الشريف الرضي لا يضارع ابن الرومي في تحليله المعنى وتقصيه إياه، ذلك التقصي الذي ساعد ابن الرومي على إجادة الوصف سواء أكان وصفاً لهمسات النفس وخطراتها أو لأوجه الطبيعة والمرئيات. ولا يضارع الشريف أبا تمام فيما يتقنه من فلتات الصنعة النادرة التي تأتي بالأبيات الفذة الخالبة الآخذة بمجامع القلوب والتي تستهوي القلوب وتشعل الخيال. ولا يضارع الشريف المتنبي وأبا العلاء المعري، ولا سيما المعري في التفكير في النفس والحياة، وأخلاق الناس. ولكن للشريف نصيباً لا يستهان به من هذه المميزات؛ وهو مع ذلك قد اختص بالشعر الوجداني. ولهؤلاء الشعراء جميعاً ولغيرهم شعر وجداني، ولكني أحسب أن الشريف بزهم جميعاً في هذا الضرب من الشعر. وهو قد أمن ما يعتور ابن الرومي في بعض الأحايين من الفتور بسبب ما قد يبدر منه من الإفراط في التقصي والتحليل وتتبع الجزئيات؛ وأمن الشريف زلل المبالغة في الصنعة الذي قد يقع فيه أبو تمام إذا أفرط في حبه للاختراع والتوليد وإتيان ما لم يأت به أحد من التشبيه أو غيره من صيغ الصنعة؛ وأمن الشريف المبالغة غير المقبولة والمعاظلة كما في بعض شعر المتنبي؛ وأمن أيضاً ما قد ترى في ديوان سقط الزند للمعري من مبالغات المتأخرين التي لا تعبر عن وجدان صادق. ولو قارنت بين شعر الشريف وشعر معاصريه لوجدت فرقاً كبيراً في الأسلوب والذوق، فإن الصنعة كانت قد انتشرت في عصره وغالى الشعراء فيها من إبعاد في التشبيه ومغالاة في المعنى من غير سيل دافق من العاطفة والوجدان يلبسها لباس صدق الإحساس، ومن ألاعيب لفظية ومعنوية. وحسبك أن حكيم الشعر العربي المعري التزم ما لا يلزم في لزومياته مجاراة لصنعة عصره، ويولع أحياناً بالجناس وغيره من المحسنات اللفظية التي لا تناسب ما هو فيه من التفكير والحكمة والجد. ولا عبرة بما يقوله بعض المطلعين على الشعر الأوربي من أن الشاعر العالمي الإنجليزي شكسبير يفعل ذلك ويغري أحياناً بتلك الألاعيب اللفظية، فإن شكسبير يفعل ذلك في غير موضع الجد المؤثر، وعلى لسان أناس من طوائف خاصة، أو لهم صفات خاصة. والشريف يترفع عن أساليب هذا التلاعب بالألفاظ. ولعل هذا هو ما ينبغي أن يكون، لأن الشريف شاعر الوجدان، والتلاعب بالألفاظ يتلف أثر الشعر الوجداني في النفس إذ لا يستقيم معه. وإن أطرب التلاعب باللفظ بعض الناس طرباً سطحياً إلا أنه ليس طرب الوجدان والعاطفة.(287/8)
وهذه الألاعيب اللفظية هي نزهة ولعب يلهو به الذكاء في استنباطها واختراعها ومقارنة معانيها؛ والذكاء من العقل، فلا غرو إذا قبله المعري شاعر العقل لأنه كان سائداً في عصره، وإن كان هذا الهزل ضد جده. ولا عبرة بما يقول القائل من أنه أراد أن يلفت بعبثه هذا الناس عن حرية القول والفكر والعقيدة في بعض شعره كما فعل رابليه الكاتب الفرنسي في تغطيته نقده لعقائد رجال الدين في قصصه بالعبث الصاخب، وإن كان عبث رابليه مجوناً لا يطيقه المعري. ولا عبرة بقول من يقول إن المعري أحس من مرارة نفسه أن الحياة والخليقة وإن كانت مقدسة تدعو من أجل قداستها إلى مرارة النقد، إلا أنها مهزلة أيضاً؛ فهي مهزلة مقدسة كما سماها دانتي الشاعر الإيطالي، ومن أجل أنها مهزلة أباح هزل الألاعيب اللفظية في أثناء جد الفكر
ومن أجل أن الشريف شاعر الوجدان كان أقرب شعراء عصره إلى الأقدمين، وكان بدوي النزعة وإن كان قد أخذ بنصيب من الصنعة العباسية لإعظام أثر المناجاة أو النداء أو الاستفهام أو النفي الوجداني في شعره، فإنه يستخدم هذه الصيغ البيانية ويتعرف وسائل الصنعة في تكرارها وموقعها. ولكنها صنعة طبيعية لا تحسُّ أنها صنعة. وهي لا تنافس الوجدان بل تقوي أثره. وإذا قرأ القارئ له غزله أو رثاءه أو إخوانياته أو تحسره على انحسار الشباب أو مناجاته الديار ظهرت للقارئ آثار هذه الصيغ في إشباع الوجدان وإقناعه، فإن الشريف الرضي يشبع الوجدان ويقنعه ويطربه ويستميله بالنداء الوجداني، أو الاستفهام والسؤال، أو النفي أو الإخبار بصيغة التحقيق والتأكيد، أو الأمر أو المناجاة بأساليب أخرى. . ويفعل الشريف كل ذلك حتى ليخيل إلى القارئ أن لأدوات هذه الصيغ في شعره معنى ليس لها في شعر غيره؛ وهو إذا رأى تلك الأدوات والحروف مثل (يا) أو (الهمزة) للاستفهام أو النداء أو (أين) أو (كيف) أو (لن) أو (قد) عرف أنه يجيد استخدامها لأغراض الشعر الوجداني أكثر من إجادة غيره استخدامها، ففي رثاء أحبابه وأودائه ينادي الدهر فيقول:
(يا) دهر رَشْقاً بكل نائبة ... (قد) انتهى العتب وانقضى العجب
(رُدَّ) يدي ما استطعت عَن أَرَبي ... (لَمْ) يبق لي بعد موتهم أرب
ففي هذين البيتين استخدام النداء والإخبار بالتحقيق والأمر والنفي كلها بصيغة وجدانية(287/9)
تؤثر في النفس. فهذه هي الصنعة اللفظية المحمودة لا الجناس والألاعيب اللفظية التي أولع بها معاصروه.
ويخاطب وينادي النظرة ويسأل مع النفي في قوله:
ذكرتكمُ ذكر الصبا بعد عهده ... قضى وطراً منه وليس بعائد
(فيا) نظرة لا تملك العين أختها ... إلى الدار مِنْ رمل اللوى المتقاود
(أمَا) فارق الأحباب قبلي مفارق ... ولا شيَّع الأظعان مثليَ واجد؟
ففي هذه الأبيات استخدم الإخبار ثم النداء ثم الاستفهام المنفي، وهذه صيغ لفظية وصنعة لفظية لا يحسُّ القارئ أنها صنعة؛ وهي صنعة الطبع التي تُقْنع الوجدان، ويتفنن الشريف ويفتن في مناجاته ومناداته الوجدانية فينادي وقفة الأحباب فيقول: (يا وقفة بوراء الليل أعهدها الخ) وينادي بؤس القرب القصير من الأحباب الذي يعقبه الفراق الطويل فيقول:
فيا بؤس للقرب الذي لا نذوقه ... سوى ساعة ثم الفراق مدى الدهر
وينادي نفسه ويشجعها على تحمل آلام الحياة ومتاعبها فيقول:
يا نفس لا تهلكي يأساً ولا تدعي ... لَوْكَ الشكائم حتى ينقضي العُمُرُ
وينادي الشباب فيقول:
فمن يك ناسياً عهداً فإني ... لِعَهدِكَ يا شبابيَ غير ناسي
فإن العيش بعدك غير عيش ... وإن الناس بينك غير ناس
وينادي بؤس نفسه في الغزل فيقول:
يا بؤس مقتنص الغزال طماعة ... ذهب الغزال بلب ذاك القانص
كالدرة البيضاء حان ضياعها ... مِنْ بَعْدِ ما ملأت يمين الغائص
ما كان قربك غير برق لامع ... وَلَّى الغمام به وظل قالص
أغدو على أمل كحبك زائد ... وأروح عن حظ كوصلك ناقص
وينادي الحبيب صاحب القلب الصحيح الخالي من الهوى فيقول:
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى ... ألم الجوى من قلبيَ المصدوع
ولاحظ أنه لم يكتف بصيغة النداء في (يا) بل قرن إليها صيغة الاستفهام المنفي في قوله (أَمَا). وهي ألفاظ إذا جاءت في كتب النحو كانت ميتة، ولكنها هنا تثبت حياة كالسمك عند(287/10)
إخراجه من الماء. ويخاطب الشريف السرحة ويرمز بها إلى من يحب فيقول:
إسْلمي يا سرحة الحي وإن كنت سحيقَهْ
أَتمنَّى لك أن تبقَيْ على النأي وريقَهْ
ثَمرٌ حَرَّمَ واشيكِ علينا أَن نذوقَهْ
وينادي بالهمزة في قصيدته المطربة فيقول:
أمعيني على بلوغ الأماني ... وشفائي من غلتي واشتياقي
وينادي طائر البان في قصيدته المشهورة فيقول:
يا طائر البان غِرِّيداً على فننٍ ... ما هاج نوحك لي يا طائر البان!
(هل أنت مُبْلغُ من هام الفؤاد به. . . الخ)
فانظر إلى أثر (يا) و (ما) و (هل)، وإلى تلك الصنعة اللفظية التي تقنع الوجدان كل الإقناع. وقد يُقْنع الوجدان أيضاً بالمناجاة من غير أدوات النداء فيناجي الموطن والدار فيقول:
سكَنتُكِ والأيام بيضٌ كأنها ... من الطيب في أثوابنا تتقلَّبُ
ويُعجبُنِي منك النسيمُ إذا سَرَى ... أَلا كلُّ ما سَرَّى عن القلبِ مُعْجِبُ
ويقول:
كأنك قدمةَ الأمل المرَّجى ... علَيَّ وطلعة الفرج القريب
ويقول:
وأهجركم هجر الخليِّ وأنتمُ ... أعزُّ على عينيَّ من طارق الكرى
ويقول:
وإني لأقوى ما أكون طماعةً ... إذا كذبت فيك المنى والمطامع
ويقول في قصيدة مطربة:
فإنْ لم تكن عندي كسمعي وناظري ... فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني
وإنك أحلى في فؤادي من الكرى ... وأعذب طعماً في فؤادي من الأمن
ويناجي أيضاً مناجاة وجدانية فيقول:
أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن(287/11)
ويقول:
فقلت نعم لم تسمع الأذن دعوة ... بَلَى إن قلبي سامع وجناني
وتراه يستخدم الاستفهام استخداماً وجدانياً مطرباً كإطراب ندائه الوجداني فيقول:
هل تذكر الزمنَ الأنيقَ وعيشنا ... يحلو على مُتَأَمِّل ومذاقِ؟
ولياليَ الصبوات وهي قصائر ... خطف الوميض بعارضِ مبراق؟
ويستفهم بأين ويناجي في قصيدته في ديار الحيرة، وهي من الوصف الوجداني المؤثر، ومن الشعر الذي ينبغي أن يختار له كلما اختير له شعر وجداني ويقول في مطلعها:
أين بانوك أيها الحيرة البي ... ضاء والموطئون منك الديارا؟
(للمقال بقية)
عبد الرحمن شكري(287/12)
لم الفرار إلى هنالك؟
للدكتور بشر فارس
لست بسليم أية سلامة حتى إني أُعرض عن الاستشفاء، ولكني لا أرحل صيف كل سنةٍ إلى أوربة رغبة في معالجة كبد أو مراقبة قلب. ولست ممن يهوى الحر والسَّموم، ولكني لا أرحل طرباً إلى (النسيم العليل) (متى يموت هذا التعبير وأخواته، يا أيها الناس؟!). ولست من يحب أن يقال فيه: (هذا رجل يعود من أوربة)
ولكني أرحل إليها. . . بل أَفر إليها.
مما وممن؟
أتصافيني فأصارحك؟
أفر من مصر ثم مني. . . ومنك.
أفر من مصر لأنَّ لها من نفسي موضعاً عزيزاً. ألم يتفق لك (أعانك الله على مصاحبة النساء!) أن تمل صحبة المرأة التي تخصها بوثبات ودك، وترعاها بلفتات طرفك، وتحيطها بنبضات قلبك (ولعله باقٍ على خفقانه)؟ نهاية الحب بغض أو عراك. ولا بدَّ من القطيعة لصيانة الشوق؛ والشوق نشاط، والنشاط حياة
بيني وبين مصر مغاضبة. أريدها أن تقدم رِجلاً عازمة إذا مضت قُدُماً وهي تأبى إلا أن ترتاب في قدر الخطوة التي جرؤت عليها، كأن الموضع الذي تخطته فردوس (مِلتن). وكثيراً ما تنتقم من الرِجل التي تقدمت بالاستواء في وقفتها أو (معاذ الله!) بالإدبار: نُصب ماثل في عرض الطريق والخلق من خلفه يتأملون وأَعينهم يُدَغْدِغها النعاس!
لا نزال نحن المصريين نركب قطاراً يذهب بنا ويجئ من موضع منظور إلى آخر معلوم، فتارة يمهل في محطة قائمة في أول (الخط) وأخرى في محطة في آخره أو منتصفه. وأما الذي يلي الموضعين شمالاً وجنوباً فغير واقع بعد في دليل (السكة الحديدية).
هذا الصداع الذي بين التوثب والتقبض يفتح باباً عريضاً لأسباب المناقضة والتمزق، وألوان المناوأة والتشيع، ثم يروِّج البضاعة الخفيفة على صنوفها ويُدخل الغرور في أنفس أصحابها. فتضيع الموازين وتفتر العزائم الصادقة ويزيغ حكم الجمهور.
وحبي الثقافة مثل على ذلك.(287/13)
الثقافة هنالك (إلا في البلدان التي يسوسها حاكم بأمره متحمس) واحدة، لأن برنامج التعليم مجرىً على منهاج واحد. فلا فرق بين قس وزنديق من حيث القابلية الذهنية، أعني من حيث إدراك الأمور. أما تأويل الأمور وحكاية رفضها وقبولها فمما يرجع إلى وجهة النظر وميل النفس. ثم لا فرق بين صانع لم يأخذ من العلم إلا طرفاً، وكاتب كشفت له الثقافة عن أدق أسرارها، سوى أن هذا ذهب في التحصيل أبعد من ذاك.
ثقافة معينة أسبابها، واضحة معالمها، تتسع الحين بعد الحين باتساع مجال العلم، ثم مرسومة على قدّ أذهان أهلها.
ومن نتائج هذه الثقافة أن الفكر يظفر بحرية لا تعرف القيد وأن القلم يجري على هواه. فإذا أصاب المنشئ عيباً عالن به، وإذا رأى رأياً بثه غير هياب. فلا تراه يداور في الكتابة أو يتنصل مما كتب. وإذا انتهى العالم ببحثه إلى حقيقة تصرع القضايا المألوفة جهر بها مطمئن الجانب. وإذا بدا لناقد أن يقول قولاً في كتاب أو عمل متصل بشئون التهذيب دونه من دون أن يرقب الرضى أو يخشى السخط.
وتعليل ذلك أن الثقافة هناك منفصلة من الدين ومنزهة عن السياسة. الثقافة مدارها العقل، أما الدين فأمر إيمان، وأما السياسة فمسألة هوى. وكلما بطشت السياسة بالثقافة ألجمتها؛ وكلما مشى إليها الدين حوّلها إلى مجراه وأرساها عند شطئه.
ومن نتائج هذه الثقافة أن برنامج التعليم يقصد إلى تهذيب ملكة التفكير لا إلى حشو خلايا الذهن. فالمتأدب هنالك يطلب القراءة المفيدة لا القراءة المسلية؛ والمنجذب إلى المسرح حقاً يرغب في المسرحيات التي تقوم عنده مقام غذاء لا تلك التي تهز أعصابه كأنها صورة من الصور المتحركة؛ والدائب على قراءة النقد ينتظر حكماً معتدلاً يبذل له شيئاً من الأمر حتى يستوي له رأي لا إطراءً مفرطاً أو ذماً مقيماً؛ وطالب العلم إنما يأخذ أساليب التحصيل والاجتهاد رجاء أن يكب على البحث فيما يأتي من الزمان وهو جد عارف أن (مائدة الثقافة لا تقبل طفيلياً).
ومن خصائص هذه الثقافة أن كل فرد من أهل الأدب يعرف ما له وما عليه. فلا ترى المطلع يهيم على الإنشاء والنقد، ولا القصصي يقبل على كتابة الرسائل الفلسفية، ولا الصحافي يتعرض لنقد المسارح ومعارض الصور، ولا الدعي يغير على مؤلفات غيره(287/14)
فينتحلها أو يسلخها أو يمسخها؛ ثم لا ترى الناقد المعتز بصناعته الوفي لها يُهمل الكتب الخارجية من المطابع لأن أصحابها من المحدثين، أو لأنهم غير متعصبين له، أو لأنهم أتوا بشيء لم يتوقعه.
ومن خصائص هذه الثقافة أنها تنشئ مُثلاً عليا، فالشاعر - مثلاً - يُكرم قريحته أن تفيض بما قاله غيره سواء من باب السطو أو من باب التقليد؛ ثم إنه - إلا في النادر النادر - يعف عن النظم لرغبة أو رهبة؛ ثم إنه يحاول ما استطاع أن يميز شعره من شعر أصحابه، ولا يبلغ ذلك إلا إذا استخرج من وليجة نفسه كنوزها فلا تهويل ولا جلجلة!
تلك أمثال من صدق الثقافة هنالك. وإنما صدقها يرجع إلى وحدتها واستقرارها وسهر أصحاب الأمر عليها. ومن الأمثلة على سهر القوم عليها أن الجوائز والمكافآت الموقوفة عليها إنما تجري على طريقة مرضية. وقصة ذلك أنها مبذولة للمنشئين الحق ولا سيما المحدثين منهم على أن يؤلفوا كتباً لها شأنها لا لموظفين بينهم وبين الأدب المحض شقاق على الغالب، ولا لأصدقاء وأعوان، وأنها بين أيدي حكام لهم - على الأقل! - دراية بما يفصلون فيه.
وإليك مثلاً آخر: إن شؤون الثقافة العامة لا تُقضى بين جدران وزارة المعارف وفي بهو الجامعة فقط (كأنما الفطنة حصرت في عقول فئة من الموظفين، والعلم جُمع في صدور نفر من الأساتذة). إن حق الأدباء والمنشئين وأصحاب المجلات الرفيعة في معالجة شؤون الثقافة العامة ليس دون حق أولئك الأساتذة والموظفين.
بقي أن القوم يضعون صاحب الشأن في موضعه، ويستثمرون ما يجب استثماره، ثم ينبذون من يتوسل بغير الكفاية ويستهزئون بورم الألقاب وطنين الأسماء.
تلك صبغة الثقافة هنالك. وليس معنى هذا أنها صافية كل الصفاء، فالخلق هنالك بشر. إلا أن مبادئها سليمة ومجدية.
بشر فارس(287/15)
أغرب ما رأيت في حياتي
للدكتور زكي مبارك
أنا متهمٌ بالعقل ومتهمٌ بالجنون. فمن وصفني بالعقل فهو متلطف، ومن وصفني بالجنون فهو مسرف. لأني في حقيقة أمري إنسان يعيش بثورة العواطف فوق ما يعيش بقوة العقل، وهي حالة تجعل أمري وسطاً بين العقل والجنون.
والتوفيق الذي ظفرت به في حياتي العلمية مدينٌ لحياتي الوجدانية؛ فقوة الوجدان هي التي حملتني على أن أستقتل في الدراسات الأدبية والفلسفية. وقد يأتي يوم أعترف فيه بالأسباب الوجدانية التي جعلت عقلي يتفوق إلى أبعد حدود التفوق في مثل كتاب النثر الفني أو كتاب التصوف الإسلامي.
وهذه الغرابة في تكوين عقلي وقلبي هي التي تحملني على الجرأة في تدوين هذا الحديث، وهو حديث كنت أفتضح به أشنع افتضاح لو نشرتُه قبل سنتين أو ثلاث، يوم كان لي خصوم يسرهم أن تحاط حياتي بالأقاويل والأراجيف.
أما اليوم وقد قل خصومي بحيث لا يزيدون عن ألف أو ألفين، فأنا أنشر هذا الحديث بلا تهيب ولا تخوف، وليقل من شاء ما شاء.
كنت حين انتسبت إلى جامعة باريس أقضي أربعة أشهر من كل سنة في مدينة النور، ثم أعود إلى وطني لأجمع من الصحافة والتدريس ما أستطيع به الرجوع إلى باريس من جديد. ودام ذلك بضع سنين، ثم عرفت إني لن أصل إلى غرضي إلا إذا قررت بطريقة حاسمة ألا أفارق باريس إلا في أحد حالين: النصر أو الموت.
وكانت الإقامة الدائمة في باريس تبدو من المستحيلات، لأن أبي رحمه الله لم يكن يقدر على إمدادي بكل ما أحتاج إليه. وكان ما ورثته عن أمي طيب الله ثراها لا يزيد عن بضعة قراريط. وكانت زوجتي أفقر مني؛ ولم يكن لي في الحكومة المصرية عمٌّ ولا خال.
وفي تلك الظلمات استطعت أن أتفق مع الأستاذ عبد القادر حمزة على مراسلة البلاغ من باريس بمرتب قدره خمسة عشر جنيهاً، فتوكلت على الله وقررت الاعتكاف بالقبلة القديمة في السوربون.
ولكن مراسلة البلاغ من باريس لم تكن عملاً ينفع إلا في حال واحد: هو أن يشعر صاحب(287/16)
البلاغ بأني أقدم إليه محصولاً أدبياً ينقل القراء من حال إلى أحوال، فقد كان الأستاذ عبد القادر حمزة اشتهر بين أصحاب الجرائد بأنه يحسن الاعتذار إلى من يريد الاستغناء عنهم من المحررين والمخبرين والمراسلين؛ وكنت جربت اعتذاراته الرقيقة قبل ذلك حين كنت أحرر في البلاغ الأسبوعي سنة 1926. ولكن اعتذاراته في ذلك الوقت لم تكن تؤذيني لأني كنت مدرساً في الجامعة المصرية، وكنت بفضل تلك الوظيفة من المياسير.
ماذا أصنع في مراسلة البلاغ من باريس؟
كنت أستطيع أن أرسل إليه مقالات في الأدب العربي، وأنا من أقطابه بلا جدال، ولكن إرسال مقالات عن الأدب العربي من باريس كان ضرباً من السخف يقترفه من يراسل البلاغ من باريس. وهل يعيش الأديب في باريس ليحدث الناس عن ابن المقفع وابن العميد؟!.
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع لأنجو من تسلُّم خطاب رقيق من خطابات الاعتذار التي يجيدها صاحب البلاغ؟ ماذا أصنع لأظفر بخمسة عشر جنيهاً أضيفها إلى المبالغ الضئيلة التي أكسبها من الدروس الخصوصية التي أعطيها للطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية من أعضاء البعثات، والنقود التافهة التي آخذها في مقابل المساعدة التي أؤديها لبعض المستشرقين الذين يهمهم أن ينقلوا النصوص العربية إلى اللغة الفرنسية؟
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟
لم يكن أمامي إلا مسلكٌ واحد: هو الاندماج المطلق في باريس لأحدث قراء البلاغ بأحاديث منتزعة من الحياة الواقعية في باريس.
وما هي إلا أسابيع حتى عرف صاحب البلاغ أنه لن إلى رجل مثلي خطاب اعتذار، وحتى عرف قراء البلاغ أني أحدثهم بما لم يألفوه، وأن البلاغ لن يستغني أبداً عن صاحب (الحديث ذو شجون).
ولكن الانتصار في هذا الميدان له تكاليف
كان لا بد من الاتصال الدائم بأساتذة السوربون ومدرسة اللغات الشرقية لأظفر بما تساميت إليه من الألقاب العلمية
وكان لا بد من معاقرة الحياة في باريس لأنجح في مراسلة البلاغ(287/17)
أما الأساتذة فالظفر بثقتهم سهل، لأني في الواقع من أصلح الناس لفهم ما أسمع من الخطب والمحاضرات، ولأني كنت بالفعل شاباً ناضجاً له في الأدب والفلسفة مذاهب وآراء
الصعوبة كل الصعوبة، والعسر كل العسر، هو في افتراع باريس لأصل إلى أوهام وحقائق أقيّد بها أذواق قراء البلاغ
وكيف أصل إلى هذا الغرض الجليل؟
هدتني الفطرة إلى قضاء أوقات الفراغ في الملاهي والملاعب والمراقص والقهوات، فكنت أقضي في هذه النزهة الطريفة ساعات من النهار وساعات من الليل
كنتُ شاباً، ورحمة الله على شبابي، الشباب الذي بددتُه في طلب الحب والمجد
كنت أذرع باريس بقدمي لأخلق لمقالاتي جوًّا من الحقيقة لا من الخيال
وأعانني على ما أسمو إليه لسانٌ مرن في اللغة الفرنسية مرونة عجيبة تقدر على جذب من أحاور من أسراب الظباء
والفرنسيون يغفرون للرجل جميع الذنوب إذا أمدته العناية الإلهية بلسان فصيح
وكان لي في باريس ثلاث قهوات: قهوة صغيرة جدّاً في بولميش بجوار (قهوة الرحيل) التي كان يجلس فيها الدكتور طه حسين يوم كان طالباً في جامعة باريس
وكانت هذه القهوة الصغيرة مخصصة للمواعيد الغرامية، والتأملات الفلسفية، فكيف صارت اليوم؟ ليتني أعرف!
أما القهوتان الأخريان فهما الروتوند والدُّوم في حي مونبارناس
كيف كنتُ أصطبح وأغتبق بهاتين القهوتين؟
كان مفهوم عندي أن لا سبيل إلى معاقرة الحياة إلا في مونبارناس
وإنما كان ذلك لأني كنت أتهيب مونمارتر تهيباً يصل إلى الفزع والرعب، فقد تشاجرت فيها مع أحد الشبان الفجار في سنة 1927 وكاد اسمي يقيد في سجلات البوليس لولا لطف الله. وكانت هذه التجربة القاسية كافيةً لأن أقنع بالضلال في حي مونبارناس
وفي قهوة الدوم وقعت المأساة أو الملهاة التي أدونها في هذا الحديث:
دخلت ذات صباح فوجدت سيدة تطالع سِفر الوجود بعينين زرقاوين يندر أن يكون لهما شبيه أو مثيل(287/18)
وجلستُ بالقرب من تلك السيدة عساني أنهب منها نظرة أو نظرتين أستعين بهما على إتمام بعض الفصول من كتاب (سحر العيون) الذي أرجو أن يظهر بعد قليل
وما هي إلا دقائق حتى تلاحظْنا برفق وعطف
ثم أشارت بأن أقترب فاقتربت
رباه! متى تعود أيامي؟
وبعد أن دار كأس الحديث نحو عشرين دقيقة عرفت أنها من البغايا
أعوذ بالله؛ أعوذ بالله، أعوذ بالله!!!
أمثل هذا لحسن يكون من نصيب الفَجَرة الأوباش؟
أتكون هذه الحسناء الفتانةُ شبيهةً بالشمس ينعم بضوئها من يشاء ولو كان من الخفافيش؟
أتكون هذه التحفة الفنية شبيهةً بكرائم الأنهار يشرب منها البهائم والدواب؟
أتكون هذه العيون السواحر من نصيب من يساعده القدر المخبول فيملأ جيبه بالدراهم ولو كان من الأغبياء؟
أتكون هذه الدُّمية شبيهةً بالحجر الأصم الذي تسجل عليه حوادث الأفّاقين؟
ليتني مت قبل أن أشهد ذلك المنظر الأليم!
ليتني مت قبل أن أعرف أن مثل ذلك الحسن يباع!
ألك يا رباه حكمة في إذلال هذه الروائع الفنية التي زينت بها الوجود؟
ارفع الحجاب مرة واحدة، يا رباه، لأعرف أسرار السياسة العالية التي تسوس بها مخلوقاتك!
وهجمتُ على تلك السيدة الجميلة بعنف فقالت:
اسمع أيها السيد، ليست الغواية من همي ولا من مناي. أنا امرأة شقية خدعها شاب مثلك باسم الحب، وكانت ثمرة الحب طفلاً هو اليوم تلميذ بمدرسة (. . .) وقد هجرني الحبيبُ والدُ الطفل وتركني وحدي أربيه وأرعاه، فأنا أتسول باسم الحب لأنفق على ذلك الطفل المسكين، إلى أن يظهر أبوه، إلى أن يظهر ذلك الوغد الذي هجر معشوقته وطفله منذ سبع سنين. فإن كنت تدعي الرجولة الصحيحة فتقدم لحمايتي ورعاية طفلي، وسترى كيف أجزيك عطفاً بعطف وإخلاصاً بإخلاص(287/19)
وما كدت أسمع هذا القول حتى دارت الأرض تحت قدمي
ومن أين أنفق على هذه السيدة وعلى طفلها وليس لي من جريدة البلاغ ومن الدروس الخصوصية إلا مبلغ ضئيل من المال لا يزيد على ثلاثة آلاف من الفرنكات، والحياة قاسية أشد القسوة على الغرباء في باريس؟
ثم نظرت فرأيت هذه المرأة تعرض مشروعاً نبيلاً قد يرفع روحي بعد إسفاف. فصوبت بصري إليها وقلت: وكيف أضمن أن تتوبي عن حياة الرجس؟
فقالت في استحياء: إن لغرفتي مفتاحين!
فقلت: وما معنى ذلك؟
فقالت: لك مفتاح ولي مفتاح، فخذني لنفسك وراقبني كيف تشاء، فإن استطعت أن تشهد عليَّ ما يريب بعد اليوم فاقتلني. والمهم أيها السيد أن ينجو طفلي من الجهل ومن الجوع
وفي تلك اللحظة تذكرت عبد المجيد فغلبني الدمع
تذكرت أني تركت في مصر الجديدة أطفالاً منهم عبد المجيد الذي كان يزعزع كياني حين يقول (بابا)
- وما اسم ابنك يا سيدة؟
- اسمه موريس
- هلم بنا إلى التسليم على موريس!
قد أنسى كل شيء، ولكني لن أنسى طلعة موريس
قد ينسيني الموت جميع ما حفظت من اللغة الفرنسية، ولكني سأذكر في قبري عبارة باقية في اللغة الفرنسية حين طلع موريس فقالت له أمه:
وتوهم الطفل أني أبوه فقبلني بحرارة والدموع في عينيه
-
-
واستأذنا مدير المدرسة فسلم إلينا الطفل ليقضي معنا ليلة في مباهج باريس
وسألني الطفل: أين كنت؟ فأخبرته أني توجهت إلى الشرق لزيارة القاهرة وبغداد وبيروت، واخترعت له أقاصيص تعجبه وتلهيه، ولم يفتني أن أحدثه عن أخبار الجن والعفاريت.(287/20)
وفي تلك الليلة هجر الطفل صدر أمه وسكن إلى صدري لينام نوم السعداء
وفي تلك الليلة شعرت أن روحي ارتفع إلى أجواز السماء
كان موريس ورث عن أمه الفرنسية صفرة الشعر وزرقة العينين، وكان ورث عن أبيه الهولندي شمائل من السجاحة واللطف، وكان في جملته وتفصيله تحفة من تحف الوجود.
وقد وجد من عطفي وحناني كل ما يتمناه ويشتهيه، فانطلق يحدث أترابه في المدرسة بالنعيم الذي يلقاه في يومي الأحد والخميس
وفرحت مرجريت بما صارت إليه من راحة البال وصفاء النفس بعد الهيام الأثيم بأحياء باريس
ومضت تقترح ما تشاء من المغامرات فعلمتني الرقص وطوفت بي على المكنونات من صناديق الليل
وبفضل مرجريت عرفت من خبايا باريس ما لا يعرف الشياطين ولم نكتف بذلك، بل نقلتني إلى رُوَان والهافر وأطلعتني على المستور من شواطئ المانش، وأقامت معي في الضواحي النائية أسابيع
والله وحده يعلم كيف عاشرتُ تلك الحسناء، فلو أني قلت إني كنت في حبها من الأطهار لما صدقني مخلوق، لأن سمعتي تعرضتْ لأخطار كثيرة بسبب التهالك على أخبار الملاح، ولكن الواقع أني كنت في صحبة تلك السيدة رجلاً نبيلاً. وأجمل ما نلتُ منها لم يزد عن قُبلة شهية طبعْتها على جبيني حين أخبرتها أني متأهل ولي أبناء. وقد قهرتني على قبول هدية من العطر و (الكريم) لأرسلها إلى ابنتي أو زوجتي، وقد قبلت الهدية ثم ألقيتها خِفيةً في نهر السين
كانت مرجريت متعِبةً إلى أبعد الحدود
قالت ذات يوم: أنت يا دكتور معرض للسمنة لكثرة ما تشرب من البيرة
فقلت: هذا حق!
فقالت: ما رأيك في سياحة على الأقدام إلى ليون؟
فقلت: وفي كم يوم نصل على الأقدام إلى ليون؟
فقالت: في نحو أسبوع(287/21)
فحملنا أثقالنا واتجهنا نحو ليون ماشيَيْن
وبعد يوم واحد تعبتُ، فحملتها على الرجوع بالقطار إلى باريس
ليتني أطعت مرجريت وذهبت ماشياً إلى ليون لأعرف كيف يعيش الناس في الأقاليم الفرنسية، ولأجدد الأنس بصحبة مرجريت يوم همنا على وجوهنا في الحقول النورمندية!
كانت مرجريت ضجرت من حياة الفتون
وكنتُ ضجرتُ من حياة الفتون
وكنا نتشهي أن نعرف معنى التصوف في الحب، وكيف لا نتصوف في الحب وقلوبنا معمورة بحب الطفل العزيز موريس؟
وبعد أن دام هذا النعيم النبيل خمسة عشر شهراً وصلتُ إلى ما أريد في امتحانات مدرسة اللغات الشرقية وامتحانات السوربون، وصممت على الرجوع إلى أهلي وأبنائي، ولم يكن بدٌّ من توديع مرجريت وموريس
وأي توديع؟!
كان من الواجب أن أردَّ المفتاح إلى مرجريت، فرفضتْ والدمع في عينيها الزرقاوين، وقالت: احفظ هذا المفتاح فقد تصل على حين غفلة إلى باريس
وكانت مرجريت لا تزال معرَّضة للفقر والبؤس فوعدتها بإرسال سبعمائة فرنك في كل شهر لتستطيع الإنفاق على نفسها وعلى ابنها الغالي، وأنا أفِي إذا وعدتُ
كانت الدنيا في ذلك العهد لا تخيفني، وهل يخاف من يرجع مزوَّداً بأعظم الألقاب من باريس؟
ولكني لم أكد أصل إلى مصر حتى عُطلت جريدة البلاغ
فأرسلت إلى مرجريت أستعفيها مما وعدتُ، فكتبت تصفح عني وتسأل الله أن يفتح لي أبواب الرزق
وما هي إلا مدة قصيرة حتى استجاب الله لدعوة مرجريت فكنت آخذ من الجامعة الأمريكية ثمانية وعشرين جنيهاً، ومن اللِيسيه اثنين وعشرين جنيهاً، ومن البلاغ خمسة عشر جنيهاً بغض المطر عما كنت آخذه من المكتبة التجارية ومن مجلة الهلال
ورأيت أن أزيد مرتب مرجريت فكنت أرسل إليها في كل شهر ألف فرنك(287/22)
وعرف موريس فضل (أبيه) فكان يرسل إليَّ في كل أسبوع خطابين
حرسك الله يا موريس وكتب لك التوفيق!
وفي سنة 1933 ذهبت إلى باريس لأحضر مؤتمر (الميسيون لاييك) نائباً عن أساتذة اللغة العربية بمعهد الليسيه. ذهبت ومعي المفتاح لأزور مرجريت ولكني استكبرت عن زيارة مرجريت، وهل يفكر الأساتذة الكبار في العطف على امرأة نكبتْها المقادير؟
ولما رجعتُ من المؤتمر نقصتُ مرتب مرجريت من ألف فرنك إلى سبعمائة فرنك، واعتذرت بأن مواردي نقصتْ وأني لم أعد أملك غير التدريس بالليسيه والتحرير في البلاغ
فكتبتْ مرجريت تقول إنها ترضى مني بأن أعترف أنها استطاعت مرةً واحدة أن تدخل النور إلى حياتي
أعترف يا مرجريت بأنك بددت الظلمات في حياتي
طال العهد على لقاء مرجريت، وطال العهد على لقاء موريس وحملني لؤم الطبع على التخلص من مرجريت وموريس، وهل كانت مرجريت زوجتي؟ وهل كان موريس ابني؟ وهل كنتُ أول شاب أطاع الغواية في باريس؟ يجب أن أقطع المرتب الذي خصصتهُ لمرجريت وموريس، ولكن كيف؟
لذلك تاريخ سنراه في الأسبوع المقبل
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(287/23)
وِرد الصباح
للدكتور عبد الوهاب عزام
تنفّس الصبح في غسق الليل، ولاحت غرته في جنح السَّحَر، والنور يسيل من ربى المشرق قليلاً قليلاً، ويولد اليوم الجديد
رب فأضئ عقلي بالهدى، ورغّب نفسي في الحق والخير، واملأ قلبي بالأمل، وقوّ يدي على العمل. واشرح صدري. واشدد أزري، واشحذ عزمي لليوم الجديد
ربّ! قد طُويت من عمري صفحات ونشرت اليوم صفحة، فاجعل صفحتي هذه أوعى للخير وأخلى من الشر، وزيّنها بالحق، وبرئها من الباطل، واجعل فاتحتها وخاتمتها الإخلاص لك، والعمل لوجهك
ربّ! إن عقلي يُخدع بالوهم، ويقنع بالظن، ويلبس الحق بالباطل. اللهم فاهدني وثبتني، واجعل البرهان الواضح حجتي، والحق المبين عقيدتي. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب
ربّ! إن قلبي يشوبه الهوى، ويستهويه الباطل. فخلص اللهم قلبي من الأهواء، واملأه بحب الحق إنك أنت الحق المبين
ربّ! إن نفسي تنزع إلى أن تتزيّد فيما لها، وتبخس ما لغيرها، وتُحمد بما لم تفعل، وتغمط غيرها ما فعل. اللهم فاجعل حق غيري أحبّ إليّ من باطلي، ورضاك آثر عندي من كل شيء
رب، إن الناس يركنون إلى الدعة، ويُعذّرون في الواجب، فاجعلني دائباً على العمل لا أملّ، قوّاماً بالواجب لا أعتلّ
رب، إن الناس ينزعون إلى الظلم، ويجنحون إلى المحاباة، ويرضون أنفسهم بباطل يزينونه وحق ينكرونه. اللهم فبغض إليّ الظلم والمحاباة، واجعل العدل والحق ملء نفسي وقلبي وقولي وفعلي
رب، إن نفسي تنزع إلى إرضاء الأقوياء والاستهانة بالضعفاء. اللهم فاجعل الناس سواسية عندي، واجعلني حرباً على الأقوياء المبطلين، نصيراً للضعفاء المحقين، لا تطبَّبني في الحق رغبة ولا رهبة، ولا يأخذني في الصدق خوف ولا رجاء(287/24)
اللهم إن الناس استهوتهم الشهوات وعبّدتهم المطامع؛ تُضلهم الكبرياء فيصدفون عن الحق، وتضرعهم الذّلة فيخنعون للباطل. فاجعلني اللهم متواضعاً لا تزهوني نخوة، وقوياً لا تأسرني شهوة، وحراً لا يعبِّدني مطمع. واملأ قلبي كبراً على السفاسف، وأنفة من الدنايا
اللهم وقد اشتعلت القلوب أحقاداً، وامتلأت النفوس ضغائن، وتقطعت بين الناس الأواصر، وفرّق بينهم الحسد، فاملأ قلبي محبة ومودة، وبرئني من الحسد والحقد، واجعلني أطهر من أن أحقد وأكرم من أن أحسد
اللهم إِن القلوب قست، والنفوس أجدبت، والوجوه وقحت، فاملأ قلبي رحمة لكل إنسان، ونفسي شفقة على كل حيوان، وأدبني بأدبك، واجعل فكري وقولي وفعلي براً ورحمة وإحساناً
اللهم واجعلني طماحاً هماماً لا تحد طموحي في الحق غاية، ولا ينوء بهمتي في الخير مطلب
اللهم واجعلني في الحق جريئاً لا أخاف، ومقداماً لا أحجم، ومحارباً لا أجبن، واجعلني عدواً للباطل جريئاً عليه، محباً للحق خاضعاً له
اللهم اجعل لي من ذكرك قرباً وأنساً ورجاء وثباتاً. اللهم إني أستقبل يومي مؤمناً بك متوكلاً عليك، مخلصاً لك، مجاهداً فيك، راغباً إليك مستمداً منك
فأضئ عقلي بالهدى، واملأ قلبي بالأمل، ورغّب نفسي في الحق والخير، واشرح صدري، واشدد أزري واشحذ عزمي لليوم الجديد
سبحانك لا إله إلا أنت الحق المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
عبد الوهاب عزام(287/25)
تحية الرسالة في عامها السابع
للأستاذ محمود الخفيف
أَشْهى مِنَ الوَرْدِ ومن نشْرِهِ ... ولَمحَةِ الفرْدَوْس من سِحْرِهِ
ومن رُوَاءِ الكونِ مُسْتَشرِفاً ... للرَّائع الْمنهَلِّ من فَجْرِهِ
وَمِن جبين الصُّبح في مَهْدِهِ ... وذَائِبُ الطَّلِّ على ثَغْرِه
تُجَاوِبُ الأَنْفُسُ مَسْحُورَةً ... سوَاجِعَ الأَبكار من طَيْرِهِ
ومن رُؤَى الحُلْمِ وأَطْيَافِهِ ... وَيقْظَةِ الرُّوح على ذِكْرِهِ
ومن سِمَات العيد في ضَحْوَةٍ ... تَزِيدُهُ بشْراً على بشرِهِ
صَحِيفَةُ المشْرق في جَلْوَةٍ ... تُرِيك معنى البَهْرِ من سِرِّهِ
رِسَالةُ الجيلِ على وَمْضِها ... يَسْتَقْبِلُ النَّابهَ من عَصرِهِ
صَبَاحُهَا اللَّمًاحُ يُوحي لَهُ ... فَيَنْشَقُ الآمالَ في عِطْرِهِ
يَلْتَفِتُ الشرقُ إلى عيدِها ... فيَسْتَثِيرُ العيدُ من فخره
تهزُّه من أَمْسِهِ لَمْحَةٌ ... تَبْتَعِثُ الذَّاهِبَ من كِبْرِهِ
ويزْدَهيهِ الْجِدُّ في يومِهِ ... وَوَثْبَةُ الْمُفْلِت من أَسْرِهِ
يسابقُ العصرَ إلى غاية ... تُنْسِيهِ ما يلْقَاهُ في سيره
سِيري عروسَ الشرق مَوْمُوقة ... على هُدى السَّالِفِ من دهرهِ
ثوري على الجهْلِ وأَسبَابه ... وحَرِّرِي الأعناق من نِيرِه
وَجَنِّبي المشرِقَ ما غرَّهُ ... من زُخْرُفَ العَصْرِ ومن زُوره
ومن سَرَابٍ ظَنَّهُ كَوْثراً ... لو لم يكُنْ صَدْيَانَ لم يُغْرِه
ومَزِّقِي الوَهْمَ فكَمْ مَسَّهُ ... فبَاتَ مَغْلُوباً على أمْرِهِ
ما كانَ لوْلا الذُّلُّ يرضى بما ... أَسْدَلَهُ البَاطِلُ من سِتْرِهِ
هاتي من الشرقِ أحادِيثَهُ ... وأَيْقِظِي الذَّاهلَ من سُكْره
قُصِّي عليه الحق كيفَ انجَلَتْ ... آيتُهُ الكبرى لَدَى بَدْرِه
وَحَدِّثِي الغَافِلَ عن مجده ... عن (خالِد) الشرق وعن (عَمْرِه)
ويُمْنِ (هارونَ) وإقبَالِهِ ... ومُلْكِ هارون على بُترِه(287/26)
مِئْذَنَةُ الحق على صَوْتِها ... لم يبْق ذو وَقْر على وَقْرِه
تَرن في المشرق أَصْدَاؤُها ... من أرْبُعِ الهند إلى مِصْرِه
بغدادُ لا تنفكُّ تَهْفُو لها ... كما هفَا الرُّوضُ إلى قَطْرِهِ
كمْ أطْلَعَتْ آفَاقُهَا أنجُماً ... هُمْ في سمَاء الشرق من زُهْرِهِ
وجَارَةُ الوَادِي تَصُوغُ الهوى ... عِقداً يغَارُ الزهْرِ من طُهْرِه
شبابُهَا الأحرارُ كم بينهم ... من عُدَّةِ الجيل ومن ذُخْرِه
صحيفةُ المشرق قد أَلَّفَتْ ... أشبَالَه الغُرَّ على نَصرِه
دِعامَةُ الفُصْحى وبُرهَانُها ... تَدْعو إلى اللهِ على أمرِه
ما نَسِيَ الشرقُ لها عَزْمَهَا ... في حُلْوِ ما تَلْقى وفي مُرِّهِ
ما حفِلَتْ يوماً بغير العلى ... ولم تُجِب غِراً على هُجْره
كمْ نابه مدَّ لها كفهُ ... بالرائق السلسال من فكره
وناهض لولا أياد لها ... مَرَّ به العَصرُ ولم يدْرِه
وَسَاجِعٍ في ظِلِّهَا رَقْرَقَتْ ... روائع الآياتِ من شِعْره
وناثِرْ بنَانُهُ سَاحِرُ ... تَرَى بديعَ الوشْى في نَثْرِه
ومُبْدِعٍ في الفن هَشَّتْ له ... فجاَء بالمُعْجِب من بِكْره
ومُلْهَم يحكي عهود الهوى ... فَتَسْكَر الألبابُ من خَمْرِه
صحيفةٌ يَبْسُطُهَا أرْوَعٌ ... في سِرِّهِ الصدقُ وفي جَهْرِهِ
ألقت له الفصحى مقالِيدَهَا ... فجاَء بالمُعْجِزِ من دُرِّهِ
كم غايَةٍ في الفن دانَتْ له ... طوعاً وقَدْ عَزَّتْ عَلَى غيره
لا تَبلُغُ الأحْقادُ من نَفْسهِ ... ولا ينالُ الغَدْرُ مِنْ صَبْرِهِ
لا عُسْرُهُ يثنيهِ عَن قَصدِهِ ... ولا يُسيغُ الزَّهْوَ في يُسْرِهِ
حَيَاؤه أَجْمَلُ أوْصَافِهِ ... ولا يَدِقُّ المكْرُ عنْ مَكْرِهِ
بيانُهُ سَمْحٌ إذا ساقه ... لا يَنْفُذُ الغِلُّ إلى صَدْرِه
يَبْنِي عَلَى الأخْلاْقِ من مَجْدِهِ ... ما تَعْجِزُ الأحداثُ عن قَهْرِهِ
لا زال يُولِيه الهُدى نورَه ... وَتَرْفَعُ الأيَّامُ من قَدْرِه(287/27)
الخفيف(287/28)
وحي العام الجديد
إلى أين نسير
بين التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(أم ترى نحن هنا، كما يقول غرورنا لنلعب على مسرح الحياة
دورنا الخالد؟)
جوفروي
انتهى عام وبدأ عام جديد، وانتهت من قبل أعوام وبدأت أعوام جديدة، وستنتهي غداً أعوام لتبدأ من بعدها أعوام جديدة؛ فإلى أين نسير وإلى أي مصير؟ أتُرى ندور في حلقة مفرغة يتصل أولها بآخرها وآخرها بأولها، فلا يمضي عام إلا ويتلوه عام آخر، ولا ينقضي خلق إلا ويخلفه خلق آخر؟
لشد ما يحار الإنسان عندما يسأل نفسه هذا السؤال في مطلع كل عام ولشد ما يجد الحياة حوله لغزاً معضلاً يستعصي على الحل، ولا ينفرج في ناحية إلا ليتعقد ويضيق في النواحي الأخرى
ولقد وقف هذا الموقف بالأمس الأستاذ فراح يتساءل أمام تلاميذه (بالسربون) عن الغرض في حياتنا تحت الشمس، وعن معنى الدور الذي نلعبه على مسرح العالم. وراح يعدد الظروف التي تستثير في نفوسنا هذا الموضوع، والنظرات التي تلقيه على مسامعنا؛ ونحن نورد لك اليوم موجزاً لأقواله، ثم نعقب عليه بما نريد
يقول: (لا يكاد يصل الإنسان إلى هذا السؤال إلا أخيراً، ولكن مشاغل الحياة لا تلبث مع ذلك أن تصرفه عن التفكير فيه؛ والناس حياله سواء، عالمهم وجاهلهم، وغنيهم وفقيرهم، وسعيدهم وشقيهم؛ فليس من واحد منهم يصدمه حادث أليم إلا ويغيم على ذهنه ذلك السؤال المحزن (لماذا نحن هنا؟ وما معنى هذا الدور الذي نلعبه؟)
ثم نحن ندخل الدنيا ونفوسنا مليئة بالآمال والشهوات والرغبات، وتدفعنا هذه النفوس النهمة الجائعة إلى تحقيق إرادتها وسعادتها، فيقف العالم أمامنا ليحارب تلك الإرادة بكل ما(287/29)
يستطيع ومن هنا نقاسي ألم الحرمان ونسخط على حياة وجدنا فيها نهمين نريد أن نشبع وتريد الأقدار أن نجوع!! ولكنا نميل مع ذلك إلى اتهام أنفسنا فنتحلى ونتخلق بالصبر والقناعة والرضى إلى أن تنحط علينا كارثة هائلة، فنفتح أعيننا من جديد لنرى آمالنا المتلاشية، ولنصرخ من أعماق قلوبنا المجروحة، وعقولنا المتزلزلة، ولنتساءل في لوعة وأنين: (ترى لِمَ نحن هنا على ظهر الأرض؟)
وليس لمآسي الحياة وحدها الإصبع الأكبر في ذلك السؤال، فإن لسعادتها أيضاً إصبعاً بل أصابع كثيرة. ذلك أنا نسعد في المبدأ عندما نحقق رغبة من رغباتنا، ولكن إذا ظلت سعادتنا وقتاً طويلاً - وقلما يحدث هذا - فسرعان ما تخبو نارها، وتنمحي روعتها، فيقل شعورنا بها شيئاً فشيئاً، وينقلب على مر الأيام إلى كره فثورة وسخط لأنا لا نجدها حينذاك كافية لمطامعنا ومحققة لجميع آمالنا، من ثَمَّ نرى الحياة عاجزة عن إشباع رغبة السعادة فينا، فنشعر بأن نشعر مسراتنا أوهام، ورغباتنا فخاخ نحن أول من يقع فيها. ولا نستطيع أن نتهم أنفسنا هنا كأن نتهمها أمام المآسي لأن السعادة بين أيدينا؟!
ثم نحن نبدو في المدن كأعظم المخلوقات فنمتلئ شجاعة وثقة وغروراً، ولكن عندما نخرج إلى الطبيعة المكشوفة، ونجد أنفسنا وحيدين أمام سماء لا نهاية، وأفق تتلوه آفاق، وجبال شامخة هائلة، ونجوم عديدة لا تحصى، وقرى تخفى في غابات، وغابات تختفي في فضاء الطبيعة، بل وعندما نرى أن هذه الدنيا تسبح في عوالم الكون مع عوالم أخرى كثيرة ونحن حيالها لا شيء، ألا ننسى حينذاك سعادتنا وشقاءنا، ونروح متسائلين: (أين نحن من العالم وما دورنا فيه؟)
وحينما ننظر في تاريخ البشرية، ونعرف أنها جاءت عارية أو شبه عارية، ثم قامت منها شعوب، وقام بين هذه الشعوب نزاع فساد الفرس أولاً ثم الإغريق، ثم الرومان، ثم البرابرة؛ بل وحينما نذهب إلى الأصقاع المجهولة في شمال آسيا وأواسط أفريقيا وأمريكا، وجزر المحيط، لنجد فيها قوماً يختلفون في اللغة والفكر ولا يعرفون مثلنا لماذا خلقوا ولا من أين أتوا؛ عندما ننظر في ذلك التاريخ البشري بليله البهيم، وفي الأجناس كفاحها وصراعها، ألا نشعر بغموض هائل يكتنفنا من كل ناحية؟ أما هذه الإنسانية التي نحن جزء منها؟ من أين أتت؟ وأيان تذهب؟ أترى هي كأعشاب الأرض وأشجار الغابات تخرج من(287/30)
التراب وإليه تعود؟ أم ترى هي هنا - كما يقول غرورها - لنلعب على مسرح الحياة دورها الخالد المحتوم؟ وأي دور ذاك وما عسى أن يكون؟ لقد سقطت المدنية الشرقية تحت أقدام المدنية اليونانية، كما سقطت المدنية اليونانية تحت أقدام المدنية الرومانية، وكما سقطت هذه الأخيرة تحت أقدام المدنية الجرمانية، فترى أي مصير سيكون لهذه الأخيرة؟ أهو الانتصار المحتوم ثم السقوط كما حدث لسابقتها؟ وماذا يكون دور الإنسانية إذاً؟ أهو الدوران في حلقة مفرغة؟ أم هو الترقي والتقدم؟ وأين الترقي والتقدم من وحشية الحروب وفظاعتها؟ وهكذا يحار الإنسان كثيراً وسط هذه الغيوم فيتساءل عبثاً عن القانون الذي يسوق قطيع البشرية بهراوته من أصل مجهول إلى مصير مجهول!
ثم (العلم) بماذا يحدثنا؟ إنه يقول إننا مجرد حلقة في سلسلة المخلوقات!؛ فالأرض قد استُعمرت في المبدأ بالنباتات الضخمة التي لا تقارن بها نباتاتنا، والتي لم تكن لتظل بأوراقها الواسعة العريضة كائناً ما! ثم جاءت ثورة جارفة هدمت تلك الخليقة الأولى كما لو كان خلقها عبثاً، وأحلت محلها خليقة أخرى هي الزواحف والأسماك!! ثم جاءت من بعد هذه خليقة ذوات الأربع الهائلة فمهدت الطريق للإنسان الذي طفا أخيراً على السطح كحلقة في سلسلة سابقة! وقد عاشت كل خليقة من هذه الخلائق السابقة على الأرض كما نعيش الآن، فلم لا يأتي يوم ننقرض فيه وتصبح عظامنا أمام الخلائق الجديدة مجرد حفريات ضخمة شائهة تحويها المتاحف وتعجب منها العقول؟؟ إننا حلقة بين حلقات مجهولة ناقصة، وقد خرجت هذه الحلقة لتتحطم بدورها كما تحطمت أخوات لها من قبل، فمن نحن إذاً؟ وأي حق لنا في الأمل والغرور؟؟
في كل مكان إذاً حدود، وفي كل مكان ظلام وعجز وألغاز تتلو ألغازاً! ونحن نجد أنفسنا متسائلين وحائرين كلما وقعنا تحت تأثير هذه الظروف، وكم منا قد انتحر إزاء هذا المشكل الكبير!، وكم منا قد لجأ للعقائد التقليدية ليقنع بما فيها من أقوال ووعود، ولكن خيط حياتنا لا يفتأ يهتز ويتذبذب كلما تساءلنا في حزن وأسى عن أصلنا ودورنا ومصيرنا المحتوم!!
ولكن الأمر يبدو بالرغم من ذلك كله أهون مما نظن! وذلك لأن الحياة والموت، والسعادة والشقاء، وعِظم الخليقة وظلام التاريخ؛ كل ذلك وإن أحزن القلب والعقل والضمير فهو يتحدث إلينا بألف لسان ليثير ثورة جارفة تصد اليأس. وتذود النوم، وتدفع الإنسانية إلى(287/31)
البحث الشاق الطويل!!.
إلى البحث الشاق الطويل؟ أجل إلى البحث الشاق الطويل! وإذا كانت الأديان قد وفرت علينا مشقة الحل فما ينبغي لعقولنا النورانية أن تقف عند حد أو أن تقنع بالقليل. ولن يضيرنا أن نكون حلقة في سلسلة مجهولة الأطراف، فحسبنا أننا نعيش لنلعب دورنا المحتوم في الحلقة التي نعيش فيها، ولن يضيرنا أن نتعرض في حياتنا للكوارث والآلام، فحسبنا أن نعلم أن قانون الحياة صارم على الجميع وأن مجدنا وعظمتنا في التحمل والكفاح والصراع أكثر مما هما في الدعة والسرور واللين. ومهما يكن شأننا ضئيلاً في الكون الهائل المخيف فلا شك أننا نستطيع أن نسمو بعقولنا وقلوبنا إلى عليين، وأن ندرك كل عام من أسرار الحياة والوجود ما يقيم لنا وزناً في العالم المجهول. وإذا كان العلم يشير إلى سلسلة متدرجة مترقية في المخلوقات فلنسأل أين كمالنا نحن البشر وما عسى أن يكون دورنا الحق في الوجود؟ وإذا كانت ميزتنا الكبرى قائمة في (العقل) كما يقول أرسطو فلا مندوحة لنا من جعله يمتد بأشعته إلى سر الحياة والكون ليأتينا منه كل عام بجديد في نواحي ذلك الثالوث المقدس، ثالوث الحق والخير والجمال. ومهما يكن من شأن النكوص العارض في خط السير فلا شك أننا نقدر جميعا تلك الخطوات الهائلة التي قطعتها الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى اليوم نحو التقدم والمدنية والنور. فاليوم علم بعد جهل، وديموقراطية بعد عبودية واستبداد، وسلام بعد حروب وغارات! أقول (سلام) وأعلم تماماً ما سوف تقول! وأين السلام من تلك الشعوب المتناصرة المتنابذة التي يحفر كل منها للآخر هوة سحيقة للموت الداهم الفظيع؟ ولكن رويدك فالفكرة موجودة، وتزداد بحرارة الخطر اختماراً، حتى إذا انفجر البركان وأصاب الإنسانية منه أقصى سعير استوت على عرشها وسادت سيادة أنجح وأضمن كما سادت بالأمس القريب فكرة تحرير الرقيق بعد قرون الذل والعبودية والانحطاط!
إلى الكمال إذاً نحن نسير! إلى كمال الحق والخير والجمال؛ ولا نفاضل بين الأجيال إلا على ذاك الأساس. ولا ينبغي أن تكون لنا غاية غير هذه الغاية! ولا يجوز أن نقيس حياتنا أفراداً وجماعات إلا بهذا المقياس. ولئن كان مقدراً للأجيال ألا تبلغ ذلك الكمال المثلث فإنما شاء الله ذلك لكيما تبقى للإنسانية غاية تعيش من أجلها وفي سبيلها تموت. فلننظر إذاً أي(287/32)
قدر من ذلك الكمال قد تركته لنا الخلائق والأجيال الماضية تراثاً ثميناً مجيداً، ولنعرف كيف نصونه ونحافظ عليه ونسلمه لأبنائنا وديعة كريمة جميلة؛ ثم نفكر في ماذا عسانا نستطيع أن نزيد عليه من الحق والخير والجمال كما فعلت الأجيال السابقة ليبقى ما نزيده ناطقاً باسمه على مر الدهور والأجيال
أجل يجب أن نفكر في ذلك ونسعى في تحقيقه ونحاسب أنفسنا بصدده عند مطلع كل عام جديد
ويجب على هذا الأساس أن نرحب بالعام وان نتفاءل بمقدمه، وأن نرجو الله داعين منيبين أن يكشف فيه للإنسانية عن درجات أخرى من سلم ذلك الكمال المنشود.
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية الأميرية(287/33)
قلت لنفسي. . .
إن مبدأ الإسلام، إقرارَ السلام؛ ومع ذلك لجأ إلى القوة وأخذ بنظام التسلح، فشرع القتال ثم قال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. . .) ومن قبلُ جاءت المسيحية عزوفة النفس زهيدة العين تسبل العفو عن الجارم، وتبيح الخدين للاّطم، وتترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله؛ ومع ذلك قال المسيح: (ما جئت لألقي سلاماً بل حرباً)
فهل معنى ذلك إلا أن القوة هي شريعة الله يحفظ بها سلام العالم، ويقر عليها نظام الحياة، ويدفع بها بعض الناس عن بعض حتى لا تفسد الأرض؟
لقد جأرت أوربا كلها ليلة عيد الميلاد بنشيد المسيحية الشرقية: (وعلى
الأرض السلام) حتى جفَّت الشفاه، وبُحت الحناجر، ثم أصبح الناس
فإذا إيطاليا بلد البابا تحشد الجيوش إلى حدود الصومال، وفرنسا تجيب
على التحدي بجنود السنغال، وهتلر وجون بول يقفان متحفزين
متلاحظين: هذا من وراء الديمقراطية، وذاك من وراء الدكتاتورية!!
فهل يحسب الذين يثبطون مصر عن إرصاد الأهْبة وإعداد القوة بحجة ما نكلف من المال، ونجشم من الأعمال، إنهم يطيعون الله ويخدمون الوطن؟.
ابن عبد الملك(287/34)
للتاريخ السياسي
نتائج اتفاق مونيخ
للدكتور يوسف هيكل
كان يوم الجمعة 30 سبتمبر (أيلول) سنة 1938 يوماً تاريخياً هاماً مغيراً تغييراً رئيسياً لوضعية أوربا الدولية، ولاتجاه السياسة الغربية، إذ به تم اتفاق الدول الأربع (في مونيخ) على حل المشكلة التشيكوسلوفاكية حلاً لم يتوقعه أحد قبل أيام من ذلك التاريخ، فجزأ هذا الحل التشيكوسلوفاكيا وأثر تأثيراً عظيماً وسيئاً على حياتها الاقتصادية والسياسية. وأهم من ذلك أنه أدى إلى نتائج دولية خطيرة، تتصل بعلاقات ألمانيا مع دول جنوب شرقي أوربا والشرق الأدنى من جهة، وبوضعية دول أوربا الكبرى من جهة ثانية.
انتصرت فرنسا عام 1918، فعمل ساستها ورجالاتها على تأمين سلامتها، وإبعاد خطر الغزو الجرماني عنها. إذ ذاقت فرنسا مرارته مرتين في مدة أقل من نصف قرن. واستخدموا لذلك وسائل تأمين السلامة المعهودة قبل الحرب العالمية: المعاهدات والمبادئ التي تولدت عن الحرب الكبرى، والضمان المشترك ضمن نطاق عصبة الأمم
عملت فرنسا عام 1918 على تطويق ألمانيا من الجهة الشرقية بدول معادية فأوجدت بولندا وتشيكوسلوفاكيا، وربطتهما بباريس بمعاهدات دفاعية. ولتقوية مركز تشيكوسلوفاكيا الدولي، وإيجاد كتلة قوية أمام ألمانيا في جنوب شرقي أوربا، ساعدت فرنسا في تكوين التحالف الصغير بين تشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، ويوغسلافيا، وربطت هذا التحالف بنفسها بروابط ودية متينة. وفي عام 1935 وقعت فرنسا على معاهدة دفاع متبادل بينها وبين الروسيا، وتوسطت إلى إيجاد مثل هذه المعاهدة بين صديقتها تشيكوسلوفاكيا وبلاد السوفيت. ظنت الدوائر السياسية أن هذه الروابط الدولية جعلت مكان تشيكوسلوفاكيا الدولي متيناً لا يتزعزع، ويحول دون أي تفكير في الاعتداء على جمهورية مزاريك، واعتقدت هذه الدوائر أيضاً أن القوى المناهضة لألمانيا في أوربا الوسطى والشرقية قوية إلى درجة لا تجعل حكومة برلين تفكر في اختراق النطاق الذي يحيط بها في تلك الجهة.
لم تكتف فرنسا بإيجاد ربيبتها تشيكوسلوفاكيا وتقوية مركزها الدولي، بل عملت على تحصين الحدود التشيكوسلوفاكية الألمانية، وتنظيم الجيش التشيكوسلوفاكي وتقويته، لتتمكن(287/35)
من صد أي هجوم حربي ألماني عنها. لهذا أقرضت باريس براغ المليارات من الفرنكات وأرسلت لها المهندسين الحربيين الأخصائيين لإنشاء حصون هائلة على الحدود الألمانية، فأنشئ (خط ماجينو التشيكوسلوفاكي) وصرف عليه ثمانون مليوناً من الجنيهات. ثم أرسلت فرنسا البعثات الحربية لتدريب الجيش التشيكوسلوفاكي وتنظيمه، فأصبح من أنظم الجيوش الأوروبية وأهمها. وزيادة على ذلك، فإن دخول تشيكوسلوفاكيا الجغرافي في قلب ألمانيا يساعد على جعل هذه البلاد مركزاً لقوة طيران عظيمة تستطيع هدم كبريات المدن الألمانية الواقعة في الجهات المختلفة. وقد ساهمت فرنسا في تقوية قوى الطيران التشيكوسلوفاكي، واعتمدت كثيراً على موقع تشيكوسلوفاكيا الجغرافي، لهذه الغاية، فكان بإمكان القوى الجوية المتجمعة في تشيكوسلوفاكيا، تهديد المدن الألمانية بسهولة وفي وقت قصير. فظنت الدوائر السياسية، بعد هذا التحصن وإيجاد هذه القوى، أن لا فائدة لألمانيا من محاولة الهجوم على ربيبة فرنسا. كما أنها ظنت أن لا أمل يرجى لألمانيا من مهاجمة فرنسا لوجود (خط ماجينو) الذي تتحصن فيه عند الحاجة الجيوش الفرنسية، وجيوش دول معاهدة لوكارنو، ولوجود القوى الهائلة المحالفة لفرنسا في أوربا الوسطى والشرقية، التي في إمكانها الانقضاض على ألمانيا من الجهة الشرقية بسرعة وسهولة
خلافاً لهذه القوى التي هي في حد ذاتها قوى فعالة لا يستهان بها إن عرف استخدامها، فإن فرنسا استعملت في تأمين سلامتها من الخط الجرماني، مبدأ (الضمان المشترك) ضمن نطاق عصبة الأمم. فكان من أقوى أنصار عصبة الأمم ومن العاملين على تنظيم الضمان المشترك وتنفيذه ومن أشد الغيورين عليه والراجين منه سلاماً. فهل منعت المعاهدات والضمان المشترك ألمانيا عن اجتياز السور الذي أقيم حولها؟ وبعبارة أخرى، هل أوصلت السياسة التي تبعتها فرنسا خلال العشرين سنة الماضية الشعب الفرنسي إلى ما يبغيه من سلام وطمأنينة؟
لم تنفذ المعاهدات، ولم يعمل بموجب الضمان المشترك. وتمكنت ألمانيا من رفض القيام بما قبلت من واجبات ومن السير بخطى واسعات للوصول إلى ما تبغي وتطمح
وكان أول ما قامت به ألمانيا امتناعها عن دفع التعويض للحلفاء، فلم ترغم على دفعه، ثم قرارها بإلغاء القيود العسكرية في معاهدة فرساي وإعادتها التجنيد الإجباري، وتجديد معامل(287/36)
الأسلحة والذخيرة في بلادها، وبناؤها أسطولاً جوياً هائلاً، فلم يردها الحلفاء السابقون والحاليون عن هذه الأعمال، ثم احتلالها لمنطقة الرين التي تقضي معاهدة فرساي ببقائها مجردة من كل صبغة عسكرية. فلم تتخذ الدول المتعاقدة في لوكارنو الإجراءات العسكرية التي تقضي بها معاهدة لوكارنو لإعادة منطقة الرين إلى حالتها السابقة، ثم ضمت ألمانيا دولة قديمة برمتها إليها، فلم تحرك الدول ساكناً
أما عصبة الأمم فلم تأت بعمل فعال ضد الإجراءات الألمانية، كما أنها لم تنفذ قانونها حين احتلال منشوريا، والحرب الحبشية، والحرب الأسبانية، والحرب الصينية. تلك الحروب التي هي وليدة أنانية الدول الكبرى، وضعف عصبة الأمم المستعمرة ووجود الضمان المشترك بين طيات الأوراق فقط.
وتلا هذه الأزمات والحروب الأزمة التشيكوسلوفاكية. وبعد محادثات اتفقت فرنسا وبريطانيا العظمى على حل النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي عن طريق سلمي، فعقد مؤتمر مونيخ وسلمت بريطانيا وفرنسا فيه بمطالب الهر هتلر، وخرج زعيم ألمانيا منه منتصراً من غير حرب.
في مونيخ تم هدم ما بنت السياسة الفرنسية خلال العشرين سنة الفائتة. واتفاق مونيخ كان (ضربة الرحمة) (أي الضربة القاضية) لعصبة الأمم ولمبدأ الضمان المشترك. إذ في مونيخ مزقت تشيكوسلوفاكيا دون أن تعلم عصبة الأمم بذلك، ودون أن يأتي أحد من حلفائها لنجدتها، حتى أن والدتها وافقت على هذا التمزيق.
وتمزيق تشيكوسلوفاكيا أزال قوتها العسكرية والدولية. إذ خسرت تشيكوسلوفاكيا ما يزيد على أربعة ملايين من سكانها وفقدت حصونها وقلاعها التي وضعت فيها قوتها وأموالها كما أنها فقدت أيضاً كثيراً من مواردها الاقتصادية، وأصبحت تحت رحمة جارتها القوية.
أما نفوذها الدولي فقد زال، لزوال مصادره، إذ كانت تشيكوسلوفاكيا تستمد قوتها الدولية من تحالفها مع فرنسا والروسيا ودول التحالف الصغير. فجاء اتفاق مونيخ فألغى تحالفها مع فرنسا والروسيا، وأبطل عملياً وجود التحالف الصغير. لأن دول هذا التحالف لم تأت بحركة قبل مؤتمر مونيخ للدلالة على وجود التحالف. وهي بالطبع لا تستطيع وضع تحالفها موضع العمل بعد اتفاق مونيخ الذي سلمت فيه الدول الكبرى لمشيئة الهر هتلر.(287/37)
فتحالفها هذا زالت أهميته عملياً، ولم يبق له وجود في السياسة الدولية.
(للمقال بقية)
يوسف هيكل(287/38)
من الأدب الإنجليزي
دفاع الشيخ عن عرضه
للكاتب الإنكليزي سيرجون وارد
للأستاذ محمد لطفي جمعة
جلس لورد آشلي أوف بلاكبوري كاسل وهيلدا بريكفيلد وارثة بارون أوف كليرمونت، ينظران إلى الشفق، وقد توارت الشمس بالحجاب، وقد هبط عليهما وحي الحب، وسرت فيهما نشوة الغرام، إذ رآهما الشفق ضجيعي لذة وصبوة، وكان لكل منهما ما ذكره بماضي مباهج الحياة. وكانا مجتمعين خلسة في غيبة والدها بارون أوف كليرمونت الذي كان يعارض في زواجها من حبيبها لورد آشلي، الشاب الذي قضى معظم شبابه في المغامرات والفروسية، ومناصرة الملك شارل على ويليام أوف أورانج، الذي غزا البلاد، واغتصب العرش والتاج. وإذ كانت الفتاة والفتى يرتشفان كأس السعادة في تلك الخلوة التي كانت حلماً من الأحلام، فزعت واستيقظت من غفوة الهناء، على غير انتظار. وماذا رأت؟ ويا هول ما رأت! أي عينين هاتان البراقتان؟ هما حقاً عينا أبيها البارون الشيخ نصير ويليام أوف أورانج، وأحد أبطال الموقعة الحاسمة التي خضبت دماء هاستنجز بالدماء، وأقصت الملك الشرعي عن البلاد. . . ثم صرخت اللادي الشابة ناهضة وخرَّت صارخة وقد تنازعها الحزن والفرح، وتوزعها الخوف والرجاء؛ وإنها على فرط حبها أباها لم تملك أن شعرت عند رؤيته بفزع ورعب منه وهو يراها بين ذراعي حبيبها الذي يبغضه ويمقته ويتربص به الدوائر، بعد أن أقصاها عنه وحرم عليها اللقاء، فثار لورد آشلي لصيحة حبيبته وأمسكها ساقطة ثم عمد إلى الجدار، فتناول حسامه بأسرع من اللمح ليحمل على الذي سبب كل ذلك الرعب. وكان البارون المسنُّ والشيخ الهم لا يزال صامتاً، فلما رأى الفتى يجرد حسامه ويستعد لنزاله ابتسم هازئاً وقال:
(إن بأدْنى مسمع مني ألوفاً يحملون البيض المشرفية، والسمر السمهرية، فضع سيفك يا فتى، ولا تكن غراً أحمق!)
وتشبثت اللادي هيلدا بآشلي وصاحت: (إنه أبي. . . فاركع له معي، لعله يغفر لنا ويصفح(287/39)
عنا - وكانت هذه علة رجائها - نعم! ما أراه إلا فاعلاً ذلك. . . نعم سيغفر لنا ويصفح عنا. . .) ثم استدارت نحو الشيخ النبيل وقالت له:
- (أبتاه! أخليق بك أن تجعل للخوف والشك في صدر ابنتك موضعاً ومجالاً؟ أخليق بك أن تدعَ الرعب يلاطم الأمل في فؤادي، وتترك الريب يزاحم الثقة في قلبي؟ أبتاه! اصنع بابنتك ما تشاء واعف عن هذا الغلام، فأنا التي أمَّنته وشجعته على هذا اللقاء!)
ولكن البارون الشيخ وقف ثابت الركن شامخ الأنف، أصيد مهيباً، وقور الجانب، محصن النفس من كل ما عساه يهجم على القلب من دواعي الحنان وعوامل الرحمة. وكان عدا ذلك المظهر قوي الصوت، سديد النظر، ساكن الأوصال - وهي علائم ضمير ليس بالساكن ولا الهادئ - وكذلك جعل يرنو إلى ابنته ولا يجيبها، ثم التفت إلى آشلي وكان الدم في وجنة الفتى يذهب ويجيء، وقد قام متأهباً للحملة على من عسى يلي دعوة الشيخ من خوله وجنوده وعسسه وأحراسه. وكانوا جميعاً أشداء ذوي بأس وأسر متين
وقال البارون كرة أخرى: ضع سيفك يا غلام، فقال الفتى: لا! مادام هذا الساعد مطلقاً! فابيضت وجنة الشيخ، لا رهبة ولا فزعاً، ثم استخرج من نطاقه مسدساً فقال: (على رأسك إذن دمك!) ثم أقبل يتأمل الزناد فألفاه صالحاً حديث العهد بالقدح. . . وبعد ذلك أقبل يُهيئه للرمية القاضية. . . وكان لتلك التهيئة صليل يخشى وقعه في الأذن وهو نذير الردى. تهيأ الشيخ للإطلاق، ولو أطلق لوقف شيئين معاً: حياة اللورد الشاب عاشق كريمته، وبراعة المؤرخ، كاتب هذه الأسطر، ولختم شيئين معاً: عمر الفتى وقصتنا التاريخية، ولكن هيلدا وهي أشد من أبيها عناداً وأنفذ صرامةً وأصعب شكيمة، ألقت بنفسها دون الغلام وصاحت:
(إذن إلى كبدي فلتسددن سهمك أو قذيفتك النارية، فتلتقي جذوتان!. فإنها خطيئتي لا خطيئته، وما كان مجيئه هذا القصر عمداً، وإنما طوح به إليه القدر، بعد المعركة التي خرجت منها ظافراً، وأوردته صروف الزمان. وقد أعطيته ذمتي وعهدي، وما كنت قط للعهد بخافرة ولا للوعد بمخلفة. وإني لأحبه فوق ذلك، وأفديه بنفسي وأقيه بمهجتي. . . إنني يا والدي أعرف صرامتك، وأردت أن أعرفك صرامة ابنتك، وإن وراثتنا لا تكذب، والدم الذي يجري في عروقك وعروقي لا يخون!)
لقد كانت الفتاة منذ لحظة كلها رحمة ورقة ولين وطفولة بريئة ونعومة طاهرة، ساجية(287/40)
الطرف، خافقة الأحشاء، فإذا هي كلها جرأة وإقدام، راسخة الوطأة، سامية النظر، كأنها قدت من الصخر الأصم أو هي الطود الأشم!
وكانت هيلدا بريكفيلد بارونس أوف كليرمونت مديدة القامة، فأتلعت وتطاولت تعالياً وخيلاء. . . وصادمت لحاظ أبيها من لحظاتها بما هو أشد وأقسى، ولكنها لم تمد يداً لمنع الشيخ مما ظل يحاول، لأنها لم تخف عادية الردى، كأنها ترتاح لطارق الموت وتهش للأجل المتاح، وجعل الوالد ومن ولد يتبادلان النظر. فما كان أعجب قرب الشبه بينهما، يا لهما من أسد وفلذة كبده!
وتوقف البارون برهة، ثم رد سلاحه إلى نطاقه، ولكنه وقف يقذفها بنظراته كأنما يريد أن يفضي ببصره إلى مخبآت ضميرها ثم قال:
ما أنا من أراد بهذا الغلام سوءاً، وما أنا من جلب ما قد ترينه الآن من الشر والأذى، وقد يندر من يصاب بمثل ما نالني من انتهاك الحرمة والغدر فلا يسفك دماً ولا يزهق نفساً
بيد أني سأفعل الواجب وإن أخللت أنت به وأشأت أداءه. فليلقين حسامه وإلا ورأس أمك لأدعن رأسه على هذه الأرض تثب وتتدحرج وتصبغ الصخر باللون القرمزي
ثم رفع البارون بوقه إلى فمه فنفخ فيه، وإذا ببوق يجيبه من خارج القصر ودخل عشرون رجلاً مدججاً يعدون مسرعين على رأسهم قائد وصاح البارون (اقبضوا على الغلام أو اذبحوه. واجتذب الشيخ الفتاة إليه بأسرع من لمح البصر وحال الجند بينها وبين حبيبها فجاهدت عبثاً أن تتملص من قبضة أبيها. وكيف وقد كان التفاف ذراعيه حولها كالتفافة الأفعوان؟ وشد الجند على لورد آشلي شدة فارس واحد. ولكن آشلي حمل بالسيف على أولهم فشق كتفه وألقاه يتخبط في دمه، وعلى الثاني فشج وجنته. أما الثالث وكان سيافاً حاذقاً فقد جعل يروغ من ضربات قرنه اللورد الشاب حتى أصاب غرة منه فضربه فجندله صريعاً ينضح دماء من طعنتين إحداهما في الذراع والثانية في الرأس، ثم غَلُّوه حيث خَرَّ وأخذوه من الحجرة وأومأ لهم البارون الموتور أن امضوا به إلى الساحل حيث كانت سفن ترحل وتبحر فأودعوه زورقاً وأعملوا المجاديف حتى بلغوا السفن، وكانت منضودة صفاً فوضعوه في إحداها. أما الفتاة بعد أن رأت حبيبهاً جريحاً أسيراً، فقد غشي عليها، وما زالت في ذبول ونحول اثنتي عشرة ليلة ثم أسلمت الروح بلا أنَّة ولا زفرة.(287/41)
محمد لطفي جمعة(287/42)
في الأقصر
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
لا أظنني أسترسل في عزّة تأخذني بالباطل إذا قلت: إن الأقصر يجب أن تعد بحق في طليعة المشاتي العالمية العظمى، فسماؤها دائمة الزرقة، وشمسها الساطعة التي تضفي على الأجسام أبراد الصحة والحياة، ونسماتها المنعشة المحيية، وزروعها الخضراء التي لا يكفي الخريف نضرتها بصفرته الذابلة، ونيلها السعيد المنساب في أحشائها يوزع عليها هدايا الخصب والبركة، وواديها الحافل بمقابر الملوك والملكات والأمراء والنبلاء، ومقابرها التذكارية التي تجلي الإنسانية في مثلها العليا ومبادئها السامية، وأطلال هياكلها الأثرية، بل قصورها الخالدة التي تقوم إلى اليوم وسط مبانيها الفخمة والمتواضعة، وتتيح لها اتخاذ اسمها الحاضر الأقصر (القصور) - كل هذا أو بعض هذا يجعلها محط رجال أهل الفضل والثقافة والنبل، يسعون إليها من مختلف الأقطار على أخفّ من جناح الطير. ولقد تسنى لي في الأسبوع الماضي أن أتعرف إلى نخبة من هؤلاء الأعلام، وأن أضع جانباً من وقتي واهتمامي بين يدي فتاة غريبة نابهة تعنى بدراسة أحوال هذه البلاد وتتغنى بأمجاد تاريخها وبدائعها. . . على أن أروع الصور وأوقعها في النفوس لا تكاد تستغني في استتمام جلالها عن الظلال القاتمة والألوان الغدافية، التي تمسّ أوتار الألم المتنبهة أبداً فينا، فقد عرض لي أثناء تجوالي مع هذه الرفيقة الفضلى ما ضاقت له نفسي، من شؤون دعتني إلى تحريك قلمي اليوم للفت نظر من بيدهم الأمر رجاء معالجتها استكمالاً لأسباب المجد الجدير بهذا المشتى عرض الأثري الخالد كيلا يشيح عنه قاصدوه، ويروا أن ما عانوه في سبيل الوصول إليه كان ضرباً من العبث المبين والجهد المستطير، وتنزيهاً لنا عن الانحطاط الذي رسختْ نسبته إلينا في أذهان أهل الغرب ولا يصح أن نبقى فيه متورطين، ولا سيما بعد أن أبدتْ صاحبتي إعجابها بمظاهرنا كلها التي تشهد بأننا قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالنعم، ونهجنا الصراط السوي في التضامن والتكافل والكرم، بفضل ما تدره علينا بلادنا الخصبة. وقد سألتني يوماً عن أحياء الرعاع عندنا: هل فيها من مظاهر العوز ما تطير لمرآه القلوب، ويرسل في نواحي النفس جميعها لدغاً مؤلماً مسرفاً في الإيلام؛ فلم أخفِ عنها أن بالأقصر أحياء فقيرة كغيرها من بلاد الله؛ وإن كنت قد ذكرت لها أنها لا(287/43)
تخلو من جماعات أهلية وحكومية، تنظم الخير، وترعى المعوزين، وتعلم صغارهم تعليماً إلزامياً وصناعياً بالمجان؛ وذكرت لها في غير تبجح، أن قلوب أهل هذه الربوع الوادعة لا تزال محتفظة بغرارة الفطرة السمحة المتآخية هي منازل للرحمة ومواطن للسخاء. ثم سألتني عن التسول وعما إذا كان مباحاً، فَوجْمتُ وقد أسرع إلينا أصحاب الأجسام المشوهة، والعيون الذابلة القذرة، والثياب الرثة المهلهلة. وأشهد الحق أني ما كدت أراهم حتى ذبت خجلاً، إذ كانت العربة قد وقفت بنا في تلك اللحظة أمام معبد الأقصر الأزليّ، القائم على شاطئ النيل في أجمل أحياء المدينة وأغناها؛ وغضضت بصري وخشيت أن أرفعه نحو صاحبتي وهي لا ترى تجاه العظمة الماثلة أمام أعيننا، سوى تلك الأيدي الممتدة بذل السؤال لتنقض ما شاهده القوم من مكرمات. ولو كنتُ من أرباب السيادة والسلطان لاتخذتُ كل الطرق كل الطرق الفعالة للقضاء على التكفف، ولكن قلة عدتي تضيق على دائرة نفوذي، وإن كانت لا تمنعني التوجه إلى أولي الشأن بإلحاحي أن تعزز القوات لمعاونة أولئك الشحاذين المساكين، فإنا لو ذكرنا أن رقيّ المجموع إنما يحسب بقدر تعدد مطالب الفرد، لرأينا أننا أبعد الأمم عن الرقي الصحيح. ولا ينتشر التسول في محيط إلا كان دليلاً على أثرة الأقوياء الأثرياء، ومقياساً لخسة مطالب الفقراء التي لا تتعدى ما تجدّ العجماوات في طلابه لسدّ الرمَق. وإنها لإحدى الكبر أن يسجل أهل بلدي العطوفون الأسخياء على ذواتهم ما تستتبعه غفلة إهمالهم، وهذه طلائعه تظهر في الجهة الواحدة بؤساً وفناء وتقلصاً وتهديماً، وفي الجهة الأخرى نمواً وازدهاراً وانبساطاً في رحاب النعم، فلا يَكْمل سناء هذا إلا باستكمال تضاؤل تلك
ثراء وبؤس كيف يلتقيان؟ ... مقيلاهما في القلب مختلفان
فليسمحوا لي أن أنبههم إلى تدارك هذا الأمر الخطير، وليعلموا أني بإلحاحي في وجوب السهر على منع الشحاذين من الانتشار في أحياء المدينة لا أبغي أن يحرموا عطفاً يخولهم إياه بؤسهم. وبأي حق يحرمونه والأزمة عضود، والأيام جديبة، وأولئك المفلوكون أحوج للعون وأجدر بالمساعدة؟ ولكني أرجو أن يتوسلوا إلى ذلك برشاد الرأي واستخدامه لوضع كل شيء في موضعه. وليعلموا أن خير وجوه الإحسان زيادة البذل من المال في سبيل تخفيف الألم العام وتنمية روح الحق والصلاح والتهذيب، وتوجيه النفوس إلى حياة العزة(287/44)
والكرامة، فلا تعيش للكسل والخمول اتكالاً على كرم المحسنين
هذا ولا بدَّ لي هنا من الإشارة إلى ما حدث في اليوم التالي حين رافقت صاحبتي إلى (وادي الملوك) فقد تجمهر حولنا صغار السائلين المعتفين وتتبعوا خطواتنا، وكادوا يلزموننا أن نعطيهم شيئاً من النقود. ولعمر الحق أن دموعي تنهمر غزيرة إذ أذكر أولئك الأطفال المحرومين متاع الطفولة المقيمين في منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الجهل، ويقطن الذل في جوار القنوط، الذين يعيشون على الجانب الأيسر من النيل، في تلك الأكواخ الحقيرة، المنثورة حول مدافن الملوك الغر الميامين، كجراح عميقة في جسم كياننا الاقتصادي والعمراني، ويموتون مهملين. لهف قلبي على تلك الزهرات الأنيسة التي تذبل في ظلام الحاجة والجوع والإهمال! ونحن نمرُّ بها على الجانب الأيمن، الجانب المعمور بمدارسه دون أن نعيرهم التفاتاً. ومَنْ ذا الذي يستطيع يَسْتطيع أن يدرك كنه القوى الكامنة فيهم، التي لا تدركها النجدة والثقافة لتبرزها إلى الوجود عظمة ومجداً وفضلاً ونبلاً
إن أيديهم التي تبسط اليوم في ذل السؤال، ستبسط في الغد للسطو والنهب، إذا لم يسعفها التهذيب الصحيح، ويجعلها أمينة للغد، نشيطة عاملة لرقي البلاد. ولقد جابهتني صاحبتي ببؤس هؤلاء الصغار، وتدفقت في الدفاع عن حقوقهم، ودهشت كيف تتقاعد الحكومة عن رعايتهم اللازمة، وقالت: إن الأطفال في جميع بلاد الله يقطعون مرحلة التعليم الأولى مجاناً، ولو ذهبت تلك البلاد في أحضان العزلة والريف. وإني وإن كنت أضم صوتي إلى صوتها في وضع احتياج أولئك الصغار أمام من بيدهم الأمر، لا أقصد رجال الحكومة فقط. ومن السفه أن نوجه نظرنا إلى الحكومة في كل شيء، ونطلب منها أن تخلق خلقاً جديداً. وليس من شأن الحكومات أن تفسح للناس القادرين سبل العمل، فيسعون بكل وسيلة صحيحة لرفع الصغار الفقراء، إلى مستوى يتعاضد فيه الجميع ويتناشدون، متعاونين على حب الحياة، ومراعاة المنفعة العامة.
بقي أني لا أستطيع أن أختم كلمتي اليوم قبل أن أضمنها أمرين تفزعت لهما صاحبتي. أولهما الصياح الذي اختص به باعة التحف الحديثة التي يصوغونها على طراز العاديات الأثرية، وإلحاحهم في عرضها علينا، وإمعانهم في إظهار ما كانوا يظنونه في أنفسهم من المقدرة على أن يبتزوا منا ثمنها. . .(287/45)
أما الأمر الثاني فالقسوة التي يبديها بعض حوذية المركبات في إعنات خيلهم وإنهيالهم عليها بسياطهم، حتى لقد حسبت أن بلدنا ينقصها فرع لجمعية الرفق بالحيوان، وسألتني إن كانت الحكومة تشرف على أعمال هذه الجمعية، فأجبتها بالإيجاب، ودللتها على المكان الذي تدار فيه شؤونها، وعلى مناهل الماء التي أعدتها لتخفيف وطأة الظمأ على السائمة وتكليف رجال البوليس بحمايتها من القساة الذين لا يكثر وجودهم بين الزارعين المرابعين المشهورين بعطفهم على ماشيتهم، وتعلقهم بها تعلق الوالد بأولاده المحبوبين.
فسرى عنها وقالت وفي عينيها بريق اللجاجة والحنان: (ولكن رجائي إليك أن تحمسي رجال البوليس للتشديد على الحوذية الذين يضربون خيولهم العزيزة المسكينة بغير مسوغ).
وإني لعلى ثقة بأن الخير الذي وعدتها به ستحققه همة أولي الشأن من الحازمين.
الزهرة(287/46)
رسالة العلم
العالم اليوم
للدكتور محمد محمود غالي
تقدم الرسالة إلى قرائها الدكتور محمد محمود غالي محررها العلمي، وهو يحمل ألقاباً شتى في الطبيعة والرياضة، أهمها دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية بأعلى درجات الشرف من السوربون، وهي أسمى ألقاب الامتياز العلمية التي تمنحها جامعة باريس. وهذه الدرجة لكلية العلوم كالاجريجاسيون لكلية الحقوق؛ والدكتور غالي أول مصري نال هذه الدرجة. وله أبحاث قيمة أنفقت عليها السوربون ومعهد باستور مبالغ طائلة، ولعلنا نعود إلى شرحها في فرصة أخرى. وهو يرسم إلى قرائه في مقال هذا العدد المنهاج الذي سيسير عليه في عرض الحقائق العلمية والتطورات الفكرية. والرسالة وقراؤها يغتبطون كل الاغتباط بانضمام هذه الثروة العلمية العظيمة إلى ثرواتها الأخرى التي تنتجها العقول الجبارة في كل باب
(المحرر)
يا ترى هل نستطيع أن نرجع بخيالنا إلى أول عهود الإنسان لنتصوره في حالته الفطرية وحياته البدائية؟ - إن القردة اليوم لا تحاول في غاباتها أن توقد ناراً، وهي مع ذلك تتناسل وتستنشق الهواء الصافي وتمرح بين الغدران والجداول تطفئ ظمأها، وتختار من صنوف الطعام ما يشبع جوعها، ومع ذلك فإن لنا أن نتصور أننا كنا مخلوقات لا تفوقها في الإدراك ولا تزيد عليها في المعرفة. ومهما رجعنا إلى التاريخ المنقوش على الحجر الصلد أو المسطور على أوراق البردي، فمن البديهي أننا لا نصل إلى تحديد الزمن أو الحالة التي كان عليها هذا الإنسان البعيد، بل نصل إلى تاريخ قريب لا يتجاوز مائة من القرون، فنرى إنساناً قديماً في مداركه عريقاً في معارفه، وأن الطوبة وقد اخترعها أمحوتب مهندس زوسر باني هرم سقارة (إذا كان هو مخترعها حقاً) تدعو للإعجاب. وكيف لا نعجب له حين عرف أن يشيد من اللِّبن أو الحجارة أشكالاً منتظمة وأشكالاً ذات طول وعرض وارتفاع فيها كل هندسة أقليدس؛ أشكالاً استعملها في بناء سقيفة من الطوب أو حجرة تقيه الشمس إذا اشتدت، والبرد إذا قرس، والمطر إذا انهمر(287/47)
إذا رجعنا بالخيال إلى هذا الحد، ووصلنا بالتفكير في هذا النوع من الإنسان مهما بعد في الزمن، نستطيع أن نعتبر أن اكتشافه للنار واستعماله إياها كان خطوة واسعة في سبيل تغيره وتقدمه ككائن بات يختلف يوماً بعد يوم عن الحيوان؛ فهو إن شابهه في أنه مخلوق له جسم يقاربه وحواس تشبهه، يولد ويعيش ويموت، ولكنه يمتاز عنه بشيء كثير من الروية والاستفادة بتفكره
إذا رجعنا بخيالنا إلى هذا المدى علمنا أن اكتشافه هذا كان خطوة هامة في سبيل المدنية ومقدمة لسلسة من الاكتشافات التي نعتبرها ميراثنا العلمي، هذا الميراث الذي ساعد اختراع المصريين للكتابة على الإفادة منه على ممر السنين، والذي تضخم باختراع الأوروبيين للطباعة حديثاً والصينيين قديماً حتى بلغ العلم من الاتساع والتقدم حداً أصبح من الصعب معه على كائن أن يستوعب ناحية واحدة منه، هذا الميراث العلمي عظيم إلى درجة يبعد معها أن تقضي عليه الحروب بين البشر.
لقد حاولنا في السنين الأخيرة أن نستعرض هذا الميراث العلمي وندرس نواحيه ونقف على ما حدث فيه من تطورات لنعرف مداها ونستخلص المهم فيها ونستنتج من تتبع هذه النواحي شيئاً عن آمالنا في المستقبل، ولعل هناك أمراً واضحاً نتفق عليه وهو الدور الخطير الذي لعبته العلوم الطبيعية في التطور نحو النور والمعرفة؛ فبينما سارت العلوم الزراعية والجيولوجية والطبية والبيولوجية وغيرها بخطوات متزنة معقولة، إذ بالعلوم الطبيعية قد طفرت في نصف القرن الأخير طفرات جديرة بالإعجاب. ولو أن أحد أسلافنا دبت فيه الحياة مرة أخرى فدخل أحد منازلنا فربما لا يبلغ تعجبه من تنسيق حديقة المنزل أو ما به من أثاث كما لا يعجب مثلاً بنوع الفاكهة التي تقدم إليه، بقدر تعجبه من الراديو أو التليفزيون
لأن تميل الزهرة إلى الحمرة أو الخضرة، وأن يكون لها العبير الذي نعرفه أو لا يكون، فلا يخرجها كثيراً عن عهده بها.
ولأن يكون المقعد من الخشب أو معدن الكروم أو من الحجارة أو من المواد الجديدة في الصناعة التي تشبه الزجاج وتفوقه بقابليتها للانحناء والالتواء لا يخرج لنا في النهاية سوى مقعد للجلوس قد لا يفوق مقعد توت عنخ أمون الذي يشعر نفوسنا حين نراه الآن في(287/48)
المتحف المصري بما كان يشعر به النفوس منذ آلاف السنين من التنسيق والجمال والجلال.
أما أن ننتقل من مصابيح النفط والشمع إلى الكهرباء، ومن الخيل والحمير إلى القطار، ومن القطار إلى السيارة - أما أن تعلونا طائرة ونسمع في مصر أُوبرا من فينا وموسيقى من باريس، أما أن نرى قريباً ونحن في القاهرة شقيقاً بالإسكندرية أو بأقاصي الصعيد فإن هذا يدعو إلى الدهشة ويدفع بنا للتأمل
هذه الخطوات وغيرها نتيجة للعلوم الطبيعية التي بدأت في الماضي عهداً مجيداً باكتشاف النار، وفي الحاضر عهداً جديداً باكتشاف تهدم المادة وتحولها إلى طاقة أو إشعاع
وإنما نوهت بهذين الأمرين: اكتشاف النار قديماً، وتهدم المادة وتحول العناصر بعضها إلى بعض حديثاً، لأني أريد أن ألفت النظر إلى أن اكتشاف بكارل في سنة 1896 لخواص الإيرانيوم الإشعاعية، واكتشاف مدام كوري وقرينها بيير كيري في سنة 1898 لخواص الراديوم، يعدان اليوم في التفكير الحديث خطوة لها من الأهمية بالنسبة للإنسان القادم ما لاكتشاف النار للإنسان الأول ومعرفته لاستعمالها.
وعندما يتاح للبشر الانتفاع أكثر مما ينتفع اليوم بالظواهر الجديدة الخاصة بتهدم المادة يتغير استعمالنا للأشياء، فلا يقتصر استعمالنا للخشب أو الحديد على صنع المقاعد أو بناء القناطر بل يتعدى ذلك بكثير، وعندئذ يظل اسما بكارل وكوري على رأس العهد الجديد مثلاً أعلى في أقصى ما وصل إليه الإنسان في المعرفة.
هذه المقدمة تبين للقارئ شيئاً عن اتجاه الكلمات التي تتفضل الرسالة بنشرها لي في هذا العام، فهي ستتناول ناحية العلوم الطبيعية واتصالها بالتفكير والتقدم. وقد وقعت أول الأمر في نوع من الحيرة، بخصوص اختيار الطريق الذي أسلكه لأجتذب عدداً كبيراً من أهل الشرق إلى تتبع هذه الكلمات، عسى أن يجدوا فيها شيئاً من الفائدة والتجديد، وللقيام بهذه المهمة طريقان. أما أن نتكلم عن الاتجاهات العلمية الحديثة التي سيكون لها أثر في أعمال الإنسان، وأعني بها الاتجاهات الطبيعية والفلسفية؛ وإما أن نتكلم عن النتائج الفعلية والعملية التي كانت نتيجة للاتجاهات العلمية الجديدة. ولا شك أنه حسب اختيار إحدى الطريقتين يتغير كلية نوع الأحاديث. ولقد انتهيت إلى ضرورة التحدث في الأمرين معاً،(287/49)
فتراني في الوقت الذي أصبحت النظريات الطبيعية الحديثة تمشي بخطوات سريعة، وتسيطر على شتى العلوم والمعارف، أصور في هذه الكلمات الموجزة أهم هذه الحوادث، وأصف - حسب فهمي - الكون الذي نعيش فيه، وأقدم لمتناول قراء العربية تقريراً عن المهم من الوقائع العلمية الحديثة، مستعرضاً الحقائق الرئيسية في العلوم الطبيعية وما يتصل بها من الانتصارات التي قبلت اليوم أوضاع العلم والمعرفة.
وفي الوقت الذي أطمع فيه أن أستعرض من صورة العالم معالمه الرئيسية أرجو أن يسمح لي بذكر كلمة عن غرضي، وعن الفكرة التي أوحت إلي بهذه المقالات، وعن الخطة التي سأتبعها لكي نتصل معاً بأهم ما يشغل العلماء اليوم.
إن الأبحاث العلمية وما يتم فيها كل يوم لا يمكن أن تكون موضع عناية الناس عامة كما يعني بها العلماء الذين يهبون أوقاتهم للبحث العلمي. فالعالم يعنيه ما يستجد كل يوم من إضافة، إذ أن هذه الإضافة يتوقف عليها توجيه الأعمال التي يرجو الوصول إلى نتائج جديدة فيها. أما الآخرون فإن أوقاتهم مقسمة طول اليوم بين عملهم البعيد جداً عن المسائل العلمية، وبين فترات من الراحة لتجديد نشاطهم في المنزل بين ذويهم أو في الخارج بين إخوانهم. فالطالب في كليته، والمدرس في مدرسته، والعامل بين الدينامو والموتور في مصنعه، والمحامي بين المحكمة ومكتبه، وساعي البريد انتهى من عمله وخلع محفظته والموظف والتاجر والضابط والقاضي وكل أصحاب الأعمال والمهن يصعب عليهم أن يجدوا متسعاً من الوقت لتتبع الحوادث العلمية وما يجد في طياتها من تغييرات.
ماذا يقدم العلم لهؤلاء الذين تمتصهم الأعمال المادية حتى يصبحوا جزءاً منها، والذين لم تواتهم الفرصة للتعود على التفكير العلمي الحديث وتنسم أخباره؟
في كل هؤلاء فكرت وتساءلت: هل نستطيع أن نُعبِّد لهم سبيل الارتياح لهذه العلوم؟ وهل من الممكن أن نشرح نظاماً مثل الذي أصبحت عليه العلوم الطبيعية الحديثة؟ هذه العلوم الغارقة في الرموز الرياضية التي بلغ التوسع والتسلسل فيها مبلغاً أصبح معه تتبعها عسيراً حتى على الأخصائيين؟ هل من السهل تبسيط العلوم الطبيعية التي أصبحت اليوم المفتاح لمعظم التطورات العلمية وما يتصل بها من توجيه جديد لفكر البشر؟ هل من الجائز أن نشرح هذا لإخواننا الشرقيين في سلسلة مقالات بالرسالة فنشترك معاً في أعظم(287/50)
ما وصل إليه الإنسان؟ إني لأرجو أن يكون النجاح حليفي في ذلك؛ وإني لأشعر بشيء من السعادة والحماسة في القيام به.
أولاً: لأنني أميل لهذا النوع من الدراسة الخاصة بالعلوم فمن الطبيعي أن أستطيع أن أحمل فريقاً كبيراً من القراء ليتتبعوها ويميلوا إليها.
ثانياً: إنني سعيد أن أوفر على القارئ عناء كبيراً في مطالعة موضوع بات من أصعب الموضوعات العلمية وباتت رموزه للشخص غير المشتغل بهذه العلوم كالحروف الهيروغليفية لمن لا يعرفها.
ثالثاً: إن تمرين الفكر على مسائل صعبة وتتبع هذا النوع من التبسيط له أثر آخر في تكييف حياة الإنسان وتفكيره في المسائل الأخرى التي لا تتصل بالعلم وتتصل بحياة الفردية.
رابعاً: إنني بذكر بعض التطبيقات العلمية للعلوم الطبيعية قد أفيد الكثير ممن يلجئون لهذه التطبيقات لمنفعتهم الشخصية. خذ مثلاً ما يمكن أن تحدثه العين الكهربائية اليوم من التَّفَنُّن في وسائل الإعلانات التجارية مما لم يُطبق لهذه الأغراض في مصر ولا يعرفه أصحاب المحلات التجارية حتى الآن في الشرق عامة. . .
خامساً: إنني قد أصل إلى حمل بعض المشتغلين بالعلوم القديمة وبالطرق العتيقة على العدول عن طرائقهم؛ مثال ذلك أولئك الذين يضيعون أوقاتهم سدى في طلب تحويل الرصاص إلى ذهب والذين يؤملون مثلاً إيجاد نوع من الحركة الدائمة.
أما غايتي الأساسية فهي الثقافة العامة. غايتي أن أجعل من التفكير في ناحية الفلسفة الطبيعية تأثيراً في حياة الناس الخاصة، أجعلك تقف على علوم أنت لا تعرفها وليس من السهل بمفردك أن تعرفها، ولا تكفيك السنون الطويلة الباقية من العمر لتستوعبها، أجعلك تتعلق بمسائل غريبة عنك فلا تجدها صعبة عليك كما تجدها اليوم؛ أوفر عليك الوقت في أمور أصبحت أهم أمور العالم العلمي فأصبحت بهذا لازمة لك؛ أزيد في ثقافتك وذهنك وقدرتك على فهم العالم الذي يحيط بك.
محمد محمود غالي
(الرسالة) جاء مقال الدكتور الأول في ست صفحات(287/51)
فاضطررنا إلى تأجيل نصفه إلى العدد القادم(287/52)
رسالة الفن
تاريخ الفن
للدكتور أحمد موسى
- 1 -
لم يقتصر مجهود الجامعات والعلماء على تسجيل الحضارات عن طريق كتب التاريخ القديمة والحديثة بل وجدوا أنه لا بد لهم من الاستعانة بالإنتاج الفني في مختلف العصور، إذ أنه المرآة الصادقة التي بها يمكن الوصول إلى نتائج حاسمة في تاريخ الحضارات والمدنيات.
ولذلك كانت مهمة تاريخ الفن هي الاستعراض العلمي لتطوره على أساس التاريخ العام مع مراعاة أصول علوم أخرى أهمها علم الآثار وعلم قراءة المخطوطات والنقوش القديمة وفن الدراهم والمسكوكات وعلم وصف التماثيل والأيقونات القديمة وفن علامات وإشارات الأنساب القديمة وغير ذلك مما لا يسند فقط إلى السرد أو التاريخ الذي قد يكون متحيزاً أحياناً إلى مبادئ معينة أو غايات مقصودة حيث تدعو الحاجة إلى صبغه بصبغة قومية أو سياسية بذاتها، مما لا يفطن إليه إلا العارف الباحث في أصوله.
وإذا كان المسلك العلمي في التاريخ العام هو تقسيمه إلى قديم ومتوسط وحديث؛ فإن تأريخ الفن يرجع إلى نفس القاعدة رجوعاً كاملاً، لما لها من فائدة التبسيط وإيجاد الرابطة بين التاريخ العام وتاريخ الفن.
ويتناول تاريخ الفن القديم استعراض فن البناء (العمارة) وفن التمثيل (النحت) وفن الصناعات الدقيقة (الحلي وأدوات الزينة الرفيعة) استعراضاً يرجع في أساسه إلى التقسيم الجغرافي فيأخذ فن كل قطر على حدة ويتبع في ذلك أقدمية الحضارة. وعليه فأول الفنون جميعاً الفن المصري ويليه البابلي الآشوري والفارسي والهندي والصيني. هذا في الشرق الأدنى والأقصى. ثم يأتي بعد ذلك الفن الإغريقي الهائل ثم الفن الأتروسكي والفن الروماني والفن الإسكندري.
أما تاريخ الفن المتوسط فيتناول الفن المسيحي القديم والفن البيزنطي الذي كان له أثر(287/53)
ملحوظ في كل البلاد الأوربية المتمدينة التي وجد فيها أثر للفن الروماني والقوطي.
هذا إلى جانب ناحية هامة في تاريخ الفن المتوسط وهي ناحية الفن الإسلامي الذي ظهر في أقطار متباينة وكان ولا يزال محافظاً على طابعه المميز.
أما تاريخ الفن الحديث فهو كثير التشعب صعب التقسيم لتقارب الشعوب واتصالها الذي ترتب عليه انتقال الثقافة من أمة إلى أخرى وتأثير مدنية في غيرها، ولا سيما في الفن الألماني في عهد النهضة من أوله إلى آخره (القرن الرابع عشر (إيطاليا) والخامس عشر والسادس عشر) وما كان للفن في تلك المرحلة من طرز مختلفة الوضع متشابهة الروح كما أن انقسام الفن إلى باروك وإلى روكوك كان له أثره الهام في الفن الحديث.
والإنتاج الفني بعدئذ هو ما يمكن تسميته بالفن المعاصر أو إن شئت فقل هو الفن الذي أدى إلى ما نلمسه الآن من الفنون المعاصرة، سواء ما كان منها مدرسياً أو سائراً على الأسس المدرسية، وسواء ما كان منها متجهاً إلى ما يسمونه الفن الرمزي والفن الوصفي والطابعي والاقتباسي.
وكان التقسيم المتبع في الفن الفرنسي والفن الإنجليزي هو أن ينظر إليهما تبعاً للمراحل التي مرا بها، ومميزات كل مرحلة منذ القرن السادس عشر؛ ولا سيما أن هذه المراحل كانت تسمى بأسماء الملوك والحاكمين، وهذه ظاهرة اختص بها هذان الفنان دون غيرهما.
وإلى جانب هذه الفنون الحديثة فنون شرقية حديثة أيضاً سارت في طريقها بعض الشيء وتطورت تطوراً مخالفاً لسابق فنونها، ولكنها مع هذا ظلت محافظة على طابعها الشرقي المميز. هذه الفنون هي الفن الهندي والفن الياباني والفن الصيني، التي لم يكن المؤرخ الفني يُعنى بدراستها دراسة علمية إلا في العصر الحالي.
أما مهمة تأريخ الفن نحو هذه الفنون جميعاُ فهي تكاد تكون نفس الدراسة المرتكزة على قواعد مشابهة لتلك التي اتبعت في تأريخ الأدب في العصر الأخير. وبذلك أصبح التأريخ الفني والنقد الفني والتسجيل الفني علوماً قائمة بذاتها لها أصولها وقواعدها.
ولتأريخ الفن قصته ككل علم آخر. فقد شملت كتب القدماء ما يهم المؤرخ الفني إلى حد كبير، فكتاب التأريخ الطبيعي لبلينيوس وكتاب الرحلة لبوزانياس اشتملا على بيانات وإيضاحات كثيرة وأوصاف مسهبة عن الفن في العصر القديم، ولكنها كانت أقرب إلى(287/54)
مجرد الرد مع اشتمالها على أسماء الفنانين ووصف ما تم عمله على أيديهم دون نقد فني أو دراسة ذات غاية، كما خلت من بيان شاف لتطور الفن في أية مدرسة أو مرحلة زمنية معينة.
ولوحظ أن هذا المسلك في التأليف كان الغالب أيضاً في العصر المتوسط، فكل ما كتب في شأن الفن وتأريخه لم يخرج عن وصف عام للمباني الرائعة وما استنفده في تشييدها من مجهود.
أما التأريخ الفني بمعناه الحديث فلم يكن ميسوراً لأولئك ولا لهؤلاء بحال. ومنذ ذلك الحين بدأت الجهود الفردية تظهر في الأفق رويداً رويداً، ولا سيما بعد ما التفت المسافرون الراغبون في المشاهدة والمعرفة، وكذلك غيرهم ممن اشتغل بدرس اللغات القديمة، إلى وجوب معرفة آثار الأقدمين والغاية من إقامتها وما تدل عليه وعلاقتها بالحضارة، واتخاذها وسائل قيمة للتدليل على اتجاه معين في الدرس والفحص.
هنا بدأ تأريخ الفن في الظهور والتطور العلمي. وكان أول أثر لذلك هو إيضاح ما كتبه الأقدمون وما تدل عليه كتابتهم عن الآثار التي لم يكن الكثير منها موجوداً حيث كان القدم والإهمال وعدم الرعاية والتغيرات الجوية والمدنية قد طغى كل هذا على معظمها فكانت أثراً بعد عين.
فاشتغل فريق من علماء تاريخ الفن بتفسير ما كتبه فيتروفيوس على حين اشتغل فريق آخر بنبش القديم وتفسير الكتابات والنقوش التي وجدت على كثير من الآثار.
هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فقد قام فريق آخر بمعاينة آثار روما وبعمل رسومات هندسية ومساحية دقيقة عنها.
ومهما يكن نوع هذه المجهودات والكيفية التي سار عليها أصحابها، فإنه لا يمكننا أن نرجع المحاولات الصائبة في مضمار تأريخ الفن إلى أبعد من القرن السادس عشر. ولعل أول من نعتبره في مرتبة مؤرخي الفن هو فاساري بكتابه القيم الشامل لتراجم هامة لرجال الفن في إيطاليا ,
وجاء بعده كارل فان ماندر بكتابه المدهش (المشاهدات) المطبوع في هارلم سنة 1604 وفي أمستردام سنة 1618، وكان أقل أثر يذكر له الدعاية للفن ولتاريخه ولتعريف(287/55)
الراغبين بعض الشيء عنه.
وجاء هولندي آخر هو آرنولد هوبراكن بكتابه (الواصف الكبير) في ثلاثة أجزاء، طبعت في أمستردام أيضاً سنة 1728، والتي كانت أساس دراسة الفن في هولندا كلها.
أما في ألمانيا فقد ألف المؤرخ يواخيم فون ساندرت كتابه الباهر (أكاديمية العمارة والنحت والتصوير) المطبوع في لومبرج سنة 1675 - 1679 للمرة الأولى، والذي كتب عنه كل المشتغلين بالفن من معاصريه كتابة ذات صفة علمية.
على أنه من الضروري أن نقول بأن الاشتغال بالتأريخ الفني كان خلال القرن السابع عشر قاصراً في الغالب على دراسة الفن القديم. هذا إلى جانب وجوب التنويه بأن بعض المشتغلين بتأريخ الفن وجهوا اهتمامهم إلى ناحية الفنون الصغرى الدقيقة كأشغال المعادن وما إليها من أدوات التحلية؛ وقد ظهر في هذا المجال كتاب قيم لبرناردي مونفاكو، وهو مكون من خمسة عشر جزءاً طبع في باريس سنة 1719 - 1724 ' طبعاً رائعاً وشمل الكثير من الصور الجيدة، ومن دون نزاع أول مؤلف أوضح في جلاء كل المخلفات في العصر القديم، والتي كانت ظاهرة للعيان في تلك الأيام.
وكان الفضل في انتشار هذا المؤلف ورواجه راجعاً إلى كتاب آخر ألفه النبيل كالوس وفيه أشاد بذكر هذا المؤلف في كتابه ' (سبعة أجزاء طبع باريس 1752 - 1767).
وظل الحال في ألمانيا على ما هو عليه منذ ساندرت إلى القرن الثامن عشر عندما أخرج يوهان فردرش كرست وزميله جينزر مؤلفهما العلمي عن الفن القديم. هنا انضم إليهما أهل العلم والفضل من مدينة درسدن الذين كانوا عاكفين على كتب الفرنسيين لأنها كانت الكتب التي يمكن الرجوع إليها في ذلك الحين لعدم وجود غيرها.
له بقية
أحمد موسى(287/56)
رسالة المرأة
المرأة اليونانية
للآنسة زينب الحكيم
عندما تفضل الأستاذ صاحب الرسالة الغراء بفتح (باب للمرأة) في الرسالة، حمدت لحضرته هذا الصنيع الجميل، واعتبرت بدء الرسالة عامها السابع المبارك إن شاء الله فألاً حسنا بالنسبة لعالم المرأة - الشرقية عامة والمصرية خاصة -
وسيكون ما يكتب في هذا الباب، رسالة عالية تمس حياة المرأة من شتى نواحيها، وفق ما تقدره وتفهمه من الحياة المرأة المثقفة التي نالت قسطاً عظيماً من التعليم العالي، وتلك التي تؤهلها مواهبها الطبيعية، واستعدادها الفطري للمبدأ ذاته. كما تجد فيه ما قد تتوق إلى قراءته في سرعة: من أدب رفيع، وعلم مستساغ، وشئون تمس حياتها، بحيث لا يشغل كل هذا إلا جزءاً وجيزاً من وقتها الثمين.
هذا ونرجو ألاّ يحرم ميدان المرأة هذا في مجلة الرسالة التي امتازت من يوم أن أنشئت، بالأسلوب الراقي، والأدب الرفيع، من جولات سيدات مصر المثقفات، حتى يبرهن أن في مصر كاتبات عالمات مثقفات.
المحررة
كان من بين البلاد التي زرتها في رحلتي هذا العام: بلاد اليونان. فإذا تحدثت عنها اليوم، فإنما أتحدث عن بعض ما شهدته وخبرته بنفسي.
فأول ما لفت انتباهي عندما وصلت أتينا الشوارع الفسيحة المنظمة، والأوتوبيس الكبير الطويل الأصفر اللون، وكثرة الحركة في هدوء، فترى الترام وأنواع المركبات القديمة والحديثة، والسيارات ذات الأجرة أو الخاصة، والناس - كل يتخذ اتجاهه في يقظة وهدوء، ولا تزعجك أصوات السيارات، ولا أصوات الباعة المتجولين، ولا مشاغبات أولاد الشارع.
وباعة الجرائد والمجلات، والحلي الزائفة ونظارات التراب الخ لهم أكشاك خشبية نظيفة لطيفة؛ موضوعة على مسافات متباعدة على الأفاريز.
ومن أهم ما أعجبت به رجال البوليس باليونان، ولا سيما الموجودون منهم في مدينة أثينا:(287/57)
هندام مرتب (بذلة رصاصية اللون، وتزلك من الجلد الأسود حول الساقين) يعنون أشد العناية بالقيام بواجباتهم، ويلحظون الزوار الأجانب باهتمام ورفق.
استفسرت عن السر في هذا من وزارة السياحة، فأخبرت أن رجال البوليس الذين في العاصمة، والذين هم في أماكن الاصطياف منتقون من أحسن الرجال وأحسن العائلات، وهم متعلمون، وأغلبهم يتكلمون لغات أجنبية (كالإنجليزية والفرنسية والطليانية) لقنوا كثيراً من الآداب العامة، ويحسنون تطبيقها عملياً في معاملة السياح والناس عموماً. تصدر إليهم أوامر وتعليمات مشددة من رئيس البوليس، وهو رجل مشهود له بالكفاية متمرن على هذا العمل من زمن طويل، واشتغل في سراي جلالة الملك مدة.
استطلعت رأي بعض السيدات في مقدار إقبال الأم اليونانية على إرسال أولادها إلى مدارس البوليس والتجنيد، فعلمت أنهن يفخرن أن يقوم أولادهن بهذا العمل الشريف. والإقبال على الكشافة عظيم؛ ولقد يسر المرأة المصرية أن تعلم أن ليس باليونان أولاد متسكعون في الشوارع، فإن المسيو متكساس رئيس الحكومة اليونانية أمر بانضمام جميع الأولاد المتعطلين والمتشردين إلى فرق الكشافة، وهم يتعلمون بذلك النظافة والنظام، وقضاء مصالحهم بأنفسهم، وفي الوقت نفسه يكوّنون جيشاً يسير في سبيل النظام وحماية وطنه.
الفتيات اليونانيات والكشافة
للفتيات فرق منظمة، وزيهن هو الزي الكحلي اللون مع حزام أبيض رفيع وأربطة رقبة بيضاء، وأغطية الرأس نوع يشبه الفيصلية العراقية كحلية اللون عليها دبوس ذهبي من الأمام.
أما الأحذية فكانت صيفية منوعة. وحركات الفتيات والفتيان ليست على جانب كبير من الخفة والأناقة، عكس ما اتصف به رياضيو اليونان القدماء
لا يمكن لزائر بلاد اليونان التغاضي عما يلحظه من سمات الجد على وجوه الناس هناك، وتقدير الوقت، حتى لقد يظهر على أجسامهم نوع من الإجهاد البدني والفكري في سبيل العيش. . .
إذا سار الرجل في الشارع لا يحمل عصا من أي نوع في يده وإنما يحمل بعضهم السبح،(287/58)
ولم يقع نظري لا في الصباح ولا في المساء على سيدة يونانية تسير وتصحب كلباً أو يتبعها كلب، وإنما يذهبن مجدات إلى محال أعمالهن، ويعدن نشيطات إلى بيوتهن. . قلما رأيت واحدة تلبس حذاء بكعب مرتفع في الطريق، أو تتساهل في ارتداء ملابس لا تتناسب وكل وقت من اليوم؛ ولم يقع نظري على واحدة منهن تساهلت في طلاء وجهها بإسراف، وكثرة النساء اليونانيات ضنينات على العموم بأن يظهرن بمظهر الدمى أو الخلاعة.
والمجتمع اليوناني المشترك هادئ ولا (يلعبون) النرد ولا غيره من ألعاب التسلية المزعجة في الأماكن العامة. وطريقة تحدثهم لطيفة، يستخدمون أيديهم للتعبير أحياناً، ولكن بخفة وهدوء، وقلما يخلو الحديث أو النقاش من نكتة مستحبة مضحكة، ويقرئون الجرائد الخاصة وهم جلوس على المقاهي أو المطاعم أو في الحدائق العامة، ولا يتطفل أحد منهم على جرائد الغير أو ممتلكاته.
المرأة في حدائق زابيون
حدائق زابيون عبارة عن بساتين فسيحة تقسمها شوارع مرصوفة نظيفة، وبها مطاعم ومقاه كبيرة، وتحتوي على (سراي زابيو) نسبة إلى الأخوين زاباس اللذين وهباها للشعب بعد تأسيسها من خمس وخمسين سنة مضت. وبهذه السراي معرض دائم للصناعات اليونانية، من صناعات خزفية وزجاجية منقوشة وملونة باليد، وأقمشة حريرية وصوفية، وأحذية وصور زيتية وخرائط بارزة وغيرها. وبالجملة يعطي هذا المعرض فكرة تامة عن صناعات اليونان الداخلية. وتقوم بالشرح فيه سيدة يونانية.
لحظت أن رواد هذه الحدائق، والذين يجلسون على مطاعمها ومقاهيها لاستماع الموسيقى من طبقة أرقى، فالجمهور المشترك مرتب الهيئة، مهذب العادات إلى حد كبير، تجلس السيدات إلى جانب الرجال من أسرهن في وقار، ويلفت أنظارهن جميعاً مرور الزوار الأجانب ولكن نظرتهم إليهم نظرة صداقة وارتياح.
والمجتمع كله هادئ لطيف المعاملة جداً، يشوش الوجه، قوي النكتة، يغلب على أفراده اللون القمحي، وتختلف الأنوف عن طراز الأنف اليوناني القديم، بينما الذقن والفم، والمنظر الجانبي للوجه لا تزال كلها تحتفظ بالطابع اليوناني الأصيل.
وحركات هاته الفئة من السيدات وملابسهن أنيقة للغاية، والملابس غالية الثمن جداً على(287/59)
بساطة نسيجها وزيها، وكذلك القبعات والأحذية مرتفعة الثمن؛ وبالاستفسار علمت أن سبب ذلك هو استيراد هذه الضروريات من الخارج ولا سيما من ألمانيا، لأن المعامل الأهلية قليلة، والصناعات الوطنية لا تزال بدائية في الوقت الحاضر.
وصف هندام سيدة جلست أمامي
تلبس قبعة حمراء اللون من القش الدنتلا، على شكل هالة من الأمام، في أذنيها قرط مستدير أحمر كلون القبعة، وفي يدها اليسرى سوار ذهبي عريض به فصوص حمراء كبيرة أقتم قليلاً من لون القرط والقبعة.
ثيابها من الحرير الجرْسيه الأبيض السكري، متقن الصنع جداً. وحلى صدره زران، أحدهما مستدير كالقرط، والذي تحته لونه كحلي قاتم، ويحلي أحد أصابع يدها اليمنى خاتم من لون الزرّ؛ وحزام الفستان أحمر من لون فصوص السوار. وحذاؤها أبيض مخرم، وقفازها من الدنتلة البيضاء، وشعرها كستنائي يصل إلى خلف أذنيها.
زينة وجهها بسيطة ومعتدلة للغاية، فلا تعدو قليلاً من الصباغ الأحمر على شفتيها (يضاهي لون القرط) وقليلاً من البودرة على وجهها. وهي ربة منزل من أسرة كريمة، يجلس تجاهها زوجها، وهو أيضاً أنيق الهندام، يلبس بذلة سكرية اللون (يشبه السكروته الفاتحة) وحذاؤه أبيض مع بني، ورباط رقبته أزرق سماوي فاتح جداً وبه نقوش بسيطة من الأحمر الفاتح والبني الفاتح.
أسود الشعر عريض الحاجبين، صغير الشارب حليق اللحية. يكون منظرهما حول المنضدة صورة متناسقة مهذبة.
فإذا صح أن هذا النموذج للأسرة اليونانية الموفقة فمما لا ريب فيه أنهما يتعاونان على الحياة المشتركة في سلام واطمئنان دل عليهما ما دار بينهما من محادثات خاصة وعامة، أثناء تناولهما القهوة، والإصغاء إلى الموسيقى.
(للحديث بقية)
زينب الحكيم(287/60)
القصص
مهداه إلى الأستاذ توفيق الحكيم
الجائزة
للأستاذ محمد سعيد العريان
(القرن الثالث الميلادي، في عصر الملك (دقيانوس) الوثني الطاغية، خرج من مدينة (طرسوس) في بلاد الروم، بضعة نفر من المسيحيين المؤمنين، فراراً إلى الله بدينهم من بطش الملك، ثم لم يظهروا ولم يعلم عنهم شيء. . . وكان منهم وزير الملك. . .!)
(أهل الكهف)
. . . ومضت ثلاثمائة سنة، ومات دقيانوس، وقامت دولة على أنقاض دولة، ورفرف السلام على المدينة التي تخضب ثراها بدماء الشهداء في عصر الطاغية دقيانوس، وعاد الناس أحراراً في دينهم وفي شعائرهم؛ وعاش المسيحي إلى جانب اليهودي إلى جانب الوثني في طرسوس، إخواناً متحابين، لا يسأل أحدٌ أحداً عن دينه ولا يجادله في مذهبه؛ وانصرف كل لشأنه وحاجته.
وجلس (صهيون بن يهوذا) إلى مكتبه ذات صباح بجانب النافذة من غرفته الواسعة المشرفة على الطريق وبين جنبيه همٌّ يعالجه. . .
لقد كان صهيون كاهن اليهودية الأعظم في طرسوس، ولكن شئون طائفته لم تكن تشغله يوماً عن شئون نفسه؛ وكان مؤمناً مسموعاً بالتقوى والفضيلة، عالماً مشهوراً بالاطلاع وسعة المعرفة، مؤرخاً يروي عن السلف ويحفظ أيام الأمم ويقص ماضي التاريخ؛ ولكنه كان إلى كل أولئك يهودياً من بني إسرائيل، يحب المال ويحسن تثميره وتربيته. . . ومن ذلك كان أكثر همه حين يخلو إلى نفسه!
. . . وطال به الوقت وهو جالس إلى مكتبه يحسب ويعدّ، ويقبض أصابعه ويبسطها في حسبة لا تنتهي، ويحصي ما معه من الدراهم وما سوف يأتيه؛ ثم ابتسم راضياً، ونهض عن كرسيه لحظة، ثم عاد بكتاب مخطوط فبسطه تحت عينيه وجلس يقرأ. . .
ذلك كتاب قديم لم يقرأه أحد قبل صهيون إلا كاتبه نفسه؛ وقد عثر به منذ أيام عند يهوديّ(287/61)
هرم من سدنة المعبد فاشتراه بنصف درهم. . .
وأخذ يقلِّب الكتاب صفحة صفحة وهو يقرأ عجلان غير متريث؛ ثم وقع فجأة على خبر استرعى انتباهه، وأيقظ شيئاً في نفسه، وأخذ يقرأ:
(. . . وكان (مشلينيا) وزير الملك الوثني الطاغية (دقيانوس) مسيحياً مؤمناً، ولكنه كان لا يجهر بدينه عند مولاه، وقد اتخذ في داره معبداً لا يعرف الطريق إليه إلا صديقه (مرنوش) حيث يلتقيان كل مساء لعبادة الرب الأعظم!)
وهز صهيون رأسه مبتسماً وهو يقول: (ما أبدع هذا!) ثم عاد يقرأ:
(. . . ووقف دقيانوس على سر ميشلينيا وصاحبه، فثارت ثائرته. . .:)
وخفق قلب صهيون بعنف، إشفاقاً على الفتيين من ثورة الملك الذي لا يرحم، واستمر يقرأ:
(. . . وتوعد الملك وزيره بأقصى العقاب، وضرب له أجلاً يفئ فيه إلى نفسه قبل أن يمضي فيه أمر الملك ويحل عقابه. . .!)
وازدادت خفقات قلب الكاهن عنفاً وشدة، وحضره ما يذكر من سيرة هذا الملك المتأله الذي خضب أرض طرسوس بدماء المؤمنين من رعيته كبرياء على الله، في غير رحمة ولا إحسان.
ثم عاد الكاهن يقرأ:
(. . . ولكن يد دقيانوس لم تنل ميشيلينيا وصحبه، فقد استطاعوا الفرار من بطش الملك الجبار إلى مكان لا يعلمه أحد. . . كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة. . .)
وشاع السرور في نفس صهيون حين بلغ هذا الموضع من قصة أهل الكهف، وتمتم صلاة خافتة يشكر الله؛ ولكنه استمر يقرأ:
(. . . وبلغ دقيانوس نبأ فرار ميشلينيا وصحبه فغلى غليانه، وسمى جائزة: مائة ألف درهم لمن يأتيه بميشلينيا حياً. . .!)
وبلع صهيون ريقه وأفلت الكتاب من يده؛ مائة ألف درهم! يالها من ثروة! ليته كان في عهد دقيانوس، إذن لفعل كل ما يقدر عليه ليظفر بالجائزة. . . الوثنية اليهودية، المسيحية: ما كل أولئك بازاء مائة ألف درهم؟. . . الله، المسيح، دقيانوس، ميشلينيا؛ ماذا يعنيه كل هؤلاء لو كان يملك مائة ألف درهم؟. . .(287/62)
وسبح صهيون في أحلامه؛ وهو يقبض أصابعه ويبسطها، بحسب ما يمكن أن تغل عليه مائة ألف درهم، لو. . . لو أنه كان في عهد دقيانوس. . .!
وسمع في الشارع زياطاً وضجة فأطلّ من النافذة ينظر. . . ثم لم يلبث أن هبط مسرعاً إلى الشارع ليرى ويسمع. . .
يا لله! ما أسرع ما وقعت المعجزة!. . .
ولم يصدق أذنيه أول ما سمع. . . وعاد يسأل عن سر هذا الزحام والضوضاء؛ وأجابه محدّثه: (يا مولاي، إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة. . . لقد عثر بهم رجل في كهف على حدود الصحراء. . . إنهم الفتية المؤمنون الذين يتحدث التاريخ أنهم. . . منذ ثلاثمائة سنة. . .)
ولم يصبر صهيون حتى يستمع إلى بقية النبأ، لقد كان يعرف ما سيقول محدثه قبل أن ينطق؛ إنهم آية البعث لمن لا يؤمن؛ لقد ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ثم بعثهم آية. . .، ولكن ماذا يعني صهيون من ذلك؟. . . لقد كان الأمر يعنيه لو أن الله الذي بعث أهل الكهف قد بعث معهم دقيانوس، ليسعى إليه في طلب الجائزة التي سمَّاها منذ ثلاثمائة سنة لمن يأتيه بميشلينيا حياً؛ فها هو ميشلينيا، ولكن أين هو دقيانوس؟
وبرقت له بارقة: وماذا يمنعه أن يطلب الجائزة اليوم من ملك طرسوس؟ لقد مات دقيانوس، ولكن حقه في الجائزة لا يضيّعه موت دقيانوس! ومن قال إن الملوك الذين خلفوا دقيانوس قد أبطلوا الجائزة التي سماها دقيانوس لمن يدل على ميشلينيا حياً؟ إنها ما تزال حقًّا شرعياً لمن يسبق إلى بلاغ النبأ، لا يبطله أن دقيانوس قد مات ومضى على موته قرون!
ولم يتلبث صهيون كاهن اليهودية الأعظم في مدينة طرسوس، فخلّف الزحام وراءه ومضى مسرعاً إلى قصر الملك. . .
(مولاي!)
وكان وزراء الملك من حوله، فنظروا إلى صهيون يستمعون لما يقول؛ واستمر الكاهن في حديثه:
(. . . سأدلك يا مولاي على ميشلينيا، ميشلينيا وزير الملك دقيانوس الذي فر من طرسوس(287/63)
منذ ثلاثمائة سنة، سآتيك به حياً، والجائزة لي. . .!)
ونظر الملك إلى وزرائه، ونظر الوزراء بعضهم إلى بعض، ثم توجهوا جميعاً بأنظارهم إلى الكاهن يسألونه بيان أمره؛ ومضى الكاهن في حديثه. . . . . . . . .
وقال وزير من وزراء الملك: (يا مولاي، إنه أمر ذو بال؛ لا أعني حديثه عن الجائزة التي يطلب، ولكن حديث الفتية الذين ناموا ثلاثمائة سنين ثم عادوا إلى الحياة؛ إنها عظة الأجيال، وآية البعث، ويقظة التاريخ الذي طوته القرون. والرأي عندي أن يطلب مولاي إلى الكاهن صهيون أن يدعو هؤلاء الفتية لنراهم رأي العين أحياء يتنفسون، ونستمع إلى حديثهم وما كان من أمرهم. . .)
قال صهيون: (والجائزة!)
قال الملك: (وتكون الجائزة لك!)
وخرج الكاهن اليهودي مسرعاً إلى الطريق يسعى إلى أمل لا يرى بينه وبين أن يبلغه غير خطوات معدودة، ولا يشغله من أمرٍ شيء إلا الثروة التي يمني نفسه بأن تكون بين يديه بعد قليل. ومضى في طريقه لا يحيي أحداً ولا ينظر إلى أحد؛ فلما بلغ حيث كان الزحام، وجد الطريق خالية ليس فيها سائل ولا مجيب؛ وأغذ السير يتبع آثار الجماعة إلى خارج المدينة وهم يثيرون الغبار وراءهم على مبعدة؛ فأدركهم بعد عناء. . .
وبدا له على مرمى قريب جبل قائم يشتد الزحام عند سفحه، ومن كثرةٍ يموج بعضهم في بعض، ويتطاولون بأعناقهم ليروا شيئاً لا يتبينه حيث يقف؛ فاستجمع عزمه وراح يشقّ الزحام بكتفي جبار، وفي نفسه شعور غامض يوحي بالحيرة والقلق. . .
وبلغ سفح الجبل، فرأى وسمع وعرف؛ هذا كهف الرقيم حيث يرقد ميشلينيا وصحبه، وحيث كانوا يرقدون منذ ثلاثمائة وتسع سنين قمرية؛ ضرب الله على آذانهم فناموا ما ناموا، حتى إذا أراد الله أن يظهر آيته أيقظهم فترة من الزمن ليكونوا رسالة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وحقيقة من التاريخ تنطق بالعبرة، وموعظة ناطقة تتحدث بما كان وبما يكون. فلما بلغ الله بهم ما أراد من بيان قدرته، ردَّهم إلى التاريخ ليكونوا خبراً من خبره تتحدث به الأجيال.
وأطرق صهيون بن يهوذا لحظة يتفكر؛ ثم لوى عنانه عائداً يشق الزحام وفي نفسه حسرة(287/64)
وألم. . .
وعاد الناس جميعاً مطرقين برءوسهم يتفكرون؛ ولكن الخواطر التي كانت تصطرع في رأس صهيون، كانت تعدل ما يصطرع في رءوس الناس جميعاً أو تزيد. كانوا جميعاً يفكرون في البعث والنشور والآخرة، وكان هو وحده من دونهم يفكر في الجائزة التي لا يجد سبيلاً إليها وكانت على مدِّ يمينه، لأنه لا يجد سبيلاً بعد إلى أن يصحب ميشلينيا حياً إلى قصر الملك!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(287/65)
البريد الأدبي
دراسة عن شوقي بالفرنسية
في القاهرة تصدر مجلة رفيعة باللغة الفرنسية يديرها محمد ذو الفقار بك ويشترك في تحريرها نخبة من الكتاب المصريين والفرنسيين، وهي في سنتها الأولى، واسمها (مجلة القاهرة) وفي عدد ديسمبر من هذه المجلة مقالة نفيسة للأستاذ إدجار جلاّد صاحب (الجورنال ديجبت)، تناول فيها شاعرية أحمد شوقي، فذكر طرفاً من تاريخه وبسط أسلوبه الاتباعي وأشار إلى جزالة لفظه، ثم نقل إلى الفرنسية قصيدة من غزليّاته. وخاصيّة المقالة ما جاء فيها من الكلام على استلهام شوقي لجهاد مصر الوطني ونهضة فكرة الإسلام والاضطرابِ العمرانيّ في الشرق.
اتصال المصريين لهذا العهد بأجدادهم
نشر المستشرق الألماني الأستاذ (رودي بَرِت في (مجلة العلوم الدينية) (عدد 35ج 1و2) البارزة باللغة الألمانية في مدينة لَيْبتسِج مقالاً لطيفاً يبحث في استمرار الحضارة المصرية، ولا سيما في مصر العليا على تعاقب العصور، في الناحية المادية (مثل أدوات المأكل والمشرب والغزل والحرث) واللغوية (مثل إخراج حرف القاف) والدينية (نحو إقامة الأعياد) والاجتماعية (كالعادات والعقائد الخاصة بالمولد والموت والزواج والدفن). وذلك بالرغم من هجوم الحضارات الأجنبية كالإغريقية والرومانية والعربية والنوبية والسودانية. واعتماد صاحب المقال على كتابين: الأول بالإنجليزية وعنوانه (فلاَّحو مصر العليا) من تأليف فنفرد بلاكمان، والثاني بالألمانية وعنوانه (التراث الشعبي في مصر) لصاحبه فنكلر.
حديث عن المسرح الباريسي
أفضى الدكتور بشر فارس إلى صحيفة (الجورنال ديجبت) الصادرة في القاهرة باللغة الفرنسية عند وصوله إلى ميناء الإسكندرية عائداً من باريس بحديث عن المسرح الباريسي في هذا الخريف. ويستخلص من هذا الحديث أن التأليف المسرحي هنالك آخذ في التأخر لتغلب فن الإخراج على إبراز النص، ولانجذاب المؤلفين إلى الموضوعات الفاسقة مثل(287/66)
حب أم لابنها، وغرام رجل بآخر. ولشغلهم بالمشكلات السياسية فيستهزئون بالحكم المطلق وينادون بحقوق المرأة، وينددون بالضرائب، ويقاومون الميل إلى الحرب والفتك، ثم لانصراف عامة الجمهور عن المسرحيات الناهضة على التفكير والتأثر الدفين والإيحاء إلى المسرحيات السهلة التناول، الزاخرة بالعواطف المفرطة، الفياضة بالجمل (الظريفة) أو الألفاظ الساقطة والمبتذلة.
الأسس التجريبية للنظريات الكهربائية الحديثة
ألقى الأستاذ ألبير دره عضو المعهد الأمريكي للمهندسين الكهربائيين محاضرة في 27 ديسمبر الماضي في قاعة معهد أنشئ حديثاً في القاهرة للدراسات الرياضية والطبيعية، استعرض فيها أهم الخواص الكهربائية والمغناطيسية للمادة التي كانت أساس النظريات المعروفة في أواخر القرن الماضي، وذكر ما طرأ عليها من اكتشافات حديثة تطورت بسببها أغلب النظريات الخاصة بتكوين المادة.
وكانت هذه المحاضرة تمهيداً لتوزيع العمل بين أعضاء اللجنة التي أنشئت في هذا المعهد لدراسة تطورات هذه النظريات وما بنيت عليه من وقائع تجريبية.
فابتدأ المحاضر كلامه عن ظاهرة الكهرباء التي كان القدماء يعلمون بعض خواصها البسيطة والتي تقدمت العلوم المتعلقة بها تقدماً سريعاً في خلال القرن الثامن عشر بعد أن برهن العالم الفرنسي كولومب بواسطة تجارب دقيقة أن القانون الذي تخضع له القوات بين الجسيمات المكهربة هو نفس قانون نيوتن للجاذبية بين المادة. ثم استنتج من هذا القانون أهم خواص الأجسام المكهربة وبين ما هو الفرق بين الأجسام الموصلة والأجسام العازلة.
ثم تناول المحاضر بعد ذلك ظاهرة المغناطيس التي كانت أيضاً معروفة للعلماء منذ قديم الزمن، والتي تخضع لقانون كولومب غير أنها رغم وجود نوعين من الكتل المغناطيسية لا يمكن الفصل بينهما مهما جزئ الجسم الممغطس، بخلاف الكهرباء التي يمكن عزل أحد نوعيها عن الآخر بسهولة؛ وهذا الفرق في الخواص جوهري بعث العلماء على الأخذ بنظرية أمبير التي تعتبر أن المغناطيس لا يظهر في المادة إلا بسبب حركة الجسيمات الكهربائية في باطنها.(287/67)
وأخذ المحاضر يشرح خواص الكهرباء إذا تحركت وأنتجت تياراً يترتب على مروره في الأجسام الموصلة ظواهر حرارية وكيميائية ومغناطيسية وتدرج من ذلك إلى ذكر قوانين فراداي وأمبير المشهورة وقانون لنز الذي يلخص جميع قوانين التأثير المغناطيسي بأنها ظاهرة من ظواهر مقاومة المادة لتغير حالتها الكهربائية أو المغناطيسية. وإذا عممت هذه القوانين على المادة العازلة يمكن كما وضح ذلك مكسويل في معادلاته المشهورة البرهان على أن هناك تموجات كهربائية تنتشر في المادة وفي الفضاء بسرعة الضوء، بل على أن الضوء نفسه ما هو إلا نوع خاص من هذه التموجات، وقد شرح المحاضر الحسابات الرياضية الخاصة بذلك. ولقد كان العلم هرتز أول من اكتشف هذه التموجات في تجاربه المعروفة، فانتشر استعمالها في الوقت الحاضر بسبب التقدم المدهش الذي تم في فن الراديو منذ أوائل القرن الحالي.
وختمت المحاضرة بذكر الاكتشافات المدنية التي تمت منذ أواخر القرن الماضي، والتي مكنت الطبيعيين من أن يستخرجوا من المادة جسيمات مكهربة وأخرى خالية من الكهرباء، وتموجات مختلفة دلت على أنها مركبة من عناصر غاية في الصغر لا يمكن إدراك طبيعتها وتفسير تأثير بعضها على بعض إلا إذا أخذ المرء بترك ما عودته حواسه على تصوره عن العالم حوله وتبع فطاحل علماء الطبيعة الحاليين مثل إينشتين وبلانك وبوهر ودي بروجلي وهينزنبرج وشرودينجر وديراك في عالم تفكيرهم الجديد.
م م غ
الحلقة المفقودة
تلك هي حلقة العلماء الذين عرفوا الإسلام وأصوله، وعرفوا روح العصر وعلومه. ولقد كتبت مرة في افتقارنا إليها، وفقداننا إياها، فلما رأيت (الكلية الشرعية في بيروت) ودرَّست فيها قوى في نفسي الأمل بوجود هذه الحلقة المفقودة. فلما قرأت ما تفضل صاحب الرسالة فكتب عن الكلية ورحلة مديرها الفاضل صديقي الأستاذ محمد عمر منيمنة أحببت أن أطمئن إخواننا بأن ظهور هذه الحلقة المفقودة لم يبق أملاً وإنما صار حقيقة تلمس باليد. وأدلة تحقق الأمل هذه (الكلية الشرعية في بيروت) التي أقامها من العدم سماحة الأستاذ(287/68)
التقي المخلص مفتي الجمهورية اللبنانية محمد توفيق خالد، والتي يديرها وينهض بها الأستاذ منيمنة والأستاذ العامل الشيخ صلاح الدين الزعيم، ويدرس فيها جماعة من الفحول كالمحدث الجليل الشيخ محمد العربي، والأديب الكبير الشاعر الشيخ عبد الرحمن سلام. ومن الأدلة (المدرسة الشرعية) في دمشق التي أنشأها من ماله الأستاذ الزعيم المعروف الشيخ محمد كامل القصاب رئيس جماعة العلماء، والتي يدرس فيها طائفة من أكابر علماء دمشق، كالعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار، والأستاذ دهمان، وآخر الأدلة وأظهرها (دار العلوم الشرعية في بغداد) التي أعاد سعادة الأستاذ الكبير حسن رضا بك مدير الأوقاف العام تأسيسها، وجعلها مدرسة عالية كالحقوق؛ والتي يديرها الأستاذ العلامة الحاج حمدي الأعظمي، ويدرس فيها الأستاذ الشيخ قاسم القيسي، والأستاذ الأديب الشيخ محمد بهجة الأثري وأضرابهم.
وهذه المدارس كلها تجمع بين الثقافة الإسلامية، وبين علوم العصر وثقافته، وذلك ما نحتاج إليه ونتمناه. فجزى الله القائمين عليها، والساعين إليها، وإلى أمثالها أحسن الجزاء، وحقق الله بها الأمل.
(بغداد)
ع ط
حول مقال
أستاذنا الكبير صاحب الرسالة الكريمة
في المقال الأخير من (الحقائق العليا في الحياة) للأستاذ النابغ المحقق عبد المنعم خلاف وردت تلك الجملة: (ولذلك حينما وصف الإسلام لنيتشه أو شوبنهاور - لا أذكر - قال لمحدثه: (إذا كان الإسلام كما وصفت فنحن كلنا مسلمون!) مع أنه كان ملحداً منكراً لعقيدة الجماهير)
والصحيح يا سيدي أن تلك الكلمة التي أوردها الأستاذ في معرض الكلام عن الإيمان والعلم لم يقلها هذا ولا ذاك، وإنما الذي قالها هو (جوته) الفيلسوف الألماني بعد أن أوقفه محدثه على حقيقة الإسلام.(287/69)
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام
عبد العليم عيسى
كلية اللغة
مشروع لإحياء أدب الرافعي
إلى الأستاذ محمد سعيد العريان.
لقد كان في تقريرك أن بين أدب الرافعي (وبين الأكثرين من ناشئة المتأدبين حجاباً كثيفاً يمنعهم أن ينفذوا إليه أو يتأثروا به) للأسباب التي ذكرتها في عدد الرسالة 285، تعميم قد يكون فيه تجن على الحقيقة، وقد يصدق على القليلين الذين لا ذنب للرافعي - رضوان الله عليه - في أن تكون على بصائرهم غشاوة فلا يفقهون. والذي أعرفه - ويعرفه كل أديب ومتأدب في الأقطار الشقيقة - أن الكثرة المطلقة من هؤلاء مدينة لأدب الرافعي في توجيهها إلى طريق الأدب الصحيح، وأن الناس هنا لينزلون الرافعي من نفوسهم منزلة الأولياء والصالحين. وليس أدب الرافعي من السهولة بالمقدار الذي توهمه بعض المدرسين عندكم، فظنوا أن في إمكانهم هدمه بوسائلهم البسيطة التي تقدموا بها، بل هو أدب خالد سيكون له شأن عظيم عند الأجيال المقبلة في التاريخ.
وإن كل عربي وكل مسلم في الأقطار الشقيقة ووراء بحر الظلمات في الأمريكتين، ليحس بأثقل من التبعات التي تحس بثقلها على عاتقك، ويود من أعماق شعوره أن يجد وسيلة عملية يعبر بها عن وفائه للرافعي رضوان الله عليه؛ وإنني لأشعر بأنني أعبر عن آراء الجماهير المتأدبة في الأقطار الشقيقة، حينما أقترح عليك أن تتفق مع إحدى دور النشر الكبرى في عاصمة الفاروق على إعادة طبع جميع مؤلفات الرافعي التي نفدت طبعاتها الأولى من دكاكين الوراقين، وأن تحضر للطبع أيضاً المؤلفات الأخرى التي لما تطبع، وأن تبادر إلى الإعلان عن ذلك لتسديد نفقات الطبع عن طريق الاشتراك، بعد أن يذكر اسم كل كتاب ومقدار الاشتراك فيه، في مجلة الرسالة التي لا أشك في أن الأستاذ الزيات سوف لا يضن بفراغ في بعض صفحاتها لذلك الإعلان مدة طويلة، وأنا كفيل أنك ستجد الوفاء عملياً كيف يكون. وانتظاراً لما ستقوم به في هذه الناحية العملية، أسأل الله أن تكلأك(287/70)
عنايته وأن يمدك بروح من عنده.
(فلسطين)
سعيد عودة
دراسة المخطوطات العربية في جامعة برنستون بأمريكا
تعنى جامعة برنستون عناية خاصة بدراسة اللغات السامية وآدابها وتاريخها وبنوع أخص اللغة العربية وأدبها وتاريخها. ولقد بذلت الجامعة في هذه الدراسة مجهوداً عظيماً، فقد قام الدكتور فيليب حتى أستاذ الآداب السامية فيها ومن معه من الأساتذة بنشر دراسات قيمة لنواح متعددة من تاريخ العرب وثقافتهم. وقد نالت هذه الدراسات شهرة عالمية لأنها تعتبر في المرتبة الأولى من المراجع الممتازة.
وقد درس الدكتور فيليب حتى والدكتور نبيه أمين فارس والدكتور بطرس عبد الملك مجموعة المخطوطات العربية التي يملكها المستر روبرت جَرِت من بلتيمور وهي المحفوظة في خزانة مكتبة جامعة برنستون دراسة نقدية دقيقة. وهاهم أولاء ينشرون هذه الدراسة باللغة الإنكليزية لتكون في متناول العلماء والطلاب وجميع من يهتمون بهذه الدراسات.
وقد اطلعنا على مقدمة هذا الكتاب فوجدناه على جانب كبير من الأهمية لمن يدرسون آداب العرب وعلومهم. ولعلنا نترجم هذه المقدمة في عدد قادم زيادة في التعريف بهذا الكتاب.
وهو يطلب من المطبعة الأمريكية ببيروت.
المسابقة الأدبية والرسائل التي قدمت
تقرر تأليف لجنة من حضرات الأساتذة محمد صادق جوهر بك مراقب الامتحانات، والدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، ومحمد شفيق غربال بك وكيل كلية الآداب، وأحمد أمين أستاذ الأدب العربي، وإسماعيل القباني بمعهد التربية للبنين يعهد إليها فحص الرسائل التي قدمت للوزارة في مباراة الإنتاج الفكري بين رجال التعليم وأساتذة المدارس. وقد جعل من حقها أن تستعين بمن ترى الاستعانة بهم من الأخصائيين في المواد المختلفة.(287/71)
وقد تقدمت الرسائل التالية:
في الأدب: رسالة الأدب المصري في عهد الأسرة المحمدية العلوية لسيد نور الدين هلال. والبارودي لفخري أبو السعود.
وفي التربية وعلم النفس: رسالة في الشباب والمراهقة لرياض محمد عسكر. وتحليل النفس لمحمود محمد محمود. والتربية في طرق القصص لإيزيس حبيب. ورياضة النفس لفهمي إسحاق.
وفي التاريخ: رسالة في (تاريخ الثورة الفرنسية) لعباس الخردلي. ومصير الحضارة في ضوء تفسير التاريخ وتطبيقه لإبراهيم مسلم والخلافة والسياسة لفخري أبو السعود. وجامعة الإسكندرية لإبراهيم إبراهيم جمعة.
وفي الطبيعة والكيمياء: رسالة في قصص العلماء والمخترعين في الكهرباء واللاسلكي لعاطف البرقوقي، وعجائب الفيزيقيا لأحمد فهمي أبو الخير، والكيمياء ومسائل الحياة اليومية لحسن عبد السلام، والحسن ابن الهيثم وجهوده في علم الضوء لعبد الحميد حمدي مرسي، وحياة النبات ومبدأ التناظر لعبد الحليم منتصر.
وفي الرياضة: رسالة في التحويلات الهندسية لحسن رضوان.
وفي الجغرافيا: رسالة موضوعها مصر بين الزراعة والصناعة للويس اسكندر.
وفي الفلسفة: رسالة عن أحلام الفلاسفة في المدينة الفاضلة لزكي نجيب محمود، وما كان وما يكون لإبراهيم السيد إسماعيل.
وفي الاجتماع: رسالة في روح القومية مقدمة الإصلاح الاجتماعي لأحمد خاكي، وسر النجاح في العصر الحاضر لأحمد حمدي.
الأمير شكيب أرسلان في دمشق
كانت وزارة المعارف السورية قد أصدرت مرسوماً بتعيين الأمير شكيب أرسلان المقيم في سويسرا رئيساً للمجمع العلمي العربي في دمشق، وقد قبل الأمير هذا التعيين، وتقول صحف دمشق إنه ينتظر وصوله إلى سوريا في الأسبوع القادم لتسلم منصبه العلمي.
تنظيم مجمع اللغة(287/72)
انتهى معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف من دراسة المشروع الجديد لتنظيم مجمع (فؤاد الأول) للغة العربية، وهو الذي وضع بعد سحب المشروع القديم من مجلس الشيوخ.
وقد أرسل المشروع الجديد إلى قلم قضايا الحكومة لوضعه في الصيغة القانونية توطئة لعرضه على مجلس الوزراء فالبرلمان.
أستاذ في جامعة فينا يزور مصر في مهمة علمية
وصل إلى القاهرة أول من أمس البارون فون فرش أستاذ أمراض الرئة في جامعة فينا، تلبية للدعوة التي وجهت إليه، لإلقاء ثلاث محاضرات في (أمراض الرئة) في الجمعية الطبية المصرية، وذلك في أيام 2 و4 و7 يناير.
الثقافة
غداً يصدر العدد الأول من مجلة الثقافة؛ والثقافة مجلة أسبوعية تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ ولجنة التأليف والترجمة والنشر تاريخها معروف في نشر المعرفة لدى القراء والأدباء منذ ربع قرن، فلا يمكن أن يصدر عنها إلا كل جليل ونبيل. والرسالة ترحب بالثقافة ترحيب الشقيقة بالشقيقة، لأن بينهما من صلة الروح والدم والفكر والغاية ما لا يؤثر فيه اختلاف الدار ولا تباين المظهر. وهي ترجو الله مخلصة أن يوفق الثقافة بمقدار نيتها في صدق الجهاد وإخلاص العمل وتوخي الحق.
عالم سويسري يزور مصر
اعتزم العالم الكبير فريير أستاذ علم التربية بجامعة سويسرا زيارة البلاد المصرية في شتاء هذا العام. وقد انتهزت وزارة المعارف هذه الفرصة ودعته لإلقاء محاضرات في علم التربية الحديثة.
استدراك
فاتنا أن نقول إن الصورتين المنشورتين في صفحة 31 وهما معركة النور والظلام، والاتساق هما من تصوير الدكتور أحمد موسى، وقد تكلمنا عنهما في العدد الماضي في باب(287/73)
البريد الأدبي.(287/74)
الكتب
التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق
تأليف الدكتور زكي مبارك
أمامك صورة الدكتور زكي مبارك فتفرس فيها ثم قل لي ماذا وقع في حسبانك منها. إن كنت قرأت له ما ألف وما كتب في النقد والمناظرة فستظنه خارجاً من معركة بولاقية كان فيها شدُّ الشعور، ولكم الصدور، ونطح الرءوس، وتمزيق الملابس. وما هذا الرواء البادي على وجهه وهندامه إلا خداع النظر أو فن المصور.
وإن كنت قرأت له التصوف الإسلامي فستتخيله لا يزال في سنتريس (مريداً) للشيخ الطماوي الشاذلي يعكف على الأوراد ويشارك في الإنشاد، ويحمل الإبريق، وينقر الدف؛ فهو أشعث أغبر ضاوٍ من أثر الذكر والصوم والعبادة.
وإن كنت قرأت له هذا وذاك غلب على ظنك أن الرجل قامت به حال نفسية جديدة دل عليها هذا المظهر الجديد؛ فإن إرسال الشعر وتشعثه من سمات الفلسفة والتصوف والفن. وأنت واجد في كتاب التصوف الإسلامي صفات وخطرات من كل أولئك جميعاً. وفي رأينا أن هذا الكتاب يؤرخ طوراً جديداً من حياة صديقنا الدكتور، هو طور التأمل والتعمق والنفوذ إلى صميم الجد في الموضوع. وهو خليق بأن يسبل على ما تقدمه من مغامراته الجريئة في الرأي والفعل ستاراً من الصفح الجميل. وإذا كان الله قد عود الشعراء والأدباء أنه يغفر لهم من ذنوبهم ما تقدم وما تأخر ببيت من الشعر أو خاطرة من الرأي فما أحرى زكي مبارك أن يدخل معه الجنة على حساب كتابه ألفاً من الأدباء المحرومين!
الحق أن كتاب التصوف الإسلامي بناء شامخ الذرى في تاريخ الأدب. وأقوى ما يروعك منه الجهد والاطلاع والفهم. وهذه الخصائص الثلاث هي ميزة الكتاب الجليل والبحث الجامع. وإذا كان المؤلف قد نجح في (إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية) فانه نجح كذلك في كشف ناحية من الأدب العربي والفكر الإسلامي كان الأدباء المؤرخون يمرون عليها معرضين، كما يمر السائح الغفلان على منجم الذهب فلا يرى إلا صخوراً وحجارة. والصوفية هي النزعة الوجدانية الصافية في الفطر السليمة، ولها في الأدب والخلق والفلسفة والحياة إشعاع هادٍ كإِشعاع الحق، وكان لابد لهذا العنصر الباهر المجهول(287/75)
من (مدام كوري) في زٍيّ زكي مبارك تنهك الجسم والعِصب، وتنفق الوقت والذهب، في سبيل كشفه.
لا أريد أن أعرض لك الكتاب ولا أطيق الآن أن أحلله وأنقده، فهو يقع في نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؛ وعرضه وتحليله لا يغنيانك عن مطالعته شيئاً. وكل ما أقوله لك إنك ستجد زكي مبارك فيه رجلاً آخر غير الشاب الذي عرفته في سائر كتبه.
وزكي مبارك - إن أردت فيه كلمة الحق - مجاهد باسل من المجاهدين القلال الذين شقوا طريقهم في الحياة بالقوة، وأخذوا نصيبهم من المعرفة بالكد، وأحلوا أنفسهم محلهم اللائق بالصراع. وهو أحد الأدباء الذين لم يقم مجدهم الأدبي على الظروف والحظ. وإذا كان الحظ قد وقع في حياته فهو الحظ المنكود. لأنه تعلم بكدح قلمه، وتقدم بفضل جهاده، ثم كانت الظروف التي تساعد غيره تلح عليه بالنكران والحرمان من غير هوادة.
ومن أثر ذلك كان هذا الإعلان المستمر عن نفسه وعن عمله. وهي صفة لا تتفق كثيراً مع وقار العلم وجلال الخلق. ولكنها آتية إليه من وراء الوعي على ظن أن الناس ينكرون عليه فضله وينفسون عليه مكانه.
ولو استطاع زكي مبارك أن يتملق الظروف ويصانع السلطان ويحذق شيئاً من فن الحياة - لاتقى كثيراً مما جرته عليه بداوة الطبع وجفاوة الصراحة. ولكن هذه الأعراض النفسية ستفنى فيه وفي الناس، ويبقى ذلك المجهود العلمي الضخم الذي قدمه إلى الأدب العربي في شتى مناحيه شاهداً على صدق خدمته للأدب ورفيع مكانته في النهضة.
الزيات(287/76)
فيض الخاطر
مجموع مقالات أدبية واجتماعية للأستاذ أحمد أمين
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذه مقالات بعضها نشر في مجلة (الرسالة) وبعضها نشر في مجلة (الهلال)، والبعض الأخير لم ينشر في هذه ولا تلك؛ جمعها كاتبها أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية، في كتاب إجابة لدافع غريزة حب البقاء، لأنها - مجموعة - أدل منها متفرقة، وفي كتاب أبين منها في أعداد.
والأستاذ أحمد أمين من كبار المؤرخين المعاصرين في العربية، يدين له تاريخ الحياة العقلية في القرنين الأول والثاني للهجرة بأحسن ما كتب في دراسته من سبل التحقيق في التاريخ. غير أن كتابة الرجل وإن ظهرت عليها مسحة من التدبر العلمي في استقصاء الأسباب وربط النتائج لها كمظهر تحليلي، فان التقرير دون التحليل هو طابع دراساته. ولكن تقرير الحوادث والوقائع عنده خاضع لمحكمة النقد العليا التي تستنزل أولياتها من المنطق التاريخي، ومن هنا جاء ما لدراسات الرجل من قيمة.
والرجل يمتاز بكل سمات العالم في بحثه، من سلامة النظر وسعة الاطلاع والنزاهة وهدوء الطبع. غير أنه ينقصه التحليل في عمقه. وطابع التقرير يوقفه كثيراً عند ظواهر الأشياء دون أن يستجلي بواطنها. ولا أدل على ذلك من نظرة سريعة لموضوعات مقالاته التي نشرها بعنوان (فيض الخاطر)؛ فهو في المقال الأول يتكلم عن (الرأي والعقيدة)، ويرى الرأي شيئاً والعقيدة شيئاً آخر، وهو يذهب في كلامه مولياً وجهة من النظر تذكرنا بوجهة الفنان توفيق الحكيم في المقال الأول من كتابه (تحت شمس الفكر).
يرى الأستاذ أحمد أمين مكان الرأي الدماغ؛ أما العقيدة فمكانها القلب. والواقع أن هذه التفرقة اعتبارية محض، فضلاً عن أن القسمة غامضة، فنحن لا نعرف من القلب معنى غير الشعور والإحساس الباطني، ومثل هذا الشعور والإحساس الباطني ليس الرأي ببعيد عنه. وكم من رأي هو وليد الشعور الباطن والإحساس الداخلي.
وفي هذا المقال يرى الكاتب أن الإيمان بالشيء يستتبع العمل على وفقه لا محالة؛ غير أننا نلاحظ أن الإيمان شيء والعمل شيء آخر، وليس الإيمان بالشجاعة أو الكرم من الأسباب(287/77)
التي تجعل المرء كريماً أو شجاعاً؛ فالكرم عادة وخلة تغلب على الطبع، والشجاعة قوة للتغلب على المكاره مردّها النفس، وليس للعقيدة دخل فيها، وإن كانت العقيدة تتلون بها.
وفي المقال الثاني يتكلم الكاتب عن (الكيف والكم) ويقدر أن تقدير الأشياء بالكم شيء يرتبط بالطفل في نشأته والأمة في طفولتها. ولما كان كل إنسان مر في طور الطفولة، والأمم جميعها مرت بهذا الطور، لهذا علق بالذهن الإنساني تقدير الأشياء بكمِّها. وهذا كلام صحيح ولكن يغلب عليه التقرير دون التحليل، لأن التحليل يستلزم النظر في أسباب ارتباط تقدير الأشياء بكمها بطور الطفولة عند الإنسان.
وفي المقال الثالث عن (صديق) تجد الكاتب يولي وجهة من التقرير للأمور، فيبدع في عرضه وتصويره، ولكنه لا يتناول ببحثه وجه تحطم صديقه من التناقض الذي في نفسه. هذا. . . وهل يمكن أن يوجد إنسان ليس له وحدته النفسية إلاّ ويكون منحلاً شخصية إلى شخصيات، وإذن كان الوجه التحليلي في هذا الموضوع أن يتناول الكاتب ببحثه تداخل الشخصيات التي انحل إليها شخص صديقه، ويبين أثر هذا التدخل في إيجاد الاضطراب في نفسه حتى انتهى إلى تحطيمه.
وفي المقال الرابع كلام عن (أدب القوة وأدب الضعف) ظاهره جميل، ولكن أدب الضعف الذي يلمسه الكاتب في الأدب العربي أليس صورة صادقة من الحياة العربية؟ إذن ماذا يطلب الكاتب؟ أيريد من الخراف أن تلبس جلد الأسود؟ هذا يخرج بالمسألة عن الصدق، والصدق أساس الأدب عند الكاتب. . .
أظن هذه أمثلة وإن كانت سريعة موجزة خطوطها إلا أنها كافية لتثبت أن الكاتب يقف عند حدّ التقرير فيما يكتب. لكن سلامة النظر وسعة الاطلاع وهدوء الطبع تجعل التقريرات التي يقررها الكاتب تتسم بميسم الصدق والواقع في العموم. وهذا لا يمنع أن يتسرب في بعض الأحيان بعض الخطأ إلى تقريرات الكاتب، غير أنها قليلة في المجموعة، نذكر منها قوله إن العالم خاضع للمنطق، وأن له غرضاً يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق، وأنه محكوم بقوانين ثابتة لا تتغير.
أما كون العالم محكوماً بقوانين لا تتغير فهذا صحيح، وكونه خاضعاً للمنطق صحيح؛ أما أن يستخلص من ذلك أن العالم له غرض يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق فهذا مما لا(287/78)
نوافق الكاتب عليه. فيصح أن يكون العالم سائراً حسبما اتفق وليس له غرض، ومع ذلك تراه خاضعاً للمنطق محكوماً بقوانين ثابتة لا تتغير.
أما بيان ذلك فقد استوفيناه من بحث سابق منشور بعدد أغسطس سنة 1937 من مجلة (الإمام) وفي مقال كتبناه بعدد مارس سنة 1938 من مجلة (المقتطف).
والكاتب يمتاز أسلوبه بإشراق الديباجة ودقة التعبير، غير أن أسلوبه ينقصه السرعة والهزة التي تجذب النفس، فمن هنا لا يمكن اعتباره أسلوباً أدبياً
وللكاتب في المجموع دراسات قيمة تمتاز بوجه عرضها للموضوع الذي يبلغ به الكاتب أحياناً منزلة الجودة الفنيَّة، نذكر من هذه الموضوعات (سلطة الآباء) و (من غير عنوان) و (منطق اللغة).
أبو قير
إسماعيل أحمد أدهم(287/79)
المسرح والسينما
شارع عماد الدين والمسرح
كانوا قديماً يسمون شارع عماد الدين شارع الفن، وكان البعيد عنه يحسب أن فيه الفن حقاً، وما زالت تلك الصفة ملقاة عليه معروفة عنه حتى لأهله الذين يعرفون كل ما فيه. وقد كان جائزاً فيما قبل أن يسمى شارع الفن لأنه كان يضم بين جنبيه فرقتين أو أكثر تعملان وتجاهدان.
أما اليوم فماذا في شارع عماد الدين؟ فيه أربعة مراقص تلبس الإنسانية فيها أقبح الأردية. إي والله لم يعد فيه إلا المراقص تنمو وتتكاثر ويرتادها الناس وعلى المسرح السلام. .
الجمهور المثقف الذي يفهم أهمية المسرح ويقدرها قد جرى مع غيره في مجرى واحد من حيث جحود التمثيل وعدم المبالاة باحتضاره؛ وأصبح يجد في (الصالات) ما يكفل له تمضية السهرات دون حنين إلى المسرح المقهور أو شفقة عليه؛ حتى أصبح شارع عماد الدين وما حوله بقعة مجردة من الحياء، بعيدة عن روحانية الفن بعد الأرض عن السماء. . .
فهل انتهى بذلك تاريخ المسرح المصري؟ وهل انصرف أبطاله كل الانصراف إلى السينما حيث المجال المادي المربح؟. نرى هذا، ولكننا نأمل ألا يستمر؛ لأن للمسرح الحقيقي المثقَّف تأثيره في النفوس، والسينما قد تستطيع أن تحل محله، ولكنها لا تستطيع أن تكفي عنه كل الكفاية. فهو إذن ضروري، وهو لو نهض نهضة حقه سيقف إلى جانب السينما وتخلعها، وسيعيش وسيكون له شأن.
وأبطال المسرح المصري لا يزالون أحياء ولا تزال في نفوسهم الرغبة إلى محاولة الجهاد في سبيل النهوض به، ولكن يعجزهم المال، فيظلون فرادى لا جامع لكلمتهم ولا مستغل لمواهبهم. وحسب وزارة المعارف أن تهيئ (تكية) وتقيمها في دار (الأوبرا) شهراً أو شهرين من العام، وهذا عندها هو تشجيع التمثيل.
اجمعوا الجهود وقسموها إلى وحدات، فهذه للدراما وهذه للكوميدي وهذه للتراجيدي، تخلقوا جواً شريفاً للمنافسة وتروا نهضة جديدة للمسرح. . . وإلا فقد انتهى أمر التمثيل المسرحي حقاً، وأصبح (شارع الفن) بقعة موبوءة تظل تنحط وتنحط حتى لا يكون فيها موطئ لقدم(287/80)
شريف.
أخيراً تزوجت
ولعل الأمل الباقي في حياة المسرح المصري منوط بعنق جمعية أنصار التمثيل والسينما، وهي وإن كانت مقلة في إنتاجها ما تزال تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بناء المسرح المنهار. وكان آخر ما قدمته الجمعية بدقة بلغت حد الإعجاب رواية (أخيراً تزوجت) في حفلة الجمعية الخيرية الإسلامية بدار الأوبرا في الأسبوع الماضي. وإنا لنتمنى لهذه الجمعية أن تواصل نشاطها حتى تكون هي الرمق الحي الذي نرتجي من ورائه للمسرح المصري بعض الخير.
وهاهي ذي الفرقة القومية لا تكاد تقضي شهراً في عمل، حتى تقضي مثله أو أمثاله في كسل. هاهي ذي تنهي دورتها الأولى بعد فترة لم تنتج فيها جديداً يذكر لتعود إلى نومها المعتاد. وهنيئاً لأفرادها هذا الجو الناعم!
فارس الميدان
فرقة الريحاني هي الفرقة التمثيلية الدائمة التي تبرهن على أن التمثيل الكوميدي لما ينعدم بعد. والريحاني يشكر هذه المثابرة. غير أننا نأخذ عليه اعتقاده بأنه هو وحده الآن فارس الميدان، وذلك ما جعله يسير الهوينا حتى لا يخرج طوال الموسم كله أكثر من أربع روايات. وذلك إنتاج لا يفي بالحاجة.
التأليف هو علة انهيار المسرح المصري وسقوط الفيلم
المصري
ينادي المهتمون بشئون السينما والمسرح في مصر بأن المسرح هنا قد اندثر أو كاد، وأن الفيلم المصري لم يظهر بعد في الثوب الفاتن الذي يجب أن يظهر فيه حتى يستطيع أن يقف إلى جانب الأفلام الأجنبية ولو في السوق المصري وحده، ويؤولون لذلك أسباباً كثيرة مبنية تارة على أساس وتارة على غير أساس، وتفكر وزارة المعارف وهي القائمة على أمر التمثيل كأداة من أدوات التثقيف تفكر في مصيره المظلم، وتجتمع اللجان وتقرِّر القرارات وترصد الإعانات وتبذل النفقات في سخاء ويؤتى بالأجانب لإنقاذ ما يمكن(287/81)
إنقاذه!!
ولكن أحداً من هؤلاء لم يفكر في العلة الحقيقية لانهيار المسرح المصري وسقوط الفيلم المصري. . . العلة هي التأليف ولا شيء غيره. فالممثلون الناجحون موجودون في مصر والمخرجون البارعون موجودون في مصر، وجمهور المتفرجين موجود في مصر ولكن هناك عنصراً واحداً يكمل هذه العناصر بل يوجهها غير موجود. . . هو التأليف.
وليس معنى هذا أن مصر بلد لا ينجب المؤلفين، فالمؤلفون موجودون ولكن كأن لا وجود لهم. . . لدينا مؤلفون موهوبون في طوقهم أن يسدوا حاجة المسرح وزيادة، وهم مع الأسف يجافون التأليف وينصرفون إلى غيره من شئون القلم لأن التأليف فن ظلمه المتصرفون في أمره ولم يقدروه قدره أو بعض قدره فأصبح كالصناعة الآلية التي لا يقودها الإبداع الفني.
أصحاب الشركات السينمائية المصرية ومديروها يريدون من المؤلف أن يكتب الرواية الكاملة دون أن يأخذ ثمناً وحسبه أن يظهر أسمه على الشاشة ففي ذلك ما يكفل له الطعام وكل لوازم الحياة. . . وإلا فليأخذ بضعة جنيهات ولا لزوم لاسمه ولينسب تأليف الرواية إلى مدير الشركة أو مخرجها. . .
وأصحاب الفرق المسرحية يدعون لأنفسهم القدرة على التأليف فإذا ما قدم مؤلف رواية إلى أحدهم ردها إليه بعد أن يلمَّ بأطراف فكرتها ليكتبها بعد ذلك كيفما اتفق. . .
فلماذا إذن يؤلف المؤلف الموهوب؟ وأين ما يغريه ويشجعه على التأليف؟ إن اعتزازه بفنه يأبى عليه أن يؤلف ليكون هذا مصير ما يؤلفه، ومن هنا تتحطم الأقلام وتنزوي المواهب تاركة الميدان - إذا كان هناك ثمة ميدان - لقوم صناعيين لا يكلفهم التأليف عناء الموهبة وشقاء الفن، فهم يكتبون ويبيعون غير آسفين على بضاعتهم لأنهم كتبوا بعقولهم لا بأرواحهم.
أولئك هم الذين يسمّون اليوم بالمؤلفين وبكبار المؤلفين ولا أقصد بالمؤلفين هؤلاء النفر الذين يؤلفون (للصالات) فليس هذا تأليفاً وإنما هو هراء قوامه النكتة البذيئة والكلمة الجارحة والوضع المقلوب. اللهم إلا القليل منه. . .
وبين هؤلاء الذين يكتبون للمراقص كتابة صبيانية، وأولئك الذين يكتبون للسينما والمسرح(287/82)
كتابة تجارية، يضيع المؤلف الموهوب الفنان الذي يكتب للفن. . . فالأولى إذن أن يعيش بعيداً عن التأليف.
هذا ما كان حتى اليوم وهذا ما سيكون ونظل نراه ما دام التقدير الحق معدوماً وما دامت الشركات السينمائية والفرق المسرحية تقدر التأليف آخر ما تقدر وتعتبره عنصراً هيناً قليل الخطر بينما هو أحق من كل شيء بالعناية والاهتمام والبذل.
لذلك ترى الفرقة القومية وهي تسمى (قومية) تلجأ إلى الروايات المترجمة وفوق، ما في ذلك من معرة قومية فإنه يصرف الجمهور عنها لأن الجمهور مصري ويريد أن يرى شيئاً مصرياً.
وقد تحتج تلك الفرقة القومية أو تلك المهزلة القومية بأن هذا هو ما يقدم لها وصلح أما غيره فقد كان هزيلاً. . . ولكن هل بحثت الفرقة - وهذا من شأنها - بين الموهوبين حقاً من غير أصحاب الأسماء؟ لا. . . وهل تركت الغايات والميول جانباً وراعت الحق في الاختيار؟. . . لا. . . إذن فمن أين يأتيها المؤلف الفنان المغمور الذي لا عم ولا خال. . .
أما مسألة المباراة فإنها لمهزلة تتكرر وما من ورائها فائدة حتى لو روعي فيها جانب الحياد والحق. . . وهيهات. . .
أما الطريقة العملية لتشجيع التأليف بل لخلق التأليف وإيجاد المؤلفين فهي أن تقدر وزارة المعارف ثمناً معيناً للرواية السينمائية وثمناً للقصة المسرحية وتشرف هيئة محترمة لا تعرف غير الحق إشرافاً فعلياً على طريقة اختيار الشركات لرواياتها وطريقة دفع الثمن، أو تقوم هي معملية الأخذ والاختيار والإعطاء بين المؤلفين والشركات أو المسارح. ثم تقدر من عندها فوق ذلك مكافأة مالية لكل رواية تظهر على الشاشة أو على المسرح وبذلك تكون هي المشرف النزيه فتضمن للمؤلف حقه وفوقه مكافأة فينتج ويبدع ويكون في مصر تأليف ومؤلفون
(ز)(287/83)
العدد 288 - بتاريخ: 09 - 01 - 1939(/)
من مآسي الحياة
فتون وجنون. . .
إلى الآنسة (أ. ش. ف)
نعم يا آنستي العزيزة! لَشدَّ ما لاع القلبَ وراع الضميرَ ما قصصتُ من مآسي الحياة! ولا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب ما هو أمضُّ لوعة وأشد روعة.
وعدتِني أن تقصي عليّ أنباء من تعرفين من طرائد البؤس وأنضاء الهم، وأنا أقص عليك هذه القصة ريثما تنجزين هذا الوعد:
في المنصورة بلد المال والجمال والشعر كانت تعيش أسرة من أسَرِ الريف الغنية السريّة عيش اللهو والزهو والمرح. وكانت قبل ذلك تعيش في مزارعها الواسعة في قرى مركز (شربين) تستغل أراضيها الخصبة استغلال الدَّءوب اليقظ؛ حتى أبطرها الغنى، فرأت طرق الحقول التَّرِبة لا تلائم المركبة الفخمة، والبيت القروي العتيق لا يوائم الأثاث الأنيق، والقريةَ كلها لا تصلح مجالاً للعظمة ولا مجتلى للشهرة؛ فتركت ضياعها وزروعها في ذمة النُّظار والخَوَل، وأسلمت قيادها للبذَخ والسرف: ترتبع بالمنصورة، وتصطاف بالإسكندرية، وتُشتي بالقاهرة. وتظاهر على رب هذه الأسرة الجهلُ والطيش والفراغ والغنى والعُجب، فقلبته بين الحانات والمواخير قَفاً لوجه، حتى ركبه الدين والمرض، فباع الأرض لبنك (خوريمي)، والصحة لبار (أنسطاسي). وكبر عليه أن يعود إلى قريته ذليلاً بعد العز، فقيراً بعد الغنى، فظل في المدينة ولكن في بيت غير البيت، ومظهر غير المظهر. . .
تتألف هذه الأسرة من الوالدين ومن ست بنات وابن واحد. وفي هذا الصبي الواحد انحصر مستقبلها وأملها، فأرصدت ما بقي للأم من موروث الرزق على تربيته وتعليمه. فلعله يكون كابن فلان باشا: ينال (الليسانس)، ويعين وكيلاً للنيابة فقاضياً فمستشاراً فوكيلاً للوزارة. ويومئذ يرجع المال الذاهب، ويعود المجد المضاع، وتندم الشماتة الحاقدة. وكان الفتى نحيل البدن ولكنه ذكي مجد، فلم يتخلف في سنة، ولم يرسب في شهادة، حتى نال إجازة الحقوق. وكان في مدة دراسته الطويلة شغل الأسرة الشاغل: فالوالدان همهما تدبير المال له وتوفير الصحة عليه؛ والبنات الست عملهن غسل ثيابه وكي بِذَله وتصفيف شعره وتهيئة أكله(288/1)
وتهدئة نومه. وإذا فاتهن اليومَ أن يأكلن الهنيء، ويلبسن الناعم، ويجلون حسنهن للأتراب والخطاب في شارع البحر بالمنصورة، فسيعوضهن الله غداً بفضل أخيهن الموظف خيراً من كل أولئك في القاهرة.
وكانت الأم تبيع في كل سنة من سِنِي دراسة ولدها فداناً من أرضها، تنفق نصفه على المدرسة ونصفه على البيت حتى خرج هو من كلية (حقوقه)، وخرجت هي من كل حقوقها.
أصبحت الأسرة الفقيرة مُعدمة: فلا في الأرض ولا في البيت ولا في اليد. فهي تعيش على ما يبقى من مرتب أملها وكاسبها (فؤاد)، فقد وظف بأحد مراكز طنطا وعاش وحده. وظل الأبوان الشيخان والبنات النواهد في المنصورة على ضيق وقلق ينتظرون اتساع الرزق وامتداد الجاه فيجتمع الشمل ويرفُه العيش.
أتدرين يا آنستي بماذا أجاب القدر دعاء هذه الأسرة، وعمَّ أسفر الأمل في هذا الولد؟
كان فؤاد رقيق البدن والشعور والعقل، فأغرم بالأدب، وفُتن بالجمال، وكلِف بالرُّواء. وحياة الأقاليم لا تقضي حاجة النفس النزاعة الرغيبة من كل ذلك. فكان في مكان عمله بالنهار، وفي مجالي القاهرة بالليل، حتى افتتن بمطربة معروفة، فاضطرب أمره وانتكس حاله.
كان فؤاد عُذْري الهوى، لأن حياءه أقوى من طموحه، وشاعريته اشد من شهوته. وهو إلى ذلك فقير، ومعبودته من ذوات الثراء والمجد، فلا يدخل قصرها إلا غني أو فنان أو مهرِّج. فكان يقنع بالجلوس أمام تختها إذا غنت، وبالطواف حول بيتها إذا استراحت، حتى خبَله العشق وأضناه السهر. وبان أثر ذلك في عمله، فغاب طويلاً عن مكتبه، وأخطأ كثيراً في تصرفه، واختلف دائماً مع رئيسه؛ فانتهى الأمر وهو لا يزال في عهد التجربة بفصله!
لم يشعر فؤاد بهذه الصدمة الصاعقة كما شعر بها أهله؛ فإن حياته كانت في الحب، وحياة أهله كانت في الوظيفة. فلما انجلت غشاوة الهوى قليلاً عن عينيه رأى نفسه خالياً من العمل والأمل، يُزجي فراغه الثقيل الذليل بالهيام في الطرقات، والنظر في (الفترينات)، والاختلاف إلى (الصالونات)، والوقوف بباب المطربة أكثر النهار والليل، يحادث الخدم، ويرقب الزوَّار، ويرصد السيارة الحبيبة حين تذهب وحين تؤوب.
وأسرع إليه أبوه على كبره ووهنه يستكشف سر النكبة ويعالج مقطوع الرجاء، فوجده نفساً(288/2)
يتهافت في جسد ضارع وهيئة زرية؛ فما زال يتلطف به ويهاويه حتى كشفه عن أمره، وعاد به إلى الأسرة المفجوعة في ولدها الوحيد، وأملها الفرد، وملجئها الأخير، وشرفها الباقي. . .
ليس في طاقتي يا آنستي أن أقص عليك خاتمة هذه المأساة. ولو كان وصفها في إمكاني، لما كان استماعه في إمكانك. فإني أعرف رقة قلبك ووهن جَلدك في مثل هذه الحال. . . وليس من العسير على فطنتك استنتاج ما حدث. فالفتى من تباريج الجوى أصيب بالسل فمزَّق رئتيه وشفَّ جسمه، فهو في السرير عظم هامد ينتظر النهاية المحتومة. والأم من هول النكبة أخذها الفالج؛ فهي سطيحة على الفراش لا تُمر ولا تُحلى. والأب من فقد الرجاء اعتراه الخبال فمات قتيلاً في حادث محزن.
والبنات؟ البنات بقين بعد المخبول والمسلول مع الأم الكسيحة لا كاسبٌ ولا خاطب. فتصوري يا آنستي كيف يعشن! لو كان للإسلام أديرة صوفية لدخلن في حمى الدين؛ ولو كان للحكومة مدارس خيرية لاعتصمن بقوة العلم؛ ولو كان للأوقاف ملاجئ نسوية لعشن في ظلال الخير. ولكنهن يا آنستي يعشن العيش الكريه الضنك على فضلات الأقارب الأباعد. ومثل هذا العيش لا يثبت عليه إيمان ولا أمان. والبيت البائس إذا لم يدخله الملَك دخله الشيطان. . .
أحمد حسن الزيات(288/3)
الفكاهة والطغيان
للأستاذ عباس محمود العقاد
ملَكة الفكاهة نعمة من نعم الحياة، وخاصة من خواص الإنسان، وعلامة من علامات الارتقاء. ولكنها خليقة أن تعدَّ في النقم إذا هي سوغت ما لا يساغ وأباحت ما لا يباح، كالإذعان لحكم طغيان، والاجتراء على حقوق أو حرمات.
سمعت من سعد زغلول رحمه الله أن (أحمد زيور) في الوزارة أخطر من عبد الخالق ثروت ومَن على طرازه، لأن أحمد زيور لا يثير الغضب في المصريين بل يحفز فيهم ملكة الفكاهة ويقلب الأمر من جد إلى مزاح؛ وهم لا يكرهون ذلك، وقد يستمرئونه ويمضون فيه، فيقبلون على يديه ما لم يقبلوه على أيدي الآخرين، ويأتي الخطر من هذا الباب.
وذكرت هذا وأنا أقرأ الفكاهات التي يرويها الرحالون والناقدون الاجتماعيون عن الألمان والروس والطليان وسائر الأمم التي يحكمها أصحاب السلطان المطلق في هذه الأيام.
فينبغي أن نعلم أن هذه الأمم تصنع ما يصنعه المصريون أحياناً من مقابلة الطغيان بالفكاهة، ومن مجازاة السطوة بالنكتة، فيصول عليها الحاكم وهي تضحك منه، وتتفكه بالأحاديث عنه، وتظن أنها أخذت منه بمقدار ما أخذ منها، فتستريح إلى هذا القصاص!
قيل أن القائد جورنج يحب النكتة البارعة، ويطرب للفكاهة الجيدة، ويود لو يسمع ما يتداوله الناس من أقاويل السخر والمزاح عن الحكومة الحاضرة في البلاد الألمانية، ولكنه لا يصل إليها لخوف الناس من كتابتها أو الجهر بها، فاتفق وسائق سيارته على أن ينقلها إليه كلما سمع شيئاً منها، وله خمسة قروش على كل نكتة مقبولة.
قال الراوي: فطاب المورد للسائق المحروم وحرص على احتكار البضاعة كلها في هذه السوق. ثم جاء إلى القائد يوماً بحفنة صالحة من النوادر اللاذعة، فداخل القائد شيء من الغيظ وأشفق من ذيوع هذا الضرب الأليم من التنكيت، وقال كأنما يحدث نفسه: (ليضحكوا ما شاءوا. . . إنهم لا ينسون على كل حال أنهم أعطونا تسعة وتسعين في المائة من أصواتهم في الانتخابات الأخيرة. . .!)
فصاح به السائق وقد خاف على مورده المحتكر:(288/4)
سيدي القائد! من الذي باعك هذه النكتة؟!
وروى الراوون أيضاً أن زوجة شابة انتظم زوجها في إحدى الفرق العسكرية الحديثة فطال غيابه عن المنزل وامتدت ساعات التدريب إلى ما بعد الهزيع الأول من الليل، حتى تعودت أن تنام ولا تنتظر أوبته حين يؤوب. وتمادى على ذلك فترة طويلة، فأحبت أن تنبهه بعض التنبيه عسى أن يحتال للخلاص من هذا التدريب أو من تلك المواعيد، فتركت على الموضع الخالي من السرير ورقة كبيرة أشبه شيء باللوحة التي تكتب للتذكار، على بعض الأنصاب والآثار، وكتبت عليها: (هنا!. . . حيث كان يرقد زوجي قبل التحاقه بالفرقة العسكرية). . . فضحك حين رآها. وسمع الجيران بالخبر فضحكوا وتناقلوا الورقة بينهم بضعة أيام. . . وسرى الخبر إلى مكتب الاستطلاع فضحك أيضاً ولكنه اعتقل الزوجة أياماً في معتقل التأديب أو العقاب).
أما في الروسيا فالفكاهات التي يخترعها الظرفاء للضحك من النظام القائم فيها لا تحصى، ولا تقل في الرواج عن الفكاهات الألمانية.
قيل إن مندوباً من مندوبي الحكومة أراد أن يستطلع طِلْع الفلاحين الذين يطوفون أو يساقون إلى الطواف بضريح لينين وهو معروض فيه مكشوفاً للأنظار.
فسأل واحداً منهم: ما رأيك فيه. .؟ أي في الزعيم لينين.
فأجاب على البديهة: حاله مثل حالنا. . . ميت ولكنه لا يدفن!
ووقف فلاح على مقربة من آلة المذياع وهم يركبونها، فسمع المهندس يقول: إن كل كلمة تلفظ هنا تدوي في جوانب العالم كله. فهل منكم من يريد أن يقول (كلمة واحدة) باسم الروسيين؟ فأومأ الفلاح أن نعم. . . وتقدم إلى بوق المذياع فصاح: (النجدة!)
وقفزت جماعة من الأرانب من الحدود الروسية إلى الحدود البولونية، فدهش الحراس البولونيون لكثرتها وسألوها: ما الخبر؟ فقال واحد منها: إن مكتب الاستطلاع قد أصدر أمراً بالقبض على جميع الزرافي التي في الأقطار الروسية. . . قال الحارس: وما شأنكم أنتم وأنتم أرانب ولستم بزرافي؟! فقال الأرنب: (صحيح! ولكن هل لك أن تثبت ذلك لمكتب الاستطلاع؟!)
وعمت الشكوى من مكتب الاستطلاع هذا فأشاع الظرفاء الروسيون أن الزعيم ستالين قد(288/5)
أمر بتسريحه وشدد على رجاله أن يتلطفوا إلى الناس غاية التلطف لينسوهم فظاعة ماضيه.
إلا أن الفلاحين المساكين لم يسمعوا بهذا الذي أشاعه الظرفاء البلديون، فبينما كانت طائفة منهم في مركبة كبيرة إذ عطس أحدهم عطسة عنيفة سمعها من في الطريق، فأطل واحد من رجال مكتب الاستطلاع في المركبة وسأل: من الذي عطس هذه العطسة؟
فاضطرب الركب وسرى فيهم الرعب وطفقوا يلكزون العاطس المتواري أن يبرز نفسه ويحمل وحده وزر عمله ولا يجور على أصحابه جميعاً بجريرة عطاسه، فلم يسع الرجل إلا أن يعترف بالحقيقة ويقول في كثير من الوجل والتلعثم: أنا. . .!
قال الراوي: فانحنى مندوب مكتب الاستطلاع تنفيذا لأمر الزعيم ستالين وقال: يرحمك الله!
ويروي الظرفاء الروسيون أن طوفاناً من السباب والتبكيت والتعزير سمع ذات يوم في الحجرة المجاورة لمكتب الرفيق ستالين. فانتظر الحجاب حتى يفرغ الزعيم من حديثه، ثم فتحوا الباب ليسحبوا منه الرجل المنكود الذي وقعت على رأسه كل هذه الشتائم والمقذعات، فما راعهم إلا أن يبصروا المكتب خالياً وليس فيه أحد غير الزعيم.
- أين الرجل المنكود الذي كنت تشتمه؟
- فأجاب الزعيم: أنا هو. . . وقد فرغت الساعة من حصة المناجاة!
عرضت هذه النوادر و (القفشات) وعرضت معها نوادر المصريين وقفشاتهم للرومان والترك وقره قوش وسائر الحاكمين الذين نالوا من المصريين بالقسوة، ونال منهم المصريون بالنكتة، فورد على خاطري هذا السؤال العجيب: لو كنت حاكماً طاغياً ماذا أصنع لهؤلاء الساخرين؟ هل أطلق لهم العنان يرسلون النكات والقفشات حيث يشاءون؟ أو أحسب حساباً لعواقب هذه النكات والقفشات فاحجر على أصحابها ومذيعيها وأتعقبهم بالمصادرة والجزاء؟
إن النكتة تلطف وطأة الظلم وتوهم المظلوم أنه ينتقم لنفسه بعض الانتقام فتهوّن عليه الشدائد وتروضه على الصبر والانتظار، فهي من ثم معين للحكام على المحكومين.
إلا أن النكتة قد تزري بالمهابة وتعصف بالرهبة وتجعل الحاكم المخيف أضحوكة في(288/6)
الأفواه ومهزلة للسامرين؛ فهي من ثم مضعف لسلطانه ومجرئ على مقامة ومحرض على الثورة والانتقاض.
هي بلسم للمظلومين فهي مقبولة
وهي سلاح للمظلومين فهي مرهوبة
فماذا يحسن بالحاكم المستبد أن يصنع مع هؤلاء المازحين؟
ليس لهذا السؤال جواب فاصل فيما أحسب، ولكني أقرر الحقيقة إذا قلت إن المحكومين لا يحاربون الظلم بالفكاهات والنكات إلا إذا كان للصبر بقية، وفي قوس الاحتمال منزع كما يقولون، وإن الحاكمين لا يتسمحون في قبول الفكاهات والنكات إلا إذا كان للقوة بقية وللثقة بدوام السلطان مجال فسيح.
أما إذا ضاقت الصدور ونفذت الحيل فالمحكومون لا يعتصمون بالفكاهة والتنكيت بل يغضبون ويثورون.
