على أن أعلى مثال للقصة الساخرة كان ولم يزل؛ مائلاً في (كرنفال كوميتون ماكنزي) وقيمتها الخالة ترتكز على ما فيها من دراسة صادقة حية لشخصية البطل، ولكني لم يكن يعنيني كثيراً منها ومن أمثالها من قصص هذا الطراز الساخر سوى بعض العبارات الملونة التي تتمتع بقسط أوفى من قوة الإفصاح وصرامة التعبير. وإني لأذكر حين كنت في مستقبلي أتحدث إلى إحدى صاحباتي ممتدحةً قصة (الكرنفال) كيف أن صديقتي قالت في أسلوب رائع من النقد الفني (أجل. . . هذا المؤلف يستطيع أن يكسو الصفحة من الورق منظراً طبيعياً ساحراً). . . وقد أغْلَى هذا من طمعي، وحسبتني مستطيعة أن أكسو - أنا الأخرى - صفحتي منظراً طبيعياً ساحراً! جعلت أتخيّله، بألوانه، وظلاله، ومشاهده، ولم تكن هذه المحاكاة يسيرة ولا قريبة المنال، فأن التزامها كان يقتضيني ثلاثة أمثال ما يلزمني من الوقت!
كنتُ إلى أن بلغت الحادية والعشرين، أُعَني بكتابة المسرحيات وحدها. لأنني كنت أودُّ حينذاك أن ألعب أدواراً في مسرحياتي إذا أخرجَتْ! وكذلك كنت أكتب الأشعار، ومن قصائدي واحدة اسمها (هنا مضحكون آخرون) لا أزال أرويها إذا ألحَّ عليها طلب حار؛ ولكنه لا يوجد! كما أنني كتبتُ ثلاث أقاصيص قصيرة حملتها بنفسي إلى محرر (المجلة القصصية) وكان في ذلك الوقت (ر. سكوتلاند ليدل). ولقد كان - على غير متوقُّع مني - إنساناً لطيفاً. انصرفتُ من حضرته بعد أن وعد بنشر أقاصيصي، وبعد أن أمضينا وقتاً طيباً في حديث طيب. وفي بضعة الشهور التالية لم أسمع شيئاً عن هذه الأقاصيص، ثم لقيت الرجل مصادفةً في شارع (أكسفورد) وما كاد يراني حتى أخبرني بأن أقاصيصي جميعها قد ظهرت في مجلته، وأنه كان الأيسر أن أترك له عنواني كي يبعث إلي بثمن ما نُشر لي!
وبعد، فقد أستطيع التحدث عن بدء كتابتي (القصة) بمعناها الصحيح. ولحسن الحظ أن الثامنة والأربعين تنظر إلي الحادية والعشرين بعطف وإشفاق، وفي غير فزع! كان الدافع لي على الكتابة هو تلك الخاتمة الفاجعة الأليمة التي انتهى بها (حُبِّي) الذي حسبت أن لا نهاية تنتظره! والذي كان غراماً شعرياً إلى غير حد!
كان (تشارلس) غضَّ السن، جذاباً ذكيَّ الفؤاد. . . التقينا في بعض حدائق (ميدنهد) ثم(278/55)
أهدى إلي نسخة من كتاب (لورنس) المسمى (ماكيافيللي الجديد). ذلك الكتاب الذي ترك في نفسي أبعد الأثر بفصوله الرائعة، وبأنه هدية من حبيب القلب!
كان مغرماً بالطائرات، ولقد حملني مرة على متن إحداها في مساء ساحر، وعدنا إلى بيته بعد أن أنتصف الليل بساعتين، ولقد تلقاني قومه في شيء من عدم الارتياح، والشك في مستقبلي ككاتبة! وعلى أي حال فأن والدته من فورها قد أخذت تعلمني كيف ترقع سراويل الرجال!
دامت خطبتنا عاماً. ولم يكن هنالك من المتاعب سوى افتقاري إلى المرانة في البيت. فقد نشأت في بيئة فتيات يهوديات من عائلات طيبة. ولم تكن هذه البيئة دينية على وجه الإطلاق. وإنما كانت تتميز بالزهد وتتشبث بأهداب الطهارة. وإني لأذكر العبارة التي كانت الفتيات يستعملنها دائماً فيما بينهن. . . (إنك لن تظفري بزوج أبداً ما لم تظلي نقية. . . وعذراء!)
وربما لم تكن هذه العبارة تعنيني وحدي، ولكنها كانت تفنى في جوي أنا. . . ربما؛ حقاً إنها لم تزل تفنى في جو حياتي إلى الآن!. .
إن شباب هذه الأيام، على قلة ثرثرتهم، يعرفون جيداً كيف يجيبون على سؤال شاب حار الدم، خطب لنفسه فتاة يحبها، وقد أمضى وقتاً طويلا وهولا يستطيع الاقتران بها لعجزه عن التغلب على بعض العوائق الاقتصادية!. أجل، إن شاب اليوم يستطيع أن يقطع برأي حاسم في مثل هذه المسائل. ولكن، حين عرضت لي نفس الظروف لم أستطع أن أصنع شيئاً، بل لم أعلم ماذا يراد أن يصنع بي. وقد ندر ما كنت أتحدث وخطيبي في هذا الصدد، بصفة غير مباشرة. وهذا من أظهر الفروق الملحوظة بين تلك الأيام، وبين أيامنا هذه!!
واعترف لي الفتى بأنه كانت له عشيقة، امرأة جميلة، ولكنها ليست (خاصة)! وكانت تكبره في السن
(بالتأكيد يا تشارلس، كان هذا قبل الآن. . .) هذا ما قلت له، دون أن أعلم أنني كنت وراء مطلب عسير، هو النقاء التام في الجسد، كما في الروح!!
لم يرض أبي عن هذه الخطبة من أول الأمر، وكثيراً ما كان يقول لي (ليس في خلق هذا الفتى شيء من الثبات، هل هو على شيء من الثبات؟ كلا!. .)(278/56)
وكنا نلتقي، كعاشقين مضطهدين، في ظل استياء أبي وتجهمه. ومضى عام كامل. . . وكان (تشارلس) مهندساً بارعاً ولكنه كان قليل الصبر على عمله المسئم الذي لم يكن يبشر باتساع في الرزق!
وفي بعض الأماسي، حيث كنت أعيش معه ومع أمه، صحب عشيقته إلى (دروري لين) وكان الصباح التالي مقروراً جهما. وكذلك كنت. وحين أقبل المساء اعترف لي بأنه لا يستطيع أن يحتفظ بأمانته لحبي أكثر من ذلك. وقذفني ببعض الألفاظ المؤلمة! فأخذتني المفاجأة شر أخذة. ثم افترقنا بوسيلة تمثيلية أكثر مما كان ينبغي!!
كيف أعالج بقية أيام حياتي؟!. هذا هو السؤال الذي ألح على خاطري بعد فشل غرامي العظيم! ولقد وثب إلى ذهني أنني لو استطعت أن أكتب قصة من روائع الفن فسأبعث الحسرة والأسف في نفس من نأى عني بجانبه. . .
وفي مخدع أنيق في (برايتون)، وبغير تحضير تقريباً، بدأت أكتب السطور الأولى من قصتي الأولى.
كان على حوائط المخدع أستار جميلة مسدلة، وكانت نيران الموقد تتلظى في لهب ساطع براق. وإني لأذكر القليل من ظروف كتابة (بانتومايم) وإن طريقتي الآن هي أن أظل أدور حول موضوع قصتي شهوراً؛ قبل أن أبدأ في تسجيل فصولها؛ مع تسطير بعض الخواطر المبعثرة على أوراق منفصلة أجمعها في النهاية فتكونِّ هيكل الموضوع الناضج الذي أخرجه للناس. وفي ذلك الحين لا بد أن أكون بدأت تسجيل فصول قصتي مباشرة، لأسري عني الألم، وأزجي الفراغ الذي كان يملأ حياتي، والذي كنت أشعر به دائماً.
وعقدت في تلك الأثناء صداقة وثيقة مع فتاة في مثل سني اسمها (روز آلاتيني) هي اليوم تحترف الكتابة باسم (لوسين ونيرايت) وكانت هي أيضا قد بدأت كتابة قصة. وكثيراً ما كنا نكتب مجتمعتين قلماً إلى قلم! وكثيراً ما كان يحدث في تروضنا بالمشي أن نقف بأسماء الناشرين المعلقة على دورهم؛ نفكر أي دور النشر الكثيرة هذه يحسن استقبالنا بعد حين؟! ولقد استقر رأينا على دار (بوولى هد) أخيراً. . .
وحدث أن كنا في بعض خلوتنا الفنية نكتب في جو حالم حين طالعنا وجه رجل أبيض الشعر معقود الحاجبين، عرفنا فيه (جون لين) ولم نشأ أن نصدمه بإخباره بأننا نكتب(278/57)
(قصتين) سنعرض عليه أمر نشرهما في القريب!
بعد فراغي من كتابة قصتي الأولى (بانتومايم) بعثت بها إلى والد (مارجريت هالستان) الذي كان قد أرضته مسرحية كتبتها منذ أربعة أعوام تقريباً حينما كنت في (الأكاديمية المسرحية) واسمها (خادم الأجم) كانت مفزعة حقاً. وكانت له في نشرها وجهة نظر خاصة.
وقرأ المستر (هرتز) قصتي فزعم أنها عمل فني من الطراز الممتاز، وكان في ذلك حسن الظن جداً، ولكنه لم يكن مصيباً. كان في القصة الإجادة ولكنها لم تكن ترتفع إلى الدرجة الأولى. بل إني لأقرر الآن أنها لم تكن أكثر من بشير بالتقدم. ولو أنه أتيح لي - الآن - أن أكتب رأيي في نفسي - حينذاك - لما زدت على قولي: (لهذه الكاتبة استعداد حسن، ولا يبعد أن تنبغ إذا استطاعت أن تقهر أخطاءها الشنعاء!)
على أن الرجل قد كتب إلي يقول إنه قد أظهر على قصتي صديقاً له يدعى المستر (جيمس دوجلاس) وقد تفضل هذا بدوره فكتب إليَّ مطرياً يقول إنه قرأ القصة، ثم دفع بها إلى صديقه (جون لين). وظننت بذلك أنني أصبحت (في عداد المؤلفين) الذي تعتمد عليه دار (بودلي هد) للنشر! ولكن (جون لين) لم يلبث أن أعاد إلي قصتي مصحوبة بقوله (إن هنالك ناشرين يرضون بأن يقبلوا هذا الهواء المزركش - على حد تعبيره - ولكن دارنا لا يمكن أن تفعل ذلك!)
وانزعجت كثيراً. . . فان قرار الرجل كان يبدو نهائياً بقدر ما كان يبدو فيه من تحقير! ولم يكن لي من قوة الروح ما يبرر لي الظن بأن (جون لين) لم يكن يدري عم يتكلم! ولم يكن يتبين العمل الجيد حين يقدم إليه. أو لم ينشر (الكتاب الأصغر)؟؟ أو لم يكشف الستار عن مئات العبقريات المغمورة
وعلى أي حال فإني لا أكاد أذكر من الذي نصح لي بأن أبعث قصتي إلى (كالثروب) وأن أسأله عما إذا كانت رديئة إلى هذا الحد!
ولم أكن لقيت أبداً أكبر الأخوة الذين يحملون اسم (كالثروب) ولكن، عندما كنت في السادسة عشرة كان (دونالد كالثروب) ممثلاً محترفاً، وكان بطلا في نظري، وكان فوق ذلك يهوى واحدة من زميلاتي بالدراسة اسمها (نيللي) وقد رغب وإياها في إخراج إحدى(278/58)
مسرحياتي، ولكن أخاه الأكبر (ديون) نصح له بالعدول، وإنما وعد بمساعدتي إذا كتبت خيراً منها في المستقبل!!
ولقد تحقق وعده على الأيام. إذ قرأ لي (بانتومايم) وما لبث أن كتب لي في تظرف ورقة يقول إنه أوصى بي وصاة خاصة عند الوكيل الأدبي لأعماله ويدعى (جيمز بنكر) وكلفه أن يرعاني. غير أنني، في قلة صبري وقلة تجاربي. لم يكن يرضيني منه أقل من أن يقول لي (إن الدنيا تحت قدميك جميعاً. تفضلي يا عزيزتي يسي ستيرن)!!
ودعاني المستر (بنكر) للقائه. فلما ذهبت إليه وسألته سبب هذه الدعوة، قال إنهم يريدون أن يكسبوا مالاً عن طريقي! وذكر لي أنهم يتبعون نفس الطريقة مع سواي وعدد لي أسماء اطمأننت إلى سماعها، وتركت له القصة، وجعلت أرتقب المستقبل!
واتفقت نهائياً على نشر القصة في سبتمبر 1913، وظهرت للناس في يناير 1914. ولم تكن هذه سنة حسنة ليبدأ أي إنسان حياته العملية!
وأنا وإن لم أقرأ القصة قراءة كاملة منذ عام 1914، إلا أنني كثيراً ما أتصفح بعض فصولها بين الفينة والفينة، فأجد فيها كثيراً من الهفوات التي أصبحت أنزه عنها أعمالي الأدبية، غير أنني أجد فيها دائماً أشياء تبعث على الارتياح
وكثيراً ما أصادف من قرائي من يقول بأن (بانتومايم) قصتي الأولى والأخيرة، وأنني لم أكتب مثلها أبداً!
بل قد يسألني بعض القراء (متى أكتب) قصة جيدة مثلها؟ فابتسم، وأقول (أرجو. . . في القريب)
احمد فتحي(278/59)
رسَالة الشعر
رحلة في الخيال القريب
في الريف
للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي
بينما كنتُ ذاهباً في السماءِ ... حائماً كالشعاع فوق الماءِ
هائماً في الوجود أَنشُد نفسي ... حيث تصفو، وأنفسَ الأَصفياءِ
هارباً من حقيقة الأرض وحدي ... سابحاً في حقائق الأحلامِ
مؤنساً وحشتي ببهجة روحي ... وينبع الجمال والأنغامِ
أتملّى الوجودَ فوق ذراهُ ... وأناغي المال تحت التراب
وأراني على جناحَيْ خيالي ... فأرى الأرضَ مثل لمع السرابَ
سارياً في حماية الله ربي ... طائراً في مسارح الملكوتِ
لست أعدو محلقاً أتغنى ... بعلاه في منطقي وسكوتي
بينما ذاك جاذبتني قلبي ... وجناحيَّ نزعةٌ للريفِ
وأنا الريفُ منبتي. وحياتي ... من نسيمَيْ ربيعه والخريفِ
فتهاديتُ أملأُ الروحَ من في ... ض الحياةِ التي يُفيضُ الوادي
ساكباً في فؤاده من شجوني ... آخذاً من شجونه في فؤادي
عابَداً في جماله مجدَ ربٍّ ... جعل الريفَ آيةً في الجمال
خضرةٌ يغمر الضياء حلاها ... ومروجٌ ملوَّناتُ الظلالَ
ليس أبهى من مشرق الشمس فيها ... تحت غيمٍ وشجوها في الغروب
ولقد يغضب الشتاء قليلاً ... فَيشي الضوءُ بالجبين الغضوبِ
يا لبدع الغمام باللون عند ال ... لون (والطيفُ) ضاربٌ (بالقوس)
فإذا البدر ما جلته الليالي ... أخذت ليلها من الفردوس
جنةٌ غير أنها في هوان ... ضاربٍ ظلّه على أهليها
كل من جاءها غريباً (تمنى) ... وابنها وحده المعذَّبُ فيها(278/60)
ساد فيها السلامُ - والسلمُ إلا ... في ظلال السيوف - ذلٌ مقيم
تعتدي فوقها الذئابُ. ونرجوا ... ورجاءُ الذئاب رأيٌ عقيم
أمَّنوا في حماكِ يا مصرُ شعباً ... ثم عاشوا عليكِ عيشَ الطريد
ربَّ قوتٍ مرارة الجوع فيه! ... وجياعٍ لم يشبعوا من ثريد
وبيوت كأنهن كهوفٌ ... أو قبورٌ بنين للأحياءِ
أقسم النور لا يَراهُنّ إلا ... من ثقوبٍ كأعين الرقباءِ
أيباع الهواءُ في مصر حتى ... تحرمون الهواَء تلك الدورا؟
ونفوسٌ أم هذه حشراتٌ ... ليت شعري أدخلتموها الجحور!
تلك أنشودة العصور الخوالي ... لو ضميرُ الزمانِ كان سميعاً
عجباً يا حمامة من بعيدٍ ... نسمعُ اللحنَ منكِ يجري دموعاً
بت أصغى إليه من كل قلبي ... آسراً لُبِّىَ الذكاءُ العطوفُ
وعليه من الأنوثة فيضٌ ... وجمالٌ، ونفحةٌ، ورفيفُ
أأحييك في العظائم عوناً! ... أم أحييك باسماً للجروحِ!
فسلامٌ عليك يا ابنةَ مصر ... وسلامٌ إلى صديقةِ روحي
إبراهيم إبراهيم علي(278/61)
القبلة الأخيرة
للأستاذ إبراهيم العريض
وقَفْنا. . ولما يُشْرِقِ البدْرُ طالعاً ... ولا سبَقْتُه في السماء نجومُها
على جدْوَل قد صقَّلتْه يدُ الصَبا ... فمالتْ مع الأغصان فيِه رسومها
وخرخرةُ الأمواهِ أثناَء جريها ... على حجَر يرفضُّ منه نظيمها
كترنيمة المانِيِّ عند عُكوفِه ... على ضوءِ نار في صلاةٍ يقيمها
وكنتُ على ما بي الحُزْن واجماً ... وكانت هي الأخرى كثيراً وجومها
فلما رأيتُ الصمْتَ طال على جَوَى ... تُزكِّيهُ أُحدانُ الدموع وتومها
وعهدي بها ما شافهتْني بغُنَّةٍ ... من اللحْن إلا واستباني رخيمها
نطقتُ اسمها همْساً لِترْفعَ رأسها ... إِليَّ فلم تفعَل ولستُ ألومها
وأنَّى تناغيني بسابق بِشْرِها ... وأنفاسُها الحرَّى تكادُ تزيمها
فلمْ يَكُ بدٌّ أن أُحدِّث بالذِي ... يَسُرُّ وإنْ غال السعادةَ شُومها
فقلتُ انظُري ياميُّ حولَكِ للصَبا ... تُرَاودُ أزهاراً فيزكو نسيمها
وللطير تشدو في الغُصون صبابة ... إلى إلفِها - لا مسَّها ما يَضيمها
وللموْج يصبو للتعانُقِ بعضُهُ ... إلى بعضِهِ من غير أيْدٍ يُقيمها
وللغيْمِ في حِضْنِ الغمامةِ يرتمي ... كما يرتمي في حِضْنِ خَوْدٍ حميمها
ترَىْ كل شيءٍ في الحياةِ مسخَّراً ... إلى الحبِّ موْقوفاً عليه نعيمها
يُخيَّلُ لي أنَّ الطبيعةَ مثْلَنا ... تحِسُّ ولولا ذاكِ ما طابَ خِيْمُها
رأتْ ما بنا من لوْعةٍ فتألَّقتْ ... كأحسنِ شيءِ شُهُبها وسديمها
لِتنجابَ عن نفسي ونفسِكِ ظلمةٌ ... من اليأسِ لا يفضي لصُبح بهيمها
فصعَّدتِ الأنفاسَ من حرَّة الجوى ... وقالت (بودي لو تعفّت رسومُها
وأيُّ عزاءٍ لي إذا شَّطتِ النوى ... بأن خاتلْتني في السماء نجومها
أتعلُم هذا آخِرُ العهد بيننا ... وتبغي سُلوِّى أي حال ترومها
أما ضمَّنا وشكُ الفراقِ هُنيهْةً ... لنبكي حياةً زال عنا نعيمها
وإن كانَ بالحبِّ استتبَّ نظامُ ما ... نراهُ كحَّباتٍ حَلاها نظيمها(278/62)
فما باُلنا نشْقَى كذا بودادِنا ... ونجْرعُ كأساً لا يُطاقُ حميمها
أما نحْن أوْلَى من طُيورِ خميلةٍ ... بألحانِ حبٍّ في الحياةِ نُديمها
أيُقضَى لنا من دُونِها بتَشتُّتٍ ... فترْضَى به إلا شتاتاً يَضيمها)
فلمْ أَتَمالكْ دونَ أن مِلتُ نحْوَها ... وبينَ ضُلوعي ما يكادُ يُقيمُها
وقلتُ (ارفقِي يا ميُّ بالنفسِ حِسْبَة ... فدْيتُكِ خوفاً أن تطيشَ حلومها
أَأَشْفَقْتِ أن تُطوى صحائِفُ حُبِّنا ... وهيْهاتَ في عَيْنيَّ خُطّ رقيمها
أبَى ليَ قلبٌ طالَ فيكِ وجيبُه ... وعينٌ هواها حيثُ أنتِ يَشيمها
بأن أتملّى جُرْعةً من زُجاجةٍ ... إذا لم يكُنْ ذكراكِ دوْماً نديمها
أأسْلوكِ؟ لا والله حتى يَعودَ لي ... شبابي وأَحْلَى الذِكرَياتِ قديمها
ولو عادَ لي حقاً إذاً لقضيْتُهُ ... كعهْدِكِ بي في لوْعةٍ اسْتَديمها
وهل أشبَهتْ دنيايَ إلا قلادةً ... بديعاً دراريها. . وأنتِ يتيمها)
فأدنتْ فماً مثلَ الأقاح مُنوّراً ... تُوَدِّعُ. والأحشاءُ دامٍ كلُومُها
وقد أرْسَلَتْ من شَعْرِها حولَ وجْهها ... ففاحَ كعرْفِ الياسَمينِ شميمها
وضمَّتْ على الصدْرِ اليَدَيْنِ كأنما ... هنالِكَ شيْءٌ بالعذابِ يسومها
فقبَّلتها ما أَسْعَفَ النَفَسُ الذّي ... احتسبتُ جنُوناً قُبلة أسْتديمها
وأشرقَ نورُ البدْرِ من خلفِ غيْمةٍ ... فغادرْتُها. . . والنفْسُ ولهى ترومها
(البحرين)
إبراهيم العريض(278/63)
أسيران
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
أيها الطائر الحب ... يس ترنم كما تشاء
أنت في أفقها الند ... ى كما كنت في السماء
حولك السحر دافق ... ما ترنمت، والسناء
أنت في ظلها الظل ... يل كما كنت في الخلاء
حولك الورد باسم ... أبد الدهر في نماء
كلما صحت شادياً ... أقبلت تسمع الغناء
ملء آذانها غنا ... ؤك ما ذاع في الفضاء
لست مثلي تضيع أل ... حانه كلها هباء
وإذا ما ظمئت جا ... ءتك بالماء: أي ماء!
لست مثلي إذا تَغَ ... نَّى بلا رجاء
وتوافيك في الصبا ... ح وتلقاك في المساء
لست مثلي يحن في ... كل يوم إلى اللقاء
حولك الخلد كله ... فلم النوح والبكَاء
ليتني ما حييت في ... أفقها أنهل الضياء
ليتني ما حييت في ... جوها أنشق الهواء
ليتني ما حييت في ... سمعها أسكب الغناء
ليتني ما حييت من ... كفها ألقط الغذاء
ليس من يشتكي الحيا ... ة كمن يشتكي الفناء
فدع النوح لا تخل ... إننا في الأسى سواء
عبد الحميد السنوسي(278/64)
البريدُ الأدَبي
أحكام الشريعة الإسلامية في تعديل القوانين
قدم نائبان محترمان اقتراحاً هاماً يتضمن (1) مراعاة الشريعة الإسلامية كلما أريد تعديل في القانون القائم (2) رد القوانين القائمة بقدر الإمكان إلى أحكام الشريعة الإسلامية (3) إدخال عنصر يمثل الفقه الإسلامي في لجنة تعديل القوانين. . . وقد سبق أن بدأ الدكتور السنهوري النضال من أجل هذه الغاية، وقد وافق مؤتمر القانون الأخير على حسبان الشريعة الإسلامية مصدراً عظيماً من مصادر التشريع العام الذي يحرص كل الحرص على خير الإنسانية وتوزيع العدالة بين أفرادها والذي نرجوه في هذه الحركة أن تقوم كلية الشريعة بنصيبها في العناية بهذا الأمر فتصل أسبابها بأسباب كلية الحقوق وتقرر دراسة القانون المقارن بها وتوسع مدى دراستها الأخرى حتى يتيسر لخريجها مشاركة إخوانهم خريجي الحقوق في دائرة اختصاصهم وبذا يتسع مجال المستقبل لأبنائها وتحيا الشريعة الإسلامية على أيديهم.
كتاب المسيو هريو عن مصر
نشر في الأسبوع الماضي بباريس كتاب المسيو هريو عن سياحته في مصر وفيه مقدمة بإهدائه إلى محمود فخري باشا وزير مصر المفوض عن باريس منوهة (بالشكر والامتنان والصداقة)
وقد قدم المسيو هريو إلى معاليه نسخة ممتازة من هذا الكتاب راجياً أن يتولى رفعها إلى جلالة الملك فاروق
شعر سافو بين أوراق البردي المصرية
ذكرت جريدة (كوردبيري لاسيرا) أن الأستاذ فوليانو اكتشف شعراً من نظم الشاعرة الإغريقية سافو. ويقيم البرفسور فوليانو عادة في برلين ولكنه يدرس آداب اللغة اليونانية في جامعة ميلانو
وكان في المدة بين سنة 1934 و1937 يدير البعثة الأثرية التي اشتغلت في مصر في منطقة تبتوتنس وإحدى المدن بالفيوم وكان من نتائج أعمال هذه البعثة أن حمل الأستاذ.(278/65)
فوليانو إلى إيطاليا 12 ألف ورقة من أوراق البردي وجدت في أم البريجات.
ويقال أن الجزء الأكبر من هذه الأوراق جاء من محفوظات إحدى الأسر الغنية التي عاشت في العهد الواقع بين الإمبراطورين طيبريوس وكومودس
وكان الأستاذ فوليانو يشتغل منذ ذلك الوقت بدراسة دقائق هذه الأوراق فوجد قطعا هامة من بينها هذه القطعة المجهولة من شعر سافو الذي يوجد نصفه الآن في برلين حيث تنسخ قبل نشرها على العالم
هتلر والسامية
لعوامل اقتصادية وسياسية أخذ الزعيم هتلر ينمي الغرور القومي في نفوس الألمان بترديد ما زعمه (رينان) ومن ذهب مذهبه من تقسيم الناس إلى آريين وساميين، وقولهم إن الآريين يمتازون في أصل الخلقة بالعقل والأصالة والكفاية والسمو.
