيضاً! ناهيك بثرثرتنا نحن النساء.
ومن يدري؟ فلعله يهجره فراراً من جيرتنا المزعجة!
وحسناً يفعل! فلسوف تحتله المرأة. . . فهو من العاج. . . والعاج حلية لطيفة ثمينة محببة إلى قلب المرأة، والتحلي حاسة سادسة لها. . . كأنك تتحدى المرأة وتمعن في عدائك المعروف بالتزامك حصنك العاجي، معذرة، بل برجك!
وكأنك أردت أن تخدع بنت حواء بأنه برج حقاً، حسبك من استشراف نجوم الأرض ونجوم السماء ونجوم السينما!.
ولكن عاجك يا رسول البرج غنيمة تغري ولا تخدع فهو قلعة في زي برج!
لم تحدثنا أيها الفلكي الراهب من برجك العاجي منذ أقمت بنيانه حتى الآن عن نجوم الليل السابحة في تيه قصي بعيد، ولا عن عين السماء الفضية، ولا عن الزهرة في موكبها الفخم الجليل. . . وكأنك عدوها أيضاً!
وإنما بلغ أسماعنا من شاهق برجك كلامٌ لا يتصل بالفلك ولا بالنجوم ولا بالأبراج!. . .
ولو كان برج حمام لأقنعت نفسي بأنه حمى أمان وسلام!
ولكنه برج من عاج. وهو كأشجار زرقاء اليمامة!.
(الإسكندرية)
ماري نسيم(295/33)
التاريخ في سير أبطاله
محمد شريف باشا
كان شريف في عصره رجلاً اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال
للأستاذ محمود الخفيف
كاد الخديو للأجانب كيداً شديداً؛ وظهر كمن يريد أن يثأر لنفسه فلم يكتف بإجابة الوطنيين إلى ما طلبوا، بل لقد ذهب إلى مشاركتهم مظاهر ابتهاجهم بالعهد الجديد حتى لقد حضر بنفسه حفلاً أقامه في داره السيد علي البكري ودعا إليه كبار رجال الحركة الوطنية فكان موقف الخديو في ذلك موقف الزعيم!
وتلقى الأجانب الضربة ولكنهم لم يطيشوا أو يذهلوا عما يجب عليهم أن يعملوا إزاء موقف الخديو، ومن أجل ذلك لقيت وزارة شريف منهم عنتاً بالغاً، فتلاشت في ضوضائهم كل دعوة إلى الحكمة، وضرب الحقد على آذانهم وجعل الغضب على أبصارهم غشاوة
ولكن شريف ظهر يومئذ بمظهر جدير بالإعجاب حقاً، فلا هو خشي جانب الأجانب فتخاذل عما هو بسبيله، ولا هو مال كل الميل فانقلبت سياسته شططاً، وبذلك جمع شريف على خير ما يرجى بين حمية الوطني الثائر وكياسة السياسي الماهر وروية المجرب البصير
احتج الأجانب على إبعاد الوزيرين الأوربيين واستقال كثير منهم من مناصبهم، وراحت إنجلترا وفرنسا تتهددان الخديو وحكومته وتنددان بهما؛ وتوجه الدائنون إلى المحاكم المختلطة فرفعوا أمامها القضايا؛ وأعلنت لجنة التحقيق أن الحكومة في حالة إفلاس منذ أكثر من عامين؛ ولما عرض شريف على هؤلاء الأجانب الصاخبين استعداده إلى إعادة المراقبة الثنائية كما كانت تقضي به تعهدات الخديو في حالة ما إذا أخرج الوزيران الأجنبيان أو أحدهما رفضوا ذلك الحل مبالغة منهم في الكيد ورغبة في زيادة الأمور حرجاً وتعقداً. . .
ولكن شريفاً لم يلوه حرج الموقف عن وجهته؛ وما كانت وجهته إلا أن يجعل مرد الأمور إلى الأمة، فلئن كان يمقت تدخل الأجانب، لقد كان كذلك يكره استبداد الخديو أشد الكراهية.(295/35)
لذلك جعل محور سياسته أن يكون مجلس الوزراء مسؤولاً أمام مجلس شورى النواب، ولقد تم له ما أراد فجاء في خطاب الخديو إليه بتأليف الوزارة عبارات لا تقبل تأويلاً فيها يذكر الخديو أنه يرجع بالأمور إلى الأمة ويوافق على مسؤولية الوزارة أمام مجلسها
بهذا كان شريف أبا الدستور في مصر، فإن ذلك المجلس الذي تعهده برعايته منذ نشأته عام 1866م قد تمت له السلطة على يديه عام 1879م فصار الحكم في مصر حكما دستورياً لا تشوبه شائبة مهما يقول القائلون في طريقة الانتخاب يومئذ وجهل سواد الناس بأصول الحكم. . .
أجل، إن العهد الدستوري في مصر إنما يرجع إلى عام 1879م وهذا العهد إنما نالته مصر بجهاد بنيها وعلى رأسهم شريف وما كان دستور عام 1923م إلا الدستور الثاني للبلاد، أو بعبارة أخرى ما كان إلا توقداً لتلك الجمرة التي ظلت مطمورة تحت رماد الاحتلال حتى حل سعد محل شريف في الحركة القومية فأزاح ذلك الرماد ونفخ في تلك الجمرة فأوقد نارها!
لم تكد البلاد وا أسفاه تفرغ من مظاهر فرحها حتى جاءت الأنباء بعزل عاهلها، فإن الدولتين ما فتئتا تسعيان لدى الباب العالي حتى تم لهما عزله وإسناد الحكم إلى ابنه توفيق باشا؛ وبخروج إسماعيل من مصر فقد شريف وفقدت البلاد الرجل الذي كان يمكن الاعتماد عليه في مناهضة نفوذ الأجانب. . .
رفع شريف استقالته إلى الخديو الجديد كما تقضي التقاليد الدستورية، فطلب إليه الخديو إعادة تأليفها، وأشار توفيق صراحة في أمره وفي خطابه أمام مجلس الشورى ميله إلى العطف على الأماني القومية كما تظهر في الحركة الدستورية الوطنية. وسار شريف على نهجه الدستوري يدعم ما بنت يداه ويجهد في توطيد أسسه. . .
ولكن توفيقاً ما لبث حين جاءه فرمان التولية أن تنكر للحركة الوطنية فما كان في موقفه الأول إلا مخادعاً يكتسب الوقت فلما اطمأن إلى مركزه من جهة الباب العالي بدأ سياسته الجديدة بأن رفض أن يجيب رئيس وزرائه إلى ما طلب بشأن توسيع سلطة مجلس الشورى ووضع نظام الحكم على أساس دستوري ثابت؛ وفي هذا رأى شريف نية إقصائه عن الحكم فاستقال، وجاءت استقالته هذه المرة أيضاً عاملاً قوياً من عوامل إذكاء الروح(295/36)
الوطنية وإشعال جذوتها
وما كان أحوج توفيق يومئذ إلى شريف وإليه دون غيره من الرجال. أجل ما كان أحوج الخديو إلى ذلك الرجل الذي كانت تجتمع فيه الرجال وتلتقي في سياسته الآمال، وإني لأزعم هنا في غير تحرج أنه لو بقي شريف في وزارته يؤيده الخديو لكان من الممكن أن تتفادى البلاد تلك الثورة التي جرت عليها نكبة الاحتلال فلقد كانت دسائس إنجلترا في تلك الآونة تنفذ إلى كل ركن وكانت إنجلترا تتحين الفرص وتعمل على تهيئتها، ولو أن شريفاً قد بقي في مركزه لما اتجهت الحركة الوطنية إلى الحزب العسكري ولسارت سيرها ولو في بطء إلى غايتها
حل رياض محل شريف فأخذت السياسة الرجعية موضع الحركة الدستورية، وتلفت الوطنيون، فإذا الأجانب يعودون إلى نفوذهم الأول بل إلى أكثر منه وبخاصة إنجلترا التي أوحت بسياستها إلى توفيق أن يتخذ منها سنداً ضد الباب العالي وضد فرنسا وضد الوطنيين! فلقد كان توفيق يوجس في نفسه خيفة من تركيا ويعتقد أنها تتآمر عليه، كما كان يفهم أن فرنسا تعطف على العرابيين منذ ظهرت حركتهم. هذا إلى أنه رأى مبلغ نفوذ الأجانب في خلع أبيه وأحس ما تركه هذا الخلع من أثر في قلب مثل قلبه. . .
واقتضت الظروف أن يظل شريف بعيداً عن الحكم سنتين عانت فيهما البلاد رزايا الحكم المطلق وبلايا تدخل الأجانب، حتى هبت العاصفة من ناحية أخرى هي ناحية الجيش
وكانت حركة الجيش أول الأمر قاصرة على مطالب تتعلق برجاله، ولكن ما لبث أن التقى التياران واتحدت الغاية، فإن رجال الحركة الوطنية حينما ضاقوا بما فعلت وزارة رياض، وحينما سدت في وجوههم السبل لم يبق أمامهم إلا الاستعانة بالعسكريين ورأى العسكريون من جانبهم أن في اضطلاعهم بمطالب الأمة مل يرفع من قدر حركتهم فرحبوا بالفكرة وساروا بها لا يلوون على شيء. . .
وهكذا تتقاذف السفينة الأنواء وتلقى بها في غيبة ربانها في بحر لجي متتابع الأزباد كأنما جن فيه جنون الريح فلن تهدأ إلا على مناظر الغرق والدمار.
سار عرابي العسكري بخيله ورجله ومدافعه إلى الخديو يعلن إليه مطالب الأمة وينذره أن لا مرجع للجيش حتى تجاب تلك المطالب؛ ولم يكن للخديو أمام هذا التحدي إلا أن يجيب(295/37)
عرابيا إلى ما ضن به على شريف! ولكنه صرف الجند ليلقي بنفسه في أحضان المشيرين عليه من الإنجليز الذين واتتهم الفرصة المرتقبة
وأقيلت وزارة رياض كما طلب الجيش، ودارت أعين الأحرار تلتمس غيره فلم تقع إلا على شريف؛ وهل كان ثمة غيره تقع عليه العيون؟ ونظر شريف فإذا العاصفة هوجاء تنذر بفقد الرجاء ففكر في الإحجام ولكن الرجل لم يكن من طبعه الإحجام، وما كان ليرضى أن يترك البلاد فيما كانت عليه فإنما يعرف ذو العزم في الشدة وعلى قدر عزمه تكون رجولته.
اشترط شريف ألا يكون لعبة في يد الجيش فما كان هو بالرجل الذي تهون عليه نفسه إلى هذا الحد، وقبل الجيش ما اشترطه، فألف الزعيم الكبير الوزارة وكان أول عمل قام به أن أبعد زعماء الجيش عن العاصمة فخرجوا طائعين.
وراح شريف يصل ما انقطع فما كان ليحيد عما وهب للبلاد حياته من أجله؛ فوضع نظام الحكم على أساس دستوري كأحدث الأسس الدستورية يومئذ ودعا البلاد لانتخاب مجلس نيابي. ولما انعقد المجلس ترك له شريف النظر في الدستور وأصوله فجعل منه جمعية تأسيسية يريد بذلك أن يجعل إلى الأمة مرد كل شيء
وخيل إلى البلاد أنها استراحت من عنائها، وأن قد آن لها أن تسير إلى معالجة مشكلتها المالية في هدوء، وأن تمضي إلى إصلاح مرافقها والنهوض بشتى نواحي البناء والتعمير فيها؛ فهذه هي وزارة الأمة حائزة لثقة النواب، وعلى رأسها الرجل الذي تطلعت إليه آمال الرجال، وهؤلاء هم نواب البلاد لا غرض لهم إلا العمل لخير البلاد.
ولكن - وما أوجع لكن في هذا الموضع - هناك. . . وا أسفاه من وراء ذلك دسائس لا تنام ولا تسهو، ورؤوساً لم تتدبر الأمور كما كان يرجو شريف أن تفعل، ومطامع شخصية هي علة العلل فيما أرى في كل خلاف تشتعل ناره في هذا الشرق المسكين؛ وماذا كانت تجدي إزاء ذلك كله كياسة شريف وروية شريف، وماذا كان يغني عنه بعد نظره وحسن تدبره عواقب الأمور؟
وكانت فرنسا هي التي بدأت بالتحرك هذه المرة فأشارت على إنجلترا بالتدخل، فرنسا التي سندت محمد علي بالأمس ضد إنجلترا حتى جد الجد فتراخت عزمتها دون نصرته حتى(295/38)
تحطمت قوته هي بعينها فرنسا التي تشير على إنجلترا بالتدخل اليوم في شئون مصر! ألا ما أشقى الضعفاء بضعفهم! كلا، بل لعمري ما أتعس الأقوياء بقوتهم إن كان ما يبنونه لأنفسهم على حساب الضعفاء قصارى سعادتهم وبرهان إنسانيتهم. . .
هذا هو مجلس النواب يجادل شريفاً وشريف يجادله في أمر الميزانية وحقه في نظرها أو عدمه؛ أليست هذه مسألة داخلية بحتة؟ ولكن الدولتين لا تعترفان بذلك؛ ومتى اعترفت ذوات المخالب لغيرها من ذوات اللحم الطري بحقها في أن تعيش؟ إذاً فلتحرم الدولتان على المجلس النظر في الميزانية، ميزانية مصر، وإلا أفهمتاه كيف يكون الإذعان للسلطان لا للحجة والبرهان!
ونضيع جهود شريف عبثاً في دعوة المجلس إلى الاعتدال. . . إلى الاعتدال؟ أيطلب الاعتدال زعيم ثوري من هيئة ثورية؟ ذلك ما راح النواب يتساءلون فيه؛ ألا يا ويل كل رئيس من الظروف إذا كادت له فقلبت كل عرف لديه نكراً وألبست حوله بالباطل كل حق. لقد وصف اعتدال شريف بأنه خور وأخذت سياسته على أنها مروق، ألا هل من يعقل أو يتدبر؟ ألا هل من يستمع له حينما فكر في آخر حل فطلب تأجيل الأمر كله حتى يبحثه في هدوء؟ كلا لن يستمع له أحد. أيستمع إليه عرابي المتحفز المتوثب، أو يدين برأيه البارودي الطامح إلى رياسة الوزارة؟ أو يسكن إليه المجلس الذي كره الأجانب وتدخل الأجانب حتى لم يعد له على الصبر طاقة؟
والدولتان أتتهاونان أو تريان جانب الحق؟ كلا. إنما ترسلان إلى الخديو أنهما على استعداد واتفاق لتأييده أمام ما عساه أن يصادفه من المتاعب، ولا يتردد هو في قبول هذه (المذكرة)، فتثور ثورة الوطنيين، ويطلب شريف من الدولتين مذكرة تفسيرية تهدئ الخواطر ولكنهما، وقد أرادتا إثارة الخواطر، لا تجيبان. . .
ويحمل الوطنيون على شريف زعيم الوطنيين فيحرجونه حتى لا يجد أمامه وسيلة لإقناعهم، ثم يطالبون بإسقاط وزارته فيستقيل ويعود إلى داره، فتندفع الثورة هوجاء قد جن جنونها؛ ويفرح ذوو المطامع من الأجانب، هؤلاء الذين أجابهم شريف إلى إعادة المراقبة الثنائية ووافقهم على قانون التصفية التي تم في عهد رياض على ما كان فيه من عدوان وظلم. . .(295/39)
وتمضي الثورة في طريقها، والدولتان في طريقهما؛ ثم تنفرد إنجلترا فتغافل فرنسا كي تلتهم الفريسة وحدها، وتضرب أساطيلها قلاع الإسكندرية مرتكبة بذلك أشنع ما عرف في تاريخ الحروب من عدوان وغدر، ويدفع عرابي مصر لتدافع عن نفسها فيكون جهاد فيه قوة وحماسة، ولكنه لا يخلو مما منى به الشرق في عصوره الأخيرة من ختل وخيانة، فتفشل الثورة ويعود الخديو من الإسكندرية ليجد في طريقه إلى قصره فرقة من الجيش البريطاني تصدح موسيقاها بالسلام الملكي الإنجليزي. . .! وتقع على هذا المنظر عينا شريف وقد عاد معه، فلا يملك - على ما يقول الرواة - ذلك الرجل الكبير دمعه فيجهش كما الطفل! ألا ما أغزر ما تفيض به الدموع من المعاني!
بكى شريف وحق له أن يبكي فهذه جهوده تذهب عبثاً، بل هذه مصر تصبح وهي لا تملك من أمرها شيئاً؛ وما كان شريف غداة طلب من المجلس الأناة والاعتدال لعمري خواراً ولا مارقاً؛ بل لقد كان يومئذ يقف أجمل وأعظم موقف في حياته، موقف الشجاعة التي لا تتملق النواب ولا تخشى في الحق ما يعلنه الرأي العام، والتي لا يغرها مديح أو يستهويها الحرص على إطراء الجمهور ورضاه، وموقف الكياسة في معالجة الأمور، والنظر في عواقبها؛ وإنا لن نجد في الحق موقفاً يوضح أخلاق شريف ويكشف عن طباعه خيراً من هذا الموقف الجليل. والزعيم الحق هو الذي يهم بما يراه حقاً ويصر عليه مهما لاقى من عنت، وإلا فعلى أي أساس دون ذلك تقوم زعامته؟
ودعى شريف بعد الاحتلال لتأليف الوزارة فلم يحجم، ودخل رياض في وزارته، وما كان قبوله الحكم في تلك الظروف عن رغبة منه في المنصب، فهو يرى ما يطلبه المنصب الآن من جهد شاق وصبر طويل، وإنما كان موقفه موقف ذي النجدة الذي لا يتسرب إلى عزمه وهن ما دامت في جسده حياة. . . كان موقفه موقف المخلص الذي يسيره إخلاصه ويملي عليه ما يجب أن يعمله حتى ما يستطيع أن يفلت أو يتردد إن فكر في ذلك أو مال إليه وكان طبيعياً أن يجري في وزارته على خطته قبل الاحتلال، أو على الأقل كان طبيعياً أن يقبل تأليفها على هذا الأساس فإن ذلك وحده هو الذي استطاعه، ذلك أنه ما لبث أن رأى الإنجليز هم كل شيء على رغم ما كانوا يذيعونه من وعود بالجلاء في مشرق الأرض ومغربها(295/40)
وجاءت الفتنة المهدية في السودان فأرادت إنجلترا أن تخليه مصر لتعيد فتحه من جديد؛ وأبى شريف إلا أن يضيف إلى محامده ومآثره في هذا الوادي مفخرة سوف يقترن بها اسمه الكريم على مدى الأيام، فرفض ذلك الاقتراح وقال كلمته التاريخية التي تنطوي على كثير من المعاني: (إذا تركنا السودان فالسودان لا يتركنا)
ولكن انجلترة التي تعتزم الجلاء عن مصر تصرح على لسان معتمدها أنه على الوزراء والموظفين أن يعملوا (بالنصائح) التي تسديها حكومة جلالة الملكة وإلا فعليهم اعتزال مناصبهم! ولا يتردد الخديو أن يقبل حتى هذا التصريح!
وعرف شريف من المقصود بهذا التصريح، وهيهات أن تسير الوطنية مع نوايا الاحتلال والعبودية، لذلك لم يكن بد أن يختم شريف حياته السياسية بالاستقالة من وزارته الرابعة والأخيرة بعد أن قضى فيها عامين. . . وكانت هذه كبرى استقالاته إذ كانت تنطق بشهامته وصراحته؛ وتفيض برجولته فهو لا يستقيل (لأسباب صحية) ولكنه يحتج على محاولة سلخ السودان وعلى هذا التصريح الذي يتنافى مع الدستور ويتنافى مع الاستقلال، وكان ذلك عام 1784
وفي عام 1887 يموت هذا الرجل العظيم وهو على سفر في النمسا فتتلقى مصر جثمانه وتمشي خلف نعشه الجموع الهائلة التي لم تر مثلها البلاد من قبله، فهذه أول جنازة شعبية في تاريخها الحديث. هذه هي السابقة التي سترى مكبرة عظيمة يوم تضيق القاهرة بالمنتخبين من أبناء مصر يشيعون جثمان رئيس الثورة الثانية زعيم الوفد الأول، ذلك الذي كانت حياة شريف أيضاً وجهاده القومي سابقة قومية لحياته وجهاده. . . رحم الله العظيمين وجزاهما عن وطنهما خير ما يجزى به الشهداء والمجاهدون
(تم)
الخفيف(295/41)
قلت لنفسي. . .
حتى العلماء وراث النبوة وأولياء الحكمة يجوز عليهم ما يجوز على أتباع الهوى وعبادة الشهوة من بني الأرض!
- وما ذاك؟
- يقولون إن في الأزهر عريضة، فضيحتها طويلة عريضة. وإذا صح ما تلهج به حولها الألسنة فقد استشرى الضلال حتى حارت الهداية، واستحكم النفاق حتى فجرت الغواية. وإذا ضل الدليل فكيف تسلك السبيل؟
يتحدثون أن نفراً من العلماء جعلوا قيادهم في يد الهوى فدلاهم بغرور ومناهم بباطل وزين لهم أن يشغبوا على الإمام المراغي مظهر الإسلام المشرق، وممثل الرأي الصحيح وأول من وحد بين الملك والدين ووفق بين الأزهر والدنيا؛ فمضوا يظهرون عريضة فيها الرجاء والثقة، ويسترون عريضة فيها التمرد والإفك، وطافوا بهما على علماء المعاهد يقرءون عليهم ما فوق، ويضعون أختامهم على ما تحت، حتى اجتمع لهم من هذه الإمضاءات المغشوشة سبعون ونيف، فدخلوا بها على الأستاذ الأكبر دخول النذير المدل بما وراءه، فتلقى الإمام هذا النزق بحلم العظيم ورفق الكريم؛ ثم تدارك الله الحق فبرح الخفاء وشاعت الفضيحة. وقال الأعمى أنا لا أقرأ، وقال الغافل أنا لا أفهم، وقال الخادع أنا لا استحي!
بهذا يتحدث الناس وربما كان في الحديث افتراء؛ فإن رجال الدين أكرم على الله أن يجعل فيهم هؤلاء، وهل يخشى الله من عباده إلا العلماء؟!
ابن عبد الملك(295/42)
استطلاع صحفي
الأندية الأدبية في مصر
مقهى الفيشاوي
(لمندوب الرسالة الأدبي)
أتعرف الحيّ اللاتيني يا صاحبي؟
أقصر الطرف، وقرّب الفكر، واقتصد في الخيال، فلا تذهب إلى ما وراء البحار إذ تحسبه في باريس مدينة العلم والنور، وبلد الطرافة والحسن، ومبعث الفتنة والخروج على الوقار. . .
إلى هنا يا صاحبي! في قاهرة المعز لدين الله، موطن المجد القديم والعز التالد والتاريخ الحافل، حيث المسالك الضيقة والدروب الملتوية والشرفات المتشابكة والسطوح المتواصلة والبناء العتيق العتيد، الذي أفنى جدارهُ القرون وما زال تتحلى فيه روعة الفن الشرقي الخالص، وعبقرية الذوق المصري الصحيح. . .
إلى هنا يا صاحبي! حيث الأزهر يعجّ بأبنائه من سائر الأقطار، ومشهد الحسين يضج بقصاده من جميع الأمصار، وخان الخليلي معرض الكهرمان والآبنوس والصدف والعاج والسجاد الفاخر يتلهف عليه السائحون ومجانين الأثرياء؛ والغورية سوق العطر والأصباغ والألوان وكل مساحيق التجميل البلدية والأوربية تتزاحم عليها أسراب الفتيات من كل هيفاء هي منية النفس، ومن كل شوهاء هي فداء إحسان، ومن كل عطبول رداح يفديها صاحبنا بيرم بأبيه وبروحه إذ يقول:
بأبي وروحي اللابسات خلا خلا ... الآكلات مدمساً وفلافلا
إلى هنا يا صاحبي! حيث يمتزج القديم بالحديث، ويختلط الطيب بالخبيث، ويتلاصق الوضيع بالرفيع، ويتساوى الأصيل بالدخيل، فتتجلى لك القومية المصرية في تباين المظاهر واختلاف الطبقات، وتتبين لك المفارقات في أذواقنا وسلوكنا ومدنيتنا إذ ترى عربات سوارس والكارو ما زالت تجرجر وتكركر إلى جانب مركبات الترام والأتوبيس والفيات. . .(295/43)
إلى هنا يا صاحبي حيث سوق البقول والأفاويه والتوابل والأعشاب، والبن بجميع أصنافه، والشاي بسائر ألوانه، واللب المحمص، والحمص المقلي، والبطاطة المشوية، والعدس القشري، وما إلى ذلك من الأطعمة الشهية التي تخالف في عرضها وفي طهيها كل شروط الصحة على أنها عند أهلها كل قوام الصحة والعافية، فهي لهم ملء البطن، ومشتهى النفس، ورغبة العين. . .
إلى هنا يا أخي! حيث درج محمد عبده وسعد زغلول وحمزة فتح الله والسيد المرصفي والسيد القاياتي وإبراهيم الهلباوي ومحمد أبو شادي ومحمد السباعي وطه حسين وأستاذنا الزيات وزكي مبارك وغير أولئك ممن أعرف ومن لا أعرف من رجال مصر في السياسة، وأعلامهم في الرياسة، ونبهائهم في الأدب والفضل والصحافة. . .
إلى هنا يا أخي، فذلك هو الحي اللاتيني كما يسميه الظرفاء من أهل الأدب، والنبهاء من أولاد البلد!
في هذا الحي الذي رأيت، وعلى خطوات من مدخل خان الخليلي الضيق من جهة الحسين يقع مقهى الفيشاوي العتيد، فهو في موضع بعيد عن جلبة السابلة، وضوضاء المركبات، فأحر به أن يكون في غمرة من الهدوء والسكون، ولكن الله ابتلاه بكثرة الباعة، وإلحاح ذوي الحاجة، وصوت النادل الأجش يرفعه عالياً عالياً في المناداة على المطلوب وشرح المطلوب فيكون له دوي وطنين لا يتحمله إلا الذين تعودوه
ومقهى الفيشاوي في روائه آية من آيات الفن القديم، وصورة قوية من الذوق الشرقي الذي يغرق بطبعه في التجميل، ويهول في التزين، ويخلبه البريق واللمعان، فيحمل الصورة فوق ما تطيق من التمويه والتوشية، وكثرة التلافيف والتعاريج، وأنت تستطيع أن تستجلي ذلك كله في تلك المرايا الضخمة الفخمة التي علقت بجدران الفيشاوي وتجاه مدخله بالشارع. . .
ويهدف إلى الفيشاوي كل أدباء مصر بلا استثناء، في فترات قد تبعد وقد تقصر، ويدمن الجلوس فيه طبقة خاصة من مفاليك الأدب، وصعاليك الصحافة، وصرعى الآمال في المشاريع الحرة، والذين عاكستهم الأقدار في نيل الشهادات والفوز بوظائف الحكومة، ومن شطت بهم الدار من الأقطار الشقيقة في طلب الرزق أو طلب المجد، يتلفف هؤلاء حول(295/44)
موائد (الشاي المفتخر) كل مع من يشاكله ويأنس إليه، فيغرقون في الحديث عن أنفسهم، أو يتلهون بالنرد ولعب الورق على تدخين النارجيلة ورشف أكواب الخمر الحلال: أكواب الشاي الأخضر والأحمر والأسود والأبيض الذي يتيه الفيشاوي بصنعه على كل مقاهي القاهرة، وكأني بأدباء الفيشاوي يجدون في هذه الأكواب لذة وغناء عن أكواب بنت الحان. . .
وكثيراً ما ينطلق أدباء الفيشاوي على طبيعتهم، فيتشاجرون بالنادرة ويتضاربون بالنكتة، ويغرقون في المرح إلى أبعد حد، ويرسلون الضحكات عالية قوية كلها سخرية بالحياة، واستهانة بقسوة الدهر، واستخفاف بعبث الأيام ومطالب العيش، فهم يضحكون عن فلسفة ونظر، وكأنهم يقولون: ولماذا يا أخي لا نضحك، وقد تحملنا من الرهق فوق الطاقة، ولقينا من الأقدار ما تنوء به عزائم الرجال؟ فيالها من دنيا لا تستحق إلا الهوان. . .
وأدباء الفيشاوي يتباينون في ثقافتهم، ويختلفون في عقليتهم وإن كانوا جميعاً في نظرتهم إلى الحياة سواء، فتجد فيهم الشيخ الأزهري الذي يرغي ويزبد بالقافات كما يقول حافظ، وفيهم الأديب الظريف الذي يملأ جعبته بنوادر السابقين واللاحقين، وفيهم الصحافي الذي يضيق رأسه بأخبار الملاهي والمسارح ونجوم السينما والمسرح في هوليود وعماد الدين، وفيهم من يضج لسانه بالعجمة ويرتضخ بالعامية وكل ما عنده جملة طيبة من أسماء الأدباء في الشرق والغرب، وهو يحسب أنه رأس المفكرين، ولله في خلقه شئون.
ويجري ذكر الأدب والأدباء في حلقات الفيشاوي، فيذكر من الكتاب العقاد والمازني وطه وهيكل والزيات وأحمد أمين وزكي مبارك وكل كاتب في مصر، ويذكر شوقي وحافظ ومطران وشكري والزين والهراوي والأسمر وكل شاعر حي أو غبر، ويذكر حافظ عوض وعبد القادر حمزة وأنطون الجميل وصاحب الهلال وإخوانهم في الصحافة، ويذكر يوسف وهبي، وجورج أبيض وسليمان نجيب، وعزيز عيد، وفاطمة رشدي، وزينب صدقي، وأمينة رزق، ومن لا أعرف من أهل المسرح، ولكن كل هؤلاء لا يفوزون من أدباء الفيشاوي إلا بابتسامة؛ ولست أدري أهي ابتسامة الرضى والإعجاب أو الهزء والاستخفاف. وعلى كل حال فهم يرون أنه لولا معاكسة الأقدار، وقسوة الحظ لكان أقل شخص في الفيشاوي أكبر من أي شخص من هؤلاء في النثر أو في الشعر أو في الصحافة(295/45)
أو في التمثيل، كل فيما يحاوله ويرغب فيه، وجبراً لخاطر إخواننا في الفيشاوي نلعن ذلك الشيء المدعو بالحظ، قاتل النبوغ، وقابر العبقريات. . .
وللفيشاوي (موسم) يتم له فيه المجد، ويبلغ الغاية من الجلال والكمال، وذلك في رمضان إذ تنشد النفوس الإنابة وحسن الثواب وتطلب السهرات البريئة الطيبة فتستبدل أكواب الشاي بأكواب المعتقة، ومن ثم تجد في حلقات الفيشاوي رجال السياسة والأدب والصحافة في مصر، فتجد لطفي السيد باشا، وهيكل باشا، وحفني محمود، وعبد الرحيم محمود، ونيازي باشا، والصحافي العجوز، وفكري أباظة، ولطفي جمعة؛ وكثيراً من النواب وأساتذة الجامعة وشيوخ الأزهر، كل منهم في حلقة حافلة، يشدون أطراف الحديث طلباً للسمر، واستعانة على السهر، حتى السحور
ثم يأتي العيد، فينفض السامر الحافل، ويعود الوضع إلى مستواه، ولا يبقى للفيشاوي إلا الذين يعكفون عليه من أمثال الشاعر إبراهيم الدباغ والأستاذ عبد العزيز الأسلامبولي صاحب المعرفة، والشيخ سلطان الجهني المحرر بالوفد، والشيخ علي عامر المحرر بالدستور، صديقنا الشيخ البهي المحرر بالمقطم، والشاعر البائس الثائر على نفسه وعلى الناس والأيام عبد الحميد الديب. . .
وعبد الحميد الديب هذا شخصية عجيبة متناقضة، تثير في النفس بمظهرها وبأدبها وبسلوكها كل عواطف الإشفاق والقسوة والألم والضحك. فهو يعجبك بشعره، ولكنه يغضبك بسلوكه. وهو يضحكك بحديثه، ولكنه يؤلمك بمظهره. أشبعته الأقدار قسوة وإرهاقاً وبؤساً، وأشبعها هو استخفافاً واستهانة وزراية. وهو على حاله تلك يعتد بنفسه إلى أبعد حد، ويرفع شعره فوق كل شعر، فشوقي مهما سما في تقديره لا يبلغ شعره في مفرقه، وهو ملازم للفيشاوي لا يريمه في الضحى والأصيل والعشية، وحتى لقد يبيت على كراسيه. ولقد جاء العيد وتفرق إخوانه كل إلى شأنه وبقي هو وحده على أفريز الفيشاوي ينشد:
يا معشر الديب وافي كل مغترب ... إلا غريبكم في مصر ما بانا
قدمتموه الشاة قربانا لعيدكم ... والدهر قدمني للبؤس قربانا
لقد تغير كل شيء في الحياة! ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟! وهاهو ذا معول الهدم يهدد مقهى الفيشاوي بالدمار تنفيذاً لقرار دائرة الأميرة شويكار. فهل يحفل أدباء الفيشاوي(295/46)
بتاريخ ناديهم العتيق وذكرى أيامهم الطيبة فيه كما يعني بذلك أدباء الغرب؟ هيهات!
م. ف. ع(295/47)
حوريتي تَسأل. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(مهداة إلى شفتيها الطاهرتين)
قالَتْ: لَقَدْ غَربَ الشُّعَاعُ! فَقُلتُ: مَا ... غَربَتْ بَشاشَتُهُ وأَنْتِ بِجَانِبي!
قالَتْ: وَكَيْفَ؟ فقُلْتُ: أَنْتِ شُعَاعَةٌ ... بَيْضاءُ في قَدَحِ المْسَاءِ الذَّائِبِ
تَفْنَى الأَشِعَّةُ والْعَوَالِمُ خَلْفَهاَ ... وسَناكِ يُشْرِقُ في قَتاَم غَياهِبي
أَنْوَارُ حُبِّك خَالِدَاتٌ في دَمي ... غَمَرَتْ لَديَّ مَسالِكي ومَذاهِبي
بِسِواكِ لا تَزِنُ الْوُجُودَ بَصِيرتي ... إِلاّ بوَهْمٍ في الْجَوَانِح سَارِبِ
لا تَنْدُبي شَمْسَ النَّهاَرِ، فَطالَما ... دَارَتْ رَحاها فِي الضُّحَى بِمَصائِبي
طَلَعَتْ عَلَيَّ فما لَمَحْتُ لَها سَناً ... في الأَرْضِ تَرْفُهُ في يَدَيْهِ مَتاعِبِي
النَّاسُ حَوْلِيَ أَنْفُسٌ مَطْمُورَةٌ ... في بَهْرَجٍ دَنِسِ السَّرِيرَةِ كاذِبِ
أَشْبَاحُهُمْ سَقَطُ الْقُبُورِ، وَطَيْفُهُمْ - ... قَدَّسْتُ طَرْفَكِ عَنْهُ - بُومُ خَرَائِبِ
هَيَّا اتْرُكي عَنْهاَ الْحَدِيثَ، فَإِنَّنِي ... عَنْ دَهْرِها لَسْتُ الْغَدَاةَ بِعاتِبِ
عَمْياَءُ كابْنِ الطِّينِ تَخْبِطُ مِثْلَهُ ... خَبْطَ الْمُحَيَّرِ في هَجِيرِ سَباسِبِ
مَالَتْ وَحاديِها الظّلاَمُ لِشَاطئٍ ... في الْغَرْبِ مِنْ جُرْحِ الْمَطَامِعِ خَاضِبِ
مَرَّتْ جِنَازَتُهاَ بَطَرَفَيِ مِثْلَماَ ... إِثْمٌ يَمُرُّ عَلَى ضَمِيرِ الرَّاهِبِ. . .
نَسَّانِيَ الدُّنْياَ جَبِينُكِ فَاسْكُبِي ... قَبساً أَعَزَّ من الشُّعاعِ الْغارِبِ
أَيَّامِيَ احْتُضِرَتْ فَيا وَيْلي إِذا ... لَمْ يحْبِهاَ نُورُ الْجَبِينِ الْغاَئِبِ
قَالَتْ: وَمَا لِلنِّيلِ يُشْبِهُ سَاجِداً ... نَسِيَ الصَّلاَةَ وَلَجَّ في اسْتِغْفاَرِهِ؟
قُلْتُ: ارْقُبِيهِ، لَعَلَّ مَوْجَةَ شَطِّهِ ... تُنْبِيكِ دُونَ النَّاسِ عَنْ أَسْرَارِهِ
هُوَ شَاعِرٌ مِثْلِي رَآكِ فَرَقَّ لِي ... وَأّذَابَ هذا السِّحْر مِنْ أَوْتاَرِهِ
وأعانَ مِزْهَرِيَ الْجَرِيحَ عَلَى الْهَوَى ... وَشَدا بِلَوْعَتِهِ عَلَيْكِ وَناَرِهِ
وَمَضَى يُغَمْغِمُ فِي الضِّفاَفِ، وَفِتْنَتِي ... وصَبابَتي تَنْسَابُ في تَيَّارِهِ!
قَالَتْ: كَآباتُ الْمسَاءِ أَهَجْنَنِي! ... قُمْ هُزَّ مِنْ فَجْرِ الْخَيالِ صَبَابَتي
هاتِ اسْقِني نَغَمَ الصَّبَاحِ لَعَلّنِي ... أَنسَي عَلَى شَفَةِ الْمسَاءِ كَآبَتِي!(295/48)
قُلتُ: ارْقُبِينِي في غَدٍ إِنَّ الأَسَى ... في الرُّوحِ أَخْرَسَ هَوْلُهُ شَبَّابَتي!. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(295/49)
النُّور
للأستاذ أمجد الطرابلسي
تدَجّى السَّبيلْ ... ومات الدَّليلْ
وتاه الرَّفيقْ
وهذا الظّلامْ ... أضاع الزِّمامْ
فضلَّ الطّريق
وخاف الرّحيلْ فأَغفى ... ونامْ وما يستفيقْ
وأين الصَّباحْ ... يواسي الجراحْ
ويحيى الأملْ
سقته الحسانْ ... ضياء الدِّنانْ
وخمرَ القُبلْ
فألقى السِّلاحْ وراَء ... الزّمانْ صريعَ المُقَلْ
أقامَ الأَلَقْ ... وراَء الغسقْ
يُنيرُ المدى
وحولَ الخصورْ ... وفوقَ النّحورْ
يَصُبّ النَّدى
صبايا الشَّفَقْ رفعنَ ... السّتورْ له فاهتدى
سباه الجمالْ ... وسحرُ الدَّلالْ
وحلوُ النَّغَمْ
فألقى عصاهْ ... مُريقاً سَناهْ
وراءَ الظُّلَمْ
وخَلى الضَّلالْ وبؤسي ... المَتاهْ لِرَكْبِ الأَلمْ
هنا الليلُ نامْ ... رهيبَ الظَّلامْ
مهيبَ الْحَلَكْ
وباتَ الصَّباحْ ... أسيرَ الملاحْ(295/50)
رَضِيَّ الشَّرَك
فمن للهِيامْ وراَء ... البطاحْ وتحتَ الفلكْ؟
طلبتْ الضِّياءْ ... فجزتُ الجواءْ
أمامَ النُّسُورْ
نفضتُ الدّهورْ ... وخُضتُ البحورْ
لأحظي بِنورْ
ظلامُ الفناءْ يَعُمُّ القُص ... ورْ فكيفَ القُبورْ. . .؟
(باريس)
أمجد الطرابلسي(295/51)
المصور
شاهدت حاكية تأتي على الصوَرِ ... كأنما يتحدى رسمها القدرا
فقلت خلق بلا سمع ولا بصرِ ... لينفخ المرء فيها الروح إن قدرا
محمود غنيم
رسالة المرأة
فن التجميل والمرأة في مختلف العصور
للآنسة زينب الحكيم
بينت في مقال الأسبوع الماضي نشأة فن التجميل، وأوضحت اتجاه المرأة بالنسبة له. واليوم نتحدث عن فن التجميل في مختلف العصور.
استفسرت من أميرة كردية في راوندوز عن الوسائل التي يتزين بها بعد أن أثنيت على جمالهن، وعجبت إذا كان كله من إبداع الطبيعة! فقالت: إننا نحن الكرديات ليست لنا أسرار. قالت ذلك علناً أمام رجلين من الأكراد كانا في مجلسنا. وعندما هممت بالانصراف، وجدتها تستبقيني لحظات بعد انصراف الرجلين، وانتحت بي ناحية خاصة من الحجرة الكبيرة، ثم قالت: الآن أستطيع أن أصدقك القول جوابا عن سؤالك لي عن وسائل زينتنا. ورفعت غطاء حريرياً ثقيلاً عن صندوق، فلما فتحته أوضحت لي محتوياته، فأرتني نوعاً من المسحوق الأبيض غير النقي، وقالت: هذا نوع من تربة بلادنا كردستان نستعمله لتبييض وجوهنا بعد أن نمزج قليلاً منه بالماء
ثم أرتني نوعاً من الكحل ونوعاً من الدهن يستعملنه لشعورهن، وأطلعتني على عدد من مناديل اليد الحريرية الزاهية الألوان، هذا إلى جانب الحلي الذهبية الكثيرة التي تحملها فوق رأسها وصدرها وأطرافها، والثياب الفخمة الثقيلة التي تلبسها وأسّرت إليّ: (إننا كجميع النساء لا بد لنا من بعض الأسرار)
وما كان أشبه هذا الحادث بما حصل مرة مع أميرة هندية، سئلت عن وسائل تزينهن قالت: (ليس لنا نحن الهنديات أسرار لأننا كجميع النساء كلنا أسرار) ومع ذلك، فقد كانت تحمل أنواعاً من صناديق المراهم والدهون أينما ذهبت، ووسائل تزين هاتين (الكردية والهندية)(295/52)
توضح أبسط وسائل الزينة وأيسرها اتباعاً
وفي الحق أن التفاني في اللجوء إلى الجمال المصطنع، والتغالي في إتقان فن التجميل دلت عليه نهضة صناعة قديمة تضارع أقدم الحضارات
فقد أوضحت الاستكشافات الأثرية، وبرهن التاريخ، على أنه قد وجد في مقابر قدماء المصريين، وعلى زهريات اليونان، وفي نقوش بابل، وفي الفسيفساء الروماني، أن الدهون قد استعملت بكثرة غامرة، بحيث تجعلنا نتخيل أن الوسائل التزين والتجميل استعملت في تلك الأيام بحالة لا يمكن أن تكون أقل انتشاراً مما هي عليه في أيامنا
فطالما وجدت تحت أكوام الآثار القديمة عشرات الآنية التي احتوت على أنواع الكريم والأصباغ وسوائل التدليك من كل صنف
أما المرأة الرومانية واليونانية كما يقرر عنها أتنيس فقد استعملت مسحوق المحار الأرجواني اللون (كالروج) للوجنتين، واستعملت للشفاه أحمرها المعتاد. ومن المشاهد أن هذا اللون الأرجواني لصبغ الوجنتين، قد أعيدت بدعته من نحو سنتين، ولا يزال يعرض في الأسواق اليوم وتستعمله بعض السيدات؛ وهذا دليل على تقصي مهرة مصنفي وسائل التجميل لتاريخ فن التجميل، ودراستهم لنفسية المرأة، وتتبعهم تفننها وتنوّع ميولها في مختلف الحقب
أما المصريات فقد استعملن الكحل (الأثمد)، ومن الغريب أنهن كن يسودن طرفي الفم بحيث يصل طول الخط الأسود الممتد من طرف الشفتين نحو سنتمتر أو أكثر قليلاً، وتوجد نماذج من التماثيل التي توضح ذلك في المتحف المصري بالقاهرة
والأثمد يستعمل الآن بكثرة في الشرق الأدنى لتسويد الأهداب، وإظهار الحواجب، وتفخيم العيون، وكان يستعمل معجوناً كدهان للجفون السفلى مما أكسبها نظرة جذابة، ولعل (الرِّمل) الذي يستعمل الآن هو اختراع مهذب عن ذاك
والإنجيل يخبرنا أن الزيوت العطرية كانت تستعمل لدهن الشعر، وكثير من رءوس الموميات المصرية وجدت مغطاة بآثار شعر مصفف بطرق أنيقة لتجعيد الشعر وكيه وقصه ووجدنا أن الزهريات الرخامية الفاخرة، تحتوي على مراهم يرجع تاريخها إلى 3500 عام قبل الميلاد.(295/53)
ووجدت مرايا من أيام الأسرة السادسة، أي من نحو 2600 سنة قبل الميلاد، وأقلام لتزجيج الحواجب من عهد الأسرة الثامنة عشرة أي منذ 1500 سنة قبل الميلاد
وبفحص ما عثر عليه من آثار توت عنخ آمون الفخمة في مقبرته، وجدت آنية تحتوي على عطور لا تزال باقية من نحو 3300 سنة
وكان السعتر والمر، والبخور والناردين، وأنواع الزيوت ولا سيما زيت السمسم واللوز والزيتون، كلها كانت المواد التي استعملت في أقدم أصناف الدهون، وكثير منها استخدم مع الكحل، والحناء التي استعملت لصبغ الأصابع والأقدام، ولا يزال يستعملها بعض الناس إلى اليوم
بل لقد اختص المصريون باختراع أغطية متقنة من الذهب والفضة، لتغطية أظافر السيدات وتجميلها، فكانت ترفع أو تستعمل وفق التقاليد.
ولعل الطلاء الأظافر الفضي اللون والذهبي الذي يستعمل اليوم، طريقة أسهل وأرخص من ذاك الاختراع الذي أخذت عنه على ما يظهر
والإسلام يأمر باتخاذ الزينة والتطيب، والنظافة الشخصية. واستعمل العرب السواك كفرجون للأسنان
واستعلمت الرومانيات الزنك الأبيض والطباشير لتبييض وجوههن في بعض الأزمنة، كما استخدمن الكحل لأعينهن، والأحمر لوجناتهن وشفاههن
أما النساء المتمدنات اللائى وجدن في الآثار القديمة فقد عرف أنهن استعملن مسحوقاً لطلاء الأسنان، صنع من نوع من الأحجار. . .
وصنعت أنواع الكريم للتجميل من دقيق الشعير والزبد. وبيض النساء شعورهن بطريقة يظهر أنها تشبه الطريقة البلاتينية التي اخترعت في أيامنا
وكانت مناضد زينتهن تحمل ثلاثة أصناف من الدهون في أوان قيمة، كما استعملن أنواعاً من الذرور الثمينة مثلما يستعمل نساء اليوم
وشاع استعمال العطور والمساحيق وحمامات اللبن ووسائل تجميل أخرى في أظلم الأوقات من العصور الوسطى! بل لقد عمت البدع المتبعة، ونقلت من الشرق إلى الغرب وبالعكس بواسطة الصليبيين الذين أحضروا الفرسان وعرفوهم أسرار التجميل التي كانت محفوظة(295/54)
في (الليفان أي شرقي بحر الروم
أسباب لها تأثيرها في طابع الأمم
في سنة 1770م قدِّم اقتراح للبرلمان الإنجليزي، يهدد بتحريم أي زواج لإحدى رعايا الملك إذا استعملن الروائح والأصباغ والدهون، كما حرم اتخاذ الأسنان الصناعية وغيرها. ولست أدري إذا كان هذا الاقتراح هو السبب في شدة اعتدال المرأة الإنجليزية في استخدام أصباغ الوجه، وانصرافها عن عمليات التجميل التي تحسن الأسنان الشائهة مثلاً، فإن الإنجليز ناس تقاليد ونظم!
وهل يمكن أن يكون هو السبب ذاته في عدم تشجيع القوم هناك على العناية بالنظافة الشخصية، مضافاً إلى ذلك حالة الجوّ! أظن أنهما معاً السبب المباشر في الروائح التي تنبعث من بعض المجتمعات الإنجليزية مما ينفر من حضورها أو الإقبال عليها، لا سيما إذا ما كانت في أمكنة ضيقة
حاولت بعض المستعمرات الأمريكية أن تسن قوانين مشابهة لتلك، قاصدة إلى إحباط نشاط المرأة في سبيل التزين ولكنها لم تفلح كثيراً
أما النساء الفرنسيات في بلاط لويس الثالث عشر فكان لهن ملء الحرية في استعمال الدهون من أغلى الأنواع، وبذلك ساعدن على اختراع وتركيب العطور والكريمات وجميع المنتجات التي تزيد من جمال المرأة على أساس صناعي تجاري
وأظن من الواضح ما نشاهده من تأثير تلك الحرية بالنسبة لفن التجميل عند المرأة الفرنسية التي تغالي جداً في استخدام الأصباغ والعطور بحسن تصرف وذوق حسن كما سبق أن نوّهنا
ولقد روج هذا، دون ريب، تجارة وسائل الزينة وصناعتها، وأحدث موجة من نوع خاص في جملة بلاد ولا سيما في الولايات المتحدة
فمثلاً حلاقو الشعر وأصحاب محال التجميل وأطباء جراحات التجميل للوجه والجسم، وغير هؤلاء من الأخصائيين تعاونوا مع الصيدليين والمجربين على اختراع طرق ووسائل لما تركته الطبيعة بدون تشكيل حسن في نظر العصر وذوق التطور، أو ما سببه شذوذ الخلقة من نقص أو ما فعلته تأثيرات ظروف حياتنا الحاضرة(295/55)
ومن عوامل التوفيق أن تدخلت الحكومات في هذا العمل من ناحية تقييد المقادير ومراقبة المركبات الكحولية خصوصاً المركبات السائلة
أما الصناعات الإضافية مثل صناعة القوارير الجميلة للروائح وآنية الذرور وأصباغ الشفاه وأشباهها فساعدت كثيراً على رواج استعمالها
على أنه مع كل الذي أسلفنا لا يزال هناك معارضة من بعض النواحي للتزين واستخدام الأصباغ: من ناحية الفضيلة من جهة، ومن جهة أخرى من ناحية مبدأ الإنسان الشخصي الذي لا يتفق والصورة المصطنعة التي تظهر بها الفتاة الحديثة والسيدة المقلدة
ولكن ما العمل و (الموضة) معلمة شاقة الرسالة والتطور سنة الحياة؟
إن كثيراً مما يظهر مجرد بدعة وعجب لأول وهلة أصبح ضرورة ملحة في سبيل المجاهدة للحياة التي يتعرض لها كثير من السيدات اللائى يضطلعن بالوظائف والحياة العملية
فعارضة الأزياء، والبائعة، والتشريفية، والزوجة، والفتاة التي تنتظر الزواج، عليهن جميعاً أن يكن أنيقات غير متبرجات، ولا داعي لأن ننبه الأذهان أيضاً إلى ما يستلزمه موقف الممثلة والراقصة والمغنية
لقد أصبحت روح العصر تحتم أن تكمل ما ننقصه الطبيعة، وأن نصلح ما تخطيء فيه، لهذا تقدم المختصون في التجميل بأنواعه جالبين معهم جميع ما يستطيعونه من المغريات للتزين ومحرضين عليه بشتى وسائل الإعلان.
لا عجب إذا في نهوض فن من أقدم الفنون، تدرج في نشوئه من مئات السنين، وليس مما يطمس هذه الحقيقة، أو يحط من قدر الفن ذاته، الفكرة التي سادت بين الناس من نحو قرن أو أكثر قليلاً، وهي أن الوسائل الاصطناعية للتجميل ليست إلا مغريات لسفلة نساء الأمم. إنما شدة مغالاة النساء في التزين راجعة إلى قفزة عنيفة قفزتها المرأة لتحطم بعض ما تبقى من القيود الثقيلة التي شلت حركتها، وعطلت تفكيرها طويلاً.
وما إسرافها الذي نلحظه ولا نوافق عليه إلا رد الفعل الذي يأتي بعده الإصلاح والتوجيه، وهذا ما سيكون موضع عنايتنا إن شاء الله.
زينب الحكيم(295/56)
رسالة العلم
الحياة
للدكتور محمد محمود غالي
من البويضة للشيخ - فيم تختلف المادة الحية عن المادة عديمة الحياة - الكربون مكون أول للحياة - ذرة الراديوم - الشبه بين الحياة والمغناطيسية والنشاط الإشعاعي - أعمال (ليب) - إمكان تطور البويضة والحصول على كائن لا يحافظ على جنسه - آمال للتجديد في هذا السبيل
نرقي مدارج الحياة، وننتقل خلال ذلك من حالة إلى أخرى، من طفل يلهو ويعبث بما يراه، إلى غلام يلعب ويعنى بتافه الأمور، إلى شاب ممتلئ حركة ونشاطاً، يكبُ على العمل ويقوم بدوره في المجتمع، إلى رجل يهتم لأبنائه أكثر من اهتمامه لنفسه، إلى كهل يتهالك في خدمة عشيرته وبلاده، ثم إلى شيخ لا يستطيع قليلاً ولا كثيراً، يستند إلى عصاه إن تعسر عليه المسير، اكتفى بمقعد في حديقة المنزل، حتى إذا تعسر عليه هذا أيضاً قضى أيامه الأخيرة في مضجعه، طوراً بين ذكريات الماضي ومرارة الحاضر، وتارة بين الداء وزجاجة الدواء، كلنا نعرف آخر القصة، وكلنا نعرف نهاية الهرم المحتوم.
هذه طريق الحياة، كلنا عابرها، من البويضة الضئيلة في الرحم قبل مولد الطفل، إلى هيكل مهجور في الرّمس بعد التجرد من الحياة - ترى ما هي الحياة؟ وفيم يختلف الإنسان عن العصفور، والعصفور عن التفاحة، وهذه عن المحبرة التي نستعين بها لنبعث للقارئ بهذا النوع من التفكير.
لقد ذكرنا أن جزيئات المادة عديمة الحياة هي ذرات كيميائية، وأن الذرات تتركب من نواة مركزية يدور حولها إلكترونات. وذكرنا أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية مألوفة، وأن العلماء يعتقدون أنه قد حدث أن مجموعة من هذه الذرات تجمعت بطريق المصادفة بالكيفية الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وتساءلنا: هل المادة الحية هي مجموعة من الذرات المادية، أم هي هذه المجموعة مضافاً إليها الحياة؟
أما أن المادة الحية تختلف عن المادة التي لا حياة بها اختلافاً يدل على وجود عناصر كيميائية جديدة لا نعرفها في الثانية، فهذا لا يقوم عليه أي دليل، فكل أنواع الذرات(295/58)
الموجودة في إحداهما موجودة في الأخرى، فلا فارق هناك بين مادة ومادة من حيث أنها عناصر كيميائية
على أن الذي يستطيع أن يؤكده العلماء، أن المادة الحية مركبة من ذرات معتادة، لا تختلف إلا في أن لها قابلية عظيمة للتماسك أو التجمع في جزئيات كبيرة بنوع خاص، بمعنى أن معظم الذرات الأخرى المكونة للمادة المجردة عن الحياة ليس لها هذه الخاصة. خذ مثلاً الماء باعتباره المادة الأكثر شيوعاً أمامنا على سطح الأرض، فإن ذرات عنصرية الهيدروجين والأوكسجين تتحد لتكون إما جزئيات هيدروجينية أو أكسوجينية أو ماء
على أن أياً من هذه المركبات لا يحوي أكثر من أربع ذرات، كذلك لا يتغير الوقف بإضافة الأزوت، فإن جزئيات مركباته مع العناصر السابقة تحوي ذرات قليلة؛ بيد أن وجود الكاربون مع هذه العناصر يغير الموقف كلية، إذ تتحد ذرات هذه العناصر مع الكاربون لتكون جزئيات تحوي الواحدة منها آلافا بل عشرات الآلاف من الذرات، ويتكون جسمنا الحي من هذا النوع من الجزئيات الكبيرة
وقد كان يعتقد العلماء، منذ قرن من الزمان، لزوم قوة حيوية خاصة، لإحداث هذه الجزئيات الكبيرة. على أن (فولر) استطاع بالوسائل الكيميائية أن ينتج أحد المركبات البولية (? وهو نتاج حيواني كما تمكن علماء غيره من الحصول على مركبات حيوية أخرى
ونعد إلى الكلام على ذرة الكاربون العجيبة في كونها مكونة أولى للحياة، فنرى أنها تتألف من ستة إلكترونات تدور حول نواة مركزية، كستة سيارات تدور حول الشمس، ولا يختلف الكاربون عن البورق والأزوت أقرب الذرات شبهاً به في الجدول الكيميائي، لا في أنه يزيد سياراً واحداً عن البورق، كما ينقص سياراً عن الأزوت، ويبدو أن هذا الفارق البسيط هو الذي يعين كون المادة كاربوناً أو غيره، وبالتبع يعين إمكان دبيب الحياة فيها، أو استحالة ذلك
ومن هنا نتساءل، عما إذا كانت الذرة التي لها ستة سيارات تدور حولها، لها خواص استثنائية ترجع بها لسر من الأسرار العلمية التي لم تكشف لنا؟ إن الرياضة الطبيعية، كما يقول السير جينز لا تجيبنا اليوم على هذا السؤال(295/59)
وتدلنا الكيمياء على ظواهر أخرى تشبه ذلك أشار إليها السير جينز في كتابه وتبدو في نظري أهم ما في هذا السفر الجليل، فالمغناطيسية مثلاً تبدو واضحة في الحديد (وذرته ذات 27 إلكترونا) وتبدو بدرجة أقل في النيكل (وذرته ذات 26 إلكترونا) وفي الكوبلت (وذرته ذات 28 إلكترونا) ويلاحظ أن لذرات هذه العناصر الثلاثة عدداً من الإلكترونات متتابعاً، كما يلاحظ أننا لا نرى في كل العناصر المادية الأخرى المعروفة لنا أي أثر للمغناطيسية، فالمغناطيسية إذن ظاهرة خاصة بالذرات التي لها هذا العدد من الإلكترونات
ولدينا في العلوم الطبيعية مثال آخر، هو النشاط الإشعاعي، وهو ظاهرة نراها في العناصر التي لذراتها من 83 إلى 92 إلكترونا والتي تبدأ في البيزميث ورادون الراديوم وتنتهي في الأيرانيوم، وقد بينا بالشكل الكيفية التي عليها ذرة الراديوم وفق بعض الاتجاهات الحديثة، فهي كما تراها مركبة من نواة وسطى يدور حولها عدد كبير من الإلكترونات يبلغ 88 إلكترونا كما هو مبين بالشكل.
على أن هذه المقارنة بين المغناطيسية كظاهرة والنشاط الإشعاعي الذي يبدو ظاهراً في الراديوم كظاهرة أخرى، هذه المقارنة توجهنا إلى أن نضع الحياة في قائمة الظواهر الطبيعية الأخرى كالظواهر المتقدمة
وعلى هذا الأساس، فإن العالم مربوط بقوانين معينة، وفق هذه القوانين يبدو أن للذرات التي لها عدد معين من الإلكترونات (6 ثم من 26 إلى 28 ثم من 83 إلى 93) لها خواص مُعينة، يطهر أثرها في الأولى بالحياة، وفي الثانية بالمغناطيسية، وفي الثالثة بالنشاط الإشعاعي وفعل الراديوم.
فالذرة إذن في جزيء المادة الحية لا تختلف في مجموع ما فيها عن الذرة في المادة المجردة عن الحياة، ولكلتيهما إذن نظام أشبه بالنظام الشمسي للمادة الذي سبق التحدث عنه، وإن كان من الصعب أن نمثل على الورق جزئيا من المادة الحية لكثرة عدد ذراته وبالتابع إلكتروناته كما مثلنا على الورقة الآن ذرة الراديوم. وبعبارة أقرب للوضع العلمي: إن كل ما يؤلف المادة الحية هو جسيمات أو كهارب في حركة ممكن إرجاعها يوماً إلى علاقات ترتبط بالبحرين الكبيرين اللذين يغمران كل الكائنات: الحيز والزمن، وبعبارة واضحة: إن المادة الحية كالمادة عديمة الحياة، ترجع في النهاية إلى حركة أو اعتبارات(295/60)
إلكترونية في الزمان والمكان.
بقى أن نتساءل عن أمرين:
الأول: هل يجوز إذن، ابتداء من مادة عديمة الحياة، أن نحصل في مختبراتنا على مجموعة من المواد الحية كالمجموعة المكونة لنا؟ أي مجموعة لها خاصية التناسل والتكاثر والمحافظة على نوعها؟
الثاني: هل في مجموعة الظواهر الحيوية ما يفسرها بموضوعات طبيعية كيميائية؟ وبعبارة أوضح، هل يمكن بمعلوماتنا الحالية، وبالرجوع إلى الميراث العلمي أن نرجع مجموع الظواهر الحيوية إلى موضوعات طبيعية كيميائية؟
ولو أننا بعد التحري الجدي، وجدنا الإجابة على الأمرين بالإيجاب، لجاز لنا أن نعتقد أننا كالتفاحة التي نأكلها، والمحبرة التي نكتب بها، بل لجاز لنا أن نعتقد أن لحياتنا الاجتماعية والأخلاقية، أساسا علمياً، يرجع إلى قواعد تتوافق مع نتائج البيولوجيا العلمية والطبيعية النظرية التجريبية
أيستطيع البيولوجيون والطبيعيون أن يرجعوا يوماً كل مظاهر الحياة، كل ما فيها من صفات وغرائز موروثة، حتى عظمة الرجل الذي يموت في سبيل بلاده وهو راض، حتى حنان الأم التي تتفانى في سبيل أولادها وهي سعيدة؟ أيستطيع العلماء إرجاع كل هذا، كل ما في الرجل من إرادة وآمال، كل ما في الأم من عطف وحنان، إلى حوادث داخل أجسامنا، تجد تفسيرها المادي في الكيمياء والطبيعة والرياضة؟ هذا ما أريد أن ألم به في ختام هذا المقال
للعالم ليب أستاذ جامعة بركلي بالولايات المتحدة كتاب الفكرة الميكانيكية للحياة، صادف نجاحاً في أمريكا، ترجمه إلى الفرنسية العالم المعروف هنري موتون أستاذ الكيمياء الطبيعية في السوربون، صادفت ترجمته أيضاً نجاحاً حتى أصبح البعض يعرف (موتون) بها أكثر مما يعرفه باكتشافه للألتراميكروسكوب وبأبحاثه في (تأثير المجال المغناطيسي على الظواهر الضوئية)
لقد لازمت موتون سنوات عديدة، وطالما جمعتنا الأيام منفردين في مَخْبَره بمعهد باستير، وطالما حدثني في العلوم بما لا يَمُتُّ لعملي في شيء، وكان لهذه الاجتماعات أثر في(295/61)
تكويني، وعجيب أنه لم يذكر (موتون) يوماً شيئاً عن (ليب)، ولم أشعر أن أعمال الأخير شغلت يوماً حيزاً من فكر صديقي العالم
وعندما افترقنا في سنة 1935 بوفاة (موتون) وبعودتي إلى مصر، اقتنيت بطريق المصادفة تلك الترجمة المتقدمة التي أخرجها الآن من مكمنها بين الكتب بعد أن ظلت محتجبة أربعة أعوام، لأستدل من رجل قضي سنين طويلة من حياته في البحث التجريبي على الإجابة على ما تقدم، ولأستدل على ما قد يُرضي رغبتي أن أجد في الحياة أمراً غير التفاحة التي نأكلها، والمحبرة التي أستملي منها
والواقع أنه قد نجح (ليب) وغيره نجاحاً باهراً في نواحي تجاربه العديدة، هذه التجارب التي هي آية في الدقة والتي تبعث على الإعجاب في الوصول إلى تفسير مادي لكثير من الظواهر الحيوية، هذه التجارب التي وإن انحصرت في مخلوقات كالأسماك والحشرات إلا أنها قد تمتد يوماً إلى الحيوانات العليا كالإنسان. وعند (ليب) وزملائه أن اتجاه الفراشة نحو الضوء في خط مستقيم ليس إلا أثراً ضوئياً - بل إن تلقيح البويضة وإمكان تطورها إلى مخلوق دون الالتجاء إلى الحيوان المنوي أو بالالتجاء إليه، له عند (ليب) ومعاصريه تفسير كيميائي طبيعي
على أنه إذا كان العلماء قد يحصلون الآن على مادة عديمة الحياة فإنه مما لا شك فيه أنه لم يمكن حتى الآن إلا تحضير مجموعة من نواة مختلفة للخلايا ولكنها مجموعة لا تصلح أن تكون خمائر تتكاثر وتحافظ على جنسها، بالشكل الموجودة فيه في الأحياء
لتكن عقائدنا بحيث يجمل بنا أن نمتلئ إيماناً بتقدمنا، يجمل بنا ونحن ندرس أعمال العلماء المجيدة أن نعتقد أنه إذا كان لم يتح لأحد منهم حتى اليوم أن يوجد المادة الحية بطريقة يتكون بها كائن يتناسل ويحافظ على جنسه من مادة مجردة عن الحياة فإنه ليس من حقنا ولا في مقدورنا العلمي، أن نجزم بأن هذه الغاية ضرب من المحال
إن أعمال (ليب) وغيره تدعو للإعجاب. وإذا كان قد نجح ونجح معه معاصروه في أن يُرجع كل التطورات التي تتم عند تلقيح البويضة إلى مسائل كيميائية طبيعية، بل نجح في تعهد بويضة لم يلقحها الحيوان المنوي بحيث نتج منها كائن له قلب ومعدة وهيكل عظمي، وتنقصه الدورة الدموية اللازمة لاستمرار الحياة، كائن استطاع أن يعيش على هذه الأرض(295/62)
شهراً من الزمان - فإنه ما زال أمام العلماء إحداث كل ذلك بالاستغناء عن البويضة نفسها وعن كل ما يمس الحياة.
أيستطيع إنسان أن يوجد، ابتداء من الذرات مهما تنوعت والإلكترونات مهما تعقدت، كائناً آخر؟ كائناً يتطور ويترقى ليكون يوماً أو بعد ملايين السنين مثلك ومثلي ومثل (موتون) و (ليب)؟ هذه مسألة ما زال العلم النظري والتجريبي بعيداً جد البعد عن الوصول إليها، وإن كانت العلوم التجريبية تحتم علينا ألا نعتبرها ضرباً من الخيال
على أنه عند القرب أو الوصول إلى هذه الحدود، يكون العلماء قد أحدثوا في العلم تطوراً يفوق بكثير ما أحدثه جاليليو ونيوتن في القرن السابع عشر، وما يحدثه بلانك وأينشتاين ودي بروي في العصر الحاضر.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة دبلوم
المهندسخانة(295/63)
ما هي الحياة؟
وكيف ظهرت على الأرض؟
للأستاذ نصيف المنقبادي
وحدة النباتات والحيوانات
يعتقد جمهور الناس أن الحيوانات (ومن بينها الإنسان) والنباتات والجمادات يختلف كل منها عن الآخر اختلافاً جوهرياً كلياً. وكانوا يعلموننا في المدارس أن هناك عالم الحيوان وعالم النبات وعالم الجماد، وأن كلاً منها مستقل تمام الاستقلال عن غيره. ولا شك في أن من يلقي نظرة سطحية عليها يجد أنها تختلف في الظاهر. فالحيوان يتحرك، والنبات ينمو، والجماد يبدو كأنه ثابت لا يتغير. ولكن الذي ينعم النظر ويدقق على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة يتضح له أن هذه كلها اختلافات ظاهرية لا حقيقة لها في الواقع
ونقصر اليوم حديثنا على وحدة النباتات والحيوانات (ومنها الإنسان) والصفات المشتركة بينهما وهي مميزات الحياة بعينها. ونبحث في مقال قادم عن وحدة الأحياء عموماً (الحيوانات والنباتات والجمادات) لنستخلص من ذلك ماهية الحياة وكنهها وكيف أنه ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة. ثم نشرح في مقال آخر كيفية ظهورها على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، وعلى الأخص طاقة الشمس التي كانت تشتمل في ذلك الماضي البعيد جداً على الكثير من الأشعة فوق البنفسجية وعلى إشعاعات أخرى أكثر مما تحتوي عليه الآن. وأخيراً نتكلم عن المواد المتوسطة بين الأحياء والجمادات كالخمائر الذائبة في الماء وكالمعادن الغروية المدهشة التي تتصرف مثل الكائنات الحية في أهم أحوالها
مميزات الحياة المشتركة بين الحيوانات والنباتات
نطلق على جميع الحيوانات (ومن بينها الإنسان) وجميع النباتات اسم (الأحياء) أو (الكائنات الحية). ونقول عن كل فرد منها إنه (حي). وهذا يدل على أنها تشترك جميعها في بعض صفات وظواهر هي التي تميز الحياة وتجمع بين الكائنات الحية على اختلاف طوائفها وأنواعها وأفرادها. كالشكل النوعي، والتكوين الخلوي، والتركيب الكيميائي، والتغذي، والتنفس، والتحرك الذاتي والتطور الفردي والنوعي. وسيرى القارئ أن هذه(295/64)
الصفات وإن كانت تميز - مجتمعة - الكائنات إلا أنها ليست خاصة بها كما سنثبت في مقال قادم، بل هي توجد ولكن مشتتة أو مبعثرة في الجمادات، وكل ما في الأمر أنها إذا اجتمعت في جسم واحد قيل عنه إنه (حي)
فلنستعرض هذه المميزات المشتركة لنقول كلمة موجزة عن كل واحدة منها لأن مقام التفصيل في كتب البيولوجيا. وحسبنا أن يكون فيما نورده هنا مقدمة أو تمهيد يسهل لقراء الرسالة الوقوف على الأبحاث الجديدة العظيمة التي كشف عنها العلم في الثلاثين سنة الأخيرة مما سنشرحه في المقالات القادمة.
الشكل النوعي: لكل نوع من الكائنات الحية شكل معروف خاص به يميزه من غيره لأول وهلة. وتستوي في هذا الحيوانات والنباتات، كما أن لبلورات الجمادات والمواد المعدنية المبلورة أشكالاً هندسية ثابتة بكل نوع كيميائي منها تميزه من سواه.
وأشكال الحيوانات والنباتات تظهر ثابتة في مدة معينة من الزمن. ولكن إذا نظرنا إليها خلال ملايين السنين - على ما تبدو لنا في البقايا المتحجرة في طبقات الأرض المختلفة التي تكونت في الأعصر الجيولوجية القديمة المتعاقبة نجد أنها غير ثابتة، بل أنها في تغير وتحول مستمرين بفعل العوامل الطبيعية، والمؤثرات الجوية وتقلباتها، وتنازع البقاء بين الفصائل والأنواع والأفراد وما يترتب على ذلك من الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب وانقراض غير الملائم للبيئة الجديدة والظروف الطارئة. غير أن فعل الطبيعة هذا تدريجي بسيط لا يظهر أثره إلا في ملايين السنين فيخيل لنا أن أشكال الحيوانات والنباتات ثابتة على الدوام، ولكن الحيوانات والنباتات المتحجرة التي عثر ويعثر عليها العلماء كل يوم في مختلف طبقات الأرض في جميع أنحاء الكرة الأرضية تدلنا على عظم تحول الأنواع وتسلسل الحديث منها من القديم. ويكفي أن يزور الإنسان أحد المتاحف الجيولوجية في أوربا ليقتنع بهذه الحقائق الثابتة التي يؤيدها من جهة أخرى علم التشريح التقابلي وعلم تكوين الجنين (يراجع المقال القيم الذي نشره أخيراً عن هذا الموضوع بمجلة (الرسالة) للأستاذ عصام الدين حفني ناصف)
التكوين الخلوي: إذا فحصنا بالميكرسكوب أية قطعة من جسم الإنسان أو أي حيوان أو أي نبات نرى أنها مؤلفة من خلايا صغيرة متلاصقة لا ترى بالعين المجردة، والخلية مكونة(295/65)
من مواد زلالية بها قليل من مواد دهنية وسكرية، وفي وسطها نواة من مادة زلالية خاصة، ويحيط بها في أغلب الخلايا غشاء من مادة زلالية أخرى في الحيوانات ومن مادة السيليلوز (مادة القطن) في النباتات، والشكل العام للخلايا الحيوانية والنباتية واحد ولا سيما في الأدوار الأولى من تكون الجنين ولكن الخلايا تختلف بعد ذلك بعض الاختلاف في تفصيلاتها باختلاف وظيفة كل نسيج تدخل في تكوينه، كالخلايا العصبية وخلايا العضلات وخلايا الجلد وكالخلايا التي تدخل في تركيب الأوراق وأعضاء الزهرة والخلايا الخشبية والخلايا التي تؤلف منها الطبقة المولدة في غصون النباتات.
وتوجد إلى جانب هذا كائنات من خلية واحدة وهي الحيوانات والنباتات الأولية التي لا ترى إلا بالميكرسكوب، وكذلك كرات الدم البيضاء والحمراء
التركيب الكيميائي: تشترك جميع الأحياء من حيوانات ونباتات وإنسان في تركيبها الكيميائي وهو تركيب الخلية نفسها ونعني به ذلك الخليط من المواد الزلالية والدهنية والسكرية أو النشوية المتقدم ذكرها، وبعض مواد أخرى إضافية ثانوية قد توجد في بعض الخلايا ولا توجد في غيرها
التغذي: معلوم أن النباتات تتغذى مثل الحيوانات. ذلك أن مادتها الخضراء (الكلورفيل) تستعين بالطاقة الإشعاعية الكامنة في ضوء الشمس لتحليل غاز حامض الكربون المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون: (الفحم) وتمزجه بالماء الذي تمتصه جذورها من الأرض فيتولد النشا الذي يتحول تارة إلى السكر وتارة إلى السيليلوز ومادة الخشب، وتتولد أيضاً على هذا النحو المواد الدهنية وتراكيب وأحماض عضوية أخرى ثلاثية: (مكوّنة من كربون وهيدروجين وأوكسيجين). وتمتص جذور النباتات في الوقت نفسه من الأرض - مع الماء - تراكيب الأزوت مثل الأزوتات: النترات وأملاح النشادر، وكذلك بعض مواد معدنية أخرى. وهذه المواد الأزوتية تمتزج بفعل قوة الشمس أيضاً بالسكر أو النشا، وبالمواد الدهنية والأحماض العضوية المشتقة من كربون الهواء على الوجه المتقدم بيانه، فتتولد المواد الزلالية التي هي أهم غذاء لها: أي النباتات وللحيوانات ومنها الإنسان. وخلاصة القول أن النباتات تتغذى مثل الحيوانات وتتناول لغذائها نفس المواد التي تتغذى بها الحيوانات وهي: المواد الزلالية، والمواد الدهنية، والمواد السكرية أو النشوية.(295/66)
كما أن الغرض من التغذي واحد في الحيوانات والنباتات وهو، أولاً: توريد المواد اللازمة لتشييد بناء الأجسام الحية أثناء نموها وإصلاح ما يتلف ويستهلك منها. ثانياً: وهو الأهم، احتراق المواد الغذائية - بعد هضمها وامتصاصها - داخل أنسجة الجسم وخلاياه لتوليد الطاقة (التي كانوا يسمونها بالقوة فيما مضى). والحرارة اللازمتين للقيام بأعمال الحياة ووظائف الأعضاء.
التنفس: ويلحق بالتغذي التنفس، ولا يخفى أن النباتات تتنفس مثل الحيوانات أي أنها تمتص الأكسجين من الهواء وتفرز غاز الحامض الكربونيك، ولها مسام في أوراقها وغصونها لهذا الغرض، كما أن الغرض من التنفس واحد في الحيوانات والنباتات وهو احتراق المواد الغذائية لتوليد الطاقة (القوة سابقاً) والحرارة الضرورتين لأعمال الحياة. وقد عرف علماء الفسيلوجيا الحياة بأنها احتراق أو تأكسد
التحرك: والحركة لا تختص بها الحيوانات دون غيرها فإنه توجد - من جهة - طائفة كبيرة من الحيوانات السفلى تعيش ثابتة في مكانها لا تتحرك منذ نشأتها، وهي تتولد بعضها فوق بعض في قاع البحار فتتكون منا جزر وهضاب لها شأن كبير في علم الجيولوجيا مثل الحيوانات الجوفاء أو المرجانية وغيرها. وإلى جانب هذا توجد نباتات تتحرك حركة ذاتية من تلقاء نفسها مثل الأنواع المفترسة (يرجع المقال الذي نشر في هذا الصدد أخيراً بمجلة الرسالة للأستاذ رضوان محمد رضوان). ومن النباتات المتحركة النبات المعروف باسم المستحية ومنها فصيلة كاملة من النباتات الطحلبية المائية، وهي الفصيلة المسماة (بالمهتزة) ومنها جرثومة التلقيح في النباتات السفلى فإن لكثير منها شعرة طويلة في مؤخرها أو أهداباً عديدة حولها تستعين بها على العوم في الماء فتتحرك وتنتقل وتروح وتجيء، لا فرق في ذلك بينها وبين الحيوانات الصغيرة ذات الخلية الواحدة ولهذا سميت أي الجرثومية التلقيحية الحيوانية، وهي نبات محض
ولولا ضيق المقام لبينّا أن السبب في عدم تحرك النباتات في مجموعها يرجع إلى مادة السيليلوز الجامدة التي تتركب منها أغشية خلاياها فتمنع امتداد الحركات المحلية الحاصلة على الدوام داخل كل خلية وذلك خلافاً للخلايا الحيوانية
التلقيح والتناسل والتطور: تتناسل النباتات كالحيوانات للتلقيح في أغلب الأحوال (ولكن(295/67)
ليس في جميعها على الإطلاق) ويشتق أو يولد كل فرد منها من فرد مماثل له، ثم ينمو بالتغذية، ثم يتناسل ويتكاثر بدوره، ثم يضعف ويموت متأثراً بما يتراكم في أنسجته من بقايا احتراق المواد الغذائية ومن تعفن فضلات الطعام داخل جسمه قبل إفرازها، عدا الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة فإنها أحياء خالدة لا تموت إلا إذا طرأ عليها حادث مهلك يقتلها كأن يجف مثلاً الماء الذي تعيش فيه أو يفسد.
وحدة الحيوانات والنباتات
ينتج مما تقدم أنه ليس هناك فرق جوهري بين الحيوانات والنباتات حتى لقد حار العلماء في إيجاد حد فاصل بينهما أو محك للتمييز بين بعض الأحياء السفلى الملتبس في أمرها لمعرفة هل هي حيوانات أو نباتات. ولم يجدوا أمامهم غير فاصل واحد هم أول من يعترفون بأنه سطحي ظاهري ونعني به مادة السيليلوز التي تتركب منها أغشية الخلايا النباتية فإنه لا وجود لها في الحيوانات
ولكن هذا الفاصل غير شامل لجميع النباتات في جميع أدوار حياتها لأنه توجد بعض الأنواع السفلى من النباتات الفطرية من فصيلة الميكزوميست تقضي حياتها كلها أو معظمها دون أن تكون لخلاياها أغشية من أي مادة كانت. غير أنه إذا ساءت الأحوال الجوية أفرزت هذه النباتات حول نفسها مادة السيليلوز فتتقي بهذا تقلبات الجو. أما في باقي الفصول المعتدلة فإنها تعيش خالية من هذه المادة.
ثم إنه من جهة أخرى توجد في جميع الحيوانات مادة تعد شقيقة السيليلوز من الوجهة الكيميائية وهي السكر، فكلاهما مكون من امتزاج الفحم بالماء ولكن على نسب مختلفة في كل منهما. ولذلك أطلقوا على هذه المجموعة اسم (هيدرات الكربون) التي منها أيضا النشا ومادة الخشب
وهناك فاصل فسيولوجي بين الحيوانات والنباتات قد يكون أهم إلى حد ما من الفاصل المتقدم وهو كيفية التغذي في كل منهما. فقد قلنا فيما تقدم إن الحيوانات والنباتات تتغذى على السواء، وأنه لا بد لغذائهما من نفس المواد الزلالية والدهنية والسكرية، ولكن الفرق بينهما هو أن الحيوانات تتناول هذه المواد مركبة مهيأة من الحيوانات الأخرى أو من النباتات. أما النباتات فإنها بحكم تكوينها لا تستطيع أن تتناولها مركبة (مع استثناء النباتات(295/68)
المفترسة) بل تركبها أولاً من الهواء والماء والأرض بفعل قوة الشمس بواسطة المادة الخضراء (الكلورفيل) على الوجه المتقدم بيانه ثم تتغذى بها
على أن هذا الفاصل غير شامل لجميع النباتات، فإنه فضلاً عن النباتات المفترسة توجد طائفة أخرى كبيرة هي النباتات الفطرية المعروفة بعض أنواعها العليا عند الجمهور في مصر باسم (عيش الغراب) وهي خالية من المادة الخضراء فلا تستطيع أن تركب غذاءها بنفسها كما تفعل النباتات الأخرى ولكنها تتناوله مركباً - كما تفعل الحيوانات - من الأجسام الحيوانية والنباتية الأخرى. ومن أجل هذا نراها جميعها طفيلية تعيش على غيرها من الأحياء أو أجزائها الميتة أو مشتقاتها.
وعلى هذا تكون النباتات الفطرية الحلقة المتوسطة بين الحيوانات والنباتات، ولولا وجود السيليلوز فيها لعدها البولوجيون من الحيوانات. فهي نبات من جهة احتوائها على السيليلوز وحيوان من كيفية تغذيتها. وفي هذا الدليل الواضح على وحدة النباتات والحيوانات وعلى تسلسلها من أصل واحد وهو الجمادات كما سنبينه في المقالات القادمة.
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)(295/69)
رسالة الفن
التصوير الإغريقي في مرحلته الأولى
للدكتور أحمد موسى
كان الفنان المصري إذا صور جماعة من الناس أو الحيوان أو المواد، فأنه يضعها بحيث يكون بعضها خلف بعض أو إلى جانبه، من غير مراعاة الوضع الطبيعي الذي كانت تظهر به أمام عينيه، وكان هذا هو الحال أيضاً عندما أراد التصرف بعض الشيء - مثلاً - في تصوير مائدة عليها أدوات أو مواد، فتراه يصورها قطعة قطعة، كما لو كانت متفرقة غير مجتمعة على مائدة واحدة؛ ذلك لأنه لم يكن يعرف أصول تصوير المجسمات، وعلاقة الحجم والبعد بالتصوير المنظور وكان هذا سبباً جوهرياً في ظهور مختلف المصورات التي مثلت شئون حياته الزراعية والصناعية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها، كما لو كانت متجاورة بالرغم من أن بعضها كان يجب أن يخفي البعض الآخر بحسب وضعه وراءها.
كما أن نظرة الفنان المصري لجماعة من الناس بينها شخصية بارزة، دفعته حيناً إلى إظهار هذه الشخصية بمقياس أكبر من المقياس الذي تقيد بتنفيذه في مصوراته، غير ناظر إلى موقع هذه الشخصية من حيث البعد أو القرب منه، أو لوضعها بالنسبة إلى مجاوريها، فضلاً عن نظرته إلى جسم الإنسان على وجه الخصوص، كما لو كان شيئاً ينظر إليه من وضعين مختلفين؛ فتراه كما ذكرنا في مقال سابق، نظر إلى الرأس والبطن والساقين والقدمين من الجانب، على حين نظر إلى العينين والكتفين والبطن من الأمام.
هذا هو التقرير العلمي عن التصوير المصري القديم، ذكرناه لتعريف القارئ بعض الشيء عنه، ليلمس الفوارق بين فنين قديمين أحدهما فن قومي والآخر فن مثلي بلغ الذروة التي تدفعنا دائماً إلى تلمس آثاره والسير على نوره والعمل على استيعابه، والمناداة بأنه وإن لم يكن أول الفنون جميعاً إلا أنه كان ولا يزال أعظمها خطراً وأجملها مظهراً وأصدقها تعبيراً.
لذلك كله لا نشك في أن الإغريق خلقوا فناً تصويرياً حقيقياً تقدموا فيه بخطوات واسعة ووصلوا إلى نتائج باهرة.(295/70)
إلا أنه لشديد الأسف لم يبق الكثير من آثارهم فيه، وحتى الصور التي نقلت عن الأصول لا يمكن التأكد - غالباً - من صحة نقلها، أو مطابقتها لما نقلت عنه
وعلى ذلك فالتصوير الإغريقي الذي يمكن اتخاذه مادة لتأريخه والوقوف على اتجاهاته ينحصر باستثناء قليل في التصوير المرسوم على أواني الزهر التي اتخذ منها الإغريق عالماً كاملاً لتصوير مختلف شئون الحياة عندهم، وفي التصوير الزخرفي الذي جاء متأخراً ومعاصراً للرومان.
ولذلك كان معظم ما نعرفه عن المصور الإغريقي أو قل كل ما نعرفه عنه مأخوذ من المصادر المكتوبة.
وبالرغم من أن التصوير وصل في دقته إلى درجة مثيرة لكل إعجاب، فإنه لم يكن ليصل إلى درجة السمو والعظمة التي بلغها فن النحت الإغريقي الخالد، وهذا لا يمنع من ذكر بعض فنانين مصورين ارتفعوا بفنهم إلى درجة عالية لا يمكن إغفالها أو إهمالها إطلاقاً.
وإذا شئت فقل: إن الاختلاف الجوهري بين فن التصوير الإغريقي - على قدمه - وبين فن التصوير (الحديث) محصور في ناحية (الظل والنور) وناحية (التلوين)
أما من ناحية روح الفن والطابع المميز والطراز والموضوع الإنشائي وتقدير الجمال والوثوب إليه رغبة تسجيله؛ فإن مصورات الإغريق لم تكن لتقل نسبياً عن أعمال الفنانين المحدثين.
فقد كان المصور الإغريقي قادراً على تجسيم الرسوم وإعطائها شيئاً من الحياة، ولكنا لا نزال نكرر القول بأنه لم يصل للدرجة الهائلة التي وصل إليها النحات والمثال.
وظل التصوير إلى القرن الخامس قبل الميلاد بدائياً بسيطاً، أي أنه سار في أول أمره بخطوات أبطأ بكثير من تلك التي سار بها فن النحت.
ولعل أول ما يمكن ذكره عنه هو أنه تطور في مدرسة أتيكا، تلك المدرسة التي أسسها في أثينا الفنان أول مصوري العالم بالمعنى الفني، والذي عمل بين سنة 475 وسنة 455 ق. م في أثينا.
والفنان في اعتبارنا لا يكون عظيماً إلا إذا كان له طابع مميز واتجاه معين، مثله في ذلك مثل الموسيقي والشاعر والكاتب، وإلا ففي أي شيء آخر يمكن أن تظهر هذه العظمة؟(295/71)
إن كثرة إنتاج الفنان لمما يساعد دون نزاع على درس طابعه واستخلاصه من خلال هذا الإنتاج، ولكنها لن تكون سبباً في تعظيمه أو تخليده؛ إذ أن من بين أساطين التصوير من كان نسبياً قليل الإنتاج ومع هذا كان عظيماً، على حين رأينا غيره ممن كثرت لوحاتهم وبقيت آثارهم لم يكن لهم نصيب في الخلود في عالم الفن، نظراً لضآلة طابعهم المميز أو انعدامه.
وهاهو ذا المثل بين أيدينا، فالمصور بوليجنوت مع قلة ما أنتجه وضآلة ما وصل إلى أيدينا من خلقه، كان فناً بارزاً لوضوح طابعه الدال على سمو نفسيته وقوة تعبيره ودقة ملاحظته.
ويتلخص هذا الطابع في أنه أول من أبتدع التصوير التذكاري الذي سار فيه متجهاً نحو المثل الأعلى؛ فدل في جلاء على النضوج العقلي. وإلى جانب ذلك يعد بوليجنوت أستاذاً في التصوير الخطي أي المكون من خطوط تحديدية خصصها لتصوير موضوعات أخلاقية أظهر فيها ناحية الجمال المثلى، فكان كما أطلق عليه علماء الفن (مصور الأخلاق) ويعنون بذلك الانتماء إلى الاتجاه الفلسفي الذي يعني بالتفرقة بين عادلات الإنسان وبين ميوله لتحقيق فكرة الخير أو العمل مندفعاً نحو الشر.
على أن هذا الطابع وهذا الاتجاه ليس دليلاً على النضوج الفني الذي لم يصل إلى نهايته في التصوير، ولذلك، كما قلنا، كانت معظم أعماله تصويراً خطياً لونها بألوان معدودة دون ظل ولا نور؛ فبدت أشبه شيء بصفوف بعضها وراء بعض على أرضية ذات مستوى واحد. وكان غالباً ما يرسم - في ركن من الصورة - شجرة أو بيتاً قاصداً بذلك تمييز مصوراته متخذاً معظم مادته الإنشائية من سير الأبطال.
وأشهر ما تبقى من إنتاجه صورتان حائطيتان في ردهة الاجتماع بمدينة دلفي، أولاهما مثلث (تخريب تروادة ورحيل الإغريق عنها). وثانيهما زيارة أوديسوس - بطل تروادة - للدنيا السفلى.
كما أن له صورة حائطية مثلت (تشاور الإخائيين) في ردهة السوق. وغيرها (الديوسكوريين يخطفون بنات لويسبس) في معبد ديوسكور أو معبد أبناء زويس من معشوقته إليدا التي كان - كما تذكر القصة الإغريقية - يزورها وهو في هيئة البجعة.(295/72)
وكان له تلاميذ تأثروا به ونهجوا على منواله أهمهم ميكون الذي صور (أعمال ثيسيوس) في معبد سمى باسمه، ورسم (عراك الأمازونات) في ردهة السوق. وتنسب إليه أيضاً (؟) صورة حائطية موضوعها (موقعة مارتون) في نفس الردهة، وهي الموقعة المشهورة التي قامت في البقعة المعروفة بهذا الاسم على ساحل أتيكا الشرقي، والتي ترجع شهرتها إلى النصر المبين الذي أحرزه الأثينيون تحت قيادة ملتيادس على الفرس في 12 سبتمبر سنة 490 ق. م.
ووجد حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد فنان ذو طابع جعل منه رائداً لمرحلة فنية، هو أبولودور الأثيني، لأنه استطاع إبراز الصور بهيئة مجسمة وذلك بإدخال التظليل فيها بعد أن كانت صوراً خطية. ولذلك يطلق عليه مؤرخو الفن (مصور الظل) فخطى بذلك خطوة جديرة بالتسجيل والإعجاب.
أحمد موسى(295/73)
محمد القصبجي
من الوجهة الفنية
للأديب السيد محمد المويلحي
يحاول الآباء أن (يصبوا) أبناءهم في (قوالب) المجد فيبذلوا وسمعهم من جهد ومال ليحققوا هذه الأمنية المرغوبة. . . ولكن القدر. . . يقف وينظر ويبتسم! لأنه يعلم أنه المسيطر الآمر الذي يهيئ المستقبل الذي لا ينقض!
أراد الشيخ (القصبجي) الكبير أن يكون أبنه (محمد) صورة له، فيلبس العمامة، ويتثقف ثقافة دينية تهيئه للتدريس بالمدارس الأولية، فنجح إلى حد ما. . . وحصل أبنه على كفاءة التعليم الأولي وأمتهن التدريس سنة. . . ولكن القدر كان يترصد الشيخ محمد الشاب المرح الذي يعبد الموسيقى، فأنتزعه من مدرسته وقلبه بين الحرمان والفقر وغضب الوالدين، ولكنه تعلم خلال هذه المحنة كيف يتقن العزف إتقاناً عجيباً. . . هذبته السنوات العجاف وربت في نفسه رجولة قوية، وصبراً طويلاً. فتحدى الحياة، وتحدى الفقر وانتصر عليهما. . . ثم كان ما أراده القدر (القصبجي الموسيقار)
أول من خرج من الموسيقيين بتجديد (صحيح) وابتكار طريف، وأول من جرد فغير وبدل حتى أخرج للناس صوراً رائعة للموسيقى الفنية القوية
صاح في الشرق صارخاً بقطعته الخالدة (إن كنت أسامح) فعرف الناس أن في مصر صوتاً جميلاً لآنسة ترتدي العقال وتسمى (أم كلثوم). . .! وأن في مصر ملحناً شاباً يسمى (القصبجي) أنقذ (التخت) الشرقي والمصري من جموده، ونفض عنه ثوب (الملل) الذي كان يعلوه.
(إن كنت أسامح)، هذا (المنولوج) الذي لحنه من نغمة (الماهور) بشكل لم يسبقه إليه سابق، وقد بلغ من الذيوع والشهرة ما حبب الناس في الموسيقى ولفت نظر الملحنين إلى هذا الفتح الجديد. وقد بلغ من إقبال الناس على شراء هذا (المنولوج) أن باعت منه شركة أوديون مليوناً ونصفاً من الاسطوانات.
ابتدع فن التطويل والمد، وأدخل على التلاحين الشرقية لوناً (كلاسيكياً) أخذ عنه وتأثر به أكثر ملحني هذا الزمن(295/74)
أهم ما يمتاز به عن غيره من الملحنين والمجددين أنك لا تستطيع أن ترد له لحناً إلى لحن قديم سمعته، وأنك مهما كنت بارعاً عالماً لا تجد تلحيناً له يشبه الآخر كل الشبه أو بعضه كما نسمع في تلاحين غيره
أخرج للناس أكثر من خمسمائة (لحن) ما بين مونولوج وأهزوجة ودور، ولكنه انفرد بالتوفيق الكامل في (المنولوجات) وتمتاز تلاحينه القوية الحية بأنها لا تستغل الغرائز الدنيا فلا بكاء فيها ولا عويل، وبأنها تحتل الآذان فوراً لتصل إلى شغاف القلوب، فهو الملحن الوحيد الذي لا يكاد يخرج للناس شيئاً حتى تسمعه يجري على لسان الرجل والمرأة، والولد والبنت، لا في مصر وحدها بل في بلاد الشرق قاطبة
طيب القلب لا يخاصم ولا يناوئ ولا يحمل ضغينة أو حقد إلا من أجل المال والعمل مع أم كلثوم!
يعجبني فيه أنه شركة لا تنضب، فلو طلب منه تلحين (رواية) بأكملها وأغري بالمال الذي يعبده لرأيت التلاحين تجري على لسانه وتسيل من فيه كأنها آتية من بحر خضم!
سمع مرة رجلاً يبيع (الزيتون الأخضر) وينادي عليه بصوت جميل، وبنغم جديد سحره، فلم ير القصبجي بداً من متابعته والسير وراءه في الأزقة والحارات والدروب، حتى وصلا إلى شارع في العباسية (شارع عبدة باشا) وهناك حفظ اللحن والنغم الذي لحن به قطعته المحبوبة (يا فايتني وأنا روحي معاك). .!!
شاذ في تصرفاته، ولعل الشذوذ ضرب من ضروب العبقرية، فهو يركب الترام فإذا ألفاه مزدحماً، وكان الجو حاراً تظاهر بأنه محموم وأخرج من جيبه (الترمومتر) ووضعه في فيه وتهالك وأكسب وجهه منظر الذي سيموت بعد لحظات فلا يلبث الركاب أن ينسحبوا، ولا يلبث الترام أن يخلو جميعه إلا من القصبجي الممثل. . .!
هو على رأس العازفين في الشرق، وتعتبر (ريشته) أقوى ريشة في مصر، فهي تمتاز بالقوة والحلاوة والقدرة على الاستمرار في العزف ليلة كاملة دون أن تسمح للملل بأن يتطرق إلى نفوس السامعين؛ ومع ذلك فإن محطة الإذاعة تتجاهله ولا تحس بوجوده لأنه يرفض الأجر الذليل. . .!
لولا بخله الشديد، ولولا بيعه تلاحينه أكثر من مرة لكان شيئاً عظيماً. . . ولكنه إنسان!(295/75)
محمد السيد الموليحي(295/76)
البريد الأدبي
الدكتوراه الفخرية لصاحب الجلالة الملك
تشرف صاحب السعادة الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك لالتماس الموافقة من جلالته على قبول درجة الدكتوراه الفخرية التي قررت جامعة فؤاد الأول رفعها إلى مقامه السامي
وتفضل جلالته فوافق على قبول الالتماس وأمر بتحديد الساعة الحادية عشرة من صباح الغد (الثلاثاء 28 فبراير) لإقامة الحفل الجامعي التقليدي الذي سترفع فيه الدكتوراه الفخرية إلى جلالته، وتفضل جلالته كذلك فوافق على توزيع عدد من الدرجات الجامعية على الذين إجازتهم لهم إدارة الجامعة
وقد عهدت الجامعة إلى أحد كبار متعهدي الأزياء الجامعية بإعداد روب خاص لجلالته يختلف عن روبات جميع الكليات
وعهدت الجامعة كذلك إلى أحد متعهدي المداليات للسرايات الملكية في صنع مدالية ذهبية في حجم الريال تقريباً وستكون على شكل دائري بداخلها تمثال للآله توت مصنوع من المينا وستكتب في داخلها العبارة الآتية: (إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر المعظم ترفع جامعة فؤاد الأول درجة الدكتوراه الفخرية في 9 محرم سنة 1358 الموافق 28 فبراير سنة 1939)
وقد تقرر ألا تهدي الجامعة هذه الدرجة الفخرية إلا لأصحاب التيجان ورؤساء الدول. أما الدكتوراه الفخرية التي تقدمها الكليات فتمنح طبقاً للتقاليد المتبعة بعد موافقة مجلس الجامعة.
وسيخطب في حفلة الإهداء صاحب المعالي الدكتور حسين هيكل باشا بوصفه الرئيس الأعلى للجامعة، ثم صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا رئيس مجلسها.
في ذمة الله صديقنا الهراوي
في صباح يوم الجمعة الماضي قضى بموت الفجاءة صديقنا الأستاذ محمد الهراوي، وكان لليلتين خلتا في دار الرسالة ملء السمع والبصر والشعور، يناقش في الأدب، ويوازن في الشعر، وينشدنا قصيدته التي أعدها لموسم الشعر، وما كنا ندري أن ذلك الجسم الدافق(295/77)
بالحيوية، وذلك القلب النابض بالشاعرية، يطويهما الردى في مثل لمح الطرف، فيخلو مكان الهراوي الوالد والصديق من بيته وناديه، فيفتقده أبناؤه فإذا هو أثر، ويسأل عنه أصدقاؤه فإذا هو خبر!
كل حي فان، ولكن فناء الحي الذي طبع وجوده في القلوب والعيون والكتب والأمكنة تحد لهذه الحقيقة، واعتراض على هذه القضية. وسيحيا الهراوي في شعره الذي عاش فيه وله، وفي قلوب إخوانه الذين أخلص لهم وبرّ بهم، وسيكون من الصعب على الزمان والنسيان أن يطمسا هذه الشخصية المحبوبة بما خصها الله من سلامة القلب وعفة اللسان وكرم العشرة وصدق المودة. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الأدب العربي منه خير العوض.
حول كتاب ضحى الإسلام
أرسل إلينا صديقنا الأستاذ أحمد أمين ما يأتي: زعمت جريدة المكشوف - فيما نقلت الرسالة - أني أوردت الأسماء العربية في (ضحى الإسلام) محرفة فقلت: (زافار) بدل (ظفار) و (أريتاس) بدل الحارث و (فلاسفة العرب) مكان (مفكرو الإسلام)
وهذا كله غير صحيح، وأنا أتحدى صاحب المكشوف أن يبين الصفحة التي وردت فيها هذه العبارات إن كان صادقاً
أحمد أمين
حول كلمتي ذكورة وأنوثة
حضرة الأستاذ الكبير. . . صاحب (الرسالة) الزهراء السلام عليكم. . .
وبعد فقد قرأت في العدد (282) من رسالتكم كلمة للأستاذ صلاح الدين المنجد تحت عنوان (حول كلمة أنوثة) أنكر فيها الكاتب الفاضل صحة كلمتي ذكورة وأنوثة محتجاً بأن اللسان لم يذكر الأولى بالمعنى المتعارف وهو مقابل الأنوثة، وأما الثانية فلم يذكرها بتاتاً؛ ولذلك حكم بعدم وجود كلمة أنوثة في العربية.
قال: وإنما هي أناثة
ونرى أن عدم ذكر اللسان - كغيره من المعاجم - كلمة لا يدل على عدم صحتها إلا إذا نص علماء اللغة على ذلك، أو على الأقل خلت منها المعاجم الموجودة، وإلا فمن حفظ(295/78)
حجة على من لم يحفظ.
ونلفت نظر الكاتب الفاضل إلى أن الكلمتين اللتين أنكرهما لم تنكرهما المعاجم. ففي المصباح بمادة ذكر:
(والذكورة خلاف الأنوثة)
وهذا نص قاطع. وفي الأساس بمادة أنث:
(ونزع أنثييه ثم ضرب تحت أنثييه، والأنوثة فيهما من جهة تأنيث الاسم)
وكذلك في التاج. واستعمال هذا اللفظ في بابه من معجم موثوق به دليل على صحته. وفي التاج أيضاً مادة فحل:
(وتفحل تشبه بالفحل في الذكورة)
واللفظان جاريان على ألسنة المصنفين من الفقهاء وغيرهم، ومن أمثلة ذلك قول النووي في المجموع: (أما نبات اللحية ونهود الثدي ففيهما وجهان أحدهما يدل النبات على الذكورة والنهود على الأنوثة. . . الخ)
إذن فكلمتا ذكورة وأنوثة صحيحتان شائعتان قديماً وحديثاً ولهما في العربية نظائر كالطفولة والفحولة والأبوة والبنوة والأمومة والعمومة والخؤولة. . . إلى غير ذلك. . .
ولا أحسب أن أخانا الفاضل - بعد هذا - يرى أن لفظ (أناثة) أسوغ من لفظ (أنوثة) مع ما قدماه والله أعلم
(حضرموت: سيوون)
صالح الحامد العلوي
تخليد ذكرى مختار وإقامة متحف مؤقت لمخلفاته
كانت إدارة متحف فؤاد الأول الزراعي قد قدمت اقتراحاً إلى ولاة الأمور في صدد إقامة متحف خاص لمخلفات المرحوم المثال مختار. وأخيراً رأت إدارة المتحف اختيار مكان مؤقت لهذه المخلفات ريثما يعتمد المال اللازم إنشاء مبنى لها، وقد تقرر أن يكون ذلك المكان المؤقت هو المسكن الملحق بالمتحف
وستكون نواة متحف مختار الذي يقام عما قريب في ذلك المكان، ما يوجد الآن من تماثيله(295/79)
في معرض الفن الفرنسي القائم على أرض الجمعية الزراعية بالجزيرة، وذلك إلى أن ترسل الحكومة في طلب بقية آثار مختار من باريس.
ويتجه الرأي إلى استعارة التماثيل التي باعها مختار لبعض الهواة لتعرض في متحفه لآجال معينة على أن تحمل خلال عرضها أسماء أصحابها. وسيضم المتحف إلى جانب التماثيل زي مختار والأدوات التي كان يستعين بها في عمله، ونموذجاً من حياته الخاصة
أعلام الدراما في مصر
كتبت القنصلية الملكية المصرية بسان فرنسسكو إلى وزارة الخارجية تنبئها بأن جمعية القلم النسائية الأمريكية قد طلبت إليها موافاتها بأسماء أعلام فن (الدراما) في مصر رغبة منها في ضم أسمائهم إلى زملائهم في مختلف الممالك والأقطار
وطلبت الجمعية أن تتعرف مركز هذا الفن في مصر بعد أن طغت السينما على المسرح وهل لا زالت (الدراما) محتفظة بمكانتها في البلاد
وقد أحيل هذا الطلب إلى وزارة المعارف للنظر فيه ولعلها تحيله هي أيضاً على إدارة الفرقة القومية لتقول كيف قضت على بعض أعلام الدرامة بالخمول وحكمت على البعض الآخر بالتشريد
مستشرق ألماني
يزور مصر الآن الدكتور جوستاف نيوهاوس، أحد أساتذة معهد اللغات الشرقية في برلين
ومما يذكر عن الدكتور نيوهاوس أن مؤلفات كثيرة في اللغات (السواحلية) وأبحاثاً طريفة عن بلاد زنجبار ودار السلام وآثار العرب فيها، كما أخرج أخيراً كتاباً عن رحلته من مصر إلى بلاد شرق أفريقيا
جماعة الأخوة الإسلامية
اجتمع في اليوم الحادي عشر من فبراير أعضاء جماعة الأخوة الإسلامية برآسة الدكتور عبد الوهاب عزام في دارها (قبة الغوري) وحضر الاجتماع كبار العلماء ورجال الإسلام من أربعين قطراً إسلامياً.
وتكونت هيئة المكتب من ممثلي: مصر والحجاز والهند، ويوغسلافيا والصين وألبانيا(295/80)
والعراق واليابان وكردستان وبلغاريا وأفريقيا ورومانيا واليمن ومنشوكو وفلسطين وأندنوسيا وبولونيا وافغانستان وطرابلس الغرب وجبل أورال وسودان وجزيرة لفزيمة وحضرموت وإيران وروسيا والحبشة والشام وتركيا وملايو وسيام وشرق الأردن وسيلان والجزائر ومراكش وملديفيا والبحرين وقفقازيا وأناضول وبنغال.
افتتح الحفل بآي الذكر الحكيم ثم قام الدكتور عبد الوهاب عزام فبين أغراض الجماعة، وتلاه من الخطباء: الأستاذ طنطاوي جوهري، فتكلم في الإسلام والسلام العام، ثم الشيخ عبد المتعال الصعيدي، ثم الشيخ صاوي شعلان، ثم الأستاذ أحمد بك خليل، والأستاذ محمود جبر، والدكتور عبد العزيز عزام، ثم الدكتور ميرزا فضل الله الإيراني.
وتألفت اللجنة الأساسية من: الدكتور عبد الوهاب عزام رئيسا والأستاذ محمد أمين نور الدين بك المحامي وكيلاً والأستاذ إبراهيم عثمان مراكش مراقباً عاماً. والأستاذ محمد حسن الأعظمي الهندي مراقباً مالياً. والأستاذ إسماعيل حنفي البلغاري خازناً. والأستاذ عمر وجدي كيردي سكرتيراً. والأستاذ يوسف عبد الله قريمي أميناً للمكتبة
حياة الرافعي
يصدر في هذا الأسبوع كتاب (حياة الرافعي) وسيرسل إلى حضرات المشتركين الذين سددوا قيمة الاشتراك ونفقات البريد؛ أما الذين لم يسددوا إلا قيمة الاشتراك فقط، فيمكنهم الحضور إلى إدارة الرسالة ليتسلموا النسخ التي اشتركوا فيها.
اللجنة العليا لقرش فلسطين
اجتمعت اللجنة العليا لقرش فلسطين في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأحد 23 من ذي الحجة سنة 1357هـ والموافق 12 فبراير سنة 1939 بدار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، وانتخبت حضرة الأستاذ الدكتور عبد الحميد سعيد رئيساً والأستاذ عبد المجيد بك إبراهيم صالح سكرتيراً عاماً وحضرة صاحب العزة ميرزا مهدي رفيع مشكي بك أميناً للصندوق والوجيه محمد أفندي حسين الرشيدي مساعداً لأمين الصندوق وحضرات أصحاب السعادة الأستاذ محمود بك بسيوني وعبد الخالق مدكور باشا ومحمد فهمي الناضوري باشا واللواء أحمد فطن باشا وأصحاب العزة الأستاذ الشيخ أحمد(295/81)
إبراهيم بك ومحمد عيد بك وأصحاب الفضيلة الشيخ عبد الوهاب النجار والشيخ محمد عبد اللطيف دراز والأستاذ حسن البنا وحضرات الدكتور محجوب ثابت وللدكتور نجيب أسكندر والأستاذ عبد القادر العبد والأستاذ أحمد السكري أعضاء
وألفت لجاناً فرعية:
لجنة الدعاية: برياسة حضرة الدكتور محجوب ثابت
لجنة الحسابات: برياسة حضرة صاحب العزة ميرزا مهدي رفيع مشكي بك.
ولجنة المتطوعين: برياسة الوجيه محمد حسين الرشيدي أفندي
ورأت أن توزع الطوابع يوم 15 من محرم سنة 1358هـ وهي تهيب بطبقات الشعب أن تساهم في هذا المشروع الإنساني الجليل لتخفيف جراح فلسطين الشقيقة المجاهدة كما تدعو شباب الأمة الناهض في مختلف طبقاته إلى المسارعة للتطوع والقيام بما يفرضه الواجب نحو فلسطين المجاهدة(295/82)
رسالة النقد
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
- 1 -
من فوق هذا المنبر العالي والمنار القائم للغة الضاد (وهو صحيفة الرسالة الغراء) نرفع صوتنا مرة أخرى في سبيل العربية، وقد كنا تعرضنا تحت هذا العنوان لنقد كتب يصدرها بعض رجال وزارة المعارف المصرية، وتقرها الوزارة لطلابها.
عدنا اليوم لمثل عملنا في العام الماضي، ولكن في طريق شائكة وخطة ملتوية. تلك هي نقدنا للغويين الكبيرين والعالمين الفاضلين: صاحبي العزة أحمد العوامري بك، وعلي الجارم بك المفتشين الأولين للغة العربية بوزارة المعارف، وعضوي المجمع الملكي اللغوي بالديار المصرية
وقد جئنا ننقدهما في عملهما الذي تآزراً عليه وأفرغا جهدهما فيه، فكان لا بد أن يجئ مظهراً لفضلهما وصورة صادقة لهذه الممارسة الطويلة للعربية وآدابها، هذه الممارسة التي كانت منهما في هذا العمر المديد والزمن المتطاول، وكنا ننوي أن نتخذ من أقوالهما وآرائهما حججاً في العربية نضيفها إلى أقوال فحول اللغة السابقين. . . ذلك ما فتحنا صدورنا له واستعددنا لتلقيه حين بدأنا نقرأ تعليقهما على كتاب البخلاء للجاحظ الذي وكلت وزارة المعارف المصرية إليهما أمر إخراجه في صورة واضحة تقرب إلى أهل جيلنا أدب القرن الثالث للهجرة، وتحبب إلى قرائنا الزاهدين في هذا الأدب أن يقبلوا عليه ويستجلوا جماله الفاتن.
توقعنا ذلك من هذين العالمين الفاضلين اللذين جمعا إلى الثقافة العربية ثقافة غربية، ولم يدر بخلدنا إلا أن يكون عملهما في خدمة هذا الكتاب مزجاً حسناً لهاتين الثقافتين وتجلية لهما في ثوب عصري شائق
ولكننا لم نلبث حين نظرنا في الكتاب أن رأينا جهداً نحوياً عنيفاً أغرم فيه المخرجان(295/83)
بتعقب الجاحظ، يعربان أدبه الراقي وفكاهاته الظريفة، ويعتديان على ذلك البيان الواضح بقولهما إنّ أنْ هذه مفسرة وتلك مخففة من الثقيلة، والتعليق على (كان) بأنها مرة تامة وأخرى ناقصة إلى غير ذلك من مسائل الإعراب التي زهدت الطلبة في العربية إبان طلبهم للعلم بالمدارس. فإذا بالمخرجين لم يكفيهما إلحاح بعض المدرسين في ذلك على طلابهم حتى زادا الإبالة ضغثاً والكيل طفحاً
وما ندري كيف اجتمع في صدر هذين الرجلين أو صدر أحدهما على التحديد هذا الإلحاح في مسائل الأعراب، مع الرغبة في تيسير قواعد اللغة العربية وقد كان أول مظاهرها عند هؤلاء الميسرين إهمال ذلك الإعراب!
والكتاب إلى ذلك مظهر آخر لهذا الذي يسمونه تطبيقاً على البلاغة فما تزال ترى في تعليقاتهما أن هذا التركيب استعارة وذلك تشبيه أو مجاز بالحذف أو إطناب أو إيجاز، وكأنما ظن المخرجان أن الجملة لا تفهم إلا إذا أعربت، ولا تقدر قيمتها في البيان إلا إذا طبقت عليها علوم البلاغة بوضعها الذي نعرفه. ولسنا نحرم على شراح كتاب ككتاب البخلاء أن تكون منهم إشارة إلى مثل ذلك، ولكن حضرتي المخرجين أسرفا في ذلك حتى صح في نظري أن أعتبر هذا الشرح كراسة تطبيق على النحو والبلاغة. وصرت أعد نفسي حين قراءته طالباً من طلاب الشهادة الثانوية أتزود للامتحان قبله بأيام. وهذا إسراف في حق الأدب أو الأدب الرفيع الذي إن صدق على شيء فأول ما يصدق عليه هو كلام الجاحظ
وليت المخرجين حين فعلا ذلك كانا موفقين إلى الصواب سالكين النهج الجدير بمكانتهما بين أهل العربية في عصرنا! ولكن الذي كان موضع العجب أنهما زلا في كثير من هذه المواضيع التي أرادا أن يدلا بمعرفتهما فيها على جمهور الأدباء ممن يجهلون أو يتجاهلون ذلك.
كان هذا حقاً موضع العجب من أمر رجلين عظيمين قضيا حياة طويلة في نقاش المعلمين، ومحاسبتهم على عباراتهم وإشاراتهم، حتى كان للهمزة توضع في غير موضعها، وحرف الجر ينوب عن غير مشادات ومصاولات، ثم فوز لهذه الاعتبارات الهينة يظهر أثره في التقارير، فإذا هذا المعلم مهمل لأنه لا يعنى بوضع الهمزات مواضعها، وإذا بذاك مجيد لأنه(295/84)
راعى رغبة المفتشين في هذه الدقة وتلك الشدة.
قلنا إن طريقنا في نقد المخرجين كانت شائكة، وإن الخطة كانت ملتوية، وما قصدنا في هذا إلى صعوبة المآخذ وغموض الصواب علينا، فقد والله قيدنا ملاحظاتنا في أثناء قراءة هادئة لم نقصد منها إلا التمتع بأدب الجاحظ واللهو بفكاهته، فإذا المآخذ تنادينا وتقول خذوني!
وإنما شاكت الطريق والتوت الخطة لأننا اضطررنا في سبيل العربية أن ننال من علمين من أعلامها بيننا؛ ولم يكن نيلنا في أمور يحتمل فيها الخطأ، أو يقبل اعتساف الرأي لدقة المسلك أو حلكة الشبهة، بل قد وجدنا هذه المآخذ يشتد العيب فيها على ناشئ في العربية لا يزال يتعثر في ذيول الإعراب والتطبيق، فآلمنا أن نجرح بمثل هذه المآخذ عالمين فاضلين من أفذاذ المصريين فيما نصبا أنفسهما له، وتصديا للرياسة فيه من علوم.
وقد كنا هممنا أن نبوب للقارئ هذه المآخذ فنجمع متشابهاتها تحت عناوين تشملها: فهذا عنوان الأغلاط النحوية، وذاك عنوان المآخذ اللغوية، وذلك باب الفهم النابي أو الترجيح للمرجوح و. . . ولكنا رأينا أن نجعل مآخذنا تساوق صفحات الكتاب، فكلما مررنا بواحدة منها تكلمنا عنها وبينا وجه الصواب فيها
في أول صفحة من الكتاب في تعليل ذكر نوادر البخلاء بين جد وهزل (لأجعل الهزل مستراحاً، والراحة جماماً) وفي التعليق على هذه العبارة يقول الشارحان: الجمام: الراحة
وهذا التفسير ظاهر الخطأ لأنه ينتهي بالجملة إلى أن تكون هكذا: لأجعل الراحة راحة، وهذا غير جائز في حقيقة ولا محاز
ومأتى هذا الخطأ من الشارحين أنهما وجدا في كتب اللغة تفسير الجمام فيما تفسره بالراحة، فارتاحا إلى هذا وفاتهما أن هذه الكتب عينها تفسره أيضاً باجتماع النشاط وتراجع القوة. تفهم ذلك من قول القاموس: جمت البئر تراجع ماؤها، والفرس ترك الضراب فتجمع ماؤه، وترك فلم يركب فعفا من تعبه. . . فهذه العبارات تفيد معانا صراحة وتعفينا من تفسير الماء بالماء كما حصل من حضرتي المخرجين
وفي ص26 مسألة ذات بال سيتعب القارئ من تتبعهما ولكنهما ستنتهي به إلى نتيجة شديدة على الشارحين، فليجعل حكمه على فهمها ووقوفه على مقدار ذوقهما ثمناً لهذا التعب(295/85)
قال الجاحظ (فأما ما سألت من احتجاج الأشحاء ونوادر أحاديث البخلاء فسأوجدك ذلك في قصصهم إن شاء الله تعالى مفرقاً وفي احتجاجهم مجملاً، فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي دون ما انتهى إلى من أخبارهم على وجهها وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر ويصير العار فيه أقل)
قال الشارحان (فهو الخ: الضمير عائد إلى (ذلك) أي أن احتجاج الأشحاء ونوادر أحاديث البخلاء منبثة في قصصهم مفرقة ومجملة - أجمع لهذا الباب (باب البخل) من وصف الخ والجار والمجرور في قوله من وصف حال من (ذلك) في قوله: فسأوجدك ذلك و (دون ما انتهى) حال من وصف ما عندي. والمعنى سأطلعك على ذلك حال كونه من وصف ما عندي من مشاهدات أحوال البخلاء ونتائج معاشرتي إياهم وسيكون هذا غير ما سأذكره أيضاً مما انتهى إلى من أخبارهم)
تدبر أيها القارئ عبارة الشارحين واعصر ذهنك في ضمائرها وإشاراتها وأحوالها ومتعلقاتها فإن محاولة إفهامك مرادهما شاقة عسيرة إلا إذا اجتمعنا أمام سبورة أكتب لك عليها الجملة بالأحمر والأصفر وأجعل أتنقل بك من ضمير إلى أسم إشارة واصلا هذا بذاك حتى تفهم المراد
ولكن ينبغي أن تعلم أن السر في هذا التعقيد هو عدم اهتدائهما إلى مرجع الضمير في قوله: (فهو أجمع. . .) كذلك اعتبارهما الجار والمجرور (من وصف) متعلقاً بحال من (ذلك). وقد أوقعهما هذا التقدير في مشكل نحوي لم يلتفتا إليه وهو وقوع اسم التفضيل المنكر المجرد من الإضافة، بدون من تالية له جارة للمفضل عليه، كما تقول: محمد أكرم من علي، فيكون (من علي) متعلقاً بأكرم وهذا ملتزم في مثل ذلك التعبير.
أما الذي نقوله في عبارة الجاحظ فهو أن الضمير في قوله (فهو أجمع) يعود على مصدر الفعل (أوجد) والجار والمجرور (من وصف) متعلق باسم التفضيل (أجمع) فيكون المعنى: إن إيرادي لقصصهم واحتجاجاتهم أشمل لهذه النوادر من أن أقتصر على إيراد ما عانيته بنفسي من أحوالهم، مع ترك ما وصل إلي من أخبارهم عن طريق الراوية، إذ أني لو اقتصرت على إيراد ما عانيته وحده ما استطعت أن أذكر شيئاً كثيراً فيقصر الكاتب، كذلك مشاهداتي وحدها لا تمثل شناعة فعل البخلاء كما تمثله الحكايات التي تناقلها الناس عنهم(295/86)
لصحة اتهام الفرد بالكذب أو المبالغة؛ فأما إذا تواترت الأخبار واجتمع عليها جم من الناس فذلك أقوى لها وأشد في تصور شناعتها.
ولا نترك هذا المقام حتى ننقل لك ما علق به الشارحان على قول الجاحظ في نهاية العبارة (وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر ويصير العار فيه أقل) قالا حفظهما الله: (وعلى أن الخ. (على) للتعليل هنا، وهو تعليل لاقتصاره على ما عرفه عن البخلاء، وما وصل إليه برواية صحيحة من أخبارهم).
وقد بان لك من كلامنا كيف أن هذه العبارة الأخيرة من الشرح مضطربة إلى أبعد غايات الاضطراب، إذ كيف يقصر الكتاب لو ذكر الجاحظ ما عرفه عن البخلاء وما رواه من أخبارهم! وهل يبقى بعد ذلك شيء يذكر؟!
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى
المدرس بكلية اللغة العربية(295/87)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
// لا غرضا ثقافياً حققت ... ولا روائع المسرحيات الأوروبية أذاعت
الأستاذ إبراهيم رمزي، مدير التعليم الحر، واحد من أوائل الأدباء الذين عنوا بإحياء المسرح المصري، وبذلوا في سبيله جهوداً ذات قيمة، وغيرة كان يجب أن تقابل بالثناء الخالص والشكر الجزيل. إلا أن عوامل لا أعرف بواعثها - قد تكون مادية لبست جلباباً على غير قدها - قد حولت الأستاذ رمزي عن طريق القويم، فجعلته يسلك مسلكاً في التأليف باللهجة الدارجة وفي تجريح الفصحى أراه ويراه معي كل غيور على اللغة العربية التي ارتضتها مصر وسواها من الأقطار المجاورة أو النائية عن شبه جزيرة العرب، أن تكون لغتها الدينية والقومية ولغة حكوماتها الرسمية. إنه خروج على آدابها وقواعدها، ونكوص يخالف سنن الترقي والتقدم، ولوثة تلوث نهضة مصر الثقافية، وما خلا ذلك فالأستاذ رمزي ما برح يعمل للمسرح المصري بروح الأديب المخلص لفنه
قلت له: الفرقة القومية مؤسسة حكومية، هل حققت الغرض الثقافي والفني، وهل عملت على ترقية المسرحية المصرية وأذاعت روائع المسرحيات الغربية؟ فأجاب:
- ليس من السهل الجواب على هذا السؤال إلا إذا استهدف الإنسان لعتاب الأصدقاء والأحباب، ولكني تعودت أن أكون صريحاً فيما له علاقة بمصلحة قومي ووطني، ولذلك لا أتردد في أن أقرر:
أن الفرقة القومية لا تستطيع أن تحقق غرضاً ثقافياً كبير الشأن في هذه المدة القصيرة لأنها إنما تعمل حتى الآن لجمهور المثقفين وعليه المصريين الذين ليسوا في حاجة إلى ثقافتها. على أني لا أدري كيف ينتظر منها التثقيف وهي إلى اليوم لم تتخط القصة المترجمة والمقتبسة التي لا علاقة لها بمجتمعنا المصري، كما أنها على كثرة ما أخرجت لا تشتغل إلا أياماً معدودات في العالم كله وتقتصر على مدينة القاهرة ولا تنتقل إلى أي بلد من عواصم المديريات.
لا يا سيدي، الفرقة لم تحقق غرضاً ثقافياً ولن تحقق غرضاً، وأحب أن أقول هنا إن القيود الكثيرة التي كبلت بها أيدي المشرفين عليها، والمبادئ العجيبة التي تتحكم في مراميها، لا(295/88)
يمكن أن تنهض معها فرقة بعمل كالذي يرمي إليه اسمها. واعتقد في النهاية أنها فرقة موجودة وعمل من الأعمال التي لها نظائر في بلدنا ينفق عليه لقصد عظيم لا يتحقق منه شيء كثير
أما تحقيقها الغرض الفني فكل ما يمكن الإجابة في صدده أن الممثلين يقومون بأدوارهم أحسن قيام، والإخراج لا بأس به لأنه ليس إلا نقلاً لإخراج ظهرت به في فرنسا الروايات المعربة وأكثرها منقول عن الفرنسية
جوابي عن سؤالك: هل عملت الفرقة على ترقية المسرحية المصرية وإذاعة روائع المسرحيات الغربية، هو: لا، ثم لا، وأخيراً لا، لأنه بلغ من المشرفين على هذه الفرقة (وعندهم الروايات المؤلفة) أن يؤثروا عليها الروايات المقتبسة والمنقولة ومنها السخيف وغير السخيف لسبب واحد هو أن مخرجهم أوربي، ولأن إخراج الروايات العربية ليس في مقدوره، وإخراج الروايات العصرية يحتاج إلى من يدرك دخائل الظروف المحلية، ولأن المشرفين على هذه الفرقة ليسوا كلهم ممن يشعرون تمام الشعور بالواجب القومي في هذا الزمن الأسود.
أما كونها أذاعت روائع المسرحيات الغربية، فالجواب عنه: لا يصح أن يكون ذلك مؤاخذة للفرقة لأنها لم تظهر منها إلا القليل وذلك بحكم الضرورة، فالروائع لا عد لها وهي لم تتأسس إلا منذ أربعة أعوام، على أنها تميل الآن إلى التقرب من الجمهور فهي تعطيه شيئاً من غير الروائع يستطيع أن يستمتع بما فيها من بساطة سطحية
قلت: إذن هل أنت متفائل؟
فأجاب: كلا لست بمتفائل، لأن الهمة الواجبة لمثل هذا العمل الذي تمده الحكومة بمالها وجاهها وقوتها يحتاج إلى نفوس أقوى، وأيد أشد، وعزائم غير هذه العزائم، عزائم مخلصة فعلاً ومضحية فعلاً
على أني يا سيدي وقد وضعت للمسرح ما تعلم من القصص التاريخي الكثير وغيره من القصص العصري باللغة العربية السليمة أعلن جهاراً أن المسرح المصري يجب أن يكون أولاً للشعب أي للتسعين في المائة من أهله من المصريين، أي باللغة الدارجة المهذبة ومكملة بما تحتاج إليه من الألفاظ في اللغة العربية السليمة كما نفعل الآن في أحاديثنا(295/89)
وخطبنا ومساجلاتنا ونترك هذا النفاق الذي نعيش عليه في هذه الأيام!
أما العشرة الباقية في المائة فحسبهم هذه الفرقة القومية وروايتها ولغتها العربية القرشية أو لاتينية الشعوب الشرقية
انتهى كلام الأستاذ إبراهيم رمزي بنصه. وعندي حديث ممتع للأستاذ عمر سري بك تناول فيه هذه الناحية تناول الرجل الخبير وأوضح موقف وزارة المعارف المتناقض في مساعدتها للفرقة القومية الحريصة على اللغة الفصحى وفي مساعدتها لفرقة أخرى تعمل على ترويج العامية. وسننشره قريباً
ابن عساكر(295/90)
العدد 296 - بتاريخ: 06 - 03 - 1939(/)
منطق الغنى
لقيت أول أمس على مقهى (أتينيوس) بالإسكندرية رجلاً من نابهي
النواب أعرفه معرفة لا تقرّب ولا تبعّد. هذا الرجل ينزع بطبعه منزع
الأرستقراطيين في نمط العيش وأسلوب التفكير ورونق المنظهر؛ فهو
يتجمل بالزينة، ويتنبَّل في الكلام، ولا ينفك يعلك ألفاظ المثرين
المترفين كالبنك والبرصة والسيارة والخيل والسباق والسهرات
والحفلات والملاهي حتى لتظنه المرجع الحجة في أولئك جميعاً.
ونباهة هذا النائب لم تأته عن طريق الفطنة أو الخبرة أو الكياسة،
وإنما أتته عن طريق التهويش والتهريج والسياسة؛ فهو في مجلس
النواب جزء من كرسيّه لا يتحرك ولا ينبس؛ ولكنه في الأمور الحزبية
والانتخابية ولاّج خرّاج يجذب الزعماء بالمآدب الصاخبة، ويخلب
الناخبين بالوعود الكاذبة، ويدرج بالدعوى والدعاية من قهوة إلى قهوة
قال لي بعد أن تبجح طويلا بقوة أثره في توجيه المجلس، وتسفيه المعارضة، وتنظيم النادي، وتقويم الحكومة:
- مالك وللأغنياء توغر عليهم صدور الصناع والزراع والخدم؟
- عجيب! وهل تقرأ الرسالة؟
- إنما يقرأها ابني وابنتي؛ وهما متأثران بها ومشايعان لها، ولا يزالان يجادلانني فيما تكتب وتطلب حتى أترك لهما الدار! فهل تريد أن يكون الناس كلهم سواء في الثروة، وليسوا كما تعلم سواء في الذكاء والقوة؟
- يا سيدي ما اعتقدنا ذلك ولا كتبناه. فإنا نؤمن بالغنى والفقر كما نؤمن بالقضاء والقدر. والتفاوت في الطبع والكفاية والحيلة والوسيلة مبدأ مقرر في الطبيعة، ونظام مسلّم في الدين؛ ولكنا نحاول أن نُذَكر الأغنياء، أن الّله الذي خلقهم وخلق الفقراء، قد جعل جُمعةَ ما بينهم وبينهم قائمة على أساس من المودة والرحمة يكفل المخالصة ويضمن السلامة. فإذا(296/1)
تعهدوا هذه الصلة الإلهية بالبر، فمنح القادر العاجز روحاً من قواه، ونفح الواجد الفاقد قليلاً من جدواه، سارت القافلة الإنسانية في طريقها إلى الكمال الممكن غير ظلعاء ولا وانية. وإذا أردنا المساواة فإنما نريدها في الحق والواجب، وإذا ذكرنا المشاركة فإنما نذكرها في حدود الإحسان والزكاة
- الإحسان يغري بالكسل ويعين على بقاء الفاسد. والفقير في أكثر أمره عليل الجسم أو العقل؛ فلم لا يكون من الخير أن يترك للحرمان حتى يذبل ويسقط؟
- إذا استطعت أن تنفذ هذا الرأي في أسرتك الخاصة، استطعنا أن ننفذه في أسرتنا العامة. فهل في مقدورك أن تترك ابنك المعلول الذي لا يبرأ، وأخاك المخبول الذي لا يعي، حتى تعصف بهما المنون كما تعصف ريح الخريف بالورق الجفيف؟
- ما أظن القلب يطيع العقل في ذلك
- ومن قال لك أن العقل يخولك حق الله على خلقه؟ إن للفقير حق الحياة، وليس لك عليه حق الموت. والله الذي خلق الكون خلق الفساد وجعل لكل منهما قوانين يجري عليها في الطبيعة. وستنالك أنت على الرغم من قوتك وغناك عوامل الذُّوىِّ والبلى، فهل تقبل من ذوي رحمك ووارثي مالك أن يدعوك فريسة الهرم والمرض، كما يدع القطيع الحمار المحموم في الفقر الجديب؟
رأى صاحبي أن هناك مدارك من فهم الحياة استعجمت على ذهنه الشارد، فغمغم بعض الجواب وبيّن بعضه الآخر حين قال:
-. . . ولكنني أعلم أن الزكاة في أوربا ليست مشروعة ولا مجموعة، ومع ذلك تجد الفقر محمولاً والحياة آمنة. فكل إنسان يعمل، وكل حي يعيش
- لا يغرنك يا سيدي ما تعلم من ظواهر الحياة الأوربية، فإن مدنيتها طلاء على صدوع، وكبرياء على خضوع. ولولا قيام الأديرة بجمع الصدقة وتنظيم الإحسان، ونهوض الحكومات لحماية العجز وتوفير العمل، لرأيت البؤس كرمز الموت هيكلاً بادي العظام لا تستره أثواب ولا تحجبه أبواب
- وما قولك في أمريكا؟ أليست المسافة فيها بين الفقراء والأغنياء، كالمسافة بين الأرض والسماء؟ ومع ذلك لا تجد بين هؤلاء وهؤلاء حسداً ولا ضغينة(296/2)
- عفواً يا صاحب العزة! لقد عرفت القياس وأنكرت الفارق. إن أكثر المنافع في أمريكا من فضل الغنى؛ فكيف يبطن الفقير له الغل وهو يتعلم في مدرسته طفلاً، ويعمل في مصنعه رجلاً، ويتداوى في مستشفاه مريضاً، ويأوي إلى ملجئه شيخاً؟ إن صاحب الملايين في الدنيا الجديدة مثل الإنسان الأعلى: أثرى بالكد والإيمان والكفاية، ودبر ثراءه على قواعد الوطنية والإنسانية والدين، فكان حرباً على الجهل والبؤس والشر، وعاملاً للسلام والوئام والمحبة. أما أغنياؤنا فمثال الطمع الجريء والشح الدنيء والصلف العاتي: أثروا بالإرث أو بالحرص أو بالحظ أو بالحيلة؛ ثم كدروا صفو الحياة على الفقير، فهم يزاحمونه على المجانية في المدارس، ويغلبونه على الوظائف في الدواوين، ويدوسونه بسياراتهم في الشوارع، ويسلبونه بطماعتهم في المزارع، ويصدونه عن البرلمان حتى لا يكون لغير أقوالهم سميع، ولا يصدر بغير إرادتهم تشريع
ونظر صاحبي في ساعته ذات السوار، ونظرت أنا إلى البحر فإذا هو يمور ويفور، والصيادون المساكين يكافحون العاصفة ليصيدوا لهذا الغنى المبطان لوناً من الطعام تكمل به مائدته الموقرة الحافلة!
ثم افترقنا وكل منا على رأيه!
احمد حسين الزيات(296/3)
حرب الأجيال
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعلن الناقد الإنجليزي (فرانك سوينرتون) في صحيفة (الأوبزرفر) عن قرب صدور الكتابين الجديدين للمؤلفين الكبيرين (ولز) و (موجهام) فقال في مقدمة كلامه:
(هناك تناقض يغري بالتساؤل بين موقف العصريين وموقف الجيل الفكتوري حيال الكتاب النابهين. فقد كان هؤلاء الكتاب يحاطون بالإجلال المرهوب حين ينتهون إلى الشيخوخة ويقلعون عن التأليف، وكانوا قبلة التبجيل والتشريف والحجيج من سائر البلاد. أما اليوم فنقيض ذلك هو الواقع: اليوم يلبث كتاب الأمس في الميدان ولا يخرجون منه ولا يتطلعون إلى إجلال مرهوب أو يستقبلون التبجيل والتشريف، وكل شاب ذي ملكة موهوبة يقتضيهم الثناء السخي والتشجيع ولكنه يرى لنفسه حقاً في الإنحاء عليهم واتهامهم بالوقوف في طريق الثورة الأدبية)
هذه حرب الأجيال التي يتحدثون عنها في البلاد الأوربية، ويقصدون بها قيام جيل من الكتاب والأدباء وراء جيل، ومحاولة الجيل الجديد أن يفسح له مكاناً إلى جانب الأعلام النابهين في ميدان الأدب والتأليف
وهذه الحرب قديمة لم تنشأ في زماننا هذا ولا في الزمان الذي قبله وإن اختلفت فيها الدعاوى والأساليب
ولكنها اشتدت في الجيل الحاضر لعوامل جديدة طرأت عليها: منها التزاحم العنيف، ومنها أن النظرة إلى (الماضي) اختلفت بين العهد الفكتوري والعهد الحاضر، أو بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
كان التوقير حقا للماضي، لأن الناشئين كانوا ينتظرون منه كل شيء ويتجهون إليه إذا أرادوا العلم والخبرة والحنكة والهداية
أما اليوم فقد جدت مشكلات نفسية واجتماعية ليس للماضي فيها تصريف ولا احتيال، ولا يتجه فيها أحد إلى الماضي ليعرف ما عنده لها من علاج وتدبير، لأنها لم تكن معروفة فيه ولم تكن معروضة على أهله، فتحول الاتجاه من الماضي إلى المستقبل، وبطل ما كان مألوفا مقررا للماضي من التبجيل والتشريف(296/4)
هذه المشكلات هي سر الحياة وسر الأزمات العالمية وسر القلق والاضطراب في علاقات الاجتماع
ليس للماضي فيها تصريف ولا احتيال. فهل التصريف والاحتيال فيها للحاضر؟ وهل هما للمستقبل القريب أو البعيد؟
كلا! التصريف والاحتيال فيها للزمان وللعمل المشترك بين جميع الناس من شيوخ وكهول وشبان وأطفال لا يزالون في المهود أو لا يزالون في الأصلاب
وهل يرجى أن يجيء على الدنيا عهد من العهود خلواً من المشكلات التي تطلب الحلول ولا ينفرد بحلها جيل واحد من الأجيال؟
كلا! إن هذه المشكلات لا يحلها الحاضر ولا المستقبل برأي هذا أو باحتيال ذاك، ولكنها تنحل مع الزمان تارة بالعمل المقصود وتارة بأعمال كثيرة غير مقصودة، ولا تزال طبقة منها وراء طبقة على مدى السنين
هذه هي الحقيقة التي يجهلها بعض المتعجلين. وليس من غرضنا في مقالنا هذا أن نسهب في توضيحها وتمحيص نظرات الناظرين إليها، وإنما أردنا أن نشير إلى العامل الجديد الذي أضاف بعض الشدة والعنف إلى حرب الأجيال، وأدى إلى ذلك الموقف الذي لخصه (فرانك سنوينرتون) فيما تقدم
يوشك من يقرأ كلمة الناقد الإنجليزي ويذكر ما يكتب في مصر وفي بعض الأقطار العربية أن يبادر فيقول: (إن بعض الحال من بعض) أو (الحال من بعضه) كما يقول العامة في البلاد المصرية. . .
فإن قال قائل مثل هذا فهو مخطئ، لأن الحال الذي يحسب (بعضه من بعض) لمختلف أبعد اختلاف.
هناك يتكلمون عن الشيوخ الذين أنافوا على السبعين، وهنا يطالبون الكهول فيما دون الخمسين بالسكوت والانزواء.
هناك يأتي بعد جيل (ولز) جيل هكسلي وهو في الرابعة والأربعين، ثم يأتي بعده جيل الشبان الناشئين وهم في نحو الثلاثين، وهنا لا يتجاوز الشاب العشرين حتى يتعجل الشهرة بل يريدها له وحده خالصة دون أبناء الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين، بل دون زملائه(296/5)
الآخرين من أبناء العشرين.
هناك يؤلفون ويبتدعون ويزاحمون الرأي بالرأي، والنهج بالنهج، والتفكير بالتفكير؛ وهنا لا يؤلفون ولا يفكرون ولا يقرءون، ولا يزيدون على إبراز شهادة الميلاد والترنم بما يسمونه حقوق الجيل الجديد.
هناك يثبون إلى المستقبل فيسبقون، وهنا يرجعون إلى الوراء ويشبهون الببغاوات في ترديد الصياح القديم.
أضف إلى هذا أموراً أخرى تختلف فيها البواطن والظواهر ويؤجر عليها القادحون في مشاهير الكتاب لغرض ليس بالصريح ولا بالشريف.
فهم تارة مأجورون لأصحاب المطامع السياسية الذين يريدون القبض على أعنة الدعوة في بلاد المشرق، فلا يملكون هذه الأعنة والمشاهير من الكتاب قائمون مسموعون، فيبذلون ما في وسعهم للغض من أولئك الكتاب والتطاول عليهم بالصياح والضجيج الذي قد يروج بين الأوشاب والأغمار، لأن الأوشاب والأغمار لن يطلبوا دليلاً ولن يميزوا ما يسمعون.
وهم تارة مأجورون للشيوعيين الذين ينادون بالأدب الدارج أو أدب اللغة العامية لأنه أدب (الصعاليك) وهم يبشرون بدولة الصعاليك ولا يسرهم أن ترسخ في المشرق العربي آداب اللغة الفصحى ولا الآراء التي تناقض ما يدعون إليه من فوضى وابتذال، بل لا يسرهم أن تستقر في الأقطار العربية مكانه مصر خاصة لأن مصر خاصة قبلة المأثورات الموقرة من التاريخ القديم، فإذا هدموا مكانتها فقد زال من طريقهم هذا المعقل الحصين وتمهدت الأرجاء بطاحا ذلولا ليس فيها ما يعوق نعيب ماركس وخليفته لنين، وصاحبيه تروتسكي وستالين.
فإذا لم يكونوا مأجورين لأصحاب المطامع أو للشيوعيين فهم مغرورون يتهافتون على الشهرة ولا يتذرعون لها بأسبابها ولا يرجعون إلى ما فيهم من نقص وكسل وعجز عن الكفاح، بل يفضلون التعلل بالأسباب الواهنة والدعاوى الكاذبة والحجج المسلية التي تشبه الأفيون في التخدير والإرضاء وتشبهه في هدم القوى وتخريب الأذهان
وكثيراً ما تسمعهم يقولون: كيف تأتينا الشهرة وهؤلاء الكهول أو الشيوخ يحتكرون ثناء الصحف السيارة ويستأثرون بميدان الدعوة والتأليف؟(296/6)
وهذا بعينه هو الأفيون إن لم نقل هو أخبث من الأفيون في الكذب والتحطيم
فقد صدر في مطلع هذا العام كتب ثلاثة لمن يسمونهم بالكهول والشيوخ وهم طه حسين واحمد أمين وكاتب هذه السطور. فكم نهراً من أنهر الصحف اليومية قرءوه في تقريظ هذه الكتب أو في الإشارة إلى صدورها؟
لا أذكر أنني قرأت شيئاً ذا بال في الصحف اليومية عن كتاب طه حسين (مستقبل مصر الثقافي) أو كتاب احمد أمين (فيض الخاطر)
أما كتابي رجعة أبي العلاء فقد ظهر وأوشك أن يباع نصفه ولما تذكر صحيفة يومية واحدة أنه صدر من المطبعة مجرد صدور. . . والكتب مع هذا تسير في طريقها وتلقى حظها من الذيوع
فالواقع أن جيل الأدباء الكهول في مصر جيل لا يدين لأحد بما أصاب من شهرة ومكانة، وهو في هذه الخصلة جيل فريد بين أدباء العالم من أقدمين ومحدثين
فالأدباء الأقدمون كانوا يعولون على النصراء والمشجعين ويعتمدون على الخلع والهبات
والأدباء العصريون في أوربا يعولون على دعوة الناشرين وإقبال الملايين من القراء في لغاتهم وفي اللغات الأخرى التي يترجمون إليها
أما أدباء الكهول والشيوخ المصريون فلا نصراء ولا هبات ولا دعوة ناشرين ولا ملايين قراء، وكل ما هنالك حسد واضطغان واستهداف للبذاء من مأجوري الشيوعيين ومأجوري أصحاب المطامع ومن تقعد بهم الرخاوة عن الجد والكفاح
فماذا كانوا لاقين يا ترى لو أصابوا من الكسب والشهرة ما يصيبه برناردشو أو ولز أو موجهام أو لدفيج من طبعة واحدة لكتاب واحد يباع للقراءة ويباع للتمثيل ويباع للصور المتحركة ويباع للترجمة في بضع لغات!
وما أحسب إلا أننا كنا نمشي يومئذ في الطريق فيخرج علينا الكامنون من (نابغي الجيل الجديد) بالمسدسات والسكاكين!!
هذه هي حرب الأجيال عندنا لا يقال في وصفها أصدق من أنها لعب أطفال، أو مكيدة أنذال، أو سفاهة جهال؛ وليس من ورائها نفع للأدب العربي ولا لمن يحاربون في ميدانها بذلك السلاح المفلول؛ ولن ينهزم فيها أناس انتصروا على الزمن وعلى الجهل وحدهم بغير(296/7)
معونة من حكومة ولا دعاة، ولا محاباة من الجماعات أو الأفراد الأقوياء، بل على الرغم في معظم الأحايين من الإجحاف والعداء يلقاهم بهما جميع هؤلاء. فأحرى بهم ألا ينهزموا اليوم في ميدان مأمون لا يقابلهم فيه جيش ولا جنود، ولا سلاح ولا بنود، إلا اللجاح والهراء ودسائس الجبناء في الجهر والخفاء.
عباس محمود العقاد(296/8)
النجم الذي هوى
للدكتور زكي مبارك
ما كنت أحسب أن الأيام تدّخر لي هذا النصيب الضخم من الحسرة والحزن والالتياع
ما كنت أظن أن في أخبار الدنيا ما يهددني بالموت وأنا سائر في الطريق
ما كنت أتوهم أن صدري يملك هذه الذخيرة من الحرص على حياة الأصدقاء
رجعت إلى بيتي عصر الخميس ولم أخرج منه إلا صباح السبت طلباً للتفرغ لبعض الأعمال
فماذا رأيت حين خرجت؟
رأيت أن يوما واحداً هو يوم الجمعة كان كافياً لأن تذهب دولة من المروءة والشرف والأريحية من عالم الفناء إلى عالم البقاء
إي والله، يوم واحد كان كافياً لأن يموت فيه رجل ويدفن وينقضي مأتمه وينفضّ من حول بيته الجازعون بحيث لم تبق فرصة لمن يريد أن يقدم إلى أهله كلمات العزاء
إي والله، في يوم واحد ذهب الأستاذ محمد الهراوي إلى غير معاد. . .
فيا أخي ويا صديقي ويا كل ما كنت أملك من الصدق الصادق الصحيح، كيف تطيب الدنيا بعدك وفيها ما أعرف وما كنت تعرف من ندرة الأصدقاء الأوفياء؟
كيف تطيب الدنيا بعدك، يا محمد، وكانت حياتك العزاء، عما في الدنيا من بلايا وأرزاء؟
كيف تطيب الدنيا بعدك، وما تخلَّق الناس بالصدق إلا ليزاحموك، ولا عرفوا الوفاء إلا لينافسوك؟
يا محمد، وما أجمل اسمك!
لك أن تعرف في عالم الأرواح أن إخوانك وأصفياءك سيذكرون أيامك كما يذكرون بشائر الأحلام وبواكير الأماني
لك أن تعرف، يا محمد، أن إخوانك وأصفياءك يؤمنون بأن فجيعتهم فيك هي فجيعة الرياض بموت البلبل الصداح، وفجيعة القلوب بذهاب الأمان، وفجيعة الجسد بفراق الروح
أين من يعزيني فيك يا أخي ويا صديقي؟
أين من يعزيني فيك وأنا أشعر بأن الموت حين خطفك لم يوجّه الطعنة إلى صدر غير(296/9)
صدري؟
أين من يعزيني فيك وأنا أومن بأن أباك لو كان عاش حتى ثكلك لما جزع عليك معشار ما جزعت عليك؟ أين من يعزيني فيك إن كان قلبي سيعرف من بعدك العزاء؟
يا محمد، وما أجمل اسمك!
كيف جاز عندك أن تغمض عينيك قبل أن تراني؟
كيف جاز عندك وأنت مثال العطف والحنان أن تفارق الدنيا قبل أن أراك؟
أكنت تعرف بوحي القلب أنك مفارق؟
كنت تعرف ذلك ولا ريب، لأنك تلهفت إلى لقائي في أيامك الأخيرة مرات ومرات، وكنت لجهلي أحسب ذلك من إمارات الشوق، لا من إمارات التوديع، فضيَّعتُ حظي من لقائك وأنا آثمٌ ظلوم
ليتني أعرف، يا محمد، كيف تشعر بعد الموت بجزعي عليك!
ليت الحجابُ يكشَف مرةً، لأعرف أن حزني وصل إليك!
أين من يعزيني فيك يا نعيماً ذهب وأملاً ضاع؟
أين من يعزيني فيك يا روضة من الحسن عصف بأزهارها الزمان؟
أين من يعزيني فيك يا دوحةً من المجد عَدتْ على أغصانها العوادي؟
أين من يعزيني فيك وما عرفت معنى الأخّوة إلا حين عرفتك، ولا تذوّقتُ معنى الأنس بالأرواح إلا حين أنستُ بروحك، ولا فطنتُ إلى ما في الدنيا من ذخائر إلا حين فطنتُ إلى الذخائر المودَعة في صدرك الأمين
يا محمد، وما أجمل اسمك!
أفي يوم واحد تضيع من يدي، أيها الكنز الثمين؟
أفي مثل ومضة البرق يذهب الروض الذي كنت آوى إلى ظلاله حين يلفحني هجير العناء؟
أفي مثل لمح البصر أنظر فأراني وحدي وكنتَ جيشاً أحارب به الزمان؟
أفي مثل خفقة القلب ينطفئ السراج الذي كنت أستهدي به في الملمات؟
يا محمد، وما أجمل اسمك!(296/10)
سيكون في دنيانا بعدك أفراح وأحزان، وسنلقى الدنيا بعدك باسمين أو عابسين، ولكنا سنذكر أن طالت الحياة أن خفقات القلوب من بعدك لن تكون إلا مزاحا في مزاح.
نكذب عليك، يا محمد، إذا قلنا إننا سنجعل خفقات القلوب وقفاً على الهتاف باسمك، والشوق إليك، ولكنك ستعرف أنك ستظل في قلوبنا مثال الشرف والصدق، وسترانا من أهل الحرص على التغني بمحامدك في أكثر الأوقات، حين يجدّ ما يوجب أن نتطلع إلى الأصدقاء الأوفياء.
يا محمد، وما أجمل اسمك!
بموتك عرفتُ أن الحزن خليقٌ بأن يكون شريعة من الشرائع
بموتك عرفت كيف يجب أن أفكر في لقاء الرفاق الأصفياء كل يوم.
بموتك عرفت أن في قلبي ذخائر من الصدق والوفاء
يا محمد، وما أجمل اسمك!
أقسم بالله وبمودتك أن الموت كاد ينتاشني في الطريق حين قرأت خبر موتك، فإن طالت حياتي بعدك فسيكون ذلك أعجوبة من الأعاجيب، وسأقضي ما بقى من حياتي في تحقيق الأغراض التي كنت تحبّ أن تحققها في حياتك
أخي وصديقي:
لا أقول: (يغفر الله لك)، فقد كنت أطهر من الزهر المطلول، وإنما أقول: (يغفر الله لمن عرفك ولم يمت لموتك).
أما بعد، فقد كان في نيتي أن أرثي الهراوي في إحدى الجرائد اليومية، ثم رأيت أن أرثيه في (الرسالة) لأحدث عنه إخوانه في سائر الأقطار العربية.
وسأرجع إلى الحديث عنه مرة أو مرات لأبين ما صنع هذا الفقيد العزيز في خدمة العروبة والإسلام والإنسانية.
نفعني الله بدعواتك، يا محمد، وحرمني فيك العزاء، فما أحب أن يكون لي فيك عزاء.
يا محمد، وما أجمل اسمك!
أحبك وأشتاق إليك، وأحب من أجلك ذاويات الأزهار، وهاويات الكواكب، فاذكرني عند ربك يا أصدق صاحب وأشرف صديق. وسلامٌ عليك من صفيّك وأخيك.(296/11)
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(296/12)
رد على رد
بين القديم والجديد
لأحد أساطين الأدب الحديث
كنت أقرأ مختارات الشعر التي جمعها محمود باشا سامي البارودي الذي يعد زعيم المذهب القديم في الأدب في العصر الحديث؛ فوجدت أنه قد أختار في باب النسيب مجونا ليس بأقل من مجون الحسين بن الضحاك وأبي نواس الذي أختاره الدكتور طه بك في كتاب حديث الأربعاء بل بعضه أشد منه وبعضه مثله، فاختار لأبي نواس قصيدة قالها يتغزل في شاب جميل كان كاتبا في ديوان الخراج بدليل قوله في القصيدة:
ومر يريد ديوان ال ... خراج مضمخا عَطِرا
وكانت عادة الشعراء في ذلك العهد التغزل في ملاح كتَّاب الدواوين. وفي هذه القصيدة يقسم أبو نواس أن مُرَقَّشاً الشاعر العذري النزعة لو كان حيا لما أحب امرأة بل لأحب ذلك الكاتب المليح: وهذه هي القصيدة كما أوردها البارودي:
أما والله لا أشرا ... حلفتُ به ولا بَطَراً
لو آن مُرَقَّشاً حَيٌّ ... تعلَّق قلبه ذَكَرا
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا
بوجه سابريٍّ لو ... تَصَوَّبَ ماؤه قَطَرا
وقد خَطَّتْ حَوِاضُنهُ ... له من عنبر طُرَرا
بعينٍ خَاَلطَ التَّفْتِيرُ ... في أجفانها حَوَرا
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نَظَرا
واختار البارودي لأبي تمام قطعة قالها في غلام مملوك أهداه إليه الحسن بن وهب فقال:
قد جاءنا الرشأ الذي أهديته ... خَرِقاً ولو شئنا لقلنا (المركب)
والذي اختار هذا الشعر ليس الدكتور طه بك ولا هيكل باشا بل البارودي باشا.
وقد أوردنا قبل الآن اختيار البكري أشياء من مجون ابن الرومي ونشر الشيخ شريف مجونه أيضاً. ولكن الأستاذ الغمراوي ترك البارودي وترك البكري والشيخ شريف واختص الدكتور طه وهيكل. فإذا كان ذلك لأن البارودي عارض قصيدة البردة فقد ألف الدكتور طه(296/13)
على هامش السيرة وألف هيكل حياة محمد وفي منزل الوحي، ولا أظن أن أحدهما نشر شيئاً يقارب ما نشره البكري والشيخ شريف والبارودي
والفكرة التي يتبينها القارئ من كلام الأستاذ الغمراوي غير صحيحة، وهي أن المجون يعصم منه التدين فقد سمعنا في بعض حفلات إحياء المولد النبوي الكريم من التغزل في الذات النبوية من الشعر ما ينبغي أن ينزه عنه ذلك الحفل من ذكر الرضاب والريق والوصال الخ الخ على طريقة بعض الصوفيين.
وسمعنا بعض الأفاضل يختلفون في أمور ثانوية تافهة من أمور الدين، وكل منهم متدين، فإذا انصرف أحدهم ذكره مناظره بكل سوء وبالمجون واتهمه بالزندقة. بل رأينا أن أعظم سلاح شيوعاً في الدفاع عن الدين والفضيلة أو عن عقيدة الوطنية أو عقيدة سياسية هو سلاح المجون في القول وتهمه، وتعدى هذا السلاح هذه الأحوال إلى الدفاع عن النظريات العلمية والرأي يُرى في البحث العلمي. والحقيقة أن المجون مزاج لا دخل له بالتدين أو عدم التدين؛ وقد كان من أثر انتشار مزاج المجون أنك تقول قولاً سليماً تقصد به معنى نظيفاً فيكون أول ما تصنع عقول السامعين أن تفتش فيه عن تخريج إلى المجون، ولا فرق في ذلك بين المتدينين وغير المتدينين، ورأينا أناساً من المتدينين يدعوهم الحسد والحقد إلى اتهام كل من كان أغنى أو أعقل أو أنظف منهم بالمجون. ونعرف أن في علم النفس قاعدة تدل على أن بعض الناس حتى المتدينين منهم يتمنون لأنفسهم أماني المجون فيتلذذون بأمانيهم بنسبة ذلك المجون إلى غيرهم. وهناك طائفة من المتدينين صاروا ينافسون بعض رجال الصحافة والسياسة في سلاحهم السياسي ويحتجون باستعمال حسان بن ثابت هذا السلاح في الدفاع عن الدين، وقد فاتهم أن المسلمين كانوا في عهد قوله هم المضطهدين المشتومين وقد نالهم من أقوال خصومهم من السباب مثل ما نال المشركين من أقوال حسان بن ثابت. وفي يقيني أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا له أن يؤيده روح القدس وعندما نصحه أن يلجأ إلى أبي بكر الصديق لم يكن يريد أن يزيده سيدنا أبو بكر من شدة الهجاء فقد كان الشاعر به أعرف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تحرج من الرمي بالباطل بالرغم من أن شعراء الكفار ما كانوا يتحرجون من ذلك. وقد ذهبت أقوالهم بعد ما انتصر الإسلام وبقيت أقوال حسان بن ثابت. ولو بقيت أقوال شعراء الكفار لدلت على ما(296/14)
أردنا إثباته وهو أن شعراء الكفار كانوا هم البادئين بتلك الطريقة في الهجاء. ومع ذلك فإن ديوان حسان بن ثابت خليق بأن يسمى ديوان العبر لأن سادة المشركين الذين هجاهم صاروا بعد إسلامهم سادة المسلمين، وفي هجائه بعض ما لا ينقصه الإسلام ولا يغيره. وهذا الديوان إذا أخذ على علاته دلّ على حالة خلقية لا يتوقع القارئ أن تكون في ذلك الزمن. والسير على هذه الطريقة من غير رقيب أو وازع هو من الإخلال بروح الدين في عصرنا وهو عصر ينقاد فيه السذج لمن يريد أن يشفى حقده أو حسده ممن لا دين له ولا خلق وإن تظاهر بالدين والخلق، وهذه حقيقة لا مبالغة في تعبيرنا عنها وقد لا يكون الأستاذ الغمراوي ممن يعرفها لبعده عن هذه الطوائف وبعده عن أحقادها وأقذارها ولكنها حقيقة يستطيع أن يراها في المجادلات السياسية وخصومات بعض المشتغلين بالسياسة والصحافة والأدب؛ فليس من العسير أن يفهم المفكر وجودها في بعض النفوس التي تتخذ السذج من المتدينين قنطرة للوصول إلى غرض شخصي، أو في نفوس بعض الذين لا يفهمون أن الدين ينبغي أن يترفع أنصاره عن المجون؛ لكن كيف تفهم ذلك نفوس مزاجها ذلك المجون. والمزاج لا يستطاع تجنبه مهما كان المرء متديناً. فالخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الغمراوي عندما حسب أن شدة التدين تعصم من الانهماك في الشهوات، أو أنها تعصم من لذة قول المجون إنما هو خطأ الذي يحكم على غيره بحالة نفسه؛ فإذا وجد نفسه متديناً يكره المجون ظن أن التدين يعصم من المجون. وليسمح لي الأستاذ الغمراوي أن أقول بكل رعاية: إن هذا الظن يدل على أنه لم يدرس خصائص النفس الإنسانية عامة في نفوس الناس دراسة غير المتحيز وغير المتعصب لطائفة دون طائفة، فإنه لو فعل ذلك لعلم أن مقدار ما في نفس المرء من مجون لا يعينه مقدار تدينه، حتى ولو وجدنا أمثال الأستاذ الذين يعصم تدينهم من المجون. ونحن لا نريد التعرض لشواهد من شعر ونثر الأدباء القريبي العهد كرامة وصيانة؛ وأما من عداهم من المتدينين وغير المتدينين فما على الأستاذ إلا أن يخالطهم وأن يدرسهم من غير أن يشعرهم أنه يدرسهم إلا إذا كانوا يهابونه كل الهيبة فلا يظهرون أمامه حقيقة نفوسهم. والخطأ الثاني الذي وقع فيه الأستاذ هو ظنه أن الشكوك الدينية تمنع الاعتقاد. والخطأ الثالث حسبانه أن عجز الكاتب عن منع إذاعة هواجس نفسه يدل على أنها أكثر تمكناً من نفسه؛ ومثل الأستاذ كمثل الذي يرى صنبور(296/15)
ماء لا يقفل تماماً فيحسب أن ماءه أغزر من ماء غيره لأنه لا يستطاع إحكام حبس الماء من التسرب منه. وهذه الهفوات الفكرية هي التي وطدت السبيل لأن يفهم الأستاذ في النزعة إلى التجديد ما ليس فيها، ففهم أنها حركة التفاف يراد بها التعاون مع الحاقدين على الدين الإسلامي من الأوربيين. وقد أوضحنا للأستاذ بالشواهد التاريخية والأدلة المنطقية أن كل ما في هذه النزعة من محاسن ومفاسد كان من الممكن استنباطه من الآداب والعلوم العربية حتى ولو لم تتأثر النفوس بأدب اللغات الأوربية، وإنما كانت تحتاج إلى زمن أطول لاستخراج كل هذه الأمور لو لم تتأثر بأدب اللغات الأوربية. ولا أدري لماذا لم يتهم الأستاذ الغمراوي أبا العلاء المعري بأنه كان يريد أن يقوم بحركة التفاف وتطويق معاونة لأعداء الإسلام من الأوربيين
ومن رأيي أن الأستاذ الغمراوي يؤدي خدمة كبيرة للدين والفضيلة لو أنه ترك نزعة التجديد وحاول بغيرته الصادقة أن يطهر الشعور الديني من شوائب الأثرة والمجون في نفوس الناس الذين يعتقدون أن تدينهم صك يعفيهم من ضرورة تطهير أنفسهم من المجون ومن تهالك الأثرة وجشعها ووسائلها الخبيثة وأحقادها. وإذا كان شيخ الأدب القديم محمود باشا سامي البارودي لم يعصمه أخذه بالمذهب القديم من اختيار شعر أبي تمام في الغلام. فإن من الظلم يا أستاذ أن تلوم الدكتور طه وهيكل بعد ذلك على نشر قصص منقولة عن الفرنسية، وهي مهما كانت لا يبلغ بها المجون هذا المبلغ، وبعضها كان دراسات نفسية (سيكولوجية)، وإذا كان شيخ المعرة أبو العلاء المعري لم يرد أن يقوم (بحركة التفاف) لمعاونة أعداء الإسلام من الأوربيين عندما قال: (قالوا لنا خالق حكيم) إلى أن قال:
هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول
وعندما قال: (الموت نوم طويل لا انتهاء له)، وانظر إلى قوله لا انتهاء له، وعندما قال في إنكار البعث:
لو كان جسمك متروكاً بهيئته ... بعد التلاف طمعنا في تلافيه
ومثل قوله في فناء الروح:
وجسمي شمعة والروح نار ... إذا حان الردى خمدت بأفِّ
أقول بعد هذه الأقوال وأشباهها التي يتخللها أقوال أخرى تختلف عنها: إذا كان شيخ المعرة(296/16)
جديراً بإحياء المسلمين ذكراه، وطبع أقواله فمن الظلم أن يعد الأستاذ الغمراوي دراسة فولتير جريرة وحركة التفاف.
إن للدكتور طه آراء نخالفها كل المخالفة، ولكنها ليست حركة التفاف؛ إنما هي نتيجة التفكير الذي قد يخطئ وقد يصيب. وكذلك ليست القصص التي نقلتها السياسة الأسبوعية حركة التفاف وإنما يصح أن ينتقد الناقد نشر بعضها، وما دامت مكتبات مدارس البنين والبنات الدينية وغير الدينية مملوءة بمثل المجون وأشد من الفحش والمجون الذي سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سحيم عبد بني الحسحاس ينشده في بنت سيده ويقول:
ولقد تحدَّر من كريمة بعضهم ... عرق على جنب الفراش وطيب
فمن العبث لوم السياسة الأسبوعية على تلك القصص
(قارئ)(296/17)
من برجنا العاجي
قرأت بين الرسائل التي جاءتني في موضوع نشر اللغة العربية بين الأجانب رسالة لم أر بداً من إثباتها هنا، لأنها قد عرضت في فقرات سبع، مسائل ينبغي أن توضع موضع التفكير. قال صاحب هذه الرسالة: كي ننجح في اجتذاب الأجانب إلى (حانوتنا) الفكري يجب أن نتبع ما يأتي:
أولاً - أن يتكلم المصريون جميعاً اللغة العربية في كل المناسبات، وألا يسمحوا لأنفسهم ما داموا يعيشون في مصر بالتكلم بأية لغة أخرى مهما ترتب على ذلك من نتائج
ثانياً - أن تكون جميع مكاتباتنا باللغة العربية، وأن نضطر الأجانب إلى قبول الكتابة إليهم بلغتنا
ثالثاً - أن يكون التعليم في جميع المدارس الأجنبية في مصر باللغة العربية
رابعاً - أن يوطد الكاتب المصري عزمه على أن يكتب للعالم كله. إذ على الرغم من أن ما يكتبه لن يخرج عن حدود الأمم الشرقية الناطقة بالضاد، إلا أن مصر بالذات هي شبه عالم صغير فيها من كل الأمم وكل الجنسيات
خامساً - العناية بأسلوب الكتابة، والارتقاء به إلى السلاسة مع السهولة، وأن يجتهد كل كاتب في الكشف عن نفسه وغرضه في وضوح وصفاء
سادساً - أن تعرض المطبوعات بأثمان معتدلة لإغراء الأجانب بقراءتها
سابعاً - أن تكون هناك رقابة على المؤلفات جميعاً فلا ينشر منها إلا ما يستحق النشر، حتى لا نكلف الأجانب قراءة سخافاتنا المزرية
تلك مقترحات صاحب الرسالة. وهي من غير شك كفيلة بتحقيق الغرض. لكن المعضلة في التنفيذ، وأن بعضها لا يمكن أن يقوم به غير حكومة قوية الشوكة مرهوبة الجانب، وبعضها يقع حمله على كواهل الأدباء.
وأعجبني قول هذا الأديب: إن الكاتب المصري ينبغي أولاً أن يوطن عزمه على أن يكتب للعالم كله. ولعل هنا مفتاح القضية كلها، فهل في مصر الآن أدباء يكتبون للعالم كله؟ ذاك موضوع يحتاج في بحثه إلى صفحات طوال.
توفيق الحكيم(296/18)
أعلام الأدب
اسخيلوس والمسرح اليوناني
للأستاذ دريني خشبه
وكان للتمثيل موسمان عند اليونانيين. فموسم الشتاء (اللينايا وذاك هو موسم عصر الخمر عندهم، وموسم الربيع (الديونيزيا حينما كانت تجتمع في أثينا وفود أحلافها
ولم تكن تمثل على المسرح اليوناني إلا كل درامة تنجح أمام هيئة المسابقة، وكانت المسابقات تعقد ثلاث مرات في السنة بإشراف الحكومة التي كانت تمثلها الهيئة الدينية
وقبل أن ينشأ مسرح ديونيزوس العظيم على منحدر الأكروبوليس الجنوبي الشرقي كان لأثينا مسرح آخر في مكان سوقها وكانت مدرجاته من عروق الخشب، وقد حدث أن سقطت هذه المدرجات مرة في نزاع كبير نشب بين أنصار كل من اسخيلوس وبراتيناس وخوريلوس في الأولمبياد السابع (499 ق. م) فقتل خلق كثير من النظارة، وكان هذا الحادث هو الباعث لبناء مسرح ديونيزوس، حيث صنعت المدرجات من الحجر على الحدور الراسخ فكانت تتسع لثلاثين ألف متفرج
وكان مكان التمثيل هو الدائرة المنخفضة الوسطى من المسرح وكانت تسمى المرقص أو الأركسترا
وفي وسط المرقص كان يقام المحراب الذي يبدل فيه الممثلون ملابسهم وأزياءهم التنكرية، وقد رؤى أن يكون إلى خلف المرقص حين رفعت أرضه بالخشب لتتناسب مع المدرجات العالية أمامها
ولما كان المسرح في مثل هذا الاتساع الهائل عمد الأثينيون إلى حيل المكياج ليضخموا الممثلين بحيث تراهم الصفوف الخلفية، فكان هؤلاء يلبسون أخفافاً كباراً لها أعقاب عالية من الخشب، وثياباً سميكة محشوة ومبطنة ببطائن منتفخة، وقد يكون للثوب ذيل فضفاض يجرره الممثل وراءه
وكانوا يلبسون الأوجه التنكرية الكبيرة التي تلائم المشهد الروائي، فإذا كان المشهد محزناً ظل الوجه عابساً بادي الألم، وإذا كان المشهد مضحكاً بدت على الوجه أسارير المرح وقسمات الضحك أو علائم التهزيل(296/20)
وكما عمدوا إلى ذلك لتضخيم الممثلين فكذلك عمدوا إلى فم الوجه التنكري فنفخوه بحيث يخرج الصوت منه مدوياً يجلجل في أرجاء المسرح فلا تضيع كلمة واحدة على نظارة الصفوف الخلفية
وقد أدى هذا المكياج العجيب إلى بطء الحركة في المرقص بطئاً شديداً لأن تلك الأخفاف الخشبية ذات الأعقاب العالية لا تعمل على السرعة بل تعمل على البطء، هذا إلى اضطرار الممثل أن يتجه دائماً إلى الوجهة التي يعبر عنها الوجه التنكري الذي يلبسه، لأنه لا يستطيع تبديل (تقاطيعه) حسب ما يقتضيه سياق الحديث
وكانت طبيعة هذا المسرح الضخم الرحيب تقتضي أن يكون الممثل حاذقاً بارعاً ملماً بدقائق فنه خبيراً بتوجيه الصوت الذي كان ينبغي أن يكون دائماً جهورياً عالياً في غير حشرجة ولا تصديع
وقد كان الشعراء أنفسهم - وهم مؤلفو الدرامات - يقومون بتمثيل الأدوار المهمة ويتولون في الوقت نفسه مهمة الإخراج والإشراف الشامل على تمثيل الأدوار الأخرى. . . وقد ظل إسخيلوس وسوفوكليس يمثلون أدوارهم حتى اضطرا إلى التخلي عن ذلك حينما ضعف صوت إسخيلوس ورأى سوفوكليس أن يستعمل ممثلا آخر يقوم عنه بهذه المهمة، ومن هنا نشأ الاحتراف في التمثيل حوالي سنة 456 ق. م
وإسخيلوس هو أول من اتخذ ممثلين بدل ممثل واحد يقوم بمعظم الأدوار الهامة في الدرامة. وقيل إن سوفوكليس زاد عدد الممثلين فجعلهم ثلاثة؛ وقيل إن إسخيلوس هو الذي صنع ذلك وسنّه لمن جاء بعده
وكانت أدوار النساء تسند عادة إلى الصبيان المُرد ذوي الصوت الناعم الرخيم. وقد مثل سوفوكليس نفسه دور الحسناء نوزيكا في درامته المفقودة (نساء غاسلات). . . ولا تدري ماذا منع الإغريق من إسناد هذه الأدوار إلى السيدات، وليس في المصادر التي بأيدينا ما يلقى النور على ذلك
وقد كان الفنانون يبدون مهارة عجيبة في صنع الأوجه التنكرية وخاصة لأدوار النساء، وقد حفظ لنا الأثر كثيراً من فن فدياس في ذلك خصوصاً في أدوار درامات سوفوكليس
أما الخورس (المنشدون) فقد عرفنا أن عددهم في الدثرامب (أغاني باخوس) القديمة كان(296/21)
خمسين وقيل ثمانين وقيل غير ذلك، وقد نزل بهم إسخيلوس إلى ثمانية وأربعين لا يظهر منهم في المشهد الواحد إلا اثنا عشر. وقال ستوبارت بل كان يظهر منهم في المشهد الواحد خمسة عشر يخرجون من المحراب في صفوف ثلاثية طولية عدد كل منها خمسة، ويقودهم رئيسهم صاحب الناي وعلى يمينه ويساره قائدا الصفين الآخرين
وكان أفراد الخورس يُختارون من أمهر الراقصين اليونانيين، ومن الذين مرنوا على الإنشاد والغناء، وذلك لما يتطلبه فن الدرامة اليونانية من التوقيع الموسيقي الرشيق الأنيق المنتظم الذي يوائم مجرى التمثيل ويتفق ومشاهد المأساة أو الملهاة
أما ملابس الخورس فكان يؤدي ثمنها المثري الذي تعهد للشاعر بمصروفات الدرامة، وكان لكل فرد من المنشدين أربعة (أطقم) من الثياب يغيرها حسب اختلاف المشاهد. . .