وكذاك إذا ضاعت ثقة الحاكم بدوام سلطانه لم يصبر على السخرية والمزاح، وعالج الحجر عليها عسى أن يستعيد شيئاً من المهابة والامتناع.
وبعد هذا وذاك يجب علينا أن نفرق بين الفكاهات، وأن نفرق كذلك بين الطبائع التي تتخذها وسيلة لحرب الحكومات.
فالفكاهة التي قوامها تلفيق الجناسات اللفظية والملاحظات الشكلية لا تخيف أحداً من العقلاء. أما الفكاهة المخيفة حقاً فهي تلك التي تنفذ إلى العظم وتسري إلى قرارة الأمور، ولا ينطبع على هذه الفكاهة إلا أناس يعملون حين يتفكهون، ويجترئون حين يسخرون.
عباس محمود العقاد(288/7)
الشريف الرضي وخصائص شعره
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
على أن الوجدان يفيض في شعر الشريف حتى من غير الاستعانة بهذه الصيغ البيانية. أنظر إلى وصفه حبيبته في قوله:
تُحَبِّبُ أيامَ الحياةِ وإنها ... لأَعذبُ من طعم الخلود لطاعم
وتراه يستجمع أساليبه البيانية كلها في قصائدهِ الطويلة المشهورة كرثائه للصابي وللصاحب في قصيدتيه التي يقول في مطلع واحدة:
أعلمت مَنْ حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
وفي مطلع الأخرى:
أكذا المنون تُقَطِّرُ الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجْبالاَ؟
وهاتان القصيدتان من أفخم قصائده في الرثاء وإن كان الحنين فيهما أقل منه في قصائده في رثاء أهل بيته. وله في رثاء الصابي قصائد أقل فخامة وإن كانت أكثر حرقة. ومن أكثر قصائد الشريف في الرثاء وجداناً قصيدته العينية المشهورة التي يقول فيها:
لله نفرة وجد لست أملكها ... إلاّ تذكرتُ إخوان الصفاء معي
وفيها يقول:
الآن نعلم أن العيش مُخْتَلَسٌ ... وأننا نقطع الأيام بالخُدَعِ
أُخَيَّ لا رغبت عيني ولا أذني ... من بعد يومك في مَرْأَى ومُستَمَعِ
وقصيدته التي يقول في مطلعها:
قف موقف الشك لا يأس ولا طمع ... وغالط العيش لا صبر ولا جزع
وهي في نظري من أكثر قصائده في الرثاء وجداناً. ومن قصائده الوجدانية في الرثاء في آل المسيّب العينية التي يقول فيها:
وفارقني مثل النعيم مفارقاً ... ووَدَّعَني مثل الشباب موَدِّعا
ومن قصائده الحبيبة في الرثاء قصيدته في رثاء أمه وهي أكثر وجداناً من قصيدة المتنبي في رثاء جدته التي يقول فيها:(288/8)
وإنْ لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أمَّا
وللمعري قصيدته الطويلة الفخمة في سقط الزند في رثاء أمه التي يقول فيها:
مضتْ وقد اكْتهلت فخُلتُ أني ... رضيع ما بلغتُ مدى الفِطام
ويقول:
سألتُ متى اللقاء فقيل حتى ... يقوم الهامدون من الرجام
فليتَ أَذِينَ يوم الحشر نادى ... فأجهشت الرمام إلى الرمام
ولكن قصيدة الشريف أسهل وأسلس وأكثر وجداناً وهي التي مطلعها:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي ... وأقول لو ذهب المقال بدائي
وهي كلها ألصق بالموضوع من بعض أجزاء قصيدة المعري. ولابن نباتة السعدي قصيدة تستجاد في رثاء أمه يقول فيها:
فَقدْتُ كبيراً بِرَّ أم حَفِيَّة ... كما فقد الثَّدْيَ المعلّل مُرضعُ
تُبادرُ نحوي تبتغي أن تسرني ... ولم تدْرِ أني بالسرور أُرَوَّعُ
إلى أن قال:
إلى أي تعليل وأي مَبَرَّةٍ ... وود نصيح بعد ودك أرجع
ولأَمْرٍ ما تذكرني قصيدة الشريف بقصيدة كوبر الشاعر الإنجليزي في رثاء أمه؛ ولعل الذكرى لأثرهما في الوجدان فحسب لا لشبه كبير.
وللشريف قصيدة في التعزية تستحب للتلطف في التعزية تلطفاً يجيده الشاعر الوجداني وهي التي مطلعها: (لو رأيت الغرام يبلغ عذراً).
وقصائد الشريف في رثاء جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مشهورة جيدة فخمة، ولكنها في نظري من حيث هي شعر وجداني أقل مما ذكرت من القصائد. وربما أكون مخطئاً، وهي لا ينقصها التحرق والتأسف ولكن قيمة الشعر الوجداني ليست بالتحرق والتلدد فحسب، ولا بالفخامة ولا بدقة المنطق ولا بعكسه، وقد يكون الشعر الوجداني عكس المنطق إذا كان العكس يعبر عن صدق العاطفة، فقول الشريف في تشتت قومه وآله:
ما كان ضر الليالي لو نفَسْنَ بهِم ... على النوائب واستثناهُمُ القَدَرُ(288/9)
ليس من منطق العقل ولا هو عكس المنطق الناشئ من مبالغات أهل الصنعة المزيفة بل هو منطق الوجدان الذي يعبر عن النفس؛ فإن كل نفس في الحياة تطلب أن تُسْتَثنَى من آلام الحياة وصروفها ومنطق عقل صاحبها يعلم أن هذا طلب محال. فالشعر الوجداني توفيق ويصادف هوى النفس ومنطقها حتى لكأنه يخلق لها سمعاً يصغي إليه وقلباً يطرب له. وقد يكون البيت الواحد منه ألصق بالنفس وأثمن من قصيدة فخمة سواء أكانت من شعر التلدد، أو من الشعر التعليمي المحض المستقل عن العاطفة، أو من شعر الزخارف وألاعيب الذكاء في تبذله ولهوه. أنظر مثلاً إلى أبيات الشريف التي يذكر فيها كيف أنه يدافع الهموم بذكرى النعيم الزائل بينما غيره يدفعها بالخمر أو سماع الأغاني ولكنه يفيق من نشوة الذكرى كما يفيق غيره من نشوة الخمر؛ وهي الأبيات التي أولها:
إذا ضافني هم أمَلُّ طروقه ... ببعض الليالي أو أضيق به صبرا
إلى أن يقول بعد صحوه من الذكرى:
فما كان إلا خلسة ثم أنني ... رأيت يدي مما علقت به صفرا
وهي أبيات ليس فيها خيال غريب ولكن قيمتها في صدق وصف حالة للنفس ووسائلها في تعللها. وللشريف قصائد شهيرة في الإخوانيات قلما تتفق لشاعر آخر في صدق قولها وبساطتها وقربها من النفس وفي مظاهر الوجدان فيها مثل قصيدته في مودة الحب، وهو موضوع قلما يطرقه شعراء العربية عند وصف الحب في أشعارهم، أنظر إلى قوله فيها:
أينعت بيننا المودة حتى ... جَلَّلَتنا والدَّهرَ بالأوراق
أو قوله فيها:
في جبين الزمان منك ومني ... غُرَّةٌ كوكبية الائتلاق
ومن قصائده المشهورة قصيدته التي يقول فيها لصديقه:
كأنكَ قدمة الأمل المرجى ... عليَّ وطلعة الفرج القريب
والقصيدة التي يقول فيها:
وكم صاحب كالرمح زاغت كعوبه ... أبى بعد طول الغمز أن يتقوما
وهي من قصائده التي ترد كثيراً في كتب المختارات، وحق لها أن تختار. والشريف إذا جُوفِيَ عبر عن شعوره بقوله:(288/10)
ويُظهِرُ لي قوم بعاداً وجفوة ... وما علموا أني بذلك أفرح
فيكون هو المعزز المكرم بقوله هذا. وأنظر إلى الوجدان في قوله:
تُحَبِّبُ أيام الحياة وإنها ... لأعذب من طعم الخلود لطاعم
وهو لا يفحش في هجائه كما يفعل الشعراء ولكنه مع ذلك يدمغ خصومه، أنظر إلى قوله:
من كل وجه نقاب العار نقبته ... كالعر مر عليه القار والقطر
يَصْدَى من اللؤم حتى لو تعاوده ... أيدي القيون زماناً لا نجلي الأثر
وهي مبالغة ضرورية لأنها نكتة يراد بها السخر. وانظر إلى قوله:
تمسكوا بوصايا اللؤم تحسبهم ... تتلى عليهم بها الآيات والسور
وقوله:
لو عِيْدَ من داء الفهاهة واحد ... عادوه من عي إذا حضر الندى
وأشعاره في الشيب كأشعار أخيه المرتضى مشهورة، وقد عنى بشعرهما في الشيب صاحب كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) وهو باب من الشعر الوجداني أيضاً. وهذه النظرة في ديوان الشريف تثبت ما قدمناه في أول المقال من أنه أكثر نصيباً من شعر الوجدان ولكن ليس له في وصف الطبيعة كقصيدة أبي تمام التي أولها (رقت حواشي الدهر فهي تمرمر) أو كقصيدة البحتري التي يقول فيها (وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكاً) أو (شقائق يحملن الندى فكأنه) أو وصف بركة المتوكل أو وصفه آثار الفرس وغيرها من شعر الوصف التصويري. وليس له كوصف ابن الرومي غروب الشمس في قوله (وقد رنقت شمس الأصيل الخ) ولم يسر شعره في الأمثال كما سار بعض شعر المتنبي، ولم يولع بالبحث في الحياة والكون كما يفعل المعري، ولكنه مع ذلك قد أمن زلل المبالغات والتشبيهات البعيدة المرفوضة، وأمن الفتور وأمن المعاظلة والتواء القول وأمن الألاعيب اللفظية. وشعر الوجدان ليس بأقل منزلة ولا أقل أثراً في النفس من أبواب القول الأخرى التي بزه فيها منافسوه، فهو إذاً أقل منهم منزلة وله مع ذلك نظرات صائبة تدل على عقل وذكاء وذوق في اختيار ما يقول ورفض ما لا يجمل به أن يقول. أنظر إلى قوله في وصف لذة القسوة المركبة في بعض الطبائع:
يهش للمرء تغريه أظافره ... كما تهش سباع الطير للجيف(288/11)
إذا نجا من يديه غير منعقر ... أفنى أنامله عضاً من الأسف
وقوله:
يصل الذليل إلى العزيز بكيده ... والشمس تُظلِمُ من دخان الموقد
وقوله في أثر الأفذاذ في حياة الناس وتاريخهم:
ولولا نفوس في الأقل عزيزة ... لَغَطَّى جميع العالمين خمول
وقوله:
رب نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد
وقوله:
كفى بقومٍ هجاءً أن مادحهم ... يهدي الثناء إلى أعراضهم فَرَقاً
وكل هذه نظرات صائبة في النفس، وله أشياء كثيرة من أمثالها، ولا غرابة أن تكون للشاعر الوجداني نظرات صائبة في النفوس. وله أيضاً وصف بديع كما قال في وصف الفرس:
إذا تَوَجَّسَ كان القلبُ ناظرَهُ ... والقلب ينظر ما لا ينظر البصر
وقال في وصف تردد الجميل في النعيم وتشبيهه بتردد القُرْط الجميل في اهتزازه على جانب الوجه الجميل بعد تشبيه تردد الحبيب في النعيم بتردد النسيم ولعبه بالأغصان:
ينأى ويدنو على خضراء مورقة ... لعب النُّعامَى بأوراق وأغصان
كالقُرْطِ عُلِّقَ في ذِفْرَى مُبَتَّلَةٍ ... بين العقائل قُرْطَاهَا قليقان
وهذا الوصف إذا تُؤُمِّل وجد وصفاً مطرباً
عبد الرحمن شكري(288/12)
من برجنا العاجي
أمس خرجت من برجي العاجي إلى البرج الدائر. والبرج الدائر هو مرصد حلوان. دعاني إلى زيارته مديره الأستاذ مدور. وهيأ لي المنظار الكبير مسدداً إلى القمر. فذهبت يدفعني الشوق إلى استجلاء سر هذا الكوكب الجميل، الذي نظم فيه شعراء الأرض نصف شعرهم، ودان له عشاق الأرض بنصف هنائهم. ورفعت عيني إلى تلك العين الذهبية التي طالما رعت بنورها نصف حياتنا، وسهرت على مسراتنا، وسكنت من أحزاننا. نظرت، وإذا أنا أتراجع أسفاً وألماً. لا أحب أن أصف ما رأيت. ولكني أحب أن أسجد لله شكراً إذ جعل لنا عيوناً لا تبصر إلا بمقدار. إن كل الجمال المحيط بنا إنما هو من صنع عيوننا القاصرة. والويل لنا إذا أبصرت أعيننا الآدمية أكثر مما ينبغي لها أن تبصر.
ذلك شأن القمر باعث الجمال على الأرض. وكذلك شأن الشمس باعثة الحياة على الأرض. إنها تشرف علينا من مكان معين بمقدار. فإذا اقتربت منا أنملة هلكنا حرقاً، وإذا ابتعدت عنا أنملة متنا برداً. إن يد الحكمة الأزلية قد وضعتها في الموضع الذي لابد لها فيه من أن ترسل إلينا الدفء والخير والسلام.
ما أدق هندسة الكون! اللهم إني أعود إلى برجي وأنا شديد الإيمان بك، قريب الفهم لك، مدرك بعض الإدراك لمشيئتك في خلق الإنسان، مطمئن كل الاطمئنان إلى مراميك في إنشاء حواسنا الآدمية على هذا الضعف. إن ما اعتدنا أن نسميه ضعفاً وقصوراً في إدراكنا حقيقة الأشياء ليس إلا السياج الذي يحمي سعادتنا البشرية فإذا خرجنا عن نطاق هذا السياج فقد انقلبنا مخلوقات أخرى لا تتصل بالأرض ولا بجمالها ولا عواطفها. مخلوقات ليست آدمية، فقد ترى غير ما يرى الآدميون. وقد ترى أبعد مما يرون. ولكنها لن تكون من أجل ذلك أسعد ولا أسمى ولا أنبل.
اللهم إنك مع قصورنا قد صنعتنا على خير حال، ومع جهلنا قد هيأت لنا أحسن مآل.
توفيق الحكيم(288/13)
أغرب ما رأيت في حياتي
للدكتور زكي مبارك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
كيف أقطع مرتب مرجريت؟
وكيف أدخل البؤس إلى صدر موريس؟
كيف؟ كيف؟
المسألة في ذاتها هينة، ولكنها مع ذلك بدت لي في غاية من التعقيد، لأن اتصالي بمرجريت كان أثار حول اسمي شبهات أذاعها فريق من أهل الفضول في باريس، وأظن - وبعض الظن إثم وبعضه غير إثم - أن ابنة صاحب البيت الذي كنت أقيم فيه كان لها دخلٌ في إذاعة الشبهات التي آلمتني في باريس.
كان ناس من المصريين يسألون عني من حين إلى حين فكانت تلك البنت تلقاهم بابتسامة خبيثة، ثم تقول: المسيو مبارك رجل لطيف، فهو لا يُلزم الخدم بترتيب غرفته غير مرة أو مرتين في الأسبوع!
ومعنى ذلك إني أبيت ليالي كثيرة في مكان مجهول.
وكان لي مع هذه البنت تاريخ جميل يغريها بأن تُلقي عليّ حقودها حين أغيب.
وكان المصريون في باريس يتعتّبون ويتلومون كلما رأوني، ويحبون أن يعرفوا أين أقضي أوقات الفراغ.
وكانت حجتي حاضرة، ولكنها لم تكن تُقنع إلا من يريد أن يقتنع. كنت أقول إني تركت في مصر خمسة عشر مليوناً وما يهمني أن أراهم مرة ثانية في باريس.
والواقع أني أحسنت كل الإحسان في هذا المسلك، فلم يكن لي أيّ نفع من تزجية أوقات الفراغ مع المصريين المقيمين في باريس، فأكثر كلامنا حين كنا نلتقي لم يكن إلا ثرثرة سخيفة باللغة العربية حول السياسة المصرية، وربما كنت المصري الوحيد الذي عاش في باريس ولم يعرف مكان السفارة المصرية في باريس.
والواقع أيضاً أن صلتي بمرجريت لم يعرفها أحد قبل اليوم غير شخص واحد هو الدكتور أمين بقطر الذي كلفتُه في إحدى السنين أن يمر على مرجريت ليحدثها عن أشياء لا يمكن(288/14)
أن تكتب في خطاب، ومع خطورة هذه المهمة فرَّط الدكتور بقطر في زيارة مرجريت. . .
وهكذا يكون الإخوان في هذا الزمان!
والحاصل - كما يعبر أهل بغداد - أني كنت أحب أن أتخلص بصفة نهائية من مرجريت، لأني كنت أخشى أن أفتضح في الأندية المصرية، وتحقّ عليّ لعنة خصومي، الخصوم الذين كانوا يعرفون كيف يلطخون سمعتي بالسواد بلا تعفف ولا استحياء.
كان يجب أن أقطع صلتي بمرجريت، وهل بقيت بيننا صلة غير مئات الفرنكات التي أجود بها في كل شهر لأنقذ موريس من الجهل ومن الجوع؟
كان هذا المرتب ثقيلاً جداً، وكان إرساله يضيع علي في كل شهر يوماً أو بعض يوم، وقد اضطرني مرة إلى أن أصرخ بالفرنسية! '
وكنت في كل مرة أتعرض لمكاره كثيرة من التحليلات النفسية، كنت أقول إن لي قرابات كثيرة تعاني الضر والبؤس. وهي أولى بكرمي إن كنت من الكرماء.
وكنت أقول إن مرجريت آوتْ روحي وقلبي خمسة عشر شهراً، ومكنتني من أن أصير أباً كريماً لطفل جميل.
وكنت أقول إن لمرجريت فضلاً عظيماً في مرونة لساني باللغة الفرنسية، المرونة التي مكنتني من أن أحاور هيئة الامتحان في مدرسة اللغات الشرقية خمس ساعات، والتي مكنتني من أن أصاول هيئة الامتحان بالسوربون ثلاث ساعات، وذلك مغنمٌ ليس بالقليل.
كنت أقول إن مرجريت هي التي عرّفتني بدقائق الحياة في باريس.
كنت أقول إني لم أحسن الأكل بالشوكة والسكين إلا بفضل مرجريت
كنت أقول إن مرجريت بكت مرة وأبكتني يوم زرنا معاً مصانع ستروين، حين وقفنا ننظر إلى فتاة تطرق الحديد وهي أرق من الزهر وأكثر إشراقاً من الصياح.
قالت مرجريت: ما رأيك يا محبوبي في هذه الفتاة؟
فتلعثمت
فقالت: قل الحق، ماذا تدفع من الأموال لحديث ليلة مع هذه الحسناء التي تطرق الحديد؟
فقلت: وهل هي أجمل من مرجريت؟
فقالت: دع هذا الأدب المصقول وأجبني(288/15)
فقلت: أقدم حياتي ثمناً للسمر ليلة مع هذه الفتاة
فقالت: وهل تعرف كيف زهدت هذه الفتاة في فتنة باريس لتلهو بطرق الحديد؟
فقلت: أحب أن أعرف
فقالت: هذه فتاة تستعد لتكون ربة بيت، فهي تطرق الحديد لتجمع من الأموال ما يمكنها من أن تكون زوجةً لرجل شريف مثل المسيو مبارك
ثم استغرقتْ في البكاء والنشيج
بكيتُ يومئذ لبكاء مرجريت بكيتُ بكاء لو شهدته الملائكة لأضافت اسمي إلى أسماء الشهداء والصِّديقين
وفي تلك اللحظة جذبتُ يد مرجريت بعنف وقلت: لن نفترق يا مرجريت
فقالت: وكيف؟
فقلت: سأنقلك إلى مصر، إن كان لي إلى مصر مَعاد
فقالت: وماذا أصنع في مصر؟ هل تراني أصلحُ لمعاونة مَدام مبارك على ترقيع الجوارب؟
فقلت: إن مَدام مبارك لا ترقِّع الجوارب
فقالت: كيف تقول هذا وأنت أبخل من اليهود؟!
وضحكنا ضحكاً صنع بالدموع ما تصنع الشمس بآثار الغيث
ذكريات مرجريت كلها لطيفة، ولكن يظهر حقاً أن فيّ شيئاً من أخلاق اليهود، لأني عانيت في حياتي ما يعاني اليهود، وهل يبخل اليهود بالطبع ولهم جدٌّ اسمه السموأل؟
إنما يبخل اليهود بسبب الاضطهاد، وأنا أبخل بسبب الاضطهاد
كان أجدادي من أغنى أهل المنوفية فحملتهم النخوة العربية على التبذير والإسراف إلى أن صافحوا الإفلاس
فأنا أجمع القرش إلى القرش لأصير من الأغنياء
وهل يتفق هذا مع الإنفاق على امرأة جميلة في باريس؟
يجب أن أقطع مرتب مرجريت
ولكن كيف؟
أحب أن أعرف كيف أتخلص من مرجريت(288/16)
كانت مرجريت تكتب إليّ في كل أسبوع خطابين، وكانت تخاطبني بالكاف، وكنت أبخل عليها بالمخاطبة بالكاف، لأني كنت أخشى أن يكون في المخاطبة بالكاف ما يشهد بأني كنت مع تلك المرأة على صلات غرامية
وكانت مرجريت تتألم من ألا أخاطبها بالكاف وتقول: إن بخلك عليّ بالمخاطبة بالكاف يوجب أن أخفي رسائلك عن موريس، وهي كل ما في حياة هذا الطفل المسكين من عزاء.
حرسك الله يا موريس وبارك في حياتك الغالية!
وكانت مرجريت تتحدث في رسائلها عن أشياء دقيقة لا تذكر إلا في رسائل العشاق
وكنت أتغافل عن تلك الأشياء حين أكتب الجواب
وكان هذا يؤذيها أبلغ إيذاء، فكانت تتهمني بالقسوة والعنف
والله وحده يعلم كيف كنت أسيء الأدب في مراسلة مرجريت، فأنا أعيش في القاهرة وهي تعيش في باريس، أنا أحترس تخوفاً من بطش خصومي، وهي تترسل بلا تخوف لأنها تعيش بين قوم يرون صيانة الحب من الشرائع
وهل تعلم مرجريت أن محبوبها الغالي يحيا في القاهرة بلا ناصر ولا معين؟
هل تعلم مرجريت أن محبوبها يشتغل بالتدريس وهو عمل تكدره الشبهات؟
هل تعلم مرجريت أني لا أصلح أبداً لما صلح له فيكتور كوزان الذي كان أعظم أستاذ للفلسفة في باريس ولم يكن له زوجة وإنما كانت له خليلة تحرسه وترعاه؟
إن مرجريت لا تفهم أني مصريٌ يعيش في مدينة لها تقاليد غير تقاليد باريس
يجب أن أقطع مرتب مرجريت وأن أتخلص من مرجريت
وفي أثناء تلك الأزمة النفسية وقع حادث عجيب لم يهتزَّ له في القاهرة قلب غير قلبي، وقع حادثٌ لا يصدقه أحدٌ في الشرق ولكنه زعزع كياني
وقع حادث لم يعلق عليه كاتب مثل المازني أو العقاد أو الزيات، ولم يلتفت إليه مصطفى عبد الرازق ولا منصور فهمي ولا طه حسين
ولكنه زلزل قدميَّ وهدَّ بنياني
وهل يقع في الدنيا حادث أغرب وأعجب من أن يجيء المسيو ميللران رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق ليطالب في المحكمة المختلطة بالقاهرة عن حق إحدى الغواني بالميراث(288/17)
في تركة أحد الأمراء؟
قد أنسى كل شيء، ولكني لا أنسى أني اعتذرت عن دروسي بالجامعة المصرية لأشهد دفاع المسيو ميللران
وماذا قال المسيو ميللران في ذلك اليوم؟
قال إن موكلته امرأة شريفة
وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى صُعِقتُ، فقد فهمتُ أن المرأة من حقها أن تحب، وقد أحبتني مرجريت فمن حقها أن تطالبني بالنفقة الشرعية حين تشاء
وماذا أملك حتى تطالبني مرجريت؟
أملك سمعتي، وهي كل شيء، وبفضل تلك السمعة أتسامى لمنصب الأستاذية في الجامعة المصرية
وقد آن أن أعترف بالخطر الذي كان يهددني في جميع أطوار حياتي، فأنا رجل من كبار العلماء، وستمرّ أجيال وأجيال قبل أن يوجد لي في البحث والاطلاع شبيه أو مثيل ولكني وا أسفاه مولعٌ بدرس سرائر النفس الإنسانية. وأغراني بذلك أني كنت أول دكتور في الفلسفة من الجامعة المصرية، وهذا المعنى هو الذي حملني على الصراحة فيما أسجّل وأقيّد من الأفكار والمعاني، وأغلب الظن أني سأكون أشرف ضحية للدراسات الفلسفية، ولا يغريني إلا شيء واحد هو الشعور بأني أنقذ الأدب العربي من كابوس الرياء والنفاق، ولكن الأدب العربي يحيا لأموت
والحاصل - مرة ثانية - أني عرفتُ وتيقنتُ أني لا أملك قطع مرتب مرجريت
وهل أستطيع الوقوف بالمحكمة المختلطة بالقاهرة أمام محام ذلق اللسان يطالبني بحقوق مرجريت؟
وما هو مبلغ السبعمائة فرنك حتى أهرب من وجه مرجريت؟
إن أصغر مبلغ أتقاضاه على المقالة الواحدة لا يقل عن جنيهين، فما الذي يمنع من أن أنفق على مرجريت مما أتقاضاه من مقالاتي في مثل مجلة الرسالة أو مجلة الهلال؟
وما الذي يمنع من أن أنقذ سمعتي بمبلغ ضئيل هو مئات من الفرنكات؟
ولي مع ذلك تعزية صغيرة هي شعور موريس بأن له أباً هو المسيو مبارك الذي استأنف(288/18)
سياحاته في مصر والشام والعراق
ولي تعزية ثانية هي رسائل مرجريت التي تحدثني عن غرائب الأشياء في باريس
ولي تعزية ثالثة هي الشعور بأن لي غرفة في باريس أدخلها على غير موعد حين أشاء
ولكني مع الأسف الموجع كنت أشعر بأني قد نزلت إلى أسفل دركات الانحطاط، لأني كنت أقدم المرتب إلى مرجريت بفضل الخوف لا بفضل الوفاء
وفي صيف سنة 1937 كانت لي فرصة لزيارة باريس بمناسبة المعرض، وكانت مرجريت تلح في أن أزور ذلك المعرض لأراها وتراني، وقد شجعني سعادة محمد العشماوي بك على زيارة المعرض لأكتب عنه مقالة أو مقالتين، ولكني رفضت
رفضت فراراً من مرجريت
فماذا صنعت مرجريت؟
ماذا صنعتْ مرجريت؟
كتبت خطاباً تقول فيه:
(عزيزي مبارك
يسرني أن أخبرك أن موريس نال إجازة الدراسة الثانوية وقد وجد عملاً بمكتبة. . . بمرتب قدره ثمانمائة فرنك. وبعد أيام سأقف مع المسيو. . . بكنيسة المادلين لأداء مراسيم الزواج. فأرجوك أن تبقي المبلغ الذي تتفضل به شهرياً، فقد ينفعك في تربية أبنائك، ويهمني أن تعرف أنك أشرف رجل عرفته في حياتي، وأن تثق بأن خطيبي لا يغار منك، فقد صارحته بكل شيء، وهو في غاية الدهشة من أدبك العالي، وكل ما نرجوه أن ترسل عبد المجيد لنتولى تثقيفه في باريس)
صديقتك العزيزة جداً
مرجريت
حاشية:
(أنا أقرأ خطاباتك مع زوجي. فهل تقرأ خطاباتي مع زوجتك؟)
آمنت بالله والحب!
لقد أنقذتني مرجريت من العذاب الأليم(288/19)
وفرتُ سبعمائة فرنك قبل رحيلي إلى العراق، وفرتُها وأنا لئيمٌ بخيل
وفرتُ سبعمائة فرنك لأحرم نفسي وقلبي من أبوّة موريس
وفرت سبعمائة فرنك لأرجع إنساناً سخيفاً لا يعرف الهيام بأودية المعاني
مرجريت! مرجريت!
اذكريني بالشعر يوم أموت
هل الله عاف عن ذنوبٍ تسلَّفتْ ... أَم الله إن لم يعفُ عنها يعيدها
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(288/20)
من رحلة الحجاز
حديث الحج في المدينة المنورة
للدكتور عبد الوهاب عزام
فصلنا من جُدَّة مغرب الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، متوجهين تلقاء المدينة، وهي مسافة تقطعها قوافل الإبل في 14 يوماً. وبعد مسير سبع ساعات في طريق سهلة على مقربة من البحر بلغنا رابغاً. وهي قرية ذات نخل على مسير ساعة من البحر للراجل، تجتمع فيها طرق بين جدة ومكة والمدينة، وإذا حاذاها الحجاج القادمون من الشمال في البحر الأحمر أحرموا للحج، وليست هي ميقات للإحرام ولكن الميقات الجحفة على عشرة أميال إلى الجنوب منها
واستأنفنا المسير ضحى الخميس آملين أن نبلغ طيبة عشية اليوم ولكن الرمال عوّقت بعض السيارات فبتنا في أبيار بن حصان. ثم غدونا سائرين ونزلنا بالمسيجيد بعد ثلاث ساعات. واستأنفنا السير حتى العصر فلاح لنا النخل أخضر يانعاً يبشر باقتراب الغاية؛ ونزلنا آبار علي وهي ذو الحليفة ميقات أهل المدينة. ومنه أحرم النبي صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع. ثم سرنا فلاحت لنا بعد قليل المدينة المنورة تتوجها القبة الخضراء، كأنما تباهي على صغرها السماء. . . أهذه نضرة الإيمان في هذه البقعة، أم ازدهار الآمال في هذه الساحة؛ أم كما قال عاكف بك: واحة نزلت من السماء لتأوي إليها الأرواح المتحرقة في البيداء؟
ودخلنا المدينة من الباب الشاميّ حيث محطة سكة الحديد الحجازية. وحططنا رحالنا في المدرسة السعودية وقد أعدّت لنزولنا. ثم سارعنا نتأهب للموقف الجليل، للساعة التي تعرج فيها الروح من الأرض إلى السماء. ذلكم المسجد النبوي في بهجة النور والإيمان، يدوّي بالمصلين والداعين والقارئين؛ ولكن الواقف إزاء الحجرة النبوية لا يرى من هذا الجمع أحداً ولا يحس من هذا الدويّ همساً. لا يرى إلا هذا الجلال ولا يسمع إلا هذا الوحي. وإنما هي وقفة يمّحي فيها الزمان والمكان فيتصل الأزل بالأبد والسماء بالأرض
يا لك بقعة صغيرة لا يدرك العقل مداها، ولا يبلغ الفكر منتهاها! يا لك حجرة يظل الفكر مسافراً في أرجائها، محلِّقاً في أجوائها، فيتطوّف في أرجاء التاريخ، ويحلق في أقطار(288/21)
السماء والأرض؛ وكأنما طوى الزمان، وزُويت الأرض، واجتمعت الإنسانية، وحشر البرّ والحق وكل خلق طيب في هذا الضريح. يا لك بقعة كالكوكب المضيء تناله الأعين في لمحة وتحيط أشعته بالعوالم العظيمة! يا لك بقعة كمنبع النهر العظيم، متدفق بالحياة فياض بالبركة مدّاد بالخير يحيي الأجيال بعد الأجيال.
يا حيرة الوصف، وعجمة البيان! أهي عنوان كتاب انطوى على الحق والصدق، والخير والبرّ، والإحسان والمرحمة، يقرؤه القارئ جملة ثم لا يزال تروعه منه الصفحة بعد الصفحة؟ أم هي تاريخ لا يزال الدهر يكتب صفحاته وإنما أوله وحي الله وآخره غيب الله؟
أترى هؤلاء المصلين لا يفترون، وهؤلاء المرتلين القرآن لا يصمتون، وهؤلاء الداعين لا ينقطعون، أتسمع هذا الآذان وهذا السلام وما يحدث به المسلم أخاه، وما يفضي به في علانيته ونجواه؟ ليس فيما ترى إلا أناسيّ هداهم محمد، وأفعال علّمها محمد، وكلمات أملاها محمد، بل كل صوت يرتفع إلى الله في أقطار الإسلام، وكل عبارة في وضح النهار أو جنح الظلام، وكل لسان يدعو إلى الخير وكل يد تمتد بالبر، وكل كلمة حق ودعوة صدق، وكل نية محمودة وسعي مشكور، فهنا منبعه، ومن هذه البقعة وحيه؛ بل كل نزعة في المسلمين إلى سؤدد، وكل طموح إلى علاء وكل سلطان فيهم قائم بالحق، وكل شرع نافذ بالعدل، وكل دعوة إلى حرية وثورة على ظلم، وانتصار للحق، وتمرد على الباطل - كل أولئك شعاع من هذا النور، أو قطرة من هذا الينبوع
ولست تتمثل هنا مجداً ولا سلطاناً ولا سؤدداً ولا علواً إلا تمثلته تواضعاً للحق، وبراً بالخلق، ورأيته سؤدد المساكين وسلطان المستضعفين. السلطان الذي يجمع الناس على شريعة من العدل والمرحمة والمودة والسلام.
موقف يتضاءل في جلاله كل جلال، ويصفو في جماله كل جمال. لمحات تطهر فيها النفس من أرجاسها، وتبرأ من أهوائها، وتسمو على شهواتها، وتخلص من أغلالها، فتستمد الخير والحق والعلاء والتقوى والحب والسلام وتَسَع السماء والأرض وكأنما تخلق خلقاً جديداً وتفتح في أعمالها صفحات جديدة. خسر من لم يطهره هذا الموقف، وخاب من لم ترفع نفسه هذه الساعة. هنا النفس المطهرة. هنا محمد بن عبد الله. هنا رسول الله. هنا خاتم النبيين. ثم هنا اثنان من صحبه وخلفائه: أبو بكر وعمر.(288/22)
المسجد النبوي في شكله الحاضر بناه السلطان عبد المجيد العثماني، استغرقت عمارته 12 سنة بين سنة 1265 وسنة 1277 ولم تُبق من الأبنية القديمة إلا قليلاً؛ وهو جميل المنظر حسن الهندسة في سقفه قباب صغيرة منيرة مزينة تحملها عمد متقاربة صبغت لوناً أحمر وزينت بالتذهيب.
كان المسجد حين بناه الرسول سبعين ذراعاً في ستين وجدرانه من اللبن وسقفه من الجريد وعمده جذوع النخل، ثم وسّعه الرسول فجعله مائة ذراع في مثلها ثم توالى التوسيع والتعمير في أيام الخلفاء الراشدين فمن بعدهم حتى انتهى إلى شكله الحاضر. ولكن حدود المسجد القديمة معّلمة بالعمد كما حددت الروضة النبوية بين القبر والمنبر.
ولا ينظر الإنسان نظرة في هذا المسجد المبارك إلا وقعت على ذكرى كريمة من رسول الله وأصحابه. فهناك سارية عائشة، وسارية أبي لبابة الصحابي التي ربط نفسه بها، وآلى ألا يبرح حتى يتوب الله عليه، وخوخة أبي بكر.
وحول المسجد مواقع الدور التاريخية: دار أبي بكر، ودار عثمان وغيرهما.
وفي المدينة مشاهد كثيرة عظيمة لا يتسع المقام لتعدادها. وحسبي أن أذكر ما شهدت في يوم واحد يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي الحجة: خرجنا إلى جبل أحد وهو شمالي المدينة قريب منها فمررنا بجبل سلع وسرنا حتى شهدنا مكان موقعة أحد ورأينا قبر حمزة أسد الله رابضاً في العراء وعلى مقربة منه جدار يحيط بمدفن شهداء أحد رضي الله عنهم.
وفي اليوم نفسه توجهنا شطر الجنوب إلى مسجد قُباء وهو أول مسجد أسس في الإسلام بناه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما هاجر من مكة فنزل في قباء على مقربة من المدينة في بني عمرو ابن عوف. وهو المسجد الذي ذكر في القرآن: (لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه. فيه رجال يحبّون أن يتطهروا. والله يحب المتطهرين) والمسجد كما يرى اليوم حسن المنظر عالي الجدران تتجلى فيه البساطة والنظافة وقد توالى عليه التعمير حتى انتهى إلى بنائه الحاضر. وفي صحن المسجد مكان يقال إنه مبرك ناقة الرسول صلوات الله عليه، وقد قرأت عليه بيتين باللغة التركية
وعلى مقربة من المسجد بئر أريس. وهي بئر عميقة ماؤها عذب غزير صاف وهي التي سقط فيها خاتم النبي من يد عثمان بن عفان أيام خلافته. ويستخرج الماء منها ومن آبار(288/23)
المدينة كلها بالسواني. ترى بكرات على البئر معلقة بها غروب كبيرة وتجر حبالها الدواب من الإبل أو البقر أو الحمير. وقد تجتمع الثلاثة معاً، تسير الدابة نحو البئر فيتدلى الغرب حتى يمتلئ ثم ترجع البئر حتى يرتفع الغرب. فإذا علا الحوض جذبته الحبال فينصب ماؤه في الحوض، فمسير الدابة أو السانية في طريق مستقيمة ذهاباً وجيئة.
والمدينة جيدة الهواء في الصيف معتدلة في الشتاء، وأرضها خصبة وآبارها غزيرة وبساتينها كثيرة، وفيها النخل والكرم والرمان والبرتقال والخوخ والموز والبطيخ وفواكه أخرى. وثمرها جيد جداً وأصنافه لا تعد.
ولكن الأرض في وقتنا هذا ليست مستغلة كل الاستغلال، ولا تفي بحاجات أهلها، ويعيش كثير منهم على التجارة، ويعوِّل فقراؤهم على جدوى المسلمين
ويظهر على دور المدينة وساحاتها الفقر. وفي ذمة المسلمين أن يبروا جيران رسول الله وأن يعمروا دار رسول الله. عليهم أن يغدقوا الخيرات، ويمدوا أيديهم للأعمال الدائمة المنظمة من بناء المستشفيات والملاجئ والمصانع والمدارس. وظني إذا استثمرت أموال المسلمين في أرض المدينة وغلاتها، زادت خيراتها أضعافاً مضاعفة ووفت بحاجات سكانها أو كادت.
إن الحرم المدني والمدينة كلها أهلها ودورها ومساجدها وطرقها وساحاتها، كل أولئك يدعو المسلمين إلى التعاون على الخير والاجتماع على العمل الصالح الذي يجعل طيبة بلداً معموراً آهلاً، منسّق الدور والطرق، ميسّر الطعام والشراب، موفور وسائل الصحة والعمل الصالح الذي يجعلها مباءة علم يؤمها بعض الطلاب من أرجاء الأقطار الإسلامية لتؤلف بينهم الثقافة الإسلامية المشتركة، أو تحفزهم إلى خير الإسلام والمسلمين الآراء المتداولة، ويدرسوا تاريخ الإسلام في مواقعه. وليت المدينة تصير مقصد المسلمين من أقطار الأرض يفرون إليها في الحين بعد الحين ليجدوا سلام أنفسهم وطمأنينة قلوبهم وصحة أبدانهم، فيذهب إليها أغنياؤهم وأمراؤهم كلما ملكوا الفرصة للاستراحة قليلاً من ضوضاء الحياة ومفاسدها
لن يبر المسلمون دينهم ورسولهم وأنفسهم حتى تسخو أيديهم بالمال وتجتمع عقولهم وأعمالهم على الإصلاح. والله يهيئ لهم من أمرهم رشداً ويديهم للتي هي أقوم.(288/24)
عبد الوهاب عزام(288/25)
قلت لنفسي. . .
حضر الأصمعي يوماً مجلس الفضل بن الربيع وقبالته فرس مطهم. فقال الوزير لصاحب كتاب الخيل: قم يا أصمعي وأمسك كل عضو من أعضاء هذا الفرس وسمّه، فإذا سميتها أخذته. فقام وأمسك بناصية الفرس وجعل يسميه عضواً عضواً وينشد ما قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه فأعطاه إياه. فهي يا نفس أن الجود والرق لم يُرفعا من الأرض، وأني دخلت يوماً على أمير من الأمراء البهاليل وبين يديه جارية من الغيد الحسان، ترفل في دِمَقس شِكوريل وسمعان، وقال لي هذا الأمير الأديب: إذا سميت ما على هذه الجارية من اللباس، ووصفت ما في هذه الدار من الأثاث، نزلت لك عن الجارية والدار، وزدتك عليهما ألف دينار! فماذا. ترينني يا نفس فاعلاً، وأنا الذي لا تعزب عنه مادة في اللغة، ولا قاعدة في النحو، ولا نكتة في البلاغة؟ ماذا أسمي هذا 4 المائل على الفَوْد الأيسر، أو هذا الماثل على الجبين الأزهر؟ وماذا أقول المزرّر على الصدر المشرق، وهذا المُدَار تحت الثدي الناتئ، وهذا المرسل على الكشح الهضيم، وهذا المفصّل على القدم اللطيفة؟ أنا لا أعرف من غطاء الرأس إلا القناع والخمار، ولا من لباس الجسم غير الملاءة والإزار، ولا من وقاء الرجل غير الحذاء والنعل! فهل تنطبق هذه الأسماء، على هذه الأشياء. أم تكون دلالتها عليها كدلالة الأثاث والرياش على كل (موبليات) البيت، والورد والريحان على جميع أزهار الحديقة، والجهل والعُجمة على كل أدوات السيارة؟!
لا جرم أني سأعجز على أي حال، وسأطلب من رفعت باشا الجارية
والدار والمال!
ابن عبد الملك
في مطلع العام الجديد
بين يدي الله!
للأستاذ علي الطنطاوي
الآن استهل العام الجديد(288/26)
لقد أوشك فجره الأول أن يطلّ على الدنيا، وأنا حانٍ على مكتبي - أفكر منذ ساعات في أشياء لا أستطيع أن أصفها أو أعبر عنها أو أحصيها - والليل ساكن تتردد بين جوانحه أنفاس السحر وأنا أنظر من غرفتي إلى صحن المسجد (مسجد أبي حنيفة في الأعظمية) فأراه مشرقاً بالنور، مترعاً بالجلال، ولكنه خال من الناس. وأنظر إلى صحن المدرسة (دار العلوم الشرعية) وحديقتها الخالية، الحالية بأشجار الموز والنخل والورد والغرفة بينهما لها إلى كل من الصحنين باب. . . أريد أن أكتب (مقالة العام الجديد) فلا تواتيني الأفكار، ولا تتوارد عليَ الكلم، وصدري أغنى بالمعاني منه في الأوقات كلها، ولكن ازدحام المعاني على الفكر، وتكاثر الصور في الصدر، يعيق المرء عن الكتابة كما تعيقه قلّتها، كالذي يريد أن يملأ الكأس من (السبيل) إن كان جافاً أو نزراً قليلاً لم تمتلئ الكأس؛ وإن كان الماء يهدر وينحدر بقوة ويتدفق من فم الأنبوب مندفعاً، تطاير الماء إلى كل جانب، ولكنه لا يستقر في الكأس منه شئ - لأن كل قطرة تطرد أختها - كما تزيح كل فكرة في رأسي الفكرة التي قبلها لتحلّ في مكانها. . .
ولقد طالما وقفت هذا الموقف، ففكرت في الزمان وتفلسفت، وعدت إلى ماضيّ فحزنت، وفكرت في المستقبل فأيست، ثم رأيت ذلك باطلاً كلّه، كله باطل! لا الماضي يعود ولا الحاضر يدوم، ولا المستقبل يأتي. تفنى اللذاذات وتذهب الأحزان، وتمرّ الأيام بنا في طريق القبر حتى نبلغه، فتكون خاتمة المطاف هذه الآلام التي نودّع بها الدنيا، والتي تنسينا كل لذة، وكل متعة استمتعنا بها. . .
ويا ليت الموت هو الغاية!!
إن الموت بداية لذة لا آخر لها، أو ألم ماله من نهاية. . .
فأين نحن؛ وفي أي وادٍ من أودية الضلال نتخبط؟
اللهم إني أتوجه إليك في هذه الساعة لتصلني بك، وتدلني على الطريق إليك، حتى أعرفك فلقد عرفت أن كل شيء سواك باطل!
ما الحياة، ما هذه الفترة القصيرة من الزمان السرمدي؟ وما الزمان في جنب الله الباقي؟ وما الجمال الدنيوي، وما الحب الأرضي؟ وما العلم؟ أليس العلم كلّه إدراك سطر واحد من سفر الوجود؟ وكشف حفنة واحدة من رمال الصحراء؟ فما أجهل العلم إذن بالوجود! وما(288/27)
أحمق العلم حين يرفع رأسه ليتكلم في الموجد وقد خرس عما أوجد، ولينظر إلى الخالق الباقي، وقد عمى عن المخلوقات الفانية!
وهل عرف العلم من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نسير؟
وفكرت في نفسي، وقديماً قال سقراط، وكتبت مقولته على باب المعبد في أثينا: (أيها الإنسان اعرف نفسك) وجاء في الأثر: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وقال الله جلّ من قائل: (وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟) نظرت في نفسي، فإذا هي قد كانت قبل أن أكون أنا، فلم أعرف أولها؛ وكل ما أعلم عنها أني أفقت يوماً من النوم فوجدت طفلاً - أبصرته في المرآة - فإذا أنا أحبه أكثر من أبي وأمي، وإذا أنا لا أفارقه أبداً، فسألت: من هذا؟ فضحكوا وقالوا، هذا أنت، هل أنت مجنون!
وكبر هذا الطفل، أو هذا الذي سمّوه (أنا)، ونظرت فإذا أنا لا أدري من أين جاء، فقلت لعلّي صنعته أنا وأنا لا أعلم، ولكن هذا (الأنا) ليس كما أريد أن يكون، لو صنعته لجعلته أبرع جمالاً، وأشد قوة، وأحدّ ذكاء، وأوسع عقلاً؛ ثم إنه قد وجد قبل أن أكون أنا، وقبل أن أعرفه، وعاش مرحلة في حياته في بقعة لا أعلم شيئاً عنها، ولا أصدق أني كنت فيها، أأنا عشت تسعة أشهر في بطن أمي؟ مستحيل!
فمن أين جاء إذن؟ هل خلق من غير شيء؟
ونظرت حولي أفتش عن هذا الخالق، فرأيت ناساً مثلي، وما هؤلاء بخالقين لأنهم يحتاجون إلى من يخلقهم، وحالهم كحالي، ورأيت جبالاً وبحاراً وكواكب، ولكن ذلك كله جامد لا حياة فيه. فهل يمنحني الحياة وهو لا يملكها؟ هذه هي الطبيعة فهل تخلق الطبيعة شيئاً؟ ثم إن معنى (الطبيعة) - كما تعلمت بعد - أنها (مطبوعة) فأين الطابع؟
فتشت عنه فإذا الإيمان به في أعماق نفسي، لا أدري من أين دخل إليها، ولعلّه من وضع الخالق الذي وضع السمع والبصر في الوجه، والقلب في الصدر، والعقل في الرأس؟ ووجدتني أعود في ساعات الشدة إلى الخالق - الذي يَرى ولا يُرى - أرجوه وأخافه، وأسأله وأعوذ به، ووجدتني أنه لا يشبه شيئاً مما أرى، ولا يحدّه مكان ولا زمان، لأن الزمان والمكان مخلوقات هو خالقها، وأنه قديم باق متصف بكل كمال مطلق، منزه عن النقائض كلها(288/28)
فآمنت به إيماناً لا يزعزعه (بحمد الله) شك!
ولكني لبثت أسأل نفسي:
لماذا خلقت؟ وهل الحياة (تكليف) عليّ أن أحمله، أو أن لي الحق بالتخلي عنها وطرحها؟ فقالت النفس: بل عليك أن تحملها. إنك لست مالك نفسك ولا أنت موجدها، وإنما هي وديعة في يدك، يكافئك صاحبها إن استعملتها في الذي خلقها له، ويعاقبك إن اتخذتها وسيلة إلى لذتك، وأطعت فيها هواك، وحدت بها عن سبيلها
قلت: فما هي الغاية من الحياة، أهي الأكل والشرب واللذة؟
قالت النفس: كلا. هذه أسباب الحياة بها تقوم وتبقى، وليست هي الغاية منها
قلت: أفخدمة الناس ونفع البشر، وأن أتخذ فيهم حسناً، وأبقى فيهم ذكراً، هي غاية الحياة؟
قالت: كلا. إن الناس لا يمكن أن يحيوا للناس، وما خدمة البشر إلا عرضٌ من أعراض الحياة وليست بجوهرها. إن المسافر يحرص على راحته في سفره، فيتخذ خير المركبات، ويبتغي أطايب الزاد، ويصحب خير الرفاق، ولكن للمسافر وراء ذلك كله غاية من سفره، والحياة سفر فإلى أين المسير؟
قلت: لا أدري!
قالت: أعوذ بالله! وهل يتميز الإنسان عن الحيوان إلا بأنه يدرك غاية الحياة؟ أما من يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب، ويلد كما تلد، فهو مثلها أو أضل منها سبيلاً، وإن عاش في باريز أو نيويورك!
قلت: فخبريني أنت ما هي الغاية؟
قالت: لو سألت الجنين في بطن أمه وكان قادراً على الفهم والإجابة: ما هي دنياك، وما هي حياتك، وما غاية الحياة، لقال لك أن دنياه هذه الأحشاء الضيقة، وهذه الظلمة المستمرة، وإن حياته هذه الجلسة المتعبة، وهذا السكون الدائم، وإن غايته. . . . ليس يدري ما غايته!
ولو أفهمت هذه الجنين أن هنا دنيا واسعة، فيها شمس وقمر، وفضاء رحب، وبحر وسماء، وأن غايته أن يبلغها، وأنه سيعرفها ويراها حقاً. . .
لو أفهمته هذا لكذبك وأعرض عنك، لأنه لا يستطيع أن يتخيل إلا ما هو فيه، ولا يقدر أن يتصور ماذا يكون البحر والشمس والقمر؟(288/29)
فإذا جاء إلى الدنيا وصار رجلاً، نسى حياته الأولى وكذب بها وقال: إن هي إلا دنيا فيها نموت ونحيا. . . فإذا خبره الرسل أن هناك حياة أخرى: حياة ثالثة، وأنها هي دار البقاء، وأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن غايته بلوغ تلك الحياة في طاعة الله وعبادته. . .
إذا خبر بها كذب به كذب ذلك الجنين. . .
أفتكذب أنت بذلك؟
قلت: لا
قالت: (فتلك إذن غاية الحياة) أن تتصل بالله وتعبده، وإن تعد نفسك لحياة الخلود
وعادت النفس تقول:
أن غاية الحياة تتحقق كلها في الصلاة. فالصلاة اتصال بالله، واستعداد لحياة الخلود. ثم إنها لذة لا تعدلها إذا أقيمت على وجهها لذة من لذائذ الدنيا، ولذلك عدّها النبي صلى الله عليه وسلم حين عدد اللذائذ: الطيب والنساء والصلاة، ليدل الناس على أنها من جنسها، وأنها راحة للنفس ومتعة، وليست تكليفاً شاقاً، ولا (مهمة) صعبة، وليست الصلاة ركوعاً وسجوداً، ورياضة فان ذلك جسمها، والجسم لا يقوم إلا بالروح، فإذا خلت منها الصلاة كانت صلاة ميتة، لا تنهي عن فحشاء ولا منكر، ولا تشعر بلذة. أما روح الصلاة فهي أنك إذا طهرت أعضاءك بالماء، طهرت نفسك بالتوبة، وذلك هو الوضوء الحق؛ وإذا قمت إلى الصلاة وقلت: الله أكبر، خرجت من دنياك، وارتفعت عنها كمن يرتفع في طيارة، حتى تراها - كما هي في الحقيقة - ذرة صغيرة تافهة. . . ولم تخش عدواً، ولا شغلك حب حبيب ولا ملأ نفسك هم ولا غم، ولا لذة ولا متعة، لأنك تتوجه إلى الله، والله أكبر من ذلك كله، وبيده كل شيء، فأنت كمن يتصل بالوزير أو الحاكم المطلق، (ولله المثل الأعلى) فهل يفكر بين يديه بحاجة له عند موظف صغير، ويشتغل بذلك عن حديث الحاكم أو الوزير؟
فالصلاة تحقيق لغاية الحياة، والحياة لحظات في (الحياة الأخرى)، ولكن هي اللذة التي لا يقدر لغات البشر على وصفها، ولكن الناس يرون منها بروقاً خاطفة في ساعة من ساعات السحر، ولحظة من لحظات العبادة، أو. . . أو سكرة من سكرات الحب، أو عندما يسمعون نغمة، أو يقرءون شعراً. هذه اللحظات هي التي تدلنا على ذلك العالم. هي أشعة ضئيلة من(288/30)
ذلك النور الباهر، تذيق النفس حلاوة الآخرة في الدنيا لتسعى لها، وترغب فيها.
قابل بين هذه اللذائذ الروحية وبين اللذات المادية. . . الطعام والشراب. . . إنك لتشبع فتصير لذة الطعام في نظرك صفراً، والنساء. . . إنك لتتصل بهن حتى تأتي عليك ساعات، ولهن أبغض إليك من كل شيء. على أن هذه الصلة لا تروي غليلاً، ولا تشبع للنفس جوعاً. إن المحبّ ليحس وهو يعانق من يحب ويشد عليها بذراعيه أن بينه وبينها بعد المشرقين، وأنه ليس في الدنيا صلة مادية تطفئ غليل المحب. فيا بؤس من قنع بالحياة المادية، وحرم من لذائذ الروح!
ويا ويح من يفكر بما وراء المادة، وما بعد الحس، يا ويحه! أليس في أثناء نفسه ذكرى؟ أما فيها أمل؟ أليس بين جنبيه روح؟ فكيف ينكر روحه وأمله وذكراه؟ أيجحد ما دليله في نفسه (أفلا تبصرون؟)
وكان الفجر يؤذن، فخرجت إلى المسجد، وللمسجد في ساعة الفجر روعة وجلال وأثر في النفس لا يدركه البيان. ولمسجد أبي حنيفة أوفر نصيب من ذلك، وأشهد أني لم أجد في بغداد كلها مكاناً أحس فيه الاطمئنان وأشعر فيه بالخشوع والتجلي كهذا المسجد، لا لمكان أبي حنيفة منه، فان أبا حنيفة لا يضر ولا ينفع، ولا يكون مؤمناً من يرى فيه ذلك، أو يتخذ من قبره صنماً يعبده ويتمسح به، ولكن الله قد خصّ هذا المسجد بهذه الروح لإخلاص أبي حنيفة الإمام الأعظم، وعلمه وأثره في الفقه الإسلامي، وإجماع المسلمين على محبته وإجلاله!
هنالك عرفت الحقيقة الكبرى في الحياة، فلن أسأل بعد اليوم: لماذا خلقت؟ ولن أعيش في حيرة، فيا رب لا تنسني هذه الحقيقة بترهات العيش، وأحلام الأدب، وضلالات العلم. إن هذه الحقيقة شمس ساطعة، ولكن سحابة صغيرة قد تحجب الشمس عن عيني الضعيفتين. اللهم إني قد فرغت (أو كدت) من شهوة الغنى، وتلك الشهوة الأخرى، فهب لي الخلاص من شهوة الأدب، وحب الشهرة، وغرور الفكر فان ذلك أشد علي. . .
اللهم لك الحمد، وإليك المآب، وأنت الحي الباقي، فصلنا بك، ودلنا على الطريق إليك!
بغداد (الأعظمية)
علي الطنطاوي(288/31)
قصة الرافعي العاشق
تعقيب
للأستاذ محمد سعيد العريان
. . . هذه قصة الرافعي وفلانة، كما رواها لي، وكما يعرفها كثير من خاصته. وإني لأعلم أن كثيراً ممن يعرفونها ويعرفونه سيدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك. وسيقول قائل، وسيدعى مدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلل؛ ولا عليَّ من كل أولئك ما دمت أروي القصة التي أعرفها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير أيُّ تأثير يُرَدُّ إليه أكثر أدبه من بعد. وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان. والسحاب الأحمر، وأوراق الورد. وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد!
على أني مسئول أن أبرئ نفسي أمام قدس الحق؛ فأعترف هنا بأن ما رويت من هذه القصة كان مصدره الرافعي نفسه؛ مما حدثني به وحدّث أصحابه، أو مما جاء في رسائل أصحابه إليه ممن كانوا يعرفون قصته؛ وما بي شك فيما روى من هذا الحديث؛ فما جربت عليه الكذب، ولا كان هناك ما يدعوه إلى الاختراع والتزيد كما يزعم من يزعم؛ ولكنها حقيقة أُثبتها للتاريخ، لعل باحثاً مدققاً يوفَّق في غد إلى إثبات ما أعجز اليوم عن التعليل له.
على أن الرافعي قد أقرأني رسالة أو رسالتين بخط (فلانة) إليه؛ وهما وإن لم تدلا دلالة صريحة على حقيقة ما رويت من قصة هذا الحب. لا تنفيانها كذلك، بل لعلهما أقرب إلى الإثبات منهما إلى النفي؛ والحذر طبيعة المرأة.
ثم إن الرافعي لم يخصّني وحدي برواية هذه الحادثة؛ فإن عشرات من الأدباء في مصر قد سمعوها منه؛ ومنهم من يعرف (فلانة) معرفة الرأي والنظر، ومنهم من كان يغشى مجلسها لا يتخلف عنه مرة؛ ومنهم من كان الرافعي يقصد بالحديث إليه أن يكون بريداً بينهما ينقل إليها حديثة شفةً إلى شفة. وفي الناس بُرُدٌ إن لم تزُد على ما سمعتْ من حديث الحب لم تنقص منه شيئاً! فلو أن الرافعي كان يتزيّد فيما روى لي ولأصحابي من حديث هذا الحب لخشي مغبّة أمره؛ وإن (فلانة) يومئذ ذات جاه وسلطان!(288/33)
وثمة برهان آخر لا يتناوله الشك؛ هو رسالة من رسائلها نقلها الرافعي من كتاب من كتبها المعروفة لا أسميه، إلى كتابه أوراق الورد؛ يزعم أنها رسالة منها إليه في كتاب، جواباً على رسالة بعث بها إليها - وكانت هذه بعضَ وسائلهما في المراسلة كما رويتُ من قبل - وأوراق الورد معروف مشهور، وكتابها معروف مشهور كذلك. ومما لا يحتمل الشك أن تكون (فلانة) لم تقرأ هذه الرسالة في كتاب الرافعي ولم ينبهها أحد إليها. وأبعد من الشك أن تكون قد قرأت هذه الرسالة المنشورة قبل ذلك في كتاب يحمل اسمها ثم لم تفهم ما يعنيه الرافعي؛ ولا شيء وراء ذلك إلا أن تكون قرأتْ، وفهمتْ، وسكتتْ؛ ولا شيء بعدُ إلا أن يكون بينهما شيء يؤيد ما رواه الرافعي من قصة هذا الحب. . .!
على أن اعتراضات ثلاثة توجَّهتْ إلي ما رويت من هذه القصة لا بد من التنبيه إليها: أما أحدها فمن الأستاذ الأديب جورج إبراهيم؛ فهو ينكر عليّ أن أستند إلى هذه الرواية، ويروي لي أنه صحب الرافعي في أولى زياراته لفلانة، وشهد ما كان من تأثر الرافعي وانفعاله وجذْبته؛ ولكنه إلى ذلك ينكر أن يكون بين الرافعي وفلانة صلة بعد هذه الزَّورة، ويصحح ما رويته عن الرافعي - وكان من سامعيه - بأنه حبٌّ من طَرَف واحد، اختلطت فيه مذاهب الفكر ومذاهب النظر فشُبِّه للرافعي ما شُبِّه؛ فما يحكيه هو صورة ما في نفسه لا صورة ما كان في الحقيقة!
فالرافعي عند الأستاذ جورج إبراهيم لم يكذب ولكنه أخطأ التقدير والنظر. وعندنا أن عدم علم الأستاذ جورج بأن صلةً ما كانت بين الرافعي وفلانة بعد الزَّورة الأولى، لا ينفي أن هذه الصلة كانت حقيقةً ولم يعلم بها؛ فحديثه من ثَمّ لا ينفي شيئاً ولا يثبته، ويبقى بعد ذلك ما يستنبط من الرأي على هامش القصة.
وقريب مما يرويه الأستاذ جورج، ما تستنبطه جريدة المكشوف في بيروت، في حديث تناولت به بعض ما نشرنا من قصة حب الرافعي.
وتعقيب ثان توجه به صديقنا فؤاد صروف - محرر المقتطف - على ما رويناه، قال:
(لقد سمعت هذه القصة من الرافعي كما رويتَها؛ فما أشك في صحة ما تكتب، ولكني أسأل: هل كانت (فلانة) تبادل الرافعي الحب؟. . .
(هاك خبراً يدعوك معي إلى هذا السؤال:(288/34)
(في يناير من سنة 1934 (أو سنة 1935) دعتني فلانة إلى مقابلتها؛ فلما شخصتُ إليها رأيت في وجهها لوناً من الغضب فدفعتْ إليّ رسالتين من رسائل الحب بعث بهما الرافعي إليها لأرى رأيي فيهما؛ ثم قالت: ماذا تراني أفعل لأذود عن نفسي؟ أتراني أتقدم في ذلك إلى القضاء؟
قال الأستاذ صروف: (فاعتصمت بالصمت من لا ونعم، وتركت لها أن تستشير غيري؛ ولست أدري ما كان بعد ذلك!)
قلت: وهذه رواية جديرة بأن تذكر - ومعذرة من ذكرها إلى الأستاذ صروف - على أنها لا تدل على شيء في هذا المقام أكثر من أن فلانة لم يكن يروقها في سنة 1934 أن يتحبّب إليها الرافعي؛ فماذا كان أمره وأمرها معه قبل ذلك بعشر سنين؟
أيكون لهاتين الرسالتين اللتين يتحدث عنهما الأستاذ صروف - صلة بما كان في نفس الرافعي من يقين بأنه سوف يلقى فلانة ليصل ما انقطع من حبال الود بعد عشر سنين من يوم القطيعة)
أعني: هل حاول الرافعي - بعد عشر سنين من القطيعة - أن يعيد ما كان بهاتين الرسالتين فلم يصادف قلباً يستجيب لدعائه؟
على أن هذا الخبر - أيضاً - لا ينفي شيئاً ولا يثبته؛ ولكنه يفتح باباً إلى الاستنباط والرأي
ولكنه مما لا شك فيه أن الرافعي لم يكن يعلم شيئاً عن وقع هاتين الرسالتين في نفس صاحبته؛ ولا أحسبها صنعت شيئاً يدل الرافعي على مبلغ استيائها من هاتين الرسالتين، وإلا لما ظل يتعلق بالأمل في لقائها إلى شتاء سنة 1935، وكنت معه لما همّ بزيارتها.
وثمة اعتراض ثالث يعترضه الدكتور زكي مبارك؛ وما كان لي أن أثبته هنا لولا أن أثبته هو في كتاب من كتبه نشره على الناس منذ قريب، ولولا أن أشار إليه في مقالات نشرها في مصر وفي العراق وفي بيروت!
والدكتور زكي مبارك أديب مشهور، ولكن آفته - ولكل أديب آفة - أنه يدسّ أنفه فيما يعنيه وما لا يعنيه؛ وهو قد شاء أن يحشر نفسه في هذه القصة التي لا يهمه منها إلا أن يعلن للناس - والإعلان عن نفسه بعض خصائصه الأدبية - أنه كان يجلس إلى (فلانة) جنباً لجنب في الجامعة المصرية بضع سنين!(288/35)
وليس يهمنا أن يجلس الدكتور زكي مبارك جنباً لجنب إلى فلانة أو إلى نساء الأرض جميعاً - كما يريد أن يتعالم عنه الناس في أكثر ما يكتب - ولكنه يزعم أن ما كتبنا عما كان بين الرافعي وفلانة ليس من الحقيقة في شيء، لأنه كان يجلس مع فلانة جنباً إلى جنب في الجامعة بضع سنين فلم تحدثه يوماً أن حباً كان بينها وبين الرافعي. . . . . . . . .!!
فمن شاء أن يقرأ مثلاً للحجة الواضحة في أدب الدكتور زكي مبارك، فليقرأ هذه الحجة البالغة؛ على شرط أن يكون مؤمناً بأن الدكتور زكي مبارك لا يجلس إلى (فلاناتٍ) ولا يجلس إليه (فلاناتُ) إلا ليحدثنه عما كان لهن من جولات في ميادين الحب ويسألنه عن الرأي والمعونة!
وليدع القارئ بعد ذلك حديث الدكتور عن العري والعراة، وعن (الأديب العريان. . .) الذي روى هذه القصة
وعفا الله عن أهل الأدب!
هذا كل ما تلقيت من اعتراض المعترضين، من أهل الأدب أو من أهل الدعوى؛ وعلى أي الوجوه انتهى رأي الأدباء في تحقيق هذه القصة، فإنه مما لا شك فيه أن الرافعي كان يحب (فلانة)؛ وهذا حسبي؛ فما يعنيني من هذا التاريخ إلا إثبات المؤثرات التي كانت تعمل في نفس الرافعي فتلهمه الشعر والبيان؛ أما هي وما كان منها وحقيقة عواطفها، فشيء يتصل بتاريخها هي بعد عمر مديد!
محمد سعيد العريان(288/36)
للتاريخ السياسي
نتائج اتفاق مونيخ
للدكتور يوسف هيكل
رأت دول وسط وشرقي أوربا، بعد أن زالت السياسة التي بنيت عليها العلاقات الدولية، أن تبني علاقاتها الدولية على أسس جديدة. فأخذت تلتف حول الريخ طلباً لوده واتقاء لنقمته. لأنه ظهر لها أن لا وجود مطلقاً للضمان المشترك. ولا فائدة ترجى من التحالف مع الدول المقاومة للهر هتلر. لأن هذه الدول لا تقوى على مد يد المساعدة لحليفتها. والدول القائلة بهذا القول تضرب مثل تشيكوسلوفاكيا لإثبات صحته.
وفي الواقع أن تشيكوسلوفاكيا نفسها قد غيرت سياستها الخارجية وأخذت تقترب من ألمانيا. فأدلى الجنرال سيروفي رئيس حكومة براغ تصريحاً قال فيه: (إن مبادئ سياستنا الخارجية واضحة جلية، وهي أن تكون علاقاتنا ودية مع جميع العالم لا سيما مع جيراننا. ويجب علينا التعاون معهم إذا أردنا أن نعيش بسلام وطمأنينة). وقد ذهبت إحدى الجرائد التشيكية إلى أبعد من ذلك قائلة: (إن أوربا الوسطى أزيلت من الوجود، وإنه يجب علينا حتى في علاقاتنا التجارية نفسها ألا نعمل مع أية كتلة تضعنا ضد ألمانيا، أو أن ندرك أن الهر هتلر والسنيور موسوليني أقوى من فرنسا وبريطانيا، فالهر هتلر يكسب المعارك معركة بعد معركة طبقاً للنظرية الواردة في كتابه كفاحي).
ولتحقيق سياسة التقرب مع ألمانيا، وتنفيذاً لرغبة الهر هتلر، استقال الدكتور بنيش من رياسة الجمهورية التشيكوسلوفاكية في أكتوبر (تشرين الأول)؛ وألغى تدريس اللغة الفرنسية في مدارسها كلغة إجبارية، واستعيض عنها باللغة الألمانية. فرحبت ألمانيا بذلك، وأخذت تساعد على إيجاد علاقات ودية بين الحكومتين
وانتشار نفوذ ألمانيا في تشيكوسلوفاكيا يضع في يدها مفتاح باب الدانوب، ويفتح أمامها باب أوربا الشرقية والشرق الأدنى. وقد قال في 4 أكتوبر (تشرين أول) إرشيبالد سنكلر زعيم الأحرار المعارضين (إننا سنعيش حتى نبكي اليوم الذي باعت بريطانيا فيه الحرية في أوربا الوسطى، وفتحت طريق توغل ألمانيا في أوروبا الشرقية)
وعملياً أخذت ألمانيا تنشر نفوذها في أوربا الشرقية وفي الشرق الأدنى، فزار الدكتور(288/37)
فونك وزير الشؤون الاقتصادية الألمانية بلغراد وأنقرة وسوفيا. فعقد مع حكومة يوغوسلافيا اتفاقية تجارية جديدة، وقال بصددها إن ألمانيا في وضعية تمكنها من شراء نصف منتوج يوغوسلافيا، ومن مساعدتها على إكثار منتوجها بتقديم الآلات والمال لاستثمار المعادن. وبالإضافة إلى ذلك فإن في إمكان ألمانيا دفع أسعار مرتفعة لما تبتاعه، والمحافظة على مستوى هذه الأسعار، لأن نظامها الاقتصادي أقيم بصورة لا تؤثر عليه الأزمات. وقد أكد الدكتور فونك أن ألمانيا الآن أعظم بلاد العالم إنتاجاً بفضل نظامها السياسي. وأضاف قائلاً أن ليس في الإمكان تفريق السياسة الاقتصادية عن العامة.
وقد لقي الدكتور فونك استقبالاً حاراً في أنقرة، ونجح فيها نجاحاً باهراً، إذ عقد اتفاقاً مع الحكومة التركية أقرضتها ألمانيا بمقتضاه 150 مليون مارك (ما يقرب 13 مليون جنيه إنجليزي) لشراء الآلات الصناعية والأدوات الحربية، على أن تسدد بعد عشر سنوات. وقد أدهش ذلك الاتفاق الدوائر الدبلوماسية، لأنه في مايو السابق فقط اقترضت الحكومة التركية ستة عشر مليوناً من الجنيهات من الحكومة البريطانية.
وبعد تركيا زار الدكتور فونك بلغاريا وتباحث مع حكومتها للوصول إلى تحسين العلاقات الألمانية البلغارية التجارية. وقد قبل دعوة رومانيا واليونان لزيارة بلادهما، وفي نيته زيارة إيران وأفغانستان، غير أنه أرجأ ذلك إلى وقت آخر. ودول البلقان ترحب بتحسين علاقاتها التجارية مع الريخ، لأنها تعتقد أن تجزئة تشيكوسلوفاكيا أزالت كل مقاومة للمصالح الألمانية في أوربا الشرقية. والعلاقات التجارية المنيعة تولد الصداقة السياسية، والنفوذ الاقتصادي يوجد النفوذ السياسي.
وقد صرح الهر فونك في حديث له مع مندوب جريدة (برلين تسيتونغ) (أن في جنوب أوربا الشرقي وآسيا الصغرى كل شيء تحتاج إليه ألمانيا تقريباً. ولهذا لا يمكن أن توجد دولة أخرى قادرة على أن تشتري منها ما تشتريه ألمانيا. ونظراً لأهمية نهر الدواب لجنوب أوربا الشرقي، يجعل من هذه البلاد منطقة اقتصادية ممتدة من بحر الشمال إلى البحر الأسود، والدول القائمة فيها تستطيع أن تكون متممة إحداها للأخرى). وهذا التصريح يرمي إلى تحقيق الحلم الألماني السابق للحرب العالمية؛ حلم (همبرك - بغداد).
وتقول جريدة (آسن ناشونال زيتيغ) في عددها الصادر في 12 أكتوبر (تشرين أول) إنه(288/38)
(إذا أصرت إنكلترا وفرنسا على مواصلة جهودهما للاستيلاء على جانب من التجارة تعده ألمانيا بحق أنه من نصيبها فإنها ستكون بعد عام أو عامين، أي بعد أن تتم تحصيناتها على الحدود الغربية، في مركز يساعدها على أن تعلن أنها وحدها صاحبة النفوذ الاقتصادي في جنوب شرقي أوربا)
هذا، ولا تنحصر نتائج اتفاق مونيخ في علاقة ألمانيا مع دول جنوب شرقي أوربا، بل تتعداها إلى وضعية الدول الكبرى ومجرى سياستها.
وفي مونيخ تلاشت عصبة الأمم، وذهبت البقية الباقية مما كان لها من تدخل في الأزمات الدولية؛ وتحققت فكرة السنيور موسوليني من حل المشاكل الدولية بواسطة (مؤتمر رباعي)؛ تلك الفكرة التي توافق عليها بريطانيا وفرنسا عام 1933، بل أصرتا حينئذ على وجوب حل الخلافات الدولية ضمن دائرة عصبة الأمم. وفي مونيخ عقد المؤتمر الرباعي لحل المشكلة التشيكوسلوفاكية، دون إعلام عصبة الأمم به، ودون اشتراك الروسيا فيه، فكان ذلك نصراً أدبياً سياسياً للسنيور موسوليني اتخذ منه دليل كبير على بعد نظر زعيم إيطاليا وعلى قدرته السياسية في إيجاد الأسس لتسوية المشاكل الأوربية.
وفي ذلك المؤتمر تحققت رغبة هتلر وموسوليني في عزل الروسيا عن شؤون أوربا فأصبحت الروسيا في عزلة سياسية لها نتائجها السيئة في أوربا. لأن من شأن هذه العزلة إضعاف موقف فرنسا الدولي، وبالتالي إضعاف موقف فرنسا الدولي، وبالتالي إضعاف مركز بريطانيا العظمى، مما يشجع الهر هتلر على السير في تحقيق مطامعه الواسعة
وفي مونيخ انهارت سياسة سلامة فرنسا. فزالت قوتها في تشيكوسلوفاكيا وخسرت حلفاءها وأصدقاءها في بلاد البلقان وشرقي أوربا. فكانت فرنسا الدولة الأولى التي تكبدت أكبر الخسائر ولحق بها أعظم الأضرار من جراء اتفاق مونيخ. وكأن هذا الاتفاق كان موجهاً ضدها. وزيادة على ذلك فقد حاول الهر هتلر في مونيخ تحقيق أعز آماله عليه، وهو إبعاد بريطانيا عن فرنسا لتتم عزلتها ويزول سلطانها الدولي. وهو لم يواجه هذه المسألة وجهاً لوجه، بل أتاها من طريق غير مباشر، فوقع المستر تشمبرلين تصريحاً مفاده: (إنهما ينظران إلى اتفاق مونيخ وإلى الاتفاق الإنكليزي الألماني البحري، كرمز إلى رغبة شعبيهما بألا يحارب قط الواحد الآخر. وإنهما متأكدان على أن التشاور سيكون الطريقة(288/39)
المتبعة في حل المسائل الأخرى التي تتعلق ببلادهما) وتقوية لهذه السياسة ألقى السير توماس أنسكيب، وزير الدفاع الوطني خطبة في 12 أكتوبر (تشرين أول) قال فيها: (إنني أعتقد أننا سائرون في الطريق المؤدية إلى إنشاء علاقات ودية مع الشعب الألماني العظيم في وسط أوربا. وأثمن هدية نستطيع تقديمها إلى عالم متزعزع أهوج هو السلام بيننا وبين ألمانيا). ومن شأن هذه السياسة تمكين الهر هتلر من تحقيق مطامعه. لأن القوة الوحيدة في أوربا التي تجعل الهر هتلر يفكر قبل العمل على تحقيق مطامعه الواسعة هي جيش فرنسا العظيم تسنده القوى البريطانية، وتفريق هاتين القوتين بعضهما عن بعض يعوق الجيش الفرنسي عن العمل، ويمكن الهر هتلر من تحقيق ما يريد
وما يريده الهر هتلر أمر عظيم خطير، يشرحه (كتاب النازي المقدس) وتجمله جملة منه إذ يقول زعيم ألمانيا (إنه ليس من الضروري، مهما كانت النتائج، اللجوء إلى الحرب، إذا أريد حقاً الوصول إلى السلام. وفي الحقيقة أن الفكرة الإنسانية والإنشائية ربما تكون جيدة في اليوم الذي يقهر فيه الرجل المتفوق على الجميع، العالم ويسود ويصبح وحده سيد الدنيا. الحرب أولا وربما بعدها السلام).
وهذه الجملة واضحة جليلة، ترى أن الهر هتلر يطمح إلى سيادة العالم سيادة أوربا فقط. وقد مكن اتفاق مونيخ الذي كان أعظم نصر حازه الهر هتلر زعيم ألمانيا من أن يكون الرجل الأول في أوربا والمتفوق على جميع ساستها؛ ومن أن يبدأ في نشر نفوذه عليها وسيادته لها.
يستغرب المرء تسليم فرنسا وبريطانيا العظمى في مونيخ، ويجعله يتساءل كيف سلمت فرنسا بمعقلها في وسط أوربا، ولنفوذها السياسي في جنوبي أوربا وشرقيها؟ فهدمت بذلك ما بنت خلال العشرين سنة الماضية، وخسرت حلفاء وأصدقاء، وسهلت وضعهم تحت النفوذ الألماني! وكيف قبلت بريطانيا اختلال التوازن الدولي؟ ذلك التوازن الذي كانت دائماً وأبداً تبذل الجهود وتدخل الحروب في سبيل المحافظة عليه.
هذا ما نبينه في المقال المقبل.
يوسف هيكل(288/40)
من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة
أخي الأستاذ الزيات:
السلام عليك ورحمة الله، وبعد فإني أحمد الله إليك وأستعينه وأسأله لك التوفيق والسَّداد. أبيت أيها الرجل إلاّ كرماً من جميع نواحيك، فما كدت تستقبل العام السابع من عمر (الرسالة) حتى عُدْتَ عليّ بفضل من ثنائك وحسن ظنك، فذكرت (العصور) ثم أثنيت فأغنيت.
لقد وافتني كلمتك، وأنا بعد أنفض عن يديّ غبار (العصور) وأتخفف
من أثقالها التي حملتها راضياً غير كاره، لأنقلب إلى هذه الغرف
العزيزة التي نشأت في حجور الشيوخ من سكانها أستخبرهم علم ما
أجهل، وأستنبئهم أخبار ما مضى، لأستوحِيَ الظن فيما يستقبل، وأجدد
بعاديِّ قوتهم قوة النفس التي لا تهدأ ولا تنام.
لا بد من كلمة - أيها الشيخ الجليل - وقد كان الصمت أولى بي وأحبّ إليّ. لا بدّ من كلمة أعتذر بها للذين استقبلوني بفرحة المحبّ أمتع باللقاء على غير ميعاد. فأنت تعلم أني اليوم عزمت على إصدار (العصور) لم أكن قد أعددت لها من مال إلا ما ادخرته في نفسي من جهد أعوام طالت في معاناة العلم والأدب، وبقية من خلق ضننت بها أن تذيع في أطرافها ونواحيها مهزعات العصر الحديث التي صرّفت الأخلاق في وجوه الغي والضلال، وأطلقت دنيات الغرائز من عقال الشرائع، وأرسلتها ترعى حمى أبى الله ورسوله أن يكون مرعى لمن آمن بالله واليوم الآخر.
ولكن لا بد من مال مسكوك معترف به، مصدّق على الاعتراف به من (محافظ البنك الأهلي)، وإن قليل ما عندي من هذا المال لا يغني غناءه في عمل أوله استهلاك بغير نتاج وأنت أخبر بهذا الأمر. فلم يبق إلا الصديق الذي يعين على نوائب الحق. . . فبدأنا إصدار (العصور) يعولها الجد من قبلي، والعون من قبل الأصدقاء الكتاب من أصحاب مذهبنا، والمدد من (جيب) الصديق الذي أبدى بشاشته، واستظهرها بعاجل البر، وسرنا على اسم الله. فما كان إلا كلا ولا حتى قلت كما قال الأول:(288/41)
سعتْ نُوَب الأيام بيني وبينهُ ... فأقلعن مِنَّا عن ظلوم وصارخ
فإني وإعدادي لدهري (محمداً) ... كملتمس إطفاء نار بنافخ
وأبيتْ أن أخفض عن نفسي أو أرُدّ غلواءَها، فرددتُ المالَ إلى صاحبه غير منقوص ولا مهتضم. وقلتُ إن أمراً قضاهُ الله لا بُدّ له من تمامٍ وأجلٍ، وما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكنْ. وخيرُ الأمر أن ألجأ إلى الله ثم أستعين بما عندي على قضاء الحق الذي يقتضيه ما أقررت به على نفسي، وما أقررتها عليه في كلمة العدد الأول من (العصور). فلم أبخل ولم أتراجع، وأقدمتُ على إصدار العدد الثاني مستبشراً مؤملاً راجياً معتمداً على ثقتي بالله، ثم ثقتي بحسن التقدير الذي لقيته. فلم يلبث أن لقيَ العدد الثاني من (العصور) حفاوة الناس في كثير من بلاد العربية؛ ولكن هذه الحفاوة المستبينة في بيع مجلة - تكاليفها أكثر من دخلها بهذا البيع - لا يمكن أن تكونَ هي الرُّقية التي تجذب إلى رقاب المال من كهوف (البنك) فأجويها وأروضها وأتصرَّف فيها تصرُّف الناس فيما هُمْ به (ناس)!!
وقلت: عسى أن يقضي الله لأمر ضاق بالفرج، وتوجهت بقلبي إلى الله، وبوجهي إلى من أتوسم فيه سمة (الخزانة) المعدة لاحتجان المال. ولكني وجدت القفل بعد القفل على الخزانة، وافتقدت المفتاح الذي يتسنى له كل مغلق. إن هذا المفتاح ليس عندي، ولستُ أملكه، وما احسبني أرتضي - بعد أن جرَّبتُ - أن أملكه أو أَحوزه. إنه لا يملكه إلا من قدّم رهينةً، والخُلُق لا يُعترف به في باب الرَّهائن، ولستُ أملكُ غيره؛ فلا رهينةَ، أي لا قَرْضَ ولا معونة. وإنه لا يملك المفتاح بعدُ إلا اللصُّ الذي يلين له ما أعضل من قُفْل غُلِق وأنا بحمد الله لم أُخْلَق على طبيعة السارق بل سُوِّيتُ على هيأة المسروق، كلّ من شاء أن يأكلني أكلني؛ قد رضيتُ أن أحوطَ جوهري بالعَرَضِ المُضيَّع.
ومع ذلك فقد أعددت العدد الثالث للطَّبْع، وتصرَّفتُ في وجوه التدبير، ثم وُفّقت إلى من أرضى عنه ويرضى عني. . . ولكن أبى خُلُق الدُّنيا معي أن يتم جميل تستودعينه، أو معروف ترّببه عندي. فرجعت عَودي على بدئي راضياً عن الله شاكراً لله واثقاً بالله، أستعينه وأستحفظه، واشكره ولا أكفره.
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير مُتَّهم
وأنا لا أزال أقول: يَصنَعُ الله، يَصنَعُ الله، إن لله تدبيراً يصرّفنا به كيف شاء إلى مواقع(288/42)
علمه ومنازل حكمته. وأنا مذ كنت، كنت مطية القدر حيثما وجّهني استقبلت المضيقَ والطريقَ بنَفس مسلمةٍ وجهَها لله، بأن الزمّامَ في يد الله
فإن تسأليني، كيف أنتَ! فإنني ... صبورٌ على ريبِ الزمانِ صليبٌ
يعزُّ عليَّ أن تُرى بي كآبةٌ ... فيشمتَ عادٍ أو يُساَء حبيبُ
وعلى ذلك فأنا منتظرٌ، و (العصور) إلى جانبي تنتظِر! وشكر الله لك، وجزاكَ خَيْراً من صديق.
محمود محمد شاكر
(الرسالة) تألم الرسالة أشد الألم أن يثبط هذا القلم البارع وهذا الفكر الرشيد مثبطات المادة، وتدعوا الله مخلصة أن يلهم أهل المال معونة أهل العلم حتى لا تتخلف (العصور) عن صفها في الجهاد إلا ريثما تواتيها العدة. وعسى أن يضن القراء بهذه الثروة الأدبية على الضياع فيعينوها على الصدور بأسلاف الاشتراك.(288/43)
كلمات لهوجو
للأستاذ عبد الكريم الناصري
- 1 -
* البراءةُ أعلى من الفضيلة. البراءة جَهْلٌ مقدَّس
* في استطاعة الأسنان أن تُبصر، كاستطاعة العيون أن تَعَض
* للطيش حقوقه، ولكنه له حدوده أيضاً
* قد تدلّ الابتسامة على الموافقة. . . ولكنّ الضحكةَ - في الغالب - رَفض
* في بعض الأحايين تكون الثانوية أصعب من الأولية. وهي حينئذ تقتضي عبقرية أقل وشجاعةً أكثر. فالأول قد تُسكره الجِدَّة غير المنتظرة، وتبلبل فكره وتهيج حماسته، فيجتاز الهوَّة وهو جاهل بالخطر؛ ولكن الثاني يرى الهوة ويندفع نحوها.
* ما التاريخ؟ صدىً من الماضي في المستقبل؛ انعكاسٌ من المستقبل على الماضي.
* البخيل أعمى، فهو يرى الذهب ولا يرى الثروة. المتلاف أعمى، فهو يرى البداية ولا يرى النهاية. المستهترة في الحب عمياء، فهي لا ترى الخطوط والغضون. العالِمُ أعمى، فهو لا يرى جهله. الشريف أعمى، فهو لا يرى اللص. اللص أعمى، فهو لا يرى الله.
* ما البتولة إلا الأملُ في الأمومة
* للخوف درجة ينقلب فيها الإنسان رهيباً يملأ القلوب رعباً. إن الذي يخاف كل شيء لا يخاف شيئاً. مثلهُ حقيقٌ بأن يضرب (الاسفنكس) حقيقٌ بأن يتهددّ (المجهول) ويتحدّاه.
* الحسد مادّة صالحة لصنع الجواسيس. فإن بين تلك العاطفة الطبيعية - الحسد - وبين تلك الوظيفة الاجتماعية - الجاسوسية - لشَبهاً عظيماً. غير أن الجاسوس يصطاد لغيره، كالكلب. أما الحسود فيصطاد لنفسه، كالقط.
- 2 -
* إن للدور لأرواحاً
* الفنُّ هو فرع الطبيعة الثاني
* الفنُّ طبيعيٌّ كالطبيعة(288/44)
* الطبيعة، منفاضةً إليها الإنسانية، مرفوعةً إلى القوة الثانية، تنتج الفن.
* الجلال هو المساواة. الفكر الإنساني هو الممكن الذي لا حد له.
* للفكر الإنساني ذروة. هذه الذروة هي المثل الأعلى. اللهُ يهبط إليها، والإنسان يرتفع. . .
* (أنا) الإنسان الواحد أوسعُ وأعمقُ من (أنا) شَعْبٍ بأسره.
* المثل الأعلى - مطبقاً على الحقائق الواقعة - هو المدنية
* من ميزات العبقرية اتحاد الملكات المتباعدة أشد التباعد فيها
* في الدنيا شيء يُقال له: غَضَبُ الوضاعة.
- 3 -
* الموت من شأن الله وحده. فبأيّ حق يَمَسُّ الناسُ ذلك الشيء المجهول؟
* المجتمعُ يغلق بابه - في غير رحمة - دون طبقتين من الناس: الطبقة التي تهاجمه، والطبقة التي تدافع عنه.
* ليس الموت بشيء. إنما المخيفُ ألاّ نعيش.
* إذن فلنهجمْ.
لنهجم، ولكن لنميز أولاً. إن صفةَ الحقيقة المميزة أنها لا نعرفُ الإسراف أبداً. وما حاجتها إلى الغلو والإسراف؟ هنالك أمورٌ يجب هدْمها، وأمورٌ أخرى يجب تبيُّنها وفحصها فحسب، فما ينبغي لنا - إذن - أن نحمل اللهب حيث يكفي الضوء وحده.
* ليس أخرقَ من طلاب النصر والغلبة؛ إنما المجد الحق في الإقناع.
* كل شيء قابل للنجاح، حتى النحو والصرف!
* الفرح انعكاس الرُّعب.
- 4 -
* لا بد لكل فكرة من غطاء منظور. لا بد لكل مبدأ من سكن ومأوى؛ فالكنيسة هي الله بين أربعة جدران؛ لا بد لكل مذهب من معبد.
* أنا كالأقيانوس؛ لي مدي وجزري؛ ففي الجزر تبين مواضعي الضحلة، وفي المد ترى أواذي وأثباجي.(288/45)
* المجتمع هو الطبيعة في حلة من الجلال.
* حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية فرد آخر، وفي هذا السطر ينطوي قانون المجتمع البشري كله.
* التفريق بين الهياج المنبعث عن الطمع، وبين الهياج المنبعث عن المبادئ، ومحاربة الأول ومساعدة الثاني: في ذلك تستقر عبقرية كبار القادة الثوريين، وقوتهم وسلطانهم.
* إن للنفس عقيدة في النور.
* أريد الحرية في الفكر، والمساواة في القلب، والأخوة في الروح. كفى! كفانا عبودية ورقاً! ما خلق الإنسان ليجرر السلاسل، وإنما خلق لينشر أجنحته. . .
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(288/46)
استخبار صحفي (ريبورتاج)
أبو الهول يتكلم!
اكتشافات أثرية هامة
(لمخبر الرسالة)
للأستاذ الأثري سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار اكتشافات كبيرة القيمة من الناحية الفنية والتاريخية فهو الذي أماط اللثام عن سر أبي الهول كما كشف كثيراً من الآثار التي وضحت لنا النواحي الاجتماعية في عصر الأسرتين الرابعة والخامسة. وقد زرناه في بيته الصحراوي بجواز أهرام الجيزة فوجدناه منهمكا في إعداد كتاب قد تزيد صفحاته على خمسمائة صفحة عن حصر الفرعونية.
وقد سمح لنا أن نشاهد حفرياته الحديثة، ونقدم إلى قراء الرسالة أخبار هذه المكتشفات التي غيرت كثيراً من النظريات التاريخية.
خرافة الكتابة.
(كانت هناك خرافة تقول بأن أهرام ملوك الأسرة الرابعة خالية من النقوش والكتابات، وقد ظلت هذه الخرافة قائمة إلى سنة 1938 إذ ثبت خطأها في 28 نوفمبر الماضي فقد وجدنا صورة الملك خوفو باني الهرم الأكبر منقوشة بالحفر البارز على أحد أحجار معبد الهرم الجنائزي كما وجدنا رسوماً ونقوشاً أخرى).
بهذه العبارة أعلن سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار عن اكتشافاته العظيمة القيمة التاريخية والفنية.
وبهذه العبارة وهذا الاكتشاف هدم كثيراً من النظريات، كما قضى على كثير من المؤلفات التي تناولت هذا الموضوع بالبحث والتحليل. فقد لاحظ علماء الآثار خلو أهرام ملوك الأسرة الرابعة من النقوش والكتابات، مخالفة بذلك مقابر أشراف الأسرة وكهنتها الذين ذكروا كثيراً من حوادث عصرهم وعادات قومهم. فاستنتجوا أن ملوك هذه الأسرة توخوا في مقابرهم أن تكون من العظمة والضخامة بحيث تنطق بجلائل أعمالهم وتتحدث عن حالة الرخاء في عهودهم. ولذلك ظهرت الأهرام بضخامتها التي ما زالت حديث العالم دون(288/47)
أن يظهر على جدرانها نقش واحد يدل على أسماء أصحابها.
الحلقة المفقودة.
ولكن هذا المنطق لم يرق لسليم بك، إذ كيف يذكر اسم الملك في مقابر الحاشية ولا يذكر في مقبرته هو؟ أضف إلى ذلك ما ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت، فقد قال إنه زار الأهرام ورأى نقوشاً على مبانيها؛ وبذلك تأكد لعالمنا المصري أن حلقة أثرية ما زالت مفقودة، وأن كثيراً من أسرار الهرم في الرمال مطمورة. . .
وبحث ونقب فوجد أن كل هرم له معبدان أحدهما جنائزي وهو إلى جوار الهرم من الناحية الشرقية، والثاني معبد الوادي وهو يبعد عادة عن المعبد الجنائزي بطريق. وعلى هذا الأساس بدأ أبحاثه فتوصل إلى الدليل القاطع بعد أن نقل رمال الصحراء من منطقة تزيد مساحتها على مائتي فدان. ففي الجانب الشرقي للهرم الأكبر وجد في معبده الجنائزي في 28 نوفمبر قطعة من الحجر الجيري الأبيض نقش عليها رسم الملك خوفو وهو يلبس تاج الوجه البحري، كما عثر على قطعة أخرى عليها رسم الملك وهو جالس على عرشه يحتفل بمرور ثلاثين عاماً على توليه العرش. وبهذه الأدلة القاطعة هدم النظرية القائلة بعدم وجود نقوش.
ويتكون المعبد الجنائزي من مساحة واسعة تقع شرق الهرم الأكبر وأرضها من حجر التولوريت الأسود الذي أحضره الملك من الفيوم. وقد نحت إلى جوار المعبد ثلاثة مراكب رمزية يستعملها الملك بعد عودته عندما يتمثل إله الشمس في طوافه حول الأرض. واثنتان منها توازيان الهرم وطول إحداهما 55 متراً وطول الثانية 50 متراً، ويختلف المركب الثالث عن سابقيه وهو فريد في نوعه. لأن الوصول إلى قاعه يكون بدرجات كثيرة مما لم يشاهد في المراكب الأخرى. وقد كانت جدران هذه المراكب مغطاة بالحجر الجيري الأبيض الذي وجدت آثاره في المنطقة. وينتظر أن يكشف رفع الرمال التي تغطي تلك المنطقة عن كثير من المعلومات والآثار. ويطمع علماء الآثار أن يجدوا تمثالاً للملك خوفو الذي لا يوجد له تمثال في كل متاحف العالم غير التمثال الصغير الذي وجد في العرابة؛ وقد وجدت تماثيل ولكنها محطمة.
كيف رفعوا أحجار الهرم.(288/48)
وهناك اكتشاف آخر يكشف عن كثير من مقدرة قدماء المصريين، فإن كثيرين يظنون أنهم كانوا يرفعون الأحجار الضخمة إلى مواضعها بجرها على مستويات مائلة. وكلما تم بناء طبقة رفع المستوى المائل إلى أن يتم البناء كله فيزال ما حوله من مستويات. وقد عثر سليم بك على بكر ضخم مصنوع من الجرانيت الغرض منه رفع الأثقال ونقلها، وهذا يدل على انهم كانوا يستعملون الآلة الرافعة كما نفعل الآن.
سر أبي الهول.
وأدت الحفريات الحديثة شرق الهرم الثاني إلى كشف كثير من غموض أبي الهول حتى أصبح في حكم المقرر أن الملك خفرع باني الهرم الثاني هو الذي أمر بنحته في الصخر. وذلك لما يشاهد من اتفاق فن البناء في معبد أبي الهول والهرم. وقد وجدت حول أبي الهول أكثر من 200 لوحة أهداها إليه كبار الزوار عندما كانوا يحجون إليه مما يدل على ما كان له من مكانة مقدسة.
وكلمة (أبو الهول) محرفة عن كلمة (بوحول) وهي لفظة إسرائيلية معناها (مكان حول) و (حول) إله محلي في فلسطين. فلما نزل الإسرائيليون بأرض مصر أقاموا في جوار أبي الهول وعبدوه بدلاً من أحد آلهتهم لما بينهما من تشابه. وبمضي الأعوام صحف لفظ (بوحول) فأصبح (أبو الهول). أما اسمه الفرعوني تبعاً لنصوص أقدمها يرجع إلى الأسرة الثامنة عشرة فهو (حر أم آخت) ومعناها (هوراس الذي في الأفق). وحرفه اليونان إلى حرماخيس. ويقول سليم بك (إن الإسرائيليين أقاموا في تلك المنطقة مدة طويلة، وإنهم تركوا مصر إلى الشام من طريق بجوار الأهرام، وما زالت قرية الحرونية تحتفظ باسم الهرم إلى الآن).
فن القدماء.
وبكشف مقابر كبار موظفي الأسرتين: الرابعة والخامسة. أميط اللثام عن كثير من غوامض التاريخ، فمن مقبرة (نتربو) يمكننا أن نعرف ترتيب ملوك الأسرة الرابعة. كما بينت المقابر الأخرى أن أولاد خفرع ليسوا أربعة فقط بل هم خمسة عشر ولداً وبنتاً.
أما من جهة الفن فقد وجدت في هذه المنطقة تماثيل كثيرة حافظ فيها الفنان على تصوير(288/49)
وجه صاحبه بكل ما فيه من عيوب، لأن المصريين اعتقدوا بخلود الروح والحياة الأخرى، كما اعتقدوا أن الروح تزور جثتها. ولذلك وجب حفظها بالتحنيط، وزيادة في الاحتياط رأى المصري القديم أن يلجأ إلى مادة أصلب وأقوى على مقاومة الدهر وعبث الأيدي بدلاً من جثته الهشة فنحت التماثيل لتزورها الروح إذا فقدت الجثة أو تلفت. ولذلك وجب أن تكون الصورة صورة أصلية من صاحبها حتى لا تضل الروح عنها إذا أرادت زيارتها.
وكثرة هذه التماثيل أو قلتها ترجع لسطوة الميت وغناه؛ ففي مقبرة (رع ور) مثلاً وجدت بقايا 120 تمثالاً. ويلاحظ أن تماثيل الأغنياء كانت دائماً تمثل الترف بأجلى صوره، فإذا كانت لصانع دقق الفنان في إبراز التفاصيل فيبدو كل شيء على طبيعته. فترى آثار الجهد على وجه الخباز أو العجان حتى أصبحت تلك التماثيل قطعاً حية تقود الفنان الحديث.
زيارة الأحياء للموتى
وليست زيارة الأحياء للموتى بنت اليوم، ففي مقبرة الكاهن (فيفي) سرداب به حجرة لها نافذة صغيرة أعدت ليطل منها الناس فيرون تمثال الكاهن وإلى جانبيه زوجته وابنه وابنته فترى في عينيه نظرة الاطمئنان وكأنه ينظر إليك. كما ترى جلد الذكور ملوناً بلون أحمر بينما جلد الإناث أبيض. وحتى الملابس والعقود لم ينس المثال أن يصبغها بألوانها الطبيعية التي مازالت ثابتة حتى الآن. فإذا زرت التمثال فقد زرت أصحابه. وليست هذه المقبرة هي الفريدة في نوعها بل إن الحفريات كشفت عن ثلاث مقابر بها هذه الظاهرة
ومن كشف مقابر الأشراف في تلك المنطقة عرفنا كثيراً من عادات القدماء وحياتهم الاجتماعية من سمر وغناء ورقص، ففي مقبرة (كاجوا) كاهن الملك خفرع نجد (أوركسترا) كاملاً مكوناً من ستة أزواج من الموسيقيين، ويتكون كل زوج من شخص يلعب على آلة موسيقية كالمزمار أو الناي أو القيثار وشخص آخر يصفق له تلك التصفيقة التي مازلنا حتى الآن نصفقها إذا حركت إحساسنا أوتار الموسيقى البلدية
ولأول مرة نجد فوجين من الراقصين والراقصات تتوسطهم راقصة عارية، وهي ظاهرة لم تعرف من قبل النقوش الفرعونية. وهكذا لم يترك الفراعنة شيئاً إلا وضعوا هم بذوره ليتبعهم العالم الحديث في جده ولهوه.
ولم يكن كشف هذه الآثار والوصول إلى هذه الحقائق من الأمور الهينة فقد احتاج إلى(288/50)
عزيمة قوية وصبر طويل ومجهود جبار. فقد استمرت الحفريات برياسة سليم بك عدة سنوات نقلوا خلالها مقادير كبيرة من الرمال، ففي كل يوم كانت العمال تنقل ألف متر مكعب أو أكثر من الرمال، فإذا عرفنا أن العمل كان يستمر ثمانية أشهر في كل سنة قدرنا كم من المجهود احتاج إخراج هذه الآثار إلى عالم المرئيات
وإنه لمن شقاء مصر أن تطغى الأعمال المكتبية على كل شيء وتفسد على العلم كثيراً من الجهود الناجحة حتى يقول سليم بك حسن: (إن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أني قبلت منصب وكيل مصلحة الآثار)
(الشتوي)(288/51)
رسالة العلم
لماذا أحاول تصوير العالم وفق الآراء الحديثة
للدكتور محمد محمود غالي
صحيح أن كل أفعالنا وحركاتنا الخاصة بحياتنا اليومية أو اتجاهاتنا الشخصية متعلقة بأحكام لا يمكن للعلم أن يكون الأساس المباشر للتصرف فيها. فإن العلوم كما يقول ريشنباخ لا تجيب أبداً على السؤال الآتي: (ماذا يجب أن أفعل؟) ومع ذلك فإن هناك اتصالاً بسيكولوجية بين درجة معرفة الرجل للعلوم وموقفه إزاء المشاكل التي تعترضه في الحياة وتقديره لبعض المسائل، وإننا نلاحظ أن كل المذاهب الفلسفية أو علم الأخلاق تبدأ بنظريات في العلوم ذاتها، نظريات تتعلق في العادة بصورة من صور العالم، والمتأمل يجد علاقة بين الاكتشافات العلمية الكبرى وأعمالنا أو نوع تفكيرنا. خذ مثلاً انقلابنا في التفكير الفلسفي من جراء اكتشاف كوبرنيك لدورة الأرض حول الشمس، هذا الاكتشاف الذي يذكر الأستاذ محمد مختار عبد الله في إحدى مقالاته الممتعة بجريدة الأهرام في العام المنصرم أنها اكتشافات بدأت من أيام العرب. ولست بصدد أن أناقش أصل الاكتشاف ونصيب كل عهد فيه ولا التحديد من موجة الرجوع عندنا بكل شيء لعهد العرب، وإنما أذكر أن الفكرة في ذاتها خارجة وغريبة عن أعمالنا اليومية - عن علاقتنا سواء بالأشياء أو الرجال أو مظاهر الحياة.
أن تدور الأرض حول الشمس، أو تدور الشمس حول الأرض، فإن هذا قد يُظن من موضوعات الفلك أو من موضوعات الترف في المعرفة. ولكن لنا أن نتأمل الناحية الفلسفية ونتأمل النتائج المترتبة عليها؛ وأولى هذه النتائج أن الأرض ليست هي جوهر العالم وما هي إلا سيار صغير جداً بين كثير من السيارات تدور كغيرها حول الشمس، وهذه الأخيرة أي الشمس ما هي إحدى إلا إحدى ملايين الشموس المماثلة وليست من أكبرها؛ وهذه الملايين تكون عالماً، وهنالك الملايين من ملايين العوالم المماثلة يتكون منها الكون. هنا وقف المرء مخذولاً في تفوقه أمام الظواهر الطبيعية؛ وهنا يتضح له شيء من العلاقة الدقيقة بين الإنسان وبين الأرض التي تحويه وبين الوجود، فالمعرفة العلمية لها أثرها على مشاعرنا وتصرفاتنا، وهذا هو الذي يحدو بالقارئ إلى تتبع مثل هذه المقالات.(288/52)
إن التفصيلات العلمية بعيدة عن حياتنا اليومية ولكن لمعرفة النتائج والإلمام بالصعوبات التي اعترضت العلماء - أثرها في حياتنا الشخصية.
لذلك لم يتأخر علماء أعلام مثل فابري أستاذ الطبيعة بالسوربون وعضو المجمع العلمي الفرنسي وريشنباخ وغيرهما أن يكتبوا سلسلة من المقالات في المجلات الأسبوعية أو الشهرية أو في الكتب المبسطة. والأخير من كبار الأساتذة السابقين في ألمانيا الذين تنتفع الآن بمعلوماتهم جامعة (استنبول) وتحويهم تركيا الجديدة التي اقتنعت أن بين الذين شتتهم الظروف السياسية في العالم اليوم مواهب يمكن الاستفادة منها.
صحيح أن الشخص العادي لا يعنيه معرفة الظروف التي حدث بباستير إلى اكتشاف ميكروبات الأمراض المختلفة مثل الكلب والحمى الفحمية بقدر ما يعنيه المصل أو الطريقة المعدة للعلاج؛ وقصة اكتشاف كالمت لعلاج الدفتيريا لا تهم الجمهور بقدر ثقتهم اليوم بأن للدفتيريا مصلاً للوقاية منها، بل إن الشخص العادي لا يهمه دوران الإلكترون حول نفسه وحول مركز الذرة بقدر ما يهمه النتائج والانتصارات الفعلية للكهرباء.
ولو أن العالم صورة صادقة لما نراه في حياتنا اليومية. ولو أن مجموعة المعارف التي نُطبقها تمثل لنا صورة صحيحة لهذا العالم لما كان إلا شيئاً كالأشياء المادية التي تحيط بنا، أشياء تتأثر بالقوانين الطبيعية البسيطة التي درسها معظمنا في المدارس الثانوية أو العالية كانتشار الضوء في خط مستقيم وغير ذلك. فالمواد في هذا العالم البسيط حديد وخشب وحجارة نستخدمها لعمل الأدوات والآلات، وتجد أن المادة في هذا العالم البسيط تكون صلبة أو سائلة أو غازية كما أننا نجد فيه الحرارة والبرودة والصوت، بل تجد أيضاً الكهرباء التي لا نراها ولكنها تدخل في كثير من حاجاتنا. هذه الظاهرة ينسى الكثيرون أن يحاولوا تصورها، وكل ما نعلمه أنها تتولد من آلات خاصة وأنه من الممكن نقلها بالأسلاك. وفي هذا العالم البسيط يجري ترام وأمنيبوس، ويقهر الأرض فيه قاطرة وتحلق طائرة وتتعالى أصوات الآلات في المصانع، وتتدافع الأشخاص بالمناكب في مدن مكتظة، وتزدهر الحقول بفعل الفلاح وفعل الجو والماء، وتجري الأنهار وتقام عليها الجسور، وغير هذا على هذه الأرض السيارة والتي نشعر بما فيها وعليها بحواسنا الخمس: السمع والبصر واللمس والذوق والشم ويهيمن عليها وعي وتدبير يطلقون عليهما العقل، وفي هذا(288/53)
العالم البسيط تعلونا سماء زرقاء في مصر ملبدة بالغيوم في غيرها، حيث تجري الكواكب في مجراها، وكل هذا العالم غارق في بحرين كبيرين: الزمن والحيز، هذان البحران أصبحا موضع عناية الباحثين والعلماء المدققين. الزمن والحيز، عاملان نعتقد أننا جميعاً نعرفهما أو هما في غير حاجة لدراسة معينة فقد ألم بأمرهما كل من أتيحت له الفرصة أن يجلس على مقعد بالمدرسة.
هذه الصورة البسيطة للعالم والتي عللها العلماء لنا بقوانين بسيطة سواء في الميكانيكا أو الطبيعة أو الكيمياء لم تعد بسيطة كما عهدناها.
ففي جو التفكير العلمي انقلاب شديد لم يشعر به الرجل البعيد عن الجامعات ومعامل البحث. وشعر به العلماء والجامعيون المشتغلون، والواقع أننا لو انحرفنا قليلاً عن الأوضاع البسيطة التي ذكرناها والأوصاف التي قدمناها وأردنا أن نعرف للعالم صورة أدق من الأولى صورة تنطبق على الآراء العلمية الحديثة، فلا مادة حسب التفكير الأول البسيط، بل إن المادة جسيمات صغيرة جداً في حركة دائمة، وهذه الكوبة المملوءة بعصير البرتقال مثلاً أو الماء الصافي تمثل مجموعة من ملايين الأجسام المتحركة، فهي شبه مجموعة من النحل حول خليتها في حركة دائمة، فكما أنه ليس هناك سطح معين لمجموعات النحل حول الخلية، فإنه لا سطح معيناً للماء في الكوبة بل مجموعات من الجسيمات هنا وهناك تعد بالملايين.
وفي هذا العالم الذي نعيش فيه والمملوء من هذه الجسيمات المتحركة لا ضوء هناك ولا لون ولا صوت، فكل هذه مظاهر لا تختلف إلا بعدد في الذبذبات والتردد؛ فالذي نسميه مادة أو ضوء ما هو إلا كهرباء، بل لا فارق بين الطاقة والمادة، ويمكن القول اليوم أن الاثنين شيء واحد، بل المادة نفسها كهرباء والكهرباء مادة
على أن قوانين هذا العالم المضطرب تختلف حسب صورته الجديدة اختلافاً كبيراً عن الأشياء التي تعودناها في حياتنا اليومية والتي لم تظهر القوانين التي نعدهما صحيحة لنا إلا لأنها متوسطات للقوانين الحقيقية للعالم على صورته الجديدة.
هذا الاختلاف في صورة العالم ومظاهره قد تعدى كل شيء حتى إن القوانين العادية الخاصة بالزمن والمسافة التي تحكم هذا العالم تختلف اختلافاً مبيناً عن التي تعلمناها في(288/54)
المدارس، فالحيز الذي اعتدنا أن نتصور فيه طوبة أمحوتب، هذه الطوبة التي نستعملها اليوم لبناء منازلنا، هذه الطوبة ذات الطول والعرض والارتفاع، هو حيز معوج؛ والمثلث الذي اعتدنا أن نعتبر مجموع زواياه تساوي قائمتين، هو في الواقع ليس كذلك؛ والخط الذي اعتدناه مستقيماً يلتف في النهاية حول نفسه، بل إن الزمن ذاته يحمل في طياته أغرب القضايا بعدم التعيين أو المعرفة، ويتبين لنا ذلك إذا حاولنا أن نحدد زمنيّاً حادثين بعيدين الواحد عن الآخر.
فتبيان هذه الموضوعات وسرد قصة العالم بالتقرب ما أمكن من حقيقته تكون اليوم مجموعة من المعلومات الثقافية ذات الأثر في تكوين الفرد وتفكيره وحكمه على الأشياء.
هذه المجموعة الجديدة تختلف كل الاختلاف عن الصورة التي عهدها القارئ لهذا العالم التي ترتسم في ذهننا بما نراه وما اعتدناه وتعلمناه. على أن المهم في ذلك أن هذه التطورات العلمية الأخيرة التي تلزمنا كما سنرى أن نعامل الأشياء بقوانين مختلفة، كان لها تأثير في عالم الاكتشاف والاختراع مما سيكون له أثر على الجيل القادم.
ليس من السهل أن نطالب كل امرئ بتصديق كل هذه التطورات العلمية الجديدة دفعة واحدة وبدون سابق شرح، لهذا عمدت إلى هذه المقدمة التي نوهت فيها على قدر الإمكان ببعض الموضوعات التي سأتناولها
وكأني أشعر بالقارئ يسائل نفسه كيف وصل العلم لمثل هذه القضايا والتفسيرات الجديدة التي تجعله يتشكك في أبسط الأشياء، في الخط المستقيم الذي اعتاد اعتباره كذلك، في فضاء أقليدس ومحاوره الثلاثة، الذي كان نتيجة طبيعية لتصوره. كيف وصل العلم لهذه التفسيرات الجديدة التي ظاهرها غريب شاذ ولا تدل عليه أعمالنا اليومية؟ ألا تكون ضرباً من التخمين والاجتهاد العلمي الذي يراد به تفسير بعض الظواهر ولن يلبث العلماء حتى يعودوا إلى النظريات القديمة؟ ألا تكون الحال كالصور الحديثة عندما زهد الفنانون في إخراج صورة خالدة مثل (الجيوكوندا) من عمل (ليورناد دي فنسي) فمثلوا لنا وجه المرأة بدائرة داخلها نقطتان، والشجرة بخط أو خطين
ولكني أجيب القارئ أن الأمر ليس كذلك، فليس الذي يدفع بالعلماء لهذه النظريات الجديدة هو حبهم للتخمين، رغبة في جديد وهجر لقديم؛ وبينما يعرف الفنان أن الإقبال على فنه(288/55)
موقوف إلى حد ما على التغيير وترك القديم للحديث، فليس هذا شأن العالم، غذ أنه مثل الرجل العادي على حد سواء يسعى دائماً لتبسيط المسائل وليس له مصلحة في التعقيد. والواقع أنه إذا كان قد وصل الآن إلى مثل هذه الصورة المقعدة للعالم فان ذلك لأنه أراد أن يعرف للعالم حقيقته ويتوغل نحو المعرفة لأقصى الحدود.
على أنه في هذا المجهود الذي يقترب فيه رويداً رويداً من حقيقة الكون وسر الوجود والذي يرسم لنا فيه صورة للعالم أكثر انسجاماً من صورته الأولى، يعمل لتقدمنا إلى الأمام كجنس سوف يختلف فيه الإنسان القادم عن الحالي، كما اختلف الإنسان الحالي عن القردة.
ألم نكشف النار وظلت تجهلها القردة؟ ألن نصنع لأنفسنا طوبة أمحوتب وظلت في الكهوف؟ ألم نكشف أخيراً الكهرباء وإشعاع المادة وتهدم الذرة؟ ألم نعرف القاطرة والطائرة، والتلفون والتلغراف، والمصباح وأنبوبة النيون، والراديو والتلفزيون؟
لقد كلفتني هذه المقدمة والتفكير في المقالات التي تليها قراءة عشرات الكتب وحضور الكثير من المحاضرات فطالعت دي بروي وبران وفابري ومليكان وسودي وإدنجتون وجن ومارسل بول وريشنباخ وغيرهم ممن حاولوا بجانب أعمالهم العلمية أن يقوموا بدور تبسيط العلوم. وقد اعتزمت أن تكون مقالاتي أكثر في التبسيط من هؤلاء، ولكني أرجو ألا أذهب في التبسيط إلى الحد الذي تُقتل فيه الموضوعات وتتهدم فيه فائدة القراء. ولا أدري ماذا كان وقع هذه الكلمات على القراء، فهم أدرى بها مني، وهم الذين يقدرون إن كان هذا التبسيط كافياً. ولا تظن بعد ذلك أنني سأتحدث في المقال القادم في أول درس في الزمن حسب ما يراه إينشتاين، أو الحيز حسب ما يفهمه ريمان، أو أحدثك عن كون يتمدد وفق آراء (دي ستير) وملاحظات هبل أو أدخل بك في الذرة وتهدمها اليوم تحت معاول العلماء مما سيكون موضوع أحاديثي القادمة، ولكني أرجو أن تسمح لي أن أتمم هذه المقدمة التي آمل أن يكون منها فائدة، فأتحدث أولاً عن الطريقة التي يشتغل بها العلماء. ما هي منابعهم؟ ما هي طرائق العلم الحديث؟ فأفرق بين العلم النظري والعلم التجريبي.
وفي هذا سأنتزع كل ما أمامي من الكتب والمؤلفات فأدعها جانباً لأني وقد قضيت زهرة العمر في المعامل، وفي معامل البحث يصح أن أتحدث عن الوسائل الحديثة التجريبية، وأفرق بين عالم التخمين وعالم الحقيقة، وأدل القارئ - كيف يسيطر العلماء اليوم على(288/56)
حالة التقدم.
فإذا انتهيت من هذا في المرة القادمة يصح أن نجول معاً بعد ذلك في الكلام عن الحيز ثم الكلام عن الزمن فنكون قد اشتركنا معاً في أول درس حقيقي من دروس الفلسفة الطبيعية.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون(288/57)
هجرة الأسماك
بقلم رضوان محمد رضوان
الهجرة ظاهرة غريبة تشاهد في المملكة الحيوانية على وجه العموم، وهي ترى بوضوح في الأسماك، وكذلك في الطيور.
وتهاجر الأسماك لغرض التناسل، فمنها ما يهاجر من النهر إلى المحيط للبحث عن مكان تبيض فيه، والمثل المعروف لهذا النوع من المهاجرة هو ثعبان السمك.
فمن المشاهدات العديدة، وجد أن ثعابين السمك لا تتكاثر أصلاً في الأنهار التي تعيش فيها كبقية الأسماك النهرية، إلا أنه بالرغم من ذلك توجد منها كميات كبيرة لا تقل في سنة عن أخرى، وكذلك توجد منها أفراد كبيرة وأخرى صغيرة؛ وشوهد في نفس الوقت أن الثعابين الصغيرة تصعد من المحيط إلى النهر. أما الكبيرة فترحل من النهر إلى المحيط.
وعلى ذلك اتجه الرأي إلى أن الثعابين ترحل من النهر إلى المحيط للتناسل، وفعلاً أثبتت المشاهدات أنه لا يتم نمو الثعابين - ويكون ذلك في سن الخامسة أو السادسة - حتى تتحين وقت الخريف، وتترك النهر في جماعات هائلة متجهة إلى مصبه، فإذا أمسى الليل، وكان البحر هائجاً، تنزل إليه وتعوم بنشاط عجيب، وتبتدئ بذلك رحلتها القريبة، فتمر من بوغاز جبل طارق إلى المحيط الأطلنطي، وتعبره إلى جزائر برمود شمالي بحر السرجاس والتي تبعد عن شواطئ الولايات المتحدة الأمريكية بنحو ألف كيلومتر.
وقد اصطيدت حيوانات مختلفة في مناطق متعددة أثناء هذه الرحلة الطويلة، فوجد أن الغدد التناسلية تكون أقرب إلى البلوغ والنضج كلما قربت الحيوانات من بحر السرجاس مما يدل على نموها طول فترة السياحة.
تقطع إذاً الثعابين آلاف الكيلومترات لكي تصل إلى جزائر البرمود بسرعة 20 - 30 كيلومتراً في اليوم، فإذا ما انتهت إلى مكانها المقصود، تبيض الأنثى كمية كبيرة من البيض تبلغ المليون، وقد تزيد على ذلك، ثم تفرغ الذكور الحيوانات المنوية في الماء، وبهذه الطريقة يتم إخصاب البيض.
وحين يفقس البيض وتخرج منه اليرقات، تبدأ سياحتها راجعة في نفس الطريق الذي سلكه أبواها من قبل، وتتغذى في طريقها بالحيوانات المائية الدقيقة(288/58)
أما مصير الأبوين بعد وضع البيض وتلقيحه فأمر مجهول تماماً إلا أن بعض العلماء يرجح موتها كما هي العادة عند بعض الحيوانات.
وعندما تعبر اليرقات المحيط إلى النهر تصل إليه في أوائل الشتاء ويعيش جزء منها بقرب مصبه، وهذه تكون في غالب الأحايين ذكور المستقبل والتي تعيش في أعالي النهر تكون الإناث. وتستغرق الثعابين في رحلتها هذه حوالي العامين.
وهناك نوع من الأسماك يهاجر من البحر إلى النهر مثل السمك الأوربي المعروف باسم (حوت سليمان) فهو يهاجر في جماعات كثيرة العدد فينزل البحر الذي يعيش فيه في أواخر الخريف وأوائل الشتاء ويتجه نحو النهر مفترساً ما يصادفه من الأسماك الأخرى، وله مقدرة غريبة على السباحة في النهر ضد التيار، كما أن لديه القدرة على القفز متخطياً بذلك أي انحدار يصادفه في مجرى الماء، وقد وصلت إحدى قفزاته إلى ارتفاع ثلاثة أمتار فوق الماء
وفي الأنهار التي بها سدود تعترض طريقه، والتي يتعذر عليه أن يقفز من أسفلها إلى أعلاها، فكر كثير من العلماء في إنشاء بناء مائل على هيئة السلم بجانب السد ينحدر عليه الماء من أعلى السد إلى أسفله، وبذلك يتاح لحوت سليمان أن يتابع سيره بدون أدنى صعوبة
فإذا ما وصل إلى مصب النهر يصوم عن غذائه وحينئذ تبتدئ الغدد التناسلية في التضخم والنضج
ولقد شوهد أن الحيوان يختار في رحلته هذه الأنهر السريعة الجريان المتدفقة المياه، ولذلك فهو يفضل دائماً أن يرحل إلى الأنهر الأوربية في أوائل الشتاء حيث تهطل الأمطار بشدة وتزداد سرعة المياه في الأنهار لدرجة كبيرة
وتبين أن الحكمة من هذا الاختيار هو أن ماء الأنهر السريعة الجريان يحتوي على كمية كبيرة من غاز الأكسجين المذاب، فإذا ما احتوى اللتر من ماء المحيط على 6 س و3 م من الأكسجين المذاب نجد أنه دائماً يتجه إلى الأنهار التي يحتوي اللتر من مائها على 8 س و3 م أو أكثر من غاز الأكسجين، كما أنه في أثناء صعوده إلى النهر يتخير دائماً الأفرع الغنية بالأكسجين إذ أنه شديد الحساسية لهذا الغاز(288/59)
فإذا ما وصل إلى منبع النهر تكون الغدد التناسلية قد تم نضجها فتبيض الأنثى عدداً عظيماً من البيض ثم يلقح الذكر البيض وبذا يتم إخصابه.
وبعد ثلاثة أشهر يفقس البيض يرقات تتطور وتنمو كل واحدة منها إلى سمكة صغيرة تعيش في مكان أبويها مدة تقرب من السنتين ثم تهاجر من مكانها من النهر إلى المحيط حيث كان مقر أبويها من قبل وهي تسلك في ذلك نفس الطريق الذي سلكه الأبوان في رحلتهما الأولى
تلك كلمة موجزة عن رحلة بعض أنواع السمك، يتساءل الإنسان بعدها ما الحكمة أو ما الدافع الذي يحدو هذه الحيوانات أن تترك موطنها وتهاجر في رحلة شاقة معرضة لأشد الأخطار وكان الأحرى بها أن تبقى حيث نشأت فتتناسل وتتكاثر في أمان.
لم يعثر العلم بعد على تفسيرات شافية لهذه التنقلات العجيبة، وكل فرض قيل في هذا الباب هو من قبيل التخمين ليس إلا؛ فلا زال الإنسان يعترف بجهله أمام هذه الظاهرة الغريبة، إلا أن العلم قد أثبت بصفة لا تحتمل الشك أن هذه الهجرة صفة وراثية يكتسبها الأبناء عن الآباء، يدل على ذلك أنه عند قيام الثعابين السمك الأمريكية التامة النمو بسياحتها من الأنهار إلى المحيط فإن يرقاتها لا ترجع إلا إلى الأنهار الأمريكية التي تربى فيها أبواها فلا يوجد ثعبان السمك الأمريكي في أنهار أوربا ولا في أنهار أفريقيا؛ وكذلك الحال مع الثعبان الأوربي والأفريقي، كل يسلك سبيلاً مرسوماً لا يحيد عنه قيد أنملة، هو السبيل الذي سلكه أبواه من قبل.
رضوان محمد رضوان
بكالوريوس في العلوم الزراعية(288/60)
رسالة الفن
تأريخ الفن
للدكتور أحمد موسى
2
وعندما ظهر مؤلف فردرش كرِسْت وزميله جيزنر عن الفن القديم، كان مكان اجتماعهما أشبه شيء بأكاديمية للفن التقى فيها الكثيرون من أهل العلم والفضل من أولئك الذين كانوا يقرؤون كتب الفرنسيين منذ ساندِرت لعدم وجود غيرها من المؤلفات القيمة (والحديثة نسبياً) بغير اللغة الفرنسية.
وعلى رأس هؤلاء الأفاضل يوهان يواخيم فنكلمان الذي إليه يرجع الفضل الأكبر في توجيه العقل الألماني إلى وجوب معرفة الحضارات القديمة ودراستها، إذ بها وحدها يمكن إيجاد أسس النهوض ووسائل التوجيه المنتج وتحسين الموجود وإمكان الابتكار، كما كان له فضل عظيم في إيجاد الدراسات الجامعية المنظمة لعلم الآثار وتاريخ الفن.
وإلى جانب هذا الرجل يجب التنويه برجلين هما هيني وليبرت كما نذكر فون هاجدورن وهاينكن وفون شتوخ، الذين عملوا جميعاً على ازدهار هذا العلم بدافع من أنفسهم في كل إخلاص وصدق.
ومن أهم ما نذكره في مضمار تاريخ الفن القديم على وجه الخصوص تلك الحفريات الموفقة التي أجريت في بومبي بالقرب من نابولي في أواخر القرن الثامن عشر وفي هركولانوم وكذلك الأعمال الأثرية المساحية التي قامت بها البعثة الإنجليزية في أثينا برياسة ستيوارت وريويت والتي ترتب على النتائج الباهرة التي وصلت إليها وما أوجدته من روائع الفن خلال الحفر أن تحول الميل من البحث في روما إلى البحث في بلاد الإغريق عن كل ما تحويه أرضها من كنوز يزداد الإعجاب بها والولوع بدرسها كلما ازداد العثور على شيء من محيطها الهائل. فأصبح ميل العلماء شديداً، كل في مادة تخصصه، إلى الهيلينزم أو الثروة الإغريقية في منطقة هيللاز.
عندئذ ولكثرة ما عثر عليه بدأ الأفراد العارفون يجمعون التحف، وبدأت الحكومات تشجع(288/61)
على أعمال الحفر وتشرف عليها وتأخذ نصيبها مما وجد، وكان ذلك النواة الأولى لإيجاد المتاحف العامة.
ونحن وإن كنا نعلم تمام العلم أن باريس كانت القلب النابض للآثار وتجارة العاديات بالنظر إلى ما جلبه نابليون؛ إلا أن ظهور نتائج الحفريات في روما وفي بلاد الإغريق ووصول أهم ما وجد في أثينا على مرتفع أكر وبوليس من أعظم ما رأت العين من نحت الرخام وأعمال التصوير والحفر التي جمعها البارون إلجين والمجموعة الرائعة التي تمثل الفن الأجيني إلى مونيخ، ومجموعة منحوتات أفاريز معبد برجامون التي تمثل الفن البرجاموني أحسن تمثيل إلى برلين كل هذا قاسم عظمة باريس وجعل من هذه المدن مدارس للفن ولدراسته العليا.
وبتأسيس المعهد الأركيولوجي في روما (1829)، وما قام على تأسيسه من إنتاج هائل ونشاط بديع، وبإيجاد معاهد أركيولوجية لبلدان أخرى - إلى جانب الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1666 - فإن هذا مما ساعد كثيراً على إيجاد المواد العلمية لتاريخ الفن الذي لا يقتصر على ما هو قديم؛ بل يتناول كل إنتاج ففي أياً كان عصره، إلا أن الطريقة التي يسلكها في التسجيل والنقد والتقدير والتأريخ للقديم لا يمكن أن تكون مشابهة لتلك التي يستخدمها للفن المعاصر الذي شوهه ذوو الأغراض والعجزة المدعون ممن يعتمدون على تشجيع غير الدارسين، وعلى دعاية الصحافة التي تدعي حرية الفكر والعمل، لأسباب جوهرية سنذكرها في مقال خاص بفلسفة الفن الحديث
ولقد ظهر بعض الصور المحفور أصلها على لوحات من النحاس - مثّلت روائع العمارة، وأول هذه على ما نذكر، ما أخرجه جون فيليبيا في كتابه 1687. وكذلك أندريه فيليبيا في كتابه: 4 1705. اللذان سلكا فيهما مسلكاً نقديّاً علميّاً للإنتاج الفني الحديث، وكان للكتاب الأول صدى مهد السبيل لترجمته إلى اللغة الألمانية (طبع بهامبورج سنة 1711).
أما تأريخ الفن المتوسط، ولا سيما فن البناء، فقد ظهر الاهتمام به في إنجلترا أولاً وكان هذا في أواخر القرن الثامن عشر.
وفي ألمانيا اشتغل فريق من العلماء بتأريخ فن التصوير الألماني القديم (نسبيّاً) على رأسهم(288/62)
فواسيريه وفون كوانت وفرانس كوجلر وهيدلوف؛ وكان لإنتاجهم ونقدهم صوت مسموع، جعل من الفنانين تلامذة يقدرون الفن القديم (نسبيّاً) ويقتبسون منه ويسيرون على ضوئه ويعملون على إحياء ما بلى منه؛ فظهر أثر الفن المتوسط لا سيما الفن الرومانتيكي.
وظهر في فرنسا مثل هذا الاتجاه على أيد فاضلة نسجل بعضها كفواليه لي دوك ولابورد وشابوي ودوسوميرار ودالي وبالوستر، وظهر في أسبانيا كافيدا، وفي إنجلترا ستريت، وبوجين وجوتر وفرجسون. وكانت النتيجة لهذا المجهود الشامل أن تأرّيخ الفن الوسيط تأريخاً جامعاً كاملاً. وهنا استطاع المؤرخ الفني المستقل أن يربط بين هذه التآريخ بعد التمهيد وتم الأمر في النهاية بوضع تاريخ الفن المتوسط على الأسس الحديثة.
ولتأريخ الفن الإيطالي في عصر النهضة قصة، فجو إيطاليا حبب الرحيل إليها، وجمال الفن الإيطالي لفت النظر إليه، هذا إلى جانب قيمة استقلال البلاد مما يبعد عنها الدهماء من الأجانب فلا يلتقي فيها سوى أهل العلم والفضل من مختلف الأمم؛ فاهتم فريق منهم بتأريخ فن عصر النهضة الإيطالي، ولا نزال نذكر جوتييه وبرسييه وفونتان وليتاروبلي. وكتاب (أبحاث إيطالية) لمؤلفه رومور (طبع برلين في ثلاثة أجزاء 1827 - 31) من خير ما ألّف لهذا العصر، ففيه تناول المؤلف طريقة النقد الفلسفي للفن. وعلى منواله نسج كل من بورشاردت الألماني ولانسي وكفالكاسيل وموريللي الإيطاليين وكروا الإنجليزي، وهؤلاء جميعاً ولا شك أئمة مؤرخي الفن المحدثين.
وفي نفس المرحلة الزمنية كان قد بدأ فريق من علماء هولندا بالاشتغال بتأريخ الفن أمثال شابس وإيمرتسيل وغيرهما؛ على حين اشتغل باسافان وفاجين بمشاهدة التراث الفني وتأريخه على أساس النقد المقارن، واجتهدا في إيجاد صلات وروابط فنية بين إنتاج الأمم المختلفة وطناً المتشابهة إنتاجاً، نتيجة لتشابه الموقع الجغرافي العام وتشابه الوسط الأوربي والعقلية والثقافة التي كانت تحيط بها العقيدة الدينية إحاطة كاملة
إلى هذه اللحظة لم تكن المؤلفات الحديثة عن تأريخ الفن العام قد ظهرت بعد، ولم يكن بد من العمل على إيجادها، فتكاتف لحسن الحظ فريق من علماء الألمان - كسابق تكاتفهم في مضمار تأريخ الفلسفة - على إخراج مؤلف شامل؛ فظهر في الأفق كتاب (شنازة) وبعده بقليل كتاب (لوبكه) وبعده الكتاب القيم (لأنطون شبرنجر) وقسمت الكتب إلى عصور(288/63)
والعصور إلى مراحل والمراحل إلى شعوب فكان منها تاريخ الفن القديم بما فيه تاريخ فن ما قبل التاريخ، وتاريخ الفن المتوسط وتاريخ الفن الحديث، هذا فضلاً عن تقسيم الإنتاج الفني نفسه إلى عمارة ونحت وتصوير وفنون رفيعة وموسيقى وغيرها
وكان للتصوير الفوتوغرافي قيمة في المساعدة على إخراج الكتب مزوّدة بصور الإيضاح التي يعتمد عليها تاريخ الفن كل الاعتماد والتي بدونها يفقد المؤرخ الفني أهم مادة من مواد درسه، حتى لترى بعض الجامعات تشترط على طالب تاريخ الفن والآثار الدراية التامة بالتصوير الفوتوغرافي الذي بدونه لا يتم له العمل.
وظهرت معاجم ودوائر معارف للدراسات الفنية والآثار ننعم بها، فضلاً عن المجلات الخاصة وعن تقارير أعمال الحفر والاستكشاف الخ.
وكان للتقدم الباهر في علم الجيولوجيا قيمته وأثره في تاريخ الفن وعلم الآثار كما كان لتقدم دراسة الأنثروبولوجيا أكبر الأثر في تحديد الإنتاج الفني لكل شعب.
من كل هذا نرى أن تأريخ الفن والكتابة فيه وتناوله بالنقد ليس بالأمر اليسير وليس مما يباح في البلاد المحترمة لغير المتخصصين.
أحمد موسى(288/64)
رسالة المرأة
المرأة اليونانية
للآنسة زينب الحكيم
المرأة اليونانية الحديثة المتعلمة
زرت إحدى دور الآثار يوم الجمعة 5 من أغسطس سنة 1938. والدخول إليها بأجور مرتفعة للأجانب وزهيدة جداً للأهالي
بناء الدار فخم، أمامه حديقة كبيرة منسقة. رتبت محتوياتها وجلها من التماثيل الكبيرة والصغيرة، والآنية الخزفية، والغازات المنوعة الأشكال والمادة، وكذلك الحلي، رتب كل هذا بنظام علمي تاريخي وفني ملحوظ، مما يجعل الزائر يشعر بعد تركه الدار أنه استفاد شيئاً قيماً. فإن بساطة مظاهر الحجرات إنما يرفع القيمة العلمية التي امتازت بها درجات.
لا يوجد بالدار عمال كثيرون، ولا موظفون؛ والذين يتولون الشرح للزوار علماء وعالمات بالعاديات.
وكان يلتف حول كل شارح وشارحة جماعة يفهمون اللغة التي يشرح بها، فرأيت جماعة من الألمان، وجماعة من الإنجليز انضممت إليهم، وجماعة أخرى يشرح لها بالفرنسية، وجماعة رابعة تشرح لهم سيدة يونانية باللغة اليونانية.
كان صوت هذه السيدة مرتفعاً إلى حد مزعج، شوش على جميع المتفرجين، كما ظهرت عليها سمات الغرور، وعدم المبالاة مع أنها فتاة في ريعان الشباب أنيقة الهندام جميلة الوجه، عالمة بدليل أنها تتولى الشرح لعاديات بلادها. إذن كان من أول واجباتها أن تكون أيضاً مثقفة مهذبة بمعنى أن تتذكر تطبيق ما تعلمته من آداب الحديث والاجتماع عملياً وهي في طور اليقظة وإلاّ فمن شب على شيء شاب عليه. على أن هذه الناحية من النقص قد لحظتها بين كثيرات من السيدات اليونانيات المتعلمات.
المرأة اليونانية في بيتها
زرت بعض الأسرات اليونانية الكريمة في بيوتها، وكان من بين هذه الأسر، أسرة كاتب شهير، وكذلك زوجه كاتبة ذائعة الصيت.(288/65)
زرتها أول مرة، فلم تكن السيدة موجودة لارتباطها بموعد سابق، فقابلني زوجها في حجرة مكتبه - وقد تبينت أنه رجل مهذب، يمتاز بسجايا الرجل الجنتلمان. أطنب كثيراً في مدح زوجته؛ مما دل على حسن تقديره لها واعتماده عليها، إذ قال: إنها ذراعه اليمنى في إخراج المراجع التي يحتاجها من المكتبة
قدم لي تحية الزيارة. . . قهوة، ولكن وضع معها على الصينية صحناً به مربى، وحوله ثلاثة أكواب بها ماء مثلج، ووضعت على كل كوب ملعقة صغيرة. استفسرت منه عن كيفية السلوك الذي يجب أن أسلكه؟!
قال: هذه عادة يونانية. يؤكل جزء من المربى ويشرب بعض الماء البارد ثم تشرب القهوة. بعد قليل ودعت الرجل وانصرفت على أن أحظى برؤية زوجه في الزيارة الثانية.
وفي اليوم الذي سبق تحديده ذهبت لزيارة هذه الأسرة ثانية، وجلسنا هذه المرة في حجرة مكتب السيدة الزوجة، وبعد التعارف وحضور حمى الزوج أيضاً، قالت الزوجة: تريدين معرفة شيء عن الحركة الاجتماعية في اليونان؟ قلت: نعم، وأريد أن أعرف كذلك شيئاً عن الحركة التعليمية بالنسبة للمرأة اليونانية، ويهمني كثيراً أن أصل إلى معلومات صحيحة. فقاطعتها أمها قائلة: إن نسبة المتعلمات من السيدات 60 %، والرجال بين 70، 80 %.
وعادت الزوجة وأخبرتني بنتف غير واضحة عن جملة أشياء مما أردت، وقاطعتها أمها مرات، وقاطعتها هي بدورها مرات، ونسيتا نفسيهما فارتفع صوتهما، وكثرت حركات أيديهما.
وسألت عن اسم سيدة أخرى من شهيرات نساء اليونان، فذكر الزوج اسم سيدة، فقلت تفضل بكتابته لي بغير الأحرف اليونانية حتى تسهل عليّ قراءته ونطقه صحيحاً.
قام الرجل وبحث عن قصاصة من الورق على مكتب زوجته، وما كاد يرفعها ويأتي بها إلى مقعده حتى انقضت عليه الزوجة معنفة بحالة شرسة، وأعصاب ثائرة، وغضب شديد، لجرأته على التعدي على منضدة كتابتها، وأخذ تلك القصاصة المشئومة. قابلها الرجل بابتسام ورحابة صدر، وسلك سلوك الرجل السميدع الذي صمم على ستر الموقف مهما كلفه ذلك. لكن الحقيقة التي لا يمكن الهروب من ذكرها، هو أن سلوك الزوجة ذاك، إن دل(288/66)
على شيء فلا يدل على أكثر من التربية الناقصة، والغرور الفاضح بمعلومات واهية لا تثمن ولا تغني إذا كان هذا هو تأثيرها في نفس تلك السيدة الجميلة الوجه الأنيقة الهندام الشرسة الطباع المغالية في تشويه جمالها الطبيعي بإسرافها في استعمال الأصباغ.
على أني أهيب بالقارئة الكريمة ألا تستخلص من هذا أن جميع سيدات اليونان المتعلمات كهذه الأمثلة التي اتفق أن رأيتها. إن من بينهن مثقفات أنيقات بحق عالمات بصدق. ولعل ذلك يتجلى في الشقيقات الثلاث الموجودة صورتهن بين هذه الصفحات.
وإن أنس لا أنس أبداً مناظر السيدات اليونانيات اللاتي اشتركن في الاحتفال بعيد الإنقاذ القومي في 4 من أغسطس 1938
لقد أتت من أجله السيدات اليونانيات من جميع أطراف بلادهن من الجزائر ومن القرى، كل فريق له طابع خاص وشخصية مميزة، ويتفق الجميع في الحسن والرقة، وحسن ذوق الأزياء التي ارتداها ممثلو وممثلات نحو مائة مكان باليونان.
وكلها يقصر دونها الوصف ويعجز عن شمولها الخيال، منها ما مثل اليونان القديمة، ومنها ما يزال يستعمل إلى الآن من تلك الأجيال السحيقة. فدعاني هذا إلى التفتيش في التاريخ اليوناني القديم، ليتسنى للقارئات استخلاص موازنة لأنفسهن بين المرأة اليونانية الحديثة والمرأة اليونانية القديمة. وموعدنا الأسبوع القادم إن شاء الله.
زينب الحكيم(288/67)
رسالة الشعر
من جراح الذكرى
فاتنتي مع النهر. . .؟
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
مَرَّتْ عَلَى النَّهْرِ. . فَقَالَتْ لَهُ ... وَمَوْجُهُ في خَشْعَةِ السَّاجِدِ:
يا نَهْرُ قاسِمْنِي الأَسَى مَرَّةً ... وهاتِ أخْبَارَكَ عَنْ عَابِدِي!
نَبِيُّ أَحْلامي، وشَادِي الهَوَى ... بِمُعْجِزَاتِ النَّغَمِ الْخالِدِ
طالَ عَلَيَّ الشَّجْوُ مِنْ بُعْدِهِ ... والصَّمْتُ مِنْ قيثارِهِ الزَّاهِدِ
أَضاقَتِ الدُنْيَا بِتَغْريدِهِ ... فَطَارَ عَنْ مَوْطِنِهِ الجَاحِدِ؟
أَمْ رَاحَ يُلْقِيهِ، فَيَمْضِي كما ... مَرَّ الصَّدَى بِالكَفَنِ الهَامِدِ؟
يَا نَهْرُ أَسْمِعْنِي حَدِيثَ الهَوَى ... وَهَاتِ عَنْ بُلْبُلِيَ الشَّارِدِ. .
فَغَمْغَمَ النَّهْرُ. . وَقَامَتْ لها ... أمْوَاجُهُ تُلْقِي صَلاَةَ الحَنِينْ
وَالشَّمْسُ فَوْقَ الشَّطِّ غَرْبِيَّةٌ ... صَفْرَاءُ كَالشَّكِّ بِوَادِي الْيَقِينْ
وَقَالَ: يا عَذْرَاءُ عِنْدِي لَهُ ... أّسْمَارُ دَمْغٍ، وَمَغَانِي أَنِينْ!
كَمْ مَرَّ بي، تَحْمِلُ أَقْدَامَهُ ... شُجونُ أَزْمَانٍ، وَبَلْوَى سِنِينْ
أّنْغَامُهُ مُرْتَعِشَاتُ الصَّدَى ... وَالنَّايُ مَفْجُوعُ التَّغَنِّي حَزِينْ
لَمْ تَتْرُكِ الدُّنْيَا لَهُ فَرْحَةً ... يَنْقِلُهَا مَوْجِيَ لِلعَاشقينْ
كَأّنَّمَا ذَوَّبَ أيَّامَهُ ... وَعَبَّ مِنْهَا سَكَرَاتِ الجُنُونْ
سَأّلُهُ: يا ابْنَ الأسَى رَحْمَةً ... فَالنَّوْحُ لا يُطْرِبُ سَمْعَ الصَّبَاحْ!
فَجْرُكَ رَفْرَافُ السَّنَا، والمُنَى ... فَوْقَكَ طَيْرٌ عَبْقَرِيُّ الجَنَاحْ
مَالَكَ لا تَلْهَمُ غَيْرَ الأَسَى ... وَلاَ تُغَنِّي غَيْرَ نَارِ الجِرَاحْ!
فَقَالَ: يَوْماً سَتُلاَقِي هُنَا ... بَيْضَاَء مِنْ حُورِ السَّماءِ المِلاَحْ
تَبْحَثُ عَنِّي. . فَأَجِبْهَا: مَضَى ... صَبُّكِ فِي الدُّنْيَا شَرِيدَ النَّوَاحْ
أّنْتِ الَّتِي أّسْلَمْتِهِ زَوْرَقًا ... فِي لُجَّةِ الدُّنْيَا لِهَوُجِ الرِّياحْ(288/68)
فَمَرَّ كَالنِّسْيَانِ بي. . وَانْطَوَى ... صَبَاحُهُ عَنِّي شَقِيّاً. . وَرَاحْ!
فَاتِنَتِي! سِرُّ الْهَوَى سَابِحٌ ... فِي نُورِ عَيْنَيْكِ. . فَلاَ تَسْأَلِي!
فِي زَهْرَةِ المَرْجِ شَذىً نَائِمٌ ... أَخْشَى علَيْهِ يقْظَةَ المِنْجَلِ. . .
محمود حسن إسماعيل(288/69)
في شتاء النفس
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
لم يعُدْ من بعد ما ضيعتني ... مؤنسٌ لي غير شعري ودموعي
كلما هاج الجوي واشتعلتْ ... لوعةٌ هوجاءُ بين الضلوع
صحتُ: يا قلبي المعنَّى غنني ... واشفِ ما بي من جوى مُرٍّ وجيع
في شتاء النفس غني مثلما ... كنتَ يا قلبي تغني في الربيع
غنني: واغسلْ جراحي بالدموع ... واسكبْ السلوى على العاني الصديع
غنني: وارقص على وقع الأسى ... كلما حَطَّمَ درعاً من دروعي
غنني: ما طال ليلي: غنني ... وادعُ فجري - أين فجري؟ - للطلوع
غنني: جَفَّتْ أزاهيرُ المنى ... فادعُ صيفي - أين صيفي؟ - للرجوع
غنني: حتى هجوعي ربما ... برئت نفسيَ من بعد الهجوع!
غنني: بل لا تغني، زدتني ... حسرةً. واهتجتَ يا قلبي ولوعي!!
عبد الحميد السنوسي(288/70)
شهيد الزنبقة
للأستاذ ناجي القشطيني
نفحات زبنقة أنيقة ... هبَّت عليَّ من الحديقة
ولفيحها مال الفؤا ... د كأنها جذبت عروقه
فوقفت أرمقها بعي ... ني عاشق لاقى عشيقه
وأردت أهصرها بعط ... ف من معاطفها الرشيقة
فسمعت نغمة بلبل ... يدعو لزنبقتي رفيقه
خليتها وخبأت نف ... سي بين أغصان وريقة
وبقيت أنظره وأع ... جب من شمائله الرقيقة
فهوى يقبلها وأط ... فأ في رحيقتها حريقه
ودعا إليه صديقه ... والحر لا ينسى صديقه
بينا يُغَني وهو نش ... وان بخمرته العتيقة
إذ فاجأته يد المنو ... ن فيبست في الحال ريقه
وغدا صريعاً حيث نا ... م ونومة الموتى عميقة
فوثبت مرتاعاً وكا ... ن رفيقه أبدى شهيقه
ملأ الحديقة بالنوا ... ح وكيف لا يبكي شقيقه
ابن الطبيعة ما دها ... ك وأمّك الأم الشفيقة
ماذا تحاول من حيا ... ة كنت تحسها دقيقة
عبثاً يحاول من يفت ... ش في الحياة عن الحقيقة
(بغداد)
ناجي القشطيني(288/71)
القصص
في نهاية الطريق
مترجمة عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
أخرج الساعة من جيبه، ونظر إليها للمرة العشرين في مدة لا تتجاوز بضع دقائق، ثم أعادها إلى جيبه وأوثق عرى سترته بأنامل تدل حركاتها على الغضب. ثم مشى في الطريق الحالي المؤدي إلى البراح الريفي، وقال في نفسه وهو حانق:
(إن هذا لا يطاق! إنها وعدت بالمجيء في الساعة الحادية عشرة والنصف، والآن مضت سبع دقائق بعد الثانية عشرة ولم يبد منها أثر!)
ثم دار بلحظه في الفضاء، وكانت الريح تعصف باردة، فالتف بمعطفه وقال: (إذا لم تأت بعد خمس دقائق فإني سأعود)
ونظر في ساعته فوجد عقربها لم يتقدم غير دقيقتين، فقال: ها قد مضت أربعون دقيقة ولم تأت لوسي)
وترك الساعة في يده وأخذ يمشي ذهاباً وجيئة، وهو يخال أن دقات الساعة ضحكات سخرية واستهزاء به؛ ثم مضت المدة التي عينها للانتظار، فوضع الساعة في جيبه وعقد عرى المعطف وأصر على أن يعود، فسمع صوت طائر يغني فقال: (أزعجتني بصوتك يا طائر الجحيم)
ثم مشى مغضباً إلى منزله.
بعد يومين من هذا المساء تلقى هذا الخطاب:
(عزيزي هيوبرت. لا بد أن يكون عذرك قوياً في إخلاف موعدي مساء الثلاثاء. ولكن بما أنك وجدتني لا أستحق أن تكتب إليَّ على أثر ذلك فإني أبعث إليك بهذه طالبة إليك أن توضح لي أسباب غيابك وعدم كتابتك مشفوعة بالاعتذار. وإلا فإني أعتبر خطبتنا مفسوخة وأنا أعني ذلك وأصر عليه)
(لوسي)(288/72)
غضب هيوبرت أشد الغضب عندما قرأ هذه الرسالة ولم يعرف كيف يمكن أن يطالب بالاعتذار مع قضائه ساعة ينتظر في البرد القارس.
وفي الصباح التالي كان يفكر فيما إذا كان يكتب أو لا يكتب، فوصل إليه غلاف مسجل من البريد وبه خاتم الخطبة.
وكان هيوبرت رجلاً كثير الفضائل، ولكن المرونة لم تكن من بين فضائله؛ فقال في نفسه عندما تسلم الخاتم: (هذا حسن جداً! إذا لم تبدأ لوسي بالكتابة وبالاعتذار فإني لن أكلمها بعد: نعم لن أكلمها)
مضى على هذا اليوم ثلاثون عاماً. وكان هيوبرت يمشي في حديقة جميلة في حي مونتفورد. وكان اليوم صائفاً من أيام شهر أغسطس، فالتقى فجأة بسيدة في منتصف العمر. وكان هو أيضاً قد قارب الشيخوخة، فوقف الرجل الأشيب أمام السيدة وقال: (لماذا لم تأت في موعدك؟)
فقالت: (لقد مضت أعوم كثيرة أظنها ثلاثين، ولكن لماذا لم تأت أنت يا مستر هيوبرت؟)
قال: (يظهر أنك نسيت الموعد فأرسلت إلي خطابك الذي ادعيت فيه أنك جئت، وهل تذكرين؟)
فقالت: (نعم أذكر وكنت في الساعة الحادية عشرة والنصف في المكان ولكنك لم تأت)
قال هيوبرت: (إنك لم تكوني هناك) فتحرجت لوسي وقالت: (لقد كنت تحت شجرة السرو)
قال: (ليس في هذا المكان شجرة سرو)
فاستدركت لوسي وقالت: (يظهر أنك كنت في الطرف الآخر من الطريق) وأدرك هيوبرت خطأه فقال: (ولكن الخطأ كان منك، لأن المكان الذي وقفت فيه هو الذي اتفقنا عليه)
ثم ابتسم كلاهما، وقال هيوبرت: (هل تأذنين أن أقدمك إلى زوجتي فهي معي الآن في الحديقة؟) فقالت: (نعم وسأقدمك إلى زوجي فهو هنا أيضاً)
ومشيا معاً في الحديقة فتعرفت لوسي بزوجة هيوبرت وتعرف الأخير بزوج الأولى. ثم أشار هيوبرت إلى شاب يلعب (التنيس) مع فتاة وقال: (هذا ابني جون)
فابتسمت لوسي ابتسامة سرور وقالت: (وهذه الفتاة التي تلعب معه هي بنتي نانسي)
- صحيح؟(288/73)
- نعم
فتبادلا الابتسامات، ثم قالت لوسي: (أرى بينهما مودة وأظن. . .)
قال مقاطعاً: (وأظن ذلك أيضاً)
قالت: (إني سأوعز إليها. . . ولكني سأنصح لهما بأنهما إذا اتفقا على مكان يلتقيان فيه فيجب أن يعينا بالدقة في أي طرف من الطريق يلتقيان)
ثم ابتسمت، فابتسم هيوبرت.
عبد اللطيف النشار(288/74)
البريد الأدبي
مقدمة ابن خلدون
صدر الجزء الثالث والأخير من مقدمة ابن خلدون باللغة الفرنسية عند الناشر الباريسي (جوتنر) ' ,
وكان قد نقل المقدمة إلى اللغة الفرنسية المستشرق (دي سلان) ونشرها في باريس سنة 1862 - 1868. فوقعت موقعاً حسناً عند أهل العلم والاستشراق حتى إن نسخها نفدت. فأخرجها مرة ثانية ذلك الناشر الباريسي من طريق التصوير الآلي للطبعة الأولى، وكلف المستشرق (جاستون بوتول) بالوقوف على الإخراج وبكتابة مقدمة لها، وبالتعليق عليها وشرح طائفة من الألفاظ الفنية، وتدوين فهرس شامل للفصول والموضوعات، وأسماء الأعلام والبلدان.
ومثل هذا العمل يدل على مكانة ابن خلدون وقدر مقدمته. وهل يغيب عن أحد من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أن ابن خلدون سبق نفراً من فلاسفة الغرب إلى آراء سديدة أو طريفة أو قلابة للمألوف؟ ومن ذلك حديثه قبل (مكيافللي) عن سياسة الملك، وقبل (فيكو) عن فلسفة التاريخ، وقبل (أوجست كونت) عن البحث في الظواهر الاجتماعية، وقبل (دروين) عن مسألة تأثير البيئة. وكل هذا مسلم به متعارف.
وعندي أنه - فوق هذا - سبق (بيكون) حيث قال: بنبذ (التشيعات) للآراء و (روسو) إذ فضل أهل البدو على أهل الحضر أي أهل الفطرة والخشونة على أهل المدنية والرفاهية، وسبق الفلاسفة (الدهريين) للقرن التاسع عشر أمثال (كارل ماركس) و (سبنسر) و (جوبينو) و (تارد) و (دركايم) حين قال (إن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه) (ص175، طبعة بيروت سنة 1900). أما (كارل ماركس) منشئ مذهب الاشتراكية المعروف - فقد سبقه ابن خلدون حيث قال (إنما اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش) (ص120). وأما (سبنسر) فقد سبقه ابن خلدون في إثبات مبدأين، أولهما: أن العصبية ثم التعاون على المعاش من الأسباب الأولى للاجتماع البشري؛ والثاني: أن هرم الدولة من الدعة والترف.
وأما (جوبينو) فقد سبقه ابن خلدون حيث أشار إلى تأثير خصائص أجيال الخلق في(288/75)
الحروب والفتوحات. وأما (تارد) - الفيلسوف الفرنسي - فقد سبقه ابن خلدون إذ أعلن (أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده) (ص147). وأما (دركايم) - مؤسس (مدرسة) علم الاجتماع لهذا العهد في فرنسا - فقد سبقه ابن خلدون حين عد وجود الجماعات أمراً واقعاً ملموساً وبصر بالصلة التي بين عدد الجماعة وغنى القطر، وحين ضخم تأثير التعاون والتماسك (ارجع لهذه اللفظة إلى مقالي في مجلة مجمع اللغة العربية الملكي. ج2) وتقسيم العمل ورأي أن البحث الاجتماعي تنبسط أطرافه - من ناحية التاريخ - على جميع أحوال الأمة (مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال) (ص35). ثم إن بين ابن خلدون و (دركايم) وجهاً آخر من الشبه لا يستخف به، ذلك أن (دركايم) نزه مذهب (أوجست كونت) عن التشيعات للآراء وخلصه من وجوه الاستنباط المحض، وكلنا يعلم أن ابن خلدون عالم موضوعي كما يقولون أي عالم يتدرج من المحسات إلى النظر، ومن الخارجيات إلى الرأي.
بشر فارس
مكتب النشر العربي بدمشق
إلى جانب الجماعات التي تعنى في دمشق بالشؤون الاجتماعية والعلمية، عصبة من الشباب قامت منذ أعوام خمسة بتأسيس مكتب لنشر الثقافة والعلم أسمته (مكتب النشر العربي)؛ وتأسيس مكتب ليس له من غاية إلاّ خدمة الثقافة والعلم، ونشرهما بين الأوساط بأقوم الطرق وأكثرها فائدة ومنفعة، عمل شاق وعسير، في بلد، الثقافة فيه ضائعة حقوقها بين الذين يدعونها والذين يهملون شأنها، ويتجاهلون وجودها.
ولقد قام المكتب منذ تأسيسه إلى الآن، بنشر آثار ودراسات مختلفة لطائفة من المفكرين والأدباء سواء المتقدمون منهم والمعاصرون، فنشط بعمله هذا الحركة الفكرية في المدينة، وبرهن على أن الثقافة قيمتها عالية لا تبخس، وقدرها محفوظ لا يذل، مهما بلغ من إهمال(288/76)
الناس شأنها، وجور الظروف عليها.
لست أريد إسرافاً في المديح خشية الوقوع في غلو أو مبالغة، ولا أريد أيضاً الاقتصادية خوفاً من هضم بعض ما لهذا المكتب من حقوق علينا، ولكن ما أريد هو إيفائه حقه كاملاً غير منقوص، ورفعه إلى المرتبة التي تستحقها جهود مؤسسيه ومساعيهم، فإن عملاً كعملهم لا يكافأ بجزاء غير راحة الضمير، ولا يقابل بتشجيع غير تشجيع الخلق القوي الرصين، ثم لا تستفزه حوافز غير حافز النفس ورغبتها في خدمة العلم لتعزيز شأنه ورفع مستواه، لعمل جدير حقاً بالإعجاب وأهل للتقدير.
ومن الآثار الفلسفية والعلمية التي قام المكتب بطبعها ونشرها، هذه الآتية: المنقذ من الضلال للغزالي، حي بن يقظان لابن طفيل، وقد قدم لهذين الكتابين بمقدمة ضافية مع شرح لآرائهما الدكتوران جميل صليبا وكامل عياد. ثم مجموعة من المحاضرات كان قد أذاعها في الراديو الدكتور طه حسين بمصر، فجمعها المكتب وطبعها تحت اسم: الحياة الأدبية في جزيرة العرب. ثم من أفلاطون إلى ابن سينا، ودرس وتحليل ابن سينا مع منتخبات من فلسفته للدكتور صليبا أنيتا، وقواعد التحديث لجمال الدين القاسمي، ثم أصول المحاكمات وعلم المالية للعلامة فارس الخوري، وغير هذه كثير منه ما هو مطبوع ومنه ما هو قيد الطبع.
فلك طرزي
توثيق الصلات الثقافية بين مصر وأمم الشرق
اجتمعت في الأسبوع الماضي لجنة توثيق الصلات الثقافية بين مصر وأمم الشرق برياسة صاحب العزة وكيل وزارة المعارف، وقد عرض على اللجنة خلاصة آراء الحكومات التي قبلت الفكرة، عدا السودان وتونس والجزائر، فلم تصل منها ردود بعد، وأشار إلى أن بعض الحكومات تساءلت عن معنى توحيد الثقافة، وهل يقصد منه فرض ثقافة معينة على بقية الأمم، وما هي المسائل التي تبحث في المؤتمر المزمع عقده.
وبعد أن درست اللجنة الفكرة العامة، قررت تأليف لجنة فرعية قوامها: محمد فهيم بك مراقب التعليم الثانوي المساعد، ومحمد قاسم بك عميد دار العلوم، والأستاذ علي الجارم بك(288/77)
المفتش الأول للغة العربية، والأستاذ نجيب حتاتة مراقب التعليم الأولي المساعد، والدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك ناظر معهد التربية.
وعهد إلى تلك اللجنة فحص ردود الحكومات والإحاطة بمشاكل التعليم العامة في مصر وفي البلدان الشرقية، وأن تعد برنامجاً لهذه الدراسات يقوم على تفصيل أغراض المؤتمر، واقتراح بإنشاء مكتب دائم على غرار مكاتب المؤتمرات الدولية.
ويظهر أن الفكرة الغالبة هي عقد المؤتمر في فترات متباعدة إلا إذا دعت الظروف والمشاكل التعليمية فيعقد سنوياً.
وقد استقر الرأي على أن يطلق على اللجنة اسم (لجنة بحث وسائل توثيق الصلات الثقافية بين البلاد الشرقية ودراسة أهم مشكلات التعليم فيها).
ولعل في هذه التسمية ما يوضح الغرض الذي يرمي إليه المشروع.
تأبين الأستاذين السكندري ونللينو في مجمع اللغة
يقيم مجمع فؤاد الأول للغة العربية حفلة تأبين للأستاذين المرحومين الشيخ أحمد السكندري والسنيور نللينو، في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الجمعة 13 من الشهر الحاضر بدار الأوبرا الملكية.
وسيشهد الحفل مندوب من قبل صاحب الجلالة الملك ويخطب فيها الدكتور هيكل باشا وزير المعارف ورئيس المجمع الأعلى والدكتور توفيق رفعت باشا رئيس المجمع والدكتور منصور فهمي بك، والأستاذ ليتمان ثم ينشد الأستاذ علي الجارم بك قصيدة.
ويرد عليهم الأستاذ عمر الإسكندري بكلمة شكر، ويعقبه وزير إيطاليا المفوض وتنتهي الحفلة في الساعة السابعة مساء.
إنشاء أكاديمية علمية في كابل
من أنباء كابل أن المعارف العامة في أفغانستان أخذت تخطو خطوات واسعة بفضل الجهود التي تبذلها حكومتها وبحسن الإرشادات التي يقدمها الملك محمد ظاهر شاه الذي يبذل كثيراً من الجهود لنشر الثقافة الإسلامية والعلوم العصرية في البلاد، وبفضل أعمال السردار محمد نعيم خان وزير المعارف الذي عرف بجده ونشاطه.(288/78)
ولقد فكرت وزارة المعارف في تخريج جيل صحيح ينهض بمهام البلاد السياسية والاقتصادية المقبلة، وذلك بتعليمهم وتثقيفهم وفق برنامج خاص في أكاديمية خاصة. وهاهي ذي الأكاديمية قد افتتحت باسم (أكاديمية العلوم السياسية) وحضر حفلة الافتتاح الوزراء وكبار الموظفين وعلى رأسهم صاحب المعالي الفيلد مارشال السردار شاه محمود خان وزير الحربية.
وأعضاء الأكاديمية هم من المتطوعين من طبقة الشباب المثقفين، والأمل وطيد في نجاح هذه الأكاديمية في إعداد شبان أكفاء لإدارة شئون البلاد السياسية والاقتصادية في المستقبل.
تمثال للنبي موسى
من أخبار لندن أن الأستاذ فرويد اليهودي النمساوي الذي أخرج من ألمانيا والموجود الآن في لندن، طلب النحات اليهودي الهنجاري لمبادا لمهمة هي صنع تمثال نصفي للنبي موسى الذي قام الأستاذ فرويد كما يقال بدرس شخصيته درساً دقيقاً على قواعده السيكولوجية. وقد وصل هذا الأستاذ بعلمه أن شكل موسى عليه السلام يجب أن يكون مصرياً، وعلى هذا الشكل سيعمل لمبادا التمثال.
ونحن وإن كنا نعلم أن هذه ليست أول مرة يعمل فيها تمثال للنبي موسى، إلا أننا نعجب للاتجاه الجديد الذي نحاه الأستاذ فرويد من وجوب تمصير هذا التمثال. والمعروف أن موسى كليم الله ولد في مصر وكانت مهمته منذ ولادته تحرير قومه الذين أذلهم المصريون وعلموا على تشتيتهم.
وما كان أجدر بالأستاذ فرويد من أن يواصل أبحاثه في علم النفس ليصلح ما أثبتت التجاريب خطأ الكثير منها ولا سيما فيما يتعلق بنظرية الفضيلة والرذيلة.
الذهب من رمال البحر.
غادر سويسرا نهائيّاً الكيماوي المعروف الأستاذ دونيكوفسكي الذي يدعي انه اخترع طريقة لاستخراج الذهب من رمال البحر. ويتجه بنظره الآن إلى جزر الفيليبين حيث يؤسس شركة رأس مالها أربعون ألف فرنك لاستخراج الذهب من رمال البحر بالرغم مما صادفه من الحظ العاثر في فرنسا وبلجيكا قبل سويسرا.(288/79)
والمعروف أن العرب اشتغلوا كثيراً بالكيمياء وحاولوا مراراً تحويل المعادن، ومع كونهم فشلوا في هذا المضمار فإن آخر التجارب الكيميائية أثبتت صدق نظريتهم في إمكان تحويل المعادن بصرف النظر عما يتكلفه هذا العمل من التكاليف.
أما استخراج الذهب من رمال البحر فهذه مسألة أشبه بحلم قد يشابه حلم العرب وقد لا يشابهه، لأن الذهب إذا وجد بشكل عروق في الصخر والحجر في مناطق دون أخرى فإن العثور عليه كذرات رفيعة في الرمال لا يحتاج إلى المصاعب الهائلة التي يصادفها الباحثون عن الذهب في باطن الأرض.
ومن الغريب أن المصريين الأقدمين عرفوا كيف يبحثون عنه وكيف يستخرجونه، ولا تزال مناجمهم القديمة موضع إعجاب الجيولوجيين من أبناء هذا الجيل.
ولعلنا نسمع من الأستاذ الدكتور حسن صادق بك المدير العام لمصلحة المساحة كلمة في هذا الموضوع.
اكتشاف مدافن أثرية مهمة.
اكتشفت أخيراً مدافن واقعة على طول الطريق بين روما والمعرض الدولي الذي سيقام في وبكاستلفوزانو بالقرب من أوسينا حيث توجد آثار كركالا.
ويعود تاريخ هذه المدافن إلى القرن الأول بعد المسيح، وقد وجدت فيه جملة زهريات من الصفرة وجانب كبير من العملة الفضية وعقود ودبابيس وأدوات للزينة من بينها عقد ثمين من الزبرجد واللؤلؤ والذهب.
ووجود مثل هذه المجموعة القيمة يساعد كثيراً على تاريخ العصر الذي وجدت فيه فضلاً عن قيمتها الأثرية.
جماعة الفقيرية ويوغا بالهند.
وصل في أواخر ديسمبر الماضي إلى بمباي الضابط الفرنسي الدكتور بينيه موفداً من الحكومة الفرنسية للقيام بتحقيق علمي في الأسس والأصول التي قامت عليها أعمال جماعة الفقيرية ويوغا.
والأمل معقود على أن هذا التحقيق العلمي سيكون أوفى ما تم أجراؤه حتى الآن فتنكشف(288/80)
لنا الأسرار العجيبة التي يجريها (الفقراء) كالسير على اللهب، وأنواع الرقص والرياضة البدنية الخارقة التي تقوم بها جماعة يوغا والتي يقال إنهم يتعلمونها في معبد خاص في بمباي لا يسمح بالدخول إليه إلا لأفراد هذه الجماعة.
في أكاديمية الفنون والآداب الأمريكية.
انتخب الكاتب الألماني توماس فان عضواً فخرياً في أكاديمية الفنون والآداب في أمريكا.
وقد قال فان ديك بروكسس المؤلف المعروف الذي اقترح هذا الانتخاب (إن توماس فان ربما كان أكبر مدافع في الوقت الحاضر عن الأفكار التي تقوم عليها أسس حضارتنا).
في كلية الآداب بالإسكندرية
تألفت في كلية الآداب فرع الإسكندرية جماعة أدبية بإشراف الأستاذ أحمد الشايب أستاذ الأدب العربي بالكلية، ونظمي لوقا أفندي وكيلاً، وحنفي محمود أفندي سكرتيراً، ومحمد أحمد الطويل أفندي أميناً للصندوق، وعبد العليم ناصر أفندي، والآنسة سميرة ياقوت والسيد يعقوب بكر أفندي أعضاء. وهم يكونون اللجنة الإدارية.
والغرض من هذه الجماعة العناية بالثقافة الأدبية بطرق الخطابة والمحاضرات والمناظرة والمسابقات الأدبية والتمثيل والموسيقى الخ.
والمحاضرة الأولى ألقيت أمس، في منتصف الساعة الخامسة بعد الظهر بدار الكلية باستانلي. وكان موضوعها: (بين دانت وملتون وأبي العلاء) لنظمي لوقا جرجس أفندي وكيل الجماعة.
التاريخ في سير أبطاله
ننشر ابتداء من العدد القادم للأستاذ محمود الخفيف طائفة من التراجم لعظماء التاريخ قديمة وحديثة في الشرق والغرب؛ وسيتوخى في هذه التراجم أن تلم بالتاريخ وتعنى بإبراز حوادثه، جرياً على المذهب الحديث مذهب دراسة التاريخ في سير أبطاله، كما ستكون تلك التراجم بحيث لا تعدو الواحدة ثلاث مقالات أو أربعاً. . . وسنبدأ بتقديم ترجمة محمد شريف باشا بطل الحركة القومية والدستورية في مصر الحديثة.
وفاة عالم طبيب(288/81)
من أخبار لندن أن الدكتور باردسول الذي اشتغل بمرض التدرن الرئوي ومن الذين مهدوا السبيل إلى مكافحته مات في أواخر ديسمبر الفائت.
يوم طرابلس في العراق
بناء على عزم إيطاليا على إسكان الإيطاليين في طرابلس الغرب وبناء على ما يعانيه السكان العرب هناك من ظلم الاستعمار وقسوته قرر نادي المثنى في العاصمة إقامة حفلة كبرى يوم الجمعة القادم الموافق 30 الجاري في الساعة السابعة مساء يخصها بنصرة طرابلس الغرب.
إلى العالم الإسلامي كافة وإلى المصريين خاصة
لا تزال دول الاستعمار مسترسلة في سياستها الظالمة نحو البلاد العربية والإسلامية، مستخفة بشعور المسلمين غير حاسبة لهم حساباً، فتعتدي على حقوقهم، وتغتصب ديارهم، وتهين شعائرهم.
ولا يكاد ينقضي وقت دون أن نسمع بنكبة نزلت ببلد إسلامي، فبينما نحن نعالج قضية فلسطين المقدسة التي طغى فيها الاستعمار إذا بنكبة أخرى قد انقضت على طرابلس الغرب، إذ يريد الطليان بعد أن حرقوا الأخضر واليابس فيها، ودوّخوا أهلها وأفقروهم واستعبدوهم وأذلوهم، يريدون أن يجهزوا عليهم فيجعلوا من بلادهم جزءاً من الوطن الطلياني، ولا يزال يطن بآذاننا ما نشروه على العالم في خطب ساستهم، وبكل الطرق من أن إيطاليا أصبحت صديقة المسلمين والعرب وأنها تحميهم وتحمي ديارهم ومقدساتهم.
ولقد كانت مصر ولا تزال تبني سياسة دفاعها القومي عن حدودها الغربية على اعتبار أن ما وراء هذه الحدود مسكون بقبائل عربية لها في داخل حدودنا المصرية بنو عمومة وخئولة من نفس هذه القبائل أو من عصباتها، وأن الإسلام يوثق أواصر السكان بين البلدين وإن اختلفت تبعيتهما. فالدفاع الذي ترى كل أمة من أول واجباتها الاستعداد له في زمن السلم من جميع الوجوه، وعلى كل ما يتوقع من الاحتمالات، إنما كان ينظر إليه في مصر من جهة حدودها الغربية من الجهة العسكرية فقط. أما وقد صدر أخيراً القانون الإيطالي بجعل ولايات لوبيا الأربع جزءاً لا يتجزأ من مملكة إيطاليا، فقد أصبح واجباً(288/82)
علينا أن ننظر إلى ذلك من الوجهة الجغرافية والجنسية أيضاً، ولاسيما أن الإيطاليين قد وجهوا عنايتهم إلى إنشاء مستعمرات لهم - حتى في الأجزاء الفقيرة التربة من لوبيا - فلم يبق عند أحد شك في أن هنالك برنامجاً عسكرياً له علاقة كبيرة بما وراء طرابلس وبرقة شرقاً وغرباً.
إن البواخر الإيطالية حملت إلى القطر الطرابلسي الشقيق في أواخر أكتوبر الماضي ألفاً وثمانمائة أسرة إيطالية تقدر نفوسها بعشرين ألفاً. فأسكنت الحكومة منهم ألفاً ومائتي عائلة في جهة طرابلس وستمائة عائلة في جهة برقة. وهذه أول دفعة من خمسة ملايين نسمة إيطالية تقرر نقلها إلى طرابلس الغرب. وقد خصصت حكومة روما لهذه الهجرة في ميزانية وزارة أفريقية مائة مليون فرنك في كل سنة لبناء القرى واستنباط المياه وإصلاح الأراضي للإيطاليين. وكان في طرابلس قبل مجيء هؤلاء نحو مائة ألف عائلة إيطالية غير الجنود ومن ينظم إلى سلك الحكومة، وهؤلاء وأولئك تحميهم الحكومة بقوتها. وقد أخذت لهم 147 ألف فدان من أفضل أراضي لوبيا دون ثمن، وأجلت العرب عن أراضيهم الخصبة في برقة الحمراء، ونقلتهم إلى الأراضي المجدبة الممتدة إلى الوادي الفارغ جنوباً وإلى المرج شرقاً وإلى شاطئ البحر شمالاً وهي أرض قليلة الآبار تزرع على المطر. أما برقة الحمراء التي تمتد من شطوط مدينة بني غازي إلى ما وراء المرج في الجنوب وتشمل الجبل الأخضر كله إلى ما وراء مدينة درنة في الجهة الشرقية، فانتزعت من أيدي أصحابها الشرعيين وهم العرب وأعطيت للمغتصبين من المستعمرين الذين جيء بهم من إيطاليا ليكونوا جيران مصر إلى الأبد، وليتاخموها في السلم والحرب، وأصبح الجبل الأخضر والأراضي الخصبة جميعاً محرَّماً دخولها على أبناء العرب.
وقد أصبح المصريون متاخمين لجهات ليست من أوطان إخوانهم عرب برقة الذين يشتركون معهم في اللغة والدين، بل لجهات ستكون عما قريب مسكونة كلها بإيطاليين، وعليهم من الآن أن ينظروا إليها كما ينظر الفرنسي إلى حدوده الألمانية والألماني إلى حدوده الفرنسية.
وإذا كانت إيطاليا لا تتورع عن إزعاج العالم الإسلامي بهذه المظالم وهي تمد عينيها إلى تونس، فماذا يكون حالها مع المسلمين إذا جاء وقت لا يهمها فيه أن تنشر دعايتها(288/83)
الاستعمارية بينهم عن طريق محطات إذاعاتها اللاسلكية وما إلى ذلك.
لذلك نهيب بالمصريين وحكومتهم خاصة وبالعالم الإسلامي كافة أن يفكروا في مصير طرابلس الغرب التي يوشك أن يجلى عنها جميع أهلها العرب إلى أراضي الجنوب المحرقة حيث يقضى عليهم فيها كما قضي على ستين ألفاً من سكان الجبل الأخضر لاقوا حتفهم في الصحراء قبل بضع سنوات، هذا فضلاً عما يلحق كرامة الإسلام بسلب هذا الوطن من حظيرته وتحويله إلى بقعة إيطالية.
الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين
الدكتور عبد الحميد سعيد(288/84)
الكتب
ديوان صبري باشا
تحقيق الأستاذ أحمد الزين
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
في الشعر العربي كثير من الشعراء الذين استبدت بشعرهم عوادي الزمن ومحن الأيام، فضاعت آثارهم في أجواء العصور الحالية، وذهبت دواوينهم بين سمع الأرض وبصرها. ولعل الذي ضاع من الشعر العربي أكثر من الذي بقي. ولعل الأيام لو أسعدتنا ببقاء هذه الثروة كاملة لكان للأدب العربي وجهة غير وجهته، ووضع غير الوضع الذي هو عليه اليوم. وإذا كان للقدماء العذر في ذلك من صعوبة التدوين، وندرة الكتابة، ومشقة الرحلة، فما عذرنا نحن إذا ما فرطنا في آثارنا الطيبة وتركنا نتاج أدبائنا البارزين نهب الضياع، على حين قد أصبح التدوين سهلاً ميسوراً تؤديه الآلات، ويتم بأيسر النفقات! إننا لا شك أمة جاحدة لا تقدر أدبائها، جامدة لا تحترم فنها، قاصرة إذ تفرط في الجميل النافع، بينما يذيع فيها القبيح التافه!
هذا ما كنت أقوله لنفسي إذ يجري على لساني بيت من أبيات صبري باشا السائرة؛ أو أستمع إلى مغن يغرد بأغرودة من أغاريده الخالدة، أو يرتفع صوت في الندى بأسماء الشعراء الذين نهضوا بنا في الأدب، وحفظوا علينا في الشعر كرامة النسب إلى العرب. ولقد كان الأسى يتملكني إذ أرى شعر ذلك الشاعر الممتاز في شاعريته وفي مصريته مشتتاً لا يجمعه ديوان، مهملاً لا يفي بطبعه صديق، مفقوداً لا يهزج به الأبناء ولا يدريه إلا الخاصة من المعمرين. وأخيراً وبعد خمسة عشر عاماً مضت على وفاة الشاعر سمحت الأقدار، ففزع لجمع ديوانه صهره الكريم صاحب العزة حسن رفعت بك، ونهض لتصحيحه وضبطه وشرحه وترتيبه صديقه وملازمه الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين، فكان في ذلك وفاء للشاعر، وتقدير للأدب، وإنصاف للتاريخ، ودفع للعار الذي حق علينا بتفريطنا في حق ذلك الشاعر، وفي حق الأجيال المقبلة!
لقد كان صبري رحمه الله بين معاصريه (أستاذ الشعراء وشيخهم) في الصناعة ومراعاة(288/85)
الدقة في الربط بين المعنى وبين لبوسه من اللفظ، ولكنه كان أنيقاً مترفاً لا يقول إلا بدافع النفس ورغبة القول؛ ثم لم يكن يعنى بتدوين كل ما يقول. ومن ثم لم يبلغ ديوانه في الحجم مبلغ دواوين رصفائه مثل البارودي وشوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب. على أنه قد راد كل أبواب الشعر التي كانت مطروقة في أيامه، فقال في المديح والتهاني والتقاريظ وهي أكثر من ثلث الديوان، وقال في الهجاء وهو لا يتجاوز الصفحتين، وقال في الفكاهات وفي الغزل والذكرى والتشوق وفي ذلك كل عبقرية صبري وشاعريته، وقال في الوصف والاجتماعيات والسياسيات والإلهيات والمراثي والأناشيد، وعلى هذا الوضع جرى الأستاذ الزين في تبويب الديوان. وقد عني بترتيب القصائد في كل باب ترتيباً تاريخياً مع بيان المناسبات والدواعي التي قيلت فيها كل مقطوعة، وهذا في الواقع ترتيب جميل، إذ به نستطيع - كما يقول الدكتور طه - أن نتتبع النشأة الفنية لهذا الشاعر، وأن نتبين ما اختلف على شعره من الأطوار في غير مشقة ولا عناء، وهو من هذه الناحية درس قيّم لنشأة الفن الشعري عند شاعر ممتاز، ومن الخير أن يعرض هذا الدرس على الشباب.
ولا شك أن الأستاذ الزين قد وفّق كل التوفيق في إخراج هذا الديوان الجميل، فضبطه وشرحه على أتم وجه وأكمله. ولقد جهدت أن أحصي شيئاً على صديقنا الزين أغيظه به، فغاظني هو ببراعته وقدرته، وإني لأقر بذلك في غبطة وسرور. وإنما وفق الزين إلى هذا الحد، لأنه - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد عاشر الشاعر وصادقه سنين طويلة، فسمع منه، وحقق الطريقة القديمة القويمة في الرواية عنه والمشافهة له، فمكنه ذلك من إيضاح ما غمض، ومعرفته الصحيحة بجوّ القصائد وأسبابها وبواعثها. ثم كان من مخالطته للشاعر ووقوفه على دقائق نفسه وما يوائمها وما لا يوائمها، ما ألهمه الصواب في الشرح، والتوفيق في الترجيح، إذا تعددت المسالك وكثرت الاحتمالات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأمر كما يقولون: لا يفهم الشاعر إلا شاعر، والزين شاعر من طراز صبري ومن مدرسته كما يعبرون، فكان بهذا خير من يفهم صاحبه وقريعه، وخير من يرعى شعره هذه الرعاية الحميدة، ويشرحه هذا الشرح الدقيق الموفق.
قد تقول: وماذا يكون في شرح شعر صبري من العناء، وشعره ليس بغريب اللفظ، ولا بعيد المعنى كما هو شعر حبيب وأبي الطيب والمعري وأضرابهم، بل الرجل ظاهر في(288/86)
ألفاظه، واضح في معانيه، ففي مكنة كل إنسان أن يتولى بسطه، وأن يؤدي شرحه. والواقع أن العناء ليس في الشرح والبسط، وإنما العناء في النهج الذي نهجه الزين. ذلك لأن شعر صبري دقيق اللفظ، مستفيض المعنى، كثير الإشارات، بعيد المرامي، فكان لابد في شرحه من طول اللفظ واتساع التعبير حتى يمكن أن يستوفي ما فيه، ولكن الزين وقف عند قولهم (البلاغة الإيجاز) فهو يؤدي ما في البيت من معنى كبير بلفظ موجز مونق، قد لا يتجاوز به ألفاظ البيت في كثير من الأحيان، ومن هنا كان العناء الذي لا يضطلع بعبئه إلا الزين، لأنه كما قلنا يفهم صبري حق الفهم، ولأنه قد حذق ذلك بالتدريب والمران.
والديوان مصدر بمقدمات: الأولى للدكتور طه حسين وقد ضمنها رأيه في شعر صبري ومميزاته؛ والثانية للأستاذ أحمد أمين وصف فيها (شعوره بشعر الشاعر وتذوقه لأدبه)؛ والثالثة للأستاذ أنطون الجميل عن (العوامل الشعرية في نظم إسماعيل صبري)؛ والرابعة للأستاذ الزين نفسه، وقد تكلم فيها عن أخلاق الشاعر ووطنيته وشاعريته وما اتبعه في تصحيح ديوانه. وإنما جمع الأستاذ بين كل هذه المقدمات لأنه - كما يقول - أراد أن يجمع للقارئ بين الاستفادة من شعره، وتلك الدراسة الواسعة المستوعبة لكثير من نواحيه. وأنا شخصيّاً لا يهمني كثيراً ما كتبه أولئك الأساتذة عن صبري الشاعر، فإن شعر الرجل خير من يفصح عنه ويدل عليه، وإن ميزات الرجل في شعره لواضحة جلية لا يختلف في تقديرها أحد، كما لم يختلف في تقديرها الأساتذة الفضلاء، ولكني لا شك معجب بما كتبه الزين عن صبري الرجل، وما ذكره من أخلاقه ووطنيته، ويا حبذا لو مدّ القول في ذلك فرسم لنا صورة كاملة لشخصية صبري تقوم إلى جانب شاعريته الكاملة، فإن فهم شخصية الشاعر أساس لفهم شاعريته، وعلى هذا تقوم الدراسات الحديثة، والمناهج الرشيدة عند علماء النقد.
وأما بعد، فإذا كان شعر صبري آية الجمال في تصوير الجمال، فإن ديوانه قد خرج للناس آية الكمال في تقدير الكمال، فهو كالروض الأنف جمع أطيب الزهر، وتم له جمال الموقع وبهاء التنسيق، وما أحسبه يقل في تنسيقه وترتيبه عن ديوان حافظ الذي تولته وزارة المعارف، ولا عن ديوان شوقي الذي خرج برعايته، بل إني لأراه يفوقهما روعة ودقة. وإنه لجهد مشكور ذلك الذي أداه الأستاذ الزين في خدمة هذا الديوان، ولو قدر لصبري أن(288/87)
يرى ديوانه لاغتبط بهذا الصنيع، ولشكر لصديقه وفاءه، وحمد له عناءه، وإنه لمشكور من الأدباء في جميع الأمصار، محمود من أبناء العربية في سائر الأقطار.
محمد فهمي عبد اللطيف.(288/88)
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
دكتاتورية المدير
اسأل من شئت من الناس من هو مدير الفرقة القومية، فيجيبك على التو بأنه مثال حيّ للقداسة وطيب السريرة، ويشيد الثاني بأريحيته ونخوته، ويثني الأكثرون على أدبه وطول باعه في ميدان الشعر الذي لا يجلي فيه سوى إنسان عرف الحياة وأدرك كوامن أسرارها.
ويقيني أن هذه الخصال والسجايا هي بعض نحيزته الموهوبة المكتسبة؛ فلو سوّلت البداوات لأديب أن يترجم لحياة مدير الفرقة فهو لابد مأخوذ بتلك السجايا، لا محيد له عن التقيد بها لأنها لازمته طوال حياته، ولكنها عافته منذ تولي زمام الإدارة، وزايلته يوم توهم أنه صار من أخدان الموظفين البيرقراطيين وأقران الحاكمين، ويوم تخيل فخال أنها فرقة حكومية لها نفوذ البوليس، وسلطان مأمور القسم!
ليس في تصدينا لبحث الناحية التي طرأت على حياة مدير الفرقة مما يبعدنا عن صميم موضوع حياة الفرقة، لاعتقادنا أنها مرتبطة بحياته السابقة، تلك الحياة التي كانت متوشحة بوشاح القداسة قد أخذت الآن تنزع عنها رمز قدسيتها، لا للظهور بفطرتها، بل لإظهار الناحية الأخرى لتلك القداسة.
كان لمدير الفرقة أصدقاء عديدون بحكم ما له على بعضهم من أياد بيضاء، أو شفاعة لا تنسى، أو سعي مشكور، أو بحكم راحة النفس على آدابه الرفيعة، وفنه الشعري السامي.
تقدم هؤلاء الأصدقاء يمدون أيديهم تساند الأديب الكبير، مدير الفرقة القومية للتمثيل العربي، رمز النهضة، وعنوان الثقافة، وتنير له السبيل الوعر الذي سلكه للفني المسرحي، وهو ما كاد يصافحهم ويحتضنهم بعض الوقت حتى أقصاهم عنه إقصاء لا عودة بعده.
ثم تلفت المدير يمنة ويسرة، فإذا به يرى شرذمة من ممثلات وممثلين، وطغمة من عاملات وعاملين، وفلولاً من فساكل الصحافيين والمتأدبين، تحيط به إحاطة ممثل أدوار الكوميديا بموضوعه، فيهم (السادي) وفيهن (الميسودية) وبالعكس، ولكنهم جميعاً يعرفون التملق بمعناه ومبناه، لا يصدهم عن الارتماء على أقدام (سعادة المدير) سوى اكتفائه بمد راحته للتقبيل.(288/89)
أوعز سعادة المدير إلى ناقد معروف أن يحمل على أعضاء لجنة القراءة، وحدث أن لقي ذلك الناقد صدفة في مجتمع كان فيه أحد الحكوميين المشرفين إشرافاً أدبياً على أعمال الفرقة، فوجه إليه عتاباً هو مزيج من الحلاوة والطعم المز على حملته على أعضاء لجنة القراءة الذين هم (الصفوة المختارة من رجالات الأدب) وسواهم نوافل!! وقال: هل في وسعك أن تدلني على خمسة أدباء يفضلونهم أو يضارعونهم والبلد على ما هو عليه من قحط في الرجال؟
قال الناقد: أعرف خمسة بل عشرة من الرجال لهم أوفر اطلاع على فن المسرح وأدب الرواية لا يجاريهم في ذلك أحد من الأدباء الذي أعرفهم، وإذ ذكرت اسم الأول منهم قال:
أعوذ بالله من هذا الذي لا يرضيه إلا أن يكون مديراً للفرقة بدلاً مني، وهو على كل حال مغضوب عليه من الحكومة التي تمثل أكثرية الأمة.
قال الناقد: الأدب لا يعرف الحزبية يا أستاذ.
فأجابه: الأدب الذي تعنيه لا وجود له في مصر.
حول الناقد دفة الحديث قائلاً: هل ثمة من اعتراض على فلان؟ وذكر اسمه فأجاب: هذا شاعر لا شأن له بغير الشعر. قال: أنت شاعر أيضاً، قال: أنسيت أن لي مؤلفات روائية؟ قال الناقد: لسنا الآن في موقف مقارنة وموازنة ومفاضلة، أنا أعرف أن لهذا الشاعر معرفة واسعة بفن الرواية كما أعرف له اطلاعه الكبير على تطورها وتحولها منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحالي، وعلى أحدث ما ظهر من روايات وعلى أقوال النقاد فيها.
قال مدير الفرقة: أنا أعرفه أكثر منك. إنه كسول خواف لا يصلح أن يكون عضواً في لجنة القراءة.
قال الناقد: ألا تعرف. . . فلاناً وهو مؤلف روائي غذى المسرح أكثر من ربع قرن؟ فأجاب:
اسمع يا صديقي: أوثر أن تذكر لي أسماء كبار موظفين في الحكومة تكون لهم مهابة الحاكمين وعلم وأدب العلماء والأدباء.
ابتسم الناقد وقال: إن من ذكرتهم هم موظفون حكوميون وفي وسعي أن أذكر عشرة أسماء من الموظفين الأكفاء إذا كان لا يرضيك من الأدباء غير الموظفين الحكوميين.(288/90)
وقبل ارفضاض هذه الجلسة المرتجلة التي تكلم فيها الناقد كعادته في وصف الأدباء ونقد أعمالهم قال له (سعادة المدير): أنت شاب يا بني، فلا بد لحياة الفرقة القومية، وهي مصلحة حكومية، من تؤدة الشيوخ وحكمتهم. فأجابه الناقد على نصيحته الغالية هذه قائلاً: (أطال الله عمر السلحفاة وعوضنا عن نشاط الشباب عوض الصالحين).
رميت من وراء هذا التصوير لحالة مدير الفرقة إلى التدليل على نفسيته التي انتقلت من البوهيمية المرحة الجوالة في آفاق الحياة إلى قيود الوظيفة التي أحاط نفسه بأغلالها ليكون له روح طاغية، وشهوة دكتاتور، وأي دكتاتور في الأدب والفن؟
ابن عساكر.
أخبار سينمائية
بولو
عرضت سينما رويال في الأسبوع الماضي فيلم (بولو) الذي تدور حوادثه في الأدغال والأحراج وهو من إنتاج شركة برامونت.
الآنسة مانتون المجنونة.
هذا اسم فيلم عرض في الأسبوع الماضي على ستار سينما ديانا ولقي نجاحاً كبيراً وهو من إنتاج شركة متروجلدوين ماير.
أجازة.
فيلم كوميدي من نوع طريف لشركة راديو وقد عرض ونجح على ستار سينما متروبول.
* تمثل نورماشيرر مع كلارك جيبل في فيلم (مرحٌ أبله) الذي يظهر في الموسم القادم.
* يلاقي فيلم (فتش عن المرأة) للسيدة آسيا نجاحاً لا بأس به على ستار سينما كوزمو.
* انتهى أخوان لاما من تصوير فيلم (ليالي القاهرة) الذي وضع قصته وأغانيه السيد زياده وسيعرض في عيد الأضحى.
* أعد استديو مصر فيلم (الدكتور) للعرض بعد أيام قليلة.(288/91)
العدد 289 - بتاريخ: 16 - 01 - 1939(/)
بين الفقير والغني
(يا صاحب السعادة، لِمَ ترضى أن أكون صاحب الشقاء؟ أنا وأنت نبعتان من دوحة آدم نَمَتا في ثَرى النيل؛ ولكن مغرسك لحسن حظك كان أقرب إلى الماء، ومغرسي لسوء حظي كان أقرب إلى الصحراء، فشبعت أنت وارتويت، على قدر ما هزلت أنا وذوَيت؛ لأن الماء والغذاء يطلبانك وأنت ضاجع وادع، وأنا أطلبهما بالكدح والمتح فما أنال غير الجفاف أو النّطاف!
فماذا يضير المجدودَ أن ينضح المكدود برَش مما يسبح فيه من فيض هذا الوادي، وهو لهما كلبن الأم للتوأمين، لكل منهما شطره بحكم الحياة والأمومة والطبيعة؟
لقد ضمن الله لك حق الملك لصلاح الدنيا، ولكنه فرض عليك بازاء
ذلك الزكاة تحقيقاً لهذا الصلاح. فإذا خشيت أن تمتد عيني إلى مالك
بالحسد والشهوة، ويدي إلى نفسك بالعنف والقسوة، فاكسر نظرتي
وحدَّتي عنك بأداء ما جعل الله لي عندك؛ وإلا كان من الإنصاف في
رأيي على الأقل أن يكون اعترافي بالحق لك، معادلاً لاعترافك
بالواجب عليك)
ذلك ما يقوله في مصر كل فلاح لكل باشا. ولكن أغنياءنا غلاظ الأجساد والأكباد فلا يصيخون لمثل هذا العتاب الهامس! وهم إلى ذلك يعلمون أن الله الذي أعان الفقراء بالزكاة على الفقر، أعانهم عليه أيضاً بالقناعة والصبر. فهم يثقون بالله، ويؤمنون بالقدر، ويعتقدون أن نصيبهم المقسوم في السماء سيهبط عليهم في الأرض، أو يصعدون إليه في الجنة. وفي ضمان هذه الأخلاق السمحة والنفوس المطمئنة، مشى الغني متأبِّهاً متألِّهاً يحاول أن يخرق الأرض ويطول الجبل ويملك على عباد الله حق الحياة والموت. ثم ينظر إليه الكادح المحروم وهو يخور من السِّمن، ويختال من البطر، ويغوص في الحرير، ويخوض في الذهب، فيقول بلهجة المؤمن الراضي:
(آمنت بالله! لو لم يستحق ما هو فيه، لما كان الله يعطيه!)