ويرمي من وراء ذلك إلى تبرير ما يصنع مع اليهود من الاضطهاد والمصادرة والطرد، وتسويغ ما يطمح إليه من سيطرة النازية على شعوب الشرق. وفكرة هذا الامتياز لا تعتمد على أصل من العلم ولا سند من الواقع، على فرض أنك تستطيع وضع الحد الفاصل بين الآري والسامي. أما إذا علمت ما تقتضيه طبيعة الوجود من المزج الدائم بين الأجناس والتداخل المستمر بين الأمم، وعرفت اختلاف العلماء في موطن الآريين: أهو في وسط أسبانيا أم حول بحر البلطيق، فلا يداخلك الشك في أن الفكرة خرافة لا تنبت إلا في رأس مستعمر ماكر أو متعصب حاقد. والذي يعنينا من هذه الفرية أن هتلر جعل المصريين في الجنس الذي حكم عليه هو بالتأخر، ورمانا بالعجز والزماتة والانحطاط في كتابه (كفاحي) (صفحة 656 من الأصل) ونسى هذا السياسي المتعصب تاريخ المدنية وما قدمه الفراعنة والعرب للعالم من عبقريات الذهن وروائع الخيال وآيات الهداية. ولكن الدكتاتورية طغيان؛ والطغيان يتجاوز الحدود في كل شيء فلا يقف عند علم ولا منطق ولا عدالة
من نثر الأستاذ قسطاكي الحمصي
قرأت في (الرسالة) الغراء خطبة الأستاذ الفاضل السيد اسعد الكوراني في الحفلة التي أقامها الأدباء والكبراء في حلب تكريما لصاحب السعادة الأستاذ (قسطاكي بك الحمصي)(278/66)
وقد اطلعت على كتاب كريم بليغ كان الأستاذ قسطاكي بك قد بعث به إلى صاحب له أهدى إليه رسالة في مبحث علمي، فرأيت أن أنحف به القراء مضافا إلى ما رواه الأستاذ الكوراني من نثر هذا السرىَّ العالم الأديب الكبير
يا صديقي
وصلتني كلمتكم. . . فسرحت طرفي منها في روضة بلاغة نقَّطت أزهارها الغمائم، بل في عالم فضل جمع شتيت العوالم. ونقلتني سطورها الموجزة إلى الهند والصين، ورفعتني آياتها المعجزة إلى أعلى علّيين. وأبعدت بي في المكان والزمان، حتى حادثني كهنة مصر وفلاسفة اليونان. بل جاوزت بي عصور الخلق الحيواني وأحقاب ظهور النبات، بل تعدت ما قبلها من الدهور السحيقة لتكوَّن الجمادات. ثم حلقت بي على أجنحة الفكر وأقدام الخيال، فجوَّلت في العوالم الشمسية، ومن لي بشرح ذيالك التجوال. وعاينت بأعين العلم ما تعجز عن إدراكه أعيان الحس من آيات الجمال. ثم حدرتني إلى عالمنا السيّار، وسايرتني إلى آخر الإعصار. وعرَّفتني جماعة من الحكماء الكبار كباكون ونيوتن وسبنسر ودروين وكنت ولامرك وهيكل علَم المتأخرين، وكثيراً من إضرابهم من تطأطىء لفضلهم شوامخ الرءوس، ويقال عند ذكر أسمائهم: لا عطر بعد عروس. فيا حبذا كلمتك وما أوجزت، ولله درك ولله أنت. لازلت تدير علينا من صهباء فضلك كؤوسا، وتطلع من سماء معارفك بدورا وشموسا
حلب في 25 شباط سنة 922
قسطاكي الحمصي
ذلك كتاب العلم والفضل والأدب والوجاهة في مدينة سيف الدولة، وعماد الدين وابنه نور الدين، وإبراهيم هنانو، وابن يعيش، واحمد بن الحسين القائل:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد ... أقصير طريقنا أم يطول؟
وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من رده تعليل
كلما رحَّبت بنا الروض قلنا: ... (حلب) قصدُنا، وأنت السبيل
القارئ(278/67)
غاندي وتشكسلوفاكيا
كتب غاندي في جريدته (هاريجان) فصلا مناسبة المشكلة التشكسلوفاكية عاد فيه إلى مثُله العليا يجترها ويبدي فيها ويعيد، ومن رأيه أن أوربا قد باعت روحها من أجل التمتع بهذه الدنيا فترة قصيرة أخرى من الزمان. ومن رأيه أيضاً أن السلم الذي جاء ثمرة لمؤتمر ميونخ هو فوز للقوة كما إنه هزيمة لها في الوقت نفسه. . . ثم استولى على غاندي وسواسه الصوفي فعاب على التشك إذ عانهم للقوة بعد أن تخلت عنهم فرنسا ومن وراءها إنجلترا. وكان من رأيه أن يشهروا في وجه الألمان سلاح المقاومة السلبية دفاعاً عن الشرف الوطني، لأنه إذا كان من الشجاعة أن يقضي المرء في محاربة عدو يفوقه في القوة والعدد، فانه يكون أكثر شجاعة إذا رفض أن يحارب ورفض أيضاً أن يذعن. وما دام الموت هو النتيجة في الحالتين فخير للإنسان أن يكشف صدره للعدو ليقتله، من أن يمد إليه يده ليقتله، أو يملأ جوانحه بالحقد عليه) - وروح العصر الذي نعيش فيه تسمي كلام غاندي تخريفاً يريد أن يرى الناس كلهم فلاسفة. ونحن لا نشك في أن هذه الفلسفة الغاندية هي علة شقاء الهند وسبب فشلها في نضالها ضد الإنجليز. ورحم الله المتنبي حيث يقول:
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جباناً
نادي الشبان الإنجليز
في سبتمبر الماضي فكر رجال التربية الإنجليز في تأسيس ناد للشبان الذين هم دون العشرين ولا يقلون عن الخمسة عشرة سنة، وقد تأسس هذا النادي العجيب بالفعل وعقدت أولى جلساته في مساء الرابع من أكتوبر الحالي فكانت جلسة غريبة جمعت الأخلاط والأشتات من الشبان والشابات من جميع الطبقات، وستعنى وزارة التربية الإنجليزية بجلسات هذا النادي فتعين لكل منها مرشداً من أبرز رجال الفكر في إنجلترا فيحاضر الأعضاء في موضوع خاص يختاره هو من الموضوعات التي تهم الشباب والتي تؤهلهم دراستها لفهم الحياة الصحيحة والمفروض في المحاضر أنه لا يفرض آراءه على الأعضاء ولذا فهو مستعد لمناقشتهم بعد المحاضرة ولا بأس من النزول على وجهة نظرهم إذا كانوا هم المصيبين. ووزارة التربية تنشد من وراء هذا النادي تنشئة الشباب على حرية الرأي(278/68)
والاتصال المباشر بزعماء الفكر في البلاد، وبتغير أعضاء النادي في فترات قصيرة، وليس في ذلك تفويت الفرصة على من لا يحضر الجلسة لأن الأحاديث تذاع كلها من محطة الإذاعة البريطانية فيصغي إليها جميع الأعضاء الآخرين
في قول الإمام العكبري
أورد من قول العكبري في الفعل (استحيا) ما فيه الإيضاح الشافي لأن (رسالتنا) الكريمة، لسان حالها يقول مقال صاحب (الكشاف): (أنضج رأيك إنضاجاً، ولا تخدجه إخداجاً)
قال الإمام العكبري: (لا يستحي: وزنه (يستفعل) و (عينه لامه) ياءان، وأصله الحياء، وهمزة الحياء بدل من الياء، وقرء يستحي بياء واحدة، والمحذوفة هي (اللام) كما تحذف في الجزم ووزنه على هذا (يستفع) إلا الياء نقلت حركتها إلى (العين) وسكنت، وقيل المحذوف هي (العين) وهو بعيد)
(* * *)
المؤتمر التمهيدي للشباب العربي
تلبية للنداء الذي وجهه إخواننا العرب في المهجر إلى العالم العربي، أجمع فريق من الشباب - يمثل الهيئات وشتى النزعات - على عقد مؤتمر تمهيدي للشباب العربي يبحث في أهم شؤون القضية العربية من جهة، ويكون بمثابة خطوة أولى لعقد مؤتمر عربي عالمي من جهة أخرى
ولا ريب أن أهم ما يضعف الحركة القومية العربية هو انقسام أبناء الوطن العربي الواحد إلى أحزاب متنابذة متشاكسة وعدم الاهتمام برفع مستوى الشعب الثقافي والاقتصادي، وإنقاذه من الأمية والبؤس، وإيقاظ الوعي القومي الشامل، بوسائل فعالة تتجلى آثارها في ارتباط الأواصر ووثوق الصلات بين منظماته الشعبية المختلفة، فيؤدي اشتراكها في الحركة الوطنية - وهي في هذه الدرجة من الوعي والشعور المشترك - إلى نمو تلك الحركة واتساع أفقها
ولقد درست اللجنة التحضيرية للمؤتمر التمهيدي للشباب العربي هذه القضايا واتفقت بالجماع على برنامج شامل يبحث في أهم عناصر الحركة القومية العربية لتكون أساساً(278/69)
لأعمال المؤتمر التمهيدي
واللجنة التحضيرية تأمل أن تتلقى جوابكم الكريم على دعوتها لحضور هذا المؤتمر حال وصول هذا البيان إليكم، كما أنها ترجوكم إذا أردتم المساهمة في بحث نقط من نقاط المنهج المرفق بهذه الدعوة أن تبعثوا بكلمتكم إليها قبل موعد انعقاد المؤتمر بعشرة أيام على الأقل ليتسنى لها ترتيب أعماله وتنظيم شؤونه
وسيعقد المؤتمر في مدينة دمشق في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1938 الموافق لعطلة عيد الفطر المبارك
منهج المؤتمر التمهيدي للشباب العربي
أولاً: المؤتمر قومي شعبي عربي
ثانياً: يعتبر المؤتمر أن القومية العربية هي مظهر الشعور الشامل للشعب القاطن في البلاد العربية المرتبط بجامعة اللغة والثقافة والآلام والأماني والبيئة الجغرافية
ثالثاً: يعتبر المؤتمر أن الحركة القومية العربية هي الإفصاح العملي عن شعور التضامن الذي يشمل العرب في شتى أقطارهم، وهو يرى أن من أهم عناصر الحركة القومية ما يلي:
أولاً: التحرر من الاستعمار الأجنبي بالوسائل التالية:
أ - إيقاظ الوعي القومي بين سائر أفراد الشعب ومكافحة الدعايات الأجنبية
ب - تضامن العرب في سائر أقطارهم للحصول على استقلالهم وحرياتهم
ج - تحقيق التنظيم الشعبي الحر ضمن أهداف الحركة القومية العربية
د - تأمين حرية الفكر والكلام والاجتماع وسائر الحريات العامة والفردية للعرب في كل قطر من أقطارهم
أ - نشر الثقافة بين جميع أفراد الشعب
ب - تعميم التعليم الابتدائي الإجباري المجاني، وتوحيد برامج التعليم في الأقطار العربية
ج - إنشاء مؤسسات ثقافية شعبية في كل قطر من الأقطار العربية والسعي للتقرب بينها
د - تحرير المرأة بتعليمها وتثقيفها
ثالثاً: إنقاذ الشعب العربي من الفقر والبؤس بالوسائل التالية:(278/70)
أ - الانتعاش الاقتصادي العام
ب - تشجيع الإنتاج الوطني الزراعي والصناعي وحفظ ثروة البلاد الطبيعية
ج - توثيق العلاقات الاقتصادية بين الأقطار العربية والعمل على رفع الحواجز الجمركية بينها
د - رفع مستوى حياة الشعب
رابعاً: إيجاد صلة وثيقة بين العرب وإخوانهم في المهاجر ودعوتهم للمساهمة العملية في إنهاض البلاد اقتصاديا وثقافياً واجتماعياً وسياسياً(278/71)
الكُتبُ
هكذا تكلم زرادشت
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
صديقي الأديب النابغة فليكس فارس علم من أعلام البيان في الشرق العربي، عرفته العروبة على منابرها في سوريا ولبنان خطيباً مفوهاً يدعو لإحياء الثقافة العربية؛ وعرفته لغة الضاد ذائداً عن حياضها أمام تيار العجمة الدخيل؛ وعرفه الشرق العربي رسولا يرفع رسالة غيبيات الشرق أمام يقينيات أوربا الجارفة
و (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) التي أصدرها منذ عامين صرخة مدوية إلى الضمير العربي تظهر لك فليكس فارس على حقيقته. فهو ينظر للعالم من ناحية ارتضاها شعوره فسكن إليها عقله، وقبلها وجدانه فنزل عندها فكره. فهو شاعر في تفكيره وفنان في منطقه وداعية في علمه؛ ولهذا تقع على الشيء الكثير من المفارقات في كتابه، تلك التي أجليناها في نقد مستفيض نشرته لنا مجلة (العصبة) في العدد الثاني والثالث من السنة الرابعة. ذلك أن فليكس فارس رجل يؤمن بخيالات الأمس ويعيش في ذكريات الماضي، فهو يعيش في الحاضر بكيانه المادي، أما عقله وروحه فهماً في الماضي، ينظر إليه بمنظار ناصع مكبر؛ أما الحاضر فمنظاره أسود مصغر، ولهذا تجده يهيب بأهل المشرق أن يخلعوا عنهم رداء مدنية الغرب التي لبسوها في العصور الأخيرة وأن يرجعوا لفطرتهم التي تفجرت منها في الماضي أنوار الموسوية والعيسوية والمحمدية
هذا هو صديقي فليكس فارس كما عرفته من مطالعة كتابه (رسالة المنبر)
ولقد ترجم أخيراً أثرين عن اللغة الفرنسية، أولهما قصة لألفريد دي موسيه، وثانيهما كتاب زرادشت لفردريك نيتشه
وترجمة هذين الأثرين من قبل صديقنا فليكس فارس مدعاة لنا للتساؤل عن الأسباب التي دفعته لترجمتها!
يقول أديبنا النابغة في تمهيد لقصيدة (رولا) لألفريد دي موسيه وقد نشرتها له المقتطف في(278/72)
عدد مايو من هذه السنة: (إن في بذل البيان لتفكير الغير كثيراً من التضحية لكاتب أندغم تفكيره في بيانه، لأن هذا البذل يستلزم إقامة حاجز بين القوة المبدعة مما كمن فيها تذكاراً وتنسيقاً، علماً بالاستقراء وعلماً بالحس الباطني، وبين قوة التعبير تصويراً وتلويناً وتنغيماً. وفي هذا الفصل من الجهد ما لا يدركه إلا من يعانيه، ولا يعاني هذه المشقة كل من يقتحم الترجمة إطلاقاً؛ فان من الترجمة ما لا تتعدى الاقتدار على النسخ، وليس هذا النوع ما نعني، فالمترجم الذي ينقل كتاباً يبحث في صناعة أو مسألة اقتصادية لا يكون عمله إذا امتلك ناصية اللغتين إلا عبارة عن كتابة ما سطرته الريشة من الشمال إلى اليمين بكلمات يخطها القلم من اليمين إلى الشمال، ولمثل هذا العمل قيمته ولا نكر، غير أنه جد بعيد عن مجال البيان الأدبي، وليس فيه غير أثر الجهد والاطلاع والدقة، إذ لا يمكن أن يتضمن شيئاً من شخصية المترجم الأدبية
شتان إذن بين من يترجم ومن يسلخ إنشاءه عن تفكيره ليكون هيكلا سوياً من البيان تحتله روح مؤلف مبدع فنان)
ومهما يكن قيمة هذا الرأي فان عنصراً من الحق في بيان منحى الترجمة عند أديبنا. إذن فلنا أن نتساءل - ويكون لتساؤلنا محله - عن العناصر التي تكافأت بين هذين الأثرين البيانيين وبين نفس المترجم، حتى كبد نفسه جهد إسكات ما فيه من القوة المبدعة، وعمل راضيا على إعارة بيانه بلغته لتفكير غيره؟
إن في الإجابة على هذا السؤال حل مشكلة ترجمة أديبنا لهذين الأثرين دون غيرهما من تراث الأدب والفكر الغربي!
أما (الاعترافات) فهي قصة حب (الفريد دي موسيه) لـ (جورج صاند) وهي تمتاز بعمق الاحساسات وزخور المشاعر، ولكن فكرتها وخيالها ضعيفان. ذلك أن (الفريد دي موسيه) كان (رومانيا) يغلب شعوره عقله واحساساته تفكيره، ومن هنا كان لا يقدر على التحليق في أجواء الخيال. . . وهذا الطابع الذي يسم (الاعترافات) هو الذي تجاوب مع نفس المترجم، ذلك أنه من طراز المؤلف في طابعه الشخصي
هذا إلى أن القصة وإن لم يكن لها مقام يذكر في تاريخ الفن القصصي، فان أديبنا المترجم فتن بما فيها من إحساس صادق ووصف جميل، هو كل ما للاعترافات من ميزة. ومن هنا(278/73)
تجد أن المترجم نزل عن بيانه لموسيه راضياً. ذلك أن الصور والاحساسات التي منها توسيعه في كتابه قريبة من نفس المترجم ليست غريبة عنه، فهذا موسيه يرى مع فليكس فارس أن داء العصر - الذي حاول موسيه أن يصوره في مستهل كتابه فأخفق - نتيجة للمدنية الآلية. وهذا الداء ظاهرة من ظواهر اليوم في جيل شباب هذا الشرق العربي. . . ومن هنا أعتقد أن المترجم رأى في الاعترافات علاجاً أدبياً لداء العصر. ومن هنا نرى أن فليكس فارس لم يترجم كتاباً بترجمة (الاعترافات) إنما وجد في الفريد دي موسيه من يعبر عن احساساته وأفكاره تعبيراً صادقاً في (الاعترافات) فنقلها للعربية وكأنه ينشئها من نفسه
إذن فليس لنا أن نعيب على المترجم نقله كتاب (الاعترافات) إلى العربية، مهما كان رأينا في الاعترافات، ذلك أن الأفكار والاحساسات المبثوثة في (الاعترافات) تنبع من صميم نفس المترجم. فكل اعتراض عليها اعتراض على طبيعة بشرية!
أما كل ما يمكن أن يدار من البحث حول ترجمة الاعترافات فهو مقدار نصيب الترجمة العربية من روح الأصل الفرنسي، ونحن نعتقد اعتقاداً أولياً أن المترجم مهما يكن مقدار تصرفه في الترجمة، فان روح الاعترافات في أصلها الفرنسي لا شك قوية واضحة في الترجمة، ذلك أنها لا تنزل من المقدرة على الترجمة وإنما تنزل من روح المترجم
أما كتاب (زارازوسترا) لفردريك نيتشه، فان بعض الصعوبة يبدو للنظر إذا حاولنا أن نثبت وحدة المزاج بين الفيلسوف الألماني والمترجم العربي، ذلك أن المؤلف مشهور بتجديفه والمترجم مؤمن مشهور بإغراقه في التدين. . . وأين الإلحاد من الإيمان؟
ولكن لو نظرنا للبواطن، فأننا نجد وحدة في المزاج بين المؤلف والمترجم، هذه الوحدة تقوم على الإغداق والطبيعة الفنية، ذلك أن نيتشه فلسفته ليست نتيجة لقريحة فلسفية إنما هي تجربة الدنيا أملت على طبيعته الفنية ما أملت. . . ومن هنا كان نيتشه فناناً أكثر منه فليسوفاً. وروحه الفنية قديمة، وللطابع العبري نتيجة، لتأثره بالآداب العبرية التي تبحر فيها. وهذه الروح السامية هي التي أخذ بها المترجم، بما فيها من الحقائق إزاء الوحدة المتجلية للكون في روح الفيلسوف الفنان. ومن قبل التفت الأديب الناقد عباس محمود العقاد في دراسة سريعة له للمتنبي إلى أوجه الشبه بين نيتشه والمتنبي، ورأى لهما فلسفة في الحياة واحدة، نتناول سننها وصروفها، ولا تتناول مصادرها ومصائرها. ولقد وقف(278/74)
العقاد وقتئذ حائراً في تفسير أوجه الشبه بين شاعر العرب الكبير ومفكر ألمانيا وفنانها الكبير، وهو لو ذهب من ناحية الطبيعة الفنية يعلل أوجه الشبه بين الرجلين مستعيناً بالعوامل التي تكافأت مع هذه الطبيعة، لكان نجح في بحثه أضعاف ما نجح.
مضى صديقنا فليكس فارس يترجم عن نيتشه كتابه، مأخوذا بهذه الروح، ونحن نظلم أنفسنا ونظلمه ونظلم الحقيقة إذا ذهبنا نقارن بين كتاب زارازوسترا في أصله الألماني وبين ترجمته العربية، لأن أديبنا المترجم رجل أنصب تفكيره في بيانه عن طريق الاشتراك بين العلة والمعلول. . . ومن هنا كانت ترجمته سلخ لتفكيره عن إنشائه - كما يقول هو - ليكون إنشاؤه هيكلا سويا من البيان يحتل روح مؤلف مبدع صاحب بيان وفن كفردريك نيتشه. ولما كان السلخ غير مستطاع في كل الحالات كانت أفكار المترجم تتسرب إلى تفكير نيتشه فتخلتط به أو تجعل مفهوم كلامه ينحرف بعض التحريف حتى يجوز المكافأة لنطق المترجم، وآثار هذا الانحراف جلية في الترجمة، تارة في صورة تصرف، وطورا في صورة تفسير وتأويل. ومن هنا كان لنا أن نعتبر الترجمة تحمل طابعاً شخصياً يتصل بالمترجم، لا عند بيانه فحسب بل يتكافأ ومنطقه إلى حد كبير
ولا أدل على هذا من تصرف المترجم في كلام نيتشه وتأويله وتخريجه عباراته تخريجا يبعدها كل البعد عن مفهوماتها.
يقول نيتشه في فصل (بين غادتين في الصحراء) على لسان (زارازوسترا) نشيداً يستهله بقوله:
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء عليها!
يا للمهابة!
يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا!
تليق بأسد أو نذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق
إنها لروعة لم تسط عليكما يا صديقتي عندما أتيح لي أنا ابن أوربا أن أجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل.
حي على الصلاة!)
فهنا (أسد الصحراء) رمز (للنبي) رمز (لانبعاث الفضائل العليا وتمردها على الجحود(278/75)
والتضعضع في الحياة!. . . و (سلام) رمز (لحي على الصلاة!).
هذا ما يقرره صديقنا في مستهل الترجمة، ولو ذهب لتدعيم تأويله إلى عالم أخصائي في فلسفة نيتشه هو الدكتور (روبرت رينجر) أستاذ الفلسفة بجامعة فينا - الذي يظهر أنه يوافق صديقنا المترجم بعض الموافقة في تأويله - إن صح ما نقله المترجم عنه!. . .
ولكنا لو راجعنا الدكتور (رينجر) وخاصة مجلده الضخم عن نيتشه، فإننا لا نجد وجهاً في كتاباته يتفق مع تأويل أديبنا النابغة فليكس فارس.
ومع هذا فرأي الدكتور رينجر (لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، ذلك أننا نجد تفسير هذه الرموز جلية في كتاب (زارازوسترا) من مطالعة النشيد في ضوء روح الكتاب عامة. ونحن نقدر أن (أسد الصحراء) رمز للعقل الإنساني الطموح إلى نيل حريته وبسط سيطرته على حياته؛ أما الصحراء فنفهمها على أنها الحياة المتحررة. أما صرخة الأسد أمام غادات الصحراء فهي صرخة الإرادة في الإنسان الطموح لنيل حريته، وغادتي الصحراء، هنا هما فضائل الحياة، ولكن أي حياة؟. . . نرجع الحياة المستعبدة.
(البقية في العدد القادم)
إسماعيل أحمد أدهم(278/76)
المسرَح وَالسّينما
رد على رأي
الأستاذ توفيق الحكيم
في إنهاض المسرح المصري
نشرت (الأهرام) الغراء في الأسبوع الماضي خلاصة المذكرة التي قدمها أديبنا الكبير الأستاذ توفيق الحكيم إلى لجنة ترقية التمثيل العربي، فاطلعت عليها اللجنة المذكورة وأقرتها. وخلاصة هذه المذكرة هي أن الأستاذ يرى أن الملاحظ في حركات ازدهار المسرح في جميع الأزمنة وجميع البلاد أنها كانت نتيجة عوامل ثلاثة:
أولاً - رقي الجمهور الذي يرتاد المسرح
ثانياً - قيمة الكتاب الذين يكتبون للمسرح
ثالثاً - خطر النقاد الذين يذيعون أعمال المسرح
ولا ريب أن (الناقد القديم) يشكر أديبنا الكبير على مساهمته في معالجة هذا الموضوع الدقيق بتحقيق أدبي استنباطي يسرنا أن يكون أكثره متفقاً مع ما نشرته الرسالة في أعدادها الماضية حول هذا الموضوع
ولكنا نخالف الأستاذ الحكيم في قصره إنهاض المسرح على مراعاة العوامل الثلاثة السابقة دون أن يعنى قليلاً أو كثيراً بالعوامل التمثيلية البحث التي هي الأصل - كما هو معروف - في نهضة المسرح وفي تحقيق العوامل التي ذكرها الأستاذ الحكيم وهذه العوامل هي (المسرح) و (الإخراج) و (التمثيل) بمستلزماته المتعددة؛ وهي ما أسميناه في مقالاتنا السابقة (العرض). وقد قلنا في صدده ما نصه: (ولكن قيمة البضاعة هي أهم العوامل في جذب (العميل) بلا مراء. وكلما ازداد احتواؤها على الميزات والخصائص التي يرغبها ويريدها، ازداد إقباله عليها وتشجيعه لها وأنجح الفرق لدينا هي التي تميزت إدارتها بفهم مزاج الجمهور وميوله. ومع ذلك فهناك بدهيات عامة يتفق عليها الجميع دون مراعاتها إنهاض حقيقي للمسرح. . .) الخ
ونخالف الأستاذ كذلك في بعض ما اقترح لإنهاض المسرح من وسائل عملية سريعة فقد(278/77)
قال في صدد (تهذيب النقد الفني): (أما النشر في المجلات فيوزع جزء كبير منه على أصحاب الصحف المجهولة الذين يهددون ويتوعدون ويخشى من لسانهم البذيء. فطريقة الدعاية في الفرقة إذن عتيقة وينبغي أن تستبدل بالنشر في أمهات الصحف اليومية فقط ليلة التمثيل، على أن يعنى بالنقد العالي كوسيلة من وسائل الإعلان. وذلك بأن يتفق مع أربع جرائد يومية كبرى ومجلتين أسبوعيتين أدبيتين كبيرتين على أن يلحق بكل منها أديب كبير معروف يعين بالذات يكتب في كل أسبوع مقالاً أدبياً عن المسرح وتتولى الفرقة دفع أجره من حال الدعاية. بذلك تضمن الفرقة أن ستة كتاب كبار مسموعي الكلمة يكتبون عن أعمالها في ستة صحف كبيرة بمعدل مقدور كل يوم وتلك دعاية واسعة النطاق لا تعدلها دعاية أخرى، دعاية يصل صداها إلى كل الآذان المهذبة. . . الخ)
ونحن لا نحب أن نعلق على هذا الكلام بأكثر من رجائنا الأستاذ الكبير أن يذكر لنا أسماء ستة من كبار الكتاب المعروفين في استطاعتهم التحدث عن المسرح الحديث الذي يسيغه ويسير به جمهور عال ومؤلف نابغة! فإذا فعل كنا لحضرته شاكرين!
(الناقد القديم)(278/78)
العدد 279 - بتاريخ: 07 - 11 - 1938(/)
من مآسي الحياة
شيطان!
كان الناس منذ عهد قريب يقرءون في القصص الغربية أفانين من فجور النفس وقحة الهوى وبغي الفتنة، فتفيض عيونهم من الدمع رحمة للزوجة التي أعمتها الغواية، وللزوج الذي أشقته الخيانة، وللطفل الذي أيتمه الطلاق؛ ثم يُسَرِّي عنهم أنها فجائع إن تكن في الغرب فنحن في الشرق، وإن تكن من زور الخيال فنحن في حقيقة الواقع. حتى عشنا معيشة أوربا، وفتحنا دورنا لكل طارق، وصدورنا لكل متودد، فأصبح ما يجري هنا صورة لما يجري هناك، وما كان معدوداً من خداع الفن صار جارياً على نظام الطبيعة!
عرفت زوجين شابين تعارفا بالجمال وتآلفا بالحب، ثم عاشا على اختلاف الدار والجنس معيشة أهل الجنة: صفاء غير مشوب، وولاء غير مكذوب، ورخاء في ظلال النعيم والأمن يبسط المشاعر وينشر الأنس ويجمِّل الحياة
كان الزوج مثلاً في الإخلاص والرعاية لزوجه، فلا يفكر إلا فيها، ولا يسعى إلا لها، ولا يفهم وجوده إلا مضافاً إليها ومتصلاً بها. وكانت الزوجة آية في الوفاء والطاعة لزوجها، تقاسمه هم العمل، وتساهمه دعة المنزل، وتبادله رجاء المستقبل، وتتقلب معه في الشدة والخفض غير متبرمة ولا متجهمة. وكانا معاً بهجة الأسرة وأنس الأصدقاء، فلا يخلو بيتهما من سمر، ولا ليلهما من زيارة، حتى أصبحا في بيئتهما الخاصة مثلاً مضروباً في الزوجية الموفقة والحياة السعيدة
وكانت حياتهما الأوربية تقضي عليهما أن يكابدا التعرف العارض والخلاط المستمر. والعصمة من شرور الأخلاق في مثل هذه الحال لا تجد لها مناطاً إلا ثقة الزوج في الزوج، واطمئنان النفس إلى النفس. وثقة الرجل المثقف في المرأة المثقفة أصبحت في المجتمع الحديث من القضايا المسلّمة والأمور المفروضة. فلا ينبغي أن تحوم حولها شبهة، ولا يقوم عليها جدل
وكان فيمن يختلف إلى بهوهما الأنيس الباش فتى من أهل الرواء، خداع الملامح، خلاب الأحاديث، يعد نفسه في الطراز الأول من ثقافة الفكر والخلق. تقلب طويلاً بحكم منصبه في البيئات الدبلوماسية المختلفة، فحذق الكلام والهندام، ومهرَ الغناء والرقص، وأحكم(279/1)
النظرة التي تنفذ، والبسمة التي تقول، واللفتة التي تعجب؛ وامتلأ ذهنه من صور الدنيا وحوادث الناس، فكان جميل المحاضرة عذب المفاكهة حتى ليستولي على المجلس فلا يترك فيه مسمعاً إلى أحد. وكان مَذاعاً يتمزى على زملائه، ويتبجح بالحظوة عند رؤسائه، ويلقي في روع السامع أن له المكانة المرفوعة والكلمة المسموعة والغد المضمون. فاستطاع بكل أولئك أن يخدع الزوجين بمظهره عن جوهره، فكبر في نفس السيد، وحلا في عين السيدة
ودخل هذا الفتى جنة الزوجين دخول إبليس، فحرك فيها السَّموم وسَفَى عليها الكدر! فلا الزهر نفاح باسم، ولا النسيم رِخيٌّ أرج، ولا الجو بهيج طلق، ولا العش الصادح في أفياء الشجر ناعم آهل! وسوس الشيطان لحواء قال لها: إن السعادة في بيت غير هذا البيت، والثروة عند رجل غير هذا الرجل، والجاه في منصب غير هذا المنصب! وهذه المزايا التي لك على الأتراب في الجسم والفكر والطبع لم يجملك بها الله لتحبسيها في هذا القفص الشعري الذي تهدهده الأحلام على نغمات الحب والأمل. ليست الحياة كلها شعراً يا حواء! وإن بجانب النفس الشاعرة نفوساً أخرى هواها في المال واللهو والسلطان والعظمة. ومن زعم أن نعيم الدنيا في الغزل، وزينتها في الرياض، وبهجتها في المنى، فقد أنكر المعروف وتجاهل الواقع. وكان الشيطان المُغْوِي حِدْثَ نساء، فعرف كيف يندس بالخديعة إلى الزوجة الضعيفة، فأصغت إلى نزغاته بأذنها ثم بقلبها. ثم أصبحت فإذا زوجها مسؤوم، وبيتها موحش، وعيشها تافه؛ وأحست برباط الزوجية يشتد على حناياها اشتداد الوثاق على ضلوع الأسير. لم تعد الجنة في عينها هي الجنة، ولا آدم في قلبها هو آدم! وأوهمها الخيال أو الخبال أن النعيم المقيم هو في أكناف إبليس على متون السحب وربى الجبال وشطئان الأبحر. ولكن عشر سنين قضتها مع الزوج الوفي في نشوة متصلة من الحب المواسي لا يمكن أن تخفت أصداؤها العذبة في لحظة. فكانت كلما تخلصت من فعل الغواية صارحت زوجها بأنها تحب هذا الفتى حباً غطى على بصرها وبصيرتها فهي لا ترى ولا تفهم. وسألته يوماً أن يحتال لبرئها من هذا الخبل، فاتفقا على أن ترحل إلى أوربا تنشد في أجوائها المختلفة السكينة والسلو، حتى إذا أقبل الصيف وتعطل العمل لحق بها زوجها، فربما إنجاب الغشاء عن العين والقلب فأبصر الأعمى ورشُد الغوي! ولكن الفاجر علم(279/2)
بسفرها المفاجئ فطلب إجازة طويلة من الوزارة التي يعمل فها وتبعها إلى مصيفها وهي وحدها توازن في هدوء العزلة بين ماضي الزوج الواضح ومستقبل الحبيب المبهم، فأسقَط من يدها الميزان، وأيقظ في نفسها الحيوان، وأفسدها على نفسها وعلى زوجها وعلى أهلها فساداً لا يرجى معه صلاح!
ثم امتدت يد القدر تحل عقدة الرواية، فإذا الزوج وحيد يعاني غصص الألم، والزوجة مطلَّقة تتجرَّع مرارة الندم، والشيطان الرجيم يقطع البحر عائداً إلى منصبه الكبير في وزارة الخارجية يشارك في أمور الدولة على هذا الخلق، ويتصل بالأسر المخدوعة على هذا الوجه. .!
أحمد حسن الزيات(279/3)
في رمضان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ليقل من شاء ما شاء، فإني أعتقد أن الله تعالى يغفر لي ذنوبي وخطاياي جميعاً جزاء لي على صبري في رمضان. ومن كان له أولاد كأولادي، وخدم كخدمي، فإن هؤلاء شفاعة كافية له بلا نزاع، وإذا كان القارئ لا يصدق، ولا يؤمن كأيماني بشفاعة هؤلاء لي، فلينتظر حتى تقوم الساعة وينصب الميزان
عددت أبواب الغرف وما المسها فإذا هي عشرون، ومنها تتألف جوقة موسيقية لا تفتر ولا تهدأ في ليل أو نهار، وقد يئست من حمل خادمتنا العجوز التي حملتني طفلاً - على كتفها أو ذراعها لا في. . . - على تزييت هذه الأبواب، وما أكثر ما قلت لها إني أشفق على هذه الأصوات الرخيمة أن تبح، فكانت تبتسم - أو تظن أنها تبتسم - وتقول: (الله يخليك يا سيدي!). فأقول لها: (لا تخافي علي فإن عمر الشقي، باق أي طويل، ولمن غيري يكون وجع القلب؟ كلا: لا تخافي، وإني لفي أمان من الموت ما بقيت لي، فإذا ذهبت أنت بعد عمر طويل، فإن هناك الأولاد. . .؛ كلا. لا خطر علي من هذا الردى العادي الراصد لغيري، المتربص بسواء)
فتدعو لي بطول العمر، ولكنها لا تزيت الأبواب! وقد حاولت أن أنهض أنا عنها بهذا العبء، فكادت تدق عنقي، فكففت بعد ذلك، ورضت نفسي على السكون إلى هذه الموسيقى
ومن طرائف هذه الخادمة العجوز أنها لا تكاد تسمع، أو تبصر، فهي لا تكاد تفهم. وأنا رجل خفيض الصوت جداً، وأحتاج أن أكلمها - فما من هذا مفر في بعض الأحيان - فأنادي أحد الأبناء الأفاضل وأقول له - وأنا أعلم أن هذا يسره - انقل عني بصوت عال، فيفعل، ولكن اللعين يصيح في أذني أنا!! ثم يقع على الأرض من الضحك
ويكون الولدان الصغيران في المدرسة، وتكون بي حاجة إلى كلام الخادمة، فماذا أصنع؟ لقد جربت عبث الصياح، فإن أقول لها (هاتي قهوة). فتغيب شيئاً ثم ترتد إلي، وتدعوني أن (أتفضل) فأتعجب، وأسأل نفسي: (ماذا يا ترى؟ هل شرب القهوة يستدعي أن تجرني هذه العجوز إلى غرفة أخرى؟) وأطيع، وأخرج، وأتبعها، فإذا هي قد أعدت لي طشتاً وإبريقاً وسجادة للصلاة!!(279/4)
لهذا صرت إذا احتجت أن أطلب منها شيئاً، أكتب لها رقعة بما أريد، تذهب بها إلى البقال أو النجار، أو الجيران، ليشرحوها ويبينوا لها ما فيها، وما أكثر ما يعابثها البقال!!