وكان للخورس المقام الأول في الدرامة القديمة، فهم الذين يشرحون الحوادث وهم الذين يعطون للنظارة كل فكرة هامة عن الدرامة، وما الممثل (أو الممثلان أو الثلاثة) إلا قائد التسلسل أو كما يقول آرسطو أي الشخص الذي يقود الحديث ويوجهه. وقد أخذت مهمة الخورس تتضاءل وتقتصر على الشرح الخفيف والأغاني والموسيقى بعد اسخيلوس. ففي درامة المتضرعات ترى أن الخورس هم أبطال الرواية ذكوراً وإناثاً، وأنهم ينشدون من مادتها الثلثين على الأقل؛ أما الثلث الباقي فهو للحوار ويؤديه الممثلان. فالخورس في إسخيلوس هم صلب الرواية، وهم حاضرون أبداً في الأوركسترا لا يبارحونه. . . أما في سفوكليس، أو في درامته فيلوكتيتس فلا تكاد تحس للخورس تلك الأهمية، بل لا تكاد تحس لهم أهمية مطلقاً، وهم لا يظهرون في الأوركسترا إلا بعد أن تقترب المأساة من أوجها، ولا يكادون ينشدون من مادتها أكثر من السدس. وهذا هو السبب في سرعة الأداء في مآسي سوفوكليس وبطئه في مآسي إسخيلوس، بل هذا هو السبب الذي أظفر الشاعر الشاب بالشاعر الشيخ كما سنرى فيما بعد.
وقد فقدت أغاني الخورس قيمتها تقريباً في درامات يوريبيدز واحتلت الموسيقى المكان الأول فيها جميعاً، وقد حدث ذلك التبدل حينما انحط الغناء وتشوف الأثينيون إلى الموسيقى العلوية الرفيعة التي تذكى المشاعر وتحوم بهم في آفاق شعرية جميلة، ومن هنا اهتمام يوريبيدز بالأناشيد والمراثي القروية مما سوف نتناوله في حينه إن شاء الله.(296/22)
وقبل أن يبدأ التمثيل، كان لا بد من إعطاء النظارة فكرة عن موضوع الدرامة، فكان يبرز من المحراب أحد أفراد الخورس أو الممثلين أو الشاعر نفسه ليقدم المقدمة أو ال وذلك قبل أن يدخل أحد من الخورس، أما مقدمة الخورس أو ال فهي ما يقدم به الخورس نفسه قبيل كل مشهد جديد. . .
أما مادة الدرامات اليونانية فقد كان لها مصدران عظيمان: أحدهما خارجي ويشمل مشكلات السياسة ومؤامراتها وكل ما يتعلق بسلامة الدولة، والآخر داخلي أو أهلي ويشمل الأساطير الدينية التي تحدد العلاقة بين الناس والآلهة أو بين الآلهة والآلهة أو بين الناس والناس فيما يتعلق بتقليد ديني أو فيما له صلة بتلك التقاليد
وفي الدرامات التي تتناول موضوعاً سياسياً لم يكن يسمح للشاعر أن يستهزئ بدولة ما حتى ولو كانت دولة معادية؛ ولم يكن يسمح له أيضاً بأن يثلب طائفة ما من الطوائف التي يتركب منها الشعب الإغريقي. وقد حدث أن ألف الشاعر فرينيخوس درامة آذى بها الأيونيِوَيّين، فثارت الخواطر عليه في أثينا وانتهى الأمر بمحاكمته والحكم عليه بغرامة فادحة
وقد كان لأبطال الملاحم الهومرية والهسيودية النصيب الأوفى من عناية شعراء الدرام. وكانوا يعنون كذلك عناية فائقة بأبطال الحروب المروعة التي نشبت بينهم وبين الفرس. . . تلك الحروب التي خلقت المجد اليوناني وحالت بانتصار اليونانيين دون تبرير أوربا
أما الأساطير التي تعج بها المثيولوجيا اليونانية فقد كانت مادة أساسية للدرامة. . . ولا غرو، فقد عرفنا أن الدثرامب كانت الفجر الصادق لهذا الفن الجميل العظيم. . . والدثرامب هي أغاني باخوس، وهي وإن كانت تنشد باسم هذا الإله المرح الطروب قد أدت إلى المأساة الصارمة المشجية التي تفيض بالألم وتورث الحسرة والأسى
وهنا موضع إشارة إلى رأي طريف جهر به أستاذ عظيم من أساتذة الأدب اليوناني القديم هو العلامة ردجواي. . . فقد أنكر هذا الأستاذ أن تكون أغاني باخوس الفياضة بالفرح والمرح والتهريج أصلاً للمأساة، وزعم أن أصلها إنما هو الأسى والحزن، والأسى والحزن إنما ينشأن حول الموتى وحول المقابر وفي المحافل الجنائزية التي كانت تقام في هذه المناسبات، وما كان يصحبها من إقامة شعائر الموت والطقوس الدينية المختلفة. ودليله(296/23)
على ذلك تلك المشاهد الكثيرة التي تزدحم بها المآسي من مناظر الحزن وإبراز إمارات الأسى وتجصيص القبور في المناظر التي تقتضي ذلك.
هذا رأي طريف حقاً. . . لكنه رأي لم يشر إليه أحد من قدماء اليونان، لا أفلاطون ولا أرسطو ولا هيرودوتس ولا أحد ممن أرخ لهذا الأدب المسرحي العظيم. بيد أنه لا ينقض هذا الرأي عدم إشارة أحد من هؤلاء إليه. فهو رأي محترم لأنه منطقي ولأن الأستاذ قد أردفه برأي آخر في نشوء الدرامة الكوميدية كاد ينكر به ما تواتر به التاريخ وأجمع عليه العلماء من أمر نشوئها، فقد زعم أن الكوميدية لم تنشأ عن الدثرامب التي هي أغاني باخوس الخمرية المرحة، بل نشأت في قرية تدعى اشتهر أهلها بممارسة عبادة العنز لا عن تقي وورع بل اندفاعاً مع التيار. . . وآية ذلك أنهم لم يكونوا يظهرون إلههم الذي هو ديونيزوس أيضاً. . . في المظهر الذي كان ينبغي له بصفته أحد سادة الأولمب، بل هم كانوا يظهرونه في مظهر المخلوق المخمور العربيد الذي يثير مرآه الضحك ويبتعث النشوة والابتهاج، والسخرية أحيانا. فمن اسم هذه القرية اشتقت كلمة للملهاة ولفظة لشعرائها ومنشديها
ومع ما لهذا الرأي من قيمة ووجاهة فهو ما يزال يفتقر إلى إثبات وتدعيم.
هذا ولم تكن مناظر القتل وسفك الدماء تمثل على المسرح، بل كان يكتفي بدخول رسول فيفاجئ الممثلين والخورس بمقتل فلان أو الاعتداء على فلان. وهنا تتغير اتجاهات المأساة، وتبلغ أوجها بالخطبة الطويلة التي يلقيها هذا الرسول، لأنه يتناول شرح الاعتداء ووقته ومكانه وكيفيته والقائم به. . . الخ. وكانت المأساة في الغالب تنتهي بهذه الخطبة، فيظهر إله، خصوصاً في درامات يوريبيدز، فيلقي عظة أو عبرة، ثم يدخل الخورس إلى المحراب، وينصرف الجمهور إن لم يكن هناك تحكيم
وعلى ذكر الخطبة التي يلقيها الرسول نذكر أن الدرامة اليونانية لا تشبه بحال من الأحوال الدرامة التي نشهدها اليوم في مسارحنا. . . فدرامتنا تعتمد على الحوار القصير، أما الدرامة اليونانية فتعتمد على الخطب الطوال في أكثر الأحوال. . . ولم يوزع الشعراء اليونانيون بيتاً واحداً من الشعر على أكثر من ممثل واحد كما يصنع شعراؤنا اليوم ومنذ عصر شاكسبير. . . ومن الظريف جداً أن مترجمي الدرامات اليونانية القديمة من الإنجليز(296/24)
والألمان والفرنسيين قد حافظوا على هذا التقليد حينما نقلوا تلك الدرامات إلى لغاتهم شعراً
وقبل أن نختم هذا الفصل نرى ألا يفوتنا أن نشير إلى حرية الرأي الكاملة عند هذا الشعب الأثيني الراقي العظيم. . . تلك الحرية العجيبة غير المحدودة - إلا ما سلفت الإشارة إليه في تناول بعض المشكلات السياسية - التي كان ينعم بها المؤلف والخطيب والمحاور وكل فرد من أفراد ذلك المجتمع الأثيني المهذب
لقد نشأت الدرامة اليونانية نشأة دينية بحتة. . . لكن المجتمع الأثيني لم يكن مجتمعاً دينياً متزمتاً. . . ودينه لم يفرض عليه طقوساً يومية من العبادات، وإن كنا نحن نؤمن إيمانا مطلقاً بما لهذه الطقوس من الأثر الجميل في مجتمعنا. . . لكنهم هكذا نشأوا. . . نشأوا وثنيين في عشقهم للجمال والحرية ومحبة العدل وإيفاء كل ذي حق حقه. . . احترموا الموت ولم يفكروا فيما وراءه، وآمنوا بالقضاء والقدر إيماناً إيجابياً لا إيماناً سلبياً مثل إيمان بعضنا بهما. . . ومن هنا نبعث روائع دراماتهم. . . لقد كان كل ما يأمرهم دينهم به هو تقديم القرابين وعقر الأضاحي. . . ثم دفن الموتى. . . فمن لم يدفن بعد موته أو قتله ظلت روحه هائمة في الظلمات عابسة كاسفة حتى يدفن صاحبها فيؤذن لها في دخول هيدز. . .
هذا كل ما فُرض عليهم من أمر دينهم. . . ومع ذاك فقد فهم أحرارهم هذا الدين الأسطوريّ على وجهه الحق فلم يبالوا أن يزيفوه ويتناولوا آلهته بالنقد والتخطيء والتسفيه والسخرية أحياناً. . . كما سيمر بك فيما يلي
دريني خشبه(296/25)
في السلام
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
لا كلمة الآن أشد سحراً وأكثر دوراناً على ألسنة الساسة من كلمة السلام، فهم يرسلونها في خطبهم العالمية والمحلية حتى لتظنهم ويظنون أنفسهم خلفاء الرسل في الدعوة إلى سلام الأرض
وقد بنوا لهذه الكلمة الساحرة بيتاً عالياً في جنيف له سدنة وكهان وحجاب، وكل هذا (كالعروض): بحور بلا ماء!
ولا أعرف ديناً عنى بترديد هذه الكلمة على أسماع أهله في الخلوة والجلوة وتثبيتها في طباعهم كما عنى الإسلام
بل إن الإسلام والسلام كلمتان متداخلتان مادة ومعنى. ويعرف كل من له إلمام بفقه اللغة العربية وخصوصاً قانون (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) أن هاتين الكلمتين ليس بينهما من فرق في المعنى إلا بمقدار ذلك الفرق الضئيل في اللفظ
وأنا الآن بمعرض بيان الأسس التي وضعها الإسلام لضمان السلام في النفس، وبين الطبقات في الشعب، وبين الأمم في الأرض
وأول ما يسترعي النظر هو أن تحية المسلمين هي إلقاء كلمة السلام. وما أجد تحية أقرب مناسبة لكل وقت كهذه التحية، وهي في الواقع بمثابة عهد بين البادئ والمجيب، على ألا يمس أحدهما الآخر بسوء. وفي البادية يفهمون لها هذا المعنى الجميل فيرافق المجيب البادئ إلى آخر حماة حتى لا يصاب بسوء ما دام في حماه، بعد هذا التعاقد
وفي الصلاة الإسلامية ترديد كثير للسلام؛ حتى ليصح أن نطلق على التشهد (نشيد السلام) ففيه سلام على النبي صلى الله عليه وسلم وفاء له وذكرى بين يدي الله، وسلام على النفس لبعث الطمأنينة وإشاعة معناها في الروح وإيحاء ذاتي إلى القلب بذلك المعنى، كما يشير بذلك علم النفس الحديث، وسلام على العباد الصالحين يرسله المصلي إليهم في غيبتهم وغيبوبته هو في مقام الله، وكأنه يتعهد أمام الله ألا يمس أحداً من رجال الإصلاح بسوء، ثم تنتهي الصلاة بسلام عن اليمين والشمال يستأنف به المصلي عودته إلى ملابسة أمور الحياة. ذلك موقف هو أعظم مواقف التصفية للنفس المسلمة في حياتها اليومية،(296/26)
فلينظر فيه علماء النفس ويبينوا أي قوة تربوية أوحى بمعاني السلام منه؟
ثم يعمد الإسلام إلى تثبيت معنى السلام من طريق العظة بالقول بعد أن أوحى به في العبادة فيصف المسلمين بأنهم (إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلية) (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) إلى آخر النصوص التي تفيض بها مراجع الإسلام
ولما قامت دولة الإسلام بالمدينة وابتدأت الحياة السياسية للمسلمين شرع الله شرائع الحرب والسلم حتى لا يسير المسلمون وراء السياسة وهى فاجرة قاسية، فنادى نداء عاماً (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً) وقد نهى وحذر من الخداع واتخاذ العهود والمواثيق تمويها وغشاً (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به)
وهنا نقف قليلاً لنفكر في هذه الآية العجيبة التي تلخص كل مشاكل السياسة وبخاصة في هذا العصر. فنحن على علم الآن بأن كل ما يوقع الأمم في جحيم الحرب هو عدم الثقة المتبادلة فكل دولة لها مواثيق مستورة ومواثيق علنية، والاعتماد الأكبر على المحالفات السرية، وكل دولة متهمة عند الأخريات، وكل دولة تريد أن تكون أربى وأكثر عدداً وقوة ومنافع من الأخرى، فهم قد اتخذوا مواثيقهم وعهودهم دخلاً وغشاً بينهم فلا تترك ثقة ولا تدفع شكا، وكل هذا للمادة والمال (لتكون أمة أربى من أمة) لا لخدمة مثل أعلى، ولا لعلم أو معرفة، ولا شك أن هذا بلاء كبير كما يعبر القرآن
فانظر كيف يدخل الإسلام إلى السياسة بهذه الروحانية الجميلة التي هي سر نجاح سياسة العرب في تعريب الأمم وإسلامها
ويعد القرآن اتخاذ العهود والمواثيق دخلاً وخداعاً وغشاً، زلة قدم بعد ثبوتها، وذلة تحت حكم السوء، وصدّاً عن سبيل الله (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم)
ولم أر القرآن يؤكد معنى في موضع واحد منه وفي آيات متلاحقة وفي بيان يدير المعنى(296/27)
على اختلاف وجوهه ويستعين على توكيده بالتشبيه والتمثيل كما رأيته في هذه الآيات التي تحض على الوفاء وتنهى عن الخداع في السياسة بين الأمم. . .!
وأحب ألا يفهم قارئ أن القرآن يدعو إلى الضعف والغفلة بإدخاله الروحانية في السياسة، فإن هذا فهم خاطئ. فقد دعا الإسلام إلى الأخذ بأسباب القوة ما وسعت الطاقة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). (وإما تخافن من قومٍ خيانةً فانبِذ إليهم على سواء). (وليجدوا فيكم غلظة). . . (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)
وإنما هي رحمة الأقوياء، وعفو القادرين، وسلام تحت ظلال السيوف. . .
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم محمد خلاف(296/28)
من برج بابل
أسعد ساعاتي وأحفلها بالعبر والتأمل، حين أجلس إلى طفلي. فأعمد أنا إلى إبرتيّ الطويلتين دائبة على صنع قطعة من النسيج، ويفرغ هو إلى الدُّمى واللُّعب كأنه ملك عابث، فهو منهمك أبداً في تدبير دولة من لُعب، فتارة يقسم فصائل جيشه وينصب عليهم القواد ويدعوهم إلى القتال والجهاد، وطوراً يزف الملك إلى الملكة، وأحياناً يحرك القطار على القضيب. وهو في هذا كله نشيط دائم الحماسة والحركة، يزمزم بلغة غريبة عنا، كأنما لا يفهمها غير عالمه الصغير ورعيته الجامدة!
ثم لا يلبث أن يعتريه الملل والسآمة وتسيطر عليه غريزة عجيبة، فيهدم عرشاً نصبه، ويبعثر جنوداً مدربة منظمة، ويصدم عربات قطاره، ويهرع إليّ محتجاً متبرماً، يطلب عالماً جديداً أو إن شئت لعبة جديدة. وبأي قدرة أستطيع أن أمده على الدوام بعوالم لا متناهية متجددة في كل لحظة! فإذا شعر مني بالعجز عن الخلق والإبداع انصرف إلى دنيانا نحن الكبار: فيجذب الزهرية المستقرة في رشاقة على المنضدة ويهوى بها إلى الأرض؛ وإلى الورد فيعبث بأوراقه، ويعمد إلى الستار المسدل على النافذة فيهدله. وإلى زجاجها فيحطمه؛ ويسعى إلى القط الجميل الوديع فلا يزال يستدرجه، حتى إذا تمكن منه حاول خنقه بيديه الدقيقتين.
لشد ما يجهد أعصابي هذا المخلوق الصغير الجبار! إنه لا يهدأ، إنه لا
يستقر. ولا يحلو له غير التدمير والعبث بنظامنا. لا توقفه نظرتي
الحادة المهددة، ولا تهدئه بسمتي الحنون الرقيقة، ولا يثنيه ما أقدم من
حلوى.
ألا إن في الأطفال حافزاً عجيباً يدفعهم على الدوام إلى هدم ما هو قائم، وإفساد ما هو كائن، وتحليل ما هو مركب. وحين ألقى النظر على يديّ وهما دائبتان في نسج الحياة، وعلى آثار الحطام التي أنزلها بعالمي طفلي الصغير، أشعر بالفارق الهائل بين الأمومة العاملة والطفولة الهادمة
هؤلاء الصغار، فلذات أكبادنا، يولدون في الحياة بمشاعر جديدة، وطبائع جديدة، وأفكار جديدة، وآمال جديدة. . فلا يطيب لهم أن يبقوا على ما صنعت الأمهات وما بذل الآباء؛(296/29)
فتراهم يحطمون في لحظة عالمنا، ثمرة كدنا وعمرنا وجهدنا، كما لو كان صنماً قديماً سخفت عبادته!
ماري نسيم(296/30)
حول كتاب (مصطفى كامل)
مصطفى كامل والسيادة العثمانية
للأستاذ محمود العمري
في عدد الرسالة الصادر في 20 فبراير كلمة للأستاذ العقاد عن كتاب (مصطفى كامل) لعبد الرحمن بك الرافعي، لا يسع قارئها إلا أن يرى فيما جاء بها، حواراً طبيعياً بين مؤرخ (سعد زغلول) ومؤرخ (مصطفى كامل). وقد أوسع الأستاذ العقاد مجال المناقشة من الجانبين، إذ قال في آخر كلمته أن ليس للقارئ أن يطلب الحق كله من كتاب واحد لا سيما في تاريخ تختلف فيه الميول والآراء. وهذه دعوة ضمنية إلى طرح الموضوع على بساط البحث كيما يستنير أبناء الجيل الحاضر ممن تأثروا بحركة سعد زغلول دون حركة مصطفى كامل.
والمهم في هذه الكلمة أن الأستاذ العقاد يأخذ على عبد الرحمن بك أنه ظل غير متحيز في سلسلة كتبه عن الحركة القومية منذ الحملة الفرنسية إلى أن وصل إلى مصطفى كامل فتحيز له ضد خصومه.
ولأجل أن نبحث هذه الملاحظة لا بد لنا من الرجوع إلى السياق التاريخي لمنطق الوطنية المصرية منذ الحملة الفرنسية، لنتبين ما إذا كان هناك عدم تناسق في حلقاتها؛ وعندئذ نرى الحكمة الحقيقية فيما قاله عبد الرحمن بك في مقدمته: من أنه كان في أول الأمر يريد ترجمة سيرة مصطفى كامل، فأدى به البحث إلى أن يمهد لها بتحقيق تاريخ الحركة القومية منذ الحملة الفرنسية التي تعد بداية محاولة دول أوربا الاستيلاء على مصر بأساليب واحدة؛ إذ أن حركة مصطفى كامل لا يمكن اعتبارها من جانب المؤرخ الحقيقي إلا حلقة من حلقات سلسلة جهود المصريين للوقوف في وجه الفاتح الأوربي؛ كما أن تشابه الموقف في هذه الحلقات كان من شأنه أن أملي على المجاهدين في سبيل الاستقلال الحقيقي خطة واحدة. وما الشعور الوطني إلا غريزة الدفاع عن النفس، وهى غريزة طبيعية فطرية إذا كانت سليمة صادقة فرضت على النفوس منطقاً سليماً على اختلاف درجة تعمق الآخذين بها في مبلغ فهمهم إياها عن طريق العقل.
فالسلسلة التاريخية التي بدأت منذ قرن ونصف قرن تقريباً إنما هي عدة فصول في رواية(296/31)
واحدة يطلع عليها القارئ في سلسلة الحركة القومية بقلم رجل يجمع إلى صفاته كمؤرخ صفة أخرى وهي صفة المؤمن بتلك الحركة، وهذه مزية ضرورية لمؤرخ أي فكرة؛ إذ أن عبد الرحمن بك رجل يؤهله طول بلائه فيها لأن يفهمها بروحه ومزاجه فضلاً عن فهمه إياها كمؤرخ وكرجل يدرك المرامي السياسية عن طريق إلمامه بالقانون.
احتل نابليون مصر، وكانت تابعة لتركيا، وكانت إنجلترا منافسة له تسعى لإخراجه منها. وكانت حجتها في ذلك أن في هذا الاحتلال اعتداء على حقوق الدولة العثمانية التي لم يكن في حالة حرب ضدها بل كان متعهداً بسلامتها بمقتضى المعاهدات. فأخذت تحرض تركيا على التمسك بحقوقها، وتحرض المصريين على التمسك بعلاقتهم بها ما دام الاحتلال الفرنسي قائماً. وكان نابليون يسعى جهده لحمل تركيا على الرضا عن احتلاله لمصر نظير مزايا عظيمة في البلقان، كما سعى بوسائل شتى لحمل الزعماء المصريين على قبول الانفصال عن تركيا فبذل في سبيل ذلك جهوداً عظيمة، وأدى للشعب خدمات جليلة، ولكنه لم يفلح مع تركيا ولا مع مصر، ولذلك تم للمصريين ما أرادوا من عدم تمكن النير الأجنبي من أن يقوم على رضاهم بسند شرعي. ولو أنهم خدعوا بما أغراهم به نابليون باسم الانفصال عن تركيا لخلا الجو أمام احتلاله وهو الإهدار الحقيقي للاستقلال ولكانت مصر إلى الآن مستعمرة فرنسية. . .
أثبت التاريخ بعد ذلك أن مصر لم تكن بهذا السلاح السلبي تقصد التبعية لتركيا بدليل أنها ما كادت تتخلص من الاحتلال الفرنسي حتى أخذت تعالج مشكلة استقلالها مع تركيا وجهاً لوجه، فوضعت محمد علي على رأسها وحارت تحت قيادته المتبوع الأعظم وهزمت جيوشه؛ وذلك بفضل استقلالها الداخلي الذي مكنها من أسباب القوة القومية، وهذا لعدم توفر الركن الأساسي للتبعية الفعلية لتركيا وهو وجود جيش احتلال تركي في مصر.
لم يقف الجيش المصري الظافر على تركيا إلا تدخل دول أوربا التي لا تأخذ الواحدة منهن على المصريين تمسكهم بتركيا إلا عندما يكون هذا التمسك مقصوداً به التخلص منها. أما إذا كان مقصوداً به التخلص من دولة منافسة لها فإنه يصبح عندئذ أمراً منطقياً تمليه الوطنية الحقة ولا تعصب فيه للدين ولا للخلافة
ولم يقف الاستقلال الذي عملت له مصر في ميدان القتال عند الحد الذي رسمته معاهدة(296/32)
سنة 1840 إلا تدخل تلك الدول خشية فتح باب المشكلة الشرقية بما تقتضيه من التنافس على توزيع أسلاب الدولة العثمانية
وفي سنة 1882 احتلت إنجلترا مصر احتلالاً مؤقتاً بموافقة صاحبي الشأن في معاهدة سنة 1840 وهما سلطان تركيا وخديو مصر فعاد نفس الموقف الذي كان قائماً أيام الاحتلال الفرنسي. وبعد أن انتهت الحالة المؤقتة التي أدت إلى ذلك الاحتلال أصبحت فرنسا تطالب إنجلترا بالجلاء بنفس الحجة التي كانت هذه تتذرع بها أيام نابليون فسعت إنجلترا سعي هذا الأخير لإزالة العقبة القانونية التي تجعل احتلالها غير مشروع فأوفدت درامندو ولف إلى الآستانة للاتفاق على تبرير الاحتلال الدائم وهو الحماية ففشلت، وكان بعض فشلها راجعاً إلى سعي فرنسا التي حاربتها بنفس الحجة التي حوربت بها قبلاً وظلت تحاربها بها إلى أن اتفقت معها إنجلترا على إطلاق يدها في مراكش
لجأت إنجلترا أيضاً إلى مثل ما لجأ إليه نابليون من حمل الشعب المصري على المطالبة بالانفصال عن تركيا قبل أن ينجلي الجيش الإنجليزي عن مصر وقدمت في سبيل ذلك للشعب المصري خدمات اقتصادية وقامت له بإصلاحات إدارية كثمن لإلهائه عن الاستقلال فنجحت مع بعض الأعيان الذين كانوا يسمونهم أصحاب المصالح الحقيقية فراحوا يقولون إن الاستقلال هو الانفصال عن تركيا قبل الجلاء. وكانت الغاية التي قصد إليها الإنجليز أن تزول من طريقهم إلى الحماية الحقيقية تلك العقبة التي جعلت مركزهم غير صحيح. ثم شفع هؤلاء المصريون خطتهم بالمناداة بالاتفاق مع إنجلترا كما تنكروا لسلطة الخديو الممثل الشرعي للسيادة المصرية المقررة في معاهدة سنة 1840 حتى تنهدم المعاهدة المذكورة من ركنيها الخارجي والداخلي، هذين الركنين اللذين هدمهما الاحتلال
عندئذ قام مصطفى كامل فنهض نهضة استقلالية تامة لاشك في اتجاهها ومراميها، وقال مراراً إن مصر لا تريد إبدال متبوع بمتبوع، ولكنه احتاط عند تحديد المطالب السياسية فجعل هدفه الأول جلاء الاحتلال ووضع أمامه معاهدة سنة 1840 سنداً قانونياً سياسياً ضد الاعتداء الحقيقي على تلك المعاهدة
إن القول بأن استفادة مصطفى كامل بالعوامل الخارجة عن الجهود المصرية كان مناداة بالتبعية لهذه العوامل إنما هو قول بعيد عن الحقيقة التي لمسها معاصروه قبل أن يسلموا له(296/33)
بما اعترف به الأستاذ العقاد إذ قال عنه إنه زعيم الوطنية المصرية في ذلك العصر
استفاد مصطفى من خلاف فرنسا مع إنجلترا فظن بعض الناس أنه صنيعة فرنسا. فلما تنحت فرنسا عن قضية مصر استمر في جهاده بل ضاعف قواه. واستفاد من خلاف ألمانيا وحلفائها وأيد الخديو، حتى إذا خرج كرومر وتغير الحال أثبت مصطفى كامل أن انتصاره لسمو عباس حلمي باشا لم يكن إلا انتصاراً للسيادة المصرية لا لشخص الخديو وضاعف الهمة حتى زالت حجة المكابرين الذين قالوا بأنه صنيعة. وكذا كان شأنه مع تركيا شأن المستفيد من مصلحة مشتركة في موقف معين. وما قوله في شأن الخلافة إلا شأن فرنسا وإيطاليا مثلاً عند اتفاق مصالحهما بأن هناك رابطة لاتينية
ولما تولى الحركة فريد بك ازدادت خطة الوطنية وضوحاً لمناسبة الظروف التي استجدت فقامت الحرب العالمية وهو في تركيا فأفهم رجالها وهم على وشك الهجوم على مصر أن عدم مطالبة المصريين برفع السيادة التركية إنما كان لوجود الاحتلال الإنجليزي
اعترفت إنجلترا بأن تكييف مصطفى كامل للاستقلال كان تكييفاً صحيحاً كما اعترفت للمجاهدين ضد نابليون عندما كانت تريد إخراجه من مصر. ويكفي أن يطلع الإنسان على إعلان الحماية ليرى هذا الاعتراف إذ جاء فيه: (بما أن تركيا في حالة حرب مع إنجلترا فتزول من الآن السيادة التركية وتصبح مصر تحت الحماية البريطانية)
ولما انتهت الحرب العظمى لم يتمسك رجال مصطفى وفريد بالسيادة العثمانية، فهذا غير معقول، وإنما عملوا على ألا يتم تنازل تركيا عن سيادتها إلا لمصر لا لإنجلترا كما عملوا على احتفاظ مصر بما لها من الحقوق في معاهدة سنة 1840. ولذلك سافروا إلى أنقرة وإلى لوزان ولم يسع (الوفد المصري) إلا أن يبعث معهم بعض رجاله ويشترك معهم في هذا المسعى.
أما ما حصل بعد ذلك فيكفي أن تكييف مصطفى كامل قد سجل له التاريخ نتيجة واضحة وهي أن معاهدة سنة 1936 استنفدت برامج جميع الأحزاب ما عدا برنامج الآخذين بمبدئه.
محمود العمري(296/34)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأدب الموضوعي نقد وتاريخ
رأينا فيما تقدم أمثلة من الأدب الموضوعي، ورأينا بعض هذه الأمثلة يتناول قطعة من الأدب ليبين ما فيها من عيوب ومزايا؛ ورأينا أمثلة أخرى تبين مناهج الكلام البليغ، وتوضح مزايا هذا الكلام في معانيه وألفاظه وأساليبه، وقلنا أن هذه الأمثلة وما يشبهها تسمى نقداً. ثم وجدنا أمثلة غيرها تقصد إلى تبيين أطوار الكلام في العصور المتتابعة وإيضاح أسبابها، وقلنا إن هذه الأمثلة وأشباهها تُعدّ من تاريخ الأدب
وهنا نُجمل الكلام في النقد الأدبي وتاريخ الأدب
1 - النقد الأدبي
نقد الكلام تبيين مزاياه وعيوبه، وتمييز جيّده من رديئه يقال: نقد الكلام وانتقده على قائله، وهو من نقده الشعر ونقَّاده. . . الخ
2 - نشوء النقد وتطوره
النقد طبيعي في الإنسان، ينشأ من استحسان الشيء أو استهجانه. ويزيد الناس اهتماماً به اختلاف الأذواق في تقدير الشيء الجميل والقبيح، وتفاوت الإدراك في معرفة الصواب والخطأ، ويعظم الخلاف في دقائق الأمور التي لا يُبينها حِس واضح أو إدراك بيّن، وكلما دقت المسألة عسُر الحكم فيها وكثر الخلاف؛ وكلما كثر الخلاف كان النقد أصعب، وكان على صعوبته ألزم. والنقد يكون في العلوم، والصناعات، ويكون في الآداب. وهو في هذه أغمض وأعسر لأن الآداب لا يرجع فيها إلى الحس أو العقل ولكن إلى العاطفة والذوق، وهما من الأمور النفسية يصعب تحديدهما ويكثر الاختلاف في أحكامهما
والنقد يكون في مبتدئه أحكاماً لا يدعمها برهان ولا يوضحها بيان، ثم تتناقض الأحكام، وتتصادم الآراء، فيذهب كل ناقد يفسر رأيه، ويقيم حجته، على قدر ما يواتيه فكره، ويمده ذوقه، حتى ينتهي الجدال إلى أمور مسلمة ومقاييس محدودة يحتكم الناس إليها فيتفقون. وربما ينتقل الخلاف من المسائل الجزئية التي يختلفون فيها إلى المقاييس الكلية التي(296/35)
يقيسون بها؛ يختلف اثنان في وزن شئ أو طوله فيعمدان إلى الميزان أو الذراع ليعرفا الصواب فيما اختلفا فيه، وربما يقع الخلاف في صنجة الميزان أو في طريقة الوزن أو في الذراع أو طريقة الذرع.
وكذلك الأمور المعنوية، يقع فيها الخلاف فيرجع المختلفون إلى قواعد يتفقون عليها، وربما يختلفون في القواعد نفسها. يقول واحد: هذا حسن، ويقول آخر: بل هو قبيح، فيرجعان إلى القوانين التي يعرف بها الناس الحسن والقبيح، يقول أحدهما: حسن لأنه نافع، ويقول الآخر: قبيح لأنه ضار، ثم يعرفان أنه نافع أو ضار فيتفقان. وقد يتمادى الخلاف بينهما في المقياس نفسه، فيقول أحدهما: كل نافع حسن، ويقول الآخر: ليس كل نافع حسناً، ليس مقياس الحسن والقبح هو النفع والضر بل قبول النفس أو نفورها أو اللذة والألم. فإن لم يتفقا على مقياس الحسن والقبح استمر الخلاف بينهما
كذلك الأدب: يسمع أحد الناس قصيدة فيستحسنها ويطرب لها ويخالفه آخر؛ فيقول الأول: ألفاظها مألوفة سلسة حسنة النغمة، ومعانيها جميلة فيها سمو بالنفس ولها أثر في القلب، وكثير منها مخترع. ويخالفه الثاني فيما زعم للألفاظ والمعاني من أوصاف فيقول: ليست الألفاظ مألوفة سلسة، أو يوافقه على أنها كما قال ولكن يدعي أن الألفة والسلاسة ليست مقياس الجمال أو البلاغة؛ فإما أن ينتهيا إلى مقياس يرضيانه فيتفقان، أو يتمادى بينهما الخلاف
وفي البحث عن المقاييس والاتفاق عليها أو الاختلاف فيها يكون تطور النقد الأدبي وتشعب مذاهبه، ووضوح مناهجه، واستناده إلى براهين تتفق فيها المعرفة الواسعة والذوق المهذب والحس المرهف
3 - ضروب النقد
وفي النقد الأدبي ضروب منها:
1 - نقد الجزئيات، وهو نقد قطعة من النثر أو الشعر بالنظر في ألفاظها وتبيين أنها مما عرف في اللغة، وأنها موافقة للصرف والنحو، وأنها مألوفة غير مبتذلة، وأن وزنها، إن كانت من الشعر، صحيح لا خلل فيه - أو بالنظر إلى معانيها وتبيين أنها غامضة أو واضحة، وقيمة أو تافهة، وطريفة أو مبتذلة، ومخترعة أو مسروقة، وأن التصوير فيها(296/36)
واف بالمقصد أو مقصر عنه، وأن مجازاتها واستعاراتها حسنة أو قبيحة. . . وهلم جرّا
2 - وقد يتناول النقد شاعراً أو كاتباً؛ فيقال إنه ركيك الألفاظ أو غامض المعاني أو مستهجن الموضوعات أو متكلف لا يصور الطبيعة أو سراق غير مخترع
3 - وربما يكون النقد أوسع من هذا فلا يتناول قطعة أو شاعراً بعينه، بل يتناول طرائق البيان ومناهج البلاغة؛ فيقال: ينبغي أن تؤلف الألفاظ على أسلوب كذا، وأن تحرر من السجع والصناعة، وينبغي أن تكون المعاني بيّنة قريبة من المخاطب، وينبغي أن يطول الكلام أو يقصر على قدر المقام وهكذا
4 - وأحياناً يسمو النقد فوق هذا كله وينظر إلى الأدب ومقاصده عامة فيتناول مسائل كالمسائل الآتية: هل للأديب أن يطرق كل موضوع، أو هو جدير بأن يتناول موضوعات سامية لا يتناولها العامة؟
هل على الأديب أن يلتزم الأخلاق والآداب فيما يكتب أو هو حرّ فيما يُبِين غير مطاَلب إلا بالإجادة في بيانه؟
هل الحق والصدق من أسس البلاغة أو يكون الكلام بليغاً وهو كذب وباطل؟
هل للأديب مقصد فيما يكتب، أو هو كالزهرة تنشر الرائحة العطرة بطبعها لا تبغي وراء هذا شيئاً؟
وهذه المباحث أعمق مباحث النقد وأوسعها وأعظمها جدوى لأنها تتناول وجهة الأدب ومقاصده وموضوعاته، تعمد إلى سُبل الأدب تبيّنها وتوضّحها ليكون الأديب على بينة من غايته وسبله قبل أن يسير، فلا يعتسف الطريق ولا يضل دون الغاية
4 - النقد في الأدب العربي
أما النقد اللفظي الذي يرجع إلى متن اللغة والنحو والصرف والعروض فالأمر فيه يسير لا يحوج إلى شواهد، وهو واقع في كل زمان يشترك فيه الشادون والمنتهون. ويُرى في كتب الأدب كثير منه؛ وقد كتب فيه الحريري كتابه (درة الغوّاص في أوهام الخواص)
وأما نقد الألفاظ من حيث سلاستها أو تنافرها وألفها أو غرابتها ونحو هذا ففي كتب الأدب والبلاغة مباحثه وشواهده
والنقد المعنوي عرفه العرب في كل عصور الأدب حتى العصر الجاهلي ولكنه كان أول(296/37)
الأمر نقداً مبهماً غير معلل كقولهم: فلان أشعر، وهذه القصيدة أحسن؛ أو نقداً لمعان جزئية أحسن فيها القائل أو أساء
ثم حاول العلماء منذ القرن الثاني أن يصفوا طرائق البيان، ويحدّوا حدوده ويبينوا معالمه فكتبوا في البيان وأكثروا ودعموا دعاويهم بكثير من المنظوم والمنثور
ونجد النقد عندهم مفرّقاً في الكتب الآتية وأمثالها:
1 - كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن الجاحظ المتوفى سنة 255
2 - كتاب نقد الشعر وكتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر المتوفى سنة 335
3 - الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392
4 - كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري للحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 370
5 - كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456
6 - كتاب أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471
7 - كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين ابن الأثير المتوفى سنة 637
تناول هؤلاء البيان من جهاته المختلفة ألفاظه ومعانيه وأساليبه وحاولوا جهد الطاقة أن يبينوا النهج للبلغاء ويصفوا القواعد التي يبنى عليها الكلام البليغ
ولكن نُقادنا لم يتناولوا المباحث العامة التي تبين وجهة الأديب ومقاصده، وموضوعاته وصلة الكلام بقائله وصلة القائل ببيئته
وقد عنى بهذا الأوربيون منذ عصر النهوض، وتوسع فيه الفرنسيون منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى نبغ منهم في القرن التاسع عشر ثلاثةُ يعدّون أئمة النقد الأدبي حتى اليوم. وهم:
1 - سنت بوف وأساس مذهبه معرفة الصلة بين الأدب ونفس الأديب، وجعل النقد تاريخاً للعقول والأنفس يتعرفها في آثارها ويكشف عن خباياها
2 - تين ومذهبه يعني كثيراً بمعرفة البيئة التي نشَّأت الأديب ليتوسل بها إلى معرفة الأديب نفسه
3 - برنتيير ومذهبه أن البلاغة قائمة على التدرج والتطور كالحيوان والنبات وعمل الناقد(296/38)
هو تتبع هذه الأطوار
عبد الوهاب عزام(296/39)
إنني تعبة!
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
إنني تَعِبة الليلة، وهناك شئ - لست أدري على وجه التحقيق ما هو. ولعله هزيم الريح أو دوي المطر في جنح الدجى، أو لعله تصايح الطير على الأيك من كل جانب في الخارج
هناك شيء، أجد لشجوه أمثالاً تستخرج وجدي، وتبعث أساي من بعد هجومه، وتعيد إلى الماضي السحيق وأحزانه وآلامه
فأشعر، وأنا أجلس هنا متأملة مفكرة، أن يد شهر مدبر، من شهور يونيه التي خلت ولم يبق من عهدها السعيد إلا التذكر، تمتد الآن إلى أوتار قلبي المرتخية، وتشدّها، وتصلح وحدة أوزانها، وتحكم انسجام اهتزازاتها
إنني تعبة الليلة، وإني لأفتقدك، وأحن إليك يا حبيّ، وأشتاقك شوقاً أكتمه جهدي. . . ومن خلال الدموع أحسب أنني أراك، وكأنك تمضي اليوم فقط مع الذاهبين إلى ربهم
مع أن الزمان قد مدّ خطاه الواسعة في مهامه مترامية، وتجاوز عهوداً عديدة وأعواماً مديدة مذ فارقتني، وكأني أستشعر الانفراد والوحشة من جديد. . . أنا التي كثيراً ما أحيا في عزلة وحدي، وهاهي ذي أوتار قلبي المشدودة تدعو الهديل
ولكن هيهات أن يجيبها منوط بأطراف الجناح رميم. . . هيهات أن يطربها باللحن القديم الحلو الرنان
إنني تعبة، وذلك الحزن العصيّ الذي كرّت عليه الأعوام، يثور دفعة واحدة على غير انتظار، وإن ثورته الهائلة لتحدث فيه ثلمة واسعة تتدافع منها الآلام، وتنحدر بقوة إلى قاع نفسي كما يتحدر بغتة تيار نهر هائج من ثغرة في حواجزه وينفجر كطوفان متدافع لا تقوى عليه السدود، فيجرف في طريقه كل شئ، ويكتسح في لجه الزبد، وثبجه المرغي بقايا سفينة محطمة لها شراع ناصع البياض، وإن تلك اليد لتهوى ثقيلة على أوتار قلبي المشدودة وتحركها بريشتها في عنف لتكتسح منه الأنغام
ولكن يخيل إلى أن أوتار عواطفي التي تلاشى رنينها مع الزمان عادت تطنطن وتدوّي بعد ذلك الأمد الطويل بفعل تلك اللمسات العنيفة التي تحاول أن تجدد وقع اللمسات الأولى الرقيقة، بيد أن النغمات التي تفر من تحت الأنامل المحركة الأوتار لا ترجّع غير صوت(296/40)
النواح والعويل، وصدى الحسرة والأنين
الزهرة(296/41)
حياة محمد
باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة
عبد الفتاح السرنجاوي
عمر الدسوقي
عبد العزيز عبد المجيد
لم أقصد بكتابة هذا الفصل أن أضم إلى البحوث الكثيرة التي عالجت موضوع السيرة بحثاً جديداً، وإنما قصدت دراسة حياة محمد في مظهر واحد من مظاهرها، هو الذي يتمثل لنا فيه رسولاً يدعو الناس إلى دين جديد. ومن الطبيعي أن نتوقع في حياة منشئ الإسلام والداعي له عرضاً للوضع الحقيقي لما اقترن من النشاط بالتبشير بالدين الجديد، ولو أننا اعتبرنا حياة النبي معياراً خلقياً لما يجب أن يكون عليه المؤمن العادي، لحق أن تكون حياته كذلك معياراً لما يجب أن تكون عليه الدعوة الإسلامية، وما دامت حياة النبي عنواناً للدعوة الإسلامية، فإنا نتطلع إلى معرفة شئ عن الروح التي استولت على من يأخذون مأخذه ويستنون بسنته، وعن الوسائل التي قد يعمدون إليها في سبيل تحقيق أغراضهم، ذلك لأن الروح التبشيرية في الإسلام ليست فكرة متأخرة في تاريخها، وإنما نذهب إلى أنها تقترن بالدين منذ نشوئه الأول. ونود في هذه العجالة أن نبين ما ذهبنا إليه، ونوضح كيف أن محمداً النبي (ص) مثال للمبشر الإسلامي، ونحن بغض النظر عن معالجة حياته الأولى أو العوامل ذات الأثر في حياته حتى بلغ رجولته، أو دراسة حياته باعتباره سياسياً أو قائداً حربياً، نعني العناية كلها بدراسة حياته كمبشر ونذير.
ومحمد ما لبث بعد اضطراب وكفاح نفساني طويلين أن اقتنع بصحة رسالته السماوية، وكانت أولى جهوده أن دأب في إقناع أهله بذلك الدين الجديد القائم على وحدانية الله، وإنكار عبادة الأوثان، ووجوب أن يخضع الإنسان لمشيئة الخالق، تلك هي الحقائق المجردة(296/42)
التي دعاهم إلى الإيمان بها. فكان أول من آمن به زوجه الوفية المخلصة خديجة التي تزوجت قبل هذا بخمسة عشر عاماً من قريب لها فقير كانت قد استخدمته في تجارتها، فصيَّرها أجدى عليها وأربح، تزوجته بهذه الكلمات:
(يا ابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك ووساطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك فانتشلته بهذا من الفقر ومكنته من العيشة في المستوى الاجتماعي الذي يليق بنسبه، ولكنَّ هذا كله يسير إلى جانب ما بدا من وفائها وإخلاصها إذ شاطرته اضطرابه الفكري وغمرته بعطفها وشملته برعايتها في ساعة الشدة. أتاه الوحي مرة وهو في الغار فآوى إلى خديجة، وقد شمله الفزع واستولى على قلبه الاضطراب، فآمنت خيفته وأذهبت عنه الروع وقالت تخاطبه:
(أبشر يا ابن عمّ واثْبُت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ووالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)
ولقد بقيت حتى وفاتها سنة 619 م أي بعد خمسة وعشرين عاماً في حياة الزوجية تفيض عليه دواماً من حنانها وعزائها وتشجيعها كلما أصابه من أعدائه الأذى أو ساورته في نفسه الشكوك، وفي هذا يقول ابن إسحاق:
(كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به عن الله تعالى، وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من قومه من رد وتكذيب إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوِّن عليه أمر الناس)
هذه خديجة يقدم لنا التاريخ في سيرتها أروع الصور في الحياة الزوجية وأنبلها.
ومن بين السبَّاق في الإيمان بدعوة محمد اثنان كان قد تبناهما هما زيد وعلي، ثم صديقه الحميم أبو بكر الذي قال فيه النبي فيما بعد:
(ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوةٌ ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر، ما عَكم عنه حين ذكرت له)
وكان أبو بكر تاجراً على سعة من المال، يحترمه قومه احتراماً شديداً لكرم خلقه وذكائه وكفايته، أنفق بعد إسلامه الجزء الأكبر من ثروته في شراء الأرقاء المسلمين الذين(296/43)
اضطهدهم مواليهم لاعتناقهم تعاليم محمد. وحين أسلم أبو بكر دعا إلى الله فأسلم بدعائه خمسة نعتبرهم في عداد السابقين في الإيمان، هم سعد بن أبي وقاص الذي فتح فيما بعد بلاد فارس، والزبير بن العوام الذي اشتهر بالكفاية الحربية، وعبد الرحمن بن عوف التاجر الثري، وعثمان ثالث الخلفاء الذي تعرض للأذى والاضطهاد منذ إسلامه، فقد أخذه عمه فأوثقه كتافاً وقال له:
(ترغب عن ملة آبائك إلى دين مستحدث! فوالله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه). فقال عثمان:
(والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه)
فلما رأى عمه صلابته في التعلق بدينه أطلق وثاقه وتركه. واستطاع النبي أن يجتذب إليه طائفة أخرى أكثر أفرادها من الموالي والفقراء، وبذلك نجح في أن يجمع حوله فئة قليلة من التابعين خلال السنوات الثلاث الأولى من الدعوة. وكان التوفيق الذي أصابه محمد في هذه الجهود السرية مشجعاً له على أن يوسع نطاق دعوته ويجهر بها، فدعا عشيرته فاجتمعوا فقال لهم:
(يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟)
وهنا صمتوا جميعاً ولم يتكلم غير عليّ في حماسة الصبي فقال:
(أنا يا رسول الله)
وما كاد علي يفرغ من كلامه حتى علا ضحك القوم ساخرين مستهزئين. ولم يكن ذلك الإخفاق ليصد محمداً عن تبليغ رسالته فدعا الناس في مناسبات أخرى، ولكن دعوته لم تلق منهم غير السخرية والتحقير
وحاولت قريش أكثر من مرة أن تغري عمه أبا طالب باعتباره عميد بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي كي يردعه عن سب آلهتهم وعيب دينهم ودين آبائهم، وهددوه وقالوا إما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فنصح أبو طالب لابن أخيه أن يبقى على نفسه وعليه وألا يحمله من الأمر مالا يطيق، فأجابه النبي:(296/44)
(يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)
فتأثر أبو طالب وقال له:
(اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً)
ولما ضرب الإخفاق على هذه المحاولات السلمية اشتدت موجدة قريش وتضاعف احتدامهم وأيقنوا أن انتصار ذلك الدين الجديد معناه القضاء على دين بلادهم وعلى ما يمتازون به بين العرب من السيادة القومية، ثم هم فوق ذلك يخسرون الثروة والجاه اللذين يستأثرون بهما عن طريق سدانة الكعبة الشريفة. أما محمد نفسه فقد كان برغم ما تعرض له دواماً من بذاءة القوم وسفاهتهم في ذمة أبي طالب وذمار بني هاشم الذين منعوه وحالوا دون أي اعتداء على حياته؛ يحفزهم على هذا ما جبل عليه العرب من قوة العصبية، مع أنهم لم ينعطفوا نحو الآراء التي دعا إليها. أما الفقراء والرقيق الذين لا ملاذ لهم ولا جوار فلم يجدوا مخرجاً من طائلة الاضطهاد الغليظ، فكانوا يحبسون ويعذبون كي يفارقوا عقيدتهم. وكان أبو بكر يشتريهم ليخلصهم من العذاب، فقد اشترى بلالاً ذلك العبد الأفريقي الذي كان محمد يطلق عليه (أول ثمار الحبشة) والذي لقي من ضروب الامتهان ما لم يلقه أحد، فكان يلقى في الرمضاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس ثم توضع على صدره صخرة ثقيلة ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وترجع إلى عبادة الأوثان، وبلال لا يجيب على ذلك إلا بقوله:
(أحدٌ أحدٌ). وهلك شخصان متأثرين بما أصابهما من الاضطهاد وما ألم بهما من نوازله القاسية. ولما أن رأى محمد ما نزل بالمسلمين من الأذى مع عدم قدرته على تخليصهم مما هم فيه نصح لهم بالهجرة إلى الحبشة، فخرج في السنة الخامسة من النبوة (615 م) إلى الحبشة أحد عشر رجلاً وأربع نساء، وهناك رحب بهم ملكها النصراني. وكان فيمن هاجروا مصعب بن عمير، وفي سيرته يتمثل أقصى ما أصاب المؤمنين من بلاء ومحنة، فقد أبغضه من أحبهم ومن كانوا من قبل لا تقصر قلوبهم عن الولوع به. أسلم بعد أن تفهم تعاليم الدين الجديد في بيت الأرقم، ولكنه أخفى إسلامه لما كان له من مقام كبير في قومه، ولما كان له من حب جم في قلب أمه، وأمه لا تقل عن قومها كراهية للدين الجديد. ثم ما(296/45)
لبثت هذه الحقيقة أن تبدت للناس وذاع إسلام مصعب، فأطبقوا عليه وسجنوه، ولكنه استطاع الهرب وخرج مهاجراً إلى الحبشة وسار حقد قريش في إثر المهاجرين إلى الحبشة فأرسلوا وراءهم بعثة من رجلين يطلبان إلى النجاشي أن يسلمهم إليهما ليردوهم إلى قومهم، ولكن النجاشي سأل المسلمين عن أمرهم، ولما أن علم منهم الخبر اليقين أبى أن يسلمهم وقد جاوروه ونزلوا بلاده واختاروا حمايته، قال المسلمون للنجاشي عندما دعاهم وسألهم عن أمرهم ما يأتي:
(أيها الملك، كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وألا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام، فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا؛ فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك) فقبل النجاشي رجاءهم ورد رسولي قريش خائبين
في ذلك الوقت بذلت جهود جديدة في مكة لإغراء محمد بالجاه والمال على أن يكف عن الدعوة إلى دينه، وضاعت كل هذه الجهود عبثاً. فلما عادا رسولا قريش إلى مكة يعرضان نتيجة سعيهما ضد المهاجرين إلى الحبشة، وكان قريش يترصدون خبرهما ويتحينون عودتهما، حدث حادث خطير، هو إسلام شخص كان من قبل أشد وأغلظ أعداء محمد، وكان يعارضه بحماسة وحّدة لا يحدهما الوصف، وكان المسلمون يعتبرونه بحق أقوى خصوم الإسلام وأشدهم، وأصبح بعد إسلامه من أعظم الشخصيات وأنبلها في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، ذلك هو عمر بن الخطاب
حدث يوماً وهو في نوبة غضب على النبي أن خرج ومعه سيفه يريد قتله، فلقيه رجل من أقاربه فقال له:
(أين تريد يا عمر؟)(296/46)
(أريد محمداً الذي فرَّق أمر قريش وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله!)
فقال له: والله لقد غّرتك نفسك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟
قال عمر: (وأي أهلي؟)
قال الرجل: (خَتَنُك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة زوجهُ، فقد والله أسلما!)
فرجع عمر إليهما وعندهما خباب يقرئهما القرآن، فلما سمعوا صوت عمر أخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال:
(ما هذه الهيمنة؟)
قال: (ما سمعت شيئاً)
قال: (بلى، وقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه)
وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجعها، فلما فعل ذلك قالت له أخته:
(قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما شئت)
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم في وجهها ندم وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد. وبعد تردد أعطته الصحيفة وفيها (طه) فلما قرأ بعضها قال:
(ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!)
وانشرح صدره للإسلام وما لبث أن قال:
(دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم)
(يتبع)(296/47)
الأدب المصري وكيف ننظر إليه
للأستاذ شكري فيصل
أثارت كلمة (زهير زهير) في (المكشوف) التي نقلتها الرسالة الغراء في العدد 294 موضوعاً جديداً للبحث عن الأدب المصري، وعن مظاهر هذا الأدب، وما كان من أثر المؤلفات والمطابع المصرية في الأقطار العربية الأخرى
وأشهد أن كلمة (المكشوف) كانت جريئة. . . وأن حملة (زهير زهير) كانت شديدة قاسية بخست الأدب المصري والثقافة المصرية حقهما وفضلهما على وضوح هذا الحق وعظم هذا الفضل
وما كان لي أن أعرض لبواعث هذه الحملة
ولا يسرنا أن نذهب إلى الظن بأن العصبية الدينية، أو النزعة الإقليمية، تملي مثل هذه الآراء أو أبعد منها، وإنما الذي يهمنا أن ننافس السيد زهير زهير فيما عرض له
يقول الكاتب: إن أكثر المؤلفات التي تخرجها المطبعة المصرية غير مصري، وهى تختلف بين أن تكون نوادر مخطوطات أو طبعات جديدة لكتاب قديم، وإن المؤلفات المصرية الحديثة مخبأة لا تظهر على وجهه، وهو يتساءل عن كتاب واحد ذي قيمة لمؤلف مصري صميم
لنتساءل: ألا يكون إخراج المخطوطات النادرة، والقيام على تصحيحها وطبعها ونشرها، أو تجديد طبع الكتب القديمة وإصلاحها وإخراجها للناس منقولة محببة، عملاً أدبياً ذا قيمة؟ وهل يقتصر العمل الأدبي على كتابة مقال، أو تأليف قصة، أو نظم قصيدة؟
نحن في طور من أطوار النهضة، ونحن في هذه النهضة محتاجون إلى هذه المكتبة القديمة، ننبش آثارها، ونحيى مواتها ونجلو صدأها، ونظهرها طريفة براقة، تجتذبنا إليها، لنفيد من علمها الغزير، وفوائدها الكثيرة، والعمل في هذه الناحية والتوفر على إخراج هذه الثروة الدفينة عمل أدبي قيم، وجهد علمي شاق
ونحن لا ننظر إلى الأدب المصري في المقالة والقصة والقصيدة، فهذه ناحية واحدة من نواح كثيرة متعددة؛ وإنما ننظر إليه على أنه مجموعة من الجهود تتناول إحياء الثقافة الغافية، ونشر المؤلفات القديمة، والإنتاج الأدبي الصرف(296/48)
وعلى هذا فقد قدمت المطبعة المصرية إلى العالم العربي أجل الخدمات، وستظل النهضة الحديثة في الأدب العربي مدينة للمطابع المصرية، لأنها كانت أكثر مطابع الشرق العربي إنتاجاً ولأنها في هذا الإنتاج بعثت النشاط والحركة في ذهن العالم النائم
ومن العبث ومن الإنكار أن ننسى فضل المطبعة الأميرية، ومطبعة الساسي والحلبي وكثير غيرها، فقد ولدت هذه المطابع بما أخرجت من كتب، وقدمت من ثمرات، تياراً فكرياً كان له أكبر الأثر في الحركة الأدبية الحاضرة
والعالم العربي كله على المطبعة المصرية، ينظر إليها كما ينظر المزارع إلى السماء، يأمل خيرها، ويرجو غيثها؛ والسيد زهير يعرف ذلك في بيروت، وأعرفه أنا في دمشق، ويعرفه غيري وغيره في العراق والمغرب والحجاز؛ وهو لا يجهل أيضاً أن الجيل الحاضر قد فتح عينيه على المنفلوطي والزيات وطه حسين وأحمد أمين والمازني والعقاد والحكيم وشوقي وحافظ ومطران ورامي، وأنه قرأ هؤلاء وكثيراً غيرهم وأفاد منهم فأصلح لسانه وقوّم بيانه، وثقف عقله، ثم التفت إلى المكتبة العربية الزاخرة فلم تطق عيناه هذه الأوراق الصفراء البالية، فكاد يعزف عنها لولا أن تداركته المطبعة المصرية بهذه الذخائر الممتعة التي أخرجتها للناس
الواقع أن امتداد الأدب المصري، والثقافة المصرية، في أجواء البلاد العربية قد كان. . . وأنه كان امتداداً واسعاً. . . وأن أثره كان طيباً عميماً. . . وأن البلاد العربية كلها مدينة له، عالة عليه، فقد استثار في أجوائها الحياة، وسكب فيها بعد رقدة طويلة روحاً جديدة نيرة
وليس من عرفان الجميل حين يشتد منها الساعد، في العراق ودمشق وبيروت، وتبدأ البذور التي رعتها المطبعة المصرية بالإنماء، أن نجحد الفضل الأول وننكره ونزدريه.
وبعد فهل صحيح أن المطبعة المصرية اقتصرت على المؤلفات القديمة، وأن المؤلفات المصرية الحديثة أنشأها كتاب مصريون بمادة أجنبية مستوردة من الخارج؟
نحن نحب أن يقوم النقاش الأدبي، وأن تنضج الحركة الفكرية، ولكنا لا نحب أبداً أن يكون هذا النقاش قائماً على عصبية مفرطة أو خيال خصب. . . وإلاّ فمن ذا الذي يقول إن المؤلفات المصرية الحديثة غير موجودة؟ أنا أحيل السيد زهيراً إلى فهارس المكتبات العامة، فسيجد فيها كل ما كان مخبأ لا يظهر على وجهه، وسيحفظ للقراء أوقاتهم مخافة أن(296/49)
يضيعوها في التعداد المضني.
وكأن السيد (زهيراً) قد أحس هذا الإسراف. . . وهذا الإفراط، فحاول أن يبرهن عليه، فما استطاع أكثر من أن يعدد الشعر الجاهلي وحياة محمد وضحى الإسلام
ولكن هل يكفي أن تكون نزعة الشك التي سُبق إليها طه حسين، أو نظرة دورمنكهيم إلى حياة النبي، أو آراء المستشرقين في الثقافة العربية. . . هل تكفي هذه وحدها لتجرد الأدب المصري كله من ميزاته كلها؟؟ ومن ذا يقول إن التأليف يجب أن يكون مبتكراً في كل نواحيه وكل خصائصه؟. . وهل يحرم على العقل الإنساني أن يستفيد من عقول إنسانية أخرى؟. .
إن حقائق العلم مشاعة، وإن ثمرات الفكر وقف مباح للناس كلهم، يفيدون منه ويبنون عليه، وإذا كان كل عالم من العلماء مضطراً إلى أن يبدأ أبحاثه من النقطة الأولى، أو أن يبتدئ تعداده - كما يقول الرياضيون - من الصفر، فإن الحضارة الإنسانية ستظل حيث هي لا تتزحزح.
وهذه سنة الكون يبني المتأخرون على غرار المتقدمين أو ينتقدون ما بنوا، ليشرعوا في منهج آخر. . . وهذا ما فعله طه حسين واحمد أمين وهيكل، وقد يكون أكبر أخطائهم أنهم لم يشيروا إلى بعض المصادر التي أخذوا عنها في الطبعات الأولى. . . أو أنهم أشاروا إليها في اختصار واقتضاب.
والترجمة أيضاً. . . ألا تكون ناحية من نواحي النهضة الأدبية. . . وهل يقتضي تكوين الأدب المصري ألا تكون هناك ترجمة أو مترجمون. . . وهل تدل ترجمة بعض المؤلفات الأدبية والفلسفية، على أن مادة الأدب المصري مستوردة من الخارج؟
إن عصور النهضة في أقطار الدنيا مقرونة ببعث وتجديد وترجمة. . . ولقد كان البعث والتجديد عن طريق إخراج المؤلفات القديمة، ثم كانت الترجمة أيضاً على أيدي كثيرين وتناولت الأدب والرواية والفلسفة، وأضافت إلى الأدب العربي لوناً جديداً من ألوان الثقافة، وأطلعت الأقطار العربية على علم الغرب وأدبه وفلسفته
هذه هي الناحية العلمية من النهضة الفكرية في مصر. . . أما الناحية الأدبية فهل نستطيع أن نتجهم لها أيضاً بمثل هذه الجرأة وهذا الإنكار؟. . . وهل كانت مؤلفات توفيق الحكيم(296/50)
منقولة عن لغة أجنبية؟. . . وهل مقالات الزيات وأمين والعريان مستوردة من الخارج؟. . . ثم هل كان خيوط العنكبوت وعلى هامش السيرة وعشرات غيرها، يخجل المنصف أن نعددها له، غير مصرية. . .؟
هنالك بعض نقاط ضعيفة في الأدب المصري. . . ولكن هذه النقاط الضعيفة لا تقتضي أن تذهب بنا هذا المذهب الجاحد في الإنكار الشديد، وأن تدفع بنا إلى مثل هذه الأدلة الهزيلة. فنقول إن مصر التي تسيطر بثقافتها على البلاد العربية قد عجز أدباؤها وعلماؤها عن وضع الموسوعة الإسلامية، أو إن أكبر أديب فيها ينادي بفرعونيتها، أو أنه لم يخلق فيها بعد ناثر أو شاعر يسجل في ملحمة شعرية أو نثرية الأحداث الخطيرة التي تعاقبت عليها
ومتى كان رأي قديم لأديب كبير باعثاً على إنكار ثقافة بلد كامل؟ وما هي العلاقة بين هذا وذاك؟ أفلا يحس الأستاذ زهير زهير نفسه في بيروت آراء أشد من هذه، وأقوى في النيل من الإسلام، وطعنه في ظهره. ألا يرى ذلك في كليات التبشير ونشرات الأدباء المبشرين؟. . . ثم هل يكون العجز عن تأليف موسوعة دليلاً على ما نتعمده من إنكار؟ إن الأقطار العربية، ومصر منها، لا يعيبها أنها لم تشرع بعد في الموسوعة الإسلامية فلقد كانت غارقة في معترك سياسي عنيف، وكانت قوى علمائها وعامتها منصرفة إلى السياسة ومتأثرة بها، والموسوعات إنما تتطلب الاستقرار والنعيم والثروة. . . ولئن توفر بعض هذا في مصر فلم يتوفر كله، وحين يبدأ قطر عربي آخر بالموسوعة الإسلامية نستطيع أن نقرنه بعد ذلك إلى مصر، لنهب أحدهما الزعامة الأدبية
وبعد فإن الأستاذ (زهير زهير) قد أغرق. . . وقد كان في كلمته حائراً بين امتداد الثقافة، وسيطرة الزعامة، وفرعونية مصر، وإنكار الأدب المصري. . . ولقد كان متجاوزاً حدود الجرأة حتى سمى هذه الثقافة (ثقافة لقيطة) وكما عز عليه كلبناني عربي، يعز علينا كعرب مسلمين أن يؤخذ الشاب العربي المسلم بعصبيات إقليمية، ونعرات دينية، (وأن يخدع بالدعايات المأجورة المجانية)
(نزيل القاهرة)
شكري فيصل(296/51)
استطلاع صحفي
في خدمة الفلاح
جولة في المعمل البيطري
(لمندوب الرسالة)
في مصر كثير من أمراض الحيوانات المعدية والوبائية التي تحرم الفلاح كثيراً من ثروته. فأن طبيعة مصر حيث تبدأ حدودها شمالاً في المنطقة المعتدلة وتنتهي جنوباً في المنطقة الحارة، يساعد على نمو الحشرات والميكروبات، بأنواعها وخصوصاً أن نظام الري الحديث يزيد الجو رطوبة.
ويقاوم المعمل أمراض الحيوانات تبعاً للمثل العربي السائر (وداوها بالتي كانت هي الداء) فهو يقضي على المرض باستعمال ميكروبه في الأمصال أو اللقاحات التي ثبت عملياً صلاحيتها أكثر من الأمصال واللقاحات الواردة من الخارج.
مصنع الميكروبات
(التهبت أحشاء هذا الأرنب فمات نتيجة حقنه بدم حصان أردنا أن نتحقق من أنه مات بمرض التسمم الدموي). . . هكذا قال الدكتور زكي محمد وكيل المعمل الباثولوجي للأبحاث الفنية وهو يكشف أمعاء الأرنب ليبين ما أصابها من التهابات. ثم تناول ماصة وغرسها في قلب الأرنب وامتص فيها قليلاً من الدم وزرعه في أنبوبتي اختبار كانتا مغلقتين بسداد من القطن المعقم وتحتوي إحداهما على حساء لحم وتحتوي الأخرى على مادة جيلاتينية تصنع من نبات ياباني اسمه آجاراجار، وبعد أن أعاد السدادتين أحرق سطحهما الخارجي بالنار ليقتل ما قد يكون علق بهما من ميكروبات خارجية
ثم تناول شريحتين من الزجاج نشر عليهما نموذجاً من دم الأرنب، ثم ثبتهما بالكحول استعداداً لصبغهما وفحص النماذج تحت المجهر. وبهذه العملية احتفظ الدكتور بميكروبات المرض حية وميتة. فإن الغرض من وضع نماذج الدم في أنبوبتي الاختبار اللتين تحتويان على أنسب الأوساط الغذائية التي ينمو فيها الميكروب أن ينمو ويتكاثر. وبذلك يسهل الحصول على لقاح واق ضد هذا المرض. والغرض من نشر الدم على شريحتي الزجاج(296/53)
وصبغهما معرفة شكل الميكروب وما طرأ على الدم من تغير
مهمة المعمل
ويقوم المعمل الباثولوجي البيطري بتحضير عدد كبير من المستحضرات البيولوجية المختلفة من أمصال ولقاحات ومواد للتشخيص يمكن باستعمالها علاج بعض أمراض الحيوانات ومكافحتها وتشخيصها. وعلاوة على ذلك فإن المعمل يفحص النماذج المأخوذة من حيوانات مريضة أو نافعة لمعرفة نوع المرض المصابة به ودراسة الميكروبات المختلفة التي ينشأ بسببها كثير من الأمراض الوبائية وبذلك أمكنه أن يحفظ الثروة الحيوانية في القطر المصري من أخطار الأوبئة
والميكروبات هي شغل المعمل الأكبر، وهي مخلوقات دقيقة تكبر ألفاً أو ألفي مرة ليمكن رؤيتها وبعضها لم تره العين ولكن أحست بفعلها الأجسام. وهي تهاجم الحيوان والنبات بأعداد يعجز عن إدراكها الخيال. وأخطر الأمراض المنتشرة في مصر الحمى الفحمية والسل والسفاوة والتتنوس والتسمم الدموي وخناق الخيول والكوليرا. ولذلك فإن مخازن المعمل تحتوي على مقادير كبيرة من مواد المصل والكفاح لإرسالها إلى الجهات التي تطلبها. وقد تمكن المعمل بمساعدة معمل السيرم من إيقاف الطاعون البقري الذي فتك بكثير من الماشية فسبب كثيراً من الخسائر للفلاحين
المصل واللقاح
وقد تمكن المعمل من تحضير أغلب أنواع الأمصال واللقاحات ويتجه التفكير الآن إلى تحضير مصل ولقاح الحمى الفحمية الذي يستورد من الخارج لخطورته، ولأن تجهيزه يحتاج إلى مكان منعزل واحتياطات شديدة. وبتحضير هذه الأمصال واللقاحات فإن المعمل البيطري يوفر على الحكومة كثيراً من المال
ويتعرض المشتغلون بتجهيز هذه المستحضرات للعدوى بتلك الميكروبات، فإن بعض أمراض الحيوانات كالسفاوة والسل والحمى الفحمية يصيب الإنسان أيضاً. وبعضها شديد الخطر فلا ينجو من يصاب به إلا بمعجزة.
ويخطئ كثير من الناس إذ يظنون أن المصل واللقاح شئ واحد. فإن الأول يتكون من(296/54)
أجسام مضادة للميكروبات والغرض من إعطائه للحيوانات إيقاف المرض وعلاجه. وهو يعطي للحيوانات السليمة والمريضة إلا أن جرعته تتضاعف في حالة الحيوانات المريضة. أما اللقاح فيتكون من ميكروب المرض أو سمه مقتولاً أو ضعيفاً والغرض منه وقاية الحيوان مدة طويلة إذ يكون في الجسم مناعة ضد المرض لمدد مختلفة
تحضير المصل واللقاح
ويحضر اللقاح بعزل الميكروب ثم زرعه على أوساط غذائية يضاف إليها بعض الفيتامينات لتكون أكثر مناسبة لحياته وتكاثره. واللقاح عبارة عن الميكروب نفسه أو ما يفرزه من السموم بعد قتلها أو إضعافها بالحرارة أو بالمواد الكيميائية تبعاً لطريقة التحضير
أما الأمصال فتجهز من حقن الخيول أو الأبقار بكميات من الميكروبات أو من سمومها، وتزاد الجرعات بالتدريج حتى يبلغ الحيوان أقصى درجة من المناعة فيفصد جزء من دمه ويفصل منه المصل.
احتياطات شديدة
ولا تتم هذه العمليات بسهولة، ففي كل خطوة يعملها الأخصائي في إعداد هذه المستحضرات، يقوم بعدة عمليات يطهر بها أدواته وأوانيه بحيث يتأكد أن الميكروبات الغريبة لم تصل إلى مستحضره لا بالنقل بالأيدي ولا بالهواء. ولذلك فإن الأواني الزجاجية الفارغة التي يزرع فيها الميكروب تحفظ في أفران تكفي درجة حرارتها لقتل جميع الميكروبات. فإذا أراد الأخصائي في علم الميكروبات أن ينقل الميكروب من أنبوبة إلى أخرى أحرق أداة النقل بالنار قبل أن يضعها في الأنبوبة ثم ينقل الميكروب
عملية دقيقة
وليكون البحث العلمي كاملاً فإن الأعضاء المصابة من الحيوان تؤخذ ويعمل منها قطاعات تثبت على شرائح زجاجية لفحص حالة أنسجة العضو وخلاياه بالمجهر (الميكرسكوب) فبعد أن يفصل العضو من جسم الحيوان تقطع منه أجزاء صغيرة تمرر في محلول فورمالين ثم في كحول لتتخلص مما قد يعلق بها من ماء. ثم توضع في (زيلول) ليطرد ما فيها من كحول وليسهل اتحادها بالشمع إذ توضع في أفران درجة حرارتها 56ْ فيتخلل(296/55)
الشمع الناعم الخلايا وتصبح فراغات العضو ممتلئة بالشمع وعندئذ تصب الكتلة الناتجة في قوالب من الشمع الجاف وتقطع إلى قطاعات صغيرة سمكها أربعة من ألف من الملليمتر
وتؤدي عملية التقطيع بهذا السمك آلة خاصة دقيقة الصنع تحتاج إدارتها إلى مهارة ودراية فإذا تم تحضير القطاعات ثبتت على شرائح زجاجية بالحرارة ثم تصبغ بالصبغات المختلفة ليظهر ما فيها من أنسجة وخلايا وميكروبات وما طرأ عليها من تغييرات يكشفها المجهر
ويحتفظ المعمل في فنائه الخارجي بعدد كبير من الحيوانات كالأرانب والحمام والدجاج والكلاب فيجري عليها تجاربه كحقن الميكروبات فيها أو اختبار فعل المرض في أعضائها أو للتأكد من معرفة الأمراض التي نفق بها أحد الحيوانات الأخرى.
(الشتوي)(296/56)
رسالة الشعر
إلى الهاجرة. . . كوكب!
للأستاذ أنور العطار
- 1 -
مناجيك مكتئب متعب ... وأنت تَأَلق يا (كوكب)
أفي الحق ألاّ يقرّ البريء ... وأن ينعم الآثم المذنب
وأن يتشهى فؤادي رضاك وأن ... ت أخو نفرة مُغضَب
فيا هاجري قد أطلت الصدو ... د وصدك يا هاجري يصعب
لقد ضقت ذرعاً بهذا الهوى ... وضاق بي الفلك الأرحب
فلا جدولي يتندَّى مُنىً ... ولا بلبلي لحنه يطرب
حياتيَ معشبة بالأسى ... وخدي بمدمعه معشب
رضاك هواي الذي أشتهي ... ووصلك سؤليَ والمطلب
- 2 -
سلام عليك أيا كوكبي ... سلام على النافر المغضبِ
أعيش بنورك جم السناء ... ولولاك غلغلت في الغيهب
أغنيك أعذب ما في الهوى ... من النغم المسكر المطرب
وأصبو إلى طرفك المشتهى ... وأهفو إلى ثغرك الأشنب
وأحيا لقلبك أنشودة ... تَرَقرق بالحلُمِ الأعذب
حلال لك الشعر يا هاجري ... وملك لك الروح يا كوكبي
- 3 -
أنر لي دجي العمر يا كوكب ... فقد مضَّني المجهل الغيهب
وخذ بي إلي عالم ضاحك ... يموج به الأمل الأطيب
فلا تتركنِّيَ نهب الأسى ... يعاودني داؤه الأصعب
فأنت شعاعيَ في ذي الحياة ... وأنت رجائي والمطلب(296/57)
ترفق بصب براه السهاد ... يناديك في الليل يا كوكب
أنور العطار(296/58)
حُوريَّتي تَسْأَلْ. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(مهداة إلى شفتيها الطاهرتين)
. . . وَذهَبْتُ أَسْتَبِقُ الشُّعاعَ لِرَبْوَةٍ ... أبْكَي شتاءُ اْلعُمْرِ يافِعَ زَهْرِها
الطَّلُّ في أكماِمها دَمْعُ الْهَوَى ... شَرَحَتْ به للطَّيْر كامِن سِرِّها
مِنْ كُلَّ عُصْفورٍ، وَسَقْسَقَةُ المُنَى ... مِنْ ثَغْرِهِ دُنْيا ذُهِلْتُ لِسِحْرِها
أَتُرَاهُ غَنَّى؟ أَمْ بكَى؟ أَمْ هَزَّهُ ... نَغَمُ اْلأِلَيِفة فاسْتَطَارَ لِنَبْرِها؟
ومَضَى لَها. . . وَمَضْيتُ أخْنُقُ آهَتِي ... صَبْراً عَلَى حُلْوِ اْلَحَياةِ وَمُرَّها
وعَلَى الَّتِي ثَكِلَتْ حَياتي بَعْدَها ... وأذَابَني في الدَّمْع فاجِعُ هَجْرِها
ظَلَّتْ تُهامِسُنِي ونَشْوَةُ لَفْظِهَا ... كَأْسٌ جُنِنْتُ مَعَ السُّكونِ بِخَمْرِها
وَلَها جَبِينٌ كادَ يَرْتَدُّ الدُّجَى ... حِينَ اسْتَهَلَّ، وَشِيعَةً مِنْ فَجْرِها
بَرَأَتْهُ كَفُّ اللهِ، وارْتَجَزَتْ لهُ ... لَحْنَ اْلعَفافِ تماِئمٌ مِنْ ثَغْرِها
سَجَدَتْ عَلَيْهِ وكَبَّرَتْ منْ فِتْنَةٍ ... حَوْلَ الضِّياءِ ذَوائِبٌ مِنْ شَعْرِها
وَغَدتْ تَفُوحُ به، وَتَنْسِمُ قُدْسَهُ ... في خافِقَيَّ مَجاِمرٌ من طُهْرِها
أَفضَيْتُ بِالشَّكْوَى لَها فَتَخايَلَتْ ... وَاخْتَالَ عابِدُهَا الشَّقيُّ بِكِبْرِها
وَعَدَتْ. . . فَأَحلَفَ دَهْرُهَا! وَيْلِي عَلى ... رِقِّ اْلحَبِيبِ لَها وَقَسْوَة دَهْرِها
أَفْنَيْتُ عُمْرِيَ في مَسَابح خطْوها ... شَغَفاً. . . وعِشْتُ مَعَ اْلوُجودِ بِعُمْرِها
أَفَما تُحِسُّ بعَاشِقٍ أَنىّ مَشَتْ ... في اْلأَرْضِ يَخْفُقُ حُبُّه مِنْ ذَرِّهَا!
عالٍ عَلى اْلأكْوَانِ ذَلَّ لِحُسْنهِا ... وأَذَلَّ كِبْرَ اْلمُلْهَمينَ لأِمْرِها. . .
بِاْلأَمسِ رَقْرَقْتُ النشِيدَ وَسُقْتُهُ ... مِنْ نَاِر أَشْجَاني بِها وَتَفَجُّعي
لَهَبٌ منْ اْلأَنْغاِم رَقَّ مهَابَةً ... وَجَثَا نَبِياًّ في عِبادَتِهَا مَعي
كُنَّا غِناءً لْلِجَمال، مَضَى الَهَوى ... في ظِلِّهِ الشَّاجي يقُولُ لها: اسْمعَي
فَتَرَنَّحَتْ طَرَباً، وقاَلتْ: هاتِ لي ... نَغَمَ الصَّبَاحِ اْلعَذْب يَمْسَحُ أَدْمُعي
سَرَتْ الكآبَةُ مِنْ غِنَائِكَ في اْلمسَا ... فاسْبِقْ خَيَالَ الشَّمْسِ وَارْقُبْ مَطْلَعي
وَأَعِدَّ لِي أُنْشُوَدةً قَمَرَّيةً ... مِنْ نُوِر أَحْلاَمي الّتِي لمْ تَسْطَعِ. . .(296/59)
فَقَبَسْتُ مِنْ أَلَق النُّجوم قَصِيدةً ... وبَكَرْتُ أَنْتَظِرُ السَّنَا في مَوْضِعي
وَسَبَقْتُ، وارْتَقَبْتُ عيُوُني عَلّما ... هَالاَتُ مَوْكِبِهَا تُذِيبُ تَفَجُّعي. . .
فإذا بِوَعْدِ اْلأمْسِ كانَ عُلاَلَةً ... وَغَدا جَحِيماً لْلحَنِينَ بِأَضْلُعي
فَرَجَعْتُ واْلآلاَمُ تَصْرَخُ في دَمِي ... وَيَنُوحُ مِنْ وَلَهي بِهَا دَهْرِي مَعي!
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(296/60)
رسالة المرأة
التجميل والمرأة عن طريق الرياضة
توجيه
للآنسة زينب الحكيم
قال فيلسوف حكيم مرة لابنته: (ابقي صغيرة وأنت تحتفظين بجمالك)
ولعله كان يحسن به أن يضيف إلى هذه النصيحة: أن احرصي على صحتك وأنت تبقين شابة:
فإن الشباب والصحة والجمال، هي الأشياء الثلاثة التي يقدرها الجنس اللطيف، ويقدرها فيهن الجنس النشيط
ولربما كان أهم هذه الأشياء الثلاثة هو الجمال، ولكن من الصعب أن يفكر الإنسان في الجمال دون شذي الورد، أو أن يفكر في الورد بدون نضرته. احتفظي بصحتك تحتفظي بشبابك، واستمعي لهذه النصيحة المخلصة، ونفذيها بصبر ومثابرة. ثم ثقي أنه لن يعرف حقيقة عمرك أحد
وفي الغالب أن أكبر ما يعيب المرأة أياً كان عمرها هو جسمها حيث ينمو بثقل، ويصير كجسم المرأة التي قاربت سن اليأس، فتنام إلى ساعة متأخرة من الصباح، وتشعر ببعض التعب أثناء النهار، وتأكل كميات أكثر مما اعتادت أكله، وتأوي إلى فراشها مبكرة، وتصبح أقل مبالاة بمنظرها ومظهرها
ماذا يحدث لقاء هذا كله؟!
يسمن الجسم وتزدوج الذقن، ويتمدد البطن، ويغلظ الخصر وتتجمد المفاصل وتبدو المرأة كأنما مرت من طور الشباب المبكر إلى متوسط العمر
والواقع أن لا عذر لها في ذلك، والسبب في كل هذا راجع إلى عدم عنايتها بنفسها، وإلى إهمالها ما منحتها الطبيعة من محاسن كان في مقدورها أن تزيد في جمالها
فبشرة الإنسان وعضلاته، في حاجة إلى دم متجدد حار يجري فيها عن طريق الرياضة البدنية الصحية التي يجب أن تمارس في الصباح والمساء لمدة ربع ساعة على الأقل(296/61)
إن المرأة التي بدأ يظهر عليها الكبر، والمرأة الشابة التي تريد أن تحتفظ بشبابها ونضرتها. يجب أن تعرفا أن الشباب والجمال يتوقفان على ثمانية أشياء رئيسية
(1) قوام الجسم (2) لون بشرة الوجه (3) الفم (4) العيون (5) الوجنتان (6) العنق (7) اليدان (8) الشعر
هذا ويمكن إضافة أشياء أخرى للتجمل، ولكن هذه الأشياء الثمانية لغالبية النساء
أما المرأة التي تمتاز برشاقة قدّ وتريد أن تبقى كذلك، فعليها بإتباع التمارين الرياضية التي تساعد على ذلك وهي كثيرة ومتنوعة. ولقد أصبح ذلك ميسوراً جداً في الوقت الحاضر بفضل الاختراعات الحديثة والراديو، وخروج المرأة إلى ميادين الرياضة العامة، وهذه وإن كانت لا تزال قليلة في مصر، إلا أنه في مقدور السيدات اللائى لهن بيوت منظمة، والتي لها حدائق، أن يلعبن وفق ما تذيعه محطة الإذاعة كل صباح، وأن يخصصن جانباً من أوقاتهن للعب في حدائق دورهن. كما في استطاعتهن استعمال الألعاب البيتية التي تدعو إلى الحركة كالبنج بنج، وتنس اليد، والمسابقات وغيرها. ولست ممن يحبذن الألعاب البيتية التي تدعو إلى الجلوس مدداً طويلة مثل لعب الورق، فإن ذلك يضيع كثيراً من نشاط العقل، ويوهن الجسم ويرهل لحمه
ولا تنس السباحة فإنها من أهم الرياضات التي تجمل الجسم عموماً، والمشي في الهواء الطلق، والاستمتاع بحرارة الشمس، والسفر في قطر المفاجآت كلما أمكن.
وعلى المرأة أن تعني بأخذ حمامات الماء الدافئ مرة واحدة يومياً قبل التمارين الرياضية، مع استعمال أملاح أو سوائل الحمام المنشطة.
كثيراً ما يشكو إلينا بعض السيدات من أن أوقاتهن لا تسمح لهن بالانتفاع بتمارين الرياضة الصباحية التي يذيعها الراديو وكذلك يفتقدن النوادي الرياضية، ونحن من أجل هؤلاء، نذكر هنا بعض تمارين رياضية بسيطة، وبعض مركبات يمكنهن الانتفاع بها في الأوقات التي تناسبهن حتى لا يحرمن الرياضة يومياً.
1 - الدرس الأول والمهم هو المشي صحيحاً.
ضعي الجسم في الوضع الصحيح. امشي ببطء مع ارتفاع الرأس. وافردي الكتفين إلى الخلف. املئي الرئتين بالهواء، وتنفسي بانتظام مع ارتفاع الذقن واعتدال الظهر وضغط(296/62)
المعدة. وتكون الذراعان إلى الجانبين. في هذا الوضع احني الجسم إلى الأمام حتى الوسط. ثم امشي خطوات واسعة ثم أديري قدميك إلى الخارج. يؤدي هذا التمرين مدة عشر دقائق يومياً.
2 - اصعدي على مقعد قريب من الأرض (ستول) وفي يدك عصا.
يشتمل هذا التمرين على الوقوف بتوازن على قدم واحدة بالتبادل، ثم تحرك العصا إلى أعلى وأسفل حول الرأس.
3 - تمارين الانحناء.
يجب أن تؤدى بحرص، فالمرأة الضعيفة يجب ألا تنحني أثناء التمرين أكثر من مرتين أو ثلاث مرات، ويشتمل التمرين على المشي أيضاً والجري حول جدران الغرفة أو في الحديقة، ويمكن المشي والجري على اليدين والرجلين تشبهاً بذوات الأربع. ثم الوقوف والانحناء إلى الخلف حتى تلمس اليدان الأرض إذا أمكن. والانحناء إلى الأمام حتى تستقر راحتا اليدين منبسطة على البساط ثم ينقلب الجسم من ناحية إلى أخرى.
هذه التمارين تكفي للمرأة العادية، وإذا تمرنت عليها باستمرار مرتين مع الحمام كل يوم، يمتنع تراكم اللحم الزائد على جسمها. ويبقى الجلد نضرا والعضلات مرنة قوية حافظة لجمالها الطبيعي ووظائفها.
أما المرأة البدينة والسيدة المتوسطة في العمر، فننصحهما بعمل تمارين - المصنوعة من الخشب، وهذه التمارين مع الحمام ترجع الجسم إلى حجمه الطبيعي، وتعيد العضلات إلى مراكزها الأصلية. والحمام الذي تأخذه السيدة البدينة، يجب أن يكون بارداً إلى الحد الذي تحتمله، فإذا كان قلبها ضعيفاً (وغالباً يكون) ففي هذه الحالة يجب ألا تأخذ حمامات باردة جداً، وإنما تكتفي بحمام بارد فقط معطر بأملاح أو خل الحمام
وربما كانت أحسن طريقة لإعداد حمام السيدة البدينة، هو أن يوضع الماء في الحوض في الليلة السابقة للصباح الذي يؤخذ فيه الحمام، وبذلك تكون حرارة الماء كحرارة الحجرة، ويضاف إلى الماء أملاح الاستحمام كالمعتاد
كانت عطور الحمام في الزمن الغابر تصنع في المنازل، وكانت رخيصة، تصنع من أنواع من الأزهار والأعشاب مع الكحول والخل. والغرض منها تنظيف الجسم وإنعاش الجلد(296/63)
والاحتفاظ بنضارته.
أما الآن وقد تقدم علم الطبيعة، وعمت الآلات، وكثرت الاختراعات، فأصبح من ضياع الوقت والمجهود ألا نشتري الأشياء من الصيدليات
وعلى هذا لن أصف هنا غير سائل واحد رأيته يستعمل في إنجلترا، ومفعوله جيد، وصنعه بسيط
يؤتى بمقدار جيد من ثمر الشليك، ويوضع في جزء من خل النبيذ، ويترك لمدة ثلاثة أيام، يصفى بعدها ويوضع في زجاجة للاستعمال وقت الحمام
وإذا وضع ملء فنجان منه على قليل من الماء وغسل به الوجه، فإن ذلك يساعد على تحسين لون بشرته
إن تأثير الروائح العطرية على الأعصاب مدهش، ولقد حرق القدماء البهارات إذا ما مرض منهم أحد، لا على سبيل التطهير فحسب كما نفعل اليوم بالليزول وغيره، وإنما اعتبر شم الروائح نفسها الدواء الشافي. والإنجيل يخبرنا أن القدماء عالجوا المرضى بالروائح العطرية؛ كما اشتهرت البيمارستانات في بلاد الشرق برش العطور فيها باستمرار
وأطباء اليوم النفسيون وعيرهم يخبروننا: أن النساء الحساسات جداً ينتعشن إذا ما شممن طاقة من البنفسج لأن رائحته للأعصاب، ورائحة الورد للروح، والعطور الأندلسية للرأس. والمرأة العصبية لها أن تمزج قليلاً من النوشادر بعطر البنفسج، وتشمها لتريح أعصابها. أما المرأة القلقة، فيسري عنها شمُّ الروائح اللطيفة الشذى. ويجب أن توجد زجاجة منها على الدوام في المنزل للاستعمال كضرورة واجبة لا كشيء كمالي، وأظن الرياضة في البساتين تؤدي ذلك على خير وجه
هذا وأن للروائح فلسفات، وللرياضة أشكال وأنواع ليس هذا مجالها.
زينب الحكيم(296/64)
رسالة العلم
رسالة من العوالم البعيدة
تنبئنا أن الكون ينتشر
أحدث ما نعرف في علم الفلك
للدكتور محمد محمود غالي
فكرة النسبية لأينشتاين توحي بتمدد الكون - نبوءات العالم
(دي سيتر) بوجوب ظهور الأجرام البعيدة كأنها تبتعد عنا -
هذا الابتعاد حقيقي بخلاف ما يعتقد (دي سيتر) - الطيف خير
رسالة من النجوم لإثبات ذلك - رسالة العوالم تنبئنا بابتعادها
كلها عنا، وأننا أبناء كون يمتد.
ترى ما هي هذه الرسالة من العوالم البعيدة؟ وترى كيف يكبر الكون ولماذا؟ وكيف توصل العلماء إلى اكتشاف ذلك؟ وهل يعد الاكتشاف من الأمور النظرية، أو أن خطوات العلم التجريبي تدل على ذلك؟. . . هذا ما نحاول أن نتناوله في هذه الأسطر، فنبحث موضوعاً جديداً، لا تبعد نتائجه التجريبية الأولى عن عشر سنوات، وإن رجع البحث النظري فيه لأكثر من عشرين عاماً.
وتعد نشرات السير أرثر أدنجتون أستاذ الفلك في جامعة كمبردج، وكتابه (العالم ينتشر) الذي ترجمه للفرنسية مسيو روسينيون من أهم المراجع في هذا الموضوع. كذلك محاضرته التي ألقاها في المؤتمر الدولي للفلك المنعقد في كمبردج سنة 1932 والتي أتبعها بسلسلة محاضرات في الراديو بأمريكا.
لم يعن الجمهور في الممالك المختلفة بنظريات إينشتاين في النسبية، التي تنبأ فيها بتقوس الأشعة الضوئية التي تصل لنا من الأجرام السماوية، إلا بعد التجارب الشهيرة التي قامت بها الهيئات العلمية المختلفة أثناء كسوف الشمس في سنة 1919، هذه التجارب التي أثبتت(296/65)
نبوءة أينشتاين، وجعلت من نظريته مثاراً لحديث الناس عامة. على أنه إذا كان هذا حظ الجمهور من الاهتمام فقد عنى كثير من العلماء بنظرياته قبل ذلك التاريخ، ففي نوفمبر سنة 1917 أي بعد مرور عامين من نشرات أينشتاين عن (النسبية في وضعها العام)، نشر العالم (دى سيتر) بحثاً عن أثر نظرية أينشتاين في الناحية الفلكية. ونرى في هذا البحث لأول مرة أن الأجرام السماوية البعيدة يجب أن تعطينا على الأقل فكرة الابتعاد عنا، ولم يؤكد (دى سيتر) هذا الرأي بطريقة جازمة، وكان عمله من قبيل توقع ظاهرة يغلب على الظن ملاحظتها.
وظلت فكرة (دي سيتر) الجديدة في مفترق الطرق تفتقر للإثبات التجريبي بحيث إذا أيدت أرصاد الفلكيين هذا الابتعاد ثبتت صحة الطريق النظري الذي اختطه (دي سيتر)
ومن المدهش أن يتوصل الفلكيون بعد ذلك، لا إلى إثبات تحقق نبوءات (دي سيتر) فحسب، بل إلى أن هذا الابتعاد حقيقة واقعة، وأنه يتغير مع المسافة وفق قانون خاص. وبعبارة أخرى توصل العلماء لاكتشاف يُعد أكثر أهمية مما كان يتوقعه (دي سيتر). لندع الآن جانبا النظريات لنتكلم عن الطرق التجريبية التي أثبتت تمدد الكون واتساعه
ذكرنا أن السُّدم اللولبية هي أبعد ما نعرف من عوالم في الكون. وتقع السدم التي أمكن رؤيتها على مسافات تختلف من 1 إلى 150 مليون سنة ضوئية. ويجمل بنا أن نذكر أن السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، بمعنى أنه لو تصورنا قاطرة تستطيع أن تدور حول الكرة الأرضية سبع مرات في الثانية الواحدة، فإنها تستغرق 150 مليون سنة لتسير من أحد تلك السدم حتى الأرض
هذه السدم المتباعدة منتشرة في الحيز الواحد بعد الآخر.
كل منها يكون عالماً كعالم المجرة الذي يحوي ملايين الكواكب التي تعد شمسنا واحداً منها، ولا حاجة بنا إلى أن نذكر مرة أخرى أنه إذا كان المجرة عالماً واحداً مكوناً من حوالي مائة ألف مليون نجم فإن مجموع العوالم الأخرى التي تشبهه تبلغ مثل هذا العدد
هذه العوالم المتباعدة الواحد منها عن الآخر لا نستطيع، عند التفكير فيها، أن نفصل فكرة الفراغ واتساعه عن فكرة الزمن والتطور، ولكن ندع فكرة تكوينها لنشرح الطريقة التي علمنا بها سرعة ابتعادها(296/66)
ونبدأ بكلمة موجزة عن التحليل الطَّيْفي لعلاقته بهذا الموضوع. كلنا يعرف أن الضوء إذا وقع على منشور، كحافة مرآة مشطوفة، يتحلل إلى ألوانه العديدة التي نميز منها بالعين السبعة الألوان المعروفة، من البنفسجي إلى الأحمر؛ كذلك نعرف أن لكل مادة طيف إشعاع يميزها عن غيرها، فالهيدروجين والصوديوم مثلاً لهما خطوط معينة يتميزان بها في الطيف، كما أن لكل مادة خطوطاً أخرى، وعلى هذا يدلنا التحليل الطيفي للأشعة الآتية من الشمس أو النجوم عن العناصر الموجودة بها، وهكذا أثبت العلماء أن كل العناصر الموجودة في الأرض موجودة أيضاً في الشمس.
ويجد القارئ في الشكل (1) ست صور لأطياف مواد مختلفة. بعد أن نسلط عليها قوساً كهربائياً. والطيف الأول من أعلى الشكل خاص بالزئبق عند أول تكوين القوس، والثاني خاص به ولكن بعد أن توازنت حالة الإشعاع في الزئبق، أي بعد مرور فترة على تكوين القوس، والطيفان الثالث والرابع خاصان بنفس الظاهرة للصوديوم، والطيفان الأخيران، الأول للهيدروجين عند احتراقه بمرور شرارة فيه، والثاني للبوتاسيوم عند تسليط القوس عليه.
ومما يجدر ذكره أن المصابيح المستعملة في إنارة بعض ميادين العصمة والإسكندرية، كالمحطة وجوار معبر قصر النيل، تضاء بهذه الطريقة أي باستعمال الزئبق الذي يعطي هذا اللون الجميل المائل للزرقة أو استعمال الصوديوم الذي يعطي لوناً مائلاً إلى الاصفرار، على أن هذا النوع من الضوء يقع في الجزء الحساس من العين؛ لذلك ولأسباب أخرى، تُعد هذه المصابيح أكثر اقتصاداً من المصابيح المعروفة
وهكذا لكل مادة طيف خاص بها يميزها عن غيرها من المواد؛ على أنه يشترط لكي تبقى هذه الخطوط الطيفية في مواضع معينة وثابتة، أن يكون الجسم مصدر الطيف ثابتاً بالنسبة لنا، وكما أننا نستطيع أن نعرف درجة ابتعاد قاطرة عنا من سماع وتسجيل صفيرها، كذلك يمكن بدراسة خاصة بالتحليل الطَّيْفي أن نعرف إذا كان النجم يبتعد أو يقترب منا، كما نعرف سرعة ابتعاده، ذلك أن الخطوط الطَّيْفَّية تقترب من جهة الطيف الأحمر إذا كان النجم يبتعد عنا، أو من الجهة الأخرى إذا كان النجم يقترب منا، وعلى قدر اقترابها من أحد الطرفين نعرف سرعة ابتعاد النجم أو اقترابه والشكل (2) مثال من هذا الطيف الذي(296/67)
يسمح بالحصول على تقدير هذه السرعات الكبيرة، والأشكال التي تبدو في الصورة كالطوربيد، هي طيف لسدم مختلفة، مأخوذ فوق الطيف الأرضي العادي، وترى أنه كلما نزلنا في اللوحة مالت خطوط معينة في الطوربيد إلى الجهة اليمنى، وتختلف سرعة هذه السدم الواحد عن الآخر فالطيف الأعلى يمثل ضوء السماء والسديم الأول وهو الذي يليه يقترب بسرعة 185 كيلو متراً في الثانية والثاني يبتعد بسرعة 385 كيلو متراً والثالث والرابع بسرعة 4900 كيلو مترا و 4884 كيلو مترا على التوالي والخامس بسرعة 19700
وأول من قام بعمل هذا النوع من التجارب هو الأستاذ سلفر مرصد لويل
هذا عن تعيين سرعة السدم وبقي أن نشرح الطريقة لمعرفة بعدها عنا
من الممكن أن نرى في العوالم الحلزونية القريبة بعض النجوم الكبيرة المنفردة عندما تفوق هذه النجوم الشمس في حجمها وضوئها مئات أو آلاف المرات، ومن حسن الحظ تتغير شدة إضاءة طائفة من هذه النجوم من وقت لآخر وتسمى هذه النجوم التي يتغير ضوءها ويحدث توهجها، الذي يقع في فترات متتابعة ومتساوية، من نبض حقيقي للنجم أو تغير في حالته الطبيعية؛ وتختلف هذه الفترات من بضع ساعات لبضعة أسابيع، حسب حجم هذه النجوم وقوة توهجها
وكما أن الأطباء يحاولون بدراسات جديدة تمييز الجنين في بطن أمه إن كان ذكراً أو أنثى، من عدد ضربات قلبه، فقد وجد العلماء أن هذه الفترات تدل على حالة النجم. وقد أثبتت الملاحظات أن النجوم التي لها نفس الفترة لها نفس الخواص الأخرى كالحجم والتوهج والنموذج الطيفي، وعليه فالفترة التي يمكن أن نقيسها بسهولة بساعاتنا الأرضية تعين درجة توهج النجم؛ فإذا عرفنا أن نجماً من النجوم توهجه يختلف مرة كل عشرة أيام، كان سطوع هذا النجم يماثل 950 مرة قدر سطوع الشمس. وتنحصر المسألة بعد ذلك في معرفة المسافة التي يوجد عليها نجم عرفنا درجة توهجه، ونعرف أن حجمه الظاهري لنا النقطة التي نراها.
من هنا عرف العلماء مسافة هذه النجوم البعيدة، وبالتبع مسافة العالم الذي يحويه
وهكذا أصبحنا نعرف مسافة هذه النجوم المتغيرة، معتبرة وحدة للقياس، كما نعرف مسافة(296/68)
شمعة معتبرة وحدة للقياس من درجة توهجها الظاهرة
وقد اكتشف الدكتور هبل من مرصد جبل ولسون بأمريكا نجوماً من هذا النوع في ثلاثة من أقرب السدم الحلزونية وحدد أبعادهم بالطريقة السالفة - هذه الطريقة التي صعب على هذا العالم تطبيقها للسدم البعيدة؛ فاضطر إلى الالتجاء لطريقة أخرى يعتد بها فريق من العلماء، ولا مجال لشرحها هنا.
وها نحن نسرد النتائج الفعلية لهذه الأبحاث
أولاً: أن سرعة ابتعاد السدم تفوق كثيراً السرعة التي تسير بها النجوم في أفلاكها داخل هذه السدم
ثانياً: هذه السرعة للسدم تزداد بازدياد المسافة التي تفصلنا عنها
ثالثاً: تبتعد جميع السدم عنا بسرعات كبيرة جداً
صحيح أنه دل امتحان 90 سديماً، في بادئ الأمر، على اقتراب الخمسة السدم الأولى منا بسرعة بطيئة، ولكن يعتقد السير أدنجتون أن هذا الاقتراب اقتراب ظاهري، ذلك أن الباحثين لم ينسبوا سرعة هذه السدم للمجرة كمجموعة، إنما نسبوها لمجموعتنا الشمسية، وباعتبار أن الشمس تسير حول مركز المجرة بسرعة تختلف من 200 إلى 300 كيلو متر في الثانية، فإن هذا الاعتبار الأخير يصحح معرفتنا الحقيقية عن هذه السدم الخمسة التي يثبت بعد ذلك ابتعادها.
ويحسن أن نطلع القارئ على درجة سرعة ابتعاد السدم عنا، فبينما تختلف سرعة النجوم في أفلاكها من 10 إلى 50 كيلو متراً في الثانية، إذ تختلف سرعة السدم في الأربعين سديماً القريبة منا كما بين ذلك (سلفر) من 800 كيلو متر في الثانية إلى 1800، هذا وقد اكتشف (هاماسون) من مرصد مونت ولسن بأمريكا أن السرعة تزداد بعد ذلك كثيراً للسدم البعيدة ففي جهة التوأمين يُرى سديم يبتعد عنا بسرعة 25 ألف كيلو متر في الثانية، ويبعد عنا بنحو 150 مليون سنة ضوئية. ولا شك أنهم سيكشفون الآن سُدُماً أبعد من هذا، وذلك بعد أن تم وضع المنظار الجديد في مرصد جبل ولسون، ذلك المنظار الذي كان له الفضل في كشف القمرين الجديدين للمشتري كما ذكرنا في مقال سابق
ولقد كان لهبل في سنة 1929 الفضل في اكتشاف تناسب سرعة السديم مع بعده، وهذا(296/69)
مطابق لنظرية إينشتاين، ولو أن (دي ستر) ظن بادئ الأمر أن السرعة تتناسب مع مربع المسافة، إلا أنه اتضح له خطأ هذا الحساب فيما بعد
وتزيد السرعة وفق تجارب هبل 500 كيلو متر في الثانية لكل سديم يبعد عنا بثلاثة ملايين سنة ضوئية تقريباً، وعلى هذا فالسديم الذي يبعد 30 مليون سنة ضوئية يبعد عنا بسرعة تقرب من 5000 كيلو متر في الثانية أي يبعد عنا مسافة كالتي تفصل أمريكا عن أوربا، ويكفي أن نصل إلى مسافة تقدر بمائة وخمسين مليون سنة ضوئية لتكون سرعة ابتعاد السديم عنا 25000 كيلو متر في الثانية
هذا هو الكون، كل عالم يبتعد فيه عن الآخر، وقد يأتي وقت تبتعد فيه كل العوالم، فلا يبقى للأحياء عالم ليروه، اللهم إلا إن تقدم المنظار الفلكي بقدر ابتعاد هذه العوالم. وقد أثبت الحساب كما يقول أدنجتون، أن على راصد السدم أن يزيد فتحة منظاره بقدر الضعف كل 1300 مليون سنة، وعلى الذين يعتقدون دوام الجنس البشري ملايين السنين، لنعرف كل مالا نعرفه اليوم أن يُعَجلوا بدراسة موضوع غير قابل للتأجيل
هذا رأي جديد في العوالم المحيطة بنا، والكون الذي نحن بعض أفراده. ولنا أن نتساءل: لماذا تبتعد عنا كل العوالم كأنها جميعاً أعداؤنا، لا صديق بينها يقترب منا؟ هل هناك سر وسبب لهذا الابتعاد؟ وترى ماذا شكل الكون وفق الظواهر المتقدمة؟ هذا ما أتركه للقارئ يتأمل فيه ليجد الجواب عليه، إذ أن هناك صورة واحدة محتملة لكون له خاصيتان: الأولى أن كل عالم فيه يبتعد عن الآخر. والثانية أنه كلما كان العالم بعيداً بالنسبة لعالم آخر زادت السرعة التي يبتعد بها هذا العالم عنه.
هذه الصورة للكون وفق أحدث الآراء نطلب من القارئ أن يحاول تصورها، فإن لم يهتد فسنحاول أن ندله عليها في المقال القادم؛ وسنرى أنه إذا كان أغرب القضايا العلمية هي أننا أبناء كون يمتد ويتسع، فأغرب من ذلك أننا سنرى أننا أبناء كون محدود.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم. دبلوم المهندسخانة(296/70)
رسالة الفن
التصوير الإغريقي في مرحلته الثانية
للدكتور أحمد موسى
وكان لإبراز الصور بهيئة مجسمة على يد أبولودور الأثيني أثر عظيم في الاتجاه الفني، فلم ينته القرن الخامس ويبدأ القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت المدرسة اليونانية قد تأسست واشتغلت بإكمال الحلقة التي بدأها أبولودور، فتقدم تصوير اللوحات؛ وظهر زوبكس في الميدان وكذلك الذي اشتغل في أثينا وإيفيزوس. وكان كل منهما قادراً على التأثير في المشاهد بالنظر إلى ما بدا على رسومهما من تجسيم خادع
أما التلوين فقد ظل عندهما بسيطاً كما كان. وأما الموضوع الإنشائي فقد اتجه نحو تسجيل الجمال الهادئ، فضلاً عن بحثهما عن الموضوعات الجديدة اللافتة، فكان هذا سبباً لأن تصبح رسوماتهما ذات تأثير خاص، وحاولا إيضاح المعالم النفسية في تصوير الأشخاص.
وصورة زويكس لهيلينا وصورته لزويس محاطاً بالآلهة جديران بالذكر والاعتبار
ومن ضمن ما تخيره بارازيوس موضوعاً للرسم تصويره بروميتيوس في الأغلال، وبروميتيوس هذا هو الذي سرق - كنص القصة الإغريقية - النار من زويس لإعطائها للناس وعوقب بضغطه في الصخر حتى جاء هرقلس وخلّصه من محنته. وله صورة أخرى لا تقل عن هذه تمثل فيلوكتيت الصارخ الذي ورث نشاب هرقلس وقتل باريس في تروادة وغير ذلك للأشخاص ولأوديسيوس وثالث مصوري هذه المرحلة تيمانتيس الذي تفوَّق على بارازيوس، وكان مولعاً بتصوير المنظر المعبرة عن خوالج النفس المتصلة بالعقل. فصور (تضحية إيفيجاني) ابنة أغاممنون وكلينيمنسترا ? التي قُدمت قرباناً لأرتميس ابنة الإله زويس، والتي تقابل ديانا عند الرومان. وقد وجدت صورة حائطية في بمباي على نفس النمط، وهي من أروع الصور بالنظر إلى أهمية القصة.
ولم يصل إلى أيدينا من آثار تلك المرحلة إلا بضعة مصورات حائطية من باستوم (بمتحف نابولي الآن). وهي ترجع إلى آخر القرن الخامس. وصرة المحاربين العائدين تحت لواء النصر وصور الراقصات التي رسمت على أرضية بيضاء وتمتعت بقسط وافر من دقة الإخراج والحياة.(296/72)
أما في القرن الرابع فقد وصل التصوير الإغريقي إلى أزهى أيامه لا من حيث الناحية الفنية والدقة فحسب، بل كذلك من حيث العمل الصناعي. وتُعد مدرسة سيكيون التي رأسها بامفيلوس من أبرز المدارس وأهمها.
وكان بامفيلوس نفسه عالماً وكاتباً في فن التصوير، وقد صور لوحات صغيرة لتمثيل المناظر الاجتماعية في دائرة محدودة، ولكنه تخصص في تصوير الزهر والأغصان، وله لمعشوقته جليكيرا صور عديدة، كما أن له صورة مشهورة أسماها محاربة الثيران
وقد وجدت مدرسة هامة من مدارس التصوير لها تاريخ مجيد، ألا وهي المدرسة الطيبية الأتيكية التي برز بعض العاملين فيها مثل نكوماخوس الذي اشتهر بسرعة العمل والإنتاج المبسط، وابنه وتلميذه أرستيدس الذي كان مولعاً بالمواقف الممثلة للحالات النفسية العنيفة وله فيها صورة فذة تمثل أماً تنظر إلى ابنها الرضيع يحتضر. وله تلميذ هو أويفرانور الذي اشتغل حينا في أثينا، وكان نحاتاً إلى جانب كونه مصوراً، كما كان كاتباً وعالماً، وله طابع مميز هو تصويره الرجولة في أكمل معانيها. وله قطعة معروفة أسماها (عراك الفرسان في مانتينا الواقعة في أركاديا الشرقية والتي تم النصر لايباميثنداس على الاسبرطيين فيها سنة 362 ق. م وغير ذلك في أثينا.
ولعل تلميذه وقريبه نيكياس من أحسن مصوري تلك المرحلة، فقد كان معاصراً لبركسيتلس ولون له بعض تماثيله، واشتهر بالتصوير بالشمع ووصل إلى دوجة عليا في صناعة الألوان، وكانت له عناية خاصة باختيار الموضوعات الجديرة بالتصوير، فصور مناظر القصة الإغريقية وأبدع في تصوير أبطالها من الرجال والنساء.
أما أعظم مصوري الإغريق إطلاقاً فهو أبيلليس الكلوفوني الذي عاش في إفيزوس والذي تمتع بأكبر قسط من التقدير والشهرة؛ فأسموه بحق (بوكسيتلس التصوير) أو (رفائيل العصر القديم). عاش في النصف الثاني من القرن الرابع، ودعاه الملك فيليب إلى قصره، ثم عمل كمصور في بلاط اسكندر الأكبر، وقد قدره أحسن تقدير ورعاه أجمل رعاية. ومما هو معروف عنه أنه كان على غاية التواضع ولين العشر، وكانت له كلمات خالدة ذهبت مثلاً بين الناس.
وينحصر طابعه المميز في أنه وحّد بين الاتجاه الهادئ للمدرسة اليونية وبين الميل العنيف(296/73)
الذي غلب على إنتاج المدرسة السيكيونية فضلاً عن أنه كان مصوراً تخطيطياً من الطراز الأول. ولا يزال معدوداً من الطبقة الأولى، بل ولم يكن لغيره في العصر القديم أن يصل إلى مرتبته في العمل الصناعي والتكوين الإنشائي والجمع بين الظل والنور وحسن استخدام اللون.
هذا إلى جانب القدرة الهائلة في تمثيل الطبيعة أصدق تمثيل؛ فدل بذلك على دقة الملاحظة في أكمل معانيها؛ فيرى الناظر إلى مجموع إنتاجه مما وصل إلى أيدينا أنه كان مَثلياً في اختيار الجمال وتكييفه وعرضه في ثوب الأناقة والمباهاة التي أصبحت له وللوحاته دون غيره من مصوري عصره مع توافر البساطة في الإخراج.
وقد اقتصر على تصوير اللوحات فلم تكن له صور على أواني الزهر أو على الحوائط. وأهم ما تركه من العمل الفذ حقاً صورة لأفروديت أناديومين في معبد أسكليبيوس بقوص والتي أخذت إلى روما في وقت ما. صور أفروديت تظهر خلال أمواج البحر، فبدا نصفها الأعلى وأخذت تنثر شعرها بيديها. وكانت لهذه الصورة منزلة عظيمة عند معاصريه، وأثر كبير على الفنانين إلى حد أن بعض النحاتين مثّلها في الرخام بنفس طريقته وعلى نمط إنشائه.
وله غير ذلك صورة (لأرتميس وعرائس البحر) وصورة لهرقليس وخاريس، ولوحات لاسكندر الأكبر في صورة الإله زويس بمعبد أرتميس في إفيزوس؛ وصورته له كفارس محاط بأوضاع رمزية لحاشيته. وكانت له معشوقة هي بانكَسَبا التي كان لها حظ التخليد على يديه.
ووجد غيره من الفنانين، منهم من كان على اتصال به مثل بروتوجينيس الذي عمل صوراً فردية ولكنها كانت على أعظم جانب من صدق المحاكاة وأبرع قسط من جمال الإخراج. وأهم ما نذكره له صورتان إحداهما لياليزوس هيروس وأخرى لسانير متعب
وللمصور آتيون صورة مشهورة لزواج الإسكندر من روكسانا. ولا بد لنا من ذكر المصور ساموس والمصور أنتيفيلوس الذي عاش وانتج في مدينة الإسكندرية
وفي هذه المرحلة تطور فن التصوير من حيث الرغبة في إخراج اللوحات الصغيرة التي يمكن لأكثر الناس اقتناؤها. وأول من اتجه هذا الاتجاه الفنان بايريكس الذي صور مناظر(296/74)
دكاكين الحلاقين وصانعي النعال وبائعي الخضروات والمأكولات فأظهرها إظهاراً بديعاً
وإذا بدا الجفاف على هذا المقال فذلك لأنه مقال علمي خال من حشو القول، ولا غاية لنا منه سوى توجيه القارئ إلى نواحي الفن العريق؛ فيحصل على قسط من المعرفة يكسبه شيئاً من الميزة والدراية والتثقيف الواجب، فيكبح من جماح إعجابه السريع بكل ما يراه لصغار الفنانين الذين يدعون لمجرد عرض بعض لوحاتهم وإطناب الصحافة التي ليس لها في قياس الإنتاج الفني معيار، أنهم وصلوا إلى القمة. أما أولئك الذين يشتغلون بالفن ويعتبرون أنفسهم من تلاميذه، فإليهم أيضاً أكتب آملاً أن يكون فيه بعض التوجيه لما يفيد وبعض التهيئة لإنتاج جدير بالاعتبار والتقدير
أحمد موسى(296/75)
زكريا أحمد
من الوجهة الفنية
للأديب محمد السيد المويلحي
أقرب الموسيقيين إلى الفن من ينغمس في لجج الحياة حتى يصل لأعماقها، ويذوق حلوها ومرها، وابتسامها وعبوسها
وأبقى الموسيقيين على الزمن من يحتقر المادة فلا يشغل نفسه باكتنازها بل يصرف ما في يده في ليلة، حتى إذا تنفس الصبح لم يجد لقمة يسكت بها صراخ أمعائه فلا يكترث ولا يقتصد إذا أصاب بعد هذا يسراً. بل هو لا يتغير، ولا يتدبر، ولا يحسب (للغد) حساباً أبداً ولا يهمه أن يكون أنيقاً رشيقاً بقدر ما يهمه أن يكون أشعث الشعر مهلهل الثوب. لا يكترث لكلام الناس عنه إن كان خيراً أو شراً، لأنه لا يعوج إلا لشيء واحد. هو (فنه). . وزكريا أحمد يعبد الحرية ويقدسها. . يمثل (البوهمية) الفنية أدق تمثيل لا يهمه في دنياه إلا فنه وقلبه.
تربى زكريا تربية دينية، فحفظ القرآن المجيد وألم ببعض علومه ولكن (جرثومة) الموسيقى كانت تسري في دمه فلم يستطع مقاومتها فانظم (كمذهبجي) للشيخين علي محمود، وإسماعيل سكر، وأمضى معهما وقتاً طويلاً، ثم تتلمذ لأستاذنا الشيخ درويش الحريري يأخذ عنه ما عنده من موشحات (وضروب) فأدهش الرجل بذكائه وحسن استعداده وأذنه العجيبة!
آنس زكريا من نفسه المقدرة فرأى أن ينفصل عن الشيخ علي محمود ليكون ملحناً فأخرج السحر الحلال الذي جمع حوله جمهرة المطربين والمطربات يأخذون منه وهو البحر الذي لا ينضب والفنان الذي لا يعجز.
لا يلحن للمال، ولا للفخر. بل يلحن لقلبه وحبه ووحيه الذي يترجم أسمى ما في العواطف من نبل ونور.
ملك (الصبا) غير منازع، وإذا قلنا (الصبا) فإنما نعني اللحن المسيطر على النفوس والمترجم لأشرف ناحية وأسماها من حياة الإنسان وهي ناحية عواطفه، وآماله وآلامه، وتوفيقه وفشله. وهل نستطيع أن ننسى أدواره التي غنتها أم كلثوم: (قلبي كلما تقوى ناره)(296/76)
(هو ده يخلص من الله) (يا رايح على جده) (اللي حبك يا هناه). . .
لحن أكثر من خمسمائة قطعة نجحت جميعها نجاحاً عظيماً. وهو فنان موهوب لم يتعلم في مدرسة ولا معهد، وإنما نشأ كما ينشأ العبقري الملهم تكفيه (الخميرة) التافهة ليزداد ويزداد حتى يصبح كله (خميرة) تنضج كل شيء. . .!
يعزف على العود (سماعياً) فلا يعرف (النوتة) الغربية.
تمتاز قطعه بروحها العربية الشرقية البحتة، فلا سرقة، ولا مزج، ولا خلط، ولم يعرف عن ملحن أو موسيقي أنه اختلط بالمرحوم الشيخ سيد درويش زعيم المدرسة الحديثة فنال حبه وملك قلبه كزكريا. وإنك لتجد تشابهاً عجيباً في روحيهما ونظرتيهما للحياة. . .!
يدهشك في هذا الرجل وفرة رجولته، واعتداده بفنه وكرامته. فهو يعطف على إخوانه الفقراء ويساعدهم ويلحن لهم بالمجان، ولكنه يتصلب ويشتط ويغالي مع الكبيرات الغنيات اللائى يأخذن كل شيء ولا يعطين شيئاً. ولعل وقفته المشّرفة مع (أم كلثوم) في روايتها الأخيرة تترجم تلك الرجولة القوية وتسجل تلك النفسية الكريمة، فقد رفض أن يأخذ أقل من (مائة) جنيه في اللحن الواحد ولم يقبل ما قبله القصبجي والسنباطي. ومن أصدق ما قيل فيه قول شاعر الشباب الأستاذ محمود حسن إسماعيل:
يا مثير (الصبا) من العود تحكي ... نغم الطير في صباح الخلود
أو تآويه عاشق عبقري ... أرعشت ليله رياح الصدود
أو قمارى جنة ساجلتها ... حلم الشدو غافيات الورود
أيها الشاعر الذي طار بالفن ... وأعلى شعاعه في الوجود
مر بالجاحدين كالكوكب المشبو ... ب واصدح بكل لحن جديد. . .
محمد السيد المويلحي(296/77)
البريد الأدبي
تقويم النوع الإنساني
نشرت مجلة (حياتك) الأمريكية التقويم التالي للنوع الإنساني، وهو من وضع العلامة الأستاذ (آرثر هـ. كومبتن) حائز جائزة نوبل في (الفيزياء)، والباحث الشهير في الأشعة الكونية، وقد صغَّر فيه الزمن مليون مرة:
قبل مدة تتراوح بين السنة والسنتين: تعلّم الإنسان الأول استعمال العصىّ والأحجار كأدواتٍ وأسلحة.
في الأسبوع الفائت: أنشأ إنسان ما فن تكييف الأحجار بحيث تسدُّ حاجاته.
أمس الأول: استعمل الإنسان الصور المبسَّطة كتابة رمزية
أمس: ابتكِرت الألفباء.
أمس عصراً: أنشأ اليونان فنهم وعلمهم.
منتصف البارحة: سقطت روما
الساعة 8 والدقيقة 15 من هذا الصباح: لاحظ (غليليو) أجسامه الساقطة.
الساعة 10 صباحاً: صُنع المحرك البخاري الأول.
الساعة 11 صباحاً: كشفت قوانين المغنطيسية الكهربائية
الساعة 11 والدقيقة 30 صباحاً: تلا ذلك التلغراف والقدرة الكهربائية. . . الخ.
الساعة 11 والدقيقة 40 صباحاً: كشفت أشعة إكس
قبل خمسة عشرة دقيقة: عم استعمال السيارة
قبل خمس دقائق: بدأت خدمة البريد الجوي.
في الدقيقة الفائتة: شاع استعمال الراديو.
الآن، ظهراً: نجد النوع الإنساني - بمعنى جديد كل الجدّة - موحداً بفضل العلم
عبد الكريم الناصري
الفنون الإسلامية
أبدى صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف رغبته في نهاية العام(296/78)
الدراسي الماضي في أن تزيد عناية مدرسة الفنون الجميلة العليا بالفن الإسلامي جاعلة منه أساس الدراسة في هذه المدرسة، بما يتناسب وأغراض النهضة القومية الحديثة ومراميها في تربية شباب الفنانين المصريين، وكان ذلك عقب زيارة معاليه للمعرض الذي أقيم في المدرسة لإظهار نشاطها
والمعروف أن القواعد التي تقوم عليها برامج هذه المدرسة تميل حتى الآن بحكم نشأتها القديمة إلى تدريس الفن في مختلف صوره على الأصول الغربية، مع تقدم الزمن بمصر للأخذ بفنونها الخاصة، ولطبع الثقافة الفنية فيها بطابعها الأصيل وهو الفن الإسلامي
على أن بعض أساتذة المدرسة المصريين قاموا في الأيام الأخيرة بجهود فردية - وبخاصة في قسم العمارة - لتوجيه البرامج إلى هذه الوجهة، وتربية الذوق الإسلامي في نفوس الفنانين الناشئين
ولما كان الأمر أجل من أن يترك في هذا المعهد الفني العالي لمجرد المجهود الشخصي فقد رفع الدكتور محمد فكري أستاذ تاريخ الفن بالمدرسة مذكرة إلى معالي وزير المعارف اقترح فيها بناء على رغبة معاليه السابقة إنشاء قسم خاص للفنون الإسلامية بالمدرسة وتقوم في نفس الوقت بتفاصيل إنشاء هذا القسم والمقترحات الخاصة ببرامجه
وقد جاء في هذه المذكرة أن الفن الإسلامي هو الفن القومي لمصر، وأن الخصائص الفنية العظيمة التي ينفرد بها هذا الفن يجعل منه مادة خصيبة لتغذية جميع نواحي النهضة الحديثة في مصر، فضلاً عن قابليته الدائمة للتطور وتمشية مع روح البيئة الطبيعية في هذه البلاد
وقد عنى معالي وزير المعارف بهذا الاقتراح وأحاله على مراقبة الفنون الجميلة لدراسته
وفاة العالم الأثري هوارد كارتر
نعي من لندن الأستاذ هوارد كارتر العالم الأثري الإنجليزي المشهور عن 66 عاماً. وليس بين المصريين من يجهل اسم هذا الرجل الذي كشف مع اللورد كرنارفون مقبرة توت عنخ أمون التي لفتت العالم بأسره إلى مصر. وكان عمله العظيم أكبر دعاية عالمية شوقت ألوف السياح إلى غشيان مصر من كل فج وصوب.
جاء المستر كارتر إلى مصر سنة 1890 وعاون الأستاذ فلندرس بتري في حفائر تل(296/79)
العمارنة لحساب اللورد أمهرست سنة 1892، وعين مفتشاً عاماً لمصلحة الآثار في الحكومة المصرية وأعاد تنظيم إدارة الآثار في مصر العليا تحت إدارة السير وليم جارستن والمسيو جستون مسبيرو، وأدخل نور الكهرباء إلى وادي الملوك وإلى أبو سمبل، واكتشف لحساب الحكومة المصرية مدافن الملوك منتوحتب وحتشبسوت وتحتمس وأمنحتب الأول وغيرهم إلى أن اهتدى في سنة 1923 إلى قبر توت عنخ أمون
وقد نشرت صحف إنجلترا ترجمة حياته بتفاصيل مسهبة، وأسفت على فضله وعلمه الواسع وعادت تذكر الخرافة المشهورة باسم (لعنة الفراعنة) التي قيل إنها لاحقت جميع من اشتركوا في كشف مدفن توت عنخ أمون لكن جريدة (الديلي تلغراف) أوضحت أن كارتر نفسه لم يكن يعبأ بهذه السخافة فضلاً عن أن موته بعد هذه السنين العديدة من كشف المدفن لا يمكن أن ينسب إلى كشفه
تركيا تهزل والعالم يجّد!
من أنباء استامبول أن الصحافة التركية قامت أخيراً بحملات شديدة على فكرة إنشاء مؤسسات لها صبغة دينية في البلاد وتقوم على أكتاف الشباب. وقد طلبت جريدة (بني صباح) إغلاق هذه المؤسسات في تركيا واستامبول بوجه خاص بحجة أن هذه المؤسسات تقوم بدعايات غير قومية ولا تتفق مع الروح التركية الجديدة.
ويظهر أن هذه الملة التي تثيرها الصحف كانت صدى لخطاب رئيس الوزراء رفيق سيدام الذي أعلن بالراديو مقاومة الجمهورية التركية لكل حركة دينية تقوم في البلاد
حول عريضة الأزهر
جاءنا من أحد العلماء الذين أمضوا تلك العريضة التي تحدث عنها الأستاذ ابن عبد الملك في عدد الرسالة السابق كلمة يصحح فيها بعض الوقائع، وقد طلب إلينا أن ننشرها على مسئوليته، ولكنه في الوقت نفسه وقعها بتوقيع مستعار، وبين تحمل المسئولية وإخفاء الاسم تناقض ظاهر.
حول ترجمة الإلياذة والأوديسة
أخي الكريم الأستاذ أحمد أحمد العجمي:(296/80)
كنت أوثر أن أعرف عنوانك لأكتب إليك عما سألت لأن بعضه يخصني ويتعلق بظروفي. . . فاعلم يا أخي أن المرحوم البستاني قد نقل الإلياذة إلى العربية نظما. . . ولم يكن رحمه الله طويل النفس في الشعر ولا ذا ديباجة تحببه إلى القراء. . . من أجل هذا ركدت ترجمته ولم يقرأها عشرات. . . وأستغفر الله أن أسوء أحداً بما أقول. . .
وقد بدا لي بعد أن فرغت من كتابة (أساطير الإغريق) ونشرها تباعاً بالرسالة أن أترجم الإلياذة نثراً لا شعراً لما للنثر من مزايا خصوصاً في اللسان العربي. . . ومع ذاك فقد خشيت إذا أنا ارتبطت بترجمة الأصل أن يصدف القراء وينفروا لكثرة ما يرد من أسماء الآلهة والأشخاص، وأكثرها أسماء حوشية نابية. . . فآثرت التلخيص السريع وأضفت مقدمة لحروب طروادة ليست من الإلياذة، بل هي مما ترك الشعراء القدامى غير هوميروس، حتى إذا انتهيت من الإلياذة أردفت لها ذيلاً من فرجيل. . . وقد كان لا بد مما صنعت ليكمل سياق الملحمة الخالدة، فالزيادة الأولى هي الفصل الأول، والزيادة الثانية هي الفصل الأخير
أما الأوديسة فلم ينقلها إلى العربية فيما أعرف سواي، وقد نقلتها نثراً لا شعراً للأسباب نفسها التي خشيت منها على الإلياذة. . . وللأمانة التاريخية أقرر أنني نقلت الفصول الخمسة عشر الأولى نقلاً شبه كامل، ولما خفت أن ينتهي المجلد الأول من مجلة الرواية دون أن تنتهي الأوديسة عمدت إلى تلخيص كل فصلين مما تبقى ونشرهما في عدد واحد بعد أن صارحت أستاذنا الزيات بذلك. . .
أما أن جمهور القراء في مصر وفي الشرق يرغب في طبع ما ترجمت وما لخصت من ذاك كله فهذا ما يظنه أخي وما يخيفني أنا لأن الطبع يكلفني مئات كما كلف كثيرين غيري فلم يحصلوا ربع ما أنفقوا. . . هل سمعت؟ لقد قلتها لك بصراحة يا أخي
وتقبل شكري على ما أطريت.
دريني خشبة
جريدة الوادي
اعتزم زميلنا الأستاذ محمد نجيب صاحب جريدة (الوادي) أن يصدر الجريدة قريباً بشكل(296/81)
جديد يعتبر فتحاً في الصحافة العربية اليومية. وسيتولى الإشراف عليها أساطين السياسة المصرية وكبار المفكرين وجمهرة وافرة من الأدباء والكتاب الممتازين.
ولا تزال الاستعدادات جارية لإخراج الجريدة في هذا الثوب الجديد قبل نهاية الشهر الحالي(296/82)
الكتب
قصتان:
1 - الأميرة: للآنسة جميلة العلايلي
2 - كاهن آمون: للأديب أحمد صبري
- 1 -
هاتان قصتان، كانتا غذائي في يومين:
أما الأولى فقصة غرام عنيف عفيف، وهي كما تقول المؤلفة: قصة جمعت في فصولها تاريخ الحياة كلها، كتبت حروفها من نار العقل ونور القلب، فتصارع فيها اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والخير والشر، وظهرت فيها شخوص مختلفة من تهاويل المدنية الحادثة، وبساطة الطبيعة الخالدة، واصطدمت فيها التقاليد الصارمة بالعواطف اليقظة، وكان فيها ما كان من رغبة ورهبة، وثورة وخنوع، وألم وأمل، ثم انتهت عند حقيقة خالدة، وهي أن الرجل رجل والمرأة مرأة، ولن يكون الاتصال بينهما إلا على هذا الأساس الذي قامت عليه الحقيقة الإنسانية منذ الأزل
والآنسة جميلة أنثى، فأحسن ما فيها أنها تكتب بطبيعة الأنثى وميولها، فلا كذب ولا نفاق ولا تزوير، ولكنها الأنوثة الواضحة، والصراحة التي لا تتوارى، والعواطف التي تتدفق على وضع الطبيعة؛ ووضع الطبيعة في الأنوثة الكاملة هو الإعجاب، أو إن شئت فقل العشق للرجولة الكاملة، وإقراراً لهذا الوضع المقدس ضحت بالأوضاع والتقاليد في سبيل زوج لا تقدره لها الأوضاع والتقاليد. ولقد نجحت التجربة الجريئة، فكان لها برجولته وكبريائه واعتداده ملء القلب والبصر والسمع، وكانت له بأنوثتها ملاك الرحمة، ومثال التضحية، ورسول الحب!
والمرأة بطبيعتها - كما تعلم - رقيقة الإحساس، مرهفة العواطف، فإذا جمعت إلى ذلك موهبة الشعر كانت في خيالها وفي شعورها متوثبة، كأنها تريد أن تلتهم الدنيا بنظرة، وأن تزم البحر بشعرة، وهذا هو شأن الآنسة الفاضلة في قصصها: فهي تغرد على كل فنن تغريد الشاعر، وهي تجري وثباً وراء الخيال فتسبق الحوادث، وتستطرد من معنى إلى(296/83)
معنى دون أن تعني بالنسق القصصي، وما يسمونه بالحبكة الفنية، ومن ثم جاءت قصتها كما تقول هي: سلسلة حبائل كلها أقاصيص عجيبة، ولدتها قصة واحدة غريبة غامضة، فيها شئ من خلل السرد، وترتيب الوقائع، وكانت في حلّ (العقدة) قاسية، عفا الله عنها! فقد أغرقت تجارة وطوحت بعائلة كريمة في مهاوي الفقر والحاجة لأجل أن تصل إلى رجلها الذي رأت في الاتصال به اطمئنان النفس، وبهجة القلب، ويقظة الروح، على أنه لا يمت لأسرتها بصلة القومية كما تقول
وفي القصة ما أحب أن أنبه إليه الآنسة المهذبة، ولولا الرفق لحاسبتها عليه الحساب العسير، وهو الاستهانة في الأسلوب بحق اللغة وهو حق تجب مراعاته وإن تبجح في ذلك المتبجحون، ثم حق القوة البلاغية وهو أيضاً حق يجب العناية به لا للإفهام فحسب بل للتأثير الذي هو مهمة الفنان وغايته، ثم تلك الأخطاء المطبعية الشائعة التي إذا احتملها ذوق الرجل الجبار فلن يتحملها ذوق المرأة الدقيق الذي يغرم بالأناقة ويفنى في روعة التنسيق؛ وأخيراً بعض هفوات فاتت على فطنة الأديبة اليقظة، فما كان يصح مثلاً أن تصف الأعرابي بلبس حذاء لا يلبسه غير سراة العرب، ثم تعود إلى وصفه بعد صفحات فتصف حذاءه بأنه لا يلائم الرجل العادي على الأقل، وبعد هذا كله لا يصح من الآنسة الشاعرة أن تستهين في أناشيدها بعروض الشعر، ولعلها تهتم فتتلافى كل هذا في الطبعة الثانية للرواية، فإن في تلافيه الجمال والكمال
- 2 -
أما القصة الثانية فقصة مسرحية تقوم على حقيقة من حقائق التاريخ المصري القديم، وضعها مؤلفها الفاضل وهو في معزل على حافة الصحراء في جنوب القاهرة حيث امتلأت رأسه من صور الأجيال القديمة وأطيافها، وازدحمت عيناه بعبرات الجيل الحاضر وآلامه، فطالع التاريخ لهذه القصة ووضع صورتها التخطيطية الأولى، وعرف أبطالها وحلم بهم. ويا لنفس الفنان إذا اهتاجتها ذكريات الماضي وعبرات الحاضر! إنها تحترق في فكرتها، وتذوب في فنها فتأتي بكل ما فيه الروعة والجمال. . .
وتاريخ هذه القصة يرجع إلى عهد الملك إخناتون، وقد كان لهذا الملك مذهب ديني يدعو إلى عبادة قرص الشمس متمثلاً فيه جميع الآلهة، وقد كان متعصباً لمذهبه هذا تعصباً(296/84)
شديداً، فحاول أن يفرضه على الناس فرضاً، واندفع يغلق الهياكل ويطرد الكهنة، وانشغل عن أمور الدولة فسرح الجنود وأهمل الجيش، فكان من وراء ذلك أن انتقضت عليه المستعمرات المصرية، واستولى الحثيون على شمال سوريا كما استولى العبرانيون على جنوبها، ففزع المصريون لذلك، ونهضوا ثائرين عليه بتدبير الكهنة ورجال الجيش المعطلين، وفي مقدمة هؤلاء أوزيران كاهن آمون في معبد خناعي، وهو شيخ جليل خالف الملك في عقيدته الدينية ودعا إلى محاربته باسم الوطنية
هذه المبادئ التي أذاعها إخناتون ودعا إليها ما وسعه الجهد، وهذه الثورة التي أعلنها عليه المصريون لإنقاذ حضارتهم وغضباً لوطنيتهم وقوميتهم هو موضوع القصة، وغاية المؤلف التي يرمي إلى توضيحها. ولا شك أنه قد استطاع أن يشرح فكرته شرحاً فنياً قويماً، فلا فضول ولا ثرثرة، ولا اقتضاب ولا شذوذ في سرد الحوادث والانتقال من وضع إلى وضع، ولكنك تحس وأنت تقرأ أنك تجري في نسق طبيعي مطرد، يرسمه أسلوب حلو يفيض بحرارة الإيمان وحماسة الوطنية، وكأنها حماسة أمازيس إذ يقول: لقد فهمت وآمنت، سأعلمهم أننا ولدنا جنوداً، وأننا ما زلنا رغم العوادي أبناء هذا النيل، نحارب وننتصر، ونطوي العالم في نفوذنا من جديد. . .
ولقد ذكر المؤلف الفاضل أنه تقدم بقصته إلى الفرقة القومية فكان رأيها قاطعاً في عدم صلاحيتها! وأنا أستطيع أن أطمئن المؤلف الفاضل من هذه الناحية، فإن الفرقة القومية أصلحها الله لا تقدر الآثار إلا بأسماء أصحابها وما لهم من شهرة ودوي وطنين. ثم أن الفكرة في هذه القصة تقوم على الانتصار لتاريخنا وقوميتنا ووطنيتنا، هي غذاء لروحنا وعواطفنا بما يلائم روحنا وعواطفنا؛ ولكن الفرقة لا يهمها ذلك، فهي تحب أن تكون دائماً متطفلة على موائد الغرب، تذيع كل ما هو غريب عنا ولا يمت إلى روحنا بأدنى شئ. . .
نعم أنا أطمئن المؤلف من هذه الناحية، وأقدر فيه موهبته الفنية واستعداده للقصص، فإنه استعداد قوي كامل، إذا ما تعهده بالمران والصقل فسيكون له شأن أي شأن. ولو أنه رزق الدقة في الحوار، والوضوح في التعبير لكان فناناً من الطراز الأول، ولجاءت قصته وشأنها في الكشف عن عبقريته والإعلان عن مواهبه شأن (أهل الكهف) في الكشف عن صاحبه الأستاذ الحكيم(296/85)
وأحب أن أنبه الأديب الفاضل إلى ما أخذه عليه بعض الناس من غموض العبارة وخفاء المعنى في بعض جوانب الرواية، وليس بالعذر أن يقول إنه حاول أن يكون مفهوماً بالمعنى الذي يألفونه فلم يستطع، فإن اللغة أداة الإفهام، وعلى الفنان أن يُفهم وإلا كان قاصر الأداة، عاجزاً عن تصوير ميوله وعواطفه، وماذا يكون الفنان إذا عجز عن تصوير ميوله وعواطفه؟!
تلك ناحية ليست بالعسيرة ولا بالشاقة؛ وفي استطاعة المؤلف الفاضل أن يبلغها إذا اقتصد في ثورته وتمكنت عنده الرغبة في ذلك
محمد فهمي عبد اللطيف(296/86)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
لغة المسرح، أدباء الشباب
الدكتور إبراهيم ناجي أديب وعالم ملحوظ المكانة، معروف في الأوساط الأدبية، مشهور بأحاديثه الطيبة، وحيويته الفياضة، وحسه الدقيق، يعرف فيه أصدقاؤه - وأنا منهم - سرعة في الفكر وفي الحركة وفي كل شئ
لم تقف حركة الدكتور ناجي عند حدود نظم الشعر، وتأليف القصة، وكتابة البحوث العلمية، وإلقاء المحاضرات، بل تناولت أيضاً فن الترجمة. وقد تعاون أخيراً مع الممثل الأديب فتوح نشاطي على ترجمة رواية (الجريمة والعقاب) لمؤلفها ديستويفسكي القصصي الروسي العظيم، فمثلتها الفرقة القومية وجعلتها (افتتاحية) لموسمها الثاني. وهاهو ذا يحدثنا عما لقيت روايته من رجال هذه الفرقة ويجيب على الأسئلة التي وجهتها إليه:
قلت له: الفرقة القومية مؤسسة ثقافية فهل حققت شيئاً من أغراض الثقافة؟ فأجاب:
(إنها تحاول يا سيدي، ويجب أن نعترف أنها تبذل ما تستطيع، ولكن الفكرة خطأ، والتوجيه خطأ، والمسرح الذي نراه مسرح قديم بال
أما خطأ الفكرة فلأن مدير الفرقة، مع احترامنا لأدبه وفضله، يصرح ويجاهر بأن المسرح إنما وجد لترقية اللغة، وما دامت هذه الفكرة أساساً للمنطق فقد انهار كل شئ ولا معنى للجدل
والفكرة خطأ أيضاً، وخطأ فاحش لأن قراء لجنة الروايات علماء لغة، وليس فيهم فرد يعرف شيئاً عن فن المسرح
والتوجيه خطأ، لأن التوجيه مبني على الفكرة، والتوجيه المسرحي عندنا أساسه إنشاء مسرح كلاسيكي على فكرة كلاسيكية، ولهذا حفل مسرحنا بأندروماك وأنتيجونا وعدنا إلى راسين وكورنيل وقد فرغ العالم منهما ونفض يده، وإليك المثل:
الجريمة والعقاب رواية شعبية كتبت للناس ولمخاطبة الناس، وهذه رسالة المسرح، وقد أرادت إدارة الفرقة من مترجمها أن يترك ترجمته بتاتاً ويعيد كتابتها بلغة من عنده أنيقة مجلجلة مدوية كأنه هو مؤلفها. فانظر بالله كيف تريد الفرقة القومية أن تعبث بدستويفسكي(296/87)
وتسيء إلى دستويفسكي وتسيء إلى رسالة المسرح. كل ذلك في سبيل لغة كلاسيكية مجلجلة أولى بها حلقات الأدب لا المسرح الذي هو منبر يثقف ويعلم ويفيد
وإنه لما يبكي ويحزن أن تجد الممثل النابغ (؟) وقد فرضوا عليه لغة بائدة فصار يوجّه همه إلى إتقان المرفوع والمنصوب وقد نسى الفن وترك روعة التمثيل جاناً لأنه منصرف إلى ما ألقى بروعه في شأنه أنه أهم. وإنه لمن المحزن أيضاً أن تجد لجنة قراءة الروايات تجيز روايات ليس فيها من شيء إلا أنها كتبت بلغة عربية سليمة. وإنك لتستعرض كل الروايات التي نجحت في المباريات فتجدها لغة في لغة، وتجدها نماذج من الإنشاء، أما الفكرة فلا، أما الفن فلا، أما الكلام و (الدروشة) فنعم. وقد تجيز رواية لا لغة فيها ولا فكر ولا فن كرواية طبيب المعجزات. إليك المثل الثاني:
قُدمت رواية من هذا الطراز فأجازتها الفرقة فأعدت للتمثيل وكلف مترجم الفرقة أن ينقلها إلى الفرنسية ليتمكن المخرج الفرنسي من إخراجها، فرأيته بعيني رأسي يكاد يغمى عليه من الطنطنة والجلجلة والكلام المدوي كالطبل الأجوف، ويسأل ناقلها إليه: أحقيقة كل هذا موجود، كل هذا الكلام الطويل العريض، كل هذا اللفظ المكرر المعاد. لا وربي، إن هذه الرواية لا يمكن تمثيلها بحال؛ إن التمثيل تمثيل لا كلام، وكلمة دراما معناها نقل القول إلى الحركة، لا الحركة إلى القول، كل هذا عن رواية أجيزت وأعدت للتمثيل. وكم كم عند الفرقة مثلها من متراكم لا حصر له تجيزه الفرقة فلا يمثل ولا يصلح لشيء.
قلت: ما دمت ترى الأساس خطأ في إنشاء الفرقة فما رأيك في علاجها لتصبح مؤسسة تماشي النهضة الأدبية؟
فأجاب: يجب أولاً أن يتنازل مدير الفرقة فيعترف معنا بأن رسالة المسرح الجديد غير قائمة على اللغة، وليس من العار أن يجلس إلى رجل كالمسيو فلاندر أو إلى ممثل كجورج أبيض فيتحدث إلى أحدهما في رسالة المسرح. ويمكنه أن يسأل نجيب الريحاني وهو رجل يفهم هذه الرسالة على أتمها وقد سمعته بأذني يتمنى أن يرشد المهيمنين على الفرقة القومية إلى رسالة المسرح
الفكرة الثانية: يجب أن تبدل لجنة القراءة تماماً - مع احترامي لأعضائها وتقديري لعلمهم وأدبهم - أرى أنهم لا يصلحون بتاتاً إلى ما هم مكلفون به، ولو خيرت لجعلت لجنة(296/88)
القراءة مكونة من فلاندر وجورج أبيض ورياض وعلام وأضيف إليهم رجلاً واحداً يفهم اللغة
وفكرة أخرى: يجب أن تكلف الفرقة من تتوسم فيه من المؤلفين الفهم والمقدرة أن يترجم أو يقتبس أشهر الروايات العالمية. نعم تكلفهم بذلك وتفتح الباب أمامهم وتترقب مجهودهم وبهذا يتسع المجال ولا تقبر الكفايات، وبذلك تخطو الفرقة خطوات في سبيل السداد
- هل أنت من دعاة اللهجة العامية، وأنت الشاعر المفروض فيه الحرص التام على المعنى والمبنى؟ وهل تصلح اللهجة العامية للتراجيديا والدراما والكوميديا على السواء؟
- إني من دعاة اللغة العربية التي يفهمها الشعب على شرط أن يباح استعمال اللفظة العامية حين لا يكون منه مناص وحين لا يعتبر وجودها إسفافاً، وحين تضيف جمالاً ونغمة جديدة إلى لغة المسرح
- هل كانت رواية (الجريمة والعقاب) مكتوبة في الأصل باللهجة العامية؟
- كانت مكتوبة في الأصل باللهجة الفرنسية البسيطة التي تقارب العامية ولكن ترتفع قليلاً عنها. ومن يرد معرفة الحقيقة فليقرأ النص الفرنسي التمثيلي من وضع جاستون باتي، ولكنها في الأصل من قلم ديستويفسكي الفخم وتحليله العميق
- هل تظن أن هذه الرواية كانت تفقد قيمتها لو ترجمتها باللغة الفصحى؟
- يا سيدي إنها بلغتها البسيطة كانت أرقى من مستوى الجماهير فما بالك بها وهي بالفصحى المجلجلة؟. . . انتهى.
لا ينفرد صديقي الدكتور ناجي بالرأي الذي أبداه بشأن لغة المسرح وضرورة جعلها تناسب ذوق الجمهور، فقد سمعت حديثاً غريباً من صديق أديب أعرف فيه ولعاً باستعمال الألفاظ النابية وقد أطلقنا عليه اسماً لا أريد ذكره يدل على أنه يقد ألفاظه قداً وينحتها من صخر صلد، لأن كلمتي افرنقع وتكأكأ وما يماثلها من الكلمات الحوشية التي ألحدها الإهمال ودفنها التناسي هما من الكلمات المستملحة المستحبة عنده. وقد لا يخلو مقال له من (منجنيق) يصوب كراته الافرنقعية والتكأكئية على الأذواق.
أقول سمعت رأياً غريباً منه، وقد سمعنا ما يضارعه في حديث الأستاذ إبراهيم رمزي خلاصته أن الأمة لا تريد اللغة الفصحى ولا تستطيبها، وحجته أن الطبقة الأرستقراطية(296/89)
نساء ورجالا، لا تعرف العربية وهي تتكلم الإنجليزية أو الفرنسية، ولهذا لا تميل إلى التمثيل سواء أكان بلهجة العامة أو باللغة الفصحى، وإن طبقة الدهماء لا رجاء منها ولا فائدة. أما الطبقة الوسطى وهي أقلية بالنسبة للطبقتين العليا والدنيا تؤثر اللهجة العامية لقربها من الفهم، ولأنها تنشد من المسرح التسلية والترفيه عن النفس، وينتهي بالدعوة إلى مسايرة الشعب ما دام الشعب لا يميل إلى غير التسلية والانبساط
قد يكون رأي صديقي هذا أكثر آراء الشبان تهاوداً وأبعدهم عن التعسف في الحكم على اللغة العربية وقواعد صرفها ونحوها، وتنوع مترادفاتها ووفرة مفرداتها، ولكن هل يجوز - على هذا القياس - أن نهمل اللغة ونعطل أداة التعليم ونحد من معرفتنا إرضاء لطبقة تؤثر التسلية والانبساط؟
إني قبل كل شيء أنزه الأمة بطبقاتها الثلاث عما قاله فيها صديقي الأديب، لأني أوقن أن نهضة الأمة محسوسة ملموسة بدليل أنه عندما تهم لحضور التمثيل تهيئ ذاتيتها كما تهيئها للصلاة أو لسماع خطاب أو محاضرة. وقد برهنت على هذا الاستعداد النفساني قبل عشرين أو ثلاثين عاماً بإقبالها على حضور تمثيل فرق عبد الرحمن رشدي وجورج أبيض والشيخ سلامة حجازي إذ كانت كل رواياتها تمثل باللغة العربية الفصحى، فما بالها وقد ارتقت بالفعل، وتطورت وفق نهضة العصر وأصبحت آدابها واضحة الازدهار؟ أقول: ما بالها تشكو اليوم مما قد استساغته بالأمس وأفادت منه خير فائدة؟
الأدب بخير، والآداب بخير أيضاً، وتقدمنا الثقافي مستمر، وإن كان ثمة من شكوى موجعة فهي من كسل الشبان ومن رخاوتهم وخنوثتهم ومن قعودهم عن سلوك مسالك الكمال، فلغة المسرح الرصين يجب أن تكون الفصحى كما يجب أن تكون لغة الرواية التي من نوع التراجيدي أسمى من لغة الرواية التي هي من نوع الدراما، ولغة الكوميديا أبسط من لغة الدراما. أما القائل باللهجة العامية للمسرح فهو مغرض أو كسول أو بعيد عن روح الأمة
ابن عساكر(296/90)
العدد 297 - بتاريخ: 13 - 03 - 1939(/)
رسالة أمير المؤمنين الفاروق إلى الشباب
شعبي العزيز
أحببت ونحن نستقبل العام الهجري الجديد، أن أهنئكم والعالم الإسلامي بهذا العيد السعيد، مبتهلاً إلى الله أن يجعله عام خير وسلام وإقبال على الجميع، وأن يقرنه بتوفيق الجد، وبلوغ القصد.
إن هذا اليوم الذي يتمثل فيه أمامنا حادث الهجرة العظيم بما فيه من العظة البالغة، والمعاني السامية، وبما كان له من الأثر الخالد في بث روح الفضيلة والإخاء والمغامرة في سبيل الحق، ليستحق منا تمجيده بالعمل الصالح والتوجيه النافع لخير الإنسانية.
وإني ليطيب لي أن أشير إلى ما سيتم بإذن الله وجميل رعايته في مستهل هذا العام المبارك من عقد أواصر المصاهرة، بين الأسرتين الكريمتين في إيران ومصر، مما يزيد في إحكام روابط الإخاء والمودة بين الشعبين، فوق ما يربطهما من الصلات الأدبية والثقافية منذ القدم
شعبي العزيز
لم أتحدث إليكم قبل اليوم عن نفسي، وكنت أعد ذلك من سبق الحوادث؛ ولكن هذه الفرصة قد أتاحت لي أن أتحدث إليكم قليلاً في ذلك فتزدادوا معرفة بي، وركوناً إليّ
إن سر النجاح هو الثقة والإيمان. ومن لا ثقة به ولا إيمان له لا رجاء فيه. فعلى الذين وثقوا بي أن يعتمدوا عليّ، إذ في ذلك كل الخير لهم
إنني مع إعجابي العظيم بوالدي - طيب الله ثراه وتغمده برحمته - قد أكون قد حالفته في بعض طباعه، ولكني أؤكد أنني قد احتفظت بأبرز هذه الطباع. فأنا مثله لا يستطيع أن يؤثر فيّ أحد إذا تبنيت صواب أمر واعتقدت - بعد تقليب وجوه الرأي - أنه في صالح شعبي أفراداً وجماعات
وإن ثقتي بنفسي، وتوكلي على الله، هو الذي يلهمني تصريف الأمور، ويوجهني الوجهة التي اختارها
بيد أن هذا لا يمنع أن أستمع لآراء ذوي الخبرة من الرجال، شأن كل إنسان يتحرى وجوه الصواب
إنني أومن - ومرُّ الأيام يؤيد إيماني - أن شباب مصر المتوثبة للمجد سيكتبون صفحة خالدة في تاريخ الوطن. وفي استطاعتهم أن يصنعوا من هذا الوطن العزيز مصر العظيمة(297/1)
المتحدة التي هي آمالنا وأحلامنا جميعاً وعلى الشباب وحده تحقيق هذا الحلم.
ولكن انتبهوا؛ فالطريقة التي تتبعونها لا تحقق أملنا هذا. ولابد من العمل المتواصل في جو يسوده الهدوء والإفادة من الرؤوس الناضجة واحترام النظام.
وليكن هدفكم سعادة المجتمع ومصر القوية، القوية في نفسها، وفي أبنائها، والمستعدة لإعلاء كلمتها، وفرض احترامها على من يعبث بعزتها
شعبي المحبوب!
كم كنت أحب أنكم بعد أن سمعتم هذه الكلمات تذكرونها ليرجع إليها كل منكم بين الوقت ولآخر، حتى لا تأتي عليها يد النسيان
ونصيحتي التي أسديها إلى كل مصري مخلص لوطنه ومليكه: أن يكون ذا ثقة بالله وبنفسه وبمليكه.
والسلام عليكم ورحمة الله(297/2)
براعة استهلال العام
ليس أدل على يمن هذا العام وإقباله، من براعة استهلاله. وبراعة
استهلاله تأييد قوة الإسلام، وتوحيد كلمة الشرق، بتوثيق الصلة بين
عرشين أثيلين بالمصاهرة، وتمكين الألفة بين شعبين نبيلين بالمودة.
والعرشان المصري والفارسي أعرق العروش في أصل الحضارة،
والشعبان المصري ولإيراني أسبق الشعوب إلى خدمة الفكر. والسامَّية
الممثلة في مصر، والآرية الممثلة في إيران، هما اليوم مناط الرجاء
في نهضة الشرق الإسلامي القريب والبعيد، لأنهما تجمعان شعبتي
الفكر البشري وما يميزهما من سمو الروح وبراعة الذهن وصوفية
الخيال وحب الحقيقة. فلا جرم كان زواج صاحب السمو الإمبراطوري
محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران، من صاحبة السمو الملكي الأميرة
فوزية شقيقة صاحب الجلالة الفاروق ملك مصر، حادثاً سعيداً في
تاريخ الإسلام والشرق، سيكون له أثره المحمود في تبليغ الرسالة
المحمدية مرة أخرى إلى النفوس العانية التي ضلت سعادتها وراحتها
في ظلام القلق والحيرة والشك
نسجل هذا القران الميمون في هذا العدد الخاص بالهجرة، لأنه وقع في أوائل السنة الهجرية، ولأننا نرجو أن يكون للإسلام والسلام والمدنية من نقلة الأمير المصرية من القاهرة إلى طهران، ما كان لها من نقلة الرسول الأعظم من مكة إلى المدينة. وأنا لندعو الله مخلصين أن يحقق فيه للعرشين العريقين صوادق الرجاء، وأن يجعله للشعبين العظميين عهد الإخاء والرجاء، وأن يقرنه للعروسين الكريمين بالبنين والرفاء.
ابن عبد الملك
ذكرى الهجرة(297/3)
لإمام المسلمين الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر
في مستهل هذا الشهر العظيم بذكراه، أذعت على العالم الإسلامي نجوى لصاحب الهجرة صلوات الله وسلامه عليه، كان فيها تذكرة وفيها بلاغ. وليس شيء أحب إلى نفسي من إعادة هذا الحديث، فإن التذكير بسيرة رسول الله، وبهجرته في سبيل الله، شفاء لغل الصدور، وجلاء لرْين القلوب، وقوة لضعف الأنفس
إن دعوة الرسول الأعظم كانت في مكة أشبه بالغيث أنزله الله في يباب القفر، ففاض بعضه في سباخ الأرض، واحتبس بعضه في أصلاد الصخور، ثم نفّس الله عنه من شدة الضيق والحصر فانبثقت عنه الحواجز الصم، فجرى سيولاً في السهول والأودية، وتشعّب ينابيع في القرى والمدائن، يحمل الخصب والنماء، ويوزع الري والغذاء، فأحيا موات الأرض، وروى غُلة الناس، وكان منه العمارة والحضارة والخير
نعم كانت هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة هي هذا الانبثاق الذي انساح به الإسلام في أقطار الأرض يحمل الهدى للأرواح الحائرة، والسلام للنفوس المحروبة، والألفة للقلوب المختلفة، فسارت الإنسانية في طريق الحياة على ضوئه، تنعم بالإخاء في الدين، وتتمتع بالمساواة في الشريعة؛ فلا عصيبة تزرع الأحقاد وتنشر الفرقة، ولا امتياز في الجنس أو في اللون أو في الثروة يوجب الاستعباد ويقتضي الظلم. وحمل خلفاء الرسول رضوان الله عليهم أجمعين مصباح الهداية وزمام القيادة من بعده، ثم استاروا بسيرته، واستنوا بسنته، فأورثهم الله مللك الأرض، وملكهم مقادة العالم، فقادوه على بصيرة وساسوه عن دراية؛ فكان كتاب الله هو الدستور، وحكمه هو القاضي، وسنة رسوله هي الخطة. فلما ابتعد المسلمون عن مشرق النور وأعرضوا عن الذكر، غشيتهم الغواشي فضلوا وجهة أمرهم، وجهلوا غاية قصدهم، وتفرقوا شيعاً في الضلال، وتدفقوا أحزاباً في الباطل، وأصبح كلام الله على ألسنتهم ألفاظاً لا معاني لها ولا رَجْع منها، فأفلت من أيديهم زمام الأمر، وسلب الله من أعدائهم الرعب منهم، فتقهقروا إلى مؤخرة الركب، وساروا(297/4)
أتباعاً بعد أن كانوا أئمة، وإهمالاً بعد أن كانوا سادة. كل ذلك والإسلام هو الإسلام، أنواره لألاءة لا تخبو، ومنبعه ثَرَّة لا تنضب؛ ولكن المسلمين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واستعزوا بغير سلطانه فوكلهم إلى غير راحم
أشهد أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله: رجوع إلى الله في أمره ونهيه، وردُّ الخلاف إلى تنزيله ووحيه، وتأليف القلوب على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. وفي يقيني أن الضال متى أدمت قدميه وعورة الطريق، وأنهكت قواه مشقة الحيرة، عاد يلتمس الهدى من مصدره، ويبتغي القصد من دليله. فالإسلام كما كان المبدأ سيكون المعاد، وكما أنقذ العالم في الأولى سينقذهم في الثانية. ومادام الله عزه اسمه قد ختم به الوحي فلابد أن يجدد حبله كلما رث ليعتصم به اللاجئ ويجتمع عليه الشتيت ويفيء إليه الشارد.
إن آية الهجرة التي ظهر بها الإسلام وعلا فيها الحق هي الإخلاص للعقيدة والتضحية للمبدأ والمصابرة في الجهاد والمؤاخاة في الله. وهذه الصفات التي زود الله بها رسوله الكريم لتبليغ رسالته وتمكين أمره، هي عدة كل دعوة ووسيلة كل نهضة؛ وبدونها لا يتفق رأي ولا تجتمع كلمة ولا تؤدي سياسة. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحمل بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) أسأل الله المسلمين عامة ولهذا البلد خاصة هَديْا وسدادا، وعونا وإسعادا، وألفة واتحادا، إنه واسع الفضل عظيم الطول سميع الدعاء.
محمد مصطفى المراغي(297/5)
يهتمون به فهل يعرفونه؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
العصر الحاضر من العصور التي اشتد فيها الاهتمام بالعالم الإسلامي بين جميع الدول الكبرى
لأن هذه الدول على وشك القتال، وتعلم كل منها ولا ريب أنها غانمة رابحة، وأنها كبيرة الأمل في النصر إذا ظفرت من اليوم بمودة الشعوب الإسلامية؛ وهي موزعة في المواقع التي تحوم حولها المطامع ويتأشب فيها النزاع
فاليابان تنادي بمبدأ (آسيا للأسيويين) وتعني بذلك أن (آسيا لليابانيين) وتعرف ما تكسبه في أسواق التجارة وفي ميادين الحرب إذا هي استمالت إليها مسلمي الصين والهند وما وراءهما من أواسط آسيا، فضلاً عن المسلمين في جزر الهند، وهم أصحاب شأن عظيم في تلك الأرجاء
والولايات المتحدة لا يسعها أن تنسى الاهتمام بشيء يهتم به اليابانيون، وبخاصة كل شيء تكون له علاقة بالصين والفليبين وشواطئ المحيط الهادي في عدوتيه
والدولة الشيوعية الكبرى - وهي الروسيا - تقف لليابان بالمرصاد في القارة الآسيوية، وتتودد إلى المسلمين هناك، وهي حائرة لا تدري هل تهدم الشعائر الدينية تطبيقاً لمذهبها فتغضب المسلمين وتدفع بهم إلى أحضان خصومها، أو تبقي على الشعائر الدينية فتغضب دعاتها ولا تستطيع التوفيق بين برامجها في الأرض الروسية وبرامجها في البلاد التي تصاقبها وتبادلها المعاملات التجارية والسياسية.
ولا تتخلف (الفاشية) في المضمار، بل يبرز على رأسها (موسوليني) منادياً بأنه (حامي) الإسلام ونصير المسلمين، ولو كان على نصيب من (الحذق الاستعماري) أوفى من هذا النصيب لعلم أن الإيمان بالدين وقبول حمايته من غير أهله نقيضان في المنطق والشعور على السواء، ولاسيما من وجهة النظر الإسلامية التي تفرض على المؤمن بها حماية نفسه في وجه المغيرين عليه
أما الدول الديمقراطية فهي تقابل المساعي اليابانية والمساعي الشيوعية والفاشية بالتوجس والحيطة، وتريد أن تقاومها فتعمد إلى عقد المحالفات وفض المشكلات وتوحيد المصالح(297/6)
بينها وبين العالم الإسلامي في حالتي الهجوم والدفاع، وتفتح لها الطريق في هذا المجال بريطانيا العظمى ثم الجمهورية الفرنسية
والعالم الغربي يعتقد اليوم أن (العالم الإسلامي) يتحفز ويتوثب، وأنه قوة رشيدة لا تعمل معاملة القاصر التابع لغيره، ولا مناص من حسبان حسابها لمن تربطه بها علاقة قريبة
كتبت مجلة (التاريخ الجاري) في عددها الأخير مقالاً جعلت عنوانه: (محمد يتهيأ للعودة) وعقبت بذلك عنوان آخر فحواه أن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى السلطان
ثم قالت: (في جزائر الفليبين وفي الجامعات المصرية، في قصور الملوك الشرقيين وفي خيام التتار المرتحلين، على الكراسي البرلمان اليوغسلافي وبين أكواخ الزنوج عند الشاطئ الذهبي، في آجام أفريقيا وفي صحارى آسيا، يترقب السلمون كل يوم بل كل ساعة مطلع المهدي الذي يتجسد فيه محمد عليه السلام، وقد تيقظت قوة الإسلام واتخذت لها شكلا سوياً في عالم السياسة، ولا تزال (التعاليم المحمدية) سارية منتشرة بين الشعوب الملونة التي تجد من المقاربة بين إدراكها وبين هذا النوع من التوحيد ما ليست تجده في المسيحية أو اليهودية. وهنالك عامل آخر من عوامل هذه الحركة وهو إخصاب الشعوب الإسلامية وتوالدها. فإن الشعوب البيضاء تصاب بالعقم وقلة النسل بينما يتوالد المسلمون كالأرانب!)
وعلى هذا الاهتمام باليقظة الإسلامية وهذا الإيمان بقوتها هل تراهم يعرفون الحقائق عن الإسلام أو عن أخبار المسلمين الجوهرية؟
إن مجلة (التاريخ الجاري) من أوثق المجلات الأمريكية خبراً واصدقها بحثاً، ومع هذا ترى الخلط فيها بين نهضة الإسلام وبين ما تسميه انتظار المهدي الذي يتجسد فيه محمد علية السلام
وترى قبل ذلك أنها تمهد لمقالها فتقول: (في كل يوم من أيام الجمعات يقف خمسة وعشرون ألفاً من رعايا الولايات المتحدة خاشعين مكتوفي الأيدي متوجهين إلى الشرق يصلون إلى الله ويسألونه قرب ظهور المهدي المنتظر. فإن أبناء الإسلام هؤلاء قد حافظوا على عقيدتهم الغامضة في رجعة مسيحهم كمحافظة المائتين والخمسين مليوناً من إخوانهم الموزعين بين مراكش وجزائر سنداي وبين مدغشقر وأرض المغول)(297/7)
فأين العلم بالإسلام وبنهضة المسلمين ممن يكتبون هذه الكتابة وهم محسوبون بين أبناء وطنهم ممن يحسنون الخوض في هذه الشؤون؟
على أن الجهل بالأخبار الواقعة لا يقل عن الجهل بالعقائد النفسية والشعائر الدينية، فقد كتبت مجلة أمريكية أخرى اسمها (أخبار الأسبوع) تقول بعنوان: (الخليفة فاروق):
(لما دخلت تركيا الحرب في سنة 1914 أعلن السلطان عبد الحميد (هكذا) باعتباره خليفة المسلمين الدعوة إلى الجهاد أو الحرب المقدسة على الحلفاء الكافرين، وقد فشلت هذه الدعوة ولكنها كلفت بريطانيا العظمى وفرنسا وهما تحكمان مائة مليون وستة ملايين من المسلمين نفقات جمة في مقاومتها بدعوة أخرى، وبذلت الدولتان تلك النفقات وهما خائفتان.
(ثم ألغى كمال أتاتورك الخلافة في سنة 1934 بعد إقصاء السلطان.
(ثم قام موسوليني ينادي بأنه حامي الإسلام ويستثير العرب على بريطانيا العظمى في فلسطين وغيرها من البلاد. وشاع أنه أراد بعض حكام العرب من أصدقائه على أن ينصب نفسه للمبايعة بالخلافة، وإن كان الأمل في نجاح الجهاد اليوم أضعف من ذلك الأمل في سنة 1914 مكتفياً بما تستطيع تلك الخلافة من المضايقة في بعض الأحوال).
وبعد أن أشارت المجلة إلى منافسة بريطانيا العظمى في هذه الحلبة قالت ما خلاصته أن صاحب الجلالة الملك فاروق بويع في الأسبوع الماضي بالخلافة في مسجد قيسون العظيم، وأن خمسمائة ضابط هتفوا فجأة للخليفة الفاروق! وأن أمراء العرب شهدوا ذلك الحفل كأنما كان شهودهم إياه من قبيل المصادفة.
هذه أمثلة من جهلهم بعقائد المسلمين وأخبار بلاد المسلمين، وهم يهتمون جد الاهتمام بنهضة المسلمين.
ويرجع هذا الخلط إلى أسباب: بعضها مقصود، وبعضها غير مقصود.
فمن الأسباب ما هو مقصود لأغراض سياسية أو تجارية كتمثيل المسلمين في صورة تسوغ للدول المستعمرة أن تعاملهم معاملة المتأخرين الذين لا يصلحون لقوانين الحضارة وقواعد الحرية
ومن الأسباب ما هو مقصود لأغراض فنية ونعني بها الرغبة في التأثير والإغراب وتشويق القارئ إلى العجائب التي لا يألفها في بلاده وبين أبناء وطنه. ومن الكتاب(297/8)
الغربيين من يتعمد التحريف في أخباره لأنه يخشى أن (يخيب أمل) القراء فيه إذا أصغوا إليه ليحدثهم عن شعوب الشرق وأحوال الإسلام فإذا هو يحدثهم بما يألفونه ولا يستغربونه ولا يحققون به تلك الصور المزخرفة التي طالما تخيلوها وحلموا بها وهم يقرءون ألف ليلة وليلة ويستعيدون ما نقل إليهم من أقاصيص الرحالين في الزمن القديم.