وأقسم ما أعطاه الله، ولكنه هو الذي أخذ. وما كان ليستقيم في ميزان العدل أن يُعطي إنسان(289/1)
حتى يطفح، ويمنع إنسان حتى يجف!
أعرف في مركز (ط) عشرين بلدة يملكها من الشرق أمير ومن الغرب باشا، فليس لأحد من الأهلين فيها شبر أرض ولا جذع شجرة. إنما هم أجراء أو مستأجرون سخرتهم الغفلة والاستكانة لرجلين كسائر الرجال، ليس لبطنيهما سعة البحر، ولا لعزميهما قوة الدهر، ولا لنفسيهما عظمة الله. إنما هما فمان تملأهما المضغة، ومعدتان تكظهما الوجبة؛ ولكن لهما عينين كعين الجحيم لا تمتلئ، ونفسين كجوف الرمل لا يرتوي؛ فهما يعصران من أجساد هذه الألوف الجاهدة ذهباً يكتنز، وقصوراً تشاد، وسلطاناً يُرهب، وقطعاناً تسعى، ومراكب تطير، ورغائب تبتغى، ولذائذ تنال، وأوسمة تناط، وألقاباً تكتسب. ثم لا تدركهما بهؤلاء العبيد رحمة الخالق بالخلق ولا عناية الصانع بالآلة. فصاحب الآلة يوفر لها الشحم والوقود، ومالك البقرة يهيئ لها الحظيرة والعلف، وهما لا يتركان لفلاحيهما المساكين ما يمسك الروح ويستر البدن، ثم يلزمانهم أن يؤدوا أجرة الأرض ونفقة الإدارة قبل أن يأكلوا. فإذا أَوِف الزرع أو رخص السعر وعجزوا عن الوفاء، سلطا عليهم النظار والمحضِرين فأخذوا الدور التي يأوون إليها، والبهائم التي يزرعون عليها، وخلفوهم فرائس للمرض والفاقة، لا يجدون وسيلة للطب ولا حيلة للجوع. فإذا فزعوا إلى فضل الأمير أو الباشا زَمَّ بأَنفه واستكبر أن يفتح عينيه على هذا الهوان والقذر، ولعله ساعتئذٍ كان يمسح خرطوم كلبه أو يرجِّل عُرْف جواده!
سكان هذه القرى العشرين يعيشون هم وماشيتهم في أكواخ من الَّلبِن لا تدخلها بهجة الطبيعة ولا تعودها رحمة الله. تقوم على أقذار البرك وفوق سباخ الأرض وعلى ظهورها المراحيض وفي بطونها المزابل. والمالكان المدللاَّن يَغُطَّان بين الحرير والذهب، في قصور تطاول السماء، ورياض تنافس الجنة، ثم لا يتفضل أحدهما فيحمل الحكومة بجاهه ونفوذه على أن تجفف لهؤلاء البائسين بركة، أو تنشئ لأطفالهم الضاوين مدرسة. وعلة حب الباشا للمستنقعات أن نفقة ردمها على حسابه، وحجة بغضه للمدارس أنها تصرف الأطفال عن العمل في أرضه
ارجعوا يا قوم إلى الله فقد طبَّ لهذه الأدواء واحتاط لهذه الفواجع. إن هذا الأمير وذلك الباشا يملك كل منهما مليوناً من المال الذي تحول عليه الأحوال فيزيد ولا ينقص. فلو أنهما(289/2)
يؤديان زكاته كما فرض الله لكان ما يدفعانه خمسين ألف جنيه في كل سنة. ولو حبسنا هذا المال الوفر على هذه القرى العشرين لما بقي فيها فقير ولا مريض ولا جاهل. وإذن تشفى الصدور من الغل، وتبرأ النفوس من الوهن، فتكثر الأيدي، وتشتد السواعد، ويزيد الإنتاج، ويزكو الريع، ويردُّ عليه ما أقرض اللهَ أضعافاً مضاعفة. ولكن أغنياءنا أبطرتهم نعمة الله فاستغنوا بجبروتهم عن رحمته، وبملكوتهم عن جنته، وبعبادهم عن عباده؛ وكأنهم أصبحوا يرون سعادتهم في شقاء الوطن، وعزتهم في مذلة الناس!
أحمد حسن الزيات(289/3)
عجوة ببيض
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
- بابا. هات خمسة قروش!
- يا أخي، قل صباح الخير أولاً
- آه، صحيح، طيب صباح الخير، هات بقى!
- سبحان الله العظيم! ألا تنتظر حتى أرد عليك هذا التصبيح بالخير؟
- طيب، ردّ
فأتلكأ - أهز رأسي أسفاً، وأمصمص بشفتي معجباً، وأقلب كفي، ولكن هذا كله له آخر فيعود اللعين إلى المطالبة بالقروش الخمسة، فأسأله: (هل يليق أن تصبح أباك - على الريق - بطلب فلوس؟)
فيتعجب لي كيف أقول إن هذا غير لائق، ولا يستطيع أن يفهم أن ابتداء يوم جديد بإنفاق من المرجح أنه في غير محله، صعب على النفس جداً، فأقول له: (انتظر، حتى تكبر وتعرف بالتجربة)
فيصيح: (يا خبر أبيض! أنتظر حتى أكبر؟ لا يا بابا، أنا مستعجل، وقد وبخني المعلم أمس)
فأسأله السؤال الذي كان ينبغي أن ألقيه عليه في بداية الحوار:
- لماذا تريد خمسة قروش؟ ماذا يمكن أن يصنع طفل مثلك بخمسة قروش؟
فيقول: (أشتري بها كتاب المطالعة الإنجليزية)
فأسأله مرة أخرى: (أولم تعطك المدرسة كتاباً؟)
فيقول: (تقطع ولم يبق صالحاً للاستعمال)
- ولماذا تقطعه؟
- لست أقطعه، هو تقطع!
- تكلم بعقل، كيف يقطع الكتاب نفسه؟
- لم يقطع نفسه، ولكن المعلم يأمرنا أن نطويه، فيبلى، ويتخرق، ويتمزق
- هل تعلم أني كنت تلميذاً مثلك؟(289/4)
- لا. . .
- لا؟ كيف تقول لا؟
- طيب أعلم - إنما عنيت أني لم أرك ولم أكن معك - هات بقى ثمن الكتاب
- وأنا إنما أعني أني لم أحتج في حياتي المدرسية كلها أن أشتري كتاباً مدرسياً لأن كتبي لم تكن تتقطع وكانت لا تبلى أبداً
فيضحك الخنزير ويقول: (لا مؤاخذة يا بابا، ولكن يظهر أنك كنت تلميذاً كسلان)
فأضحك مثله وأزعم أنها نكتة، ولكن الواقع أنها أصابت المحزّ، ووقعت على المفصل، فما أعرف من زملائي في عهد الدرس والتحصيل من كان أبلد مني أو أشد كسلاً. ولا أدري كيف كنت أنتقل من فرقة إلى فرقة، وأحسبهم كانوا يؤثرون أن يجبروا خاطري ويترفقوا بضعفي. ولما أتممت التعليم - أي فرغت من المدارس - وجدت عندي صفوفاً من كتب الدراسة نسجت عليها العناكب بيوتاً وقصوراً، وقد أخذها مني صديق، وأعطاني بدلاً منها كتاب (الشعر والشعراء) أو (طبقات الشعراء) لابن قتيبة، طبعة ليدن. وقد بعت هذه أيضاً بثمن غير بخس في جملة ما بعت من الكتب
ويدخل اللعين الثاني أو الأكبر فيقول بلا تمهيد، ولا تصبيح (اكتب هذه البيانات المطلوبة هنا على هذه الورقة، وسآخذ من جيبك ستة قروش، ثلاثة لرحلة إلى الهرم، وواحداً ييقى معي، ونصف قرش هو مصروفي، وقرشاً ونصف قرش ثمن برجل وعلبة ألوان)
فأصيح به (تأخذ من جيبي؟ من أدبك هذا الأدب؟ ماما؟)
فيقول (لا، إنما أريد ألا أحوجك إلى النهوض من السرير فإن الجو بارد)
فأقول (متشكر، يا سيدي، ولكن ما هذه البيانات الجديدة التي يطلبونها؟ شيء بارد!)
وتدخل (ماما) في هذه اللحظة، فتسأل عن هذا الشيء البارد ماذا عسى أن يكون؟ فأقول
(صباح الخير أولاً يا ماما، يا نور العين، ثم أني أرى كل شيء بارداً في هذا اليوم المبارك إن شاء الله - لا أحد يصبحني بالخير، وكل من يدخل علي يقول هات، ولم يكن ناقصاً إلا أن تسألني المدرسة عن عمري، كأني تلميذ فيها، ولست أستغرب أن تسألك غداً عن سنك يا امرأة، فانتظري، وأعدي الجواب من الآن، وقد أعذر من أنذر!)
وأرفض أن أعطي الولد نفقات الرحلة قبل أوانها بثلاثة أيام، وأرفض أن أذكر للمدرسة(289/5)
عمري - لا حرصاً مني على كتمان ذلك - بل لسببين أولهما أني لست تلميذاً بها، فلا شأن لها بي وبعمري؛ وثانيهما أني لا أحب أن أشجعها على هذا الفضول مخافة أن تسأل بعد ذلك كم سن امرأتي! وأحدث نفسي وأنا أنطق بعبارات الرفض أن من الواجب أن يكون المرء حازماً في بيت كهذا
فتقول امرأتي (ولكني أعتقد أنك لن ترفض أن تعطيني مائة وعشرين قرشاً؟)
فأثب من السرير إلى الأرض وثبة ليت مصوراً كان حاضراً فيرسمها فأنها حركة رياضية بديعة، يُرمى فيها اللحاف، وتطوى الساقان، ثم تدفعان في الهواء وسائر الجسم وراءهما، ثم إذا أنا واقف على الأرض، لم يتحطم رأسي، ولم يصبني سوء. ولم أكن أعهد في نفسي هذه القدرة، ولكن الوقت ليس وقت الإعجاب بالذات
وأصيح (مائة وعشرين قرشاً؟ أتقولين مائة. . .)
فتشير إلي أن مهلاً، مهلاً، وتسألني (ما لك تصيح هكذا؟ ماذا يقول الجيران إذا سمعوك؟)
فلا أكف عن الصياح وأنا أقول (الجيران؛ ليقولوا ما شاءوا ولكن اعلمي - أنت وهم أيضاً - أني مستعف. . . مستقيل. . .)
فتضحك. . . أي والله تضحك. . . وتسألني (من قال لك افتح بيتاً؟)
فأرد عليها بقوة (ومن قال لك أن البيت بالوعة؟ لا يا ستي أنا مستعف. . . مائة وعشرين قرشاً؟ يا خبر أسود!)
فتلاطفني وتقول (اسمع، أسمع، وكن حليماً. . .)
فأسألها مقاطعاً (خبريني أولاً من الذي قال لك أني أنفق مما أجد تحت السجادة؟ أو إني من أهل الولاية وأصحاب الكرامات الذين يمد الواحد منهم يده من النافذة فإذا فيها إصبع من الموز! أو أن عندي آلات لتزييف النقود، أو إني ابن روكفلر، وبيير بونت مورجان وروتشلد معاً؟ هه؟ أجيبي أولاً؟)
فلا تجيب، لأنها تضحك مستخفة بأن أجد نفسي كل صباح - على ريق النفس - مطالباً بخمسات القروش للخنزير الصغير، وستاتها للخنزير الأوسط، ومئاتها. . .
وتقول (ألا تسمع؟ لماذا تأبى أن تسمع؟)
فأقول (لأني مستعفٍ. . . هذا هو السبب. . . وسألبس ثيابي وأخرج ولا أرجع)(289/6)
فتقول وهي تغالب الضحك (ألا تفطر أولاً؟ لقد أوصيت لك ببيض مقلي بالعجوة، وعصرت لك - الآن، بيدي هاتين - أربع ليمونات حلوة،. تعال افطر أولاً. . . ونتكلم على الطعام)
ترى ماذا أغرى آدم بمطاوعة حواء؟ كيف وسعها أن تجره من أنفه وتدس في فمه الواسع - لابد أنه كان واسعا - التفاحة المحرمة؟ أتراني ورثت عنه هذا الحب للبيض المقلي بالعجوة، وعصير الليمون الحلو؟
لا أدري؛ ولكني أردت أن أشيح بوجهي عنها، لأقاوم إغراء ما تصف، وأغالب سحره، فطالعني وجهي في المرآة، فإذا هو يبتسم، وما كان يسعني بعد أن عرفت أني أبتسم، أن أظل متجهما.
وجلسنا إلى السفرة وشربت عصير الليمون، فشاع الاغتباط في كياني؛ وجاء الطبق وفيه البيض والعجوة، ففركت يدي، ودفعت طبقي إلى امرأتي وقلت: (الله يرضى عنك يا امرأة! هاتي! هاتي! وليسخط علي الأطباء ما شاءوا وما وسعهم السخط؛ وليزعموا أني أزيد معدتي تلفاً، فما أباليهم، أو أحفل مشوراتهم. هاتي، هاتي. . . ترى ماذا أذكرك العجوة والبيض. . لا، لا، لا. . هذا لا يكفي. . . إني أتضور جوعا. . . أكثري، أكثري)
فتقول (معدتك تتلف. . . يكفي هذا المقدار)
فأصيح: (لا لا. . . على رأي العامة (هم، وقلة مم!) هاتي، ولا تخافي)
فتقول: (هل معنى هذا أنك ستعطيني ما طلبت؟)
فأصيح (يا ستي خذي ما شئت. . . كلّي لك. . . ولكن هاتي من هذا واكثري)
فتنهض وهي تقول (ومعدتك؟)
فأقول (سننظر في أمرها فيما بعد. وأحسب أني لن أعدم طبيباً يستطيع أن يسكن آلامها. أتعرفين أنه يخطر لي أن الطب قد أخفق لأنه لم يستطع إلى الآن أن يغنينا عن المعدة؟ فليت هناك دكانا تباع فيه أعضاء جديدة من الجسم تركب له وتتخذ بدلا من التي تتلف، على نحو ما تباع قطع السيارات! إذن لوسعني أن ألتهم كل ما في هذا الطبق الشهي. ولكن آخ!)
وأجدني أكلم نفسي، فأتلفت مستغربا، وإذا بها تعود ويدها مبسوطة بمائة وعشرين قرشا(289/7)
فأهز رأسي وأسألها
(ما حاجتك إلى كل هذا؟)
فتخبرني أنها دعت (أم أحمد) وأنها تنوي أن تكلفها شراء ثياب لكسوة الخدم، فقد آن ذلك جداً، وقد اختارت أم أحمد لأنها ممن أخنى عليهن الذي أخنى على من نسيت اسمه - آه لبد، يا له من اسم! - فهي تحب أن تكل إليها أمر الشراء لتكسب قرشين، فإنها تأبى الصدقة.
فأهز رأسي موافقاً، ثم أنهض عن المائدة راضيا وأقول لها بابتسامة عريضة: (مائة وعشرون قرشا ثمناً لأكلة عجوة بالبيض! لست أراه باهظاً جداً. . . لا بأس! لا بأس! سيرزقنا الله من حيث لا نعلم، فلا تخافي، وانفقي ما في الجيب يأت ما في الغيب
إبراهيم عبد القادر المازني(289/8)
من برجنا العاجي
نفسي بطبيعتها لا تنزع إلى ترف الحياة. ولقد عشت إلى وقت قريب ضالاً. ليس لي بيت مستقر ولا راحة موفورة. ولا حتى مكتبة خاصة تعينني على عملي الأدبي. إلى إن اوهمني بعض الناس أن مكانتي كأديب تقتضي أن أغير هذه الحياة. فأصغيت إلى هذا الكلام واتخذت لي مسكناً أنيقاً في أجمل بقاع القاهرة يشرف على النيل. واقتنيت سيارة جميلة، وجعلت لي مكتبة تزينها التحف والتماثيل. وأكثرت من حولي الخدم يعنون بأمري. وأعجبني قليلاً مظهري هذا الذي يماثل مظهر أدباء أوروبا المشاهير. وغرني الحال. وحسبت أننا نتمتع في الشرق بمثل ما يتمتعون من قوة وحرية ومنعة. فانطلق قلمي مرة يبدي رأياً صريحاً في مسألة قيل أنها تمس السياسة. وإذا أنا أقع فريسة لإجراءات مهينة، فألتفت يميناً وشمالاً أبحث عن عالم الأدب يتولى الدفاع، لا عني بل عن حرية الفكر المهدرة. فلم أجد أحداً من الأدباء قد تحرك. ولم أر صحيفة قد همها الأمر. وخرست كل تلك الجرائد التي طالما رفعت صوتي على صفحاتها، واتفق الكل اتفاقاً طبيعياً على إهمال الموضوع. ولم يحفل أصدقائي ولا زملائي ولا قرائي بما حدث لي. ولم يدركوا الخطر الذي يهدد الأدب والأدباء إذا هم شعروا يوماً أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا ما في نفوسهم. (أديب واحد كبر عليه الأمر وأدرك الخطر ونهض في قلق يحادث المسؤولين ويناقشهم، هو كاتب عظيم يعد فخر أدباء الشرق في العصر الحاضر. وصداقته لي معروفة من زمان، وأن كنت مع الأسف لم أقدرها قدرها في كل الأحيان)
على أن الحادث في جملته قد هز عقيدتي في منزلة الأدب وفجعني لا في شخصي، ولاكن في مركز الأديب في الشرق، فقد أيقنت أن ما يسمونه (المكانة الأدبية) إنما هي وهم من الأوهام. وأن الأدباء أنفسهم هم المسئولون في أكثر الأحوال عن انخفاض شأنهم في المجتمع لخذل بعضهم بعضا
وأحسست من نفسي الذلة، فتركت سكني وسيارتي وخدمي، وعدت من جديد أعيش شريداً، كما يستحق أديب في الشرق أن يعيش.
توفيق الحكيم(289/9)
شعر مهيار
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قال أبن خلكان في كتاب وفيات الأعيان (هو أبو الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسي الديلمي الشاعر المشهور؛ وكان مجوسياً فأسلم. ويقال أن إسلامه كان على يد الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي وهو شيخه وعليه تخرج في نظم الشعر، وقد وازن كثيراً من قصائده). نعم أخذ مهيار عن الشريف الرضي وسلك مسلكه في فخامة اللفظ وقرب التشبيه والاستعارة ونغمة الوزن وتحكيم الوجدان والتباعد عن المعاني التي يمجها الذوق والوجدان إلا في القليل مثل قوله في الغزل:
غار المحبون من أبصار غيرهم ... ضَنّاً وغرت على لمياء من بصري
إذ أن هذا معنى غير مستقيم ولا يقبله الذوق وإن كان للشعراء مثله. ولا أذكر الآن هل للشريف مثله أم ليس له. ومن دلائل التكلف أحياناً في شعر مهيار أن له قصيدة في الرثاء بها يرثي أهل البيت رضي الله عنهم ومطلعها غزل وهو: (في الظباء الغادين أمس غزال) وجاء في غزلها ذكر الملال والدلال وما إلى ذلك. وهذه أقوال لا تستقيم مع الرثاء عموماً ورثاء أهل البيت خصوصاً. وعلى أي حال فإن أستاذه الشريف أكثر طبعاً؛ وإن كان الشريف أحياناً يقبل معاني الغزل المعتاد الشائع في عصره، ولكن نصيبه من عبث الحضارة أقل من نصيب مهيار، وأقل من نصيب غيره من شعراء الدولة العباسية. ومن أجل متابعة مهيار له سلم في أكثر شعره من هجنة الذوق الحضري العابث، ولكنه من أجل هذه المتابعة لم يُدخِلْ في العربية أثراً من الثقافة والنزعة الأدبية الفارسية. وكنا نأمل أن نجد لمهيار ابتكاراً بسبب جمعه بين الحضارتين الفارسية والعربية، ولكن طريقة الشريف كانت عربية بدوية أكثر منها حَضَرِيَّةً، فنزع مهيار هذا المنزع؛ ولم يكتف بذلك بل إنه بَرَّزَ في أبواب القول التي بَرَّزَ فيها الشريف مثل الغزل الوجداني الرقيق، والرثاء والإخوانيات والعتاب وشكوى الزمان وأهله؛ وبَرَّزَ أيضاً في المديح بحكم مهنته. وهو أحياناً يحتذي طريقة الشريف في المديح بوصف عادات البدو في معيشتهم فيقول:
ضربوا بمدرجة السبيل قبابهم ... يتقارعون بها على الضِيفان
ويقول:(289/10)
كأنَّ حديث من يُثْنِى عليه ... حديث القين عن نصل يماني
والمديح هو الباب الذي كان فيه مهيار أكثر استرسالاً من أستاذه بحكم منزلته وبحكم ترفع الشريف الذي يخاطب الخليفة فيقول له إنه لا فرق بينهما:
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق
ويقل تبريز مهيار في أبواب الشعر التي يقل فيها تبريز الشريف، فلا ينتشي مهيار بما يصف كما ينتشي أبو تمام في وصف الطبيعة، وكما ينتشي البحتري وابن الرومي. ولكن وصف الشريف أقوى وأعرق في الشعر من وصف مهيار. أنظر إلى قول الشريف في وصف القلم:
وينطق بالأسرار حتى تظنه ... حواها وصفر من ضمير أضالعُه
أو قوله في وصف الذئب:
إذا فات شيءٌ سمعَهُ دل أَنْفُه ... وإن فات عينيه رأى بالمسامع
وهذه القصيدة تذكرني قصيدة البحتري التي مطلعها (سلام عليكم لا وفاء ولا عهد) وفيها وصف للذئب منه قوله:
كلانا بها ذئب يُحدِّث نَفسه ... بصاحبه والجد يُتْعِسُه الجد
وتُذْكِر أيضاً والشيء يذكر بالشيء أبيات الفرزدق في وصف الذئب الذي قراه وأطعمه بعكس ما فعل الشريف والبحتري، وهي التي مطلعها (وأطلس عسال وما كان صاحباً).
أما مهيار فله شعر كثير في الوصف أكثره في وصف الشمع أو السمك أو الطبل أو الإسطرلاب الخ. وهو ليس من الطراز الأول. وله أبيات في وصف السماء وهو موضوع كبير يشمل حسنها في مظاهرها المختلفة، ولكنه لم يوفه حقه. وله قصيدة في وصف آلات زينة صناعية في بركة، ولكنها على شهرتها لا تدل على أن الشاعر قد انتشى بموضوعه، فمهيار إذاً لا يُبْرِزُ في الوصف كما يبرز في الموضوعات الأخرى التي ذكرناها وبَرَّزَ فيها أستاذه
والذي جعلنا نأمل أن يبتكر مهيار وأن يدخل شيئاً من أثر الثقافة الفارسية هو ما رأيناه من ابتكار أبن الرومي وما لعله من أثر نسبه الدخيل، وإن كان ابن الرومي قد غلبت عليه النزعة العربية أكثر مما غلبته النزعة الرومية. ومهيار يفتخر بسؤدد الفرس فيقول: إنه(289/11)
جمع المجد من أطرافه (سؤدد الفرس ودين العرب) ويفتخر بفصاحتهم فيقول: (وفيهمُ أَلْسُنُ البيان) ويقول:
إنْ تُنْكِرِي قومي فعن ... دك من بقيتهم بيانْ
وقد نظرنا في شعر هذا الفارسي فوجدناه أكثر عروبة من شعر بعض الشعراء العرب من سكان العراق وفارس، وكان هؤلاء يتملحون ويتجملون بألفاظ فارسية في بعض الأحايين. ونحن لم نطلع على شعر لشعراء دولة الفرس قبل الإسلام، ولا نعرف إن كان شعرهم قد بقي، ولكنا أطلعنا على منتخبات لشعراء الفرس بعد الإسلام عندما استقلت فارس بسبب ضعف الدولة العباسية وسقوطها، وبعضهم أيضاً كان يكتب أيام حكم التتر، وهذه المنتخبات لعمر الخيام وحافظ الشيرازي والسعدي والفيروزي والجامي والنظامي وأنوري وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وابن جمين لا تختلف كثيراً عن شعر شعراء الدولة العباسية من العرب إذا استثنينا ما في بعضها من قصص تاريخ الفرس القديم التي صارت في هذا الشعر أشبه بالأساطير الإغريقية في شعر هومير وغيره؛ وإذا استثنينا أيضاً الأساطير التي حاكها بعض هؤلاء الشعراء في موضوع حياة الطيور والحيوانات الخ على طريقة الخيال الآري. ولم أجد في شعر مهيار أثراً لذلك وإن كان يقرب من الحضارة الفارسية في وصفه بعض مظاهر الترف، لأن الحضارة العباسية العربية كانت شبه فارسية، إذ قد أخذ العرب في العراق وفارس من مذاهب الإحساس والفكر والحضارة الفارسية، حتى أن بعض المؤرخين سمى الدولة العباسية، بالدولة الفارسية العربية. وقد رد العرب هذه المذاهب المستعارة من مذاهب القول والإحساس والفكر إلى شعراء الفرس المسلمين الذين ظهروا عندما استقلت فارس عن الدولة العباسية؛ وهذه هي أسباب أوجه التشابه بين هؤلاء الشعراء وبين شعراء الدولة العباسية العربية. فمهيار لا يقترب في قوله من الثقافة الفارسية والحضارة الفارسية إلا من حيث اقترابه من نزعة شعراء العربية في الدولة العباسية. وهو كما أوضحنا غير مندفع فيها كل الاندفاع ولا منغمر فيها بسبب احتذائه طريقة الشريف في محاكاة النزعة البدوية؛ وهو مع ذلك له شعر في مظاهر من تلك الحضارة لم يطرقها الشريف كوصفه للخمر كما في الأبيات التي يقول فيها:
من فم إبريقها إلى شفة الكأ ... س عمود الصباح ممدود(289/12)
وقد أغرق في تحسين السكر في قصيدته التي يصف فيها آلات الزينة في البركة ومطلعها:
نديمي وما الناس إلا السكارى ... أدرها ودعني غداً والخمارا
وَعطِّلْ كؤوسك إلا الكبير ... تجِدْ للصغير أناساً صغارا
وقد أنقذته محاكاته للشريف من أن يكون أكثر شعره على هذه الوتيرة. وقد ذكرنا أن الوصف في هذه القصيدة لا يُحدث للقارئ نشوة شعرية، وإنما النشوة فيها نشوة مادية للشاعر بالخمر كما ترى. وعندي أن بيتاً واحداً في الوصف للمعري، وهو ليس من شعراء الوصف، قد يُحدث نشوة شعرية للقارئ أكثر مما تحدثه قصيدة في الوصف لمهيار. أنظر إلى قول المعري:
ليلتي هذه عروس من الزن ... ج عليها قلائد من جمان
وكلمة (هذه) في البيت لها أثر كبير في الوصف. وبعض وصف مهيار على سبيل الأحاجي والمعميات وهذا ليس من الوصف العالي
ويجوز لنا أن نقول أن منزلة مهيار من الشريف كانت كمنزلة البحتري من أبي تمام من حيث احتذاء الطريقة. وقد هجا ابن الرومي البحتري فقال:
والفتى البحتريُّ يسرق ما قا ... ل حبيب في المدح والتشبيب
كل بيتٍ له يُجَوِّدُ معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب
وهذه مبالغة المنافس القادح الزاري. إلا أنه مما لا شك فيه أن البحتري على عظم منزلته كان محاكياً أكثر من ابن الرومي. وقد وجدنا أن مهيار يعزب عن نهج الشريف في بعض قوله وروحه. ولا غرو فأن النبات إذا نقل من مكان إلى مكان كانت ثمراته شبيهة بثمرات نوعه من نبات المكان الثاني، وكذلك طريقة الشعر إذا نقلت من شاعر إلى شاعر، فهي يصدق فيها قول الشريف في الآمال:
وتختلف الآمال في ثمراتها ... إذا شرقت بالري والماء واحد
ولمهيار قصائد عديدة ذات نغمة موسيقية عذبة كنغمة قصائد الشريف العذبة، وهو لا يقل عن الشريف في هذه الموسيقية بل قد يزيد أحياناً، ولكن الوجدان الشعري في ثنايا موسيقية الشريف أكثر طبعاً وغزارة؛ وقد يقل الوجدان وتقل الموسيقية في قصائد مهيار المطولة في المدح على أناقتها، ولكن القارئ يشعر في بعضها إطالة الناثر القدير وتوقف الكاتب في(289/13)
تدبيج المديح أكثر مما يشعر من اندفاع السيل الشعري الأتَيّ؛ ولكن أسباب هذا الشعور أن مهيار كان كاتباً قديراً وأنه أوتَيَ سهولة كبيرة في النظم ونفساً طويلاً جداً. وفي بعض مدائحه يحس القارئ سرعة اندفاع الوزن ولكنه يحس أيضاً أن سهولة النظم وطول النفس قد سبقا شاعرية الشاعر. وهذه هي جناية المدح على الشاعر وجناية نظم الشاعر بالأمر أو الطلب أو للحاجة واكتساب الرزق، وهذا أمر يشترك فيه كثير من شعراء الصنعة مع مهيار، إلا أن ما أضر الشعر من ناحية قد أفاده من ناحية أخرى، فقد أصبحت قصائد الصنعة التي ليس فيها اندفاع سيل العاطفة الشعرية نماذج تحتذى في المدارس وفي غير المدارس لتقويم لسان الناشئين المبتدئين؛ ولكن الخطر قديماً وحديثاً هو إما أن يمل الناشئ اللغة بالرغم من طلاوة النماذج وأناقتها لافتقاده سيل العاطفة، وإما أن يظل طول عمره على النماذج الإنشائية لا يطلب وراءها روحاً أو معنى أو وجداناً. ولقد نجى الشريف من أن يكون بعض شعر المدح من شعره نماذج إنشاء فحسب أنه كان يترفع عن التكسب بالشعر أو كانت له عنه مندوحة. والشريف لم يكثر إكثار مهيار وإن كان الشريف مكثراً جداً إذا قيس بالمتنبي أو أبي تمام
وبالرغم من إطالة مهيار في القصيدة الواحدة إطالة كبيرة في المدح، وبالرغم من مؤاتاة سهولة الوزن له فقد كان يهذب ويشذب ويتأنق ويسيء بالإحسان فيها ظنا حتى يقتنع ذوقه بدليل قوله: -
وأُسيءُ ظنا وهي مُحسِنةٌ ... لا كالمسيء ويحسن الظنا
ولعل هذا سبب ولوعه بإطراء شعره في شعره فقد قال في قصائده:
لكنها من معدن لم يكن ... بِسرِّهِ ينبع إلا لِيا
وزاد على هذا فجاء بقول يشبه أقوال المتنبي فقد قال مهيار:
ظهرت بآيتي في غير قومي ... ولم أنظر بمعجزها أواني
أي ظهر قبل ظهور الجيل الذي يستطيع أن يقدره
ولقد قالوا أن الشريف قد اشترك في كتابة بعض ما ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب (نهج البلاغة) وهذا شيء لا يصدق لبعد التزوير من أخلاق الشريف الرضي. وعلى أي حال فليس في شعر الشريف ما يذكرنا بأنه كاتب ناثر، وإن كان له في(289/14)
النثر فضل كبير. وأحسب أن ابن الرومي لو شاء أن ينبغ في النثر نبوغه في الشعر لاستطاع لتقصيه الأجزاء وتتبعه، واتساق كلامه وربط بعضه ببعضه واستطراده وضربه الأمثال وإشاعته المعنى في أكثر من بيت، وما إلى هذه الصفات من صفات؛ ولكن الشعر ملك عليه وقته ونفسه وحاجات لبه وغلبت عليه سهولة النظم. ولم يصل إلينا شئ من نثر مهيار وإن كانت الكتابة هي الصفة المقدمة في كلمة ابن خلكان عنه. ولعل شعره في المدح وغيره من أغراض الأمراء والحكام يغني عن نثره لفظاً ومعنى. ولأناقة مهيار في أسلوبه سببان: الأول محاكاته طريقة الشريف الرضي، والثاني هو أن الدخيل إذا اعتنق لغة حتى تصير لغته واحتاج إلى النبوغ فيها والتكسب بها اضطر إلى التأنق أكثر من اضطرار الأصيل الذي يعتز بأصالته فلا يتعمد المغالاة في التأنق. ومن أجل ذلك كان مهيار أكثر أناقة في الأسلوب من كثير من شعراء العرب في الدولة العباسية ولاسيما شعراء عصره. وليست أناقته بمستحيلة إذ أن عمدة النحو العربي رجل فارسي مثله وهو سيبويه، وهو مثل آخر من أمثال هذه الظاهرة، وهي أن الدخيل قد ينبغ أكثر من الأصيل في لغة بسبب اضطراره إلى استبطان دخائلها، وهي ليست قاعدة عامة بل هي من الأمور الغريبة كغرابة إتقان الكاتب البولوني جوزيف كونراد للغة الإنجليزية وكتابة قصصه بها حتى صارت كتبه تعد من ذخائر الأدب الإنجليزي وحتى صار يعد أديباً إنجليزياً لا بولونياً
وقد أخذ مهيار عن الشريف سر الموسيقى الشعرية وهي لا تتوقف على الوزن وحده بل على الوزن وعلى أسلوب الشاعر في الإفصاح عن إحساسه. ومن قرأ قصيدة الشريف التي مطلعها: (ضَرَبنَ إلينا خدودا وِساما) أو التي مطلعها (أَرَاكَ ستحدثُ للقلب وجدا) أو التي مطلعها (اسلمي يا سرحة الحي) أو التي نطلعها (يا ظبية البان) وغيرها من أشعار الشريف ثم يقرأ شعر مهيار الموسيقي يحس كيف أتقن التلميذ سر تلك الموسيقى كما في قول مهيار:
أتراها يوم صدت أن أراها ... علمتْ أني منْ قتلى هواها
إلى أن يقول:
أُعْطِيَتْ من كل شيء ما اشتهت ... فرآها كل طرف فاشتهاها
أو قصيدته التي يقول في مطلعها:(289/15)
لواعج الشوق والغليلْ ... عَلَيَّ أحنى من العذول
أو التي يقول فيها:
آه على الرقة في خدودها ... لو أنها تسري إلى فؤادها
أو التي يقول فيها:
واذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رُبَّ ذَكرَى قَرَّبَتْ من نزحا
أو التي يقول فيها:
أأنتِ أمرتِ البدر أن يصدع الدجا ... وعَلَّمْتِ غصن البان أن يتميّلا
أو التي يقول فيها:
وهَبْكُم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها
ولو أن أساتذة فن الغناء في عصرنا هذا شاءوا لوجدوا في شعر مهيار نبعاً لا ينضب معينه من الموسيقى والغناء. فيا حبذا لو لحنوا الكثير من قصائده الموسيقية. وقد نبغ مهيار أيضاً في الرثاء كما نبغ الشريف؛ ومن أكثر قصائده في الرثاء وجداناً قصيدة قالها في فتى كان قد تبناه ورباه وهي التي يقول فيها:
فُجِعْتُ به غض الشمائل والهوى ... مُسِنَّ الحِجَا والفضل مقتبل السن
على حين قامت للمنى فيه سوقها ... وحقت شهادات المخايل والظن
ومن قصائده البارزة في لرثاء القصيدة التي مطلعها (مَنْ حاكم وخصوميَ الأقدار) والتي مطلعها (نعم هذه يا دهر أم المصائب) ويقول فيها:
سلامٌ على الأفراح بعدك إنها ... وإن عِشت ليست إربة من مآربي
ومنها قصيدته في رثاء عبد العزيز بن نباتة السعدي اللامية التي يقول فيها:
أَفَلَم يَرُعها منك نَفس حُرَّة ... كنتَ الوحيد بها وأنت قبيل
وقصيدتاه في رثاء الشريف الرضي مشهورتان ولاسيما الدالية التي مطلعها (أقريش لا لفم أراك ولا يد). وقد نبغ مهيار أيضاً في شكوى الزمان والإخوان، وله في هذا الباب أشعار كثيرة مثل قوله:
وأخ مع السراء من عُدَدِي ... وعليَّ في الضراء والشر
مولاي والأحداث مُغْمَدَةٌ ... فإذا انتُضِين فَرَى كما تَفرِي(289/16)
تَعِبٌ بحفظ هَنَاتِ ميسرتي ... كيما يُعَدِّدَها على العسر
ومن شعره في هذا الباب قوله من قصيدة رائعة:
وقلوب أعدائي الذين أخافهم ... مغلولة لي في جسوم أحبتي
ولمهيار قصيدة في العتاب بلغت منزلة عالية وهي التي يقول في أول العتاب منها:
يا أهل ودي وما أهلا دعوتكم ... بالحق لكنها العادات والدرب
وفي اللغة العربية قصائد بارزة في العتاب يصح أن تكون في باب وحدها وإن تفاوتت مراتبها ومنها هذه القصيدة لمهيار وقصيدة البحتري التي أولها (يهون عليها أن أبيت متيماً) والتي مبدأ العتاب قوله (عذيري من الأيام رَنَّقْنَ مشربي) وقصيدة ابن الرومي التي مطلعها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء) وقصيدة سعيد بن حميد التي مطلعها (أَقلِلْ عتابك فالبقاء قليل) وقصيدة المتنبي التي مطلعها (وا حرّ قلباه ممن قلبه شَبِمُ) وقصيدة الطغرائي التي مطلعها (على أثلاث الوادِيَيْنِ سلامُ).
وفي الهجاء يحتذي مهيار الشريف أيضاً. قارن بين قول الشريف الرضي (من كل وجه نقاب العار نقبته) وقوله (يَصْدَى من اللؤم حتى لو تُعَاوِدُهُ) وبين قول مهيار: -
وملثمين على النفاق بأوجه ... صم يصيح اللؤم من قسماتها
ولمهيار أبيات كثيرة ضائعة في ثنايا مطولاته وهي أبيات يصح أن تشتهر وأن يتمثل بها.
مثل قوله:
والشامة البيضاء تنعت نفسها ... لوضوحها في الجلدة السوداء
وقوله:
يقول المرء ما يهوى ويرجو ... ويفعل فعله الفلك المدار
وقوله:
يسمون عيشاً في الخمول سلامة ... وصحة أيام الخمول سقام
وقوله:
ونشتكي دهرنا والذنب ليس له ... والدهر مذ كان مظلوم ومتهم
وقوله:
تقام على الفقير وما جناها ... إذا وجبت على المثري الحدود(289/17)
وقوله وهو ليس من الهجاء بقدر ما هو حقيقة عامة في كل النفوس: -
يجهلني بديهة وإنه ... يزداد جهلاً بيَ كلما امْتحَنْ
عبد الرحمن شكري(289/18)
المجمع اللغوي
وإصلاح لغة الحياة اليومية
للأستاذ عبد القادر المغربي
عضو المجمع
ذكرنا من قبل أن المجمع اللغوي قد اتجه إلى الاتصال
بالمصالح الشعبية لتناول الرأي معها في المصطلحات. وقد
سألنا صديقنا الأستاذ المغربي عن الطريقة التي بسط فيها رأيه
في وجوب عناية المجمع بكلمات الحياة اليومية والحاجة
الداعية إلى هذه العناية فأرسل إلينا هذا المقال.
أمهات الأعمال التي قام بها المجمع في دوراته الماضية خمس:
1 - أوضاع في العلوم والفنون لطلاب المدارس
2 - كلمات في الشئون العامة لجمهور المتكلمين باللغة العربية
3 - تسهيل قواعد اللغة
4 - كتابة الأعلام الأجنبية بوضع علامات اصطلاحية على الحروف العربية
5 - الاهتمام بوضع معجمين: أحدهما علمي للطلاب والآخر لغوي لجمهرة المثقفين
وقد بذل المجمع همة عالية في مباشرة أعماله هذه وكان سعيه موفقاً فيها. اللهم إلا ناحية واحدة من هذه الأعمال مازالت محتاجة إلى عناية وتخير أقرب الطرق لحسن الإنتاج فيها
وأريد بتلك الناحية إصلاح لغة الحياة اليومية التي ترجم لها المجمع بقوله (كلمات الشئون العامة) - كأدوات المنازل وما تتناقله الألسنة والأقلام في الدواوين والأندية والمدارس والمتاجر مما يعبر عنه بألفاظ دخيلة أو عامية: فقد وضع المجمع لهذه الشئون أكثر من مائتي كلمة. ومن مواضع العجب أن هذه الكلمات تكاد تكون وحدها مثار اللغط في نقد المجمع والغض من قيمة إنتاجه(289/19)
وهذا يدل على أن (كلمات الحياة العامة) هي أول ما يتشوّف إليه الجمهور من نتائج أعمال المجمع. لأن اللغة اليومية أصبحت قطعةً من حياته وجزءاً من عقليته. فلا جرم أن يكون إصلاحُ هذه اللغة وتقويمُ اعوجاجها مثَلَه الأعلى وموضع رغبته المُلحَّة على اختلاف الطبقات:
من طلاب المدارس الذين أضربوا منذ أشهر وكان من جملة شروط الرجوع عن إضرابهم أن تدخل اللغة العربية في البنوك الأجنبية كما أشار إلى ذلك بعض الصحف اليومية
- إلى رجال الصحافة الذين قال أحدهم في (رسالته): (تريد اللغة العربية من أولياء العهد الجديد أن تأخذ مكانها الشرعي في المحاكم المختلطة، وأن تُطَّهر من شوائب العُجمة في الدواوين والقوانين والجيش)
- إلى طبقة التجار والمستبضعين الذين كان تَعَرَّض لي أحدهم في الشارع وسألني أن أتوسط المجمع في وضع كلمة عربية تقوم مقام كلمة (مانيكور الفرنسية ويراد بها علبة تتضمن مجموعة أدوات تُسَوَّى بها الأظفار وتجمَّل. فلم أوفق إلى إجابة سؤله واستمهلته ريثما يأتي دور هذه الكلمة في (كلمات الشئون العامة) التي يضعها المجمع. أجبته بهذا وأنا خجِلٌ وكأنني أسمعه يقول لي: إلى أن يأتي دور هذه الكلمة تكون تغلغلت في لغتنا، ومَرِنت عليها ألسنةُ زبائننا والمستَخْدمين في مخازننا، فيصعب إذ ذاك تطهير اللغة منها. هكذا تخيَّلته يقول لي. ومازلت أتحين الفرص للعود إلى الحديث مع المجمع في هذا الموضوع حتى كلَّفتني إدارته أخيراً تهيئة اقتراح أقدمه إليه في جملة الاقتراحات التي طلبت من الأعضاء
فقلت: ها قد سنحت الفرصة لاستمالة نظر الإخوان إلى هذه المسألة التي إذا قضوا فيها أمراً كان قضاؤهم مؤدياً إلى إصلاح اللغة اليومية. وهو ما يرغب فيه الجمهور بأشد من رغبته في أعمال المجمع الأخرى: فإن المصطلحات الفنية التدريسية، وتسهيل قواعد اللغة، وكتابة الأعلام الجغرافية، ووضع المعاجم، وتحقيق ألفاظها التاريخية - كل ذلك على ضرورته، إنما تلمس فائدته بعد سنين. ولا يلمسها ويستفيد منها إلا طبقة المثقفين. فتبقى الحاجة ماسة والنقص ظاهراً في نتائج أعمال المجمع في نظر الجمهور كما يبقى المجال واسعاً أمام الناقدين.(289/20)
والحق يقال إن اكتفاء المجمع في أن يضع من نفسه لنفسه كلمات يسميها كلمات الشئون العامة ومعظمها من غريب اللغة ثم يودعها معجمه أو مجلته - محاولة قليلة الفائدة لا تحقق الجانب الأعظم من المثل الأعلى الذي أنشئ المجمع لأجله، ولا تشفي غلة جمهور الراغبين في تعميم الإصلاح لكل ناحية من نواحي الثقافة اللغوية.
ولا يخفى أن حكم الجمهور - في عرض المعلومات اللغوية عليه - ليس كحكم تلاميذ المدارس الذين تملى عليهم إرادة أساتذتهم فيتلقَّوْنها من دون تذمر ولا مناقشة، وإنما الجمهور كالمستهلك أمام مخزن التاجر وبضاعته. فإن وافقت ذوقه وإلا هجرها وبحث عن أخرى غيرها.
وفي المادة الثانية من مرسوم إنشاء المجمع الملكي إشارة إلى أن هنالك طرقاً يمكن سلوكها في جعل اللغة العربية وافيةً بحاجات الحياة في العصر الحاضر. وذلك (بأن يُحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب)
فأنا أرى أن يستفيد المجمع من هذه الطُرُق التي أشار إليها المرسوم (في جعل اللغة وافيةً بحاجات الحياة في العصر الحاضر) فتتألف لجنة من أعضائه تسمى (لجنة لغة الحياة العامة) أو (لجنة اللغة اليومية) ويكون لها فوق ذلك وظيفة الدعاية والنشر والاتصال بجمهور المتكلمين اليوميين على اختلاف أعمالهم ومصالحهم. فتتلقى من إدارات الصحف والدواوين والمحاكم والجمارك والبنوك والمعامل والمتاجر بل من كل سائل الإشكالَ الذي يعرِض له في شأن وضع كلمة عربية مكان كلمة أعجمية، أو استعمال تعبير فصيح مكان تعبير دخيل، أو غير ذلك من الأسئلة المتعلقة باللغة اليومية مفرداتها وتراكيبها. .
وتعلن اللجنة اشتراطها على السائلين ألا تتجاوز أسئلتهم الاثنين أو الثلاثة لتتمكن من موافاة رغبتهم بالسرعة المطلوبة فتقرُّ بعض الكلمات أو التراكيب المختلف في صحتها أو تضع مكانها كلمات أو تراكيب عربية ثم تأخذ رأي المجمع فيما فعلت، ثم تنشره في الصحف اليومية تحت عنوان (أوضاع لغوية مؤقتة) فتسمع رأي الفضلاء في هذه الأوضاع وتعّدل فيه وتحوّر حتى تنتهي إلى نتيجة يطمئن إليها القلب ويُرضى أكثرية السائلين، والصحف اليومية ومحرروها هم لعمري أول من يحسن أن تعتمد عليهم اللجنة(289/21)
في مؤازرتها وترويج عملها
نعم إن في هذا العمل كلفة وفيه مشقة، ولكن فيه فائدة عاجلة، وإجابة رغبة مُلحة، وإصلاحاً مباشراً محسوساً
هذا هو الاقتراح الذي قدمته إلى المجمع ويكفيني منه أن يقبله مبدئياً ثم هو ينظر في تنظيمه وتهيئة الوسائل التي تجعله منتجاً مثمراً
على أن اقتراحي هذا له التفات إلى اقتراح آخر علاقته به علاقة البناء بالأساس. ذلك أن قرار (التعريب) الذي وضعه المجمع في دورته الأولى كان مضيقاً جداً مذ جُعل التعريب فيه من حق عرب الصدر الأول بحيث لا يجوز لنا نحن أن نقدم عليه ونقتحم حرمه إلا عند تحقق الضرورة القصوى. وتحديد هذه (الضرورة) من أصعب الأمور. كما أن إبهامها وشمول لفظها يؤدي بطبيعة الحال إلى جدل واختلاف كبير
ولعل المجامع اللغوية التي كانت تقوم في القاهرة لم تخفق في عملها إلا لاصطدامها بصخرة التعريب وتضييق الخناق فيه
فاللجنة التي اقترحت تأليفها وسميتها (لجنة لغة الحياة العامة) لا أراها تبلغ غرضها وتؤتي أكلها ما لم يعدِّل المجمع قرار التعريب المذكور، فيجيز التعريب لنفسه بشروط أرفه وأوسع مما فصله في توجيه قراره الذي نشره في الجزء الأول من مجلته
فإن قدرت اللجنة على إقناع المجمع بذلك وإلا فلتقنعه على الأقل بلزوم قبول الكلمات الدخيلة اليومية المتفشية في لغتنا، والتي أصبح من المتعذر تطهيرها منها بالرغم من وضعنا لكثير منها مرادفات عربية فصيحة فماتت الفصحى وبقيت هي، أو بقيت الفصحى حية بجانبها: مثلما بقيت كلمة (بريد) حية بجانب كلمة (بوسطة)، و (حوذي) بجانب كلمة (عربجي)، و (ردهة) بجانب (صالون)، و (مضخّة) بجانب (طلمبة)، و (فندق) بجانب (أوتيل)
ولم تقو هذه الكلمات العربية على إماتة الأعجميات، كما لم تقو كلمات (المغْد. والكهكَب. والأَنَب. والحَيْصل. والحدَق) العربية على إماتة أختهن الأعجمية. أعني كلمة (الباذنجان)
وهأنذا أذكر طائفة من الكلمات المعربة الفاشية إلى أقصى حد في لغتنا اليومية لتكون نموذجاً لما أريده بالكلمات العصرية التي لا تمكن إماتتها وينبغي الترخص في استعمالها:(289/22)
سينما. صالون. عَرَبة. عربجي. كلسون. جرنال. دستة. غاز. سراي. بلكون. شاويش. طاولة. سَبَت. شوال. بنك. بوسطة. فُرْشة. شنطة. فِلْم. كادر. أوتيل. كُبْري. بُرْنيطة. طلمبة. بوفيه
ولماذا لا يكون لهذه الكلمات التي وُلدت تحت مواقع أبصارنا حق في الحياة أسوة بكلمات أعجمية أخرى توارثنا استعمالها من دون نكير ولا يعرفها سلفنا الأول مثل كلمة: بقجة. بُودَقة. بركار. تخت. درابزين. دربس. دَرْفة. ماهيّة. طربوش. فوطة. الخ
ويمكن تلخيص اقتراحي في هاتين الجملتين:
1 - وجوب الاتصال بالجمهور للاستعانة به في إصلاح لغته
2 - تعديل قرار التعريب: إما بتجويزه للمجمع، بمقياس أوسع، وإما باستثناء المعربات الحديثة التي تحجرت في لغتنا اليومية وأصبح من المستعسر تجنب استعمالها.
المغربي(289/23)
الحرب
تصوير السير ا. لاندسير من مجموعة (الدكتور أحمد موسى)
ياَ صُورَة ترنو إليها العيون ... واجِمَةً كاسِفَهْ
تُوحي إلى الأنْفُسِ هَوْلَ المنون ... في اللَّمْحَةِ الخاطِفه
يَضِجُّ بالويْلاتِ هذا السُّكونْ ... كأنما الأرضُ به راجِفَهْ
لا يَمَّحِي الويلُ بها والشُّجُونْ ... ولا تنِي رَعْدَتُهَا القاصِفَهْ
أَرَى على الأرضِ طيوفَ الجحيمْ ... في هذه الغاشِيَهْ
يَطُوفُ بالنَّاسِ عذابٌ أليمْ ... منْ ناَرِهَا الحامِيه
نارٌ تَلَظى في الورى من قديم ... وأنْهُرٌ مِنْ من دَمِهِ جَارِيَهْ
تَرُوعُني كَبْوَةُ هذا الجوادْ ... يَسْقُطُ لاَ مِنْ وَهَنْ
الذُّعرُ في عينيه هِزَّ الفؤادْ ... وزاد فيه الشَّجَنْ
كم صَوَّرَ الرُّعْبَ بهذا الطَّراد ... وما دهى النَّاسَ به مِنْ مِحَنْ
ماذا رَمَى الفارِسَ من صَهْوَتِهْ ... يا عَيْنُ ماذا رَمَاهْ؟
كَمْ كُرْبَةٍ للنَّفْسِ في ضَجْعَتِهْ ... وَكَانَ غَضَّا صباهْ
الموتُ لا يَنْقُصُ من رهْبَتِهْ ... ما ذاعَ من أسْبَابِهِ في الحياهْ
مازالَ مِنْ (هَابيلَ) في رَقْدَتِهْ ... ما طَافَ مِنْ رُعْبٍ فأَصْمَى أخاهْ!
ياَ سَاحِراً لو أنَّ لي فَنَّهُ ... لزدتُ في رَسْمِه
أخُطُّ طِفْلا مُرْهِفاً أُذْنَهُ ... يُصْغِي إلى أمَّهِ
يَسْتَوْحِشُ اللَّيلَ إذا جَنَّهُ ... وما رَأَى أُنْساً مَدَى يومِه
يَلثَغُ يا أُمَّاهُ طَالَ الغيابْ ... أيْنَ تَولّى أبي؟
يا وَيْلَهَا! كَمْ لَفَّقَتْ مِنْ جَوَابْ ... لطِفْلِها الصَّاخِبِ!
ماذا جنت؟ طَالَ عَلَيْهَا العذابْ ... أفِّ لهذا الوالِدِ الغائب!
في سَاحَةِ الموْتِ خَيَالُ السَّلامْ ... يزيدُ في كرْبِهِ
تطوف رؤيا بيته إذ ينام ... وملتقى صحبه
لكنه يَفْزَعُ قَبْلَ القِيَامْ ... مِنْ يقظة الأوهام في قلبه!(289/24)
يَا وَيْحَ للإنسان من نَفْسِهِ ... وَطَبْعِهِ الغَالبِ
يُسَابِقُ الموتَ إلي رَمْسِهِ! ... أّلَيْسَ بالذَّاهِبِ؟
وغايَةُ المِسْكِينِ من بأسِهِ ... الويل للمغلوبِ والغَالِبِ!
الخفيف(289/25)
السلام
تصوير السير ا. لاندسير من مجموعة (الدكتور أحمد موسى)
سبحانك يا سلام!!
لقد بسطت على الأرض المحروبة جناحك الرفيق المشْبِل، فإذا الدار
أمان والفزع واطمئنان والقلوب مؤتلفة والشمل جميع!
هذه ساحة الحرب أصبحت مرعىً للقطيع الراتع؛ وهذه آلة الموت غَدتِ كنَّا للحَمل الوادع؛ وهذا الوعْل النطَّاح في أمسه لا يدري ماذا يصنع بقرنيه في يومه؛ وهذا الكلب الحارس نسى اللص والذئب فاستغرق في نومه؛ وهذه الأسرة الجميلة تنعم بعيشها الغرير تحت سماء الأمن، فلا هَمٌّ على والد ولا حزن على ولد!
تباركت يا سلام!!
لقد مددت على الدنيا المكروبة ظلك الرخِيَّ الوارف، فإذا الزرع جميم والخير عميم والحال متسقة والدهر مطيع!
هذه الغنم ترعى أثيث العشب هانئة فلا قنابِلُ ولا نيران؛ وهذه الطير تسبح في صفاء الجو هادئة فلا صواعق ولا دخان؛ وهذه السفينة تمخر في عباب البحر مطمئنة فلا طرابيدُ ولا قرصان؛ وهذه الطبيعة تغرق في فيض النعيم ووضاءة الفردوس مسترخية فلا خصام ولا عدوان!
حنانيك يا فاطر السموات والأرض!
لقد سميت نفسك السلام، وسميت ذاتك المؤمن: فلماذا جعلت للإيمان شيطاناً واحداً لا أكثر، وجعلت للسلام شيطانين اثنين هما الّدُتْشي وهتلر؟!
اللهم إن في السلام نعمة، وإن في الحرب حكمة؛ وبين نعمتك وحكمتك ضلت عقول الناس!
ابن عبد الملك(289/26)
تطورات العصر الحديث
في الخلق السياسي
للأستاذ محمد لطفي جمعة
نشرت مجلة أوربا التي يشرف على تحريرها الأستاذ رومان رولان أشهر كتاب فرنسا المقيم في بلدة نيوفيل على شاطئ بحيرة ليمان بسويسرا، دراسة مستوفاة عن حوادث السياسة التي استجدت في أوربا بعد ظهور الفاشية والنازية، وألم فيها ببحث جليل عن حياة هتلر وموسوليني بقلم كاتبة أسراره سنيورينا ليندا رينا لدي وهي التي خدمته بضع سنين، فآثرنا تلخيصها لمجلة الرسالة التي يعد دخولها في عامها السابع فتحاً جديداً في العلم والأدب والثقافة العصرية
(ل. ج)
في تاريخ الأمم وأخلاقها ساعات حاسمة ومواقع فاصلة فتتميز عن الأخرى وتفضلها بالطريقة التي تقابل بها صروف الدهر في تلك الساعات وهاتيك المواقع. ومثلها في ذلك مثل الأفراد لدى الملمات والشدائد، فترى أمة يهولها الاعتداء الأجنبي عليها ويفت في عضدها ويضعف من نخوتها وينهك من إرادتها، وما تزال تنحط وتتهالك وتنحل عناصرها حتى تتوارى وتهلك. وهذه عاجزة عن الكفاح في سبيل الوجود وهي أمة كتب عليها الفناء. ولا فرق في ذلك بين أمة قديمة أو أخرى حديثة، عريقة أو طارئة، متدينة بدين منزل أو وثنية، شرقية كانت أو غربية. وهناك أمة تزداد قوة كلما تعرضت للآلام، وتنمو فيها الفضائل الدفاعية والهجومية كلما اعتدى عليها الأغيار أو قبض على خناقها الغرباء والغرماء. تتيقظ فيها فكرة المجد كلما حاقت بها الأخطار، وتدب فيها حيوية جديدة كلما حاول عدوها إدناءها من الموت، وتسري في أعضائها دماء جديدة وتجري في أعوادها أمواه الحياة
لا نريد أن نعرض للنظامين النازي والفاشي بخير أو بشر، لأننا لا نريد أن ننزل بهذا البحث إلى مستوى الجدل، فإننا نحب أبداً أن نحلق فوق الحوادث الراهنة وإن كنا نحترم السياسة ونقدرها. ولكننا نعلم أنها كثيرة المزالق، ومواطن التحليل فيها تدني من الخطأ الذي قد لا يغتفر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النظام الفاشي الذي ابتكره السنيور(289/27)
بنيتو موسوليني المعروف في العالم باسم دوتشي أي الزعيم، وتبع آثاره هيرادولف هيتلر المعروف في العالم باسم فوهرر أي الزعيم أيضاً، قد أثبت وجوده وقدرته على الحياة فقدم بذلك البرهان التاريخي الذي لا بقاء لنظام اجتماعي أو سياسي بدونه، كما قدمت حكومة السوفيت برهانها منذ سنة 1917 إلى يومنا هذا. وفوق هذا قد أثبت هذا النظام والقائمون به أنه أدى لوطنهم خدمة جلَّى وقضى على شرور كثيرة وجلب خيراً وفيراً ودلَّ بذلك على أنه النظام الصالح للوطن الإيطالي، نظام المستبد المحب للخير وقد أثنى عليه كل من شهده وجنى شيئاً من ثماره داخل إيطاليا. وقد قلب إيطاليا رأساً على عقب، وقال بعض محبذيه إنه جعل من بلادهم جنة على الأرض، وإن الذين زاروا إيطاليا قبل تفشيه يكادون لا يتعرفونها بعد انتشاره وقيامه وتسلطه، لأنه صبغ كل شيء بصبغته التي أساسها النظام المطلق والآمن المطلق والأمانة المطلقة، ولكن هذا النظام العجيب الذي وحد كلمة الأمة وجعلها كرجل واحد وأخضعها لرجل واحد وعلق سائر آمالها برجل واحد، قد حكم عليه ذووه بأنه نظام قومي، حتى خطب الدوتشي نفسه فقال (إن الفاشية بضاعة لا تصلح للتصدير، ولا تضمن أرباحها خارج حدود إيطاليا) ولا نعلم إن كان قال هذا القول تواضعاً أو حثاً للأمم على الاقتداء به، ولكن وجب علينا أن نصدقه لأن رب الدار أدرى بما فيها. وإن كان هذا النظام قد انتحله هيتلر بتحوير كبير وطبقه في بلاده حتى بذ التلميذ أستاذه. ولم نسمع بصاحب مذهب سياسي أو اجتماعي قبل الدوتشي يحجر على مذهبه ويحرم عليه الخروج من كسر بيته، بل تعود أصحاب المذاهب أن ينسبوا إليها الصلاحية المطلقة والقدرة والنجاح في كل زمان ومكان؛ وإذن لابد أن يكون سنيور موسوليني قد ذكر هذا الرأي عن مذهبه لحكمة خفيت عن سامعيها في حينه. وإلا فكيف كان اغتباطه بالنازية واتحادهما وابتكارهما محور برلين وروما، ثم تشجيع فرانكو في وطنه حتى ذاق الأسبان بأس بعض وخربت بلادهم حتى صارت يبابا باسم مناصرة الفكرة الفاشية النازية. وأظن بعض الناقدين ألمعوا في كتبهم فقالوا أنه نظام يعلق الأمة بأهداب رجل بعينه، فإن شاخ أو مرض أو مات تعطلت الإدارة الحكومية وتلكأت في انتظار ظهور خير خلف لخير سلف، في حين أن الواجب يقضي بأن تكون القوانين العامة والخاصة هي الأداة الصالحة للحكم بدون اعتبار الأشخاص. ومهما يكن حكم المستقبل على الفاشية فإن الكثرة من الكتاب(289/28)
الموالين لها أجمعت على نفعها في مسقط رأسها وخالفتها القلة المدركة من خصومها. ومنهم من أُوذي وهاجر باختياره أو نُفِي مرغماً؛ ومنهم من ألف كتباً صوب فيها سهام نقده إلى الفاشية. وإن يكن في المظاهر ما يوهم بأن النازية الألمانية تقليد للفاشية الإيطالية، فلا يصح القول بأن الهتلرية نوع من الفاشية أو تقليد لها، وإن كانت تشبهها في تفرد رجل واحد بالسلطة. ولكن الذي يفرق بينهما هو أن الأولى قامت باسم الإصلاح الداخلي ونصرة ذوي رؤوس الأموال ومقاومة الاشتراكية ومطاردة العمال الذين احتلوا المصانع الإيطالية في سنة 1922 وقدم زعيمها فروض طاعته للملك وجامل الكنيسة الكاثوليكية وانضوى تحت لوائهما. أما النازية الهتلرية فاشتراكية وطنية دينها عظمة دوتيشلاند ومجدها في غلبة الرايخ الثالث، وقامت باسم حماية الوطن من الاعتداء الأجنبي والخلاص من قيود معاهدة فرساي وتنفيذ خطط بسمارك القديمة، من التوسع في أوربا والشرق وتحطيم الشيوعية. وإذن قامت الهتلرية لتكون وسيلة لها غاية تخالف غاية الفاشية. دع عنك الاختلاف في أخلاق الأمتين وتاريخهما وعناصر حياتهما. وكلتاهما قد هضمت حقوق الفرد وجعلت الدولة هدفاً أسمى وإن كان في ذلك تأخير (المواطن) والتضحية به، مما يختلف عن المدى الذي وصلت إليه الحضارة الحديثة في تفكيرها وسياستها ومجموع مبادئها، ولاسيما عند الشعوب الإنجلوسكسونية والتيوتونية
وإذن لا تكون الهتلرية وليدة الفاشية ولا شقيقتها الصغرى، لأن الهتلرية ثمرة التاريخ الحربي والسياسي في ألمانيا، وخلاصة نوع من الفلسفة الروحية أو التصوف السياسي منشأه مجامع ميونيخ السرية التي بدأت أثناء الحرب. أما الفاشية ففكرة مبتكرة قامت في ذهن رجل واحد نتيجة لإدمانه قراءة كتابين: (وعود الزواج) لماتزوني وكتاب الأمير لنيكولا ماكيافيلي. وقد صدق حسبانه أنه يصلح شعبه بتنفيذها ووجد معونة كبرى من الأسرة المالكة ومن أصحاب المصانع والكنيسة، وتشجيعاً من الشبان الطامحين إلى الحلول محل كهول السواس وشيوخها، وكانوا إذ ذاك متلهفين على القوت والمجد، وكان بعضهم يرقبون المنقذ المنتظر يظهر فجأة في أفق الوطن وكان إذ ذاك خالياً في تلك الفترة من العظماء القادرين على حمل أعباء الزعامة. فوقع اختيار الحظ على موسوليني. كان بنيتو موسوليني في أول أمره صحفياً اشتراكيا متطرفاً، يحرر في مجلة (أنانتي) إلى الأمام،(289/29)
لسان حال الحزب الاشتراكي وزعيمه فيرو أحد أساتذة الجامعة. ولما أعلنت الحرب ساهم في أوائلها، ثم لم ترقه فهاجر إلى سويسرا حيث ذاق مرارة الفاقة والتسكع، وعاد إلى وطنه يجرر أذيال الخيبة فحدث له ما حدث لاسكند كيرنسكي في بطرسبرج سنة 1917. غير أن الفرق بينهما أنه استمر ونجح حيث تردد كيرنسكي فخاب. فهو ابن ثورة اقتصادية قلب ظهر المجن لحزبه في اللحظة الأخيرة.
ولا يفوتنا أن أوربا أصبحت بعد الحرب مباشرة نهباً بين الدكتاتوريين فظهر من طرازهم بريمودي رفيرا في أسبانيا، وبانجالوس في اليونان، وبلودوسكي في بولونيا، وتحدثوا عن دكتاتورية مزمعة في فرنسا ورشحوا لها أندريه تارديو الذي كان رئيس وزارتها. ففي ظلال هذه الدكتاتوريات وفي مثار النقع الذي طاف بالأجواء قامت الفاشية وأضافت إلى قميصها الأسود درع الدكتاتورية الفولاذي.
وتضافرت بعض الظروف التي لم تكن في الحسبان وهي نتيجة الحالة السياسية العامة في أوربا فجعلت لإيطاليا وألمانيا مكانة توشك أن تضع في يدها ميزان السياسة الدولية، ولاسيما بعد فوزهما الأخير. وتراخت إنجلترا وفرنسا في تأييد نفوذهما لانشغالهما بالمسائل الداخلية. وجدت في الشرق حرب الصين وتفوق اليابان فانضمت إليها ألمانيا نكاية في روسيا. ورجعت أوربا في غير وعي إلى سياسة الاتفاقات السرية. ولعل التناطح بين الشعوب ليس إلا تطاولاً بين الزعماء ومظهراً لقوة إرادتهم ودليلاً على رغبتهم في الفوز والانتصار على مزاحميهم في ميادين المجد وعلو الصيت وضخامة الشهرة. ولدى كل أمة من الأمم مؤثرات وعوامل فكرية تؤثر في نفوس بنيها ولا تكون الزعامة الصحيحة إلا لمن يعرف استعمال هذه المؤثرات والعوامل التي تتحكم في النفوس؛ فإذا ما اهتدى الزعيم أو المرشح للزعامة إلى تلك العوامل تمكن بسهولة من جمع الأفكار وتوحيد الإرادات الفردية حول فكرته الخاصة وإرادته. وهيهات أن ينجح الزعيم ما لم يكن مفتوناً بالفكرة التي صار داعياً إليها حتى تستولي عليه استيلاء لا يرى معه إلا الفكرة التي ينادي بها؛ وبدون هذا الإيحاء الذاتي لا يمكنه أن ينجح في التأثير في أذهان الجماهير، لأنه لا شيء يحرك همتها مثل مظهر الأيمان الذي يبدو على شخص الزعيم. وإن يكن بعض الزعماء أو قادة الفكر ليسوا من النوابغ في صدق الآراء وصحة النظر، إلا أنهم من أهل الهمة(289/30)
وذوي الإقدام. والفرق بين الفيلسوف والزعيم أن الفيلسوف كثير التأمل، والتأمل يؤدي إلى الشك، والشك ينتهي بصاحبه إلى السكون دون الحركة، لأن الحركة لا تصدر إلا عن تصميم الإرادة وهو ثمرة اليقين؛ أما الزعيم فلا يتأمل لأنه لا يشك، وحينئذ لا يركن إلى السكون؛ وإذن تكون قوة الإرادة للزعيم أنفع من سلامة الرأي وصدق النظر وحسن التبصر في العواقب، ولكن الذي يفقده الزعماء من تلك الناحية تعوضه عليهم قوة اعتقادهم في سلطانهم على الجموع وتلك الجموع لا تصغي إلا لذوي الإرادة النافذة الذين يتسلط عليهم العقل الباطن ويملك زمامهم. فإذا ما أصبح صوت الزعيم مسموعاً من جماعة، اندمجت إرادتها في إرادة الزعيم وتناست شخصيتها والتفت حول الزعيم ذي الإرادة المتحدة. يسألون عن الطغيان والجبروت والاستبداد كيف نمت في البيئات الدكتاتورية والزعامة في أول أمرها لا تحتاج إلى الاستبداد أو الطغيان، والمشاهد أن الذين قاموا بأدوار الطغاة أفراد من المؤمنين الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا طول سوى العقيدة والإيمان. فإذا ما وصل الزعيم إلى غايته احتاج حتماً إلى الاستبداد ليستبقيها.
ويعتمد الزعماء من هذا الطراز في تبليغ دعوتهم على الكلام والخطابة والكتابة، وزعماء العالم اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير في الجماهير. وعمدتهم على تكرار جوامع الكلم لترسخ في أذهان سامعيها. وإذا رجعنا إلى خطب زعماء الفاشية والنازية فلا نجد إلا نفس المعاني أفرغت في قوالب شتى لعلمهم بغريزتهم وإدراكهم الباطني أن التكرار يترك أثراً عميقاً في أذهان الخاصة والعامة على السواء. فالزعيم حاذق في حفر فكرته في أذهان أتباعه. وتبدأ الأفكار في الطبقات النازلة ثم ترتقي إلى الطبقات الوسطى فالعليا مثل انتشار أفكار الثورة الفرنسية وارتقائها من طبقات الشعب إلى الوزراء والعلماء. وكذلك الأديان فإنها تنتشر أولاً عند المظلومين والمحاويج والمحرومين والمعوزين إلى استعادة الكرامة والحقوق، وهذا سر انتشار النصرانية والبوذية بين الضعفاء والفقراء. وقد سادت الاشتراكية أولاً طبقات العمال حتى وصلت إلى العظماء فصار منهم اشتراكيون متطرفون. وكان عدد الذين دخلوا في زمرة الإسلام من الأغنياء والكبراء محدوداً ثم أقبل عليه كل فقراء الجزيرة العربية وعاصمتها الوثنية (مكة) لأنه كان في أول أمره دين مساواة فاستظلوا بسلطانه. وقد أدت الأحوال الطارئة في أوربا، وضعف الحكومات في بعض(289/31)
الممالك بعد الحرب وسقوط العروش وتزعزع الثقة في الآراء القديمة، إلى حلول بعض الزعماء محل السلطات الحاكمة ومحو تلك السلطات وتلاشيها في أشخاصهم
محمد لطفي جمعة(289/32)
على هامش الفلسفة
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
هذه أولى كلمات اعتزمت بمعونة الله وتوفيقه موافاة مجلة الرسالة الغراء بها إن تفضلت وفسحت لها مكانا متواضعا بينها رأيت في نشرها خيراً لطلبة الأخلاق في الأزهر وفي غير الأزهر لأنها تتناول بحوثاً لا يستغني عنها دارس الأخلاق
دعاني إلى التفكير في نشرها، بعد أن تعبت كثيراً في تحقيقها، الرغبة الخالصة في المساهمة في إقامة الأخلاق ودراستها على دعائم علمية صحيحة ثابتة، وما أعلمه من أن أحداً لم يتوفر على بحثها مع مسيس الحاجة إليها. وهل يليق بدارس الأخلاق أن يذكر مثلاً (أنها علم من العلوم) دون أن يكلف نفسه عناء البحث في صحة هذا الإطلاق أو عدم صحته؟ ثم أليس من الضروريان يتعرف الباحث بعد ذلك المعين الذي ترجع إليه الأخلاق، والطريق القويم إلى تحديد القانون الأخلاقي؟
هذه المسائل التي تحتاج إلى صبر وطول أناة في بحثها، ونحوها من موضوعات الفلسفة الأخلاقية وما يتصل بها، هي بعض ما عنيت وأعني بدراسته، وما أرجو أن أوفق فيه إلى الصواب غن شاء الله تعالى
الأخلاق والعلم
العلم اليقين، أو المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص. أو المعرفة العامة التي تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، هذه التعاريف كلها بمعنى تقريباً. فهل الأخلاق وهي تبحث في الخير والشر والحق والواجب وتعنى بتحديد القانون الأخلاقي وتعرف المثل الأعلى وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية - هل الأخلاق، وهذا أهم مباحثها، يصح أن توصف بأنها علم من العلوم؟ وبعبارة أخرى هل وصلت أو تصل الأخلاق إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حداً يجيز لنا وصفها بأنها حقائق علمية، فيكون هذا الفرع من الدراسات الفلسفية علماً من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة؟ هل هي دراسة علمية، أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد(289/33)
التي سيطرت على الأمم في مختلف الأزمان والبيئات؟
نترك الإجابة مؤقتاً عن هذا التساؤل لنتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضاً، هي إن العلم على اختلاف أنواعه كعلوم الطبيعة والرياضة والمنطق والنفس والاجتماع والحياة والتاريخ، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها
العلم لا يعارض الأخلاق، لأن العقل العلمي يدفعنا إلى معرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها دون أن نعتمد في بحثنا على أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد تمحيصاً كافياً. لكنه لا يمنع أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي يسمو على ما تعارفه الناس جميعاً
كذلك العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها. العلم يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، ولا يُعنى البتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون. هو يتحقق لكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها - ومنها علوم النفس والتاريخ والاجتماع - لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها. لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجاً عنها
علم الحياة مثلاً يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وأن الحرب بينها سجال، وويل للمغلوب فيها لأنها حرب الحياة أو الموت. القوي يفترس الضعيف، والغلب والبقاء للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. هذا هو قانون الحياة بين أنواع الحيوان؛ فهل لنا أن نتخذ ذلك مبدأ لنا في أعمالنا؟ هل مما يتفق مع الأخلاق النبيلة أن نقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء، وبقاء الأقوى؟ أو الخير في أن نحكم أنهم على العكس من هذا يجب أن يتساعدوا، وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهاهو ذا علم النفس يكشف لنا عما يتركز في طبائعنا من ميول وشهوات وعواطف مختلفة، منها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار. أليس لنا أن نعطي لكل من هذه الميول والعواطف قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع، وقفنا على ما كان من حرب وتطاحن بين العالم في العصور المختلفة القديم منها والحديث. هل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في(289/34)
اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ العمل على استئصال العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح لنا يوماً ما أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة إنسانية متبادلة
الروح العلمي لا يتطلب منا أن نأخذ العلوم كدليل أخلاقي وحيد، وإن شئت التعبير على نحو آخر لا يتطلب منا أن نأخذ مما تكشفه لنا العلوم من حقائق وقوانين مثلاً أعلى نتجه إليه في أعمالنا ونسير على ضوءه وسناه
إن العلم لا يعارض الأخلاق ولا يغني عنها قط، بل هو يقرر ضرورة وجودها ولا يستغني عنها، وبدونها يكون إثمه أكبر من نفعه. ولنا في تحليل نفسيات العلماء وكشف العواطف التي كانت تسودهم في حياتهم وبحوثهم العلمية ألف دليل ودليل إن صح هذا التعبير. ففي هذه الجهود المضنية التي قام بها العلماء لفهم الطبيعة وأسرارها وللوقوف على النظم التي تسير عليها، وفي تلك المشاق التي عاناها قادة الأمم وهداتها والمحسنون إلى الإنسانية، نجد عاطفة أخلاقية كانت تملك على هؤلاء الأبطال ألبابهم ومشاعرهم وتسوقهم إلى أداء رسالاتهم متحملين في سبيل ذلك ما تهددون بعضه عزائم صغار النفوس؛ تلك العاطفة هي الرغبة في خدمة الإنسانية وتحسين حالتها المادية والعقلية. وأيضاً القيمة العالية التي يراها العلماء للعلم، تفرض أن الأعمال الإنسانية ذات قيم مختلفة: منها العالي ومنها الدون؛ فالعلم مثلاً أفضل من الجهل، والهدى خير من الضلال، والسعي لمعرفة الحقيقة خير من مقاومتها. إذن واجب البحث عن المعرفة وإعلانها يفرض الواجب بصفة عامة، والمثل الأعلى العلمي يفرض أن هناك مثلاً أعلى عاماً يجب أن ننشده جميعاً
كذلك حب الحقيقة، وعدم التحيز للهوى، والإخلاص، والصبر، والحمية في العمل؛ هذه صفات أخلاقية بدونها لا يتحقق عمل طيب علمي بل ولا علم أيضاً. العالم كالرجل الفاضل يستشعر سروراً عالياً روحياً؛ هو الرضاء بالواجب المؤدى بنبل، والحياة تقضى في شرف وأمانة. يقول الفيلسوف الفرنسي (إرنست رينان) في كتابه مستقبل العلم: (المعرفة بين جميع الإنسانية أسماها قدراً، لأنها أكثر بعداً عن الهوى، واستقلالاً عن المسرات) ثم يضيف: (وإنه لمن العناء الذاهب سدى أن يدلل المرء على قداستها وسموها، أنه لا ينكر ذلك إلا من لا يعترف لشيء بالسمو والقداسة)(289/35)
والمؤرخ الفرنسي العلامة (أوجستين تييرِّي) الذي عمي لإفراطه في أبحاثه الدقيقة التفصيلية يذكر في مقدمة كتابه: (عشر سنوات في دراسات تفصيلية) أنه لو خُيِّرَ في اختيار حياة له ثانية لما اختار إلا أن يكون أيضاً عالماً مؤرخاً؛ لأن الدراسة الجادة الهادئة مأمن وأمل وحرفة يبلي المرء فيها حياته بشرف. . . أعمى ومتألم بدون رجاء وبدون راحة، يمكنني أن أتقدم بهذه الشهادة التي أعتقد أنها لن تكون موضع شك بحال؛ هي أنه يوجد شيء في العالم خير من الثروة وسائر المسرات المادية ومن الصحة أيضاً: هو الإخلاص للعلم)
هكذا الدراسة العلمية وتحليل نفسيات العلماء، يكفيان لبيان أن الخير والشر، وهما موضوع الأخلاق، يلاحظان دائماً في كل البحوث والدراسات العلمية على اختلافها.
والآن نعود إلى التساؤل الذي صدرنا به هذا البحث؛ وهو إذا كان العلم - كما تبين - لا يعارض الأخلاق ولا يغني غناءها، بل يسير معها جنباً لجنب، هل لنا أن نسير في البحث خطوة أخرى لنعلم ما إذا كانت الآراء والحقائق الأخلاقية تبلغ من العموم حداً يجعلها حقائق علمية، فتكون الأخلاق علماً من العلوم؟ الأخلاق علم إذا كان هناك حقائق أخلاقية عامة؛ ولكن هل البحث الأخلاقي يكشف لنا حقائق أخلاقية عامة للجميع؟
جواب ذلك فيما يتبع هذا من بحوث إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين(289/36)
من ذكريات لندن
غريب
للأستاذ عمر الدسوقي
ولت شهور الصيف مسرعة وأذن مؤذن الواجب والدرس فلبيت كما لبى رجال يرجون حسن الثواب، وغادرت فرنسا والجسم هزيل، والفؤاد عليل، والذاكرة تغص بصور من الحياة ذات ألوان. طفقت الباخرة تسير باسم الله مجريها ومرساها صوب (نيوهيفن) وما كادت تغادر المرفأ حتى هبت العاصفة، ففتحت أبواب السماء بماء منهمر، وأعتم الجو، وزأرت الريح وزمجرت، وعبثت بالسفينة كما يعبث الوليد بخذروفه، وعادت لا تستقر على حال من القلق، يجور بها الملاح طوراً ويهتدي؛ تعلو فكأنها على قمة جبل، وتهبط فكأنها بين طيات الأخاديد، والأمواج تلطمها من غير شفقة ولا رحمة، وتدفعها بعنف ذات اليمين وذات اليسار وكأنها جبار يصب جام غضبه على صبي لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً، اللهم إلا البكاء والعويل؛ فكنت ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من دوار البحر في ألم مرير؛ وصراخ النساء يشق عنان السماء، ونحيب الأطفال يصدع الصخور الصماء؛ ولو كان للطبيعة الصاخبة قلب لرق ولان؛ وأنى لها وقد أطلقت لشياطينها العنان فأذاقونا العذاب الهون، أربع ساعات وكأنها أربعة قرون
وبعد لأي رست السفينة على الشاطئ الشمالي من بحر (المانش) وتنفست كما تنفس الناس الصعداء، ووطئت قدماي الأرض، وأخذت أتلمسها بيدي لأرى أثابتة هي أم متحركة؛ ونجوت بعدما يئست من النجاة، نجوت بعد أن كنت أصارع الداء والقيء، والدوار والإعصار. نجوت بعد أن هتفت باسم أهلي فرداً فرداً، والشقة بعيدة بيننا، وليث المنية فاغر فاه، والناس من حولي في شغل لكل منهم شأن يغنيه
تحرك القطار صوب لندن، فأوجست منه في بادئ الأمر خيفة، إذ كنت لا أزال حديث عهد بالسفينة القلقة، بيد أن الطمأنينة أخذت تتسرب إلى الفؤاد شيئاً فشيئاً حتى برحته الهواجس، وغادره الوجل
ها. . . قد وصلنا إلى لندن!
لست غريباً عنك أيتها المدينة العظيمة! كنت آتيك من قبل زائراً، وهأنذا آتيك مستقيماً(289/37)
مستوطناً، فرحبي بالمهاجر الغريب، وابتسمي له، لعله ينسى عذاب الغربة، وقسوة البحر، وألم المرض. لن تضيقي به ذرعاً وهو فرد من تسعة ملايين، فأكرمي وفادته، واطردي وحشته، لعله يذكرك يوماً بالثناء، ويعرف لك هذه اليد البيضاء، وهو بين أهله وذويه
كنت أحدث نفسي بهذا، والسيارة تقلني إلى بيت كنت أعرج إليه كلما مررت بلندن؛ ووقفت السيارة، وطرقت الباب فخرجت ربة البيت، ونظرت إلي فأنكرتني. رأت جسماً هزيلاً قد أنهكته العلل، ووجهاً شاحباً قد لفحته الشمس فعادت سمرته مخيفة رهيبة، وسمعت لساناً متلعثماً ينبئ عن نفس مضطربة وفكر تعب، فحملقت وترددت في الكلام ثم قالت:
- آسفة يا سيدي فكل غرف المنزل مشغولة
- ألا تعرفين بيتاً آخر أقضي فيه الليل، فأنا على ما ترين، أحوج ما أكون إلى الراحة
فأشارت إلى بيت جارتها، فحييتها وانصرفت شاكراً. ثم طرقت باب الجارة وسألتها في أدب ولطف، فاعتذرت
وأخذت السيارة مرة ثانية تعدو بي في شوارع لندن، وكلما رأيت فندقاً استوقفت السائق، وذهبت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى وأسأل في تردد وهيبة عن غرفة شاغرة أقضي بها سواد الليل، وأريح جسمي المتهدم وعقلي المنهوك، وفي كل مرة أجاب بأن الفندق غاص بالزوار، وأعود أدراجي إلى السيارة لأواصل البحث ولسان حالي يقول: وافق حظاً من سعى بجد. بيد أن لندن لاحت حينذاك وكأنها صحراء مقفرة، أخب فيها بين رمال ونجاد وصخور ووهاد، أو كأني بمدينة قد عفت وأتت عليها يد البلى والحدثان، أو كأني لا أزال على ظهر السفينة أطلب النجاة بين الماء والسماء
آه يا لندن. . .! ما هكذا حسبتك، أحقاً لا يوجد فيك سرير لغريب يشكو المرض ويطلب الراحة، وأنت عروس الإمبراطورية العظيمة وأكبر مدن العالم؟
ليت شعري ما للقوم كلما رأوني ازوروا عني ورفضوا سؤلي، بعضهم في أدب وبعضهم في قحة؟ وهل أقضي الليل هكذا أجوب الشوارع والطرقات؟
أين مصر؟ أين مصر؟
وأخيراً تشجعت وطرقت باب أحد الفنادق، فخرجت سيدة عوان، ينم وجهها عن شيء من(289/38)
كرم النفس والأريحية، فسألتها: أعندك غرفة شاغرة يا سيدتي؟
- آسفة
- أنا كما ترين مريض متعب من سفر مضن شاق، وقد قضيت وقتاً غير قصير أبحث عن غرفة فلم أوفق، فإذا كان عندك مكان آوي إليه كنتِ أهلاً لشكر عميم، وأجر مضاعف
- آسفة يا سيدي
- لابد من المبيت هنا مهما يكن الأمر
وأخرجت متاعي من السيارة، ونقدت السائق أجره وقد أربى على الجنيه، والسيدة تتعجب من تصرفي
- اسمحي لي يا سيدتي فلم أعد أقوى على مواصلة البحث
- ولكن. . .
- ولكن ماذا؟
- الفندق خاص بالإنجليز ولا نقبل فيه أجنبياً ولا سيما إذا كان أسمر البشرة
وهنا ثارت ثائرتي، وللمصري نفس عزيزة تأبى أن تهان، وبه كبرياء تلهب نار غضبه إذا مست كرامته، ولاسيما إذا كان ببلد غريب، وقد سمعت مراراً بمعاملة الإنجليز لسمر الوجوه، ولكني لم أجرب هذه القسوة من قبل، وكنت حين يجليني أصحاب الفنادق ألتمس العلل والمعاذير، ولم يخطر ببالي قط أنهم يرفضون لأني (رجل ملون). أما وقد سمعت هذه الكلمات، فلم يعد هناك ريب في اكتناه السر الذي تحيرت في كشف طلاسمه منذ ساعة، وخاطبتها بصوت تنم نبراته عن ثورة نفسية عنيفة وكرامة مهانة
- إنك لاشك مخطئة يا سيدتي، فأنا لست زنجياً ولا هندياً، ولا نوبياً ولا حبشياً، بل إني مصري، تجري في عروقي أنبل الدماء، وحسبك أن تعرفي أننا من أرقى الشعوب مدنية وحضارة قديماً وحديثاً، ولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته ومكانته، أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين الازدراء والامتهان، ويعدهم دونه في الذكاء والمدنية. على أنني لست في مقام جدال، فسأقضي هنا ليلتي، ولك أن تخبري رجال الشرطة إذا شئت، ولاسيما إذا كان عذرك هو ما سمعت
ولجت الباب دون أن ألتفت إليها، وطلبت من الخادم أن تدخل متاعي، ولحقتني السيدة(289/39)
دهشة حيرى وقالت:
- مهلاً حتى أريك غرفتك، وحذار أن تظن بي شراً، فأنا براء من هذه العقيدة، ولكني أحرص على راحة عملائي، ومنهم من يعارض أشد المعارضة لوجود رجل ملون في الفندق، ويهدد بالرحيل، وتشويه سمعة المنزل، وأكثرهم في ذلك لجاجاً وغلواً ضابط متقاعد، رأى الشرق عن كثب، ودأب على ذكر نقائصه، وعورات أهله، وأنهم ليسوا إلا همجاً لم يشرق عليهم نور المدينة بعد، وأن سكناهم معنا مدعاة لتعكير صفو حياتنا وهنائها إذ لكل إنسان عادة لا يستريح إلا لها. أما أنا فمن أصل فرنسي، وفي ديارنا لا يعيرون هذه الفروق الجنسية اهتماماً، بيد أني مضطرة لمجاراتهم، مادمت قد اخترت هذه البلاد موطناً لي، واخترتهم عملاء لفندقي، فلعلك مقتنع بفكرتي. وحين أسمح لك بالمبيت هاهنا لا أرجو إلا شيئاً واحداً، هو أن تتحاشى رؤية هذا الضابط، وسأرسل طعام الفطور بغرفتك.
- شكراً لك يا سيدتي، غير أنك أثرت في نفسي شعوراً ليس من السهل علي إهماله، ألا وهو محادثة هذا الضابط.
- ليس إلى ذلك من سبيل.
- سنرى.
وانطلقت إلى غرفتي أشد ما أكون تعباً وإعياءً، ولم أكد أنتهي من خلع ثيابي، والاستلقاء على السرير حتى أتت السيدة بكوب من اللبن، وقالت في رفق:
- إنك مريض، ولعلك بحاجة إلى دواء، فهل لي أن أقوم بأية خدمة؟
- شكراً يا سيدتي، فالدواء عندي، وسأتناوله بعد هنيهة، عمي مساءً، وسأراك غداً.
فكرت ملياً فيما رأيت وسمعت، ثم غلبني الإعياء فنمت، وما إن لاحت تباشير الصباح حتى نهضت، وأنا أحسن من البارحة حالاً، وأهدأ بالاً، غير أن النعرة القومية عاودتني، فأذكرتني مأساة أمس، وأن واجبي هو تبديد هذه الأوهام والأباطيل من عقول هؤلاء المرضى بحمى الغطرسة والكبرياء، وإقامة الدليل لهم على أن المصري، وإن تكن السياسة قد جارت في حكمها عليه، إلا أنه أبي ذكيٌ ليس من اليسير أن يسكت عن ثأر في ميدان الكرامة، أو يصمت عيا في ميدان الدفاع عن القومية. فلبيت نداء حسي وشعوري، وارتديت ثيابي على عجل وأسرعت إلى غرفة الطعام، والقوم لا يزالون نياماً، وأخذت(289/40)
ألهو بقراءة جريدة حتى مضى بعض الوقت، فأخذوا يغدون ويحيون، دهشين، متعجبين، وأنا أرد تحيتهم في برود مصطنع يخفي تحته نفساً ثائرة على هذا الجهل بمنازل الناس وقيمهم، وعلى هذا النفاق والرياء.
وأخيراً دخل الضابط ورد تحية الجلوس، وأجال في الغرفة نظره فلمحني، وظننت بادئ ذي بدء أن وجهه سيتجهم وأنه سيتمتم ويدمدم، ويثور ويفور، ولكنه حيا ببرود وجلس، فجلست تجاهه على الخوان، وأخذنا نتناول طعام الفطور في صمت، وكأننا في مأتم، وهممت بالحديث مراراً غير أن الرهبة عقدت لساني فلم أنبس ببنت شفة. وبعد لأي سنحت الفرصة، فقدمت ربة الدار، ووزعت على الجميع تحاياها وابتساماتها، ولم تظهر امتعاضاً لوجودي بل سألتني كيف قضيت ليلي؟
- على خير يا سيدتي، شكراً. إني ليسرني أن أتعرف بجندينا الذي ذكرته أمس، فهل تتكرمين بتقديمي له؟
- بكباشي سمث. صديقنا هذا من مصر، وقد حدثته عنك أمس، وأنك زرت بلاده، وعرفت أهلها وحدثتنا طويلاً عنهم.
فأجاب الضابط في فتور.
- هذا حسن، وأومأ إليَّ برأسه، فقلت:
- إني ليسرني أن أتشرف بمعرفتك يا سيدي، ولقد أنبئت أن لك رأياً خاصاً في الشرق والشرقيين، يحملك على الأنفة والترفع عن مخالطتهم، ولو سمحت وبينت لي هذا الرأي لكنت لك من الشاكرين.
فألقى على ربة المنزل نظرة كلها تعنيف وتأنيب، ولاح عليه بعض التردد، غير أن بقية الزوار حثوه على الكلام قائلين: دعنا نسمع رأيك، والرد عليه، فطالما حدثتنا عن الشرق أحاديث تقشعر منها جلودنا، ولم تجد بيننا من يدحض رأيك أو يعترضك، وها قد سنحت الفرصة لمعرفة الحق.
فكرر ما قالته ربة البيت ليلة أمس، وزاد أن الشرق لا يصلح إلا وعنانه بيد الغرب، وأن الشرقيين لم يخلقوا للمدينة الأوربية، والأولى بهم الاستمساك بعاداتهم الهمجية، وترك التقليد الأعمى، وأما مسألة الترفع فذلك أن لكل قوم عادة، وليس توافق العادات بالأمر الهين؛ ثم(289/41)
إن مركزنا الأدبي في العالم يقتضي أن نترفع عن الشعوب الملونة، ونشعرهم بمكانتنا التي لا تسامى حتى ندخل في قلوبهم الروع والرهبة، وحتى نعودهم الصغار والذلة. وتلك سياسة رجال الجيش البريطاني في المستعمرات، وإن لم نفعل ذلك تجرأ علينا الأهالي؛ وذهب سلطان الحكم وجلاله.
- آه! الآن عرفت الحقيقة، إذاً لا يوجد هناك تفوق في الذكاء كما لا يوجد تفوق في ميدان الحضارة والاستعداد لتقبلها، ولكن المسألة استعمارية بحتة. إن كان الأمر كذلك، فإني أتنبأ لإمبراطوريتكم بالزوال العاجل. إن هذا الترفع، وهذه الكبرياء تبعد بينكم وبين تفهم نفسيات الشعوب المحكومة، وتجعلها دائماً تشعر بأنكم أجانب، وتملأ قلوبهم قيحاً، وتشحنها غيظاً، وتحرك في نفوسهم نار الثورة الهامدة، فيهبون لطردكم والتنكيل بكم. لم لا تحتذون حذو العرب، وقد أسسوا بنيان ملكهم على قواعد من المساواة والمحبة والإخاء، ولذا تشرب المحكومون تعاليم دينهم ومدينتهم وتعلموا لغتهم، واندمجوا فيهم. لست هنا لأعطيك والحكومة البريطانية درساً في فن الاستعمار، ولكن الاستعمار في رأيي ورأي العقلاء، ليس استعباداً، اللهم إلا في رأيكم أنتم.
- مرحى، مرحى!! هكذا هتف بقية الزوار، ماعدا الضابط الذي وجد فيَّ مجادلاً يكيل له صاعاً بصاع ويقرع الحجة بالحجة. ثم استأنفت الحديث منتهزاً فرصة صمته:
- يخيل إلي أنك لم تعرف المصريين حق المعرفة، وإلا كان حكمك عليهم غير ما سمعت، ليست القضية يا صديقي، قضية تفرقة في الألوان، فهاهي ذي اليابان قد بزتكم في ميدان الصناعة وغزت دياركم بمنتجاتها ومخترعاتها، ولولا عهد الأتراك بمصر، ولولا تدخلكم في شئوننا، لكنا اليوم أمة لها في ميدان العلم والنور شأن رفيع. على أننا لم نيأس بعد، وسوف تسمع اسم مصر يكتب في سجل الخلود بماء من ذهب ونور. ثق تماماً أن المصري يفوقك في الذكاء، وتفوقه في القوة المادية، أما (اللون) فكلنا من آدم، وآدم من تراب، وكتبكم المقدسة على ما أقول شهيد. لست أريد إقناعك، ولكني أرضي كرامتي، وعزة نفسي، وأعطيك درساً في احترام غيرك مهما يكن جنسه ولونه، حتى تخبره، وتعرف خلاله وتفكيره، والآن اسمحوا لي سادتي بالانصراف وأشكركم على كرم وفادتكم
غادرت المنزل واستوقفت سيارة ووضعت بها متاعي، وأخذت أبحث مرة أخرى عن(289/42)
مسكن أقيم فيه وأتفرغ للجهاد في سبيل العلم
آه يا لندن. . . لقد جرعتني نُغَب التهمام أنفاساً، وأريتني ليلة أمس وجهاً عبوساً متجهماً، وأعطيتني درساً لا ينسى. أهكذا يفعل أهلك بالغريب؟
سلوا قراه وهرَّته وكلابه ... وجرَّحوه بأنيابٍ وأضراس
عمر الدسوقي(289/43)
ورد المساء
مهداة إلى أستاذي الدكتور عبد الوهاب عزام
للأديب محمد أحمد البنا
انطوت صحيفة النهار، وآب العالم من رحلته في اليوم الجديد، ورست السفينة على شاطئ بحر الحياة، ولم يبق من الأصيل إلا العسجد المنثور على أطراف النخيل وعلى أمواج النيل
وعاد العاملون إلى مساكنهم، والطيور إلى وكناتها. وسبح لله ما في السموات والأرض
ثم استقرت الأكوان. وخشعت الأصوات للرحمن، وكأنها تتناجى في حمد خالقها وشكر بارئها ببلاغة الصمت في لسان الحال. بعد بلاغة الإفصاح بلسان المقال
إلهي: سبحانك يا من جعلت الليل سكناً، والمساء وطناً لترد إلى المتفرقين ألفتهم، وإلى المتعبين المكدودين راحتهم، ليهنئوا بالمنام، ويأنسوا في دولة الأحلام
إلهي: سبحانك يا من جعلت الليل لباساً والنهار معاشاً. كما خلقت الأرض مهاداً رحيباً والسماء سقفاً مرفوعاً
ربنا: عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير
إلهي: لقد بكرنا إلى الكفاح مع الصباح المقبل في نور رحمتك، ثم عدنا في ظل سكينتك مترنمين بشكرك، ونحن بنعماك آمنون، وعلى جانبك القوي متوكلون
أسلمنا الجنوب إلى المضاجع، والجفون إلى وساد الكرى على أمانٍ من عينك الساهرة، واطمئنان من رعايتك الوافرة
إلهي: لئن أثقلتنا الأوزار، وأنقضت ظهورنا الخطايا، وتنازعت قلوبنا المعارك الدامية من حرب الحياة القائمة، وصراعها الدائم، فإن لنا من بِرّك مرجعاً، ومن الرجاء فيك موئلاً، ومن رضوانك مستقراً مقاماً
إلهي: إن لك علينا من الآلاء ما لو كان كل نفس من أنفاسنا كلمة حمد وآية شكرٍ لك على عظيم آلائك وجزيل عطائك ما كنا نوفيك بذلك كله حقك فتقبل من إنك أنت الوهاب
إلهي: وآمن روعنا وأمِّن سربنا وارزقنا في الضعف قوة، وفي الخوف أمناً، وامنحنا من لدنك نوراً يهدي ضمائرنا، ويرشد حائرنا، ويؤلف على الحق مشاعرنا(289/44)
لك يا إلهي أولنا وآخرنا، وباطننا وظاهرنا، لا تخفى عليك خافية من أمرنا، فمنك خلقنا وإمدادنا، وإليك مرّدنا ومآبنا. فامنحنا القوة لليوم الجديد، واحينا فيه على خير ما تحب لنا وترضاه منا، وهب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً
محمد أحمد البنا
بكلية الآداب(289/45)
التاريخ في سير أبطاله
محمد شريف باشا
للأستاذ محمود الخفيف
كان شريف في عصره رجلاً اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال. . .
- 1 -
تحت هذا العنوان نضع أسم شريف، وفي هذا المجال نأتي بقبس من سيرته؛ ومن أولى من شريف أن يتبوأ بين الأبطال مكاناً عليَّا، إذ نحن ذكرنا رجال حركتنا القومية؟
ولئن كانت جهود شريف لم يفد منها غير وطنه، ولئن لم يدو اسمه في آفاق العالم كما دوت أسماء غيره من الأبطال، فكثير سواه كانوا في ذلك مثله، خطورتهم في أوطانهم فحسب، ومع ذلك فلم ينكر عليهم بطولتهم إلا ظالم أو ذو غرض. . . وما البطولة في جوهرها إلا أن يسمو الرجل على الحوادث ويقهرها إن غالبته، وأن يسخرها ويوجهها إن سالمته، فإن لم يتسن له هذا ولا ذاك كان في كفاحه ومقاومته وتعاليه عن أن يذل أو يذعن دليل رجولته ومقياس بطولته. وما كانت الشهرة من دلائل العظمة أو من بواعثها؛ فلكم تشهد الحياة من رجال يحسبهم الغافل من أوزاع الناس وإن لهم لنفوساً تنطوي على عناصر البطولة كأكمل ما تكون البطولة. . .
ولقد كان شريف عظيماً بنفسه قبل أن يكون عظيماً بمنصبه. كان رجلاً في عصر عزت فيه الرجولة وتطامنت فيه أقدار الرجال إما من شر يتقونه أو خير يرجونه. . . ولذا يعتبر شريف بحق خالق جيل وباعث نهضة، فهو في عصره كان الرجل الذي اجتمعت فيه الرجال، وكانت مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال. . .
وكان شريف تركي العنصر ما في ذلك شك، ولكنه لم يعرف له وطناً غير مصر ولا قوماً غير بني مصر. ولما بلغ أشده كان من رجال هذا الوادي في طليعة العاملين منهم والمجاهدين؛ يتلفت الرجال إذا حز بهم أمر أو أخذتهم حيرة فلا تستقر أعينهم إلا على شريف ولن يتقدم لنصرتهم في مواطن الخطر والشدة غيره(289/46)
تم الأمر في مصر لمحمد علي، ذلك العصامي الفذ، وأثخنت جنوده في صحارى العرب وفي مطارح السودان، وتهيأت مصر لأن تستقبل على يد هذا البطل عصرً من عصور يقظتها كان الجيش فيه المحور الذي تدور عليه نهضتها. وفي صدر هذا العصر الفتي ولد محمد شريف، فكان مولده بالقاهرة في شهر نوفمبر من سنة 1826
وحمله أبوه، وقد انقضت مدة خدمته بمصر معه إلى الآستانة. وكان هذا الأب في مصر قاضي قضاتها، ولكنه لم يلبث في الآستانة إلا بضع سنين ثم اختير للحجاز، فمر بمصر ومعه ابنه؛ ووقعت عينا واليها على الغلام، وكانت عينا الوالي تلمحان النجابة في سرعة عجيبة، ولذلك طلب إلى أبيه أن يبقيه عنده ليقوم على تربيته. وكان محمد علي ويومئذ في ذروة مجده تهدد جيوشه عرش الخلافة وتحمل على الإعجاب به فرنسا، وعلى الحنق عليه إنجلترا؛ وكان همه منصرفاً إلى الجيش، فإذا بنى الرجال وأعدهم، فإنما يكون ذلك ليتخذ منهم دعائم جيشه
وبقي الغلام في القاهرة وأدخل المدرسة العسكرية التي أنشأها الوالي بالخانكة، فيمن أدخل من أبناء الأمراء ووجوه القوم؛ ومن ذلك الحين صارت مصر وطن شريف الذي لا يعرف له وطناً سواه
وهكذا نشأ شريف نشأة عسكرية؛ ولكن جيش مصر ما فتئت إنجلترا تعمل على القضاء عليه حتى تم لها ما أرادت، ولما يزل شريف في سن اليفاعة؛ واستطاع بالمرستون أكبر الكائدين لمحمد علي أن يرغم الباشا عام 1841 على (أن ينكمش في قوقعته الأصلية في مصر). وجاء في فرمان السلطان في تلك السنة للباشا المغلوب على أمره أنه (يكفي أن يكون لمصر ثمانية عشر ألف نفر من الجند للمحافظة في داخلية مصر ولا يجوز أن تتعدوا هذا العدد لأي سبب ما. . .) وأذعن الباشا ولم تغنه صلته بفرنسا ومظاهرتها إياه؛ فما كانت إنجلترا لتسمح بظهور مثل قوته في مصر وهي التي جعلت أساس سياستها منذ الحملة الفرنسية ألا يقوم في وادي النيل نابليون آخر
وكان الأجدر بالشباب بعد هذا أن يتجهوا وجهة غير وجهتهم العسكرية. لقد أوفدت الحكومة فريقاً منهم إلى فرنسا في عام 1844، وكان من هذا الفريق محمد شريف، فاختار أن يدخل مدرسة سان سير الحربية(289/47)
كانت هذه المدرسة التي التحق بها شريف من أشهر المدارس يومئذ؛ وإن في اختياره المدرسة الحربية في تلك الظروف لدليلاً على أن الجندية كانت توائم طبعه، ففي الجندية الصحيحة حياة الإقدام والهمة والنظام والطاعة، وتلك صفات امتاز بها شريف رجل السياسة فيما ظهر من أعماله بعد
قضى شريف في تلك المدرسة عامين تجلى فيهما ذكاؤه وطموحه، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدرسة تطبيق العلوم العسكرية، فلبث بها عامين آخرين انتظم بعدهما في سلك الجيش الفرنسي كما تقضي قوانين تلك المدرسة ليأخذ قسطه من المران العملي؛ ثم تخرج شريف ونال رتبة يوزباشي أركان حرب في ذلك الجيش
ولم تله شريفاً شؤون فنه عن غيره من الفنون، فراح يقرأ التاريخ والسياسة، ولا يفتأ يستزيد من المعرفة، مستعيناً في ذلك ببصيرة نيرة كانت من أظهر مواهبه، وعزيمة صادقة كانت في مقدمة خلاله؛ وأتقن شريف الفرنسية وحذقها حتى لقد كان يعجل بها لسانه كأنه أحد أبنائها، كما درس شريف طباع الفرنسيين ووعى قلبه ظرفهم وأناقتهم، حتى صار بينهم وهو ذلك الفتى الشرقي وكأنه منهم، ولذلك لقب (بالفرنساوي) وصار يجري لقبه هذا على ألسنة معاصريه. . وليس معنى ذلك أن شريفاً قد جعل بينه وبين قومه سداً بما تعود من عادات الفرنسيين، فما كان مثله بالمتكلف، ولقد كان له من أصالته واعتداده بنفسه ما يربأ به عن ذلك العيب، وإلا فكيف أصبح حين عاد إلى وطنه أشد الرجال مقاومة للنفوذ الأجنبي؟
وولي أمر مصر عباس باشا الأول فأعاد أعضاء البعثات العلمية من الخارج، فعاد شريف فيمن عادوا عام 1849م. ولقد نستطيع أن نتصور ما تركته حال مصر يومئذ من أثر في نفس هذا الفتى الطموح، فلقد تعلم وتأهب ليعود فيجد المدارس تغلق أبوابها، والجيش يهلك عنه سلطانه بعد أن انهدت أركانه؛ ويجد مصر وقد ذلت بعد عزة، يبدو عليها مثل ما يبدو على ذوي القوة والبأس وقد جرد من حسامه، وعاهلها ناقم على العصر ومظاهر العصر ونافر من الأجانب وما يأتون به مما كان يعده من أنواع الغرور والبهتان
ضاقت مصر عن همة شريف وعن علم شريف ولكن أين يذهب وليس له غير مصر؟ وإذاً فليرض بأن يأخذ في الجيش المصري نفس الرتبة التي أخذها في الجيش الفرنسي(289/48)
فليس من هذا الرضاء بد. ولئن كان جيش مصر لا يعمل فربما أتت الأيام بما ليس يجري في بال أحد، فينصرف شريف من ميدان إلى ميدان إلا يكن فيه قتال فليس يخلو من نضال. . .
وفي مصر اتصل شريف بسليمان باشا الفرنساوي، وأعجب به القائد الكبير وأخلص له الود والمحبة. . . ألا ليت هذا اللقاء كان أيام نصيبين وكوتاهية، وإذاً لرأى التاريخ ماذا كان عسيا أن يأتيه شريف الجندي في ميادين البطولة والتضحية، ولكنه كان في تلك الأيام لا يزال طالباً يتطلع ويأمل
ولن يزال سليمان يوليه من عطفه وتأييده، ثم يلحقه بحاشيته الحربية في منصب (الياوران)؛ ويظل هذا عمله فلا يخوض معركة ولا يرسم خطة؛ وعباس في شغل عن الجيش لأنه في غنى عنه، ولكنه يضيق بما هو فيه ولا يطيق صبراً على إغفال عباس له وإن لم يقصد عباس هذا الإغفال، فيعتزل الجندية التي لم يكن له منها غير اسمها، ويكون هذا الاعتزال من جانب شريف أولى خطواته في الدفاع عن كرامته، ولسوف تكون له بعدها خطوات لن يخطوها إلا ذو عزة وذو نخوة. . .
ويلتحق شريف بدائرة الأمير عبد الحليم ردحاً من الزمن يشرف على أعمالها بما اشتهر به من فطنة وبعد همة. ولقد كان الأمير وهو نجل محمد علي من أقرانه في البعثة، فألان له جانبه وزاد في إكرامه وإعزازه. . . وشريف يقبل حياة الدعة على رغمه، ففي طبعه ميل إلى النضال والكفاح، وفي خلقه اعتداد يشبه الزهو، بل لقد كان يبلغ به الذهاب بنفسه أحياناً حد الصلف، وتلك خلة لا يسعنا إلا أن نعدها على شريف مهما تكن بواعثها
وأخذ سعيد الولاية بعد موت عباس، وكان لسعيد ولع بالجيش، وإن لم تكن به حاجة إليه، وحمله حبه للجيش على أن يشهد تدريبه بنفسه ثم بسط له يده كل البسط، فألبسه أحسن اللباس وأطعمه أجود الطعام، ومد له أسباب الترف والنعيم، حتى لقد كانت تقاس كفاية ذلك الجيش عنده بحسن مظهره ووجاهة رجاله. . . وكان شريف وجيه الطلعة جم الأناقة فضلاً عما كان يتحلى به من صفات الجندية؛ لذلك جعله سعيد من المقربين، ورقاه إلى رتبة (أميرألاي)، ثم ما لبث أن رفعه إلى رتبة (لواء) ووضعه على رأس الحرس الخصوصي؛ وهكذا يعود شريف إلى الحياة العسكرية وإن جاز لنا أن نسمي حياة كهذه حياة عسكرية. .(289/49)
وازدادت عرى المودة توثقاً بينه وبين سليمان باشا فزوجه من ابنته، وفرح شريف بما ساقه القدر إليه من حظ عظيم، وكان اسمه قد أخذ ينتشر بين معاصريه من البعداء عن الحاشية ووجوه القوم، وعرف الناس يومئذ عن النزاهة والاستقامة، وأعجب من تسنى لهم رؤيته بما كان يبعثه مرآه في القلوب من هيبة وبما كان يشيعه في النفوس من حب. . . والحق لقد كان شريف على جانب عظيم من قوة الشخصية، شهد له بذلك الأجانب والوطنيون على السواء
وبدا لسعيد فمال به من الجندية إلى السياسة بعد أن وصل في الجندية إلى رتبة الفريق، وكان هذا التحول بدء مرحلة جديدة في تاريخ حياته، مرحلة حافلة بجلائل الأعمال سلكت شريفا في عداد الأبطال؛ بل لقد كان هذا التحول بدء مرحلة جديدة في تاريخ مصر؛ ولا غرو، فلقد عظم فيها خطر شريف حتى صار تاريخه تاريخ مصر في طور من أطوارها، وتلك منزلة لم يبلغها إلا أفذاذ الرجال، أولئك النفر الذين يتوقف مصير عصرهم على ما يعملون، أو الذين تجد فيهم الحوادث أدواتها الحية إذا ما تمخضت تلك الحوادث عن ثورات وراحت كل ثورة تبحث عن رجلها حتى تهتدي إليه فتستقر في رأسه وفي جنانه. . وأي دليل على العظمة أقوى من أن يكون تاريخ الرجل هو تاريخ عصر من عصور وطنه؟ على هذا الأساس قامت عظمة سعد في مصر الحديثة، وعظمة لنكولن في أمريكا، وبسمارك في ألمانيا، وفردريك الأكبر في بروسيا، وبطرس في الروسيا، وغير هؤلاء من الرجال فيما سلف من العصور وفيما اختلف من الأمم. . .
اختار سعيد شريفا ناظرا للخارجية، وهنا أخذت مواهب ذلك الجندي تظهر في السياسة فتبهر، وما لبث أن وجد شريف سبيله إلى قلوب من اتصلوا به فحمل أنصاره على محبته، وحمل خصومه وحاسديه على إكباره وإن لم يريدوا، وتهيأ لمصر في شخصه الرجل الذي لم تكن لها مندوحة عنه فيما هي مقبلة عليه من عظائم الأمور. . .
(يتبع)
الخفيف(289/50)
استطلاع صحفي (ريبورتاج)
20 سنة في مكافحة البلهارسيا
مرض تضخم الطحال
في مصر علماء وأطباء يقفون جهودهم سنين طويلة على تحقيق نظرية أو اكتشاف ظاهرة. وهذه قصة طبيب سلخ عشرين عاماً من حياته ليخفف عن الفلاح آلام المرض ويقي الأمة عوامل الضعف والانحلال
وهم يعيشون للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم حتى ليفضلون ملازمة مريض أو الاشتغال في معمل على الظهور في المجتمعات. ولذلك رأينا أن نتصل بهذه الفئة من الباحثين فنكشف عن جهودهم ونطلع الناس على أخبارهم لعلنا نوفي العاملين قدرهم.
في الوجه البحري حيث تكثر المستنقعات، وحيث وسائل صرف المياه مازالت على أسوأ طرقها تنتشر البلهارسيا بين الفلاحين فتنزف دماءهم، ولا تقف عند هذا الحد بل تسبب لهم مرض تضخم الطحال فتكبر بطون الرجال والسيدات وما هم بحبالى، إذ يحمل مرضهم طحالاً متضخما يزيد وزنه على وزن طفل في ستة أشهر. فيبلغ وزن الطحال خمسة كيلو جرامات مع أن وزنه العادي يتراوح بين 170 و 200 جرام تقريباً أي أن المريض يحمل ما زنته خمسة وعشرون طحالا
ظل هذا المرض معضلة الطب المصري حتى سنة 1929 إذ تمكن الدكتور أنيس أنسي بك مدير معامل الصحة من اكتشاف سببه، ثم قدم بحثه للهيئات الطبية العالمية فنال موافقتها، وأخيراً سجله في (بورصة الأبحاث الطبية) الجمعية الملكية البريطانية لطب المناطق الحارة في 25 أبريل الماضي
ويتضخم الطحال لأسباب عدة، منها الإصابة بحمى الملاريا أو بالتغيرات اللمفاوية العامة؛ وفي هذه الحالات يسهل تشخيص الداء بالطرق الفنية والميكروسكوبية كفحص الدم مثلاً، إلا أنه في حالة الإصابة بالبلهارسيا تضيع كل الدلائل ولا يظهر بالطحال أي خلل أو عيب، فيرى الطبيب أن مريضه سليم الجسم، وأن كل عضو يؤدي وظيفته بانتظام إذا استثنينا كبر الطحال مما يضني الجسم ويرهق العضلات فلا يجد الطبيب مفراً من استئصاله ليخلص المريض المسكين من حمله الثقيل، ولا يخفى ما يتعرض له المريض(289/52)
من المضاعفات الخطيرة أثناء إجراء عملية كبيرة كهذه. أضف إلى ما يصيب الجسم من عوارض سيئة تنتاب الحيوان والإنسان بعد مضي وقت من استئصال مثل هذا العضو المهم
أهمية الطحال
والطحال هو (بوليس) الجسم لأنه ينقي الدم من الأجسام الغريبة ويقتل الميكروبات الضارة، فهو مخزن كرات الدم البيضاء والخلايا الأكولة، وهو يمد الجسم بالعناصر الدفاعية العديدة التي مازال منشؤها غامضاً على الطب. فاستئصال الطحال إذن يعرض حياة الشخص للأمراض المختلفة، ويجعل حياته قصيرة الأجل إذ يفقد الجسم القدرة على مقاومة الأمراض
وعز على الأطباء أن يقفوا حيارى أمام تلك المعضلة التي اختصت بها مصر من دون بلاد العالم. وأثار فضولهم أن يروا مرضاً خطيراً لا يدركون من أمره شيئاً، بل إن كل ظواهره هي ظواهر الحالة العادية للطحال فلا يوجد به علامات تسبب ذلك التضخم
تضاربت الظنون والفروض، وقدر الأطباء ما شاءت لهم نظرياتهم ثم أخرجوا فروضهم إلى حيز العمل ولكن المرض ظل على حاله. وزاد حيرة الباحثين كثرة المرض وظهوره الفجائي، ففي كل عشر إصابات بالتضخم أمكن الطبيب أن يعرف سبب ثلاث حالات أو أربع ويعزوها إلى حمى الملاريا أو الكلازار أو الأورام وفي باقي الحالات كان يقف أمام سر مغلق
وازدادت حيرة الأطباء عندما لاحظوا ظهور التضخم فجأة، إذ كان المرضى يؤكدون أنهم كانوا بصحة جيدة منذ شهور قليلة مع أن حالات التضخم التي يعرفها الطب تحتاج إلى سنوات. وكذلك لاحظ الأطباء أن أكثر حالات التضخم المجهولة كانت كثيرة في الوجه البحري فتبلغ نسبتها 30 إلى 1 في الوجه القبلي. وعندئذ جزم الدكتور أنيس بأن (هناك حالة مرض مصري عضال غير معروف سببها، كثيرة الانتشار في مصر السفلى)
الحلقة المفقودة
بدأ الدكتور أبحاثه في سنة 1908 وكان وقتئذ مساعد أستاذ في القصر العيني حيث راقب(289/53)
حالات التضخم وحاول أن يعالجها. ولكنه لاحظ أن كل الحالات التي ترد إلى المستشفى حالات مزمنة وصل فيها تضخم الطحال إلى حد أرغم المريض على الرقاد فأيقن أن إحدى حلقات المرض مفقودة ولم يطلع عليها الطب. وبعد تفكير طويل تيقن بأن هذه الحلقة المفقودة هي بدء المرض أو حالاته الحادة
فإن فلاحينا من الفقر لا يستسلمون للمرض إلا إذا ثقلت وطأته على أجسامهم فلم تحتمل شدته. فإذا أضفنا إلى هذا أن وظيفة الطحال هي الفتك بالميكروبات والأجسام الغريبة ثم التهامها سهل على الطبيب أن يستنتج أن ميكروب المرض من الضعف بحيث يفتك به الطحال أولاً بأول. واحتاج هذا الفرض العلمي إلى تحقيق يتناول المرض في حالاته الحادة أو الحديثة التي لا يهتم بأمرها الفلاح. وعندئذ ظهرت مهمة الطبيب شاقة، لأن هذه الحالات ليست في المستشفى ولا عند الأطباء، بل هي هناك في القرى وداخل الأكواخ
وذهب الدكتور أنيس في طلب الفلاحين، فزار مرضاهم في بيوتهم وما كاد يبدأ بحثه حتى اشتد عجبه إذ وجد 80 في المائة من شبان الفلاحين وأطفالهم مصابين بهذا المرض العجيب ولكن تباشير النجاح أيضاً بدت. فهاهي ذي ظواهر ديدان البلهارسيا. وهاهو ذا أثر الصراع بين محتويات الطحال وبين تلك البويضات. فهل ديدان البلهارسيا هي السبب؟
لنجيب على هذا السؤال بنعم يجب أن نجد بويضة البلهارسيا نفسها. وهذه إن وجدت فلن يسهل العثور عليها إلا في طحال الأطفال أو في حالات المرض الأولى أو الحادة. فإن طحال الطفل أضعف من أن يهضم هذه الدودة الخطيرة وبويضتها؛ وبهذا وضع الدكتور يده على مفتاح المرض وبقي عليه أن يكشفه فيصور البويضة في الطحال كما يجب عليه أن يلقح الطحال بديدان البلهارسيا ويرى النتيجة
واستحضر لذلك قردة خاصة عرفت بإصابتها بهذا النوع من المرض وهي تجلب من جزر الهند الغربية. وأجرى تجاربه مدة طويلة احتاج أثناءها إلى أكثر من 200 قرد. واستعان بالأرانب فكان له منها ضحايا في كل يوم
معركة حربية
ونجحت التجارب فثبت الغرض. ويقول الدكتور في تعليل تضخم الطحال (إنه عندما تغزو بويضات البلهارسيا لب الطحال تحدث به التهابا حادا سريعا تعقبه على عجل استعدادات(289/54)
وترتيبات لازمة تبتدئ بعمليات التجاذب بين مواد الطحال والجسم الغريب ثم بتعادل وتخفيف المواد السامة القابلة للذوبان. وتعقب ذلك عملية الهضم التي تقوم بها الخلايا الأكولة المتحركة التي تقطن اللب الأحمر)
وتتحفز تلك الخلايا للقيام بعمل سريع؛ فتتجمع حول البويضات النازحة في صفوف متراصة مكونة بذلك خطوط الدفاع التي تعقبها على عجل عملية الخمائر لتوقف فعل المواد الغريبة السامة التي تفرزها البويضات في تلك الدائرة الضيقة. ثم تهجم الخلايا الأكولة على غلاف البويضات فتذيبه إلى مادتها فتلتهمها وإلى ما تخلف بعد ذلك فتبتلعه فتقي الجسم شر تلك السموم)
فإذا تمت هذه العملية التصقت كل خلية بجارتها مكونة سدا منيعا يحول دون تسرب أية مادة سامة إلى النسيج السليم ثم تبتدئ (الخلايا) في توالدها وتكاثرها فتتحول إلى خلايا ذات نواة وهكذا يكبر الطحال تبعا لتوالد الخلايا وتكاثرها أثناء صراعها مع ديدان البلهارسيا وبويضاتها)
مرض متوطن
وأيد الطبيب في إثبات رأيه ما رآه من انتشار قواقع البلهارسيا في الوجه البحري، فإن انخفاض ذلك الإقليم ورداءة طرق الصرف فيه جعلته موطن المياه الراكدة وبالتالي معمل تفريغ الميكروبات والديدان وأهمها البلهارسيا والإنكلستوما.
(ويعتبر مرض تضخم الطحال متوطناً في كل بقاع مصر، وينتشر بكثرة كما تشتد عوارضه وتكثر مضاعفاته بالمناطق المنخفضة بشمال الدلتا حيث تكثر المصارف والترع ويكثر تبعا لها توالد القواقع طول فصول السنة بخلاف ما نشاهده في الوجه القبلي حيث ري الحياض مازال باقياً فتقل بذلك نسبة العدوى قليلا. وبالرغم من وفرة وجود القواقع أثناء الفيضان فأنها لا تلبث أن تموت متى جفت الأرض وانخفض مستوى الماء)
وتظهر الأعراض المبدئية للمرض عقب العدوى بالسركاريا وتظهر مصحوبة بتوعك المزاج وباضطرابات في الجهاز البولي والجهاز المعوي وتظهر البويضات في البول والبراز ويصل تضخم الطحال في هذا الدور إلى أسفل الضلوع بنحو قيراطين. وينشأ نتيجة تفاعلات بلب الطحال أحدثتها إصابته حديثاً ببويضات البلهارسيا(289/55)
فإذا كانت البويضات قليلة وأتيح للمريض فرصة العلاج تمكن نسيج الطحال الزاخر بخلاياه الأكولة من هضمها وإزالتها فتزول عوارض المرض. أما إذا استمر تعرض الإنسان للعدوى فإن الطحال يتضخم بتكاثر خلاياه بجميع أنواعها حتى تصل إلى سرة البطن، أو يمتد إلى حافة الحوض، ويستمر على هذه الزيادة حتى تتاح للمريض فرصة العلاج أو ينتقل إلى مكان لا توجد به قواقع. فيضمر الطحال ويصاب بتليف عام، وتضخم في محفظته وعوارضه، وتتحول الألياف المرنة إلى نسيج ضام، لكن الخلايا السليمة منه تستمر على أداء عملها بالدفاع عن الجسم من غزو الأمراض والحميات وغيرها
ويحافظ الطحال على هذا الحجم رغم انتهاء دورة الإصابة، وخلو البول والبراز من بويضات البلهارسيا، وفي هذه الحالة يلقب بالطحال المتوطن، ومن هذا يتبين أن تضخم الطحال يمكن أن يزول في حالات المرض الأولى. أما إذا أزمن وطالت مدته ونشأ التليف بين أنسجته وخلاياه فإن تضخمه يلازم المريض، وقد ينقص حجمه قليلا بالعلاج أو بالانتقال من مراكز العدوى ولكنه لا يعود إلى حجمه الطبيعي
فوزي جيد الشتوي(289/56)
رسالة العلم
أهمية نظرية التطور
نظرية التطور وقصة الخليقة
للأستاذ عصام الدين حفني ناصف
كان الناس فيما مضى يجهلون معظم القوانين الطبيعية التي تسود الكون وتحكمه، فكان المفكرون منهم يتساءلون: لم هذا اللباس من الشعر غير الكثيف يغطي جسمنا؟ لم يشبه القط النمر؟ لم كان الزنجي أسود اللون والصيني أصفره؟ لم كان الأوربي متحضراً والإفريقي غير متحضر؟ لم كان عدد صنوف الحيوانات عديداً بهذا القدر؟ لم نعثر في أعماق الأرض على عظام أسماك متحجرة؟ ولم يكن هناك من يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها، وذلك لأن فكرة واحدة لم تكن قد نفذت إلى رؤوسهم، وهي: أن الأرض قد نمت هي وما عليها في مدى مئات الملايين من السنين حتى بلغت ما تبلغه الآن، وقد وصلت الكائنات إلى أشكالها الحالية ببطء شديد وبالتدريج، ومرت خلال ذاك على أشكال عديدة سابقة لهذه، فهي قد (تطورت)
تقول نظرية التطور: إن جميع الكائنات الحية الباقية والمنقرضة قد تطورت إلى أشكالها الأخيرة من أصل واحد أو بضعة أصول، فهي أذن يتصل كل منها بالآخر برباط القرابة
وقد كثرت الأدلة العلمية على صحة هذه النظرية حتى (انتقلت) كما يقول أوسبورن (من نطاق الفروض والنظريات إلى نطاق القوانين الطبيعية) ولذلك فإن (خصومها) كما يقول بلاته (مضطرون إلى مكافحتها ببراهين وحجج من غير التاريخ الطبيعي)
وليست أهمية هذه النظرية بقاصرة على كونها ضرباً من العلم والفلسفة فقد أثرت تأثيراً كبيراً على علوم مختلفة كعلم الحفريات والتشريح المقارن والأجنة والاستيطان ووظائف الأعضاء وعلم الأمراض وتاريخ الإنسان والاجتماع والنفس والفلسفة.
وللنظرية عدا ما تقدم أهمية بالغة من الناحية العلمية، ذلك أنه إذا كان التطور إلى أرقى ليس هو المصير المحتوم دائماً بل يشترط لحدوثه ظروف وشروط خاصة، فما يستحق الجهد ولاشك أن يفكر المرء ويعمل على توفير هذه الظروف والشروط، وبذلك لا يكون(289/57)
الإنسان سلبياً يحمله تيار الحوادث إلى حيث يساق، بل يكون سائراً بمشيئته في طريق الرقي وهو يعلم أين يسير. وهذا يجعل من السهل علينا أن نجيب على السؤال الذي كانوا يلقونه قديماً عن معنى الحياة والغرض منها، فليس الغرض منها إلا السير بالبشرية في سبيل الرقي وتوفير أسباب البهجة والتمتع لكل فرد منها
وقد طبَّق سبنسر نظرية التطور على الشئون الاجتماعية، وشرح رأيه في نشوء الضمير الخلقي عند الإنسان بما يتلخص فيما يأتي: كان الناس في أول أمرهم يرون أن الحسن هو المفيد إفادة عاجلة، ثم أظهرت التجارب أن هنالك أحياناً فائدة كبيرة آجلة تَفضُل الفائدة الصغيرة العاجلة. وقد اختُزنت هذه التجارب في مشاعر أسلافنا وذلك ما أحدث أثره في مجموعهم العصبي، وتوارثنا نحن عنهم هذه التأثيرات، فترانا نعتبر بعض التصرفات حسناً دون أن نجربه ونتثبت بأنفسنا من نفعه، وإنما أسلافنا هم الذين جربوا ذلك لهم ولنا من بعدهم، وهذه الحكمة الموروثة هي ما نسميه بالضمير، وبه نجد من دخيلة نفوسنا ما يرشدنا إلى الخير والشر. وعلى ذلك فإن حياة الفرد ونصيبه الذي قسم له في الحياة لا يبدوان عند ولادته، بل هما يرجعان إلى الماضي الذي لا نستطيع تقدير توغله في القدم
نشوء الكون
كانت هنالك مادة أولى تملأ الوجود، ومن هذه المادة نشأت السدم، وهي سُحُب من ذرات معدنية صلبة مختلفة الحجم والمعدن، ثم تطورت السدم بعد ذلك فأخذت الذرات الصغيرة فيها أو القليلة الكثافة تنجذب إلى الكبيرة أو الأكثر تركزاً، إلى أن تكونت كرات كبيرة يفصل بين كل منها والأخرى حيز فارغ واسع المدى. واتجهت الذرات الأكثر ثقلاً في كل كرة نحو مركزها، وولَّد ضغط الذرات في هذه الكتل التي يزن كل منها تريليونات الأطنان، حرارة هائلة جعلها تتقد وتتحول إلى كوكب. أما الذرات الخفيفة أي الغازات، فقد بقيت في الحافة مكونة جواً غازياً حول الكوكب. وقد حدثنا الفلكيون أن الكون الذي نعيش فيه يحوي نحو 2 , 000 , 000 , 000 من الشموس التي تشبه شمسنا، والكثير منها كواكب مثل كوكبنا الأرضي، من الجائز أن تكون مأهولة بكائنات حية، فليس ثمة ما يدعو إلى افتراض أن الأرض أنشئت على نمط خاص
أخذت الكواكب تفقد حرارتها شيئاً فشيئاً، وكان أسرعها في ذلك أصغرها حجماً، وبردت(289/58)
الأرض بالتدريج واتحد ما يكتنفها من أوكسجين وأيدروجين فتكون منهما الماء العذب، ثم اكتسب الماء ملوحته من إذابته لبعض أملاح الأرض وبعض أحماض أنزلها معه من الجو. واستمرت الأرض تبرد وتكونت القشرة الأرضية في النهاية ويبلغ سمكها في الوقت الحالي 80 إلى 100 كيلو متر، وقد كانت في أول أمرها متشابهة السُمك، وكان المحيط المائي موزعاً حولها بتساو، ولكن برود القشرة الأرضية أدى إلى تقلصها، فارتفعت سلاسل الجبال ونشأت تبعاً لذلك الوديان والمنخفضات، ثم استقر الماء في المنخفضات وبدأ الانقسام إلى أرض (يابسة) ومياه
نشوء الحياة والأحياء
نشأت الحياة بعد ذلك على وجه الأرض في زمن مضى عليه - في رأي بعض الجيولوجيين - 50 إلى 100 مليون سنة، وكانت الأحوال الطبيعية تختلف عما هي عليه الآن، فمياه المحيطات مرتفعة الحرارة، والعناصر المتشععة عظيمة النشاط، والمركبات الكيميائية ليست كلها على النمط الذي نعرفه، فدبت الحياة في المادة الحية الأولى (بروتو بلاسم)، ثم نشأت منها الوحدات المحدودة التي نسميها خلايا
لم تكن الكائنات الحية الأولى نباتات صرفة ولا حيوانات خالصة، ولكن البعض منها أصبح نباتا لاقتصاره على التغذي بالمواد غير العضوية التي في الأرض، وجرى البعض الآخر على افتراس ما يجاوره من الأحياء، وذلك منشأ تكون الحيوان، وقد اقتضت عملية الاقتناص أن يتزود الحيوان بأعضاء خاصة بالحركة والحس وبفم ومعدة وأسلحة ودروع فنشأت عنده هذه الأعضاء. ثم نشأت الحيوانات والنباتات العديدة والخلايا بعدم انفصال الخلايا الناتجة من انقسام خلية واحدة
ولما غاضت معظم المياه الضحلة وانسابت الأنهار السريعة الجريان هلكت الحيوانات التي لم تستطع التخلص من بطء حركتها، وتطورت أعضاء الحركة في الحيوانات الباقية فظهر السمك كالقارب الطويل مجهزاً بزعانف قوية ثم تكونت فيه السلسلة الفقرية. واكتظت الأنهار الضيقة السريعة الجريان بالأحياء فقام بينها الكفاح من أجل الأوكسجين والغذاء فذهب البعض إلى البحار العميقة وبدأ البعض سباقه صوب البر ونباتاته يقتات بما فيها من حشرات ثم يعود إلى الماء وأخذت المثانة الهوائية تتطور إلى رئتين والزعانف تتطور إلى(289/59)
أطراف، ونشأت الأمفيبيا كالسمندر والضفدع وهي الحيوانات التي تقطن الماء في صغرها ثم تنتقل في كبرها إلى حياة البر
واستمرت المياه في بعض الجهات تغيض شيئاً فشيئاً وأخذت الحيوانات الأمفيبية في تلك الجهات تتحول تبعاً لذلك إلى حيوانات برية ففقدت خياشيمها وقويت أرجلها ونشأت منها الزواحف كالورل والتمساح والثعبان
العصر الجليدي
وانقضى الصيف الدائم من على وجه الأرض وكسا الجليد نحو 4 ملايين ميل مربع من سطحها، تمتد من الهند إلى أوستراليا وإلى أفريقيا. وقضت هذه المذبحة الهائلة على نحو 97 في المائة من الأنواع النباتية والحيوانية فتحولت النباتات إلى طبقات من الفحم ولم يبق من الحيوانات إلا نماذج قليلة في الأقاليم الحارة هي التي نسلت ما احتواه العصر الحديث من الأمفيبيا والحشرات وغيرها. فلما ذابت طبقة الجليد بعد ربع مليون سنة بسبب انخفاض سطح الأرض في الجنوب عادت الزواحف إلى الانتشار، وكانت أوربا في ذلك الوقت غاطسة تحت الماء لا يطفو منها سوى قنن الجبال وأجزاء قليلة أخرى تبدو كمجموعة من الجزائر محاطة بحواجز من المرجان ما تزال آثارها تشاهد إلى الآن فوق الجبال. وكانت هناك قارة ملأى بالبطاح والغياض ممتدة من أسكوتلاندة إلى أمريكا (تسمى في عالم القصص بالاطلانطيس) فساعدت على انتقال الزواحف الجبارة بين القارتين
كانت إناث الحيوانات قبل العصر الجليدي تضع البيض وتتركه على سطح الأرض أو الماء فينقف من تلقاء نفسه بتأثير الحرارة، وبذلك كانت الطبيعة تتولى عمل الأم. فلما حلت البرودة أصبح الرقاد على البيض وتعهد الصغار بالعناية أمراً لا غنى عنه. ونشأ للزواحف رداء حرشفي رفيع، وأصبح جلد الأمفيبيا لزجاً كما نشاهد الآن في الضفادع، ونشأت الطيور والثدييات مزودة بقلب ذي أربع غرف يساعد في إمداد الدم بقدر وافر من الأوكسجين ليحرق وقوده فيحتفظ الحيوان بالدفء ولا تنحط حرارته مع حرارة الجو كما هي الحال في ذوات الدم البارد وهي الأسماك والأمفيبيا والزواحف. وساعد الدم النقي في الطيور والثدييات على زيادة حجم المخ وارتقائه وتمت لها السيادة في العصر الجديد. أما الزواحف الضخمة المدرعة بدروع ثقيلة فقد قُضي عليها عندما حل البرد الشديد بعد ذلك(289/60)
في نصف الكرة الشمالي لزوال الحرارة التي كانت تجعل بعضها ينقف دون أن ترقد هي عليه
وكان للعصر الجليدي أثره العظيم في عالم النبات أيضاً فقد انتزع سيادة النباتات الجرثومية المنحطة على المملكة النباتية، وأفسح مجال الانتشار والازدهار أمام النباتات المخروطية والنباتات المزدهرة، ولما حل الشتاء في نصف الكرة الشمالي أخلت معظم الأشجار الدائمة الاخضرار مكانها لنماذج تسقط أوراقها في الشتاء بصفة دورية فلا تفقد ما تحتويه من الماء وهي لا تستطيع تعويضه من الأرض في الشتاء
تطور الطيور والثدييات
تسلسلت الطيور من الزواحف بفضل ما حدث لها من التغايرات الملائمة ولاسيما فيما يختص بجهاز توليد الحرارة. وقد عثروا في صخور بافاريا على متحجر طائر في حجم الغراب كان يقطن أوربا قبل ملايين السنين، وهو يجمع بين خصائص الزواحف وخصائص الطير، وهذا (الطائر القديم) هو الحلقة (غير المفقودة) بين الزواحف والطيور
وحل عصر جليدي في شمال أوربا وأمريكا غطى نحو 7 ملايين ميل من سطحهما، فأرغمت الحيوانات والنباتات المحبة للحرارة على الزحف صوب الجنوب. وقد يكون البرد القارس في ذلك العصر هو منشأ هجرة الطيور المهاجرة كالسمان والعنز وعصفور الجنة كل شتاء من الشمال إلى الجنوب، كل عائلة منها إلى مكان معين تسلك إليه طريقاً ربما كانت هي الطريق الوحيدة التي عرفها أسلافها في ذلك الوقت، وعلى ذلك فليست (الغريزة) سوى العادات التي اكتسبتها الحيوانات تحت ضغط ظروف خارجية عنها
نشأت الثدييات الأولى الصغيرة الحجم في أواخر العصر الجليدي، وقد يكون منشأها في قارة تمتد حيث يوجد الآن المحيط الهندي وما حواليه، أو لعلها عبرت تلك القارة الضائعة من أفريقيا إلى أوستراليا، ثم غاصت تلك القارة تحت سطح الماء فأصبحت أوستراليا جزيرة منعزلة لا تستطيع أن تصل إليها الحيوانات المفترسة التي تطورت في باقي أنحاء العالم، وبقيت الحيوانات الثديية البدائية فيها متخلفة عن زميلاتها في الخارج مثل الكنجرو، وهو لا يبقى جنيناً في رحم أمه إلا زمناً قليلاً فأنها ليس لها من الأوعية الدموية ما تنقل به دمها إلى الجنين لتغذيته، لذلك تلده سريعاً وتلتقطه بفمها فتضعه في كيسها حيث يكون ثديها(289/61)
المنخفض في متناول فمه
بقيت الحيوانات الثديية في أوستراليا على ما هي عليه تقريباً ولكنها في أفريقيا صعدت درج الرقي وانتشرت انتشاراً عظيما متجهة في انتشارها صوب الشمال. فلما كثر عددها ساد بينها كفاح هائل من أجل الحياة وأخذت ذراريها تتطور في شتى الاتجاهات، فمنها ما أكل اللحم ومنها ما عمد إلى الهرب من الحيوانات المفترسة فاتخذ له ملجأ تحت سطح الأرض كالخلد والأرنب، ومنها ما أخذت أشواكه تنمو وتصلب كالقنفذ، ومنها ما بقي يعيش فوق الأشجار كالسنجاب، ومنها ما هبط إلى البحر كالحوت، ومنها ما اتخذ الليل معاشاً كالخفاش. وانتشرت فصيلة الحيوانات الحافرية في القارات الأربع مستعينة بقوتها وضخامتها أو بدروعها وأنيابها وقرونها أو بسرعة عَدْوِها وحدة حاسة الشم عندها
تطور الإنسان
تسلسل الإنسان من ذرية حيوان شبيه بالقرد، ولكن ليس من ذرية أحد القردة الموجودة في العصر الحاضر، وإنما تتصل القردة الحالية بالإنسان في أسلاف مشتركة وجدت من 3 أو 4 ملايين من السنين
أخذت الحيوانات الثديية البدائية ترتقي وتتطور في اتجاه القردة، وانتشرت القردة في القارات الأربع (أي في مختلف أنحاء الأرض باستثناء أوستراليا)، وذلك من نحو 10 ملايين من السنين، ثم تطور قسم منها إلى القردة الشبيهة بالإنسان، وهي أربعة فروع هبط ثلاثة منها إلى الأرض عندما بادت الغابات في بقعة من آسيا بسبب ارتفاع الأرض وجفاف الهواء على الأرجح. ومن المقرر أن ترك الأشجار والإقامة على ظهر الأرض مما يساعد كثيراً على الترقي والتقدم؛ فإن هذه المعيشة تقتضي الملاحظة الدائمة لاتقاء الأعداء واقتناص الغذاء، وقد أصبحت الساقان الخلفيتان تقومان أكثر فأكثر بحمل الجسم، وأصبحت اليدان تستعملان في إمساك الأشياء، وأثرت كل هذه التطورات على نمو المخ مدة 4 ملايين سنة
وقد عثروا في إنجلترا على جمجمة يرجع عصرها إلى 400 , 000 سنة. كما يدل على ذلك عمر الطبقة الأرضية التي وجدت مطمورة فيها، وقد قدر الثقات أنها جمجمة إنسان منحط جداً من حيث الذكاء(289/62)
وقد استطاع العلماء بما عثروا عليه من الهياكل البشرية التي ترجع إلى عهد قديم جداً والأدوات الحجرية المتدرجة الرقي التي وجدوها إلى جوار تلك الهياكل - أن يكتبوا قصة الإنسان. وتتلخص في أن فرعا من متسلقات الأشجار بارح الأشجار وهبط إلى الأرض فارتقى فيها وأصبح يتخذ العصا سلاحا، ثم ارتقى وبدأ فيه العنصر الإنساني حين بدأ يقرع صوانة بأخرى ليكسب إحداهما سناً حاداً مشحوذاً
كان الإنسان في أقدم عهوده يعيش في جو دافئ بغير نار وملبس ومنزل، ثم حلت خمسة عصور جليدية تتخللها فترات دافئة، واضطر سكان أوربة قبل التاريخ في المرة الرابعة إلى سكنى الكهوف، ثم شرعوا يرتدون الجلود وتعلموا أن يشعلوا النار بالصوان. وعندما انقضى ذلك العصر الجليدي كانت قد ظهرت في أوربا بشرية من طراز جديد، فبدأ التطور الاجتماعي واضطرت الأسر إلى المعيشة معا، وسرت في الكهوف لغة غير ناضجة.
وعادت طبقة الجليد تكسو أوربا فعبر القوم الجسور الأرضية إلى شمال إفريقيا وآسيا الصغرى، وكان السكان أكثف ما يكونون بين الخليج الفارسي ومصر، وكانت وديان النيل والدجلة والفرات قد تكونت حديثاً بفضل هذه الأنهار، واحتدم الكفاح بين القبائل والعشائر من أجل هذه الوديان وطلعت من هذا الكفاح أولى المدنيات.
عصام الدين حفني ناصف(289/63)
رسالة الفن
الفن الإسكندري
للدكتور أحمد موسى
لا نقصد بعنوان المقال تحديد الفن بعصر الإسكندر كما لا نقصد تحديده بمدينة الإسكندرية وحدها، وإنما المقصود بالفن الإسكندري أنه الإنتاج الفني في البلاد المصرية منذ تأسيس الإسكندرية سنة 332 ق. م إلى نهاية حكم البطالسة، ذلك الفن الذي عرف أمره وتأثر به فن العالم القديم
وبالنظر إلى قلة ما تبقى من هذا الإنتاج وإلى ضآلة المواد العلمية التي يمكن الاستناد إليها، وإلى ما بين أيدينا من الآثار البطليموسية فإن تاريخ الفن الإسكندري بمعناه الشامل من الموضوعات العسيرة التي تجعل البحث ناقصاً قابلاً للنقص في بعض نواحيه؛ إذا ما ظهر من نتائج الحفر وما قد يعثر عليه من النصوص ما يميط اللثام عن بيانات واستنتاجات تغير ما تقرر حتى الآن
على أنه يمكن القول بأن ما بقي من التماثيل وبعض الآثار يعطي ما يفيد في هذا المجال، ويمهد السبيل إلى معرفة المدى الذي وصل إليه أثر الفن الإسكندري في الفن الإغريقي أو الهيليني
ومما لا يقبل الشك أن مدينة الإسكندرية كعاصمة للبلاد أنشئت وشيدت على نمط رائع من حيث التخطيط العام للمدينة ومن حيث تنظيم شوارعها ومبانيها التي عملت لأول مرة في هذا القطر من الطوب بطريقة هندسية جديدة في نسقها جميلة في مظهرها، ولاسيما أن حوائط المباني كانت مغطاة من الداخل بلوحات من المرمر زخرفت بنقوش من المعدن. وهذا كله نتيجة للرغبة في التمدين والعطش نحو الأبهة
وكان شغف الأمراء من أبناء البطالسة وتقديس الناس للآلهة خير دافع إلى إقامة المعابد الهائلة بحوائطها المزخرفة بالنقوش والكتابات، كما كان سبباً في إحياء فن النحت والتصوير، إلى حد أن كانت بعض التماثيل تعمل من الذهب والعاج في غاية من الدقة والجمال.
وبطبيعة جو الإسكندرية الأقرب إلى الجو الأوربي والخليط الذي كان يعيش في تلك(289/64)
المدينة من البطالسة والمصريين وغيرهما، كذلك وجود الفلاسفة المشتغلين ضمنا بالطب والجراحة فضلاً عما بعثوه في العقول بتعاليمهم التي تحض على النظر والدرس والتأمل إلى جانب مجموعة الكتب العظيمة بالمكتبة الخالد ة - في هذا المحيط وهذه البيئة نشأ الفنان الإسكندري محاطاً بما يوقظ فيه روح العمل والابتكار
ولعل خير مثل لذلك بقايا التماثيل ومنها رأس من البرونز يمثل امرأة مصرية تجلت على ملامحها مصريتها وحيويتها.
وكان للإنتاج الفني غير العمارة والزخرفة والنحت الواقعي اتجاهاً مثلياً رائعاً تراه في تمثال (النيل) المحفوظ بالفاتيكان في روما، والذي وصل منه أنموذج إلى هذه البلاد منذ أعوام. فإذا نظرت إلى صورته رأيت إلى أي مدى استطاع الفنان الوصول إلى ذروة الفن المعاصر لتلك الأيام، فإلى جانبه تتضاءل التماثيل التي عملت للأمراء ولهوميروس، والتي لا يمكن أن توصف إلا بكونها من أحسن ما أخرجه الفنانون
أنظر إلى صورة الإله (النيل) ولاحظ ما بدا على وجهه من عوامل التأمل والتفكير في مصير أولاده الستة عشرة (فروع النيل الكبرى والصغرى) وشاهد كيف يتكئ بكتفه على (أبي الهول) الرابض بجانبه، وقد اختار الفنان (لأولاد النيل) أوضاعاً شتى فظهر كل منهم مخالفاً لغيره، وفي هذا ما فيه من الغنى الفني
كذلك اتجه التصوير اتجاهاً جديداً فخرج من تمثيله لصور الأمراء والعظماء إلى تمثيل الحياة العامة والعادات الاجتماعية فرسمت على الحوائط مناظر صادقة في التعبير عن العصر الذي عملت فيه، وغير ذلك للمناظر الطبيعية كتلك التي صورت لنا أجزاء من المدينة محاطة بالغابات ذات الأشجار العالية، والتي نصبت بينها تماثيل بأوضاع دلت على حسن التنسيق والوصول إلى درجة فائقة في فن تخطيط المدن وهندستها، وهذا الوضع يذكرنا بالحالة التي كان الفن البومبياني (نسبة إلى بومبي) يسير عليها
على أن الفن الإسكندري، أو إن شئت فقل الفن المصري في عهد البطالسة، كان قصير العمر بالقياس إلى الفن المصري في العصور أخرى أو إلى الفنون الأجنبية، فعندما وصل الفن البرجاموني والفن في رودس إلى أوج عظمتهما حوالي منتصف القرن الثاني قبل المسيح، كان الفن الإسكندري سائراً نحو الهبوط؛ فانتقل إلى إيطاليا. وخير برهان على(289/65)
ذلك أنه في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد شيدت في بمبي عمائر على نمط لا يختلف في الجوهر والمجموع الإنشائي عن ذلك الذي بني للمرة الأولى في الإسكندرية، حتى الزخارف التي عملت على حوائط هذه العمائر فإنها شملت ذلك الطابع الإسكندري المميز، والذي يقرر تأثرها بها أفصح تقرير
هذا فضلاً عن أن العارف بتاريخ الفن الدارس لأصوله يذكر جيداً أن المشيدات التي أنشئت في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، سواء أكان ذلك في منطقة كمبانيا أم في روما، وسواء فيما يتجلى على البناء المقدس للآلهة (بانتيون أجريبا) أو بناء مسرح بومبيوس أو قصر نيرون الذهبي كلها تدل على أنه لا مفر من الاعتراف بوجود أثر الفن الإسكندري فيها.
ظهرت بعد هذه المرحلة صور رائعة هي تلك التي رسمت على أغطية توابيت الموتى، والتي قصد بها الاستعاضة عن الأقنعة الذهبية التي كان المصريون الأقدمون يعملونها على الأغطية لتمثيل وجه الميت.
وكان ظهور هذه الصور تدريجياً ونادراً ومرتبطاً بنتائج الحفريات التي عملت في الفيوم منذ سنة 1888 ولكنه على جانب من الكثرة التي تسمح بالدرس والتأريخ.
وقد اخترنا ثلاثاً منها تعطي فكرة صحيحة عن قوة التصوير ودرجة إتقانه، فبالنظر إليها نلاحظ جمال الملامح وحسن التعبير ونبل الإخراج، إلى جانب ما يبدو على الوجه ويشع من العينين من تأثر نفساني عجيب.
وكان تصويرها بالألوان على خشب الجميز أو اللبخ على ما نظن وكذلك على قماش التيل - وكانت توضع على التابوت أو تثبت في غطائه مكان الرأس
وكانت الألوان معدنية مخلوطة بالشمع أو بصفار البيض أو بالغراء وأحياناً بهما معاً، يرسم بها (ماعدا ما كانت بالشمع) على سطح مدهون بالجبس أو الطباشير.
ويتضح من الكتابات التي نقشت على لوحات صغيرة ووضعت مع التوابيت أو في داخلها أو التي كتبت على بطاقات صغيرة من الخشب وثبتت إلى جانب العنق - أن أصحاب هذه الصور كانوا من الإغريق، وبالرغم من هذا فإنه لا يمكننا الارتكان إلى ذلك لمجرد علمنا بأنه حتى لو كان الإغريق قد تعودوا عادات المصريين في طريقة التحنيط والدفن(289/66)
الخ، في القرن الثاني قبل الميلاد، فإنه يبعد كثيراً أن يكون أصحاب هذه الصور من الإغريق لاختلاف ملامحهم ولون شعرهم وتجعده ولون العيون فضلاً عن المجموع التكويني للرأس. وقد تكون هذه الصور بالرغم مما كتب عليها غير معاصرة للبطالسة.
ومهما يكن من شيء فإن عصر الفن الإسكندري مع قصره كان شاملاً لمدينة الإسكندرية بمكتبتها ومنارتها، وشاملاً لآيات من الفن لم يبق منها إلا القليل الذي مع قلته دل دلالة صريحة على أن الفن المصري في تلك المرحلة، وإن كان قد سار في اتجاه يلائم العصر الذي وجد فيه؛ إلا أنه أثر في غيره أكثر مما تأثر هو بالغير.
أحمد موسى(289/67)
رسالة المرأة
المرأة اليونانية القديمة والتعليم العالي
للآنسة زينب الحكيم
التاريخ سجل يطوي فيه أسرار الأجيال. قلبت بين صفحاته عن بعض حالات المرأة اليونانية الغابرة، فوجدت كل معجب مدهش. . .
وفي الحق ليس من المستغرب أبداً أن وجدت سيدات من الدرجة الأولى في المواهب العقلية بين ناس امتازوا بالثقافة العالية كاليونانيين
وسافو الشاعرة اليونانية مثال من الأمثلة الخالدة لهؤلاء السيدات. لقد كانت ذات سطوة قوية على بنات جيلها، وظهر نتائج مجهوداتها الموفقة بين تلميذاتها الكثيرات، واشتركت السيدات برغبة في درس الشعر ونظمه. وشجعهن على الاستزادة من ذلك مناصرة عدد كبير لهن من مشاهير الرجال الغيورين على ترقية المرأة، فاستحسنوا أن تتعلم تعليماً عالياً وساعدوها على المطالبة بذلك بكل ما أوتوا من قوة
من هذا نرى أنه منذ العصور المبكرة نودي بتعليم المرأة وبالمساواة بينها وبين الرجل في اليونان
ففي القرن السابع قبل الميلاد، تشبث كليوبليس - وكان أحد حكماء اليونان السبعة - بأن ينال النساء التمرين العقلي الذي يناله الرجل، وأوضح مبدأه بتعليم ابنته كليوبلين التي صارت شاعرة ذات شهرة واسعة فيما بعد
وبيثجوراس الذي احتفل بإعلان مذهبه الفلسفي في القرن السادس بجنوب إيطاليا، أشار بوضوح إلى ضرورة المساواة بين الجنسين، واخترع خطة لتعليم النساء، كان من شأنها أن جعلتهن منتجات فيما يتصل بتدبير المنزل، كما جعلتهن ممتازات في الثقافة الفلسفية والأدبية
وأشار أفلاطون بضرورة تعليم المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وسمح بقبول النساء لسماع المحاضرات الجامعية
وفي أيام الإسكندر شجع تحرير المرأة بشكل قوي، ومن ذلك الحين نرى أن النساء اشتركن في دراسة جميع الفروع العلمية دراسة عملية(289/68)
وفي الإسكندرية خاصة، تعلمت بنات الأساتذة العلماء، تعليمً عالياً، فواصلن دراسة الفلسفة واللغة، وعلم الآثار القديمة، وقد اشتهر منهن كثيرات
وفي الفترة اليونانية الرومانية، نادى بلوتارخ بتعليم النساء، وقد انتشر التعليم بينهن في أيامه إلى حد بعيد محمود
وأسباسيا وضعت (موضعة) تعلم عن البيان والفلسفة، كعمل تظهر به المرأة في المجتمع الأثيني، وأصبح الانتماء إلى جماعة نصيرات التعليم العالي بدعة سارية، حتى أن كثيرات من نساء الطبقات الراقية (الشريفة) شغلن أوقات فراغهن بقراءة الفلسفة والشعر، وحصلن على نوع من التعليم، وإن لم يكن شعبياً؛ فقد كان خوصياً من محاضرين فنيين
ميول النساء في ذلك العهد
ظل الكثيرون يعتقدون أن الشعر كان المجال الطبيعي للمرأة؛ يضاف إلى ذلك الفلسفة في الدرجة الثانية، إذ صارت الفلسفة الحرفة العامة التي أجدن تعلمها حينئذ. ولكن لعله لا يغيب عن ذهن القارئ والقارئة، وصف مدرسة سافو الشاعرة في التي أوى إليها الهيلينيات لدراسة الشعر والفن
إن جمال جزائر لسبوني الطبيعي، وحياة الطبقة الأرستقراطية المترفة، وتوقد ذكاء وحذق سافو نفسها، وحبها الخالص لصديقاتها الفتيات من بنات جيلها، كانت كلها مؤثرات قوية محبوبة فعالة لأهل زمانها
ليس من المستغرب إذن أن اكتسبت النساء حب الشعر وأولعن به، كما طبعن على الجاذبية لكل شيء جميل في الطبيعة في تلك البيئة؛ كما اكتسبن من مخالطتهن لفنانة مطبوعة، ومعلمة ماهرة مثل سافو أعلى الصفات
حتى لقد قيل: إنه وجدت ست وسبعين شاعرة من بين نساء اليونان القديمة، غير أنه لسوء الحظ لم يحتفظ لنا سجل التاريخ إلا بأسماء قليلات منهن، بلغ عددهن تسع شاعرات؛ لقبن بآلهة الشعر الأرضيات
عندما اتسع المجال أكثر أمام المرأة في عهد البطولة مهرت النساء في استعمال النباتات في فنون السحر، وفي تطبيب الجروح. وعندما أصبح الطب علماً، اشتغلت النساء بفنون منه. وظهر اختلاف أمزجتهن واستعداداتهن وميولهن الطبيعية، فمنهن من اشتغلت بالعلوم(289/69)
الطبيعية، وعلم البيان والتاريخ واللغة، وأحبت كثيرات علم النقد، وانتشر بين بنات العلماء
ومن هذا يتضح فساد زعم من ظنوا أن مجال المرأة الطبيعي كان الشعر فحسب. ولعلنا نطمئن إلى هذا الحكم الذي يؤيده علم النفس المقنن في القرن العشرين
بنات الشاعرات
شاعرات اليونان اللائي سبقت الإشارة إليهن وشبيهاتهن، كوّن نهضة مباركة من بناتهن اللاتي ورّثنهن الميول القوية للفنون والآداب؛ فكان منهن الموسيقيات، والمصورات، والشاعرات، والفيلسوفات
والتاريخ وإن لم يدلنا على أنه وجد من بينهن ناحتات للتماثيل أو مكوّنات لها، يذكر الفضل في اختراع هذا الفن إلى فتاة من كرنثيا
والأثر إن صح يروي الآتي: كانت الفتاة كورا ابنة بوتادس على وشك أن تودع حبيبها، وربما كان الوداع الأخير، لأنه كان معتزماً القيام برحلة طويلة. واتفق أن خياله انعكس على الحائط، إذ كان الوقت ليلاً ويضيء المكان مصباح. فخطر للفتاة أن تحتفظ ولو بهذه الذكرى من حبيبها، فرسمت محيط خياله في حياء. فلما رأى والدها ذلك العمل، دفعته غريزته الفنية إلى أن يملأه لها بالصلصال؛ فكون تمثالاً لحبيبها، كان ناجحاً بعد حرقه في النار
المصورات
كانت لالاَّ من نساء مدينة سيزكس من أقد المصورات بالألوان، وكان من أخص صفاتها السرعة في العمل (مثل الملكة فكتوريا)، ومع ذلك لم يُنقص ذلك شيئاً من مزايا نتاجها، واعتبرت أول مصورة في وقتها حذقت الرسم بالألوان وعلى العاج. وكل ما لونته من الرسوم كان صوراً للسيدات
وأخبرنا بليني أنها صورت نفسها في المرآة وهي عجوز، وقد عرضت هذه الصورة في معرض نابلي
وعثر على صورة أخرى لها في بمباي، وتمثل فتاة تجلس على مقعد يقرب من الأرض وتنظر إلى تمثال، وفي يدها اليمنى ريشتها ممتدة إلى صندوق ألوانها وفي يسراها لوح(289/70)
للتصوير. وثيابها منسدلة بأناقة حولها. ويحيط شعرها المتموج رباط لطيف يتدلى حول رقبتها وأكتافها، ويظهر على محياها مسحة تفكير وعلم تضيء أسارير وجهها الرقيق. فإذا صح أن هذه تمثل صورة (لالاّ) فإنها لابد كانت جميلة فاضلة
الفيلسوفات
نبغت كثيرات من بنات اليونان في الفلسفة والحرف العقلية في مدارس بيثجوراس
جاء في الأثر أن تأثير بيثجوراس في كارتون كان عظيماً جداً، حتى أن نساء المدينة أحضرن ملابسهن الثمينة وحليهن من عقود وأساور، إلى هيكل هيرا وأودعنها كمنحة للفضيلة العائلية. وآلين على أنفسهن منذ تلك الساعة أن يكون الحزم والحشمة رائديهن، ولن تكون الثياب الثمينة بعد الآن ما يتحلى به جنسهن، مستعيضات عن ذلك بالعلوم العالية والثقافة.
لعمري لقد كان قسما شريفا ومقصدا ساميا صنعت به المرأة اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الحق. وهل من شك في أن العامل الأول في أي نهضة يتوقف على المرأة؟ إذن عليها أن تبادر بوضع بذور كل نهضة لتأخذ بيد الإنسانية مسرعة.
إن آثار النساء اللاتي تشربن مبادئ بيثجوراس تمت عن بسمعة يغبطن عليها في العالم اليوناني كله، حيث كانت نتائج تعاليمه بالنسبة لهن، مبادئ سامية لأخلاق المرأة، وعناية تامة بواجبات الأسرة، والنهوض بوسائل المعيشة الصحيحة في الحياة ولاسيما تربية الأطفال، مما لا يزال بعض آثاره باقياً إلى الآن.
وقد كان شعارهن وهو تعبير يعني الاعتدال والاعتداد بالنفس والحياء، والفضيلة الزوجية، وبالاختصار: كل ما هو جدير بأن تكون عليه المرأة. وفيما يلي مثال مما يشير إليه ما ذكر:
زوج بيثجوراس
النساء اللاتي نشأن على مبادئ بيثجوراس على ما امتزن به من تلك الصفات العالية والقوى الإنسانية التي هيأن بها حياة ناجحة، لم تضارع إحداهن ثيانو ذات العقل الراجح زوج بيثجوراس فلقد مزجت الفضيلة بالحكمة مزجاً متناسقاً، بحيث مثلتها الآثار لها لا(289/71)
كأول امرأة ممتازة فحسب، بل مثلتها كالنموذج الأول لنشأة المرأة الذكية الصحيحة أيضاً
نعرف عن حياة (ثيانو) بعض حوادث أخلاقية فقط، وهذا يجعلنا ننفذ إلى حقيقة أخلاقها. وأهمها الأقوال المأثورة التي قالتها في مناسبات خاصة:
سئلت مرة عما تتمنى أن تتميز به؟ أجابت ببيت من شعر هومر تمثلت به: (اكتراثي بالمغزل، واعتنائي بفراش زواجي)
وسئلت مرة أخرى: ما الذي تسأل عنه الزوجة؟
أجابت: أن تعيش خالصة لزوجها
وسئلت أيضاً: ما هو الحب؟ قالت: الحب هو غرام النفس الوالهة
حدث مرة أنها ألقت ردائها وظهرت ذراعها، فرآها رجل ودهش من جمال تكوينها، فقال: ما أجملها من ذراع! فقالت: ليس لنظرات العامة، وأسرعت بتغطيتها.
وقد استعار هذه الملاحظة بلوتارخ، وغيره من رجال الدين من بينهم كليمنت بالإسكندرية، كما استعارته المؤلفة البيزنطية أنّا وقد كننت ثيانو شاعرة وكاتبة ناثرة، وقد عثر على قليل من أعمالها الفلسفية والدينية يستدل منها على مقدار نمو مواهبها في التعليل، وفي مناقشة مسائل تربية الأطفال، ومعاملة الخدم، وكبت الحسد والعواطف الجامحة، كل ذلك بأسلوب مؤثر حساس لطيف
ولقد كانت أمينة إلى أقصى حد، في نشر مبادئ وتعاليم زوجها كمعلمة وكاتبة، أما موتها وظروفه فغير معروف
هذه صفحة من صفحات المرأة اليونانية الغابرة، فلعمري هل يكون نتاج أختها اليونانية الحديثة، يونانية عصر النور والراديو، والحديد والنار، أشبه بنتاجها أو أرقى منه؟ هذا ما نرجوه
زينب الحكيم(289/72)
رسالة الشعر
من جحيم التقاليد
التي في الأصفاد!. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(إلى ملهمتي. . في قيود الرجعية الغاشمة التي لا تدين
بشرعة الحب العليا وتنكر على الهوى أزلية أنواره في قلوب
العشاق!)
يا قُدْسَهَا! هَلَّتْ كَوَحي الإلهْ ... عَلَى نَبِيٍّ أَسْكَرَتهُ الصَّلاَهْ!
عَلَى جَناني وهْوَ غِرُّ الصِّبَا ... أَذْهَلَ دُنْياهُ ضَبابُ الحَيْاهْ
على صَباحي وهْوَ طِفْلُ السَّنا ... مِنْ وَحْشة الأَيام يَبْكي ضُحاه
حَيْرَانُ. لا أيْكٌ، ولا زَهْرَةٌ ... ولا خَمِيلٌ يَتَحَسَّى شَذاهْ
ولا مُنَى تُشْرِقُ فيهِ، ولا ... شعاعُ أحْلاَمٍ يُنَاجي سَناهْ
حَفيفُ قُبلاتِ الْهَوَى عِنْدَهُ ... لَمْ يَدْرِ حتَّى في اللّيالي رُؤَاه
ولذَّةُ الَّجْوَى وَأّسْمَارُها ... لَغْوُ الأَحَاديثِ، ولَهْوُ الشِّفاه
كنْتُ فَناَء في دِيارِ الْبلَى ... خاصَمَهُ الْبَعْثُ فألْقَى عَصاه
كنْتُ بُكاَء سَرْمَدِيَّ الأَسَى ... أجْفَانُهُ لَمْ تَدْرِ ماذا شَجاه
كنْتُ أَنيناً في حَشا طائرٍ ... شَلتْ أغانِيهِ أكُفُّ الرُّماهْ
كُنْتُ حَنيِناً غَامِضًا، في دَمِي ... شِعْرٌ. وَلكنْ أَيْنَ منِّي لُغَاه؟
كُنْتُ وما كنْتُ ولكِن هوًى ... ظَمْآنُ، لم تَرْو اللّيالي صَداه
ظَمْآنُ! لا خِلٌ، ولا صاحِبٌ ... إلاَّ شَقاءٌ سابَقَتْني خُطاه
حًتَّى أهَلَّتْ فِتْنَتي، مِثلَما ... حَيّا النَّدى زَنْبقةً في فَلاهْ
أَلْقَتْ عَلَى رُوحي شعاعَ المُنى ... والسَّحْرَ، والشَّعْرَ، وخَمْرَ الْحَياه
عَذْراءُ لا مِنْ أيِّما آدَمٍ. . ... نِسْبَتُها في الكَوْنِ فَنُّ الإلهْ!(289/73)
وَجْهٌ. . حَرَامٌ يا فَمِي وَصْفُهُ! ... ما كانَ خَلْفَ السِّترِ إلاَّ صَلاه
صَوَامِعُ الرُّهْبانِ أّلُقَتْ لهُ ... سِرَّ الْقَرَابين، وَتَابَ الْعُصاه
لَهُ هُدُوءُ النَّبعْ في وَاحَةٍ ... سَجْوَاَء لَفّ الطَّيْرَ فيها كَرَاه
ما نَوْرَة الْفُولِ؟ وما طِيُها ... إنْ شَعْشعَتْ عِطرَ الْهَوَى صَفْحَتَاه
وَما لَها (بابِلُ) مَشْدُوهَةُ ... (هارُوتُ) يَنْعَاهَا لنار الرُّقَاهْ؟
حُوريَّتِي مَرَّتْ بها أَمْ رَنَتْ ... مِنْهَا إِلَى السِّحْرِ عُيونٌ سَواهْ؟
اللهَ لي. . . يا ثَغْرَها رَحْمَةً ... فَالْكَرْمَ أَطْيافٌ لِتِلْكَ الشِّفَاهْ
صَوْتُكَ لَحْنٌ عَبْقَرِيُ الصَّدَى ... أَفْنَى ولا يَفنَى بِسَمعِي صَداهْ
إِنِّي مِنَ الطِّينِ. . . فَطَهِّرْ فَمِي ... كَيْمَا يُنَاغِيكَ بِدُنْيا هَواهْ
وَيَنْقُلُ التِّسْبِيحَ عَنْ خَافِقٍ ... أَلْحانُهُ تُعْجِزُ جِنَّ الرُّوَاهْ!
مَنْ لَفَّ هَذا الحُسْنَ عَنْ عَبْدِهْ؟ ... وَمَنْ بِهذِي الأرْضِ عَنِّى زَوَاهْ؟
قَوْمُكِ يا آسِرَتي! مَا زَكا ... عَنِّي لَدَيْهِمْ فِي العُلاَ أَيُ جَاهْ
جَدِّيَ (فِرْعَوْنُ) لَدَى كِبْرِهِ ... كَمْ أَطْرَقَتْ دُنْيا وَخَرَّتْ جِبَاهْ!
وَالْفَنُّ زَادِي وَعَفَافُ الهَوَى ... أّقْدَسُ مَا حُمِّلَ يَوْمًا سُرَاهْ
هذا الرَّخيمُ الشَّدْوِ فِي أَنْمُلِي ... نَايٌ يَرُوعُ الدَّهْرَ ضافي صِبَاهْ
مَا لِي يَدٌ فِي سِحْرِهِ. . فَاسْأَلِي ... فسِرُهُ الْعَالِي بَعِيدٌ مَدَاهْ
مِنْ وَحْيِكِ انْهَلَّتْ أَسَاكِيبُهُ ... وَمِنْ هَوَاكِ الْعَذْبِ أَشجَى بُكاهْ
إِمَّا تَرَنّحَتْ بِإِعْجِازِهِ ... آلِهَةُ (الأوُلُمْبِ) خَرُّوا جُثَاهْ
مَاذَا؟! وَأَهْلُوكِ عَلَى غَفْلَةٍ ... مَرُّوا بِوَادِي الحُبِّ صُمًا قُسَاهْ
لَمْ يَسْمَعُوا النَّجْوَى. . وَلَمْ يَرْحَمُوا ... فِي حُسْنِكِ المَعْبُود نَارَ الشَّكاهْ
غَنَّتْ لَكِ الأَصْفَادُ شِعْرَ الأَسَى ... وَالْعَابِدُ النَّائي يُغَنِّي لَظَاهْ!
محمود حسن إسماعيل(289/74)
فلسطين
للأستاذ محمد الأسمر
سلوا الأرض ما تلكَ القنا والقنابلُ ... وما (خط ماجينو)، وتلك المعاقل
أَرى عصرَنا عصرَ المجرّدِ سيفه ... فسلْ بالظُبي عن كل ما أنت سائل
تبينتُ أنَّ الحق إن لم تُتح لهُ ... بواسلُ يخشى ظلمها فهو باطل
لعمرك لو أغني عن الحق أنه ... هو الحقُ ما قام الرسول يقاتل
ولم يلق عيسى وهو يدعو لربه ... من الناس ما ساقت إليه الأراذل
فلا تحسبنَّ الحق ينهض وحده ... إذا مِلتَ عنهُ فهو لاشك مائل
أقمهُ، وأسنده، ودعِّم بناَءه ... وذُدْ عنه ذود الليث والليث صائل
ولا تُسندنَّ الحقَّ بالقول وحدَه ... فإِنَّ عمادَ الحق ما أنت فاعل
من العقل ألا يطلبَ الحقَّ عاجزٌ ... فليس على وجه البسيطة عادل
ولكن قويٌّ يشربُ الدم سائغاً ... إذا نضبت يومَ الورود المناهل
أسودَ (فلسطينٍ) تحيةَ شاعرٍ ... وكلُّ (فلسطين) أسودٌ بواسل
حللتمْ على الوادي المبارك، أهلّه ... فأنىّ نزلتم، فالقلوب منازل
ذهبتمْ إلى المنفى كواكب أمةٍ ... وعدتمْ كما عادتْ بدور كوامل
همُ أغمدوكم في السجون مناصلاً ... فها أنتمُ عدتمْ وأنتم مناصِل
خرجتم يواقيت السجون وعدتمُ ... يواقيت هولٍ بأسُه متواصل
وما أنتمُ إلا سيوفُ ملاحمٍ ... وما حادثاتُ الدهر إلا صياقل
لقد جادلوكم بالسيوف ليالياً ... طوالاً، وكان القولُ بالسيف قائل
وعادوا فقالوا فاوضونا، ففاوضوا ... على حذر، لا يختلِ الحقَّ خاتِلُ
دَعوْكم لميدانٍ جديدٍ، جيوشُه ... كلامٌ، وفيه اللفظُ للفظ قاتلُ
وكلكم، والحمد لله، فارسٌ ... يدافع عن أوطانه، أو يجادلُ
أسودَ (فلسطين) ذياداً عن الحمى ... وعن غابكم، لا يدخل الغاب داخل
فما عاش حرًّا من مشى في بلاده ... وأمته قد طوقتها السلاسل
وما (سيشلٌ) عندي التي كنتم بها ... ولكنّما دارُ الأذلاء (سيشل)(289/75)
محمد الأسمر(289/76)
قصائد في أبيات
للأستاذ محمود غنيم
ديك الصباح
قلت للديك ساعة صاحا ... هل تغني لنا نشيد الصباح
قال: لا، بل نعيتُ يوماً راح ... ومحاه من صفحة العمر ماح
الذئب
قلت للذئب أنت وحش ضَارِ ... قال أظفاركم شأت أظفاري
أفعار أن يقتنص الذئب سخلا ... واقتناص البعير ليس بعار
أفزع المرء كلَّ شاءِ وأبْلٍ ... وأخاف الطيور في الأوكار
استغاث العقاب في الجو منه ... واتقى النون شره في البحار
ولخير للشاة ناب وظفر ... من شفار المدى وشيِّ النار
(مدرسة الأورمان)
محمود غنيم(289/77)
دوحة الفرصاد
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
ولقد مررتُ بدوحة الفرصادِ ... فشهدتُ ما فعل الزمان العادي
جفت نضارتُها. وصُوح نبتها ... وتناثرت أوراقها في الوادي
فبكيتها، لا بل بكيتُ صبابتي ... ورثيتها، لا بل رثيتُ فؤادي
يا دوحةَ الفرصاد غيرك البلى ... وجرت عليك روائح وغوادي
أشبهتِ أعوادي التي نثر الأسى ... أوراقها، واهاً على أعوادي
قد كنتِ مثلي في الربيع غضيرةً ... أيامَ أوراق المنى أبرادي
فغدوتِ عارية فلا ثمرٌ ولا ... ورق عليكِ ولا حَمَام شادي
أشبهتني حتى بكيتُ وإنما ... يدري جوى الصديان قلب الصادي
يا قلب ليتك في النعيم وفي الأسى ... أبدَ الزمان كدوحة الفرصاد
فقد يعود مع الربيع شبابها ... لكنْ شبابُ العمر غير معاد
عبد الحميد السنوسي(289/78)
القصص
راهب إيلياء
للأستاذ محمد سعيد العريان
على حدود الصحراء صوامع وبَيع، وكنائس وأديار؛ فيها قساوسة ورهبان نذروا أنفسهم لله أو نصبوا حبائلهم للمال؛ منهم برٌّ وفاجر، وناسك وداعر؛ وحواريٌّ من بقية السلف المؤمنين خاشع في محرابه، عاكفٌ على أسفاره، يترقب مَشرق الصبح بنفس راضية وقلب عامر؛ وآخرُ شيطانٌ في مسوح راهب، قد استمرأ المرعى في ظل البطالة، واستوطأ المقام في كنف الراحة، واستلذّ الحياة في الدَّير بين خمرٍ عتيق وقدٍّ رشيق وعودٍ وندامى!
وعلى ساحل البحر قلاع وحصون، وصياص ومعاقل، وجند من جند الروم قد رابطتْ على أهبة واستكملت السلاح والعدة!
وبين الصحراء والبحر من بلاد الشام يعيش شعب مرزوء، سلبه غزاةُ الروم وطنَه ومالَه، وسلبه الرهبان والقساوسة الدينَ والخلقَ وحرية الفكر والضمير!
وكانت قوافل التجار لا تنقطع بين الحجاز والشام
وكان يوماً قائظاً حين وفدت على الشام قافلة من التجار العرب، فأناخت جمالها على حدود الصحراء في ظل جدار قائم، تستجمّ لما بقي من الرحلة، وتنفض عن كواهلها غبار السفر الطويل في صحراء ليس فيها ظلٌّ ولا مأوى! وكان بينهم عمر!
فتًى آدَمُ طَوَال أصلعُ أقنى الأنف قويُّ الساعد بعيدُ ما بين المنكبين؛ في عينيه بريق ينبئ عن عزم وفتوة، وله نظرةُ الآمِر المطاع بين رفاقه وإن لم يبلغ العشرين بعدُ، وفيهم الكهول والأشياخ!
وبلغت القافلة حظها من الراحة فنهضت تستأنف المسير، فما كادت تمضي في طريقها خطوات حتى اعترضها واحد من الرهبان!
ووقف الراهب يتفرس في وجوه القوم برهة قبل أن يخطو إلى عمر فيضع يده على كاهله يختاره لما يريد من أمر!
وأيقن الركب أن لا قدرة لهم على عصيان الراهب فيما يريد، فخلفوا الفتى بين يديه ومضوا على وجوههم. . .(289/79)
ولم يستطع عمر خلاصاً من يد الراهب، ولم يعرف لأي أمر يريده، فانقاد له. وبلغا الدير فدخل الراهب ودخل عمر. . .
وكان في الحوش كومة من تراب، وإلى جانبها مجرفة ومكتل؛ فتقدم الراهب إلى عمر يأمره: (يا فتى! هذا التراب تحمله من هنا إلى هناك. . . يجب أن تفرغ منه قبل أن أعود إليك. . .!)
ثكلتْك أمك يا عمر! ألهذا كانت رحلتك الطويلة في البادية الظمآنة من الحجاز إلى حدود الشام أياماً وأسابيع؟
وجلس الفتى يتحدث إلى نفسه مغيظاً محنقاً، لا يجد من كبريائه سبيلاً إلى الطاعة ولا طريقاً إلى الخلاص. ومضت ساعة وعاد الراهب مخموراً يتهالك من نشوته، وإن عليه لثوباً رقيقاً من حرير يشفّ ويَصف، ويفوح من أردانه عطر مُسكر!
ونظر الراهب إلى كومة التراب ما تزال في موضعها حيث كانت، وإلى جانبها المكتل والمجرفة، وإلى عمر ما يزال في موضعه واقفاً يتفكر. . .
ودنا منه الراهب وفي عينيه الغضب، فلطمه لطمة أليمة وهو يسبّ ويتوعَّد. . .!
هواناً لك يا عمر إن لم تأخذ بحقك ثائراً كما يثأر البدويُّ لعرضه المنتهك!
وهاجت كبرياء عمر فتناول المجرفة من قريب فأهوى بها على رأس الراهب فخرّ صريعاً لوقته ولم ينبس بكلمة!
(لك ما أردتَ لنفسك. . .!):
قالها الفتى العربي وهو يجمع عزيمته في رجليه فيقفز على سور الدير إلى الطريق لا يعرف أين ينتهي ولا أين يدركه الطلب!
ومضى على وجهه في المفازة الشاسعة عدْواً كالظليم لا يقف في طريقه شيءٌ من حفرة أو صخرة أو تلّ معترض، حتى انتهى إلى جدار قائم فأوى إلى ظله حتى تفئ إليه نفسه. . .
وأطلّ رأسٌ من نافذة ينظر. . . ثم انفتح باب الدير الذي أوى إلى جداره عمر؛ وخرج إليه راهب يسأله عن خبره. . .!
(من تكون يا فتى؟ وما جاء بك؟)
واستمع عمر إلى الصوت الذي يناديه فرفع رأسه ينظر؛ فإذا قسٌّ ناحل سقيم الجسد غارق(289/80)
في مسح أسود، وعلى جبينه إشراق ونور وفي عينيه تواضع ورحمة.
أجابه عمر في صوت يختلج: (سيدي! عابر سبيل أضلَّ أصحابه فأوى إلى ظلك ساعة يستريح!)
سمع الراهب لحديث عمر ثم قال مبتسماً: (أحسبك لم تصدقني يا فتى؛ فإن في عينيك بريقاً ينبئ أنك هارب مذعور!)
ازدرد الفتى ريقه، واستطرد الراهب: (لا عليك؛ إن عندي مأوى صالحاً وطعاماً!)
وقاده من يده إلى الدير وأغلق الباب وراءه. . . . . .!
جلس عمر إلى مائدة شهية فأكل وشرب؛ والراهب بازائه يحدق فيه لا يكاد يطرف جفنه، وبينه وبين نفسه حديث طويل.
فلما فرغ من طعامه جلس إليه يتبادلان الحديث، حتى أنس عمر وثابت نفسه، وصمت الراهب برهة ثم عاد ينظر في وجه الفتى وهو يقول: (أئنك لأنت. . .؟)
وطارت نفس عمر، وتوزّعتْه الظنون، واستمر الراهب في حديثه: (. . . ألا إنه ليس في هذا البلد من هو أعلم مني بعلم أهل الكتاب؛ فإني لأكاد أوقن أنك الشخص الذي أعني: ستدول دولة الروم في الشام على يدي فتى مثلك؛ ويخفق عليها لواء دين جديد!)
لم يفهم عمر كلمة مما قال الراهب، ولكنه استمر يستمع له مدهوشاً ذاهلاً، وفجأة سأله الراهب: (ما اسمك يا فتى؟)
قال: (. . . عمر بن الخطاب، من بني عديّ!)
وهب الراهب واقفاً وهو يقول: (والله ما خدعتني فراستي. إنك لأنت هو؛ فهل تعاهدني. . .؟)
ثم أتى بقرطاس وقلم فدفعهما إلى عمر قائلاً: (اكتب. . . اكتب أنني جارٌ لك، لا عدوان عليّ في مالي ولا في نفسي يوم يئول أمرها إليك. . .!)
وفغر الفتى فاه دهشة لما يرى وما يسمع؛ ثم توجه إلى الراهب يقول: (سيدي، لقد أكرمتني وألطفتني ما لا مزيد عليه، فلا تسخر مني بعد!)
قال الراهب: (أظننت؟ لعمر الحق ما عنيتها، ولا عليك من شيء أَن تكتب؛ فإن كان الذي أتوقع فقد فعلت، وإلا فلن يضيرك مما تكتب شيء!)(289/81)
وتناول عمر القلم فكتب ما أملى عليه الراهب ثم دفع إليه الكتاب. . .
وعاد الفتى إلى أهله، يعيش عيش المترفين من فتيان العرب، لا يعنيه من أمرٍ شيء، إلا ما يعني غيره من شباب مكة من المنافرة والمفاخرة وانتهاز سوانح اللذات!
ومضت سنوات، ونسي الفتى ما كان من أمره في الشام!
وبعث الله محمداً نبياً يدعو إلى الحق وإلى سبيل الرشاد؛ فآمن من آمن، وأنكر دعوته من أنكر؛ وكان عمر أشد أعداء محمد حرباً عليه وعلى صحابته، فما أمكنته الفرصة مرة برجل من أصحاب محمد إلا ناله بما يكره من الأذى والمهانة!
ومضت ست سنين منذ بعث الله محمداً بالحق قبل أن يسلم عمر بن الخطاب!
وراحت جنود الإسلام تغزو الشرك في دياره، فما وطئت بلداً إلا أعلت كلمة الله ورفعت راية الإسلام. ومضى المسلمون في جهادهم يفتحون الأمصار ونورهم يسعى بين أيديهم؛ فما انتقل محمد إلى ربه حتى دانت الجزيرة العربية كلها وغمرها نور الإسلام
وتولى عمر إمارة المسلمين وجنودُ الإسلام يومئذ على حدود الشام؛ فمضى قُوّادُه إلى غايتهم ويبشرون بالدين، حتى تم فتح الشام على أيدي أبطاله: خالد، وأبي عبيدة، وعمرو، ويزيد بن أبي سفيان. وخلصت بلاد العرب من أبناء غسان - من عسف الروم وبطش الرَّهَابين، لتعود جزءاً من الدولة العربية المسلمة التي يقوم على شئونها عمر!
وتخفف أهل الشام من أثقال الحكم الغابر ليعودوا إخواناً متحابين ليس لأحد على أحد يد ولا منة؛ وانزوى الرهبان في أديارهم لا يربطهم بالجماعة رابطة إلا ما يدفعون للأمير العربي من الجزية تأميناً لأنفسهم ولما يملكون من مال اجتمع لهم على الأيام مما اغتصبوا من أفواه الجياع باسم الدين! فأيُّما رجلٍ منهم حدّثتْه نفسه بالعصيان والتمرُّد، ردُّوه بأسيافهم إلى الطاعة وأجلَوْه عن صومعته ليجعلوها مسجداً من مساجد المسلمين؛ فلهم حرية العبادة وحرية المقام ما التزموا حدودهم التي ضربها الإسلام عليهم. . .
وتم الأمر للعرب في بلاد الشام، فكتب أمير الجند أبو عبيدة إلى عمر يدعوه ليعقد العهد بين أهل الشام والعرب الفاتحين ويكتب لهم به. وقدم الركب الحجازي يقدمه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ حتى أناخ رواحله في بيت المقدس. . . وجلس عمر ذات يوم بين أصحابه وقادة جنده يشرع لهم ويبادلهم الرأي والمشورة؛ فإذا راهب مقبلٌ من بعيد إلى(289/82)
حيث يجلس هو وصحابته؛ فما إن تبينه عمر مقبلاً عليه حتى عرف؛ فارتد بفكره إلى الماضي يذكر تاريخاً بعيدا وذكرى مضى دونها بضع وعشرون سنة؛ فأطرق برأسه متأثراً وهو يقول في همس: (جاء ما لا طاقة عليه لعمر!) ثم رفع رأسه وفي عينيه بريق عجيب، وقد تغشَّته الذكرى وعادت به إلى ماضيه تنشره أمامه صفحة صفحة منذ كان، وكان، وكان. . .
ودنا الراهب الشيخ من مجلس الأمير فحيا ووقف وفي يده صحيفة مبسوطة، فتناولها الأمير وجعل يقرأ:
(هذا عهد من عمر بن الخطاب إلى راهب إيلياء؛ له ما لأصحابنا وعليه ما عليهم، لا نظلمه ولا نخذله، ولا نفرض عليه ما لا طاقة له به، وله ديره وما ملك. . .!)
وهم الراهب ليتحدث ويشرح أمره فابتدره عمر: (حسبك حسبك؛ إن لك ذمة في عنق كل مسلم وكل عربي، إن لم يؤكدها هذا الصك المكتوب أكدها شرف العربي وخلق المسلم!)
ثم التفت إلى عامله أبي عبيدة قائلاً: (ذلك جاري، فله عليك الأمان والذمة، لا يعرض له أحد بسوء ولا يناله بما يكره!)
وتلاشت آخر كلماته في بحة راعشة، وغامت عيناه بدموع التأثر. ثم نهض رافعاً رأسه وهو يقول في كلمات عميقة النبر بليغة الأثر:
(حيثما يرفرف لواء الإسلام فليس ثمة إلا العدل والوفاء والرحمة. لا يعرف الفاتح العربي غطرسة الحاكم ولا جبروت المنتصر؛ ولاشيء بين الحاكم والمحكوم إلا دين الله ووشائج الإنسانية!)
(شبرا)
محمد سعيد العريان(289/83)
البريد الأدبي
الفنانون المصريون
لما كنت في جبال الدولوميث صيف السنة الماضية لقيت نفراً من مهرة
الفنانين الإيطاليين. فحدثوني عن القسم المصري لمعرض البندقية
الواحد والعشرين وكان حديثهم من أعذب ما سمعت إذ أقروا أن
دلائل الفن المصري الحديث من الطراز الأول. ولما انحدرت من
جبال الدولوميث إلى سهول إيطالية لم أر بداً من الذهاب إلى البندقية
فوصلتها في يوم يكاد فيه الهواء يصل إلى الرئة: حرّ أسواني وثقل في
الجو ثم بعوض فتّاك
إن القسم المصري في معرض البندقية كان شيئاً عظيماً حقاً. فلم أفرغ من تأمله حتى بعثت إلى (الرسالة) بمقالة مسهبة وصفت فيها المعروضات وعللت تقدم الفنانين المصريين. وإذا المقالة لا تنتهي إلى (الرسالة) عفا الله عن البريد
وليعزّ عليّ أن أهمل ذلك القسم المصري، إلا أني أصبحت أرى معروضاته على ضوء ضئيل أو كما يقول المصورون أنفسهم في ضياء مظلم ومما يزيد في أسفي أن هذا القسم عُرض ثانية في فندق الكونتيننتال في القاهرة وأنا لم أحضرها بعد
فهل يؤذن لي أن أكتب من الذاكرة؟
أذكر من الصور تلك التي عرضها محمود سعيد وهو مصور يحقُ له أن ينافس كبار زملائه من الفرنجة. ويمتاز سعيد ببثّ الحياة الزاخرة في نواحي صوره وبالإتقان من غير تكلف وبالتأليف الجامع المدفون في اللمحات والإشارات كأنه نغمات تنسجم على وزن لا يبلغ الأذن. ثم إنه أخذ يفلت من تأثير روبرندت وروبنس وحول أنظاره إلى الفطريين أمثال فان إيك إلا أنه يصب في ألواحه ما يحس به خاصة وما يضطرب في الطبيعة المصرية. وله أداء تعبيري يدعوك إلى الروية وطلب المزيد. وإنك لتلمس هذا أمام صورتين له على وجه التخصيص هما: فتيات بحري والجزيرة السعيدة.(289/84)
وأذكر من المنحوتات تمثالاً لأحمد عثمان يبرز فتاتين خارجتين إلى النزهة فيما أظن. والتمثال إلى الطريقة الوصفية الدقيقة. إلا أن الدقة فيه غير مباشرة، ومعنى هذا أن التفاصيل لا تؤدى على حالها المنظور بل على حالها المتخيّل. وهذا أسلوب في الأداء عرفه قدماء المصريين. وجمال هذا التمثال من جانب الصدق الذي يفيض من نواحيه ثم من جانب قوته التزيينية
وهنا أحب أن أعلن أن الفن في مصر الحديثة سبق الموسيقى والرقص والشعر حتى النثر لأنه بنجوة من الرأي العام لانصراف الجمهور عن مظاهره، والرأي العام عندنا يكره الوثبات، ولأنه غير خاضع لسلطان التقاليد والمنقولات إذ التصوير في الإسلام لا يعدو جانب التزويق، ولأنه نهض أول ما نهض على قواعد الفن الأوربي وحده فلا نزاع ولا شقاق ولا تقديم رجل وتأخير أخرى. أضف إلى كل هذا أن أصحابه أدركوا أن غاية الفن الصحيح طلب الطرافة من ناحيتين: الأولى بالانطواء على النفس والثانية باستلهام ما يحيط بك. فهذه تخرج لكل بلدٍ فنه الموقوف عليها لأنه مستمد من سمائها وأرضها سليقة أهليها، وأما تلك فترسل في ألواح كل فنان معنىً وتنفث سراً.
بشر فارس
من مآسي الحياة
سيدي الأستاذ الزيات
لقد وعدت أن أقص عليك ما أعلم من مآسي الحياة، ولكني رأيت ألاّ أفي بوعدي رحمة بالرسالة وقراء الرسالة
إن حبي للرسالة يمنعني أن أحملها من المآسي ما تخر تحته الجبال.
مآس سحقت قلوباً كانت قوية، وأذلّت نفوساً كانت عزيزة أبيّة، وهدمت حياة كانت حافلة بالآمال والأعمال.
فهل في استطاعة الرسالة احتمال كل هذا؟
أما كفاها ما حمّلها صاحبها من مآس وهي لا زالت طفلة في السابعة من عمرها؟ لقد رأيت الدموع تجري بين سطورها، وسمعت أنّات القلوب المحطمة بين صفحاتها، فهل أزيدها(289/85)
ألماً وأحمّلها عصارة القلوب المنسحقة؟.
رحمة بالرسالة يا سيدي فهي - على الرغم ما تحمل من علوم وآداب عالية - لا زالت رقيقة صغيرة نضرة. وأني لأشفق عليها من وصف ما وصل إليه الإنسان من وحشية وقسوة!!