ولا أستطيع أن أنهرها، أو حتى أن أظهر لها الغضب أو الأمتعاض، أو الضجر، فقد ربتني صغيراً، وليس هذا ذنبي، ولكنها تعدني (ملكا) لها، وترى أن هذا يخولها حقوقاً علي، فالبيت كله بيت (ابنها) بما فيه، ومن فيه، ومن كان لا يعجبه هذا فلينفلق!
على أن مصيبة الأولاد أدهى، تكون الساعة الخامسة صباحاً، فأسمع نقراً على الباب، فأفتح عيني وأقول (تفضل. . . تفضلا. . تفضلوا. . . أو تفضلن) فيدخل اللعين الصغير الذي نسميه (ميدو) - وهي عندنا صيغة التصغير لعبد الحميد - فيدور بيننا هذا الحوار
- بابا
- نعم يا سيدي
- صباح الخير أولاً
- صباح الخير يا سيدي. خير إن شاء الله؟
- الساعة كم الآن؟
- الساعة؟ أو ليس عند ماما ساعة؟
- عندها ساعة. ولكنها قالت لي البارحة إنها خربت ووقفت
- هي قالت ذلك؟ وحضرتك صدقتها؟
- وهل ماما تكذب؟
- أعوذ بالله!! مستحيل يا سيدي. وهل يكذب إلا الكذاب؟
وأخبره أن الساعة الخامسة فيقول
- أنا ذاهب إلى المدرسة
فأصيح، واستوي قاعداً، (أي مدرسة يا أخي؟ وهل صارت المدارس في عهد هيكل باشا تفتح قبل الفجر؟ أما إن هذه لبلية! رح يا أخي، رح نم!)
فيقول (بس اسمع يا بابا)
فأقول وأنا أعيد رأسي إلى المخدة (سامع. فضل)
- بقى الأفندي قال لنا (يجب أن نكون موجودين في منتصف الساعة الثامنة، وأن من(279/5)
يتأخر عن هذا الموعد لا يشترك في الرحلة)
فأشتهي أن أقول في هذا (الأفندي) أشياء كثيرة. وأقولها فعلاً، ولكن في سري؟ كما كانت تفعل حماتي. أي نعم حماتي، فقد كانت في هذا قدوة، ومثلاً يحتذى. وكانت إذا سخطت على إنسان، توسعه ذماً، وسباً، ولعناً، في سرها! وكانت تجد في هذا شفاء لغليلها، فتتبسم، وتتنهد، وتضع يدها على قلبها وتقول (أيوه كده! الحمد لله! كنت سأطق)
وأقول للغلام (ولكن أين نحن من هذا الموعد؟ أذهب، ونم)
فيقول: (لا يا بابا، لئلا أتأخر!)
فأقول: (يا أخي، وما ذنبي أنا إذا تأخرت حضرتك)
فيقول: (إنما أردت أن أسألك هل أصوم؟ لأني أكلت في السحور مع ماما)
فأهز رأسي، وقد فهمت، ذلك أن ماما لابد أن تكون هي التي أوعزت إليه أن يبكر فيسألني هل يصوم أو لا يصوم وأقول له:
(إنك صغير، جداً، والصيام غير مفروض عليك، ثم إنك ذاهب لتلعب، وتنط، فستجوع بسرعة، فيجب أن تأخذ معك طعاماً وإلا مت من الجوع)
فيسألني (وماذا آخذ معي؟ إنهم لم يُعدوا لي شيئاً)
فأغتنم هذه الفرصة، وأقول له (يا عبيط! كيف تقول أنهم لم يعدو لك شيئاً؟ أو تتهم ماما بمثل هذا الإهمال؟)
فيسألني (هل تعني. . .؟)
فأقاطعه وأقول بصوت كالهمس (أسمع، لقد هيأت لك ماما كل شيء، ولكنها لم تخبرك حتى لا تخرج قبل الأوان، ثم لتفاجئك فتسرك. . . ماما لطيفة، أليست كذكلك؟ (فيهز رأسه موافقاً) ولكني صرت أخشى الآن أن تتأخر، وقد قال لك الأفندي إن من يتأخر لا يشترك في الرحلة، فاذهب إلى ماما، وأيقظها بلطف، وصبحها بخير، وارج منها أن تعطيك ما هيأت لك. . . وستنفي لك أنها صنعت شيئاً، لأنها تعتقد أنك بكرت جداً، وساعتها كما تعلم واقفة، فأفهمها أن الوقت قد أزف، وخذ ما تعطيك. . . والآن أذهب، ومع السلامة، وإن شاء الله نراك ونراها بخير)
فيذهب مسروراً، فأنهض خفيفاً، وامشي إلى الباب على أطراف أصابعي، وأوصده(279/6)
بالمفتاح، لأني أعرف ما يحل بي إذا تركته مفتوحاً!!
والمثل يقول (جن الذي نجا من الموت!) فلا تمضي دقائق حتى أشفق أن يتهشم الباب، ويتحطم رأسي، فلا يسعني إلا أن أفتحه، فتدخل ماما، كالإعصار وتصيح بي:
(ما هذا الذي صنعت؟ تغري الولد بي، فيوقظني في هذه الساعة وأنا صائمة!!)
فأقول: (ساعتك واقفة؟ أليست كذلك؟)
فتقول، وهي تغالب الضحك (يعني إيه؟)
فأقول، وأنا أعود إلى السرير (يعني دقة بدقة، والبادي أظلم!)
فتقول: (راجع إلى السرير؟ تقلقلنا وتنام! شيء جميل!)
فأقول: (من الذي أقلق صاحبه؟)
فتقول: (إنك أنت سبب القلق والمتاعب كلها في هذا البيت)
فأقول: (غفر الله لك يا امرأة! أذهبي وتوبي إلى الله واستغفري لذنبك عسى أن يرحمك)
فلا يجدي هذا النصح، وينتهي الأمر بأن أجمع المخدات المبعثرة في الغرفة، وأعيدها إلى حيث كانت، وأنا أنهج من التعب، وأتمثل بقول الشاعر:
(ومن ظن أن سيلاقي الحروب ... وأن لن يصاب، فقد ظن عجزا)
وهكذا، وهكذا، إلى آخره، إن كان له آخر. فالحق أن أجري عظيم في رمضان!
إبراهيم عبد القادر المازني(279/7)
مصر وعلاقتها بالخلافة
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
من ولاة العصر العباسي الذين عرفوا بالخير والعدل واكتساب محبة الأهلين موسى بن عيسى الذي ولي مصر ثلاث مرات. فقد أشتهر بالعدل في البلاد وتحبب إلى النصارى فأذن لهم ببناء الكنائس التي هدمها سلفه علي بن سليمان وقد أشار عليه بذلك قاضياه الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، بحجة أن إرجاع الكنائس المستحدثة في الإسلام من مستلزمات عمارة البلاد. ومما يدل على عناية هذا الوالي بالعمارة ما كان من زيادته في جامع عمرو.
وكان عنبسة بن إسحاق (238 - 242هـ) آخر من ولي مصر من العرب. وكان من أحسن الولاة الذين ولوها في هذا العصر، مما حدا بالمؤرخين إلى القول بأنه أظهر من العدل ما لم يسمع بمثله في زمانه. وقد بلغ من تورعه وبغضه للمظاهر أنه كان يروح من دار الإمارة إلى مسجد العسكر ماشياً. وكان آخر من أموا الناس في السجد. وقد بنى المصلى الجديد سنة 240هـ إذ رأى أن المصلى القديم ضاق بالمصلين. وكذلك حصن دمياط وتنيس بعد أن أغار عليها الروم سنة 238هـ فبقيت دمياط في يد المسلمين إلى أن استولى عليها الصليبيون سنة 616هـ
على أن عدل عنبسة وورعه لم يكسباه حب الناس جميعاً، فقد كان مكروهاً من البعض لاعتقاده بمذهب الخوارج مما دفع بالفضل أبن يحيى إلى أن ينحى فيه بالملائمة على الخليفة لتوليته إياه مصر. وما قاله أيضاً من شعر يتهم فيه هذا الوالي بالتراخي عن طرد الروم من هذه البلاد وقت استيلائهم على دمياط وتنيس كما تقدم
مَن فتى يبلغ الإمام كتاباً ... عربيا ويقتضيه الجوابا
بئس والله ما صنعت إلينا ... حين وليتنا أميراً مصابا
خارجيا يدين بالسيف فينا ... ويرى قتلنا جميعا صوبا
مر يمشي إلى الصلاة نهارا ... وينادي السحور، ضل وخابا
ومن هنا نتبين كيف كان اعتقاد عنبسة بمذهب الخوارج - إن صح أنه كان يعتقد به - سبباً في الحط من شأنه وإظهار ما أتاه في حكمه من عدل وما أظهره من ورع، بمظهر(279/8)
العسف والظلم حتى أدى ذلك بالفضل إلى اتهام هذا الوالي بالقعود عن نصرة المسلمين حين أغار الروم على مصر، فقال الفضل للخليفة المتوكل:
أنرضى بأن يعطى حريمك عنوة ... وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى تينيس والروم وثب ... بتينيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشتوم يبغون مثلما ... أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرا ولا درى ... من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا إنا بدار مضيعة ... بمصر وإن الدين قد كاد يذهب
لم يل مصر بعد عنبسة وال من العرب كما تقدم، فقد وليها بعده يزيد بن عبد الله (244 - 253هـ) من موالي المنتصر العباسي وكان كغيره من الأتراك من السنيين الغلاة. وكان شديداً صارماً وأتى في عهده بكثير من الإصلاح وقضى على كثير من معايب المجتمع، فمنع النداء على الجنائز وضرب من نادى عليها، وعطل الرهبان وتتبع العلويين فلحقتهم منه شدائد وأهوال
وورد إليه كتاب الخليفة المستعين بالاستسقاء لقحط كان في العراق، فاستسقى الناس في يوم واحد. وفي عهده خرج بالإسكندرية رجل يقال له جابر بن الوليد واجتمع إليه خلق كثير من العرب والقبط والنوبيين فاستولى على الكريون وسنهور وسخا وسمنود، فأنفذ الخليفة مزاحم بن خاقان مدداً لواليه على مصر. وظلت ثورة جابر ابن الوليد على حالها طوال عهد يزيد بن عبد الله الذي صرف في ربيع الأول سنة 253هـ وولي بعده مزاحم بن خاقان فواقع جابر بن الوليد في أرض الجيزة والفيوم حيث أسر في جنْبَويه من كورة البدقون (المكتبة الجغرافية ج6 ص282، 83 - المقريزي خطط1 ص73) وبعث به إلى العراق في رجب 254هـ
هذا وكان عامل مزاحم بن خاقان على الشرطة أُزجور التركي فقد منع النساء من دخول الحمامات ومن زيارة المقابر وسجن النوائح ومنع من الجهر بالبسملة وأمر بتمام الصفوف عند الصلاة وعهد إلى رجل من العجم فكان يستعمل السوط في تنفيذ هذا الأمر. ومنع من استعمال المساند والحصر للجلوس في المسجد ومن التثويب ومن أن يؤذن المؤذن يوم الجمعة في مؤخر المسجد. ثم صرف أزجور عن الشرطة في ذي القعدة سنة 253هـ(279/9)
وولي مصر أحمد بن مزاحم باستخلاف أبيه له فجعل أزجور على الشرطة ثانية ثم وليها أحمد إلى أن مات (1 من ربيع الآخر سنة 254هـ) فولي مصر أزجور وظل على ولايتها إلى رمضان من هذه السنة فوليها بعده أحمد بن طولون
حسن إبراهيم حسن(279/10)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
13 - دكتور!
سألني اليوم صديق لي من المدرسين:
- ألا تعرف قصة المسيو تريس؟ إنها إحدى العجائب!
قلت: لا والله، فأي شيء هذا المسيو تريس؟ وما هي قصته؟
قال: رجل فرنسي تخرج في إحدى دور المعلمين الأولية، ولكن الأبواب سدت عليه في بلده، وضاقت به الحيل، فلم ينل وظيفة، ولا استطاع أن يحصل شهادة ثانوية (بكالورية)، فشد رحاله إلى الشام، فكان فيها معلماً. . .
قلت: ليس في هذا عجيب، بل العجيب أن يكون غير هذا!
قال: لم أبلغ بك مستقر العجب بعد. . . لقد درس هذا الرجل سنين، ثم خطر له يوماً خاطر، فقال لي:
- لقد سمعت أن المسلمين يحجون. . .
قلت له: نعم
قال: أفلا تخبرني عن حجهم، كيف يكون، وما هي صفاته، وكيف تكون الرحلة إليه، وما هو خبر المحمل الذي كان يذهب به كل عام؟
في أسئلة أخرى هذا. سبيلها قال صديقي فقلت له: إني لا أعرف إلا طرفاً من هذا ولكني آخذك إذا شئت إلى من يرشدك إليه. وأخذته إلى رجل كان جمالاً يرافق الحج. فأنبأه بما يريد، فلما كان بعد أيام جاءني المسيو تريس، وقد كتب ذلك في كراسة عرضها علي لأنظر فيها. فنظرت فإذا هي أعجوبة الدهر التي يعجز عن مثلها صاحبنا أو العبر حين كان يقف على الجسر في بغداد فيكتب كل ما يسمع، فإذا ملأ الصحيفة قدها قداً فخالف بين أجزائها، ثم قرأ ما يجيء فيها، فيجيء بكلام ليس في الدنيا أحمق منه. . . وإذا هي كراسة مضحكة عجيبة يعد صوابها ولا يحصى خطؤها، على أنها في زعم صاحبها دراسة للحج عند المسلمين، سمي فيها الجمل الذي يحمل (المحمل) باب السلام، وسمي إمام الحرم المكي (أمين الصرّة) وجعل تبوك على أبواب مكة. . . ومثل هذا الهذيان. . .(279/11)
قال صديقي: فرددتها إليه رداً جميلاً، وتخلصت منها وعاد الرجل إلى بلده، ومرت شهور طويلة، وإذا أنا بالبريد يحمل إليّ الرسالة مطبوعة، مكتوباً عليها:
الأطروحة التي نال بها مؤلفها شهادة الدكتوراه من جامعة باريس!!
علي الطنطاوي(279/12)
الحقائق العليا في الحياة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
(ألفاظ إذا نطقت بها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)
تلك أعمدة الكون الخفية، تسكن قممها عقول المتأملين، وتسجد على أقدامها قلوبهم. قد أسبغ خالق الكون وواهب الحياة على العقول والأرواح ظلالاً من تكريمه واحترامه حين أوجد لها هذه الحقائق، وأوحى لها أن تتعرف إليها كما أوحى إلى الأجساد أن تتعرف إلى التراب والماء والغذاء والهواء. . .
وليت شعري! هل تسعفني خواطري الدائمة الدوران حول هذه الحقائق فتحضرني جميعها وأنا أكتب عنها؟
إني أبدأ الكتابة الآن وليس في نفسي إلا صور مبهمة منها. أما تركيز أفكارها وتجميعها وتجنيدها وعرضها، فأمر أسأل (الحق الأول الأكبر!) أن يتولى هو بفنه الخالق (إخراجه) من قلمي العاجز كما يخرج النخلة السحوق من النواة الضئيلة!
وإن تعجبوا فعجب لجماد الأقلام وطين الألسنة حين يتولاهما الجشع فيحاولان أن يمسكا السيالات التي لا تمسك!
وليت شعري! متى يأتي الإنسان الذي يستطيع أن يقول كل ما في رأسه بألفاظ ترضيه وتترجم عن التيارات العميقة المتلاطمة في قرار قلبه؟
إنه لاشك الإنسان الأخير الذي يختتم به وجود الإنسانية هنا على الأرض. . . ولعلها ما تلاحقت أنسالها في الأرض إلا لتقول (الأسماء كلها) التي علمها الخالق أباها آدم. . .
فالإنسان الأخير هو آدم ثان جاء ليختم الدورة التي بدأها آدم الأول. . . هو الإنسان الذي صبت فيه كل جداول البيان وسكنت فيه كل أطياف المعاني، فوعى كل كلمة نفسية ولفظية اختلج بها قلب أو فكر أو لسان. . .
هو الإنسان الذي يأتي بعد أن لم يبق شيء في عالم الآفاق وعالم الأنفس إلا وجد له لفظاً إنسانياً يصوره ويحدده. . .(279/13)
هو ابن الإنسانية الواحدة الهائلة التي تنقلت في الدهور والأحقاب فوقع عليها كل الضوء وكل الظلام!!
1 - الإيمان:
أنا الآن في (الرستمية) على أديم الأرض مباشرة، وتحت السماء مباشرة. . . حافي القدمين مجرودهما، جاث على الركبتين معقورهما، شاخص العينين محرورهما، مرهف السمعين مشدودهما، صامت الشفتين معقودهما. . . في الظلام الصارم! والريح تصفر في كل ما يحيط بي من مبان ومنافذ وأشجار. . . وبنات آوى تعوي وتعترك على قرب مني. . . وكلاب الرستمية وكلاب تلك القرية الماثلة على رأس تعريجة من تعاريج نهر (ديالى) تتبادلان نباحاً دائماً متشابهاً هو عندي نغم يهيئ في نفسي جواً معنوياً لليالي القرى والخيام. . والنوم ذائع السلطان منشور الأعلام على مباني (دار المعلمين الريفية)، وعلى أجساد ساكنيها من الطلاب والمعلمين. . وكل ما في جسمي ونفسي يقظ: كل خلية وكل شعرة، وكل قوى جاذبة أو دافعة، وكل خاطرة جديدة عابرة أو مخزونة غابرة، مستجمع أرواح آبائي وأرواح أنسالي. . في خيالي، وجميع حياتي الذاهبة في الأزل والآنية في الأبد!
أنا في ساعة خبال أو عقل، وفي جد أو مجانة؟ لا أدري. لا أدري إلا أن الرحى الدموية الحمراء التي في صدري تدور دوراناً لا عهد لي به من قبل. . .
أنا أيتها الأكوان الناطقة والصامتة الموغلة في الصمت، أحاول أن أتكلم عنك بين يدي أبي وأبيك! بالكلمة التي أعياني النطق بها كما أعيا كل كائن يحسها حقيقة شائعة في نفسه ولكن لا يستطيع البيان. . .
أدير فكري وكل حواسي في الدنيا لأجد ابتداء القول، فلا أظفر إلا بالاستغلاق؛ وإن كنت أظفر بامتلاء أوعية أخرى لا سلطان للبيان على نقل ما فيها. .
كل فراغ حياتي مملوء بخواطر مستبدة بي، ألاقي بها الحركة والركود، والنور والظلمة، والبحر والصحراء، والنملة والجمل، والعلم والجهل، والسلامة والسقم، وكل شيء، وكل شيء، وكل شيء. . .
فاعذروني أيها الفارغون!
واطلبوا التوفيق لقلمي المسكين الذي يتصدى للنار ليكتب فيها عنها. . .(279/14)
ويتصدى للريح العصوف ليحملها قبل أن تحمله وتذروه مع الهشيم. . .
الإيمان؟!
يا لله من ابتذال الألفاظ الكريمة ونزولها من لمعات الفكر العالي وسبحات الروح، إلى رؤوس الأغبياء والجامدين والمحدودين!
ويا لله من جناية التجسيم والتشبيه على المعاني التي حياتها في أن تكون مطلقة متفردة منساحة في محيطات ربها انسياح الكهرباء والجاذبية والإشعاع!
ويا لله لغذاء الملائكة إذا ولغت فيه الكلاب والخنازير والقردة!
وأواه من الذين ينظرون إلى الألفاظ الحية نظرهم إلى الحجارة والصخور!
أخذوا هذه الكلمة التي لا يمكن أن يكون قد نطق بها ناطقها الأول إلا بوحي، وصاروا يلوكونها كما يلوك الملقنون بعض الألفاظ يلقونها على أجساد الموتى. . .
أخذوها من معادنها ومناجمها العميقة في قلوب الأنبياء وخواطر الأصفياء وألقوها في أفواه التماسيح والقردة، فصارت تعض وتقهقه بها ممسوخة في غير موضعها، كموسيقى الجنازات.
أخذوها كما يأخذون الوردة المنضورة الممطورة من غصنها، فلا يزالون يبتذلون شذاها على أنوفهم المزكومة، وحريرها بين أصابعهم القاسية، حتى يمزقوها فلا يبقى منها في أيديهم غير جثة مسحوقة يلقونها في التراب. . .
أخذوها من نصابها في قلوب الأنبياء وخواطر الأصفياء. ووضعوها على قلوبهم الضيقة كما توضع الشموع على القبور. . .
صيروها ملكاً لكل بليد أبله، تموت وتنطفئ على شفتيه الكلمات المنيرة كما تموت العروس في جلوتها. . .
ثم وضعوها في قواميسهم وكتبهم بجانب هذه الجمادات والجيف: تراب. رصاص. ذهب. حديد. معدة. .!
فيا موحي المعاني! حررني من ألفاظهم الميتة الجامدة التافهة، واحلل عقدة من لساني حتى أبين معناك في قلبي. وما أهول معناك فيه!
الطبيعة كلها أوتار مرنة، وكلمات مبينة، وأصابع مشيرة، يسمعها ويقرؤها ويراها ذلك(279/15)
الراهب الذي سجنته بين ضلوعي!
وأناملي الآن تحاول أن تشير إليك بالقلم والمداد في رموز أغني بها وأبكي!
ليس الكلام هنا شيئاً يذكر بجانب الفكر، وليس الفكر شيئاً يذكر بجانب الوجدان. . .
ولكي أكتب عن معناك كتابة عارف. . . لابد لي من جسد آدم الذي لامسته يدك، وعمر نوح الذي طال فيه سرك، وعقل إبراهيم الذي سعى أمامه نورك، وأذن موسى التي رن فيها صوتك، وإنشاد داود الذي ترقرق فيه نغمك، ويد عيسى التي كان معها إذنك، وكمال محمد الذي انطلقت منه إلى الإنسانية كلمتك الخاتمة. . .
أجل! لابد لهذا أن أغتسل بالبحر كله، وأتوضأ بالشعاع كله، وأتوج بالشمس والقمر والنجوم. . ثم أندمج في كل شيء لأتسمع إلى الهمسات والأحاديث الدائمة بين العوالم والأكوان عن الظاهر الباطن، والأول الآخر. . . . المتكبر! الذي أذابها وأفناها انتظار لمحة لوجهه ذي الجلال!
ولكن يا طين آدم! مالك ولهذا العلو الشاهق؟
يا خنفساء الغبراء! لا تحلمي بجو النسور. . .
يا جُعَل! إن شذا الورد يخنقك. . . فلا تطلب سكنى الرياض. . .
كيف يقوى على سنا الرب قلب ... ليس يقوى على سنا المربوب!
والكلمات لا تَناهي لدى الله ... فلابد من بقاء الغيوب
أجل يا (باكثير)!
ولكن الذي يتصدى لكبرياء الإلهية، إنما يحاول أن يبلغ أقصى حدوده وأدنى حدودها ليعود فبقول كلمة تربح ذلك الراهب السجين، وتكون مشاركة منه في عزف اللحن الدائم مع أوتار الطبيعة، وفي تسجيل الكلمات المبينة مع أفلام الطبيعة. . . . حتى يرى بعد ذلك كلمته هذه طائرة بجوها الموسيقي، تخفق بجناحيها في رئات الناس، وترقص في ضياء عيونهم، وتأكل من حبات قلوبهم، وتغرد في منطقة الصمت من أفئدتهم!
قد لا يدرك الإيمان على حقيقته إلا المؤمن الأخرس الأصم. . . الذي لم يقل ولم يسمع إلا الكلمات النفسية التي لا تصب بقوالب من الألفاظ الضيقة التي قد تكون منحرفة الوضع أو مبهمة الدلالة أو ناقصة الموسيقى. ولكل معنى في النفس جو موسيقي يجب أن يصحبه في(279/16)
اللفظ
وإني أرثي للذين لم يعرفوا الإلهية إلا من ألفاظ الكتب! ولأن الناس صاروا يأخذون عقيدتهم في الإلهية من الكتب ومن الأفواه، اختلفوا وتفرقوا وتباينت الصور التي في رؤوسهم منها. ولو أنهم أخذوها مباشرة من الطبيعة الواضحة الواحدة، التي ليس في كلماتها انحراف في الوضع، ولا إبهام في الدلالة، ولا نقص في الموسيقى. . . لاتفقوا وتلاقوا على فهم المعنى الواحد الذي يملؤها، كما كانوا أول زمانهم قبل تشعب الكلام بهم، ووجود ميراث من الكلمات المغلوطة التي تمحو طابع الفطرة البسيطة التي لا تعرف الرموز ولا تستغني بها عن النماذج الواضحة التي تملأ الطبيعة
ويا لله من جناية الناس على وسائل إنقاذهم ورفعهم من حضيضهم!
إن الملهمين والعلماء يفتحون لهم أبواب أقفاصهم وسجونهم حتى ينطلقوا ويفروا منها إلى الطبيعة. ومن الطبيعة تفد عقولهم إلى خالقها وصاحب المشيئة الغالبة عليها. ولكن الأغبياء والمحدودين من الدعاة يعودون بهم ثانياً إلى الأقفاص والسجون ويسدون أبوابها بالأوثان والأنصاب والصور والرموز، ويلهونهم بالخرافات
وعندئذ تموت وتنطمس الكلمات الحية المنيرة، فينطقون بها ويخيل إلى رائيهم من ذوي البصائر أنهم يلفظون حجارة أو جثثاً ميتة للمعاني الكريمة. . .
وإذا انقلب الوضع فصار الراعي يهتدي بالقطيع، فهنالك ضياع الجميع. . .
وهنا أسأل:
لماذا لا تخدمون الإيمان أيها الكتاب الموهوبون فتخدموا بذلك أقلامكم وتخدموا الحياة والفن؟
لماذا تلسعكم النار وتتحول أقلامكم إلى عقارب تلقونها بسرعة من أيديكم إذا ما سجل أحدكم كلمة مؤمنة؟
أنا أعرف السبب. أعرفه وأعزو إليه كل هذا الضعف: هو أنكم تأنفون من أحاديث العوام والعجائز والفقراء الذين جعلوا الإيمان غذاءهم وعزاءهم لأنهم فقدوا كل شيء سواه. فهم يعتزون به ويتزيدون فيه بأحلام المحرومين. فمن هنا تراكمت في نفوسكم (عقد نفسية) خفية في العقل الباطن تعقل أقلامكم عن الخوض في المعاني العامية. . .(279/17)
ولكني أعيذ فطنتكم أن تجعلوا يد البستاني مرآة للبستان. . .
وإنكم إذ تتحاشون الحديث في الإيمان لمحرومون من منابع الإلهام الدائم، وحياة اللذة بالشعر، وحياة اللذة بالعلم، وحياة اللذة بالقوة، وحياة اللذة بالمجد الشخصي، واحترامكم لأنفسكم!
أتدرون أنكم لا تسبحون إلا في الضحضاح من المعاني المكشوفة الدائرة حول الظاهر من الحياة الدنيا، وأنكم تدورون في هذا الضحضاح دوراناً مضحكاً)؟
أتدرون أنكم بإهمالكم وصف الأفق الذي تلتقي فيه كل الحقائق والجمالات والكمالات والرائعات من عالم الخفاء وعالم الظهور، قد ضيعتم أعلى نغم وعطلتم شعركم من أعذبه؟
هبوا أنكم لم ترضوا بحديث بعض المأثورات من كتب الدين عن الإلهية، فلماذا لا تحدثون أنتم الإنسانية بحديثكم الشخصي عنها وهي تملأ كل نفس عالمة أو شاعرة؟
وهبوا أن بعض الأنجاس ولغوا في هذا النبع، فهل معنى ذلك أنه تنجس عند الذين يعرفون من أين ينبع وإلى أين ينتهي؟
كلا! لن تذهب مسؤولية ذوي الطباع الرحبة في التكلم للحق إذا تكلم فيه الجامدون أو الدجالون، بل إن مسئوليتهم تبدأ من هنا. . .
وإن الذي يخرج من الدنيا كاتباً أو شاعراً أو فناناً أو عالماً أو متأملاً، ثم لا يترك في ميراثه حديثاً عن (ملتقى الأكوان!) لا ريب أن يحكم عليه الحق بأنه أعمى، لأنه مر على حجرات جدرانها كلها مرايا فلم يرها ولم يحدثنا عنها. .