أما غير المقصود من الأسباب فمنشأه قلة الاكتراث وصعوبة البحث وعزلة المسلمين في العصور الماضية وسماع أخبارهم من جهلاء بينهم لا يفقهون أسرار دينهم ولا يبالون ما يهذرون به من عقائدهم وعاداتهم ولا يدركون الفرق بين ما تعودوه ودرجوا عليه وبين ما هو من حقائق الإسلام وشعائره الصحيحة.
على أن الذي يعنينا حق العناية هو أن نعلم نحن حقيقة الغربيين، لا أن يعلموا هم حقيقتنا، وينفذوا إلى الصحيح من أخبارنا ومقاصدنا، وإن كان علمهم بهذا نافعاً لنا كلما تيسرت وسائله في أيدينا.
والذي يبدو لنا من العلم بحقيقة القوم أن العالم الإسلامي خليق أن يعامل كل من يعامله منهم على سنة الإنصاف والمنفعة المأمونة العواقب، وكل ما ينبغي أن يحذره هو الإصغاء إلى دعاة الشيوعية والإصغاء إلى دعاة الفاشية، وأن يكون ذنباً في أعقاب الديمقراطية، فإذا استطاع أن يمشي مع الأمم الديمقراطية الحرة في الطليعة فلا عليه بعد ذلك أن يعامل من يشاء على سنة الإنصاف والنظر البعيد إلى العواقب الأمور.
عباس محمود العقاد(297/9)
عمر في بيت المقدس
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
هذا عام ستة عشر من الهجرة، وقد انساحت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين. وأبو عبيدة ابن الجرّاح يحصر بيت المقدس، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم
عزم أهل بيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس - في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر. . . عمر الذي ملأت سيرته الآفاق وسكنت إلى عهده النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون
وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم. خرج يغذّ السير إلى الشام ليتفقد أحوال المسلمين، ويصالح أهل فلسطين. . .
ويمضي في طريقه حتى يبلغ أَيلة. ويتنظّر الناس موكب أمير المؤمنين يحسبون أنه سيطلع عليهم في زينته يحيط به جنده ورجاله. والذي رأى منهم هرقل حين فتح بيت المقدس قبل عشر سنين، أو شهده من بعدُ في حلّ أو ترحال، تخيل عمر قادم في موكب كموكب هرقل أو في موكب دونه ولكنه موكب ملك أو أمير
ولما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق وتبعه غلامه فنزل فمشى قليلاً (ثم عاد فركب بعير غلامه وعلى رحله فَرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه). وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء فتحول إلى رحل غلامه. فلما تلقاه أوائل الناس قالوا: (أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم (يعني نفسه). وذهبوا إلى أمامهم فجازوه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها. وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه)
ونظر الناس إلى رجل طويل جسيم أصلع أشقر شديد الحمرة كثير السَبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفة - رجل لا تقع العين منه إلا على الوقار والتواضع والشدة في الحق والرأفة بالضعفاء. رأوا ملكاً في زي ناسك، وراعي أمة في صورة راعي ثلة. رأوا إنساناً لا تفقد فيه الإنسانية حقيقة من حقائقها، ولا يصيب فيه الجبروت باطلاً من أباطيله.(297/10)
اجتمع الأساقفة والرهبان يرون رجلاً في يده الدنيا ولكنها ليست في قلبه، يملكها ولا تملكه، ويصّرفها ولا تصرّفه، ويستبعدها ولا تستبعده. وليس شيئاً أن تكون زاهداً في صومعة ولكن العظمة كلها أن تكون زاهداً والدنيا تحت قدميك.
(ودفع عمر قميصاً له كرابيسَ قد إنجابَ مؤخرُه عن عقدته من طول السير، إلى الأسقف وقال: أغسل هذا ورقعه. فانطلق الأسقف بالقميص ورقعه، وخاط له آخر مثله فراح به إلى عمر؛ فقال: ما هذا؟ قال الأسقف: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته؛ وأما هذا فكسوة لك منيّ. فنظر إليه عمر ومسحه ثم لبس قميصه ورد عليه ذلك القميص. وقال: هذا أنشفهما للعرق).
- 2 -
وسار عمر حتى نزل الجابية في وسط الشام التي غلب عليها هرقل، ولكنه دخل الجابية كما دخل أيلة. قدم (على جمل أورق تصطفق رجلاه بين شعبتي رحله بلا ركاب. وطاؤه كساء أنجاني ذو صوف، هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل. حقيبة ممزقة أو شملة محشوّة ليفا هي حقيبته إذا ركب، وسادته إذا نزل، عليه قميص من كرابيس. الخ)
وجاءه رجل من اليهود، وكان اليهود يرقبون رَوح الله بأيدي العرب، ويدعون الله أن يفرج كربهم ويذهب عنهم جبروت الروم بأيدي المسلمين. قال اليهودي: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيليا، لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء
وأقبل وفد بيت المقدس إلى الجابية فصالحوا، وكُتب لهم عهد شهد فيه خالد بن الوليد وعمر بن العاص وعبد الرحمن ابن عوف ومعاوية بن أبي سفيان. وأعطوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وألا يُكره أحد على الدين أو يضّار في شيء
وأزمع أمير المؤمنين المسير إلى بيت المقدس فإذا فرسُه يتوجّى فأتى ببرذون فركبه ومشى البرذون مشيته فأسرع وهزّ راكبه فرأى عمر فيها خيلاء فنزل وضرب وجهه وقال: لا علّم الله من علّمك، هذا من الخيلاء
- 3 -
دخل عمر بيت المقدس لا مدمراً مخرباً كما دخلها بختنصر، ولا مضطهداً أهلها كما دخلها(297/11)
الرومان من قبل، ولا مزهواً بفتحه كما دخلها هرقل قبل عشر سنين بعد أن غلب الفرس على الشام، ولكنه دخل رافعاً لواء التوحيد والعدل والأخوة العامة والمرحمة الشاملة. دخل المدينة فسار إلى المسجد ليلاً ومضى إلى محراب داود فصّلى فيه. وطلع الفجر بعد قليل ودوّى الأذان في أرجاء المدينة المقدسة للأول مرة - صيحة الحق في أعقاب الباطل المهزوم ترفعها تباشير الصبح في أخيرات الظلام. وشهد الله لقد كانت فاتحة الخير والسلم والكرامة لبيت المقدس ومن فيه. وقرأ عمر في الركعة الأولى سورة (ص) وسجد حين قرأ آية السجدة: (وظن داود إنّما فتناّه فاستغفر ربّه وخّر راكعاً وأناب). ثم قرأ في الركعة الثانية أول سورة الإسراء - سورة بني إسرائيل وفيه وصف ما أصابهم على يد البابليين
ثم تقدم إلى الكناسة - الكناسة التي تراكمت على البيت حين أُخرب وهجر والتي عجز اليهود أنفسهم عن إزالتها حين ملكوا أمر البيت - تقدم إلى الذلة المكدّسة على الحرم - تقدم عمر ليزيلها عن البيت كما أزال عن أهله الظلم والقسوة. تقدم أمير المؤمنين وجثا وقال: (أيها الناس اصنعوا كما أصنع وجثا في فرج من فروج قبائه)، وإنما فعل عمر ما فعل تكريماً للبيت وتطهيراً وإيذاناً بهذا العهد عهد الطهارة والكرامة
وكبر كعب الأحبار وكبر الناس معه. قال عمر: ما هذا؟ قال: كبّر كعب وكّبر الناس. قال عَليّ به. فقال كعب: (يا أمير المؤمنين إنه قد تنبأ بما صنعت اليوم نبّي منذ خمسمائة سنة. فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه؛ ثم أديلوا فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت عليهم الروم إلى أن وليت، فبعث الله نبياً على الكناسة فقال: ابشري أوري شلِم! عليك الفاروق ينقّيك مما فيك. أتاك الفاروق في الجندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم)
لقد لبث اليهود خمسمائة سنة ينتظرون أن تطلع شمس الإسلام، ويأتي الفاروق ليحثوا التراب في قبائه ويأمر الناس بتطهير بيت المقدس
وما فقدوا رعاية الإسلام من بعدها، إلا تسعين عاماً غلب فيها أهل الصليب فأصاب البيت المقدس ما أصابه حتى أسترجعه رجل من رجال المسلمين، ملك يتشبه بعمر بن الخطاب في الإشادة بعدل الإسلام ومرحمة الإسلام. رحم الله صلاح الدين يوسف ابن أيوب
ولكن بني إسرائيل حين رأوا الزمان ينيخ على المسلمين بكلكله لم يأتوا عوناً للعرب(297/12)
والمسلمين، ولم يذكروا فضل الإسلام ولا حفظوا يد عمر، ولا اعترفوا برعاية المسلمين وحمايتهم ثلاثة عشر قرناً، بل جاءوا يجزون الحسنة بالسيئة، ويعينون الخطوب على الذين دفعوا عنهم الخطوب، ويناصرون الأعداء على الذين أنقذوهم من الأعداء، ويمالئون الذين دفنوا بيت المقدس على الذين رفعوا عنه التراب والرجس والهوان
وليت شعري ماذا ينقمون من المسلمين والعرب؟
(يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل إليكم)؟
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون)
عبد الوهاب عزام(297/13)
من الفتوة العربية
الشاعر الفارس
أبو محجن الثقفي
للأستاذ أحمد حسن الزيات
- 1 -
كانت (المدينة) يومئذ عاصمة الإسلام، وعمر الجبار العادل يحمل بيده القوية مَشعل محمد فيرسل أضواءه السماوية إلى الجهات الأربع، والفرسان المسلمون في القادسية يَثُلُّون العرش المجوسي ليقيموا على قواعده الكسروية منبر الهدى والسلام. وكانت الجزيرة العربية لا تزال معلقة بين السماء والأرض، ترفعها الروحية الإسلامية إلى أعلى، وتجذبها المادية الجاهلية إلى أسفل. وكانت مدن الحجاز الثلاثُ: مكُة والمدينة والطائفُ مظهرَ الفتوة العربية، لأنها مجمع السيادة والقوة، ومنبع الرفاهة والثروة. والفتوة العربية وإن جمعت أطراف المروءة كانت تدور على ثلاثة الشاعر الشاب طَرفَة، وهي الحب والشرب والحرب، ثم تصوير كل أولئك بالشعر الغنائي الرقيق. ولم تستطع هوادة الإسلام ولا صرامة عمر أن تكفكفا نوازي الهوى في نفوس نشأت على فتون الجهالة ومرَح الشّرك؛ فكان في أبطح مكة، وعقيق المدينة، وغزوانِ الطائف (مساحبُ من جَرَّ الزَّقاق على الثُرى) لا تزال معطرة الأديم بمناجاة الحب، ومطارحة الشعر، ومناقلة الحديث. وكان وادي العقيق في العاصمة المنورة قلما يفيض دون أن تنتظم على حواشيهِ الخضر مجالس الشراب وسوامر الأحباب يتساقون في غفلة العيون كؤوس الراح والصبابة؛ ولكنهم ما كانوا يستطيعون أن يغيبوا عن عيون العَس ولا أن يفلتوا من يد الخليفة مهما تستروا بالليل وتحصنوا بالبعد
في صبوة من هذه الصبوات الليلية الجاهلية قبض العسس العُمَري على الشاعر الفارس أبي محجن وهو عائد في نداماه من العقيق يتماوَح من السكر وينشد في تطريب وهِزَّة:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تُرَوَّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها(297/14)
وأبو محجن - إن كنت لا تعرفه - رجل من سروات ثقيف، درج في رياض الطائف وكرومه، ونشأ على فتوة أهله وصبوة شبابه؛ فهو رضيع كأس، وتِبعُ نساء، ومِسْعر حرب، وصناجة شعر، وصِنو مروءة. أسلم هو قومه في أُخريات الناس حين لم يكن من الإسلام بد، ودخل في دين الله بما ورث وكسب من عادِ الجاهلية، فأخذ يروضُ نفسه الصعبة على الوقوف عند حدود الله، فكان يخفق مراراً وينجح مرة، حتى أقنعه اليأس آخر الأمر أن لا بأس من الشراب مادام يطهره الحد، وأن لا َضْير من الحب مادامت تمحصه التوبة!
على ذلك عشق (شموس) الأنصارية وركب إلى رؤيتها المحظورة شيطانه المحتال، فتزيا بزي فلاح وعمل أجبراً في بستان يطل على دارها، فكان ينعم بالنظر والسمع، وربما تمتع بالسلام والحديث، ثم يعود فيسلسل الماء بين البقول والزهور ويتغنى بمثل قوله:
ولقد نظرت إلى شموس ودونها ... حرَجُ من الرحمن غير قليل
وعلى ذلك أيضاً كان يتتبع هو ونداماه رياض الأرض، يشربون ويطربون ثم يرجعون إلى المدينة نشاوى من القصف والعزف فلا تنم عليهم عين ولا يشي بهم لسان، حتى وَلي الخلافة الفاروق فطارد الجريمة في كل مكان، وهاجم الرذيلة في كل مكمن
- 2 -
دخل العسس بأبي محجن وندمائه على عمر، فسألهم:
- أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله؟
فأجابه لسان القوم أبو محجن:
- كيف حرمها الله يا أمير المؤمنين وهو يقول: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات؟
فوقف صاحب رسالة القضاء من حجة الشاعر موقف الحائر؛ ثم التفت من حوله من صحابة الرسول يستمد رأيهم في الأمر فاختلفوا فيه. فأرسل إلى علي مرجع الفتوى وفيصل الحكم يستشيره، فقال: (أن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلوا الميتة والدم ولحم الخنزير. وأرى إن كان قد شربوا الخمر مستحلين أن يقتلوا، وإن كانوا شربوها مستحرمين إن يُحدُّوا. فسألهم عمر، فقالوا: والله ما شككنا في أنها حرام، ولكنا قَدَّرنا أن لنا فيما قال نجاة. فجعل يجلدهم رجلاً رجلاً حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده جعل يقول:(297/15)
وإني لذو صبر وقد مات اخوتي ... ولست عن الصهباء يوماً بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر
فقال له عمر: قد أبديت ما في نفسك، ولأزيدنك عقوبة لإصرارك. فقال الأمام عليّ حجة القضاء وولي العدل:
- ما ذلك لك يا عمر. وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال لأفعلن وهو لم يفعل. وقد قال الله في الشعراء: وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال عمر: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فقال علي: أهؤلاء عندك منهم؟ لقد سمعت الرسول (ص) يقول: لا يشرب الخمر شارُبها وهو مؤمن.
نجا أبو محجن وما نجا. فأنه أصر على ألا يترك الخمر مخافة العقوبة، وأصر عمر على أن يجلده كلما شرب، حتى أعيا الخليفة أمره وأعجزه صلاحه، فقرر أن ينفيه إلى جزيرة كان ينفي فيها الخلعاء، ووكل به شُرَطياً يصحبه إلى المنفى وأوصاه أي يدع معه السيف فإنه كميُّ فاتك. وعلم أبو محجن بالحكم والوصية، فتزود بغرارتين ملئتا دقيقاً، ثم عمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وغمده في غرارة. فلما بلغ هو والشرطي ساحل البحر قعدا للغداء، وفتح الغرارة يوهم أنه يخرج الدقيق ولكنه أخرج السيف! فلم يكد الشرطي يراه في يده حتى انطلق يعدو إلى بعيره فنجا به إلى المدينة بعد لأي.
وقال الشاعر لنفسه بعد تفكير وتدبير وعزم: لا ينبغي أن يكون المفر من عمر في الحجاز إلا إلى سعد في العراق
- 3 -
وفد أبو محجن على فاتح العراق سعد بن أبي وقاص يوم الكتائب من أيام القادسية؛ وكان سعد قد تلقى من أمير المؤمنين الساهر اليقظ كتاباً يأمره فيه بحبس الشاعر ساعة يفد. ودارت رحى الحرب بين العرب والفرس وأبو محجن مقيد في قصر القائد، فما كاد يسمع وغاها حتى عصفت النخوة في رأسه، وثارت الحمية في نفسه، واضطرب في حبسه اضطراب الأسد في قفصه. ثم زأر بهذه الأبيات على مسمع من سلمى زوج سعد:
كفى حزَناً أن تطعن الخيلُ بالقنا ... وأُتركَ مشدوداً عليَّ وثاقيا
إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلَّقت ... مصاريع من دوني تُصم المناديا(297/16)
هلم سلاحي لا أبالك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهدُ لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
ثم قال يا سلمى: هل لك من خيرٍ إلي؟ فقالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء فرس سعد، ولله عليّ إن سلمتُ أن أرجع حتى تضعي رجليَّ في القيد. فترددت سلمى حتى تبينت الصدق في قوله فأطلقته. وركب أبو محجن البلقاء ثم دب عليها؛ حتى إذا تنفس الصبح وأشرق يوم أرماث واصطف الناس، حمل على ميسرة العدو حملة صادقة فانخلعت لها القلوب، وانخرعت منها الفيَلة، وتضعضت أمامها الفرس. وعجب العرب أن يكون فيهم هذا الفارس ولا يعرفونه، حتى قال أحدهم: إن كان الحضر يشهد الحرب فهو صاحب البلقاء. وقال آخر: لولا أن الملائكة لا يقاتلون ظاهرين لقلنا هذا ملك. وجعل سعد يقول وهو يشرف على المعركة: الطعن طعن أبي محجن، والضبْر ضبر البلقاء، ولولا محبسه لقلت إنه هو!
وانتصف الليل فتحاجز العسكران؛ وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ووضع رجليه في القيد!
وكانت سلمى قد رأت فعله وسمعت قوله فأعجبت بإبائه ووفائه وبطولته. ثم دخلت على سعد وكانت مغاضبة له، فصالحته وأخبرته بخبر أبي محجن، وسألته أن يطلقه. فأستخف سعداً ما رأى من فتوة أبي محجن ورضا زوجه، فدعاه وقال له وهو لا يزال في حماسة الإعجاب ونشوة الغبطة: والله لا أحبس بعد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على يده هذا النصر، ولا أعاقبه إذا شرب. فقال له أبو محجن وقد بدت على محياه سِماتُ النبل ودلائل المروءة:
- وأنا والله لن أذوقها بعد الساعة. لقد كنت أشربها أنفةً من أن يقول خاف الحد، فأنا اليوم أتركها رغبة في أن يقولوا خاف الله!
أحمد حسن الزيات(297/17)
المرأة في شباب الرسول
للأستاذ توفيق الحكيم
لم يرو لنا التاريخ أن النبي عرف امرأة أو تحرك قلبه لامرأة قبل خديجة. فلقد كانت حياته حتى الخامسة والعشرين حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء، العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة ويلجأ إلى التأمل العميق. فلم يكن للهو والمرأة حتى ذلك الوقت مكان من اهتمامه أو تفكيره. كل ما ورد مع ذلك من أخبار لهو الشباب أنه قال ذات ليلة لفتى من قريش كان معه بأعلى مكة يرعيان غنم أهلها: (أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان). ثم خرج. فلما جاء أدنى دار من دور مكة سمع غناء وصوت دفوف ومزامير، فجلس يلهو بذلك الصوت حتى غلبه النعاس فنام في مكانه ولم يوقظه إلا مس الشمس. فرجع إلى صاحبه فسأله: (ما فعلت؟) فأخبره بما كان. وكان هذا شأنه في كل ليلة من مثل هذه الليالي
كانت العفة المطلقة إذن هي صفته الغالبة؛ وكانت الزهد والحلم والصبر والتواضع ما ميزه عن بقية الشبان، وما جعل قومه يسمونه (الأمين).
ما الذي كان يشغل رأس الشاب محمد في تلك السن مادام اللهو والمرأة لا محل لهما عنده؟ أتراه كان يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ نعم.
ولعل هذه الفكرة تملكت كيانه وطغت على كل شبابه فلم تتسع حياته في ذلك الوقت لشيء آخر.
لقد كان هذا دائماً شأن أغلب أولئك الذين انتظرتهم أقدار عظام، وتملكتهم منذ شبابهم مثل عليا وأحلام، عمرت كل أعوام شبابهم وحلت فيها محل اللهو والمرح.
إن كل شاب يعيش مع شبح امرأة جميلة إلا الشاب الموعود برسالة عظمى فهو يعيش دائماً مع شبح المجد المنتظر.
لعل هذا يفسر لنا بعض الشيء حياة الفتى محمد حتى الوقت الذي لقي فيه أول امرأة أحبها (خديجة). وإنّا لو تأملنا الأمر ملياً لتبين لنا أنه لم يكن البادئ بالحب. كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بال، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيه وقتئذ، فلقد كان يسير في طريق تأملاته الداخلية وأحلامه العليا، وكأنه لا يمشي على هذه الأرض إلى أن(297/18)
لحظته خديجة ذات يوم ولمست كتفه فأفاق قليلاً ورفع عينيه إليها.
نعم. إنها هي التي كانت ترقبه منذ زمن؛ وأن لشعورها نحوه جذوراً ممتدة في أغوار قلبها، امتداد عرق الذهب في المنجم العميق. ما مبدأ هذا الشعور؟ لعله ذلك اليوم الذي احتفلت فيه نساء قريش بعيد لهن، وكانت خديجة بينهن عند وثن من الأوثان فبرز لهن أحد اليهود ونادى بأعلى صوته: يا نساء تيماء! إنه سيكون في بلدكن نبي يقالا له محمد، فأيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجاً فلتفعل!) فقذفته النساء بالحجارة وقبحنه وأغلظن له، إلا خديجة فأنها أطرقت وكأن شيئاً وقع في نفسها من كلامه.
ثم حدث بعد ذلك أن خديجة - وقد كانت ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام وتستأجر من أجلها الرجال - أرسلت الشاب (محمداً) في تجارتها وضاعفت له الأجر وأرسلت معه غلامها ميسرة، فعاد رابحاً ضعف ما كان تربح التجارة على يد غيره، لأمانته واجتهاده
وقص عليها عندئذ غلامها (ميسرة) وقد راقب محمداً في رحلته ما رآه من خلق هذا الشاب المستقيم الأمين، ولعله أخبرها فيما أخبر أن أحد الرهبان قابله، وأنهما تذاكرا ملياً في أمر النبي الموعود المسمى (محمد) كل هذا مع ما تشبعت به الأذهان من أساطير النبوة المنتظرة قد ألقى في روع خديجة أنها أمام شاب لا يبعد أن يكون هو النبي الموعود.
فإذا أضفنا إلى كل هذا أن محمداً كان فتى في الخامسة والعشرين كريم الخلق جميل المنظر، وأن خديجة كانت امرأة في الأربعين، أدركنا أن مثلها كان لابد له أن يحب مثله. وهل يمكن أن يسمى هذا الشعور باسم آخر غير (الحب)؟ ذلك الذي يدفع امرأة ذات شرف وثروة أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو فتى فقير يتيم؟ هي التي قد تقدم إليها أكرم رجال قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، طلبوها وبذلوا لها الأموال فلم تلفت إليهم، وأرسلت تابعتها (نفيسة) دسيساً إلى الشاب محمد تعرض عليه يدها
منبع الحب إذن كان قلب (خديجة)، ولقد كان هذا الحب سامياً قوياً عظيماً فاستطاع أن يفتح قلب محمد وأن يملأه كل تلك الأعوام التي عاشتها خديجة، بل إن الحب لم ينطفئ بموت خديجة، ولقد ظل مكانها من قلبه قائماً دائماً لم تستطع قط امرأة أن تزاحمها فيه.
هذا هو حب محمد الأول، وتلك ناحية من نواحي الفضل المجهولة لم يذكرها الناس كثيراً(297/19)
لخديجة بما هي أهله من التكريم والتمجيد.
توفيق الحكيم(297/20)
أعظم يوم في تاريخ العالم
للأستاذ عبد العزيز البشري
لاشك عندي في أن أعظم يوم في تاريخ العالم على الإطلاق، هو اليوم الذي هاجر فيه محمدُ (ص) وصاحبه من مكة إلى المدينة. فإذا كنت في حاجة إلى دليل، فسيطالعك بعد قليل.
يرى المستعرضُ لتاريخِ الأديان ودعوة الرسل أنها جازت بمراحل ثلاث، طوعاً لتطور الإنسان من البساطة والغفلة والوحشية إلى أن أصبح كفؤاً للحياة المفكرة المدّبرة التي تطلب السمو، وتنشد السعادة في ظل الأمن والنظام.
الطور الأول:
ففي الطور الأول كانت بعثة الرسل مقصورة على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والأمر بأمهات الفضائل، والنهي عن كبريات الرذائل، كما كان وعيد مخالفين الكائدين وتعذيبهم وإرسال العبرة بهم بالغاً غايةَ الرَّوعة في الفتك والعصف والتنكيل.
فلقد أهلك الله قوم نوح، بعد إذ عصَوْه وتحدَّوا دعوته، بإغراقهم أجمعين. قال تعالى: (حتى إذا جاء أمرُنا وفار التنورُ قلنا احمل فيها من كّلٍ زوجين اثنين وأهلَك إلا من سبق عليه القولُ ومَن آمَن، وما آمن معه إلاَّ قليل. وقال أركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفورُ رحيم. وهي تَجري بهم في موجٍ كالجبال، ونادى نوحٌ أبنه، وكان في معزِلٍ، يا بنيَّ، اركب معنا ولاتكن مع الكافرين. قال سآويِ إلى جبلٍ يعصمني من الماء. قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاَّ من رحم، وحال بينهما الموجُ فكان من المغرَقين):
(سورة هود)
ومن هؤلاء المخالفين من أهلكوا بالريح العاصفة. قال تعالى: (وأما عادٌ فأهلِكوا بريحً صَرْصَر عاتية، سَّخرها عليهم سبعَ ليال ٍوثمانية أيامٍ حُسوماً، فترى القومَ فيها صرعى فيها كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية. فهل ترى لهم من باقية): (الحاقة) وقال تعالى: (كذبت عادٌ فكيف كان عذابي وُنذُر، أنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمرَ، تَنزِع الناسَ كأنهم أعجاز نخلٍ مُنقعر، فكيف كان عذابي ونُذُر) (القمر) وأما ثمود فأُهلَكوا بالصواعق والزلازل. قال تعالى: (فأخذتهم الرَّجفةُ فأصبحوا في دارهم جاثمين) (الأعراف).(297/21)
وقال تعالى: (وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغَنوا فيها) (هود).
وقال تعالى: (وفي ثمودَ إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقةُ وهم ينظرون): (الذاريات).
أما قوم لوط، فانظر ماذا أُخذوا به من العقاب الشديد. قال تعالى: (فلما جاء أمُرنا جعلنا عاليَها سافَلها وأمطرنا عليها حجارةً من سجِّيلٍ منضودٍ مسوَّمةً عند ربك. وما هي من الظالمين ببعيد) (هود).
وقال تعالى: (فأخذتهمٍ الصيحةُ مشرِقين، فجعلنا عاليَها سافلَها وأمطرنا عليهم حجارةً من سِجيَّل، إن في ذلك لآيات للمتوسمين) (سورة الحجر).
ونكتفي بهذا القدر اليسير في الاستشهاد بما كان يُؤخذ به العُصاة الكائدون من ألوان العصف والخسف والتنكيل والتدمير
وقبل أن نتحول إلى الحديث في الطور الثاني نرى من الخير أن ننبه إلى أن انقسام التاريخ إلى مراحل أو أطوار، ليس معناه أن مرحلة تبدأ من حيث تنتهي سابقتها على الضبط والتحديد، ولا أن التطور من حال إلى حال يحدث دفعة واحدة، بل إن المراحل لَيتداخل بعضها في بعض كما أن التطور لا يكون إلا بالتغير من طرفيه جميعاً بالنقص من هذا وبالزيادة من هذا، حتى يتلاشى القديم ويحل محله الجديد، وهكذا. وكذلك يكون التطور في كل شيء في هذا العالم
الطور الثاني:
أما الطور الثاني فمن أظهر مظاهر الترفُّق بعض الشيء في النُّذُر، والتخفيف في فنون العقوبات وسعة الدعوة وتبسّط التشريع، سواء في العبادات أو في المعاملات بين الناس. وفي هذا الطور أيضاً كانت تعتمد الدعوة، بقدر كبير، على تحدي بالمعجزات، حتى لقد انتهى هذا الطور بكف العقوبات وتفرد المعجزات
أما الترفق في النذر والتخفيف في ألوان العقاب، فلقد كان هذا التخفيف يتناول الكمَّ أو الكيف أو يتناولهما جميعاً. قال الله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) إلى قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفانَ والجرادَ والقُمَّل والضفادعَ والدم(297/22)
آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين. ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى أدعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمَننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل. فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) سورة الأعراف
وقال تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسْرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دَركاً ولا تخشى. فأتبعهم فرعون بجنوده فَغشِيهم من اليم ما غَشِيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) سورة طه
فأنت ترى أن ما أصاب آل فرعون من الجدب ونقص الثمرات وما أرسل عليهم من الطوفان والجراد الخ لم يبلغ من الشدة والروع بعض ما يبلغ العصف والدمدمة والخسف والتدمير. أما إغراق فرعون ومن أتبع بني إسرائيل من جنده فلعصمة الفارّين من كيدهم وبطشهم، والأمر لا يعدو هنا وقع الأذى على كل حال. على أن عددهم بالنسبة لجمهرة الكافرين الكائدين جدُّ قليل
وأما المعجزات فحسبك منها معجزات موسى عليه السلام إذ ألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفِك الساحرون وإذ ضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، وإذ ضرب بها البحر فانفلق فكان كلُّ فِرْقٍ كالطَّود العظيم
وحسبك منها معجزات عيسى عليه السلام. قال تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأُبرِيْ الأكمةَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذن الله، وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين). (آل عمران)
الطور الثالث:
وبعد فإن بمعجزات عيسى عليه السلام، قد ختُم هذا الضربُ من الخوارق التي تجري على أيدي الرسل، يتحدَّون بها المخالفين المعاندين، ويثبتون بها أن ما جاءوا به إنما هو من عند الله، وكيف لا وقد أيدهم منها بما يخالف سنن الكون وينِدّ على طبائع الخلق
أما بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ففوق أنها تشارك بعثة عيسى عليه السلام في تجرُّدها من الأحداث التي مر بك بعض وصفها، فلا عصفَ ولا خسف، ولا رياحَ عاصفة، ولا زلازلَ مدمدمة، ولا شيء من هذا ولا ما دونه مما يزعج النفوس ويدخل الروع على(297/23)
القلوب - فإن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم تمتاز بأمرين: الأول أنها لا خلاف فيها لسنن الكون ولا مغايرة فيها لطبائع المخلوقات، والثاني أنها باقية مستمرة لا تنقطع على طول الزمان. وقد عرفتَ من غير شك أن هذه المعجزة هي (القرآن)
وكذلك جعلت الدعوة الإلهية تتطور وتنمو بتطور الإنسانية ونموّها على الأحقاب
إذن لقد نضجت الإنسانية أو أصبحت على وشك النضوج، وإذن لقد تجاوز الإنسان طور القِصَر وبلغ الرشد أو أضحى على شَرَف البلوغ
لقد أضحى الإنسان حقيقاً بأن يُرفع عن نفسه الحجر، وتُطلق له حرية التصرف في استنانه مناهج الحياة. إذ قد تهيأ له لو فكّر وتدّبر، أن يعرف ما ينفعه ما يضره، وما يسيئه في الغاية وما يسره، وأن يميز بين ما يسعده وما يشقيه، وما يعزه وما يرديه. فإذا أختلط عليه الأمر أو نَزَعت به العادة إلى الهوى، نُبَّه ذهنُه، وحُرَّك فكره، وُضربت له الأمثال، وأقيمت له الحجة يصول بها العقل كَل مَصال. (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)
(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فبأي حديث بعده يؤمنون) الأعراف
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نُصِبت وإلى الأرض كيف سُطحت، فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية. وهذان مثلان مما لا يدركه الحصر مما ورد في القرآن الحكيم
هذه دعوة محمد، وقد رأيت أن ما سبقها من دعوات الرسل إنما كان مقدمة لها وطريقاً إليها
هي الدعوة التي تسعى بالإنسانية إلى غاية كمالها من الطريق إيقاظ العقل، والفَسح في حرية الفكر، والتي تسعى بالإنسان إلى غاية سعادته من طريق اعتناق الفضائل، والتجرد من الرذائل. فبكظم الشهوة، والعفة، والرحمة، والإيثار، تستطيع هذه المجموعة البشرية أن تعيش على الأرض ناعمة بالرغد والدَّعة والسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)
ولقد دعا محمد صلى الله عليه وسلم أول ما دعا، أهلَه وعشيرته من قريش، فكذبوه وشاّقوه وآذوه وأسرفوا في الكيد له والعَنَت عليه. وكيف له باستعانتهم على بث دعوته، ونشر رسالته التي أُرسل بها للعالمين، إذ هم أشدُّ من كفر بها وصدّ عنها وبغّض فيها ونفّر منها؟(297/24)
ولكن يأبى الله إلاّ أن يُتم نورهَ. فلقد أسلم أهلُ يثرب وآمنوا بالله ورسوله، وأعدّوا أنفسهم للذياد عن دينه مهما جشّمهم الأمر من التضحية في سبيل الله بالأموال والأنفس والأولاد. هذا شعبٌ قويٌّ بَعدده، قويٌّ ببسالته، قويٌّ بإيمانه. يدعو الرسول ليتسلَّم زمامَه، ويتولّى قيادَه، ليثبَّت من الإسلام دِعامَه، ويرفع أَعلامَه، ويَبسط في الأرض حكمَه وأحكامَه. وكذلك يهاجر محمد في سرّ من معشره العاتين إلى المدينة، حيثُ يعز الله الدين، ويذُل الشرِك، ويفتح الله لنبيه الفتح المبين، وينصره النصر العزيز
وتعلو كلمةُ الإسلام في العالَم ويسود حكُمه أقطارَ الأرض. ثم لا يمضي أكثرُ من قرن ونصف قرن حتى ينشئ بفضل تحكيم العقل وإطلاق حرية الفكر أزَهى حضارة عرفها التاريخ، تجود في ظلها القرائحُ بأجدى العلوم وأندى الفنون، مما لا تزال آثاره، ولو على أيدي غير أهله، ثابتةً على وجه الزمان!
أرجو أن تكون أنت أيضاً قد آمنتَ بأن يوم الهجرة هو أعظمُ يوم في التاريخ
عبد العزيز البشري(297/25)
قومي بين الشرق والغرب
للأستاذ محمود غنيم
قومي لأنتم عبرةُ الأقوامِ ... هل تُنْسبون ليافثٍ أو سامِ؟
أبناء عمي من نزارَ ويعربٍ ... ليسوا بأعراب ولا أعجام
يترسمون الغرب حتى يوشكوا ... أن يعبدوه عبادة الأصنام
ما قلدوهم مبصرين وإنما ... تبعوا نظامهمُ بغير نظام
للغرب عادات كغازات سرت ... في الشرق مسرى الداء في الأجسام
إني رأيت جيوشه لم تغزنا ... في الحرب بل في ملبس وطعام
لا تأمنوا للمستعمرين فكم لهم ... حرب تقنع وجهها بسلام
حرب على لغة البلاد وعادها ... ليست تُشَنُّ بمدفع وحسام
والشعب إن سلمت له عاداته ... ولسانه لم يخش قطع الهام
ما صاغ ربك من نضار خالص ... شعباً، وشعباً من حصى ورغام
هي محض أوهام أعيذ الشرق من ... أمم تعيش أسيرة الأوهام
أني أعيذ الشرق من متمسَّح ... بالأجنبي لقومه هدام
إِنْ لاَمَ غربيٌّ على أوطانه ... أنحى بلائمة مع اللوام
وإذا رنا نحو الغريب فإَنما ... يرنو بمجهر راصد الأجرام
وإذا أعار بني أبيه نظرة ... فبمقلة الأعمى أو المتعامي
والعين تخدع ربها. ولربما ... خلقت عمالقة من الأقزام
وإذا تنكر للحمى أبناؤه ... فهمو أضرُّ له من الأخصام
ما بال بحر الروم من يجتازه ... يوماً تناسى سالف الأيام؟
فإذا به خلق جديد. ما مضى ... من عمره حلم من الأحلام
تتغير الدنيا عليه فكلها ... في عينه نقص بغير تمام
هل تغرق العادات من أربابها ... في ذلك البحر الخضم الطامي؟
ما اجتاز شرقي عجاجة موجه ... إلا وعاد مزوداً (بمدام)
إن التكافؤ في الدماء فريضة ... ولو أنها لم تأت في الأحكام(297/26)
وهو القران إذا تخالف أهله ... وطناً فعقدته لغير دوام
كم زيجة مازال يدَمي جرحُها ... ومن الجروح ذوابلٌ ودوام
لا أعرف العربي يكشف رأسه ... نحو المجالس مومئاً بسلام
إِنْ زِيرِ تخرجُ عِرسهُ من دونه ... للزائرين بثغرها البسام
بدوارس الأطلال يلحق أمه ... ويرى أباه رابع الأهرام
يعصي الإله. فإن أشارت عرسه ... بإشارة فالقول قول حذام
ويكاد يسلخ نفسه من قومه ... لو تُستطاع قطيعة الأرحام
ويكاد يمسخ خلقه لو كان في ... يمناه قلب معالم الأجسام
لا أعرف العربي يلوي فكه ... إن هَمَّ يوماً فكه بكلام
إن فاهَ تسمعُ لكنة ممقوتة ... من فيه سكسونيةَ الأنغام
لفظاً من الفصحى وآخر نابياً ... كالقار ممزوجاً بكاس مدام
لغة إذا قرعت بجندل لفظها ... أذن السميع شكت من الآلام
لهفي على الفصحى رماها معشر ... من أهلها. شلت يمين الرامي
لم يهتدوا لكنوزها فإَذا همو ... يرمونها بالفقر والإعدام
الدر في طي البحور مخبأ ... والتبر - إن تنشده - تحت رجام
لن يستعيد العُرْب سالف مجدهم ... ولسانهم غرض لكل سهام
إن يرفعوا ما انقضَّ من بنيانهم ... فالضاد أول حائط ودعام
أبني نزار ويعرب أوصيكمو ... بذخيرتين الضاد والإسلام
إن جاءكم باسم الثقافة ملحد ... في دينه فطؤوه بالأقدام
العلم وضع العالمين وإنما الأ ... ديان وضع الواحد العلاّم
المسلمون على شتات ديارهم ... فرض الإله خضوعهم لإمام
الله بالجُمُعات وحَّد بينهم ... وبحج بيت في الحجاز حرام
دين ابن عبد الله دين باسمه ... قبض الرشيد على الورى بزمام
هو دولة كبرى وملك شامخ ... لا محض تكبير ومحض صيام
إن يُزْهَ شرقي بغير العرب من ... أجداده الأتراك والأروام(297/27)
فأنا الفخور بأنني لا ينتمي ... للغير أخوالي ولا أعمامي
إن تسألوا عني إلى من أنتمي؟ ... فإلى رعاة النوق والأغنام
أبغير مجد بني نزارَ ويعرب ... يُزْهى عراقيٌّ ويفخر شامي؟
(مدرسة الأورمان)
محمود غنيم(297/28)
صيانة العقيدة المحمدية من احتيال النفوس
للأستاذ عبد الرحمن شُكري
نقرأ في كتب السَير عن أناس من السلف الصالح بلغت نفوسهم من الصفاء والتغلب على احتيال الأهواء مبلغاً كان للإسلام حجة أعظم من ألف حجة ودليل من الحجج والأدلة النظرية، وقد بهرت سيرتهم وقدوتهم من عرفها من غير المسلمين فأجلوا ذلك السلف الصالح من أجلها وأجلوا المسلمين من أجلهم ولو أنهم كانوا لا يؤمنون به وامتدحوه كما يمتدح الأب إذا حسنت سجايا ابنه التي بثها فيه. ولكن لا شك أن روح العقيدة الواحدة تختلف في نفوس معتنقيها باختلاف تلك النفوس؛ فإن من الناس القاسي والرحيم والكريم واللئيم والشهم والوغد والمقبل على لذات الدنيا والزاهد فيها والوفي والغادر والعالم والجاهل والذكي والغبي، وقد يعتنق العقيدة الواحدة أناس من كل هذه الطوائف ولكل منهم صفات تغلب على نفسه وتصبغ آرائه وأقواله وأعماله بلونها، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يحس ولا يعمل إلا وعليه رقيب من تلك الصفات وهي كالقيود لا يستطيع أن يخلص منها. والعقيدة في نفس معتنقها كالماء في الإناء يتخذ شكله؛ فإذا كان الإناء مستديراً كان الماء فيه مستديراً، وإذا كان الإناء مستطيلاً كان الماء مستطيلاً. وكذلك العقيدة تتخذ شكل النفس التي تعمرها. نعم إن العقيدة تخالط النفس والماء لا يخالط مادة الإناء ولا يحدث به أثراً؛ ولكن المشاهد المحقق أن العقيدة تؤثر في النفس بعض الأثر ولكنها لا تستطيع أن تحول طبائعها، وإلا لو استطاعت لما وجد بين معتنقي العقيدة الواحدة الطاهر البريء والمجرم الأثيم والسمح الكريم والوغد اللئيم والذكي الفهيم وذو الفهم البهيم والرحيم والقاسي الزنيم. فالعقيدة فيما هو مشاهد في الحياة لا تحمل النفوس على أن تتخذ شكلاً واحداً بل تبقي النفوس على محامدها ومساوئها، وكما تؤثر العقيدة في النفس بعض التأثير تؤثر النفس في عقيدتها. ومهما اشتركت النفوس المتباينة في شعائر العقيدة فهو اشتراك عام لا يمنع اختلاف النفوس في تفضيل جانب على جانب ومظهر على مظهر من مظاهر الدين، فشكل العٍقيدة في النفس الغليظة القاسية الغبية غير شكلها في النفس الرحيمة الذكية، وتتخذ العقيدة الواحدة أيضاً أشكالاً مختلف في الأمم والأقاليم والأزمنة المختلفة وهي عقيدة واحدة ذات شعائر ومبادئ لا تتغير. والناس قلما يلتفتون إلى فروق روح العقيدة في النفوس المتباينة،(297/29)
وقلما يحسبون حساباً لهذه الفروق بالرغم من أنها قد تجعل الرجلين وهما على عقيدة واحدة وكأنهما على عقيدتين بينهما من البعد مثل ما بين السماء والأرض، وإغفال هذه الفروق يؤدي إلى الاهتمام بمظاهر الدين أكثر من الاهتمام بروحه، والدين معناه في روحه الزكية، فإن رذائل النفوس قد تستولي على مبادئ الدين وتقاليده وعرفه وأخلاقه فلا تأخذ منها غير المظاهر بل إنها قد تزكي نفسها وتهون أمر تركها روح الدين وحقيقته وأخلاقه بالاندفاع في نصرة مظاهره والانفعال في نصرتها وقد يكون انفعالاً لا يُخْفي العقلُ الباطنُ أنه بسبب أن النفس في غيظ شديد من أن روح الدين تخالف أثرتها وفائدتها الدنيوية وأنها لا تستطيع أن توفق بين ورع روح الدين وعفته وبين مطالب الحياة فتضحي بورع روح الدين كي تنال الدنيا أو بعض مطالبها حسب استطاعتها ثم تظهر الغيرة على مظاهر الدين الذي ضحت بروحه وورعه وتغتفر تلك التضحية بتلك الغيرة، والنفس في احتيالها هذا ربما كانت معذورة إلى حد ما إذا لم تغال وتشتط وتقسو وتلوم وتؤذي الناس كي تعذر نفسها لدى نفسها التي ضحت بورع الدين وكفافه وعفته وهي تحسب أنها إذا لم تستطع صيانة روح الدين والتخلق بورعه كي تنال رضاء الله ونعيم الآخرة فهي ربما تنال رضوانه ورحمته ونعيمه بهذا الاحتيال فتجمع إلى نعيم الأخرى الانطلاق في طلب الدنيا وتكفر عن نبذها ورع الدين بالاقتصاص من غيرها وتجعل هذا الاقتصاص قرباناً إلى الله بدل أن تجعل قربانها الصفاء والزهد في الدنايا والعفة عما يتطلبه نيل حطام الدنيا. ولقد قلنا إننا نعذر هذه الروح ونرحمها إذا لم تشتط في هذه الخطة، نعذرها بعض العذر لضعف النفس البشرية ولضرورات الحياة وما تقهر الحياة النفس عليه من الدنايا، ولأن النفس الورعة التقية قد تتردد فيها بالرغم من ورعها هواجس وخواطر طلب الشهوات لنفسها فتحاول أن تكفر عن تلك الخواطر التي تخشاها بالقسوة على من تحبسه مطيعا لها ولأن النفس قلما تفطن إلى باعثها على الانفعال في نصرة مظاهر الدين دون ورعه وتقواه، بل أنها قد تحسب أن الورع هو باعثها وإن كانت لا تتورع، وقلما تفطن النفس إلى أن بين الناس من يستطيعون الجمع بين المجون والقسوة والغباء وبين التدين ونشدان المثل الأعلى بالقول لا بالخلق، وهذه الاستطاعة من مآسي الحياة وربما كانت من ضروراتها المكروهة بسب ضعف النفوس ونقصها وأوضاع الحياة التي تعيش فيها(297/30)
فينبغي لمن يريد صيانة روح الدين والعقيدة المحمدية السمحة الرضية أن يحذر عند أدائه فروض الدين وفروض الحياة وأن يحاسب نفسه حساباً عسيراً عند أداء تلك الفروض أكثر من محاسبتها عند إهمالها لأن أَلذَّ فرض وواجب وأطيبه لدى النفس وأحلاه عندها هو الواجب الذي يُمكِّنها أداؤه من أن تؤذي الناس وأن تَتَشفَّى بأذاهم من متاعب الحياة وإن كانت لا تفطن إلى ذلك. وما أشد إتلاف متاعب الحياة لصفاء النفوس خفية
فالنفس قد تفضل أداء الواجب الذي يمكنها أداؤه من أذى الناس سواء أكان الذي تؤذيه عدواً أو غريباً عنها وإن كانت تفضل أذى الأول، وأسمج فرض وواجب لدى النفس وأبغضه ليها هو الواجب الذي يتطلب أداؤه ترك شيء من أطايب الدنيا المادية أو المعنوية. والنفس قلما يعوزها عذر تحول به ما تجد فيه سعادة ولذة إلى فرض وواجب.
فنصرة العقيدة الرضية الزكية وصيانة روحها وقدسها من احتيال الروح الدنيوية تقتضي دراسة علم النفس وتطبيقه على النفوس وأعمالها وأساليبها ووسائلها واحتيالها للتوفيق بين القدسية والدنيوية ولو بمخادعة نفسها فلا شيء يقتل أمل الإنسانية في صفاء الدين وقدس فضائله من احتيال أهواء النفس على النفس وتزويرها الحقائق تزويراً يخلط بين حقد النفس الشريرة وبين الغضب المقدس للحق، ويخلط بين الباعث السامي للنفس والباعث غير السامي، ويخلط بين صيانة روح الدين وبين التكفير عن قتل روح الدين في طلب الأهواء بالانفعال في نصرة مظاهره. ومن قرأ تاريخ الأديان في العالم وجد أن بعض القبائل المتأخرة ترى مخرجاً لغرائزها الوضيعة عن طريق الدين. وفي الأمم المتحضرة يوجد أناس يسلكون في إخراج غرائزهم التي يستحيون من إخراجها على حقيقتها مسلك تلك القبائل المتأخرة إما لجهلٍ وإما لما يُسمى في علم النفس بالرجعية النفسية إلى صفات عصور الإنسانية الأولى وهذه الرجعية قد يصاب بها حتى المتعلمون وقد تظهر في أمور كثيرة غير أمور العقيدة.
وهذا غير ما يُخْشى على قدسية الدين من رياء المرائين، وأعظم ما يدعو إلى الحسرة والأسف أن ترى روحاً صافية نقية صادقةً في غيرتها على الدين طائعة منقادة لنفس مرائية تبغي حطام الدنيا، وهذه النفس الثانية أي النفس المخادعة عادة تغلب النفس الأولى، الصافية الطاهرة لأن النفس المتلهفة في طلب حطام الدنيا تخلق لها لهفتها ويخلق لها(297/31)
غيظها وخوفها من فوات الحطام انفعالاً شديداً تحاكي به الغيرة على الدين وقلما تستطيع النفس الصادقة في تدينها محاكاة ذلك الانفعال الدنيوي الذي تمده الحياة بقوتها لأنه في طلب أمور الحياة. وقلما تستطيع تمييزه إلا إذا كان لها نصيب من الخبرة بعلم النفس وتطبيقه على أساليب النفوس ووسائلها وهي خبرة لابد منها لصيانة روح العقيدة المحمدية السامية.
ومن الأخطاء التي يقع فيها المفكرون وغير المفكرين أن يحسبوا أن الإنسان على مستوى واحد لا يتغير من حيث روح الدين في نفسه ومن حيث فضائله، والحقيقة هي أن النفس الإنسانية في الحياة كالطائرة الهوائية التي تصادف جيوبا هوائية كثيرة مختلفة الضغط الجوي فتظل ترتفع وتنخفض فجاءة، ولكن كل إنسان يريد أن يستثمر ارتفاعه لمغالطة الناس كما قد يغالطهم في انخفاضه ويعده ارتفاعاً ويوهم أنه كذلك بقوة الإيحاء. وهو لو قصر المغالطة على قوة الإيحاء لهان الأمر ولكن أشد الضرر بروح الدين أن يتخذه المرء وسيلة للإشادة بعلو قدره وإعلان انحطاط قدر عدوه أو عدو صديقه أو عدو قريبه أو من يعاديه قريبه فيصبح الدين في نظره قوة دنيوية للكسب كقوة المصاهرة أو المسامرة أو كقوة المال.
عبد الرحمن شكري(297/32)
حرارة الأيمان
للدّكتور إبراهيم بيومي مدكور
ما أرهب ذلك الجيش السائر والبحر الزاخر والجمع الثائر يخوض غمار المعركة في عزمة رجل واحد وهمة قلب صادق فلا يلبث أن يكتب له النصر ويفوز بالغلب على من تفرقت بهم الميول والأهواء! وما أروع تلك الرءوس الحاسرة والأجسام شبه العارية تجتمع في صعيد واحد تسبح الله وتناجيه فلا تخشى بأس حر ولا برد، ولا تألم من صر أو قر! وما أخشع ذلك الناسك الذي حرم نفسه لذيذ الطعام والشراب واستطاب الخشن وغليظ الثياب، وضوي جسمه من طول الركوع والسجود، واحمرت عيناه من البكاء والسهر. كل هؤلاء قد استولت عليهم فكرة وتملكتهم عقيدة، فساروا وراءها طائعين، وائتمروا بأمرها راغبين لا راهبين
وكم من أفكار نسلم بها وآراء نوافق عليها ودعوات نصغي إليها، ولكن طائفة قليلة منها فقط هي التي تنفذ إلى قلوبنا وتمتزج بأرواحنا، فنُصبِح طوع إرادتها ورهن مشيئتها، وما ذاك إلا لأن الدعوات لا تتجه دائماً إلى القلب ولا تخاطب كلها الروح؛ فمنها ما يرمي إلى غاية مادية يتشبث من يرجو أن يساهم فيها بنصيب، ويطمئن إليها من آثر العاجلة على الآجلة. ومنها ما يقوم على الحجة والبرهان والبحث والتعليل، ولغة المنطق لا تلائم الناس على اختلافهم ولا يسمو إليها جمهورهم وعامتهم. لذلك كان أكثر الدعوات حظا من النجاح ألصقها بالقلب وأقربها إلى الفؤاد، وبقدر تفاوت الدعاة في القدرة على تحريك العواطف وإثارة الشعور تتفاوت آثارهم ويزيد أو ينقص عدد أتباعهم، وعن هذا الشعور تنبعث حرارة الإيمان المتأججة، ومن تلك العواطف يتولد صدق العقيدة الباهر، وفي القلب قوى خارقة للعادة وفي الروح أسرار تلين الحديد وتنسف الجبال ولا تبالي بصعاب
هناك ضربان من الإيمان لا سبيل إلى خلطهما ولا إلى إنكارهما: إيمان العقل وإيمان العاطفة، أو أن شئت فقل: إيمان البرهان والتعليل والحجة والدليل؛ ثم إيمان الشعور والإحساس والقلب والروح؛ في أحدهما هدوء التفكير ورزانة المنطق، وفي الآخر حمية الوجدان ونشاط العاطفة. ولئن كان الأول قد استنار بنور الحجة وقوى على مجالدة الخصوم ودفع الشبه، فإن الثاني ينبعث من قرارة القلب وأعماق الفؤاد ولا يرى نفسه في(297/33)
حاجة إلى برهنة واستدلال، ولا يأبه مطلقاً بخصوم ولا معارضين. والدعوات سياسية كانت أو دينية، إنما تقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا بها بأرواحهم، فأصبحوا ولا يعز عليهم مطلب ولا تبعد عنهم غاية. وكم سمعنا أن قائداً تسلق مع جنده الجبال واخترق البحار وخاض غمار الشرق والغرب دون أن يتخلف عنه متخلف، أو يقعد عن مناصرته الأتباع والأعوان. وكم روى لنا التاريخ من أخبار زعماء سياسيين أو دينيين كانت إشارتهم وحياً وكلمتهم أمراً، إذا ما تحركوا تحركت الألوف المؤلفة، وإذا ما دعوا لبى الجميع. فإذا ما فترت الدعوة وضعفت العقيدة وخمدت حرارة الإيمان الأولى، أخذ الناس يبحثون في معتقداتهم ويعللون ويناقشون ويعارضون
لهذا كان لابد لكل عقيدة من غذاء، ولكل دعوة من مواد تلهب الشعور وتنمي العاطفة. وما الطقوس الدينية والصلوات المفروضة والأدعية الخاشعة والذكر الدائم والقرابين المتكررة، إلا وسيلة من وسائل جذب النفوس نحو عالم النور والألوهية والإيمان والعقيدة. وعلى نحو هذا يجدُّ السياسيون في إقامة الحفلات، وتنظيم الدعوات والمظاهرات، وإلقاء الخطب المثيرة للجماهير. وإذا استطاع الزعيم أن يكون سياسيًّا ودينيًّا في آن واحد، أو بعبارة أخرى، سياسيًّا وصوفيًّا، توفر لديه كثير من أسباب الغلبة والفوز. وهانحن أولاء نرى زعماء العصر الحاضر يخلطون حركاتهم السياسية بآراء تتصل بالدم والجنسية والدين والعقيدة؛ فالهتلرية مثلاً نظرية سياسية تعتمد على دعائم روحية وصوفية، وهذا من غير شك عامل كبير من عوامل نجاحها وتقدمها. ولقد أجادت سبل الدعاية وأتقنت طرق تنظيم الأتباع إلى طوائف وجماعات يميزها زي خاص وشارات معينة، فزادها هذا تقديساً لإرادتها واستمساكاً بنظريتها. ولعل أعون شيء على تنمية الإيمان والعقيدة أن يحس المؤمن أنه عضو في أسرة وجزء من مجتمع، وأن يشعر المعتقد أن عقيدته ذات سيادة شاملة وسلطان عام. وما نراه من تعصب أعمى أحياناً وغلو في الدين أحياناً أخرى إنما منشؤه تغلب العاطفة على العقل والرغبة في أن نحمل الناس على اعتناق كل ما ندين به من أفكار
اختلف علماء الكلام المسلمون - كما اختلف رجال الدين من المسيحيين - في حقيقة الإيمان، هل يزيد وينقص وهل هو إذعان قلبي فقط أم هو اعتقاد بالجنان ونطق باللسان(297/34)
وعمل بالأركان. وكأني بهم جميعاً قد تناسوا جانبه العاطفي، ولو ذكروه ما وقعوا في كثير من خلافاتهم. فالإيمان على أنه حقيقة وفكرة قد لا يقبل الزيادة والنقص، أما الإيمان الذي هو عاطفة تتأجج لحظة وتخمد أخرى فثمة مجال فسيح لزيادته ونقصه، ويتبع هذا طبعاً أن يكون الاعتقاد قوياً أو ضعيفاً جازماً أو غير جازم. ولا شك في أن الأعمال الخالصة تنميِّه والأقوال الصالحة تغذيه، ومن ذا الذي ينكر ما للدعوة والإرشاد من أثر في تربية النفوس وتهذيبها وما للتقرب والعبادة من قدرة على ربط الأرواح ووصلها بعالم النور والفيض
ولا يضير الاعتقاد في شيء أن يُدْفِئه القلب بحرارته، وتمده الروح بأسرارها. والعواطف كانت ولا تزال، من أهم بواعث التفكير ودواعي العمل. والجماهير أخضع عادة للغة القلوب منهم للغة العقل والمنطق، ورب عاطفة قوية أعون على تحقيق غايات سامية من تفكير عميق.
إبراهيم مدكور(297/35)
عندنا غدهُم
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الغربيون يبحثون عن غد يشرق عليهم ضحاه وهم في سلام وطمأنينة على ميراث العلم والمدنية وقد صار نفيساً عزيزاً على الذين بنوه بضياء العيون وحُرّ الدماء وحبس الأنفاس في المعاهد والمعابد والمعامل، فهم لذلك يخشون في لهفة أن يهدمه البطر والجشع في لحظة واحدة فتذهب مدخرات الإنسانية من العلم والمتاع. . . ولا ينفك آباء الحضارة وعلماء الاجتماع يرسلون روادهم للبحث عن غد يوحي إليهم فيه الواقع أن ينشدوا نشيد السلام الذي سمعه الرعاة من السماء ليلة ميلاد المسيح (وعلى الأرض السلام وللناس المسرة) لأنهم وجدوا أن الواقع يكذب هذا النشيد منذ ميلاد المسيح إلى اليوم كما يقول القس إبراهيم سعيد في جريدة الأهرام عدد 25 ديسمبر سنة 1938
ونحن المسلمين الذين يتمثل فينا العقوق لأنفسنا وللمدنية، نرى الإنسانية جاهدة في البحث عن ذلك الغد، تشقى أمام عيوننا وتشقينا معها ومع ذلك لا نحرك المفتاح في باب الكنز المرصود العجيب الذي فيه لآلئ الصباح وذهب الضحى. .
وأقسم للحق ولكل حر الفكر! أنني لا أتكلم كمسلم يقول تقليداً لقول أبيه وأمه وأمته، وإنما أقولها بعد أن أنضجتها حجج الأيام ونهض بها كل قائم في الفكر والحياة والزمان!
ولست كاهناً ولا رجلاً يحترف الدين للعيش ينادي على بضاعته في الأسواق. . . وإنما أنا باحث كسر عنه كل قيد ليظفر بالحق خالصاً من غير تقليد ورجا أن يوفقه قيوم السموات. . .
ثم أقسم أنني لا أريد أن أتملق من يسمون أنفسهم مسلمين ولا أن أسير في مواكب أناس لا يدرون لماذا هم فيها سائرون ولا يسألون لماذا يسيرون. . . وإنما أتكلم بقلب إنساني خالص للإنسانية. . . للقطيع الشقي الذي ما ظفر إلى الآن براحته من حل تلك المشكلات الكبرى: الاعتقاد، والعيش، والعمل. ولم يتفرغ بعدُ للقبض على مفاتيح الطبيعة التي خوله الله إياها لأخذ أسرارها المخبوءة فيها حتى تصعد بها روحه إلى السماء في سلام ورضا
إلى الآن لم يظفر ذلك المخلق التائه بنعمة الاستقرار وإتاحة الفرصة لعلمائه أن يجاهدوا في الكشف عن عرائس أحلامه؛ لأن كباش القطيع لا تزال تتهارش وتتغنى بمجد الأنياب(297/36)
والأظفار. لا تزال خيلاء المجد مجد الديكة المنتفشة المزدهية تسوق الناس في ضباب من الشعر إلى الجحيم. . حتى المسلمون قد أخذهم الهول من كل جانب وغشى ضباب الزمان وظلال الإنسان على عيونهم فنسوا ما بين أيدهم من العواصم. . . نسوا مضخات الحريق واندمجوا في المحترقين. . .
ما الذي نملكه لإصلاح غدنا وغد الناس؟
سأجرد الأهم من التركة فاقرءوا الأسماء:
نملك اعتقاداً صافياً ليس فيه شيء يفسد على العقل الإنساني أُلْفَته؛ إذ أن إلهنا هو إله الطبيعة الذي يدرك العلماء والحكماء والفلاحون السائرون على الفطرة أسماءه وصفاته كما ندركها نحن.
ونملك سماحة في النظر إلى القاصرين الذين لم يدركوا إدراكنا ولم يعتقدوا اعتقادنا ولا نحمل أحداً على ترك دينه إلى ديننا كرها.
ونملك فهماً واسعاً وتقديراً جميلاً لمجهود المجاهدين من الرسل السابقين كتقديرنا لرسولنا.
ونملك سلاماً عميقاً في أرواحنا ننشد له في صلواتنا نشيداً لم يترك جهة من جهات الحياة إلا ألقى عليها الأمان والدعاء: فسلام على النبي، وسلام على العباد الصالحين للحياتين، وسلام على النفس وإيحاء لها به في هذا الموقف العظيم بين يدي رب الحياة ودخول في السلم كافة وجنوح إليها مع الجانحين، وتحية بيننا سلام.
ونملك كتاباً تنزل آياته دائماً من السماء. . . لأن صور الدنيا وحرب الخير والشر وتقلبات النفس في الهدى والضلال ومظاهر المجتمع وظواهر الطبيعة هي مادة ألفاظه وهي مادة الحياة.
ونملك حلاً دائماً لمشكلة الفقر والغنى مشكلة المجتمع. . . مادة الدمع والدم، مادة الدعوات والأحزاب، مادة الثورات والحروب.
ولا ندين بعصبية جنسية ولا دموية ولا لونية. ولا نقدس الوطنية والمحلية هذا التقديس الوثني الضيق.
ونملك الرحمة بكل حي ذي كبد رطبة إنساناً أو حيواناً، عدواً أو صديقاً.
ونملك تقديس حريات الحياة فلا يهدر حق نفس في نظامنا إلا بحق الحياة.(297/37)
مأمورون بصداقة الطبيعة لأنها باب ربنا ومصدر علومنا وأستاذ عقولنا. . .
أخلاقنا هي كل ما يرفع النفس ويسمو بالحياة.
محرماتنا هي كل ما يفسد الجسم والنفس.
اللذات الطيبات وزينة الحياة هي عندنا أعمال دينية إذا ذكرنا فيها اسم رب الحياة، واستحللناها بكلمته وإذنه، ونظرنا إليه في متاعنا بها كما ينظر الأطفال إلى أبيهم وهم يأكلون وينعمون!
العلم عندنا تعبد، لأنه يرينا يد الله في كل شيء. . . ويجعل لنا الطبيعة محاريب دائمة لصلاة الفكر.
هذا هو ميراثنا مضغوطاً في ألفاظ معدودة يضعها كل مسلم حقيقي في عقله وقلبه. ثم يسير في الحياة عاملاً ساعياً للمجد والحق إلى أن تخرجه من الدنيا اليد التي أدخلته إليها. . .
أفلا يرى كل عاشق للفكر والحق والسلام والصلاح أنه مضطر إلى أن يقف في صف الحراس لهذا الميراث، وأن يجاهد في سبيله ما وسعه الجهاد؟
أفلا يرى كل من يحس بنفسه، ويفكر في وجوده ووجود دنياه أن راحته النفسية وألفته العقلية، ونوازعه الشريفة تتطلب منه أن يقدم جسده ليكون ثوباً لهذه المعاني تلبسه وتسعى به، وتبطش في حرب الخير والشر؟
أيها الملحدون من أبناء المسلمين!
هل آن لكم أن تعيدوا النظر بهدوء في مفردات هذا الميراث لتروا أننا لسنا مخرفين ولا هارفين، وأننا لم نعشق خيالاً، ولم نَضع ضلالاً؟
ألا ترون إن الجهاد في هذا السبيل إنما هو جهاد للإنسانية لا لعصبية جنسية ولا لغايات اقتصادية، وأن خير ما تقدمونه للغرب الآن مكافأة له على جهوده في سبيل العلم هو هذه المعاني الإسلامية التي يحتاجها بالذات، ويرسل من أجل مثلها رواده ويرصد أرصاده؟
إن الغرب كفر بالدين لأسباب تعلمونها. . . وليست هذه الأسباب في الإسلام، حتى تكفروا به. وإن أفق الإسلام هو نفس الأفق الذي تتجه إليه حياة الفكر والحكمة والحرية.
وإن أصول الإسلام هي خلاصة الاتجاه الديني في نفس الإنسان منذ فجر التاريخ إلى الآن، هي أصول ثابتة في الأرض فارعة في السماء ثبات الحق والعقل.(297/38)
كل ما في الغرب جاءنا وعرفناه؛ فما كان فيه من خير وجدناه في ميدان الإسلام، وما كان فيه من نقص وجدنا كماله في الإسلام.
فماذا يحملنا على خلعه وإهداره إلا الضعف والسفه؟ ما الذي يحملنا على السير وراء قافلة ضائعة في بيداء ونحن في الطريق الواضحة التي عليها صُوىً وأعلام؟
ربما يكون السبب في تمرد بعض النفوس على الإسلام أن كثيراً ممن ينتسبون إليه الآن هم لعنات مجسمة تجمع القبح والجهل والسوء وتمشي في الأرض مشي الطاعون. . .
ولكن لأجل هذا يجب أن نجاهد. . . لأجل إنقاذ الإسلام من هذه الأجساد التي تلتصق به كما تلتصق القاذورات بمحراب جميل يجب أن نجاهد. . .
نريد أن نخلصه من المنتسبين إليه زوراً ونعرضه على الجاهِلية كأنه حقيقة تاريخية ضائعة قد عثر عليها باحث منقب في بطون الكتب والأسفار أو طبقات الأرض. . أجل، من مصلحة الإسلام أن يدرس على أنه نظرية ليس لها أناس يتبعونها وأن محمداً صاحب الإسلام قد ظلم في الماضي أكبر ظلم وقع على رجل في التاريخ! فلقد شوه الجهلة والمتعصبون والمجرمون اسمه في أوربا كتشويه اسم الشيطان. . . كل هذا لأنه نبي رسول من الله! والمسلمون الآن يشوهون اسمه بالجهل والذل. . .
وأقسم بالعدالة! أن محمداً لو لم يكن رجلاً إلهياً ممدوداً بوحي الله، وكان رجلاً بشرياً من أبطال التاريخ كالاسكندر أو سولون أو نابليون أو هولاكو. . . إذاً لحضي من تقدير الأوربيين بما لم يحظ به بطل. . .
إن ذكريات ابن سينا والفارابي والزهراوي وابن رشد والبتَّاني وغيرهم يحتفل بها في مجامع أوربا ويدرس تاريخها بنزاهة مع أنها ثمرات ضئيلة من ثمرات محمد. . . ولكن محمداً رجل الخير المطلق والحق المطلق لا تقام لذكرياته حفلات وجمعيات، وإنما تلصق به كل شنيعة وعضيهة. . .
بل لقد ظلم من كثير من أتباعه أيضاً؛ لأنهم صاروا يحسبونه رجلاً من رجال الآخرة فقط. . . يعد النفوس للموت وما بعده ولا يعدها للحياة هنا، فاتخذوا القرآن أوراداً وتسابيح وتعاويذ وتمائم، وتركوا التفكير والعمل بما فيه من آيات القوة والمجد والعزة والإعداد لهذه الحياة الدنيا. . . وافتتنوا ببضائع الفكر المجلوبة من الغرب كما افتتنوا ببضائعه المادية(297/39)
كالأحذية والخمور. . .
ولكن روح الحق لا تموت، وعين العدالة الإلهية لا تنام، وما كان الله ليضيع إيمان الناس وهو الذي تعهدهم بالرسالات كلما ضللتهم قوى الشر عن طريقه. ولذلك ابتدأ يزلزل عناوين النظم الأوربية ويضرب بعضها ببعض أمام أعين المسلمين حتى يعود لهم يقينهم بثبات عناوين الإسلام
ولا يزال روح الحق الذي تمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم يجذب إليه الأفكار الحائرة والقلوب الضالة التي تبحث عن الحق والسلام. فتقيم له موازين الإنصاف بعد الإجحاف. ويخطئ من يضن أن الإسلام قد انقضى عهد عزته في القلوب والعقول، فإن عزة الإسلام لا تكون إلا في أيام العلم والحرية، ولا يذل إلا في أيام الجهل والاستبداد
هانحن أولاء نرى من سير التاريخ الحاضر أنه كلما تقدم الزمان بالمسلمين خطوة إلى العلم والحرية، تقدم بالإسلام إلى الحسنى
إن رسالة محمد ليست تبنة تذهب في الريح أو ورقة جافة تحرق في موقد، أو بدعاً من بدع الزمان يذهب بذهاب جيل وفناء قبيل وإنما هي مَرَدُّ الحق والخير وخلاصة جهاد الذين جاءوا بهما إلى الناس من عهد آدم إلى يومهم هذا
وإن الذين يعرفون ما في الإسلام من سعة وعمق واستيعاب يدركون تماماً أنه إنما يليق لمثل هذه الأزمنة التي نعيش فيها وما بعدها أكثر مما كان يليق بالأزمنة الماضية
وإن ما فيه من الحرية والمساواة والأخوة والتسامح والسلام والفكر لا يمكن مطلقاً أن يفهم فهماً صحيحاً إلا على ما في عصرنا الحاضر من تجارب. فعلينا أن نفهم ونؤمن به ونعمل له عمل المتقدمين
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم محمد خلاف(297/40)
من التاريخ الإسلامي
هيلانة ولويس
للأستاذ علي الطنطاوي
كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر!
ولقد أسدل الليل فروعه السود، فغطى على المعركة اللافحة الأوار، وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث، وهذه الأصلاد المصّبغة بالدم، وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان. . . فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكلال، وهجعوا كالقتلى لا يحسّون ولا يحلمون، وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصّم التي تحيط بها من كل جانب. . .
وتلك هي الحرب، آفة الحياة، وعار الإنسانية!
تلك هي الحرب: تنفجر الأذهان بالعلوم والمعارف، وتنفرج الأيدي عن الصنائع والمصانع، واللطائف والزخارف، وينفق الوالدون النفس والنفيس لتنشئة الأولاد وتهذيبهم، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة، وأزهرت الفنون وتقدمت، وارتفعت المصانع وسمت، وأخذت الحياة زخرفها وازيّنت، جاءت الحرب فأودت بذلك كله، فجعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. . .
فيا ويل الحرب. . . ويل لها ما لم تكن دفاعاً عن شرف أو حياة أو دين!
كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر، إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفرجها ضوء خافت، ويسمع من جوفها همس ضعيف، لو أنت أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان الإفرنج تقول لصاحبة لها:
- ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة، وما الذي جدّد أحزانك، وهاج آلامك؟ أفزعت من هذه المعارك العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن (قبر. . .) المسيح؟ أم هو الحزن على لويس قد خامر نفسك؟ لا تحزني يا هيلانة فقد كان مقدراً عليه هذا المصير؛ ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً، فاصبري يا أختاه، فإن لويس في السماء. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية؟ فلا تدعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة التي(297/41)
تحتاجين فيها إلى الصبر والجلد!
وسكتت المرأة وعاد السكون يغمر الدنيا. . . ومضت فترة طويلة لم يسمع خلالها نبأة، ولكن النور الضعيف لبث منبعثاً من شقوق الخيمة. . . ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف، أو ميت محتضر، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره، فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها وحشة وهولاً. . . فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر، وكانت في الثلاثين من عمرها، ذات عينين زرقاوين واسعتين، وشعر كستنائي اللون، وبشرة بيضاء ناعمة، وكانت جميلة جذابة، ولكن في أنفها طولاً ينأى به عن الجمال. . .
كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت السفوح والصخور، وتمدّ البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها، وتفكر في هذه الحياة المروعّة التي تحياها، فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها، يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور (الألب) لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحدّه شرقاً منعطف الوادي، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق، ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفتانة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل، وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى. لقد كانت ترى من يوغل في الوادي، ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلاً من الأبطال؛ أما هذه الجلاميد، وهذه الذرى المشرفة على القرية، فلم تفكر يوماً من الأيام في البحث عما وراءها، ولم ترتق بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها. . . فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً! وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟
واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصور لها وهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء، ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويذهبوا ظمأ أجسامهم، وليرتووا من العيون الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحبّ. . . فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. .(297/42)
ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ أن تكاشفه بحبها. . . وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمرّ في موكب حياتها بهيّاً مشرقاً، على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات. . . فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، إذ قد أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها، وأثرها على شفتيها. . .
لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى الكنيسة لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها، فتتوجه فيها إلى الله بالصلاة التي حفظتها. . . وتمشي فتطوف في الغابة يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل! ذ
كانت القرية كلها في أمن ودعة، حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة ألقيت فيها صخرة من الجبل. . . كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل اللذة، تنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً للصلاة، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي بحمد ربها فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي. . . فلم يفسد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي في الوادي، يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه، فيسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر، وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها وأبدلت بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً، وذهب القوم يستقرون الصوت ويتقصونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح، وطفق يلقي عليهم باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى، ما يفهمون ومالا يفهمون؛ وكان يمر في كلامه (الخطر الداهم) و (المسيح) ثم عرض عليهم صورة (القبر المقدس. . .) الذي ينزل عليه النور، والذي يحجون إليه ويتبركون به. . . وقد قام فارس(297/43)
من فرسان المسلمين، فوطئه وأهانه وجعل الفرس يبول عليه. . . وكان يعرضها باكياً نادباً ناتفاً لحيته، منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين، ويدعو إلى إنقاذ (القبر. . .) من أيدي (الكفرة المسلمين. . .) فذهب الهياج بالعقول، وأطار الأفئدة، وألغت الحماسة المنطق، ونسي الناس كل شئ إلا هذه النار التي سرت في العروق، ومشت إلى الدماغ فألهبته، فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون، إلى إنقاذ (قبر المسيح. . .) من أيدي (الكفرة المسلمين. . .) الذين أهانوه وحقروه!. . .
وكانت هيلانة وزوجها من المؤمنين، فلما قالوا لهما إن المسلمين أكلة لحم البشر، وإنهم ذئاب الإنسانية، وإنهم عدو على المسيح. . نهضا يدفعهما الإيمان الذي عبث به القسوس، واستغلوه وأوقعوا في أبناء آدم هذه المذبحة المروعة، فأخذا الطفل الوليد وسارا مع الجموع - نحو بيت المقدس. . .
وعاودتها ذكرى زوجها الحبيب، فانفجرت باكية، فأيقظ صوتها صاحبتها فخرجت تراها. . .
- ما لك يا هيلين؟ لماذا تبكين؟ لم لم تنامي؟
فلم تجب واستمرت تبكي، فعادت ترفه عنها وتواسيها.
- ماذا عراك يا هيلانة؟ أجيبي، كلميني، لا تقتلي نفسك بسكوتك.
- لويس!
وخرج اسمه زفرة متصعدة من أعماق القلب، غارقة بالدمع، وعادت تبكي.
- اصبري يا أختاه. إنه في السماء، ثم إن عندك لويس الصغير، ألا تسمعين كيف يبكي؟ إنه ابنه يا هلين، ابن الحبيب، فعيشي من أجله. أريه ألوان لسرور والمرح، تسعد روح لويس في سمائها. هاك الطفل يا هيلانة، ألا ترين أن بكاءك يؤلمه؟
فأخذت هيلانة الطفل، تضمه إلى صدرها، وهي مغمضة العينين، وتقبله في عنقها الدافئ، وتمرغ وجهها في صدره. ثم تضع خدها على خده، وهي تهمس باسم لويس، كأنما تذكر فيه مولد الحب وقبلاته الأولى. . .
- 2 -
وهجعت هيلانة وصاحبتها، وانطفأ هذا النور الكليل الذي كان ينبعث من الخيمة، ومرت(297/44)
من الليل ساعات. . .
وكان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من الخيمة السلطان، وكان الجند نائمين يستريحون من عناء النهار الماضي الذي خاضوا فيه حرباً من أشد ما عرفوا من الحروب، وبذلوا جهد الجن حتى استطاعوا أن يشقوا الطريق إلى (عكا) المحصورة، وكان المدد يتتالى على جيش العدو من البحر، وكاد يجزع المسلمون عندما رأوا الإمداد، ولكن منظر السلطان ثبتهم، فقد كان ينظر إلى المراكب تحمل الصليبيين إلى البر، فلا يثنيه مرآها ولا يدخل الروع إلى قلبه، بل كان يراها مستبشراً متفائلاً مؤمناً بنصر الله. ولقد خبّر القاضي ابن شداد رفيق السلطان الجند وقص عليهم أن السلطان عدّ بنفسه من العصر إلى الليل سبعين مركباً نزلت إلى البر تنقل المدد والذخيرة فما ضعف ولا اضطرب، ولا تغيّر اعتقاده بالله الذي يعتقد بأن النصر من عنده. وكان السلطان أشد القوم تعباً لأنه كان يباشر أمور الحرب بنفسه، وينتقل خلال المعركة، ويعرض روحه للمهالك، ثم يبيت الليل ساهراً يدبر أمور المسلمين لا يبالي راحته ولا صحته في سبيل إعلاء كلمة الله.
في تلك الساعة كنت تلمح رجلين يتقدمان في الظلام يريدان معسكر المسلمين، وهما يخطوان بحذر، ويقفزان على الصخور بخفة ونشاط، وقد حمل أحدهما هنة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق، وأحاط بها يسراه بعناية، وأمسك بيمناه السيف مصلتاً خشية أن يفجأه كمين أو يعرض له عدوّ في هذه الظلمة الحالكة، وكانا صامتين. فلما جاوزا (اليزك) ودخلا مسكر المسلمين وأمنا، وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان وقد أبقى الأول حملة على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به، وقال لرفيقه:
- ماذا ترى السلطان قائلاً لنا؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال، وألا نمس الأعزل بسوء، وأن ندع القسوس، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند؟ أفلا تحسبه يكره ما أتينا هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه؟
فأطرق الثاني كأنما كان يفكر في غضب السلطان، ويبحث عن سبيل الخلاص من هذه(297/45)
الوهدة التي سقطا فيها، ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له:
- لماذا يغضب؟ أليس الله قد أباح لنا أن نردّ العدوان بمثله؟ أما بدأونا هم بمثل هذا أول مرة، وروّعوا نساءنا وسرقوا أطفالنا فلما صبرنا عنهم وترفعنا عن مقابلتهم بمثل فعلهم، ظنوا ذلك عجزاً منا فأوغلوا في عدوانهم الآثم الدنيء؟ أفندعهم يفعلون ما يريدون لا نمدّ إليهم يداً؟
واطمأن الأول إلى هذه الحجة، فقاما يسيران في هذه البقاع التي كانت في ما مضى رياضاً زاهرة وتلالاً خضراء معشبة، فجعلتها الحرب قفراً خالياً، وقبراً واحداً مفتوحاً، وألبستها ثوباً دامياً من أشلاء أبنائها، حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة فعلما أنه لم ينم، ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به، لأنه كان يطلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة. . .
ومرت ساعة ومال ميزان الليل وهما واقفان، فسمعا حركة ورأيا رسولاً يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها، فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي ثم خرج الرسول على عجل، وخرج من بعده ابن شداد معلناً أن السلطان سينام قليلاً، وكان ذلك في السحر. . . فأيس الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح
ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان، وكان صديقاً له، فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروّعاً هو أن جيشاً من الصليبيين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل، فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه فأصبح المسلمون بين نارين
تفكر السلطان في الأمر، ثم جمع الملوك والقواد ولم يكن يقطع أمراً دون مشورتهم، فهبوا من فرشهم، وجفوا راحتهم في هذه الليلة العصيبة التي يلتمس الراحة في مثلها أشد الناس مراساً، وأكثرهم صبراً، فلما اجتمعوا عرض عليهم الأمر، فبذلوا له طاعتهم، ولكنهم تهيبوا الإقدام على هذين الجيشين، واضطربوا لهذا الخطب الذي لم يتوقعه أحد منهم، ولم يكن هؤلاء الملوك والقواد من الجبناء الرعاعيد، بل كانوا أبطال الحومة، وسادة الجلاد، ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل الصليب كلها حين جاءت يحدوها التعصب(297/46)
الذميم، ولا الشجاعة التي ردّوا بها هذه الجحافل الجرارة، وقسموها قسمين، قسم مصرُّع على الثرى قد ذهب ضحية العدوان الآثم، وقسم طائر على وجهه فزعاً لا يدري أين المحط، فتصدّع الخميس العرمرم تحت ضرباتهم المسددة وهتافهم المظفر، كما يتصدع القطيع من الغنم إذا سمع صوت الأسد وأخس أنيابه. . . ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه، ولا النهاية الماجدة التي ختمت الوقائع الماضية التي خاضوا غمرتها، ولكن لم يكن في تلك المعارك مثل هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول. . . فغاضت الحماسة من صدورهم وإن لم تنفد، وسكنت قليلاً لتستجم وتنهض من جديد؛ أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين، وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها، وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة، ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان وخلاله البارعة وبطولته الفذة التي تحققت مرتين فقط في تاريخ البشر كله: في عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، ولم تعرف في غيرهما إلا خيالاً يلوح ولا يظهر، وإشارات تلمح ولا تبصر!
فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم. ولبث وحده مهموماً يفكر. . .
قال الرجل: فماذا فعل السلطان كان الله له؛ كم يحمل وحدهم الأهوال التي تخرّ تحتها الجبال، وتعجز عن حملها الأمم!
قال ابن شداد: جلس يدبر أمره، ويرسم خطط القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله، فسألته أن ينام ساعة فيستريح؛ فظن أني قد نعست فقال لي: (لعلك جاءك النوم.) ونهض. . . فخرجت أمشي إلى خيمتي فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذن الصبح. فعدت لأصلي معه على عادتي، فوجدته يمر الماء على أطرافه فقال لي حين نظر إليّ: (ما أخذني النوم أصلاً) فقلت: قد علمت. قال: من أين؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم
ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، وجعلت أفكر في أمره وما يحمل من الهمّ وما ورد عليه من الشدة وذكرت أن قتيبة بن مسلم وقع في إحدى الشدائد وهو يحارب الأتراك وضاق به الأمر، وتكاثر عليه العدو، وبذل كل ما يستطيع من القوة والمكيدة فلم يغن ذلك عنه شيئاً. فقال: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومي بإصبعه نحو السماء. فتهلل وجه قتيبة واستبشر ووثق بالنصر، وقال: والله لتلك(297/47)
الإصبع الفاردة أحب إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير. فلما فتح الله عليهم قال له: ما كنت تصنع؟ قال كنت آخذ لك بمجامع الطرق
وذكرت أن قواد المسلمين الذين دوخوا العالم، وأخضعوا الممالك، وملكوا الأرض، لم يملكوها بقوتهم وعددهم وإنما ملكوها بإيمانهم والتجائهم إلى الله، ورأيت السلطان قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، وباع نفسه من الله، ولم يقصر في فريضة ولم يهمل نافلة، بل كان ينزل حيثما أدركته الصلاة فيصلي ويسمع الحديث بين الصفين، ولم يعرف عنه ميل إلى دنيا أو حرص على لذة من لذائذ العيش. فأيقنت أن دعاءه لا يرد، وأنه هو الولي إن عدّ الناس الأولياء، وهو التقي إن ذكر الأتقياء. فقلت له: قد وقع لي واقع وأضنه مفيداً إن شاء الله
قال: وما هو؟ قلت: الإخلاد إلى الله، والإنابة إليه، والاعتماد في كشف الغمة عليه
قال: وكيف نصنع؟ قلت: اليوم الجمعة، يغتسل المولى ويصلي ويتصدق بصدقة خفية على يد من يثق به ويدعو الله وهو ساجد فيقول: (إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبقى إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك. أنت حسبي ونعم الوكيل)
وإن الله أكرم من أن يخيب من يلتجئ إليه!
- 3 -
وقطع القاضي حديثه ونظر إلى تلك المرأة التي أقبلت تريد خيمة السلطان، وهي سافرة تصيح بلسان الإفرنج وتعول باكية تشير إشارات الفزع المروّع، فأقبل عليها يسألها ما خطبها. . . وكانت هيلانة بذاتها، أفاقت فلم تجد طفلها فخرجت من الخيمة جاحظة العينين مجنونة تصيح باسم ولدها وهي تعدو على غير هدى، تسير في كل سبيل تسأل كل من ترى على ولدها هل رأى ولدها؟ أين ذهب ولدي؟ ماذا أعمل؟ ساعدوني. فتشوا لي عن ولدي. أين ذهب؟ هل مات؟ من أخذه؟ أأكلته الذئاب؟ هل تدخل الذئاب إلى المعسكر؟ أم قد سرقه اللصوص؟ آه أين أنت يا ولدي؟ ألا تردونه عليّ؟ ارحموني يا ناس. فتشوا لي عن ولدي. . .
وانطلقت تعدو في أرجاء المسكر، حتى بلغت خيمة القواد فاقتحمتها، وهبطت على أقدامهم(297/48)
تولول وتصيح. . . فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها. فصمتوا، وبالغت في البكاء والتوسل، فرأى قائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين
- إن الرجل شهم وشريف، وفارس نبيل، وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد. . . وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية، فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم ير منه إلا الإكرام والإحسان، خلع عليه وقدّمه ورفع مجلسه وسَّيره إلى دمشق معزّزاً مكرماً، فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره، ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به، وصنيعه هو بمن أسرهم من قواد السلطان. . .
ووافق القواد على ما وصف به صلاح الدين من النبل والشرف والإنسانية، فسيروا المرأة إليه، فانطلقت تعدو حتى تقطعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها وتعود إلى السعي تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها، أو يكون فيها حتفها، وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر. . . يا رحمة الله على الأمهات! وكانت نفسها كالبحر الغضبان لا تستقر فيه موجة حتى يموج موجة أخرى. . . وكانت الصور تتردد على نفسها متعاقبة يأخذ بعضها بأعقاب بعض، فبينما هي تتصور فرحها بلقاء الطفل فتقدم مسرعة، إذا بها تفكر في هلاكه فتقف لحظة كأنما لطم وجهها القدر بكفه، ولكنها تطرد هذه الصورة من نفسها ولا تطمئن إليها، ويعاودها الأمل قويًّا منيراً، ويخالط الأمل خوف وإشفاق، ثم تمرّ عليها صور من حياتها الأولى تجوز آفاق نفسها بسرعة البرق فتهزها هزًّا عنيفاً ثم تمضي إلى غايتها وترجع صورة الولد فتحتل خيالها كله. . .
حتى بلغت (اليزك) فصاحوا بها: قفي. فوقفت تنظر ماذا يريدون. . . ولم تكن تدري ما (اليزك) وما الحروب، وما جاء بها إلا إيمانها الذي استغله دعاة الشر وسخروها من أجله لمنافعهم فحرموها زوجها وطفلها وجرعوها كما جرعوا الآلاف المؤلفة من البشر غصص الآلام!
وجعلت تصرخ فيهم صراخ اللبوة التي فقدت أشبالها، وتخاطبهم بالفرنسية:
- ابني، ابني أيها الجند؟ ردّوه عليَّ، أريد ابني، فلماذا تمسكونه؟ لماذا تعذبون امرأة مسكينة؟ أين هو؟ هل قتلتموه؟ لا، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية. إني ألمح الشفقة(297/49)
على هذه الوجوه، فلماذا لا تردون عليّ ابني؟
فلا يفهمون منها شيئاً، فتعود إلى صراخها حتى جاء رجل منهم يعرف لسانها فسألها:
- ومن هو ابنك أيتها المرأة؟
- ابني لويس. لويس. أنا هيلانة. ردّوه عليّ. أريد أن أقابل السلطان
فأخذته الرحمة فتركها تمر ودلها على الطريق إلى خيمة السلطان فذهبت تعدو
قال لها القاضي:
- ولكن السلطان الآن في شغل. يجب أن تنتظري ساعة
- لا. لا. أتوسل إليك، أخاف أن يصيب ابني سوء، فدعني أذهب إليه
فقال لها القاضي: اذهبي مع هذا الرجل. وأمره أن يدعها ساعة في خيمة الأسرى حتى يستأذن لها على السلطان، وينبئه نبأها. وظنت أنها في طريقها إلى السلطان، فسارت صامتة مسرعة، فلما دخلوا بها الخيمة ورأت الأسرى، عادت تصيح وتولول، فنبّه صياحها الأسرى، واستفاض حتى بلغ خيمة السلطان فبعث يطلبها. . . وكان في أقصى الخيمة أسير أضطرب لما رآها ووجف قلبه، ولبث بصره عالقاً بها حتى خرجت من حيث جاءت، فلبث مفكراً مشدوهاً، تطفو على وجهه خيالات أفكار هائلة وذكريات بعيدة، ثم تراخى رأسه فأسنده بكفيه، وظل ساكناً تنطوي جوانحه على البركان. . . الذي انفجر بعد دقائق، فنهض الأسير يصرخ صراخ الوحش الكليم: أريد أن أراها، أريد أن أراها. . .
وراع صياحه الأسرى وهم يعهدونه وديعاً كالحمل، فأقبلوا يسألونه، فلا يأبه لهم ولا يكلمهم، وأسرع إليه الحرس يكلمونه فلا يجيب إلا بهذا الصراخ، فرفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوه عليه. . . فلما احتواه مجلس السلطان طأطأ رأسه ووقف خاضعاً، وكانت عظمة السلطان تملأ نفسه إكباراً له، وكان يحس فيها الشكر الخالص لما رأى من إكرام السلطان في هذه المدة الطولية التي قضاها أسيراً عنده، ثم رفع رأسه وجعل يقلب نظره في أرجاء المجلس فوقع على هيلانة وهي راضية مطمئنة وابنها في حجرها، وهي تنظر إلى السلطان نظرة شكر وحبّ، ثم رآها تنهض فجأة فتجثو بين يديه فتقبل قدميه وتتقاطر دموعها، فيتململ السلطان وينهضها. . . فلم يعد يتمالك نفسه، فأسرع نحوها على غير شعور منه، فلما رآه الطفل هتف به: بابا. . . ووقع بين ذراعيه. . . ونظرت المرأة مبهوتة لا تكاد تصدق ما(297/50)
ترى، وجعلت تنظر حولها لتتثبت مما ترى، ولتعلم هل هي في يقظة أو في حلم، ثم صاحت: لويس! أنت حيّ؟
وفهم السلطان القصة فحول وجهه حياء وتركهما يتعانقان. . .
ولما تلفت السلطان وجدهما جاثيين بين يديه يحاولان شكره، فلا تجاوز الكلمات شفاهما إلا وهي جمجمات غامضة، فقال لهما:
- إنّا لم نفعل إلا ما يأمرنا به ديننا؟
قالت المرأة:
- أدينك يأمرك بهذا؟
- قال: نعم، فإن الإسلام رحمة للعالمين، للإنسانية كلها. قالت: أفتضيق هذه الرحمة عن امرأة مسكينة. . . تحب أن تسعد وتحيا بسلام، في ظلال الإسلام؟
فتهلل وجه السلطان، وقال لها: إن رحمة الله وسعت كل شيء
قالت: كيف أغدو مسلمة؟
قال تشهدين أن الله واحد، وأن محمد رسول. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
فنطقت بها، وتلفتت إلى زوجها فوجدته ينطق بالشهادة
وخرج ويده في يدها يذكران الماضي الحلو، والقرية الهادئة.
- لقد تركنا البنفسج يا هيلانة مخضراً يانعاً، فهل أزهر من بعدنا البنفسج فتضوّع أريجه في جوانب الحديقة؟ وشجرة التفاح هل تدلت ثمارها، وارتخت أغصانها؟ والعين هل بقيت على صفائها. . . أواه يا هيلانة! هل لنا من رجعة إلى ذلك الوادي السعيد وتلك الغابة التي ولد حبنا في جناتها ونما واكتمل؟
- لا يا لويس، إنا لن نعود. إن يكن حبنا قد ولد في تلك الغابة، فإنه قد بعث هنا بعد ما مات. هنا عدت إلي، وهنا عرفت الله، وهنا رأيت النبل والطهر والإنسانية، فلنبق هنا يا لويس. . . أليست هذه هي الأرض التي ولد فيها المسيح؟ إننا لم نخسر المسيح، ولكننا ربحنا معه محمداً!
وتقدم الجيش بعد ساعة، يمشي إلى الظفر مكّبراً مهللاً، وكان لويس في طليعة الجيش!
(دمشق)(297/51)
علي طنطاوي(297/52)
النواحي الإنسانية في الرسول
للدكتور زكي مبارك
أعتقد أن شخصية النبيّ محمد لم تُدرس حق الدرس إلى اليوم في البيئات الإسلامية لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال: فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلى بإشارة من جبريل
ومعنى ذلك أن شخصية محمد في جميع نواحيها شخصية نبوية لا إنسانية
يضاف إلى هذا أن جمهور المسلمين يعتقدون أن النبوة لا تُكتَسب، وهم يعنون بذلك أنها لا تنال بالجهاد في سبيل المعاني السامية، وإنما هي فضل يخص الله به من يشاء
وإنما غلبت هذه العقيدة لأن الإسلام نشأ في بيئات وثنية، أو خاضعة للعقلية الوثنية، والرسول لم يَشْقَ بين قومه إلا لأنه حدثهم بأنه بَشرٌ مثلهم، ولو أنه كان استباح الكذب فحدثهم بأن فيه عنصراً من الألوهية لوصل إلى قلوبهم بلا عناء
الواقع أن محمداً كان آية من آيات التاريخ، ولكن كيف؟
لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم. فبنوا آدم يصلحوا لكل شيء إلا سماع كلمة الحق
أراد الله أن يكون الإسلام إعزازاً للفكرة الإنسانية، ولكنْ بنو آدم يؤذيهم ذلك؛ لأنهم خضعوا لألوف أو ملايين من الأوهام التي تشل القلوب والعقول
كان محمد إنساناً بشهادة القرآن، والقرآن كتاب سماويٌّ نص على أن محمداً إنسان، وبنو آدم يؤذيهم أن يتلقوا الحكمة عن رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!
وفي غمرة هذه الضلالة نُسيت النواحي الإنسانية في حياة الرسول وإلا فمن الذي يصدق أن رجلاً مثل محمد يضيع من عمره أربعون سنة بلا تاريخ؟
ولأي سبب ينسى الناس أو يتناسون تلك المدة من حياة الرسول؟
إنهم يصنعون بتاريخ الرسول ما صنعوه بتاريخ الأمة العربية لأنهم أرادوا أن يخضعوا خضوعاً تاماً للمعجزات، فالنبي لم يكن رجلاً عبقرياً وإنما خصه الله بالرسالة فكتب له الخلود، والعرب لم يكونوا أمة قوية وإنما ارتقوا بفضل الرسول
وما يجوز عند جمهور المسلمين أن يقال: إن الله خصَّ محمداً بالرسالة، لأنه كان وصل إلى أسمى الغايات من الوجهة الإنسانية، ولا أن يقال: أن الله اختار ذلك الرسول من(297/53)
العرب، لأنهم كانوا وصلوا إلى غاية عالية من قوة الروح.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أمشي على الشوك وأنا أقيد هذه الفكرة الفلسفية، لأن بني آدم يحتملون جميع الأفكار، إلا الأفكار المتصلة بحيوات الأنبياء
ثم ماذا؟
كان محمد إنساناً قبل أن يكون نبيًّا، وذلك من أعظم الحظوظ التي غنمها في التاريخ، فسيأتي يومٌ قريب أو بعيد يثور فيه الناس على الأمور الغيبية، ولكنهم لا يستطيعوا أن يثوروا على عبقرية محمد.
كان محمدٌ في سريرة نفسه إنساناً يخطئ ويصيب، بدليل ما وُجَّه إليه من اللوم أو العتاب في القرآن؛ وهو قد خضع للضعف الإنساني فذرف الدمع السخين يوم مات ابنه إبراهيم، وهو قد عانى الحب والبغض كسائر الناس، وهو قد توجع من ظلمات الخطوب، وهو قد تألم من غدر الأصدقاء، ثم لم ينج من الكرب عند سكرات الموت
أحبك أيها الرسول!
أحبك لأنك كنت إنساناً له ذوقٌ وإحساس، ولم تكن كما يصوَّرك الجاهلون الذين رأوا عظمتك في أن تكون حاكياً لوحي السماء، وما أُنكر وحي السماء، ولكني أومن بأن في السريرة الإنسانية ذخائر من الصدق والروحانية، وأنت أول نبي أعز السريرة الإنسانية.
أليس دينك هو الدين الذي تفرد بالنص على أن المرء يتصل بربه بلا وسيط؟
أحبك أيها الرسول وأشتهي أن أتخلق بأخلاقك السامية. أحب أن أكظم غيظي كما كنت تكظم غيظك. أحب أن أسلم بجهادي من شهوات النفس كما سلمت بجهادك من شهوات النفس. أحب أن أفرَّ من الشيطان كما فررت من الشيطان، على شرط أن أحب الحياة كما أحببت الحياة
أتدري لماذا أحبك أيها الرسول؟
لأنك أول من شرع الديمقراطية بين الأنبياء. ألست أنت الرجل الذي كان يتبذل في أكله ويقول:
(إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد)(297/54)
أتدري لماذا أحبك أيها الرسول؟
أحبك لأنك جعلت الحرب في سبيل الحق شريعةً من الشرائع وهي مزية إنسانية، وكان الأنبياء من قبلك يكتفون بالتفكير في عجائب الملكوت!
أحبك لأنك أعلنت حبك لطيبات الحياة واحتقرت الرهبنة والانزواء في العابد والصوامع
أحبك لأنك انتقلت من المعلوم إلى المجهول
أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم اعترفت بأنها صالحةٌ للخطأ والصواب
ولكن ما رأيك فيمن يقاومون الحرية الفكرية باسم الغيرة على دينك؟
ما رأيك فيمن لا يرضيهم أن تكون إنساناً يتذوق أطايب الحياة ويلهو أحياناً بالمزاح المقبول؟
ما رأيك فيمن يحاربون الفنون والآداب باسم الدين؟
ما رأيك فيمن يتوهمون أن الشخصية النبوية مجردة من البهجة والأريحية؟
ما رأيك فيمن يُخرِجون من فردوس العقيدة الصحيحة كل من يتَّسم بسمة الحب لأطايب الحياة؟
أنت حاربت الزهد، وحاربت العبوس، وحاربت اليأس، ولكن بعض الناس يرون الإيمان لا يكمل إلا عند من يغرقون في لجج المسكنة والكآبة والقنوط
كنت إنساناً أيها الرسول قبل أن تكون نبيًّا، وتلك الإنسانية هي التي فتحت صدرك للصفح عن هفوات الناس، وهي التي جعلتك تنظر إلى ضعفهم بعين العطف، وهي التي قضت بأن تذوق ملوحة الدمع في بعض الأحيان
أنت نزهت نفسك عن الشعر، الشعر المحبوس في قواف وأوزان، ولكني لا أنزهك عن الشاعرية العالية التي تواجه الوجود بنظر ثاقب، وقلب حساس
وكيف تخلو من الشاعرية وقد خلوتَ إلى مناجاة القلب في غارِ حراء؟
كيف تخلو من الشاعرية وقد كنت رجلاً فحلاً يجيد افتراع المعاني؟
أنا أعرف لماذا نزهت نفسك عن الشعر أيها الإنسان الحساس إنما نزهت نفسك عن الشعر لأن الشعراء في عصرك لم يكونوا عظماء الأرواح
وإلا فأي شعرٍ فاَتك وأنت تدعو إلى التفكير فيما خلق الله من غرائب وأعاجيب؟(297/55)
أي شعر فاتك وأنت تجعل السير في الأرض من واجبات الرجال؟ أي شعرٍ فاتك وأنت الذي أشار بالأفضلية في الإمامة لمن وهبهم الله حسن الوجه وجمال الصوت؟
أي شعرٍ فاَتك وكان شخصك الكريم قيثارة تتغَّنى بمحاسن الوجود؟
الآن عرفتُ لماذا يضن عليك بعض أتباعك بصفة الإنسانية،
إنما فعلوا ذلك لأنهم في ذات أنفسهم لا يؤمنون بعظمة الإنسانية، أما أنت فقد رميت بالكفر كل من يريد يخلع عليك ثوب الألوهية لأن الله خصك بأجمل مزية من مزايا الإنسانية وهي الصدق
لقد فكرتُ مرات كثيرة من الاقتراب من روحك فلم يعقني عائق لأن بيني وبينك وشيجةً من الإنسانية
ودعاني الشوق مرة إلى مسامرة خيالك فرأيتك إنساناً كاملاً لا تقع عينه على غير الجميل من شمائل الأصدقاء
وصحبتك مرةً في بعض غزواتك فهالني أن تكون رجلاً نبيلاً يصبر على الظمأ والجوع والأذى في سبيل الحق
وشهدتك وأنت تعاني الكرب من فضول الناس وتزيّد المنافقين وتقوّل السفهاء، فعرفت أنك إنسانٌ ممتاز، لأن الابتلاء بأذى الناس لا يكون إلا من حظوظ الممتازين بين الرجال
وشهدتك يوم الموت وأنت تواسي ابنتك فتقول: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) فعرفت أن الكرب في الدنيا مقصور على عظماء الرجال
شهدتُ من أخلاقك وشمائلك ما شهدتُ، أيها الإنسان الكامل، فزدتُ اقتناعاً بأنك على خلقٍ عظيم
ولكن ما هي العظمة في خلقك، أيها الرسول؟
أنت رويت القرآن عن جبريل فيما يقول المؤمنون، وأنشأت القرآن فيما يقول الملحدون. وهذا القرآن فيه لوم كثير وجه إليك، فإن كان وحياً من السماء فأنت غاية الغايات في أمانة التبليغ، وإن كنت أنت منشئ ذلك الكتاب كما يتقول الملحدون فأنت غاية الغايات في أدب النفس، لأنك سجلت ما آخذت به نفسك في كتاب مجيد
وأين الرجل الذي يدين نفسه بنفسه كما صنعت أنت حين رويت القرآن أو حين أنشئت(297/56)
القرآن؟
لقد وضعت أعظم دستور للسريرة الإنسانية، وهو دستور الصدق، يا أصدق من عرف التاريخ من الرجال
أما بعد فقد ارتاض القول بعد جموح، وصار من السهل أن أحكم بأن النبوة عهد من عهود العظمة في الطبيعة الإنسانية، ولولا خوف الفتنة لزدت هذا المعنى تفصيلاً إلى تفصيل
محمد إنسان، ولكنه إنسان مظلوم، لأن أتباعه جردوه من فضل الاجتهاد في سبيل الخير والحق والجمال
وهنا تظهر مزية جديدة لذلك الرسول هي نكران الذات، فلو كان محمد رجلاً من أمثال فلان وفلان وفلان من الذين نقلوا أممهم من حال إلى أحوال لملأ الدنيا بالحديث عما وضع للحياة من أصول وقوانين
ولكن محمدا كان يحبّ أن يعيش مسكيناً وأن يحشر بين المساكين، وقد جزاه الله خير جزاء، فخصه بالعظمة في الحياة وبعد الممات
محمد بشرٌ مثلكم يا بني آدم، وقد دعاكم إلى التخلق بأخلاقه، ولم يكتف بذلك، بل دعاكم إلى التخلق بأخلاق الله إلا الكبرياء
فهل رأيتم إنسانية مثل هذه الإنسانية؟
محمد تحدث عن هفواته - إن كان له هفوات - ليدلكم على أن العظمة الحقيقية لا تكون إلا باتهام النفس والحذر من طغيان الأهواء
كان محمد يقول في صدر خطبته (أيها الناس) أو (يا عباد الله) وأنتم تقولون في صدور الخطب (أيها السادة) أو (سيداتي، سادتي)
فتأملوا الفرق بين العبارتين لتعرفوا أنه كان يبتعد عن تملق الأهواء.
استطاع محمد أن يتحدث عن هفوات الأنبياء، وعجزتم عن الحديث عن هفوات الزعماء
فاعرفوا - إن شئتم - أن عظمة محمد من الوجهة الإنسانية هي تمجيد الصدق والخوف من زيغ القلوب
قد تقولون: إن الله أوحى إليه أن يكون كذلك.
وأجيب بأن أكمل خصيصة من خصائص الرجال هي الصلاحيةُ لتقُّبل وحي السماء.(297/57)
وللسماء وحيٌ في كل وقت، ولكن أين القلوب التي تسمع؟ إن محمداً حدثكم بأن الرجل يستطيع أن يخاطب ربه بلا وسيط.
فأين المسلم الذي فهم أسرار الحروف واتجه بقلبه إلى مناجاة فاطر الأرض والسموات؟
أين المسلم الذي تأدب بأدب الرسول فعرف أنه مسئول أمام الله لا أمام الناس؟
والآن أرجع إلى نفسي فأقول:
كان محمد إنساناً، ولكنه كان أعظم من جميع الناس لأنه لم ير الغنيمة في غير المعنويات.
كان محمدٌ يستطيع أن يبني لنفسه داراً تشبه إيوان كسرى؛ وكان يستطيع أن يبني لنفسه قبراً يشبه هرم فرعون، ولكنه آثر أن يحيا ويموت وهو في مَتْربة المساكين.
إن محمداً ظلم نفسه لينتصر ويفوز، وقد انتصر وفاز.
إن محمداً حرم نفسه أبهة الملك، وباسمه عاش الملوك.
إن محمداً حرم نفسه الشهرة بإجادة البيان، وبفضل الكتاب الذي بلّغه عاش البيان. فيا رسول الله ويا إمام العرب والمسلمين إليك أوجِّه أصدق الثناء.
زكي مبارك(297/58)
في غار حراء
مهبط الرسالة
للأستاذ محمود الخفيف
أَيْنَ مِن قَدْرِكَ جُهْدُ الشُّعَرَاءْ ... يا قَرينَ الطُّورِ فِي نَجْوَى السَّماَءْ؟
أّشْفَقَ الشِّعْرُ، وَكَمْ رَاوَدْتُهُ ... فَجَرَى كالصُّبْحِ بَسَّامَ الرُّؤَى
زَاهِرَ الضَّفّةِ رفَّاف الرُّواءْ
طَابَ للسَّامِرِ يا شِعْرُ النّشيِدْ ... وهَفَا المِزْمَارُ لِلَّحْنِ الْجَدِيدْ
هَاتِ ياَ شِعْرُ حَدِيثاً طالما ... مَلأَ الأعْصُرَ وحْياً وَمَشَى
مِلْءَ سَمْعِ الدَّهْرِ لَحْناً وحُدَاءْ
هيه. . . صُغْ لحنَكَ في أُمْ القُرَى ... أُعْبُرِ الأجْيَالَ واطْوِ الأعْصُرا
اِقطَعِ البيدَ إلى مُنْعَزَلٍ ... التَقَتْ فِيهِ السمواتُ العُلَى
مَرَّةً بالأرْضِ في غارِ حِراء!
غَنِّناَ عَنْ شَاهِقٍ عالي الْجَبِينْ ... تَتَمَلاّهُ عُيونُ الَّناظِرينْ
هَرَمِيّ نازِعٍ مُستَشْرِفٍ ... للسَّموَاتِ، مَنيع المُرْتَقَى
للعلى رَمْزٌ وللْحَقِّ لواء
جَبَلِ النُّورِ الوضِيءِ النَّسَبِ ... لقَبٌ يا حُسْنَهُ من لقَبِ!
أين في الأرْضِ مَكَانٌ مِثُلهُ ... بَيِّنَاتُ الله فيه واُلهدَى
لَمَعَتْ فانجَابَ في الكون العماء؟
مَهبْطُ النُّورِ على هذا الوجودْ ... مُرْتَقى أوحى له مَعْنَى الصُّعودْ
شَدَّ ما يَمْلأَ نَفسِي سِحْرُهُ ... ولكَمْ تَلْمَحُ روحي من رُؤَى
ومَعَانٍ عَبْقَريَّاتٍ وِضاءْ!
هَاتِ ألحانَكَ عِنْدَ اَلْجَبَلِ ... غَنِّ يا شِعْرُ بهِ لا تُجْفِلِ
امتَلِئُ مَا شِئتَ مِن رَوْعَتِهِ ... إلتَمسْ وَحْيَكَ في هذا السَّنّا
وتَرنّمْ، يَحْلُ يا شِعْرُ الغناء
هَاتِ. حَدِّثنَا عن الرَّاعي الأمينْ ... ذلك الأُمِيِّ، عند الأرْبَعِين(297/59)
ذلك الأمِيِّ من عَلّمَهُ. . . ... غنِّ في بيدائه كيف اهتدى
واجتلى في الأرضِ آياتِ السماء؟
ياَ رِمَالَ البيدِ هذا جَاهِدُ ... هادِئُ النُّظْرَةِ ماضٍ صَاعِدُ
يا رِمَالَ البيدِ كَمْ شاهَدْتِهِ ... يحملُ الزّادَ ويمْضِي؛ هل رأى
حَوْلَهُ غَيْرَ الرَّواسي والفَضَاءْ؟
يَهْمِسُ الرُّعْيَانُ. . . ما يَشْغَلَهُ ... أيُّ أمْرٍ حَازِبٍ أذهَلَهُ؟
شاحِبُ الوَجْنَةِ لا مِن عِلّةٍ ... مُطْرِقٌ هَامَتَهُ، واني اُلخْطَى
طَالَ فِي اللهِ بِهِ عَهْدُ الرَّجاءْ
يا لهذا العَرَبِيّ الصَّائم ... ابْنِ عَبْدِ اللهِ، أزكى هاشِمِ
بَلَغَ الغارَ فألقى زَادَهُ ... يا لهُ من لا غِبِ طَاوِي الحشا
أكثرُ الزّادِ لهُ تَمْرٌ وَمَاء!
يا نجومَ اللّيْلِ أَضْنَاهُ المَّهَرْ ... لم يَنَلْ مِن طَرْفِهِ طولُ النّظَرْ
هَلْ أتَى مَكّةَ ما أرَّقَهُ؟ ... حَسْبُهَا مِن لَيْلهِاَ طِيبُ الكَرى
يَغْرقُ السُّمَّارُ فيه السُّعَداء!
إيه شمْسَ الصُّبْحِ، يا نورَ الأزَلْ ... هَلْ جَلاَكِ اللاّتُ يومًا أو هُبَلْ؟
اسألي مكّةَ عن أَصْنَامِها ... اسألي السَّادَة في أمِّ القُرَى
عن تماثيلَ لها حَقُّ الوَلاَء!
حَدِّثِي يَا شَمسُ عَنْ أَنْصَابهَا ... وأُولي الغَفْلَةِ من أصَحابِهَا
حَدِّثي عن ظلْمَةِ الْعَيْشِ بِهَا ... وعن الشَّحْنَاَء فيها والخنا
وَذَوِي الفُحْشِ بها واُلْخَيلاَء
تُؤثِرُ اللّيْلَ عَلَى الصُّبْح اتجاها ... كَهْلُهَا يَسْبِقُ في الشّرِّ فَتَاهَا
بَلْدَةٌ كَمْ غَرَّهَا باَطِلُهَا ... لَيْسَ في شِرْعَتِهاَ إلا الهَوى
شِرْعَةِ الجورِ ودين السُّفَهَاءْ
لاذَ بالوَحْدَةْ في عُزْلَتِهِ ... ذلك الواحِدُ في نَشْأَتِهِ
ذَلِكَ المُفرَدُ مِن أيَّامِهِ ... ما دعا داعي الصِّبَا إلا أّبَى(297/60)
وَتَوَلّى وهْوَ موفورُ الإبَاء
كَمْ يُعَانِي اليَوْمَ مِمَّا يَحْمِلُ ... لاَذَ بالغَار فِفيِه اَلموْئِلْ
هَاجِسٌ في نَفْسِهِ يَشْغَلُهُ ... يَنْسَخُ الْيَأْسَ بهِ لَمْحُ المُنى
سَاَعَةً ثم يُغَشِّيهِ اَلخْفَاءْ
يَا لَعَانٍ يَعْظُمُ الكَوْنُ لَهُ ... كَمْ يَرَى الرَّهْبَة فيما حولَهُ
كَمْ لَهُ في صُبْحِهِ إذ يَنْجَلِي ... ثمَّ في اللّيْلِ إذا اللّيْلُ سَجَا
من يقين وجَلاَء واهْتِداءْ!
هَذِهِ الأفْلاَكُ من يُمْسِكُهَا ... في الفَضَاءِ الرَّحْبِ من يُسْلِكهَا؟
والرَّواسي الشُّمُّ من شَيَّدَها ... من دَحا الأرضَ ومن ساق الحيَا
فَسَقَى التُّرْبَ بِهِ حَيْث يشاء؟
مَنْ لهذا السَّاجِدِ المُقْتَرِبِ ... هَلْ تَلَى في أمْسِهِ من كُتُبِ؟
هَلْ بنتْ أُمُّ القُرَى مَدْرَسَةً؟ ... مُنْتَهَى ما عَلِمَتْ تِلك الدُّمَى
يَتَمَلاّهَا بنوها النُّجَبَاءْ!
مَنْ لَهِذا الفَرْدِ في بَيدائِهِ ... بِرُؤى العَالَم أو أنباَئِهِ
هَلْ أَتَاهُ نَبَأٌ عَن فَارِس ... هَلْ عَن الشّامِ ومِصْرٍ من نَبا
وعن الرُّومِ وأرْضِ اُلحْكَمَاءْ؟
ضَجَّ بالعُدوان ذاك العالَمُ ... ما يرُى هَادٍ له أو عاصِمُ
الهداياتُ بهِ حائرةٌ ... والضَّلاَلاَتُ به استشرت فما
يَفهَمُ الرَّحْمَةَ إلا الضعفاء!
باتَ ما طافَ به من قَبَس ... في ظَلاَمِ الأرضِ كالْمُحْتَبِسِ
يا لَها مِن شُعلة خابيةٍ ... غَرقَتْ أو أوشكت فيما جرى
من دموعٍ هاطِلاَتٍ ودِمَاء!
لَوَت الشُّعْلَةَ عن وِجْهَتهِاَ ... أُمَمٌ ثارَتْ على وَمْضَتِها
ضَرَبَ الغَيُّ على آذانِها ... واشتَرَت بالحقِّ والنُّورِ العمى
فَتغَشَّتها دياجير الفناء(297/61)
طابَ للأمِّيِّ في الغارِ المُقَامْ ... ليس يثنيه سُهَادٌ أو صِيامْ
للِسَّموات العلى مُستَشْرِفٌ ... في دُجى الليل وفي نورِ الضَّحَى
ضارِع لِله موصولُ الدُّعاءْ
سَابحٌ في الملكوتِ الدائِمِ ... وَاَلجْلاَلِ المُستفِيضِ القَائم
مُطْلَقُ النَّفْس رَضِيٌّ آمِلٌ ... صُوَرُ الحقَّ بهذا المُجْتَلى
أمَدَّتْهُ برَوْحٍ وانتشاء
رَوْعَةُ التَّسبِيحِ في نَظرَتِهِ ... وَجَلالُ الحقِّ في مُهْجَتِهِ
سَاجِدٌ لله يرجو وَجْهَهُ ... صَابِرٌ مُرْتَقِبٌ جَم الرَّضا
خاشِعُ المحَبةِ مَصدوق الولاء
طاف بالرعْبِ على مَضجِعِه ... هَامِسٌ يَهْمِسُ في مِسْمَعِهِ
يا له الله! أرؤيا نائم ... ما له يَسْمَعُ لكن لا يرى
حوله إلا هواءَ أو هباء؟
إنها الشعْلةُ جاءت من جديدْ ... للِوَرَى فيها طَريفٌ وتَليدْ
هَبَطَ الغَارَ بها الرُّوحُ الأمين ... سَاقَهَا اللهُ لِطَهَ المُصْطَفَى
ابنِ عبدِ اللهِ خَيْرِ الأنبياءْ
قَبَسُ اللهِ العلي الأكْرَمِ ... (عَلْمَ الإنْسَان ما لم يَعْلَمِ)
قَبَسُ الله الذي أوحى له ... ظَلَّ يرجو نورَه حتى انجلى
رائعَ الإشراقِ وهَّاجَ الضياء
هلَّ نورُ الله في أعلى الجبل ... أّبْشِري يا أرضُ قد هَلَّ الأملْ
حَمَلَ ابنُ البيدِ ما أُلْهِمَهُ ... وَمَشى الراعي رسولا للورى
يرفع الشُّعْلَةَ من بَعْدِ انطفاء
ياَ رِمَالَ البيد قد جَاَء البَشيرْ ... نَزلَ الدَّاعي إلى الحقِّ النَّذِيرْ
انظريه. . . نوره بين يَدَيهِ ... أَيُّ نُور مِثلَ هذا أومضا
أيُّ قَوْل حَارَ فيه الفصحاء؟
غَمَرَ النُّورُ جباه الصَّابِرِينْ ... وَتمَشَّى بين أيدِي الفَاتحينْ(297/62)
مِنْ رُبُوع الْهِنْدِ لِلأّندَلُسِ ... أّلْهَم النَّاسَ الْعُلاَ أَنّى مَضى
فَهُمُو فِي الدِّينِ والدُّنياَ سواء
الخفيف(297/63)
بين مصر وإيران
لِلأديب محمد فهمي عبد اللطيف
الترابط بين الأمم والشعوب ضرورة اجتماعية، تقتضيها طبيعة الوجود، والرغبة في التعاون والمنفعة. وإن الأمم لتأخذ لهذا الترابط بأسباب مختلفة، وتقيمه على اعتبارات متباينة؛ فهي مرة تقيمه على الأغراض المشتركة، والآمال المتفقة، والمذاهب المتماثلة؛ ومرة تدعو له باسم الوشائج الجنسية، والروابط العصبية؛ ومرة تَشْرعه بدعوى العلم والحضارة والصالح العام؛ وفي هذا العصر يتخذه القوم وسيلة لسد المطامع، والجشع الاستعماري، وفرض السلطان على الشعوب الضعيفة؛ وهم في كل هذا يوثقون له بالمعاهدات والمحالفات والمشارطات والمؤتمرات تقام ثم تنفض، وقد ملأ القوم الدنيا بالخطب الرنانة، والوعود الخلابة، والرغبات التي ظاهرها الرحمة للإنسانية، وباطنها الويل كل الويل للإنسانية.
وكل هذا باطل في منطق الحق، وكذب على طبيعة الوجود، وإن صح في خسيس من المذاهب رجس كما يقول أمير الشعراء. وإن التاريخ ليخبرنا بوقائعه وتجاريبه بأنه ما وثق بين الأمم والشعوب مثل تبادل العواطف، وما وثق في تبادل العواطف مثل المصاهرة: تلك الفضيلة الاجتماعية التي جعلها الشرع الإسلامي صلة من صلات المودة والألفة والاتحاد، وأنزلها منزلة القرابة العصبية واللحمة في النسب، فقد حرم على الشخص أن يتزوج بأم زوجته أو بأنثى من فروعها وأصولها. كما حرم عليه أن يتزوج بأمه أو بأنثى من أصول نفسه وفروعه، وكذلك حرم على زوجته الاقتران بأحد من أصوله أو فروعه، فكأنما أنزل الله كلاًّ من الزوجين منزلة نفس الآخر حتى أنزل فروع كل منهما وأصوله بالنسبة إلى الآخر منزلة أصول نفسه وفروعه. وهذا برهان يقيمه لنا الشرع الحكيم على أن الاتصال بطريق المصاهرة مساو لنفس القرابة النسبية في الأحكام والحقوق والألفة والاحترام.
على هذا الاعتبار القويم تتخذ الأمم الرشيدة من المصاهرة رابطة مودة، وواسطة سياسية، وعلاقة تامة يكون بها التعاون والرغبة في الإفادة والخير؛ بل على هذا الاعتبار جرت عوائد الأمم في الأزمنة الغابرة، فكانت القبائل والعشائر تتصاهر إذا أرادت أن تدخل في ميثاق يكون به المعونة على دفع الشر وجلب الخير؛ ولو أن دماء سفكت بين قبيلتين،(297/64)
وعداوة تمكنت بين أمتين، حتى ملوا مقارفة النزال، وكلوا من مقارعة النضال، ورغبوا في الأمن والطمأنينة والسلام، لم يجدوا وسيلة تقطع دابر العداوة فيهما، وتوثق روابط المحبة بينهما، إلا أن تتصاهر القبيلتان فتصيرا كأسرة واحدة، وتدخلا في عهد جديد تتوحد فيه المشاعر والعواطف، وتصح به الهمم والعزائم، وتقوى الرغبات والآمال
وعلى هذا الاعتبار الذي تقتضيه الطبيعة، وتشير به الشريعة، وتقره وقائع التاريخ، تقوم اليوم الصلة بين شعبين كريمين: بين مصر ذات المجد الخالد، وإيران صاحبة التاريخ التالد. والصلة بين مصر وإيران صلة قديمة منذ العصور الغابرة، فالتاريخ يحدثنا بأنه لما ظهر (كورش) مؤسس الإمبراطورية الفارسية العظيمة، فاندفع في الغزو والاستعمار حتى استولى على ليديا وميديا وآسيا الصغرى وتوغل شرقاً إلى شواطئ السند، خشيت الدول بأس الفرس، وعقدت ضدهم تحالفاً ضم بابل وليديا ومصر وبعض ولايات الإغريق، فنهض (كورش) العظيم للانتقام من الدول المتحالفة، فأعاد ليديا لطاعته، وفتح بابل من جديد، ثم مات وفي نفسه الرغبة في غزو مصر!
فلما تولى من بعده (قمبيز) عمل على تنفيذ الرغبة، فجاء بجيش جرار إلى مصر، وكانت مصر منيعة بالتحصين، ويقول مؤرخو الإغريق أنفسهم: إن أحد الجنود اليونانيين خان المصريين فدل الفرس على أسهل الطرق في اقتحامها، وبهذا استطاع (قمبيز) أن يفتح مصر بعد مقاومة شديدة، حتى لقد أسر ملكها (ابسماتيك الثالث)، واشتط في معاملة المصريين، فأذاقهم ألواناً من القسوة الحنق، وهزئ بديانتهم فهدم المعابد والهياكل، وقتل بيده العجل أبيس في أحد الاحتفالات الدينية
فلما تولى (دارا الأول) أراد أن يصلح ما أفسده (قمبيز)، فزار مصر، وأبدى احتراماً عظيماً لديانات المصريين ومعبوداتهم، حتى لقد شيد هيكلاً فخماً بواحة سيوة لمعبودهم آمون، وبنى كثيراً من المدارس ودور العلم، وعضد التجارة ففتح الخليج الموصل بين النيل والبحر الأحمر، وأصلح طريق قِفْطْ المار بوادي الحمامات، وعلى الرغم من هذا كله فقد انتهز المصريون الفرصة في هزيمة (دارا) مع الإغريق في موقعة (مرتون)، فخرجوا على طاعته، واستردوا استقلالهم بزعامة أمير من الوطنيين، ولكن الفرس عادوا إلى غزو مصر ثانية في عهد ملكهم (إجزرسيس)، فقابلهم المصريون بالثورة والتمرد. وهكذا ظل(297/65)
الفرس على الرغبة في استعمار مصر، وظلت مصر في الثورة على هذه الرغبة حتى جاء الفاتح العظيم الإسكندر الأكبر فطوى مصر وفارس فيما طوى من الأمم والشعوب
تلك هي صلة مصر بفارس في التاريخ القديم، وهي كما ترى صلة الفتح والاستعمار، ورغبة السيطرة وبسط النفوذ. فلما كان مطلع التاريخ الحديث اتصل المصريون بالفرس اتصال محبة ووفاء واحترام، فتمكن الود بين السلطان الغوري والشاه إسماعيل الصفوي على دفع الخطر العثماني الداهم، فسمح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفد الذي أرسله الشاه إلى البندقية لعقد محالفة على محاربة العثمانيين، ولما زحف السلطان سليم الأول على بلاد الشاه وأراد أن يكتسح فارس بأجمعها، وجد الشاه قد أتلف كل ما خلفه في المدن والقلاع من المئونة والذخائر، فأرسل السلطان سليم في طلب المدد والزاد من بلاده، ولكن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه، فقلت الأقوات في معسكره، واضطرب الأمر في جيشه، وحرم لذة انتصاره، فأسرها السلطان في نفسه، وكانت مما تعلل به في غزو مصر وضمها إلى خلافة آل عثمان
واليوم ترتبط مصر وفارس برباط المصاهرة الكريمة، أعني رباط القرابة والنسب، والود والألفة، وإنه لوضع ثابت في الاختلاط بين الشعبين، وعهد جديد في التعاون بين الأمتين الخالدتين، وميثاق صريح صحيح يؤكده دعامتان: (دين) يوحد بيننا في المشاعر والأفكار والعواطف والميول والأخلاق والعادات، (وثقافة) مستمدة من تعاليم الإسلام، وسياسة القرآن، وكل ما خلف العرب من أفانين العلوم والمعارف. والدين والثقافة عند علماء الاجتماع هما أهم المبادئ التي تحفظ كيان الأمم، وأقوى العناصر في تكييف حياتها ورقيها. أليس بفكرة الإسلام وحدها استطاع محمد صلوات الله عليه أن يجمع شمل تلك القبائل المتفرقة المتخاذلة، وأن يخلق منهم تلك الدولة العظيمة التي دوخت العالم، وتبوأت أرفع مكان في التاريخ؟!
ولاشك أن الشرق اليوم هو اللقمة السائغة التي يتقابل على التهامها أمم الغرب، ولاشك أنه لا طاقة للمسلمين بدفع هذا الخطر ولا قائمة لهم إلا بتبادل الشعور والعواطف، وإحكام الروابط والصلات، والرجوع إلى وحدة إسلامية لا مناص من الرجوع إليها كما يقول أستاذنا المراغي. ولاشك أن هذه الصلة الوثيقة بين مصر وإيران، قد قربت الوصول إلى(297/66)
تحقيق هذه الوحدة، وستكون إن شاء الله طالع سعد للإسلام والمسلمين، وتوثيقاً لعرى القومية بين أمم الشرق التي هدها نفوذ الغرب وجشعه، وأنهكها طول التفرق والانقسام.
أميرة مصر وأمير إيران يقترنان. . . ألا إنه لبراعة استهلال للعام الجديد، وطائر يمن للشرق والإسلام، ورغبة أمتين كريمتين في الخير والمحبة، ثم هو صلة بين قلبين طاهرين، وعاطفتين نبيلتين، نسأل الله أن يحوطه برعايته، وأن يقرنه بالسعادة والبركة، وأن يحقق به الآمال والرغبات، وأن يجعله وسيلة الخير والسلام لغاية الخير والسلام
محمد فهمي عبد اللطيف(297/67)
رسالة الإسلام خالدة
لِلأستاذ محمد فريد وجدي
وقر في عقول أهل العلم الغربيين، وعقول من نهل من حياضهم من الشرقيين، أن الأديان التي احتضنت الجماعات البشرية منذ نشوئها إلى عهد قريب قد انتهى دورها، وانقضت رسالاتها، لعدم وجود نفع يرجى للجماعات الراهنة منها. وكثيراً ما أُسأل: هل رسالة الإسلام لا تزال قائمة؟ فأجيب: نعم، وأبد الدهر. ولست في تأكيدي هذا بواقع تحت سلطان العقائد الوراثية، ولا بمخدوع بالأوهام التقليدية، ولكني مستند فيه إلى علم، وماض فيه على بينة
ذلك أن كل مجموعة من التعاليم يحكم عليها بانقضاء دورها، حين تستنفد الحياة كل ما فيها من غذاء يناسبها، أو تتطور العقول وتظل هي جامدة لا تماشيها، فتترفع عن الأخذ بها؛ ولكن تعاليم الإسلام لا تجري عليها هذه السنة، فقد جاءت بالمثل العليا في كل ناحية من نواحي الحركة الروحية والعقلية والاجتماعية، فكيف يعقل أن تنتهي له رسالة، أو تزول له دولة؟
فأما من ناحية الحركة الروحية فإن الإسلام يصرح بأنه دين الفطرة الإنسانية، وهذه الكلمة أسمى ما يعبر به عن دين يخلد خلود البشرية. فإن الفطرة مودع فيها شريعة النوع كله بالقوة، وهي واحدة في جميع الأفراد لا تتعدد إن لم تفسد بدس تعاليم خارجية إلى النفس تحولها عن سمتها الطبيعي. وقد شدد الإسلام في النهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة بها في كل مناسبة؛ وقد زاد فحاطها بحوافظ قوية من ضروب مختلفة، فنبه النفوس أولاً إلى ضرر التقليد الأعمى للآباء والقادة، وأمر بطلب الدليل المقنع على كل عقيدة يتقدم بها داع لنحلة، وصرح بأن الإيمان التقليدي لا يقبل، وأن الإنسان مسئول عن عمله الشخصي، وأن أحداً لا يغني عنه شيئاً، وأن أكثر من في الأرض لا يتبعون إلا الظنون والخزعبلات الموروثة، وأن الدين يهتدي إليه الإنسان على ضوء العقل الناضج والعلم الممحص، وأن الإنسان يترقى في معارج الهداية بقدر ما يخلص في طلب الحق، ويتجرد من الأهواء والأوهام، ويثابر على النظر والفكر، ويستمع لكل كلام فيتبع أحسنه، ولا يأنف أن يأخذ بحقيقة يأتيه بها من يخالفه في دينه ولغته، وألا يصر على قول إذا ظهر له وجه الصواب في تركه،(297/68)
وألا يتعصب لمذهب أو رأْي تعصباً يعميه عن نظر ما عسى أن يكون فيه من الثلم أو يرد عليه من الاعتراضات، وأن يكون دائماً حريصاً على استقلاله العقلي وحريته الفكرية، مستعداً لأن يصحح ما يتضح له أنه مخطئ فيه، معتقداً أن ليس بعد الحق إلا الضلال.
وبناء على هذه الكليات يرى الإسلام أن الناس ماداموا كلهم متشابهين في الخلقة، ومتساوين في الميول والعواطف، فلا يصح أن تكون لهم أديان متعددة لم بفرق بينها إلا أهواء القادة وأوهام الزعماء، فإنما هو دين واحد، دين الفطرة المؤيد بالعقل والنظر، المنزه عن الظنون والوساوس، الجامع لكل ما حصلته الإنسانية في أدوار حياتها من مذخورات أدبية، وفتوحات روحية، فقال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)
وأما من ناحية الحركة العقلية فإن الإسلام قد رفع من شأن العقل ونوه بسلطانه، إلى حد أنه اعتبر الذين لا يقيمون له وزناً في تقدير قيمة عقائدهم دوابَّ تحقيراً لهم، فقال تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). وعد الذين لا يستخدمون حواسهم الظاهرة في النظر والتأمل، ومشاعرهم الباطنة في الاستدلال والتعقل، أنعاماً بل أضل. قال الله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)
وشفع الإسلام كل هذا بالتحضيض على طلب العلم والتحريض على تصيد المعرفة من كل المظان التي يتخيلها العقل، من النظر في الكون والتأمل في الكائنات، والتنقيب عن مساتير الخليقة والسريان في سرائر الوجود، في السماء وأجرامها، في الأرض وعوالمها، في الحيوانات وعجائبها، في النباتات وبدائعها، كل ذلك لبناء الشخصية الإنسانية وإبلاغها إلى ذروة الكمال المقدر لها. ولقد رفع من شأن العلم في نظر الإنسان إلى حد أنه حصر فهم آيات الله وإدراك مراميها، وفهم مغازيها في أهل العلم، فقال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقال: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) وقال: (إن في(297/69)
ذلك لآيات للعالمين) بكسر اللام فيهما. ولا يمكن أن يتخيل أحد أن يتجاوز التنويه بشرف العلم هذا الحد
هذا ولم يغفل الإسلام في تطلب ترقية الشخصية الإنسانية شيئاً، حتى الضرب في الأرض، وتعرف أحوال الأمم وطبائعها، ودراسة ما هي عليه من شرائعها وعاداتها، وناهيك بأثر ذلك في ترقية النفسية البشرية، فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها. أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). وقد كرر الحض على السياحة مراراً كثيرة
وأما من ناحية الحركة الاجتماعية فإن الإسلام قد بلغ بها الأفق الأعلى، وأوجد في رابطة الاجتماع تجديداً لم تحلم به الإنسانية بعد، ولا مناص في أنها ستعول عليه في المستقبل، فقد جعلها الإسلام مؤلفة من الأصول الأدبية، والقواعد الخلقية، لا كما كانت قائمة عليه من الحاجات الجسدية، والمقومات القومية. فعل الإسلام ذلك لتشمل تلك الرابطة النوع البشري كافة، وتلاشي في طريقها الفروق الجاهلية القائمة على الجنسية، والخلافات اللغوية واللونية التي كانت ولا تزال عوامل شقاء في بنية الإنسانية، بما تثيره من الحروب والغارات بينها، وما تمحق من روح التكافل والتعاون فيها. فالإسلام لا يعترف بفرق بين عربي وعجمي وصيني وتركي، وجاوي وفرنسي الخ، فالناس كافة في نظره أولاد آدم وحواء، وقد خلقوا ليتعارفوا ويتعاونوا، لا ليتناكروا ويتناحروا، فقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)
فالإسلام يقرر أنه مادام النوع البشري واحداً، فيجب أن يكون له دين واحد وغرض في الحياة واحد. وأنت ترى أن العالم كله رغماً عن طغيان العاطفة القومية في هذا العصر، وازدياد عوامل الفرقة والخلاف بين الشعوب، سيضطر إلى التوحد، وستكون هذه الموجة نفسها من الخلاف والتفرق من أكبر العوامل في إيجاد تلك الوحدة المرجوة، لأنها ستتثبت بدليل محسوس أن هذه الوحدة هي العامل الوحيد لنجاة المدنية من التلاشي.
إذا اعتبرت كل ما ذكرته هنا رأيت بما لا يدع شكاً أن رسالة الإسلام لا تزال باقية، وأنها ستبقى ما بقي النوع الإنساني على الأرض. وإنما تزول التعاليم إذا كانت مقدرة على(297/70)
أحوال معينة، متى ارتقت أصبحت تلك التعاليم لا تسد حاجة المجتمع فتزول، أو يثبت فسادها بترقي العقول. فتتلاشى مع كل ما يتلاشى من أمثالها
ولكن ما بيناه من تعاليم الإسلام هنا لا يعقل أن يزول، لأنها أصول أدبية خالدة، ومثل عليا لا يمكن التماري في سموها، وفي تأدي العالم في المستقبل إلى محاولة تحقيقها.
محمد فريد وجدي(297/71)
مجد المرأة وكرامتها في كنف الإسلام
لِلأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي
مدير المساجد
أقام المشرع الإسلامي قواعد للمجتمع، على أسس اجتماعية أصلها ثابت وفرعها في السماء. ونظر إلى الدعامة الأولى لبناء الأفراد وهي المرأة، فجعلها قسيمة الرجل في الحياة، أمّاً أو زوجة، ثم أوضح لها شرعتها حكيمة مسدّدة تمهد لها كل ما هو ميسر لها، متسق مع طبيعتها. وطبيعة المرأة: وجدان متأثر، وعاطفة مشبوبة، وجانب لين، وأجزاء دقيقة، وهيكل متأنق، ورونق متألق، ولطف ساحر في التأسية، وفيض ضاف من الحنان
ولقد تنطق المرأة بكلمة تواسي بها الرجل إذا تفزع فؤاده من الهول، فتفعل الكلمة في قلبه، وتؤثر وتجدي ما لا يؤثره أو يجديه بلاغة الأساة من الرجال. ولعلك على ذُكر من كلمة خديجة أم المؤمنين يوم جاءها زوجها محمد صلى الله عليه وسلم وفؤاده يرجف من لقاء الملك، ومن تلقي الوحي، وهو أمين الله ومختاره جلادة وقوة وصبراً واحتمالاً، فلم يكن منفرجُ الروع، ولا ذهاب الخوف إلا ساعة قالت خديجة كلمتها، كلمة المواساة والترفق والأمل: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدم، وتعين على نوائب الدهر)
أعلى الإسلام من قدرة المرأة ما وسع العلاء طبيعتها، وعظم من شأنها ما شاءت الخليقة أن تعظم، ثم وفر لها من الحرية ما يناسبها ويُهَيِّئ له من ميدانها سبيل النفع والخير؛ فلم يُردْها قعيدة بيت بل سيدة بيت؛ ولم يجعلها مسلوبة الإرادة، بل شاءها طليقة في مملكتها الصغيرة الكبيرة، ورجا لها الصيانة في قدس الخِدْرِ
خطب صلى الله عليه وسلم بنت عمه أبي طالب واسمها أم هانئ، وكانت قد تزوجت ونسلت ومات عنها زوجها. فما الذي ألهمها الإسلام أن تقول أن تقوله في جواب هذا العرض المحمدي الشريف؟ لقد قالت تخاطب صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من سمعي ومن بصري؛ وإني امرأة مؤتمة (مات عني زوجي) وَبنِيَّ صغار، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي أن أضيع بعض شأني وولدي؛ وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي)(297/72)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناهن على ولدٍ في صغره، وأرعاهن على بعل في ذات يده)
لم تكن تلك الحرية فيمن تختاره المرأة لنفسها قاصرة على كرائم أحرارهن، بل بسطها الإسلام حتى على من كانت أمَة وخلصت من الرق.
ملك عقبة بن أبي لهب جارية حبشية اسمها بريرة، وزوجها عبداً من العبيد، فكانت تضيق به وتتبرم منه. ولكنها مملوكة، وأمرها ليس بيدها. فلما علمت عائشة أم المؤمنين بما تعانيه (بريرة) في هذا الزواج اشترتها وأعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ملكتِ نفسكِ فاختاري) فاختارت أن تنجوَ بنفسها من هذا الزواج الذي لا تطيب به. فكان زوجها بعد هذا الفراق يمشي خلفها ويبكي ويسترضيها، فلا ترضى عنه. وكان يرثي له كل من يراه خلفها باكياً. رآه صلى الله عليه وسلم مرة وتلك حاله فقال لأصحابه: (ألا تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له!) ثم قال لها: (اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك) فقالت: (أتأمرني يا رسول الله؟) فقال: (لا. إنما أنا شافع) فقالت: (إذن، فلا حاجة لي إليه. . .) هكذا تقررت حرية المرأة في أمر نفسها، حرية تكفل للبيت النعيم، وتوفر لها الهناءة. وبهذا جاء الإسلام موقراً لرأيها، محافظاً على كيانها، مظهراً لشخصيتها. فإذا ما أجارت المسلمة لاجئاً، أو أمَّنت أسيراً، فقد أجار المسلمون - جميعاً - مَن أجارت، وفكوا من أطلقت، وحموا من استعاذ بها. . .
ورد في الصحيح البخاري أنه لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة يوم الفتح احتمى رجلان بأم هانئ بنت أبي طالب وهي مسلمة، فدخل عليهما أخوها علي وهَّم بقتلها، فأغلقت دونه الباب، وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (مرحباً وأهلاً يا أم هاني، ما جاء بك؟) فأخبرته خبر الرجلين وخبر أخيها علي، فقال عليه السلام: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وأمَّنا من أمنت)
فقد أجاز المشرع لعقيلة مسلمة كريمة أن تفك عانياً أسره المسلمون في غزوتهم، وقد كانت بين الأسير وبين الكريمة أسباب وثيقة، فما هو إلا أن عاذ بها واستجار في حماها، فأجارته
ولقد كانت كبرى بنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي زينب قد تزوجت من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع، وكان أبو العاص يخص زوجته زينب بإكباره وتكرمته، فلما(297/73)
انصرف عن الإسلام بادئ الأمر وزوجته مسلمة فرق بينهما الإسلام، وهاجرت زينب، وبقي هو منصرفاً عن الإسلام؛ غير أن حنينه لزوجته لم يفتر، فكان يرسل لوعته الحرَّى في أبيات من الشعر الرقيق ويقول:
ذكرت زينب لما وركت إرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاه الله صالحة ... وكل بعل سينبي بالذي علما
ثم خرج إلى الشام في تجارة لقريش، فعرض للقافلة زيد بن حارثة في جمع أرسله محمد عليه السلام، فغنموا المال وأسروا الرجال. وكان في الأسرى أبو العاص، فاستجار بزينب، فرجت أن تحقق إجارته وأن تحميه، وترقبت صلاة الفجر، وأبوها يؤم المسلمين، فلما انتهوا وقفت بباب المسجد ونادت بأعلى صوتها: (إني قد أجرت أبا العاص بن ربيع). فقال صلى الله عليه وسلم: (هل سمعتم ما سمعت؟) قالوا: نعم. قال: (فوا الذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت ما سمعتم. ألمؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت) فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه، ففعل. . .
ولقد حسن شأن أبي العاص، وحلت الهداية قلبه، فعاد إلى مكة وأدى الحقوق إلى أهلها، ثم رجع إلى المدينة مسلماً، فرد رسول الله إليه زوجته زينب الوفية البارة.
رأى المشرع الإسلامي أن صيانة الأعراض وحرمة السير وكرامة الأسر من حقوق المجتمع، بل من أسباب بقائه ونموه؛ ذلك بأن الخلية الأولى من خليات المجتمع هي الأسرة، والأسرة لا قوام لها إلا بالرجل، يندفع لحمايتها، وينبعث لرعايتها، ويعاني أخطار الحياة، ويجوب العامر والخراب - كل ذلك ليوفر لأبنائه ولبيته أسباب الحياة وسعادة العيش؛ وما يدفعه إلى ذلك إلا حنان الأبوة، ووشائج النسل، وشعور ملتهب بأن الولد قطعة من أبيه، وفلذة من كبده، فمن أين تتم للرجل تلك الدوافع وهاتيك الوثبات إذا هو ارتاب أو حاك الشك في نفسه صحة انتساب ولده إليه، أو خلوص زوجته له. . .!
لهذا أحاط الإسلام المرأة بسياج حصين، وأمن الرجال على أنسابهم وأعراضهم، لصلاح مجتمعهم، ثم توعد - في أسلوب قوي رائع - كل من يمس قداسة الطهر، أو يتعرض - على غير علم - لصفة المرأة، أو جرى على لسانه الهُجْرُ والفحش في سيرتها. . .(297/74)
يقول تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون)
فانظر كيف حدد الله للتهجم على الأعراض عقوبة جسيمة ثم أردفها بأخرى أنكى وأخزى وأبقى على الأيام، تَسِمُ القاذَف بميسم الخزي وتتهمه - أبد الأيام - بفقدان الثقة وخبث الذمة ومرض الضمير. ثم يختم سبحانه الآية بتسجيل فسق القاذف وخروجه عن طاعة الله ونبذه من لمجتمع الأخلاقي. . .
ثم شاء - جل وعلا - ألا يدع هؤلاء الوالغين في الأعراض حتى يجعل الخزي والعار ناطقاً بشناعتهم مشهراً بسوآتهم فقال:
(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)
ولقد ثقف الإسلام المرأة ثقافة يتطلبها شأنها، ثقافة دينية خلقية، فكان عليه الصلاة والسلام يجعل للمسلمات يوماً كل أسبوع يعلمهن ويثقفهن، وكان كريم الصبر في إرشادهن، فسيح اللبان في هدايتهن
أخذ عليهن - عندما كن يبايعنه مرة - ألا ينحن على الموتى. فقالت عجوز ممن حضرن: يا رسول الله، إن أناساً أسعدوني على مصيبة أصابتني، وإنهم أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أُسعدهم. فقال لها عليه السلام: (انطلقي فأسعديهم) ثم عادت فبايعته.
تلك بعض نظرات المشرع الإسلامي إلى المرأة، فأين نحن؟ وكيف صرنا؟
لقد يروي لنا المؤرخون أن دولة الرومان يوم تألق نجمها، وعظم سلطانها، واستبحر عمرانها، كان الشطر الثاني للمجتمع وهو النساء، لا يعرفن غير البيت والأسرة، يقمن للبيت بواجبه، ويؤدين للأسرة حقها، وهن من وراء حجبهن. بل لقد غلون في الحجاب يومذاك غلواً كبيراً، فلن تخرج واحدتهن إلا وهي ملثمة، وعليها الأردية السابغة، ومن فوقها العباءات التي لا تبين تقاسيم الجسم - في ذلك الحين برع الرومان في كل شيء، في الملك والصناعة والتشريع، ودانت لسلطانهم الشعوب. فلما بلغت الدولة مداها ولع الناس بالترف، وغمرهم النعيم، وأفسد أجسامهم البذخ، فغدوا يبتكرون الملذات من غير تحرج ولا(297/75)
تأثم، حتى فترت غيرتهم، وامحت نخوتهم، فتضعضعت قوة الملك، ووهى صرح المجتمع، ولم تلبث دولة الرومان العظيمة أن تساقط ملكها، وانتزع الفساد شوكتها، وراحت صريعة الشر الاجتماعي الذي نزل بالمرأة من عليائها إلى الحضيض، وهوى بالدولة معها إلى الفناء.
ولقد نسمع المفكرين وذوي المذاهب الإصلاحية الاجتماعية يتصايحون اليوم: أن ارجعوا بالمرأة إلى ما خلقت له، وجنبوها مزالق الاجتماع، واجعلوا تحت نظرها كتب التهذيب الديني، والتدبير البيتي، لتروي أبناءها من منابع الدين وأصول الفضائل، وتحكم بتدبيرها نظام الأسرة الذي أوشك يتداعى. فهل من سميع؟ وهل من مجيب؟ لنا في تراثنا مرجع لصد العابثين، وإيقاظ السامدين. إن في تربية الإسلام للمرأة ما يوفر لها حريتها ومجدها وكرامتها.
الجديلي(297/76)
عياش بن أبي ربيعة
لِلأستاذ كامل محمود حبيب
(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).
(قرآن كريم)
الليل ساج والحياة نائمة، وعّياش في طريقه يتسلل في رقبة وحذر، وقلبه يضطرب خشية القوم أن يستشعروا فراره فيجلبوا عليه وهو يرد أن يفزع بدينه إلى المدينة. .
إلى حيث يجد الحرية والأمان. لقد كان - هو في طريقه - ينظر إلى الوراء، بين الفينة والفينة، يودع ملاعب الطفولة ومراتع الشباب للمرة الثانية، والعبرات تترقرق في محجريه، غير أنه ما كان ليأسى على شيء في مكة وفي قلبه الإيمان والصبر إلاّ على أن حُرم استجلاء النور الإلهي من طلعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا على فراق أمه وقد تعلق بها قلبه فما ينصرف عنها، وإلا على مال كثير خلّفه هناك كان يطمع ن يشد به عصبه؛ ولكن خياله كن يوحي إليه أن رفيقيه - عمر بن الخطاب وهشام بن العاص - ينتظران عند التَّنَاضُب من أَضَاةِ بنيِ غفار فوق سَرِف على أميال من مكة، فهو يهفو إليهما في غير أناة ولا تردد
وبلغ الفتى المكان فاطمأن قلبه أَنْ ألفى عمر بن الخطاب هناك يتشوفّ. . . وتنفس الصبح ولّما يبدُ هشام عند الأفق، فانطلقا معاً. . . ونزلا المدينة ينعمان بالحياة والإيمان لا يجدان من الضيق والعنت بعض ما كانا يجدان في مكة
وتناهى خبر عيَّاش إلى القوم من بني مخزوم فَغَدَوْا إلى أبي جهل والحارث يعيرونهما ويحثونهما: (أفَيَفرّ الرجل من بينكما ثانية ليكون لكما - على الدهر - عاراً وسُبَّة)، وأبو جهل يتلهّب من الغيظ والحقد وقد انطوت نفسه على أمر، والحارث إلى جانبه يقول: (وماذا عسانا أن نفعل في سفيه فَرّ مع سفهاء مثله؟) وثارت الحّمية حمية الجاهلية في رأس أبي جهل تستلبه الهدوء والاستقرار، والشيطان من ورائه يدفعه إلى أمر، فراح إلى(297/77)
الحارث يحدثه حديثه وحديث الشيطان في وقت معاً. . . ثم انطلقا معاً صوب المدينة. . .
وجلس أبو جهل والحارث إلى أخيهما عياش يترفقان معه في الحديث، ويدخلان إلى قلبه بفنون من الكلام، فاستعصى عليهما؛ غير أن أبا جهل لم يكن رجلاً تزَعه الكلمات عن غايته أو تثنيه عن قصده، فيرتد خائباً مخذولاً؛ فراح يقلب الرأي في خاطره، ويتلمس الحلية من شيطانه، ثم. . . ثم قال: (يا أخي، إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك!) ورأى عمر بعض ما بدى على عياش من رقة واستخذاء حين سمع ذكر أمه، وخيل إليه أن الرجل يلقي إلى أخويه السَّلم فيذهب ضحية المكر والخديعة، فقال: (يا عيَّاش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت) ولكن الشيطان كان قد عدا على الرجل فاستلبه الثبات، فقال: (أبِرُّ قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه) فقال عمر: (والله إنك لتعلم أني لمنّ أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما) غير أن الرجل كان قد وقع في حبالة أخويه حين صوّر له شيطانه أمه في الهاجرة شعثاء غبراء تندب ولدها وتؤذي نفسها، فأبى إلا أن يصحب أخويه، وعمر به ضنين. وعجز عمر عن أن يدفع الرجل عن الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها، فقال له وهو يهم بالرحلة: (يا عياش، أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رَابَك من القوم رَيْبٌ فانجُ عليها) ثم. . . ثم وقف ينظر إلى الاخوة الثلاثة حتى غَيَّبتهم البيداء في أحشائها فرجع وفي نفسه الأسى والحزن، وقلبه يحدثه حديثاً. . .
وانطلق عياش بين أخويه، وأبو جهل يختلس النظرات - بين الحين والحين - إلى ناقة عمر وهي تخد بأخيه وخداً سريعاً، وقد حمل لها كرهاً حين لم يستطع أن يحول بين عياش وبينها، وحين عجز عن أن ينالها بسوء، ثم لمعت في رأسه خاطرة ابتسم لها، وأشار إلى أخيه الحارث ينذره بأمر، ثم راح إلى عيَّاش يحدثه: (والله يا أخي لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟) فقال عياّش وقد أمن مكر أخيه: (بلى، يا أخي!) فأناخ وأناخا ليتحوّل إليها، فلما اسْتَوَوْا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة نهاراً وعلى وجهيهما سمات الفرح والسرور يباهيان أهل مكة بما كان، ويقولان: (يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا) ثم فتناه فافتتن(297/78)
أفحقاً قد افتتن الرجل وارتد عن دين الله واطمأن إلى الكفر، وسكن إلى الجاهلية، واستحب العمى، بعد إذ ذاق حلاوة الإيمان، ووجد في قلبه برد الإسلام، وعاش زماناً بين اخوة من المؤمنين يستروح منهم نسمات الحب والإخلاص وهو في الحبشة حيناً وفي المدينة حيناً، لا يستشعر مرارة الفراق ولا لذع الغربة؟ إن صُبابة من الإيمان ما تزال تتوثب في قلبه، غير أنه خشي أن ينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستغفره فلا يتقبّل منه، وهو كان يسمع صحابته يقولون: (ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة. قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر كبلاء أصابهم) فيرتد على عقبيه وفي نفسه الحسرة والشجن. . . ثم لبث في قومه سنين
وترامى إلى الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة في رفقة صديقه أبي بكر فنازعته نفسه إليه تدفعه أن يلحق به ولكن. . .
وتصرمت أعوام وعَيّاش في حيرة من أمره، ما يستطيع أن ينزل عند رأي أخويه فيغتمر في الكفر فيجحد ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وما هو بقادر على أن يطير إلى المدينة، وحديث رفاقه ما يبرح يدوّي في أذنيه، وعمر هناك في المدينة أسيف على أن يرتد رفيقه عن دينه، وعلى أن يتلمس إليه الطريق عَلَّه يجد الوسيلة إلى قلبه فلا يستطيعه
وأنزل الله تعالى (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) ووجد عمر فيما أنزل الله متنفساً فانطلق إلى قرطاس يسطّر عليه الآيات الكريمة ويبعث بها إلى صديقه. . .
وأقبلت الرسالة تنفح من عبيرها على قلب الرجل فاضطرب لها ولمّا يفضّ مغاليقها؛ وتاقت نفسه إلى أن يطمئن إليها ساعة من زمان يحدثها وتحدثه، غير أنه لم يكن ليجد الخلوة. . . وعلى حين غفلة من أهله دلف إلى ذي طوًى بأسفل مكة ينشر الرسالة على عينيه وقد أمن الرقيب، ثم راح يصعّد بها فيه ويصوّب فلا يفهم منها حرفاً، وبدت الكلمات أمامهُ عقداً أعيت عليه. ماذا؟ لقد استغلق عليه الكلام العربي المبين وهو عربي في الصميم والذروة من العرب! فأخذ يقلّب الصحيفة بين يديه وقد سيطر عليه الحزن والأسى، ثم أُلقي في روعه أن حجاباً كثيفاً أسدل بينه وبين أن يفهم كلام لله لأنه نجَس، فأقبل على الله بقلب(297/79)
سليم يسأله: (اللهم فهِّمْنيها) فألقى الله في قلبه أنها إنما نزلت فيه وفي من هم على شاكلته وفيمن كانوا لأنفسهم ويقال فيهم، فرجع إلى بعيره فجلس عليه ولحق برسول صلى الله عليه وسلم وهو يستبشر بما غفر الله له
وعملت الآيات الكريمة معجزتها في الرجل لتجذبه من هاوية كاد يتردى فيها ما لها من قرار، إلا أن يستقر في الدرك الأسفل من النار
كامل محمود حبيب(297/80)
كتاب السيرة
لِلأستاذ أحمد الشايب
المدرس بكلية الآداب
- 1 -
تحتل السيرة النبوية في تاريخ الأدب العربي مكانة لم يظفر بها موضوع آخر، لهذه المكانة التي يشغلها صاحبها في تاريخ الأمة الإسلامية أولاً، وفي التاريخ العام ثانياً، فإن الرسول عليه السلام لم يكن أديباً فقط له هذه الآثار القوية الخالدة من الأحاديث والخطب والرسائل، وإنما كان قبل ذلك وبعده، رسولاً صاحب دعوة إصلاحية عامة تناولت الدين والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأثرت في الحضارة العامة لمن اعتنقوها طائعين أو جانبوها كافرين، واستطاعت أن تستوقف التاريخ أو تلوي عنانه لتملي عليه إرادتها، وتلقي إليه وحيها، فأخذ عنها ما أملت، وكتب من فصوله صحفاً ملأى بالجهاد، والفضائل، والأدب، والفن، والسياسة؛ ولا يزال الإسلام إلى اليوم - على الرغم مما أصاب بعض ذويه من هوان - مصدر الخير والسعادة، وموئل البشرية حين تعزوها الهداية، ومعهداً لدراسات خطيرة تلقي أمام رواد الحضارة المثالية ضوءاً يرجى أن يتم به على العلم ما يبغي من رشاد وسلام.
ولم تقف العناية بالسيرة عند العرب وحدهم، أو المسلمين فقط، وإنما تجاوزتهم إلى جماعة من كتاب الفرنجة الأعلام الذين رأوا في نبي المسلمين رجلاً عظمياً من رجال التاريخ خليقا بالبحث في أسباب عظمته، وما أتيح له من هذا الفوز الذي استأثر بالسلطان المدني والسياسي طوال القرون الوسطى، إذ كان العالم الإسلامي يشغل التاريخ بأحداثه الكبرى، ودوله المتعاقبة، وآدابه الغزيرة حين كان الغرب يضطرب في ظلمات كثيفة، ويحيا حياة خاملة.
ولسنا هنا بعرض الاستيعاب، واستقصاء هؤلاء الذين كتبوا عن الرسول قديماً وحديثاً من المسلمين وسواهم، وحسبنا أن نلم بشيء من ذلك لنصل منه إلى جماعة من المعاصرين الذين تناولوا السيرة بأساليب مختلفة، لها قيمتها العلمية والفنية جميعاً.(297/81)
- 2 -
منذ ألف ابن إسحاق سيرته التي اختصرها ابن هشام في هذا الكتاب المنسوب إليه، والناس يعدونها المرجع الأول لكل من يحاول تأريخ الرسول. وليس ذلك لأن جميع ما احتوته حق تاريخي خالص، وموضع الثقة التي لا ينالها تجريح، لا، ولكن ذلك لأسبقيتها التاريخية في التدوين، ولما احتوته من حقائق ثابتة في كثير من المواقف، ولأنها روت أخبارها بهذه الروح التي كانت مسيطرة على المسلمين في القرون الاولى، أي بوجهة نظرهم، وطريقة تفسيرهم لحوادثها. . . فكانت الخطوة الأولى في هذا السبيل عند المتقدمين، ونقطة الابتداء لكل من يحاول تأريخ النبي الكريم من المحدثين، يرجع إليها محققاً أو مستلهماً. دع عنك بعد ذلك ما تراه فيها من شعر منحول، وروايات مكذوبة، وأخبار لم تصح، لأن وزر ذلك لا يقع على ابن إسحاق وحده، وإنما لهذه البيئة التي كان يعيش فيها الأثر الأول فيما وقع فيه من قصور، فقد كان يحكي أخبار جاهلية بعيدة، ويقص أياماً نالتها المبالغات والعصبيات، وينقل آثاراً مات أهلها، واعتراها التحريف. على أن ابن هشام لم يقيد جميع ما كن لابن إسحاق من خبر بل حذف منه كثيراً وبخاصة ما كان متصلاً بالجاهلية الاولى، منفصلاً عما يتصل بحياة الرسول اتصالاً مباشراً كما هو مذكور في المقدمة.
ثم جاء الواقدي وتلميذه ابن سعد في طبقاته، وحاولا التحقيق والزيادة فظفرا منهما بنصيب. وأصبح فن السيرة بعد هؤلاء تقليداً من التقاليد يعمد إليه الكتاب تعيداً أو تأدباً كما فعل كتاب المقامات في عصور التاريخ الأدبي المتوالية، فكانت السيرة الحلبية، والسيرة الشامية. ولم تخل كتب التاريخ العام - كالطبري وابن الأثير - من تخصيص بعض أجزائها لسيرة الرسول إذ كانت تشغل وحدها فترة واسعة، خصبة، بعيدة الأثر فيما أعقبها من دول وأحداث.
وهذه المؤلفات القديمة لم تكن بالطبع خاضعة لهذه المناهج العلمية الحديثة، فكانت مجموعة من أحاديث الرسول، وأخبار الجاهلية وأساطير القدماء، وأشعار الناحلين ومبالغات الراوين، دون عناية بالنقد والتفسير أو التنسيق وحسن التأليف. ولكنها كانت مؤلفة بروح هذه العصور السابقة، وبوجهة النظر التي كانت - في الغالب - مقياس الصحابة والتابعين حين يذكرون الرسول الكريم ويفسرون أعماله وآثاره(297/82)
أما كتاب الفرنجة فقد رأينا مستشرقيهم يتهافتون على هذا الموضوع، ويسلكون فيه هذه المناهج العلمية التي قد تفيد من ناحية الشكل والنظام، ولكنهم بعد ذلك كانوا فريقين: فريقاً أتخذ السيرة مجالاً للتعصب على الإسلام فكان من المبشرين الخاطئين، وفريقاً حاول الإنصاف ووقف عند الأصول العلمية الجافة ففقد هذه الروح أو الجو الذي كانت تجري حوادث السيرة في ظلاله، فتعسر عليه تفسير أشياء كثيرة كان من السهل عليه إدراكها لو أنه كسب هذه الروح وعاش بخياله في عصور النبوة الأولى. نذكر من آثار المستشرقين حياة محمد لإرفنج، وأخرى لوليام موير، وثالثة لمرجليوث، ولا ينسى التاريخ هذا الفصل البديع الذي كتبه كارليل تحت عنوان (البطل في صورة نبي) إذ دل على تفهم عام لهذه الروح التي كانت تشيع في بلاد الرسالة قديماً
على أن الهنود لم يقصروا في هذه الناحية فكتبوا باللغة الإنجليزية في السيرة رأساً مثل النبي لمولانا محمد علي، وفيما يتصل بها مثل روح الإسلام لسيد أمير علي، ولغير الهنود في مصر وفي العالم الإسلامي آثار في السيرة لم تخل من فائدة.
- 3 -
ولكننا نختار من هؤلاء المعاصرين ثلاثة نقف عندهم وقفة قصيرة لا لشيء إلا لأنهم نهجوا في كتابة السيرة مناهج طريفة من ناحية، ومتغايرة من ناحية أخرى: محمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم
يتفقون جميعاً في العناية المحمودة بسيرة الرسول، وجعلها في العصر الحديث موضوعاً خليقاً بالدرس وبذل الجهود في إذاعته بين الناس بأسلوب جديد يقربه إليهم ويحببه إلى نفوسهم، وهذا وحده غرض نبيل يستحق التقدير. كذلك سلكوا مسالك واضحة ممتازة وإن كانت متغايرة، ولكل مذهب محدود ذو معالم ألتزمها صاحبة ليس فيه هذا الاضطراب القديم الذي كان يجمع أشتاتاً من القصص، والتقرير والوصف والرواية ونحوها، وإنما هو مذهب علمي أو فني متناسق الأجزاء، منظم العناصر، فيه فقه للأشياء وفهم لها بروح قديمة أو حديثة أو بهما جميعاً. ومع ذلك فهم مختلفون في أشياء كثيرة
يمتاز هيكل بالمنهج العلمي الذي ترسمه فيما كتب، فكان مذهبه مذهب العالم المحقق، إذ قسم موضوعه إلى فصول متواصلة متلاحقة كما كانت حياة الرسول عليه السلام منتظمة(297/83)
في هذه الفصول أو الأقسام التاريخية، ولا أقول إن هذا المنهج كله من اختراعه فلقد سبق إليه، ولكنه آثره وهذب منه، وهذه الخطة نفسها اقتضت مؤلف - حياة محمد - أن يكون مستقصياً استقصاء الباحث فليس له اختيار ما يحب وترك ما لا يهوى، لأنه يعالج موضوعاً من عمل التاريخ، عليه أن يعرضه كما حدث دون أن يخلع عليه من نفسه إلا ما شاء الخيال التاريخي الذي يربط المفكك، ويصل المنقطع، ثم هذا النقد الذي يظهر في تفسير كثير من المسائل بمقياس إسلامي علمي بعد ما كانت أشبه بالسمعيات تصدق ولا تعلل. . . وفي مناقشته آراء المستشرقين الذين تجافوا فيما كتبوا عن روح الدين وطبيعته، وبعدوا عن عصر الرسالة وبيئتها فلم يوقفوا فيما يتصورون. وصاحب (حياة محمد) بعد ذلك مسلم حدب على الدين غيور، أشرب روح الإسلام، وألم بكثير من أسراره فظهرت عل كتابه أعراض الحمية، حمية من لا يسمح لأحد بغمز دينه أو النيل منه، وذلك كله في أسلوب منطقي واضح هو أسلوب العلماء. ولكن طه حسين سلك سبيلاً أخرى هي سبيل الأديب حقاً، فلم يشأ في الظاهر أن يتقيد بمنهج علمي، وإنما كان قصاصاً، ترك هذا العصر الذي نعيش فيه، وانتقل بخياله الخصب إلى الجاهلية وصدر الإسلام وعاش مع ناسهما يفهم بعقولهم، ويحس إحساسهم، ويأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون؛ وبذلك استطاع - ما وسعه الجهد - أن يقص علينا الحوادث بروحها وفي جوهرها، وأن يفسر المسائل كما كانت تفسر حينذاك، فنقل إلينا هذا الماضي أو نقلنا إليه بحيلة لطيفة. وفن القصص لا يقتضي صاحبه استقصاء ولا نقداً علمًّيا دائماً، ولا تحقيقاً وتفنيداً، فآثر أهم الأمور التي يرى فيها روعة قصصية لأنها كانت رائعة إبان حدوثها أو فيما شعر وتخيل صاحب (على هامش السيرة). . . ثم تناولها واصفاً وحاكياً لم يترك جانباً منها إلا أضاءه وأكمل منه ما فات الرواة. وليس من شك في أن ذلك قد عرض بأسلوب جميل هو أسلوب القصص الممتاز الجامع بين التحليل النفسي للأشخاص، والإحاطة التامة بما يعرض له من مواقف
أما توفيق الحكيم فقد توسط الاثنين، وجمع بين ميزتي العالم والأديب الممثل، فكانت سيرته أخف شيء على النفوس. استشار المراجع القديمة، ووقف عندما رسمت دون أن يستعين الخيال إلا قليلاً؛ وقد ألم بأطراف موضوعه وقسمه فأحسن التقسيم، ثم اختار قضاياه(297/84)
وصفاها وجعلها معالم واضحة خالصة من براهين التحقيق العلمي، وإسهاب الفن القصصي، فصارت قضايا موجزة باتة حاسمة، ثم عرضها بهذا الأسلوب الحواري أو التمثيلي كما كان يتحدث الرسول وصحابته والمتصلون بسيرته قديماً إلا ما لم يرد فيه نص. وكان توفيق الحكيم بعد ذلك حذراً محتاطاً لم يمس الموضوع إلا بخفة وإن كان الأسلوب من تقسيمه وابتكاره
كان هؤلاء الكتاب، إذا، بين عالم محقق، وأديب قاص، وفني ممثل، كل أخلص لمنهجه، ووصل منه إلى غاية بعيدة
وتستطيع أن تتبين هذا الفرق في أسطر قليلة جداً فيما كتب عن أول ما عمل محمد عليه السلام في تجارة خديجة؛ فهيكل يقرر المسألة ويقول أن أبو طالب كان السفير بين ابن أخيه وبين خديجة؛ وطه حسين يقيم ذلك على ميل خديجة إلى محمد وإرسالها دسيساً إلى عمه تعرض عليه أن يكون ابن أخيه في تجارتها بأجر مضاعف؛ فيأتي توفيق الحكيم، فيقتضب المسألة، ويترك الباب مفتوحاً للخيال.
والمرجو ألا يقف العلماء عند ما كتب هيكل، وكفى، وأن يتم طه حسين: (على هامش سيرته). . . وأن يجيبنا العلماء: هل تمثل سيرة الرسول على المسرح ثم ترسم على الشاشة البيضاء؟
(رمل الإسكندرية)
أحمد الشايب(297/85)
حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان لاختلاط العرب والروم وغيرهم من الأمم الأخرى أثر كبير في تغيير عاداتهم وحياتهم الاجتماعية وبخاصة في عهد الأمويين فقد تأثر معاوية بن أبي سفيان بنظم الحكم التي أدخلها الروم في بلاد الشام وابتكر ابتكارات لم يسبقه إليها أحد، فهو أول من أتخذ الحشم وأقام الحجاب على بابه ووضع المقصورة التي يصلي الخليفة بها الخليفة في الجامع منفرداً عن الناس وذلك لخوفه مما جرى لعلي رضا الله عنه
وكان من أقدس واجبات الخليفة أن يؤم الناس في صلاة الجمعة والصلوات الخمس. وقد سار على ذلك الخلفاء الراشدين وبعض الخلفاء بني أمية. وكان الخليفة في العهد الأموي يحضر إلى المسجد مرتدياً ثياباً بيضاء وعمامة بيضاء مرصعة بالجواهر ويرقى المنبر لإلقاء خطبة الجمعة وبيده الخاتم والعصا، وهما شارتا الملك
وقد تشبه خلفاء بني أمية بالملوك وأبهتهم، وكان الخليفة يجلس في صالة الاستقبال الكبرى وعلى يمينه أمراء البيت المالك وعلى يساره كبار رجال الدولة ورجال البلاط ثم يمثل بين يديه رسل الملوك وأعيان البلاد ورؤساء النقابات والشعراء والفقهاء وغيرهم
وكان الخلفاء الأول من بني أمية يستمعون في أوقات فراغهم إلى أخبار الحروب وسير فرسان العرب في الجاهلية، فكان معاوية يقرأ أخبار العرب وأيامها وسير ملوك العجم وسائر ملوك الأمم وحروبها وسياساتها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، وكان يقرأ عليه ذلك غلمان مرتبون، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات
وكان الأمويون يستمعون لقصائد الشعراء ويمنحونهم الجوائز ويخلعون عليهم الخلع. ولم يلبث أن حل الغناء محل الشعر، كما كلف الناس بالموسيقى والغناء، وتدفقت على دمشق طبقات المغنين المشهورين والموسيقيين الذين كان الخلفاء يدعونهم إلى دمشق من أقاصي البلاد
وكان لعب الشطرنج و (الدومينو) والورق معروفاً عند الأمويين. ومن الألعاب التي شاعت(297/86)
في ذلك العصر قتال الديكة على الرغم من أن الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز حرما هذا النوع من الألعاب
وكان سباق الخيل من أهم تسلية الشعب على اختلاف طبقاته. ويقال إن هاشم بن عبد الملك الأموي كان أول من أقام حلبات السباق لتحسين نتاج الخيل حتى أنه اشترك في السباق معه أربعة آلاف من خيله وخيول الأمراء.