نعم يا سيدي الفاضل (إنه لا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب ما هو أمضّ لوعة وأشد روعة من (فتون وجنون)
لا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب مآس هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. وفي خبايا الغيوب آلام تضعف عندها الألفاظ وتمتنع عنها أقوى المعاني
وفي طوايا الحجب ضحايا. . .
ليت رحمة الله تدركهم فيذوقوا نعمة الموت! حتى الموت امتنع عنهم
وهل هناك أشد بؤساً من قوم كل أملهم انتظار الموت؟
لا تشك الدهر فيما يأتي به من شقاء، ولا تلم القدر بما يجيب من دعاء، فإن قلب الإنسان أشد قسوة وأمر تعذيباً من كل هؤلاء. بين الناس من يحملون قلوباً كالرحى. ولقد فكرت مراراً كيف يقدر الإنسان أن يتفنن في تعذيب إنسان آخر وخصوصاً إن كان أقرب الناس إليه!! ولكني عجزت عن الجواب.
أراني يا سيدي الفاضل تماديت في الحديث أكثر مما كنت أود
وأخشى إن أنا استرسلت في الكتابة أن أكشف عن خبايا مآس ربما كان سترها أفضل، وأعيد ذكرى آلام ربما كان نسيانها أوفق، فعفواً سيدي ومعذرة إن أنا لم أنجز وعدي. فليس في استطاعتي أن أقص عليك. فربما كان الصمت أبلغ من القصص.
ا. ش. ف
هل عبد الإسرائيليون أبا الهول؟
جاء في العدد (288) من مجلة الرسالة الغراء أن كلمة (أبو الهول) محرفة عن كلمة (بوحول)، وهي لفظة إسرائيلية معناها (مكان حول) و (حول) إله محلي في فلسطين، فلما نزل الإسرائيليون أرض مصر أقاموا بجوار أبي الهول، وعبدوه بدلاً من أحد آلهتهم، لما(289/86)
بينهما من تشابه
ولاشك أن هذا ينافي ما هو معلوم من تاريخ الإسرائيليين، لأنهم لم يكن لهم إله بفلسطين قبل هجرتهم إلى مصر يسمى (حول). فإن الذين هاجروا منهم إلى بلاد هم: يعقوب وأولاده، ويعقوب هو إسرائيل، وإليه ينسب الإسرائيليون. وقد كان هو وأولاده يعبدون الله تعالى قبل هجرتهم إلى مصر، وبعد هجرتهم إليها كما هو معلوم من إجماع الكتب المقدسة وغيرها. ولا يصح أن يعدل عن تواتر التاريخ بهذه المناسبات اللفظية التي ترجع إلى توافق اللغات وتشابهها، ولا يمكن أن يؤخذ منها تلك الأمور إلى تنافي الحقائق التاريخية
والمعروف أيضاً أن الإسرائيليين لما هاجروا إلى مصر نزلوا بأرض جاسان، وهي في مديرية الشرقية الآن، وقد أقاموا بها إلى أن أخرجهم فرعون موسى منها
فإذا صح أن قوماً من فلسطين نزلوا بجوار (أبو الهول) وعبدوه. فإنهم يكونون من الفلسطينيين الوثنيين لا من الإسرائيليين الموحدين، وقد كانت فلسطين جامعة للفريقين
وإذا صح أن اسم (أبو الهول) في الهيروغليفية هو: (حرأم آخت)؛ ومعناها: (هوراس الذي في الأفق). فإن الأقرب أن يكون تحريف ذلك الاسم عن (هور). لا عن (بوحول)، وإضافة لفظ الأب إلى أسماء: (الأعلام) شائعة في العامية المصرية إلى الآن، وهذه التسمية من وضعها، وقد ذلك الضم في كتب مؤرخي العرب باسم (بلهيت) أو (بلهوية)
عبد المتعال الصعيدي
تمثال مصري قديم يخرج عن مصر
نشرت بعض الصحف نبأ عن تمثال مصري معروض على متحف متروبوليتان في الولايات المتحدة لشرائه، وقالت إنه أخرج من مصر خلسة. وقد قالت مصلحة الآثار المصرية أنه لأمير مصري استخرج من حفائر دهشور حول هرم الملك بيبي من الأسرة السادسة، وكان يقوم بالحفائر في تلك المنطقة مسيو جيكييه رئيس البعثة الفرنسية. والمفهوم أن هذا التمثال أرسل من مصر قطعاً صغيرة ثم أعيد تركيبه في أمريكا وعرض للبيع فقدر له مبلغ 1500 جنيه مصري ثمناً وقد أرسل متحف المتروبوليتان الأمريكي إلى مصلحة الآثار المصرية خطاباً يعرض عليها فيه شراء التمثال بهذا المبلغ فطلبت إرسال(289/87)
صورة له للاطلاع عليها
وتبحث مصلحة الآثار باهتمام في هذه الأيام الطريقة العلمية لمنع تسرب الآثار المصرية إلى الخارج، وقد اشترطت أخيراً على هذه البعثات وجوب وضع فني مصري في كل بعثة لمنع أمثال هذه الحوادث
أعظم مجهر في العالم
حضر ولي عهد بلاد السويد في 7 يناير تجربة الميكروسكوب الكهربائي الذي يكبر حجم الأجسام الدقيقة والذرات مائة ألف مرة
وإذا تصورنا أن الميكروسكوب العادي قد لا يتجاوز في تكبيره خمسة آلاف ضعف، أمكننا أن نتصور عظمة هذا المجهر الذي سيكون له أعظم شأن في الكشف الطبي والعلمي والفني
والمخترع لهذا الميكروسكوب العجيب العلامة سيجباهو المعروف في جامعة أويسالا والذي منح جائزة نوبل للعلوم الطبيعية
ويقال أن البروفسور سيجباهو استعمل مجهره العجيب على أساس الأشعة الكاتوديكية بدلاً من الأشعة الكهربائية العادية
ونحن إذ نسجل هذا الخبر ندعو الله أن السبيل لأحد المصريين أو أبناء الشرق أن يخترع اختراعاً أو يكشف اكتشافاً يكون له دوي عالمي حتى يلتفت العالم العلمي إلى بلاد تكثر من ذكر العبقرية وذكر النبوغ دون أن يكون من بين أبنائها من يمكن إطلاق إحدى الصفتين عليه بجدارة واستحقاق
مصلحة للآثار العربية
كانت النية معقودة في وزارة المعارف المصرية على ضم دار الآثار العربية إلى إدارة الآثار الإسلامية وإنشاء مصلحة بهما معاً
وقد رفعت مذكرة إلى مجلس الوزراء بهذا الشأن، والمأمول بعد هذا الضم أن يتم العمل في ترميم الآثار والمساجد الإسلامية التي لا يزال بعضها مهملاً مع كونه هاماً أو على جانب من الجمال الفني(289/88)
وقد قامت إدارة الآثار الإسلامية بمجهود جبار مع كونها كانت إدارة؛ فلا يبعد أن يتضاعف مجهودها إذا ما أصبحت مصلحة مستقلة ذات ميزانية كبرى
توليد السماد من الهواء
من المسائل التي تهتم بها الآن مصلحة التجارة والصناعة بحث كشف علمي جديد كشفه أحد الأمريكيين وسجله لدى حكومته
وخلاصة الكشف أنه يمكن توليد السماد من الهواء بطريقة خاصة تجمع بين غاز الأكسجين وغاز الأزوت بعد تسليط أشعة خاصة هي وسط بين أشعة أكس وأشعة الألترا فيوليت. وقد أوضح المكتشف في تقريره إلى مصلحة التجارة والصناعة المصرية بأن طريقته أقل نفقة من غيرها، ولذا أرسلت الوزارة المصرية إلى مفوضيتها في واشنطون طالبة زيادة الإيضاح والبيانات عن هذا الكشف العلمي الذي قد تستفيد منه مصر إذا ما اتضح نفعه
الحالة الاقتصادية في تونس
كثر الحديث عن تونس منذ أسابيع بالنظر إلى الاقتراحات الإيطالية التي ستتقدم بها الحكومة إلى الجمهورية الفرنسية كما كثر اهتمام الشرقيين بهذا القطر الشقيق. ولعل في ما نذكره عن حالة تونس من الناحية الاقتصادية ما يجعلنا نفهم بعض الشيء الدافع لإيطاليا إلى الاتجاه لهذه المنطقة الخصبة
مساحة الأراضي المزروعة قمحاً 1 , 100 , 000 فدان
مساحة الأراضي المزروعة المغروسة عنباً 31 , 100 فدان
محصول القمح في السنة 3 , 000 , 000 قنطار
محصول الشعير في السنة 3 , 000 , 000 قنطار
محصول الشوفان في السنة 500 , 000 قنطار
محصول النبيذ المتحصل من الكرم 70 , 000 , 000 لتراً
عدد أشجار الزيتون 16 , 000 , 000 شجرة
ينتج منها زيت قدره 500 , 000 لتر
وفيها يبلغ طول الطرقات المعبدة 6000 كيلومتر(289/89)
وطول السكك الحديدية 3000 كيلومتر
وعدد موانيها يبلغ 21 مرفأ
منها من الدرجة الأولى 4 مرافئ
تبلغ حركة التجارة في أولها وهي صفاقس 3 , 000 , 000 طن
وفي الثانية وهي تونس 1 , 000 , 000 طن
وفي الثالثة وهي بنزرت 450 , 000 طن
وفي الرابعة وهي سوس 420 , 000 طن
وقاية آثار المتحف المصري من الغارات الجوية
المعروف أن المتحف المصري يشمل أغنى مجموعة أثرية مصرية في العالم أجمع، ولذلك كان من ضمن الأعمال الهامة التي درستها الحكومة المصرية النظر في أمر وقاية الآثار في المتحف المصري عند حصول غازات جوية
وقد ذهب الخبير البريطاني في مصلحة الوقاية من الغارات الجوية إلى مصلحة الآثار لمعاينة الأماكن والمخازن ذات القبو التي يمكن اعتبارها صالحة لهذا الغرض واطلع الخبير على رسوم خاصة بإنشاء مبان أخرى
ويهمنا من نشر هذا الخبر أن نوجه عناية الحكومة إلى التفكير أيضاً في وقاية الآثار العربية لأنها إذ لم تكن قديمة قِدم الآثار المصرية فإنها لا تقل عنها شأناً
مستقبل الثقافة في مصر
أخرج صديقنا الدكتور طه حسين بك كتاباً قيماً في جزءين عالج فيه مستقبل الثقافة في مصر بمعاهدها المختلفة. وقد أرسل إلينا الدكتور زكي مبارك بحثاً ضافياً عنه سننشره في العدد القادم
بين القديم والجديد
أرسل إلينا الأستاذ محمد أحمد الغمراوي مقاله الثاني في الرد على (قارئ) في مسألة الأدب بين القديم والجديد فاضطررنا لضيق الوقت أن نؤجله إلى العدد المقبل
جمعية علمية تعمل على نشر الأدب العربي(289/90)
علمنا أن الجمعية العلمية الفرنسية التي وجهت عنايتها منذ إنشائها إلى نشر الآداب القديمة والحديثة، قد اتجه تفكيرها إلى إحياء ما تركه العرب من تراث أدبي، مع توجيه نصيب من الجهود إلى الأدب العربي الحديث لإعطائه حقه من العناية والدراسة
ومما وقفنا عليه في هذا الصدد أن فريقاً من علماء تلك الجمعية اعتزموا زيارة مصر في الأيام القريبة المقبلة للاتصال بكبار رجال الأدب فيها، تمهيداً لترجمة بعض المؤلفات الأدبية القديمة والحديثة ونشرها في فرنسا
ومما يجدر بالذكر أن هذه الجمعية قد نشأت بعد الحرب الكبرى، وبدأت جهودها التي لا دخل للهيئات الرسمية فيها، بنشر الآداب اللاتينية بعد ترجمتها ترجمة جديدة، فأحدثت بذلك ثورة فكرية في البيئات الأدبية والعلمية، لم تتأثر بها فرنسا وحدها وإنما تعدت حدودها إلى الممالك الأخرى
مشروع جامعة السودان
من أنباء الخرطوم أنه منذ صدور التقرير الضافي الذي وضعه اللورد دي لاوار عن التعليم في السودان، ومصلحة المعارف السودانية تبذل جهدا لتحقيق أمل السودانيين في إنشاء جامعة للسودان على نحو الجامعة المصرية
وقد كتبت بعض الصحف تشك في إمكان قيام مثل هذه الجامعة لعظم ما تحتاج إليه من تكاليف لا تتحملها الميزانية السودانية. ولكن المتصلين برجال المعارف في القطر الشقيق يقولون إنهم جادون كل الجد، في العمل على تنفيذ مشروع الجامعة السودانية
ويظهر أن الجامعة الجديدة سوف لا تستند في مواردها إلى المالية السودانية فقط، لأنها في الحقيقة ليست تنفيذاً للأمل السوداني المتواضع، بل تنفيذاً لسياسة عليا، يرجى من ورائها أن ينشأ هناك مركز علمي كبير يحمل الثقافة إلى الجزء الأفريقي من مستعمرات التاج البريطاني، وقد أشير إلى هذا الغرض صراحة عند إرسال بعثة دي لاوار(289/91)
العدد 290 - بتاريخ: 23 - 01 - 1939(/)
من مآسي الحياة
ضحية مَن هذا؟
الأباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون!
كنت في مكتبي مساء الأمس أتحدث إلى قصصية شاعرة جاءت تهدي إليَّ قصة للتقريظ، وقصصي كاتب جاء يقدم إلي أقصوصة للنشر. وكان من مطارحات الحديث أن تكلمنا في نصيب الخيال والواقع من قصة الأديبة وأقصوصة الأديب؛ وجرى على الألسنة الثلاثة كلام في روعة الواقع المحض، وزخرفة الفن البارع، وجاذبية الخيال الممكن. وكأنما كان يدافع عن الحقيقة مدافع من وراء الغيب فأدخل علينا فتى ذاوي الفتوة ضارع الجسم، ألف القَدر من شقائه مأساة لا يحتاج الكاتب في سردها إلى تلفيق خياله أو تزويق فنه
قرأ هذا الشاب ما كتبناه عن بعض من عرفنا من فرائس البؤس، فظن لبراءة فكره وسلامة صدره أن ما نكتبه عن هذه المآسي الأليمة يصادف من أولي الأمر استماعاً واقتناعاً ورحمة، فأراد آخر الرأي أن يسمعهم أنينه الموجع من هذا المكان القريب. ولو علم فتانا أن القدرة صفة من لا يرحم، وأن الرأفة خُلق من لا يستطيع، لأدرك أن كبراءنا وأغنياءنا يقرءون مآسينا للتلهي والفن، كما نقرأ نحن ملاهيهم للتسلي والعَجب. فإذا كانت لهم عيون فعيونهم من غير دموع، وإذا كانت لهم قلوب فقلوبهم من غير شفقة. ولكنه أخذ يستريح إلينا بما كابد من باطن الهم ومكنون الأسى، فأخذت الكاتبة تنهنه عبرة سالت على الخد، وأخذ الكاتب يعجب أن يبلغ البؤس بالناس إلى هذا الحد، وتركا لي أن أقص عليك فصلا من هذه الرواية:
في المنصورة أيضاً بلد المال والجمال والشعر، سطر الدهر المصرِّف في سجل الألم الإنساني هذه المأساة. كان أبوه من كبار التجار في هذه المدينة؛ وكانت يداه كيدي الخازن الماهر في المصرف العظيم تسيلان في الأخذ والعطاء ورقاً وفضة. وكان معدوداً في سراة القوم، يعيش عيش المترفين المسرفين، يطلق نفسه في العز، ويقلب أهله في النعيم، وينشِّئ أطفاله السبعة على كبر النفس ورفعة الهوى وبُعد الأمل. واتسق له الحال وواتاه الحظ الناهض فظن أمره قد عظم على الأيام واعتصم من الطوارق، فأغفل المواظبة والمراقبة، وأهمل المراجعة والمحاسبة، فصار الداخل لا يسجَّل، والخارج لا يحصَّل؛ واجتمع عليه(290/1)
العدوان السخيان: التاجر المصدِّر الذي يعطي ولا يأخذ اعتماداً على الضمان، والشاري المستهلك الذي يأخذ ولا يعطي اتكالاً على الأمانة. وظلت الأمور تجري في مجاريها اليومية، تُفرغ صناديق البضاعة ليلاً في المخازن، ثم توزع على الناس نهاراً في الحوانيت؛ ولا يعلم إلا الله والتاجر ما في هذا الرواج العظيم من البوار، وما يبطنه هذا الربح الموهوم من الخسارة
وكان هذا الفتى وهو بكر أبيه قد نجح في امتحان البكالوريا بقسمها العلمي حين نزلت بهذا التاجر المغرور علة فادحة. وأعان المريضُ العلة على نفسه بما انكشف له من سوء الحال وظلام المستقبل فقضت عليه
جلس الفتى في المتجر مكان أبيه الراحل وهو يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات القلب بالرجاء، وفي اعتقاده أنه سيبني على أساس مكين ويصعد على رأس مال ضخم. فلما خطا الخطوة الأولى تفتحت أمامه الهُوَى، وتفجَّرت حواليه النوازل؛ فعاد ينظر في المخازن ويبحث في الدفاتر فوجد الخطر الذي لا يدفع، والقضاء الذي لا يُرد. وحاول أن يتفق مع الغرماء والحرفاء فلم تساعده فداحة دَينه. وطرءاة سنه على هذا الاتفاق، فاستغرق بعض الدين كل التركة، وأعلنت المحكمة إفلاس المتجر. . .
وفي عشية وضحاها فقدت الأسرة المدلَّلة وسيلتها للعيش ومكانتها في المجتمع، فلم يعدْ لها بعد الله عائل ولا وائل غير هذا الشاب وشهادة يحملها عليها طابع الحكومة وخاتم وزير المعارف بأنه تربى وتعلم، فمن حقه أن يمارس شؤون الناس ويلي أمور الدولة. فانتقل بأسرته إلى القاهرة، ثم أخذ يقطع السبل المؤدية إلى الوزارات كل صباح وهو فخور بشهادته، مدل بكفايته، فلم يدع باباً من أبواب الدواوين إلا طرقه. ثم ألح في الطرق رجاة أن يصيخ إليه سمع فلم يشعر بوجوده غير السعاة والحجاب، فاتسعوا له حينا ثم برموا به فنهروه وطردوه. وأدرك المسكين بعد لأي أن الشهادة من غير مدد ورقةٌ عليها مداد. فأخذ يلتمس الشفاعة عند أرباب السراوة والجاه. ولكن الشفاعة في أيامنا أصبحت حرفة لا يبذلها الشفيع إلا لمن يبذل فيها المال أو العرض. فكان الفتى كلما سمع برجل من رجال النفوذ قصده وقص عليه قَصصه، فلا يكاد الرجل العظيم يعلم أن له أخوات في غَيسان الشباب، وأمَّا لا تزال في ربيع العمر، حتى تحوم نفسهُ على الخِدْر الذليل، فتثور الحمية بالفتى فلا(290/2)
يجد لها متنفسا إلا البكاء والاختفاء
والتمس البائس السبيل إلى العمل بالفكر وباليد فلم يوفق. وأوشك أن ينفذ ثمن الحلية الأخيرة من حلي أمه؛ وخشي أن يختم الموت على الأفواه الثمانية الذابلة، فتقدم إلى العمل (فاعلاً) في عمارة تبنى، فرده (المقاول) لرقة جسمه ودقة عظمه!
فانكفأ الطريد بالفشل والخجل إلى أسرته اليائسة الولهى؛ وباتوا جميعاً على الطوى والجوى يخلطون البكاء بالبكاء، ويَصِلون الدعاء بالدعاء، حتى سمعوا أن كلية الطب تطلب فراشين، فتقدم صاحب الشهادة مع صاحب المكنسة، وأمله كله ألا يُذاد عن هذا الملجأ الأخير!
وهاهو ذا الآن في قسم الكيمياء ينظف لرفاقه في الدراسة المقاعد والمناضد بأجرة في الشهر مقدارها مائة وأربعون قرشاً يحفظ بها أربعة أَعراض وثمانية أرواح! ولعله بفضل ما تعلّم من المعادلات واللوغاريتمات لا يتعب كثيراً في حساب هذا الدخل!
أحمد حسَن الزيات(290/3)
الأم. . . أو التاريخ الحي
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر الحديث في الأسبوع الماضي عن (ماري أنطوانيت) والثورة الفرنسية، لأن داراً من دور الصور المتحركة عرضت حياة هذه الملكة المنكوية في صورة قريبة إلى التاريخ ولكنها أقرب إلى الفن والتصرف الذي يقتضيه في بعض المناظر. وشهدت هذه الرواية التاريخية فأيقنت من براعة تمثيلها وعرضها أنها قد جعلت الثورة الفرنسية ذكرى حياة لمن شهدوها كأنهم قد عاشوا في أيامها وتقلبوا بين تقلباتها وطبعوا في إخلادهم بعض حوادثها. وأعانهم على ذلك أن حقائق التاريخ ملتزمة في مسائلها الجوهرية أحسن التزام مستطاع، وأنها معروضة على مثال نفسي لا على مثال اجتماعي أو علمي يقصر الأمر على التأمل والتدبر ولا ينفذ به إلى معترك العاطفة والإحساس
قال (ستيفان زفيج) أكبر كتاب السير المعاصرين فيما مهد به لسيرة (ماري أنطوانيت) إن: (الفاجعة التاريخية) تقوم على البطولة أو على أناس من جبابرة النفوس والعقول. فإن لم تكن كذلك فهي تقوم على (إنسان عادي) يتعرض للأحداث الجسام التي تفوقه في الكبر والضخامة وتجعله عظيما بما يحيط به من أقدار عظيمة وإحن لا طاقة له باتقائها ولا بالخلاص منها بعد وقوعها
ولم تكن ماري أنطوانيت من معدن البطولة والجبروت، ولكنها كانت امرأة من الطراز الوسط في الذكاء والمزاج والأخلاق، تحب سهولة الحياة ولا تشغل بالها بالفوادح والمشكلات. فلما أحاطت بها الفوادح والمشكلات على الرغم منها ظهرت (الفاجعة التاريخية) على نمط يشبه فواجع الأبطال والجبابرة، من غير بطولة ولا جبروت
والرأي عندنا أن (الفاجعة الكبرى) تهز النفس هزاً عنيفاً في حالتين اثنتين: إحداهما حالة البطولة والجبروت التي أشار إليها ستيفان زفيج، والثانية حالة الإنسان العادي الذي تمتحنه الأحداث في كل جانب من جوانب نفسه فلا تدع له حاسبة بعيدة من سلطانها غير مجروفة في دوافق تيارها. وكذلك كانت فاجعة التاريخ التي أحاطت بماري أنطوانيت
كانت ملكة وزوجة وأما ومحبة وامرأة من بنات آدم وحواء كسائر النساء. فما تركت لها الأحداث جانباً من هذه الجوانب إلا استغرقته وطغت عليه: امتحنت منها الملكة في دولتها(290/4)
ونظام حكمها وعلاقتها بسياسة بلادها التي حكمتها وسياسة بلادها التي ولدت فيها؛ وامتحنت منها الزوجة في قرينها الذي حالت بينها وبينه علة العجز الصحي سبع سنوات، حتى إذا شفي من عجزه أصابتها فيه خطوب الثورة ودسائس البلاط؛ وامتحنت منها الأم فطعنها الثوار وطعنها وليدها نفسه في أمومتها، بل في شرف الأمومة فضلاً عن حنانها؛ وامتحنت منها المحبة فكانت قصتها مع السويدي فرزن كأقسى ما تكون قصص الفراق أو قصص الغرام المكبوت؛ وامتحنتها في أنوثتها فوقفت بينها امرأة عزلاء بادية المقاتل لكل سهم مسموم
لذلك كانت فاجعة (ماري أنطوانيت) من أكبر فواجع التاريخ وإن كانت هي وكان لويس السادس عشر زوجها المظلوم من معدن غير معدن البطولة والجبروت، لأن النفس الآدمية تقابل هذه الفاجعة من نواحي شتى وصلت كلها إلى غاية المدى وقصارى الاستقصاء. ولا ريب أن الفجيعة الكبرى بين هذه الفجائع المتفرقة التي التقت في شخص واحد كانت هي فجيعة الأم أو فجيعة الأمومة البالغة في القسوة والإيلام
شهد القاهريون (نور ماشيرر) وهي تمثل فجيعة ماري أنطوانيت يوم جاءها وكلاء الثورة يأخذون منها طفلها الصغير وسلوتها العظمى في بلاء السجن وبلاء الضنك والحرمان
فأما (ماري أنطوانيت) فالتاريخ لا يروي لنا أنها قد فعلت في ساعة توديع ابنها ما فعلته نور ماشيرر على اللوحة البيضاء، ولا أنها قد مانعت هذه الممانعة وتخبطت هذا التخبط وبكت هذا البكاء، ولكن الممثلة أرادت أن تجمع في هذا الموقف ما تفرق في أعوام من الحنان المفجوع والعطف المطعون، فبالغت هذه المبالغة التي صدقت بها الفن وإن لم تصدق التاريخ
فقد ثبت في الأسانيد الصحيحة أن هذه الأم الوفية ضيعت نفسها مرات وأعرضت عن كثير من وسائل النجاة في سبيل الطمأنينة على وليدها الصغير
فلما فشلت خطة الهرب إلى (فارين) وأصبح استئناف السير في المركبة المقفلة ضربا من المستحيل عرض عليها بعض الأنصار المخلصين ركوب الجياد في المسافة القصيرة الباقية بينهم وبين الحدود قبل إطباق الثوار والجنود، فأبت هذا الاقتراح مخافة على ابنها أن تصيبه رصاصة من بعض الجند، لا يأمن التعرض لها على ظهر جواد كما يأمنها في(290/5)
المركبة المقفلة أو الركب المجهول
ولما دبر الملكيون إخراجها من السجن وإخراج ابنها وبنتها معها في أسمال العامل الذي يوقد المصابيح مع أولاده الصغار فشلت هذه الخطة في اللحظة الأخيرة، ثم قيل للملكة إنها تستطيع الهرب وحدها على أن تترك ابنها وابنتها ولا خوف عليهما كما يخاف عليها هي من جراء المحاكمة والاضطهاد. فأبت كل الإباء وآثرت البقاء مع ولديها على النجاة وحدها وهي لا تعلم مصير هذين الطفلين
ولما ألح عليها المحامي أن تسأل المحكمة الثورية تأجيل يوم المحاكمة ريثما يستعد للدفاع ويفرغ من مراجعة الأوراق رفضت إلحاحه وأصرت على رفضها مخافة أن يكون اعترافها بحكومة الثورة بمثابة النزول عن حق ولدها في وراثة التاج. فعاد المحامي يحتال عليها من ناحية حنان الأمومة، ويذكرها أن حياتها مطلوبة لولدها لا لنفسها، واسترسل في هذا الإغراء فلم يتحدث طويلاً على هذه النغمة حتى أقلعت عن عنادها وثابت إلى القبول وكتبت خطابها المحفوظ الذي جمعت فيه بين الحيطة والإصغاء إلى رجاء المحامي، فأفرغته في قالب الإخبار والعمل بنصيحة المحامي كأنما هو مكتوب على لسانه لا على لسانها حتى يتحقق به الإبلاغ ولا يتحقق به الاعتراف
والكارثة الكبرى يوم ضبط ابنها الصغير بعد فصله منها وهو يعبث العبث الذي لا يعرف في مثل سنه الباكرة، فلما روّع بالسؤال عمن علمه هذا أجاب على عادة الأطفال: إنها هي أمه وعمته. . .! ثم حرضه المحرضون على الشهادة بما قال وبما أضافوه إليه من هراء لا يقبله العقل ولا يحتمله التصديق، فأنفت أن تجيب عن هذه التهمة وتجاهلتها حتى نبه بعض المحلفين رئيس المحكمة إلى هذا التجاهل فأعاد سؤالها فلم تزد على أن تقول: (إذا كنت لم أجب فإنما أبيت الجواب، لأن الطبيعة تأبى أن تجاب تهمة كهذه توجه إلى أم. وإني لأحيل الأمر في هذه المسألة إلى جميع الأمهات الحاضرات في هذا المكان)
فشعر أعضاء المحكمة وشعر دعاة الاتهام معهم أن الضربة فائلة، وأنهم ما صنعوا بها إلا أن قربوا بين هذه الأم وبين جميع الأمهات والآباء، فسرى في الحاضرات والحاضرين شعور العطف عليها والرثاء لما أصابها، وما كانوا حاضرين إلا للشماتة والازدراء
وقد كان آخر ما صنعته بعد صدور الحكم بموتها ويقينها أن وليدها لم يبق له بعدها من(290/6)
يشرف على أمره غير عمته المسجونة، أنها كتبت إلى تلك العمة ترجوها الصفح عن الغلام وتعتذر له بصغر سنه وسهولة إغرائه، وتوصيها به خير الوصاة
لقد كانت مصيبة الأم في حياة ماري أنطوانيت أظلم المصائب وأشدها حلكة وسواداً، ولكنها كانت أنصع الصفحات في سيرة هذه الملكة المنكودة والمرأة المبتلاة، وإن تلك الصفحة وحدها لكفيلة بخلق (الفاجعة الكبرى) في هذه السيرة النادرة بين سير النساء
عباس محمود العقاد(290/7)
إلى الدكتور طه حسين
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل:
تفضلت فأهديت إليّ نسخة من كتابك الجديد (مستقبل الثقافة في مصر) وكان من واجبي أن أشكر لك هذه الهدية بخطاب أسجل فيه هذا التلطف. ولعلني لو حاولت ذلك لاهتديت إلى أن من الخير أن أنتهز الفرصة وأشرب معك كأساً من الشاي في بيتك لنجدد العهد؛ ولكني آثرت أن أشكر لك هذه الهدية بأسلوب آخر هو الهجوم عليك
وما كان ذلك حبّاً في المشاغبة كما يتوهم بعض من لا يفقهون، وإنما كان ذلك لأني أشعر أننا أسرفنا في حب السلام، والسلام ضرب من الموت، وأعتقد أننا في هذه الأيام نختلف أقل مما يجب ويا ويلنا إذا لم نختلف!
ويسرني أن أعرف فيما بيني وبين نفسي أني لم أقصّر في محاربتك، ولم يفتني أن أنذر رجال التعليم بخطرك، وقد قلت لهم بصوت يسمع أهل القبور: (إن هذه الرجل سينتزع من أيديكم كل شيء) فما استمع مستمع ولا استجاب مجيب
وكما قلت للغافلين: إن طه حسين ليس أعلم العلماء، ولا أحكم الحكماء، وإنما هو رجل (متحرك) كما يعبر أهل بغداد، فتحركوا يا جامدين لتسدوا عليه الطريق
كم قلت: إن من الغفلة أن يسكت رجال التعليم إلى أن يسمعوا صوت الناقوس من طه حسين! وما قلته لرجال التعليم قلت بعضه لنفسي، ففي كتابك الجديد آراء أذعتها من قبلك في الجرائد والمجلات، ولكني لم أحتفل بها كما احتفلت فأذيعها في كتاب خاص، ولو أني فعلت لأضعت عليك فضل السبق. ولكن ما فات فات
ما كان يسرني أن تنتصر، وإن كنت أقسمت يمين الوفاء لكلية الآداب؛ ولكن ماذا أصنع وأنا مضطر لكلمة الحق في إنصافك بحكم الضمير والواجب؟ ماذا أصنع وأنا أرى أنصاري في مخاصمتك لا يملكون غير مضغ الأحاديث؟ ماذا أصنع وأنا لا أدري بين رجال التعليم من يبدي رأياً صحيحاً أو سخيفاً في مستقبل الحياة الأدبية والعلمية؟
كنت أتمنى أن يشغل بمستقبل الثقافة في مصر عشرات من الباحثين منهم شيخ كلية اللغة العربية وعميد دار العلوم ورئيس المجمع اللغوي ومدير دار الكتب المصرية؛ ولكنك(290/8)
تفردت بذلك الإحساس الدقيق الذي يظهر في اختيار الظرف المناسب لما تذيع من مذاهب وآراء؛ فإن بدا لبعض الناس أن يحسدك على هذا السبق فليسأل نفسه ماذا صنع بالإجازات الصيفية، كما صنعت أنت بالإجازات الصيفية
أتريد الحق يا دكتور؟
أنت رجل مقتحم، وما حق المقتحم أن ينتصر كما انتصرت
ولكن ماذا في كتابك الجديد؟
هو في جملته وتفصيله شاهد على أنك تقدر المسئولية الملقاة على عاتق عميد كلية الآداب. وأنت في كتابك هذا قد فصلت ما يعترض مصر من المعضلات التعليمية أجمل تفصيل. وليس لكتابك الجديد بريق الكتب الأدبية، ولكن له جلال الكتب التعليمية، فتقبل مني ومن جميع المنصفين أصدق آيات الثناء
ثم ماذا؟ - في كتابك الجديد كثير من البديهيات، فهل ترى من الحق أن نحاسبك على التطويل في شرح البديهيات؟
من الذي حدثك أن المصريين يحتاجون إلى من يدلهم على أنهم في تصورهم وعقليتهم يقتربون من إيطاليا وفرنسا أكثر مما يقتربون من الصين واليابان؟ من الذي حدثك أن المصريين يحتاجون إلى من يذكرهم بأنهم قوم لهم عقول تدرك ما يدرك الأوربيون في ميادين العلوم والآداب والفنون؟
في كتابك بديهيات كثيرة من هذا النوع، فاستغن عنها إن شئت في الطبعة التالية لئلا تسجل على وطنك جهل البديهيات
ثم ماذا؟ - قلت إن عقلية مصر عقلية يونانية، وصرحت بأن الإسلام لم يغير تلك العقلية. فاسمح لي أن أشكوك إلى عميد كلية الآداب، فعميد كلية الآداب وهو أستاذي وأستاذك، واسمه طه حسين إن لم تخني الذاكرة، يعرف أن مصر ظلت ثلاثة عشر قرناً وهي مؤمنة بالعقيدة الإسلامية، والأمة التي تقضي ثلاثة عشر قرناً في ظل دين واحد لا تستطيع أن تفر من سيطرة ذلك الدين
عميد كلية الآداب الذي أعرفه أنا، وإن تجاهلته أنت، يعترف بأن الإسلام رجّ الشرق رجّةً أقوى وأعنف من الرجَة التي أثارتها الفلسفة اليونانية.(290/9)
عميد كلية الآداب يثق بأن في مصر شمائل من العقلية اليونانية التي تلقت الدروس عن مصر الفرعونية. ولكنه مع ذلك يؤمن بأن لمصر عقلية إسلامية، وهذه العقلية الإسلامية لها خصائص يدركها أصغر مدرس في كلية الآداب. وأرجو إلا يضيق صدرك بهذه الحقيقة فقد نلتقي بعد أيام أو أسابيع وأشرح لك ما لا يحتاج إلى شرح، كما تشغل نفسك بشرح ما لا يحتاج إلى شرح
من المؤكد عندي أنك لم تستشر عميد كلية الآداب قبل أن تصرح بأن الإسلام لم يغير العقلية المصرية، وذنبك في هذا التهاون عظيم لأنك قريب منه، واتصالك به لا يجشمك أي عناء.
عميد كلية الآداب يعرف، كما أعرف أنا وتعرف أنت، أن الديانات تفترق ثم تجتمع، وهي في روحها تحدث الناس بأسلوب واحد في أوقات الضعف، ولكن هذا لا يمنع من أن هناك خصائص للعقلية الإسلامية والعقلية المسيحية، وهذه الخصائص تخفى على العوام ويدركها الخواص.
وكيف لا توجد هذه الخصائص بين دينين مختلفين، مع أننا نعرف أن هناك خصائص عديدة في الدين الواحد حين يختلف أهله بعض الاختلاف؟
إننا نعرف أن للكاثوليكية خصائص وللبروتستانتية خصائص، لأننا نعرف أن للعقلية السنية خصائص وللعقلية الشيعية خصائص
فكيف جاز عندك يا سيدي الدكتور أن تتوهم أن الإسلام لم يغز العقلية المصرية بتغيير ولا تبديل؟
أنا لا أنكر أن مصر ورثت ما ورثت من علوم اليونان، ولكني أنكر أن تكون مصر عاشت بعقلية واحدة منذ آلاف السنين إلى اليوم. هل تصدق حقاً يا دكتور أن المصريين أحسوا العقلية اليونانية بعد الإسلام إحساساً واضحاً صريحاً؟
في الحق أن المصريين في حياتهم الإسلامية شغلوا أنفسهم بعلوم اليونان أكثر من عشرة قرون، ولكنك وقد جلست على حصير الأزهر كما جلستُ تعرف أن المصريين لم يتذوقوا تلك العلوم؛ والأزهر لا يزال باقياً فتعال معي نسأل أهله ماذا فقهوا من علوم اليونان؟ تعال معي يا دكتور لنقضي بين علماء الأزهر ساعة أو ساعتين فستراهم جميعاً يعتقدون بأن(290/10)
العقلية اليونانية هي التي قضت على اليونان بأن يكونوا باعة الفاصوليا والسردين!
أنا لا أنكر قيمة التراث الذي خلّفه اليونان القدماء، ولكني أرتاب في أنه وصل إلى ألفاف العقلية المصرية.
وأنت تعرف من نفسك ما أعرفه من نفسي، أنت تعرف أننا لم نفقه الفلسفة اليونانية إلا بعد أن ارتضنا رياضةً عنيفة جداً. فإن ادعيت أنك فقهت فلسفة اليونان وأنت طالب في الأزهر فأنا أقول إني لم أفقه تلك الفلسفة حق الفقه إلا بعد أن تلقيتها على أساتذة أوربيين في الجامعة المصرية. وما أظنك تتهمني بقلة الذكاء
والعلوم التي لا تهضم إلا بعد جهد ومشقة لا تغير عقليات الشعوب وإن غيرت عقليات الأفراد
أنت تعرف فيما تعرف أن الفقه الإسلامي نفسه كان يتغير بالانتقال من أرض إلى أرض، فكان للشافعي مذهب في مصر ومذهب في العراق. ومعنى ذلك أيها الأستاذ الجليل أن العقليات تتغير من وقت إلى وقت باختلاف ظرف الزمان، وظرف المكان
والموجة الإسلامية التي طغت على مصر فنقلتها من لغة إلى لغة ومن دين إلى دين، والتي قضت بأن تتفرد مصر بحراسة العروبة والإسلام بعد سقوط بغداد؛ هذه الموجة العاتية لا يمكن أن يقال إنها لم تنقل مصر من العقلية اليونانية إلى العقلية الإسلامية
ولكن ما هي تلك العقلية الإسلامية؟ هي لونٌ آخر غير العقلية اليونانية بلا جدال، وهي لا تُشرح في مقال واحد، وإنما يشرحها كتاب ينفق فيه رجل مثلك عدداً من السنين الطوال
وأنا مع هذا لا أنكر أن الإسلام في مصر له خصائص غير الخصائص التي يجدها الباحث حين يدرس الإسلام في الحجاز أو في الشام أو في المغرب أو في العراق
وقد تعرضتُ لشرح بعض هذه الخصائص حين تكلمت عن صور المجتمع الإسلامي في كتب صوفية، ولكنها ما تزال في حاجة إلى درس أوفى من الدرس الذي يقع في فصل من كتاب
أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أزحزحك تماماً عن موقفك، ولكني موقن بأني عرضت صدرك لشبهات ستوجب عليك الحذر حين تتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية؛ وأنت تعرف ما أعني(290/11)
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ ثم عرضت بالتفصيل لمشكلة اليوم وهي: النزاع بين الأزهر ودار العلوم
ويجب أن يكون مفهوماً أنك ألَّفت كتابك لغاية بريئة من الهوى لأنك عميد كلية الآداب، وعميد كلية الآداب يشرع للناس مذاهب الحق. وقد تأملت كلامك فوجدته يحتاج إلى تصحيح
ولعلك تعرف أن هواي ليس مع الأزهر ولا مع دار العلوم، وإنما هواي مع الجامعة المصرية، والفرق بيني وبينك أني لا أكتم هواي كما تكتم هواك. وما أعارضك في هذه القضية إلا لأنك سلكت فيها مسلكاً يخالف العقلية التي صبغتنا بها الجامعة المصرية، وهي التعمق في درس الأغراض والمعاني
أنت وازنت بين الأزهر ودار العلوم والمعاهد المدنية، وقام عندك الدليل على أفضلية الأزهر، لأنه أخرج للناس: محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى عبد الرزاق؛ وأفضلية المعاهد المدنية لأنها أخرجت للناس: إبراهيم عبد القادر المازني، وأحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل؛ وسقطت عندك دار العلوم لأنها لم تخرج أمثال هؤلاء
صدقت يا دكتور بعض الصدق، فدار العلوم لم يكن لأبنائها ماض في السيطرة على الحياة الأدبية على نحو ما يسيطر: هيكل، والمازني، والعقاد، وطه حسين، والزيات
ولكن كلامك على صدقه أحزنني، وليتك استشرت عميد كلية الآداب قبل أن تنشر هذا الكلام المحزن الموجع
أحزنني كلامك لأنه أصطبغ بالمغالطة والإسراف
أنت رجل معلم يا دكتور، ومن العيب عليك أن تؤذي إخوانك المعلمين: أتراك تؤمن في سريرة نفسك بأنك لم تحكم في هذه القضية بغير العدل؟
تعال أناقشك الحساب
إن رجال دار العلوم قد اشتغلوا جميعاً بالتعليم، ومهنة التعليم تقتل الأديب أبشع القتل. وأين المعلم الذي تسمح له وزارة المعارف بأن يستوحي الحياة كما يستوحيها الأدباء الذين سيطروا على هذا الجيل؟
أين المعلم الذي تسمح له وزارة المعارف بأن يصف جمال السابحين والسابحات في شواطئ الإسكندرية وبور سعيد، كما صنع الشاعر فلان؟(290/12)
أين المعلم الذي يستطيع وصف الصراع بين الهدى والضلال بدون أن يخاطر بمركزه في الحياة التعليمية كما وقع ذلك للدكتور فلان؟
أنت تعرف أني جاهدت أعنف الجهاد لأخلق لنفسي شخصيتين: شخصية المدرس وشخصية الأديب، ومع ذلك لم أسلم من عدوان السفهاء
ومتى سيطر لطفي على الحياة الأدبية؟
كان ذلك يوم كانت حياته خالية من قيود التعليم، فلما صار مديراً للجامعة المصرية توقّر وتزمت حفظاً لحرمة التعليم
ومتى سيطر المازني على الحياة الأدبية؟
كان ذلك بعد أن ترك مهنة التدريس وتفرغ لاستيحاء الحياة، ولو بقي المازني معلماً لكان مصيره مثل مصير زميله عبد الرحمن شكري الذي كان يحس مثل لسع العقرب كلما أشار كاتب في جريدة إلى أن له أشعاراً في الغزل والتشبيب
ومتى سيطر مصطفى عبد الرازق على الحياة الأدبية؟
هل يعرف الجمهور شيئاً من تلك السيطرة؟ وهل يجرؤ مصطفى عبد الرازق على إعلان ما كتب من الوجدانيات؟
إن مصطفى عبد الرازق كتب أجمل ما كتب بإمضاء مستعار لا يعرفه غير الخواص، وكان ذلك لأن حياته في التعليم الديني والمدني قضت بأن ينسحب جهرةً من الحياة الأدبية
الحق يا دكتور أن رجال دار العلوم لا يطلب منهم إلا أن يكونوا معلمين صالحين، وقد كانوا بالفعل
وهنا أوجه إليك كلمة مرة ستؤذيك أشد الإيذاء: من الذي زين لك أن تعتدي على الجنود المجهولين؟ أنت تعرف أن الفرنسيين يسمون التعليم
وما أشقى من يعاني مهنةً بلا مجد!
لك يا دكتور زميل فاضل اسمه إبراهيم مصطفى، وهو كالفراء سيموت وفي نفسه شيءٌ من حتى
فهل يرضيك أن تتجاهل مثل هذا الرجل لأنه لم يسيطر على الحياة الأدبية ولم يشترك في تكوين الجيل الجديد؟(290/13)
ومن الذي يسمع اليوم باسم أستاذي وأستاذك سيد بن علي المرصفي وله عليّ وعليك فضل لا ينساه إلا الجاحدون؟
أكتب هذا وأنا متألم متوجع لأني أرى عميد كلية الآداب يتجاهل تضحيات المدرسين، ولأني أشعر بأن هذه الأحكام الجائرة ستسقط من ميزان الحسنات أعمالي في التدريس. ولن يعرف الجمهور غير أعمالي في التأليف وهي لم تكن إلا ثمرات ما انتزعت من أوقات الفراغ
وما أخافه على نفسي أخافه عليك يا دكتور، فأنت هدف لحملات المتعسفين الذين شرعوا يقولون إن إنتاجك الأدبي قلّ وضعف، وهؤلاء الذين لا يذكرونك إلا يوم تخرج كتاباً جديداً ينسون كل النسيان أن لك شواغل تعليمية تفلّ نشاطك وتقل إنتاجك
وأين المنصف الذي يذكر أننا نحدث تلاميذنا بأشياء لو دوّنت لخرج منها محصول أدبي نفيس يغمر المكاتب ويشغل الأندية والمعاهد؟ أين المنصف الذي يذكر أن من يسيطرون على الحياة الأدبية مدينون أثقل الدَّين للمدرسين المجهولين الذين لا يعرف التاريخ أقدارهم إلا إن صاروا مؤلفين مشهورين؟
لك يا دكتور زميل فاضل يعيش في زاوية مجهولة من زوايا الخمول هو الدكتور أحمد ضيف، وأنا أؤكد لك أن هذا الرجل يعدي صدور تلاميذه بالفكر والعقل، وقد نفعتني صحبته أجزل النفع، ولكنه لا يستطيع أن يزاحمك لأنه لم يخرج من المؤلفات مثل الذي أخرجت. فمن واجبك وأنت عميد كلية الآداب أن تضع للتقدير الأدبي ميزاناً غير ذلك الميزان، من واجبك أن تذكر أن الجمهور الفرنسي لا يعرف شيئاً عن المسيو تونلا أو المسيو مورنيه، ولكن أمثال هذين الأستاذين لهم تأثير عظيم في تكوين الأذواق الأدبية وإن جهلهم سواد الناس.
وسيأتي يوم ينعزل فيه الدكتور طه انعزالاً تاماً عن الجمهور ويعتكف فيما يسميه الفرنسيون ليحقق مع تلاميذه بعض الدقائق الأدبية والفلسفية. ويومئذ يحتاج الدكتور طه إلى من يعتذر عنه أمام الجمهور فيقول إنه يحيا حياة العلماء لا حياة الأدباء. وهل يجهل رجل مثلك أن هناك فرقاً عظيماً بين أستاذ الأدب وبين الأديب؟
إن أستاذ الأدب تفسده الشهرة لأنها تشغله عن طول الأنس بالتعرف إلى الألفاظ والمعاني(290/14)
والأساليب. أما الأديب فيفسده الخمول لأنه يصدّه عن درس أسرار النفوس وسرائر القلوب، ويعوقه عن معاقرة صهباء الوجود
وأنت بحكمك الجائر تنسى أساتذة الأدب ولا تذكر غير الأدباء، لأنهم على حدّ قولك استطاعوا أن يسيطروا على الجيل الجديد. . . أتراني أفلحت في إقناعك بخطأ رأيك؟
قل الحق مرة واحدة يا سعادة العميد!
أترك هذه الخواطر، ثم أرجع إلى محاسبتك بصورة غير تلك الصورة
أنت قلت إن الأزهر يخرّج فيه محمد عبده وسعد زغلول فهل تعتقد حقاً أن من طبيعة الأزهر أن يخرج رجالاً مثل محمد عبده وسعد زغلول؟
إن كان ذلك صحيحاً فأين الأزهري الذي خلف محمد عبده؟ وأين الأزهري الذي خلف سعد زغلول؟
وما أقول به عن الأزهر أقول به عن المعاهد المدنية، فابحث عن المنطق الذي يزكي حجتك إن استطعت، وما أحسبك تستطيع
وقد وقفت في كلامك عند الماضي وبعض الحاضر
فهل يحق لي أن أسألك كيف تجاهلت أقدار من أخرجت دار العلوم من الرجال الذين سيطروا على الحياة الأدبية؟
أما يمكن أن يقال إن دار العلوم تخرج فيها عبد العزيز جاويش وحنفي ناصف ومحمد المهدي ومحمد الخضري وعبد المطلب وعبد الوهاب النجار واحمد السكندري؟ أتظن أن هؤلاء لم يسيطروا على الحياة الأدبية حيناً من الزمان؟
وقلت إن دار العلوم لم تغير نحو البصرة والكوفة، فهل غيرت أنت نحو البصرة والكوفة وأنت أستاذ بالجامعة المصرية منذ عشرين سنة؟
أنت رجل مقتحم يا دكتور، وهذا أجمل ما فيك من شمائل وخصال، فامض في اقتحامك إلى غير نهاية، فمصر لا ينجح فيها غير المقتحمين!
من حقك أن تدوس دار العلوم لأنك مقتحم، وسيكون من واجبي أن أفرحك بانتصارك، لأني متخرج في الجامعة المصرية وسأقاسمك الغنائم والأسلاب، فآخر شهادة ظفرت بها من الجامعة المصرية مذيلة بإمضاءات أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين.(290/15)
ولكن يعزّ عليّ وعليك أن تنهزم دار العلوم بعد أن صنعت في التاريخ الحديث ما لم يصنع الأزهر ولا الجامعة المصرية، مع الاعتراف بفضل هاتين الجامعتين العظيمتين
يعزّ عليّ وعليك يا دكتور أن ينهزم معهد كان من رجاله أساتذتي وأساتذتك. أنت تعرف يا دكتور أن كلية الآداب انتفعت بأساتذة دار العلوم
وتعرف يا دكتور أن كلية اللغة العربية انتفعت بأساتذة دار العلوم. فأرجوك باسم الأدب العالي أن تذكر ذلك المعهد بكلمة رثاء يوم يموت!
أيها الأستاذ الجليل
في كتابك كثير من مواطن القوة، ولكن يعوزه المنطق أنت تتحسر أشد التحسر على الفرصة التي ضاعت على دار العلوم في الانضمام إلى الأسرة الجامعية
ولكنك نسيت أن سلامة دار العلوم هي في البعد عن تلك الأسرة الجامعية. وأنت نفسك تذكر أنك قلت غير مرة إنك لا تفهم أن يكون في الجامعة باب يُغلق بعد ابتداء الدرس
فما رأيك إذا حدثتك بأن دار العلوم معهد لا يقل خطراً عن المدرسة الحربية، وأن من الواجب أن يراعى فيه نظام المواظبة بالثواني لا بالدقائق؟
ما رأيك إذا حدثتك بأن طلبة دار العلوم يجب أن يُراضوا على الأنظمة العسكرية فلا يعرفوا من الحرية الشخصية ما يعرف أمثالهم في كلية الآداب؟ يجب أن يكون مفهوماً بيني وبينك أننا لا نفكر في منافعنا الذاتية، فأنا أدفع ما يتهمك به خصومك من حب السيطرة على أكبر عدد ممكن من المعاهد
وإذاً يكون من المنفعة الوطنية أن نفكر جميعاً في إعداد معلم اللغة العربية إعداداً فنياً، لا جامعياً، فإن لم تكتف بذلك فلا بأس من أن تقترح أن يظفر مدرس اللغة العربية بدرجة جامعية بعد التخرج في دار العلوم على الأساليب التعليمية
وتجاريبي في التفتيش أقنعتني بصحة ما أقول، فقد لاحظت أن المدرسين المتخرجين في كلية الآداب يتفوقون في أشياء ويقصرون في أشياء، كما لاحظت أن المتخرجين في دار العلوم يتفوقون في أشياء ويقصرون في أشياء، ولذلك تفصيل يضيق عنه هذا الحديث، فإن أمكن أن يجمع مدرس اللغة العربية بين المزيتين كان لذلك أثر بالغ في تكوين الجيل الجديد(290/16)
وهذا الذي أقول به لا يوجب إلغاء دار العلوم ولا تغيير نظام كلية الآداب، وإنما يوجب أن يتعرف هذان الجيلان بعضهم إلى بعض بلا بغي ولا عدوان
ويظهر من كلامك أنك راض كل الرضا عن الجامعة المصرية، ولكنك نسيت أن هذه الجامعة لم تصنع شيئاً في إصلاح ما سيطرت عليه من المعاهد العالية
هل تعرف يا سعادة العميد أن لغة التدريس في كلية الطب هي اللغة الإنجليزية؟
وهل تعرف أن لغة التدريس في كلية العلوم هي اللغة الإنجليزية؟
لقد نشرتُ أكثر من سبعين مقالة في دعوتكم إلى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع المعاهد العالية فلم تقابلوني بغير الصمت البليغ. وكانت النتيجة أن تسبقكم الجامعة الأمريكية في بيروت إلى تحقيق هذا الغرض النبيل
وتكلمت يا سعادة العميد عن وجوب الإكثار من الترجمة، وكان الظن أن تذكر أني استطعت مرة أن أقنع وزارة المعارف بوضع نظام لخريجي البعثات يوجب ألا يظفر المتخرج في البعثات بأية ترقية إلا بعد أن يترجم كتابين من غرر المؤلفات الأجنبية في العلم الذي تخصص فيه. وقد أقرت وزارة المعارف ذلك النظام وأعلنته إلى مبعوثيها في المعاهد الأوربية والأمريكية، ويقول المرجفون إنك ساعدت على تقويض ذلك النظام بمعونة رجل من أصدقائك تولى وزارة المعارف، وكان ذلك فيما يقال لأنه نظام اقترحه رجل اسمه زكي مبارك وأقره وزير اسمه حلمي عيسى باشا
فهل يكون معنى ذلك أن الخير لا يكون خيراً إلا حين تقترحه أنت ويقره وزير من أصدقائك؟
ونسيت يا سعادة العميد أن كلية الآداب تقول أكثر مما تفعل، فإن لم يكن ذلك صحيحاً فحدثني أين مجلة كلية الآداب التي لم نر منها غير ومضات؟
ونسيت أيضاً أنك تقول أكثر مما تفعل، فأنت تدعو الدولة إلى إعفاء الأدباء من أعمالهم الرسمية ليتفرغوا للبحث والدرس، ثم ننظر فنراك تساعد الدولة والدهر على ظلم الأدباء
فإن لم يكن ذلك صحيحاً فحدثني كيف اتفق ألا تتحدث في الإذاعة اللاسلكية ولا تكتب في الجرائد إلا عن مؤلفات من تصطفيهم من الباحثين، مع أنك مسئول بحكم منصبك العالي عن الخلوص من شوائب الأهواء؟(290/17)
كان الظن أن تذكر أن من واجب الجامعة المصرية أن تحاسب نفسها قبل أن تحاسب الناس، ولكنك على كل حال مغفور الذنوب لأنك تتكلم في أوقات يراها غيرك أوقات صمت وجمود
أما بعد فإني أعتقد أني نوهت بكتابك وبأعمالك أعظم تنويه، فإن رأيت في كلامي بعض ما لا يروقك فاعذرني، فقد أُخذ علينا العهد ألا نقول غير الحق. وهل علمتنا الجامعة المصرية أن نصانع من يظنون أنهم يملكون من السيطرة الأدبية أكثر مما نملك؟ سترى كيف نروضك على الاقتناع بأن القول المعسول لا يغني عن الصُّنع الجميل
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(290/18)
من برجنا العاجي
(هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعال في إظهار مواهبك الأدبية) هذا السؤال ألقته مجلة أدبية فرنسية على الروائي دورجليس فأجاب: (إن الرجل الذي يهجم على الأدب وهو مزود بتكوينه المدرسي وحده لا يمكن أن يكون غير كاتب ضعيف). وقال الشاعر بول فاليري في مثل هذا المقام: (إن أساتذتي في المدرسة كانت لهم على الأدب فكرة تدعو إلى الرثاء. يخيل إليَّ أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقررة رسمياً في المناهج الدراسية)!
لو سئلت أنا أيضاً لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى. فلقد فعلت
المدرسة كل شيء لتنفرني من الأدب وتخيفني من اللغة فوضعت بين
يدي أسمج الكتب العربية معنى وفكراً وأعسرها لغة وأسلوباً وأبعدها
عن مخاطبة النفس المتفتحة لجمال الخليقة. لقد علمتني المدرسة
كراهية الشعر العربي.
وقد لبثت زمناً لا أطيق الإصغاء إلى بيت واحد من ذلك الشعر السخيف الذي أرغمنا على حفظه إرغاماً. شعر ليس فيه قطرة من ماء الشاعرية. إنما هو ضرب من تلك الحكم والمواعظ المنظومة التي لاكتها الألسن ومضغتها الأفواه حتى أصبحت (تفلاً) جافاً لا نفع فيه. تلك هي مادة غذائها الذهني. أما إذا اجتهدنا فقرأنا كلاماً جميلاً خارج المدرسة فإنا لن نلقي من المعلم غير التجهم والاستنكار.
وأذكر أن الأدب الإنجليزي أوحى إليَّ كتاب قصة تمثلية صغيرة وأنا في المدرسة الثانوية فرفعتها فخوراً إلى مدرس الأدب العربي فكان جزائي الإهمال المهين. على أن من الإنصاف أن أذكر أن معلماً شجاعاً تجرأ يوماً فأطلعنا على أبيات عذبة رائعة للعباس بن الأحنف فأشرقت وجوهنا وانطلقت من قلوبنا آهة العصفور الذي أفلت من قفص وحلق في فضاء الطبيعة الباسمة الجميلة فأرتعد المدرس المسكين والتفت إلى باب القاعة خائفاً كأنه اقترف جرماً هائلاً. منذ ذلك اليوم أدركت أن هنالك كنوزاً في عالم الأدب والشعر يخفونها عن عيوننا المتطلعة.(290/19)
توفيق الحكيم(290/20)
دعه كله يذهب
للشاعرة ايلا هويلر ولككس
دعِ الحلم يذهب. اطمئن ولا تتزايل أعضاؤك من الفَرَق. أفليس في طيّات السُحُب المتلبدة من الأحلام الأخرى المستوردة عن ناظريك ما تستطيع أن تكسوه بعد، بشعاعات نورانية، وتذهّب أطرافه بومضات وهاجة تخترق بلألائها حجب الغمام الكثيف وتطرد جهامه القاتم، وتمحو ركامه الداكن؟
فما قيمة حلم يفوتك، من أضغاث الليل الضائعة؟
ألاَ دع ذلك الحلم الزائل يذهب
دع الأمل يغرب. تشجع. لا تجبنن ولا تتقاعس. أفلا يدّخر لك الغيب في أطوائه آمالاً أخرى لا تلبث أن تطفو في بحر الدجى كالكواكب الزاهية، وتذكي مصابيحها في آفاق سمائك!
إن النفس المستبشرة المؤملة لن تعيّث طويلاً في بيداء الدياجير المهددة العابثة، بل لا بدّ أن تضفي عليها العلياء نوراً جديداً. فما أشدها جهالة أن تحسب أن سعادتك قد تولّتْ، لأنك عدت قانطاً من رجاء واحد؟
ألا دَعْ ذلك الأمل الضائع يغرب
دع الفرح يذبل ويذوي: لا تحزن ولا ترتمِض. أفلم تبقَ أفراح أخرى تشبه البصيلات التي يعتقلها الصقيع حيناً، ثم يأمر ربّك أن تنطلق من إسارها، وتخرج شطأها وتنوّر؟
أو ليس من شأن الشتاء العاصف الصارم أن يرسو على الجذور القوية بكلاكله القاسية، فيتلفها ويواريها في غيابات أرماسه الصامتة، وأجداثه المظلمة الخفية؟
وهل تعّنى الأرض تلك الفترة الوجيزة التي تتجرّد فيها من وشّيها ومطارفها!
ألا دع ذلك الفرح المدبر يذوي ويذبل
دع الحب يقضي أجله ويمضي لسبيله. كن قويّْ الأيمان ولا تيئس، بل سرّ عنك. أفلا توجد محبّات أخرى بعد تحاكيه في جماله، وفيما تزخر به من صنوف العذاب العذّب؟
ألا توجد محبّات أخرى ترفرف في الفضاء كالحمائم البيضاء، ولا تلبث أن تحوم حولك، وتجسم في صدرك وتعشش!(290/21)
فتقول في كلّ منها: (إن هذه لخير من تلك)
ألا دع ذلك الحبّ الراحل يمضي لسبيله
(الزهرة)(290/22)
المتنبي وسر عظمته
للأستاذ عبد الرحمن شكري
بلغ المتنبي ما لم يبلغه شاعر آخر من الشهرة. وقد اهتم له النقاد الأدباء قديماً وحديثاً، وكتب عنه كثيرون من أفاضل الأدباء وأكابرهم في عصرنا هذا. وقد عني بعضهم باستنباط أخلاقه من شعره، وبعضهم أغرى بتتبع نسبه وتاريخ حياته وأسرارها وأسباب حوادثها، وبعضهم نظر إليه من حيث هو الشاعر الذي يمثل العرب خير تمثيل وينوب عنهم في الإبانة عن خصائص نفوسهم ونزعاتهم، وبعضهم عُني بحكمته ونظراته في النفس والحياة، ومنهم من راقته مبالغته التي اشتهر بها في المدح أو الفخر، ومنهم من راقته أساليب التشبيه التي أُغري بها أهل زمنه، وقدموه من أجلها في ظاهر ما يحسبون ويحسون. وإذا تأملت سبب إعجاب المعجبين به، وجدته يختلف باختلاف أذواق المعجبين به واختلاف نظرهم إلى الشعر كما تختلف أسباب المهتمين بدراسة سيرته، وإذا نظرت في شعر المتنبي وشعر غيره من كبار الشعراء وجدت شاعراً قد يماثله أو يبزه في صفة، ويماثله أو يبزه شاعر آخر في صفة أخرى من صفات الجودة، وهو بالرغم من ذلك أوفر نصيباً من الشهرة. وترى لغيره من الشعراء أبيات كثيرة في الحكم والأمثال والأقوال المأثورة، تدل على فطنة بالنفس، وخبرة بالحياة، وتوفيق في الصنعة؛ ولكنها لم تسرْ كما سيَّرَ المتنبي شعره في هذه المعاني. فالبحتري أكثر منه نصيباً من طلاوة الصنعة، وأبو تمام من أساليب البيان، والشريف من الوجدان وسلامة الفطرة، وابن الرومي من الأوصاف، والمعري من النظرات في الأخلاق والحياة، ولكن ما من دَويٍّ أثاره هؤلاء إلا ويخفت بجانب ما أثار المتنبي حتى ليصدق فيه قوله:
وتركك في الدنيا دَوياً كأنما ... تداول سمعَ المرء أنمله العشر
وقد تتبع النقاد قوله أحياناً بالتزييف، وإظهار السيئات من معاظلة والتواء في بعض قوله، وبالتقصي للسرقات والمآخذ، أو ما ظنوا أنه سرقات ومآخذ. حتى حاول بعضهم رد كل معنى من معانيه إلى شاعر سابق. وبعض النقاد أولع بإظهار ما في مغالاة مدحه من التهكم المقصود أو فساد الذوق غير المقصود. وبعضهم أظهر ما في مغالاة المدح من إلحاد أو شبه إلحاد، وما في استطالته بالفخر من كفر أو شبه كفر، واستشهدوا بقوله:(290/23)
وكل ما قد خلق الل ... هـ وما لم يخلق
مُحتقرٌ في هِمَّتي ... كشعرة في مفرقي
وقالوا إنه كان يظهر الشك بالبعث والحياة الأخرى كما في قوله:
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكَّرَ في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
وقالوا إنه تعدى منزلة الشك في هذه الأبيات الذي يشبه الإنكار المُقنَّع إلى منزلة إثبات النفي المُقنَّع في قوله:
تَمتَّعْ من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأملْ كرى تحت الرجام
فإنَّ لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
وثالث المعاني التي يدركها العقل بعد معنى الانتباه ومعنى المنام هو معنى الفناء والعدَم. والمتنبي يلجأ إلى عقل القارئ في تأمله فهو إذا يريد المعنى ولا معنى غيره. وبعض النقاد أشار إلى شدة حقده على الناس وقسوته في قوله:
وكُنْ كالموت لا يرثي لِباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صادي
وقوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس رَوَّى رمحه غير راحم
فليس بمرحوُم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولكن كل هذا النقد لم يسقط الرجل من منزلته، فلأي أمر تبوأ هذه المنزلة؟ إنه لا شك في مقدرته في الشعر وإن له من صفاته باعا فيه، فهو بالرغم من معاظلته أحياناً يجيد أساليب البيان كأحسن ما يجئ به أبو تمام وأحياناً. يأتي بالأساليب الحلوة كأحلى ما يجئ به البحتري، وإن كان إتيانه بها عفواً من غير تعمد وتكلف، ولكن كل هذه القدرة في القريض وما عنده فيه من صفات الجودة جماعها أمر واحد وهو الروح الخاصة التي تظهر فيما له صلة من شعره بآماله وخيبتها وتفيض على ما ليس له صلة مباشرة بتلك الآمال، فتعم إذا هذه الروح كل شعره وتكسبه (جاذبية الشخصية) وجاذبية الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها وجاذبية لذة البيان المُعبَّر عنها. ولأكثر الشعراء نصيب منها، ولكن نصيب المتنبي أو فر نصيب. وهي أيضاً التي بصرته بدخائل النفس الإنسانية وأسرارها وعيوبها كي يتخذ من(290/24)
تلك البصيرة بالنفس الإنسانية عامة سلاحا يساعده في الاعتزاز، والاعتداد بنفسه فاعتداد المتنبي بنفسه إذا سبب طلاوة شعره وسبب حكمه وأمثاله وسبب ما يشعر القارئ في شعره من القوة. وقد تكون روح الاعتداد بالنفس مصحوبة بالتقحم والإقدام والفخر والادعاء كما كانت في حياة بِنْفِنوتو سِلَّيْني المثَّال الإيطالي الذي كتب تاريخ حياته وهو مملوء بالمغامرة والمخاطرة والإجرام وبالفخر العريض والادعاء، ولكنه كتاب يستهوي القارئ بسبب ما أكسبه اعتداد صاحبه بنفسه من جاذبية وطلاوة وقوة في الكتابة. وقد تكون هذه الصفة عند رجل مفكر في نفسه غير مقتحم ولا مستطيل ولا مُدّع فتكسبه أيضاً صفات الكاتب الذي يستهوي قلمه القارئ، فإن اعتزاز مونتاني الكاتب الفرنسي بخواطر نفسه وحوادث حياته اليومية واللذة التي وجدها في قيدها ووصفها تستهوي القارئ بعدوى الشخصية ومغنطيسها. فعدوى الشخصية في نظري هي الصفة الغالبة التي ميزت شعر المتنبي، وهي التي ميزت ترجمة بِنْفِنوتو سِلِّيني لحياته وميزت مقالات مونتاني الفرنسي. ويشترط في وجود هذه العدوى أن تكون شخصية صاحبها ذات هبات عقلية ونفسية طبيعية، والعدوى قد تظهر بين الناس قي مقدار أقل حتى ولو كانت الشخصية المعتد بها المعتز صاحبها قليلة الهبات العقلية؛ وهذا أمر مشاهد في حياة الناس اليومية وتأثير بعضهم في بعض في أعمالهم وأخلاقهم وأفكارهم ومذاهبهم وصدقاتهم وعدواتهم، فالناس إذن خليقون أن يهتموا للشاعر أو الكاتب الشديد الاعتزاز والاعتداد بنفسه. وقد يهتمون له أكثر من اهتمامهم لشاعر أو كاتب آخر أقل اعتداد بالنفس وأكثر هبات عقلية ونفسية، فليس اهتمام الناس للشاعر أو الكاتب إذاً على قدر هباته العقلية وحدها كما يظن المعجبون به الذين يستهويهم اعتداده بنفسه، وللشاعر هيني الألماني كلمة حكيمة في هذا الموضوع وهي كلمة مأثورة في هذا المعنى فقد قال: (إن الإنسانية كالشجرة، فالشجرة لا تحفظ ذكرى الأيدي التي تعهدتها بالري والعناية وإصلاح التربة والصيانة من العواصف والأضرار والرياح، ولكنها تحفظ ذكرى اليد المعتدية التي تأخذ خنجراً وتحفر اسم صاحبها على ساقها بالنحت والتكسير من غلافها والسطو عليها، وكذلك الإنسانية قلما تحفظ ذكرى الذين ضحوا في خمول وسكوت لأجل رعايتها والعناية بها، ولكن الإنسانية تحفظ ذكرى الغزاة المدمرين الذين نقشوا أسماءهم على جبهة ذاكرتها بأحرف من نار وبالسطو عليها وبالإهلاك والتدمير وإراقة الدماء. وهذه(290/25)
شواهد متطرفة تدل على اهتمام الناس بالمعتد بنفسه. ولا نريد أن نقول إن الشعراء والكتاب الذين يبالغون في إظهار الاعتداد بالنفس هم مثل هؤلاء الغزاة المدمرين في شرهم، وإنما نعني أن ظاهرة الاعتداد بالنفس تستدعي اهتمام الناس في الحالتين. ومع ذلك فإن رجلاً كالمتنبي ما كان يتأخر عن إراقة الدماء والتدمير في سبيل تحقيق آماله كما يشهد الكثير من شعره. وقد صرح بذلك في أكثر من قصيدة كما قي قوله:
بكلِّ مُنْصلِت ما زال مُنْتظِرِي ... حتى أَدَلْتُ له من دولة الخَدَم
شيخ يرى الصلواتِ الخمسَ نافلةً ... ويستحل دم الحجاج في الحَرمَ
تُنْسي البلادَ بُروُقَ الجوِّ بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الدَيمِ
وهنا تصريح ليس بعده تصريح. والحقيقة أن تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس حتى ولو بلغ الإجرام لا يقل في كثير من الأحايين عن تقديس الإنسانية للفضائل، بل قد يكون أعظم من تقديسها للفضائل، إذ أن تقديسها للفضائل كثيراً ما يكون نفاقاً ورياءً أو رغبة في الانتفاع من وداعة الفاضل واستكانتِهِ وترفعه عن الدنايا بينما يكون تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس ومظهره في غيرها عذراً لها في تقديس مظهره في نفسها وتقديس أثرتها، فتجمع بين لؤم الأثرة وقداسة العبادة بتقديس مظهر الاعتداد بالنفس في غيرها. وقد تحتال للجمع بين هذين المتناقضين بأن تنسب إلى المُعْتَدِّ بنفسه النبل والجلال وكرم الشمائل والمروءة، وهو قد يكون خلواً من هذه الصفات أو على الأقل يكون خلواً من مقاديرها التي تنسبها إليه كي تجمع بين لؤم الغريزة وتقديس الفضائل. وهذا أمر يشاهد كثيراً بين الناس، ولعل هذا الشرح يفسر كيف أن الناس كثيراً ما يحاربون الفضلاء وينتقصونهم مع معرفة فضيلتهم وهم يقدسون الفضائل في كلامهم، وكيف أن الناس كثيراً ما يجلون صاحب الرذيلة إذا لم يضطروا إلى مؤاخذته اضطراراً، وإذا كان معتداً بنفسه وكانت في لسانه خلابة أو له قدرة وسلطان. فإذا كان هذا شأن الناس مع من قلت فضيلته من المعتدين بالنفس، فكيف لا يكون إعجابهم أعظم بمن جمع إلى الاعتداد بالنفس فضائل وبياناً وفصاحة تستهوي القارئ؟ وكثيراً ما يضع القارئ نفسه في منزلة نفس القائل المعتد بشخصه ويشاركه في آماله وأطماعه وإحساسه واعتزازه بنفسه، ويشاركه في خواطر نفسه وحالاتها كما يفعل القارئ أيضاً عندما يقرأ قصة لكاتب فيضع نفسه في مكان بطل القصة(290/26)
الموصوف الذي يعجب به القارئ. وقد يفعل بعض القراء ذلك حتى في قراءة قصص مشاهير المجرمين الذين يعتدون ويعتزون بأنفسهم إلى حد الإجرام. وهذه شواهد متطرفة لهذه الظاهرة النفسية وجاذبية الاعتداد بالنفس تختلف باختلاف الكاتب وباختلاف نفوس القراء المتأثرين بها. وهذه الجاذبية كالمعدن السائل الذي يسيل بمقادير متفاوتة مع ماء الينابيع التي لا تتفاوت في مقادير مياهها السائلة؛ فالشعراء والأدباء لا يختلف مقدار نتاجهم مع اختلاف فيض ينبوع معدن الجاذبية في قولهم، وعلى قدر ما في قولهم من جاذبية وبيان الاعتداد بالنفس يكون قدر تأثر القراء بهم فإذا قرأ قارئ قول المتنبي:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وهكذا كنتُ في أهلي وفي وطني ... إن النفيسَ غريبٌ حيثما كانا
تلمس تلك النفس واكتسب شيئاً من إحساسها بالنفاسة والقدرة على الاعتزاز بنفاستها وأحس ما رأته النفس الموصوفة في حياتها من صفح وإهوان؛ وهو قد يكتسب كل هذا الشعور أثناء قراءته قول الشاعر من غير فطنة له، فهو في رحلة نفسية، إما مسالك العقل الظاهر وإما في مجاهل العقل الباطن. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما مِنْ صداقِتهِ بُدُّ
خليلاي دون الناس حزن وعبرة ... على فقد من أحببت مالهما فقد
وأكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبة ... وكل اغتياب جهد من لا له جهد
وأرحم أقواماً من العي والغبي ... وأعذر في بغضي لأنهم ضد
سافر سفرة في عالم التجارب النفسية وبين الأحياء ولو لم يكن على صفات الشاعر النفسية ويلتذ التجارب الخلقية بالتذاذ ما يعبر عنها من البيان. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
إذا غامرتَ في شرف مَروُم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تُغْنِي ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم(290/27)
أحس أن حكمة الشاعر في التمييز بين عقل العجز والجبن وبين عقل الفطنة المقرونة بالشجاعة والطموح ليست حكمة الشعر التعليمي أو الوعظي، وإنما هي حكمة الخبرة والتجارب والفطنة المقرونة بالطموح إلى الآمال السامية، وهو ذلك الطموح الذي كان من مظاهر الاعتداد بالنفس عند المتنبي، وهذا ما يلمسه القارئ في باقي حكمة المتنبي فيسلم نفسه للشاعر يتصرف بها أثناء قراءة شعره حسب بيان خبرته وحكمته وآماله وآلامه، وإذا قرأ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيِسٍ ألتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وِكلمةٍ في طريقٍ خفت أعربها ... فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة ... وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري(290/28)
مولد الليل
للأستاذ محمود الخفيف
شَرِبَتْ كَدْرتُهُ لَوْنَ الشّفَقْ
فَامّحَي إلاَّ بَقايَا في انْطِفاَءْ
اكْتَسَى الماء بِأَمْوَاجِ الْغَسَقْ
وَمَضَتْ تَمْسَحُ كَفُّ الدُّجَى
من حَوَاشِي الأفْقِِ مَا أَبقَى المَسَاءْ
تحِسرُ الأحْداَقَ في هذا الغروبْ
رَوْعَةٌ للْقَلْبِ فِيهِ والْبَصَرْ
يا لِبِشْرٍ فيهِ يَمْحُوهُ القُطُوبْ
يا لأَطْيافٍ بهِ حَاِئَرةٍ
وَصَفَاَءٍ مَا صَفَى حَتَّى اعْتَكَرْ!
مُجْتَلًي بَالِغَةٌ رَوْعَتُهُ
لاَ تَملُّ الْعَيْنُ في الأُفْقِ رُؤَاهْ
مَلأَتْ نْفسِي بِه فِتْنَته
لْحَظَةً، ثم انْطَوَتْ أَطْرَافُهُ،
وَمَشَى اللّيْلُ عليه فَمحَاه
رَاقَ هَذَا الْغَرْبُ حَتَّى خِلْتهُ
مَشْرِقَ الصُّبْح اجْلَى للنَّاظرين
في جَنَابِي بَعْضُ مَا ألِهْمتُهُ،
خاطِرٌ طَافَ بِرُوِحي سِحْرُهُ
لَيْتَ شِعْرِي مُفْصِحٌ عنه مُبِين
يَتَنَاهَى أَبدًا سِحْرُ اَلْجمالْ
ويروعُ الطَّرْفَ والقَلْبَ مَعاً
مَا تَغَشّتْهُ من المَوْتِ الظِّلاَلْ(290/29)
فَمضَى يَقْرُبُ من غَايَتِهِ
فَتَهَاوَى فَتَبَدَّى أَرْوَعَا!
هكذا اللّحْنُ انْقَضَي أوْ أَوْشكَا
وجبينُ النَّجْمِ يغَشاَهُ الأفولْ
هكذا الزْهرُ إذا الزْهرُ زكا
وتمشّي السُّقْمُ في نُضْرَتِهِ
فَبَدَى بَيْنَ نماَءٍ وذبُولْ
هكذا المِصْبَاحُ عِنْدَ الْغَاَبشِ
رَاحَ يَطْوِي نُورَهُ طُولُ السُّهاَدْ
وَبَقَاَيَا خِلْسَةِ المخَتلِسِ
تَرَكَتْ نَشْوَتُهاَ نَارَ الَجْوَى
في الحشاَ بَيْنَ خُمُودٍ وَاتّقاَدْ
هكذا الشَّمْسُ تَغَشّاهاَ الطّفَلْ
فَتَرَاءتْ كَنُضَارٍ في عَقِيقْ
وتَعُبُّ الرُّوحُ من هذا البَرِيقْ
ياَ جَمَالاً هَاجَ للِقَلْبِ الشَّجَنْ
أَبْهَجَ النَّفسَ سناهُ وَشَجَاهَا!
صَوَّرَتْ كْدرَتُهُ معنى اَلْحزَنْ
كيف مَسَّتْ مُهْجَتِي ظُلْمَتُهُ
فَمحَتْ في النفس أَحْلاَمَ مُنَاهَا
وَمَضَتْ تَرفْلُ في أَبهْىَ الحُلْلَْ
تَنْهَلُ الألَحْاظُ مِنْ رَوْنَقِهاَ
هَذِهِ الشمْسُ إذا ما غَرُبَتْ ... فورَاَء اللّيْلِ إصْبَاحٌ يَروُقْ
وإذا شَمْسُ حَيَاتي ذهبتْ ... وَدَجَا (اللّيْلُ) فلا نجم ولا
مَوْضِعٌ فيه لِفَجْرٍ أو شُرُوقْ(290/30)
ظُلْمَةُ اللَّيْلِ بهَذا العَالَمِ ... تَسْبَحُ الأحْلاَمُ فِيهاَ وَتُطِيفْ
أَتُرَى لِي مِثلُ حُلْمِ النائِمِ ... إن دَجَا فَوْقَيِ لَيْلُ الرَّدَى،
أَمْ تُرَى لَيْسَ سِوَى الصَّمْتِ المخيِفْ؟
إيهِ يا لَيْلُ تَجَمَّعْ وَانْزِلِ ... فِيكَ لليَائِسِ أَحْلاَمٌ تُتَاحْ
إيه ياليل، بقلبي الذّابِلِ ... سَكَرَات من مُنىً حائِرَةٍ
تَتَلاَشى عِنْدَ إِقْبَالِ الصَّبَاحْ
الخفيف(290/31)
صحائف من تاريخنا القومي
الغرب يتجنى
للأستاذ أحمد خاكي
حينما يستشرف المؤرخ القومي لأخريات القرن التاسع عشر، ومبدأ القرن العشرين، يرى في مصر مدرسة من مدارس الفكر والسياسة جديرة بأن تذكر بين الأفراد القلائل الذين قادونا في تاريخنا القومي. وكانت هذه الفترة في تاريخنا هي الفاصلة بين حياة من الاستعباد المقيم، وبين حياة أخرى من الحرية والمجد. وقد استطاعت القومية المصرية أن تحيا خلال تلك السنين السود على الرغم مما اعتورها من أطماع الإمبراطوريات المستعمرة، وعلى الرغم من فترة الركود التي تثاقلت على أفئدة المصريين بعد الفشل الذي أصاب الثورة العرابية. وإذا انتزع المؤرخ نفسه من غمار الحوادث التي قامت في مصر منذ مبدأ القرن التاسع عشر حتى اليوم، استطاع أن يشهد للقومية المصرية وحدة خاصة تبدأ منذ اليوم الأول الذي خطا فيه نابليون في بلادنا المقدسة، وتظل مجدة جاهدة تصيب النجاح في أحيان، ويصيبها العثار في أحيان أخرى
على أن في دراسة القومية المصرية في الفترة التي تلت الثورة العرابية كثيراً من العظات والعبر التي ينبغي أن ننعم النظر فيها. ذلك بأن حياتنا الاجتماعية والسياسية تقوم على الأسس التي بناها سلفاؤنا في أعقاب القرن التاسع عشر؛ بل كثير من النقائص التي ما زالت تميز كياننا الاجتماعي ترجع إلى تطورنا أثناء ذلك القرن. وهذه الفترة الخطرة هي التي التقى فيها الغرب والشرق على أساس من سوء الظن والاستغلال، وهي كانت الفترة التي بلغت فيها الفكرة الإمبراطورية عند إنجلترا وفرنسا أكثر ما بلغت، فكان ضحاياها بلاد الشرق الأدنى، وبلاد المغرب الأقصى، وغير أولئك وهؤلاء من سكان أفريقية وآسيا. وإذا كانت مصر قد استطاعت أن تتخفف من تلك القيود التي ضربت عليها في سنة 1882 فإنما ذلك لأن القومية المصرية كانت شديدة المراس شديدة البأس
وقد بدأت الحركة القومية في مصر في زمن نابليون، وأنتجت تولية محمد على في سنة 1805. على أن القومية لم تصبح أملاً من آمال الشعب إلا في سنة 1882، حين قام عرابي وصاحباه يحتجون على تفوق العنصر الجركسي والتركي في الجيش، وسوء(290/32)
المعاملة التي يلقاها المصريون. كان هذا سبباً من أسباب الثورة، إلا أن الثورة الفكرية كانت عنيفة في نفس كثير من المصريين. فإن البلاد كانت أوتيت قليلاً من العلم، وكانت تعاليم جمال الدين الأفغاني الذي نزل مصر سنة 1871 قد بدأت تزدهر. وظهرت الجرائد وكونت رأياً بين الخاصة، وكان الجيش وعلماء الأزهر أقوى هؤلاء. فكانت الثورة التي حمل لواءها عرابي باشا، وقد اقترنت الثورة بخليط معقد من العناصر. فقد كانت مسلمة، وقد كانت دستورية، وقد كانت تنفسن على الأجانب ما حازوه من سطوة، وما ينعمون به من متاع الوظائف وبسطة النفوذ
على أن الثورة العرابية لم تكن مستنيرة شُجاعة على الرغم مما انطوت عليه من عناصر. ذلك بأن العسكريين الذين ملكوا أزمتها لم يدركوا الخطر المحقق الذي تنطوي عليه خطة العداء للخديو؛ ثم إنهم لم يكونوا عسكريين بالمعنى الذي نفهمه الآن من تلك الكلمة، فلم يكن لهم قوة التنظيم ولا المصابرة على أنواع الجهاد. حتى عرابي نفسه لم يستطع أن يتصرف في موقفه تصرف الجندي المغامر. ولو أنه أراد النجاح بأي ثمن لما تردد لحظة واحدة في القبض على الذين اشتبه في خيانتهم، ولا تردد في سد قناة السويس حتى يقطع السبيل على الإنجليز. ثم إن الجيش الذي كان يأتمر عليه عرابي لم يكن إلا فلول الجيش الآخر الذي انتصر أيام محمد علي وإسماعيل لأنه الوسيلة التي كانت تتبع في جمعه كانت وسيلة منفرة شائنة، ويكفي أن الجنود كانت تؤخذ قسراً من القرى والدساكر تحت لهيب السياط
لكن العنصر القومي الذي بدأ بالسيد عمر مكرم أيام محمد علي ما زال يدب في أوصال البلاد دبيباً خفيّاً لا يكاد يسمع له ركز حتى تمثل في حركة الإصلاح التي قامت بعد أن هدأت الثورة العرابية وبعد أن استقرت الأمور. ذلك العنصر هو الذي تمثله المدرسة الفكرية التي بدأها جمال الدين، وكانت قد وقفت تلك المدرسة تنتظر حينما فشل عرابي وتشتت ما أعضائها أفراد كثيرون. لكنها أقبلت على الحياة بعد استقرار الثورة وهي مؤمنة بحق مصر في الحياة العامة على الرغم الاحتلال البريطاني الذي ابتليت به البلاد وعلى الرغم مما أصاب الحزب العسكري من وهن. وقد احتكت هذه الفئة الجديدة بالتفكير الأوربي فاستوعبت كثيراً من الأفكار الغربية من مصادرها الأولى، وازدهرت هذه الفئة في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبلغ من تقدير اللورد كرومر لهم(290/33)
أن قال: إنهم كانوا يشبهون الجيروند في فرنسا. والحق أن كثرتهم كانت تشبه الجيروند في تعلقهم بالمثل الأعلى وفي إيمانهم بسمو الفكرة وفي الثقافة والشجاعة والإخلاص
كان بين هؤلاء الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وانضم إليهم قاسم أمين وسعد زغلول. وقد اجتمع هؤلاء لا على أن يكونوا حزباً سياسياً ولا ليدافعوا عن فكرة خاصة عينوها، وإنما هي الحوادث والميول ربطت بين قلوبهم. وكانت الوطنية المصرية قد فقدت قليلاً من الثقة حين ضعضعها الفشل بعد الثورة لكنها بدأت تلتئم رويداً رويداً فابتنيت على أسس أخرى غير التي قوضتها الثورة. ونمت في أعقاب القرن الماضي تلك الفئة المثقفة التي مثلت في مصر نفس الدور الذي قامت به الطبقة الوسطى المستنيرة في إنجلترا وفرنسا. فكانوا هم رسل الحياة الأوربية في مصر. درس الكثير منهم القانون في جامعة ليون بفرنسا، وتأثر الكثير بالدراسات التي زخرت بها كتب الفلسفة والقانون. فكان من هؤلاء زعماء الفكر في مصر، بل لقد كان منهم الزعيم السياسي مصطفى كامل
لم يكن بين هذه المدرسة الحديثة التي قامت في سنة 1890 وما بعدها علاقات وثيقة بالثورة العرابية، وقد كانت الثورة العرابية مادية طغت فيها المصلحة على الوطنية الخالصة، ولم تكن هذه الثورة مستنيرة لأن الكثرة من زعمائنا كانوا جنودا غير مستنيرين، بل ولم تكن شُجاعة لأن عرابي نفسه لم يكن شجاعا. أما جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين ومن جرى في أثرهم فقد جمعوا بين الوطنية والتنور والشجاعة. ولم يربطوا غرضهم القومي بترقيات لفئات خاصة، وكانت ثقافتهم أصيلة لأنهم درسوا أصول الثقافة عند الغرب وعند الشرق وحاولوا أن يؤلفوا بين الثقافتين.
تلك هي الفئة التي حملت الثقافة القومية الأولى في هذه الفترة الدقيقة من تاريخنا الحديث. ولقد أدت رسالتها على خير وجوهها وكان عصرها غنيا بمختلف أنواع النشاط. وحينما ألقى العرابيون سيوفهم شرع هؤلاء أقلامهم يكتبون، وحينما خَفَت زئير المدافع اعتلوا المنابر يخطبون. ولقد كان الشرق والغرب خلال تلك الفترة في كفاح ظاهره العلم والدين والثقافة وباطنه الاستغلال والسيطرة والاستعباد. وكان هانوتو ورينان ودوق داركور يكتبون من ناحية الغرب، وكان جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين يردون من ناحية الشرق.(290/34)
والحق لقد كانت ظاهرة نفسية غربية تلك التي تنظرت بها كتابات هانوتو ورينان وداركور وقد نقد هؤلاء وكثير غيرهم من الكتاب والمؤرخين والفلاسفة أصول الإسلام، ولعل هؤلاء كانوا يؤيدون في ذلك الاتجاهات الاستعمارية الخاصة التي توجهت بها فرنسا من غير أن يكونوا يشعرون بذلك. ولأمر ما قام هؤلاء قومة رجل واحد يحاولون أن يتحيفوا من الجماعة المصرية وأن يتنقصوا من الدين الإسلامي جميعه. لكنهم وجدوا تلك المدرسة العصرية المثقفة. وكان على هؤلاء أن يثبتوا أن الإسلام الحقيقي غير العادات العتيقة والتقاليد البالية التي حسب الفرنسيون أنها الدين.
حينما بحث هانوتو قواعد الإسلام كان يحاول أن يختط خطة لمعاملة المستضعفين من أبناء المستعمرات التي انتقلت تحت الحكم الفرنسي. وكان جديراً بمثل بحثه أن يكون متحيزاً لأنه كان في مكان الحاكم الذي يملي على المحكوم. وقد وجد هانوتو في كتابات محمد عبده صدى لما كان يجول في صدور هذه المدرسة الكريمة التي ذكرت. وكذلك قل عن الدوق داركور فإن هذا الكاتب مكث في مصر بضعة شهور كان يحسب أنه قد أوتي خلالها العلم جميعاً بأحوال المصريين. وقد
حاول أن يرجع كل نقص رآه إلى طبيعة الدين نفسه، فكان على قاسم أمين أن يقرع الحجة بالحجة ويرد البرهان بالبرهان. وما فرغ دوق داركور من كتابه عن (مصر والمصريين) حتى كان قاسم أمين يهيئ كتاباً في الرد عليه سماه (المصريون).
والحق أن هذا الكفاح الذي قام بين الشرق والغرب كان مفيداً للحياة المصرية بوجه عام. ذلك أن قوماً مثل محمد عبده وقاسم أمين قد أدركوا في دفاعهم عن مبادئ الإسلام أن في المجتمع المصري كثيراً من المثالب التي ينبغي إصلاحها. ونحن نرى أن في الوقت الذي كان الأستاذ الإمام وقاسم أمين يردان فيه على كتاب الفرنسيين - في نفس الوقت كانوا يهيئون أنفسهم للكتابة عن مصر، وكان محمد عبده يمثل الناحية الدينية فحاول أن يضع أصول الدين في موضعها الأول وحاول أن ينشر ثقافة دينية في مصر لم تزل إلى اليوم مجدة قوية جاهدة، وما كان ذلك الاتجاه الجديد إلا لأنه وجد نفسه في موقف المدافع فعرف القضية من جميع وجوهها وحاول أن يقيم ما اعوج وأن يحفظ على مصر والمصريين كرامتهم.(290/35)
ولقاسم أمين بعد ذلك وجه آخر من وجوه الإصلاح. فقد كتب كتابه رداً على دوق داركور في سنة 1894 إلا أنه لم يلبث بضع سنوات حتى وجد أن دوق داركور نفسه قد تكلم عن مفاسد حقيقية بالبحث والتفطن فكتب كتابيه (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) ينقد فيهما نظمنا الاجتماعية الفاسدة والمبدأ الذي دارت عليه بحوثه في المرأة وتحريرها هو مبدأ القدرة على استكمال النقص الذي يتبعه كثير من أنصار التقدم، وقد حاول على هذا الأساس أن ينقد التقاليد والعادات التي جدّت من حرية المرأة وجعلتها في الموضع الأدنى من تقدير الرجال. على أن قاسماً من وجه آخر كان يرى أن إصلاح المرأة بدء الإصلاح العام كانت المدرسة المثقفة التي قامت في نهاية القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين هي المدرسة القومية التي استنارت بنور العلم والتي أقبلت على الإصلاح بلهفة المؤمنين بالمثل الأعلى، وهي المدرسة التي تخرج فيها مصطفى كامل وسعد زغلول، وهي الأصل في نهضتنا القومية التي بدأت بعد الحرب الكبرى والتي لما تنته بعد من وضع منهاجها القومي الذي يجب أن نعمل له
وكانت هذه المدرسة مؤمنة للمثل العليا في الدين والخلق النصيب الأوفى من تقديرها، بل كان لها من المعايير الدينية والخلقية ما لا نزال نحن في حاجة إلى أحيائه في العصر الحاضر.
دفعها هذا إلى الإيمان بأن وحدة الإسلام ينبغي أن تقوم ضد الغرب وقد أراد أن يعصف بذلك الأيمان العميق الذي حل في أغوار النفس عند الشرقيين عامة والمصريين بوجه خاص. وذلك نفسه تفسير لتلك الوحدة الإسلامية التي دعا إليها الداعون في ذلك الزمن. كان لا يزال هؤلاء وكثير غيرهم يحسنون الظن بدولة الخلافة. لكنهم في نفس الوقت الذي كانوا يحتفظون فيه بعلائق المودة والرحمة بالدولة التي كان عليها أن تحفظ تراث المسلمين - في نفس ذلك الوقت كانت آثار أقلامهم تحيي الشعور القومي عند المصريين. وما تجيّل هذا الجيل حتى نبتت فكرة أساسها الدفاع عن الوطنية المصرية أمام الأتراك والمتتركين. فدعا الجيل الذي عاش قبل الحرب الكبرى إلى أن تكون مصر للمصريين. وأنت تلمح هذين الوجهين من وجوه القومية المصرية في حياة مصطفى كامل وأنت تلمح الوجه الأخير ظاهراً جلياً في حياة سعد زغلول، ولو أن مصطفى كامل عاش إلى ما بعد الحرب(290/36)
العظمى لدعا إلى ما دعا إليه سعد
أحمد خاكي(290/37)
التاريخ السياسي
أسباب التسليم
للدكتور يوسف هيكل
في ميونخ هزمت الديمقراطية آلم انهزام، وانتصرت الدكتاتورية أعظم انتصار. فخسرت فرنسا وبريطانيا نفوذهما السياسي، وتضعضع مركزهما الدولي، وانتقلت السيادة الأوربية، في هذه الأيام على الأقل، من يدهما إلى يدي الهر هتلر والسنيور موسوليني. لذلك نعت اتفاق ميونيخ بأنه (اتفاق الذل والهزيمة) ووصف بأنه (الحد الفاصل بين عالمين). فما هي العوامل التي أرغمت فرنسا على قبول هذا الانهزام؟ وما هي الأسباب التي دعت المستر تشمبرلن إلى التسليم لمشيئة الهر هتلر؟.
على أثر اتفاق مونيخ ثار الرأي العام في تشيكوسلوفاكيا ساخطاً على فرنسا، ومتهماً إياها بالخيانة، وملقياً عليها مسؤولية ما أصابه من انهزام وذل وفقر، وما أصاب بلاده من تمزيق وضعف. وأصبح الشعب التشيكوسلوفاكي يبغض الحكومة الفرنسية، صديقته الحميمة، بغضاً لا مزيد عليه. حتى أن الظواهر الفرنسية، من مؤسسات علمية وطائرات وسيارات، في تشيكوسلوفاكيا، التي كانت قبل اتفاق مونيخ تثير احترام الشعب التشيكوسلوفاكي لفرنسا وإعجابه بها، أضحت بعد اتفاق (الذل والهزيمة) تثير البغض لحكومة باريس والحقد عليها. وعمل الشعب التشيكوسلوفاكي وحكومته على الابتعاد عن فرنسا، وقطع الصلة بها، وطمس آثارها في بلاده. ولتحقيق ذلك أبدلت البلديات أسماء الشوارع الفرنسية بأسماء تشيكية وألمانية، وألغت حكومة براغ تدريس اللغة الفرنسية في مدارسها كلغة إجبارية، واستعاضت عنها باللغة الألمانية، وقطعت عن المعاهد العلمية الفرنسية في بلادها ما كانت تقدمه لها من مساعدات مالية. واستبدلت دور السينما التشيكوسلوفاكية بالأفلام الفرنسية أفلاما ألمانية. . .
فهل كان الرأي العام التشيكوسلوفاكي مصيباً في اعتقاده خيانة فرنسا له؟
منذ اشتداد المشكلة التشيكوسلوفاكية ورجال الحكم في باريس يعلنون أن فرنسا ستقف بجانب حليفتها. ولتأكيد ذلك اتخذت الحكومة الفرنسية، حين اشتداد الأزمة السياسية بين برلين وبراغ، إجراءات حربية واسعة المدى. وكان كل شيء، النية والعزم والعمل، يدل(290/38)
على أن الحكومة الفرنسية جادة في قولها، لا تود ترك حليفتها تذهب ضحية اعتداء ألماني. وكان ذلك رأي الجيش في فرنسا أيضاً، إذ أن رئيس أركان حرب الجيش الفرنسي ختم التقرير الذي قدمه لحكومته بقوله: (إن الصعوبات كثيرة ولكن يجب أن نمشي)
وبينما كانت فرنسا جادة في استعداداتها الحربية للدفاع عن تشيكوسلوفاكيا، أعلمتها وزارة خارجية إنكلترا أن آلاف الرسائل التي تلقاها المستر تشمبرلين من سائر أنحاء الممالك المتحدة، تحتم عليه إنقاذ السلم على أي حال، وأنه يعتبر ذلك دليلاً على أن الرأي العام البريطاني غير مستعد لخوض غمار الحرب من أجل تشيكوسلوفاكيا. فأدركت الحكومة الفرنسية أنها لن تستطيع الاعتماد على الحكومة الإنكليزية، وأن ثباتها قد يكون مقامرة خاسرة. ووجدت نفسها في آخر الساعة في ظروف لا تمكنها من الإصغاء إلى رأي الجنرال كاملان، فاضطرت إلى التسليم، وإلى أن تسير مع إنكلترا موافقة على ما عزم عليه المستر تشمبرلين. لأن القوى الفرنسية وحدها، مع عظم أهميتها، لا تستطيع مقاومة القوى الهائلة المتأهبة للحرب في بلاد الدكتاتورية
وأما سياسة حكومة لندن، وتصريحات رجالها فكانت تدل على أن الحكومة البريطانية لا تريد الوقوف بجانب حكومة براغ، مدافعة عن حقوقها، وصادة التوسع الألماني في أوربا الوسطى.
بل كانت هذه السياسة، وهذه التصريحات دالة على أن حكومة لندن عازمة على عدم خوض غمار الحرب، وعلى تسوية النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي بأي ثمن كان، تلافياً للحرب، على رغم ما في ذلك من انهزام شنيع وأخطار فادحة لها ولحليفتها فرنسا
لم يضحَّ المستر تشمبرلين في مونيخ بما أوجدت السياسة الفرنسية خلال عشرين عاماً من قوى دفاعية فعالة ضد الاعتداء الألماني، ولم يُمكن رئيس وزارة إنكلترا، الهر هتلر من السيطرة على أوروبا بتسليمه بمطالبه في تشيكوسلوفاكيا، حباً في السلام فقط، بل هناك أسباب قاهرة دعته إلى هذا التسليم. وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين: الأول منهما يتعلق بمسائل حربية، والثاني يتصل بعوامل نفسية نفعية
إن الدولة الكبرى الوحيدة التي نزعت فعلاً سلاحها فيما بعد الحرب العظمى هي بريطانيا العظمى. ويرجع ذلك إلى سياسة حزب العمال، الذي كان يرأسه المستر رمسي مكدونالد.(290/39)
وكان المستر مكدونالد يأمل أن تحذو الدول الكبرى حذو بلاده فتنزع سلاحها غير أن أمله لم يتحقق، ففرنسا لم توافق على نزع سلاحها لأنها كانت واثقة أن في نزعه خطراً على سلامتها وخطراً على أوربا أيضاً، لأن الدول الأخرى لن تنزع سلاحها. وبالفعل فإن إيطاليا الموسولينية أخذت تبذل كل قواها في التسلح على أنواعه، وتبعتها هذه الخطة ألمانيا الهتلرية. فأصبحتا أعظم الدول الأوربية تسلحاً. فسياسة نزع السلاح العملي التي سار عليها المستر رمسي مكدونالد في إنكلترا أدت إلى إضعاف بريطانيا العظمى حربيا، وإلى تشجيع الدول الدكتاتورية على التسلح العظيم
وبرغم أن بريطانيا العظمى قد ابتدأت في التسلح منذ أن تسلمت الحكومة القومية إدارة سياسة البلاد فأصبح لا يستهان بقوى سلاحها، فإنها لا تزال غير متسلحة التسلح الكافي الذي يمكنها من خوض غمار الحرب
وزيادة على ذلك فإن مدنها وسواحلها خالية من التحصين ضد الغارات الجوية. فهذه المدن وهذه السواحل تكون هدفاً لغارات الطائرات الألمانية، فيما لو نشبت الحرب العالمية من جراء المشكلة التشيكوسلوفاكية، وتوقع العدو فيها أضراراً فادحة. . .
ثم إن الحالة في المستعمرات الإنكليزية غير هادئة؛ وكانت حكومة لندن تخشى أن تحدث اضطرابات في بعضها، وتشب نار الثورة في الآخر، إن هي اشتبكت في حرب أوربية فتصبح هذه المستعمرات سبب ضعف لها، بدلاً من أن تكون عامل قوة
وبينما كانت الوزارة البريطانية في وسط معمعة الأزمة التشيكوسلوفاكية، أبلغت دائرة استخباراتها المستر تشمبرلن سرا أن الحكومة اليابانية متأهبة لاجتياح الأملاك الإنكليزية في الشرق الأقصى حال اشتباك القوى الإنكليزية والفرنسية في حرب مع ألمانيا. ولهذه الغاية كانت اليابان قد أبقت القسم الأعظم من أسطولها بمعزل عن الحرب الصينية. وهو، في تلك المياه، يضارع في القوة أسطول إنكلترا أو الولايات المتحدة. وكانت اليابان تفكر في إيقاف حربها الصينية، حين وقوف حرب أوربية تشترك فيها بريطانيا، وإبقاء أقل من نصف مليون من الجند في القسم الذي افتتحه من الصين للمحافظة عليه، والزحف بجيش عظيم مدرب نحو الجنوب، والانقضاض على هنغ كنغ وسنغافورة ومقاطعات مالاي والهند واستراليا، وضربها ضربة قاسمة بسرعة لا تدع مجالا للدفاع عنها.(290/40)
وقد أدرك المستر تشمبرلن أن الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق، وإبطال الخطة اليابانية، فيما لو وقعت الحرب، هو إقناع الولايات المتحدة بإرسال أسطولها إلى المحيط الباسيفيكي ليكون رادعا لليابان عما تبغي الإقدام عليه. غير أن الولايات المتحدة أظهرت حينئذ أنها لا تريد العدول عن خطة الحياد، والابتعاد عن المشاكل الأوربية.
ويريد بعض الكتاب السياسيين تعليل تسليم بريطانيا وفرنسا في مونيخ، إلى اعتقادهما أن روسيا لم تكن عازمة على دخول الحرب بجانبهما، بل إن غرضها كان إيقاد نار الحرب دون أن تصطلي بلظاها، رغبة منها في إشعال لهب الثورة. وهذا القول خال من الصحة، لأنه إذا غضضنا النظر عن تصريحات المسؤولين في موسكو بعزمهم على تنفيذ واجباتهم نحو تشيكوسلوفاكيا إذا قامت فرنسا بواجباتها نحوها، نرى أن مصلحة الروسيا كانت تقضي عليها بدخول الحرب بجانب بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا، لضمان انتصار الدول الديمقراطية ضد الدول الدكتاتورية. أما تمكين الدول الدكتاتورية من الانتصار على بريطانيا وفرنسا فمعناه هيمنة ألمانيا التامة على أوربا. ومعناه أيضاً فسح المجال للجيوش الألمانية للهجوم على بلاد الروس وتمزيقها، وتحقيق منهاج الهر هتلر من نزع أوكرانيا وغيرها من المقاطعات الروسية وضمها إلى الريخ
أما العوامل النفسية النفعية التي ساعدت على التسليم في مؤتمر مونيخ، فمنها أن الرأي العام البريطاني في الممالك المتحدة وفي الممتلكات البريطانية كان ضد الحرب، لا حباً في السلم فحسب، بل اعتقاداً منه أن الخلاف بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا لا يمس بريطانيا وممتلكاتها ولا يؤثر على مصالحها. . . ومنها أن رئيس وزارة إنكلترا المستر تشمبرلن، شيخ جليل، يعتقد إمكان التفاهم مع الدول الدكتاتورية، ويحب السلام الأوربي، ويرغب في تحقيقه بأي ثمن كان. . .
أمام هذه الوضعية الحربية التي تحذر من خوض غمار حرب أوربية، وإزاء هذه النفسية التي ترغب في اجتنابها، اضطرت الحكومة الإنكليزية إلى عدم المغامرة في حرب أوربية. وقام رئيس وزارتها بإقناع فرنسا بضرورة التريث وبذل الجهود في حل الخلاف الألماني التشيكوسلوفاكي بالطرق السلمية. ولأجل ذلك قرر المستر تشمبرلين حين اشتداد زيارة الهر هتلر طائراً وبذل الجهود التي عرضناها في مقالات سابقة، لإقناع زعيم ألمانيا بحل(290/41)
قضية اْلسوديت سلمياً. وللوصول إلى هذا الحل تساهل المستر تشمبرلين مع الهر هتلر إلى حد التسليم بكل ما طلب وفرض
وقد ظن المستر تشمبرلين أن إرضاء زعيم ألمانيا في مونيخ يزيل أسباب الحرب ويوجد السلام المنشود، وأنه باتباع سياسة (تهدئة الخواطر) يسود التفاهم وتعم الطمأنينة. فهل نجح المستر تشمبرلين في سياسته أم أن هذه السياسة أكثرت المشاكل الأوربية وعقدتها وجعلت وقوع الحرب أمراً لا بد منه؟ هذا ما سنبحثه في مقال آخر
يوسف هيكل(290/42)
مؤلف ثائر وموسيقار نابغ
مكسيم جوركي
يهدم الحكم القيصري
مبلغ تأثير أديب شعبي في حياة أمته
للأستاذ محمد لطفي جمعة
منذ بضعة أشهر، قضى في الستين من عمره شاليابين الممثل الروسي الأشهر، وكان أخلص أصدقاء جوركي، وقسيمَ حياته في شبابه وكهولته، ولجوركي فضل تحويله من نزعته الأرستقراطية إلى المذهب الاشتراكي. وخلف شاليابين فيما خلف ذكريات مخطوطة ورسائل منثورة تولى بعض أصدقائه نشرها في مجلة (العهد الجديد). ويمكن لمن يطالع هذه المذكرات والمقولات والقصاصات التي نشرت بعد طيها، أن يجدَ في أدب جوركي وفن شاليابين أدلة قوية على تأثير الأدب في حياة الأمم، وعلى تدخل الفنون والمواهب العقلية في كل ثورة طارئة على المجتمع. وهذا يذكرنا بما كان لسقراط وأفلاطون وسوفوكليس وأوريبيديس في اليونان، ولفيرجيل وإيبكتيت وسنيكا في الرومان، وفولتير وروسو في فرنسا، وإديسون وديفو وهيوم وبوكل وبنتام وكارليل في إنجلترا، وتورجنيف وجوجول ودوستيوفسكي وتولستوي وجوركي في روسيا
زعم بعض الدعاة أن جوركي نقم على صديقه القديم لينين بعض طرائق تفكيره ووسائل حكمه، وأنه غادر روسيا غاضباً ولم يعد إليها إلا بعد موت لينين؛ ولكن هذا النبأ كاذب، فإنهما عاشا وتعاشرا وافترقا على أصفى الود؛ وإنما أراد لينين بسفر جوركي إلى الخارج أن يكون بمثابة السفير العقلي ليفيد الروس من مجده الثابت في أذهان غرب أوربا، بينا هو كاتب عالمي يقوي جانب لينين بانضمامه ويعتز به. وقد ثبت من الوثائق التي أظهرها شاليابين أن كتب جوركي كانت تطبع وتنشر بالملايين في حقول روسيا وسهولها وبيوتها ومدارسها ومصانعها ومعاهدها أثناء غيبته في أوربا الغربية، تلك الغيبة التي عللوها بالجفوة بينه وبين لينين. ولو كان جوركي غاضباً أو مغضوباً عليه لم يكن ليستمتع بهذه الشهرة النادرة فقد أخرجت مطابع لينيجراد وموسكو وساراتوف ونيجسي نوفجورود في(290/43)
سنتي 1924 و 1925 أكثر من أربعة ملايين نسخة من كتبه (المتشردون وكونولو وماريا المجدلية وتوماس جودوريف). وقد حبب جوركي إلى قلوب قرائه استقلاله في الأدب وغيرته على تكوينه الذاتي فقد أدب نفسه وربى عقله ولم يكن له أستاذ غير نفسه. لم يكن أناتول فرانس أول كاتب عظيم طلق اسمه، وخلعه وقذف به وتبرأ منه لثقله وعدم انسجامه وهو (تيبو) اسم سيئ الرنين في الأذن الفرنسية المرهفة الحس، وكذلك كان اسم جوركي مكسيموفتش بنشكوف، فاختصر الاسم ودفن اللقب وأحل محله جوركي ومعناه (ذو الغضاضة أو المرارة) وقد روى جوركي تاريخ أهله وترجمة حاله في طفولته وشبابه في رواية توماس جورديف. وإنه لشبيه بكل العظماء في اليتم، فكان يتيماً لطيماً، لفظه بيت الأسرة وتلقفته حوانيت المعلمين، وأركان الشوارع وسفائن الملاحة على نهر فولجا السحري الذي كرر ذكره في كتبه وخلَّد صور الحياة على ضفافه في قصصه الأولى، ومعظم أشخاصها من المفاليك والصعاليك والمنبوذين والمحاويج الذين علقوا بالنهر من قريب أو من بعيد. وتمتاز تلك القصص بالصدق لأنها مغمورة بالبؤس والضراء وخشونة الحياة وشظف العيش والإرغام على الصبر وتحمل المكاره التي حفت بها الدنيا. وتلقي التعليم الأول على يَد طاهٍ كان في بداية أمره من رجال الحرب، ثم وقف أمام الكانون يعد الطعام.
وطلب جوركي العلم في قازان والتمس العيش في مخبز وباع الفاكهة الفجة والناضجة في الأسواق. ويرجع إلى هذا العهد تلقين جوركي مبادئ الثورة الاجتماعية عن رجال ونساء كانوا يتخذون أزياء غير أزيائهم ويندسون في ثنايا المجتمع ليدعوا إلى الإصلاح. فيكون أحدهم أستاذاً في الجامعة أو طبيباً أو مهندساً ولا يأنف أن يستخفي في مباذل خباز أو عَجَّان أو خزاَّف. وقد عرض لجوركي أثناء تلك الفترة ألوان من المِحَن كاحتقار المثل العليا التي يخلقها الخيال - قصة (عشرون رجلاً وامرأة) - وسهولة الاتصال بالنساء واقتراف الجرائم في سبيل سد الرمق ومقاومة الجوع ولو بالقوت الضروري، وامتزاج الميول الجنسية بالحاجة المادية، وعجز الفاقة والشهوة عن خنق المواهب الكامنة في نفوس النوابغ والتي تظهر لأسباب طارئة تفِهة. فإن جوركي وهو في أشد حالات الضنك وأحط درك الاجتماع، كان مشتغلاً بحاضر العالم ومستقبله ومنابع الخير والشر في المجتمع(290/44)
ووجوب خدمة الإنسانية بأسرع ما يستطيع وبكل ما يملك من عقل وخلق وإرادة. كان جائعاً طريداً معدماً مدقعاً، ولكنه كان مفكراً وثائراً وحائراً، فلم يقف جوعه في طريق عقله، لأنه كان يشعر بامتلائه بما قرأ وما رأي وما سمع، وكان يبغض من أعماق قلبه منظر الآلام وأخبار الشقاء وترديد أنَّات التوجع، لأن حسه المرهف لم يطق تحملها، فما باله بالسخرية تصدر عن القوي من الضعيف والحاكم من المحكوم، والغني من الفقير، وبالاعتداء والتعذيب وإهراق الدماء. كان إذا قضت عليه الأحوال برؤية لون ما ألوان الأسى يحزن ثم يغضب ثم يثور، فإذا لم يجد من يشفي غليله انهال على نفسه ضرباً كنا يضرب الفلاح حماره. وقد أضرت به الفاقة فتعلق بأهداب الموت، ولكنه اتصل بتولستوي عن طريق كتبه وتلاميذه. وأخذ يكتب في نصف العقد الثالث حوالي سنة 1893 فاكتشفه كورلنكو فتبناه وأعانه. وكورلنكور من أكبر كتاب روسيا، غير أنه راح فريسة قسيس روسي خبيث حبب إليه الآخرة وقبح له الأدب والفن فأحرق مخطوطاته في باريس إرضاء لرجل الدين الذي تكشف عن جاسوس قيصري دسته عليه الحكومة لتسلب شعوره وتتركه لعبة في أيدي رجال الخفية. بيد أن جوركي أدرك كورلنكو قبل أن يصيبه الخبال فجنى من ثمار نبوغه وترسم خطاه في التحرر من قيود البيان وتبع المدرسة الجديدة التي تجعل للمعاني المكان الأول من ذهن الكاتب. وفتح له كورلنكو مغاليق الصحافة الأدبية. فأشتهر كتابه الأول في ختام الثلاثين من عمره ولم يكف عن التأليف والنشر بعد ذلك ثلاثين عاماً. ولم يخلع مكسيم جوركي ثياب الفلاحين ولم يبدل من طريقة عيشتهم. وكان وجهه بتقاطيعه وتقاسيمه الموجيكية يسحبه إلى الفطرة الروسية سحباً. ولا عجب ولا غرابة فقد كان جزءاً من تلك الخليقة الموسكوفية والسليقة السلافية أشبه الرجال بليو تولستوي. يقول شاليابين: (إلى تلك الفترة ترجع تلك اللوحة الزيتية العجيبة التي أنتجتها مواهب صديقه ريبين، فقد صور جوركي في بذلة فلاح مديد القامة بارز الوجنتين صغير الذقن قصير الأنف غزير الشعر أشعث المظهر. . . تمثالاً حياً وصورة ناطقة لفتى الريف الروسي في أذكى هيأته وأنبلها. فلله در ريبين الذي خلد ببراعته صورة صاحبه. وكان تسلق جوركي سلم الصيت سريعاً. وقد بَذَّ في صعوده الأمجاد من أمثال تولستوي وجوجول وتورغنيف. وتعليل ذلك أنه نال من نفوس الشعب، فأحبه وعطف عليه، ووثق من مقاصده، وكأنه رآه يخلق(290/45)
ويصنع على عين أمته فلم يكن شيء من حياته خافياً. وكانت الأفئدة مستعدة لتسلم هذا الأثر، ولا سيما أفئدة العمال والصناع الذين ما زجهم جوركي وخالطهم واتصل بهم وعمل على تحريرهم من قيود الفقر والظلم القيصري، ولم يخجل من ذكر حوادث ماضيه واختلاطه أحياناً بالنساء البائسات في حوانيت أو مخازن أو خرائب مهجورة أو على شواطئ البحر وضفاف الأنهار. لأن هذا الذي سمَّاه (الفريسيون) وصغار البورجوازين سقوطا، لم يكن إلا تسامياً عن طريق الألم فكان أحياناً يفكر في حظ الإنسان ومستقبل الحضارة ويحدث نفسه بإحداث أعظم أثر في المجتمع، وهو لاصق إلى فتاة مسكينة تُعد منبوذة في حكم النظام الاجتماعي. وكان شاليابين ولينين من الأصدقاء الذين اتصلوا به في أوربا الغربية حين نزْح إليها منذ ثلاثين عاماً. وعندما حكمت محكمة بطرسبرج على جوركي بالسجن لاشتراكه في مظاهرة البوب جابون احتج تولستوي بخطاب مفتوح إلى القيصر وانضم إليه مفكرون فرنسيون وإنجليز. ونشر في ضحى هذا القرن ذكريات طفولته تقليداً لتولستوي الذي فعل ذلك وكان كلاهما مخلصاً في وصف هذه الفترة من حياته. وكان صدر جوركي ضعيفاً فألزمه الأطباء جزيرة كابري فقصد إليها ولم يكن له زوج وأولاد يرعونه، فإن حياته الأولى في ظلال الشقوة والقلق والفلاكة عدلت به عن اتباع طريق العادة. ولعل تعففه عن النساء في أواسط عمره مكَّن له من مقاومة داء الصدر الوبيل الذي أصيب به في أوائل شبابه، فنفض عن كاهليه غبار المرض في جو تلك الجزيرة الصاحية الضاحكة ذات الألوان البهيجة والظلال الوارفة والأشجار الملتفة والأشعة البنفسجية. وفي كابري زاره الأدباء والعلماء والزعماء ولا سيما لينين الذي كان يهرع إلى تلك الجزيرة ليتخذ منها مغنى وملهى وموضعاً للتفكير والتدبير. ولم يكن جوركي خصم الشيوعية من اللحظة الأولى، ولكنه لم يكن لها باختياره، لأن الشعب تعلق بكتبه، وأعجب بأدبه، فطلب إليه لينين أن يرأس تحرير جريدته فأجاب سؤلهَ. ففاز به لينين ولشد ما كان إعجابه بهذا الفوز، لأن جوركي كان الكاتب الكبير المخضرم، وهو الوحيد بين من عطفوا على الثورة. وكانت تعوقه عن التمادي في نصرتها عقبة عقلية ونفسانية، وهي أنه بنشأته وغريزته يعين الفرد، ويعززه ويعمل على تنميته وتعظيمه والإعجاب به، والثورة الشيوعية تود لو تمحو شخصية الفرد ليندمج في المجموع ويسخر له. وفي هذا المذهب(290/46)
ابتلاع لمبادئ الفلسفة الاجتماعية التي سرت إلى سريرة جوركي وسرائر أساتذته وأصدقائه. ولكن الشيوعيين اعتقدوا أنهم في حاجة إلى كاتب فحل واسم ضخم وثائر عنيف، يقف كالطود وينصب كالعلم ليلتف حوله أولاده وتلاميذه، فلم يبخل جوركي على وطنه بهذه النعمة، وقد روى لي (شليابين هو المتكلم): أن ستالين قال له يوماً في موسكو:
- ما عليك يا ابن مكسيموفتش العزيز!
أليس هذا النظام الذي يحارب الفقر والجهل والمرض وينتزع الشعب المقهور من براثن الفاقة، ويعد مستقبلاً سعيداً لملايين المساكين الذين طال تعذيبهم، وكتبك كلها ناطقة بالحنان عليهم
أترانا نبالغ أحياناً ونطلب المزيد؟ فأعرض عنا قليلاً قليلاً، ولكن لا تتخل عنا. نحن أقرب الناس إليك في سوق هذه الحياة الدنيا (كذا)، ولا أهل لك غيرنا لو تأملت. أما أنا فستجدني أطوع لك من لينين، أي من بنانك. فأنا أعلم أنه كان يحبك حباً جماً، ولا يخيب لك رجاء، وحسنا فعل. . .
فقلت له: ولكنني في حاجة إلى الراحة. فقد بقيت أكتب وأكتب منذ ثلاثين عاماً وأكثر. أما آن لي أن أستريح؟
قال لي: لكن قلمك اخترق قلوب الشعب، فلا يحلو لهم غير الذي تصوغ من درر الفن الرفيع. إن تعلق الشعب بك بعد أن مات تولستوي وتشيكوف، وبعد أَن فرأندرييف أشد من تعلقك بشليابين لحبك موسيقاه وتفانيك في أنغامه
وسألت جوركي في هذا فقال لي: أنا أحبك لذاتك. أنت شيطان الموسيقى الأكبر، ولكن الموسيقى التي تجذبني هي التي سمعتها على ضفاف نهر الفولجا أو في سفائن تمخر أمواهه
محمد لطفي جمعة(290/47)
الشتاء
الشتاء! الشتاء! وماذا تفهم من الشتاء يا ابن مصر الضاحية الضحوك؟ هل تفهم منه إلا أنه أسابيع من عمر العام لا تدري أهي أواخر خريفه أم أوائل ربيعه؟ هل تجد في جسمك غير دفء النعمة، وفي نفسك غير بهجة الأنس، وفي عينيك غير إشراق الجمال؟ أنظر أمامك تر الشتاء الغربي الذي جعله الله شيخوخة الطبيعة، يسلبها الرواء فلا تُعجب، ويحرمها النماء فلا تخصب، ويلقي عليها الهمود فهي سكون خافت وصمت ثقيل، ويلفّها في كفن الثلج نسجته ريح بليل؛ ثم تقشعر الأرض، وتكفهر السماء، وتقع الحياة بين القحط والموت، فتئن بالرعود، وتتأوه بالأعاصير، وتتساقط على الشجر السليب والثرى الكئيب والقرى الموحشة، همّاً في الصدور، وبؤسا في الأكواخ، ورهقاً في العزائم.
إن الشتاء في غير مصر زمهرير جهنم، تتنفسه كما تقول الأساطير فلا يذر من شيء يهبُّ عليه إلا أحرقه بالقُر وأغرقه في الصقيع. أما في مصر فالشتاء في الناس لا في الطبيعة. والشتاء في الناس برد في الدماء، وخمود في العواطف، وقحط في الأنفس. فلو كان كل من على النيل صافي القلب كسمائه، عذب الخلق كمائه، طلق اليد كفيضه، ضافي المعروف كأرضه، لكان هذا الوادي الحبيب جنة الله في الدنيا، أزلفها لجنس من خير الأجناس، خلقه وسطاً بين الملائكة والناس! ولكن. . . وما أسخف الحياة ما دامت فيها لكِن!
ابن عبد الملك
رد على نقد
القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
إذا كانت الأشياء تتبين بأضدادها فقد تبين معنى القديم الذي أردناه لما بينا في المقال الماضي مرادنا بالجديد
إن قديم الإسلام الذي ذكرناه في أولى الكلمتين اللتين نقدهما الأستاذ قارئ هو القديم الذي نحفل ونفخر به والذي لا نرى سواه جديراً بالاستمساك به والذود عنه. لكن قديم الإسلام ليس مرادفاً من كل الوجوه لقديم المسلمين. فقديم المسلمين هو كل ما شمله تاريخهم مما(290/48)
يسر ويسوء، ومما يطابق أو يخالف الإسلام. لو كان المسلمون معصومين من الخطأ ومتابعة الهوى، أولو كانوا مع عدم عصمتهم لم يخطئوا إلا خطأ المجتهد، لكان قديم المسلمين هو وقديم الإسلام سواء، ولكان حال المسلمين اليوم شيئاً آخر غير ما هم فيه. لكن المسلمين بعد أن فتح الله البلاد على سلفهم الصالح وخلفوه فيها فتنتهم الدنيا كما فتنت من قبلهم، وحاولوا أن يتحللوا من قيود دينهم، وتهاون أولو الأمر في إقامة حدوده فزلت الأقدام بعد ثبوتها، وتداولتهم الأيام حتى صاروا إلى ما هم عليه
ومن الإفك العظيم الذي يأفكه الغرب أن ينسب ما هم فيه إلى دينهم الذي إليه ينتسبون. لو كان ما هم فيه نتيجة العمل بالإسلام ما كان هناك مفر من اتخاذهم حجة عليه. لكنهم صاروا إلى حاضرهم المخزي بتركهم العمل بالإسلام، فهم حجة له سلبية كما أن سلفهم الصالح حجة له إيجابية، وتمت بذلك حجة الله على الناس. سلفهم الذي نزل فيه الدين استمسك بالدين فدانت له الأرض فلم تطغه ولم تبطره، وضرب للتاريخ المثل العملي الفرد لحكومة الله في الأرض كيف تكون. فكانت تجربة أجراها الله في الأرض لا يقدر على إجرائها غيره، تحققت بها دعوى الإسلام أنه دين الفطرة التي فطر الله عليها الناس، لا يتحقق لهم كمال ولا سعادة إلا به، أفراداً كانوا أو جماعات. وحسبك من كمال الفرد به. تطور النفس الجاهلية إلى مثل نفس عمر وأبي بكر وعلي وعثمان، ومن إليهم من السابقين الأولين، وحسبك من كمال البيئة الإنسانية وسعادتها تطور البيئة الجاهلية به إلى البيئة الإسلامية أيام الرسول الكريم صلوات الله عليه وفترة مذكورة بعد أيام الرسول
ثم أجرى المسلمون أنفسهم لسوء حظهم التجربة الأخرى التي يتم بها إثبات أن ذلك التطور المعجز الذي تطورته النفس البشرية لما خالطها الإسلام، كان حقا نتيجة للإسلام لا لغيره. وآية ذلك أن نزول الأثر إذا زال المؤثر، كما يجري في أي تجربة علمية. وقد كان، فزال عن النفس كمالها ومن البيئة عزها لما انخدعت عن دينها، وتعطل أثر الإسلام فيها
فتاريخ المسلمين إذن فيه الخير وفيه الشر، فيه تحقيق الإسلام عمليا وفيه تعطيله. وإذا كان قديم المسلمين يشمل الاثنين بالطبع لأنه عين تاريخهم فإن قديم الدين لا يمكن أن يشترك مع قديم أهله إلا في ذلك الجزء الذي حققوا الإسلام فيه. فقديم الإسلام الذي نقصده والذي قصدناه بما كتبنا من قبل هو أولا كتاب الله وسنة رسوله، وهو ثانيا ما طابق الكتاب(290/49)
والسنة من تاريخ المسلمين
وإذا فهمنا قديم الإسلام هذا الفهم وتم لنا تحديده هذا التحديد وجدنا أنفسنا أمام شيء يزول معه كل معنى للتفرقة الزمنية بين الأمور، فلا يكون هناك محل في الإسلام لفكرة القديم والجديد كما تفهم الآن. إن الإسلام دين الفطرة، والفطرة عند التحقيق لا يتفاوت فيها في دائرة الحق قديم ولا جديد. إنما يكون التفاوت والتناقض بين الحق والباطل. فكل جديد يخالف قديم الإسلام بالمعنى الذي حددناه هو جديد باطل، نصيبه من البطلان بقدر ما بينه وبين الإسلام من خلاف. وكل ما جدّ للإنسان من حق وقف عليه بعد جهل به والحق الذي عرفه الإنسان من قبل سواء، تشملهما الفطرة، ويشملهما الإسلام الذي يشمل بتشريعه وروحه وكنفه جميع صور الحق وسننه في جميع مدارج الحياة، في جميع مظاهر الكون، ما عرف الإنسان منها وما سيعرف، ما قدر له علمه في هذه الدار وما قدر له بعد هذه الدار.
وليس في الوجوديين دين ولا نظام جمع للإنسان الخير كله والحق كله وحذره من الباطل كله إلا الإسلام. والإنسان يستطيع إلى حد كبير تمييز الحق من الباطل في دائرة المحسوس الذي يستطيع إخضاعه لتجاربه العلمية، أما ما لا يستطيع إخضاعه لتجاربه مما يتعلق بحياة الإنسان الروحية فلا سبيل للوصول إلى الحق والخير فيه إلا بإرشاد الله فاطر الفطرة وبهدايته. وقد فعل سبحانه، فضلاً منه على عباده ورحمة بهم أن يهلكوا إذا تركوا وشأنهم فيما يتعلق بحياة الروح، فإن للروح سننها التي سنها الله كما لغير الروح سننه، ولا مناص للإنسان من اتباع سنن الله وإلا كان من الهالكين. فكان من رحمة الله بالإنسان أن مهد الله له سبيل النجاة والفلاح واطراد الرقي الروحي بالأديان التي أرسل بها رسله تتري حتى ختمها سبحانه وأتمها للإنسانية في الإسلام
والعجيب الغريب من أمر الإنسان في عصرنا هذا أنه يحرص على اتباع سنن الله في عالم المادة ولا يحرص على سننه في عالم الروح. هذا عجيب لأن الذي يقدر سنن الفطرة ويبحث عنها ليستمسك بها في ميدان ينتظر منه أن يقدرها ويبحث عنها ليس ليستمسك بها في غيره من الميادين. فإذا كان فاطر الفطرة سبحانه قد أنزل للإنسان هداية مبينة على سننه في الميدان الذي لا يملك الإنسان إجراء التجارب العلمية فيه كان ذلك أدعى لاغتباط(290/50)
الإنسان بتلك الهداية من باب أولى. وكان الأقرب إلى العقل أن يحرص الإنسان عليها إن كان مؤمناً بها عن يقين، فإن لم يكن كان الأولى والأقرب إلى العقل أن يسارع الإنسان إلى بحثها وفحص منعاتها الدالة عليها ليصل فيها إلى حكم صحيح وقرار صريح. لكن الإنسان لا يفعل شيئاً من هذا. فلا المؤمن يحرص على الدين كما ينبغي ويدعو إليه كما ينبغي، ولا الشاك يسرع إلى فحص الدين كما ينبغي ليصل فيه إلى قرار صحيح. وأغرب من هذا أن يسمح المؤمنون وهم كثير للشاكين وهم قليل في البيئة الإسلامية أن يبذروا شكهم وينشروه عن شمال ويمين، في نفوس النشء من بنات وبنين
إن البيئة الإسلامية تحسن الدفاع عن نفسها إذا هوجمت في دينها صراحة ومواجهة من أمام، لكنها لا تفقه أن الأمر يحتاج إلى دفاع حين يأتيها الخصم مداورة ويهاجمها في الإسلام بحركة التفاف: لقد تركت لدعاة الغرب الحبل على الغارب يقولون ما يشاءون ويبثون في نفوس صغارها وناشئيها ما يشاءون ما داموا يسلكون إلى ذلك طريق التلميح والإيحاء أو ما داموا لا يهاجمون التوحيد صراحة والقرآن. فلما غر كبيراً فيهم الغرور وظن أن الأوان آن لمهاجمة الدين مواجهة لا مداورة هبت الأمة كلها تذود حتى كادت تبطش به، فلما انزوى عادت إلى نومتها الأولى كأن لم يبق هناك من حاجة إلى اليقظة والانتباه
وكان سلاح دعاة الغرب في مهاجمة الإسلام في صميم بلاده ونفوس أهله هو هذا الأدب الذي يسمونه بالجديد.
والأستاذ (قارئ) يحدثنا أن الذين يسمون الآن بأصحاب المذهب الجديد كانوا في أول الحركة أو منذ ثلاثين سنة رجعيين يدعون إلى الرجوع في النمط الأدبي إلى عصر الجاهلي أيام كانت اللغة خالصة، وكان أدبها خالياً من التكلف في الغزل والمحسنات اللفظية. لئن كان ذلك كذلك فما أظن حركتهم تلك في الأدب كان لها داع ما، لأن كل ما وصفها الأستاذ به وقال إنها تطلبه كان متحققاً بالفعل على يد حافظ وغيره إن لم يكن قبله
ويقول الأستاذ إن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي اتفاقاً (فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية) ولسنا ندري كيف يمكن أن يعين الأدب الأوربي على تحقيق تلك الرجعية التي(290/51)
وصفت. وإذا صح أن بعضهم كان كما قال، فأكثرهم لم يكن كذلك أي لم يقرأ الشعر الأوربي اتفاقاً ولم ينصره لأنه يؤيد مبادئه الرجعية، ولكنهم كانوا ممن درسوا الأدبين، وأوحى إليهم الأدب الأوربي مبادئهم التي دعوا إليها خصوصاً ما سماه: (الرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره، وأن يباح له القول أكثر مما كان يباح للمتأخرين). ولست أدري ماذا كان محرماً على المتأخرين، وأردا أصحاب الجديد في أول الأمر أن يباح لهم، وإنما الذي أدريه أن مبدأهم ذلك قد خرج بهم عن الحد، وأدى إلى هذا الأدب الفاجر الذي يستطيع الأستاذ أن يضع يده فيه على ما شاء، والذي يعتذر عنه بأن هناك أفجر منه في القديم
إن في القديم أفجر منه من غير شك وأكثر منه أضعافاً كثيرة؛ لكن التفاوت في فحش القول، أظن الفضل فيه يرجع إلى القانون، والكثرة راجعة من غير شك إلى تراكم القرون وتعدد الأمم وكثرة الناس وعظم نسبة قائلي الشعر فيهم ممن يحسنه ومن لا يحسنه. فليت شعري إذا حسب أثر ذلك كله ماذا تكون النتيجة وماذا يبقى من دفاع الأستاذ؟ إنها نقطة طريفة، لكن مهما تكن نتيجتها فإنها لا قيمة لها في الموضوع. فالقديم الذي ندافع عنه والذي إليه قصدنا من قبل ليس هو القديم الزمني الذي ذهب إليه الأستاذ. ليس هو قديم المسلمين برهم وفاجرهم كما توهم الأستاذ خطأ، ولكنه قديم الإسلام بالمعنى الذي فصلناه. وإذن فنقده الذي وجهه إلينا وبناه على المعنى الزمني للجدة القدم نقد ذاهب لا يتوجه إلينا منه شيء
إن التفريق بين المذاهب والأعمال بحدوثها وقدمها كما يفعل كثيرون هو غير معقول، إنه تفريق تافه لأنه مبني على شيء عارض هو الزمن يأتي ويمر من غير أن تكون له صله بحقائق الأمور. إن قديم اليوم بمعناه الزمني هو جديد أمس قد مضى، وجديد اليوم هو قديم غد سيكون. فالجدة والقدم شيء عارض متغير لا وزن له في قياس قيم الأشياء اللهم إلا المادي منها، وليس في كلها يطرد معناه. أما الأمور المعنوية التي تتصل بحياة الإنسان الروحية وصميم إنسانيته فلا بد لقياسها والمفاضلة بينها من معيار آخر ثابت على الزمان هو معيار الحق والصدق والخير. وقد أنزل الله الدين ليهدي الإنسان إلى ما لا يستطيع الاهتداء إليه من هذا ما دامت حياته ونجاته وإنسانيته متوقفة عليه. من أجل ذلك تركنا(290/52)
المعيار الزمني الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقررنا ما كنا نظن أنه بديهي واضح من أن المعيار الثابت للحق والخير يجب أن يلتمس لا في جديد الغرب ولكن في قديم الإسلام أي في الإسلام كما أنزله فاطر الفطرة على الإنسان الكامل والرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه
لقد قررنا هذا الأصل من قبل ولا نزال نقرره. قررناه حين كتبنا نقدنا التحليلي لكتاب الأدب الجاهلي وأخذنا على صاحبه فيما أخذنا نشره مجون الأدب الغربي فيما كان يلخص للهلال من روايات فاجرة كرواية الزنبقة الحمراء، ونشره مجون الأدب العَربي فيما كتب عن أبي نواس ووالبة ومن إليهما في حديث الأربعاء. وهاهو ذا صاحبه يدعوا في أحدث كتاب له إلى الأخذ بحضارة الغرب كلها خيرها وشرها وحلوها ومرحها كأنما أراد أن يصدق ما قلنا في كلمتنا الأولى التي انتقد الأستاذ (قارئ) من أن (الذين يسمون أنفسهم أنصار التجدد يؤمنون بالغرب كله ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا ولو خالف الإسلام في أكثره). فنحن حين صورنا الخلاف بين أنصار قديم الإسلام وجديد الغرب كما صورنا إنما كنا نصف واقعاً مشهوداً، والأستاذ (قارئ) يصف من حركة الجديد تاريخاً غير مشهود مر، على قصر الفترة التي كانت منذ بدأ، وصار إلى هذا الجديد الذي يغلب على الحركة الآن وغلب عليها من زمان - بالنسبة إلى عمرها - طويل
والأستاذ (قارئ) يجعل للأسلوب والطريقة واللغة مكاناً كبيراً في حركته التي وصف، وإني أعرف أن الأسلوب واللغة والطريقة هي مدار الخلاف بين من يعرفون بأنصار الجديد وأنصار القديم كما أعرف للأسلوب والطريقة واللغة مكانها في الأدب. لكني لا أحلها مع ذلك المحل الأول، وإنما أجعل لروح الأدب المقام الأول في الحكم عليه. وأنا في ذلك تابع غير مبتدع، تابع للقرآن مهتد بما سنه للناس
فلحكمة كبرى جعل الله معجزة دينه معجزة أدبية باقية على الدهر وجعل رسوله أفصح الناس. وليس أصغر ما في تلك الحكمة التنويه بالأدب والتنبيه إلى أن قوته الهائلة ينبغي أن تكون عوناً للحق والخير على الشر والباطل في حياة الإنسان، فهذا تشريع منه سبحانه وهدى للناس في الأدب كان ينبغي عليهم أن يتبعوه. ولقد اتبعوه بالفعل في عهد الرسول وفي أكثر عهد الخلفاء الراشدين، ثم جاء عمر بن أبي ربيعة الذي لو أدرك عهد عمر بن(290/53)
الخطاب لجلده ونفاه ولكف من غرب مجونه الذي فتح في الأدب باب الشر والمجون على الناس. وصلوات الله على رسول الله لقد نبه الناس لو كانوا ينتبهون: نبههم إلى أن الشيطان يئس أن يعبد في أرضهم ورضي أن يطاع فيما يحقرون من أعمالهم. وكان مما حقروا القول الماجن ما داموا لا يرتكبون بالفعل ما يفترون فيه. وظن ابن أبي ربيعة أنه إذا قال ولم يأت شيئاً مما قال فليس عليه عند الله وزر، ونسي حديث الرسول الذي أنبأ فيه الناس أن الله قد تجاوز لهم عن حديث النفس ما لم تعمل أو تكلم، والحديث الذي نبه فيه صلوات الله عليه الناس أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ووقع ابن أبي ربيعة في الحرجين واحتمل الوزرين كليهما فوصف حديث نفسه كلاماً تبعه فيه العرجي ومن لف لفه فانحرفوا بالأدب العربي عن الطريق الذي أختطه له القرآن إلى الطريق الذي تمناه الشيطان لينفذ منه إلى النفس المسلمة يفسدها قليلاً بعد قليل وجيلاً بعد جيل
فلأدب العربي ككل أدب إنساني يجب أن يحكم عليه أول ما يحكم لا بأسلوبه ولا بطريقته ولا بلغته. ولكن قبل كل شيء بأثره في النفس أي بأثره في حياة الفرد وفي حياة المجموع. فإن كان أثره صالحاً يعين النفس على رقيها ويهديها إلى ربها فهو أدب صالح كريم، وعندئذ تكون بلاغته وما يمكن أن يتصف به من مميزات أخرى حسنات له توضع في ميزانه. أما إذا كان سيئ الأثر يثير في النفس شهواتها ويصرفها عن هداها فهو أدب فاسد غير كريم مهما ملك صاحبة من عنان اللغة ومهما امتاز في الأسلوب، بل مميزاته في اللغة وفي الأسلوب تكون عندئذ من سيئاته لأنها تجعله أقدر على إفساد نفس الإنسان. من أجل ذلك جعلنا الأدب فيما كتبنا قسمين: قرآنياً وغير قرآني، أو أخلاقياً وغير أخلاقي، حسب أثره في النفوس لا فرق في ذلك بين القديم منه والجديد
والأدب الجديد كان له أسوأ الأثر في النفس المسلمة خصوصاً النفس التي لا تعرف من دينها ما تستطيع أن تدفع به عادية ذلك الأدب على مكان الدين منها ليفتنها بجديد الغرب عن قديم الإسلام.
ولقد قلنا من أجل ذلك إن المسألة بين القديم والجديد هي في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين، فظن الأستاذ أننا نريد أن الجديد يريد أن يحل المسيحية محل الإسلام، وليس كذلك.(290/54)
إن المهم ليس هو ذات ما يتخذ بدلاً من الإسلام، ولكن هو مجرد الانصراف عن الإسلام. وماذا يهم إذا انصرف المسلم عن الإسلام أي شيء اتخذ أو على ماذا أقبل؟ إنه إذا استدبر الإسلام لا بد مستقبل غيره؛ وإذا أحله من نفسه المحل الثاني فهو لابد محل غيره المحل الأول؛ وإذا عصاه فهو لا بد مطيع سواه. هذا الذي يستقبل ويكبر ويطيع بدلاً من الإسلام هو الدين الذي أتخذه أو يتخذه المسلم المفتون بالغرب بدلا من دينه. وليس يهم أدين هو معروف في الأديان أم هوى هو بين الأهواء أم وهم من الأوهام
واستعمالنا لفظ دين بهذا المعنى استعمال عربي صحيح. فالدين في الأصل معناه الخضوع ومن أخص خصائصه العبادة، وقد جعل الله سبحانه طاعة الناس للشيطان عبادة منهم للشيطان في قوله (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً أفلم تكونوا تعقلون). وأوضح أن الناس لم يعبدوا الشيطان عبادة سجود ولكن يكفي من عبادتهم إياه أنهم أطاعوه فأضلهم عن سبيل الله. كذلك قد جعل الله اتباع الإنسان هوى نفسه عبادة للهوى واتخاذاً إياه إلهاً من دون الله (أرأيت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً) (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). فأساس التدين اتباع الدين والخضوع لله طوعاً ما للإنسان خيار فيه. فإذا غلَّب الإنسان على دينه شيئاً آخر يدين له بالطاعة من قلبه فذلك الشيء هو في الواقع دين له بدلاً من دينه الذي ينتسب بالاسم إليه؛ وإذن فنحن لم نُغْرب ولم نخرج عن حدود اللغة ولا عن الاستعمال القرآني حين أطلقنا لفظ الدين على كل ما يحل في قلب المسلم محل دينه. ونحن لم نظلم دعاة جديد الغرب حين قلنا إن جديدهم في الأدب ليس مقصوراً على الأسلوب والطريقة ولكنه في صميمه إحلال دين مكان دين ما دام منحى ذلك الأدب التماس المثل العليا واقتباسها من الغرب لا من الإسلام ولا من القرآن
محمد أحمد الغمراوي(290/55)
استطلاع صحفي (ريبورتاج)
الأندية الأدبية في مصر
(لمندوب الرسالة)
- سأكتب عن الأندية الأدبية في مصر. . .
وأين هي يا أخي تلك الأندية الأدبية التي في مصر؟!
ذلك ما قلته لصديقي الشاعر (الخفيف) وكنا في ندوة الرسالة، وهذا ما أجابني به في لهجة قاسية منكراً أن تكون في مصر أندية للأدب. وهذا أيضاً ما سيقوله جل قراء الرسالة - إن لم يكن كلهم - وسينكرون أن تكون في مصر أندية للأدب. وربما يسألون: ما شأن هذه الأندية؟ ومتى وجدت؟ وأين توجد؟ وما بالنا لا نعرف عنها أي شيء؟. . وهذا هو الذي حفزني للكتابة عن هذه الأندية، وحملني على أن أكشف للناس - بل ولكثير ما الأدباء أنفسهم - عن ناحية مستورة في حياتنا الأدبية، ومؤثرٍ له شأنه وخطره في وجهتنا الثقافية
نعم ليس في مصر أندية للأدب بالمعنى الضخم الذي يوحيه إليك هذا التعبير الضخم، فتتخيل العمائر الشاهقة التي شيدتها الحكومة أو شيدتها الجمعيات الأدبية المنظمة وجعلتها في تأسيسها وفي أثاثها بهجة الناظر ومتعة الخاطر، لتكون مجمعاً لأهل الأدب ومسرحاً لأرباب القلم، كما هو الشأن في الأمم الراقية التي تحترم الفن، وتقدر نتاج الفكر، وإنما الأندية الأدبية في مصر إما مقاهٍ عامة تتسع لغمار الناس وجميع الطبقات، وربما تكون ضَئيلة الرواء تافهة الموقع، وإنما ينزع إليها الأدباء لود قديم، أو لمعنى يتصل بحياتهم المادية والروحية، وإما بيوت لها مجد تالد، وتاريخ حديث يتصل بتاريخ غابر، فأصحابها يقربون أهل الأدب ويفسحون لهم في صدور بيوتهم ويسمرون ويتندرون، ويمتدحون بل ويذمون، ويتوثبون من حديث إلى حديث بين أكواب الشاي وأقداح القهوة
وهذه الأندية على بساطتها لها أثر كبير في حياتنا الأدبية، وإن ما يجري فيها لصُورة صحيحة لثقافتنا ووجهتنا في الأدب والشعر والنقد وكل ضروب المعارف التي نحذقها، والتي لا نحذقها. وأنت لا شك تجهل كثيراً من نواحينا الفكرية وسياستنا الأدبية، ومدى الصلة بين ثقافتنا وأخلاقنا. وأنت لا شك تخطئ كل الخطأ إذا كنت تحسب أنك قادر على فهم أدبائنا حق الفهم من كتاباتهم التي يزورونها للناس، من غير أن تنتقل إلى هذه الأندية،(290/56)
تجول بين جنباتها، وتندمج في جماعاتها، فتحاور وتداور، وتقول وتسمع، وتُرضي وتغضب، وتنفلت معهم من كل قيد، وتخرج على كل وضع، وتكون حاضراً بعقلك وقلبك وعواطفك، حتى تنبسط أمامك النفوس، وتنكشف لك السرائر، ويُعلن كل مخفيّ ومطويّ، فيتبين لك القوم بعقلهم الواعي، وما يسمونه بالعقل الباطن
لقد خرجت منذ عامين برفقة صديق عزيز إلى بساتين القناطر الخيرية في يوم عيد الربيع، فرأينا الناس قد احتشدت هناك على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين طبقاتهم ومراتبهم، ورأيناهم قد خرجوا من وقارهم، واستهانوا بكل ما اصطلح الناس عليه من الأخلاق والتقاليد، واندفعوا في يقظة العواطف، ورغبات القلوب، وشهوات الجسد، ما وسعهم الجهد في ذلك، فكنت أنظر إليهم في فزع وجزع، فمال عليّ صاحبي وهو يقول: لا تفزع ولا تجزع، فإن هذه - لو علمت - هي حال الناس بين الجدران، وتلك طبيعتهم من وراء الحيطان، وثق أن ما يظهر به الناس في الخارج من سمات الوقار ومظاهر الاحتشام إنما هو شيء متكلف مزّور، وإنه ليغطي وجه الحق على كثير من الناظرين. ولو قدر للشمس أن تشرق على جميع الناس، وأذن للحجب أن تنتهك عما وراءها لرأيت الناس في طبيعتهم الصريحة وحقيقتهم الصحيحة، وما حقيقتهم إلا ما ترى يا صاحبي.
وهذا الذي قاله صاحبي في الناس بالأمس، هو ما أقوله في أصحابي الأدباء اليوم، فهم في كتاباتهم قد يحجبون حقيقتهم ويزوّرون في طبيعتهم، ويظهرون في غير لباسهم، توخيا لمصلحة يرجونها أو رهبة لسيطرة القوانين والتقاليد، أو رعاية لروابط الصداقة وصلات المودة بينهم وبين الناس، فتراهم يبدون الرأي في احتراس ويحكمون على الأشياء بقدر، ويخدعون ضمائرهم فيحضون ما ليس بالحسن، وهم على عكس هذا كله في أنديتهم الأدبية، ومواطن سمرهم وصفوهم، صرحاء وضحاء، لا يقتصدون في شيء ولا يبقون على شيء، فتسمع منهم الرأي الصحيح والتقدير الصريح والنقد العنيف، والأحكام القاسية التي تتصل بالآثار وبالشخصيات وتتناول الأفراد والجماعات، وربما يفزعك هذا النقد بأسلوبه، وربما تنكره على أصحابه، ولكنك لا شك ستجد فيه كثيراً من الصراحة المحمودة، والتقدير الحق. وأذكر أن أديباً كبيراً أعرفه كتب مقالا في تقريظ صاحب له في إحدى الصحف، فهول وبالغ ومجد وقدّس حتى طار بصاحبه إلى السماء، فلما قابلته في المساء(290/57)
حيث يجلس مع إخوانه للمسامرة، ذكر لي أن ما كتبه إنما هو تمويه في الحق، وتدليس على الناس، وأن صاحبه ليس في قليل ولا كثير فيما كتب عنه، ولكنها الضرورة قاتلها الله، وللضرورة حكم أقل ما يقال فيه أنه يفصل بين المرء وبين ضميره. ولقد ذكر الدكتور زكي مبارك في مقال نشره منذ أعوام، أن الدكتور طه حسين أسر إليه في مجلس من المجالس أن (شوقي) في رأيه أكبر شاعر في العربية، وأنه كان يود أن يقدم ديوانه للقراء، على حين كان الدكتور طه في ذلك الوقت يذيع في الناس أن (شوقي) لا يد له في الشعر ولا رجل، وأنه شاعر يغني على أطلال القديم، فيغني عنه أضأل شاعر في القديم!!
ومن ثمًّ تعلم أن أدباءنا في مجالسهم شيء، وهم في كتاباتهم شيء آخر. . .
وإلى جانب هذا نجد في أنديتنا الأدبية ناحية مشرقة، فهي مجلس الدعابة البارعة، والروح المصرية المرحة، ولعلك تعلم أن الدعابة إنما هي الجانب المشرق من الحياة، وهي عنوان ما في السرائر المكتومة، ومظهر من مظاهر الأخلاق والثقافة، وعنصر يهتم به الدارسون لنفسيات الأمم وطبائع الشعوب. وليس من شك في أن شخصية الأديب قد تتجلى واضحة مكشوفة في نكتة يلقيها على بساط الشراب، وربما لا يظهر لها ظل في جميع مؤلفاته ولو بلغت ألف كتاب. ولأدبائنا في مناحي الدعابة ذراع رحب، ولسان طويل. . . ولكنهم لا يهتمون أو قل يتحرجون من تسجيل ذلك وإذاعته في الناس، ولا شك أننا فرطنا في كثير إذ أهملنا ما كان يجري في مجالس البابلي وحافظ وإمام العبد وأندادهم، فلم نسجل شيئاً من أحاديثهم. ولم نحفل بنوادرهم وقفشاتهم، على أنها كانت ثروة طيّبة، وناحية حافلة بالأنس والسمر، ومن العجيب أن القدماء كانوا أجدى من في ذلك وأحفل به، ولعل مرجع هذا إلى أنهم كانوا يكتبون للخاصة فكانوا ينطلقون على طبيعتهم فلا يتأثمون من تعبير، ولا يتزمتون من لفظ، ولكنا نكتب لجميع الناس، وكتاباتنا تتصل بمختلف الأوساط، فكان لابد أن نعف عن كل ما يخدش الحياء، ويؤذي الأذن كما يزعمون!
ومن بعد هذا ومن قبله، نجد تلك الأندية تعمل كثيراً في نهضتنا الأدبية، وفي وجهتنا الثقافية، فكثيراً ما تتشاجر الآراء، وتقوم المجادلات بين القوم حول المعركة بين القديم والجديد، أو في المقارنة بين شوقي وحافظ، أو المفاضلة بين طه والعقاد، وقد يخرجون من القول في الأدب إلى الكلام في السياسة وما يجري من التطاحن بين الأحزاب، وفي هذه(290/58)
الأحاديث وأفعالها يفضي كل بما عنده، فتكون الإفادة والاستفادة.
فنحن إذ نكتب عن الأندية الأدبية في مصر، إنما نكشف - كما قلنا - عن ناحية مستورة في حياتنا الأدبية، ومؤثر له شأنه وخطره في وجهتنا الثقافية، ونصور للناس صورة مشرقة بالمرح والصفو يطل منها أدباؤنا بطبيعتهم الصحيحة، وحقيقتهم الصريحة. وموعدنا المقال القادم لنقف عند أول ناد هبطت عليه يوم هبطت على القاهرة، وسأعرف كيف أقنع صاحبي الشاعر (الخفيف) الظريف.
(م. ف. ع)(290/59)
رسالة المرأة
بين المرأة والرجل
هل الشرق شرق والغرب غرب في كل شيء؟
للآنسة زينب الحكيم
كان من بين البلاد التي زرتها أثناء رحلتي الطويلة بلاد كردستان. ولقد كانت من أعظم المخاطرات وأكثرها فائدة، ذلك لأني اكتشفت عالماً مجهولاً للكثيرين. أما ما قمت به من مخاطرات، وما وصلت إليه من دراسات متنوعة فسأكتب عنه في غير هذه المناسبة. وأخص هذه الرسالة بشيء من الأدب الكردي الذي حُببَّت إلى دراسته وتقصيه، لأثبت أنه على قدر ما وجدت تبايناً كثيراً بين الشرق والغرب في كثير من الموازنات التي عملتها، وجدت تشابهاً عظيما بينهما بحيث نستطيع معه تحديد تباين الشرق عن الغرب، أو توافقهما في وجهات لا تحتمل الجدل مثل النواحي العاطفية، والروحانيات، وتصرف المرأة هنا وهناك وإني لذاكرة فيما يلي قصة أدبية، وهي عبارة عن قطعة تمثيلية غنائية عنوانها (الوردة الدامية) من نظم الشاعر الكردي الشاب عبد الله سليمان (كوران) من أهالي السليمانية عاصمة كردستان وقد ترجمتها نثراً إلى اللغة العربية
الوردة الدامية
حوار بين فتى وفتاة:
الفتى - هناك يا فتاتي في ذلك البيت حفلة زفاف ورقص وفرح
ألا تسمعين أنغام الناي، ودقات الطبول المرقصة؟
إلا ترين الزحام الباهر من الرجال والنساء يغنون ويرقصون؟
كم أود أن أسمع هناك رنَّات حليتك الفضية وأنت ترقصين!
هيا. . . بربك، هيّا. . . نلحق بهم إذن
ونرقص ونرقص إلى أن يشبع فؤادي. . .
الفتاة - كلا أيها الفتى، لن أذهب ولن أرقص معك
ما دامت لا تزين رأسي وردة حمراء ووردة صفراء(290/60)
الفتى - يا فتاتي أستحلفك بجمالك ودلالك ولحاظك الساحرة في طريقك إلى عين الماء
انظري إلى الأوراق المتساقطة. انظري إلى الأغصان العارية. إننا في فصل الخريف. . .
أين نحن من الورود؟ ثم لماذا الورود؟
أليست شفتاك المتفتحتان بالبسمة الجميلة أجمل من كل شيء. . . ومن الورود؟
الفتاة - لا يا فتى، لن أذهب ولن أرقص معك،
ما دامت لا تزين رأسي وردة حمراء، ووردة صفراء!
لو كنتَ مانحاً قلبك لي بكليته حقيقة
لاستطعت إحضارهما من حديقة الأمير
وكل ما أطلب وردتان فقط!
يذهب فتى ويغني متمتماً
الفتى - حديقة الأمير. . . بيني وبينها نهر يفيض ويثور، وتحيط به قبائل معادية لا ترحم
إذا ذهبتُ: فالطريق وعر ولا أمل لي بالرجوع
وإذا لم أذهب:
آه!! لن ترقص معي فتاتي، ذات العيون الساحرة
(يبتعد عن القرية شيئاً فشيئاً)
- 2 -
الفتى - توغلت في حديقة الأمير، من أقصاها إلى أقصاها
أما الوردة الصفراء فهاكها. أما الحمراء فلم أجدها وا أسفاه.
لست أدري أترضين الآن أن تراقصيني؟
الفتاة - لا. . . لن أراقصك. . لن أراقصك. . . من غير الوردة الحمراء الجميلة
الفتى - (يفك ياقة قميصه مشيراً إلى الصدر في محل القلب) ألا تقبلين هذا الجرح الدامي، بدلاً عن وردتك يا فتاتي؟
الفتاة - والهفي. . . أأصابك رصاص العدو؟
أتسقط هكذا من شدة الألم؟
إذن ضع رأسك على صدري وأنت تحتضر،(290/61)
ولأبك على قلب افتقدته من أجل وردة
هذه القصة التي تعبر بروعة خيالها عن حقيقة عقلية الرجل الكردي، إنما تعبر ضمناً عن ناحية من نواحي نفسية المرأة الكردية المعروفة بقوة الإرادة والشجاعة والحسن الفائق، والنفسية المرحة السامية، والعقلية الخصبة على جدب معينها العلمي، وقسوة بيئتها وإن عوضها جمال مناظر جبالها، وجودة هوائها، وكثرة ثمارها كثيراً مما تفقده من أسباب الحياة الرغيدة، ونور العلم وميزات المدينة. والمرأة الكردية على غمرة عواطفها أمينة في الحب، قاسية فيه، مضحية إلى الموت، ولكنها صلبة الرأي إلى درجة شاذة انتصاراً لمبدأ أو إخلاصاً لحبيب أو صديق، كما أنها على لطافة خلقها شرسة منتقمة إذا أرادت
هذه القصة من الأدب الكردي أذكرتني بحادثتين وقعتا لرجلين من مشاهير الرجال أذكرهما فيما يلي، حتى نرى أن ليس الشرق شرقاً والغرب غرباً في كل شيء
(1) قفاز
سمعت قصة هذا القفاز زمناً طويلاً من الجدات والكهول، عن سيدة كان مغرماً بها دي لورج الضابط النابه الذي كان في صغره من أشجع وأشهر قواد اللواء المشاة في أيام فرنسوا الأول ملك فرنسا (1515 - 1547).
وكان الملك فرنسوا هذا مغرماً باقتناء الوحوش الضارية ومشاهدة صراعها في حديقة الوحوش التي أقامها لها خاصة.
ففي ذات مرة، بينما الملك يشاهد الشجار مع حاشية من عظماء مملكته، ومن بينهم سيدات يجلسن في مقاصير أنيقة، إذا بواحدة منهم تلقي بقفازها بين الأسود، وهي في أشد حالات الغضب والشراسة، وتوجهت إلى عاشقها دي لورج الفارس النبيل طالبة إليه باستخفاف أن يعيد إليها قفازها ليؤكد أن حبه لها عظيم كما يقول، ولكي تحقق من ناحية أخرى صدق شهرته أمام الجمهور الذي طالما تحدث عن شجاعته.
فانبرى الفارس مسرعاً دون أن تبدو عليه دهشة أو تردد، وأخذ عباءته في إحدى يديه، وسيفه في اليد الأخرى، ثم دخل بجسارة نادرة في ساحة مساجلة الأسود، وحالفه الحظ في التقاط القفاز من بينها، وعاد به إلى سيدته بين إعجاب الحضور وهتافهم. وتبسمت له الحسناء ابتسامة الرضى والسرور(290/62)
ولكن الضابط الهمام لم يأبه لإعجابها، واعتبر سلوكها معه ضغينة مبيتة، ولهذا رمى القفاز في وجهها معرضاً عن أي شكر ومتحرراً من غرامه. وبذلك أقصاها إلى الأبد
(منديل)
كان للقائد العظيم دي جينليز الذي مات في ألمانيا وهو يقود فرق الهوجينوت في الحرب الدينية الثالثة حسناء أغرم بها جداً فمرة كان يعبر وإياها النهر من أمام اللوفر، فأسقطت منديلها الفاخر في الماء عمداً، وطلبت إليه أن يغوص في النهر ليعيد إليها منديلها. ولكنه لجهله بالسباحة اتخذ من ذلك مبرراً حسناً للاعتذار إليها
ولكنها لم تقنع - ولامته - بل اتهمته بأنه عاشق خائن جبان. فما كان من القائد الشجاع إلا أن ألقى بنفسه في النهر دون أن ينبس ببنت شفة، وحاول البحث عن المنديل عبثاً، مضحياً بحياته لو لم يدركه قارب النجاة على الفور
نختتم بقصة شرقية مشابهة فيما يلي:
قصة إيرانية
الشاعر نظامي الإيراني أشهر من نار على علم، يرى في مخطوط من كتابه (هفت بيكر) المحفوظ في نيويورك، صورة ترجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي، توضح أيضاً تشابه تصرف المرأة الشرقية وتصرف الغربية في نفس الحقبة من الزمن
ذلك أن الصورة تمثل (بهرام جور) ملك إيران يثبت لحبيبته فروسيته ومهارته في الرماية، بإجابتها إلى ما طلبته منه وهو أن يلصق السهم وحافر حمار الوحش بأذنه. وقد توصل إلى ذلك بأن ضرب حمار الوحش في أذنه بقطعة من الطين الجاف، فلما رفع الحمار حافره ليحك أذنه من أثر الضربة، رماه بهرام جور بسهم ثّبت به حافره بأذنه
هذه قصص أربع أود لو تتفضل القارئات ومن يرغب من حضرات القراء بإبداء رأي فيها، نصل من ورائه إلى مبدأ نؤسس عليه معاملة المرأة للرجل وبالعكس، ولا سيما في طور الخطبة
زينب الحكيم(290/63)
رسالة العلم
قصة العلم التجريبي
الذروة التي بلغها البحث العلمي
للدكتور محمد محمود غالي
يعتمد العلماء اليوم على منابع أربعة للتجديد العلمي: الميراث العلمي، والبحث النظري، والبحث التجريبي، والتعمق العقلي في حقائق الأشياء ووضعها في قوانين لا تتعارض مع النتائج النظرية والتجريبية
ولن أتناول بالبحث في هذه المقدمة الميراث العملي فقد أشرنا إلى الدرجة التي وصل إليها من العظم حتى أصبح غير ميسور لباحث أن يتعرف في فرع واحد من العلوم كل ما ينشر فيه. أما البحث النظري فقد أصبح من القوة بحيث لا يستطيع المشتغلون بالعلوم التجريبية والذين تستنزف التجارب بين جدران المعامل كل أوقاتهم، الاستغناء عن تتبع التطورات التي تحدث في كل عام من الناحية النظرية، وإن أعمال إينشتاين وبلانك ودي بروي وشرودنجر ما يدل على ما للطبيعة النظرية من القوة اليوم
أذكر أني طالعت منذ عشرة سنوات إحدى صحف الصباح بباريس أن لويس دي بروي وكان عمره في ذلك الوقت حوالي خمسة وثلاثين عاماً حاز جائزة نوبل في الطبيعة وكان كل ما بلغه من منصب علمي وظيفة محاضر في السوربورن وفي مساء نفس اليوم حضر كعادته للمعمل الذي كنت أعمل فيه بالسوربورن الأستاذ موتون، وهو عريق في منصب الأستاذية فأردت أن أُلمَّ بشيء عن دي بروي فقال لي: (لا تظن أني أعرف عنه أكثر مما تعرف)، وبعد سبع سنوات من هذا التاريخ، وقُبيل وفاة الأستاذ موتون ذكر لي وهو طريح الفراش من مستشفى معهد باستير، وكنت أطالع له عملي: (لم يصبح لدينا من الوقت ما يكفي لتتبع دي بروي وفرانسيس بران ولا أنصحك أن تنفق وقتاً كبيراً لتتبعهم، ولكن يظهر لي أن عالم التخمين لم يصبح أقل أهمية من عالم التجارب)
أما البحث التجريبي في العلوم الطبيعية فقد بلغ ذروة تدل عليها التطبيقات التي تمت داخل معامل الأبحاث وخارجها مثل الاختراعات العديدة التي أصبحت تتداخل في جزء من(290/64)
حياتنا اليومية
ولنضرب الآن أمثلة من التقدم في دائرة معامل البحث ونشير إلى شيء من المقدرة التي أبداها العلماء في القيام بالتجارب العلمية. ولعل في إشارتنا ما يجعل جماعة ممتهني العلوم الكيميائية والطبيعية الذين يشبهون في حياتهم كيميائي القرون الوسطى - وهم كثيرون بيننا يستفيدون من الرجوع لهذه المقالات. ويقيننا أنهم إذا طالعوا بإمعان ما تتضمنه مقالاتنا سيطفئون مشاعلهم التي أفسدت الجو بدخانها ويفارقون بوادق صهرت الكثير من نقود أصحابها ويوقنون أن قصة المعامل اليوم تخالف قصتهم وأن العلماء اليوم متجهون اتجاها آخر في مباحث بلغت من القوة شأوا حمل الناس على الإيمان بها والتسليم بسموها وعظمتها.
خذ مثلاً من العلم التجريبي كان النجاح فيه لأستاذين لازمناهما وجاورناهما في معاملهما طويلاً هما كوتون وموتون، ففي سنة 1906 استطاعا بإنارة معينة للجسيمات الميكروسكوبية أن يكتشفا ما نسميه اليوم الألتراميكروسكوب وهو ميكروسكوب عادي إلا أن الجسيمات المراد فحصها تضاء بطريقة تسمح برؤية الجسيمات المتناهية في الصغر والتي لا يكشفها الميكروسكوب أو على الأقل تسمح برؤية مواضع هذه الجسيمات، خذ النتائج السريعة لمثل هذا الاكتشاف العلمي فقد استطاع جان بران في سنة 1908 أن يتتبع حركة جسيمات صغيرة جداً كالجسيمات المعلقة مثلاً في نقطة من الحبر وهي حركة مبنية على قوانين الصدفة إلا أنها نوع من الصدفة المنظمة - أما سبب حركة هذه الجسيمات فهو حركة دائمة في جزيئات الماء نفسه التي تتصادم مع هذه الكرات المعلقة في السائل فتحركها معها، وهذه الحركة الدائمة في كل سائل هي التي تسبب ضغط السائل على جدران الإناء. وقد استطاع بيران (بإدخال حسابات قام بها العالم المعروف أينشتاين) أن يدرس نظام توزيع هذه الجسيمات الصلبة داخل السائل واستنتج من ذلك نتائج علمية عظيمة الأثر منها تحديده لعدد جزيئات الغازات في حجم محدود ومنها معرفته لشحنة أصغر جسيم كهربائي أو وحدة الكهرباء (الإلكترون
وللإلكترون أهمية كبرى ويكفي أن يعرف القارئ أن العلماء يتجهون الآن إلى تحديد كل ما نراه وحصر كل ما يكون العالم في أربعة أنواع من الجسيمات المتناهية في الصغر هي(290/65)
الإلكترون والبوزتون والنيترون والفوتون. وسنأتي في مقالاتنا القادمة على شرح كل واحد من هذه الجسيمات الأولى الأربعة المكونة للخليقة وعلى الظروف التي أدت إلى اكتشاف كل منها، وإنما أردنا أن ندل القارئ على أن اكتشاف الألتراميكرسكوب واكتشاف الإلكترون كانا عملين أحدهما مساعد للآخر. ومما يجدر بالذكر أن الالتراميكروسكوب لعب دوراً كبيراً في تجارب مليكان الخالدة التي فصل فيها جسيما واحداً يحمل إلكترونا حرا واحداً، هذه التجارب التي آمل أن أفصلها يوماً لقراء الرسالة ولكن لا أترك الإلكترون دون أن أعطي القارئ فكرة عن حجمه أو كتلته
تصور أنك تدخن سيجارة وأنت جالس في الشمس وتصور أن تركت أطراف السيجارة على إصبعك بعض آثار الورق المذهب بحيث أن أشعة الشمس تساعدك عند النظر لإصبعك أن تكشف بالعين أحد هذه الجسيمات البراقة المتناهية في الصغر والتي تركتها السيجارة. إذا تصورت هذا وأردت أن تتصور الإلكترون فاعلم أن حجم هذا الجسيم الصغير يحوي ملايين المرات حجم الإلكترون الواحد، فإن نسبته لهذا الجسيم البراق الصغير جداً كالنسبة بين الأخير وبين المكتب الذي أكتب عليه الآن هذا المقال
يمكنك أن تتصور أيضاً أنك تأكل تيناً وأنه قد أصاب إصبعك إحدى أشواكه الصغيرة - إنه يلزمك في العادة ملقاط لإخراج هذه الشوكة التي إذا خرجت تراها بصعوبة بالعين المجردة، إن هذه الشوكة ربما تحوي من الإلكترونات قدر ما تحوي شجرة التين من الشوك. هذا هو الإلكترون الذي استطاع مليكان أن يفصل جسيما واحداً يحمل إلكترونا حرا واحداً ويرى موضع هذا الجسيم بل ويرفعه ويخفضه كما يشاء
إلى هذا الحد وصل العلم التجريبي في سنة 1909 أيام تجارب بيران ومليكان. أما اليوم وقد مضى ثلاثون عاماً على هذه التجارب فماذا أقصه عليك في هذه المقدمة التي أرجو من ورائها للقارئ إيماناً علمياً يشبه إيمان العوام. ولهذا أكتفي بالتنويه بثلاثة موضوعات كأمثلة جديدة في العلم التجريبي الحديث
الموضوع الأول:
تصل إلينا أشعة يسمونها اليوم الأشعة الكونية سأجعلها موضوع مقال خالص في أعداد الرسالة القادمة.(290/66)
تخترق هذه الأشعة سقوف منازلنا كما تخترق أجسامنا وهي مكونة من الإلكترونات السابقة الذكر وبوزيتونات سريعة، وليست الشمس هي مصدر هذه الأشعة كما يتبادر للذهن وذلك لأسباب سنذكرها عندما نتكلم عليها بالتفصيل
لقد أمكن اليوم بما يسمونه أنبوبة ولسون عد هذه الإلكترونات في اتجاه معين بل وسماعها كما تسمع صديقاً لك ورسمها على اللوح الفوتوغرافي كما ترسم طفلك يوم عيد ميلاده وذلك بعد أن تخترق هذه الجسيمات ما سمكه حوالي خمسة أمتار من مادة الرصاص
الموضوع الثاني:
إنه من الممكن اليوم أن نطلق بالوناً صغيراً يحمل ترومومتراً لقياس الحرارة وبارومتراً لتسجيل الارتفاع والضغط الجوي وهيجرومتراً لتسجيل درجة الرطوبة، وأن يكون بهذا البالون محطة لا سلكية ولا يزن بمحطته وبكل هذه الأجهزة سوى كيلو جرام واحد، وهذا البالون يسجل بمفرده درجات الحرارة والضغط الجوي والرطوبة ويرسل هذه النتائج مسجلة متعاقبة على ورقة موجودة بمكتب رئيسي على الأرض دون أن يكون داخل البالون شخص لهذه العمليات؛ هذا البالون كان نتيجة للبحث التجريبي الذي قام به هيدراك وروبير بيروه في سنة 1927 - ويطلقون في فرنسا في كل يوم حوالي ثمانية من هذه البالونات كما أنهم يطلقون عدداً آخر من الباخرة المعروفة باسم الكاري ماريه الفرنسية المستعملة للأرصاد الجوية في المحيط الأطلانطيقي
الموضوع الثالث:
استطعت في سنة 1931 لأسباب خاصة بدراسة
توزيع جسيمات من طمي النيل داخل الماء أن أضع
طريقة لتسجيل فترات سقوط كرة أو كرات داخل
الماء أو غيوم من الطمي لأقرب 10001 من الثانية
بتحويل حركة الكرات أو الحالة الطميية إلى حالة(290/67)
كهربائية باستعمال العين الكهربائية؛ وقد أمكنني أن
أسجل فعلاً هذه الحوادث وأمثالها على ورق حساس
وفي العام الماضي توصلت لوضع طريقة لمعرفة وتسجيل منسوب النيل وعمق النيل وكمية الطمي المحمولة بمياهه مهما كان بعد المنطقة المراد دراستها عن مكتب رئيسي بالقاهرة مثلاً، وقد اشترك معي في هذا البحث العام الماضي روبير بيروه مخترع البالون المتقدم الذكر
هذه أمثلة مما بلغه اليوم العلم التجريبي وما أصبح عليه من قوة
ولا يقتصر العلم التجريبي اليوم على دراسة المظاهر الطبيعية أو على اختراع الأجهزة. بل يضع هذه المظاهر تحت عوامل وظروف جديدة. مثلاً نسلط على الماء تياراً كهربائياً فنحلله إلى عنصريه الأوكسجين والأيدروجين فنخلع عن الماء برقعه، وبعد أن كان يظهر للعين كأنه مادة واحدة يتضح أنه مركب من غازين، ونستقصي طبيعة الكهرباء وحقيقتها بأن نجعلها تخترق أنبوبة مفرغة من الهواء، ونضع سماداً في الأرض أو طبقة جديدة من طمي النيل ونرى أي العاملين أكبر أثراً على نبات الموسم القادم. ونُغير ري الأرض، وكمية الماء ونرى تأثر ذلك على محصول الفاكهة
وهكذا بتعديل متعمد للظروف الطبيعية وتغيير في العوامل المؤثرة على الظاهرة التي يراد دراستها تزيد معرفتنا لحقائق الأشياء بدرجة عظيمة ونتعلم نتائج جديدة لا سبيل لمعرفتها بانتظار الأيام والظروف. وهذا ما نسميه في العلم التجريبي الدراسة النوعية على أن أهم ما في العلم التجريبي هو الدراسة المقياسية كلنا يعلم أنه لتقليل حجم غاز مثلاً يجب أن نضغطه ولكن الباحث يريد أن يعرف القانون الكمي الخاص بهذا التغيير وتراه عندما ينتهي من وضع هذا القانون الذي يربط الحجم بالضغط يعتبر الحرارة كعامل ثالث فيضع قانوناً أعمم للثلاثة عوامل الحجم والضغط والحرارة - كذلك يدرسون عدديا العلاقة بين التيار الكهربائي والضغط الكهربائي في الأنابيب المضخمة في محطات الاستقبال المستعملة في الراديو وهكذا أمثلة عديدة لدراسة الكميات(290/68)
وإنما نذكر ذلك لما للدراسة الكمية والعددية من أثر في الاكتشاف فإنها لا تؤدي في بعض الأحيان لدراسة الظاهرة التي يراد دراستها فقط بل تؤدي إلى اكتشاف ظواهر جديدة كان لا يقصد الباحث اكتشافها. وطبيعي أني سألجأ في كتاباتي لسرد أمثلة من هذه الاكتشافات التي كان بعضها وليد الصدفة والتي قدمت معارفنا لحد كبير
أما المنبع الرابع للعلماء المشتغلين فهو التعمق العقلي في حقائق الأشياء تعمقا زاد لدرجة قصوى في العلوم الحديثة، وقد أصبحنا لا نكتفي اليوم بأن نكتشف القوانين وندعها منفردة بل نجمعها في قوانين قليلة بحيث أنه بأقل الفروض نحاول أن نفهم عددا كبيرا من الحقائق. ولعل القانون النيوتني للجاذبية خير مثل أقدمه، فهو قانون يجمع في معادلة واحدة قوانين كوبرنيك وجاليليو وكبلير وهو الذي تناوله أخيراً إينشتناين باعتبارات جديدة وجديرة أن نتحدث عنها في المقالات القادمة.
ومن السهل أن ندرك الآن أنه بمثل هذه المنابع الأربعة يصل العلماء إلى نتائج تختلف عن النتائج التي نصل لها بتجاربنا اليومية ومن هنا اختلفت صورة العالم عن الصورة التي رسمتها لنا حياتنا العادية.
فإذا ذكرنا الحركة البرونية ذكرنا بران ونجد اسم أنيشتاين بجانب النسبية والكتلة، ولا يمكن أن نذكر الإلكترون دون أن نقرنه بأسماء ولسون والدوق موريس دي بروي ومليكان واستون دمبلر وأخيراً شيخ العلماء تومسون وإذا ذكرنا البلورات ذكرنا دباي وبراج وشيرر ولوي وإذا وصلنا للنشاط الإشعاعي وجهنا التحية لبكارل ومدام كيري ورثرفورد، جيجر وسودي، وفي الأثوم يذكرنا دواماً وثرفورد وبوهر وسمرفيلد الكبير وستارك وزيمان وبولي، وفي الحرارة النوعية نكرر أسماء إينشتاين ودباي ولندمان، وفي التبادل الضوئي الكهربائي نحيي مرة أخرى العالم إينشتاين ومليكان وموريس دي يروي وهنت
وفي علاقة المغناطيس ونظرية الكم تكاتف الكثيرون مما لا يسع المجال ذكر أسمائهم جميعا، وأخيراً تم بناء آخر مرحلة نعرفها للهيكل الطبيعي بل تم آخر طلاء للصورة الجديدة بعملين كبيرين.
الأول الميكانيكا الموجبة وما توحي به من فكرة جديدة لمؤسسها لويس بروي ثم شرودنجر(290/69)
وهايزنبرج وبورن وجاردان وديراك. الثاني الإحصاء الجديد لواضعيه بوز وفرمي، والأخير حاز جائزة نوبل في ديسمبر الماضي
هؤلاء هم بناؤا الهيكل الجديد للعالم الذي سأستعرضه للقارئ ما استطعت بالرجوع لأصول الاكتشافات نفسها وتبسيط الموضوع ما أمكن، وسأبذل كل ما أستطيعه من مجهود لنتجول معا في العالم الجديد ولنفهم الصورة الجديدة، وكل رجائي أن يكون فيما أذكره فائدة لعدد كبير من قراء العربية.
محمد محمود غالي
دكتواره الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون(290/70)
رسالة الفن
الجمال المصري القديم في النحت
للدكتور أحمد موسى
(سل من شئت من المصريين عن تاريخ مصر الفني، وعما في تراث الأجداد من مميزات، وعن الناحية الجميلة الممتعة فيه؛ بل سل أغلبية الناس في مصر ممن زار أهرام سقارة، وممن تطرف في حب مشاهدة الآثار المصرية وسافر إلى الأقصر، وشاهد معبد الكرنك وطيبة ووادي الملوك والملكات، وتمثال ممنون. . . سل كل هؤلاء عما شاهدوه وعما استفادوه، وعن ناحية الجمال فيما عاينوه، فلا تسمع إلاّ تخبطاً يكاد لا يختلف عما تسمعه من أمي يعيش بجوار هذه الآثار
ثم شاهد مدينة القاهرة - على اعتبارها عاصمة القطر وأهم مدينة فيه - وما فيها من ضروب الخروج على أبسط مبادئ الذوق العام واخطر في أحسن شوارعها يستوقفك شذوذ الانسجام في مبانيها، وظاهرة انحطاط الذوق في كل ما فيها. ثم تفلسف قليلاً لمعرفة السبب في ذلك تجده ولا شك ينحصر في جهل الناس معنى الجمال، ومعنى الذوق، ومعنى الفن. وهم في ذلك سواء، يستوي الجاهل مع العالم، والفقير مع الغني
بيوت عالية شاهقة، وأخرى واطئة حقيرة، كلها متجاورة. وإذا صادفت عشر عمارات كبار الواحدة ملتصقة بالأخرى، ترى لكل منها شكلاً ولكن منها منهجاً؛ كل هذا بجانب دكاكين كتب على أعلى مداخلها باللغة الفرنسية مرة وبالإيطالية أخرى وبالأرمنية ثالثة، دكاكين كتب في أعلى مداخلها بالعبرية حيناً وبالإغريقية حيناً آخر، كما تصادفك أخرى كتب عليها بالعربية لغة الوطن، لغة البلاد!
تأمل كل هذا. وتأمل بعض الناس وهم يتهافتون على شراء تماثيل من الجص الرخيص، تماثيل لا تمت للفن بصلة وتسجل على مشتريها قلة الذوق وعدم الفهم والجهل بأبسط مظاهر الجمال تأمل كل هذا ثم عرج على آثار الأقدمين ترها منسجمة كلها من طراز واحد سمي الطراز المصري القديم، له طابع وله انسجام وله أثره في فنون الغير، يعطيك صفته دون حاجة إلى دقة الفحص ودون حاجة إلى سابق الدرس.
كل هذا لأن الذين قاموا بالعمل الفني كانوا من المصريين الصميمين لم يكن لهم وسيلة(290/71)
للتهريج أو الدجل، كما أن الذين أشرفوا عليهم وعملوا على تشجيعهم كانوا من أبناء البلاد
بهذا التمهيد بدأنا مقالنا الأول عن الفن المصري على صفحات (الرسالة) ومنه نرى أن تاريخ الفن قد سجل للمصريين الأقدمين ذوقاً عظيماً ووحدة فنية ظاهرة لكل متأمل.
وإذا كنا اليوم نكتب عن الجمال المصري القديم، فإننا نريد بذلك الكتابة في الفن البحت، وليس في تاريخ الفن، بالقسط الذي اعتدنا أن نتناول به سابق الأبحاث.
ولا يكاد يختلف اثنان في تقدير الفن المصري القديم وخلود عظمته بل والتأكد من أنه أصل الفنون جميعاً، أثر فيها إلى حد بعيد جعل من علماء الفن والآثار من يشتغل بتحديد الصلة بين الفن المصري وبين ما جاء بعده من فنون الإغريق وغير الإغريق؛ فأخذوا يقولون بأن الإغريق هم أول من اقتبس من المصريين، كما أخذوا يدللون على ذلك بمقارنات قياسية بين تصميم المعابد المصرية ونظيرها عند الإغريق، كما أنهم قارنوا بين منحوتات المصريين ومنحوتات الإغريق في أول عهدهم، ثم تراهم يعرجون بعدئذ على قواعد غاية في الدقة تؤكد صدق قولهم، منها تناسب الأعضاء وتشابه المجموع الكلي وتناظر الإنشاء الشكلي.
وكل هذا قد يكون صحيحاً غاية الصحة، ولكن الذي يجب علينا أن نعلمه هو أن الفن المصري فن مبتكر، بدأ ونما وازدهر ثم انحط واندثر دون أن يصل في مرحلة من مراحله إلى المثل الأعلى بمعناه الغني؛ لأنه لم يمثل الحقيقة تمثيلاً يدل على التقليد البحت ولا جعل من الحقيقة ملهماً للخيال السامي، ولا اتخذ منها ما يرتفع بالتصوير الفني إلى درجة الروعة.
كان هذا ولا يزال معدوداً من القصور الحتمي الذي لم يكن للتخلص منه بد، لأنه نجم عن طبيعة البلاد المصرية ونفسية الشعب، إلى جانب بساطة الطبيعة وصفو السماء وسهولة العيش. لذلك ومع أن الفن المصري قطع مرحلة تبلغ ثمانية أضعاف المرحلة الزمنية التي استغرقها الفن الإغريقي؛ فإنه للأسباب الطبيعية المذكورة لم يصل إلى ما وصل إليه الإغريق.
وإذا كنا لا نزال نذكر ما قلناه عن بعض منحوتات أكروبوليس أثينا ومعبد بارتنون وما كانت عليه تلك القطع الخالدة التي مثلت الحياة أروع تمثيل، لأنها وصلت إلى أقصى ما(290/72)
يمكن أن يصل إليه الفن إطلاقاً، أمكننا أن نعرف بالمقارنة مدى ما وصل إليه المصريون في هذا المضمار معرفة تقرب إلى الحقيقة العلمية.
ولعله جدير بالذكر أن نوضح شيئاً عن الكيفية التي سار عليها المصرييون في تلوين منحوتاتهم، بل وكل ما تركوه بمقابرهم وأهرامهم ومعابدهم من غير المنحوتات بألوان معدنية وصناعية اتخذوا بعضها من الأرض.
حصل هذا التلوين عندما كانت منحوتاتهم من الحجر الجيري أو الرملي؛ أما عندما كانت من حجر الجرانيت الوردي أو الأسمر أو حجر البازلت أو السربنتين فقد تركت بدون تكوين اكتفاء باللون الطبيعي.
على أنه قد وجدت تماثيل خشبية أو حجرية قابلة لامتصاص الألوان ولكنها تبدو كما لو كانت غير ملونة، وهذا في غالب الأحيان لزوال اللون منها أو لأنها تركت قبل تلوينها لظروف طارئة.
هذا بيان لابد من إيضاحه قبل تأمل النحت المصري الذي يمثل جمال المرأة المصرية على اعتبارها ممثل الجمال الإنساني غالباً. وإذا كان الجمال في جوهره متلخصا في تناسب التكوين وانسجام المظهر، فإن قياس الجمال رهين بالزمان والمكان، كما أنه راجع إلى نفسية الحاكم وبيئته وثقافته ومدى تأثره.
ولذلك فلا يهمنا في القرن العشرين أن نقارن بين جمال المرأة المصرية وجمال غيرها، وإنما يهمنا أن نتخذ من آثار الأقدمين وسيلة لفهم الجمال المصري القديم وفيم كان منحصراً وكيف كان تعبير الفنان المصري عنه.
وبالنظر إلى أن تاريخ الفن المصري قد استغرق قروناً، فإنا سنحاول تأمل الإنتاج الفني في هذا المجال تأملاً تاريخيا إلى جانب التأمل الفني الذي يمهد لنا سبيل التقدير الإستيتيكي.
فإذا تأملنا رأس (نفريت) التي يرجع تاريخ صنع التمثال الخاص بها إلى أقدم الأسرات، رأينا أن ملامح الوجه تدل على النعمة والبعد عن الكفاح مع توافر النبل، لا سيما إذا راعينا أن هذا من أقدم التماثيل المصرية التي تمثل جمال المرأة. أنظر إلى العينين والحاجبين وإلى الطريقة التي اتبعها المثال في التأنق لإخراجها بغاية النظام والعناية. ثم تأمل الطريقة التي اتبعت في تصفيف الشعر وقصه عند الكتفين وتثبيته من أعلى بطوق(290/73)
من الذهب محلى بنقوش له الطابع المصري. كما تغطي العنق بحلية زادته جمالاً وزانت الصدر بما فيها من ألوان وزخارف. أما المميز الخاص الذي انطبع على الوجه فهو أميل إلى الصمت والسكون من إلى الحياة والحركة. ولا نزال نرى الكثيرات من المصريات على جانب مماثل لهذا الجمال. وربما أضيف هنا أني أردت منذ حين التوفيق بين الجمال المصري القديم والجمال المصري المعاصر، وحاولت عمل المقارنات الدقيقة، إلا أني للأسف صادفت مصاعب، منها عدم إمكان تصوير السيدات اللواتي جمعن إلى جمالهن طابع الجمال القديم
أما تمثال (حرم العمدة) وهو مصنوع من الخشب فقد أعطانا فكرة صحيحة عن قوام المرأة في تلك الحقبة إلى الوقت الذي فيه نستطيع بمقارنة الوجه من جانبه ومن أمامه أن نعرف شكل الأنف المصري وطريقة تكوينه واستقامته. أنظر إلى الفم وقارنه بفم (نفريت) تر أن هذا الأخير اكتسب شيئاً من الحياة بالنظر إلى تلك الابتسامة الهادئة التي ارتسمت عليه. والغريب في الشعر هنا أنه ليس مجدولاً كشعر نفريت كما أنه تميز بتدرج نهايته السفلى، فكان أشبه بثلاث طبقات تعلو الواحدة مها الأخرى، فزادته رونقاً. نعم كان التمثال الأول ملوناً فظهر الكحل في العينين على حين كان الثاني من الخشب دون ألوان ظاهرة. أما التشابه بين السيدتين فظاهر من حيث امتلاء الوجه واستدارته.
أما والدة إخناتون فهي على هيئة عجيبة لها طابع مميز على غاية القوة، كما يبدو لأول وهلة أن لونها كان أسمر مما يؤيد أنها كانت من مصر العليا. وعلى ما يظهر كان الفنان حريصاً على إخراج الوجه مليئاً بالحياة، فتكاد العينان تنطقان. وقد بدا الفم غريباً في تكوينه وفيما يدل عليه. أنظر إلى استدارة الخط الفاصل بين الشفتين واتجاهه إلى أسفل تر أن هذا الوجه لم يكن فقط ليعطي الناظر هيئة صاحبة التمثال؛ وإنما عبر خير تعبير عن النفسية وما هو دفين فيها. ولعل غطاء الرأس بالسهم المثبت في وسطه يذكرنا جيداً بالخوذات الحربية الألمانية قبل الحرب
وتمثال موتنوزميت أم حورمحب (ش 4) يعطي مثلاً سليما لنفس الجمال، مع ملاحظة أن الرأس أصبح مزيناً بغطاء ذي نقوش رفيعة توسطتها أعلى الجبين الأفعى المصرية.
وإذا تأملنا بشيء من الدقة التمثالين (5، 6) وجدنا فيهما تشابهاً شديداً من حيث التكوين(290/74)
المجموعي إلى جانب التفاصيل الإنشائية؛ فأنت ترى أن القوام متشابه وأن وضع اليد اليسرى كان على الصدر بفارق بسيط، كما أن اليد اليمنى ممتدة في كليهما إلى أسفل، وتقدمت الساق اليسرى في كليهما إلى الأمام. نعم نجد الشعر مجدولاً بشكل مخالف في كليهما، كما أنه مختلف من حيث التصفيف وطريقة القص. أما القوام فهو المثل الأعلى لوقتنا الحاضر، كله رشاقة وكله جمال. ومن الغريب أن نرى أن أحدث طريقة لصف الشعر هي إظهار الأذنين، ونجد أن المرأة المصرية قد اتبعت هذه الطريقة منذ خمسة وعشرين قرناً.
أما تمثال أوابرا (ش 7) فهو يمثل امرأة جلست وقد سرت جسمها بملابسها الرقيقة بطريقة استطاع الفنان أن يظهرها في أجمل وأروع هيئة. تأمل الذراعين واتكاءهما على الركبتين ثم لاحظ النبل الذي ارتسم على الوجه، وانظر إلي خط التحديد للتمثال كله، وفكر ولو قليلاً في الكيفية التي استطاع بها الفنان المصري التعبير عن الجمال.
نلاحظ طبعاً كبر الأذن، كما نلاحظ صمت التمثال وركونه إلى السكون؛ ولكن هذا لا يمنع مطلقاً من الإعجاب في أجلى مظاهره بالكيفية التي سار عليها الفن في عصر يبعد عن عصرنا بألفين وخمسمائة سنة.
والخلاصة أننا نرى أن الجمال المصري القديم كان نبيلاً عريقاً خالياً من الدخيل، صافياً نقيّاً، غير ممتزج بغيره، جمع بين الصفة المميزة وبين الطبيعة البريئة الوديعة.
والسلوة الوحيدة التي نتعزى بها، هي أننا نرجو أن نحسن الفهم على الأقل لفن تركه الأجداد ولم نعن بدراسته والعمل على نشره حتى بين أبناء البلاد.
وإذا كنا ندين بنتائج الحفريات ومعرفة اللغة الهيروغليفية لعلماء الأجانب، فإننا على الأقل يجب أن نعني بفهم الفن المصري ودراسته، حتى نستطيع أن نخرج عن المباهاة بما في بلادنا من آثار وندخل دور الاستمتاع بها، فتكون لنا روح وطنية صرفة لها أثرها قفي توجيهنا لمجاراة الشعوب الناهضة.
هذا مقال لا يخرج عن كونه احتيالا على القارئ لتفهيمه صفحة رائعة من صفحات آثار أجداده بطريقة التكلم عن الجمال في أسلوب بسيط بعيد عن الجفاف العلمي.
احمد موسى(290/75)
القصص
قصة سورية
الضَّرَّتان
للسيدة وداد سكاكيني
قالت أَمُّونة لصديقتها هدى: أرأيت حسد الناس لصداقتنا، ولغطهم في تأويلها وإحاطتها بالأقاويل؟ إنهم لا يودون أن يرونا كالأختين فيغيظهم أن يشهدوا صديقتين ألفت بينهما براءة المودة وطول المصاحبة وتقارب السن وحسن الجوار، وإن شاؤا فبيننا وشائج القربى تحكم الصلة وتهون اللقاء. أليس زوجك ابن خالتي؟ أمي اليوم مكان أمه، ولئن غاب عنه وجه الوالدة فإنه يراه في الخالة
لقد بت البارحة قلقة عليك متألمة لألمك، إذ تركتك تشكين صداعاً أليماً فأصبحت أسأل الله لك الشفاء.