(بغداد - دار المعلمين الريفية)
عبد المنعم خلاف(279/18)
مقالات في كلمات
للأستاذ محمود غنيم
العدل المطلق
أسرفت القوانين على اختلاف أنواعها في توخي العدالة، ولكن يظهر أن تحقيقها لا يزال يقتضي انتظار زمن طويل، إن لم نقل: إن ذلك مستحيل
أرأيت ذلك الذي يطيح القصاص برأسه جزاء إثم اقترفه؟ لقد حكم القضاء بإدانته مرتاح الضمير، معتقداً أنه أقر الحق في نصابه، وقابلت أنت الحكم بالهتاف للعدالة، ونسيت أن لهذا الحكم العادل ناحية فيها ظلم صارخ. ما ذنب أطفال هذا المجرم الذين أسقطهم القضاء من حسابه، فحرمهم كاسبهم، ورماهم باليتم من غير إثم اقترفوه؟ أغلب الظن أن القصاص العادل مهد لهؤلاء الأطفال البرآء سبيل الأجرام، فكأنه استأصل شراً وأنبت شروراً، وأراح الإنسانية من وجه ثم أتعبها من وجوه
ما ذنب المرأة يلقي زوجها في أعماق السجون باسم القانون، فتتضور تلك الحرة جوعاً، أو تأكل بثدبيها؟ وقد تكون حياتها - وهي البريئة الطليقة - أشأم من حياة زوجها - وهو المذنب السجين -؟
وكم تكون دهشتي كلما تذكرت حكم الفقهاء في طلاق السكران المتعدي! إنهم يوقعون طلاقه تغليظاً عليه، كأن مسألة الطلاق لا تعني إلا إياه، وليس الرجل فيها إلا طرفاً من طرفين، بل من عدة أطراف، إذا لم نسقط من حسابنا شريكته في الحياة وأطفاله الصغار. ألسنا بذلك نكون قد قضينا على زوجة، وشردنا بنين، لأننا أردنا أن نلقي على رجل سكران درساً أشك كل الشك في قسوته؟ أجل، فمن الجلي أن الرجل هنا يرتكب أخف الضررين، ففي استطاعته أن يتزوج لأن أمر زواجه موكول إليه، أما الزوجة المنكودة - التي لم تعاقر الكأس ولم تغش الحان - فعليها أن تنتظر ثم تنتظر، لأن أمر زواجها ليس إليها
كلنا يهتف للمساواة ويعتبرها ضرباً من ضروب الأنصاف، ولكني ألاحظ أن ذنباً واحداً قد يقترفه اثنان، معيشة أحدهما في السجن لا تختلف عنها كثيراً في منزله، بينما يؤثر ثانيهما الانتحار على أن يقضي في السجن سحابة نهار. فهل تعتبر توحيد الحكم عليهما من العدل في شيء؟ ثم ماذا تقول إذا كان أحدهما متعطلاً لا كسب له، وكان للثاني عمل يدر عليه(279/19)
الربح الوفير؟ لا شك أننا في هذه الحالة نكون قد حكمنا على الثاني بغرامة فادحة، لم يصب الأول منها قليل ولا كثير
ولقد يتخاصم المتخاصمان أحدهما في سعة من الرزق يستطيع أن يستعين بجيش من مهرة المحامين، بينما ثانيهما مقل لا يستجيب له إلا من يقنع بالأجر الطفيف، وهكذا يسوي القانون بينهما في كل شيء، ويغفل هذه الناحية الحساسة، ذات الأثر البالغ في تكييف الحكم، وتكون النتيجة أن ينتصر باطل الأول على حق الثاني باسم العدل والقانون
وبعد فلست أجهل أن القوانين لا تنظر إلى الأفراد بمقدار ما تنظر إلى المجموع، وأنها كثيراً ما تضحي بمصلحة الفرد في سبيل الصالح العام، ولكنني أبحث عن العدل المطلق، العدل الذي لا يشحذ مديته على كبش من كباش الفداء
اللذة السلبية
عرفت بالتجربة أن من أطيب الأوقات التي تمر بالإنسان تلك الأوقات التي ينسى فيها نفسه بسفر طويل وإن كان لغير غرض، أو بإمعان في تفكير وإن لم يكن من ورائه طائل، أو بانهماك في (لعبة) وإن كانت غير ذات جدوى. وجلي أن الإنسان لا يفيد من ذلك فائدة يستطيع أن يرجع إليها ما يشعر به من لذة، فهل مصدر تلك اللذة هو مجرد نسيان الإنسان نفسه حيناً من الدهر؟ إن صح ذلك فأحر بنا أن نطلق على هذه اللذة أسم (اللذة السلبية)
أغلب الظن أن ذلك صحيح، وعليه يكون مجرد الشعور بالحياة عبئا على الأحياء، ويكون الاحتيال على التخلص منه بين فينة وأخرى داعية سرور وارتياح. ومما يدعم هذه النظرية تلك اللذة التي يشعر بها المخمور، وماذا يفيد المخمور من جرعات الراح التي يتجرعها بين تغضن الأسرَّة وتقطيب الوجه، إلا فترات غيبوبة ينسى فيها نفسه، ويعدم شعوره، ويفارق حيويته إلى حين؛ حتى إذا ذهبت نشوته، وتسرب إليه شعور، ودع نعيمه، وعاد إلى دنيا الهموم؟
إذا وافقتني على ذلك استطعنا أن نحل ذلك اللغز الذي حير الأفهام من قديم الزمان، وهو (متى يستشعر النائم لذة النوم) إن قلت: قبله، قلنا: لا يستشعر الإنسان لذة شيء قبل مباشرته، وإن قلت: أثناءه، قلنا: لا شعور للنائم. وإن قلت: بعده، قلنا: ما شعور الإنسان بلذة شيء فات؟ أقول: إذا وافقتني على تلك النظرية استطعنا أن نعتبر لذة النائم من نوع(279/20)
اللذة السلبية، أعني تلك اللحظات التي غرق فيها في السبات، فغاب عن الوعي، واطرح أعباء الحياة، وتخلص من نير الشعور
ولعل من هذا كان حظ الإنسان من الآلام النفسية يتناسب مع مبلغ حدة شعوره ودقة إحساسه طرداً وعكساً، فإن ذا الحس المرهف أشد حيوية من غيره. والمشاهد أن أشد الناس تمتعاُ بالحياة هم أقلهم حظاً من التفكير والإحساس، لأنهم إلى الموت أقرب منهم إلى الحياة. ومن قديم قيل:
والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا
غير أنني أخشى إذا تمشيت مع هذه النظرية أن أنحدر إلى القول بأن الموت هو السعادة الأبدية
اللذة والألم
هل تحسب أن بائع العطور يستشعر ما تستشعر أنت لها من رائحة زكية؟ إن الإنسان ليجلس في بستان برهة من الزمان، فتصاب أعصاب حاسمة شمه بالشلل، حتى ما يفرق بين ورد وريحان، أو فل وياسمين
هذا مثل مادي يبين لنا تصريف اللذة والألم في الحياة، فالمنظر الجميل إذا أدمنت التحديق فيه أصبح مألوفاً عادياً لا يحرك مشاعرك؛ والطعام الشهي إذا أكثرت تناوله فقد جاذبيته، بل قد يصل إلى درجة تعافه معها النفوس. ولقد يظفر الموظف بإجازة يوم فيشعر بغبطة لا حد لها، ثم يسامح بعد ذلك شهورا فتفقد المسامحة سحرها، بل إن الألم الذي يستثقل وطأته الإنسان يتسم به الجسم على مر الأيام، ويخف حمله بطول المران عليه
إذن لابد من ألم الجوع والظمأ حتى يستشعر الإنسان لذة الشبع والري، ولابد من جحيم الفراق حتى يشعر بنعيم الوصال، ولابد من حرارة العمل حتى يحس برد الراحة، بل لابد من المرض حتى يدرك الإنسان أنه صحيح معافى. بعد هذا نستطيع أن نقول بملء الفم: إن الألم شرط في إحداث اللذة، وإن النعيم المحض لم يكتب لمخلوق في هذه الحياة، وإنما تمني به الكتب المقدسة البررة الصالحين في دار الخلود. ومن هنا التمس الناس السعادة من قديم الزمان في كل مكان فأعياهم التماسها، لأنهم يبغونها صرفاً غير مشوبة بشائبة، ولم يفطنوا إلى أن الألم شرط في إحداثها، ومقوم من مقوماتها(279/21)
اللذة والألم متكافئان، حظ الناس منهما واحد، مهما تفاوتت أقدارهم في الهيئة الاجتماعية، وتفاوت حظهم من الجاه والمال، غاية ما في الأمر أن لكل منهما صوراً وأشكالاً متباينة وإن كان الشعور به في قرارة النفس واحدا
فعزاء للفقراء، وليعلموا أنهم هم وأرباب المال والجاه. على قدم المساواة
(كوم حماده)
محمود غنيم(279/22)
التعليم والمتعطلون في مصر
المدرسة وتكوين الأخلاق
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
قيمة الأخلاق وتكوينها
كان خير ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى (وأنك لعلى خلق عظيم) وقوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وفي هذا الدليل القاطع والحجة القوية على ما للأخلاق الكريمة من أثر في الحياة. والأخلاق الكريمة لا يحتاج إليها الإنسان في الزعامة أو القيادة أو الرياسة فقط، ولكنه يحتاج إليها في جميع الأعمال والمهن والحرف على اختلاف أنواعها، لما يجري فيها من معاملات بين الناس وأخذ ورد، ومد وجزر، تتطلب جميعها الحكمة وحسن التدبير والحسنى في القول، والصدق والأمانة في العمل. ولا غرو فالأخلاق لكريمة عماد تكوين الأمم وأساس نهضتها ورقيها. وفي ذلك يقول المرحوم شوقي بك:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويقول المغفور له سعد زغلول باشا: (نحن لسنا محتاجين إلى كثير من العلم، ولكننا محتاجون إلى كثير من الأخلاق الفاضلة)
والأخلاق كما تورث بذورها عن الآباء والأمهات تربى في النشء. وأمتنها وأقواها ما نشأ عليه الطفل منذ نعومة أظفاره، وهي فوق ذلك تربى في الشاب واليافع والكهل، بل وفي الشيخ بالتعود والمرانة ورياضة النفس. وليس شيء أدل على ذلك من آيات التأديب المختلفة التي نزلت في القرآن الكريم حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فمن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى: (يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) وقوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) الخ. وانظر إلى قوله تعالى تعليما وتأديباً للمؤمنين: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا) وإلى قوله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله(279/23)
أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعلمون خبيرا)
كل تلك الآيات المحكمات وغيرها تدل دلالة واضحة على أن الآداب تكتسب بالتعليم والمرانة والتعويد. فإذا فاتت الطفل فرصة تأديبه وتعويده الأخلاق الكريمة في منزله فيجب ألا تفوته تلك الفرصة في مدرسته حتى يستقبل الحياة العملية مزوداً بالزاد المثمر المنتج وحتى لا تضيع عليه فرصة ذهبية هي أولى الفرص بالتأديب والتموين. وهي فوق ذلك أحسنها وأثمنها وأغلاها. ولقد أيد ذلك الرأي علماء التربية والباحثون فأقاموا الدليل تلو الدليل على أن الأخلاق تربى في الإنسان وتقوى فيه بالتعويد ورياضة النفس. وقديماً قالوا في الحكم والأمثال (الحلم بالتحلم، والكرم بالتكرم)
فلم يبق إذن شك في ذلك وليس فيه ما يدعو إلى البحث والتنقيب إنما الذي يدعو إلى البحث والتنقيب هو:
أولاً - معرفة تلك الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتصف بها الإنسان في حياته
ثانياً - طرق غرس تلك الأخلاق وتعهدها وما فعلت المدرسة المصرية في هذا السبيل وما لم تفعل
ثالثاً - معرفة ما يتصف به شبابنا في الوقت الحاضر من صفات لا تناسب نهضتنا ولا تتفق مع ماضينا وقوميتنا بما يقعد بهم عن الإقدام على الأعمال الحرة فيؤثر تأثيراً سيئاً في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية ويؤدي إلى عرقلة سير النهضة القومية. وأخيراً بحث الطرق العملية المؤدية إلى استئصال ذلك
الأخلاق المطلوبة
مما لاشك فيه أن الأخلاق القويمة التي نصت عليها الشرائع السماوية كالصدق والأمانة والجد والاستقامة والصبر وفعل الخير وإحقاق الحق والعدل والمساواة في حرية الرأي والشورى. . . الخ هي الأسس التي يجب أن يعنى بها كل مصلح، والتي يجب أن يبثها في ولده كل والد، وفي تلاميذه كل مدرس. على أن هناك أموراً خلقية أخرى قد تؤدي إليها المحافظة على الأمور السابقة وتعودها كما يلزمنا المجتمع الحاضر وأحوال المدنية الحاضرة وأساليب الحياة الحالية بالعمل على خلقها في نفوس أبنائنا فرادى وجماعات حتى(279/24)
يتمكنوا من الخوض في معترك الحياة والنهوض بهذه الأمة نهضة حقيقية فعالة ويرفعوا رأس بلادهم ويثبتوا أقدامها بين الأمم الراقية.
هناك تكوين الشخصية القوية، وهذا يستلزم تقوية إرادة الفرد بمختلف الوسائل وتنظيم حياته وتوجيه نشاطه، وتوزيع العمل واللهو على أوقاته، ويستلزم تعويد الفرد على أن يكون ذا رأي مستقل يدافع عنه في صراحة وجرأة وقوة، ويستلزم أن يكون الفرد ذا جاذبية خاصة أساسها حسن المعاشرة والمجاملة وعمل الخير مما يحبب فيه معاشريه، ويجذب إليه كل من يحتك به ويعامله، ويستلزم أن يتعود تحكيم عقله في ميوله وأهوائه، فكلما استطاع الإنسان كبح جماح شهواته والتغلب على أهوائهوميوله، ارتفع بنفسه في عالم الفكر وسما بروحه سمواً يجعله قوي الشخصية مؤثراً في غيره تأثير المغناطيس في الحديد
وهناك غرس فكرة النظام واحترام القانون في نفوس الناشئين منذ نعومة أظفارهم حتى يعتاد الفرد ذلك من صغره من غير أن يحتاج إلى رقيب يحاسبه ويتتبعه أو إلى دافع خارجي غير نفساني يدفعه، ويستلزم ذلك تربية الضمير وتقويته حتى يكون كل لإنسان رقيباً على نفسه يحاسبها دائماً على كل صغيرة وكبيرة. حدثني صديق اعتاد أن يسمر بعض الليالي عند أحد الوزراء السابقين الذين تلقوا علومهم العالية في بلاد الإنجليز: أن ذلك الوزير قص عليه قصة صغيرة وقعت له في تلك البلاد في أحد أيام الصيف، وكان قد سافر إليها للنزهة والتروض. وتتلخص تلك القصة في أن أحد أصدقائه الإنجليز دعاه يوماً للصيد فخرج معه إلى مكان ناء بعيد عن أعين الناس، ثم دعتهما ظروف الصيد إلى الافتراق فافترقا كل يطلب صيده، فلما وجد المصري نفسه وحيداً وقد هجمت عليه جموع من الطير التي يعلم أن القانون يحرم صيدها لم يتردد في إعمال بندقيته وخرطوشه فيها حتى صاد منها كمية كبيرة معتقداً أنه فاز برزق عظيم وأنه سيسر صديقه به. ثم ما لبث أن التقى الصديقان، فكانت دهشة الإنجليزي عظيمة لما رآه يحمل الطير المحرم صيده، وأخذ يلومه على ارتكابه مخالفة قانونية، فأجابه السيد المصري بأن الفرصة كانت سانحة لذلك وأنه لم يره أحد، فما كان جواب صديقه إلا أن قال له: ولكنك يجب أن تكون أميناً على تنفيذ القانون في كل مكان وزمان سواء أكنت وحيداً أو معك غيرك، ثم أعطاه درساً عملياً في احترام القانون، فذهب به إلى أقرب مخفر للشرطة فسلم الطيور كلها هناك ودفع(279/25)
عنه في الحال الغرامة التي يجب دفعها نظير ارتكاب تلك المخالفة
هذا درس عملي عظيم إذا توخت مثله المدرسة في تربية أبنائها على احترام القانون والنظام العام أنتج أحسن الثمرات، وجاد بأطيب الخيرات والبركات. ثم لماذا نذهب بعيداً وعندنا من أمثال ذلك في صدر الإسلام الشيء لكثير؛ فلقد خرج عمر ابن الخطاب ذات ليلة يتفقد أحوال رعيته، فلما تعب اتكأ على جدار في جوف الليل وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء. فقالت: يا أماه أو ما عملت بما كان من عزمة أمير المؤمنين؟ فقد أمر مناديه فنادى لا يشاب اللبن بالماء. فقالت: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فانك بموضع لا يراه عمر ولا منادي عمر. فقالت الابنة: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كل ذلك وعمر يسمع تلك المحاورة فقال لمولاه أسلم: (علم الباب واعرف الموضع). ثم مضى؛ فلما أصبح الصباح قال: (يا أسلم، أمض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل؟). فذهب ورجع فأخبر عمر؛ فدعا ولده وقال: (هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه. ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد؟). فقال له عاصم: (أنا يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني). فزوجها من عاصم فولدت له بنتاً وولدت البنت عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو ذلك الخليفة الذي يضرب به المثل في الورع والتقى والزهد وإحقاق الحق وإقامة العدل
عبد الحميد فهمي مطر(279/26)
العقيدة الشعرية
للأستاذ أحمد خاكي
يفرّق النفسيون في العصر الحديث بين الإيمان العلمي والإيمان الشعري. أما الإيمان العلمي فهو الذي يقوم على قواعد المنطق من فرض واستنباط واستقراء، ومن إثبات القضايا أو نفيها. إنه هو الإيمان الذي يقوم على الواقع قبل كل شيء، فهو يصدر عن الأشياء التي تقع في الحس، وهو الإيمان الذي قام على تثبيته أمثال بيكون، وديكارت وهو الذي أقام العلم والفلسفة بما واتى حياتنا المادية من تقدم. أما الإيمان الشعري فيختلف عن ذلك كل الاختلاف، فهو يقوم على جملة من الآثار النفسية تثبت في نفس الفرد عن طريق العادة أو التخيل أو التصور؛ فهو لا يرتكز على حقيقة محسوسة ملحوظة، بل هو فيض خيالي مما تصوره الغريزة أو الرغبة أو الفطرة. وهو بعد ذلك ضرب من اللعب إذا أحسن التعبير عنه كان فناً له خطره
الإيمان العلمي هو إلي يدفعنا إلى درس النجوم وعلاقات بعضها ببعض؛ ولكن الإيمان الشعري هو الذي يحبب إلينا النظر إلى تلك النجوم. الأول نتيجة لدراسة منطقية خارجة عن نفس الإنسان، أما الثاني فهو نتيجة لآثار العوامل الخارجية في نفس الإنسان. الأول يمدنا بالقيم العلمية التي تكاد تثبت في كل زمان ومكان، والثاني بالقيم الأدبية أو الجمالية التي يختلف تقديرها باختلاف المقدَّر والزمان والمكان
ولقد ازدهرت نظرية اللاشعور أو العقل الباطن في هذا القرن حتى أظهرت لنا نوعاً من العقائد الأدبية يعتنقها الشعراء في قرارة أنفسهم دون أن يحسوا بوجودها. وأظهرت لنا كذلك أن الشاعر أو الأديب أو المتفنن قد يكون صاحب عقيدتين في وقت معاً: أولاهما علمية تتصل بحقائق الحياة، والثانية شعرية تتصل بالخيال. وكان لهذه الفكرة خطر في النقد الحديث، لأنها قلبت أوضاع النقد، وثارت بالتقدير العلمي القديم، ونبهت النقدة إلى أن يتدسسوا في أطواء الشاعر حتى يروا معانيه التي كتبها بوحي من عقله الباطن دون أن يكون عليها سلطان من عقله الواعي. وحسبنا من كل ذلك أن نثبت أن الأدب يقوم على هذه العقائد الشعرية، وأن اكمل الشعر هو الذي يصادف مثل هذه العقيدة الشعرية عند سامعيه أو قارئيه(279/27)
ويولد الإيمان الشعري مع خيال الطفولة، هو كذلك يميز عقلية الهمج. ذلك بأنه يتصل بغرائز الفطرة الأولى: بالخوف والحب والعداوة والجنس. فإذا تقدمت البيئة الأدبية إلى مرتبة عليا من مراتب المدنية استعلى المتفننون بذلك الإيمان الشعري فمثلوه تمثيلاً في النحت والتصوير والموسيقى والشعر وأطلق عليه الناس بعد ذلك اسم الفن. وهو لذلك يميز الإنسان في أحط درجاته، ويميزه كذلك في عصور الفن الزاهرة. فالإنسان الأول كان يقيم عفريتاً يعبده ليرضي خياله المفزوع، والإنسان المتمدن ما يزال إلى اليوم يصوغ امرأة من الذهب والعاج ليرضي رغبته الملحة. والعفريت والمرأة كلاهما نتيجة لذلك الإيمان الشعري الذي ينكر الواقع ويعنو للخيال. كلاهما يتفجر من نفس العين، ولو أن هذا قد هذب وذاك ما يزال في حاجة إلى التهذيب. وكلاهما نتيجة غريزة من الغرائز: الأول نتيجة الخوف، والثاني نتيجة الحب الجنسي.
وقد ذهب النقدة لذلك إلى أن الشعر ليس من شأنه حقائق الأشياء، وأن الحدود بين العلم والشعر ينبغي أن تكون ظاهرة لا يعتدي أحدهما على الآخر. وليس عند هؤلاء شعراً ما يعالج قضايا منطقية، بل ليس شعراً ما يعرض لنواحي الخلق العام. فإن آفاق الشعر لا تمتد إلى حيث ينبغي أن يبدأ النثر. بل لقد أمعن الناقد الإنجليزي في ذلك حتى قال إن الكذب آية من آيات الشعر فالشعر من الوجهة النفسية يرتكن على الخيال لا على الواقع، والعقيدة الشعرية هي الحالة النفسية المثلى لعمل الشعر، وهي كذلك الحالة النفسية لاستيعابه.
وإذا نحن حاولنا أن نطيق تلك المعايير النفسية على الشعر العربي وجدنا أنها تستقيم لحد كبير. والأصل في التشبيه والمجاز والاستعارة أن تكون خداعاً نفسياً. وليس الشعر شيئاً إلا إذا كان تشبيهاً ومجازاً واستعارة. على أن شعراء العرب قد علوا عن تلك المرتبة الأولى من مراتب القصيدة الشعرية، وبعضهم قد تخيل فأنطق الجماد، وبعضهم قد تدله فصور المرأة تصويراً نفسياً دقيقاً. وإليك بعد ذلك بعض أبيات لأبن خفاجة الأندلسي يصف فيها جبلاُ حتى ترى معي إلى أي حد تنطبق هذه القطعة على الواقع وإلى أي حد تنطبق على الخيال:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول أحنان السماء بغارب
يسد مهب الريح عن كل وجهة ... ويزحم ليلاً شهبه بالمناكب(279/28)
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي مفكر في العواقب
يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب
أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السرى بالعجائب
وقال إلى كم كنت ملجأ قاتل ... وموطن أواه تبتل تائب
وكم مر بي من مدلج ومؤدب ... وقال بظلي من مطي وراكب
ولاطم من نكب الرياح معاطفي ... وزاحم من خضر البحار غواربي
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... وطارت بهم ريح النوى والنوائب
فما خفق أيكي غير رجفة أضلع ... ولا نوح ورقي غير صرخة نادب
وما غيض السلوان دمعي وإنما ... نزفت دموعي في فراق الصواحب
وأحسب أن كل بيت من هذه الأبيات جدير بالتقدير. وهي جميعاً تكون وحدة جمالية لها أثر كريم في النفس. على أنها لا تنطبق على الواقع إلا قليلاً. فإذا أنت حاولت أن تتأثر عنصر الحقيقة من هذا الشعر لم تجد من هذا البيت وذاك البيت إلا أنه كان جبلاً عالياً مر كثير من الناس به في أيامه الخوالي. أما الجبل الذي يسد مهب الريح والذي يعتم عمامة سوداء من النسيم لها ذؤابات حمر من البرق؛ هذا الجبل الذي يسكن فيفكر، ويتحدث فيتفلسف، والذي ترجف ضلوعه من الأسى، وتذرف دموعه من الوجد؛ ذلك الجبل ما هو إلا خيال سام يصور الواقع لكنه فوق الواقع؛ وهو هو الذي نسميه شعراً
وإنما تمتاز هذه القطعة من الشعر بالجمال لأن فيها وحدة تسوي بين أجزائها جميعاً، وفيها كذلك علو بالخيال من بيت إلى بيت، فهي تبدأ بشيء كالواقع لكنها تنتهي بشيء كالخداع. على أنك تستطيع أن تقدرها إذا كنت في حالة نفسية خاصة، حالة نفسية تعترف بإيمان الشعر أو بالخداع أو بالخيال (سمه ما شئت)
لكنك لا تستطيع أن تقدرها إذا أنت وقفت بين البيت وبين البيت تحاول أن تتشكك في صدق المعاني وتحاول أن تنكر على الجبل أن يتكلم أو على الغيم أن يكون عمامة أو على الأيك أن يكون ضلوعاً
على أن ذلك الإيمان الشعري يمتلك النفس أكثر ما يمتلكها عند قراءة القصة أو عند مشاهدة الرواية المسرحية أو عند قراءة ملحمة طويلة في الشعر. فإذا أنت ذهبت إلى المسرح(279/29)
لتشهد (هاملت) أو (سان جان داراك) فلست بمدرك ما في كل ذلك من الجمال إلا إذا وهبت نفسك لتلك العقيدة الشعرية. وربما علمت أن (هاملت) لم تحدث في التاريخ، وأن بعض وقائعها قد يكون محالاً، وأن شبح الملك المقتول الذي يظهر فيها إن هو إلا ابتكار أتى به الخيال؛ ربما علمت كل ذلك ولكن أحسبك لا ترضى - وأنت مأخوذ بسورة الجمال - عن إنسان يحاول أن يقول لك إن هاملت لم تحدث وإنها كلها لغو من عمل الخيال. ذلك بأنك تحاول وأنت تشاهدها أن تمارس ذلك الخيال ممارسة شعرية فيحلو لك أن تنسى عقيدتك العلمية، ويحلو لك أن تؤخذ أنت بالعقيدة الشعرية وأن تخدع لأن ذلك الخداع في نفسه جميل. وهذا هو الذي يحدث بين جنوبنا حينما نبكي عند رؤية المأساة، وهو الذي يضحكنا عند مشاهدة المهازل والمباذل على الستار الفضي
يروى عن سيدة أنها كانت تشاهد (عطيل) على المسرح. وحينما مضى الفصل الأول والثاني وجاء دور الوقيعة التي قام بحبكها ياجو تأثرت السيدة تأثراً شديداً لأنها رأت أن ياجو يغرر بعطيل تغريراً. فصاحت بعطيل: (إن هذا الملعون يخدعك أيها الأسود الغبي) وفعل مثل ذلك أحد النظارة حينما رأى القوم يأتمرون بيوليوس قيصر، فقد حاول أن يطلع قيصر نفسه على سر المؤامرة. ومثل السيدة والسيد كثير بيننا. بل في الحق أننا جميعاً مثل ذلك لأننا نكون مأخوذين بنوع من أنواع الخداع حينما نشاهد القصة المسرحية
ومثل ذلك يقال عن القصص الأخرى والروايات وعن الملاحم الشعرية الطويلة، فعلى قارئ هؤلاء أن يكون له من الإيمان الشعري ما يطوع له أن يرى نواحي الجمال فيها وما يستطيع به أن ينكر الواقع وأن يحسب الخيال واقعا. وفي الحق أن هذا أظهر ما يميز البيئات الأدبية التي ازدهرت فيها القصص المسرحية والشعر والروايات الأدبية الأخرى. والقصيدة الشعرية هي التي تفسر لنا كيف كان الناس يؤمنون أيام شيكسبير بتلك القصص التي صاغها للمسرح مع ما في أكثرها من خروج عن جادة المنطق السليم. بل نحن لا نستطيع أن نفهم رجلاً كشيكسبير إلا إذا قدرنا غرام بيئته بالشعر المسرحي وبالقصة المسرحية. ولا يمكننا أن نقدر كل ذلك حتى نزن عقائدهم الشعرية
وفي الحق أن شيكسبير قد أفلح في خلق مسرحياته لأن القصيدة الشعرية ملكت نفوس الناس في عهد اليزابيث. كان هؤلاء هم الذين يدفعون المال ليشهدوا المسرحيات، وكان(279/30)
هؤلاء عاملا هاما من عوامل الإخفاق أو النجاح. ولقد تميز هذا الجيل في تاريخ إنجلترا بأنه كان يؤمن إيماناً شعرياً عميقاً بما يلقى عليه حتى لقد كان يتذوق الشعر ويستوعب قصص المسارح. وكذلك يمتاز رواد السينما في العصر الحاضر بتلك العقيدة الشعرية. والمسرحيات وروايات السينما في نفسها تقوم على خداع العقل وخداع النظر وخداع السمع، لكن شيئاً منها لن يصح في روع الناظر أو السامع حتى يكون له قدرة على الإيمان الشعري.
أحمد خاكي
المدرس بدار العلوم(279/31)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 14 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - وإذاً فقد رأيت بالمقارنة يا بولوس أن طريقة مناقضتك لا تشبه طريقتي في شيء. فأنت تفضل موافقة (الجميع) على موافقتي، وأنا أفضل اقتناعك وحدك وشهادتك وحدها، ولذلك قد عنيت بكلامك وتصويتك ولم أعن بالآخرين؛ فليبق ذلك إذاً معروفاً فيما بيننا، ولنمض الآن إلى اختبار النقطة الثانية التي كانت موضوع نزاعنا. أُترى (العقاب) عند (الأجرام) أفدح الشرور كما ظننتَ، أم ترى (الفرار من العقاب) هو الأفدح كما ظننتُ أنا؟(279/32)
أو فلنمض هكذا: ألست ترى أن كلاً من (العقاب بعدل) و (لقاء جزاء الخطيئة) واحد؟
ب - بلى
ط - والآن هل تستطيع أن تقول إن كل ما هو عادل ليس (بجميل) بقدر ما هو عادل؟ فكر قبل أن تجيب!
ب - بلى يا سقراط فإني أعتقد أن الأمر كذلك
ط - فلنفحص ذلك أيضاً، إذا فعل (فاعل) شيئاً، إلا يكون ضرورياً أن يكون هناك (منفعل) يتأثر بفعل (الفاعل)؟
ب - يلوح ذلك
ط - وذلك الذي يتحمل ما يفعل الفاعل؛ إلا يجب أن يكون تابعاً له تماماً؟ ولنأخذ مثلاً: إذا طرَق أحدهم؛ إلا يجب أن يكون هناك (شيء) يطرق؟
ب - بالضرورة
ط - وإذا طرق الطارق بشدة أو بسرعة، ألا يكون الطرق على المطروق شديداً بالمثل أو سريعاً؟
ب - بلى
ط - وإذاً فالنتيجة بالنسبة للمطروق كما يريدها الطارق!
ب - نعم
ط - وبالمثل إذا أحرق إنسان، فيجب أن يكون هنالك (شيء) يحرق!
ب - حتما.
ط - وإذا أحرق الحارق بشدة وسبب ألماً شديداً، فإن المحترق يتأثر كما يريد الحارق؟
ب - نعم
ط - وإذا قطع إنسان ألا يكون الأمر بالمثل إذ يكون هنالك (ما يقطع)؟
ب - بلى
ط - وإذا كان القطع واسعاً أو عميقاً أو مؤلماً، أفلا يقاسي (المقطوع) ما يريده القاطع؟
ب - ذلك واضح
ط - فلتر بالأجمال إذا كنت توافقني على ما قلته توا في جميع هذه الحالات: وهو أنه كما(279/33)
يكون فعل المؤثر تكون النتيجة في المتأثر
ب - إني أوافق
ط - وإذا كان الأمر كذلك فخبرني: أتحمل العقاب فعل وإيلام أم انفعال وتألم) يا سقراط
ط - فهو إذا (ألم) من ناحية شخص (فاعل)؟
ب - بلا شك لأنه (ألم) من ناحية من يعاقِب
ط - ولكن ذلك الذي يعاقِب بعقل وحق، أتراه يعاقب بعدل؟
ب - نعم
ط - وإذا فهل تراه يقوم في عقابه بعمل عادل أو لا يقوم؟
ب - إنه يقوم بعمل عادل!
ط - وذلك الذي يلقى جزاء خطيئة ارتكبها، ألا تراه يُعامَلُ معاملة عادلة؟
ب - ذلك ظاهر
ط - وقد اتفقنا على أن العادل جميل؟
ب - من غير تناقض
ط - وإذا فأمامنا رجلان، أحدهما يفعل فعلاً جميلاً، والآخر - وهو المعاقب - يتحمل ذلك الفعل؟!
ب - نعم
ط - ولكن إذا كان العمل جميلاً فانه يكون حسنا، لأنه إما أن يكون جميلاً أو نافعاً
ب - ذلك محتوم!
ط - وإذا فذلك الذي يتحمله المعاقَب ويقاسيه شيء حسن
ب - يلوح هذا
ط - وهو يخرج منه على ذلك بنفع؟!
ب - نعم
ط - وهل هذا (النفع) هو النفع الذي أتصوره؟ هل تتهذب نفسه إذا عوقب بعدل؟
ب - ذلك محتمل جداً
ط - وإذا فذلك الذي يعاقَب يتخلص من رداءة نفسه وشرها(279/34)
ب - نعم
ط - أولا تراه يتخلص بذلك من أفدح الشرور؟ لنختبر السؤال على ذلك النحو؛ أذلك الذي يريد أن يجمع ثروة كبيرة، أهناك - فيما تتصور - شر له غير الفقر؟
ب - ليس من شر له غير هذا!
ط - وفي تركيب الجسم: أليس الضرر في رأيك هو الضعف والمرض والتشويه وكل النقائص التي من ذلك النوع؟
ب - بلى
ط - أولا تعتقد أن للنفس هي أيضاً نقائصها؟
ب - بالطبع
ط - أولا تطلق على هذه النقائص الظلم والجهل والجبن وأسماء أخرى مماثلة؟
ب - بالتأكيد!