وكانت المرأة العربية في ذلك العصر تتمتع بقسط وافر من الحرية، وكانت المرأة متحجبة على الرغم من أنها كانت تقابل الرجال وتتحدث إليهم وتقود الجيوش.
وقد أوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، كما أوجب على أمهات المؤمنين أي زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمن الناس ويعلمن أبناءهم وبناتهم، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك فقال في كتابه العزيز (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) ناهيك بعائشة أم المؤمنين فقد اشتهرت بالفقه ورواية الحديث والتاريخ والنسب والطب وعلم النجوم وقادت جند المسلمين يوم الجمل سنة 35هـ كما اشتهرت أختها أسماء بنت أبي بكر وأم عبد الله بن الزبير برواية الحديث والكرم والشجاعة، فقد أثر عن عبد الله بن الزبير أنه لما انظم بعض اتباعه إلى الحجاج ابن يوسف الثقفي قائد الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي وبقي هو في عدد قليل من أنصاره وأيقن نه مقتول لا محالة دخل على أمه فقال يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا - فما رأيك؟
قالت: أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، يلعبون بها. وإن أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. فقالت: يا بني أن الشاة لا تتألم بعد ذبحها. فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي. فطفقت أمه تدعو له وتشجعه. وخرج عبد الله بعد ذلك وقاتل أهل الشام قتالاً شديداً، وأظهر شجاعة نادرة حتى حمل عليه العدو وقتلوه. ولم يهب القتل بفضل تشجيع أمه التي ضربت المثل الأعلى(297/87)
في الشجاعة والتضحية في سبيل إعلاء شأن الوطن.
وليس أدل على جرأة المرأة وشجاعتها من ذلك الحوار الذي دار بين معاوية وبين الدارمية، فقد روى القلقشندي (صبح الأعشى ج1 ص259 - 260) أن معاوية حجّ فسأل عن امرأة من بني كنانة تسمى الدارمية، وكانت سوداء كثيرة اللحم فجيء بها، فقال لها: ما حالك يا ابنة حام؟ قالت: لستُ لحامٍ أُدعى، إنْ عِبْتَني أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقتِ أتدرين لمَ أرسلتُ إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بَعَثتُ إليك لأسألك علامَ أحْبَبْتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت علياً على عدْله في الرعية وقَسْمِه بالسوَّية، وأبغضتُك على قتالك مَنْ هو أوْلى بالأمر منك، وطلبك ما ليس لك بحق. وواليتُ علياً على ماُ عقد له من الولاية، وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفك الدماء وَجوْرك في القضاء وحكمك بالهوى. قال: ولذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك. . . قالت: يا هذا، بهند كانت تضرب الأمثال لا بي. . . قال لها: فهل رأيتِ علياً؟ قالت: لقد كنت رأيته. قال: كيف كنتِ رأيته؟ قالت: رأيته لم يفتنه الملك لذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال لها: فهل سمعت لكلامه؟ قالت: نعم! والله كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطَّست من الصدأ. قال: صدقتِ، فهل لكِ من حاجة؟ قالت: وتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم! قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فْحَلها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أُغَذِّي بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أَحُلُّ عندك محل عليّ؟ قالت: ماء ولا كصدّاء، ومرعى ولا كالسَّعْدان، وفتى ولا كمالك. يا سبحان الله أو دُونَه. فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعد بالحلم مني إليكم ... فمنْ ذا الذي بعدي يُؤَمَّل للحلم؟
خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العدواة بالسِّلْمِ
ثم قال: أما والله لو كان علياً ما أعطاك منها شيئاً. قالت: ولا وبرة واحدة من مال المسلمين
وممن اشتهر من نساء العرب في ذلك العصر أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك، وبنت عبد العزيز بن مروان، وأخت الخليفة عمر بن عبد العزيز. قال المسعودي في مروج الذهب (ج2 ص152 - 153): وفد الحجاج بن يوسف على الوليد في بعض نزهه،(297/88)
فاستقبله. فلما رآه ترجل له وقبّل يده، وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية؛ فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد! فقال: دعني يا أمير المؤمنين أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنك، فعزم عليه الوليد حتى ركب، ودخل الوليد داره، وتفضَّل في غلالة، ثم أذن للحجاج، فدخل عليه الحجاج في حاله تلك وأطال الجلوس عنده. فبينما هو يحادثه إذ جاءت جارية فساررَّت الوليد ومضت، ثم عادت فساررَّته ثم انصرفت. فقال الوليد للحجاج: أتدري ما قالت هذه يا أبا محمد؟ قال: لا والله. قال: بعثتها إليّ ابنة عمي أم البنين، بنت عمر ابن عبد العزيز تقول: ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلح في السلاح وأنت في غلالة؟ فأرسلت إليها أنه الحجاج، فراعها ذلك وقالت: والله ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق. فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين! دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك ولا مكايدة عدوك، ولا تطمعهن في غير نفسك، ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن. وإياك ومشاورتهن في الأمور، فإن رأيهن إلى أَفَنْ، وعزمهن إلى وهن؛ واكفف عليهن من أبصارهن بحجبك، ولا تُملّك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تُطل الجلوس معهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، وأبْين لفضلك. ثم نهض الحجاج فخرج، ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج، فقالت: يا أمير المؤمنين! أحب أن تأمره غداً بالتسليم عليّ، فقال: أفعل. فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد! سر إلى أم البنين فسلم عليها. فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: لابد من ذلك. فمضى الحجاج إليها فحجبته طويلاً، ثم أذنت له فأقرته قائماً ولم تأذن له في الجلوس؛ ثم قالت: إيه يا حجاج! أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتل أبن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله جعلك أهون خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، ولا بقتل ابن ذات النطاقين وأول مولود ولد في الإسلام (تعني عبد الله بن زبير). وأما ابن الأشعث فقد والله والى عليك الهزائم حتى لذت بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام، وأنت في أضيق من القرن، فأظلتك رماحهم، وأنجاك كفاحهم. ولولا ذلك لكنت أذل من النقد. وأما ما أشرت على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسائه، فإن كن ينفرجن عن مثل ما انفرجت به عنك أمك فما أحقّه بالأخذ عنك والقبول منك، وأن كنْ(297/89)
يتفرجن عن مثل أمير المؤمنين فإنه غير قابل منك ولا مصغ إلى نصيحتك. قاتل الله الشاعر وقد نظر إليك وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك حيث يقول:
أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامَةٌ ... فتخاء تفَزَع من صفير الصَّافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
أَخرجْنَه عني! فدخل إلى الوليد من فوره، فقال: يا أبا محمد! ما كنت فيه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتَتْ حتى كان بطن الأرض أحَبَّ إليّ من ظهرها. فضحك الوليد حتى فحص برجله الأرض ثم قال: يا أبا محمد أنها بنت عبد العزيز
ومن مظاهر الترف في دمشق حاضرة الأمويين أنه كان لكل دار فناء مستطيل على جوانبه أعمدة من الرخام ومماش مرصوفة بالحجارة أو الحصباء على أشكال هندسية منتظمة. وفي الفناء نافورة يحيط بها حديقة صغيرة بها الأزهار الزكية الرائحة، وتظلها أشجار البرتقال والليمون، وأمام الباب شباك يوضع فوقه الطست والإبريق للوضوء - وكانت قصور الأغنياء مكونة من طابقين أحياناً - وفي الشتاء تكسى الحجرات بالسجاد الثمين وتدفأ بالمنهل (الموقد). أما في الصيف فكانت النافورات والنوافذ كفيلة بتلطيف حرارة الجو. وكانت سقوف الدار مزدانة بنقوش على الطراز العربي أو مطلية بالذهب. ولم تكن هناك مقاعد، فإذا كان صاحب الدار من أصحاب اليسار، وضعت السجاجيد بعضها فوق بعض لتكون بمثابة مقعد له
وكان قصر الخليفة الأموي بدمشق غاية في الأبهة. وقد ازدانت جدرانه بالفسيفساء، وأعمدته بالرخام والذهب، وسقوفه بالذهب المرصع بالجواهر. وقد لطف جوه النافورات والمياه الجارية والحدائق الغناء بأشجارها الظليلة الوارفة. وقد شيد الحر بن يوسف حفيد مروان بن الحكم الذي ولي بلاد الموصل في عهد هشام ابن عبد الملك، داراً منيفة من الرخام الخالص والمرمر، عرفت بالمنقوشة لما تمتاز به من النقش البديع، كما بنى خانات (فنادق) في الموصل. وقد رأى الحر ما يعانيه أهل الموصل من المشاق في سبيل الحصول على ماء الشرب، فشق قناة لا تزال باقية إلى اليوم؛ وغرس الأشجار على ضفتها حتى أصبحت بمثابة متنزه عام لأهل المدينة
وكانوا يرتدون العباءة فوق القباء ويصنعونها من وبر الجمل. وكانوا يرتدون في الحرب(297/90)
أردية خاصة فيلبسون السروال عادة ورداء قصيراً بدلاً من الثياب الفضفاضة (الواسعة) المتدلية. أما لباس الرأس فهو العمامة كما كانوا يلقون الطيلسان فوق العمامة. وهو عبارة عن منديل كبير متدل إلى الكتفين ليقي الرقبة حرارة الشمس. وكانت الملابس تختلف تبعا لثروة الناس ومركزهم الاجتماعي ونوع عملهم. فكسوة الفقيه والكاتب تختلف عن ثياب الجند. وكان رؤساء القبائل وغيرهم من علية القوم يرتدون قباء يصل إلى الركبتين يعلوه سروال ثم جلباب فضفاض يتدلى إلى العقبين ويشده من الوسط حزام من الحرير، ويلبسون فوق كل ذلك الجبة أو القباء.
وكانت ثياب المرأة تتكون من سروال فضفاض وقميص مشقوق عند الرقبة عليه رداء قصير ضيق يلبس عادة في البرد. وكانت إذا خرجت من بيتها ترتدي ملاءة طويلة تغطي جسمها وتقي ملابسها التراب والطين، كما كانت تلف رأسها بمنديل يربط فوق الجبهة.
وكان العرب يكتفون بالقليل من الطعام، فلم يتجاوز طعامهم اللون أو اللونين. وكان خير أطعمتهم الثريد وهو الخبز يفت ويبل بالمرق ويوضع فوقه اللحم. وقد تغيرت أطعمتهم وتعددت ألوانها. وفي عهد الأمويين استعمل العرب الفوط والملاعق كما كانوا يجلسون على الكراسي حول مائدة الطعام التي كانت تكسى بمفرش من القماش.
حسن إبراهيم حسن(297/91)
محمد الأديب الأعظم
لَلأستاذ دريني خشبة
لا أدري لماذا يشفق الكتاب أن ينعتوا النبي الكريم بالأديب العظيم؟! هل في ذلك سبة أو فيه حط من قدره صلى الله عليه وسلم؟ وإذا لم يكن الرجل الذي أُوحي إليه بهذا القرآن أديباً فماذا يكون الأديب؟
لقد ترك النبي فينا كتاب الله وسنّة النبوة، وفيها جوامع الكلم التي لم يؤتها إلا هو. ولقد علم بهذين ما لم يعلم فيلسوف بفلسفته، ولا أديب بأدبه، ولا نبي بما أرسل به. . . أسلوب مُعجز، ومعنى مُعجز، واتفاق بين الأسلوب والمعنى معجز، وغرض يشمل كل الكائنات معجز، وحياة هي البطولة المعجزة. . . وأمية لا تعرف القراءة والكتابة يسبح القُراء والكتاب في بحر لجي من قرآنها وحديثها. . . علماً وأدباً ولغةً وبياناً وهدىً وتشريعاً وأخلاقاً. . . فماذا يصنع الأدب غير ذاك؟ الأديب يترك أثره في حيز محدود من بيئته، لأيام معدودات من زمنه، ويكون بعد ذلك رجعاً كرجع الصدى في تضاعيف ذكرياته، حيث يكون شعراً في ديوان، أو قصة يلتذ بقراءتها أفراد، أو درامة يستمتع بشهودها ملأ من الناس، ثم ينصرفون فلا تكون لها في أذهانهم إلا صورة أو فكرة قد تدفعهم إلى فضيلة أو تنهاهم عن رذيلة. . . فماذا ترك الأديب الأعظم محمد بن عبد الله من هذا وذاك؟! أستغفر الله بل ترك أدباً حيًّا يتغلغل في نفوس الملايين من الناس لملايين من الأجيال حتى تقوم الساعة. يحضهم على الخير، وينهاهم عن المنكر، ويستهويهم بصور رائعة من أدبه الحق الذي نسميه الأدب الواقعي يُشرب قلوبهم المحبة الخيّرة النّيرة، ويعمرها بالسلام القائم الدائم، ويعلمهم الإنسانية، ويحبب إليهم الإخاء، ويروضهم على المساواة. . . إلا فيما رفع الله به الناس بعضهم فوق بعض درجات
قد يقول قائل إن هذه الدعوى من باب إقحام الدين في الأدب والأدب في الدين. . لأن الدين هو الذي صنع كل هذا. . ونحن نقول إن الدين هو الذي صنع كل هذا حقاً ولكنه صنعه بأسلحة شتى ووسائل متفاوتة، وقد كان أمضى هذه الأسلحة، وأشرف تلك الوسائل. . هو الأدب. . فالرسول الكريم كان حلو الكلام أغر البيان طليّ المقاطع، ذا قدرة عجيبة في تنسيق حجته، والتدقيق في عبارته، في غير كلفة ولا صنعة حتى وهو في مواقف(297/92)
الخطابة. . ولم يحفظ الأثر أنه حصر مرة أو أرتج عليه، أو التاث عليه القول، لا على المنبر، ولا في حلقة الدرس، بل كان يتدفق ويشقق الحديث إذا اقتضى الموقف الإطناب، ويقتصر على العظة الصغيرة بلفظها، الكبيرة بفحواها إذا لم يقتض الحال غير ذلك
ثم هاهم أولاء الأنبياء جميعاً. . . فمن منهم تحدى قومه بقوة البيان وصوغ الكلام وإعجاز الأسلوب؟! وما ذلك كله إن لم يكن أدباً؟ وماذا يكون صاحبه إن لم يكن سيد الأدباء؟! إن الله الذي يَسّر القرآن بلسان محمد قد تحدى الناس أن يأتوا بشيء مثله، فما استطاعوا؛ وما يزال التحدي قائماً، ولسوف يعجز البشر جميعاً عن أن يجيئوا بشيء مثل القرآن. . . والقرآن وحي الله، وقد يسره الله بلسان نبيه، والقرآن تشريع ليس فيه جفاف القانون الوضعي، وقصص من النسق الإلهي الذي لا يتملق الغرائز بالفتنة في الحياة الدنيا بل يسمو بها إلى لذائذ الحياة العليا؛ ثم عظة بالغة، ودعوة إلى الحق، ودستور للناس لا يعتوره نقص ولا تشويه شائبة
هل الأدب قصة أو درامة فحسب؟! إن كان هذا فقد قص النبي أحسن القصص وأقواه وأكثره حلاوة وطلاوة، وأشده روعة وتأثيراً. . . وأي قصص أشهى وأحلى وألذ مما يسر الله بلسان نبيه في آدم ونوح وإبراهيم وموسى ويعقوب ويوسف ويونس وهود ولوط وعيسى من أنبياء الله؟!
أم يقولون أنها أخبار مروية فيما يؤمنون أنها الكتب المقدسة التي أنزل الله من قبل؟! ونقول أجل. . . ولكن أين هي هذه الكتب التي أنزل الله؟ أباقية هي على ما أنزل الله لم يعتورها تغيير ولا تبديل؟ ألم تشحنها أقلام الرواة والنُّسَّاخ بما طاب لهم وبما ندّت به أقلامهم؟. . . أحقَّا قد زنى داود؟ أحقَّا قد وقع جميع الأنبياء في الخطيئة؟ لقد جاء القرآن مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل مما لم تبدله قرائح البشر، فبرّأ الأنبياء مما أُخذوا به باطلاً من الدنس، ثم روى أخبارهم بلسان صدقَ عِليّ وبأروع بيان وأدق أسلوب، ثم حدّث النبي بما يشبه أن يكون تعليقاً وشرحاً وتفسيراً فجاء بكل معجب وكل مطرب. . . ثم حدّث بالأحاديث القدسية العالية التي مسرحها السماء وملهمها لله القدير، فأي درامات الكتاب والشعراء روع مما تحدث به النبي؟ وأي حديث زخرفه قلم شاعر أو ناثر أو روائي يسمو إلى الحق الذي تنزل به جبريل على فؤاد محمد وما حدّث به محمد من(297/93)
تخاصم أهل النار وتحدث أهل الجنة، والواقفين على الأعراف، والولدان المخلدين، والكواعب الأتراب، ومخاطبة العزيز اللطيف لمن فاز من عباده، وغيظ الكافرين وما يقع بينهم وبين إبليس من شحناء وموجدتهم على الشياطين والنار تؤزهم. . .؟
هذا هو القصص الحق الذي لم تبهرجه يراعة مؤلف، ولم يختلقه خيال روائي. وهذا هو قصص الله الذي خلق الإنسان علمه البيان. . . الله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. . . الله الذي أرسل للناس نبياً عربياً من الأميين، فقضى أن تكون أمية عجيبةُ معجزة تفهم كل شيء وتعي كل شيء، وتبهر المتعلمين والدارسين بما لا يستطيعونه ولا يقدرون على مثله أو بعضه. . . أمية أعدها الله لهذا الأمر العظيم إعداداً لا تقوى جامعاتنا الحديثة على شيء مثله. . . أمية أبوتها في بني هاشم، وخئولتها في بني زهرة، ورضاعها في سعد بن بكر، ونشأتها في قريش، وزواجها في بني أسد، وهجرتها إلى الأوس والخزرج. فانظر كيف تقلبت في القبائل فتمرست بها، ووعت لغاها، ووقفت على أسرار بيانها، فلما بعثها الله لهذا الأمر لم تضق ذرعاً بأحد، ولم تضق فهماً بلسان أحد، بل كانت تكلم كلاً بلسانه، وترد على كل بلهجته. بل هي قبل أن يبعثها الله لتبليغ رسالته كانت تحب الأدب وتشغف به، فكانت تتردد على الأسواق تصغي إلى الشعراء الخطباء، وتحفظ من الخطب ولا ترى حرجاً في أن تروي منها.
علل أحد البصربين أمية الرسول الكريم: فقال: (إن الله إنما جعل نبيه أمياً لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب من قيافة الأثر، وعيافة الطير، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء القرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله. . . وزعم أن الله لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظاً من الحاسب والكاتب، ومن الخطيب والناسب، ولكن ليجعله نبياً، وليتولى أمر تعليمه بما هو أزكى وأنمى، فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القليل ليجلي له الكثير. . .)
وقد تولى شيخ أدباء العرب أبو عثمان الجاحظ (البيان ج1 ص230) نقض هذا الكلام(297/94)
فقال: (وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يرد إلا الخير، وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه، ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قريض الشعر وجمع النسب قد كانت فيه تامة وافرة مجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا أحتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا أحتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، لما كان ذلك مانعاً من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره، على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم؛ ولكنه أراد ألا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المؤنة، وأسهل في المحنة، فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقريض الشعر وروايته صار لسانه لا ينطق به، والعادة توأم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، وكانت آلته أوفر، وأداته أكمل. . . إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أبعد. . . وبين أن يضيف إليه العادة الحسنة، وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرق. . . ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر. . . الخ)
فالجاحظ هنا يحامي عن معرفة النبي لآداب العرب - وهو ما يعنينا - وعن إلمامه بما كان فخر قومه ومحل نبوغهم. . . ولما كان أعز ما يفتخر به العرب هو البيان فإنه لم يمنع النبي مانع إذا أراد البلاغة أن يكون أبلغ البلغاء، وإذا أراد الخطابة أن يكون أخطب الخطباء، وإنه أن أطال لكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر لقول أتى على غاية كل خطيب. . .)
وهذا دفاع مجيد من شيخ الأدباء العرب عن النبي الأديب الأعظم في معرض ما فهم أحد علماء البصرة من أمِّية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دفاع رجل كان يهب حياته للأدب، وكان يعنى بأدب الرسول خاصة، وكان يصف كلامه فيقول: (هو الكلام الذي قل(297/95)
عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد: (وما أنا من المتكلفين) فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة، وشُيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق
(وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معادوته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق ولا يطلب الفَلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يُبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً. . .)
والذي وصف به الجاحظ كلام الرسول قول حق، وهو كان يفضل به كلامه صلى الله عليه وسلم على كل كلام العرب، أما نحن فنجعل حكم الجاحظ أعم وأشمل. فليس في كلام أحد من الفرنجة قاطبة كلام يشبه كلام الرسول فيما رسمه الجاحظ. . . وقد يقول قارئ غير مسلم: (كاتب مسلم متحمس للرسول فهو لا يستطيع أن يقول غير هذا!) كلا والله. . . فلقد قرأت ودرست أدب الأقدمين شعراً ونثرا وخطبا؛ ولقد قرأت ودرست أدب النهضة في جميع الممالك الأوربية؛ ولقد قرأت ودرست ووازنت بين أدباء عصر بركليس وأدباء عصر إليصابات، وأدباء عصر لويس، وأدباء القيصرية الروسية، فلا والله ما وجدت أجدهم يرتفع إلى أدب الرسول ولا يحكيه غزارة ورقة وازدحاما بالمعاني وشمولا للأغراض. وهذه هي خطب ديموستين في التبغيض في الأرستقراطية والتبشير بالديمقراطية. . . أين هي من هذه المساواة العجيبة التي أقامها محمد بين هذه الملايين بقوله: إنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟ بل أين هذا الخطيب الوضيع المرتشي(297/96)
الذي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، والذي فر من مواطنيه اليونانيين حتى إذا لاحقوه وضيقوا عليه عمد إلى السم ليضع حداً لمهزلة حياته الفياضة بالمخازي؟ أين هذا الخطيب الذي يحفظ الأثر خُطبه كأنها المثل الأعلى للخطابة من الرسول الكريم الذي لم يكن ينطق عن الهوى، والذي ألف بخطبه بين أشد القلوب عنجهية وأفدحها جاهلية وأكثرها عصبية، فخلق منها أمة تعبد رباً واحداً بعد أرباب، وتنتشر من الصحراء بمصابيح الهداية فتملأ المشرقين والمغربين نوراً وهداية وحكمة وعرفاناً؟
ثم خطيب الرومان شيشرون! هذا الرجل الذي فضح مارك أنطوان بخطبه الرنانة. . ماذا ترك لخير الإنسانية من كل ما كتب وخطب؟ لقد كان محامياً مدرهاً، فهل كسب للإنسانية قضية كهذه القضية لتي كسبها لها محمد بن عبد لله؟ لقد كتب في القانون والفلسفة والأخلاق، فهل حل معضلاتها المعقدة كما حلها محمد بن عبد الله النبي الأمي؟ ولقد حفظ لنا الأثر كثيرً من خطبه ومقالاته، فهل فيها ما يرتفع إلى بيان محمد وبلاغة محمد؟ هل استطاع أن يضع للرومان دستوراً يحمي الجمهورية ويحول دون قيم الإمبراطورية كهذا الدستور الذي أوحي به إلى محمد، والذي يَسَّره الله بلسان محمد؟
ثم هذا دانتي. . . هذا الكاثوليكي القح. . . الذي يرفعه مؤرخو الأدب إلى ذروة المجد بما بهرج في الكوميديا الإلهية؟ ماذا جاء به من السحر في هذه المنظومة؟ لقد أثبتنا بما نشرناه في (الرسالة) أن كل شيء رائع في هذه القصيدة ليس من صنع دانتي، بل هو مما سرق دانتي من أخيلة القرآن وبيان الأحاديث في وصف الجنة ووصف الجحيم، وذلك بما أنتشر من ثقافة القرآن وثقافة الأحاديث بعد الحروب الصليبية وقبلها عن طريق الأندلس وعن طريق صقلية إلى فرنسا ثم إيطاليا
ثم هذا ملتون. . . فأين ما جاء في فردوسه من الحرب بين الشيطان وبين المسيح وأجناد المسيح مما جاء في القرآن والحديث من تحاور بين الله العلي وبين إبليس، وبين إبليس وبين ملئه الذين أغواهم فأدخلهم النار ثم تبرأ منهم وهو يرسف معهم في سواء الجحيم؟!
ثم هذا جون بَنْينْ! فماذا جاء به في (رحلة الحاج) مما ليس له مثل بل أمثال تبذه وتزري به في أدب محمد النبي الأمي؟
وهذا بيكون الأديب النائب العام والكاتب الأخلاقي الفيلسوف المرتشي الذي لم يرع لذي(297/97)
فضل عليه فضله ولم يكن عنده من الوفاء ما يجزي به ذوي الأيادي الغر عليه، ماذا كتب في فصوله في الأخلاق مما لم يسبقه إليه الرسول الأعظم؟
والأدباء العظام في عصر لويس الرابع عشر: بيير كورنيل وديكارت وموليير وراسين ولافونتين، إننا نقولها كلمة حق لا تصدر عن حماسة فحسب، بل عن تروية ويقين: إن المُثل الرائعة التي زاد بها هؤلاء في تراث الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية هي قل من كثر مما ضاعف به النبي هذا التراث، ونحن نقول المثل لأن النبي لم يكن ضحاكاً كموليير ولا فيلسوفاً كديكارت ولا مؤلف درامات كراسين، بيد أنه مع ذاك أنشأ للإنسانية مثُلاً أسمى مما أنشأ هؤلاء، وأنشأها كلها عن طريق الأدب
والأدباء الذين مهدوا للثورة الفرنسية. . . فولتير وديدرو وبومارشيه ورسو. . . هل أنشئوا ثورة كهذه الثورة التي أنشأها محمد بن عبد الله وقام بها وحده؟! وأين هي الثورة الفرنسية التي انتهكت فيها الحريات باسم الحرية، وخضعت فيها الكرامات والشرائع لجنون الشعب وعربدة النساء ولوثة الأوشاب من تلك الثورة العظيمة في سبيل الحق وخير الإنسانية وانتشال العقل من براثن الأغوال الحجرية التي كان يعبدها الناس. . . هبل ويغوث ويعوق ونسر واللات والعزى وضمار؟! أي الثورتين كانت أروع وأيهما كانت أعود بالخير على الناس وعلى الأفهام؟!
لقد كتب روسو إنجيل الثورة، فهل رسم فيه ما رسم القرآن للناس أجمعين في كل العصور؟! وهل كاتب إنجيل الثورة كهذا الوحي لذي يسره الله بلسان محرر؟!
ثم هؤلاء منشئو الأدب الألماني: جوته صاحب فاوست، وشيللر صاحب وليم تل، ولسنج مؤلف لاوكون، وهم الذين أعدوا الذهن الألماني إعداده الذي غبر عليه قرن ونصف قرن، الإعداد الذي لا يعرف شيئاً وهو المثل الأعلى غير القوة والغَلْب، هل جعلوا ألمانيا تقهر العالم في أقل من عشر سنين كما جعل محمد أمته تصنع ذلك؟ وإذا قدر لألمانيا أن تصنع ذلك، فهل كانت تنشر الأمن والطمأنينة والعلم والنور ودين الحق بالسلام كما نشر العرب ذلك جميعاً في ربوع العالم؟ أم أنها كانت تستعبد الناس وتذلهم وتقول لهم أنتم ساميون وحاميون. . . و. . . آريون. . . أما نحن فآريون نورديّون؟! في حين يقول محمد للناس: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى!!)(297/98)
أم أدباء روسيا: لرمنتوف وجوجول وتولوستوي ودستوفسكي وترجنيف وبوشكين وجوركي؟! ماذا أسلف هؤلاء جميعاً؟! لقد مهدوا بأدبهم الباكي المتوجع البائس الفقير الغارق في الدموع لهذه الشيوعية المخربة التي تستبد بالناس وتسومهم الخسف وتهدم مساجدهم وكنائسهم وبيعهم وتبيح نساءهم باسم لدولة. . . فكأنهم تخلصوا من راسبوتين ليقعوا في براثن ستالين!!
وبعد. . . فنحن لا نحصي أدباء العالم هنا لنوازن بين ما انتهى إليه أدبهم وبين ما انتهى إليه أدب الرسول الكريم. . . ونحن لا نقص من الآداب الرائعة التي لها قيمتها ولها أثرها لنرفع أدب نبينا بغير حق، بل نحن نقارن بين مُثُل ومُثُل ونوازن بين خير كثير أصاب الإنسانية على يد رجل واحد وخير كثير أصابها على أيدي كثيرين، وشتان بين الأدبين
أما ن يقول أحد إن الأدب هو القصة، فلقد قص الرسول أحسن القصص وأروعه، في أحسن عبارة وأقوى أسلوب. . . وأما أن يقول أحد إن الأدب هو الشعر، فما كان محمد شاعراً، ولم ينبغ له أن يكون شاعراً، ومع ذاك فقد يَسر الله بلسانه في القرآن من المعاني والأوصاف والأمثال والتشريع والحكمة وجمال الأداء، وإعجاز التراكيب، ما لم يتيسر لشاعر من شعراء العالمين. وكذلك حديث رسول الله، فهو ثروة ثانية من أروع صور الآداب، ومنهل عذب للواردين
وأما أن يقول أحد إن محمداً لم يؤلف درامة، فحسبه أنه كان يمثل درامات الحق فوق مسرح الواقع، وليس في الأدب المسرحي جميعاً ما هو أروع من إسلام حمزة أو موت حمزة، وإسلام عمر أو مقتل عمر، وهجرة محمد من وطنه العاق إلى مُهاجَره الصادق، وصبر أصاحبه على أذى قريش وكفران قريش، ورمي المنافقين زوج الرسول بالإفك وصبر عائشة لذلك. . . وهذه المئات والمئات من مشاهد الدرامة الكبرى التي قام بأدائها الرسول، والتي رواها وقص فصولها في واقعه، ويسر الله لسانه بذكرها في قرآنه
صلى لله عليك يا رسول لله إذ يسألك أبو بكر: لقد طُفْت في العرب وسمعت فُصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أَدَّبك؟ فتقول: أَدَّبني ربي فأحسن تأديبي!
دريني خشبة(297/99)
المُروءة مصادرٌ مَطويَة
لِلدكتور بشر فاِرسِ
المروءة (أو المروّة) من الألفاظ التي يكثر ورودها في النصوص العربية القديمة ولاسيما في الكتب التي ألفها أدباء العهد العباسي. وهي، من باب آخر، من الألفاظ المشتبهة في اللغة العربية لتضارب الأقوال فيها وتدافع التعريفات لها. وقد عظم شأنها على تعاقب الأيام حتى تناولها المتكلمون والمتصوِّفة فنزلت منزلة الفضيلة بل منزلة مبدأ (أخلاقي). وذلك ما دفع بعض المستشرقين والشرقيين أن يعدوها، وهماً، رأس الفضائل الجاهلية
والذي يبدو لي أن المروءة أفادت، أولّ أمرها، الرجولة الحسية أي شدة الأسر، ثم الرجولة المعنوية أي السجايا الرفيعة، سجايا السيد مثلاً. ولذلك قرنها نفر ممن تكلموا عليها بالسيادة أو السؤدد. وهذان المفادان: الحسي والمعنوي، ظلا يتنازعان المروءة، فاتصل الأول بالحياة المادية ولحق الثاني بمكارم الأخلاق. وقد غلب الجانبُ المعنوي الجانبَ الحسي بفضل الإسلام. (وهنالك أحاديث غير صحيحة في المروءة وعظمة شأنها) وأخذ ذلك الجانب الغالب ينتقل على مدار الأيام من موضع إلى موضع؛ فدلت المروءة على العفاف والأدب والفضل والإنسانية والسرو؛ ثم قامت لفظاً واقعاً على محاسن جمة، على أقلام المحدثين والمتكلمين والأخلاقيين والفقهاء. وأما المتصوفة فأنزلوها منزلة الفتوة، فتجاورت اللفظتان في ميدان الأخلاقيات المجردة. وقد اتفق لها أن تنحرف إلى هنا وإلى هنا على ألسنة العامة قديماً في الأندلس وحديثاً في مصر والشام
كل هذا الحديث مع ما تحته من التفصيل والتبيين تجده في فصلٍ من فصول كتابٍ من هذا القلم يخرج باللغة العربية بعد أيام، وعنوانه (مباحث عربية) وعنوان الفصل (المروءة في اللغة والعرف). وقد انسقت إلى النظر في هذه اللفظة يوم كنت أؤلف (العرض عند العرب الجاهلية) ثم انصرفت إلى استجلاء غوامضها وتمحيص مدلولاتها باستقصاء المصادر والمراجع فنشرت فيها فصلاً في (تكملة دائرة المعارف الإسلامية) البارزة في هولندة (الجزء الرابع)
وأما هذه المصادر والمراجع فمتشعبة غزيرة، فيها المطبوع والمخطوط؛ وفي القراء من أصاب في كتب الأدب أشباه (العقد الفريد) (وعيون الأخبار) و (الموشي) و (أدب الدنيا(297/100)
والدين) أبواباً في المروءة. بل هنالك كتاب أُفرد لها، عنوانه (مرآة المروءات) لأبي منصور الثعالبي (مصر 1898). ومن المصادر المطوية كتاب (مرآة المروّات) لعلي بن الحسين ابن جعدويه، كتبه للوزير نظام الملك (456 - 485هـ) وكتاب ابن جعدويه مُجرىً على أسلوب كتاب الثعالبي مع ميل إلى الناحية الدينية بل الصوفية. وقد اهتدى إلى مخطوط ابن جعدويه المستشرق الأستاذ تيشنر فوصفها في المحلة الاستشراقية (الجزء الخامس 1932).
والذي في نيتي ههنا أن أنشر مصدرين آخرين. أما الأول ففصل في المروءة والسؤدد من مخطوط عنوانه (كتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وبدايع الأوصاف وغرايب التشبيهات) لمجهول، وقد أصبته في المخطوطات المخزونة في دار الكتب الوطنية في ليدن ورقمه 409.
وأما الثاني ففصل في المروَّة من مخطوط مخزون في أيا صوفيا تحت رقم 2049 ويقع في ص206. وقد أشار الأستاذ تيشنر إليه في المقال المنشور في المجلة المذكورة، ثم بعث إلي وسمح لي بنشرها، فله الشكر.
وفي المصدر الأول تعريفات وأقوال في المروءة على أنها لون من ألوان السيادة وشرط من أشراطها وأما الثاني ففيه محاولة لرد معنى المروءة إلى المدلول الأصلي من ناحية الاشتقاق ثم نظرة (أخلاقية) في شأنها، طرافتها ذلك التفريق الذي بين المرأة والرجل.
ا - مخطوط ليدن
(ص11) (الفصل السابع في السودد والمروّة)
(قال النبي صلى الله عليه وسلم: تجافوا عن عقوبة ذوي المروة ما لم يقع حداً. وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. قيل لقيس ابن عاصم: بِمَ سدت؟ قال: ببذل الندى، وكف الأذى، ونصر المولى. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: إن للناس وجوهاً يرفعون حاجة الضعيف فأكرمهم. وقال عليه السلام: أقيلوا الكرامَ عثراتِهم. قال معاوية لابنه يزيد: ما المروة؟ قال: إذا ابتليت صبرت، وإذا أنعم عليك شكرت، وإذا قدرت عفوت. قال: أنت مني، وأنا منك. وسئل بعض الحكماء عن المروة، فقال: إسرار ما تحَب (تحِب) أن تعلن، ومواطاة القلب اللسان. وقيل: المروة ألا تعمل شيئاً في السر تستحي منه في العلانية. يقال:(297/101)
كان سَلم بن نوفل سيد كنانة فجرح رجل ابنه، فأتى به، فقال له: ما أمنك (ص11 م) من انتقامي؟ قال: فلم سودّناك إلا أن تكظم الغيظ وتعفو عن الجار وتحلم عن الجاهل وتحتمل المكروه؟ فخّلى عنه. دخل جُذيم بن أوس الطائي على معاوية، فقال: من سيُدكم اليوم؟ قال: من احتمل شتمنا، وأعطى سايلنا (سائلنا) وأغضى عن جاهلنا، وأغتفر ضَرَبنا (ضرْبنا) إياه بعصيّينا (بعصيّنا). وقال عدي بن حاتم: السيد، الأحمق في ماله، ذليل (الذليل) في عرضه، المطرحُ لحقده، المعّني (المعنيّ) بأمر عامته. يقال الارتقاء إلى السوود صعب، والانحطاط إلى الدَّناة (الدناءة) سهل. قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سّيد قومك؟ قال: أنا، قال: ولو كنت كذا ما قلته. مال (قال) معاوية لوفد: كيف كان قطبة بن زيد فيكم؟ قالوا: كان إذا حضر أطعناه، وإذا غاب شتمناه. قال: هذا والله السودد المحض. قال عمرو بن عبيد: لا يكمل مروة الرجل في دينه حتى يكون فيه ثلاث خلال: يقطع رجاه مما في أيدي الناس، ويستمع الأذى فيحتمل، ويحب للناس ما يحبَّ (يحبُّ) لنفسه. قال ابن عمر: إنا معاشر قريش نعد الحلم والجود السودد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروة. سأل معاوية (ص12) الحسن بن علي رضى الله عنه - عن المروّة. فقال: حفظ الرجل دينه وإحرازه نفسَه من الدنَس وقيامه لضيفه وآد (أداء) الحقوق وإفشاء السلام. بعث رسول من خرسان إلى سَوار بن عبد الله القاضي يسأله عن المروة ما هي، فقال الإنصاف والتفضل. وقال علي رضى لله عنه: ثلاث من كن فيه استوجب بهن أربعاً (ثَلثاً تصويب في النص) من إذا حدث الناس لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم (يخلفهم)، وإذا خالطهم لم يظلمهم؛ فإذا فعل ذلك فقد وجبت اخوته وكملت مروته وحرمت غيبته. قال ابن عمر: ما رأيت أحداً أسود من معاوية، قيل: يا أبا عبد الرحمن: أهو خير من أبي بكر وعمر؟ قال: هما خير منه، وهو أسود منهما. قيل له: هو أسود أم عثمان؟ قال: إن عثمان لسيّد، ومعاوية أسود منه.)
ب مخطوط ايا صوفيا.
وأما المروة فلها اشتقاقان من أحدهما يقتضي أن يكون هي والإنسانية متقارنتين، وهو أن يجعَل من قولهم: مَرُؤ الطعام وامرأة (وأمرأة) إذا تخصص بالمري لموافقته الطبعَ، فكأنها اسم الأخلاق والأفعال التي تْقلّبها (تقبلها) النفوس السليمة. فعلى هذا يكون اسماً للأفعال المتحسنة كالإنسانية. والثاني أن يكون من المرْءِ فَيُجعل اسماً للمحاسن التي يختص بها(297/102)
الرجل دون المرأة فيكون كالرجولية؛ وذلك أخص من الإنسانية، إذ الإنسانية يشترك فيها الرجال والنساء، والمروة أخص بكثير مما يكون فضيلة للمرأة يكون ذاية (رذيلة) للرجال كالبله والخفر والبخل والجبن، ولهذا قيل الخلايق الرجال (خلايق الرجال) أرذل أخلاق النساء، فالكيس والشجاعة والجود رذيلة لهن.)
بشر فارس(297/103)
روح الإسلام في العبادة
لِلأستاذ عُمر الدسوقي
من ذياك المخلوق المتجبر الذي تعنو له جباه الضواري في أدغالها، وتفرق من طلعته الوعول في معاقلها، ويمعن السمك في مساربه هلعاً لدنوه، وتهابه الطيور في أوكارها، والصّلال في أجحارها؟! هو الإنسان! درج على الأرض فكان سيدها المطاع، ولم تعجزه إلا تلك القوى السماوية، من ريح زفوف عاتية، أو رعود قاصفة مدوية، أو زلازل تميد لها الأرض تحت قدميه، أو براكين تثور محنقة غاضبة أمام عينيه. كيف يدرأ شرها، أو يحوز رضاها؟ سجد لها وتضرع، وتزلف بالقربى والابتهال. ولكنه خلق وفي نفسه عنجهية وكبرياء، فأخذ على مر القرون يتنكر لها، ويشمر عن ساعده لتسخيرها وصرعها، وكلما ذاق لذة الظفر مرة، قوى إيمانه بقدرته، وجلال عقله، وكفر بها، ولج في كفرانه؛ بيد أنه أحس من أعماق فؤاده نداء خفياً أن ثمة إله آخر، أنت والدنيا والطبيعة صنع يده القادرة! ما بالك كلما حز بك مر، أو تكأكأت عليك المصائب، أو خطف الموت فلذة كبدك وأحباءك، تنادي في ذلة وضراعة ذلك الإله الذي لا تراه، أنْ رفقاً يا رباه، فليس لي حول ولا طول أمام جبروتك وعظم ملكوتك. قرت في جنانه تلك العقيدة فهدأ بلباله، وطفق يلهج بما يكنه فؤاده من حب ومعرفة بالجميل، وندم وتوسل، لذلك الإله الدائم اليقظة، الذي ينشر رحمته على الدنيا جمعاء. وهل الصلاة والعبادة سوى مظهر من مظاهر ذلك الشعور الذي يفيض به قلب الإنسان؟
فكر في كنه ذلك الإله، ثم فكر حتى أجهده الفكر، وكبا عقله في الميدان صريعاً، وزين له الشيطان أن يصور ذلك الإله ويرمز له، ويعبد الرمز تقرباً إلى الله وزلفى؛ ثم أتى عليه حين من الدهر نسى مغزى هذه الرموز والأصنام، فخالها آلهة قادرة، يتحكم كل منها في شأن من شئون العالم؛ وتوهم أن لها ما للإنسان من شهوة ورغبات، وإحساس وشعور؛ ومادام الإنسان لا يَقر عيناً ويطيب نفساً إلا إذا عَلَّ من معين المادة حتى روى، فكذلك الآلهة لابد له من القرابين والضحايا. شاد المعابد والهياكل وأخذ يتعبد كما زخرف له الشيطان؛ ولهذا كانت العبادة عند قدماء الهند تتألف من الطهارة والقرابين، وظلت هكذا ردحاً من الزمن غير قصير، حتى آب الإنسان لرشده وارتقت الفكرة الدينية عند فلاسفة(297/104)
الهند الأقدمين، ففهموا للطهارة والقربى مغزى غير ما أدرك أسلافهم؛ بيد أن البرهمية لم تحد قيد شعرة عن إيمانها بالقربان؛ ولاسيما بعد أن قويت عقيدة الدهماء بالكهنة، وما حبتهم الآلهة من فضائل خفية هي حَبْس عليهم وعلى ذرياتهم من بعدهم
اعتقد طغام الناس أن الآلهة لن تتقبل القربان، إلا إذا باركه الكاهن، وقدمه بيده، وبطريقة معينة لا تغيير فيها ولا تبديل، مرتلاً خلال ذلك أناشيد وأدعية، يرددها لسانه، ولا يحس بها جنانه، بينما يقف المتقرب مكتوف اليدين يسمع ويرى دون أن يضرب بسهم، أو يفوه بكلمة، في هذه العبادة التي أقيمت من أجله. لم تكن العبادة تقدر بسيرة المتقرب الخلقية، وفضائله ومزاياه، أو رذائله ونقائصه، ولكن بحذق الكاهن وبراعته في تأدية المراسيم الدينية غير متلعثم اللسان، أو جامح اليد، وإلا بطل ثوابها وحبط عملها؛ وما على المتعبد إلا أن يعتقد بأن الآلهة سوف تسبغ عليه أبراد الرحمة ضافية، جذلاً بما قدمت يداه
أما الزرادشتيون، والصابئون من الفرس، فقد عاشوا في دنيا من الصلوات والدعاء؛ فكان الزرادشتي يتمتم بالدعاء، إذا عطس، أو قلم أظفاره، أو قص شعره، أو حاك ثيابه، أو طهى طعامه، أو أشعل مصباحه، ليلاً ونهاراً، لا يكل ولا يمل
دانوا بالعبادة بادئ ذي بدء لإلههم (أورمزد)، ثم ما لبثوا أن قدسوا السماء وبروجها، والأرض وجبالها، والوحوش الكاسرة، والأشجار المتباينة، وكان لنبات القمر منزلة في نفوسهم لا تسامى
وما كانت عبادتهم سوى تكرار صيغة من الدعاء، فقدت ما بها من حرارة، وذهب ما لها من طلاوة وتأثير بكر الزمان ومر العشي. أجل! أن المثل الخلقية كانت جلية عند بعض مفكريهم، ولكن الشعب لم يدرك لها رسماً. أضف إلى ذلك أن الكهنة خصوا أنفسهم بالحياة الروحية، وحرموها على سواهم من الناس؛ كما شيدوا حصوناً من القداسة كانت لهم معقلاً يباعد بينهم وبين غيرهم، ويحول بين الناس وبين المتعة الروحية السامية؛ لأن الكهنة ابتدعوا نوعين من العبادة، أولهما حِكر عليهم وعلى طائفتهم، وثانيهما مباح للناس أن يساهموا فيه
أما اليهودية فجاءت خلواً من الأوامر التي تحث على الصلاة، اللهم إلا صيغة واحدة من الدعاء يلفظ بها رب الأسرة، حين يدفع جُعل الكاهن، أو يتقرب بباكورة ماشيته وزرعه،(297/105)
مثنياً فيها على الله أن مكنه من القيام بامتثال أوامره، ومتوسلاً إليه أن يسبغ بركاته على بني إسرائيل
ثم سمت الفكرة الروحية حول الذات العلية، عند عامة اليهود، ووعاظهم، واختفت عقيدة التجسيم من أفئدتهم، وأدرك الناس أن العبادة شرعة يصل بها العبد إلى مولاه؛ ومن ثم أصبح اليهود بالعرف والعادة أمة ذات صلاة، على الرغم من فقدان النص الصريح في شريعتهم. ولكن الصلاة عادت آلية في كثير من الأحيان؛ لأن الشعب لم يجد مناصاً عن طلب الكاهن ليؤمهم، إذ لم يكن بين أيديهم تشريع خاص من الله يرجعون إليه؛ ونفقت سوق الكهنة وأخذوا يبيعون كلمات الله بثمن بخس دراهم معدودات. ألم يعنفهم القرآن على ذلك الجرم في سورة البقرة مخاطباً بني إسرائيل: (ولا تَشْتُروا بآياتي ثمناً قليلاً، وإيَّايَ فاتَّقُون)؟؟
ثم مثلت تعاليم المسيح تطوراً جديداً في شعور الإنسان الديني وقدرت الصلاة حق قدرها، واقتفى الحواريون خطى إمامهم فعكفوا على عبادة الله وحمده؛ ولكن المسيحية، جاءت كاليهودية، خِلوا من قواعد معينة، ونظم محدودة، يسترشد بها الدهماء في صلاتهم، فتركوا على مر الزمن ألعوبة في يد القسيسين الذين أخذوا على عاتقهم، تنظيم العبادة، وبيان أوقاتها ومراسيمها؛ ومن ثم ألفت كتب الصلاة والأنظمة الدينية، والمجالس الكنسية؛ لتبين للناس ما يعتقدون وكيف يتعبدون؛ ومن ثم برزت للوجود عبادة الرهبان الآلية، وأناشيدهم وترتيلاتهم التي لا روح فيها؛ واخذ الناس يهرعون إلى الكنائس يوماً من كل أسبوع، ليأخذوا ما فاتهم من الغذاء الروحي خلال الأيام الستة الأخرى.
كانت هذه حال الديانات في القرن السابع الميلادي، حين سطع نور الرسالة المحمدية في أفق صحراء العرب، يهدي الناس إلى دين جديد، يشبع نهم نفوسهم، ويسمو بأرواحهم إلى الدرجات العلى. دع جانباً ما كانت تهيم فيه الأمة العربية ذاتها، من ضلال، وفساد في العقيدة، وإسفاف في الفكرة الدينية، وعجز عن إدراك عظمة الإله وقدسيته، وطوافها بأصنام من الحجر الصلد، لا تحير جواباً إذا نوديت، أو تنفع إذا دعيت، أو تشع في الفؤاد نوراً أو تبعث في الروح يقظة إذا عبدت وقدست.
نفذ الإسلام إلى قرارة الروح الإنسانية، ورأى تحرقها للإفصاح عن حبها وشكرها لله،(297/106)
ففرض صلاة، تسعد بها النفوس، وتنبل الأخلاق، وتسمو العقول؛ وجعلها على أوقات، حتى لا يسبح الفكر الإنساني في عالم الماديات، وينسى غذاءه الروحي. وقد أوضح صاحب الرسالة عليه السلام كيفية أدائها قولاً وفعلاً، لئلا يترك الناس فوضى في عباداتهم.
وغدا المجال فسيح المدى أمام كل فرد، ليعبد الله بقلب يفيض حباً وضراعة وإخلاصاً.
إن الصلاة التي تؤدى، والنفس تعمرها الخشية والخشوع، لجديرة أن تجعل من الإنسان مَلَكاً يغمر الناس حباً وحناناً وخيراً وإحسانا، وفي ذلك يقول الله سبحانه: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر)
وهاك ما قاله أحد كتاب الإنجليز مرة: تتجلى عظمة الإسلام في أن معابده ليست مما تشيدها الأيدي، وأن المسلم يستطيع تأدية صلاته في أي مكان شاء، تحت القبة الزرقاء، أو على ظهر البسيطة) أي بقعة يصلي فيها المسلم مخلصاً لله حنيفاً فهي له مسجد (جعلت لي الأرض كلها مسجداً، وتربتها طهوراً)
لم يقدر المسيحيون ما في صلاتنا من قوة روحية ومعنوية، ونبي الإسلام يقول: (جعلت قرة عيني في الصلاة) لأنه يناجي ربه ويجرد روحه أمام بارئه دون وساطة أو شفيع. وقد ثبت عن الثقاة أنه كان يبكي، وينتحب في صلاته، ويتململ تملل السليم تضرعاً إلى الله، وإنابة له.
لا رهبانية في الإسلام؛ لأنه دين سمح، سهل، يكفل خيري الدنيا والآخرة، ولم يدع أي شيء يحول بين العبد وربه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا لعلهم يرشدون) وهذا ما جعل الإسلام يهزم البوذية والزرادشتية في عقر دارهما، ويدخل الناس فيه أفواجاً من كل أمة ونحلة؛ هرباً من عتو الكهنة واغتصابهم لحريتهم، وتحكمهم في أرواحهم.
كل مسلم مكلف بمعرفة دينه، والتفقه فيه، فلا طوائف دينية في الإسلام، ولا كهنة حباهم الله القداسة والقربى، بل الناس أمام الله سواسية كأسنان المشط، أكرمهم عنده أتقاهم. والتشفع بالأولياء، في شرعة الدين الحقة، ضرب من البدع وانحراف عن جادة الصواب، وروح الإسلام.
ربما توهم بعض الناس أن التقرب إلى الله بإراقة دماء الأضحية من تعاليم الإسلام، ولكن(297/107)
هذا باطل لأن نحر الأضاحي في عيدنا الأكبر تذكرة بما قام به سيدنا إبراهيم لا غير، فضلاً عما فيه من إطعام البائس والفقير؛ ولذلك يُهدى ثلثها ويُتصدق بثلثها، ويؤكل ثلثها الباقي.
جعل الإسلام طهارة البدن شرطاً في صحة الصلاة، وفي الوقت ذاته نص على أن مجرد الطهارة البدنية لا يغني أمام الله فتيلاً، إذا لم تصحبها طهارة في الروح، وإخلاص في القلب، وخلوه من الكبر والرياء، والحسد والبغضاء.
يستقبل المسلمون جميعاً مكة في صلاتهم؛ حتى يظل مهد الإسلام الذي انبثق منه هذا النور الفياض، والذي شاهد أشعته الأولى تبدد دياجير الجهل، ملء سمع المسلمين وأبصارهم؛ وحتى يتمثلوا موطن ذياك الصراع العنيف بين الحق وصولته، والباطل ودولته، وكيف حطمت الأصنام وطهرت الأرض من أدران البغي والعدوان، والعشق والدعارة؛ وحتى يتذكروا أن إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها يشاطرونهم شعورهم، ويولون وجوههم صوب هذه البقعة المباركة كما يتوجهون، وأن المسلم عضو في جماعة عظيمة تملأ فجاج الأرض، يربطها دين واحد، ويحفزها رجاء واحد، وتؤمن بإله واحد.
تلك هي روح الإسلام في فرع واحد من فروع العبادة، ولولا خشية الإطالة لبينت ما في الصوم والزكاة والحج من فكرة سامية وروح عالية.
عمر الدسوقي(297/108)
دارٌ مُؤمنةُ
للأَستاذ محمد سعيد العريان
(ضلّت البشريةُ إن كان هذا مَبلغَها من العلم بالله!)
همس بها (زيدٌ) في أذن صحابته فالتفتوا إليه مذعورين يسألونه الصمت والحذر!
هذه بطون قريش جميعاً في عيد لهم عند صنم من أصنام الجاهلية مُلَبِّين ضارعين يعظّمونه وينحرون له عاكفين عليه. ذلك شأنهم في كل عيد. .
وأولئك أربعة نفر من قريش قد اجتمعوا لغير ما اجتمع آباؤهم وأبناؤهم واخوتهم من سائر قريش، ينظرون إلى القوم ضجيجهم حافين حول المعبود الأخرس لا يتكلمون، وعلى شفاههم بسمات، وفي أعينهم نظرات يخافتون بها، وفي صدورهم رغبات مكبوتة، لو تَأَتَّى لهم لأهْوَوْا على هذا المعبود فكُّبوه على وجههُ جذاذاً محّطما!
وانتبذ الأصدقاء الأربعة ناحيةً يتناجون في همس، وإن المكان ليضجّ بمن فيه بين داعٍ ومُلَبّ وسائل ومستغفر. وعاد الرجل يقول لصاحبه:
(أما والله إنكم لتعلمون ما قومكم على شيء؛ لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم. ما حَجَرٌ نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء!)
ويؤِّمن صاحبته على ما يقول
ذلك زيد بن عمرو بن نفيل، من بني عدي بن كعب؛ وأولئك أصحابه: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان ابن الحارث.
أربعة نفر أضاء الله لهم على حين غفلة وضلال، فسبقوا قومهم إلى التوحيد والإيمان بالله؛ وجلسوا يداولون الرأي بينهم، فأجمعوا أمرهم على أن يتفرقوا في البلدان يسألون أهلَ العلم ما يعملون عن دين إبراهيم. . .
وأقام زيد بن عمرو بمكة زماناً، معتزلاً قوَمه وما يعبدون من دين الله؛ لا يؤاكلهم ولا يشاربهم، ولا يخشى أن يباديهم بالعيب على ما هم فيه، وحرمّ على نفسه ما أحُّلوا لأنفسهم من الميتة والدم وما ذُبح على النُّصب.
وعرف القرشيون ما أجمع عليه أمره، فاعتزلوه وخَّلوا بينه وبين نفسه، لكنه لم يخلِّ بينهم(297/109)
وبين أنفسهم؛ فإنه ليقصد إلى البيت فيسند ظهره إلى الكعبة يقول: (يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وإنكم لتعبدون ما لا يغني عنكم من الله شيئاً. يا معاشر قريش، إنكم لتأتون المنكر، وتقارفون الشر، وتئدون البنت، وتكفرون النعمة. يا معاشر قريش، أيُّما رجلٍ منكم هم أن يقتل ابنته خشية إملاق فأنا أكفيه مئونّتها. يا معاشر قريش. . . يا معاشر قريش. . .)
فإذا فرغ من دعوته وجّه وجهه لله يقول: (لبّيك حقاً حقا، تعُّبداً ورِقًّا، عُذْتُ بما عاذ به إبراهيم. اللهم لو أني أعلم أيّ الوجوه أحب إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلمه. . .) ثم يسجد على راحته ويقول:
أنفى لك اللهَّم عان راغمُ ... مهما تجشِّمني فإني جاشمُ
ولم يزل زيد على ذلك: يذكّر قومه ويعيب عليهم ما يعبدون، حتى ضاقوا به؛ فأجمعوا على نكايته وترّبصوا به الشر؛ ثم مازال به عمه (الخطّاب بن نفيل) يؤذيه وينال منه حتى أجاءه إلى (حراء) لائذاً بالله مستجيراً؛ فوكل به الخطاب شباباً من سفهاء قريش يأخذون عليه الطريق وينالونه بما يكره إن هَمَّ أن يعود إلى مكة، خشية أن يُفسد عليهم دينهم ويتأثره بنوهم. وكانت زوجه فيمن كان من عيون الخطاب عليه، لا يكاد زيد يهم أن يدخل مكة حتى تُؤذِن به الخطابَ فيقف له؛ ثم يتناوله السفهاء من شبابهم بما يقدرون عليه حتى يعود على وجهه!
رجل فرد في وجه أمة، قد برئ منه أهله، وتمردت عليه زوجه، وتذامر سفهاء الإنس وشياطين الجن على مناهضته والوقوف له؛ ولكنه من قوة الإيمان بحيث يغالب ما لا غلبة عليه!
وأيّ قوة في الأرض تنال من الرجل يعمر قلبه الإيمان؟
. . . وأرادوه على أن يلزم مكمنه من الجبل لا يبرح، لا هابطاً إلى الكعبة يسبح الله في البيت الحرام، ولا مُصعداً يلتمس أسباب المعرفة في بلاد الله؛ ولكن صوتاً من وراء الغيب يهتف به، ونوراً يتنوره على بعد يضيء بين يديه، وإيماناً يعمر قلبه يذلِّل ما يتكاءده من عقبات على الطريق.
كان يؤمن إيماناً لا شك فيه أن للكون رباً غير ما يعبد الخطاب وبطون قريش؛ هو رب(297/110)
إبراهيم وموسى؛ فمنذا يهديه الطريق إليه؟
. . . ووجد زيد غفلة من حراسه فأفلت يقصد قصده، متنقلاً بين الموصل والجزيرة إلى بلاد الشام، يسأل عن دين إبراهيم ويبتغيه
ومضى تتقاذفه البلاد يستطلع أنباءه بين أحبار اليهود ورهبان النصارى؛ فما منهم إلا من يبشره بنبي قد أظلّ زمانه، يبعثه الله بدين إبراهيم في أرض حجاز!
يا ناقُ سيري عّنَقاً فسِيحاً إن نبياً قد أظلَّ زمانه يبعثه الله بالهدى ودين الحق في أرض الحجاز. يا ناقُ هذا سبيلك إلى الوطن النائي يجمع شملك بالأحباب من آل عديّ بن كعب في أرض الهدى والسلام. يا ناقُ هذا فجر يوشك أن ينبثق بالنور فسِيري بي إليه أقبس من نوره نوراً لقلبي وسلاماً لروحي. يا ناقُ هذا يومُك المأمول تبرق شمسه في حواشي الأفق فأبلغيني مأملي قبل الغداة.
ذلك زيد بن عمر بن نفيل في طريقه إلى مكة يسعى نوره بين يديه إلى أمل يرجوه، فإنه ليحدو بعيره مغتبطاً جذلان أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه فيظفر باُلحسْنَيَين من لقاء الأهل والولد وصحبة النبي القرشي الذي أظلَّ زمانه؛ وإنه ليغذُّ السير وفي نفسه شوق ولهفة، وعلى لسانه تسبيح ودعاء!
وانطوى الطريق تحت أخفاف البعير الذي أنضاه السرى وجهد السفر، فلما صار على قرب قريب من أرض الحجاز وأوشك أن ينعم بلقائه الأهل والولد ورؤية النبي الذي قطع مفازة الحياة سعياً إلى لقاه - عَدَا عليه من عدا أهل السبيل فصرعه قبل أن يبلغ حيث يريد، فإنه ليقول وهو يلفظ أنفاسه: (اللهم إني أُشهدك أني على دين إبراهيم!) يرحمك الله يا أبا سعيد!
. . . وأشرق الصبح على أرض الحجاز، وفاض النور من غار حراء يغمر بطحاء مكة ويسيل سيل العرم فيمحوا الظلمات ويدخل منه في كل دار قبس يضيء. وداعبتْ أشعةُ الصبح الضاحك نافذةَ الدار التي آوتْ زيد بن عمر بن نفيل عُمْراً من عمره، ثم هجرها ساعياً إلى الله يبتغي الوسيلة إلى دين الحق، فكان ولده سعيد بن زيد وزوجه فاطمة بنت الخطاب - من السابقين الأولين في الإسلام!
وعاد نور والإشراق إلى الدار التي يُعْزَى إليها أولُ مذكر بدين إبراهيم على حين غفلة(297/111)
وضلال. وكان إيمان سعيد واستجابته لدعوة الحق امتداداً لدعوة أبيه في الجاهلية وصفحةً مشرقة من التاريخ تنضمّ إلى صفحات!
ثم دار الفلك دورة، وإذا فتى عارمٌ من فتيان قريش يدخل دار سعيد متوشحاً سيفه، وفي عينيه شرٌّ وعلى لسانه وعيد، فما إن رآه سعيد وزوجه حتى سكت القرآنُ وخَفَتَ الصوت وانكمش بعضٌ في بعض؛ وأوشكت أن تنقض صاعقة تزلزل أركان الدار المؤمنة. . .
يا عجبا! ما بال هذا الفتى قد نسي ما جاءَ له وَرَقَّ بعد عُرام وعنف؟ هل كان يقصد إلا هذا الفتى العربيَّ وزوجَه، أن ينالهما بأشد الأذى على ما صَبَآ وفارقا دين قومهما؟
هاهو ذا في موقفه منهما خاشع الطرف يتلو من صحيفة في يده:
(بسم الله الرحمن الرحيم. طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتشْقَى. إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. تَنْزيِلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّموَاتِ الْعُلَى. . .)
فما يكاد يفرغ من تلاوته حتى يلتفت إلى خَتَنِه سعيد وأختِه فاطمة بنت الخطاب يقول:
(دُلاَّني على محمد حتى آتيه فأسلم!)
ذلك عمر بن الخطاب وتلك دار سعيد بن زيد بن عمرو؛ دخلها دخول الفاتك المتقحم لا تهدأ نفسه إلا أن يريق دما؛ فما احتوته الدار حتى كان عمرُ غيرَ عمر!
إن في بعض الأمكنة لَسرّاً يهمس، ونجوى تخافت؛ وإن في هذا الدار. . .!
وجلس سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، وعمر بن الخطاب ابن نفيل، مجلسهما إلى رسول الله غدوة، فقالا: (يا رسول الله استغفر لزيد بن عمرو!)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، فإنه يبعث أمةً وحده!)
رحمة الله عليه
محمد سعيد العريان(297/112)
مِن مذكرات عُمر بن أبي ربيعة
ذات النطاقين
للأستاذ محمود محمد شَاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة بعَقِب حديثه):
. . . فوالله لقد جَهَدنا البلاء - يا أهل مكة - ولقد صبرنا على حصار الحجاج سبعة أشهر أو تزيد في غير حصن ولا منعة، وإنّ أحدَنا لُيرى وقد لحقت بَطْنُه بظهره من الجوع والطَّوَى، ولولا بركة تلك العين (يعني زمزم) لقضينا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ) لقد أشبعنا ماؤها كأشد ما نشبع من الطعام، وما ندري ما يُفْعلُ بنا مُنذُ اليوم. فلقد خذَل (ابنَ الزُّبَير) أصحابه خذلاناً شديداً، وما من ساعةٍ تمضي حتى يخرج من أهل مكة من يخرج إلى الحجاج في طلب الأمان. ألا شاهتْ وجوه قوم زعموا أنْ سينصرونه، يحمون (البيت) أن يُلحَد فيه، ثم ينكشفون عنه انكشافةً كما تَتفرق هذه الحمامُ عن مَجْثمها على الرَوْع. . .
وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجاءها مِنْ صوتٍ داعٍ ومكِّبر وقارئ، وصَمدْت أريد المسجد فأسمع أّذان (سعد) مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيصلي بنا أتَّم صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقي من أصحابه أن يُوَدّع أمه (أسماء بنت أبي بكر الصديق) فأنطلق وراءه وما أكادُ أراه مما أحتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضّضُون ويُحرّضون، وزاحمت الناس بالمناكب أرجو ألا يَفوتني مشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه ولقد تَعْلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء طُوالة كأنْ سرْحةٌ في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنها تثبتُه وتُبصره، وقد برَقت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض المتهلل، ثم تنادي بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه قوة إيمانها وحنينُ قلِبها: (يا عبد الله! يا بُني، إني أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تهن ولا تجزع. يا بني ابذل مُهجة نفسك، ولا تَبعد إلا من النار. . . يا عبد الله! لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني!) ثم تدور لتلج الدار فكأنها شِراعٌ قد طُوِي(297/113)
رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادا وألينهم قلوباً. وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها فيتقطع عليه حَشاها
وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكسَبَ لعجب وأجَد لُحزنٍ من أُّمٍ ثكلى يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزَهرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبالَةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوهَ وأحزانها، فما أّرَى وُجُوَمها وقُطُوَبها وانكِسَارَها وزَهَقَها وصُفرَتها إلا ذلةَ النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمِنَ حين يحضُرُه الهُّم أَشعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه - حين يؤمن - أبلجَ يتوقَّد، ليكون البُرْهانَ على أنَّ الإيمانَ صيْقلُ الحياةِ الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإما رِكَبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة. . .
وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيت ابن ذاتِ النِّطاقين قائما بين الناس كأنه عمودٌ من طُوِلهِ واجتماعه ووثاقَة بنائِه؛ وحضَرْته وهو يقول: (أيها الناس، عجِّلوا الوقِاع، ولا يرعكُمْ وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجُلٌ كيف يضرب، لا تخطئوا مضاربكم فتكسِروها، فإن الرجُلَ إذا ذهب سلاحُه كان أعزَل أعضبَ يأخذ أخذاً كما تؤخذ المرأة. ليَشغَلْ كلّ امرئٍ قِرنه، ولا يلهينكم السؤالُ عني: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا مَنْ كان ساءلاً عني فإني في الرَّعيل الأول). . . ثم يدفَعُ في صدور أهل الشام دفعة عند باب بني شيبة كأنه صاعقةٌ، وكأنه أسدٌ في أَجَمةٌ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة في منازلهم من الُّرعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننتُ أنه لا يُقتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رُمي بحجرٍ فأصاب وجْههُ فبلغ منه حتى دَمِى، وسال دَمُه على لحيته، وأُرعشَتْ يدُه. . . وغَشيَهُ أصحابُ الحجّاج من كلّ ناحية وتغاوَوْا عليه، وهو يقاتلهم جَاثِماً أشدَّ قتال حتى قُتِل
وا رحمتا لك يا بنتَ أبي بكر!! أيُّ كبدٍ هي أشدُّ لوعةً من كبدِكِ! لقد والله رُحمت رحمةً إذ كفَّ الله منك البصر، لئن لم تكوني تجزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثَّلُوا به وحزُّوا رأسهُ، ورفعوه على خشبة مُتكَّساً مَصلوباً. . .
وما كدْتُ حتى أقبلتْ أسماء بين يديها كفنٌ قد أعدَّته ودَخَّنتْهُ، والناسُ ينفرجون عن طريقِها(297/114)
في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الُحزْنُ والرُّعب، قد انتُسفت وجوههم كأنما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكنت الأوصالُ، وجالت الأحداقُ في مَحاجرها وكأنها هَّمت تخرُج، وتمشي أسماء صامدة إلى الخشبة صمداً وكأنها ترى أبنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحةَ دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ - وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُمْ ورجفت بهم قُلوبُهم - وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله فقالت: (يا بُنيَّ طبتَ حيًّا وميّتا، ولا والله ما أجزعُ لفِراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثنين عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بني مسلماً محرماً ظمآن الهواجر مصلياً في ليلك ونهارك)
ثم أقبلت وجهها السماء ومدت بيديها تدعو: (اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت له، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. اللهم أرحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبره بأبيه وبي)
ووجم الناس وجمةً واحدة، وخشعوا خشعةً لكأن السماء والأرض صارتا رتقاً فما يتنفس من تنفس إلا من تحت الهم والجهد والبلاء. وكأن مكة بيت قد غلقت عليه أبوابه لا ينفذ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماء بينهم وكأن وجهها سراج قد نص على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغت من العمر وما سقطت لها سن، ومازال ثغرها ترف غروبه ثم قالت: (يا بني، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيراً)
وأطرقت أسماء إطراقةً ثم رفعت رأسها تومئ إلى الخشبة فوالله لقد رعدت فرائصي حتى تَزَايلتْ أوْصالي، وصَرَّ الناس كأنما تقصفت أصلابهم، وإذا هي تقول: (ألا من مبلغ الحجاج أن المُثْلَة سبة للحي وما تضر الميت. ألا من يبلغ الحجاج عني أن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ)
وحامت أسماء وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يرى إلا بريق وجهها يومض كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردد (يا بني، أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بني ليستأذن أحدكم حَجَّاَجكُم هذا أن يدفع ألي هذه العظام. أدوا(297/115)
عني؛ يرحم الله من أدى عني)
فيجيء الرسول من قبل الحجاج يأبى عليها أن تدفع إليها عظام أبنها المصلوب ويجيء على أثره موكلون قد وكلهم بجثته يقومون عليها يحرسونها، كأنما خشي أن يحيا ميت قد حز رأسه أن تمسَّهُ يَدُ أُمِّه. فوالله لقد سمعتْ أسماء وخُبَّرتْ فما زادت على أن وَلَّتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دَمْع، وما تُجاوز قوِماً إلا جاوزتهم كأنهم فُسطاطٌ يتقوَّض، حتى ولجتْ بابَها وغلَّقَته عليها
وانطلقتُ أنفضُ الناس بعينيَّ، فرأيتُ أخي الحارث (ابن عبد الله بن أبي ربيعة) وابن أبي عتيق (هو عبد الله بن محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ. فقلت: ما هذا أوان جزع؛ انطلقوا بنا - يرحمكم الله - إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله لقد تخوَّفتُ أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالقٌ كبدَها ما لقيته. ويطرق الباب ابن أبي عتيق. فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ فمهْ. فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه. ويؤذن لنا فندخل دارها تجف قلوبنا من الروع والرّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله (ص) وزوج حواريِّه عليه السلام، وكأن قد تركنا الدُّنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.
استضحكت أسماء حتى بدت نواجذُها وقالت: (مرحباً بكم يا بَنيّ، جئتم من خلل الناس تعزُّون أُمكم في عبد الله. يرحم الله أخاكمُ لقد كان صوًّاماً قوًّاماً ما علمتُ. وكان ابن أبيه الزُّبير أوّلِ رجل سلّ سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر
يا بَنيّ، والله لقد حملتُه على عُسْرَة، والمسلمون يومئذ قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخَّطفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنيناً بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفل مكة في هجرة رسول الله صلى لله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطعام؛ ويسكنُ الطلبُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما ونسيت أن أتخذَ لهما عِصاماً؛ فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجدُ إلاّ نطاقي وأناُ حُبلى مُتِمٌّ. فيقول أبو بكر: يا أسماء شُقِّيه باثنين؛ فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذات النِّطاقبن) يعني في الجنة. وأعود بعد الله(297/116)
يرتكض في أحشائي، قد احتسبتُ نِطاقي في سبيل الله؛ فوالله ما أجدني احتسبتُ بنيّ عبدَ الله اليوم إلا كما احتسبت نطاقي ذاكم. وأعود إلى دار أبي بكر ويأتي نفرٌ من قريش فيهم أبو جهلٍ فوقفوا ببابها، فأخرج إليهم فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي؛ فيرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فيلطم خدَّي لطمة يطرح منها قُرطي، فتُغول بي الأرض الفضاء، فوالله لما لقيتُ من حَجّاجكم هذا أهونُ عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل وأنا بعبد الله حامِلٌ مُتِمُّ. يا بَنيّ إني آخر المهاجرين والمهاجراتِ، لم يبقَ على ظهرِها بعدَ عبد الله منهم غيري؛ فلا والله ما حَسَنٌ أن يَجزَعَ من هاجَر - وإنّ شأن الهجرة لشديدٌ - وما حَسنٌ أن يجزع من شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه، وكيف وقد أربيت على المائة؟
يا بني جزاكم لله عني وعن أخيكم خيراً، قوموا لشأنكم وذروني وشأني يرحمكم الله)
وودَّعنا وانصرفنا، ولا والله ما نجدُ لأسماء في الرجال ضريباً، فأين في النساء؟ ولكنها كانت تصبر صبر المهاجرين الأولين على الجهد والبلاء
وما كان صُبح خامسة من مقتل ولَدها حتى استجابت لدعوة ربّها رضي الله عنها وأرضاها، وهي أمٌّ حنَّت تكتم حنينها، ولكأنه عجَّل بها موته فقطع نياطها وصدع فؤادها، وفلق كبدها عليه حنينها إليه. . . . . .
محمود محمد شاكر(297/117)
المعاهدة السرية
لِلأستاذ محمد عَرفة
قبل هجرة محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية عشرة من ليالي ذي الحجة بعد أن قضى الناس حجهم خرج جماعة من رحالهم المضروبة في وديان منى وضواحيها بعد أن مضى الثلث الأول من الليل، خرجوا يتسللون تسلل القطا يمشون الهوينا، فلا يسمع وقع خطاهم على الأرض أحد كأنما يخافون أن يشعر بهم الناس. خرجوا فرادى وجماعات، وكلهم يقصد جهة معينة هي العقبة، وكلما وصل إليها فوج منهم نزل بها حتى كملوا سبعين رجلاً
جلسوا يتناجون في صوت خفي، لا يسمع إلا همسهم وتتابع أنفاسهم. جلسوا كأنما ينتظرون قادماً يقدم عليهم كانوا معه على ميعاد. . .
وبينما هم كذلك إذا برجلين قد أقبلا يؤمانهم، ويريدان مكانهم، فلما تبينوهما خفوا إليهما، ونهضوا فسلموا عليهما. وكانت هذه الجماعة من سكان يثرب من الأوس والخزرج، وكان هذان القادمان عليهم محمد بن عبد الله وعمه العباس بن عبد المطلب
وكانا معهم على ميعاد
ليت شعري ما الذي حفز هذه الجماعة على أن تخرج من رحالها وتقصد هذا المكان القصي؟ وما الذي حفز محمداً وعمه العباس أن يتركا منزليهما بمكة ويسيرا تحت ستار الليل والناس نيام ويوافياهم عند العقبة؟ كان محمد يريد الهجرة إلى المدينة وكان يريد أن يعقد مع أهلها معاهدة سرية على أن يحموه ويعززوه وينصروه.
فلما جلسا وجلس الناس حولهما، تكلم العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فقال: (يا معشر الأوس والخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، وما نعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده)
فلما انتهى العباس من كلامه قالوا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك(297/118)
وربك ما أحببت. فتكلم رسول الله، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فتقدم إليه البراء بن معرور وأخذ بيده وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر
فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان وقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالاً، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني، وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. فصرخ فيهم العباس ابن عبادة الأنصاري وقال: يا معشر الخزرج، هل تدرون على م تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال، إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل، أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم؛ وإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك. فبسط يده فبايعوه
وبعد أن تمت المعاهدة قال لهم رسول الله: ارفضوا إلي رحالكم. فقال له العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى مضاجعهم. فلما أصبحوا غدت عليهم أكابر قريش، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. وكان مع المسلمين الذين عقدوا المعاهدة قوم مشركون من المدينة لم يعلموا بما كان منها فانبعثوا إلى قريش يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه. ثم تفرق القوم، ورجع الأنصار إلى المدينة، وأقام رسول الله بقية شهر ذي الحجة من تلك السنة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في ربيع الأول
وكانت هذه المعاهدة السرية التي عقدها رسول الله بينه وبين أهل المدينة هي أول حادث أعز الإسلام وقواه ومكن له في الأرض وكتب له البقاء والخلود، في هذا الوجود(297/119)
لم يكن أهل المدينة حين عقدوا هذه المعاهدة مع رسول الله يجهلون ما وراءها، فقد كانوا يعلمون أن وراءها حرب العرب جميعاً لأن العرب جميعاً على خلاف هذا الدين الجديد، وهم لا محالة معارضوه ومحاربوه، وقد ذكرهم بذلك العباس بن عبادة فلم يشفقوا من ذلك وأقدموا عليه وهم يعلمون ما يفعلون، ويعنون ما يقولون
علموا ذلك كله فلم يهلهم ولم يفزعهم، وأقدموا عليه طيبة به قلوبهم، راضية به نفوسهم. لقد عرض رسول الله (ص) نفسه قبل ذلك على القبائل، فأشفقوا منه ولم يقو أحد على حمل هذا العبء الثقيل.
لقد ذهب إلى ثقيف بالطائف وعرض عليهم الإسلام، فامتنعوا وقال له أحدهم: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك. وقال آخر منهم: لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، ثم نجاه الله منهم. وكان ينتظر أيام الحج فيذهب إلى الحجاج من العرب في منازلهم ويعرض عليهم الإسلام فيأبون عليه، ذهب إلى كندة في منازلهم فامتنعوا عليه، وأتى كلباً فامتنعوا عليه، وأتى بني حنيفة فردوه أقبح رد.
لم يقدروا على حمل هذه الأمانة، وادخرها الله لهذا الحي من أهل المدينة فقد جاء نفر منهم إلى موسم الحج، فلقيهم رسول الله فقال لهم: من أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج. قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم. قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فآمنوا به وصدقوه وقالوا له: قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله على يديك، فلا رجل أعز منك. ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا قومهم إلى الإسلام فأجاب منهم خلق كثير، ثم جاء منهم قوم إلى مكة وقابلوا رسول الله، وكانت المعاهدة التي ذكرناها.
إن هذه المعاهدة لتدل على ما للأنصار من جلد وقوة وشجاعة وبسالة وكرم وتضحية وإيثار
أباحوا أرضهم وديارهم وأرزاقهم لمن هاجر إليهم من المسلمين فقاسموهم ما عندهم، وآثروهم على أنفسهم(297/120)
فتحوا بها صدورهم لحراب العرب ورماحهم، وقطعوا بها حبالهم التي كانت بينهم وبين العرب، فما أعظم هذه التضحية، وما أجل هذا الإيثار
وبحسبهم أن الله سجل لهم مفاخرهم ومكارمهم في قوله:
(والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)
محمد عرفة(297/121)
عِبرة الهجرة
لِلأستاذ محمد عبد الغني حسن
قُمْ باسم رِّبك في الحياة مُجاهدا ... وأَعِدْ إلى العرب التُّراثَ الخالدا
مجدٌ بذلنا النفس في تدعيمه ... حتى استقرَّ على الثُّريا قاعدا
أَهْوى إلى كسرى فدكَّ صروحَه ... ورمى هرقلَ فكان نَسْراً صائدا
فتح البلادَ مسالكاً ومعاقلاً ... وأدالهن صوامعاً ومعابدا
ومشى إلى الرومان أنبلَ غايةً ... وأعفَّ في يوم القتالِ مقاصدا
يدعو إلى دين النبي مناضلا ... ويصد دعوى المشركين مجاهدا
ويكاد يفتتح القلوب بحجةٍ ... غراء كالصبح الُمبين شواهدا
هذا النبي من الجزيرة مقبلٌ ... يبني يقيناً أو يُقيم عَقائدا
المسلمون ببطن مكة أسَّسوا ... للمجد ركناً والفخار قواعدا
رفعوا على التقوى قواعد ملكهم ... وَرَجوْا له فوق السماء مقاعدا
عَرَبٌ من الصحراء إلا أَنهم ... رفعوا لتمثال الحضَارةِ شاهدا
تلك الخيامُ الضارباتُ بمكةٍ ... سخرتْ من (الإيوان) فخما صاعدا
قد لقنته من العقيدة صافيا ... وسقْته ماَء الحق عذباً باردا
حتى رأينا الفُرْس أصبح دينهم ... دينُ الحنيفة مشمخراً صاعدا
دخلوا إلى الإسلام أطوعَ أنفسا ... لله وانقادوا أَخَفَّ مقاودا
دين من الحقَّ الصراح رأيتهُ ... يغزو الممالكَ فاتحاً ومجاهدا
لم يعبأ الأوثان وهي نواصب ... شَرَكاً ولم يخشَ الضلالَ الراقدا
ومضى فما سَدَّ القتالُ سبيله ... وسعى فما هاب الفريقَ الحاشدا
يَهْدي ويفتحُ للعيون مسالكا ... ويشقُّ في سبب السماء مَصاعدا
ويكاد يهزأ بالعناد مكابرا ... والكفرِ أحمقَ والضلالِ مُعاندا
نصبوا له الشَّرَكَ اللئيمَ فما ونى ... ومضى يَحيك لصائديه مصايدا
ما كان صاحبُه إلى غاياته ... نِكْسًا ولا داعيه شيخاً قاعدا
آذوْهُ فاحتمل الأذاةَ مُصابرا ... ورمَوه فاحتملَ الرُّماة مُجالدا(297/122)
والحاسدون تنقصوه فما وهى ... عزماً ولا بالى العدوَّ الحاسدا
نفسٌ من الإيمان صيغ كيانها ... وغدت على سر البطولة شاهدا
سَخِرَتْ بما صنع الضلالُ وأقبلت ... تستلهم اللهَ الطريقَ الراشدا
وإذا النفوسُ تباعدت غاياتهاَ ... زادت عن الغرض اللئيم تباعدا
يأيها الداعي لكل كريمة ... هذا سبيلُك قد أقامَ على هدى
أعليتَ باسم الله كل بنَّية ... فيه وصيَّرْتَ الكنيسَ مساجدا
ودعوتَ لا تخشى لدينك هازئاً ... وصَدَعت لا تخشى لرأيك ناقدا
وخملت من ظلم القريب مُعاكسا ... ولقيتَ من عَنتِ الولِّي مُطاردا
فهجرتَ أهلك لا قلىً لودادهم ... وتركتَهم لا ساخطاً أو واجدا. . .
لكن كرهتَ على المقام جحودهم ... والحر يجتنب المقامَ الجاحدا
محمد عبد الغني حسن(297/123)
الحسن بن الهيثم
لَلأستاذ عبد الحميد حمدي
المدرس الأول للعلوم بوزارة المعارف
للحسن بن الهيثم منزلة رفيعة في عالم العلوم الفيزيقية لا ينتقص من قدرها أنه غير معروف في الشرق بقدر ما هو معروف في الغرب بين علماء الفيزيقا الذين قدروه فكتبوا عنه وترجموا مؤلفاته وعلقوا عليها وشرحوا الغامض منها.
وهو أبو علي الحسن بن الهيثم، ولد بالبصرة عام 355هـ (965م) ومات بالقاهرة عام 430هـ (1038م) وكان قد استقدمه الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي لينظم لم مياه النيل لينتفع بها الزرع أوقات الزيادة والنقصان. وأمده الحاكم بالمال والرجال وقصد إلى أسوان وعاين النيل عندها ودرس مشروعاً كان قد أعده هو أثناء إقامته في العراق ليطبقه على حالة نيل مصر، فرأى تعذر الأمر ورجع وأعتذر إلى الخليفة بما تظاهر بقبوله ثم ولاه بعض الدواوين.
وقد ساهم الحسن بن الهيثم في الحركة العلمية في مصر إذ قام بالتدريس في الجامع الأزهر وتخرج عليه كثيرون من المصريين نذكر منهم أبا الوفاء الميشر بن فانك من أعيان أمراء مصر وأفاضل علمائهم، وقد أخذ عنه كثيراً من علوم الهيئة والعلوم الرياضية، كما كانت لابن الهيثم مساجلات ومحاضرات ومراسلات قامت بينه وبين العلماء في مصر وفي غير مصر
وقد كان الحسن بن الهيثم أحد الأساتذة الذين تكونت منهم (دار الحكمة) وهي نوع من الأكاديمية العلمية أنشأها الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي وأمدها بآلاف الكتب وأغدق عليها الهبات واختصها بعنايته. وقد كان الحسن بن الهيثم زميلا في هذه الأكاديمية العلمية لأبن يونس وعمار وعلي بن رضوان وماسويه المارديني، وكلهم من قادة الفكر في العالم الإسلامي في ذلك العصر، وكانوا من أصدقاء الحاكم وكانت لهم معه مجالس ومحاضرات
حضر الحسن بن الهيثم إلى القاهرة عام 386هـ (966م). وعاش فيها عيشة النسك والزهد، فقد كان في السنين الأخيرة من حياته يكتب في كل سنة اقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ثمنهما ولم تزل هذه حاله إلى أن توفي عام 430هـ (1038م).(297/124)
فيكون قد قضى بالقاهرة حتى وفاته أكثر من اثنين وأربعين عاماً؛ فهو مواطن مصري انقضت على وفاته تسعة قرون كان فيها اسمه مغموراً غير مشهور لا تذكره المحافل العلمية الشرقية ولا تشيد بذكره؛ فمن الواجب علينا ومن الإنصاف له ونحن نحتفل بالسنة الهجرية الجديدة أن نحيي ذكراه في وقت نحن أحوج ما نكون إلى الإشادة بذكر السلف الصالح وإلى الكشف عن أعمالهم ومؤلفاتهم لتنشط الهمم ولنصل بين ماض تليد وحاضر مرتقب النتائج معقود عليه الرجاء أن يتفتح عن مستقبل حافل بالعلم والعرفان. ويمتاز الحسن بن الهيثم في بحوثه الفيزيقية عن سواه من الفلاسفة الذين عاصروه أو تقدموه ممن كتبوا في العلوم الفيزيقية، فقد كان له منهج علمي اتبعه في بحوثه يتلخص في: المشاهدة والتجربة والاستنباط. وفي ذلك يقول جورج سارتون في كتابه (مقدمة لتاريخ العلوم): وهو أعظم عالم فيزيقي مسلم وأحد كبار العلماء الذين بحثوا في البصريات في جميع العصور. وقد كان فوق ذلك فلكياً ورياضياً وطبيباً، وله شروح على مؤلفات أرسطو وجالينوس؛ والترجمة اللاتينية لكتابه (المناظر) وهو أهم مؤلفاته - كان لها أثر عظيم على العلم في الغرب وخصوصاً على روجر بيكون وكبلر وفيها يتجلى الرقي العظيم الذي وصلت إليه الطرق التجريبية) ويقول في ذلك أيضاً إيفور ب هارت في كتابه (الفيزيقيون العظام): (وقد أدخل تحسيناً ذا شأن في جهاز بطليموس لقياس زوايا الانكسار في الأوساط المختلفة، وقد كانت طرائقه في الحقيقة تذكارات ماضية لطرائق البحث العلمي في معاملنا في الوقت الحاضر.
ونحن نعرض الآن لبعض أجهزة للحسن بن الهيثم استخدمها لإثبات بعض الظواهر الضوئية، ونذكرها على سبيل المثال لا الحصر، لأن التجارب ابن الهيثم التي تضمنها كتابه (المناظر) أكثر من أن تحصى. وسيكون بحثنا في هذه الناحية التجريبية التي بز بها ابن الهيثم غيره من العلماء الفيزيقيين بحثاً مقارناً فنذكر تجاربنا الحديثة وأجهزتها ونقرنها بتجارب ابن الهيثم موضحة بالأجهزة التي استخدمها
أولاً: الضوء ينتشر على سموت خطوط مستقيمة
إذا وضعت جسما معتما بين عينيك ومنبع ضوء صغير يبعد بمسافة قصيرة فإنك لا ترى الضوء إذا كان الجسم والمنبع والعين على استقامة واحدة؛ وإذا نظرت إلى شعاع ضوئي(297/125)
نافذ من ثلمة من نافذة حجرة مظلمة تشاهد مسير الشعاع داخل الحجرة في خطوط مستقيمة. والحقيقة أن الضوء في ذاته لا يرى، ولكن الجسيمات الصغيرة المبعثرة في الهواء هي التي تعكس الضوء إلى العين وتساعدها على تتبع مسيرها. وإذا راقبت مغرب الشمس عندما تختفي تحت الأفق تشاهد أن الأشعة المنبعثة منها تكون في خطوط مستقيمة؛ ويمكنك أن تثبت هذه الظاهرة عملياً بعدة تجارب نقتصر منها على ما يأتي:
خذ ثلاثة أفرخ من الورق المقوى ا، ب، ج (شكل 1 - 1) واثقب كل منهما بثقب في وسطه، ثم ضعها رأسياً على حوامل ثلاثة بحيث تكون الثقوب على استقامة واحدة. أشعل شمعة (ش) وضعها أمام الثقب الأول ثم انظر من خلف الثقب الثالث عند (ع) تر الشمعة. أزح أحد الأفرخ في أية جهة لا تر الشمعة. وهذا يدل على أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة في الوسط المتجانس (الوسط هنا الهواء طبعاً)
وإليك شرح ابن الهيثم لهذه الظاهرة وتجربته التي أثبت بها صحتها:
(. . . فأما كيف يكون نفوذ الضوء في الأجسام المشفة فهو أن الضوء يمتد في الأجسام المشفة على سموت خطوط مستقيمة، ولا يمتد إلا على سموت الخطوط المستقيمة، ويمتد من كل نقطة من الجسم المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة في الجسم المشف المجاور للجسم المضيء. وهذا المعنى قد بيناه في كتابنا (المناظر) بياناً مستقصي، ولكنا نذكر الآن منه طرفاً يقنع فيما نحن بسبيله، فنقول: إن امتداد الضوء على سموت خطوط مستقيمة يظهر ظهوراً بيناً من الأضواء التي تدخل من ثقوب إلى البيوت الظلمة، فإن ضوء الشمس وضوء القمر وضوء النار إذا دخل في ثقب مقتدر إلى بيت مظلم، وكان في البيت غبار أو أثير في البيت غبار فإن الضوء الداخل من الثقب يظهر في الغبار الممازج للهواء ظهوراً بيناً، ويظهر على وجه الأرض أو على حائط البيت المقابل للثقب ويوجد الضوء ممتداً من الثقب إلى الأرض أو إلى الحائط المقابل للثقب على سموت مستقيمة). وبعد هذا الشرح يدلي ابن الهيثم بالتجربة فيقول (شكل ا - ب): (وإن اعتبر هذا الضوء الظاهر بعود مستقيم وجد الضوء ممتداً على استقامة العود، وإن لم يكن في البيت غبار وظهر الضوء على الأرض أو على الحائط المقابل للثقب، ثم جعل بين الضوء الظاهر وبين الثقب عود مستقيم، أو مد بينهما خيط مدّاً شديداً، ثم جعل فيما بين الضوء(297/126)
والثقب جسم كثيف ظهر الضوء على ذلك الجسم الكثيف وبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه، ثم إن حرك الجسم الكثيف في المسافة الممتدة على استقامة العود وجد الضوء أبداً يظهر على الجسم الكثيف، فيتبين من ذلك أن الضوء يمتد من الثقب إلى الموضع الذي يظهر فيه الضوء على سموت خطوط مستقيمة).
ثانياً: إن البصر يرى المبصرات على سموت خطوط مستقيمة
في تجاربنا الحديثة لا توجد تجربة خاصة لإثبات هذه الظاهرة ولكنا نستنتجها من التجربة السابقة. أما الحسن بن الهيثم فيثبتها بتجربة مستقلة وبجهاز خاص. . . وإليك شرح تجربته وجهازه (شكل 2)
(يتخذ المعتبر مسطرة في غاية الصحة والاستقامة ويخط في وسطها خطاً مستقيماً موازياً لخطي نهايتها، ويتخذ أنبوباً أسطوانياً أجوف طوله في غاية الاستقامة واستدارته في غاية الصحة ودائرتا طرفيه متوازيتان، ونهايته متشابهة ومقتدر السعة وليس بأوسع من محجر العين، ويكون طوله أكثر من طول المسطرة بقدر يسير ويخط في سطحه الظاهر خطاً مستقيماً ويقسم الخط الذي على المسطرة ثلاثة أقسام أوسطها مساو لطول الأنبوب ويطبق خط الأنبوب على الأوسط من الأقسام الثلاثة بحيث يتطابق طرفاهما ويلصق الأنبوب بالمسطرة على هذا الوضع إلصاقاً ثابتاً ملتحماً
ثم يعين على مبصر من المبصرات ويلصق طرف المسطرة بالجفن الأسفل من إحدى عينيه والطرف الآخر بسطح المبصر ويغمض العين الأخرى وينظر من ثقب الأنبوب فإنه يرى من المبصر الجزء المقابل لثقب الأنبوب الذي يليه
وإذا ستر الثقب بجسم كثيف استتر ذلك الجزء فإذا رفعه عات الرؤية، وإن ستر بعض الثقب استتر من ذلك الجزء البعض المقابل لجزء الثقب المستتر الذي هو والمبصر والساتر على خط مستقيم، وإذا ستر الثقب استتر الجزء المقابل له
فمعلوم أن بين البصر وذلك الجزء هواء متصلاً لا يتخلله كثيف ومسافات لا نهاية لها، كلها غير مستقيمة؛ فلو كان ممكناً أن يدرك البصر شيئاً على غير استقامة في الهواء من غير انعكاس لكان يدرك الجزء في تلك الحال - فتبين أن هذه الرؤية لا تتهيأ إلا من سموت خطوط مستقيمة(297/127)
ثالثاً: الحجرة المظلمة (شكل 3)
إذا أغلقت جميع نوافذ حجرة وتركت ثلمة صغيرة فيها ووضعت خلفها حاجزاً كلوح من الخشب شاهدت تكون صورة عليه للمرئيات التي خارج الحجرة وهذه تكون مقلوبة ويمكن إثبات ذلك عملياً (شكل 4) فإنك إذا ثقبت لوحاً رقيقاً من المعدن عند (ث) وثبته على حامل ووضعت شمعة موقدة (1ب) أمامه وحائلاً من الورق الأبيض خلفه تتكون على الحائل صورة مقلوبة للهب الشمعة هو (اب) ويعلل ذلك بأن الأشعة تتفرق في جميع الجهات من كل نقطة من نقط الجسم المضيء، ومن هذه الأشعة تنفذ حزمة صغيرة للغاية من الثقب فيخرج من (ا) شعاع ينفذ من الثقب ويسقط على الحائل فتتكون عليه صورة (ا) لهذه النقطة وكذلك يخرج من (ب) شعاع ينفذ من الثقب ويلاقي الحائل في (بَ) تكون هي صورة النقطة (ب) وبالمثل تتكون على الحائل بين (ا، ب)، صورة لجميع نقط اللهب الأخرى بين (ا، ب)، وإذا كان الثقب ضيقاً كانت الصورة واضحة ومحدودة، وإذا كان الثقب متسعاً كانت الصورة غير واضحة وغير محدودة. ويرجع انقلاب الصورة إلى انتشر الأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة وتقاطعها عند الثلمة، فالأشعة الآتية من الأجزاء العليا تقابل الحائل في أجزائه السفلى، وبالعكس الآتية من الأجزاء السفلى تلاقي الحائل في أجزائه العليا والأشعة الآتية من الأجزاء المتيامنة تقابل الحائل في أجزائه المتياسرة، وبالعكس الآتية من الأجزاء المتياسرة تلاقي الحائل في أجزائه المتيامنة فتكون الصورة مقلوبة من عامة الوجوه، وإليك قول ابن الهيثم في هذه الظاهرة:
(. . . وبعد ذلك نقول: كل صورة مضيئة قابلت ثقباً مستديراً في غاية الصغر فإن المخروط المتشكل بينها وبين مركز الثقب ينفذ إلى السطح الموازي ويحدث ضوؤها على السطح على شكل شبيه بشكل الصورة، لكنه يكون معكوساً، ولنسمه الضوء المتوسط، فإذا تعددت الصور المضيئة تعددت أضواؤها المتوسطة لكن الضوء الحادث من الصورة المتيامنة عن الثقب يتياسر، ويتيامن ضوء المتياسرة، ويتعالى ضوء المتسافلة، ويتسافل ضوء المتعالية
وأشكال الأضواء تشبه أشكال الصور ونسبتها إلى أشكال الصور واحدة، وضوء كل صورة يرد في جميع المخروطات المتشكلة بينها وبين كل نقطة من سطح الثقب إلى ما(297/128)
يقابله، وقواعد تلك المخروطات على السطح المقابل متساوية
. . . فإن كان الثقب في غاية الصغر فإن شكل الضوء الحادث يكون قريب الشبه بشكل الضوء المتوسط، ويقل الشبه بقدر زيادة فسحة الثقب. . . وهكذا إلى أن يخفى الشبه ويبقى الشبه في مجرد الضوء واللون. . . وكلما كان الثقب أضيق والسطح أبعد كان شكل الوسط أشبه بالصورة
وكذلك أيضاً إذا قابلت قطع سحاب بيض ثقباً ضيقاً يفضي إلى موضع نقي اللون لا يصل إليه ضوء آخر فإنه يرى في ذلك الموضع قطع أضواء إلى البياض بعدد قطع السحاب مخالفة الأوضاع لها، وإن كانت قطع السحاب تتحرك نحو جهة فإن الأضواء أيضاً تتحرك لكن إلى خلاف تلك الجهة
وكذا لو طار بعض الكبار من الطيور قريباً من ثقب كما ذكر فإن صورة لونه تظهر على ما يقابل الثقب متشكلاً بشكل يشبه شكله متحركا في خلاف جهته
رابعاً: دوامة الحسن بن الهيثم وقرص نيوتن
يمكث التأثير الذي يحدثه أحد الألوان على شبكية العين برهة
من الزمن صغيرة 101 ثانية فإذا تتابعت عدة تأثيرات من
ألوان مختلفة في زمن أقل من 101 ثانية لا يضيع أثر أي
لون من هذه الألوان بل تتأثر العين بها جميعاً في وقت واحد
وتحس العين بلون خاص هو نتيجة اندماج تأثيرات الألوان
المختلفة. ويمكن إثبات هذه الظاهرة باستخدام قرص نيوتن
(شكل 5 - 1) وهو قرص مستدير من الورق المقوى مقسم
سطحه إلى قطاعات ملونة تختلف مساحتها وترتيبها حسب
وضعها الطبيعي في الطيف الشمسي ويثبت القرص عند(297/129)
مركزه على محور عمودي على مستواه، فإذا أدير القرص
بسرعة تكفي لسقوط الألوان كلها على العين في فترة تقل عن
101 ثانية اندمجت التأثيرات من الألوان المختلفة على العين
وظهر القرص أبيض قليلاً. وإذا كانت ألوان الأقسام ليست في
ترتيب وضعها في الطيف الشمسي ولم يراع مساحتها فيه
أحست العين بلون مركب من ألوان القرص كلها
وإليك شرح ابن الهيثم لنظرية تركيب الألوان ووصف دوّامته (شكل 5 - ب)
نقول إن إدراك ماهية اللون ليس يكون إلا في زمان وذلك لأن إدراكها ليس إلا بالتمييز والتشبيه وذلك لا يتأتى إلا في زمان والذي يدل على ذلك ما يظهر من الدوامة عند حركتها فإن الدوامة إذا كانت فيها أصباغ مختلفة وكانت الأصباغ خطوطاً ممتدة من وسط سطحها الظاهر وما يلي عنقها إلى نهاية محيطها ثم أديرت الدوامة بحركة شديدة فإنها تتحرك على الاستدارة في غاية السرعة
(وإذا تأملها الناظر في حال حركتها فإنه يدرك لوناً واحداً مخالفاً لجميع الألوان التي فيها كأنه لون مركب من جميع ألوان تلك الخطوط ولا يدرك تخطيطها ولا اختلاف ألوانها
ويدركها مع ذلك كأنها ساكنة إذا كانت حركتها في غاية السرعة، وإذا كانت في حركتها فلا تثبت نقطة منها في موضع واحد زمانً محسوساً وهي تقطع في أقل القليل من الزمان جميع الدائرة التي تدور عليها فتحصل صورة النقطة في ذلك الزمان اليسير على محيط دائرة من جميع محيطها الذي يحصل في البصر فيدرك لون تلك النقطة في الزمان القليل مستديراً
(وكذلك حكم جميع النقاط التي في سطح الدوامة وجميع النقاط المتساوية الأبعاد عن المركز تتحرك حينئذ على محيط دائرة واحدة فيعرض لذلك أن يظهر لون كل نقطة من النقاط المتساوية الأبعاد عن المركز على محيط دائرة فتظهر ألوان جميع تلك النقاط في جميع(297/130)
محيط الدائرة ممتزجة ولا تتميز للبصر فلذلك يدرك سطح الدوامة لوناً واحداً ممتزجاً من جميع الألوان التي في سطحها)
وبعد فهذه تجارب وأجهزة نسوقها على سبيل التمثيل لا الحصر فهي قليل من كثير؛ ولعلنا نكون قد وفقنا إلى الكشف عن ناحية عظيمة - هي البحث العلمي التجريبي - امتاز بها الحسن بن الهيثم في بحوثه فكان لها أكبر الأثر في قادة البحث العلمي في أوربا في العصور القديمة ولا يزال أثرها محسوساً في عصرنا الحالي.
عبد الحميد حمدي مرسي(297/131)
صفحة مطوية من تراث العرب العلمي
لِلأستاذ قدري حافظ طوفان
لا أظن أن عالماً أصابه الإهمال كالخازن. ولا أظن أن الإجحاف الذي لحق بمآثره لحق بغيره من نوابغ العرب وعباقرتهم؛ فلقد أدى ذلك الإهمال وهذا الإجحاف إلى الخلط بينه وبين علماء آخرين فنسبت آثاره لغير كما نسبت آثار غيره له. وقد وقع في هذا الخلط بعض علماء الغرب وكثير من علمائنا ومؤرخينا. قال (درابر) الأمريكي إن الخازن هو الحسن بن الهيثم وإن ما ينسب إلى ما يُسمى (بالخازن) هو على الأرجح من نتاج ابن الهيثم. وخلط الأستاذ منصور حنا جرداق أستاذ الرياضيات العالية بجامعة بيروت الأمريكية في محاضرته عن مآثر العرب في الرياضيات والفلك بين الخازن وابن الهيثم، يتجلى ذلك في قوله: (ومن أشهر المشتغلين بالفلك والطبيعيات في الأندلس أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازني الأندلسي الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد وأوائل القرن الثاني عشر للميلاد، وألف مؤلفاته الشهيرة في النور وآلات الرصد وأوضح مقدار الانكسار. وألف في الفجر والشفق وعين ابتداء كل منها وقت بلوغ الشمس 190 درجة تحت الأفق. . . الخ)
ونحن هنا أمام خطأين: الأول في اعتبار الخازن من الأندلس وهو في الحقيقة من مرو من أعمال خراسان.
والثاني في أن المآثر التي أوردها الأستاذ ليست للخازن بل هي من نتاج ابن الهيثم. وأكبر الظن أن ما وقع فيه الأساتذة والعلماء من أخطاء يعود إلى الوضع الإفرنجي للاسمين فأكثر الكتب الإفرنجية حين تكتب الحسن بن الهيثم تكتبه - وحين تكتب الخازن - فظن أن كثيرون أن هذين الاسمين هما لشخص واحد لم يدققوا في حروفهما مما أدى إلى التباس الأمر عليهم ووقوعهم في الخلط والخطأ.
وسنحاول في هذا المقال أن نبين مآثر الخازن في علم الطبيعة وأثره في بعض بحوثها جاعلين نصب أعييننا إنصاف عالم هو مفاخر الأمة العربية ومن كبار عباقرتها من الذين عملوا على إنماء شجرة المعرفة وساهموا في خدمتها ورعايتها
والخازن من علماء النصف الأول من القرن الثاني عشر للميلاد وهو أبو الفتح عبد(297/132)
الرحمن المنصور الخازني المعروف بالخازن نشأ في (مرو) أشهر مدن خراسان، وقد درس فيها وعلى علمائها نبغ ولمع في سماء البحث والابتكار. اشتغل في الطبيعة ولاسيما في بحوث الميكانيكا فبلغ الذروة وأتى بما لم يأت به غيره من الذين سبقوه من علماء اليونان والعرب، كما وفق في عمل زيج فلكي سماه (الزيج المعتبر السنجاري) وفيه حسب مواقع النجوم لعام 1115 - 1116م، وجمع أرصاداً أخرى هي في غاية الدقة بقيت مرجعاً للفلكيين مدة طويلة.
ومن الغريب أن قنصل روسيا في تبريز في منتصف القرن الماضي عثر صدفة على كتاب ميزان الحكمة، وقد كتب عنه عدة مقالات في إحدى المجلات الأمريكية. ولعل العلماء الألمان أكثر العلماء اعتناءً بآثار الخازن. فنجد في رسائل للأستاذ ويدمان فصولاً مترجمة عن (ميزان الحكمة) وقد استوفت بعض حقها من البحث والتعليق كما نجد في رسائل غيره مقتطفات من محتويات الكتاب المذكور دللوا فيها على فضل الخازن في علم الطبيعة.
ولابد لي في هذا المجال من إبداء دهشتي لعدم نشر فصول هذا الكتاب النفيس في كتاب خاص، ولا أدري سبباً لهذا. . .
ولعل السؤال الآتي يتبادر إلى غيري أيضاً: لماذا نُشرت بعض محتويات الكتاب وأهملت الأخرى؟ ليس لي أن ألوم علماء الألمان أو غيرهم في ذلك، فلقد قاموا بواجبهم نحو الخازن أكثر منا وعرفوا فضله قبلنا، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنه لولا قنصل روسيا وبعض المنصفين من مستشرقي الألمان وعلمائهم لما عرفنا شيئاً عن الخازن، ولما كان بالإمكان نشر هذا المقال. وقد يكون الأستاذ مصطفى نظيف بك أول عربي أشار إلى بعض محتويات كتاب ميزان الحكمة في كتابه: (علم الطبيعة تقدمه ورقيه. . .)، ولكنه لا يذكر شيئاً عن المؤلف بل ولا يذكر أنه الخازن، ويقول: (. . . والكتاب لا يعلم مؤلفه. . .) ثم يردف هذا القول: إن (درابر) يرجح أنه من تأليف الحسن ابن الهيثم. وأظن أن مقالنا هذا أول مقال يظهر في مجلة عربية يبحث عن الخازن ويزيح الستار عن آثاره ويفيه بعض حقه. والذي أرجوه أن يثير هذا المقال أساتذة كلية العلوم في جامعة فؤاد الأول بمصر وعلى رأسهم حضرة صاحب العزة الدكتور علي مصطفى مشرفة بك فيعملون على(297/133)
إنصاف الخازن وعلى نشر مآثره بين المتعلمين والمثقفين، فهم أولى الناس بذلك، وأحق من غيرهم بالقيام بهذا العمل الجليل. ولنا من حماستهم للتراث العربي والإسلامي ما يدفعنا إلى لفت أنظارهم إلى حياة الخازن الحافلة المليئة بالإنتاج التي أحاطها الإهمال من كل جانب.
وضع الخازن كتاباً في الميكانيكا سماه (كتاب ميزان الحكمة) هو الأول من نوعه بين الكتب القديمة العلمية القيمة، وقد يكون هو الكتاب الوحيد المعروف الذي يحتوي على بحوث مبتكرة جليلة لها أعظم الأثر في تقدم الأيدروستاتيكا، وقد قال عنه الدكتور سارطون إنه من أجل الكتب التي تبحث في هذه الموضوعات وأروع ما أنتجته القريحة في القرون الوسطى. والذي يطلع على بعض مواد هذا الكتاب تتجلى له عبقرية الخازن وبدائع ثمرات التفكير الإسلامي والعربي. واعترف (بلتن) في أكاديمية العلوم الأمريكية بما لهذا الكتاب من الشأن في تاريخ الطبيعة وتقدم الفكر عند العرب
لا يجهل طلاب الطبيعة أن (توريشيللي) بحث في وزن الهواء وكثافته والضغط الذي يحدثه. وقد مر على بعضهم في تاريخ الطبيعة أن (توريشيللي) المذكور لم يسبق في ذلك وأنه أول من لفت النظر إلى هذه الموضوعات وبحث فيها وأشار إلى أهميتها
والواقع غير هذا، فلقد ثبت من كتاب (ميزان الحكمة) أن من بين المواد التي تناولها البحث مادة الهواء ووزنه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أشار إلى أن للهواء قوة رافعة كالسوائل وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتبع كثافة الهواء
وبيّن الخازن أيضاً أن قاعدة (أرشميدس) لا تسري فقط على السوائل بل تسري على الغازات، وأبدع في البحث في مقدار ما يُغمر من الأجسام الطافية في السوائل. ولا شك أن هذه البحوث هي من الأسس الذي عليها بنى علماء أوربا فيما بعد بعض الاختراعات الهامة كالبارومتر ومفرغات الهواء والمضخات المستعملة لرفع المياه
ولسنا هنا ننتقص من قدر توريشيللي وباسكال وبويل وغيرهم من العلماء الذين تقدموا بعلم (الإيدروستاتيكا) خطى واسعة، ولكن ما نريد إقراره هو أن الخازن قد ساهم في وضع بعض مباحث علم الطبيعة وأن له فضلاً في هذا كما لغيره من الذين أتوْا بعده، وقد توسعوا(297/134)
في هذه الأسس ووضعوها في شكل يمكن معه استغلالها والاستفادة منها
وبحث الخازن في الكثافة وكيفية إيجادها للأجسام الصلبة والسائلة واعتمد في ذلك على كتابات البيروني وتجاربه فيها وعلى آلات متعددة وموازين مختلفة استعملها لهذا الغرض. واخترع الخازن ميزاناً لوزن الأجسام في الهواء والماء وكان لهذا الميزان خمس كفات تتحرك إحداها على ذراع مدرّج. ويقول بلتن إن الخازن استعمل الأيريومتر لقياس الكثافات وتقدير حرارة السوائل. ومن الغريب أن تجد أن الكثافات لكثير من العناصر والمركبات التي أوردها في كتابه بلغت درجة عظيمة من الدقة لم يصلها علماء القرن الثامن عشر للميلاد. وفي الكتاب أيضاً شيء عن الجاذبية، وأن الأجسام تتجه في سقوطها إلى الأرض، وقال أن ذلك ناتج عن قوة تجذب هذه الأجسام في اتجاه مركز الأرض. ويرى أن اختلاف قوة الجذب يتبع المسافة بين الجسم الساقط وهذا المركز. وجاء في كتاب (علم الطبيعة - تقدمه ورقيه. . .) للأستاذ نظيف: (. . . ومما يثير الدهشة أن مؤلف كتاب ميزان الحكمة كان يعلم العلاقة الصحيحة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو سطح الأرض والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه - وهي العلاقة التي تنص عليها القوانين والمعادلات التي ينسب الكشف عنها إلى غاليلي في القرن السابع عشر للميلاد. .). وعلى الرغم من التحريات العديدة لم أتمكن من العثور على المقتطفات التي تنص على العلاقة بين السرعة والبعد والزمن في المصادر التي بين يدي سواء العربية منها أو الإفرنجية. ولهذا فمن الصعب جداً أن أحكم في صحة ما جاء عن الخازن بشأن هذه العلاقة. وأظن أن العلاقة التي عرفها الخازن والتي وردت في كتابه - وهي العلاقة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو الأرض والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه لم تكن صحيحة ودقيقة بالدرجة التي تنص عليها معادلات غاليلي، ولكنها قد تكون صحيحة إلى درجة ودقيقة إلى حدّ. وآمل في أول فرصة أزور فيها مصر أن أبحث عن هذه النقطة في مكتبات القاهرة فقد أجد فيها ما يلقي ضوءاً على المدى الذي توصل إليه الخازن في الجاذبية
وأجاد في بحوث مراكز الأثقال وفي شرح بعض الآلات البسيطة وكيفية الانتفاع منها، وقد أحاط بدقائق المبادئ التي عليها يقوم اتزان الميزان والقبان واستقرار الاتزان إحاطة مكنته(297/135)
من اختراع ميزان من نوع غريب لوزن الأجسام في الهواء والماء كما مرّ بنا
هذا ما استطعنا الوقوف عليه من مآثر الخازن بعد الرجوع إلى مصادر عديدة، ونرجو أن يكون هذا المقال حافزاً لغيرنا للاعتناء بتراث هذا العالم العربي الذي ترك ثروة علمية ثمينة للأجيال، كما نأمل أن يدفع بعض المنصفين من الباحثين والمؤرخين إلى الاهتمام برفع الإجحاف الذي أصابه، والعمل على إزالة الغيوم المحيطة بنواح أخرى من ثمرات قريحته الخصبة المنتجة
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(297/136)
درس للزعماء في سيرة زعيم
لَلأستاذ سعيد الأفغاني
في حياة خالد بن الوليد الحافلة بالبطولة والرجولة، درس للصغير والكبير؛ غير أن ما يحيط بنهضة العرب اليوم من تناحر على الغنائم، والمعركة لم تنته بعد، يحتم أن نعرض لعبرتين في سيرة الفاتح العظيم، فيهما درس بليغ، ينتفع به من في قلبه حبة خردل من إخلاص. وكذلك التاريخ أيها القارئ يسعفك كلما كلب الزمان وحرب العدو، ولن تعدم منه أبداً سراجاً يضيء حاضرك ويبصرك بالسبل وينجح لك المساعي، ويريك بم كان تقدم المتقدمين وفوز الفائزين، وبم كان التأخر والذلة والخسران
أما الأولى من العبرتين، فهي أن خالداً من أبطال قريش وصناديدهم، بل هو البطل فيهم لا يعدله غيره. أظفر الله المسلمين بالمشركين يوم بدر، فكان عليهم عار الأبد، وأصبحوا بهزيمتهم سبة بين العرب؛ فما قر لهم قرار، حتى تألبت جموعهم في أحد، متعطشة إلى الثأر، ثم تقع الواقعة فينهزمون أيضاً. ويريد ربك أن يصاب المسلمون بعد نصرهم، لتكون لهم الهزيمة بعد الظفر درس الأبد، فلا يخالفون رئيساً بعدها أبداً. ثم لا يفطن إلى خلو الجبل من الرماة إلا خالد اليقظ، فيحيط بالمسلمين - وهم لاهون بالغنائم - من خلفهم، وينتعش المشركون حينئذ، وتكون المصيبة في المسلمين بالغة؛ فكانت هزيمتهم، وكانت الفرحة الكبرى لقريش أن ثأروا لقتلاهم يوم بدر، ورفعوا عن أنفسهم العار، وكان أن ذهب بفخر هذا اليوم كله خالد.
هذا القائد الباسل الذي طارت شهرته في أهل الشرك والتوحيد على السواء، وقع في قلبه أن الإسلام حق، فرمى بالقيادة والشهرة جانباً، ووطن نفسه على الأذى يناله من قريش، الذين سيحنقون أشد الحنق، وقصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقبله مسلماً في المسلمين، وقد سأله في طريقه عمرو بن العاص: (إلى أين يا أبا سلمان؟) فقال: (والله قد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم؛ فحتى متى؟!)
ألا يجد رؤساء الناس وزعماؤهم في هذه عبرة ودرساً، ألا يدعون نصرة أهوائهم وإرضاء نفوسهم، ليقبلوا على أمر تبين رشده فيتبعونه؟ إن الناس لينظرون إليهم، وإن الله لسائلهم عن الوطن والدين يتجرون بهما، وعن العامة يلعبون بعقولهم، وقد أعطوا الله موثقاً:(297/137)
ليكونن مع الحق حيث كان، وليقومُن بنصرته وحده لا نصرة نفوسهم ونزغاتهم. جمعهم وطن واحد فراموه أجزاء وأشلاء، واستعدوا الأجنبي المتربص بهم ليحفظ عليهم رياساتهم الواهية، فنال هذا فريسته بسلاحها، وكانت هذه الأثرة الدنيئة أفتك بالبلد من كل غارة. ثم انتظم أمورهم دين واحد فأبوه إلا شيعاً وفرقاً وطرقاً، فبادر الأجنبي يعلن حمايته لكل فرقة على حدة ويعترف باستقلالها عن أختها، ويبالغ في تشجيعه على التفرق، وفي تفكيكه عرى الطائفة الواحدة حتى عم البلاء وطم. وهانحن أولاء نرى في قطر عربي صغير كسورية، ثبتاً حافلاً بأسماء طوائف لو وزعت على أهل الأرض ما نجت من شر فتنتها بقعة، وفي كل يوم فرقة جديدة وحماية سريعة
إن خالد بن الوليد طوح بالقيادة والفخر والظفر والمجد وأقبل على النبي واحداً من المسلمين، ونحن لا نكلف هؤلاء السادة طرح شيء فستبقى عليهم زعاماتهم، وسيرجعون أعز ما كانوا إن جندوا أنفسهم في خدمة الحق والخير
وأما العبرة الثانية التي يجدها الزعماء في سيرة خالد، فغاية في إنكار النفس وبذل الروح وإماتة الهوى
أسلم خالد وأبلى البلاء الحسن في كل غزواته مع النبي، ثم في حربه المرتدين، وتوطيده دعائم الوحدة في الجزيرة، ثم في سيره إلى العراق، وانتصاره على الفرس الانتصارات الآخذ بعضها بحجز بعض؛ فمن قهر جيوش، إلى دك عروش، إلى فتح حصون، إلى خطف قواد، إلى قتل أبطال. . . مآثر لو طلب بهن الخلافة لما ساغ في العقل أن يختلف عليه فيها اثنان. ثم يبعثه أبو بكر مدداً إلى الشام ثم يكون يوم اليرموك، وقد بلغ الروم في التعبئة غاية كيدهم وفنهم: عدد كثير، وشجاعة فائقة، واستبسال واستماتة، حتى لقد سلسل رجال منهم أنفسهم للموت بسلاسل من حديد، وقيد آخرون أنفسهم لئلا يفروا، ثم يكون رأى خالد توحيد العمل معلناً في خطبته البليغة المشهورة، ثم جولات منه صادقات، فإذا بالعدد الضخم من الروم يهوى إلى الواقوصة كالبناء المتداعي، ثم يتصل الظفر حتى يكون يوم دمشق، وقد ولي الخلافة عمر، ووصل بريده يعهد إلى أبي عبيدة بالقيادة، ويجعل خالداً جندياً من الجنود؛ وهنا العبرة، وهنا يبدأ الدرس:
في هذا الموقف يختلف خالد وزعماء اليوم، أما زعماء اليوم - من أمتنا طبعاً - فدستورهم(297/138)
الكلمة المشهورة التي نجمت في مصر على ألسنة بعض الناس: (الحماية على يد فلان، ولا الاستقلال على يد فلان)، فلو كانوا مكان خالد لانشقوا بجند عظيم وحاربوا أبا عبيدة ومن معه، ثم ظفر الروم بالفريقين معاً وارتدت الدعوة العربية إلى الحجاز، ثم لا يُدرى أيكتفون أم ينبتون الجزيرة كلها خلافاً وتناحراً. وأما خالد داء الجيوش وقاهر الروم والفرس معاً، فقد كان رجلاً فوق هذا: انضوى إلى لواء أبي عبيدة وأخلص النصح والعمل، ولم يُر أحد أكثر جهداً وانكماشاً وبلاءً منه يومئذ أمام أسوار دمشق. لم ينم عن العدو ساعة قط، ولا فاته من حركاته صغيرة ولا كبيرة، فهو أبداً مقدم منطلق، وهو إلى ذلك يقلب وجوه الحيلة، ويعمل الفكرة كأنه لم يزل هو القائد، حتى هداه النظر إلى نصب السلالم على السور، فالتمس غفلة الحامية في يوم عيد فصعد عليها وطائفة من خيرة الشجعان فواثبوا الحراس ونزلوا إلى الباب فقطعوا إغلاقه بسيوفهم. وقد فتح المسلمون دمشق بحنكته ويقظته واقتحامه وحده لا شريك له في ذلك، ولم يبال أن يكون فخر هذا الفتح لأبي عبيدة أو لغيره، فما عمل خالد لزعامة ولا شهرة، عمل لله وحده وقد رضي الله عنه وأرضى الناس. وأولئك قوم نزع الله ما في صدورهم من غل إخواناً
هذا بدء تاريخنا، أم النهاية التي ختمناه بها نحن: فسلسلة من التفريط وتضييع الفرص، وعبادة النفس والاندفاع مع الأهواء. في سبيل ذلك ضحى المتزعمون بخير البلاد خيراً بعد خير. لنرجع عشرين عاماً إلى الوراء فلننظر: كم مرة خسرنا مراحل في تقدم القضية لأن الحلول لم تكن على يدنا ولا باسمنا؟ وكم مرة غششنا الناس وجهدنا أن نريهم كل حسنة ظفر بها غيرنا سيئة شنعاء؛ وكل شر لبسناه عليهم سعادة الأبد؟
فنجحنا - لأمر يريده الله - وقال الناس لصاحب الخير: (أنت شرير لا يصدر عنك خير، الخير كله في حزب كذا، وقف عليه دون خلق الله أجمعين. . .)
كان هذا في الشام وكان مثله في كل قطر عربي، وهو ما نرى أشباهه في جميع مرافقنا، حيث كان تناحرنا، وتكالبنا وبالاً علينا جميعاً. نعم، هذا ما بلينا به في كل النواحي، في السياسة والإدارة، والحكم والدين و. . . الخ
حصرنا في أنفسنا الإخلاص وخدمة البلاد، لنتمتع بعرض زائل، وكتب الله علينا إثم كل مصيبة نزلت بالأمة من جراء أثرتنا وتدجيلنا، ونحن وأولئك جميعاً، لا نبلغ بعد ذلك كله،(297/139)
أن نكون غباراً على قدم أصغر جندي من جنود خالد.
(طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس، والسماء تنهل عليّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد. . .
لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. . .
إذ أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي، فاجعلوه في سبيل الله)
هذه حسرة الفاتح الكبير، الذي لم يفارق النصر موكبه ساعة قط. هذه كلمات الذي ساق السعادة إلى بلدين كبيرين: العراق والشام، تفيض باللوعة والأسى، فتثير الإجلال والحزن من أقصى مكامنهما في النفوس.
يتلهف أبو سليمان وهو يحتضر - وكل جسده إما مطعون أو مضروب أو مرمي - على أن لم يقض بين الصفين، أو أمام الحصون، أو في الثغور، جندياً يتخبط بدمه الشاخب، في سبيل إعلاء كلمة الله، ظامئاً مُجهداً مُشعثاً، يرسل من فيه شهادة الحق مع آخر نفس يخرج من صدره الحنون:
رحمك الله يا أبا سليمان! وليس بيدك ما تمنيت، فالله وحده يتوفى ويختار، وما عليك ألا تموت في الساحة بين الصفين، فما كنت لحظة من اللحاظ لتفتر عن جهاد، أو تعبئة لجهاد، أو حديث نفسي بجهاد. ما كنت يا ابن الوليد إلا جهاداً متلاحقاً في سبيل الواجب. لقد أرضيت ربك فجعلك سيفه في الأرض، وأرضيت رسوله فحمد أمرك ورضي عنك، وأرضيت خليفته حتى قال: (ما على نساء قريش أن ينشئن مثل خالد)! وعمر نفسه حين لامك لم يترك إكبارك، ولما نزل الشام ورأى معجزاتك في الفتوح لم يملك أن قال: (أمَّر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم مني بالرجال).
لقد كنت أمة في رجل، فعليك الرحمة من هؤلاء جميعاً، من كل من حارب تحت لوائك. وعليك الرحمة من النساء والصبيان والرهبان والفلاحين والمستضعفين الذين لم تكن تفتأ توصي جندك المنصور برعايتهم، والكف عنهم، والرأفة بهم. وعليك الرحمة من كل نسمة خلصتها من قسوة الفرس، أو ظلم الرومان.(297/140)
وليس لنا أن نقول بعد تزكية الله ورسوله وخليفته، فما رأت جيوش الرحمة والهداية قائداً أيمن نقيبة منك. ولئن تصرمت حياتك التي كانت نفعاً كلها، وعوضت حياة خيراً منها، فإن خير أعمالك متصل عميم إلى الأبد. ولا يعلم إلا الله كم نفعت سيرتك بعد مماتك، وكم حفزت همماً خامدة وعزائم خائرة
ولقد جاء بعدك أناس كثيرون فبذلوا أرواحهم ودماءهم محامين عن الحق، فخلفوك في إرخاص الروح. ولا نزال نتلو متمثلين ولله الحمد: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) ولا تزال الأرض من المغرب الأقصى إلى طرابلس إلى فلسطين إلى الهند، تنبت الشهداء، ولا يفتأ الدم الطاهر يجري أنهاراً في سبيل الحق. . .
ولكن أحداً من الزعماء لم يخلفك في إنكار الذات وإهانة الهوى وقهر النفس، ولم يذكر التاريخ بعدك قائداً فعل فعلك يوم اليرموك أو يوم دمشق.
(دمشق)
سعيد الأفغاني(297/141)
حمامة الغار. .
لَلأستاذ محمود حسن إسماعيل
حَمامَةَ الْغَار. . . أُيُّ لْحَن ... مِنْ جَانِبِ اللهِ عَبْقَرِيْ!
أُلْهِمْتِ دُنْيَاهُ مِنْ صَبَاحٍ ... في سِدْرَةِ الْمنُتْهَىَ وَضِيِّ
وَمِنْ عِطارِ الْجِنَان بَلْ مِنْ ... سُكُوِنهِ الطَّاهِرِ الشَّذِيِّ
وَمِنْ نَشِيدٍ عَلَى رُبَاهُ ... مُعَطَّرِ اللَّحْنِ سَرمَدِيِّ
يَفُوحُ مِنْ زَهْرَةٍ، وَيَزْكُو ... مِنْ جَدْوَلٍ تَحْتَهاَ سَرِيِّ
رَنَّتْ بِأَصْدَائِهِ، وَغَنَّتْ ... مَلاَحِمُ المُلْهَمِ الشَّجِيِّ
وَرَفْرَفَتْ فَوْقَهُ صَلاَةٌ ... عَزَّتْ هُدَى الْعَابِدِ التَّقِيِّ. . .
قَبَسْتِ أَنْغَامَكِ الشَّوَادِي ... مِنْ فجْرِه الرَّائِعِ السَّنِيِّ
وَمِنْ مَجَالِيهِ في الرَّوابِي ... وَنَشْوَة الْماءِ في الْقُنِيِّ
وَسَكرَةِ الْهادِلِ المُغَنِّي ... وَخَشْعَةِ السَّوْسَن النَّدِيِّ
وَمِنْ دَوَاليهِ حِينَ تُغْفِي ... والطَّيْرُ نَعْسَانُ في الْعشِيِّ
كَأَنْهَا وَهْوَ فِي ذُراهَا ... بِالُخْلْدِ تَهْوِيَمةُ الْخَلِيِّ. . .
وَجِئْتِ مِنْ جَنَّةِ الأَعَالِي ... لِشاَطِئٍ أَقْدَسٍ عَلِيِّ
عَلَى جَنَاحَيْكِ للِبْرَاَيَا ... في اْلأَرْضِ آمَالُ كُلِّ حَيِّ
أَقَمْتِ بِالْغَارِ أَيَّ عُشٍّ ... مُشَعْشَعِ النُورِ كَوْكَبِيِّ
غُصُونُهُ الْبِيضُ مِنْ شُعَاعٍ ... بِمُعْجِزَاتِ السَّنَا جَنِيِّ
يَدُورُ بِالْحقِّ أَيْنَ دَارَتْ ... مَحاجِرُ الْبَاطِلِ الْعَتِيِّ
وَيَنْفُثُ السَّحْرَ أَيْنَ لَفَّتْ ... لِلْكُفْرِ عَيْنانِ مِنْ غَوِيِّ
ظَلَلْتِ وَالْوحْيُ مُسْتَكنٌّ ... مِنْ صَوْلَةِ الْفَاجِرِ الٍقَوِيِّ
تُلْقِينَ مِنْ وَكْرِكِ الْمُعَلّى ... تَرْنِيمةَ الْوَادِعِ الرَّضِيِّ
كَأَنّمَا عِشْتِ مِنْ زَمَانِ ... في ذلِكَ الْمَسْبَحِ الْهَنِيِّ
خَبَأْتِ وَالْعَنْكَبُوتَ دُنْيَا ... لِلْحَقِّ في عالَمِ خَفِيِّ
خُيُوطُهُ الْوَاهِيَاتُ أَضْحَتْ ... حُصُونَ مُسْتَعْصِمِ قَوِيِّ(297/142)
فَزُلْزلَتْ دُونَهَا قُلُوبٌ ... بِالشِّرْكِ صَخّابَةُ الدَّوِيِّ
وذَلَّ مَنْ رَامَها، وَأَلْوَى ... في حَسْرَةِ الَخْائِبِ الشَّقِيِّ!
وَرْفَاءُ! يَا لَيْتَنِي سُكُونٌ ... في ظِلَّكِ النَّاغِمِ الشَّجِيِّ!
صَمَدْتِ لِلْكُفْرِ ذَاتَ بَأسٍ ... يَؤُجُّ مِنْ عُشِّكِ النَّقِيِّ
صَبا لَكِ (الْمُصْطَفَى) وَقَرَّتْ ... عُيُونُ صِدِّيِقِهِ الْوَفِيِّ
فَرَجَّعَ الْكَوْنُ في هُتَافٍ ... لِبَاعِثِ النُّورِ. . . عَبْقَرِيِّ
نَبِيَّةُ الطَّيْرِ أَلْهَمَتْهَا ... إِعْجَازَهَا جِيرَةُ النَّبِيِّ
مُهَاجرٌ. . . تُهْجَرُ اْلأمَانِي ... والْعُمْرُ في ظِلِّهِ الْوَضِيِّ!!.
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(297/143)
الموسيقى في الإسلام
بِقلم محمد السيد المويحلي
يزعم بعض الناس أن الموسيقى محرّمة، لأنها تلهي الإنسان عن ربه، وتشغله عن دينه وعبادته، وتدفعه دفعاً لارتكاب ما نهى الله عنه. فإذا سألتهم آية أو حديثاً قالوا:
هذا شيء معروف منقول سمعناه من آبائنا وأجدادنا والسلف الصالح. . .!
هذا زعم لم ينشأ أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا أيام الخلفاء الراشدين، وإنما نشأ أيام الدولة الأموية حينما سما مركز المغنين والقيان سمواً عظيماً حتى حجب مراكز العلماء والفقهاء الذين حقدوا على الموسيقى والموسيقيين حقداً كبيراً، واستسلموا لخوالجهم (وهم بشر!) فراحوا يذيعون بين الناس أن الموسيقى حرام، وأن الخلفاء قد نسوا دينهم وربهم، واتبعوا خطوات الشيطان. . .!
ومن هنا نشأت هذه الشائعات وتطورت حتى غدت على ممر الأيام والأعوام قريبة من الاعتقاد والإيمان. . .
ولإنصاف بعض رجال الدين في هذا الوقت نقول: إنهم أبوا أن يتخذ بعض إخوانهم - في العلم - الدين سلاحاً للتشفي والانتقام من فن رفيع سام يخفف عن الناس آلامهم وشقاءهم فأصدروا الكتب الكثيرة في الرد على مبتدعي التحريم. ولعل أشهر هذه الرسائل وأقواها وأدعمها حجة تلك الرسالة (الخطية) الوحيدة الموجودة الآن (ببرلين). . . (الاستمتاع في الرد على من يحرم السماع. . .!)
قبل أن أذكر شيئاً عن الموسيقى في صدر الإسلام وفي أيام النبي (ص) أحب أن أذكر شيئاً عن حياة العربي وطبيعة بلاده، وتأثير مناخه في نفسه ليرى القارئ معي أن العربي موسيقى بطبعه وفطرته
البيئية العربية خالية مما يسر العين ويرضي القلب، فالصحراء شاسعة مترامية موحشة مقفرة لا حياة فيها، ولا أنس يُحييها. والسماء بنجومها وقمرها. . . هي السماء بنجومها وقمرها (دائماً) لا تتغير ولا تتبدل. .!
فأي شيء يسد هذا الفراغ. . . ويشغل نفس العربي ويملأ حسه غير (الغناء) الذي يساعد عليه رقة الشعر وسلامة قوافيه واختلاف بحوره؟ أي شيء يساعد الإبل والحداة على السير(297/144)
تحت الشمس المحرقة، وفوق الرمال الملتهبة المتقدة أياماً وأياماً بالعطش والجوع غير الغناء الذي ينسي الإنسان همومه، ويمسح دموعه؟
عرف العربي الترنم بالشعر ولم يكن يدري أن هذا اللون من ألوان الموسيقى صناعة تخضع لقانون معين فاستمر هكذا يغني ويشرب الخمر، ويتعلق بالحب، ويكلف بالصيد والميسر حتى استطاعت القيان التي استقدمت من بلاد العجم والروم بآلاتهن الموسيقية الفارسية والرومية أن يؤثرن في الموسيقى العربية تأثيراً كبيراً.
فنشط العرب في هذا المضمار نشاطاً عظيماً، وإن كان هذا النشاط قد حجبه الكبرياء والتعالي، إلا أن حب الفن تغلب على غطرسة العربي فنهض واستحدث حتى احتفظ لموسيقاه بطابعها العربي الذي ميزها عن غيرها ولا يزال. . .!!
وقد عرف العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من الآلات الوترية (المزهر) وهو عود ذو وجه من الرق (والعود) ذا الوجه الخشبي (والجنك) أو الصنج (الهارب) (والمعزف) (والموتر)
ومن آلات النفخ المزمار، والقصبة أو القُصَّابة، والشبَّابة، والصُّور، والناي. ومن آلات النقر: الطبل، والدف، والقضيب - لبيان الميزان أو الإيقاع - والصنوج والجلاجل، والمربع والمجنب!!
انحصر جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الذود عن دينه وتبليغ رسالته، ونشر دعوته، وقتال المشركين ممن آذوه وأصحابه في أرواحهم وأموالهم ونسائهم، ولكن هذا لا يمنع أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الموسيقى. فقد كان كلما (هادن) سمع من بلال ابن رباح الحبشي، أول موسيقي مسلم، وأول مؤذن في الإسلام، ترتيله وأذانه بصوت جميل، وبتوقيع وترتيل فني.
ولقد جاءته مرة عائشة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله، لقد أقسمت شيرين مولاة حسان بن ثابت إن رجعت منصوراً من غزوتك أن تغني وتضرب بالرق في بيتنا، فماذا ترى.؟
فابتسم المصطفى وأذن لها وجلس مع حشد من صحابته وفيهم صديقه أبو بكر يسمع شيرين وهي تغني وتضرب بالرق، واستمروا كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب فانكمشت(297/145)
شيرين وجلست فوق (رقها) فضحك الرسول وقال:
لقد ذهب شيطانها لما رأى عمر.
فأجابت شيرين: كلا يا رسول الله ولكنه قاس لا يرحم وأنت كريم رحيم!
فضحكوا جميعاً حتى عمر.
ولقد اتسعت فتوح العرب أيام عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وانتفع العرب بمدنيات البلاد المغلوبة وحضارتهم ولاسيما الحضارتين الفارسية واليونانية، فتأثر العرب من اختلاطهم بهؤلاء الأسرى واهتموا بأمور دنياهم، وأصبحوا ينظرون إلى الموسيقى نظرة جديدة خالية من الغلو والشطط حتى ارتفعوا بها على الشعر والأدب، وحتى غدوا لا يرون بأساً ولا ملامة في أن يحضروا مجالسها. وقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يسمع من مولاته شيرين ومن رائقة سيدة المغنيات وقتئذ وتلميذتها عزة الميلاء وكذلك كان حال أشراف العرب وساداتهم. . .!
وأحسب أن عصر ابتداء النهضة الحق ابتدأ في خلافة علي كرم الله وجهه. ولعل حبه للشعر وهو لون من ألوان (الفن) أكبر حافز. على أن هذه النهضة لم تؤت ثمرها اليانع إلا في الدولة الأموية عندما اتسعت الفتوحات شرقاً وغرباً. وقد ابتدئ في وضع الألحان العربية في هذا العصر على إيقاعات متعددة، وورد في غنائه ذكر إيقاعات (الثقيل) الأول و (الثقيل) الثاني، وخفيف الثقيل، والهزج، والرمل
وأشهر الموسيقيين في هذا العصر هو (سائب خاثر)، وهو أول من غنى في المدينة بالعربية مستعملاً العود. وقد أخذ عنه ابن سريج، ومعبد، وعزة الميلاء، وجميلة!
ومن المشهورين أيضاً ابن مسجح أول من نقل غناء الفرس إلى غناء العرب بمكة. وقد ابتدع مذهباً خاصاً وطريقة جديدة تأثر بها وأخذ عنها ابن محرز ومعبد وابن سريج والغريض
وقد بلغ من اهتمام الأمراء والحكام بالموسيقى أن الخليفة عبد الملك بن مروان نفسه كان موسيقياً وملحناً. وقد اشترى يزيد بن عبد الملك (حبابة) المغنية بأربعة آلاف دينار مع أنها كانت دميمة متهدمة. . .
ولعل في رعاية الوليد بن يزيد لمعبد وتمريضه إياه وإخلاء جناح خاص له في قصره، ثم(297/146)
تشييعه لجنازته بنفسه أكبر برهان على مكانة الموسيقي وقتئذ. وقد كان الوليد عالماً بصناعة الألحان عازفاً بالعود موقعاً بالطبل والدف
وقد سرى تيار هذا الاهتمام إلى الأشراف والنبلاء حتى أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان لا يستريح إلا إذا سمع (سائب خاثر) فينشط. وسكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن أبيها، كانت مشغوفة بالغناء والموسيقى، وكانت تكرم الغريض، وكان بيتها منتدى لسماع الموسيقى والغناء، وقد طُلِب منها مرة أن تستدعي (حنين الحيري) مُغَّني (الحيرة)، فاستدعته مع أشهر المغنين في الحجاز ابن سريح، ومعبد، والغريض. وقصد الأربعة بيتها فحفلت الدار بالناس حتى ضاقت بهم، فصعدت شراذم منهم فوق (السطح) وأخذ حنين يغني ويغني والناس تموج وتهتف، وإذا (بالسقف) يهوي بمن فوقه على رأسه فمات مخنوقاً. فقالت السيدة سكينة: (لقد كدر علينا حنين سرورنا. انتظرناه مدة طويلة كأننا والله كنا نسوقه إلى منيته)
وفي العصر الأموي ابتدأت حركة التأليف الموسيقي فوضع يونس الكاتب (كتاب النغم) و (كيان القيان)
أما في العصر العباسي ذلك العصر الذهبي للموسيقى والأدب والشعر فقد سمت فيه الموسيقى سمواً عظيماً وارتفعت إلى ذروة المجد، وزادت مقاماتها وطرائق إيقاعها حتى تعددت في اللحن الواحد وكثرت الآلات وتنوعت وكثر استعمالها
وأصبح العربي يفخر بأنه موسيقي حتى أن أبناء النبلاء انخرطوا في سلكها، فكان منهم ابن جامع القرشي. بل زاد اهتمامهم إلى حد الاعتراف كإبراهيم بن المهدي. .!
والخليفة الواثق كان من أحذق الخلفاء بل من الموسيقيين المحترفين أنفسهم بالغناء والعزف على العود، وقد قال في إسحاق الموصلي:
(ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي. . وإن إسحاق لنغمته من نغم الملك التي لم يحظ بمثلها، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي) (الأغاني) وإسحاق هذا هو أول من عني بإثبات قواعد الموسيقى العربية ونظرياتها بعد يونس الأكوي وجاء بعده الخليل بن احمد فصنف كتاب (النغم والإيقاع) ولكن الذي بزهما هو إسحاق ابن يعقوب الكندي الذي ألفَ عدة كتب في الموسيقى ونظرياتها؛ وهو(297/147)
أول من دون الموسيقى بالحروف بشكل مرتب، وهذا أكبر رد على من يتهمون العرب بإهمال تدوين تلاحينهم. ثم جاء بعده أيضاً أبو نصر محمد الفارابي فوضع (كتاب الموسيقى الكبير) الذي تدين له الموسيقى بالشيء الكثير. وفي العصر العباسي أمر هارون الرشيد اسحق الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح ابن أبي العوراء، أن يختاروا له من الألحان العربية مائة صوت فصنعوا.
ومن أشهر الموسيقيين في هذا العصر إبراهيم الموصلي، وإسحاق الموصلي، وفليح بن أبي العوراء، ويحيى المكي، وحكم الوادي، وزلزل، ومخارق، وبذل المغنية، وابن جامع
وقبل أن نختم هذه اللمحة العابرة نحب أن نقول لهؤلاء الذين يعتقدون أن الموسيقى محرمة: هذه هو شأن الموسيقى في صدر الإسلام
إن الموسيقى في ذاتها نبيلة رفيعة، ولكن المحرم فيها هو التخنث والبكاء والاسترضاء واستغلال الغرائز البهيمية، وهذا ليس بمحرم شرعاً فحسب، بل هو محرم شرعاً وذوقاً ورجولة أيضاً
محمد السيد المويلحي(297/148)
العدد 298 - بتاريخ: 20 - 03 - 1939(/)
الأدب والفن في القران الملكي السعيد
قلتُ لنفسي. . .
أستطيع أن أتحدث إليك يا نفس، وأن آمن أن يتسمع إلى حديثنا ناقد أو حاقد فينشره؛ فما كل ما يعلم يذكر، وما كل ما يذكر ينشر.
كان الشعب والجيش في أسبوع القران المصري الإيراني السعيد قصيدة شاعرة الأبيات بالجمال والحب، وملحمة عامرة الأناشيد بالفخار والمجد، تجلت فيهما عبقرية الجنس ونبالة التاريخ وأريحية النيل، ودلتا على أن الشعب يتقدم بصيراً بالفطرة ككرام الطير، وأن الجيش يولد جباراً بالروح كآلهة الإغريق. والفطرة والروح من عمل الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وهدى كل حي طريقه.
أما الأدب والفن وهما من خلق الناس فكانا - على حسبما بلغته عيناي وأذناي - موضع النقص وموضوع النقد. ومن الظلم لمواهب هذا البلد الكريم أن يكون ما ذاع منهما في هذا الأسبوع التاريخي مقياساً لقرائحه وترجماناً لعواطفه. وأسارع إلى استثناء النثر من أنواع الأدب؛ فقد كان أجمل الزهر الذي نثر على العروسين، وأنفس الدر الذي قدم إلى التاجين، وأصدق الدلائل على مكانة مصر في المدنية والعقلية والثقافة. . .
ولكن الشعر كانت كثرته الكاثرة كزقزقة الأفراخ النواهض في صبح من أصباح مارس: هي إلى الصُئِىَ أقرب منها إلى التغريد، وعلى المحاكاة أدل منها على التجديد، وفي التشابه أدخل منها في التنوع. والله وحده يعلم الآن موقف امرئ القيس من الجاحظ في الجنة أو في النار، وأحدهما يرى فنه يذوي ويهوي وينطوي، ولآخر يرى فنه ينمو ويسمو وينتشر!
ومهما يكن من قصور الشعر فإن فن الكلام في مصر أنبض الفنون الرفيعة بالحياة وأسبقها إلى النهوض وأدناها من الغاية. فإنك إذا وازنت بينه وبين التمثيل والموسيقى في هذا الأسبوع على الأقل والأخص عجبت كيف يتقدم فن الأمة المفكر هذا التقدم، ويتأخر فنها المصور هذا التأخير، حتى يكون ما في ذلك من الخلق والجدة والتطور والشعور، معادلا لما في هذا من النقل والركود والجمود والبلادة.
فالتمثيل - ومظهر النبوغ المصري فيه (الفرقة القومية) - كان خذلاناً من الله لإدارة هذه الفرقة، وبرهاناً من نفسها للناس على أنها لا تعلم ولا تعمل ولا تدير.(298/1)
أرادت هذه الفرقة أن تساهم في الحفلة الموسيقية التي أقامتها وزارة المعارف في دار الأوبرا الملكية احتفاء بصاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران، لأنها تعيش على أموالها، وتعتمد على مشورة رجالها، فاختارت أن تمثل لهذه المناسبة في حضرة المليك العظيم وأمام الخاطب الكريم ملهاة (المتحذلقات) لموليير، وموضوعها كما تعلمين خطبة عابثة هازلة، يلبس لها خادمان لباس النبلاء ويخدعان بالحذلقة الغبية امرأتين من أغنى النساء!
كان من السهل لو كان للوزارة (فرقة)، وللفرقة إدارة، وللإدارة دراية، أن تطلب إلى كاتب من كتاب المسرح أن يقتبس لها في هذه المناسبة السعيدة موضوع مسرحية ذات فصل واحد من شاهنامة الفردوسي، كحكاية شيرين، أو قصة زهراب ورستم، فيكون تمثيلها أمام الأمير وحاشيته أبلغ في معنى الحفاوة، وأبين عن سمو الذوق، وأدل على أن في مصر تمثيلاً له أدبه المحلى وطابعه الخاص وروحه المميزة. أما متحذلقات موليير فقد مضى على تأليفها مائتان وثمانون سنة، قرأها فيها كل بلد ومثلها كل مسرح؛ فلو لم يدل اختيارها على سقم الذوق لسوء المناسبة، لدل على عقم الأدب لضرورة الاقتباس. ورحم الله من طلب إلى (غزلانزوني) في سنة 1871 أن يؤلف له (عايدة) لتمثل في هذه (الأوبرا) أمام الأضياف الأوربيين في مهرجان قناة السويس، فقد كان أسهل عليه وأسرع له أن يأمر الممثلين أن يمثلوا له ما شاء من الأوبرات الإيطالية والروايات الفرنسية؛ ولكنه لسمو نفسه وصفاء حسه أراد أن يكون الموضوع مصرياً واللون محلياً والتمثيل جديداً فكان له ما أراد!
والموسيقى - ومظهر الفن المصري فيها (معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية) - كانت ضرباً من السأم والغثاثة لا نعرف له ضريباً في موسيقى الأمم. فقد أقام هذا المعهد كذلك في داره حفلة ترحيب وتسلية للأمير الخاطب، فكانت ألحاناً مكررة، وأصواتاً منكرة، وبشارف وتقاسيم وأدواراً يعزفها لقلتها البادئ والمنتهى، ويعرفها لشيوعها الموسيقار والسامع، ولا تكاد الأذن الفنانة المرهفة تنفتح لنغماتها التقليدية المكرورة أكثر من دقائق! وما دامت موسيقانا تسير على نهج (التخت) في وضعه التمثالي الجامد، فهيهات أن تشيع فيها الروح، وتظهر عليها الجدة، ويرتاح إليها الشعور. وأعجب العجب أن هذه الموسيقى(298/2)
الواحدة، يجعلون لها أسماء متعددة؛ هذه (تحية العروس) وهذه (رقصة الأمل) وهذه (سكرة الموت) ولو وضعت على كل واحدة منها أسم الأخرى لما أنكر ذلك سامع ولا اعترض عليه معترض!
أما إذاعتنا اللاسلكية فكانت على عادتها إهانة عالمية لمصر! فبينما تجدين محطات الإذاعة العربية في العالم تتغذى على الهنيء السائغ من فن عبد الوهاب وأم كلثوم، تجدينها هي تتغذى على الغث البارد من أنامل وحناجر لا هي معجبة ببراعة الفن، ولا هي مطربة بحلاوة الصوت!
أقول لك ذلك يا نفس، وأنا أعلم أن في قوله تفريجاً عنك، وليس فيه إن سمعه سامع ما يغضب الحق ويؤذي الناس!
ابن عبد الملك(298/3)
بلادة أم اتزان؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يجيء يوم في حياة الإنسان يرزق فيه البلادة المريحة، وأعني بالبلادة انتفاء الحدة والعنف فيما يساور النفس من شعور، ويدور بها من خوالج. فَمَطَةُ بوزٍ هي كل ما يبديه من أسف على فائت، وهزة كتف خفيفة لا تكاد تلمح هي ما يقابل به الحوادث الجسام، والبرود أو الجمود هو ما يتلقى به الغمز والطعن والتشهير، والابتسام هو كل ما يبدو من سروره.
زارني مرة صديق لا يزال على ارتفاع سنه فتى الروح يغلي في عروقه دم الشباب، ودفع إلي بصحيفة وقال وهو يشير بإصبعه إلى موضع فيها، وكأنه يشكه برمح: (ألا ترد على هذا؟) فرفعت رأسي إليه - فإن قامته مديدة، وأنا كما يعلم القراء، أو كما لا يعلمون، قميء صغير - وسألته: (ماذا؟) قال وهو ينتفض كأن به حمى: (هذا الشتم! هذه القباحة! هذه السفالة! هذه. . .)
فاستوقفته بإشارة وقلت: (حلمك! لقد شتمني بعضهم مرة في صحيفة كبيرة فقال عني إني (من فراش العار) وأضاف إلى زملائي جميعاً فقال عنا إننا (أبناء الزواني) فهل قال هذا - أشرت إلى الصحيفة التي ألقاها على مكتبي - شراً من ذاك؟)
فترك هذا وسألني: (ألم تقتله؟)
قلت: (يا سيدي لو كنت أعلم أنه خالد لحاولت قتله، ولكنه فانٍ مثلي، فلماذا أجشم نفسي عناء باطلاً، وأتكلف تحصيل الحاصل، وأتعاطى العبث والسخافة؟)
قال باشمئزاز: (هذه فلسفة لا أفهمها. . . هه. . . من ضربك على خدك. . .)
قلت: (لا ليست هذه فلسفة، وإنما هي بلادة، ثم إني لا أدير للضارب خدي الآخر، وكل ما في الأمر أني لا أحس ما ظنه الضارب لطمة لي على خدي. . .)
فصاح بي: (كيف لا تحس؟ أيقول عنك إنك من فراش العار، وإنك ابن زانية وتجيء وتزعم أنك لا تحس ولا تبالي؟)
قلت: (حلمك مرة أخرى. إني أعرف أني لست من فراش العار، وأني لست ابن زانية، فما يشتمني به لا يغير ما أعرفه. ثم إنك تتوهم أن الناس يصدقون كل ما يذم به بعضهم بعضا. وهذا غير صحيح. ولو أن الذي شتمني التزم القصد، وآثر الاعتدال فيما يرميني به(298/4)
لكان أخلق بأن يصدقه الناس ويقتنعوا، ولكنه أسرف واشتط فأفسد على نفسه مرامه، فكلامه في ينال منه ولا ينال مني. وقد أخجله ضني بنفسي على هذه الأوحال فاعتذر، فهل تدري ماذا قلت له؟)
قال: (لا أريد أن أسمع. يظهر أنك تحاول أن تقلد غاندي. . . المهاتما غاندي!) قالها بلهجة المتهكم الزاري
قلت: (ولا هذا أيضاً. إن غاندي حي - مثلك - ولكن أساليبكما مختلفة. أما أنا فأهون ما أقوله في نفسي أني أصبحت لا أطيق بعثرة القوة وتبديد الجهود في العبث الذي لا طائل تحته. أصبحت بخيلاً مقتراً أنفق حياتي بحساب دقيق، وأدخر كل ما يسعني ادخاره من القوة؛ وما زلت مسرفاً في إنفاق حياتي، ولكن في ما أحب أنا، وبإرادتي لا بالشعور الدافع. وإنه ليحلو لي أن أسمي هذه بلادة، ولكنه قد يكون اتزاناً، وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء. ولا تخف. ستراني يوماً أنقض على خصم فأمزقه إرباً إرباً، فما نفدت قوتي، ولا فقدت القدرة على استطابة أكل اللحم البشري، وما زلت ذلك الوحش القديم الذي يلذه أن يمزق لحم الفريسة، وأن يلغ في دمها. وإذا رأيتني أسطو على أحد، وأكر عليه وأصميه، أو أعذبه تعذيب القط للفأرة، فاعلم أني أفعل ذلك بإرادتي، لأن شعوري غلبني، فما يغلبني شعوري في هذه الأيام. وعلمي بما أقدر عليه هو الذي يصدني عن هذه المهاترات الفارغة)
فقال: (لقد تغيرت جداً)
قلت: (إنك تذكرني بقول القائل:
وقد زعمت أني تغّيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟
نعم من ذا الذي لا يتغير؟ حتى الحجر! ومع ذلك من يدري؟
لقد كنت في صدر حياتي مدرساً، وكان بعض التلاميذ يحاولون أن يعابثوني، فكنت آخذ عليهم طريق العبث وأكتفي بذلك، وأستغني عن الاحتياج إلى عقابهم، وكنت أزعم أن هذه حكمة، والواقع إني ما عاقبت تلميذاً قط، في عشر سنين زاولت فيها التعليم، وكان الذي بيني وبين تلاميذي عامراً كل هذا الزمن، ولكني كنت أدير عيني في نفسي وأفحصها، وأغوص في أعماقها، أتبين أني أكره العقاب الخفيف، وأنه لا يرضيني إلا أن تكون الضربة قاصمة للظهر، لأني بطبعي عنيف، ولما كان لا محل لضربة قاضية من أجل أن(298/5)
تلميذاً لاعبني أو مازحني، وهو لا يريد شراً، وإنما تغريه بذلك طبيعة الصبي، فقد كنت أكبح نفسي وأردها عن الأذى، وأعمل بقول الشاعر:
توقى الداء خير من تصدٍ ... لأيسره وإن قرب الطبيب
نعم تغيرت، بمعنى أن بعض الطباع التي كانت تظهر وتخفى فيما مضى، صارت أبرز وأقوى، فهي الآن السمة الغالبة والطابع الملحوظ.
هذه خلاصة ما حدثت به صديقي، وقد قلت له كلاماً آخر كثيراً، نسيته، فقد طال بيننا الحوار، وتركني وهو غير مقتنع بصوابي، فلم أحفل بذلك. وماذا يضرني ألا يقتنع؟ ولماذا أكلف نفسي تعب إقناعه؟ أنا الذي جربت مراراً كيف يخيب الأمل، ويذهب المسعى سدى؟
وأويت إلى مكتبي في الليل، بعد أن نام البيت، وأعفيت من ضجة الأطفال وأخرست لسان الراديو الصاخب. . . وعلى ذكر الراديو أقول أن بني مثلي، يأكلون على ضوضاء الراديو، ويراجعون دروسهم على ضجات الراديو، ولا يبدو عليهم أنهم يسمعون ما يصيح به، أو يبالونه، ومن شابه أباه فما ظلم، وإني لأرجو أن يظلوا مثلي، وألا يكترثوا لمن عسى أن يسبهم ويزعمهم (من فراش العار) - في حوار أدبي أو جدل سياسي - ما علينا.
سألت نفسي لما خلوت بها: (أهذا الذي صرت إليه اتزان أم بلادة؟ وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء، أم فتور حتى عن محاولة الإدراك؟ وهل النار كامنة تحت هذا الرماد، أم هي خمدت وأنت تحسبها لا تحتاج إلى أكثر من التقليب؟ وهل يشي هذا بالقوة، أو يشي بالضعف؟ ومن اليأس هذا، أم من العلم والفهم الصحيح؟ وحال تدوم، أم عارض يزول؟
وطال تفكيري في جواب هذه المسائل، ولم أنته إلى شيء تسكن إليه النفس، فنهضت وأنا أقول: (ولماذا أعني نفسي بهذه المتعبات؟ وماذا أبالي على كل حال سواء أكان الأمر هكذا أم كذلك؟)
وأعجبتني (لا أبالي) هذه، فقد صارت عندي مخرجاً من كل ورطة، وباباً لتفريج كل أزمة في النفس. ومن كان يسعه أن يقول - ويكون على نحو ما يقول - (لا أبالي) فقد أوتي الراحة، ولا أقول السعادة فإنها خرافة.
إبراهيم عبد القادر المازني(298/6)
إنجليزي يتحدث في السياسة
لأستاذ كبير
أعرف إنكليزياً داهية في السياسة وإن لم يكن له مركز سياسي، ولكنه يميل إلى المبادئ الحرة. قابلته مرة وتحدثنا وجرنا الحديث إلى السياسة فقال: إنه يدهشني أن يكون بين المصرين من يسئ الظن بالسياسة الإنكليزية. فقلت: إن كنت قد رأيت من يسئ الظن بها من المصريين فلا يدهشك أن يكون بين الملايين من الناس آحاد يفعلون ذلك إذا كنت حقيقة قد رأيت منهم سوء الظن ولم تتوهمه. قال: ومع ذلك فأن أعظم الناس سذاجة يستطيع أن يفهم أننا لو شئنا نقض سياستنا الموالية لحليفتنا لكان ذلك من أيسر الأمور. قلت: ماذا تعني؟ قال: أعني أننا لا نريد الغدر بصديق ولسنا معروفين بذلك، فهذا تاريخنا يدل على أننا لم نغدر بأحد أئمتنا، فقد كنا دائماً أمناء، وكانت استقامتنا مضرب الأمثال، وليس لنا نفع نرجوه من وراء الغدر لأننا لا نريد أن نتحمل مسؤولية الحكم فتزيد أتعابنا العالية.
ثم سكت قليلاً وعاد إلى الكلام فقال: على أننا لو أردنا لاستطعنا أن نتبع خطة تطلق يدنا من غير أن نتحمل مسؤولية الحكم وأتعابه في الظاهر. ثم التفت إلي وابتسم ثم قال: ولكنا لا نريد. قلت: إني لم أفهم كلمتك الأخيرة. فسكت كأنما يشاور نفسه ويسألها: هل يبوح بما في نفسه أم لا يبوح؟ وبعد ذلك لوح بيده إشارة عدم الاكتراث لما قد يكون من نتائج ما أزمع أن يفسره وقال:
هناك أمور ثلاثة يمكن استثمارها وهي الأمور الدينية والأمور المالية والأمور الدستورية. ولا أعني استثمارها مباشرة أو الظهور بمظهر المستثمر لها؛ بل لابد إذا اتبعنا هذه الخطة ألا يفهم أحد أننا نستثمرها. ولنجاح هذه الخطة ينبغي ألا يفطن إليها أحد، ومن أجل ذلك يمكنك أن نثق بسبب شرحها لك أننا لا نريدها لأننا لو كنا نريدها لكتمناها ولأنكرناها إذا فكر فيها أو فطن إليها غريب عنا، ولحاولنا أن نقنعه بكل الوسائل أننا لا نريدها وأننا لم نفكر فيها.
قلت: وما هي هذه الخطة؟
قال: إنك تعلم أن خطتنا التقليدية كانت عدم المساس بالشعور الديني في صدر المحافظين(298/7)
عليه؛ ومع ذلك كنا نستعمل وسائل كثيرة للتوفيق بين احترام الشعور الديني واحترام العرف والتقاليد، وبين مراعاة حالة مصر الدولية ووجود الأجانب بها ومراعاة ما تقتضيه التغيرات الاجتماعية والقانونية والفكرية الحديثة. وقد كان التوفيق بينهما يقتضي مرونة ولياقة إلى حد يجعل ذلك التوفيق غير مُحَسٍ به ولا مفطون له، وعلى ذلك كان يتوقف نجاحنا. ولا أقول إننا نجحنا كل النجاح، ولكني أقول إننا نجحنا نجاحاً يسهل إدارة الأمور فاكتسبنا مؤازرة العلماء والقائمين بأمر الدين فيما يهمنا من تصريف الأمور، كما تمكنا أن نمنع من حدوث ارتباك بسبب اصطدام الشعور الديني وشعور المحافظة على العرف والتقاليد بمنزلة مصر الدولية وبما تقتضيه التغيرات الاجتماعية والقانونية والفكرية الحديثة. . . وهنا ابتسم ابتسامة مكر ودهاء وقال: فلو كنا نريد بسط يدنا في إدارة شؤون البلاد مباشرة، لاستطعنا أن نمتنع عن هذا التوفيق بطريق مباشر وبطريق غير مباشر، واستطعنا أن نشجع المحافظة على التقاليد حتى يستولي على زعامتها أشد الناس تطرفاً، وأظهرنا في أول الأمر عدم ميلنا إلى التدخل. وهذه الخطة تؤدي حتما إلى تدخلنا في النهاية وإلى كسب الأنصار أولاً وأخيراً وإلى وجود الأعذار والفرص التي تبرر وتسهل ذلك التدخل وتجعله أمراً لا مناص منه حتى لدى كثيرين ممن يكرهونه.
قال ذلك وسكت قليلاً وجعل يضرب ركبته بأطراف أصابعه وكأنه مشغول بالتفكير في أمر. . . ثم التفت إلي كأنما قد أفاق من انشغاله بالفكر وقال:
أما المسائل المالية فإنكم تعلمون أنها هي التي أطلقت يدنا في مصر منذ ارتبكت المالية المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا وما كنا نستطيع أن نجيب طلبات المصريين الوطنية وأن نقيد يدنا في مسائل إدارة شؤون البلاد لولا أننا أصلحنا المالية؛ فلو كانت المالية لم تصلح لاضطررنا أن نضرب بمطالب المصريين عرض الحائط بحكم الضرورة ولوجدنا أنصاراً كثيرين من المصريين والأجانب يشد أزرنا في خطة التمسك بإدارة شؤون البلاد، بل لوجدنا من المصرين والأجانب ومن الدول أيضاً من يطالبنا بالتمسك بإدارة شؤون البلاد ويصر على ذلك خوفاً من كل على أمواله. لكننا لا نرى من يطالب أو يصر على ذلك لأن مالية الشعب والحكومة تحسنت كثيراً. . . وهنا عاد إلى سكوته كأنما يريد مني أن أهضم ما قاله وأن أفكر فيه، وأقتنع بصدقه قبل استئناف الحديث، ثم عاد إلى(298/8)
الكلام فقال: لو كنا نريد أن نطلق يدنا في إدارة شؤون البلاد لاستطعنا أن نشجع الإسراف أو على الأقل نشجع الصرف صرفاً كثيراً على أمور لا تأتي بثمرة اقتصادية ولا بربح اقتصادي مباشر، وهذا أمر ميسور لنا (أولاً) بسبب شعور مصر بمقام استقلالها بين الدول وما يقتضيه من المصروفات في الأمور السياسية، و (ثانياً) بسبب خطر الحرب وما يقتضيه من المصروفات في الأمور الحربية. وهذا الصرف تطالب به العزة القومية ولا يشك أحد في مطالبتها به. على أنه مهما حسنت مالية الدولة والشعب فإن مالية الدولة لا تتوقف على موازنة الدخل والمنصرف في الميزانية وحدها ولا على الاحتياطي من المال لديها وحده، وإنما تتوقف أيضاً (أولاً) على موارد الدولة، وتنوعها ضروري لأنها إذا لم تكن متنوعة وأصيب المحصول الرئيسي بفشل أو تدهور مستمر في الأسعار ربما ذهب حسن المالية الذي برر كف يدنا عن التدخل في إدارة الشؤون. و (ثانياً) تتوقف مالية الدولة أيضاً على دخل الأهالي، فإذا فرضنا أن ثروة قطر من الأقطار زادت لتحسن طرق الإنتاج ومقداره ولكن زاد عدد السكان زيادة كبيرة وارتفع مستوى المعيشة وزادت الديون التي على الأهالي وكثر المتعطلون عن العمل وكان أكثر أفراد الشعب لا يملكون إلا القليل وبدأ يقل محصول الفدان الواحد في مقداره إذ كان القطر زراعياً. . . أقول إذا اجتمعت كل هذه الأمور وأشباهها لا يختزن أفراد الشعب كثيراً مما كان من ازدياد مجموع ثروة الشعب، ولا يكون عند الشعب من المتانة المالية ما يسند متانة الحكومة المالية ويشجعها في المضي في الصرف بسخاء على أشياء قد تكون شبه ضرورية. فإذا اعتمدت الحكومة على متانة ماليتها الحاضرة وحدها من غير نظر إلى ما قد تؤدي إليه هذه العوامل الاقتصادية في النهاية. وإذا أردنا أن نطلق يدنا في إدارة الشؤون ونجعله أمراً محتوماً يطالب به كما كان في الماضي أمكننا أن نقلل من أثر هذه العوامل وأن نهون أمرها لدى الحكومة. . . قال ذلك ثم التفت إلي وقال: ولكن الحكومة المصرية متيقظة تمام التيقظ. . . وقال: ومع ذلك يمكننا - إذا شئنا - أن نتغلب على هذه اليقظة. ولكننا كما أوضحت لك لإنشاء تحمل مسؤولية وأعباء الحكم حتى ولو أنه من المستطاع تحميل الحكومة الوطنية التي تطلق يدنا كل الإطلاق مسؤولية وأعباء الحكم. ثم رجع إلى سكوته الطويل كي أتدبر ما قاله عن المسائل المالية والاقتصادية كما سكت طويلاً بعد كلامه عن المسائل الدينية.(298/9)
وبعد ذلك التفت إلي مرة أخرى وقال:
بقيت مسألة نظام الحكم، ونحن بطبيعتنا نميل إلى الحكم الدستوري الذي كنا أول من شاده بين الأمم، ونفضل الاتزان والاعتدال في الحكم الدستوري. وكثيراً ما تحول الدستور في بعض الدول الأوربية إما إلى حكومة نفعية غير ديمقراطية من طبقة المغامرين، وإما إلى حكومة رعاع مؤقتة. ولكننا في انجلترة قد صنا الديمقراطية على الحالتين؛ وهذا هو سبب ثبات الديمقراطية عندنا. ومن أسباب ثباتها أيضاً قدم عهدنا بالنظام البرلماني الدستوري ومحافظتنا على القديم من تقاليدنا الدستورية، أما عندكم فلا يوجد تقاليد كما عندنا تتغلب على النزعة التي ذاعت في كثير من الأمم للتخلص من النظام البرلماني أملاً في إصلاح أو رقي أو تحسن سريع يأتي على يد حكومة قادرة من الأكفاء يمكن انحصار السلطة فيها في أيد قليلة ويمكن عدم تقيدها بدورات المشاريع وعدم تأخرها؛ بسبب الشورى وبسبب قيود نظم الحكومات الدستورية. وقد بدأ الكتاب يكتبون في هذه النزعة في مصر وبدأ بعضهم يحبذها. فلو أننا كنا نريد إطلاق يدنا كل الإطلاق في إدارة شؤون البلاد لاستطعنا أن نشجع هذه النزعة بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر وكان يمكننا أن نتخذها وسيلة لخلق حالة في البلاد تتطلب أن نتدخل بسبب نزاع أنصار الديمقراطية وأنصار الدكتاتورية وما يؤدي إليه. بل يمكننا أن نخلق حالة تدعو كثيرين إلى مطالبتنا بالتدخل سواء أكان ذلك بسبب هذه الحالة التي يخلقها النزاع بين الدكتاتورية والديمقراطية أو بسبب المسائل المالية أو بسبب المسائل الدينية لو شئنا أن نتبع الخطة التي أوضحت لك إننا يمكننا أن نتبعها في المسائل الدينية أو المالية أو الدستورية؛ ولكنا كما قلت لا نشاء اتباع هذه الخطة حتى ولو أدت إلى إطلاق يدنا إطلاق تاماً في إدارة شؤون البلاد من غير تحمل مسؤولية وأعباء الحكم، إذ نستطيع أن نجعل من نشاء يتحملها عنا إذا جاءت نتائجها أحياناً عكس ما توقنا. ولو أننا كنا نشاء اتباع هذه الخطة لما كنا نتحدث فيها بصراحة إلى كل من نقابل من الناس.