كان الصداع الذي ألم بهدى نذير حمى طرحتها في السرير شهراً، وكانت أمونة لرفيقتها خلال المرض مواسية وممرضة، فلازمتها برضى أمها وبقيت عندها حتى دخلت دور النقاهة فعظمت يدها عند هدى وأكبرت صداقتها ومروءتها، وخلطت حياتها بحياة أًمُّونة حتى كانتا لا تأكلان أكلة شهية إلا معاً ولا تفترقان إلا غراراً. كل هذا والزوج يسبغ النعمة على زوجته هدى، ويغمرها بالخير إذ مده الله بتجارة رابحة وبركة راجحة. وقد أكرم أمونة ابنة خالته وقدم لها بعض الهدايا جزاء معروفها وإخلاصها
كان طاهر زوج هدى كهلاً وقوراً، أعز شيء لديه في حياته الدين، وألذ عمل عنده القيام بواجباته وتوفير السعادة لبيته. وقد عرف فيه الناس التعفف والاستقامة والبعد عن الغبن والغش فعجبوا كلهم من اسمه الصادق، فكانوا يقولون عنه: طاهر الاسم، وطاهر الذمة والضمير؛ ولكن الله لم يتم نعمته على الزوجين، فقد مر على قرانهما خمس سنوات ولم يرزقا ولداً، يوثق ما بينهما برباط أكيد، ويملأ منزلهما أنساً ومرحاً، فكانت هدى تحس الأمومة صارخة في غريزتها، فتشم عبقها من أطفال الناس حتى تهتاج طبيعتها وتشتد حيرتها. بيد أنها ترتد إلى عقلها بعد قليل فتكبت شعورها وتكفكف حدتها خشية أن يلحظها(290/77)
زوجها إذ تحسب في سرها أنها عقيم. وكثيراً ما أفضت بدخيلتها لصديقتها أمونة، وشكت إليها لهفتها على الولد وأنها تتمنى أن تشتريه بعينيها، وتفتديه بروحها، فكانت تجيبها: لا تيئسي يا صديقتي. إن الله هو الرزاق الكريم. ولما رأتها ملحفةً في طلبها غدت بها على الأولياء تستجير بهم وتعدهم بالنذور إذا رزقت ولداً. وقد استغاثت بالمشايخ الصالحين فقرءوا لها العزائم والتعاويذ، وحرقوا أمامها البخور، وحملوها الحُجُب والآيات فما أجدت عليها شيئاً لأن الله لم يشأ أن يجعلها ولوداً
كل هذا جرى دون أن يدري زوجها به، فلقد كان متزمتاً متديناً لا يسمح لها بمغادرة البيت إلا قليلاً أو مع ابنة خالته التي ألفها واطمأن إلى أخلاقها من طول مقامها عنده وغشيانها داره وصحبتها لزوجه. وقد حلف بأن تكون طالقاً إن ذهبت تطب للنسل. فما خالفت له أمراً لأنها كانت تطيعه وتحبه برغم تفاوت السن بينهما، فأحست الأمان على حياتها الزوجية منذ صدف بها عن المعالجة واستسلمت للقدر لعل الله يرزقها ولداً
كان طاهر تاجراً غنياً جمع ثروته بعد الحرب الكبرى، واستطاع بما له الضئيل يومئذ وبماله من معاذير أن ينجو من الجندية؛ فلما توفر على تجارته وربحت أرادته أمه على الزواج، فقد كاد ينهد للكهولة ولم تفرح بزواجه. فأطاع وفرحت، ثم ماتت أمه فبقي وحيداً مع زوجته الحسناء. ومن ذلك الحين توثقت عرى الصداقة بينها وبين ابنه خالته أمونة التي كانت مخطوبة لموظف كبير، ولكنها مترددة بين قبوله ورفضه
مضى على زواج طاهر خمس سنين، بدأ في آخرها يمل حياته الرتيبة مع هدى ويميل إلى تركها يوماً بعد يوم مع ابنة خالته أمونة، إذ دب في نفسه الخوف من الفناء قبل أن تظهر فيه عواطف الأبوة وطمع في خلود الذكر من بعد موته بالولد الذي يدل عليه وضنت به هدى، فصار يرى بيته صامتاً جامداً لا يُهز فيه سرير ولا يناغم طفل، ولا تردد في حجراته لفظة (بابا) فضاق عليه البيت بما رحب وكره الحياة من أجل ذلك، فأخذ يشنأ زوجته ويحتويها ويتبرم بحديثها ويتلكأ في طلباتها. وقد خيل إليه الوهم والهم أنها عاقر وأن حياته معها جديبة، مع أنه يعرف في نفسه وفي ضميره أنه هو العقيم، فتذكر شبابه الطائش وتعرضه باستهتاره لمرض شائن، تاب بعد شفائه منه توبة نصوحاً ولكنه أورثه داء عقاماً حرمه النسل(290/78)
كان يثور على زوجه هدى في سره لعقمها الموهوم، ثم يعود في نفسه إلى الهمود والجمود حين يرى هذه النفس الباغية هدفاً لتلك الثورة
وبينا هو مطرق ليلة تلقاء الموقد اللاهب والوقت شتاء، تعصف فيه الرياح العاتية التي صدته عن السمر في دار صديقه مرت أمامه قطته (فلة) التي يعطف عليها ويختصها بطيب الآكال، فلما حاذته تمطت ونفشت شعرها، فأخذ يعبث به ويربت بكفه على ظهرها، فلمعت إذ ذاك في خاطره صور وأفكار، ورأى القطة في نظره الحانق خيراً من زوجته العقيم، هذه شجرة بلا ثمر، وتلك ولود تملأ البيت كل عام بأولادها. وفيما كان يقلب الخواطر في ذهنه تلفت إلى بيته فرآه ساكتاً ساكناً إلا من صوت زوجته هدى وابنة خالته أُمُّونه وهما في فورة اللعب بالبرجيس وغمرة الحماسة للغلاب، ومن مواء القطة بين الفترة والفترة، فطغت عليه الهواجس وشعر بكرهٍ لامرأته، ونفرة منها، فأخذ يميل بوجهه عنها ويوجهه إلى أمونة فيقارن بينها وبين زوجته التي غاض منها معين الجمال في تلك الليلة في نظره فتتخالس عيناه نظرات الإعجاب بابنة خالته، ثم جال طرفه الرغيب في جسمها الريان ووجهها الأبيض الجاذب وشعرها الفاحم المتدلي على كتفيها اللتين انحدرت منهما يدان كأنهما ركبتا في دمية من المرمر، فانشرح صدره وتمدد على أريكة بإزاء المدفأة ثم لوى ذراعه تحت رأسه فأسند فوده عليه وأخذ يتأمل في ساقي أمونة الممدودتين إلى الأرض وقد امتلأتا صقالاً وانسجاماً وأحيطتا بظلال من النعومة والجمال. ولما أطال التحديق فيها وهي جالسة تجاه زوجه لاهية بلعبة البرجيس رأى نفسه وجهاً لوجه أمام المرأة التي يتمناها له زوجه ثانية، فارتد ببصره عنه بعد فترة من اللعب لكيلا تلمح نظراته الخاطفة الماكرة؛ أما قلبه فبقي يرنو ويشتهي فقال في ضميره: تُرى أي بأس على إن تزوجت أمونة، وقد رفضت خطيبها السكير المقامر فيكون لي زوجان وأكون كجاري أبي عادل الذي تزوج اثنتين وهو معتزم هذه الأيام أن يبني بالثالثة. وكثيراً ما حدثني من باب دكانه عن حياته الزوجية فقال: ما أحلى الزوجتين يا طاهر! هما ريحانتان للشميم، لكل ليلة ريحانة
فكر في هذا طاهر. ولعب ذلك الريحان على انفه في وهمه كأنه يد الشيطان، ورده في نفسه صوت أمونة، وهي تضحك وتصفق بيديها، وتضع حجراً من حجارة البرجيس على(290/79)
الآخر وترفع صوتها قائلة لهدى:
- خذي فنجان القهوة. مغلوبة. مغلوبة. . .
فتنبه طاهر فور انتهاء (الدست) بين اللاعبتين وجمع أشتات فكره من دكانه، وهو يحاور جاره، ومن ملاحة أمونة، ومن الأولاد الذين كان يحلم في خياله أن يأتوه منها فقال:
- يا هُدُو! وكان يناديها بهذا اللفظ الموجز كلما أراد العبث والدعابة - ماذا ترين وأنا كهل غني ولا وارث لي منك؟ فهل عليك من حرج إذا تزوجت امرأة ولوداً وأنت تبقين سيدة البيت كلنا نأتمر بأمرك ونهتدي بهداك؟
فما سمعت هدى كلامه حتى فغرت فاها وانتفضت كأنها صعقت، فامتقع لونها وطغى عليها دمع غزير صور على خديها معاني كثيرة من الذلة والخيبة والبغتة والفشل. وكان بعض الدمع يساقط على خدها وبعضه تتلقاه بمنديل في كفها أو تمسحه بكمها دون وعي حتى نشجت أعصابها وكاد يصيبها الغشيان فارتمت بوجهها على صدر صديقتها أمونة التي وجمت وبهتت. وانتابها عي وجمود فلم تنطق بذات شفة وإنما غلب عليها التأثر والبكاء مشاركة لرفيقتها
لقد كانت أمونة ذات قلب سليم حيال ابن خالتها فلم تعلم أنها ستكون الضرة المرة، وما عرفت أنها ستنزل على صديقتها كالنقمة والبلوى، بل لم تشعر في يوم من الأيام أن فلكها يدور هذه الدورة فيبدل الصداقة عداوة والمرفقة الرفيقة إلى مفارقة قاهرة.
لقد حمل طاهر إلى ابنة خالته مهراً غالياً، وهدايا كثيرة ثمينة، وحمل خالته على قبوله صهراً فما صدت ولا ردت، وإنما وجدت في إقدامه على الزواج مرة ثانية عقلاً وحكمة وصوناً لثروته من الضياع، وعرفت ن ابنتها أمونة ستكون ولوداً مثلها فلقد أنجبت هي ثلاثة من البنين والبنات وهي جدة لأولاد أحدهم. فأبت بنتها هذا الزواج وحاولت التمرد والعصيان إذ استحمقت نفسها واحتقرت أن تكون ضرة لرفيقتها فماذا يقال عنها؟ أية سمعة ستكون لها؟ وأية مضغة ستكون في أفواه الناس؟ ولكنها برغم كل مقاومة ومعاندة أفلحت أمها في إكراهها على الزواج فقد سوست في عقلها كالشيطان، وزينت لها حياة الثراء والرخاء عند ابن خالتها. وأنذرتها بالبوار والكساد إن أصرت على رفضه وآثرت العناس. فتنازعها عاملان: نزوعها إلى الزواج كيف اتفق شأنه بعد إخفاقها في خطبتها للموظف،(290/80)
وحرصها على مودة صديقتها والوفاء لها. فغلبها على أمرها ما خلقت له وهو الزواج وفي النفس ما فيها من خوف وعذاب، فأطاعت أمها على مضض وعقد لها على ابن خالتها وزفت إليه.
ومضى زمن قصير فإذا هدى تنقلب إلى امرأة شرسة طاغية. كلما لسعتها الغيرة ثارت بأوعية البيت وآنية الطعام فهشمتها وداستها بقدميها، ولعنت الرجال، ونقمت على الصداقة التي طعنتها في الصميم. وإذا جاء طاهر ليبيت عندها ليلتها الخاصة تنكرت له وتجهَّمت وانكفأت إلى عزلتها الأليمة، ولا زال قطعاً من الليل يتملقها ويترضاها وهي تتميز من الغيظ، وتتمزق من القهر، حتى تنفجر باكية فيتركها ريثما تهدأ ثم ينام، وبقي على هذه الحال بضعة أشهر حتى قطع عنها ليلتها وجعلها كل أسبوع مرة. وبعد سنة صار لا يزورها إلا لماماً. وكم كانت الغيرة تنغص عيشها كلما فكرت في ضرتها وخيانتها وزهادة زوجها فيها وعزوفه عنها
تصرمت خمسة أعوام على زواجه الجديد، فلم تلد له أمونة ولداً، فثار عليها في نفسه ثورته على هدى. ثم فكر كثيراً، وتذكر ملياً فرد إلى نفسه وأدرك إخفاقه في النسل، فاستقر في ظنه أنه هو العقيم، لا هاتان المرأتان المظلومتان. غير أن خوفه على اتهام نفسه وامتهانها جعل في فكره منطقاً فاسداً صور له براءتها فأحدث له شكا خرج منه إلى أن زوجته الثانية عاقر كالأولى، فقص هذا على جاره الأدنى في السوق وكان يستخلصه لنفسه، ويستشيره في شؤونه. فقال له: لقد تزوجت الثانية حسبما أشرت فلم تلد، وأنا رجل غني، كما تعلم، فماذا أفعل؟ فأشار عليه بالزوجة الثالثة وتطليق الأولى
في مساء ذلك اليوم عاد إلى بيته الثاني، وقال لابنة خالته فيما قال من حديث السمر أمام المدفأ في الشتاء: أترين يا أمُو - وصار يخاطبها بهذا اللفظ المقتضب كما كان ينادي زوجه الأولى - كيف أنك لم تحملي بولد يرثني، وقد صرت إلى حال من القنوط تمنيت معها الموت. وقد أشاروا عليّ بالزواج لعل حظي من الولد يوافيني من الثالثة، على أن أطلق لك الضرة الكريهة التي تبغضك وتطعن فيك وتدعو عليك بالموت.
فما سمعت أمونة هذا الكلام حتى مرت في طور صديقتها تلك الليلة الماطرة قبل خمس سنين، فاصفرت وبكت وانقضت على ابن خالتها كالمجنونة وصاحت به:(290/81)
- ياخائن، ياعبد الشهوات! أنت العاقر الذي كنت في شبابك فاسقاً فأصبت بالعقم ولم تنسل فما ذنبنا نحن؟ وهمت بضربه بقطعة من الحطب كانت في جانب الموقد
جُنَّ جنون طاهر من هول الفضيحة، وفحش الشتيمة، واجتراء زوجته وابنة خالته على إهانته وضربه فقال لها بمكر وخبث:
- لا تصدقي يا أَمُّونة إنن أمزح لأرى إن كنت تحبينني أم لا؟
أما أمونة فقد شعرت بنيته السيئة، وأدركت ما يضمر في طويته لها فهاترته وقامت عليه ناقمة ثائرة، والله يعلم كيف مضت عليها تلك الليلة المشئومة. فلما طلع النهار دلفت أمونة إلى بيت صديقتها القديمة وضرتها المهجورة، وهي على استحياء من نفسها تتقدم رجلاً وتؤخر أخرى حتى كادت تتراجع القهقري وتتردد في مواجه رفيقتها بالأمس، لولا أن عادت إليها بجرأة، وثارت فيها الغيرة الجديدة والنقمة على زوجها، فتنهدت وتشجعت وطرقت باب هدى طرقات خفيفة فردت عليها بفتحه. وما إن كشفت أمونة عن وجهها المحجوب حتى وقفت الأولى جامدةً كالصنم، وشررت ضرتها بعينين كالحربتين، فارتمت أمونة على قدمي هدى وحاولت تقبيلها، ثم قامت إليها بالعناق والتقبيل وبالبكاء والنحيب، فلم يكن من هدى إلا أن أبدت عجبها من مظهر ضرتها الكئيب، وسألتها على كره منها:
- هل من بلية حلت بطاهر؟
- لعنة الله عليه! إنه يجني علىَّ وعليك. ليت عزرائيل ينقذنا منه قبل أن ينفذ إرادته الجديدة.
- وماذا يريد؟
- فاهتزت أمونة وارتجفت يداها وتلعثمت وكاد يغمى عليها لولا أن تداركتها هدى واستدرجتها إلى الجواب. فعلمت منها أن طاهراً يريد الزواج، وشاعت حينئذ الشماتة على وجهها ووضحت السخرية في لفتاتها وحركاتها، فسلقت أمونة بلسان حاد أصاب منها مقتلاً كأنه الرصاص. وضحكت أمامها لتزيد في نكايتها وإهانتها فشعرت أمونة بكبريائها المحطمة، وضعضعتها الشماتة ولكنها صمدت للنهاية وتجالدت فبلعت ريقها وبلت حلقها الجاف من طول الكلام والبكاء، ثم أخذت تستعطف هدى بصوت ذليل خفيض والتمست صفحها. فلما رقت ولانت أفضت إليها بنيات زوجهما، وطفقت تستعديها عليه وتستفزها(290/82)
للثأر منه بحرارة الموتور، وجلستا تفكران مطرقتين كأنهما في بُحران، وتقدران ما ينبغي لهما من الحيطة والحذر من وقوع الكارثة. وسرعان ما زال من هدى حقدها على أمونة، فتصافتا وحلفتا بالله جهد الإيمان لتعودان كما كانتا أختين صديقتين. وافترقتا على أمر واحد، وهو السعي لدى المشايخ والسحرة لعلهما تجدان الدريئة والدواء، وقادهما البحث إلى مغربي ساحر أعطاهما شيئاً كالملح الناعم يذر على الأكل فيحدث لذائقه الخبل والشرود فاقتسمتا الثمن الباهظ ودفعتاه راضيتين
ولما جلس طاهر إلى الطعام ذرًّت له التي هو عندها ذرور الساحر، فلما أكل انقلب كالذي خامره امتعاض، وظل أياماً كلما أكل عند واحدة منهما ذرت له قليلاً من الذرور فلم يمض شهران حتى غدا كالمخبول الممرور لا يدري ما يفعل. فقال الناس: قد أصابته عتاهة وبلاهة. وقالت نساء من أهله: لعل زوجتيه سحرتاه فصار إلى حاله الوجيع. ومرًّ به زمن أغلق معه دكانه وباع ما فيها بثمن بخس، ولزم بيته لا يبرحه إلا للصلاة في الجامع. فلما ازداد به الخبال والذهول أقامت عليه زوجتاه الحجر وتسلمتا الإنفاق عليه وعادتا أختين محبتين كما كانتا، تسكنا في بيت واحد، وتسخران من ذلك الزوج الذي تراخت أوصاله، ووهنت عظامه، ودب فيه المرض والهرم، فأمنتا جانبه، واكتسبتا ثروته. ثم عاودتهما بعد حين التوبة والندامة، فأدركتهما الرحمة له والشفقة عليه واستغفرتا الله من ذنبهما. ولما قضى الزوج نحبه أدت الضرتان أو الصديقتان فريضة الحج معاً وابتهلتا إلى الله في أشرف بقعة أن يعفو عن إساءتهما وهو العفو الغفور.
وداد سكاكيني(290/83)
البَريدُ الأدبيّ
في الشعر العربي
ليس بيني وبين الأستاذ علي الجارم بك إلا محض صفاء، بل له عندي
مكانة. فإذا أنا أقبلت على شعره أنظر إليه بمؤخَّر العين فإنما شعره
وحده يشغل نظري. وللأستاذ علي الجارم بك أن يعتدّ بالمعجبين
بشعره - وهم غير قليل على ما ينتهي إلى آذاننا - فيهما ما يقوله في
طريقة نظمه من يجب أن يدون تاريخ الشعر العربي تدويناً لا يعرف
الغرض
عندي أنَّ الشعر العربي المسجون في القصر الذي بناه به أمثال المتنبي والبحتري في معالجة النزع، لأن أمثال المتنبي والبحتري تركوا نوافذ القصر مغلقة يوم ماتوا. ثم جاء خلفاؤهم وأتباعهم فسمّروا خُشُب النوافذ، ففسد الهواء وضوي الشعر المسجون. إلا أنه اتفق لهذا الشعر أن تُثقب له كُوَّتان في الحائط، إحداهما على يد رجل يدعى أحمد شوقي، والأخرى على يد رجل اسمه خليل مطران. أما هذه فقد أقيم بينها وبين القصر حاجز فوُقفت على حجرة ضيقة سرعان ما أضحكت أرجاءها نسمات مقدمها من هناك في مصر ثم من أمريكة الشمالية والجنوبية. وأما تلك فقد سُدَّت فجأة ولم يبسط أحد إليها يداً، فعاد الهواء إلى فساده
ومن هذا الشعر الشاحب قصيدة ألقاها الأستاذ على الجارم بك في (حفلة تأبين المرحومين السكندري ونالينو في دار الأوبرا الملكية) يوم الجمعة الماضي (انظر الأهرام 14 - 1 - 1939) وإليك المطلع، وفيه ما فيه من (براعة الاستهلال) (حسب الدستور الأكبر المسمى بعلم البديع):
غداً في سماء العبقرية نلتقي ... وتجتمع الأنداد بعد التفرق
أما المصراع الأول ففيه (فخر) لطيف مع شيء من (المبالغة) وأما المصراع الثاني ففيه (تأكيد) و (طباق)
وفي القصيدة ما تشاء من (محسنات معنوية ولفظية) لا يقوم مثل هذا الشعر إلا بها، لأن(290/84)
لبابه يتفتت إذا خطر لك أن تقبض عليه فَمَثله مَثل الفتاة المصدورة تحمِّل وجهها ما لا يطيق من ألوان الطلاء المعروضة في جميع الحوانيت
وحسبي أن أقتطف بعض الأبيات، فليس بقارئ (الرسالة) حاجة إلى التلقين:
وأبعث في الصحراء أنّات شيّق ... وهل تسمع الصحراء أنّات شيّق
وأعجبني رأي سليم ومنطق ... يصول على رأي سليم ومنطق
تتقاسَمَه غرب وشرق فألّفت ... مناقبه ما بين غرب ومشرق
ينسَّق علم الأولين مجاهداً ... ولا خير في علمٍ إذا لم ينسًّق
تلك أمثلة على ما يسمونه (رد العجز على الصدر)، ولكن أين الفائدة من هذا الترديد؟. ثم:
ويمضي الحجا ما بين يومٍ وليلةٍ ... كلمحة طرف أو كومضة مبرق
ذلك مثل على استعمال التراكيب المطروقة أي المبتذلات (لمحة طرف) و (ومضة مبرق). ثم:
يضيق فناء الأرض عن همة الفتى ... ويجمع في لحد من الأرض ضيّق
انظر إلى (الطباق): (فضاء وضيق). ثم:
كأني أراك اليوم تخطب صائلاً ... وتهدر تهدار البعير المشقشق
الشيخ الإسكندري - رحمه الله - كان (يهدر تهدار البعير المشقشق). انظر كيف استدرجت القافيةُ الشاعر إلى صورة أقل ما يقال فيها أنها مستكرهة. ثم:
فقل للذي يسمو لذيل غباره ... ظلمت العتاق الشيظميات فارفق!
نعود إلى الإبل كأن الشاعر يكره أن يسلم بأنه يعيش في القرن العشرين. أما لفظة (الشيظميات) فاطلبها في المطوّلات من المعجمات و (الغريب) في ذلك الشعر مستحسن. ثم:
فقلت أرى ليثاً وليثاً تجمعا ... وأشدق ملء العين يمشي لأشدق
وهو بيت بعض ألفاظه مأخوذة من بيت مشهور لبشر بن عوانة وهذا مستحسن أيضاً
لأمهل هنا، فإنما أرغب في أن أدلك على تداعي هذا الصنف من القريض، لأنه مختلق اختلاقاً بكدّ الذهن وقوة الذاكرة واختيار اللفظ المدوّي (والغريب أحياناً) واستعمال المحسنات اللفظية والمعنوية إلى كل ما يتصل ولأساليب المصطلح عليها للصناعة(290/85)
الموقوفة. ومعنى هذا أنه بعيد عن لفظ يحصر فيه معنى الشعر كله، وهو: الإلهام
وليعذرني الأستاذ علي الجارم بك! فإنه اختار هذا الضرب من النظم وما هو بمسئول عنه. وأملي أن يأذن لي أن يجذبني ضرب آخر يكون من ذلك الضرب مكان من الضد.
بشر فارس
الأستاذ طنطاوي جوهري يتقدم إلى جائزة نوبل للسلام
عن سنة 1939
كان الأستاذ طنطاوي جوهري قد تقدم إلى أولي الأمر في مصر ليرشحوه إلى جائزة نوبل للسلام، فلم يلق أحد باله إليه. فاضطر إلى أن يتقدم بنفسه إلى لجنة هذه الجائزة بالبرلمان النرويجي، فسألت عنه وزارة الخارجية المصرية، وهذه سألت عنه وزارة المعارف العمومية. فلم تر الوزارة بداً من النظر في طلب الأستاذ وإحالة كتبه إلى عميد كلية العلوم لفحصها وإبداء رأيه فيها. والكتب المقدمة هي: (1) أحلام السياسة وكيف يتحقق السلام العام. (2) أين الإنسان، وقد تقدم به إلى مؤتمر الأجناس العام سنة 1911. (3) صورة ما كتبه بعض عظماء ملوك الشرق وجمعيات أوربا وعلمائها في هذين الكتابين. (4) أساس النظام الدولي، والموازنة بين آراء حكماء الشرق والغرب، وبين الرأي المصري الحديث. (5) نسخة منقولة من المجلة الشرقية برومة بتاريخ سنة 1911 للأستاذ سانتلانة: الدكتور في الفلسفة. (6) نسخة مما أرسله الأستاذ كرستيان جوب من لوكسنبرج مكتوباً باللغة الفرنسية إلى المؤلف، وقال إنه ملخص من كتاب (أحلام السياسة)
وهذه الكتب والرسائل تتجه كلها اتجاهاً عالياً في الدعوة إلى السلام، ونصيب الإنسانية من السعادة إذا ما رفرف عليها علمه، وسار فيها نظامه
وآخر موعد للتقدم إلى جائزة نوبل للسلام ينتهي قبل أول فبراير القادم فلا بد من البت في طلب الأستاذ قبل ذلك
جائزة نوبل للسلم
تلقينا من لجنة (نوبل) في البرلمان النرويجي بيان الشروط التي يجب توفرها للحصول على (جائزة نوبل للسلم). وقد جاء في البيان ألا تقبل الترشيحات لهذه الجائزة - التي(290/86)
ستمنح في 10 ديسمبر سنة 1939 - إلا إذا قدمت إلى (لجنة نوبل للبرلمان النرويجي) من شخص له حق الترشيح قبل أول فبراير سنة 1939
والأشخاص الذين لهم حق الترشيح هم:
الأعضاء الحاليون والسابقون للجنة البرلمان النرويجي لجائزة نوبل والمستشارون الملحقون بمعهد نوبل النرويجي
أعضاء الهيئات التشريعية وأعضاء الحكومات في مختلف الدول وكذلك أعضاء الاتحاد البرلماني الدولي
أعضاء محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي
أعضاء مكتب مجلس السلم الدولي
أعضاء معهد القانون الدولي والمشتركون فيه
أساتذة الحقوق والعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة في الجامعات
الأشخاص الذين نالوا جائزة نوبل للسلم فيما قبل
وقد تمنح جائزة (نوبل للسلم) للمعاهد والجماعات
وطبقاً لأحكام المادة الثامنة من القانون الأساسي لهبة نوبل، يجب أن يكون الطلب مسبباً وأن يشفع بالمؤلفات والمستندات الأخرى المؤيدة له.
وتقضي المادة الثالثة من القانون بأنه لا يقبل أي مؤلف في المباراة يسبق نشره في الصحف
ولاستيفاء البيانات، يمكن من لهم الحق الترشيح أن يتصلوا في هذا الشأن بلجنة نوبل بالبرلمان النرويجي، وعنوانها هو:
(19 درا منسفاي - أسلو)
) (
19 ,
المجمع العلمي المصري - ملخص جلسة 9 يناير(290/87)
الوشم في مصر القديمة - للمسيو كيمر
ليس لدينا براهين مطلقة عن استعمال الوشم في مصر قبل الأسرة الحادية عشرة على الرغم من كون هذا الأمر محتملاً. والمعروف هو أنه يوجد ثلاث موميات ظاهر عليها الوشم، وعدة رسوم لنساء (موشومات) يرتقين إلى عهد الإمبراطورية المتوسطة وقد عثروا على الموميات في طيبة فإحداها كشفت في سنة 1891 والأخريان في سنة 1922 ومن عهد الإمبراطورية الجديدة فما بعد عثروا على رسوم نسوية كثيرة يظهر الوشم على الأفخاذ فيها، وهو يمثل الإله باين. وكانت النساء (الموشومات) في مصر القديمة ينتسبن كلهن، على ما يظهر إلى طبقة الحظايا والراقصات والمغنيات، وفي جملة أشكال الوشم التي ترى على أبدان الأسرى الليبيين التي تشاهد في الهياكل والمدافن في عهد الإمبراطورية الجديدة، رموز تدل على الإلهة (نيت) وهي إحدى الإلاهات الليبيات، ولا يزالون يرون مثل تلك الرموز في أيامنا هذه عند بعض المصريين وسكان شمال أفريقية، فهم يغطون بالوشم أذرعهم وأيديهم
وعقب ذلك بحث لحضرة الدكتور مونرو دومين عن بعض الأمراض المصرية وعن المساعي المبذولة للوصول إلى معرفة كنهها
وبعد الجلسة العلنية عقدت اللجنة جلسة سرية لانتخاب هيئة المكتب لدورة سنة 1939 - 1940 فأسفرت النتيجة عما يلي:
الرئيس: الدكتور حسن صادق بك المدير العام للمساحة والمناجم
نائبه: الرئيس المستر لتل مدير المتحف الجيولوجي
السكرتير العام: المسيو فيات مدير متحف الآثار العربية
أمين الصندوق: المسيو كنز معاون مدير المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بمصر
لجنة النشر: معالي الشيخ مصطفى عبد الرازق بك والمسيو لوكاس والأستاذ ساماركو والدكتور رمايرهوف
برنامج المؤتمر الطبي العربي
يوم الأحد 29 يناير - (وقفة عيد الأضحى المبارك) - الساعة العاشرة صباحاً تقام حفلة(290/88)
افتتاح المؤتمر بصالة الاحتفالات بالجامعة، وتؤخذ للأعضاء صورة فوتوغرافية أمام الجامعة، ثم يقصدون إلى كلية الطب حيث يفتح معرض المؤتمر
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر يقيم سعادة عبد السلام الشاذلي باشا محافظ القاهرة حفلة شاي لأعضاء المؤتمر بحدائق الحيوانات بالجيزة
وفي المساء يقيم رفعة محمد محمود باشا رئيس الوزراء مأدبة عشاء احتفاء بأعضاء المؤتمر
يوم الاثنين 30 يناير قبل الظهر تعطل أعمال المؤتمر للمعايدة، وفي الساعة الثانية بعد الظهر يقوم الأعضاء بزيارة معالم الآثار بالقاهرة، ثم يزورون مستشفى الهلال الأحمر حيث تقام لهم حفلة شاي
يوم الثلاثاء 31 يناير، الساعة الثامنة والنصف صباحاً تبحث الموضوعات الآتية بقاعة محاضرات كلية الطب وهي:
1 - الصحة الدولية في مصر والشرق الأدنى.
2 - جراحة الأكياس الديدانية ومضاعفات البول السكري.
3 - التغذية والأمراض الناشئة عن سوء تدبير الغذاء.
4 - الأمراض الزهرية.
وبعد الظهر يقوم الأعضاء بزيارة أهرام الجيزة وحفريات الجامعة، حيث يقيم لهم معالي وزير المعارف حفلة شاي في سفح الأهرام
وفي المساء تقام حفلة غنائية موسيقية ساهرة
يوم الأربعاء أول فبراير - في الصباح يستأنف بحث مسألتي جراحة الأكياس والتغذية، ثم تبحث مسائل طبية متنوعة باطنية وجراحية، وبعد ذلك تبحث مسألة توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية
وفي الساعة الثانية بعد الظهر يقوم الأعضاء بنزهة نيلية إلى القناطر الخيرية، وتقيم الجامعة حفلة شاي لهم في حدائق القناطر الخيرية.
وفي المساء تقام حفلة تمثيلية في دار الأوبرا الملكية.
يوم الخميس 2 فبراير - في الصباح تبحث الموضوعات الآتية:(290/89)
أمراض النساء وأمراض الأسنان، ثم المتنوعات، وتوحيد المصطلحات الطبية.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر يقوم الأعضاء بزيارة مصلحة الطب الشرعي حيث تقام حفلة شاي.
وفي المساء تقام حفلة العشاء السنوية للجمعية الطبية المصرية.
وقد تقرر وضع شعار للمؤتمر يضم رسم عظيمين من عظماء الطب عند الفراعنة والعرب، وهما أمنحوتب وأبن سينا، وقد وقفا وجهاً لوجه: أحدهما في ظل الأهرام والآخر في ظل أحد المساجد الشهيرة
حفلة تأبين الأستاذين السكندري ونلينو
كانت الحفلة التي أقامها مجمع فؤاد الأول للغة العربية في دار الأوبرا لتأبين عضوية المرحومين الشيخ أحمد علي السكندري والسنيور نلينو كاملة، حضرها صاحب العزة إسماعيل تيمور بك مندوباً من جلالة الملك وحضرات أصحاب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف والأستاذ مصطفى عبد الرازق بك وزير الأوقاف وسابا حبشي بك وزير التجارة والصناعة ونخبة مختارة من كبار الأدباء والموظفين وحضرات الشيوخ والنواب
وقد ألقى صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف كلمة الافتتاحية فأشار إلى سمو المعنى الذي يستخرج من تأبين رجلين كبيرين من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية أحدهما مصري هو المرحوم الأستاذ أحمد السكندري والآخر إيطالي هو المرحوم الأستاذ نللينو، ونوه بجهودهما في المجتمع واشتراكهما في سعيه الجليل لمسايرة لغتنا حياة العالم والفن وفي جميع مظاهر الحياة النظرية والعملية وقال: إن اختلاف الوطن والدين لا يحولان دون الاشتراك الوثيق في العمل لخير الإنسانية كما تجلى في عمل هذين الرجلين اللذين يسرهما القدر لغاية واحدة وجمع بينهما في الحياة والممات. ثم وجه إلي سعادة ممثل إيطاليا وإلى أسرة السكندري كلمات التعزية على فقدهما
وتلاه صاحب المعالي الدكتور محمد توفيق رفعت باشا رئيس المجمع فقال: إننا حين يسلمنا إلى الجزع تعاظم الخطب فيمن فقدنا من رجال أكفاء يحملنا على الصبر كريم العزاء وصادق الوفاء الذي نلقاه من رجال الحكومة وعظماء الدولة وجمهرة أهل العلم(290/90)
والفضل الذين حضروا هذا الاجتماع
ثم ألقى الدكتور منصور فهمي بك خطبة ضافية استهلها بشرح البواعث على رثاء الجماعات لمن تفقد من أعزائها، وأفاض في تأبين المرحوم السكندري ووصف سجاياه وأعماله وجهوده في المجمع وعظم الفجيعة فيه، ثم قال: إن المجمع حين ابتلي بفقد السكندري ما كان يعلم أن القدر يتربص له بخسارة أخرى في فقد المرحوم الأستاذ نللينو وأطب في امتداح مناقب الأستاذ نللينو
ثم نهض الأستاذ ليتمان فنوه بمآثر الأستاذ السكندري وزميله المرحوم الشيخ حسين والي ثم تكلم عما كان للمرحوم الأستاذ نللينو من كفاية عظيمة في علم المشرقيات والعلوم الإسلامية
وأنشد صاحب العزة الأستاذ على الجارم بك قصيدة رائعة البيان، وفي النهاية ألقى كل من الأستاذ عمر السكندري وسعادة الكونت ماتزوليني وزير إيطاليا المفوض كلمة شكر للمحتفلين الكرام وقد بدأ كل منهما كلمته برفع آيات الحمد إلى مقام جلالة الملك المعظم على تفضله بإيفاد مندوب عن جلالته.(290/91)
العدد 291 - بتاريخ: 30 - 01 - 1939(/)
عيد الفقير. . .
عيد الفقير! وهل للفقير عيد؟
نعم للفقير عيد إذا أردنا به الشعائر الدينية والقومية؛ فهو يصلي العيد، ويزور المقبرة، ويعيَّد على آله وصحبه، ويُكرِه السرور النافر على الإلمام ببيته وقلبه، ويجعل من المساجد والحدائق والميادين مظاهر إخلاص وشكر لوطنه وربه
فإذا أردنا بالعيد التقلب في وثير الفراش من غير صلاة، والتنافس في ذبح الكباش من غير تضحية، والتأنق في الزينة والثياب، والتفنن في الطعام والشراب، والتبسط في اللذة واللهو، والتهادي بين التيه والزهو، فذلك عيد الباشا والأمير، لا عيد المسكين والفقير
وا رحمتا للفقير قبيل العيد! يرى متاجر الملابس واللُّعب والحلوى قد ازَّينت واجهاتها البلورية بالعُروض الجذابة والنماذج المغرية، فينظر إليها نظر الراغب المحروم، ويذكر أطفاله الغارَّين في حنانه وهم يحلمون بالثوب الجديد واللعبة المسلية والأكلة الشهية والنزهة الممتعة، ويعتقدون أن أباهم قادر على أن يجعل عيدهم سعيداً وحلمهم يقظة، فيكرُبه الأسى وتصيح الحسرة في نفسه:
- حنانيك يا رباه! هذه نعمك واسعة سابغة، ولكن القدر لحكمة لا يدركها البصر المحدود جعلها لغيري لذة بالقدرة. ولنفسي ألماً بالعجز، ولأولادي شقاء بالحرمان. فليت القدرة تعرف الرحمة، وليت العجز يدرك المعونة، وليت الحرمان يخطئ الطفولة، وليت الأيام تمضي إلى غايتها من غير عيد ولا موسم!!
إن الأعياد مذلة للوالد الفقير وفضيحة للبيت البائس! ففي الأيام الأُخَر يستطيع العائل المسكين أن يغلق بابه على بؤسه، ويرَوُض أهله على مكروهه؛ ولكنه في العيد لا يستطيع أن يضرب على الآذان، ولا أن يختم على العيون، فإن المدافع تقصف في القلاع، والمزامير تعزف في الشوارع، والناس يزيطون في الملاهي، والأطفال في المراكب والمواكب يرفلون في الوشى ويلهون باللُّعب، فأولاده لابد سائلون:
يا أبانا، أين الثوب الذي نلبس، واللحم الذي نأكل، والقرش الذي ننفق؟ أهذا العيد لناس دون ناس، أم هو ذو وجوه شتى منها العابس والباسم، ومنها الدميم والحسن؟ ولَم آثرَنا نحن يا أبانا بهذا الوجه الشتيم الكالح؟
لو كان هذا الرجل في أمة مؤمنة محسنة لأجاب بنيه بقوله:(291/1)
صبراً يا بني، فعمَّا قليل يدخل عليكم باباكم (بيرم) أو عمكم (نويل) بالألطاف والحلوى والحلل من وقفية الباشا فلان، أو من جمعية كذا للإحسان؛ ولكنه يجيبهم بالدمعة البادرة، والزفرة المحرقة، والنظرة الحزينة، فلا يفهمون إلا أنهم أحقر من هؤلاء الأطفال، وأن أباهم أفقر من هؤلاء الرجال. أما علة هذا التفاوت وإلهنا واحد، وأبونا واحد، وملكنا واحد، ووطننا واحد، فعلْمها سيأتيهم مع الأيام إذا ما خرجوا بأنفسهم إلى الحياة فرأوا المكظوظ الذي غصب رغيف الجائع، والملفَّف الذي نهب كساء العاري، والمموَّل الذي سرق نصيب المحروم
حدثني رجل من ذوي هذه الحال أنه كان يشتغل مياومة في مصلحة من مصالح الحكومة؛ فلما قل عليه العمل استغنوا عنه؛ ولكنه لسوء حظه لم يستطع أن يستغني عن الأكل، ولا أن يقنع أولاده بالصوم، فراح يطلب العمل في كل مكان والمعونة من كل إنسان فلم يجد. ودخل عليه عيد الفطر من هذا العام وليس في يده ما يشتري به الكُسي لبنيه والسمك لزوجه وكان قبل نكبته بأسبوع قد وعد الكبار بالبِذَل والصغار بالهدايا، فسبحت أخيلة الأطفال في جو من الأحلام عجيب الألوان عبقري الصور؛ وأسرعت ألسنتهم الثرثارة إلى إشاعة ذلك في الرفاق والجيرة. فغُمَّ على الرجل الحال، واعتلج في صدره الهم، وأصبح حيران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل. تمنى الخروج من هذا المأزق بالمرض أو الموت؛ ولكن المرض أو الموت إذا أصبح أمنيَّة الفقير امتنع كالخير وعزَّ كالسعادة. فاحتال على العلة بالجوع، فصام النهار والليل حتى هجمت عيناه وانسرقت قواه وبانت عليه نهكة المرض
ودخل العيد بضوضائه وخيلائه على هذه الأسرة البائسة فوجدها عاكفة على سرير مريضها الموجَع، مضرَّمة الأنفاس، لهيفة القلب، لا أمل لها إلا أن يعافى عميدها ويحيا. فانكفأ العيد النشوان المرِح خجلان عن هذا المنظر الأليم إلى مجالي البهجة والنعيم في قصور الكبراء والأغنياء والسادة. ولولا هذه الحيلة التي أنقذت هذا التعِس بالمرض من غير موت، لأشفى به الخجل والهم على الموت من غير مرض
تباركت يا الله! لقد جعلت في عيد الفطر زكاة، وفي عيد النحر تضحية. فهل فهم ذوو القلوب الغُلف والبصائر العُمْي من شرعك العادل أن الفقير يزكي بقوَّته حتى يعجز،(291/2)
والمسكين يضحي بصحته حتى يموت؟؟
احمد حسَن الزيات(291/3)
الأدب والمدرسة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(هل كانت علومك المدرسية ذات أثر فعال في إظهار مواهبك الأدبية؟)
سؤال انتقل به صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم إلى (برجه العاجي) من مجلة أدبية فرنسية ألقته على طائفة من أدباء بلادها فكان جواب أحدهم: (يخيل إلى أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور وانعدام الخيال مواد مقررة رسمياً في المناهج المدرسية)
ويقول الصديق فيما عقب على هذا الجواب (ولو سئلت لما خرجت إجابتي عن هذا المعنى)
وكنا نتحدث في هذا قبل أن أقرأه في البرج العاجي من الرسالة، قصصت على الصديق بعض ما أذكر من عهد المدرسة ووصفت له أساتذتي في اللغتين العربية والإنجليزية وتوخيت الإنصاف وتحريت الحق، فسألني إن أكتب هذا وأنشره، فوعدت أن أفعل. وقد بدأت أكتب وفي نيتي أن أبر بالوعد، ولكني بعد أن بلغت هذا الموضع أراني أميل إلى الإخلاف فما أحب أن أسيء إلى أحد بلا موجب وبغير حق، أو أن أرمى بالجحود والكفران.
وأكبر الظن أن الذين علموني نسوا - أو هم لا يدرون - أني كنت من تلاميذهم؛ فلو قلت فيهم ما قال مالك في الخمر ما عرفوا أنهم هم المعنيون؛ ولو أثنيتُ عليهم لتعجبوا وراحوا يتساءلون (ترى من كانوا معلميه؟) ولعل أكثرهم قد عاد إلى التراب الذي جبل منه ولكني مع ذلك لا أراني أقدر أن أضعهم في الميزان إلا إذا وضعت نفسي معهم
أنا أيضاً كنت تلميذاً ثم مدرساً لسوء الحظ. وكانت ميزتي المحتمة في أيام التلمذة (الغباء وفقر الذهن وضعف التصور) يضاف إليها الفقر. وكان يبلغ من فاقتي في ذلك الزمان أن كنت أحتاج إلى القميص الأبيض لألبسه مع البذلة فلا نجد ثمنه، فتعمد أمي المسكينة إلى ما خلف أبي من قمصان فتصلحها فتضيق من هنا وتقصر من هناك، ولكن الياقة أو البنيقة كانت تعييها فتلبسنيها كما هي؛ ولو جعلت لي منها حزاماً لكان هذا أصلح. فتصور هذا الطوق العظيم على عنقي. وكنت إذ أمشي بها لا أدري ماذا أصنع وكيف أبلغ المدرسة، لأني كنت أحتاج إلى كلتا يدي لأهوى بجانبي الطوق عن أذني، ولكني محتاج أيضاً إلى(291/4)
حمل الكتب والكراسات فكيف أصنع وليس لي غير يدين اثنتين: ولا أدري كيف نجوت من العمى فقد كانت عيناي ترمدان فلا تعبأ بي المدرسة. نعم كان لها طبيب يحضر كل يوم لعيادة المرضى منا فكنا إذا سمعنا ناقوسه نجري إليه فيصفنا أمامه ولا يجشم نفسه عناء السؤال أو الفحص، بل يقول وهو يشير إلى كل واحد منا على الترتيب: (شربة، لبخة قطرة) فيتفق أن يكون من حظك (القطرة) وشكواك أن رجلك مهيضة، أو اللبخة وبك زكام. وكنت أذهب إليه لعلاج عيني ولكني كنت أخرج مأموراً بالشربة أو اللبخة ولا أخرج قط بالقطرة. أما في البيت فكان كل ما أتداوى به من الرمد الماء البارد.
وآية غبائي وبلادتي أني كنت في كل فرقة الأخير، - حتى مقعدي كان الأخير في الحجرة - وكنت لصغر جسمي وقماءتي لا أكاد أبدو للمدرس، فهو لا يراني ولا يحس بوجودي ولا يعني بي، وأنا أغتنم هذه الفرصة فأتشاغل عن درسه بما يخطر لي من العبث. وكان جاري في بعض الفرق ضخم الجسم كأنه الفيل الصغير، وكان لجسامته يحتاج حين يقعد أن يتكئ على الدرج بكلتا يديه، وكانت عادته أن يمسح وجهه بكفيه بعد ذلك ويتمتم بقوله: (خيبة الله عليكم) - يعني زملاءه التلاميذ لأنهم كانوا لا يكفون عن ركوبه بالعبث، فاشتريت مرة قليلاً مما يسمى (بودرة العفريت) ونثرتها على الدرج فاتكأ عليه ومسح وجهه ثم ذهب يحك كفيه وخديه حتى دمى وجهه وانقطع عن المدرسة أياماً حتى شفي. ففطن المدرسون إلى وجودي بعد ذلك وصرت أتهم بكل ما يحدث في المدرسة ولو وقع في فرقة غير فرقتي، فأنا عندهم المحرض أو الموسوس بالعبث إذا لم أكن أنا الفاعل
أما الدروس فما كنت أفهم منها شيئاً؛ ولم يكن هذا ذنب المعلمين فما كانوا يقصرون في الشرح والبيان، ولكني أنا كنت لا أستطيع أن أنتفع بذلك لأني أكون قاعداً على ركبتي - فوق البلاط - عقاباً لي على ما لم أصنع في الغالب - أو واقفاً ووجهي إلى الحائط أو مطروداً من الحجرة كلها. وكيف يمكن بالله أن يفهم شيئاً من لا يزال هكذا - ركبتاه على الأرض أو أنفه على الجدار أو هو يتمشى في الفناء أو الدهليز. . .
وكان أرق المدرسين معي وأظرفهم وألطفهم على العموم إنجليزي أنيق كان إذا رآني - وما أكثر ما كان يغضي - أخرج على النظام يدعوني أن أقف ويطلب مني أن أتهجى كلمة (مجنون) أو (شقي) وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ويكتفي من العقاب بهذا(291/5)
وكان لنا معلم للغة العربية غريب الأمر - كانت حجرتنا مجاورة لحجرة الناظر الإنكليزي، فكان هذا المعلم يفرغ من إلقاء الدرس وشرحه ومن التطبيق أيضاً في خمس دقائق على الأكثر ثم يقول: (أغلقوا النوافذ كلها) فنفعل ثم يأخذ في حديث سياسي يذم فيه عهد إسماعيل ويلعن فيه أيام توفيق ويثني على الإنكليز أطيب الثناء. ولم يكن أعجب من صنيعه هذا إلا إغلاقه النوافذ ليوهمنا أن الناظر الإنجليزي يسوؤه أن يعلم أنه يثني على قومه. . .
وكنا نناقشه ونجادله ونخالفه فيوسع صدره ويروح يحاورنا ويداورنا ليقنعنا بأن ما خرب من نفسه عامر. وكانت تلك أيام مصطفى كامل وكنا نقرأ (لواءه) ونسمع خطبه. وأحسب أني لا أبالغ إذا قلت أني تلقيت دروسي الأولى في اللغة العربية من اللواء والمؤيد لا من معلمي في المدارس، وتصور أن منهم معلماً كان يكلفنا أن نحفظ كتاب النحو عن ظهر قلب. . . بل تصور أنه كان يثني على التلميذ الذي يقول له في جواب سؤاله عن الفعل اللازم (ما هو) - (هو ما ليس كذلك) - كما في الكتاب بالحرف الواحد. ولم أستطع قط في حياتي أن أحفظ شيئاً عن ظهر قلب إلى إذا جاء هذا عفواً وعن غير قصد، فكانت درجتي في اللغة العربية هي الصفر دائماً
وكل ما حفظته من الشعر العربي في المدرسة قصائد قليلة مثل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وما إليها - وحتى هذه يخيل إلي أني ما حفظتها إلا فيما بعد - لما كبرت، ولكني أذكر على كل حال أن المدرس الذي كان يغلق النوافذ ويهجو المصريين ويمدح الإنكليز هو الذي كان يتقاضانا أن نحفظ: (إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه، فكل رداء يرتديه جميل) وقد يكون هذا اتفاقاً محضاً
وكان أساتذتنا في اللغة الإنجليزية على عكس ذلك، فكانوا يرشدوننا ويساعدوننا ويقرضوننا الكتب إذا أنسوا منا ميلاً إلى القراءة، ويصحبوننا إلى مكتبة المدرسة، ويتخيرون لنا ما يوافقنا وما يسعنا أن نفهمه، ولا يبخلون علينا بالتفهيم والشرح حتى في أوقات الفراغ إذا طلبنا منهم ذلك؛ ولكن بعضهم كان عجيب الشذوذ. أذكر منهم واحداً كان يعلمنا الجغرافيا الاقتصادية فكان يكتب على السبورة رقماً يبلغ من طوله أن بقيته تجيء على الجدار؟(291/6)
وكان هذا مبلغ علمه بهذه الجغرافيا. ومنهم من كان يعطينا الدرجات على الخط وجودته ولا يبالي أصبنا أم أخطأنا في الموضوع، فأجودنا خطاً أعلانا درجة ولو كان أجهل مني
أظن أن المدرسة لا تستطيع أن تعلم الأدب، وكل ما يسعها ويجوز أن يطلب منها هو الترغيب والتوجيه والتسديد، وحسبها أن توفق في هذا، وأكاد أقول حسبها ألا تنفر من الأدب وتزهد فيه
إبراهيم عبد القادر المازني(291/7)
المتنبي وسر عظمته
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
إذا قرأ القارئ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيسٍ ألتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وكِلمةٍ في طريقٍ خفت أعرابها ... فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة ... وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن
أحس بما تدعو الحياة إليه من تقيد النفس بقيود التجانس حتى ولو كان فيها قهر أنبل عواطفها ونوازعها، وأحس بالمعركة التي تدور في النفس بين نزعاتها من رضاء وإباءٍ وتسليم وثورة، والتذ مشاركته الشاعر في تلك المعركة النفسية حتى ولو كانت المشاركة بالعقل الباطن والقراءة بالعقل الظاهر. وهو يحس هذا الإحساس إذا قرأ قوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضوي به الأجسام
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجةٌ لا جئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميِّتٍ إِيلام
وهو أيضاً يضع نفسه موضع نفس الشاعر في تلك الرحلة النفسية التي يلتذها بالقراءة إذا قرأ قوله:
وما أنا منهمُ بالعيش فيهمْ ... ولكنْ معدن الذهب الرغام
خليلك أنت لا مَن قلت خِلِّي ... وإِن كثر التجمُّل والكلام
ويزداد اعتداد المتنبي بنفسه، فلا يزداد القارئ إلا لذة ببيانه عندما يقرأ قوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
عِشْ عزيزاً أو متْ وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
واطلب العز في لظى ودع الذ ... ل ولو كان في جنان الخلود
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود(291/8)
وكذلك عندما يقرأ قوله:
ومِن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بِيَ جاهل
ويجهل أني مالك الأرض مُعسرٌ ... وأني على ظهر السماكين راجل
تحقر عندي همتي كلَّ مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل
والبيت الأول يدل على تفكير طويل في أنواع جهل النفوس بالنفوس، وهو موضوع عميق كعمق الحياة، ومجاهل أعماق النفس والحياة كمجاهل أعماق المحيط. وكذلك إذا قرأ أبيات المتنبي التي يخاطب بها أسد الفراديس ويدعوها فيها إلى محالفته، سار القارئ في رحلة نفسية خيالية في عالم البيان الشعري، حيث يود الشاعر أن يؤلف الوحش وأن تألفه، كما حدثوا عن الشنفري الشاعر. وإذا قرأ القارئ قول المتنبي:
عدُوِّي كل شيء فيكِ حتى ... لخلت الأُكم موغورة الصدور
فلو أني حُسدْتُ على نفيسٍ ... لجدْتُ به لذي الجد العثُورِ
ولكني حُسِدْتُ على حياتي ... وما خير الحياة بلا سرور
كان قد بلغ من تلك الرحلة النفسية قفراً موحشاً تختلط فيه الحقيقة بالخيال في نفس بلغت من النفرة من الناس والشك فيهم مبلغاً يجعلها تشك في الجماد، وتخاله موغر الصدر كالناس، وهذه حالة حقيقية في النفس، وإن اختلطت فيها الحقيقة بالخيال، وهي من الحالات النفسية التي يجيد المتنبي وصفها كما قال:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينيه حتى يرى صدقها كذباً
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنباً
ويتبع القارئ الشاعر في رحلة التجارب النفسية حيث يقول:
فلا تَنْلكَ الليالي إن أيِدِيَها ... إذا ضربن كسرْنَ النبع بالغرَب
ولا يُعنَّ عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وإن سررْن بمحبوب فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب
وربما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمر غير محتسبِ(291/9)
وما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أَرَبٌ إلا إلى أَرَبِ
والبيت الأخير يعبر عن سر التعلق بالحياة؛ فليس سر التعلق بها لسعادتها وكمال مسراتها، بل قد يتعلق بها أشد التعلق من قلت مسراته فيها، وإنما يكون الحرص عليها كلما وجد المرء سبيلاً لنشدان المطالب والمآرب حتى ولو لم يسعد بها. فالحرص على الحياة موجود ما دام المرء ينتشي فيها بالسعي والطلب، وإن لم يُؤَدِّ السعي إلى فوز وسعادة. ويستمر القارئ متابعاً للمتنبي في رحلته النفسية في عالم التجارب وآلامها كما في القصيدة التي يقول في مطلعها: (كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً). ويعاود وصفها في القصيدة التي مطلعها: (أود من الأيام ما لا توده) وفي القصيدة التي مطلعها: (فراق ومن فارقت غير مذمم) والتي يقول فيها:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدَّقَ ما يعتاده من توهم
وعادي مُحبِّيهِ بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم
ويعاود وصف آلامه وآماله وخيبته وتجاربه في قصيدة: (بما التعلل لا أهل ولا وطن). وفي قصيدة: (أغالب فيك الشوق والشوق أغلب). وفي قصيدة: (صحب الناس قبلنا ذا الزمانا). وهو يحس فيها بضآلة مطالب الحياة بالرغم من إقبال نفسه عليها فيقول:
ومراد النفوس أصغر من أَن ... تتَعادَى فيه وأَنْ تَتفانى
كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهل فيها إذا هو كانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
وتراه يصف كيف أن نفسه قد تُقهرُ على التخلق بصفات الحياة من مداهنة وشك، فيقول:
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
إلى أن يقول:
ولم أَرَ في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
ويعود إلى وصف ما علمته الحياة من سوء الظن فيقول:
توهم القومُ أن العجز قرّبنا ... وفي التوهم ما يدعو إلى التهم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإِن كانوا ذوي رحم(291/10)
هوَّن على بصر ما شق منظرهُ ... فإنما يقظات العين كالحلم
ولا تشك إلى خلقٍ فتُشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ثم هو بالرغم من شكواه يعرف أن للمعالي التي ينشدها ثمناً لا بد أن يؤديه فيقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ويعلم أنه من العبث أن يُعَنِّي المرء نفسه وأن تُعَنِّيه إذا لم تدرك ما تَمَنَّتْ فيسلى نفسه ويسلي القارئ معه بقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ويعلم أن الظلم في النفوس صفة عامة إذا خفيت فإنما تخفى لسبب فيقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وهذه الحكم العديدة وأمثالها في شعر المتنبي ليست من الشعر التعليمي أو الوعظي الذي يصنعه المرء وهو ناعم البال قرير العين بارد العاطفة وهو جالس إلى مكتبه يتأمل فيما تصف به الكتب والدفاتر أوجه الحياة وأخلاق النفوس فيها، ولكنه تأمل المختبر المجرب، فهو شعر التأمل الذي تغري به العاطفة لا شعر التأمل الذي يغري به العقل في دعته أو مباذله أو عند مباهاته بالعلم ومفاخرته بالعرفان، فهو شعر حكمة يُبصِّرُ الشاعر فيها نفسه ويذكِّرها كي تتحمل الحياة بمعرفتها الحياة، وتتحمل الناس بمعرفتها أخلاق الناس. ومن كان شديد الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها كالمتنبي كان في حاجة إلى هذه التبصرة والتذكرة بسبب ما يجشم الشاعر نفسه من معاناة الحياة والناس معاناة فوق معاناة القنوع التي لابد منها. فهذا الاعتداد بالنفس بما يفيض به من حنكة وخبرة وأنغام وبيان وآلام وآمال، هو سر نبوغ المتنبي وسر شهرته وتعلق الناس بشعره كما ذكرنا، وهو سر قوة شعره. وهذه القوة هي فيض يغمر كل باب من أبواب شعره من مدح أو وصف أو عتاب أو رثاء. ومن أجل ذلك تبدو حكمة الحنكة في شعره مختلطة بالمدح أو العتاب أو الوصف أو الذم، ففي قصيدته التي يصف فيها الأسد ويقول:
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا(291/11)
ويستجمع كل معاني الوصف الرائعة، إذ تراه يورد الحكمة كما في قوله:
أَنفُ الكريم من الدنيئة تارك ... في عينه العدد الكثير قليلا
وفي قصيدة أخرى بينما هو يمدح الممدوح إذ تراه يقول:
إلْفُ هذا الهواء أوقع في الأن ... فسِ إن الحِمَام مُرُّ المذاق
وفي قصيدة أخرى يقول:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعِلَلِ
وفي قصيدة أخرى من قصائد المدح يقول:
إنا لَفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
فأصبح منتهى ما يطمع فيه الطامع في خير الناس أن يحصل على خيرهم السلبي، أي امتناعهم عن الشر كأنما الامتناع عن العمل عمل يشكرون عليه. وكذلك يورد الحكمة في قصائد المدح الأخرى مثل قصيدة (لكل امرئٍ من دهره ما تعودا) التي يقول فيها:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وأن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وكذلك يصنع في قصيدة (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) وقصيدة (الرأي قبل شجاعة الشجعان). فقيمة مدحه ليست في المغالاة المرذولة كما في بعض قوله وإن اشتهر بها، ولكن قيمته فيما يخالطه من حنكة وخبرة إما بالأخلاق والحياة عامة، وإما بالصفات المرغوب فيها التي يود كل ممدوح أن تنسب إليه. وكذلك يورد الحكمة في قصائد الاستعطاف أو التوفيق أو العتاب كقصيدة (إن يكن صبر ذي الرزيئة فضلاً) وقصيدة (حسم الصلح ما اشتهته الأعادي) وقصيدة العتاب الرائعة الفخمة التي يعنف فيها في عتاب سيف الدولة تارة وتارة يبلغ غاية الرقة كما في قوله فيها:
إن كان سَرَّ كمُ ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
ويورد الحكمة أيضاً في قصيدة (بغيرك راعياً عبث الذئاب)
فيمدح ويستعطف ويورد الحكمة، وفيها يقول:
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارِمِهِ العقابُ
وكم ذنب مُوَلِّدُهُ دلال ... وكم بُعْدٍ مُوَلِّدُهُ اقترابُ
ويورد الحكمة أيضاً في قصائد الرثاء والتعزية وله فيها قصائد شائعة مثل رثائه لعمة(291/12)
عضد الدولة ورثائه سيف الدولة وأخته ومملوكه يماك ورثاء المتنبي لجدته ورثائه لأبي شجاع فاتك، وفي رثاء عمه عضد الدولة يقول:
يموت راعي الضأنِ في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمرهِ ... وزاد في ألأمن على سربه
وفي رثاء أم سيف الدولة يقول:
وصرتُ إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
وفي رثاء مملوك سيف الدولة يقول:
وأوفى حياة الغابرين لصاحب ... حياة امرئ خانته بعد مشيبِ
إذا استقبلتْ نفسُ الكريمِ مصابَهُ ... بخبث ثَنَتْ فاستدبرتْهُ بطيبِ
وفي رثاء جدته الرائع يصف ما لاقاه في سبيل تجشيم نفسه عظام المساعي فتزداد لذة القارئ في قراءته. والمتنبي إذا أراد الوصف أجاد كما في وصف الأسد وكما في وصف شِعب بوان ونباتة الذي يقول فيه وهو من أبدع الوصف:
مغاني الشِعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
ويصف الخيل كما في قوله (وما الخيل إلا كالصديق قليلة. الخ) ويصف الحروب. وليس إقلاله من وصف مظاهر الكون والطبيعة من عجز، بل لأن بصر بصيرته كان موجهاً إلى دخائل نفسه ونفوس الناس وأخلاقهم في الحياة أكثر مما كان موجهاً إلى مظاهر المرئيات وله في الغزل بالرغم من ذلك أشياء تستجاد وتستحب مثل قوله:
زَوِّدِينا مِنْ حْسن وجهك مادا ... م فحسن الوجوه حالٌ تحول
وصلينا نَصِلْكِ في هذه الدن ... يا فان المقام فيها قليل
وقوله:
إذا كان شم الروح أدنى إليكمُ ... فلا برحتني روضةٌ وقبولُ
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقة ونحول
فسحر شعر المتنبي هو سحر جاذبية الشخصية المعتدة بنفسها وسحر ما تختبره من الحياة.
ولا نعني بسحر الاعتداد بالنفس أن الناس لا يقاومونه. هم يقومونه بكل وسيلة في أول الأمر، وبعضهم يظل يقاومه حتى مع التأثر به. بل إن بعضهم تدل شدة مقاومتهم له على(291/13)
شدة التأثر به. ففي بعض سجايا النفوس قد يظهر التأثر بالإنسان، أو بالشيء بمظهر المقاومة. ولعل أظهر هذه الظاهرة في العلاقات الزوجية، ولكنها موجودة في جميع علاقات الناس بعضهم ببعض، وقد لا تكون المقاومة دليلاً على التأثر. بل قد تكون دليلاً على قلة التأثر أو انتفائه. ولعل الظاهرة أساسها واحد في الحالتين، وأساسها هو: دفاع كل نفس في الحياة عن كيانها ومميزاتها وخصائصها؛ وكلما كان تأثرها بخصائص غيرها وكيانه أعظم، كانت المقاومة ألزم في بعض الحالات وفي بعض النفوس، إما صيانة للبقية من استقلالها، وإما لكي تعذر نفسها لدى نفسها في استسلامها لسحر الاعتداد بالنفس سراً بمقاومة جهراً فترتاح إلى هذا العذر وتحسب أنها قد صانت به كرامة استقلالها. ولكن إذا كان الاعتداد بالنفس عظيماً، وكان مقروناً بقوة العبقرية أو البيان والفصاحة أو الخلابة أو العصبية المناصرة له تمكن على الزمن من تحويل الشيء الكثير من المقاومة إلى إعجاب، كالإعجاب الذي ناله من النفوس التي ناصرته من أول الأمر بسبب لذتها في الاستسلام أو لذتها في رؤية اعتدادها بنفسها مقدساً في شخص عظيم. وتغلب الاعتداد بالنفس على المقاومة يكون شبيهاً بتغلب النعاس على اليقظة. وقد لاقى المتنبي أشد المقاومة، ولكن شدة اعتداده بنفسه تمكنت من تحويل المقاومة على مر الزمن إلى إعجاب كثير
لقد كنا في عهد الصغر إذا قرأنا للمتنبي قوله:
من لو رآني ماءً مات من ظمأ ... ولو عرضتُ له في النوم لم ينم
تخيلناه مخلوقاً من مخلوقات الخيال في القصص الخرافية. وفخره العريض في هذا البيت وفي أمثاله كان من خواطر العظمة التي رآها لنفسه، ولكنا لم نشأ أن نعد كل أقواله في القتال وإراقة الدماء من قبيل خواطر السوء التي تمر بخاطر كل إنسان، لأن الرجل كان محارباً فعَّالاً كما كان متخيلاً قوَّالاً. وإذا صدقت قصة مقتله التي قيل فيها إنه فر طالباً النجاة ممن أغاروا عليه حتى ذكرَهُ مذكرٌ بقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وذكره بأن من يقول هذا القول لا بد أن يكون فعله كقوله، فعاد للقتال حتى قُتلَ
أقول إذا صدقت هذه القصة: كان الاعتداد بالنفس الذي قتل، هو الاعتداد بالنفس الذي خلدَ عظمته وزادها. وهو أيضاً كذلك وإن لم تصدق هذه القصة(291/14)
عبد الرحمن شكري(291/15)
من برجنا العاجي
إني أتجنب دائماً رؤية خروف العيد حياً قبل العيد، وأتحاشى أن أدنو منه أو ألاطفه أو أعقد بيني وبينه أواصر صحبه أو مودة، خشية أن تمضي ساعات فإذا هو أمامي مشوياً في طبق، ينظر أليّ بعينين يسيل منهما الدهن والزبد، نظرات كلها ازدراء لما تكشف له من خلقنا الإنساني المنطوي على الخيانة والغدر! إني أتخيل دائماً معاني هذه النظرات الهادئة العميقة التي تنبعث من عيون هذه الحيوانات الوادعة الأليفة. إنها لأبلغ في إنسانيتها أحياناً من بعض نظراتنا الآدمية التي يشع منها بريق جشع حيواني ونهم مفترس قد لا تعرفه غير الضواري والكواسر!
إني لأتخيل الحديث الذي يمكن أن يدور بيني وبين هذا الخروف لو أنه منح القدرة على الكلام:
- لماذا صنعتم بي هذا؟
- لمجدك الأدبي
- مجدي الأدبي! هذا الذبح والسلخ والحرق مرة في كل عام على مدى الدهور والأيام!
- نعم، هو مجدك الذي ينبغي أن تتيه به وتفخر وتزهى على غيرك من الحيوان! إن دمك يراق من أجل فكرة، وحياتك تضحي في سبيل عقيدة!
- آه للإنسان ما أبرعه في إلباس صغير الفعال رائع الثياب!
- نعم، هنا مفتاح سمونا وسر عظمتنا!
- هنا الفرق بيننا وبينكم
- نعم، كل الفرق
- أن الغرائز السفلى ما زالت هي الناموس الأعظم لنا ولكم. ولم تستطيعوا مع قدرتكم وقوتكم أن تخرجوا عن نطاقاها قيد أنملة. . .
- ولن نخرج
- إنما كل عملكم أن تضعوا على حقائقها العارية رداء، كما وضعتم على أجسامكم العارية لباساً. نحن العارون جسداً وروحاً، وأنتم الكاسون جسداً وروحاً. أما بعد ذلك فلا اختلاف بيننا وبينكم.
- هذا صحيح يا سيدي الخروف!(291/16)
توفيق الحكيم(291/17)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
تاريخ كلمة أدب
لا نجد (كلمة أدب) فيما بين أيدينا من الكلام المأثور عن الجاهليين؛ ولكن ورودها فيما أُثِر عن الرسول (صلوات الله عليه) وعن الصحابة يرجح أنها كانت مستعملة قبل الإسلام في المعاني التي دلت عليها في عهد الرسالة أو في معاني قريبة منها ولدينا روايات من صدر الإسلام منها:
1 - أن علياً رضي الله عنه قال للرسول: يا رسول الله:
نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ورُبيت في بني سعد) والتأديب هنا معناه التعليم
2 - ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
(إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فتعلموا من مأدبته)، والمأدبة هنا موضع الأدب أي الكتاب الجامع ما يؤدب به الله الناس من أوامر ونواه ومواعظ وحكم
3 - وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تفسير الآية:
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً): فقِّهوهم وأدبوهم. وقال مُقاتل أحد التابعين في تفسير الآية نفسها: أن يؤدب المرء نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر) والأدب في هاتين الروايتين يراد به التهذيب الذي يقرب من الخير ويبعد عن الشر وفي العصر الأموي نجد الكلمة مستعملة في المعاني المتقدمة أو ما يقرب منها:
جاء في شعر مُزاَحم العُقيلي وصفُ الجمل المذلَّلُ بالأديب قال:
فهن يَصرفنَ النوى بين عالج ... ونجران تصريف الأديب المذلل
وجاء في خطبة زياد البتراء:
(فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدَبون لكم. أما والله لأؤدِّبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمُنَّ)
وقال بعض الفزارين من شعراء الحماسة:
أكْنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبْه والسوأة اللقبا(291/18)
كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي ... أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
واتخذ الخلفاء والكبراء في العصر الأموي فما بعده معلمين يؤدبون أولادهم فكانوا يسموْن (المؤدِّبين) وكانوا يؤدبون برواية الكلام البليغ الداعي إلى المكارم، الحافز إلى العظائم. وقد روى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لمؤدِّب ولده: وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا
وفي عيون الأخبار أن عمر بن عبد العزيز قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني؟ قال: أحسن طاعة؛ قال: فأطعني الآن كما كنت أطيعك
وكان المؤدبون، حين يروون القصائد والخطب والأمثال، يذكرون طرفاً من أخبار أصحابها ونُبذاً من الواقعات التي قيلت فيها فاستعمل الأدب في الشعر والنثر وما يتصل به من أخبار ونوادر، وفشا هذا العرف على مر العصور، وسُمِّي من يروي الأدب وأخباره ويعلمه أديباً
وامتاز الأديب من الشاعر والكاتب. فإذا غلب على الرجل درس الأدب وتعليمه فهو أديب، وإذا غلب عليه إنشاء الشعر فهو شاعر، وإذا غلب عليه إنشاء النثر فهو كاتب. وربما جمع الرجل هذه الألقاب الثلاثة أو اثنين منها
وأطلقت كلمة (الأدب) منذ تلك العصور على المعنيين: المعنى الخلقي والمعنى الكلامي؛ أعني حسن الخلق والمعاملة والكلام البليغ وما يتصل به من أخبار. وقد ذكر هذين المعنيين ابن قتيبة في مقدمة كتابه (أدب الكاتب) إذ قال: (نحن نستحب لمن قبل عنا أو ائتم بكتبنا أن يؤدّب نفسه قبل أن يؤدّب لسانه ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه)، وقيل لهذين المعنيين من بعد (أدب النفس وأدب الدرس)
فأما أدب النفس فقد توسعوا فيه حتى شمل كل طريقة مستحسنة في علم أو عمل، وألّفت كتب باسم أدب القاضي وأدب المفتي، وأدب القراءة، وأدب المحدث، وأدب البحث، وأدب المتعلم، وأدب المريد، وأدب النديم، وأدب الدنيا والدين ونحو ذلك
وأما أدب الدرس فقد وسعوه كذلك حتى شمل علوماً عُدّة سميت علوم الأدب أو علم الأدب، وأحياناً يسمونها الأدب اختصاراً
علم الأدب
لم يكن بد لدراسي الشعر والنثر من معرفة قوانين العربية التي تعصم ألسنتهم من الخطأ؛(291/19)
فكان كل متأدب يتعلم النحو وكل مؤدب يعلّمه إلى ما يعلّم من الأدب. فغدا النحو من وسائل الأدب، واختلط به. وكذلك علوم العربية الأخرى كلما وضع علم جعل من وسائل الأدب ووصل به. فاتصل بالأدب الصرف والنحو والعروض وفنون البلاغة وعلوم أخرى، وسميت كلها علوم الأدب أو علم الأدب أو الأدب
وأراد الباحثون في الأدب بهذا المعنى أن يحدوه حدَّاً واضحاً بين ما يدخل فيه وما يخرج عنه فعرفوه تعريفات متقاربة؛ منها:
1 - علم يُحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظاً وخطّاً
2 - علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة
3 - حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف وحصروا العلوم التي تدخل في هذه التعريفات فجعلوا علوم الأدب ثمانية، ثم زادوها إلى أثني عشر، عدّها ابن الأنباري في طبقات الأدباء ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف، والعروض والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم. ثم قال:
(وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو الخ)
وقسمها الشريف الجرجاني تقسيماً منطقيّاً إلى اثني عشر:
قال في مقدمة شرح المفتاح: (إن علم العربية المسمى بعلم الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظاً أو كتابة.
وينقسم - على ما صرحوا به - اثني عشر قسماً؛ منها أصول هي العمدة في ذلك الاحتراز ومنها فروع)
ثم بين أن الأصول هي: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان (والبديع تابع لها) والعروض والقافية
وأن الفروع هي: الخط، وقرض الشعر، وإنشاء النثر، والمحاضرات (ومنه التاريخ)
وقال ابن خلدون في فصل علم الأدب من المقدمة:
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً(291/20)
على تحصيل أساليب الشعر وفنونه وقد أُثِرَ تعميم (الآداب) وإطلاقها على معارف أخرى في قول الحسن ابن سهل:
(الآداب عشرة: فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن. فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية فالطب والهندسة والفروسية. وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس)
وجاء في إحدى سائل الجاحظ: (إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة ذكروا أن أصول الآداب التي يتفرع منها العلم لذوي الألباب أربعة: فمنها النجوم وأبراجها وحسابها، ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير، ومنها الكيمياء والطب وما يتشعب من ذلك، ومنها اللحون ومعرفة أجزائها ومخارجها وأوزانها)
وجاء في رسالة إخوان الصفاء:
(اعلم يا أخي أن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس منها الرياضة ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفة الحقيقية.
فالرياضة هي علم الآداب التي وضع أكثرها بطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعة أنواع: أولها علم الكتابة والقراءة؛ ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات ومنها علم الشعر والعروض؛ ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله؛ ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما يشاكلها؛ ومنها علم الحرف والصنائع؛ ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل؛ ومنها علم السير والأخبار) ففي كلام ابن سهل والجاحظ وإخوان الصفاء علوم سميت آداباً وليست من علوم الأدب المصطلح عليها.
ويشعر بهذا التعميم قول الجرجاني في كتاب التعريفات:
(الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ) وقد يسر هذا التعميم حاجة الأديب إلى سعة المعارف والأخذ من كل فن بطرف (كما قالوا) وكذلك أدّى إلى هذا التعميم تولي الكتاب من الأدباء الوزارة ودواوين الدولة وحاجتهم إلى معرفة كل ما تصرفه الدول من السياسات وما يتصل بأعمالها من المعارف.
ومن شواهد هذا أن كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) ضمن خلاصة المعارف التي(291/21)
كانت في عصره.
ومؤلفو الأدب في عصرنا يقسمون الأدب قسمين: الأدب بالمعنى الخاص وهو الشعر والنثر، والأدب بالمعنى العام وهو كل ما أدركته أمة من المعارف. فيقال مثلاً أدب العرب لما أثر عنهم من نظم ونثر. ويقال أدب العرب أو آداب العرب لكل ما أثر عن الأمة العربية من آداب وعلوم.
وإنما دعا مؤلفينا إلى هذا أنهم قابلوا بكلمة أدب الكلمة الإفرنجية وهي تدل على كل ما تسجله لغة في عصورها كلها أو بعضها وتخص أحياناً بما يسمى عندهم أي الكتابة الجميلة وهي الكلام البليغ من الشعر والنثر. فلما ترجم كُتَّابنا في معناها الخاص بكلمة أدب، وهي ترجمة صحيحة، ترجموها في معناها العام بكلمة أدب، وهي ترجمة تحمل الكلمة العربية أكثر مما شاع استعمالها فيه على مر العصور.
ولو استعملت كلمة (معارف) في هذا المعنى العام لكان أقرب إلى الوضع اللغوي وأبعد عن اللَّبس.
وكان من الترجمة عن اللغات الأوربية أيضاً أن سمينا (كلية الآداب) ترجمة للتسمية ويقابلها بالإنكليزية فأطلقنا الآداب على اللغات وآدابها والفلسفة والجغرافية والتاريخ وجعلنا كلمة (آداب) مقابلة لكلمة علوم التي ترجمتا بها كلمة
عبد الوهاب عزام(291/22)
على الشاطئ الحبيب
(مهداة إلى الصديق الدكتور أحمد موسى)
للأستاذ محمود الخفيف
كَمْ تَوَقَّفْتُ عِنْدَ شَطِّكَ حِينا
فَمَلأَتَ الفُؤادَ شِعرْاً وَسَحْراً
تَتَمَلّى العُيونُ مِنْكَ جبيناً
من جبين الصباح أَسْطَعُ فَجْرَا
أنتَ أَشَهى طَلاَقَةً وسُكوُناً
وانهلالاً وأنتَ أَجْمَلُ بِشرا
إنّ هذا السكونَ يَغْمُرُ نَفْسي
من لِقْلبِي بِرُقْيةٍ من سُكَونِكْ
من لروحي بِحُسْوَةِ المُتَحَسَّي
مَنْ صَفَاءٍ تذيعُهُ في فُتُونِكْ
ما لهذا الصَّفاءِ يُغْرِقُ حِسَّي
ما أراه إلا أرَقَّ لحُوِنكْ!
ياَ شِرَاعاً لا تَنثْنَيِ عَنْهُ عَيْنِي
كيف يَسْهُو عن سِحْرِهِ مَنْ بَرَاهْ؟
نَامَتْ الفُلْكُ في سَلاَمٍ وَأَمْن
وسَبَى النِّيلَ حُسْنُهاَ وَازدَهَاهْ
فَجَلاَهَا لْلِعِيْنِ فيِ صُورَتَيْنِ
يا لَحُسْن تَهَزُّنِي صُورَنَاْه!
رَاَعنِي ظِلّلهُ وَياَ رُبَّ لَحْنٍ
عَبْقَرِيّ يَرِقُّ عّنْهُ صَدَاْه!
دَقَّ في حُسْنِهِ فَقَصَّرَ فَنِّي
وَبَيَانيِ وَفَاتَ جُهْدِي مَدَاهْ(291/23)
مَنْظَرٌ تَرْكَنُ النْفُوسُ إِلَيْهِ
يَغْرِقُ الَهْمُّ فِي سَنَي رَيْعَانِهْ
يَهْتِفُ القَلْبُ بِاَلجَمَالِ لَدَيْهِ
وَيَفِيضُ الشَّجِيُّ مِنْ تَحْناَنِهْ ... لَمَحَاتُ اَلجمَالِ فيِ إِبَّانِهْ
تَسْكُرُ الرُّوحُ إذ تَرِفُّ عَلَيْهِ ... فَتَوَلّي، فَرَاقَ فيِ نَاظِرَيْهِ
بالسُّلاَفِ الشَّهيِّ مِنْ لَمَعَانِهْ ... مَا جَلاَهُ الَخْيَالُ بَعْدَ أوَانهْ!
يَا لَعَانٍ تَنَازَعتْ أصْغَرَيْهِ ... كُلُّ حُسْنٍ يَرِفُّ فيِ مُقْلَتَيْهِ
فَهْوَ مَا عَاشَ فيِ قَرَارِ جَنَانِهْ
هَكَذَا وَشْيُهُ وَسِحْرُ يديه
خَلَجَاتُ الَجَمَالِ من وجْدَانه
قِفْ عَلَى الشَّطِّ ساَعَةً وَتَأَمَّلْ
منظرَ النيلِ في سكونِ المسَاءِ
اجْتَلِ الحُسْنَ مِلْءَ عينيك وانْهَلْ
من صَفَاءٍ يُنسِيكَ كُلَّ صَفَاءِ
إيه يا نيلُ كَمْ يطوف بِقَلْبِي
عِنْدَ مرآكَ من بَهِيِّ المَعَانيِ
إن كبا الشِّعْرُ دونَهُنَّ فَحَسْبِي
أن أَرانيِ مُسَبِّحاً من بَياني
إيه يا نيلُ كَمْ بَنَيْتَ حَيَاةً
وَصَحِبْتَ الزَّمَانَ فيِ خَطَرَاتك
قَدْ نَبَتنْاَ على ثَرَاكَ نباتا
وطَعِمْناَ اْلجَنِيَّ مِنْ ثمراتِكْ
لا تري الأرضُ ما حَللْتَ مواتا
إذ تسير الحياةُ في خُطُوَاتك
أنْتَ أجْرَيْتَهُ شَهيِّاً فُرَاتاً(291/24)
كُلُّ حَيٍّ أَنفْاَسُهُ مِنْ فُرَاتِك!
يا أَخا الدَّهْرِ كَمْ وَلَدْتَ بُنَاةً
مَن عَلَى الأَرْضِ سَابِقٌ لِبنُاَتِكْ؟
إِن تكن قَدْ عَدِمْتَ حيناً رواةً
إن هذا الترابَ خَيْرُ رُوَاتِكْ
بشرُ واديك يقظَةً وَسُباتاً
أي شَئ أحلى لهُ من سباتك؟
الخفيف(291/25)
أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
لزمت هوميروس أعواماً ثلاثة أدرسه وأترجمه وألخصه فما ضقت به، بل ازددت له حباً وبه إعجاباً. وكنت كلما تركته فترةً أحسست شوقاً عجيباً إلى أدبه يجذبني ويلح على فأعود إليه فيخيل إلى أنه قد شرع يغني لي ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عوداً على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس وديوميدز وأوديسيوس في جانب المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى ينصرون أو يخذلون ما أجمل هوميروس!
لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافاً شديداً، لكن اختلافهم لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بداً من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته في كلتيهما وأن يطبعها بطابعه الخاص. . فلم لا يكون المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجُة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكوّن أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، وما يزالون ينهلون. . هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟
ألا يكون التواتر صحيحاً في أربعة قرون ويكون صحيحاً في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريد من(291/26)
الإلياذة ومن الأوديسة ومن غير الإلياذة والأوديسة، وكان هيرودوتس خبيراً بأدب بلاده وبتاريخ هذا الأدب، وكان يعرف أن الإلياذة والأوديسة لم تكونا معروفتين بحالهما الذي تواتره الناس عن هوميروس، قبل هوميروس. . . حقاً لقد كانت الأساطير التي حشدها هوميروس في ملحمتيه معروفة قبله بأجيال، لكنه كان أول من نظمهما في هذا العقد الجميل الرائع الذي قبس منه إسخيلوس وسوفوكلس، والذي حام حوله يوربيدز، والذي ظل مورداً لجميع شعراء الكلاسيك من غير استثناء
لقد كتب هيرودوتس تاريخه في زمن استقرار الحضارة اليونانية ونضوجها. . . ونحن نلمح في تاريخه روح النقد والتمحيص، والبحث والتحقيق، فهو إذا روى لم يثبت إلا ما يراه متفقاً عليه من الناس، فإذا رآهم يتفقون على شيء لا يطمئن إليه ضميره لم يبال أن يقول بعد إثبات ما اتفقوا عليه: أما رأيي فهو كيت، أو أنا أعتقد كذا. . . ولم يكن يبالي كذلك أن يدلي برأيه في الآلهة، فقد صرح أنه لا يدري من أين نشأوا، وأن شيئاً عن ذواتهم لم يكن معروفاً إلى زمنه. . . وذهب إلى أبعد من هذا فقرر أنهم جميعاً من صنع هوميروس وهسيود اللذين وضعا الإغريق ذلك الثبت الطويل من الآلهة وأنصاف الآلهة ثم راحا يوزعان عليهم ذلك الاختصاص العجيب من مقاليد البر والبحر والأفلاك والهواء والنور والظلمة والحكمة والفنون. . . وقد رفض ما ذهب إليه الشعراء من أن هذا التوزيع وذاك اللاهوت بطقوسه التي تعارفها الناس كانا موجودين قبل هوميروس وهسيود. . . وأكد أهن الميثولوجيا اليونانية كلها لم تعرف إلا بعدهما. . .
إذا كان هيرودوتس قد ولد سمنة 484 قبل الميلاد، فليس يبعد أن يكون هوميروس قد ولد سنه 884 أو حوالي ذلك. . . أو أنه قد عاش بالفعل في القرنين التاسع والثامن. . . أما ما قيل غير ذلك فلم تقم على إثباته حجة، ولم يؤيده برهان
وتتنازع فخر مولده مدائن شتى. على أن الذي حققه المؤرخون ويؤيده ما جاء في ترتيلة أبولو أنه من مدينة خيوس الواقعة في الشاطئ الشرقي من الجزيرة المسماة باسمها والقريبة من مدينة أزمير، وهو لهذا إيونيوي (من إيونيا) بدليل أن أقدم نسختين من الإلياذة والأوديسة مكتوبتان بلغة إيونيا ويختلف المؤرخون في اسمه وفي معناه، فيذكرون له أسماء معقدة لا داعي لذكرها هنا. . . ثم يفسرون أسمه فيقولون إنه يعني (أعمى) وإلى ذلك ذهب(291/27)
هيرودوتس وهو يعلل ذلك بأن الاسم (هوميروس) مركب من هو - مي - أورون - ومعناها: الرجل الأعمى. ويتعصب هيرودوتس لهذا التأويل بالرغم من وجود تفاسير أُخر قد تكون أقرب إلى المقول من تفسيره هو. . . ذلك أن بعض القدماء يقولون: إن كلمة هوميروس قد تكون مشتقة من (هوميريدا). وهي اسم لإحدى العشائر التي كانت تقطن جزيرة خيوس آنفة الذكر، وقد قطنوها برغمهم لأنهم كانوا أسرى حرب (رهائن) نفوا إلى تلك الجهة. وذاك بدليل أن كلمة هوميروس نفسها تحمل معنى أسير تحت الفدية أي رهينة حرب
ولم يضمن هوميروس إحدى ملحمتيه الخالدتين اسمه كما صنع هسيود في منظومته العظيمة (ميلاد الآلهة وتناسلها) فقد ذكر في مقدمتها اسمه الصريح. ثم ذكر في قصيدته الأخرى (الأرجا كيف هاجر من كيمي إلى أسكرا، وكثيراً من حياته الخاصة وحياة أهله. ولو قد صنع هوميروس مثل هذا، أو شيئاً من هذا لما وقع المؤرخون في هذا الخلط الكثير عن شخصه وعن زمانه وعن حقيقته.
ولم يشر قط إلى السبب الذي ذهب ببصره؛ ويؤكد المؤرخون أنه قضى شطراً عظيماً من عمره بصيراً سليم العينين بحيث استطاع أن يقرأ ويكتب ويسجل كثيراً مما نظم. ويذهب بعضهم إلى أنه بدأ نظم ملحمتيه - أو إحداهما - وهو بصير معافى
وكل ما جاء في ذلك لا يعدو إشارة طارئة في آخر ترتيلة أبولو يخاطب فيها العذارى اللائى كن يغين إلى إنشاده: (إذا سألهن أيما ظاعن أي المنشدين أحب إليهن وآثر إلى قلوبهن أن يجبن على الفور إنه رجل أعمى من قطان خيوس الجبوب المعزاء وإن أغانيه يخلدان آخر الزمان!)
وحتى هذه الفقرة لم تسلم من تشكك المؤرخين في قائلها، هل هو رواية هوميروس، أو هو هوميروس نفسه!
هذا ولقد كان للإغريق أدبهم وأشعارهم وأغانيهم وموسيقاهم قبل هوميروس. وليس معقولاً أن هوميروس هو الذي بدأ ذلك جميعاً، لأن ذاك الكمال أو ما يقرب من الكمال الذي جاء في ملحمتيه لا يمكن أن يأتي طفرة. . . وإذا صدقنا هيرودوتس يكون هوميروس صاحب فضلين على سكان هيلاس - اليونان - كافة. . . فهو الذي صنع آلهتهم وأنشأ بذلك(291/28)
لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب. . . ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم
والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر، إذ كان من دأب دويلات بحر إيجة استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم. وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقيه. الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين. ولم يحفظ لنا التاريخ شيئاً من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتقاً مما كان يستشهد به اللغويون مؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء
وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم. . . ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطئان البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها
ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهوداً أو يلتفت فيه الناظم إلى ما يلتفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي. . . وقد يحسب قارئ أدبهم أنه من عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون. . . وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا، فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون.
والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا في شعراء الدرامة، ثم في شعراء الإسكندرية بعد ذلك. وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعني إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو(291/29)
للتمثيل. وهو لهذا يحصر انتباه سامعيه في صميم القصة، وقل أن يشرد بهم خارجها كما يصنع شعراء الرومانتيك. وقل كذلك أن يستعمل الأصباغ لتطرية بيانه كيما يستر فيه ضعفاً أو يعوض السامع بفخامة العبارة تفاهة الموضوع، فهو دائماً يلتزم الروح ولا يلتفت إلى دمام الجسم إلا بقدر، وإلا في حدود النظم الذي أخذ به نفسه في الملحمة
وفي ذلك يقول الأستاذ بورا: (إنه يكتب - أو ينظم - لكل الناس وليس لطبقة بعينها من الناس)
وقد ساعد هوميروس تقلبه في البلاد في هضم اللهجات المخلفة في الأصقاع المتدانية اليوم - المتنائية يومئذ - التي زارها. ونحسب أنه من أجل ذلك تنازعت فخر مولده هذه المدائن السبع التي فعلت ذلك، فقد كان يقيم حقبة بكل منها فينشد إلياذته - ولما يكن قد نظم الأوديسة - ويغنيها بلهجة الجهة التي هو مقيم فيها فيتقن إنشادها بهذه اللهجة إتقاناً لا يدع أثارة من الشك في أنه من أهلها. . . وهنا ملاحظة طريفة انتبه إليها كل من برتون راسكو الأديب الناقد الأمريكي وجلبرت موري - المؤرخ الثقة في الأدب اليوناني - ذلك أنه لا بد أن يكون هوميروس قد نظم الإلياذة مرتين. . تُتلى إحداهما في بلدان الشاطئ الأسيوي وفيها يُغَلّب أبطال طروادة على أبطال هيلاس. . وتتُلى الأخرى في بلدان هيلاس، وفيها يُغَلّب أبطال هيلاس على أبطال طروادة ويُظفرهم بهم. . . وبغير هذا لم يكن يستطيع أن ينشد إلياذةً واحدة في كلا الشاطئين. ولو صح أنه فعل لثار به الأهلون بفعل العصبية ولمزقوه إربْاً. . . لأنه كيف يترك أخيلا مثلاً يقتل هكتور وهو ينشد هذا الشعر لأحلاف هكتور وأهله. . . وكيف يسيغ أن يترك هكتور يقتل أخيلا إذا كان الإنشاد للملأ من مواطني أخيل؟
غير أن هذه الملاحظة ما تزال تفتقر إلى ما يثبتها، لأن الإلياذة التي بأيدينا هي التي كانت تنشد وتغنى في هيلاس
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(291/30)
لو كان. . . لكان. . .
للشاعرة ليلا هويلر ولككس
بقلم السيدة الفاضلة (الزهرة)
إننا نكون في الحالة التي نستطيع بلوغها فلا تقولوا:
لو لم يكن كيت وكيت، لكان تحقق لنا هذا الأمر أو ذاك فليس في تصاريف الحوادث والحظوظ والعوارض ما يمكن أن يثنينا عن النهج الذي اختارته لنا القدرة العلية
ولا يقدر على جلائل المدارك ومعالي الأمور إلا كل ذي همة قعساء.
إننا نؤدي الأعمال التي نرغب في أدائها، ونقدر على إنجازها، فإياكم أن تحلموا وتكتفوا بالأحلام، فإن الفرصة تتخلى عن البطل ولا تواتيه، وإنما تغادره حزيناً غير متوج
وإني لأعتقد أن جميع الناس تنم عنهم ظواهرهم وتبدو سيماهم على وجوههم ويعرفون من ثمارهم
والفعّال الحق هو الذي يستطيع أن يعمل في حزم، وينفذ في جدّ. . .
إننا نختار المراقي التي نستطيع تسلقها، فلا تحدثوني عن القواصف الهوجاء التي صدتكم عن تسم الذروة
وأي نسر ضل سبيله عن المرتقى الذي كان يلتمسه ولم يدرك المصعد الذي اتخذ إليه سمته. . .؟
حقَّاً إن الذي يزجم منكب الجوزاء فيتذرى الأوج دائماً، هو الذي يجد في طلابه
ولشدّ ما أمقت هذه العبارة القائلة: (لو كان. . . لكان) فإنها خلو من كل حوْل وقوة، مشوهّة لأجمل حقائق الحياة
وإني لأعتقد أننا ننال وندرك كل ما ينبغي أن يكون أجراً لكدحنا وجزاء لجهادنا
(الزهرة)(291/31)
بيني وبين نفسي
للأستاذ على الطنطاوي
نظرت اليوم في سجل ميلادي، فوجدتني على أبواب الثلاثين فتركت عملي وجلست أفكر. ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي! لم يبق إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق، ومسارب الأعظمية في بغداد، وغابات الصنوبر في لبنان. . . إي والله، وعلى طريق الأهرام في مصر، وضفاف (الشط) في البصرة، وحوائط النخيل في يثرب أشلاء من قلبي وأشلاء. . . فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل؟ لا شيء! لا مجد ولا مال ولا بنين. لم أفد إلا اسماً مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذم، والتمجيد واللعن. ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء.
إن اسمي ليس مني. إنه مخلوق من حروف، ولكني إنسان من لحم ودم. فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء؟ ولم أملك إلا قلباً أحبّ كثيراً، وأخلص طويلاً، ولكنه سقط كليماً على عتبات الحب والإخلاص، ورأساً حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف فأثقلته علومه عن التقدم، فاحتلت مكانه الرؤوس الخفيفة الفارغة. . .
فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة، يطفو فيها الفارغ ويرتفع، وينزل الممتلئ ويغوص
إني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين، أولئك الشباب الكمّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار، فأجد بيني وبينهم بوناً شاسعاً، وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبداً. . . ذلك لأن كل ما أعلمه أني ولدت وأنا أبن أربع سنين. فأدخلت المدرسة. فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان، وأرتقي من صف إلى صف، وأستمتع بالعطلة. فلما أكملت دراستي العالية ولم يبق من مدرسة، ولم يبق امتحان وقفت فلم أتقدم، وفقدت غايتي فلم أعد أحس أني أعيش؛ ثم تلفتّ إلى الماضي أعيش بذكراه، فأصبح كلما انقضى علىّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء، فأنا أصغر كلما كبرت، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها. فمتى أبلغ الثلاثين، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى؟
وغشيت قلبي غاشية من غّم، فأشعلت عوداً من الكبريت لأوقد دخينة، وكنت في ذهلة(291/32)
فسرت النار في العود ثم تأججت وتوقدت، وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقاً في عالم بعيد الغور حتى أحسست بحرارة النار في يدي، فانتبهت وألقيت العود، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير مع النسيم. . . فقلت: هذه هي الحياة. إن الألم الذي أحسسته يلذع نفسي هذه العشية كلذع النار أصبعي، سينتهي بي إلى مثل هذا المصير. سأمضي كما مضى هذا العود، ولكني لا أخلّف ورائي شيئاً. لن أدع مالاً ولا جاهاً ولا عملاً، لأني اشتغلت وا حسرتي بالأدب. .
ويا ليتني تفرغت بعد الأدب، ولم يستغرق حياتي الكدح للعيش. . . إني لم أعمل شيئاً. إن في رأسي وقلبي شيئاً كثيراً، ولكن قلمي مكسور، ودواتي جافة، ولساني مشدود بنسعة، فأنا لا أستطيع أن أقول. . .
عندي ألحان كثيرة، فأنا أحب إن أغني، ولكن الغناء يستحيل من الضيق إلى زفرات تخرج مقالات فيحسبها الناس ألحاني كلها، إلا أن ألحاني لا تزال في صدري لم يسمعها بشر.
وماذا ينفعني أن يسمعها الناس فيطربوا ويصفقوا وأتفرد أنا بالخيبة والألم؟ إن الناس لا يألفون إلا الأغاني الفارغة المدوية، فلتبق أغاني العذبة في صدري، أسمعها وحدي من غير أن يتحرك بها لساني، لأن لساني مشغول بإلقاء الدرس!
كل ما أكتب زفرات متألم وإشارات أخرس، فهل يأتي اليوم الذي تنحسر فيه الزفرات عن الأغاني والإشارات عن الألفاظ والمعاني. . .؟
على أن هذه الزفرات وهذه الإشارات عزاء نفسي، فكم لهذه (الرسالة) من فضل عليّ، وكن من الفضل لهؤلاء الأدباء الذين يستطيعون أن ينقلوني من دنياي هذى الضيقة، إلى دنيا واسعة تطير روحي في أجوائها حرة طليقة! فهل يدري الزيات، أو هل يدري معروف الآرناؤوط، أني طالما أحييت الليالي الطويلة في فرتر وروفائيل وسيد قريش وعمر بن الخطاب، وأني طالما لجأت إليها أقرع بابها وأتواري وراء سورها في جنان سحرية لا أستطيع أن أصفها بأكثر من إعلان العجز عن وصفها؟ فأي عالم في رأس معروف، وأي دنيا في صدره؟ وأي نبل وسمو في هذه اللغة، لغة معروف ولغة الزيات ولغة الرافعي هذه التي تتيه بجواهرها ولآلئها على حين تمشي لغات كتاب العصر بأسمالها البالية ومزقها المخرَّقة. . . لغة فخمة تشعرك بالسيادة والعظمة، لا كهذه اللغات الهزيلة العارية. . .(291/33)
وكم من الفضل لهيكل عليَّ، فلقد سلخت في قراءة كتابه (منزل الوحي) أياماً كنت أعيش فيها في عهد النبوة، ولقد مررت بهذه البقاع التي يصفها، وأثارت في نفسي عوالم من الذكريات والآمال والخواطر، فإذا أنا أجدها كلها وأجد أكثر منها في كتاب هيكل. . .
هذه هي الواحات التي لقيتها في صحراء حياتي، في سفر الثلاثين سنة، فلولا عالم لإمرتين أنفذ إليه من خلال نفس الزيات ولغته البارعة، وأسلوبه السماوي الذي أسمع غناء كلماته وهتافها في كل جملة، حتى كأن كل كلمة يقرنها الزيات بأختها عروس تزف إلي بعلها؛ فأنت حين تقرؤه أبداً في عرس، تشم عطره، وتسمع غناءه، وتحسَّ في نفسك طربه. ولولا معروف وعبقريته، ولولا هؤلاء المؤلفين الذين قبست منهم السعادة والاطمئنان، كانت حياتي صحراء قاحلة، وما كنت أطيق الحياة. أفليس أكبر المكافأة للكاتب أن يعيش على آثاره للناس؟
يا رحمة الله على تلك الأيام. أيام كنت أغلق فيها بابي عليّ. . . ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء، وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً. ولماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها
إلا يحيا الكاذب المنافق سعيداً موقراً، ويموت الصادق الشريق فقيراً محتقراً؟ ألا يصدق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويكذبون العالم الفاضل؟ أليس طريق الشعبذة وادعاء الكرامات والمخرقة على الناس بعلم أسرار الحروف، واستحضار المردة، واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم، آثر عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالم متخصص أو باحث مدقق، وتنهال على يده الأموال، وتزدحم على يده الشفاه؟ إلا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل في السيارة الفخمة، ويسكن القصر العظيم، ويحتل المرتبة العلمية العليا، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟
أليست أسواق الرذيلة عامرة دائرة، وأسواق الفضيلة دائرة بائرة؟
إلا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟(291/34)
فلماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟
وقمت وقد صفيت حسابي مع الحياة، فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري وربيع حياتي ولم أربح شيئاً. . .
على الطنطاوي(291/35)
الأمل. . .
(إذا كانت الحياة وردة، فان الأمل كمامها)
للأستاذ ابن عبد الملك
أجل يا صديقي مُسِّيه: الله في السماء والأمل في الأرض! وبين رَوْح الله المؤاسي، ومَدد الرجاء الآسي، تندمل الجفون القريحة، وتلتئم القلوب الجريحة، وتنتعش الجدود العاثرة
الكروان يموت فرخه في المساء وفي الصباح يرقص ويصدح، والشاة يُذبح حَمَلها في الحظيرة وفي المروج تثغو وتمرح، والقلب يُقطع من القلب، والروح تُنزعُ من الروح، ثم يعيش المحب بعد حبيبه، والوالد بعد ولده، كما يعيش النهر الناضب في ارتقاب الفيضان، والروض الذابل في انتظار الربيع!
لله على الناس نعمتان لا يطيب بدونهما العيش ولا يُبَلغ إلا عليهما العمرُ: النسيان والأمل.
ماذا كان يصنع الأسى بالقلوب الوالهة
إذا لم يمح النسيان من الذهن صورة الحبيب الراحل أو الهاجر؟ تأمل حالك يوم فجعك الموت في عزيز عليك، أما كنت تجد لهيب الحزن متصلاً يوقد صدرك من غير خُبُوّ، ويذيب حشاك من غير هدنة؟
تصور دوام هذه النار على نياط القلب وأعصاب الجسد، ثم قدر في نفسك الحياة على هذه الصورة. على أنها والحمد الله لا تدوم؛ فإن الجبار الذي سلط الألم على الروح، هو الرءوف الذي سلط الزمن على الألم. فالزمن لا ينفك يسحب الأيام والليالي على الصور والآثار حتى تنطمس المَشابه، وتعفو الرسوم، ولا يبقى من المفقود إلا صورة لا تنطق، ولا من الجرح إلا ندبة لا تحس
وماذا كان يفعل اليأس بالنفوس المكروبة إذا لم يفتح الأمل أمامها فرجة في الأفق المطبق وفسحة من الغد المجهول؟
يا ويلتا للفقير يعتقد أن فقره يدوم بدوام الحياة، وللمريض يرى أن مرضه ينتهي بانتهاء الأجل! ويا بؤسَ للحياة إذا لم يقل المأزوم والمحروم والعاجز: إذا كان في اليوم قنوط ففي الغد رجاء، وإذا لم تكن لي الأرض فستكون لي السماء!
ابن عبد الملك(291/36)
على هامش الفلسفة
اختلاف الأفكار والنظريات الأخلاقية
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
قلنا في الكلمة الأولى: إن الأخلاق تعتبر علما من العلوم إذ كانت تصل في بحوثها إلى آراء وحقائق أخلاقية تبلغ من العموم وقبول الناس لها مبلغ الحقائق العلمية. ولكن هل توجد هذه الحقائق العامة للجميع؟
مذهب الشك الأخلاقي ينكر وجود أمثال هذه الحقائق التي يقبلها الناس جميعاً: البيض والسود، والحمر والصفر؛ لأن القواعد الأخلاقية ليست إلا عادات وتقاليد تختلف باختلاف العصور والبيئات؛ وليس يعوزنا أن نجد لهذا الرأي سندا في التاريخ. هذا موُنْتَاني الفيلسوف والأخلاقي الفرنسي المعروف، بعد أن جمع كثيراً من الآراء والأحكام الأخلاقية، يؤكد هذه النظرية بقوة حين يقول: لا يوجد شيء أكثر اختلافا بين أمم العالم بأسرها من العادات والقوانين. كثيراً ما نجد أمراً ممقوتاً هنا ممدوحا بل موصى به هناك؛ في إسبارطة كانوا يمتدحون المهارة في الفن ويتواصلون بها بينما كان محرما عند غيرهم؛ وقتل الآباء المعمرين إشافقا عليهم من تحمل أعباء الحياة وتكاليفها نراه مباحا بل مأمورا به لدى بعض القبائل التي لا تزال في دياجير الظلام، وأخيرا لا يوجد أمر غير مرضي هنا إلا ويكون محمودا عند أمة أخرى).
وباسكال الفيلسوف الفرنسي الذائع الصيت استعاد بعض ما أتى به مُونْتَاني من مثل وحجج، وأتبع ذلك بفيض من فصاحته اللاذعة إذ يقول: (لا يوجد تقريباً شيء عادل أو غير عادل إلا ويغير من صفته تغير إقليمه؛ ثلاث درجات في الارتفاع إلى القطب تقلب رأسا على عقب كل ما عرف من عدالة. خط واحد من خطوط الزوال يتحكم في الحقيقة والحكم الخلقي - الحق له أزمانه وبيئاته، عدالة مضحكة هذه التي يحدها نهر! حقيقة أمام جبال البرينيه خطأ وضلال وراءها)
حقيقة أن التاريخ وعلم الاجتماع ليؤكدان أن القواعد اختلفت باختلاف العُصُر، كما اختلفت(291/38)
وتختلف في العصر الواحد بحسب البيئات. الرق كان نظاماً معروفاً لدى العبرانيين والمصريين القدماء والهنود والصينيين والعرب في الجاهلية، وإن اختلقوا شدة وليناً وقسوة ورحمة في معاملة الأرقاء. كما كانت الجمعية الإنسانية في المدينة الإغريقية - التي يفخر بها الأوربيون اليوم - تقوم على استرقاق فريق من المواطنين؛ حتى أن أرسطو بجلاله قدره يبرره لاعتبارات مختلفة: منها أنه لابد من العبيد ليتوفر الرجال الأحرار على الدراسات العقلية العالية، وأنه يوجد أناس بلغوا من السفالة والضعة أن يفهموا أنهم خلقوا للاستعباد. كما لم تمنعه الديانة المسيحية ولا الدين الإسلامي أيضاً؛ وإن لم تنبه الشريعة الإسلامية كغيرها على أن من الناس من خلقوا للذل والهون، ومن لا ترتفع بهم طبائعهم إلى مراقي الأحرار بل جعلت سببه أمراً واحداً: هو الكيد للإسلام ومحاربة الله ورسوله، ثم تدور الدائرة عليه.
هكذا كان الرق نظاماً معروفاً في الأزمان الماضية؛ أما في أيامنا هذه فقد صار معتبراً من أشنع المظالم الإنسانية، وغدا محرماً تحريماً باتاً.
لنترك الآن حق الحرية الشخصية وما كان فيه من اختلاف، لنلقي نظرة على حق الحرية الفكرية لنعلم ماذا كان حظه من تقدير الناس واتفاقهم عليه كحق عام يجب أن يتمتع به الجميع.
في العصور المتوسطة كان عدم التسامح الديني لدى المسيحيين مبرراً لا نكير فيه. ما كان أكثر رجال الدين الأعلام الذين كانوا يؤكدون أن الحقيقة لها كل الحقوق ومن بينها اضطهاد الضالين - في رأيهم طبعاً - بوساطة القوة! وأية حقيقة هذه التي كانوا يتكلمون عنها؟ إنها الحقيقة التي يعتقدونها، أي حقيقة كنيستهم؛ فالتعاليم التي تتعارض وتعاليم كنيستهم كلها ضلال، كلها إلحّاد، كلها جرائم موجهة ضد الإرادة الإلهية فهي حرية بأشد العقاب. هاهو ذا سانت أوجسْتينْ مع رجاحة عقله وسمو فكره يوصي بالالتجاء للإكراه لهداية الضال حينما تعوز الحيلة ولا ينجح الإقناع. وكذلك سانت توماس (أبعد رجال الكنيسة الغربية ذكراً: 1226 - 1274) يقول في بعض ما كتب: إذا كان المزورون والمجرمون يعاقبون عدلاً بالإعدام، فحري بنا أن يكون جزاء الهراطقة الخوارج عن الدين لا الحرمان الأبدي من الكنيسة فقط بل الموت الزؤام. وقد كان من أثر هذا التعصب الممقوت ما يذكره تاريخ(291/39)
فرنسا من المذابح التي سالت فيها الدماء أنهاراً بين الكاثوليكيين ودعاة الإصلاح الذين اعتبروهم ملاحدة خرجوا على الدين.
ولسنا في حاجة لذكر ما كان من محاكم التفتيش في أسبانيا النصرانية، وما أنزلته بالأبرياء من عذاب لا لشيء إلا حداً من حرية الدين والفكر، ولا لما كان من تعذيب بعض سادات قريش وغير قريش في الجاهلية لبعض الذين هداهم الله للإسلام ليعودوا مشركين. لسنا في حاجة لذكر هذا وأمثاله لنتبين كيف كانت عقلية الناس حتى كبار الأحلام في تلك الأيام! أما في أيامنا هذه فيعتبر عدم التسامح سبة وجريمة أخلاقية مهما كان سببه ومأتاه. العقول الحرة تأباه وتجده مرذولاً، وغالب رجال الأديان يمقتون الإكراه في سبيل نشر ما يعتقدون (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء. لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم).
على أننا نقول إن الأمر كاد في هذه الناحية يعود قريباً من سيرته الأولى: أحداث تجد، وأفكار تتغير، وأنماط في الحكم تستحدث في بعض دول أوربا تقيد بل تلغي حريات الناس. فلا يفكرون إلا بقدر، وعلى ما يهوى السادة الحكام!
ثم حقوق النساء؛ أترى الناس كانوا فيها على اتفاق؟ لا. إن التاريخ شاهد صدق على اختلاف الناس فيها اختلافاً كبيرا. كان الأثينيون - وهم من تعلم مدنية وحضارة في الأزمان الماضية - يرون المرأة سلعة تباع وتشترى، وجعلوا مهمتها في الحياة تربية الأطفال وتنظيم البيوت. واليهود أباح بعض طوائفهم للأب بيع ابنته وهي قاصرة. وفي فرنسا قديماً بلغ من امتهان المرأة وهوانها عندهم أن عقد في بعض الولايات الفرنسية مؤتمر عام سنة 586 م، اخذوا يبحثون فيه حالة المرأة ومركزها في المجتمع، وما إذا كانت تعد إنساناً أو غير إنسان، وانتهى الأمر بتقرير أنها إنسان؛ ولكن خلقت لتخدم الرجل ليس غير! ولا تنس ما كان من وأد بعض عرب الجاهلية بناتهم، ومن اعتبار المرأة كالمتاع تورث عن أبيها وزوجها. والآن تغير هذا كله، وأصبحت المرأة مساوية للرجل إلا في بعض حقوق يرى بعض الأمم من الصالح العام عدم منحهن إياها
وإذا كانت النظريات والآراء الأخلاقية تختلف في الأمة الواحدة باختلاف الزمن، فهي كذلك(291/40)
مختلفة في الزمن الواحد باختلاف البيئات. بينما نرى في هذه الأيام الناس الذين هم على الفطرة كسود استراليا يعتقدون دينيّاً قدسية بعض أنواع النبات والحيوان، فيكون الموت جزاء من يجرؤ على أكل شيء منها كما نرى البراهمة في الهند يقدسون البقرة ويعتبون أكبر الجرائم قتلها أو الأكل من لحمها، وتقوم بينهم وبين مواطنيهم المسلمين لهذا السبب المعارك الدامية - بينما يرى هذا وأمثاله كثيراً، نرى كثيراً من سود أفريقيا يستحلون بل يفضلون أكل لحوم البشر من أعدائهم الذين يسقطون في ميدان الحرب، أو عبيدهم الذين يعنون بتسمينهم ليكون منهم غذاء دسم شهي، أو أقاربهم الذين نالت منهم السنون وعجزوا عن احتمال أعباء الحياة
في مقابل هذا وذاك نجد بعض البوذيّين الدينيين كرهبان الهند الصيني يعدون جريمة قتل أي كائن حيّ مهما كان؛ ويصل الأمر بهم إلى ترشيح مياه الشرب حتى لا يبتلع أحدهم أثناء شربه أية حشرة حقيرة غير مرئية فيكون في ذلك موتها. أما نحن فنتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين احترام الحياة الذي يعده هؤلاء الرهبان حقاً مقدساً لكل حي لا نراه حقاً إلا للآدميين، ولا يعترف به أولئك المتوحشون إلا لعدد قليل كأسرة الشخص أو قبيلته أو أفراد قريته
كذلك الانتحار الذي يحرمه الدين الإسلامي وتنكره المدنية الأوربية الحالية، يعده اليابانيون تقليداً وطنياً طيباً، ويرونه واجباً في كثير ما الحالات؛ ينتحر الياباني حين يرى أنه جُرد من شرفه أو عانى سقوطاً فاضحاً كبيراً، وينتحر احتجاجاً على ظلم ارتكب، أو نحو ذلك من العوامل الأخرى التي تجيزه في رأيهم. ذكر الأستاذ شالِيْ في كتاب له عن اليابان بعد رحلة إليها طائفة كبيرة من حوادث الانتحار وعوامله؛ منها: أن ضابطاً انتحر سنة 1891 ليلفت نظر الحكومة والرأي العام إلى تعدي الروسيا على بعض النواحي في شمال اليابان، وأنه في سبتمبر سنه 1892 انتحر الضباط الكبار وزوجته أثناء سير جنازة الإمبراطور إظهاراً لإخلاصهما له وعدم رغبتهما في الحياة بعده
وحرمة مال الغير لم تكن دائماً حقاً مقدساً لكل إنسان. التاريخ يقفنا على أن الغارات على الآمنين من القبائل الأخرى كانت من أبواب الارتزاق لدى كثير من الأمم في جاهليتها؛ واليهود كانوا يرون مال الغير - أي غير اليهود - حلالاً سائغاً لهم: (ومنهم من أن تأمنه(291/41)
بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)
من السهل مضاعفة هذه المثل والإتيان بغيرها مستمدة من حياتنا الحالية وتقاليدنا المختلفة في الصعيد أو الوجه البحري مثلاً من مصر، وخاصة فيما يتصل بالأفراح والمآتم وعادات أخذ الثأر والانتقام، مما يؤكد أن الآراء والأحكام الأخلاقية تتغير مع الزمن وتختلف مع الأوساط والبيئات
ولكن هل من الحق رغم تضافر هذه الشواهد كلها أن ننكر أن هناك حقائق أخلاقية عامة سايرت العُصُر وسادت في جميع البيئات؟ بيان ذلك في الكلمة الآتية إن شاء الله
محمد يوسف موسى(291/42)
التاريخ في سبر أبطاله
محمد شريف باشا
كان شريف في عصره رجلا اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال
للأستاذ محمود الخفيف
ساقت الأقدار ولاية العهد لإسماعيل فاستبشر الناس وارتقبوا عهد هذا الأمير الذي ذاع من صفاته فيهم ما حببه إليهم، وكانوا قد علموا أنه من ذوي النباهة والحزم وبخاصة في شؤون المال! ولم يطل ترقب الناس، فقد آل إليه الأمر عام 1863 م وراحت مصر تستقبل طوراً من أطوار تاريخها، نحار أشد الحيرة ماذا نسميه وبأي الصفات ننعته. . طوراً كان غريباً حقاً، تترك غرابته العقول في دهشة شديدة وتكلف من يريد الإنصاف في درسه عسراً شديداً
ما برحت فرنسا وإنجلترا تراقبان الحوادث في وادي النيل؛ أما فرنسا فكانت لا تني تعمل على أن تزيد نفوذها الأدبي في مصر، ذلك النفوذ الذي وضعت أساسه حملتها في هذه البلاد والذي ما فتئ يتزايد ويعظم في عهد محمد على، وهاهو ذا في عهد إسماعيل قد بلغ غايته حينما اتصل في عهده البحران واستطاع ديلسبس أن يجري بينهما تلك القناة التي سوف تغير مجرى تاريخ هذا الوادي. . وأما إنجلترا فكانت على سياستها تحول دون ظهور قوة في مصر، وقد استراحت من محمد على وراحت اليوم تقف في وجه حفيده وتحرص على أن يظل خاضعاً للخليفة، ولما التقى البحران أصبح همها متجهاً إلى السيطرة على مصر لتسيطر على القناة
وكان شريف من رجال هذا الطور في الصف الأول ولكن كان ذلك من الوجهة الرسمية فحسب، فلقد لبث من عمره سنين لا تحس مصر شيئاً مما ظهر له من خطر في أواخر ذلك العهد. . . شهدت مصر في هذا الطور جلائل الأعمال ومظاهر الاستقلال، كما شهدت عوامل البلى وعناصر الانحلال. شهدت يد التعمير تبعث الحياة والنشاط والقوة في العاصمة وعلى صفحة الوادي؛ وشهدت يد التخريب تهوي بمعولها في غير هوادة أو رحمة(291/43)
فتزلزل البنيان وتقوض الأركان. شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين؛ شهدت نوازع الاستبداد وشهدت دوافع الحرية؛ شهدت مواقف البطولة والصدق؛ وشهدت مخازي الدس والبهتان. . . شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه مثل ما تشهد الفريسة تجمعت عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد
أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا، ولا أن تكون جزءاً من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطم الأصفاد وتطرح عن عنقها نير الاستعباد
لم يمض من عهد هذا الأمير الفذ اثنا عشر عاماً حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقي ما لم يكن ليتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي. . . ففي تلك الفترة الوجيزة وصل بين البحرين وشقت الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النهر وغرينه ما يدرأ عنها رمال الصحراء. ومدت سكك الحديد وأسلاك البرق، ونظم البريد ومهدت السبل وعقدت الجسور، وأصلحت الموانئ وأقيمت المنائر، وشيدت المصانع وافتتحت دور العلم للبنين والبنات وعني بالمتحف
وفي تلك الفترة تقلص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو وسمح له بمنح الالقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيراً من الإصلاح وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهراً بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوروبا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصة (بالمونة والأحجار) تلك التي كانت هوى الخديو ومسرة فؤاده
ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجد ما زاد على خمسين مليوناً من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر. . . ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لأن تكون ملكاً لأوربا! فمن أوربا استدانت تلك الملايين؛ ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لذلك الدين.
أين كان شريف حين أخذت مصر في سياسة الاستدانة؛ وكيف فاته وهو الأريب الحاذق ما كانت تبيت إنجلترا من غدر لاقتناص مصر؟ أو لم ير أنها كانت تقيم من أموالها حول(291/44)
الوالي شباكا أحكمت نسجها يد المكر، وبالغت في سترها الرؤوس الماهرة والقلوب الغادرة؟
كان شريف ناظراً للخارجية كما سلف أن ذكرنا، فلما تم لإسماعيل الأمر أضاف إليه نظارة الداخلية، فهو يعرف شريفا معرفة خبرة ووثوق إذ كان له زميلا في الدراسة؛ وبقي شريف يدير المنصبين متمتعا بثقة إسماعيل وعطفه، خليقا بما نال منه من تكريم، وأي تكريم. كان أعظم يومئذ من أن يقيمه الوالي نائبا عنه حينما رحل إلى الآستانة عام 1865 وما كان إسماعيل ليفعل ذلك لولا أنه كان يرى شريفا أكثر الناس ولاء له
على أن شريفا لم يك يملك غير النصح في عصر كذلك العصر وتلقاء رجل كإسماعيل تناهى إليه السلطان والبأس حتى ليستنكف أن يذعن للخليفة، فيسعى ما وسعه السعي لتطلق يده في شؤون مصر كلها وبخاصة في عقد القروض
ولكن هل نصح شريف لإسماعيل كما كان خليقا أن يفعل؟ لو أنه فعل ذلك لجاء ذكره فيما جاء من أخبار ذلك العهد الذي كثرت فيه الأقوال. ومهما يكن من الأمر فقد ظل شريف فيما اختير له من المناصب لا يعارض ولا يغضب فيستقيل. . . وتلك مسألة أخرى نعدها على شريف ونأخذه بها. . .
بيد أننا من جهة أخرى نعود فنذكر أن مبدأ المسئولية الوزارية لم يكن قد قام في مصر بعد؛ فإسماعيل هو وحده المسؤول عن حكم مصر وسياسة مصر، وما على نظاره إلا أن ينفذوا ما يأمرهم به دون أن يكون لهم فيه رأي أو تكون عليهم من جرائه تبعة؛ ولم يك ثمة فرق بين جيب إسماعيل وخزينة مصر، ولذلك كانت سلطته المالية أعظم من سلطته الإدارية إن صح أن كان بين السلطتين تفاوت. . .
هذا كله حق لا سبيل إلى إنكاره، ومن أجله يخف وزر شريف وتقل ملامته، ولكنه لن يعفى من ذلك الوزر إلا أن نميل فنتحيز أو أن نذكر بعض ما بذله شريف من جهود جبارة في ما بعد في مقاومة نفوذ إسماعيل ومحاربة طغيان الأجانب فيحملنا ذلك على تناسي موقفه في تلك الفترة التي غلب على طبعه فيها الهدوء والرضى. . . على أننا لا نسيغ هذا ولا تطاوعنا النفس على ذلك.
والواقع أن هذه الفترة من حياة شريف فترة سكون لا يتفق وما جبلت عليه نفسه من(291/45)
شجاعة شهد له بها حتى خصومه، فهل كان مرد ذلك إلى ما كان من إذعان مصر نفسها واستسلامها؟
يخيل إلى أن ذلك أقرب إلى الصواب. فلقد كان الرأي العام في ذلك الوقت أعني مدى الاثني عشر عاماً الأولى من حكم إسماعيل لا يزال في مرحلة تكوينه، ولذلك لم يكن للشعب نفوذ إلى جانب نفوذ إسماعيل وجاهه، فمجلس شورى النواب الذي أنشأه الوالي والذي أولاه شريف حظاً كبيراً من عنايته ونشاطه، كان لا يملك حق محاسبة الحكومة؛ وكانت البلاد محرومة من الصحافة الوطنية، خالية من الأحزاب السياسية؛ وكان المتعلمون من المصريين منصرفين إلى المناصب الحكومية يتقدمون بالزلفى إلى إسماعيل وحكومته.
ولقد أدى الانتخاب لمجلس الشورى إلى حرمان المجلس من هذا العنصر ولو أنهم أرادوا أن يتجهوا إليه. . .
وعلى ذلك فلو أن شريفاً تحرك حركة قومية في ذلك الوقت لما هزت حركته النفوس، كما راحت تهزها حركاته فيما بعد حين أفاق الرأي العام على تدخل الأجانب في شئون مصر، وحين ظهرت فيه عناصر لم تكن موجودة من قبل، كدعوة جمال الدين التي أومضت في ظلمات ذلك العصر، وكظهور الصحافة واهتمام المتعلمين بقضية البلاد المالية، وغير ذلك من أسباب البعث والنهوض. . .
عندئذ آن لشريف أن يخطو، فكأنما كان قبل خطواته الوطنية في مرحلة الإرهاص، شأنه في ذلك شأن كثير من الزعماء من قبله ومن بعده. وما أعظم الشبه في ذلك بين سعد وشريف! فهذا سعد جبار هذا الوادي وزعيم أبطاله ومفخرة أجياله، ظل في الفترة الأولى من حياته ساكناً لولا ما كان من آثار قلمه ونفثات روحه. فلما سارت الحوادث سيرها، وتهيأت البلاد لانتفاضة تنفس عنها بعض ما بها تلفتت القلوب ودارت الأعين فلم تستقر إلا عليه كأنما ألهمت ذلك إلهاماً؟. . . وإنك لترى من أوجه الشبه غير هذا كثيراً بين سعد وشريف فيما نقص من سيرته
كان لابد للمسألة المالية أن تنتهي إلى من انتهت إليه ما تدخل الأجانب في شؤون مصر الداخلية، ولكن هذا التدخل لم يكن شرا كله كما اعتاد المؤرخون أن يصوروه، وحسبنا مما انطوى عليه من عناصر أن قد استيقظت على ضجيجه وصخبه مصر، فانبعثت القومية(291/46)
المصرية ومضت تنفض عن كاهلها غبار القرون على صورة أروع وأقوى مما تبدي في ثورتها على نابليون وكليبر، ومما ظهر من آمالها ومشيئتها يوم ذهب أبناؤها وعلى رأسهم عمر مكرم والشرقاوي يلبسون محمد على الكرك والقفطان دون أن يرجعوا فيما فعلوا إلى السلطان. . .
تراكمت الديون على مصر حتى أنها لم تكن تقل عن تسعين مليوناً من الجنيهات في عام 1875 م. فمن ديون سائرة كانت في ذاتها أبلغ ما نال الخديو من معاني الغبن، إلى ديون ثابتة فيها أوضح معاني الشره وأقبحها من جانب الدائنين، إلى قروض داخلية لجأ إليها (المفتش) ذلك الذي قام على شؤون مصر المالية، فكان في ذاته عبئاً فوق أثقالها التي ناءت بها، ومن تلك القروض الدالة على شدة الارتباك والخلل دينا المقابلة والرزنامة. . .
عندئذ تحركت إنجلترا نحو هدفها، وكانت أولى حركاتها في هذا المضمار شراء نصيب مصر من أسهم القناة، اشتراه دزرائيلي رئيس وزرائها بثمن بخس! ولم يرده عن ذلك عطلة البرلمان يوم إذ. وكيف يفوت دزرائيلي وهو الذي يعرف الفرص ويعرف كيف يقتنصها، كيف يفوت ذلك الداهية أمر كهذا الأمر يجعل مركز بلاده في القناة كمركز فرنسا أو أعظم، ويصحح خطأ وقعت فيه إنجلترا ألا وهو استهانتها بالمشروع أول الأمر ظناً منها أنه لن يتم، ثم تراخيها عن شراء الأسهم بعد ذلك رغبة في إحباطه
ولكن مصر بعد بيع أسهما لا تزال في حاجة إلى المال لتدفع به بعض ما جره عليها المال من وبال. وأنى لها المال بعد ذلك كله؟ وأية دولة تمد إليها يدها؟ إذا فالتفكر مصر في الإصلاح ثم فالتفكر إنجلترا في اصطياد الفريسة!
طلب الخديو موظفاً إنجليزيّاً يدرس لها شؤون مالها ويصلح ما يراه من أوجه الخلل؛ فتلكأت إنجلترا لأنها عن دهاء وجشع تحب أن تتدخل ولكنها لا تحب أن تفتح أعين غيرها
وجاء الموظف ولكنه زود من جانب حكومته بأوامر، فعليه أن يدرس وعليه فوق ذلك أن يحقق ويدقق ثم يرفع تقريراً عما رأى؟ وما لهاذا أراده إسماعيل فما كان يريد والي مصر إلا أن يكون هذا الموظف معيناً له في إصلاح مالية البلاد
ورفع (كيف) التقرير إلى حكومته وجاء دور دزرائيلي فأعلن البرلمان الإنجليزي في غير تردد ولا استحياء أنه يرغب عن نشر التقرير لأن الخديو رجاه في ذلك. ولعمر الحق ما(291/47)
رجاه الخديو ولا أشار إلى ذلك من قريب ولا من بعيد. . .
ذعر الدائنون، وهبطت أسهم مصر كما يقول رجال المال، وتلقى الخديو الصدمة العنيفة ممن أمل على يديهم الإصلاح وقال في مرارة وغيظ: (لقد احتفروا لي قبري) وهي كلمة موجعة جامعة، فبعد هذا التصريح من جانب دزرائيلي سيكون الطوفان. وما كان في تقرير كيف إلا أن مصر (تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعاً، وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ). بل لقد ذكر كيف في عبارة صريحة: (إن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد). ولكن للسياسة مطامعها وأغراضها ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيراً ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخلق والاستقامة!
لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم وتألف في مصر (صندوق الدين العام) فكان حكومة صغيرة من الأجانب داخل حكومتها؛ ثم وافق الخديو مكرها على تعيين مراقبين أجنبيين أحدهما إنجليزي للدخل والآخر فرنسي للصرف، وعين تبعا لهذين موظفين من الأجانب برواتب ضخمة؛ وعني الخديو حقا بالإصلاح يومئذ ولكن يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك
وقبل الخديو فيما قبل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سميت (لجنة التحقيق العامة) جعل على رأسها دلسيبس ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها بالرجل الذي يتحفز ويتحين الفرصة ليثب.
ومن يكون ذلك الرجل في تلك الأيام العصيبة غير شريف؟
استدعته اللجنة ليمثل أمامها لتستفهمه، فتعاظمه الأمر فأبى. فأصرت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضاً على كرامته وكرامة منصبه فأصر كما أصرت. . . أيمثل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولما لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذا فليطلق شريف المنصب غير آسف وقد كان ما أراد فاستقال! وهزت البلاد استقالته بما تنطوي عليه من(291/48)
المعاني فلقد كانت وثبة في حينها، كانت غضبة من رجل في أمة عّد بها أمة في رجل؛ وهكذا خطوات أحرار الشمائل وعظماء الأجيال كأنما تجيء على قدر من الأيام فتكون رداً بليغاً على من يزعمون أن عظماء الرجال يدينون بعظمتهم لظروفهم لا لصفاتهم، هذه في مصر هي الظروف، فليت شعري لما لم يظهر غير شريف وقد غضب مع شريف عشرات غيره من الرجال؟
(يتبع)
الخفيف(291/49)
رسالة المرأة
التربية العملية
أطفالنا
للآنسة زينب الحكيم
التربية العملية مسألة لا يجدي فيها ترقيع، ولا يفلح فيها النصح الكلامي كثيراً إذا فات أوانها، وأهمل شأنها في حياة الإنسان المبكرة. لهذا سأوضح ببعض الأمثلة كيف يمكن تنشئة الطفل منذ طفولته، ليتناسب مع الجماعة، ويشب على روح الفرد للمجموع، والمجموع للفرد.
(المحررة)
كلنا يُقرّ بشدة العناية التي تحيط المولود من يوم ولادته، تلك العناية التي قد لا يشابهها العناية بالملوك على عروشهم، ولا الجبابرة المتألهين على أقوامهم.
فالطفل، في مدى الخمسة عشر أو الثمانية عشر شهراً الأولى من حياته، تؤدي له جميع لوازمه، ولو ضحيت في سبيل ذلك صحة الكبار ولا سيما الأم. وكنتيجة لهذه المعاملة، وتلك الرعاية، يصير الطفل أنانياً بكل ما في هذا التعبير من معنى، خصوصاً بعد أن يقارب تمام السنتين من العمر.
وكلما بدأ الطفل يتحرر من طور العجز، أو الاعتماد المطلق على من حوله في الطفولة المبكرة، يبدأ ينازع رغباته ولوازمه من أجل اخوته وأخواته، ومن والديه والأفراد الآخرين الذين يحيطون به.
فرغباته الشخصية، وطلباته المضادة لطلبات المجتمع، يجب تعديلها بحكمة، وبهذا يبدأ حفظ أول درس صعب في الحياة. وبفهم هذه المتناقضات الأولية في حياة الطفل نتساعد على فهم سلوك الأطفال بوجه عام. . . ومِن ثمًّ نرشد إلى أمثل الطرق لتربيتهم، وأحسن التدابير لتنشئتهم.
أما جعل الطفل مناسباً لبيئته، وتهيئة البيئة نفسها لمناسبته، فعقدتان تستلزمان مجهوداً عظيماً، لأن كل فرد منا يفهم ويقدر أن للجماعة في أي بيئة مطلبين ضروريين:(291/50)
1 - أن يعيش الإنسان مع آخرين من نوعه، لأجل حماية الجماعة. . . ولأنه اجتماعي بطبعه، ولأجل إيجاد إلف له
2 - أن يقف كفرد يدافع عن سلامته الشخصية، وأن يستطيع جذب رفيق له.
ومن هذا نرى، أن له عدة حقوق خاصة واضحة، وعليه واجبات لنفسه كفرد، ولكن مشكلته العظمى هي معرفته كيف يوفق شخصيته ورغائبه لاحتياجات الجماعة.
لقد كان الإنسان الأول في طفولته يعرف هذا التوفيق بالصدفة، أي بطرق عرضية مطولة ملفوفة، بينما نصل إليها الآن بطرق مباشرة مختصرة قليلة الالتواء إن وجد، لأن الدراسات الحديثة قد أفادتنا كثيراً، ودلتنا على أن في نفس الطفل غرائز وميولا وطاقات كامنة، وهو مهيأ لكيفية تنميتها - إذن ما علينا إلا أن نترك له القيادة، فيفصح لنا عن نفسه؛ وعملنا نحن هو أن نوجهه ونرشده إلى أحسن السبل ليهيئ نفسه لبيئته، مع مراعاة أن ضروريات الجماعة ومستوياتها دائمة التغير.
فالسلوك الخلقي لجيل ما، يعتبر دائماً السلوك غير الخلقي بالنسبة للجيل الذي يليه. وإذا افترضنا أن على الطفل أن يستمع ويخضع لأوامر اخوته ووالديه، وجدوده ومعلميه فعلينا أيضاً أن نفترض له منفذاً لرغباته حتماً.
وهنا يتحتم على الوالدين واجبان: -
1 - أن يعلما الطفل إلى أي حد يجب عليه أن يخضع رغباته واحتياجاته لرغبات واحتياجات الجماعة.
2 - عليهما أن يعلماه إلى أي حدّ يمكنه أن يشبع رغباته، وإلى أي حد يجب أن يدافع عن حقوقه، وإلى أي حدّ يعتد بنفسه، ومتى يخضع لأوامر الغير، ومتى يعدل رغباته نزولاً على إرادة الجماعة.
الطفلة (جميلة) نشأت وهي صغيرة في مزرعة، وأحاطها أمهات وآباء محبون جداً لها، ولم ينقص حب الخالات والعمات لها عن حب الجدات والجدود.
وطفلة في مثل هذه البيئة، وهذا الجو، أحست بأهميتها، وبالغت في إملاء إرادتها فكانت إذا أرادت شيئاً ما يحضر لها، ما كان عليها إلا أن تبكي بصوت مرتفع، ولمدة كافية حتى تحصل على ما تريد. وأحياناً كانت تبكي على أشياء لا يمكن أن تعطى لها، كأن تريد(291/51)
القمر مثلاً. وكانت تبكي أحياناً أخرى بدون سبب
ففي هذه الأوقات التي لم يمكن فيها إجابة طلباتها، أو الصبر على تدليلها إشفاقاً عليها من كثرة البكاء - كان يقول أحد من بالمنزل: (خذوا جميلة إلى الحديقة وأركبوها الحصان - قد يهدئها ذلك) أو يقول آخر في مناسبة أخرى: (خذوها إلى شارع المحطة لترى القاطرة الكبيرة وهي مارة - قد يهدئها ذلك)
وإذا لم تفلح هذه الطرق معها، كان يعطى لها قطعة من الحلوى لكي تهدأ. ولقد استمر هذا النوع من المعالجة، حتى أتى على أفراد الأسرة يوم نضب فيه معين حيلهم مع هذه الطفلة لتهدئتها كلما بكت فمرة من تلك المرات ظلت تبكي وترغي وتزبد مدة طويلة ولم يلتفت إليها أحد. فما كان منها إلا أن نادت بأعلى صوت قائلة: (أعطوا جميلة قطعة من السكر - ذلك قد يهدئني) دهش كل فرد حولها لما حدث منها، وحار الجميع كيف يجاوبونها، وتأملت هي طويلاً ثم قالت: (خذوني إلى الحديقة لأركب الحصان - ذلك قد يهدئني) واستمرت تبكي
هنا وهنا فقط فطن الوالدان وكل أفراد الأسرة للدرس المهم الذي أعطته لهم هذه الحادثة، ونبهتهم إلى تلافي الغلطة التي كانوا يقعون فيها في تربية الطفلة؛ ومن حسن حظها أن غيّر الجميع خطتهم معها تدريجياً، وعدلوا مجاوبتهم لبكائها
من هذا يرى أنه إذا سمح للطفل أن يصير أنانياً، بحيث يطلب كل ما يريد غير ناظر إلى حقوق الغير، فإنه سيبقى طول حياته على خلاف ومنازعات مستمرة مع الناس الآخرين، ويشعر غالباً بأن الناس لا يعدلون في معاملته أبداً. وكثير من الأفراد لا يحصلون على ما يشعرون أنه من حقهم، ذلك لأنهم ينتظرون أكثر مما يستحقون من الحياة، ويتطلبون من الناس أن يتنازلوا لهم ويؤثروهم على أنفسهم بحالات لا يمكن تحقيقها
وهذا هو السّر في سوء حال الشبان الذين لا تقدر على ترويضهم عائلاتهم ولا مدارسهم ويضج منهم المجتمع. والكل يشكون ويتأففون من فساد المجتمع، ولكن ليس الذنب كله ذنب المجتمع، فلو لم توجد عندنا حالات عامة شائعة في بيوتنا المصرية من أشباه التربية الخاطئة، لما سمعنا بحوادث الأولاد الذين يتهجمون على آبائهم بالضرب أو القتل، أو تنكيد حياة الأم لشدة هياج ابنها العصبي وغير ذلك في كل وقت. والحقيقة أن لا عصبية هناك(291/52)
ولا جنون، وإنما هو سوء التربية المبكرة وخطؤها الذي يجعل من الطفل شخصية غير شخصيته، ويجعل حياته كلها تصنعاً والتواء.
إن سلطة الوالدين والمربين على الطفل هي التي تعلمه حقوق الجماعة. ولكن ليحترس من استعمال السلطة بغلظة وجهل معه، فإنه إذا حصل ذلك ولم يكن لدى الطفل المخارج الكافية لنزعات نفسه، فإنه يصبح شغوفا قلقا خجلا في غير موضع الخجل، عنيدا ينكر كل شيء، ويشاغب حيث لا سبيل إلى الشغب، ويصير أشد ميلاً للتأثر بغير بيئته التي باتت غريبة عليه. وهذا دون ريب مالا نقصد إليه. إذن يجب أن تخدم السلطة الوالدية غرضين:
1 - أن تكون وسيلة يتعلم بها الطفل كيف يوفق نفسه للجماعة. . .
2 - أن تكون وسيلة يتعلم بها الطفل أيضاً إلى إي حد يمكنه أن يعبر عن رغباته واحتياجاته.
ذلك لأن كثيراً من الضغط على الطفل يتعين خطؤه وضرره إذا ما كلفنا أنفسنا مشقة إيجاد المخارج الصحيحة التي يعبر الطفل فيها عن نفسه؛ ويظهر لنا تعسف أوامر النهي التي نضايق الطفل بها والتي يستغني عنها تماماً، إذا اتبعت طرق التربية الصحيحة، التي تمكن الطفل من إشباع ميوله دون إزعاج الآخرين.
ولا يصح أن نتصور أن الطفل إذا خالف قانوناً أو نظاماً يجب أن يسامح، لا بل يجب أن يعاقب. وكل ما نرمي إليه هو أنه يمكن أن نعلم الطفل دائماً، ونعوده التعبير عن رغباته وإشباع ميوله، دون مضايقة الجماعة.
زينب الحكيم(291/53)
ذكريات
بمناسبة انعقاد المؤتمر الطبي بالقاهرة
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كنت اتخذ عدتي مع أعضاء المؤتمر الطبي العربي الذي انعقد في عاصمة بلاد الرشيد.
ولقد تعاونت الحكومة والشعب على إنجاح المؤتمر وإكرام المؤتمرين ومساعدتهم على زيارة بلادهم الجميلة وفضلاً عن تخفيض أجور السفر المتبعة لمناسبة انعقاد المؤتمرات وما شابهها، فإن الحكومة العراقية مبالغة بالسخاء تفضلت بجعل السفر مجاناً على السكك الحديد مع كثر نفقاتها هناك ولقينا من حسن معاملة مختلف الهيئات كل مشرف سار إني قوية الأمل، شديدة الرجاء، أن ينال جميع أعضاء المؤتمر الطبي - وهم في بلادنا - مثل هذه المعاملة جرياً على عاداتنا. وإني أهيب بكل تاجر ومرشد، وكل ذي مصلحة شخصية من أجانب ووطنيين أن يترفع عن مضاعفة أثمان ما يروق لضيوفنا شراءه، وخصوصاً العراقيين، فإن التجار في بلادهم أقسموا أنهم كانوا يبيعون لنا الأشياء بأثمان أرخص مما يبيعون بها لأهل البلد والتاجر العراقي صادق أمين، كلمته شرف، ووعده موفى مهما يكن من الأمر
وإني لهذه المناسبة السارة أختص الرسالة الغراء بعض الصور التذكارية عن المؤتمر الطبي السابق تحية لأطباء العراق وترحيباً بهم ولجميع الأعضاء الأفاضل
زينب الحكيم(291/54)
رسالة العلم
إثبات نظرية التطور
للأستاذ عصام الدين حفني ناصف
البراهين على صحة نظرية التطور كثيرة لا يحصرها العد، فحيثما أرسل الإنسان الذي وعى هذه النظرية بطرفه في عالمي الحيوان والنبات، وجد شواهد توضح ما بين مختلف الكائنات الحية من صلة القربى. وقد اخترنا هنا أمثلة قليلة تتعلق بحيوانات مألوفة، نراها مما يسهل فهمه وتجدر معرفته
من علم ترتيب الكائنات
وصف العلماء إلى الآن ما يربى على 500. 000 حيوان حي و 200. 000 نبات و 100. 000 متحجر ينفرد كل منها بصفة من الصفات. وهم يقسمونها إلى أقسام مختلفة المراتب، فنوع الثعلب ونوع الذئب ونوع الكلب تابعة كلها لجنس الكلب، وهذا تابع العائلة الكلبية من فصيلة آكلات اللحوم، وهذه تابعة لتربية ذوات الثدي وهي تابعة لقبيلة ذوات الفقار
وليس تحديد الأنواع من الأمور السهلة، فبعض العلماء يعتبر بعض المجموعات أنواعاً جديدة في حين يعتبرها علماء آخرون مجرد (تنوعات) ونحن نلتقي بالتنوعات دائماً حين نبحث آلاف النماذج من أحد الأنواع الحيوانية أو النباتية، وهذه القدرة على التنوع من أهم خصائص الأحياء فهي تيسر لها ملاءمة البيئة المحيطة بها، وذلك يتيح لها أن تتطور وترتقي من حيث بناء الجسم وقدرته على العمل
وعلم ترتيب الكائنات ينطق بصحة نظرة التطور (1) لأن الوفرة الهائلة في عدد الكائنات الحية التي يمكن على الدوام إثبات وجود أشكال انتقالية بينها، تسير كلها ببطء طريق التحول والتغيير (2) ولأن (النوع) لا يمكن تحديده تحديداً تاماً، فلا بد أن يكون شيئاً متغيراً
من علم الحفريات
تتكون طبقات الأحجار الرسوبية في وضع أفقي، ويكون أسفلها أقدمها عمراً، وتحتوي كل(291/55)
طبقة على حيوانات ونباتات دفنت فيها في العصر الذي تكونت فيه تلك الطبقة، وقد وجد إن الحفريات التي دفنت في طبقة قديمة العهد تكون أبسط في تكوينها وتركيبها من حفريات الطبقات التي هي أحدث منها عهدا. من الأمور الهامة أننا نجد حفريات كل سلسلة من سلاسل الأنواع الحيوانية على النحو الذي كنا نتصورها عليه قبل أن نعثر بها وذلك ما حدث مثلاً في ما يتعلق بقدم الحصان، فقد تعودنا أن نجد معظم الحيوانات الثديية الراقية ذات خمس أصابع فإذا أختلف الأمر عن ذلك في الحصان، ألزمتنا نظرية التطور بافتراض أن أصابع أسلافه كانت خمسا فبقيت منها واحدة وضمرت الأربع الأخرى، ونحن نميز في قدم الحصان الحالي إصبعاً واحدة ونجد في الخيل المتحجرة في عهد البليوسين أن قدمها ذات 3 أصابع وفي الخيل المتحجرة قبل ذلك في عهد الميوسين أنها ذات 4 أصابع وفي المتحجرة في عهد الأيوسين أنها ذات 5 أصابع
من علم التشريح المقارن
يرينا التشريح المقارن ذلك التشابه العظيم بين جسم الإنسان وأجسام باقي الحيوان وفي مقدمتها (الشبيهة بالإنسان) وهي الشيمبانزي (البعام) والجوريلا (الغول) والأورانج أو أوتان (إنسان الغابة) والجيبون. ويقابل التشريح المقارن بين الأعضاء في مختلف الأنواع الحيوانية فيثبت ما بينها من أوجه الشبه سواء فيما يختص بالشكل الخارجي أو الوظيفة. فإذا نظرنا إلى جناح الخفاش وذراع الحفر عند الخلد وذراع الإنسان وجدناها متشابه تشابهاً عظيما في تركيب عظامها رغم تباين وظائفها، وما ذلك إلا لأن هذه الحيوانات متسلسلة من أصل واحد
ينظر معظم الناس إلى الحوت باعتباره ضرباً من السمك، وذلك لإقامته في الماء ولشكله الوشعي (المغزلي) ولوجود زعانف الصدر والذنب، ولكن تشريح الزعنفتين الأماميتين يرينا في كل منهما هيكلاً عظيماً يشبه مثيله في الطرف الأمامي من الحيوانات الثديية الأخرى. أما الزعنفة الذنبية فيدعمها محور عظمي هو نهاية العمود الفقري. ولبعض أنواع الحيتان زيادة عما تقدم زعنفة ظهرية بيد أنها خالية من أية دعامة عظمية، ولا إيضاح لهذا التباين في بناء الزعانف المختلفة في الحوت الواحد، ولهذا التعقد في بناء هيكل الزعنفة الصدرية إلا أن الحوت متسلسل من حيوان بري كان يستعمل طرفيه الأماميين في المشي(291/56)
ثم تطور بتطور معيشته من برية إلى بحرية. وهنالك إثباتات أخرى تؤيد أن الحوت حيوان ثديّ متسلسل من أصل بري، وهي كونه يتناول الأوكسجين اللازم لحياته برئتيه من الهواء لا بالخياشيم من الماء، وكونه من ذوات الدم الحار فلا تنخفض حرارة جسمه - كالأسماك - بانخفاض حرارة الماء الذي يعيش فيه، وكون أنثاه تلد صغارها تامة التكوين وترضعها.
من علم الأجنة
يجتاز كل حيوان في نموه من خلية البيضة حتى يكتمل سلسلة من التغيرات المحتومة، ويمر بسلسلة من الأشكال المختلفة، هي إعادة موجزة للسلسلة الطويلة من الأشكال التي اجتازها أسلاف هذا الحيوان أي أصول نوعه منذ أقدم أزمنه الخلق العضوي حتى الوقت الحالي
فالحوت - مثلاً - يمتاز في كبره بعد اشتمال جسمه على الشعر والأسنان والعنق والطرفين الخلفيين، ولكن هذه الأعضاء توجد في جنينه، وذلك ما يشير إلى تسلسله من أصل ثدي له هذه الأعضاء
كذلك يحوي جسم الجنين الإنساني أعضاء عدة لا إيضاح له إلا أنها موروثة عن الأسلاف الحيوانية، فهو مغطى بشعر كثيف يذكرنا بفروة القرد، وقد يبقى الثوب الشعري جنيني في أحوال مرضية شاذة عند من يسمونه بالإنسان الكلبي. وللجنين الإنساني ذنب واضح، وله في كل ناحية خمس مجموعات من غدد لبنية، وذلك ما يدل على أن العضو اللبني - كما هو الحال عند الحيوانات الثديية الدنيئة - ولم يكن في الأصل زوجاً واحداً فقط
من علم الانتشار الجغرافي
تُقدم لنا الجغرافي الحيوانية كثيراً من الحقائق الناطقة بصحة نظرية التطور. فمن ذلك أن المناطق والأقاليم المنعزلة عن غيرها تحوي أنواعاً حيوانية خاصة بها لا توجد في سواها. ولئن كانت حيوانات أمريكا الشمالية شبيهة بحيوانات شمال آسيا وشمال أوربا فإن لحيوانات أمريكا الجنوبية (أعني التي كانت بها قبل أن يستعمرها الجنس الأبيض) صفات ومميزات خاصة بها نتجت من نمو تلك الحيوانات في عزلة وعدم اختلاطها بحيوانات(291/57)
أمريكا الشمالية. وذلك لأن أمريكا الوسطى كانت في عصر الميوسين مغمورة بالماء، فلم يكن ثمة وجود لذلك المعبر الأرضي الذي أنبثق بعد ذلك فوق اليمِّ فأصبح يصل بين الأمريكتين. ومما يؤيد هذا التفسير وجود بعض الأسماك والقواقع مشتركة في المحيطين شرقي أمريكا الوسطى وغربيها مع أنه لا يوجد نوع من الأسماك والقواقع مشترك في شرق أمريكا الجنوبية وغربها
ومما يلفت النظر تلك الجزائر التي طلعت في المحيط بعمل براكين تحت الماء مثل جزيرة سانت هيلانة (وتبعد 1800 كيلو متر عن أفريقيا) فهي خالية تماما من الحيوانات الفقرية البرية والطيور البرية، وبها من الطيور البحرية نوع واحد من النورز له قرابة بالأنواع الأفريقية، وبها أنواع من الخنافس ذات الخرطوم وهي الأنواع التي تعيش هي ويرقاتها وعذاراها على الخشب وفي داخله. وفي ذلك ما يبين أنها انتقلت إلى تلك الجزيرة النائية محمولة على أخشاب طافية. ولو كانت حيوانات تلك الجزيرة قد خلقت على حدة لما كان هنالك سبب مفهوم لإيثارها بالأنواع ذوات الخرطوم من الخنافس.
التفاعل الحيوي الكيميائي للدم
إذا تركنا دماً طازجاً في مكان ما، رسبت منه الكرات الدموية والألياف وبقى سائل أصفر هو المصل. ولكل حيوان فقري مصل خاص به من شأنه أن يضر بالكرات الحمراء التي في دماء الأنواع الحيوانية الأخرى. بيد أننا إذا كررنا حقن مقادير صغيرة من مصل دم حصان - مثلاً - في الأوعية الدموية لأرنب، تغير دمه بعد فترة من الزمن فأصبح مصل دمه يؤدي عند وضع قطرات منه في محلول يحوي قليلاً من مصل دم الخيل، إلى تكوين راسب زَغَبي، وهو يحدث الترسيب أيضاً - ولكن بدرجة أضعف، مع دم الحمار، وذلك ما يوضح قرابته به. فإذا حَقنَّا أرنباً بمصل دم إنسان أصبح مصل هذا الأرنب يرسب الدم الإنساني، بيد أنه أيضاً - وبنفس القوة - يرسب دم القردة (الشبيهة بالإنسان)، أما القردة الأخرى فيرسب دماءها بدرجة ضعيفة. وهذه التجربة تبرهن لنا على وجود (صلة الدم) بمعناها اللفظي
الإنسان في ضوء نظرية التطور(291/58)
يتعين علينا من الوجه الفنية المحض أن ندخل الإنسان في نطاق نظرية التطور وقوانينها، فليس الإنسان من حيث العلوم الطبيعية سوى حيوان فقري يمشي قائماً، ومن مميزاته الظاهرة على سائر الحيوانات الثديية القريبة منه أنه يعتمد في سيره على قدميه فقط، وكثير من خصائصه الجسمانية الأخرى موجود في عالم الحيوان وإن لم يكن مجتمعاً بهذا التوافق إلا في الإنسان والإنسان عظيم الشبه بالقردة الراقية إلى حد جعل أحد العلماء يقول: إن الفرق بين أحط الأجناس الإنسانية والقردة (الشبيهة بالإنسان) أقل كثيراً منه بين هذه وأحط القردة
ولئن كان المنظر الخارجي للجوريلا يبعث فينا النفور من تصور صلة قرابة تربطنا بها، فأننا نجد حين نسلخ جلدها أن التشابه بين جسمها وجسم الإنسان لافت للنظر. فكل عظمة ولك عصب وكل عضو من الأعضاء المختلفة موجود عندها في مثل موضعه عند الإنسان. وهي تشبه الإنسان كذلك في كونها بلا ذنب ناتئ خارج الجسم، وبلا انتفاخ في الإلية، وبلا شعر كثيف في الخدين كما تشبهه في بناء عضو التفكير أي المخ، فإن مخها يحوي نفس الأجزاء والأخاديد والتلافيف التي يحويها مخ الإنسان
مستقبل الإنسان
من المرجح جداً أن يستمر الإنسان في التطور مدى أزمنة طويلة جداً، ولكنا لا نستطيع أن نقطع: هل يكون هذا التطور إلى أرقى أم إلى أحطّ؟
لقد اكتظت الأرض بالحياة أحقاباً طويلة دون وجود الإنسان. ومن الممكن أن تبقى حافلة بالحياة ولو انقرض الإنسان؛ فالأرض لم تخلق هي وعالم الأحياء، من أجل الإنسان، ولكن مجده وقوته في كونه يعرف كيف يستغلها ويستخدمها لقضاء أغراضه.
عصام الدين حفني ناصف(291/59)
رسالة الفن
الفن الأمريكي
العمارة
للدكتور أحمد موسى
لا يرجع الفن الأمريكي المقتبس من أوربا لأكثر من وصول الأسبان إليها. وبدت أولى مظاهره في تشييد الكنائس التي تميزت بضخامة مظهرها وطرازها الباروكي مع بساطة الزخارف وقلة النقوش، على نقيض ما كان جارياً في تلك المرحلة الزمنية. كما أنها عندما شملت شيئا من التحلية كانت ضعيفة إلى حد لا يتناسب مع التصميم الإنشائي.
وأول المباني الضخمة (الثقيلة) كانت بسان فرانسسكو وتولا التي تمت بين سنتي 1540 و 1561 وبعدها كنيسة مريدا المقببة التي تم تشييدها سنة 1598، ثم الكاتدرائية الهائلة بمكسيكو (1573 - 1656) بمنارتيها اللتين بلغ ارتفاعهما نحو الستين متراً.
ولعل كنيسة لاجوس الباروكية الطراز (1649) وكنيسة شايهواهوا (1789) توضحان لنا أثر الفن الأوربي الإسباني وتطوره في أمريكا.
وبدأ تطور الطراز المعماري تطوراً شاملاً منذ القرن الثامن عشر، فاتجه الميل إلى إهمال الزخرفة واعتبارها عملاً يضيع الوقت والمال، وظهرت الرغبة في تبسيط البناء، إلا أنه بالنظر إلى اتساع الأراضي وقلة ازدحام السكان ورخص التشييد لخلوه من كثرة النقش والتحلية، فإن الضخامة والثقل ظلا على حالهما الأول وحافظا على مكانتيهما من نفس المهندس المعماري. وخير مثل نسوقه لهذا مباني سان فرانسسكو وساجراريو متزو بوليتانو في مكسيكو وكتدرائية ليون.
ولم يكن هذا المظهر منحصراً في الكنائس وحدها، بل كان شاملاً للمباني العامة والمباني العادية؛ فترى السراي الأهلية التي يرجع تاريخها إلى عام 1692 بواجهتها التي يبلغ طولها مائتي متر، وسراي البلدية (1720 - 1724) ومدرسة برج (1797 - 1813) في مكسيكو، خالية كلها من النقوش والزخارف التي تعتبر في (الدنيا القديمة) ضرورية لتجميل البناء وأهم كنائس جنوب أمريكا كنيسة كوسكو التي بدأ إنشاؤها سنة 1537(291/60)
وكنيسة ريودي جانيرو، وباهيا، وبونس أيرس، وليما، وسانتياجو حيث توجد الكاتدرائية العظيمة (1647 - 1748)، واختلف المجموع الإنشائي في كل منها اختلافاً يحتاج إلى التفصيل الذي لا يتسع له المجال لاتصاله بأصول العمارة.
وقد لوحظ أن فن العمارة الذي انتقل من إنجلترا وهولندا إلى أمريكا كان أميل إلى الناحية العملية منه إلى الناحية الفنية لجملة أسباب؛ منها أن الذين هاجروا إلى (الدنيا الجديدة) كان معظمهم ممن ضاق بهم العيش في بلادهم، أو من الذين اتسع لهم مجال التبسيط على اعتباره تجديداً، فضلاً عن العطش والرغبة الصادقة في الاستغلال السريع. أما الأسبان الكاثوليك فقد ظلوا سائرين في اتجاههم المعماري الذي مال إلى الزخرفة والتنميق؛ فترى في المدن الجديدة التي منها سانتافيه أمثلة عدة تؤيد ذلك.
وبينما اتجه الفن المعماري في الجنوب اتجاه البلاد الكاثوليكية كما هو الحال في كاتدرائية نيو أورليانز (1792 - 1794) التي لا يخرج طراز بنائها عن كونه خليطاً من العمارة الكلاسيكية الفرنسية والعمارة القوطية إلماماً؛ نراه اتجه في الشمال نحو البعد عن الزخرفة والميل إلى تبسيط الواجهات. وهذا يؤيد ما يلاحظه المشاهد المدقق على كنيسة كرست في فيلادلفيا التي تم بناؤها سنة 1727 والتي يذكرنا مظهرها الإنشائي العام بالتصميمات التي حملت طابع المعماري الإنجليزي كرستوفرورين في لندن، وكذلك بيت البلدية في بوستون والبيت الأبيض في واشنجطون، كلاهما حمل مظهر البساطة والرغبة في جعل المباني عملية أكثر منها فنية، فكانت متأثرة بالفن الهولندي المجرد.
أما في القرن لتاسع عشر فقد كان تأثير العمارة الأوربية عم وأكبر، وذلك بالنظر إلى كثرة المعماريين الذين ذهبوا إلى أمريكا. وقد ظهر أثر الفن الكلاسيكي على أشده في البناء الرائع المسمى كابيتول واشنجطن (ش 4) الذي ابتدأ بناؤه سنة 1793 والذي جعلت أعمدته من الطراز الكورنتي والتي أقيمت فوق أعتابها القبة فارتفعت عن الأرض تسعين متراً. على أن هذا البناء ليس الوحيد من نوعه الذي حمل هذا الطابع وهذه الروعة؛ فهناك مشيدات أخرى مثل بيت الاختراعات في واشنجطون ودار الجمرك في بوسطن وفي نيويورك وغيرها في فيلادليفا، كلها شاهد على هذا الاتجاه.
ونجد أيضاً أثر الطراز الرومانتيكي ظاهراً في التكوين الشكلي العام للكنائس وغيرها من(291/61)
المباني الجديرة بالاعتبار. وهذا لا يمنع من أن تكون كاتدرائية باتركس في نيويورك على الطراز القوطي المتأخر وعلى جانب من عظمة المظهر، ولو أنها بدت في مجموعها نحيفة التكوين بالنسبة للمألوف في هذا الطراز. وعلى نفس المنهج بنيت كنيستا ترينيتي وتوماس وغيرها في نيويورك وكان الواضع لتصميمها المعماري الإنجليزي أبجون
ولا نذكر كنيسة كانت على جانب عظيم من روعة الفن الخالص سوى كاتيدرائية (جميع القديسين) (ش 2) التي كانت ولا تزال ضيقة المساحة، وهذه الروعة تتلخص في دقة التعبير عن الطراز القوطي المبكر.
ولعله جدير بالذكر أن المباني التي تجلى فيها الطراز الرومانتيكي هي كنيسة هولي كوميونيون في فيلادلفيا وردهة كاتدرائية ترينيتي السابق ذكرها، وكنيسة نيو أولد ساوث بمنارتها التي تأثرت بالفن الإيطالي فكانت مثلاً جيداً له في أمريكا.
أما في المباني العامة فبرلمان أوتاوا في كندا وكابيتول الدولة في هارتفورد والمكتبات في بورلنجتون ووبرن، وكاونتي كورت هاوس في بِتسُبرج، ومتحف الفن في سنسناتي، والناشيونال أكاديمي التي تذكرنا كثيراً بقصر الدوج في فينيسيا، ومتحف التاريخ الطبيعي في نيورك. . كل هذه آيات بينات لفن البناء الأوربي في أمريكا، كما أنها خير دليل على الغنى الفني المعماري والمقياس الصادق لتقدير الفن الخالص.
ومن الغريب أن أمريكا لم تقتبس من فن (عصر النهضة) شيئاً يذكر، ولكنه يخيل إلينا أن الرغبة العملية كانت لا تزال الحائل بين العمارة وبين الاقتباس. ولهذا السبب نجد أن الحلقة الفنية المعمارية ناقصة.
وذلك ما انبنى عليه عدم وجود الرابطة بين الطراز السابق اقتباسها وبين المسلك المعماري الذي مثل الضخامة والبساطة في المظهر.
وهذا بلا شك سبب جوهري في الانتقال المفاجئ من عمارة القرون الوسطى من حيث (الثقل والضخامة) كما هو الحال في كابيتول الدولة بنيورك إلى عمارة بيت البلدية في فيلادلفيا، التي كان المنهج فيها مشابهاً لما اتبع في بناء اللوفر، هذا فضلاً عن منارته التي تعد أعلى منارة في العالم. وهذا نفسه نعاينه في مباني بيوت الدولة والمكتبات والمحطات والمتاحف ودور التمثيل وغيرها من حيث اتساع مساحاتها وكبر أحجامها - ولكنها مع هذا(291/62)
الاعتبار ضئيلة القيمة المعمارية الفنية لما بدا عليها من مظاهر البساطة وقلة التنسيق.
وحتى القصور والفيللات في (الدنيا الجديدة) بنيت دون قيد فني أو شرط من شروط الجمال العام، فهي لا تخرج عن كونها خليطاً من طُرُز مختلفة تجاورت وارتفع بعضها وانخفض البعض الآخر فظهرت خالية من الجمال؛ هذا في بيوت شيدها عظماء البلاد الذين يظن غالباً أنهم أدرى من غيرهم بأصول الجمال، أو على الأقل ممن لا عذر لهم في وجوب العمل على تشجيع الفن أيا كان نوعه.
من هذه الاتجاهات المختلفة وعلى ضوء هذا الخلط وعدم التقيد بقاعدة معينة أو فن معروف بدأت فاتحة اتجاه جديد في أمريكا، هذا الاتجاه هو إشغال أصغر مساحة من سطح الأرض بأكبر عدد ممكن من طبقات العمارات والبيوت، وساعد على ذلك عدم إمكان التوسع في مساحة مدينة واحدة أكثر من المعقول، إذ لا يجوز أن تسافر ساعتين من طرف إلى طرف الآخر في بلدة واحدة، هذا إلى جانب نمو عدد السكان نموَّا هائلاً.
وأولى هذه العمارات بيت بيركشير في نيويورك؛ فقد بنى شاملاً لتسع طبقات، وتدرج الحال حتى وصل إلى مائة وعشرين طبقة وأزيد! ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ بل سار كل في اتجاهه حسبما أراد وتبعاً لما تسمح به دولاراته، فتجد إلى جانب بيت يناطح السحاب منزلاً لا يتجاوز خمس طبقات.
وبعد أن كانت أمريكا تقلد أوربا في أول الأمر، أصبحت أوربا تقتبس من أمريكا وتقلدها. وطغت هذه الموجة على القاهرة أيضاً فأصبحت ترى عمارات يبلغ عدد طبقاتها عشراً وثلاث عشرة بنيت كلها متلاصقة أو متجاورة لا ينفذ إليها نور ولا هواء، مع أننا لسنا في حاجة ماسة إلى مثل هذا المنهج السقيم، لا سيما وأن عدد سكانها ضئيل جداًّ بالنسبة إلى مدن أمريكا الكبرى، ومساحة القاهرة أكبر نسبياً من مساحة تلك المدن.
(له بقية)
أحمد موسى(291/63)
صوت الآنسة أم كلثوم
من الوجهة الفنية
يعتبر صوت أم كلثوم أجمل وأكمل وأقوى صوت نسائي في العصر الحديث. ولعله أخلد الأصوات جميعاً في تاريخ الطرب بعد صوت (ألمظ) زوجة عبده الحمولي ومطربة الخديو إسماعيل.
فهو يمتاز بتكوين سليم لا عيب فيه، وبضبط نسب مقاماته ضبطاً محكما لا يحتاج لشرح ولا تحليل لأننا جميعاً نسمعه.
فهو غني بتريولاته (ذبذباته) التي تفعل في النفس فعل السحر أو أكثر، والتي تعطي السامع لوناً لامعاً ونبرة صافية غنية بكل الدوافع التي تسلب الإنسان حسه ونفسه.
يتكون من (ديوانين) تقريباً. وهو من نوع (الكونترآلتو) (واالميزوسبرانو) ويبلغ 15 مقاماً تقريباً (12 كونترآلتو) و (3 ميزوسبرانو)
أم كلثوم أقوى مطربة في الشرق، تتصرف في عقود النغم وعنصره تصرفاً فنياً سليماً. فهي مثلاً تتصرف في العقد الأول (بياتي ذي الأربع على الدوكا) وتتصرف في العقد الثاني (راست ذي الأربع على النوى). كذلك عشاق ذي الأربع على النوى، والحجاز ذي الأربع على النوى، وتهبط من البياتي ذي الأربع على الدوكا (نغمة الكارجهار)
وكل هذ الا يخرج عن عقود النغمة وعنصرها ولا يؤذي أذن السامع بل يصور له ذوقاً رفيعاً سامياً في التصرف، وفي تذوق النغم وفهمه.
وهي أقدر المطربات قاطبة في فن الإلقاء، وفهم الغناء، وإعطاء كل كلمة المعنى الذي يترجمها ترجمة صادقة. وأكبر الظن أن هذا يرجع إلى أنها اشتغلت كثيراً مطربة ومغنية (للقصائد النبوية) في المدائن والقرى.
تجيد كل ما تغنيه: ففي الطقطوقة، والدور، والتوشيح، والمنولوج، والقصيدة، لا تستطيع أن تسمو في ناحية على الأخرى ولا في نوع على نوع، لأن التوفيق يأبى إلا أن يلازمها في جميع ما تغني.
تدين للملحنين بكثير من مجدها، وإن كانت هي لا تحب أن تعترف بهذا
تعزف على العود وتفهم في علم النغم، وتلم إلماماً بسيطاً ببحور الشعر وقوافيه.(291/64)
سننتظر طويلاً حتى نجد صوتاً كصوتها، وتصرفاً كتصرفها، وذوقاً فنياً كذوقها.
محمد السيد المويلحي(291/65)
رسالة الشعر
جيش أسامة
للأستاذ أنور العطار
ضجَّ مَهد الصحراء بالتغريد ... وسَرى النور في رمال البِيِد
هو ذا في غَيَابة البعد خطٌّ ... ينجلي من سَرابها المعقود
سال ذَوْبُ النضار في مصحف الأف ... ق فزان الدنيا بحُلم رغيد
نَهَرٌ من هداية يتلوى ... في فضاء رحْب المطاف مديد
ضم في شاطئيه صَيّابةَ العُرْ ... ب وبأس الممرّسين الصِّيد
والأمير الفتِيْ يَدرَّع البي ... د بجيش من الكماة عديد
رفرفت رايةُ النبي عليه ... ورعته بالنصر والتأييد
مَن هو القائد الفِتُّيِ وما ين ... شدُ في قصده الطَّروُح البعيد
ولمن هذه الزُّحوف تَوَالى ... كوفود تنهلُّ تِلوَ وفود
يقدُم الفيلق الذي أفزع القف ... ر وهز النجود إِثر النجود
تتمشى في سُبْله البيد نشوَى ... ثملاتٍ برملها العِربيد
يا صحابي هذا (أُسامة) يختا ... ل بِبُرْد من الشباب نضيد
رأس الأكرمين وهو ابن عشري ... ن بعزمٍ ماض ورأي سديد
وعليه جراءة الأسَدِ الوَرْ ... د وتحديقةُ العُقاب الصيوُد
يا له قاحماً نمته البطولا ... ت وألقت إليه بالاقليد
والبطولات شعلة الأمل السا ... طع في ظلمة الليالي السود
حدث النفس وهو يحلم جذلا ... ن بنصر داني القطوف عتيد
إيه يا نفس لا تَرُعْك المنايا ... فالمنايا أمنية الصنديد
اطلبي المطمحَ القصيَّ مداه ... ودعي الضعف للجبان الرَّقود
واذكري نائماً (بمؤتة) باع الن ... فس زُلْفَى رب البرايا الحميد
وانهضي للجهاد في نصرة الح ... ق وبثي رسالة التوحيد
ودعي اسم النبي تعبقْ به الدن ... يا وترتع في عالم من سعود(291/66)
وتلاقى الجمعان فارتجت الأر ... ض وغابت في العاصف المشهود
هل رأيت الأتِيَّ يزُبد جيّا ... شاً ويرمي الجلمود بالجلمود
وتعالت في القفر تكبيرة الل ... هـ فدوَّى الوجود بالتحميد
ثبت المسلمون في لقية الرو ... م وغاصوا في القسطل المزرود
وفَروُهم بكل ماض صدوق ... كصباح يفري الدجى بعمود
لا يرُى منهمُ ضحى اليوم إلا ... آيسٌ من نجاته أو مُود
وأُسودُ الصحراء قد غنموا النص ... ر وفازوا بالمأمل المنشود
مَنْ يُردْ فرحة النعيم المرجى ... يصدق الله في ظلال البنود
الصحارى ياسحر هذي الصحارى ... آيةُ الله في كتاب الوجود
ثورة الشمس في خِضَمٍّ من النو ... ر سحيق نائي المرام عهيد
الأراذيُّ في حماها تَنَزَّى ... قاذفات باللاهب الموقود
يالها الله من جحيم تَلَظَّى ... تخطف الروع من جنان الجليد
هي للائذ المحب أمان ... وهي للغاصبين نار الوعَيد
أي زهو تثيره هذه البي ... د بقلب بحبها معمود
نهض الفجر في حماها بهيا ... حافلا بالسنا النقِّي الفريد
عانقتها الأضواء في هبة الصب ... ح فأزرت باللؤلؤ المنضود
سكبت في فضائها العسجد الصر ... ف وحلَّتْ أفياءها بالعقود
أشرق اليمن من محاريبها الزُّه ... ر ومحرابها محط السجود
ها هنا يا صاحبتي معبد الل ... هـ على غابر الزمان الأبيد
ها هنا مشرق النبوة، مهوى ال ... خير مجلى الحلم السنِّي السعيد
ها هنا دارة الهناءة والبش ... ر وما شئت من سخاء وجود
ها هنا البأس والجراءة والحز ... م ومستعصم الفخار الوطيد
ها هنا معقل الغطارفة الغ ... ر ومستوطن العلاء التليد
ها هنا السيف صورة الأمل البك ... ر وترنيمة الشجاع النجيد
وعلى البيد صورة تبهر العي ... ن جلالا بسحرها المسرود(291/67)
طوَّف الدبن ساحها ثم أسرى ... يغمر الكون بالضياء الجديد
أسمع الرمل يملأ الأرض تسبي ... حاً بشدو محبب مودود
هدهدته قيثارة تتغنى ... بلحون قدسية الترديد
جازه العُرْب في مواكب للنص ... ر تفادي على اللواء المجيد
أذن الله للصحارى فماجت ... ساحتاها بقاحمين أسُود
يا جنود الحق المبين سلام ... أنتمُ للعلاء خير جنود
بكم عزت الحنيفة في الكو ... ن ونالت شأو المرام البعيد
فتحوا الأرض فاستقادت لفتح ... ناصع كالسماء هاد رشيد
غيرهم يفتحون للذل والعا ... ر وهم للعلاء والتشييد
ثم دال الزمان من ناسِه الغ ... ر فقرت سيوفهم في الغمود
واستكانت إلى الكرى فعليها ... صدأُ الدهر من طويل الهمود
(بغداد)
أنور العطار(291/68)
لله. . .!!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(سألتني القوت حسناء، وهي لا تدري أني. . . شاعر!)
مَالي أَرَاكِ الْيَوْمَ؟. . . نَارُ الضَّنَى ... تَكَادُ مِنْ عَيْنَيْكِ تْلِقي الشَّرَرْ!
رُفَاتُ نُورِ فيهما لْلِمُنَى ... رَغْمَ الْمَآسِي عَبْقَريُّ الْحَورْ
وَنْعشُ أَحْلاَمٍ طَوَاهُ السَّنَا ... وَسارَ. . . لا يَعْلَمُ أَيْنَ الْمَقَرْ
أَيْنَ؟! وَلَمْ تُبْقِ الَّلَياِلي بِنا ... مِنْ رَحْمةٍ تَأسُو جِرَاح الْقَدَرْ
لا تَنْدُبِيِه عِنْدَنَا. . . إِنَّنَا ... أَقْسَى قُلوباً مِنْ صَفَاةِ اْلَحَجرْ!
والصَّوْتُ. . ماذا في صَدَى نَبْرِهِ؟ ... أنينُ ثُكْلٍ أمْ تَشاجي يَتِيمْ؟!
شَاكٍ أَذَابَ الرُّوحَ في حَمْرِهِ ... لَكنَّهُ رَغمَ التَّشَكّي رَخيِمْ
سَاقِ مَضَى بِالدَّمْع في دَهْرِهِ ... يَسْقِي اَلْحزَانَى مِنْ شَرَابِ اَلْجحِيمْ
لَوْ طَافَتِ الدُّنْيَا عَلَى خَمْرِهِ ... لَما صحا في الْبُؤْس مِنها نَدِيمْ
لَكِئهَا صَمَّاءُ عَنْ سِحْرِهِ. . . ... مَا يَفْعَلُ الشَّاكي لِسَمْعٍ لَئِيمْ؟!
وهذِهِ الْكَفُّ الَّتِي ما بَرَى ... مِعْصَمَهَا الْبارِي لِغْيرِ السِّوارْ!
بَيْضاءُ كالزّنْبقِ فَوْقَ الثّرَى ... أَلْفَتْهُ رِيحٌ في هَجيِرِ الْقِفَارْ
الذُّلُّ سَوَّى حُسْنَهاَ مِنْبَرا ... يَهْتَّزُّ بِالّليْلِ فَيُبْكِي النهّاَرْ
والنَّاسُ مَلُّوا شَدْوَهُ. . . يا تُرَى ... لِمَنْ يُناَدِي يا تُرابَ الدِّيارْ؟
سائِلَةَ الْقُوتِ بِهَذَا الْوَرَى ... كُفِّي. . . فما تَلْقَيْن إِلاّ اَلْخسَارْ!
الثّغْرُ رَفرَافُ اَلهوَى لِلْقُبَلْ ... لِكنْها ذابَتْ عَلَى بُؤْسِهِ
والصَّدْرُ نامَتْ في أَسَاهُ الشُّعَلْ ... وَاهْتاجَ لِلْقُوتِ لَظَى حِسِّهِ
والسِّحْرُ في اْلأَجْفان يَنْعَى الأَمَلْ ... وَيَسْأَلُ اَلْخَيْبَةَ عَنْ رَمْسِهِ!
بِنْتَ الطّوَى! ذُوبِي بُكاءً وَهَلْ ... يَوْمُكَ إِلاّ مِنْ صَدَى أَْمْسِهِ!
الدَّهْرُ بِالرُّكْبَانِ لاَهِ ثَمِلْ ... واَلْحظُّ مَطْوِيٌّ عَلَى نَحْسِهِ!
سأَلْتُهَا: ما بالُ هَذا اَلْجَمالْ ... أَسْيَانُ في الدُّنْيَا، حَزينٌ، لهيفْ؟!
ماتَ اَلْهوَى في ظِلِّهِ والدَّلاَلْ ... وفِتْنَةُ اللّمْحِ، وسِحْرُ الرَّفِيفْ(291/69)
وَاصْفَرَّ حَتَّى عادَني في اَلْخيالْ ... رَيْحَانَةً أَبْلَى شَذَاهَا الْخريفْ
قالَتْ: مَحا سِحْرِيَ ذُلُّ السُّؤَالْ ... وَخَيْبَةُ اَلْحظِّ لِحُسْنِي الْعَفِيفْ
إِنْ قُلْتُ: قُوتاً! قَالَ إِثْمُ الرِّجَالْ: ... باْلعِرْض لاَ نَبْخَسُ حَقَّ الرَّغيفْ!
محمود حسن إسماعيل(291/70)
القصص
الدموع
مترجمة عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان ريكاردس أرملاً يعيش مع ابنته الوحيدة. وكان كثير التنقل من مسكن إلى مسكن، ولكنه لم يترك لوندرا في وقت من الأوقات. وكانت المساكن التي يقيم فيها من النوع الحقير الذي تؤجر فيه كل غرفة على حدة، وتدفع أجرتها مقدماً
وكان كثيراً ما يلجأ إليه المجرمون للاستشارة، فيفتيهم بما يدفع عنهم العقاب أو يجد لهم الوسيلة للخلاص. ولكنه هو نفسه لم يكن مجرماً، وإن أعتمد في رزقه عليهم وعلى مؤلفات صغيرة يضعها عن المجرمين والإجرام
كان أكثر زواره من طبقة الحدادين والنشالين واللصوص المبتدئين وخدم المنازل. وكانوا يطلقون عليه لقب (العلامة لتفننه في ضروب الحيل) وكان يقول لهم إنه قضى الشطر الأول من شبابه طالباً في جامعة اوكسفورد، وإن له أصدقاء من بين الوزراء واللوردات. وكانوا يجدون أمامه كل ما زاروه أكداساً من الكتب، ومجاميع من صور العظماء. وكانت بنته فيوليت ذهبية الشعر جميلة العينين رشيقة القد. وهي تقوم في المنزل بكل أنواع الخدمة، من الطبخ إلى الكنس إلى مشترى الحاجات من السوق. وكانت زكية نشيطة، وقد بدأ أبوها يحد من حريتها ويراقبها مراقبة شديدة لما بلغت عامها الرابع عشر. وذلك لأنه لاحظ أن بعض زواره كانوا يغمزونها بألاحاظهم، وظن أنها كانت تنتهز فرصة يكون فيها غافلاً فتبسم لاحدهم. وقد لاحظ مرة أو مرتين أنها تركته في أثناء حديث له معتذرة بعذر من الأعذار. ولكن اتضح أن العذر مكذوب، وأنها خرجت لتحادث أحد الشبان على السلم وكان في مثل هذه الحالة يغضب ويحتد ويطرد زائرهُ ويأمره بعدم العودة، ثم يستدعي فيوليت فيأمرها بملازمة حجرتها
وفي يوم من الأيام استأذنته فيوليت في الذهاب إلى السينما مع أحد أصحابها فقال: (كلا لا تذهبي)(291/71)
قالت: (حتى ولا مع سواني جيمز؟). فقال: (لا تذهبي مع أي إنسان)
قالت وقد بدا عليها ما يبدو على سائر الفتيات في حالة العناد: (ولكنني أريد أن أذهب فلماذا تمنعني؟) فقال: (لأني آمرك بعدم الذهاب)
فهزت رأسها الجميل الشعر وقالت: (هب أنني ذهبت بالرغم من منعك؟). فقال: (إذن أضربك عند عودتك)
قالت: (وهب أنني لا أعود إلى المنزل؟). ثم اغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع وقالت: (هب أنني ألقيت بنفسي تحت الترام أو القطار أو في البحر؟)
فهز العلامة كتفيه وأجابها بجواب خشن. واعتادت أن تسكت عند مثل هذه الحالة وتكف عن مطالبته بالذهاب
ولكن لا يحسب القارئ أن معاملته إياها كانت خشنة على الدوام، فقد كان كثيراً ما يلاطفها خصوصاً إذا شرب وانتشى، ويصفها بأنها عزاؤه وتسليته ويقول لها إن أمها أوصته وهي تموت بأن يعني بها، وإنه لهذا السبب يحرص عليها ويبذل من أجلها كل ما يستطيع، وإنه إذا منعها عن جيمز وأمثاله فإنه يعلم أن أمثال هؤلاء سيجرون إليها المتاعب في المستقبل، وإنه سيجد لها الزوج الكفء في الوقت المناسب لكن كل شيء من هذا قد ذهب وفات أوانه وأصبحت فيوليت في السابعة عشرة فلم يعد يستطيع تهديدها بالضرب ولم تعد تجدي معها النصائح، فإذا ما أراد إرغامها على رأيه هددت بالانتحار فيضطر إلى الإذعان. ولم يعد له من سلاح غير لسانه الذي يلجأ إليه في قليل من الأحيان
وكانت في هذه الحالات تلجأ إلى الدموع
ولما تجاوزت العام السابع عشر وجد أبوها وسيلة جديدة للرزق هي إرسال خطابات يطلب فيها المساعدة من كبار المؤلفين والكتاب وإلى من يقيمون من أنفسهم مقام الرعاية لحملة الأقلام. وكان يقول في خطاباته إن حرفة التأليف كسدت في مدة الحرب وفي العهد الذي تلاها، وإنه يرتزق من قلمه، وإنه لا يملك حتى طابع البريد الذي يرسل به الخطاب، وإنه لذلك يبعث به مع أبنته الوحيدة فيوليت.
ثم يسلم الخطاب إلى ابنته ويأمرها بأن ترتدي أقدم ثيابها وتضع في كفيها قفازين باليين، ويبحث في فهارس الكتب عن أسماء المؤلفين وعناوينهم، ويوصي ابنته بأن تتصنع الكآبة(291/72)
وتزعم أنه ليس في المنزل طعام وبأن تقلل معهم من الكلام بقدر المستطاع
قالت: (وهل أقول ليس في المنزل شراب أيضاً؟) فقال: (إياك أن تذكري اسم الشراب، ولتقفي حتى يسلم إليك الرد)
وفي أول مرة كلفها بذلك ذهبت وعادت فوضعت أمامه عشرة جنيهات فاستخفه الطرب وقال: (كيف أمكنك الحصول على كل هذا؟)
فقالت: (لقد فعلت كما أمرتني، فأبى الرجل أن يعطيني شيءً ولكني بكيت)
قال: (بكيت؟ كيف؟ هل آذاك؟)
فقالت: (كلا)
قال: (ولكن كيف تبكين؟ هل تأثرت من ذهابك بهذه الرسالة؟) فقالت: (كلا يا أبي ولكني وجدت البكاء وسيلة لتنفيذ المهمة التي ذهبت من أجلها)
قال وقد بدت عليه علائم الراحة والاطمئنان: (خبريني يا فيوليت. هل في استطاعتك البكاء كلما أردت؟). فقالت: (نعم. فإن معاملتك إياي منذ الصغر سهلت عليَّ اصطناع البكاء)
فلاطفها وواساها وقال: (تعالي يا ممثلتي العزيزة. إنني أهنئك بمستقبل باهر)
وكان ذلك اليوم بداية عهد جديد ترك فيه العلامة إفتاء المجرمين وترك حرفة التأليف، وعكف على تحرير الخطابات وإرسال ابنته بها ولقد أغنته هذه المهنة فأيسر، ولكنه ما زال عاكفاً على إرسال الخطابات
وفي يوم من الأيام جاءت إليه الخادم بخطاب وقالت: إن الفتاة التي حملت هذا الخطاب تنتظر مقابلته بالباب. فقال: (أسمعيني ما في خطابها) فقرأته، وهو خطاب من مؤلف كسدت سوق بضاعته، وليس في منزله طعام، ويريد مساعدة مالية لا تقل عن عشرة جنيهات
قال ريكاردس: (اطردي التي جاءت بهذا الخطاب).
فقالت الخادم: (أخشى يا سيدي إلاَّ يكون هذا في استطاعتي. إنها تبكي وحالتها مؤثرة جداً، وتقول أنه ليس في منزلها طعام)
قال: (اطرديها. فلماذا يلجأ إليَّ من أرسلها؟ عنده نقابة المؤلفين وعنده الجمعيات الخيرية(291/73)
المختلفة)
فخرجت الخادم وهي تفكر في وحشية سيدها الذي يأمر بطرد فتاة مسكينة لا تجد هي ولا أبوها القوت الضروري. ثم عادت فقالت: إن الفتاة أبت أن تنصرف، وألحت عليه أن يقابلها. فنزل ريكاردس ووجد الفتاة في ثياب سوداء وفي يدها قُفاز كله ثقوب. وبكت أمامه بدموع حارة، وأقسمت بصوت متهدج، أنه ليس في منزلها قوت. فأضطر ريكاردس أمام هذه الدموع إلى إعطائها خمسة جنيهات)
وربما أدرك القارئ أن تلك الفتاة لم تكن سوى فيوليت متنكرة، وقد غيرت صوتها، وأنها تمثل أمام أبيها نفس الدور الذي كان يرسلها لتمثيله أمام الناس
وفي يوم قريب من هذا الحادث طلبت فيوليت إلى أبيها أن يأذن لها بالذهاب مع جيمز للنزهة. فأبى وأصر على إبائه، وأطاعته وقد كظمت غيظها وأصرت على فكرتها
في عصر ذلك اليوم سلم إليها أبوها خطاباً إلى أديب كبير في ضاحية من ضواحي المدينة لأنه كان قد استنفذ أسماء المقيمين فيها، فذهبت لأداء هذه المهمة بعد أن زارت مكتب أبيها وأخذت منه أوراقاً وانقضى اليوم ولم تعد، وانقضى اليوم التالي كذلك، وكاد أبوها أن يجن وأشيع أنها تزوجت من جيمز وأنها تقيم معه في منزل قريب من منزل أبيها
وتفقد مكتبه فوجد كيس نقوده مفقوداً، وكذلك دفتر مذكراته الخاص وبيان طويل بأسماء المؤلفين وعنواناتهم، فكان حزنه على البيان والدفتر أكثر من حزنه على المال المفقود لعلمه أن هذين هما مصدر ثروته. وأدرك أنها ذهبت إلى جيمز لتؤدي له الخدمة التي كانت تؤديها لأبيها فامتلأت نفسه بالأحقاد على هذا المزاحم
وبعد أسبوع واحد تقابل ريكاردس وجيمز في الطريق فأمسك الأول بتلابيب الثاني وطلب إليه أن يرد أبنته أو يسوقه إلى البوليس، لأن فيوليت لم تبلغ العام الحادي والعشرين فلا حق له في الزواج منها إلا بإذن أبيها. وقال إنه إما أن تكون معاشرته إياها سفاحاً معاقباً عليه لعدم بلوغها تلك السن، وإما أن تكون متزوجة بعقد مزور
قال جيمز: (إذن فلنذهب إلي البوليس وأنا مستعد للعقوبة إن كان ثمة عقوبة، ولكني سأقدمك للمحاكمة وعندي الأدلة بخطك من دفتر مذكراتك، ومن بيانك بأسماء المؤلفين. وسأقول إنك تعيش من أموال تحصل عليها بطريق النصب لأنك تطلبها بأسباب غير(291/74)
صحيحة؛ وبنتك تشهد عليك)
لما سمع ريكادس ذلك وجف قلبه وفتر تحمسه وترك خصمه وذهب قانعاً من الغنيمة بالإياب
وفي اليوم التالي نشرت الصحف إعلاناً هذا نصه: (رجل من المشتغلين بالأدب متقدم في السن يريد أن يتبنى فتاة يتيمة في السابعة عشرة من العمر. العنوان: صندوق البريد رقم 7315)
وليس في استطاعتي إلا أن أفهم أن صاحب هذا الإعلان هو ريكاردس وأنه يريد الاستعاضة باليتيمة عن بنته وممثلته فيولت.
عبد اللطيف النشار(291/75)
البريد الأدبي
الدكتور طه حسين في ذكرى الأستاذ صادق عنبر
دعت (رابطة الإصلاح الاجتماعي) جمهوراً كبيراً من رجال العلم والأدب والصحافة إلى حفلة أقامتها بدار الجمعية الجغرافية الملكية بمناسبة مرور عام على وفاة المرحوم الأستاذ صادق عنبر. وقد افتتح الحفلة الأستاذ أنطون الجميل بك بكلمة بليغة ثم تعاقب الأدباء والعلماء من أصدقاء الفقيد وتلاميذه والمعجبين بأدبه، فتكلم الأستاذ جاد المولى بك عن شخصيته، والأستاذ الههياوي عن أدبه، وألقيت قصيدة للأستاذ الكاشف، وألقى الأستاذ محمود بيرم التونسي زجلاً رقيقاً، والشاعر الشاب أحمد عبد المجيد الغزالي قصيدة
وكانت الحفلة تليق بذكرى الفقيد الراحل وتدل على أن الأديب يعيش في أدبه العالي ويمتد عمره في أصدقائه الخلصاء
وهنا مسألة لا بد من الإشارة إليها، فقد ذكر الأستاذ الههياوي أن الأستاذ صادق عنبر هو الذي كان يكتب تلك المقالات المعروفة في نقد النضرات للمنفلوطي، وأن الدكتور طه لم يكن له فيها إلا الإمضاء؛ وقد أيده الأستاذ عبد الرحيم بن محمود في هذه الدعوى الجريئة؛ وأذكر أن كاتباً كتب مثل هذا الكلام منذ سنوات في مجلة الزهراء
ونحن بشهادة العيان ننكر هذه الدعوى أشد الإنكار، لأننا كنا مع الدكتور ساعة كان يمليها ويدفع بها إلى الجريدة، وقد ذكرنا في بعض مقالاتنا أسباب ذلك. ولا ندري كيف يسيغ العقل هذا والدكتور طه كان يومئذ أقل من الأستاذ صادق عنبر سنًّا ونفوذا وشهرة. وما الحكمة في أن يكتبها الأستاذ عنبر ويمضيها الدكتور طه وذاك موظف في جريدة (العلم) وهذا أجنبي عنها؟ إن الدكتور طه يأبى عليه طبعه أن يضع اسمه هذا الموضع، وإنا لنعلم أنه نحل كثيراً من الناس مقالات وبحوثاً وكتباً نالوا بها الشهادات والدرجات والثروة
فلم (الدكتور)
تعرض (شركة مصر للتمثيل والسينما) هذه الأيام في مدينة القاهرة شريطاً مصرياً محضاً عنوانه (الدكتور). وبعيد أن أقف هذه الكلمة على العرض والوصف والبحث؛ فإنما الذي في نيتي أن أحدث قراء هذا الباب من (الرسالة) عما خلص لي من قصة (الدكتور). وذلك لأن الذي يعنيني من المظاهر الأدبية والفنية في مصر إنما يرجع إلى الناحية الاجتماعية(291/76)
خاصة
أما تمثيل القصة فيدلنا على أمرين: الأول مهارة الممثلين المصريين في فن (المهزلة) (مثلاً مختار عثمان وفؤاد شفيق)، ولن أنسى ساعة يدخل الخادم الريفي على الباشا وزوجه فيجري حديث صامت يضحك المصلوب. والسبب في ذلك أن التمثيل في مصر قام - أول ما قام - على المسرحيات الهزلية، وأن سليقة المصري إلى الخفة والظرف والمرح والمحاكاة الساخرة ميّالة. وأما فن المأساة فالمصري لا يتقنه بعد لأنه لا يحكم كيف يمثل الإنسان، الإنسان من غير صفة تصفه، الإنسان على سجيّته. وتعليل هذا أنه تجذبه المبالغة في التعبير على الغالب وتعوزه قوة الصدق في الإحساس الدفين أحياناً
والأمر الثاني مضّي الممثلات في طريق الإتقان، من حيث أنهنه طرحن التكلف وسلّمنا بأن التواضع فضيلة وأدركنا أن الكلام الملقى مصدره القلب أو العقل لا الذاكرة ولا الدعابة (الشخلعة). . . وما ضرّ الأستاذ سليمان نجيب وهو بطل القصة (مع لقب بك) لو حذا حذوهن فتحلّى بالبساطة وأطلق وجهه من الإطار الذي حبسه فيه: إطار يغلب عليه الجفاء ويطرد فيه الانقباض مع شيء من العجب؛ إطار يحصر ابتسامة لا تتبدلّ كأنها مسمرة به، ولا تَرِف لأنها على حظ من التقبّض
بقيت القصة (وهي من تصنيف الأستاذ سليمان نجيب). ومجمل القول فيها أنها تصلح موضوعاً لخطبة يخطبها مصلح اجتماعي متطرف. وإليك فقرات من البرنامج المطبوع، وقد ذكرت بحروفها أو بمعانيها في أثناء التمثيل
(فلم الدكتور صراع بين الحب العاطفي والحب الأبوي)، (مشكلة العصر: الرجل، المرأة: أيهما يسسود) (فلم الدكتور يعالج داءً قاسياً داء التماسك بالطبقات والتغاضي عن قيمة الأشخاص) (فلم الدكتور يعيد إلى الريف المصري مجده وعظمته ويرد إليه أبنائه الذين سحرتهم مدنية المدن وبهاؤها البراق الخداع)، (حياة اللهو وحياة الاستقامة: أيهما أفضل)، (حياة الترف في الحضر وحياة البساطة في الريف) الخ. . .