ط - وإذن فقد عرفت أن لهذه الأشياء الثلاثة: وهي الثروة والجسم والنفس، ثلاثة رذائل وشرور، هي الفقر والمرض والظلم
ب - نعم
ط - والآن أي هذه الرذائل أكثرها (قبحاً)؟ أليست هي الظلم، وأعني به رذيلة النفس؟
ب - من غير جدال
ط - وإذا كانت هذه الرذيلة أكثرها (قبحاً)، فهي بالأحرى أكثرها (رداءة)؟
ب - وكيف تقول بذلك يا سقراط؟
ط - ذاك هو السبب. أليس أقبح الأشياء قبيحاً هكذا لأنه يسبب (ألماً) أكثر، أو (خسراناً) أفدح، أو هما معاً؟ ذلك ما قلناه من قبل!
ب - تماماً
ط - أو لم نعرف منذ هنيهة أن أقبح الأشياء هو (الظلم) أو هو بوجه عام (رداءة النفس)؟
ب - لقد عرفنا ذلك حقاً
ط - أوليس أقبح الأشياء قبيحاً هكذا لأنه أكثره ألماً وإيلاماً، أو أكثرها خسرانً، أو أكثرها جلباً للاثنين معاً؟(279/35)
ب - بالضرورة
ط - وإذن فالألم الأكثر في أن نكون ظالمين وشرهين وجبناء وجهلاء، وليس في أن نكون فقراء ومرضى؟
ب - يبدو لي أنه كذلك يا سقراط تبعاً لما قلنا.
ط - وإذاً يجب أن تكون (رداءة النفس) أقبح الأشياء، لأنها تفوقها جميعاً بما تسببه من خسران هائل خارق للمعتاد، ومن شر مسرف عجيب، لا من الألم فحسب تبعاً لقولك
ب - ذلك واضح
ط - وذلك الذي يزيد هكذا بالخسران المفرط هو أفدح ما يوجد من الشرور؟
ب - نعم
ط - وإذاً فالظلم والشره (ورداءة النفس) على العموم، هي أفدح شرور العالم؟؟
ب - ذلك ظاهر
ط - والآن ما هو الفن الذي يخلصنا من الفقر؟ أليس هو الاقتصاد؟
ب - بلى
ط - ومن المرض؟ أليس هو الطب؟
ب - بلى، من غير نزاع
ط - ومن رداءة النفس وظلمها؟ إذا كان وضع أسئلتي على ذلك النحو يحيرك فسأجعلها هكذا: إلى من نذهب بأولئك الذين هم مرضى الجسوم؟
ب - إلى الأطباء يا سقراط
ط - وإلى من نذهب بأولئك الذين يتركون نفوسهم فريسة للظلم والشره؟
ب - أتريد أن تقول إننا نذهب بهم إلى القضاة؟
ط - أليس كذلك كيما يلقوا جزاءهم؟
ب - بلى
ط - والآن ألا نعاقب الناس، عندما نعاقبهم، بحق لأنا نطبق (عدلاً) خاصاً؟
ب - ذلك واضح
ط - وهكذا يحررنا الاقتصاد يا بولوس من الفقر، والطب من المرض، والعدالة من الظلم(279/36)
والشره!
ب - ذلك واضح
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(279/37)
من مشاكل التاريخ
طبيعة الفتح الإسلامي
للأستاذ خليل جمعة الطوال
اعتاد المؤرخون الأقدمون، وجاراهم في ذلك بعض المحدثين أن يسموا وقائع الفتح الإسلامي (غزواً)؛ وفاتهم ما تحمل هذه الكلمة في تضاعيفها من معاني النهب، والسلب، والعبث، والتمثيل، وما هو في أحكام هذه الأمور من أنواع الجرائم والشرور التي نهى عنها الإسلام وتجافاها المسلمون في فتوحهم. ولقد أطلق هؤلاء المؤرخون هذه الكلمة على الفتح الإسلامي سهواً وتساهلاً، وما أحسبهم قصدوا بها هذه المعاني المستنكرة التي تؤدي إليها؛ فأخذها عنهم المتعصبون على الإسلام، والكارهون لهذا الدين الحنيف وفسروها بما أملته عليهم منازعهم وأحقادهم، ثم روجعوا لها في كتاباتهم، حاسبين أنهم بذلك قد قوضوا أركان الإسلام، وصدعوا بنيان حضارته، تلك الحضارة السامية التي مازالت ولن تزال منارة العدل والإنسانية والحرية
وأكثر ما يضحكنا من هذه البدع المضلّلة، والحملات الطائشة، ما جاء في كتاب تاريخ آسيا لهربرت كوفين إذ يقول: (إن الديانة الإسلامية التي يقدسها مائتان وثلاثون مليوناً من الناس تنطوي على آثام اجتماعية تئن منها الإنسانية، وإنها لم تقم إلا على حب الغزو والنهب!)
وما هرف به أيضاً العالم الأثري كلرمون جانو إذ يقول: (إن الحضارة الإسلامية ليست إلا فظائع الغزو العربي)
ولئن كان لهؤلاء عذرهم في جهلهم أساليب اللغة العربية وتجاهلهم حقيقة البلاد العربية وتاريخها، فما بال القارئ بمن يعيش في بيئة هذه الأمة، ويقف على أساليب لغتها، وبدائع حضارتها، ثم لا يرى لها بعد ذلك حسنة إلا مسخها سيئة. . . بل سيئة تكاد ألا تكون في مقدور بشري مهما كانت درجة انحطاطه في سلم المدينة، وحلقة التطور! وأعني بذلك الرجل المتحامل المتغرض الأب لامنس إذ يقول: (إن العربي أثبت في فتوحه أنه جبان ضعيف في الجندية، لا يفكر في غير المغانم، وأن العرب ظهروا كما كانوا على عهد الرسول وسطاً في القتال، وعلى استعداد للنهب، يحجمون أمام الخطر. . .
وأن لا قابلية لهم بشيء من أسباب الحضارة، بل الفضل لأولئك المتفسخين في فارس(279/38)
والعراق والشام ومصر وغيرها، من الأقطار التي افتتحت، وأن الحروب الصليبية وقائع البسالة، وكان الصليبيون عجباً بأنظمتهم وترتيباتهم، وأن اليهود عوملوا في عهد الحروب الصليبية في الغرب معاملة حسنة)
عجباً! أفنتصم بكل هذه الوحشية ويظل في الدنيا من يذكرنا بخير ويدرس تاريخنا بإعجاب! ويشهد بحضارتنا بفخر وإكبار؟
وإننا إذ نحاول دحض هذه المفتريات، وإزالة هذا الكلف من وجه التاريخ، فلسنا نكيل لها الحق بالصاع الذي كالت لنا به التهم والشتائم، وإنما نستند في تفنيدها إلى استفتاء التاريخ، واستنطاق الحق واستقراء الحوادث، ثم إلى شهادة من لا تجمعهم بالعرب صلات الرحم وعلائق الدم وأواصر القربى، ولا أية صلة تدفعهم إلى التحيز
إن الدعوة الصالحة لدين الله هي الأساس الذي ترتكز عليه دعائم التاريخ الإسلامي، ذلك التاريخ المجيد الذي لم ينصف قط بمنازع الأهواء، وأغراض العالم
ومن سمع بقوم يخرجون في سبيل ربهم، يدعون أعداء الله إلى الله، فيلقى هؤلاء في طريقهم القتاد. . والأشواك، ويعفرون وجوههم بالطين والتراب، ويحرضون عليهم سفهاءهم وصبيانهم ينالونهم بمختلف أنواع المهانات والموبقات؛ فيهجرون أوطانهم وأملاكهم وأغنامهم، وإبلهم، ليشتروا بها نفوسهم! ثم يبيعون نفوسهم للموت ليشتروا بها وجه ربهم؟ من سمع بقوم تكون هذه حالهم وتظل نفوسهم مع ذلك متعلقة بأعراض الدنيا الزائلة، بمباهج الحياة الفانية. . .؟
إن الغزو - وما في معناه - لا يكون إلا بين القبائل المتباعدة، والعشائر المتعادية، فيغزو بعضها بعضاً، طلباً لأخذ ثأر، وأملاً بكسب غنيمة، والكل يعلم حق العلم أن المسلمين لم يناهضهم بادئ بدء إلا أهلهم الأقربون، ومنهم لحمهم ودمهم، وعشيرتهم القرشية، وفيها عصبيتهم وفخرهم. ولسنا نعلم قط أن قبيلة كانت إلباً على غيرها فانقلبت فجأة وصارت حرباً على نفر من أفرادها، طمعاً في مغنم. . .! أو حبَّاً في أخذ ثأر. . .!
وأي ثأر يكون لكل من علي، وأبي بكر، وابن الخطاب، ومن إليهم من لمهاجرين عند إخوانهم القرشيين فينضموا إلى جانب محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو من علمت بضعف بطانته وقلة عدته وعتاده للأخذ به. . .؟(279/39)
ألأجل غنيمة يهجر الإنسان بيته ووطنه وماشيته وثروته، ليكافح أهله، ويناوئ عشيرته. . .؟ كلا. . .! ثم كلا. لقد خرج هؤلاء على أهلهم من أجل دعوة سامية، وما قاتلوا وجاهدوا إلا في سبيل الذب عنها (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)
أرأيت كيف أن الإسلام لا يبيح الاعتداء مطلقاً، ولا يوجب القتال في سبيل الله إلا دفاعاً. . .؟!
لقد هاجر المسلمون عن بلادهم إلى يثرب هرباً بعقيدتهم السامية من أن يئدها الشرك، وهي لما تؤد للعالم رسالة الحق والتوحيد. وهناك في يثرب تعاود النفوس عنجهية القبيلة، وشنشنة الجاهلية؛ ويكاد الشر أن يستفحل بين المهاجرين والأنصار، لو لم يتدارك النبي (ص) الموقف فيقف فيهم منادياً: (يا معشر المسلمين: الله الله. اتقوا الله. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمور الجاهلية، واستنقذ كم به من الكفر وألف بين قلوبكم)
أرأيت نبل هذا الخطاب وسموه؟ لم يقل أيها المهاجرون! ولا أيها الأنصار. . .! فليس في الدين قبائل ولا عشائر، وإنما الجميع إخوة، ففيم إذاً نخوة الجاهلية، وحزازات الصدور، وشنشنة النفوس. . .؟ وفيم القتال في غير سبيل الله؟
ولقد اقترح بعض الصحابة على النبي بعدما استقروا في المدينة أن يأذنوا قريشاً بالحرب، ويقاتلوها ويجزوها شراً بشر فيشفوا صدورهم مما تجد عليها، فدعاهم النبي إلى السكينة، وقال لهم: (لم يؤذن لي بالقتال بعد)
فأي إنسان بشرى تناله قريش بمثل ما نالت به النبي (ص) ويكون في بطانة قوية أطوع له من بنانه، ثم تعرض عليه أخذ الثأر له فيدعوه إلى الهدوء والسكينة، لأنه لا يقاتل طلباً لثأر، ولا شفاء لغيظ، بل استجابة لأمر ربه، وهو لم يأمره بالقتال بعد
وظن بعض الجاهلين أن النبي إنما استمال اليثربيين بما توعدهم به من المغانم المادية، والأسلاب العظيمة، وهم في ظنهم هذا أبعد ما يكونون عن الحق. وحاشا للنبي أن يشحن النفوس بمثل هذه الأماني الباطلة الفانية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وإنما أغراهم بشيء أسمى من المغانم، وأسمى من الذهب(279/40)
والفضة؛ وذلك العلق النفيس الذي تشوفت إليه النفوس كان. . . الجنة. . .
ألا فانظر إلى هذا الموقف السامي الذي وقفه الرسول (ص) في صفوف اليثربيين عندما حاول أخذ بيعتهم، وقف صلى الله عليه وسلم وقال:
- أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فمد البراء بن معرور يده، وكان سيد قومه وكبيرهم، وقال: بايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة: ورثناها كابراً عن كابر.
وهم القوم بالبيعة فاعترضهم العباس بن عبادة قائلاً: (يا معشر الخزرج! أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأخذ أشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن فدعوه فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكه الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة)
فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟. .
وكان المنتظر أن يمنيهم بخير الدنيا وجاهها، وكان المنتظر أن يمنيهم بما تمنى به القادة والساسة المتحمسين إذ يسوقونهم إلى ساحات القتال، ويعدونهم بشتى الوظائف والأموال؛ ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، بل سكت هنيهة، ثم رد عليهم مطمئناً وقال:
الجنة. . .!
لقد كان الفتح الإسلامي فتحاً دينياً مبيناً لا شائبة فيه للأهواء المادية، وكانت تسيره عاطفة روحية سامية تمقت الغزو والنهب والسلب. وليس أدل على ذلك من هذه الكلمة السامية التي ترويها لنا كتب السيرة عن النبي (ص) حين كان يطوف بقومه في بدر ويقول: (والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. . .). فقال عمير بن الحمام وبيده ثمرات يأكلها: بخ بخ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء!. . . ثم قذف الثمرات من يده، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل
ولقد كتب الله للمسلمين في هذه المعركة النصر على المشركين وأسروا منهم سبعين أسيراً، وكان منطق الغزو يقضي أن يفتك بهم، بل كان منطق الحرب. . . يقضي أن يفعل بهم(279/41)
ذلك أيضاً لاسيما وقد ناله منهم قبلا الذل والمهانة، ولكن الإسلام لا يقر أخذ الثأر، ويأبى على المسلمين أن يقاتلوا لهوى وحقد في نفوسهم؛ ولهذا فقد قبلوا منهم فدية قانونية عادلة (لا تتجاوز مقدور أضعفهم) بل إن فيهم من أطلق سراحه بتعليم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة، وهذه الفدية الجديدة تنافي ما أشيع من عداء الإسلام للعلم وحثه على الغزو
وكان من أسرى بدر سهيل بن عمرو، وكان سهيل قد شنع بخطبه على الرسول، فقال له عمر بن الخطاب: دعني أنزع ثنيتي عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً
وكان ذلك أقل ما يجب أن يفعله الرسول (ص) برجل شنع عليه بخطبه، وهو لو فعله لما تجاوز العدل قط، ولكن الرسول (ص) تنزه عن الحسد، والحقد، وتطهر قلبه بالإسلام من جميع أهواء النفوس في الجاهلية، فما كان منه إلا أن قال: (لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً)
يا له من إيمان سام! يعلو بالنفس عن أحقاد الدنيا، ويجعلها على اتصال بخالقها، فلا تتدلى لحضيض الأهواء البشرية الفاسدة
فقد أدب الله نبيه فأحسن تأديبه، وليس من الأدب قط أن يمثل الإنسان بأخيه ولو كان نبياً!. . . ولذا أبى الرسول أن يمثل بسهيل بن عمرو، بل رده إلى قومه عزيزاً مكرماً، ليعلم البشرية بذلك درساً سامياً كاد جهلها به أن يرديها في هوة الشقاء.
ولسنا نتبين جلال هذا الموقف، وسمو هذا العفو، إلا بمقارنتهما بتمثيل قريش وغدرها. . فمن ذلك ما حدث لقتلى المسلمين في واقعة أحد (فقد طافت هند بن عتبة والنسوة اللاتي جئن الميدان معها، تجدع آذان القتلى وأنوفهم؛ ولما وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب بقرت بطنه وأخرجت كبده فلاكتها فلم تسغها فلفظنها واتخذن من آذانهم وأنوفهم قلائد عدن بها إلى مكة)
وانظر إلى هذه الحادثة التي يتمثل فيها اللؤم والغدر بأجل مظاهرهما، والتي قابل بها المشركون القرشيون إخوانهم المسلمين بعد أن عفوا عن أسراهم، وكان في قدرتهم أن يمثلوا بهم ويجزوا أعناقهم عن أجسادهم؛ فقد طلب أبو براء عامر بن مالك بن جعفر العامري من النبي (ص) بعْثاً يبشر قومه في نجد، وكان النبي يعرف غدر قريش(279/42)
والمشركين، وكان يقدر سوء مصير هذا البعث الذي سيبعثه إليهم، ولكن عامر بن مالك مازال به حتى حمله على إيفاد هذا البعث، فلقيهم عامر بن الطفيل عند بئر المعونة ففتك بهم جميعاً دون أن يبدؤوه بحرب أو عداء، وهكذا قضوا في سبيل الله يحملون إليه أرواحهم الطاهرة على أكفهم البريئة وكانوا (75) شهيداً، فتأمل!. . .
ولقد كانت هذه الحادثة، وما تجلى فيها من ضروب التفظيع كافية لأن تستفز النفوس الغافية، والأحقاد الجاهلية والحزازات الذميمة، ليأخذ المسلمون بثأرهم، ولكن هيهات! هيهات!
فعصر الثأر قد مضى وانقضى، وليس لهم إلا أن يصبروا على هذه الكيد والبلاء
وفي غزوة دومة الجندل دعا النبي عبد الرحمن بن عوف وسلمه اللواء وقال له: (خذ يا ابن عوف، سيروا جميعاً في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم)
فمن هذه الوصية الخالدة، وما فيها من أسمى المبادئ الإنسانية تتبينون حقيقة الإسلام وقاعدة جهاده ضد من كفروا بالله وناوؤا رسوله، وأذلوا المؤمنين. . .
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعة الطوال(279/43)
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة الآنسة (ديلافيلد)
للأستاذ أحمد فتحي
لقد ظلت أول قصة كتبتها حتى اليوم بغير أن تنشر، ومن ودي أن تبقى كذلك أبد الدهر دون أن تخرج للناس
ولقد كتبتها أيام كانت أحلام مثيلاتي من الطالبات منحصرة في أن يتم للواحدة مرح الشابة (الأيرلندية) العابثة!. ومن المحقق أنني كنت متأثرة في قصتي الأولى بهذه الروح. وإني لأذكر عنها القليل جداً، ومن ذلك القليل أن البطلة كانت تسمى (بليس) وأنني جعلتها تموت وهي غضة السن: أعني لم تعدُ السبعين! بينما كنت أنا بين الثانية عشرة والرابعة عشرة. ولم يكن الحب - في تلك الأيام - ليخطر على بال إنسان لم يودع عشرين ربيعاً من عمره
على أن كثيراً من المشاهد التي كنت قد بنيت عليها هيكل تلك القصة ظل عالقاً بذهني مدى عشر سنوات كاملة، تقمص بعدها إهاب قصتي الأولى الجدّية (زيللا)
وربما كان من الخير أن أشير هنا إلى أن قصتي الأولى (زيللا) لم تكن أكثر من دراسة (سيكلوجية) لفتاة بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، كان عليها أن تعاني اضطراب وراثة مختلطة تضطرب بين إنجليزية وفرنسية
وحينما فكرت في أمرها أول الأمر وأنا في غرفة دراستي، كنت أوثر أن تكون لها نفس صافية، بينما تفتقر إلى الخلق الشخصي القويم، حتى أنها تخدع نفسها بنفسها، وينتهي بها الحال إلى أن تعود غير خليقة أن تؤمن على أية حقيقة على وجه الإطلاق
ولم تكن القصة التحليلية - حينذاك - قد عرفت سبيلها إلى الذيوع؛ ولاسيما في الأوسط المدرسية؛ وبذلك كان اختياري الطبيعي لهذا الطراز محدداً للمنهاج الذي التزمته ودرجت عليه في مستقبل أيامي
ولقد علمت، عامدة أو غير عامدة، أن البطلة الأنموذج فيما كان تتاح لي قراءته من القصص، لم تكن تعني كثيراً بمطابقة الحقيقة ومحاكاتها. حتى أن تلك القصة العظيمة التي(279/44)
كتبتها (ماري كولمندبلي) باسم (الطعام الأحمر) والتي ضمنتها كثيراً من أروع الشخصيات، لم تخل من هفوة أو شبه هفوة، في تصوير بطلتها (راشيل) فتاة خيرة راجحة العقل. فإن المؤلفة لم تشأ أن تبرز بطلة قصتها في الصورة السمجة التي لابد أن تكون عليها في الحياة الواقعة؛ وهذا سر ضعفها. بل لقد بلغ إبرازها بهذا الوصف الخير من الثقل حد الطغيان على باقي شخصيات هذه القصة التي اختلط فيها الخير والشر مثل اختلاطهما في أفراد الجنس البشري بغير استثناء!
ولقد أوليتُ هذه القصة (الطعام الأحمر) عناية فائقة، لأنها كانت أول قصة عصرية حيوية أذكر أنني قرأتها بعين النقد وأعدت قراءتها مرات ومرات، كما أصنع دائماً بالكتب التي أفضلها، وبذلك استطعت أن أحللها بكل دقة، في حدود طاقة طفلة في مثل سني حينذاك
ولقد وضح لي منذ ذلك الحين أن رغبات الناس وتأثراتهم حيال الظروف المختلفة أمر ليس من السهل أن يُقرأ، أو يُكتبَ عنه، وأن تنزيه المؤلف لبطل قصته عن الأخطاء، من أشنع الأخطاء! وكذلك أنجيت بطلة قصتي (زيللا) من التعرض لمثل هذه المؤاخذة. والحقيقة أنه كان يروق لي أن أبرز نقائصها أكثر مما كان يروقني إبراز ما فيها من فضائل، فلم أكن أرغب مطلقاً أن أسمو بها عن المزالق الطبيعة التي يتورط فيها نظائرها من الشباب!
وبعد بضع سنين، حين كانت القصة بين يدي الناشر، كاشفته برغبتي في تغيير اسمها باسم آخر رمزي هو (الحرباء) ولكنه ردّني عن هذه الرغبة في رفق، زاعماً أن من القسوة على البطلة أن أشبِهها بهذا الحيوان البارد المتلوِّن!
على أنه قد يوجعني أن أضيف إلى ما تقدم أنني حين كتبت (زيللا) لأول مرة؛ وقبل أن أبدل فيها كثيراً أو قليلاً؛ كنت قد ختمت فصولها بمأساة فاجعة. وكذلك كانت تُختَتَمُ غالبية القصص التي قدر لي أن أقرأها إلى ذلك العهد. وعلى أي حال فقد كنت في سن لا يتورع فيها الإنسان من أن يبتسم للفواجع! وإنما كنتُ في الواقع أفوق من عاصروني بجعل الفكرة في قصة (زيللا) تمهد لتصوير البطلة في موقف مفاجأة عنيفة يتلخص في اقتحامها بيتاً وهو يحترق، كي تنقذ طفلاً؛ فإذا بها تجد نفسها طعمة للنيران فتحترق وتموت!
وأظن أني شعرت في غموض بأن وجود هذا الطفل في ذلك البيت المحترق، يعلل اقتحام(279/45)
الفتاة النيران بدافع غير سيئ! حتى ولو لم يكن الدافع لها على ذلك هو روح بطولة، وأؤكد أنني لم أتصرف تصرفاً كهذا في حياتي، مهما كان الدافع إليه مما يجعله - في نظري - على درجة عظمى من البطولة الحق!!
على أنني قرأت بعد ذلك بأمد، كتاباً للمستر (روبرت هيوبنس) اسمه (الجبان) انتهى أمر بطله إلى نفس تلك النهاية ذاتها، غير أن الصور النفسية فيه كانت أقلَّ رداءةً! كما أني قبل أن أضع لختام قصتي فكرة احتراق البيت، كنت أنوي أن أختتمها بانتحار البطلة! وكانت خاتمة كهذه خليقة بإنجاح القصة في نظري!
وبعد أن لبثت هذه الخواطر الفجة المتداعية متأرجحة في ذهني ست سنين أو سبعاً؛ نتج منها آخر الأمر شيء له هيكل (القصة). . . على أن عملي لم يكن ليتجاوز تصوير بعض الشخصيات التي خالطتها وخبرتها من كثب وتأثرت بها في مدارس الرهبنة
وإني لأذكر جيداً أنني لم أنفق أكثر من ستة شهور أو سبعة في تسجيل فصول هذه القصة تسجيلاً نهائياً. على أني لم أكن أكتب إلا في أوقات فراغي؛ وقد أخذت أوقات الفراغ هذه في التضاؤل بعد أن وضعت الحرب أوزارها، واستؤنفت الأعمال بهمة ونشاط
على أن فصول القصة لم تُكتب تباعاً، وإنما كنت أشرع في الكتابة حالماً أحس الرغبة في ذلك، فأثبت الحلقات الضرورية، بحيث أصل بين الصفحات كلما بدا لي أنها قد انفصل بعضها عن بعض. وهذه الطريقة - إذا جازت تسميتها كذلك - كانت كل ما في وسعي، لأنه لم تكن لدي أية فكرة إنشائية عن فن القصة، بل لم يكن وجود مثل هذه الفكرة ليخطر ببالي. وإني لأتصور أن قليلاً من قصص الناشئة قد كتب بمثل ما كتبت به حرارة العاطفة. ولقد استمرأت الكتابة بسرعة وبقلة اكتراث؛ وكان مضحكاً أن أقرأ للفصول الطوال على أصدقائي في صوت مرتفع؛ وكان من هؤلاء الأصدقاء واحدة فقط تتنبأ لقصتي بصلاحيتها للنشر، وربما لم يكن بين الباقين من آمن بصحة نبوءتها!
وفرغت من الكتابة في (إيستر) عام 1916 حين كنت معتزمة الرحيل، وقد كنت أؤمل أن أنتهي من أمرها قبل رحيلي، وإني لأذكر جيداً كيف كتبت بعض الصفحات الأخيرة وأنا جاثية إلى منضدة، بسبب عدم وجود مقاعد ساعتذاك في بيت الغرباء الذي كنت فيه، وما كدت أنتهي من الكتابة على هذا النحو حتى هرعت فلحقت القطار(279/46)
وإني الآن لأستدعي ذكريات صفحات هذه القصة بعد فراغي من كتابتها بقليل، وكيف كنت لا أظن كلمة واحدة منها تحتمل الحذف، فضلاً عن جريان القلم الأحمر على نصف صفحة كاملة مثلاً. وكذلك كنت شديدة الاعتداد بهذا العمل الأدبي الذي كتبته بأقصى سرعة تسمح بها حركة القلم على الورق، حتى أنني كنت شديدة الاعتقاد بأن قصتي فوق التنقيح وفوق التصحيح
على أني لا أزال حتى اليوم، وبعد احتراف الكتابة عشرين عاماً ونيفاً، كما كنت وثيقة الإيمان بإن إعداد الفصول للنشر أعداداً نهائياً هو أصعب مراحل الإنتاج الأدبي على وجه الإطلاق
ومن الخير أن أسمي المستعار الذي ظهرت به أعمالي الأولى كان من اقتراح شقيقتي ولكنه لم يكن من ابتداعها، إذ كان اختراع قصصي معاصر شهير، ولكنني وفقت إلى توقيع حرفي حسن هو (ا. م) ولم أكن أقصد به أن يخطئ الناس فيظنوني رجلاً ولكنني استعملته متابعة لكاتب معاصر كنت ولا أزال أقدمه على سواه.
ونصحت لي إحدى الصديقات بالبحث عن ناشر؛ ولم تلبث هي أن قدمت قصتي إلى (ويليام هاينمان) فوافق على نشرها على الفور. ولا أزال أحتفظ بذلك الخطاب الرقيق الذي بعث به إلى حينذاك.
ولم يكن لأمي علم بأنني وضعت كتاباً. ولقد كان عندها واحد من الأقرباء لا يفقه الأدب حين بلغتها برقية مني بأن كتابي قد وافق عليه الناشر! وبعد ساعة واحدة، وصلتها برقية أخرى علق عليها ذلك القريب الجاهل بقوله لأمي (لعلها تخبرك أن الأكاديمية الملوكية قد قبلت إحدى لوحاتها الزيتية)؟!
وعلى أي حال، فقد كان أسم (زيللا) من وضع مكتب الناشر (هاينمان) وربما كان على التحقيق من وضع المستر (ف تومسون) الذي كان يقرأ له كل ما يراد نشره!
وظهر الكتاب في مارس 1917. وصادف ظهوره نجاحاً فائقاً كباكورة أعمالي القصصية. وقد ظل الناشر نفسه يجهل اسمي الحقيقي حيناً طويلاً بعد ذلك
ومما هو جدير بالإشارة أن المستر (هاينمان) قد تفضل - بعد ظهور الكتاب - فدعاني إلى الغداء، حيث قدمني إلى ثلاثة من مشاهير الأدباء المعاصرين، وهذا ما لم يكن يطمع في(279/47)
مثله ولا بعضه أي قصاص مبتدئ! ولكنني كنت صغيرة السن جداً كما كنت قليلة الخبرة بأمور الحياة الأدبية، فلم أومن بهذا الفضل! بل إن غداء المستر (هاينمان) قد ظل أول وآخر عهدي بالمجتمعات الأدبية إلى الآن!
وكلما أعدت قراءة قصتي الأولى (زيللا) بعد الطبع، استرعت نظري فيها جدة خاصة، أظنها الطابع المميز لمعظم الأعمال القصصية الأولى، كما تسترعي انتباهي أيضاً طريقة كتابتها التي أصبحت بها بعيدة العهد. والواقع أنها لم تكن قصة بالمعنى الصحيح بقدر ما كانت تسجيلاً تعقبياً لما تميزت به البطلة من ضعف طبيعي جر على حياتها أسوأ العواقب. على أني أعتقد بأن استعراض شخصياتها لم يكن رديئاً. وكما أسلفت، أرى أن ضعف هذه القصة ينحصر في طريقة بنائها، وفي انعدام العقدة الفنية فيها، بحيث أنها كان من الجائز أن تختتم في منتصف فصولها، دون الاستطراد إلى مئات من الصفحات الأخرى.
ولكن. . . بعد أن تم كل شيء أحسست بشعور دافق من الارتياح يغمرني. ولست أنسى أبداً تلك اللحظة السعيدة التي تسلمت فيها النسخ الخمس الأولى من قصتي هدية من الناشر. . .!!
المترجم
أحمد فتحي(279/48)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 26 -
وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية كأنه من أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة؛ وما عرف عنه أنه شهد حرباً من قبل، اللهم خلا تلك المعركة الضئيلة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه متطوعاً ضد الصقر الأسود. . .
ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجباً؛ وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات. . .؟ إنما يسير هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدى من نور عبقريتهم. . .
وهل التوت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أو لم يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على محبته ثم على الإعجاب به؟ وإذا كان هذا هو شأنه في السياسة ولم يتعلمها فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب وهو قد استعان بالمعلمين الأخصائيين في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟
أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال إذ كان هؤلاء ينقصهم القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء؛ والذين يتتبعون أدوار الحرب يشهدون أن النصر في النهاية كان مرده إلى شخص الرئيس فلقد كان وحده جيشاً مغالباً، وكان وهو رجل الأمة وحده أمة في رجل. . .(279/49)
وكان القواد في الميادين يبذلون ما في وسعهم لا يألون جهداً للوصول إلى النصر، ولقد كان لبعضهم خطوات موفقة في هذا السبيل ونذكر من هؤلاء جرانت الذي سوف يعظم شأنه حتى يصبح رجل هذه الحرب
أما ماكليلان فقد ظل على حاله يدرب جنده، ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر على ذلك لا ينفد صبره وإن أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد كانوا يستعجلونه الزحف على رتشمند عاصمة الجنوبيين
ومع أن الرئيس قد أمره بالزحف في نهاية يناير عام 1862 أي بعد نحو تسعة أشهر منذ بدأت الحرب، فاإه لبث مكانه حتى شهر مارس ثم أخذ يتحرك ولكن في بطء وحذر مما دعا الرئيس أن يطلب إلى وزير الحربية أن يستحثه ولكن ما كان أعظم دهشتهما حينما كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال، وحجته في ذلك أن العدو متكاثر أمامه
وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من جهد يأبى القدر إلا أن يصوب إليه سهماً يصمي مهجته ويوشك أن يذهب بلبه ويزعزع فؤاده، فلقد غالت المنية أصغر بنيه وهو صبي في العاشرة من عمره. ولقد كان وأخاه يزوران مستشفى من مستشفيات الحرب فسرت إليهما العدوى، ولم يقو الصغير على المرض فذوى كما تذوي الزهرة ولدت مع الصبح ولم يكن لها إلا مثل عمر الندى. . .