وهنا غلبه الضحك فضحك ثم قال: والمأمول أن لا يفعل المصريون من تلقاء أنفسهم بدون دافع منا ما يؤدي إلى إحدى الحالات الثلاث التي تحتم تدخلنا ونحن آسفون على التدخل.
قارئ(298/10)
من برجنا العاجي
حدث في الأسبوع الماضي أمر أحب أن أسجله هنا:
هو قيام القيامة في الجامعة ضد كتابين قيمين، لأنه قد ورد فيهما طعن في الإسلام.
لا أريد أن أنظر إلى الأمر من ناحية التفكير الحر، ولا من حيث تأثير
هذا الموقف في الحياة العقلية لبلد متحضر ولكني أريد أن أبحث
المسألة من جهة الدين نفسه. وهنا يبدو لي العجب: لماذا كل هذا الفزع
كلما وقع بصرنا على عبارة تمس الإسلام؟ إن الكتب التي عالجت
المسيحية وتعرضت للمسيح بالطعن والتجريح تطبع وتنشر في أوروبا
المسيحية دون أن يخشى أحد على كيان المسيحية. ذلك أن الجميع
يعلمون أن الأوان قد فات للخوف من مثل هذه الصيحات، وأن
المسيحية التي عاشت عشرين قرناً لا يهدمها عشرون كتابا. كذلك
نستطيع أن نقول في الإسلام أن هذا الدين المتين الذي عمر نحو أربعة
عشر قرناً وثبت لإحداث الزمان وشاهد دولاً تدول وعروشاً تزول
وشعوباً تولد وإمبراطوريات تقام، لا يمكن أن يتعرض للخطر أمام
كتاب يؤلف أو عبارات تقال. إن هذا الفزع منا لأكبر مسبة لدين
عريق عميق. كذلك يدهشني أن ينشأ هذا الفزع في جامعة عصرية،
يؤمها شباب قد قطع مراحل الطفولة والصبا الأول وانغرست في قلبه
العقيدة الحارة، فلا خوف الآن عليه من مناقشة المسائل العقلية في جو
الحرية.
إني أعتقد دائماً أن صحة العقل وصحة العقيدة كصحة الجسم لا بد لها من الهواء الطلق حتى تكتسب المناعة. وأن حبس العقيدة والعقل في قفص من الزجاج خوفاً عليهما من(298/12)
خطرات النسيم معناه إنشاؤهما على بنية عليلة وكيان سقيم.
توفيق الحكيم(298/13)
الأثر العربي
في الثقافة الإنجليزية في القرون الوسطى
للأستاذ عبد العزيز أمين عبد المجيد
ليس من الممكن معالجة موضوع الأثر العربي في الثقافة الإنجليزية بتفصيل واستيعاب في مقالة واحدة أو بضع مقالات. ولا من الممكن أيضاً ذكر الكثير من أسماء العلماء والمؤلفين والمترجمين الذين ساهموا بنصيب وافر في نقل الثقافة العربية إلى دائرة الفكر الإنجليزي أو الأدب الإنجليزي. ولذلك سأحاول معالجة هذا الموضوع في ثلاث مقالات فقط: هذه المقالة وموضوعها (في القرون الوسطى). والمقالة الثانية وموضوعها (في عصر النهضة). والمقالة الأخيرة وموضوعها (في القرنين الماضيين). وستكون معالجتي إجمالية عامة.
إن ما أعنيه بالأثر العربي هنا هو كل ما وصل إلى الثقافة الإنجليزية عن طريق اللغة العربية، سواء أكان ذلك من إنتاج العرب أنفسهم أم من إنتاج غيرهم من الأمم التي ترجمت فلسفتها وعلومها وآدابها إلى اللغة العربية. وأعني بالثقافة الإنجليزية ما أنتجته القريحة الإنجليزية من أدب وفلسفة وعلم وكتب حينئذ باللغة اللاتينية التي كانت لغة التأليف الآداب في إنجلترا وغيرها من ممالك أوربا في القرون الوسطى
لعلنا نذكر أن بغداد كانت مقر الخلافة العباسية، وأن خلفاء هذه الدولة قد انصرفوا بعد أن استتب لهم الحكم إلى تشجيع العلم والعلماء، فازدهرت العلوم على اختلاف أنواعها، وبدأ عصر جديد هو عصر الترجمة من اللغات الأجنبية كاليونانية والفارسية والهندية. وبلغ ذلك العصر أوجه في أيام الرشيد والمأمون. ووجد في اللغة العربية ما يسمى (بالعلوم الدخيلة) أي التي دخلت في اللغة العربية من لغات أخرى، كالطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضة. ويعزى أكثر الكتب التي ترجمت حينئذ إلى أرسطو طاليس وأفلاطون وبطليموس وأبقراط وأقليدس من علماء اليونان وفلاسفتهم. وكان أكثر المترجمين من غير العرب - كما نعلم - لأن العرب أصحاب السيادة كانوا منصرفين إذ ذاك إلى العناية بنظام الحكم والسياسة. ولأن من قاموا بالترجمة من السريان والنصارى واليهود كانوا على علم كاف بالعربية واللغات الأخرى المترجم عنها. نمت هذه العلوم الدخيلة وعكف على دراستها(298/14)
وترقيتها كثير من العلماء حتى أصبحت بغداد مركزاً للثقافة العربية في الشرق
امتدت فتوح الإسلام إلى شمال أفريقيا وجزيرة صقلية وبلاد الأندلس، ووطد العرب سلطانهم هناك، وهاجر إلى تلك الممالك كثير من العلماء الذين تفقهوا في العلوم الإسلامية والدخيلة، ووجدوا من إكرام الخلفاء والأمراء لهم ما شجعهم على تنمية هذه العلوم ونشرها، وأقبل العلماء والطلبة من المسلمين واليهود والمسيحيين على دراسة الفلسفة وعلوم الطب والرياضة والفلك وغيرها في المعاهد الإسلامية والمكاتب العامة التي أسست في طليطلة وقرطبة وغرناطة وأشبيلية حتى أصبحت هذه المدن الأندلسية مراكز للثقافة العربية في الغرب كما كانت بغداد في الشرق
وإذا عرفنا أن أثر أية لغة في لغة أخرى إنما ينشأ عن الاتصال المباشر أو الغير مباشر بين متكلمي هاتين اللغتين وجب أن نبحث عن: (متى وكيف وجد الاتصال بين العرب والإنجليز في القرون الوسطى) وهنا نجد أمامنا ميدانين اتصل فيهما العرب بالأوربيين عامة ومن بينهم الإنجليز. الميدان الأول هو الميدان الشرقي في مصر وفلسطين والشام وآسيا الصغرى أيام الحروب الصليبية، والميدان الثاني هو الميدان الغربي في جزيرة صقلية وفي الأندلس. وفي كلا الميدانين كان تأثير العربية في كافة الثقافات الأوربية ومن بينها الإنجليزية. وربما كانت إنجلترا أقل الممالك تأثراً بالنفوذ العربي
بدأت الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي وتوالت ست مرات حتى أوائل القرن الثالث عشر. واشتركت في هذه الحروب الصليبية كل ممالك أوربا، كما قاد هنري الثاني ملك الإنجليز جنوده في الحرب الصليبية الثالثة ضد العرب. وكانت هذه أول مرة في التاريخ يلتقي فيها العرب والإنجليز وجهاً لوجه، ويرى الإنجليز ما كان عليه العرب من حضارة وتفوق في فن الحرب وتعبئة الجيوش وطرق الهجوم والدفاع. وكان لهذا الاتصال أثره المباشر في أن نقل الإنجليز عن العرب نظم الحرب والتحصين، ووسائل النقل، واستعمال النقود وتوزيع الضرائب وصنع الزجاج. ويرجع علماء اللغة أن بعض الكلمات قد تسرب من العربية إلى لغة الإنجليز (أعني اللاتينية) في ذلك العصر. وذلك مثل كلمة القطن، السكر، الدرقة، القائد، وغير هذه الكلمات مما لا مجال لذكره الآن. ولم يترك هذا الاتصال أثراً قوياً في الأدب الإنجليزي لأنه كان اتصالاً حربياً ولم(298/15)
يكن اتصالاً علمياً
أما في الميدان الغربي فإن جزيرة صقلية كانت تحت حكم الأغالبة من العرب من أوائل القرن العاشر إلى أواخر القرن الحادي عشر. وبعد سقوط هذه الجزيرة في أيدي النرمانديين ظلت اللغة العربية لغة الكتابة والتأليف بجانب اللاتينية والإغريقية، ولقي العلماء من المسلمين واليهود كل تشجيع وعطف من الملوك المسيحيين، وبخاصة فردريك الثاني ملك صقلية الذي جمع بلاطه كثيراً من نخبة الفلاسفة والأطباء والمنجمين وعلماء الرياضة. وكذلك شجع الملك روجر الصقلي العلماء على التأليف والترجمة إلى اللغة اللاتينية، إما من العربية، وإما من الإغريقية. وكانت هناك علاقات صداقة قوية بين البلاط الإنجليزي، وبين بلاط الملك روجر الصقلي الذي عهد بمنصب ديوان الإنشاء في بلاطه إلى إنجليزي يسمى وقد مهد هذا الإنجليزي لكثير من العلماء الإنجليز الإقامة في بلاط الملك روجر والاتصال بعلماء العرب، وترجمة بعض مؤلفاتهم، ونقل بعض الثقافة العربية إلى ثقافتهم. وكذلك نجد إنجليزياً أخر تشير إليه السجلات الصقلية العربية باسم (القائد برون)، واسمه بالإنجليزية وقد شغل وظيفة القضاء في البلاط الصقلي، وعرف اللغة العربية، ثم عاد بعد ذلك إلى إنجلترا حيث اختاره الملك هنري الثاني وزيراً للمالية سنة 1158 م. وقد كان من نتيجة هذا الاتصال بين علماء الإنجليز وعلماء العرب في البلاط الصقلي أن أخذ الإنجليز عن العرب طرق البحث الفلسفية، وترجموا بعض الرسائل في الفلك والرياضة.
أما في الأندلس فإن تعاون المسلمين واليهود والمسيحيين في البحث والتأليف، وتسامح الولاة من المسلمين، وازدهار الحركة العلمية والأدبية قد فتح الطريق أمام طلاب العلم من ممالك أوربا المختلفة فوفدوا إلى المعاهد الإسلامية الأندلسية للدراسة والترجمة إلى لغاتهم. ونذكر من بين هؤلاء ادلار الباجى الإنجليزي الذي سافر كثيراً في الشام وصقلية ثم درس في طليطلة، وحين عاد إلى إنجلترا أدهشه ما وجد عليه القوم من جهل بعلوم العرب وفلسفتهم (كما يقول هو) فأدخل في الثقافة الإنجليزية والفلسفة طريقة التفكير الحر في البحث. وكذلك ترجم من العربية رسالة في الفلك اسمها (الأزياج) واستبقى كثيراً من الكلمات العربية في ترجمته، وألف كتاباً سماه (المعضلات الطبيعية) اعترف فيه بفضل(298/16)
الدراسة العربية، وذكر فيه كروية الأرض، وأن المادة لا تفنى، وشرح أسباب الزلازل، وكان يعتمد في كل ما كتب على الأدلة العقلية أو التجربة.
وممن تتلمذ من الإنجليز على العرب فقد درس في الأندلس وهو أول من ترجم القرآن من العربية إلى اللاتينية، كما ترجم كثيراً من الكتب في علم الجبر والكيمياء. ولا تزال هاتان الكلمتان في الإنجليزية حتى الآن: وهناك أيضاً تلميذ أخر يسمى ألفرد الإنجليزي درس في الأندلس وترجم من العربية كتاب النباتات لارسطو طاليس.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا ميخائيل الاسكتلندي فقد زار صقلية ودرس في طليطلة ثم ترجم من العربية رسالة في علم الفلك لمؤلفها نور الدين أبي إسحاق البتروجي، ونقل فلسفة ابن رشد، وعلق على كتب ابن سينا وترجم من العربية كتاب الحيوان لأرسطو طاليس.
وكذلك عرف الإنجليز طب العرب، وكيفية استعمال الإسطرلاب، واستبقوا فيه بعض الكلمات العربية كالمغرب، والمريء، والقنطرة، كما اقتبسوا الطرق العربية في الحساب
ولما كانت الفلسفة والعلوم والآداب في القرون الوسطى قوية الارتباط بعضها ببعض تأثر الأدب الإنجليزي مباشرة بكل ما ترجم من العربية إلى اللاتينية من فلسفة أو علم أو أدب. ويذكر علماء الأدب أن تشوسر الشاعر الإنجليزي القديم اقتبس في أشعاره بعض المعاني من كتاب اسمه (أمثال الفلاسفة)، وكان قد ترجم هذا الكتاب أولاً من العربية إلى اللاتينية ثم ترجم بعد ذلك من اللاتينية إلى الإنجليزية، وهو أول كتاب إنجليزي طبع بمطبعة كاكستون. وكذلك كتب تشوسر رسالة في الإسطرلاب اعتمد فيها على كتاب (الإسطرلاب) للمؤلف العربي (ما شاء الله) وعلى كتاب للقبيسي اسمه (مقدمة في علم الفلك). وكتب أيضاً رسالة سماها (الخبز واللبن للأطفال) تجلت فيها الروح العربية.
وقد ترجمت مجموعة من القصص العربية إلى اللاتينية ومن بين هذه القصص بعض حكايات من كتاب كليلة ودمنة، وظهرت هذه القصص في الآداب الأوربية عامة كما ظهرت في الأدب الإنجليزي. وقد ضمن الشاعر الإنجليزي أشعاره كثيراً من هذه القصص والحكايات العربية
ويعزو بعض علماء الأدب انتشار الأشعار الغرامية الشعبية التي كان ينشدها الموسيقيون المتجولون في القرى الإنجليزية في القرون الوسطى إلى نفوذ عربي لمشابهتها كثيراً(298/17)
للأشعار الغرامية الأندلسية، وبخاصة الزجل، ويذكرون أيضاً كتابين كان لهما الأثر في انتشار هذا النوع من الشعر الغرامي وهي كتاب (الزهرة) لابن داود وكتاب (طوق الحمام) لابن حزم وموضوعهما الحب العذري، وقد ترجما إلى اللاتينية
هذه فكرة إجمالية عن (أثر اللغة العربية في الثقافة الإنجليزية في القرون الوسطى) وسأعالج ذلك الأمر (في عصر النهضة) في العدد القادم إن شاء الله.
عبد العزيز أمين عبد المجيد(298/18)
أعلام الأدب
إسخيلوس
للأستاذ دريني خشبة
ولد إسخيلوس عام 525 ق. م في قرية كان يعكف أهلها على عبادة دمتير ربة الزراعة، وديونيزوس إله الخمر، وهي قرية صغيرة متاخمة لقرية إيكاريا التي نشأ فيها الشاعر تسبيز الذي يعزون إليه نشأة الدرام
وقد ذكر لنا اسم أبيه في الأبيات التي أوصى أن تنقش على قبره حيث يقول:
هنا في سهل جيلا المثمر الخصيب
يضم هذا اللحد رفات إسخيلوس بن يوفوريون
فتى أثينا، الذي شهد له الميديون
وعرفت بأسه مرثون
ولقد برع إسخيلوس في الشعر منذ حداثته وكان يغشى حلقات الشعراء ويدرس طرائقهم ويحفظ أناشيدهم فإذا خلا إلى نفسه رددها وراح يهتف بها وقد راقته أغاني تسبيز فكان يقلدها وينظم المقامات على نسقها، ثم فرغ لنظم الدرامة الطويلة التي ثار فيها على العرف فكتب له التوفيق حتى إذا انبثق فجر القرن الخامس قبل الميلاد، وبلغ الفتى السادسة والعشرين من عمره استطاع أن يشهد الناس فنه في أكبر مسارح أثينا حيث مثلت أولى رواياته فبهرت الأثينيين وعرضت عليهم لوناً جديداً من أدب الدرام كان ثورة عنيفة على الماضي ودعامة وطيدة لمسرح المستقبل
ولما نشبت الحرب بين فارس واليونان ألقى الشاعر يراعه وامتشق سيفه وأسرع إلى مرثون الخالدة هو وأخوه فأبليا بلاءً حسناً ترك في نفس إسخيلوس أثراً عظيماً من الزهو والاعتداد لم يمحه نصف قرن عاشه بعد ذلك
ثم تلت موقعة مرتون التي استشهد فيها أخوه (490 ق. م) فترة من السلام فرغ فيها إسخيلوس إلى أدبه واستطاع خلالها أن يحرز النصر على جميع منافسيه في حلبة الشعر للمرة الأولى في المسابقة العامة عام 484 ق. م
ثم دعا داعي الوطن بعد ذلك بأربعة أعوام فترك أثينا مع جميع أهلها ليشترك في موقعة(298/19)
سلاميس، وليناضل فوق صفحة البحر في تلك المجزرة المروعة التي ذابت فيها جيوش كسرى وحطمت أساطيله وفر أثناءها إلى بلاده بعد أن شهد الهزيمة بعينيه، فسلمت اليونان وسلمت أوربا إلى الأبد من التبربر
وقد اشترك بعد ذلك في حروب تراقية عام 476 كما تدل عليه جذاذات من ثلاثيته المفقودة المسماة (ليكورجوس)
وفي سنة 475 نظم مأساته (نساء إطنة) وكان إذا ذاك في سفارة سياسية إلى سيراكوزا
وقد رحل إلى سيراكوزا مرة أخرى، ونظم فيها درامته (الفرس) التي حازت الجائزة الأولى عام 472.
وفي سنة 468 ظهر منافسه العظيم سوفو كليس في ميدان المسرح فجأة ففاز على إسخيلوس بالجائزة الأولى، وكان لفوزه أثراً بليغ في نفس إسخيلوس لم يمحه أن فاز (إسخيلوس) بعد ذاك بجوائز عدة كان يسيل لها لعاب الشاعر الشاب
وقد عاش إسخيلوس عشر سنوات لا ينسى هزيمته سنة 486 حتى أن بعض المؤرخين يظن أنه هاجر إلى صقلية بسبب ذلك، ويقول بعضهم إنه كان كلما ذكر تلك الهزيمة الأدبية دمعت عيناه ونقم على الشاعر الشاب.
وفي عام 456 توفي فجأة في مهاجره ودفنت رفاته في جيلا.
هذه هي أهم الوقائع في تاريخ حياة إسخيلوس. ولا نستطيع أن نتناول أدبه بالنقد أو التحليل قبل أن نقف قليلاً عند هذه الوقائع نستخلص منها ما ينفعنا في دراسته وما يكشف لنا عن نوحي نبوغه
وليس من شك في أن نشأة إسخيلوس الأولى وبيئته كان لهما أثر بعيد في أدبه. بيد أن هذه النشأة وتلك البيئة ليسا شيئاً إذا قيسا إلى الأثر الكبير الصارم الحاسم الذي تركه في نفسه خوض غمار تلك الحروب الدامية العنيفة التي شنتها على بلاده فارس، والتي كانت حرباً بين جيش جرار كثيف يقدرون عدده بألف ألف أو يزيد، وبين أمة بأكملها قليلة العدد شديدة البأس ساهمت جميعاً، رجالا ونساء وأطفالاً، في آلام الحرب حتى لقد هجرت أثينا إلى إحدى جزائر البحر، وقام رجالها في السفائن يصارعون المنون ويغالبون الموت. ويهزءون بجبروت إجزرسيس، حتى كسروا شوكته وظهروا على أساطيله وأطعموا السمك(298/20)
ووحوش الماء لحوم أبطاله
لقد تركت مرتون في نفس إسخيلوس أثراً لا يعد له إلا أثر سلاميس، وليس يعدل هذين الأثرين شيء آخر في نفس الشاعر الجندي الذي أخذ يبني مجده الأدبي على أكوام من أشلاء القتلى الذين أكلتهم هذه المجزرة الهائلة بين عدو قوي كثير العدد وبين أمة ضعيفة بعددها كثيرة بوطنيتها استطاعت ببضعة آلاف أن تقهر أكثف جند عرفه التاريخ
خرج إسخيلوس من هاتين المعركتين شخصاً أخر شديد الإيمان بقوة السماء مكبراً لسلطان الآلهة أيما إكبار، مقتنعاً باليد العليا التي تسهر على الكون وتدبر أموره، وترد الحق إلى المظلوم وتكبح جماح الظالم مهما كان ذا حول وطول وقوة. . . وقد ظهرت هذه الروح في أكثر دراماته التي نظمها بعد هذه الحرب، وهي أروع ما نظم.
أما سنة 501 فهي مفتتح القرن العظيم الباهر، القرن الخامس قبل الميلاد الذي يزهى على الزمان بما أفاء على الإنسانية من علم وأدب ومن نور وعرفان. . . وقد كان مطلعه مطلع سعد لعبقرية إسخيلوس، فقد مثلت أولى دراماته في أولى سني هذا القرن، وسنه حينذاك لم تتجاوز السادسة والعشرين.
ولعل عام 484 ق. م هو أهم الأعوام في تاريخ الأدب اليوناني جميعاً. . . وذلك أن مؤرخي هذا الأدب يجعلونه بداءة الفترة الذهبية المجيدة ليس في تاريخ الأدب اليوناني فحسب، بل في تاريخ الأدب الصرف قاطبة، وهم يبدءونها بهذا العام الذي أحرز فيه إسخيلوس أولى جوائزه الأدبية في المسابقة العامة بدرامة مفقودة قلب بها الأوضاع القديمة رأساً على عقب، ووضع الدعامة القوية القويمة للمسرح الحديث، حتى ليصح أن يطلق على هذه السنة: السنة الأولى تاريخ الأدب المسرحي.
وهم يجعلون هذه الفترة بين عامي 484 و431 حينما أحرز يوريبيدز أخرى جوائزه بدرامته الخالدة ميديا. . . وعلى ذلك تمتد الفترة إلى ثلاث وخمسين سنة مثل فيها على مسرحي أثينا أكثر من ألف درامة منها تسعون لأسخيلوس ومائة وثلاث وعشرون لسوفوكليس وثمانون ليوريبيدز وأكثر من مائتين لشاعر عظيم لم يحفظ لنا الأثر اسمه ومئات أخرى لشعراء نعرف بعضهم ونجهل بعضهم الآخر. . . وليس الكم فقط هو العجيب في هذا الإنتاج الباهر، بل الكيف أيضاً هو الذي يسحر ويبعث على الدهش، فهذه(298/21)
الدرامات السبع الباقية فقط من إسخيلوس، والسبع الباقية من سوفوكليس، والثماني عشرة الباقية من يوريبيدز هي ثروة فائقة من تراث هذه الفترة، والقارئ يقف حيالها ذاهلاً لعمق التفكير وجمال الأداء؛ وقوة السبك، وسمو الغاية والخلو من الزيف والبهرج. . . وهي مع ذلك ليست أجمل ما أبقت عليه يد العفاء من الثروة الضائعة، إذ أن أكثر الدرامات التي فاز بها الشعراء بالجوائز الأولى ما تزال مفقودة، والأمل معقود على نجاح الكشف في أسكندريتتنا للحصول على الغرر والدرر من نتاج الذهن اليوناني العظيم.
وقد لا نجد في تاريخ الأدب المسرحي فترة تشبه هذه الفترة اليونانية إلا فترة الأربعين الذهبية في تاريخ الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات، فقد كتبت ومثلت في هذه الفترة جميع درامات شكسبير ومارلاو وبن جونسون وبومون وفلتشر وماسنجر وويستر وهايود. . . الخ. . . غير أن الشعراء الإنجليز في هذه الفترة كانوا على كل حال تلاميذ هذا السلف الصالح من شعراء أثينا، وكثيراً ما سطوا على آثارهم واستباحوا أخيلتهم واستعملوا طرائقهم التي أوفوا بها على الغاية.
وكما تتشابه الفترتان في الإنتاج الأدبي للمسرح فكذلك تتشابهان في الباعث على النهضة الأدبية في كل منهما. فلقد كان الباعث في الفترة اليونانية هو هذه الحرب الضروس التي شنتها فارس على اليونان والتي كانت مرحلتها الأولى في مراثون، ومرحلتها الثانية في سلاميس حيث حطم أسطول إجزرسيس، مما أيقظ الروح القومي في هيلاس وأجج نيران الوطنية في قلوب الأثينيين خاصة، فجاءت النهضة الأدبية المسرحية وليدة هذا الروح.
أما الفترة الإنجليزية فقد جاءت عقب تحطيم الأرمادا الأسباني اللجب الذي أعده فيليب الثاني لغزو إنجلترا. . . وهذا التشابه في الباعث في الفترتين يدل على ما بين الوطنية والأدب من وشائج قوية يزيدها النصر قوة ويمهد لها بمزيج عجيب من الحماسة والكبرياء يقابله مزيج آخر من المآسي والآلام.
وبعد، فماذا صنع إسخيلوس من هذا كله؟ وكيف ثار ثورته على الماضي العتيق وشاد هذا البنيان الشامخ؟ وما هي هذه المثل التي كان ينشدها ويعمل على إقامتها لتكون نبراساً للذهن اليوناني؟ وإلى أي حد نجح في جهاده الشاق الجميل الطويل؟ ومن يا ترى كان عونه في هذا الجهاد المشكور المبرور؟ وكيف يستطيع كاتب أن يستعرض كل هذا(298/22)
التاريخ، وأن يلخص درامات إسخيلوس السبع أسرع تلخيص وأقصره في مثل هذه الفصول المقتضبة الضيقة؟
روى المؤرخون أن أسخيلوس كان لا يأنف أن يرى النقص في إحدى دراماته فيعترف به قبل أن يأخذه عليه أحد من النقاد ثم يعمل على إصلاحه في الدرامة التي تليها، وقد يحدث أنه يفوز بالجائزة الأولى في إحدى المسابقات بدرامة كان يشك أكبر الشك في نجاحها، فإذا تناول الجائزة لم يأبه أن يلفت الناس حوله إلى نواحي النقص في تلك الدرامة التي حازت إعجابهم واستولت على شعورهم. . . وفي هذا دليل على أن إسخيلوس كان ينشد المثل الأعلى لفن الدرامة، وكان لذلك يدأب على عمل التجارب ليأخذ بالأصلح وليتوقى ما لا غناء فيه، وكان لا يأنف من الانتفاع بجهود الآخرين وتجاربهم، وكان يعنى عناية خاصة (بتكنيك) المسرح فكان بذلك أول المخرجين الأكفاء وأعظمهم. . . وهو أول من خفض عدد أفراد الخورس وزاد عدد الممثلين، وجعل الغناء والإنشاد في المرتبة الثانية بعد الكلام والحوار. وهو أول من أبتكر الثلاثية، أي المأساة الكبيرة التي تتكون من ثلاث مآس تربطها عقدة واحدة ويجمع بينها موضوع واحد. وقد كان يعتبر هوميروس معينه الأول، فكان يقول أن مآسيه فتات من مائدة هومر، لكنه مع ذاك أبتكر الدرامة السياسية وانتزعها من الأحداث الجلائل التي كانت تحدق بوطنه في ذاك العصر. . . وكان يعنى عناية فائقة (بالحبكة) الدرامية في مآسيه ويجري من خلالها تجاريب الحياة التي تمرس بها فكانت دراماته تشبه التماثيل الفنية الرائعة التي يعنى فيها الفنان بإبراز معنى خاص يجتهد في أن يبرز لأول وهلة للرائي فيملك عليه لبه ويستحوذ على إعجابه.
وكان السراة من أهل أثينا وأغنياؤها يتسابقون إلى الإنفاق على درامات إسخيلوس، وقد ثبت أن بركليس نفسه، وهو سيد هذا العصر قد كان ال: (خوريجس لأكثر من درامة من درامات إسخيلوس.
وأبرز ما يلفت الإنسان من دراماته هو هذا الروح السفسطائي الذي يشيع فيها جميعاً، حتى لقد دعاه المؤرخون أول مبشر بمذهب السفسطائيين قبل أن يوجد السفسطائيون، فهو الذي لم يبال أن يتناول في دراماته ذوات الآلهة بالنقد والتجريح، ومهد بذلك لموجة الشك التي طغت على اليونان بعد ذلك. . . حقيقة لقد سبقه كثير من الفلاسفة إلى ذلك، لكن أحداً منهم(298/23)
لم يجرؤ أن يصنع كما صنع هو حين قدم للمسرح درامته الخالدة العظيمة (برومثيوث) والتي كانت ثورة على سيد الأولمب فتحت الطريق على مصراعيه للملحد الأكبر وأعظم أدباء اليونانيين (يوريبيدز).
وكان إسخيلوس يؤمن إيماناً تاماً بالقضاء والقدر، وأنه لا حيلة للإنسان في دفع ما يحل به من أذى ولا سيما إذا تمت النكبة. وكان يعتقد أن كل المصائب هي نتائج لمقدمات تنتهي إليها حتما، وأن كل الأمور العظام هي كذلك نتائج لأمور أقل منها شأناً، ومقدمات لأمور أخرى أجل منها وأعظم. . . وهذه هي وحدة الكون. . .
وكان إسخيلوس يعلى من شأن الديمقراطية ويجعلها الهواء الذي ينبغي أن تستنشقه الإنسانية لتنمو وتترعرع ويطيب غراسها وستمر بنا الأمثال الكثيرة التي يكبر بها شأن الحرية حين نعرض لدراماته. ولا غرو فقد كان جندياً وكان أديباً، وكان يحض قومه على التفكير الحر بل التفكير المطلق. فهو من غير شك أول من مهد بأدبه لسيادة أثينا، وسيطرتها على جميع هيلاس بعد أن كانت ولاية أيونيوية لا شأن لها. وبالتالي فهو صاحب الفضل على الأدب وعلى المدنية مثل انبثاقهما في القرن الخامس قبل الميلاد.
دريني خشبة(298/24)
في ذكرى يوم الاستقلال
إلى بلدي الحبيب
للأستاذ علي الطنطاوي
(في مثل هذا اليوم (8 مارس) ولد الاستقلال السوري. الذي
عاش عامين ثم مات في (ميسلون))
متى يا زمان الشؤم يعود بلدي كما برأه الله دار السلام ومعرض الجمال، ومثابة المجد والغنى والجلال؟ متى يرجع بَرَدى يصفق بالرحيق السلسل؟ متى تثوب الأطيار المروعة إلى أعشاشها التي هجرتها، ورغبت عنها حين سمعت المدافع ترميها بشواظها الحامي؟ متى تؤوب تلك الحمائم فتشدو على أفنان الغوطة تنشد أغنية السلام؟
متى؟ متى يا زمان الشؤم؟
أتظل الأشجار عارية في جنات الغوطة. لا تعلو هاماتها تيجان الزهر، ولا تتدلى أغصانها بعناقيد الثمر، لأن الزراع قد أغفلوها فلم يتعهدوها بالسقيا، ولم يجروا إليها بالماء؟ أتبقى هذه الحقول والجنائن جرداء قاحلة لأن الفلاحين انصرفوا عنها مستجيبين لنداء الوطن الجريح. الممزق الأوصال، مهطعين إلى داعي الجهاد حين أذن بهم: حي على خير العمل؟
متى؟ متى يا زمان الشؤم يستريح الشام (بلدي الحبيب)؟
ما رأيتك استرحت يا (بلدي الحبيب) ساعة واحدة، فهل كتب عليك أن تظل أبداً في تعب وعناء؟ إني لم أكد أتبين نور الحياة وأرى وجه الدنيا، حتى رأيت المدرس يدخل علينا (معشر الأطفال) مربد الوجه فزعاً مذعوراً. فسألنا: ماله. . . فقالوا لنا كلاماً لم نفهم له معنى، قالوا: إنها الحرب! ولكن إي حرب. . . إن المدرسة مفتوحة، والأسواق قائمة، والمدينة هادئة مطمئنة فأين هي هذه الحرب؟
قالوا: هي هناك في مكان بعيد. فضحكنا وقلنا: هل هناك أبعد من (الصالحية) أو (المزة) إننا لا نبلغها حتى نمشي ساعة على الأقدام، وليس فيها حرب، فأين هي هذه الحرب؟
وهزئنا ولبثنا نلعب ولكن الأيام أرتنا وا أسفاه هذه الحرب: رأيناها في أسواق دمشق، عندما شاهدنا القتال يدور فيها كل صباح من أجل رغيف من الخبز، والفرن مغلق ما فيه(298/25)
إلا كوة واحدة مفتوحة، يقوم عليها الخباز والجندي إلى جانبه، يدعو واحداً بعد واحد من هؤلاء الناس الذي سدوا الشارع بكثرتهم لا يطلبون صدقة ولا إحساناً، وإنما يطلبون الخبز بالذهب فلا يجدونه، وما شحت السماء بالقطر وما أجدبت الأرض، ولكن (حلفاءنا. . .) الألمان. استأثروا بأطايب القمح وتركوا لنا شر الحنطة وأخبث الشعير ثم يا ليت أنا وجدناه.
نعم، لقد رأينا (نحن الأطفال) الحرب في شوارع دمشق حين أبصرنا الرجال يأكلون قشور البطيخ، وينبشون المزابل من الجوع، ثم رأيناها أوضح وأظهر، حين لم نعد نبصر في الشام رجالاً لأن الرجال أكلتهم الحرب. . . ثم رأيناها أشد ظهوراً بطلعتها الكالحة القبيحة حين تعودنا مرأى جثث النساء والأطفال الذين ماتوا من الجوع، نراها كل صباح ومساء، في غدونا إلى المدرسة ورواحنا منها. . .
في وسط هذه المذبحة المرعبة، وخلال رائحة البارود، وعزيف المدافع، وإعوال اليتامى والثاكلات. . . نشأت وعرفت الحياة فرأيت (البلد الحبيب) نصفه مقبرة للأموات، ونصفه مستشفى لمن ينتظر الموت.
وفي ذات صباح أفقنا على قصف يزلزل البلد، ويهز الدنيا، فسألنا: ما الخبر؟ قالوا: البشارة. هذا مستودع الذخائر يتفجر ويحترق، لقد أباده الألمان قبل هزيمتهم، لقد انتهت الحرب، وانتهى حكم الظالمين من أحفاد جنكيز خان!. . . وبعد ساعة واحدة يصل الشريف.
قلنا: من الشريف؟ قالوا: فيصل بن الحسين، هيا هبوا لاستقباله، فنهضنا ولكنا لم نبادر إلى استقباله، وإنما بادرنا إلى الجيش المنهزم نذبحه! فلما فرغنا منه مسحنا أيدينا من دمه وعدنا نستقبل الشريف. . .
نسيت دمشق جوعها وتعبها، ونسيت نصف رجالها الذين ماتوا على شاطئ غاليبولي وعلى ضفاف الترعة في سبيل مصالح الألمان، ونسيت أحزانها على من عانقتهم حبال المشانق في ساحة المرجة في دمشق والبرج في بيروت، وتكلفت دمشق الابتسام بل لقد ابتسمت حقيقة لما رأت وجه فيصل، وذهبت تبتغي أن تنثر على موكبه من أزهار الغوطة جنة الدنيا، فلم تجد في الغوطة زهرة واحدة، لقد صيرتها الحرب قاعاً صفصفاً، فنثرت على(298/26)
موكبه أزهار القلوب: دموع الفرح، وهتاف المحبة وتصفيق الإعجاب وحيت لأول مرة العلم العربي الذي يرفرف اليوم فوق بغداد.
وأحبت دمشق فيصلاً أصدق الحب، كما أحبها فيصل، ووثبت ترقص من الطرب وتغني حتى كأن كل يوم من حكمه عيد وفي كل بقعة من الشام عرس، وفاض الخير وابتسم الزمان، وطغت الحماسة على الأفئدة، وعم البشر الوجوه، وولدت دمشق الأموية عاصمة الأرض مرة ثانية. . . وظننت أنك استرحت يا بلدي الحبيب!
ولكنا لم نلبث إلى قليلاً حتى سمعنا صوت النذير. . . ماذا؟ ماذا هناك؟ فقال: انهضوا دافعوا عن استقلالكم الوليد، لقد جاءت القوة العاتية تخنقه في مهده. . . فجن جنون دمشق، وعصفت النخوة في رؤوس بنيها، فلم يسمعوا قول فيصل الحكيم ولا أقوال العقلاء من صحابته، ولم تمض العشية وينبثق الفجر حتى كانت دمشق كلها في بقعة الشرف في (ميسلون) ولم يؤذن الظهر حتى رجعت دمشق من ميسلون وقد تركت فيها استقلالها الوليد وقائدها الشاب صريعين مجندلين على وجه الثرى، هذا قتيل شهيد، وذاك جريح مريض، وفقدت دمشق كل شيء، ولكنها لم تفقد الشرف، كما قال من قبل فرانسوا الأول ملك الأقوياء. . . الذين دخلوا دمشق دخول المنتصرين الفاتحين. . .
وعاد (بلدي الحبيب) إلى حياة الرعب والأسى والنضال. . .
ولكنه لم يخف ولم يجبن. لقد خسر في (ميسلون) ولكنه حفظ الدرس الذي ألقته عليه الحياة في ذلك اليوم، واستراحت دمشق حيناً ثم قفزت قفزة اللبؤة الغضبى، فإذا هي في العرين (في الغوطة الخضراء) وإذا الأقوياء بجيشهم كله وعتادهم يقفون أمام الثائرين، وهم بضع مئات يقودهم رجل أمي من دمشق كان خفيراً من خفراء الأحياء، فلا يستطيع الأقوياء الظفر بهم، فيعودون حنقين، فيسلطون نيران مدافعهم على المدينة الآمنة المطمئنة، فلا يروعها إلا جهنم قد فتحت أبوابها من فوقها، فيخرج أهلها من منازلهم تاركين كل ما فيها للنار، ويمسي المساء على دمشق وثلثها خرائب كخرائب بابل وقد كانت في الصباح أجمل وأبهى وأغنى قصور دمشق. . .
وتعيش دمشق سنتين وسط الرعب والنار والحديد، ثم يحل السلام وتخرج دمشق من المعركة وقد نجحت في الامتحان الثانوي في الغوطة، كما نجحت من قبل في الامتحان(298/27)
الابتدائي في ميسلون. .
وأحسب أنك استرحت يا (بلدي الحبيب)!
أحسب أنك استرحت، فإذا النار تسري في أحشائك، وإذا المعارك في أسواق دمشق. . . حول صناديق الانتخاب، الذي أراده الأقوياء صورياً وشكلياً، وأباه الشعب إلا انتخاباً حقيقياً، فلما لم يكن ما يريد الشعب حطم الصناديق، وهدم قاعات الانتخاب وانطلق ثائراً مرعداً مبرقاً، يهزأ بالحديد ويفتح صدره للبارود. . . وظفر الشعب، وكيف لا يظفر وقد امتحن مرتين. . .
فقلنا: قد استراح ولكنه لم يسترح وإنما دعي إلى الامتحان العالي، إلى النضال الصامت المرعب، فثبت وناضل، ولبثت دمشق خمسين يوماً كاملة، وهي مضربة ليس فيها حانوت خباز أو بقال، وليس فيها قهوة مفتوحة، ووقعت المعارك في الأسواق وعلى أبواب المسجد الأموي، فأقبل النساء بصدورهن على الرصاص، وهجم الأطفال على الدبابات، وعزمت دمشق عزماً ثابتاً على الموت أو الظفر، وعرف العدو أنها لن تُفل عزيمتها أبداً، ولن تلين قناتها فلانت قناته ودعاها إلى الصلح أو التحالف. . .
وهتفنا هذه المرة من أعماق القلوب: لقد استراحت (بلادنا العزيزة). وعادت أيام فيصل مرة ثانية، ودقت طبول البشائر وأديرت كؤوس الفرح، ورجعت الأعراس. . .
ولكن الأعراس لم تتم. . . لم تتم يا زمان الشؤم. . .!
هذا صوت النذير العريان، وهذه ألسن النيران، وهذا صوت البركان، فماذا يحمل إلينا الغد يا زمان، أي مصيبة جديدة يأتينا بها؟ أكتب علينا ألا نستريح ولا نهدأ أبداً؟
لا بأس يا زمن الشؤم، إننا نرحب بالمصائب فسقها إلينا، إننا بنو المجد والحرية والحياة، فلا أمتعنا الله بالحياة إن لم ننتزعها من بين فكي الموت انتزاعاً. . .
وستحيا أنت يا (بلدي الحبيب) ماجداً حراً ولو متنا نحن ماجدين أحرارا!
(بغداد)
علي الطنطاوي(298/28)
باقة من الفلسفة الإسلامية
لماذا يجب ألا نخشى الموت؟
(مهداة إلى معالي الأستاذ الجليل وزير الأوقاف)
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ما الموات إلا تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت
تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى)
(عن الفيلسوف مسكويه)
كثيراً ما ادعى المتعصبون إلى للفكر اليوناني أن الشرقيين لم يحذقوا التدليل النظري المحكم كما حذقه اليونان وأن الفلسفة الإسلامية لا تكاد تخرج في مجموعها عن آراء أفلاطون وأرسطو بحيث أن كل ما هناك من فرق بينهما لا يستطيع أن يشهد للإسلاميين بالخلق المجيد والإبداع الطريف! ومهما تكن أسباب هذا الادعاء من جهل وتعصب، فأظن أنه ليس أنجح في دحضه من نشر آيات الفلسفة الإسلامية والتعليق على ما فيها من أوجه الطرافة والإبداع.
لذلك أقدم للقراء اليوم باقة من باقات الفيلسوف (مسكويه) الذي حدثتهم عنه في العام الماضي. وأزعم أن هذه الباقة من أقوى وأجمل وأدق آيات الفلسفة الإسلامية تدليلاً وإبداعاً؛ وأنها لا تقل في موضوعها عن كتابات الفلاسفة اليونانيين شمولاً واتساقاً وجمالاً وتحليلاً!
وموضوع هذه الباقة هو: (دفع الغم من الموت!) أو لماذا يجب ألا نخشى الموت. وأحسب أنك تقدر تماماً خطورة هذا الموضوع! بل أحسب أنك لا تدري في الحياة ما هو جدير حقاً بالخوف منه، والرعب غير الموت: ذلك البلاء الداهم الذي يلبسنا ثوب الحداد ويمزق منا الصدور ويقطع نياط القلوب! ذلك الذي يصبغ الكثير من أيامنا بالسواد ويطلق أصوات الأمهات والزوجات والأطفال بالصياح والعويل والشكوى المريرة والأنين المبحوح! أجل أحسب أنك تقدر ذلك كله! وتعرف أن اطمئنان القلب للعقائد الدينية يحتاج في الكثير من(298/29)
الأحيان إلى برهان العقل كيما يزداد ثباتاً ورسوخاً؛ ولذلك كان من أهم الأبواب في الفلسفة الإسلامية باب التدليل على صحة ما في الدين من أقوال وقضايا ووعود؛ وكان موضوع (الموت) من أهم القضايا التي تناولها ذلك الباب.
ويعرض مسكويه لهذه المسألة في المقالة السابعة من كتابه الخالد (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق). وهي مقالة (رد الصحة على النفس ومعالجة أمراضها) وكان قد وضع في المقالات السابقة دستوره الخلقي الإيجابي الذي أثبت فيه روحانية النفس البشرية وخلودها، وحدد الفضائل وأضدادها، وبين السعادة ودرجاتها وكيفية الحصول عليها ووسائل حفظ الصحة على النفس السليمة: فرأى أن يختم الموضوع بمعالجة النفس المريضة ودفع أهم ما تتعرض له في حياتها من مخاوف وأحزان.
لذلك نراه يقول بعد فراغه من معالجة (الخوف) وأسبابه:
(فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق، ولما كان أعظم ما يلحق الإنسان منه هو خوف الموت، وكان هذا الخوف عاماً وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف، وجب أن نبدأ بالكلام فيه فنقول:
(إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن يدري ما الموت على الحقيقة، أولاً يعرف إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً وليس هو بموجود فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، أو لأنه يظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبه تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والقنيات؛ وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.
(أما من جهل الموت ولم يدر ما هو على الحقيقة فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدناً كما يترك الصانع استعمال آلاته وأن النفس جوهر غير جسماني وليست عرضاً، وأنها غير قابلة للفساد،. . . فإذا فارق - (هذا الجوهر) - البدن كما قلنا، وعلى الشريطة التي شرطنا، بقي البقاء الذي يخصه، نقى من كدر الطبيعة، وسعد السعادة التامة، ولا سبيل إلى فنائه وعدمه، فإن(298/30)
الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر، ولا تبطل ذاته، وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا ضد له. وكل شيء يفسد فإنما فساده من ضده. . . وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي هو أحسن من ذلك الجوهر الكريم، واستقريت حاله، وجدته غير فان ولا متلاش من حيث هو جوهر، وإنما يستحيل بعضه إلى بعض،. . . هذا في الجوهر الجسماني القابل للاستحالة والتغيير، فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الاستحالة ولا التغير في ذاته. . . فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي؟؟.
(وأما من يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه، وجهل بقاء النفس، وكيفية المعاد، فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه، فالجهل إذا هو المخوف، إذ هو سبب الخوف، وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به. . . فاستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية. . . واقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش. . . (. . . على أن من خاف الموت الطبيعي للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه، ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى، ومن علم أن كل شيء هو مركب من حده، وحده مركب من جنسه وفصوله، وأن جنس الإنسان هو الحي، وفصلاه الناطق والمائت، علم أنه سينحل إلى جنسه وفصوله لأن كل مركب لا محالة منحل إلى ما تركب منه، فمن أجهل ممن يخاف تمام ذاته، ومن أسوأ حالاً ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه؟. وذلك أن الناقص إذا خاف أن يتم فقد دل من نفسه على غاية الجهل، فإذا الواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان، ويأنس بالتمام، ويطلب كل ما يتممه ويكمله، ويشرفه، ويعلي منزلته، ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر، لا من الوجه الذي يشد وثاقه ويزيده تركيباً وتعقيداً. . .
(وأما من ظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه، فعلاجه أن نبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحي والحي هو القابل لأثر النفس، وأما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. . .(298/31)
وأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف الموت بل يخاف العقاب، والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن العاثر. . . فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت، ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب. . .
وأما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونسبه، ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا وشهواتها، فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا يجدي الحزن إليه بطائل، وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا الباب إنما نذكر علاج الخوف، وقد أتينا منه على ما فيه مقنع وكفاية، إلا أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول:
(إن الإنسان من جملة الأمور الكائنة، وقد تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة، فمن أحب ألا يفسد فقد أحب ألا يكون، ومن أحب ألا يكون فقد أحب فساد ذاته، فكأنه يحب أن يفسد، ويحب ألا يفسد، ويحب أن يكون، ويحب ألا يكون، وهذا محال لا يخطر ببال عاقل، وأيضاً فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقى من تقدمنا، ولو بقى من تقدمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. . . قياما فكيف قعودا أو متصرفين؟. . .
(فقد ظهر ظهورا حسيا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته. . . وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق وليس بجسم. . . وإنما (يستفيد) بالحواس والأجسام كمالا فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه).
وبعد فهذا تدليل مسكويه على وجود عدم الخوف من الموت بناه في مجموعه على روحانية النفس وأقامه على المنطق المستقيم والذوق السليم، فهلا ترى معي أنه أبدع في الكثير من حججه إبداعاً جديراً بالتقدير؟ الحق أننا ندعو ملحين إلى قراءة كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وإلى المقارنة بينه وبين كتب أرسطو وأفلاطون في الأخلاق لأنا نعتقد أنه يفوقهم في الكثير من فصوله قوة ومنطقاً واتساقاً وانسجاماً. وأنه يقترب في بعض أفكاره من الآراء الفرنسية التي ظهرت أخيراً وعالجت نواحي علم الأخلاق.(298/32)
محمد حسن ظاظا(298/33)
مصرع خُبَيْب
للأستاذ ناجي الطنطاوي
سار الرجال صامتين، يخبون بأقدامهم على رمال الصحراء الملتهبة، لا يثنيهم عن غايتهم شيء، ولا يشغلهم عن مرمامهم أمر، وكان عددهم عشرة يرأسهم فتى غض الإهاب، ذو عزم ومنة، هو عاصم أبن ثابت، أرسلهم النبي صلى الله عيه وسلم عيناً على الأعداء في بعث الرجيع، يستطلعون أخبار العدو ويتعرفون إلى عدده وعدته. . . كانوا يسيرون مطمئنين آمنين لا يداخل نفوسهم حذر ولا ريب، وماذا يحذرون وهم في هذه الصحراء المترامية الأطراف، نفر قليل لا يتميزون عن سواهم من العرب وليست تبدو عليهم أية شارة تبعث الشك في نفوس من يراهم؛ كانت نفوسهم تفيض ثقة بالله وكانت قلوبهم عامرة بالإيمان الثابت الذي لا تزعزعه العواصف ولا توهنه النكبات، وكانوا قد وطدوا العزم على القيام بما عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما لاقوا في طريقهم من المصاعب والأخطار، لا يثنيهم عنه إلا الموت.
ولما مروا في طريقهم بمكان يقال له الهداة جاء رجل من قريش إلى بني لحيان وأخبرهم أنه رأى نفراً من المسلمين يجتازون بهم ولا يدري أين يريدون، فلم يكد القوم يسمعون كلامه حتى داخلهم الشك في أمر هؤلاء، وتبادلوا النظرات، وصمتوا يفكرون، ثم ثاروا إلى نبالهم فاحتملوها وساروا يقتفون آثار المسلمين ويجدون في طلبهم. وكانوا مائة رجل نصف رماة.
أحس أصحاب عاصم بالخطر المداهم الذي تهددهم، ورأوا أنهم قد أخذوا على غرة، فاضطربوا ووجموا وعراهم الذهول، ولكن عاصماً صاح بهم قائلاً:
- لا تقفوا هكذا، أسرعوا إلى هذا الفدفد الذي أمامكم نمتنع به قبل أن نصبح فريسة في أيدي الأعداء. . .
فأسرعوا إليه كما أمرهم، وتحصنوا فيه، ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم. . .
وبأسرع من لمح البصر، كان الرماة ومن معهم محيطين بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم ينظرون إليهم نظر الذئب إلى فريسته التي يخاف أن تفر من بين يديه، ووطد المسلمون العزم على استقبال الموت بثغور باسمة وقلوب مطمئنة وهم يتحرقون شوقاً إلى رؤية(298/34)
الجنة وما أعد الله لهم فيها من نعيم مقيم وسعادة خالدة.
ـ انزلوا وأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحداً. . .
سمع المسلمون هذا البلاغ، فوقفوا واجمين للمرة الثانية، وفكروا في هذا الذي قاله المشركون، أهو قول صدق وشرف، أم هو مَيْن وخديعة؟ ومتى كان المشركون يصدقون في أقوالهم ويوفون بعهودهم؟ وهل يجدر بالمسلم أن يركن إلى مثل هذا الوعد؟.
أسئلة متوالية، جالت في خواطر المسلمين في تلك اللحظة الرهيبة الحاسمة، ولبثت تطلب جواباً، وفكروا قليلاً ثم اتجهوا بأبصارهم إلى رئيسهم ليسمعوا جوابه، وليعرفوا موقفه، فما لبث أن خاطبهم بقوله:
- أما أنا، والله لا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك وانتظر المشركون قليلاً، ليعلموا أثر كلامهم في نفوس المسلمين وليسمعوا جوابهم، ولم يطل بهم الانتظار، إذا وجهوا نبالهم إلى صدور المسلمين وأطلقوها فأصابت عاصماً وسبعة من أصحابه سقطوا شهداء في سبيل الله، وطارت أرواحهم الطاهرة لترفرف في سماء الخلود، وتحظى بنعيم الله الأبدي، وبقي منهم ثلاثة لم يكتب لهم أن ينالوا ما نال إخوانهم من شرف الشهادة، فأرادوا أن يضحوا بأنفسهم في سبيل تجربة أحبوا أن يقوموا بها، وفي سبيل درس رغبوا أن يستفيد منه المسلمون بعدهم؟ ترى هل يفي المشركون بتعهدهم ويصدقون وعدهم؟ ما دمنا على أبواب الآخرة فلنقم بهذه التجربة، ونزلوا فسلموا أنفسهم على العهد والميثاق، ولم يكد المشركون يستمكنون منهم ويعلمون أنهم صاروا في قبضتهم حتى أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فصاح أحد المسلمين:
- هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي أسوة بأصحابي الذين قتلوا.
وأبى أن يسير معهم فقتلوه، وساقوا الاثنين الباقيين، وكان أحدهما يدعى خبيب بن عدي، صمم على أن يتم التجربة التي بدأ بها مهما كلفه ذلك من المتاعب ليرى نتيجتها، وليختم الدرس الذي أحب أن يستفيد منه المسلمون.
- من هذا الذي أراه عندك يا ماوية؟
- هذا أسير لدي. ألا ترين القيد في رجليه؟
- ما أسمه؟(298/35)
- إنه يدعى خبيب بن عدي الأنصاري.
- وماذا جاء به إلى دارك؟
- أغار قومي على نفر من المسلمين فقتلوهم وأسروه وابتاعه بنو الحارث بن عامر، إذا يقال إنه هو الذي قتل الحارث يوم بدر، وأبقوه عندي حتى تنقضي الأشهر الحرم ليقتلوه.
- وكيف رأيت سيرته ومعاملته؟
- أشهد أنه لمن أفضل الناس وأشرفهم ما عهدت فيه الكذب ولا الفحش في القول، وما رأيت منه إلا اللطف والدعة والمعاملة الحسنة، ما دخلت عليه في ساعة من ليل أو نهار إلا رأيته يقوم ويقعد ويخر ساجداً، فسألته عن ذلك فأجابني: أنه يعبد الله ويصلي له، وهو يرتل كل ليلة كلاماً جميلاً يسميه القرآن بصوت عذب فتنني وفتن كل النساء اللائى سمعنه وإنهن ليجتمعن عندي في كثير من الأحيان فيسمعن صوته فيبكين وترق له قلوبهن، وإني لأقول له: هل لك من حاجة؟ فيجيبني قائلاً: لا، إلا أن تسقيني الماء العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي.
- أهو كثير الجزع من الموت يا ماوية؟
- كثير الجزع؟ إني لم أره ذكر الموت إلا ابتسم وطرب، ولقد عجبت من حاله هذه فسألته عنها فقال: أو لا يسر ويطفر طرباً وسروراً من ينتقل من دار شقاء إلى دار نعيم وهناء؟ إنني إذا مت انتقلت إلى جنة عرضها السموات والأرض فلم لا أبتسم وأسر.
فحدقت المرأة في وجه مضيفتها وقالت متعجبة:
- عجيب أمر هذا الرجل، إنني لا أعرف رجلاً آخر بهذه الشمائل والصفات إلا أن يكون من أصحاب محمد.
فاقتربت ماوية منها وسارتها قائلة:
- إنني أقسم لك أنني رأيته أمس بعيني هاتين يأكل قطفاً من عنب وهو موثوق في الحديد ولا يدخل عليه أحد غيري وما أراك مصدقتي فيما أقول.
فضحكت المرأة وقالت:
كيف تريدين مني أن أصدقك يا ماوية وليس هذا أوان العنب وما في مكة كلها من ثمره شيء؟(298/36)
- هذا ما أعجب له، وأقسم أنني غير واهمة ولا متخيلة، وما أدري تفسير ذلك.
ونهضت ماوية فحملت ما عندها من طعام، ودخلت به على السجين، ووضعته بين يديه، وانتظرت حتى أتم صلاته، فالتفت إليها وابتسم، وتناول الطعام من يدها دون أن يفوه بكلمة.
ولم يرق لماوية صمته فقالت له:
- هل لك من حاجة؟
فقال: لا، إلا أن تسقيني الماء العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبرني إذا أرادوا قتلي.
ولما علمت أن جوابه لن يتبدل، طمأنته وتركته.
- يا للهول! ماذا ترى عيناي؟ أهذا جزاء إكرامي لك وثقتي بك؟
- خفضي عليك يا ماوية، إنني لا أزال عند حسن ظنك بي.
- أتقول هذا، وابني في حضنك والموسى في يدك؟ ليتني لم أعرك هذا الموسى.
فابتسم الأسير وأجابها قائلاً:
- لا تغضبي هكذا يا ماوية، إنني لم أطلب منك إعارتي هذا الموسى لأقتل به ابنك، معاذ الله أن أفكر في هذا العمل الشائن، إن ديني يمنعني من ذلك يا ماوية، وما كنت لأفعل ذلك ما حييت؛ ولكن ابنك حبا حتى وصل إلى، وجلس على ركبتي، وكان الموسى في يدي، فلاطفته وداعبته، ولم يخطر لي أن أمسه بأذى، ولعلك ذكرت واقعة الأمس فجزعت. . .
- أجل يا خبيب، ذكرت مزاحك بالأمس عندما طلبت مني أن أعيرك الموسى، وقلت لي عندما صار في قبضة يدك: قد أمكن الله منك. . . أتدري أنك أخفتني بهذا المزاح؟
- إنك لم تعرفيني بعد، ولا أراك تعرفيني إلا يوم تسلمين، فتنجلي لك إذا ذاك حقيقة المسلم. والآن دعيني وشأني، إنني أريد أن أستعد للموت، ألم تقولي لي إنهم أزمعوا قتلي اليوم؟
- بلى.
ولم تمضي ساعة حتى أقبل القوم يهرولون، حاملين حرابهم ونبالهم، وهم مستبشرون فرحون، ولما دخلوا على خبيب فكوا القيد من رجليه وقالوا له:(298/37)
- هلم يا خبيب، استعد للموت، إنه ليزعجنا أن تبقى حياً إلى اليوم، ولولا الأشهر الحرم لقتلناك يوم أسرك.
فرفع خبيب رأسه، ونظر إليهم طويلاً، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، ثم أطرق ولم يجب.
ولما خرجوا به إلى ساحة الإعدام وأجمعوا على قتله التفت إليهم قائلاً:
- هل تأذنون لي أن أركع ركعتين قبل أن أموت؟
فنظر بعضهم إلى بعض في دهشة وعجب وقالوا: أتصلي وأنت على هذه الحال؟ ألا ترى الخشبة التي سنصلبك عليها؟ ألا ترى رماحنا ونبالنا مصلتة عليك؟ ألا تبكي وتطلب الصفح والعفو؟ افعل ما شئت.
فقام خبيب بين يدي الله، متوجهاً بقلبه وجوارحه إليه وصلى صلاة كلها اطمئنان وكلها خشوع، لم يضطرب قلبه، ولم يتلجلج لسانه، ولم يتبدل لون وجهه، وكان في صلاته هادئاً ساكناً آمناً ولما انتهى التفت إليهم وقال بصوت هادئ عذب:
- والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو كربتي بعد غربتي ... وما جمع الأحزاب لي حول مصرعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزعّ
فلست بمبدِ للعدوّ تخشعاً ... ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
ولم يكد يتم الأبيات ويستغفر الله ويذكره حتى رفعوه على الخشبة وأوثقوه بها فقال:
- اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يفعل بنا.
وبدأ المشركون يرمونه بنبالهم ويطعنونه برماحهم، فلما بضع لحمه وسال دمه قالوا له:(298/38)
- أتحب أن محمداً مكانك؟
فأجابهم وهو يغالب نفسه من الألم:
- والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم شيك بشوكة.
الله أكبر، هكذا فليكن الإيمان، وهكذا فليكن حب محمد صلى الله عليه وسلم، أما والله لو لم يكن الخبيب إلا هذا الموقف لكفاه شرفاً وفخراً وخلوداً، وإن رجلاً في مثل هذا الموقف وعلى مثل هذا الحال، بين الحياة والموت، يجيب بمثل هذا الجواب لهو مسلم بكل ما في كلمة الإسلام من معنى، وبأمثال خبيب هزم المسلمون - على قلتهم - جيوش الشرك والطغيان والظلم وفتحوا ثلاثة أرباع العالم، وبنوا حضارة ونشروا ديناً سيبقى لواؤه مرفوعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي(298/39)
على قبر زوجها
للأستاذ محمود الخفيف
صَلَّتْ لدَى أَحْجَارِه خَاشِعَهْ ... ياَ قُدْسَ هَذِى الصَّلاَهْ
الله لِلزَّائِرَةِ الْجَازِعَهْ ... كَمْ هَدْهَدَتْهَا يَدَاهْ
تَطُوفُ فِي نَظْرَتِهاَ الضْارِعَهْ ... بِنَفْسِهاَ كُلُّ طُيُوفِ اَلْحيَاهْ
والصَّمْتُ في وَقفَتِهاَ الرَّائِعَهْ ... ياَ عَيْنُ لاَ يَبْلُغُ نُطْقٌ مَدَاهْ!
كَمْ يَسْحَرُ الأنفُسَ هَذَا الْجَمَالْ ... بَيْنَ الضَّنَى وَالْحَزَنْ
كَأنماَ تُبْرِزُ تِلْكَ الظِّلاَلْ ... من سِرِّهِ ما كَمّنْ!
وَالْمَوّتْ يُلْقِي مِن سِمَاتِ الجَلاَلْ ... ما عَلِقَ القَلْبُ بِهِ وافتَتَنْ
مَا كانَ إِلاْ للصِّبَي والدَّلاَلْ ... والْحُبِّ وَالزِّينَةِ هذا البَدَنْ
وَاهَا لِهذَا المُلْهَمِ الْقَادِرِ ... السِّحْرُ فِي رِيشَتِهْ!
لَوْ طُفْتُ بالواقِعِ لا الْخَاطِرِ ... ما زاد عن صُورَتِهْ
لا يَنْثَنِي عَنْ سِحْرِهَا ناَظِرِي ... إلاّ هَفَا قَلْبِي إلى رُؤُيَتِهْ!
كَمْ تَلِدُ الأَوْهَامُ للشْاعِرِ ... في مَسْحَةِ الفَنِّ وفي لَمْحَتِهْ
وُجُومُ هَذِى الغَادَةِ المطْرِقَهْ ... كَمْ رَفَّ قَلْبِي لَهُ
أَلْمَحُ فِيِه لْهفَةً مُوبقَهْ ... تَرْسِمُ لِي هَوْلَهُ
فِي شَفَتَيْهاَ لوْعَةٌ مُحْرِقَهْ ... من فَادِحٍ ما جَزِعَتْ قَبْلَهُ
مُمْسِكَةٌ إِيَّاهُاَ مُطْبِقَهْ ... فِي مَوْقِفٍ مَا إِنْ رَأَتْ مِثلَهُ
ياَ رَحْمَتَا لِلزَّوْجَةِ الثّاكلِ ... تَأْسَى عَلَى إِلْفِهَا
ذِكْرَانُهَا عَيْشَ الهوَى الزّائِلِ ... يَزِيِدُ في لَهْفِهَا
والوَجْدُ فِي هَيْكَلِهَا النَّاحِلِ ... تَحْمِلهُ ضَعْفاً عَلَى ضَعْفِهَا
كمْ عِنْدَ هذا الأثَرِ الماثِلِ ... تَبْتَعِثُ الوَحْشَةُ مِن خَوْفِها
إلاَّ تُرِقْ دَمْعاً عَلَى قَبْرَهَ ... فَقَلْبُهَا دَامِعُ
كَمْ حَاوَلَ الدَّمْعَ فَلَمْ يَجْرِهِ ... مِنْ فَرْطِهِ جَازِعُ
ما يُشْبِهُ الصِّبْرَ عَلَى ثَغْرِه ... والهمُّ في أَحْشائِهِ لاذِعُ!(298/40)
لَوْ بَاحَ بالَمكْنُونِ مِن سِرِّه ... ما مَلَكَ الدَّمْعَ لَهُ سَامِعُ
قَدْ خَتَمَ المَوْتُ عَلَى حُبِّهِ ... فمَا لَهُ مِنْ فَنَاءْ
ياَ وَجْهَهَا ما إن تَبَدَّتْ بهِ ... إلاَ مَعَانِي الوَفَاءْ
ياَ صِدْقَ هذا الحُبُّ في هُدْبِهِ ... ياَ رَوْعَةَ الوَجْدِ بِهِ وَالولاَء!
أَحْسِبُ هذا القَلبَ فِي وَثبِهِ ... يَخْفِقُ لاَ فِي الأَرْض بَلْ في السَّمَاءْ
عَزَائها فِي الأرْض هذا الأثَرْ ... تَسْعَى له زائِرَْه
ياَ حُفرَة مِنْ تَحْتِ هَذَا الحَجَرْ ... طَافَتْ بهَا نَاظرَهْ
ياَ وَطرَّاً مَا مِثْلُهُ مِنْ وَطرْ ... تَحْيَا عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ الذَّاكِرَهْ
أنّى لَهَا مِنْ دُونِهِ مُصْطَبَرْ ... في عِيشةٍ باتَتْ بهاَ سَادِرَهْ؟
ذِكْرَانُهَا أَنّ بهَذَا التُّرابْ ... حُطَامَ أَوْصَالِهِ
كَمْ تَصِلُ القَلْبَ بَهذَا اليَبَابْ ... وَصُمَّ أَطْلاَلِهِ
يُطْفِئُ هَذَا الذّكْرُ بَرْحَ العَذَابْ ... في قَلبِهَا المُسْتَسْلِمِ الوالِه
مَنْ فَاتَه فِي العَيْشِ عَذبُ الشُراب ... يَعِيشُ بالوَهْمِ عَلَى آلِهِ
أَنّي لها مِنْ دُونِهِ مَوْئِلُ ... يَوْمَاً بهَذِي الدُّنَي
ما إن لها سُؤلٌ ... ولا مَأمَلُ=بَعْدَ ذُبُولِ المُني
هَيْهاَتَ يَفْنَى حُبَّهَا الأوَّلُ ... أَيُّ هَوّىً ينْسَخُ هذا السَّنا؟
مَا حَمَلَ القَلْبُ وما يَحْمِلُ ... يَرْسِمُهُ لِلْعَيْنِ هذا الضّنَى
يَا قِطْعةً مِنْهُ بهذا الوُجُودْ ... هَلْ دُونَهُ مِنْ أَمَلْ؟
تَرِفُّ في مرآه بِيضُ العُهودْ ... وما انطَوَي مِنْ جَذَلْ
يَا لَمْحَةَ الماَضِي ورَمْزَ الخلودْ ... والُمْرتَجَى في عَيْشِهِ المُقْتَبَلْ
بأَيَّ سُؤْلٍ أمُّهُ لاَ تَجودْ ... أَيُّ عَنَاءِ فِيِه لا يُحْتَمَلْ؟
يَا لاَعِباً بِالزَّهْرِ فِي يَوْمِهِ ... لم يَدْرِ غَيْرَ الزَّهَرْ
لَمْ يَدْرِ بَعْدُ الشَّوْكَ مِنْ يُتْمِهِ ... أَوْ يَلْقَ وَخْزَ الإبَرْ
في شُغُلٍ بِالزّهْرِ عَن أُمِّهِ ... وعن دواعي وَجْدِهَا بالصِّغَرْ
وُقِيتَ مَا يَخْبَأُ مِنْ لُؤْمِهِ ... دَهْرٌ كفى مِنْ لٌؤْمِهِ ما ظَهَرْ(298/41)
ياَ حَالِماً مَا أَيْقَظَتْهُ الْحَيَاهْ ... ياَ لاَ هِيًا لاَ يَعِي
يَزِيدُ مَعْنَى يُتْمِهِ أَنْ أَرَاهْ ... في ذَلِكَ الْمَوْضِعِ!
غداً بِهَذَا القَفْرِ يَبْكِي أَباَهْ ... يَسْقِي تُرَابَ القَبْرِ بِالأدْمُع
وَيُوجِع القَلْبَ حَدِيثُ الرُّواه ... عَنْ ذَاهِبِ وَلّي وَلَمْ يَرْجِع
لا تَحْبِسِي الدَّمْعَ عَلَى قَبْرِهِ ... أَيَّتُهاَ الْجَازِعَهْ
عِظامُهُ تَهُفُو إلى قَطْرِهِ ... طوفي بِهاَ دامِعَهْ
تَوَدُّ لو تَمْضِي لدي ذِكرِهِ ... جُفُونُها طِائَعةً هَامِعَهْ
فَيَغْلِبُ الدَّمْعُ عَلَى أَمْرِهِ ... والنَّارُ في مُهجتها لاَذِعَهْ
الخفيف(298/42)
من برج بابل
قرأت في إحدى رسائل الأدب هذه النادرة اللطيفة: (أهدي إلى ملك الهند ثياب وحليّ، فدعا بامرأتين له وخَّير أحظاهما عنده بين اللباس والحلية. وكان وزيره حاضراً، فنظرت المرأة إليه كالمستشيرة له، فغمزها باللباس تغضيناً بعينه، فلحظه الملك. فاختارت المحظية الحلية لئلا يفطن للغمزة. ومكث الوزير أربعين سنة كاسراً عينه، لكي تقر تلك في نفس الملك، وليظن أنها عادة أو خلقة لازمة. وصارت الثياب للأخرى). قد يلتمس العذر لذاك الوزير المسكين بخوفه من غضب الملك وبطشه وحرصه على منصبه. ولكن ما عذر من يلزم النفس طائعاً مختاراً حركات وإشارات ونبرات وانتحال صفات دخيلة على الطبع الأصيل، فتنقلب الفتاة أو الشاب إلى قرد يقلد أو غراب يحاكي الطاووس! إن أشد ما يخدع المرء نفسه أن يتكلف ما يشذ عن طبعه، ويجرده من شخصيته التي تميزه عن غيره. إنما يدل ذلك على احتقار المرء نفسه واعتبارها من التفاهة بحيث تلغي وجودها وتستعير غيرها. وما عرف زمن كهذا العصر الميكانيكي الذي كثر من يخرجون فيه على غرار واحد كما تخرج الآلة صنوف الألوان والأنماط من متشابه المنتجات. ولعل مرجع هذه الظاهرة (الآلة السينمائية) أيضاً! فإن ما يزينه المرحون والدعاة للمتهافتات والمتهافتين أغرى فتياتنا وشبابنا بمحاكاة ما يصدر عن هذه الشخوص من حركة ترى أو لهجة تسمع. ولقد أصبح المثل الأعلى اليوم للفتاة والفتى بطلاً موهوماً أو نجمة لا سماء لهل. وأضحى الجميع على إلمام دقيق بحياة الممثلات والممثلين مما لم يظفر به درس بطل من أبطال التاريخ ورجال الإنسانية. إن هذه الفطرة السليمة البسيطة التي تتجلى في حركات أخواتنا الريفيات لمما يحملنا على الميل إليهن والإعجاب بخلالهن الكريمة النقية. فكما تزهو في ربوعهن الناضرة الوردة والوردة، وشتان ما بينهما من نسق ورواء وشذا، أو الشجرة والشجرة، وشتان ما بينهما من ثمر وجني؛ كذلك ترى الفتاة والفتاة، وشتان ما بينهما من سناء وسنا.
ماري نسيم
إيران في القديم والحديث
للأستاذ مصطفى كامل(298/43)
تتمتع إيران بفضل ارتفاعها عن سطح البحر كثيراً واتساع رقعتها بمناخين متمايزين، أحدهما المناخ المعتدل، وثانيهما المناخ الاستوائي. وقليل من بلاد العالم في مثل اتساع رقعتها يستطيع أن يزهى بمثل هذا التباين في المناخ، فبينا تكثر الأمطار في الولايات الشمالية الثلاث التي تحد بحر الخزر، فإنها لا تسقط في الجنوب إلا في فصل الربيع. أما هضبة إيران نفسها فإنها منطقة المناخ المعتدل.
وإيران من البلاد ذوات المدنيات القديمة، فالاكتشافات التي تمت حديثاً في السوس تدل بجلاء على أن العلاميين وهم من الجنس الآري قد بلغوا مدينة مزدهرة في عهد يمكن تحديده بأربعة آلاف سنة قبل المسيح.
وقد حل الفرس أول ما حلوا بالقرب من إيلان على هضبة إيران، ثم قام واحد منهم فنال السلطان، ثم جاء بعده شيروس فتوج ملكاً عام 558 قبل الميلاد، وقوض إمبراطورية ميديا بعد عام، وبعد أن تحالف مع الكلدانيين والمصريين دمر سطوة كريزوس ملك ليديا الذي كان يقلقه، ثم فتح آسيا الصغرى ولم يلبث أن صار سيد كل آسيا الشرقية بلا منازع وكون إمبراطورية لم يسبق أن كان لها مثيل.
على أن إمبراطورية إيران بلغت ذروة المجد تحت حكم داريوس الأول، ونالت التنظيم الإداري الكامل واتسعت آماد حدودها اتساعاً كبيراً.
ولم يعرف العالم ملوك إيران بالفتوحات فحسب، بل عرفهم كذلك بما بذلوه من الجهود لرخاء أمتهم.
واحتفظت إيران في جميع العهود، حتى في العهد الإسلامي، بطابعها واستقلالها الوطني، فقامت تحت حكم الصفويين وخاصة عباس العظيم بتقدم باهر، وبلغت الهندسة والفن أوجهما في عهده
لكن إيران أخذت تنزوي بعد ملوك الصفويين شيئاً فشيئاً عن العالم، وبدأت طرق القوافل القوية الجميلة تعبث بها أيدي الإهمال، وتناسى آخر الملوك القاجاريين الفوائد التي كانت تعود على البلاد من موقعها الطبيعي في طريق مرور التجارة، ودفعوا أمتهم بسبب عدم قدرتهم إلى الانحطاط، لأن الرجل القوي الممتاز كان ينقصهم. . . إلى أن وجد العاهل الحالي، فكون رضا شاه، تحت اسم بهلوي الأول، الأسرة الحاكمة الجديدة. وسيسجل(298/44)
التاريخ بحروف كبيرة اسم هذا الشاه العظيم الذي جمع في شخصه رئيس الجيش والمشرع والمنظم والمصلح.
ينحدر جلالة الإمبراطور من أقدم وأنبل أسر إيران التي قطنت البلاد منذ أبعد العصور، وجلالته من مقاطعة سافادكوه التي يمثل أفرادها أنقى العناصر الإيرانية التي عرفت على مدى عصور التاريخ وفي مختلف الحوادث بالبطولة تارة وبالوطنية أخرى.
وانتظم في السلك العسكري طبقاً لتقاليد أسرته، فتقلد المناصب المختلفة فيها ودرج في مراتبها حتى ولي قيادة الجيش العامة، ثم لم يلبث أن قلد منصب وزارة الحربية إلى أن تولى العرش في نهاية عام 1925.
ومنذ ولي الملك أيقظ روح النشاط الكامنة في شعبه بعد أن أشفى على الهوة وأحيا أملها وقوى يقينها، وبدأت الإصلاحات تتوالى في جميع نواحي النشاط الوطني.
لكن عمله لم يقتصر على إمداد شعبه بأمل وتأييده بنفسه في تحقيق الإصلاحات فإن أكثر أثره في وضعه الأسس القوية لقيادة شعبه نحو مستقبل رخي عظيم جدير بماضيه المجيد.
وكانت أولى جهوده العناية بالجيش، فأصدر قانون التجنيد الذي يلزم كل إيراني بالخدمة في الجيش، وأنشأ المدارس العسكرية وأرسل البعثات إلى أوربا لاستكمال التعليم العسكري؛ ثم وجه التفاته نحو تكوين قوة الطيران العسكري؛ وفي طهران مدرسة يذهب عدد وافر منها كل عام إلى أوربا. ثم أنشأ القوة البحرية لتأمين الشواطئ الإيرانية فاستطاع أن يحقق طمأنينة البلاد منذ سنتين.
وأما عمله في ميدان السياسة فإنه استطاع أن يعقد اتفاقات عادلة على أساس من المساواة بدل تلك الاتفاقات الجائرة التي فرضتها الدول الأجنبية على بلاده في عهد تدهورها.
وأولى أمور العدل عنايته كذلك، فقام فيها بإصلاح كبير وسن القوانين في زمن وجيز، كان منها القانون المدني والتجاري والتحكيم الإجباري كما وضع المحاكم الدينية تحت رقابة الحكومة الرسمية وحدد لها اختصاصاً ضيقاً؛ ثم استطاع أن يلغي في عام 1927 القضاء القنصلي والامتيازات الأجنبية.
ونالت مالية البلاد إصلاحات هامة فتعادلت الميزانية بعد استتباب الأمن وانتظام الحكم، وبعد أن كانت الضرائب لا تجبى أو سيئة الجباية لضعف الحكومة واختلال الأمن.(298/45)
وتعد مالية إيران من أسلم ميزانيات العالم، والدولة لا تشعر برهق في مواجهة أعبائها، فماليتها تسمح بتحقيق مشروعاتها في الإصلاح والمدنية.
أما مسائل التعليم فتلفت النظر حقاً، فقد شمل التعديل والتنظيم أموره وأصبح يجاري العصر الحديث كما تضاعفت ميزانيته وازداد عدد التلاميذ زيادة ضخمة.
والتعليم إجباري للأطفال من سن 6 - 13 ذكوراً وإناثاً، ومدة التعليم فيها ست سنوات في المدن وأربع في القرى، بغير أجور في المدارس العامة أو بأجر طفيف في المدارس الخصوصية
أما مدة التعليم في المدارس الثانوية فست للذكور وخمس للبنات، والتدريس فيها على غرار المدارس الفرنسية خاصة.
ومعاهد التعليم العالي الآن هي كلية الطب وطب الأسنان والصيدلة، وكلية الحقوق والعلوم السياسية، وكلية التعليم والزراعة ثم معاهد الفنون والصنائع والتعدين، والتجارة والدباغة والفنون للبنات وغيرها من المعاهد.
وأنشأ نظام البلديات، فاستطاعت مدينة طهران بفضل بلديتها الحديثة أن تقوم بإنشاء المستشفيات والملاجئ ودور الإسعاف ودور الأمومة على منوال يضارع العواصم الأجنبية، وخطت الحدائق والميادين على أجمل نظام، وشقت الطرقات في أنحاء المدينة فسهلت ميادين العمل، وشيدت بنايات على أحدث طراز.
ولا تقل باقي المدن الأخرى في إيران شئناً عن العاصمة في نواحي الإصلاح فعاد الجمال والسحر إلى البلاد التي اشتهرت بهما بفضل هذه الجهود المتضافرة.
واهتم جلالته بالأمور الزراعية، فتربة إيران غنية ومحصولاتها منوعة، وعني خاصة بزراعة القطن أخيراً وزراعة الشاي وقام بإجراءات هامة لزيادة إنتاج البلاد من بينها إنشاء مدرسة الزراعة كما أنشأ مدارس نموذجية لتعليم الناس استخدام الوسائل العصرية.
ولا يقل نشاط الحكومة في ميادين الصناعة عما ذكر فأولت عنايتها الخاصة لإنمائها فقامت معامل الصناعة في مختلف البلاد منها معامل السكر التي تكفي حاجة البلاد، ومعمل الأسمنت، ومصانع النسج والدبغ والصابون والكبريت، ومصانع السجاد التي اشتهرت بها إيران في العالم.(298/46)
وأرض إيران غنية بالمناجم، فيها الحديد والرصاص والنيكل والنحاس ولزنك والزئبق والمنغانيز. كما دلت الأبحاث على أن بها الذهب والفضة والبلاتين. كما يوجد بها البوتاس والفحم لذي يستخرج بانتظام وبطريقة علمية.
على أن أوفر منتجات مناجمها البترول مما يضعها بين أغنى بلاد العالم.
ولم يفت جلالة الإمبراطور أن يهتم بطرق المواصلات. ولو عرفنا أنه شق أكثر من 27 ألف كيلو متر من الطرق المنتظمة الواسعة رغم وعورة البلاد وطبيعتها الجبلية لأدركن عظم الجهود التي بذلها.
وامتدت كذلك أسلاك التلغراف كما أنشأ محطة لاسلكية قوية تتصل بأكبر محطات العالم، كما أن بها الآن خطى الطيران، بين باريز والهند الصينية، وبين امستردام وبتافيا.
هذه هي لمحة عاجلة عن أعمال الإمبراطور. كان عمله في كل ناحية حلقاً. كانت إيران ميتة، أما الآن فقد دبت فيها الحية.
الفن الإيراني
تعتبر أصفهان - مدينة الملوك الصفويين وعاصمة فارس مدى أحقاب طويلة - من ألطف بلاد إيران بفضل قصريها العجيين، وجسورها الرائعة، وهيكلها الفخمة الفنية؛ فان النقوش والتصاوير التي على جدرانها أعجب ما عمل من نوعها، والسياح الذين يسافرون بين أصفهان وشيراز يعجبون بمجموعتين فخمتين من الهياكل.
والبحوث التي تمت في السنين الأخيرة كشفت عن نقوش عجيبة دلت على ثروة هائلة من المعلومات التاريخية، ورفعت النقاب عن آثار جميع المدنيات التي تعاقبت على أرض الفرس.
وعلى مقربة من هذه المنطقة تقع مدينة شيراز حيث يوجد قبرا الشاعرين الكبيرين: السعدي وحافظ، كما يوجد غيرهم هياكل أثرية وأعمال فنية على جانب كبير من الأهمية.
وهذه الولاية وولاية فارس كانتا مهد العظمة الفارسية قبل الإسلام، وتوجد في أزربيجان جوامع جميلة جداً، كما توجد قبور الملوك الصفويين العظيمة.
وعلى شاطئ أركس في الجنوب الشرقي من أصفهان في سهل مردخب الحالي الفسيح، حيث ترى إلى الآن خرائبها، كانت تقوم برسيبوليس التي كانت عاصمة الإمبراطورية(298/47)
الفارسية العظيمة منذ ألفين وخمسمائة عام، وكان ينضوي تحت لوائها عشرون ولاية، تمتد حدودها من فارجيانا في الشمال الشرقي إلى الحبشة في الجنوب الغربي، والبلقان في الشمال الغربي إلى السند في الجنوب الشرقي.
الأدب الفارسي
كان الأدب الفارسي زاخراً في كل وقت، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة عهود، العهد الديني، وعهد الملاحم، وعهد الشعر الغنائي، ويكمل هذه الأنواع الثلاثة أدب المسرح والقصة.
وقد خضعت اللغة الفارسية لعدة تعديلات، فقد ظلت الإيرانية لقديمة اللغة الرسمية إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وهي لغة ساذجة فقيرة.
ثم تطورت بعد ذلك إلى للغة البهلوية، وهي مزيج من الإيرانية القديمة والعناصر السامية، وبقيت هي اللغة الوطنية إلى الفتح الإسلامي.
على أن اللغة الفارسية الأخيرة لم تولد إلا في القرن العاشر، حين دخل على الروح الفارسية تطور أساسي، فبعد أن كانت محض لغة دينية أصبحت لغة أدب، وصار الشعراء محل إكرام وتبجيل في بلاط الملوك وشغلوا مناصب رفيعة.
وكان الفردوسي أكبرهم وأثرهم، تجسدت فيه الروح الشرقية بشكل عجيب، وخاصة في الناحية الشعرية والغرامية، وكان شعره يزدان بالفخامة والروعة اللتين كانتا تسودان في بلاط الملوك.
ويجب أن نذكر بين الشعراء الغنائيين السعدي الذي اشتهر بكتابيه كولستان والبستان اللذين يعتبران قانون الأخلاق الفارسية حتى لقد اشتهر في العالم أجمع كما أن العالم كله يعرف البديعيات الساحرة التي ينشر بها هذا الشاعر الكبير تعاليمه في الأخلاق الدينية والإنسانية، وأننا لنلمس تحت ستار الأمثال البديعة الدليل على إخلاصه في إصلاح النفس والقلب الإنساني؛ وقد يبدو أن الشاعر يعرفهما أتم معرفة لطول ما قاسى في كثير من الملاحظة والتأمل.
ويعجبنا في السعدي حب الجمال والملاحة على الخصوص؛ وهو على وجه خاص فنان لأنه شديد الحس، يحيا بين الزهور، ويحب الملابس المتألقة، ويجمل أشخصه بجواهر متناهية الدقة في النقش، ويعطرهم بالمسك والعنبر؛ وإن يكن فنه غير فخم لكنه شديد(298/48)
الأناقة والرقة.
وحافظ هو أحد شعراء الفرس الوطنيين الرشيقين، وأحد الذين يفهم الغرب عنهم روح الشرقيين أحسن فهم بفلسفته الضاحكة وهزئه لساخر.
ثم عمر الخيام الذي يدين بشهرته لكتابه بالمعروف الرباعيات الذي يزخر بالسخرية والشك. وقد سببت ترجمة كتابه إلى الإنجليزية ضجة في أوربا وأمريكا حتى غدت شهرته الآن تملأ الآفاق.
مصطفى كامل
المحامي(298/49)
نظام العالم ونظام الدول
للأستاذ طنطاوي جوهري
الحفل والجامع الأزهر
نشأت في قريتنا كفر عوض الله حجازي من أعمال مديرية الشرقية - شاركت أسرتنا في أعمالها الزراعية - كان لهذه الأسرة الكبيرة اتصال حميد بعلماء الجامع الأزهر يغدون ويروحون كل عام على سراة الأسرة وأكابر القرية، وأكابر بلدة (الغار) التي فيها أسرة أخوال والدتي، فأثر ذلك كله في المرحوم والدي، فأرسلني إلى كتاب في بلدة الغار وفيها جدتي لأمي، فحفظته بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثم أرسلني مع أقاربي إلى الجامع الأزهر لأكون كهؤلاء العلماء، ويكون لي عمود بالجامع الأزهر مثلهم. درست علومه. هنالك أصبحت السنة مقسمة بين دراستين: دراسة أزهرية، ودراسة حقلية. ذلك أني سمعت في علم التوحيد أن العالم منظم - يا سبحان الله، لا علم عندي، لا كتاب يهديني، لا مرشد يرشدني؛ للقوة السلطان الأعظم، ظلم مخيم، جهل فاضح، فأين نظام العالم؟ أخذت أصوم النهار، وأقوم بالليل، وأسأل صانع العالم أن يهديني. أخذت أدرس الشمس والسحاب والحجر والشجر والزهر والزرع نهاراً، وأدرس النجوم والقمر وأتأمل ذلك الجمال البديع في ظلمات الليل المدلهمات. وأخذت أقول: لعل وراء هذا الجمال حكما وعلموماً، ففي النهار جمال، وفي الليل جمال. فما أسبابه ونظامه؟ حائر، حائر!
دار العلوم بعد الأزهر والحفل.
لم يكن ليخطر لي أن في العالم حكمة وفلسفة تكشف اللثام عن هذا الوجود، كلا ولكن بعد اللتيا والتي أخذت أدرس الفلسفة القديمة بحذافيرها ولكني بعد ذلك لم أزل في موقفي الأول. أريد أن أفهم حقلنا الذي نزرع فيه القطن والقمح والذرة والبرسيم. هل هذه الأرض وما فوقها هي التي تحوي المواد الصالحة للبسنا وأغذيتنا وأغذية الحيوان؟ وأخيراً ما هذه الطيور الجميلة المغردة المنعشة للفلاح في حقله؟ وأخيراً ما هذا الجمال؟ الجمال هو الذي أخذ بلبي وأرقني ليلاً بنظراتي في النجوم، وأبهج قلبي نهاراً بنظراتي في الأشجار والزروع والأزهار.(298/50)
اتصلت بدار العلوم فدرست فيها علم الفلك الحديث بعد ما درست القديم في الفلسفة. هنالك دهشت أعظم الدهش وقلت في نفسي: هذه فرصة سانحة، فهاهم أولاء علماء الأمم قديماً وحديثاً نظروا فيما كنت حائراً فيه في حقلنا (أ) نظروا في مقادير المادة المسماة عندهم (بالكم) المتصل والمنفصل من الهندسة وعلم الفلك ومن الحساب والموسيقى فقاسوا هذا العالم وحسبوا الكواكب أبعاداً وأحجاماً وحركات فأرونا السنين والشهور والفصول وأوقات الخسوف والكسوف - الله أكبر. نظام بديع. حركات منظمة هذه أعز مطالبي وأجل ما أتمناه. إني لسعيد جد سعيد. كيف لا أكون سعيداً؟ ألم يظهر العلم أن أبعد السيارات نفسها عن الشمس جاريات على سنن المتوالية الهندسية كما كشفه العلامة (يود): 3 - 6 - 12 - 24 - 48 - الخ.
(ب) ثم أن العلماء لم يقفوا عند هذا الحد من البحث فإنهم نظروا في أشكال المادة وتنوعها فكانت العلوم الطبيعية وقد أحاطت بها العلوم الرياضية حتى إنهم رأوا في نحو الأحجار الساقطة نظماً حسابياً يرجع إلى الجذر والتربيع والمتواليات العددية، ويدهش الحكيم حينما يرى الجذر والتربيع مسيطرين على حساب البنادل المختلفة الأطوال وحركات الضوء والصوت والحرارة والكهرباء.
نظام العناصر ونظام أوراق النبات.
وقد أدهشني أن للعناصر المشهورة اليوم (المبدوءة بالأيدروجين المختومة بعنصر (أورانيوم)) جدولا يضم متفرقها ويجعل بينها نسباً أفقية وأخرى رأسية بحيث ترى أن كل عنصر لو وضع في غير موضعه لاختل جميع النظام - يا عجبا! أيصل النظام إلى هذا الحد؟ أكسجين في الماء وفي الهواء، وحديد ونحاس في الجبال، وصوديوم وكلور كامنان في الملح المغمور بالماء في البحار، كيف يكون لها هذا الجدول المنظم وتكون بينها هذه النسب البديعة؟ فأما هذا الإنسان الذي له السلطان الأعظم وهو الغاية القصوى من هذه العوالم فلا يكون له نظام؟ كلا العقل ينكر هذا - هاهنا تحل مشكلة العالم - هاهنا مركز الدائرة - هاهنا عرفنا سبب النزاع المقام بين الأسرات والممالك - هاأنذا عرفت سبب لجمال في الحقول وفي السموات نهارً وليلاً، فأما أسباب الشقاق والنزاع بين الناس فالبحث جاري فيه الآن كما ستراه.(298/51)
وكما رأينا نظام العناصر المختلفة في جدولها تاماً رأينا لأوراق النبات على الأشجار المختلفة جداول منظمة ذوات نسب في الصفوف الرأسية والصفوف الأفقية، ولا مناص لي من الاكتفاء بالإشارة إليها في هذا المقال حرصاً على وقت القارئ الكريم، وتفصيل هذا وما قبله في كتاب أحلام في السياسة موضحاً مصوراً تصويراً شمسياً. وهل في شرعة الإنصاف أن تعتبر أفراد إنسان في هذا العالم كمية مهملة لا نظام يجمعهم، ولا قانون يكبحهم؟ وقد رأينا النسب والقوانين لم تذر ذرات الأيدروجين مع ذرات الصوديوم، ولا ورقات التفاح مع ورقات الأعشاب، ولا حركات سقوط الأحجار، إلى آخر ما قدمنا، كلا كلا. إن قوى نوع الإنسان وعقوله لها نسب خفية، وكل امرئ في الأرض له نسبة إلى غيره في أمته وفي غيرها، ولما خفي ذلك على الناس حاروا في أمرهم فلم يجدوا مناصاً من الحرب لأنهم لم يهتدوا إلى نظامهم، فكل يزعم أن له عند آخر حقاً يريد أخذه بالقوة.
منفعة جوارح الطير والحيوانات المفترسة لهذا العالم الأرضي
وسعد الناس على ذلك أنهم رأوا جوارح الطير تأكل بغاثها والأسود والنمور تأكل الأرانب والحملان، فأخذ القوي يسطو على الضعيف. أو ما علموا أن ههنا نظاماً درسه علماء الأمم قديماً وحديثاً، فعلموا أن الحشرات تمتص العفونة والرطوبة اللتين لو بقيتا لأحدثتا في الجو فساداً فهلك الحيوان والإنسان، وهذه الحشرات بعد تأدية وظيفتها تصبح طعاماً سائغاً للطيور ونحوه ولو بقيت لكانت ضرراً وبيلاً. وهذه الطيور الكثيرة في الجو والحيوانات التي تأكل النبات تهاجما في الحياة كواسر الطير وسباع الفلوات وتأكل رممها بعد الموت حفاظً للجو من مكروباتها وإلا يفسد الهواء وكان الوباء العام، وروعيت الحكمة في قلة توالد نحو الأسود وكثرة توالد نحو الأرانب والجرذان، ثم روعيت الحكمة في الرحمة الملحوظة في المواد لمخدرة التي تفرغها العنكبوت مثلاً في الذبابة عند اقتناصها فتكون مخدرة لا تحس بآلام.
لم يفكر العامة والجهلاء في ذلك وتبعهم رجال السياسة في سائر أقطار الأمم الأرضية. إن هذه النظرة السطحية في العلم قد آن أن يسقطه البرهان ويدحضه نوع الإنسان لأنهم درسوا.
جمهورية الحيوان(298/52)
لقد استبان للناس في عصرنا أن للنحل وللنمل ولكلاب البحر وللغربان نظماً عجيباً. وإن أبدع ما أدهشني مما اطلعت عليه نظام النمل الأبيض ذلك لذي ألف فيه العلامة (أوزوريك) الألماني في عصرنا الحاضر كتاباً خاصاً عنوانه النمل الأبيض وانتشر بجميع اللغات فترى فيه صورة الملكة وبجانبها الملك وهو أصغر منها جثة وقد رأيتها تحكم مملكة متسعة الأرجاء وهي عمياء وتحت إشرافها عمال وجنود يحفظون الأمن، ويشيد عمالها ممالك في الصحارى لم يقطعها الفرنسيون بمد السكة الحديدية إلا بالديناميت وهؤلاء العمال لهم نظام فوق كل نظام وعدل، ومنهم حراس في غاية الانتظام يقظون بل وصلوا على ما يقال إلى استنباط الماء من أوكسجين المادة وأيدروجينها، هذا هو النظام الذي يعيش على مقتضاه النمل الأبيض الذي تدير سلطانه ملكة واحدة تحت إمرتها عدد يبلغ أضعافاً مضاعفة لعدد الإنسان على وجه الأرض. يظن علماء العصر أن أمثال هذه الحشرات عاشت قبل الإنسان بما يزيد على ثلاثمائة مليون سنة وأن الإنسان لم يعيش عليها أكثر من ثلثمائة ألف سنة فتم نظام الأول ونقص نظام الثاني.
كافح الإنسان الأول أشد الكفاح ليصل إلى الحقيقة عن طريق القتال وساعده على ذلك تباعد الديار وحيلولة البحار والجبال بين الأمم - وهاهو ذا اليوم أزال الحواجز بالطيارات الطائرات والتلغراف بقسميه والراديو فاتصلت الأمم فآن لهم أن يفكروا - وهاهنا خاطبنا علماء الأمم وذكرناهم بأن نوع الإنسان لن يشذ عن قاعدة هذه المخلوقات - إننا نرى الحكماء والأذكياء في نوع الإنسان أقل عدداً من غيرهم كما قل البارعون في الجمال، ويقول أفلاطون قديماً: الناس ذهب وفضة ونحاس يريد بذلك الحكماء ورجال الجيش ثم الزراع والعمال وإضرابهم من سائر الناس. إذاً لم يتجاوز الإنسان نظام المعادن ونظام الهواء والماء، فقد قل الذهب ليصلح لتقويم الأشياء وكثر الحديد لكثرة الحاجة إليه، كما كثر الهواء وقل عنه الماء، فإن حاجة الحيوان إلى التنفس أكثر منها إلى شرب الماء.
النظام التام في المستقبل لنوع الإنسان
إن هنا لمنافع مادية وخواص طبيعية موزعة على الأرض، وما حولها من المخلوقات، وهاهنا قوى وأقدار موزعات على أفراد نوع الإنسان. إن هذه المواهب الإنسانية تقابل هذه(298/53)
الخواص والمنافع المادية، ولم يتسن للناس الانتفاع بهذه الخواص المادية إلا باستفراغ الجهد في استخراج تلك القوى الكامنة في أفراد نوع الإنسان. هذه هي التي تحل مسألة السلام.
فلتشكل لجنة من جميع الأمم تقوم بدراسة العامر والغامر في جميع القارات وتجد في أن تدرس أحوال الأمم كلها، وتمضي كل أمة على استخراج ما كمن في عقول أبنائها من القوى والملكات وما في أرضها من الكنوز المعدنية والزراعية وغيرها من الفوائد والثمرات، وكل أمة قصرت فيهما أو كليهما فلترسل هذه الجمعية العامة من أبناء الأمم الأخرى الذين هم أقرب إلى هؤلاء الجاهلين من يكمل نقصهم ويرفع شأنهم في القسمين معاً، ولهم في نظير ذلك فوائد وثمرات، فإن كل قوة كامنة في فرد لم تستخرج في أي مملكة من الممالك الأرضية، وكل منفعة كامنة في أي بقعة من بقاع أي مملكة أرضية لم تظهر في الوجود تكون خسارة وحرماناً لجميع نوع الإنسان فربما كان من هؤلاء لمهملين في بلاد الصين مثلاً من إذا علم أصبح مفكراً كبيراً أو طبيباً عظيماً يتعدى أثره إلى سائر الأقطار وهكذا في البقاع المهجورة في ممالك المعمورة.
دفع وهم
ربما يقول بعض الناس: إن قياس عقول الناس ومواهبهم على نظام السيارات حول الشمس وغيرها مبحث علمي ليس إلى تحقيقه من سبيل. وللإجابة على هذا الاعتراض أوجه نظر القادة والزعماء إلى فرع من فروع علم النفس في التربية وهو علم مقياس الذكاء فليسألوا مديري المدارس في الولايات المتحدة وفي إنجلترا وغيرها: أليس مقياس الذكاء له اليوم السلطان الأعظم على وضع الشبان ولشابات في لأعمال اللائقة لهم بعد نيل الشهادات العالية، كما له ذلك السلطان يم دخولهم المدارس؟ إن الناس صائرون إلى ما قلناه شاءوا أم أبوا فليدرس نظام العقول ونظام الممالك، وليعلم جميع نوع لإنسان طوعاً وكرهاً. إن من مبادئ ذلك أنهم أخذوا يصطفون من الشبان في جميع أهل الأرض أقدرهم على المصارعة والمسابقة فيعونه بطلً في تلك المصارعة والمسابقة، وهكذا يفعلون مع الفتيات فيصطفون منهن ملكة الجمال وذلك بمجرد الاختيار لا بالقنابل والخناجر والرمح، فهكذا سيكونون في نظم السياسة وإدارة لأمم وحفظ المجموع، سنة لله التي قد خلت في عباده ولن(298/54)
تجد لسنة لله تبديلً.
طنطاوي جوهر(298/55)
نعي الشتاء
للأستاذ محمود غنيم
تعادلَ الليلُ والنهارُ ... وأدرك القُرَّ الاحتضارُ
وراح فصلُ الشتاء يهوى ... في هُوَّةٍ مالها قرارُ
يا صفرة الموت أدركيه ... ليكسُوَ الأرضَ الاخضرارُ
كم ارتدينا فما وقانا ... منه شعارٌ ولا دثارُ
لا كان. هل فيه غيرُ برق ... من عينه يَقْدَحُ الشرارُ
وغيرُ رعدٍ يصكُّ سمعي ... كأنما صوتُه خُوارُ؟
يا من رأى قبله صريعاً ... غنَّى على رأسه الهِزارُ؟
أما ترى السُّحْبَ يوم ولي ... حفت لها أدمع غِزارُ؟
لا يُثْلجُ الغيثُ حين يَهْمى ... صدري ولو جفّتْ الثمارُ
وإن تغنَّت به تميمٌ ... وسبَّحت باسمه نزارُ
الدفءُ والضوءُ أين راحا؟ ... لينكشِفْ عنهما الستارُ
والطيرُ والأيكُ أين غابا؟ ... لينتفضْ عنهما الغبارُ
كم من نهار - مضى - عليه ... ثوبٌ من الليل مستعارُ
رياحه آذنت بحرب ... فالنَّقعُ في جوَّه مُثارُ
كأن شمس الشتاء ظبيٌ ... من طبعه الدَّلُّ والنِّفارُ
أو وجهُ عذراء ذاتِ خدرٍ ... تظنُّ أن السفورَ عارُ
لا بدره إن بدا لُجَيْنٌ ... كلا ولا شمسهُ نُضارُ
كم أصبح الفحْمُ - وهو َفحْمٌ - ... كالزاد لم تَخْلُ منه دارُ
كل امرئ كالمجوس فيه ... أمامه موقدٌ ونارُ
نجومهُ قد مشين حبواً ... وشمسُه جرَّها البخارُ
إن جَنَّ فيه الدجى انصرفنا ... فالأرضُ من أهلها قِفارُ
وبات كل امرئ سجينا ... في داره حوله حِصارُ
يا ليت أَعمارَنا ربيعٌ ... صِرْفُ ولو أنها قِصارُ(298/56)
لهفِي على معشر إذا ما ... دارت عروسُ السماء دارُوا
مَشَوْا معَ الشمس كلُّ فصل ... لهم به كعبةٌ تُزارُ
كم ضاق مشتى بهم وجادت ... لهم بشطآنها البحارُ
قد لطْفَ المالُ كل جوٍّ ... فلا صقيعٌ ولا أُوارُ
وبات في الحالتين يشقى ... من خانه مثلِىَ اليَسارُ
محمود غنيم(298/57)
وحي الربيع
أنفاس مرتعشة!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
إنْ رَأَيْتِ الكَرْمَ تَسْتيْقِظُ في الوَادِي حَيَاتُهْ
وَحَدِيثَ اُلْحبِّ في الأَعْشاَشِ ذَاعَتْ هَمَساَنُهْ
وَرَنِينَ الْبَاغِمِ الْمَسْحُورِ نَشْوَى نَغَمَاتُهْ
وَحَنِينَ اَلْجوِّ في الشُّطْآنِ رَفَّتْ سَبَحَاتُهْ
وَالْهوَى في مَعْبَدِ الْعُشَّقِِ عَادَتْ صَلوَاتُهْ. . .
. . . مِثُلَها عُودِي إِلَيَّا
وَاسْكُبِي النُّورَ لَدَيَّا
وَالرَّحيقَ الْعَبْقَرِيَّا
عَلَّ أَقدَاحَ اْلأَمَانِي ... تَسْعِدُ الْقَلْبَ الشَّقِيَّا
وَإِذَا بُستْاَنُكِ الهاجِرُ غَنَّاهُ اَلْخَيالُ
وَجَثَا السِّحْرُ بِدُنْيَاهُ وَناَغاهُ الدَّلاَلُ
وَانْتَشَتْ مِنْ طُهْرِكِ الْعَالِي بِشَطَّيْهِ الظِّلاَلُ
وأَتَاكِ الشِّعْرُ يُذْكِيِه حَنِينٌ وَاْبتِهاَلُ
كَنَبِيٍَّ تَحْتَ أَنوَارِكِ غَشَّاهُ اَلْجلاَلُ. . .
فَاذْكُرِينِي فِي جِنَانِكْ
عَلَّ فَيْضاً مِنْ جَنَانِكْ
أَوْ صَبَاحاً مِنْ زَمَانِكْ
يَسْكبُ النُّورَ لِفاَنٍ ... لَمْ يَعُدْ في الأَرْضِ حَيا!. . .
(وزارة المعارف)
محمود حسن إسماعيل(298/58)
رسالة المرأة
غرائب العادات في الزواج
للآنسة زينب الحكيم
بمناسبة الزفاف لملكي السعيد، الذي تشرح معالمه الصدور، وتبهج زخارفه لأبصار بحيث لا نرى داعياً لوصف الواقع، ولا ضرورة للتنبيه إلى روعته وفخامته، كم أنن لسن في حاجة لأن نسجل عنه شيئاً اليوم ليبقى مسطوراً على القرطاس للمستقبل، لأنه حادث ستضل ذكراه باقية في حافظة الشعوب عامة، وفي حفظة لشعبين المصري والإيراني خاصة. لهذا أذكر فيم يلي بعض غرائب العادات في الزواج في مختلف البلاد:
1 - شيكوسلوفاكيا: توجد عادة غريبة في بعض جهات تشيكوسلوفاكيا، وهي أن كل شباب يتقدم إلى فتاة كخطيب ثم يخفق في مسعاه يقدم إليها شريطاً تضمه إلى غطاء رأسها كالموضح بالصورة.
وكلما كثر عدد الأشرطة المقدمة للفتاة كن ذلك دليلً على شهرتها وارتفاع قيمتها في عين الخطاب الذين يتقدمون إليها. وعندما لا يبقى مكان لأشرطة أخرى تضاف إلى ما سبق أن علقته الفتاة على غطاء رأسها يتحتم على الفتاة أن تعزم أكيداً على اتخذ أمر تنفذه بالنسبة لزواجها. فتصمم على اختيار واحد ممن تقدموا إليها وتكون أسرة.
2 - إنجلترا: في إنجلترا يتمتع العازمون على الزواج بحرية عظيمة في اختبار الشريك أو الشريكة ولهم ملء الحرية في المخالطة والتعارف قبل الزواج. ومما يذكر عنهم بالإعجاب والفخر أن الخطيب أيا كان مركزه ومرتبه يترفع عن أن يشاكي خطيبته عندما ترفض الزواج منه مهما يكن مقدار حبه لها.
ويرجح الإنجليز ارتفاع نسبة الزواج الناجح عندهم إلى الأسباب المتقدمة وهي نسبة تفوق جميع النسب في العالم.
3 - فنلاندا في شمال غربي روسيا: لنساء فنلاندا طريقة مختصرة في معاملة خطابهن، وهي أن يوقد والد الفتاة شمعة أمام الهيكل في الكنيسة أثناء إحدى مقابلات أسرتي الخطيبين. فإذا تركتها ابنته تحترق كان ذلك دليلاُ على أنها قبلت الزواج من خطيبها. أما إذا أطفأت الشمعة فذلك دلالة على أنها ترفضه إذ لا توجد بينهما جاذبية.(298/59)
4 - السويد: إذا أكل فتى وفتاة من رغيف واحد من الخبز يقال إنهما متحابان دون ريب. فإذا كان ذلك صحيحاً يبدأ الخطيب التكلم في الموضوع، فيرسل صديقة له لتناقش الأمر مع أسرة الفتاة. فإذا نال العرض موافقة، يقدم الخطيب للتعارف إلى أسرة الفتاة في يوم الأحد المقبل بعد الحديث التمهيدي. وفي هذا الوقت لا يسمح للخطيبين بتجاذب أطراف الحديث أو بالمقابلة.
وفي صالة إعلان الخطبة يقام مهرجان يقدم فيه الخطيب للخطبة إناء فضياً يشبه فنجان الشاي الكبير بدون يد وبه قطع من النقود الفضية ملفوفة في أوراق. ويتبع ذلك الزفاف، وهما يتبادلان الهدايا وقت حضور القسيس.
5 - لابلاند وإيسلندا: عادة تكون السيدة أكبر سنا من الرجل، وتطول فترة الخطوبة، ويرجع هذا غالباً إلى المصاريف الباهظة التي تسببها المجاملات وما يظهر به الخطيب من احترام لأسرة خطيبته كواجب حتمي عليه. ويكلف أيضاً بتقديم هدايا متوالية لها ولأقاربها.
6 - اليونان: لا يسمح للخطيبين بالتقابل قبل يوم الزفاف إلا في مناسبات رسمية دقيقة. وفي إييرص عندما تكون الخطيبة قد تعرفت إلى زوجها في دار القسيس بعد أن باركهما، يطلب إليهما القسيس في رجاء شديد ألا يتقابلا ثانية حتى يوم زفافهما. . . .
7 - رومانيا: فيها عادة مشهورة جداً، ولو أنها انقرضت الآن تقريباً، وهي ما يعرف (بسوق الصبايا) ففي يوم عيد سنت بول (في 29 يونيو) يجتمع البنات على قمة جبل عال اسمه وتكون كل واحدة منهن مزودة بجهازها، ويحضر الخطاب مع آبائهم ويختارون خطيباتهم.
وتوجد في جهات أخرى من رومانيا عادات مشابهة كل الشبه لما يوجد في ألبانيا، إلا أنهم يؤجلون مهرجان العرس عند الطوائف المسيحية حتى تلد المرأة ولداً، لأنهم يعتبرون أن الغرض الأول من الزواج هو خلف الأطفال الذين يظمون إلى القبيلة فيزيدون عددها وقوتها.
8 - في غينيا الجديدة: للبنات والأولاد كامل الحرية في الاختلاط قبل الزواج، حتى لقد يضمون الليل سوياً، وإذا وجدوا أن لا بد من التغيير، فيفعلون ذلك حتى يتوق الخاطب إلى(298/60)
الخطيبة التي توافقه تماماً.
إذا قارنا ذلك بما يحدث في اليابان، وجدنا تبايناً كبيراً، لأن مسألة الزوج عندهم من غير الأفراد المحدثين، تترك كلها لتصرف الخاطب الذي يوفق بين الخطيبين، ويرتب تقابلهما وتعارفهما، ويكون ذلك في مقهى يتناولون فيه الشاي، ويكون على الفتاة تقديم شاي المهرجان لزوجها المنتظر.
9 - في جزائر سليمان: الفتاة التي تخطب لرجل عظيم تعتكف قسراً في خص بقرب خيام الحريم، ويقدم لها غذاء دسم، ولا يسمح لها بالخروج من ذلك الخص إلا مرة واحدة في اليوم لتغسل آنية نحاسية كبيرة. وتبقى على تلك الحال ثلاث سنوات متوالية تخرج في نهايتها من سجنها وقد نما على رأسها شعر أشبه بالفرجون الغزير جداً.
10 - هنود كندا: عندما يصمم رجل على الزواج يطلب إلى من اختارها أن تحزم له شراك صيده، ويكون هذا التكليف منه لها بمثابة مفاتحتها بالخطبة، فإذا قبلته كخطيب تطلب منه دون خجل أن يكلم أمها في الموضوع. وعادة تخبر البنت أمها بنفسها، وعلى ذلك ترشدها إلى بناء مسكن لها بجوار مسكنها، وعندما يقام مهرجان الزفاف يصبحان زوجين.
11 - في غينيا الجديدة: يتعارف المحبون في حلقات الرقص المشترك، فإذا أحب رجل امرأة لأول نظرة، وتبع ذلك عزم على الزواج منها، يفعلان ذلك دون جلبة أو إجراءات زواج من أي نوع؛ إلا إذا كان له منافسون فعندئذ يتقدم إلى والد الفتاة بثمن يدفعه له عنها، وأيضاً لا يتبع ذلك مهرجان زواج.
عادة التقبيل.
إن التقبيل بالفم عادة أوربية على ما يعلم. أما التقبيل عند الصين مثلاً فيكون بواسطة فرك الأنف والفم على الوجه.
أما في أفريقيا وغيرها من البقاع غير المتمدنة فلم يلحظ أن المحبين فيها يقبل بعضهم بعضاً. والرومانيون كان لهم عدة طرق للتقبيل، كتقبيل الوجنتين ويدل هذا على الصداقة. ويدل تقبيل الشفتين على العشق، ولا تزال هذه الاصطلاحات معمول بها في فرنسا وممالك أوربا.(298/61)
والرقص والألعاب المختلفة كانت كلها من مميزات الحياة الغابرة، (كما أنها اليوم ميزة الحفلات الساهرة في حياة المتمدنين) وكما أنها وما تزال الأسباب المباشرة للتعارف واختيار الحبيبات.
أما الغناء والرواية فأمرهما مشهور معروف، لا سيما في أيام البطولة والفروسية وعند كثير من القبائل. فالمحب قد يروي قصة غرامه غناء أو إنشاد حال يمثل أصدقاؤه الرواية عملياً، ولا يسع الفتاة المقصودة في كثير من الأحيان إلا أن تفتح ذراعيها في النهاية وتراقص خطيبها دليلاً على إتمام الزواج.
القبلة في بلاد الحبشة.
تعتبر القبلة في بلاد الحبشة روح الحياة الاجتماعية فيها، وهي على عدة أشكال، فتستعمل لكل تهنئة، وكدليل على الاحترام، وتمييز المقامات، وتمضى بها المعاهدات السياسية أو التجارية، والناس الذين لا يقبل بعضهم بعضاً علناً هم الأزواج والزوجات.
هذا ويشاهد أن الحب يظهر بين المتمدنين في سن البلوغ، ولكنه يظهر بين الهمج في الطفولة، حتى لقد ترى الأطفال الصغار يمثلون أدواره في ألعابهم. كما يعد عند قبائل أفريقيا من العار ألا يكون للبنت أحباء ويسخرون منها إذا كانت ذلك. أما الولد الذي ليس له حبيبات، فيعمل له سحر يجلب الحظ والتوفيق لإيجاد الحبيبات.
هذا قليل من كثير مما يمكن أن يذكر من غرائب عادات الزواج وفلسفات العواطف الإنسانية.
زينب الحكيم.(298/62)
رسالة العلم
الكون يكبر
العوالم منتشرة على حيز كروي محدود ولكنه يتسع.
للدكتور محمد محمود غالي
العوالم كالأسماك على شبك الصيد - أو كجسيمات على سطح
كرة تنتفخ - أثر تعديل إينشتاين لمعادلاته - الحيز الكروي
والعالم كون محدود -
في دراسة صورة الكون تجري المعارف أوسع الخطوات.
لو أن صياداً ألقى شبكته في الماء، فتعلق بها عدد من السمك، فمما لا شك فيه، تتوقف المسافة بين سمكة وأخرى على حالة الشبكة. قد يكون الصياد حسن الحظ، بحيث تتعلق سمكة على رأس كل معين في الصف المشار إليه بالسهمين: شكل 1 الذي يمثل هذه الشبكة، عندئذ يتحقق القارئ بنفسه أن الصياد قد وفق إلى اصطياد 16 سمكة. ولو أن السمك في عداد الكائنات، يرى ويفهم ويتصور، فإنه لا يعدم وسيلة، يتحقق بها من المسافة الواقعة بينه وبين كل سمكة.
لنفرض بعد ذلك، لسبب خاص بمهنة الصياد كسهولة إخراج هذه الأسماك، أن الصياد شد شبكته من الجهتين: اليمنى واليسرى في اتجاه السهمين بحيث اتخذت هذه الحبائل الشكل الثاني، الذي لا يختلف عن الشكل الأول إلا في أنه ممدود، فإن أي سمكة ترى جارتها الأولى ابتعدت عنها بمسافة معينة؛ ولكنها ترى الجارة التي تليها ابتعدت بضعف هذه المسافة، بحيث أن السمكة العاشرة مثلاً ترى كأنها قطعت عشرة أمثال ما قطعته السمكة الأولى، وعندئذ تعتقد هذه السمكة التي افترضنا أنها متأملة أن الأسماك كلها تبتعد عنها بالذات، أو أنها تهرب منها؛ وأنه كلما كانت الأسماك بعيدة عنها كانت سرعة ابتعادها كبيرة.
يتأنى هذا الإحساس للسمكة، لو أننا فرضنا أن الصياد قام بعملية شد الشبكة داخل الماء،(298/63)
وأن السمكة المتأملة لا ترى حبائل الشبكة أو قاع البحر أو أي شيء غير جيرانها من السمك الذي وقع مثلها في الحبائل. ولو أن السمكة المتأملة رأت كائناً آخر كالصياد أو شجرة أو شيء ثابت، أو لو أنها رأت الحبال نفسها لأدركت أنها هي أيضاً تناولتها الحركة بقدر ما تناولت السمك جميعه، وأن الأقدار شاءت لها هي أن تبتعد عن جاراتها بقدر ابتعادها عنها، وأنه ليس هناك مركز خاص للابتعاد، بل إنها وأخوتها جميعاً قد وقع لها نفس الحوادث.
أمران أود أن يعلقا بذهن القارئ:
الأمر الأول: هو أن السمكة المتأملة إن لم تر من الكون إلا الأسماك الستة عشر التي تحدد عوالمها، فلا أرضاً ترى ولا ماء ولا صياداً ولا شجرة، تصل إلى نتيجة تتلخص في ابتعاد كل الأسماك عنها بسرعة تتزايد كلما كانت المسافة بعيدة.
الأمر الثاني: هو أن السمكة العاقلة ترى من العوالم المحيطة بها حبائل الشبك ورمال الشاطئ، بل ترى الصياد والشجرة، وكل هذه أشياء ثابتة بالنسبة لها فتدرك أن أمراً آخر قد حدث: ذلك أن الحبائل كلها قد امتدت، وأن الحركة تناولتها والأسماك بدرجة واحدة فليس هناك فرار بالمعنى الأول، بل شاءت الأقدار أن تقع على كون هو حبائل الشبك، وأن هذا الكون يمتد.
قد نستطيع الآن أن ننتقل من حبائل الصيد إلى الكون، فكما أنه ليس هناك في الحبائل المتقدمة مركز ثابت بل إن كل جزء منها امتد فابتعدت كل سمكة عن الأخرى، وكما أنه يتراءى أن السمكة البعيدة تزيد سرعة ابتعادها عن سمكة معينة رغم أن جميع الأسماك تتناثر بقدر واحد، كذلك الكون لسنا فيه مركزاً لابتعاد العوالم، وهناك حيز يحملنا جميعاً هو الذي يمتد، ولا يمنع امتداده أن نلاحظ ازدياداً في سرعة العوالم كلما كانت بعيدة عنا.
هذه السمكة العاقلة اتخذتها مثالاً للكون الذي نعيش فيه، نحن كسمكة من ملايين ملايين الأسماك، ممتدة على حبائل أوسع من هذه، وهناك صياد ماهر لا نراه، يتصرف بالعوالم كما يتصرف صياد السمك بالست عشرة سمكة التي كانت من نصيبه، ويبحث العلماء فعل الصياد وأثر القوة الخفية التي تقوم بهذه العملية.
قد يعترض القارئ أن أسماكاً، في صفوف أخرى، تقترب في الوقت الذي تتناثر فيه الست(298/64)
عشرة سمكة المتقدمة، ولكن عليه أن يتصور أن حبائل الشبكة من مادة تجيز التمدد في جميع الجهات.
مثال أخر يقرب للقارئ الصورة التي يعتقدها العلماء في الكون، ذلك أن تتصور كرة من المطاط، انتشرت على سطحها وفي داخل قشرتها جسيمات صغيرة جداً، فإنه عندما تنتفخ هذه الكرة، تبتعد هذه الجسيمات الواحدة عن الأخرى وفق القانون المتقدم، بحيث يبدو ونحن عند جسيم معين ازدياد ابتعاد الجسيمات الأخرى كلما كانت بعيدة عنه.
هذه صورة الكون الذي يفسر مشاهداتنا إلى حد، ولا يزال علينا أن نعرف مدى ما يساعد عليه العلم النظري من التثبت من هذه الصورة، ويلزمنا قبل أن نبدأ هذا الشرح أن نلخص الوقائع التي نعرفها حتى الآن، ثم ننتقل إلى تعرف الحيز الحامل لنا، هذا الحيز الموجود في إطاره كل العوالم الطبيعية، والذي سنرى أنه يختلف عن حيز أقليدس اللانهائي.
أوضحنا أننا كما نستطيع أن نعرف اقتراب أو ابتعاد قاطرة عنا من سماع صفيرها، كذلك يمكن معرفة اقتراب أو ابتعاد مجموعة من النجوم عنا من موضع خطوطها الطيفية على الطيف العادي، ففي حالة ابتعاد هذه النجوم تقترب خطوط طيفها من الجهة الحمراء، وفي حالة اقترابها نقترب من الجهة الأخرى، وتتعين سرعة ابتعاد النجم أو اقترابه من درجة اقتراب خطوطه الطيفية من أحد الطرفين.
وذكرنا أن العلوم النظرية والتجريبية قد برهنت على ابتعاد جميع العوالم عنا، كما برهنت على زيادة سرعة ابتعادها من بعدها، فالعوالم، التي تفصلنا عنها مسافة يقطعها الضوء في 3 ملايين سنة، تبعد عنها بسرعة 500 كيلو متر في الثانية تقريباً، أما العوالم المفصولة عنها بمسافة 150 مليون سنة ضوئية فتبتعد عنها بسرعة 25 ألف كيلو متر في الثانية.
وتساءلنا لماذا تبتعد كل العوالم عنا، وأعطينا الآن صورة للكون الذي نعلم عنه أن كل عالم فيه يبتعد عنا، وأن سرعة الابتعاد تتزايد كلما كان بعيداً. هذه خلاصة ما وصلنا إليه، على أننا نخطو بالقارئ خطوة أخرى إلى الأمام.
مهما يكن من الأمر فإنه لم يكن هناك غير طريقين لنجد تعليلاً لهذه السرعة الكبيرة للسدم التي تبتعد كلها عنا.
(1) إما أن هناك قوة إلى الخارج تدفع هذه الكائنات إلى السباق والتنافر.(298/65)
(2) أو أن تكون هذه السرعة موجودة ولازمة لهذه العوالم منذ التطور الأول للخليقة، ومن يدري ماضيها؟ فقد تكون أكبر من ذلك بكثير.
على أني لا أريد أن يفوت القارئ، أن هذه السرعات الكبيرة، قد لفت النظر إليها البحث النظري قبل البحث التجريبي هذا البحث النظري الذي بدأ بمعادلات (أينشتاين) عن النسبية في وضعها العام، والذي تتبعه دراسة (دي سيتير) الذي توقع هذا التنافر للعوالم البعيدة. ولنعد بكلمة أخرى إلى عمل (أينشتاين) لنرى العلاقة بين عمله وبين صورة الكون.
عندما نشر أينشتاين نظرية النسبية في وضعها العام سنة 1915 التي تناول فيها فيزيقية المجال، والتي درس فيها المادة والكهرباء والإشعاع والجهد، كان أهم جزء في نظريته قانون الجاذبية، الذي يتفق في الحدود العادية مع نظريات نيوتن القديمة، على أينشتاين قد واجه في ذلك الوقت بعض الصعوبات التي لكي يذللها، عدل معادلاته بحيث أصبحت تسمح بتقوس الحيز للمسافات البعيدة، فحذف بعبقريته فكرة اللانهائية التي كانت تشغل دوراً في العلوم، بحيث إذا سرنا في حيز أو كون أينشتاين الجديد دائماً للأمام، رجعنا للنقطة التي بدأنا منها المسير.
هذه المعادلات الجديدة الخاصة بالجاذبية، نرى فيها ثابتاً جديداً يطلقون عليه الثابت الكوني على أن الذي يهمنا أن هذا الطرف الجديد في معادلات أينشتاين خاص بوجود تنافر بين مجموعات الأجرام السماوية، يتناسب مع المسافة، تنافر كوني ليس له مركز خاص، أي أنه قوة متعلقة بالثابت الكوني وتتناسب معه.
ومما هو جدير بالذكر أن المسألة التي نحن بصددها الخاصة باتساع الكون وتعاظم مسافاته، لم تكن قط موضع نظر أينشتاين ولم تكن بين المبررات التي دعته للتعديل الذي قام به هذا العالم الذي لم يهتم للثابت الكوني بقدر اهتمام البروفسير فايل له فيما بعد.
على أن تفكير أينشتاين هذا، أفاد في معارفنا فيما يخص الكون، وخرج بنا من غير قصد من مصاعب كان لا بد أن نلقاها، ذلك أنه إذا اعتبرنا المسافات البعيدة عن 150 سنة الضوئية التي كانت أخر حدود رؤيتنا نصل إلى أجرام تقرب سرعتها من سرعة الضوء، وليس هنا المجال لنذكر ما في ذلك من تناقض للنظريات الحديثة؛ ولعل القارئ يدرك الآن(298/66)
كيف يمنعنا أينشتاين الذي كان لا يعرف هذه الصعوبة القائمة أمامنا، من التوغل في الكون بشكله الذي نستوعبه، لأن الكون مغلق على نفسه ولأننا لا نلبث أن نعود من حيث نظن أننا لا زلنا نتوغل فيه.
لست الآن بصدد أن أذكر القارئ أن الرياضيين توصلوا منذ أكثر من مائة عام إلى فرض حيز مقوس يختلف عن حيز أقليدس، وليس في نيتي في هذه الأسطر أن أستعرض علماً من أهم العلوم المعروفة اليوم، هو هندسة ريمان وهندسة لوباتشيفيسكي التي تعتمد كلاهما على تقوس الحيز، وتختلف عن الهندسة التي اعتدنا حل مسائلها في المدارس، والتي لا وجود فيها للخطين المتوازيين، إنما أريد أن ألفت نظر القارئ إلى أن دراسة دقيقة للحيز الطبيعي أوصلت العلماء لخاصية تقوسه، كما أوصلت ريمان لنفس النتيجة. أما ريمان فوصل لهذا التقوس لعدم إمكان إثبات نظرية واحدة، من بين الأربع والعشرين نظرية لأقليدس التي تعلمناها في المدارس، وهي نظرية خاصة بالمتوازيات. أما الطبيعيون فقد وصلوا لهذا التقوس بتجارب سنأتي عليها عندما نتكلم عن النسبية.
وهكذا ظهر لنا حيز أقليدس المستقيم مقوساً، وظهر لنا أن هذا التقوس صفة طبيعية تسمح التجارب اليوم بالتحقق منها، كما نتحقق من وجود المجال المغناطيسي دون أن نراه.
وهكذا كما نصادف في الطبيعة سطوحاً منحنية، نصادف فيها حيزاً منحنياً، أي أن له هذه الخاصية من التقوس الممكن قياسه ولكن يوجد فرق جوهري بين التقوسين، ذلك أن يجوز لنا في السطوح أن نعدلها أي نحذف خاصية الانحناء منها، وذلك بالقيام بعملية معاكسة للانحناء، ولكن لا نستطيع في الحيز أن نجعله يتخلص من هذه الخاصية، أي انه لا يمكن تعديل صفته الطبيعية كما هو الحال في السطوح.
هذا الحيز أو الفراغ في حالته البسيطة حيز ذو أربعة أبعاد، وهذا البعد الرابع هو الذي ينحني الحيز في اتجاهه - هذا التمثيل الرباعي الأبعاد، في الحالة البسيطة المتناسقة، يصبح سداسياً أو ذا عشرة أبعاد عندما ننتقل من الحيز العادي إلى الحيز في الزمن، وليس للقارئ أن يرتبك بهذا الحيز الأخير وعلى حد قولهم - إن ما يميز العالم الرياضي من غيره أن الأول يرى الأشياء في أربعة حدود، إنه لا شك أن ثمة صعوبة في تخيل الحيز ذي أربعة الأبعاد، ويتصور أدنجتون لذلك فقاعة كبيرة، هذه الفقاعة ذات أربعة حدود،(298/67)
حيث الطول والعرض والارتفاع، موجود كله في القشرة المكونة لها.
هذا الحيز ذو الثلاثة أبعاد المعوج في حيز ذي أربعة أبعاد، يعطينا الرياضيون عنه خواص تتصل بفهمنا للكون، منها أن التقوس كاف ليعطينا حيزاً مغلقاً يختلف عن الحيز المفتوح اللانهائي بالطريقة التي يختلف فيها سطح الكرة عن سطح مستو غير محدود.
كل ما أريد أن يعلق بذهن القارئ هو أن يعتقد أن الحيز المتقوس نتيجة رياضية، ونتيجة عملية في أن واحد، ونكرر القول أن الحيز الطبيعي الذي نحن فيه، حيز من شأنه أن خطا ما، أو موجة ضوئية أو كهربائية، تعود إلى النقطة التي بدأت منها، بعد أن يكون كل منها قد دار حول الكون.
صحيح قد دلتنا التجارب حتى اليوم على أن التقوس صفة ضرورية ولازمة في جزء من هذا الحيز، هو جزء محدود بحدود رؤيتنا فهل يتقدم العلم التجريبي تقدماً يثبت فيه أن هذا الحيز محدود وأنه مغلق؟ هذا ما يعتقده العلماء.
هذا الحيز المتقوس والمقفل على نفسه، يعتقدون أنه كروي، وأن وجود المادة فيه من أن لآخر يحدث اختلافات فيه عندها، كما تحدث الجبال اختلافات في كروية الأرض، وكما أن المساحة الجانبية للكرة الأرضية محدودة، كذلك حجم الحيز الكروي للكون محدود، ولكنه يكبر.
قد يتساءل القارئ: ما لي وكل هذا؟ لماذا هذه الصورة من الكون التي تمنعني تصوراتي من استيعابها؟ أو نحن في حاجة لهذه الصورة المعقدة، لنفهم تمدد العوالم وابتعادها الواحد عن الآخر؟ ألا يكفينا الفراغ الأقليدسي القديم الذي اعتدناه في المدارس، والذي فهمناه على أيدي مدرسين قديرين، قطعوا السنين الطويلة في تلقيننا صورته، والذي دخلنا من أجله عشرات الامتحانات؟ ألا يكفي حيز أقليدس الذي أتصور فيه الطول والعرض والارتفاع لأي كائن كما أتصور فيه المسافات مهما ابتعدت؟
وجوابنا أن عالمنا الأقليدسي لا يكفي لفهم الظواهر الجديدة في تمدد العالم، ويتناقض مع معارفنا الحالية، وإنني إذا كنت أجهدت نفسي في أن نفهم معاً كوناً كروياً، كروياً ليس كالكرة المعتادة، فلأن لذلك صلة كبرى، إن لم تكن بتمدد الكون في ذاته، فعلى الأقل بالنتائج التي تترتب على هذا التمدد. . . نتائج سيدهش لها القارئ عندما أدله عليها في(298/68)
المقال القادم.
ومع كل ذلك فليس ثمة سبب جدي لهجر كون محدود وحيز متكور، للرجوع إلى حيز أقليديسي غير محدود وهو بهذا غير معقول، ما دام العلم النظري يجيز الحيز الجديد والعلم التجريبي يحتمه.
هب أن أحد المؤرخين، مهما علت مكانته، وصف لنا مقبرة خوفو بالجيزة مخروطاً قائماً في الصحراء، وهب أننا رأينا رأى العين أن هذه المقبرة تمثل شكلا هرمياً، له قاعدة وأربعة أوجه، فليس لنا أن نواصل وصف الأهرام كمخروط وهو ليس بمخروط
ومهما يكن من عدد ملايين النجوم والسدم، أليس أقرب للذهن تصورها على كرة محدودة عن تصورها منتشرة في فضاء لا نهائي؟ هذه اللانهائية تتضاءل يوماً بعد يوم، وإذا كانت هذه المجموعة يبتعد بعضها عن بعض، فبدهي أنه يلزم لها حيز يكبر بحيث يقبل هذا التباعد، ومن السهل أن نفهم ذلك لو تصورنا مخلوقات عديدة موزعة على الأرض. إن هذه المخلوقات لا يمكنها أن يبتعد كل واحد منها عن الآخر، دون أن تقترب في نفس الوقت من أي كائن على الأرض، إلا إذا تصورنا إن الأرض أن نفسها تكبر.
هذا هو الكون يدلنا العلم أنه محدود وأنه يمتد في جميع أنحائه، على نحو كرة المطاط السابقة، أو حبائل الصيد المتقدمة، قد تدل الأيام على خطأ في هذا التقدير، وقد تظهر هذه المسائل في يوم آخر بلون جديد، ولكن إذا أردت أن تعرف شكل الكون من هؤلاء الذين شغلوا أنفسهم بدراسته، فقد دللتك على آرائهم، وليس أمثال دي سيتير وأينشتاين وأدنجتون وغيرهم ممن لا يقام لرأيهم وزن، وغايتي بعد الذي وصلنا إليه أن أشرح للقارئ النتائج التي ترتبت على هذه الظاهرة الجديدة - ظاهرة تمدد الكون - نتائج أهم ما فيها الوصول لعلاقة بين الكون في مجموعه، وبين الذرة والإلكترون، أي بين الكون وأصغر ما فيه، بل الوصول إلى معرفة عدد ذرات وإلكترونات الكون مهما كان هذا الكون عظيماً.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية.(298/69)
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهندس خانة.(298/70)
رسالة الفن
الأغاني المصرية
للفنان محمد السيد المويلحي
أعتقد أن أسمى اللغات قاطبة وأقربها إلى العقل والقلب، وأكثرها شيوعاً وانتشاراً في مسالك الأرض: هي الموسيقى وحدها لأنها لغة الطبيعة السهلة التي تجري على كل لسان لتعبر عن خوالجه، وتترجم إحساسه وتصور أمله وعقله، بل وتسجل مقدار ما يتمتع به من حضارة وسمو، أو ما هو عليه من انحطاط وخمول!
ولا أحب في هذا المقام أن أستشهد بأقوال حكماء العالم فإنها معروفة، وإنما أحب أن أركز هذه الأقوال جميعاً في جملة واحدة للحكيم الصيني (كونفوشيس) الذي قال: (أروني أغاني أمة من الأمم أركم مدى ما وصلت إليه من حضارة ورقي. .!).
وقبل أن أعرض مع القارئ مبلغ ما وصلت إليه (أغانينا) من حضارة ورقي أو انحطاط وهبوط، سأحاول - ما استطعت - أن أعطيه فكرة عن الأغاني في شيء من الإيجاز، فإن للإسهاب وقتاً آخر.
1 - الأغاني الوصفية: وتشمل الموسيقى المسرحية ومحاكاة ما تسمعه الأذن من التفاعيل الطبيعية.
2 - الأغاني الحماسية: وتستعمل في إشعال النفوس وتهيئتها لجو الحروب، والتضحية والفداء. . .
3 - الأغاني الشعبية: وتمتاز بلونها السهل الذي لا تركيب فيه ولا تعقيد.
4 - الأغاني الغزلية: وهي التي تترجم خلجات النفس وأماني الفؤاد، وتصوير ما يلاقي الإنسان في حبه من توفيق أو فشل، وأثر هذا التوفيق أو هذا الفشل في حياته وتفكيره. .
5 - الأغاني الصوفية: وهي التي يتداولها رجال (الذكر) ببراعة بارعة وقدرة قادرة على التصرف والخروج من نغم إلى نغم ومن مقام إلى مقام؛ ثم الرجوع إلى النغمة الأصلية والمقام الأول بسلامة ودقة.
6 - أغاني العمال: ويستعملونها لمساعدتهم على أعمالهم الشاقة واحتمال ما هم فيه من حاجة وضنى.(298/71)
7 - أغاني الفرح: ويعبر بها الإنسان عن هناءته وسعادته وحبه لكل شيء جميل في الحياة. .
8 - أغاني الأطفال: وتستعملها الأمهات للتنبيه وللمناجاة، ولجلب النوم، ولإطفاء الغضب.
9 - أغاني الحيوانات: ويستعين بها الرعاة والحدأة على السيطرة على الحيوانات لتنتج أعظم إنتاج وأوفره. .
10 - أغاني النواح: وهي التي تجري لحناً حزيناً مؤثراً فتلهب العواطف، وتحرك القلوب، وتثير الدموع.
11 - أغاني المناسبات: وهي التي تغني في أوقات خاصة لمناسبات خاصة كأغاني رمضان، وأغاني الحج، وأغاني المواليد، وأغاني الزار. . . الخ.
12 - أغاني الكنيسة: وهي من أروع الموسيقى القديمة ولها لون يضفي على النفس إهاباً من السعادة والنور.
هذه بعض الأغاني التي تستعمل بعضها أكثر الشعوب استعمالاً يتفق وحضارتها أو تأخرها. فالشعوب الحية الناهضة تستعمل الأغاني الوصفية، والحماسية، والشعبية والخ، وقلما تلجأ للأغاني الغزلية إلا في القليل النادر، وفي البيئات المحدودة، ثم هي لا تعرف أغاني الحزن أو تعرفها ولكن لا تعزفها. .!
والشعوب (الرخوة) المتأخرة هي التي تفني نفسها في أغاني الحب وأغاني الحزن، وذلك لانعدام قدرتها على السيطرة على عواطفها، والتحكم في خوالجها فهي خاضعة لشهواتها، أسيرة لغرامها، لا تعرف من الحب إلا (آهاته وأناته. . .)!.
ولننظر الآن في أغانينا لنحكم بأنفسنا على مبلغ ما وصلنا إليه فيها. . .
إنها بلغت درجة الإسفاف والانحدار تأليفاً وتلحيناً وبخاصة في السنوات الأخيرة، حتى أن الشعب أصبح على رغم صيحات الإنكار وصرخات الاحتجاج التي يرسلها المصلحون الناقمون على هذا التبذل الرخيص والمشفقون على الوطن، وشباب الوطن من هذا (اللون) المسترخي البغيض الذي يشيع في كل كلمة وكل لحن والذي تتناقله الألسن إما إعجاباً، أو محاكاة، أو ترديداً لا أكثر ولا أقل. . .!
أقول إن الشعب برغم كل هذا لا يحرك ساكناً، ولا يرسل صيحاته وإعجابه إلا للمغنى(298/72)
الذي يبكي أمامه ويندب حظه وحبه ويبدي ذله ودموعه بشكل ضعيف سخيف، وإلا للمغنية التي تتأوه، وترثي حبها وحبيبها فتصف قلبها الذي أضناه البعاد، وحسنها الذي أذواه السهاد. . .
فإذا حاول مطرب بعد هذا أن يساهم في حركة الإصلاح فغنى مشيداً بتاريخ بلده العظيم، أو حاضاً على النهوض والوثوب أو مصوراً جلال الحضارة ورفعة المستقبل، لا يقابل إلا بالفتور.
فمن ذا الذي خدر أعصاب هذا الشعب، حتى غدا لا يستسيغ إلا الساقط المسترخي الذي لا يقوم على أساس ولا ينهض إلا على الأنين المدعى، والحنين المصطنع؟
من ذا الذي فرض تلك الأغاني التي لا فكرة فيها، ولا غرض منها إلا ابتذالها وانحلالها؟
للشهرة نصيب، وللجهل نصيب!
فقد انتهز بعض المشهورين بالنواح والبكاء فرصة هجعة الحياة المصرية ففرضوا (لونهم) على الشعب فرضاً، وسمموا حواسه وخدروها بالآهات المصطنعة، وبالأنات المفتعلة؛ ودأبوا طول هذه السنوات لا يغذونه إلا بهذا الغناء المسموم، ولا يسمعونه إلا موسيقى جافة ميتة، وإلا ألفاظاً ساقطة لا حياة فيها ولا فكرة تحييها، ولا غرض يسمو بها إلى أفاق المجد الذي تفيض به الأغاني الأجنبية حتى أصبحوا - الآن - حجاباً صفيقاً بين الشعب وبين نوابغه من الموسيقيين العباقرة الذين ظلمتهم الشهرة الطاغية، فوقفوا صامتين مقيدين لا تسمح لهم ضمائرهم بالهبوط إلى ذلك الدرك، ولا ترحمهم الحاجة الملحة إلى طلب القوت فترفع إليهم هذا الشعب الظالم نفسه وأهله.
لا أريد هنا أن أسمي بعض المطربين والمطربات، ولكنني أقول: إن بعضهم - وهم الذين يتحكمون في سوق الأغاني وفي سوق الإذاعة، وفي سوق التمثيل السينمي في هذا الوقت على الأقل - أقول إنهم قد اغتنوا واقتنوا ما يغنيهم عن استغلال أحط الغرائز الإنسانية التي لا تزال تتغذى منهم هذا الغذاء المجرم! ما الذي يمنعهم من أن يساهموا في هذه الطفرة المباركة التي ستنهض بالشعب عن طريق أغانيه؟ ما الذي يمنعهم من أن يتركوا البكاء ولعويل ويساهموا في رفعة الشعب فيعرضوا عليه ألواناً من الحماسة والشجاعة والوصف الطبيعي الجميل؟ إن تاريخنا مجيد سجدت له الدنيا، وإن حاضرنا عظيم بنفوس(298/73)
أبنائه وهمة ملكيه الشاب المفدى، فلم لا نخرج للدنيا ألحاناً خالدة خالية من الحب، والغدر، والهيام السقيم واللون الإفرنجي الذي يخالف ذوقنا وفننا كما أشار بذلك سيد لشباب وحفيد إسماعيل. . .؟
إن بلادنا غنية بجمالها وجلالها، وإن شمسها وقمرها وسهولها وزروعها ونخيلها ونيلها، لو اتخذت موضوعاً للوصف والغناء لكانت فتنة للقلب، وسحراً للسمع، وإشادة صادقة بجمال صادق فذ فريد!
إن الشعب كالعجين في أيدي الشعراء، والزجالين، والمطربين والمطربات. . . يتشكل بالشكل الذي يريده هؤلاء جميعاً فلم لا نهيئه للجو الذي نريده ويريده مثقفوه؟ ولم لا نضطره إلى قبول هذا اللون الجميل الجليل بل إلى حبه وهو الذي يقبل منهم التافه المنحل. . .؟
إن الذين طبعوه على البكاء يستطيعون - لو أخلصوا - أن يطبعوه على حب المجد والتضحية ومسايرة الشعوب الحية الناهضة القوية، وإن الذين صوروه في هيئة الرجل الذي لا يعرف إلا قلبه وحبه، يستطيعون أن يصوروه في هيئة الرجل لذي لا يعرف إلا مجد وطنه وفخر أمته.
إن محطة الإذاعة يقع عليها جزء كبير من هذه التبعة فلن نكتفي منها بمحو كلمات (الذل، والهجر، والغدر) من الأغاني، بل نطمع في مساعدتها ومساهمتها في هذا المشروع العظيم بكل ما تملك من سلطة وقوة. . . نطمع منها أن تمنع بتاتاً (أهازيج الغرام، وأدوار الهيام) وإن تشجع هؤلاء الذين يتقدمون إليها بأغانيهم القوية تشجيعاً يحفزهم على مواصلة عملهم والتقدم بفنهم إلى الأمام أبداً. . .
عيها أن تضرب (بالشهرة) عرض الحائط، وستجد من الشعب المثقف ومن الصحافة خير مشجع لها ومشيد بفضلها.
إن الأمر لن يكلفها إلا القليل من الجرأة والإيمان بعدالة هذه القضية فهي متعاقدة مع بعض كبار الملحنين فلتكلفهم بتلحين جديد لكلام جديد. . . فإن عجزوا فالمباريات لن تعجز والجيل الجديد من الموسيقيين لناشئين لمثقفين لن يعجز!
اعتقد أن وزارة المعارف وهي التي تشجع الفنون على اختلاف أنواعها لن تظن على(298/74)
الموسيقى بتشجيعها، وعلى رأسها وزيرها الأديب، ووكيلها لموسيقى بفطرته، ولذي يتمنى أن يرى الموسيقى قد أخذت مكانها الرفيع في التثقيف والتهذيب والتطريب القوي الذي لا انحدار فيه ولا استرخاء.
إن الوزارة لو اشتركت مع محطة الإذاعة في عمل مباريات تنظر فيها لجنة فنية من كبار الموسيقيين تكافأ بما يتناسب وجلال هذه المهمة لكنت خطوة موفقة، ولو كلفتهم الوزارة والمحطة بعمل قطع جديدة وكافأتهم مكافأة حسنة لكانت خطوة أكثر توفيقاً، وأكبر نجاحاً.
أيها الناس. . . لقد سئمنا الشهرة، وسئمنا هذا الاستغلال الذي يتنافر وشرف الفن، ومللنا هذا لبكاء المريض لذي لا يتفق وحضارتنا، وكبرياءنا.
نريد أن نحيا كما يحيا غيرنا. نريد أن نفخر بعزتنا، وبوطننا، وبملكينا الذي يود أن يسمو بالأغاني عن منطقة الدموع والشهوات والقلب والحب، والحسرات والزفرات. حتى لا يقال عنا إننا لا نعيش إلا لشهواتنا وقلبنا. . .!!
محمد السيد المويلحي(298/75)
البريد الأدبي
النواحي الإنسانية في الرسول
قرأت كلمة للأستاذ زكي مبارك في العدد (297) من مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان، وقد بنى هذه الكلمة على أساس أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم لم تدرس حق الدرس إلى اليوم في البيئات الإسلامية، لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال، فهولا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلا بإشارة من جبريل.
ولو أن الأستاذ زكي مبارك رجع إلى ماضيه في الأزهر فقرأ شيئاً من كتب الأصول، لعرف أن المسلمين لم يكونوا بهذا الشكل الذي يصورهم به. وقد نعذر بعض المستشرقين إذا قال مثل هذا القول، ولكنا لا نعذر الأستاذ زكي مبارك، وقد تربى بين شيوخ الأزهر، ودرس الكتب الأزهرية، ووصل فيها إلى الحد الذي جعله يقدم نفسه من عامين لامتحان شهادة العالمية.
فليس بصحيح أن المسلمين يعتقدون أن النبي لا يتقدم ولا يتأخر في جميع أحواله إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلا بإشارة من جبريل، والذي يعرفه المسلمون جميعاً أن الوحي لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وسلم شأن في أمور الدنيا، حتى ورد عنه هذا القول المشهور: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقد قال هذا حينما رأى قوماً يؤبرون النخل، فقال لهم: لو تركتموه لصلح، فتركوه اتباعاً لقوله ففسد، فلما رجعوا إليه قال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
أما أمور الدين فقد جوز أكثر العلماء له الاجتهاد فيها بدون الوحي، وجوزوا عليه الخطأ فيها أيضاً، ولهذا عوتب في القرآن الكريم بقوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) وبقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى).
وقد منع بعض العلماء أن يجتهد النبي في الأحكام من نفسه واستدلوا بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحي) وأجاب الذين ذهبوا إلى جواز ذلك بأن هذا مختص بالقرآن الكريم، وقد جاء رد لما زعمه المشركون من افترائه له.
فهل بعد هذا كله يصح أن يقول الأستاذ زكي مبارك: إن شخصية الرسول لم تدرس عند(298/76)
المسلمين حق الدرس إلى اليوم؟ وهل من اللائق أن نتنكر لماضينا هذا التنكر؟
عبد المتعال الصعيدي
من ملك مصر والشام إلى ملك بيت المقدس
قاتلهم فكان خير مقاتل، وهادنهم فكان أفضل مهادن، وغلبهم فكان أكرم غالب، وتكلم في الحرب فكان القول زمجرة ونهيما، ونطق في السلم فكان الكلام عندلة وهديلاً، وللهيجاء لسان، وللموا دعة لغة. وكانت لهم في (بيت المقدس) مملكة استمرت مائة عام إلا قليلاً، ومات ملكها وبين (المغير والذائد) هدنة، فأرسل بهذا الكتاب معزياً، ونحن ننشره في (رسالة العرب والعربية) نموذجاً من أدب النفس والخلق العالي والسياسة الحكيمة.
إنه (صلاح الدين) تلميذ (محمد) خادم محمد، صلى الإله على محمد!
(كتب القاضي الفاضل عن السلطان (صلاح الدين يوسف ابن أيوب) إلى بردويل أحد ملوك الإفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه، معزياً في أبيه، ومهنئاً له بجلوسه في الملك بعده، ما صورته:
أما بعد: خص الله الملك المعظم حافظ بيت المقدس بالجد الصاعد، والسعد الساعد، والحق الزائد، والتوفيق الوارد؛ وهنأه من ملك قومه ما ورثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه، فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق، والنعي الذي وددنا أن قائله غير صادق؛ بالملك العادل الأعز الذي لقاه الله خير ما لقي مثله، وبلغ الأرض سعادته كما بلغه محله؛ معز بما يجب فيه العزاء، ومتأسف لفقده الذي عظمت به الأرزاء؛ إلا أن الله سبحانه قد هون الحادث، بأن جعل ولده الوارث؛ وأنسى المصاب، بأن حفظ به النصاب، ووهبه نعمتين: الملك والشباب. فهنيئاً له ما حاز، وسقياً لقبر والده الذي حق له الفداء لو جاز. ورسولنا الرئيس العميد مختار الدين أدام الله سلامته قائم عنا بإقامة العزاء من لسانه، ووصف ما نلنا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخلو مكانه، وودنا الذي هو ميراثه عن والده من ودادنا، فليلق التحية بمثلها، وليأت الحسنة ليكون من أهلها؛ وليعلم أنا له كما كنا لأبيه: مودة صافية، وعقيدة وافية؛ ومحبة ثبت عقدها في الحياة والوفاة، وسريرة حكمت بالدنيا بالموافاة؛ مع ما في الدين من المخالفات. فليسترسل إلينا استرسال الواثق(298/77)
الذي لا يخجل، وليعتمد علينا اعتماد الولد الذي لا يحمل عن والده ما تحمل؛ والله يديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضي له بموافقة التوفيق، ويلهمه تصديق ظن الصديق)
ذلكم كتاب بطل المسلمين وقاهر الصليبين (صلاح الدين) وإن (معزي) ملك بيت المقدس هو (منقذ) بيت المقدس.
(الإسكندرية)
* * *
التصوف الإسلامي
أخي الأستاذ الزيات
يسرني أن أقدم إليك القصة الآتية: لما ظهر كتاب التصوف الإسلامي كنت أنتظر أن يقع من جميع الباحثين موقع القبول، ثم أزعجني أن يتلقاه بعض الناس بالكدر والامتعاض. وقد دلني ذلك على أن التضامن منعدم بين أدباء هذا الجيل.
وأعيذك أن تظن أني خائف على نفسي من لجاجة بعض الحاقدين. وكيف أخاف وذلك (البعض) واحد من جملة الذين عادوني وخاصموني ثم ارتدوا على أعقابهم خاسرين؟
أما الخوف على كتاب التصوف الإسلامي فهو لا يخطر في البال، لأن الكتاب سيشق طريقه إلى القلوب والعقول، ولو تظاهر الناس كلهم على دفع أمواجه الأدبية والفلسفية.
وإنما أشغل نفسي بهذه القضية لسببين: الأول حق التاريخ، والثاني حق الواجب.
أما حق التاريخ فهو تسجيل ظاهرة من ظواهر الأخلاق، لأن ذلك الأستاذ لذي يحارب كتاب التصوف الإسلامي هو رجل دفعت عنه كيد خصومه بكلمة قوية نشرتها في مجلة الرسالة، وما أمن عليه بما صنعت من جميل، وإنما أسجل أننا قد نخطئ مواطن الجميل في بعض الأحيان.
أما حق الواجب فهو دفع الأذى عن العقول التي تقبل على مؤلفاتي، فما يجوز أن أترك أنصاري عرضة لأراجيف المتقولين والحاقدين.
فما الذي عابه ذلك الأستاذ المفضال؟
1 - قال: إني كتبت في التصوف ولست صوفياً، ولا يجوز عنده أن يكتب في التصوف(298/78)
غير الصوفية!
وأجيب بأني درست التصوف من الوجهة الأدبية والفلسفية وقد وصلت من ذلك إلى ما أريد. أما القول بأني لست صوفياً فهو قول مردود، فتلك أسرار يعلمها الله ويجهلها الناس وأنا أكره أن أصف نفسي بالتقوى والزهد والتنسك لئلا أقع في بلية الرياء؛ وقد قلت ألف مرة إني أحب أن ألقي الناس بالفجور وألقي الله بالعفاف، وأنا راض عن نصيبي عند علام الغيوب.
2 - وقال: إني لوثت كتاب التصوف الإسلامي بالحديث عن أبي العتاهية، وساق كلمة سفيهة وصف بها أبو العتاهية في كتاب الأغاني.
ولو أن هذا الناقد كان اطلع على كتاب (النثر الفني) لعرف قيمة الأخبار الواردة في كتاب الأغاني.
وهل يصح في حكم العقل أن نمحو أسم أبي العتاهية من سجلات الأدب بسبب كلمة سخيفة كتبها صاحب الأغاني؟
أنا لا أنظر إلى أبي العتاهية إلا من جهة واحدة: هي أنه أنشأ في الأدب العربي فناً جديداً حين نظم قصائده الزهديات.
ولن نستطيع أن نقاوم أبا العتاهية بعد أن أمد اللغة العربية بهذه الثروة الشعرية. وكيف نستطيع ذلك وفي المؤلفين من عد أبا العتاهية من أمراء الشعر في العصر العباسي؟
3 - وعاب على أن أتحدث عن زهديات أبي نواس في كتاب التصوف الإسلامي.
وما لعيب في ذلك؟
أنا أتحدث عن الندم الذي عاناه أبو نواس يوم هداه الله إلى المتاب، فهل يغض ذلك من كتابي؟
وهل هناك فرصة روحية أعظم من فرصة الفاجر حين يتوب؟
وهل كان أبو نواس أسوأ خلقاً من بعض شعراء اليونان الذين بقيت آثارهم على وجه الزمان؟
إن الذين يعيبون على أن أتحدث عن زهديات أبي نواس في كتاب التصوف ينظرون إلى الأخلاق نظرة سوقية لا فلسفية، وأمثال هؤلاء لا يقام لآرائهم وزن وإن لبسوا مسوح(298/79)
الرهبان.
4 - وعجب حضرة الناقد من ألا أكتب عن الحلاج غير إحدى عشر صفحة، ولو أنه كان تأمل لعرف كيف اختصرت القول في الحلاج، لأن الحلاج درسه المستشرقون من قبل، وأنا أبغض الحديث المعاد.
وأنا مع ذلك أقول إن الصفات التي كتبتها عن الحلاج ستكون نبراساً لكل من يكتب عن الحلاج، ولن يستطيع باحث مهما اعتسف أن يجهل أني هديته إلى معالم الصواب.
5 - وهناك مسألة سكت عنها هذا الناقد وتعرض لها بعض الأزهريين في كلمة نشرها بجريدة الدستور، وهي أنني قلت: إن الحلاج صلب كما صلب المسيح.
وأنا قلت ذلك في كتاب التصوف الإسلامي، ولكن له تأويل سجلته في الجزء الثاني من كتاب (ليلى المريضة في العراق).
وقد فرغت من طبع هذا الجزء قبل أن ينشر ذلك النقد بجريدة الدستور بأسابيع طوال.
وهل يفطن ذلك الناقد إلى السر في أن ينفي القرآن صلب المسيح؟
إن لذلك سراً سنذيعه يوم نأمن كيد الذين لا يهمهم غير مضغ الأحاديث، فقد شقينا بأراجيف الناس أعنف شقاء، ومن الله وحده ننتظر حسن الجزاء.
زكي مبارك
الفائزون بالمباراة الأدبية بين المدرسين
اعتمد معلي وزير المعارف النتيجة النهائية للمباراة الأدبية لتشجيع النتاج الفكري بين المدرسين.
وننشر فيما يلي أسماء الفائزين ومقدار المكافأة التي تقرر منحها لكل منهم.
في الأدب: الأستاذ فخري أبو السعود المدرس بمدرسة الرمل الثانوية وموضوع الرسالة (البارودي الشاعر) وقيمة الجائزة أربعون جنيهاً.
في التاريخ: الأستاذ عباس الخرادلي مدرس أول بمدرسة الأمير فاروق الثانوية وموضوع الرسالة (تاريخ الثورة الفرنسية) وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً. . .
(الخلافة والسياسة) للأستاذ فخري أبو السعود وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.(298/80)
في الكيمياء: (الكيمياء ومسائل الحياة اليومية) للأستاذ حسن عبد السلام مدرس أول بمدرسة بنبا قادن الثانوية وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
في الطبيعة: (الحسن بن الهيثم وجهوده في علم القوة) للأستاذ عبد الحميد حمدي مرسى المدرس بالأميرة فوزية وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
في النبات: (حياة النبات ومبدأ لسنابل) للدكتور عبد الحليم منتصر المدرس بكلية العلوم وقيمة الجائزة سبعون جنيهاً.
في الرياضة: (التحويلات الهندسية) للأستاذ حسن رضوان المدرس بالهندسة التطبيقية وقيمة الجائزة أربعون جنيهاً.
في الفلسفة والاجتماع: (أحلام الفلاسفة في المدينة الفاضلة) للأستاذ زكي نجيب محمود المدرس بالمدارس الثانوية وقيمة الجائزة خمسون جنيهاً.
(روح القومية مقدمة الإصلاح الاجتماعي) للأستاذ أحمد خاكي المدرس بدار العلوم وقيمة الجائزة سبعون جنيهاً.
ولما كان من أغراض المسابقة إيجاد ذخيرة علمية وأدبية للطلاب وللجمهور في مصر باللغة العربية وخاصة في الموضوعات التي تنشر فيها مؤلفات عربية للآن فقد قررت الوزارة أن تقوم بطبع جميع الرسائل التي منحت جوائز، على ألا تطبع الرسالة إلا بعد إجراء لتعديلات التي اقترحتها اللجان العامة واللجان الفرعية وإقرار اللجان الفرعية للرسائل بعد تعديلها.
وستحتفل الوزارة في اليوم الثلاثين من هذا الشهر بقاعة المحاضرات بجامعة فؤاد الأول بتوزيع الجوائز عليهم، فيلقي معالي الوزير خطاباً، ثم يرد عليه أحد الأساتذة الفائزين بكلمة.
نشر الأدب العربي باللغة الفرنسية
نشرنا من قبل نبأ عن تأليف شعبة محلية لجمعية (جيوم بدييه) تكون مهمتها نشر كتب الأدب العربي القديم باللغة الفرنسية، رغبة في إيجاد صلة بين التفكير العصري وتفكير القدماء من أبناء لغة العرب.
ونذكر لهذه المناسبة أن جمعية (جيوم بدييه) قد درجت في فرنسا على ترجمة المؤلفات(298/81)
التي صدرت باللغة اللاتينية ترجمة صحيحة باللغة الفرنسية.
وستبدأ الشعبة المحلية بترجمة كتاب عربي يقدمه معالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك وزير الأوقاف وتتوخى الجمعية في ترجمتها الحرص على إثبات النص العربي في أحد وجهي الكتاب وفي الوجه المقابل الترجمة الفرنسية.
وستطبع كتبها في مصر، ثم توزع في الخارج.
هافاس والرسالة
روت وكالة هافاس أن الحملة التي قامت بها مجلة (الرسالة) على الطرق بصفة عامة والتجانية بصفة خاصة قد أحدثت تأثيراً كبيراً بالمغرب، وأن قاضي سطات من كبار حملة الأقلام في المغرب الأقصى وهو من رؤساء هذه الطريقة قد ألف كتاباً صغيراً في الرد على مجلة الرسالة وسيطبع عما قريب بعاصمة تونس. وقالت الوكالة المذكورة إن لهجة هذا الكتاب على غاية من الحدة ضد الهادم للطريقة التجانية وخصوصاً ضد الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء بالجزائر.
هذا النبأ المفترى لا يوجد إلا في رأس مختلقة من أصحاب هذه الوكالة. وقد كذبت هافاس في هذا الخبر مرتين، فالرسالة لم تقم بحملة ما ضد الطرفيين، وهي أرفع من أن تقوم بحملة من هذا النوع، وكل ما كتبته في هذا الموضوع لا يتجاوز كلمة صغيرة للأستاذ علي الطنطاوي، كتبها تعقيباً على مقال للعلامة الحجوي مندوب المعارف بالمغرب أبان فيها أن الطرق - بصفة عامة - عديمة الجدوى، هذا إن لم تكن سبباً للتفريق بين جماعات المسلمين. والكلمة حق في حق لا تصل أن تكون حملة في الواقع؛ على أن الرسالة أفسحت المجال للشيخ محمد الحافظ التجاني للدفاع عن الطريقة التجانية بما لا تعد بعده أنها حملت على هذه الطريقة.
أما الكذبة الثانية فهي أن هذه الحملة الموهومة قد أحدثت تأثيراً كبيراً في المغرب، والقاضي الذي أشارت إليه الوكالة أكبر شأنه أنه تجاني متطرف من غلاة التجانين ليس أكثر. هذا علاوة على أن الطرقية بالمغرب خفت صوتها منذ أصبحت أداة مسيرة بيد رجال القبعات مختفية تحت أصحاب العمائم.
أما مجلة الرسالة الزاهرة، والأستاذ علي الطنطاوي المسلم المؤمن، والشيخ عبد الحميد بن(298/82)
باديس المصلح الكبير، فهؤلاء جميعاً أكبر من أن ينتقدهم طرقي مذبذب في كتيب خرافي.
فاس - المغرب الأقصى
(ا. ن)
بكلية القرويين
في الفقه المقارن
أخرج الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي الطبعة الثالثة من كتابه (الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية والوضعية) وهو بحوث في الفقه المقارن عني فيها المؤلف ببيان فضل الميراث في الشريعة الإسلامية على غيرها بعد أن بين أحكام الميراث في الإسلام، وأحكامه في غيره من الشرائع السماوية والوضعية.
ويتناول المؤلف بعد بيان أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية، والمواريث في الشرائع القديمة: عند قدماء المصرين، وعند الأمم الشرقية القديمة، وعند العرب في الجاهلية، وفي الشريعة اليهودية، وعند قدماء اليونان، وعند قدماء الرومان؛ ثم المواريث في الشرائع الحديثة: في القانون الفرنسي، وعند الاشتراكيين.
وبعد ذلك يجري الموازنة في الميراث في الإسلام والشرائع القديمة والحديثة. ومن مواضع الموازنة: التسوية بين الذكور والنساء، التسوية بين الأخوة، إيثار أرشد الذكور، إعطاء البكر نصيبين. . . الخ
وقد سار في كل ذلك على نهج قويم من حيث بيان الأسباب المعقولة والأحكام، وقرع الحجة بالحجة؛ والكلام يتسلسل في أسلوب بين، سهل الورود، مسعف بالإفادة، إلى حسن تبويب ودقة ترتيب.
وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها بكثير من الزيادات والتنقيحات. ويقع الكتاب في 136 صفحة من القطع المتوسط. ويطلب من مكتبة الشرق الإسلامية بشارع محمد على أمام دار الكتب الملكية.
الأسماء العربية لجبال القمر(298/83)
قرأت مقالة الأستاذ قدري حافظ طوقان، المنشورة في العدد 294 من (الرسالة)، بعنوان (القمر بين الحقيقة والخيال) فأعجبني ما جاء فيها من الحقائق العلمية الموضوعة بقالب يغري القارئ بمطالعتها. ولما كان حضرة الكاتب قد تطرق فيها إلى الكلام على جبال القمر، كما أنه ذكر أسماء بعضها، أحببت أن أؤيد كلامه بأمثلة أخرى من هذه الأسماء، تهمنا بنوعٍ خاص نحن الشرقيين، فأقول: كنت قد وقفت على كتابين بالفرنسية للعلامة الفلكي مورو أحدهما بعنوان (يوم في القمر) وثانيهما بعنوان (بحث في القمر). إن المؤلف يذكر في كليهما الأسماء الجغرافية التي أطلقها علماء الفلك من أبناء الغرب على جبال القمر، كما أطلقوا غيرها على سائر عوارضه السطحية. ومما يلفت الأنظار من هذه التسميات التي تعد بالمئات، تلك الطائفة التي اتخذت لها أسماء تعود إلى مشاهير التاريخ الشرقي، بل العربي على الأخص. وهاأنذا ذاكرها فيما يلي، مع ما يقابلها بالإفرنجية نقلاً عن الكتابين المشار إليهما:
أبو االفدا
ألغ
ثابت (بني قرة)
الحسن (بن الهيثم)
الزرقالي (إبراهيم بن النقاش الطليطلي)
المأمون
نصير الدين (الطوسي)
ولا يخفى أن أغلبية هذه الشخصيات كانت ذات يد طولي في علم الفلك وما يتصل به من العلوم الأخرى. فلا غرو أن يخلد ذكرهم بهذه الطريقة العلمية الصامتة التي قلما يعلم بها إخلافهم اليوم. وهلا تذكرنا هذه التسميات العربية بما يماثلها في كوكبنا الأرضي، حيث نجد مواقع عديدة سميت بأسماء مشاهير رجال العرب كجبل طارق وبلد الوليد والقاهرة والمدرسة المستنصرية وغيرها مما يطول سردها ويخرج بنا عما أردنا من هذه الكلمة. .
(بغداد)(298/84)
كوركيس حنا عواد(298/85)
رسالة النقد
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
- 2 -
ذكرنا في المقال السابق مظهرين من مظاهر عمل الأستاذين الفاضلين العوامري بك والجارم بك في شرحهما لهذا الكتاب، وهي العناية بالإعراب، والتطبيق على علوم البلاغة.
واليوم نذكر مظهراً ثالثاً هو الإكثار من ذكر أسماء المراجع اللغوية، فما نفتأ نرى أسم اللسان والقاموس والصحاح وشرح القاموس ولنهاية و. . . و. . . من غير حاجة إلى ذكر شيء من ذلك؛ لأن العادة جرت ألا يخص أسم مرجع بالذكر إلا إذا كان قد أنفرد من بين بقية المراجع بإيراد ما نستدل عليه أو نحتج به، فأما الأمور التي اشتركت فيها كل المرجع أو أغلبها فلا نرى داعياً للنص على المرجع إلا أن يكون ذلك إدلالاً بمعرفة اسم الكتاب أو حيازته. ونكتفي من الدلالة على هذا المظهر في عملهما بذكر مثلين وقعا في صفحة واحدة هي ص 29، قالا حفظهما الله:
(8) الكُلوح (بضم الكاف) تكشر في عبوس. وقد كلح يكلح كمنع يمنع اهـ. من اللسان.
(9) قال في القاموس: قطب يقطب قطباً من باب ضرب، وقُطوباً بضم القاف فهو قاطب وقطوب: زوى ما بين عينيه. اهـ.
والذي ذكر أنه من اللسان تراه في القاموس. قال (كلح كمنع كلوحاً وكلاحاً بضمهما تكشر في عبوس. والذي ذكرا أنه من القاموس تراه في كل كتاب غيره. قال في المصباح: (قطب بين عينيه قطباً من باب ضرب جمع. . .) ويتصل بأمر المراجع للغوية مسألة أخرى وهي الوقوف عند عبارات هذه المعاجم لا تزحزح معه ولا ريم منه مهما أدى ذلك إلى الإيهام أو الاشتباه بألفاظ لا يليق في ذوق الشارحين أن تقع عليها أعين الطلاب والطالبات. وذلك كقولهما في حاشية ص 64: الختن من كان من قبل (بكسر ففتح) المرأة كالأب والأخ والعم والخال.(298/86)
أيدري القارئ لم اضطر الشارحان إلى تقييد كلمة قبل بكسر ففتح؟ ذلك لأنهما أرادا أن ينفيا شبهة قراءتها بضمتين فيقع المحظور الذي تتوقاه وزارة المعارف. ولكني أقول إن هذا الضبط الذي قصد به لفت النظر والفكر عن شيء غير لائق كان أدل شيء على ذلك الشيء. فأي داع إلى التزام هذا اللفظ خصوصاً بعد تنبه الشارحان إلى ما فيه من خطر على الطلاب والطالبات؟ لا نرى ذلك الداعي إلا وقوفهما عند ألفاظ المعاجم لا يرميان منها ولو قيد أنملة. وفي ألفاظ: جهة المرأة أو ناحية المرأة أو جانب المرأة ما يغنينا عن قولهما بكسر ففتح بين قوسين.
ومن ذلك أيضاً قولهما في حاشية ص 176: (6) المذاكرة مفاعلة من الذكر (بكسر فسكون) وهما لم يقيدا المفاعلة بأنها من الذكر (بكسر فسكون) إلا احترازاً من مفاعلة أخرى يكون الذكر فيها بضبط أخر غير ما ذكرا، وقد كان نفي هذه الشبهة أدعى إلى الوقوع فيها. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا نترك هذا المقام حتى نأتي فيه على أكثر ما لاحظنا من الجمود اللغوي لتكون تلك الملاحظات مجتمعة، وبذلك نكون قد عدنا إلى التبويب الذي رأينا ألا نتبعه في نقدنا هذا.
من الوقوف عند ألفاظ المعجم أن ترى الشارحين قد ألغيا عقلهما الحصيف ففرقا بين ما لا فرق فيه وعرفاً بما لا تعريف به، وظننا بعد ذلك أنهما قد أبليا عذراً في الشرح وحققا ودققا إلى أبعد غايات التحقيق والتدقيق.