يا الله ما هذا الداء المتفشي في المؤلفين عندنا ولاسيما الذين يؤلفون للمسرح والسينما؟ يريد كلهم أن ينقلبوا وعاظاً. فهل لهم - أصلحهم الله وأبقاهم ذخراً للفضيلة ومكارم الأخلاق؟ -(291/77)
أن يضعوا العمائم على رؤوسهم، أو يجلسوا القلانس على مقدَّمها فيرتقوا المنابر ليوعدوا خلق الله أو يعدوهم؟
ما هذا التهويل؟ الأديب المصلح يشير ويغمز لأن الأدب فن، أو يظن المؤلفون عندنا أن جمهورنا بليد أيةّ بلادة حتى أنه يحتاج إلى التنبيه الصريح؟ ثم ما هذا الادعاء؟ هل سألهم الجمهور أن يسقطوا الفن إلى التأديب؟ وما هذه المشكلات التي يعرضها شريط (الدكتور)؟ الحب العاطفي والحب الأبوي الريف والحضر. اللهو والاستقامة. . . تلك أحاديث طريفة جداً حقاً!
ثم إن مثل هذا اللون من القصص السينمائية الناهضة على الوعظ والنضال الفكري يعوزه أجل العناصر شأناً: الحركة، نقاش وتدافع حجج وتبيين وتدليل، كل هذا ربما صلح للمسرح إلا أنه بعيد كل البعد عن السينما
و (الدكتور) - على هذا - يشمل قطعاً لطيفة بفضل حذق المخرج نيازي مصطفى وجودة الموسيقى على أيدي محمد الشجاعي وعبد الحميد عبد الرحمن ومهارة طائفة من الممثلين (وقد ذكرت بعضهم فوق) والممثلات أمثال فردوس محمد فدولت أبيض فأمينة رزق. فلا عدمنا (شركة مصر للتمثيل والسينما)
على الهامش: - متى يأتي الزمن الذي فيه نزن الكلام؟ ففي البرنامج المطبوع ما حرفه: (فلم الدكتور أروع ما جادة به قريحة مؤلف (هل هنالك غلطة مطبعية فتقرأ: المؤلف) وأعظم ما أخرجته عبقرية مخرج) (كذا). . . رحم الله هوليود!
- كانت لغة القصة العامية على وجه الإطلاق، بل العامية السوقية أحياناً. ومهما يكن من شيء فقد ساء أذني قول الآنسة أمينة رزق (يا دَكتور) (بفتح الدال) و (يا دُكْتر) (باختلاس الواو). وقد يحق لها هذا اللحن لو كانت ترتدي (ملاية لَفّ) والحال أنها تنعم في (فساتين) على جانب عظيم من الأناقة
بشر فارس
معهد للغات الشرقية القديمة والحية
من المسائل التي نظرها مجلس جامعة فؤاد الأول، في آخر الأسبوع الماضي مذكرة من(291/78)
كلية الآداب بمشروع قانون بإنشاء معهد للغات الشرقية
وقد قرر المجلس إحالة المشروع إلى لجنة اللوائح والقوانين لدراسته ووضعه في الصيغة القانونية
وقد علمنا أن هذا المعهد سيضم ثلاثة أقسام: الأول خاص باللغات الشرقية الإسلامية القديمة. والثاني خاص بالغة السامية. والثالث خاص باللهجات العربية القديمة والحديثة. وربما تقرر أيضاً تدريس اللغات الفارسية والتركية والصينية
وسيقصر دخول هذا المعهد على طلاب كلية الآداب الذين يحصلون على درجة اللسانس، وستكون مدة الدراسة فيه ثلاث سنوات. والمفهوم أن تلاميذ قسم اللغة العربية هم اللذين سيمونون المعهد. ولكن سيباح لطلاب الأقسام الأخرى أن يتقدموا إليه إذا تحققت فيهم الشرائط التي تستوجبها الكلية في الطلاب
التعليم الديني في المدارس
قامت وزارة المعارف في خلال العام الماضي بجهود مشكورة للتوسع في التعليم الديني بمدارسها، عاملة على جعله أساساً للنهضة القومية الحديثة، وتنشئة الطلاب على مبادئه وآدابه تنشئة تقوم عليها تقوية الأجيال المقبلة روحاً وعقلاً ونظاماً
وتقوم الوزارة الآن سيراً على هذا النهج بإعادة النظر في هذا الموضوع من حيث الاعتبارات الآتية:
1 - تقدير أثر العناية التي بذلتها الوزارة أخيراً لمناهج الدين
2 - المقارنة بين المناهج الحالية والمناهج السابقة من وجهة خطوات التعديل
3 - الإطلاع على مبلغ عناية المدرسة وتلاميذها بهذه المادة بدراسة تقارير المفتشين
4 - وضع بيان بالموضوعات التي يجب أن تشملها كتب الدين المقررة لمدارس الجنسين، واختبار وفاء الكتب الحالية بهذه الموضوعات
5 - النظر في هل تقتصر العناية بالدين على ما بين المدرس والتلميذ من تجارب يرجع إلى مقدرة كل منهما، أو العمل على جعله مادة أساسية يمتحن فيها الطلبة في آخر العام مثل غيرها من مواد اللغات والعلوم
وتتجه العناية أيضاً إلى اختيار مدرسي الدين من بين الذين أهلتهم ثقافتهم إلى عدم الاعتقاد(291/79)
بوجود تعارض ما أو جفوة بين تطبيق تعاليم الإسلام وبين مقتضيات العصر الحاضر، وهم الذين عرفوا أسرار الدين معرفة عقلية وقلبية دون الوقوف عند حد النظريات
ويطلع كبار مفتشي اللغة بوزارة المعارف الآن على الكتب المؤلفة في هذا الموضوع لإبداء ملاحظاتهم عليها بما يلائم هذا التوسع توطئة لوضع تقرير توجيهي للعناية الواجبة نحو هذه المادة
بعثة ألمانية للأبحاث العلمية في الحبشة
سافر في منتصف يناير من مدينة ميونخ عشرة من أعلام الألمان بينهم الدكتور فون سالفلد الذي اشتغل في الجامعة المصرية أربعة أعوام، في رحلة إلى بلاد الحبشة وكينيا وتنجانيقا، للقيام بأبحاث تتعلق بعلم الانتروبولوجيا وعلم الأجناس والحيوانات، كل هذا لحساب متحف ميونخ الطبيعي
ويرأس هذه البعثة العلامة الدكتور هارتل ماير الذي سبق أن تولى رياسة مثل هذه البعثات من قبل في أفريقيا أو الهند
ولا شك أنها ستجد كل معاونة من السلطات الإيطالية في الحبشة
ترقية الأغاني المصرية
تقوم وزارة المعارف الآن بمشروع هام لإصلاح ناحية لها خطرها في النهضة الاجتماعية العامة عند الشعب، وهي ناحية الغناء والموسيقى. فقد لوحظ من زمن بعيد أنه على الرغم من الخطوات الواسعة التي خطتها مصر في سبيل مجدها وقوتها وثقافتها فإن الجانب الفني منها، والجانب الغنائي على الأخص، لا يزال متأخراً عن الهدف الرفيع الذي تتمشى إليه
ويلخص مشروع الوزارة في أن تعهد إلى طائفة من الشعراء الممتازين تأليف خمسين قطعة غنائية في مختلف الموضوعات التي تفي بما يجب توفره في أغاني أمة قوية معتزة ناهضة، على أن تعهد إلى طائفة أخرى من كبار الملحنين وضع الألحان المناسبة لها
وستترك الحرية لهؤلاء الشعراء والملحنين في القيام بعملهم خاضعين فيه لوحي شعورهم وإلهامهم الخاص؛ وتعطى على القطعة الواحدة عشرة جنيهات للتأليف وعشرة أخرى للتلحين. على أن يتجدد تأليف هذه الأغاني كل سنة حتى يتوفر منها العدد الكافي الذي(291/80)
يقضي على ما هو موجود الآن
وستتبع الوزارة في موضوع (الأناشيد) نفس ما تتبعه في الأغاني، إذ رأت أن الذين يضعونها الآن من ناحية الصناعة لا ناحية الشعور يضرون بالقيمة الفنية التي لو توفرت فيها لأثمرت فيما وضعت له
ترشيح عميد الآداب لعضوية معهد التعاون الفكري
تلقت وزارة الخارجية كتاباً من وزير الخارجية الفرنسية، بوصفه مقرراً لمعهد التعاون الفكري، يرشح فيه صاحب العزة الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب عضواً في المعهد، لما له من ظاهر في الثقافتين العربية والفرنسية
وينتظر بعد أن توافق مصر على هذا الترشيح، أن يعرض الأمر على سكرتيرية عصبة الأمم لإقراره
المباراة الأدبية بين رجال التعليم
طلبت وزارة المعارف، إلى اللجان الفرعية التي كلفت لدراسة المؤلفات التي وضعها رجال التعليم في مختلف نواحي المباراة الأدبية وبحثها، أن تقدم تقاريرها قبل يوم 18 فبراير القادم
وقد بدأت الرسائل الخاصة بالموسم الثاني لهذه المباراة ترد على الوزارة توطئة لدرسها واتخاذ قرار فيها
التدريب والتكليب
استفاض على ألسنة الكثرة المثقفة قولهم (الكلب هول ومدربه فلان. . .) وهو خطأ لغوي إذ الصحيح أن يقال: (الكلب هول ومكلبه فلان. . .) سواء أرادوا بفلان أن يكون مسلطة على الجناة للدلالة عليهم أو هو الذي ضراه وعلمه طريقة الإرشاد إليهم، إذ بكل من المعنيين وردت كلمة (مكلب) في لغتنا بصدد الحديث عن كلاب الصيد ولا يصح استعمال غيرها في هذا الصدد، وما تسليطه على الجناة للدلالة عليهم إلا كتسليطه للصيد وتعويق المصيد.
وقد جاء في لسان العرب ص 217 من الجزء الثاني (ومكلب مضر للكلاب على الصيد(291/81)
معلم لها؛ وقد يكون التكليب واقعاً على الفهد وسباع الطير. وفي التنزيل العزيز وما علمتم من الجوارح مكلبين.
والكلاَّب - بتضعيف اللام - صاحب الكلاب، والمكلب الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد. وفي حديث الصيد: إن لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها. المكلبة المسلطة على الصيد المعودة بالاصطياد الذي قد ضريت به والمكلب بالكسر صاحبها والذي يصطاد بها)
احمد عبد الرحمن عيسى
مؤلفات موسيقي نابغ
جاءنا من وارسو أنه سيصدر في فبراير القادم الجزء الأول من مؤلفات الموسيقي شوبان البولوني المشهور.
وسيشرف الموسيقي المعاصر المسيو بدرفسكي على إخراج هذه المؤلفات. وينتظر أن يتم إخراجها جميعا في مدى أربعة أعوام
فيا ليت هذا العمل يكون له مشابه في مصر وفي الشرق فنجد من يعنى بإحياء مؤلفات تعد من الكنوز سواء في العلم أو الأدب أو الفن.
ولا يصعب العثور في دار الكتب المصرية على مخطوطات إذا عمل على نشرها وإذاعتها فإنها ستكون موضع عناية أمم العالم وتصبح بمثابة دعاية قيمة تسجل لنا السير في مضمار الأمم الناهضة فعلاً لا قولاً.
أحياء ذكرى العلماء والأدباء
قررت الحكومة التركية إصدار مجموعة من طوابع البريد لمناسبة انقضاء خمسين عاماً على وفاة الشاعر القومي نامق كمال، وستحمل تلك الطوابع صورة وبعض كلمات من شعره(291/82)
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
المخرج فلاندر وسكرتير الفرقة
الخواجة فلاندر مخرج استقدمته الفرقة من بلده باريس ليعمل فيها بعد إذ عاف الأستاذ زكي طليمات العمل، وبعد إقصاء الأستاذ عزيز عيد والاكتفاء بالمخرج عمر الجميعي ريثما يعود فتوح نشاطي الموفد إلى فرنسا للتخصص في فن الإخراج
والخواجة فلاندر له ذوق وله فن، وهو رغم جهله لغتنا العربية وعادات أمتنا وتقاليدها، قد استطاع أن يساهم في إخراج بعض روايات موضوعة فكساها رونقاً وأضفى عليها بهاء فنياً، كما أخرج رواية مترجمة يعرفها في الأصل إخراجاً تقليدياً لا اعتراض عليه في الشكل المسرحي، والحركة التمثيلية. ولا أقول شيئاً في الإضاءة لأن معداتها ناقصة نقصاً لا سبيل إلى تداركه
ولعل أحسن الروايات التي أخرجها، وأدناها إلى الدلالة على استعداده الفني هي رواية (المتحذلقات) المكونة من فصل واحد
أزعم أن لمحة واحدة من الناقد يلمح لمعانها في رجل الفن تكفي للدلالة على أن وراءها ما بعدها. فلمعان فن الخواجة فلاندر بدا في قدرته على إلجام ممثلات وممثلي رواية المتحذلقات وتقييدهم كما يفعل مروض البغال الشموسة ومدرب الببغاوات، وفي صدهم عن الإسراف في العطاء أكثر من اللازم الواجب. مثال ذلك: الممثل الضحاك فؤاد شفيق كان أكبر همه استلفات النظر إلى حركاته وإشاراته، غير آبه لإرشادات المخرجين بدعوى أنه يفهم فنه أكثر منهم، ويدرك رغبات النظارة وميولهم، وغير حافل بما تحدث حركاته وإشاراته من خلل في سياق الرواية ومن صرف الأذهان عن الغرض الصارم الذي مهد له المؤلف بنكتة أو إشارة، إذ كانت غايته كما قلت إضحاك الناس فقط
وهكذا الممثلة أمينة نور الدين اقتبست بعض حركات من بعض ممثلي السينما أمثال هاردي ولوريل وإضرابهما ممن يقوم تمثيلهم على الحركة المفتعلة. ولم نكتف بالأخذ عنهم كالقردة بل أخذت تغرق في التقليد والافتعال إغراقاً ممجوجاً وهذا ما دعاني إلى تشبيهها (بالساروخ) إذا اشتعل وارتفع في الفضاء تبدو نجومه لامعة وضاءة بعض لحظة، ولكن(291/83)
كثيراً ما لا يشتعل لفساد مادته فينخنق وهو في الأرض
أما هذا المخرج، أو بعبارة أصح هذا المروض، فقد استطاع أن يجعلهما يقومان بدورهما على وجه مقبول، وهذا بعض المطلوب منه
ما كنت أبتغي الإلماع إلى هذه الناحية من النقد لولا حوافز ثلاثة:
1 - إدعاء قطب من أقطاب لجنة القراءة أن رأى النقاد المسرحيين لا يتعدى، بل يجب ألا يتعدى ناحية إخراج الرواية وطولها وقصرها على الوقت المناسب
2 - إدعاء قطب ثاني أن ليس في مصر نقاد
3 - شكوى الخواجة فلاندر من سكوت الصحف وإغضاء النقاد عنه
أما أنا فلن أسكت عن دحض الادعاء وعن نفي التهمة عن الناقدين المترفعين والأدباء المنصرفين عن الفرقة اشمئزازاً من أعمال رجالها الذين يتخبطون في ظلمات الادعاءات، ولن أتراجع حتى أظهر العلل التي أخذت تتأصل في الفرقة لوزارة المعارف المغضية عنها، ولأعضاء البرلمان الذين يغذونها من مال الأمة، ولكني أقتصر الآن على تفهم الخوجة فلاندر بأن في مصر صحافة قوية، وفيها نقاد يحسب لهم ألف حساب، وإن مصر تتوقل في نهضتها الثقافية سلم الارتقاء، وتتوجه بدوافع فردية، لا جماعية ولا حكومية، صوب المثل العليا، وإن قول المغرضين أن قحطا يعتور الأدباء إنما هو محض افتراء على مصر الناهضة وشبابها اليقظ.
وإن في الفرقة القومية - ويا للأسف - جماعة، وصلوا في غفلة الزمن، إلى وظيفة لم يخلقوا لها، ومن هؤلاء موظف يقول أنه سكرتير الفرقة القومية واليد المنفذة لما يرتئيه أو يشير به مديرها والحامل (كرت بلانش) منه، فهذا المخلوق المكلف بتوجيه الدعوات إلى رجال الصحافة وجماعات الأدباء بقبض يده عن الصحافة الناقدة ويبسطها بسخاء على الصحافة التي تنشر المدائح والتقريظ مأجورة بالمال، ويفيض بها فيضاً على من لا أذكرهم وعلى نسوة ما عرفن من الأوبرا سوى بابها الخارجي
وهذا المخلوق يعطي تذاكر الدعوات، لا جوداً ولا كرماً كأصحاب البدوات. بل حرماناً وتشفياً من صحافة ومن أدباء يرون الفرقة قد تحولت إلى (تكية)، وأن رجالها تهاونوا في تحقيق غرضها الثقافي، ومن هؤلاء المحرومين من (نعمة) سكرتيرها المحجل ناقد مجلة(291/84)
الرسالة
كم من صحيفة أمثال (الرسالة) لم تشملها نعمة الفرقة؟ وكم من أديب مغضوب عليه من سكرتير آخر الزمان لأنه لا يذكره إلا بقدر فهمه المحدود؟
ليت الخواجة فلاندر الذي يشكو من إهمال الصحافة والنقاد لفنه يعرف أنه ما من سطر واحد ينشر في الصحف إلا بأجر يدفعه المدير. وليته يعلم مدير الفرقة ويفهم السكرتير الذي لا يفهم أن الفرقة القومية للتمثيل هي للأدباء ورجال الصحافة والمتأدبين وطلاب الجامعات والكليات والمدارس العليا. هي لهؤلاء قبل كل شيء، وليست للمثلات يدعون إليها أترابهن ومعهن أصدقاؤهن، ولا للمثلين يوزعون الدعوات على المارة وجلاس القهوات وموظفي المحلات التجارية
ليت الخواجة فلاندر يقول لمدير إدارة الفرقة إن (بيت موليير) يرسل تذاكر الدعوات إلى أساتذة الكليات، وهؤلاء يوزعونها بالقسط على الطلاب، وأن الطلاب يتهافتون على مسرح الكوميدي فرانسيز والأوديون وسواهما من المسارح التي تغذيها وزارة المعارف بالإعانات كما يتهافتون على مطالعة الكتب المفروضة عليهم
ليت الخواجة فلاندر يقول لمديره إن واجبه يحتم عليه تفقد مندوبي الصحف إذا تغيب واحد منهم، وأن يسعى إلى الناقد يسأله عما عاقه حضور التمثيل، وأن يأمر ببيع عدد من التذاكر بأثمان منخفضة كما هي الحال في كل فرق التمثيل الذي ترعاه الحكومة
ليت سعادة المدير يعرف أن الفرقة هي للأديبات والأدباء وأن مقاصير الأوبرا ليست لتاجر الخمور، وبائع الأقمشة والخياط والحذاء الذين لا يعرفون ولا يفقهون من فن التمثيل شيء، وأن الأليق من هؤلاء بجلوس المقاصير هم الذين يفهمون الحياة عن غير طريق جمع الملاليم إلى قروش والقروش إلى جنيهات تدخر لبناء مسرح خاص بالفرقة يغنيها عن استعارة الأوبرا بعض الوقت
أحسب أني لو قلت في خور الفرقة وهزالها وعجزها عن تحقيق بعض ما هو مطلوب منها تحقيقه أضعاف ما قلته لعددت نفسي من المقصرين، ولكني أرى لزاماً عليّ حرصاً مني على حياتها، وتفادياً لما قد يخالط أذهان بعض الذين لا يرون سوى ظواهر الأشياء، أن أشرك معي طائفة من الأدباء في إبداء الرأي في هذه المؤسسة التي أرادتها وزارة المعارف(291/85)
وأرادها نواب الأمة لغرض ثقافي نبيل، فتحولت بفضل الرجال الأفذاذ إلى (مصطبة) للشيوخ العلماء المتعالين و (تكية) للكسالى من الممثلين والمتعطلين وفساكل الصحفيين وحثالة المتأدبين
ابن عساكر(291/86)
العدد 292 - بتاريخ: 06 - 02 - 1939(/)
كيف نعالج الفقر؟
سؤال طالما وقع في رَوع النبيين والمصلحين والفلاسفة ممن يملكون القول والدعوة، ولكنه لم يدرْ أبداُ بخلد الأمير فلان والباشا علان والبيك ترتان ممن يملكون الفعل والتنفيذ. ومن بدائه العقل أن يفكر الأنبياء والحكماء في معضلة الفقر، فإنهم نشأوا في مهده الخشن، ودرجوا في فنائه الضيق، وعاشوا في مرعاه الجديب، ورأوا بأعينهم العَبْري أثقال العيش تنوء بالظهور الضعيفة فتسقط في طريق الحياة عرضة لزواحف الرذيلة وجراثيم المرض. ومن بدائه العقل كذلك أن تبقى معضلة العقر من غير حل يطهر الأرض من سمومه، وينقذ الناس من همومه؛ فإن أرباب الحكم والتشريع والتنفيذ هم من سلائل النعمة وكناز المال، فلا يخطرون ببالهم الفقر، ولا يحبطون في حبالهم الفقير؛ وهم يظنون إذا محا الإحسان الفاقة، ونفي التعليم الجهالة، أنهم لا يجدون الخدم ولا يملكون العبيد؛ والجاه من غير أذلاء زفة من غير نظَّارة، والمال من غير فقراء مُلك بلا رعية من أجل ذلك كان الفزع إلي الأقوياء والأغنياء من عوادي الفاقة تزييفاً على الطبع وتكليفاً بالمحال. ومن أجل ذلك كان تنظيم العلاقة بين القوة والضعف، والغنى والفقر، عملاً من أعمال الله وحده، يرفِّه عليه النفوس، ويرفع به الإنسانية، ويجِّمل به الحياة. فإذا حاربنا الفاقة بسلاح الاقتصاد المحض كسنِّ النظم، وتوسيع الموارد، وتوزيع العمل، وأغفلنا أثر الحظوظ والميول والأحوال والأمراض في حياة المرء، قتلنا الفقر بقتل الفقير، كما يقتل الطبيب المرض بقتل المريض. إنما يحارَب الفقير بسلاح الدين ليس غير. وسلاح الدين في مجاهدة البؤس أنه يجعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يصح إسلامه إلا باعتقاده وأدائه؛ وأنه يقوي الإنسانية في الإنسان حتى يشعر بالأخوة لكل مسكين، وبالرحمة لكل بائس. وبقوة الإنسانية وحدها في الدول المتدينة كإنجلترا وأمريكا أوشك البؤس أن يزول، فوجد كل مريض مستشفى، وكل هَرِم ملجأ، وكل يتيم مدرسة. وقد بلغ ما أنفقته الحكومة الإنجليزية على أعمال البر في سنة من السنين ثلاثمائة مليون جنيه، ولا يقل ما يتبرع به الشعب البريطاني للمستشفيات وحدها عن خمسين مليون جنيه في العام!
الدين هو الطب الوحيد لأدواء المجتمع؛ فإذا غرستموه في قلوب النشء، وقويتموه في نفوس الشباب، جعل من الأمة أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، يعين سعيدها الشقي، ويحمل قادرها العاجز، حتى يقطعوا مراحل الحياة رافهين لا يمسهم نصب، ولا(292/1)
تجافي بينهم عداوة
مَن غير الله يستطيع أن يرقق هذه الكبد الغليظة في هذا الغني المبطان الذي غلا في الكبر، ولج في الهوى، ودلَّل نفسه على ذل الناس، وأمسك رزق الله في خزائنه فلا يطلقه إلا لشهوة أو نزوة؟
من غير الله يستطيع أن يقلَّب العَبر على عيني هذا المغرور فيريه بالشكل والمرض والهمم أن الراحة في النفس ألذ منها في الجسم، وأن الجمال في الرحمة أسمى منه في الجبروت، وأن السعادة في الإعطاء أعظم منها في الأخذ، وأن خير ما في الدنيا هو ما انتقل معه إلى الآخرة؟
هيهات أن يكون في الأرض إيمان ما دام في الأرض فقر. فإن أسباب الفقر ممدودة من الطمع والشح والأثرة؛ وهذه الخلال السوء لا تطمئن عليها نفسٌ مؤمنة. وإن من ضلال الإفهام أو الأقلام أن نعالج الفقر على أنه ناجم من ندرة العمل في البلد أو قلة الخير في الدنيا، فإن العمل ميسور للقادر، ورزق الله موفور للحي. وإذا شكت الأمم اكتظاظ المعامل ونضوب الموارد وضيق الرقعة، فإن مصر الجديدة البكر بينها وبين هذه الشكوى أن تمصِر المصانع والمعامل والمتاجر والمصارف والشركات، وما بالقليل ذلك
لا تطلبوا من الفقير العمل قبل أن توفروا له القدرة عليه. إنه جاهل فاشرعوا له منهل العلم؛ وإنه عليل فانهجوا له سبيل الصحة؛ وإنه معدم فدبروا له رأس المال. ومن بلادة الحس أن الغني يسمعك وأنت تقرأ هذا الكلام، فلا يظن المخاطَب به أحداً غير الحكومة، فيشارك في النقد، ويسرف في الإنكار، ويلح في الطلب، لأن الحكومة في رأيه يجب أن تلبي كل نداء، وأن تؤدي كل واجب. والحكومة لو درى هذا المتواكل القدم لا تتسع مواردها بكل رغبة؛ فإنها لم تجبُ منه ومن أمثاله إلا حق العمارة والأمن؛ أما حق الله عنده فقد وكلت أداءه إلى ضميره، يعطيه من يشاء متى يشاء وكيف يشاء؛ ولكن الضمائر نامت على هدهدة الشهوات، والعواطف قست على جفاف المادة؛ وبين غفوة الضمير، وقسوة العاطفة، ذهب وازع الدين فلم يبق إلا وازع السلطان
فهل يفكر أولو الأمر أن يعالجوا الفقر بما عالجه الله به فيجبوا الزكاة وينظموا الإحسان؟ إنهم إن يفعلوا ذلك لا يجدوا في البيوت عائلاً، ولا في الطريق سائلاً، ولا في السجون(292/2)
قاتلاً، ولا في المواخير ساقطة!
احمد حسن الزيات(292/3)
مشابهات
للأستاذ عباس محمود العقاد
في شهر واحد عرضت دور الصور المتحركة بالقاهرة روايتين متشابهتين في كثير من السمات والمعاني، وإن كانت إحداهما في باريس والأخرى في بتروغراد، أو كانت إحداهما في القرن الثامن عشر والأخرى في القرن العشرين، أو كانت إحداهما عن لويس السادس عشر والأخرى عن القيصر نقولا الثاني
كتبنا مقالنا الماضي بالرسالة عن (مارى أنطوانيت) فلم تمض أيام حتى شهدنا رواية (راسبوتين والقيصرة) وشهدنا كيف تتشابه الحوادث والنكبات، وكيف يصدق في بعض الأحايين قول من قال إن التاريخ يعيد نفسه، وإن كانت الإعادة لا تخلو من تبديل وتنقيح: شيمة الراوية الماهر الذي لا يعيد القصة الواحدة مرتين بأسلوب واحد!
في مأساة لويس السادس عشر ومأساة نقولا الثاني مشابه كثيرة يرجع بعضها إلى المصادفات وبعضها إلى تشابه النتائج عند تشابه الأسباب
فكانت لكليهما ملكة أجنبية من أصل ألماني، وكانت لكلتا الملكتين يد في الكارثة التي حاقت بالرجلين، وكان التاريخ في كليهما يجرى على سنة (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون) ولا يعمل بآية العدل في القرآن الكريم: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
فقد كان نقولا الثاني مظلوماً فيما أصابه كما كان لويس السادس عشر
كان كلاهما طيباً رؤوفاً يريد الخير لشعبه؛ وكان نقولا الثاني محباً للسلام ينادي بالتحكيم في الأزمات الدولية؛ وكان يجنح إلى مشاركة الأمة إياه في تبعات الحكم ما استطاع، وكان منقاداً لمن حوله كما كان لويس من قبله، ولم يكن مشاكساً ولا بطاشاً يحب الفتك وسفك الدماء، ولكنه جاء في زمن وبيل فأصابه وبال الزمن وأخذه مع التيار الجارف الذي لا يتأنى ولا يتدبر في حكمه على الجناة والأبرياء
ليست هذه هي المشابهات الهامة في تاريخ الرجلين المظلومين، فربما كانت أو كان معظمها من أثر العوارض والمصادفات، ولكن المشابهة العظمى هي تلك (الحالة العقلية) التي تحيط بالعوالم المنهارة والدول الدائلة والكواكب الآفلة، ونعني بها العهود التي تجمع بين الأدبار والإقبال وبين النظر إلى الغيب والخوف من الحاضر وقلة الاطمئنان إليه(292/4)
في تلك العهود يحس الناس أنهم ضعاف عاجزون، لأن زمام الحوادث يفلت من أيديهم وتيار الحوادث يجرفهم على غير إرادتهم إلى غير الطريق الذي يختارونه لأنفسهم، فهم من أجل هذا الإحساس بالعجز والضعف ينظرون إلى الغيب ويتطلعون إلى عالم الأسرار ويؤمنون تارة بالقديسين وتارة بالمشعوذين، على قدر نصيبهم من العلم والبصر بحقائق الحياة
وفي تلك العهود يضمحل الأمل ويغلب اليأس ويبطل الإيمان بالمثل العليا والصفات الرفيعة فيقبل الناس على المتعة والسرور، ويأخذون من الحاضر كل ما يعطيهم من اللذة واللهو، لأنهم لا يرجون غداً ولا يركنون إليه
وقد تجمع النفس بين النقيضين: فهي مغراة بالشعوذة والنظر إلى المغيبات المجهولة، وهي مغراة باللذة في حاضرها؛ لأن الحاضر بغير شاغل من الشواغل لا يطاق في أمثاله تلك الأزمان
إنما المراجع في طلب الغيب وطلب اللذة معاً إلى سبب واحد، وهو أن الحاضر مشؤوم والمستقبل غير مضمون، والإنسان بينهما عاجز عن التصرف بمشيئته فيما يزاول من كبار الأمور وصغارها على السواء
من أجل هذا ظهر (كاليسترو) الدجال الأعظم في عهد لويس السادس عشر
ومن أجل هذا ظهر (راسبوتين) الدجال الأعظم في عهد نقولا الثاني
وكلاهما دليل على تشابه الحوادث والدوافع النفسية بين بني الإنسان وكلاهما دليل على أن التشابه في بني الإنسان لن يمحو الفوارق بين الشعوب، ولن يزيل الخصائص القومية التي اشتهر بها كل شعب من تلك الشعوب
فراسبوتين لم يكن يصلح في مكان كاليسترو. . . وكاليسترو لم يكن يصلح في مكان راسبوتين
راسبوتين ظهر بين الروس وهم أمة لا شرقية ولا غربية، لا مؤمنة كل الإيمان بالدين، ولا مؤمنة كل الإيمان بالوثنية، لا متحضرة بحضارة العلم الحديث، ولا مستغرقة في البداوة أو جهالة القرون الوسطى
فظهر لما ظهر بين هؤلاء القوم برسالة من الدين ومن الوثنية في وقت واحد، أو برسالة(292/5)
من الشعوذة ومن اللذة في عقيدة واحدة، أو برسالة يمت بعضها إلى زهادة المسيح ومت بعضها إلى المزدكية القديمة، وإلى عبادة (عشتروت) التي هي أقدم منها، وإلى ما قبل ذلك من المذاهب الخفية التي لم تنقطع بقاياها قط في الرقعة الغربية الجنوبية من القارة الأسيوية؛ أي في ذلك المكان المعزول الذي تصل إليه آثار الحضارات جميعاً في آسيا وأوربا وأفريقيا، ثم يحفظها جميعاً في عزلته المطوية بعد أن يصبغها بماله من صبغة قلما تمسحها الأجيال
في تلك الرقعة بقيت عبادة الشيطان، وبقيت الشواذ من فرق الباطنية، وبقيت تلك النحلة التي تبيح في تكاياها وصوامعها باسم الدروشة الإسلامية ما ليس يرضاه دين من الأديان الكتابية، وبقيت نحلة (الخليستي) التي انتمي إليها آخر الأمر (راسبوتين) وكانت أصلح ما ينتمي إليه رجل يدل نعته القديم على طبعه القديم. فإن (راسبوتين) كلمة روسية معناها الفاجر أو الداعر. . . وهو لقب اشتهر به الرجل في شبابه من جراء عبثه وعيثه واستهتاره بالشراب والفسوق
ما هي هذه (الخليستية) وما عباداتها وشعائرها المفروضة على أتباعها؟
هي نحلة مدارها على أن الخطيئة مطلوبة لأن الغفران صفة إلهية فينبغي أن تتحقق لله هذه الصفة التي هي أخص صفات الخالق جل وعلا. وإلا فكيف يكون الله غفوراً بغير الخلائق الخاطئين؟ ومدارها من جهة أخرى على أن الإنسان يعيش بالروح مع الله ويعيش بالجسد مع الناس، وأن لله قديسين هم الذين يقودون عباده في طريق المعيشة الجسدية وفي طريق الغفران. فليس يحق للعبد أن يخطئ وحده بغير قيادة من قديسه المختار
وعلم راسبوتين (سلطانه المغناطيسي) العظيم على نفوس أتباعه فزعم أنه قديس الزمان المرسل من قبل الله لالتماس الغفران، فبغيره لن يهتدي أحد في (الطريق) إلى حظيرة الرحمن!
أما هذا (السلطان المغناطيسي) فقد كان في راسبوتين كأقوى ما عرف في إنسان من الناس، حتى بلغ من سطوته أنه سلطه على رجل يمقته وينصب حوله الفخاخ لقتله بالسم أو الخنجر فأنامه وشل حركاته. ولا ريب أن هذا السلطان المغناطيسي مستمد فيه من تلك القوة الحيوانية الهائلة التي أنقذته من السم ومن الخنجر مرتين، وكادت تنقذه المرة الثالثة(292/6)
لولا إطباق المتآمرين عليه بالعصي والسيوف بعد إطلاق الرصاص عليه وتسميمه بما يكفي لقتل بضعة رجال، ولا ريب كذلك أن هذا السلطان المغناطيسي هو الذي أعانه على شفاء ولي العهد بالسيطرة على أعصابه وسريرته بعد ما يئس منه الأطباء وأنذروا بموته من أثر سقامه الموروث
بهذه العدة كان الدجال الروسي يستعد لإنجاز (مهمته التاريخية) في ذلك العالم المنهار من الدولة الروسية
فبماذا استعد زميله (كاليسترو) من قبله حين تصدى (لمهمته التاريخية) بين الفرنسيين في عصر الفلاسفة المشككين والدعاة الملحدين الثائرين؟
لابد له من عنصر الغيب والخفاء، ولا سبيل إلى هذا العنصر من طريق النحل الدينية في تلك الآونة الملحدة المستريبة، فلينقل أتباعه إذن إلى صوامع الماسون وهياكل الجماعات السرية ومكامن الدسائس والمؤامرات ولابد له من عنصر الغواية والمتعة، ولا سبيل إليهما من نحلة الدروشة والعبادة، فليسحر أتباعه إذن باسم عقاقير الشرق التي تجدد الشباب وتطيل العمر وتكسو غضون العجائز مسحة الصبا ورونق الصباحة
وهكذا كان لكل (عالم منهار) دجاله الأعظم، ومن ثم موضع التشابه بين العوالم المنهارة
وهكذا كان دجال كل أمة على غرارها أو على نموذج أخلاقها وأطوارها، ومن ثم موضع الخلاف بين تلك الأشباه
وإنما عبرة التاريخ أن نخلص إلى هذه المواضع المتشابهات، وهذه المواضع المختلفات من حوادث الشعوب في قبضة القانون الخالد المستعاد.
عباس محمود العقاد(292/7)
ابن الرومي
الشاعر المصور
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يولع الناس في الحياة عادة، لتسهيل فهم الأنفس والأمور وتبسيطه، بأن يجعلوا لكل نفس أو أمر صفة يرمزون بها أو معادلة أو قاعدة، وفي ذلك أضرار، منها أن العجلة قد ترمز للأمر أو النفس بصفة لا تتفق وأكثر الخصائص المراد تلخيصها بالرمز أو تختلف عنها كل الاختلاف، وإذا تعلق الناس بالرمز صعب إصلاح خطئهم وصعب حملهم على تغيير زيهم وصعب عليهم فعل الأمر الذي يعالجونه أو النفس التي يتفهمونها، أو قد يكون الرمز منطبقاً على جانب صغير منها فيغفل الناس عن الجانب الأكبر. على أن الرمز إذا وافق الجانب الأكبر فهو قد يغري أيضاً بالغفلة عن الجانب الآخر الذي لا ينطبق عليه الرمز فيتسرب الخطأ في هذه الحالة أيضاً، ولكن إذا تأنى المفكر في وضع الرمز واختياره وقدّر أن يكون مخطئاً في بعضه أو كله وحسب حساب مالا ينطبق عليه الرمز حتى في حالة الإصابة كان فعله مسهلاً للتفكير والفهم وتذوق الأمور. وعلى هذا الشريط نبيح لأنفسنا أن ننظر إلى كبار الشعراء على ضوء رمز نرمز به إلى كل منهم وصفة نصفه بها، فنقول إننا نتذوق أبا تمام كأنه خطيب عبقري بصير بأساليب البيان وأثرها في النفس، جرئ في ابتداع الأقوال، بصير بما يعالج من أمور البيان بالرغم من جرأته؛ وسواء أكانت أقواله في أمور حسية أو نفسية فإن كلماته تبلغ صميم القلب بما فيها من الخيال المشبوب وقوة الإيجاز مع الدلالة التامة والإلمام بالمعنى المراد ومع تجنب الإطالة الفاترة. وفنه من هذه الناحية يشبه أيضاً فن صانع القصص التمثيلية في الاعتماد على قوة الأداء مع صدقه الفني وإيجازه مع استيفائه المعنى. وندرك على هذا الوصف أن لأبى تمام ولمن نشبهه به جوانب لا يتفقان فيها ولا يلتقيان عليها، لأن النفس الإنسانية تشبه البِلَّوْر ذا الأضلاع والجوانب العديدة التي تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال وجهات مختلفة متعددة. ونتذوق البحتري كأنه ممثل قدير يلوك حلو الكلام ويتأثر به وينتشي بحلاوة الصنعة حتى تخلق له الصنعة عواطف فنية كما في حياة بعض كبار الممثلين؛ ونقدر مع ذلك أن لنفسه جوانب أخرى تنعكس عليها أشعة الفنون. ونتذوق الشريف الرضي كأنه موسيقى يحكم(292/8)
الوجدان ويؤثر في النفس بأنغامه؛ ونقدر أيضاً ما للنفس البشرية من مرام مختلفة. ونتذوق المتنبي على أنه محارب مغامر مدجج بسلاح الحنكة والخبرة والاعتداد بالنفس ونعرف له جوانب أخرى. أما ابن الرومي فإننا قد أدركتنا في أول الأمر حيرة في اختيار صفة واحدة له، إذا أنه قد يقف موقف الخطيب المؤثر كما في قصيدته في التحريض على قتال العلوي صاحب الزنج بعد أن خرَّب البصرة وهي التي يقول في مطلعها:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ... شغلها عنه بالدموع السجام
وابن الرومي مثل أبي تمام مُغْرَى بابتداع التشبيهات والأخيلة والمعاني، ولكنها لم نشأ أن نختار له الرمز الذي اخترناه لأبي تمام لأنه قد يدركه الفتور، وأبو تمام لا يدركه الفتور؛ وقد يطيل حتى يمل سامعه خصوصاً في المدح، وأبو تمام لا يطيل مثله. وقد تدركه اللجاجة الفكرية في إيراد الحجة ودفع الحجة بالحجة على طريقة المجادل المناقش المناظر لا على طريقة الخطيب الذي يؤثر بالعبارات والأخيلة المشبوبة النارية المستقلة في معناها بعضها عن بعض في إيجازها وتركزها تركز الأحماض أو الروائح العطرية المنعشة أو المخدرة أو المميتة، وابن الرومي يبسط معناه بسطاً كما تتسع دائرة موقع الحجر في الماء أو كما يبسط الخباز الرقاقة في قول ابن الرومي نفسه:
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في لجة الماء يُرمْى فيه بالحجر
وهذا هو الوصف الذي ينطبق على ابن الرومي نفسه في صناعة المعاني فكأنه خباز المعاني. ولابن الرومي في الأهاجي ما هو أشد من الأحماض فتكاً، ولاكن أثرها ناشئ أيضاً من تَقَصِّيهِ أجزاء المعنى وصوره المختلفة وتوليد المعنى من المعنى. ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به البحتري الذي ينتشي بما يصوغ من حلوى الصناعة وما يلوكه منها كما ينتشي الممثل بما يمثل من الأحاسيس. لم نشأ أن نصفه بهذا الوصف لو أنه وصف ينطبق على كل ذي فن إلى حد ما فهو ينطبق على الشعراء جميعاً ولكن ليس كانطباقه على البحتري.
وابن الرومي لا يبلغ به التفاني في فن الألفاظ وصناعتها والانتشاء بها ما يبلغه البحتري بل يستخدم ابن الرومي الألفاظ استخدام السيد الآمر لعبده محبوباً كان العبد أو غير(292/9)
محبوب؛ أما البحتري فكان لا يقرب الألفاظ إلا كما يقرب المحب حبيبته ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به الشريف الرضي الذي نتذوقه كموسيقي يحكم الوجدان والفطرة السليمة؛ لم نشأ أن نصف أبن الرومي بهذا الوصف لو أن له من الغزل والعتاب والشكوى أشياء عميقة الأثر في النفس كقوله في الغزل:
أعانقها والنفس بعدُ مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدانى
كأن فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحين يمتزجان
وقوله في العتاب:
تخذتكم ترسا ودرعا لتدفعوا ... نُبال العِدَى عني فكنتمْ نصالها
وقد كنتُ أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي ... ذِماما فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا موقف المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي والعِدَى ونبالها
ولكنه بسبب لحاجته الفكرية أحيانا وتَتَبُّعِهِ أو موازنته بين أجزاء المعنى وتلمسه دقائق الصور قد تضيع منه النغمة الشعرية وإن كان شعره يكتسب ميزة أخرى. وقد أحس ابن الرومي مع ذلك في نفسه بذلك الجانب منه الذي يشبه به الموسيقىّ أو الطائر الصادح فقال زاعما أنه لا يمدح ممدوحه:
إلا كما راقت القمريَّ جنَّتُهُ فظل يُتبعُ تغريدا بتغريد ولم نشأ أن نصفه بما وصفنا به المتنبي من أنه محارب مغامر يغالي في الاعتداد بالنفس لأن ابن الرومي لم يطلب مُلْكاً ولا حُكماً ولا رياسة وإنما طلب السلامة من الناس وإنصاف أدبه وفضله وفنه وإعطاءه حق ذلك الأدب والفضل مما في أيدي الوجهاء والرؤساء والأمراء من أموال الله والناس التي كانت كثيراً ما تنهب نهبا. وكان ابن الرومي مرهف الحواس منهوما بالجمال في كل مظاهره ومطالبه، وهذا يكفي أن يكون شغله الشاغل في الدنيا بعكس المتنبي. وكان ابن الرومي يخشى الأسفار في طلب الرزق وله في وصف خشيته منها أشعار، ويخشى ركوب البحر ويخشى لقاء الناس ويتشاءم بهم، فكانت صفاته النفسية تختلف اختلافا كبيراً عن نفس المتنبي، ولا نحسب أن المتنبي كان يذرع في مخاطبة ممدوح كما فعل ابن الرومي في قوله:(292/10)
أصبحتُ بين خصاصة وتجمُّل ... والمرء بينما يموت هزيلا
فامدُدْ إليَّ يدا تَعَوَّد بطنها ... بذلَ النوالِ وظهرُها التقبيلا
وفي قوله:
تعرفتُ في صحبي وأهلي وخادمي ... هواني عليهم مذ جفاني قاسمُ
وبعد ذلك بأبيات الرئيس المعاتَبَ ألا ينسى أنه خادم. أما شدته في هجائه فشدة الرجل المرهف الحس إذا جُوِفَي أو غُبنَ أو أُسيءَ إليه أو اضطهد. ونكرر أن النفس كالبلور ذي الأضلاع والأشعة المنعكسةُ عليه مختلفة النواحي. ولكن لعل أصدقُ وصف يوصف به ابن الرومي هو أن يوصف بالمصوِّر أو الرسام أو النقاش. ويخيل إلينا أنه لو كان عائشا في إيطاليا في عهد نهضة الإحياء واشتغل بالنقش والرسم ما كانت قدرته تقل عن قدرة مصور مثل تشيانو (تيتيان) في ولوعه بألوان الجمال. وجمال الألوان. ولا نعني أنه كان مصورا في وصف مناظر الطبيعة والنبات فحسب، وإنما كان مصورا في كل أبواب شعره من مدح أو ذم أو غزل أو وصف للغناء أو المآكل أو الأشربات. وقد ذكرنا قدرته الخطابية في قصيدة التحريض على قتال صاحب الزنج ولكن أعمق أجزاء القصيدة أثرا هو وصفه دخول الزنج، المدينة ووصفه ما فعلوا بها وبأهلها. فولوع ابن الرومي بالألوان لم يكن مقصورا على ألوان المرئيات بل تعداها إلى ألوان الآراء، فتراه يُغري بوصف لون من الرأي ثم بوصف اللون الذي هو نقيضه. والولوع بالألوان وشدة الإحساس بمعانيها وجمالها وأثرها من صفات المصور، وكذلك تَقَصِّي الأجزاء وربط أجزاء الصورة في القصيدة. ومن مظاهر ولوعه بوصف ألوان الرأي قصائده في مدحه الحقد وذمه؛ وليس من المرفوض أن نقول إن مدحه الحقد كان بسبب إحساسه المرهف وحقده على الذين آلموا هذا الإحساس المرهف من مناوئيه. فمن مدحه الحقد قوله:
أديمي من أديم الأرض فاعلم ... أُسئُ الريع حين يسئ بذرا
يُسمى الحقد عيبا وهو مدح ... كما يَدْعُونَ حُلْوَ الحق مُرَّا
وقوله:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعض
وإني أشك في أن الحقد توأم الشكر دائماً فإنه إذا قُرِنَ بالحسد، ولكل نفس نصيب منه قل(292/11)
أو كثر، منع من الشكر. وقد راجع ابن الرومي نفسه ولامها على مدح الحقد في قصائد منها قصيدته التي يقول فيها:
يا مادح الحقد محتالا له شبها ... لقد سلكتَ إليه مسلكاً وعثا
وأبدع منها وأعظم قصيدته التي مطلعها:
يا ضارب المثل المزخرف مُطْرياً ... للحقد لم تقدح بزند وارى
وعندي أن هذه القصيدة من أعظم وأجل قصائده، وكل منتخبات من شعره لا تشملها تعد ناقصة، وفيها يحث على مغالبة النفس لطابع الشر وعلى تنمية طباع الخير. وقد بلغت قوة التصوير عند ابن الرومي مبلغاً جعله يُصوِّر الطبيعة وكأنها من الأحياء. وربما كان ولوعه بذلك أكثر من ولوع شعراء العربية الذين كانوا يجردون من الجماد أشخاصاً فيخاطبون الليل أو السري أو الرياح أو النجوم أو الربوع والأطلال أو الفراق، فيحدثونها وتحدثهم، وهذه الصفة من قبيل تلك الصفة في ابن الرومي وإن كان إحساسه بحياة الطبيعة أعم وأشبه بطريقة الشعراء الآريين. وليس شبه ابن الرومي بالشعراء الآريين مقصوراً على إحساسه بحياة الطبيعة وإشاعة المعنى في أكثر من بيت وتقصي أجزاء المعنى، بل هو يشمل أيضاً تفضيله فكاهة الصور الخيالية ومعانيها على الفكاهة اللفظية الشكلية، وكانت فكاهة الصور الخيالية ومعانيها على الفكاهة اللفظية الشكلية، وكانت فكاهة الصور الخيالية مفضلة في العصور المتقدمة في الآداب العربية فلم يبتدعها ابن الرومي وهي ليست ملكاً له ولا ابتكاراً ولكنه زاد فيها زيادة كبيرة، ثم إن المتأخرين من الشعراء صاروا يفضلون فكاهة المغالطات اللفظية، وهذا النوع كان معروفاً شائعاً في الأدب الأوربي وإن كانت الصور الخيالية أفضل وأعلى مرتبة.
ولعل عظم نصيب ابن الرومي من فكاهة الصور الخيالية كانت من أسباب تبريزه في الهجاء تبريزاً لا يضارعه فيه شاعر آخر. ولو حذفنا هجاءه الذي أفحش فيه مثل هجاء ابن الخبازة المعروف بهجاء بوران وغيره من الفحش القاذع الذي لا يصح نشره في هذا العصر بقيت لنا في هجائه صور فكاهية خيالية لا يستطاع تجنب اختيارها إذا أحصيت خلاصة من شعره، لأنها أعلى مرتبة من مدحه بالرغم من إجادته فيه. وقد كان الهجاء سبب موته مسموماً. والظاهر أن الأمراء والوجهاء كانوا يسيئون الظن ببعض مدحه غلاوة(292/12)
على خشية الذم، وهذا أمر يشاهد كثيراً في الحياة؛ فإذا اشتهر رجل بالسخر ظن الناس كل ما يقول من قبيل السخر أو الذم حتى ولو لم يقصد إلا المدح والتودد والصفاء. ومن شواهد سوء الظن هذا ما حدث عند ما مدح ابن الرومي أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني بقصيدته الرائعة التي مطلعها (أجنت لك الوردَ أغصانٌ وكثبان) فأساء الممدوح الظن بقول الشاعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلتُ لهم ... كلا ولكن لعمري منه شيبان
وكم أبٍ قد علا بابن ذر اشرف ... كما علا برسول الله عدنان
ولم أُقصرْ بشيبان التي بلغتْ ... بها المبالغ أعرقٌ وأغصان
وظن أنه يهجوه بضعة الأصل مع أن المدح ظاهر للأصل والفرع. ولا نظن أن الغباء هو الذي سما بالممدوح إلى مرتبة الوزارة، وقد كان وزيراً فلم يبق إلا التعليل الذي ذكرناه، وهو أن الرجل إذا اشتهر بالسخر والذم حُملُ مدحه على محمل الذم والسخر، والشك في نية القائل يُغطي على فهم السامع، وكثيراً ما تراه في الحياة يُغطي على فهم ذوي الفهم حتى تراهم كالأغبياء. والظاهر أن حادث أبي الصقر لم يكن الحادث الوحيد من نوعه وإن كان أظهر حادث. فإن لابن الرومي أشعاراً كثيرة يشكو فيها من خذلان الممدوحين مثل قوله: (مالي لديك كأني قد زرعتُ حصى). وقوله: (فلا تعتصر ماء الصنيعة بالمطل). وقوله: (طال المطال ولا خلود فحاجة). وقوله: (أبا حسن طال المطال ولم يكن). ومثل هذا كثير في شعره. وكان يغبط البحتري لإقبال الممدوحين على شعره، ومن أجل ذلك كان يتعرض ابن الرومي للبحتري، وله أهاجٍ منها قوله:
الحظ أعمى ولولا ذاك لم نره ... للبحتري بلا عقل ولا حسب
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري(292/13)
من برجنا العاجي
كل شيء أمامي في الريف يرتل نشيد السلام. فشجيرات الفول الخضراء ترقص مع النسيم، وترسل في الفضاء من حولي أريج زهرها الأبيض كما ترسل القبلات المعطرة. والبقرة ذات الأهداب الشقراء تتمطى في أشعة الشمس كأنها حسناء تستيقظ في فراش دافئ. والكلب رابض أغمض عيناً وفتح أخرى تلقي على الكائنات نظرات الرضا والصفاء. والدواجن والهوام والأرض السمراء وجداول الماء، كلها بأصواتها الصغيرة وأزيزها اللطيف وصمتها الدائم وخريرها الهامس تتراءى للمتأمل كأنها تتبادل حواراً خفياً مفعماً بكلمات الود والحب والأخاء الأبدي، وكأنها جميعاً في حركتها وسكونها جوقة موسيقية تخضع إلى يد غير منظورة كي توقع لحناً متناسقاً أزلياً لا يسمعه غير الأنبياء والشعراء.
صوت واحد نشز في أذني عن هذه المجموعة: هو صوت الإنسان. متى ظهر ظهرت معه الفوضى، ونشأ الخلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف. تلك طبيعته. وقد تكون تلك أيضاً عبقريته.
جلس إليّ رجلان لا يختلفان في الزي ولا في اللغة ولا في اللهجة. لكن سرعان ما سمعت أحدهما يقول لصاحبه:
- أنت فلاح. أما أنا فعربي.
فعنيت بالأمر، وبادرت أسأل الرجل السؤال الذي طال ما ألقيه في مثل هذا الظرف:
- وما الفرق بين الفلاح والعربي؟
فأجاب الرجل بذلك الجواب الذي سمعته كثيراً في مثل هذا الموضع: مروءة العربي وشجاعته وشهامته وإكرامه الضيف وحمايته الجار. ثم. . . ثم شرف النسب. لم يدهشني ذلك ولكن الذي أدهشني حقيقة، وقد لا يصدقني البعض إذا ذكرته هو أن هذا الرجل غير المتعلم قد أشار إلى صاحبه وقال:
- أما جماعة الفلاحين فما هم إلا أولا توت عنخ آمون!
عجباً! إذن منشأ الخلاف بين العروبة والفرعونية ليس أدمغة المفكرين والمثقفين، إنما هو في الريف وفي قلوب ساكنيه!
توفيق الحكيم(292/14)
من الشعر المنسي لحافظ!
(لحافظ إبراهيم كثير من القصائد والمقطوعات قد أهملها الناشرون، فلم يحفظها ديوانه في طبعته الأهليه، ولا في طبعته الحكومية، على إنها من الشعر الرائع الذي تشرق فيه روح حافظ وتتمثل فيه شخصيته؛ ولذلك رأينا من الوفاء لشاعر النيل، ومن الرعاية للأدب، ومن الإنصاف للتاريخ أن نذيع ما لدينا من ذلك - وهو قدر لا بأس به - بين قراء الرسالة، وربما لو اجتمع لنا مقدار كبير جعلناه تذييلاً لديوانه، ونرجو ممن عنده العلم بشيء من ذلك أن يدلنا عليه وله الشكر منا ومن أبناء الضاد في سائر الأقطار ومن قراء الرسالة)
فؤادي. . .!
يا خافقاً قل لي متى تسكنُ ... لله ما تخفى وما تعِلنُ
يا ليت شعري عنك في أضلعي ... ماذا تقاسي أيها المثخَنُ
وما الذي أبقاه من مهجتي ... ومن حياتي داؤك المزمِنُ
يا ثغره، من ذا الذي يحتسي ... برد ثناياك ولا يؤمنُ
يا قده، هذي قلوب الورى ... معروضة طوبى، لمن تطعنُ
يا لحظه، مُرْنا بما تشتهي ... كل محال في الهوى ممكنُ(292/16)
خيبة أمل. . .!
وخيّب آمالي وقوفُك دونَها ... وأنك عند الظّالمين مَكين
يَسرُّك أني نائم اَلجد عاثر ... وُيرضيك أني للخطوب أَلين
// ليهنك ما بي من أسىً وخصاصةٍ ... وتقليبيَ الكفين حيث أكون
م. ف. ع(292/17)
صحائف من تاريخنا القومي
قاسم أمين - الرجل
للأستاذ أحمد خاكي
اشتهر قاسم أمين بدفاعه عن المرأة لأن ذلك كان أوضح ما كتب عنه، لكنه عندنا من أكبر المصلحين المصريين الذين ظهروا في أوائل هذا القرن. وليس دفاعه عن المرأة إلا شعبة من آرائه في الحرية والتربية واللغة وسائر وجهات الإصلاح.
ولو أنك تصفحت كلماته قبل أن تقرأ كتابيه في (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) للمحت عقلية جديدة نفذت وراء الحجب التي تكاتفت على عقول المصريين خلال قرون طويلة، ورأيت كيف تستطيع النفس الحساسة أن تندسّ إلى ما وراء الحجب فتلقي الحقيقة سافرة غير مقنعة، ثم لشاقك من حياة هذا الرجل أنه كان شجاعاً، ولاتخذت من حياته مثلاً أعلى للتفاني دفاعاً عن الفكرة
ظهر في أعقاب القرن الماضي قليل من أمثال قاسم أمين، لكنهم لم يلقوا ما لقي هو من العنت والسخرية والاستهزاء. كان يعيش أكثر إضرابه في أجوائهم، لكن قاسماً كان يعيش في جو خاص به هو ونفسه. وذلك ما استعدى عليه المتعصبين من أصحاب الدين وأنصاف المتعلمين من أصحاب العلم؛ وقليل أولئك الذين قدروا تلك النفس الحساسة التي تؤمن بالحرية إيمانهم بنعيم الحياة. وكثير أحسوا بما كانت ترسف فيه المرأة المصرية من أغلال، لكن أحداً من هؤلاء لم يؤتَ من شجاعة النفس ما استطاع أن يصمد به للمهاترين والمغالين ممن أعمتهم التقاليد على أنه ليس يعنينا اليوم في حديثنا عنه وجوه الإصلاح التي فيه إليها وتحدث فيها وإنما يعنينا أن نرى قاسم أمين الرجل وأن نتعمق في درس تلك النفس الزكية التي أوتيت كثيراً أمن الغضب الكريم. وأشهد لقد هممت بالكتابة عن النقاش الذي دار بينه وبين الدوق داركور، لكنما رأيت أن الكلام في ذلك سوف يصبح ناقصاً لا غناء فيه ما لم أتحدث عن قاسم أمين (الرجل) لأن قاسم أمين (الرجل) هو الذي غضب للقومية المصرية، وهو الذي غضب. للإسلام والمسلمين؛ وهو بعد ذلك الذي دافع عن مصر والإسلام بحرارة المجاهد الرشيد
وأول ما يمتاز به قاسم أمين (الرجل) نفس محسّة تجيش بمختلف العواطف، فهو قد أوتي(292/18)
الكمال من الحس الدقيق والشعور المرهف، وهو من أول المصريين الذين اعترفوا بأن النفس جماع لمختلف العواطف والمشاعر والوجدانات إلى غير ذلك مما يتصل بالدراسات النفسية الحديثة. ولعله أحد المصلحين القلائل الذين اهتدوا إلى تلك النتائج قبل أن يتعمق الناس في دراسة علم النفس. فهو يعترف بأن الإنسان مجموعة من الأعصاب تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وأن القلب الذي يكنّ البغض هو نفسه الذي يكنّ الحب، وأن النفس الشريرة تنمو - إذا نمت - لأنها تصادف جواً صالحاً يؤثر فيها
وقد كان شديداً على البيئة التي نشأ فيها قاسم أمين تؤمن بما جاء به، كان شديداً عليها أن تعنو للنتائج القيمة التي وصل إليها لأنها كانت بيئة نصف متعلمة ونصف متدينة في وقت معاً، أما العلم الذي تشبثت به فقد كان خليطاً من القشور والخطل، وأما وجهتها الدينية فقد كانت ملتوية تمتاز بالنفاق والجدل. لذلك لم يعترف أنصاف المتعلمين بالغرائز التي تندفع في نفس الإنسان، ولم يحاول أنصاف المتعلمين أن يتبصروا فيما انحدر إليهم من أصول القرآن والسنة. ولو أن أولئك وهؤلاء قد اجتمعوا على أن يذوقوا ما ذهبت إليه تلك النفس الحاسة لرأوا رأياً آخر غير الذي بسطوا فيه أقلامهم وألسنتهم عن جهالة
على أن تلك النفس الحساسة التي اعترفت بالخير والشر جميعاً هي النفس التي أعانت صاحبها على أن يستوعب الآثار الدقيقة التي مارسها في حياته. هو قد اعترفت بالغرائز الدنيا وقد اعترفت بالعواطف العليا، وهو قد رأى الشر إلى جانب الخير، فكان في كل ذلك يمثل المعلم المتبصر الرشيد، ولن يكون الزعيم ولا المعلم حتى ولا القاضي أهلاً لما يرجى منه حتى يرى النفس الإنسانية من ناحيتها وحتى يقدر الشر والخير والرذيلة والفضيلة، وحتى يعترف بالشر والرذيلة ويتفحص هذه وذلك ليترسم السبيل السوية نحو الخير والفضيلة وكل ما ينطويان عليه من معان
تلك النظرة الدراسة هي التي أقامت عند قاسم أمين كل المعايير التي حاول أن يطبقها على المجتمع المصري، ولأنه كان يؤمن بأن النفس جماع العواطف والوجدانات فقد قال: (إن الفضيلة والرذيلة يتنازعان السلطة على نفس الإنسان في جميع أدوار حياته. فتارة يخضع للأولى وتارة تتغلب عليه الثانية، ولا يوجد رجل مهما بلغ في التربية والعلم يكون آمناً من السقوط يوماً في الرذيلة، كما لا يوجد رجل مهما أحاطت به الرذيلة إلا وفيه استعداد لأن(292/19)
يأتي يوماً بأفضل الأعمال
(وحقيقة الأمر أن أخلاق الإنسان ليست شيئاً يتم دفعة واحدة، وليس لها حد تقف عنده، إنما هي في تحليل وتركيب، في تكوين مستمر يعتريها الانحلال زمناً وتعود بعده إلى التماسك) بل هو قد استطاع أن يقيم معياراً صحيحاً يقيس به رغبات الرجال ونزعاتهم. ولسنا ندرى هل كان يتنبأ بكشوف علم النفس الحديث حين قال: (إن الإنسان أسير الشهوات ما دام حياً. وإنما تختلف شهواته باختلاف سنة: فشهوة اللعب عند الطفل، وشهوة الحب عند الشاب، وشهوة الطمع عند رجل الأربعين. وشهوة السلطة عند شيخ الستين، جميعها شهوات تعرض صاحبها للهفوات واقتراف الخطايا)
وقد كان قاضياً، على أنه كان ينظر إلى نفس المجرم نظرة دارسة أخرى. كان يرى أن المجرم مسير أكثر مما يكون مخيراً، وأنه (لابد أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة - العفو عن أكبر خطيئة، العفو عن كل خطيئة)
(هل المخطئ مسئول أو غير مسئول؟ وما هي درجة مسئوليته؟ مسألة عظيمة يجب على من يريد الحكم على غيره أن يحلها. لكن حلها يكاد يكون محالاً، إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تتركب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي، والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا. وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه لم يكن متولداً عن الحيوان المفترس مباشرة، فهو مشابه له في شره وأطماعه وشهواته. خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم. خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية صدفة سعيدة وعارضاً مؤقتاً)
(فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه. تركه آدم وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن اقتربا من الشجرة المحرومة. . . من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتهما، وانتقلت منهما إلى ذريتها جيلاً بعد جيل. وذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقاً إلى الفضيلة. . .)
(وأخيراً، فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب، فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا هي عولجت)(292/20)
وإذا أنت نثرت بين يديك كل ما قيل عن تنازع الغرائز، وإذا أنت نشدت فكرة تأخذ بجماع الغرض الأسمى للتربية، لم تجد تصويراً أدق مما ترسّمه قاسم أمين في تلك الكلمات. كل كلمة تنضح من ينبوع من الحكمة والحق والحب، وكل فقرة تجبهك بحقيقة من الحقائق التي يعيها رجال التربية ويعلمون مداها في تربية العقل والوجدان في العصر الحاضر. وإنما النفس الحساسة التي تفيض رحمة وحناناً هي التي شعرت بكل ذلك. وقاسم أمين القاضي هو الذي آمن ذلك الأيمان. أليس القاضي هو الذي يستطيع أن يبلغ بإحساسه إلى مستسرّ النفس ويتعمق بشعوره إلى أطوائها؟ إلا أنه كان قاضياً فذاً ذلك الذي استطاع أن يوفق بين العدل وبين العفو. فهو يشعر بنواحي الضعف البشري كما يشعر بها شاعر مثل شكسبير ثم لا يمنعه ذلك من أن تجري أحكامه بقسطاس مستقيم
قاسم أمين المربي وقاسم أمين القاضي هو الذي شعر بكل ذلك؛ لكن قاسم أمين المتفنن الأديب هو الذي استطاع أن يؤلف بين العفو وبين العدل وأن يداول بين المثل الأعلى وبين الفطرة الدنيا. والمتفنون في العالم هم أولئك الذين ألفوا بين المتناقضات وجمعوا الأبيض والأسود في صعيد واحد يفرقون بين هذا وذاك بما يوحي إليهم من الحكمة وبما يُلهمون من شعر أو حديث أو تصوير. ولولا أن المتفننين القدامى والمحدثين قد اعترفوا بالرذيلة والخطيئة والشر لما ورث العالم ذلك الفن الذي رفّه على الإنسان حياته. وقد أوتي قاسم أمين نفس المتفنن الأديب وهي التي ألهمته أن يرد حياة المجتمع في عصره إلى عناصرها الأولى فاستطاع أن يفرق بين الحق والباطل واستطاع أن يدافع عن الأصول التي اهتدى إليها حرارة الأدباء والمتفننين
ولسنا ندري: أإذا أتيح لقاسم أمين أن يكتب في الأدب التمثيلي أكان يكتب من المسرحيات ما يشاكل تلك النفس الفنانة التي ترددت بين جنبيه؟ لكن قاسماً كان فيما يكتب يستروح نفحة نقية من الأدب، ويتهدّي بشعور عميق من الفن. إلا أنه لأمر ما لم يتجه إلى الأدب المسرحي، أو أقل إنه أوتي الكثير من عدة. الفن لكنه لم يتهيأ لإنتاج الفن نفسه. وإنما قوام الفن تلك الحساسية البريئة التي تستطيع أن تشفق على المجرم وأن ترى الغرائز الدنيا مصطخبة مع الأفكار العليا. أنها نفس حساسة تلك التي تستجيب لكل الآثار التي تلقاها، وهي هي نفس المتفنن الأديب. وأي الرجال كان شكسبير، وأي الرجال أبسن أو برناردشو(292/21)
إذا هم لم يمتازوا بتلك النفس الحساسة التي تستجيب لكل الدواعي؟ وعندنا أن قاسم أمين كان أحد الذين انفعلوا لأثار البيئة التي عاشوا فيها، ثم أعطوا بعد ذلك أضعاف ما أخذوا. وهو يشبه في ذلك جمهرة الروائيين الذين صوروا الحياة كما كانت وكما ينبغي أن تكون. ولو أنه أوتي حظا من التأليف الروائي لخرجت من بين يديه مسرحيات تطاول ما ألفه الآخرون. وحسبه أن كلماته التي لم تبلغ الستين صفحة لم تزل معرضاً لنواح كثيرة من حياة الجيل السالف: معرضاً احسن تصويره أي إحسان. ولعلنا نطيل كثيراً إذا حاولنا أن نتأثر ما صوره قاسم أمين من حياتنا المصرية، فهو في مرة يصف حياة خمس من الشيوخ أحيل إلى المعاش وقضوا أوقات فراغهم في لعبة الطاولة وفي مناقشات بريئة صاخبة عن السن. قضي الموت على أربعة منهم (وبقي خامسهم منفردا كئيبا لا يتكلم ولا يخرج من بيته لا يدري ماذا يصنع بحياته ويراقب الموت الذي يخلصه منها.) وهو يكتب في مرة عن متطفل اقتحم بيت أحد أصدقائه وفيه قوما يسمرون فأفسد سمرهم. وهو في كل ما يصف شاعر بالجدل الذي يملك نفس الروائي، وهو يقول في ذلك: (يقصد الناس التياترات لرؤية الحوادث الغريبة، وسماع القصص المضحكة أو المبكية. والعاقل يكتفي بما يراه حوله ويسمعه، يتفرج مجانا على وقائع لم تبلغها مخيلة المؤلفين، ولا مهارة الممثلين).
وشيء آخر شارك قاسم أمين فيه أهل الفن والأدب، ذلك هو الشعور بالجمل. فلقد كان خياله سخيا لدنا، اتسع لألوان كثيرة من الجمال. وقد حاول أن يسبقه على غرائز الفطرة الأولى التي اعترف بها. فهو إذا اعترف بأن الإنسان يولد شريرا فقد ذهب إلى أن الغريزة قد يستعلي بها إلى المكان الأسمى. وهو في ذلك يختلف عن كل معاصره الذين ثاروا به. ولأن هؤلاء لم يدركوا ذلك الإحساس الأول من أسس التربية والإصلاح فقد ضل قاسم أمين عرضة لسوء الضن، وضلت كلماته غرضا لسوء التأويل؛ وهو قد كان يؤمن بأن (اعظم ما يصاب به المرء أن يحرم من الذوق السليم) وبأن (الذوق السليم هو الإحساس الفطري الذي ينمو ويتهذب بالتربية. وهو الشعاع اللطيف الذي يهدي صاحبه إلى أن يقول ويفعل ما يناسب المقام)
وكأنما قد ألهمت تلك النفس الحساسة حب الجمال إلهاماً، وكأنما تشرفت على ما تندفع به نفس الإنسان من عواطف نبيلة، كما اطلعت على ما يتدفق في أغوارها من غرائز(292/22)
وشهوات. والحق أن باحثاً يدرك الشر لا بد أن يرى ناحية الخير ناصعة بريئة. وقد داول هو البحث بين الخير والشر فأقام حدوداً جمالية نرى أن مصر لم تأخذ بالكثير منها. فهو قد كان يرى أن أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى، وأن هذه الفنون ترمي جميعها على اختلاف موضوعها إلى غاية واحدة هي تربية النفس على حب الجمال والكمال، فإهمالها هو نقص في تهذيب الحواس والشعور وهو يقص عليك القصة التالية لتدرك تقديره للجمال، ولترى في أي بيئة كان عايش: (دخلنا قصر اللوفر، وكنا أربعة من المصريين لنمتع النظر لأبدع ما جادت به قرائح أعاظم الرجال في العالم، فبعد أن تجولنا في غرفتين جلس أحدنا على أحد الكراسي قائلا: أنا اكتفيت بما رأيت وهاأنا منتظركم هنا. وقال الثاني: اتبعكما لأني احب المشي واعتبر هذه الزيارة رياضة لجسمي، وسار معنا شاخصاً أمامه لا يلتفت إلى اليمين ولا إلى اليسار، وما زال كذلك حتى وصلنا قاعة المصاغ والحلي. وحينئذ تنبهت حواسه وصار ينظر إلى الذهب ثم صاح: هذا ألطف ما في الدار. وصلنا إلى تمثال إلهه الجمال الفريدة في العالم أجمع، فسألت دليلنا ماذا تساوي هذه الصورة إذا عرضت للبيع؟ فقال إنها تساوي ثروة أغنى رجل في العالم. تساوي كل ما يملكه الإنسان. تساوي ما يقدر لها حائزها ويطلبه ثمناً لها، إذ لأحد لقيمتها)
وأنت تستطيع أن تقدر المرارة التي تخبث النفس الزكية حين تهتز لقطة من التصوير والنحت؛ تحس بهذه المرارة إذا ابتلاك القدر بأن تسير وشخصاً تجافى نفسه كل نوع من أنواع الجمال، فلا يرى من جمال الشعر إلا البيت المتهتك السخيف، ولا من جمال الموسيقى إلا النغم الصاخب المنفر. ولعلك تحس بالمرارة التي كان يشعر بها قاسم أمين إذ كان يساير رجلاً استغلقت عليه آيات الفن الخالدة غير بعض حلى من الذهب والفضة لأن لها بريقاً يلمع! حقاً إن قاسماً كما أسلفنا القول كان يعيش في جو خاص لا يشاركه فيه إلا القليل
احمد خاكي(292/23)
أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
ألم ينظر هوميروس غير الإلياذة والأوديسة؟
لقد ذكر كالينوس الشاعر اليوناني القديم (660 ق. م) منظومة لهوميروس تدعى لما يعثر عليها إلى عصرنا هذا. ويظن بعض المؤرخين أنها لا تعدو أن تكون الإلياذة في صورة أفخم نظمها للإنشاد في طيبة اليونانية ولذلك أطلق عليها هذا الاسم
وعثروا على آثار للشاعر سيمونيدز (أمورجوس) الذي كان يعيش في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وردت فيها مقتطفات من هوميروس يُظن أنها من الإلياذة - منها ذلك البيت المشهور: (وكما تَسَّاقط الأوراق (في الخريف) فكذلك تَسَّاقط أرواح البشر)
وبعد ذلك بقرن كامل (556 - 468) رَوى شاعر آخر يدعى: سيمونيدز (من كيوس) بالتواتر عن هوميروس شعراً من ملحمة مفقودة لا تمت بصلة لا إلى الإلياذة ولا إلى الأوديسة
أما بندار (522 - 448 ق. م)، وهو زعيم الشعر الغنائي في اليونان القديمة، فقد كان مشغوفاً بهوميروس وإن لم يمنعه شغفه به من مآخذ أخذها عليه فيما يتعلق بأوديسيوس. . . وقد ذكر لهوميروس ملحمتين طويلتين عن أخيل ما تزالان وا أسفاه مفقودتين إلى اليوم. . . وإذا كانت الأوديسة قد بلغت هذه الغاية من الإبداع في سمو القصص وكثرة الوقائع وهي لبعض أبطال الإلياذة، فما بال هوميروس في ملحمتيه في أخيل وهو بطل أبطال الإلياذة جميعاً؟! أية ثروة أدبية من شعر البطولة قد فقدها العالم!! لقد كان يندار يعجب بهاتين الملحمتين (الإلياذة الصغيرة والأثيوبيون) إعجاباً فائقاً جعله يشدو بهما كما يشدو عصفور الكناريا باللحن الموجع. . .
أما إسخيلوس فقد كان يقول عن مآسيه التي نيفت على الثمانين ولم يصلنا منها ويا للأسف إلا سبع: (إنهن فتات من موائد هوميروس الحافلة!!) والثابت أنه استخدم أبطال الملاحم(292/24)
الهومرية في أكثر ما ألف إن لم يكن في كل ما ألف. . . فهل كانت جميع مآسي اسخيلوس عن أبطال الإلياذة والأوديسة فقط؟!
وقد ألف سوفوكليس أربعاً وعشرين ومائة مأساة. . . وكانت ثلاثياته تحوم حول أبطال هوميروس كما كان يفعل إسخيلوس، فهل كانت أبطاله في هذه الأربع والعشرين والمائة المأساة كلها من الإلياذة والأوديسة؟
يقول المؤخرون حين يعرضون لهذا إن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس كان يعد كل ما وصل إليه من ملاحم العصر القديم هومريا، ولو لم يكن من نظم هوميروس. . . ومن هذا التراث العظيم استمدا موضوعات مآسيهما. . . بل يقولون إنهما كان يدعوان ذاك العصر كله العصر الهوميري. . . على أنه ليس في هذا الكلام دليل على أن هوميروس لم ينظم غير الإلياذة والأوديسة، وإلا يقل إسخيلوس إن مآسيه فتات من موائده الحافلة، لأن إسخيلوس كان يعني ما يقول أكثر مما يحاول مؤرخو زماننا هذا أن يفهموا من عبارته وجهها الصحيح، وهو ولا شك كان يعني هوميروس نفسه، ولم يعن عصره كله وبعض العصر الذي سبقه وبعض العصر الذي جاء بعده أو ما يسميه المؤرخون العصر الهوميري، أو ما يزعمون أن إجزنوفان (القرن السادس) كان يدعوه كذاك
هذا وقد اعترف تيوسيديدز لهوميروس بالإلياذة وبالأوديسة وبترتيلة أبوللو؛ أما أفلاطون فلم يستشهد بأكثر من نتف من الإلياذة والأوديسة وملحمة فكاهية تدعى (مارجيتس) ضاعت فيما ضاع من تراث الإغريق. . . أما أرسطرخوس الإسكندري العظيم (160 ق. م) فلم يعترف له بأكثر من الإلياذة والأوديسة
وعلى ذكر أفلاطون وأرسطو نروي أن كلا منهما كان يقني نسخة من الإلياذة مختلفة في كثير من فصولها عن النسخة الأخرى، ولم يستطع المؤرخون تعليل ذلك بعد، الهم إلا ما يعزى إلى بِزِسْتراتوس - منظم أشعار هوميروس فيما يقال - من أنه تناول الإلياذة بشيء من التحوير، وأقحم عليها زيادات في تمجيد الأثينيين. . . وهو ما يشك في صحته الأساتذة لانج وموراي وبوروا والعلامة كارل موللر
على أنه ليس بزستراتوس وحده الذي اتهم (بتحشية) الإلياذة والتزوير على هوميروس، بل إن صولون نفسه قد أتهم بمثل ذلك. . . بل اتهمت به كل مدينة يونانية. . . وما حدث(292/25)
للإلياذة من ذاك القبيل هو ما حصل لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما اختلفت الأحزاب وأراد كل منها أن ينصر مذهبه بأثر من كلام الرسول، فكثر التلفيق وشاع الوضع، ثم نشأ بعد ذلك ما نشأ من مدارس الحديث وشمر الأئمة للتجريد والتضعيف وما إلى ذلك. . فمثل هذا حدث في اليونان القديمة
ولقد ساهمت مدرسة الإسكندرية بأوفى نصيب في درس الإلياذة والأوديسة، وفرغ من تلاميذها الأفذاذ لكلتا الملحمتين عدد عظيم استطاعوا عرفان الزائف من غيره، وكان إمام هذه المدرسة المؤرخ الناقد الكبير أرسطرخوس الذي وضع لنقد الأدب الهوميري قواعده الرائعة
ويحددون عصر البطولة الذي وقعت فيه حوادث الإلياذة ثم حوادث الأوديسة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك إن القبائل اليونانية (الأيونيّة والأيوليّة والدوريّة) كانت قد أخذت تنهض فجأة وتناضل في سبيل مجدها وتناوئ الحثيين والمصريين على السواء، وكان لابد لها قبل كل شيء من أن تقهر طروادة المحصنة القوية الرابضة على ضفة الهلسبنت (الدردنيل) الشرقية. . . وبعد أن وضعت الحرب أوزارها. . . وبعد أربعة قرون أو نحوها، جاء هوميروس ليروي وقائع هذه الحرب في منظومته الخالدة، أو وقائع السنة الأخيرة من السنوات العشر من حصار طروادة - أو اليوم - كما كان يدعوها غالباً.
فالإلياذة من هذه الوجهة قصيدة حربية حافلة بأنباء المعارك، تكاد تسمع صليل القتال وأنت تتلوها، وتكاد تشرف منها على ميدان صاخبٍ ثائر النقع، شديد الروع، فائر بالدماء. . . وإذا كنت من رجال الحرب سرتك الخطط المرسومة والخُدَع المحبوكة، وراعتك هذه الفيالق المجيّشة تأخذ أماكنها ثم تتحرك كالموج، ثم ترتد قطعة بعد قطعة وهي في حالتي الكر والفر كالرجل الواحد، أو كالبنيان المرصوص. . . والإلياذة من هذه الوجهة أيضاً تصور لك حياة الجند في الثكنات أبرع تصوير وأروعه، كما تصور وأروعه، كما تصور لك حياة البحارة والرياضيين والرعاة ورجال الجبال. . . لكنها لا تبلغ من ذلك ما بلغه هسيود في ملاحمه، وذلك ما نرجئه لفصل آخر
الإلياذة وصف قوي لهذه المجازر التي نشبت بين جيل من الناس. يسكن في طروادة، وبين جيل مختلف عن جيل طروادة. . . لأنه جيل من أنسال الآلهة، وذراري أرباب الأولمب،(292/26)
فيما تزعم أساطير اليونان. . . جيل توالد من تزاوج عجيب بين هذه الأرباب الأولمبية وبين إنسيات فاتنات من بنات حواء. . . فليس أخيل العظيم ولا أوديسيوس ولا أجاممنون ولا منالايوس ولا ديوديميد ولا نسطور ولاأجاكس ولا أبطال أخايا جميعاً أشباهاً لهكتور ولا باريس ولا أبيهما بريام ولا لأبناء طروادة، لأن الأولين أبناء آلهة والآخرين أبناء بشر مثلنا
شخصيات عجيبة جداً تلك الشخصيات التي أخترعها هوميروس فهو لم يكتف بأن صنع للإغريق لا هوتا يعج بكل زوج من الآلهة بل زاح يزاوج بين تلك الآلهة وبين الناس ثم ينسل أولئك الأبطال العظام الذين دوخوا طروادة، وأرووا سوحها بالعزيز الغالي من دماء أبنائها
فالسيدة هيلين، التي بسببها نشبت الحرب، هي ابنة زيوس كبير الآلهة من ليدا التي أحبها الإله الأعظم في غفلة من زوجة هيرا.
وأخيل - بطل الإلياذة - هو ابن بليوس ملك فتيا - لكن أمه عروس الماء الحسناء المفتان ذيتيس - التي استطاعت أن تزلزل قلب الإله الأكبر - زيوس - بجمالها الساحر، وأن تجعله، وهو سيد أولمب، بعض عبادها، كما استطاعت كذلك أن تسحر قلوب الآلهة الذين أهرعوا من كل مكان ليشاركوا في زفافها ويشربوا النخب في أكواب مما أهدى إليها الصب المدنف، إله الخمر، باخوس!
وأوديسيوس - بطل الأوديسة، وثاني أبطال الإلياذة، وصاحب فكرة الحصان الخشبي - يتصل بزيوس من أمه مايا - وكذلك ابنه تليماك
أما أجاكس، وهو من أبرز فرسان الإلياذة وأشدهم بأساً، فهو من حفدَة دردانوس
وأجاممنون، وأخوه منالوس، هماولدا أتريوس حفيد تنتالوس، ذلك الملك القاسي المتحجر القلب الذي حاول مرة أن يطعم الآلهة من شواء صنعه لهم من بدن ابنه. فكان جزاؤه النفي إلى ظلمات هيدز حيث قاسى الظمأ الممض وهو غريق في نهر من الماء العذب لا يصل إليه فوه، وإن بينه وبين الماء لشبراً واحداً
وجميع الأبطال الآخرين هم حفدة الآلهة، وأبناء السماء كما دعاهم هوميروس (الإلياذة ج 2 سطر 513)(292/27)
على أن أبطال طروادة يمتون هم أيضاً بوشائج النسب إلى بعض الآلهة. فبريام وأبناؤه التسعة (هكتور وباريس. . . الخ) ينحدرون من أسلاف أجاكس (دردانوس)
وفي كثير من كتب الإلياذة مفاخرات عجيبة بالأنساب بين أبطال اليونان وأبطال طروادة، إذا يرد الطرفان أصولهما إلى الآلهة (اقرأ المفاخرة الجميلة بين أخيل وبين إيناس - إلياذة - الكتاب العشرون)
بيد أن أبطال اليونان في الإلياذة يبدون أكثر اقتراباً إلى الآلهة وأشد اتصالاً بهم مما تبدو العناصر المكونة لجيش طروادة
وكذلك الحال بين آلهة الأولمب، فأكثرهم يعطفون على اليونانيين ويناضلون عنهم، ويُسْدون لهم أحسن الجميل فيما تقتضيه معاركهم من تيسير وترشيد
أما طروادة، فيعطف عليها أبوللو، وتنحاز إلى صفوفها فينوس. . . أليس باريس قد قضى بالتفاحة لها من دون هيرا وميزفا؟
لذلك تكاد تكون حرب الإلياذة قائمة بين قبيلتين متفاوتين في الطبائع، فأحدهما أقرب إلى الآلهة منه إلى الناس، والآخر أقرب إلى الناس منه إلى الآلهة، وفي ذلك ما فيه من ميل هوميروس الذي يبدو هواه مع اليونانيين في الإلياذة التي نملكها، والتي هي من تمحيص اليونانيين من أهل أثينا والإسكندرية
على أن هذا الميل لم يكن حاداً أو مبالغاً فيه كما هي الحال في القصص الشرقي الذي خلفته لنا عصور البطولة ومن نحو قصة عنترة أو أبي زيد أو سيف بن ذي يزن، فالغالب في هذه القصص أن يطبع الراوي سامعيه بطابع خاص، فيجعل هواهم في جهة واحدة بحيث يطربون أبلغ الطرب وأشده إذا جال عنترة جولة فأطاح برؤوس مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين. أو إذا انهزم الزناتي أمام أبي زيد. . . لا. . . لم يفعل هوميروس كما فعل هؤلاء، فهو بالرغم مما جعل لأبطال الإغريق من شرف النسب وكرم الحسب، وبالرغم مما أنهى به الإلياذة من فتح طروادة وإشعال النيران فيها وقتل أبطالها البارزين إلا أنه قد خصهم بنوع عجيب من البطولة يرفعهم درجات فوق الأبطال الإغريق. وذلك أنه جعلهم أناساً، وجردهم في المعمعة من هذه الحضانة الربانية التي خلعها على أخيل وغير أخيل، ومع ذلك فقد صبروا وصابروا ولقوا جموع اليونانيين بمثل الشجاعة التي لقيهم اليونانيين(292/28)
بها، فلم يجبنوا، ولم يهنوا، ولم يتخاذلوا عند اشتداد اللقاء، وكانوا يَقتلون ويُقتلون، وكانت الكرة تكون لهم مرة ولخصومهم مرة. . . وكانت لهم مواقف عجيبة مشرفة تنتزع من القارئ استحسانه أو رثاءه. . . وقد استطاع هوميروس أن يستدر دموع سامعيه وهو يصور وداع هكتور لزوجه وولده، وفزع هذا الولد العجيب وأبوه يتناوله من يديه أمه ليقبله القبلة الأخيرة التي لم يره بعدها، لأنه ذهب ليصاول أخيلا فيقتله أخيل بمساعدة الآلهة. . . لا لأنه أقوى منه وأشد مراساً. . .
لقد استطاع هوميروس أن يستدر دموعنا وهو يصور لقاء أخيل لبريام المحزون وقد ذهب - وهو ملك طروادة - يرجو بطل الإغريق وزعيم الميرميدون في أن يدع له جثة ولده هكتور، وأن يخلي بينه وبينها، فما كان من أخيل إلا أن أصاخ ودموعه تنزف، فترك الجثة، جثة هكتور الذي قتل بتروكلوس حبيب أخيل، ووكيله على جنده وأعز الناس إلى نفسه، والذي بكيناه أحر البكاء حينما قتل، وحينما انتزعت أسلابه، وحينما جيء به إلى معسكر أخيل معفراً بتراب المعمعة، وحينما سهدت عليه العيون، وسهرت عليه حبيبة أخيل
وهكذا يرتفع هوميروس بأبطاله في الناحيتين، ويوزع إعجاب القارئ على المعسكرين، مما سنبينه في العدد القادم
دريني خشبة(292/29)
عرض سريع
يوم الفتوة في بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
ذلك هو يوم الجمعة 27 يناير، الذي انتقلت فيه بغداد كلها، استقرت في شارع الرشيد، فينشئ المجد الجديد، على أساس المجد التليد. . . وقد أتى الناس من كل فج عميق، ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبنائهم أسوداً صغاراً، أشبالاً، يدافعون عن الحمى، ويحمون العرين. . . ويبصروا ببصائرهم الآتي المجيد، والمستقبل الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان، التي تبرق بريق الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الموتى، ويصب الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهز البنادق، تقول بلسان حالها: إنا نحقق ما نقول!
مرحى يا فتيان العراق، عشتم للعروبة، وسلمتم للسلام!
أقبل الناس على شارع الرشيد، قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملئوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن، وشرفات المنازل والفنادق، حتى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار، ولا ترى في الشرفة مقعداً، ولا على رصيف مكاناً، وتعلق الناس بالأعمدة، وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كانت الطبيعة متهللة باسمة في هذا اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة، والأنس في الأرض وفي السماء. . .
وأنتظر الناس ساعات، لا يملون ولا يضجرون. . .
وكنت في غرفتي في (الأعظمية) أهم بالنزول إلى بغداد، ثم يردعني خوف الزحام، وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللج البشري الهائل. . . وكنت أنظر في ركام الكراسات التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كل تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والحماقات، لأموت بتصحيحها، وتقدير درجاتها، فلا أمسها، ولا أدنو منها، وإنما أنصرف عنها أفكر في بلدي وأهلي. . .
أأنا أهجع آمنا في بغداد، وآنس مطمئناً، وأهلي في دمشق يمشون على النار، ولا يدرون أإلى موت أم حياة؟ أأستمتع بالجمال، وأتذوّق الحب، وأنفق الأماسيّ الهادئة، في مسارب الأعظمية، أساير (الشط) وأتفيأ ظلال النخيل والشام قد ثار من تحتها البركان وزلزلت منه(292/30)
الأركان وهب أهله هبّة المستميت، يريدون الحياة كاملة، أو الموت صرفا زعافا؟ فكرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد، وما أدراك اليوم ما بغداد؟
بلغت (الباب المعظم) وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً، فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها في بعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى الميدان، فوقفت حائراَ لا أتقدم ولا أتأخر. وطال بي الوقوف، وخشيت أن أبقى كذلك إلى المساء، فتشددت وقلت: ويحك يا نفسي! لماذا الجبن؟ وعلام التأخر؟ ولماذا كنت تدفعينني إلى أن أمارس ألوان الرياضة، إذا كنت لا تستطيعين النجاة في مثل هذا اليوم العصيب؟ وظننت نفسي قد اشتدت، فشمرت عن ساعديّ وأقبلت أدفع هذا، وأزيح ذاك؛ وكلما دفعت عني واحداً حلّ مكانه عشرة، فخارت قواي وأيست من النجاة، واعترفت لنفسي باني لم أبلغ بعد مبلغ عنتر (عنتر القصة) الذي يقبض على الرجل فيرفعه بيده فيضرب به الآخر فيقتل الاثنين. . . فوقفت فاشتد على الضغط من كل جانب، حتى أحسست كأن أحشائي ستخرج، وضاق نفسي، ولكن كل ضيق إلى فرج، فلم يكن إلا أن فرج الله عني فبعث رجلاً من رجال الشرطة أعرفه فحملني إلى الفندق الذي أريد. . .
وكان في شرفة الفندق سعادة القائد البطل فوزي القاوقجي وأخي الشاعر أنور العطار في جماعة، فحللت فيهم، ولبثنا ننتظر الموكب، ونتحدث عن الفتوة في العراق، ونستمع إلى أحاديث فوزي وهي للأديب كنز لا ينفذ. . . وأشهد أن في العراق فتوة وشباباً، وأنه شعب عرف طريق الحياة فسلكه.
ولقد رأيت من مظاهر الفتوة في بغداد ما جعلني أبكي من فرط التأثر! رأيت في بغداد طفلاً يدرج على باب منزله، لم يتعلق المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند، ويوعز إيعاز القائد: يس. يم. يسرى. يمنى. . .
رأيت في بغداد أطفال المدارس الأبتدائية، يسيرون سير الجنود. يقودهم مدرس بلباس ضابط، يدربهم على فنون القتال وذهبت مع الطلاب إلى معسكر الإنكليز في (سن الذبان) لمباراة رياضية. فرأيتهم قد قبلوا المدينة الإنكليزية
إلى حي من أحياء العرب، وأفاضوا عليها روحهم وشبابهم وفتوتهم، فقلت: تبارك الله! إذا(292/31)
كان جيش من لاعبي الكرة لا يتجاوز الخمسين شاباً فعل هذا كله، فكيف لو جاء الجيش العربي جيش المستقبل؟ وسألت الطلاب في الامتحان هذا السؤال الأزلي: ماذا يريد أحدهم أن يكون؟ فكان جواب الأكثرين أنهم يريدون أن يكونوا جنوداً، مشاة وركباناً، وبحارة وطيارين، يدافعون عن أمتهم ويذبون عنها كل طاغية أو جبار ينبع من الأرض أو يهبط من السماء. . . ورأيت أثر الروح العسكرية واضحاً في الطلاب، فالطاعة من غير استخذاء، والحرية من غير تمرد، والنظام من غير جمود. تلك هي صفات طلاب العراق. وإن في مدرستنا العربية لثلاثمائة طالب، والمدرسة سائرة سير الساعة المتقنة وليس في إدارتها إلا مدير ومعاون، مع أن مثل هذا العدد يحتاج في دمشق إلى عشرة ضباط (معيدين) ثم لا تكون المدرسة كالساعة، وإنما تكون كالبركان الذي يهدد كل لحظة بالانفجار. فيا ليت شباب دمشق يعرفون الروح العسكرية، كما عرفها أشقائهم شباب العراق
لبثنا ننظر إلى الضحوة الكبرى، والناس لا يزدادون إلا تدفقاً، فكأنهم سيول تصب في هذا الخضم العظيم، والشارع يموج بالناس موجاً، ويزخر بالخلائق، وكلهم يتطلع وينتظر، وكلهم يسأل متى يأتي الموكب، وعمال الشركة الأمريكية للسينما ماثلون بآلاتهم في الشرفات والزوايا، ليصوروا معالم الحياة في بغداد. . .
وإن البحر ليموج ويزخر، وإن أمواجه لتصخب وتضطرب، وإذا بالمعجزة قد وقعت فانشق كما انشق البحر لموسى، وانفتح الطريق، فنظر الناس ونظرنا فإذا الأعلام العربية تلوح بألوانها الأربعة التي تجمع شعار دول الإسلام كلها بأميتها وهاشمها وعباسها وترمز لفضائل العرب كلها:
بيض صحائفنا سود وقائعنا ... خضر مرابعنا حمر مواضينا
وإذا الموكب قد لاح من بعيد، كما يلوح الهلال الهادي، للقائد الآيس ويسطع نجم الأمل في ظلمة القنوط، وإذا موسيقاه القوية تدوي في الآذان، فيكون لها أثر في النفوس أحلى من نداء الحبيبة في نفس المحب المشوق، فحبس الناس الكلمات ووقفوا الأنفاس، يتطلعون ويترقبون، والموسيقى تعلو والفتيان يتقدمون حتى وصلت طليعتهم. . . فما استطاع ذو شعور إمساك دموع الفرح والرقة والتأثر أن تسيل، وارتجت الأرض بالتصفيق والهتاف، كما ارتجت من قبل بهذه الموسيقى القوية المحبوبة، وهذا النشيد الذي يسمع من خلاله(292/32)
صوت المستقبل البارح وتلوح في أثنائه خيالات المعارك المظفرة. . . وكان الفتيان أطهاراً مثل الزهر اليانع، لدنا كأغصان الروض، ولكنهم كانوا أقوياء كدوح الغاب، أشداء كأسود العرين؛ وكانوا يسيرون صفوفاً متعاقبة على عرض الشارع، مرفوعة رؤوسهم، منتصبة قاماتهم، موزونة خطاهم، على أكتافهم بنادقهم وعدة قتالهم، يتقدمهم قادتهم ومدربوهم والقائد العام المقدم محمود فاضل ومساعده الجرموز الأكبر بهاء الدين الطباع على الخيول البلق، أمام الجيش الفتي
لا والله ما أحسست بالعجز مرة عن وصف ما أرى مثل عجزي اليوم. ومنذا الذي يقدر على وصف هذا الشيخ الهم، ذي الشيبة السائلة على صدره وهو يلحظ حفيده الصغير، يحمل البندقية ويمشي مختالاً مزهواً، يحلم بأمجاد المستقبل، ويذكر ما درس من أمجاد الماضي، فلا يطيق منع الدموع أن تسيل من عينيه وتتحدر على لحيته البيضاء. . . إني لأسمعه يحمد الله على أن لبلاده جيشاً من أبنائها ولم يكن يرى إلا جيشاً واغلاً أو دخيلاً. .
ومنذا الذي يقدر على وصف هذه الأم التي أمسكت بيد طفليها الصغيرين وهما يتوثبان ليلحقا بالموكب ليريا أخاهما، وطفقت تدعو الله دعاء هامسا يتصعد من خلال الزفرات أن يحفظ لها ابنها، والوطن بنية: (يا رب سلّم، ما شاء الله كان. . يا رب سلم. .) وتبكي!
ومنذا الذي يقدر أن يصف شارع الرشيد في هذا اليوم؟ يا أيها الرشيد قم تر المجد الذي بنيته لا يزال قائماً. قم تر الأحفاد قد نهضوا يسلكون طريق الأجداد. قم ترنا لم نضع الأمانة ولم نهلك التراث. قم تر مجد غازي يتصل بمجدك كما اتصل الشارع بالشارع فعادا مهيعاً واحداً؟
هؤلاء يا مولاي عدة المستقبل، وهذا الجيش وهذه الآمال!
وفكرت فجأة في بلدي وأهلي. . .
نحن هنا في فرحة والنار مشتعلة في فلسطين، والنار توشك أن توشك أن تلتهب! أي مصيبة لم يرها الشاميون، وأي خطب لم ينزل بهم؟ أما خرب الأقوياء بلادهم ضرباً بالمدافع وقصفاً بالحديد وحرقاً باللهيب؟ أما أخذوا ذهبهم وأبدلوهم به ورقاط أقفرت به الخزائن وافتقر به ذوو الغنى واليسار؟ أما قطعوا البلاد حكومات، وجعلوا من القرى دولات، وقسموا الناس بدداً ليجعلوهم طرائق قدداً؟ أفما جروا على هذا كله؟ بلى، لقد حتى(292/33)
لم يبق في قوس الصبر منزع، واحتملوا مالا يحتمل؟ فلما نفذ الصبر، وباد طوق المحتمل، هبوا هبة الحليم إذا غضب، ويا ما أشد غضب الحليم!
أنكون نحن في فرحة، وقومنا في الشام في ألم؟
وكدت أشعر بالحزن في قلبي، ثم قلت: لا، إن هذا هو الجيش الذي يجب أن يفرح به قومي. أن بطولة العراق وفتوة العراق صفحة من سفر المجد العربي، كما أن تضحية فلسطين، وجهاد دمشق، ونهضة مصر، صفحات منه أخرى. إن هذه كلها قوى متحدة، تتوجه وجهة واحدة!
ثم إن دمشق لا تخاف شيئاً ولا تخشى!
ولم تخاف؟ الرصاص؟ لقد فتح له أهلوها صدورهم! المدافع؟
لقد أعدو لها منازلهم! اليتم والثكل؟ لقد تعوده أبنائهم وأمهاتهم! إنهم يريدون أن يحيوا حقاً أو يموتوا. فهل يغلب شعب وطن نفسه على الموت؟
وكان جيش الفتوة لا يزال يسير، والأرض ترتج بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قوياً، هذه (بيه مونت) الوحدة العربية، هذه (بروسيا) العرب،
هؤلاء عدة المستقبل، وهذا الجيش، وهذه الآمال!
فيا أهل دمشق، ويا أهل فلسطين، ويا أيها العرب، في قاص من الأرض ودان.
اطمئنوا فإن لكم جيشاً!
ولما جاوز جيش الفتوة شارع الرشيد واتجه إلى شارع غازي ماج البحر واضطرب، وتدفقت وراءه الجموع، وأسرعت إلى (الأعظمية) لأدرك الصلاة، ونفسي تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور، ولكن جمالها لا يستتم في نفسي. إن في الموكب لنقصاً ظاهراً. أفما كان في الإمكان سدّه؟ أكانت تخر السموات على الرض، ويفسد نظام الكون لو قدم الموكب ساعة أو أخّر ساعة، ولم تضع الصلاة على هؤلاء الفتيان كلهم؟
هذا هو النقص، فيا ليت الوزارة لم تنسه. . . يا ليتها ساقت هؤلاء الجنود كلهم إلى المساجد ليقيموا فيها الصلاة، فإن أجدادنا ما غلبوا عدوهم إلا بالصلاة، والالتجاء إلى الله، وهو أن الدنيا وأهلها عليهم، وابتغائهم إحدى الحسنيين الظفر لإعلاء كلمة الله، أو الشهادة!(292/34)
إذن لكما لهذا اليوم جلال الدنيا، وجلال الدين، وإن في الآتي لإصلاحاً لما مضى، وأنه على هذا ليوم مشهود!
(بغداد)
علي الطنطاوي(292/35)
من ذكريات لندن
عربيد
للأستاذ عمر الدسوقي
في لندن للمصرين نَدِىّ، يختلف إليه الأخيار والأشرار؛ بعضهم لرؤية صديق، أو التزود من أبناء الوطن، أو الاستجمام من عناء الدرس؛ وبعضهم لقتل الوقت في لعب الميسر واللهو في غير كرامة ولا وقار
وكانت لنا فيه جلسات ممتعة، لمصر منها قِسط الأسد، ننتقد الساسة من غير تحرج ولا هيبة، ونضع خطط الإصلاح الجريئة، وتنفطر قلوبنا أسى ولوعة على مصر وما تعانيه، ونحتدم في جدال عنيف كله لمصر ولخير مصر
وفي ذات مساء، بينما نحن جلوس حول المدفأة، ندفع بحر ناره زمهرير الشتاء، نجول ونصول كعادتنا، في السياسة تارة وفي الأدب أخرى، إذ دخل علينا فتى في شرخ الشباب، رَبعةَ عريض المنكبين، غائر العينين بارز الجبهة، أسمر البشرة؛ فحيا بأدب، ثم اتخذ مجلسه بيننا، ينصت إلينا ولا يشاركنا، ثم بدا له فزج بنفسه في الحديث، وخب فيه ووضعن وبعد لأي قصّ علينا قصته، قال:
جئت ناديكم اليوم، أطلب الغياث والنجدة، فقد نزحت إلى لندن طلباً للعلم منذ شهرين، وأقمت مع زوجي وابنتي الصغيرة في منزل مؤثث؛ وفي ذات يوم تسلمت كتاباً من سيدة إنجليزية، تعرض فيه استعدادها لخدمتنا، مدة شهر الصوم، وتدعى أنها مسلمة من ذوات التقى والورع، وأن الذي حداها للكتابة إلينا، إشفاقها علينا، فخدعنا بكتابها المعسول، وبرحنا منزلنا إلى منزلها؛ وقضينا اليوم الأول لا نلاقى إلا كرماً وأريحية، فذهبت الوحشة واطمأنت النفوس؛ وخرجت في اليوم التالي مبكرا، وأُبت متأخراً، فوجدت زوجي تبكي وتنتحب، وقد ضمت طفلتها إلى صدرها، فسألتها، ما بالُها؟
- لقد مر بنا يوم عبوس قمطرير، قَفَّت فيه أوصالنا من القر، وجمدت أطرافنا من البرد، وجاعت فيه الطفلة حتى أشرفت على الموت، واستغثنا بربة البيت مراراً، فلم يزدها نداؤنا إلا إعراضاً عنا وازوراراً. ذهبت إليها استعطفها وأسترحمها، فأرتني وجهاً كالحاً كئيباً، وأسمعتني من هجر الكلام ما تعافه آذان الأحرار، وها أنت ذا تراني أعاني والطفلة السغب(292/36)
والبرد، وأضمها إلى صدري لعلها واجدة فيه دفئاً أو سلوى
- ويل لها من كذوب ماكرة! هكذا قلتن وأنا أنتفض غيظاً وْموجدة، وبودي لو أذهب إليها فأحطم رأسها أو أهشم عظمها، أو أمزّقها إرباً، ولكن عَّن لي أن أستعمل الحيلة حتى اخلص منها لا على ولا لي. فغادرنا المنزل تواً، وتركنا متاعنا إلى الصباح، ثم أرسلت من يحضره، فأبت أن ترد إلينا. فقلت: يا لعجب! إني قد وقعت منها على داهية؛ وأسرعت إلى منزلها غضبان أسفاً، فاستدرجتني حتى دخلت إحدى الغرف، ثم أوصدت الباب وأحكمت رتاجه، وأخذت تهدد وتتوعد، وتبرق وترعد. وتقول: قد أتلفتم أثاث المنزل ولن تبرح حتى تنقدني عشرين جنيهاً، أو تكتب بها صكاً؛ فكتبت ما شاءت فداءً لنفسي، وإبقاء عليها؛ وخرجت لا ألوي على شيء، وذهبت من فوري إلى محل الشرطة، وذكرت ما عانيته منها، فصحبني أحد رجاله؛ وما إن رأته حتى أصفر وجهها فرقاً ورعباً؛ فسألها عن الصك فأنكرته. فقال: إني على ذلك شهيد، وأخرج أمتعني عنوة، وحذرها بالعقاب الأليم إن هي فكرت في إيذائي. فانطلقت شاكراً له، وحمدت الله على أن نجوت من مخالبها
ولكن وا أسفاه! قد طاردني شرها في كل مكان، فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت؛ إذ أنها كتبت للإرسالية تصمني بالعربدة؛ ومرضت زوجتي وطفلتي من أثر ذلك اليوم المشئوم؛ وقد نصحني الأطباء ألاّ أبقيهما يوماً واحداً في لندن حيث لا يعين جوها على البرء والشفاء؛ فودعتها والدموع تنهمر، والقلب ينفطر وسافرا إلى مصر على ما بهما من مرض، وعدت أدراجي إلى منزلي وحيداً غربياً، لا أجد مواسياً أو حبيباً
وهأنذا يا سادتي، أناشدكم أواصر الوطنية ولإخاء، إلا أقلتموني من عثرتي، وانتشلتموني من وحدتي. فقد حجب الحزن بصري عن النظر، وغشىّ الأسى قلبي عن التفكير، وكل ما أبغيه أسرة تحنو عليّ، وتأسو ذلك الجرح حتى يندمل، وتعيني بعطفها على الدرس، وبحسن معاملتها على السلوى
فحركت مأساته الأفئدة رثاءً له وحدباً عليه، وعلت الآهات، والزفرات توجعاً لمصابهن وأخذنا نقدح زناد الفكر حتى اهتيدنا إلى سبيل نزود به وحشته، ونخفف كربته، فقلت:
- إني أقيم في أسرة أحلتني مكاناً علياً، وأنا عندهم ملء السمع والبصر، أتقلب في أعطاف الهناءة والدعة، فإن شئت أن تشاطرني ما أتمتع به من الراحة والطمأنينة، فلن تزيدني إلا(292/37)
سروراً
- شكراً لك، ثم شكراً؛ إني محتاج ليد قوية رشيدة في هذا البلد الغريب تهديني سبيل الحق حتى أقف على أسراره وعاداته، ولن يسعني حيَال هذه السماحة إلا القبول، والثناء العاطر، والاعتراف بالجميل
- هيا بنا الآن أريك المنزل وأقدمك للأسرة، وكن واثقاً بأنهم سيضعونك في منزلة العزيز المكرم
أخذت ألمح له أثناء الطريق بما يؤهله لاكتساب محبة الناس في هذه البلاد، وأننا هنا رسل الدعاية لمصر البائسة، فلزام علينا أن نتحاشى السفاسف والدنايا، وأن الأسرة التي سيقيم فيها، تربا بمنزلها أن يدنس، أو يكون موئلاً للفحش والخنا، أو يكون ضيفها عربيداً ماجناً، وخليعاً مستهتراً؛ لأنها متزمتة وقورة، وربها أستاذ كبير في الموسيقى، ولم ير مني إلا كل ما يشرح صدره، ولم اعهد عليه إلا التفاني في سبيل راحتي
بدت على محياه إمارات الارتياح، وأكد لي أنه سيكون مضرب الأمثال في نبل الأخلاق والرجولة، وأني سأكون فخوراً بصحبته تيّاهاً بخلاله وسجاياه
قدمته للآسرة وزكيته وأطنبت في مديحه، وقصصت ما لاقاه من عنت وإرهاق، فرثوا لحاله ورحبوا به، واخذوا يبعدون من مخيلته هذه الصورة المزرية عن بلاد الإنجليز وخلال أبناء التاميز، بحديثهم الحلو ومداعباتهم الطريفة
مضى على صاحبنا أسبوع، بدا فيه نموذجاً عالياً للأدب والظرف والدماثة والوقار، فزدنا في إكرامه والاحتفاء به. بيد أنه أخذ يتخلف عن جلسات السرة بعد العشاء، ويلزم الصمت أثناء الطعام، ثم يفر إلى غرفته فرار الظليم، فرابنا أمره وخشينا أن تكون قد حلت به كارثة، فتبعته مرة، وطرقت باب غرفته، فلم يجب، فواصلت الطرق فترة غير وجيزة، وأنا أناشده الله إلا أفضى إليّ بدخيلته، وبدواعي وجومه وعبوسه؛ ففتح بعد لأي، وشرر الغيظ يتطاير من عينيه، وفي وجهه اكفهرار وامتقْاع ويداه ترتعدان كالمحموم، وابتدرني قائلاً بصوت متهدج يفصح عن الوجل والحنق:
- ماذا تريد؟ لن أسمح لك بدخول حجرتين، اقصر عطفك على نفسك، فلست حدثاً غِراً!
- أسف يا هذا! فلم يدر بخلدي أن مثلك، وقد كان بالأمس سمحاً وديعاً، سيظهر اليوم سافلاً(292/38)
وضيعاًن ما حفزني للمجيء إليك إلا عطفي عليك، وظننت أنك تقاسي همَّاً دفيناً، وأنك ستهش لحديثي وتبش، وقد جئتك لأسري عنك، أما وقد طرقت أذنيَّ كلماتك البذيئة، فأعد نفسي متطفلاً وأنت وشأنك
انطلقت إلى غرفتي، موهماً الأسرة أني لا أزال عنده وأخذت أفكر فيما عساه يكون سره، ولم حرص جد الحرص على عدم السماح لي بدخول مخدعه، ولكن أعياني الفكر، فلم أهتد إلى إجابة مقنعة، بيد أن الشك أخذ يساورني، ويخيله إليّ شيطاناً مريداً، قد أتى أمراً إداً، ورغب في إخفائه عنا
جاءتني ربة المنزل بعد يومين وأنا أتناول طعام الفطور وقالت:
- إن صاحبك هذا مأفون معتوه، فقد خرج بملابس النوم في الطريق لابتياع إحدى الصحف، ولا ريب أن هذا مخل بالآداب في عرفنا وتقاليدنا، وأخشى أن يراه رجل الشرطة فيقبض عليه تركت الخوان مسرعاً؛ وهرولت وراءه، وحاولت أن أرده إلى صوابه، وأبين له أن خروجه هكذا خطل سيعرضه للبرد القارس، والانتقاد المر؛ وتدخل رجال الأمن، وأن إنجلترا ليست كمصر فوضى لا يعرف الناس فيها نظاماً للأزياء
- لقد نهيتك من ذي قبل ألا تُعنَى بأمري، وأن تدعني وشأني، فأنا أعرف بآداب اللياقة منك
- إننا أبناء وطن واحد، وما يلحقك من العار والمهانة سيلحقني كذلك؛ لن يتحدث الناس هنا بأن فلاناً أخطأ، بل سيقولون: أحد المصريين أجرم؛ فرفقاً بسمعتنا، وتقبل نصحي، فقد مضى عليّ بهذه الديار أمد غير قصير
عاد إلى المنزل وهو يزمجر كمن أخذته العزة بالإثم، وكبر عليه أن ينصاع لطلبة غيره
عزوت كل هذه التصرفات لجهله بعادات القوم، فلم آبه لتعنيفه وتقريعه، وأخذت أتلمس العلل والمعاذير لكل ما يصدر عنه فعال يندى منها الجبين خجلاً أمام أناس لا يذكرون عن مصر إلا المشوه من الحقائق. ولكن صاحبنا ظل سادراً في غوايته لا يستمع لموعظة، أو يتعلم من تجربة؛ فجاء ربة البيت في ظهيرة أحد الأيام، وطلب منها أن تطهي له دجاجة على الطريقة المصرية، فاعتذرت بأنها لا تعرف قليلاً أو كثيراً عن الطعام المصري، وأولى له أن يباشر طهيها بنفسه، إن كان لا يزال على رأيه.(292/39)
فأخذ يكيل لها السباب، ويؤول رفضها بامتهانها له، وعدم تقديره، ولج في وقاحته وسلاطته حتى أبكاها.
فذهبت محنقة تتميز من الغيظ، وانتظرت مقدمي على أحر من الجمر، وما أن دخلت المنزل حتى قصت على قصته منفعلة، وأصرت على طرده من المنزل، لأنها لم تسمع مثل هذه البذاءة طوال حياتها؛ فأخذت أهون عليها الأمر، وأعذر تصرفه هذا لشدة حساسيته، شأن كل غريب في بداية حياته ببلاد لم يألف طباع أهلها.
ضقت بهذا الغبي ذرعاً، ولعنت الساعة التي لاحت فيها طلعته الكئيبة علينا؛ وأعملت الفكر عسى أن أوفق إلى سبيل أصرف به هذا الوباء، وقد أصبح كالدمل الممد، أحمله في رقعة من جلدي، ينغص عليّ هناءتي، ويكدر راحتي. أي شيطان رجيم سول له أن يطهى دجاجة على الطريقة المصرية؟ ذهبت علني أجد عنده جواباً شافياً، وطرقت بابه بشدة وغضب، وفي عزمي أن أعطيه درساً لا ينسى؛ فسمعت همس سيدة من الداخل تحذره من الفضيحة إن استجاب لقرعي، بيد أنه فتح الباب على مصراعيه، وقال بصوت المستهتر الماجن المجازف، الذي غاض الحياء من وجهه وكان يترنح سكراً، ويبتسم ابتسامة داعرة:
- هذه فلانة، وقد كانت هنا حينما أنبتك في المرة السالفة على طرقك بابي، وأبيتُ أن أدخلك غرفتي؛ ولا يعنيني الآن، أن تطلع على ما كنت أخفيه، فسوف أنتهج طريق العربدة، ولا أعيرك أو غيرك التفاتاً.
- لكنك رجل متزوج، ولك طفلة، وهذا مُزْرِ بك، محط لقدرك، وسيلهب أهل المنزل عليك سخطاً وغضباً؛ ثم إن ما تأتيه من المنكر، مخالف للقانون، فليس هذا بيتاً من بيوت الخنا والدعارة، ويخيل إلى أن رفيقتك لم تبلغ بعد سن الرشد، وسيكون جزاؤك، إن فضح أمرك، السجن أو الطرد من هذه الديار، فعجل بإخراجها، وإلا داهمك رجال الشرطة.
- هاها. . . هاها. . .! نعم أنا متزوج ولكني أرسلت زوجتي إلى مصر تخلصاً منها، لا لمرضها كما أخبرتك كذباً؛ ولست أعبأ بما يحط من قدري في هذه البلاد، فقد استمرأت هذه الحياة بمصر وأنا لا أزال عزباً؛ أنا مستعد لأذكر لك تاريخ حياتي، إني رفعت راية الشر والفسق عالية خفافة، وما تزوجت رغبة في الزواج، ولكن طمعاً في مال من تزوجتها؛ وقد تنازلت لي الساذجة عن كل ما تملك، فليس ثمة حاجة إليها بعد ذلك، بل إني أريد أن أبين(292/40)
منها إلى الأبد، حتى أكون حراً طليقاً. نحن نختلف، يا صديقي، في نظرتنا إلى الحياة؛ ولست أخشى رجال الشرطة، فما أتت هذه الفتاة إلا طواعية واختياراً؛ ولن أترك المنزل، بل عليك أنت أن تغادره، إذا كان مقامي به يزعج وقارك وتزمتك. لِمَ لا أنهل من مورد اللذات وأثمل، أينما شئت وكيف شئت؟ أليست هذه بلاد الحرية كما ينعتها قاطنوها؟ ليست هذه أول فتاة وليس ما ترى أول كأس من الخمر أحتسيها، افعل ما شئت!!
- أيها الوغد الدميم، إنك تبحث عن حتفك بظلفك، ولن تجد مني بعد الساعة هوادة في التنكيل بك، تطهيراً للمجتمع من حثالاته، وعبرة لأمثالك الطائشين، الذين لا أخلاق لهم، ولا ضمير يعنفهم، ولا شرف يردعهم.
أخبرت ربة البيت بكل ما حدث، فاقشعر بدنها هلعاً وقطبت أساريرها احتقاراً، وعدت ابنتها تنادي رجل الشرطة؛ ولكن الطير قد أفلت من سجنه، فلم نقف للفتاة على أثر، وطرد العربيد شر طردة، ووضع تحت مراقبة شديدة صارمة.
هجر لندن بعد أن سدت في وجهه المسالك أنىّ ذهب، وأقام في إحدى ضواحيها غير متوان عن الغواية والضلال.
علم أترابي الذين سمعوا قصته الأولى بما آل إليه أمره، وما أقترف في حق مصر من الآثام، وما لطخ به سمعتنا من الوصمات، فعزموا على شكايته للقنصلية المصرية، حتى تقصيه، ولكن رقت قلوبهم فلم يفعلوا، وإن كان عجبهم قد بلغ أشده، حينما علموا أنه من أعضاء البعثات، وأنه طلق زوجه في النهاية.
ليت شعري لِمَ يُوفد مثل هذا؟ أليكون سبة وعاراً علينا، ومثلاً حياً متنقلاً تقذي منه العيون، ويعافه المجتمع، ويلعنه الناس أينما حل، والبلاد التي لفظته، والأمة التي ينتمي إليها؟؟
عمر الدسوقي(292/41)
دعيني أنام!
للأستاذ محمد سعيد العريان
دعيني أنام!
إن عينيّ لم تذوقا طعم الكرى منذ بعيد!
سنوات وسنوات، وأنا دائب السًري في هذه الطريق أفتش عن نفسي فلا أجد نفسي، وأنشد سعادتي فلا أجد إلا شِقْوة النفس وظمأ الروح وقلق الضمير! والطريق لا تنتهي إلى غاية، والعثرات تتكاءد السالك في كل منعرج وكل ثنية!
دعيني أنام!
فهل رأيت السعادة إلا حلماً هنيئاً يتخايل للنفس في لحظة ناعسةٍ ضرب النومُ على آذانها في ليلٍ مطبق؟
ما أجمل هذه الفراشة تتواثب في مطارفها الموشَّاة على أعين الناس! ولكن هيهات أن تنالها يد! كم جهدت جهدي في اللحاق بها فما بلغتْ. . .!
دعيني أنام! لعلي أن أنالها في سِنةٍ حالمةٍ تبلغ بي مالا مَبلغ إليه في يقظة الحياة!
دعيني، دعيني. . .! إنني وجدت نفسي هنا، وطالما نشدت نفسي فما وجدتها. . .!
إن بي حنيناً إلى هذا الفراش الدافئ بعد طول السُري وجهد السهر وكدّ الطريق!
افتحي عينيك يا عزيزتي على حقائق هذا الوجود ثم خبِّرني. . . ذكِّريني ما كان من ماضيَّ، فقد أَنسانيه ما ترادف عليّ من أحداث الزمان!
هل تذكرين يا عزيزتي تلك الأيام البعيدة، يوم كنا وليس لنا ماضٍ نأسَى عليه، ولا مستقبلٌ نتطلّع إليه، والدنيا تدور بالناس في حلقتها المفرغة وتدور بنا، فما يعنينا شيء من الدنيا ومن الناس، وما نشعر من الزمان إلا باليوم الذي نعيش فيه، هو كلٌّ تاريخنا في الحياة لا ماضيَ لَه ولا آت. . .؟
ذلك زمان كان فما له من معاد!
مَن كنتُ أنا عند الناس يومئذ ومن كنت؟
هل كنا يومئذ إلا فتاة وفتى قد ألفّ الحبّ بين قلبيهما! فما يُريان في الطريق إلا ذراعاً إلى ذراع، وخطوة إلى خطوة، وقلباً يعطف على قلب، وروحاً تهفو إلى روح، وعلى الشفاه(292/42)
همسات تُخافت بها، وفي العيون نظرات تتناجى. والناس تنظر إلينا فما يهمنا شيء من نظرات الناس ولا من حديث الناس؛ لأننا كنا يومئذ نعيش في أنفسنا بعيدين عن دنيا الناس. . .
هل تذكرين. . .؟
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة. . . وكنا صغيرين. . .!
وجلسنا ذات يوم في حديقة على الشاطئ. . . وكانت يدك بين يديّ وقد أطرق كلانا، وتراءى لنا في لحظةُ حلم رائع سعيد تجاوز بنا الزمان والمكان إلى حيث لم يكن لنا عهد، يظلنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب. . . وظلت في إطراقك وظللتُ، نتناجى ونتبادل الأفكار صامتين؛ فما كانت بي حاجة لأحدِّثك عما في نفسي ولا كانت بك حاجة؛ وتفاهمنا على صمت. . . ونظرتُ في عينيك ونظرتِ، فتضرُّمَتْ وجنتاكِ من حياء، وأحسستُ يدك تختلج بين يديّ. . .
ونهضنا صامتين فأوصلتك إلى دارك وعدتُ وحيداً إلى داري وأنا أفكر. . .
وعرفنا من يؤمئذ أن غداً هو يومٌ من عمر الزمان؛ وما كان يعنينا قبلٌ إلا حاضرنا الذي ننعم به. . .
أما زلت تذكرين يا عزيزتي؟
ولما ضٌرب الحجاب بيننا وقامت دونه التقاليد، تلفت القلب ينظر؛ ولزمت الوحدة أياماً أعرض ذكريات الماضي ولهفت الحاضر وأمل المستقبل فعرفت. . .
. . . عرفت يومئذ أن حقيقة الزمان ليست هي في هذا الحاضر، ولا في الغد المنتظر؛ ولكنها في اليوم الذي مضى ولا سبيل إليه. . . أمس!
حينما يكون معنى الزمان في نفس الحي هو اليوم الذي يعيش فيه وحسب، فهو في حقيقة الحياة ومعنى السعادة؛ فإذا سولت لها الأمانيّ أن يتعجّل أيامه فيتطلّع إلى ما قد يكون في غد، فقد آذنته الدنيا بيوم يٌطْرد فيه من جنة السعادة نادماً أسوان. . . ثم لا تكون إلا الثالثة، حين يتذكر أن له ماضيا كان وطواه الزمن؛ فما هو يومئذ حيٌّ يعيش في حاضره، ولا آملٌ يفكر في مستقبله؛ ولكنه ذكرى بلا رجاء، ولهفة مالها انقضاء!
الحاضر هو الحقيقة، هو السعادة، هو الحياة؛ وما الغد إلا وهمٌ يدعمه خيال الحيّ ليفر إليه(292/43)
من حاضره الذي هو به حيٌّ يسعد بالحياة؛ وما الأمس إلا الجزء الذي مات منا وسبقنا إلى الفناء!
ولكن الزمان على ذلك هو أمس، واليوم، والغد جميعاً: هذه الثلاثة هي حياة الحيّ وعمر الزمان؛ لا سبيل إلى تجاهل ذلك بعد عرفانه!
ليتني لم أعلم! ليتني لم أعلم!
لتني ظللت حياتي أجهل معنى الزمان؛ لا أفكر فيما كان، ولا أتوقع ما يكون، ولا أعرف من عمر الزمان إلا اللحظة التي أعيش فيها!
. . . وتلاقينا مرة على ميعاد. . . هل تذكرين يا عزيزتي؟. . . وجلستُ أقرأ لك فصلاً من كتاب كان معي؛ فتندّت عيناك بالدمع!. . . إنني ما أزال أذكر ذلك كأنه أمس، على أن بيني وبينه عشر سنين!. . . لقد قلتِ لي يومئذٍ كلمة ما زال صداها يرنّ في أذني:
(يا عزيزي! ليس في البشرية كلها من يقدر على خلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها غير الأديب البليغ!)
وقلتِ كلاما آخر لا أذكره، ولكن أثره ما زال يعمل في نفسي؛ فجهدت جهدي لأخلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها. . . ولم أذق طعم الكرى من يومئذٍ. . .!
ليت شعري، هل جاءك - وبيني وبينك حجاب التقاليد - نبأ ما كنت أبذل من أعصابي ومن دمي في سبيل هذه الغاية حرصاً على أن أكون يوم اللقاء كما تريدين أن أكون؟
يا ليت يا عزيزتي، يا ليت!
عشر سنين من عمر الشباب وأنا أُخرج للناس كل يوم جديداً في الأدب، إلا يكن من إلهامك فإنه بسبيل إلى تحقيق أملك!
يترادف الليل والنهار، وتتعاقب الظلمة والنور، وأنا عاكف على دفاتري وأوراقي، أكتب وأفكر جاهداً لأخلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها. . .!
تُرى هل بَلَغْت؟
هأنذا على شَرفٍ من الأرض في طريق لا حب، وثمة بارقةٌ تلوح من بعيد. . .
وما تزال الفَراشة الجميلة تتواثب في مطارفها الْموَشَّاة، لا تنالها يدي على طول السُّرَي وجهد السَّهَر وكدِّ الطريق. . حَتَّامَ المسير؟(292/44)
من أنا اليوم عند الناس ومن أنت؟. .
هانحن أولاء التقينا منذ عام يظلّنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب؛ ووجدنا تعبير رؤيانا. ولكن. . . أين أنا؟ وأين أنت؟
ماذا أجدى عليّ هذا الجهد المتواصل عشر سنين أبتذل شبابي وأنفق من دمي في سبيل المجد والشهرة والصيت البعيد!
المجد؟ الشهرة؟ الصوت المسموع؟. . . ما كل أولئك يا عزيزتي في حقيقة الحياة وفي دنيا الناس؟
وا خسارة الصفقة! إن الفراشة الجميلة لا يجتذبها شيء من كل أولئك إنها جميعاً أوهام وأباطيل ليست من السعادة ولا هي سبيلاً إلى السعادة
أين مني نفسي وأين أنتِ مني؟
لقد التقينا يا عزيزتي كما تراءى لنا في أحلام الشباب منذ بضع عشرة سنة، ولكنني لستُ هنا، ولكنكِ لستِ هنا. . .!
إنك أنتِ التي أغريتني بسلوك هذا السبيل منذ سنوات وسنوات فنذرتُ نفسي للفن حتى أبلغ إعجابك، فلا تسأليني بعدُ عن نفسي!
هذا العبوس في وجهك يا عزيزتي ألمٌ إلى آلامٍ على كاهلي. .
حدثيني صريحة: لماذا أنتِ غضبانة؟
أنت تريدينني كما كنتُ منذ بضعة عشرة سنة: فتىً لفتاة لا يشعر شعورَ الحيّ إلا معها؟
أنت تدْعينني لرحلة من مثل ما كان في سالف الأيام ذراعاً إلى ذراع على الطريق؟
أنت تسألينني: متى أراك إلى جانبي كعهد مضى لا يعنيكَ من أمر شيء إلا أن تكون لي وأكون. . .؟
وأنت إلى كل أولئك تريدين لي المجد والشهرة والصيت البعيد؟
لقد أذكرْتِني ما كان من أمري وأمرك يا عزيزتي، وأيقظتِ في نفسي ما كان راقداً من زمان؛ وهجتني إلى ذكرى اللهو والهوى والصبابة وسعادة الحب في سالف الأيام، حين لم يكن في الدنيا غيري وغيرك، ولم يكن الزمان إلا اللحظة التي نعيش فيها لا ماضيَ له ولا آت!(292/45)
ما كان أسعدني بهذا الماضي!
فماذا أجد عليّ ما نلت من دنياي بعد هذا الجهد؟
هاهنا شيء وشيء. فمنذا يهديني بينهما سبيل الرشاد؟
دعيني أنام!
إن عينيّ لم تذوقا طعم الكرى منذ سنوات وسنوات. . .
دعيني دعيني. . . إنني وجدت نفسي هنا. . .!
ما المجد، والشهرة، والصوت المسموع، إلا وهم من الوهم وحيلة من الحيلة لتفسد على السعيد دنياه!
لا تَدْعيني يا عزيزتي بعدُ إلى الجهاد والعمل. إن بي حنيناً إلى الفراش الدافئ بعد طول السري وجهد السهر وكدّ الطريق. . .!
دعيني أنام لعلي أبلغ من السعادة في سِنةٍ حالمةٍ ما لا مبلغ إليه في يقظة الحياة!
بل دعيني يا عزيزتي أستيقظ من ذلك الحُلْم الطويل الذي ضرب على عينيّ بضع عشرة سنة أهذي باسم الفن والأدب والشهرة والجاه والصيت
هذه هي الحياة، هذه هي الدنيا، كل ما عدا ذلك خداع وتلبيس ووهم من الأوهام!
دعيني، دعيني!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(292/46)
أسطورة. . .!
(تصوير فربان)
قالوا: وكيف كان ذلك؟
قال الراوي: زعموا أن الرئيس رزفلت سفير السلام بين السامية ولآرية، ورسول الوئام بين الديمقراطية والدكتاتورية، أولم لأقطاب الحكم في الدول الأربع ذوات الرأي في مصير العالم اليوم وليمة ليستخرج من بين الأفواه والكروش، علل الخلاف بين الأساطيل والجيوش. فلما فرغت الصحون، وامتلأت البطون، دارت الكؤوس، فدارت الرؤوس، ونم كل لسان بكمين سره قال الدتشي وقد نهض معتمداً على كتف الفوهرر:
إن تشمبرلين ودلادييه لا يزالان على الرياء القديم يتبجحان بالحرية والمدنية والسلام، وهما يخفيان وراء الحرية استبعاد الشرق، ووراء المدنية اهتضام الحق، ووراء السلام الحب والشطارة. أما أنا وهتلر فمبدأنا أننا عراة جياع، وسياستنا الصراع لا الخداع، ووسيلتنا الإخضاع لا الإقناع. فإذا جنح خصومنا للسلام، فليقاسمونا ما في أيديهم من الطعام وإلا فالحرب التي تجعلنا سواء في الضعف، إن لم تظهرنا عليهم بالقوة
فنظر السيد رزفلت إلى عميدي الديمقراطية فوجدوهما يتلاحظان ولا يتكلمان. فقال للرؤساء جميعاً:
- إن الذئاب تتهارش ولا تتفارس. وإن أراكم متفقين على الغاية، بعضكم بالطيش وبعضكم بالحذر، وموافقين على هذا الراي، بعضكم بالكلام وبعضكم بالنظر. وليس أمامكم ما يقبل القسمة إلا بلاد العروبة! فهي التي غزتها فرنسا بالتعليم والربا، وفرقتها أمريكا بالتبشير والهدى، ومزقتها إنجلترا بالتفريق والتجارة. وفي تقسيم القارتين العجوزين بينكم على السواء، نجاة المدينة والديمقراطية من الفناء
- قال الراوي: فانبسطت أسارير الرؤساء لهذا الرأي الصريح، وشربوا كما ترى نخب هذا الحل المريح!
ابن عبد الملك(292/47)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
موضوع الأدب
الإنسان إما أن يبين عن حقائق خارجة عن نفسه لا يصلها بخياله ولا يصبغها بعاطفته، وإما أن يعّبر عن حقائق امتزج بها الخيال ولَّونتها العاطفة، أو عن خيالات مخترعة ليست صورة من حقائق العالم
إذا قال الجغرافي في وصف أرض: فيها أدوية عميقة بين جبال عالية، فقد أبان عن حقيقة رآها أو سمعها؛ لم يصلها بالعاطفة فيبيّن إعجابه بها أو خوفه منها أو انبساطه أو انقباضه لمرآها أو ما تخيله حين شاهدها
وإذا قال كاتب في وصف هذه الأرض: (تهولك بها أدوية عميقة تطلّ عليها جبال شامخة عاتية يحلق الطرف دون ذراها).
فقد أبان عن الحقيقة مشوبة بما شعر هو به من رهبة وما تخيّل من إطلال الجبال على الأدوية وتحليق البصر دون قممها
وكذلك يقول الجغرافي: (صحراء منبسطة مستوية طرقها متشابهة، شديدة الحر، كثيرة الرياح) فينقل إلى السامع صورة الصحراء لم تغيرها عاطفته، ولم يزد عليها خياله
ويقول الشاعر في وصف هذه الصحراء:
ومَجٌهل كاطِّراد السيف محتجز ... عن الإدلاّء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسري مولَّهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
موقف المتن لا تمضي السبيل به ... إلا التخلل ريثا بعد تجهيد
فتراه قد أفاض على الصورة الطبيعية ألواناً من شعوره وتخيله
وانظر الفرق بين فلكيّ يتكلم عن الشمس طلوعِها وغروبها ودورتها السنوية، وعن القمر ومنازله، والنجوم وحبكها؛ يصف الحقيقة كما هي على قدر إدراكه، وبين من يقول - مثلا -:
منع البقاَء تقلبُ الشمس ... وطلوُعها من حيث لا تمسي
وطلوُعها حمراَء صافية ... وغروبها صفراء كالورس(292/48)
وقول الآخر:
مخبأة أمَّا إذا الليل جَنّها ... فتخفى وأما بالنهار فتظهر
وقد انشقَّ عنها ساطع الفجر فانجلى ... دجى الليل وإنجاب الحجاب المستّر
والْبِس عُرض الأفق لوناً كأنه ... على الأفق الشرقيّ ثوب معصفر. الخ
وقول ابن الرومي:
إذا رنْقت شمسُ الأصيل ونفَّضت ... على الأفق الغربيّ ورسا مُذعذَعا
وودْعت الدنيا لتقضيَ نحبها ... وشول باقي عمرها وتشعشعا
ولاحظت النُّوار وهي مريضة ... وقد وضعت خدَّا على الأرض اضرعا. الخ
الفلكي يصف حوادث لا صلة لها بقلب الإنسان وخياله. والشعراء يصفون شعر الإنسان بفنائه على مر الزمان، ويتخيلون في طلوع الشمس وغروبها صوراً تخلع على الشمس شعور الإنسان وعاطفته.
تمثل نفسك تقرأ نظرية هندسية أو معادلة جبرية ثم تمثلها تقرأ قصيدة لشاعر نابغة أو خطبة لخطيب عظيم؛ إنك حين تقرأ الهندسة أو الجبر لا تفرح ولا تحزن، ولا تغضب ولا ترضى، ولا تخاف ولا تأمن، ولا تضحك ولا تبكي. ولكنك حين تقرأ القصيدة أو الخطبة لا تخلو نفسك من بعض هذه المعاني أو ما يشبهما.
وإذا قال طبيب: (إن مرض كذا منتشر في كل بلد) فهذا خبر لا يعبر عن شيء من عوطف الطبيب بل يخبر عما هو كائن، ولكن أبا العلاء المعري حين قال:
ما خص مصراً وبأوحدها ... بل كائن في كل أرض وبأ
أنبأنا اللب بلقيا الردى ... فالغوث من صحة ذاك النبأ
أراد أن يبين عما يحيط بالإنسان من الآفات ويعرب عن خوف الإنسان وحزنه في هذه الحياة، وإنما ذكر عموم الوباء وسيلة إلى الإبانة عن آلامه ومخاوفه
وهكذا يستطيع الناظر في هذا الموضوع أن يوالي الأمثلة في غير عسر.
كل ما أبان عن عاطفة أو خيال صلح أن يكون موضوع للأدب؛ وهو مادة الأديب يؤلف منها أدبه. ولكن من هذا البيان ما هو شائع بين الناس يشترك فيه الخاصة والعامة والصغار والكبار، فهذا لا يعد في الأدب وإن اتصل بالعاطفة والخيال؛ فلابد من سمو(292/49)
الإدراك، وجودة التصوير. لابد من الصنعة أو الفن.
لا يعد الإنسان مصوراً حتى يجيد التصوير، ولا يعد نجاراً كل من نجر خشبة أو دق مسماراً بل لابد أن تكون له صنعة لا يستطيعها كل من حاولها. كذلك ليس كل من عبّر عن عاطفة أديباً. لا! حتى يكون في بيانه إدراك يرفعه عن العامية ولابتذال، وصنعة تميزه عن الدهماء وتميزه باسم الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الخ - حتى يأتي بكلام معجب يحس فيه سامعه أو قارئه إدراكاً قيماً، وتصويراً بارعاً كما تُرى صنعة نجار فيُعرف أنها عمل لا يستطيعه كل من وجد الخشب وآلات النجارة.
الحزن - مثلا - عاطفة تبين بالوجوم والصياح، والأنين والبكاء والعبارة المعتادة، والقصيدة. وكل هذه الدلالات تبين عن العاطفة ولكن لا يعد من الأدب إلا القصيدة.
وكذلك الأمور النفسية الملونة بألوان النفس تملأ كلام العامة والخاصة ولكنها لا تحسب أدبا حتى ترتقي إلى مستوى الفن وفي هذا درجات تتوالى إلى حد الإعجاز.
الفرق بين الأدب والعلم
يتبين مما تقدم أن قضايا العلوم المحضة ليست مادة للأدب؛ فإذا قلنا: زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، أو الخط المستقيم أقصر خط بين نقطتين، أو حاصل ضرب خارج القسمة في المقسوم عليه يساوي المقسوم، أو هذا الدواء ينفع لهذا المرض الخ فهي قضايا علمية ليست من موضوع الأدب في شيء
ليست هذه القضايا من الأدب ولكن يجوز أن تدخل فيه لتكون مقدمة لغيرها أو للتشبيه بها أو نحو ذلك كما قال المعري:
طرق العلا مجهولة فكأنها ... صم العدائد مالها أجذار
وقوله:
الخلق من أربع مجمعة ... ماء ونار وتربة وهوا
والكتب العلمية ليست من مباحث الأدب إلا أن ينظر الأديب إلى حسن البيان فيها والترتيب والتقسيم ووضوح الألفاظ فيجوز للفن أن يتناولها من هذه الناحية
فإذا اتحدَت المسائل في كتب علمية واختلفت أساليبها فقيل هذا الكتاب واضح العبارة، صحيح الألفاظ جيد الأسلوب فهذا تقدير موصول بالفن يجعل الكتاب من هذه الناحية ذا(292/50)
صلة بالأدب. ويستخلص من اختلاف موضوعي العلم والأدب هذه الفروق بينهما:
1 - الأدب مرجعه نفس الإنسان، والعلم مرجعه الطبيعة
2 - فمقياس الأدب صدق التصوير لما في النفس خطأ أم صواباً، ومقياس العلم صدق الإدراك للحقائق الواقعة دون نظر إلى أثرها في النفس.
3 - والأدب الإنساني موضوعه الإنسان: سعادته وشقائه في هذا العالم. والعلم يستوي عنده الإنسان والحيوان الأعجم والنبات والجماد. فالطبيعي يبحث في قوانين الطبيعة السارية في هذا العالم والحيويّ يبحث عن قوانين الحياة في الأجسام الحية، والطبيب يشرّح الأجسام ليتبين تركيبها. وهم في هذا البحث يتحرون الحقائق كما هي لا يبالون أن تكون في الإنسان أو في غيره. وأما الانتفاع بنتائج العلوم في إحياء الإنسان أو قتله وإسعاده أو أشقائه، فهو أمر خارج عن موضوع العلم
4 - والآراء والكتب العلمية تترك إذا تبين خطؤها أو كتب ما هو خير منها فلا يرجع إليها إنسان إلا إذا أراد أن يؤرّخ العلم؛ فلا تجد من يقرأ في كتاب هندسة أو حساب قديم وقد كتب ما هو أحسن منه؛ ولكن كتب الدب تتضمن عواطف الإنسان فإيّان اطّلع القارئ فيها وجد عاطفة إنسانية تؤثر في نفسه لا يضيرها الخطأ أو القدم. فنحن نقرأ اليوم شعر هومير وشعر امرئ القيس وغيرهما، ونجد فيه من متعة النفس ما نجده في الشعر الحديث
اختلاف المنشآت الأدبية
قد تبين أن مدار الأدب على العاطفة والخيال والأمور النفسية لا الحقائق الثابتة خارج النفس. وليست كل القطع الأدبية سواء في ذلك، بل تتفاوت قرباً من هذا المركز وبعداً. وادخلها في الأدب أقربها إلى المركز. وفي الأدب موضوعات يقل نصيبها من العاطفة والخيال حتى تنتهي إلى المحيط الذي يفصل الأدب عما سواه، ويكاد يشك القارئ أنها من الأدب
ومن أجل ذلك اختلف النقاد في شعراء من أئمة البيان كأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلا. قال بعض النقاد: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري. ويميل بعض النقاد إلى إخراج لزوميات المعري من الشعر. والحق أن دواوين هؤلاء الشعراء جميعاً تحوي أدباً لا علماً، ولكن حظها من العاطفة وعمل الخيال يختلف؛ فتجد البحتري أكثر(292/51)
نصيباً من العاطفة والخيال في جملة شعره؛ وأبو العلاء في لزومياته أقل حظَّاً منهما ولكنه لم يخرج عن دائرة الأدب. وأبو تمام والمتنبي بين عاطفة البحتري وحكمة أبى العلاء
وبهذا يفسر قول القدماء: (أعذب الشعر أكذبه) فالأكذب أدخل في الخيال وأبعد عن الحقيقة. ولكن ينبغي ألا يخدعنا هذا القول؛ فربما نجد الشعر القريب من الحقيقة والبعيد عن الخيال أعذب واحب إلينا من شعر كثر خياله وبعد عن الحقيقة. وقد تبين العاطفة قوية واضحة حيث لا خيال كما يؤثر مرأى الطفل الحزين في رائيه، ويعجب المنظر الجميل شاهده، وليس هناك إلا الحقيقة المؤثرة
انظر قول كثير عزة:
خليليّ! هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
لا تجد فيه مجازاً ولا استعارة ولكنه مثّل لك الشاعر واقفاً على دار عزة وقد خلت منها وهو يطلب إلى صاحبيه أن يعقلا ناقتيهما ليفرغا للبكاء معه. ليس في هذا تخيل ولا صنعة ولكنه يكشف عن عاطفة محزونة ساذجة لها أثرها في نفس الإنسان
وانظر هذه الأبيات:
أقول لصاحبي والعيس تهوي ... بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عَرار نجد ... فما بعد العشية من عَرار
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريّا روضه بعد القنطار
وأهلك إذ يحلَ الحيُّ نجداً ... وأنت على زمانك غيرُ زاري
ليال ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
إنك تجد في هذا الشعر الطبيعي الصادق الخالي من الكذب والخيال والإغراق من الإبانة عن العاطفة مالا تجد في شعر متكلف قد أعرب فيه الخيال وافتنَّت فيه الصنعة
عبد الوهاب عزام(292/52)
استطلاع صحفي
الأندية الأدبية في مصر
نادي الحلمية
لمندوب الرسالة الأدبي
مقهى ضئيل المنظر، تافه الموقع، يطل على ميدان ضيق محدود، يعج بالسابلة، ويضج بالحركة، وترتفع فيه أصوات الترام والسيارات منحدرة من القلعة وصاعدة إليها، فلا رواء فيه ولا بهاء ولا شيء مما يبعث الشعر ويهز الفكر ويحبب إلى الأدب، ويغمر النفس بشعور الرضا والأطمئنان؛ ولكنه على الرغم من هذا كله فهوى الشعراء والأدباء، ومراد الأفكار والآراء، وله في ذلك عمر طويل وتاريخ حافل
ترى ما الذي حبب هذا المكان إلى إخواننا الأدباء وهم طلاب الهدوء والسكون، وعشاق المناظر الشعرية اللطيفة؟! أهي تلك الدرجات الأربع التي يصعدها الداخل إليه فتشعره بالرفعة والصعود والعظمة! وحب العظمة! وحب العظمة شيء في نفوس الأدباء؛ أم هي تلك الديمقراطية الصريحة التي يتميز بها ذلك المكان، إذ يجلس القوم في غير كلف، والتملص من الكلفة شيء محبوب لدى الشعراء؛ أم هي قلة النفقة، والأدباء لاشك قروشهم معدودة، وجيوبهم مكدودة، فهم يرتاحون إلى قلة المصاريف وعدم التكاليف؟!
أنا والله لا أدري السبب في ذلك. ولقد سألت إخواننا الأدباء أنفسهم فما وجدت عندهم شيئاً من علم ذلك السر، بل لقد ذكر ليَ الشاعر (الأسمر) أن أدباء الحلمية تمردوا منذ سنوات على ناديهم، وحالوا أن يكون مجلسهم في مقهى فخم بميدان الأوبرا حتى يليق بمكانتهم، ولكنهم فشلوا في تمردهم، وعادوا إلى مكانهم صاغرين! حيث مازالوا يصعدون الدرجات الأربع! وقد يكون للمسألة تعليل من التاريخ، فلنرجع إلى التاريخ
إن نادي الحلمية يتصل بحي الحلمية، وحي الحلمية حي يتميز بطابع خاص، وينفرد بتاريخ حافل، وهو أول حي أسس في مصر على طراز منظم، وقد كان موطن الأسر العريقة والسلالات التركية التي تحكم البلد، وتملك ثروته؛ وقد كان لهذا الحي ناد يشرف على شارع محمد علي في مواجهة جامع قوصون، وكان يختلف إليه كثير من الكبراء(292/53)
والأدباء الذين يقطنون ذلك الحي، فكان يجلس فيه المرحوم حسين باشا رشدي، والمرحوم شوقي بك قبل أن ينتقل إلى المطرية، وحفني ناصف، وإبراهيم هلال، وحافظ إبراهيم، والشيخ عبد المطلب، وأحمد نسيم، واحمد الزين، وبيرم، والهراوي، وعماد، والسيد حسن القاياتى، وكان يتردد عليه المازني أيام كان يسكن بالإمام؛ وقد أخبرني الهراوي أنه لا يذكر أدبياً في مصر لم يتصل تاريخه بذلك النادي القديم، وإنه ليتحدى من ينكر الجميل على أصحابه، وإنه على استعداد لأن يذكر من لا يذكر ماضيه!
وقد ظل ذلك النادي قائماً أيام الثورة المصرية، فانتقل إليه الشيخ مصطفى القاياتي رحمه الله، وكان الشيخ القاياتي عنصراً قوياً من عناصر الثورة، وكانت له حاشية حافلة بالشباب المفكر الجريء أمثال الشيخ عباس الجمل، والشيخ الجديلي، والشيخ البنا، والأستاذ إبراهيم عبد الهادي، وإضرابهم، فاختلط الأدب بالسياسة بين جدران النادي، فكانت تنطلق منه التدابير المفزعة والقوافي المقذعة، فضاق به الإنجليز، وأطلقوا عليه الرصاص؛ وللهراوي في ذلك شعر. . .
فلما كان سنة 1926 مات صاحب المقهى، فانفض السامر، وانقطع الزائر، وبطل الندى الحافل، وقام مكانه مطعم للفول ومستخرجاته، والعدس بجميع ألوانه؛ وراح الأدباء يتلمسون المكان الذي يجمعهم، فتأخروا خطوات عن جامع قوصون إلى جهة القلعة فوقعوا على النادي الذي هو مجمعهم اليوم والذي هو موضوع حديثاً في ذلك المقال
ولقد غدا النادي الجديد صورة كاملة للنادي القديم، فحفل بالأدباء والشعراء، وعمرت مقاعده بمجالسهم في الليل والنهار، وقصده الكبار في الأدب والصغار!
فكان يجلس فيه الشيخ عبد المطلب شاعر البادية، والحاج محمد الهراوي شاعر الأطفال والرجال، والأسمر أديب القبلتين وشاعر الأزهر، والزين شاعر دار الكتب، وحسين شفيق المصري الشاعر الحلمنتيشي المعروف، والدكتور زكي مبارك عبقري سنتريس ومعبود باريس، والسيد حسن القاياتي شاعر النبل والورع، و (مجنون) إحسان. وكان ينضم إليهم كثير من شباب الأزهر ودار العلوم وغيرهم ممن يشدون بالأدب ويعملون في الصحافة؛ وكان حافظ رحمه الله يتردد عليهم من وقت لآخر خصوصاً في الفترة التي أحيل فيها على المعاش؛ وبين جدران ذلك النادي نظم قصيدته الطويلة في هجاء صدقي باشا التي لم ينشر(292/54)
منها في الديوان إلا أبيات. . .
ولقد استبدت تكاليف الحياة ومطالب العيش بكثير من الأدباء فألهتم عن مجالس السمر، وحرمتهم من ذلك المجلس الطيب الشهي، ولكن ما زال النادي عامراً بأبنائه المخلصين، وما زال المتخرجون فيه يهبطون عليه بين وقت وأخر حتى الذين يسكنون في الضواحي على بعد الشقة وكثرة الكلفة. ويا له من حنين طيب ووفاء عجيب! وقديماً قيل (ما لحب إلا للحبيب الأول) ويعتبر الهراوي في هذه الأيام عميد نادي الحلمية، أو عمدة مصطبة الحلمية كما يقول صديقنا الدكتور زكي مبارك، أو شيخ السقيفة على حد تعبير المهدي مصطفى الشاعر الظريف
فالهراوي من الجلساء المخضرمين أدرك النادي السابق وكان من رجاله، وأسس النادي اللاحق وآثره بكثير من عطفه وإخلاصه، فقل أن يتغيب عنه في يوم من الأيام ودائماً يحلو له أن يأخذ مجلسه عند المدخل على سفح (الدرجات الأربع) ومن حوله الأسمر والشيخ عبد الرسول ومرتضى الخطاط، أجزاء لا تتجزأ وعصبة لا تفترق
وأدباء الحلمية نمط واحد وطراز متفق، ولهم ذوق عملت فيه الثقافة العربية أكثر من أي شيء آخر؛ وهم يعشقون الديباجة القوية السليمة، ويطيرون بالأساليب المشرقة المونقة ويذكرون شوقي وحافظ وعبد المطلب بالخير والحمد، ويترحمون على المنفلوطي والرافعي وإضرابهما؛ والزين لا يعدل بالزيات أديباً في مصر بل في الشرق. وهم يضحكون من أولئك الشعراء والأدباء المستغربين الذين يذكرون جوتة وشكسبير ولا يعرفون المتنبي والبحتري وشيخ المعرة، ويسميهم الهراوي بدجاج القريض، وفي رواية أخرى يغاث الشعر.
وكثيراً ما يدخل أدباء الحلمية في مناقشات حادة، وجدال عنيف، يصل ضجيجه إلى الشارع، ويطول فيه اللسان ويسفه، ولكنهم دائماً خلصاء أصفياء على الكراسي متقابلين.
ويجري أدباء الحلمية في فنون وأمشاج من أحاديث الأدب والنقد والدعابة، فإذا كان الحديث في ذكريات الماضي، فالهراوي فارس الحلبة، يزكيه الشيخ عبد الرسول؛ وإذا كان القول في أخبار الأدباء والشعراء فالحكم للزين والويل لمن يعترض؛ وإذا تكلم القوم في الشعر رأى الأسمر أن يخرج من وقاره فيخب ويضع؛ فإذا انتهى القوم إلى الدعابة حاولوا(292/55)
جميعاً أن يمدوا ألسنتهم؛ ولكن لا يلبث الشاعر الحلمنتيشي أن يضع يده على رؤوس القوم وأن يجرفهم بتياره الزاخر، حتى يقول كل منهم لصاحبه:
انج سعد فقد هلك سعيد.
وقد يبتدئ القوم حديثهم في شيء يهمهم، أو في مشكلة تعينهم، ولكنهم سرعان ما يخلعون عليه ثوب الأدب ويجعلونه حديث السمر.
فهذا الشاعر الأسمر قد جاء في أمسية يشكو إلى إخوانه أمر ساعة أهدها إليه صاحبه الهراوي فأتعبته وصارت تمشي كما يقول الأسمر تارة (عربي) وتارة. (إفرنجي) وتارة لا عربي ولا إفرنجي أما الدكتور حسين الهراوي فتناولها ثم جس نبضها وقال:
هذه (عندها ضغط دق) وهي (تحتاج إلى الراحة التامة).
وأما الدكتور زكي مبارك فنظر إليها ثم اندفع ينشد:
واها لبعض الهدايا ... بعض الهدايا رزايا
ساعات باريس عندي ... لها جميع المزايا
تدق دقاً لطيفاً ... كمثل همس مُنايا
وساعة الهراوي ... أولى ببعض التكايا
تدق دقاً عنيفاً ... كما تدور رحايا
وأراد أن يسترسل في إنشاده فهدده الهراوي بإهداء (منبه) إليه، فامسك وجبن
وأما الأستاذ حسين شفيق المصري فقال: (دي ساعة دايرة على كيفها) و (ماشيه مشى مسخرة) و (قلبها فاضي) و (عاوزة بوليس يضبطها) و (الساعاتي لما يشوفها قلبه يدق) و (أنها الساعة التي هي أدهى وأمر. . .)
وكان مجلس طيب لم يسع الهراوي نفسه إلا أن يسجله بالشعر فقال:
وساعة أهديتها ... إلى الأديب الأسمر
حسبتها في مخبر ... كما لها من مظهر
فظرفها من معدن ... مرقش منمّر
فمن بياض فضة ... إلى سواد عنبر
وعقربا مينائها ... من النضار الأصفر(292/56)
أحجارها كأنها ... من لؤلؤ وجوهر
فلم يكن كمثلها ... هدية من موسر
ولم يكن كمثلها ... من بائع لمشتري
وليس من تقدم ... فيها ولا تأخر
تمشي عليها الشمس في ... عطاردٍ والمشتري
وقد ظننت أنه ... بمثلها لم يظفر
حتى احتوانا مجلس ... يزخر بالتندر
فمن طبيب ماهر ... إلى أديب عبقري
وكاتب مفكر ... وشاعر مصورّ
فجاءنا الأسمر في ... زمجرة الغضنفر
ثم رمي بساعتي ... بهيئة المسنتكر
وقال فافتح محضراً ... واذكر وقل في المحضر
بأنني من ساعتي ... ومنك في تحيّر
فإنها تذبذبت ... من سنةٍ فأكثر
فتارة تَقَدُّمٌ ... إلى مدىً لم يحصر
فتسبق الليل إلى ... صباحه المبكر
وتارة تأخُّر ... لغاية لم تقدر
والآن فانظر ترها ... في وقفة المستكبر
وإن ما ذكرته ... دون الذي لم أذكر
فقلت مهلاً يا أخي ... فضحتني في معشري
فانهمرت نكاتهم ... مثل السحاب الممطر
فقائل: حق نشِو ... ق لفقيه أزهري
وقائل: محبرة ... من اختراع (بَركر)
وقائل: رقاصها ... يحتاج للمجبر
وقائل: قوموا بنا ... نسأل عنها السمكري(292/57)
فقلت كفوا ساعة ... عن ساعة لم تستر
أليس منكم عاذر ... حتى أخي لم يعذر
إن قصرت فإنها ... في زمن مقصر
آليت لا أهدي لكم ... شيئاً - يمين منذر
ومن أراد ساعة ... فليشتر أو يكتر
وكم في (نادي الحلمية) من مثل هذه المجالس الطيبة لو حفل أديب بتسجيلها لحفظ للناس كثيراً من السمر الطيب والدعابة الحلوة والأدب الرائع. . . ولكن هيهات
م. ف. ع(292/58)
السلام
نظم الصورة القلمية المنشورة في العدد 289 من الرسالة
(مهداة إلى الأستاذ ابن عبد الملك)
للأديب عبد الحميد الهيتي
ذي صورة في وحيها صادقهْ ... توحي إلى الشاعر
صامتة لكنها ناطقهْ ... في منطق ساحر
المن في صفحتها الشارقهْ ... يشرق مثل الأمل الزاهر
واْلخَلْقُ في ساحتها غارقهْ ... في أمنها هادئة الخاطر
هنا قطيع الغنم الراتع ... في عيشة راضيهْ
منبثة في حلقها الواسع ... آمنة لاهيه
فبعضها في وقفة الخاشع ... وبعضها جاثية غافيه
يا عجباً للحمَل الوادع ... ترضعه الأم على ناحيه
قد نام عنها كلبها الحارس ... على أثيث العُشُبْ
كأنه وهو به طامس ... من نومه لم يهبْ
قد نسى الذئب ولا هاجس ... يَمرُّ في خاطره أو يدبْ
حتى ولم يهمس له هامس ... في الطيف ما يدعوه أن يكتئبْ
هناك بالقرب من الساحل ... عائلة تبسمُ
ما فكرت في الزمن الزائل ... ولا الذي يقدم
تلهو بصفو الزمن الماثل ... لها ولا في غيره تحلمُ
يا لجلال الأسرة الكامل=لو خط في الرسم أَبٌ مفهمُ
هناك عن بعد على اليمين ... مغروسة أشجارُ
ريانة مورقة الغصونِ ... توقرُها الأثمارُ
وربما في عشها المكينِ ... آمنة تزقزق الأطيارُ
قد نسيت مرارة السكين ... ولم تداهم عشها الأخطارُ(292/59)
أرى طيوراً في السما حائماتْ ... من مرح صادحهْ
في هدأة الكون مضت سابحاتْ ... غادية رائحهْ
فلم تروع سربها الطائراتْ ... ولم تجيء قاصفة صائحهْ
والبحر رهوٌ فوقه الباخراتْ ... تمخر لا تجتاحها جائحهْ
يا صورة صورّ فيها السلامْ ... صورته الخالدَهْ
توحي كوحي الصحو بعد الغمامْ ... في الأنفس الراقده
ما السلم إلا الغيث في الابتسام ... والحرب إلا السحب الراعده
فلفسة الله هما في الأنام ... ضلت بها ألبابنا شاردهْ
(هيت)
عبد الحميد الهيتي(292/60)
قصائد في أبيات
للأستاذ محمود غنيم
المطر
بدت الأرض مرة في الشتاء ... ثرَّةً مثل صفحة الدأماء
فسألت الغمام هل بك خطب ... مثل خطبي حتى بكيت بكائي
قال لا بل دنَّسْتم الأرض بالإث ... م فطهرت وجهها بالماء
لؤلؤة
شاهدت لؤلؤة كالبرق تأتلقُ ... على جبين أمير سار مختالا
فقلت ما أنت؟ قالت إنني عرقُ ... من جبهة الزارع المسكين قد سالا
الناس تنعم والفلاح يحترقُ ... وليس يحرز لا جاهاً ولا مالا
السعادة
لم ادر ما طعم السعادة في الصبا ... فإِذا بها موفورة أسبابها
حتى إذا أصبحت أدرك كنهها ... سلب السعادة من يدي سلابها
الغرب
قلت للشمس يا عروس السماء ... إنما تغربين في عين ماء
فلماذا لمحت وجهك إذ اشر ... ق مثل العقيقة الحمراء
قالت الشمس إنما طفت حول ال ... غرب والغرب سابح في الدماء
محمود غنيم(292/61)
رسالة العلم
أرض تدور وإنسان يحيا ويموت
للدكتور محمد محمود غالي
الفراغ الذي تنتقل في أنحائه - الزمن والحوادث - الأرض
التي تدور - الكون مجموع العوالم - الإنسان يحيا ويموت
نبدأ الكلام عن الفراغ أو الحيز الذي نتنقل فيه، ونتكلم عن الزمن الذي يمر علينا لاتصالهما بفلسفة كل علم، وأي علم نستطيع أن نتعلمه أو فلسفة نستطيع أن نناقشها لا يكون الفراغ والزمن عاملين أساسين في دراستهما؟ هذان العاملان ظلا أساساً للعلوم من عهد المصريين والإغريق؛ فليس في وسعنا أن نتحدث عن الأرض والكون والإنسان المفكر دون أن نرجع مبدئياً إلى هذين البحرين اللذين تكتنف لججهما جميع المخلوقات: الحيز والزمن.
وسنعرض لهما في هذه الكلمة حسب الأوضاع التي ألفناها فلا نتعرض اليوم لفهمهما وفق أحداث الآراء
أما الفراغ أو الحيز فإننا نلمسه بحواسنا وندركه بتحركنا. كلنا يعلم أننا، ونحن في مكان معين، نستطيع أن ننتقل شرقاً وغرباً أو شمالا وجنوباً أو إلى أعلى وأسفل، كما نستطيع أن ندور حول نقطة ثابتة، أو نكون في حالة نلفي فيها حركتنا مجموعة من هذه الحركات كحركة شخص داخل سفينة تتأرجح فوق عباب الماء بالنسبة إلى منارة على شاطئ البحر
وأما الزمن وفق تصورنا البدائي فكلنا يعرفه ويدركه بالحوادث التي تقع لنا، فنقول: لم نر فلاناً منذ رحيله للإسكندرية، ونقدر طول غيبته بعدد من الأيام، وينشأ من ذلك أن أهم الحوادث بالنسبة لنا دورة الأرض حول محورها، فهي التي تولد الليل والنهار ويسمى مجموعها (يومياً) وقد اعتدنا تقسيمه إلى 24 ساعة، وكان من الجائز أن نقسمه إلى عشرين ساعة أو عشر، فتقسيم اليوم إلى أي عدد من الساعات عمل اعتباطي من اختيار الإنسان لا دخل للطبيعة فيه. فلو أننا اتفقنا على أن نجعل اليوم عشر وحدات جديدة تسمى كل منها احتجنا إلى إدخال أي تغيير في آلات قياس الزمن التي نسيمها (ساعة) سوى تغيير في(292/62)
تقسيم ميناء الساعة أما دورة الأرض حول الشمس التي يتكون منها السنة والفصول فتحوي 365 يومياً وسدس اليوم تقريباً، وهذا العدد ليس اختيارياً كعدد الساعات في اليوم، وإنما هو حدث طبيعي لا نستطيع تغييره؛ فقد لوحظ أنه بمرور كل عام أي بإتمام كل دورة للأرض حول الشمس يتكون هذا العدد من الليل والنهار أما فترة الحياة للإنسان فهي تختلف لكل فرد، فليس من الميسور لنا أن نعين الذين ستنتهي حياتهم هذا الأسبوع من أهل القاهرة وإن كنا نعرف من مجموع القاهرين أنه يولد في الأسبوع القادم حوالي التسعمائة ويموت حوالي الخمسمائة. . .
ونحن أكثر إحساساً بالزمن منا للحيز، فإن الزمن يتغلغل في مشاعرنا، وفترة من الزمن أقرب لإحساسنا من مسافة في الفراغ. وقد يخطئ المرء في تقدير أو مقارنة مسافتين ولكنه لا يخطئ في إدراك وترتيب حادثين، فإذا وقفنا في ميدان الأوبرا فقد لا يسهل علينا أن نعرف أيهما أقرب إلينا: مسجد القلعة أم الجامعة المصرية بالجيزة. بل كثيراً ما يخطئ المرء في تبين الأطول من بين اثنين من أصدقائه رغم تكرر رؤيته إياهما
أما شعورنا بالزمن فلا يتسرب إليه الخطأ. فنحن واثقون أن حصولنا على تذكرة الترام حادث لاحق لارتقائنا إياه، وأن وجودنا به حادث لاحق لمبارحتنا المنزل. وإذا اشترينا صندوقاً من السجائر فمما لا يداخلنا الشك فيه أن الكتابة المطبوعة على ذلك الصندوق قد تم طبعها قبل شرائنا إياه، وعندما نذهب بأولادنا إلى المدرسة لا يكون ثمة ريب في أن حادث ولادتهم سبق بكثير دخولهم المدرسة. ويدخل عامل الزمن في التجارب العلمية، ففي مقدور العلماء أن يقيسوا فترات صغيرة جداً منه، وقد بين لي الأستاذ جييه في إحدى زياراتي له كيف نتوصل إلى قياس فترة من الزمن لا نتجاوز جزاً من خمسة ملايين جزء من الثانية. ولا متسع هنا لشرح التجارب الخاصة بهذا التحديد الدقيق على أن كل هذه الحوادث قصر أم طال مداها تتعين بأمر ثابت لنا هو: دورة الأرض حول الشمس التي نسميها عاماً.
فعندما يقول إنسان لقد مضى على إقامتي بهذه الدار ثلاث سنوات وستة أشهر، فمعنى ذلك أن الأرض في مدارها حول الشمس عادت لمكانها الأول ثلاث مرات، ولا تزال سابحة في دورة رابعة قطعت منها نصف الطريق(292/63)
كل الكائنات، وكل ما في الحياة، وكل شيء نستطيع أن نحس به أو نراه، يكتنفه أو يشمله هذان البحران: الفراغ والزمن. إذ لا يمكن لخيالنا وحواسنا أن تتخيل أو نستوعب شيئاً كائناً ما كان غير موجود فيهما، فهذه النملة في طريقها على هذه البقعة من الأرض تقطع هذه المسافة في الحيز ويمر عليها الزمن. وهذه الأرض التي تحمل النملة وتحملنا تقطع أيضاً في هذه الفترة جزءاً من طريقها الذي تدور فيه حول الشمس. وهذا الحجر من أحجار الهرم يشغل حيزاً معيناً وقد مضى عليه أكثر من خمسين قرناً وهو في هذا الوضع؛ أعنى أن الأرض قد دارت حول الشمس منذ وضعه أكثر من 5000 دورة، وحول نفسها حوالي المليونين من الدورات، وليس هذا عمر هذا الحجر منذ تكونه، بل هو الفترة التي مرت على وضعه بين الأحجار. أما عمره فمن تكوين الأيوسين وهو عصر جيولوجي بعيد قد ولى منذ 60 مليوناً من السنين
ولو التزمنا جانب الدقة لقلنا إننا نحن والحجر أقدم من ذلك بكثير فإن العناصر التي نشأنا منها ترجع إلى تكون الأرض التي يغلب على الظن أنها انفصلت عن الشمس؛ فكل ما نتكون منه كان موجوداً منذ تلك اللحظة التي لعلها تبعد في الزمن ألفى مليون من السنين، بل كان موجوداً قبل ذلك منذ تكون الشمس، بل قبل تكون السديم الذي نشأت منه الشمس، بل منذ كانت الخليقة. .
هذا هو الحيز حسب الإدراك البدائي والزمن وفق الوضع البسيط. ولكن تصور العلماء لهما قد تغير اليوم
في رواية تناقلها الصحف إبان الضجة التي أثارتها نظرية إينشتاين في النسبية أن ابنه سأله ذات يوم أن يوضح له تلك النظرية؛ فأجابه: إنه لو فرض جدلاً أن كائناً سيسافر بسرعة تقرب من سرعة الضوء واتفق معه مودعه أن يغيب عنه سنة فأنه لا يحق له عند وداعة على المحطة أن يقول له: إلى اللقاء! لأنه عندما يعود المسافر بعد عام يكون قد مر على الذي ينتظره مائتا عام، وبذلك يكون قد ثوى في رمسه منذ نيف ومائة سنة
هذا الوضع الجديد في الزمن والحيز الذي كان الأساس فيه معادلات لورتنز
يختلف عما عهدناه، وسنرجئ الدخول في فهمهما إلى مقال آخر
أما في هذه الأسطر فلدينا مسألة أكثر بساطة تتعلق بالأرض التي تعيش عليها والكون التي(292/64)
هي جزء منه
لئن كان بين الشموس ما يقرب حجمه من حجم الأرض، فإن أغلبها كبير لدرجة أن ملايين الأرض ممكن أن تدخل في أحدها وتدع مكاناً لملايين غيرها. وليس لنا أن نعجب من هذا، فلو أن قروياً لم يخرج في حياته عن بلدته لظن أن كل ما على الأرض من ماء هو من نوع الجداول والمساقي التي اعتاد أن يراها في حدود موطنه الضيق. وما أشد ما تتملكه الدهشة حين يسافر بالبحر للحجاز مثلاً أو لأوربا فإن هذه البحار التي يعبرها تحوي من الماء ملايين أمثال ما تحويه الجداول التي اعتادها
على أن ملايين الملايين من هذه الشموس تكون عالماً واحداً كعالم المجرة الذي شمسنا إحدى شموسه - ويدلنا العلم اليوم أن ملايين الملايين من العوالم تكون الكون
ينتج من ذلك أن الأرض بقاراتها ومحيطاتها هي بالنسبة للكون كشوكة من أشواك التين بالنسبة لإقليم متسع غرس فيه نبات التين، أو كقطرة من الماء بالنسبة لمجموع البحار
هذا هو مركز الأرض من الضآلة بالنسبة للكون الذي هي جزء منه. على أن هذه الملايين من الملايين النجوم تسبح في مجراها على مسافات شاسعة جداً بين الواحد والآخر بحيث يعد اقتراب واحد من حادثاً نادراً جداً
فالمسافة بين الأرض والشمس التي هي مليون مثل ارتفاع الهرم الأكبر صغيرة جداً بنسبة المسافات بين الشموس التي نتحدث عنها. ويكفي أن نعلم أنه بينما يصلنا الضوء من الشمس في 7 دقائق تقريباً فأنه يصل لنا من أقرب شمس بعد ذلك (الفاسانتور) ويسمونها (قضيب الكرم) في أكثر من أربع سنوات.
ولو أن الشمس على بعدها عنا تمثل مصباحاً في الردهة المجاورة بالمنزل فأن الفاسانتور تمثل مصباحاً في فينا أو طهران
على أن الغالب على الظن أنه أكثر من ألفي مليون سنة اقترب أحد هذه النجوم وهو في طريقه من شمسنا، وكما أن اقتراب القمر يحدث على بحار الأرض ظاهرة المد والجزر أي ارتفاع الماء في جزء الكرة وانخفاضه في الجزء المقابل؛ ويبلغ ارتفاع الماء المد قريباً من الشواطئ المصرية 30 سنتمتراً وفي الجزائر60 س م وفي فرنسا متراً أو أثنين وفي فندي في أمريكا 19 متراً و60 سنتمتراً فقد حدث في جسم الشمس مد كبير جداً يبلغ حجمه(292/65)
آلاف أمثال حجم الأرض كافة؛ وازداد اقتراب النجم فارتفع المد لدرجة سببت انفصال كتلة من جسم الشمس انقسمت إلى الأجزاء التسعة التي هي السيارات المعروفة وأقمارها وهي التي تدور من ذلك الحين حول أمها الشمس
ولو شخص القارئ ببصره إلى السماء في الليل لاستطاع أن يلحظ الفارق الكبير بين السيارات التسعة التي تكون مع الشمس مجموعتنا الشمسية وبين الشموس الأخرى، فإن ضوء السيارات كضوء القمر يبدو ثابتاً لاكتساب هذا الضوء من الشمس. أما النجوم فهي تتوهج كالشمس، وأثر هذا التوهج واضح على العين
أما السيارات التسعة فمنها ما هو أصغر من الأرض مثل عطارد والزهرة والمريخ وبليتون، ومنها ما هو أكبر منها مثل المشتري وزحل وإيرانوس ونبتون. وحجم الشمس يقرب من مليون وثلث مليون (1. 301. 200)
حجم الأرض بينما حجم عطارد 1005
من الأرض والزهرة 109 والمريخ 10016 والمشتري
1295 وزحل (وهو سيار يمتاز بطوق حوله) 745 مرة
وإيرانوس 63 ونبتون 78؛ أما بليتون فنظن أن حجمه 101
من حجم الأرض ولم يكتشف إلا منذ نحو سبع سنوات
ولكل سيار عدد من الأقمار تابع له يدور حوله، وليس لعطارد والزهرة أقمار. وقد أشرنا في الشكل إلى مواضع الأقمار بعلامة
وللأرض قمر واحد وللمريخ قمران، وكنا نعرف للمشتري تسعة أقمار، وقد كشف المنظار الجديد لمرصد مونت ولسون بأمريكا قمرين جديدين فأصبح عددهما 11، والمعروف لزحل حتى الآن تسعة أقمار ولإيرانوس أربعة ولنبتون قمر واحد
أما بليتون فلم يشاهد له حتى الآن أقمار.
وفي الشكل الأول تمثل الدائرة الكبرى الشمس وفيها دوائر صغيرة تمثل حجوم السيارات التسعة بالنسبة للشمس وترى مرتبة في داخلها بترتيب بعدها عن الشمس فأبعدها هو سيار(292/66)
بليتون إذ هو يتم دورانه حول الشمس في 252 سنة
هذه هي المجموعة التي تنتمي إليها الأرض التي تحملنا
وما شمسنا كما قدمنا إلا إحدى ملايين الشموس من نهر المجرة الذي هو عالم واحد من ملايين الملايين العوالم التي تكون الكون. ويمثل الشكل الثاني أحد هذه العوالم، وفي هذه الصورة نرى صورة ضوئية لأحد هذه العوالم وهو عالم تبدو مجموع شموسه للناظر في شكل الحلزون، ويغلب على الظن أن هذا الشكل الحلزوني لا يوجد في واقع الأمر على هذا النحو، وإنما هي ظاهرة خاصة بالعوالم البعيدة. فلو افترضنا أن في ذلك العالم البعيد كائناً ينظر إلى عالم المجرة (عالمنا) لرأى جماع شموسه في هذه الصورة الحلزونية.
وسنتكلم في المقال الآتي عن الفكرة في منشأ الحياة على أحد هذه الكويكبات وهي الأرض وعلى احتمال نشوئها كذلك على غيرها من السيارات، ونحاول على قدر الاستطاعة أن نفسر الحياة ونرى هل هي ظاهرة كغيرها من الظواهر الطبيعية مثل الإشعاع المادي والمغناطيسية أم هي أمر آخر
وقد وجدنا من الأيسر قبل أن نطرق باب الحياة ولا سيما فيما يتعلق بالإنسان أن نبدأ اليوم بوصف البيت الذي يعيش فيه قبل أن نصف صاحب الدار. وموعدنا المقال القادم
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون(292/67)
رسالة الفن
الفن الأمريكي
النحت والتصوير
للدكتور أحمد موسى
أما النحت فلا يرجع لأكثر من القرن الثامن عشر. على أن ما هو جديد بالفحص والدرس منه لا يعود إلا إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ لأن ما تم عمله منذ تلك الفترة يمكن اعتباره مقياساً صادقاً لمدى ما وصل إليه النحت الأمريكي
وأول من يمكن ذكره من رجال الفن في (الدنيا الجديدة) رجلان هما باورز نالا في بلدهما درجة من التقدير. وقد سافرا مبكرين إلى روما للمشاهدة والمعرفة، والتقيا هناك بكل من كانوفا وثوروالدسين المعاصرين لهما واللذين كانا من رجال النحت المعروفين. فشاهدا في روما واقتبسا الكثير مما فيها ومن رجال الفن الذين لم يتلقوا على مدرس أو أستاذ مع هذا أنتجوا إنتاجاً يستحق الاعتبار كرافورد وأراسموس يالمر
وكان المسلك الذي سار عليه باورز متأثراً بفن (عصر النهضة) الإيطالي والفرنسي، ولكنه مع هذا انتمى إلى مذهب الفن الواقعي الذي تجلى في منحوتاته للأشخاص بطريقة قوية دلت على المقدرة والثقة بالنفس، فجمع بين الأناقة في الإخراج، وبين القوة التي تمكن بها من إبراز الشخصية
وبالرغم من أن الاتجاه السياسي في أمريكا كان أميل إلى إظهار الروح الوطنية عند بعض الأفراد؛ فإن فن النحت كإنتاج عالم لم يخف أثر الاقتباس الأوربي الذي إليه يرجع الأصل في خلقه
ولا يمكن أن نسجل هنا مع الإعجاب خلقاً فنياً في مجال النحت إلا لمثّالين محدثين نسبياً إلى من ذكرناهم. وأول هؤلاء الذي نأتي له هنا بصورة من إحدى تماثيله الرائعة (ش. 1). ألا وهو التمثال البرونزي لتسجيل شخصية لينكولن، فترى الرجولة والقوة والاحترام متمثلة كلها في التمثال أنظر إليه وتأمل الكيفية التي وقف بها لينكولن، وبساطة المظهر الذي ارتسم على ملابسه، ثم شاهد الموضع الأنيق للذراع اليسرى والكيفية التي بها أمسكت(292/68)
اليد المعطف. هذا إلى الجانب التكوين للرأس والنظرة الثاقبة التي تجلت على العينين. ولا أبدع من تلك الوقفة حيث ترى القدم اليسرى تخطو إلى الأمام؛ أما المقعد خلف التمثال فهذا وإن خرج عما نألفه الآن، إلا أنه طابع مميز ومسجل للاقتباس كما ذكرنا وثاني نحات جدير بالذكر هو وثالثهم ماكنايل. الذي نحت ما يعبر به عن عادات الهنود الحمر من (رقص الأفاعي) و (تمجيد الشمس)
وغير هؤلاء هربت أدمز الذي وضع تصميم البناء التذكاري في أوبرن، ودانيل شيستر فرنش صاحب تمثال ميلمور وتمثال المهندس المعماري هنت في نيويورك، وله أساليب خلابة في الكيفية التي أخرج بها منحوتاته التي نذكر منها تماثيل واردوبارتردج والجنرال جرانت في بروكلين
ولابد من أن نذكر على الخصوص النحات بويل ودونج الذي يعطينا التمثال (ش - 2) فكرة عنه. أنظر إلى سفوكليس، وقد بدا نحيلاً كما ينبغي لمن وصف نفسه بالجمال والشباب، وتأمل امتداد الذراعين وجمال حركة اليدين إلى جانب الرأس
ومن بين النحاتين الأمريكيين من أظهر في صدق وقوة مقدار تأثره بفن أجنبي. وخير مثل لذلك الفنان ستوري الذي عمل تمثال (أورشليم الحزينة)، وإذا نظرت إليه (ش - 3) رأيت أن التكوين الكلي للجسم والطريقة التي جلست بها (أورشليم) والتفاصيل التي تبين ثنايا الملبس كلها إيطالية.
أما الوجه وما أرتسم عليه من كآبة فقد عبّر خير تعبير عن الحزن واليأس والاستسلام وهو ما يتمشى مع المقصود من وضع التمثال. وكان كل من روجز في نفس الاتجاه متأثراً بالفن الإيطالي
أما من تأثر بالفن الألماني فكان كل من راينهارات وإيزيكيل وكايزر، هذا عدا الفنانين الألمانيين أصلاً والذين اتخذوا أمريكا وطناً ثانياً لهم، أمثال كارل بيتر وإيزيدور كونتي ويوهان جيلبرت
سار كل هؤلاء في طريقهم تحت لواء الفن الواقعي المنتمي قليلاً حيناً وكثيراً حيناً آخر إلى فن (عصر النهضة) الإيطالية والفرنسية وقد ظهر بعدئذ فن جديد في الأفق الأمريكي لا يخالف في مظهره العالم (الفن الحديث) من حيث الرغبة في التبسيط والابتعاد تدريجياً عن(292/69)
الضوابط والمقاييس الفنية
وهذا لا يستغرب إذا تذكرنا أن العلاقة بين العمارة والنحت والتصوير موجودة دائماً، وأن البيئة التي يتأثر بها البناء هي نفسها التي تؤثر في النحت وفي التصوير
على أننا لا نريد أن نتناول اتجاهات (الفن الحديث) أو الفن المعاصر في أمريكا بالدرس والنقد لأننا قد وعدنا القارئ بمقال خاص عنه نكتبه في فرصة أخرى
أما في التصوير فإن الأثر الأوربي ظاهر أيضاً وواضح إلى حد لا يحتاج للبراهين، فقد ارتبط فن التصوير في أول أمره ارتباطاً وثيقاً بالفن الإنجليزي، وتقدم على هذا الأساس تقدماً باهراً، فما كاد ينتهي القرن الثامن عشر إلا وقد ظهر مصوران عظيمان، أولهما وست الذي سجل موت الجنرال وولف في موقعه كوبيك تسجيلاً رائعاً. أنظر إلى المجموع الإنشائي للصورة (ش - 4) وفكر في الكيفية التي استطاع بها الفنان إظهار هذه المجموعة من الوجوه الناظرة إلى الجنرال المحتضر، وكلها تعتبر عن الأسى والحزن والجزع، ولاحظ العدد الهائل من الجنود الذي يبدو كأنه ظل في مؤخر الصورة، وتأمل إلى جانب ذلك حركة الأيدي والروعة التي تجلت في الإخراج
وثانيهما جون اشتغل كالأول أيضاً بتسجيل المناظر التاريخية والوطنية وغيرهما جلبرت ستوارت ولورينج إليوت الذي اشتهر بتصوير المناظر الشخصية!
وهكذا استمر أثر المدرسة الإنجليزية في فن التصوير الأمريكي حتى النصف الأول من قرن التاسع عشر، وبعدئذ ظهر اتجاه جديد بظهور الفنان أظهر أثر مدرسة دوزلدورف الألمانية - في الصورة (ش - 5) واشنجطون واقفاً في وسط قارب صغير ازدحم برجاله، منهم من حمل العلم الأمريكي ومنهم من اشتغل بالتجديف في ماء مملوء بالثلوج. وليس هذا المنظر مما يستهان بتصويره، فهو محتاج إلى مقدرة عظيمة ودراسة عميقة لقانون الحركة الجسمانية إلى جانب صعوبة التلوين لإبراز تفاصيل الثلج والماء المتجمد
وأعقبه الفنان اشتغل بتصوير المناظر الطبيعية التي وقعت تحت نظره. وظهر أثر المدرسة الفرنسية في أمريكا بعد انقضاء الستين أو السبعين سنة الأولى من القرن التاسع عشر، ذلك بالرغم من تأسيس جمعية الفنانين في أول يونيو سنة 1877 وإنشاء أكاديميات على نمط ما هو موجود في أوربا. وهذا يدل على أن الفن الأمريكي كان أوربيّاً(292/70)
في الأصل ولم يجد منهلاً صافياً يستقى منه إلا فيها
واشتغل فريق من رجال الفن بتصوير الحيوان وعلى رأسهم وبور كما اشتعل فريق آخر بتصوير المناظر الطبيعية وحدها، وأهم هؤلاء توماس وبيتر موران الذي صور لوحته الرائعة (مزاج الغروب) (ش 6 (والتي أظهر فيها انعكاس أشعة الشمس الذهبية على صفحة الماء.
وغيرهم من هو جدير بالذكر مثل وهارت وجاي. عدا من كانوا في الدرجة الثانية مما لا يتسع المجال لذكرهم
وكان الفنان شاز من الذين أجادوا تصوير الأشخاص وتسجيل المناظر الشعبية، وكنا نود أن نأتي بأكثر من صورة لإنتاجه. ولعلنا بالنظر إلى (ش - 7) نتمكن من الوقوف على جانب من مقدرته، فقد صور الشيطان يفرغ الخمر في كاس وعلى شفتيه ابتسامة السخرية وتخصص هنري كون المناظر التاريخية كما تفرغ هومر للمناظر الشعبية البحتة التي اتصل بها واندمج فيها وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن.
وظهر جماعة من الذين انتقلوا بخيالهم المحلي إلى خيال أوسع مدى، فمنهم من نقل صورة الحياة كما هي دون تعريج على المثل العليا، ومنهم من رسم مناظر رآها في بلاد انطبعت صورتها في مخيلته، ومنهم فريق أكثر من الأسفار، وسجل كل ما شاهدته عيناه.
ولعنا نرى في (ش 8) التي صورها بردجمان خير دليل على انتقال الخيال، لا إلى (الدنيا القديمة) بل إلى الشرق! سمى هذه الصورة (على باب الحريم) فصور مدخلاً تعلوه (مشربية) لبيت على الطراز العربي واهتم بإبراز الزخرفة والنقش كما حرص على تصوير امرأتين إلى يسار الباب، وقد جلست كل منهما تعرض ما تريد بيعه، وأمام المدخل سيدتان جاءت أحدهما على ما يظهر في الصورة راكبة حماراً وقف بالقرب منهما وبجانبه صاحبه. والمجموع إنشائي رائع لا يستطيع تصويره إلا المتمكن.
وترى على اليسار شجرة اللبخ الكبيرة وقد وقعت ظلالها على حائط البيت، وجلس إلى اليسار بعض الصبية أمام شباك الكتاب).
هذا ولا يفوتنا أن نذكر مورلروبيرس وويكس ممن ينتمون إلى المدرسة الباريسية في أوائل القرن العشرين.(292/71)
أما بعد الحرب العظمى فقد سرت موجة جديدة غيرت معالم الفن القديم، سيكون الحديث عنها ضمن مقالنا الخاص بالفن الحديث.
احمد موسى(292/72)
الأستاذ محمد عبد الوهاب
من الوجهة الفنية
لم يخدم (الحظ) في دنيا الموسيقيين أحد كما خدم عبد الوهاب، ولم
يتطوع الزمن في ركاب كما تطوع في ركابه حتى أبدله نعمى بيؤس،
ويسراً بعسر. . .!
هو من صدور (الملحنين) في الشرق، ولكنه سيد المطربين فيه. بز القدماء بقديمة، وعز على قرنائه بجديده وتجديده.
سما بالموسيقى سمواً كبيراً حتى جعل منها شيئاً محترماً، وارتفع بمنزلة (المطرب) ارتفاعاً عظيماً حتى أصبح العظماء يتوددون إليه بعد أن كانوا يحسبونه مهرجاً لا أكثر. . .!!
صوت رخيم جميل، ولعله أسلم أصوات مطربينا وأقدرهم على التطريب الحق الذي يأسر النفس، ويملك الحس. لا نستطيع أن نقول عنه إنه غني (بتريولاته) ولكننا نستطيع أن نقول إنه غني بالطاعة لصاحبه، والخضوع لكل أوامره ونواهيه
يبلغ أربعة عشر مقاماً (أوكتافين)، خمس مقامات (تينور) ثقيل، وتسعة مقامات (بريتون) تقريباً كلها سليمة قوية واضحة لامعة
لا يرتجل، ومع كل ذلك فهو (يشتغل)! ويشتغل شغلاً عجيباً يدر عليه الآلاف المؤلفة. والسر في هذا أنه لا يؤمن بالتصرف ولا بالارتجال، ولا يغني إلا بعد أن يكون قد لحن الكلام وجربه أكثر من عشرين مرة مع رجال تخته. فإذا طلبت منه (مقطوعة) له قديمة غناها كما سجلها دون تصرف أو خروج كالأسطوانات تماماً. . .!
يحب فنه أكثر مما يحب نفسه؛ ولذلك لا تعجب حينما تعرف أنه لا يرى بأساً من مواصلة ليلة بنهاره ونهاره بليله ملحناً وعازفاً دون أن يراعي صحته الضعيفة! درس (الصولفيج) دراسة طويلة، وهذا ما أفاد صوته كثيراً، ولكنه مع هذا لم يستطع أن يسجل لنفسه لحناً واحداً (بالنوتة) بل يستعين في ذلك بالأستاذين جميل عويس، وعزيز صادق
هو أول من أدخل على التخت العربي آلات الكونترباس. . . الفيولانسيل. . إلاكورديون الكاستنيت. . المثلث النحاسي. . النقرزان. . .(292/73)
له مدرسة واسعة تضم أغلب الشرق مطبوعة بطابعه، ملونة بلونه، لا تحب إلا إياه ولا تستسيغ إنتاجاً إلا إنتاجه وكفاه فخراً أنه (متبوع) أبداً فلا يكاد يخرج شيئاً جديداً حتى ترى بعض الملحنين الذين يتعقبونه ويترسمون خطاه قد حاكوه وقلدوه. فالموسيقى العربية لم تكن تعرف أو لم تكن تعترف بالرومبا، والتانجو، والكاريوكا. فلم يكد يمصرها يخضعها للذوق الشرقي حتى تهافت عليها غيره كالذباب عدداً وهم يحسبون أنهم ملحنون مجددون كعبد الوهاب
تدين له الموسيقى بالشيء الكثير؛ فهو وإن كان لم يخلق كبتهوفن، ومونسارت، وفجنر، وهندل، ودي لاسو (مثلاً) إلا أنه جدد، وجمع من هنا وهناك بذوق سام حتى خلع على الموسيقى إهاباً قشيباً متيناً! أصبح الآن (مقلاً) لدوجة تبعث على النقد؛ وهو يحتج بتفرغه للسينما ولكننا لا نعفيه من اللوم، فالمال لا يدوم، وإن دام فالسمعة وحب الشعب والمجد والشهرة، كل هذه الأشياء لا يغذيها إلا العمل، والعمل المتواصل الذي يمدها بالحياة.
سن للمطربين سنة (الطراوة والاسترخاء، والدموع) فقلما يغني شيئاً حماسياً أو وصفيا، بل أغلب أغانيه غزلية فحسب فإذا سألته السبب قال: إن الشعب لا يحب ولا يشجع إلا هذا اللون، وما درى أنه وحده الذي يقع عليه أغلب هذا الوزر. المعروف أن المغني الحق هو الذي يقع لا يعرف إلا فنه، وفنه فقط ولكن عبد الوهاب أراد أن يخالف هذه النظرية فعرف الفن وغير الفن، وتأثر بميول ضد ميول وقد عرف عنه ذلك ومع ذلك كل فهو يصر على لونه. . .