لقد ارتاع الرئيس ووهى جلده أمام تلك المصيبة ورأى الناس ذلك الطود الأشم بتمايل ويتخاذل من الوهن وهو لا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه ولوعته؛ وإنه ليجهش بالبكاء كما يجهش الصبي وفي عينيه حزن وحسرة وفي وجهه صفرة كصفرة الموت. . علم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها فسألها ذلك العملاق الذي يحمل عبء قومه كيف تحملت تلك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة وأنها تثق في رحمة الله فمنه العزاء والسلوان. . . وهنا يجيبها ذلك الرجل العظيم الشديد البأس أنه سيحاول أن يتعلم الصبر منها وأنه يثق أيضاً في رحمة الله وأن الله سيهبه العزاء ثم يردف قائلاً (أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال هذا الذي تتحدثين عنه). . . ويعبر عن مبلغ حزنه بقوله (إنها أعظم محنة لاقيتها في حياتي. . . لم كان هذا؟ لم كان هذا؟).
ولقد كان الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع،(279/50)
ولكنه كان مع ذلك رؤوفاً عطوفاً يكره الحرب ويتألم منه أكثر مما يتألم الناس جميعاً، ويتمنى أكثر مما يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت. . . ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم، ولا يقر أحداً على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم له وأشاح عنه، في حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة وهو يقول له وللناس جميعاً أنه يمقت تلك الحرب من أعماق قلبه وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنها شر لابد منه، وما أراد بها إلا أن تكون علاجاً لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده. . . أما أن تكون انتقاماً وعلواً في الأرض واستكباراً فليس هو من ذلك في شيء. . .
وكثيراً ما كان يصدر من الأمر ما يتعجب منه القواد ولا يشيعونه الرأي فيه ولأن نفذوا ما أمر به. ساقوا إليه في تلك الأيام شاباً حكم عليه أن يرمى بالرصاص لوجوده نائماً في الخطوط وكانت عليه الحراسة؛ فسأله الرئيس عن سبب نومه فعلم أن ذلك كان بسبب الإجهاد فإنه كان متعباً من قبل وأخذ الحراسة بدل زميل له مريض. وهنا صرفه الرئيس ولم يرض أن يكون جزاء اجتهاده ومروءته الإعدام. . . وما قيمة قوانين الحرب عنده؟ إنما هو يستمد قوانينه من قواعد الإنسانية، ولذلك تراه يصبح بالقواد (إني لا جلد لي أن أفكر أنني ألقى الله ودماء هذا الشاب المسكين على يدي). . .
أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال لكي لا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان يشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال والرجال. . . ولقد كتب إليه الرئيس خطاباً كان مما جاء فيه (أحسب أن القوات التي سيرت إليك قد بلغتك؛ وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة. . إن العدو بتأخرك يكسب نسبياً)
ولم يسع القائد إلا أن يصرح في رسالة له أنه واثق بعد من النتيجة وأنه أخذ في الزحف، ولكنه في الوقت نفسه أخذ يشكو من المطر الهطال ومن الطرق الوعرة، فكان هذا هو جهد ما فعل. . . وأخيراً لم ير الرئيس بداً من أن يبرق إليه في الخامس والعشرين من مايو يقول: (أظن أنه قد أزف الوقت لكي تهاجم رتشمنذ أو تدع هذا العمل جانباً وتأتي للدفاع عن وشنجطون)(279/51)
فكأنما أراد ماكليلان في ذلك الوقت أن يكيد للرئيس، أو كأنما أراد أن يخلق مشاكل جديدة يتخذ منها ذريعة لهذا الجمود فلقد كتب إليه ينتقد الموقف الحربي كله في جميع الميادين ولم يقتصر على شؤون الحرب، بل راح ينتقد الحكومة في جميع شؤونها!
وتقدم القائد بعد ذلك نحو رتشمند تقدماً بطيئاً، فأدى ذلك إلى أن أرسل الثوار المدد إلى جيشهم الذي كان في طريقه لتهديد وشنجطون، وهنا لا يتردد ماكليلان في أن يرسل إلى وزير الحربية قائلاً إنه يزمع أن يتراجع. ومما جاء في رسالته قوله: (إذا أنا نجيت هذا الجيش فأني أقول لك في بساطة إني في ذلك لن أدين لك بشكر، لا ولا لأي شخص في وشنجطون، فلقد بذلتم قصارى جهدكم لتحطيم هذا الجيش)
وكان القائد لي في ذلك الوقت يزف على وشنجطون، وكان على حمايتها بوب أحد قواد الشمال ومعه ثمانية وثلاثون ألفا من الرجال ولكن جيش لي كان أكثر عدداً وأشد بأساً؛ وتبين أن خير وسيلة لرد لي عن وجهته أن يبادر ماكيلان بالزحف على رتشمند لا أن يتراجع ويتباطأ كما فعل
ولما يئس الرئيس منه في هذا السبيل أرسل إليه يدعوه لحماية العاصمة، ولكنه أبى أن يطيع حتى هذا الأمر وكتب يقول إنه سيجيبه إلى ذلك (إذا رأى الظروف تسمح به) وكان ذلك في شهر أغسطس، ولقد عاد الرئيس فكتب إليه يطلب إليه القدوم بكل ما في وسعه من سرعة وأبرق إليه القائد هاليك يستحثه ولكنه لم يأبه بذلك كله ولم يصل إلا بعد شهر من هذه الدعوة. . .
وكان أمراً طبيعياً أن تنزل الهزيمة بالقائد بوب وأن تبيت وشنجطون معر ضة للسقوط؛ ولقد عاود الذعر هذه المدينة على نحو ما حدث غداة الهزيمة في معركة بول رن، بل لقد كان الموقف يومئذ أشد هولا؛ إذ اختلفت وجهات النظر في مجلس الوزراء واحتدم الجدل في المجلس التشريعي، وارتفعت الأصوات بطلب عقد الصلح مع الجنوبيين، الأمر الذي خيف منه أن يؤدي إلى انحلال العزائم. . . ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته يعالج الموقف بالصبر والحزم ويهيب بالرجال ألا يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم. . .
ولقد كان للناس من هذا الصبر والثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك تضاءل فزعهم وعادت إليهم الثقة ووقفوا إلى جانب رجلهم(279/52)
ثم إن الرئيس ضم عدداً من الجيوش بعضها إلى بعض وجعل منها جيشاً جديداً وضعه تحت قيادة ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي بلغ مائتي ألف، فلم يفعل ماكليلان كما طلب الرئيس فأصاب أهل الشمال هزيمة أخرى في شهر سبتمبر
وأخيراً التحم جيش ماكليلان وجيش لي في معكرة عنيفة هي معكرة انتيتام، فلم ترجح كفة أحدهما، ولكن لي اضطر أن يوقف الزحف، بل اضطر أن يعبر نهر بوتوماك الذي كان على أبواب العاصمة، متراجعاً بذلك عنها، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة فيتعقب الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على رغم إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد. . . وأصدر الرئيس إليه أمراً أن يسير في أثر الجيش المتراجع ولكن دون جدوى
ولقد بلغ من استهتار العدو بقوة الشماليين أن عبر أحد القواد الجنوبيين النهر بجنده وسار حتى اقترب من وشنجطون وألحق بأهل الشمال هزيمة منكرة، وأحاط بجيش ماكليلان، ولولا قلة عدد جنوده لأدى هجومه إلى كارثة ليس بعدها كارثة
على أن ماكليلان قد أساء إلى نفسه قبل كل شيء، فلقد فقد منزلته عند الناس، وبعد أن كان اللوم يوجه أول الأمر إلى الرئيس وحكومته أصبح يوجه إلى هذا القائد الذي أضاع كثيراً من الفرص بجموده. . . وراح الناس يتهمونه بأنه يفعل ذلك لغرض في نفسه، وهكذا أخذ يتضاءل شأنه حتى هان أمره على الناس وتأنى الرئيس أن يعزله ليبحث عن قائد غيره. . .
وربما أُخِذَ على الرئيس طول صبره على ماكليلان ومصانعته زمناً على الرغم من تطاوله في غير مبرر؛ وبذلك يكون الرئيس هو الملوم في ضياع الفرص أو يكون على الأقل شريكاً لماكليلان فيما هو خليق به من اللوم؛ ولكن الرئيس لم يكن غراً، فهو يعلم أن كثيراً من جنود ماكليلان مفتونون به، يخلعون عليه من صفات العبقرية ومن معاني البطولة ما لا يتهيأ لقائد غيره.
وكذلك كان لماكليلان أول الأمر في قلوب الناس من غير الجند مكانة عظيمة، وإذاً فلم يكن من الحكمة في شيء أن يقف الرئيس منه موقف البغض والنفور فيؤدي موقفه هذا إلى فتنة في وقت أن كانت البلاد أحوج ما تكون إلى الاتحاد ولم الشمل(279/53)
على أن لنكولن كان بمصانعته ماكليلان على هذا النحو يظهره على حقيقته ويكشف للناس عن مواطن ضعفه، بينما كان هو يبهرهم بقوة صبره، تلك الخلة التي كان لها أعظم الأثر في إنقاذ البلاد من الخطر في تلك الأيام العصيبة، وأي صبر هو أعظم من هذا الصبر في زمن توالت فيه على الرئيس المهموم والشدائد؟
لقد كان إبراهام يتلقى الأنباء عن عدد القتلى والجرحى وهو أكثر الناس إشفاقاً وجزعاً، ولقد كان يسأل عن العدد من الفريقين المتحاربين لا من فريقه فحسب فيحزن لهؤلاء جميعاً، كأبناء أمة واحدة
ولقد كان الرئيس يذرف الدمع على ما يصيب رجاله في تلك الحرب الهائلة. ذهب ذات مرة إلى مقر أحد الجيوش فلعلم بموت صديق له كان من جلسائه في سبرنجفيلد، فأسرع إلى العودة مضطرباً يداه على صدره كأنما يمسكه أن يتصدع، وعيناه تفيضان، وعلى وجهه شحوب وكدرة، وإنه ليسير بين الجنود لا يلتفت إلى تحياتهم فلا يردها من شدة الغم وتكاد لا تقوى على حمله رجلاه. .
وفي تلك الأيام كان لا يفتأ يقرأ شكسبير، ففي مآسيه صدى لنفسه الحزينة. على أن عينيه تقعان ذات مرة على تسأل أم ولهى تقول: (لقد سمعتك أيها الأب الكاردينال تقول إننا سنرى ونعرف أصدقاءنا في السماء. ولئن كان هذا حقاً فلسوف أرى ابني ثانية). فانظر إلى الرجل يضع الكتاب ويكب بوجهه على كفيه فيملأهما من روافد دمعه. . .
ذلك هو الرجل الذي كان يقوم على شؤون هاتيك الحرب. فلله ما أقسى الأيام! إن فؤاده ليكتوي بنارها كلها؛ وإنه ليحس كل ضربة أو طعنة تصيب كل رجل غيره من الرجال، ولكن عليه أن يحمل الأهوال، وإلا فمن يحملها كما يحمل من الأبطال؟
(يتبع)
الخفيف
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي(279/54)
هاشمياته:
تكاد الهاشميات أن تكون كل ما بقي من شعر الكميت. وقد كان للكميت شعر كثير بلغ إلى موته خمسة آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتاً، ولا أدري كيف ضاع هذا القدر الكثير من شعر الكميت، ولعل شهرة الهاشميات هي التي غطت على غيرها من شعره، فشغل الناس بها عنه.
ومن هاشمياته لاميته التي تبلغ تسعة وثمانين بيتاً، وقد ابتدأها بقوله:
ألاَ هل عَم في رأيه متأمِّلُ ... وهل مُدبْرٌ بعد الإساءة مُقْبلُ
فلفت به أهل عصره من الهزل إلى الجد، وأرسلها صرخة قوية في آذان أولئك الغافلين، ليصحو من غفلتهم، ويتنبهوا إلى الخطر المحدق بهم، وهو في هذا ينسى شخصه ونفسه، ولا يفكر إلا في مصلحة أمته، ولاشك أن من ينظر إلى هذا المطلع وخطره يدرك الفرق الشاسع بينه وبين المطالع العابثة التي اعتاد شعراء العربية أن يفتتحوا بها قصائدهم.
وقد مضى بعد هذا يضرب في هذه اللامية على هذا الوتر فقال:
وهل أمة مستيقظون لرشدهم ... فيكشف عنه النعسةَ المتزملُ
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى ... مساويهم لو كان ذا الميلُ يعدل
وعطلت الأحكام حتى كأننا ... على ملة غير التي نتنحل
كلام النبيين الهداة كلامنا ... وأفعال أهل الجاهلية نفعل
إلى أن قال:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها ... أمورُ مًضِيعٍ آثر النومَ بُهَّل
ثم أخذ يوجه صرخته إلى خاصة الأمة وساستها، بعد أن صرخ بذلك في دهمائها وعامتها، فقال:
فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مِقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم ... على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف ومن أنى وإذ نحن خلفة ... فريقان شتى تسمنون ونهزل
بُرينا كبرى الفدح أوهن متنه ... من القوم لا شارٍ ولا متنبل(279/55)
إلى أن قال:
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم=فحتَّام حتَّام العناء المطول
رضوا بفعال السوء عن أمر دينهم ... فقد أيتموا طوراً عداء وأثكلوا
كما رضيتْ بخلاً وسوء ولاية ... لكلبتها في أول الدهر حومل
نباحاً إذ ما الليل أظلم دونها ... وضرباً وتجويعاً خبال مخبلٌ
وما ضرب الأمثال في الجور قبلنا ... لأِجورَ من حكامنا المتَمثل
تحلُّ دماء المسلمين لديهمُ ... ويحرم طلع النخلة المتهدَّل
وليس لنا في الفيء حظ لديهمُ ... وليس لنا في رحلة الناس أرحل
فيا رب هل إلا بك النصر يُرتجى ... ويا رب هل إلا عليك المُعٍَول
ثم انتقل إلى تذكير الناس بمقتل الحسين رضي الله عنه، فقص من أمر هذه الحادثة الأليمة ما يثير الشجن في النفوس، ويملؤها غيظاً وسخطاً على هؤلاء الملوك، وفي هذا يقول:
ومن عجب لم أقضه أن خيلهم ... لأجرافها تحت العجاجة أزمل
هَماهِمُ بالمستلئمين عوابس ... كحد آن يوم الدَّجن تعلو وتسفل
يحلِّئْن عن ماء الفرات وظله ... وحُسَيْنا ولم يُشهر عليهن مُنصل
كأن حسيناً والبهاليل حوله ... لأسيافهم ما يختلى المتبقل
فلم أر مخذولاً أجل مصيبة ... وأوجب منه نُصرة حين يخذل
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم ... فيا آخراً أسدى له الغي أول
إلى أن قال:
فإن يجمع الله القلوب ونلقهم ... لنا عارض من غير مزن مكلل
على الجرد من آل الوجيه ولاحق ... تذكرنا أوتارنا حين تصهل
نكيل لهم بالصاع من ذاك أصوعاً ... ويأتيهم بسجل من ذاك أسجل
ثم انتقل إلى مقصوده من الدعوة إلى بني هاشم بعد أن ألهب النفوس بذلك وحركها للثورة فقال:
ألا يفزع الأقوامُ مما أظلَّهم ... ولمَّا تجبهم ذات ودقين ضئبل
إلى مَفزعَ لن يُنجيَ الناس من عمىً ... ولا فتنة إلا إليه التَّحوُّلُ(279/56)
إلى الهاشميين البهاليل إنهم ... لخائفنا الراجي ملاذ وموئل
إلى أن قال:
فيا رب عجل ما يؤمل فيهم ... ليدفأ مقرور ويشبع مرمل
وينفذ في راض مقر بحكمه ... وفي ساخط منا الكتاب المعطل
فأنهم للناس فيما ينوبهم ... غيوث حياً ينفى به المحل ممحل
وإنهم للناس فيما ينوبهم ... مصابيح تهدي من ضلال ومنزل
لأهل العمي فيهم شفاء من العمى ... مع النصح لو أن النصيحة تقبل
ثم أخذ يشرح موقفه من هذه الدعوة الهاشمية، ويلائم بين حاله في هذه الدعوة الحارة في شعره، وحاله في إحجامه عما يبذله غيره من نفسه في سبيل تأييدها، ويبين أنه إنما ينتظر بذلك الثورة الكبرى التي تقضي عل دولة بني مروان، فلا يبخل وقتها بشيء من نفسه وماله، ولا يرضى بذلك الأحجام الذي يلجأ إليه، فقال:
لهم من هواي الصفو ما عشت خالصاً ... ومن شعري المخزون والمتنخل
فلا رغبتي فيهم تغيض لرهبة ... ولا عقدتي من حبهم تتحلل
وإني على حبيهم وتطلعي ... إلى نصرهم أمشي الضراء وأختل
تجود لهم نفسي بما دون وثبة ... تظل بها الغربان حولي تحجل
ولكنني من علة برضاهم ... مقاميّ حتى الآن بالنفس أبخل
إذا سُمت نفسي نصرهم وتطلعت ... إلى بعض ما فيه الزعاف الممثل
أتتني بتعليل ومنتني المنى ... وقد يقبل الأمنية المتعلل
وقالت فعد أنت نفسك صابراً ... كما صبروا أي القضاءين يعجل
أمواتاً على حق كمن مات منهم ... أبو جعفر دون الذي كنت تأمل
أم الغاية القصوى التي إن بلغتها ... فأنت إذن ما أنت والصبر أجمل
فإن كان هذا كافياً فهو عندنا ... وإني من غير اكتفاء لأوجل
ولكن لي في آل أحمد أسوة ... وما قد مضى في سالف الدهر أطول
على أنني فيما يريد عدوهم ... من العرض الأدنى أسم وأسمل
وإن أبلغ لقصوى أخض غمراتها ... إذا كره الموت اليراع المهلل(279/57)
ثم قال في ختامها:
فدونكموها يال أحمد إنها ... مقللة لم يأل فيها المقلل
مهذبة غراء في غب قولها ... غداة غد تفسير ما قال مجمل
أتتكم على هول الجنان ولم تطع ... لنا ناهياً ممن يئن ويرحل
وما ضرها أن كان في الترب ثاوياً ... زهير وأودى ذو القروح وجرول
عبد المتعال الصعيدي(279/58)
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
(تتمه)
وفي اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة، الدنيا لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقيّ الإنسان الأدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، ولأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دارُ قرارٍ لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض كما يقول جاعلاً هذا التراب وطنَ الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصوّر لإنسانية تتمتع كل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة الألوهية
تلك حقائق لم تفت ثلاثة من أعلام الشرق العربي أهابوا بنا إلى ترجمة زرادشت ونشره في هذه البلاد لتسديد عزم الشبيبة في هذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا. أولئك الثلاثة هم المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة والإسلام، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ في أوساط المفكرين، والأستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطلاعه وتفكيره والرافع عَلَمَ الآداب الشرقية بقلمه، وقد تفضل الأستاذ المشار إليه فنشر في مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة، ولولا تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برّمته لما كنا بادرنا إلى طبعه كاملاً مستقلاً
إن ما دعانا وأصحابنا المشار إليهم إلى تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا إلى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادئ الدينية الاجتماعية التي نتجه إلى أحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلف الفريد في نوعه ليس من الكتب التي تنقل إلى بياننا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب، بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوربي، فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثير الأكبر في(279/59)
تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر في عالم الغرب، واشتمل من المبادئ على ما كان ولا يزال محور الخلاف لمستحكم بين ذهنيته وذهنية الشرق العربي بوجه خاص. ولقد مضى على ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع في هذه البلاد بنيتشه وفلسفته إلا بمقالات موجزة، وكل ما عرف عنه هو أنه يدعو إلى التحرر من ربقة الأوهام واطرح الزهد واليأس والاتجاه إلى إيجاد الإنسان المتفوق.
ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلوّ المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية فاتخذ أنموذجاً بين أبنائها للصراحة والإخلاص في طلب الحقيقة يعد نقصاً في هذه المكتبة ويسجل قصوراً علينا، لذلك اقتحمنا إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه الموسوعة الكبرى إنه لا يعد أروع ما كتب نيتشه فحسب، بل أروع ما كتب في اللغة الألمانية على الإطلاق.
ولابد في ختام تمهيدنا من لفت المفكرين إلى فصل من كتاب زرادشت عنوانه (بين غادتين في الصحراء) وفيه نشيد لخيال زارا (صفحة 254) فإننا وقفنا عنده ملياً لأنه من نوع البيان المستغرق في الرمزية فلا يفهمه القارئ إلا بحسه الكامن وقد لا يتفق اثنان على تأويله تأويلا واضحاً جلياً.
ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب يقف المشاهد أمامها فلا يدري أجبلا يرى أم شجرة أم إنساناً.
لذلك اضطررنا إلى ملء بعض الفراغ بين الخطوط، وإلى الالتجاء لكسر النتوءات عند نقل بعض المكعبات المبهمة الصارمة، فجاء هذا النشيد أقرب إلى البيان المألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إلى كثير من الاستغراق في تفهم معانيه
وخفنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط الأصلية في النقل فرجعنا إلى عالم معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إلى حد بعيد في تحليلها وهو حضرة الدكتور روبرت ربننجر الأستاذ في جامعة فينا نعرض عليه ما رأيناه في رموز نشيد الصحراء، ونسأله إقرارنا على ما أصبنا فيه وتصحيح ما قد نكون ضللنا في تبيانه، فوردنا جوابه مؤرخاً في 19 أبريل من هذه السنة وفيه يقول:(279/60)
(إنني أرى خلاصة معنى النشيد في فقرته الأولى المكررة في آخره وهي: إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء) فإن نيتشه قد رمز بالصحراء إلى الوجود القاحل الذي لا غاية له، وقد أتيت على بحث هذا الرمز في كتابي (جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها)
(أما سائر ما في النشيد فأراه يرمي إلى وصف أجواء الصحراء المتمتعة بالحرية وهي بابتعادها عن المعمور تولى أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة على نقيض ما تورثه ثقافة أوربا الشمالية من الخشونة والكثافة
أما كلمة (صلاة) فقد أصبتم في ترجمتكم إياها (حيَّ على الصلاة)
(هذا وقد يكون النبي محمد هو المرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها على حسب تأويلكم)
لقد سرنا وأيم الله أن يوافقنا هذا العالم على تأويلنا وإن يكن ذهب في تفسير اتساع الصحراء وامتدادها إلى غير ما ذهبنا إليه، فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه من أتساع الصحراء وامتدادها وتهديد من يطمح للاستيلاء عليها إنما هو انبعاث الإيمان الحق بالفضائل العليا وتمردها على الجحود والتضعضع في الحياة
وقد كان دليلنا على صحة مذهبنا ما ورد في النشيد من صراحة تؤيدنا خاصة في الفقرة الأخيرة وهي:
(ارتفع يا مظهر الجلال، ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة
(ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضاً أمام غادات الصحراء، فإنه أقوى ما ينبه أوروبا ويحفزها إلى النهوض
(وهأنذا ابن أوربا لا يسعني إلا الخشوع لدوي هذه الآيات البينات)
للعالم الأوربي تأويله ولنا تأويلنا، وللصحراء في بلاد العرب رموزها فلندع للأزمان تأويلها ولنكرر ما جاء في نشيد الجاحد الطامح إلى الخلود
(إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء)
إن عبير الشرق لا يضوع من نشيد الصحراء فحسب - بل هو يفوح من كل حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع الأوربي، ولسوف يقف رجال العلم أبناء الضاد عند كثير من أقواله فيعرفون فيها آية من الآيات التي أوحيت لأنبيائهم أو ألهمت لحكمائهم أو(279/61)
حديثاً لذلك الأمي الأعظم الذي تناول أدق القضايا الاجتماعية فردها إلى مكارم الأخلاق ليحلها جميعاً
إننا ونحن نخط هذه الأسطر نتذكر صديقنا فقيد الشرق المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي الذي قل من جاراه في تفهم دين الله والشعور بالقومية العربية ووحدة الإنسانية. إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من آيات وأحاديث وحكم يتجلى فيها ما أجمع مفكرو الغرب على الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات في اتجاهات العالم المتمدن وفي طلب رقي الإنسان والاهابة به إلى العمل في الأرض كأنه خالد عليها لا يموت
غير أننا إذا كنا حرمنا الآن من هذه النجدة في كتابة تمهيدنا هذا فلن تحرم البلاد أعلاماً يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من السلف والمعاصرين
فليكس فارس(279/62)
من أصداء البحر
بين عشية وضحاها
للأستاذ إبراهيم العريض
- 1 -
على شاطِئِ البَحرِ - في قريةٍ ... تَلوحُ بعًزلتها الدائِمَهْ
كأنَّ الدُجى لفَّها بالسُّكونِ ... فما بَرحَت دهرَها نائِمِه
تطلُّ عليْها عَروسُ النهارِ ... فَتلبثُ في جوَّها حالمِه
وللبدرِ في أُفقها قُبلةٌ ... تَطولُ. . . ولكِنَّها ناعِمه
بِناءٌ يَذكرُ سُكانَها ... بِشامخِ أبنيةِ العاصِمه
يقيمُ بهَ نائبٌ - أمْرُهُ ... مُطاعٌ - وسطوتُه غاشِمه
فلوْ أيقظَ البحرُ أمواجَهُ ... لمرَّتْ بأعتابهِ لأثِمه
كذلكَ كانَ شُعورُ السوادِ ... من الذُلِّ نحوَ اليدِ الحاكِمه
وأكواخُهمْ وسطَ هذا الإطارِ ... تموجُ بألوانِها القاتِمَه
وتفتحُ نافِذةَ القصْر خَودٌ ... مساءً وتمعنُ إمْعانَها
فَيحلو لها أن ترى الشمسَ تسجُ - دُ سجدةَ شكرٍ لمنْ زانَها
وهَبها توارتْ وراَء الغُيومِ ... فهلْ تُنكرُ الأرضُ إحسانَها
ويعرضُ مِرآته البحرُ حتّى ... تُجِّملَ - سافِرةً - شانَها
وأموجهُ في هُدُوءٍ أمامَ ال ... نَعيمِ تُلمْلمُ أردانَها
فلا هُوَ يتركُها تستقرُّ ... ولا هي تهجرُ شُطآنَها
وتُبصِرُ في قاربٍ فِتيةً ... تُمدُّ إلى الصَيدِ أشطانَها
فيغمُرها فرَحٌ بالحياةِ ... فتُعلنُ للقصرِ عصيانَها
وتخرجُ نشْوى على رمْلِهِ ... تُرَدِّدُ كالطيرِ ألحانَها
وتركبُ في زورقٍ كالهلالِ ... يعومُ بها نجمةً زاهِرهْ
فتأخذُ في جذفهِ باليدينِ ... وفي صدرِها موجةٌ زاخِره(279/63)
ويلثمُ فاها نسيمُ الأصيلِ ... فيندَي بأنفاسِها العاطِره
إلى أن تغيب وراَء السديمِ ... بعيداً بأحلامها الطائِره
ويُدرِكُها أولُ الليلِ عندَ ... فَنارٍ يغضُّ لها ناظِرَه
فتشهدُ مركزَها في الظلامِ ... ومن حَولها الأفقُ كالدائِره
وتلمحُ من بعدٍ قصرَها ... يُدِلُّ بأنوارهِ الباهِره
فتثني أعِنتها للرجوعِ ... . . . ولكنها ترتمي خائِره
ويستيقظُ البحرُ بعدَ الهُجوعِ ... ليُملي إرادتهُ القاهِره
ويشرقُ إحسانُها في الصباحِ ... مَلياً على همساتِ البشَرْ
فتملكُها رعشةٌ للذي ... يمرُّ على ذِهنها من صُوَر
وتذكرُ ما كانَ من حَظَّها ... ومن حَظَّ زورقِها المُنكسِر
وكيفَ تقومُ بها موجةٌ ... وأُخرى على جانِبيها تمُر
فتصرخُ صرخَتَها للحياةِ ... وفي حَلقِها نَفسٌ يُحتضر
فتمتدُّ كفٌ لإنقاذِها ... من الغَيبِ. . . ذلك ما تدَّكر
وتشعرُ بالدفءِ تحتَ اللحافِ ... فتعجَبُ كيفَ احتَوتها السُرُر
وتفتحُ ناظِرهَا بعدَ لأيٍ ... على شبحٍ قائمٍ ينْتظِر
يُناشِدُها وعلى ثغرِهِ ... بنانٌ تُشيرُ بِأنْ تْستقِر
وتستغرِقُ الخوْدُ في نَومِها ... وتأخذُ حظاً من العافِيهْ
ويفترُّ في شَفتيها دمٌ ... كطَلٍ على وردةٍ زاكيه
وتحتَ يدَيها يزِلُّ النصيفُ ... عن بُرْعمي صدرِها ناحِيه
ومِلؤُهما عِزةٌ بالجمالِ ... جمالِ أنوثتها الغافِيه
فَيحنو عليها الفَتى في خُشوعٍ ... ويسترُ أطرافَها العارِيه
ويعزفُ لحناً على عُودهِ ... يُذَكرُ عهدَ الهوى ناسِيه
وينبعثُ النغمُ العذبُ من ... تململِ أوتارهِ القاسِيه
إلى أن تُفيقَ فتاةُ القُصور ... وتَطرِفَ أهدَابُها ثانِيه
فتبسطُ راحتَها كالغريقِ ... وفي ثغْرِها قُبلةٌ طافِيه(279/64)
ويَسألُها عن عهود الصِبا ... وأترابِها في القُرى. . مَنْ هُمُ
فتُغضي حياءً. . . وفي رقةٍ ... تبوحُ لهُ بالذي تكتمُ
(يداكَ تجودانِ لي بالحياةِ ... فشكراً على الجُودِ يا مُنعِم!