وهاك فأسمع أيها القارئ أولها في صفحة 176 أيضاً:
(11) قعر في كلامه تشدق وتكلم بأقصى قعر فمه وقيل تكلم بأقصى حلقه. لسان
وقبل أن نحتكم إلى الطبيب الشرعي أو الجراح العالم بتشريح الفم أؤكد وأشدد أنه لا فرق بين العبارتين وأنا أخالف مقدماً كل من يحاول إثبات فرق بين أقصى قعر الفم وأقصى الحلق.!!
كذلك تسمع قولهما في ص 161 عند قول الجاحظ فيمن لم يتخذ بناء البيوت للاستغلال وآثر دفع السكنى بأجر (وأنه قد أمن من الحرق والغرق وميل أسطوان وانقصاف سهم واسترخاء أساس) فهما يقولان: (6) السهم جائز السقف أو جائزته فماذا استفدنا نحن من تذكير لفظ جائز مرة وتأنيثه أخرى، ما دام المعنى قد صار أغمض مما كان؟ فهل يعقل(298/87)
وقوع مثل هذا من عالمين فاضلين كالشارحين؟ إني أترك للقارئ الحكم على هذا العمل فالقول لا يتسع له.
وأعجب ما في عناية الشارحين باللغة أنهما حاولا أن يشرحا كل شيء حتى شرحا البديهي أو ما هو أوضح من البديهي. وقد تعجب من قولي أوضح من البديهي! ولكن أسمع، فهما في ص 73 يعلقان على كلمة أصبح بقولهما:
(1) أصبح: دخل في الصباح!!. وهذه مسألة أخرى أثارها تفسير الشارحين لكلمة أصبح. هل نحن الذين ندخل في الصباح أم الصباح هو الذي يدخل علينا؟ وهل الصباح هو الواقف ونحن المتحركون، أم هو المتحرك ونحن الجامدون!!!
ماذا يسمي القارئ هذه العناية بالصغائر، وتفسير ما لا يحتاج إلى تفسير، والإغضاء عما في كتب السابقين من اضطراب، من رجلين وكل إليهما أمر إصلاح العربية في وزارة المعارف وفي مجمع اللغة؟!
نعود بعد ذلك إلى تتبع سقطات الشرح بحسب ترتيب الكتاب فنقول:
في ص 27 يقول الجاحظ: (ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة) فيضبط الشارحان كلمات: تبين وتعرف واستفادة بالكسر، ولا يتركان هذا الضبط دون تنبيه على سببه حتى كان يصح أن نحمل الخطأ فيه على الطابع الذي نحمله في كثير من الأحيان ما لا جناية له فيه، حتى لقد أسودت أعضاؤه وثيابه من تحمل غلطاتنا كما أسود الحجر الأسود من مسح الناس ذنوبهم فيه.
لم يترك الشارحان هذا الضبط الخاطئ من غير تعليق بل لقد علقا عليه بقولهما: (3) تبين بدل من أشياء. وأنا أربأ بكل قارئ عن أن أوجه إليه بيان الخطأ في ذلك فهو أمر ظاهر لكل من به مسكة من نحوية، ولكني أوجه قولي في ذلك إلى طلاب السنة الثالثة أو الرابعة من المدارس الابتدائية فأقول لهما إذا قلنا حضرني ثلاثة رجال محمد وعلي ومحمود، أليس محمد بدل بعض من لفظ ثلاثة لأنه بعضها، وإذا ضممناه إلى أخويه كان المجموع هو المدلول (ثلاثة) فكيف يجوز الإبدال من لفظ أشياء في جملة الجاحظ وهي بمثابة كلمة رجال في جملتنا هذه الصغيرة؟ ألم يقل النحاة إن البدل على نية تكرار العامل، فإذا أبدلت من كلمة رجال كان تقدير الكلام حضرني ثلاثة محمد وعلي ومحمود (بالإضافة). فهل(298/88)
يسوغ هذا القول في ذوق أو فهم؟
هذه غلطة لو ضبطها أحد المفتشين لمعلم صب عليه غضبه وأعاده من الثانوي إلى الابتدائي وحرمه من العلاوة حين يجئ دوره فيها، بل إذا وقع فيها تلميذ في امتحان الابتدائية وكان نجاحه يتوقف على التسامح فيها لم ترض للمفتش غيرته على العربية أن يتسامح فيها ورسب التلميذ من أجل ذلك في الامتحان، وربما كان رسوبه قضاء على آماله فانتحر ولكننا نرى الشارحين قد وقعا فيها وأكداها بالتفسير والتعليق ومع ذلك لم ينقلا من عملهما ولم يحرما علاوة لهما، ولم. . . الخ.
وفي الصفحة عينها ينقل الجاحظ قول بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبي له: (لا تجزع فإنه أفتح لجرمه وأصح لبصره) فيعلق الشارحان على ذلك بقولهما:
(13) أفتح لجرمه، الجرم الجسم وأفتح له: أعظم إنماء له. والمعجم الذي نقلا منه أن معنى الجرم الجسم، هو نفسه المعجم الذي يفسر الجرم بالحلق. فانظر إلى أي حد يتخط الصواب مع وضوحه، ويجنح للخطأ مع شناعته وبعد تصوره؟!!
وقبل أن تختم مقالنا هذا نرجو من حضرة صاحب المعالي وزير المعارف أن يلقي باله إلى كلامنا ويقيسه بمقياس العلم الذي ينشره أو الجهل الذي يحاربه. فوزير المعارف حريص على الحقائق خصوصاً إذا كان قد دفع من خزانة الدولة ثمناً باهظاً لها.
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى
المدرس بكلية اللغة العربية(298/89)
المسرح والسينما
حديث الأسبوع
و. . . غلطة فنية أخرى
في نص القرار الذي صدر بتكوين (الفرقة القومية المصرية) ما معناه أنها أنشئت لتحمل رسالة ثقافية عن المسرح النموذجي ولتبذر في نفوس الشعب حب هذا المسرح ومولاة تشجيعه. . .
على هذا الأساس تكونت الفرقة وضمت إليها أقوى العناصر الفنية في الشرق وأقواها وأثبتها قدماً، وعلى أكتاف هؤلاء استقام البناء وطرق الشعب بابه، ثم عادوا بين مادح وقادح ومتفائل ومتشائم، حتى سلخت الفرقة من عمرها عاماً تركها بعده المخرج المعروف ومبعوث الحكومة في مسرح الأوديون (زكي طليمات) ليخدم المسرح عن طريق آخر ما دامت قد وقفت في وجهة أشباح المطامع والأغراض.
وظلت الفرقة في سيرها تتخبط، فاستدعت إدارتها خبيراً فرنسياً، ثم انتدبت بعد ذلك مخرجاً فرنسياً أيضاً ليعلم الممثلين المصريين التمثيل بلغتهم وليتولى إخراج مسرحيات لفظتها بلادها ورآها هو عندما كان يعمل مساعداً لأحد مديري المسارح المتنقلة في الريف الفرنسي (ريجسير) فنقلها كما هي فعدنا إلى الوراء سنين عديدة لنقلد ببغاء لولا أنه أجنبي ما وصل إلى مركزه.
حياة الظلام
اشترى ستديو مصر من الأستاذ محمود كامل المحامي حق إخراج قصته الطويلة (حياة الظلام) وعهد بإخراجها إلى المخرج الشاب أحمد بدرخان الذي بدأ العمل منذ أسبوع بعد أن أختار مجموعة فنية كبيرة لمعاونته.
و (حياة الظلام) قصة عاطفية تعبر عن نوع غريب من الحب العاصف الذي ربط بين قلب ساذج بكر وقلب أثملته تجارب الحياة الغرامية فامتلأ بالحب على أنواعه ومناحيه واستطاع أن يتفنن في الخديعة ويحسن الزيف ولكنه خضع أخيراً واستسلم. .
وهي أيضاً من نوع لم تألفه السينما المصرية إذ لم يستطع مخرج مصري أن يقدم على(298/90)
طرق مثل هذا الموضوع والتفكير في إخراجه خشية الرقيب والتقاليد في الوقت الذي نرى فيه الشركات الأجنبية تفضل هذا الصنف من القصة العاطفية التي تتحدث عن (حياة الليل) وما نجاح (نانا) لأميل زولا ببعيد. . .
وعهدت إدارة ستديو مصر إلى الهر شارفنبرج بعمل (الديكوراسه) كما سيسجل الصوت فيه مصطفى والي وعزيز فاضل ويقوم بعمل (المونتاج) جمال الدين مدكور. أما من اختيروا للتمثيل فهم مجموعة فنية على رأسها الممثل الكبير زكي رستم ومنسي فهمي. أولهما في دور عبد الستار الشرقاوي، والثاني في دور الأب، ثم عبد الفتاح القصري، وأنور وجدي الذي سيمثل دور محمود الشيمي. ويأتي بعد ذلك دور احمد علوي بطل القصة وقد وقع الاختيار على وجه جديد ليقوم به. . . أما الأدوار النسائية فقد أسندت إلى السيدة أمينة شكيب وفردوس محمد وروحية خالد. ولعله ما يهم بعض متتبعي قصص الأستاذ كامل أن يعرفوا أن (للمواويل) نصيباً في فلمه، وسيغنيها عبده السروجي ومحمد الكحلاوي ومطربة ناشئة أسمها آمال.
رحلة الفرقة القومية
منذ زمن يرجع عهده إلى ما قبل انتهاء الدورة الأولى لهذا الموسم وإدارة الفرقة القومية تشيع إنها قد نظمت رحلة إلى الوجهين البحري والقبلي والمحافظات (لإعطاء الشعب الفكرة المثلى عن المسرحية العالية النموذجية وللارتقاء بإفهام الجمهور). ولكن الرحلة لم تتم وموعدها لم يحدد. وتسأل الناس هل عدلت الفرقة عن الرحلة أم أجلتها أم تراها في هذه الأيام تستعد للدورة الثانية التي تبدأها في الوقت الذي تقفر فيه القاهرة من مسارحها؟
والواقع أن الإدارة غير المستقرة هي السبب في كل هذا الارتباك وهي المسئولة عن تأجيل الرحلة وتعطيل العمل، وهي المسئولة أيضاً عن قرارها الذي صدر بتعيين موعد الرحلة وهو يوم 20 الجاري إلى الوجهين حيث تمثل بعض المسرحيات الناجحة. . .
وبتأجيل هذا الموعد لسبب من الأسباب التي تراها بعينيها الناقدتين. وعلى أية حال سواء قامت الفرقة بالرحلة أم لم تقم فقد أعدت للدورة القادمة مسرحياتها وهي (عطيل) و (تلميذ الشيطان) و (المال والبنون) و (رسالة المرأة)؛ وجميعها من إخراج فلاندر إلا (المال والبنون) فهي من إخراج جميعي.(298/91)
إلى باريس
يعمل القسم الفني في شركة فنار فيلم تحت إشراف السيدة بهيجة حافظ للانتهاء من (مونتاج) النسخة الناطقة بالفرنسية من فيلم ليلى بنت الصحراء، وقد يتم ذلك في حوالي منتصف الشهر القادم إذ تكون النسخة قد أعدت (سالبة) وموجبة فتحملها بهيجة معها إلى باريس ليتم طبعها هناك.
ولرب سائل يسأل عن السر في اختيار باريس لطبع النسخة النهائية (ستاندرد) وبدورنا نقول له: إن هناك معامل تخصصت في إجراء بعض عمليات تكميلية فنية لا توجد في مصر؛ ثم إن شركة فنار فيلم ترى أن تقدم فلمها بعد إصلاحه على صورة جديدة تغاير الأولى بعض الشيء، فمن ذلك أنها اعتزمت أن تقدمه ملوناً بالألوان الطبيعية وفضلت لذلك لونين هما وأضافت إليهما في ذات الوقت اللون الأزرق الهادئ.
وستعرض النسخة الفرنسية أولاً في باريس والبندقية ثم تسافر إلى أمريكا، وفي هذا الوقت يكون الموسم السينمى الجديد القادم قد حل فتعرض في مصر والأقطار الشقيقة والبرازيل وغيرها.
مجنون ليلى
الحقيقة التي يجب أن أعترف بها أن الشقيقين بدر وإبراهيم لاما من أنشط الشباب الذي يعمل في السينما وأسرعهم إنتاجاً، ولكن. . . نتيجة ذلك الحتمية هي ضعف الإنتاج وعدم الإقبال عليه لأسباب عديدة يرجع أهمها إلى عدم وجود الدراية الكافية والاعتماد على شخصيات هزيلة ترضى بالتافه من النقود و. . . قلة توفر المال اللازم لمثل هذه المشروعات.
والحديث عن السقوط الشنيع الذي لقيه فلم إخوان لاما الأخير (ليالي القاهرة) يطول ويتفرع. . . أجل يتفرع من مآس كتلك التي تمخض عنها خيال الأخوين وأحد المخرفين من أتباعهما إذ زين لهما ضرورة إخراج قصة (مجنون ليلى) على الستار وهي لعمري جريمة فنية مزدوجة فيها جناية على اللغة العربية التي لا يعرفها أحد الأخوين، وجناية على الفكرة السامية التي أخذها الناس عن القصة، جناية على الشعر الذي وكل أمر نظمه(298/92)
إلى أحد الذين يؤلفون لصالات الدرجة الثالثة في شارع عماد الدين.
وقدم الشقيقان لاما (سيناريو) مجنون ليلى إلى قلم المراقبة بوزارة الداخلية فأحسنت صنعاً بعدم الموافقة عليه (لضعفه و (سخافته)! ومنعاً لإساءة تنسب إلى خالد الذكر المرحوم شوقي بك) وكان طبيعياً أن يثور إبراهيم لاما محاولاً في لهجته الغربية أن يقنع القائمين بالأمر بأنه جدير بالقيام بأعباء هذا العمل وأنه على استعداد لتغيير أسم القصة وجعله (قيس ليلى).
والعقبات التي ذكرت يمكن تذليلها، ولكن الشيء الوحيد الذي يجب أن يذكره الجميع هو أن يطالبوا بإيقاف هذين الأخوين عند حدهما ونصحهما بأن ما لديهما من ملابس بدوية سابغة لا يكفي لنجاح قصة شعرية لها مكانتها في العالم العربي، وأنهما إذا يحاولان إخراجها يسيئان إلى نفسيهما وإلى اللغة وإلى أفكار الناشئة.
حوريس(298/93)
العدد 299 - بتاريخ: 27 - 03 - 1939(/)
المسلمون والإسلام
رسالة الأزهر. . .
دار الرسالة - وبفضل الله - ملتقى مفكري الإسلام العرب وغير العرب، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يزورونها أول ما يزورون من معاهد الثقافة بالقاهرة، فنتناقل الحديث ونتذاكر الرأي في موقف المسلمين اليوم من قراع المذاهب، وصراع القوى، واهتلاك الدول في التسلح بالعلم والدعاية والعدة، واحتفاز الأمم في التقوى بالتعلم والعمل والإنتاج، فنتبين من وراء الحديث أن الإسلام في غير بلاد العرب خلط عجيب من العقيدة السالفة، والصوفية الزائفة، والأساطير الموروثة، والتفاسير الخاطئة؛ ثم استحال هذا الخلط على تراخي الزمن وانقطاع الصلة واستعجام اللسان إلى مُر قد يعوق عن السعي، ويمنع من النظر، ويصد عن الفكر، ويذهل شاربيه عن حركة الوجود وسير الفلك. فالمسلمون في ألبانيا ويوغسلافيا من بلاد المغرب، وفي الصين وجزائر الهند من بلاد المشرق، يتميزون عن مواطنيهم بزهادة كالبلادة، وجهالة كالموت، وتوكل كالتواكل؛ ويتوهمون أن الإسلام ليس من شأنه الدنيا، وأن المسلم ليس من همه المادة، وأن ما هم فيه من رنق العقيدة وظلام الفكر وخدر الشعور إنما هو روح الدين ورضا الله وطريق الجنة. ثم لا يعدمون أن يجدوا مصدقاً لما يزعمون فيما يقرءون من الأحاديث الموضوعة والأخبار المصنوعة والأقوال الملفقة. فإن من محن الإسلام حين ضعف أهله وزال سلطانه، أن امتزجت به كل نحلة، وسرت إليه كل علة، وتراءت فيه كل حالة؛ فكل امرئ واجد فيه ما يلائم استعداده ويناسب فهمه. وإذا كان حاصلاً بين العرب وهم أصحاب الدين وأهل اللغة، فما ظنك بغيرهم ممن بلغتهم الدعوة مترجمة عن طريق الفرس أو عن طريق الترك بالتجارة أو بالفتح؟
لقد عصفت بالعالم كله عواصف هوج من السياسة والاقتصاد فلم تدع
فيه ساكناً إلا حركته، ولا بالياً إلا جرفته؛ وكان لابد للعالم الإسلامي
أن يهب على دوي هذه الزعازع، فنهض شبابه يستعدون بعدة الناس،
ويتجهزون بجهاز العصر؛ ولكن شيوخه الوانين أخذوا يعوقونهم عن(299/1)
الأهبة والسعي بكلام ينسبونه إلى الله والله منه برئ. ثم كان من أثر
تلك الهبة العامة وهذه الحالة الخاصة أن نفر من كل قطر من أقطار
الأرض طائفة من شباب الإسلام إلى مصر ليتفقهوا في الدين ويتضلعوا
من اللغة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، فيكونوا شهادة صادقة لحقيقة
الإسلام، وقدوة صالحة لنهضة أهله.
ومصر اليوم وقبل اليوم هي بفضل الأزهر موئل اللغة ومعقل الدين ومشرق الهداية. والأزهر على الرغم مما يؤخذ عليه هو بفضل ما مكن الله له في التاريخ، وهيأ له من الموضع، وأتاح له من المال، أقدر على تبليغ الرسالة العظمى، وتوجيه الأمة الكبرى، وتصحيح العقيدة العليا، إذا صدق رجاله الجهاد، وأخلصوا النية، وأحسنوا العمل، وذكروا أنهم جنود الله يرمي بهم العدو في كل وقت وفي كل أرض وفي أي صورة، فيعيشون للموت كالجند، ويعملون للحياة كالقادة، ويعزفون عن الدنيا كالرسل. والإمام المراغي هو في رأينا خير من يضطلع بما يفهم المثقفون من رسالة الأزهر إذا لم ينله ما نال الأستاذ محمد عبده من اضطراب الريح حول مصباحه، وانبثاث العوائق الخازلة أمام إصلاحه؛ فإنه من أفهم الناس لمعنى الدين وروح العصر ومقتضى الحال.
ورسالة الأزهر التي يريدها الله ويرجوها الناس هي:
1 - تنقية الإسلام من العقائد الواغلة والمذاهب الباطلة والعادات الدخيلة. وسبيل ذلك أن يفسر القرآن على هدى الرواية الصحيحة، وفي ضوء العلم الحديث، تفسيراً يجمع بين ما صح من أقوال السلف، وما صلح من آراء الخلف؛ ثم يؤلف في الحديث كتاب جامع لما لا ريب فيه من الكتب الصحاح، ويستعان على شرحه وتبويبه بعلوم التاريخ والاجتماع والأخلاق والفلسفة؛ ثم يصنف في الفقه كتاب شامل على المذاهب الصحيحة يوضع متنه مواد كالقانون، ثم يشرح شرحاً فنيا يستوعب أصوله، ويستقصي فروعه، في غير حشو ولا استطراد ولا تعمية. ثم تكون هذه الكتب الثلاثة المطولة مادة الدراسة ومرجع القضاء ومصدر الفتوى؛ فتقرر في الأزهر، وتنشر في الجمهور، وتترجم إلى أكثر لغات الشرق وأشهر لغات الغرب؛ ثم ترسل إلى كل بلد يعرف الإسلام أو يريد أن يعرفه. أما ما عدا(299/2)
ذلك من الكتب، فما كان صحيحاً بقى في المكاتب بقاء الآثار في المتاحف، يرجع إليه الأخصائي والمؤرخ؛ وما كان زائفاً صنع به ما صنع عثمان بكل مصحف غير مصحفه
2 - إعداد الوعاظ والدعاة من أهل اللسن والخلق والورع، وإمدادهم بالثقافة الحديثة واللغات الحية، وإيفادهم إلى الأمم الإسلامية البعيدة عن مهبط الوحي وموطن العروبة. ويدخل في ذلك العناية اليقظة بالبعثات الإسلامية في الأزهر، فإنهم أقدر من غيرهم على إرشاد قومهم باللغة والقدوة والنفوذ
3 - جعل اللغة العربية لغة المسلمين كافة، فيكون لكل مسلم في الأرض لغتان: لغة لوطنه الأصغر، ولغة لوطنه الأكبر. والوسيلة أن تحمل المشيخة أقطاب الرأي في البلاد الإسلامية، بالمفاوضة أو بالائتمار، على أن يجعلوا تعلم اللغة العربية والتكلم بها إجبارياً في مراحل التعليم المختلفة، وأن تتكفل بإرسال المعلمين من المتخصصين في الأزهر، فإن في شيوع العربية بين المسلمين تمكيناً لفهم الدين وتثبيتاً لمعنى الأخوة
ذلك ما يجب أن يقوم به الأزهر؛ وذلك ما يضمن للإسلام الجدة، ويكفل للمسلمين الوحدة، ويجعل للرأي المحمدي سلطاناً يخشى في الحرب ويرجى في السلام
احمد حسين الزيات
-(299/3)
رقص ورقص
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان شتاء هذا العام في القاهرة موسماً عامراً بالمتعة الفنية التي تنتقل إليها.
شوهد فيه معرض التماثيل الفرنسية، وشوهد فيه معرض بل معارض شتى للصور المصرية، وشوهد فيه تمثيل فرقة من أحسن الفرق الإنجليزية لروايات من أحسن الروايات القديمة والحديثة، وشوهد فيه أو سمع فيه شريط شامل لأغاني الموسيقار العظيم جوهان شتراوس، الذي يقال بحق إنه أرقص الكرة الأرضية في مدارها؛ إذ لم يبق في المغرب ولا في المشرق إنسان يرقص على الأنغام الفنية المهذبة إلا وقد رقص على أنغام جوهان شتراوس.
عازف عظيم تفيض ألحانه بالمرح والطرب والشباب والحياة. بلغ مبلغ القادة أصحاب الفرق وهو في الحادية والعشرين، وعزف للملوك والملكات فغلبهم على وقار العرف، ووقار العرش، ووقار السن، في كثير من الأحيان. وما في التاسعة والأربعين عن مئات من أدوار الرقص على اختلافه، وخرج من العاصمة الإنجليزية قبيل موته في أسطول من الزوارق التي تحييه بالغناء والهتاف. . . وأوصى بعد كل هذا النجاح وكل هذا الطرب وكل هذا السرور الذي أمتع به الناس. فبماذا أوصى؟
بأعجب ما يخطر على بال. . . أوصى ألا يتعلم أبناؤه الصناعة الموسيقية أبداً، وأن يختاروا ما شاءوا من الصناعات إلا صناعة أبيهم. . . فأنبأنا بذلك نبأ ليس بالجديد، وإن كان لنسيان الناس إياه قد يحسب من الجديد الغريب: ذلك أن حياة الفن حياة فداء لأنها حياة فتوح. فما من فنان عبقري إلا وهو فاتح بمعنى من معاني الفتح والجهاد؛ وكل جهاد فداء، وكل فداء فيه ألم محقق، وللنصر بعده سرور مشكوك فيه، لأنه سرور يتمناه من قد حرمه من النظارة المتفرجين. . . أما صاحبه فقلما يحسه من قريب.
على أن أبناءه قد خيبوا حنانه وإن لم يخيبوا ظنه، فقد نشأوا جميعاً موسيقيين ناجحين مشهورين، وأوشكت إعمالهم أن تلتبس بأعمال أبيهم، ولم نسمع أن أحداً منهم أوصى بمثل وصيته في ساعة الوفاة، ولم نسمع بأعقاب لهم في عالم العزف والغناء!
كانت الليلة التي قضيناها في سماع (شتراوس) من ليالي الفن النادرة؛ وكانت دار الصور(299/4)
المتحركة مكتظة بالسامعين؛ وكان تسعة أعشارهم من الأوربيين، والعشر الباقي من المصريين الذين لا يسيغون ما يساغ من ذلك الغناء الشائع في بلادنا، إن صحت تسميته بالغناء.
وسألنا أنفسنا: أين يختلف الفنان وهما على حسب المفروض أو المظنون من معدن واحد؟
إن موسيقى شبراوس إحدى الموسيقات التي يصح أن تسمى غنائية بسيطة تمييزاً لها من الموسيقى العويصة المركبة التي يريدها عشاق فاجنر، أو الموسيقى العقلية الصافية التي يذيعها في هذا العصر ستافنسكي فإذا كانت هذه الموسيقى الغنائية لا تساغ في مصر فما الفارق بينها وبين موسيقى الغناء الشائع بين الجمهرة (السامعة) من سواد المصريين؟
الفارق أنك لا تستطيع أن تضع موسيقى شتراوس على لسان حيوان.
فهي تمثل المرح، ولكنه مرح الفكر الإنساني حين ينشط فيملى نشاطه على الحواس والأعضاء.
فالراقص على أنغام شتراوس إنما يرقص لأن له نفساً إنسانية قد شاع فيها السرور فنهضت بالجسم الذي هي فيه إلى الحركة الموزونة والنشاط المنسوق.
أما المرح الذي تمليه الأغاني السقيمة عندنا فهي تمثل الحيوانية كما مسخها الإنسان حين استغرقها كلها في الشهوة والخلاعة، والحيوان لا يعرف الخلاعة في الشهوات كما يعرفها الإنسان الممسوخ
ومرقصات شتراوس لا تخلو من بعض الشجا وبعض الأنين ولكن أي شجا؟ وأي أنين؟
شجا إنسان وأنين إنسان.
أنا هذه الشكايات التي نسمعها في الأغاني السقيمة فليس فيها قط ما يستكثر على حيوان.
فإن الحيوان ليحس الانقباض ويحس الألم، وإذا ضرب أو سقم فترجمت شكايته كلاماً عربياً فليس بالكثير عليه أن يقول (آه) وأن يذكر اللوعة والسهر والصيام عن النوم والطعام
أما الأنين الذي يريك فكراً يتألم، أو يريك معنى إنسانياً في حالة الشكاية والقنوط، فذلك شيء مختلف جد الاختلاف عن هذه الكلمات التي لا تعدو أن تكون صرخات حيوان، مترجمة إلى عبارات إنسان(299/5)
ومن الظلم للفن أن نطلق اسم الفنون على هذه الأغاني المرقصة التي تهتز لها أعطاف بعض السامعين في الأقطاب الشرقية
فالحق أنها نقيض الفنون في جوهرها المشترك بين جميع المعاني الفنية
لأن الجوهر المشترك بين جميع المعاني الفنية هو تغليب الفكرة على المادة، أو سيطرة المعاني على الأشكال
فالرخام مادة تتغلب عليه فكرة الفنان فإذا هو مثال لمعنى من معاني الجمال
والكلمات مادة مبعثرة تتغلب عليها فكرة الشاعر أو الكاتب فإذا هي وحي ناطق بأحاسيسه ومعانيه
والجسم مادة تتغلب عليه الحركة الموزونة فإذا هو رقص يريك كيف تساق الأعضاء في مطاوعة الألحان والأصداء، وكيف تخضع الأجسام لإملاء النظام والرواء
كل فن فهو فكرة غالبة على ما على مادة، أو معنى غالب على شكل، أو فوضى ممثلة في صورة جميلة
فما هي المرقصات التي تهز الأعطاف بين جمهرة السامعين من سواد الشرقيين
هي نقيض ذلك
هي غلبة الجسدي على المعنوي، وهي طغيان المادية على المطامح الإنسانية، وهي انقياد وليست هي بإخضاع وترويض وتنظيم
هي الشيء الذي يذهب سفلاً حين يذهب الفن صعداً، وهي الفتور الذي يهبط بالأجسام إلى مهاوي الشهوات، وليست هي بالنشاط الذي يطير بالأجسام في فضاء المرح والطلاقة
وقد تسف وتنحدر من سماء شتراوس إلى حضيض (الجازنبد) الذي لا شك في غلبة الشهوات عليه، فهل من عين بصيرة يغم عليها الأمر فلا تبصر الفارق بين شهوات الجازبند وشهوات المرقصات المعهودة في هز الأعطاف وتحريض النزعات؟
الجازبند مرح جسدي ولكنه مرح حيوان صحيح ممتلئ برغبات الحياة يصول في حركة حية لا تعرف الإعياء
أما (هز الأعطاف) المعهود فهو مرح جسدي أيضاً ولكنه يذهب بصاحبه إلى السرير ولا يندفع به اندفاع الحيوان القوي السليم(299/6)
وفرق بين حيوان في سلامة الحيوانية، وحيوان يضاف إليه مسخ الإنسانية، ولا يظفر من الحيوانية بالصحة واستقامة الفطرة
فرق بين رقص شتراوس ورقصنا، بل فرق بين رقص الجازبند ورقصنا، لأن رقص شتراوس معنى إنساني، ورقص الجازبند فطرة حيوانية، ورقص الأغاني المبتذلة عندنا قد خلا من أجمل ما في الإنسان، واجمل ما في الحيوان، وجمع المسخ والتشويه في هذا وذاك
لم يكن شأننا كذلك في الزمن القديم، لأننا نرى على المعابد الفرعونية صور الراقصات والراقصين، ونرى في الريف المصري مثالاً متخلفاً من رقص الرجال والنساء، فلا نجد في هذه المناظر المرسومة أو المشهودة خلاعة ولا شهوة ممسوخة، بل نجد فيها جميعاً ما أسلفناه من غلبة المعاني وانقياد الأجساد، أو نجد فيها صحة الفطرة واستقامة البنية الحيوانية. ولا ندري متى نعود إلى ما كنا عليه، أو متى ندين بدين الفن الجميل في تغليب النظام على الفوضى، والفكرة على المادة، والمعاني الإنسانية على الدوافع الجثمانية. ولكننا ندري أننا عجزنا زمنا طويلاً عن إخضاع أجسادنا لأفكارنا أيام كنا بأجسادنا وأفكارنا خاضعين لغيرنا. . . فقد حان إذن موعد الخلاص من قيودنا، ولن تزال فينا بقية من قيود الأسر والاستعباد، ما بقيت الفنون عندنا فنون أجساد أو فنون استسلام وانقياد.
عباس محمود العقاد(299/7)
أما لهذا الليل من آخر؟
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
إن المسلمين اليوم في ليل أليل لم يبق بأيديهم من مجد آبائهم إلا الذكرى، ولا يكاد يبقى في قلوبهم من عزة دينهم إلا القليل. لكن العجيب أن هذا القليل كلما بدأ ينمو ويشتد كما تنمو الحبة في الأرض الطيبة إذا أصابها غيث، نجم للدين من بين من أنعم الله عليهم من أهله بنعمة البيان من يصرف بيانه في ما من شانه أن يعوق ذلك النمو. وليس يهم أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد فإن النتيجة للمسلمين واحدة في الحالتين
ومن أقرب الأمثلة لهذا وأغربها الكلمة التي أرسلها على الناس للكاتب المعروف الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي في رسالة هذا الأسبوع. فقد كتب يعجب مما سماه قيام القيامة في الجامعة (ضد كتابين قيمين) لاشتمالهما على طعن في الإسلام، ويزعم أن هذا الذي سماه فزعاً من كل كلمة تمس الإسلام أكبر مسبة لهذا الدين العريق العميق، لأنه يوهم إنه دين ضعيف يخشى عليه من طعن الطاعنين مع أنه دين متين ثبت على الأحداث فلا خطر عليه من كتاب يؤلف أو عبارة تقال طعناً فيه. ثم يمضي فيعرب عن دهشته أن يكون مظهر هذا الفزع في الجامعة التي فيها شباب (انغرست في قلبه العقيدة الحارة فلا خوف الآن عليه من مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية) ويختم بقوله إن صحة العقيدة كصحة الجسم لا بد لها من الهواء الطلق لتكتسب المناعة، ولا خير لها في أن تحاط ببيت من زجاج
هذا ما قاله الأستاذ توفيق الحكيم كأحسن ما نستطيع أن ننصفه به في التلخيص
انه أولاً يكتب من غير أن يعرف فيما يبدو حقيقة المسألة التي يكتب فيها. لأن المسألة قي أحد شقيها على الأقل ليس فيها شيء يتعلق بمناقشة المسائل العقلية في جو الحرية، لأن أحد الكتابين المشكو منهما على الأقل ليس بكتاب مسائل عقلية تدرس وتناقش في جو من الحرية أو من غير الحرية ولكنه قصة كبعض قصصه هو ورد فيها ذلك الطعن الممجوج على لسان بعض أشخاصها.
فليت شعري كيف فات الأستاذ توفيق الحكيم معرفة ذلك حين كتب عن (مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية؟) أم كيف، وقد عرفه، فأنه أن ينصف الطلبة حين شكوا من ذلك(299/8)
الكتاب؟
ثم هو فيما يظهر لا يجعل الناس سواسية في حرية القول والتفكير التي يدعو إليها، وإلا فلماذا لا يترك للطلبة الحرية في أن يشكوا مر الشكوى أو حلوها ويقيموا القيامة إذا شاءوا على كتابين يطعنانهم في شيء يعزونه ويقدسونه ولا يريدون أن يسمعوا فيه طعناً ولا تجريحاً؟ أفمن الحرية أن يقرر في الجامعة من قرر دراسة ذينك الكتابين، ولا يكون من الحرية أن يشكو الطلبة منهما كي يستبدل بهما غيرهما من الكتب الأدبية الراقية الكثيرة الخالية من الطعن في الإسلام؟ أفيعاب الطلبة أو الشباب ذوو (العقيدة الحارة) أن يغضبوا لدينهم فيأبوا أن يقرءوا طعناً فيه، ويطالبوا بتحقيق المصلحة لهم من غير إلحاق مضرة بهم في الدين، ولا يعاب من اختار ذينك الكتابين للدراسة عن جهل بما فيهما أو عن استهانة بالشعور الديني في المسلمين؟
إن الذي يقرأ كلام توفيق الحكيم يظن أن الطلبة أكرهوا على ترك كتابين حبيبين إليهم خوفاً على الدين في نفوسهم من طعن ورد فيهما، ويفهم أن الكاتب يشير إلى أن هناك تعدياً على حرية التفكير والدرس باسم الدين. والأمر بالعكس، فحرية التفكير والدرس تقضي بالا يدرس ذانك الكتابان في الجامعة لأن الذي سخطهما هم الطلبة الذين يريد توفيق الحكيم لهم حرية الدرس والتفكير. فهل حرية التفكير والدرس عند توفيق الحكيم ليس معناها حرية الدرس والتفكير؟ إن الطلبة هم الذين شكوا أولاً إلى الأستاذ وأبلغ الأستاذ شكواهم إلى العميد، فلما لم يشكهم العميد اعتماداً على ما يعتمد عليه توفيق الحكيم من أن الدين لا خطر عليه جهروا بشكواهم للجرائد، فاهتم بالأمر شيخ الأزهر ووزير المعارف وكان أن سحب الكتابان. فإذا كانت هذه قيامة فمن الذي أقامها؟ من طلب تغيير الكتابين في هدوء بالطريق القانوني أم من أبى عليهم ذلك التغيير برغم كثرة الكتب الأدبية القيمة البريئة من الطعن في الدين؟
إن المناعة في العقيدة التي يطلبها الأستاذ الحكيم للطلبة وللناس هي بالفعل عند هؤلاء الطلبة الذين أبوا ذنيك الكتابين. وما هي المناعة في العقيدة إن لم تكن هذا الإباء إباء الإصغاء للطعن في الدين من غير موجب ولا داع؟ وما هي إن لم تكن إقامة القيامة على كل ما يسئ إلى الدين في النفوس؟ إن أول ما يفعله الجسم امتناعاً على الأمراض هو ألا(299/9)
يسمح لجراثيمها بدخول الجسم إن أمكن. ومن هنا تجمد الدم أو محاولته أن يتجمد على الجرح ليسده دون الجراثيم. ومن هنا المصفيات والمطهرات المختلفة في مداخل الهواء والغذاء إلى الأجسام. أما إذا دخلت الجراثيم فليس للجسم وسيلة إلى الامتناع منها إلا شن الغارة عليها وإقامة القيامة ضدها على حد تعبير الأستاذ توفيق الحكيم. وهذا بالضبط هو ما فعله الطلبة حين أحسوا من ذينك الكتابين بالجراثيم التي تتهدد صحة العقيدة والدين فيهم. وقد كتب الله لهم النصر في الدور الأول من أدوار الامتناع والكفاح فسدوا الجرح الذي يمكن أن تدخل منه تلك الجراثيم، وكفاهم بذلك الحاجة إلى كفاح تلك المطاعن بعد دخولها في النفوس
ومن العجيب أن يشبه الأستاذ الحكيم قراءة المطاعن الدينية وعلاقتها بصحة العقيدة بالمعيشة في الهواء الطلق وعلاقتها بصحة الجسم. إنه تشبيه مقلوب على أقل تقدير. ولا ندري كيف أمكن أن يغيب خطؤه وخطله عن مثل الأستاذ! إنه لا يستقيم إلا إذا كان تعريف الهواء الطلق عنده أنه الذي تكثر فيه الغازات الفاسدة والجراثيم. فإذا لم يكن هذا تعريف الهواء الطلق عنده فأنا نرجو أن يرى بعد ما بين تنفس الهواء الطلق وقراءة المطاعن الدينية، كما نرجو أن يرى في ضيق صدور الطلبة بما في الكتابين من مطاعن دليلاً على فساد جوهما الروحي، كما يدل على فساد الهواء ضيق الصدور به عند المتنفسين
لكن لعل أعجب ما في مقال الأستاذ الحكيم جعله متانة الإسلام وثبوته على أحداث الزمان وسيلة إلى استئناس الناس لاستماع الطعن فيه بحجة أنه لا خطر على الإسلام من طعن الطاعنين؛ فإذا أبى الناس أن يستمعوا الطعن طاعن وغضبوا لدينهم عد ذلك الغضب منهم فزعاً، وقال هذا الفزع أكبر سبة لديننا العريق العميق. هذا غريب من القول وعجيب من الاستدلال. إن الإسلام متين ثابت حقاً، لكن متانته وثبوته لا يمكن عند المنطق السليم أن يكونا مبرراً لترك خصومة يعملون المعاول فيه اتكالاً على أنها لا تضره. إنها لا تضر مبادئه وأصوله في ذاتها ولكنها تضره في نفوس أهله الذين لا يهبون لدرء الأذى عنه حين يرون خصومه جادين في الاستهزاء به والطعن عليه. إن الذي يصيبه الأذى بالسكوت على الطعن في الدين هو التدين في نفس المتدين الساكت. وإذا استمر على السكوت(299/10)
فسيسلمه من غير شك إلى الهلاك
ولست أدري كيف غاب عن الأستاذ الحكيم أن المسلمين لو كانوا راضوا أنفسهم منذ بدء الإسلام على ما يريد الآن أن يروضهم عليه من السكوت على الطعن في الدين ما ثبت الإسلام للأحداث ذلك الثبوت الذي يتخذه الآن حجة يخطئ بها الناس في غضبهم للدين. ولماذا نذهب بعيداً؟ لنفرض أن المطعون فيه من غير عقل ولا روية هو توفيق الحكيم وفنه ومقدرته. ولنفرض أننا خاطبناه بما يخاطب به الناس فطلبنا إليه ألا يغضب ولا يدفع عن نفسه ولا يدع أحداً من أنصاره يغضب له أو يدفع عنه، لأن فنه ظاهر العبقرية فلا خطر عليه من طعن طاعن مبطل، ولأن الغضب والدفاع يوقعان في الوهم أن فن توفيق الحكيم ضعيف لا يثبت على الطعن والتجريح؛ ولنفرض أنه وأنصاره عملوا برأيه هذا فلم يغضبوا له، ولم يدفعوا عنه، ماذا يبقي على هذا من فن توفيق الحكيم أو صيته بعد قليل؟ لا شيء، فسيألف الناس حتى أشدهم تعصباً له سماع القالة فيه، وسيهون أمره عليهم بالتدريج حتى يدخل عليهم الريب في أمره ويسلمهم الريب إلى تصديق كل ما قيل فيه
على أن الناس، مهما فاتهم بتغيير رأيهم في توفيق الحكيم من نعمة التسلي بفنه وقصصه، سيظلون هم الناس لم يمسس أرواحهم خطر ولا سوء. لكن ليس الأمر كذلك إن هم ألفوا الطعن في الدين وصاروا إلى الرضا به والسكوت عليه. إنهم سيهلكون حتماً في الآخرة إن لم يهلكوا في الدنيا، أو على الأقل هكذا يعتقد الناس. وسيعتقد ذلك معهم توفيق الحكيم حين يقرأ ما قرءوا من قوله تعالى: (وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. إنكم إذن مثلهم. أن الله جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعاً.)
والقيامة التي قال توفيق الحكيم إنها قامت ضد الكتابين في الجامعة ليست بأكثر ولا أقل من إصرار الطلبة على تغيير الكتابين المستهزأ فيهما بدين الله بآخرين ليس فيهم استهزاء. فماذا في طلبهم هذا يا ترى مما يجعل مثل الأستاذ الحكيم يسميه قيامة ويرسل من أجله سهامه على الناس من برجه العاجي؟
على أنه سواء أقامت القيامة بعملهم ذلك أم لم تقم فإن الطلبة الذين استجابوا لصوت ضميرهم في ذلك إنما كانوا عاملين بتلك الآية الكريمة من حيث علموها أو من حيث لم(299/11)
يعلموها، فهم فيما عملوا كانوا من غير شك على صواب. وسيجزيهم الله خير الجزاء من فضله على ما جاهدوا في سيل الإسلام.
محمد أحمد الغمراوي(299/12)
من برجنا العاجي
القوة الحقيقية للرجل هي أن يستطيع أن: (يقول ما يريد وقتما يريد أن يقول). والرجولة الحقيقية هي أن يبذل المرء دمه وماله وراحته وهناءه ودعته وطمأنينته وأهله وعياله وكل أثير عنده وعزيز عليه في سبيل شيء واحد: (الكرامة). والكرامة الحقيقية هي أن يضع الإنسان نفسه الأخير في كفة وفكرته ورأيه في كفة، حتى إذا ما أرادت الظروف وزن ما في الكفتين رجحت في الحال كفة رأيه وفكره. كل عظماء التاريخ كانوا كذلك. بل إن مصر الفقيرة اليوم في العظماء قد عرفت ذات يوم رجالاً من هذا الطراز. رجال لم يترددوا في تضحية كل شيء من أجل فكرة، والنزول عن كل متاع من أجل رأي. بمثل هؤلاء الرجال ربحت مصر كثيراً في حياتها المعنوية والفكرية. بل إني لا أبالغ إذا قلت إن الأمم لا تبنى ولا تقوم إلا على أكتاف هؤلاء. وإن الخطر المخيف هو يوم تخلو أمة من أمثال هؤلاء. نعم. وإنه ليخالجني الآن شيء من القلق إذ انظر حولي فلا أكاد أرى في مصر أثراً لهذه الفئة العظيمة. فناموس اليوم هو وطئ الفكرة بالأقدام راكضاً خلف الجاه الزائف والمال الزائل، وإنكار الرأي والجبن عن إعلانه حرصاً على الراحة وإيثاراً للطمأنينة. وهكذا قد خلت صفحة تاريخنا من أسماء العظماء هذه السنوات، وعجت بلادنا بأصحاب الألقاب وحملة الشارات وراكبي السيارات! وحق لنا جميعاً أن نسأل هذا السؤال: ما هي المعجزة التي تنهض هذا البلد وهو على هذا الخلق؟ وهل يطول غضب الله علينا فلا يظفرنا بعظيم من هؤلاء العظماء الذين يستطيعون أن يردوا الاعتبار إلى قيمة الرأي، ويطهروا النفوس من درن المادة، ويعيدوا المثل العليا النبيلة إلى مجدها القديم، ويرتفعوا بالأمة كلها في لحظة إلى سماء الخلق العظيم! إذا حدث ذلك فقد نجونا. وإذا لم يحدث ذلك فلا شيء ينتظرنا غير انحلال أكيد، وهبوط إلى مرتبة العبيد.
توفيق الحكيم
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
أمثلة من النقد في الأدب العربي(299/13)
1 - نقد الجزئيات:
قال أمرؤ القيس في فرس:
وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهَها شعَر منتشِر
فقال النقاد: هذا غلط في مدح الخيل لأن انتشار الشعر على الوجه عيب فيهن
وقال زهير في الضفادع:
يخرجن من شَربَات ماؤها طَحِل ... على الجذوع يخفن الغمّ والغرقَا
فقالوا: هذا جهل بطبيعة الضفادع فإنها لا تخاف الغرق
وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف فرساً:
قُصِر الصبوح لها فقصّر لحمها ... بالنيّ فهي تثوخ فيها الإصبع
قال الأصمعي: حمار القصّار خير من هذا. وإنما يوصف الفرس بصلابة اللحم
وقال أبو تمام:
ألذ من الماء الزلال على الظما ... وأطرف من مر الشمال ببغداد
أخذ عليه القاضي الجرجاني أنه جعل الشمال طرفة في بغداد، وهي أكثر الرياح هبوباً بها. . . الخ
فهذه أمثلة من الغلط في طبائع الأشياء
وقال أبو تمام:
اسقِ الرعية من بشاشتك التي ... لو أنها ماء لكان مَسوسا
إن البشاشة والندى خير لهم ... من عفة جمست عليك جموسا
لو أن أسباب العفاف بلا تقي ... نفعت لقد نفعت إذاً إبليسا
قال القاضي الجرجاني: فليت شعري لو أراد هجوه، وقصد الغضّ منه هل كان يزيد على أن يذم عفته ويصفها بالجموس والجمود وهما من صفات البرود والثقل ثم يختم الأمر بأن يضرب له إبليس مثلاً ويقيمه بازائه كفواً؟
وقال أبو الطيب في مطلع قصيدة:
وفاؤكما كالربع: أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا، والدمع، أشفاه ساجمه
وقال القاضي الجرجاني: ومن يرى هذه الألفاظ الهائلة والتعقيد المفرط فيشك أن وراءها(299/14)
كنزاً من الحكمة، وأن في طيها الغنيمة الباردة؟ حتى إذا فتشها وكشف عن سرها وسهر ليالي متوالية فيها حصل على (أن وفاءكما يا عاذليّ بأن تسعداني إذا درس شجاني، وكلما ازداد تدارساً ازددت له شجواً كما أن الربع أشجاه دارسه). فما هذا من المعاني التي يضيّع لها حلاوة اللفظ، وبهاء الطبع، ورونق الاستهلال، ويشحّ عليها حتى يهلهل لها النسج ويفسد النظم، ويفصل بين البا ومتعلقها بخبر الابتداء قبل تمامه، ويقدم ويؤخر، ويعمى وُيعوص. ولو احتمل الوزن تركيب الكلام على صحته فقيل: وفاؤكما بأن تسعدا أشجاه طاسمة كالربع. أو وفاؤكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمه. لظهر هذا المعنى المضنون به المتنافس عليه. . . الخ
وقال المتنبي في مدح سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... وثغرك وضّاح ووجهك باسم
فقال سيف الدولة: ينبغي أن تطبّق عجز (البيت) الأول على الثاني وعجز الثاني على الأول وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزقّ الروىّ ولم أقل ... لخيلي كرّى كرًّة بعد إجفال
قال المتنبي: أدام الله عز مولانا؛ إن صح أن الذي استدرك هذا على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا. ومولانا يعرف أن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفصيله؛ لأنه أخرجه من الغزلّية إلى الثوبية؛ وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر بالشجاعة في منازلة الأعداء.
وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه؛ ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا، وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى.
2 - ومن قولهم في نقد الشعراء:
كان النابغة أحسن الناس ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر(299/15)
وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحا وهجاء وفخرا وصفة.
وروى أن عمر بن الخطاب قال: أنشدوني لأشعر شعرائكم. قيل: ومن هو؟ قال: زهير. قيل: وبم صار كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين القول ولا يتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما فيه.
وفي الشعر والشعراء: كان أوس بن حجر عاقلاً في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق وهو من أوصفهم في الخمر والسلاح ولاسيما القوس. وسبق إلى دقيق المعاني وإلى أمثال كثيرة.
وقال الجرجاني:
(ولو تأملت شعر أبي نواس حق التأمل ثم وازنت بين انحطاطه وارتفاعه وعددت منفية ومختارة لعظمت من قدر صاحبنا (يعني المتنبي) ما صغرت، ولأكبرت من شأنه ما استحقرت، ولعلمت أنك لا ترى لقديم ولا لمحدث شعرا اعم اختلافا وأقبح تفاوتا، وأبين اضطرابا، وأكثر سفسفة، وأشد سقوطا من شعره) يعني أبا نواس.
وفي العمدة:
(وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل، يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفا على دينه.
وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء يهجم على ما يريد. لا يبالي ما لقي ولا حيث وقع)
3 - ومن قولهم في تأثير البيئة في الأدب قول الجرجاني:
(ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك (الخشونة والجفاء) ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بدا جفا. ولذلك تجد شعر عديّ وهو جاهلي، أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما إسلاميان لملازمة عديّ الحاضرة، وإبطانه الريف، وبعده عن جلافة البدو، وجفاء الأعراب. وقال ابن رشيق:
(قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند غيره؛ ونجد الشعراء الحذّاق تقابل كل زمان بما استجيد(299/16)
فيه وكثر استعماله عند أهله بعد ألاّ تخرج من حسن الاستواء وحدّ الاعتدال وجودة الصنعة)
(فلما ضرب الإسلام بجرانه واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى؛ وفشا التأدب والتظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله وعمدوا إلى كل شئ ذي أسماء كثيرة فاختاروا أحسنها سمعاً وألطفها من القلب موقعاً. . وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة الطباع والأخلاق، فانتقلت العادة وتغير الرسم وانتسخت هذه السنة الخ
4 - ومن قولهم في الطبع والخلق وأثرهما في الأدب قول الجرجانيّ:
(ثم قد تجد الرجل شاعراً مفلقاً، وابن عمه وجار جنابه، ولصيق طُنبه بكيا مُفَحما، وتجد فيها الشاعر اشعر من الشاعر، والخطيب أبلغ من الخطيب. فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدة القريحة والفطنة؟ وهذه أمور عامة في جنس البشر، لا تخصيص لها بالأعصار، ولا يتصف بها دهر دون دهر
(وقد كان القوم يختلفون في ذلك فتتباين أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر؛ ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلاَمة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة
وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك. وترى الجافي الجلف منهم كزّ الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب، حتى انك ربما وجدت ألفاظه في صورته ونغمته، وفي جرسه ولهجته)
5 - ومن قولهم في طرائق البيان:
قال القاضي الجرجاني: (ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحد، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه؛ وأرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك؛ بل ترتب كلاّ مرتبته، وتوفيه حقه؛ فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه؛ فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام. فلكل واحد من(299/17)
الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه. وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر. بل يجب أن يكون كتابك في الفتح والوعيد خلاف كتابك في التشوّق والتهنئة واقتضاء والمواصلة، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت.
فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى الهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس. فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم)
وقال ابن رشيق في العمدة:
(يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر من جد وهزل وحلو وجزل، وألا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح انفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم وحاز قصب السبق كما حازها بشار وأبو نواس بعده). . . الخ.
6 - ومن قولهم في حرية الأدب قول صاحب الوساطة:
(فلو كانت الديانة عاراً على الشعراء، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولو جب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبدي وإضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، وعاب من أصحابه، بكما خرساً وبكاء مفحمين؛ ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر).
7 - ومن قولهم في صفات الناقد:
قال ابن قتيبة في مقدمة الشعر والشعراء: (ولم أقصد فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختار له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيرة، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده ألا أنه قيل في زمانه ورأى قائله. ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا(299/18)
خص به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوماً بين عباده وجعل كل قديم، منهم حديثاً في عصره)
وقال صاحب الوساطة:
(وملاك الأمر في هذا الباب خاصة (النقد) ترك التكلف ورفض التعمل والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه، والعنف به. ولست أعني بهذا كل طبع، بل المهذب الذي قد صقله الأدب وشحذته الرواية، وجلته الفطنة وألهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبيح)
هذه أمثلة من ضروب النقد المختلفة سردتها ليلتفت طلاب الأدب إليها، ويستزيدوا منها، ويتبينوا ما وراءها من طرائق النقد ومذاهب النقاد. وفي كتب الأدب كثير منها ومن شاء فليرجع إلى الجزء الأول من البيان والتبيين، ومقدمة كتاب طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي وكتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري
تاريخ الأدب
- 1 -
إذا نقد شعراء أمة وكتابها المتعاصرون، وقرن هذا النقد بعضه إلى بعض وتألفت مما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه صورة لعصرهم، وبينت الأسباب التي اجتمعت على تأليف هذه الصورة، ألوانها وهيئتها، فهذا تأريخ عصر من عصور الآداب
وإذا شمل النظر عصوراً متتابعة فاستبانت صور الآداب فيها، وعرف تطوّر هذه الصور وانتهاء كل واحدة إلى التي تليها، وُرد هذا التطور إلى أسبابه فهذا تأريخ الأدب في هذه العصور
فتأريخ الأدب وصف آداب العصور وترتيبها وتعليلها
- 2 -
وهو كالنقد يستمد من ذوق الناقد وتقديره مزايا الكلام وعيوبه وأطواره، ومما أحاط بالأدباء من حقائق التاريخ والجغرافيا، والاجتماع وغيرها. وعلى مؤرخ الأدب أن يلائم بين ذوقه وعلمه بهذه الحقائق فلا يحكم الذوق على غير بينة، ولا يغفله ويعتمد في تاريخه على(299/19)
الحقائق العلمية الجافة؛ بل يجعل حكمه نتاج الذوق المهيأ للحكم بمعرقة واسعة، وتأمل دقيق، وتقدير لأحوال الأدب بليغ، فيكون حكمه خلاصة العلم، ونتيجة الذوق الذي لابد منه في تقويم الأدب
- 3 -
لم يكن تاريخ الأدب على هذه الشاكلة معروفاً لدى القدماء؛ وإنما كان سبيلهم جمع تراجم الشعراء والكتاب، وتبيين محاسنهم ومساوئهم، والاستشهاد ببعض أقوالهم، ولم يكن قولهم موصلاً مستوعباً يؤلف صورة عامة للأدب في عصر أو عصور ولا كان التعليل قيها مطرّداً. فكان عمل المؤرخين تراجم متفرقة ينقصها الجمع والمزج والترتيب والتعليل. فهي مصادر لتاريخ الأدب لا تاريخ
ومن الكتب التي ألفت على هذا النمط:
1 - طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 231
2 - الشعر والشعراء لابن قتبية المتوفى سنة 276
3 - معجم الشعراء للمرزباني المتوفى سنة 384
4 - يتيمة الدهر في شعراء العصر لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 429
5 - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الأندلسي المتوفى سنة 429
6 - دمية القصر لأبي الحسن الباخرزي المتوفى سنة 467
7 - قلائد العقيان للفتح بن خاقان الأندلسي المتوفى سنة335
8 - مطمح الأنفس للفتح بن خاقان الأندلسي المتوفى سنة 335
9 - سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر لصدر الدين المديني من رجال القرن الحادي عشر
10 - ريحانة الألباء لشهاب الدين الخفاجي المتوفى سنة 1069
- 4 -
وتاريخ الأدب كما نعرفه اليوم عرفه الأوربيون في عصر نهوضهم؛ سبق إليه الإيطاليون وسار على أثرهم الأمم الأخرى ولا سيما الفرنسيون. ولهم فيه طرائق مختلفة مبنية على(299/20)
مذاهبهم في النقد وقد قدمنا إشارة إليها
عبد الوهاب عزام(299/21)
أبو تمام شيخ البيان
للأستاذ عبد الرحمن شكري
هو حبيب بن أوس الطائي، وقد سبقه إلى صناعة البيان بشار ومسلم والحسن بن هاني، ولكنه ظهر بها ظهوراً كبيراً وحاكاه البحتري وغيره، وكان حقيقاً بسبب كثرة إجادته في تلك الصناعة أن يسمى شيخ البيان. وكان أبو تمام يقدم الحسن بن هاني ويلقبه بالأستاذ وبالحاذق ويجاريه في طريقته، ولكن أبا تمام قد بز ابن هاني أبا نواس في المدح ووصف الطبيعة، وإن لم يكثر منها وفي الرثاء والأمثال والحكم، وجاراه في وصف الخمر والغزل المذكر. وقد سئل البحتري عن أبي تمام وعن نفسه فقال: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه. وهي قوله حق، فقد كان عند البحتري من حذر ذوي الصناعة وإحجامهم ما لم يكن عند أبي تمام الذي كان أكثر جرأة في صناعته. ولم يكن رديئه القليل عن جهل، فقد سئل فيه فقال: إن أبيات الشاعر كأبنائه فيهم الجميل وفيهم القبيح وكل منهم حبيب لدى أبيه الذي يعرف أيهم القبيح وأيهم الجميل. ولقد قال في إساءة ظن الشاعر بشعره ويعني نفسه:
ويسئ بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
ولكنه يقول أيضاً:
من كل بيت يكاد المَيْتُ يفهمه ... حسناً ويعبده القرطاس والقلم
ولا غرابة في أن يكون قائل البيت الأول هو قائل البيت الثاني، فإن نفس الشاعر قد تتردد بين الثقة بقوله ثقة ليس بعدها ثقة، وبين الشك كل الشك في مرتبته. ولعل هذا الشك وإساءة الظن مما يحفزه على استئناف الإجادة والى الاستزادة من الإبداع كيلا يستنيم إلى ما أجاده من سابق قوله. والشاعر الجريء في صنعته البيانية يكون نصب نقد الناقدين، وعندما مدح أبو تمام أحمد بن المعتصم بقصيدته التي مطلعها: (ما في وقوفك ساعة من باس) أنكر بعض النقاد أن يشبهه بمن هم أقل منه منزلة في قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
ومثل هذا النقد يهدم صناعة التشبيه من أساسها لأنه لم يشبه الممدوح بهم في المنزلة، وإنما يكون للتشبيه وجه شبه خاص لا يتعداه اتفاق المشبه والمشبه به، وهذا النقد يدل إما على الإفراط في تملق الممدوح والمغالطة مع علم، وإما على جهل بالصناعة البيانية. وقد دفع(299/22)
أبو تمام حجتهم بأن زاد في المديح قوله:
لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه ... مثلاً شرُوداً في الندى والبأس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
وأمثال هذا النقد اللفظي كثير فقد انتقدوا أيضاً قول أبي تمام:
دنيا ولكنها دنيا ستنصرم ... وآخر الحيوان الموت والهرم
وقالوا: إن الهرم يأتي قبل الموت ولكنه أخره وقدَّم الموت. وهذا اهتمام بالصغائر، فقد كان في استطاعة الشاعر أن يقول: (وآخر الحيوان الشَّيبُ والعَدَم) وقد فعل المتنبي ما هو أشد من ذلك وكانت له عنه مندوحة عندما قال:
جفخت وهم لا يجفخون بِهَابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
يعني جفخت أي فخرت بهم وهم لا يجفخون بها، وكان يستطيع أن يقول: (فخِرتْ بهم وهُمُ بها لم يفخروا) فيستقيم الوزن والأسلوب ولكن هذا لا يؤخر الشاعر الكبير ولا يقدمه. ومثل هذا النقد يغري به الشعراء أنفسهم عند الملاحاة فقد ورد في كتاب العمدة لابن رشيق أن مسلم بن الوليد انتقد قول أبي نواس
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأمله ديك الصباح صياحا
وقال: كيف يجتمع الارتياح والملل؟ كما انتقد أبو نواس قول مسلم
عاَصي الشباب فراح غير مُفنّدٍ ... وأقام بين عزيمة وتجلد
وقال كيف يجتمع الرواح والإقامة؟ وفي كل من البيتين يريد الشاعر اجتماع حالات نفسية مختلفة الأسباب. على أن أبا تمام قد يأتي في الفلتات بما لا يستجاد مثل قوله:
بلد الفلاحة لو أتاها جَرْوَلُ ... أعني الحطيئة لاغتدى حَرَّاثَا
و (أعنى) هنا أثقل من الرصاص
وقد عد بعض أدباء العصر أبا تمام من شعراء الرمزية، وهذا في رأيي غير صواب، لأن كل شاعر يستخدم الرموز، ولكن ليس كل شاعر من أدباء الرمزية. وأستطيع أن أفهم سبب عد أبي تمام من شعراء الرمزية، وإن لم يكن كذلك، فإنه يكثر من استخدام التشبيه والاستعارة والمجاز، فللاستعارة رمز والكناية رمز. ولكن شعراء الرمزية في أوربا تخطوا منزلة الاستعارات والكنايات وصاروا يرمزون إلى حالات نفسية بأشياء مادية وبألفاظ أو(299/23)
جمل، ويقطعون الصلة بين الرموز وما يرمز لها بها اعتماداً على خيال القارئ وإحساسه وأحلامه وهواجس نفسه الغامضة، وأحياناً يستخدمون رموزاً مدلولها أشياء مادية ويرمزون بها إلى تلك الهواجس الغامضة في الوعي الباطن، وهي لغموضها لا تستطيع عقولهم الظاهرة تفسيرها إلا بتلك الرموز. وهذه طريقة لم يكتب فيها شاعر عربي. أما طريقة أبي تمام فهي طريقة الصناعة البيانية المألوفة وإن كان قد أبدع وأغرب فيها، وشعره شعر الخيال المشبوب بنار الشاعرية، والجيد من شعره يجمع بين القوة والحلاوة وإقناع الصنعة الفنية، وهي ليست صنعة ألفاظ فحسب بل صنعة ألفاظ وخيال وإحساس وذكاء وعقل وبصيرة. وترى في قوة الجيد من شعره قوة الخطيب، ولا أعني، أن الشاعر خطيب فللخطيب صفات قد تدابر صفات الشعراء، وإنما أعني أن لشعره قوة تشبه وقع خطاب الخطيب في الأذن فكأن له صوتاً يسمع. وإذا كان للشاعر نفسه من صفات الخطيب فهي الصفات التي يقترب الخطيب فيها من عبقرية الشاعر ومن بصيرته النافذة وخياله المشبوب، وليست الصفات التي يقترب فيها الخطيب من فن الممثل وهي صفات عالية في فنها وفي الخطابة. ولا نأسف لإضاعة شاعر من شعراء العرب في التكسب بالمدح شعراً كان يكون أعظم شأناً في وصف الحياة والنفس قدر ما نأسف لإضاعة أبي تمام، فإن الرجل كان قادراً على أن يبلغ ما بلغه شعراء أوربا من وصف الحياة والنفوس ومظاهر الكون؛ على أن في شعره في المدح أشياء من هذه الأشياء. ولعل القارئ يقول: ولماذا لا نأسف على المتنبي قدر أسفنا على أبي تمام أو أكثر، وليس المتنبي بأقل منزلة وهو ذو بصيرة وخيال. ولكن أبا تمام كان عنده من نشوة الصناعة البيانية أكثر مما كان للمتنبي؛ وكان للمتنبي من قوة الشخصية وأثرتها أكثر مما كان لأبي تمام؛ وقوة الشخصية هذه لها أثر في الشعر يظهر في كل أبوابه وتجعل الشاعر يترك بعده دوياً كما قال المتنبي:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمعَ المرءِ أنمُلهُ العشْرُ
أما أبو تمام فإننا نقرأ أنه كان مولعاً بالخمر إلى حد الإفراط أحياناً، ونقرأ أنه سكر مرة في مجلس عظيم وعربد وحُمِلَ من المجلس بين أربعة، وأنه كان إذا اخذ صلة أمير أفناها بين الغناء والموسيقى والرياض والخمر والأوجه الوسيمة. وهذه الأمور ربما كانت تقلل نتاجه وتلهيه عن الشعر لو أنه لم يكن مضطراً إلى قرض الشعر في المديح أو الرثاء لكسب(299/24)
المار، فإننا عند ما نقرأ سيرة الرجل وشعره نميل إلى الاعتقاد أن الحياة عنده كانت شعراً يُعاشُ وأن الشعر عنده كان حياة تكتب أو شعراً يكتب، وأنه ما كان يلجأ إلى الشعر الذي يكتب إلا إذا سمح له أو اضطره شعر الحياة الذي يُعاش. ولعل هذا هو سبب إقلاله وسبب موته وقد تخطى الأربعين قليلاً. وإننا نتساءل ماذا كان يكون نتاجه لو كان من المعمرين من غير أن يفني قدرته الحيوية بالحياة؛ ولكن من العبث التأسف، فلعل إفناءه قدرته الحيوية بالحياة كان من لوازم نشوته الشعرية، وإن قدرته في صناعة البيان كانت من مظاهر انتشائه بالحياة، وانتشاؤه بالحياة ميز شعر التكسب في قوله عن شعر التكسب في أقوال الشعراء الكثيرين، فشعر التكسب في قولهم ألفاظ ميتة مهما حاولوا إحياءها بصناعة البيان أو بالأناقة، وكانت قوة شعره مستمدة من انتشائه بالحياة، فلم تكن قوة كتلك القوة في شعر بعض الشبان المبتدئين الذين يفتعلون القوة فيخيل للقارئ أنهم يخنقون ألفاظهم ومعانيهم كي تصيح كما تصيح الدجاجة إذا حاول الطفل الصغير أن يخنقها، وكانت ألوان البيان في شعر أبي تمام طبيعية كألوان الحياة بالرغم من أغرابه، ولم تكن كتلك الألوان التي وضعها القرد على ما لونه المصور في نقشه ورسمه، وقد انتهز القرد فرصة انشغال سيده المصور بأمر من أمور الحياة. وقد أسف المغاربة أيضاً لموت محمد بن هاني الأندلسي في سن مبكرة وكانوا يأملون أن يعمر حتى يفاخروا به أكثر شعراء المشرق، وكان لابن هاني بعض مقدرة أبي تمام ولكنه لم تكن له - ثروّته الشعرية في نفسه وكان كل منهما مولعا بشعر الحياة الذي يعاش. وجرأة أبي تمام في التشبيه والاستعارة والمجاز هي ما يصح أن يسمى بالجرأة الموفقة إلا في القليل من شعره، وهي تشبه في المبارزة بالسيف نوعا من الهجوم إذا أجاده المبارز نثر سلاح خصمه وأصابه في الصميم وإذا أخطأ المبارز في هجومه سقط وسلاح خصمه في قلبه.
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري(299/25)
أعلام الأدب
درامات إسخيلوس
للأستاذ دريني خشبة
أقدم ما وصلنا سليما من مآسي إسخيلوس هي درامته البارعة (نسوة متضرعات) وهي درامة شائقة لا يعرف في أي سنة نظمها الشاعر بالضبط، وتليها في القدم درامة (الفُرس) فقد نظمها سنة 472 ق. م وفي سنة 458 تقدم إلى المباراة التمثيلية بدرامة مفقودة ففاز عليه الشاعر الشاب سوفوكليس للمرة الأولى وكان لهذا الحادث أثره الذي لم يمح من نفس إسخيلوس والذي قيل إنه هاجر بسببه إلى جيلا بعد ذلك بعشر سنين
وفي السنة التالية (467) فاز على جميع منافسيه بدرامته (سبعة ضد طيبة)، ولا يعرف المؤرخون على وجه التحقيق متى نظم رائعته العصماء (برومثيوث) ويظن الأستاذ جلبرت موراي أنها نظمت هي وأختها المفقودة (ليكورجيا) بعد (سبعة ضد طيبة)
وقبل أن يموت في جيلا بعامين نظم أقوى دراماته وأعنفها (الأورستيّة) (458ق. م) وهي الثلاثية الوحيدة الكاملة التي وصلتنا سليمة من هذا التراث الأدبي الحافل المفقود
1 - نسوة متضرعات
نسوة متضرعات هي الحلقة الأولى من ثلاثية كاملة ما تزال حلقتاها الثانية والثالثة مفقودتين وإن يكن موضوعهما معروفاً. . والثلاثية كلها تتلخص في أن إيجبتوس أحد أمراء مصر الشمالية كان له خمسون ولداً؛ وكان له أخ يدعى دانوس رزقه الله بخمسين ابنة ذوات جمال بارع، فحدث أن هام كل من أبناء إيجبتوس بواحدة من بنات دانوس. . . وتقدم إيجبتوس إلى أخيه يخطب بناته على أبنائه. . . وهنا تقوم عقبتان أولاهما تلك النبوءة التي تنبأ بها بعضهم لدانوس وهي أن أحد أزواج بناته سيقتله، وثانيتهما أن شريعة القوم في هذا العصر كانت تحرم زواج الرجل من أبنة عمه وتعتبره زناً. . . فماذا يصنع دانوس؟ فكر الرجل ثم فكر، ثم رأى أم يقر ببناته إلى بلاسجوس ملك آرجوس إحدى ممالك اليونان. . . ورست الفلك على الشاطئ ونزل الركب، ولمحت إحدى البنات رجلاً عظيما بادي الوقار يتنزه هناك، فلما سألت عنه قيل لها إنه الملك. فأستاذنت أباها وذهبت(299/26)
إليه تدعوه إلى والدها ورحب الملك بهؤلاء المحتمين به اللائذين بظله وخصص لهم منزلاً رحباً وعيشة رغداً. . . وأقبل قائد مصري بعد أيام يطلب تسليم دانوس وبناته الخمسين. فجمع الملك وزراءه ومجلس شوراه، وجميع مواطني آرجوس يعرض عليهم الأمر فأبوا جميعاً أن يسلموا اللائجين لما في صنع ذلك من منافاة النخوة وعدم الوفاء. . . فيرتد القائد المصري، ويعود بعد أيام بجند كثيف فيغزو آرجوس ويقبض على دانوس وبناته ويعود بهن معززات مكرمات إلى مصر
إلى هنا تنتهي الحلقة الأولى. . . وقد سمى إسخيلوس درامته الثانية من هذه الثلاثية (فِراش العرائس) أو (ماهدات فراش العرس) وفيها يتآمر دانوس وبناته على أن يقتلن أزواجهن ليلة العرس بعد أن يناموا على ألا يمكنَّهم منهن من شيء. وتُنَفّذ البنات ما عاهدن عليه أباهن من هذا الإثم إلاهيير مسترا التي استفظعت أن تريق دم هذا الجمال الشاب النائم المستسلم لها، فوقفت تنظر إلى الخنجر المشحوذ مرة، وإلى ابن عمها الذي أحبته وهويته وأغرمت به مرة أخرى فلم تر بدا من أن توقظه، وتبوح له بالسر الهائل. . . وهنا يستيقظ القصر كله، ويكون دانوس مرتقبا الإشارة التي اتفق مع بناته عليها ليعلم أنهن قد قمن بواجبهن وأنفذن ميثاقهن، لكنه لا يرى العلامة تنبثق بالضوء من شباك هيير مسترا فيرتجف، ويسمع إلى الضجة فيحاول الهرب، ولكن ابن أخيه، وزوج ابنته الذي لم يقتل، يفاجئه ثم يعالجه بضربة تقضي عليه فيثأر لاخوته وتنفذ على يديه النبوءة.
ثم تبدأ الحلقة الثالثة التي سماها إسخيلوس الـ (دانايدز أي بنات دانوس اللائى يلقين جزاءهن في هيدز ويكلفن بملء وعاء كبير مثقوب من ماء نهر بعيد الغور وعر المنحدر فكلما جئن بجرارهن وصببنها فيه ذهب الماء ولم يبق منه شيء، فإذا جلسن يستجممن صُب عليهن وابل بارد فيهرعن إلى عملهن وهن ناصبات لاغبات. أما هيير مسترا فتقدم للمحاكمة بتهمتين، أما الأولى فعصيانها أباها فيما أعطته عليه مواثقها، وأما الثانية، فزواجها من ابن عمها وهو زنا في نظر الشريعة المعمول بها حينذاك.
كيف حلّ أسخيلوس هذه العقدة؟ وفي أي الجانبين يقف؟ في جانب القاتلات، أم في جانب الزوجة الوفية التي استنكرت القتل؟ يبدو لنا أنه آثر أن يقف إلى جانب هيير مسترا، لأنه أتى لها بربة الحب فينوس (أفروديت) فشفعت له وبرأت ساحتها. ولا ندري هل عادت إلى(299/27)
زوجها أم حيل بينهما. . . لم يذكر لنا التاريخ شيئاً من ذلك!
وتمتاز هذه الدرامة بالإ كبار من شأن الديمقراطية التي أبداها الملك بلاسجوس عندما جمع كل المسئولين من رعاياه ليشاورهم فيما طلب قائد أبناء إيجبتوس، كما تمتاز بهذه السخرية اللاذعة من تلك الشريعة الفاسدة التي كانت تحرم زواج البنت من ابن عمها وتعتبره زنا إذا تم.
2 - الفرس
ودرامة الفرس هي الحلقة الثانية من ثلاثية ما تزال أولاها وثالثتها مفقودتين. . . والأولى عن البطل فنيوس كاهن أسطول الأرجنوت الأعمى وباسمهُ تدعى. والحلقة الثالثة تدعى جلوكوز وهو الصياد الذي تحول إلى إله من آلهة البحار وأغرم بالهولة سكيلا.
وقد جعل إسخيلوس مسرح هذه الدرامة في سوسا وجعل جميع أبطالها من الفرس، وفيها تبدو أتوسه أم أجزرسيس وزوجة دارا، وهي تقص رؤيا مزعجة على بطانة من حاشيتها، فما يكادون يطمئنونها حتى يدخل رسول فيقص نبأ الهزيمة المنكرة التي منى بها أجزرسيس وأجناده في سلاميس، وبذا تتحق رؤيا أتوسه، وتأمر حاشيتها بتقديم القرابين لاستحضار روح دارا. . . وتبدو روح الإمبراطور الراحل فتأخذ في سب إجزرسيس، وتنعى عليه طيشه وقلة بصره بمزالق السياسة، وإقدامه على محاربة اليونان دون رجوع إلى أهل الرأي. ثم يدخل أجزرسيس فيأخذ هو الآخر في حزن طويل يشاطره إياه وزراؤه ومشيرو السوء الذين لم ينصحوا له بما كان يحول بينه وبين تلك الكارثة
والدرامة قطعة فنية رائعة، وقد خدمت التاريخ ووصفت سلاميس وصفاً عجز عن الإتيان بمثله أبو التاريخ هيرودوتس. ولا غرو، فقد حضر أسخيلوس سلاميس وجاهد فيها جهاد الأبطال. . . غير أن قيمة الدرامة في ناحيتها الدستورية التي نعى فيها أسخيلوس على الاستبداد والمستبدين بقدر ما أكبر من شأن الحرية والشورى. . . ومع أن الشاعر يرفع في درامته هذه من شأن أثينا فإنه لم يقلل من قدر المنهزمين. بل هو قد أضفى على الفرس وقار العدو العظيم فلم ينتقص من شأنهم ولم يقدح فيهم، وبذا كان درامياً عادلاً
3 - سبعة ضد طيبة(299/28)
هذه الدرامة هي الحلقة الثالثة من ثلاثية ما تزال حلقتاها لأولى (لايوس) والثانية (أودبيوس) مفقودتين. وتتلخص لايوس وأوديبوس في هذه الأحداث المؤلمة التي حاقت ببيت لايوس ملك طيبة وزوجته جوكاستا. فقد رُويت لهما نبوءة تقول أنه سيولد لهما طفل يقتل أباه ويتزوج أمه ويقضي بالشقاء على ذريتهما. فلما ولد لهما طفلهما الوحيد بعثا به إلى الجبل ليقتله أحد رعاياهما، لكن الرجل أشفق على الطفل فتركه ثمة وعاد بدم كذب على قميصه وادعى أنة قتله. وعثر أحد القضاة على الطفل ملقى في شجرة وقد ورمت قدماه؛ فأخذه وسماه أودبيوس: (أي ذا القدمين المتورمتين). وشب أوديب وتعلم الفروسية في بلاط ملك كورنثه. ثم حدث أن هجر البلاط لخلاف بينه وبين أحد الأمراء الذي غمزه في نسبه وهاجر إلى دلفي يستوحي الكهنة فيما غمزه به هذا الأمير. وقيل له إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ويجر الشقاء على أبنائه. . . فانطلق والهم والحيرة يمزقان قلبه. . . فبينما هو في طريقه إذا قائد عظيم يأمره أن يتنحى عن الطريق حتى يمر مولاه أولاً. فلم يمتثل أوديب وانقض على القائد فقتله. ثم جاءت عربة فنزل منها الحرس فنازلهم وقتلهم. ثم نزل منها وجل عجوز شيخ فنازله وقتله، ولم يكن هذا الرجل سوى لايوس الملك والد أوديب الذي كان ذاهباً إلى دلفي يستوحي كهنتّها في أمر مما نزل بطيبة، ويمم أوديب شطر طيبة فوحد الناس في فزع من أمر تنين (سفنكس) يقف عند باب المدينة من جهة البحر بالمرصاد لكل داخل أو خارج: يقول التنين (ما حيوان تكون له أرجل أربع في الصبح، واثنتان في الظهر وثلاث في المساء؟) فإذا لم يجب الشخص افترسه التنين في الحال. . وقد حار الناس في تأويل هذه الأحجيّة، ونذروا لمن يخلصهم من التنين أن يتزوج ملكتهم الأرمل زوجة لايوس وأن يتربع على عرش مملكتهم. . . سمع أوديب أهل طيبة يهمسون بذلك، وكان قد برم بحياته فاعتزم أن يلقى التنين فإما أن يقتله وينقذ طيبة من شره وإما أن يريحه التنين من الحياة. . . وأول أوديب الأحجية بأن الحيوان المقصود هو الإنسان بعينه، فهو يحبو صغيراً على أربع، ويدب شاباً على رجلين، ويتوكأ على عصا إذا بلغ به الكبر عتياً. . ثم انقض على التنين فقتله، وبذا تربع على عرش طيبة وتزوج الملكة التي هي أمه وهو لا يدري. . .
بذلك تحقق شطر النبوءة الأول ثم شطرها الثاني. . . ثم يجتاح طيبة طاعون هائل ويذهب(299/29)
الناس إلى دلفي يستوحون كهنّتها فيقال لهم إنه لا بد من القصاص من قاتل الملك لايوس ليرتفع أذى الطاعون عن طيبة. . . وهنا ينتشر الجواسيس والرقباء في كل فج يجمعون الأخبار ويتجسسون أنباء القاتل فيتبين أنه أوديبوس الجالس على العرش طيبة وأنه هو نفسه ابن لايوس وابن الملكة جوكاستا. . . ويعترف الخادم الذي عهد إليه بقتل الطفل بأنه لم ينفذ ما أمر به، فيذهل أوديب وينطلق إلى الغابة فيسمل عينيه ويهيم على وجهه حتى يموت
ثم تبدأ حوادث الدرامة الثالثة (سبعة ضد طيبة). . . فقد ترك أوديب ولديه إتيوكليز وبولينيسيز يتنازعان العرش كما ترك ابنتين أخريين نظمت فيهم جميعاً درامات كثيرة. . . ويتفق الشقيقان على أن يتبادلا الحكم عاماً لكل منهما، ولما ينتهي عام أتيوكليز ويقدم أخوه ليتسلم مقاليد الحكم يرفض شقيقه أن يسلمه إياه فيلجأ الآخر إلى أدراستوس ملك آرجوس يستنصره ويعرض أن يتزوج من ابنته، فيقبل الملك ويرسل مع صهره سبعة من قادته يقودون سبعة جيوش إلى طيبة. . . ويستمر الحصار سبعة أعوام طوال دون أن ينالوا من طيبة قليلاً أو كثيراً وإن يكن الحصار قد أجهدها فيعرض القادة أن يطلب بولينيسيز مبارزة أخيه على أن يكون الفائز صاحب الحق في العرش، ويجيز إتيوكليز هذا الحل فيمضي إليه بقلب ثابت وجنان رابط وهو يعرف النتيجة، لكنه يذهب في غير خوف لكي يريح طيبة من ويلات القتال. . . ويلتقي الشقيقان، ويستمر النزال ساعة ثم يضرب كل منهما أخاه فيسقطان معاً ويضرجان الأرض بدمائهما. . . وبذلك تتخلص طيبة من كليهما كما تتخلص من نسل لايوس وتتحقق النبوءة كلها.
(للمقالة بقية)
(دريني خشبة)(299/30)
بين مصر ولبنان
إلى الدكتور زكي مبارك
للأستاذ محمد رشدي الخياط
سيدي الدكتور
تستطيع الأمم أن تحتجز كل شئ دون الخروج من أراضيها إلا الثقافة فلا تستطيع قصرها عليها دون غيرها، فهي قسم مشترك بين العالم يدلف إليها كل فرد وتطلع عليها كل أمة، وتؤثر في كل من يصل إليها كما أنها تتأثر بما يصلها، وذلك أمر بَدَهي لا مندوحة لنا من الإقرار به. وثقافة الأمم منها ما تشارك فيه دون أن تكسوه لوناً خاصاً وهو ما يكون علماً خالصاً، ومنها ما تلبسه ثوباً إقليمياً حسب المؤثرات الخاصة التي توجد لديها ويبقى بعد ذلك عالياً في نزعته وأثره. هذا إلى أن ثقافة الأمم لم تكن في يوم من الأيام أثراً خاصاً من آثار أمة دون أخرى، فهي مزاج من ثقافات العالم القديم والحديث ترتكز كل أمة في ثقافتها عليه فلا يحق لنا إذا ما ذكرنا الثقافة اللاتينية مثلاً أن نقصرها على نتاج عقليات هذه الأمم بل يجب أن نقر أثر الأمم الإغريقية والعربية ونتيجة الثقافات الفرعونية والهندية وسائر الأمم القديمة التي حملت الثقافة الأولى في العالم، ونستطيع بعد ذلك أن نزيد عليها أثر الأمم الحاضرة في تغذية هذه الثقافات وتقدمها. والأمة العربية ليست بدعاً من هذه الأمم، فهي إنما تخضع لقوانين العالم، فالثقافة المصرية لم تكن في يوم من الأيام مقصورة في نهضتها على العقول المصرية كما أنها لا يمكن أن تبقى محصورة في دائرتها الخاصة، بل من الواجب الحتم أن تتعداها إلى غيرها من البلدان كي يظهر أثرها في التأثير في العالم، وقيمتها في المساعدة على تقدم الثقافة العربية. ومصر بما لها من الموقع الجغرافي، والبسطة في المال، والكثرة في السكان، تستطيع أن تباهي شقيقاتها الدول العربية في قطعها دونها شوطاً بعيداً في بناء النهضة الأدبية الحديثة؛ ويجب في الوقت نفسه ألا ننكر جهود سائر البلدان العربية على اختلاف هذه الجهود في القوة والضعف، إذ قام كل بلد بما يستطيعه من المشاركة في هذا الأمر. ولا يعزب عن بالنا أثر لبنان خاصة والبلاد السورية عامة في هذه المشاركة الفعالة؛ فنحن نعلم أن طلائع النهضة بدت في سوريا مسايرة لطلائعها في مصر أو متقدمة عليها بعض التقدم. ولئن استطاعت مصر أن تتقدم شقيقاتها(299/31)
في هذا المضمار فإن مرجع ذلك إلى أمور لا تتعلق بخصب العقلية المصرية، وضعف غيرها كما يفهم من كلمة الدكتور زكي مبارك في (العدد: 295) من الرسالة. إذ يقول: (ولكني أتحداكم أن تثبتوا أن لبنان نبغ فيه أديب واحد، ولم يكن مصدر نبوغه الاتصال بالثقافة المصرية). ثم يقول في موضع آخر: (إن الأدباء السوريين لم يذوقوا طعم المجد الأدبي إلا بعد أن شربوا من ماء النيل). وإنما يعود ذلك إلى مؤثرات خاصة نستطيع أن نجملها في أربع نقط.
ترجع أولى هذه النقاط إلى ما وهبته مصر من خصب في التربة درّ عليها إخلاف الرزق في سهلها المخضوضر المعشب فتهيأ لها بذلك الأساس الذي تقوم عليه النهضات، وهو المادة التي استطاعت بها أن تبث البعوث في مختلف أشتات أوربا لتعود إليها بالغذاء العقلي؛ والبلاد السورية خاصة والعربية عامة صفر من المادة، فهي في لبنان جبل أجرد ضيق أكثر بقاعه لا يمكن سكانه من استغلاله إلا في أشهر معدودات من الصيف، ثم ينقلب بعد ذلك غطاء أبيض ناصعاً من الثلج يحول دون زرعه أو الاتكال عليه في كفايته حاجات السكان. هذا إلى أن المدن المنتشرة في منبطحة ليس لها من الموارد ما يهيأ لها أسباب الراحة وبلهنية العيش كما هيأتها طبيعة مصر لمصر. وسائر البلاد العربية يتكون أكثرها من صحارى محيطة بأطرافها وسهول ضيقة الأركان تنبت خلالها. كان من أثر هذه البيئة أن ضاق النبوغ العربي ذرعاً بهذه الحياة فكبت في مهده، ولم تتجمع له المادة التي تمكنه من استغلال هذا النبوغ فوجد في بقاع الأرض متسعاً لإظهاره، فاحتمل نفسه إلى مصر وما وراء البحار حيث استطاع أن يثبت هذا النبوغ ويؤكده، فكان أثره في مصر بارزاً في نهضتها وفي غيرها من بلدان العالم وبخاصة في أمريكا مركزاً كل التركيز. ولا يفهم من هذا أن مصر أو غيرها من البلدان هي التي أوجدت هذا النبوغ وإنما يعود ذلك إلى البيئة الأصلية ولم يكن من أثر البيئات الجديدة ألا أن ساعدت البيئة الأصلية على استغلال هذه الثروات العقلية الكامنة في زوايا الفقر والفاقة. ومن هنا لا نستطيع أن نوافق الدكتور فيما ذهب إليه من حملة كنا نرجو ألا تثور به حتى يقعد على مثل الألفاظ التي استقر عليها. ومع ذلك فإن الشعب العربي مع فقره وشدة حاجته إلى المادة استطاع أن يشارك في النهضة العربية بقدر ليس بالقليل، وبخاصة لبنان حيث الثقافة العامة في الشعب أكثر منها(299/32)
في مصر حتى الآن، وكل ما في الأمر أن مصر أنجبت طبقة من المثقفين عالية لا تستطيع أن تجاري الشعب في تفكيره، إذ أن التوازن مفقود بين هذه الطبقة العالية في ثقافتها وبين الشعب الذي لا يزال أكثره أمياً أو ضئيل التعلم. وعكس ذلك لبنان وسائر البلاد العربية، إذ نجد الطبقة المثقفة هناك لم توجد بينها وبين الطبقة العامة مثل الهُوى التي توجد في مصر. هذا السبب المادي الذي آل إلى تخلف بعض البلدان العربية عن مسايرة مصر يتبعه سبب آخر هو قلة السكان في أي قطر من الأقطار بالنسبة لمصر، فأكبر بلد عربي لا يتجاوز سكانه خمسة ملايين، بينا مصر تعد بفضل الله ستة عشر مليوناً أو تزيد، وهذا له أثره في قيمة انتشار الثقافة العامة، إذ لا تستطيع الطبقة المثقفة أن تسير في واجبها بوساطة التأليف ونشر المجلات العلمية والأدبية لقلة عدد المستهلكين حيث لا يجد القائمون عليها وسيلة من وسائل الاستغلال والإفادة، بينا مصر تساعدها كثرة سكانها على نشر مختلف المجلات وطبع متباين المؤلفات، ومع ذلك نستطيع أن نسأل الدكتور نفسه عن عدد الكتب التي طبعها وعدد نسخها وما هي الكمية من هذه الكتب التي استطاعت مصر أن تهضمها بالنسبة إلى الكمية التي أقبلت عليها البلاد العربية؟ أكبر الضن أنا سنرى البون شاسعاً بين ما تناولته مصر من مؤلفات الدكتور وبين ما التهمته العقول العربية ولنا في شهادة أستاذنا الزيات أكبر دليل، فالرسالة أثيرة لدى الشعب العربي حبيبة إليه يقبل لذلك عليها أكثر من إقبال إخواننا المصريين. أليس فهذا دليل على رقي الشعب وكثرة المفكرين فيه؟ ولكن ما الحيلة في أن الله قد ابتلانا بضعف المادة وقلة السكان مع ما سيأتي من الأسباب فحرمنا ذلك من كثير من وسائل الإعلان والدعاية؟
وبعد ذلك يا سيدي يحضرنا السبب الثالث الذي يقوم على السببين الأولين - ضعف المادة وقلة السكان - وهو انعدام وسائل النشر والدعاية أو ضعفها، إذ أن المادة التي يقوم عليها البشر لا تواتي المؤلفين والناشرين على الإكثار منهما لقلة ما بأيديهم منها؛ هذا إلى أن ضآلة الاستهلاك من هذه المطبوعات والمنشورات لقلة عدد السكان قعد بالبلاد عن الإعلان والدعاية اللذين اتخذتهما مصر سبباً من أسباب نهضتها بصحفها ومجلاتها وكثرة مطبوعاتها لاعتمادها على ما لديها من المادة وكثرة الاستهلاك المحلى. فالصحف المصرية مثلاً تستطيع أن تنفق عن سعة لأنها ترتقب انتشارً سريعاً بين السكان وقل مثل ذلك في(299/33)
المجلات. من هنا نرى أصحاب الصحف في مصر قد أثروا من عملهم هذا، وكان في ذلك دعاية أي دعاية لمصر في البلدان العربية، ويتبع ذلك المجلات. وهنا نستطيع أن نميز فيما بينها، فهناك المجلات الأدبية والعلمية وهذه يستهلك منها في خارج مصر أكثر مما يستهلك في مصر، أما المجلات الإخبارية أو الروائية أو المصورة فلها عناية خاصة لدى إخواننا المصريين. ولا أبالغ إذا قلت أن أثر بعض المجلات في الدعاية لمصر كان معكوساً، وبخاصة ونحن في بلد لا يزال يحرص على كثير من تقاليده، فهو لا يقبل أن يرى المرأة كاشفة عن ساقيها معلنة عن نهديها ملوحة بذراعها العاريتين أو نصف العاريتين، هذا إلى ما تحويه بعض هذه المجلات من أخبار نسائية ومشاكل اجتماعية ليس من الخير أن تنشر بمثل هذه الإبانة لما توقره في نفوس بعض القراء من آثار سيئة، وبخاصة أولئكم الشبان الذين لم يتجاوزوا طور المراهقة إذ يقبلون عليها بلهفة وشوق ينتهيان إلى انحراف في الأخلاق أو ميل إلى التهتك دون أن يعرفوا الأثر السيئ الذي سيعود عليهم. ما كنت لأرغب في أن أعرض لهذا الآن ولكن المناسبة قادتني إليه.
من هنا يا سيدي الدكتور نستطيع أن نلم ببعض الأسباب التي دفعت مصر إلى أن تخطو خطوات واسعة في طريق النهضة العربية دون أن تستطيع الوقوف على ما يجري لدى شقيقاتها من هذه النهضة. وأنت أدرى يا سيدي بما تلقاه المؤلفات والنشرات التي تصدر في البلدان العربية من إقبال لدى إخواننا المصريين! لو ذهبت تعدد قراء البلاد العربية للمنشورات المصرية لألفيتهم عدداً جماً، ولكنك هل تستطيع أن تدلني على أناس لا يتجاوزون عدد الأصابع قرءوا أو اقتنوا كتاباً واحداً ألفه أديب غير مصري
ولكن ما العمل وإخواننا المصريون قد تضخم لديهم حب الذات حتى غدوا لا يبصرون في هذا العالم أحداً غيرهم ولا يقبلون في الثقافة العربية على غير مؤلفيهم - مع قلة هذا الإقبال - وأنت تقر معي يا سيدي الدكتور أن هذه ناحية من نواحي الضعف في جمهور القراء من المصريين. وأنتم في مصر مع ذلك تشكون قلة القراء على ما لديكم من كثرة السكان وتوفر المادة فكيف بنا نحن العرب الفقراء في كلتا الناحيتين؟
ونستطيع أخيراً أن نبرز الناحية الرابعة التي دفعت بالبلدان العربية إلى عدم استطاعتها المضي مع مصر في طريق النهضة، وهي ناحية سياسية خاصة تختلف كل الاختلاف عن(299/34)
الناحية السياسية في مصر. وذلك أن مصر قد كفل لها استقلالها بشئونها الداخلية منذ أيام محمد علي باشا حيث تمكن من بعث البعوث والنهوض بمصر في مضمار الثقافة، ثم مضت البلاد في ذلك فيظل خلفائه إلى أن أظلها القرن العشرون فأتت النهضة أكلها. أما البلاد العربية فكانت تحت الحكم التركي المباشر حيث كانت الأمية ضاربة إطنابها في مختلف البلاد، وحيث كنت تبحث عن المثقف بمصباح ديوجين، ومع ذلك كان لبنان في مقدمة العاملين في سبيل النهضة الحديثة تحت لواء آل البستاني وآل اليازحي وآل المعلوف وغيرهم، هذا إلى ما قامت به الإرساليات الأجنبية من جهود لا تنكر، ثم تقلبت الظروف وإذا بنا في معركة حامية الوطيس بين الحلفاء وتركيا، تبع ذلك تمزيق أوصالنا إلى دويلات تحت دول متباينة في ثقافاتها. وكان من أثر هذا الصراع أن اتجهنا في حياتنا وفي تفكيرنا إلى حفظ كياننا السياسي - وهو أمر طبعي - قبل التوغل في العمل في الحقل الثقافي. ورغم هذه الظروف استطعنا أن نقطع في طور الثقافة شوطاً غير قليل
قد يقول قائل إن ما لقيته مصر لا يقل عما لقيته شقيقاتها، وفي هذا ما فيه من المغالاة إذ أننا إذا استثنينا الثورة العرابية والثورة المصرية الأخيرة لا نجد صراعاً مسلحاً أخذ بمجمع القلوب المصرية وشغلها عن كل ما عدا ذلك من شئون الثقافة هذه يا سيدي الدكتور الأسباب التي دعت مصر إلى أن تتقدمنا في طريق النهضة الحديثة، وهو في الوقت نفسه لا يدل على ضعف في عقليتنا أو خصب في غيرها، وإنما يعود إلى عوامل لا بد من مراعاتها قبل الحكم في هذه القضية. أما الإبقاء على تراث الجدود والمحافظة عليه فما من أحد ينكر على مصر قيامها به بل نرى من الواجب العض عليه بالنواجذ
وأخيراً يا سيدي الدكتور أستطيع أن أختم كلمتي حول هذا الموضوع بعتب إخوانك وقرائك عليك لحملتك التي خرجت في بعض مواطنها عن حد الاعتدال. وليتك وقفت من مثل هذه الدعوة التي وصلت إليك موقف الأستاذ (ابن عبد الملك) في تهجينها دون تجريح، وفي إنكارها دون جنف أو ميل لك أو عليك، فتكون بذلك قد تجنبت بعض الآثار التي ليس من الخير إثارتها الآن وأنت تعلم أننا أتوق إلى مطالعة آرائك ومنتوجاتك الأدبية من توقنا إلى مثل هذه المنازعات
(فلسطين)(299/35)
محمد رشدي الخياط(299/36)
ابنتي. . .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
مرحباً يا عزيزتي الصغيرة!
هاأنتِ ذي يا ابنتي أمام عيني حقيقةً أراها وكنتِ حلماً من أحلامي!
وهأنذا ألقاك بعد صبرِ صابر وجهدٍ جاهد وطول تشوُّف وارتقاب؟
مالك مغمضةَ العينين أكثر ما تكونين يا ابنتي كأنما لا تجدين في دنياك الجديدة ما يغري على اليقظة والنظر؟
وما لك صامتةً أبداً فما تفتحين فمك إلا للبكاء كأنما تشعرين بالغربة في هذا العالم الجديد؟
وما لهذه اليدين والرجلين دائبات على الحركة أبداً كأنما تحاولين الفكاك من قيد غير منظور؟
أين كنتِ يا ابنتي؟ ومن أين جئتِ؟ والى أين المسير؟
أهذا يوم ميلادك يا ابنتي أم هو أول الطريق في مرحلةٍ بين مرحلتين من عالم مجهول إلى عالم مجهول؟
حدِّثيني حديثك عن دنياك التي كانت، ودنياك التي تكون؛ فأنت أقرب عهداً يا بنية إلى ما كان، وأصفى نفساً إلى تصوُّر ما يكون!
هأنذا أرى شفتيك تختلجان وأنت نائمة كأنما تهمسين بسرٍ في أُذُن!
وتبسمين أحياناً بسمات غامضة كأنما تستمعين إلى نحوي صامتة في دنيا الأحلام التي تصل جديدَك في هذا العالم بماضيك القريب في العالم المجهول!
وتعبسين أحياناً باكيةً بلا صوت ولا دموع كأنما لا يعنيك أن يسمع أحد أو يرى؛ لأن الذي تعنين أن يعلم بشكواك ليس خَلْقاً من الخلق ولكنه روح من روح الله؟
حدِّثيني ماذا ترين يا بُنيةُ في منامك وماذا تسمعين؟
مَنْذَا يسامرك يا ابنتي في أحلامك وما عرفتِ شيئاً بعدُ في دنيانا تؤلِّفين من أشتاته أقاصيصَ في أحلام!
ليتني أعرف ماذا كنتِ أمس؟ وماذا أنت اليوم؟ وماذا تكونين ونكونً في غد!
أطوار ثلاثة في تاريخ البشرية ليس في أيدينا من العلم بها إلا اليوم الذي نعيش فيه؛ أما(299/37)
أمس قبل أن نكون، وأما غدُ بعد أن نصير. . .!
من يدري، من يدري؟ إن هنا سرّ الأزل، وسرّ الأبد، وبرهان الخلود!
حياة بين حياتين، ليس لنا من العلم بأولاها إلا بطن الأم، وليس لنا من العلم بالأخرى إلا بطن الأرض، ونحن بين الحياتين في مضطرب مائج لا نكاد نحس إلا ما تقع عليه أعيننا وما تلمس أيدينا، وإننا على ذلك لنزعم أن لنا الحق في أن نتحدث عم قبل الحياة، وما وراء المادة في جدال السفيه ودعوى المغرور!
ابنتي طفلة في المهد لم تتجاوز من العمر في تاريخ البشرية إلا أياماً معدودة، ولكنها إلى ذلك كبيرة كبيرة في نفسي وفي أوهامي، إنها لم تولدْ أمس، ولكنها كانت في رحلة ثم آبت. إنها كبيرة كبيرة لأنها كانت تعيش في أحلامي منذ سنوات وسنوات. منذ أيقنت أنني يجب أن أكون أباً؟
هل كنتِ تسمعين نجواي يا بُنيتي من وراء حدود المجهول وقد جلست ذات مساء أهتف باسمك في دنيا الأماني متسائلا: أين أنتِ يا ابنتي؟ أين أنتَ يا ولدي؟ أين أنتِ يا زوجي التي لم أرها ولم أَعرفها بعد؟ أين أنتم يا أحبائي؟
. . . طفلةُ هي على حساب الزمن إن كانت سن الحي تُعَدُّ بالسنين والأيام؛ فكم تكون سنها على الحقيقة منذ كانت أمنيةً تتراءى لي في اليقظة وطيفاً يُلمُّ بي في الأحلام؟
صورة إنسان في بضعة أرطال من لحمٍ ملفّفة في طيات الفراش، ولكنها معي أينما كنتُ، أُطوِّف بها ما أُطوِّف في دنيا عريضة من الأماني والأوهام!
خرساء مالها بيانُ بعد، فإذا التقت عينان بعينين فإن بينها وبين نفسي حديثاً أفصحَ من حديث كل ذي شفةٍ ولسان!
طفلةُ هي إذا نظرتُ إليها في فراشها هادئة مستسلمة لا تقدر على الحركة؛ فإذا أغمضتُ عيني وسبحتُ فيما أسبح من آمالي فهي غير منْ هي: صبيّة تدرج، أو فتاة تخطر، أو عروس في جلوة العرس إلى ذراع عروس. . .!
تعالي إلي يا بنيتي أضمك إلى صدري؛ إنني أنا أبوك؛ أتراك تعرفين؟
هاتان عيناك الساجيتان تنظران إلي نظرات ليستْ من مثل ما تنظرين إلى أخي وابن عمي؛ برِّبك من علمك؟(299/38)
انظري إلي يا ابنتي وأَطيلي النظر، إن في عينيك سرًّا يلهمني ما لم تلهمني مشاهد الدنيا جميعاً منذ كنت إلى يوم عرْفتك!
حدثيني حديثك الصامت يا عزيزتي لعلي استشفّ من وراء حديثك سرَّ المجهول؛ ما أنتِ؟ وأين أنت؟ وما كان ماضيكِ؟ وكيف تأملين أن يكون غدك. . أأنتِ هنا أم أنت هناك؟
. . . شمس تشرق وتغيب، وليل يطبق وينجلي، ورياح تعصف وتهدأ؛ وإنسان يعبس ويضحك، ومعدة تمتلئ وتفرغ، وقلب صافٍ صفاء الحق أو عابس عبوس الضلال، وعيون فيها بريق الشهوات أو فيها دموع الألم، ووجوه سافرة ووجوه عليها نقاب. . . هذه هي دنيانا أيتها الصغيرة، فما هي دنياك؟
أتراك تعرفين يا عزيزتي الصغيرة؟. . . ما أرى صمتك الطويل يا بنيتي إلا حذراً ورقبة حتى تعرفي ما أنتِ في دنياك الجديدة. . .! تُرى من أدبك هذا الأدب يا بنيتي؟
سائح جوّال رمتْ به الأقدار إلى وادٍ غير واديه؛ ودنيا غير دنياه، وعيش لم يعش مثله فيما استدبر من حياة؛ ماذا يقول وكيف يتحدث. . . أهكذا أنتِ في صمتك يا عزيزتي؟
هذه أمك يا صغيرتي لم تحمل ولم تلد قَبلُ؛ علِّميها الأمومة يا صغيرتي، إنها لم تكن تعرف. . .!
هاهي ذي حانيةُ عليك صابرة على ما تعاني من أوجاع الأمومة الأولى وإن في عينيها لبريقاً لم أر مثله فيما رأيتُ من عينيها قَبْل!
مغتبطة سعيدة أن تضمك إلى صدرها في حنان ورقة وإن بها من الآلام ما يذهل كل ذات ولد!
وهاتان شفتاك الصغيرتان تبحثان عن شئ هنا. . . مَنْ علّمك أيتها الصغيرة أن هنا أودع الله ما أودع ليكون لك شبعاً وريِّا؟
ورأيتك تلقمين ثديها مغمضة العينين تناول الخبير الفطن، فأحسنت الرضاعة، وما تحسن أمك أن ترضع!
يا عجبا! الطفل الصغير يعلم أمه الأمومة قبل أن تتعلم هي أن تكون أماً!
في كل مرأى عين منك يا صغيرتي درس يهديني ويلهمني!
هل أنت سعيدة بدنياك أيتها الصغيرة؟ هل تتألمين لشيء؟(299/39)
هل تؤملين في شيء؟ هل وجدت الحياة كما علمك باريك الأعظم؟
من لي بأن أسمع جواب ما سألت! ولكن، لا، لا، حسبي الذي أرى؛ إنك أنت أنت لأنك لا تجيبين؛ إنك أنت أنت لأني لا أعرف من أنت؛ حسبي من العلم ما تلهمني نفسي؛ إن ذلك أعمق أثراً في جناني من كل بيان!
هذا جسمك ينمو كل يوم شيئاً شيئاً، وهذه حركاتك تقوى وتشتد، وهذا صراخك يتنوع نبره وتختلف أنغامه؛ وغداً - إن شاء الله سيكون لك غد - ستكبرين يا صغيرة حتى تبلغي ما تبلغين؛ وكم يلذني أن أتمثلك في خاطري صبيةً وفتاةً وسيدة كما آمل أن تكوني؛ ولكن شيئاً واحداً هو أغلى من كل ذلك آمل أن يظل معك صبية وفتاة وسيدة؛ هو قلب الطفلة، وابتسامة الطفلة، ونظرة الطفلة، و. . .، وصمت الطفلة حين تضج الحياة من حولك وتصطخب، ويلتمس كل سؤال جوابه. . .!
ولكن، آه. . . إن حكمة المقادير لتأبى. . .!
هكذا كنا جميعاً، وهكذا صرنا؛ وكانت لنا حياة أين منها الحياة التي نعيش اليوم!
عيشي لي يا ابنتي واسلمي، وكوني ما تكونين؛ فأنت أول من أبوت، وأنت أول من علمني معنى الحياة. . .!
. . . لماذا تبكين يا بنية؟ هأنذا على مقربة منك، تملين عليّ وأكتب؛ تعالي بين ذراعي، إنهما على ما إنهما، لألين مسا على جنبيك من هذا الفراش الوثير!
. . . تبكين لأني منصرف عنك منذ ساعات إلى أوراقي أكتب؟ من علمك هذه الغيرة يا بنية؟ إن فيك لطباع الأنثى وإن لم تكونيها بعد!
ابتسمي لأبيك أيتها الصغيرة؛ لا تبكي؛ إنني أنا أبوك؛ لقد تعلمت منذ الساعة ما أنا، وعرفت ما علي من واجب؛ إنني لك منذ الآن، لا يصرفني شأن من شئون الحياة عن هذا الواجب إلا أن يكون سعياً إلى ما يصلح من شأنك. . .
تعالي تعالي علميني! إنني أنا والدك ولكنك أنت ولدتني يوم ولدت لأنك أنشأتني خلقاً آخر من يومئذ. . .
تعالي، قبلي أباك!. . لا تعرفين؟. . هذه قبلتي على جبينك يا صغيرة تذكرينني بها إلى معاد؛ وإنها لدين إلى أجل لا بد أن اقتضيه يوماً من شفتيك!(299/40)
محمد سعيد العريان(299/41)
استطلاع صحفي
جولة في مزرعة الجبل الأصفر
لمندوب الرسالة
في دار النيابة زوبعة نائمة ينتظر نواب الأمة أن يثيروها عندما يعرض الاستجواب الخاص بالتحقيق في مزرعة الجبل الأصفر. وبذلك سجلت هذه المزرعة لنفسها تاريخا خاصا وأثارت في نفوس القراء فضولا رأينا أن نشبعه بأن نقدم للقراء وصفا شاملا لما يحدث في تلك المزرعة متوخين في تحثنا أن نكون بعيدين كل البعد عن السياسة ومراميها.
الأرض المتمردة
على مسير20 دقيقة من المرج معهدان أولهما مستشفى المجانين، والثاني مزرعة الجيل الصفر. وكلاهما يقع في الصحراء بعيداً عن الناس. ففي الأول أناس اقتضت التقاليد عزلهم لما أصاب مراكز التفكير فيهم من خلل؛ وأما الثاني فبرغم بهائه ونضرته، وعلى رغم زرعه وضرعه، لم يجد الناس مندوحة من إقامته بعيداً عن عيونهم وأنوفهم، فمواد سماده من فضلات المجاري، فهي خطر على الصحة العامة لما تنقله من الجراثيم، وهي خطر على حاسة الشم لأن رائحتها كريهة، وهي خطر على المزاج لأنها تعكر صفوه وتشيع في الإنسان الكآبة: ولذلك اقتضت ضرورة الذوق السليم أن تخط مزرعة الجبل الأصفر في بقعة نائية من الصحراء
ولا يربط هذين المعهدين بالمرج إلا خط حديدي مفرد تسير عليه مركبة الترولي مرات معدودات أثناء النهار عندما ينتقل إلى سكان المزرعة البريد اليومي أو يحاول أهلها الاتصال بسكان العالم عن طريق الرسائل. ولو استطاعت الصحراء أن تتحدث لاتهمت المزرعة بالجنون كما اتهم به الناس سكان المعهد المجاور، فكلاهما خارج بل متطرف في الخروج على مألوف بيئته، فأينما وقفت من أطراف المعهدين تجد الأفق ينطبق على رمال الصحراء سوى هذه البقعة، فقد تمردت بفعل الإنسان فأرسلت من جوفها إلى العالم حياة طافحة بالخير والشر، وأشجاراً باسقة تعطي الظل والخشب، وأثماراً تدر على الإنسان(299/42)
الربح الوافر والغذاء الدسم
تلك الأرض التي كانت منذ سنوات صحراء جرداء تستوي مع جيرانها في أديمها الأصفر وهجيرها اللافح وشمسها المحرقة، أصبحت الآن بستاناً تهوى العين رؤيته وتتوق النفس إلى سكناه. وليس غرام البقعة قاصراً على عشاق الطبيعة الذين يحبون جمعها بين الصحراء وتلالها الرملية وبين الماء والخضرة، بل إن هذا الغرام يمتد إلى التجار. ألم تسمع عن الثورة القائمة في دار النيابة؟ وهل سمعت أيضاً بحديث القتيل الذي راح ضحية المنافسة عليها عند البيع والشراء؟ فإذا لم تكن تعرف هذا فتيقن أن المزرعة مصدر ربح وفير، فإنتاجها حسب تقدير قسم البساتين بوزارة الزراعة يزيد على اثنين وعشرين ألفاً من الجنيهات.
صيد طائرين بحجر واحد
أما مساحة المزرعة فثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون فداناً حولتها فضلات المجاري إلى حالتها الراهنة، إذ استعملت سماداً عضوياً جيداً لتغذية الأرض حتى أنتجت الأشجار والأثمار المختلفة. ولكن المشرفين رأوا أن يستفيدوا من الأرض في التجارة بزراعة الموالح من برتقال ويوسفي بأنواعهما. أما البقول والفول والشعير فاقتصر زرعهما على الاستهلاك المحلي لسكان المزرعة الذين يزيدون على ألف نسمة
ويزرع من هذه المساحة ألف فدان موالح، وهي الأرض التي يسمح باستغلالها في التجارة، وبذلك تكون هي منشأ النزاع وإن شئت الدقة قلنا الاستجوابات المطروحة في دار البرلمان. ويزرع من المساحة الباقية 150 فداناً شعيراً ومثلها فولاً و30 فداناً غابات، ومثلها للنخيل وعشرة أفدنة للخضروات؛ أما الباقي فأراض بور لم يتم إصلاحها بعد، ولو توفر الماء لريها لصبحت كمثيلاتها؛ فالسماد العضوي الذي تجلبه إليها المجاري غذاء غني للنبات
وليست الناحية التجارية هي الأصل في إنشاء هذه المزرعة بل الغرض أسمى من ذلك، ففي مدينة القاهرة مجار تجمع الفضلات من المنازل لتلقيها بعيداً عن الناس دون أن تكلفهم مشقة التعب في النقل وإيجاد المكان. وهذه المواد يجب أن يقتل ما فيها من جراثيم كما يجب أن تستهلك لتنعدم رائحتها وحتى لا تزيد وتتكاثر بمرور الزمن. ولذلك فكر ولاة(299/43)
الأمور في إنشاء مزرعة يتغذى نباتها بتلك الفضلات، وبذلك يضربون طائرين بحجر واحد كما تقول الأمثال؛ فمن الناحية الأولى نجد مصرفاً دائماً للفضلات، ومن جهة ثانية نزرع الأرضة ونجني الثمار.
ولذلك لم تكتف المزرعة بالناحية المادية والتجارية، بل أرادت أن تضيف إلى الثروة الزراعية المصرية نباتات جديدة لم نعرف أثمارها من قبل فأدخلت زراعة بعض الفواكه (كالكوم كوات) كما استطاع الأخصائيون الزراعيون إنتاج فواكه في غير أوانها، فاستطاعت المزرعة أن تمد السوق بالفواكه في أكثر أوقات السنة. ولم تقتصر الفائدة على الحكومة بل عمت فاستفاد منها الشعب فقد اشترى بعض المزارعين بذور تلك الفواكه فشاركوا المزرعة في إنتاج الفواكه على غير ميعاد.
بر الشيطان
وتأبى أرض المزرعة إلا أن تضع أمام اخصائيها معضلة حاروا في كشف سرها إذ يظهر نبات شيطاني اسمه (المنتنة) لم تبذر له بذور ولم يعتن به في سقي ولا حرث، ومع ذلك فأنه ينمو ويكبر؛ وهو غني بالزيت، ولذلك أريد استغلاله باستخراجه منه فجربت زراعته ففشلت. (فالمنتنة) نبات ينمو إذا تركته للطبيعة، فإذا أخذت بذوره وأعطيتها العناية والوقاية فإنها لا تنبت؛ أما إذا تركت على الأرض فإن نبات المنتنة يكثر فيها. أما كيف ينبت فهذا سر الطبيعة؛ وأما لماذا لا ينبت إذا قدمت له العناية فأمر علمه عند الله، وكل ما نعرف عنه أنه نبات شيطاني يحتفظ بسر نفسه، وما زالت التجارب تعمل. وما يظن أنها بذوره تدفن في الأرض أو تبذر على سطحها لتنبت، ولكنها تختفي في الجهات التي تزرع فيها لتظهر في جهات ثانية. والغريب في أمرها أنها تنبت بإذن الله وحده في عدة جهات وبكميات كبيرة، فأمكن استخراج كميات من الزيوت منها.
وتحاول المزرعة أن تحتفظ في حقول تجاربها بكثير من النباتات ولكن بعضها قد لا يحتمل حرارة الشمس لأنه نبات إحدى المناطق الباردة، أو أن حرارة شمس مصر لا تكفيه لأنه نبات إحدى المناطق الحارة، ولذلك فإن المزرعة مجهزة ببيوت من الزجاج، وأخرى من الخشب
فأما بيوت الزجاج فتوضع فيها نباتات المنطقة الحارة حتى إذا انكسرت أشعة الشمس(299/44)
داخلها كانت حرارتها أقوى مما هي في العادة، وهذه البيوت حوائطها من الزجاج الذي يسمح لأشعة الشمس بالنفاذ. أما بيوت الخشب فإنها تصنع لتعطي النبات كثيراً من الظل، وبذلك تقل الحرارة داخل البيت فيستطيع النبات البارد أن يعيش. وبعض النباتات يمكث في هذه البيوت مدة حتى يمكنه أن يتحمل الحرارة والبرودة وعندئذ يمكن غرسه في أرض المزرعة في العراء
سماد عضوي
تروى أرض المزرعة وتسمد من فضلات المجاري التي تصل من القاهرة بواسطة أنابيب تقذفها في أحواض واسعة حيث ترسب الفظلات الثقيلة في قاعها وتمرر في عدة أحواض أخرى إلى أن تصبح ماء صافياً يستعمل في ري المزرعة. أما المواد الغليظة فإنها تنشر في أحواض رملية وتعرض لأشعة الشمس حتى تجف وتباع للزراع كسماد عضوي جيد، ويختلف ثمن المتر المكعب منه تبعاً للمكان الذي يسلم فيه
وتنحل المواد البرازية أثناء انتقالها داخل الأنابيب من القاهرة إلى تلك الأحواض فإنها تبقى عدة ساعات كافية لقتل أي مكروب، ولذلك فإن المواد تصل إلى تلك المنطقة سوداء مما يدل على انحلال موادها. أضف إلى ذلك أنها في ماء جار لا يسمح للميكروبات بالحياة. بل إن بعض الأطباء يؤكدن خلو تلك المواد من أي ميكروب؛ ولذلك يأخذون على وزارة الصحة اعتبارها للمواد التي تسقط على أرض ملوثة؛ ويقول آخرون إن هذا احتياط واجب وهو ادعى لطمأنينة الناس وثقتهم بنباتات المزرعة
ولأول مرة شاهدت أرض المزرعة عجبت لكثافة الحشائش في أرضها مبيناً ضرر ذلك على النبات. ولكن محدثي وهو ممن عاشوا في المزرعة مدة طويلة قال: أن هذه الحشائش الطفيلية تنبت بغزارة وقد تعبنا في التخلص منها بدون جدوى. وثلاثة أرباع العمل الذي نبذله هنا يقتصر على حشها ولكنه لا تمر 24 ساعة حتى تنبت بهذه الكثافة من جديد. ولما سألته عن السبب قال: إن الماء الذي تزرع به الأرض يحتوي على كميات كبيرة من السماد فتشبعت به الأرض أكثر من الحد الطبيعي حتى أصبحت أرضها صلبة مما يضر بالمزروعات أحياناً، وإذا أردنا أن نرجع بالأرض إلى الحالة الطبيعية وجب أن نزرعها مدة عشر سنوات بدون سماد(299/45)
تجارب لعزل الفضلات
ومن المشاكل التي يحاولون التغلب عليها الحصول على ماء خال من السماد الذائب فيه، ولذلك عملت تجارب لتصفية ماء المجاري والحصول على ماء نقي. فليس هذا سهلاً باستيراده من النيل أضف إلى ذلك أن مشكلة ماء المجاري ستظل بدون مصرف لها. واتبعت عدة طرق مازالت تحت التجربة لتنقية الماء بطريقة السواقي أو الرشح بين الزلط والرمل، وينتظر أن تصل هذه التجارب إلى نتائج حاسمة قريباً فقد شاهدت إحدى التجارب وقد أصبح الماء المتخلف منها شفافاً ولكن تكاليفه غالية. ويراد استنباط طريقة رخيصة التكاليف. وقد بنيت لتنفيذ تلك التجارب عدة نماذج مساحة الواحدة منها خمسون متراً تقريباً
وهناك مشروع لتحضير غاز الاستصباح من فضلات تلك المواد، فإذا نجح هذا المشروع فإنه يكفي لإضاءة شوارع القاهرة جميعها. وقد بدأ القائمون بالأمر بعمل التجارب اللازمة، فأنشئوا لذلك بئراً عمقها 11 متراً كما شيدوا خزاناً من الحديد لاستقبال الغاز وتوزيعه
محافظة على الصحة
وتحرص وزارة الصحة كما قلنا على منع الثمار الملوث من الوصول إلى أيدي الناس، ولذلك إذا أراد مستغل المزرعة أن يجمع ثمار قطعة من الأرض فعليه أن يخطر رجال للصحة ليمروا في تلك المنطقة وليجمعوا منها الثمر الذي يلمس الأرض سواء كان ساقطاً أو في فروع قريبة من الأرض فلامستها. ويدفع للمستغل ثمن ما يتلف لأنه ملوث وقد قدر بخمسة آلاف جنيه في العام الماضي
ويعدم الثمر الملوث بوضعه في حفر عميقة وصب (حامض الفنيك) عليه ثم ردم الحفر
فوزي جيد الشتوي(299/46)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
للأستاذ محمود الخفيف
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
يذكر المصريون أسم عرابي فلا يبتعث هذا الاسم وا أسفاه في أذهانهم إلا صور العنف والنزق والحمق، وتراهم - وإن لم يقصدوا - يقرنون اسم عرابي بمعاني الهزيمة والاحتلال والمذلة كأن هذه المعاني من مرادفاته
وما اذكر مجلساً تطرق الحديث فيه إلى عرابي إلا وسرت في الوجوه كآبة، وتسابقت الألسن للهزء به وتعديد مساوئه وإبراز مثاليه. . .
والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلاً ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي المسكين فيما ارتكب وفيما افترى عليه من سيئات؛ وكذلك قل أن نجد في رجالنا رجلاً كرهه بنو قومه واستنكروا أعماله بقدر ما كره هؤلاء عرابيا واستنكروا ما فعل وما أسند إليه من الأعمال زوراً وإفكاً. وفي ذلك دليل قوي على أن التاريخ قد يظلم عامداً كما قد يخطئ غير عامد؛ وفيه كذلك دليل على أن الأمور كثيراً ما تجري فيه كما يرسم الحظ لا كما يضع العدل من قسطاس؛ فيكون نصيب بعض الرجال من التعظيم بقدر ما يتوافي لهم من حظ لا ندري كيف اتفق لهم دون غيرهم، بينما يجني على كثير من ذوي النفوس الصحيحة والعظمة الصادقة ما يلحق بهم من سوء الطالع وما يحيط بهم من نحس الأيام
وما كان عرابي فيما أعتقد أثقل الرجال وزراً وإن لم يكن أقلهم أخطاء. ولعلي أستطيع أن أجلو ذلك في سيرته بقدر ما أصل إليه من وجوه الصواب في تلك السيرة التي بالغ كثير من ذوي الأغراض في تشويهها والحط من قدر صاحبها
ومهما يكن من الأمر فما أحسب من الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة، وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصاً فيما يفعل وفيما يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة خرج من(299/47)
بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في موقف هام من مواقف نهوضها علما على الجهاد ورمزاً للمقاومة حتى شاءت الظروف فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها يذود عن أراضيها ويقف غير هازل ولا طامع في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها. . .
بهذه الروح اكتب عن عرابي، وعلى هذا الأساس أبين سيرته، فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم الأول، بل هو فيما أرى اصح المقاييس وأهمها؛ أما الصواب والخطأ وما إليهما، فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء!
ولد أحمد عرابي في عام 1840 م في قرية تدعى هرية رزنة بمديرية الشرقية، ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيراً باختلاف العصور في هذه القرى التي نبتت على ماء النيل منذ الأزل. . .
نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يجري اسمه يوماً ما على كل لسان في مصر ودرج بين لداته عرضة للأمراض المختلفة، يحيط به في الجهل والفقر أينما اتجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده صبي مثله ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقى العلم المنظم في مدرسة منظمة
على أنه يذكر عن أبيه في مذكراته أنه كان (شيخاً جليلاً رئيساً على عشيرته عالماً ورعاً تقياً نقياً موصوفاً بالعفة والأمانة)؛ ومهما يكن من أمر أبيه فليس يعنينا في هذا المقام سوى أنه أرسل ابنه إلى مكتب القرية وهو كما يقول ابنه من منشآته فيها، وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم فحفظ شيئاً من القرآن وتعلم القراءة والكتابة؛ وتعهده صراف القرية زمناً فعلمه مبادئ الحساب
ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطاً من العلم في الأزهر فلقد أرسله أخوه الأكبر إلى هناك عسى أن يكون عالماً من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر كثيراً فعاد إلى قريته، وكان من الممكن أن يعيش في تلك القرية ثم يموت فيها كما يعيش ويموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين من أهلها. . .
ولكن الأقدار تخرجه من هذه القرية ليغدو فيما بعد رجلاً من رجال مصر، وليثبته التاريخ(299/48)
في سجله، بعد أن يصل اسمه إلى مسامع جميع الساسة في ذلك العصر؛ وتنطوي السنون وتبقى ثورته صفحة من أهم الصفحات في تاريخ هذا البلد
أراد سعيد أن ينهض بالجيش، لا لأنه كان رجل حرب وأطماع، ولكن لأن الجيش كان ملهاته، فأمر بتجنيد أبناء المشايخ والأعيان، وكان من بين من جندوا ذلك الفتى الأزهري القروي الذي لم يكن له من عمل في قريته، وكان يومئذ في الرابعة عشرة
وبالتحاق عرابي بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه. ومن ذلك نرى أن كل ما ناله عرابي من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر قبل سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته الخاصة فيما بعد وهي أمر لا يمكن تحديده. . .
ولطالما رمى عرابي بالجهل ثم عد هذا الجهل من أهم نواحي ضعفه، بل لقد كانت تلك الناحية في مقدمة ما يهزأ به منه خصومه، وبخاصة أولئك المؤرخون الأجانب الذين ينتابهم أبداً لذكر عرابي ما يشبه الحمى فيطلقون ألسنتهم فيه بلا حساب
ولست أحاول هنا أن أنسب العلم إلى عرابي فما أبعده عن أن يوصف بالعلم، ولو كان يفهم أهل عصره من مدلوله؛ ولكني من ناحية أخرى لا أراه من الجهل كما يصفون أو كما يسخرون، ذلك أني أقيسه إلى جمهرة المتعلمين في عصره من أهل مصر، وما كان لي أن أعدو ذلك فأقيسه إلى رجال جيله في أوربا إلا أن أعتبر مصر يومئذ في مصاف تلك الدول علماً وثقافة وحضارة. ولن توصف الشمعة لعمري مهما كانت ضئيلة النور بأنها مظلمة، ولا سيما إذا قيست إلى غيرها من الشموع وما على شاكلتها من المصابيح؛ أما أن تقاس إلى المشاعل القوية أو أن تنقل من ظلمة الليل إلى وضح النهار ثم يتحدث بعد ذلك عن مقدار نورها، فهذا ما لا يجوز إلا في حساب المغرضين والمبطلين
ومتى كان العلم الغزير من مستلزمات البطولة؟ ألا كم شهد التاريخ من أناس لم يكن لهم من العلم إلا مثل حظ الرجل العادي منه بحيث لو أنهم قيسوا من هذه الناحية إلى معاصريهم من العلماء والفلاسفة لكانوا في حكم العدم، ومع ذلك فلم ينل نقصهم هذا من بطولتهم أو يقعد بهم عن مواصلة السير إلى مثلهم التي رسموها؛ وذلك أن قلوبهم كانت عامرة بما هو أغلى وأعظم من نظريات العلماء وأحلام الفلاسفة. . . كانت قلوبهم عامرة(299/49)
بالإخلاص والحماسة والعزم وهي خلال لن تقوم عظمة حقيقية بدونها ولن تغنى عنها سواها من الخلال مهما كان من قيمتها في مجال آخر؛ ولرجل واحد وثيق العزيمة صادق الإخلاص متوقد الحماسة خير في قيادة الناس وتحريرهم من عشرات الفلاسفة الغارقين في أوراقهم وكتبهم
وما كان عرابي فيما استخلص من سيرته خلواً من هذه الخلال، بل لقد كان ما توفي له منها لا ينزل به في البطولة عن مرتبة شريف والمويلحي والقاني ومحمد عبده وجمال الدين والبارودي وغيرهم من مثقفي عصره، إن لم يكن يرتفع به عليهم على ضآلة علمه بالنسبة إليهم. ولست أغلو في ذلك أو أتحيز، وإلا فكيف انتهت إليه في وقت ما زعامة الحركتين الوطنية والعسكرية معاً؟ ولقد كان في الأولى كما ذكرت من الرجال من هم أعلى كعباً منه في المعرفة، وفي الثانية من هم أرسخ قدماً في الجندية؟ وهل يعزى ذلك إلى الحظ وقد كان عرابي من أكثر الناس شغباً على رؤسائه في الجيش، أم يعزى إلى الجاه والثروة وقد كان فلاحاً ابن فلاح من بيت عادي لا ثروة له ولا جاه؟
ألا إنه لا مناص لنا إذا أردنا الإنصاف من أن نعزو ذلك إلى انه كان أكثر ممن حوله أيماناً وأقوى منهم جناناً وأشد منهم توثباً وتطلعاً، وإن كان من أقلهم معرفة واطلاعاً؟ وهنا لا أتردد أن أثبت رأياً آخر وهو أنه لا يجوز عندي أن يعد عليه ما يعزى إليه من جهل أو أن يؤخذ به، وإنما ينبغي أن يعد له وأن يعتبر داعياً من دواعي فخره!
انتظم عرابي في سلك الجندية (نفراً) عادياً فما لبث أن ترقى بعد سنتين إلى رتبة (ملازم ثان) وكان ذلك حوالي عام 1860 ثم إلى رتبة ملازم أول فيوز باشي في نفس العام، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام (بك) وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته
وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في نحو أربع سنوات وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القدر من العلم الذي أشرنا إليه، فيه تمكن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز الامتحانات متفوقاً، ويدلنا ذلك على ندرة المتعلمين في ذلك الجيش، ولا شك أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس الفتى القروي كثيراً من الطموح والإقدام. . .(299/50)
على أنه كان شجاعاً بطبعه في عصر كثيراً ما كانت تعد الشجاعة فيه ضرباً من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه؛ لسوف نرى من مواقفه في هذا العصر ما يزيد معنى بسالته ويظهرها مضاعفة. . .
وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الجركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضباً وكراهية لهؤلاء الأجانب. أليست هذه النزعة من جانبه هي نزعة الوطنيين في الجيش حينما تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانباً من الوطنية ومعنى من معانيها؟
ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل ليسرف بعضهم فيرميه بالتبجح قائلين: ما لهذا الفلاح وعليا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في ذلك ليمتدحونه من حيث لا يشعرون! ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحاً، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجح عرابي هذا فما أعظمه وما أجمله، وما أجدره بالتقدير والإعجاب! وليت شعري كيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعاً؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصرياً؟ وهل كان يعتز بغير مصريته إذا اعتز بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي، فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الرجل إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدم غيره عليه حتى ولو كان ذلك الغير أجنبياً؟
إن الرجل المخلص لا يقف ليقول للناس إنه مخلص وفي ذلك شك منه في نفسه، ولا يكون هناك دليل على إخلاصه إلا ما يعمل في سبيل تحقيق مبدئه، أما الكلام فسبيله ميسور؛ وفي استطاعة كل مبطل أن يملأ أسماع الناس بدعوى إخلاصه في غير مشقة.
(يتبع)
الخفيف(299/51)
مقدمة (ليلى المريضة بالعراق)
تقرير طبي
(مرفوع إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف)
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل
كنتم سألتموني منذ شهرين أن أقدم إليكم تقريراً عما صنعت في مداواة ليلى المريضة في العراق، فأنا اليوم أجيبكم عما سألتم، راجياً أن تغضوا النظر عما وقع من إمهال وتسويف
وأسارع فأعتذر عن تقديم هذا التقرير مطبوعاً إلى الجمهور في الوقت الذي أقدمه إليكم، لأن لي في ذلك غاية نبيلة: هي تذكير زملائي من الأطباء بواجبهم في التعرف إلى الدراسات الأدبية والفلسفية، على نحو ما كان يصنع الأطباء العظام في الأمم العربية والإسلامية، وقد أعلنت هذا المعنى منذ شهور طوال في مجلة (المعلم الجديد) التي تنشرها وزارة المعارف العراقية، فاستقبله الأطباء هناك بالترحيب
ومعاذ الأدب أن يكون في نشر هذا التقرير بطريقة علنية دعاية لنفسي، فما أطمع في أن أكون أستاذاً للحكمة الوجدانية بكلية الطب بعد أن صنع الأدب بحياتي ما صنع: فقوض عيادتي بشارع المدابغ، وأغلق عيادتي بشارع فؤاد، وأصارني إلى احتراف الصحافة والتدريس
وقد كنت نشرت بعض فصول هذا التقرير بمجلة (الرسالة) في السنة الماضية فارتاع زملائي من أطباء بغداد وشكوني إلى الجمعية الطبية المصرية، وكانت حجتهم أنه لا يليق بالطبيب أن يفشي سر المريض
وما اجهل أني أخطأت، ولكن متى سلمت أعمال الرجال من الأخطاء؟ وهل يدعي العصمة إلا أهل الغفلة والحمق والخبال؟
إن أعظم مزية يتحلى بها كاتب هذا التقرير هي أنه يعترف سراً وعلانية بأنه إنسان يخطئ ويصيب، وقد يشطح وينطح في كثير من الأحايين!
وما أتخوفه اليوم وأنا أقدم إليكم هذا التقرير قد تخوفته من قبل: فقد كاد ما نشر من هذا(299/52)
التقرير يزلزل الأرض تحت قدمي في بغداد، واضطرني ذلك إلى الدفاع عن نفسي أمام (نادي القلم العراقي) وفيه كثير من الأطباء، فتقبل الزملاء دفاعي بأحسن القبول. ومن ذلك عرفت أن الأطباء قد يحسون معاني الإنسانية حين يتصلون برجال الأدب والبيان
وما أخفي عليكم أني كنت أعرف أن اهتمامي بمداواة ليلى سيعرضني لكثير من المكاره، فهدتني الفطرة إلى أن أحتاط لنفسي فأوهمت أهل العراق أني أديب عظيم، واستطعت بذلك أن أتصدر لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية، على قلة ما أملك من الذخائر الأدبية، وقد أعانني الله تباركت أسماؤه على تحقيق ما ادعيت، فألقيت على تلاميذي وعلى جمهور أهل العراق محاضرات أسبوعية بكلية الحقوق كان لها في آذان أدباء بغداد رنين أي رنين
ولم اكتف بذلك، بل بالغت في ستر الموقف فأنشأت الفصول التي رأيتموها في كتاب: (وحي بغداد).
فأن عجبتم من أن أوفق إلى ما وفقت إليه في زمن لا يزيد عن تسعة أشهر فتذكروا أن الإخلاص قد يزعزع رواسي الجبال
أليس من العجيب أن أهاجر إلى بغداد وأنا طبيب فأرجع وأنا أديب؟!
ولكن ما الذي ستقرءونه في هذا التقرير الذي تعد صفحاته بالمئات ويقع في ثلاثة أجزاء؟
من المؤكد انه يغاير التقارير التي أقدمها إلى مكتب تفتيش اللغة العربية من أسبوع إلى أسبوع
ستجدون في هذا التقرير صراعاً مروعاً بين الحلم والجهل، والرشد والغي، والهدى والضلال. وستجدون فيه ما هو أخطر من ذلك: ستجدون فيه صراعاً بيني وبين نفسي، والجهاد الأكبر جهاد النفس، كما قال الرسول
سترونني هززت شجرة النفس الإنسانية هزة عنيفة لأعرف ما تحمل من الثمار المعطوبة والثمار الصحاح
سترونني صنعت بالقلوب والنفوس ما تصنع الأعاصير بالشجر والنبات لا ينجو من عنفها إلا القوي المتين
فإن رأيتموني قدمت إلى أصونة وزارة المعارف تقريراً لم تعرف مثله قبل اليوم فاجزوني(299/53)
بكلمة ثناء تخفف ما أصارتني ليلى إليه: فقد رجعت من دارها مفطور القلب مصهور الروح. وإن رأيتموني أحدثت في عالم الطب بدعة سيئة فاغفروا ذنبي، فحسبي من المحنة أن أسكب الدمع كل يوم ما أسرفت على نفسي من الهيام بأودية المعاني، والضلال في هوى الملاح. أعاذك الله من بلاء الحب، ونجاك من فتك العيون السود!
أتذكر أيها الوزير الجليل كلمة جاءت في كتاب (ثورة الأدب) الذي ألفه كاتب من أقطاب الكتاب في هذا الجليل؟
أتذكر أن ذلك المؤلف قال: إن هناك آفاقاً من المعاني يتحاماها كتاب العصر الحديث؟
فما رأيك في من يكفر عن سيئات أولئك الكتاب فيتحمل المشاق في ارتياد تلك المجاهيل؟
لقد اقتحمت تلك الآفاق بلا زاد ولا ماء، وأنا أعرف أني أعرض سمعتي للأقاويل والأراجيف، لأن الناس عندنا لا يفهمون كيف يدخل الطبيب على نفسه ليشرح على حسابها أهواء النفوس والقلوب والعقول؟
اقتحمت تلك المهالك وليس لي إلا سناد واحد هو الشعور بأني أودي خدمة للأدب والطب. وهل يخدم الأدب والطب بأفضل من التغلغل في تشريح النزعات والأهواء؟
وهل كنت أملك الفرار من الصنع الذي صنعت؟
لقد قضيت نحو تسعة أشهر في بغداد وأنا في حوار موصول مع ليلى وظمياء، وأنت تعرف كيف يتعرض القلب - حين يألف مثل هاتين الشيطانتين - للطواف بأركان الحقائق والأباطيل
أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أوفق كل التوفيق في تدبيج هذا التقرير لأنه خلا خلواً تاماً من شوائب الرياء، في وقت صار فيه الرياء سيد الأخلاق، وإلا فما الذي كان يمنع من أن أضيف إلى نفسي وإلى ليلى محامد ومناقب يسير بها الركبان؟ ما الذي كان يمنع من أن أقول إن ليلى لم تعتب علي مرة واحدة وإني كنت في هواها أعقل الناس؟
منع من ذلك التعقل مانع واحد هو الغرام بالصدق. منع من ذلك أني أشعر بأن الأدب العربي أصبح على شفا الهاوية بفضل شيوع التدليس في تصوير العواطف والغزائز والطباع
منع من ذلك أني أبغض أشد البغض أن تشعر وأنت تقرأ هذا التقرير بأن فيه شيئاً من(299/54)
الزور والبهتان
وهل من القليل أن تراني وصلت إلى ضمير الحياة العراقية ثم وصفته بأسلوب يخفي سحره الدقيق على هاروت وماروت؟
في هذا التقرير، أيها الوزير، ما يشبه التحامل على الأطباء ولي في ذلك عذر مقبول.
فأنت تعرف أن الحكومة كانت أوعزت إلى الجمعية الطبية المصرية أن تقيم مؤتمرها العاشر في بغداد لتعينني على مداواة ليلى المريضة في العراق.
ولكن أولئك الأطباء حاربوني وقاتلوني بلا ترفق، وقد جزيتهم بما يستحقون، وأنا مع ذلك أشعر بأني أحسنت إليهم كل الإحسان.
أما يكفي أن أصور بقلمي فلماً للمؤتمر الطبي العاشر، فلماً رائعاً لم يشهد مثله الناظرون؟
سترى في هذا التقرير أن ليلي - وإن بالغت في الدلال - لم تضمر غير الحب ولم تمنح الواشين الآثمين غير الصد والإعراض
سترى أن ليلى عرفت أني لم أكن إلا طيفاً زار في السحر بساتين الكرخ وبغداد.
ويؤذيني أن أعرف أنه قد يصعب أن أرى ليلى بعد اليوم فقد قيدني أهلي وأبنائي بقيود من حديد، وقهروني على أن أعترف بأني من مصر لا من العراق
وإن رأيتم في هذا التقرير حبسا شديداً للأمة العراقية فلا تعجبوا، فما ذقت طعم الحياة إلا في العراق، ولا رأيت صدق القلوب إلا في العراق، ولا عرفت جمال النيل إلا بعد أن رأيت لون مائه في دجلة والفرات
وما أسفت على شيء كما أسفت على أن لم يقدر لشاعرنا شوقي أن يزور العراق.
وقد دعوتكم إلى زيارة العراق، فمتى تجيبون؟
أحب أن أعرف متى أراكم في العراق بين قومي وأهلي؟
أحب أن تسمعوا سجع الحمائم في الموصل، وأن تروا غابات النخيل في البصرة، وأن تعانوا بقايا السحر في بابل، وأن تكحل أعينكم بغبار الصحراء في النجف، وأن تستصبحوا بظلام الليل في بغداد
أدعوكم أيها الوزير إلى زيارة الأماكن التي قضت بأن يتموج هذا التقرير بعباب الهدى والضلال.(299/55)
أدعوكم إلى زيارة العراق لتواجهوني بما في هذا التقرير من الزائف والصحيح، إن ارتبتم في بعض ما ستقرءون.
ستروه في هذا التقرير رموزاً كثيرة، وقد تجزون من يحدثكم بأني سلكت فيه مسلك الغمز والتجريح، فإن سمعتم شيئاً من ذلك فاختبروه بأنفسكم على ضوء الحق لتعرفوا أني أخلصت النصح للأمتين العظيمتين: (مصر، والعراق).
وما الذي يوجب التصريح في مواطن يكفي فيها التلميح؟
أن البلاغة تجعل اللبس والغموض من أغراض الكتاب في بعض الأحيان فكيف تحرمون على ما استباحه المفكرون في مختلف العصور والأجيال؟
إن هذا التقرير يحدد صلات مصر بالأمم العربية والإسلامية ويدلها على مذاهب الخلاص من الشبهات والأراجيف. وهو كذلك يشرح المعضلات التي يتعرض لها الجيل الحديث في مصر والشرق، وما كان يتيسر ذلك إلا إذا اعتمد الكاتب على رموز وإشارات يفهمها أولو الألباب.
وإني لواثق بأنكم ستعجبون حين ترونني وصلت إلى دقائق لم يفطن إليها أحد قبل اليوم وأنا أتلقى الوحي من ليلى ومن ظمياء
وهل كان ينتظر من رجل يلهو ويلعب أن يصل إلى ما وصلت إليه في تشريح السياسة الدولية في الشرق العربي والإسلامي؟
ذلك شيء غريب، ولكن الأغرب أن تتلقوا الحكمة عن أفواه المجانين!
وأعيذكم أن تظنوا أني آذيت بهذا التقرير أحداً من الناس، فقد عرضت بعض فصوله على ليلاي بالعراق قبل أن أعرضه عليكم فتلقته بالقبول، وهي التي علمتني مذاهب الرمز والإيماء، وسيرمي النقاد مني بداهية إن بدا لهم أن يعترضوا على ما في هذا التقرير من رموز لا يدرك مغازيها إلا الراسخون في الحب والطب
ولك يا معالي الوزير أن تبلو سرائر هذا التقرير إن أردت لك أن تسأل - بيني وبينك - عما في هذا التقرير من غرائب وأعاجيب. . .
وليس لك أن تطالبني بأن أفسر للجمهور ما يقصد إلى طيه الحكماء، وأنا من الحكماء لأني بحمد الله مجنون!(299/56)
في هذا التقرير خطابات شخصية، فلا يرعك ذلك: فقد كان أدبي من مواسم الأفراح الروحية في بغداد، وفيه صور كثيرة لمعالم العراق وبعض أهل العراق، وكان في نيتي أن أحلي هذا التقرير بصورة ليلى - أعزها الحب - ولكني خشيت أن أخرج على أمرها العالي، وهي قد أشارت بأن يصان وجهها الجميل عن شره العيون.
لا تعجب من أن أفتن بما وفقت إليه في هذا التقرير، فسترى أني لم أفرط فيه من شيء، وسيدعوك إلى أن تستوحي ليلى المريضة في أسوان كما استوحيت ليلى المريضة في العراق!
أيها الأستاذ الجليل
سترى في هذا التقرير صفحات تشرح الحوادث التي كانت سبباً في وقوع فاجعة بغداد، فاقرأ تلك الصفحات - غير مأمور - لترى أن ما وقع لم يكن أثراً لعداوة موجهة إلى الأمة المصرية، وإنما هو نتيجة لتصرفات أوقعت فيها المقادير بعض الناس لتعرف من في أنفسنا من الصلاحية للاستبسال في خدمت المقاصد العالية بمعاهد الشرق
وكان في نيتي أن أطوي تلك الصفحات من هذا التقرير، ولكن دعاني إلى إثباتها ما عرفت من أن بعض المفسدين يريدون أن يجعلوا تلك الفاجعة نهاية الصلات الودية بين مصر والعراق
وأرجو أن تعرفوا أني لم أتلطف في سرد تلك الأسباب، ولم أضف إليها شيئاً يمليه الغرض في مراعاة مصر أو التحامل على العراق، وإنما وقفت موقف الرجل الأمين الذي يقدر المسئولية أمام الله وأمام التاريخ
وعند قراءة الفصول الخاص بتلك الفاجعة سترون أن الله قدر ولطف: فلم تكن تلك الحوادث إلا سحابة صيف، وقد تقشعت بفضل الله الكبير المتعال
لقد قلت ما قلت، وكتبت ما كتبت في الدفاع عن العراق، ومن الله وحده أنتظر حسن الجزاء. فمن كان له هوى في أن يصدني عن قول الحق فليمض في ضلاله كيف شاء، فما أنتظر العطف من أحد، وقد أقمت حياتي الأدبية على قواعد من الحديد
وما هذه الدنيا الصغيرة التي يتعادى فيها الناس بلا بينة ولا برهان؟
وما بال قوم يؤذونني وما قدمت إليهم غير الجميل؟(299/57)
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(299/58)
أبي
للآنسة الفاضلة فدوى ط.
(إلى النبراس الذي يضيء أفق حياتي، إلى ذلك العزيز الذي
يتململ الآن على فراش المرض في ظلمات السجن، إلى أبي)
يا أبي ضاق بي الفضاء على رحب مداه ... إذ ضاق صدري الكظيمُ
وعراني مما أصابك من نف ... يٍ وسجنٍ كآبةٌ وهمومُ
وحشةٌ تملأُ الفؤاد وغمُّ ... راسخٌ في جوانحي لا يريمُ
لا الأخ البَرُّ يا أبي فيه للنف ... س سلوٌ ولا القريب الحميم
أنت ظلّي الظليلُ في العيش إمَّا ... لفحتني أو لوَّحنتي السَّموم
أنت ركني، لا قوَّض الله ركني ... وملاذي البرُّ الحفيُّ الرحيم
يا أبي حال بعدك الأنس في الد ... ار فأضحى وهو الأسى والوجوم
كيف تمسي، ترُى وكيف تصبح فالس ... جن ثقيل على النفوس أليم
ليت شعري هل كفَّ عنك مضيض الس ... قم أم أنت موجع مكظوم
يا لقلبي وكيف جسمك في القُرِّ ... فعهدي به معنَّى سقيم
أبا دفء المهاد يجفوه جنبي ... ويح لي، كيف يزدهيني نعيم؟
ويح لي، كيف أنشد الخفض ... واللين وأنت المقيد المحروم
يا أبي كلما تدلت سجوفُ الليل ... فالليل مدلهمٌ بهيمُ
وغفتْ أعين، وقرتْ نفوس ... حشوها خِسةٌ وطبع لئيمُ
زيَّن اللؤمُ قبحَ ما أبرمته ... من أمورٍ، واللؤم خلق ذميم
فاستراحت لمخزيات فِعال ... هي عند الأحرار إثم عظيم
تشتري الذلّ بالكرامةِ فاعجب ... كيف يرضى ذلّ العبيد (زعيم)
راح يُزهى تيهاً بعارية المنصب ... يغريه صدره الموسوم
كل شؤم كانت بلادي بمنجًى ... منه لولا وسامه المشؤوم
أًرَّقتني ذكراك، والليل للذ ... كرى كتاب مفسِّر مرقوم(299/59)
فأرى في السطور أخلاقك الزُّ ... هْر يزين الأخلاق قلب سليم
وأرى نفسك الأبية لا تع ... نو لضيم يبغيه باغ ظلوم
رعاها أن يميل بالوطن الأقد ... س - لا مال - مستبدٌّ غشوم
فسعتْ سعيَها النبيل تردُّ ... الكيد عنه إذ أزمعته الخصوم
وأرى صحبك الكرام وكلُّ ... نهجه نهجك السوَّيُّ القويم
لم يَضِركم أن قيد القيد أيد ... يكم ولاقت مرَّ العذاب الجسوم
همم، لو هوت نجوم لإعظ ... اٍم لأهوت تجلهنَّ النجوم
كلما هَّم أن ينهنه منها ... بضروب النكال جان أثيم
قام روحٌ من الإله يقو ... يها فيشتد أزرها فتقوم
وطني، بي مما عراك شجون ... وبقلبي مما دهاك كلوم
الرزايا حلت بساحك والأ ... يام جارت والبؤس فيك عميم
الأيامي، ويا لبؤس الأيامي ... خضب الأرض دمعها المسجوم
رفرفت حولها فراخ مها ... زيل براها الشقاء فهي رسوم
أجنحٌ ما نمت قوادمها الز ... غبُ وقد هاضها المصاب الجسيم
هاضها اليتم وهي في جدة الر ... يش ويا شدَّ ما يلاقي اليتيم
والنسور الأباة لما استضيمت ... ضاق عنها في الأرض هذا الأديم
أَنِفَتْ عيشة الهوان وراحت ... في سما المجد والعلاء تهيم
أعنقتْ تستجيب للواجب الأس ... مى دعاها إليه حقٌّ هضيم
لم تبال الهول المبيد ولم تف ... لل شباها صواعق ورجوم
ترسل الموت فاغراً فاه عن زر ... ق حداد وهو الأكيل النهيم
يا ضحايا الجهاد في ذمة الله ... لأنتم مجدُ البلاد المروم
أيّ نار كنتم وقود لظاها ... لو وعاها لريع منها الجحيم
قد تركتم في مصحف المجد ذكراً ... هو باق على الزمان مقيم
سطرته لكم مواقعُ حُمرٌ ... صبغتها جراحكم والكلوم
(جبل النار)(299/60)
فدوى(299/61)
من الشعر المنسي لحافظ
إلى محرر المرأة
أرسل إلينا كثير من الأدباء جملة طيبة من شعر حافظ المنسي سنوالي نشره شاكرين لهم فضلهم وعنايتهم، وهذه القصيدة أرسلها إلينا الأديب حسنين محمود حسنين بالإسكندرية وهي مما تجاوزه الديوان الذي طبعته الوزارة على أنها من أروع ما قال شاعر النيل:
// لحاظك والأيام جيش أحاربه ... فهذي مواضيه وهذي كتائبه
وهمين ضاق القلب والصدر عنهما: ... غرام أعانيه وشوق أغالبه
وليل كمطل القوم كابدت طوله ... وأيقنت أني لا محالة صاحبه
كأن دياجيه صحيفة ملحد ... تخط بها أعماله ومثالبه
قريت به جيش الصبابة والأسى ... وأنزلته صدراً تداعت جوانبه
وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح ... بما فعلت بين الضلوع قواضبه
تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي ... رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه
رجائي في قومي ضعيف كأنه ... جنان وزير سودته مناصبه
ودائي كداء الدين عز دواؤه ... وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه
فيا ليت لي وجدان قومي فأرتضي ... حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه
ينامون تحت الضيم والأرض رحبة ... لمن بات يأبى جانب الذل جانبه
يضيق على السوري رحب بلاده ... فيركب للأهوال ما هو راكبه
فما هي إلا أن تجشمه النوى ... وما هو إلا أن تشد ركائبه
ويحرج بالرومي مذهب رزقه ... فتفرج في عرض البلاد مذاهبه
أقاسم أن القوم ماتت قلوبهم ... ولم يفقهوا في السفر ما أنت كاتبه
إلى اليوم لم يرفع حجاب ضلالهم ... فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه
فلو أن شخصاً قام يدعو رجالهم ... لوضع نقاب لاستقامت رغائبه
ولو خطرت في مصر حواء أمنا ... يلوح محياها لنا ونراقبه
وفي يدها العذراء يسفر وجهها ... تصافح منا من ترى وتخاطبه
وخلفهما موسى وعيسى وأحمد ... وجيش من الأملاك ما ت كواكبه(299/62)
وقالوا لنا رفع النقاب محلل ... لقلنا نعم حق ولكن نجانبه
في أفق البساتين. . .
وهي بساتين بركات بالشرقية، انتقل إليها سعد باشا رحمه الله في الفترة الأخيرة من حياته انتجاعا للراحة، وكان بصحبته نفر من الميامين من أبنائه وفيهم مكرم وحافظ والدكتور محجوب ثابت، وكان لهم ملس حافل بالأنس والسمر قال حافظ في وصفه:
لّما مددْنا بِساط للهو وانبعثت ... روائح الأنس تزري بالرياحين
أغنت شمائلُ سعدٍ عن معتّقة ... من العنا قيد تسري في الشرايين
وأرشفتنا سجَاياهُ على ظمأٍ ... ألذّ من رشفات الخرّد العين
في أنس سعدٍ وفي أوْفَي صراحته ... ترى جلالاً ورأيّا غيرَ مأفون
لما مثلت على أنس بحضرته ... رأيتُ بين الندامى وجه هارونَ
رأيتُ وجهًا صبوحًا حوله نفرٌ ... من الميامين من شمِّ العرانين
إذا دعاهم إلى الجليّ حسبتهمُ ... على أعاديهمو مثل الشواهين
وإنْ دعَاهْم إلى أنسٍ رأيتهمُ ... مثل الحمائم في خَفضٍ وفي لين
وجالَ محجوبُ جولاتٍ موفّقةٍ ... فأحرز النصرَ في كل الميادين
عصى نَذِيرَ الحجا عمداً وصاح به: ... (ما لذة العيش إلا للمجانين)
وحلم سعد وسعد يعجبان معاً ... من لوثة الشيخ - شيخ الأقرباذين
يرغى ويزبد بالقافات تحسبها ... قَصْفَ المدافع في أفق البساتين
وتجد بقية القصيدة في الديوان من باب الإخوانيات بعنوان الدكتور!
(م. ف. ع)(299/63)
رسالة العلم
وزن الكون
وعدد ما به من إلكترونات
للدكتور محمد محمود غالي
لم يكن الموضوعان الأخيران اللذان تعرضنا لهما على صفحات الرسالة: (الكون ينتشر) و (الكون يكبر) من الموضوعات السهلة التي يمكن للقارئ أن يتصورها كغيرها، ولعله اقتنع إلى حد أنه موجود في كون محدود، وأنه محمول على حيز متقوس، وأن عالمه أحد ملايين العوالم التي تبتعد كلها الواحد عن الآخر، والتي تقع كلها في قشرة كرة كبيرة لكنها جوفاء، شاء لها القدر أن تتسع وتمتد على نحو كرة من المطاط، وهي بهذا تكون كوناً واحداً محدوداً منتهياً يختلف عن الكون اللانهائي الذي تصوره أقليدس والذي اعتقده العلماء منذ الإغريق حتى عهدنا القريب
ولم يكن في وسعي أن أواصل اليوم موضوعاً دقيقاً كهذا، وأخطو بالقارئ خطوة أخرى، أدله فيها على الطريقة التي توصل بها العلماء إلى معرفة عدد الجسيمات أو الإلكترونات المكونة للكون، كنتيجة للدراسة المتقدمة، دون أن يتخلل أحاديثنا فترة من الراحة ودون أن نهيئ للذهن فرصة للتأمل، هذا الشعور من التأمل والراحة نود أن يشعر به القارئ في هذه الأسطر من هذا المقال
لم تصبح دراسة هذه الظواهر الحديثة من تمدد الكون وابتعاد جميع العوالم بعضها عن بعض وما يترتب على ذلك من معرفة وتحديد عدد جسيمات هذا الكون، من المسائل التي تدخل في حدود الهندسية والميكانيكا المعروفة، ولا في حدود تصوراتنا المعتادة، مع أن التجارب الطبيعية التي ثبت لنا منها فرار جميع العوالم بعضها عن بعض، وبالتبع فرارنا عنها، بسيطة جداً لا تدعو لكثير من التأمل، وأبسط ما فيها أنها وقعت كلها داخل المجموعة الشمسية التي نحن فيها، بل وقعت جميعها فوق سطح الأرض، بل في حجرة في أحد المراصد الأرضية المتعددة
عجيب ألا يعرف العالم الطبيعي من هذه الحجرة المتواضعة أن الكون محدود فحسب بل(299/64)
يحاول أن يعرف من رسائل الطيف العديدة التي تصل إليه، والمنبعثة من العوالم البعيدة، عدد الإلكترونات المكونة للخليقة، وهي التي لا يتغير عددها في نظر العالم الطبيعي ما دامت مكوِّنة لكون محدود.
إن النتائج التي ترتبت على معرفة تمدد الكون وقياس الدرجة التي يكبر بها في خلال الزمن، والتي تتلخص في معرفة عدد الإلكترونات المكونة لهذا الكون، مهما كان جسيم الإلكترون متناهياً في الصغر، ومهما كان الكون متناهياً في الكبر، قد تبدو للقارئ غريبة، لذلك رأيت لزاماً أن أحاول رفع هذا النوع من الدهشة لديه قبل شرح الأسباب التي أدت إلى مثل هذه النتائج
لو سألنا عالماً طبيعياً أن يحصي لنا عدد الذرات ونوعها وبالتبع عدد الإلكترونات والبروتونات التي تتكون منها مدينة القاهرة، فإن من المستحيل أن يعطينا هذا العالم أي فكرة عن هذا العدد مهما استعان بمئات الأخصائيين والعلماء. إن محاولة إحصاء المنازل وما بها من أثاث ومعرفة نسبة أوزان جميع العناصر التي تدخل قي تكوينها، بل إن إحصاء الأحياء، الإنسان منها والحيوان والنبات، ومحاولة الوصول من ذلك إلى عدد ما تحويه المدينة المائجة من إلكترونات ضرب من العبث
ولو أننا بعد ذلك حاولنا أن يعطينا عالمنا الطبيعي فكرة عن عدد الإلكترونات الموجودة في مياه النيل مدة فيضانه، وهي كمية أكبر بكثير من الموجودة في القاهرة لأجابنا أنه قد يستطيع بعد البحث والتحري أن يدلنا على فكرة ولو تقريبية عن هذا العدد. صحيح أن هناك صعوبة كبرى في تقدير تصرف المياه المتدفقة في النهر في مثل هذه المدة من السنة، كما أن ثمة صعوبة في تقدير أطوال النهر وأحجامه في المناطق المختلفة وفروعه المتعددة، بل إذا أردنا أن ندخل في حسابنا ما تحمله المياه من طمى تعترضنا صعوبات أخرى، ذلك أن الطمى يختلف مقداره في الزمان والمكان ويتركب من أكثر من عشرين عنصراً، لكل عنصر ذرات تختلف في عدد إلكتروناتها عن الأخرى، ولكن مهما يكن من الأمر، فإن عالمنا الطبيعي قد يستطيع بعد مجهود مضن أن يعطي فكرة عن هذا العدد من الجسيمات، وأن يحدده بين رقمين يتعلقان على دراسة هيدرولوجيه طبيعية معقولة.
ولو أردنا أن نعرف عدد الذرات المكونة للكرة الأرضية الحاملة لنهر النيل وغيره لهان(299/65)
الأمر قليلاً، ذلك أوزن الأرض معروف بينما وزن مدينة القاهرة أو لندرة غير معروف، بل إن الكثافة المتوسطة للكرة الأرضية معروفة أيضاً وهي تساوي 5 , 25. ليس المجال هنا لإثبات ذلك. وهكذا يحاول العالم أن يعطينا فكرة تقريبية رغم ما يتخلل الموضوع الأخير من مصاعب، منها عدم معرفتنا مقدار النسب الموزعة بها العناصر المختلفة في باطن الأرض. ومهما يكن من الأمر فإنه يبدو أن الخطأ النسبي في معرفة العدد التقريبي لذرات الأرض بالنسبة للعدد الحقيقي لها أقل بكثير من الخطأ النسبي عندما نحاول عد هذه الجسيمات لمدينة القاهرة.
ولو أننا سألنا العلماء اليوم عن عدد الذرات ونوعها وبالتبع عدد الإلكترونات والبروتونات المكونة للكون، وعن بعض البيانات الأخرى الخاصة به مثل نصف قطرة قبل تمدده ودرجة تقوسه وكتلته وكثافته وغير ذلك لأعطونا الإجابة التي نراها في هذا المقال - إجابة يظهر أنها عند هؤلاء العلماء أقرب للحقيقة من كل تقدير سابق.
وليس السبب في ذلك أننا نرى الكون وحدوده، ولا أننا نعرف أجزاءه جزءاً جزءاً، ولا أننا نحيط بمقدار كل عنصر من العناصر المكونة له، ولكن لأن ثمة معارف في مسائل أخرى مثل تمدده تجعل بين هذه المعارف وبين إلكترونات الكون رابطة تسمح بالوقوف على هذا العدد، بحيث إذا كانت معارفنا في هذه المسائل صحيحة كان عدد الإلكترونات المكونة للكون صحيحاً. ولعل القارئ قد أدرك أن هذه المعارف لا بد وأنها تتصل مباشرة بعلاقة بين الكون في مجموعه وبين الإلكترون المتناهي في الصغر والذي قلنا إنه يدور في المادة حول النواة كما يدور القمر حول الأرض
قد يتراءى للقارئ أن هذا الترتيب غريب لا يتفق مع المنطق في شيء. كيف أستطيع أن أعرف عدد إلكترونات الكون أكثر مما أعرف عدد إلكترونات الكرة الأرضية؟، بل كيف أعرف عدد جسيمات هذه أكثر مما أعرف جسيمات مدينة القاهرة؟ هذه المدينة التي أعرف حدودها أكثر مما أعرف الأرض، وهذه الكرة الأرضية محدودة أمامنا أكثر من الكون. إن طيارا مثل كامبل الإنجليزي قطع دون توقف المسافة بين لندرة ومدينة سدني من أعمال استراليا في ثلاثة أيام وثلاث ساعات، أي أن الطيار يدور في عهدنا حول الأرض في أسبوع واحد. كيف تصعب معرفة عدد جسيمات الأرض عن الكون؟ وهذا الأخير مكون(299/66)
من ملايين الملايين العوالم - كل عالم مكون من ملايين الملايين الأجرام والشموس.
ولكن لا أريد أن يعجب القارئ لذلك فإنه على قدر المستندات العلمية التي أمامنا تكون درجة معرفتنا للأشياء صحيحة.
هب جدلاً أن صديقاً لك شيد مسكناً خاصاً في إحدى ضواحي القاهرة، وأنك عثرت في أوراق صديقك على مستندين: أحدهما يدلك على أن الأرض والمباني قد كلفته ثلاثة آلاف جنيه، والثاني يدل على أن الأثاث قد كلفه ألف جنبه أخرى، عندئذ تستطيع أن تؤكد أن هذه الدار كلفت صاحبها 4000 جنيه
وهب أن صديقاً آخر سألك عن تكاليف حجرة المكتب بمفردها أو عن القيمة التي دفعها ثمناً لأشجار الحديقة أو لسجادة موجودة في غرفة الاستقبال، فإنه يتعذر عليك عندئذ أن تعرف أيا من هذه. قد تحاول أن ترجع إلى أسعار السوق لتعرف كم كلفته هذه السجادة الفاخرة، ولكن يعوزك مثلاً معرفة التاريخ الذي اشتراها فيه، وقد يعوزك إن عرفته تعيين الظروف التي اقتناها فيها، فقد يكون ابتاعها في مزاد تصادف وقوعه في ذلك التاريخ، وقد يكون المزاد خاصا بصديق له فلا تعرف أن كان تساهل معه في تقدير الثمن: ثمة عوامل عديدة تجعل تقدير ثمن أثاث كل حجرة ضرباً من المحال. ولكن ليس لصديقك أن يدهش إذا علم أنه إن فاتك معرفة ثمن جزئيات الدار، فلا يفوتك معرفة الثمن الكلي لهذه الدار؛ إذ أن من حقك دائماً إن تقول لمحدثك: لا تسائلني عن أجزاء الدار ولا عما تكلف صاحبها لشراء هذه السجادة أو المكتبة، كل هذا لا أستطيع أن أعطيك فكرة عنه، ولكن سلني عن الدار بأكملها أجبك أنني أعرف
هذا ما أود أن يعلق بذهن القارئ، فلسنا في حاجة لأن نتجول في الكون لنعرفه فقد يكون لدى العلماء مستندات جديدة تدل على عدد ما به من إلكترونات أو على طول نصف قطره قبل ابتداء تمده أو درجة تقوس الحيز فيه في الوقت الذي يتعذر علينا أن نعرف فيه عدد الإلكترونات المكونة الأرض أو لمياه النيل أو لمدينة القاهرة
على أنني إن تحاشيت فيما تقدم من مقالاتي أن أشغل ذهن القارئ بالأرقام، أرى لزاماً علي هذه المرة أن أدله على وصف الدار التي يسكنها وعلى حدود المملكة التي هو فرد فيها هذا الكون الذي ذكرنا أنه كروي وأنه يكبر بات أرضاً خصبة للتفكير العلمي. وللقارئ فيما يلي(299/67)
النتائج الكمية الخاصة بالكون وفق آراء أدنجتون العالم الإنجليزي المعروف
(1) سرعة ابتعاد العوالم
528 كيلومتر في الثانية لكل
3. 26 مليون سنة ضوئية
(2) نصف قطر الكون قبل
ابتداء التمدد
1068 مليون سنة ضوئية
(3) كتلة الكون
2. 14 10 55 جرام أي
1. 08 10 22 قدر كتلة الشمس
(4) عدد الإلكترونات المكونة للكون تساوي عدد البروتونات
1. 29 10 79
(5) كثافة الكون الأولى
1. 05 10 - 27 جرام س م3 أي بمعدل ذرة واحدة من الهيدروجين لكل 1. 58 س م3
(6) الثبت الكوني
9. 8 10 - 55 س م - 2
ومما يجدر بالذكر أن هذه النتائج التي هي آخر حدود معارفنا حتى سنة1934 مرتبطة الواحدة منها بالأخرى، بحيث إذا عرفنا إحداها عرفنا البقية منها، وتتعلق كلها بالسرعة التي تبتعد بها العوالم أي بالرقم 528 الموجود بالصف الأول من الجدول
على أن درجة معرفتنا لسرعة السدم والعوالم البعيدة وعلاقة ذلك بتمدد الكون تزيد سنة عن أخرى، ففي سنة 1931 لم يكن يعرف العلماء سوى 90 سديماً وكانت أكبر سرعة يعرفونها هي سرعة سديم الأسد وهي 19600 كيلومتر في الثانية، ويبعد عنا هذا السديم بمسافة يقطعها الضوء في 104 مليون سنة
أما في سنة 1936 فقد وصلت معارفنا إلى قياس سرعة 179 عالماً وسديماً من العوالم البعيدة عنا وكان أكبر هذه السرعات لسديم موجود في اتجاه الدب الأكبر وهو يبتعد عنا(299/68)
بمسافة 241 مليون سنة ضوئية ويبتعد بسرعة 42 ألف كيلومتر في الثانية، وهذه المعلومات الأخيرة عرفناها من كتاب الأستاذ الكبير بريا أستاذ السوربون الذي يشغل الآن كرسي الطبيعة الفلكية، هذا الكرسي الذي أوجدته جامعة باريز منذ سنة 1937 وقد طالعنا في الأسبوع الماضي أن منظار مرصد مونت ولسون بأمريكا الذي يبلغ قطره مترين ونصف المتر والذي ترى صورته الفوتوغرافية هنا يكشف العوالم المفصولة عنا بمسافة 500 مليون سنة ضوئية
ذلك ما بلغناه من المعرفة، وللقارئ أن يتصور مبلغ خطورة هذه المعرفة منذ أن ذكر وليم هرشل في أواخر القرن الثامن عشر أن للسدم اللولبية جزرا كونية شبيها كل منها بعالمنا المجرة. ومنذ أن نشر أينشتاين في سنة 1915 النسبية في وضعها العام وتنبأ (دي ستير) في سنة 1917 بابتعاد العوالم عنا، ووضع شابلي في سنة 1918 القانون الذي يربط القدر المطلق للنجوم المتغيرة بفترة تغيرها، ومنذ أن اكتشف هبل في سنة 1924 نجوماً في السدم القريبة من هذا النوع الأخير، ناهيك بما بلغته الأجهزة الفلكية من الكمال
عجيب هذا الإنسان! كل يوم يزداد معرفة عن يوم، حتى أصبح الكثير من الأمور لا يخفى على ذكائه.
أنستطيع أن نحصي إلكترونات الكون؟ نعم. وأي عجب في ذلك ما دمنا نتبع طريقاً علمياً سليماً يعطينا هذا القدر.
عندما نريد أن نعرف وزن كرة صغيرة من مادة معينة نفكر عادة أن نضع هذه الكرة على كفة ميزان، ولكن إذا استحال وزنها لتناهي صغرها بدا للشخص أن القيام بهذه العملية مستحيلاً، ولكن العالم الطبيعي يعرف مثلاً علاقة بين وزن الكرة، وبين سرعتها في الماء أو الهواء، وحيث أنه يتيسر له قياس هذه السرعة فإنه يصل لمعرفة وزن هذه الكرة، وهو لذلك غير محتاج إلى الاستعانة بالميزان للوقوف على حقيقة ثقلها.
وإنما أردت بالكرة المتقدمة أن أقدم للقارئ مثلاً كيف يصل العلم بطريق غير مباشر لاختراق طريق المعرفة، وليس هناك أي علاقة بين سرعة الكرة المتقدمة وموضوع تمدد الكون أو معرفة وزنه.
ولو أن السحب المحيطة بالكرة الأرضية كثيفة بحيث لا نرى الشمس بل تكتنفنا ظلمة(299/69)
حالكة، لما استحال علينا أن نعرف دورة الأرض حول نفسها. فللوصول إلى ذلك نرقب كرة معلقة بخيط طويل بعد هزها فنلاحظ أنها لا تهتز فقط بل نلاحظ دوران المستوى الذي تهتز فيه.