إن الفن موطنه السماء؛ ومن في السماء فوق الجميع وللجميع. فمن ترك فنه وسماءه ليعيش فوق الأرض جرفه التيار الذي لا يرحم
محمد السيد المويلحي(292/74)
القصص
من مآسي التاريخ
مصرع الدون كارلوس
للأديب محمد محمد مصطفى
قال الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه (تاريخ المؤامرات السياسية)
(. . . ما أفاضت سيرة من سير القصور في القرن السادس عشر على دولة الخيال والشعر قدر ما أفاضت سيرة الدون كارلوس، وما تبعت قصة إلى النفس من روعة وكآبة قدر ما تبعث أساطير هذه القصة العجيبة
وأي سيرة أدعي للروعة والوحشة من سيرة ملك يقضي بالموت على ولده لمؤامرة قيل إنه دبرها لقتله. ثم يذهب في بطشه إلى حد تنفيذ هذا الحكم
هذا ما يحفظ التاريخ من سيرة فيليب الثاني ملك أسبانيا وولده الدون كارلوس)
فوجئ الأمير بتحية صدرت إليه من خلفه، فاتجه ببصره إلى مصدر الصوت فرأى صديقه الأمين الكونت (أجمونت). . . فقل اضطرابه قليلاً وسأل الكونت:
- أتبعك جواسيس الملك الليلة يا كونت؟
فابتسم هذا في خبث وأجاب:
- أبداً يا مولاي، فقد ألحت صورة الخمر على أعينهم فرنق بها الكرى فدلفت إلى جناحك من الباب الخلفي بعد أن تخطيت الأهوال في اجتياز الحدود سراً. . .
- أبخير أتيت؟
- فأجاب والابتسامة لا تفارق شفتيه:
- بكل خير
- ثم أخرج الكونت منة ثنايا ثوبه ورقة نشرها أمام ولي العهد، وجعل يمر عليها بإصبعه هامساً للأمير:
- بين شعاف هذه الجبال يا مولاي ستمكن قواتي، فإذا ما جن الليل انضمت إليها قوات أمير أورانج تتبعها قوات الكونت هورن. وعلى سموك اجتياز الحدود سراً مساء منتصف(292/75)
مايو القادم لتعودوا على رأس هذه الجيوش إلى أسبانيا لتثل بها عرش هذا الشيخ الذي لم يتورع الليلة عن الزواج بطفلة في سن حفيدته
- وحمل الدون كارلوس آماله وأحلامه، ومضى بها إلى حديقة القصر الملكي يرسل بين الحين والحين صفيراً خافتاً حتى عثر بين الخمائل على دوحة استذرى بها حتى لا يناله برد الليل إن غلبه النوم تحتها
وتسربت خيوط الفجر من ثوب الليل، ولما يغمض لعروس الملك جفن، وتشعر الفتاة لرؤية عريسها الشيخ الذي يغط إلى جانبها بهم يجثم على روحها، فتتسلل مارقة إلى حديقة القصر الملكي، وتسير بين رياضه على غير هدى. . .
سارت بين الخمائل تناجي النجوم وقلبها الغض يخفق في عالم مجهول. ثم أفلتت منها صرخة خافتة إذ رأت أمامها شاباً كأنما قد تثاءبت عنه الأرض
- ترى بعثت روعة هذا الفجر في نفسك الاكتئاب أيها الشاب؟
- وي. . . من أنت. . . ومن أي فردوس فررت يا فتاة؟
فيشرق الابتسام على ثغر الفتاة وتقول للشاب الماثل أمامها في سذاجة الطفولة ومرحها:
- الملكة. . . ومن أنت؟ فيقف الدون كارلوس في تؤدة ويشخص ببصره إلى الصبية يعبث الهواء بشفوف نومها فيبرز الصغيران، ويظهر تقاسيم وجهها الفتان، ويتمتم الشاب في خفوت:
- عروس أبي. . . أقصد الملك. . . وإلى أين؟
- إلى الفجر وسحره
ويأسى الأمير لهذا الجمال الذي سيذوق في ظل والده الشيخ ويدرك من حديثها نقاء سريرتها فيدرج بها على العشب النضير هْوناً. . . يتسامران فتجرده من قلبه ولبه، ويأخذها بشبابه وحبه، ويبدو لها وجه الشيخ بلحيته المرسلة كأنه شيطان مريد، وتنظر إلى ولي عهده فتدخل من عينيه الجميلتين إلى جنة الحب، ويخفق له قلبها الغض المتعطش إلى الغرام. . .
وفي غفلة من الدهر كانا يختلسان اللقاء على الربى وبين الخمائل، فهي لا تعرف السعادة إلا في قلب الفتى الحبيب، وهو قد تدله بها فلا يعدل بقبلاتها المسكرة ما في بطون الأرض(292/76)
وعلى سطحها من أذخار وكنوز. . .
وينظر الملك إلى طول لبثها في الحديقة فيرتاب ويحوطها بعيونه فتنتقل إليه الأخبار. . .
وعلى إحدى الربى وقف الملك مستتراً يرى العاشقين الصغيرين وكيف ينهلان السعادة ويستمتع إلى وسوسة قبلاتهما الناعمة فيحرق الأرم ويستجمع ما تبخر من صبره ويولي عنهما هامساً بينه وبين نفسه:
- ليكن هذا بينهما لقاء الوداع ويتأوه من أعماق نفسه ويهتف:
أما وقد بليت أيضاً بحبها فستعيش هذه الفتاة لأن قلبي يريد لها الحياة. . . أما هذا الوغد. . . وهدد بقبضته في الهواء ومضى لسبيله في طريق القصر
وراح ولي العهد يستعرض أصدقاءه ليختار من بينهم من يمده بخيل يرحل عليها خفية إلى الحدود، فيقع اختياره على مدير البريد. . .
ويشفق مدير البريد أن ينكشف أمره فتناله يد الملك، فينقل إليه رغبة الأمير. . .
ويأمر الملك بالقبض على ولده وإيداعه السجن، فتضبط أسلحته ونقوده وأوراقه التي دلت على مشروع محاولة استيلائه على الأراضي السفلى ودحر الملك ثم الجلوس على عرش أسبانيا. فأبلغ الملك الحادث إلى الجهات الكبرى وانتدب محكمة عليا برياسته المحاكمة ولده
كان سجن الأمير غراماً على نفس الملكة فطوت جوانحها على حرق حبه، وأضحت ذاهلة وانية ترى القصر كأنه قطعة من الجحيم، وعزفت عن الطعام حتى رق جلدها وشحب لونها ولقد تتحامل على نفسها التطوف بمجالس غرامها وأعشاش حبها تدب في رفق كأنما قد حطمت قواها السنون، فإذا جلست في مكان ضمهما يوماً خيل إليها أنه إلى جانبها يضمها ويحنو عليها فتخشى أن يكون ذلك وهماً فتتحسسه بيديها فلا تقع على شيء فتقف فزعة وتحوم حول نفسها وتسقط صارخة:
- يا كارل. . .
فتردد جوانب القصر صيحتها:
- يا كارل. . .
وكان صفاء عينيها الجميلتين وتدلهما ينمان عما تكابده من حر الحب وبالغ الوجد
وينظر الملك إليها فيراها متلفة آيسة وقد أطفأ الحزن بريق عينيها فين هدم لها قلبه انهداما(292/77)
ويسألها عن سر وجومها واكتئابها فتنفجر باكية وتجثو عند قدميه.
ويعلم الملك أنه الحب فيستضحك حتى تبدو نواجذه ويمسك بيديها الصغيرتين لينهضها فتأبى إلا أن يسمع لشكاتها. . .
- خير. أأستنزل لك من السماء نجما تقرين به عيناً يا طفلتي الحبيبة؟
- أتقسم على طاعتي فيما أرجوه منك.
- لك هذا.
- أن تطلق سراح ولدك.
- فأربد وجه الملك وعبست أساريره وأشاح عنها قائلاً:
- أشغفك حباً ذلك الولد الغر؟
- حباً ملك عليّ نفسي
- فلم لا تدفعين هذا الحب عن قلبك وهو لم يزل بعد وليداً؟
- إنه ولد عاتياً قوياً
- فلن أفرج عنه إذاً أبداً. وسأجعل من جسده للطيور طعاماً شهياً. . .
ويظلم الفضاء في نظر المسكينة وتقول وما تملك نفسها:
- فإذا ما قلت لك إني سأقضي على نفسي وأحملك وزري إن مسته بسوء؟
ففكر الملك ثم فكر. . . وفتقت له أفكاره حيلة
فدنا منها وقد زال أثر العبوس من وجهه قائلاً:
- إنني لم آمر بسجنه يا صغيرتي إلا لدفع بغيه عني، ولئن أطلقته ختر بميثاقه وأعاد المؤامرة بعد أن قتلتها في مهدها
- سيفيد من درسك هذا له عبرة
- أفتجعلين من ذمتك عهداً ألا يعيد الكرة؟
فأبكاها فرط السرور لقرب انتصارها ومدت إليه يدها باسمة
- هذا عهد فرقت لها نفس الشيخ وقال:
- إني أعدك بالحكم ببراءته
- فهزتها نشوة الفرح وطوقت عنقه قائلة:(292/78)
- هل قلت إنك ستبرئه؟
فطرب الملك لعناق فتاته وأعاد القول باسماً: لك هذا
وفي هدأة الفجر تسللت عروس الليل على أطراف قدميها وقلبها يخفق ويدها عليه. . . حتى إذا ما اجتازت الباب السري ركبت عربة كانت تنتظرها خارج القصر وانطلقت بها في مسارب الوادي لتنقلها خفية إلى سجن الحبيب
وما اقتربت الملكة من باب السجن حتى تخلى عنه حراسة، فطوقت سلالم القبو أربعاً أربعاً. . .
وألفت حبيبها الموموق مكباً على نضد عتيق وقد سقط رأسه الجميل على صدره تتناوبه فورات اليأس والحمى؛ فلما رأى الملكة انتعشت نفسه وصاح: إيزا
- كارل
وألقت نفسها بين أحضانه وأهوت بقبلاتها على فمه وشعر الدون كارلوس بأنه في حاجة إلى الحياة عن ذي قبل وأحس أن قوة هرقل قد حلت فيه وأن قوى العالم لن تستطيع إفلاتها من بين يديه ولو تكالبت عليه جميعاً وكان بعضهم لبعض ظهيراً
ولم يخف افترار ثغرة عن عين طفلة الحبيبة ما رسمه الأسى على وجهه وما يلاقيه في غياهب سجنه. فانتشرت نفسها عليه رقة ورحمة وأرسلت من عينيها عبرات حرارا. . .
قال الدون كارلوس:
- لم البكاء يا إيزا وهو يتلف عينيك؟
- ومن أحرى منى بطول البكاء؟
- أنا. . . لهول ما أفكر فيك ولفرط ما عاث الحب في قلبي وأماتني حياً لبعدك بينا يحيا هذا العجوز الحيزبون بين أعطافك ناعماً بجمالك مخفرجاً في ظلك؟
ففاظت عيناها بالدمع فحبس عبراته وكبت عاطفته، ولم تشأ أن تخبره بوعد الملك لها بتبرئته لعدم ثقتها بتنفيذ هذا الود وخشية أن يظن الدون كارلوس أنها خدعته إذا ما حنث الملك بوعده حتى إذا أشرقت غرة الصبح انتزعت نفسها من بين أحضانه وعادت إلى القصر تتأوه قلبها المعذب المفؤود
سيق الأمير إلى قاعة المحاكمة وقد بدا على وجهه الساهم علائم العناء.(292/79)
فلما رآه الملك عبس في وجهه وبسر. وأخذت عينا الملكة الجميلتان ترسلان الدمع مدرارا فتنضو عن صدرها الجميل ثوبها لتخفيه فيه وتقدم الدون كارلوس تنوء قدماه بحمل جسمه الواني حتى انتهى إلى مقعد أعدله فجلس عليه وأخذ يردد الطرف بين الملك حيناً وأعضاء المحكمة أحياناً فيرى على وجوههم مسحة الجد والاهتمام.
وقطع الملك رهبة السكون حيث أمر بابتداء المحاكمة فوقف المدعي (البرنس إيفولي) وألقى بياناً مسهباً عن محاولة الدون كارلوس الاعتداء على الذات الملكية بوضعه مشروعاً لاغتيال أبيه ومحاولته انتزاع الأراضي السفلى، واختتم بيانه بطلب إعدامه فتحرك الملك في مقعده قليلاً وقال بصوت هادئ:
- ألديك ما تقوله يا كارلوس؟
فنهض الدون كارلوس متثاقلا وقال بثبات:
إنني لا آنس في وجه أحدكم رأفته ولا رحمة، وكلكم كشقي مقص الفناء، كل يتمم للأخر مهمة القضاء عليّ؛ بيد أنني أود أن أتلقى حكم إعدامي من شفتين غير شفتيك، فهل لي أن أرجو المحكمة أن تنطق مليكتي بهذا الحكم؟
فرد المدعي قائلاً:
- ولكن الملك رأس الدولة ورئيس المحكمة فهتف الدون كارلوس:
- والملكة جسم الدولة فهل تعيش رأس بلا جسم؟ فاشتد غضب الملك وموجدته على ولده وتهامس قليلاً مع الأعضاء، ثم اعتدل في جلسته ونطق بالحكم
ودوى حكم إعدامه في أذن الملكة كهزيم الرعد فاستهولته وهبت عجلانة إلى الدون كارلوس فاحتضنته وأخذت ترسل من عينيها إلى الملك شرراً كالقصر وهتفت صاخبة:
- ألا أيها العجوز الحانث بوعده. . لن تناله بأذى حتى تمر على جثتي. . . فلتأت أنت وحرسك وجندك فإني لكم وصمت الملك قليلاً ثم قال:
- انظروا كيف تدافع الملكة عن عشيقها الفاجر. . . وأشار إلى جنوده فانتزعوه منها حتى إذا بلغوا به السجن ألقوه فيه في انتظار تنفيذ الحكم
وانصرف أعضاء المحاكمة تاركين الملك والملكة وحدهما فجثت إيزا تحت قدميه جثو الراهب في محرابه وأخذت تستعطفه في ذلة وانكسار أن يرد على ولده حياته وأن يقف(292/80)
تنفيذ إعدامه وأعطته موثقاً ألا تلتقي به بعد اليوم إن أجاب سؤلها ولكنها كانت تستدر القطر من الصخر، وتبذر الحب في المهمة القفر. . .
وشدد الملك الرقابة على السجين حتى لا تلقاه الملكة فتدبر لفراره أو تحاول إنقاذه. فتبدلت في عينيها وضاق أمام نظرها فضاء الأرض التي لم تتسع على رحبها لحبيين فعزفت عن الطعام وتساقطت نفسها حسرات عليه
وأومأ الملك إلى طبيب القصر أن ينفذ بنفسه الحكم على أن يبقى شرف الأمير مصوناً وانخلع قلب الملكة لسماعها نبأ إعدامه بجرعة سم دسها إليه الطبيب، فعصفت برأسها نوبة جنون جرت على أثرها حافية القدمين إلى السجن. . . ومنعها حارس الباب فبكت إليه وتوسلت فقال الحارس إن أوامر الملك مشددة. . . فهوت بشفتيها الرقيقتين الناعمتين على قدمي الحارس الموحلتين فتركها تمر وقال:
ليفعل بي الملك ما يشاء
ووجدت جثة الحبيب مسجاة على فراش خشن فأخذت رأسه الجميل بين يديها وشخصت ببصرها إليه فكان في غفوته الأبدية كطائر الأفنان؛ وسكنت حتى لقد خيل لمن رآها أن روحها قد تسللت من جسدها تاركة وجهها على هذه الصورة الجامدة
واختلط عقل الفتاة المسكينة فكانت لا ترى إلا في الطريق لقبره ذاهبة أو عائدة، وأرقت فلم تعد تنام إلا لماما
وهاجها الوجد إليه فجر ذات يوم فقامت إلى قبره بفأس تريد اقتحامه وأخذت تحطم رخامه وتكتشف عنه التراب حتى إذا انفتحت لها فيه فجوة أدخلت فيها يديها ورأسها وأخذت تعالج غطاء ناووسه حتى رفعته فانهال عليها حجر كبير فسقط رأسها الجميل على صدر حبيبها ولفظت آخر أنفاسها.
محمد محمد مصطفى(292/81)
البريد الأدبي
انتهاء الدورة السادسة لمجمع فؤاد الملكي
عقد مجمع فؤاد الأول اللغة العربية في الأسبوع الماضي آخر جلسة من جلساته في هذه الدورة (وعددها 25) وعقد في المساء جلسته أكمل فيها بعض الدراسات التي يضطلع بها
وشهد الجلسة الختامية الأعضاء جميعاً، عدا أربعة منهم، هم حسن حسني عبد الوهاب باشا، وقد اعتذر من عدم حضور الدورة كلها، والأستاذ أحمد احمد العوامري بك، والدكتور فيشر بسبب تغيبهما لمرضهما، والأستاذ جب إذ سافر إلى وطنه إنجلترا منذ أسبوع
وقد أتم المجمع في دورته السادسة طائفة كبيرة من المصطلحات العلمية قاربت الألف
فأنجز في علوم الأحياء زهاء 250 مصطلحاً، وفي علوم الطبيعة
نوع الحرارة زهاء 200 مصطلح، وفي الموسيقى حوالي 250 مصطلحاً، وفي علم الهندسة نحو 200 مصطلح
وأرجأ إلى الدورة القادمة قسماً كبيراً من المصطلحات في شتى العلوم وفي الاقتصاد السياسي. وستضم المسائل المؤجلة إلى ما تضعه لجان المجمع في الفترة القائمة بين الدورتين الحاضرة والقادمة
أما المصطلحات العسكرية فكان المجمع قد كتب إلى وزارة (الدفاع الوطني) يطلب إليها أن توافيه بما قامت به في شأن المصطلحات العسكرية التي سبق أن وضعتها اللجنة المختصة، غير أنه لم يتلق رد الوزارة حتى الآن. وستنتظر اللجان المختصة هذا الرد لتعد بمساعدة الخبير الحربي المختص ما يمكن وضعه منها تمهيداً لعرضها على المجمع في الدورة المقبلة
ويرى كثير من حضرات الأعضاء ضرورة الأشراف على وضع المصطلحات العسكرية في صيغ عربية صحيحة، استكمالاً لظاهر الاستقلال القومي، وحرصاً على استخدام لغة الدولة
المصطلحات الطبية
كان من أهم الدراسات التي قام بها المؤتمر الطبي العربي، موضوع المصطلحات الطبية في اللغة العربية. وقد رأس الجلسة التي دار فيها بحث هذه المسألة حضرة صاحب العزة(292/82)
محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف. وقام بأعمال سكرتيريتها صاحب العزة للدكتور عبد الواحد الوكيل بك
وقد أدلى الدكتور الوكيل بك عن الجهود التي قامت بها الجمعية الطبية المصرية في هذا الشأن، إلى أن انتهت بالقرار الذي اتخذه مؤتمر بغداد وهو أن تتصل الحكومة المصرية بجميع البلاد العربية لتأليف لجان البحث المصطلحات والقواميس والمجموعات اللغوية الطبية الموجودة في كل منها، على أن تؤلف لجنة عليا، وتجتمع، في مصر شهراً أو أكثر من كل سنة لاختيار أوفق تلك المصطلحات، بحيث تكون قراراتها ملزمة للجامعات والكليات والمؤلفين والأساتذة في التدريس
وقد ذكر سعادة الدكتور على إبراهيم باشا في هذا المقام قراراً أصدره مجلس كلية عقدت قبيل العيد يتضمن إدخال اللغة العربية بالفعل لتدريس بعض الفروع على أن تكون الإجابة باللغة العربية إجبارية عن الأسئلة التي تلقي في الامتحانات في موضوعات الطب الشرعي والقوانين واللوائح الصحية المصرية. كما قرر المجلس تكليف الأساتذة المصريين بكلية الطب تلقين الطلاب التقارير الطبية باللغة العربية في أثناء تدريسهم العلوم التي تقدم ذكرها باللغة الأجنبية وأشار سعادة الرئيس في هذه الجلسة إلى جهد وزارة المعارف في صدد تعزيز صلات الثقافة والعلم بين مصر والبلدان الشرقية، وأنه قد أنشئت لجنة لهذا الموضوع مضت في طريقها شوطاً بعيداً وقد قرر المؤتمر في هذا الموضوع التوصية بإبلاغ قرارات لجنة المصطلحات إلى مجمع (فؤاد الأول) للغة العربية حتى لا تتعارض أعماله مع قرارات المؤتمر
مدينة في مسقط لا يعرف العالم عنها شيئاً
وصلت البعثة الجيولوجية التابعة لشركة النفط العراقية إلى البصرة وبدأت أعمالها في الأراضي الواقعة في جبل سنام ويقوم مدير البعثة بتعين المواقع المراد حفر الآبار فيها
وقد صرح المدير انه قبل وصوله البصرة، قام بجولة جوية في سلطنة مسقط، اكتشف في أثنائها مدينة آهلة بالسكان ولا يعرف أهل هذه المدينة شيئاً عن العالم كما لا يعرف العالم عنهم شيئاً. وقد ظهر للبعثة التي ارتادت تلك المنطقة للبحث عن النفط أن جبل الأخضر المعروف في مسقط لم يكن سوى كثبان رملية كانت السبب الأول في جهل هذه المدينة(292/83)
واعتقاد الناس بأنه جبل حقيقي تنتهي عنده أطراف تلك البلاد من سلطنة مسقط
معرض المثالين الفرنسيين المعاصرين والمثال مختار
دعت جمعية محبي الفنون الجميلة بعد ظهر الجمعة الماضي رجال الصحافة والفن إلى زيارة معرض المثالين الفرنسيين المعاصريين والمثال مختار بعد أن انتهت من تنسيقه وأعدته للافتتاح. فلما اكتمل عقدهم في الساعة الرابعة والنصف ألقى عليهم المسيو جورج جراب أمين متحف رودان في باريس كلمة استهلها بالإشادة بذكر مصر مهد الحضارة والفنون ولا سيما فن النحت، ثم تكلم عن الفنانين الفرنسيين أصحاب التحف المعروضة
وقد اشتمل هذا المعرض على حوالي 140 قطعة تعد من آيات النحت في العالم منها 28 تحفة للمثال العظيم رودان (1840 - 1917) الذي يعد بحق في مصاف فيدياس نحات اليونان العظيم وميكائيل انجلو الفنان الإيطالي الشهير في عصر النهضة بأوربا
أما بقية القطع فهي لتلاميذ رودان مثل بورديل وديسبيو ومايول وبومبون وديجا الذين يؤلفون مدرسة النحت الحديثة في فرنسا وهى المدرسة التي بلغت أوج العظمة في هذا الفن
وتدل مجموعة تحف رودان على ما امتاز به من مقدرة فائقة على تصوير الحياة في تماثيله، فتسجل للخلود الخواطر المضطربة من عقائد دينية أو حب الوطن أو الحنان الأموي أو لهيب الغرام أو الحقد الدفين أو التفكير العميق وغير ذلك من مظاهر الحياة
وقد نسج تلاميذه على منواله حتى كاد بورديل يضارعه في المقدرة، كما امتاز بومبون بتماثيله عن الحيوان فأودعها من الفن والبراعة كل ما يمكن أن يمثل في الطين والشمع من حياة
وقد رأى المسيو جراب منظم المعرض أن يعبر عن شعوره نحو صديقه مثال مصر المرحوم مختار فخصص جانباً من المعرض لتحف مختار فعرض منها 34 قطعة كانت دليلاً ساطعاً على أن صانعها أول من وفق من النحاتين المصريين المعاصرين للبروز في هذا الفن فكان خير خليفة لأسلافه النحاتين المصريين الذين سموا بفن النحت في عهد الفراعنة إلى ذروة النبوغ
وقد وفق المسيو جراب في عرض تحف مختار مع تحف الأساتذة الفرنسيين الذين أحاطوه بمحبتهم وتقديرهم(292/84)
وأعد للمعرض دليل واف باللغتين العربية والفرنسية اشتمل على نبذة تاريخية عن تطور فن النحت وبلوغه حدا الكمال في هذا العصر في فرنسا، ويلي ذلك وصف مختصر لكل قطعة من المعروضات
تاريخ كلمة أدب
كتب الدكتور عبد الوهاب عزام بالعدد 291 من الرسالة بحثاً قيماً في (تاريخ كلمة أدب) تتبع فيه مراحل استعمال هذه الكلمة إلى عصرنا هذا، في دقة العالم الباحث وإمتاع الكاتب الأديب. بيد أنه قال في افتتاح البحث لا نجد (كلمة أدب) فيما بين أيدينا من الكلام المأثور عن الجاهلين) الخ. . .
ولما كنت قد رأيت هذه الكلمة في كلام جاهلي فقد رجعت إلى مظانها، فرأيت أبا على القالي في الجزء الثاني من الأمالي (ص 104) يورد قصة زواج أبى سفيان بن حرب من هند بنت عتبة. وصف عتبة لأبنته هند أبا سفيان فجاء في وصفه: (يؤدب أهله ولا يؤدبونه) وجاء في رد هند: (وإني لآخذه بأدب البعل مع لزوم قبتي وقلة تلفتي)
وقد أشار إلى ذلك الأستاذ محمد هاشم عطية في مطلع كتابه (الأدب العربي وتاريخه) في نفس الموضوع وبعنوان (تاريخ كلمة أدب). وللدكتور عزام تحيتي وإجلالي
(ع. ح. خ)
غريب
قرأت في عدد 289 من (الرسالة) مقالاً دبجته براعة الأستاذ عمر الدسوقي وقد أعجبني الشعور النبيل والثورة للكرامة المهانة والدفاع عن القومية المثلومة
وأود أن ألفت النظر الأستاذ إلى الغلطة الكبرى التي وقع فيها. إنه دافع عن نفسه خير دفاع وأبان حقيقة المدنية المصرية إبانة لا ينكرها عليه عاقل، ولكنه حط مقام شعوب لها كرامة تعتز بها وقومية ومدنية حافلة زاهرة، فإنه تبرأ من أن يكون (زنجياً أو هنديا ًأو نوبيا ًأو حبشياً) وذلك ظاهر في كلام الأستاذ الفاضل، إذ يقول: (بل إني مصري، تجري في عروقي أنبل الدماء وحسبك أن تعرف أننا من أرقى الشعوب مدنية وحضارة قديماً وحديثا ًولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين(292/85)
الازدراء والامتهان وبعدهم دونه في الذكاء والمدنية)
إنني لست في مقام جدال، وفي هذا الموضع لا يمكنني إلا أن أذكر الكاتب الهندي كاراكا وكتابه (إلى الغرب) فإن هذا الشاب عند ما كان يدافع إنما كان يشمل قضية المهضومين كلهم ولا يفرق بين اسود وأدكن وأسمر وقمحي. كلهم سواء استعبدوا واستذلوا ظلماً وعدواناً. وكان الأحرى بأستاذنا أن يحذو حذوه ويدافع عن (قضية الظلم والاستعمار والاستعباد)
لا شك في أن القوم هناك ينظرون إلينا (الملونين) بعين ازدراء والاحتقار ويعتبروننا أقل ذكاء وعقلية منهم، ولكن العلم الحديث برهن على خطل هذه النظرية التي روجها بعض (العلماء التجار) المغرضين كي يجعلوا له حقاً سماوياً منزلاً لاستعباد الشعوب الضعيفة واستعمارها
إن الدافع الذي أملى على الأستاذ كتابة المقال، هو نفسه الذي حفزني لأن أسطر هذه الكلمات التي لا تفي ولكنها تذكرة. إن الحبشي لا يقبل أي إهانة لوطنه، والهندي لن يرضى بطعن في عقليته أو وطنيته. ولا أدري كيف زل قلم الأستاذ هذه الزلة فإن النوبيين قد مصريو الأصل. . . وربما رد الأستاذ هذا القول بقوله إنهم سودانيون. . . وفي هذه الحالة ستزداد دهشتي لأن المعروف لدينا أن مصر والسودان قطر واحد، ولكن السياسة المغرضة جزأته ولعبت فيه ما شاء لها، وأرجو أن يعمل العاملون لرتق هذه الثغرة. والغريب أن كثيراً من فقرات المقال ينافي قوله هذا!
الخرطوم)
(م. ح. ب)
الأندلس الجديدة
لما أخذ الأسبانيون يكتسحون البلاد الأندلسية فلا يدعون في واحدة منها أثراً لما كان فيها للإسلام من سلطان وحضارة اهتزت البلاد الأخرى واضطرب سكانها فارتفعت الأصوات من كل جانب تدعو ملوك المسلمين وأمراءهم لنصرة إخوانهم الأندلسيين. ودفع عادية الأسبان عن بلادهم.(292/86)
فلما لم تلق الدعوة مجيباً، ولم يتقدم أحد من ملوك المسلمين. منفردا - بنجدة - ولا كان بينهم من الاتحاد واجتماع الكلمة - ما يجعل لهم - مجتمعين، قوة يستطيعون بها للأندلس إنقاذاً - نفذ القضاء وتم للأسبان فيها ما أرادوا.
عم الأسى، وشمل الحزن جميع المسلمين. ففاضت ألسنة شعرائهم وخطبائهم قصائد وخطباً - لا تزال تملأ الكتب وتبعث في النفوس أليم الذكريات - في رثاء الأندلس، والتفجع لمصابها،
أما اليوم فالمسلمون يشاهدون (طرابلس الغرب) تقتطع من بين أقطارهم لتصبح إيطاليا الأفريقية، وتمحي منها آثار العروبة والإسلام لتقوم على أنقاضها صروح الحضارة الرومانية، ويستبدل بإخوانهم فيها عنصر لا يمت إليهم بصلة، ولا يحمل لهم غير البغضاء والطمع فيما يتصل من أوطانهم شرقاً وغرباً بطرابلس الغرب
يشاهدون كل هذا متفرجين، ويقرءون أخباره في الصحف ولكن كما يقرءون أخبار حوادث الشرق الأقصى أو أمريكا الجنوبية، لا يثور فيهم اهتمام ولا يهتز لهم شعور ولا ترتفع بينهم أصوات حتى بالاحتجاج والاستنكار
فهل ينتظرون أن يغمرها الخطب وحينئذ ترتفع أصواتهم ولكن بالرثاء والتفجع والبكاء على الأطلال - أطلال العروبة والإسلام الدارسين - في طرابلس الغرب:
يا طالبي وحدة الأوطان هل طرقت ... أبواب آذانكم ذكرى طرابلُس؟
أيصبح العرب (طلياناً) تضهم ... (روما) و (مكة) في صمٍّ وفي خرس؟
(غزة)
محمد خلفة شعبان الطرابلسي(292/87)
الكتب
أقلام الناشئين
للأستاذ فليكس فارس
أمامي كتابان نشرهما الشيخ أحمد جمعة الشرباصي، الأول بعنوان (حركة الكشف) صدر منذ سنتين، والثاني بعنوان (محاولة) صدر في هذا الشهر
ولقد رأيت في هذين الكتابين من روعة الإنشاء ودقة الشعور والنضوج المبتسر ما أهاب بي إلى إرسال كلمة فيهما
إن المؤلف يرمي في كتابه الأول إلى إظهار ما في نظام الكشافة من محاسن وفوائد، داعياً إلى تكوين فرق تعمل بهذا النظام من الشبيبة المنتسبة إلى المعاهد الأزهرية، مستنداً في دعوته هذه إلى أن تقويه الناشئة، وتعويدها الصلابة والطاعة وتدريبها على توحيد الحركة والسير نحو هدف واحد في غاياتها الأخلاقية، إنما هي جميعاً من قواعد الإسلام الأساسية. فلا يمكن أن يعد تكوين هذه الفرق في المعاهد الدينية بدعة أو اقتباساً لطريقة تخالف العقيدة، أو تشذ عن التقاليد الموروثة عن السلف الصالح
ومما تجدر الإشارة إليه أن كتاب (حركة الكشف) صدر سنة 1936 حين كان المؤلف في السابعة عشرة من عمره، وقد وقفت فيه متعجباً بل مندهشاً أمام هذا التسلسل في تدوين تاريخ الكشف وتطور أساليبه وأمام هذا المنطق الرصين يقدر الحوادث ويزن أعمال الرجال ويتغلغل في التاريخ ليثبت فضل العرب المهتدين بنور الوحي على نهضة الغرب في تفكيره وتنظيمه
أما في الكتاب الثاني فالمؤلف يذهب في محاولته ذهاب من رسخت عقيدته متعالية عن تردد المحاولين، فيأتي بسلسلة مقالات أولها عن الصديق الصدوق يجيء فيها على وصف إخلاص أبي بكر الصديق للرسول الكريم سارداً ما حدث للأول مع عمر فيرسم أروع صورة شهدها التاريخ للوفاء والإقرار بالخطأ وإنصاف سيد المنصفين. ثم يدبج مقالاً بعنوان (محمد عبدة، النابغة الذي عاش في وطنه غريباً) فتقع بصيرة القارئ في هذا الفصل على الصورة الخالدة التي ستحل للأمام الكبير في روع الجيل الآتي بعدنا فترى هذا الجيل أشد إنصافاً منا نحن أبناء حقبة الانتقال وأوسع إدراكاً لعظمة أبطال النهضة وأعمق(292/88)
تأثراً مما لاقوا في زمانهم من أذية واضطهاد
ويكتب الأزهري الناشئ قطعة (أمام المحراب) بشعر منثور فإذا هي صرخة نفس تتجه إلى خالقها بإيمان يختلج له القلب ويتنبأ لرجال اليوم بتفوق رجال الغد عليهم في إدراك عظمة العبادة ومبادئ الدين الحق
وتقرأ بعد هذه الصلاة مقالاً بعنوان (نزعة الإجرام) يقف فيه الفتى المعمم - وهو لما يبلغ العشرين من سنيه - وقفة الشيخ الحكيم ينفذ بنظراته إلى ما وراء القانون المدني من وازع في الشرع والأخلاق يجتث الإجرام من أصوله
وهكذا يسير الفتى الناضج فيكلمك عن غدر الصديق وعن أيام قضاها في رأس البر يرجع منها يعبر عن الصيانة ومكارم الأخلاق وعن أمل المحبين في مناجاة للقمر، كلها وصف دقيق وشعور رقيق، وعن إصلاح الصحافة فيعرض لها في منازعها وأحزابها وفي قوتها وضعفها. ويصور لك الفراش الدائر بالمصباح وخيانة ابنة ساطرون لأبيها في سبيل عشقها لعدوه كسرى سابور بقصة من أروع وقائع التاريخ، ثم يورد أسطورة الأميرة ليستغل منها عبرة التعاون بين الناس، وينشدك بعد ذلك قصيدة عامرة يهيب فيها بالشباب للدفاع عن الوطن ثم يرسل نجواه إلى لليل فيريك كيف يتجلى النضوج في روح الشباب إذ هو اتخذ الدجنة مركضاً للتفكير لا ستراً للمعاصي وارتكاب الموبقات، ويوجه بعد ذلك خطاباً للمرشدات تدلك على احترام فتى مصر لفتاته ورفعه لمقامها إلى حيث أراد الشارع الأعظم، ثم يعطف على زهرة القبور يناجيها فتى شاعراً وشيخاً مؤمناً، فلا تدري أيسمعك هذا الهاتف قصيدة أم ابتهالاً. ولا يفوت الشيخ الفتى أن يعقد فصلاً عن شهر الصيام يتجلى فيه الزهد والعزم قوة واحدة تجاه الحياة
وأخيراً يعرض عليك قصة عربية عن الحب اتخذ الأندلس مسرحاً لها ليعرض للحب الأسمى وللشهوة الدنيئة بتحليل رائع، ويتبع هذه القصة بأخرى عن سرعة الخاطر عند العرب وبأسطورة عن السعادة ويختم الكتاب برواية مسرحية للأطفال.
إن العبقرية العربية تنتبه في هذا الجيل الذي يتقدم ليحل محلنا على الذروة نحن النازلين منها إلى الأغوار.
لقد ولدت أقلامنا أقلاماً خيراً منها، وما كان بيننا من يكتب بين الخامسة عشرة والعشرين(292/89)
ما تكتبه الناشئة في نضوجها المبتسر في هذه الأيام. فليعطف شيوخ الدب على هؤلاء الأحفاد. إن أقلامنا ستبعث في أقلامهم، وصوتنا سيدوي في أصواتهم حين تتحطم أقلامنا ويخرس الموت أصواتنا.
فليكس فارس(292/90)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
ما هي الوسائل لإصلاح المسرح
هل من عقاب أشد وقعاً على النفس من تركك شخصاً وشأنه في المجتمع لا يأبه له أحد ولا يلفت إليه ملتفت خصوصاً إذا كان له خطرة الأدبي والاجتماعي؟
هكذا ترك الأدباء الفرقة القومية وانصرفوا عنها لا يلتفتون إليها فلولا كتابة مأجورة تنشرها الفرقة في بعض الصحف الأسبوعية، ولولا إعلانات عن أربع أو خمس روايات تمثل في الفصل، لكانت هذه الفرقة التي استنفذت من مال الأمة ستين ألفاً من الجنيهات أشبه بحلم يتبخر في اليقظة، أو بعابر سبيل لا يلتفت إليه أحد
ولما كانت غايتنا المحافظة على هذه المؤسسة الثقافية، واستنهاض بقايا الهمة الباقية في القائمين عليها، عمدنا أولاً للتنبيه إلى الغرض الخبيث الذي ترمي إليه إدارة الفرقة من إغضاب النقاد واستغلال انصراف الصحافة وصدوف الأدباء عنها ليقبع رجالها الأفاضل كالتماسيح المبشومة يهضمون الغنيمة على مهل، وثانياً إلى استفتاء أدبائنا أصحاب الدراية في فن الرواية والمسرح فيما يحب عمله لإنقاذ هذه المؤسسة العزيزة على الأدباء
بدأنا بسؤال كبار الأدباء كالعقاد والمازني وغيرهما، ولهؤلاء الأساتذة الإجلاء رأي مجمل نرجئه إلى ما بعد، ثم سألنا الأستاذ زكي طليمات عن وسائل إصلاح المسرح، وللأستاذ طليمات دراية نظرية وعملية لا ينكرها عليه سوى المتعنت صاحب الغرض، فأجاب:
يتكون المسرح من ثلاثة عناصر: رواية، وممثل، وجمهور فإذا نشدنا الإصلاح للمسرح وجب أن نقوم بإصلاح هذه العناصر الثلاثة، بعد أن نتبين ما هي عليه الآن، وما كانت عليه بالأمس وما يجب أن تكون عليه في المستقبل
الرواية: أقامت وزارة المعارف المصرية لتأليف المسرحية المصرية بقصد ترقيتها ورفع شأن التمثيل، فكان أن حظي المسرح ببعض روايات جيدة، إلا أنها لم تسم بكثير عما كان شائعاً إخراجه على المسارح ولم تسفر عن المخرج الحق المرجو الذي بيده وضع طابع أصيل للمسرحية، والذي يرجى منه خلق مدرسة جديدة في التأليف، وعليه فإني أعتقد أن إقامة المباريات وسيلة تكميلية أهم منها حث الفرق العاملة على إخراج أكثر عدد من(292/91)
المسرحيات المصرية، وذلك بتنشيط الأفلام، وحفز النابهين من المؤلفين على الإكثار من نتاجهم، لأن المؤلف إذا لم يجد سوقاً لرواياته تولاه اليأس وأمسك عن الكتابة. وأرى من واجب الفرقة أن تضطلع بمهمة تقديم المسرحيات المصرية قبل أي مهمة أخرى، فإذا انحرفت عن ذلك فإنها لا تحقق الغرض من قيامها، ولذاك أشير لترقية المسرحية المصرية أن تعمل وزارة المعارف على ترجمة نفائس الروايات المسرحية الغربية ترجمة أنموذجيه وإذاعتها بين المتأدبين، وذلك لأحياء ثقافة للمسرح نحن في أشد الحاجة إليها بحكم أننا نفتقر إلى هذه الثقافة في الأدب العربي القديم والأدب العربي المستحدث.
الممثل: فن التمثيل عامة حديث في مصر، دخيل في الأدب العربي، لم نعرفه باللسان العربي إلا منذ ثمانين عاماً. جاء مصر فيما جاءها ضمن موجة الثقافة الغربية التي طلع علينا بها البحر الأبيض في النصف الأخير من القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين ونحن نباشر فن التمثيل على طريقة ارتجالية، وإن شئت قل بدائية، أعني أنها لا تقوم على قاعدة ولا ترتكز على أساس. وفن التمثيل، أي فن الأداء كسائر الفنون الشكلية مثل النحت والتصوير وغيرهما، له قواعد وأصول يجري تدريسهما في معاهد خاصة تخرج الممثلين الحاذقين بعد أن يكونوا قد أحسنوا تعرف هذه الأصول والقواعد. وإذا قلت إنه واجب على الممثل أن يتلقى أصول فنه في معهد، فهذا لا يحجزني عن الاعتراف بأن هناك طبائع غنية بمواهبها، خصبة بإحساساتها، هي في غنى عن الصقل والتهذيب في معهد أو مدرسة، إلا أن الطبيعة ضنينة بخلق هذا النفر العزيز الذي يطلع على الدنيا وهو يحمل في روحه الطبع القوي، والذوق الصافي، والحساسية اليقظة، والصوت الجهير، واللفظ الفصيح، ولإيقاع المحكم؛ وهذه هي أهم المصادر التي يصدر عنها الممثل الحق مثل هذا من الشواذ - والشاذ لا قاعدة له - وعليه فإنشاء معهد للتمثيل هو الوسيلة الفعالة ذات الأثر في تكوين نشء جديد من الممثلين يجمعون إلى فيض الموهبة الطبيعية، حذق التعليم، وصقل التهذيب وثقافة الفن
الأكثرية الغالبة من محترفي التمثيل في مصر يقومون بعملهم على إيحاء الفطرة وهدى التجارب وما يستقر في أذهانهم مما يشاهدونه من آثار الفن الغربي أو على الشاشة البيضاء(292/92)
ومن هؤلاء طائفة احترفت فن التمثيل، لا عن عقيدة وموهبة وإنما عن حاجة، فهم عمال خصتهم الطبيعة بشيء من الموهبة الصادقة فإن ضعف التحصيل العلمي، وافتقار الثقافة الفنية، يجعلان هذا القدر من الموهبة لا يرفع صاحبه إلى الممثل الموهوب المفتن الذي يترجم بأدائه أعمال مؤلفين نبهاء ويسمو بفكره إلى حياة سامية مثل حياة شكسبير مثلاً أو موليير أو أبسن وغيرهم
أما عنصر الممثلات فاقل شاناً من عنصر الممثلين ولا سيما في الناحية الثقافية والعلمية. ويؤلمني أن أقرر أن بيننا ممثلات لا يحسن القراءة، فإذا قرأن يتعثرن، وإذا كتبن فليأتين بأغرب النقوش وأعجب الخطوط
بعد هذا أرى أنه لزاماً على المهتمين بترقية المسرح أن يعملوا على إنشاء معهد للتمثيل في معناه الكامل وفوق هذا أرى أن ترسل بعوث إلى الخارج من خريجي هذا المعهد، لا أن ترسل بعوث من أفراد كل مؤهلاتهم صلة قرابة أو محسوبية
الجمهور: الجمهور في مصر خليط عجيب، فيهم من يعيش بعقلية القرون الوسطى أو ما قبله، ومنهم من يعيش بعقلية عصر النهضة، ومنهم من يعيش بعقلية عام 1939 ولكل فريق منزع خاص وذوق خاص، وهذا أمر لا نجده في الجمهور الأوربي، فمهمة إرضاء هذه الجماهير عن طريق المسرح صعبة وعرة.
هناك نظريتان يأخذ بهما العاملون في المسرح، الأولى الارتقاء بالجمهور إلى آفاق الأدب الرفيع، والثانية مجاراة الجمهور في مرغوبة وممالأته فيما يريد من تملق عواطفه. حاول بعض أصحاب الفرق الأهلية أن يأخذوا بالنظرية الأولى فلم يوفقوا إلى الكسب الوافر فانحدروا إلى الجمهور، كما اخذ البعض الآخر في بدء اشتغاله في المسرح بالنظرية الثانية وما زال أرجوحة بين الفشل والنجاح
وسبب ذلك فيما أرى اختلاف المستوى العلمي والفكري، والجمهور المصري حديث العهد في المسرح ليست له فيه ثقافة أو تقاليد، يؤم دورة بغية التسلية لا ارتجاء الغذاء الفكري أو العاطفي. فواجب مصلح المسرح أن يعمل تدريجياً على إيجاد جمهور يحسّ التمثيل ويتذوقه.
- هل قامت الفرقة القومية بواجبها في إيجاد الجمهور والرواية والممثل؟(292/93)
- الفرقة القومية ما برحت تتطوع وتتهادى في عملها، ولم تستقم لها بعد طريقة خاصة أو سياسة مقصودة وذلك بحكم أنها مؤسسة جديدة تقوم بمهمة إذاعة فن جديد في مصر، ولا ادري ما الذي يمنعها من أن تستخلص لها خطة بعد التجاريب التي أفادتها في السنوات الأربع التي مضت على تأسيسها.
المال لا يعزها، ومعينها في عطف وزارة المعارف واسع المدى، فهي بذلك تعمل في ظروف جيدة لم يسبق لفرقة مصرية أن عملت فيها.
فمن حيث فن التمثيل لم تقدم الفرقة جديداً، لأن المشتغلين فيها عملوا على المسرح سنوات عديدة، والبعوث التي بعثت بها إلى الخارج لم تعد بعد. فلا ندري ما عسى أن تلقاه في هذه الناحية من توفيق ونجاح. وشأن فن الإخراج كشأن فن التمثيل
ومن حيث الرواية فإنها لم تقدم كاتباً يأبه له، وعملها في المسرحيات المترجمة يطغي على حرصها على تنشيط المؤلفين المصريين وتجيعهم. وهنا موضع العجب، ففي الوقت الذي يقول فيه أحد أعضاء لجنة قراءة الروايات: (إن الفكر الروائي المسرحي آخذ في التقدم إلى الكمال بل إلى الكمال السريع) نرى أن نتاج هذا الفكر ضئيل يتنافى مع ما يقرره أعضاء اللجنة فلا ندري هل الجنة أخطأت في تقديرها؟ أم إن مدير الفرقة لا يؤمن بما تؤمن به اللجنة، وأنه لا يحب الرواية المصرية لوجه الشيطان. . .!
أما من حيث الجمهور فقد أخفقت الفرقة إخفاقاً تاماً في اجتذاب أي طبقة من طبقات الجمهور في مصر، ولو اقتصر معينها المادي على إيرادها من جيوب الجمهور لما استطاعت أن تصمد شهراً واحداً
ابن عساكر(292/94)
العدد 293 - بتاريخ: 13 - 02 - 1939(/)
يا أذن الحي اسمعي!
أوشكت هذه الصفحة أن تحترق لطول ما أنَّ عليها الفقر وزفر فيها الشقاء، وأغنياؤنا - أحياهم الله - لا يسمعون لأن آذانهم مبطنة بالذهب الأصم، ولا يشعرون لأن قلوبهم مغلفة بالورق المالي الصفيق؛ وبال الخليّ أطول من ليل الشجيّ، وسمع الناعم أثقل من همّ الشقى، ودنيا اللذة أشغل بمباهجها وملاهيها عن دنيا الألم!
لعل من القارئين من يختلج في رأسه هذا السؤال:
لماذا يمتد نفَسي بهذا الأنين الموجع، ويستمد قلمي من هذا الدمع القانىء؟ وجوابي أني نشأت في قرية من أولئك القرى العشرين التي سلط القدر عليها الباشا والأمير؛ فانشق بصري على مناظر البؤس، وتنبَّه شعوري على مآسي الجور؛ وعلمت حين تعلمت أن وطننا يفيض بالخير، وديننا يأمر بالإحسان، فأيقنت أن فقر الناس، ناشئ من فقر الإحساس؛ فإذا عرف الفقير حقه، والغني واجبه، تلاقت الأنفس على حدود الإنسانية الكريمة، فأنا أحاول بمواصلة هذا الأنين أن أعالج وقْر المسامع وسدَر العيون وخدَر المشاعر، عسى أن يتذكر المترفون أن لهم اخوة من خلق الله يأكلون ما تعاف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء مالا يقاسيه حيٌّ في غير مصر. ولكني علمت وا حسرتاه بعد شهرين مضيا في الشكوى والاسترحام، أن بين أبناء الذهب وأبناء التراب أطباقاً من اللحم والشحم، والحديد والأسمنت، ترتد عنها أصوات الضارعين أصداءً خافتة؛ ثم تتجاوب هذه الأصداء في أكواخ المساكين؛ ثم تتهافت على بريد الرسالة تهافت الأرواح الهائمة على الشعاع الهادي تتلمس في ضوئه الطريق إلى الله وائِلِ الضعيف وعائل المعدم!
من لنا بمن يفتح عيون السادرين على هؤلاء الأيامى اللاتي يقضين ليل الشتاء البارد الطويل على بلاط الأفاريز وقد تطرح أطفالهن على جنوبهن طاوين ضاوين لا يفهمون عطف الأب، ولا يعرفون دفء البيت، ولا يدركون إلا أنهم أجساد تعرى ولا تجد الكساء، وبطون تخوى ولا تصيب الغذاء، وأكف تمتد ولا تنال الصدقة؟
من لنا بمن يفتح قلوب المالكين لأولئك الفلاحين الذين اصطلحت عليهم محن الدنيا وبلايا العيش، وجهلتهم الحكومة فلا يعرفهم إلا جباة الضرائب في المالية، وفرازو القرعة في(293/1)
الحربية، وحراس السجون في الداخلية! أما المعارف والصحة والأوقاف والأشغال فشأنها شأن المترفين والمثقفين لا تعرف غير المدينة ولا تعامل غير المتمدن؟
من لنا بمن يقول لهؤلاء المثرين المستكبرين إن ركفلر ورتشلد لم يرفعهما إلا حب الإنسان، وإن الدمرداش والمنشاوي لم يخلدهما إلا بذل الإحسان، وإن لديهم من فضلات الثروة كربح الأموال في المصارف، ومكافأة النيابة في البرلمان، وحثالة الزروع في العزب من التبن والقش والحطب، ما يوفر الغذاء والدواء والعلم لألوف الألوف من بني الوطن؟
بالأمس كانت ذكرى وفاة المرحوم السيد عبد الرحيم الدمرداش، وهو والمنشاوي وبدراوي سمنود من ملائكة الأرض الذين يرفرفون بأجنحتهم النورانية على شقاء الكثير من الناس. فلماذا لا يقام لهؤلاء الخيِّرين البررة وأمثالهم تماثيل في الميادين العامة، ليتشبه بهم الغني، ويترحم عليهم الفقير، وليكون في رفع ذكراهم على هذا النحو إعلاء لمعنى الإحسان، وإطراء لأريحية المحسن، وتفريق بين من دَلَله الوطن فعقَّ، وبين مَن رباه الوطن فبرَّ، فلا تستوي الحسنة ولا السيئة، ولا ينبغي (أن يكون المحسن والمسيء بمنزلةٍ سواء، فإِن في ذلك تزهيداً للمحسن في إحسانه، وتدريباً للمسيء على إساءته)
احمد حسن الزيات(293/2)
نقص أم ماذا. . .؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان معي - وأنا مدرس في مدرسة دار العلوم - أستاذ إنجليزي كانت بيني وبينه صداقة وثيقة. وكنا نعلم الطلبة مبادئ اللغة الإنجليزية، فأقبل علي يوماً يقول: (لقد أخفقت وأحسب أن من واجبي الآن أن أقنع رؤسائي بنقلي إلى مدرسة أخرى، فما في بقائي هنا خير، ولست أدري كيف تصنع أنت، ولكن الذي أدريه أني أنا أخفقت)
فقلت له وأنا أمازحه: (أقعد، أقعد، وحدث (عمك) المازني بما تعاني وتكابد. ما هي الصعوبة اليوم؟)
قال: (سأخبرك. إن كل طالب يسألني مثلاً عن الفعل - يجلس - كيف انقلب فصار - جلس - فلا أستطيع أن أجيب بكلام معقول مقبول يرتاح إليه العقل. هم يريدون سبباً ويطلبون تعليلاً، وأنا لا أعرف إلا أن هاتين صيغتاه في الحالتين. وقس علي هذا)
قلت: (هل تطيعني إذا أشرت عليك بأمر؟)
قال: (أتمزح؟)
قلت: (أمزح. . . أجد. . . سيان. المهم إنقاذك من الورطة. اسمع يا صاحبي. لقد كنت أظن أنك أفدت شيئاً مما تعلمته من قواعد اللغة العربية. وكنت أحسب أن ذهنك مرن، وأن لك قدرة على الاقتباس والقياس. وكنت أتوهم أنك تستطيع أن تخاطب كل فريق من الناس بما يفهمون)
قال: (لست فاهماً)
قلت: (ألم يعلمك شيوخك في اللغة العربية أن (قال) أصلها (قَوَلَ) وأن الواو فُتح ما قبلها فصارت ألفاً؟)
قال: (نعم)
قلت: (هل تستطيع أن تزعم أن هذا كلام معقول مقبول يستريح إليه العقل؟)
قال: (لا)
قلت: (ولكنك سلمت به بلا جدال، وأخذته عن مشايخك بلا مناقشة أو تفكير، وأجبت به في الامتحان بلا تردد، وأنت تزعم اليوم أنك تعرف العربية حق معرفتها، وأنك أخذتها عن(293/3)
أهلها)
قال: (ولكن ما دخل هذا في موضوعنا؟)
قلت: (كنت أحسبك ذكيّاً ولبيباً، فإن هذا هو حل المشكل. بهذه العقلية التي جعلتك تسلم بإن قال أصلها قَوَل، فُتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، يجب أن تخاطب الطلبة. فاذهب وقل لهم إن أصلها وإن حرف العلة فتح ما قبله فانقلب فسترى أن هذا يسرهم ويكفيهم، وستجد أنك استرحت بعد ذلك من كل عناء)
فصاح بي: (ولكن هذا غير معقول)
قلت: (إنه معقول كقولك إن قال أصلها قَوَل وأن الواو فُتح ما قبلها إلى آخر هذا الهراء. ولا تحتقر تلاميذك حين تراهم يصدقون أن أصلها وأن حرف العلة فُتح ما قبله إلى آخر هذا الهراء، أو حين يتوهمون أنهم فهموا. فلست خَيراً منهم، وما أكثر ما يتوهم الإنسان أنه فاهم، وهو غير فاهم شيئاً. اذهب وافعل ما أشير به وأخبرني بالنتيجة، وإن كنت أعرفها من الآن كلها. لن تقول لي بعد الآن إنك أخفقت، وإنك ستطلب من الوزارة النقل إلى مدرسة أخرى)
وقد كان، وسكنت الثورتان: ثورة الطلبة على المدرس، وثورة المدرس على نفسه.
وهذا استطراد بدأت به، أما ما كان العزم أن أقوله فهو أن هذا الصديق المدرس سألني يوماً وقد علم أني رُزقت طفلاً: (حدثني عنه. صف لي كيف تحبه!)
قلت: (لا أعلم أني أحبه)
قال: (لا تتكلف الفلسفة)
قلت: (الحقيقة أني حائر، لا أشعر بأية عاطفة، ولا أحس أن لي به سروراً كذلك الذي أسمع وأقرأ أن الأدباء يحسونه بنيهم؛ وإني لمستغرب)
قال: (أتتكلم جاداً؟)
قلت: (إني جاد جداً. وثق أني حائر)
قال: (لعل العاطفة راقدة، وعسى أن تكون محتاجة إلى ما يوقضها وينبهها)
قلت: (عسى)
وانتقلنا إلى حديث آخر، ومضت الأيام وماتت البنت - فقد كانت بنتاً - فلم أرني حزنت(293/4)
أو جزعت، ولم يكن هذا كافياً لتنبيه عاطفة الأبوة التي قال لي صاحبي أن أكبر ظنه أنها راقدة. ولي الآن من البنين ثلاثة، وقد استطعت أن أوحي إلى نفسي حب بنتي التي ماتت، وحب أخرى جاءت وذهبت مثلها، وحب البنات على العموم دون البنين، أو أكثر من البنين، ولكني أدرك أن هذا فعل الإيحاء لا فعل الطبيعة، وأعرف من نفسي أني لا أعرف لبنيّ مثل ما يعرف الآباء غيري. نعم أشفق عليهم وأعني بهم، ولكني لا أشعر لهم بتلك الرقة التي أسمع بها. ويخيل إلي أن العادة هي منشأ ما أحسه لهم، وأني أرحمهم لأنهم صغار ضعاف، وأعني بهم لأني جئت بهم فأنا مسئول عنهم. وكثيراً ما أضجر وأمل، وأسأل نفسي متى يكبرون ويستغنون عني، فأحط عن كاهلي عبئهم، وأرتاح منهم، وأعيش وحدي مستقلاً عنهم؛ وأرحل وأغيب، فلا أحن إليهم إلا حنة المرء لعشيره وصديقه، ولمألوفه.
وكان لي أخ أسن مني، وكنت أوقر سنه، ولكني لم أكن أشعر له باحترام أو حب، كالذي يكون بين الأخوين عادة. ولم أبكه لما مات، وإنما سخطت على ضعفه الذي قتله، فقد كانت امرأته تركبه كالحمار، وكان يشكو لي هذا، فأضجر، وأقول له: (ما الفائدة؟ إنك ضعيف، وهي تركبك، ولا أمل فيك ولا خير في الشكوى، فاحتمل على قدر طاقتك، فما خلقك الله لغير هذا)
فيقول: (نعم، صدقت. يجب أن أحتمل) فأنهض من مجلسه مشمئزاً، وإن كنت فيما عدا ذلك أستظرفه وأستخف ظله، وأحب فكاهته، ولكن ضعفه كان يهيج نفسي عليه، وقد مرضت جدتنا فلم يعدها لأن امرأته أبت عليه ذلك، فلما ماتت جاء ليمشي في جنازتها، فأبيت عليه ذلك وقلت له: (كان الأولى أن تعودها في حياتها لتسرها على الأقل ولتعفيها من شعور الحسرة، أما الآن فأولى بك أن تذهب إلى بيتك) ففعل.
وانقطع ما بيني وبينه سنوات لم أشتق إليه فيها قط، ثم التقينا اتفاقاً فتصافحنا في صمت ثم نزعت يدي، ومضيت لشأني ومضى في سبيله. وقد قصصت هذا لأصف شعوري الحقيقي.
فهل هذه بلادة؟ أو هي نقص في بعض جوانب النفس؟ أم ذلك لأن عاطفتي الأدبية تستغرق نفسي كلها؟ أم لأن حبي لأمي استنفد ذخيرة النفس من هذا الحب؟ فقد كان حبي(293/5)
لأمي - وما زال - أقوى ما استولى على نفسي، وكان هو العامل المؤثر في سيرتي، فكنت إذا هممت بأمر أسأل نفسي: (ماذا ترى يكون رأي أمي في هذا؟) فإذا كان الجواب خيراً أقدمت، وإلا صددت نفسي وكبحتها عن مرادها، وصرفتها عما تحاول. أم ترى التعليل الصحيح أن البنين والأخوة والأقرباء على العموم نتيجة المصادفة، ليس إلا؟
لا أدري. وأكبر الظن أن بي نقصاً، فإني فيما عدا حبي لأمي، لم يغلبني حب قط - لا حب امرأة، ولا حب أحد من البنين أو الأقارب. ولست أرى الناس كذلك، وليس من المعقول أن أزعم أن الناس غيري شاذون، وأني أنا وحدي الطبيعي، والأولى والأقرب إلى العقل أن آخذ بمنطق (قراقوش) فأصدق الناس، وأرفض زعم الفرد.
إبراهيم عبد القادر المازني(293/6)
التاريخ السياسي
النزاع الإيطالي الفرنسي
وموقف المستر تشمبرلين
للدكتور يوسف هيكل
لم تأت سياسة (تهدئة الخواطر) بما كان يتوخاه المستر
تشمبرلين منها. بل إن هذه السياسة أكثرت المشاكل الأوربية
وعقدتها. فنجاح الهر هتلر في ميونخ قاد ألمانيا إلى مهاجمة
بريطانيا والتهكم بها، وجعل الفوهرر يعد العدة لتحقيق
مشروعاته الواسعة في شرق أوربا؛ فعظم الخطر الألماني
وتفاقم. . .
أما إيطاليا فقد ازدادت تدخلاً في أسبانيا وازدادت جرأة وتبجحاً، فقامت تهاجم فرنسا مطالبة إياها بقسم من أملاكها. واشتدت مظاهرات هذه المطالب فتحولت إلى نزاع بين باريس وروما يهدد العالم بحرب ضروس. فما هي المطالب الإيطالية؟ وماذا كان تأثيرها في فرنسا؟ وهل تستند إلى حق صحيح؟ وما هو موقف المستر تشمبرلين منها؟
بينما كانت فرنسا آخذة في تحسين علاقاتها بجاراتها اللاتينية، فعينت سفيراً لها في روما، واعترفت بالإمبراطورية الإيطالية، جابهتها إيطاليا بمطالب جديدة فيها اعتداء على أملاك حكومة باريس، وإهانة للجيش الفرنسي. وللتهرب من مسؤولية ذلك، لم تضع حكومة روما هذه المطالب في قالب رسمي، بل عمدت إلى التمثيل في إسماع حكومة باريس مطالبها. وكان مسرح التمثيل قاعة البرلمان في روما، وكان الممثلون وزير الخارجية وأعضاء مجلس النواب. وموجز المشهد أنه في 30 نوفمبر سنة 1938 ألقى الكونت شيانو وزير خارجية إيطاليا خطاباً سياسياً في مجلس النواب، نوه فيه بـ (مطالب الشعب الإيطالي الطبيعية) وعندما لفظ الوزير هذه الجملة، وقف النواب وقفة رجل واحد صائحين: (نريد(293/7)
تونس وكورسيكا ونيس). . . وفي الأيام التالية أخذت الجموع الإيطالية تطوف الشوارع مطالبة فرنسا بمطالب نوابها، وقامت الصحافة الإيطالية وهي شبه رسمية تبرر موقف النواب، وتوضح شعور الجماهير الإيطالية المطالبة بحق طبيعي لها في الممتلكات الفرنسية الثلاث السالفة الذكر. ولم تكتف الصحف الإيطالية في بيان ما تدعيه حقاً لإيطاليا، بل أخذت ولا تزال تأخذ في التنديد بفرنسا وانتقادها انتقادات مرة؛ فقابلتها الصحف الفرنسية بالمثل، فنشأ بين البلدين جدل صحفي كان من تأثيره ازدياد توتر العلائق بين روما وباريس. وفي هذه الأثناء لم يرد الطلبة في فرنسا الوقوف موقف المتفرج، بل قرروا الرد على المظاهرات الإيطالية، فقامت جموعهم بمظاهرات في أنحاء المدن الفرنسية هاتفة بهتافات تهكمية منها (صقلية وسردينيا لفرنسا) و (إيطاليا للنجاشى)
كان للمشهد التمثيلي في البرلمان الإيطالي وقع سيئ في الدوائر الفرنسية. وقد اهتمت حكومة باريس به اهتماماً كبيراً، فدعا المسيو بونيه وزير خارجية فرنسا سفير إيطاليا لمقابلته في اليوم التالي للحادث، وقابل المسيو فرانسوا بونيه سفير فرنسا في روما الكونت شيانو في 2 ديسمبر واحتج على حادث مجلس النواب الإيطالي، فنفى الوزير مسؤولية الحادث عن حكومته بقوله (إن الحكومة الإيطالية لا تعد مسؤولة إلا عن مسلكها ومطالبها الرسمية)
لم تكتف الحكومة الفرنسية بهذا الرد، وعولت على أن تبرهن أنها لا تتهاون في مصالحها ولا تسمح بالتفكير في الاعتداء على أملاكها، فردت على مظاهرة البرلمان الإيطالي المدبرة رسمياً، بزيارة المسيو دلادييه لكورسيكا وتونس في 3 يناير سنة 1939، بموكب عسكري، فقوبل فيها بترحاب عظيم. وقد هتف أهل كورسيكا وسكان تونس الفرنسيون بحياة فرنسا، وأظهروا أنهم فرنسيون لا يريدون من جنسيتهم بديلاً. أما أهل تونس العرب فأكدوا - إن كان لا بد من المفاضلة بين فرنسا وإيطاليا - أنهم لا يترددون في التمسك بفرنسا، ولا يقبلون قط الانتقال إلى الحكم الإيطالي. وزيادة على ذلك فقد صرح المسيو دلادييه، والمسيو بونيه داخل البرلمان وخارجه، أن الحكومة الفرنسية لن تتنازل عن شبر واحد من أملاكها.
لم ترتح إيطاليا لزيارة المسيو دلادييه لكورسيكا وتونس، بل رأت فيها اعتداء صريحاً(293/8)
عليها وسبباً لزيادة توتر العلاقات بين الجارتين. كما إن تأكيد الدوائر المسؤولة في باريس برفض المطالب الإيطالية، أغضب رجالات إيطاليا وصحافتها. فاشتدت في حملتها على فرنسا، وحاولت إثبات عدالة تلك المطالب الطبيعية.
لم تكن نيس وكورسيكا يوماً ما تابعتين لإيطاليا الحديثة، إذ أن نيس ومقاطعة سافوا كانتا من أملاك الدون دي سافوا وجزءاً من مملكة سردينيا. ولما قام الملك فكتور عمانوئيل ووزيره كافور بتوحيد إيطاليا، احتاجا إلى مساعدة فرنسا لهما ففاوضا نابليون الثالث في مساعدتهما على إخراج النمساويين من اللومباردي وفي موافته على توحيد البيمون مع الدول الوسطى. ووعداه مقابل ذلك بالتنازل لفرنسا عن نيس ومقاطعة سافوا. فتم الاتفاق بينهم على ذلك عام 1860. وعندما جرى استفتاء التنازل لفرنسا في 15 أبريل عام 1860، كان 25743 صوتاً محبذين الانتقال و 160 صوتاً فقط ضد التنازل.
أما كورسيكا فقد كانت تابعة لجنوا منذ القرن الخامس عشر حتى عام 1768، الذي فيه باعت جنوا سيادتها على هذه الجزيرة لفرنسا. ومنذ ذلك التاريخ وكورسيكا جزء من فرنسا.
وأما تونس فقد تدخلت فيها الدول الاستعمارية عن طريق قرض الأموال لها. ثم تذرعت هذه الدول كعادتها باضطراب الأحوال المالية والإدارية، ففرضت على تونس عام 1869 رقابة مالية قوامها ممثلون لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وأخذت هذه الدول الثلاث تتنافس وتسعى كل منها بأن يكون لها القسم الأول من التدخل في شؤون تونس ونشر نفوذها عليها. وكانت إيطاليا تأمل في احتلال تونس وجعلها مستعمرة لها. ولما أرادت تنفيذ رغبتها، أبدت ما عزمت عليه لإنكلترا لأخذ موافقتها، فأجاب رئيس وزارتها حينئذ، أن بريطانيا العظمى لا ترى بعين الارتياح ساحل تونس وساحل صقلية في يد حكومة واحدة. ولا تزال بريطانيا تحتفظ بهذه السياسة حتى الآن حفظاً لسلامة طرق المواصلات في البحر الأبيض المتوسط. وكانت فرنسا ترغب فيما كانت ترغب فيه إيطاليا من ضم تونس إليها، فاتفقت مع بريطانيا بأن تترك لها حرية العمل في تونس نظير موافقة فرنسا على ضم إنكلترا جزيرة قبرص.
وفي عام 1881 سارت قوة عسكرية فرنسية إلى داخل تونس بحجة مطاردة بعض القبائل(293/9)
التي اعتدت على حدود الجزائر، وأخذت تتوغل في البلاد التونسية وتستولي عليها. . . فاضطر (باي) تونس إلى النزول عند رغبة الغزاة، وتوقيع معاهدة (بردو) في 12 مايو 1881 التي بموجبها قبل الحماية الفرنسية.
تأثرت إيطاليا من عمل فرنسا كثيراً، واعتبرته اعتداء على أمانيها وعلى حقوقها الطبيعية، حتى أنها لم تعترف بفتح فرنسا لتونس إلا عام 1896، الذي به تم الاتفاق بين باريس وروما على منح الرعايا الإيطاليين البالغ عددهم حينئذ 55 , 572 إيطالياً، امتيازات خاصة، يحافظ الإيطاليون بموجبها على جنسيتهم.
وقد تجدد الخلاف بين فرنسا وإيطاليا فيما بعد الحرب العالمية، بسبب الجالية الإيطالية في تونس، تلك الجالية البالغ عددها الآن نحو مائة ألف إيطالي تقريباً، مقابل ما يزيد على مائة وعشرة آلاف فرنسي، عائشين بين مليونين ونصف من العرب. وأخذ هذا الخلاف يتفاقم حتى أن الصحف أخذت تتحدث عام 1931 عن احتمال وقوع حرب إيطالية فرنسية، وظل توتر العلاقات بين الجارتين شديداً حتى 7 يناير 1935، وهو التاريخ الذي تم فيه الاتفاق بين السنيور موسوليني والمسيو لافال على تسوية الخلاف القائم بين الحكومتين.
نالت إيطاليا، بموجب هذا الاتفاق، لرعاياها في تونس امتيازات جديدة. فالإيطاليون الذين يولدون في تونس قبل 28 مارس سنة 1945 يحافظون على جنسيتهم الإيطالية، والذين يولدون بين 1945 و 1965 يحق لهم اختيار الجنسية الفرنسية، وأما الذين يولدون بعد 1965 فيخضعون للقانون العام. وأما المدارس الإيطالية فتحافظ على وضعها الحالي حتى عام 1955، ومن ثم تصبح تحت الرقابة الفرنسية. وفي هذا الاتفاق أيضاً قام المسيو لافال بتنفيذ البند 13 من اتفاق لندن عام 1915، الذي بموجبه تعهدت فرنسا بتعويض إيطاليا ببعض المزايا الاستعمارية نظير دخولها الحرب ضد ألمانيا، وذلك بالتخلي لإيطاليا عن منطقة تبسي البالغة مساحتها 114 ألف كيلو متر مربع في صحراء أفريقيا، وبالتنازل عن جزيرة دوميرا في البحر الأحمر، وعن قسم من الساحل الصومالي الفرنسي المواجه لباب المندب، وعن عدد من أسهم سكة حديد جيبوتي - أديس أبابا. وظن حينئذ أن هذا الاتفاق وضع حداً للخلاف بين الجارتين.
غير أن تطور الحالة الدولية، وطموح إيطاليا إلى سيادة البحر الأبيض المتوسط، أديا(293/10)
بالسنيور موسوليني إلى تجديد الخلاف مع فرنسا على بساط المطالب الاستعمارية. ولم يكن في الواقع الداعي لهذه المطالب سبباً تاريخياً، أو حرص على تطبيق حق تقرير المصير، وإنما هو سبب حربي.
فلكورسيكا أهمية كبيرة في نظام الدفاع الفرنسي، كما أن بيزرت الواقعة في غربي تونس هي الميناء الحربي الرئيسي للأسطول الفرنسي في شمال أفريقيا. فوضع إيطاليا يدها على كورسيكا يضعف وضعية فرنسا الحربية في البحر الأبيض المتوسط ويزيد في أهمية المواقع الإيطالية الحربية. وأما استيلاء إيطاليا على تونس فمعناه، زيادة على إضعاف فرنسا، تمكنها من وضع رقابتها التامة على القسم الضيق من البحر الواقع بين تونس وصقلية، والذي لا تزيد مسافته بينهما على 90 ميلاً، ولا سيما أن جزيرة بانتلاريا الإيطالية قد حُصنت تحصيناً حربياً عظيماً. وبذلك تتمكن إيطاليا من شطر البحر الأبيض المتوسط إلى شطرين، ومن قطع المواصلات بين قسميه، وفي ذلك ما فيه من الأخطار الفادحة على أملاك فرنسا الآسيوية والأفريقية الشرقية، وعلى الإمبراطورية البريطانية. ومن الغريب أن بعض الصحف الإيطالية لم تخف هذا السبب، إذ قالت: إن إيطاليا لن تتغاضى عن المطالبة بكورسيكا وتونس لأن وجودهما في يد فرنسا خطر عليها. . .
ولكيما يكون لإيطاليا عذر قانوني في تجديد الخلاف مع فرنسا ومطالبتها بمزايا استعمارية جديدة، نقض السنيور موسوليني معاهدة 1935، وذلك بتبليغ الكونت شيانو في 22 ديسمبر المسيو فرانسوا بونسيه أن حكومته لا تعد المعاهدة الفرنسية الإيطالية التي عقدت عام 1935 نافذة، لأنها لا تتفق مع مقتضيات الحالة الحاضرة، ولأن فرنسا لم تنفذها ولم تحافظ على نصوصها أو روحها بل اشتركت في العقوبات الاقتصادية التي وضعتها عصبة الأمم على إيطاليا خلال الحرب الحبشية. على أن فرنسا متمسكة باتفاق 1935 الذي سوى في نظرها كل أسباب الخلاف بينها وبين إيطاليا، بدليل توقيع الحكومة الإيطالية رسمياً عليه في 7 يناير سنة 1935، والتصريحات التي أفضى بها السنيور موسوليني في ليتوريا يوم 18 ديسمبر سنة 1936 وجاء فيها قوله: (إن مشاكل إيطاليا في القارة الأفريقية حلت كلها حلاً نهائياً مشرفاً) وهي تقول إنه إذا كان اتفاق 1935 لا يلائم أحوال إيطاليا الحاضرة، فإن اتفاقات 1896 بشأن الإيطاليين في تونس لم تعد ملائمة للحالة الحاضرة(293/11)
أيضاً، ولذلك يكون لفرنسا الحق في وضع نظام جديد للرعايا الإيطاليين فيها. أما مسألة العقوبات فمن نكران الجميل التحدث عنها، لأنه لولا ولاء حكومة باريس للاتفاق الذي عقد مع حكومة روما لما تمكن السنيور موسوليني قط من اكتساح الحبشة وإيجاد الإمبراطورية الإيطالية.
أما ما هي المطالب الرسمية الإيطالية فلم تعلنها بعد حكومة روما، وهي تقول إنها ستتقدم بها إلى فرنسا في الوقت المناسب وبالصورة المناسبة. غير أننا نستبعد أن تكون نيس وكورسيكا من ضمن هذه المطالب. وإن ما تطمع فيه إيطاليا على ما يظهر هو الاستيلاء على تونس، أو جعلها منطقة حرة على مثال طنجة والاشتراك في إدارة قناة السويس، والاستيلاء على خط حديد جيبوتي - أديس أبابا، وعلى جيبوتي نفسها أو الاشتراك في استعمال مينائها من غير مقابل.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الصحافة الألمانية، الناطقة بلسان حكومة الريخ بصورة غير رسمية، تؤيد إيطاليا في موقفها. وقد ذكر الهر هتلر موقف بلاده تجاه إيطاليا في خطابه الذي ألقاه في 30 يناير، ومما جاء فيه إنه (إذا كان يراد إثارة حرب تحت أي ستار كان ضد إيطاليا فإن الواجب يدعو ألمانيا إلى الوقوف بجانب صديقتها).
ومما لا شك فيه أن إثارة السنيور موسوليني الخلاف الاستعماري مع فرنسا من جديد، هو نتيجة لاتفاق مونيخ، وأن زعيم إيطاليا ما كان يجرؤ على ذلك لو أن فرنسا في المكانة الدولية التي كانت فيها قبل تضحية تشيكوسلوفاكيا. فالسنيور موسوليني أراد الاستفادة من ضعف فرنسا بسبب انهيار ما كانت تعتمد عليه من نظام التحالف بعد اتفاق مونيخ. ورأى في زيارة المستر تشمبرلين فرصة سانحة لمساعدته على تحقيق ما يريد من فرنسا، لأنه كان يعتقد أن بريطانيا ترى من الحكمة توطيد صداقتها مع إيطاليا بالنصح لفرنسا بإيثار خطة المسالمة على العمل على تبديد روح ميونيخ والقضاء عليها.
ولما كانت إيطاليا تعلم أن لا أمل لها في تحقيق مطالبها من فرنسا عن طريق المفاوضات المباشرة، أرادت أن تنقل خلافها معها إلى مجال المسائل الدولية. وبما أنها متأكدة من مساعدة ألمانيا لها في مطالبها عملت على إقناع بريطانيا بعقد مؤتمر رباعي لبحث هذه المطالب. ولنقل إيطاليا مطالبها إلى مجال المسائل الدولية وجعلها من اختصاص(293/12)
المؤتمرات الدولية، أعلنت أن اعترافها بالحماية الفرنسية على تونس كان مقيداً باحترام حقوق الإيطاليين في البلاد التونسية. وبما أن فرنسا لم تحترم هذه الحقوق فقد أصبحت إيطاليا في حل من الاعتراف بالحماية الفرنسية. وترى أنه من الواجب على الدول الأخرى ألا تكون مقيدة بهذا الاعتراف. وقامت الصحافة الإيطالية تؤيد هذه النظرية وتمهد الرأي العام الدولي لتحبيذ عقد مؤتمر رباعي حفظاً للسلام، وحرصاً على إيجاد التفاهم بين الدول الأوربية الكبرى. فحملت حينئذ الصحافة الفرنسية على هذه النظرية وأكدت أن مثل هذا المؤتمر لن يعقد لبحث المطالب الإيطالية؛ وإن عقد فلن تشترك فيه فرنسا. وعلى أثر ذلك أخذت الصحافة الإيطالية تلفت النظر إلى أن في نية بريطانيا التوسط لتسوية النزاع الإيطالي الفرنسي. وكان السنيور موسوليني يعلق أهمية كبرى على زيارة المستر تشمبرلين للعاصمة الإيطالية؛ فخشيت الحكومة الفرنسية من أن يتمكن زعيم إيطاليا من الضرب على الوتر الحساس عند رئيس الوزارة البريطانية، ومس نقطة الضعف فيه، فيحمله على التوسط كما حمله الهر هتلر على ذلك في المسألة التشيكوسلوفاكية.
وللحيلولة دون ذلك قابل المسيو كوربان في لندن اللورد هاليفاكس، وأعلمه أن فرنسا ترى أن المطالب الإيطالية من الشؤون التي يجب أن تسوى بينها وبين إيطاليا وحدهما؛ وأن فرنسا لا توافق، وعلاقاتها سيئة مع حكومة روما، على منح إيطاليا شيئاً ما بقناة السويس. وفي 11 يناير يوم وصول المستر تشمبرلن واللورد هاليفاكس باريس في طريقهما إلى روما نشرت جريدة (الطان) الناطقة بلسان وزارة الخارجية الفرنسية أن لا وساطة هناك، لأن فرنسا لن تسمح بأي مناقشة دولية عندما يتعلق الأمر بمصالحها الحيوية ووحدة إمبراطوريتها، وهي لن تشترك في أية مساومة رباعية أو ثلاثية في هذا الموضوع. ومن الأكيد أن بريطانيا تشارك فرنسا في وجهة نظرها، ويستطيع السنيور موسوليني أن يتحقق ذلك بنفسه، إذا رأى فائدة من مفاتحة الوزراء البريطانيين في هذا الصدد.
وقبل أن يزور المستر تشمبرلين روما زار باريس وتحدث مع وزارتها، وفي هذه الزيارة أكد المسيو دلادييه أنه لا يريد التوسط في الخلاف القائم بين روما وباريس. فكان ذلك خيبة للآمال التي كان السنيور موسوليني يعقدها على توسط المستر تشمبرلين، وصدمة للدول التي كانت تعمل على التفريق بين لندن وباريس.(293/13)
أما محادثات روما فقد فشلت فشلاً تاماً في جميع المسائل التي طرحت على بساط البحث. وكان هذا الفشل نجاحاً باهراً من وجهة نظر بريطانيا وفرنسا، لأن تلك المحادثات لا تعد ناجحة في نظرهما إلا إذا فشلت. وكل ما استفيد من هذه المحادثات هو إدراك إنكلترا أن المستقبل قاتم على رغم إظهار إيطاليا نيات سليمة، وتأكد إيطاليا من متانة التضامن الفرنسي الإنكليزي، وأنه ليس من السهل زعزعته أو الحفر تحته.
وفشل هذه المباحثات جعل جريدة (تلغرافو) ذات العلاقات الوثيقة بالكونت شيانو تصرح بأن (ليس معنى نقض إيطاليا لاتفاق 1935 أنها تريد الحرب، بل معناه أنه يجب البحث عن اتفاق آخر. فالحكومة الفاشية لا تعارض في مباشرة مفاوضات جديدة، ولكن ذلك يعد أمراً متعذراً في الجو الحالي). وذلك الجو لم يصف منذ ذلك الحين بل تلبدت غيومه، فاشتد الجفاء، وتعاظمت حملة صحف الطرفين، مما جعل السنيور جايدا يشير إليها بقوله (إن المدافع ستطلق من تلقاء نفسها) على أن إيطاليا لم تفعل شيئاً لتحسين علاقاتها بفرنسا، بل زادت الحالة خطورة بدعوة فرق من الإيطاليين لحمل السلاح، وبحشد فرق من الجيش الإيطالي في الحبشة قرب حدود الصومال الفرنسي، مما جعل فرنسا ترسل فرقاً وبوارج حربية إلى جيبوتي. ولعل السنيور موسوليني يأمل نيل مطالبه عن طريق التهديد بالحرب، وإرهاب الرأي العام.
فهل ينجح بذلك كما نجح الهر هتلر خلال شهر سبتمبر الفائت؟ هذا ما نشك فيه.
يوسف هيكل(293/14)
ابن الرومي
الشاعر المصور
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وترى ابن الرومي بالرغم من إطالته في المدح وإكثاره فيه يذم هذه الخطة فيقول:
وإذا أمرءٌ مدح امرأً لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
ويقول للممدوح:
فإن الله أعلى منك جِدّاً ... ويرضيه من الحمد اليسيرُ
على أن له بالرغم من كل ذلك مقدرة كبيرة على توليد معاني المدح كما في الأبيات التي يقول فيها:
والناس تحت سماء منك مُشْمِسةٍ ... والناس تحت سماء منك مدرار
فيتتبع هذه المعاني الشائعة ويولد منها معاني أخرى، وله الأبيات التي يقول فيها:
هب الروض لا يثنى على الغيث نشره ... أمنظرة يُخْفي مآثره الحُسْنى
والتي يقول فيها:
له هيبة لم يكتسبها بكلفة ... إذا اكتسبت ذاك الوجوهُ العوابس
والتي يقول فيها:
آراؤكم ووجوهُكم وسيوفُكم ... في الحادثات إذا دَجوْنَ نجوم
والتي يقول فيها:
خِرْقٌ تَعَرَّضَتِ الدنيا له فصبا ... إلى المكارم منها لا إلى الفتن
له حريم إذا ما الجار حل به ... أضحى الزمان عليه جد مؤتمن
كأنه جنة الفردوس قد أمنت ... فيها النفوس من الروعات والحَزَنِ
ولكن أهاجيه بالرغم من ذلك أبرع وأشد أثراً، وهو فيها أكثر ابتداعاً للمعاني والخيالات، وأحياناً يسوق فيها الأخيلة الفكاهية مترادفة ويولد الذم من الذم والهجاء من الهجاء وينتشي بالهجاء ويعربد كل عربدة ويطلق لنفسه العنان كراكب الجواد الذي يطلق العنان لجواده(293/15)
يعدو ما شاء العدو. ومن شعره المشهور في الهجاء قوله:
ولو يستطيع لتقتيرِهِ ... تَنفّس من منخر واحد
وقوله:
إن للجد كيمياء إذا ما ... مسَّ كلباً أَحالهُ إنسانا
وقوله:
فلو لم تكن في صُلبِ آدم نطفة ... لخر له إبليس أول ساجد
وقوله:
لو كنتمُ صحتي وعافيتي ... فررتُ من قربكم إلى السِّقمِ
وقوله في هجاء طبيب:
سلَّط الله عليه طبَّهُ ... وكفاه طبه لا بل كفاني
وقوله:
وأخرق تضرمه نفخةٌ ... سفاها وتطفئه تفلة
وقوله:
وقال اعذروني إن بخلي جِبلةٌ ... وإن يدي مخلوقة خلقة القفل
طبيعة بخل أكَدَّتها خليقة ... تخلَّقتُها خوفَ احتياجي إلى مثلي
وقوله: وقد أبدع واستطرد في وصف صور السعادة التامة وتصويرها تصويراً بارعاً كي يقول: إن سعادة الناس التامة لا تقتضي الشكر عليها ما دام المهجو منهم، فانظر إلى براعة الرسم والتصوير في قوله:
ما كرَّمَ الله بني آدم ... إذ كان أمسى منهمُ خالد
والله لو أنهمُ خلِّدُوا ... حتى يبيد الأبد الآبد
وأصبح الدهر حفياً بهم ... كأنه من بِرِّهِ والد
ولم يكن داءٌ ولا عاهة ... فالعيش صافٍ شربه بارد
ودامت الدنيا لهم غضة ... كأنها جارية ناهد
ما كلِّفوا الشكر وقد ضمهم ... وخالد اللؤم أب واحد
على أن هذا كله أهون ما في شعره من الهجاء، وأسهل تحملاً من فحشه الذي أطلق لنفسه(293/16)
العنان فيه وخلع الحياء، وأتى بأشد مما جاء به كل الشعراء. فلا الحطيئة ولا الأخطل ولا جرير يدانيه في الهجاء، وهو مع ذلك أحياناً يخلط الهجاء بالحكمة والمثل كما في قوله:
توَقىِّ الداء خيرٌ من تصدِّ ... لإيسره وإن قرب الطبيب
وكما في الأبيات المشهورة التي يقول فيها:
رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شِيَم شريفهْ
كمثل البحر يغرق فيه حي ... ولا ينفكُّ تطفو فيه جِيفهْ
أو الميزان يخفض كل وافٍ ... ويرفع كل ذي زنةٍ خفيفهْ
فترى أنه مُغْريً دائماً بتتبع الصور وبالتصوير سواء أكان ذلك في مدحه أو ذمه. وتظهر مقدرته على التصوير أعظم ظهور في وصف الأزهار أو الأنهار أو الأشجار أو القفار أو الرياح أو السماء أو السحاب أو الفواكه أو الروائح أو المأكولات، وله في كل هذه الأشياء أشعار كثيرة. أنظر إلى وصفه للنسيم:
وشمائل باردة النسيم ... تشفي حزازات القلوب الهِيْم
كأنها من جنة النعيم
وقوله في وصف الأرض والمطر:
أصبحت الدنيا تروق من نظرْ ... بمنظر فيه جلاء للبَصَرْ
أثنت على الأرض بآلاء المطر ... فالأرض في روض كأفواف الحبر
نَيِّرَةَ النوار زهراء الزَّهَرْ ... تَبَرَّجَتْ بعد حياء وخَفَرْ
تَبَرُّجَ الأنثى تصدت للذكر
ويقول في غروب الشمس:
كأن خُبوَّ الشمس ثم غروبها ... وقد جعلت في مجنح الليل تمرض
تخاوُص عينٍ مس أجفانها الكرى ... يُرَنِّقُ فيها النوم ثم تُغَمِّضُ
ومن بدائعه القصيدة التي يقول فيها (حيتك عنا شمال طاف طائفها) والتي يقول فيها: (ورياضٌ تخَايَلُ الأرض فيها) والتي يصف فيها النرجس والورد في قوله (للنرجس الفضل المبين لأنه) والأخرى التي يصف فيها فواكه أيلول ويقول: إنه لولاها لزهد في الحياة. وله القصيدة البديعة التي يصف فيها غروب الشمس.(293/17)
وأول وصفها قوله فيها:
وقدر نَّقَت شمس الأصيل ونفَّضت ... على الأفق الغربيِّ ورسا مذعذعا
وفيها يتخيل أن الشمس تودع النبات ويودعها النبات وكأن كلا منهما يحس لوعة الفراق. ويخيل إلى أنه لو كان نقاشاً لرسم ونقش صورة مملوءة بالحياة كأبدع ما صنع المصورون في معنى هذه القصيدة، ولكن ما أحسب أن مصوراً يأتي بأحسن مما جاء به في الشعر، وله وصف العنب الأبيض الذي يقول فيه:
لم يُبْق منه وَهَجُ الحرور ... إلا ضياءً في ظروف نور
وله في وصف الخمر:
لطفت فقد كادت تكون مُشاعَةً ... في الجو مثل شعاعها ونسيمها
وأمثال هذا الوصف كثير في شعره. وهو مصور أيضاً في غزله. أنظر إلى وصفه محاسن النساء في قصيدة (أجنت لك الورد أغصان وكثبان) ووصفه الجمال والغناء في قصيدته الدالية في وحيد المغنية وهي التي يقول فيها: (يا خيلليَّ تَيَّمَتْني وحيد) وكأنما هو فيها يُصورُ الألحان كما يصور الوجوه الحسان. ومن بدائعه في الغزل قوله: (وحديثها السحر الحلال لو انه) وقوله: (لو كنتَ يوم الفراق حاضرنا) وقوله: (لا تكثرنَّ ملامة العشاقِ) وقوله: (وفيك أحسن ما تسمو النفوس له) وقوله: (شفيعك من قلبي شفيعٌ مُشَفَّعُ). وله غزل كله شهوة، وله مجون شنيع، وكان يفتخر بالقدرة الجثمانية على الملذات. وهذا كله لا يليق نشره ولكن له مع ذلك غزلاً وجدانياً رقيقاً، فهو قد جمع الأطراف لأنه كان مرهف الإحساس كما كان مرهف الحواس وتراه يجمع الوجدان والتصوير في قوله في حب الوطن:
بَلدٌ صحبتُ به الشبيبة والصِّبا ... ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثَّل في الضمير رأيته ... وعليه أفنان الشباب تميد
فهنا أيضاً نزعة التصوير غالبة عليه في البيت الثاني. وله أشعار أخرى في حب الوطن، ولا غرو فإنه كان يمقت الأسفار. ومن رأيي أن تحسُّرَ ابن الرومي على ذهاب الشباب ليس له مثيل في شعر الشعراء وإن كانوا قد أكثروا في هذا الموضوع. وأحسن قصائده فيه قصيدته التي يقول فيها (كفى بالشيب من ناهٍ مطاعٍ) ومن أبياته فيها، وقد غلبت عليه(293/18)
النزعة إلى التصوير في هذه الأبيات:
يُذَكِّرُِني الشبابَ جنانُ عدن ... على جنبات أنهار عِذَابِ
تفيء ظلها نفحات ريح ... تهز متون أغصان رطاب
إذا مَاسَت ذوائبها تداعت ... بواكي الطير فيها بانتحاب
يذكرني الشباب وميض برق ... وسجع حمامة وحنين ناب
وكانت أيكتي لِيَدِ اجتناء ... فصارت بعده ليد احتطاب
وهو لا يكتفي بما يكتفي به غيره من جعل الحياة بعد الشباب كالموت بل يقول إنها عذاب. وله قصائد أخرى في التحسر على الشباب منها قصيدة (دَابَرَ أوطارَهُ إلى الذِكَر) و (خليليَّ ما بعد الشباب رزية) و (لا تَلْحَ مَنْ يبكي شبيبته) و (أيام استقبل المنظور مبتهجاً) وقوله:
اكتهلتْ همتي فأصبحتُ لا أب ... هج بالشيء كنتُ أبهج بِهْ
وحَسْبُ من عاش من خلوقتِه ... خلوقة تعتريه في أَرَبِهْ
وهذا الرجل المنهوم بمحاسن الحياة ولذاتها، المولع بوصف مباهجها وفتنها وأطايبها، له حالات إذا وصف فيها الزهد أتى بالقول المؤثر، كما في قصيدته في وصف الزُّهَّادِ، وهي قد جمعت أيضاً بين التصوير والوجدان، وهي التي يقول فيها:
تَتَجافَى جنوبهم ... عن وطئ المضاجعِ
ولكن الجمع بين التهافت على الملاذ في وقت من أوقات الحياة وشدة الشعور الديني في وقت آخر أمر مشهود؛ وقد يتردد صاحبهما بينهما مرات عديدة.
وقصائد ابن الرومي في الإخوان والعتاب متنوعة الأغراض والمعاني والأنغام والصور. وأشهرها قصيدة: (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء) وفيها يتخيل مناظرة ونقاشاً طويلاً بينه وبين هنات صاحبه، وهي بارعة في التصوير والتفكير؛ ولكن له من القصائد ما هو أكثر وجداناً وعاطفة، وله مقطوعات موسيقية كقوله:
طلبتُ لديكم بالعتاب زيادة ... وعطفاً فأعتبتم بإحدى البوائق
فكنتُ كمستسْقٍ سماءً مخيلة ... حياً فأصابته بإحدى الصواعق
وقوله:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنَّ من الصحاب(293/19)
فإن الداَء أكثر ما تراه ... يحول من الطعام أو الشراب
والأبيات التي ذكرت من قبل وأولها: (تخذتكم درعاً وترساً لتدفعوا) وهي من أبدع ما قال في العتاب الوجداني، وكذلك قوله: (أتاني مقال من أخ فاغتفرته). وقوله: (إني لأغضى عن الزلات مجتنباً). وكثرة العتاب في شعره تدل على أنه كان منكوباً في الإخاء والأنصار. وقد أجاد ابن الرومي أيضاً في الرثاء لأنه كان منكوباً في أولاده، وإنما هذه نكبة الرزء والموت لا نكبة الجفاء التي دعت إلى إجادة العتاب، ولا أذكر قصيدة في رثاء الأبناء في اللغة العربية تقارب قصيدة ابن الرومي الدالية في رثاء ابنه الأوسط غير قصيدتي التهامي، ومطلع قصيدة التهامي الأولى:
حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار
ومطلع الثانية:
أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري ... فخيِّلَ لي أن الكواكب لا تسري
وفيهما يرثي ابنه كما رثى ابن الرومي ابنه بقصيدته التي أولها مخاطباً عينيه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدِي ... فجودا فقد أودى نظيركما عندي
وتغلب نزعة الرسم والتصوير على الشاعر، فيصف ابنه يعالج المرض والموت، ويصف حزنه إذا رأى أخويه يلعبان في ملعب له. وهذه القصيدة من أجلِّ ما قال ابن الرومي من الشعر، بل من أجلِّ ما قال شاعر من الشعر، وهي أكبر دليل على أن الشعر الرفيع المقام لا يكون إلا إذا وجدت العاطفة، وأما الصنعة وحدها فلا تخلق شعراً عالياً. ولابن الرومي قصائد أخرى في الرثاء تستجاد، منها رثاء يحيى بن عمر العلوي التي مطلعها:
أَمامك فانظرْ أي نهْجيك تنهج ... طريقان شتى مستقيمٌ وأعوج
وفيها يقارن بين ترف العباسيين وبين ما كان العلويون فيه من تشريد واضطهاد. ومما يؤسف له أنه شانها بالفحش الشنيع في هجاء العباسيين؛ وهذه القصيدة تذكرني بقصيدة دعبل الخزاعي الرائعة في آل البيت وهي أعمق أثراً ومطلعها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
والذي يقرأ شعر ابن الرومي يرى أنه أشد ذوي الفنون عجزاً عن حبس بعض ما يجول في خاطره من الخواطر، وهذا العجز يجعل صاحبه كأنه أسوأ خلقاً ونفساً من الناس، وهو(293/20)
قد يكون وقد لا يكون، فإن كان إنسان - كما قال سمرست موام - القصصي الإنجليزي في كتاب (الخلاصة) تخطر على خاطره خواطر السوء حتى على بال القديسين المطهرين الذين كانوا يشكون في نقاوتهم وطهارتهم بالرغم من أنهم كانوا لا يفعلون ما يدعو إلى هذا الشك؛ وذوو الفنون، بسبب النزعة الفنية إلى تصوير أنفسهم والتعبير عن خوالجها، قد يعجزون عن كتم هذه الخواطر التي يكتمها غيرهم. وإني أميل أحياناً إلى الاعتقاد أن قصص المجون في شعر أبي نواس وابن الرومي لم تحدث حقيقة ولم يفعلوا ما زعموا أنهم فعلوا أو على الأقل بعضها لم يحدث، وإنما هي خواطر السوء التي تمر بخاطر الناس ويكتمها الناس ويعجز بعض الفنانين عن كتمها بل يصنعون منها قصصاً فخراً بها أو صنعة. وعلى هذا القياس نستطيع أن نفهم قصيدة ابن الرومي التي أولها: (لهف نفسي على رصاص مُذابٍ) أي رصاص منصهر كي يصبه في فم عدوه حتى يموت ويتشفى بسؤاله عن صحته أثناء ذلك، وهي قصيدة شنيعة. ولكن كم من الناس إذا تألم من عداء رجل ألماً شديداً لا تخطر له مثل هذه الخواطر إذا اشتد به الألم وكان مرهف الإحساس؟ أما أن يصب الرصاص المنصهر في فم إنسان فهذه مسألة أخرى، فقد يكون صاحب هذه الخواطر أعجز الناس عن إتيان الشر كما هو أعجز الناس عن كتمان ما يجول بخاطره من خواطر السوء. ولا ننس أن ابن الرومي كان مرهف الإحساس حتى أنه أعد خنجراً مسنوناً كي يقضي به على حياته فيما زعموا إذا اشتد به الألم في الحياة، وقد اشتد واشتد ولم يفعل.
عبد الرحمن شكري(293/21)
من برجنا العاجي
يقع لي أحياناً أن أهبط محلاً عاماً فيتقدم إلى شخص لا أعرفه، يحييني تحية رقيقة ويقول: (أحد قرائك المعجبين) ثم يمضي دون أن يزيد. ويحدث لي دائماً في كل عيد أن أفض البريد فأجد بطاقات التمنيات ورسائل التهاني كأنها باقات الورد من قراء كرام لم تبصرهم عيني ولم يروني إلا فكرة تعيش في سياج السطور على أديم الصفحات
هنا معنى الاتصال الروحي، أرفع ألوان الاتصال، وأسمى أنواع المشاعر. وإني ليملؤني العجب حيناً، ويداخلني الزهو أحياناً إذ لأجد في الشرق مثل هؤلاء القراء!
لكن مهلاً. . . فيم العجب؟ ألسنا القائلين الشرق هو قلب (الروحانية)
النابض؟
إنما المدهش حقاً هو أن نرى قراء الغرب يبعثون كل صباح ملايين الرسائل إلى كتابهم المحبوبين! نعم أين هذا الاتصال الروحي من ذاك! إذا قلنا إن الفرق في عدد القراء وانتشار الأمية أو التعليم لكذبتنا النسب والأرقام، ولتبين لنا آخر الأمر أن الشرق متخلف في هذا المضمار على كل حال
إن عيب الشرق هو (الكسل). والقارئ الشرقي على وجه عام رخو المزاج فاقد النشاط. إنه يطالع وتتأثر نفسه ويتفتح قلبه، ثم لا يلبث أن يتثاءب ويلقي الكتاب وينسي المؤلف وتخمد فيه الجذوة. ثم هو بعد ذلك كثير الإهمال قليل الاكتراث. فأين القوة الداخلية التي تدفعه إلى طلب الاتصال بذلك الروح الذي أنس إليه؟
إنه (يستهلك) مادة الكتاب مثلما يستهلك مادة الطعام دون أن يلقي بالاً إلى الطاهي الذي أعده لمادته. وهكذا ينكشف الأمر عن هذه النتيجة العجيبة:
إن روحانية الشرق قد هبط بها (كسل النفس) إلى المادية، وإن مادية الغرب قد ارتفع بها (تيقظ النفس) إلى الروحانية!
توفيق الحكيم(293/22)
أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدى هذه الفصول)
كان هوميروس يخفض الآلهة إلى مراتب الناس فيجعل لهم من الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة، أو ما ليس يتوفر إلا للآلهة.
وعجيب أن تتخذ آلهة هوميروس مثلها العليا من البشر الذين خلقتهم بأيديها، لأن هوميروس - على ما يبدو في ملاحمه - لا يرى الحياة الدائبة النشيطة المفعمة بالغرائز المتضاربة، إلا في محيطها المرئي المعترف به الذي يتكون منا نحن البشر. . . ولكي تتم الصورة الشعرية التي هي روح ملاحمه، والتي تفوّق بها على ضريبه هسيود، تراه يلجأ إلى الأساطير يلون بها فصوله، وليثير بغرابتها اشتياق سامعيه، وليجدد فيهم الحماسة التي هي أولى غايات الملاحم. لذلك تراه يعقد مجالس الآلهة للتشاور فيما ينبغي أن تكون الوسيلة لنصرة فلان أو لخذلان فلان، فإذا اجتمع شمل الأولمب فلا بأس أن تثور الحفائظ بين أرباب وأرباب وبين ربات وربات، ولا بأس أن يُعيّر أحد الآلهة فلكان إله النار بما وقع بين زوجه فينوس وبين مارس إله الحرب من خطيئة وفسوق. . . ولا بأس أن يدس هرمز أنفه في الموضوع فيصرح أن مارس معذور جد معذور فيما حدث له من الصبوة إلى فينوس، وأنه أول من يشتهي أن يكون الذي وقع لمارس كان قد وقع له. . .
وليس يرى هوميروس بأساً في أن ينزل الآلهة في معمعان الحرب ينافحون عن الأبطال الذين ينتمون إليهم. . . ففي الكتاب العشرين من الإلياذة يستأذن الآلهة سيد الأولمب فينقسمون فريقين، فتكون هيرا ومينرفا وهرمز وفلكان في صفوف الإغريق، وينحاز أبولو ومارس وديانا وفينوس إلى صفوف الطرواديين. . . فإذا ثار النقع، واضطرمت الحرب، والتقى أخيل وهكتور (الكتاب العشرين) وقعقعا بالسلاح، وأوشك هكتور أن يظفر ببطل أبطال اليونان عندما يسقط رمحه. . . تتقدم مينرفا فجأة وعلى عجل فتأخذ الرمح من فوق(293/23)
الأرض وتناوله لأخيل فتنقذه من قتلة لم يكن فيها شك ولا عنها متحول. . . وهي تفعل مثل ذلك في الكتاب الثاني والعشرين فتنقذ أخيل وتمهد له بذلك فيقتل هيكتور. . . ومع أن مينرفا هي ربة الحكمة في الميثولوجيا اليونانية فهوميروس في هذا الموقف ينحط بها إلى أسفل مراتب الإنسان لأنها تكون سبباً في قتل رجل عظيم مثل هكتور يدافع عن وطنه ويذود عن حمى بلاده. . . وهي لا تتسبب في قتله فقط بل تحرمه فرصة نادرة أوشك أن يبطش فيها بأخيل.
وليتها فعلت كما صنع نبتيون في الكتاب العشرين حينما أنقذ إينياس من رمح أخيل مرتين حتى لا يغضب زيوس كبير الآلهة على بطل الإغريق.
هوميروس يزخرف الإلياذة بمثل تلك الأساطير ليقطع تسلسل المعارك، وليتقي سأم السامعين، وليجدد حماستهم، وهو في ذلك أستاذ أرباب المسرح من أمثال شكسبير وموليير. . . وهو لا تعييه الحيلة في اختراع ما يخفف وطأة الحزن إذا استعرت نيرانه في قلوب الناس حوله، فلا بأس عنده إذن من أن يترك جدث بتروكلوس ويقيم حفلاً أولمبياً للألعاب يشترك فيه أبطال الحرب فينافس بعضهم بعضاً فيتسابقون ويتلاكمون ويصطرعون ويقذفون القرص ويرمون الطوق ويحملون الأثقال ويسابقون على الخيل. . . وتكون حفلة باهرة كأحسن ما شهد العالم الحديث في أولمبياد برلين. . . ثم ينهض أخيل المحزون المرزّأ، في إثر كل مباراة، فيوزع الجوائز السنية على الفائزين (الكتاب الثالث والعشرين).
وقارئ الإلياذة يتولاه العجب وتأخذه الدهشة لبراعة هوميروس الأعمى في الوصف. . . فكأس نسطور في الكتاب الحادي عشر، ودرع هكتور في الكتاب السادس، والنقوش الأخاذة التي حفرت في درع أخيل، والستر الأزرق الجميل في قصر ألكينوس، وشروق الشمس وغروبها، وتكاثف الضباب، والنقع المثار فوق المعمعة. . . كل هذه آيات من الوصف الدقيق الذي يشهد لهوميروس بملكة فنية قوية تتجلى في أكثر أنحاء منظومته، وتربك المترجم خاصة حتى يستعصي عليه أن يساير هوميروس، ملك الشعراء، الذي تراه فيما ينظم مصوراً ورساماً وقائد جيوش وإلهاً وسحاباً وبرقاً ورعداً وحداداً. . ثم جزاراً وشواءً. . . ثم راهباً وواعظاً وما شئت من فنون الحياة التي لا حصر لها. . .(293/24)
لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس. . . فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم (يوضّبها!) ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها من أعواد الند والرند والصندل ثم يلقي فيها بالقراميد ثم يقطع اللحم ثم ينتشر القُتار (رائحة اللحم المشوي). . . ثم. . . ثم. . .
حقاً إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه، ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يُرهق بما حُشد في كتب فقه اللغة، لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل برداً وسلاماً على القراء.
وبعد فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة، أم الأوديسة؟
لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل، كما نظم الأوديسة للمرأة. الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعاً، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع، لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.
نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالاً للرجال يحتذونه. . . إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعاناً. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراماً، وَصَلَوْها أعواماً. . .
ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالاً رائعاً من الوفاء يحتذينه. . . إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن فلا يفرطن في أعراضهن، ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمناً طويلاً، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة، وصابرت، وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فحصد شوكتهم واستأصل شأفتهم.(293/25)
فالإلياذة خشنة كخشونة الرجال، والأوديسة لطيفة رقيقة فيها كثير جداً من رقة النساء. . . وهي رقة جعلت صمويل بطلر الأديب الإنجليزي العظيم يؤمن بأن هوميروس لم ينظم الأوديسة ولم يعرفها ولا تمت إليه بسبب، وبأنها من نظم فتاة من جزيرة صقلية استطاعت أن تدرس هوميروس والميثولوجيا اليونانية دراسة هادئة ثم فرغت لنظم الأوديسة فأتمت عملها في سهولة وفي يسر، وأخرجت هذه الدرة الفريدة التي تسمو في كثير من فصولها إلى ذروة الإلياذة.
لشد ما يدهش المرء لهذه الفكرة الغريبة التي قذف بها منطق بطلر! إن كثيراً من القرائن يؤيد هذا الرأي، بيد أننا لا نميل كثيراً إلى الأخذ به لأن الأخذ به شرود خطير مبالغ فيه عن حيز الأدب اليوناني القديم، وقليل من الاستقراء في المآسي التي ألفت بعد هوميروس تهدم رأي بطلر وآراء الذين تشككوا في صحة نسبة الأوديسة إلى هوميروس، فثلاثية إسخيلوس (الأورستية) مثلاً والتي تتركب من مآسيه أجاممنون وحاملات الكئوس والأيومينيدز قد أشير إليها في الأوديسة (الكتاب الحادي عشر) إذ يقص أوديسيوس على ألكينوس الملك رحلته إلى هيدز (الدار الآخرة) وما تحدث إليه به الكاهن تيرزياس عن أوبة أجاممنون، وما حدث له من الغيلة على يدي زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجستوس ثم ما كان من ثأر الفتى أودست لأبيه وقتله أمه. . . الخ.
فهذه الثلاثية التي أخذها إسخيلوس من الأوديسة وقدمها للمسرح تنقض وحدها دعوى الأديب بطلر، لأن الفتاة الصقلية التي يزعم أنها نظمت الأوديسة لم تكن قد وجدت بعد.
وقد جاء سوفوكلس فوضع مسرحيات كثيرة معظمها مفقود بكل أسف متخذاً موضوعاتها من صميم الأوديسة، ومما وصل إلينا من أسمائها تلك المسرحية الجميلة المسماة نوزيكا، وقد أخذ فكرتها من الكتاب السادس، وهي المسرحية التي يُروى أن سوفوكلس نفسه قد قام فيها بتمثيل دور الفتاة نوزيكا ابنة الملك ألكينوس حينما ذهبت إلى شاطئ البحر في سرب من وصيفاتها لغسل أثواب عرسها وتنشرها في الشمس فوق أغصان أشجار الغابة التي كان أوديسيوس مختبئاً فيها بعد نجاته من الغرق.
وهناك أدلة كثيرة تهدم ما رآه بطلر خطأ في نسبة الأوديسة إلى مؤلف غير هوميروس ولم أعثر في الكتب التي درست فيها ملك الشعراء من يوافق الأديب الإنجليزي على وجهة(293/26)
نظره هذه.
والذي يقرأ مآسي اليونانيين القديمة يلاحظ أن الشعراء قد عنوا بالإلياذة أكثر مما عنوا بالأوديسة، فأخذوا من الأولى أضعاف ما أخذوا من الثانية. وقد لا يكون بعيداً أن إسخيلوس قد أخذ من الإلياذة ستين مأساة على أقل تقدير من الثمانين التي ألفها والتي قال فيها إنها فتات من موائد هوميروس الغنية. . . وكذلك أخذ سوفوكلس مادة مآسيه في أكثر ما وضع للمسرح.
والإلياذة حقيقة بهذا الالتفات من شعراء اليونان، فهي النهر العظيم الجياش المتدفق الذي تفرعت منه الأوديسة والإلياذة الصغيرة والإلياذت الكثيرة التي ألفها شعراء القرن الثالث قبل الميلاد في كل من أثينا والإسكندرية، والتي لا نستطيع هنا أن نحصرها، بل أن نتكلم عنها.
وليس من شك في أن شخصية أخيل هي أبرع شخصيات الإلياذة. ولا غرو، فقد سمى هوميروس إلياذته (قصيدة غضب أخيل!!). وروح أخيل هي كهرباء الحماسة في الإلياذة من أولها إلى آخرها.
أنظر إليه وقد ذهبت به أمه إلى نهر الخلود تغطه فيه حتى لا ينفذ في جسمه رمح ولا سهم من رماح الحرب أو سهامها لأن لماء هذا النهر ذاك الفعل العجيب! وانظر إليه كيف يبتل جسمه كله ما عدا عقبه. . . ثم يكبر أخيل ويشب ويصبح بطل أبطال اليونان، ثم تكون حروب طروادة فيمضي إليها بخيله ورجاله، ويقتل الأبطال الصناديد، ثم يصوب إليه باريس سهماً من سهامه يقر في العقب التي تبتل بماء نهر الخلود فيكون فيه حتفه!
وانظر إليه يختلف، وأجاممنون من أجل الجارية بريسيز التي هويها أخيل وعلقها قلبه فيرفض أن يغشى المعركة، ويعتزلها وجنوده الميرميدون، فتدور بذلك الدائرة على جيوش اليونان ولا يغنيها أن يكون في صفوفها الأبطال المغاوير أودسيوس وأجاكس وديوميدز ومن إليهم. . . وأنظر إليه يكلمه بتروكلوس في نصرة بني جلدته حين يعز عليه أن يصطلمهم أبطال طروادة فيأذن له، ويضفي عليه درعه العظيمة التي ذهبت أمه فصنعتها له عند فلكان الحداد. . . ويذهب بتروكلوس فيكسر شوكة الطرواديين ويصيبهم القرح على يديه وأيدي الميرميدون جنود أخيل.(293/27)
وانظر إلى أجاممنون يعتذر إليه ويرد عليه بريسيز ويقسم له أنه لم يطمثها ولم يمسسها بسوء. وانظر إلى أخيل لا يفيء ولا يلين ولا ينهض لحرب الطرواديين، فيغضب الآلهة ويسخط أرباب الأولمب ويخرق الشرائع وقوانين الأخلاق، فتكون النتيجة أن يُقتل بتروكلوس الحبيب العزيز.
وانظر إلى أخيل كيف تسود الدنيا في عينيه حزناً على بتروكلوس فيمضي إلى المعمعة فيصرع أبطال طروادة ويجول فيها ويصول ويزأر ويزمجر ويطويها كالعاصفة. . . ثم انظر إليه يظفر بهكتور قاتل بتروكلوس فيصرعه ويجره خلف عربته ويدور حول طروادة غير موقر قدس الموت ولا حافل بتقاليد السماء.
ثم قف عند أروع مناظر الإلياذة جميعاً: بريام الحزين! والد هكتور! هذا الرجل المحطم يمضي وحده إلى أخيل باكياً ضارعاً متوسلاً، يرجو الرجل الذي قتل أولاده في أن يدع له جثمان هكتور ليشفى بالبكاء عليه جوى نفسه، وليطفئ بتحريقه السعير المضطرم بين جوانحه، فيعصف الحزن بأخيل العظيم، ويعانق الرجل العظيم، ويتبادلان البكاء، ثم يأذن له ببدن ولده. . .
هنا نبل هوميروس، وهنا إنسانيته وسموه، وهنا فرق ما بينه وبين قصاصينا الذين يشتركون مع سامعيهم في السخط على بطل الناحية الثانية.
دريني خشبة(293/28)
الإسلام دين تبشيري
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
للأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية أصول الدين
كان المرحوم السير توماس أرنولد المتوفى في التاسع من يونية سنة 1930 - أستاذاً للغة العربية في جامعة لندن، وكان واسع الاطلاع في علوم الدين الإسلامي واللغة العربية، وأهم مؤلفاته كتاب: (الدعاية الإسلامية وهو بحث عظيم الخطر جليل القيمة في تاريخ انتشار الدين الإسلامي. طبع للمرة الأولى سنة 1896، وأعيد طبعه سنة 1913؛ ثم طبع بعد وفاة المؤلف طبعة ثالثة سنة 1935 كتب مقدمتها المستشرق العلامة (رينولد نيكلسون). وأهم ما يلفت النظر في هذا الكتاب هدوء البحث، وسلامة التفكير، وعدم التحيز. ولا غرو فقد كان مؤلفه من أكثر المستشرقين اعتدالاً وأصدقهم نظراً وأكثرهم تجرداً من النزعات التعصبية، وهذا جعل لكتاباته في الموضوعات الإسلامية أهمية خاصة، ونحن نكتفي بهذا التعريف القصير لنقدم لقراء (الرسالة) ترجمة الفصل الأول من هذا الكتاب القيم، وهذا الفصل يعتبر مقدمة لما تناوله المؤلف بالبحث في بقية فصول الكتاب، وسنوافي الرسالة بترجمة الفصول الأخرى تباعاً، كما أننا سنعد دراسات أخرى لمآخذنا على بعض آراء المؤلف
(ع. س)
برح الخفاء منذ ألقى الأستاذ ماكس مولر محاضرته بكنيسة وستمنستر يوم الشفاعة للجماعات التبشيرية في ديسمبر سنة 1873. وأسفر الموقف عن أن الديانات الست العالمية العظيمة يمكن تقسيمها إلى تبشيرية وغير تبشيرية. فالنوع الثاني تنضوي تحت لوائه اليهودية والبراهمية والزرادشتية. ويضم النوع الأول البوذية والمسيحية والإسلام. ولقد حدَّد الأستاذ في وضوح ما اصطلح على تسميتها (ديانة تبشيرية) فقال: إن معناها أن يكون نشرها وإدخال الكفار فيها قد سما إلى مرتبة الواجب القدسي في نظر منشئ الديانة أو خلفائه الأولين. . . إنها روح اليقين في نفوس المؤمنين لا يقر قرارها حتى تنبعث فكرةً(293/29)
فقولاً فعملاً، ولا ترضى وتطمئن حتى تبلغ رسالتها إلى كل نفس إنسانية، وحتى يؤمن بما آمنت به أفراد البشرية جميعاً.
ومثل هذه الغيرة التي بدت من المسلمين لتشهد على صدق دينهم هي التي حفزتهم على أن يحملوا رسالة الإسلام إلى كل أرض ينفذون إليها، وهي التي جعلت لدينهم بحق تلك المكانة بين الديانات التي نطلق عليها (الديانات التبشيرية). وتاريخ نشأة هذه الغيرة التبشيرية والقوى الدافعة إليها وطرائق نشاطها كلها موضوع الصحائف القادمة، ولا ريب أن أولئك المائتي مليون من المسلمين المنتشرين اليوم في الأرض دليل جهاد هذه الروح طوال القرون الثلاثة عشر الماضية.
وأعلن تعاليم هذا الدين لأول مرة في القرن السابع عشر على أهل بلاد العرب نبي انضوت تحت لوائه قبائلها المتفرقة فأضحت شعباً واحداً، ثم دبت فيهم الروح القومية الجديدة فملأتهم حياة ونشاطاً، ثم سرت في جيوشهم حماسة وغيرة فملأتاها بأساً وقوة لا مرد لهما، وبهذه العدة كلها خرج المسلمون إلى القارات الثلاث يفتحون البلاد ويخضعون العباد، فاستولوا في أول الأمر على سوريا وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا وبلاد فارس، وانطلقوا بعد هذا غرباً إلى أسبانيا وشرقاً إلى ما وراء الأندوسيا، ولم يمضي على وفاة النبي مائة عام حتى وجد المسلمون أنفسهم سادة إمبراطورية أوسع رقعة من إمبراطورية روما في أوج قوتها.
ورغم أن هذه الإمبراطورية قد تصدعت فيما بعد وانهارت قوة الإسلام السياسية فإن فتوحه الروحية قد بقيت لا تحول دون سبيلها الحوائل. نعم أغار المغول على بغداد سنة 1258 وسلبوها، وأغرقوا في الدماء مجد العباسيين وقد ذبل عوده وحال لونه، وقام النصارى في الأندلس وعلى رأسهم فرديناند صاحب ليون وقشتالة فطردوا المسلمين من قرطبة سنة 1236، ودفعت غرناطة آخر حصن للمسلمين في الأندلس الجزية للملك المسيحي. كان ذلك كله يجري والمسلمون يضعون أقدامهم في أرض جديدة يدخلون أهلها في دين الله، تلك هي جزيرة سومطرة، ثم كانوا على وشك أن يبدءوا تقدمهم الموفق في جزائر أرخبيل الملايو، وهكذا يقوم الإسلام في ساعات انهياره السياسي بطائفة من أعظم غزواته الروحية. وفي التاريخ ظرفان خطيران وطئ فيهما الكفار بأقدامهم أعناق المسلمين، أولهما:(293/30)
حين دهمهم الأتراك السلاجقة في القرن الحادي عشر؛ والثاني حين غزاهم المغول في القرن الثالث عشر. ورغم أن الغزاة أخضعوا المسلمين لسلطانهم السياسي في كلتا الحالتين فإنهم خضعوا لسلطان الدين الإسلامي ورضوه ديناً لأنفسهم. وفي مرة أخرى نجد المبشرين المسلمين في غير اعتماد على سلطان الحكم وصولة الجيوش يحملون الدين الإسلامي إلى أواسط أفريقيا والصين وجزائر الهند الشرقية.
واليوم يمتد نطاق الإسلام من مراكش إلى زنجبار، ومن سيراليون إلى سيبيريا والصين، ومن البوسنة إلى غيانة الجديدة. ولو أننا تركنا البلاد الإسلامية البحتة أو التي يسكنها عدد كبير من المسلمين كالروسيا والصين، وجوزنا حدودها إلى البلاد التي لم تؤمن بالإسلام لوجدنا بها بعض الجماعات الإسلامية القليلة العدد المحدودة الكيان تشهد على قيام الإسلام بين من كفروا بدعوته. ومن أمثلة ذلك لتوانيا التي يعيش فيها مسلمون من أصل تتري يتكلمون اللغة البولندية ويسكنون أقاليم كوفنو وفلنو وجردونو، وكذلك المسلمون الذين يتخاطبون باللغة الهولندية في مدينة الرأس، كذلك أجراء الهنود الذين حملوا معهم الدين الإسلامي إلى جزر الهند الغربية وغيانا البريطانية والهولندية، وأخيراً نجد للإسلام أنصاراً في إنجلترا وشمال أمريكا واستراليا واليابان. . .
ويرجع انتشار الإسلام في تلك المساحات الواسعة على ظهر الأرض إلى أسباب كثيرة اجتماعية وسياسية ودينية، ولكن من أهم العوامل التي أحدثت هذه النتيجة المثيرة للإعجاب جهود المبشرين المسلمين المتتابعة، وهؤلاء اقتدوا بالنبي (ص) نفسه فضحوا بحياتهم معه في سبيل إدخال الكفار في دينهم.
ولم يكن واجب الدعوة إلى الدين فكرة متأخرة في تاريخ الإسلام، بل كان أمراً محتوماً على المؤمنين من أول الأمر، يدل على ذلك ما نسوقه إليك من آيات القرآن المرتبة ترتيباً زمنياً بحسب نزولها:
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (س16) (126)
(وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب، فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير) (س42)،(293/31)
(15 - 16)
ونجد نذراً كثيرة كهذه في السور المدنية التي نزلت ومحمد على رأس جيش عظيم وهو في منتهى قوته، نسوق منها ما يأتي:
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (س3) (21)
(. . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (س3) (104 - 105)
(لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون) (س22) (68 - 69)
والآيات الآتية مأخوذة من السورة التي تعتبر على وجه الإطلاق آخر ما نزل من القرآن:
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (س9) (8)
إذاً فالإسلام منذ نشوئه دين تبشيري من الوجهتين النظرية والعملية؛ وحياة محمد مثلٌ لهذا المبدأ التبشيري، كما أن النبي نفسه قد ظهر على رأس جماعات تبشيرية عديدة نجحت في إدخال الكفار في الإسلام. ولا يصح فوق هذا أن نغتنم الأدلة على الروح التبشيرية في الإسلام فيما قام به أهل الاضطهاد من ضروب العنف والقسوة، أو أن نبتغيها في جهاد هذه الشخصية التي تكاد تكون إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، شخصية المحارب المسلم يحمل سيفه في إحدى يديه ويحمل القرآن في الأخرى؛ وإنما يجب أن نلتمسها فيما بذله المبشر والتاجر من جهد هادئ بعيد عن الفضول، فحملا دينهما إلى كل مكان على وجه الأرض. ويريدنا البعض أن نحذو مثالهم في الاعتقاد بأن المسلمين لم يلجئوا إلى مثل هذه الطرق السلمية في التبشير والإقناع إلا حين أقعدتهم الظروف السياسية فجعلت من المستحيل أو من غير الكياسة استعمال العنف والقوة، ولكن الحقيقة أن القرآن في كثير من الآيات يحض على الرفق في الدعوة؛ ومن أمثلة ذلك:
(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً. وذرني والمكذبين أولي النَعْمة ومهلهم قليلاً) (س73) (11 - 12)(293/32)
(إلا بلاغاً من الله ورسالاته) (س72) (24)
(قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون) (س45) (13)
(وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم، فهل على الرسل إلاَّ البلاغ المبين) (س16) (36)
(فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) (س16) (83)
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن إلاَّ الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) (س29) (47)
(فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاَّ البلاغ) (س42) (49)
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (س10) (100)
(وما أرسلناك إلاَّ كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (س34) (29)
وليست أمثال هذه الوصايا قاصرة على السور الملكية، ولكنها تكثر كذلك في السور التي نزلت في المدينة. ومن أمثلتها ما يأتي:
(لا إكراه في الدين) (س2) (256)
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين) (س64) (13)
(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلاَّ البلاغ المبين) (س24) (55)
(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) (س22) (50)
(إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً) (س48) (9 - 10)
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلاَّ قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) (س5) (15)
والغاية من كتابة الصحائف الآتية أن نبين كيف تحققت هذه المثل في التاريخ، وكيف(293/33)
تناول الداعون إلى الإسلام تلك المبادئ التي تعتزي إلى النشاط التبشيري فجعلوا منها أموراً عملية، كما أود في بداءة البحث أن يفهم القارئ في وضوح أنني ما قصدت من وضع هذا الكتاب أن أدون تاريخ العنف والاضطهاد في الإسلام، وإنما قصدت أن أدون تاريخ التبشير الإسلامي. وليس غرضي من تأليفه أن أتناول الظروف التي تحوَّل الناس فيها إلى الإسلام بوسائل الإكراه والقسر - وهي مبعثرة هنا وهناك في صحائف التاريخ الإسلامي - فقد أمعن الكتاب الأوربيون في التنقير عنها والتهويل في تدوينها على وجه لا يخشى معه من نسيانها، ثمّ هي لا تدخل على وجه الدقة في نطاق تاريخ التبشير الإسلامي. فلنجاوز هذا إلى تاريخ التبشير المسيحي، وفي بطونه نتوقع بطبيعة الحال أن نقرأ عن الجهود التي بذلها القديس ليدجار والقديس ويليهاد بين الوثنيين السكسون أكثر مما نقرأ عن حالات التنصير التي أمر شارلمان أن تكون، فكانت تحت قراع الرماح ورنين القسي، في جو من الرهبة تداعت فيه الأصوات وتجاوبت الأصداء. كذلك الحال في الدانمرك فقد اجتث ملكها كنوت الوثنية من بلاده بحد السيف، ولكن بالرغم من هذا فالقديس أنسجار وخلفاؤه هم الممثلون الصادقون للتبشير بالنصرانية هناك. وفي بروسيا يمثل التبشير بالمسيحية القسيس جوتفريد والأسقف كرستيان برغم ما منيا به من الفشل في كسب الوثنيين البروسيين إلى دينهم، وبالرغم مما كتب من التوفيق لجماعة (إخوان السيف) وبقية الصليبيين الذين تيسر لهم أن يتموا بقوة النار والحديد ما بدأه جوتفريد وكرستيان. وفي ليفونيا نهضت طائفة من الفرسان تدعى (جماعة الإخوان المسيحيين الحربيين) بإدخال أهل هذه البلاد في النصرانية بوسائل الحرب والقسر، ومع ما اقترن بجهدهم من المضاء والغناء فالرهبان مينهارد وتيودوريك هما بحق رسولا المسيحية إلى هذه البلاد. ولقد لجأ الجزويت أحياناً إلى وسائل الإرهاب والعنف، ولكن هذا لا يحط من قدر المآثر التي كسبها أمثال القديس (فرانسيس اكسافيير) والمبشرين الآخرين من الجزويت. ولا يقل عن أولئك كل ما يعزى إلى (فالنتين) رسول جزيرة أمبوينا إذ صدرت الأوامر سنة 1699 لكل راجا من حكامها أن يعد عدداً من الوثنيين ينتصرون على يد هذا الرسول في إحدى جولاته في الجزيرة.
وتبدو حركة التبشير في تاريخ الكنيسة المسيحية متقطعة غير متصلة، فهذا عصر انتعاش(293/34)
وحماسة في التبشير يعقبه عصر بلادة وجمود، وذاك عصر تحل فيه وسائل الإرهاب والقسوة محل وسائل الإرشاد والدعة. وهذا بعينه هو شأن الدعاية في الإسلام تنساق إلى المد، ثم لا تلبث أن تستطرد إلى الجزر. ولكن لما كانت الحماسة التبشيرية في كلتا الديانتين ظاهرة متميزة، فتاريخ الدعاية في كل منهما حريٌّ بأن يكون موضوع درس مستقل. وليس معنى هذا أن نبعد عنه بقية المظاهر الأخرى للحياة الدينية، ولكن معناه أن نفرغ جهدنا في واحد من هذه المظاهر له مميزاته الخاصة. إذاً فتاريخ الدعاية وتاريخ الاضطهاد يجب أن يدرس كل منهما درساً مستقلاً بعيداً عن الآخر، سواء أكان ذلك في تاريخ الكنيسة المسيحية أو في تاريخ الديانة الإسلامية رغم ما حدث من تلازمهما في بعض الظروف في كلتا الديانتين، ذلك لأن الدين المسيحي لم يستفض هذه الاستفاضة وينتشر هذا الانتشار في كل الظروف بمثل الوسائل التي استخدمها في فيكين جنوب النرويج الملك أولاف تريجفسون الذي عمد إلى من رفضوا الدخول في المسيحية فذبحهم أو قطع أيديهم وأقدامهم أو نفاهم خارج بلاده، وبهذا نشر النصرانية في كل أنحاء فيكين. كذلك لم تكن نصيحة القديس لويس مبدأً يسير عليه المبشرون النصارى، تلك النصيحة التي يقول فيها: (إذا سمع أحد العوام شخصاً يطعن في الشرع المسيحي، فلن يذبَّ عن دينه إلا بسيفه، وليوغل بذلك السيف في أحشاء الكافر إلى أبعد مدى يستطيع)
ونجد بالمثل جماعات تبشيرية إسلامية لم تستن تلك السنة البربرية التي عبر عنها مروان آخر الخلفاء الأمويين بقوله: (من لم يدخل من أهل مصر في ديني ويصل كما أصلي ويتبع مذهبي لأقتلنه وأصلبنه)
كذلك لم نعتبر المتوكل والحاكم وتيبو سلطان أصدق أمثلة المبشرين المسلمين لنخرج من الميدان أمثال مولانا إبراهيم الداعي إلى الإسلام في جاوة وخواجة معين الدين ششتي في الهند وغيرهم ممن لا يحصيهم العد وكان لهم فضل في إدخال الناس في الإسلام عن طريق الهدى والإِرشاد السلمي وحدهما.
ولكن بالرغم من أنه يمكن وضع فاصل للتمييز بين اعتناق الدين عن طريق الاضطهاد والعنف وبين اعتناقه نتيجة الإِرشاد والدعاية السلمية، فإنه ليس يسيراً أن نتحقق الدوافع التي حملت الشخص على أن يستبدل بدينه القديم ديناً آخر. كذلك ليس من السهل أن ينجلي(293/35)
لنا إذا كان المبشرون بالدين قد تساموا إلى حد اعتبار الدعوة الدينية واجباً روحياً مقدساً، واسترشدوا بالمثل الأعلى الذي أوضحناه في الفقرة الأولى من هذا الفصل، ففي كلتا الديانتين نجد نفوساً متحمسة تحل دينها محل الحقيقة العليا في حياتها، وقد وَجَدَ مثل ذلك الكلف الشديد بالشئون الروحية مخرجاً في تلك الحماسة التي أدَّت إلى اعتناق الحقائق الجزلة السديدة، وإلى سيادة المذاهب والعقائد التي آمن الناس بصحتها، وهذا كله مصدر القوة التي اشتدت بها عرى الحركات التبشيرية وثبتت قواعدها. وهناك قوم لم يعملوا أكثر من الاستجابة إلى دعوة الداعين، ولكنهم اعتنقوا الدين الجديد بحماسة لا تقل عن حماسة الأولين، وعلى نقيض هؤلاء وهؤلاء عرف الإسلام كما عرفت النصرانية قوماً آمنوا بكلتا الديانتين، وكانت الشرائع الدينية لديهم مجرد ذرائع إلى ما يبتغون من الأغراض السياسية أو وسائل إلى ما يلتمسون من أوضاع للنظم الاجتماعية، وهكذا اعتنق أولئك القوم دينهم الجديد على أنه ضرورة يخطرون أنفسهم عليها إخطاراً، أو على أنها حلول مناسبة للمشاكل التي لم يعنوا بالتفكير فيها وإيجاد حلها بأنفسهم، ومثل هؤلاء نجدهم على السواء في كلتا الديانتين، إذا فقد اعتنق الإسلام كما اعتنق النصرانية في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قوم لا تصلهم صلة بهذه الحرقة الروحية، وذلك الغليل النفساني الذي يسهِّد المبشرين الصادقين، وفوق هذا فتاريخ الحركات التبشيرية وما يصادفها من الأحداث إنما يعنى عادة بتدوين حالات التحول من دين إلى آخر دون العناية بتحليل الدوافع التي حملت الناس على استبدال دينهم بغيره، وتاريخ التبشير الإسلامي على وجه الخصوص يفتقر افتقاراً بيناً إلى المادة في هذا الصدد لأن الأدب الإسلامي معوز إلى أخبار حالات التحول إلى الدين الإسلامي، بينما اهتم أدب الكنيسة النصرانية بمثل هذه الحالات في الدين المسيحي وأحلها منه محلاًّ رفيعاً، وعلى هذا فنحن في عجالتنا القادمة لموضوع النشاط التبشيري الإسلامي لم نستطع الوصول إلى طبيعة العوامل التي حملت الناس على الدخول في الإسلام، سواء منها السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية البحتة، ولو أننا استطعنا في بعض الظروف أن نشير إشارات عرضية لما أحدثته بعض هذه العوامل من الآثار.
عبد الفتاح السرنجاوي(293/36)
قلت لنفسي. . .
عجيبٌ أمر ابن آدم اليوم!! يكاد لا يعطف بعضه على بعض إلا المادة أو السطوة أو الشهوة! أما أُلفة الجنس للجنس، ومتعة الإنس بالإنس، وإجابة الحس للحس، فقد أصبحت في هذا الزمان، من الصفات الأثرية في الإنسان.
كانوا يقولون إن الناس مع الزمان، يقبلون متى أقبل، ويدبرون متى أدبر. فكنا نقول: كان ذلك والزمان كلب ٌيجري وراء سيده، ما دام الرغيف في يده. أما اليوم فالزمان إنسان حر مفكر لا يتبع إلا المبدأ ولا يطيع غير الضمير. ولكن الواقع وا أسفا علمنا أن الزمان لا يزال كلباً، وأن المال لا يزال رباً، وأن حكمة الأولين لا تزال صادقة!.
لي صديقي من رءوس العراق المرفوعة بالفضل والنبل والكفاية، كان
وهو في سلطان السيف وعزة القلم مرجع الرأي والهوى والحاجة. فلما
نكتبه في نفسه وأهله السياسة العشواء الجموح، تجرد كالسيف، وتفرد
كالأسد، وأصبح فإذا الوجوه أقفاء، والأنصار أعداء، والأحياء في دنياه
موتى؛ فلا رأس ينحني، ولا لسان يحي، ولا يد تصافح. وظل وحده
يعالج مرارة الحزن والحرمان والغربة حتى صحا الدهر من غفوته،
ونهض الحظ من كبوته، فعاد إلى الوزارة، وعاد الناس إلى الزيارة،
وقال الوجه الذي عبس وأشاح، والسان الذي ذم ونم: والله يا مولانا لا
يعدُل حزننا لغيبتك، إلا فرحنا بأوبتك. . . ثم انعكست الصفات في
الصحف، فصارت الخيانة أمانة، والبلادة زكاتة، والعقوبة شهادة. . .
ابن عبد الملك(293/38)
على هامش الفلسفة
الحقائق الأخلاقية
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
ليس من الحق برغم ما سقناه في الكلمة السابقة من الشواهد على اختلاف الآراء والأفكار الأخلاقية تبعاً لاختلاف الأمم والشعوب والزمان والمكان - ليس من الحق مع هذا كله أن ننكر أن هناك حقائق أخلاقية عامة سايرت العُصُر وسادت في جميع البيئات.
ذلك أنه من السهل أن نلاحظ أن الناس على ما بينهم من اختلاف مرجعه الجنس والبيئة والزمن يمتثلون لما يعتقدونه واجباً على أوجه مختلفة، وقد تتباين كما رأينا أحياناً؛ ولكنهم جميعاً يقبلون في قرارة أنفسهم فكرة الواجب ويعتقدون أن بعض الأعمال أعلى خلقياً من البعض الآخر. الكل يعلم أنه يوجد خير وشر، ويحس الاحترام لبعض الناس والاحتقار لآخرين. الرجل الساذج في أفريقيا وأستراليا في خضوعه لتقاليده العجيبة وعده ذلك واجباً، والمجرم الذي لا يخلف ما وعد بعمله من مآثم ومناكر، والذي يرى نفسه ملزماً من نفسه بعدم خيانة عصابته؛ أولئك جميعهاً عندهم خلقية مشابهة في صورتها لا في مادتها ومحتواها لخلقية الرجل الفاضل من هذه الناحية، مادام الجميع يرون القيام بالواجب أمراً مقضياً. ليس علينا إلا إثارة عقول هؤلاء المساكين الذين يخضعون هذا الخضوع الأعمى لتلك التقاليد الظالمة، وتفهيمهم أي الأعمال تعتبر واجبات يجب أن يقوموا بها ويعدوا تنفيذها أمراً إلزامياً. هذا التحقق وهو أنه يوجد لدى جميع الناس بلا استثناء منذ ابتدءوا يفكرون ويعملون نظريات وعواطف أخلاقية، يجيز لنا أن نصف فكرة الواجب والخضوع له وعدِّ من يقوم به خيِّراً بأنها حقيقة أخلاقية عامة. ثم على رغم هذا الاختلاف الذي لا ريب فيه بين ما يسمى واجباً هنا وواجباً هناك، ليس من النادر أن نلاحظ تماثلاً بين بعض النظريات الأخلاقية لدى جميع الناس. إنه من العسير بل من المستحيل أن تذكر وسطاً أو عصراً يعتبر الجبن فيه أفضل من الشجاعة أو الظلم أفضل من العدالة. العدالة اختلف الناس في فهمها وطبقت بطرق متغايرة في الأمم المختلفة، هذا حق؛ ولكن الرجل العادل(293/39)
كان ولا يزال محترماً دائماً لعموم فكرة اعتبار العدالة فضيلة خلقية. الرجل الذي على الفطرة، بل الطفل الغرير، يقبل بطيبة خاطر عقاباً يعتقد عدالته، ويثور في نفسه على عقاب يراه ظالماً. ذلك معناه تأصل فكرة العدالة لدى الجميع، العدالة العامة التي يحسها الناس جميعاً ويحنون لها الرؤوس إكباراً وإجلالاً، لا العدالة القانونية المدونة في بطون كتب القانون والتي تتغير بتغير البيئات. وفي هذا يقول مُونْتاني الشاك الذي يرفض كل ما لم يقم عليه دليل لا ريب فيه: (العدالة في نفسها الطبيعية العامة، فيها من النبل ما ليس في العدالة الخاصة الأممية التي تنفذ عند الحاجة بسلطة الشرطة ورجال الأمن العام) كذلك (فُولتير) نراه يدلل على عمومية عاطفة الدولة، بعد أن بحث الأمر بحثاً دقيقاً، بدليل مقنع إذ يقول: (فكرة العدالة تظهر لي حقيقة من الطراز الأول، يقبلها الجميع ويشعرون بوجوب احترامها، حتى أن أكبر الجرائم نراها ترتكب تحت حجة باطلة من العدالة. الحرب، وهي أكبر الجرائم الهدامة التي تتعارض والغرض الإنساني النبيل وهو المساعدة والتساند، يجتهد في تبريرها من يشعل نارها أولاً بحجة الدفاع عن العدالة)
لا أراني بحاجة لتدعيم هذا الرأي الذي يذكره (فولتير)، فالحوادث التي تتوالى أمام أعيننا منذ سبتمبر الماضي للآن تؤيد لأقصى حدود التأييد هذا الرأي. لقد أنذر هتلر العالم بحرب ضروس دفاعاً عن السوديت وحقوقهم المهضومة كما زعم؛ واليوم يلعب هذه اللعبة موسيليني دفاعاً عن حريات الإيطاليين وحقوقهم ومصالحهم المهدرة في تونس وغيرها كما يقول! وقبل ذلك استعمر الشرق والأمم المستضعفة تحت ستار من العدالة أوهى من بيت العنكبوت!
وإذا كان من الحق اعتبار العدالة حقيقة عامة أخلاقية فكذلك عاطفة الضيافة والكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان؛ الأمم تعيّر بالبخل وتتمدح بالكرم إذا جدت دواعيه.
وليس عجيباً أن ترى تقارباً بل اتفاقاً على كثير من الآراء والصفات الأخلاقية؛ بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق. ذلك أن الناس، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، أي هم جميعاً لديهم معين للأخلاق يكاد يكون واحداً، أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعاً لاختلاف الأزمان(293/40)
والبيئات؛ ذلك المعين هو الضمير.
وفي هذا يقول العلامة بارتلمي سانتهلير مترجم أرسطو من اليونانية للفرنسية في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو: (ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة ليست منذ الآن محلاً للجدل بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها. يمكن أن يقع الجدل في النظريات، ولكن لأن سلوك الناس الأخيار هو في الواقع واحد، يلزم حتماً أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك يستند إليه كل واحد منهم من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه ولا أن يدركه هو نفسه. ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عليه عند جميع الناس؛ وبيّن أن هذا الإقرار العام سببه أن هذه الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع، وتقع على مقتضاها من حيث لا يشعر الفاعل لها في غالب الأحيان)
ثم يقول في موضع آخر: غير أن قانون الأخلاق ليس قانوناً شخصياً بل هو قانون عام، قد يكون في ضمير أشد قوة وأكثر وضوحاً منه في ضمير آخر، ولكنه موجود في كل الضمائر بدرجات تختلف قوة وضعفاً. إنه ليناجي جميع الناس بلهجة واحدة، وإن كانت أفئدتهم لا تصغي إليه على السواء. ينتج من ذلك أن قانون الأخلاق ليس فقط قاعدة للفرد بل هو أيضاً العامل لوحدة الروابط الحقيقية التي تربط الفرد بأمثاله. لئن كانت الحاجات تقرب بين الناس فإن المنافع تباعد بينهم إذا لم تكن تذكي بينهم نار الحرب. فلولا الاتحاد الأخلاقي لكانت الجمعية البشرية محالاً.
ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء. فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلمة بشهادة الواقع من الجميع لصدورها عن معين واحد، قد يختلف قليلاً أو كثيراً بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
على أن التاريخ يكشف لنا أمراً آخر يجب أن يكون موضع تقديرنا وأن نعلق عليه أهمية لها خطرها: المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي تراها حجر عثرة في طريق المصلحين دائماً. تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة سعدت الإنسانية ببعض كبار الأحلام والفكر الراجح الذين كانت(293/41)
رسالاتهم معارضة للتقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم بمثل عليا رحبة صالحة للجميع. حقاً إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم على حق فيما بشروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات، الثورات المدينة لها بخلقية أعلى وأفضل، وأذاعت في جنبات الأرض أن هؤلاء الذين ثاروا على التقاليد هم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة.
ولعل من الخير ومن الواجب أن نلاحظ أن تلك التقاليد الدينية أو الاجتماعية التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية، والمثل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجاماً خارقاً يجيز لنا أن نقدر أنهم كانوا يصدرون عن معين واحد فيما وقفوا أنفسهم على تحقيقه. وموعدنا ببيان ذلك الكلمة الآتية إن شاء الله.
محمد يوسف موسى(293/42)
استطلاع صحفي (ريبورتاج)
البحث العلمي في كلية العلوم
جولة في معاملها
(في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول نهضة علمية يسودها روح البحث والاكتشاف ويشرف عليها الأستاذ الرياضي الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد الكلية.
وقد آثرنا أن نقدم لقرائنا نبذة قصيرة عما يدور بين جدران هذا المعهد من أبحاث ترفع رؤوسنا وتشعرنا بأننا نقدم للعلم نصيباً من البحث كأمة حية ناهضة).
معهد للبحث
في الطابق الثاني من بناء كلية العلوم غرفة صغيرة هادئة، تشاهد فيها دائماً شخصين، أحدهما يواجه النافذة وينظر إلى مجهر يكبر له أنسجة النبات فيرسمها على قطعة من الورق؛ بينما اختار الثاني لنفسه ركن الغرفة بعيداً عن الأيدي والأرجل، فجهازه معقد طويل يتكون من عدة أوان زجاجية تتصل بآلة كهربائية تسجل درجات الحموضة أو القلوية في التربة أو النبات.
الأول هو الدكتور جريس والثاني هو الدكتور عبد الحليم منتصر، يبحث الأول في النباتات المصرية القديمة ومنها يعرف تاريخ الأمراض التي تصيب النباتات كما يعرف شيئاً عن التطور الذي تناول النباتات المصرية الحديثة، ويقوم الثاني بتجاربه ليبين للناس خواص التربة المصرية ونباتاتها، فقد صرف الدكتور منتصر كثيراً من وقته وعلمه حتى قدم عدة أبحاث عن تركيب التربة المصرية وعلاقتها بالنبات.
وكلا الأستاذين من أعضاء هيئة التدريس في كلية العلوم. فالأستاذ أو المدرس أو المعيد في كلية العلوم لا يقصر همه على تلقين الطلاب بعض الدروس؛ ولكنه مسئول أمام نفسه وأمام العلم أن يقدم للعالم بحثاً يدل على أنه يصرف وقته لمنفعة الإنسانية؛ ولذلك لا يكاد يمر شهر واحد حتى نرى بحثاً جديداً تنشره مجلات العالم العلمية التي يدل النشر فيها على أن البحث جديد على الناس وأن البحث أضاف مادة جديدة تدعم مدنية المجتمع.
الأدوات الأولية للبحث(293/43)
ومهمة الأستاذ في كلية العلوم تختلف عنها في الكليات الأخرى؛ فقد يقتصر الأستاذ في كلية الآداب مثلاً على إلقاء المحاضرات وتلقين الطلاب مختلف أساليب البحث، ولكن أستاذ كلية العلوم مطالب بأن يجعل من أبنائه علماء باحثين يكشفون أسرار الطبيعة ويظهرون للناس خواص المادة، يهتمون بالمجهول أكثر مما يهتمون بالمعلوم. فعملهم هو إزاحة الستار عما غمض فهمه، ولذلك قلما يهتم المدرس أو الأستاذ بما حصله تلاميذه من قوانين معروفة أو نظريات ثبت وجودها، فإن هذين الشيئين يعتبران الأدوات التحضيرية للعمل في كلية العلوم.
ومقياس النجاح عند الأستاذ أن يرى طلبته يصلون إلى نتائج سريعة، ولذلك يهتم بأن يدل كلا منهم على أفضل المراجع التي يلم فيها الطالب بموضوعه. وإذا قلنا المراجع فليس معنى هذا أن الأستاذ مستعد لأن يرشد تلميذه في أي موضوع بل إنه مستعد لأن يقدم له المعونة والإِرشاد في الناحية التي تخصص في دراستها. فقد اتسع مجال العلم حتى قسم إلى أقسام تجزأت إلى فروع والفروع إلى موضوعات. ولذلك يحتاج الباحث كثيراً أن يترك بلاده ومن فيها من أساتذة ليذهب إلى جهة معينة حيث يجد أستاذاً اختص في نفس البحث الذي يقوم بتحقيقه. وهناك جامعات بكافة فروعها اشتهرت بالبحث في موضوع واحد كما هي الحال في إحدى جامعات إنجلترا العظيمة التي أصبحت قاعدة لدراسة مادة الراديوم وخواصه.
استقرار
وليس اتجاه جامعة من الجامعات إلى دراسة معينة من الأمور الهينة فهو يحتاج إلى استقرار الحياة في تلك الجامعة مدة طويلة كما يحتاج إلى أساتذة ثابتين يضمنون مراكزهم إلى أن تأتي نهايتهم. فطبيعة البحث والاستقراء العلمي بطيئة يُحسد فيها العلماء على طول صبرهم. فهناك علماء قضوا طول حياتهم جادين وراء مبحث واحد. ولعلك تذكر ما ذكرناه في عدد ماض من أن أحد أطبائنا صرف عشرين عاماً ليكشف أسباب مرض تضخم الطحال.
ويحتاج البحث العلمي إلى أجهزة خاصة بعضها دقيق وبعضها كثير التكاليف مما تعجز(293/44)
عن شرائه مالية الأفراد، ولذلك لا مفر من هيئات قوية تحمي تلك الأبحاث وترعاها حتى يجد العلماء واسطة يقدمون عن طريقها ما في رؤوسهم من جذوات تنير طريق المجتمع.
وعدم الاستقرار هو الظاهرة السيئة المشاهدة في كلية العلوم، فإن أكثر أساتذتها من الأجانب الذين يشتغلون بعقود محدودة الأجل. فلا يضمن الأستاذ بقاءه في مصر أكثر من المدة التي نص عليها عقد استخدامه، وهو لذلك ضنين بجهده أن يضيع فيما لا ينتج، فقد يبدأ بحثه وينتهي عقد استخدامه وهو في خطواته التمهيدية.
فمن الطبيعي لهذه الأسباب أن يقصر الأستاذ بحثه على موضوعات قصيرة سهلة التناول سريعة الفحص. ولا شك أن مجهود الأساتذة الأجانب مجهود مشكور؛ إلا أن أبحاث كليتنا لن تتخصص إلا بعد أن ينعم كل أساتذتها بالاستقرار. وهذا لن يتحقق إلا إذا أصبح كل أساتذتها مصريين، وأملنا عظيم في أن يحل ذلك اليوم سريعاً. ففي كل معمل كيمياوي أو نباتي تشاهد الأيدي المصرية تقوم بنصيبها لتقرن الغاية العلمية بالفكرة الوطنية فيسيطر المصريون على جامعتنا ليوجهوها إلى الناحية المقصودة.
هبة العلم
وتقوم الدراسات في كلية العلوم على أساس البحث العلمي. فالطالب في سني الدراسة النظامية إلى أن يحصل على درجة البكالوريوس مطالب بأن يحقق نظريات معروفة ويختبر بنفسه عمليات فرغ منها سواه ليتدرب على طرق البحث العلمي، ويطلع على أساليبه. فإذا جاز امتحان البكالوريوس فهي شهادة بأنه قادر على البحث العلمي تحت إشراف أستاذه. ويراقب أساتذة الكلية أبحاث خريجيهم، فيسدون إليهم النصح ويدلونهم على المراجع التي تسهل لهم الوصول إلى النتائج التي يبحثون عنها.
وإن المشاهد ليدهشه أن يرى هيئة التدريس في الكلية تعمل بنشاط مستمر فتتقدم بأبحاثها في كل شهر وكل سنة، فإن الموظف يبدأ في الكلية معيداً بدرجة بكالوريوس ليرقى بعد فترة فيحصل على درجة ماجستير ثم دكتور. فمن المظاهر البارزة هناك أن كل شخص مقيد ببحث يعمل ليله ونهاره لتحقيقه. وقد أتاحت لي الفرصة أن قضيت الصيف الماضي مع أحد معيدي الكلية فكان دائماً يجلس إلى شاطئ البحر في أوقات فراغه ليقرأ كتاباً عن (الامتصاص السطحي) وهو جزء من بحث يقوم به بين جدران الكلية.(293/45)
وتنصب أكثر أبحاث الكلية على موضوعات مصرية، فتجد موريس أفندي يبحث في الامتصاص السطحي للقطن، ووديع أفندي يبحث في تركيب أنواع الأصباغ. وقد تمكن بعض الأساتذة المصريين من اكتشاف عائلات من النباتات والحيوانات المصرية التي لم تكن معروفة من قبل. ونظرة واحدة في تقارير الكلية تبين لنا ضخامة العمل الذي يقوم به أولئك الباحثون في غرفهم.
ففي كل قسم عشرات من الأبحاث. وتصدر الكلية نشرة صدر منها حتى الآن ثمانية عشر عدداً، وتحتوي على أبحاث قومية جديدة على العلم. هذا خلاف ما ينشر في المجلات العلمية الأجنبية التي تشعر العالم الخارجي بوجود العلماء المصريين أكثر مما نشعر نحن بوجودهم. فما زلت أذكر ما أصاب ذراعي من (تنميل) أصابه لثقل مجموعة النشرات التي حملتها إلى داري لأعرف بعض ما يفعل أولئك الناس. ففي الكلية ثمانية أقسام لا يقل عدد الموضوعات التي تبحث في كل منها عن عشرين بحثاً، إلى أن إنتاج الكلية لا يقل عن مائة بحث في السنة.
وتعتمد هذه الأبحاث هيئات علمية أجنبية محترمة فيرسل البحث إليها لمراجعته وتحقيقه وإبداء الرأي فيه؛ فإذا وافقت الهيئة المنتدبة على اعتباره بحثاً جديداً صحيحاً منح صاحبه الدرجة التي يستحقها إذا كان الغرض من تقديمها الحصول على درجة. والدرجات ثلاث: البكالوريوس وقد تكلمنا عنه، ودرجة الماجستير وهي اعتراف بأن حائزها يمكنه أن يقوم بأبحاثه مستقلاً تمام الاستقلال وتؤهله للحصول على درجة دكتور التي يجب للحصول عليها أن تقرر لجنة الامتحان أنها تضيف مادة مبتكرة إلى الإنتاج العلمي.
نسيج العلم الحي
وقلما تجد في كلية العلوم طالباً لا يطمع في الحصول على إجازة الدكتوراه ويسعى إليها. فإن روح الكلية لا تفهم إلا معنى واحداً وهو إضافة مادة جديدة إلى نسيج العلم الحي. وقد يعجب الناس ويقولون: وما لنا لا نسمع عن هذه الأبحاث ولا نراها؟ والجواب على ذلك سهل بسيط، فإن الباحث العلمي يضع الحجر الأول للاستغلال الاقتصادي والصناعي فهو يضع النظرية اليوم ليمكن استغلالها بعد عشرات السنين. وما زال كثير من النظريات التي تحقق وجودها علمياً بعيدة عن التطبيق في الحياة العامة. فهل تمكن العالم بعد من الاستفادة(293/46)
من تحطيم الذرة؟ إنهم يعرفون ما فيها ولكن هل وصلوا إليه؟
وثمة سبب آخر حجب أعمال هذه الكلية عن الشعب حتى اختلط على الناس اسمها واسم دار العلوم، فقد حكى لي أحد الأساتذة أن أحد الوزراء السابقين كان يجهل الفرق بين كلية العلوم ودار العلوم! ويرجع هذا الجهل إلى اعتزال الكلية وعدم اهتمامها بالدعاية اللازمة لها. فإن الدكتور مشرفة عميد الكلية من ألمع الشخصيات العلمية في الخارج وخصوصاً لأبحاثه عن العلاقات بين المادة والإشعاع التي علق عليها عظماء العلماء في أوربا كالسير أليفرلودج والسير جيمس جينز. ولكن هذه الأبحاث ما زالت مجهولة من أكثر المصريين.
وللكلية مكتبة كبيرة يشرف عليها برهان الدين أفندي وهي مكتبة خاصة بالكتب العلمية التي يحتاج إليها الطلبة والأساتذة في دراساتهم. ومن أهم أقسامها المجلات فإنها الرباط الوحيد بين الباحثين ومنها يعرف الإنسان ما يدور في المعاهد الأخرى وقد يصل بعض أعداد هذه المجلات إلى عدة جنيهات. ويصرف على المجلات وحدها 500 جنيه وعلى الكتب 800 جنيه في السنة.
فوزي جبر الشتوي(293/47)
رسَالة المَرأة
بين المرأة والرجل
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
الشرق والغرب شرع واحد في المسائل التي تتناول الأحاسيس والعواطف، بل الحب - بنوع خاص - في مختلف أنواعه وحالاته، والمرأة هي هي في كل مكان وزمان. والتحليل الدقيق للقصص الأربع التي حضرة الأديبة الكبيرة محررة (رسالة المرأة) باستطلاع آراء القارئات فيها، يجعلني أردّ تصرفات المرأة في كلٍ منها إلى تلك الأصول البدائية التي ركزتْ في نفسها مركبات قوية متناقضة تكاد تكون من الغرائز النسوية لأنها اندست في أغوارها حقباً طويلة دون أن تدريها، فطبعتْ سمتها على حياتها وآرائها، ووجهتها إلى نواح متشعبة كانت مصدراً خفياً لأعمال تنفع وتضر على السواء. ولعلّ من أعظم هذه المركبات ما يسمى (مركب النقص) فإن المرأة منذ بدء عصور التاريخ البشريّ قد كانت في الغرب موضوع حب الرجال وإعزازهم، وكان التغني بمحاسنها والتشبيب بها موضوع قصيدهم وأناشيدهم، على أنهم رغم بلوغهم أوج التعبد لها، ما برحوا حتى العصور الوسطى بل والحديثة يوجسون خيفة منها ويعدونها بلاءً مقيماً وشراً مستطيراً. وكانوا إذا تفوقت إحدى النساء في ذكائها أو بسالتها يتهمونها بالسحر والشعوذة، ويجعلونها غرضاً لسهام طغمة كبيرة من رجال الدين. أما في عصور الوثنية والجاهلية في الشرق فقد أجلسوها على عروش الربوبية، وجعلوا من العذارى الجميلات كاهنات لمعابد أصنامهم، ثم بقيت من العصور الوسطى وما بعدها كأنموذج لحسنٍ ضائع، وكقنية ثمينة يدخرها الملوك والولاة في قصورهم، أو ملهاة جميلة يتسلون بها بعد عودتهم من غزواتهم ورحلات قنصهم، ثم اتخذوا منها إكليل الغار الذي يتوّجون به كل بطل صنديد مكافأة له على شجاعته، أو ثمناً لعبقريته ومواهبه. . . ولقد أدّى هذا كله إلى إشعار المرأة بعجزها ونقصها، ودفعها إلى تغذية رغبتها في الظهور أمامهم لا بمظهر الندّ والنظير فقط، بل محاولة التفوق عليهم وعدم الاستخذاء لهم، والجدّ في الظفر بإخضاعهم لنفوذها الآمر. وعندي أن هذا هو (مركب النقص) الذي يعدّه كثيرون من كتّاب المرأة غريزة أساسية من غرائزها، بل ميلاً قوياً من ميولها الفطرية التي تغريها بحب السيطرة في إيجاع وإيلام(293/48)
الرجل، ولكني أرى أن هذه الغريزة المزعومة ليست أصيلة في المرأة، بل هي في الحقيقة صورة ظاهرة من صور الحب التي مرجعها حب الذات، والتي تختصر تاريخ النزاع المديد الشديد الذي قام بينها وبين ذلك الرجل الذي ظل أحقاباً متعاقبة يقهرها ويحتجزها كغرضٍ من أغراض العاطفة الرخيصة. على أن ذلك النزاع لم يلبث أن استحال إلى حرب نظامية تطورت وصارت خطة سياسية أو وسيلة نسوية، أخذت الآن تتضاءل وتتقلص حتى لتكاد تختفي في أعلى طبقات السيدات تهذيباً وأرقاهن علماً وثقافة. .
أجل، هي صورة ظاهرة من صور الحب التي مرجعها الذات والرغبة في إثباتها بشكل أكمل وأوضح، وتحديد مكانها في حيز الوجود. بل هي مظهر راق لحب الذات مصدره إعجاب المرأة بالقوة، ذلك الإعجاب الذي ينسبه سبنسر فيها إلى نمو شعورها الديني، وحنينها إلى اللياذ بقوة أعظم من قوتها، فهي حين تظهر سيطرتها على الرجل، إذ تطالبه باستعراض مجازفات إقدامه وصلابة مكسره وصرامة بأسه أمام الملأ، إنما تريد أن تتبذخ بقوته، لأنها كما تقول الكاتبة الإنجليزية جورج أليوت: (لا تستطيع أن تتعلق بالرجل الخوار الهشيم). ثم إنها حين تستفز فيه روح المنافسة والغيرة، ولو عن طريق الخطار بحياته، تعمد إلى امتحان حبه، وتتطلع إلى مبلغ تهافته على الاستئثار بإعجابها، وإرضاء نزعات تدللها وتيهها، بطرائق تسير ذكرها في الآفاق، وتفشي تدلهه بحبها على الألسنة، وترجِّع صدى هيامه بها في المحافل، وتذهب سمعه في الناس، ولا تتوانى في سبيل سعيها لامتلاك قلبه عن إثارة زهوه بتقريظ شهامته وتملق رجولته وإطراء نخوته، فلا يتوانى هو بدوره عن حمل نفسه على المخاوف والمعاطب واقتحام الهلكات والمتالف.
ولكي نقرب من إنصاف المرأة مع ذلك، أصرح بأن ما يبدو منها من حب السيطرة، لا يمكن أن يؤخذ على معناه المطلق، لأنه لا يتجاوز ميلها الفطري إلى التسلط على قلب الرجل، ونيل الحظوة في عينيه. ولئن رغبت في أن تكون محبوبة منه بكل قواه، فإنما رغبتها الأولى أن تكون هي المحبّة. وأكبر اعتقادي أن ما تبذله من قبيل استمالته إليها، ليس إلاّ نتيجة لتلك الرغبة الملحة، وعلى كل حال فرغبتها ورغبته مترابطتان، والغالب أن يكون الحب متبادلاً بينهما. ولقد قدمتُ أن المرأة الراقية المهذبة، قد تمكنت بفضل العلم الناضج من معالجة (مركب النقص) الذي أذكته فيها سيادة الرجل في مثل البيئات(293/49)
والأحوال الخاصة التي سردتها حضرة الآنسة الفاضلة (زينب الحكيم) في قصصها، وأصبحت الفتاة اليوم تتوخى في عهد خطبتها وسائل متزنة للسيطرة على قلب خطيبها وشريك حياتها، فأبت أن تتبع ما كانت تتبعه أختها في العهد الماضي من ضروب إحاطته برعاية الأم الحانية على طفلها الرضيع بنواهيها العديدة، لأنها قد تحققت أن فتى اليوم، يكره القيود التي تغلّ الإرادة وتشلّ القوى، ويرفض الانصياع لمنْ تمخضه النصح على الولاء، بارتداء الملابس الصوفية إذا ما لاحت بوادر الشتاء، واستصحاب زوج إضافي من الجوارب السميكة إذا خرج لمباراة في لعبة الجولف ليتقي بها الأمطار في حالة هطولها، وأن يتعشى بفالوذج اللبن والبيض، وأن يعني بتهوية مسكن العزوبة المجدب من أناقة المرأة وعنايتها؛ لأن الحياة الرياضية، التي يحياها فتى اليوم، في فرق الكشافة والجوالة والتدريبات العسكرية، قد جعلته واسع الحيلة في شؤون المعيشة، شديد الاعتماد على نفسه، كبير القدرة على العناية بصحته وبمسكنه، وأصبحت فتاة اليوم تتجنب إظهار امتلاكها له أمام الناس، والتحدث بحقوق الاختصاص التي وضعتها عليه كما لو كان بعض الدواجن التي تدللها وتستصحبها معها في المنتديات العامة مباهية بسيطرتها عليه. وأصبحت تتجنب الاعتداد بنفسها، والاستعلاء عليه وإبداء البرودة نحوه والإكثار من معاتبته والتفلسف في تحليل كل صغيرة وكبيرة من تصرفاته ومحاسبته على كلماته والإغراق في أخذه بمغالبات جدلية ومناقشات منطقية، وإملاله بسرد النظريات العلمية والتخيلات الروائية، وإذاعة المعلومات وآخر النشرات الإخبارية الشائعة بين أفراد طبقتها، والظهور أمامه بمظهر الحزن والاكتئاب والتجهم ويقظة الضمير والإفراط في ادعاء الورع والتدين، وتحوير الأمور وتحريفها وقلب ظاهرها لباطنه؛ وأخذت تبدو أمامه على الدوام متهللة الغرة، قريبة منال البشر، طيبة النفس فكهة الأخلاق، في احتشام الفتاة، وخفر العذراء، وكرامة السيدة وجلالها وصراحتها وثقتها ومحبتها ووفائها وطاعتها. . ولعله يحسن بي أخيراً أن أنتحي ناحية الرجل فأقول إنه يستطيع تحقيق المثل الأعلى للفتاة كزوج حين تجتمع فيه أنبل ميزات الرجولة وأكرم أخلاقها وأمجد مناقبها، فتجد فيه القوّام المخلص العطوف المطاوع، والشريك الحازم الرشيد الأمين الكريم الذي يتفانى في توفير أسباب الراحة والطمأنينة لها، ويتعاون معها على إسعاد العمران، والسمو بالمجتمع الإنساني إلى مراقي الكمال المنشود.(293/50)
الزهرة(293/51)
رسَالة العِلْم
الحياة
هل هي وليدة المصادفة؟
للدكتور محمد محمود غالي
من تفكير مدام كيري - هل نحن والتفاحة شيء واحد - هل تكتب القردة بيتاً من الشعر - وهل يرفع الماء طوبة مغمورة فيه - إمكان الحياة على كويكبات أخرى - شعورنا بأنها غير وليدة المصادفة.
في خطاب لمدام كيري مكتشفة الراديوم لبنت أختها (زلاي) ما يدعو لإنعام النظر، لهذا أذكر منه بعض الفقرات:
(عُني ابنتاي في الربيع بتربية دود القز وكنت وأنا مريضة أتتبع مدة عطلتي بالمنزل التطورات التي تحدث عند تكوين الشرانق، وكانت لي في ذلك لذة عجيبة، فقد لفت دود الحرير نظري إلى الشعور بجنسها العجيب الذي يُشبهنا في ناحية الجلد على العمل والنشاط والمثابرة.
لقد ثابرت طول حياتي على العمل لغرض واحد، وقمت بهذه المهمة دائماً نحو غرضي رغم علمي أن حياتنا سريعة العطب محتومة الفناء لا تترك شيئاً أياً كان وراءها، ولا بد أني فعلت ذلك لأن ورائنا شيئاً يحفزنا للعمل، لعله نفس الشيء الذي يحفز الدودة لتبني هذه الشرنقة. هذه الدودة المسكينة يجب عليها أن تبدأ هذه الشرنقة التي من المستحيل عليها أن تتمها، فهي كما نعلم لا تصل إلى نهاية مهمتها بل تموت في طريق العمل دون تعويض.
فليستمر كل منا يا عزيزتي في نسج شرنقته دون أن يسأل لماذا وإلى أية نهاية)
حياة النملة أو دودة القز أو الإنسان، هذه الحياة وما تخفي وراءها من حافز شخصي وما تكنه من وراثة بعيدة المدى، تلك الوراثة التي تحفزنا للعمل المستمر، هذه الحياة - وأدهش ما فيها الإنسان الحي - نريد أن نعرف الفكرة في منشئها ونتبين علاقتها بالكون، ويتناول هذا الموضوع مدرستان أو مذهبان:
الأولى تعتقد أن الحياة وليدة لمصادفة وقعت في الكون، وأن الكون لم يكن في نشأته(293/52)
مخصصاً أو مقصوراً عليها. والمدرسة الثانية تقول عكس ذلك وتعزو للحياة وللإنسان أهمية خاصة.
أما عن نفسي فإن إحساساً خفياً وإن كان غير مَبْنِيّ على حقائق علمية أو على أساس في العلم التجريبي يدفعني إلى أن أكون من أنصار المدرسة الثانية.
أن تحاول إقناعي اليوم أنني والتفاحة التي أكلتها شيء واحد، وأنني والمحبرة التي أكتب الآن منها مركب متشابه من النيترون والإلكترون وغيره وأن ترتيباً خاصاً من هذه الذرات وما يدور في غلافها من إلكترونات هو الذي جعل هذه تفاحة تُنبتُ غيرها من التفاح وجعلتنا آدميين ننسل غيرنا من جنس الإنسان وجعلت هذه محبرة لا تصلح إلا لتمكنني من أن أمد القارئ بهذه الأسطر.
أن تحاول أن تُدخل في روعي أنني وبقية النبات أو الجماد شيء واحد وأن الحياة ظاهرة وليدة الصدفة كظاهرة المغناطيسية أو الإشعاع المادي، وأنني وهذه الكائنات نتساوى، كل هذه مسائل لا أجد من نفسي تساهلاً في قبولها.
قد تكون بليغاً جدّاً في محاولتك، وقد تكون براهينك العلمية والعملية من القوة بحيث نطأطأ الرأس لحججك، وبحيث لا نستطيع اليوم أن نُقنعك بطريق العلم النظري أو العلم التجريبي بخطأ علمك وتجاربك، ولكن غريزة في النفس تشبه الغريزة التي تحمل دودة القز السابقة على العمل وتحملك على الخروج من المنزل كل يوم لكسب عيشك، تدفعني إلى أن أخالفك في الرأي، ويداخلني شعور يستقر في نفسي يوحي إلي أننا نختلف عن التفاحة والمحبرة اختلافاً مبيناً، وأن في جوهر حياتنا ما يجعلنا نفترق عن الأشياء وعن الظواهر الأخرى للكون.
في محاضرة لمسيو روجيه عميد كلية الطب السابق بباريز حضرتها في شتاء 1934 بين آلاف المستمعين في إحدى ردهات بوليفارد سان جيرمان بالحي اللاتيني، ألقاها في جماعة العقليين التي هو وكيلها تعرّض للحياة وعلى الأخص لما نسميه الروح والعقل. ولو أنك حضرت هذه المحاضرة لأيقنت أن روجيه على حق، ولخرجت مثل الكثيرين مقتنعاً بأنك والتفاحة وباقي الكائنات شيء واحد، وأن ما نسميه العقل والروح والنفس وغير ذلك ما هو إلا نوع من الآمال التي نتصورها لأنفسنا، وأنه لا وجود لها إلا في خيالنا. ليست أمامي(293/53)
الآن محاضرة الأستاذ روجيه حتى أعيد قراءتها وألخص لك نقطها القوية التي تستند إلى وقائع فعلية وتجارب عملية في الطب والتشريح المقارن والتي تعرّض في ختامها لفلسفة برجسون التي لا يعترف بصحتها ويهاجمها هجوماً عنيفاً.
ولعل رأي روجيه يمثل رأي غالبية العلماء زملائه اليوم من الأطباء والبيولوجيين. والظاهر لي أننا إن أردنا أن نستدل على تفسير للحياة بين علماء الطبيعة والرياضة المعاصرين فإنه يغلب على الظن أننا نصل إلى النتيجة نفسها. وهاهو ذا السير جينز في كتابه (العالم الغريب) يقول وهو يتكلم عن الأرض كسيار انفصل عن الشمس: إننا لا نعرف كيف ومتى ولماذا تولدت الحياة بطريق الصدفة في واحد من هذه الأجزاء التي تناثرت من الشمس وهو الأرض.
هذه الحياة التي بدأت في مخلوقات بسيطة لا تعرف في المبدأ شيئاً غير أنها تتوالد ثم تموت. أجل هذه الحياة التي استمر خيطها يطول ويتعاظم إلى أن وصلت إلى هذا الوضع المعقد الذي تتوالد فيه كائنات تهب الجزء الأكبر من عمرها لأطماعها ورغباتها بل لأديان وضعت فيها أكبر آمالها. وإن شيئاً من التأمل في البحث عن صلتنا بالكون المحيط بنا يحملنا كما يقول ذلك السير جينز على الفزع، فالكون يفزعنا بعظم مسافاته الشاسعة وطول الزمن الذي يمر ويبدو كأنه لا نهائي، والذي لا يُعد تاريخ الإنسانية فيه إلا لمحة من البصر - الكون يفزعنا بوحدتنا وبضآلة المادة التي يتكون منه عالمنا الشمسي بالنسبة إلى ملايين العوالم، وإن أرضنا على حد تعبير السير جينز ما هي إلا جزء واحد من مليون جزء من حبة رمل من مجموع كل رمال الشواطئ - إنما الفزع أن ندرك أن العالم أصم لا يشعر بنا وأنه ممانع لكل نوع من الحياة تشبه حياتنا. فالفراغ بين العوالم أو الشموس من البرودة بحيث أن كل حياة تنتهي فيه بالجمود والموت، والجزء الأعظم من المادة المكونة للنجوم، من الحرارة المرتفعة بدرجة تجعل كل حياة فيها مستحيلة، ويصل إلى هذه الأجرام من الأشعة المختلفة ما هو غير ملائم للحياة وقاتل لها. ويكفي أن أذكِّر القارئ أن طبقة الأوزون المحيطة بالكرة الأرضية تحمينا من الإشعاعات القاتلة.
في عالم هذا وصفه ألفينا أنفسنا مخلوقات فيه تتحرك وتفكر، ولو اعتقدنا كما يعتقد جينز وغيره أن وجودنا حادث وليد الصدفة فإن فناءنا أيضاً سيكون وليد الصدفة، فإن من(293/54)
المعقول في رأيهم أنه باستمرار الزمن يحتمل أن يقع أي نوع من الحوادث.
ويعتقد السير جينز أن (هكسلي) هو الذي قال:
(لو فرضنا وتركنا ستة من القردة تكتب على الآلات الكاتبة دون أن تَعي ما تخطه مدة طويلة تبلغ ملايين الملايين من السنين، فإننا في سير الزمن نرى بين أسطرها بطريق الصدفة كل الكلمات المحفوظة في المتحف البريطاني. ولو أننا اختبرنا آخر صفحة من الصفحات التي سطرتها القردة فقد نلاحظ أن توقيعاتها العمياء قد خطت أحد أبيات شيكسبير، وعند ذلك يحق لنا أن نعتبر هذا البيت من الشعر حادثاً من أغرب الحوادث. ولو أننا بعد ذلك تصفحنا ملايين الصحائف التي كتبتها القردة في ملايين السنين فإنه مما لا شك فيه أننا سنعثر مرة أخرى على سطر آخر من أبيات شيكسبير كان هو أيضاً وليد الصدفة العمياء).
وهكذا لا بد أن يحدث لعدد قليل من الشموس بين ملايين الشموس الأخرى الحائرة ما حدث للشمس من وجود سيارات تدور حولها، مما أوردناه في مقالنا السابق، ويدل الحساب على أن هذا العدد من الشموس قليل جداً بالنسبة لعدد شموس الكون.
ومن البديهي أن الحياة كما نستوعبها لا تحدث إلا على سيارات شبيهة بالأرض إذ يجب لوجودها شروط طبيعية ملائمة مثل اعتدال درجة الحرارة، وعلى هذا الاعتبار تستحيل الحياة في الشموس نفسها التي هي نيران متقدة كما تستحيل في الحيز بعيداً عنها، فهذا لا تزيد درجة حرارته على أربع درجات فوق الصفر المطلق (أي أقل من 268 درجة تحت الصفر العادي)
فالحياة جائزة كويكبات تقع على مسافة معينة من هذه الشموس، إذا ابتعدنا عن هذه المناطق المعينة امتنعت الحياة للبرودة المهلكة، وإن اقتربنا امتنعت أيضاً بسبب الحرارة المحرقة.
ونستدل من الحساب على أن المناطق التي تجوز فيها الحياة لا تكون إلا واحداً على مليون البليون من مجموع الحيز. على أن الحياة تندر في هذا الجزء النادر من الحيز، ذلك لأن تناثر جزء من إحدى الشموس وانفصاله عنها يعد حادثاً نادراً جداً، ويغلب على الظن أنه يوجد نجم واحد في كل مائة ألف نجم يشبه الشمس في وجود سيار يدور حوله كالأرض حيث الحياة على هذا السيار قد تكون جائزة.(293/55)
لهذا يجوز الاعتقاد أن الكون لم يخلق خاصاً لغرض الحياة، هذا رأي يميل إليه السير جينز وغيره، والواقع أنه لا تناسب مطلقاً بين عظمة الكون والنتيجة الضئيلة الموجودة في بعض أجزائه والتي ترى أثرها في الحياة.
على أننا لا نعلم هل توجد شروط طبيعية كافية بذاتها لإيجاد الحياة، فَثَمَّ مدرسة تعتقد أنه عندما بردت الأرض كان لا بد من ظهور الحياة في أثناء ذلك، ومدرسة أخرى تقول إن حادثاً أولاً أوجد الكائن وأنه كان لا بد من حادث ثان ليوجد الحياة في الكائن.
على أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية عادية، هي الكربون كالذي نجده في دخان المصانع، والأكسجين والهيدروجين كالذي نجدهما في الماء، والأزوت الذي يُكوِّن الجزء الأكبر من الجو المحيط بنا - كل هذه الجزيئات والذرات الموجودة في الكائن الحي كانت موجودة حتماً في الأرض، هذه المولودة الجديدة، وقد حدث في وقت من الأوقات أن مجموعة من هذه الذرات - بطريق الصدفة - ترتب بالطريقة الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وكان لا بد من ذلك مع طول الزمن، كما كان لا بد للقردة الستة من أن تُسَطِّر يوماً أحد أشعار شيكسبير. وعلى هذا لنا أن نتساءل هل هذه الذرات بترتيبها هذا هي التي كونت بمفردها وبهذا الترتيب الخلية الحية؟ وبعبارة أوضح، هل الخلية الحية هي مجرد مجموعة من الذرات العادية مرتبة بشكل خاص أو هي شيء آخر؟
هل المادة الحية مجموعة من الذرات أو هي مجموعة من الذرات مضافاً إليها الحياة؟ وبعبارة أخرى هل يستطيع كيميائي ماهر أن يوجد لنا الحياة على أي شكل باستعمال عدد معين من الذرات أو تنقصه قوة أخرى غير العدد والترتيب؟
هذا ما نحاول أن نتناوله في المقال القادم. ويبدو لي أنه للإجابة على ذلك لا مناص من الدخول في عميق العلوم الطبيعية فنبدأ وصفاً وجيزاً للمادة وللمادة الحية وفق آراء العلماء اليوم.
وخلاصة القول أنه بالرجوع إلى فكرة ترجع في الواقع لشيء أشبه بحساب الاحتمالات وبالرجوع إلى جواز طول الزمن وجد العلماء مخرجاً وتفسيراً محتملاً لوجود الأرض ولوجود الحياة عليها، تفسيراً مبنياً على الصدفة.
في مثال ذكره العالم الكبير جان بيران الأستاذ الكبير هنري موتون إن اعتبرنا الحركة(293/56)
البروانية التي تتلخص في أن ما يصيب أي جسم داخل السائل من ضغط هو مجموع صدمات جزيئات السائل عليه، فان لنا أن نعتقد أنه يصح بعد ملايين السنين أن يحدث مرة أن يرفع الماء قالباً من الطوب مغموراً في ماء ساكن، وعندئذ لنا أن نعتبر حادث رفع هذا القالب على سطح الماء من المعجزات النادرة، وإن كان هذا الحادث ليس مستحيلاً عند العالم الذي يعرف الحركة البروانية والذي يتوقع حدوثه يوماً.
ومع جواز تسليم القارئ بما يذهب إليه كل من هاكسلي وبيران فالحياة عندي رغم القردة التي يصح أن تكتب يوماً ما سطراً من الشعر ورغم الطوبة التي يصح أن ينهض بها الماء، من الغرابة بحيث لا تطاوعنا النفس على أن نعتبرها وليدة الصدفة وأنها طرأت عن غير قصد.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوريون
ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة، دبلوم
المهندسخانة(293/57)
النباتات آكلة الحشرات
بقلم رضوان محمد رضوان
تتشابه النباتات بوجه عام في نظم تركيبها واحتياجاتها الغذائية سواء كانت هذه النباتات مائية أو نامية في الصحارى أو على قمم الجبال؛ إلا أن شكلها الظاهري وتركيب بعض أعضائها الداخلية تتحور وتعدل تبعاً للبيئة التي يوجد بها النبات حتى يمكنه أن يعيش في الظروف التي تحيط به؛ وهذا هو الحال في النباتات آكلة الحشرات.
فمن المعلوم أن النبات يحتاج في غذائه إلى عناصر خاصة. لا بد من توفرها في البيئة التي يعيش فيها النبات حتى يمكنه النمو والحياة. والنباتات الخضراء حساسة جداً لعنصر الأزوت فهو من أهم العناصر المكونة للبروتوبلازم الحي؛ كما أن النبات لا يمكنه امتصاص الأزوت إلا على صورة أزوتات، وعلى ذلك فوجود الأزوتات أمر ضروري لحياة النبات.
ويقوم بتجهيز أملاح الأزوتات للنبات أنواع من الأحياء الدقيقة تعرف باسم (بكتريا التأزت) فهي تحول النوشادر إلى حمض الأزوتوز ثم تؤكسده وتحيله إلى حمض الأزوتيك الذي يتحد بالأملاح القلوية مكوناً أملاح الأزوتات.
أما في الأراضي التي لا تعيش فيها بكتريا التأزت لعدم ملائمة الظروف لها كأن تكون الأرض حمضية مثلاً، فعلى ذلك لا تتوفر أملاح الأزوتات اللازمة لحياة النبات، كان لا بد للنباتات التي تعيش في مثل هذه الأراضي أن تبحث عن وسيلة جديدة للحصول على الأزوتات اللازمة لها، وفعلاً قد هيأتها الطبيعة بتحورات خاصة لتجعلها ملائمة لاقتناص الحشرات حتى تستطيع أن تستمد منها عنصر الأزوت. وسنذكر فيما يلي أهم أنواع هذه النباتات وطريقة كل منها في الاقتناص:
نبات الدروزيرا
ينمو في وسط حمضي فيستحيل على الجذور أن تمتص أملاح الأزوتات، وفيه الأوراق ضخمة بها عدد من الزوائد الحساسة التي تفرز مادة لزجة حمضية؛ فإذا ما سقطت حشرة ما على ورقة من هذه الأوراق، التصقت بالمادة الرحيقية حالما تلامسها، وعبثاً تحاول الحشرة الفرار، فإنها إذا حاولت ذلك اشتبكت بزوائد أخرى، فتصير داخل شبكة محكمة من(293/58)
هذه الزوائد الحساسة، وبهذا يصبح خروجها ضرباً من المحال. فإذا ما اقتنص النبات فريسته تنحني تلك الزوائد فوق الحشرة وتفرز عليها أنزيم الببسين لهضم الحشرة وإذابة جسمها، وبعد ذلك يمتص النبات تلك المواد المذابة، ثم تعتدل الزوائد وتعود الورقة إلى شكلها الطبيعي وتتهيأ لاقتناص فريسة أخرى.
نبات النيبنثس
يوجد هذا النبات في بلاد الملايو، وهو يحتال على اقتناص الحشرات بطريقة طريفة، فنجد أن جزءاً من الورقة يتحور إلى شكل جرة ذات غطاء يتحكم النبات في فتحه وقفله حسب حاجته. وتتجمع قطرات ماء المطر داخل هذه الجرة؛ ويستعين النبات على جذب الحشرات برحيق حلو الطعم يفرزه داخل الجرة، فإذا ما دخلت فيها حشرة لامتصاص الرحيق انزلقت أرجلها وسقطت في الماء. وفي الوقت نفسه يغلق الغطاء وبذا توصد أوجه الخلاص أمام الحشرة وتفقد كل أمل في النجاة، حينئذ يبتدئ النبات في عملية الهضم بواسطة إنزيما خاصة يفرزها لإذابة الحشرة حتى يتمكن من امتصاص المواد الناتجة. بعد ذلك يفتح غطاء الجرة وتستعد الورقة لاستقبال قادم جديد وهكذا.
وهناك نبات معروف في شمال أمريكا يسمى مثل نبات النيبنثس.
نبات الديونيا
تحتوي ورقة هذا النبات على مصراعين يتحركان على العرق الأوسط وتنتشر على السطح العلوي لكل منهما زوائد شوكية دقيقة، فإذا وقفت حشرة ما على الورقة انقفل المصراعان فجأة وبسرعة وتنغرز الأشواك الحادة في جسم الحشرة فتمزقها وبذا تبدأ عملية الهضم والامتصاص.
حامول الماء
ويوجد هذا النبات في مصر منتشراً في المياه العذبة، وتحمل أفرعه أجزاء منتفخة أشبه بالمثانات بها خلايا خاصة ولها غطاء يفتح للداخل فقط، فإذا لامست إحدى الحشرات المائية الشعور الحساسة، انفتح الغطاء بسرعة إلى الداخل، واندفعت الحشرة مع الماء إلى داخل المثانة، وتبقى هنالك حتى تموت وتتعفن. ثم تمتص بعد ذلك بواسطة الخلايا المبطنة(293/59)
لجدر المثانة.
هذا وقد قرأت أخيراً في إحدى المجلات الأمريكية نبأ العثور على نوع من الأشجار يفترس الإنسان؛ فقد روى العلامة الدكتور كارل ليشي أحد الرواد النمسويين ومن أقطاب العلماء، أنه أثناء رحلته في ارتياد مجاهل جزيرة مدغشقر اتفق أن رأى منظراً غريباً ملك عليه حواسه وأخذ بلبه. ذلك أنه رأى جماعة من الزنوج يدفعون فتاة عارية نحو شجرة هائلة تشبه شجر الأناناس ولها أوراق ضخمة، ويبلغ محيط الشجرة من أسفل ست أقدام أو أكثر، ويخرج منها أفرع طويلة ذات أوراق عريضة إبرية الحافة، ويسيل من الشجرة رحيق مسكر، حتى إذا ما وصلت الفتاة إلى الشجرة أرغموها على شرب الرحيق. فلم تكد تفعل حتى انتابتها نوبة من الإغماء قد تكون من تأثير الخوف، وقد ترجع إلى أن الشراب مخدر للأعصاب.
وما لبثت الأوراق أن التفت حولها واحتوتها بين أسنانها وبذا اختفت عن الأنظار، وما لبث أن سال دم الفتاة مع رحيق الشجرة فأقبل الزنوج عليه يشربونه بشراهة وغلظة.
وقد أيد هذه المشاهدة الكابتن هرست الإنجليزي الذي قام على رأس بعثة علمية لارتياد مجاهل مدغشقر؛ فقد وصف ما شاهده وقال إن أوراق تلك الشجرة تلبث مطبقة ستة أيام أو أقل قليلاً ثم تنفرج عن هياكل عظمية تذروها الرياح.
أقول إن هذه المشاهدات سواء كانت واقعية أو خيالية لا تخالف العلم فقد رأينا كيف أن النبات يفترس الحشرات في احتياجه إلى الأزوت؛ ولن يميز النبات بين حشرة أو حيوان أو إنسان إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً. وأغلب الظن أن الشجرة المذكورة في جزيرة مدغشقر، تعتمد في غذائها على الحيوانات التي تلجأ إليها ليلاً أو فراراً من القيظ أو هرباً من عدو، وأن الأهالي وقد عرفوا فيها تلك الخاصية قدسوها وأخذوا يقدمون لها القرابين من الفتيات، ويشربون من رحيقها المسكر المختلط بدم الضحايا، وهم يعتقدونه شراباً إلهياً قدمته إليهم الآلهة تقبلاً منها وكرماً.
هذه كلمة موجزة عن النباتات آكلة الحيوان، وهي جديرة بأن تسمى: (النباتات آكلة اللحوم) أسوة بالحيوانات (آكلة اللحوم).
رضوان محمد رضوان(293/60)
بكالوريوس في العلوم الزراعية(293/61)
رِسَالة الفَن
فيدياس
للدكتور أحمد موسى
كان لاستيقاظ الشعب الإغريقي ونمو الروح الوطنية فيه بعد الحروب الفارسية أن ازدهر فن النحت على أيدي الذين استطاعوا السيطرة على الخلْق التكويني، ووصلوا إلى أقصى درجة من الإعجاز في إخراجه، فكان لمنحوتاتهم أن مثلث المثُل العليا أسمى تمثيل وعبرت عن الوصول إلى درجة الكمال؛ فارتبط الواقع بالجمال المُثلى، وظهر النحت الإغريقي بمظهر لا يزاحم فيه إطلاقاً.
وكان استعداد الإغريق للنحت هائلاً، فجعلوا من تماثيلهم البارزة ونصف البارزة ما سجلوا به الموهبة الفطرية والعقلية والفنية في هذا المجال.
ولهم من منحوتاتهم ما أظهر عقائدهم الدينية والكيفية التي كانت تسير عليها عاداتهم فضلاً عن حياتهم العامة التي كانت الألعاب الرياضية ركناً هاماً من أركانها.
وكان ولا يزال وسيظل النحت الإغريقي مثار إعجاب الإنسان المتحضر ورمزاً للتفوق ومثلاً عالياً يحلق في سماء الفن، لا يمكن لطامح أن يعلق بأطرافه.
وللنحت في بلاد الإغريق مناطق ومراحل ومدارس. أما من حيث المناطق فخيرها لهذا المقال منطقة أثينا، وأما المرحلة الزمنية فهي المحصورة بين سنة 470 وسنة 330 قبل الميلاد، لأن هذه هي مرحلة (عصر الرفعة) أو (الازدهار).
على أنه يمكن تقسيم هذا العصر إلى قسمين: أولهما أو أقدمهما استغرق القرن الخامس قبل الميلاد (من كيمون إلى حرب البيلوبونيز) وفيه تناول النحات الإغريقي الحقيقة الواقعة أمام عينيه في أحسن وضع لها؛ فلم تكن تنتحي هذه الحقيقة إلى فرد بعينه، بل إلى النوع كلية، في شيء من السمو في الخيال والتصور، فكانت طابعية النزعة وليست طابعية الإخراج.
ومع هذا لا يزال المشاهد يتصور أو يظن (وحيناً يعتقد) أن التماثيل - في تلك المرحلة(293/62)
على الأقل - قد عبرت بتفاصيلها وطريقة إخراجها عن أصحابها التي نحتت من أجلهم تعبيراً حقيقياً أو طبيعياً، ولكن هذا بعيد الاحتمال بالنظر إلى ما في تكوينها من جمال ساحر قلما يوجد مثله في النوع الإنساني.
ولعله جدير بالذكر أن المظهر الكلي والمجموع الإنشائي لمنحوتات (عصر الرفعة) أو (الازدهار) يعطي فكرة المبالغة في الأحجام مع تمام التناسب، ولم يقصد النحات الإغريقي من ذلك إلا إبراز المعالم في مظهر من القوة وعلو الهمة ووجود الشخصية، في هدوء نفساني وبعد عن العنف.
وأما الحركة الجسمانية التي تعبر عن الحيوية فهذه مع بساطتها - نسبياً - من حيث التنويع؛ فإنها عبرت خير تعبير عن اليقظة والنشاط.
ولا يوجد من يمكن اعتباره في مقدمة هذا العصر سوى زعيم المدرسة الأتيكية القديمة (نسبة إلى أتيكا) ألا وهو فيدياس الذي لا يزال ليومنا من أعظم فناني العالم أجمع.
ولد فيدياس بن خرميدس الاثيني في عام 500 ق. م. واشتغل مصوراً في أول الأمر ثم تتلمذ على وبعدئذ استقل في عمله حتى استدعى لنحت تمثال زويس المعروف في أوليمبيا، وعاد إلى أثينا والتقى فيها ببركليس وعمل في البارتنون.
وبعد ما أتم تمثال أثينا سنة 483 اتهم بالخيانة وطلب للمحاكمة ولكنه مات قبل الحكم عليه.
وأبرز مميزات فنه أنه أول وأعظم مثال مُثلى بكل معاني الكلمة، لا سيما وأنه حصر مجهوده الجبار في خلق تماثيل الآلهة واستطاع التعبير عن المثل الأعلى في التكوين الجسماني المتناسب مع تمثيل الآلهة، فاتخذ من جسم الإنسان مادة بيانه، ولكنه ارتفع بتماثيله إلى المستوى الذي أبعدها عن الصفات البشرية وقربها من الألوهية؛ فبدت في غاية كمال الانسجام التفصيلي للأعضاء ونهاية الكمال المجموعي للإنشاء، وأصبحت مدرسة أتيكا تسير على منواله وعرفت بهذه الميزات الرائعة من بعده.
اشتغل فيدياس بنحت تماثيله من سن الفيل والذهب حيناً، ومن البرنز حيناً آخر ولكنه نحت في الرخام نادراً.
أما أعماله التي استطعنا أن نقف عليها فأولها تمثاله لأثينا برماخوس على مرتفع أكروبوليس وكان ارتفاع هذا التمثال نحو العشرين متراً. وقد سبق أن نوهنا بذكره في(293/63)
مقال سابق.
وله أيضاً مجموعة رائعة مثلت ملتيادِس القائد الذي انتصر على الفرس في موقعة ماراتون سنة 490 ق. م. وحوله الآلهة وأبطال أتيكا، كما مثل الأثينيين يقدمون الهدايا والقربان في دِلفي.