وهبتُكَ قلبي. فخُذني إليكَ ... ومُرْني أُطعكَ بما تحكُم)
وتلبَثُ في صمتها برهةً ... ليفهمَ منها الذي يفهم
ولكنهُ لا يُحيرُ الجوابَ ... كمنْ رَابهُ أمرها المُبهمُ
فتنطقُ باسمِ أبيها لهُ ... وتبسم. . . يا حُسنَ ما تبسم
فينفرُ منها نُفُورَ الظليمِ ... وقد ثارَ في مُقلتَيهِ الدم
(أأنتِ ابنةُ النائبِ المستبدِّ ... وأهاوكِ. . إني إذنْ مجِرمُ)
فترجعُ للقصرِ عند الأصيلِ ... طريدةَ آمالِها الخائِبهْ
قضَتْ يومَها حافِلاً بالشعُورِ ... كأحفلِ أيامِها الذاهِبهْ
فتشعُرُ مثلَ شعورِ الغريبِ ... وإن لم يطُلْ عهدُهَا غائِبه
فترْنو إلى البحرِ. . . حتَّى تراهُ ... يسيرُ في موجهِ قاربَه
فتنشِدُهُ حُبَّها لو يُصيخُ ... وتُذرى له دمْعَها عاتِبه
أيا حاسراً زندهُ للبحارِ ... تذوبُ له حسرة كاعِبه
أسأتَ بيَ الظنَّ حتى خَجِلتُ ... ولم تَكُ في نيتي شائِبه
ضربتَ بحبيَ عُرْضَ الجِدارِ ... وأنكرتَ من سؤددِي جانبه
وغاظكَ أنَّ أبي ظالِمٌ ... ألستَ بظلمكَ لي صاحِبَه
وتَخنقُها عبرةٌ في النعِي ... مِ تُلهبُ منْ لوْنَها شاحِبهْ
ويَمضي لطيتهِ ضاحكاً ... يُؤدِّي - على بُؤسِهِ - واجِبَه
- 2 -
تَوالتْ على القَصْرِ عشرُونَ عاماً ... أسابيْعُها مِثلُ أَعيادِهَا
تُوافي الفتاةَ عَروساً، فزَوْجاً، ... فأُمّاً، تَحنُّ لأولادِهَا
وأعقلُهُمْ بحَشَاها ابنْةٌ ... فدَتها الأهَالي بأكْبَادِهَا
تغنِّي. . فتُصْغي إلينا الطُيورُ ... وتَطرَبُ مِنْ حُسنِ إِنشادِهَا(279/65)
وتَلمحُ صُورتَها في المياهِ ... فتضْحَكُ من قَولِ حُسادِهَا
ولو أَنها نَزَلتْ في الجِنانِ ... لأزرَتْ بأجْمَلِ أورَادِهَا
يخفُّ إليها نسيمُ الربيعِ ... يُذَكرُها يومَ مِيلادِها
ووالدُهَا غائِبٌ في البلادِ ... يقومُ بتنظيم أجْنادِها
فيكتبُ مُسْتملحاً لو تَسيرُ ... إليهِ فَيَحظى بإِسعادِها
وتصحبها أمها للسلامِ ... على زوجها. . وهي لا تبتسمْ
فقد علّمْتها صُروفُ الزمانِ ... بأنَّ الطلاقةَ شيءٌ يُذَم
يذمُ. ولابْنتها نظْرةٌ ... تَبشُّ إلى كلّ وجْهٍ - وفَم
وتجري بها الفُلكُ وسْطَ البِحَارِ ... وأمواجُها دائِماً تلتَطِم
فتُلقي بها تارة كالدلاءِ ... وترفَعُها تارة كالعَلَم
إلى أنْ يَلوحَ لها - حيثُ لاحَ ... قديماً - فنارٌ يُنيرُ الظُلَم
فتَذهَلُ واجِمة. . . كالذي ... يَرى شَبحاً في ثناياهُ دَمْ
وتذكُرُ حُباً خلا في الوُجود ... لشخصٍ طَوى صفحَتيهَ العَدم
فتَبسم. . لكنَّ في نَفْسِها ... مَرَارةَ ذِكرَى تُثيرُ الألمَ
على أن ذاكَ الفَتى لم يَمتْ ... فقَدْ صارَ نابِغة في الفُنُون
تلقَّى من الكَونِ إلهامَهُ ... ومثَّلَ آياتِهِ في اللحونْ
فما هيَ إلا الضُحى في امتِدادٍ ... وما هيَ إلا الدُجى في سُكون
كأنَّ على يدِهِ العُودَ طِفلٌ ... يبُثُّ الوَرَى شجْوَهُ بالأَنين
يرِنُّ. . فتَقْطُرُ منهُ القُلوبُ ... وتأخذُ موضِعَها في العُيون
ويصُغي إليهِ المحبُّ الغَيورُ ... ويُدْركُ في الحُبِّ سرَّ الجُنون
وتنْعطِفُ الأمُّ نَحوَ الرَضيعِ ... وفي صدْرِها جدْوَل من حَنين
ويحْلمُ بالمجْدِ طرفُ الجَبانِ ... وإن ذاقَ في المجدِ كأْسَ المنون
لأنَّ المعانيَ من كلِّ لَوْنٍ ... تَفوزُ بجلوَتِها في الرَنينْ
ويُبْصرُها وهْوُ في مَحْفِل ... يُوقَّعُ أنغامَهُ في الغَزَلْ
وقدْ حوَّلُ الصمْتُ تلك العُيونَ ... شِفاهاً تدُلُّ على ما تَدُل(279/66)
فيذكرُ زوْرَقَها في الظلامِ ... ومَشْهَدَها تحتَ نابِ الأجَل
فيشعرُ بالوخزِ - وخْزِ الضمير ... - على قطِعِه حبْلهَا المتَّصِل
فينُشْدُ. . . والعُودُ بينَ يدَيْهِ ... يُرجَّعُ كالطِفْلِ ما يرتجِلُ:
(أمَا كُنتَ حاضِرَنا يا هلالُ ... عِشَّيةَ ضاقتْ عليْها السُبلُ
فألقَيتُ نفْسيَ وَسطَ الغِمارِ ... وأدركتُ فيها بقايا الأمَل
كأَنِّي - وقد حضَنتها يدايَ ... - أودُّ لها في ضُلوعي مَحَل
ولو نزلتْ في صَميمِ الفُؤادِ ... لعَزَّ على غُلَّتي أن تُبلْ)
وتطرَبُ مِنْ لحنهِ البِنتُ حتَّى ... تُنَاشِدهُ أن يُعيدَ الغَزَل
وتسألُ عن شأنِه مَنْ يكونُ ... فتَجذِبُها أمُّها بالعجَل
وتهمسُ في أُذْنِها دُونَ أَنْ ... يَرَى الحَفْلُ ما مسَّها من خَجَل:
(بُنيّةَ! هذا فتىً مِنْ قُرَاكِ ... تَعرفَ بي في الصِبا المُرْتحل
وخُيِّلَ لي أَنهُ مَيتٌ ... ولكنَّ لله شأْناً أجَل
أغرَّكِ مِنهُ النسيبُ الجَميلُ ... على ثَغرِهِ يُشتَهى كالقُبَل
دَعْيهِ. فعَهدِي بقلبٍ طَواهُ ... - على فَنِّهِ - مُقْفِراً كالطَلَلْ)
(البحرين)
إبراهيم العريض(279/67)
البريد الأدبي
العيد الألفي لمدينة القاهرة
قررت الحكومة الاحتفال بانقضاء ألف عام على تأسيس القاهرة كما ذكرنا من قبل، وننشر اليوم أن البيان الرسمي الذي بني عليه هذا القرار يتضمن أنه في العام القادم سينقضي ألف عام هجري على تأسيس مدينة القاهرة. وقد عزمت بعض الهيئات والمعاهد في أنحاء مختلفة على أن تحتفل بهذا الحادث التاريخي الذي يهم العالم الإسلامي أجمع. وقرر معهد المباحث الإسلامية بمدينة بومباي وهو من أهم المعاهد الإسلامية في الهند أن يشترك في الاحتفال بهذا الحادث، وسيضع كتاباً يحتوي على وثائق خاصة بتاريخ القاهرة لم تنشر من قبل، وهي مستقاة من مخطوطات عربية في حوزة المعهد المذكور، على أن تقدم نسخة من الكتاب مجلدة تجليداً فخماً إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فاروق الأول
ولا حاجة إلى تبيان ما ينتظر أن يكون لمثل الاحتفال الذي نحن بصدده من الشأن في الشرق الإسلامي بوجه خاص. لذلك رأى مجلس الوزراء أن يقرر احتفال الحكومة الملكية بانقضاء ألف عام هجري على تأسيس القاهرة، وأن يعهد إلى لجنة خاصة في اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع برنامج لذلك الاحتفال وجعله خليقاً بمصر في عهد الجديد
بعثة الإمام الشيخ محمد عبده
أصدر صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر قراراً بتعيين الدكتور محمود البهي قرقر والدكتور محمد ماضي خريجي بعثة الشيخ محمد عبده، مدرسين في كلية أصول الدين: أولهما لتدريس الفلسفة، وثانيهما لتدريس التاريخ الإسلامي، وهما حاصلان على درجة الدكتوراه في هذين العلمين من جامعة هامبرج في ألمانيا، وقراء الرسالة يعرفون الأستاذين بأبحاثهما الجليلة في الأدب والاجتماع
مسألة شكسبير وبيكون
من أنباء لندن أن البحث في كنسية وستمنستر مدفن العظماء عن قبر أدموند سبنسر الشاعر الإنكليزي الذي كان معاصراً لشكسبير لم يجد شيئاً، وقد قام بهذا التفتيش جمعية فرنسيس بيكون وغرضها منه أن تبرهن على أن الاسمين هما لمسمى واحد، وأن الذي أشتهر باسم شكسبير هو في الواقع فرنسيس بيكون لا غيره(279/68)
وكان هذا الحفر بناء على وثيقة مؤرخة سنة 1600 قيل فيها أن أدموند سبنسر دفن في الكنيسة وأن عدداً من معاصريه أبنوه بقصائد دفنت معه. وان خط رثاء شكسبير لسبنسر يثبت أنه خط بيكون. وقد أخرجت بضعة توابيت يظن أن تابوت سبنسر أحدها ولكن أهل الشأن لم يسمحوا بفتحه إذا لم يثبت أنه لسبنسر، وهو مصنوع من الرصاص
شريعة عربية
روي الأديب المهذب (ح، ح) في بحثه (مصدر الهتلربة) في (الرسالة) الغراء قول (تريتشكي): (فلولا الحرب ما كانت الدولة، وينبغي أن يجعل المرء شعاره على الدوام أن الحروب دواء الأمم المريضة) ومقالة (نظرية) الجرماني هذه هي شريعة العربية وقد شرحها الكلحبة العرني في بيته:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوبني بالفتى أن تقطعها
وفي معاني (الجهاد) ما يزيد هذا البيت إيضاحاً. وقد قال غربي: كان سلطان العرب ما قاتلوا، فلما تركوا الحرب واتدعو ذهبت ريحهم
(* * *)
أمة عربية تزول
أذاعت شركة الأنباء الإيطالية (ستيفاني) في جميع أنحاء العالم هذه البرقية:
روما - تلقى الدوتشي من كبار الشخصيات العربية في ليبيا - كالأمير سليمان القرفيلي، ومفتي ليبيا وقضاة طرابلس ودرنة وطبرق، ورئيس المحكمة الشرعية - برقيات تعرب عن خالص شكرهم وشكر أهالي ليبيا العرب على ما منحت تلك البلاد من شرف اعتبارها جزءاً من إيطاليا، وقد أضافت البرقيات أن عرب ليبيا لن ينسوا الخدمات التي أدها ومازال يؤديها الدوتشي لبلادهم وأنهم على استعداد للعمل معه مخلصين إلى النهاية في جميع الظروف
ومعنى هذه البرقية التي نشرت على العالم العربي فلم يحفل بها أحد ولم تعلق عليها صحيفة - أن السلطات الإيطالية اللوبية أرغمت أولئك العرب المساكين على أن يسدوا الشكر (خالصاً) إلى حكومة روما على تلك المنحة العظيمة التي قدمتها إليهم، وهي خمسة(279/69)
ملايين من الإيطاليين سيغمرون ليبيا ويحولونها إلى منطقة إيطالية خالصة، ثم لا يكون للعرب بعد أن توزع أملاكهم على المهاجرين المستعمرين، إلا قفار الصحراء الجديبة يعيشون فيها على الضر والفقر دون أن يكون لهم في أمور البلاد السياسية والاقتصادية لسان ولا يد!
هذه فلسطين أخرى ولكن فلسطين تستطيع أن تقول وأن تعمل؛ أما طرابلس فلا تقول ولا تعمل إلا ما يريده الحاكم بأمره
بس. . .
قال الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في مبحثه في (العامية والفصحى) في (الرسالة الغراء): (وأما بس فلا مثيل لها، ولا غناء عنها بغيرها في اللغة العربية) وهو قول حق كله، واللفظة عربية كل العربية، وإن كان الأصل من فارس. وقد ذكر بهاء الدين العاملي في (كشكوله)، ونقل قوله الزبيدي في (تاجه): (بس كلمة فارسية، وليس للفرس في معناها سواها، وللعرب حسب، وبجل، وقط - مخففة - وأمسك واكفف، وناهيك، ومه، ومهلا، واقطع، واكتفًّ)
أجل، إن في لغة (الجزيرة) كل ذلك لكن لم تظرف واحدة من أُليا الآنسات العشر - كما يرى الأستاذ المازني - ظرف تلك الفارسية
ونطق باللفظة (اللسان) غير ذام ولا ناقد: (وبس بمعنى حسب فارسية) والفارسيات المتعربات أمم يا أستاذاً في العربية
وأخبرنا السيوطي في (المزهر) والخفاجي في (شفاء الغليل) أن (الخليل) أودعها (العين) غير منسوبة إلى فرس ولا عرب: (بس بمعنى حسب) ونابغتنا (الخليل بن أحمد) تلاميذ تلاميذه، كلامهم على الرأس والعين
وروي (المزهر) عن كتابه (المشاكهة) لمحمد بن المعلى الأزدي: (تقول لحديث يستطال: بس، وعن أبي مالك: البس القطع، ولو قالوا لمحدث: بسا كان جيدا بالغا بمعنى المصدر أي بس كلامك بسا، أي أقطعه قطعا، وأنشد:
يحدثنا عبيد ما لقينا ... فبسك يا عبيد من الكلام
القارئ(279/70)
جورج هويتفيلد
مضى قرنان من الزمان على موت جورج هويتفيلد أعظم خطباء الإنجليز ووعاظهم في القرن الثامن عشر. وقد هبت إنجلترا وأمريكا تحتفل بذكرى الرجل العظيم الذي خطب عشرت ملايين منهم فعلمهم جميعاً الرحمة ومحبة الله والتفاني في خدمة البشر والتجرد من زخرف الحياة وباطلها لتكون زخرفاً وجنة للجميع. وكثيرون منا لا يعرفون هذا الرجل الذي شاد بخطبه وعظاته نصف ما في إنجلترا وأمريكا من ملاجئ ومستشفيات ودور للخير. حقا إن شهرة هويتفيلد لم تبلغ في العالم من الذيوع ما بلغته شهرة لوثر أو كلفن أو ويسلي، وهذا لأنه لم ينشئ مذهباً جديداً أو فلسفة جديدة، لكنه في الحقيقة كان أخطب منم وأنفع للخير العام، لأن خطبه الممتلئة بالحرارة والإخلاص لم تقد الناس إلى الحرب وإهراق الدماء والمذابح بل قادتهم إلى البر والمؤاخاة والعطف بينهم، وإن من أظرف ما يروى من أخباره أن الرئيس فرنكلين كان يسمع عنه وكان لا يحبه، فدعاه أحد أصدقائه مرة إلى اجتماع سيخطب فيه هويتفيلد فذهب على كره منه. فلما سمع الشطر الأول من خطبته - وكان موضوع الخطبة الحث على جمع التبرعات لعمل خيري - تحرك شيء من العطف في قلب فرنكلين وعزم على التبرع بقليل من السنتات (السنت: مليمان) فلما بلغ الخطيب نصف خطبته ثار العطف في قلب الرئيس أكثر فعزم على التبرع بدولارات، فلما فرغ هويتفيلد هب فرنكلين فأفرغ في صندوق التبرعات كل ما كان في كيسه من السنتات والدولارات والجنيهات!
فهل من وعاظنا الأفاضل من يبلغ مبلغ جورج هويتفيلد؟
جورنج رجل ألمانيا الحديدي
ظهر هذا الكتاب بالإنجليزية لمؤلفه هـ. و. ريان، وقد تناول فيه المؤلف حياة المارشال جورنج فأرخها تأريخا جميلا من يوم نشأته في المدرسة القروية الحربية البروسية إلى عمله في فرق الطيران الألماني زمن الحرب، إلى هجرته إلى السويد بعد هزيمة ألمانيا، فزواجه هناك من زوجته كارين التي قاسمته شظف العيش وشدة الحياة، التي وضعت في حياته اللبنات الأولى للمجد والمستقبل الحافل. . . ومن أبرع فصول الكتاب تلك التي(279/71)
تتناول عهد الصداقة بين هتلر وجورنج. فقد عهد هتلر إلى صديقه تشكيل الحزب الوطني الاشتراكي فقام بمهمته على أحسن الوجوه وشكل فرق القمصان البنية، وكان مبدؤه إعادة الثقة إلى الشعب الألماني ثم بناء ألمانيا الجديدة. وقد حدث شغب في ميونخ كاد يؤدي إلى إعدام جورنج لولا أن صدر عفو شامل فأنقذت حياته وفي الحقيقة أنقذت حياة ألمانيا. ثم سلك سبيله إلى الريخستاج فصار أحد أعضائه البارزين. ولما صار هتلر مستشاراً عهد إلى صديقه بتنظيم الطيران في ألمانيا وتدعيم اقتصادها في وقت واحد فقام بالمهمتين أحسن قيام. وكون لألمانيا أسطولا جويا وأهبة واستعدادا، ولولا هذا الأسطول ما جرأت ألمانيا على احتلال الرين غير عابئة بقوات أعدائها الكثيرين. وجورنج مع ذاك رجل مثل عملية وهو صاحب الصيحة الآرية المدوية كما أنه هو الذي طهر ألمانيا من اليهود
سياسة الغد
كتاب جليل الموضوع مستقل الرأي مستقيم التفكير، أخرجه الأستاذ (مريت بيك بطرس غالي) كما تخرج الطبيعة ثمرتها في إبانها: عالج فيه الأستاذ الخطط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تسير عليها مصر في عهدها الجديد علاجاً بارعاً نزيهاً صريحاً لم يتقيد فيه بمذهب خاص ولا حزب معين. والكتاب لجلالة موضوعه ومكانة مؤلفه يستحق أن نعود إلى الحديث عنه بالتفصيل في العدد القادم
ناد أدبي للطلبة المغاربة بمصر
اجتمع الطلبة المغاربة بمصر بحثوا في تأليف ناد ثقافي تعاوني وكونوا لجنة تحضيرية لوضع مشروع قانوني أساسي له
وفي الساعة التاسعة من يوم الأربعاء 26 أكتوبر تناقشوا في مشروع القانون الذي قدمته اللجنة التحضيرية ثم وافقوا عليه، وانتخبوا لجنة تنفيذية لتدير أعمال النادي وتحقق أغراضه الثقافية والتعاونية من الطلبة
محمد العربي العلمي سكرتير والمهدي بنونه مساعد له وعبد الكريم غلاب أمين الصندوق وأحمد وبن المليح والعربي بناني ومحمد المسقوي وعبد العزيز الوارثي أعضاء(279/72)
الكتب
هكذا تكلم زرادشت
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
إن نيتشه نفسه يوافقنا على هذا التفسير، فهو يقول ص17 من الترجمة العربية:
(وهنالك في الصحراء القاحلة (أعني صحراء الحياة القاحلة) يتم التحول الثاني فينقلب العقل أسداً لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه. . .!
وفي هذه الصحراء يفتش عن سيد ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنين (الواجب) والتغلب عليه)
ولست أدري كيف غفل صديقنا المترجم عن هذا مع أن قلمه جرى به في الترجمة؟ وكيف تغافله الدكتور (روبرت ربننجر) إن صح ما ينقله صديقنا المترجم عنه
أما الفقرة الأخيرة من النشيد، والتي يجد فيها المترجم سنداً لتأويله على زعمه، فهذه الفقرة لا تؤيده في رأيه بعد أن وضح التفسير الصحيح وإنما هي تؤيدنا في تفسيرنا الذي ذهبنا إليه
أما ترجمة عبارة (سلاه) (حيَّ على الصلاة!) ففيها نظرة؛ ذلك أن نيتشه كان أخصائياً في الآداب العبرية. ومعروف في الأدب العبري أن لفظة (سلاه) ترد في أواخر الأناشيد، والدليل على هذا القائم في سفر الأناشيد في العهد القديم وقد ترجم إلى (سلاه) عربياً في كلا الترجمتين اليسوعية والأميركية. هذا إلى أن نيتشه نقلها كما هي إلى الألمانية واختتم بها عبارات أناشيده. وظلت على نصها العبري في جميع التراجم مع ظهور مفهومها في اللغة العبرية للجميع، إذاً فليس هنالك وجه لأن يذهب المترجم ليفسرها بأن نيتشه يقصد بها (حيَّ على الصلاة!)
أما تقدير الدكتور (روبرت رينجر) فلا قيمة له، ذلك أنه يعرف عن نيتشه أنه متصل بالآداب السامية، فلما وجد تفسيراً للكلمة في العربية وافق المفسر في رأيه، وهو لو درى(279/73)
أن نيتشه كان وقوفه مقصوراً على آداب العبريين، لعلم أن مفتاح الكلمة في لغة العبريين وليست في لغة العرب، ومن هنا كان له أن يرفض تفسير المترجم!
وهنالك في التمهيد الذي قدم به صديقنا المترجم مآخذ كثيرة نحصر الكلام هنا على أهمها وأكثرها مجانبة للواقع
يقول المترجم:
(يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق - يعني السبرمان - جباراً كشمشون، وشاعراً كداود، وحكيماً كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان (التافه) القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره.)
وهذا الرأي يصح ولكن إذا كانت القوة الحيوية في الأحياء لا يمكن زيادتها فيهم حتى يكون من تصرفها من مختلف نوافذ الحياة ما يجعل الحي يقف في مرتبة التفوق من سلم الارتقاء من هنا لا يصح هذا الاعتراض على نيتشه، ذلك أنه يقيم فكرته في مجيء السبرمان من ازدياد القوى الحيوية عن طريق ترك المجال للتنازع للبقاء فيبقى القوي الأصلح. وتعمل سنة الانتخاب على تثبيت صفة القوة في سلالات هذا القوي الذي خرج منتصراً من معمعة التنازع على البقاء.
يقول المترجم:
(من تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لابد له أن يسلم أخيراً بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها ولكل شخصية ميتنها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج)
وهذا الرأي فكرة أولية يؤمن بها صاحبها فليكس فارس وتدور من حولها آراؤه في الشرق والغرب، وهذه الفكرة فيها عنصر من الخطأ، وموضع الخطأ عدم ملاحظته العوامل والمؤثرات الطبيعية والاجتماعية التي تترك أثراً ثابتاً في فطرة الأحياء يتكافأ مع حوافزهم الطبيعية. وقد جلينا في سلسلة مقالاتنا المدرجة على صفحات (الرسالة) عن الغرب(279/74)
والشرق كيف تنزل جميع آراء صديقنا من هذه الفكرة الأولية، وشرحنا أوجه الضعف بتفصيل فيها، فلا داعي هنا للإفاضة.
يقول نيتشه:
(إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل)
ويعلق على هذا الكلام المترجم بقوله:
(ما هذه الفطرة التي يراها نيتشه رافعة الإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله إلا حافزاً الحب وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجتذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر.)
وهو في تفسيره هذا وتعليقه يحمل نيتشه أفكاراً لم تمر بخاطره فضلاً عن أنه يخالف العلم الحديث بمقدراته.
يقول نيتشه إن غريزة الحركة والعمل في الحياة تعمل لخلق كائن يتفوق على أبويه، وهو في هذا يماشي فكرة أن التطور مدفوع للارتقاء، فإذا كانت الحياة هي الحركة والعمل ومجبولة على الأرتقاء، فأذن كل نتاج الحياة يتفوق على أصله. وهذه فكرة مستقلة بذاتها عن فكرة المترجم حين يقول: إن حافزة الحب بما في أعماقها من غريزة الانتخاب الزوجي يجذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن من بنية الآخر
ومع هذا ففكرة المترجم واهنة لو نظرنا إليه من ناحية العلم البيولوجي، ذلك أننا نعرف من بحوث الأستاذ جوليان هكسلي المعروف أن المظاهر الخارجية في الحياة وخصوصاً الصفات (النفسية) وعلى وجه خاص الحب لا يتعدى أثرها (إحكام الروابط النفسية بين الأحياء بعد أن يهبط الميل الفسيولوجي إلى درجة العدم). من هنا لنا أن نقول إن حافز الحب مهما كان له من الأثر في إحكام الروابط النفسية بين الأحياء فإنه لا يتعدى دائرة المظاهر الخارجية للحياة ولا يصل بتأثيره إلى العالم الداخلي فإذن رأي صديقنا المترجم يخالف مقررات العلم البيولوجي الحديث وأمانة البحث تضطرنا إن نقول إن بعض الباحثين إلى الآن لا يزالون يحملون بعض الظاهرات الطبيعية في التناسل على الصفات (الروحية) ذلك أن هذه الفكرة بقية من آثار الرأي العامي الشائع في أن للمظاهر الروحية أثراً في تكوين الجنين. ويستحسن أن يراجع المترجم بحوث الأستاذ جوليان هكسلي في(279/75)
هذا الموضوع
ومن هنا نرفض كل ما نقله المؤلف من فصل (منابت الأطفال) من كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) مقدرين أنه لا صلة بينها وبين الأبحاث العلمية الحديثة في البيولوجيا
يقول المترجم:
(إن الدين يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب)
وهذه الفكرة تدور في كلامه، ذكرها في كتابه (رسالة المنبر) مراراً ورددها في مناظرته معي عام 1937 وجاء يكررها على صفحات (الرسالة) أخيراً، وهاهو ذا اليوم يذكرها في تمهيد يقدم به ترجمته لكتاب زارازوسترا. ومع كل هذا فالفكرة خاطئة فالغرب لم يشوه الدين أخذه من الشرق، وإنما كل ما فعله، أنه جعله يتكافأ مع طبيعته الحيوية الإنسانية فأسبغ عليه صوراً ليست منه، ولكنها من طبيعته، فكان من ذلك صورة للدين تغاير الصورة التي هي عليها في الشرق
إذن فالتعبير بأن الغرب شوه الدين تعبير خاطئ، وصحة التعبير أن يقال إن الدين الذي أخذه الغرب عن الشرق كيفه على حسب طبيعته حتى يقبله، وهذا التكييف إن اعتبر تشويهاً في نظر المترجم هو في الواقع خلع للثوب الغيبي عن الأديان وجعله إنسانياً!
يقول المترجم:
(إن الدين قد أراد للإنسان تكاملاً روحياً يهيئه إلى إدراك باريه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر ما لا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على هذه الأرض فيجعلها جنة خلد يستوي عليها بجبروته إلهاً. . .)
ونحن نقول:
(إن نيتشه لم يفعل أكثر مما استلزمته عقيلته الآرية وعقله الإنساني المتحرر من تقاليد الماضي، وهو لم يحاول أن يجعل الإنسان يفلت من حدود إنسانيته بل عمل أن يرد الإنسان لحقيقته في عالم الطبيعة بعد أن حاولت الأديان أن تفلته من حدود الطبيعة وتجعله خاضعاً لما وراء الطبيعة، حتى أصبح الإنسان حيواناً ميتاً فيزيقيا)
إن وجهة النظر تفترق من اعتقاد ثابت بالغيب أو بإنكار لها وإيمان باليقين الواقع، ومن هنا فالفرق بيني وبين صديقي المترجم أنه رجل غيبي وأنا رجل ضد الغيبيات على خط(279/76)
مستقيم
والناحية الغيبية عند صديقي هي التي جعلته ينكر التطور كحقيقة بيولوجية إذ قال:
(إن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها مهما كرت القرون وتعاقبت الأجيال، لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للبنات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان ولا الحيوان، أن يجتاز ملكة الإنسان
لذلك كان الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيواناً أو استبدال الحيوان إنساناً
لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقب كرت ما وراءه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبداً ضمن حلقة إنسانيته)
ويؤسفني أن يرجع صديقي فليكس فارس عن أفكاره عصره القهقري إلى أفكار القرون الوسطى
يقول أمين الريحاني فيلسوف الفريكة في خطاب لصديقه وصديقي فليكس فارس على صفحات المقتطف:
(ألا إن فليكس لصديق عزيز قديم. وقد طالما ترافقنا في جادات العقل والروح واتفقنا، بل كنا دوماً في طليعة الحملات حملات الحرية والعلم، على معاقل الظلم والظلام
وإني لأرى فليكس اليوم في غير تلك الطلائع والحملات، إني أراه اليوم واقفاً في المؤخرة وهو يتلفت إلى الوراء ويجنح بعض الأحايين إلى جادات لا أثر فيها للعلم الحديث، وللنزعات الفكرية الحرة. .!)
وإني وإن كنت أوافق فيلسوف الفريكة في الشطر الثاني من كلامه عن صديقي فليكس، فأنني لأشك في صدق الشطر الأول منه، في وقوف صديقنا فليكس في طليعة حملات العلم، ذلك أنني لا أتصور إنساناً يقف في طليعة حملات العلم، ولو قبل الحرب العظمى ويكون منكراً للتطور. لقد كان فليكس فارس في طليعة حملات الحرية في سوريا قبل الحرب، ولكن لم يكن في طليعة حملات العلم. هذه حقيقة يجب أن نعرفها. إن كانت للصداقة واجباتها فإن للحقيقة حقوقها. . .
بالأمس كنت أقلب بين يدي كتاباً عن نظرية التطور عند القدماء لأوتو فولنجر الكاتب(279/77)
الألماني المعروف. وقد جمع مؤلفه في القسم الثاني منه كل ما قاله كتاب العرب في موضوع التطور واليوم انتبهت فإذا بصديقي فليكس يرى التطور وبتصوره بالصورة التي جعله عليها إخوان الصفا وابن مسكويه منذ قرون. فيذهب للرد عليهم جانحاً إلى صور من التأمل والتخيل أبعد ما تكون عن أساليب العلم والعلماء
لاشك عندي أن صديقي فليكس يسير في المؤخرة من سير الزمن، يعيش بعقله في عصر سابق لقيام النهضة الحديثة
إن الشخص الذي يتحدث عن المواليد الثلاثة وعوالمها وعن عدم إمكان الجماد أن يفلت من حدود عالمه إلى عالم النبات، وعن عدم إمكان النبات أن يفلت من كونه إلى مملكة الحيوان. . . إنما هو شخص يعيش بأفكاره في العصور الوسطى، ونحن لا نرضى بمثل هذه الحياة لصديقنا، ولكن ليس بيدنا من أمر!. . .
يقرر الصديق فليكس أن كرّ القرون وتعاقب الأجيال لا يُمَكِّنُ النوع من الانعتاق من حلقة نوعه. . . فكأني بالصديق أولاً: من الذين يتصورون النشوء والتطور يجري لطول الآماد وكرّ القرون وتعاقب الأجيال. ثانياً: أنه من الذين لم يقفوا على المباحث الحديثة في التطور وخصوصاً تجارب (مورغن) و (مللر) و (جوهانسن) حتى أنه يكرر القول بعدم إمكان النوع أن ينعتق من حلقة نوعه
أما عن التصور الأول فقد نبه إلى فساده من قبل (شارلس روبرت دارون) في كتابه أصل الأنواع، إذ قال في الفصل الرابع (ص218 من الترجمة العربية، طبعة أولى وج2 ص40 من الطبعة الثانية - ترجمة صديقنا إسماعيل مظهر) ما نصه:
(إن كر الصباح ومر العشي، ومضي الأزمان المتتابعة لا يحدث في الانتخاب الطبيعي أثراً ما إيجاباً أو سلباً. ولقد اضطررت إلى التكلم في هذا المبحث لأن بعض الطبيعيين أيقن خطأ بأني أعتقد أن لمضي الأزمان وترادف العصور، الأثر الكلي والجولة الواسعة في تغيير صفات الأنواع، على قاعدة أن صور الأحياء عامتها كانت ممعنة في تغاير الصفات بتأثير سنة طبيعية مؤصلة في تضاعيف فطرتها بيد أن مضي العصور وتلاحق الدهور لا يتعدى أثرها تهيئة لظروف ظهور التغايرات المفيدة للكائنات الحية وانتخابها انتخاباً طبيعياً واستجماعها ثم تثبيتها من طبائع الصور العضوية، ولا جرم إن لذلك أثراً بيناً، غير أنه(279/78)
بعيد عما يتوهمون، كذلك يعد مضي الوقت طبائع الكائنات الحية من حيث تأثيرها الآلي، إلى قبول تأثير الحالات الطبيعية قبولاً مباشراً)
لقد كان صديقي إسماعيل مظهر يرد على جمال الدين الأفغاني مزاعمه في هذا الموضوع بنفس هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة. واليوم يدور دولاب الزمن، وأقف أنا من سيره أعيد كلام صديقي في تصحيح مزاعم الصديق فليكس.