وهكذا لم يكن العالم الكبير (فوكوه) بحاجة ليرى الليل والنهار ليعرف من تعاقبهما دورة الأرض، بل استدل على ذلك من بندوله المعروف الذي علقه من قبة (البانتيون). مدفن العظماء في باريس، هذه القبة التي ترتفع عن سطح الأرض 78 متراً. ذلك البندول نرى شبيهاً له في متحف فينا الحالي.
وهكذا يزداد قاموس المعرفة وتتقدم العلوم بين البشر، ولعل في وزن الكرة الصغيرة المتقدم ذكرها وفي بندول فوكوه الذي عرف منه دوران الأرض سبباً عند القارئ ليعرف أن قطر الكون ووزنه وعدد إلكتروناته مسائل يجيز معرفتها العلم
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(299/70)
القصص
أقصوصة من الكاتب الإنكليزي ينز
الشاعر
(جائزة نوبل)
للأستاذ صلاح الدين المنجد
مشى يتخلع ثملاً في حنايا المدينة، وقد أغفى الليل وسجا الكون، فطرق سمعة نغم حلو يصعده ناي حزين. فسعى إليه، جذلان طرباً. فقد كان للأنغام أثر في نفسه، وسلطان على حسه، وسيطرة على هواه. . .
فلما جاز بالدار التي ترسل النغمات. . . نادى صاحبها، فقام إليه يندى وجهه فرحاً، فرحب به وقال له:
- ما هذا الهجران الطويل يا هانرهان. . . فلقد صرمت حبالنا منذ بعيد، فنحن بعدك في شوق يلح، وكآبة تضني. . . أهلاً. . . حللت يا هانرهان. . .!
فلكزته زوجه بجمع كفها، وهمست في أذنه: أن اطرده، فإن الناس يتقولون الأقاويل عليه، وإن الكهنة يقصونه عن المعبد كلما أتى إليه. . . ثم إن ثمل. . . دعه. . . دعه يمض وحيداً
فصاح بها زوجها قائلاً: (أأطرده أن جاء إلي بعد سنين طويلة. . .؟ إنه شاعر رقيق القلب، طيب النفس
ودخل الشاعر الدار يتبع ربها. . . فقاده إلى غرفة تكدس الناس فيها من الجيران. . . فغشيها وقد شخصت الأبصار إليه. وقال فتى كان هناك:
- أليس هذا هانرهان الذي ذاع صيته. . . وكان معلماً فطردوه. . .؟
فأخرسته أمه وقالت له:
- لو أنه سمع مقالتك لا ندرأ عليك سباً وشتماً. . . أنصت!
وساد السكون. . . ولكن أحد الفتيان نادى الشاعر لينشد القوم شعراً. فأبى رب الدار ذلك عليه. . . لأنه لم يصب بعد من الراح شيئاً، ولم ينل من الراحة قسطاً. فأخذ الشاعر يعب(299/71)
الخمر وقد جاشت في كأسها. . . ثم يحول بصره نحو الباب لينظر إلى (وانا) فتاة الدار، وقد أتت تعانق حزمة من الحطب الجزل، لتؤرث بها النار، وشعرها الأشقر الجعد متهدل على وجهها وعينيها
وقام إليها الفتيان مسرعين ليأخذوا منها الأعواد. ولكنها رمت بها إلى الموقد. . . وانثنت وثغرها المرفاف يضحك لترقص مع فتى لها، فغضب الشاعر. . . وضرب الأرض، ثم دفع بالفتى وهو يزبد صائحاً:
- ولقد قطعت طريقاً طويلة، وأتيت لأراها. . . فأنا الليلة فتاها. . .
وأسرعت (وانا) إلى الشاعر فمدت إليه يديها والخجل يعلو خديها. . . وعزفت الموسيقى، وقام الناس ليرقصوا. . . ولكن وا أسفاه. . . لقد انحنى الشاعر فرأى حذاءه الذي حال لونه وبلى فبدت من خلاله أصابع رجليه التي نفذ إليها الطين، وأبصر سرواله الممزق، وساقه العارية المملوءة بالشعر الأسود الغليظ. . . فارتد إلى مكانه وهو يقول:
- لا أستطيع الرقص والموسيقى تسرع
ولها الناس، وجنت الموسيقى، وعربدت الأنغام. . . والشاعر جالس مع (وانا) يقص عليها أحلى الأقاصيص
وأدركت الأم خطر الشاعر الذي يريد أن يسحر الفتاة. . . فنادتها ولكنها أعرضت عنها. . . فأقبلت الأم على الموقد تتظاهر بتأريث النار، وتصغي إلى حديث هانرهان. لقد سمعته يحدثها عن (ديردر) ذات الأيادي البيض. . . التي قادت الأمراء إلى الموت فماتوا وجداً بها وهياماً. وأحزنها فقدهم. . . فطفقت تبكي. . . آه يا (وانا). . . إن الأزهار تذرف الدمع في السحر حزينات رحمة بها، وإن الشعراء يتغزلون ويبكون لها. . . ما كان أجملها وأعذب صوتها يا (وانا)!
واضطربت الأم، وأرهفت أذنها. إنه يقول لها: (مثل الشمس والقمر يا (وانا) كمثل المرأة والرجل، خلقا ليتحابا. . . ألا تنظرين إليهما يتنقلان في السماء؟ لقد خلقت يا (وانا) معي قبل أن يخلق الله الناس لكي نرقص بين طيات السحاب الرقيق. . . نرتفع مع النغم الهادئ، ونهبط مع النشيد الجميل بخفة وسرور، على حين يسقط الناس صرعى لاغبين!)
وانتصبت المرأة مضطربة الشعور، ومشت إلى زوجها وهو يلعب الورق، فحدثته حديث(299/72)
الشاعر والفتاة. . ولكنه ازور عنها يضحك منها. فأحزنها الأمر، وقامت إلى عجوز فقصت عليها نبأ (وانا) مع الشاعر المخيف: (ويلي كيف السبيل إلى طرده. . . إنه ساحر ملعون. . . فلأحرضن الفتيان عليه!)
وجاءت إلى الفتيان وقالت لهم: (ويحطم. . . ألا تستطيعون نزع ابنتي من هذا الشاعر فترقصوا معها. . . هيا. . . هيا!)
وقام الفتيان. . ولكنها ردتهم خائبين. . فمالوا إلى الشاعر يلحون عليه في الرقص. . فأذعن بعد لأي. . وانتصب يرقص مع الفتاة. .
وبينا هو كذلك. . . إذ طرب. . . فاندفع لينشد الشعر. . . فخرست القيثارة. . . وأنصت القوم وقال هانرهان:
(يا أصابع الموت المخيفة. . .!)
(لن تمسِّي روحينا في هذا المكان. . .!)
(ولكن في ذلك الوطن الغالي الحبيب. . .!)
(حيث تبسم الزهور وترفّ الثغور. . .!)
(من راد الضحى. . . حتى جنوح الأصيل.)
(حيث تدب الجداول. . . الجذلى. . .!)
(تحمل موجات الجعة العذبة الشقراء. . .)
(وحيث يلعب الشيخ الهِمّ على الأوتار. . .)
(في الغابة المليئة بالذهب والفضة. . .!)
(وحيث الأميرات ذوات العيون الزرق الصافية)
(يرقصن على الحشيش الغض بفرح وكبرياء. . .!)
كان يغني بحماسة وشوق و (وانا) تتقرب منه، وقد حرك إنشاده شجونها وملك عليها أمرها. . . فلما فرغ من إنشاده. . . أطرقت (وانا) وسقط الدمع من عينيها ندي. فقال أحد الفتيان:
- أيها الشاعر. . . . أين هذه البلاد التي تصفها في شعرك؟ (وانا) إنه يخدعك. . . إن الطريق طويلة. . . والوطن بعيد!(299/73)
وقال فتى آخر:
- ليست بلاد الصِّبا هذه يا (وانا) إنك لم تخلقي لتصاحبي هذا المجنون!
عندئذ شخصت (وانا) ببصرها إلى الشاعر الحزين. . . كأنها تريد أن تسأله شيئاً. . . ولكنها وضعت كفها بين كفيه ورفعتهما إلى أعلى. . . وقالت بصوت رخيم:
- إن الوطن لقريب منا. . . يا شاعري. . . إننا نستطيع إدراكه الآن. . . إنه هناك. . على ذرى الهضاب ذات الرفيف. . بالقرب من الغاب التي تأويها الريح ذات الزفيف. . .
فصاح الشاعر:
- نعم في ذرى الهضاب. . . يا فتاتي. . . يا ذات العيون الزرق. . . ولكن الموت لن يجدنا. . . هناك. . . لأننا نختفي بين السحاب الأبيض الجميل. .!
وأنا. .! يا ذات العيون الزرق. . . هل تريدين المجيء معي. .؟
وذعرت الأم وقالت لعجوز كانت إلى جانبها:
- كيف السبيل يا جارتي إلى طرده؟
- ولكننا لا نستطيع. . . إنه شاعر الآلهة، ومن يطرده تنصب عليه اللعنات تتري في الغدوات والعشيات! ثم يجف الضرع ويموت الزرع، وتهلك النفوس. .!
- ربّاه عونك! إن في لسانه السحر. .
- كان عليك طرده. . ولكن. . اسمعي. . تعالي. . سنخرجه وهو راض عنا، تعالي. .
وخرجت العجوزان ثم عادتا تحملان حزماً من الفصفصة الخضراء، وكان الشاعر يكلم (وانا) ويقول:
- (إن الديار يا وانا ضيقة والعالم فسيح، ولن تجدي يا فتاتي مخلوقاً تيمه الحب، يخاف الليل أو الفجر، والشمس أو النجوم، وأشباح الأماسي وأطياف الأسحار، هيا يا فتاتي.)
واقتربت الأم من الشاعر فربتت على كتفه وقالت له:
- هات يدك يا هانرهان. .
وقالت العجوز:
- أنت قوي يا هانرهان. . . ساعدنا على ربط هذه الحزم الخضر. . .
وتقدم الشاعر يربط الحزم بحبل والعجوزان تفكان العقد التي يعقدها ويجران الحبل نحو(299/74)
الباب، والشاعر منهمك في الربط. . والفتاة تنتظر. . حتى إذا كان عند الباب دفعت الأم به، فهوى إلى الشارع لا يعي. .
واستفاق الشاعر يبكي. . . فضرب الباب. . . وصعد الزفرات وأرسل اللعنات. . . ولكن لم يجبه أحد. . .
وساد السكون. . . وتلاشت الأنغام. فقد مضى الشاعر في طريقه يذرف الدمع. . . وا رحمتا له!. . . لا رفيق ولا حبيب، لا كأساً يجيش فيها الخمر، ولا فتاة ترهف لأناشيده وأنغامه الأذن
وقالت له نفسه: هيا إلى البحر، فلن يسعك شيء سواه!
وجلس فوق الصخور الشم يستمع إلى تصفيق الموج، ويصغي إلى همس الريح السجواء. . فطرب واندفع يغني، وكان الضباب الهف يغمر الفضاء ويحف بالشطئان، وكانت أشباح الليل ترقص حوله. . هنا وهناك تصعد من البحر وتهبط من السماء!
لقد خيل إليه فجاءة أن طيف الأميرة التي حدث (وانا) عنها يناجيه. . .
ولكن. . . آه! إنه يتذكر الحبل والعقد. . . أهو حبل؟ لا. . . تلك أفعى خرجت الآن من البحر. . . هاهي ذي تحيط به يا لله! لشد ما تخيف. لقد وسعت كل شيء: الأرض، السماء حتى النجوم الخافقات. . .!
ولكن. . لا. . هاهو ذا طليق، فمشى يتماوح ويعربد ويغني
لقد اختطفته الأمواج، وحفت به الأطياف، وحملته الأشباح على الزبد الجياش، وهي تغني. . وتقول:
(هيا لنحمله إلى بنات الهضاب. . . إلى الحسان الراقصات هناك. . . فهو لن يذوق الحب في الأرض. . . لقد دب الفناء في نفسه. . وجثم الظلام فوق قلبه، دعوه ينم. . دعوه يمت. . . دعوه يحلم ببنات الهضاب)
صلاح الدين المنجد(299/75)
البريد الأدبي
الفرقة الإيطالية للغناء في دار الأوبرا الملكية
الثقافة غير محصورة في القراءة والكتابة. الثقافة تجمع بين الفن والغناء والأدب والعلم والمسرح؛ على وجه التخصيص. فقد ولى الزمان الذي فيه كان يقال: تأدب فلان إذا قرأ كذا وكذا. ومعنى ذلك أن متأدب هذا الوقت يحق عليه أن يرهف الحس لألوان الفن؛ ويميل الأذن لضروب الغناء والعزف، ويقلب النظر فيما يجري على خشب المسرح، إلى جانب المطالعة والتلقي
والكلام هنا على الغناء والعزف. فمن يخبرني على أي وجه تقوم الموسيقى السائرة في مصر مقام مصدر من مصادر الثقافة؟ أما الغناء الدوار على ألسنة أهل الصناعة فمرذول، لما فيه من الإسفاف والابتذال وضيق المجرى، فضلاً عن مسخ طائفة من الأغاني الإفرنجية. وأما العزف فقد جمد وجف بفضل جماعة قصروا هممهم على التقليد، وفي ظنهم أنهم حضنة الموسيقى؛ عفا الله عن المعهد الملكي للموسيقى العربية، وأصلح من يمده بمال الأمة!
الموسيقى عندنا غير صالحة، وليس في وسعها أن تساير النحت والتصوير والرسم - وقد جل شأنها جميعاً على أيدي الفنانين المصريين - في تهذيب الجانب الفني من طبائعنا، ولا في إسعاف من يهوى الموسيقى الجيدة ببغيته. ولذلك لا بد لمن ينشط لما وراء (البشرف والسماعي والموال والطقطوقة) أن ينصرف إلى سماع الموسيقى الغربية. وهذه وزارة المعارف تجلب في فصل الشتاء من كل سنة فرقة إفرنجية تعمل في دار الأوبرا الملكية.
ومما يورث الأسف بل الحزن أن الفرقة التي هبطت دار الأوبرا لهذه السنة (وهي إيطالية) لم تصنع شيئاً في سبيل الثقافة. وذلك لأن الموسيقى الغربية فيها الحسن والقبيح، والرفيع والساقط، والطريف والمبتذل. فكأن من وكل إليه لم أفراد هذه الفرقة (وهو إيطالي) قال في نفسه: (ليس في مصر من يحسن السماع، وليس فيها من يميز اللحن الجيد من اللحن الرديء). قال هذا أو نحوه ثم جاء بفرقة لا تتجاوب أطرافها، إذ فيها نفر من المغنين الحذاق، وكثير من المغنين الضعفاء. وأحسن ما فيها القائد الأول للعزف واسمه فتو.
وأما القطع التي أدتها تلك الفرقة فبينها وبين الفن الخالص مسافة. ذلك أن طائفة منها بالية(299/76)
والأخرى مبتذلة؛ وهذه القطع تكاد تؤدي كل سنة في مصر، وأساميها لاكتها الألسنة: مثلاً , , , , , هذه القطع تلحق اليوم، في أوربة، بنوع الأوبرة الشعبية، لأن الألحان فيها لا تعدو، في غالب الأمر، النغم القريب المنال. ودليل هذا أن أكثر القطع التي أديت من تلحين فردي وهذا الملحن الإيطالي (1813 - 1901) عمد، إلا في قطعته الأخيرة: إلى اللحن الوجداني تساوقه الآلات في استرخاء. وهذا اللون من التلحين عقبه ما يقال له: الموسيقى الفيرية: وخصائص هذه الموسيقى المأساة المفرطة، والخطابة في الغناء. وهز الأعصاب، والمبالغة في التعبير. ومن أصحاب هذا اللون من الموسيقى ملحن والمذكورتين قبل. هذا وفيما أدته تلك الفرقة قطعة للملحن الفرنسي واسمها وليس ذلك الملحن في المرتبة الأولى ولا الثانية - عند أهل الدارية - لما في صناعته من التكاليف وقرب الإحساس والرخاوة.
فإذا أنت استثنيت هذه القطعة الأخيرة (وقطعة فجنر الآتي ذكرها) تبين لك أن تلك الفرقة عنيت بتأدية قطع إيطالية. ومما لا يخفي على البصير بالموسيقى أن فن الأوبرة إنما بلغ الغاية أو قاربها على يد فجنر الذي حطم القيود اللاتينية، ثم على أيدي فئة من الفرنسيين مثلاً) والروس مثلاً). والفرق الذي بين الأوبرة الإيطالية والأوبرة الفجنرية، على سبيل التمثيل، كالذي بين ديوان ينظمه شاعر رقيق كما يقال اليوم، وشاعر فحل كما كانت العرب تقول.
ومن الغريب أن الفرقة أغفلت أن الفرقة أغفلت الأوبرة الحديثة من ألمانية وفرنسية وروسية وغير ذلك. وقد بدا لها أن تعلن أنها تؤدي قطعتين لفجنر هما: الأولى، وأما الثانية فقد أدتها على شكل كان الإهمال عنده أفضل
بقى أن الفرقة أعلنت أنها تؤدي قطعة طريفة لملحن إيطالي مجهول: فما بلغني هذا حتى أسرعت إلى دار الأوبرة، مهتزاً. فإذا القطعة شر ما مزق أذني من التلحين (الرومنتيكي) المفرط في (الميلودرام)
أن ظن بعضهم أن لا رغبة في الموسيقى الحقة بمصر، وأن الحظ الأعلى فيها لألوان الأوبرة البالية والمبتذلة، فليقصروا ظنهم على أنفسهم أو على الفئة الكبرى من الإفرنج المقيمين بهذا القطر. فإنما في المصريين من يرغب في الموسيقى الجيدة، الطريفة،(299/77)
الموسيقى التي تقوم مقام مصدر من مصادر الثقافة
عفا الله عن وزارة المعارف، فهذه خمسة آلاف جنيه أنفقت لإعانة فرقة لم تصنع لمصر شيئاً.
بشر فارس
كشف أثري عظيم
وفق المسيو مونتيه رئيس بعثة الحفريات الفرنسية للعثور على مقبرة ملوكية لقدماء المصريين بالقرب من صان الحجر
والمقبرة لملك اسمه شوشنك، والمعروف أن خمسة ملوك بهذا الاسم قد حكموا مصر ما بين عامي 850 و750 قبل الميلاد، وأولهم هو الملك شوشنك الذي استولى على القدس وغنم هيكل سليمان بن داود (ع)، ولا شك أن هذه المقبرة لواحد من هؤلاء الملوك الخمسة سيصل إلى حقيقته البحث العلمي فيما بعد
وقد عثر المسيو مونتيه في الحجرات التي تم فتحها على تابوت من الفضة يمثل شكل آدمي له رأس الصقر، وبداخل هذا التابوت مومياء محنطة سليمة مغطاة برداء من الذهب. وقد تبين من قراءة النقوش أن المومياء للملك شوشنك نفسه، وبجوار التابوت جثتان باليتان، وعلى الجثة الموجودة إلى اليسار عقد من الحجر الأحمر مصنوع على شكل سلسلة من الذهب، وفي الحجرة جملة من التماثيل الجنائزية الصغيرة التي يعثر عليها عادة في مقابر الموتى من قدماء المصريين، وفها أيضاً جملة من الأواني الجنائزية المقفلة بالطين، وقد فتح مسيو مونتيه ثلاثاً منها - بحضرة صاحب الجلالة الملك - فوجد بداخلها ثلاثة تماثيل من الفضة للملك شوشنك، وهي عبارة عن أوان على هيئة تماثيل، وفي داخل كل منها بعض أحشاء الميت وفي جانب من الغرفة آنية كبيرة من الفخار مسدودة بالطين، يبلغ ارتفاعها 130 سم، وقطرها30 سم ولم تعرف محتوياتها بعد
وتحيط بهذه الغرفة عدة غرف لم يفتحها مسيو مونتيه، ولكنه احدث في إحداها ثغرة تيمناً بزيارة صاحب الجلالة الملك، فظهر من خلالها غرفة متوسطة الحجم بها (ناووس) كبير من حجر الجرانيت الأحمر يعلوه غطاء من حجر البازلت الأسود، وقد دلت القرائن على(299/78)
أن صاحب هذا الناووس من الشخصيات الملكية، وأن اللصوص لم تصل أيديهم إلى مقبرته
ولهذا الكشف قيمة كبيرة من الناحية التاريخية، لأن مقابر ملوك الأسرات: 21، 22، 23 لم يسبق اكتشافها من قبل ذلك، وإنما عثر على بعض تماثيل لهم في مدينة طيبة، ولا شك أن هذا الكشف سيجلو تاريخ هذه الأسرات الثلاث، وقد كانت فترة غامضة في تاريخ قدماء المصريين
وقد قرر الدكتور دريوتون مدير مصلحة الآثار نقل محتويات غرفة الملك (بسوسنس الثاني) التي تحتوي على تابوت الملك شوشنك إلى دار المتحف المصري لتعرض على الجمهور
كشف أثري آخر
علمنا أن بعثة كلية الآداب التي تشتغل في الحفر بمنطقة (تونة الجبل) تحت رياسة الأستاذ سامي جبره عثرت في هذا الأسبوع على أشياء هامة من الوجهة التاريخية
وكانت البعثة قد عثرت على غرف المحفوظات الخاصة بكهنة هرمو بوليس في جنوبي المنطقة وعثرت فيها على ملف كبير من البردي يتضمن نصوص القانون المدني المصري
وقد وجدت البعثة أخيراً ملفاً آخر يبلغ طوله مترين ونصف متر موضوعاً في قادوس مقفل ومختوم بالطين. وقد فض هذا القادوس فوجدوا فيه ملف البردي الذي دلت القراءة الأولى لما ورد فيه من النصوص على أنه يتضمن نص أسطورة طويلة من الأساطير الشعبية
وقد أرسل الملف إلى معهد الآثار ليتولى الأخصائيون قراءته وترجمته.
وعثرت البعثة أيضاً على تمثال صغير للآله (مين) إله التناسل عند قدماء المصريين يبلغ طوله نحو 60 سنتميتراً، وقد صنع من الخشب، وغطى بطبقة من الصفائح الذهبية اللامعة
ويعد وجود هذا التمثال غريباً في تلك المنطقة لأنه لم يكن بين معبوداتها الرسمية التي هي طائر الإيبيس والقرد. ويمثل كل منهما إله الحكمة (تحوث) معبود تلك المنطقة وقد سماه الإغريق (هرمز) وسموا المدينة على اسمه (هرمو بوليس)
والبعثة مستمرة في الكشف عن السراديب الأرضية الطويلة الممتدة تحت الأرض إلى مسافات بعيدة وتحتوي على مئات الآلاف من جثث الطيور والقرود المحنطة.(299/79)
فلم التشريفات الملكية
عنيت شركة مصر للتمثيل والسينما بتصوير غدوات صاحب الجلالة الملك وروحاته مع ضيفه الكريم صاحب السمو الإمبراطوري محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران، وجاء التقاط المشاهد المختلفة على أجمل شكل سواء في النهار أو في الليل، وكان اختيار المشاهد حسناً، ويساوق المشاهد عزف رقيق يناسب مقتضى الحال. إلا أن صوت المتكلم كان رفيعاً من غير داع إلى ذلك
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
هل لك أن تنضو مسوح ذلك الجاه فتشرف من برجك المنيف على مستوضح منك الرأي فيما كتبت بالرسالة عن (كتابين قيمين، قد ورد فيهما طعن على الإسلام) قلت إنك بحثت المسألة من جهة الدين فبدا لك العجب لأن الكتب التي تعرضت للمسيح بالطعن والتجريح تطبع وتنشر في أوربا ولا يفزعون. وهنا أسألك متحدياً: أي برنامج من برامج التعليم في أوربا قررت فيه تلك الكتب في قاعات الدرس والامتحان وفرضت فرضاً على الطالب أن تكون من أسس ثقافته الرسمية التي تحث عنده عقداً نفسية تتولى تنميتها تأثيرات الأستاذية القوية. لا مانع من البحث والتحليل والتمحيص وإلا لما تكونت سبيكة الذهب من العروق الملقاة في التراب، ولكن للبحث أزمنة وأمكنة قد مضت منذ أزمان. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا طعن صريح، باعترافك أنت، لا شبه علمية تستحق جلال الدرس وعظمة العلم، وفوق ذلك كله أنها موجهة لشخصية الرسول أكثر منها لدينه، فكيف يستسيغها شعور الجماهير من المسلمين. ألا ترى أن إنجلترا حرمت دراسة نظرية دارون (النشوء والارتقاء) في مدارسها احتراماًً لشعور الجماهير، بيد أنها لم تحرم دراستها خارج دور التعليم؟ وأما قولك (إني أعتقد دائماً أن صحة العقل وصحة العقيدة كصحة الجسم لابد لها من الهواء الطلق حتى تكتسب المناعة) فذلك حق لا مريه فيه، كما أن حصوله وثبوته الآن واقع بين المسلمين لا مريه فيه. ألا تعلم أن في الأزهر والمعاهد الدينية تدرس شبه الجبرية والمعتزلة والرافضية والمجسمة والشيعة وسواهم ويرد عليها في جو علمي محترم لأنها شبه لا طعن تدسه العصبية الممقوتة. ألا تدري أن المذهب الأبيقوري مذهب اللذة(299/80)
والإباحية يدرس في الأزهر ويرد عليه في جلال من العلم وحرية من الفكر، ومثله مذاهب الشيوعية والشعوبية، وسواهم. فليس إذا (حبس العقيدة والعقل في قفص من الزجاج خوفاً عليهما من خطرات النسيم) كائناً بين المسلمين. وما على الشاك إلا أن يغشى بيئات الدراسات الإسلامية فيعود منها متغير الرأي هادئ البال وإن في هذا لبلاغاً
(كلية للغة)
احمد عبد الرحمن عيسى
فتش عن المرأة
فتشنا عن أول من قال: (فتش عن المرأة) في العربية وعن قوله فوجدنا هذين البيتين في كتاب (الكشكول) لبهاء الدين العاملي غير معزوين، وهما في معنى القول الفرنجي
إذا رأيتَ أموراً ... منها الفؤاد تفتتْ
فتشْ عليها تجدها ... من النساء تأتتْ
* * *
جمعية أنصار التمثيل والسينما
انتهى الأساتذة سليمان نجيب، وعلى شوقي، وعبد الوارث عسر من تأليف رواية الحجاج بن يوسف، وقد رأت الجمعية رأياً جديداً يتعلق بتمثيل الشخصيات في العصور العربية، ولهذا سنبدأ في دراسة هذه الرواية بمحاضرة يلقيها الأستاذ على شوقي عن (عصر الحجاج بن يوسف) ثم يعقب عليها الزميل عبد الوارث عسر بكلمة تعد تمهيداً لدراسة الشخصيات العربية في ذلك العصر ووضعها على الأشخاص الذين سيقومون بتمثيلها من أعضاء الجمعية. ورغبة من الجمعية في فائدة الجمهور من هذا الموضوع الطريف، رأت أن تكون هذه المحاضرة عامة يحضرها من يشاء
وتبدأ المحاضرة بدار الجمعية 8 شارع البورصة الجديدة بحضور جميع الأعضاء في تمام الساعة السابعة من مساء الخميس 30 مارس 1939
رسالة شكر وتقدير(299/81)
تلقينا من الأستاذ شاهين إبراهيم شاهين كلمة مسهبة ينوه فيها بالمقدرة البارعة التي يعالج بها شيخ الصحافيين الأستاذ خليل ثابت بك الموضوعات الاجتماعية في المقطم وبخاصة موضوع (أي السياسات الإيجابية تختار مصر) ونحن نشاطر الكاتب الفاضل إعجابه بالأستاذ خليل بك وثناءه عليه، ونكتفي لفوات المناسبة بهذه الإشارة الموجزة لهذه الرسالة الطيبة.
حياة الرافعي في العراق
قرأنا في جريدة (البلاد) العراقية ما يأتي:
اقتراح على وزارة المعارف - حول كتاب حياة الرافعي
سيظهر قريباً كتاب (حياة الرافعي) للأديب الكبير الأستاذ محمد سعيد العريان، وهو كتاب أدبي فذ يبحث عن جميع الخصومات التي حدثت بين الرافعي وأدباء عصره، فحبذا لو أن وزارة المعارف تشتري منه كميات كبيرة لتوزعها على طلابها، وعلى مكتباتها؛ وبذلك تسدي أكبر خدمة أدبية نحو فقيد البيان المرحوم مصطفي صادق الرافعي
(بغداد)
مقترح
(الرسالة): ظهر كتاب حياة الرافعي منذ قريب.(299/82)
الكتب
من وحي السيرة
1 - بطل الأبطال: للأستاذ عبد الرحمن بك عزام
2 - صور إسلامية: للأديب عبد الحميد المشهدي
- 1 -
لاشك أن الإنسانية لم تعرف في تاريخها من عظمة النفس، وسمو الروح، ونبل الغرض، وقوة العزيمة، وصفاء النفس، وحسن السيرة، مثل ما عرفت في شخصية محمد صلوات الله عليه، ذلك النبي الكريم، والرسول العظيم، والمثل الأعلى للبطولة والجهاد في سبيل العقيدة والإخلاص لله!
هذه العظمة الإنسانية التي تمثلت في شخصية محمد صلى الله علية وسلم وفي سيرته، كانت وما تزال وستظل على مدى الدهر روعة تملأ القلوب وتهز مشاعر الناس في جميع العصور والأجيال سواء آمنوا أم كفروا، وتفتح لأهل الفكر والأدب والتاريخ آفاقاً مشرقة يقبسون من نورها، ويهتدون بهديها، ويجدون في كل جانب من جوانبها مادة مواتية، وثروة باقية للفكر والأدب والتاريخ. . .
والذين كتبوا في سيرة النبي وشخصيته كثيرون حتى ليخطئهم العد، وما أحسب سيرة ولا شخصية قد أخذت من عناية الكتاب والأدباء والمؤرخين في الشرق والغرب مثل ما أخذت تلك السيرة الحميدة، وهذه الشخصية العظيمة. وعلى الرغم من ذلك فما زال القول فيها جديداً، والبحث عنها طريفاً، والحديث في أسرارها مهما طال وتكرر حلو سائغ كله الروعة والجلال، يهش له القلب، وتهفو نحوه الروح، وترتاح له النفس. . .
وهذان كتابان من وحي الشخصية العظيمة، والسيرة الخالدة أسعدني بهما الحظ ونحن في مطلع الهجرة حيث يحلو الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب التأسي بسيرته.
أما الأول فكتاب (بطل الأبطال) للأستاذ عبد الرحمن بك عزام، وهو جملة أحاديث تناول فيها المؤلف الفاضل أبرز صفات النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عن شجاعته، ووفائه، وزهده، وقناعته، وتواضعه، وتعبده، وعفوه، وصفحه، وبره، ورحمته، وفصاحته،(299/83)
وبلاغته، وحسن سياسته، وحكمته في تصريف الأمور، ونظام الحرب، ووضع الأساس لحرية الدعوة وحرية العقيدة للأديان السماوية جميعاً، ثم تكلم عن أثر الدعوة المحمدية في النفوس، وصلتها بالقلوب، وكيف فعلت فعلها في الفرد، وشمل سحرها الجماعة، فبدلت الناس غير الناس، والأرض غير الأرض، وما زلنا وما زال العالم في آثار ذلك حتى آخر الدهر.
ولقد أحسن الأستاذ المؤلف كما يقول أستاذنا المراغي إذ تناول السيرة الكريمة من الناحية الخلقية، فإن الناس أحوج ما كانوا في أي عصر من العصور إلى أن يهتدوا بأخلاق محمد، ويقبسوا من نوره. وزاد الأستاذ إحساناً إذ استخلص هذه السيرة الكريمة من الحادثات والوقائع الصحيحة في التاريخ، فلم يرسل القول دعاوى يعوزها البرهان، ويلتمس لها الدليل، بل قرن الرأي بالحجة، وثبت القول بالواقعة، واستدل للحديث بالرواية الصادقة
وإذا كان الشاعر لا يفهمه إلا شاعر كما يقولون، فالرجل لا يقدره إلا رجل كذلك، والأستاذ عزام بك رجل من أهل الجلاد والجهاد، والرأي والعزيمة، وانه ليكبر ذلك في شخصية محمد صلوات الله عليه، ويتخذه مثلاً أعلى للبطولة والرجولة، فلما وقف بقبره أخذ مأسوراً - كما يقول - بهذه البطولة، وتملكه روح لا يزال يشرق من غيابة الماضي، هو روح سيد الرجال، وبطل الأبطال، وبهذه العقيدة تحدث الأستاذ الفاضل عن النبي الكريم، فجاء كتابه صفحة مشرقة بالإعجاب والإشادة ببطولة محمد ورجولته، وما ينقصها إلا الإفاضة والاستيعاب بما يكافئ عظمة السيرة الخالدة، والأستاذ يعترف بذلك ويرجو أن تسعفه الفرصة فيفيض ويستوعب وإنا لمنتظرون.
- 2 -
أما الكتاب الثاني فكتاب: (صور إسلامية) للأديب عبد الحميد المشهدي، وهو - كما يقول المؤلف الفاضل - أفق من آفاق الحياة المحمدية، وصورها الكثيرة، مازج الحقيقة فيها الخيال، وخالط فيها الفن التاريخ، دون أن يعدو على حقائقه، أو يستر الخيال جمال الحقيقة الرائع، وجلالها الواقع.
قال المؤلف: فما أجريت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، ولا أخضعت اتجاه التاريخ من أجل طبيعة الأسلوب، وإنما حاولت بقدر المستطاع أن أخضع الفن ليكون(299/84)
في خدمة الحق والتاريخ لتبدو السيرة المحمدية في جمالها الشفاف، وفتنتها الأخاذة وأسرارها الاجتماعية، وسياستها الخالدة. وليس القصد من هذا كله إلا أن أستخرج معين السيرة من تحت جلامد التعابير الخشنة والعنعنات المملة، وكثرة الروايات الطامرة للحقائق، وأن أنظمها أسلوباً قصصياً سهلاً ليستطيع الناس أن يستوعبوا نواحي الصورة التطبيقية للشريعة الإسلامية التي جاء بها القرآن، وفصلتها سيرة سيد الأنام!
والواقع أن المؤلف الفاضل قد وفق في غرضه، واستطاع أن يصل إلى غايته في تجلية السيرة على هذا النمط الذي شرحه، وإنه لنمط قويم، ونهج قريب إلى النفوس والأرواح. وما أستطيع أن آخذ عليه في ذلك إلا بعض هفوات في الأسلوب، والتهويل في التصوير، والخروج في بعض المواقف عن حدود الحياة الإسلامية كما وصفها التاريخ. وإنك لتقرأ في صدر الجزء الثاني من كتابه حديثه عن تحرش قريش بالنبي وأصحابه، فكأنك تقرأ وصفاً لمظاهرة تسير في شوارع القاهرة هاتفة صاخبة. ولعل مرد هذا إلى ما عرف عن المؤلف الفاضل من ثورة الشباب، وإنها لثورة جامحة تتمثل لك في كتابه، بقدر ما تتمثل لك رزانة الأستاذ عزام في كتابه
وكتاب (صور إسلامية) يقع في جزئين، انتهى بهما المؤلف في الحديث عن السيرة إلى بيعة العقبة وإسلام عمرو بن الجموح من سادات يثرب، وقد وعد بالجزء الثالث عن قريب، وإنا لنرجو له التوفيق حتى يصل إلى الغاية، وينتهي إلى النهاية.
محمد فهمي عبد اللطيف(299/85)
المسرح والسينما
على هامش الفنون
المسارح القومية في النرويج
نقرأ في الصحف التي تعنى بالدراسات المسرحية العالية أنباء شتى عن المسارح المعروفة كما نقبل مشغوفين على دراسة آدابها؛ ولذلك ليس بالعجيب أن نسمع أن جمهرة قراء الصحف المصرية ونقاد المسرح ودعاة هذا الفن وهم كثيرون يعرفون - إن لم يكن عن دراسة - حركات التطور الفكري في المسرح الإنجليزي وحب الفرنسيين للمسرحيات الاستعراضية الراقصة في الوقت الذي يفضل فيه الألمان (الأوبرات الكلاسيكية) وهكذا
ولكن هؤلاء جميعاً لا يعرقون - وقد زحمتهم الصحف بعدد محصور من الأنباء عن مسارح خاصة - أن في العالم مسارح أخرى وآداباً مسرحية عريقة غير تلك التي يعلمون. بل مَنْ من هؤلاء جميعاً يفكر في ترك دراسة المسرحين الإنجليزي والفرنسي - ولو إلى حين - ويعرج على دراسات أخرى أكثر تعمقاً وأنقى فكرة وأرقى فلسفة ثم يأتي بعد ذلك ليطالعنا بدراسة مقارنة؟!
إن الفكرة التي قدمت من أجلها العجالة السابقة لن تجد الأذن السميعة، ولذا أجد نفسي مضطراً لطرق الباب وفق طريقة سبقني إليها غيري في تقدمة المسارح المعروفة إلى جمهرة القراء وجموع المتأدبين آملاً أن يجد دعاة النقد المسرحي في مصر مادة جديدة لهم عند ما يتحدثون عن مسرح جديد بالنسبة إليهم وهو المسرح النرويجي
والنرويج بلاد في طبيعتها ما يساعد على خلق أدب مسرحي يعبر عن البيئة والأفكار التي تجول في رؤوس هذا الشعب الذي يعيش في شبه عزلة عن العالم. بل إن النرويجيين قوم خياليو النزعات ميالون إلى الابتكار الخرافي، ولذا كان لهم مسرح وكانت لهم آداب مسرحية، وفي بلادهم مسرحان قوميان أسسا في أواخر القرن الماضي أحدهم في العاصمة (أوسلو) والثاني في مدينة (برجن)
وقد ظل هذان المسرحان القوميان في عملهما دون أية حاجة إلى مساعدة الحكومة حتى عام 1927 عندما فكر أولو الأمر في مساعدتهما مادياً فأجدت المساعدة وشجعت على إيجاد مؤسسة فنية أخرى هي (المسرح النرويجي)(299/86)
وقبل ظهور الكاتبين النرويجيين هنريك أبسن وبيورنسون لم تكن للمسرح النرويجي أهمية تذكر، وكان محصوراً داخل دائرة خاصة لا صلة تربطها بالحياة الأدبية؛ ولكن ما حل عام 1851 وعين الشاب هنريك أبسن في وظيفة فنية بمسرح (برجن) حتى بدأ المسرح النرويجي عهداً جديداً. فهناك كتب المؤلف الشاب مسرحيته الأولى وما بعدها مفرغا في كل ما كتب تجاريبه الفنية ومعلوماته التي استفادها من عمله، والتي صارت دستوراً لمن أتى بعده لا من كتاب النرويح بل لجميع الكتاب في كل أصقاع العالم
ولعل الظروف التي قيضت هنريك إبسن لخلق مسرح نرويجي جديد لم ترد أن تتركه يناضل وحده فشدت أزره بمؤلف مسرحي آخر ظهر في نفس الوقت هو بيورنسترن بيورنشون. وكان أن ظهر على خشبة المسرح عدد كبير من نوابغ الممثلين والممثلات الذين ساروا جميعاً وفق طريقة تقليدية ظلوا يتوارثونها حتى شهدها الجميع أخيراً عندما احتفلت كبيرة ممثلات النرويج جوهان دايبواد البالغة من العمر سبعين عاماً بيوبيلها الذهبي ونجحت هذه الطريقة نجاحاً كان مثار حسد الشباب الذي قام ينادي مطالباً بالتجديد
ولقد اقترن ظهور ابسن وبيورنسون بنهضة فكرية كانت مؤلفاتهما المسرحية مثارها. وبدأ الشعب يقبل على التمثيل وآدابه كفن ضروري جميل مثل الموسيقى والنحت والتصوير والدراسات الأدبية. . . كما أثبت ظهور هذين الكاتبين أيضاً أن (الدراما) تستطيع أن تحتل مكانة أرفع وتصل إلى مستوى عظيم، ومن هنا نشأت النهضة المسرحية وأقبل الناس على المسرح فظهر نوابغ الممثلين وعظيمات الممثلات، واستحالت بلاد النرويج في العصر الحديث إلى ما يمكننا أن نشبهه بأثينا في عصورها الذهبية القديمة، فلم يكن عسيراً وقد ارتقى كتاب المسرح بإفهام الناس أن تنشأ المسارح القومية وأن تعمل فيها الفرق الأهلية وأن يقبل عليها الشعب مشجعاً مما حفز بعض المهيمنين على المرافق من ذوي المكانة على إغراء الدولة لتضع هذه المسارح تحت رعايتها وتقدم لها المساعدات اللازمة
ولرب سائل يسأل وقد عرف أن للفرقة القومية المصرية برنامجاً تعمل على تنفيذه وإليه يرجع السبب في إنشائها وإن لم تكن قد حققت منه أي شيء. . . وبدوري أسارع فأقول إن للمسارح القومية في بلاد النرويج أغراضاً ترمي إليها، وبرامج من اللازم أن تنفذ ما جاء فيها، وإلا تعرض القائمون بالأمر فيها للمسئوليات الجسام من مادية وأدبية. ولعل أهم ما(299/87)
أنشئت من أجله هذه المسارح هو تمهيد الحقل الفكري لإنتاج أدب الدراما المحلية. ولا بأس في نفس الوقت من إعطاء فكرة عن تطور الأدبيان المسرحية في أمم العالم وعرض صور منها بين قديم وحديث، إلا أن التجاريب دلت على أن البرامج ذات المسرحيات (الكلاسيكية) التي يتكلف إخراجها الشيء الكثير من المال لا تحدث تغييراً محسوساً في الإيرادات ولا ترتفع بالميزانية إلى درجات خطيرة، ومن هنا ظهرت قيمة الشعب الروحية وبرهن جمهور النظارة على أن له رغبة يجب أن تطاع، وأثبت للقائمين بالأمر المسرحي أن بيده توجيه الحركة الفكرية والإنتاج الفني إذ أقبل بكثرة على المسرحية العصرية (والأوبريت) وفضل على الـ (كلاسيك)
وقد أثرت السينما في المسرح النرويجي كما أثرت في نفس الوقت على جميع مسارح العالم؛ وهذا شيء ملموس بطبيعته. ولعل أهم ما فيه هو رخص أسعار دور السينما وتكرار المشاهد فيها وسرعة تغيرها. . . ولكن الأثر الذي أحدثته السينما في العالم المسرحي شيء وما أحدثته في بلاد النرويج شيء آخر، أحدثت ما يمكن أن نسميه بالموقف الغريب إذ لم يسبق أن وفقت الحكومة في أي من دولة من دول العالم مثل الموقف الذي وقفته حكومة النرويج من أزمة المسارح وكسادها بسبب منافسة السينما لها، إذ راحت البلديات النرويجية تساعد بالمال كل مسرح قومي، ولكن هذه المساعدات المتكررة لم تستطع موازنة المالية كما أنها لم تؤثر في الإيراد ولم تصلح الميزانية العامة، الأمر الذي أجبر الحكومة على التنازل للمسارح هناك عن جزء كبير من إيرادات اليانصيب الحكومي، وقد حدث هذا في مستهل عام 1927
والأدب المسرحي النرويجي يكاد يكون الأدب الوحيد الذي يقوم على دعائم قوية معززة، فنراه يطرق السياسة ويحلل أساليبها، ويتحدث عن الاجتماع والإصلاح وينقده، ويطلع الشعب على آراء جديدة في الفلسفة واللاهوت دون أن ينسى السخرية من بعض النظم والرغبة في هدم القديم ليقوم على أنقاضه جديد مدعم البنيان. والنهضة الأدبية المسرحية هناك تقوم على أكتاف الشباب الذين أذكر منهم الكاتب المسرحي الراديكالي: (نورداهل جريج) الذي يحبه الشعب ويعرف فيه ميله إلى السلم وكثرة دعوته إليه في كل كتاباتة، وزميله هلج كروج الذي تشبع بروح الكاتب الايرلندي الساخر برناردشو وحاكاه في(299/88)
كتاباته ونقده اللاذع في الوقت الذي لم يفته فيه أن يخرج للناس مسرحيات قوامها علم النفس الحديث وبعض مشاكل المجتمع
وحدث في عام 1935 أن أرادت الحكومة دراسة حالة المسرح في النرويج فصدر أمر إداري بتعيين لجنة فنية لكتابة تقرير واف عن المسرح ومدى تقدمه وما ينتظر له في مستقبله وأوجه النقص فيه وكيفية إصلاحها. . . وباشرت اللجنة عملها ودرست المسرح النرويجي دراسة وافية، ثم وضعت، ثم وضعت تقريراً لست في حاجة إلى نقله، بل أفضل تلخيصه ليستوعبه أفراد الهيئات الفنية في مصر:
(يجب على الحكومة والمجالس البلدية أن تضاعف قيمة الإعانات التي تقدمها للمسرح القومي كي يستطيع أن ينهض بأعباء الرسالة المقدسة التي اضطلع بها، وكي يشرف الاسم الذي يحمله كما يجب على الحكومة أن تسرع في سن قانون يحدد مركز المسارح ويضمن تغطية نفقاتها. . .)
ورأى هؤلاء الخبراء أن يعمدوا إلى طرق منطقية لترقية المسرح وكان أن اقترحوا ضرورة تعميم الإذاعات الأثيرية من مسرح المملكة كي يسمعها سكان القرى البعيدة فيأخذوا من المسرح فكرة أولية تنمو مع الأيام فتستحيل حباً وإعجاباً.
وبلاد النرويج تكاد تكون الوحيدة بين بلدان العالم التي تعنى بتربية الناشئة تربية ثقافية فنية، فتراهم يلقنون الطفل في المدرسة حب المسرح وذلك الخلق جيل جديد يتفهم الرسالة المسرحية، ويعمل مخلصاً على رفعة المسرح القومي فأنشئوا للأطفال (الجماعات التمثيلية المدرسة) وشجعوا الطفل على ارتياد المسارح بأجور زهيدة حتى إذا شب علق بهذا الفن وأصبح يرى في إحدى ضروريات الحياة.
والممثل في النرويج يعيش في بحبوحة من الرزق لأنه يتبع النظم ويسير وفق القانون وينفذ بنود العقد المرتبط به، ولا يخل بشرط منها مهما كانت الأسباب قوية واضحة. إنهم هناك يحترمون العقود ويقدسون إمضاءاتهم على العكس من السادة ممثلينا من فطاحل المسرح المصري الذي نسمع بالواحد منهم وقد موضع إمضاءه على أكثر من عقد وفي أكثر من فرقة
أما أصحاب المسارح هناك فيحبون ممثليهم ويعملون على نصرتهم وجمع شملهم، وتوحيد(299/89)
صفوفهم، وذلك بمساعدتهم على إنشاء النقابات الفنية وإعطاءهم المعاش عند بلوغهم سنا معينة
هذا هو نموذج من المسرح القومي، وتلك لعمري الطرق الفعالة لرفعة هذا الفن الجميل الذي بحت أصوات الكثيرين في مصر من جراء تكرار المناداة بإصلاحه حتى هبت الحكومة من غفوتها ولبت النداء بأن وكلت أمر أهل الفن إلى من لا علاقة لهم بالفن فمات التمثيل، واللجنة العليا لترقيته تعقد الاجتماعات للنهضة به ورفع مستواه!
إبراهيم حسين العقاد
حول مجنون ليلى
كتب محرر الصفحة السينمائية عن مجنون ليلى ما كتب بأسلوب كالسب موجهاً إلي والى الأخوين إبراهيم وبدر لاما قائلاً فيما يخصني من هجومه أنني أحد الذين يؤلفون لصالات الدرجة الثالثة في شارع عماد الدين
وأي ضرر على الكاتب أن يكتب للصحافة أو للمسارح بالأسلوب التجاري الذي يقوم بأود حياته ما دامت كتابته لا تمس جوهر الفن في نفسه.
إني لم أكتب كلمتي هذه متبرماً بنقد ناقد فإني ممن يؤمنون بفائدة النقد وجدواه ولكن على أن يكون نقداً لمجرد النقد لا أن يكون هجوماً لمجرد الهجوم، فحضرة الكاتب لم ير شيئاً حتى يحكم عليه؛ وما يدريه لعلني وأنا لست بذي الاسم الرنان أن أكون قد وفقت في كتابة حوار القصة وأشعارها توفيقاً قد يعجب ويرضي، وكان عليه أن ينتظر حتى يرى الثمرة بعد أن تخرج للناس ثم يحكم عليها بعد ذلك حكمه
السيد زيادة(299/90)
العدد 300 - بتاريخ: 03 - 04 - 1939(/)
كذبة إبريل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
في أول إبريل يحلو لبعض الناس أن يكذبوا، ويطيب لهم أن يزعجوا بهذا الكذب إخوانا لهم، أعزاء عليهم، إثراء عندهم. ولو اختصوا بالكذب المثير أو المزعج، أو الذي يورث المتاعب، غير الأوداء والأصدقاء: أي الخصوم والأعداء، لكان هذا أقرب إلى العقل وأشبه بما ينبغي أن يكون، فما يبالي المرء على أي حال من السوء يكون عدوه، وكلما زاد الشر الذي يقع فيه أو ُيمنى به العدو كان ذلك أشرح لصدر عدوه وأثلج لقلبه. ولكن الصديق شيء آخر، والإنسان جدير أن يخجله أن يركب صاحباً له بدعاية مؤذية، وأن يضحك ويفرح بما ينزله بهذا الصاحب من السوء
وقد لقيت في أول إبريل هذا من المتاعب ما بغضه إلي، حتى لتمنيت على الله أن يلههم الناس حذف الشهر كله، وإسقاطه أجمعه من تقويم العام
صبحني واحد، وأنا أجلس إلى مكتبي، بأن برقية وردت بأن ألمانيا قذفت بجيشها على أرض بولندا، وأن القتال يدور بين الطلائع النازية وقوات الدفاع، فسألته: (أتتكلم جادّاً؟)
قال وهو يشير إلى ورقة في يده (هذه هي البرقية. اسمع ترجمتها)
فتفرست في وجهه وحدجته بنظرة فاحصة، فلم أر ابتساماً، ولا ما يشي بأنه يهم بالابتسام. فقلت: (إني كنت، وأنا آت إلى هنا، أحدث نفسي بأن أكتب في التصريح الذي ألقاه المستر تشمبرلن أمس في مجلس العموم البريطاني، وكنت أريد أن أقول إنه من العوامل المرجحة لكفة السلم؛ ولكنك تروي لي نبأ غريباً، لا يكاد يقبله عقلي، فهات لي هذه البرقية لأقرأها فإني لا أكاد أفهم، واحسبني سأجن، فما أعرف لماذا تجازف ألمانيا هذه المجازفة التي ليس لها أي موجب، ولا من ورائها أي خير لها أو لسواها)
وانتزعت منه الرقعة فإذا هي قديمة وتاريخها أول مارس، وليس فيها أي ذكر لألمانيا أو بولندا! وماذا يبالي صاحبنا هذا أن يهدم لي الدنيا، وأن يحيلها حولي أنقاضاً، وأن يدير لي رأسي حتى ما أعود أعي شيئاً؟!
وبعد نحو ساعة، طُلبت إلى التلفون، فقمت إليه، فإني أكره أن تكون آلته على مكتبي، أو في الغرفة التي أنا فيها، ولا أعرف ما هو أشد إزعاجاً لي من صوت جرسه حين يدق(300/1)
فجأة، وقلت وأنا أضع السماعة على أذني (نعم)
فسمعت صوت زوجتي يقول لي: (أبو خليل. . . مبروك!)
فسألتها مستغرباً: (ماذا؟ مبروك إيه؟)
قالت: (بالهناء والرفاء والبنين! لماذا لم تخبرنا لنفرح لك معك؟)
قلت: (عن أي شيء تتحدثين؟ رفاء، وبنين. . .؟! ما هي الحكاية؟)
قالت: (برقية وردت بتهنئتك بعروس جديدة. . . هل أقرأها لك في التليفون؟ أو يكفي أن أذكر لك اسم مرسلها؟! وقبل البرقية دق الباب رجل وسأل عنك، فعرف أنك خرجت فكلفنا أن نبلغك تهنئاته القلبية. فلم نفهم، ولكنه انصرف قبل أن نتمكن من سؤاله. على أن البرقية ما لبثت أن جاءت ففهمنا كل شيء! مبروك، على كل حال)
فأيقنت أن أكاذيب إبريل كلها ستقذف عليَّ في هذا اليوم السعيد. وقلت لها: (آه، كذبة إبريل. . . اشكري عني المهنئين والمهنئات. فإني الآن مشغول بالعروس، أبثها حبي، وأناجيها بما يجن قلبي لها! ألا تسمعين؟)
فألقت السماعة، ولم تجب! والمصيبة أن النساء أميل إلى تصديق كل ما يثير غيرتهن، ولو كان كل شيء يدعو إلى نقيض ذلك فإني لا آكل شيئاً ويغري بالاطمئنان.
وخرجت، فمررت بصاحب لي، فقم لي شوكولاته، فاعتذرت فإني لا أكل شيئاً بين طعامين، فألح، فأصررت على التأبي، فاقترح أن أنتقي بضع قطع أدسها في جيبي، وآكلها حين أشاء فلم أر في هذا بأساً فأجبته إليه. وعدت إلى البيت، وخلعت ثيابي لأستريح، فسألتني امرأتي: (معك سجاير)؟!
قلت: (في جيبي. . . خذي ما تريدين)
فدفعت يدها في جيبي وقالت، وهي تخرجها وتتأمل ما عثرت عليه: (آه. . . شوكولاته العروس)!!
قلت: (لا تكوني سخيفة. . . هذه أعطانيها فلان).
فألقت في فمها واحدة، وهي تضحك، وإذا بها تلفظها فجأة وتصيح وقد عبست جداً: (ما هذا القرف؟)
فسألتها: (قرف؟ أي قرف يا شيخة؟ مالك في هذا النهار؟)(300/2)
قالت: (تضحك عليّ، وتغريني بأكل شوكولاته حشوها ثوم وفلفل، وتزعم أن فلاناً أعطاكها؟! أي مزاح هذا؟ هل ارتددت طفلاً؟ ألا تجد أحداً غيري تمازحه هذا المزاح البارد؟)
فقلت - وأنا أحدث نفسي -: (شوكولاته بثوم وفلفل! يا امرأة، هل سمعت بالمثل العامي: تكون في فمك فتقسم لغيرك؟ أنا كنت المقصود بهذا المزاح البايخ، ولكني نجوت ووقعت أنت؛ وما يخالجني شك في أن هذا أبعث على سرور صاحبي الذي أهدى إليّ هذه الشوكولاته! ولكنا لن نخبره بشيء، وسندعه بضعة أيام يتقلى وبوده لو عرف ماذا كان من أمرنا. . . لا بأس! سأجزيه سوءاً بسوء! فانتظري!)
فظلت تصيح وتسأل عما عسى أن تصنع الآن، فقد فسد طعم فمها، وأكبر ظنها أن رائحة الثوم ستظل بأنفاسها، فاقترحت عليها أن تشرب قليلاً من الكولونيا!
فهزت رأسها وقالت: (تريد أن تقتلني لتخلص لك عروسك الجديدة، ويصفو لك الجو معها!)
فسكت ووضعت إصبعي في الشق، بل وضعت أصابعي العشر كلها في الشقوق فما من سبيل إلى إقناع المرأة بسخافة الغيرة
وأحسب أن الكذب يطيب في أحيان كثيرة، بل أحسبه لازماً للإنسان، وعسى أن يكون الصدق متعبة شديدة، ولعل التزامه في كل حال مما لا يطاق
ولكن من الكذب ما هو بريء، وما هو سوء يحسن اتقاؤه وأنا مستعد أن أضحك، وأن استظرف نكات الإخوان وأستملح دعاباتهم، ولكن لا أظن أن ما ذكرت يدخل في باب الفكاهة المستملحة. وقد يكون هذا وما إليه محتملاً، ولكن الفظيع أن ينعى لك صديق وهو حي يرزق، فتخف إلى داره لتعزي أهله، ويلقاك ابنه أو أخوه، ولا ترى في وجهه حزناً أو سهوماً، فلا تستطيع أن تقص عليه الخبر الذي حملك إليه، ولا تجد ما تسوغ به هذه الزيارة في ساعة غير مألوفة! وبعض الناس يضحكهم ويسليهم هذا الضرب من المزاح! ولم لا؟ كل ما سر جائز. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(300/3)
كتاب السياسة
للوزير نظام الملك
للدكتور عبد الوهاب عزام
نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق: وزير السلاجقة من أعظم الوزراء الذين عرفهم تاريخ الإسلام. ووزير للسلطان محمد ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه ثلاثين سنة (455 - 485) هـ.
كان أبوه أحد دهاقن طوس، وذهبت بماله الحادثات فولد نظام الملك في بيت فقير سنة 408. وماتت أمه وهو رضيع. ونشأ نجيباً زكياً فتعلم العربية والفقه وسمع الحديث. وتقلبت به صروف الزمان في أرجاء الأرض، حتى استقر في بلخ عند أحد عمّال داود والد السلطان ألب أرسلان. ثم تولى أعمال ألب أرسلان ووزر له قبل السلطنة. فلما خلف ألب أرسلان عمه طغرل بك دبّر نظام الملك أمور الدولة، وظهرت كفايته، وشاع ذكره؛ فاستقل بسياسة الملك طوال عهد ألب أرسلان وعهد ابنه ملكشاه. وتولى أبناؤه، وكانوا أثنى عشر، المناصب الرفيعة في الدولة. فتمكن سلطانهم، وعظم جاههم، وانقادت لهم الأمور حتى فاقوا البرامكة في أيامهم.
يقول ابن الأثير:
(كان عالماً جواداً عادلاً حليما كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت. كان مجلسه عامراً بالقراء والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد وببغداد وغيرها. وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطا نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وما زالت الأمور في تصريفه، والأحوال مواتية له، إلى أن قتل سنة 485.
وذلك إنه كان مسافراً مع السلطان ملكشاه من أصفهان إلى بغداد، فنزلا على مقربة من نهاوند. قال ابن الأثير:
(فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفة إلى خيمة حرمه أتاه صبي ديلمي في صورة مستميح أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب،(300/4)
فعثر بطنب خيمة فأدركوه فقتلوه).
وقد شاع بين الناس أن الملاحدة دبروا لقتله إذ كان يبغضهم وكتب في كتابه سياستنامه فصلاً في بيان مفاسدهم. ويقال إن ملكشاه هو الذي أوحى بقتله وكان قد نقم منه ومن أولاده تمكنهم في عظم المناصب، وجاههم، وأوغرت صدره عليهم امرأته تُركان خاتون، وكانت تسعى ليخلف ابنها الطفل محمود أباه على الملك، وكان نظام الملك يؤثر بركيا روق أخا محمود الأكبر. إذ يقال إن جمال الملك بن نظام الملك قتل مسخرة للسلطان كان يحاكي نظام الملك في المجلس السلطاني، فنقم عليه السلطان وأمر من دس له السم في شربة فقاع
ويروي ابن الأثير أن السلطان أرسل أحد قواده شحنة إلى مرو وكان يتولى أمورها حينئذ عثمان بن جمال الملك ومفيد نظام الملك. فوقع نزاع بين الشحنة وعثمان فحبسه عثمان ثم أطلقه فذهب إلى السلطان شاكياً؛ فأرسل السلطان إلى نظام الملك يسأله أأنت شريكي أو وزيري ويذكر استيلاء أبنائه على المناصب وتجاوزهم الحد
فلما بلغت الرسالة الوزير الكبير غضب وقال للرسول (قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فانك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي. أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه. . . فلما قدت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب ويسمع في السعايات! قولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق لهذه الدواة وأن اتفاقهما رباط كل رغبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقْت هذه زالت تلك).
ومن عجائب الاتفاق أن السلطات مات بعد شهر من قتل الوزير واضطربت الدولة اضطراباً شديداً
ومهما يقل من أسباب النفور التي وقعت بين السلطان والوزير فأنا بعد أن يدبر الملك لقتل وزيره الشيخ الذي كان يثق به ويعتمد عليه ويستصحبه في حضره وسفره.
كتب نظام الملك كتاب السياسة (سياستنامه) قبل موته بسنة واحدة، وضمنه علمه وتجاربه وآراءه في سياسة الملك وترتيب الدولة، وإنصاف الرعية، وقسمه إلى خمسين فصلاً.
وللكتاب مقدمة كتبها ناسخ الخزانة السلطانية يبين فيها سبب تأليف الكتاب فيما يأتي:
(أمر السلطان السعيد أبو الفتح ملكشاه ابن محمد أمين أمير المؤمنين أنار الله برهانه، سنة(300/5)
أربع وثمانين وأربعمائة بعض الكبراء والشيوخ والعلماء أن تفكَّروا في أحوال المملكة وانظروا ماذا من السيئات في عهدنا، وماذا خفي علينا، وماذا فعله السلاطين السابقون ولم نفعله، وأعلمونا به. وكذلك اكتبوا ما تعرفون من سنن الملوك السالفين مما يتعلق بدولة السلاجقة وملكهم، واعرضوه علينا لنتأمّله ونأمر بعدُ أن يسير كل عمل ديني ودنيوي على قاعدته، ويوضع كل شيء في موضعه، وننهي عما لا يُستحسن. فإن الله وهبنا الدنيا وأتم نعمته علينا وقهر أعدائنا فلا ينبغي أن يكون أمر في مملكتنا ناقصاً أو يذهب عمل على غير وجهه أو يخفى علينا شيء.
(أمر بهذا نظام الملك، وتاج الملك، ومجد الملك وطائفة أمثالهم، فكتب كلُ ما تيسر له في هذا الشأن وعرضه على السلطان فلم يعجبه إلا ما كتب نظام الملك فقال: كُتبت هذه الفصول كما أردت فليس في نفسي عليها مزيد. وقد اتخذت هذا الكتاب إمامي وسأعمل به.)
ويقول نظام الملك في خاتمة الكتاب: (هذا كتاب السياسة. أمر سلطان العالم خادمه أن يكتب في هذا الموضوع فامتثل أمره. كتب تسعة وثلاثين فصلاً على عجل ورفعها إلى السدة العالية فلقيت قبولاً. وكانت مختصرة فزدت عليها، وأضفت إلى كل فصل ما يناسبه، وبينتها بلغة واضحة، وقد سلمته إلى ناسخ الخزانة السلطانية محمد المغربي سنة أربع وثمانين وأربعمائة ونحن على عزيمة السفر إلى بغداد، وأمرته أن ينسخه بخط جميل، فإذا لم يتح لي الرجوع من هذه السفرة قدمه إلى السلطان.)
وسأتكلم على الكتاب وأترجم فصوله في المقالات الآتية إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(300/6)
الجامعيون يحتربون
للدكتور زكي مبارك
كان الأسبوع الماضي من الأسابيع الدامية في حياة الجامعة المصرية، وكان رجعة إلى معارك الصعايدة والبحاروة في الأزهر الشريف، فما هي الصلات بين القديم والجديد من هذه المناوشات التي تقع في المعاهد العلمية؟
إن النضال بين الصعايدة والبحاروة من الأزهريين كان رجعة لأحقاد عرفتها مصر منذ عهد الفراعين بين سكان الشمال وسكان الجنوب، وكان لهذا النضال مواسم يذكرها من شهد الحياة الأزهرية قبل أن تخضع للنظام الحديث
فما هو سبب النضال بين كلية الآداب وسائر الكليات؟
وما الذي قضى بأن يكون للجامعيين تاريخ في العداوة والبغضاء؟
لقد كانت كلية الآداب منذ نشأتها محفوفة بالرعاية والعطف من جميع المعاهد العالية، فما الذي جد من الشؤون حتى تصبح هذه الكلية المحبوبة هدفاً للعداوات، وحتى تشن عليها الغارة بلا ترفق ولا استبقاء؟
ما الذي جد في دنيا القلوب حتى تثور الحرب الدموية بين طلبة الآداب وطلبة الحقوق؟
وكيف جاز أن يصبح الحرم الجامعي مجروح الهيبة والجلال وفيه تمثال الشهداء في سبيل الوطنية لا في سبيل المنافع الشخصية؟
كيف جاز أن يحترب الرفاق في بقعة مسَّورة بالأزهار والرياحين في مطلع الربيع؟
وكيف نسى أولئك الشبان أن من الجريمة أن يدنسوا الحرم الجامعي بالأحقاد الشخصية، وهو بفضل العلم لا يقل قدسية عن المحاريب؟
كيف نسى أولئك الشبان نعمة الله عليهم وهم يغدون ويروحون في رياض تذكّر بأرواح الفراديس؟
إن الجامعة لها موقع قليل الأمثال في الشرق، وهي تنتظر من أبنائها أن يكونوا جذوة روحية تضيء أقطار الشرق، فبأي وجه تلقى الناس إذا صح لأبنائها أن يحتربوا ويقتتلوا بأسلحة ينكرها العلماء؟
إن أولئك الشبان لا يعرفون أن هناك مسامع تستريح لأن تسمع فيهم قالة السوء، ولا(300/7)
يدركون أن هذا النوع من المناوشات يغض من هيبتهم العلمية، ولا يذكرون أن سيرتهم قد تصبح قدوة لطلبة المعاهد العالية في الشرق
ولكن ما هي أسباب المعركة بين كلية الآداب وكلية الحقوق؟
السبب في جملته يرجع إلى كتابين يدرسان في كلية الآداب وفيهما فقرات تمس العقيدة الإسلامية
ولكن فات خصوم كلية الآداب أن من المستحيل أن يقع ذلك عن عمد: فعميد الكلية يعرف أن في مصر تيارات دينية وسياسية؛ وليس من مصلحته أن يتعرض لمكاره من جانب رجال السياسة أو رجال الدين. ومتى صح أن سوء النية غير موجود فمن التعسف أن يقال أن كلية الآداب تحارب العقيدة الإسلامية
أتريدون الحق أيها الجامعيون؟
لقد ضيعتم على أنفسكم فرصة عقلية لا تتاح في كل يوم، وهذه الفرصة بدت طلائعها بحديث عميد كلية الآداب وحديث شيخ الأزهر وشيخ كلية أصول الدين
وكان يجب اغتنام هذه الفرصة: كان يجب أن نرى المصاولات العقلية بين الأزهر والجامعة المصرية. كان يجب على الأقل أن يكون الحكم في هذه القضية إلى مناظرة علنية تقوم في قاعة الحفلات تحت رئاسة مدير الجامعة المصرية
ولكنكم أسرعتم ففصلتم في القضية بالأيدي لا بالعقول.
ثقوا أيها الجامعيون بأن الحركة الفكرية في حاجة إلى وقود، وهذه المحرجات التي تثور من حين إلى حين هي أعظم باعث ليقظة العقول، وأعداء هذه البدوات الفكرية هم من جيش الموت، لو تعلمون.
أقول هذا وأنا أعرف أن المشكلة فُضَّتْ ولم يبقَ إلا حكم التاريخ.
ولكن يؤذيني أن يكون للجامعة في حياة العقل تاريخ يشبه تاريخ العنف في أيام الظلمات.
إن كلية الآداب لها مهمة أعظم مما تظنون.
لا يراد من كلية الآداب أن تقف عند المحكيّات في الشؤون الأدبية والفلسفية، وإنما يراد من كلية الآداب أن توقظ غافيات العقول، وأن تخلق الفرص لوثبات الأخيلة والأحاسيس. فمن كان يظن إنه انتصر على كلية الآداب حين رجمها بالحجارة والطوب فلينم قرير(300/8)
العين.
أما كلية الآداب فمن حقها أن تعتز وتستطيل بأن يكون لها في حياة العقل تاريخ.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(300/9)
من برجنا العاجي
إني من الذين يعتقدون أن في مصر اليوم نهضة ملحوظة في الأدب والفن، وأن الأدباء والقراء يزدادون يوماً بعد يوم. على أن الذي يسترعي الالتفات ويدعو إلى القلق هو أن نتاج الذهن لم يبلغ بعد في قيمته المادية وأثره الاجتماعي المستوى المطلوب. لماذا؟ لأن هنالك عنصراً آخر في هذا الشأن ما زال مفقوداً. إن قوة الأدب والفن في أمة لا ترتكز فقط على طائفتي الأدباء والقراء. هنالك طائفة ثالثة عليها يقع قسط كبير من عبء العمل ولها ينسب بعض الفضل في إذاعة نتاج الذهن وإيصاله إلى متناول كل يد، وإحداث الضجيج حوله، والإعلان عن خطره. أولئك هم الوسطاء والتجار والناشرون. ففي فرنسا مثلاً ما يكاد يظهر كتاب جديد في باريس اليوم حتى تجده في صباح الغد معروضاً في أصغر قرية من قرى الريف الفرنسي. ووسائلهم في ذلك بسيطة أوجه إليها نظر تجار كتبنا الكسالى المتواكلين. إنهم يعلمون أن الكتاب لا يطلب عادة إلا في المحطة عند السفر، إذ هو خير أنيس في وحدة القطار. فتراهم قد جعلوا في كل محطة صغيرة أو كبيرة عربة يد صغيرة كتلك التي توضع عليها عندنا (البسطة) والفطائر والمأكولات. يعرضون عليها كل مستحدث من الكتب، ويعهدون بها إلى صبي يمر بها على الرصيف أمام كل قطار مار. هنا في مصر توجد فكرة عرض الكتب والمجلات في المحطات، ولكن الذي يؤسف له حقاً هو أن مصلحة السكة الحديدية المصرية قد منحت هذا الامتياز لرجل رومي لا يعرض غير الكتب والصحف الإفرنجية؛ لأن هذه المصلحة لا تنظر إلا إلى راحة المسافر الأجنبي والسائح الافرنجي؛ أما نشر ثقافتنا في أنحاء بلادنا على يدها فهو مشروع لم تفكر بعد فيه.
لذلك سيظل الأدب والفكر وكل ما يتعلق بالتثقيف الذهني والروحي في
بلدنا محصوراً في محيط محدود.
توفيق الحكيم
أبو تمام شيخ البيان
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)(300/10)
والسائر من شعر أبي تمام لا يقل في الصفات التي تؤهله لأن يسير عن شعر المتنبي السائر. وترى كثيراً من هذا الشعر السائر في جميع أبواب شعر أبي تمام من مدح أو رثاء أو وصف أو هجاء، وله أبيات كثيرة تدل على بصيرة وفهم وذكاء، وأسباب السيرورة هي التوفيق في الصناعة والإيجاز والبيان والوضوح وسهولة اللفظ وقوة السيل الشعري المنبعث من النفس وسلامة الفطرة والذوق. ولأبي تمام أبيات صارت ملكا مشاعاً مثل قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
ومثل قوله:
فلا تحسب هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس، كل غانية هند
وقوله:
ومن لم يُسَلِّم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرا عليه نوائبا
وقوله:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
وقوله:
وقد يستر الإنسان باللفظُ خلقَه ... فيظهر عنه الطرف ما كان يستر
وفي رواية فعله (أي سبب فعله) بدل خلقه؛ وقوله أيضاً:
يعيش المرء ما استحيا بخير=ويبقى العُود ما بقي اللحاء
وقوله:
وإني رأيت الوشم في خُلُق الفتى ... هو الوشم لا ما كان في الشعر والجلد
وقوله في تعزية الرثاء من قصيدة جليلة مشهورة:
أتصبر للبلوى عزاء وحِسْبَةً ... فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائم
وقوله:
لذلك قيل بعض المنع أدنى ... إلى مجد، وبعض الجود عار
وقوله:
ليس الغبيُّ بسيد في قومه ... لكنَّ سيد قومه المتغابي(300/11)
وقوله:
وإذا امرؤٌ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
وقوله وفيه روايتان في اللفظ:
ومن الحزامة لو تكون حزامة ... ألا تؤخر من به تتقدم
وقوله:
إنْ شئتَ أن يَسْوَدَّ ظنك كله ... فَأجِلْهُ في هذا السواد الأعظم
يعني جمهور الناس. وقوله:
فصرت أَذَلَّ من معنى دقيق ... به فقر إلى فهم جليل
وقوله:
قد يُنْعِم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وقوله:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب
وقوله:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقوله:
سكن الكيد فيهمُ إنَّ من أع ... ظم إرْب ألا تُسَمَّى أريبا
وقوله:
فقد تألف العين الدجا وهو قيدها ... ويُرْجَى شفاء السم والسم قاتل
وقوله:
أنكرتهم نفسي وما ذلك الإن ... كار إلا من شدة العرفان
وإساءات ذي الإساءة يُذْكِرْ ... نَكَ يوماً إحسان ذي الإحسان
وقوله:
وقديماً ما اسْتُنْبِطَت طاعة الخا ... لق إلاّ من طاعة المخلوق
وهذا البيت الأخير فيه إلمام بمذهب الملاحدة الذين يقولون إن الاعتقاد بالخالق فكرة إنسانية ولها نشأة بشرية في قديم الزمن بسبب تأليه رب الأسرة ورئيس القبيلة في العصور التي(300/12)
قبل التاريخ. على أن البيت يصح تأويله بما لا يخالف الدين. وقد طعنوا في عقيدة أبي تمام بسبب تركه للصلاة والصوم وقوله في الشاعر والفروض الدينية كلاماً، كما جاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي وفي غيره من الكتب. وقد طعنوا أيضاً في نسبته إلى طي، وبعضهم صحح نسبته إلى طي وقال إنه نشأ في فرع مسيحي منها ثم تظاهر باعتناق الإسلام؛ وقد مدح الإسلام في مدحه للخلفاء والوجهاء ووصف المسيحيين بالشرك والكفر وعبادة الأصنام كما قال في مدحه المعتصم ووصف فتحه مدينة (عمورية) وإذا أردنا أن نحصي خلاصة الخلاصة من شعر أبي تمام لم نستطع أن نستغني عن المدح، وإن استطعنا الاستغناء عن المدح عند إحصاء خلاصة الخلاصة من شاعر كالشريف الرضي فإن شعر المدح في صنعة أبي تمام يحبب إلى القارئ قراءة المدح حتى ولو كان ممن لا يميل إليه. انظر إلى قوله:
نَسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عموداً
أو قوله:
خدم العلى فخدمته وهي التي ... لا تَخدم الأقوام ما لم تُخدَم
أو قوله:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
أو قوله:
فلو صورتَ نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
أو قوله:
غَرَّبتهُ العلى على كثرة الأه ... ل فأضحى في الأقربين جنيبا
وله قصائد كثيرة فخمة حلوة في المدح مثل قصيدته في محمد ابن عبد الملك الزيات التي يقول في مطلعها:
لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك فنفضلا
أو الأبيات التي يقول فيها:
ليس الحجاب بِمُقْصٍ عنك لي أملا ... إن السماء تُرَجَّي حين تحتجب
وإجادته في المدح إجادة بطول حصرها، وهي ليست في مدح الأحياء فحسب بل هي أيضاً(300/13)
في مدح الموتى في الرثاء مثل قوله:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
أو قوله في رثاء بني حميد:
وانفس تَسع الأرض الفضاء فلا ... يرضون أو يجشموها فوق ما تَسعُ
يود أعداؤهم لو أنهم قُتِلُوا ... وأنهم صنعوا بعض الذي صنعوا
عهدي بهم تستنير الأرض إنْ نزلوا ... بها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا
أو قوله من رثاء ابني عبد الله بن طاهر: (نجمان شاء الله ألا يطلعا) إلى آخر القصيدة وهي من مأثور قوله وبها بيت يتمثل به كثيراً وهو قوله:
وإذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملا
وقوله أيضاً في مدح الرثاء:
فالماء ليس عجيباً أَنَّ أعذبه ... يفني ويمتد عمر الآجِنِ الآسِنِ
وأكثر رثائه على هذا النمط: رثاء صنعة فخمة رائعة لا رثاء حرقة ولوعة، ولا رثاء وجدان؛ ومن أجلِّ رثاء الصنعة قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعينٍ لم يَفِضْ ماؤها عذر
ولا ينقص من قدرها أنها من رثاء الصنعة فإن الشعر كالفاكهة أنواع ولكل نوع طعم ولذة. وله مع ذلك قصائد من شعر رثاء العاطفة والوجدان مثل رثائه لأخيه الذي أوله:
إني أظن البلى لو كان يفهمه ... صد البلى عن بقايا وجهه الحسنِ
والقصيدة التي يقول فيها: (بأرّان لي خل مقيم وصاحب) ولكنه أحياناً تغيض العاطفة من رثائه كما قال في رثاء جارية له:
يقولون لا يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عَشراً مكانها
وهل يستعيض المرء عن عُشرِ كفه ... ولو صاغ من حُرِّ اللجين بنانها
فالتعليل يدل على الذكاء، ولكن ليس هذا رثاء العاطفة؛ وكان ينبغي أن تكون حجته منزلة الجارية من نفسه لا أن يضعها بمنزلة عشر الكف. ومثل هذا رثاؤه محمد بن حميد إذ يقول إنه رآه في الحلم فسأله: ألم تمت؟ قال: لا. . . كيف يموت من كان كريماً مثلي كرمه خالد. وكان ينبغي أن يجعل المرثي أرفع من أن يقول هذا القول الذي كان يستطيع الشاعر(300/14)
نفسه أن يقوله فيه بدل أن يضع المرثي موضع المفاخر بكرمه وإنه لو كان حياً لكان حرياً به أن يرى من الكرم ألا يفتخر بالكرم والبيت هو:
ألم تمت يا شقيق الجود من زمن ... فقال لي لم يمت من لم يمت كرُمْه
ومن رثاء العاطفة قوله في رثاء ابنه وكان وحيداً بدليل قوله (بُنَيَّ يا أوحد البنينا) وهذه القصيدة هي التي مطلعها: (قد كان ما فخت أن يكونا) ولكنها ليست شيئاً إذا وضعت بجانب قصيدة ابن الرومي في رثاء ابنه وهي التي مطلعها: (بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجْدي). وإذا قارنا بين غزل أبي تمام وبين أقواله في المودة والإخوان وجدنا شعره في الإخوانيات أكثر عاطفة ووجداناً وأعلى مرتبة في الشعر مثل قوله:
من لي بإنسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الحلم رد جوابهِ
وإذا طربت إلى المدام شربتُ مِنْ ... أخلاقه وسكرت من آدابهِ
وتراه يصغي للحديث بقلبه ... وبسمعه ولعله أدرى بِه
أو قوله:
عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فُرِّقوا في الأرض جيراني
أرواحنا من مكان واحد وغدت ... أبداننا بشآم أو خراسان
ورب نائي المغاني روحه أبداً ... لصيق روحي ودان ليس بالداني
أو قوله:
جليد على ريب الخطوب وعتبها ... وليس على عتب الإخلاء بالجلد
أو قوله:
وقلت أخٌ قالوا أخ من قرابة ... فقلت لهم إن الشكول أقارب
نسيِبيَ في عزمي ورأيي ومذهبي ... وإن باعدتنا في الأصول المناسب
أو قوله:
خليليّ ما ارْتَعْتُ طرفي ببهجة ... ولا انبسطتْ مني إلى لذةٍ يد
ولا استحدثت نفسي خليلاً مُجَدَّداً ... فيذهلني عنه الخليل المجدد
أو قصيدته في علي بن الجهم التي يقول فيها إن ودهما (عذب تحَدّر من غمام واحد) أو قوله:(300/15)
وتكَشُّفُ الإخوان إن كشَّفْتَهُمْ ... ينسيك طول تصرف الأيام
أما غزله فكثير منه من قبيل التغزل بالغلمان وأكثره غزل حواس وليس به عاطفة عميقة أو وجدان. وأكثره مقطوعات صغيرة في أغراض أكثرها بنت ساعتها ولعلها من عفو القريحة. هكذا أكثر غزله ولو أن به ذكر الدموع التي تحولت إلى دماء (إفْنِ صبري واجعل الدمع دما)، وذكر آلام الحب وحرقاته ولكنه ذكر لا يدل على شعور عميق كما يدل غزل العذريين، ولا على وجدان كوجدان العباس بن الأحنف أو كوجدان الشريف الرضي. وله في أول قصائد المدح بعض الغزل الرقيق، وهو مولع بذكر محاسن أعضاء الجسم كالعيون والخدود. . . الخ.
انظر قوله:
صبَّ الشبابُ عليها وهو مُقتَبلٌ ... ماءً من الحسن ما في صفوه كدر
لولا العيون وتفاح الخدود إذاً ... ما كان يحسد أعمى من له بَصرُ
وكثير من غزله يشبه غزل أبي نواس، ولعل هذا هو سبب ورود قصائد في الغزل في ديوانه وفي ديوان أبي نواس مثل التي أولها (قال الوشاة بدا في الخد الخ) والتي أولها (أفنيت فيك معاني الشكوى) والتي أولها (وفاتن الألحاظ والخد). ومما هو شبيه بالغزل في قصائد المديح مما يستحسن الأبيات التي يقول فيها:
أدار البؤس حسَّنكِ التصابي ... إليَّ فصرت جنات النعيم
والتي يقول فيها:
يا موسم اللذات غالتك النوى ... بعدي فربعك للصبابة موسم
والتي يقول فيها:
أصبحت روضة الشباب هشيما ... وغدت ريحه البليل سموما
ولتي يقول فيها:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
وله في الغزل والوصف:
باشر الماء وهو في رقة الصن ... عة كالماء غير أنْ ليس يجري
خدش الماء جلدَهُ الرطب حتى ... خلته لابساً غلالة خمر(300/16)
أما قوله في المغنية الفارسية فمن عذب القول وهي قصيدة مطربة وهي التي يقول فيها:
ولم أفهم معانيها ولكن ... وَرَت كبدي فلم أجهل شجاها
وفي باب الوصف من شعره أشياء بلغت منزلة عالية من الجودة تجعلنا نأسف لقلتها ونود منها المزيد. ومن هذه القصائد وصفه لفتح عمورية، ووصف السحابة في أرجوزتها المشهورة، ووصف القلم في قصيدة يقول فيها: (لك القلم الأعلى الذي بشباته) وهو وصف مشهور أيضاً وهو من قصيدة مدح كوصف فتح عمورية. ومن وصفه أيضاً أرجوزة (إن الربيع أثر الزمان)، ومنها أخذ البحتري قوله: (وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا). وأحسن قصائده في وصف الطبيعة قصيدته التي يقول في أولها: (رقت حواشي الدهر فهي تَمرْ مِرُ) وفيها يقول البيت المشهور:
تريا نهاراً مشمساً قد شَابَهُ ... نَوْرُ الرُّبَى فكأنما هو مقمر
والنَّوْر الذي يحدث هذا الأثر هو النور الذي له لون يغض من اصفرار أشعة الشمس كأن يكون لونه أبيض، ولا يحس القارئ مقدار صدق هذا الوصف إلا عند المشاهدة. وله في وصف الخمر قصيدته التي مطلعها: (قَدْكَ اتَّئِبْ أربيتَ في الغلواء)
وفيها يقول:
صعبت وراض المزجَ سيئَ خلقها ... فتعلمت من حسن خلق الماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت، كذلك قدرة الضعفاء
وكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نارٌ ونورٌ قُيِّدَا بوعاء
أو درة بيضاء بِكْرٌ أطبقت ... حملاً على ياقوتة حمراء
يخفى الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست ... في أوجه الأرواح بالأنداء
وقد أسقطت بعض الأبيات للاقتصار، والبيتان الأخيران ينسبان إلى البحتري أيضاً في قصيدة له، ولأبي تمام إجادة في الهجاء وله في قصائده سائرة مثل قوله:
كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها في غربة وإسار
كُسِيَت سبائب لؤمة فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار
وقوله:(300/17)
مساٍو لو قُسِمْنَ على الغواني ... لما جُهِّزْنَ إلاَّ بالطلاق
فخلاصة الخلاصة من شعره لابد أن تشمل شيئاً من كل باب وهذا يدل على علو منزلته ومقدرته.
عبد الرحمن شكري(300/18)
الأم فنانة عظيمة
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
تقولين إن حياتك الزوجية مقرونة بالسعادة، إلا انك كثيراً ما تعقّبين على ذلك بقولك إن الهموم والمشاغل تعمل على إقصاء أسباب هذه السعادة حيناً، وتفلح في القضاء عليها حيناً آخر، وإن جلبة الأطفال وضوضاء ثرثرتهم وهذرهم وطياشتهم الصبيانية تجهد هذه الأعصاب التي أرهقتها من قبل واجبات واهتمامات عديدة تبهظ الذرع، وتعيي الطوق، وتزحم سوانح الفراغ النادرة، وتجتاح نطاق الوقت الضيق. وكأنك تنسين أيتها الأم الفنية، أن رجال الفنون الكبرى، وهي الرسم والنحت وهندسة البناء والموسيقى والشعر، كذلك كانوا يشتغلون، وفي مثل هذه الحالات كانوا يجدُّون ويعملون، بل كأنك تجهلين أنك تفوقين هؤلاء الفنانين جميعاً، لأن أعمالهم الفنية مجالها العالم الماديّ، أما عملك أنت فمجاله رحاب الحياة البشرية بأسرها
ولعمري كيف لا يعرف العالم أن النحيب على الأمومة والتفطر لها، يحقران شأنها ويقوضان سرادق مجدها! وهل كان بركليس يطلب من الملأ الرحمة والرثاء لأنه بفضل جهاده ومصارعته الصعاب جعل لأثينا السيادة العليا في البر والبحر، وصيّرها مجد العالم؟ وهل كان ميكال انجلو يصيح طالباً الغياث والنجدة مما عاناه مدة سنتين قضاهما مضطجعاً فوق ألواح خشبية مشدودة إلى السقف ليتمكن من رسم قبة معبد (السيستين) في الفاتيكان؟ وهل كان رفائيل يسأل الناس الرأفة، ويجعل من ينظرون إليه يستشعرون مسّاً من الشفقة عليه، والتفجع لكفاحه الطويل المضني الذي جاءه أخيراً بصورة السيدة مريم العذراء وابنها الطفل؟!
إن كتب السيِّرَ لا تتوجع لجهاد أولئك الأقطاب، ولا تتبعهم بإحساس حار من العطف الباكي المحزون، والحنو الدامي المستحرق، بل إنها تتبين في صبرهم على المشاق عناصر رجولة نبيلة أبيّة أوغلت في ميادين العزم والشجاعة وعلوّ الهمة، وغذّت مواهبهم بقوة الإرادة، والقدرة على تذليل الصعاب، فزادتهم بذلك فضلاً على فضل، وأضافت إلى ظفرهم فلاحاً وعزّاً
ولكن هل تمكن المقارنة بين الموادّ التي يستخدمها الفنان لتدوين تعبيراته الفنية، ورسم كل(300/19)
ما يقع تحت حسه من ألوان وظلال وأوضاع وانفعالات، وبين ما تتناوله الأم من المعنويات السامية الزاخرة بالممكنات التي تستطيع هي وحدها أن تستشفّها وتفسرها، وتبحث في ثناياها عن أحب الأشياء وأنقاها، وتحضها على استغلال أشرف ما أودع في القوى البشرية وتروضها على التحلي بأكرم الأخلاق الإنسانية، والتمسك بخير ما فيها من سجايا الطهر، التي تنيل الحياة عمقاً واتساعاً، وتكسبها نبلاً ومجداً وكرامة وسعادة
أجل. إني أراك في أحايين، توسعين لنفسك مجال التفجع، حين تجمحين في الإشارة إلى المتاعب التي تلقينها في العناية بأسرتك الصغيرة، والاهتمام بمطالبها التي تستنفد وسعك كله، وتهدّك وتطيّر النوم من عينيك، ولست أنكر أن هذا الاهتمام يستنفد الجهد حقاً، ولكن أليس محبباً إلى النفس؟ وأي شيء يفيض على حياة الفرد جمالاً أعظم من جمال العمل الحيوي الذي يقتضي الاهتمام المستفيض ويستغرق الجهد المستطيل الملهوف على مساكه وقوامه؟ وعملك من أعظم الأعمال في الحياة، وما الذي يجعل للحياة قيمتها؟ أليس هو شعور الفرد في كل صباح بأن مهمة خطيرة موكولة إليه، وأمراً جليلاً موقوف عليه دون سواه؟ وهذا الشعور يا سيدتي هو الذي ينبض بالاهتمام - الاهتمام الخالي من الهاجس والبلبال والتأرق، والمفعم بإدراك أهمية الواجب والمسؤولية. وإنها لحياة حقيرة تلك الحياة التي لا نعرف فيها قداسة الواجب والجد لتحقيق غاية مجيدة! بل إنه لوجود وضيع خسيس، ذلك الوجود الذي يكون فيه الفرد منفعلاً شيء فيه، دون أن يكون لبعض شؤون الحياة الحق فاعلاً. أو ليس من دواعي الغبطة إذاً أن تعرفي قيمتك من هذا العالم الوسيع الرحيب، ونصيبك من واجب الخدمة فيه؟ بل أليس من دواعي الفخر أن توقني من أن لك أنت فيه حياة أعلى من هذه وواجباً أجل وأكرم، وقد ائتمنتك الروح الكلية على أدائه. . فهل تبغين سواه؟ أتريدين أن تقومي بإلقاء الخطب والمحاضرات؟ أو أن تشغلي وظيفة في بعض المصالح والمؤسسات؟ أو تكوني رسامة مجيدة تحبو الناس بقبسات باهرة من مخيلتها المبدعة، وريشتها المبتكرة، وروحها المقتبسة، ونفسها الحساسة؟ ومع ذلك فهل تخلو هذه الصناعات والوظائف مما يفرض العناية ويستلزم الاهتمام، لو راعيت الأمانة والدقة في أدائها؟ ولست أريد أن أنتقص من قدرها بما أذكره في صددها الآن وكلها جليلة نبيلة تليق بأن تستغرق حياة من لم تنتدبهن السماء لذلك الواجب الأقدس، أو من أكملن(300/20)
سعي الأمومة المبرور، وأحسنَّ البلاء في تعهد الأولاد بالعناية اللازمة، وهيأنَ من ريعان اقتبالهم، وعنفوان شبابهم خير عدة للمجتمع!
هذا ولا تنسى أن رجال الفن يتخذون أداة عملهم الفني من الجماد، والجماد لا روح فيه، ولا يملك من الاستجابات غير ما يشعر الفنانون إنه صوت العواطف والأفكار التي تدوي في نفوسهم. أما أنت فإن مادة تعبيراتك الفنية معنوية حية؛ تجيش في خلاياها الكائنات الحية، ويترقرق في أغوارها ماء الحياة الناشطة، ويقظة الفؤاد، ودقة الفهم، ولطافة الحسّ، وقوة العقل. وفي كل يوم ترين استفاضتها؛ في كل يوم ترين الأغصان النامية التي تساعدينها على اتخاذ سمتها إلى النور والسماء، وتستجيب لهاتف رعايتك وتثقيفك، وفي كل يوم تتكرر مظاهر اتصالها بك، إذ تلتفّ تلك السواعد البضّة حول عنقك لتحدثك عن حبها الساذج النقي، وفي كل يوم تشنف أذنيك مرارا تلك النغمات الملائكية كلما نادتك قائلة: (ماما! ماما)! وفي كل يوم ينفخ إيمانُ تلك القلوب الغضة، وثقتهم بما أوتيت من حكمة وخبرة، روحَ الحياة في قلبك. إن الفنان يحكي الطبيعة، وينقل ما يقع تحت حسه من صورها، ويتخذ من مخلفات حياته الفنية صلة الحياة بما بعد وجوده الفاني في عالم الزوال. أما أنت فتسلمين وديعة السماء السرمدية إلى الأرض، وتخلدين نبتة الحياة التي تنتقل ثمارها من جيل إلى جيل، وتتفتح أزهارها في متلاحق الحقب، ويدخر حصيدها الذهبي إلى ما وراء الأبد والبعث. . . وتقدمين للوجود على يديك إثباتا أكيداً لذات أوسع وأكبر، وبقاء أشمل وأكمل، وتمنحين الإنسانية فوزاً متكرراً، وذخراً يجدده بروز مواهبك في الأمومة الرشيدة الحكيمة. وما جمال الفن، وما مجد الفنان إلا بعض فضل الأم على كل مبتكراتهما وروائعهما! فهل تشتكين بعدُ من العناية بالبيت؟ وهل تقولين إن الأطفال أيضاً يضايقون ويزعجون! و. . . و. . . الخ. وزوجك العطوف؟ إنه يحبوك بالنصح والتدبير والمشورة في حيرتك وارتباكك، ويسرّي عنك آلامك، ويمحضك إعجابه، ويخصّك بحبه الذي تستمدين منه سنداً لضعفك. . وأمومتك نفسها توقظ فيه حنو الرجولة وتنّبه حنانها الشهم القويّ. . . فهل تحرصين على هذه العطايا أن تذهب بلا طائل؟ أم هل تعدّينها من الالتزامات والضرائب المفروضة على الزوج؟ أو لا تعرفين أيتها الجليلة الفتية الراتعة في بحبوحة الدعة أن هذه الدعة هي خير ما تستطيع أن تغدقه عليك عناية الزوج المحبّ؟ ألا(300/21)
تعرفين أيتها الأم الشابة المنعمة بالطمأنينة التي يبعثها في نفسك شعورك بأنك توفرين أسباب الصحة والحياة لأولادك، وتظللينهم بستر جناحيك، وتجعلينهم في حرز حريز يصونهم من أحداث الزمن وسموم القدر التي تعصف بمن أذلهم اليتم، وأخنى عليهم الحرمان والفقر. . .
ألا خذي هذه العطايا البنوية الشاكرة والزوجية الواقية ولا تجحديها. . . لأنك بهذا الجحود تحطمين أشرف عاطفة، وتلغين أنقى رابطة قائمة على التفاهم والإخلاص، وإدراك الحياة الكاملة، والتوجه إلى ما فيها من حب وتعاون وشكران. . . فتقبليها من يد الزوج الأبرّ القوي، آية وفاء لحقوق تلك الشركة المقدسة التي ربطت بينكما، وتعاهدتما على أن تلتمسا بها لحياتكما أمناً بل زينة تنسيك أنت متاعب الفروض البيتية والعناية بالأطفال وتحيلها لذة ونعيما مقيما. . .
هذه أمانيّ الراجية المؤملة أزجيها غير متجافية ولا متبجحة. وهأنذي أتطلع إلى ما توحيه إليك نفسك السمحة، وينتهي إليه جهدك الجبار، فإنها لعمر الحق برهانك الذي يباهي به جنسك هذا المجتمع بل الإنسانية قاطبة، فاحرصي على أن تكون فَلَق الصبح المبين لمصرنا العظيمة. والسلام عليك ورحمة الله
الزهرة(300/22)
أعلام الأدب
درامات إسخيلوس
للأستاذ دريني خشبة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
4، 5، 6 - الأورستية
هذه هي الثلاثية الواحدة التي وصلتنا سليمة من إسخيلوس وقد أخذ كل مادتها من هومر، وأجاممنون هو بطل حلقتها الأولى وباسمه تدعى. . . والمأساة تبدأ من ذلك اليوم المشؤوم الذي ضحى فيه أجاممنون بابنته إفجنيا حيث ذبحها لتتحرك الريح وتحمل الأسطول إلى طروادة كما مر بك في هوميروس. . . فلما علمت زوجته كليتمنسترا - أم الفتاة - بما وقع لابنتها من الغدر، ولم تكن تعلم بهذا التدبير من قبل، بل قيل لها إنها ذاهبة لعقد قرانها على أخيل بطل أبطال اليونان، ثارت ثائرتها، واعتراها حال من الهم والحزن أخرجها عن إنسانيتها فأبعدت عنها كل معالم الحياة. . . حتى ابنها الأوحد أورست لقد نفته بعيداً عنها، وعاشت وحدها في قصر البلوبيد الرهيب، واضطرمت في قلبها نار الحقد على زوجها القاسي. . . ثم وصلت أسبابها بأسباب إيجستوس أحد ذوي الثارات على بيت أجاممنون، فوافق شنُّ طبقة كما يقولون، وألفت التّرات بين قلبيهما فشاعت عن علائقهما الشائعات. . ولما وضعت حرب طروادة أوزارها وعاد أجاممنون مع تلك الفتاة النَّبيَّة ابنة بريام، دبرت له زوجته تلك القتلة المشئومة التي ذهبت بروحه وروح فتاته إلى هيذر
فأما الحلقة الثانية الـ (خُوَراُفْروَا) أو حاملات الخمر المقدسة فتقع حوادثها بعد ذلك بسنين عدة كانت الملكة وعشيقها يحكمان آرجوس طوالها. . . فلما شب أورست أستأذن ملك فوسيز في العودة فأذن له ولصحبه صديقه بيليدز. . . ووصل إلى مقابر آرجوس حيث وجد أخته إلكترا تصب الخمر على جدث أبيه لأن أمها رأت في المنام أنها تلد ثعباناً ثم تأخذه في حضنها، فأرسلت بنتها لتصب الخمر قربانا إلى روح أجاممنون. . . ويعرب الشاب أخته فيعرفها بنفسه وتكون قد صلت للآلهة على ثرى أبيها أن ترسل إليها أخاها، فتكون مفاجأة جميلة، ثم يوصيها أورست بكتمان الأمر حتى ينتقم لأبيه. . . ويدخل القصر(300/23)
في هيئة تنكرية فلا تعرفه أمه، ثم يأخذ في سرد قصة فحواها أن أورست قد مات فتتظاهر الأم بالحزن ثم تدخل مخدعها، ويدخل أورست وصديقه حجرة الأضياف. . . وتذهب مرضعة لتدعو إيجستوس ليعلم ما قال الرسول عن وفاة أورست فما يكاد يصل إلى القصر حتى يسمع من الداخل وهو يصرخ ويجود بنفسه. . . لقد قتله أورست!!. . . وتهرع كليتمنسترا لترى ماذا حدث، لكنها تعاجل بضربة شاطور (بلطة) فتتلفت فترى أورست عند جثة عشيقها، وهي مع ذاك تنسى آلامها وتنحني فتبكي فوق جثة إيجستوس. . . ثم يأتي أروع مشاهد إسخيلوس الدرامية. . . فالأم حينما تعرف أورست لا تبالي الدم المتدفق من جرحها، بل تكشف عن ثدييها وتعيّر الابن بكفرانه هذا اللبن الذي غذاه صغيراً، ثم تنذره بملاحقة ربات العذاب إياه حتى ينتقمن منه على جريمة قتل الأم وهي أشنع الجرائم في الشرع اليوناني، ويهتز أورست، ثم تعروه نوبة من الجنون، وتتراءى له ربات العذاب فيذعر، ويفر من وجوههن ليحتمي بهيكل الإله أوبوللو في دلفي.
وفي الحلقة الثالثة (يومنّيدز) أو ربات العذاب، يتعلق أورست بأستار هيكل أبوللو ضارعاً إلى إله الشمس أن يحميه، وتكون الكاهنة وسنانةً فتستيقظ مفزّعة مروعة ثم يظهر الإله أبوللو نفسه فيطمئن أورست ويشمله بحمايته ويأمره أن ينطلق إلى أثينا حيث يعرض قضيته على رّبتها مينرفا (باّللا أثينا) فيصلي أورست وينطلق إلى حيث أمره أبوللو وتبقى ربات العذاب فيدخل شبح كليتمنسترا وتأخذ في تحريض الربات فيتغنّين قليلاً ثم يطردهن أبوللو. . . ويتغير المنظر فنكون في أثينا في هيكل مينرفا وقد تعلق أورست بأستار المذبح وقد أخذت تنوشه ربات العذاب فتبدو ميرنفا وذتودهن عنه، ثم تستمع إلى شكواه. ويكون في المعبد جماعة من المحلفين وينهض الإله أبوللو ليؤدي شهادته ويدلي برأيه فيقرر أن الإنسان ينتسب إلى أبيه لا إلى أمه؛ ولذا فهو مرتبط بوالده قبل أن يرتبط بوالدته. . . وبعد أن تسمع مينرفا إلى آراء الآخرين تنهض هي فتعلن رأيها ثم تجلس ويأخذ المكلفون في (فرز) الأصوات وتكون النتيجة متساوية بغير ترجيح فيحدث شيء من الهرج في قاعة العدالة وتتبرم ربات العذاب لتدخل أرباب أقل منهن مرتبة في أخص أمورهن، فتنهض مينرفا وتأخذ في تلطيف سورتهن بفصاحتها المعهودة وتهتف بهن (أن أسمى واجب الآلهة هو نشر السلام بين بني الإنسان!) وتعدهن بإقامة مأوى عظيم لهن في هضبة إيرس(300/24)
فيهدأن ويختفي الجميع بذهابهن إلى مأواهن في حفل رهيب
هذه هي أرفع درامات إسخيلوس بل أرفع درامات الأدب اليوناني إذا استثنينا درامة برومثيوث للشاعر نفسه. . . وقد سخر فيها الشاعر بهذه الشريعة العجيبة التي تنافي العدالة المطلقة التي جعل لها الفوز والغلبة في النهاية. . . وكان إسخيلوس ماهراً في تلك الدرامة إلى آخر حدود المهارة فقد استدرج اليونانيين حينما أراد إصلاح وجهة نظرهم إلى تلك الأغوال التي يدعونها ربات العذاب حتى جعلهم يؤمنون أنها ينبغي أن تكون لخير الإنسانية لا لذعرها، ولنشر السلام لا لتعميم الذعر والأذى. وهكذا استطاع إسخيلوس أن يبشر بدين جديد من دون أن يحدث ثورة، وكان جل إيمانه بسيادة عليا تهيمن على الكون وتسير به إلى الكمال كما سنرى في برومثيوث
7 - برومثيوث:
أخذ إسخيلوس موضوع ثلاثيته من أسطورة برومثيوث الخالدة وتتلخص فيما يلي:
بعد أن فرغ إيروس (كيوبيد) من توشية الأرض وزخرفتها بالنبات، عَمَرها بالحيوان، ثم دعا إليه الإلهين برومثيوث وإبيمتوث ليخلقا فيها حيواناً راقياً تكون له السيطرة على سائر صنوف الحيوان ويسمياه (الإنسان). فلما صنعاه سألا إيروس أن ينفخ فيه أنفاس الحب (روح الحياة) كما سألا مينرفا أن تنفخ فيه من روحها (روح الحكمة). فلما دبت الحياة في هذا المخلوق العجيب زُهي برومثيوث وشاعت فيه الكبرياء واعتزم أن يهدي إلى الإنسان منحةً جزيلة تفتح له أبواب المدنية وترقى به في مدارج الحضارة. . . وكانت النار إلى ذلك الحين حقاً خالصاً للآلهة وكان لهم دون غيرهم (امتياز) استعمالها، فاعتزم برومثيوث أن ينسرق إلى الأولمب ليحضر للإنسان جذوة من النار المقدسة فأحكم تدبيره وتغفل سيد الأولمب (زيوس) وسرق الجذوة ثم آب إلى الأرض دون أن يشعر به أحد. . . ومضى حين من الدهر، وتلفت زيوس من عليا سمواته فشهد النار تتأرجح في أطراف الأرض فهاج هائجه، وأقسم ليعذبن السارق عذاباً شديداً. ويعرف أن السارق هو برومثيوث فيأسره ثم يذهب به في أقل من لمح البصر إلى جبال القوقاز حيث يقيده ويربطه بسلاسل وأصفاد في قمة جبل هناك ويسلط عليه باشقاً من جوارح الطير فيظل ينهش كبده نهشاً شديداً. . . وهنا يبدأ إسخيلوس الحلقة الأولى من درامته. . . فهذا برومثيوث مُصفَّداً بالأغلال صابراً(300/25)
لأنكى ألوان العذاب، ينهش الباشق كبده نهاراً ثم ترقأ جراحه ليلاً وتنمو الكبدة، فإذا أصبح عاد الباشق إلى نهشه وتعذيبه وهكذا دواليك. . لكن برومثيوث إله فهو لا يموت، ثم هو لا يقهره هذا العذاب بل هو يصبر له في سبيل سعادة الإنسان الذي خلقه وحضّره وجلب له النار وعلمه الفنون، والإنسان مع ذاك شاكر له ذاكر أياديه فهو يصلي له ويقنت، والفتاة يو البائسة المعذبة التي سلطت عليها حيرا زوجة سيد الأولمب هذا الوحش الفظيع آرجوس والذبابة المؤلمة تلدغها وتسومها من العذاب ألواناً. . . هاهي واقفة بجانب برومثيوث تواسيه وتتوسط له عند التيتان ليستغفروا له سيد الولمب فلا يغفر له، لأنه قوي مجنون ليس في قلبه شفقة ولا يعرف فؤاده العدالة. . . ويصبر برومثيوث ثم يصبر، ولا يرضى أن يخذل الإنسان لأن الإنسان يصلي له ولا يني عن عبادته. . . وفي الحلقة الثانية يذهب هرقل بن سيد الأولمب في إحدى مجازفاته فيشهد برومثيوث مصفداً في قُنَّة الجبل والطير تنهش كبده، فينقض على الباشق الجارح ويقتله، ويرد إلى برومثيوث حريته. فينطلق هذا الإله الطيب ويلقاه الناس مسبحين بحمده فرحين مستبشرين. . . وفي الحلقة الثالثة (برومثيوث حامل النار) يصف إسخيلوس احتفاء الأثنينيين بالإله الذي ضحى نفسه واحتمل نفسه واحتمل الآلام في سبيل الإنسان
هذه خلاصة سريعة لأعظم درامات إسخيلوس، وبرومثيوث خي درة فلسفية أعجب بها الشعراء في كل العصور، وقد عارضها شللي الشاعر الإنجليزي بمنظومة رائعة جرى بها في أذيال إسخيلوس. . . وقد كان إسخيلوس لاذعاً في هذه الدرامة، فقد سخر بهذا الإله المتغطرس زيوس الذي كان يكره الإنسان ويناوئه ولا يريد له الخير الذي أراده له برومثيوث. وجماع فلسفة إسخيلوس في هذه الدرامة أن القوة التي تهيمن على هذا العالم يجب ألا تكون قوة مجردة لا عقل لها، بل يجب أن تتضافر القوة والحكمة بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى لخير الإنسانية وعمار الكون، فإذا اختل التوازن بينهما لم يصح أن تكون هناك آلهة. . إذ كيف يكون إلهاً ذلك الذي يعذب إلهاً آخر (برومثيوث) ثلاثين ألف سنة؟ بل كيف يكون هذا الإله عاقلاً؟
وبعد، فلقد كان إسخيلوس يحتقر الديانة اليونانية ويعرف أنها أضغاث، وقد احتقرها من يوم نبوءة دلفي التي أمرت اليونانيين بأن يستسلموا للفرس لأنهم لا يغنون عن أنفسهم من(300/26)
شرهم شيئاً. فلما انتصر اليونانيون آمن إسخيلوس بإله عادل يسيطر على الكون ويقهر الظالمين، ويرعى الضعفاء، فلم يأل جهداً بعد هذا في هدم هذه الآلهة الكثيرة التي خلقها السلف ووقع في عبادتها الخلف عن جهالة وغباء
هذا هو إسخيلوس الدرامي الأول، فلعل دراسته تمنعنا من الإسهاب في تأريخ من يليه من أدباء اليونان
دريني خشبة(300/27)
من ذكريات لندن
حرية. . .!
للأستاذ عمر الدسوقي
مضى الشتاء متثاقلاً متلكئاً بعد أن أطلق لشياطينه العنان، تعبث بالأرض عبث الوليد بخذروفه، وتجوس خلال الديار بوجوه مقطعة مكفهرة، تتواري منها ينابيع الجمال والرحمة هلعاً وفرقاً؛ وتلفح أنفاسها الأوراق النضرة فتذوي، وأوراق الدوح فتساقط عصفاً مأكولاً؛ وتزفر زفرات مَرّتْ على زمهرير سقر، حتى تنتفض لها الدنيا، وتنكمش في أبرادها وتسري في أوصالها رعدة الفر، وقشعريرة الحمى البرود، أو ترسلها ضباباً أسود بشعاً، يملأ فجاج الأرض، تطرف منه العيون وتدمع، وتغص به الحلوق وتشرق، وتسيل الأنوف وتنتفخ، وتسعل الصدور وتنقبض؛ يحجب الشمس، ويعطل الحياة، ويحيل السبل سراديب مدجنة يرتطم فيها الأحياء بالجمادات وهم يتحسسون طريقهم، وتتراءى فيها الجمادات مردة طليت بالقار، أو اشتملت بمسوح نسجت من أديم الليل البهيم؛ أو ترسلها ريحاً زفزفاً مزمجرة، تهز الأرض هزّاً عنيفاً، وتزأر زئيراً منكراً كئيباً، يصم الآذان، ويرجف الأفئدة. . .
حتى إذا خالت الشياطين أن الدنيا قد هلكت رعباً، وحالت جثة هامدة باردة، وأشلاء ممزقة مبعثرة، دفعت بالثلج كفناً أبيض يتراكم كسفاً، ويجلل الأرض بقطع بيضاء هشة، كأنها زبد الموج الصاخب، أو شعر عجوز شمطاء اجتثته وهي مغيظة محنقة، أو العهن المنفوش، أو القطن المندوف
ثم حشدت فيلق المزن في عنان الجو، تتردى حبر الحداد، وتبكي وتنتحب، وتجهش بالعويل، فتسمع لها شهيقاً وزفيراً؛ وتسكب الدمع مطراً هتوناً تسقط حباته على الأرض كأنها نقرات الدفوف، أو عصا جبار ينكث الأرض موجدة وغيظاً، أو حجرات مسلم متعبد يرجم الشيطان بمنى، ثم تزدحم به الأودية فيطغى ويكتسح كل ما يعترض موكبه الهائج وتياره المائج
وها قد نفخ الشتاء في بوقه، فحشرت إليه شياطينه من كل فج، وولى مشيعاً باللعنات، وطفقت حرارة الحياة تتمشى في أطراف الدنيا، فتنهض الطيور الهاجعة، وتتثاءب البراعم(300/28)
الوسنانة، وترقع الرياض ما بلى من كسائها بالحشائش الحواء، وتوشيه بالأزهار اليانعة العبقة الشذى
وهاهي ذي ذكاء صفراء عليلة، غب احتجاجها الطويل، ثم تتواري في خدرها بعد هنيهة، ثم تبدو أثبت قدماً وأربط جأشاً. وتحاول السماء أن تتجرد من ثياب الشتاء القاتمة الغليظة، فتمزقها إرباً إرباً، فتظهر أجزاء من أديمها الأزرق الصافي خلال بردها المهلهل الخلق
وهرع أهالي لندن إلى العراء ليشهدوا آخر معركة بين التوأمين الربيع والشتاء
وجاءتني ربة الدار فرحة متهللة، مشرقة الطلعة، كأنما نفث الربيع فيها من سحره، فغدا وجومُها بسمات، وحديثها ضحكات فحيت تحية كأفواف الزهر، ثم تغنَّت بفتنة الطبيعة في ديارها إبان الربيع، فحسبتها قمراً يُرَجِّع على فنن دوحة تميس في الحبر السندسية البديعة، أو مِزْهر عازف يوقع أنشودة الجمال الرائع؛ ثم قالت:
- حذار أن تظل جلس بيتك في مثل هذا اليوم النادر، فمسرح الطبيعة عندنا جم المناظر، تارة يلفظ شُواظاً من نار فتقبع المخلوقات في دورها، وتارة يبتسم ابتسامة الرضا فينسى الناس فترات تجهمه، فيعدون إليه بقلوب يستخفها الطرب، ويتملكها العجب. إن أشعة الشمس في بلادنا نفيسة كالذهب الوهاج، يتهافت عليها الناس ويدخرونها لأوقات يربدُّ فيها وجه السماء، وما أكثرها حتى في هذا الفصل الذي تخطر فيه الدنيا في حلة قشيبة من النّوْر، وتتنفس فيه الرياض عبيرَ الأقحوان النَّدّ، والياسمين والورد
- لقد حدثتِ فأطربت، ووصفتِ فأطنبتِ، فهل لكِ أن تهديني إلى أي الحدائق أبهج للفؤاد، وأجلى لصدى النفس، وأمتع للنظر؟
- إن لندن يا سيدي مدينة تزخر بألوف الألوف من البشر، مترامية الأطراف، واسعة الجنات، فسيحة الرقعة تتمثل فيها الحياة العاملة المجدة، والحركة الدائبة النشطة في أوجها؛ ترى قُطُر الكهرباء تجري فيها رائحة غادية، في سراديب تحت الأرض، وعلى قضب فوقها؛ وترى أسراب السيارات تجوب أرجاءها ألوفاً ألوفاً، فمنها ذوات الطبقتين كأنها بواخر تمخر عباب اليم، ومنها القميئة التي تنساب في الطرقات انسياب الصِّلال وسط الإحراج والأدغال؛ والناس فيما بين ذلك يهرولون زرافات ووحداناً، كأنما الحياة الدنيا قد أفلست وعرضت ذخائرها، وهم إلى الغنيمة يهطعون ولهم ضجيج يفزع الكواكب في(300/29)
مسابحها، والشياطين في معاقلها
وحري بنا ونحن نتنفس هواء قد أفسدته الصناعة، وأنفاس الخلق، أن ننشئ الرياض العريضة الرحبة، تخُطُّها البحيرات الجميلة الجذابة، ففيها نستجم من نصب العمل والحياة المضنية، وإليها نهرع إذا ضاقت صدورنا، وكادت أرواحنا تزهق من حر أنفاسنا. ولكل روض خاصة: فإذا نشدت الهدوء والعزلة، والمنظر الخلاب البهيج، فدونك (الريجنت)؛ وإذا شئت أن تدرس طباع الشعب عن كثب، وتشهد صراع الفكر، وخطباء النَّدى، والجموع الغفيرة، والحرية المطلقة، فدونك (هايدبارك)؛ وإن كنت مولعاً بالتلال المعشبة، والرُبى الخضراء، والوهاد الفسيحة، والطبيعة الساذَجة الغفل التي لم تصقلها يد البشر، فأعمد إلى (هامستدهيث)؛ وإن كنت مغرماً بدرس النباتات وأنواعها المختلفة وأشكالها المتباينة، فعليك بحدائق (كيو) حيث يمثل فيها نبات الدنيا جمعاء. وهناك رياض أخرى لا تقل رونقاً وبهاءً وحسناً ورواءً عما ذكرت
- لقد شدت - يا سيدتي - بمدينتك فخورة مُدِلة، ولا غرو، فأنتم أمة لم تنس نصيبها من متع الدنيا وزخرفها. فها هي ذي لندن، قد تجَّلت في مبانيها سلامة الذوق والانسجام البديع، وحفت طرقها بالأشجار، وزينت منازلها بالحدائق الصغيرة سيان في ذلك بيت الأمير وبيت الحقير. وإني لنصيحتك جِدُّ مطيع، ولك مني ثناء عطر جزاء وفاقاً على ما أتحفتني به من حديث ممتع طريف؛ فمعي صباحاً، وإلى اللقاء. . .!
ذهبت إلى (هايدبارك) وها أذنا ألج ساحتها المزدحمة
يا عجباً هنا منابر وخطباء، وهنا جموع محتشدة تنصت وتنتقد وتجادل تسخر وتحتد؛ وعلى كل منبر رَق مرقوم، يفصح عن الفكرة التي يدعو إليها الخطيب أو ينافح عنها. والناس ينتقلون من حلقة إلى أخرى كأنهم زُمَر النحل، تقتطف من كل زهرة قطرة؛ حتى يقعوا على ما يَلَذ لهم حديثه، فيرهفون السمع ويعملون الفكر ويجادلون المتكلم أحرَّ جدال
هاك شيوعياً يبسط للناس مبادئ عقيدته، ويلوم في حدة وسلاطة وعنف، هؤلاء الذين اكتنزوا الذهب والفضة واستعبدوا بهما الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؛ وأخذوا يَنعمون بأطايب الحياة، ويبعثرون النضار في سبل الفسق، بينما يَغضص المجتمع بقوم يبيتون على الطوى ويندبون جَدَّهم العاثر، وزمنهم الغادر. ويدعو بكل ما أوتي من ذرابة لسان،(300/30)
وشجاعة جَنان، إلى تقسيم الثروات حتى يتساوى الناس في الشقاوة والسعادة، والغنى والفقر
وهاك اشتراكياً لا يشتط كتربه وإنما يطلب - كما يقول - العدل والرحمة، والرفق بمن يكد ويكدح لينعم سيده ويقوى بمن يذوي شبابهُ ويراق دمُه، ويَضنى جسمه في المصنع والحقل؛ ليقدم للإنسانية عُدة الترف والبذخ؛ مفنداً في لباقة وطلاوة حديث ما يتصدى له الشيوعي من دعوة ترمي بالعالم في أحضان التهلكة والدمار؛ وكيف يُسَوَّي بين الذكي والغبي، والشجاع والرعديد، والقوي والضعيف، والجاد والخامل. . .؟ وهل الحياة الدنيا سوى كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيه من قويت مُنَّته، وحسنت عدته، ودأب على العمل لا يَكل ولا يمل. .؟
ثم يعرج على أزمات الأمم في عصرنا هذا، وأنها نِتاج استبداد الأغنياء بالفقراء، ولو رعى الأول حقوق الثاني لأخلص الثاني في خدمة الأول ولاستقام العالم وعاش في بُلَهنية ووفاق. ولم ينس أن يَصُبَّ ذَنُوباً من ألفاظ السباب على الحكام المستبدين وقتلهم لحرية الأفراد، وتسخيرهم الأمم لإشباع مطامعهم
وهاك يهودياً يبكي ويستبكي، ويناشد القلوب الرحيمة والعقول السليمة، أن تنصف شعب الله المختار، الذي كتبت عليه الذلة والمسكنة، والذي طارده الحكام المستبدون في كل بقعة عقد لهم فيها اللواء، وكتب الظفر، فبات شريداً طريداً، خالي الوفاض، كسير القلب، مهيض الجناح. ويقول: إننا قطعة من الإنسانية المعذبة، وأنتم يا أبناء التايمز قد ربُيتم على البر بالمحروم، والنصفة للمظلوم، ولا نطلب منكم سوى ديارنا التي كنا نقطنها منذ ألفي سنة، وما تركناها إلا قسراً وقهراً، جودوا لنا بفلسطين، نُحيلها جنَّة من جنان الخلد، ومعقلاً أميناً يصد كل من تحدثه نفسه بالتعدي على طرق الإمبراطورية العتيدة. ينفذ بمثل هذه العبارات إلى أفئدة الناس فيأسرها، ويستدر دمعهم، ويكسب عطفهم.
وهاك قسيساً، قد ارتدى مسوحه، ووقف في وقار وتزمت ينادي القطعان النافرة من حظيرة الكنيسة: أن ارجعوا إلى بارئكم، فالباطل لا يغني من الحق فتيلا وأن لكم في طمأنينة الروح عوضاً عن فقدان المادة، وأن الحياة الدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا لم يجده شيئاً؛ يدعها الإنسان وحيداً إلا مما قدمت يداه، فلا مال ولا عتاد، ولا جاه ولا(300/31)
سلطان والآخرة خير لكم وأبقى
وهاك امرأة، قد تملكتها نزعة صوفية، فبرزت في أسمال، وأطمار وطفقت ترفع عقيرتها منشدة الأغنيات الدينية فتجذب إليها جموع الناس، ثم توسعهم لوماً وتأنيبا على تقصيرهم في حق المسيح، حتى إذا انفضوا عنها ضاحكين هازئين عادت تغني مرة أخرى.
وهاك ملحداً يسفه الشرائع والأديان، وهاك عالماً يشرح للدهماء أصول علم النفس وقوانين الاجتماع.
وهاك حبشياً يثير حماس القوم ضد القوة الغاشمة، والأمة الظالمة، ويلجأ إلى سجايا الإنجليز الكريمة، وأريحيتهم ومروءتهم وتقديسهم للحرية ألا يدعو وطنه يذهب نهبة لأطماع الاستعمار، وقرباناً على مذبح الغدر بالعهود والحنث بالذمم.
وهاك سفسطائياً يبرهن على أن الإنجليز هم (شعب الله المختار) لا بني إسرائيل، وأنهم أولى الناس بحلم العالم.
وهاك نازياً، يبرق ويرعد، ويتهدد ويتوعد، ويهدر كالسيل الجارف، ويغزو الديمقراطية في عقر دارها، ويرميها بالتفكك والانحلال، والضعف والفساد؛ ولاتباعها أوهاماً وخزعبلات، وتعلقها بمثل لا تغني أمام جبروت المدفع شيئاً؛ ولما لأوشاب الناس فيها من أيد وقوة، فيتخلف عن دست الحكم ذو الرأي الرشيد، ويطفر إليه من لا يقيم للأمور وزناً؛ ويرمي المجالس النيابية بأنها ميدان للثرثرة وقتل الوقت، ويقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
يا قوم، القوا أعنة أموركم ليد مصلحة سديدة، ففي ذلك العزة والمنعة، والعدل والمساواة، طهروا دياركم من اليهود الذين امتصوا دماءكم وأنتم في غفلة ساهون. ألم يسيطروا على صحفكم ويوحوا إليكم بما تعتقدون؟ ألم يخضعوا المسرح والخيالة لسلطانهم المالي، ويعرضوا عليكم ما يشاءون لا ما تريدون؟ ألم يغتصبوا ينابيع الثروة منكم، ويصيروكم فعلة مأجورين؟
إن آفات المجتمع - يا قوم - تجد المرعى خصباً ممرعاً، في ظل الديمقراطيات؛ حيث يتغنى الناس باسم الحرية فتوزع جهود الأمة، ويتفرق شيعاً، ويُشغَلون بالحزازات الحزبية عن السير في طريق الإصلاح والفلاح(300/32)
راعني، وأيم الحق، تلك الحرية العجيبة، وكيف أن عقول الناس في هذا البلد، تصغي إلى كل هذه المبادئ المتباينة ولا تتأثر بها، وكيف أن حلمهم يسع كل هذه الطعنات في أنظمتهم وعقائدهم وآرائهم. ولو كان هؤلاء الدعاة في أمة أخرى غير إنجلترا لزجوا في غيابات السجون، أو حزت ألسنتهم أو قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما ينفثونه بين الناس من سموم، وما يريدونه من شر بالحكم ونظامه والمجتمع واستقراره
تركت تلك الجلبة الصاخبة، وأخذت أجوب الحديقة، فشاهدت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت؛ رأيت الفضيلة تذبح في معبد الشهوات، والناس لا يتورعون عن الفاحشة تحت شمس الضحى، وقد عادوا أشبه بالضواري في أدغالها، لا قانون ولا نظام ولا حرمة ولا حياء. انتهكت الأعراض علانية، ووطئت المكارم طواعية؛ ولم يرتفع صوت يهيب بهم: أن رفقاً بمبادئ الإنسانية والشرائع الدينية، والمثل الخلقية
بل سمعت أدهى من ذلك وأمر، أعني حماية رجال الشرطة لكل من في الحديقة، والضرب على يد كل من يتصدى لهم واعظاً أو مبكتاً، وأن الحديقة حرم يأوي إليه كل من يريد أن يفرج عن نفسه أو يطفئ نار شهوته، أو يفوه بما يعد جريمة في مكان غير هذا؛ وأن الشعب هنا يسير على سجيته وفطرته، فلا يتقيد بعرف أو نظام، بل يتمتع بالحرية المطلقة
فقلت: رحماك ربي، إن هذه أعجوبة العصر. . .!
ثم سألت شرطيا: أيتاح لي أن أعتلي منبراً كهؤلاء الخطباء؟
- ولم لا؟ ما عليك إلا أن تستأجر منبراً وتقول ما شئت، وإن استجاد الناس حديثك استمعوا لك، وإن لم يلذ لهم انفضوا من حولك
تركته شاكراً متعجباً، وقد عقدت العزم على أن أدحض باطل هذا الدجال الصهيوني الذي يفتري على الحق، ويعلي كلمة الزور والبهتان، ويدعي وطناً ليس له بحق عربي مبين؛ وقلت لنفسي: ما دام للدهماء في هذه البلاد كلمة وسلطان فجدير بي أن أسمعهم صوت فلسطين العربية
ثم عدت وزمرة من لداتي أبناء العروبة، نتبارى في تبيان قضية العرب العادلة؛ وكانت ملحمة حامية الوطيس بيننا وبين الصهيونيين، سأرجئ وصفها إلى حديث آخر إن شاء الله
عمر الدسوقي(300/33)
وليم بتلر يايتس
الفنان الذي أوجد لأمة أدباً
1865 - 1939
للأستاذ عبد الكريم الناصري
في الثامن والعشرين من شهر فبراير، وفي روكبرون من كاب مارتن من أعمال فرنسا، فقدت أيرلندا وفقد معها العالَم عبقرياً من النسق الأعلى: وليم بتلر يايتس، زعيم حركة (الإحياء السلتي) وعميد الأدب الأيرلندي، وشاعر أيرلندا الأكبر، ومؤسس مسرحها الأول، وخالق نهضتها الأدبية والفنية، وعميد المذهب الرمزي في الأدب الإنجليزي الحديث. . .
كتب النقّادة (روبرت لِنْد) بعد وفاة يايتس يقول: (ما كان الفقيد فناناً عظيماً فحسبُ، وإنما كان إلى ذلك رسولاً عظيماً من رسل الفن؛ جعل حياته في سبيل خلق حركة أدبية ومسرحية أنزلت أمته أكرم المنازل بين الأمم)
ولعلّ أغلب الذين رأوه في صدر شبابه ورأوا ذلك الشعر الأسود الفاحم وتلك (الربطة) وتلك اليد الشاحبة، لم يكونوا ليروا فيه إلاّ أخا خيالات وأحلام لا قدرة له على عمل ولا صلاح فيه لتنظيم
بَيْدَ أن (يايتس) كان يشتمل على طاقة روحية وقوة حماسية لا حدَّ لهما، وكان في الوقت نفسه (عملياً) لا يقل عن غيره من أهل التنظيم والإنشاء، والمعنيّين بمسائل الجمعيات وإدارتها، حدّة ذهن وسرعة خاطر) - (وإذا كان (البعث الأيرلندي الأدبي) حدثاً من أشهر أحداث زماننا هذا فإنه إلى حماسة يايتس ودعايته ينبغي أن يُوّجه أكثر المدح والثناء)
- 2 -
ولد المستر (وليم بتلر يايتس) في (سانديماونت) من (دبلن) في 13 يونية سنة 1865، وكان أبوه مصوّراً معروفاً وكان جدّه لأمّه تاجراً قديراً. أُدخل وهو ابن تسع (مدرسة غودلِفنْ) بلندن، وحين بلغ الخامسة عشرة دخل (مدرسة إراسموس سميث). ثم دخل(300/35)
الجامعة وتخصّص في التصوير، ثم انصرف إلى الشعر. وكان في العشرين حين نشر في (مجلة جامعة دبلن) أولى قصائده وهي (جزيرة التماثيل)
ويايتس نفسه يصف انصرافه إلى الشعر بأنه أكثر من استجابة لدافع من الطموح الشخصّي (فما كان موضوع أحلامه يومئذ) كما يقول النقّادة فورست (بأقلّ من خلق أدب لأيرلندة كامل. ففي تلك الأحلام تستقُّر بذور (الحركة الأيرلندية) الحديثة؛ ومع أن فكرة إنشاء مسرح قوميّ كانت لا تزال بعيدة، فإنها هي أيضاً لم تك إلا تطوّراً لطموح غلام لا يتجاوز العشرين)
كيف استطاع ذلك الفتى الصوفي الحالم، الذي كان فيما روت أديبة ناقدة في كتاب لها عنه عنوانه: (ذكريات خمس سنين) يظلّ ساعات من النهار يقرأ الشعر، ويترنم به في زاوية من الدار وهو في شبه غيبوبة، ولا يتذكر الجوع أبداً إن لم يذكّر به؛ أو ينهضُ في الهزيع الأخير من الليل ليقضي ما تبقى منه في الغناء والإنشاء، والذي كانت الراوية المذكورة تسلمه الرسالة ليُلقيها، وهو المطيع أبداً في صندوق البريد، فيتناول الرسالة ويضعها في سلة عظيمة، ويحمل السلة إلى دار البريد، والرسالة المسكينة تعلو وتنخفض، وتقوم وتقعد هنالك! والذي اتفق له مرّة أن كان واقفاً وهي إلى جانبه على الرصيف في الليل، ينتظران عربة، والمطر ينهمر مدراراً، والطريق موحل، والماء إلى الركب، فتذكر قصيدة شلي الطويلة: (النَّبتة الحساسة). فاندفع يصب الشعر في أذنيها وقد مالت المظلة التي كانت بيده بحيث لا تقي أيَّاً منهما! والذي شاهده أحد أصدقائه الشعرّاء مرة يرسم صورة لغابة أمامه، في وهج الظهيرة، والشمس تذيب الصخور؛ فلما دنا من الصورة، وجد المشهد هو مشهد الغابة ولكن الألوان. . . هي أشعة القمر!
أقول كيف استطاع هذا الشاعر الصوفي الحالم الذي ما سقنا الأمثلة السابقة من حياة صباه إلاّ لنبّين أنه ذاتيٌّ منطو على نفسه، أن يتزعم الجمعيات الكبرى، ويترأس حركة قومية وأدبية فنية تعدُّ (من أشهر أحداث زماننا هذا؟ لست أدري؛ فذلك سر من أسرار العبقرية والوراثة
ولكن الذي أدريه أن حياته كانت سلسلة باهرة من الفتوح (يتضح مَداها) كما يقول المستر روبرت لند، (لكلّ من يقارن بين مركز الأدب الأيرلندي في اللسان الإنجليزي قبل أن يبدأ(300/36)
يايتس في الكتابة والنظم، وبين مركزه عند وفاته، لقد كانت أيرلندا قبل يايتس لا وجود لها على خريطة العالم الأدبية، ولكنها بقيادته أضحت مثوى للعبقرية. فليس لأديب من أدباء هذا العصر أن يفخر بعمل أجلّ من عمله وأبرز)
- 3 -
لقد التقت في (يتس) تأثيرات أيرلندية وإنجليزية وأوربية، فهو فنان رمزي، أو لعله شبه رمزي، يستمد الوحي والمادة من تقاليد أيرلندا القديمة، ومن أساطيرها البعيدة، ومن مشاهد أريافها وأرضها وسمائها، وقلما التفت إلى أهل البلاد أنفسهم، (ولكن أليست عبقرية البلاد ساكنيها؟) ويقوم شعره وخصوصاً في شبابه - وشعر شبابه قد يكون أروعَ من شعره فيما بعد، وأصدق عبارة عن طبيعة عبقريته - على صوفية رقيقة تذكر في غرابة أحلامها وشدة أسرها بصوفية (بلايك) وقد تميل إلى الرمزية وخصوصاً في مجموعته الموسومة (بالريح بين القصب) وقد ظهرت قبل بدء هذا القرن وبعد اتصال الشاعر (بملارميه) كما يقوم شعره على الألوان الغاسقة والأضواء الخافتة بوجه عام
ولفظه صقيلٌ نقيٌ بسيط. وهذه الصفة وإن غلبت على الشعر الرمزيّ والصوفيّ على العموم، لكنها في شعر يتس ترجع أيضاً إلى تأثره (بمدرسة ما قبل رفائيل). وهي مذهب في الشعر يتعلق بمذهب في التصوير تقدَّم عليه، وأساسه الرجوع بالأسلوب إلى أبسط الصور الممكنة مع العناية المبالغة بجماله وروعة إيقاعه، ثم قَصْرُه على التعبير عن معانٍ عاطفيّةٍ أو خياليّةٍ خالية من تعقيد الفكر والفلسفة. (فالفن) فوق كل اعتبار، والفنّ هو دينُ هذه المدرسة التي لا تدين بغيره. ومما يلاحظ ههنا أن أساطين هذه، ومنهم يتس، جمعوا بين فن التصوير وفن الشعر.
ولعلنا لا نغلو إذا نحن قررنا أن هذا الحس بجمال الشكل بلغ في يتس حدّاً هو إلى الإعجاز أدنى.
وليس فهم يايتس بالمطلب الهين الداني؛ ولكنك إن فهمت معنىً من تلك المعاني (الضبابية) القصية الحاملة لجو (اللاشعور) السحريّ الغاسق، ارتد جزءاً من أجزاء نفسك لا يتجزأ، وعنصراً من عناصر حياتك لا ينفكّ يعمل فيك عمله.
وليس يايتس بشاعر من (شعراء الطبيعة) - إن قصدنا بالطبيعة الطبيعة الخارجية - وإنما(300/37)
هو كما سبق القول وبينت الأمثلة صوفي ذاتي (وما العالم الذي نجده في شعره إلا عالم مرَّ في دنيا خياله فتلفع بالغسق المخيم هناك). وما الطبيعة عنده إلا بحزن للرموز والحالات النفسية. فصيحة الطير رمزٌ لحبٍ مفقود، أو لقب هام على وجهه في طلاب حُبّ. وعويل الريح رمز للأسى وشهادة بالألم، وجَريَان الماء مثلٌ لذويّ الحسرة ومضيّ الزمن:
(لقد سمعت الشيوخ الطاعنين يقولون:
كل شيء يحول،
ولسوف نقضي واحداً إثر واحد، ونمضي
. . . وكانت لهم أيد كالمخالب، وكانت سوقهم ملتوية كأشجار الحسك القديمة، القائمة بجانب الجدول
لقد سمعت الشيوخ الطاعنين يقولون:
كل جميل يمضي،
كما يمضي الجدول. . .
وخيال (يايتس) يبدو على الدوام كأنه خيالُ إنسانٍ (متعبٍ) وما هو على ذلك بمتعب، أو خيال إنسان يعيش في (التخوم) بين عالم الإنس وعالم الجن (على أني في الواقع لا أستطيع أن أعبر عن مقصدي بعبارةٍ أَبين)
خيال يايتس يتّجه إلى (حيث تخوّضُ النجاد الصّخرية في البحيرة، فهنالك جزيرة وريقة، فيها الأطيار ترفرف وتصدح، فتوقظ فيران الماء الناعسة. . .) وهنالك تخفي الجنيات سلالهن المليئة بالتوت، وبالكريز الأحمر المسروق. . . هنالك:
(حيث الرسالة المعتمة الشهب
تلتمع تحت نور القمر،
وبعيداً غاية البعد عن أرض (روسن)،
سرينا، نحن معشر الجنيات،
راجلات،
نرقص قديم الرقصات،
فتختلط منا الأيدي وتختلط النظرات(300/38)
حتى اختفى القمر. . .
فأنثينْا نثب هنا وهناك
ونطارد الفقاقيع الراغية،
بينما الدنيا مترعة بالآلام
والإنس قلقون حتى في المنام). .
(البقية في العدد القادم)
عبد الكريم الناصري(300/39)
العاقل
للشاعر الألماني باول ارنست
للأستاذ بديع شريف
الأشخاص: (سقراط، ألسيبياد ,
المكان: (شارع في أثينا أمام بيت سقراط، السوق في المساء)
(الاثنان يبتعدان من بيت سقراط، بينما اكسانتيب تشتمهما من النافذة، ويذهبان إلى سوق المساء)
ألسيبياد - حدثتني نفسي كثيراً بأن أسألك يا سقراط عن عيشتك مع المرأة التي تزوجتها لأني أعلم أنك رجل ذكي الفؤاد، وأنك ما أقدمت على الزواج في صغرك إلا لأمر، ولا اخترت هذه المرأة إلا بعد تفكير
سقراط - إنك على حق يا ألسيبياد! فإني ما تزوجت إلا بعد أن علمت أن الآلهة ألقت في نفسي شيئاً وأني أريد أن أقوم به على أتمه، ولكني وجدت نفسي محتاجة إلى زوج أسكن إليها، فإننا معشر الرجال لا نستغني عن المرأة، ولكني ما فكرت قط في مالها وجمالها وحسبها، بل فكرت دائماً أن تكون لي زوج هادئة قنوع مرحة أستطيع أن أسكن إليها وأفكر في جنيها
ألسيبياد - أتقول إن كسانتيب كائن هادئ مرح، قنوع؟
سقراط - أتعتقد أن سقراط تزوج كسانتيب ولم تتزوج كسانتيب سقراط؟!
ألسيبياد - نعم، إن كسانتيب أيضاً تزوجت سقراط
سقراط - وماذا تظن في كسانتيب، هل فكرت في شيء حين تزوجتني؟
ألسيبياد (ضاحكا) - ظنت أنها تزوجت رجلاً مجتهداً عاملاً يكسب الدرهم، لتعيش هي مع أولادها على حسب منزلتها في المجتمع
سقراط - يظهر لي أن قولك الحق، ولكن يا ألسبياد! ماذا عساها تقول عني اليوم؟
ألسيبياد - إنها ملأت الشارع سباً، وعرفت جميع المارين أنك رجل باهلٌ وأنك تقضي طوال النهار تهذي مع الشباب بدلاً من أن يكون لك محل تعمل فيه.(300/40)
سقراط - أتظن أنها على حق؟
ألسيبياد - ليس لها حق! ولكن لها أن تقول: إنني امرأة فقيرة، أريد رجلاً غير هذا. أريد زوجاً يكتسب، لا زوجاً يتفلسف
سقراط - ربما تريد قصاباً، أو خبازاً
ألسيبياد - نعم! تريد مثل هذين، فتكون له زوجاً مدبرة نظيفة مجتهدة مقتصدة يخشى بأسها الخدم
سقراط - ألست على الحق حين أقول: إنها امرأة أثرة، معتدة بنفسها، غضوب، سيئة غبية، حمقاء؟
ألسيبياد - لا! لست على حق، لكن لك أن تقول: إنني رجل تأمل فرأى نفسه محتاجة إلى زوج هادئة، مرحة قنوع، يستطيع أن يفكر في جنبها.
سقراط - لقد وصلنا إلى السوق، وهاهي ذي امرأة الفلاح جالسة، تلك التي ضحكنا منها كثيراً عندما كانت تحدثنا عن دجاجها وتثني على بيضها. أتعرف ماذا كانت تقص علينا؟ كانت تقول: عندي عشرون دجاجة وديك واحد، في كل يوم يبيضن عشرين بيضة، آتي بها إلى سوق أثينا فأبيعها، وإن دجاجي لا مثيل لها في القرية، وقد يكون في البيضة محان، لذل لا ينثني عن من اشترى مني أول مرة. ولا أكذبكم فقد تكون بيضة في هذا البيض ذات محين. إنني محسودة من جميع الجيران، ومن له مثل هذا الدجاج لا يعدم الحساد. إن لي مشترين كراماً يعرفون أن دجاجي من الطراز الأول. وكيف أقتني الرديء وقد ورثت تربية الدجاج أباً عن جد؟ أتدري يا ألسيبياد ماذا أوحت هذه المرأة إلى (أرسطوفان) فطفق يتحدث عن دجاجها؟ لقد أطرق أرسطوفان مليا ثم وضع إصبعه على أنفه وقال: دعونا نذهب إلى دار هذه المرأة ونسأل دجاجها ثم نرى ماذا تقول؟ إني لا أشك في أنها ستقول: إننا بين يدي امرأة صالحة تنثر لنا الحب الملتوت بكثير من المشهيات في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء بنظام لا يتغير. على أننا لا ننسى ذلك الصوت الحنون الذي نسمعه عند كل وجبة، وإذا قدمت لنا الماء قدمته عذباً صافياً، وفي كل عام تطلي قننا بالكأس مرة أو مرتين، وبالإيجاز إننا راضيات عن هذه المرأة ولا نريد امرأة كسلي لا نظام عندها لأننا ما تعودنا الإهمال وعدم النظام. هكذا كان ينشد أرسطوفان في شعره فكلكم ضحك عليه(300/41)
وسخر منه، لأنه استطاع أن يعبر عن نفسية الدجاج لكن ماذا ترى؟ إني أرى بين يديها دجاجاً مذبوحاً!
الفلاحة: أتريدون مرق دجاج سمين؟ هلما! إنه دجاج حديث الذبح. المساه، إنه سمين. انظرا هذه القطعة الصفراء، إن أجوافهن مبطنة بالشحم، كل دجاجة تزن أكثر من ثلاثة أرطال
سقراط (إلى المرأة): يسرني أن أعرف شيئاً عن تربية الدجاج أيتها الفلاحة! فهل تستطيعين أن تعلميني: أيهما أنفع لك، ذبح الدجاج وبيعه في السوق ليطبخ ويؤكل أو تعنين به كل يوم فينتج لك البيض وتبيعينه في السوق؟
المرأة - وا حسرتاه! إن هذا الدجاج الخائن كاد يقضي عليًّ من الحقد والحزن عليه؛ فإن واحدة منهن باضت بيضة لم يتكامل قشرها، فأكلنها حالاً فاستذوقنها، وجعلن ينقرن البيض كلما بضن ثم يأكلنه، فما حصلت بعد هذا على واحدة. لهذا ذبحتهن. المساهن. إنهن سمينات. لقد كان لهن بيض نقي يندر وجوده في القرية. ويلهن! إنهن خائنات
سقراط - شكراً أيتها المرأة الصالحة، إني لا أريد شراء
الفلاحة - كل واحدة بدرهمين، منتوفة، منظفة. انظرا، هاهما تان الرئتان، هاهي ذه القانصة، هاهو ذي الكبد، والقلب، كلها موضوعة في الجوف، إن امرأتيكما تستطيعان أن تضعاها في القدر حالاً
ألسيبياد (إلى سقراط) - يجب أن نذهب بسرعة
الفلاحة - أما رأيتما غير هذه المرأة المسكينة موضوعا للهذر والتسلية أيها النكدان! إن رجلاً مثلك كسلان، لا يمتلك حذاء يستطيع أن يأكل دجاجاً؟ (المرأة تستمر في السب بحيث لا يتميز كلامها وهما يسرعان الخطا)
سقراط - ماذا تعتقد يا ألسيبياد في الدجاج؟ لو استطاع أن يتكلم حين ذبحته المرأة فماذا يقول؟؟
ألسيبياد (واضعا إصبعه على أنفه) - إنه يقول إن هذه المرأة لخائنة لقد ذبحتنا، إنها سفاكة، لقد كان علينا أن نعرف نياتها من قبل!
سقراط - ماذا تظن يا ألسيبياد؟ هل تغير الدجاج، فكان قبلاً صالحاً ثم صار خائناً؟ وهل(300/42)
تغيرت المرأة حيث كانت ودوداً ثم عادت خائنة سفاكة؟؟
ألسيبياد (ضاحكا) - إن الدجاج هو الدجاج، وإن المرأة هي هي. لكن كلٌ في هذه الحياة يعتقد إنه هو الموجود الأهم. وليس هذا فحسب، بل على الغير أن يشاركه في هذا الاعتقاد. على أن هذا الغير يعتقد كما يعتقد الاول؛ لذلك كان الدجاج صالحاً عند المرأة؛ لأنه كان يقدم لها البيض، فلما احتفظ الدجاج ببيضه لنفسه أصبح خائناً. وكانت المرأة صالحة عندما كانت تقدم للدجاج الطعام، فلما ذبحته عادت سفاكة خائنة
سقراط - وحق الكلب! إن الأمر يجري هنا كما يجري هناك، أي كما يجري بيني وبين زوجي كسانتيب
ألسيبياد - إسمع يا سقراط - إنك تعرف أنني وقفت حياتي في خدمة الدولة وعالجت شئونها، ألا يحتمل أن تنشأ العداوة والبغضاء بين الناس كما نشأت بين الدجاج والمرأة؟؟
سقراط - يظهر لي أن هذه الفكرة لم تكن خطأ
ألسبياد - وأيضاً ليس كالعداوة بين المرأة والدجاج فحسب بل مثلما بين سقراط واكسانتيب؟
سقراط - ربما يكون الأمر كذلك
ألسبياد - لكن أيترك الرجل العاقل الناس يشتمون ثم يعمل هو ما هو الواجب
سقراط - هذا ما أعتقد.
بديع شريف(300/43)
على هامش الفلسفة
طريقة الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
قلنا في الكلمة الأخيرة: ما هي الطريقة التي تتبع لمعرفة الخير من الشر، ولتحديد المثل الأعلى الأخلاقي تحديداً صالحاً مرضياً من الجميع؟ تساءلنا كذلك بعد أن أثبتنا أن الأخلاق علم من العلوم فيجب أن نسير في دراسته على الطرائق العلمية التي تصل بنا إلى الغرض في غير عوج ولا التواء
على أن الفصل في هذا ليس سهلاً ميسوراً؛ فهي مسألة ولا أبا حسن لها! مسألة اشتجر فيها الخلاف بين المفكرين والفلاسفة، بل لعل الخلاف لا يزال قائماً فيها حتى اليوم. يرى البعض أخذ الأخلاق من الدين - فهو المعين الذين ينقع الغلة ولا يكذب قاصده - أو مما وراء الطبيعة أو من علم الاجتماع؛ ويرى آخرون أنه من الخير أن نتعرف المبادئ الخلقية بأداة المعرفة المباشرة أي بالحماسة الخلقية التي تدرك الخير والشر من نفسها بدون نظر واستدلال: (استفْت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)؛ بينما يذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الواجب أن يطبق في الدراسات الأخلاقية الطريقة التجريبية الاستقرائية
الأخلاق الإستنتاجية
من الممكن كما يرى فريق من الباحثين أن نستنتج الأخلاق إما من الدين أو مما وراء الطبيعة أو من العلم الذي تنتمي إليه العلوم وهو علم الاجتماع
بالبحث نعرف أن الأخلاق، أو المبادئ الخلقية العامة، في كل الأديان التاريخية مستقاة من الإلهيات. نرى رجال الدين يقررون أولاً المسائل الخاصة بالله وصفاته وكمالاته، وبالحياة الأخرى ونعيمها وعقابها، ثم يربطون بذلك نتائج خلقية مردها للكتب المقدسة. يقررون أن الله لم يخلقنا عبثاً: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) وأنه لابد محاسب كلا على ما جنت يداه: (لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وأنه لابد من دار أخرى يكون فيها ذلك الحساب على ما أسلف المرء من خير أو شر: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيدا). كما يقررون أن(300/44)
الجنة التي عرضها السموات والأرض (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس) وأن النار عقبى الظالمين. ويستنتجون من هذه الحقائق الدينية وأمثالها أن المرء يجب أن يكون خيّراً في كل أعماله، وأن ينأى دائماً عن الشر وبذلك يصل للكمال الأخلاقي. والخير والشر هنا ما جاءت به الكتب السماوية
استنتاج منطقي حسن من الناحية العملية؛ إلا إنه ليس له القيمة التي تؤتى ثمرها الخلقي إلا لدى المؤمنين بالله والدار الأخرى والثواب والعقاب وبهذا أو ذاك من الكتب المقدسة. فكيف العمل بمن لا يؤمن بإله أو رسول، أو بمن يؤمن بالإنجيل دون التوراة، أو بالعكس، أو بهذين دون القرآن الكريم؟ إذن ليس من الممكن بهذا الطريق أن نصل لتحديد قانون أخلاقي يرضاه الناس جميعاً على ما بينهم من خلف في الأديان والمعتقدات (فضلاً عن هذا فالرباط الذي يكون بين هذه العقائد الدينية والأفكار والآراء والمبادئ الخلقية التي يربطونها بها يكون غالباً واهياً متداعياً، فلا يكون الاستنتاج قوياً له قيمته وخطره)
وهاهو ذا العلامة (جوستاف بيلو يقول عن هذه المسألة (من الناحية المسيحية طبعاً): (ليفتح من يشاء أي كتاب من كتب العقائد الدينية: وحينئذ ماذا يجد. يجد أن الجانب الأكبر منه مشحون بالنظريات الخاصة بالله وقدرته وصفاته وأن الأخلاق تجيء في المركز الثانوي منه، وأنه من الواجب أن نكره الطفل على أن يفهم ويقبل نظاماً من الاعتقادات الدينية دون أن نعني بالتساؤل عما إذا كان في مقدوره فهمها! إن رجال الدين يجأرون بالشكوى من تزعزع الأخلاق وتدهورها من يوم لآخر لأن الإيمان يتزلزل من آونة لأخرى. لو أن هذا كان صحيحاً فعلى من تقع التبعة والمسؤولية؟ أليس على هؤلاء الذين يعملون دائماً على تفهيم الأطفال أن الأخلاق تتعلق دائماً بالدين والعقائد الدينية؟ مع أنه ليس في مقدورهم حماية هذه الاعتقادات من حملات الشك ومعاركه التي تنشب من حين لآخر. إنه مما يتفق مع حقائق الأشياء كما يتفق مع الحقائق العملية أن يرد للأخلاق استقلالها)
ينقد هذان الأستاذان الباحثين في الأخلاق من المسيحيين، وقد أصابا في كثير مما نقداه. إن الديانة المسيحية أعلنت في مبدأ أمدها الحرب الضروس على الفلسفة الإغريقية معلنة أن الأخلاق ليس لها أن ترجع في معينها للعقل والنظر، ولا أن تُترك للفلاسفة الذين هم بشر(300/45)
يخطئون ويصيبون؛ وإنما الدين وحده هو الحري بنشر التعاليم الصحيحة والأخلاق الفاضلة التي يوحي بها العليم الحكيم؛ ومن ثم أصبحت الأخلاق لا ترتكز على النظر المنطقي السليم، بل على الوحي المسيحي وحده، وصار أجل الفضائل في نظر المسيحية هو حب الله والإيمان به اللذان يوصلان إلى الخير الأسمى والسعادة الكاملة في الدار الأخرى بدل أن كان أرقى الفضائل وأسماها هي الحكمة في رأي الفلسفة اليونانية
أما الإسلام فلم يبخس العقل حقه ولم يحجر عليه في التفكير. أمرنا أن نعمل عقولنا فيما خلقت له، وأن نفكر في خلق السموات والأرض: (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. إن في ذلك لآيات لأولى الألباب). كذلك لم يلجأ الإسلام في تحديد قيم الأعمال الأخلاقية، وبيان خيرها من شرها إلى ما فيها من منافع وملاذ في العاجل أو في الآجل كما يتوهم واهم إذا قرأ وصف الجنة، والترغيب فيها، والنار والترهيب منها؛ بل هو يخاطب كلاّ حسب ما يسعه فهمه تمشياً مع الغرائز الإنسانية. حتى إذا فعل المرء خير رجاء الصواب مرات عديدة أصبح له عادة، ويتشربه قلبه ويفهم ما فيه من جمال وسمو ذاتيين، فينتهي به الأمر إلى أن يفعله لذاته وحده. وهذا عين ما أراده الرسول إذ قال: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه). أي أن المثل الخلقي الكامل هو ما وصل إليه صهيب وأمثاله من فعل الخير، وترك الشر لذاتهما لا رغباً ولا رهباً.
على أننا نجد في تاريخ التفكير الإسلامي أن فريقاً كبيراً من المسلمين وهم المعتزلة يقررون أن الأعمال توصف بالحسن والقبح لذاتها لا لأن الشرع أمر بها أو نهى عنها، فيكون الشرع مبينا لصفاتها لا مثبتا لما ليس فيها. ويدللون لذلك باتفاق الناس على كثير من الفضائل والرذائل قبل مجيء الشرائع السماوية، إلى غير ذلك من الأدلة التي ليس هذا موضعها وليس هذا رأي المعتزلة وحدهم بل كان رأي غيرهم من مفكري المسلمين وحكمائهم أمثال الفارابي الذي يؤكد أن العقل يستطيع أن يحكم على العمل بأنه خير أو شر بنفسه بدون رجوع للوحي؛ لأن العقل عنده ليس إلا قبسا من النور الإلهي. وابن طفيل في رسالة (حي ابن يقظان) يجعل العقل قادراً على إدراك الحقائق كلها (ومنها طبعاً الخير والشر) وعلى العروج في المعارف العُلى حتى يصل للحقيقة المطلقة، لمعرفة الله تعالى.(300/46)
وابن رشد فيلسوف الأندلس بل الإسلام يقرر أن العمل يكون خيراً أو شراً لمعان يكشفها العقل، وليس ذلك لأن الله أمر أو نهي
والخلاف في هذه المسألة يذكرنا بالخلاف بين الفلاسفة المحدثين فيما سمَّوه (نظرية القيم). فإنا نراهم مختلفين في أن القيم التي تقدر بها الأشياء من جمال وقبح وخير وشر وحق وباطل صفات عينية في الأشياء؛ كالألوان والطعوم والروائح، وبذلك يكون لها وجود مستقل عن العقل الذي وظيفته حينئذ إدراكها لا إثباتها؟ أم هي من صنع العقل (يصف بها بعض الناس الأشياء إذا كانت لها في نظرهم قيمة، ولهم فيها غرض أو غاية، ولا توجد إلا حيث توجد هذه الغاية). ذهبت طائفة إلى الرأي الأول، وأخرى إلى الرأي الثاني. ولكل وجهة هو موليها.
وأخيراً؛ إذا كان أخذ الأخلاق من الدين وربطها به منقوداً من بعض نواحيه كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار علماء ما وراء الطبيعة. وموعدنا ببسط آرائهم الكلمة الآتية إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى(300/47)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
للأستاذ محمود الخفيف
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
ظل عرابي في مرحلته الأولى في الجندية ساخطاً على الأتراك في الجيش والجركس لا يفتر سخطه ولا ينقطع عليهم شغبه، يكيدون له ويكيد لهم. وإنا لنلمس في هذا سبباً قويّاً من أسباب زعامته للحركة العسكرية فيما بعد، فلسوف يلتقي في دار هذا المتبرم الساخط رؤوس الساخطين الحانقين من رجال الجندية يوم يزمعون أن يشتكوا إلى الحكومة في أوائل عهد توفيق مما يلحق بهم من سياسة وزير الجهادية الجركسي عثمان رفقي
ويشير عرابي في مذكراته إلى حسن صلته بسعيد باشا حتى لقد أهدى إليه هذا الوالي كما يذكر تاريخ نابليون؛ ولقد قرأ عرابي هذا التاريخ، ولست أستطيع أن أتبين على وجه التحقيق ما تركه مثل هذا الموضوع من أثر في نفسه، فلم يعلق هو على ذلك إلا بقوله: (ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سبباً لمطالعتي كثيراً من التواريخ العربية). ولست أدري كيف توحي قراءة تاريخ نابليون بحاجة مصر إلى حكومة شورية دستورية؟ على أن قراءة سيرة هذا الجندي المغامر الفذ الذي وصل بجده إلى قمة المجد الحربي وبلغ أوج الشهرة والجاه توحي إلى كل من يقرؤها معاني الإقدام والبطولة، وتملأ النفوس تطلعاً وحماسة. وعلى هذا فلا يصعب أن نتصور ما عسى أن تلقيه تلك السيرة من المعاني في نفس كنفس عرابي الجندي المتطلع المتوثب
ويشير عرابي في كتابه إلى أن سعيداً كان يميل إلى المصريين في الجيش والى رفع ما يلحق بهم من غبن أمام الجركس، كما يشير إلى إنه كانت لسعيد نزعة وطنية تجلت في خطبة أثبتها عرابي في كتابه وكان قد سمعها في الحفلة التي ألقيت فيها، يقول عرابي: (فلما انتهت الخطبة خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حانقين مدهوشين مما سمعوا؛ وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلل فرحاً واستبشاراً. وأما أنا فاعتبرت هذه(300/48)
الخطبة أول حجر في أساس نظام مصر للمصريين. وعلى هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضع أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة)
ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سنت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على إنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبر
ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون حتى المغرضون منهم لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسبه من أن عرابياً قد اتجه منذ نشأته اتجاهاً قومياً وطنياً، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية. ففي هذه النزعة القومية نرى عرابياً الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرخين فما أبعده عن هذا. وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلوا حركة عرابي أقبح استغلال، إلا أن يصوروه أقبح صورة؟ فلا يكون عندهم إلا جندياً جاهلاً مغروراً واتته الظروف فراح يخيط في حماقته لا يلوي على شيء وما زال في جنونه يلوح بسيفه حتى اضطر آخر الأمر أن يسلمه صاغراً إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي!
ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية وهي لا تخلو من الصفة الوطنية بالحركة الوطنية العامة؛ ثم لقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تحاك الدسائس وتوقد نار الفتنة تنفيذاً لسياسة مرسومة سوف نميط عنها بكل ما وسعنا من حجة. . .
هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة، هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا. ولقد كانت هذه النزعة كما ذكرت تجيش بها نفسه منذ شب. كتب في ذلك مستر بلنت وكان من أصدقاء عرابي يقول في علاقة عرابي بسعيد: (وقد حظي عرابي الذي كان وسيما ووجيهاً برضائه حتى سمى أركان حرب له ورافق سعيداً إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته. وعندي أن عرابي كون آراءه السياسية الأولى أثناء حديثه مع سيده في هذه السفرة التي كانا فيها متلازمين،(300/49)
وتنحصر هذه الآراء في المساواة بين الطبقات، وفي الاحترام الواجب للفلاح باعتباره العنصر الأساسي المجد في الجيش المصري؛ وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي ميز عرابيا عن مصلحي ذلك العصر. وغني عن البيان أن حركة الإصلاح الأزهرية كانت تشمل المسلمين ولا تميز بين الأجناس؛ أما حركة عرابي فكانت قومية ولذلك كانت الوطنية فيها أظهر، وإقبال الناس عليها أقوى وأكثر)
وفي عهد إسماعيل يزداد نفور عرابي من الجركس وتزداد ميوله الوطنية وضوحاً باتصاله بالحركة الوطنية التي أخذت تدب في جسد الأمة المنحل الذي أثقلته سياسة إسماعيل وديون إسماعيل
وكذلك تزداد في هذا العصر نزعة تمرده وسخطه وتتجلى في كثير من مواقفه، ومن أهم تلك المواقف ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له حتى رفت من الجندية، وكان خسرو هذا جركسياً ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهماً إياه بأنه: (صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية). وأما سبب الخلاف بينه وبين خسرو فيذكر عرابي إنه كان في لجنة لامتحان الضباط وكان على رأسها خسرو، فأراد أن يتحيز إلى أحد الجراكسة فيعطيه ما لا يستحق ولم يرض عرابي على رغم إلحاحه عليه أن يشايعه في ذلك فعول على الانتقام منه
والذي يعنينا من هذه الرواية أنها تصور لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف، كذلك يكشف لنا ما علق به عليها عرابي عن ناحية من عقليته، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من المصائب معدداً أسماءهم مبيناً ما لحق بكل منهم مورداً ذلك على إنه انتقام له من الله. . . وفي هذا نوع من السذاجة لاشك كما أن فيه دليلاً على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه
على أن هذه الناحية الدينية في حياته قد استغلها ضده خصومه كذلك محاولين أن يسوقوها دليلاً على إنه كان رجلاً لا يفترق كثيراً عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، دون أن يشعروا أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم هم، أو على الأقل أنهم إذا كانوا يدركون خطأ هذا التعميم ثم يتمسكون به فإنما ينالون من أنفسهم لا من نفسه(300/50)
كان للدين سلطانه على عقل عرابي ما في ذلك شك، ولكن تلك كانت نزعة العصر. على أننا نسأل ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يساق هذا على إنه من مساوئه وحقيق به أن يكون من حسناته؟ وهل عاب أحد على كرمويل وهو جندي مثله تزمته وتقشفه وصرامته في دينه؟ وهب إنه كان يغلو أحياناً فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصب بالسياسة فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على إنه اتخذ يوماً من الدين سلاحاً في غير محله؟ أو على إنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مبعداً عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو فعاد، ولكنه طلب أن يحال على الأعمال المدنية كمكافحة الفيضان والإشراف على بناء الجسور من ناحية نقل ما يلزم من الأدوات؛ وإنه ليذكر إنه بذل في تلك الأعمال جهداً كبيراً، ولكنه رأى غيره يكافأ مكافآت مالية أما هو فكان جزاؤه كما يقول: (وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيا لله ما أمر وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة)
على أن مستر بلنت يذكر أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سبباً من أسباب نقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمرين
وأعيد عرابي بعد ذلك إلى الجندية وألحق بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب فقد كان يعمل في منصب مأمور مهمات بمصوع. ولقد عظم حنق عرابي على تلك الحملة فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل بالجيش فيها من كوارث في غير موجب. جاء في كتاب مستر بلنت: (وقد عاد منها كسائر زملائه ساخطاً على ما حدث فيها من سوء التصرف، وإلى هذا يرجع تفرغه الآن للسياسة، وتعاظم غيظه الذي كان موجهاً بعد ذلك نحو الخديو)
وفي فبراير عام 1878 وقعت مظاهرة الضباط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها(300/51)
بوادر الثورة العسكرية. يتلخص الحادث في أن عدداً من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم، قد توجهوا إلى وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فلما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما وأشبعوا نوبار لطماً ولكماً وراحوا يجرونه من شاربيه، وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية؛ وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو بنفسه في فرقة من حرسه حينما نمى إليه خبره، وأمر الخديو بإطلاق النار إرهاباً فأطلقت رصاصات في الهواء وفر المتظاهرون
ولكن تهمة القيام بهذه المظاهرة أو تدبيرها قد وجهت إلى عرابي وأثنين آخرين من الضباط، وعقد لهم مجلس يحاكمهم وأصدر المجلس حكمه بتوبيخهم وفصل كل منهم عن ألايه إلى جهة بعيدة وكانت الإسكندرية نصيب عرابي، وفيها اتصل بكثير من الأوربيين
ويدفع عرابي التهمة عن نفسه مقررا أنه لا يد له فيها مطلقاً إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث، ذكر ذلك في مذكراته وذكره كذلك في التاريخ الذي كتبه لمستر بلنت بناء على طلبه عام 1903 بعد عودته من منفاه. ولقد أطلع مستر بلنت الشيخ محمد عبده على ما كتب عرابي، فوافق على براءته من هذا الحادث
ولقد أدى اتهام عرابي على هذا النحو إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل. ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع التي توجهه إلى الاتصال بالوطنيين بغية معاونتهم والاستعانة بهم على تنفيذ ما كانوا يأملونه من وجوه الإصلاح. ذكر عرابي فيما كتبه لمستر بلنت: (ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا (يشير إلى الضابطين اللذين اتهما معه) فاقترحت عليهما أن نكون عصبة لخلع إسماعيل. ولو فعلنا لحللنا المسألة من وقتها لأن القناصل كانوا يرغبون في التخلص منه بأية طريقة. . . ولكن لم يكن قد ظهر بعد من يقود هذه الحركة فوافق الموجودون على رأيي ولكنا لم نقدر على تنفيذه)
(يتبع)
الخفيف(300/52)
نقل الأديب
للأستاذ النشاشيبي
361 - لا أعرف منهم شخصاً ولا يعرفوني
طلع الدين مستغيثاً إلى الله وقال: العباد قد ظلموني! يتسمون بي وحقك لا أعرف منهم شخصاً ولا يعرفوني
362 - . . . حتى نروي أشعار المجانين
في (الأغاني) قال ابن دأب: قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئاً؟
قال: أوقد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين؟! إنهم لكثير
فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق
فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رؤوسها. فأما نزار فلا
363 - ثلاث كلمات بألف دينار
في (سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون): كان رجل على عهد كسرى أتوشران يقول: من يشتري ثلاث كلمات بألف دينار؟ فتطير منه الناس إلى أن وصل إلى كسرى فأحضره وسأله عنها فقال: (ليس في الناس كلهم خير)
فقال كسرى: هذا صحيح، ثم ماذا؟
فقال: (ولابد منهم)
قال: صدقت، ثم ماذا؟
قال: (فألبسهم على قدر ذلك)
قال كسرى: قد استوجبت المال فخذه قال: لا حاجة لي به وإنما أردت أن أدري من يشتري الحكمة بالمال.
364 - أليس نكون شهداء الطرب
(مسالك الأبصار) للعمري: قال محمد بن المؤمل: كنت مع أبي العتاهية في سميريته ونحن(300/53)
سائرون إلى أشموني. فسمع غناء من بعض تلك النواحي، فاستحسنه وطرب له، وقال لي: أتحسن أن ترقص؟ فقلت: نعم. فقال: فقم بنا نرقص. فقلت: في سميرية؟ أخاف أن نغرق
فقال: إن غرقنا أليس نكون شهداء الطرب؟؟
365 - لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
في (تجارب الأمم) لابن مسكويه (أحمد بن محمد):
أفرد في دار عضد الدولة (في بغداد) لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه، وهو الحجرة التي يختص بها الحجاب. فكانوا يجتمعون للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم، وكرامات تتصل بهم
366 - سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يختار
في (طبقات الشافعية): من ظريف ما يحكى عن القاضي عبد الجبار (المعتزلي) أن الأستاذ أبا إسحاق الشيرازي (الشافعي) نزل به ضيفاً. فقال (القاضي مداعباً): سبحان من لا يريد المكروه من الفجار
فقال الأستاذ: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يختار. وهو جواب حاضر.
367 - أقدر على تركه
في (الغرر والدرر) لأبي القاسم علي بن الطاهر المرتضى: حكى أبو القاسم البلخي: أن عبد الله بن الحسن قال لابنه محمد. كل خصالك محمودة إلا قولك بالقدر
قال: يا أبت فهو شيء اقدر على تركه. فورد الكلام على رجل عاقل فقال: لا عاتبتك عليه أبداً
قال أبو القاسم البلخي: يقول إن كنت اقدر على تركه فهو قولي، وإن كنت لا أقدر عليه فلم تعاتبني على شيء لا اقدر عليه؟
368 - فشرده بقرص دريهمات
إذا استثقلت أو أبغضت خلقا ... وسرك بعدُه حتى التنادي
فشرّدْه بقرض دريهمات ... فإن القرض داعية الفساد
369 - دعوه فإني أعرف عذره. . .(300/54)
في (المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء): يروى أن النضر بن شُمَيْل صاحب الخليل حضر مع جماعة من الأدباء فغنّتهم قينة:
وقالوا لها: هذا محبك معرض ... فقالت: أرى إعراضه أيسر الخطْبِ
وما هي إلا نظرة بتبسم ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب
وأحسنت، فطرب الجماعة إلا النضر. فألحوا عليه بالعذل، فقالت القينة: دعوه فإني أعرف عذره. إنما سببه كون إنشادي: (هذا محبك معرض) ولم أقل: (معرضاً) ألم يعلم أن عبد الله ابن مسعود قرأ. (وهذا بَعْلي شيخ) فلما سمع النضر ذلك قام وأظهر الطرب
370 - من أجل أنك فارس
أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: مالي رأيتك راجلاً؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس!(300/55)
وحي الشاعرية
تمرُّد الخيال
للأستاذ حسن القاياتي
أبت الهناءة أن تغازلها المَنى ... شَبَهَ الفرادس ما أعزَّ وأَحسنا
لي من زماني أن أروع مجَادةً ... وعليَّ أن أصِلَ الشكاة وأُفْتَنَا
لِمَنَ الهناَءة في غِنىً ومحبةٍ ... كَلاّ فكم تصِم المحبةُ والغنى؟
ما للفتاة ازَّينت فهفا بها ... لُبُّ الفتى ثم انثنى فازّيَّنَا؟
صَلَفُ الملاحة أنها معبودة ... تَصِفُ المهانةَ كلما بُذِلَتْ لنا
قسماً لو أن الحسن أُرسل كله ... طَلْقاً لما فتح القُلوب وأوْهنَا
كم فاتِكٍ حرس الجمالَ مخافةً ... أن يستثير من الحنان الأْعينا
إن الذي خلق الصبَّاحة زينةً ... قالوا تَغَضّبَ أن تلوح فَتُفْتَنَا!