هذا إلى جانب تماثيل معبد زويس الذي اعتبره الإغريق إلهاً للسماء والبرق والضوء، والذي يقابله الإله جوبيتر عند الرومان، وتماثيل معبد أثينا بارتنوس
وكان الجسم مكوناً من سن الفيل والملبس من صفائح الذهب؛ وقد تم تمثال زويس سنة 448 ولكنه حرق بعدئذ، ولولا الصور التي سُكّت على نقود إليس لما أمكننا أن نعرف من شكله شيئاً. جلس زويس (ش1) على عرش بديع حاملاً بيمينه إلهة النصر وفي يساره العصا، وواضعاً قدميه على كرسي صغير خصص لهذا الغرض، وأحيط الرأس بغصن الزيتون فوق شعره المجعد، كما أحيط الوجه بذقن كثيف. وإذا تأملت صورة اليمنى فإنك تجد القوة والنبل والجمال السامي مرتسماً في وضوح على وجه زويس. وقد تحلى الملبس ببعض رسومات ملونة على الذهب. أما قاعدة العرش فقد تحلت برسومات تمثل مولد أفروديت إلهة الحب عند الإغريق، والتي خلقت كما هو مذكور في قصص الآلهة، من زبد ماء البحر. ولا بد لنا من أن نذكر أن نظرة زويس تدل على الحلم والجبروت، وهذا منطبق على صفة الألوهية في معناها الكامل.
وكان تمثال أثينا بارتنوس من سن الفيل والذهب أيضاً، أتمه سنة 438 إلا أنه اختفى منذ أوائل القرن الرابع. وكان ما حصلنا عليه تمثالان منقولان عن الأصل، أحدهما كبير عن الآخر، وهما محفوظان في متحف أثينا. ويخيل إلينا أن الأكبر منهما أقرب إلى الأصل بالنظر إلى ما فيه من تفاصيل تتناسب مع ما عرف عن فيدياس وما امتاز فنه به من طابع خاص.
وله قطعة تمثل أثينا وهي من بدائع معروضات متحف عاصمة بلاد اليونان. هذا عدا تمثال برنزي على جانب عظيم من الجمال لأثينيا ليمنيا قدّمه الليمنيون إلى مرتفع أكروبوليس.
وفي متحف درسدن تمثالان رخاميان مماثلان له يظهر أنهما منقولان عنه. أما في روما فله(293/64)
تمثال لأفروديت أورانيا، ولهِرمس ابن زويس الذي اعتبره الإغريق إلهاً للرعاة ورسولاً للآلهة وإلهاً للطرق والتجارة، وهو الذي يقابل عند الرومان الإله مِركور.
وكان لفيدياس تلامذة أمجاد منهم من سار على خطاه مثل أجور الذي ساعده في العمل بأوليمبيا، ومنهم من ارتسم لنفسه خطة خاصة مثل ليكيوس بن ميرون وتلميذه، وسترونجيليون الذي كان بارعاً في نحت تماثيل الخيل في حالة السير والتسابق، وكريزيلاس.
واستعان في خلق تمثال زويس بشعر هوميروس الذي فيه وصف الإله وصفاً مكن النحات من خلقه (ش2). ولعلنا بالمقارنة بين الرأسين نجد غنى الفنان واضحاً جلياً، فلا ملامح متشابهة ولا الشعر على أبسط جانب من التماثل.
ونختار هنا جانباً من التماثيل المنحوتة في جزء من وسط المثلث الواقع تحت جمالون الواجهة الغربية لمعبد زويس في أوليمبيا لنقف على مدى العظمة الفنية التي تجلت في عمل فيدياس (3).
أنظر إلى تفاصيل الأجسام، وتأمل تكوين العضلات، وشاهد الحركات الرائعة في كل جزء من أجزاء القطعة، ثم انتقل بنفسك فجأة إلى مصر وإلى من يقدّر الفن فيها ويفهمه، تجد أننا بحالتنا الراهنة لا نستطيع أن نخلق جيلاً يتذوق الجمال في الوقت الحاضر.
أما المستقبل فهو رهين بما نعده الآن، فإن لم يتكاتف الشعب المصري مع الحكومة كلٌّ في دائرته على إحياء الفن والعمل على تعليم النشء كيف ينظر وكيف يتأمل وكيف يتذوق فلا أمل عاجلاً أو آجلاً في شيء.
أحمد موسى(293/65)
الشيخ محمد رفعت
من الوجهة الفنية
للأديب محمد السيد المويلحي
أكبر الظن أن القراء سيعجبون ما وسعهم العجب، ويدهشون ما مكنتهم الدهشة لأننا نعتبر الأستاذ الشيخ محمد رفعت المقرئ المعروف بل سيد قراء هذا الزمن - موسيقياً قبل أن نعتبره مقرئاً. ولكنهم لو علموا أن الأستاذ موسيقي بفطرته وطبيعته وأنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها، وأقدس وأزهى ألوانها، لكفوا أنفسهم مؤونة العجب والدهشة. . . لو علموا أنه (بصوته) فحسب يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى (أوركستر) يشد أزره ويهيئ الأذهان لفنه ويرسم الطريق لصوته، للمسوا موضع الإعجاز في فن هذا الرجل العجيب. وليتصور كل منا مطرباً أو مطربة يغني أو تغني دون مصاحبة (تخت) ماذا يكون، وماذا تكون. . .؟؟
إن البعض يستتر خلف هذه الموسيقى لتضفي عليه لوناً من الحسن والقبول، ولكن أستاذنا لا يعتمد إلا على نبرته اللامعة، وصوته الملائكي الحنون، وفنه المرهف، وأسلوبه المقتدر المبتكر. .!
(محمد رفعت). . . اسم يخطه القلم بسهولة وبساطة وسرعة فما إن يخط. . . حتى يهيئ للأذهان جواً غير الجو الذي كانت تعيش فيه. . . جواً من النور تسبح فيه أطياف الملائكة، وتغرد فيه بلابل الجنان، ويعطره أريج شذى ندى نقي. جو القرآن الكريم، المرتل، المفسر، الذي تخشع له القلوب، وتخضع له النفوس، وتؤسر له الأرواح مهللة مكبرة، جو الصفاء والنقاء الذي يتخلص فيه الإنسان من أدرانه وأوضاره، وشروره وآثامه. الجو الذي تصفو فيه الروح لتحلق في سماء قدرة الله ورحمته وحنانه، الجو الذي يخضع له العاصي، ويخشع له المتكبر المتجبر الذي يظن أنه كل شيء وما هو بشيء أمام جبروت الله وكبريائه.!!
صوت تبارك من خلقه وصوره، وخصه بهذا السحر الذي ينشر ألويته، ويرفع بنوده فوق ملايين البشر في أنحاء العالم الفسيح.
صوت لم يخلق الله مثله في لونه ونوعه، كما لم يخلق - جل شأنه - بصمتين متشابهتين،(293/66)
فجاء فريداً وحيداً غنياً بكل ما في الفن من قدرة واقتدار. . .!!
يقول البعض أنه ضعيف (ضيق الحجم) لا يستطيع أن يظهر في المجتمعات المحتشدة، ونقول لهذا البعض إن الجمال لا يتوقف على القوة والشدة، والارتفاع. فالحمار كبير والبلبل صغير والفرق واضح بينهما. .!
يتكون صوته من ديوانين ونصف (18 مقاماً) تقريباً. ديوان (بريتون) وديوان (تينور) ثقيل ونصن ديوان (تينور) خفيف ويمتاز (باستعارته) التي لا يستطيع أن يحاكيها إلا كل صوت سليم قوي. . .
استعارة تزيد على الديوانين والنصف بنصف ديوان تقريباً. فهو كما نرى صوت سليم قوي وإن كان صغيراً في حجمه. . .
أنبل ما في هذا الرجل السامي تواضعه الجم وحياؤه الإيماني، تواضعه الجم مع أن عرشه من فلذات القلوب والأرواح ومع أن جمهوره يزري بجمهور أكبر مطربينا ومطرباتنا لا في مصر وحدها بل في بقاع العالم المترامي، لا من المسلمين فحسب بل من جميع الملل والأديان. . .
أعرف تاجراً كبيراً (مسيحياً) في الموسكى لا أمل له ولا سلوى إلا سماع رفعت. وأذكر في هذا الصدد أن ابنته - وهي متزوجة - كانت على شيء من التعصب فأتلفت (الراديو) عمداً حتى لا يتأثر والدها فيغير عقيدته - كما صور لها الوهم - فلما علم بالأمر طردها هي وزوجها وأولادها من بيته، ثم اشترى آلة جديدة ليرضي روحه من فن رفعت العالي، وقرآنه المرتل المفسر! والقس (م. ع) الذي أسلم في العام الماضي لم يسلم على يد واعظ أو عالم، وإنما أسلم على (صوت) رفعت وحسن ترتيله، وسحر تأثيره.
لو أتيح للقراء أن يذهبوا إلى - الشام - لعلموا أن رفعت هناك مقدس، إذا قرأ سكنت الأصوات وانقطعت الهمسات، وعم السكون، وامتلأ الجو كله تأثراً وخشوعاً ونوراً، فكل بيت وكل فرد يتمنى أن يجود بكل ما يملك حتى يسمعه دواماً.
هذا الرجل وهذه منزلته ومكانته يأبى أن يلقبه المذيع بكلمة (الأستاذ) لأن بعض المقرئين طالبوا أن يلقبوا هم أيضاً كما يلقب فرفضت المحطة فتنازل عن لقبه حتى لا يتألم إخوانه!
تقواه مضرب المثل، وكرمه يشمل الجميع. يعتقد أن توفيقه من الله وحده لا من صوته ولا(293/67)
من فنه؛ لهذا يخلص له الإِخلاص كله. فإذا قرأ، قرأ بخشوع وفهم لما يقول. يعينه على ذلك إلمامه ببعض علوم العربية وعلم القراءات.
لم يتعلم الموسيقى على معلم ولا في مدرسة، بل ربى نفسه بنفسه، وله في أذنه الموهوبة خير ضمان. وقد عوده الله أبداً أن ينصره ويوفقه، ويجمع حوله القلوب. . .
قد يدهش القارئ إذا علم أن بعض إخوانه يحاربه ويشيع حوله الشائعات المختلفة التي بلغت مرة درجة (الموت)، وقد يدهش أكثر إذا علم أن محطة الإذاعة (لسبب مجهول) تشايع من هم دونه في كل شيء فإذا سألته: ولم لا تظهر هذا للملأ. . .؟ قال: (عودني الله أن يوفقني أبداً. فماذا يصنع العبد أمام إرادة خالقه. . .؟!)
كما أن للورد أريجه، وللماس بريقه. . . فللأستاذ (رفعت) سحره الآسر، وأثره الساحر، وسيبقى اسمه متألقاً ساطعاً في سماء الخلود. . .!!
محمد السيد المويلحي(293/68)
رسَالة الشِّعر
ابنة الفجر
للأستاذ إيليا أبو ماضي
حينما يغمض الحِمام جفوني ... ودوي صوت مصرعي في المدينة
وتمشي في الأرض داراً فداراً ... فسمعتِ دويه ورنينه
لا تصيحي وا حسرتاه لئلا ... يدرك السامعون ما تضمرينه
وإذا زرتني وأبصرت وجهي ... قد محا الموت شكه ويقينه
ورأيت الصحاب جاثين حولي ... يندبون الفتى الذي تعرفينه
وتعالى العويل حولك ممن ... مارسوه وأصبحوا يحسنونه
لا تشقي عليّ ثوبك حزناً ... لا ولا تذرفي الدموع السخينه
غالبي اليأس وأجْلسي عند نعشي ... بسكون إني أحب السكينة
إن للصمت في المآتم معنى ... تتعزى به النفوس الحزينة
ولقول العذال عنك (بخيل) ... هو خير من قولهم (مسكينة)
وإذا خفت أن يثور بك الوج ... د فتبدو أسرارنا المكنونة
فارجعي واسكبي دموعك سراً ... وامسحي باليدين ما تسكبينه
يا ابنة الفجر من أحبك ميت ... ولأنتِ بمثل هذا رهينة
زايل النور مقلتيه وغابت ... تحت أجفانه المعاني المبينة
فأصِيخي هل تسمعين خفوقاً ... كنت قبلاً في صدره تسمعينه
وانظري ثم فكري كيف أمسى ... ليس يدري عدوه وخدينه
ساكتاً لا يقول شيئاً ولا يس ... مع شيئاً وليس يبصر دونه
لا يبالي أأودعوه الثريا ... أم رموه في حمأة مسمومة
وإذا الحارسان ناما عياء ... ورأيتِ أصحابه يتركونه
فتعالي وقبلي شفتيه ... ويديه وشعره وجبينه
قبل أن يسدل الحجاب عليه ... ويوارى عنكِ فلا تبصرينه
واحذري أن تراك عين رقيب ... ولئن كان حل ما تحذرينه(293/69)
فإِذا ما أمنت لا تتركيه ... قبلما يفتح الصباح جفونه
وإذا الساعة الرهيبة حانت ... ورأيتِ حراسه يحملونه
وسمعت الناقوس يقرع حزناً ... فيرد الوادي عليه أنينه
زودي الراحل الذي مات وجداً ... بالذي زود الغريب السفينة
نظرة تعلم السموات منها ... أنه مات عن فتاة أمينة
طوت الأرض من طوى الأرض حياً ... وعلاه من كان بالأمس دونه
واختفى في التراب وجه صبيح ... وفؤاد حر ونفس مصونة
وإذا ما وقفت عند السواقي ... وذكرت وقوفه وسكونه
حيث أقسمت أن تدومي على العه ... د وآلى بأنه لن يخونه
حيث علمتِه القريض فأمسى ... يتغنى كي تسمعي تلحينه
فاذكريه مع البروق السواري ... واندبيه مع الغيوث الهتونة
وإذا ما مشيت في الروض يوماً ... ووطأتِ سهوله وحزونه
وذكرت مواقف المجد فيه ... عندما كنت بالهوى تغرينه
حيث علمته الفتون فأضحى ... يحسب الأرض كلها مفتونة
حيث وسدته يمينكِ حتى ... كاد ينسي شماله ويمينه
حيث كنتِ وكان يسقيك طوراً ... من هواه وتارة تسقينه
حيث حاك الربيع للروض ثوباً ... كان أحلى لديه لو ترتدينه
فالثمي كل زهرة فيه إني ... كنت أهوى أزهاره وغصونه
ثم قولي للطير مات حبيبي ... فلماذا يا طير لا تبكينه
وإذا ما جلست وحدك في اللي ... ل وهاجت بك الشجون الدفينة
ورأيت الغيوم تركض نحو الغ ... رب ركضاً كأنها مجنونة
ولحظت من الكواكب صداً ... ونفاراً، وفي النسيم خشونة
فغضبتِ على الليالي البواقي ... وحننت إلى الليالي الثمينة
فاهجري المخدع الجميل وزوري ... ذلك القبر ثم حيّي قطينه
وانثري الورد حوله وعليه ... واغرسي عند قلبه ياسمينة(293/70)
(الولايات المتحدة)
ايليا أبو ماضي(293/71)
توبة المكرَه
للأستاذ حسين شفيق المصري
كبرتُ وهدني طولُ الليالي ... فلا حالٌ تسُر ولا وَسامة
فماذا تبتغي الغاداتُ مني ... أضعفي يبتغين أم الدّمامة؟
وماذا أبتغي منهن ويحي؟ ... أيهوى الشيخُ أم يشكو سقامه
كبا فرسُ الهوى فسقطتُ عنه ... ومات فلستُ بالراجي قِيامه
وأقعدني عن اللذات عجزي ... فليست توبتي عقبى ندامة
فما صومي الغداة ولا صلاتي ... بشيءٍ نافعي يومَ القيامة
حسين شفيق المصري(293/72)
حنين
للأستاذ حسن حمدي بك
يا غائبين عن العليل لأنتمُ ... في القلب مهما غبتمُ شُهّادُ
يا عائديه في الكرى عودوا، فِدىً ... لخيالكم في اليقظة العُوّاد
لا تحسبوا الآحاد طابت بَعدكُمْ ... طابت لكمْ ما عِشتُمُ الآحاد
لا تحسبوا الأعياد عادت بَعدكُمْ ... أيّام قربكمُ هي الأعياد
بحياة من وقف الجمال عليكمُ ... وحياتكم قولوا متى الميعاد
كم قلت من أسفي عليكم نائحاً: ... بانت، فيا أسفاً عليَّ، سُعاد
فمتى أقول من ابتهاجي شادياً: ... (يا مصر أهلك بالسلامة عادوا)
حسن حمدي(293/73)
من الشعر المنسي لحافظ
إلى الرئيس روزفلت!
(مر مستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة بمصر وهو عائد
من الصيد والقنص في أواسط أفريقيا في مارس سنة 1910،
فخطب في الجامعة المصرية خطبة أشاد فيها بأبناء عمومته
الإنجليز وحمد صنيعهم في مصر. فقال له حافظ هذه
الأبيات):
إي خطيبَ الدنيا الجديدة شَنِّف ... سمعَ مصرٍ بقولك المأثور
إنما شوقها لقولك يا (روز ... فلت) شوق الأسير للتحرير
قف غداً أيها الرئيس وعلم ... أهل مصرٍ حرية التعبير
أخبر الناسَ كيف سُدتم على النا ... سِ وجئتم بمعجزات الدهور
وملكتم أعنَّة الريح والما ... ء ودُستم على رقاب العصور
قف وعددْ مآثر العلم واذكر ... نِعَم الله ذكر عبدٍ شكور
وإذا ما ذكرت أنعمَه الكب ... رى فلا تنس نعمةَ الدستور
يا نصير الضعيف مَالك تطري ... خلةَ القوم بعد ذاك النكير
لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم ... في حمامكم من دونهم ألفَ سُور
أنت تطريهمو وتثني عليهم ... نائياً آمناً وراء البحور
ليت شعري أكنت تدعو إليهم ... يوم كانوا على تخوم الثغور
يوم كانوا قذىً بعين (نيويور ... ك) وداء مستحكما في الصدور
يوم نادى (واشنجطون) فلبّا ... هـ من الغاب كلُّ ليثٍ هَصور
يوم سجلتمو على صفحات الد ... هر تاريخ مجدكم بالنور
ووثبتم إلى الحياة وثوباً ... ونفضتم عنكم غبار القبور
إنما النيل و (المسيسبي) صنوا ... ن هما حَلْبتان للمعمور(293/74)
وعجيب يفوز هذا بإِطلا ... ق وهذا في ذلة المأسور
يا نصير الضعيف حبب إليهم ... هجر مصر تفز بأجر كبير
فعليهمْ أن يهجروا وعلى المص ... ري ذكر المتيَّم المهجور
م. ف. ع(293/75)
البَريد الأدبي
غريب
قرأت بدهشة وعجب كلمة الأستاذ (م. ح. ب) من الخرطوم في العدد (292) من الرسالة، ولا ألومه أن يغضب إذا أهينت كرامته، أو مست قوميته بسوء؛ بيد أني حين تبرأت من أن أكون (زنجيّاً أو هنديّاً أو نوبيّاً أو حبشيّاً) كنت أشير إلى ما يعتقده الإنجليز في هذه الأجناس خاصة، ولذلك قلت فيما بعد: (ولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين الازدراء والامتهان، ويعدهم دونه في الذكاء والمدنية). وقلت: (إني لست في مقام جدال) حتى أفند هذا الرأي الخاطئ، إذ كنت حريصاً على إيجاد مأوى أستريح فيه من عناء السفر، وشدة الداء؛ وحين لاحت الفرصة دافعت بكل ما أوتيت من قوة عن (الشعوب الملونة) فقلت: (الآن عرفت الحقيقة، إذاً لا يوجد هناك تفوق في الذكاء كما لا يوجد تفوق في ميدان الحضارة والاستعداد لتقبلها، ولكن المسألة استعمارية بحتة)؛ وتكلمت عن الشرقيين عامة كما تكلمت عن المصريين خاصة، ولا يلمني الكاتب الفاضل إذا دافعت عن نفسي أولاً ثم عن غيري ثانياً.
الواقع أن الإنجليز وبعض الأوربيين حينما يرون شخصاً أسمر اللون، لا يفكرون إلا في هذه الأجناس؛ لأن الأمريكيين نشروا الدعاية السيئة ضد الزنوج، والاستعماريين شوهوا سيرة الهنود والنوبيين والأحباش ووصموهم بكل رذيلة وعيب. أما أنا يا سيدي فلم يزل قلمي، ولم يخطر قط ببالي أن أهين شخصاً ما، ولو عرفت مقدار صلتي بالهنود والسودانيين والأحباش لما اتهمتني بما ذكرت؛ ففي الهنود ذكاء عظيم، وفضل كبير، وعلم جم؛ والسودانيين إخواننا في الوطن والعروبة والدين، ومنهم أعز أصدقائي الأستاذ الأديب توفيق البكري كاتم سر (النادي السوداني بمصر) وأنا أعطف على ناشئتهم في مدارسنا المصرية عطف الأخ الأكبر على اخوته الصغار. إما الأحباش فقد اتصلت بهم في لندن أيام نضالهم مع الإيطاليين، وعرفت فيهم خلالاً حميدة، وأدباً غزيراً؛ ودرست اللغة الحبشية في معهد اللغات الشرقية بلندن على آخر وزير لخارجية الحبشة المستقلة الأستاذ (هروي) ويعد من إنكار الجميل أن يخطر ببالي إهانتهم ولعل في كلمتي هذه ما يزيل الشك، إن كان ثمة شك.(293/76)
عمر الدسوقي
تاريخ العرب
لما كانت الظروف الحاضرة قد أحيت بين بلاد الشرق العربي صلاته القديمة، وجمعتها على أمل وحدتها التاريخية، للتعاون المشترك على النهوض والاستقلال، فقد تقدم اقتراح إلى وزارة المعارف لتعمل على وضع تاريخ للشعب العربي منذ أقدم العصور على أن يدلل هذا التاريخ، بحسب ما وصل إليه محققو العرب، على حقيقتين خطيرتين لازمتين للوحدة العربية: أولاهما أن الشعب العربي أعرق الشعوب جميعاً وهو واضع أسس الحضارة الإنسانية ومنظم العدالة ومبادئ العلم وتعتبر أرضه مهبط الشرائع السماوية جميعها. وثانيتهما أن الأمم الشرقية الحالية مما يحيط بجزيرة العرب أمم عربية خالصة مما يمتنع معه الاندفاع مع الدعايات السياسية الغربية من أن العراق آشوري وسوريا فينيقية ومصر فرعونية وبلاد المغرب بربرية وغير ذلك.
وقد رحبت وزارة المعارف بهذا الاقتراح، وشرعت في دراسته.
الشيخ طنطاوي جوهري وجائزة نوبل للسلام
سبق أن أشرنا إلى تقدم فضيلة الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري ببعض مؤلفاته لنيل جائزة نوبل للسلم في هذا العام، وقد كان من شروط التقدم لمثل هذه الجائزة أن يكون صاحب المؤلفات من أساتذة الجامعة أو أن يرشحه أحد الوزراء أو عضو في البرلمان أو أستاذ جامعي في الفلسفة أو التاريخ أو القانون أو السياسة.
ولقد تطوع لترشيح فضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، والدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان، فأخذت وزارة الخارجية بهذا الترشيح وأرسلت مؤلفات الأستاذ إلى البرلمان النرويجي مشفوعة بتقرير عن جهوده في سبيل العلم والسلام وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في قيمة مؤلفاته.
اللغة العربية في مدارس إيران
رغبت وزارة المعارف الإِيرانية في الأخذ ببعض مناهج التعليم في مصر على أثر اطلاعها عليها بمناسبة الدعوة لعقد مؤتمر شرقي للتعليم. وقد تبودلت رغبة أخرى في(293/77)
دراسة اللغة العربية في إيران إذ لوحظ أن انتشار هذه اللغة يكون عاملاً على توثيق الروابط بين إيران وبين جاراتها الشرقية.
وينتظر أن تبدأ وزارة المعارف في أوائل العام المقبل في ندب عدد من مدرسي اللغة العربية للعمل في مدارس إيران.
الأغاني المصرية وتعميمها في العراق
تلقت وزارة المعارف من حكومة العراق طلباً بإرسال صورة من الأغاني المصرية والمقطوعات الشعرية الغنائية لتعميمها في بلاد العراق.
وقد أرسلت الوزارة بعض المقطوعات التي منح أصحابها جوائز مالية وبعض مقطوعات أخرى تمثل النهضة المصرية الحديثة ومنها النشيد القومي للأستاذ محمود محمد صادق.
وقد ذكرنا من قبل أن وزارة المعارف تعني الآن بإحياء الأغاني المصرية وتوجيهها التوجيه التهذيبي لتتمشى مع روح النهضة الحديثة.
قصيدة مولد الليل
سيدي الأستاذ صاحب الرسالة الغراء:
سلام الله عليك. وبعد فقد ورد في قصيدة الأستاذ الشاعر محمود الخفيف (مولد الليل) (الرسالة عدد 290) بيتان شذ عجزاهما عن تفاعيل بحر القصيدة، أحدهما (ومضت تمسح كف الدجى) والآخر (إن دجا فوقِيَ ليل الردى) ولعل هذا تطبيع فنرجو تصويبه ضناً منا بجمال هذه القصيدة أن يصيبه تشويه الكسر. وفي شعر الأستاذ الشاعر رقة وسمو في الخيال يغريان على حفظه والترنم به. وبقاء العجزين على حالهما فيه نبوٌ باللسان عن إنشادهما ونبوٌ بالأذن عند سماعهما.
هذا وحفظ الله ابن عبد الملك الزيات.
(نابلس)
فدوى
(الرسالة): نشكر للأديبة الفاضلة حسن التفاتها ودقة ملاحظتها ونرجو منها أن تقرأ الشطرين هكذا:(293/78)
(ومضيت ماسحة كف الدجى)
(إن دجت فوقي دياجير الردى)
حول الفرقة القومية
نشر الأستاذ (ابن عساكر) حديثاً لي في العدد رقم 292 من مجلتكم الزاهرة أسقط منه - لعلة لا أعرفها - فقرة خاصة بالمؤلفين المسرحيين المصريين الذين أخرجت لهم الفرقة القومية روايات مسرحية، فذكر في الحديث المنشور ما يأتي: (ومن حيث الرواية فإن الفرقة لم تقدم كاتباً يؤبه له. . .)
هذا في حين أن العبارة التي أمليتها عليه إملاء - وإنني دائماً أملي أحاديثي أو أكتبها - هي: (ومن حيث الرواية فإن الفرقة لم تقدم كاتباً جديداً يؤبه له إلا الأستاذ توفيق الحكيم)
أمليت هذا إحقاقاً للحق، وتنويهاً بمجهود الأستاذ توفيق الحكيم في حين أنني لم أغمط قدر المؤلفين الذين تقدموه في كتابة المسرحية أمثال الأساتذة: إبراهيم رمزي ومحمود تيمور ولطفي جمعة وعباس علام ومحمد خورشيد وغيرهم.
لهذا أرجو التفضل بنشر هذه الكلمة استدراكاً لأمر خرج عن محاوره.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
زكي ظليمات
كلمة (فطاحل)
عثرت وأنا أقرأ المقدمة التي وضعها الأستاذان الكبيران العوامري والجارم عضوا المجمع الملكي، لكتاب البخلاء (طبع دار الكتب المصرية) على الجملة الآتية:
(وليس من غرضنا في هذه الكلمة أن نجلو على القارئ فن الجاحظ وأدبه ولا. . . أن نقايس بينه وبين فطاحل العصر العباسي من الكتاب والمنشئين) ص3 سطر 4
وكلمة فطاحل هذه هي جمع فِطَحْل، وقد استعملها كثيرون وأرادوا بها معنى العظيم. على أنها ليست من هذا المعنى لشيء على ما نحسب. جاء في اللسان:
(فِطَحْل كهزبر: الأرض قبل أن يخلق الإنسان. البعير الضخم.) وذكر مثل ذلك صاحب القاموس والتاج والنهاية. ولم يذكرها الأساس.(293/79)
ونحن لم نعثر على هذه الكلمة في شعر العرب أو كلامهم بهذا المعنى. وقد ورد: فحل، وقرم. . . ولم أجد أحداً من العرب استعملها مجازاً. فهل للأستاذين أن يبينا لنا وجه استعمالها، أو يذكرا لنا أحداً من العرب الخلص استعملها، أم كان ذلك جرياً وراء الخطأ الشائع؟
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
الفاعل عند البصريين
يمتنع عند البصريين أن يكون الفاعل متقدماً على فعله. وفي الصبان ج2 ص32 جاء (وفي كلام الدماميني ما يفيد أن من المانعين للتقدم من يخص منعه بالاختيار حيث قال نص الأعلم وابن عصفور في قول الشاعر:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
على رفع وصال بيدوم وقدم للضرورة وهو ظاهر كلام سيبويه)
فأنت ترى أن من المانعين للتقدم من يخص المنع بالاختيار مستدلاً بهذا البيت. ولو أنهم فسروه تفسيراً آخر غير التفسير الذي فسروه به لما جروا علينا خلافاً كنا في غنية عنه. . . والتفسير المقبول هو: قل وصال يدوم على طول الصدود. فيكون قل فعل ماض وما زائدة ووصال فاعل قل. يبرر ذلك عندي:
(1) أن قلما تستعمل في وجهين: تستعمل للنفي المحض فيمكن أن تكون حرفاً نافياً (كما) فلا تطلب فاعلاً. وقد قرر البصريون إعرابهم على هذا الوجه (ب) وتستعمل لإِثبات الشيء القليل كما قال الرضى. وقد قررت إعرابي على هذا الوجه.
(2) أن الفعل وفاعله كجزأي كلمة ولا يجوز تقديم عجز الكلمة على صدرها ج2 ص32 صبان. على أن هذا البيت الوحيد الذي يحتج به قد أخطأ في اللغة قبل أن يخطئ في النحو. فصحة أطولت أطلت. ولكن الشاعر اضطر إلى هذا لضرورة الوزن. فيجوز أن يكون في البيت ضرورتان. ولعل هذا الوجه من الإعراب يسنده ما رأيته (للقاني) في المغني في بحث (ما الزائدة): (إن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل في نثر ولا شعر).(293/80)
فهل آن لنا - ونحن في دور تبسيط النحو - أن نحذف من كتبنا أمثال تلك الخلافات التي لا تجدي ولا تفيد؟
عبد العليم عيسى
كلية اللغة
في الشعر العربي
أخذ الأستاذ بشر فارس علي الجارم بك كثرة استعمال المحسنات المعنوية والألفاظ التي لا ترى إلا في المطولات من المعاجم، والتي لا يقوم شعر الجارم إلا بها، وعندي أن هذا خير ألف مرة ومرة من هذا الضرب الذي ارتضاه الجارم بك لنفسه.
وإني أقتطف شيئاً من قوله يوم نقل رفات سعد الخالد وأضع بجواره قول أحمد شوقي بك (على قبر نابليون) وقصيدة أخرى له أيضاً (دمعة وابتسامة)
قال شوقي في الأولى:
قف على كنز بباريس دفين ... من فريد في المعالي وثمين
وفي الثانية:
ارفعي الستر وحيّي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين
فيقول الجارم بك:
اكشفوا الترب عن الكنز الدفين ... وارفعوا الستر عن الصبح المبين
ويقول شوقي:
وانتقد جوهرة من شرف ... صدف الدهر بتربيها ضنين
فيقول الجارم:
واجتلوه درة ساطعة ... صدف الدهر بشرواها ضنين
والقصيدة كلها على هذا النمط الذي إن قبله الأستاذ الجارم لنفسه فلن يرضاه له أحد.
(إسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(293/81)
بيان من جريدة الشباب
يسرنا أن نخبر القراء أن جريدة الشورى ستعود إلى الصدور قريباً وسنرسلها إلى القراء بدلاً من جريدة الشباب التي سنوقف إرسالها. وستكون الشورى مثل الشباب تماماً إن شاء الله. وإننا من الآن نوصي حضرات المشتركين والقراء والأصدقاء والزملاء بأن يجعلوا جميع مخابراتهم معنا على هذا العنوان:
محمد علي الطاهر
جريدة الشورى بمصر
حول شريط الدكتور
تعقيباً على ما كتبه الدكتور بشر فارس عن رواية (الدكتور) السينمائية، أقول إن من العيوب الموجودة بالفلم أيضاً أن تبرز صورة الحمار الناهق حينما أطل (الباشا) من نافذة المستشفى القروي، لكي يتمتع بهواء الريف العليل، ويتمتع بجمال الطبيعة الساحر!. أما كان الأجمل ألا تبرز صورة الحمار هنا، وأن يكون بدل ذلك شتى المناظر الفتانة والصور الخلابة؟
ولست أدري سبب تلك الصورة المشوهة التي أعطتها لنا الرواية عن أسرة الدكتور حلمي. وأظهر موضع لتشوهها حينما جلس الباشا وزوجته وابنته إحسان مع حلمي وأبويه، لتناول الغداء بالعزبة، فهل يعقل أن تقدم (الشوربة) والأطعمة في صحاف فخمة وأدوات (مودرن) ونظام مدني؛ ثم يقدم بعد ذلك (الخروف) المطبوخ، فلا يؤثر في لحمه السكين، ولا يقدر على تقطيع أوصاله إلا كف الشيخ عبد السلام الشثنة؟!
وعندما دخلت أم حلمي على الضيوف. . . هل يعقل أن تسلم فقط على إحسان، ثم تترك أباها وأمها، فلا تخاطبهما ببنت شفة؟ أهذا ما يوحي به الطبع الريفي والعادات المصرية؟!(293/82)
وهناك مظهر اصطدام السيارة المقلة للضيوف بالجمل المثقل بحمله في حمى العزبة. . . أحقاً يفعل أبناء القرى بالسيارة الفارهة وفيها راكبوها وهم غرباء ذوو مظهر وجاه ونعمة، مثل ما رأينا في الرواية، مما توحيه الجرأة ويمليه التبجح؟ أظن أن الريفي بعيد كل البعد عن هذه الروح؛ فهو لا يزال يجل الغريب ويحيطه بأنواع التجلة والإكبار.
أحمد الشرباصي(293/83)
الكُتُب
رجعة أبي العلاء
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
أبو العلاء المعري رجل عبقري الذهن ما في ذلك شك، وهو في عبقريته هذه نفاذ مستوعب يقتحم كل شيء ويحيط بكل شيء. ولقد اهتم به كثير من النقاد والباحثين في هذه الناحية، فدرسوا آثاره، وشرحوا أقواله، وحللوا ملكاته، وقال كل فيه بما يرى وعلى ما يفهم، والأستاذ العقاد في جملة هؤلاء الذين عنوا بشيخ المعرة، بل إنه لأشدهم مصاحبة له، ونظراً فيه، وإدماناً عليه. اتخذه رفيقاً في جميع أطوار فكره، وجرى معه في كل أدوار عمره، وكتب عنه في (المطالعات) عدة فصول هي أدق وأعمق ما كتب عن المعري في عبقريته وفلسفته وتحليل ملكاته. . .
والمعري أيضاً رجل عبقري النفس ما في ذلك شك، وعبقرية النفس هي الشعور بالواجب والحرص عليه، والإيمان بالحق والتفاني فيه، والإحساس القوي الذي يملأ النفس بالروحانية والثقة والكرامة والأنفة والترفع عن كل ما يشين ويزري بصاحبه. وغاية الكمال في (الشخصية) الإنسانية أن تجتمع لها العبقريتان: عبقرية الذهن وعبقرية النفس، فتتوازن من الجانبين، وتتعادل في الجهتين، فإذا هي على استواء في التفكير والتقدير، والعواطف والأهواء. . .
وإذا كان المعري في الناحية الأولى قد أشبعه الباحثون قديماً وحديثاً بالبحث والدرس، فإنه في الثانية مطمور مغمور، لم يفطن إليه كاتب، ولم ينتبه له ناقد، ومن هذه الناحية المجهولة، أراد العقاد أن يكشف عن أبي العلاء في (رجعة أبي العلاء) فبلغ من ذلك غاية ما يبلغه الناقد البصير في الكشف عن (مجهول) بالفرض والاستنتاج والحدْس والتخمين والمقارنة بين العبقريات والشخصيات، والمقابلة بين الآراء والأفكار، مع مراعاة الزمان والمكان، والظروف والملابسات.
ففي المقال الذي كتبه العقاد عن (صاحب الجلالة المعري) دراسة قويمة نافذة، تتجلى فيها عبقرية العقاد في البحث والتحليل وتنكشف فيها عبقرية المعري النفسية، أو ما يسميه العقاد بشيمة السمت والوقار، أو كما نقول في لغة العصر الحاضر: أدب البيئة وأصول اللياقة(293/84)
(ص 24) ومن رأي العقاد أن هذه الخصلة في الرجل ترجع إلى مراجع كثيرة: هي التربية في بيت العلم والوجاهة، والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وعزة النفس، ووهن البنية، وضعف الخوالج الجسدية ضعفاً أتاح له أن يكبح نوازع اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات.
وفي الفصل التالي يمعن العقاد في التحليل والكشف عن عبقرية المعري النفسية، ويحاول أن ينظر إليه في (عالم السريرة) فيسأل: هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة، خصلة السمت والوقار؟ ثم يسأل: وماذا كان المعري صانعاً لو أنها تغيرت بعض التغيير أو كل التغيير؟ ثم يجيب العقاد على ذلك بأن تغييرها كان مستطاعاً كما يستطاع كل تغيير في عوارض الصفات، وأكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان يخرج لنا نمطاً جديداً يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيام في ديوان الآداب الشرقية.
ولقد بلغ العقاد في هذا الفصل والذي قبله غاية لا تطاول في التحليل والتقدير والاستنباط، وهذان الفصلان هما خير ما في كتابه من الدراسة، وأمتع ما فيه من نفاذ الذهن العبقري في إدراك السر العبقري.
ولقد فرض العقاد لشيخه المعري فروضاً كثيرة، ونظره في أوضاع مختلفة، ولقد حاول أن يلبسه لبوس قاضي المعرة، أو أن يظهره في مظهر النواسي، أو يجعله على نهج الخيام وطريقته، ولكنه انتهى به إلى حقيقته الكائنة (فأبو العلاء هو أبو العلاء) حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هواجس قلبه، وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره، وآثار نعمته وحرمانه.
وبهذه الطبيعة الكائنة رجع العقاد بشيخه المعري إلى الحياة، وطوّف به في أنحاء الأرض، واستطلع طلعه في شؤون العالم الحاضر مما رأى وسمع. فلما بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، رجع به إلى مثواه، وانتهى به إلى حيث هو في رقاده، بعد أن ودّعه بقصيدٍ على طريقة اللزوميات. والفكرة في رجعة أبي العلاء قد حاولها المنفلوطي رحمه الله من قبل، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين العقاد والمنفلوطي في رجعة أبي العلاء وبعثه، فقد كان المنفلوطي يبغي دراسة المعري من أقواله وأشعاره فانتهج لذلك نهجاً قصصياً قريباً(293/85)
إلى النفوس، سهلاً في التناول. أما العقاد فقد تخيّل (رهن المحبسين) يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر. ثم راح ينطقه بالرأي في شؤون زماننا بالقياس على المعهود من كلامه، والمقابلة بين المعروف من آرائه، وهو في كل هذا يستشهد بشعره، ويتمثل بقوله، ويصطنع لغته، ويجري على طريقته. . .
ولقد أخذ على العقاد بأنه في كتابه قد أظهر شخصيته هو لا شخصية أبي العلاء، وأبدى رأيه هو لا رأي شيخه في الحياة، وأنه أنطق الرجل بالقرآن وما كان ديدنه ذلك، وكأني بقائل هذا قد فاته الغرض الذي قصد إليه العقاد. وأشار إليه في المقدمة بصريح العبارة، فإن العقاد لم يقصد إلى دراسة المعري ولكنه فرضه حيَّا في هذا العصر، وعلى هذا الفرض أنطقه بالرأي قباساً على المعهود من كلامه وآرائه كما يقول، فله أجر المجتهد إن أخطأ أو أصاب في مجال الفرض والتخمين. . .
وفي الكتاب أقوال يجوز فيها بيننا وبين الأستاذ الخلاف، فهو يقول مثلاً: أما الخمر فلا أستبعد أن الشيخ قد ذاقها في بعض الأديرة التي كان يغشاها للدرس (ص 46) وأنا أخالف الأستاذ في ذلك وأرى أن وصفه للخمر لا يقوم دليلاً على ذلك. والأستاذ العقاد نفسه يأخذ بهذا الرأي فيما كتبه عن المعري في المطالعات فبأي قولي الأستاذ نأخذ؟
ويقول على لسان المعري لتلميذه حسبك حسبك وهو يشرح له فلسفة العصر في المرأة، وعهدنا بالمعري يتلهف على المعرفة، ويضرب إليها أكباد الإبل، فليس من طبعه أن يقول: حسبك حسبك. في مثل هذا المقام.
ويقول العقاد: أما أبو العلاء فهو قريب من أبو نواس في الثقافة، وكان الأنسب أن يقول: ولقد كان أبو نواس قريباً من المعري في ثقافته. . . والفرق واضح بين القولين.
ويحاول الأستاذ العقاد أن يقف بالمعري في المناقشة والمحاجة دائماً موقف المتريث المجمجم الممتعض، وما كان المعري كذلك بطبعه إلا في مواقف التقيّة والمداراة.
وأعود فأثني على كتاب أستاذنا الكبير خير ثناء، وأشكره على يوم قضيته في استجلاء (كتابه) فلم أندم عليه، بل ربحت منه الكثير، وأفدت منه النافع الجليل.
م. ف. ع(293/86)
المسرَح وَالسِينما
الفرقة القومية
هل هي في تقدم أم في تأخر أم في ركود؟
لقد ساير الأستاذ توفيق الحكيم الفرقة القومية منذ نشأتها وكانت أولى
مسرحياته، أهل الكهف (حسن طالع) لها، افتتحت بها عملها الفني، وقد
غذى المسرح بروايته الثانية (سر المنتحرة) وله مجالات في فن
القصة تدل على روحه القوي واندفاعاته الجريئة في ارتياد آفاقها
ليتعرف أسرار الحياة وليشرك قارئه معه في الفرح بالحياة أو الاكتئاب
منها.
قلت للأستاذ الحكيم: لقد سايرتَ الفرقة القومية منذ افتتاحها وغذيتها بمسرحياتك، وعاونت مديرها وسندته في مهمته، وها قد مضى على ذلك أربعة أعوام، فهل في وسعك أن تقول هل الفرقة في تقدم أو في تأخر أو في ركود؟ فأجاب:
من يطلع على التقرير الذي وضعه سعادة الدكتور عفيفي باشا وفيه بيان الغرض من إنشاء الفرقة القومية ير أن المقصود من وجود هذه الفرقة ورصد مبلغ كبير من مال الأمة، هو إنشاء دار تحدث نهضة عظيمة تشعر البلاد والجمهور المثقف بها، يكون من شأنها ترقية الفن والأدب المسرحي وحركة الترجمة أيضاً مما يجعل هذه الدار عنواناً تفخر به مصر. لذلك كان المفهوم أن خطة الفرقة سائرة في هذا السبيل، ولكن اتضح مما قدمته في مواسمها العديدة أنها لم تؤد أكثر مما أدته الفرق الأهلية من قبل، بل إن البلاد شعرت بنهضة مسرحية في أول عهد ظهور مسارح جورج أبيض، ورمسيس، وفاطمة رشدي. حيث أخرجت للناس بعد روائع الأدب الغربي المعروفة أمثال عطيل ومكبث وسيرانو دي برجراك وغادة الكاميليا وغيرها، كما أن مسرح الأزبكية كان قد نهض إلى حد ما بالرواية المسرحية الغنائية. وكان المنظور بمجرد ظهور الفرقة القومية بما لها من وفرة المال والممثلين؛ وتعضيد الحكومة أن تتجه بالفن اتجاهاً جديداً، ولكنها خيبت ظن الجمهور،(293/87)
فرواياتها المترجمة هي من سقط متاع الغرب ومن أقلام شبه مجهولة، وكذلك التأليف. كما أن الإخراج والتمثيل ليس لهما قاعدة ثابتة لعدم إسنادهما إلى أيد مختصة مسؤولة عن الإدارة الفنية كما هو الحال في جميع المسارح والسينما المحترمة، وقد وضحت جميع هذه النقط في التقرير الذي كلفت بتقديمه إلى وزارة المعارف.
إذن يمكنني أن أقول إن الفرقة القومية ليست في تقدم كما تدعي هي، بل هي في جمود سيؤدي إلى التأخر ولا شك.
- هل علة هذا الجمود هي الإدارة العامة، أم لجنة القراءة، أم المؤلفون الذين لا يغذون المسرح؟
أعتقد أن المسؤول الوحيد عن سير الفرقة هي الإدارة العامة، وأن لجنة القراءة والمؤلفين ليسو غير وسيلة يتوسل بها المدير للانتفاع بهم في الوصول إلى الغرض الأسمى للفرقة، فلجنة القراءة ليست هي المدير، والمقصود من وجودها إعانة المدير على اختيار الروايات من بين الأكوام التي تقدم إليه. أما المؤلفون فهم على نوعين: مجهول ومشهور، فظهور الأول رهين بالظروف والمصادفات، والمباراة في التأليف هي إحدى الوسائل التي تعجل اكتشافه وتيسر إبراز مواهبه. أما الثاني أي ذلك المؤلف الذي لا تشغله ميادين نشاط أخرى فهو في الغالب لا يمكن أن يقحم نفسه في الفرقة بغير دعوة منها، وفي العالم كله نجد المسارح وشركات السينما هي التي ترسل في طلب المؤلفين المشهورين وتتعاقد معهم. أما قول بعضهم إن كبار المؤلفين يتهيبون الوقوف مع الكتاب الناشئين فغير صحيح، لأن الكاتب المشهور مهما أسفّ فإنه يخرج عملاً له قيمته الفكرية على كل حال، مطبوعاً بطابع شخصيته الأدبية التي عرفها الجمهور ورضى عنها واشتهر من أجلها في مناحي الأدب الأخرى.
- أراك أزحت عن عاتق لجنة القراءة أسباب تأخر الفرقة في حين أن مديرها يقول إنه ينفذ قراراتها، وإن الفرقة لا تمثل إلا الروايات التي تقرها اللجنة.
قلت: إن مهمة لجنة القراءة تصفية المتراكم من الروايات المقدمة للمدير، وليس من شأنها إحداث النشاط الأدبي والفكري اللازمين لحياة الفرقة ورقيها. فليس مثلاً من شأنها البحث عن أمهات الآثار الغربية التي تلائم المزاج المصري فتدفع بها إلى المترجمين،(293/88)
والمقتبسين؛ وليس من شأنها أيضاً أن تتعاقد مع المؤلفين الذين ترى أن مصلحة الفرقة في أن يكتبوا لها؛ وليست هي التي تبحث عن وسائل إخراج هذه الروايات التي يسترعي إخراجها انتباه الجمهور، فكل هذه المسائل من اختصاص مدير الفرقة وحده، وهو إما لكسله أو لعدم تحمسه لإحداث النشاط الفكري والفني المطلوب يحاول أن يلقي تبعة هذا الجمود على لجنة القراءة أو على كبار المؤلفين، وهي في حقيقة الأمر حجة يستتر خلفها تبريراً لما يشعر به من خيبة الأمل التي كانت معقودة على الفرقة.
قلت: أعرف مدى نفوذ أعضاء لجنة القراءة على مدير الفرقة، كما نعرف جميعاً مبلغ تسامح المدير في كل شيء، وحبه للسلام، وبعده عن النضال والجدل الأدبي فهل لك أن تقول بصراحة هل يمكن لأعضاء لجنة القراءة أن يكونوا رجال حكم صحيح في الفن المسرحي والرواية المسرحية، وهل ما جاء في أحاديثهم يدل على أنهم أهل لمساعدة المدير في تحقيق رسالة الفن المسرحي.
فقال: أعتقد أن أسباب نفوذ لجنة القراءة مستمدة من ضعف مدير الفرقة، وأن أسباب ضعف المدير آتية من استئثاره بالعمل والضن على نفسه بمساعدة يستمدها من صاحب دراية ومعرفة، وهو الكسول كما عرفنا، فلو أنه كان يشفع الرواية التي يقدمها إلى اللجنة برأي فني قاطع، ويترك للجنة النظر إلى الرواية من الناحيتين: اللغوية والخلقية، لكانت اللجنة لزمت حدها. ولو أنه ألف لجنة فنية من المخرجين وكبار الممثلين مسؤولة عن نجاح الرواية وعن سقوطها، لكانت الفرقة مشت في طريقها الطبيعي، وقامت كل هيئة بما هو موكول إليها من أعمال. ولو أن الأمور كانت تسير في هذا الطريق وهو الطريق القويم المتبع في فرق التمثيل في العالم، لما كان يضير الفرقة أن تكون لجنة القراءة فيها مؤلفة من شيوخ أو غير شيوخ. وفي الختام أقول لك ولقرائك: سامح الله مدير الفرقة، فقد أبطأ جد الإبطاء في تيسير الأدب المسرحي في سبيله الممهد.
ابن عساكر(293/89)
العدد 294 - بتاريخ: 20 - 02 - 1939(/)
الطفولة المعذبة
في الأقوال السائرة أن الفقير كلما طلب من الله قرشاً أعطاه كرشاً. وفي ذلك حكمة للعليم الحكيم تستسر دلائلها على الفطن المحدودة. فإن قوام العيش ونظام الدنيا منوطان بالسعي المرهق والعمل المهين، وهذان لا يقوم بهما إلا الكثرة، ولا يحفز عليهما غير الحاجة. والغني المترف يحسب أن يديه لم تخلقا إلا لصرف النقود وقطف الخدود ورفع القدح؛ فمثله كمثل السبع من الوحش والطير: يهلك ولا ينتج، ويدمر ولا يعمر؛ فكان من صلاح الأرض أن يقل نسله كما يقل نسل الأسود والنمور، ويكثر نسل الفقير كما يكثر نسل الضأن والبقر. ولكن حكمة الله ضاعت في غفلة الناس، فبغي الغني على الفقير حتى أصبح وهو مصدر الإنتاج في النسل والحرث، مفدوحاً بحمله فلا ينهض، ومكدوداً بعمله فلا يستطيع. ثم نبا كوخه الجديب الضيق عن بنيه فدرجوا في أفازيز الشوارع وزوايا الطرق وعليهم هلاهل من أخلاق الثياب تهتكت على الصدور والجوانب، يستندون الأكف بالسؤال، أو يستدرون الجيوب بالسرقة، أو يأكلون ما طرح الناس من فضلات الطعام في المزابل. هؤلاء الأطفال المشردون هم الذين تراهم يطوفون طول النهار وثلثي الليل على القهوات والحانات، كما تطوف الكلاب والهررة على دكاكين الجزارة ومطاعم العامة، وهمهم أن يصيبوا ما يسد الرمق ويمسك الحياة. فإذا أغلقت المقاهي وهجعت المدينة تساقطوا من السغوب واللغوب على العتبات وفي الحنايا وتحت الجدر، فيقضون آخر الليل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا عصفت الريح أو قرس البرد.
هؤلاء الأطفال المهملون هم الذين يستغل ذكاءهم تجار الرذيلة، وسماسرة الجريمة، يسلطونهم على القلوب البريئة والجيوب الآمنة، فيسلبونها العفة والمال، ثم لا يكون نصيبهم من هذه الثمار المحرمة إلا الخوف والجوع والأذى والمطاردة. يغرون الصبيان بالشر، ويوزعون المخدر في السر، ويسرقون السابلة بالحيلة، ويستجدون الجلوس بالرحمة، ويجمعون الأعقاب من الطرق، وكل أولئك لطغمة من المتعطلين يتعقبونهم بعين النسر من بعيد؛ حتى إذا اخذوا ما معهم تركوهم لأهوال الليل، فإذا خشوا منهم نفاراً أو فراراً كدسوهم في أقباء المنازل المهجورة فلا تدركهم عين الشرطة ولا تنالهم رعاية البر. ولا أدري كيف سالت على قلمي كلمة البر هنا، وهي لو كانت في لغة الناس لما كان كل هذا!(294/1)
إن سادتنا المترفين ليأنفون أن تقع أعينهم على هذا القبح، وتدنو أثوابهم من هذا القذر، فهم ينهرونهم كما ينهرون الكلاب، ويذبونهم كما يذبون الذباب، ويفورون غضباً على الحكومة أن تسمح لهذه الحشرات أن تدب على الطرق المغسولة، أو تحوم حول الموائد المزدانة!
شق الله هذه الأشداق المنفوخة يا سادة! إن هؤلاء الأطفال الذين يحملون العلب بالأصباغ، أذكى من أطفالكم الذين يحملون القماطر بالكتب؛ وإن عباقرة العالم في الأدب والفن والعلم والحكم قد ولدوا كهؤلاء في مهاد اليتيم والعدم، ونشئوا في حجور الألم والفاقة، فاضطرهم الشقاء الباكر أن يعرفوا أن لهم أذهاناً للتفكير، وعقولاً للتدبير، وأيدياً للعمل؛ ففكروا ثم قدروا ثم علموا، فكان من آثرهم هذه الدنيا، ومن سيرهم هذا التقدم. أما أبناؤكم أبناء الدعة والسعة والرفاهة فانتفى عنهم العمل لقلة الحاجة، وضعفت فيهم أداته لكثرة البطالة، فاصبح المخ مستوياً أملس كالصحيفة، والجسم صقيلا املط كالديباجة، واليد رقيقة رفافة كالزنبقة. فهم تماثيل ناطقة للغباء الأنيق، تطعم وتنعم وتلهو على حساب الفقير الذي يعمل ولا يأكل، والأجير الذي يشقى ولا ينال!
بالله ما ذنب هذا الطفل الشريد الذي تتحامون مسه، وتتفادون مراه إذا كان القدر قد اختار له ذلك الأب البائس الذي يتزوج ولا يعاشر، ثم يلد ولا يعول؟ هل من طبيعة الحي أن يلقى أفلاذ كبده مختاراً في مدارج الطرق تطأها الأقدام وتتحيفها المكاره؟ هل تستطيعون أن تجدوا لذلك إذا وقع علة غير الفقر الذي يحمل الأب في أزمات القحط والحرب على بيع بنيه واكل بناته؟ فإذا كنتم تشفقون على نعيم عيشكم من رؤية البؤس، وتخشون على جمال حياتكم دمامة الفقر، وتضنون بسلام وطنكم على أدواء التشرد، فاقتحموا على الفقر مكامنه في أكواخ الأيامي وأعشاش العجزة، ثم قيدوه بالإحسان المنظم في المدارس، والصدقة الجارية في الملاجئ، تجدوا بعدئذ أن الدنيا جميلة في كل عين، والحياة بهيجة في كل قلب، وتشعروا أن روحاً عامة قد وصلت بين جميع الأرواح فاصبح الشعب كله جسماً حياً متآلفاً متكاتفاً تتغذى خلاياه بدم واحد، وتتساير نواياه إلى غاية واحدة!
أحمد حسن الزيات(294/2)
كتاب مصطفى كامل
للأستاذ عباس محمود العقاد
الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك جدير أن يسمى بحق مؤرخ النهضة القومية الحديثة، لأنه أرخها في مرحلتها التي بدأت بالحملة الفرنسية، وأرخها في مرحلتها التالية التي بدأت بقيام محمد علي الكبير على الأريكة المصرية، وصحبها فيما أعقب ذلك من المراحل إلى عهد الثورة العرابية فالاحتلال البريطاني فالحركة الوطنية في عهد هذا الاحتلال
وهاهو ذا قد تأدى في تاريخه لها إلى ختام القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي إلى الفترة التي ظهر فيها زعيم الوطنية في أبناء ذلك الجيل مصطفى كامل باشا رحمه الله
ونهج الأستاذ الكبير في كتابه عن مصطفى كامل شبيه بنهجه في الكتب المتقدمة من حيث الطريقة والوجهة، يتتبع الوقائع ويستقصي ما احتاج إليه من الأسانيد وينصف في الحكم على الرجال والحوادث مع ميل يسير إلى تخفيف التبعات أو تجميل المحاسن في بعض الجوانب، وسهولة في التعليل والتعليق لا تثقل على ذهن القارئ ولا تكتفي مع ذلك بالظواهر دون ما يلازمها من الأسباب والعواقب
إلا أنه في كتابه عن مصطفى كامل قد اقترب من ميدان الحياة الحاضرة أو من معترك السياسة الذي يعيش فيه، فكان لذلك آثره في الميزان دون قصد في بعض الأحيان، وعلى قصد ظاهر في بعض الأحيان
ولتوضيح ما نقول نرجع إلى الحركة الوطنية ومذهبيها المختلفين بعد احتلال الإنكليز لهذه البلاد
فقد كانت الدعوة الوطنية كما قلنا في كتابنا عن سعد زغلول (شعباً مختلفات في المقصد والنتيجة المأمولة، فمنها ما كان يتجه إلى الدولة العثمانية، ومنها ما كان يتجه إلى فرنسا لأنها أكبر الدول التي كانت تناوئ في مطامعها الشرقية، ولم يشترك مع هؤلاء ولا هؤلاء حصفاء الثورة العرابية الذين شهدوا بأعينهم تذبذب السياسة الفرنسية والسياسة العثمانية قبل الاحتلال. فقد رأى رجال هذا الفريق ما هو حسبهم وزيادة في هذه الآمال الكاذبة وهذه الجهود العقيمة، فاستقاموا على الطريق الوحيد المفيد الممهد لهم وهو طريق النهضة(294/3)
المصرية الصميمة واستقلال المصريين أنفسهم بطلب الاستقلال، وتزويد الأمة بعدة العلم واليقظة والمثابرة، لأنه ما من وسيلة إلى الاستقلال في رأيهم أنجع من وسيلة فهمه والاستعداد له والإصرار على طلبه. ومن هذا الفريق كان أناس من فطاحل المصريين أمثال محمد عبده وسعد زغلول).
هذان هما المذهبان اللذان شاعا من مذاهب الحركة الوطنية بعد الاحتلال: مذهب مصر للمصريين، ومذهب الاعتصام بالسيادة العثمانية، أما لأنها دولة الخلافة، أو لأن السيادة العثمانية (حجة شرعية) لمحاربة الغاصب وإظهار مركزه (غير المشروع)
ولا يخفى أن مصطفى كامل رحمه الله كان من أنصار السيادة العثمانية، وكان يذكر الاستقلال ولا يذكر الاستقلال التام، وكان يقيم المحافل كل عام في عيد جلوس (المتبوع الأعظم) عبد الحميد سلطان آل عثمان ليؤكد ولاء المصريين للسيادة العثمانية. وقد انشأ الحزب الوطني فكان المبدأ الأول من مبادئه (استقلال مصر كما قررته معاهدة لندرة سنة 1840، ذلك الاستقلال الذي يضمن عرش مصر لعائلة محمد علي مع الاستقلال الداخلي عن تركيا).
وكان المبدأ العاشر من مبادئه (تقوية العلائق بين مصر والدولة العلية).
ولبث أشياع مصطفى كامل على هذا الرأي حتى كتب اللواء يعيب على الأستاذ الكبير (أحمد لطفي السيد بك) أنه يطالب بالاستقلال التام ويخرج بذلك على أحكام القانون وعلى سنة الولاء للسيادة العثمانية، فاضطر الأستاذ يومئذ إلى التفرقة بين الاستقلال التام والاستقلال الكامل توفيقاً بين ما يدعو إليه وبين الصيغة الشرعية
ثم لبث أشياع مصطفى كامل على هذا الرأي إلى ما بعد الحرب العظمى وبعد الثورة الوطنية التي أعقبتها، فحولوا الأمر إلى أصحاب السيادة في الآستانة ثم في أنقرة، كأنهم هم الأصلاء وليس للمصريين أن يبرموا أمراً في هذه السيادة إلا بعد إبرام الأصلاء رأيهم في موضع الخلاف!!
وقد تعاقبت الحوادث وتمخضت الآراء فظهر بعد حين موقع الصواب من المذهبين، وضعفت حجة السيادة العثمانية شيئاً فشيئاً حتى أصب الجيل الحاضر يعجب كل العجب كيف كان هذا الرأي في يوم من الأيام موضع خلاف!!(294/4)
وقد كان الأنصاف التاريخي يقضي ببيان هذه لحقيقة في تاريخ مصطفى كامل ولا يمنع المؤرخ أن يفصل أعذار المعتصمين بالسيادة العثمانية في ذلك الحين، بل يوجب عليه أن يذكر هذه الأعذار وإن يذكر معها صواب المخالفين ولا سيما حين يشعر أنه صواب
ولكننا بحثنا في كتاب مصطفى كامل فلم نر فيه إشارة إلى هذا أو ذاك، وكأنما غلبت عليه النزعة الحزبية على النصفة التاريخية فوجدنا أن الأستاذ الكبير قد اغفل الموضوع كل الإغفال، فلم يذكر محافل المتبوع الأعظم ولم يذكر حملة اللواء على طلاب الدستور والحرية في البلاد العثمانية، وكتب أكثر من عشر صفحات عن تأسيس الحزب الوطني مفصلا أسماء أعضائه وأقوال الصحف فيه دون أن ينشر مبادئه أو يأتي بالمهم منها وهي أهم ما يثبته المؤرخ في سيرة زعيم حزب من الأحزاب
ولو أنه فعل هذا لأقر الحقائق في نصابها وأتاح للقارئ أن يحيط بمعاني الحركة الوطنية من جميع نواحيها، وإن يستخرج العبرة المقصودة بالتاريخ من صواب أو خطا لكل فريق، وما من فريق واحد معه كل الخطأ أو كل الصواب
وبينما الأستاذ الكبير ينسى هذه الحقائق التي لا يبطلها النسيان إذا به يأخذ بالظنون التي لا سند لها ولا معول عليها فيما يكتبه عن سعد زغلول فيقول عن علاقة سعد بالجامعة المصرية (وتبين أن انسحابه من رياسة اللجنة كان تحقيقاً لرغبة الاحتلال لكي يحبط المشروع، وقد أصابه الفتور والركود فعلاً بعد انسحابه من اللجنة، وبخاصة لأن الحكومة خلقت في ذلك الحين بإيعاز من الاحتلال أيضاً حركة إنشاء الكتاتيب واستحثت الأعيان في مختلف الجهات على التبرع لها معارضة بذلك مشروع الجامعة).
ثم أشار الأستاذ الكبير إلى مسألة التعليم باللغة العربية فقال (وقد كانت خطبته - أي خطبة سعد - دفاعا عن سياسة الاحتلال في التعليم. لأن الاحتلال هو الذي احل اللغة الإنجليزية محل اللغة العربية في التدريس بالمدارس الأميرية. . .)
تبين أن انسحاب سعد زغلول من رياسة الجامعة كان تحقيقاً لرغبة الاحتلال. . . يا عجباً! كيف تبين ذلك؟ ومن أين جاء ذلك البيان؟
أما الحقيقة فهي أن الحكومة تبرعت للجامعة بالمال واعترفت بشهاداتها كما تعترف بشهادات المدارس الأميرية. وسألناسعداً في ذلك فقال في بيان نشرناه في كتابنا عنه: (. .(294/5)
كل هذا والذين يريدون إخراج الجامعة من قبضة الحكومة قد يجهلون أنها دفعت مرة واحدة خمسة أضعاف ما دفعه المتبرعون في أنحاء القطر المصري بأجمعه، وليس هذا كله كل ما أمدت به الحكومة هذه الجامعة فإن اعتبارها لها مدرسة منتظمة وقبول شهادتها بين بقية الشهادات المدرسية ينشط الناس إلا الإقبال عليها إقبالاً لا تظفر بمثله إذا كان الغرض منها مجرد تحصيل العلم وتوسيع العقل، وربما لا تنسى أن بعض هؤلاء كان يطلب من الحكومة إعانة المشروع مادياً، فرفضهم الآن إشرافها عليه بعد أن أدت الحكومة ما طلبوه منها بعد من الغرابة بمكان).
هكذا كان موقف سعد من الجامعة وهو وزير، وأنه لأصوب ألف مرة من موقف الداعين يوم ذاك إلى إحباطها وتشكيك الناس في مصيرها. أما إنشاء (الكتاتيب) واعتباره حرباً للجامعات والمدارس العليا فقد عشنا بحمد الله حتى رأينا الدستور المصري يفرض التعليم الإلزامي فرضاً ويجعله واجباً من الواجبات الوطنية، وعشنا بحمد الله حتى علمنا أن سعداً قد سبق النهضة القومية سنوات إلى ذلك العمل المجيد الذي كان محسوباً يوم ذاك من الجنايات
ومن السهل على الإنسان أن ينق سعداً حين يعارض الهجوم على تقرير التدريس باللغة العربية في جميع المدارس المصرية قبل إعداد الكتب وإعداد المدرسين والنظر في عواقب هذا التبديل؛ ولكن من السهل أيضاً أن يعلم الإنسان أن المستطاع هو المستطاع وإن سعداً قد عمل في سبيل اللغة العربية والتمهيد لتدريسها جهد ما يعمله وزير في تلك الأيام، وإن مدرسة مصطفى كامل نفسها لم تكن تستغني بالمدرسين المصريين عن المدرسين الإنكليز، اعتماداً على ما كان يقال في ذلك الحين من أن تدبير الدراسة والكتب المدرسية ليس بالأمر العسير.
هذه ملاحظاتنا على موازين الأستاذ الرافعي في تاريخ هذه الفترة، فهو يمسح من هذا التاريخ كل ما يبين وجه الصواب عند من خالفوا صاحب السيرة في الأساس أو التفصيل، ويثبت من جهة أخرى ظنوناً لا ثبوت لها لتقرير الصواب في جانب المؤيدين والمناصرين.
ومع هذا نقول أن مكتبة (النهضة القومية) لا تكمل بغير كتاب الأستاذ عن مصطفى كامل،(294/6)
لأنه يشتمل على وقائع صحيحة وأسانيد صادقة وملاحظات قيمة. أما المواضع التي ينحرف فيها بعض الانحراف عن سنته في الإنصاف والتمحيص، فليس للقارئ أن يطلب الحق كله من كتاب واحد، ولا سيما في تاريخ تختلف فيه الميول والآراء.
عباس محمود العقاد(294/7)
رد على رد
بين القديم والجديد
(لأحد أساطين الأدب الحديث)
يجمع الأستاذ الغمراوي في نفسه من صفات الخلق العظيم ما لا يتفق إلا لقليل من المهذبين الأفاضل؛ فهو يغار على الفضيلة والدين، ويجمع إلى غيرته لطف المناظرة والأنصاف وآداب الحديث والمجادلة بالتي هي احسن؛ وهذه رعاية من الله، نرجو أن يديم الله عليه نعمته. وقد ظهر عدل الأستاذ وأنصافه في اعترافه بأن في الأدب القديم أكثر مما يشكو منه مما في الأدب الحديث، وفسر القديم بأنه ليس القدم الزمني، فالقديم والحديث في اصطلاح الأستاذ صفات لا تدل على الزمن، وضرب مثلاً بشعر عمر بن أبي ربيعه وقال: أنه لو كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه له نفاه بسبب غزله. فعمر بن أبي ربيعه إذاً على قدمه الزمني ليس من المذهب القديم في الشعر والأدب على سد اصطلاح الأستاذ، إذ أن القديم في اصطلاح الأستاذ هو من لم يقل غزلاً يثير شجون النفس وشهواتها وتعلقها بفتنة الحسن. وليعذرني الأستاذ إذا قلت أنه يصعب عليه أن يجد شاعراً واحداً يصح أن ينطبق عليه اصطلاح القديم في عرفه، فهذا الرافعي على تقواه ودينه وفضله له في الغزل نثراً وشعراً أشياء (أشهى) من شعر عمر بن أبي ربيعه. ألم يقرأ الأستاذ الغمراوي للرافعي وصفه للراقصة ومحاسن جسمها وقصته معها؟ ومع ذلك فالأستاذ الغمراوي يقول أن أدب الرافعي يمثل الأدب القديم في اصطلاحه، مع أن الأستاذ الغمراوي لو كان خليفة وعرض عليه غزل عمر بن أبي ربيعه وبعض ما قاله الرافعي شعراً ونثراً في الغزل ووصف مفاتن الحسن ولذة التقبيل ومحاسن جسم المرأة لأمر الأستاذ بنفي الشاعرين: ابن أبي ربيعه والرافعي معاً. وإذا كان الأستاذ في شك من أن الرافعي له أشياء أشهى من أشياء عمر بن أبي ربيعه ذكرنا له طرفاً منها ورضينا بحكمه وهو اعدل الحاكمين من الناس. بل نحن نترك للأستاذ الخيار فليختر أي شاعر ونحن نورد له ما يستحق به النفي لو وكل الأمر إلى الأستاذ الغمراوي في نفي الشعراء ونورد ما يستحق به النفي ونقارنه بما استحق به عمر بن أبي ربيعه النفي ونقبل حكم الأستاذ الغمراوي في المقارنة وهو خير الحاكمين.
أننا ما أردنا أن نعذر شطط المتأخرين بشطط المتقدمين كما ذكر الأستاذ وإنما أردنا أن(294/8)
نبين أولاً أن النفس البشرية واحدة في كل زمان ومكان مهما اختلفت الفروق الظاهرة وبالرغم من شذوذ الآحاد بالنقاوة النادرة أو النجاسة البالغة النادرة. وأردنا أن نفسر أثر المتقدمين في أقوال المتأخرين وإن نقول أن الشطط في وصف المفاتن وفي شرح الشكوك النفسية لم يأتنا من ناحية الإفرنج وحدهم بل جاءتنا به مؤلفات العرب ولا سيما عندما أدخلت الطباعة وطبعت المخطوطات العربية القديمة والحديثة. على أن النفس الإنسانية يا سيدي الأستاذ ينبوع يفيض بكل ذلك من غير حاجة إلى كتب العرب أو كتب الأوربيين؟ وإن شاء الأستاذ فليرتد أماكن الناس الذين لم يتأثروا كثيراً بكتب العرب ولا بكتب الإفرنج وليسمع هواجس نفوسهم.
على أن في ذكر الأستاذ التجاء عمر بن الخطاب إلى النفي ما يدل على أن النفوس في عهد عمر رضي الله عنه لم تكن تمتنع عن التعلق بمفاتن الحسن ومحاسن الحياة، ولعل الأستاذ قد أذكرته التجاء عمر إلى النفي قصة سماع عمر غناء التي تغنت بهذا البيت:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
فنفى عمر رضي الله عنه نصراً هذا. ولو رجع الأستاذ إلى ما قبل سيدنا عمر وتدبر حكمة الآية الكريمة التي تنهي الناس عن قرب الصلاة وهم سكارى لرأى عبرة تسلك النفوس البشرية في كل عصر في صعيد واحد بالرغم من تفاوتها. وأستحلف الأستاذ أن يحكم على تلذذ كعب بن زهير بذكره كبر عجز حبيبته في قصيدة (بانت سعاد) عندما قال (هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة) وتلذذه بذكر كبر العجز في قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة يتبرك بها بعض الناس، وبعضهم يتخذها حجاباً وتميمة بما فيها من التلذذ بذكر كبر العجز من غير فطنة إلى ما فيها. ومع ذلك قد مر النبي صل الله عليه وسلم بغزل كعب هذا مر الكرام بما كان يدعو إليه من العقيدة السمحة وتألف النفوس ومعرفته ضعف النفس وقصورها. فماذا كان يصنع الأستاذ الغمراوي لو أن شاعراً مدحه بقصيدة تغزل في أولها وتلذذ في غزله بذكر كبر عجز حبيبته؟ هل كن يتغاضى كما تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أم كان ينفيه كما أراد أن ينفي عمر بن أبي ربيعه؟ وماذا كان يقول الأستاذ لو أن شاعراً إنجليزيا مدح ملك إنجلترا ومقام الملك دون مقام النبوة فقال الشاعر في قصيدته (إن حبيبتي يا كنج جورج لها عجز كبير)؟ أننا يا(294/9)
أستاذنا نضرب هذه الأمثال لنبين أن الناس ناس في كل زمان ومكان، وإن النفس البشرية واحدة مهما تباينت واختلفت صفاتها. ولو كان الأستاذ في شك من ذلك فليراجع ديوان حسان بن ثابت فيراه في قصيدة يتهم أبا الوليد ابن المغيرة بمحبة غلام رومي جميل كان مملوكاً له، وبأنه علق صورة الغلام كي ينظر إليها إذا غاب عن نظره، ويتهم أمه بمحبة الغلام أيضاً. (صفحة 329 طبعة السعادة شرج العباني). ولو رجع الأستاذ إلى كتاب (العقد الفريد) لقرأ أن سائلاً سأل عبد الله بن العباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم: هل قول المجون ينقض الوضوء؟ فقال: لا. وانشد بيتاً فيه مجون وكانت قد حانت الصلاة فقام وصلى للدلالة على أن شعر المجون لم ينقض وضوءه. وفي حالة أخرى سمع وهو يحدو ببيت فيه مجون. ولو تقصى الأستاذ أخبار سبي الرقيق من المدن الفارسية والرومية التي فتحت عنوة واثر ورود هذا السبي إلى شبه جزيرة العرب، وما كان يرد قبله من جلب تجارة الرقيق قبل الإسلام لعلم أن الولوع بمفاتن الحسن لم يكن مقصوراً على الشعراء المتقدمين أو المتأخرين. ونحن لا نريد أن نعذر حالة الناس في عصرنا. فلعل التعلق بمفاتن الدنيا في عصرنا أضر وأفسد إذ أن القوى الحيوية الخلقية العظيمة في نفوس المتقدمين كانت تستطيع موازنة ضعف هذا التعلق، وانعدام هذه القوى الخلقية الحيوية في عصرنا يزيد ضرر التعلق بمفاتن الحسن وشهواته. نعلم ذلك ونوافق الأستاذ على ضرورة معالجة هذه المسألة، ولكن لا يكون ذلك إلا بالتربية وتطهير الكتب ولا سيما القديمة. أما أننا رجعنا إلى مبدأ نهضة التجديد فالأستاذ نفسه يعترف بأن التجديد في الأدب روح لا قالب، وإن هذه الروح مستمدة من نظام التعليم الحديث، ومن الأنظمة التي اقتبست من الأنظمة والشرائع والسنن الأوربية، ومن البعثات العلمية إلى أوربا وأثرها في النفوس، ومن الكتب التي ترجمت؛ وما دامت المسألة مسألة روح لا قالب فلا يستطيع الأستاذ فصل التجديد في العلوم والتعليم والنظم والشرائع عن التجديد في الأدب وهو لم يحاول أن يفعل ذلك. أما أننا فسرنا قوله: (تغليب دين على دين) بغير ما أراد فعذرنا في ذلك أنه كان يقارن بين الثقافة والحضارة والدين عند العرب وعند الأوربيين فلم يخطر ببالنا أنه يعني بالدين عند إطلاقه على الأوربيين معنى الضلال والباطل وإنما ظننا أنه يعني دينهم، ولنا العذر أو بعض العذر. وأما قول الأستاذ أن حافظ إبراهيم رجع بالغزل إلى طريقة الجاهلية(294/10)
وصدر الإسلام أي طريقة الغزل بالعاطفة كما فعل العذريون فهذا ما لا يقول به حافظ نفسه ولم يقل به أديب قبل الأستاذ. والأصح وهو ما قلناه من أن البارودي وشوقي وحافظ أنقذوا الأدب من طريقة ابن حجة الحموي وخليل بن أبيك الصفدي وصفي الدين الحلي وأشباههم ورجوا به إلى طريقة مسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري وحسبهم هذا فخراً. وقد جعلنا أكثر قولنا في التجديد في الشعر لأن الباعث على مقالات الأستاذ كان شعر الرافعي والعقاد، ولم نقصر التجديد على محاولة إدخال العاطفة كشرط أساسي في الغزل بل قلنا أنها شرط أساسي في كل شعر، وإن الصنعة لازمة. ولكن كخادمة للتعبير عن النفس والحياة وعواطف النفس وأحاسيسها فيهما، فتحجر الصنعة من غير بحث في النفس قيد، والتخلص من جمود ذلك التحجر حرية، وهي الحرية التي أردناها في قولنا. وقد فسرنا ذلك بإطالة وأوضحنا أن هذه الحرية ليس معناها التخلص من قيود العرف أو الدين، فنرجو الأستاذ أن يرجع إلى ما فصلنا من الكلام عنها. وقد اعترفنا للأستاذ بما في نزعة التجديد من عيوب وحبذا لو رجع الأستاذ إلى ذلك التفسير والتعليل، وقلنا أنها عيوب عارضة وليست كل شيء. أما المسائل الاجتماعية التي ذكرها الأستاذ فهي أمور يختلف فيها الأدباء وغير الأدباء ويختلف فيها الناس في كل عصر؛ ولو شاء الأستاذ لذكرنا من أقوال كتاب العرب وشعرائهم ما هو اشد من أقوال طه حسين وهيكل وقاسم أمين. ومن الغريب أن الأستاذ لا يرى حرجاً في الاقتباس من علوم أوربا ويرى حرجاً في الاقتباس من مذاهبهم وأبواب أدبهم، وإذا كان هناك حرج فالحرج في الحالتين.
(قارئ)(294/11)
من برجنا العاجي
جاءني بريد (بيروت) هذا الأسبوع بمجلة أدبية فاضلة ما كنت ألقي نظرة على صدرها حتى وجدته زاخراً بسب مصر ورجال الأدب في مصر. مع استنكار (لامتداد الأدب المصري والثقافة المصرية في أجواء البلاد العربية) وبعد أن نفى الكاتب الكريم عن مؤلفات المصريين كل قيمة في بضعة أسطر. ختم الكلام بقوله: (أنني أنكر هذه الثقافة (اللقيطة) ويعز علي كلبناني عربي أن تؤخذ بلادي بالتدجيل وتخدع بالدعايات المجانية أو المأجورة)
ما هو الدافع إلى هذا القول؟ أهو نقد الجهود في ذاتها حتى نستيقظ قليلاً ونرى أن قراءنا في البلاد الشقيقة قد بدءوا يسأمون إنتاجنا، ويستحثوننا على تجديد طرائقنا وتعزيز وسائلنا، حتى يظفروا الأدب العربي الحديث بالنهضة الباهرة المنشودة؟ أن كان هذا هو قصد المجلة والكاتب فهو قصد نبيل، لا يسع مصر وكتابها إلا أن يبعثوا إليهما من أجله أصدق عبارات الشكر
أما إذا كان الباعث هو مجرد الغضب لأن مصر بالذات هي التي تنبعث منها أشعة الثقافة العربية الحديثة في الوقت الحاضر، فتلك عاطفة لا تشرف صاحبها ولا نحب نحن أن نسلم بوجودها، خصوصاً في بلد تربطنا به أواصر النسب
ومع ذلك فهذا أمر لا ينبغي أن يكون موضع جدال، لأنه أمر يتعلق بالواقع
فإذا كان الواقع هو أن نسيم الثقافة يهب علينا اليوم من جبال لبنان، فلا أحب إلينا نحن المصريين من هذا. وهو خير لنا وأشرف من أن يهب علينا من جبال الألب.
غير أن الذي يؤلمني هو أننا معشر الشرقيين يكبر علينا دائماً أن نرى الفضل يأتينا من شرقي، ولا نغضب بل نفخر إذ يأتينا الفضل من غربي!
ولأرفع صوتي صريحاً: أن الشرق لن تقوم له قائمة إذا بقيت فيه ذرة من روح التنابذ والتحاسد. فإن لم يسعفنا التعاون والتساند فلنوقن بسقوطنا العاجل بين فكي الغرب النهم.
توفيق الحكيم(294/12)
أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
(تابع)
ومن ألمع شخصيات الإلياذة شخصية أجاممنون. . . تلك الشخصية العجيبة التي رفعها هوميروس فوق شخصياته جميعاً، وخصها بالقيادة العامة للأسطول في البحر وللجيوش في البر
وأجاممنون هو شقيق منالوس زوج هيلين التي بسببها شبت الحرب بين اليونان وطروادة. وهو الذي ضحى بابنته إفجنيا كي تتحرك الريح وتتأذن الآلهة للأسطول أن يقلع من أو ليس بعد إذ لبث هناك زماناً طويلاً لا يقوى على حركة لسكون البحر وجمود الرياح. . . قد اتخذ إسخيلوس من مأساة الفتاة إفجنيا موضوعاً لمأساته الرائعة التي دبرت فيها كليتمنسترا زوجة أجاممنون غيلة زوجها بعد أوبته من طروادة وذلك بمعاونة عشيقها إيجيستوس ثم تتسلسل ثلاثية إسخيلوس المشجية (الأورستية) التي ترجمناها لقراء الرسالة منذ ثلاثة أعوام
ومن المشاهد المؤلمة التي ينقم فيها القارئ على أجاممنون ذلك المشهد الذي يقص علينا فيه هوميروس ما شجر من الخلاف بينه وبين البطل أخيل. . . وذلك أن الجيوش اليونانية كانت قد ظفرت في إحدى المعارك بسبي عظيم كان في جملته الفتاة خريسيز ابنة كاهن أبولو والفتاة الحسناء بريسيز. وقد كانت خريسيز من نصيب أجاممنون وبريسيز من نصيب أخيل. . . ولما علم والد خريسيز بما آل إليه أمر ابنته كمد كمداً شديداً وذهب إلى خيمة أجاممنون يتوسل إليه أن يرد إليه ابنته، لكن القائد العام أغلظ للوالد المنكوب ورده رداً شديداً. فدعا الكاهن آلهة أبولو أن يصيب سوط عذابه على اليونانيين ما داموا لا يردون عليه فلذة كبده وقطعة قلبه. . . واستجاب له إله الشمس فسلط عليهم طاعوناً راح يبيدهم ويفتك بأجنادهم. . . ثم جاءتهم النبوءة بوجوب رد الفتاة إلى أهلها إذا أرادوا رفع(294/13)
البلاء عنهم، فوافق أخيل كما وافق كل رؤساء الجيش، لكن أجاممنون أبى أن يرد الفتاة إلا إذا قبل أخيل أن ينزل له عن بريسيز التي ملكت عليه فؤاده وامتزج حبها بدمه. . . ولما رأى أخيل ما يحل باليونانيين من بلاء قبل مكرهاً أن يهب أجاممنون معبودته، لكنه اشترط ألا يخوض المعركة مع بني جلدته بعد ذاك
هذا مشهد يثير السخط على أجاممنون، كما أثاره تسليم رأس ابنته للجلاد قرباناً للآلهة حتى تثير الرياح كي يقلع الأسطول. . . وبمثل هذه المشاهد التي سنضع بين يدي القارئ صوراً رائعة منها وضع هوميروس أساس المأساة اليونانية ومهد السبيل لمن جاء بعده من الشعراء فخلقوا الدرامة وخلقوا المسرح وتركوا للذهن البشري ثروة ما يزال يستغلها وما يزال يروي ظمأه منها
وقد ورد ذكر أجاممنون في الأوديسة كما أسلفنا وذلك عندما لقي أودسيوس الكاهن تيريزياس في العالم الثاني واخذ يقص عليه ما آل إليه أمر أبطال الإلياذة بعد أوبتهم إلى أوطانهم، وقد ذكر له من أمر أجاممنون ما دبرته له زوجه
وللبطل ديوميد منزلة رفيعة في الإلياذة، ويكاد بشجاعته النادرة يتفرد بالإعجاب بعد إذ هجر المعركة أخيل. ففي الكتاب الخامس الذي قصره هوميروس على هذا البطل لا تقتصر شجاعته على التفوق على الآدميين الذين خاضوا الحلبة بل تتعداها إلى الآلهة، وحسبه فخراً أنه جرح فينوس ربة الجمال التي كانت تتفانى في مساعدة جيوش طروادة، ثم مارس إله الحرب الجبار، المدله بهوى فينوس. . . وكلما حاق بأحد اليونانيين كرب في المعمعة كان ديوميد أسرع الفرسان إلى نجدته بل إنقاذه. . . وقد ذهب في الكتاب العاشر في صحبة أودسيوس إلى معسكر الطرواديين في حلك الليل حيث اغتالا ريسوس بعد أن اجتازا ساحة تعج بالمنايا وتضطرب بألوان المهلكات
أما أودسيوس فله شخصية فذة. . . أنه بطل مخاطر لا يبالي الردى ولا يرهب المنايا، إلا أنه يمتاز بناحية أخرى أظرف وألطف. . . ناحية تثير المرح وتبعث على الضحك، ضحك الجد الصارم لا ضحك المشعبذين، ورجال المساخر. . . أنه كان من عشاق هيلين قبل أن تنشب مدة الحرب، فلما فاز منالوس بهيلين، حزن وتولاه الكمد، لكنه تزوج من إحدى قريباتها (بنلوب التي لم تكن تقل عنها جمالاً ونضرة وطلاوة، والتي استطاعت أن(294/14)
تحتل من قلبه فراغ هيلين كله. . . فلما نشبت الحرب بسبب هيلين وعلم أودسيوس أنه مدعو إلى خوض غمارها فيمن دعي من ملوك هيلاس وأمرائها أثر السلامة، فادعى العته، وذهب إلى شاطئ البحر بمحراث عظيم يجره ثور وجواد، وجعل يحرث الأرض ويبذر فيها الملح كما يفعل المجانين. . . ولم تنطل هذه الحيلة على بالاميد رسول منالوس فقد عمد إلى تزييفها بوضعه الطفل تليماك بن أودسيوس في طريق المحراث. فكان أودسيوس يتفادى ولده في مهارة اشد الناس وعياً وأكثرهم إدراكاً. . . وفي الإلياذة كثير من المشاهد التي تدل على براعة أودسيوس وجمال حيلته وعمده إلى الخدعة في الحرب أكثر من الاتكال على الشجاعة المجردة. كما كان يصنع ديوميد أو أجاكس أو أخيل. . . وخدعة الحصان الخشبي التي فتحت طروادة هي من تدبير أودسيوس. . . أما الأوديسة فإنها غاصة بحيل هذا الرجل العجيب، وكل حيل خلابة لا يمكن استيعابها في هذه الفصول المقتضبة عن هوميروس. وتنتهز هذه المناسبة فنشير إلى ما تسرب إلى قصص ألف ليلة وليلة من خدع أودسيوس. فأكثرنا قد قرأ رحلات السندباد البحري، وأكثرنا يذكر المارد الذي حبس السندباد ورجاله في كهفه، وراح يسمنهم ويغتذي بهم واحدا بعد واحد حتى دبر السندباد حيلة سمل عيني المارد بالسيخ (السفود) المحمى وما تم بعد ذلك من هرب السندباد ورجاله إلى زورقهم ونجاتهم بأنفسهم في البحر. . . هذه صورة كاملة من صور الأوديسة اقتبسها الراوية العربي وكساها هذا الرواء القشيب مباعدا بينها وبين الأصل غير مشير إلى مصدرها. ونحسب نحن أن قصة السندباد كلها لم تكتب إلا بعد العصر الذي فشت فيه الترجمة عن اليونانية واشتدت فيه أواصر الصداقة بين هارون عاهل بغداد، وشرلمان عاهل بيزنطة، وما تبع ذلك من وفود تجار القسطنطينية إلى بغداد ووفود تجار بغداد إلى العاصمة الرومية، وما كان يصحب هذه الرحلات من تبادل القصص وسرد الأخبار. . . وليس يبعد كذلك أن يكون لاختلاط العرب بأهل الإسكندرية من مصريين ويونانيين أثر فيما نلحظه من تلقيح القصص العربي بطرائف القصص اليوناني.
هذه بعض الشخصيات اليونانية من المذكور في إلياذة هوميروس، تقابلها شخصيات أخرى في معسكر طروادة. . . ولسنا ندري بأيها نبدأ؟ أن باريس الذي كان سبب هذه الحرب الضروس شخصية هزيلة مريضة شاحبة، وليس يستطيع الإنسان أن يفهم كيف جاز أن(294/15)
تنشب هذه المجزرة الشنيعة المروعة بين هذين الحلفين الكبيرين من أجل هذا الفتى باريس ينزل ضيفاً على منالوس فيكرمه ويحتفي به ثم ما يلبث الضيف أن يغازل زوج مضيفه. ثم ما هو إلا أن يفر بها بعد تدبير هو اسفل ما عرف في تاريخ الهمجية والقحة!! حقاً، لقد وعدته فينوس قبل أن يقضي لها بالتفاحة المشؤومة أن تمنحه اجمل زوجة وأفتن امرأة. أفلم يكن هذا النذر الإلهي يقضي إلا على هذا النحو؟ والغامض الذي لم يفسره علم الأساطير هو كيف أنه قد ساغ صنع باريس في ذهن أبيه ملك طروادة؟ وكيف رضى بطل عظيم مثل هكتور عن هذه الدعارة التي أثار بها أخوه الحرب بين هذين العالمين؟ قد نلتمس العصبية الجنسية عذراً واهياً لهذا الرضى، بيد أنه يكون عذراً متهدماً على كل حال
يدرس الإنسان شخصية بريام الملك فيعجب لنبالة الرجل وفطرته التي فطره الله عليها من محبة للعدل وميل إلى الإنصاف وإشفاق على الرعية، فكيف وزن عمل ولده حين أبى أن يأمره برد هيلين إلى زوجها حقناً لكل تلك الدماء؟! أين المرض إذن؟ أفي رأس بريام وملثه؟ أم هو في رأس هوميروس؟! هنا موضع الضعف في عقدة الإلياذة، وهو ضعف يشبه الضعف في عقدة الأوديسة، حين يجتمع عشاق بنلوب في قصر أودسيوس، وحين تمر عليهم السنون الطوال منتظرين أن تختار منهم رب الدار بعلاً لها، فهم بذلك يشبهون القطط ويحاكون الديكة حين تقتتل على الأنثى. . . هذا ضرب حيواني من تفكير هوميروس يشوه جمال ملحمتيه، ولعل للوثنية نصيباً كبيراً في توجيه شاعر الخلود هذه الوجهة. . . ولعل المصريين القدماء لم يكونوا متجنين حين قالوا عن ملاحم اليونانيين أنها نتاج صبياني، ولذا لم يأبهوا لها ولم يعنوا بها برغم ما مدحها لهم صولون
والعجيب في هوميروس أنه لم يبال أن ينحط بالمرأة اليونانية إلى مستوى دون مستوى المرأة الطروادية بمراحل هائلة. . . لقد جعل المرأة اليونانية متاعاً شائعاً وغرضاً تتحيفه لبانات الرجال؛ فهيلين زوجة منالوس ملك أسبرطة تفر مع باريس إلى طروادة دون أن تتأبى أو تتمنع. ثم تشب الحرب بسببها فلا تحاول مرة أن تفر إلى معسكر اليونانيين. بل تظل طوال السنوات العشر متعة حلالاً لباريس، وتنتهي الحرب، وتضطرم النار في كروادة، وتعود هيلين إلى أسبرطا، فلا تثور نخوة منالوس، ولا يضطرب قلبه بقليل من غيرة الرجال(294/16)
أما بنلوب فقد ضربت المثل الأعلى لحفاظ المرأة ووفاء الزوجة، لكنها مع ذلك عوملت من أمراء هيلاس معاملة عجيبة مضحكة تدعو إلى السخرية التي فاجأ بها المصريون القدماء المشترع صولون. . . وإلا فما هذه العصبة من العشاق المعاميد تحتل منزل أودسيوس فتزيغ خيره وتأكل زاده وترتع في شرفه وتستبيح عرضه؟! أكانت منزلة المرأة عند اليونانيين - ولو في عصر هوميروس - بهذه الدرجة من الهوان! زوجة ملك إيثاكا تكون بطلة هذه المأساة الغرامية الوضيعة، وقد قدم هوميروس من خيوس لينشد ملحمته في المدائن اليونانية ليسمع أهلوها كيف كان أسلافهم يعاملون زوجة بطل أبطالهم؟!
وكليتمنسترا زوجة أجأممنون. . . لقد عشقت هي أيضاً إيجستوس المتآمر على عرش مولاه والذي دبر له تلك القتلة الهائلة الشنيعة بعد عودته ظافراً من طروادة. . . فما هذا الذي صنعه هوميروس بنساء اليونانيين؟ لقد عبث بهم وهو يرفع أبطالهم إلى ذروة المجد، ولها بعقولهم حين عرض عليها بضاعة البطولة المزجاة ملفوفة في أكفان تلك الأعراض الممزقة. . . حتى آلهتهم. . . لقد تناولها كما يتناول الطفل دماه ولعبه يعبث بها ويلهو. . . حتى كبير الآلهة وسيد الأولب. . . انظر إليه كيف احتالت عليه زوجه جونو (حيرا) - الكتاب الرابع عشر - فجعلته يغفى ثم يغط في نوم عميق كيما يذهب نبتيون لنصرة الإغريق، فإذا استيقظ في الكتاب الخامس عشر وعلم ما كان من أمر نبتيون أرسل إليه ينذره في المعركة، فيعود رب البحار وينبري أبولو لمشاكسة اليونانيين فترتد جموعهم إلى قواعدها عند الأساطيل. . .
أما المرأة الطروادية فقد سما بها هوميروس سمواً بلغ الغاية وأوفى على المأمول. . . أنظر إلى الأزواج والعذارى والأمهات يجتمعن حول هيكتور في الكتاب السادس في عودته من المعركة يسألنه عن ذويهن؛ وانظر إلى أمه تبرز إليه من حريم بريان عابسة مقطبة ترجوه لأنه عاد من المعركة وهي على أشدها، ثم تحضنه على اللحاق بإخوانه ينصرهم ويشد أزرهم ويرد عادية الإغريق. . . ثم أنظر إلى هذه المرأة المرزأة - هيكوبا - تجمع المتضرعات من بنات طروادة وتذهب فيهن إلى هيكل مينزفا تصلي وتعقر القرابين كيما تشمل جيش طروادة بحسن رعايتها وجميل حمايتها. . . ثم استمع إليها تحنو على هيكتور في الكتاب الثاني والعشرين بعد إذ وعظه والده خوفاً عليه من أخيل (الجني!) وقد أفزعها(294/17)
منظره يصول في الحلبة ويجول، فتذرى دمعها وتساقط نفسها بعد إذا أرسلت إلى المجزرة بأكثر أبنائها. . . أو أنظر إليها تمزق نياط القلوب في الكتاب الرابع والعشرين إذ هي تبكي هكتور بعد إذ عاد أبوه بجسمانه من لدن أخيل. . . أو أنظر إليها تتعلق ببريام وقد انقض بيروس (ولد أخيل) على آخر أبنائها يخترمه برمحه، ثم ينقض على بريام الشيخ الفاني المسكين فيجهز عليه، ثم يقتاد هيكوبا. . . هكيوبا المحزونة المفجعة فتكون في جملة السبي الذي يعود به اليونانيون من طروادة، ويكون سبباً يجر عليهم النحس فيقتل من يقتل ويردي من يردي
وأندروماك! لشد ما يدوي في فؤاد القارئ هذا المشهد الرائع بينها وقد حملت طفلها وبين زوجها هكتور في الكتاب السادس من الإلياذة! إن هوميروس يرتفع في هذا المشهد إلى ذروة فنه في ملحمته الخالدة! لشد ما يحرق القلب وداع أندروماك الزوجة لهكتور الزوج
أنظر إليها واقفة فوق برج من أبراج طروادة وقد قتل أخيل زوجها وراح يجره وراء عربته في الساحة حول اليوم. والرأس الكريم العظيم يثير التراب المنضوج بالدم، وأخيل يلهو بكل ذلك ويشتفي!
بل أنظر إليها وقد وقفت تضرب صدرها وتسكب دمعها على جثة هكتور بعد إذ عاد بها أبوه بريام من عند أخيل، ثم تقول:
(زوجي! أهكذا تمضي في عنفوان الصبا وشرخ الشباب، وتتركني وحيدة فريدة كاسفة! هذا ابنك ما يزال في المهد، وهذان أبواك الشقيان! لن يشب ابنك يا هكتور عن طوقه، لأن من دون هذا دك تلك الحصون، وتقويض طروادة التي كنت حاميها وحامي نسائها والذاب عن بنيها! يا لشقاء الحرائر اليوم يا طروادة! إن هي إلا لحظات ثم يحملهن البجر إماء للغزاة، وأنا وولدي في جملة السبي يا هيكتور. . . ولدي! ولدي البائس الشقي! إلى أين المسير؟! إلى بلاد العدو الظالم لنكون من جملة الخدم والخول. . . ليراك من يحسب أباك قد قتل أباه أو أخاه فيبطش بك، وينتقم منك، ويقذف بك من فوق برج أو حصن. . .
(لشد ما كنت حزنا لأبويك يا هكتور! بيد أنك كنت حزناً ممضا لمخلوق تعيس آخر هو أنا. . .!)
وهكذا بكت هذه الزوجة المخلصة الوفية زوجها، وهكذا كانت دموعها الغوالي مداداً لا ينفذ(294/18)
لمآسي يوريبيدز
ما أجمل هوميروس!!
وما أضيق هذه الفصول بأدبه الخالد الذي لا يبيد!!
دريني خشبة(294/19)
دراسات في الأدب
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأدب والنقد والتاريخ
يبين الأديب شاعراً أو كاتباً عما يدرك ويتصور ويتخيل من مشاهد العالم ومعانيه. يصف مرأى جميلاً أو دميماً ويعرب عن إحساس مؤلم أو لذيذ. وتارة يكون موضوع الأديب مظاهر الأدب لا مظاهر العالم. يصف قصيدة أو مقالاً يبين ما فيهما من بلاغة وجمال أو ما يعوزهما من قوة في المعنى وسلاسة في اللفظ، أو يعرض للشاعر والكاتب يبين ما فطرا عليه من طبع وما واتاهما من علم، وما يسر لهما في موضوعات البلاغة وأساليبها أو يأخذ عليهما قصوراً في الإدراك أو عياً في البيان وهلم جرا. وربما يتناول الباحث موضوعات من الأدب يصف تقلبها على مر العصور، أو طائفة من الأدباءيصف تواليهم على الزمن واخذ بعضهم عن بعض وتقبل بعضهم بعضاً. فيخرج للناس صورة للأدب في عصر أو أعصر.
هذا كله من الأدب، ولا يسوغ أن نخرج من الأدب المقالات التي تنقد الأدب أو تؤرخه
1 - لأن الباحث في قصيدة أو مقال يصف ما أوحت إلى نفسه هذه القصة وهذا المقال وما أدرك فيهما من جمال وما اشرب قلبه من حب أو بغض. وفرح أو حزن. فهو كالذي يصف مشهدا جميلاً أو دميماً في العالم أو أمراً حزيناً أو بهيجاً من أمور الحياة
2 - ولان الناقد والمؤرخ مهما يستعمل الفكر والعقل ويذكر العلل والنتائج إنما يحكم بعاطفة ويقيس بوجدان فلن يستطيع أن يدخل دائرة العلم المحض ما كان موضوع بحثه الأدب والأدباء
يتبين من هذا أن الأدب له فروع: إنشاء ونقد وتاريخ. ويمكن أن نرد هذه الفروع إلى فرعين: أدب ذاتي وأدب موضوعي، وهذا يشمل النقد وتاريخ الأدب ويزيد وضوحاً فيما يلي:
الأدب الذاتي النفسي هو الكلام الذي ينشئه صاحبه إبانة عما في نفسه. والأدب الموضوعي هو الكلام الذي يقصد به تبين ما في الكلام الأدبي من محاسن ومساوئ، أو الإبانة عن فضل شاعر على آخر، أو ترجيح طريقة من البيان على طريقة، أو بيان أطوار الأدب في(294/20)
عصوره المختلفة الخ. . .
والخلاصة أنه الكلام الذي يراد به وصف الأدب والأدباء وفيما يلي أمثلة توضح هذين الضربين من الأدب:
- 1 -
قال البحتري في وصف دمشق:
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلد ... مستحسنٍ وزمان يشبه البلدا
يمشي السحابُ على أجبالها فِرَقاً ... ويصبح الروضُ في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا وأكفاً خضلا ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غَرِدا
وقال أبو هلال العسكري:
أما ترى عود الزمان نَضْرا ... ترى له طلاقة وبشرا
أتته ألطافُ السحاب تتري ... وساقت الجنوب غيما بكرا
تبسط في الصحراء بُسطا خُضرا ... وتمنح الروضة زهرا صُفرا
ونرجسا مثل العيون زهرا ... وأقحوانا كالثغور غُرَّا
كأنما يصوغ فيها تبرا ... كأنما يروق فيها عطرا
كأنما ينثر فيها درّا. . . الخ
وقال أبو الطيب في رثاء أخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدعْ لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
تعثرت به في الأفواه ألسُنها ... والبرد في الطرق والأقلام في الكتب
وقال الحسين بن مطير الأسدي أحد شعراء الحماسة يرثي معن بن زائدة الشيباني:
ألِمَّا على معن وقولا لقبره: ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خُطِّت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مُترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا
فتىِ عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا(294/21)
ولما مضى معن مضى الجود فانقضى ... وأصبح عرنين المكام أجدعا
وقال ابن المعتز يصف سامرا بعد أن تركها الخلفاء إلى بغداد فسارع إليها الخراب:
(كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد جدرانها، فشاهد الناس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وكأن خرابها ينشر، وقد وكلت إلى الهجر نواحيها، واستحث باقيها إلى فانيها، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حق جوار، فالطاعن منها ممحو الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف، وسروره أحلام؛ ليس له زاد فيرحل، ولا مرعى فيرتع الخ)
في هذه القطع كلها تجد المبين ينشئ ما يترجم عما شعر به وتخيله وتصوره حينما رأى منظراً بهيجاً من السحاب والرياض، أو مرأى كئيباً من الخراب والإقفار، وحينما علم موت صديق يعز عليه أو عظيم، كان يزجى آماله إليه. وكل هذا تصرف
- 2 -
فإذا تبينت هذا فانظر إلى الأمثلة الآتية:
قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة:
(وقد علمت أن الشعراء قد تداولوا ذكر عيون الجاذر، ونواظر الغزلان، حتى أنك لا تكاد تجد قصيدة ذات نسيب تخلو منه إلا في النادر الفذ. ومتى جمعت ذلك ثم قرنت إليه قول امرئ القيس:
تصدُّ وتُبدي عن أسيل وتتِّقي ... بناظرة من وحش وَجرةَ مطفل
أو قابلته بقول عدى بن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحورُ من جآذر جاسم
رأيت إسراع القلب إلى هذين البيتين، وتبينت قربهما منه؛ والمعنى واحد، وكلاهما خال من الصنعة، بعيد من البديع. إلا ما حسن به من الاستعارة اللطيفة التي كسته هذه البهجة. وقد تخلل كل واحد منهما من حشو الكلام ما لو حذف لاستغنى عنه وما لا فائدة في ذكره لأن امرئ القيس قال: (من وحش وجرة). وعدياً قال. (من جآذر جاسم) ولم يذكرا هذين الموضعين إلا استعانة بهما في إتمام النظم وإقامة الوزن، ولا تلفتن إلى ما يقوله المعنويون في وجرة وجاسم فإنما يطلب به بعضهم الأغراب على بعض، وقد رأيت ظباء جاسم فلم(294/22)
أرها إلا كغيرها من الظباء، وسألت من لا أحصى من الأعراب عن وحش وجرة فلم يروا لها فضلاً على وحش ضرية وغزلان بسيطة. وقد يختلف خلق الظباء وألوانها باختلاف المنشأ والمرتع، وأما العيون فقل أن تختلف لذلك. وأما ما تمم به عدى الوصف، وإضافة إلى المعنى المبتذل بقوله على أثر هذا البيت:
وَسْنان أيقظه النُّعاس فرنّقت ... في عينه سِنة وليس بنائم
فقد زاد على كل من تقدم، وسبق بفضله جميع من تأخر. ولو قلت: اقتطع هذا المعنى فصار له، وحظر على الشعراء ادعاء الشرف فيه لم أرني بعدت عن الحق) أهـ
الجرجاني في هذه القطعة يفضل بيتي امرئ القيس وعديّ على أبيات الشعراء في معناهما، ثم يبين ما فيهما من الحسن وما تخللهما من الحشو، ثم يصف بيت عديّ الثاني بأنه احسن بيت في معناه. فالجرجاني لم يبين هنا عما أحسه هو في وصف العيون، ولكنه ينظر فيما قال غيره فيبين ما فيه من إجادة وتقصير ويبين أي الأبيات ابلغ وهكذا. فهو إنما يصف كلام غيره ويقيسه بذوقه وتصوره
فهذا أدب موضوعي. . .
وقال بشر بن المعتمر:
(ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات: فإن كان الخطيب متكلماً تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه عبر عن شي من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين إذ كانوا لتلك العبارة أفهم، واليها أحن، وبها أشفق. . . الخ)
وقال أبو العباس الناشئ:
لعن الله صنعة الشعر ماذا ... من صنوف الجهّال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلاً للسامعين مبينا
إنما الشعر ما تناسب في النظم ... وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا ... قد أقامت له الصدور المتونا(294/23)
كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى، لو لم يكن، أن يكونا
فتناهى عن البيان إلى أن ... كاد حسناً يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ فيه وجوده ... والمعاني ركِّبن فيه عيونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً ... رُمتَ فيه مذاهب المسهبينا
فجعلت النسيب سهلاً قريبا ... وجعلت المديح صدقاً مبينا الخ
ترى في قول بشر والناشئ وصف خطة للبيان، ودعوة إلى طريقة في الإنشاء يريانها الطريقة المثلى وهذا أدب موضوعي أيضاً
واقرأ هذه القطعة أيضاً: قال أبو منصور الثعالبي في مقدمة اليتيمة:
(لم ينزل شعراء الشام وما يقاربها بها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام. . . والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم
ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة العبارة وحلاوة الحضارة ورزقوا ملوكاً وأمراء من آل حمدان، وبني ورقاء هم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل - انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا)
يوازن الثعالبي في هذه الأسطر بين شعراء الشام وشعراء العراق، ويفضل الأولين، ثم يبين الأسباب لتي فضلتهم على غيرهم؛ فهو يصف كلاماً بالجودة وشعراً بالتفوق ويحاول أن يعدد الأسباب التي أجادت هذا الكلام، وقدمت هؤلاء الشعراء
وهذا أدب موضوعي كذلك
واقرأ بعد هذه الجملة من مقدمة كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة:
(هذا الكتاب ألفته في الشعر؛ أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره؛ وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطأ في(294/24)
ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرين
وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها، ويستحسن لها إلى غير ذلك)
تجد صاحب الكتاب يعمد إلى تأريخ الشعراء بذكر أخبارهم وازمانهم والى تاريخ الشعر بذكر ما أخذه المتأخر عن المتقدم من المعاني والأساليب - زيادة على النقد وتبيين المستحسن المستقبح، والخطأ والصواب. وهذا يدخل في الأدب الموضوعي كذلك.
كل الأمثلة التي قدمتها في إجمال هذا الفصل تدخل في الأدب؛ ولكنها يمتاز بعضها عن بعض: في القطع الأربع الأولى أدب ينشئه الشاعر إنشاء ويبتدئه لا يصف فيه كلام غيره، بل يصف ما رأى هو من مناظر، وما شعر به من حزن وألم ونحو ذلك فهذا الذي يسمى الأدب الذاتي
وفي القطع الأخرى تجد أدباً يدور حول الكلام البليغ، أدباً يصف أدباً آخر أو يبحث في قوانين الأدب وأحواله وأطواره وهذا الذي يسمى الأدب الموضوعي
ولكن بعض هذا الأدب الموضوعي يبين محاسن القطعة من الشعر أو النثر أو يبين احسن المناهج التي يسلكها الشاعر أو الكاتب، كما في قطعة القاضي الجرجاني وقطعة بشر ابن المعتمر وقطعة الناشئ وهذا يسمى النقد.
وبعض الأدب الموضوعي يبين التاريخ والتطور كما في قطعة ابن قتيبة. . وهذا تاريخ الأدب.
وفي العدد الآتي نجمل الكلام في النقد وتاريخ الأدب.
عبد الوهاب عزام(294/25)
دراسات في الأدب المصري القديم
للآنسة الفاضلة الزهرة
إنّا سلالة أمة تباهي بتاريخها الأمم، فمن الواجب علينا أن نلم بذلك التاريخ المجيد، ونستعرض صوره، لنمكن حلقة من تلك السلسلة الجميلة الغالية، التي تصل بيننا وبين القدم، وتقربنا إلى آبائنا الكرام، أولئك الذين بنوا المجد وشادوه، واستذلوا الزمان وأخضعوه، واكرهوه بباهر أعمالهم على أن يسجل أسماءهم في ديوان الخالدين.
ولقد رأيت أن استمد ذرائع الاتصال والقربى بالتغلغل في قرارة الماضي السحيق، للإحاطة بحياتهم الأدبية، بحيث نستطيع أن نلمس فيها زمانهم وبيئتهم، ونلمح قبساً من نظرياتهم في الوجود، وما اتخذوه لأنفسهم فيه من نظم الاجتماع والسياسة، والدين والأخلاق، لعلنا نتدرج من هذا كله إلى إقامة الدليل القاطع، على سمو المنزلة التي بلغها الأدب المصري القديم، ودحض ما رمى به من النقص والقصور. وقد كان علماء المستشرقين إلى منتصف القرن التاسع عشر يعتقدون أنه قد خلا من القصص وطول العبارة، وانسجام التفكير واستمرار الخيال، وافتقر إلى الفلسفة والنظريات. والواقع أن الأدب المصري القديم كان حافلاً بالثروة المعنوية، وافانين القول، وكان متعدد الفروع والأبواب حتى أنه لم يترك فرعاً إلا تناوله، خلا فرع الشعر التمثيلي. ويرى الدارس للكتابات القديمة خصائص بارعة تميزها عن باقي آداب الشعوب السامية لما يتجلى فيها من حسن الوصف، وكمال الصوغ، وبساطة التعبير، وطلاوة اللغة ومتانتها، وسهولة الألفاظ ورقتها، في إمتاع جزل بليغ. ولقد كان من اظهر تلك المميزات، الوضوح والاستقامة، وأناقة الأسلوب، وروعة التركيب، وجودة المقاطع، ونصاعة المبنى، وإيجاز المعنى وإصابته. على أن هذا الإيجاز كان ينتهي بالكاتب الضعيف في أحايين إلى السخف والعي والركاكة. غير أن الكاتب الأريب، كان يستطيع بقليل من التفنن أن يصور سجية من السجايا. وضاءة الجبين إذ يصف عاطفة من العواطف، قدسية الجوهر سافرة المحيا ولم يكن للكاتب المصري ند في حسن اختيار الألفاظ ووضعها في المكان الملائم لها في الجملة، فأنت تراه يكتب كمؤلفي هذا العصر المجيدين دقة ورقة ومتانة وظرفاً، ويمثل لك الحياة كما تقع في صورة كلامية لا تقل تأثيراً وإبداعاً عن الصورة اللونية المتقنة، فإذا نزل بك إلى ميدان السياسة، تجده يصف لك(294/26)
الملوك والحكام وصفاً دقيقاً، فيقول عن العاهل الجليل: (إنه يعرف كيف يأسر القلوب ويملكها) ويصف القاضي العادل بقوله: (إنه يسلك مناهج الاستقامة ونزاهة القلب). وبألفاظ قليلة منتقاة كان يجلي لنا الحاكم المحبوب المترفق، والقاضي الحكيم المنصف. وإذا عرج على الحياة وألوانها ألفيناه يصف الشباب ولذاته، والمشيب وحسراته، والهرم ومرارته، كل ذلك بأسلوب سهل وإيجاز مبين، لا أثر فيه للصناعة الأدبية المتكلفة فكان فنه الفن الصحيح. وكان من مميزات هذا الأسلوب الموجز الممتع، ما حملته ألفاظه من صور ومقدمات معنوية كانت في الأدب المصري القديم روح المجاز المرسل وعنصر الكتابة البليغة، ويمكننا أن نقتبس أمثلة لذلك كقولهم: (المطيع يطاع!) و (الجاهل حي ميت) وهكذا كانت الجملة القصيرة في الأدب المصري تفرغ في مثل هذا القالب من البساطة وانسجام التفكير ودقة السبك. ومعلوم أن الجملة القصيرة الصحيحة تلخص فكرة العقل القوي الحصيف لأن الإيجاز في الإفهام ممدوح مستحب. ولقد كان الأسلاف يكرهون الإسهاب المخل. والإطناب الممل، فتراهم يجنحون دائماً إلى قرب المجتني، ويعتقدون أن خير الكلام ما قل وجل، ودل ولم يمل، وكانوا في حياتهم اليومية يشمئزون من الثرثار ويعدون الثرثرة مما ينافي عقيدتهم الدينية في اشرف المواهب، واعتاد من يقف منهم في محكمة العدل والدينونة، أمام قضاة (العالم السفلي) في دار الآخرة أن يقول: (أشهد أني لم أكثر من الكلام في حياتي ولم أسترسل فيه بإطناب تمجه الأذان) وكانوا يحبون تنميق اللفظ وزخرفته ولكنهم أجادوا تنقيحه ووفقوا فيه توفيقاً عجيباً دون أن يداخله التعمل. وكذلك كانوا لا يطاولون في دقة التشبيه. والحق أنهم كانوا يرتفعون إلى اجمل سماواتها وأعلاها كلما التمسوها من الطبيعة. وبين أن التفوق في تقريب المثال، دليل القدرة على بعد المنال، والتعميم والإطلاق في رسم الحقائق الناصعة رسماً صادقاً، وعنوان البراعة في الموازنة العقلية والمقارنة الذهنية، بل أنه مجلي الحماسة والحرارة والإخلاص للفن ومعرض العاطفة العميقة الصحيحة التي تفنن الألباب بصحتها وقوتها. مثال ذلك تشبيه الملك رمسيس الثاني (بأسد ظافر يضرب بمخلبه ولا يدبر، يزأر ويزمجر بصوت هائل في وادي الظباء. . .) أو قولهم فيه: (أنه يشبه ابن آوى في سرعة خطاه وسعيه لاقتناص ما يجده والانقضاض عليه كالبرق الخاطف).(294/27)
وكانت التعبيرات المتجافية الوعرة، والكلمات الغثة المثقلة بالاستعارات الرثة والتوريات المتنافرة، والمترادفات المتقعرة الفجة والمحسنات اللفظية الجوفاء من الأخطاء التي يجهلها المؤلف المصري الذي كان يميل في أسلوبه ولغته إلى الوضوح دون أن يتسامح في لفظة واحدة تطن بلا معنى وبلا غرض. . . وكان آية في الجلاء والأحكام حين يروي حديثاً أو يدون حادثاً، ولعل ذلك راجع إلى سلامة طبعه، واستقامة خلقه، وتمسكه بالصدق، ومقته للمبالغة والغلو، ولم تكن تأليفه صادرة بحال من الأحوال عن انحطاط في التخيل، أو قصور في التصور، أو عجز عن عمق التفكير، لأننا حين نطالع سيرة عظيم من العظماء من خلال منظار الحقيقة، ثم نعمد إلى قراءة الشخصيات البارزة في أقاصيص أولئك المؤلفين ومن جعلوا أبطالاً لها كما ابتكرتها تصوراتهم الخصبة واخترعتها عبقريتهم المبدعة، نرى تخيلاً سامياً معتدلاً رصيناً، يحدوه العقل الراجح، ليطابق الواقع المعقول، ويمنح تلك الشخصيات سحنة جميلة، تدب فيها الحياة الناشطة، فتراها متجسدة حيالنا، لا أشباحاً ضعيفة لا كيان لها ولا جسم. . .
وفي هذا العالم الأدبي العجيب، الذي كان يعنى بالأنواع والنماذج التي يكثر أشباهها في الحياة اليومية، نرى مواطن الشبه الموجودة بين كل فروع الأدب القصصي المصري القديم، وبين القصص التي يتحفنا بها المؤلفون المجيدون في القرن العشرين من اتباع المذهب الواقعي. وتزداد إيماناً بأن عقول أهل الأجيال السالفة لم تكن دون عقول أبناء العصور الحديثة. هذا ولعلنا واجدون في قصة (سانيهات) - ابن الجميزة - صورة أمينة واضحة للحياة والعادات القديمة. ولا يبعد أن هذا الاسم قد أطلق على بطل القصة لكونه عاش حيث توجد شجرة من أشجار الجميز المقدسة التي اشتهرت بها مصر منذ القدم، ولا سيما أن الاسم (سانيهات) معناه (ابن الجميزة) ونحن نرى في موضوع القصة ما كتبه سانيهات هذا عما شاهده في مغامراته أثناء تنقلاته ورحلاته في جنوب شرقي فلسطين. وإني كمصرية يسرني أن اذكر بلسان الإعظام والاكبار، هذا الدليل الذي تقيمه القصة على أن المصريين قد سبقوا ماركوبولو وكولمبس وفاسكودي جاما وماجلان وغيرهم من كبار المستكشفين إلى ارتياد المجاهل، وانهم قد كتبوا قصص هذا الارتياد بيد أجادت نقل ما انطبع في الذهن من صور المرئيات والحوادث بخاصة عجيبة وقوة انتباه فائقة. وقد(294/28)
وصف سانيهات هذه الأصقاع التي رآها وصفاً بارعاً، ورسم الحياة الاجتماعية لسكانها، ومثل أخلاقهم وعاداتهم ونزعاتهم وميولهم اكمل تمثيل واظهر بعد عودته إلى مصر، الفرق العظيم بين حضارة بلاده والحياة البدائية الخشنة التي كان يحياها أولئك القوم. . . وسانيهات هو هذا (الأمير الملكي وحامل خاتم الملك، والصديق المخلص، وأمين شؤون الاجانب، هو المحبوب الملكي التابع للمقام الأسمى) وقد فر من مصر حالما سمع بوفاة الملك امينمعهت الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة، أي قبل الميلاد بألفي سنة. وهو لا يحدثنا في القصة عن هروبه، ولكننا نرجح أنه هرب لأنه كان أحد أبناء الملك من أم لا يجري في عروقها دم الفراعنة ولذلك لا يقدر أن يرث عرش أبيه والى جانبه (أوسرتسن) الابن (الملكي للفرعون) فهو يخشى أن يقتله الفرعون الجديد حتى لا يكون له من ينازعه العرش وينافسه فيه، ويشجعنا على التمسك بهذا التعليل ما جاء في سياق القصة، من اللهج بالإكرام الذي صادفه سانيهات من أفراد البيت المالك عند أوبته من ديار الغربة. ومعلوم أن الفراعنة كانوا شديدي التمسك بعصبيتهم، عظيمي التعلق بأقاربهم فلا يقربون منهم غير كريم النسبة. . .
نعود إلى حديثنا الأول فنقول: أن سانيهات يذكر أنه ولى هارباً من مصر في الليل، وكان (يختبئ في الأدغال نهاراً لئلا يراه أحد من الجيش المرابط على الحدود) وبعد صعوبات جمة ومخاطر عدة وصل إلى سلسلة الحصون التي أقيمت لصد غارات الأعداء على الحدود، وجاوزها في دياجير الظلام، وأنه حين شارف (البحيرات المرة) خارت قوته (وشعر بظمأ شديد، وجف ريقه، وضاقت أنفاسه) فقال في نفسه: هذا نذير الموت. ولكن ثغاء الماشية كان يتطرق إلى سمعه فينعشه وينفخ فيه روح القوة ويطمئنه فيواصل سيره إلى أن يصادفه زعيم إحدى القبائل، فيعطيه (ماء ولبناً مغليا) ويخبرنا بعد ذلك أن كل قبيلة من القبائل العائشة في تلك الأقاليم كانت تكرم مثواه وتستضيفه بدورها، حتى حط رحاله في أرض (أيدوم) حيث أقام سنة ونصف سنة، وإن أمير (تنو) التي زرتها منذ أعوام في جنوب شرقي فلسطين وتقع بين الخليل وبيت جبرين، قد ارسل إليه ودعاه إلى الإقامة عنده. ويحسن بي أن أتقل هنا ما ذكره سانيهات من حسن معاملة ذلك الأمير بقوله: (ومنحني اختيار ما أريده من الأرض حتى تلك الأرض التي كان يملكها في الخارج وهي(294/29)
أرض حسنة. والحق يقال أن ما اعطانيه كان عظيماً، وقد قدمني على أولاده وزوجني من كبرى بناته وأقامني أميراً على قبيلة من خيرة قبائل أرضه). ثم يحدثنا عن اغاراته على القبائل الأخرى ويقدم لنا وصفاً فريداً عن قيامه بمنازلة أحد أبطال تنو. والظاهر أنه كان محسوداً على المكانة التي كانت له في قلب الأميرة العظيمة، وعلى ما أحرزه من مجد الشهرة وفخر الانتصار، فجاء ذلك البطل ذات يوم ودعاه إلى النزال، (رجلاً قوياً لا أخ له في القوة)، وقد (اخضع لجبروته وكان: كل إنسان). وقال: (فلينازلني سانيهات)، وكان يريد أن يقتله، ولكن بطل تنمو تضاءل أمام المصري لخبير بفنون القتال والقائل في ذلك: (وجاء الموعد فالتقينا وناديته أن يبدأ فصوب سهامه ولكني تحاشيتها كلها، وسقطت بقربي سهماً أثر سهم. وهنا فوقت نحوه قوسي وأطلقت السهم. فنفذ إلى عنقه فصاح من شدة الألم وخر على انفه فأخذت قناته وأنفذتها في جسمه، وضعت قدمي على ظهره فهلل البدو، واستحوذت على جميع مقتنايته وماشيته. الشيء الذي كان يريد أن يفعله بي فعلته أنا به).
وأظنني بعد هذا كله لست في حاجة إلى الإشارة إلى أن الآداب القصصية العالمية لم تمنح آية أمة في الوجود ما منحت الأسلاف من التفوق في القصص الخيالية الممتعة التي يعدها العلماء المشتغلون بالمصريات في الوقت الحاضر غاية في سمو التصور ودقة التفكير وسعة التصوير وخصوبة الخيال وسلامة اللغة وسلاسة الأسلوب. ولعل أبدعها (قصة السحرة) التي جمعت ورتبت على طريقة كتاب (ألف ليلة وليلة). فهي في الحقيقة قصة واحدة طويلة. تضم ثلاث أقاصيص متتابعة، ادخل المؤلف كل واحدة منها في التي تليها، وقد عارض سير القصة عينها عند نهاية الجزء الأول منها بشيء جديد، لأنه رأى كما يرى كتاب العصر الحديث في قصصهم ضرورة وقوف القارئ عليه قبل الخاتمة، وهي مهارة أرادها فوفق فيها رغم ما تفيض به سطورها من تحول ساذج معجب لا ترون مثاله في غالبية ما يكتبه كتاب اليوم من الفرنج وغيرهم! وهذه القصة البديعة أشهر من أن تعرف. إلا أن السبيل إلى تلخيصها الآن غير ميسور، ولا يسمح المقام باقتباس شيء مما حفلت به تصانيف الأسلاف من الحكم الخالدة والمواعظ الأبدية والأمثلة العالية والكتب السياسية التي تبودلت بين الفراعنة وملوك الشعوب الأخرى من معاصريهم والرسائل المتبادلة بين الإخوان والأصدقاء وأغاني الحب والتسابيح الدينية، والأناشيد الغنائية(294/30)
والأشعار القصصية الطويلة التي أتوا فيها على ما سعد به ملوكهم من جلال الانتصارات وعز الفتوحات. بيد أنه لا يسعني إلا أن المع في إيجاز إلى كتاب (المحاورة بين مصري ونفسه) تلك المحاورة التي يزخر فيها كل ما يزخر في الحياة النابضة من قوة دافقة، وتمثل صراع الروح والجسد، وأزمات الوجدان الطاحنة، وفورات العواطف المتأججة، وهجسات الضمائر، في مهاوي ضعفها ودركات فورها، أو درجات مجدها وذروات قوتها
وهناك ثلاثة كتب جديرة بالعناية أولها كتاب (بتاهوتب) وهو اقدم كتاب في الدنيا كما يقول المؤرخون. وفي هذا الكتاب فصول ممتعة، فانتم ترون مؤلفها حين يعرض لذكر المرأة يكتب عنها كمؤلفي القرن العشرين - حفاوة وإجلالاً وإكباراً -
أما الكتاب الثاني فهو (حكم الكاتب آني) ولست أريد أن أطيل الوقوف عند هذا الكتاب وإنما أريد أن اذكر منه نبذة واحدة نصح فيها المؤلف الولد برعاية أمه فقال: (ضاعف الطعام والشواب اللذين تقدمهما لأمك فهي التي تعبت في تربيتك ووجودك وأدخلتك المدرسة وعنيت بتهذيبك وتثقيفك. أحذر من أن ترفع يدها إلى السماء ضدك فتسمع الآلهة شكاتها) ويظهر من هذا جلياً أن رياسة الأسرة في ذلك الحين كانت للأم حيث ينبئنا الكاتب أنها هي التي عنيت بتهذيب الولد وأدخلته المدرسة
أما الكتاب الثالث فهو سياسي بحث وعنوانه تعاليم أمينمعهت الأول وهو غاية في الحكمة والحيطة، كتبه إلى امينه يحذره ممن حولهم من أهل البلاط ومن دسائسهم الكثيرة
وهنا اكتفى بما تقدم مبرهنة على أن مصر بأدبها القديم قد كانت أستاذة الدنيا ومعلمة الوجود، وحسبي أن اختم بقول مسيو سانتهلير: (لست أريد أن أرد على الذين يتهمون اليونان بعدم معرفتهم القراءة ولكتابة إلا بهذه الكلمة وهي: كيف يجهل اليونان القراءة والكتابة وقد كانت تربطهم بالمصريين صلات قوية؟!!)
وجدير بهذا كله أن ينبه غافلنا، ويشعرنا بحاجتنا إلى أيجاد أدب قومي يصور المزاج العقلي المصري، ويستمد من صميم الحياة المصرية مادته وعناصره ومسالكه، فيمثل حالتنا الاجتماعية، وحركاتنا الفكرية، والعصر الذي نعيش فيه لكي تكون لأدبنا شخصية بارزة ممتازة، تضمن لنا المكان العالي الذي نريد أن نشغله بحق في خريطة الوجود.
(الزهرة)(294/31)
أين أنا؟
للأستاذ محمد سعيد العريان
(أين أنت يا صديقي؟ منذ كم ألتمس لقياك فلا أجد سبيلاً إليك!)
هكذا سألني صديقي وقد لقيني على الطريق منطلقاً لبعض شأني على غير ميعاد. . . فأخذت أسال نفسي سؤاله إياي: (أين أنا؟)
هأنذا واقف بازائه على حيد الشاعر استمع إليه وهو يفيض في الحديث سائلاً ومجيباً، وعاتباً وعاذراً؛ ولكنني مع ذلك لسن هنا!
أن نفسي هناك. . . بل أنني على التحديد لا أعرف أين نفسي!
في هذا المكان الذي يجمعني وإياه، كنت وكان، ولكني مع ذلك لا أكاد أشعر أنني وإياه في ذاك المكان!
(أين أنت يا صديقي؟)
عجباً؛ أنه ليراني بازائه لأراه، وأنه ليعرف مكانه من نفسي؛ وإن الحب الذي وجد بين قلبينا لخليق بأن يلهمه الجواب ولكنه مع ذلك يسأل، ولكنني مع ذلك لا املك الجواب!
(أين أنا؟)
لقد اخطر هذا السؤال في بالي معاني وصوراً جمة، تذكرني حيث كنا. . . ويوم كنا. . . وتنشر على عيني صحائف من ذكريات الماضي ومشغلة الحاضر وأماني المستقبل!
هأنذا واقف بازائه على حيد الشارع جسداً إلى جسد، فإنني لمعه، ولكنني لست في هذا المكان! وإنني لبعيد عنه، ولكنه معي في سياحة فكرية طويلة تنتقل حيث شئنا في ذكريات الماضي الغابر ونطوي السنين في لحظات!
أتراه كان يراني؟ أتراه كان يعرف أين مكاني؟ هل كان بازائه في تلك اللحظة إلا جسداً وصورة؟
أنه ليسألني: (أين أنت؟. . .) وإنني لأسال نفسي. . .
هل كنت معه؟ هل كنت بعيداً عنه؛ هل كان يجمعني وإياه مكان؟ هل لقيني جسداً أم لقيني فكراً وعاطفة؟ هل كان الذي معي هنا على حيد الشارع هو الذي معي هناك في وهمي وفي ذكرياتي؟(294/33)
أين كنت وأين كان؟ أين وأين؟
ليت شعري ما الحقيقة؟ وما الخيال؟ أين يلتقيان وأين يفترقان؟ وأين الحد الذي يفصل بين دنيا المنظور ودنيا التصور؟
هانذا ما أزال أسال نفسي: (أين أنا؟) وهذا سؤال صديقي ما يزال يرن في أذني: (أين أنت؟) وما تزال يدي في يده، وما زلنا واقفين جسداً إلى جسد على حيد الطريق!
وتحدث صديقي إلى ما شاء وتحدثت إليه، وهم أن ينصرف لشأنه وهممت؛ وعاد يسألني:
(وأين ألقاك بعد؟)
أين يلقاني وأين ألقاه؟
ها هو ذا يوليني ظهره ماضياً إلى غايته، ولكنه معي، ولكنني معه، ولكنه يسألني: (أين ألقاك؟)
أتراني وإياه الساعة على فراق أو على لقاء؟
منذ لحظة كان وكنت وأنه ليسألني: أين أنت؟ وأنه ليسألني الساعة أين ألقاك! وما افترقنا بعد!
أتراني معه هناك أصحبه في طريقه أم تراه هنا يصحبني؟
جسدان كانا معاً منذ لحظة فافترقا ومضى كل منهما على وجهه، ولكنه ما زال معي يصحبني في طريقي وما أزال أصحبه لا ريب
أأنا الذي معه هناك يناجيه في طريقه أم أنا الذي هنا؟
أهو الذي معي الساعة أتحدث إليه أم هو الذي مضى وخلفني؟
اثنان هنا: أنا وهو، واثنان هناك: هو وأنا، واثنان كانا جسداً إلى جسد يتناظران على حيد الشارع منذ قليل. . .!
أي هؤلاء أنا وأيهم هو؟. . . أينا الحقيقة وأينا الخيال؟. . .
أأنا واحد أم اثنان؟. . . وهو، ما هو؟ وكم هو؟
أنني أنا مع نفسي الساعة لا ريب، فمن ذاك الذي يزعم صاحبي في وهمه أنها يماشيه ويسر إليه النجوى؟
وإني لأشعر أن صاحبي هو معي الساعة؛ فمن ذاك الذي مضى بعيداً؟(294/34)
أترى ذاك الذي مضى بعيداً يعرف هذا الذي معي أو ينكره؟
أم تراني أعرف ذاك الذي يماشيه صديقي ويزعم أنه أنا وما هو أنا؟
يا عجبا! أنني لا أكاد أنكر نفسي!
ها هنا أصل وصورة؛ فمنذا يمايز بينهما؟
ها هنا حقيقة وظل؛ فأي الاثنين أنا؟
. . . وطال علي الطريق وما ظفرت بجواب؛ وبرمت بصاحبي الذي كان يماشيني وأناجيه فأنسيت ذكره؛ وأحسب صاحبي الذي هناك قد مل ملالتي فأنسى ذكرى. . . . . .
وشعرت فجأة كأنما ثابت إلى نفسي. . .!
وكأنما كان جزء مني بعيداً عني فآب أليّ!
وأحسست إحساس الحي بوجوده!
ووجدت بعد لأي جواب ما سألت نفسي!
(هأنذا. . . هانذا. . . أنني أنا هنا!)
أين كنت؟ ومن أين عدت؟
وهل كنت شيئاً قبل له كيان وله مكان؟
سل الطفل ساعة مولده: أين كنت أيها الوليد قبل أن تصير جنيناً في بطن أمك؟)
فلو عقل لسؤال وعني الجواب لما أطاق
سله أولاً: هل كنت؟ قبل أن تسأل: أين كنت؟
أنا ونفسي شيء واحد: لو انفصل منهما شي عن شيء لما كان ثمة شيء!
ما أنا؟ حين يكون خيالي بعيداً عني؟
ما أنا؟ حين تتعلق أوهامي بما ليس في يدي؟
ما أنا؟ حين تمضي بي الذكريات إلى غير عالمي وتحاول أن تعيش بي في غير أيامي؟
ما أنا؟ حين أفكر فيك، أو فيه، أو فيها وأغفل عن حقيقة نفسي؟
ما أنا حينئذ بشيء؛ فلا أنا هنا ولا أنا هناك ولكنني أشلاء!
نحب الشيء ونتمانه، ونتخيل ساعة الظفر به؛ فنحس في أعماقنا ساعة نحب ونتمنى ونتخيل - أننا لا نشعر بوجودنا الكامل في أنفسنا؛ لأن الشيء الذي يكمل وجودنا ليس في(294/35)
يدنا؛ ثم نظفر بما كنا نحب ونتمنى ونتخيل، فلا نشعر حينئذ بوجودنا الكامل في أنفسنا؛ لأن الشيء الذي يكمل وجودنا لا يمكن أن يأتي من خارج انسفنا!
ونأسى على ما فات، ونتلهف على سوالف اللذات، ونتخيل عودة الماضي إلينا أو رجعتنا إليه؛ فما نحس ساعة نأسى ونتلهف ونتخيل أننا إحياء لنا وجود محدود بزمان ومكان؛ ولكننا فكرة أو حلم أو أمنية: صورة ما لها مثال، ووهم ما له حقيقة!
. . . ولكن الإنسان على ذلك لابد له من أمل يسعى إليه، أو ماض يحرص على ذكره؛ أفيكون ذلك لأن الله الذي برا الخلق حين منح الإنسان نعمة الوجود قد حرمه نعمة الشعور بالوجود؟
إلا الطفل: أنه هو وحده الذي يعيش في حقيقة الوجود، ليس له ماض وليس له أمل؛ أنها هو نفسه شيء واحد منذ كان إلى أن يأذن الله! ولكنه لا يدري! ولكنه لا يدري!.
تعاليت يا رب! شهدت أن لا إله إلا أنت؛ لأنك أنت وحدك الموجود؛ وكل ما عداك ظلال وأوهام وأباطيل!.
(شبرا)
محمد سعيد العريان(294/36)
من مزاح الشعراء
ساعة الهراوي
متاعب لا تنتهي
للأستاذ محمد الأسمر
أصبحت مع ساعة الهراوي كما يقول البهاء زهير:
كلما قلنا استرحنا ... زارنا الشيخ الإمام
فهذه الساعة الملعونة كلما قلت استرحت منها (جدّ لي منها سبب) وفي العام الماضي حينما ظننت أن الله أراحني منها ودعتها بكلمة في جريدة الأهرام الغراء، ولكن ما لبث هذا التوديع غير قليل حتى أعادني إليها - ولا أقول أعادها أليّ - فانه تبين لي أنني التابع لها، وأنها صاحبتي ولست أنا صاحبها. . . أقول ما ظهر هذا التوديع حتى كانت الأبيات التي قلناها على لسان الدكتور أو (الدكاترة) زكي مبارك موضع أخذ ورد ودراسة وتمحيص أثارها حضرة المربي الفاضل الأستاذ عبد الحليم خطاب بين تلاميذه بدار العلوم في درس من دروس العروض، وكتب عن ذلك البحث العروضي صديقنا الأستاذ عباس خضر كلمة بالأهرام مما حدا بنا إلى رد الشبهة التي وجهت إلى بعض أبيات الدكتور - استغفر الله - بل الدكاترة زكي مبارك.
ثم انتهت بعد ذلك أخبار هذه الساعة ومتاعبها، ولكن مجلة الرسالة الغراء طلعت علينا في العدد 292 وبين صفحاتها كلمة ممتعة عنوانها (نادي الحلمية) للكاتب المجيد (م. ف. ع) مندوب الرسالة الأدبي، وقد حوت هذه الكلمة فيما حوته قصيدة الشاعر الكبير الحاج محمد الهراوي، قصيدته الطيبة في ساعته الملعونة التي أراها في جلبها المتاعب لي كحذاء (أبي القاسم) وما جره على صاحبه من ويلات. وكيف لا تكون هذه الساعة أخت هذا الحذاء - حذوك النعل بالنعل - وهانذا بعد عام كامل أجدني مضطراً إلى التحدث عنها:
يقول الأستاذ الهراوي فيما يقوله عن ساعته في قصيدته ما يأتي:
وساعة أهديتها ... إلى صديقي الأسمر
أحجارها كأنها ... من لؤلؤ وجوهر(294/37)
فلم يكن كمثلها ... هدية من موسر
ولم يكن كمثلها ... من بائع لمشتر
وليس من تقدم ... فيها ولا تأخر
تمشي عليها الشمس في ... عطارد والمشتري
وهذه الأبيات يصدق عليها قول القائل في الشعر - أعذبه أكذبه - إلا أن البيت الأخير تجاوز الحدود المعقولة كلها لعذوبة الشعر جميعها. فنحن إذا صدقنا أن هذه الساعة أحجارها من لؤلؤ وجوهر وأنه لم يكن كمثلها هدية من موسر. . الخ الخ، فإننا لا نصدق بحال من الأحوال أن الشمس تجري عليها في عطارد والمشتري. فإن الشمس إذا انحرفت عن أبراجها ومشت على أحد الكوكبين عطارد أو المشتري لكان هول في السماء والأرض والسموات غير السموات. وحينئذ لا تغني ساعة الهراوي عن العالم شيئاً، وحينئذ يعلم الأستاذ الهراوي كم كنت أنا مبتلي بهذه الساعة
لو أن صديقي الشاعر الكبير نظر نظرة في النجوم لتبين له أن (عطارداً) و (المشتري) كوكبان من الكواكب السبعة، لا برجان من أبراج الشمس.
. . . قد تناول أبو إسحاق الصابي الكواكب السبعة في الأبيات الآتية. قال مادحاً:
نَلِ المنى في يومكَ الأجورِ ... مستنجعاً بالطالع الأسعد
وارق كمرقى (زحلٍ) صاعدا ... إلى المعالي أشرف المقصد
وفض كفيض (المشتري) بالندى ... إذا اعتلى في أفقه الأبعد
وزد على (المِريخ) سطواً بمن ... عاداك من ذي نخوة أصيد
واطلعُ كما تطلعً (شمس) الضحى ... كآسفة للحِنْدِس الأسود
وخذ من (الزُهرة) أفعالها ... في عيشك المستقبل الأرغد
وضاهِ بالأقلام في جريها ... (عُطارِدَ) الكاتب ذا السُّودد
وباه بالمنظر (بدرَ) الدجى ... وأفضُله في بهجته وازدد
هذا والله سبحانه وتعالى هو المرجو - بعد اليوم وقبل اليوم - في إراحتنا من هذه الساعة، ومن متاعبها، وهو أرحم بعباده وألطف من أن يجعل الشمس تجري في عطارد والمشتري من أجلها.(294/38)
محمد الأسمر(294/39)
القمر بين الحقيقة والخيال
للأستاذ قدري حافظ طوقان
طرائف وعجائب
لو سار قطار إلى القمر بسرعة خمسين ميلاً في الساعة لوصل إليه في مائتي يوم. ولو وأطلقت قنبلة في الجو بسرعة 1640 قدماً في الثانية لوصلت إليه في ثمانية أيام وبعض يوم. والأمواج اللاسلكية التي تدور حول الأرض في سبع ثانية! تصل إلى القمر في ثانية وربع ثانية!
قد يعجب القارئ إذا علم أن بعد القمر عن الأرض ضئيل جداً إذا قورن بغيره من أبعاد السيارات والنجوم عن الأرض. ويزيد استغرابه إذا قيل أنه على الرغم من هذا البعد الذي يبدو هائلاً بالنسبة للأبعاد الأرضية، فإن القمر هو أٌقرب جسم سماوي إلى الأرض يبعد عنها بمقدار 240000 ميل!. . .
القمر من الأجرام السماوية التي تستمد نورها وحرارتها من الشمس، يدور حول الأرض مرة في كل 28 يوماً، يومه طويل ونهاره طويل، طول كل منهما أربعة عشر يوماً، فنأمل!. . . يشرق متأخراً ويغيب متأخراً خمسين دقيقة ونصف دقيقة عن إشراقه ومغيبه في اليوم الذي تقدمه. يظهر في أشكال مختلفة فمرة نراه هلالاً ومرة نراه نصف دائرة ومرة نراه دائرة كاملة وفي بعض الأحيايين يغيب ولا نستطيع رؤيته. وعلى هذا فالقسم المنير منه يزيد وينقص، يزيد إلى أن يصبح بدراً كاملاً، ثم ينقص إلى أن يطلع مع الشمس فيكون محاقاً. وسبب هذا أن الشمس تنير نصفه كما تثير نصف الكرة الأرضية، وفي أثناء دورانه حول الأرض من الغرب إلى الشرق يكون القسم المظلم متجهاً نحونا إذا صدف أن وقع بيننا وبين الشمس. ثم يتقدم قليلاً نحو الشرق، وهذا التقدم يظهر جانباً صغيراً منه منيراً ويزداد هذا القسم المنير كلما تقدم نحو الشرق إلى أن يطلع من الشرق وقت غروب الشمس وحينئذ يبدو لنا قرصاً منيراً وبدراً كاملاً. ثم يبدأ القمر بإتمام دورته حول الأرض فينقص ما نراه منيراً، وتستمر هذه الحركة والقمر المنير في تناقص إلى أن يطلع مع الشمس فيكون حينئذ وجهه المظلم هو المتجه نحونا ويكون عندئذ محاقاً. ونظراً لقربه منا فهو يبدو كبيراً إلا أنه في الحقيقة صغير بالنسبة للنجوم وبعض الكواكب، فقطره(294/40)
أكبر من ربع قطر الأرض بقليل كما تبلغ مساحته مساحة أمريكا الشمالية والجنوبية. وعلى هذا فجاذبيته أضعف من جاذبية الأرض، والرجل الذي يزن 60 كيلو جراما على سطح الأرض يزن سدس هذا المقدار على سطح القمر. وإذا قدمنا حجراً إلى علو خمسة أمتار هنا، واستعملنا نفس القوة والسرعة فإن الحجر يرتفع إلى علو ثلاثين متراً في القمر، وقد تكون رغبة لاعبي الكرة شديدة في أن تجري اللعبة على القمر إذ يستطيعون رميها وإرسالها مسافة تفوق ستة أضعاف مسافة رميها هنا
ولضعف جاذبيته فهو تقريباً خال من الهواء والماء إذ ليس في القمر قوة جذب كافية لحفظ دقائق الهواء محيطة به فهي (أي الذرات) دائمة الحركة والتصادم بسرعة (450) متراً في الثانية، وليست حركتها في جهة واحدة بل في جميع الجهات، لذا فهي تفلت تماماً من سطح القمر ولا تستطيع البقاء عليه
ولقد نتج عن خلو القمر من الهواء انعدام المياه وعوامل النحت أو التفتت، فلا نرى على سطحه أثراً من ذلك وبقيت الجبال على حالتها الطبيعية لم يحصل فيها أي تفتيت في الصخور ولم تتكون أودية بالمياه الجارفة ويمكن القول أنه عالم قاحل هادئ ساكن خال من أنواع الحركة وعلامات الحياة
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن خلوه من الهواء أدى إلى تعرض سطحه لحرارة الشمس المحرقة وللبرودة الشديدة، إذ الهواء هو الذي يلطف حرارة الشمس وهو الذي يحتفظ بالحرارة التي تشعها الشمس حائلاً دون خروج الحرارة
وعلى هذا ترتفع الحرارة على سطحه أثناء النهار الطويل ارتفاعاً عظيماً حتى تصل إلى درجة الغليان؛ وقد تزيد حتى تقترب من درجة ذوبان الكبريت، وتهبط الحرارة في الليل الطويل فجأة وتستمر في الهبوط حتى تصل إلى أكثر من (250) درجة فهرنهيت تحت الصفر
وإذا تحادث اثنان على سطحه فلا يسمع أحدهما الآخر فيضطران عندئذ إلى التفاهم بلغة الإشارات، ذلك لعدم وجود أمواج هوائية تنقل الصوت، وأظن أن القمر يلائم الذين يعنون بالمدفعية إذ لو أطلق مدفع في القمر لما سمعه أحد هناك ولما حصل على الأُذن أي أثر ولما اضطر الإنسان إلى استعمال ما يقي أذنه من شدة الأمواج التي يحدثها صوت المدافع(294/41)
القمر يعوق حركة الأرض
كانت الأرض قبل وجود القمر تسير حول الشمس في مدة أربع ساعات أي أن يوم الأرض كان أربع ساعات ولم يكن أربعا وعشرين ساعة كما هو الآن!
لقد زاد القمر في طول يوم الأرض، فما السبب في ذلك؟ لكل شيء سبب، وكل ما في الكون يسير ضمن نواميس لا يتعداها. ولقد استطاع الإنسان بفضل ما وهبه الله من القوى العقلية أن يكشف عن السبب ويعرف المجهول في بعض الحالات، وهو لا يزال سائراً في ذلك، وقد كشف من القوانين الكونية والأنظمة الطبيعية ما أمكنه الوقوف على كثير من عجائب الكون وروائعه.
استطاع الإنسان أن يحسب سرعة القمر حول الأرض فوجدها 2300 ميل في الساعة، كما ثبت له أن القمر يدور على محوره مرة واحدة كلما دار حول الأرض مرة واحدة في 28 يوماً ورأى في الجاذبية ما يفسر له الإعاقة التي يحدثها القمر على حركة الأرض فثبت له أنه لولا قوة الجذب بين القمر وبين الأرض لاستمر في سيره على خط مستقيم، ولأصبح بعيداً عنا الآن ملايين الأميال
ولكن هذه القوة المستمرة، هي التي تغير اتجاه سيره وهي التي تجعله يسير في خط منحن (فلك) حول الأرض على الكيفية التي نعرفها
إن الجاذبية بين الأرض والقمر متبادلة، فكما أن الأرض تجذب القمر وبينهما قوة تجاذب تجعله يسير في مسار منحن حول الأرض، فكذلك القمر يجذب الأرض وبينهما قوة تجاذب، وهذه القوة أثرت على الأرض ولا يزال أثرها يعمل فيها (في الأرض) إذ أبطأت حركة الأرض وجعلت دورتها حول نفسها تستغرق 24 ساعة بدلاً من أربع ساعات!
وعلى أساس قانون الجاذبية العام الذي ينص على أن قوة التجاذب بين جسمين تتوقف على مقدار كتلتيهما وعلى المسافة بينهما - أقول على هذا القانون حسب العلماء وزن الأرض وغيرها من الأجرام السماوية. فلقد حسبوا وزن الأرض من جذبها طناً من الرصاص (مثلاً) أو من جذبها القمر أو غيره من الكواكب
وهكذا توصل الإنسان بفضل قانون الجاذبية وبفضل ما أخرجته (الرياضيات) من معادلات ونواميس من الإتيان بالعجب العجاب وبالسحر يخلب الألباب!. . .(294/42)
القمر والتجارة
ما علاقة القمر بالتجارة؟ أو ما علاقة التجارة بالقمر؟ وهل القمر يساعد على التجارة أو يعوقها؟
إن للقمر أكبر الإثر في أحداث المد والجزر، ولولاها لما كان في الإمكان أن تدخل البواخر إلى الموانئ أو أن تخرج منها. ومن هنا تتبين لنا علاقة القمر بمصالح الناس واتصاله الوثيق بها. ويذهب بعض الفلكيين إلى أن هذا الاتصال قوي إلى درجة أن القمر في نظرهم هو من عوامل تقدم المدنية وارتقائها، فإذا تلاشى من الوجود أو بعد كثيراً عن الأرض اضطربت التجارة واختل نظامها.
يحصل مدان وجزران في كل يوم؛ والمد هو ارتفاع الماء والجزر هو انخفاضه. ويحدث ذلك من جراء الجاذبية بين الأرض والقمر، هذه الجاذبية ليست من القوة بحيث تجعل دقائق الأرض تتحرك، ولكن مياه البحار تطيعها حسب قوتها وتتجمع في البحر من هنا ومن هناك تجاه القمر، ومن هذا وبتأثير الشمس يحصل المد والجزر. وكثيراً ما نسمع بأن للقمر علاقة بالزراعة، ولكن إلى الآن لم يثبت شيء من هذا. ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن الزراعة تتأثر (قبل كل شيء) بالحرارة، فالشمس تؤثر على النبات بحرارتها. أما حرارة القمر فهي من الضآلة بحيث أنها لا تحدث أي تأثير يذكر على النبات أو على غير النبات
ولقد قاس الفلكيون حرارة القمر وهو بدر كامل فوجدوها لا تزيد على جزء واحد من 185 ألف جزء من الحرارة التي تخرجها الشمس إلينا
وقد جرب العالم الفلكي (فلاماريون) عدة تجارب في ضواحي باريس ليتحقق مما إذا كان للقمر أي تأثير على المزروعات، فزرع بعض الخضر كالفول والبطاطس والجزر في أوقات مختلفة تطابق اوجه القمر الأربعة فلم يثبت لديه أقل تأثير في نموها. وإذا كان هناك تأثير للقمر في النبات فقد يكون من الزوابع والعواصف التي يثيرها القمر بجاذبيته للأرض
القمر والبحار(294/43)
إذا نظرنا خلال التلسكوب إلى القمر فأنا نراه غير مستوٍ كثير الارتفاعات والفوهات البركانية. ويقال أن عدد هذه الفوهات يزيد على ستين ألفاً يبلغ قطر بعضها 140 ميلاً وعمق البعض الآخر 18 ألف قدم. أما الارتفاعات فهي سلاسل لجبال كثيرة، فهناك من السلاسل ما يمتد إلى أربعمائة وخمسين ميلاً، ومنها ما يشتمل على أكثر من 3000 قلة أعلاها جبل (هيجنز) ارتفاعه 21000 قدم وهو أعلى من (أفريست) أعلى جبال الأرض. وكذلك يوجد على سطحه سلسلة تعرف باسم (الألب) تشتمل على 700 قنة من قنن الجبال ولها وأد طوله أكثر من ثمانين ميلاً وعرضه يزيد على خمسة أميال
ولهذه الجبال ميزات لا نجدها على جبال الأرض، منها عدم وجود مغاور وكهوف ومنها جمال مناظرها الخلابة وما لها من ظلال تفي على ما تحتها من صحارى. هذه الجبال سهلة التسلق لا يجد الإنسان صعوبة أو مشقة في السير عليها أو التسلق إلى أعلاها، بل يشعر بخفة وسرعة ما كان ليشعر بهما لو كان يتسلق جبال الأرض. وإذا صدف أن زلت قدماه وهوى من محل عال فلا أذى يصيبه، ولا ضرر يعتريه. وقد يستغرب القارئ من هذه التفصيلات، وقد يختلط الأمر عليه فيظن أن القمر موطن المعجزات وموطن السحر. ولكن لا معجزات ولا سحر، فكل ذلك آت من ضعف جاذبية القمر إذ قوة التثاقل تعدل سدس مقدارها على الأرض
هذه هي التي تجعل المستحيل هنا ممكناً هناك (على القمر)، وتجعل المعجزة هنا أمراً عادياً هناك، وتجعل من الحركات الصعبة هنا سهلة هناك باستطاعة من (يزود نفسه بالأكسجين) وغير ذلك من الألبسة الواقية من الحر الشديد والبرد الشديد - أن يقوم بها ويتفنن فيها
وفي القمر أودية كثيرة يربو عددها على عشرة آلاف واد، منها ما هو واسع جداً كالسهول الفسيحة ومنها ما هو ضيق فيبدو كمجاري الأنهار
وإذا نظرنا إلى القمر حينما يكون بدراً واستعملنا نظارة صغيرة لذلك رأينا أنه ملئ بالبقع المنيرة التي هي جبال عالية، وبقع أخرى مظلمة هي سهول فسيحة. وقد ظن العلماء في أول الأمر أن هذه البقع المظلمة بحار فسميت بأسماء البحار كبحر الزمهرير وبحر الرطوبات وبحر الخصب وبحر الرحيق وبحر الغيوم(294/44)
وعلى ذكر البقع يقول أحد الفلكيين أن هذه البقع لم تعرف إلا عند اختراع النظارات، ولكن رأيت في الشعر العربي ما يدل على أن العرب عرفوا هذه البقع المظلمة قبل اختراع النظارات
من ذلك ما قاله التهامي:
فبات يجلو لنا من وجهها قمراً ... من البراقع لولا كلفة القمر
القمر من الأرض
لاحظ العلماء أن كثافة القمر تقرب جداً من كثافة الصخور الموجودة في أعماق الأرض، وثبت لديهم أن العناصر التي يتألف منها القمر هي نفس عناصر جوف الأرض؛ ومن ذلك تحققت النظرية القائلة بأن القمر كان يوماً من الأيام جزءاً من الأرض انفصل عنها من المكان الذي هو اليوم قاع المحيط الهادي؛ وهذا يطابق رأي العالم الإنكليزي (جينز) الذي يرى أن التوابع أو الأقمار ليست إلا قطعاً انتزعت من السيارات كما انتزعت السيارات من الشمس على أثر سلسلة من الحوادث تشبه أن تكون واحدة في الحالين
أما الدكتور علي مصطفى مشرفة بك فلا يميل إلى هذا الرأي ولا إلى الأخذ به لأن الأرض (على رأيه) كانت في حالة سيولة عندما انفصل القمر عنها
وقد يكون من الطريف أن يعرف القارئ أنه لما انفصل القمر عن الأرض وافلت إلى الفضاء نشأ (على رأي الأستاذ بكرنج) انفصال أمريكا عن أوربا فكان الأوقيانوس الأتلنتيكي وكان ذلك عندما كانت الأرض مائعة أو شبه مائعة
اقتراب القمر
قد يظن البعض أن اقتراب القمر من الأرض مما يزيدها جمالاً ومما يغمرها بهاء وسناء وسحراً، ومما يجعل الإنسان يتمتع بنوره وبأشعته الفضية أكثر من تمتعه الحاضر. قد يكون هذا الظن في محله فينعم الإنسان حينئذ بمناظر القمر ويجد فيها كل الجمال وكل المتاع
ولكن ذلك لا يكون إلا بثمن؟ وعلى حساب كوارث وبلايا تصيب الأرض من اقترابه منها. فعلى فرض أن هناك من العوامل ما يقرب القمر من الأرض وما يجعله على بعد ستين ألفاً(294/45)
من الأميال فقط فحينئذ يزيد المد والجزر 64 مرة. وإذا كان ارتفاع المياه عشرة أمتار فسيصبح 640 متراً وستغمر الموانئ والمدن وما يجاوزها، وقد يلتقي من جراء ذلك البحران الأبيض والأحمر ولا ينجو من اليابسة إلا القليل كالجبال والربوات العالية
وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى الملاحة فلا تعود تأمن سلوك البحار ودخول الموانئ.
منظر الأرض من القمر
إذا تصورنا أنفسنا على سطح القمر ولدينا ما يلزمنا من الأكسجين وما يقينا من الحر والبرد فكيف نرى منظر الأرض؟
وهنا يختلف الوضع عن منظر القمر من الأرض، فلا إشراق ولا مغيب لأن أحد وجهي القمر يبقى متجهاً إلى الأرض دائماً، وأذا اتفق أن ذهبنا إلى الوجه الآخر فلا نستطيع رؤية الأرض بحال ما، وتبدو الأرض كالقمر ولكن أكبر منه، لا تغير مكانها في الفضاء تظهر في بعض الأحيان مظلمة وفي أحيان أخرى منيرة كلها أو نصفها أو ربعها. أما جمالها فيتجلى عندما تكون بدراً إذ يكون ضوءها شديداً أخاذاً.
أما السماء المحيطة بنا ونحن على سطح القمر فغير السماء التي نعرفها، لا شفق هناك ولا سراب، ولا سحب ولا ضباب، نرى الشمس على حقيقتها كرة هائلة في سماء حالكة الظلمة شديدة السواد، ضروها ساطع، ولونها إلى الزرقة مائل. قد يبدو هذا غريباً، ولكن ليس في هذا أي غرابة، فلا جو حول القمر يشتت الضوء ويحلله إلى ألوانه، ولا امتصاص ولا انعكاس لهذه الألوان. وهذا ما يجعل السماء تبدو سوداء ليس فيها ما نراه في سماء الأرض من جمال فاتن وألوان مختلفة خلابة.
نرى القمر عالماً هادئاً يطيب للمفكرين فلا زوابع ولا عواصف ولا غبار تعكر السكينة وتفسد الهدوء، عالماً يكتنف الجبال الكثيرة ويحوي الوديان والفوهات العديدة حيث لا مدن ولا غابات، ولا حقول ولا بحار
القمر والشعراء
لا تعجب من هذا العنوان: فهناك علاقة وثيقة بين القمر والشعر، وكيف لا يكون هناك(294/46)
علاقة والقمر هو الجرم السماوي الذي لفت أنظار الشعراء وشغلهم، وهو الوحي الذي يستهلون منه، كما أنه المعين الذي يغرف الأدباء منه الخيال؛ وقلما تخلو قصيدة غزلية من التشبيه به أو التحدث عنه. لا يفارق مخيلتهم، يأخذون من تزايده ونقصانه ومن اكتماله بدراً ومن أشعته الفضية - ميداناً لنظم الشعر ومسرحاً للأدب الرفيع
ولا أدري لماذا كل ذلك؟
إني على يقين أنهم (الشعراء والأدباء) غاضبون حانقون لما ورد في هذا المقال من حقائق، وأقول كما قال الأستاذ توفيق الحكيم (إن كل الجمال المحيط بنا إنما هو من صنع عيوننا القاصرة. والويل لنا إذا أبصرت أعيننا الآدمية أكثر مما ينبغي لها أن تبصر. . .)
ولئن أبصرت عيوننا أن القمر خال من الهواء، وإن نهاره محرق وليله بارد لاذع، وإن أشعته مستمدة من الشمس وهي أشعة أكذب من سواد الخضاب في اللمة البيضاء
ولئن أدى البحث إلى أكثر من هذا فصنع لنا عيوناً نبصر بها فوهات براكينه المخيفة، ووديانه الموحشة، وأراضيه المقفرة؛ أقول لئن أبصرت عيوننا كل هذا وفجعتنا في القمر، فلقد دلتنا عيون العلم الحادة إلى ما هو خير منه وأبانت لنا الشمس على حقيقتها وأماطت اللثام عن روائع كثيرة ما كنا لنعرفها أو نبصرها بعيوننا الآدمية القاصرة
كشفت لنا عن الشمس وأنها باعثة الجمال على القمر ومصدر الحياة على الأرض، ولولاها لما دارت الأرض ولا دار القمر
فلماذا إذن لا يتغنى بها الشعراء والأدباء؟ ولماذا ينكرون عليها خيراتها وبركاتها
ولئن جحد الشعر والأدب افضال الشمس عليهم وعلى الناس فلقد انصفها العلم ورعى حقها وبوأها مكانها اللائق بها وبما تسديه إلينا من نعم لا تحصى ولا تعد
وأخيراً أعزى الشعراء عن حبيبهم القمر بقول المتنبي:
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(294/47)
التاريخ في سير أبطاله
محمد شريف باشا
كان شريف في عصره رجلا اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال
للأستاذ محمود الخفيف
كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب وإلا لما كان له ما كان من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معاً أمام لجنة من الأجانب تريد أن تظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشد الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان ذلك الغضب ثورة؛ وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت أمام الأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل رجلها ورأس أبطالها
ورب قائل يقول وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الابتعاد عن الميدان رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ ما وصل إليه نفوذ الأجانب يومئذ، ومبلغ ما مني به المصريون من خور، وما عرف عنهم من الحرص على المناصب الحكومية، يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية. هذا إلى ما سبق الاستقالة من تحد للجنة وسلطانها. ولو أن الخديو آزر شريف يومئذ لما ترك منصبه تاركاً اللجنة بذلك في أحرج المواقف ممعناً في عصيانه وترفعه. . . ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة في لهجة تشبه الرجاء أن تكتفي من شريف أن يرد على أسئلتها كتابة. ولما رفضت اللجنة ذلك لم يرد الخديو عليها بعمل أو بقول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهراً من مظاهر الاحتجاج على تدخل الأجانب في شؤون البلاد، فكان ذلك المظهر أول نذر الثورة. . .
أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة. ولقد جعلت اللجنة هدفها بطبيعة الحال العمل الصالح للدائنين، ولذلك فلم تأل جهداً في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة(294/48)
الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جره جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غدر وبهتان وزور واختلاس.
تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلاحون يومئذ من شقاء، ولم تراع في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيراً ما يفرون من أرضهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيل جارف لم يكن أقل هولاً عليهم من سيل الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم المرابون والأمراض معاً وباتوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه
وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون بها من الجمارك ثم لا يدفعون عنها شيئاً داخل البلاد في ظل تلك الامتيازات المشؤومة التي كانت من أكبر المساوئ التي منيت بها مصر والتي قل أن يجد المؤرخ مثيلاً لها فيما كانت تتضمنه من الجور، وما كانت تقوم عليه من الباطل والبهتان؛ وكذلك تغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين تزايد عددهم في الحكومة المصرية، والذين كانوا يتقاضون الأجور العالية جزاء على ما اتصفوا به من الكسل وقلة المروءة وجمود العاطفة؛ بينما كانت مرتبات الوطنيين لا تدفع لهم إلا في مشقة وعناء وهي من القلة بحيث كانت تحفز الكثيرين إلى الاختلاس والتهاون في العمل.
واقترحت اللجنة في قرار تمهيدي أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة إلى وزراء مسؤولين، وإن ينزل عن أملاكه في نظير مرتب معين، وكذلك تنزل أسرته عن أملاكها. . . كل ذلك دون أن تفكر اللجنة في أن يتنازل الدائنون عن شيء من ديونهم وهي تعلم كيف تراكمت تلك الديون وكيف تزايدت أرباحها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه
وقبل الخديو تأليف الوزارة المسؤولة فاستدعى نوبار من أوربا وعهد إليه تأليف وزارة يتضامن أعضاؤها في التبعة وتقوم بالحكم في البلاد، ونظر المصريون فإذا وزارة المالية تسند إلى رجل إنكليزي، وإذا وزارة الأشغال تسند إلى رجل فرنسي، وهكذا سيطر الأجانب على مصر سيطرة تامة!
ومن غريب أمر هذه الوزارة أنها بينما كانت تسمى (وزارة مسؤولة) لم يكن لمجلس(294/49)
شورى النواب حق إسقاطها بل لم يكن له حق محاسبتها، ولم يك للخديو سلطان عليها، ومع ذلك كانت تلقب بذلك اللقب! فليت شعري كيف كانت مسؤولة ومن كان إليه يرجع الأمر يومئذ؟
كان الوزيران الأجنبيان هما صاحبي السلطان الحقيقي في البلاد، فلئن كانت ثمة مسؤولية على نوبار ومن معه من الوزراء المصريين فأمام الأجانب كانت تلك المسؤولية، وعلى ذلك فمن هذه الوجهة يصح تسمية تلك الوزارة بما سميت به، أما أن تعتبر وزارة مسؤولة كالوزارات التي يكون للشعوب حق محاسبتها وإسقاطها من مناصبها فتلك سخرية من سخريات الأجانب كانت في ذاتها من أبلغ نكاياتهم يومئذ بالبلاد وأهل البلاد
ولكن شريفاً كان عضواً في تلك الوزارة، أسندت إليه وزارة الحربية، وحل محله رياض في الداخلية. ولنا أن نتساءل كيف قبل شريف أن ينضم إلى تلك الوزارة؟ والذي نستطيع أن نستخلصه من حوادث ذلك العهد وملابساته أنه فعل ذلك على الأرجح لأن الخديو كان يرى فيه يومئذ الرجل الذي يستطيع بما أوتي من شجاعة وثقافة أن يراقب أعمال نوبار ومن معه من الأجانب، وفي هذا من الغض من شخصه ما لم يكن يسعه السكوت عليه
على أن شريفاً على رغم ثقة الخديو به وإيثاره إياه بالمحبة كان يكره استبداد الخديو بالأمر بقدر كراهته لنفوذ الأجانب، وكان يضمر ذلك في نفسه حتى تحين الفرصة كما سيظهر من أعماله عما قريب
وسرعان ما دب الخلاف بين الخديو ووزرائه أو على الأصح بينه وبين نوبار والعضوين الأجنبيين، فلقد كان في الوزارة رجال غير شريف يدينون بالولاء لحاكم البلاد الأعلى ومن هؤلاء علي مبارك ورياض. . . وتزايد هذا الخلاف حتى أصبح إسماعيل ولا هم له إلا أن يتخلص من تلك الوزارة التي لم تترك له من السلطة إلا اسمها
وسنحت له الفرصة في حادث مظاهرة الضباط، فإن نفراً من الضباط الذين استغنى عنهم عملاً بسياسة الاقتصاد قد تجمهروا أمام وزارة المالية واعتدوا على نوبار والعضو الإنكليزي السير ريفرزولسن، وكادوا يلحقون بهما الضرر البالغ لولا أن شخص الخديو بنفسه وفرق المتظاهرين. . . وأعلن إسماعيل على أثر ذلك أنه غير مسؤول عن شيء في البلاد ما دام محروماً من السلطان ومن ثم رأى نوبار أنه لا قبل له بمواجهة الحال بعد ذلك(294/50)
فرفع إلى الخديو استقالته، وبذلك تخلص الخديو وتخلصت البلاد من تلك الوزارة التي اعتاد الناس أن يسموها الوزارة الأوربية
وإنا لا نستطيع أن نمر بحادث الضباط هذا دون أن نشير إليه ولو في أيجاز، فنقول إن هذا الحادث كان أول خطوة في الحركة العسكرية التي سوف تكبر حتى تكون الجانب العسكري في الثورة العرابية، ذلك الجانب الذي سوف يفسد على الثورة مبادئها ويميل بها عن وجهتها ويكون في النهاية سبب فشلها وتحويلها إلى كارثة تجرف البلاد إلى هوة بعيدة القرار. . ذلك الجانب الذي كان له بسيرة شريف صلة وثيقة، فلسوف نرى أنه لا تطوف العرابيين وشططهم لسار شريف بالبلاد سيراً كان يصل بها بلا شك إلى غاية لو أنها أتيحت لها لتغير بها تاريخها واتجه وجهة غير التي سيق إليها
وكانت تولد بالبلاد يومئذ حركة وطنية قوية، حركة سوف تلتقي فيما بعد بالحركة العسكرية فيتألف من التيارين تلك الثورة التي تعمد كثير من المؤرخين تشويهها والتي أخطأ فهمها عدد منهم ليس بالقليل حتى تبينت آخر الأمر على حقيقتها. . .
وكان لتلك الحركة الوليدة مركزان أولهما المركز الرسمي وهو مجلس شورى النواب، وثانيهما المركز الأهلي وهو بيت البكري حيث كان يلتقي الأحرار من العلماء والنواب والأعيان. . وبهذين المركزين كان شريف دائم الاتصال لا يسهو ولا تفتر له همة
كان شريف دائم الصلة بالنواب أن جاز أن نسمي أعضاء المجلس على حالتهم هذه نواباً؛ وكان يتمنى أن يتخذ منهم قوة يناوئ بها الأجانب ويحد من سلطان الخديو، ولن يتم ذلك فيما يرى إلا أن يكون الوزراء مسؤولين أمام هذا المجلس كما هو الحال في المجالس الأوربية التي تسير على القواعد الدستورية. ولقد بذل شريف جهداً محموداً في إنشاء هذا المجلس وظل يتعهده بنصحه ورعايته، وأنه ليأمل أن يتطور مع الزمن حتى يصبح هيئة لها مكانها في النظام الحكومي في مصر
وكان شريف يرقب حركة هؤلاء الأحرار من الرجال الذين كانوا يجتمعون في بيت البكري، وكان لا يفتأ ينصح لهم ويشير عليهم بما يعملون، وإن له بينهم لمكانة تجعله مناط آمالهم ومعقد رجائهم، وما أشبه تلك الظروف بظروف مصر غداة الهدنة التي انتهت بها الحرب العظمى يوم كان الرجال يجتمعون خفية يفكرون في مصير بلادهم ويتجهون(294/51)
بأفكارهم وإن لم يقصدوا إلى رجل بعينه يحسون أنه سيغدو عما قريب زعيم ثورتهم
سقطت الوزارة الأوربية ولكنها ألفت من جديد برياسة الأمير توفيق، فلقد رفض قنصلا إنجلترا وفرنسا أن يرأس إسماعيل نفسه الوزارة كما طلب. ولقد أرادت الدولتان على لسان قنصليهما أن يدخل نوبار الوزارة الجديدة فرفض الخديو وصمم على الرفض ورأت الدولتان مبلغ حرص إسماعيل على إبعاد نوبار، فاشترطتا انهما تقبلان ذلك إذا أعطى العضوان الأوربيان في الوزارة حق (الفيتو) على قرارات مجلس الوزراء، ورضى إسماعيل بذلك فصار للعضوين الأوربيين حق إيقاف أي قرار لمجلس الوزراء لا يوافقان عليه؛ ومعنى ذلك انهما صارا يحكمان البلاد حكما ديكتاتورياً لا يدع للخديو في مصر سلطة أو ظلها!
وآن لمجلس شورى النواب أن يخطو خطوة ما كان أعظمها من خطوة؛ نمى إلى المجلس فيما نمى إليه من أنباء الوزارة الأوربية أنها تأتمر بالمجلس وتنوي التخلص منه فصمم الأعضاء ألا يتفرقوا وإن يظلوا في أماكنهم للنظر في شؤون البلاد في تلك الآونة العصيبة. . . ألسنا نرى في ذلك صورة مما حدث في فرنسا في مستهل عهد ملكها لويس السادس عشر، حين اشتدت الضائقة المالية ورأى نواب الشعب وجوب العمل على وضع حد لسوء الحال؟ لقد أدت الظروف إلى أن يصبح مجلس شورى النواب تلك الهيئة التي لم يكن لها حول ولا قوة - هيئة تحاسب الوزراء وتملك حق إقصائهم عن مناصبهم إذا ما تهاونوا في حقوق البلاد
لقد كان لشريف الفضل كل الفضل فيما وصل إليه المجلس من حقوق حتى ليعد شريف بذلك مؤسس الحركة الدستورية في مصر.
كان المجلس في وزارة نوبار قد أرسل إلى السير ريفرزولسن وزير المالية يدعوه ليحضر أمامه ليسأله عن بعض الأمور، فسوف وما طل ولم يحضر أو يرسل إلى المجلس شيئاً مما طلب المجلس أن يطلع عليه من المشروعات؛ وضاق المجلس بما فعل وزير المالية وأصبح يفسر عمله بأنه إهانة موجهة إلى الأمة في أشخاص نوابها
وفي وزارة الأمير توفيق استصدر وزير الداخلية رياض باشا أمراً من الخديو إلى النواب بأن مدة مجلسهم قد انتهت فعليهم أن ينفضوا؛ وذهب رياض يتلو على النواب هذا الأمر؛(294/52)
وهنا وقف النواب وقفة جديرة أن تفخر بها مصر فيما تفخر به من مواقف البطولة، فلقد رفضوا أن يذعنوا، وهددوا رياضاً بما عساه أن يقع من الحوادث في البلاد تجاه سياسة الوزارة، وجعلوا تبعة ذلك عليها. . ولكم نرى من أوجه الشبه بين موقف هذا المجلس ومجلس طبقات الأمة في فرنسا حين وقف فيه نواب العامة يتحدون قرار الملك أثر صيحة ميرابو المدوية التي نقلت تاريخ فرنسا من فصل إلى فصل
ولكن النواب هنا لم يكونوا في الحقيقة يتحدون الخديو، ولقد كانوا يعلمون أنه يعطف على حركتهم ليتخلص بهم من تدخل الأجانب في شؤون مصر، ذلك التدخل الذي حرمه كل سلطة وإنما كان النواب يتحدون الوزارة الأوربية ويريدون أن يأخذوا السبيل عليها
وكانت مطالب المجلس يومئذ تنحصر في المسألتين الدستورية والمالية، أما أولاهما فتتلخص في أن تكون الوزارة مسؤولة أمام المجلس بحيث يصبح هيئة لها مكانها الفعلي في حكومة البلاد، وأما الأخرى فمؤداها أن يبحث المجلس المسألة المالية دون الأجانب وإن يقرر في أمر الدين والضرائب ما تمليه عليه مصالح البلاد.
وأصر النواب على تلك المبادئ فكانت حركتهم هذه حركة قومية بأوسع معاني تلك الكلمة؛ وكان يظاهر النواب أحرار البلاد من العلماء والأعيان والتجار، الذين لم تنقطع اجتماعاتهم في بيت البكري. وأخيراً اتفقت كلمة الجميع على أن يتوجهوا إلى الخديو بما عرف باسم اللائحة الوطنية، وفيها يعترض النواب على اقتراحات ريفرز ولسن التي كانت ترمي إلى إعلان إفلاس مصر، ويقررون أن إيرادات مصر تفي بدفع ديونها؛ ويطلبون إلى الخديو تقرير مبدأ مسؤولية الوزارة أمام المجلس وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام هذه الوزارة الأوربية التي ضاقت بسياستها البلاد. . .
ولقد وضعت هذه اللائحة لجنة من النواب تحت إشراف شريف؛ فكانت هذه اللائحة الخطيرة كبرى حسناته إلى هذه البلاد كما كانت أهم خطواته السياسية وأبعدها في مجرى الحوادث اثراً؛ ووقع على اللائحة ستون من أعضاء المجلس ومثلهم من العلماء وفي مقدمتهم شيخ الأزهر والبطريرك والحاخام، كما وقع عليها عدد كبير من الأعيان والتجار والموظفين والضباط، ورفعت بعد ذلك إلى الخديو فرأى أن قد حان الوقت ليوجه إلى النفوذ الأجنبي ضربة قوية، فالبلاد من ورائه تؤيده وتشد ازره، ولذلك لم يتردد في الموافقة(294/53)
على اللائحة، وسرعان ما هزت فعلته البلاد هزة قوية، هزة الفرح بانتصار الحركة الوطنية والأمل في مستقبل تحطم فيه البلاد أغلالها وتنعم فيه بالراحة والرخاء
واستقالت وزارة توفيق، فاتجهت الأبصار إلى شريف وأنفقت عليه القلوب والأهواء، فما لبث أن تضاعف سرور البلاد بأن أسندت إليه رياسة الوزارة الوطنية، واصبح شريف زعيم الحركة الوطنية ورئيس وزارة الأمة فكان بذلك في مصر صاحب الرياستين
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف(294/54)
قلت لنفسي. . .
لا أدري لأية حكمة قضى الله على قادة العرب أن يختلفوا دائماً في
الأسماء دون الأفعال، وأن يدعوا الموضوعات وينصرفوا إلى
الأشكال؟ ما هذه العصبية الجاهلية التي عجزت عن محوها الحنيفة
المؤلفة، والمدنية المهذبة، والثقافة المتحدة، والآلام المشتركة،
والخطوب التي تكفكف النفوس الأثرة، وتطرف العيون الرغيبة؟!
هذه القضية المصرية لم يصبها بالضعف والبطء والتأخر إلا تكالب الزعماء على الرياسة، وإقحامهم الأهواء الحزبية في باب السياسة، ووزنهم الأمور العامة بميزان المنفعة الخاصة؛ فزهق الحق، ونفق الزور، واستخذى المنطق، وطاش الرأي الحصيف بين غفلة الشعب وأثرة القادة!
كذلك سياسة الأحزاب في سوريا والعراق، لم تخل يوماً من هذا النفاق ولشقاق. وهذه قضية فلسطين يجتمع لحلها وفود الدول العربية، وتتفق على أمرها الأحزاب الإنكليزية، وتتحد في سبيلها الطوائف اليهودية، ثم لا يختلف إلا أقطاب الرأي فيها! وقد اشتد هذا الخلاف واحتد حتى أوشك أن يقطع أسباب الأمل، وأن يحول بين المؤتمر وبين العمل!
حتى الأدب والثقافة! لابد أن يكون لهما زعامة وخلافة، ثم يختلفون في مقر هذا السلطان، أفي مصر يكون أم في لبنان؟. . . فهل فرغنا من الجد يا قوم حتى نشتغل في بهذه الصغائر؟ أم عجزنا عن استبطان الأمور فوقفنا عند الظواهر؟
ابن عبد الملك(294/55)
عند الثلاثين
للأستاذ محمود الخفيف
تَمهَّليِ والْتًفتيِ لَفْتةً ... لا تَذهَليِ عَنْ دَهْرِكِ الرَّاحلِ
لا تَعبْسيِ مَا إن تُرى لَذَّةٌ ... أشْهىِ مِنَ الآمالِ للآمِلِ
عِنْدَ الثلاَّثِينَ قِفيِ ساَعَةً ... وَجَاوِزي الْيَمَّ إِلَى السّاحِلِ
هَذَا هُوَ الماضِي فَماذَا تَرىَ ... عَيناَيَ مِنْ طَيفْ لَهُ مَاثلِ؟
مَطارحُ الأيّام مَبسْوُطةٌ ... كَمْ بَيْنهاَ من أَثَر حَافِلِ!
كَمْ اجْتَلىِ يا نَفْسُ مِنْ صورةٍ ... عَرَفْتُها فيِ عَيْشيَ الزائلِ
كَمْ بَهْجةٍ قَدْ بِتُ يا وَيْلتاَ ... في شُغُلٍ عَنْ ذِكْرهاَ شاغل!
أرَى وَكَمْ يُبْهجُنيِ أَنْ أَرَى ... مَسارحي في قَرْيتيِ الضاحِيةَ
هُناَكَ حَيْثُ الأمن مَمْدُودةُ ... ظَلالُهُ والِبشْرُ وَالعَافَيه
هُناكَ حَيْثُ الحسنُ رَفّافَهٌ ... طُيُوفُهُ للأعْيُنِ اللاّهِيهَ
وَحَيْثُ تَحْلو الأرضُ مَنْضُورَةً ... وَيعْلقُ السِّحْرُ بهاَ خَالِيهْ
وَتُعجبُ الأدْوَاجُ فَيْناَنةً ... وَمَا خَلَتْ مِنْ رَوْعةٍ عَارِيةْ
هُنَاكَ حَيثُ الصَّمتُ أُنشُودَةٌ ... لا تَفتَأُ النَّفسُ بِهاَ شَادِيَه
فيِ جَنَّةٍ عِشتُ زَمَاناً بِهاَ ... يا لَيتَ ليِ أيّامَهاَ ثَانِيَهْ
هَذِى هِيَ السَّرحَةُ في ظِلِّهَا ... أبْنُ ثمَانٍ في الضُّحَى يَلعَبُ
في ثغرِهِ مِنْ بَسَماتِ الرِّضَى ... مِثلُ ابِتسَامِ الزَّهرِ أو أعذَبُ
وَعَينهُ مِنْ لَمَحَاتِ المُنَى ... كَمَا انجَلَى في أفِقِه الكوكب
مِثلُ فَرَاشِ الرَّوْضِ في لَهِوِه ... وَدأبِهِ لَكِنَّهُ أوثَبُ!
دنياه هذى النَّخلُ. فيِ جَانِبٍ ... مِنهَا يُرَى للأعيُنِ المكتُبُ
كمْ رَتلَ الآيَاتِ فيِ مَقعَدٍ ... فِيِه وَكَم بَاهَى بِماَ يَكتُبُ
أجرَتْ له الفُصحَى بِهِ كَوثَراً ... مَعِينُهُ فيِ القَلبُ لا يَنضُبُ
يا ناشِئاً أوْحَتْ لَهُ سِحرَهُ ... شَمسٌ من الفُرقَانِ لا تَغرُبُ
يا لاعِباً لم يَدِر غَيرَ المُنَى ... كَمْ يَطرَبُ القَلبُ لمرأَى صِبَاه(294/56)
كَمْ يَسحَرُ النَّفسَ خَيَالٌ له ... يَنقلُ في تِلك النَّوَاحي خُطاهْ
فيِ عَيشِه الحَالِمِ كَمْ هَزَّهُ ... مِنْ عَالَمِ السِّحْرِ جَمالٌ رآه
أعرِفُهُ! فيِ صَدِرِه خَافِقٌ ... غَضٌّ يَرَى في الرِّيِفِ دُنيا مُناَه
هَاهُوَ ذَا فِي كَوِنِه هاَئِمٌ ... تَغَرقُ في نور الضُّحَى مُقلَتاه
هاهو ذا الكَوُن عَلَى بُعِدِه ... عَن حَاضِرِي، تملأَ عَينِي رؤاه
كَأَنما تَهزِجُ في مسمَعِي ... أصْدَاؤه اليَوْم َويَسِري شَذَاه!
مَغناَي في الرِّيفِ أرَى طَيَفهُ ... في زَحَمِة المَاضِي وفي لُجَّتِهُ
إن ذَهِلَتْ عَيناَيَ عَنْ مَوضِع ... سواهُ لَنْ تَذهَل عَنْ صُورَتِه
هذا الفِناَءُ الرَّحُب لَمْ أنْسَهُ ... والقَلبُ هيمان إِليَ فِتنْتِه
وَهَذِهِ الشُّرفَةُ يَا حُسنَهَا ... يَا حُسنَ شمْس الصُّبْح في جَبهَتِه
الأمْنُ فِيهِ بَاسطٌ ظِلَّهُ ... وَاليُمْنَ وَالإقبَالُ فيِ سَاحَتِه
وَالأهْلُ، والولدانُ من حَوْلَهمِ ... أَرْوَعُ مَا فيِ البَيْتِ مِنْ زِيِنتَه
صَلاتُهُمْ يَزْخَرُ تَسْبيِحُهَا ... بِالحَمْدِ ِلله عَلَى مِنَّتِه. . .
عِشْتُ زَمَاناً حُمَّ النوَىَ ... وَذقتُ طَعْمَ الهَمِّ مِن فرْقَتهِ
في غُرْبِتي كم مَسِّ قَلْبيِ الضَنَى ... وهَاجَ تَحْنَانيِ إِلى رُؤْيَتِه
يَا نَازِحاً عَن أهِلهِ قَلْبُهُ ... يَذُوبُ مِنْ شَوْقٍ إلى جَنَّتِه
يَسْتقبلُ الدَّرسَ عَلَى وامِضٍ ... يَسطَعُ كالكَوكَبُ مِن أمِسِه
مَا كَاَدَ يَخطُو لِلعُلَى خُطوَةَ ... حَتَّى شَأى الأقْرانَ فيِ دَرِسِه
السّبقُ مِن عَادَاتِه، طَعمُهُ، ... أشْهَى مِنَ الشَّهِد إلى نَفسِهِ
خَيَالُهُ المَشبُوبُ يُوحِي لَهُ ... ما يُبهِجُ المُرهَفَ مِن حِسِّهِ
يَلهَجُ بِالشِّعرِ فَفِي رُوحِهِ ... وَحيٌ لَهُ يُصِغي إلى هَمسِهِ
إن ضاَقَ بِالوَحشَةِ طَارَتْ بِهِ ... أجِنحَةٌ مِنهُ إلى أُنسِهِ
أوْكلَّتْ الَّنفْسُ حداها إلى ... ما أنْبَتَ العِرفَانُ من غَرْسِهِ
فيِ حَلبَةِ العِلمِ مَضَ سَابِقاً ... يَسْتقبِلُ الياِفعَ من سِنِّهِ
ما أوْهَنَ الجَهْدُ لَهُ عَزْمَهً ... في سَهلِ ما يَطْوِى وَفِي حَزنِهِ(294/57)
يُسَدِّدُ الحَزْمُ له خَطوَهَ ... وتنطوي الأيَّامُ فيِ يُمِنهِ
يَرْسِمُ آمَالاً عِرَاضاً ولا ... يَدِري من الَّدهرِ مَدَى ضَنَهِ
فِي كُلِّ ما يَقرَأُ مِن سِيرَةٍ ... صَدىً لمِا يَهجِسُ في ظَنِّهِ
فَفِي غَدٍ (سَعدٌ) بهذا الحِمَي ... يَذودُ ذَودَ اللَّيثِ عن رُكِنِه
وتارَةً ذو صَولَةٍ قاَدِرٌ ... يُصَرّفُ الأمرُ عَلَى إِذْنِهِ
أوْ مِدرَةٌ مُقتِدرٌ نَابِه ... الحقُ والقِسطاَسُ في وَزِنِه
أحَبُّ مَا مَنَّى بِهِ نَفسَهُ ... شَادٍ تَغَارُ الطَّيُر مِن لَحِنِهِ
مُقَدّمٌ فيِ قَومِهِ شِاعرٌ ... السِّحرُ والإعجاَزُ فيِ فَنِّهِ!
غَنِّى زماناً بِالمُنى حالماً ... في عُمرِهِ المزدَهِرِ النَّاضِرِ
يبيتُ جَذلاَنَ هني الكَرَى ... مُمَتعَّاً بَاُلْحلمِ الزَّاهِرِ
ماذا دهى قيثاره فاشتكى؟ ... يا ويله من حُبِه الباكِرِ!
طافت بِه من خَمرِ هذا الهوى ... كؤوسهُ. . . يا ويحِ للشَّاعِرِ
تكَشَّفَت دُنيَاهُ عن عالَمِ. . . ... يا قُدسَ هذا العالم السَّاحِرِ
ياَ حَيرَةَ الشِّعرِ لَدَى وَصِفِه ... يا زَحَمةَ الأطياَفِ في الخَاطِرِ!
هذى الرؤى تَرجِعُ رفَّافَةً ... من غَمرَة الماضي إلى ناظِرِي
يَهِدفُ لِلعِشرِينَ في نَفسِهِ ... وَحيُ الذي يخفق في جنبه
مُحَبَّبُ العِشرَةِ في وَجِهِه ... بَشَاشَةُ الوَردِ أليّ صحبه
وفي حنايا صَدرِه رُقيَةٌ ... عن الخنا والهُجرِ مَالتْ بِهِ
يا نَفَحَةَ الخُلدِ لأَنْتِ التي ... أيْقَ ظتِ هذا الطُّهرَ في قَلِبهِ
يَا ومضَةَ الُّروح جَلَبتِ الهُدَى ... وطُفتِ بالنُّورِ على هُدبِه
يَا نَسَمةَ الحُبِّ بِهَذَا الشِّذَى ... الرَّوحُ وَالرَّيْحَانُ مِن رَبِّهِ
في كُلِّ حُسن حَولَهُ لَمحَةٌ ... تُلقِى عَلَيهِ السِّحرَ مِن حُبِّهِ
والكَونُ، ما دارت به عينه ... مُلق معاني الحُبّ في لُبِّهِ
كَمْ عَادَ لَلْقرْيةَ فيِ لَهْفَةٍ ... لِلعَيْشِ في أَكْناَفِهاَ الواسِعَةْ
والصَّيْفُ في أنحائها رَائِعٌ ... بَاتَتَ بهِ أمْسَاؤُهاَ رَائِعةَ(294/58)
هُنَاكَ لاَ يَلْبَثُ حَتَّى يَرىَ ... فَتاَتَهُ بَعْدَ النَّوَى رَاجِعهَ.
هُنَاكَ كَمْ سَارَا على مَوْعِدْ ... وَاّللْيلُ يَغْشَي القَرْيَةَ الهَاجِعَه
فالتقيا لا عَيْنَ تَرْعَاهَمَا ... إِلا عُيوُن الأَنْجُمِ اللاّمِعَة
يَا قُدْسَ هذا الحبَّ في خَلْوَةٍ ... صَلَّتْ بِهَا مُهْجَتُهُ خاشعهَ
في رَوْعَةِ الصُّبْحِ يرى وُحْدَه ... جَبيِنهاَ فيِ شَمْسِهِ الطَّالِعَه
وَيَمْلأ الَّنْفسَ صَدَى صَوْتِهاَ ... والطيرُ في أَفْناَنِهاَ سَاجعه
وَينْطَوِي الصَّيفُ وَأَحلامُهُ ... والوَصْلُ في عيشه الوادِعه
يَا لَيْلَةَ التَّوُديعِ كَمْ لَوْعَةٍ ... هَاجِسَةٍ في نفسِه الجازِعه
يا حَيْرَةَ الأَعْيُنِ في مَوقِفٍ ... تُرَى بِهِ بَاسِمَهً دَامِعَه!
صَحَا عَلى اَلعُيش وَأكلاَفِهِ ... فَساَرَ سَيرَ النَّابِهِ المَاجِدِ
هذا هو الزورَق يَجري بِهِ ... يا رَحَمتَا للزَّورَقَ الجَاهِدِ
ما هذه الدنيا وأوضاعها ... كم ذا يرى مِن طَبِعهاَ الفاسِدِ!
الجاهُ فِيهَا للخنا تَوأَمٌ ... والحظَّ للِلاَّهِي وَلِلقَاعِدِ!
كمْ جَاهِلٍ يَعلُو بِهِ جَهلُه ... فيها وكم من غَاِفلٍ جَامِدِ!
وَالصَّابِرُ الَمكدُودُ يَشَقى بها ... ما أضيَعَ الآمَالَ للِحَاصِدِ
وَكم يَرَى ذو الِبرِّ من جَاحِدٍ ... وذو الحجا والفَضلِ من حَاسِدِ
والناسُ إلا قِلّةً أذوبٌ ... وحَاقدٌ يَنعَى عَلَى حَاقِدِ
مَا ضَرَّهُ من عَيشِهِ ما رَأى ... أو صَدَّهُ عن سَيِرِهِ القاصِدِ
يَحتَقِرُ الدُّنياَ وأوهَامَهاَ ... مِن طَارِفٍ فيها ومِن تِاِلدِ
يَكِيدُ لِلدَّهرِ بِأقدَامِهِ ... فَلَيسَ هذا الدَّهرُ بالكائِد!
مَا هَذِهِ الدُّنياَ لِيَشقَى بِهاَ ... أمَا تُرَى هَازِلَةً لاعِبَهْ؟
وَيلٌ لِمَنْ تَطغَى عَلَى لُبِّه ... بُرُوقُهاَ الكاذِبَةُ الخَالِبَه
يَا أيُّهاَ الباكي على حَظِّهِ ... لا يُرجِعُ الدَّمعُ مُنيٍ ذاهِبَه
عَجِبُت للشَّاكِين أيّامَهُمْ ... ما نَفعُ تِلك العِيِشة الصاخِبة؟
الهَمُّ، والدُّنَيا على حالهِاَ ... غِذاءُ هَذي الأنفُسِ الغاضِبَة(294/59)