وَرْدٌ يَرفُّ نضارةً ما بَاُلهُ ... لا يجُتلَى إذ كلُّ وردٍ يجُتَنَى؟
لولا مخادعةُ الغرائز لم تَرُمْ ... متمنِّعاً بالحسن إلاّ أَمْكَنَا
أوَّاه واكبدي أكلُّ مُحَّبب ... إذ كان مُقْتَرَحَ العيون تَحَصَّنَا؟
فَتن الجمالُ على الحجاب وقَلّمَا ... كان السفور أرقَّ منه وَأَفْتَنَا
الحسن يَخْتَبِلُ النفوس لأنها ... وَصَمت حُلاَه بأن تُذال وتُسْجَنَا
زعم الحجا أن اللثام غضاضةُ ... فاليوم إذ سفر الأوانسُ بَرْهَنَا
ليت الذي صنع السلاسل حليةً ... للغيد أطلق سربهنَّ وغَلّنَا
للغيد أنفسنا فليت عُيونها ... تُوْدي بنا شغفاً إذا لم تُحْينا
(إحسان) ما أقسى هواك فليته ... في لين عطفك ما أرقَّ وألينا
أخلو فيعصمني الحياءُ فمن رأى ... كيف انْثَنَيْتُ وفاتني كيف انَثنى؟
كَذبُ المنى وكرامة تَشْفَى بها ... دون الهوان وعزةٍ تَشقَي بِنَا
ماذا لقيتُ وما أرَبْتُُ وشدَّ ما ... خطب السموَّ فتىً أَراب فَأَعْلَنَا؟
ذو اللُّبِّ تحزنه مشاهدُ جَمَّةٌ ... والُّلبُّ يعصم ربَّه أن يّحْزَنَا
أَدِرِ الحديث عن البيان لعله ... يجني لنا ثمرَ المنَى ولعلَّنَا(300/56)
ما قيمةُ الأدب السَّرِيِّ وما جنَى ... منه البديع سوى أَجَادَ وَأحْسَنَا
سَل أفصح الشّادين أيَّةُ غِبطةٍ ... حَلَّت ببيت صاغ أو بيتٍ بَنَى؟
يُزْجُون من رُتب البيان لمحسن ... يَشْآهُ مُقْتَبَلٌ يَبُذُّ المحسنا؟
ليس البديع من العلاء ولم يكن=للأوْج أن يُهدي لكوكبه السَّنَا
كم فاتن تحت الخمول كما شدا=غرِّيدُ ليل ما أرقَّ وَأَفْتَنَا
تَرِفُ الشمائل كَمْ يُتَاُح لجفوةٍ ... كالماءِ ينبت في مسالكه القَنَا
يا موحياً سور الإشادة رقيةً ... أنا شاعرٌ صفتي ولكن مَن أنا؟
ملك الفصيح العذب ليتك آخذي ... بوثيقةٍ عبدَ البيان الألْكَنَا
مَن عَزَّهُ وَزْنُ الرِّجال فَقَصْرُهُ ... أَلا يصوغ الحمدَ حتى يُوْزَنَا
الرَّأْيُ أشيعه الأفِينُ إذا مشت ... في الشعب خاطئةٌ أَصَاخَ فَأَمَّنَا
شهد الحجا أن الجماعة ضَلّةٌ ... حتى إذا قضت الجماعةُ أَيْقَنَا
أَوَّاه من جَنَفِ العشير فإِنه ... غَلَّ النُّهَا عنَتاً وفَلَّ الألْسُنَا
العدل في الأُخري وتلك عُلالةٌ ... عدلُ يُقامُ هناك من ظلمٍ هنا!
الحر يَصْطَنِعُ الإباَء فديته ... بالشعب يُصْرَعُ بالهوان فَيُقْتَنَي
أَمَلُ التَّحَضُّرِ كل جَزْلٍ مُفْضِلٍ ... شَرِقُ الحجا بعلومه غَضُّ اْلَجَنى
في الناس مُبْتَكَرُ االحياةِ وهاتفٌ ... شَادِيَّ غّرِّدْ بالقَديم وغَنِّنَا
إن الحياة فضيلة من هَدَّهَا ... سقط الأخَسَّ من الشعوب الأوهَنا
من عاش لا وطناً حماه ولا انْتَحَى ... للصالحات فكيف عاش بلا مُنَى؟
النُّبْلُ مُحْتَفَلُ الثراء فلا تَسَلْ ... كيف استقلَّ الشعبُ بل ماذا اقَتنى
شعبانِ يصطرعان أَيَّةُ سُبَّةٍ ... للحزْم إن عَكَفَ الصراعُ وَأَدْمَنَا؟
يا جَوُّ مالك بالأخوَّةِ عابساً ... كالماء قَطّبَ للنسيم وَغَضّنَا
وَلَعُ الدسائس كم يسود ونسجُهُ ... بيتُ العناكب ما أخسَّ وَأَوْهَنا
ظلَم الخِلاف مَتَى الوفاق فطالما ... خفَّ الجمالُ إلى التَّواصُل مَوْهِنَا؟
طلب الحياة سرية رَفّافَةً ... أَنّي أَعَزَّ دعاته وأذلنا؟
أين الوئَامُ وكلُّ بِرٍ قبله ... صوتُ التآلف كالمُصَلِّي أَذَّنَا؟(300/57)
هُبُّوا إلي الرأي الأصيل فإنه ... أمنٌ وإن خلافه لن يُؤْمَنَا
الرأيُ أنبَله تجاربُ أشيب ... كالسيف نازل دهره حتى انْحَنَى
صدق الحجا. الحزمُ أشرف نزعةً ... والنَّاهض الوثّابُ أَنبلُ موطنا
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي(300/58)
قلعة بعلبك
للأستاذ أحمد الصافي النجفي
دار وَحْيٍ أم قلعة أنا فيها ... كنبيٍّ يستنزل الإلهاما؟
حرتُ أرنو إلى الطلول وأرنو ... لقرون مضت ومجد أقاما
إيه أطلال بعلبك أجيبي! ... أين خلَّفتِ قومك الأعْلاما؟
هل يبيد الحمامُ قوماً إذا ما ... نهضوا للحروب قادرا الحماما؟
هل يبيد الحمامُ قوماً وهذي ... غرّ آثارهم خلدْنَ عظاما؟
تلك أرواحهم خلدْنَ بفنّ ... جلّ عن أنْ يخلِّد الأجساما
إيه باخوس. . . كم شربتَ قديماً ... مِنَ سلافٍ وكم سقيتَ ندامى؟
صَرَعَتْهُمْ منك المدامُ. . . ولكن ... أنت صاحٍ مهما احْتسيتَ المداما
كم سقيتَ الورى بجامك خمراً ... ثم أعقبته من الموت جاما!
أنت تسقي الوضيع كأسك حيناً ... ثم تسقي بها المليك الهماما!
رَفَسَتْهُمْ رجلاكَ لم ترع ذلاًّ ... لوضيع، أو للمليك احتشاما!
والعواميد خلتها في صلاةٍ ... رُكّعاً حول معبدٍ وقياما
صَرَعَ الدَّهر بعضهنّ، وبعض ... واقفات تصارع الأيَّاما!
وشجاني من العواميد ستّ ... واقفات صفاً يروع نظاما
ناظرات يسألن عن قرناء ... قد قطعن القرون والأعواما
دُمْنَ يبحثن عن رفاق فلا ... يبصرن إلاّ الإيوان والأهراما
وبقايا من تدمر كعروس ... ذات حُسْنٍ بالتِّبِر هَامَتْ وهاما!
يتساَءلْنَ هل أخذنا عهوداً ... للِيَّالي أو هل قطعنا ذماما؟
درست دوننا القصور ودمنا ... ثم نرجو أنْ سوف نبقى دَوَامَا
يَتَفَاخَرْنَ عكس طبع الغواني ... أيّ أخت تربو على الأخت عاما؟
يبغض السنّ من يخاف فناءً ... وأخو الْخُلْدِ يعشق الأعواما
بِمرور السنين يَزْدَدْنَ حُسْناً ... ثم يَزَدْدن لِلْخُطوب ابتساما؟
يَا لَستِّ من العواميد هاجت ... في فؤادي ذكرى تؤجّ ضراما(300/59)
أيّ شأن لها، وأيّ ملوك ... سجدتْ حول عرشها تترامى؟
إِن رَأَتْ سجْدَةَ الملوك فهذا ... الدهر ألفى لها السُّجود احتراما!
أنا أكرمتها بدمعي احتراماً ... وكرام الأنام تبكي الكراما
يا لَستِ من العواميد تُلْفَى ... لجميع الورى دروساً جساما
واقفات كأنها خطباء ... تعظ الأرضَ والسَّما والأناما
قائلات: المجد يبقى وإنْ كا ... ن بنوه تحت التراب رماما
يَا لَستٍّ من العواميد كم قد ... رفعت ثُمَّ نَكّسَتْ أعلاما
صافحت في الزمان رُوماً وعرباً ... ونصاري الغزاة والإسلاما
صافحتهم وودَّعتهم بكفٍّ ... لم تطوِّل وداعها والسَّلاما
ولكم أبصرت ولم تتزعزع ... عادياتٍ تجرّ مَوْتاً زؤاما
كم تلّقتْ بصدرها مِنْ سهام ... ورأت للعدى قناً وحساما
بسمت نحوها الغزاة وعادت ... وهي تذري لها الدموع انسجاما
يا لَستٍّ من العواميد ظلّت ... كشموعٍ للِدَّهْرِ تجلو الظّلاما
قد تعالَيْنَ فاتحدن رؤوساً ... ثم أحكمنَ في الثرى الأقداما
حاكيات وسط الفضا أخوات ... قد تماسَكْنَ واتحدنَ غراما
وضع الحسنُ والبها تاجَ حسن ... واحداً فوق رأسهنَّ تسامى
وَحَّدَ الحسنُ بينهنَّ بتاجٍ ... حيث في الحسن قد بلغن التّماما!
فتعاهَدْنَ في كِفاحِ الّليالي ... لا يبارِحْنَ حظّهُنَّ انهزاما
أو كقوّاد جَحْفَلٍ قد أَطلُّوا ... يصدرون الآراَء والأحكاما
يتناجون دون تحريك هام ... حيث ولّوا نحو الجيوش الهاما
ظلَّ بعضٌ يفضي لبعضٍ برأيٍ ... واستمرُّوا يراقبون الصِّداما
يا لستٍّ من العواميد تبكي ... أخوات لها قضين انهداما
هدّتها كفّ القضا فاشتهت لو ... حطمت معول القضا الهدّاما!
ذكرت عهدها القديم فأمست ... وهي يَقظَي تشاهد الأحلاما
كم وعت خطبةً وأصغت لنجوى ... آه. . . لو أنها تعيد الكلاما؟(300/60)
تتراءى كأنها كفّ جبا ... ر عظيمٍ زادوا بها إبهاما
جسمه القلعة المهيبة لكن ... أَلْبَسَتْهُ يد البِلى اسقاما
فانْهِدَامَاتها جراح بجسم ... طالما مارس الوَغى والزّحاما
كسرت عظمة الليالي فلم ... يُبْدِ انكساراً ولا اشتكى آلاما
وسبتني فيها تماثيل غيد ... عبدتها أهل الهوى أصناما
سكب الفجر ضوَءه في ثنايا ... ها وألقى الضحى عليها ابتساما
يشتهي الثغر لثمها وهي صخر ... ويذوب الفؤاد فيها هياما
هِمْتُ فيها فقلت هزؤاً بنفس ... أيّ صبٍّ قبلي أحبَّ الرّكاما
عاريات مثل الملائك لم يس ... دلن ستراً ولا وضعن لثاما
اتخذت عفة النفوس رداءً ... وسنا الحسن في الجبين وساما
لم تشوِّه بالصبغ يوماً وجوهاً ... جعل الحسن عندهن مقاما
هنَّ مهما شاب الزمان صبايا ... راميات بلحظهنَّ سهاما!
وشجتني منهن هيفاء خود ... سامها الحظ دونهن اهتضاما!
شوَّه الدهر ثديها بانكسار ... قبل أن يبلغ الرضيع الفطاما
فرنت نحو صحبها بانكساف ... خوف نقص يعزى إليها اتهاما
وتمنَّتْ لو اكتسين جميعاً ... برداء ليستر الأجساما!
ورأيت الضرغام فارْتعت منه ... أيُّ قلب لا يرهب الضرغاما؟
مُعْلياً صمته المهيب زئيراً ... ساكناً خضرة السما آجاما
أسد الغاب خلته احتل (برج ... الأسد) اليوم، واعتلى الأجراما
فاتح الطرف، كاشر الناب، يبغي ... أن يخيف القضا إذا ثمَّ حاما
نصبوه في الجوِّ حامي عرين ... يقظ الطرف، لا يحب المناما
ظلَّ في الجو حارساً لحماه ... ومخيفاً وحش الدجا والطغاما
قام أسد الحمى وظل مفيقاً ... لا يذوق الرّقاد حتى لماما
وشجتني فيها مسارح لهوٍ ... وفنون تنوّر الأفهاما
كم عَلَتْ فوق ساحها خطباء ... وغوان ترجِّع الأنغاما(300/61)
أقفرت تلكم المسارح منهم ... واستحالت ساحاتها آكاما
إنّ أَطلالَ بعلبك كتابٌ ... قد حلا مبدأَ وطاب ختاما
فيه تبدو طلاسم أَنا مهما ... رمت حَلاًّ لها تزد إبهاما
صار فيها وهمي فخلت بأنّي ... كنت فيها أجَسّم الأوهاما!
(دمشق)
أحمد الصافي النجفي(300/62)
رسالة المرأة
الإسلام (والأتيكيت)
الأتيكيت أو الآداب العامة
دراسة وتحليل
للآنسة زينب الحكيم
نصت الشرائع السماويةُ كلها، على مراعاة الآداب العامة في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية. وإذا أنا اخترت أن أبين نسبة آداب الفرنجة إلى الآداب الشرقية وعلى الأخص الإسلامية منها، فما ذلك إلا لشدة الشبه بين هذه وتلك، ولأن في الإسلام وهو دين الاجتماع والتشريع الإنساني الرفيع - ما لو عرفناه وعملنا به - لما احتجنا إلى التقليد والنقل، مما تضيع معه قوميتنا الشرقية، وتتلاشى به شخصيتنا المصرية
ولقد اطلعت على كتب كثيرة شرقية وأجنبية في هذا الصدد حتى كوّنتُ فكرةً تحليلية عن الآداب العامة ونشأتها
فمجمل الكتب الشرقية (الإسلامية على الأخص) تشير إلى إنه من الواجب على الإنسان كفرد، وعلى الأمة كجماعة، أن تقوم بواجب الآداب العامة نحو الخالق الذي أوجدها سبحانه وتعالى؛ فتقر بفضله تعالى عليها - وتعتبر هذه أول خطوة في الآداب - ثم المحافظة على ما ورثته من نظم، وأن تتبع هذه النظم، وتسير على مهل في سبيل الانتقال بها من طور إلى طور أكمل منه في غير اهتزاز وعنف. كل هذا يكون الميراث التقليدي الأدبي، ونكون قد تدرجنا على شبه ما تدرج بالبرية موجدها الأعلى من مهدها ومن زمنها الأول وإلى الآن
والأديان السماوية أدل شيء على هذا التدرج المعتدل، فإن من يترسم خطى هذه الأديان، يلحظ سمة الطفولة على التوراة، ويرى سذاجة الفطرة والتضحية في الإنجيل، ويميز اتسام القرآن بسمة الرشد، ومدى النضوج العقلي الذي يعتمد عليه الإنسان للسير في الحياة وقد هُيئ له من أمره رشد
ولهذا فإن قائد الأمم أخلاقها وطباعها، والحاجة والزمان هما الكفيلان بإعداد النظم الجديدة،(300/63)
وأخلاق الأمة هي التي تحكمها. فكل نظام أو تشريع لا يتفق مع هذه الأخلاق ويمتزج بها امتزاجاً تاماً، يكون نظاماً مؤقتاً وتشريعاً لا يدوم طويلاً
ومما يجب التنبه له أن البيئة والأحوال والحوادث، تدل دلالة واضحة على مقتضيات الزمن الذي هي فيه. . . فلو نظرنا إلى التقاليد في أي زمن، ولأي أمة، وجدناها عبارة عن ماضي الأمة في حاجاتها ومشاعرها وأفكارها
فالتقاليد إذن: عوامل تشخص روح الشعب والحقبة التي وجد فيها لما لها من تأثير عظيم في القوم
فإذا بحثنا مثلاً في ضرورة احتياجنا إلى تقاليد في الآداب العامة (أتيكيت) من نواح كثيرة تساءلنا:
1 - لماذا نلاحظ قوانين واصطلاحات خاصة؟
2 - لماذا يحيى الناس بعضهم بعضاً، بشتى الطرق مثل الانحناء، والابتسام، والسلام باليد، ورفع غطاء الرأس الخ؟
3 - لماذا نقوم بعمل تعارف بين الأفراد، ونرسل الدعوات بعضنا لبعض؟
4 - لماذا نهذب طباعنا وحديثنا؟
لكي نستطيع الإجابة على أشباه هذه الأمثلة، يجب أن تتبع سير المدنية من مبدئها، فإذا فعلنا ذلك، وجدنا أنه كان من أولى ضروريات الإنسان الهمجي تدبيرُ بعض الطرق، واختراع بعض الوسائط التي تقنع الهمج من قبائل أخرى بأنه لا يريد المشاجرة، ولا الاعتداء، وإنه يريد أن يعيش في سلام.
ولكن كان من الصعب عليه جداً أن يفعل ذلك مبدئيا. فقد كان تفكيره المحدود مرتبكاً بالخوف وبوعورة الحياة. إذ أن الإنسان في تلك العصور الأولى كان دائم الارتياب، شديد التطير، كثير الظن؛ وقد كان مضطراً إلى أن يكون كذلك، لأن حياته كانت متوقفة على حذقه وحرصه
ولكن الحاجة أم الاختراع دائماً، فأقيمت علامات خاصة، وروعيت أشياء أخذ يميزها الهمج، وتعارفوا عليها كتحيات سلام وأمان
فتحية اليوم نتيجة مباشرة لتلك الضرورة الغابرة، ويقاس عليها كثير من التقاليد المتبعة.(300/64)
فإن تحية الأمان هذه كانت أول المخلفات من الآداب العامة التي نطق بها بين الإخوان والمريدين
ولما عرفت قيمة هذه الشعائر السلمية، اتبعت تحايا خاصة لكل ظرف ولكل مناسبة مما ساعد على وضع الأمور في نصابها بأقل مشقة، وبأخص طريق، فساد السلام نوعا ما، وأخذت العواطف الإنسانية تقوى (ومن هنا بدأ عهد جديد في تطور البشرية).
فإذا أودعت هذه الشعائر خفايا النسيان، وأسدل عليها ستائر الإهمال كان الغرض استئناف حياة الهمج من جديد.
على إنه لن يكون في استطاعتنا وأدْ الآداب دفعة واحدة وهي التي تكونت على مر الدهور، ولا يمكن أن ينكر أحد أن البشرية نشأت ونمت معها المدنية، فمن تحية الأمان الأولى، نمت سلسلة تحايا خاصة، وأشكال احترام خاصة جمعت الرجال تحت لواء حماية متبادلة، وصداقة مشتركة، فتولدت الحفلات، وحلقات الرقص لتعظيم القوى الطبيعية التي حار العقل البشري في فهمها حينئذ، كالشمس والنجوم، وقدمت الضحايا لآلهة الخوف التي أزعجتهم، كالظلام، والوحوش، والأصوات غير المعهودة لهم، كما أقيمت حفلات تأبين الموتى، وولائم الأفراح، وغير ذلك.
من ذلك نرى، أن الهيئة الاجتماعية حريصة على سلامتها، فهي لذلك أقامت تشريعاً اجتماعياً محدودا واضحا، مبنياً على الأخلاق والعادات، فأصبحت هذه التقاليد تشريعاً أرتآه، وعمل به نفر ممن تفخر بوجودهم في زمرتها الجماعة الإنسانية المثقفة الراقية.
فنحن ملزمون إذن أن نتعلم هذه التقاليد رغبنا أو كرهنا ما دمنا نعيش في جماعات، وننشد مجتمعاً راقياً في حياتنا
مما لا ريب فيه إنه توجد عند كل إنسان رغبة للخير، وإن جانب الخير في الإنسانية توقظه وتظهره الرحمة والآداب والأخلاق الكريمة بوجه عام. كما أن المران على (الأتيكيت) أو الآداب العامة يحتاج إلى أكثر من مجرد استقاء معلومات من معاهد التقاليد الاجتماعية الخاصة بالأخذ والعطاء، والقبول والرفض، والدعوات والولائم، أو عدد البطاقات التي تترك للآخرين بالمناسبات، أو استعمال الألقاب على وجه صحيح في التحدث وللكتابة. فإن التمرن العملي على (الإتيكيت) يجب أن يبني على المبادئ الأولية،(300/65)
وهي الاحترام، ومشاعر الرحمة والشفقة نحو الآخرين، وإلا كانت التقاليد مجاملات جوفاء وهذه لا تلبث أن تزول
وان أميز ما يمتاز به الرجل الملم بمعرفة الآداب (العامة والخاصة) ما يتسم به من وقار وسماحة يغمر من يقابله، كما يساعده على العمل والقول اللائق الصحيح في كل موقف من المواقف. فالفرد الذي يعرف كيف يوجد بين جماعة راقية، لا يدع مجالاً للغضب ولا لعدم الصبر، ولا يتسيطر ولا يتحكم ولا يضغط على الآخرين بطباعه الجافة أن مركز الآداب الراقية، يمنع التبجح مع الرؤساء، كما يمنع الأحاديث التي تؤلم المشاعر، ويحبذ العمل على إيجاد رغبة صادقة في جلب السرور لمن نوجد معهم. فالمرأة والرجل المثقفان يجتهدان في جعل كل فرد مجتمعهما سعيداً مطمئناً (على شرط أن يستأهل هو ذلك أيضاً من جانبه). ثم أن مشاركة عواطف الغير واحترامهم مفروض على كل فرد مهما كان نوعه، وذلك واجب عليه سواء أكان غنيّاً أم فقيراً، عالماً أم جاهلاً. ومع أن الأخلاق الرقيقة قد تكون وراثية إلى حد ما، فانه يمكن تحسينها وإنماؤها بوساطة البيئة الصحيحة، وبدراسة القوانين الاجتماعية ومراقبة المجتمع نفسه، وتطبيق ما حصله الإنسان في معاهد الآداب عمليا في الحياة العملية حتى يجنى المجتمع ثمار عمل أفراده وبُناته
لعلنا بهذا التلخيص نكون قد أوضحنا بعض الشيء نشأة الإتيكيت وضرورته في الحياة.
زينب الحكيم(300/66)
رسالة العلم
ما هي الحياة
وكيف ظهرت على الأرض؟
وحدة الأحياء والجمادات
للأستاذ نصيف المنقبادي
أثبتنا في مقالنا السابق وحدة الحيوانات (ومن بينها الإنسان) والنباتات وبينا أن النباتات الفطرية إنما هي الحلقة المتوسطة بينهما وقلنا أن هذا دليل على اشتقاقهما من اصل واحد؛ وهو الجمادات ونتكلم اليوم عن وحدة الأحياء والجمادات مستعرضين من جديد الصفات المشتركة بين جميع الكائنات الحية لنبين إنها ليست خاصة بها. بل توجد جميعها ولكن مبعثرة ومشتتة في الجمادات، كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق
ونقول إجمالاً من الآن أن تلك الصفات الموصوفة عادةً بالحيوية ليست لازمة للحياة ولا ضرورة لها، إذ أن هناك بعضاً من مظاهر الحياة - هي أهمها وأدقها - تقول بها مواد كيميائية وأجسام معدنية محضة لا يتوفر فيها شئ من تلك الصفات أو المميزات. ومن ذلك التخمر
فإذا سحقنا مثلاً كمية من النباتات الميكروسكوبية المكونة من خلية واحدة من النوع الذي يخمر المواد السكرية ويحولها إلى خمر (خميرة البيرة)، أو من النوع الذي يخمر الخمر ويحولها إلى خل، أو من النوع الذي يخمر سكر اللبن ويحوله إلى الحامض اللبني، ثم نقعناها في ماء معقم مطهّر ورشحنا الماء بعد ذلك، نحصل على سائل يخمر هذه المواد مما يدل على أن خواص الحياة ما زالت قائمة فيه. فهل لنا أن نقول أن السائل المرشح كائن حي؟ وإذا أغلينا هذا السائل إلى درجة المائة فوق الصفر فانه يفقد خاصة التخمير كأنه مات مقتولاً بالحرارة كما يحدث للكائنات الحية والواقع أن الذي يقوم بالتخمير وبمعظم أعمال الحياة في الكائنات الحية من هضم الأغذية على أنواعها، إلى تحليلها وامتصاصها وتركيبها من جديد داخل أنسجة الجسم وخلاياه إلخ إنما هي خمائر تفرزها غدد خاصة في الأجسام الحية المتعددة الخلايا أو كائنات حية أيضاً مكونة من خلية واحدة مثل النباتات(300/67)
والحيوانات الأولية الميكروسكوبية، وهذه الخمائر تذوب في الماء وتفعل فعلها وهي ذائبة فيه
والخمائر لا يمكن القول بأنها كائنات حية بالمعنى التام لأنه لا جسم لها ولا قوام، وهي لا تتغذى ولا تتنفس ولا تنمو ومع ذلك تبدو كأنها حية، وتقوم بأهم مظهر من مظاهر الحياة وهو التخمير على أن كل هذا لا غرابة فيه، لأن الخمائر التي تسلك مسلك الأحياء لم تخرج عن كونها مفروزة من أجسام حية، ولكن المدهش حقاً هو فعل المواد المعدنية الغروية، فقد توصل العلماء إلى تحضير كثير من المواد المعدنية والعضوية على هذه الحالة، ' وقد شوهد أن بعضها مثل الفضة أو المنغانيز وغيرها تخمر المواد القابلة للتخمر. فإذا وضع قليل منها في شراب السكر مثلاً لا يلبث هذا الشراب حتى يختمر، لا فرق في ذلك بين هذا التخمر وبين التخمر الذي تحدثه الكائنات الحية بفعل الخمائر التي تفرزها سوى أن التخمر يتم هنا بأسرع مما يتم في حالة التخمير الحيوي. وأول ما يتبادر إلى الذهن أن جراثيم التخمر العادية تسربت إلى ذلك السائل من الهواء أو من الماء أو من الأوعية العادية والأدوات المستعملة، ولكن الدقة في تعقيم كل هذه الأشياء لا تدع محلا لمثل هذا الاعتراض
واغرب من هذا فعل الكلورفروم المخدر في المواد المعدنية الغروية التي نحن بصددها؛ فانه يخدرها ويبنجها تبنيجاً ويمنعها عن مواصلة التخمير إلى أن يتطاير، ويتلاشى فتعود إلى فعلها هذا المدهش، وإذا أضيف إليها قليل من سبيانور البوتاسيوم وهو سم قاتل، فأنه يمنع فعلها التخميري بتاتاً؛ فكائن هذه المعادن هذه الجمادات المحمضة - ماتت مسمومة ولا يمكن أن تعود إلى أحداث التخمر إلا إذا أزيل عنها هذا السم ثم تحولت إلى معدنها الأصلي الجامد ومنه إلى الحالة الغروية من جديد، وعند ذلك فقط تبعث بعثاً، وتعود إليها الخاصة التي كنا نظنها مقصورة على الأحيان دون غيرها.
وإذا لوحظ أن في المادة الزلالية الموصوفة (الحية) التي تتكون منها خلايا الحيوانات (بما فيها الإنسان) وخلايا النباتات وكذلك في الخمائر التي تفرزها الحية أثرا من المواد المعدنية التي كان يظن البيولوجيون إلى عهد قريب إنها مواد إضافية لا شأن لها بالمادة الحية، وإذا قورن هذا بما تقدم بيانه من فعل المعادن الغروية، لأدركنا معنى النظرية البيولوجية القائلة(300/68)
بأن أداة الحياة أو أن الذي يقوم فعلا بأعمال الحياة في الكائنات الحية ليست المادة الزلالية الخاصة المسماة (بالبروتوبلاسم) وإنما هي تلك الزوائد المعدنية المحضة. وعلى هذا يكون الجزء الحي في الأحياء هو المعادن المذكورة أي الجمادات الخالصة، وما المادة الزلالية إلا قاعدة ترتكز عليها المعادن للقيام بأعمال الحياة. نعود إلى الصفات المشتركة بين الأحياء التي يقولون إنها تميز الحياة، لنبين إنها ليست وقفاً على الكائنات الحية بل إنها توجد جميعا بلا استثناء في الجمادات.
التكوين الخلوي والتكوين المعدني
قلنا أن الكائنات الحية مؤلفة من خلايا صغيرة لا ترى بالعين المجردة. ولكن هذه الظاهرة - أي جزئيات الجسم تكوينا دقيقاً - ليست خاصة بالأحياء، فان الأجسام المبلورة المعدنية التي يتكون منها معظم ما الأرض من مواد كجبال الجرانيت والرخام وكالأملاح العديدة المختلفة وغيرها، مكونة من بلورات متلاصقة؛ كما أن جميع الجمادات على الإطلاق مكونة من جزئيات صغيرة جداً وهذه الجزئيات مؤلفة من ذرات وقد اتضح بعد اكتشاف الراديوم والأجسام المتشععة المماثلة له الذرات مؤلفة من الكهارب وغيرها (تراجع المقالات النفسية التي جاد بها أخيراً يراع عالمنا المصري الدكتور محمد محمود غالي على صفحات الرسالة عن تكوين المادة)
التركيب الكيميائي
تتركب الأجسام الحيوانية والنباتية من مواد زلالية ودهنية وسكرية كما بينا في مقالنا السابق. ويظهر أن عدم وجود المواد المذكورة بحالتها هذه في الجمادات قد جعلها من قديم الزمان الحد الفاصل بين الأجسام الحية والأجسام المعدنية، حتى أن الكيميائيين كانوا يفصلون فصلاً تامَّاً بين المواد العضوية التي تستخرج من أجسام النباتات والحيوانات وبين المواد المعدنية، وأوجدوا بينهما هاوية سحيقة لا تعبر. ولكن العلم الحديث قد أزال هذا الحد واثبت وحدة المادة
وأول ما يلاحظ هنا على مواد الأجسام الحية وعلى المواد العضوية عموماً، أن العناصر المركبة منها الأوكسجين والهيدروجين والكربون والأوزوت والعناصر الإضافية الأخرى(300/69)
موجودة جميعها في الطبيعة، وتدخل في التراكيب المعدنية التي لا عداد لها بحيث لا يوجد عنصر من العناصر خاص بالأحياء دون غيرها
والواقع أن المواد المسماة بالحية، وعلى العموم المواد العضوية، مشتقة جميعها من الجمادات رأساً، وهي تتركب منها مباشرة في كل لحظة أمام أعيننا وعلى مرأى منا على الوجه المتقدم بيانه في المقال السابق. فمادة النباتات الخضراء (الكروفيل) تستعين بقوة الشمس وتحلل غاز الحامض الكربونيك المنتشر في الجو وتنتزع منه الكربون وتمزجه بالماء فتكون منه السكر والنشا والسيليلوز ومادة الخشب والمواد الدهنية والأحماض والقلويات العضوية الثلاثية. وفي الوقت نفسه تمتص جذور النباتات التراكيب الآزوتية من الأرض، وهذه تمتزج بالمواد الكربونية سالفة الذكر بفعل قوة الشمس أيضاً فتتولد المواد الزلالية الحية
وما تنشئه الطبيعة بواسطة النباتات من المواد قد أمكن للإنسان أن يصنعه من مواد معدنية محضة، فقد توصل الكيميائيون إلى تركيب معظم المواد الحيوانية والنباتية ومشتقاتها من الجمادات مباشرة كالسكر والنشا، وبعض المواد الدهنية، ومواد الصباغة، وكثير من القلويات المستعملة في الطب، وجميع العطور وغيرها ذلك. ومن المدهش الذي يدعو إلى الإعجاب الكبير أنهم صنعوا عطوراً اصطناعية لا وجود لها في عالم النبات حيث لا توجد زهور تقابلها
ويجدر بنا هنا أن نخص المواد الزلالية بكلمة على حدة لأنها كانت إلى وقت قريب تعد معقل الحياة. فقد ثبت من تحليلها بطريقة علمية دقيقة إنها مكوّنة من امتزاج بعض الأحماض العضوية الآزوتية والفسفورية ببعض كالحامض النمليك وغيره. وما أن عرف العلماء ذلك حتى اخذوا يمزحون بعض هذه الأحماض ببعض على صور عديدة مختلفة. فنجحوا في وضع الجيلاتين والبروتين وزلال اللبن (مادة الجبن)، وزلال يدعى الكيراتين يدخل في تركيب أظافر الإنسان والحيوانات الفقرية الأخرى. وهذا النجاح يبشر بقرب الوصول إلى تركيب المواد الزلالية المسماة بالحية.
الشكل النوعي
فضلاً عما ثبت نهائياً وقطعياً من الكائنات الحية ليست ثابتة في أشكالها، بل إنها في تغير(300/70)
وتحول مستمرين في ملايين السنين بحكم ناموس التطور والتسلسل؛ نقول إنه فضلاً عن ذلك فإن هذه الظاهرة (الشكل النوعي) ليست من جهة شاملة لجميع الأحياء لأن بعض المكروبات غير ثابتة في شكلها، بل إنه تتشكل حسب البيئة التي توجد فيها بحيث لا يمكن تميز أنواعها إلا بمفعولها، وكذلك الحال بالنسبة للاميبا، وبالنسبة لبعض أنواع النباتات الفطرية السفلى من فصيلة الميكزوميست التي سبق لنا الإشارة إليها في المقال السابق. فانه لأفرادها شكل معين حيث لا غلاف ولا غشاء لخلاياها في معظم الأحوال
ومن وجهة أخرى فان لكثير من الجمادات ونعني الأجسام المبلورة، أشكالاً ثابتة وهي بلوراتها الهندسية تميز كل نوع منها من غيره
واوجه الشبه بين الكائنات الحية والأجسام المبلورة عديدة فمن ذلك أن الأنواع المبلورة القريبة التركيب كيمائياً قريبة الشكل هندساً، كما أن الأحياء كلنا اقتربت أنواعها اقتربت أشكالها
وكما تحدث أحيانا أن الأنواع الحية القريبة يتناسل بعضا من بعض مثل الحصان والحمار كذلك يحدث أحيانا أن الأنواع المعدنية القريبة كيميائياً تتبلور معا مثل حجر الشب فانه مؤلف من بلورات سلفات الألمونيوم وبلورات سلفات البوتاسيوم مشتبكة بعضها مع البعض وهناك ظاهرة كان يظن أن الكائنات الحية اختصت بها دون الجمادات وهي استعداد أفراد الحيوانات والنباتات الصلاح كل تشويه يحدث لها واستعادة شكلها الأصلي بقدر الإمكان، فإذا جرحت يلتئم جرحها، وإذا انقطع جزء منها لا يلبث حتى ينمو غيره مكانه، وعلى الأخص في النباتات والحيوانات السفلى وكذلك في أطراف أعصاب الحيوانات العليا والإنسان. وهذا ما يحدث للبلورات المعدنية المحضة، فإنه إذا كسرت بلورة من أحد أضلاعها ثم غُطِّست في سائل مشبع من مادتها أو فوق المشبع نراها تنمو على الأخص من جهة الجزء المصاب إلى أن يعود إلى حالته الطبيعية وشكله الأصلي فيأخذ مجموع البلورة في النمو
تغذي الأحياء والجمادات
لعل التغذي هو أهم مظاهر الحياة وأكبر مميز للكائنات الحية، ولكنه غير خاص بها أيضاً بل يحدث لكثير من الجمادات. فبقعة الهواء التي تبدو صغيرة على قطعة المعدن ثم تكبر(300/71)
إلى أن تنتشر على كل سطحه إنما هي تتغذى في الواقع من بخار الماء والحامض الكربونيك المنتشرين في الجو ومن مادة المعدن القائمة عليها، فتنمو وتتسع كما ينمو ويكبر الجسم الحي من التغذي. والبلورات الصغيرة المغموسة في ماء مشبع من محلول مادتها تتغذي منها فتنمو وتصبح بلورات كبيرة
على أن خير مثال لتغذي الجمادات بالمعنى الحقيقي التام ما هو حاصل في الآلات الميكانيكية فإنها تتغذى بالفحم أو البنزين أو البترول، وما الوقود إلا غذاء تلك الآلات تحترق فيها فتولد الطاقة (القوة) اللازمة لقيامها بأعمالها كما يحترق الغذاء بعد هضمه وامتصاص في الأجسام الحية فيولد فيها الطاقة اللازمة للقيام بأعمال الحياة ووظائف الأعضاء، وسنشرح في مقال قادم ناموس بقاء الطاقة ' وانطباقه على الكائنات الحية (بما فيها الإنسان)، وحسبنا أن نقول اليوم أن جميع القوى التي تعمل في الحيوانات (ومن بينها الإنسان والنباتات حتى التفكير والقوى العقلية ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء، أو بعبارة اصح الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء
التنفس في الأحياء والجمادات
ويلحق بالتغذي التنفس، وهو أيضاً ليس مقصوراً على الأحياء لأن الجمادات التي تحترق بسرعة أو تتأكسد ببطء إنما هي، تتنفس، أي أنها تمتص الأوكسجين من الهواء وتفرز الحامض الكربونيك وهذا التنفس بعينه، وقد عرف علماء الفسيولوجيا الحياة بأنها حريق أو تأكسد كما تقدم القول، وما الرئتان إلا مدخنة الآلة الحية الحيوانية، توصل الأوكسجين إلى الجسم وتخرج منه الغاز الناتج من ذلك الاحتراق، كما هو حاصل في الآلات الميكانيكية من جميع الوجوه
تحرك الأحياء وتحرك الجمادات
وليست الحركة وقفاً على الأحياء ولا هي خاصة بها، ولكنها تشمل الجمادات وتعم كل ما في الكون من الأجرام الفلكية إلى أصغر الذرات وما هو أصغر منها مما اكتشف أخيراً ونعني به الإليكترونات أو الكهارب وغيرها.
ومن حركات الجمادات التي تشبه حركات الحيوانات الأولية الميكروسكوبية الحركة(300/72)
المعروفة باسم حركة براون فإننا نشاهد في كثير من السوائل عند فحصها بالأولترا ميكروسكوب أجساماً صغيرة جداً في حركة مستمرة وهي لا يمكن أن تكون كائنات حية لأنها تشاهد في السوائل السامة الكاوية التي تقتل الأحياء وجراثيمها في الحال كالحامض الكبريتيك وغيره. ولاشك في أن تحرك هذه الذرات ناتج من تحرك جزئيات المادة المستمر كما شرح الدكتور محمد محمود غالي ذلك أخيراً على صفحات الرسالة.
ومن حركات الجمادات التي تكاد تكون اختيارية حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية أو الألفة الكيميائية، فإنه بمجرد أن تشعر هذه الأجسام بقرب بعضها من بعض تتحرك وتنتقل من تلقاء نفسها إلى أن يتصل الواحد منها بالآخر كأنما يعشق بعضها بعضاً. وأمر بعض المواد الكيميائية لبعض معروف في علم الكيمياء. فالماء مثلاً يصعد من تلقاء نفسه رغم جاذبية الأرض ويندفع إلى الطبقة العليا من الجهاز الخاص بمجرد إدخال غاز الكلور في هذه الطبقة العليا، ولا يهدأ له بال إذا فاز بالوصل منه شأن العاشق الولهان. وما عاطفة الحب التي يتغنى بها القصصيون والشعراء من قديم الزمان إلا ظاهرة كيميائية محضة ترجع في النهاية إلى تلك الجاذبية التي تدفع جراثيم التلقيح المذكرة (مثل الحيوانات المنوية وما يقابلها من النباتات) نحو بويضات الإناث مما سنشرحه في مقال قادم
ومن حركات الجمادات تحرك نقط المواد الرغوية المعدنية المحضة من تلقاء نفسها كما تتحرك الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة واستمرار هذه الحركة بضعة أيام في التجارب البديعة التي قام بها العالم البيولوجي بوتشلي. ولولا ضيق المقام لشرحناها بالتفصيل
على أن حركة الجمادات المماثلة لحركة الكائنات الحية من جميع الوجوه إنما هي حركة الآلات الميكانيكية نتيجة احتراق الفحم أو البترول أو البنزين فيها كما أن حركة الأحياء هي نتيجة احتراق المواد الغذائية في العضلات المحركة لها
التأثر في الأحياء وفي الجمادات
نقول إن التأثر ليس خاصاً بالأحياء بل إنه يوجد في كثير من الجمادات، وإذا شئت فقل في كلها مع التفاوت. فالمواد المفرقعة تتأثر بل وتغضب وتنفجر عند أقل لمس. ومواد التصوير الشمسي تتأثر بالضوء، ولهذه المناسبة نذكر أمر اللوحات الفوتوغرافية الملونة،(300/73)
فإنه إذا سلط عليها نور أحمر تلونت في الحال باللون الأحمر، وإذا سلط عليها النور الأخضر تلونت في الحال باللون الأخضر. فأملاح الفضة التي على هذه اللوحات لا تتأثر فقط بالضوء بل كأنها تدافع عن كيانه ضده لأنه يقتلها بأن يحللها ويحولها إلى مواد أخرى. فعندما يسلط عليها النور الأحمر تتلون في الحال باللون الأحمر لأن هذا اللون يمنع دخول الأشعة الحمراء؛ وكذلك الحال عندما يسلط عليها النور الأخضر أو غيره. أفلا تكون غريزة حب البقاء القائمة في الإنسان وفي جميع الحيوانات من نوع هذه الظاهرة الغريبة؟ وما الفرق بين هذه اللوحات الفوتوغرافية - هذه الجمادات المحضة - وبين بعض الحيوانات التي تتلون بألوان مختلفة حسب البيئة التي توجد فيها
ومن الأمثلة على تأثر الجمادات ما هو معروف في علم الصوت من أنه إذا دق إنسان على وتر من آلة موسيقية، فإن الوتر المقابل له في الآلة القريبة منها يتأثر ذاتياً ويهتز من تلقاء نفسه اهتزازاً خفيفاً، ولكنه يظهر جلياً بواسطة الآلة المكبرة للصوت
وقد وضع السيربوز العالم البيولوجي الهندي الكبير الذي زار مصر سنة 1928 جهازاً دقيقاً بديعاً لإثبات تأثر المعادن بالكهرباء يدل على أنها تتعب وتضعف اهتزازاتها إذا تكرر تسليط الكهرباء عليها مدة طويلة متعددة. وإذا استراحت مدة من الزمن عادت الاهتزازات التي تحدثها فيها الكهرباء إلى قوتها
النتيجة
يتضح من كل ما تقدم إنه لا يوجد أي فرق جوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات، وأن كل ظواهر الحياة توجد في الجمادات، بل إن بعض الجيولوجيين يرجحون أن الجزء الحي فعلاً في الحيوانات (ومن بينها الإنسان، وفي النباتات هو المواد المعدنية الغروية التي تدخل كميات قليلة منها في تركيب خلاياها. وقد ثبت أن المادة الحية تشتق رأساً من الجمادات على الدوام تحت أعيننا وعلى مرأى منا بفعل قوة الشمس بواسطة مادة النباتات الخضراء (الكلوروفيل) بحيث لا يوجد عنصر خاص بالأحياء. كما أن القوى التي تعمل في الأحياء وتديرها هي من القوة الطبيعية المحضة ومشتقة منها وليس شيء آخر خلافها
وكلما تقدم العلم تلاشى ذلك الخيال الذي كانوا يعتقدون فيما مضى أن له وجوداً خاصّاً قائماً بذاته مستقلاً عن المادة. وما الحياة في الواقع إلا تفاعلات كيميائية أو بالأحرى طريق(300/74)
بطيء أو تأكسدات مستمرة، فهي ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)(300/75)
رسالة الفن
الموسيقى الإيرانية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
لم يتح للموسيقى المصرية لسوء الحظ - ولسبب لا أدريه - أن تشترك في الاحتفاء بمقدم سمو ولي عهد إيران، كما فاتها حظ الاشتراك مع باقي الفنون العليا في التعبير عما خالج مصر من عواطف الفرح وخوالج البهجة والمرح. . اللهم إلا تلك الحفلات الهزيلة الشاحبة التي لم تقو على إعطاء سمو ولي العهد الإمبراطوري الصورة الحقة للنهضة الموسيقية المصرية الشابة التي طفرت إلى ذروة رفيعة مرموقة موموقة. . .!
وقد سمعت بعض الشائعات التي تقول بأنها أبعدت لأنها غير مفهومة من سموه؛ فعجبت لهؤلاء الذين طيروا هذه الشائعات لأنهم لا يعلمون أن موسيقانا بل وجميع الموسيقى الشرقية إطلاقاً من أصل فارسي، فكيف تنكر الأذن موسيقى نشأت على سماعها منذ الصغر؟ وكيف لا يستسيغها سموه وهي التي خلفت في وطنه؟ إن العبرة ليست بالكلام العربي أو الإيراني وإنما بالموسيقى التي تصور وتترجم في حدود الذوق الشرقي!
إن (السلّم) العربي لم يخلق في مكة أو المدينة ولا في تركيا أو مصر، وإنما خلق كما هو الآن في إيران ثم انتقل إلى بلاد العرب حين غزوها للفرس مع باقي الفنون والعلوم الإيرانية. وظل هكذا حتى انتقل إلى بلاد الترك الذين عرفوا كيف يستخدمونه جيداً فركبوا منه نغماتهم وموسيقاهم التي أضفت على الموسيقى الشرقية لوناً زاهياً واستحدثوا نغمات: النوا أثر، وشط عربان، والحجاز كاركرد، والفرح فزا، والكرد. . . إلخ
وليكون القارئ على بينة بالسلّم سنكتبه له:
(1) يكاه (2) نيم قرار حصار (وهي لفظة إيرانية يسميها الترك (كابا) (3) قرار حصار (4) تيك قرار حصار (5) عشيران (6) نيم قرار عجم (7) قرار عجم (8) عراق (9) كَوِشْت (10) تيك كوشت (11) راست (12) نيم زير كولا (13) زير كولاه (14) تيك زير كولاه (15) دوكاه (16) نيم كرد (17) كرد (18) سيكاه (19) بوسالك (20) تيك بوسالك (21) جهاركاه (22) نيم حجاز (23) حجاز (24) تيك حجاز
هذا هو السلّم الفارسي الذي استعمله الشرق قاطبة واستخرجوا منه حسب استعدادهم الفني(300/76)
وقدرتهم الموسيقية أنغامهم وألوانهم التي تتفق وأذواقهم ومشاربهم، وهو يتكون من ديوان (أوكتاف) سبعة مقامات: ثلاثة كبيرة وأربعة صغيرة (وهي التي يتكون منها النغم الشرقي الذي لا يعرف الماجيور، والمنيور أو الميجيير والمنيير كما ينطقها الفرنسيون. . .
وقد ابتكر الإيرانيون النغمات الآتية التي لم يكن الشرق يعرفها حتى سمعها منهم وهي:
الدوكاه (البياتي) والأصفهان، والعجم عشيران، والعراق والحجاز، والسيكاه. . . الخ. . .
وهي نغمات فارسية أصيلة تدل على قدرة عالية ومكنة متمكنة لا حد لها. . .!
قد يقال إن السلّم عربي، ولكن الأسماء هي الفارسية؛ وربما يستدل على هذا بما قاله الدكتور (هنري فارمر) من (أن ابن مسجح تعلم فن الغناء الفارسي، وتلقى أيضاً بعض الدروس عن الموسيقيين الروم العازفين منهم على (البريطين) وعلماء الموسيقى النظرية، واستعان بما تعلمه في غربته على وضع نظام للنظرية الموسيقية رضى به رجال الموسيقى في عصره. على أن هناك ما يدلنا على أن ابن مسجح رفض الطرق الفارسية والرومانية التي رآها غريبة عن الموسيقى العربية. ومن هذا يستدل على أن هذه النظم الموسيقية المنقولة من الخارج لم تكن سابقة لنظرية الموسيقى الوطنية العربية. قد يقال هذا، ولكن أليس فارمر هو القائل:
(ليس من العسير الوصول إلى معرفة الزمن الذي انتقل فيه العرب فعلاً من طريقة الديوان الواحد (الأوكتاف) إلى طريقة الديوان المضاعف أو الجمع التام، ففي أيام إسحاق الموصلي والكندي ويحيى بن علي والفارابي وإخوان الصفاء كانت أوتار العود الأربعة تسمى من الأعلى إلى الأدنى: زير مثنى، مثلث، بم، والاسمان الأول والأخير فارسيان)
فكيف يستعين الإنسان بأسماء غريبة عن لغته. ثم يدعي بعد هذا أن السلم له؟ إن العقل ليقف قليلاً متسائلاً:
كيف يوفق العرب إلى خلق السلم ثم لا يوفقون إلى خلق الأسماء فيسمونها بأسماء إيرانية بحجة أن نفوذ الفرس أدّى إلى هذا!
ثم إذا فرضنا جدلاً أن السلم لا يمت إلى الإيرانية إلا بالأسماء فقط فكيف عجز العرب إلى اليوم عن تعريبها وتسميتها بأسمائها؟!
هذا من الناحية الشكلية والعقلية (للسلم) الذي لا نزال نستعمله إلى اليوم بأسمائه الإيرانية(300/77)
من مئات السنين. وقد حرصنا ألا نسهب فيه من الناحية التحليلية الفنية البحتة حتى لا يتسرب الملل إلى نفس القارئ أما من الناحية التاريخية فإن الفرس قد سبقوا العرب في الاهتمام بالموسيقى اهتماماً عظيماً حتى تأثر العرب بها تأثيراً كبيراً، و (طويس) أول من غنى بالعربية غناءً إيقاعياً، تعلم الغناء من الفرس، وكذلك سائب خائر الذي تأثر بنشيط الإيراني ونقل مثل غنائه إلى العربية وحاكاه في العزف على العود بعد أن كان العرب لا يعرفون في غنائهم إلا (القضيب)
وابن مسجح الذي احتج به الدكتور هنري فارمر كان أول من نقل الغناء الفارسي إلى العربية وقد أخذ عنه ذلك - كما قلنا قبلا - ابن محرز ومعبد وابن سريج والغريض.
ولعل في هذه العجالة الصغيرة ما يعطي القارئ صورة عن الموسيقى الإيرانية، وفضل الفرس في هذا الميدان الذي سبقوا جميع الشرق فيه حتى يعلم الجميع أن الموسيقى لم تقم بواجبها الحق أو لم تمكن من ذلك أمام سيد البلد الذي ترعرعت فيه الموسيقى وازدهرت ازدهاراً نقل عنه الجميع. . .!
محمد السيد المويلحي(300/78)
البريد الأدبي
عطف ملكي كريم
تلقينا من ديوان حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء هذا الكتاب الكريم الذي نتشرف بنشره:
حضرة المحترم الأستاذ أحمد حسن الزيات.
أتشرف بإبلاغ حضرتكم الشكر السامي على النسخة التي قدمتموها إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم من عدد الرسالة الممتاز الخاص بالهجرة.
وتقبلوا حضرتكم وافر الاحترام
تحريراً في 26 مارس سنة 1939
كبير الأمناء
محمد سعيد ذو الفقار
حول إنسانية الرسول
قد قرأت ما كتب الدكتور زكي مبارك في إنسانية الرسول في العدد 297 من الرسالة الغراء، وقرأت ما عقب به الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في العدد 298، فوجدت كلا منهما قد غلب على قلمه فغالى فأخطأ. ومغالاة الأستاذ الصعيدي وخطؤه على قلته أعجب عندي من مغالاة الدكتور زكي مبارك وخطته على كثره. فالدكتور لم يتضلع من علم الأزهر ولا من فقه الإسلام وإن كان قد تقدم للعالمية المؤقتة منذ عامين. والقدر الذي عرفه في الأزهر أيام كان أزهريّاً قد عفت عليه السنون الكثيرة التي قضاها خارج الأزهر في جوه غير جوه الديني، بين القاهرة وباريس. ومن هنا الغلطة التي أخذها عليه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي من تصويره شخصية الرسول غير مدروسة حق الدرس في البيئات الإسلامية. ومن هنا المعاني الشاذة الأخرى التي يعرفها القارئ في لحن مقاله مما لا يسنده فيه كتاب ولا سنة ولا عقل: من نحو أن النبوة تكتسب، وأن وحي السماء ينزل على الرسول صلوات الله عليه هو من هذا الذي يسميه الدكتور وحيا يهبط كل وقت من(300/79)
السماء!
هذا وأمثاله ليس غريباً أن يقع فيه مثل الدكتور زكي مبارك لأنه لم يقل هذا لقال كما تقول جماعة المسلمين. ولكن الغريب أن يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في خطابه: (والذي يعرفه المسلمون جميعا أن الوحي لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وسلم شأن في أمور الدنيا). هذا غريب من القول فيه غلو كبير من غير شك، وعبارته من غير شك أعم كثيراً من المعنى الذي إليه قصد. فتأبير النحل الذي ضربه مثلا ليس هو كل أمور الدنيا، ولا هو مثال لأهم أمور الدنيا، وإنما هو مثال لدنيا الناس التي يعرفونها بالتجربة من نحو حرث وزرع وسقي وصناعة، فهذه لم يأت الدين ليعلمهم إياها وإنما وجههم إلى البحث فيها ووكلهم في التفاصيل إلى نتائج بحثهم وتجاربهم. أما غير هذا النوع من أمور الدنيا فالإسلام قد هدى الإنسان فيه، وهداه فيه بالوحي، كما يعرف الأستاذ من الآيات الكثيرة المتعلقة بالأحكام في القرآن. فليست هناك ناحية من نواحي الحياة إلا وقد شملها الإسلام بهديه ووحيه حتى ما يأكل الإنسان وما لا يأكل، وما يشرب وما لا يشرب، وما يلبس وما لا يلبس، وما يبدي من جسده وزينته وما لا يبدي، وحتى الاستئذان قبل الدخول والسلام عند الدخول لم يهمل الإسلام تأديب الإنسان فيه. فإذا كانت هذه الأمور وأمثالها ليست من أمور الدنيا فما هي أمور الدنيا يا ترى؟
إن الأمثلة التي ساقها الأستاذ في خطابه على أنها من أمور الدين أكثرها من هذا القبيل كعتاب الله سبحانه لرسوله في إذنه في غزوة تبوك لبعض من استأذنه من المنافقين في القعود، وفي قبوله الفدية ممن قبل منهم من أسرى بدر. هذا كله من أمور الدنيا في الصميم. وإذا لم يكن القتال وأموره من أمور الدنيا فماذا يكون؟ طبعاً هذا كله أيضاً من أمور الدين، وهذا بالضبط هو الدليل الذي لا ينقض على أن أمور الدنيا في الإسلام جزء من أمور الدين
بقيت نقطة في خطاب الأستاذ كان يحسن أن يحتاط لها فيستتمها ولا يتركها كما تركها. فقد قال إن أكثر العلماء جوّزوا على النبي صلوات الله عليه الاجتهاد في أمور الدين بدون الوحي (وجوزوا عليه الخطأ فيها أيضاً) وسكت عند هذا. ولا عند هذا يكون السكوت، فإن إطلاق القول هكذا يوهم أن كثرة العلماء أو قلتهم ترى أن بعض أحكام الدين التي جاءتنا(300/80)
عن الرسول. يجوز أن تكون في ذاتها. هذا هو لازم القول بعدم الخطأ على النبي في الاجتهاد من غير تنبيه إلى الحقيقة الكبرى وهي إنه ما من خطأ اجتهادي وقع فيه النبي. ومن هنا الأمثلة غير الكثيرة التي عاتب الله فيها رسوله في القرآن. فكل ما لم يعاتب فيه النبي، وكل ما لم ينبه هو صلى الله عليه وسلم الناس إلى خلافه هو من الدين طبق مراد الله سبحانه، وإلا لأرشد سبحانه نبيه ورسوله إلى الصواب فيه
هذا ما نرى أن الأستاذ الصعيدي كان عليه أن يحتاط فيه للناس فينبه إليه حين كتب ذلك الخطاب. والسلام على الأستاذ.
محمد أحمد الغمراوي
إصلاح بيتين في مجلتين
قال أديب في مجلة مشهورة شهرية: (إن قول عديّ بن زيد العبادي:
ويلومون فيك يا ابنة عبدا ال ... له والقلب عندكم موثوق
خطأ، والصواب: موثق)
وعدي لم يقل (موثوق)، بل قال: موهوق، والموهوق المحبوس، ووهقه حبسه، والبيت من شواهدهم
وروى (فاضل) في مجلة شهرية أسبوعية بيتاً في أبيات لأحد الشعراء، والبيت هو:
وقبة ملك كأن النجوم ... تضيء إليها بأسرارها
والأبيات لعلي بن الجهم صاحب (عيون المها. . .) وقد حرم بيتَه ذاك الرواية الصحيحة في كل موضع ورد فيه، فكتاب ذكر تضيء وميم النجوم في آخر الصدر، ومجموع قال تصفى والميم المذكورة في أول العجز. وإني لموقن أن علياً قال:
وقبة ملك كأن النجو ... م تفضي إليها بأسرارها
وأفضى إليه بسره أعلمه به. والبيت من المتقارب، ومن المعلوم أن بحر هذا الشعر تتلاقى فيه العروض الصحيحة (والقبض فيها أحسن من التمام) والعروض المحذوفة. وقد بلبل ترتيب الصدور والأعجاز في أبيات هذا البحر كثيراً من الشعراء والأدباء - من شوقي والعقاد فنازلا - لتلاقي تلك الأعاريض التي تطول وتقصر. . .(300/81)
(* * *)
مسلمو يوغوسلافيا
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة:
قرأت مقالكم الشائق (رسالة الأزهر) وأعجبت به وهزتني نشوة الطرب لأنه بشير بعدة مقالات لعلمي بصرخاتكم الاجتماعية والدينية الاستنهاضية
بيد أنني قد رأيت في حكمك على مسلمي يوغوسلافيا شيئاً من الشدة لعل سببها عدم إلمام الذي رويتم عنه - بأحوال المسلمين هناك، وإني مسلم عربي أعرف أحوال المسلمين في يوغسلافيا وأدواءهم لأني عرفت القوم وعاشرتهم وأقمت بين ظهرانيهم
لذلك أعلن أن البوسنيين والهرسك وهما العنصران اللذان يدينان بالإسلام في يوغسلافيا - لا يؤمنون بالصوفية الزائفة ولا يدينون بالخرافات، إلا أن فيهم جهالاً وفي طباعهم شيء من الشدة وفي تمسكهم بالدين شيء من العصبية لعل سببها أنهم مطوقون بالأمم الأجنبية التي لا تعتقد عقيدتهم ولا تدين بدينهم
ولئن كانوا يمتازون عن مواطنيهم بشيء فإنما يمتازون عنهم بطرابيشهم الحمراء القانية وعمائمهم البيضاء الناصعة، ثم بجرأة المسلم وعزة المؤمن والنشاط الإسلامي الذي لا يلهي بدنيا ولا يصرف عن دين
ولئن كانت العجمة والأمية تحولان بين المسلم الأوربي وبين دينه، فطغيان العامية وانتشار الأمية، وشظف العيش، وأعاصير السياسة وعسف السلطات، والأمراض الفتاكة في الشرق العربي كفيلة بصرف المسلم عن دينه والحيلولة بينه وبين فهمه.
ولقد طفت الشمال الأفريقي كله وتجولت في مصر، والشام، والحجاز والعراق، واختلطت بالعامة وتغلغلت في طبقات المتعلمين فما وجدت فرقا بين هذه الشعوب.
وما أراها أحسن حالاً من مسلمي يوغوسلافيا ولا سيما إذا صرفنا النظر عن طائفة القرويين في مراكش، والزيتونيين في تونس، والأزهريين في مصر، وجماعة النجف الأشرف في العراق
فالمسلم العامي في يوغوسلافيا لا يختلف في عقيدته، وعقليته، وعاداته عن أخيه المسلم(300/82)
العامي في الشرق العربي، والمسلم اليوغسلافي الذي نزح إلى الشرق ودرس اللغة العربية لا يختلف عن أخيه المسلم الأزهري، والمسلم اليوغسلافي الذي تخرج في مدارس يوغسلافيا المدنية لا يبعد عن أخيه المسلم المصري الذي تخرج في جامعة فؤاد الأول. على أن المسلم اليوغسلافي لا يألو جهداً في فهم دينه بواسطة العلماء والكتب المترجمة، والتفاسير المنقولة إلى لغته أو غير لغته؛ أما كون هذه التفاسير أو تلك الكتب صحيحة أو غير صحيحة، فهذا ما نوجه السؤال عنه إلى مشيخة الأزهر.
والحقائق المرة التي نقررها والأسف يملأ جوانحنا هي أن الجهل لا يزال منتشراً بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الذين فهموا الدين أو قاربوا نهجه من المتعلمين لم يتجاوزوا العدد القليل بعد، وأن الجهل سبب ويلات المسلمين أينما حلوا، وأن الأزهر لم يؤد رسالته على الوجه الأكمل بعد، وأن مصر لم تقم بأعباء الزعامة الإسلامية التي تطفح بها صحفها صباح مساء، وأن الأغلبية من المفكرين والشباب الإسلامي في مصر لا يعلمون عن إخوانهم في الأقطار النائية قليلاً ولا كثيراً
حمدا لك يا حضرة الأستاذ وشكراً على اهتمامك بإخوانك وعنايتك بقضيتهم. وإنا معشر الغرباء والضيوف نهيب بحضرتك وحضرات السادة قادة الفكر الإسلامي، أن تؤدوا زكاة أقلامكم وتبذلوا لإخوانكم المسلمين شيئاً من عنايتكم وتنشروا عنهم الحقائق الصحيحة حتى يعلم قراؤكم العرب أن لهم إخوانا يمدون أيديهم للتعارف. وأملنا وطيد ورجاؤنا أكيد أن تعالج أنت القضية الإسلامية كما عالجت في الشهور الماضية قضية القضايا (الغني والفقر)، ورسالتكم كفيلة إن شاء الله بتحقيق كل أمنية، لأنها منتظرة كالحبيب، شافية كالمطهر، منتشرة كالقمر، محبوبة كالعافية. ونسأل الله أن يحقق آمالنا ويصلح أعمالنا ويوفقنا إلى فهم ديننا
علي محمد رفعت
مسلمون في فنلندا
هذا عنوان المحاضرة الطريفة التي ألقاها الدكتور بشر فارس في قاعة جمعية الشبان المسلمين في الأسبوع الماضي. وأولئك المسلمون لم يسمع بأمرهم قبل رحلة الدكتور بشر(300/83)
إلى بلاد الشمال سنة 1934. فلما لقيهم هنالك تتبع آثارهم وفحص عن أحوالهم الدينية والثقافية والاجتماعية وبحث في شؤونهم القومية والقانونية فخرج برسالة وجيزة نشرها سنة 1935 باللغة الفرنسية في مجلة الدراسات الإسلامية الصادرة في باريس
والمحاضرة جمعت بين الوصف والإخبار والتقرير، وقد قسم المحاضر الكلام، فتناول الدين والثقافة والقومية وشؤون المرأة على الترتيب، ثم تلا القرار الذي به اعترفت الحكومة الفنلندية بالدين الإسلامي وأعقبه بقانون الطائفة الإسلامية الفنلندية وهو على خمس وعشرين فقرة تحدد واجب أبناء الطائفة وتعين معاملة بعضهم لبعض وغير ذلك من الشؤون الخاصة
وبعد المحاضرة ابرز الدكتور بشر بعض صور بالفانوس السحري؛ منها صورة الإمام، وثانية لزفاف بنت الإمام، وثالثة لدكان أحد المسلمين الأغنياء، وأخرى لفرقة كرة القدم
وقد وقعت المحاضرة عند السامعين ألطف موقع لما اشتملت عليه من البيانات الجديدة في عبارة فصيحة وأسلوب جذاب.
اللغة العربية وتدريسها في بعض جامعات الصين
ورد من (هونغ كونغ) عاصمة الصين المؤقتة، أن وزارة التربية والتعليم هناك قررت تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية في ثلاث من جامعاتها ابتداء من العام الدراسي المقبل، واختارت لهذا الغرض ثلاثة من أعضاء البعثة الصينية بالأزهر الشريف، هم: السيد محمد مكين والسيد عبد الرحمن ناجون والسيد بدر الدين هاي ويليانغ
وسيتولى الأول تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الجامعة المركزية بهونغ كونغ، والثاني في جامعة يونان بكوتمينغ حاضرة مقاطعة يونان، والثالث في جامعة شمال الصين الغربي بخانغ شونغ في مقاطعة شينسي
ونذكر لهذه المناسبة أن السيد ناجون نال شهادة العالمية من الأزهر الشريف عام 1936، ونالها السيد هاي ويليانغ عام 1937 أما السيد مكين فقد نال شهادة الأهلية من الأزهر عام 1935 وسيتقدم لنيل إجازة التدريس من دار العلوم في الصيف القادم
رقص ورقص(300/84)
سيدي الأستاذ الزيات:
طالعت اليوم مقال الأستاذ العقاد (رقص ورقص) وقد ملأني الحماس والفرح وكلما اكتملت جمهرة من الإخوان قرأت على مسامعهم تلك الكلمات الحقة التي أجمع الكل على صحتها، فهو يعبر فيها عما يخالج كل مصري يهوى الموسيقى. وقد اتفق صدور المقال في يوم الذكرى الثانية عشرة بعد المائة لوفاة الموسيقي العظيم بيتهوفن، وأحيت محطة إذاعة أنقرة (التركية) تلك الذكرى بمقطوعات من ذلك الشاعر الموسيقي. وفي اليوم السابق سمعت أغاني وطنية من محطة روما. والحقيقة أن الإنسان قد حرم على نفسه المقارنة أو المشابهة لأنها كانت تنتج الحسرة والألم
أنعقد مؤتمر الموسيقى الشرقية منذ أعوام وسمع أغانينا وسجلها على أقراص احتفظت بها وزارة المعارف، وقرر التمسك بالموسيقى المصرية لمصر، وما كانوا إلا مؤتمرين هازئين بالموسيقى الشرقية ولا حاجة بي أن أردد شعورهم نحونا لأنه مفهوم. وقد كتبت مرة في المجلة الموسيقية أحبذ نشر الموسيقى الأسبانية لأنها سلالة من الأغاني العربية درسها الأوربيون وتتلمذوا عليها ثم كيفوها حسب طبيعتهم، وتغنوا بها، فصارت عالمية تعبر عن الشعور والإحساس والعواطف. وأمامنا الموسيقى الروسية، وهي تلائم شرقيتنا. ولم لا تبدأ مراقبة الموسيقى بوزارة المعارف في تعليم الناشئة أغاني الأطفال التي أصبحت عالمية يتغنى بها الطفل الإنجليزي الألماني والهولندي وغيرهما كل بلغته، وهي سهلة سائغة محببّة للنفس. تلك كلمات سريعة أذكرها وأفوض لأستاذي العقاد وللفنان المويلحي أمر تلك المسألة الحيوية
(أسيوط)
دكتور حسن إبراهيم وهبه
حول عياش بن أبي ربيعة
حضرة أستاذنا الزيات
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد قرأت بالعدد رقم 297 من الرسالة للأستاذ كامل محمود حبيب قصة إسلام عياش بن أبي ربيعة وافتتانه ثم عودته إلى حظيرة الإسلام بعد أن نزلت(300/85)
الآيات: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم. . .) إلى آخر الآيات الشريفة
غير أن الحقيقة المذكورة في كل مراجع السيرة هي أن الآيات لما كتبها عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرسلها إلى هشام ابن العاص (الثالث الذي واعدهم على الهجرة) لا إلى عياش (كما هو مذكور في قصة الأستاذ)
فعمر رضى الله عنه يقول:
- (فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص) وقال هشام في ذلك:
- (فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى. . .) إلى آخر حديث هشام
(المنصورة)
دروش الجميل
تنبيه مهم
وقع في الآية الكريمة التي استشهدت بها في آخر مقالي في العدد الماضي من الرسالة تحريف بتقديم كلمة (الكافرين) على كلمة (المنافقين) وصحتها: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) فأرجو كل قارئ أن يتفضل بتصحيحها في العدد الذي عنده
الغمراوي(300/86)
رسالة النقد
في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
- 3 -
يعلم الله أننا ما نقصد بنقدنا هذا تجريح الأستاذين الفاضلين والعالمين الجليلين العوامري بك، والجارم بك. فإن حقهما علينا مرعي، ومقامهما لدينا كبير. وإنما أشفقنا على العربية التي وقفنا حياتنا على خدمتها أن يشيع في طبقات أهلها ما اعتقدناه مجانباً للصواب ومتجانفاً من الحقيقة التي ننشدها وينشدها معنا صاحبا العزة الشارحان للكتاب
أشفقنا على الحقيقة أن يضل الناس في أمرها، وقد شاع الكتاب وذاع وانتشر في شرق وغرب، وتناوله كل أديب واحتواه قمطر كل طالب. فأحببنا أن يصحح كل قارئ نسخته ليقرأه بعد ذلك سليماً وليجعله إلى الصواب محجة لا أمت فيها ولا عوج
ودليلنا على حسن النية أننا لا نعترض إلا على خطأ لا سبيل إلى التماس الصواب فيه، فأما الذي يحتمل الصواب ولو بوجه من الوجوه، وأما الخطأ الذي لا يوجب ارتباكاً في الفهم، فقد تركنا كل ذلك اتكالاً على فهم القارئ واجتناباً لأن نتهم بالاستكثار من عدالتهم والرمي بها جزافاً
في ص33 في رسالة سهل بن هارون التي يخاطب بها بني عمه يقول:
(وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم وإبقاء النعمة عليكم. ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم)
والكلام واضح لا يحتاج إلى تفسير، ولكن حضرتي الشارحين يأبيان إلا شرح ما لا يحتاج إلى شرح فهما يقولان:
(قوله (فيما بيننا وبينكم). (في) هنا للسببية أي بسبب ما بيننا وبينكم من صلة القرابة أي إن عدم خطئنا سبيل حسن النية إنما هو بسبب ما بيننا وبينكم من صلة)
وهذا كلام ظاهر التكلف: فيه تكلف في اللفظ بإخراج لفظة (في) عن معناها الأصلي إلى(300/87)
معنى السببية، وفيه تجوز في معنى الكلام وعدم إجراء له على وجهه المتبادر. وإنما المعنى المفهوم الذي تدل عليه الألفاظ بوضعها الحقيقي الأول هو: إننا لم نكن غير حسني النية في الأمر الذي نحدثكم فيه وهو تصويب الرأي في البخل وعده حزماً وحيطة
هذا هو الأمر الذي بينهم وبينه وهو الذي بني عليه رسالته من أولها إلى آخرها. أفرأيت أيها القارئ أننا لم نكن بحاجة إلى جعل في للسببية وتفسير ما بينه وبينهم بالقرابة وهي لم يجر لها ذكر في الرسالة؟
في ص 34 يقول سهل: (إن من أعظم الشقوة وأبعد من السعادة أن لا يزالُ يتذكر زلل المعلمين)
وفي الشرح يرتكب الشارحان خطأ ظاهراً بجعلهما أن في قوله (أن لا يزال) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا يزال خبر لها. وقد تبع ذلك أن ضبطا الفعل يزال بالضم لأنه في نظرهما لم يسبق بناصب ولا جازم، كما تبع ذلك أيضاً أن فصلا أن من لا في الرسم لأنها حين لا تكون ناصبة تفصل من حرف النفي
ولسنا بحاجة إلى الإطالة في شرح هذا المقام وبيان ضرورة جعل أن مصدرية ناصبة للفعل، لأن شرط جعلها مخففة من الثقيلة أن تكون مسبوقة بيقين أو ظن، ولم يسبقها هنا شيء من ذلك
وهذه قصة صغيرة وردت ضمن رسالة سهل نوردها لحسنها في ذاتها أولاً، ولنذكر بعدها تعليقاً للشارحين على جملة منها أعرباها إعراباً غريباً ثم شرحاها شرحاً مضطرباً ينقض آخره أوله
وهذه هي القصة ص 46
(حدث أحمد بن رشيد قال: كنت عند شيخ من أهل مرو لا تريده، هو مالح! قلت: هات من كذا وكذا قال: لا تريده، هو كذا وكذا، إلى أن عددت أصنافا كثيرة. كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إلي. فضحك أبوه وقال: ما ذنبنا؟ هذا من علمه ما تسمع. يعني أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم)
أما الجملة التي نؤاخذهما على إعرابها وشرحها فهي (هذا من علمه ما تسمع) فقد أعرباها هكذا: هذا مبتدأ و (من علمه) جار ومجرور خبره وما بدل من ذا في هذا) وهذا الإعراب(300/88)
خطأ لا يبرره أي تمحك مما اعتاد المعربون أن يلجئوا إليه، لأن الإعراب فرع المعنى كما يقولون
فلننظر قبل في المعنى الذي فهمه الشارحان من الجملة. قالا: (أي هذا الذي تسمعه ناشئ من علمه ولم يلقنه بل هو من سجيته)
وهذا كلام متناقض، كيف يكون الذي تسمعه ناشئاً من علمه ثم يكون لم يعلمه ولم يلقنه؟ وهل العلم إلا بالتعليم، فكأنهما قالا: تعلمه ولم يتعلمه فيكونان قد أثبتا شيئاً ثم نفياه في حال واحدة
إنما المراد لقائل الكلام هو أن هذا الذي بدا من كلام الصبي لم يصل إليه من طريق التعليم ولا التلقين وإنما هو وحي الطبع وإرشاد السليقة؛ وإذا كان كذلك فهو غير داخل في باب التعليم وإنما هو إلهام وغريزة مركبة في النفس. وحضرتا الشارحين أولى منا بفهم الفرق بين الغريزة والكسب لأن هذا من مباحث علم النفس الذي طلباه في أوربا وبه امتازا على إخوانهما ونالا مناصبهما العالية
ومن أجل ذلك وجب أن تقرأ الجملة هكذا: (هذا من علمه ما تسمع) ويكون الكلام على الاستفهام الذي يراد به النفي وتكون الإشارة في (هذا) إلى الصبي. والمعنى أن هذا الصبي لم يعلمه أحد ما صدر منه في جواب الممتحن وإنما أجاب بما ركز في طبعه وثبت في نفسه من طبيعة البخل المتوارثة في قومه
في ص66 في حديث بخيل عرف فضل ماء النخالة في شفاء السعال وفائدته في الغذاء، فقال لامرأته: (لم لا تطبخين لعيالنا في كل غداة نخالة فإن ماءها جلاء للصدر وقوتها غذاء وعصمة، ثم تجففين بعد النخالة فتعود كما كانت فتبيعين إذاً الجميع بمثل الثمن الأول ونكون قد ربحنا فضل ما بين الحالين)
ويعلق الشارحان على عبارة (فتبيعين بمثل الثمن الأول) بقولهما: (الجميع أي دقيق القمح ونخالته. أما الدقيق فلأنه باق على حاله، وأما النخالة فلأنها عادت بالجفاف كما كانت)
سبحان الله! ما رأيت كتكلف هذا الشرح. من أين جاء الشارحان بالدقيق وهو لم يرد له ذكر في الكلام؟ ومن أين لهما هذا الخيال الذي تصورا به أن هذه الأسرة قد استغنت بماء النخالة عن كل طعام وشراب فلم تعد بعد بحاجة إلى الدقيق؟ إن أحداً لا يعقل هذا!! ولكن(300/89)
الأمر أيسر مما عسّرا وأبسط مما ركّبا، وذلك أن الرجل لما رأى في ماء النخالة غذاء وشفاء عرض له أن يستفيد من ذلك، فتقدم إلى امرأته بأن تطبخ للعيال كل غداة نخالة ليكون في متناول حسائها غنية عن أكلة من أكلات اليوم، ثم هو يوجهها إلى تدبيره المحكم بقوله (فتبيعين إذا الجميع بمثل الثمن الأول) يريد إنه إذا تجمع عندها مقدار صالح من مطبوخ النخالة بعد تجفيفه باعته بمثل الثمن الذي اشترته به لأن النخالة لم تتغير حالها بعد الطبخ عما كانت عليه قبله
فقد بأن مقدار التعسف في هذا الشرح بتصور القمح وطحنه وإبقاء الدقيق والاستغناء بالنخالة عن كل طعام آخر وأن أصحاب هذا التدبير قد وفقوا إلى أن يعيشوا حياتهم كلها بفرق ما بين النخالة جديدة ومطبوخة
فيا الله أيها الشارحان إذا كنتما جادين في هذا الخيال وقد اقتنعتما به، فلم أشتري الرجل وامرأته القمح وتكلفا طحنه ثم بيع الدقيق الذي بقي بحاله والنخالة بعد طبخها؟
أما كان يكفيهما أن يشتريا النخالة وحدها ليأخذا فائدتها ثم يبيعاها مسلوبة الفائدة فلا يكونان بحاجة إلى كل هذا التعب؟ ولكن تكلف الشارحين وتعسفهما قد جعلهما يكلفان الرجل والمرأة كل هذه المشقة في أمر معاشهما
(للكلام بقايا)
محمود مصطفى(300/90)
الكتب
حياة الرافعي
تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان
للأستاذ محمود الخفيف
عرفت الرافعي رحمه الله، واتصلت بيني وبينه أسباب المودة في دار الرسالة أعواما ثلاثة؛ وأعرف سعيداً - متعني الله بطول صحبته - معرفة وثوق وخبرة. لذلك أراني شديد الغبطة أن أقدم إلى قراء العربية كتابا عن الرافعي جرت به براعة سعيد. . .
يعتبر هذا النوع من الكتب (كتب التراجم) من أهم أبواب الأدب عند الأمم الغربية؛ ولقد عظمت عنايتهم بتلك المؤلفات التي يجمع الواحد فيها بين دفتيه حياة رجل كان له في الحياة الإنسانية خطره وكانت له فيها رسالته؛ ولذلك كانت تلك الكتب واسعة الانتشار إذ يجد القراء فيها إلى جانب الدراسة والتحليل المتعة واللذة، وأي متعة أدبية هي أجمل من أن تصاحب عظيما لحظة من الزمن على صفحات كتاب؟
ولقد صار هذا النوع من المؤلفات فناً بذاته وصارت له أصول وأوضاع كما هو الحال في القصص والشعر وغيرها من فروع الأدب؛ فلابد فيه من الإحاطة بالموضوع عامة وفهم فن المترجم له ورسالته خاصة، ولابد من سلامة المنطق وعمق النظرة وتقصيها؛ ولا بد من الإنصاف والنزاهة واللباقة، ثم لابد بعد ذلك مما يجب توفره في كل أثر أدبي من استقامة الأسلوب وجماله وبلاغته
فإذا أضفت إلى ما سلف معرفة الكاتب بالمترجم له وصلته به شخصياً، فهنا الكمال الذي لا مطمع بعده؛ وبقدر ما يكون من هذه الصلة تكون قيمة الترجمة وخطرها، ولذلك كان طبيعياً أن يعد هذا القسم الخاص من كتب التراجم أكثرها أصالة في هذا الفن وأعظمها استهواء للقراء، بله قيمتها من حيث صحة الإسناد وصدق الرواية
والرجل العظيم، كاتباً كان أو سياسياً أو جندياً أو ما سوى هؤلاء، لا يعرف من آثاره أو أعماله وحدها، فلابد من تمام المعرفة به من درس حياته، فمن ظروف تلك الحياة ولدت آثاره ومنها استوى له مزاجه ونشأ وجدتنه(300/91)
ولقد كان الرافعي فيما أرى من عظماء رجال القلم لا في مجال العربية فحسب بل في مجال الفكر البشري كله. وكان رحمه الله من ذوي الأصالة، تجيش نفسه بالمعاني كما يتفجر الينبوع بالرائق العذب، لأن من طبيعته أن يتفجر بهذا دون حاجة إلى مدد من غيره: فلقد حيل بينه وبين الأدب الأوربي لأنه لم يتحرك بلغة من لغاته لسانه، وحيل بينه وبين مناقشات الناس في مجالسهم لأنها لا تنفذ في مسمعيه، فلم يبق إلا أن يقرأ العربية ثم ينطوي على نفسه ينظر ويتدبر. . .
أعجب سعيد بأدب الرافعي ثم ابتغى إليه الوسيلة حتى لقيه فنشأت بينهما صلة، ثم توثقت الصلة فكانت مودة، وتزايدت المودة فصارت إخاء، ثم كان بعد ذلك ما يكون بين الصديقين الحميمين من زيادة الألفة ورفع الكلفة. وتسنى بذلك لسعيد أن يدرس الرافعي الرجل في شخصه وأن يستبطن دخيلة نفسه كما درس الرافعي الكاتب في آثار قلمه، ومن هذه الناحية كملت ترجمته فهي كما ذكرت الناحية التي تكمل بها التراجم
وأدب الرافعي ثروة عظيمة يضم إلى تراثنا، ودراسة هذا الأدب لاشك أمر مطلوب في ذاته لناشئة الأدب عامة؛ ثم هو أمر لا غنى عنه للباحث المثقف شأن كل أدب رسخ أصله وامتدت فروعه
والرافعي كغيره من فطاحل الكتاب لابد من معرفة حياته لنفهم آثاره، بل لعله أجدر بذلك من كثيرين غيره لما أشرت إليه من صفاته؛ هذا إلى إنه لابد في دراسته من هاد، فلقد يعظم ويسمو أحياناً حتى ليغدو كالجبل الأشم لابد لمن يريد ارتقاءه من دليل. اقرأ على سبيل المثال مقالاته في النبوة، واقرأ مقالاته: رؤيا في السماء، وابنته الصغيرة وبين خروفين وإضرابها تجد البرهان على ما أقول؛ ولقد يرق ويسهل حتى تصبح مقالاته كأفواف الزهر ولكن لابد ممن يشير إلى سر جمالها، ثم لقد يعمق ويدق حتى يصير كالجدول المتواري لا سبيل إلى معرفة منبعه إلا أن يهديك إليه هاد، خذ مثالاً لذلك مقالاته في الجمال البائس والمشكلة، ثم لا تنس أوراق الورد ورسائل الأحزان وأشباهها فإنك لن تفهمها حق الفهم إلا أن تعرف المنبع الذي تفجرت منه. . .
ويسرني أن أذكر أن الأستاذ سعيداً قد دلنا بكتابه على نواحي القوة والجمال في هذا الأدب الفذ، ثم لقد كشف لنا من أسراره وخبيآته، وفرغ من عمله على خير ما يرجى من الجودة،(300/92)
وهو بما يرشدنا ويدلنا يؤدي إلى الضاد خدمة من أجل الخدمات
هذا ويسرني كذلك أن أذكر دون أن أتحيز إلى سعيد، إنه قدم بكتابه هذا أقوى براهينه على أصالته، فلقد حيل بينه كما حيل بين أستاذه وبين الأدب الغربي في لغاته، ومع ذلك فإني لأشهد أن ما اتبعه في كتابه تلك الترجمة لا يختلف في جوهره عن أصول ذلك الفن. وفي ذلك دليل قوي كما أقول على إنه كالجواد الكريم، لم يأت كرم أصله من المحاكاة والتعلم، وإنما كان كرم ذلك الأصل طبيعة فيه لأنه هكذا خلق
سار سعيد سيراً منطقيا فتتبع حياة الرافعي في مراحلها دون تعثر أو ارتباك، ثم حلل ودرس المزاج الأدبي والنزعات الاجتماعية والسياسية التي امتاز بها عصر الرافعي، فكانت طريقته بهذا هي الطريقة العلمية، طريقة النظر والتبصر، وبها امتاز كتابه عن تلك الكتب التي تعمد إلى مجرد الحكاية والسرد، وإنك لتقرأ الكتاب فتحس كأنك صاحبت الرافعي وترتسم لك شخصيته قوية واضحة فتسأل هل كان مرد ذلك إلى حسن سياق الكاتب أم إلى شدة معرفته بمن يكتب عنه، ثم لا يسعك إلا أن ترده إلى ذلك جميعاً
وثمة حسنة في الكتاب زادتني محبة له، ذلك أن الدافع الأساسي إلى كتابته كما نعلم كان دافع الوفاء نحو صديق راحل فلم يحمل هذا الدافع القوي سعيداً على التحيز وعهده بصاحبه قريب، ورأيناه بصدقه. وإنصافه يرينا ناحية من نواحي قوته ككاتب. ثم لقد كان يجد نفسه أمام أمور دقيقة فكانت تواتيه فيها لباقة ترضي الذوق ولا تغضب الحق. . .
أما أسلوب سعيد فلست بحاجة إلى أن أتحدث إلى القراء عنه، وقد عرف القراء سعيداً بجمال أسلوبه وبلاغة بيانه قبل أن يعرفوه بكتابة هذا، وحسبي هنا أن أشير إلى إعجابي به
وعهدي بسعيد إنه يحب في إخلاص أن يعرف رأي المنصفين فيما كتب فيحفل بأن يسمع ما لا يرضيهم أكثر مما يحفل بالثناء والمجاملة وهي خلة تضاف إلى محامده، ولذلك أصارح سعيداً بأني كنت أحب منه أن يدرس أسلوب الرافعي وطريقته دراسة نقدية. ولقد يرد على ذلك بقوله إن لهذه الدراسة مجالاً غير هذا المجال، وهو رأي له وجاهته بل هو رأي أكثر كتاب فن التراجم وفي مقدمتهم أميل لدوج وأندريه موروا وغيرهما، بيد أني شخصّياً أرى أن الموضوع يكون بهذه الدراسة أتم وأجمل(300/93)
ولقد طبع الأستاذ سعيد كتابه طبعاً أنيقاً متقناً في مطبعة الرسالة وختمه بفهرست للموضوعات وثبت دقيق للأعلام والصحف والمجلات والكتب التي ورد ذكرها فيه
أهنئ الأستاذ سعيدا بكتابه الفذ الجميل وأكرر له إعجابي. ويسرني في خاتمة هذه العجالة أن أشير إلى معنى آخر هو أن كتابه هذا بموضوعه وبما سلك فيه من طريقة يعتبر من مظاهر التجديد في أدبنا العصري، ولذلك كم أراني مغتبطاً بالحديث عنه في هذا الموضع من سجل الرسالة!
الخفيف(300/94)
المسرح والسينما
حديث الأسبوع
625 جنيهاً تصرف يومياً على الفرقة القومية
أكدت لنا بعض المصادر العليمة أن حضرات النواب المحترمين الأساتذة عبد الحميد عبد الحق وسليمان غنام وأحمد أبو الفتوح سيتقدمون في هذه الدورة بسؤال إلى معالي وزير المعارف عن الفرقة القومية والرسالة الثقافية التي أدتها للبلاد وعن مبلغ الخمسة عشر ألفاً من الجنيهات التي تصرفها الحكومة إعانة لها. . . وتؤكد هذه المصادر أيضاً أن بعض النواب سينضم إلى الأساتذة مقدمي السؤال وأنهم سيطالبون بتوفير هذا المبلغ وتقديم جزء منه كإعانة للفرق الأهلية
والواقع أن هذه الفرقة يجب أن تحل لأنها تكلف ميزانية الدولة من المال مالا تستطيع أية حكومة في العالم أن تقدمه لمساعدة جميع الفرق في بلادها. وإذا عرف القارئ أن الفرقة تعمل في الموسم دورتين، وأن كل دورة تستغرق على أكثر تقدير أربعة أسابيع، وأن أيام العمل في كل أسبوع تصل إلى ثلاثة أيام لخرج بنتيجة وهي أن مدة عمل الفرقة في موسمها أربعة وعشرون يوماً. ومعنى هذا أن الحكومة تدفع لها كل يوم 625 جنيهاً مصرياً إعانة خلاف إيجار المسرح وأجور موظفيه وثمن التيار الكهربائي المستهلك والملابس المؤجرة وغيرها
هل يعرف حضرات النواب المحترمين هذه الأرقام المخيفة؟! إن البلاد الآن في عصر انتقال يتحتم عليها فيه أن تقضي على كل ضار فتمهد لبقاء الصالح. والتجارب العديدة أثبتت أن الفرقة القومية هزيلة الجسد لا تستطيع القيام بأعباء الرسالة الملقاة على كتفيها، وجدير بالحكومة أن تصرف الإعانة على مشروع جدي يعود بالخير على البلاد. . .
تقسيم جديد
قد يعرف المتتبعون للتطورات الفنية في البلاد أن ستوديو مصر كان قد استحضر خبيراً فنياً ليقدم تقريراً عن أوجه الإصلاح اللازمة للمؤسسة الفنية الكبيرة وأن الرجل قام بعمله وقدم تقريره ثم غادر مصر إلى فرنسا ثانية(300/95)
وعملت إدارة ستوديو مصر على تنفيذ تقرير مسيو أفنيون الذي اقترح وجوه إصلاح عديدة وبدأت في الأسبوع الماضي تنفيذ الجزء الأول منها وهو القاضي بالتقسيم الإداري والفني وتحديد السلطات، فأصبح الأستاذ محمد رفعت مديراً للإنتاجبدلاً من الهر فريتز كرامب الذي أصبح مستشاراً فنياً، وأسندت مهمة المدير الإداري إلى الأستاذ رجائي، ومهمة مدير التوزيع إلى الأستاذ موريس كساب وكل هؤلاء المديرين يعملون تحت سلطة المدير العام الأستاذ حسني نجيب
موسيقى للجميع
المفروض - فنياً - أن الجزء الأكبر من نجاح الأفلام يعود إلى إتقان الناحية الموسيقية فيها وهي ناحية لا نجد في مصر من المنتجين من يهتم بها، ولذا نشعر بالملال يسود نفوسنا في معظم الأفلام المصرية التي يعتمد فيها المنتج والمخرج وكاتب السيناريو وواضع الحوار و. . . المؤلف أخيراً. . . على الحوار
والواقع أن الموسيقى التصويرية في مصر تكاد أن تكون مهملة، لأن ملحنينا يتجهون إلى مناحي أخرى توفروا عليها. ولذا رأت السيدة بهيجة هانم حافظ المديرة الفنية لشركة فنار فيلم بصفتها رئيسة نقابة الموسيقيين المحترفين أن تسد هذا النقص الموجود بأن تضع عدة قطع موسيقية تصلح لشتى (المواقف) السينمية وأن تسجلها وتطبع منها نسخاً عديدة تعرض للبيع لمن يطلبها من أصحاب الشركات التي ترى نفسها في حاجة إلى سد هذه الناحية الواجب أن تملأ بما هي جديرة به من الاهتمام والإتقان الفني
حوريس(300/96)
العدد 301 - بتاريخ: 10 - 04 - 1939(/)
يا للجلال الصريع!
الملك غازي. . .
في ذمة الله نبعةٌ فواحة من أرومة الحسين، ذوت في ازدهار الربيع وغيَدان الصبى وفوران الأمل، ثم أسقطها الجفاف والري موفور والخصب شامل!
كان الملك غازي - تغمده الله برضوانه - مهوى قلوب العرب ومعقد رجاء العراق؛ لأن شبابه يرافيء شباب النهضة، وطموحه يجاري طموح العروبة؛ ولأنه من بعدُ وريث فيصل باني العروش وقائد الثورة. وكانت تباشير الصباح المسفر تنبئ عن الضحى الجميل والنهار الصحو، لولا أن للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول ولا تسير على رغائب الأنفس
عرفت خليفة فيصل وهو لي عهد، ولم أنل شرف لقائه وهو ملك؛ لأنني تركت العراق وأبوه لا يزال على عرش الرشيد يدبر الأمر بذكاء على ودهاء معاوية. وكانت جلساتنا الليلية في حديقة البلاط المزهرة المقمرة، حيناً في حضرة الملك وحيناً في حضرة خاله، تكشف لي قليلاً قليلاً عن مصاير هذه النفس الرغيبة الطيِّعة التي نبتت في هجير مكة وأزهرت في ظلال بغداد، فكنت لا أنفك منها أمام طبيعتين مختلفتين: طبيعة تتأثر بحاشيته فتسامح وتساير وتمرح، وطبيعة تتأثر بأبيه فتصعب وتسمو وتطمح. ولكن المقرر في الأذهان كان أن الشبل سينتهي بالضرورة إلى طبيعة الأسد مهما أثر فيه طبع الناس ونال منه قفص الحديقة
قلَّ في الشباب الملكي من كان كغازي في سماحة نفسه وسجاحة خلقه ونبل شعوره وسمو تواضعه وظرف شمائله. وتلك هي الصفات الهاشمية التي تنتقل في بني الحسين بالإرث، وتقوى إذا ساعدتها القدوة وساعفتها البيئة. ولكن ما ورثه هو عن أبيه صقر قريش من الجناح الزَّفاف، والبصر النفاذ، واللب الحصيف، كان يتيقظ رويداً رويداً مع الزمن والخبرة؛ فلم يكن بعدُ قد توثقت آرابه للاضطلاع بالعبء الفادح الذي ألقي على ظهره فجأة. والعبء الذي كان يحمله فيصل من أمور العراق هو العبء الذي قسمه الدستور على سلطات الدولة الثلاث فجمعه هو على عاتقه. من أجل ذلك لم يضع غازي يده من سياسة العراق العليا موضوع يد أبيه للتعديل والموازنة، وإنما تركها في أيدي الزعماء تجري(301/1)
سفينتها على مشيئة الريح، تضطرب حين تثور، وتستقر حين تسكن. ومن أجل ذلك امتحن الله الفراتين بالقوة الغشوم، فحكم الجيش، واستبد الطيش، واضطرب العيش، وسطت الأيدي المجرمة على عباقر الأمة. ومن أجل ذلك لا نتوقع لسياسة العراق بعد غازي ما توقعه لها الناس بعد فيصل. والغالب في الظن أنها ستجري في عهد فيصل الثاني كما كانت تجري في عهد فيصل الأول. فإن نوري السعيد الذي يقبض على سكانها اليوم هو تلميذ أبي غازي؛ وضعا معاً سياسة العراق الحديث على أساس من المرونة اللبقة، ثم ساساه بنوع من الدكتاتورية المعتدلة التي تسير مع النزاهة وتقف عند حدود العدل. ولعل هذه السياسة الفيصلية هي التي تقتضيها الحال اليوم بعد ما فت في أعضاد الشعب توزع الرأي وتقلب الهوى وتوقح الخصومة
إن مصرع الملك الشاب على هذه الصورة الأليمة فاجعة تدمى العيون وترمض الجوانح.
وإن العالم العربي كله ليشاطر العراق الحزين أساه على سيد شبابه ومناط أمله؛ ولكن للدواهي النُّكر صدمات تهز الشعور وتوقظ الفطنة، فتنبه على قدر ما تُذهل، وتوجه على أثر ما تُضل. والشعب العراقي من الشعوب الكريمة الحرة التي تصقلها الخطوب وتلمها الأحداث فتقف بفطرتها السليمة أمام الخطر هوىً واحداً ورأياً جميعاً وعزيمة صادقة. وسيرى الذين يتخيلون ويتقولون أن إرادته الصارمة الحازمة ستَثبت لدواعي الشقاق ونواجم البغي، وتُثبت أن عصر فيصل الثاني سيكون عصره الذهبي الثاني، فيشتد بنيانه ويمتد سلطانه ويتسع عمرانه وتهبُّ من جوف الهلال الخصيب عبقريات غفت في أحضان الخلود ولكنها لم تمت!
في ذمة الله نبعة فواحة من أرومة الحسين ومن دوحة فيصل، سقاها النبل الخالص، وغذاها الكرم المحض، وتعهدها الحفاظ الحر؛ حتى إذا أوشك الكم أن ينشق عن الزهر المثمرة قصفها الموت المفاجئ، فكان ذُوِيها حسرة في نفس شعب، وقرحة في قلب وطن!
برد الله ثرى غازي بالصيب الهتون من رحمته، وشعب قلب العراق بالصبر الجميل عن مصيبته، وجعل عهد المليك الطفل على العروبة والإسلام عهد سلام ووئام وبركة!
أحمد حسن الزيات(301/2)
دخيلة آسيا
للأستاذ عباس محمود العقاد
جون جنتر كاتب صحفي روائي ذو شهرة عالمية، بدأ حياته الصحفية في الحادية والعشرين من عمره حوالي سنة 1922 مخبراً في صحيفة شيكاغو دايلي نيوز الأمريكية، ثم أسندت إليه مراسلتها من عواصم أوربا والشرق الأقصى فأقام في لندن وباريس وبرلين وموسكو ومدريد وحواضر الصين واليابان والهند وكل حاضرة كان لها شأن في السياسة العالمية
واتصل بعظماء البلاد بين محادث ومجالس ومراقب، واستعان بالوسائل الكثيرة التي يستطيعها الصحفي الأمريكي من بذل المال وإقامة الولائم والتقاط الأسرار للإطلاع على دخائل الزعماء المحجبين في البيوت وفي دواوين الأعمال؛ ثم اعتزل الصحافة منذ ثلاث سنوات وتفرغ للتأليف في موضوعات تشبه موضوعات الصحافة، فكان تصنيفه الأول في هذا الباب كتاباً ضخماً يربى على خمسمائة صفحة كبيرة أسماه دخيلة أوربا ويشمل على نوادر مستملحة ومعلومات طريفة عن كل من عرف من الرجال، وكل ما عرف من الشؤون والأحوال؛ وهو محصول نفيس ولا شك يحتاج إليه كل من يعنيه أن ينفذ إلى حقائق الأمور في سياسة الدول الأوربية وسياسة العالم عامة
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في شهر يناير سنة 1936، وصدرت الطبعتان الثانية والثالثة منه قبل أن ينتهي الشهر، وأمامي الآن الطبعة الحادية والثلاثون منه؛ ولا يبعد أن تكون الطبعة الثانية والثلاثون في الطريق، وثمن النسخة نيف وستون قرشاً بالعملة المصرية. . . فلعلي لا أتهم غداً بالتحريض على جريمة قتل واغتيال إذا اطلع على هذه (الأسرار) أولئك الحانقون على كتابنا الكهول والشيوخ، لأنهم ناجحون!
وسر المؤلف بهذا النجاح فأقدم على تجربة ثانية باسم (دخيلة آسيا) في هذه المرة، تناول فيها عظماء اليابان والصين والهند وفارس وسائر العظماء الأسيويين، وكتب عن إمبراطور اليابان وقائد الصين وشاه إيران وغاندي وجوهرلال، وأجاد في هذه التراجم كما أجاد في تراجم المشهورين الأوربيين، فسيلقى كتابه الثاني من الرواج ما لقيه كتابه الأول؛ وسيقبل عليه الأمريكيون والأوربيون قبل إقبال الآسيويين وإخوانهم الإفريقيين عليه!(301/3)
ولما يصدر الكتاب بعد من المطبعة، ولكنا اطلعنا على نخبة من فصوله في المجلات المختلفة، ومن هذه الفصول نلخص بعض ما يطيب الإطلاع عليه لقراء العربية
كتب عن إمبراطور إيران صاحب الجلالة رضا بهلوي بعنوان (ملك الملوك) أو شاهنشاه بالإيرانية، فذكر جهاد جلالته في كفاح الجهلاء من رجال الدين الذين يحاربون الإصلاح باسم القرآن، وما يحاربونه في الحقيقة إلا بما يجهلون من العلم ومن القرآن، وذكر اجتهاده في تعليم نفسه وقال: إن ظهوره كان أكبر حادث في التاريخ الفارسي بعد أيام جنكيز خان، وإنه كان قبلة الآمال حين فكرت فئة قليلة من الشبان في إنقاذ البلاد من الفوضى والفساد، فجمع حوله ألفين وخمسمائة من الجند وتقدم إلى طهران في العشرين من شهر فبراير سنة 1921 فاستولى عليها بغير عناء
ويقول المؤلف إن الشاه يستيقظ في الخامسة من الصباح، وليس في المملكة موظف كبير إلا ويتوقع دعوة منه في أي وقت من أوقات الليل والنهار للحضور إلى القصر بعد خمس عشرة دقيقة، وهو يستحث وزراءه إلى العمل الناصب فيفخرون بالعمل ويفخرون بإيران
ويقال إن الشاه أوسع الملاك أرضاً في أرجاء القارة الأسيوية، وأنه يملك أعظم الفنادق الكبرى، ويجعل السياحة في البلاد الفارسية حكراً للدولة، وليس على الدولة ديون بل لها موارد في احتكار السكر والشاي والملح والتجارة الخارجية، والنقل والنفط وما إلى ذلك، وتنفق كلها على المرافق العامة والإصلاحات الداخلية. وقد وهب الشاه بلاده كل ما عنده من الذهب منذ عهد قريب.
ولا يطيق الشاه تعصب الجمقي من رجال الدين. فمن ذلك أن جماعة منهم هجموا على موظف أمريكي في السك القنصلي فقتلوه لأنه التقط صورة شمسية لمحفل من المحافل الدينية، وكانوا بقيادة رجل يزعم أنه من نسل النبي عليه السلام. فأمر الشاه بمحاكمته وصدر الحكم عليه بالموت، فمات، وكان عبرة لغيره من الجهلاء الذين يسيئون بهذه الحماقات إلى سمعة البلاد.
وقال إن الشاه تدرج في إلغاء الحجاب فأصبح نساء المملكة جميعاً سافرات، وإنه يقتدي بالغربيين، ولكنه لا يستسلم لأحد منهم في سياسة داخلية ولا سياسة خارجية. وقد ألغى خطوط الطيران الألمانية والإنجليزية وسمح للطائرات الهولندية وحدها أن تطير فوق(301/4)
بلاده، على أن تجدد الرخصة كل شهرين.
وندع ما أشار به الكاتب إلى (خصوصيات) الشاه، ونذكر بعض ما رواه عن (الإنسان الإله) أو إمبراطور اليابان ومن أنهم يستأنسونه شيئاً فشيئاً لأنه يعيش حتى الساعة عيشة الأرباب المعبودين، فلا يتكلم في المذياع ولا يجوز لأحد أن يصوره ولا أن يحدجه بنظره، وأنه مع هذا ينظم الشعر ويقيم في قصره مكتباً للمسابقات الشعرية تعرض فيه المنظومات كل سنة ويشترك الإمبراطور فيها وإن كان لا يشترك في الجوائز الممنوحة للسابقين
ونقل المؤلف عن بعض المصادر أن السياسي الياباني الكبير الأمير (إيتو) قد استشار بسمارك أثناء زيارته لبرلين في أمر الدستور والقواعد النيابية فقال له ضريبه بسمارك إن الشرط الأول لنجاح المملكة الدستورية هو اعتصام الملك بثروة كافية وافية. وعلى هذا يقول المؤلف إن رأس مال البيت الإمبراطوري هو الثالث أو الرابع بين رؤوس الأموال في الديار، وإن للإمبراطور أسهماً في كثير من الأعمال الصناعية والسكك الحديدية وخطوط الملاحة، ومع هذا لا يأذن العرف للإمبراطور بحمل النقود كما يقولون.
وكتب عن زعيم الصين (شيان كاي شيك) فقال: (إنه لغز من الألغاز النفسية لأنه لدود الخصام شديد الصرامة في النظام، ومع هذا يصفح عن كثير من أعدائه ويوليهم المناصب ويلقي عليهم التبعات.
يستيقظ عند الفجر ويدأب على العمل حتى المساء، ويحب أن يؤدي أعماله وهو مضطجع، وينام قليلاً أثناء النهار على صوت الأغاني التي تدار له على الحاكي، ويختار من الأغاني أنشودة دينية لشوبير، ويعلم مرءوسوه في الحجرة المجاورة أنه قد نام ساعة ينقطع الإنشاد.
لا يدخن ولا يشرب الخمر، وقلما يتعاطى القهوة أو الشاي، وله يومية يواظب على تدوين الملاحظات فيها؛ ويقال إنه نجا من الموت مرة بفضل هذه اليومية، لأنها وقعت في أيدي المعتدين عليه فقرءوها فبدا لهم الرجل في حياته الخاصة بعد قراءتها على صورة غير التي تعرضها لهم مغامراته السياسية، فأحجموا عن قتله
رياضته المختارة السير على الأقدام فوق التلال، أو تناول الغداء في الخلاء، ولا يزجى الفراغ في غير القراءة، وأكثر ما يقرأ في الكتب الصينية القديمة، وشعاره من كلام كونفشيوس الحكمة التالية:(301/5)
(من أراد أن يحكم أمة فعليه أن يحكم أسرة. ومن أراد أن يحكم أسرة فعليه أن يروض جسمه قبل ذلك بالرياضة الأدبية. ومن أراد أن يروض عقله فعليه أن يخلص في نياته ومقاصد حياته. ومن أراد الإخلاص في النيات فعليه التوسع في المعرفة)
ومفتاح أخلاق الزعيم الصيني العناد والصبر والمثابرة. ويبلغ من يقينه بصوابه أنه ينتظر من أعدائه أن يثوبوا إليه مع الزمن نادمين موافقين ولو طال الانتظار
مرتبه ألف ريال صيني في الشهر، وهي تساوي مائتين وخمسين من الريالات الأمريكية. وهو سعيد في حياته المنزلية تعاونه زوجة فاضلة من بيت كريم هو بيت أستاذه زعيم الصين الأكبر (سون ياتسين)
ولا يزال وفيَّا كل الوفاء لأستاذه الجليل. ففي صباح كل يوم من أيام الاثنين يقام في معسكره حيثما كان اجتماع عام يحضره نحو ستمائة من أعوانه، وتعزف الموسيقى سلاماً فيقف جميع الحاضرين، ويرفعون القبعات وينحنون ثلاثاً راكعين أمام صورة كبيرة لسون ياتسين، ثم يتلو شيان كاي شيك وصية أستاذه في خشوع واتئاد كما يتلو الصلاة، ثم يسأل الحاضرين السكوت دقائق ثلاثاً يعقبها بإلقاء موعظة تستغرق الساعة أو أكثر من ذلك، يعرض فيها على أستاذه أعماله وحساب أسبوعه كما يعرض المرؤوس تقرير الأسبوع على رئيسه الذي هو مسؤول بين يديه، ويظل السامعون والمتكلم واقفين طوال وقت الاجتماع، ثم ينفضون خاشعين بعد أن يؤذنهم الخطيب بكلمة الختام)
ويرى المؤلف أن شيان كاي شيك ربما كان اقدر أبناء الصين منذ العهد الذي بنى فيه الحائط قبل المسيح بثلاثة قرون
ولا يتسع المقام لتلخيص ما كتبه عن غاندي وجوهرلال وغيرهما من أعلام الهند والقارة الآسيوية، فلعلنا نرجع إلى تلخيص الطريف النافع بعد صدور الكتاب
عباس محمود العقاد(301/6)
البحتري أمير الصناعة
للأستاذ عبد الحرمن شكري
قيل إن أبا العلاء المعري شرح ديوان المتنبي وسماه (معجز أحمد) وشرح ديوان أبي تمام وسماه (ذكرى حبيب) وشرح ديوان البحتري وسماه (عبث الوليد). ولعمري لو كان شعر البحتري عبثاً ما احتفل له أبو العلاء المعري ولما سلخ زمناً من عمره في شرحه، وإلا كان المعري عابثاً لإضاعة وقته في شرح العبث. وهذا أمر يذكرني بكارليل والقرن الثامن عشر، فقد كان كارليل كلما ذكر القرن الثامن عشر في أوربا سماه العصر العقيم وعصر طاحونة المنطق، ويعني المنطق الفارغ وعصر الإلحاد؛ ولكنا لو درسنا مؤلفات كارليل لوجدنا أن أكثرها كان في دراسة القرن الثامن عشر ورجاله ونزعاته الفكرية والسياسية، ولو كان عقيماً ما حفل له ولا أهتم به كل هذا الاهتمام. وكنت أود أن أسأل شيخ المعرة، على ما له عندي من الاحترام والمنزلة، هل شعر الوليد (ويعني البحتري وهو الوليد بن عبادة) هو العبث أم الجناس والتزام ما لا يلزم هو العبث؟ وإذا تساويا في العبث فأيهما أحب؟ يخيل إلي أن المعري إنما أراد أن يداعب البحتري، ولعله في صميم قلبه كان يحب عبث الصناعة بدليل ميله إلى الجناس والتزام ما لا يلزم؛ والحب يجلب المداعبة ويغري بها كما يداعب المحب حبيبه، وقد يكون ثقل المداعبة دليلاً على شدة الحب الذي لا يجد تنفيساً وترويحاً إلا بالتثاقل بالمداعبة. وإذا أضفت إلى ذلك اعتزاز المعري بتفكير كثير ليس للبحتري مثله كنت قد جمعت بين شِقَّي المداعبة وسببيها. فليس من المحتوم أن يكون لها سبب واحد. على أن المعري يُغْري أحياناً بمعارضة البحتري في شعره، وهذه مداعبة أخرى في ثناياها الجد فقد قال البحتري من قصيدة:
وعَيَّرتْني سجال العُدْم جاهلة ... والنبع عريان ما في فرعه ثمر
أي أن الفقر لا يعير به الرجل كما أن الشجر النافع مثل النبع لا يعير بأنه ليس له ثمر. فقال المعري يعارضه:
وقال (الوليد) النبع ليس بمثمر ... وأخطأ سِرْبُ الوحش من ثمَرِ النَّبْعِ
يعنى بالوليد البحتري ويقول: إن قول البحتري إن النبع ليس له ثمر خطأ لأن النبع تصنع منه القِسىُّ وبالقوس يقنص الصائد سرب الوحش، فكأن سرب الوحش من ثمر النبع الذي(301/7)
ليس له ثمر من فاكهة النبات. فبالله أليست هذه دعابة؟ ثم أليست فكرة المعري مأخوذة من بيت البحتري، إذ يعنى أن النبع الذي يمد القانص بالقوس من خشبه لا يعير بأنه ليس له ثمر من فاكهة النبات لأنه يكون سبباً في اقتناص القنص فله مزايا؟ فأيهما إذاً العابث؟ على أنه لو كان شعر البحتري عبثاً لكان أفضل من كثير من عبث الحياة الذي يسمى جداً على سبيل تسمية الضد بالضد. ثم أما كفى المعري إضاعة وقته بشرح عبث الوليد في زعمه حتى يضيع جزءاً آخر من وقته بالإشارة إلى معانيه
والبحتري أقرب الشعراء في صناعته إلى أبي تمام وإن كان أبو تمام أكثر جرأة في تلك الصناعة وأعظم ابتداعاً. ونجد لأبي تمام معاني يجاريها البحتري، فأبو تمام يقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُويَتْ أتاح لها لسان حسود
فيقول البحتري في المعنى نفسه:
ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحاسد
وبيت أبي تمام أسير وأحسن معنى. وألاحظ أن الصناعة هنا هي التي أثقلت بيت البحتري وعاقته عن السير. أما أبو تمام فعرف كيف يجعل الصناعة خادمة للمثل السائر وأبى أن يعوقه بأن يحمله ثقلاً من الألفاظ، وهذا المعنى هو نصف الحقيقة المشاهدة في الحياة، والنصف الثاني من الحقيقة هو ما عبر عنه الشريف الرضي بقوله:
رُبَّ نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد
وهناك فرق قليل في المعنى بين بيت البحتري وبيت أبي تمام ولكن الموضوع واحد. وقال أبو تمام أيضاً:
لو سعيت بقعة لإعظام نعمي ... لسعى نحوها المكان الجديب
فقال البحتري:
فَلَو أنَّ مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وقال أبو تمام أيضاً في أرجوزة:
إن الربيع أثر الزمان ... لو كان ذا روح وذا جثمان
مصوراً في صورة الإنسان ... لكان بَسَّاماً من الفتيان
فقال البحتري:(301/8)
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد زاد البحتري في المعنى واختصر كلماته وأحسن سبكه. والحقيقة هي أن البحتري قلما يأخذ معنى إلا زاد فيه وأجاد سبكه أو تصرف في معناه. أنظر كيف أخذ قول أبي الصخر الهذلي:
تكاد يَدِي تَنْدَى إذا ما لمستها ... وتنبت في أطرافها الورق الخُضر
فالهذلي يقول إنه إذا لمس حبيبته أعدته بالحسن، ولكن أي حسن؟ حسن النبات، فجعل البحتري العدوى بحسن الإنسان فقال:
أغتدي راضياً وقد بتُّ غضبا ... ن وأمسى مولى وأصبح عبدا
وبنفسي أفدى على كل حال ... شادياً لو يُمَسُّ بالحسن أعدى
وقد ظلم أبن الرومي البحتري بقوله فيه:
كل بيت له يُجَوِّدُ معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب
فإننا لو شئنا لأتينا بأبيات يشترك في معانيها ابن الرومي ومن كان قبله من الشعراء. ويمتاز البحتري بجودة الصنعة، وكثيراً ما يزيد المعنى، أنظر إلى قول أبي تمام: (ولا يَحيِفُ رضا منه ولا غضب) وإلى قول البحتري:
يُرْتَجى للصفح موتوراً ولا ... يَهبُ السُّؤْدَدَ فيه للحَنَقْ
فصفح الموتور أعظم من صفح الغاضب، والشطر الثاني زاد المعنى بهاء. لا شك أن ابن الرومي كان أكثر ابتداعاً، وكان يجيد الصنعة ولكن للبحتري قطعاً لا يستطيع أبن الرومي محاكاتها في حلاوة الصنعة ولا سيما في المدح، ومدح البحتري كان أسهل متناولاً، ولعل هذا وحلاوة صنعته مما جعله مسعوداً لدى الممدوحين أكثر من أبن الرومي. والظاهر أن الأمراء، والوجهاء كانوا يسيئون الظن بمدح أبن الرومي أحياناً لأنه كان هجاء ساخراً، ومن كان كذلك حُمِلَ بعض مدحه على محمل السخر، وهذا أمر مشاهد في الحياة. أما البحتري فإنه يذكرنا بما يحكى عن أحد طهاة باريس الذي أجاد صناعة الطهي حتى أنه طبخ ذات مرة نعلاً سال له لعاب آكليه من جودة صناعة الطهي. وقد بلغت جودة الصنعة في شعر البحتري مبلغاً جعلها تحاكي العاطفة والوجدان كما نرى في بعض غزله، ولكن لو كان كل ما في شعر البحتري حلاوة في الصنعة لما حفل به أبن الرومي قدر ما حفل به؛(301/9)
وأما إتقان صناعة البحتري محاكاة صدق العاطفة فهي صفة في كبار الفنانين. فالممثل الكبير إذا مثل الحزن أو الحب لم تفرق بين الحقيقة والمحاكاة، بل إن المحاكاة تصير حقيقة حتى أن الفنان نفسه قد يخدع بمظهرهما في نفسه كما يخدع المعجبون بفنه، ومن أجل ذلك قد تختلط حقيقة العاطفة ومحاكاتها في حياة الفنان كما تختلط الحقيقة والعاطفة في فنه. أنظر مثلاً إلى قصة البحتري وغزله في مملوكه نسيم الذي كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يصنع فيه غزلاً من أرق الغزل ويعرضه على المثرى الذي اشتراه فيرد المملوك إليه هدية فيربح المملوك، ويربح ثمنه، ويصنع غزلاً من غزل محاكاة العاطفة، ولكن حلاوة الصنعة فيه تغطي على المحاكاة وتختلط الحقيقة والخيال فيه.
والمدح في شعر البحتري لا يقل كثيراً في جودته عن المدح في شعر أبي تمام. وإذا أردت أن تنتخب خلاصة الخلاصة لم تستطع ترك المدح من شعرهما. أما أبن الرومي فإن له أشياء في موضوعات وأبواب أخرى تلهيك عن مدحه عند اختيار خلاصة الخلاصة من شعره، وإن كان له في المدح قدرة كبيرة. ومن بديع شعر البحتري في المدح قوله:
تلقِى إليه المعالي قصد أوجهها ... كالبيت يقصد أَمّاً بالمحاريب
كالعين منهومةً بالحسن تتبعه ... والأنف تطلب أعلى منتهى الطيب
وقوله:
علا رأيه مرمى العقول فلم تكن ... لتنصفه في بعده وارتفاعه
وقارب حتى أطمع الغر نفسه ... مكاذبة في ختله واختداعه
فهذه الأقوال ليست صنعة فحسب بل هي أيضاً خيال وفكر. وأنظر إلى قوله في مدح قوم توارثوا خصال الحمد:
خلقٌ منهم تردد فيهم ... ولِيَتْه عصابة عن عصابَهْ
كالحسام الجراذ يبقى على الده ... ر ويفنى في كل عصر قرابه
أو قوله:
جهير خطاب يخفض القوم عنده ... معاريض قول كالرياح الرواكد
وهذا تشبيه بديع، وانظر إلى قوله:
مدرك بالظنون ما طلبوه ... بفنون الأخبار فناً ففناً(301/10)
وقوله:
وكأن الذكاء يبعث فيه ... في سواد الأمور شعلة نار
وقوله:
صحبوا الزمان الفرط إلا أنه ... هرم الزمان وعزهم لم يهرم
وقوله:
عليم بتصريف الأمور كأنما ... يعاني صروف الدهر من عهد تُبَّعِ
وقوله:
عَجلٌ إلى نجح الفعال كأنما ... يمس على وِتر من الموعود
وقوله:
وكم لبست الخفض في ظله ... عمري شباب وزماني ربيع
فمدحه حلو شائق سواء أكان المعنى سائراً مألوفاً أم كان جديداً مبتدعاً. أنظر إلى دقة المدح في قوله:
لم يرتفع عن مراعاة الصغير ولم ... ينزل إلى الطمع المخسوس إسفافا
ولكنه مع ذلك لا يخلو من أشياء فيها فتور الصنعة وتكلفها عندما تكون الصنعة قاهرة لعاطفته الفنية ومنافسة لها بدل أن تكون زميلتها أو خادمتها. وقد روى أنه أحرق أكثر هجائه الذي به فحش وأن كان في ديوانه القليل من هذا النوع وله في الهجاء أشياء مستحسنة مثل قوله:
تزيد الإهانة في حاله ... صلاحاً وتُفسِدُهُ التكْرِمهْ
وهذا البيت يصف الإنسانية في بعض حالاتها وهو في معناه شبيه بقول القائل:
يُصْبحُ أعداؤه على ثقة ... منه وخِلاَّنُهُ على وَحَل
تَذَلُّلاً للعدو عن ضعة ... وصولةً بالصديق عن نغَل
ومن مأثور هجاء البحتري قوله:
وبعضهُمُ في اختبارته ... يُحبُّ الدناءة حبَّ الوطن
والظاهر أنه لم يجد حباً أشد من حب الوطن كي يقارن به حب المهجو للدناءة. ومن المشهور قوله أيضاً:(301/11)
كل المظالم رُدَّتْ غير مظلمة ... مجرورة في مواعيد ابن عباس
مَنعْتنِي فرحة النجح الذي التمست ... نفسي فلا تمنعَنِّي فرحة الياس
وأبياته التي يقول فيها:
وبعد عن المعروف حتى كأنما ... ترون به سقم النفوس الصحائح
والأبيات التي يقول فيها (ويعتمد العتاب من السباب) وذمه على أي حال لا يقارن بهجاء أبن الرومي الذي بزهم جميعاً في بابه
والبحتري لا يُعني نفسه كثيراً بالتفكير في معضلات الحياة كما يفعل المعري، ولكن أمراً واحداً يفكر فيه كثيراً وهو تفاوت الناس في الحظوظ ولا سيما في قسمة المال حتى أن في بعض قوله نفحة من الاشتراكية؛ فهو يقول إن الغنى مفسدة والفقر مفسدة ويود لو تقاربت الحظوظ في المال، وهو يكرر هذا المعنى فيقول
كان يُحْيِي هالكاً من ظمأ ... بعض ما أوْبق ميْتاً من غرق
ويعني بالظمأ والغرق قلة المال وكثرته، ثم يكرر هذا المعنى فيقول
تفاوتت الأيام فينا فأفرطت ... بظمأن بادٍ لوحُةُ وغريقِ
وتمنيه في البيت الأول أن يسعد جميع الناس في الحظوظ يخالف قول أبن الرومي:
ومُحَالٌ أن يَسْعد السعداءُ ال ... دهرَ إلا بشقوة الأشقياء
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري(301/12)
خواطر
للأستاذ فليكس فارس
كنت كلما سمعت النشيد الوطني المصري: (بلادي بلادي) أحول ذهني إلى فكرة بعيدة حين تكرار اللازمة فيه وهي:
(تعيش بلادي ويحيا الوطن)
كان يؤلمني أن أسمع مثل هذا التركيب الغريب في مبناه ومعناه ولا أفهم كيف يتغنى شعب هو في طليعة النهضة العربية بمثل هذا الشطر وفيه العيش شيء والحياة شيء آخر، وفيه البلاد شيء والوطن شيء آخر!
ثم مرت الأيام فإذا هذه اللازمة مسبوكة في قالب آخر تنشدها الجماعات والأفراد ويتغنى بها الأطفال هكذا:
(تعيش بلادي ويحيا الملك)
لا أعلم كيف وقعت هذه القافية على آذان الشعراء والموسيقيين لأول ما سمعوها، بل لا أعلم كيفْ كتبها من أقرها دون أن يتمرد القلم على يده أو تتمرد أعصابه على أذنه!
أين القافية المماثلة لكلمة (مَلِك) في النشيد نفسه أو في أية قصيدة نظمت منذ قرت الأبيات على قواف؟
أما أنا فقد رأيت سبابتيَّ تسدان أذني عندما سمعت هذه اللازمة فترحمت على اصلها
ولا أزل حتى الآن أتألم كلما سمعت هذا القرار الناشز في نشيد الوطن؛ ويخيل إلى أن حورية شعري تبسط ذراعيها هاتفة:
(يعيش مليكي ويحيا الوطن)
فهل يقرّ إخواني هذا التصحيح لتأخذ به وزارة المعارف فتنقذ النشيد وتحمي ذوق الناشئة من الانطباع على رطانة قراره؟
في بريد الولايات المتحدة أن قرينة الأستاذ جيمس آرجويت توفيت منذ أمد قريب تاركة، بوصيتها لجامعة هارفرد، مائة وخمسين ألف دولار يتصرف بها أستاذ يعين لتدريس اللغة العربية واستخراج ما في كتبها خدمة للعلم في الديار الأمريكية
ليعلق المفكرون على هذا الحدث، كل بما توحي إليه عقيدته. ليقل البعض إن ما أبقاه(301/13)
الأجداد من تراث علمي وأدبي قد استنزفه الغرب فلم يبق فيه قطرة لرجال العلم في هذا العصر، وإن أدمغة العرب قد عقمت في هذه الأيام فليس فيها ما يُطمع به. وليقل البعض الآخر إن قرينة الأستاذ جيمس قد استهواها ما يبدو من أبناء وطنها من غرائب الأعمال. أما نحن فلا نملك القلم من أن يكتب تكراراً ما كتبه منذ سنوات ونشر في رسالة المنبر:
(إن هذه البلاد مستودع لأشرف الثقافات، ومكمن لأسمى المواهب، فمن واجب أجناد المنابر والأقلام فيها أن يظهروا هذه القوات لأبنائها نزوعاً بهم عن الانقياد لدخيلات العادات والأخلاق التي تغلبت عليهم بما وجدوه من التوهم في أنفسهم فاستصغروها)
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدى المساويا
في هذا البيت حكمة أصابت صميم الحقيقة في الشطر الأول، غير أنها قصرت في الشطر الثاني عن تصوير حالة الساخط النفسية؛ فإن من نقم على إنسان لا يقف عند إبداء مساويه بل يندفع إلى مسخ حسناته عيوباً
تلك حالة مستقرة في الطبيعة يصعب على الإنسان أن يحلق فوقها. ولكم نتمنى لو يخضد تهذيب النفس من شوكتها أو على الأقل لو انعتق الأدباء من سلطانها وهم الداعون إلى الإنصاف والمتجهون إلى المثل العليا
صديقنا الكاتب الروائي كرم ملحم كرم معروف في العالم العربي بآثاره الأدبية القيمة وصديقنا إلياس أبو شبكة كاتب من الطراز الأول وشاعر من طليعة شعراء هذا الجيل؛ ولست أدري أي شيطان نفخ بينهما فحول نورهما ناراً تتقد ولست أدري أيهما بدأ بإشهار الحرب لعدم اطلاعي على صحف بيروت كلها؛ غير أنني قرأت مجلة الأمالي فإذا فيها مقالات متتابعة يشن فيها الروائي الغارة على الشاعر ويتهمه بأنه سرق من شعراء الفرنجة جميع ما نظم في ديوانه (أفاعي الفردوس)
وعهدي بصديقي الأستاذ كرم عميق الغور رصيناً فإذا به يخرج من حلمه ويوجه نقده شتماً وتحقيراً، وما هذه الغضبة المضربة على قوله إلا غيرة على الأدب العربي وإشفاقاً على المسكين بودلير واضرابه، ينتزع منهم إلهامهم ويختلس ثمرات قرائحهم
وقد أورد صديقي كرم ما يزيد على عشرين قطعة من هؤلاء الشعراء باللغة الفرنسية وألحق كل قطعة بما اختلسه أبو شبكة وقيده لحسابه(301/14)
وهأنذا أورد أنموذجاً من هذه الأدلة التي يقضي بها الأستاذ كرم قضاء مبرماً على زميله:
أبيات أبي شبكة من قصيدة شمشون:
شبق الليث ليلة فتنزَّى ... ثائراً في عرينه المهجور
تقطر الحمّة المسعَّرةُ الش ... هباء منه كأنه في هجير
يضرب الأرض بالبراثن غضبا ... ن فيصدى القنوط بالديجور
ووميض اللظى يغلّف عين ... يه فعيناه فوهتا تنور
ونزا من عرينه تتشظى ... حمم من لظاه في الزمهرير
والهاث المحموم من رئتيه ... يشغل الغاب في الدجى المغرور
وهذه ترجمة الأبيات التي يتهم شاعرنا باختلاسها وهي من قصيدة آلهة الغاب لألفريد دي فينى:
(ورأى النمر جبابرة الغاب يذهبون إلى بعيد بالنمرة دون أن يتمكنوا من حجبها عن نظراته الملتهبة، فوجم وتململ، فاهتز الغاب لهزيم صيحاته، وتدفق الزبد من شدقيه سائلاً على لسانه المشتعل، واشتد احتدامه فانطلق محطماً قيوده)
ويقول صديقي كرم بعد إيراد شعر السارق الوقح وشعر المسروق المسكين:
أليس النقل حرفاً بحرف؟ ألم نقبض على اللص الأديب بالجرم المشهود؟ أيجوز للأدب العربي أن يرضى عن هذا الشعر المسروق حتى بتكته وحذائه؟
فليسارع إلى نجدة الأستاذ كرم للدفاع عن الأدب العربي من يشاء إذا وُجد أديب يأخذ بحكمه. أما أنا فأجيز لنفسي أن أقول إن قطعة دي فيني فضلاً عن أنها في واد وقطعة أبي شبكة في واد من حيث معناها ومبناها لأبعد حتى في اصلها الفرنسي من أن تداني أبيات شاعرنا العربي في سمو الخيال وروعة البيان
متى نحول إيماننا بكل ما هو غريب عنا إلى ثقة بأنفسنا؟ ومتى يسود التضامن والإخاء بين من لا يجدون غير النصب والشقاء في سبيل هذا الأدب العربي الذي تتوقف على إحيائه حياة الأمة العربية
(الإسكندرية)
فليكس فارس(301/15)
أعلام الأدب
سُوفُوكْلِيس
للأستاذ دريني خشبة
ظل سوفوكليس يمد المسرح اليوناني بروائع دراماته نيفاً وستين سنة، فكان عمراً ممدوداً مباركاً متصل الجهاد، وكانت حياته كلها كالحديقة الجميلة الغناء باسمة بالزهر يانعة بالثمر حافلة بالطير مزدهرةً بالألوان
وُلد سوفوكليس سنة 496 قبل الميلاد، في كولونوس؛ وكان أبوه سوفيللوس تاجر أسلحة ذا ثروة واسعة فنشأ ولده تنشئة راقية وضمن له حياةً مترفة مليئةً بالمناعم، وثقافة أثينيةً هي إلى الأدب والفن، أقرب منها إلى العلم والفلسفة، ويبدو ذلك واضحاً جلياً في جميع ما تركت لنا يد العفاء من دراماته التي بلغت ثلاثاً وعشرين ومائة فلم يصلنا منها غير سبع
ويبالغ التاريخ في وصف جمال سوفوكلس إذ هو صبيٌّ وإذ هو فَتىً؛ ويقال إنه لم يكن في أثينا كلها من كان يفوقه رشاقةً وتناسقاً وجمال تركيب، حتى إنهم اختاروه في الاحتفال بالنصر في سلاميس ليقود فريق المنشدين، فكان يتقدمهم عارياً مُجَلّل الرأس بالغار والأزهار، عازفاً على قيثاره أشجى النغم، فكان فتنة الاحتفال كله
وكان يجمع إلى جمال الجسم ورشاقة اللفتات محاسن النفس الخَّيرة وفضائل القلب التقي، فكان يحب الناس جميعاً ويقسرهم جميعاً على محبته والشغف بمواهب روحه
ولقد شدا الموسيقى - وربما الشعر - عن الفنان الكبير لمبروس، الذي كان له أكبر الأثر في توجيه سوفوكليس والذي حبب إليه الإنشاد وموسيقى المسرح فجذبه إلى الفن وأقصاه عن الفلسفة، وضمن له الظفر على أقطاب الأدب وفحول الشعر في عصره، وهو لما يزال شاْباً حدثَ السن
ويذكرون أنه نال أولى جوائزه، وكان منافسه إذ ذاك إسخيلوس الشيخ، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، بدرامة وطنية مفقودة تدعى (تربتوليموس). ويختلف المؤرخون في السبب الذي أظفر الشاعر الشاب بالشاعر الشيخ، واشهر الروايات أن إسخيلوس كان قد سخر بالآلهة سخرية واضحة لاذعة في درامته التي تقدم بها للمباراة مما أهاج الرعاع عليه وأثارهم ضده حتى كادوا يفتكون به وهو يمثل لولا أن حال أخوه بينه وبينهم، كاشفاً لهم(301/17)
عن ذراعه التي جرحت في سلاميس دفاعاً عنهم، وذياداً عن بيضة الوطن. . . ويقولون إن سوفوكليس كان قد أغرى القضاة بماله الكثير، وإنه نحَّاهم، وكانوا خمسة، حينما حان وقت فرز الأصوات وتقدم القادة العشرة المعجبون بدرامة سوفوكليس الوطنية فزخرفوا الحكيم ودلّسوا النتيجة وقضوا بالجائزة الأولى للشاعر الشاب. وأيَّاً كان السبب فقد ترك الحادث في نفس سوفوكليس أثراً عظيماً من الزهو ليس يعدله إلا أثر الحسرة والمرارة في نفس إسخيلوس. . . ولم يضار المسرح ولا الأدب بما حكم للأول على الآخر، فقد نظم إسخيلوس أسمى روائعه بعد ذلك، كما أن سوفوكليس صمد لخصمه، وراح يعزز فوزه بعشرات ثم عشرات من أرفع ما شهد المسرح من المآسي في جميع عصوره.
ذاك، وقد ظفر سوفوكليس بالجائزة الأولى عشرين مرة، وبالجائزة الثانية أكثر من ثلاثين، وقلما هبط إلى الجائزة الثالثة. ومهما يكن لأمواله من اثر في هذه النتائج الباهرة فمما لا ريب فيه أن أدبه وفنه ودقته كانت العوامل الأولى الأساسية في تعدد مرات انتصاره. . . أما إسخيلوس فقد فاز بالجائزة الأولى خمس عشرة مرة، على قلة منافسيه وهوان شأنهم، كما فاز بها يورببيدز - سيد شعراء الدرام - خمس مرات فقط
ولما كان سوفوكليس جميلاً بارع الجمال، فقد كان يقوم بنفسه بتمثيل أدوار النساء في صدر شبابه، كما ذكرنا أنه أدى دور نوزبكا في درامته (نسوة غاسلات). وكانت ظلال جماله تنعكس على فنه، فكان يؤثر البساطة في التعبير والتفكير، ويفضّل العاطفة الجياشة الثائرة على العقل الخامد الرزين، ولذلك لم يفكر في أن يرتفع إلى أفق إسخيلوس في برومثيوث مثلاً، لأنه كان يتجنب عمق الفكرة التي تجهد قرائح النظارة وتكمدها، ويؤثر أن يشب في قلوبهم حرائق من الألم والتأثر في روعة من الشعر العالي وجمال من الفن الدقيق.
وقد عاش سوفوكلس حياته الطويلة هادئاً لا يعكر صفوه شيء، حتى ثار في أعماقه شيطانه الفنان فوصل أسبابه بأسباب عادة سيئة السيرة فاسدة الخلق تسمى تيوريس - اضطره فنه على ما يبدو لنا من تحليل حياته إلى أن يتخذها خليلة تذكي مشاعره، وتصل إلهامه، وتحيي من قلبه موات الشيخوخة، وتدفئه من ريح العمر الباردة. . . لكن صلته بها قد افتضحت آخر الأمر، وكان ينفق عليها بسخاء غريب فثار ولده يوفون وشكاه أمام القضاء طالباً الحجر عليه وإقامته وصياً ليحول بين أبيه وبين تسرب ثروته وبعثرتها تحت قدمي(301/18)
تلك (المحظية) العابثة الهلوك!. . .
وهنا تكتسح عظمة سوفوكليس تدبير أعدائه، فإن ولده برميه أمام القضاة بتهمة العَتَه والسفه، فما يكاد يقولها حتى يقف الشاعر العظيم، ثم ينسخ التهمة بإلقائه وتمثيله إحدى قطعه الخالدة من درامته (أوديبوس في كولونوس) التي كان ينظمها خلال تلك المحنة، وسرعان ما يصفق له القضاة الذين خلبهم بشعره الرفيع الرصين، وفنه الجميل العالي، وتمثيله القوي الخلاب، ثم يحكمون بسلامة تفكيره وحريته المطلقة في تصريف شئونه. . . وهكذا اعتبر القضاة غرام سوفوكلس من شئونه الخاصة فلم يدمغوه بحكم يذهب بشرفه وربما كان يقضى على تلك العبقرية الرائعة التي عكست سناها على جميع العبقريات في جميع عصور المسرح.
. . . فغرام سوفوكلس بالغيد الأماليد لم يكن إلا إيحاءً فَنّياً تستلزمه حياة الفنان وتقسره عليه ميوله. ويكاد كل فنان يكون خاضعاً لمثل هذا الإيحاء، وقد خضع له إسخيلوس من قبل، فقد روُى أنه لم يكن يستطيع أن يحسن شيئاً من الشعر الرفيع إلا حين تلعب بلبّه حُميّا الخمر. وقد قال فيه سوفوكلس إنه نظم أبدع روائعه وهو لا يدري ماذا يقول ولا ماذا ينظم. . . على أن هذه المغامرة الغرامية قد ذهبت جُفاءً في حياة سوفوكلس، فلم تترك فيها وصمة، ولم تلطخها بالعار، بل على الضد من ذلك فقد زاد شغف الناس بشاعرهم العظيم حتى قيل إن طائفةً منهم عبدوه بعد موته عام 406 باسم الإله البطل دكسيون الذي يؤثر أنه ضاف في منزله الإله أسكلبيوس واعتبروا قبره طريق دكليا دار حج لهم
ولد سوفوكلس سنة 496 وتوفي سنة 406 ق. م وفاز على إسيخيلوس وهو في الثامنة والعشرين ثم لبث يمد المسرح نيفاً وستين عاماً درامتين كل سنة، فهو بذلك قد ملأ القرن الخامس العظيم من تاريخ أثينا بأدبه وروائعه، وشهد جلائل الأعمال التي تمت في هذا العصر وعادت بالخير الجزيل على اليونان خاصة وعلى الإنسانية عامة. . . لقد كان سوفوكلس أنضر زهرة في حديقة بركليس العظيم. . . لقد شهد نهضة الفن وساهم في نهضة الدرام، ووقف من شرفة برجه الرفيع يطلع على ذاك الصراع العنيف بين أثينا وأسبرطة، ويرى إلى الديمقراطية تصارع عسكرية الأسيرطيين فتساجلها مرة، وتواثقها مرة، ثم يموت بركليس فتسقط أثينا في الميدان وتغزوها أسبرطة بعد موت سوفوكليس(301/19)
بعامين (404). . . عاصر سوفوكليس هذه الأحداث الجسام لكنه لم يندغم فيها، لأنه كان يشهدها بطبع الفنان الذي يؤثر الراحة ويخلد إلى الأدب ويطلب السلامة، لا سيما إذا كان في مثل ثروة سوفوكليس وجاهه اللذين رشحاه لعضوية أعظم مجالس الأمة بالرغم من قلة درايته بالأمور الإدارية وعدم بصره بشئونها. . . حتى قيل إنه كان إمّعة بين زملائه يوافق إذا وافقوا ولا يدري على أي شيء يوافق، ويرفض إذا رفضوا ولا علم عنده بما يرفضون. . لكنه مع ذاك أديب أثينا وفنّانها وبلبلها الغرّيد الذي يهذب ويوحي ويلهم ويواسي ويُسلي ويبكي ويغني وينفذ إلى سُوَيْداءات القلوب
لقد كان إسخيلوس صارماً متجهماً يرمي بشرر كالقصر حينما يرتطم بالقضاء والقدر، وكان يؤثر الأسلوب الفخم في الأداء والعبارة الفصيحة والمجاز العميق، وكان ينقصه كثير من روعة الفن. . . أما سوفوكلس فقد خلص من كل القيود التي تحول بينه وبين قلوب الناس. . . إنه لم يرتبط بنظام الثلاثيات الذي أخذ به إسخيلوس نفسَه، بل كان يعمد إلى الموضوع الذي كان إسخيلوس ينظمه في ثلاث درامات فيجعله هو درامة واحد في ثلاثة مشاهد مستعيناً على ذلك بسرعة الأداء وتقصير الحوار وتركيز الغرض والمحافظة على الوحدة في العبارة السهلة والبيان الهيّن
وليس هذا هو كل ما أدخله سوفوكلس على الدرامة اليونانية بل لقد أدخل عليها ألواناً من التجديد لم يلبث الجمهور أن شغف بها وأجاد تذوقها، فمن ذلك اتخاذه المناظر المنقوشة ثم اقتصاده في التهويل في كل من الصوت والملابس التنكرية وإيثاره النشاط ومقته للحركة البطيئة التي تشل الممثل وتربكه وتذهب بروعة الأداء وتشوه جمال التمثيل. . .
لقد كان سوفوكلس وسطاً ما بين إسخيلوس ويوريبيدز، لأنه وإن يكن قد حافظ على العنصر الديني في معظم درامته فجرى بذلك في غبار إسخيلوس إلا أنه اقترب إلى الناس وابتعد عن الآلهة ولم يرفرف دائماً فوق شعاف الأولمب كما كان يصنع إسخيلوس. . . لقد عرف القلب الإنساني واكتشف ما فيه من الكنوز التي لا تقوم بدونها دولات الدرام. . . لقد لمح القبس المقدس الذي يعمر قلوب البشر. . . القبس الإلهيّ!. . . الحب!. . . لقد أشركه في دراماته ولم ينأ به كما صنع إسخيلوس. . . لقد جعل له نصيباً أوفى في توجيه كثير من درامته وحل عُقَدها. واستطاع أن يصوغ له اللغة البراقة الدفاقة والأسلوب المصطخب(301/20)
الملتهب فجاء كلامه عنه كلام المجرب ذي الصبوات
اسمع إليه ينظم للخورس هذه الأنشودة العالية في درامته أنتيجوني:
لله أنت يا حُب! أيها الظافر بنا في كل حَلْبة!
أيها المحارب الذي حطامنا أسلابه!
لله أنت إذ تكمن في خدود العذارى الناعمة كالمخمّل
تترصد فرائسك في غيهب الليل، طاوياً الموج
رفّافاً في الحراج والغاب، والهضاب والتلاع
وأكواخ الرَّعاء
لا يتعرض سبيلَك أحد.
الكل يخضعون لك
الناس والآلهة. . . سواسية جميعاً
كلهم مهزومون في ميدانك
يستولي عليهم جنونك
صناع يا حب! لشد ما تضل الهداة!
فيتردّون في التهلكة بأيديهم؟!
وكما أجاد سوفوكلس في كل ما كتب عن الحب الغرامي، فكذلك قد أتى في سائر ألوان الحب بما لم يستطعه غيره، ففي درامته إلكترا يصور لنا الحب الأخوي تصويراً رائعاً شائقاً ويعبر عن أحاسيس الطفولة تعبيراً هيّناً ليناً، فيه من ضَعْف الصغر وسذاجته وأحلامه ما يجعله أقرب إلى الطبيعة مما صنع إسخيلوس في أورست
كذلك كان سوفوكلس بارعاً إلى آخر حدود البراعة في تصوير شخصيات النساء. وقد عنى فيهن بناحية الضعف ولم يعن بناحية القوة والصرامة كما صنع إسخيلوس في كليتمنسترا. . . عنى بناحية المحبة والعطف والحدب والتألم والبكاء والخوف ولم يؤثر أن تكون بطلاته جبارات عاتيات كبنات لانوس اللائي قتلن أزواجهن ليلة الزفاف إلا واحدة، أو كزوجة ممنون التي تقتل زوجها وتؤثر عليه عشيقاً لم تحبه ولكن ربطه بها التدبير السيئ والمشاركة في الغرض الوضيع(301/21)
وقد ثار سوفوكلس على أحد الأوضاع الهامة التي أخذ إسخيلوس بها نفسه؛ فقد أجاز حوادث القتل وسفك الدماء على المسرح وكان بذلك يثير شجون ويمزق أحشاءهم من الألم، ففي درامته (أجاكس) ينتحر البطل وتتصبب دماؤه أمام المتفرجين، وفي أوديب يسمل الملك عينيه فينبجس الدم منهما ويصيح من الألم مستنجداً أن يقوده أحد. . . هذا إلى المشاهد التي كان يتجنبها إسخيلوس ويجنب نظارته شهودها. . . فقد أوقف سوفوكلس كليتمنسترا تبكي تحت سكين ولدها قائلة له: (حنانيك يا بني لهذا الثدي الذي غذاك بلبانه!) وتكون ابنتها إلكترا واقفة عن كثب فما تكاد استغاثة أمها تصك أذنيها حتى تقول محرضة أخاها على قتل أمه: (وهل استشعرت حناناً لك أو لأبيك من قبل؟). . . أو ذلك المشهد الرائع الفاجع من مشاهد (فيلوكتييس) حينما يظهر البطل في غمرة من الذهول فيملأ المسرح أنيناً ويثير في قلوب النظارة زوابع هائلة من الألم والوجد
يعد المسرحيون هذه الظاهرة عيباً في فن سوفوكلس، بيد أنه كان يوجه دراماته وجهات تحتم أن يعرض تلك المشاهد على نظارته، وكان له من روعة الفن وعبقرية الأداء ما يحيل هذه المجازر إلى ضرب من الاستمتاع غير المستكره، ليس مرجعه إلى ما فطر عليه الإنسان من ميول سادية، لكنه يستمتع بما فيها من جمال الحق وروعة الإيمان، ويزيد في استمتاعه أغاني سوفوكلس العذاب ولغته السهلة، وذلك الترابط الوثيق بين أجزاء المأساة، والتوازن بين حوادثها، وإحكام المؤامرة، والقدرة البارعة في حل العقدة، ثم ذاك (التكتيك) المنتظم المتزن الذي كان يعرض به مآسيه. . . هذا إلى سرعة الأداء بإظهار أكثر من ممثلين مرة واحدة في المسرح
أما المعين الذي كان يستقي منه موضوعات دراماته فلم يكن يعدو الشعر الغنائي الشائع وشعر ملاحم العصريين ثم هذا البحر الزاخر من الأساطير التي حشدها أركتنوس ولسبوس وغيرهما من الشعراء الأسطوريين في منظوماتهم، وقل أن كان يعتمد سوفوكلس على هوميروس أو على أحد من شعراء الدرام من معاصريه
دريني خشبه(301/22)
حديث السكوت
للشاعرة أيلا هوبلر ولككس
ترجمة الآنسة الفاضلة (الزهرة)
إن بحر السكوت الهائل المخيف يفصل بيننا
وأعرف أنك حيّ ترزق. . . وأنك تحبني. . .
ومع ذلك - فشدّ ما أتمنى أن تقبلَ إليّ من عبر المحيط -
سفينة بيضاء. . . تتحفني بكلمة منك!
إن الهدوء التام يرعبني بسكونه الصامت الرهيب
لا تعكّره في صدري خلجات الشك، وشبهات الارتياب، أو تهزه في عقلي خشية المداجاة
وتمويهات الإفك
فيا ليت موجة صغيرة من موجات اللسان، تلثم شطيّ الحزين الأبكم. . وتهز أعطافي. .
مثيرة رواكد هذا السكوت. . . غير المتناهي!
إنني ضائقة بهذا الإحساس العظيم بالحب، الذي عجمتُه دون قول، وأشر به قلبانا! وإنا
لنتبادل منه الشيء الكثير
بيد أني قد استروحتُ منه شذا حبّك الذي نفحني خلسة.
وكما يتسرب البخور الزكيّ النفّاذ من المجمرة، ويعقد سحبه في الفضاء، هو ذا حبّك قد
تكاثف حولي وشملني بفوحته المسكيّة، ولفّني في شملته العطرية
إن لغة الكلام غثّة تافهة، والألفاظ المحبّرة المسطورة جوفاء لا وجدان لها ولا معنى فيها.
. .
لذلك أطلب أن تحمل الصبا إلى مثواي نفحة من بليل نسيمها
تخفّف الضغط عن علمي التام بوجود الحبّ بيننا. . .
وتلطّف وطأة هذا السكوت الواصب الكتوم الذي يبهظ عقلي.
ما أشد إملاق الحبّ الذي يفتقر إلى الكلمة أو الرسالة، تمحو الشك، أو تغذي الجنان!
ولكنني مع ذلك ألتمس الكلمة والرسالة، رجاء أن تعززا حجج الحب وأسانيده التي
يجذمها السكوت ببلاغة تجاوز كل حدّ، ويقوض دعائم برهانها ويردهّا قميئة صاغرة(301/23)
وكأنما أفرغ عليها ذَنوباً. ويوجد بحراً عظيماً يفصل بين المتحاّبين فيجعلهما غريبين
وذلك لأن الإحساس لا يكفي لإبراز ما استسرّ في القلب، والاقتناع بوجوب الحب وتعرَّف
مخبره لا يقدران وحدهما أن يضفيا على الحياة رونقاً
والكلام إن لم يبرز بياناً واضحاً منسقاً، يعجز في التعبير عن جوهر المعاني والأشياء،
ويقصر عن تأليف صلة القربى بين الروحين
إن اللغة التي تتناجى بها الروح غاية في الغموض والخفاء
والغمرات التي تهيم نفسي في رحابها، وتثير خبرتي لججها، فيحاء مترامية
فارسل سفينة بيضاء من عبر بحر السكوت الرهيب الأفيح
واقطع حبل حديثه المسهب. . . وجدله المسترسل
بكلمة منك. . .
(الزهرة)(301/24)
وليم بتلر يايتس
الفنان الذي أوجد لأمة أدباً 1865 - 1939
للأستاذ عبد الكريم الناصري
(تتمة ما نشر في العدد السابق)
والحب عند يايتس صوفي، فذ في صوفيته ونقاوته. (هو لهب أبيض يحترق فيه كل ما له صلة بالأرض وبالتراب)
هو حب (شلى)، (آريلي)، حب مثالي لجمال مثالي
ولكن أين هذا المثل الأعلى من الجمال؟ إن دونه الكلال والملال، والهرم والشيخوخة، والصدى الذي لا يبل، والقلق الذي ماله من حد:
(خرجت إلى غابة البندق، لأن ناراً كانت في رأسي، فاقتطعت غصناً وقشرته، ومكنت بندقة من صنارة، ووصلت الصنارة بخيط، وساعة أن كان فراش العُث في جو السماء، وكانت النجوم تبزغ رفاقة خفاقة وكأنها الفراش، ألقيت الصنارة في الجدول فصدت سمكة فضية صغيرة، ثم وضعتها على الأرض ومضيت أنفخ النار لتلتهب، ولكن شيئاً حف على الأرض، وإنساناً هتف باسمي، وإذا بها أمست فتاة تكاد في الضوء الخافت المرتعش لا تبين، وفي شعرها زهرة تفاح، وقد هتفت باسمي وفرت واختفت في الفضاء الرفاف بأضواء اللهب
ألا إني وإن كان أهرمني التطواف الهائم خلال النجاد وخلال الوهاد، لواجد يوماً ملاذها ومأواها، فمقبل ثغرها ومتناول يدها، ثم سائر وإياها بين العشب المرقط الطويل، ثم مقتطف حتى آخر الزمان، تفاح القمر الفضي. . . وتفاح الشمس الذهبي)
ومَحْزنة الحب في هذه الدنيا أنه لا يدوم. إن يايتس ليعترف بهذه الحقيقة، ولكنه في بعض الأحيان يأبى أن يعترف:
(أيها الجبين الشاحب! أيتها اليد الساكنة! أيها الشر المظلم. . . لقد كان لي صديقة جميلة؛ ولقد خيل إليّ أن اليأس القديم سينتهي بالحب في النهاية، ولكنها نظرت ذات يوم في قلبي(301/25)
فرأت صورتك هناك فابتعدت باكية)
على أنه يؤمن بأن القلب إذا كان عاجزاً عن صدّ عاديات الزمن، عاجزاً عن الاحتفاظ بالحب والروح حبيسة الجسد، فإنه يعود قوياً نشيطاً ويسترجع الحبَّ القديم جديداً كما كان أوّل ما بدأ، بعد انطلاق الروح. . .
(أيها القلب الرّثيث البالي)
(أخرج سالماً من شبَك الضلال والصواب)
(اضحك - أيها القلب - ثانية في الغسق الأشهب)
(تنهد - أيها القلب - ثانية بين ندى الصباح)
(أما والقلب والروحُ رهينا الجسد)
(فإن الحبَّ أقل رفقاً من الغسق الأشهب)
(وإن الأمل أقل نفاسة من ندى الصباح)
والشاعر من أجل ذلك يتمنى لحبيبته الموت. فلو أنها ماتت لعادت إليه وقد صفحت عنه، لأنها ماتت، وعند ذلك يضم جمالها إلى صدره.
ثم إن حبيبة هذا الشاعر أجمل مخلوق في الوجود. بل هي المرأة الجميلة الوحيدة. ثم إن الناس جميعاً، بل الكون جميعه، يحبها حبَّ عبادة وتقديس:
(ما عليك إلا أن ترفعي يداً من شحوب اللآلئ، وتجمعي ما تفرق من غدائر شعرك ثم تتنهدي. . . فإذا قلوب الرجال جميعاً تتأجج وتخفق؛ ثم لا يحيا الزَّبدُ على الرمال المعتمة، ولا النجوم وهي تصعد في السماء يتنزل منها الندى إلا لتنير قدمك العابرة)
وإذا كان هذا هو شأنها، فأي هدية إذاً تليق بها؟!
(لو كنت أملك أنسجة السماء الموشاة)
(تطرزّها أشعة من ذهب وفضة)
(ما بين أزرق ومعتم وأسود)
(ومن ليل أو نهار أو شبه ليل أو نهار)
(إذن لنشرت تلك الأنسجة تحت قدميك)
(ولكن فقيرٌ ما أملكُ إلا أحلامي)(301/26)
(ولقد نشرت أحلامي تحت قدميك)
(فخففي الوطء لأنك تطئين أحلامي)
أحلام الشاعر! أجل أحلامه. . .
(ما ذوت الأغصان لأن ريح الشتاء هبّتْ عليها)
(قد ذوت الأغصان لأني قصصت عليها أحلامي)
وكما أن الحب عند يايتس مقدسّ لا يعلوه شيء، فكذلك اللهو البريء - الرقص والموسيقى - مقدس لا ينبغي أن يُنزل منزلة التخنث والصلاة، لأنه أعلى منهما وأقدس:
حين أعزف على ربابي في (دوُني)
يرقص القوم مثل موجة البحر
وابن عمي راهب في كفارنتْ
وأخي راهب في مُهارَبوى.
لقد فُقْت أخي وابن عمي،
فهما يقرءان في كتب الصلاة
وأنا أقرأ في كتاب الأغاني،
كتاب شريته من سوق الريف.
وحين نتقدم في آخر الزمان
من (بطرس) وهو جالس على عرشه الفّخم
سوف يبسم للأرواح الثلاثة القديمة،
ولكن يدعوني أنا أولاً إلى الدخول
لأن الخيرّين هم المرحون،
إلا من عثَر بهم الحظّ النكود. . .
والمرحون يحّبون الرّباب،
والمرحون يحبون الرقص.
وحين يلمحُني القوم هناك
سوف يتراكضون نحوي صائحين:(301/27)
(هاهو ذا منشدُ دوني!)
ثم يرقصون مثلَ موجة البحر
- 4 -
وراء كل أدب عظيم فلسفة. والمستر يتس يلخص فلسفته فيما يلي:
(إني أعتقد بتعاطي فلسفة ما تواضعنا على تسمية بالسحر أو ما ينبغي لي أن أسّمَيهُ استحضار الأرواح - وإن كنت لا أدري ما هيه - أو بالقدرة على خلق أوهام سحرية، أو بانكشافات الحقّ في أعماق النفس إذ العين مغمضة؛ وإني لأعتقد بثلاثة مبادئ:
1 - أن حدود النفس في تحوّل دائم، وأن الأنفس الكثيرة تستطيع أن تتصل أو يسيلَ بعضها إلى بعض إن صحّ هذا التعبير، لتخلقَ أو تظُهر نفساً واحدة، طاقة واحدة
2 - أن حدود الذاكرة هي أيضاً في تحوّل دائم، وأن ذاكراتنا جزء من ذاكرة واحدة كبرى هي ذاكرة الطبيعة نفسها
3 - أن هذه النفس الكبرى وهذه الذاكرة الكبرى يمكن استحضارهما بواسطة الرّموز
إن هذه (الذاكرة الكبرى) هي مخزن الرموز. وما الشاعر الرمزي إلا ساحر يقوم بدور الوسيط لاستحضار هذه الرموز - هذه الأرواح - ولكنه لا يخلق منها شيئاً. وعلى ذلك فكل ما نحس من عاطفة أو نرى من رأي أو نطلب من هدف ليس لنا، (وإنما صعد من الجحيم أو هبط علينا من السماء)
ولكي يستطيع الشاعر استدعاء هذه المعاني والرموز والعلاقات، ينبغي له أن يجعل نفسه في حالة سلبّية - أن يجعلها كالماء الساكن تنعكس عليه شّتى الصور. قال يايتس:
(كنت ذات مرة أنظم قصيدة شديدة الرمزية والتجريد فاتفق أن وقع قلمي على الأرض، فلما أنحنيت لالتقاطه تذكرت حادثاً من حوادث الخيالات والأحلام ولكنه لم يبد لحظتئذ أنه منها بل كأنه وقع لي فعلاً. فلما سألت نفسي متى حصل هذا الحادث وجدت أني إنما كنت أتذكر أحلامي في عدة ليال. ثم حاولت أتذكر ما فعلته في اليوم السابق، وما فعلته في الصباح، فلم أستطيع، إذ كانت حياة الوعي واليقظة قد غادرتني كلها، وما استطعت ذلك إلا بعد جهد شديد، فلما تذكرتها غادرتني بدورها حياة الأحلام التي هي أقوى من حياة الوعي وأروع. فلو لم يسقط قلمي لما فطنت قط إلى أن التأمل استحال غيبوبة)(301/28)
إن آراء يايتس الجمالية تتصل بفلسفته هذه اتصالاً منطقَّياً وثيقاً
فغاية الفن استحداث نشوة في النفس الدائمة التقلب مصدرها ما يعرضه الفن من حقائق الكون وعناصره الثابتة
وما دامت هذه هي غايته وهذه هي وظيفته، فلا موضع فيه إذن (لعلم عصره أو سياسته أو فلسفته أو أخلاقياته) لأن هذه الظواهر جميعاً في تطور مستمر، وتغير دائم
وخليقٌ بالفن إذاً أن يرتدَّ إلى روح ماض كان الناس فيه يعبدون الطبيعة، ويدينون بالوثنية، ويعيشون (في عالم يستطيع كلُّ شيء فيه أن يتبدل ويستحيل، ويصير أي شيء آخر؛ وبين الآلهة العظام الذين كانت عواطفهم في الغروب الملتهب، وفي الرعد وفي هواطل الرعود). . . وفي تلك الأزمان (التي كانت الحزمة المسكينة من الَحلْفاء فيها) كما يقول الشاعر (ينظر إليها على أنها كانت يوماً من الأيام. . . إلهة تضحك بين النجوم)
هذه الحقيقة، حقيقة أن الفن لا يكون عظيما إلا إذا اعتمد على أساطير الأقدمين من عَبَدة الطبيعة، وما في عالمها من خصب وغنيً ومن حياة زاخرة فياضة، هذه الحقيقة أدركها (الأساتيذ) العظام جميعاً.
لقد لُخص موقف يايتس فيلسوفاً بهذه العبارة: إنه رجل يعتقد بوجود عالم الغيب)
وحين نشر يايتس لأول مرة (1903) كتابه (فكرات عن الخير والشر) أبى بعض ناقديه ومراجعيه أن يسلموا بأن المؤلف يعتقد بالذي يقول. ولكن أن يعتقد الإنسان بما يقول أو لا يعتقد لا صلة له في الواقع، بصواب رأيه أو ضلاله. ولست أدري، مع المستر ريد، لم يعلق الناس هذه الأهمية الكبرى على موقف صاحب الرأي من رأيه. إن العقيدة الفنية على كل حال تتعلق قبيل كل شيء بالجمال. فأيما شيء خاطب شعور الفنان بقوة واستمال خياله بشدّة، مالَ إلى الخروج من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة واليقين. (وحسب الشيء أن يكون على درجة من الجمال كافية ليرتدَّ جزءاً من عقيدته، جزءاً من دينه. وهذا هو الذي عناه كيتس حين نطق بقوله المشهور: (الجمال الحق والحق الجمال)).
هذه نظرة سريعة في (و. ب. يتس): عمله وفنه وفلسفته، أرجو أن أكون استطعت فيها أن أعطي القارئ فكرةً حسنةً عنه، وهو الأديب المعقَّد الشخصية، الضبابيُّ المعاني. وأرجو أن يتسع لي الوقت لأترجم لقراء الرسالة بعض آثاره الشعرية والمسرحية. وهنا أحب أن(301/29)
يعلم القارئ جيداً أن (يايتس) - بالرغم من كل هذه (الغرابة) الظاهرية في أدبه - لم يصنع أكثر من أنه عبَّر بإخلاصٍ عن (عبقرية أرلندا).
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(301/30)
حياة محمد
باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة
عبد الفتاح السرنجاوي
عمر الدسوقي
عبد العزيز عبد المجيد
ويعتبر إسلام عمر فاتحة عصر جديد في تاريخ الإسلام، إذا استطاع أتباع الرسول حينئذ أن يجهروا بعقيدتهم. ترك محمد (ص) بيت الأرقم، وأقام المؤمنون صلواتهم جماعة وإعلاناً حول الكعبة. وبدأ أشراف مكة يتوجسون خيفة من هذه الحال الجديدة، لأنهم لم يعودوا بعد يناضلون عصابة من الخارجين المضطهدين المنبوذين الذين كانوا يدافعون عن حياة بائسة مستضعفة وإنما يناضلون طائفة أصبحت ذات بأس. تزداد قوتها يوماً بعد يوم بانضمام بعض ذوي السلطان من أهل القبائل، وتهدد كيان الحكومة القائمة، بالمعاهدة مع أمير قوي من قبيلة أخرى
لهذا أجمعت قريش أمرها أن تدبر محاولة ناجعة لتعرقل نمو تلك الحركة الجديدة في مدينتها. تعاقد أهل قريش على مقاطعة بني هاشم الذين حموا الرسول لما له بهم من صلة القرابة، واتفقوا على ألا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، ولا تكون بين القبيلتين معاملة أيا كان نوعها. ويقال إن بني هاشم استمروا مدة ثلاث سنوات لا يغادرون ناحية معينة من مكة، اللهم إلا خلال الأشهر الحرام التي تمتنع فيها الحروب في كل الجزيرة، والتي تعاهدت العرب من قبل على الأمن فيها حتى يفد الحجاج لزيارة الكعبة الشريفة مركز دينهم العام
أنتهز محمد (ص) الفرص في أيام الحج ليدعو إلى الإسلام بين القبائل المختلفة التي كانت تفد أفواجاً إلى مكة وإلى الأسواق المجاورة لها. ولكن الرسول لم يوفق لأن عمه أبا لهب(301/31)
كان يقتفي أثره صائحاً بأعلى صوته: (إنه مشعوذ يريد أن يصرفكم عن دين آبائكم إلى العقائد الكاذبة التي جاء بها فتحاشوه ولا تسمعوا له). فكان الحجاج يعيرون الرسول ويجابهونه بقولهم: (إن أهلك أنفسهم وأقاربك أحق الناس بمعرفتك، فلم لا يصدقونك إذاً ويتبعونك؟). وأخيراً استفز كل هذا الاضطهاد الذي لحق بمحمد وأتباعه عاطفة جماعات كثيرة من قريش، فنقضوا عهد المقاطعة.
وفي هذا العام غمر محمداً أشد الحزن والجزع لفقد خديجة زوجه الأمين التي كانت له مشيراً ونصيراً مدة خمس وعشرين سنة. وبعد وفاة خديجة بمدة مات أبو طالب فحرم الرسول (ص) بموته أقوى حام له، وأثبت مدافع عنه. وبذلك أصبح الرسول مرة أخرى موضوع استهزاء الأعداء به، واحتقارهم له. قاسى محمد (ص) سخرية عشيرته به، وإعراضهم عنه، وفشلاً في رسالته التي ظل يبلغها إليهم مدة عشر سنوات، فصمم على أن يبحث عن عشائر أخرى لعلها تكون أكثر استعداداً لسماع دعوته، وعن أرض أخرى خصبة قد تنمو فيها بذور عقيدته، فخرج مصحوباً بذلك الأمل إلى الطائف، وهو مكان يبعد سبعين ميلا عن مكة. وهناك أمام جماعة من رؤساء القرية أوضح محمد (ص) دينه المتضمن وحدة الله، والرسالة التي بعث بها رسولاً للناس، وتوسل إليهم في الوقت نفسه أن يحموه ممن اضطهدوه في مكة. رأي أهل الطائف ألا توافق بين دعوة محمد الطموحة (التي كانت إذ ذاك أسمى من أن يدركها المشركون مثلهم) وبين حال الضعف وقلة الأنصار التي كان فيها، فذهبوا يحقرونه ويسخرون به، ويرمونه بالحجارة في غير شفقة، ثم طردوه من ديارهم
غادر محمد الطائف، وقد ظهرت بوادر النجاح أضعف ما تكون، فتنفس الصعداء بالعبارة التي تضمنتها الآيات الكريمة التي صدرت على لسان نوح عليه السلام: (قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا).
كانت عادة محمد (ص) خلال موسم الحج السنوي أن يذهب إلى منازل القبائل العربية المختلفة، ويتحدث إليهم عن الإسلام، فكان بعضهم يقابل دعوته بالجفاء، وآخرون يعرضون عنه ساخرين؛ ولكن عزاء جاء إليه من حيث لم يتوقع. ذلك أنه قابل شرذمة من(301/32)
ستة نفر أو سبع، وعرف أنهم قدموا من المدينة أو يثرب كما كانت تسمى حينئذ، فسألهم قائلاً: (من أنتم؟) قالوا: (نفر من الخزرج). قال: (أمن موالي اليهود؟). قالوا: (نعم). قال: (أفلا تجلسون أسمعكم؟). قالوا: (بلى). فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزُّوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: (إن نبيَّاً مبعوثاً الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم). فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: (ياقوم، تَعلًّموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه). فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: (إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك). ثم انصرفوا عن رسول الله (ص) راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا
هذا هو الخبر المأثور لهذه الحادثة التي تعتبر فجر يوم جديد للدعوة المحمدية. فلقد لاقى محمد قوماً مستعدين لقبول تعاليمه، قوماً كانت أحوالهم الاجتماعية حينئذ ممهدة لدعوته، كما سيتضح ذلك فيما بعد
كانت يثرب إذ ذاك مسكونة باليهود منذ زمن طويل، ويغلب على الظن أنهم أخرجوا من ديارهم على يد الإمبراطور أدريان الذي اضطهدهم (فاستقروا في مكان يثرب). ولما وصل بطنا الأوس والخروج من العرب - في إحدى انتجاعاتهم للمرعى - إلى يثرب، سمح لهم اليهود بالإقامة فيها. وبنمو النسل وتكاثر العدد اكتسبوا السلطان من رؤساء اليهود شيئاً فشيئاً، حتى نجحوا أخيراً، حوالي منتهى القرن الخامس الميلادي في احتجان كل السلطان على يثرب
اعتنق بعض العرب اليهودية وظل كثير من رؤساء يثرب اليهود مقيمين بها، تحت سلطان العرب الغزاة. من أجل هذا نجد عدداً كبيراً من اليهود من ساكني يثرب، في العصر الذي ظهر فيه محمد صلى الله عليه وسلم. كان سكان يثرب لذلك على علم بأمر (المنقذ) الذي(301/33)
توقعوا قدومه، ونتيجة ذلك أنهم كانوا أكثر قدرة على فهم ما يقول محمد - وهو أنه رسول - وقبوله من أهل مكة الوثنيين الذين كانت فكرة الإسلام لهم غير مألوفة، كما كانت منبوذة من القريشيين خاصة، لأن سلطانهم على القبائل الأخرى، وغناءهم المادي ما كانا إلا لأنهم السدنة الورثة لجمهرة أصنام العرب التي نصبوها في حرم الكعبة
يضاف إلى هذا أن يثرب كانت مشتتة النظام لما حل بها من النزاع الداخلي الذي أشعل ناره شنآن قديم بين الأوس والخزرج. كان السكان دائماً في اضطراب وقلق، ولهذا اعتبروا أي عمل يؤدي إلى ائتلاف القبيلتين المتخاصمتين فأل خير وبشرى لمدينتهم
لقد حدث في القرون الوسطى أن اختار سكان الجمهوريات الشمالية لإيطاليا أجنبياً ليكون الحاكم الأعلى على جميع مدنهم، حتى يحتفظوا بالتوازن بين قوات الأحزاب المتنافسة، وحتى يتفادوا - بقدر المستطاع - الخصومات الداخلية التي كانت قاضية على التجارة، والأمن العام. وشبيه بهذا ما وقع من أهل يثرب، فإنهم لم ينظروا إلى ظهور أجنبي بينهم بعين التهمة، حتى حين أدركوا أنه ربما يستغل ما كانوا فيه من انحلال ليكتسب لنفسه سلطاناً عليهم.
إن الواقع ليثبت عكس ما كان يظن، إذ يظهر أن أحد الأسباب التي جعلت أهل المدينة يرحبون بمحمد (ص) ترحيباً محموداً هو أن العقلاء والمثقفين من السكان قد تبينوا أن اعتناق الإسلام هو العلاج الوحيد للاضطراب الداخلي الذي عانوه مدة من الزمن، لما جاء به الإسلام من نظم المعاش القويمة، ومن إخضاع الشهوات الإنسانية الجامحة لتهذيب القوانين الموحى بها من سلطة أعلى وأسمى من سلطة البشر المتقلبة.
وتوضح لنا هذه الحقائق كيف استطاع محمد - بعد ثمانية أعوام من الهجرة - أن يرأس جيشاً من أتباعه تبلغ عدته عشرة آلاف نفر، وأن يدخل المدينة التي جاهد فيها من قبل لينشر دعوته مدة عشر سنين فلم يفلح إلا قليلاً
لقد تعجلت الحوادث فيما ذكرت الآن. فلنعد إلى بدء عرض محمد نفسه على أهل الخزرج الذين دخلوا في الإسلام أن يصحبهم بنفسه إلى يثرب، ولكنهم رغبوا إليه في أن يعدل عن ذلك حتى يحدث صلح بينهم وبين بني الأوس. وقالوا: (إننا نتضرع إليك أن تدعنا نعود إلى قومنا لعل الله يخلق السلم بيننا فنرجع إليك بعد ذلك. وموعدنا موسم الحج القادم).(301/34)