أما عن الأمر الثاني فصديقي فليكس يظهر تماماً أنه لم يقف على حقيقة البحوث التطورية الحديثة، وهو قد ظن أن الخلاف الذي نشب في أوائل القرن العشرين بين مدرسة لامارك ومدرسة دارون ومدرسة ويزمان دي فريس حول مجرى التطور إن دل على شيء فإنما على أن نظرية التطور واهنة.
والواقع أن التطور اليوم خرج من حدود النظريات وأصبح حقيقة أولية في علم الأحياء، وإن كان هناك من خلاف فهو حول تفسير التطور والعوامل والمؤثرات التي تدفع إليه.
وليس من شأني هنا أن أنقل للصديق فليكس آخر الآراء الحديثة في تفسير التطور، فليس خلافنا معه على التفسير إنما على التطور نفسه، فإن الصديق فليكس ينكره كحقيقة علمية وهنا موضع الافتراق بيننا.
وإني وإن كنت من غير المشتغلين بمباحث الأحياء فإن وقوفي على مباحثه وقوفاً تاماً يسمح لي أن أقول مع شكسبير إنني مستعد لدفع ألف إسترليني لمن يثبت ولو من وجهة نظرية أن التطور ليس حقيقة علمية!. .
إني مستعد لدفعها وبعد ذلك إعلان إفلاسي وكسر قلمي. . كما قال في مسألة مماثلة من قبل جوجول.
وذهب صديقي فليكس إلى الخلط بين الإلحاد والعدمية بين وفهو يقول: (الملحد هو الذي يرى أمامه ووراءه العدم والزوال) وهو في ذلك يوافق الأديب الناقد الأستاذ عباس محمود العقاد رأيه في أن (الملحد من يجحد الحياة وهو من هنا يريد أن يقول إن نيتشه نظراً لأنه لم يجحد الحياة) فهو مؤمن!
غير أني أرى أن هذا الرأي في الإلحاد توسع في فهم معناه إلى أكثر مما يحتمله معنى الإلحاد، فإن الإلحاد عندنا (الملحدين) حالة سلبية بالغيبيات، وناحيتها الإيجابية اعتبار(279/79)
اليقينيات أساس المعرفة.
وأظن أن هذا الرأي يتسق مع مفهوم الإلحاد أكثر من رأي الصديق فليكس وفكرة العقاد.
وبهذه المناسبة أحب أن ألفت نظر الصديق فليكس إلى ذلك الحديث الذي جرى منذ شهرين تقريباً على المائدة في داره بيني وبين الصديق الدكتور محمود عزمي وأديب حلب سامي الكيالي، وكيف انتهى بنا الحديث إلى أن الإلحاد حالة غير حالي العدمية
ومن هنا لا أجد بدَّا لرد فكرة اعتبار الإلحاد والعدمية وجهتين من النظر لا تختلفان
العدمي هو الذي جحدته حياته فجحدها، وكثير من الملحدين عدميون، ولكن هذا ليس بدليل على أن الإلحاد والعدمية مظهران من حالة واحدة
هذه ملاحظات سريعة على التمهيد، نوطئ بها الكلام عن نيتشه وفلسفته وقيمة تفكيره في عالم في عالم الفلسفة وأثرها في ألمانيا
(أبو قير)
إسماعيل أحمد أدهم(279/80)
العدد 280 - بتاريخ: 14 - 11 - 1938(/)
الغازي كمال أتاتورك
ربما كان (كمال أتاتورك) أضعف من (مصطفى كمال) في الدلالة على نشور دولة في قائد، ونبوغ أمة في رجل، وبلوغ حكومة في زعيم، وتاريخ نهضة في حياة فرد! فإن (مصطفى كمال) أسم على كل أولئك نقشته في الآذان والأذهان الأقدار المصرِّفة والعبقرية الخلاقة في مدى عشرين سنة! ولكن (أتاتورك) لّقبٌ أطلقوه على النسر المحلق بعدما قبض مخلبه وطوى جناحه، فلم يطر معه في جو، ولم يقع به على فريسة، ولم يدل إلا دلالة الأبوة على الأسرة الطائعة والألفة الجامعة والرعايا الحنون!
لم يكن مصطفى كمال رحمه الله رجلاً من رجال المصادفة والحظ،
يرفعه إلى البطولة خلو الميدان، ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة؛ وإنما
كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي
يوشك أن يضل، والحيويةَ للشعب الذي يأبى أن يموت. والغالب في
هذا الصنف من الناس أن يكون مستبداً رأيه حاكماً بأمره، لأنه يظهر
والقوم في ضلال أو انحلال فيكون تفرده بالأمر تنبيهاً من الله وتوجيهاً
من الطبيعة؛ ومن ثَمَّ كان المضاء والفداء والإيثار والعدل من أخص
صفاته
جرت الطبيعة في تهيئة مصطفى كمال على منهاجها في تهيئة الأبطال، فولدته في مهد الفقر، وربته في مدارج القرية، وغسلته بأنداء الحقل، وسقته من عرق العمل، ففلح الأرض، ورعى الغنم، وتلقى من الطبيعة الصافية الحرة أخلاق البطل الذي رمى المنجل وأخذ السيف، وأنصرف عن قيادة القطيع إلى قيادة الأمة
تستطيع أن تقول: أن الوراثة المختلطة والنشأة القروية والبيئة المقدونية والأم الصالحة قد فعلت فعلها جميعاً في تكوين مصطفى كمال؛ ولكنك لا تستطيع أن ترد إلى عامل من هذه العوامل ذلك القلق الروحي الذي استولى عليه في جميع أطوار عمره، فتركه ثائراً لا يهدأ، وطامحاً لا يرضى، ودائباً لا يستقر. إنما هو سر الينبوع يذيع، وقبس الإلهام يتقد، وفيض الحيوية يزخر؛ فهو راعاً قلق في المرعى، وطالب ثائر في المدرسة، وقائد متمرد في(280/1)
الجيش، وزعيم مسيطر في الحكومة
رأى مصطفى طغيان عبد الحميد يخنق الحرية ويزهق النفوس ويرهق الضمائر، فقاومه وهو يافع في جماعة (الوطن)، وهاجموه وهو شاب في جمعية الاتحاد والترقي، وقضى على تراثه كله وهو كهل في المجلس الوطني الكبير. ثم كان في كل عمل تولاه يمضي مضي الأمر المقدور، فلا يتقيد برؤسائه الألمان، ولا بزملائه الترك، إذا رأى الفوز في خطته أو الصواب في رأيه
وعصفت الحرب الكبرى بغليوم وبوحيد الدين، ومزقت معاهدة (سِفر) رقعة الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء، فكان لكل حليف درة من تاج محمد الفاتح، حتى لم يبقى للخلافة إلا موضع العرش. ونزل الخليفة ووزراؤه على حكم القادرين فاعترفوا بالضيم واستكانوا للمذلة. وأعتقد الناس أن (الرجل المريض) قد لفظ نَفْسه فلا حسٌ ولا حركة. ولكن الشعوب الحربية يتنخلها الانتخاب الطبيعي فلا تموت بالصيحة كما تموت الشعوب الوديعة، فبقيت الروح التركية تضطرم وتفور في مصطفى كمال ورفاقه الميامين على شعاف الأناضول، فجمعوا فلول الجيش المحطم وكرّوا به على اليونان فكبكبوهم في البحر، وضعضعوا عزائم الأحلاف فهادنوهم في (مودانيا) مهادنة النصر، وعاهدوهم في (لوزان) معاهدة الاستقلال. وبُعثت تركيا من جديد على صرخة كمال وأنصاره كما يبعث المقبور على نفخة الصور، عارية من دنياها القديمة، منقطعة عن ماضيها الغابر، فاستبدلت الجمهورية بالخلافة، والقبعة بالطربوش، وفصلت بين الدنيا والدين، وكتبت من الشمال إلى اليمين، وأدارت ظهرها للشرق، وساوت بين الرجل والمرأة في الحق، وسجلت نفسها في عصبة الأمم من مواليد هذا القرن!
قالوا: إذا كان محمد من جهة البشرية معنى العرب، فإن مصطفى كمال من هذه الجهة معنى الترك. ووجه الشبه في زعمهم أن أتاتورك أحيا وجاهد واصلح وشرع، وأن مبادئه ستنطبع في العقلية التركية فلا تصدر إلا عنها ولا تسير إلا عليها؛ وقد فاتهم أن نهضة محمد يسددها قرآن ويسندها وحي، وأن نوطتها في القلوب آتية من اقتناع العقل لا من شدة السلطان؛ وقد انتقل العرب على هُدَى قائدهم الأعلى من حال إلى حال لا يقاس ما بينهما من البعد والاختلاف بما بين حالي الترك، ومع ذلك ظلوا في طريقهم الواضح إلى الله ثلاثة(280/2)
عشر قرناً ونصفاً لا ينكصون ولا يضلون. فليت شعري أيظل الترك في طريقهم إلى الغرب بعد أن همد الصوت المُهيب وسقطت العصا المهددة؟ إن الناس ليختلفون في الجواب عن هذا السؤال. ولعل كثرتهم يعتقدون أن التغلب على العقائد المغروسة والتقاليد الموروثة والآثار الماثلة لا يتيسر في مثل هذه المدة. ولكن المختلفين والمتفقين كلهم لسان واحد في أن كمال أتاتورك أعظم من أنجبت تركيا شجاعة قلب وبراعة ذهن وأصالة رأي وطهارة يد وسلامة ضمير
تغمده الله برحمته، وجعل ثوابه كِفاءً لصدق جهاده وحسن نيته
أحمد حسن الزيات(280/3)
بقية السحر والمثنوية
للأستاذ عباس محمود العقاد
في كتاب حديث باللغة الإنجليزية عن الآثار الدينية بمصر ذكر المؤلف معاني المعابد القديمة وطواف المسلمين بها في المواسم وفي غير المواسم يلتمسون قضاء الحاجات أو يطلبون وقاية الأبناء والأعزاء، ويعلقون على جدرانها خيوطاً أو خلقاناً تتصل بأصحابها كرامة الصنم أو القديس القديم، وقال المؤلف بعد ذلك ما معناه أن هؤلاء المسلمين ولاشك هم من عنصر الفراعنة الأقدمين، وأن هذه العقائد هي سلسلة الوراثة من الآباء إلى الأبناء والأحفاد
ومثل هذا التفسير يجوز لو كانت العقائد مما يورث في الدماء وراثة تشريحية كما يقولون في مصطلحات العلم الحديث، ولكن العقائد لا تنتقل هذا الانتقال ولا تبقى إلا بآثارها في المجتمع أو بأساسها من النوازع النفسية الخالدة، وليس منها الإيمان يولي مخصوص أو بمكان محدود. بل ذلك هو حكم العرف والتقليد
لقد لاحظنا كثيراً في الصعيد أناساً يذهبون إلى أصنام الفراعنة ولاسيما آلهة النسل - يطلبون الذرية ويفرضون على أنفسهم النذور، ويتلون بعض العزائم والدعوات. ولاحظنا كثيراً أناساً من المسلمين يطوفون بغير المعابد الإسلامية دفعاً لمرض أو اتقاء لبلاء، فلم يخطر لنا أنهم يصنعون ذلك بفعل الوراثة المتغلغل في التركيب على غير علم من ذويه، وإنما خطر لنا أنها بقية من السحر وبقية من الإيمان بعناصر الشر تساور الناس من جميع الأديان
فالمسلمون والنصارى واليهود والمجوس والبوذيون يلجئون إلى السحرة للتعوذ من الشرور، ولا يقول أحد إنهم أبناء أمم قديمة كانت تدين بهذا الدين أو ذاك، ولكنهم في الواقع يؤمنون بالسحر اليوم كما كانت الأمم القديمة تؤمن به على السواء في أفريقيا وأوربا وآسيا والأمريكتين وفي كل صقع من أصقاع العالم. ولو بقي في أستراليا مثلاً رجل واحد يلجأ إلى ساحر ليحميه بالرقي والتعاويذ لما جاز أن يقال إن هذا الرجل من نسل المصريين الأقدمين لأنهم كانوا أمة يسود فيها طائفة من السحرة والكهان. بل كل ما يجوز أن عقيدة السحر لها مرجع واحد من نوازع النفس الإنسانية، وهو خوف المجهول والإيمان بوجود(280/4)
عناصر شريرة تصيب الناس ويتأتى لهم اتقاؤها بالطلاسم والهدايا والقرابين، على أيدي السحرة من ذوي الصلة بتلك العناصر أو تلك الأرواح
فالمسلم المصري الذي يلجأ إلى صنم فرعوني لا يتوجه إلى ذلك الصنم لأنه يعبده أو يحس في نفسه نوازع الوراثة من قتل الآباء والأجداد، ولكنه يتوجه إليه كما يتوجه إلى ساحر يخدم الشياطين ويصون الناس عن أذاها بجعل معلوم، ومن دأبه أن يتوقع الشرور من جانب الشياطين، فكيف يتفق على مهادنتها ومسالمتها إلا أن يكون الاتفاق على أيدي وسطائها المقبولين وسفرائها المقربين؟ إن الاتفاق مع شيخ من الشيوخ الصالحين قد يطول أمره، وقد يكون إشهاراً للحرب يستميت فيها الشيطان ثم ينهزم آخر الأمر بعد التنكيل بمن أثاروه وناوأوه. ولم هذا التطويل وهذه المجازفة؟ وماذا يجدي المتوسل المسكين أن ينهزم الشيطان في نهاية المعركة على يد الشيخ الصالح؟ أليس أحكم من ذلك وأدنى إلى النجاح أن تهدئ من ثورة الشيطان بالتوسل إلى سفرائه المعروفين؟
تلك هي الحالة العقلية أو الحالة النفسية التي تحفز بعض المسلمين إلى ابتغاء المعونة من الساحر أو من الصنم الفرعوني المهجور
ونقرب هذه الحالة بعض التقريب فنسأل: ماذا يصنع الفلاح المصري اليوم إذا علم أن منسراً من اللصوص هجموا على داره فانتزعوا منه طفله وحيوانه وأنذروه بإحراق زرعه؟
إنه لا يؤمن بحكومة مشروعة لأولئك اللصوص، ولا يحبهم، ولا يرضى عن وجودهم، ويعلم أن الطريق المشروع هو تبليغ الحكومة، وأن الحكومة إذا ما دخلت في حرب سجال مع أولئك اللصوص فالغلبة لها لا محالة، واللصوص من مقبوض عليهم في يوم من الأيام بغير جدال
ولكن ما العمل إذا قتل اللصوص طفله وحيوانه وحرقوا زرعه وداره قبل وصول الحكومة إليهم ونجاحها في القبض عليهم؟ أليس الأجدى من ذلك أداء (الحلاوة) المفروضة والتماس السلامة من هذا الطريق القريب؟ وهل يقدح ذلك في طاعته للحكومة وإخلاصه للقانون وكراهته لمنسر اللصوص؟؟
هذا بعينه هو أسلوب المسلم المصري في التفكير حين يعن له أن يحمي نفسه وأبناءه من(280/5)
أذى الشياطين أو أرباب الكفر القديم.
إنه يؤمن بالله ويعرف أنه هو الإله الوحيد الحقيق بالطاعة والعبادة، وأنه إذا توسل إلى ولي من أوليائه الصالحين فهو منتصر في نهاية المعركة لا محالة، ومطمئن إلى جانب الله مالك الملك وقامع الأنس والجن والمردة والشياطين.
ولكن ما العمل إذا قتل الشيطان ابنه أو مسه بطائف من الخبل قبل انهزامه في المعركة التي يشنها عليه ولي الله؟ أليس الأجدى من ذلك أداء (الحلاوة) المعلومة وكتابة الحجاب المطلوب وتسليم الإتاوة وكفى الله المؤمنين القتال؟؟
فالسحر هو مهادنة بين المؤمن وعناصر الشر إيثاراً للدعة والإيجاز في علاج الأمور، وليس فيه إيمان بإله قديم ولا تراث من دم موروث في العروق.
ويشبه الإيمان بالسحر الإيمان الخفي بالمثنوية في نفوس الجهلاء وبعض المتعلمين.
لقد كانت مدام دي ستايل تقول إنها ملحدة ولكنها تعتقد وجود الشياطين، أو أنها فقدت رجاءها في الخير ولكنها لم تفقد خشيتها مما في العالم الظاهر والباطن من شرور.
والمسلم اليوم يؤمن بالله، وأن إبليس رسول الشر في هذه الدنيا غير مشلول الحركة ولا مغلول السواعد، فقد يصيب من أراده بالضرر ثم يكون المرجع في دفع ذلك الضرر إلى الله.
ولم يكن هذا اعتقاد الأقدمين من جميع الأمم مصريين وهنديين وفرساً وعرباً وأوربيين وأمريكيين.
بل كان اعتقادهم أن للشر إلهاً مناهضاً لإله الخير يتصاولان ويتصارعان، ولكل منهما معابده وكهانه وشعائره وصلواته، ومنهم من كان يصلي ويتقرب لإله الشر دون إله الخير. لأن إله الشر هو المخيف المؤذي الذي لا يكف عن الإساءة إلا بمهادنة وقربان. . . أما إله الخير فلا خوف منه ولا انقطاع لخيره، إذ هو مطبوع عليه انطباع زميله على النكاية والإيذاء.
بطلت هذه العقيدة وخلفتها عقيدة التوحيد، ولكنها ذات رجعات وعقابيل تظهر في المعتقدين والملحدين. فأما المعتقدون فمثالهم أولئك الجهلاء الذين يتوجهون إلى صنم فرعوني قديم، وأما الملحدون فمثالهم مدام دي ستايل التي تخاف العفاريت والشياطين ولا تخاف الله.(280/6)
وفيما تقدم كله تفسير لما أشكل فهمه على الأستاذ مورتون مؤلف الكتاب الذي أشرنا إليه.
عباس محمود العقاد(280/7)
الحقائق العليا في الحياة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
(بعض الألفاظ إذا نطقت بها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)
1 - الإيمان
أعجب لفنان لا يؤمن وهو دائماً يقلب حواسه في الطبيعة!
إلا يحس الربط الجامع بينها وبين قلبه؟
أهو يعجب إن رأى صنعه إنسانية تحاكي نماذج الطبيعة، ولا يعجب من النماذج الحية نفسها، التي تقذفها الأرحام وتنفتح عنها الأكمام، وتنسجها ظلمات الأرض، وتصبغها أضواء السماء؟
ألا يعجب من يقظة القوانين الدائمة الصيانة للذرة والمجّرَّة وما بينهما؟
أنا أدعو كل ملحد إلى شيء واحد: أن يعيد النظرة مرة ثانية في أبجدية الحقائق، وأن يستحضر روح طفل يفتح عينه لأول مرة على الحياة فيرى فيها كل شيء جديداً: الحياة الماثلة في الطبيعة المجردة لا في الطبيعة (المحفوظة في علب) كما يعبر الأستاذ توفيق الحكيم
أدعوه أن يترك الألفاظ الاصطلاحية التي ساقها الجدليون وأهل الخلاف، فدخلت إلى فكره واحتلته وخنقت الأصوات الطبيعية التي تنبعث فيه منادية إلى الأوليات والمبادئ الفطرية دائماً. بل إني أدعو كل ذي لب وقلب: أن ابتدئ حياتك! كن طفلاً من جديد. . . أنظر إلى الدنيا بعين ريفي أبله فوجئ بزينة المدينة. . . إنس ألفاظ الناس وتعاليمهم. إن كثيراً من معلوماتك دخلت إليك وأنت قاصر لا تميز الخبيث من الطيب. إنهم خدعوك في الحق وخدعوك في الباطل. فليس كل الحق عندك حقَّاً، وليس كل الباطل كذلك. . . وقد بنيت أحكامك بعد أن كبرت واستقللت على أشياء لم تتأكد من صحتها ولم تخبرها بكل عقلك وإلهامك. فأعد النظر في كل شيء تظفر بلذة عظمى: لذة انكشاف حقيقة نفسك ودنياها لك
لقد أتى (ديكارت) أبو الفلسفة الحديثة بالعجب العجاب حين أعاد النظر في نفسه ودنياها(280/8)
من جديد. . . إنه جدد حياة الفكر البشري كله حين جدد حياة نفسه فهدم كل ما فيها ثم أعاد ما يستحق البناء منه وذرى أنقاض الباطل في الريح وفي وجه الشيطان. . .
سترى الناس لا يسيرون على الجادة، ولكن يتفرقون على بنيات الطريق ودروبه المسدودة أو الموصلة إلى التيه. . . أو أنهم يستديرون وجه الطريق ويستقبلون قفاه. . . أو أنهم يتخذون قطاع الطريق إدلاء ومرشدين ورواداً. . .
إن الطب يدعو إلى صحة الأجسام بتصفية الفضلات والزوائد والأخلاط المضادة. . .
فلماذا لا تصفي كل ما في نفسك لتذهب فضلاتها وزوائدها وسمومها. . .؟
إن هذا يذكرك نفسك دائماً ولا يدعك تذهل عنها بالاشتغال بقشور حياتها وبالنزاع الكاذب عليها، ولا يشغلك عن مواكب الحياة التي تمر أمامك في كل لحظة
إنه مسح لزجاجتها حتى تكون شفافة صادقة الوصف والنقل لما وراءها. . .
والذهول عن النفس بالخبز والذهب والحديد، فَقدٌ لها وإهدار لحياتها الحقيقية، وسوء فهم لطرق أمتعها. وإن طعم الحياة لا يذاق إلا بالتيقظ الدائم لها في كل لمحة ونَفَس
والإنسانية هي هذه النقطة، لأن الحيوان في ذهول دائم يسير مكباً على وجهه لا يتيقظ إلا إلى مشتهاه. ولذلك غلب الذهول عن الشئون الوضيعة، على عقول الفلاسفة والفنانين الصادقين، لأنهم دائماً في شغل بصيد الخواطر التي تقفز وتحوم حول حواسهم وأفكارهم
ومتى ابتدأت حياتك شعرت بنفسك ثم شعرت بيد قاهرة خفية تدفعك من غير إرادة منك ولا استشارة لك إلى هذه الدار العجيبة الكبيرة الهائلة: الدنيا. وتلك اليد هي مناط الإيمان. يجن العقل ولا يستطيع أن يتصور أن الطبيعة خالية منها أو خارجة عن طوعها. . .
فالإيمان أن تقذف بنفسك دائماً في أحضان هذه القوة القاهرة الحامية لحقائقها وقوانينها وأن تكون معها كما يكون الطفل مع أبيه: يلوذ به ويعوذ، ويعتز ويفرح، ويفتخر وينتسب.
الإيمان هو استمداد القلب قوته وحياته من واهب الحياة وقيوم الدنيا. فالإنسان به مسندٌ ظهره إلى جدار السموات والأرض، مُحْتم بقوانينها، ومسلط عليهما، سائر دائماً في صف مجدهما وحقهما: مجد الحياة وميزان العمل فيها، شاعر أنه قوة خادمة للإلهية عاملة ناصبة للتعمير وإقرار الحياة فيهما، فاهم أنه قيوم صغير نائب عن القيوم الأكبر، تتجدد فيه الحياة بتجدد خواطره ويتدفق فيه فيض مستمد منها يحيا به كل الحيوات. . .(280/9)
ثم هو في مخاطبة دائمة مع المشيئة الغالبة العالمة المبدعة التي تلتقي عندها الخلائق
وإن إدراك معنى من معاني الإلهية في خفقة من خفقات الروح أمر يحطم الحدود الضيقة التي يعيش فيها الإنسان، ويجعله يتسع للعالم كله، فيرى الخلائق جميعها تلتقي وتزدحم وتنصب في قلبه. . . فمن من المتأملين لا يريد أن يرى الدنيا جميعها في لحظة خارجة عن حدود الزمان؟
من منكم يا راصدي الدنيا يأبى لنفسه هذا الأتساع وهذا الإدراك لكل شيء في موضعه الحقيقي بين يدي الإله، سواء أكان صغيراً صغيراً كالذرة، أم كبيراً كبيراً كالمجرة؟!
قولوا يا موصدي أبواب العلم في وجوههم وفي جوه الناس!
أجيبوا يا مدمري سعادة الإنسان ومهدري معناه ومضيعيه في الأشواك والصخور بين السعالي والغيلان!
أجيبوا يا مشرديه في أودية التيه، وخاطفيه من أحضان أبيه وقاذفيه إلى قرار اللعنات والطرد والحرمان والفقد الذي ليس معه عزاء!
أجيبوا فإني لا أفقه ما ترمون إليه إلا أن تكونوا قطاع طرق الرحمة ومطاردي الإنسانية من فراديس سعادتها. . ولن تكونوا بذلك إلا شياطين ممسوخة لا تظهر في أثوابها، أو مأجورين للشياطين تدفع لهم أجورهم من الشهوات!
أجيبوا يا باحثين عن فراديسهم وهي في قلوبهم. . . ولكن بينهم وبين أن يعيشوا فيها شيء واحد: هو أن يؤمنوا أنها في قلوبهم قبل أن يروها وبعد أن يروا الحقيقة الكبرى التي تملأ الأكوان فلا يجحدوها. . .
أجيبوا يا صانعي الألفاظ ومبلبلي خواطر الناس وجالبي شقائهم الدائم بالعمى عن كل شيء يضيء والصمم عن كل شيء يصيح!
إنهم يبحثون عن سعادتهم فيما وراء قلوبهم، ولذلك يهدمون كل شيء ويقتلعون كل شيء من مكانه ويفتحون كل (قمقم) كما يفعل الذي يبحث عن متاع ضائع ثمين أليم الفقد. . .
كل هذا لأنهم اخترعوا طائرة وسيارة وراديو وتلغراف. . لذلك أغضوا عن البعوضة والبعير، ونسوا خالقهما وما بينهما. . نسوا الذي اخترع الآلة العجيبة التي في رؤوسهم، وهي التي اخترعت هذه الأعاجيب التي بها يفتنون. .(280/10)
يقول توماس كارليل ما معناه (إن رفع اليد إلى أعلى لا يقل عجباً عن طيران جسم في الجو، وسماع الصوت من قرب لا يقل عجباً عن سماعه من آخر الأرض)
فالمبدأ المعجز موجود منذ الخليقة يراه كل ذي فكر يعبد الحق الأصيل ولا ينساه إذا رأى محاكاة له
والإيمان وصاية واسعة المسئولية على كل شيء: يشمل رعاية النفس والقربى والرحم والوطن والإنسانية والحيوان والجماد. . . نعم الجماد فله على المؤمن أن يضعه موضعه في الفكر وأن يجمله ويسخره ويتأمله ويسبغ عليه من حياته هو. . .
فالمؤمن ليس فردياً أنانياً ضيقاً حياته له وحده. حتى عياله؛ إنه يلدهم لجيش المبدأ الذي يعمل له، هو متجرد من سلطان كل شيء، لأن معه كل شيء؛ إذ كان على موعد مع ما يفنى منه هنا حيث يتلاقيان عند ملتقى كل شيء، عند الله الذي إليه تصير الأمور فله عين ممتدة البصر وراء الفاني تصير معه وتعرف مقره النهائي، فلا يشعر فقده ولا يحرم رفده لأنه معه على اتصال فيما وراء الحجب والكثافات. . . فأيُّما سموٍ وخلود للنفس يشبه هذا فيما بين يدي عشاق الخلود من الفنانين والعلماء؟ فمن يتبع الخلود فليلتمسه عند ملتقى كل شيء وكل ظل وكل ضوء وكل صوت. ما بين المؤمن وبين الإلهية شيء من الحب لا يقاس معه شأن آخر من شئون الحب في قليل ولا كثير. . . لأنه يدري أن أباه الحقيقي هو واهب الحياة وحافظها والقائم عليها والمنظم لآلاتها في جسده. وليس لأبويه من ذلك الحب شيء إلا لأنهما سبيل شعوره بهذه الرحمة والحب من الإلهية التي أوجدته ليتمتع بأفانين الدنيا وأفانين النفس، وإنه ليرجع إليه في كل أمر سار أو ضار بفرح طفل أو حزنه، وإنه ليدري أن لضحكه ودموعه صدى عنده. وشتان بين معتقد هذا ومحسه وبين من يرى نفسه وحيداً بين معارك الدنيا وحرب الشر والخير، ليس معه عين أبيه ترعاه!
إن الثاني يدخل إلى الدنيا ويراها داراً من غير صاحب يملكها ويتعهدها. فهي عنده شيوع ليس لأحد فيها حرمة إلا بمقدار قوته، فيأخذ منها جهرة إن وسعه الجهر، وخلسة إن أحس القهر. لا حدود أمام أطماعه. وأطماعه غير محدودة، والإنسانية عنده قطعان آبدة متوحشة لا رحمة بينها ولا حب إلا في نطاق الضرورة.
وأي شقاء للنفس إذا لم تعرف أن للدنيا مالكاً! إنه شقاء يوحي بالجريمة في صور فظيعة(280/11)
فاجعة كجريمة (نيرون) في حرق (روما) بأهلها. وكجرائم (جوف فوشيه) وزير نابليون، الذي استعمل كل ذكائه في التنكيل والتخريب وخدع نفسه إذ كتب على قبره (الموت نوم أبدي)، وكجرائم الفوضويين والمعطلين والدهريين الذي يرتكبون كل شنيعة على حساب العدم
لا يدخل نفس المؤمن شيء إلا بعد استئذان إيمانه. وما عرفت سلطاناً لشيء على النفس مثل سلطان الإيمان كما غرسه وعمقه القرآن. وإن النفس لتلاقي به كل شيء، فان كان من عوامل البطش استمدت من جبار السموات مدداً عليه، وإن كان من عوامل الرحمة استمدت من الرحمن صوراً من رحمته
وإن المؤمنين ليصبرون على غزو الشبهات لعقولهم ولا يدعونها تصل إلى قلوبهم. وهم أكثر الناس انقذافاً بالشبهات لأنهم ليسوا أغبياء ولا عجزة مغفلين عما في الدنيا من الأحاجي والألغاز؛ فعقولهم دائماً في احتكاك مع حقائق الحياة وما فيها من الآراء والمذاهب والأديان وفي تعجب دائم قد يصل بهم إلى درجة الحيرة (ولم تزل الحيرة سمة العارفين)
ولم أر إلا واضعاً كف حيرة ... على ذَقّنٍ أو قارعاً سن نادم
نهاية إدراك العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
قالوا وقلنا دعاوى ما تفيد لنا ... إلا الأذى واحتجاجاً في المداجاة
وإنهم ليعلمون أن الله راض لهم الفتنة ليصفيهم، ولا يأخذ منهم إلى قدسه وسبحات عرشه إلا من يثبت على اتجاهه إليه برغم حجب الغيب الكثيفة من جهة وبرغم أضاليل الحياة وتناقض بعض صورها في ظاهر بعض العقول القاصرة، وبرغم همزات الشياطين ونزغهم (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون)
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)
وإنهم ليكتمون ما عساه يصيبهم منها في صدورهم علماً منهم أنها أمراض طارئة في عصر الشك الذي يصيب كل باحث كما أصاب الغزالي أبا الزهد والمعرفة حتى تكسرت عنه العقائد الموروثة) كما يقول في كتابه: (المنقذ من الضلال)، فيرون تحصين الناس منها حتى تبرأ قلوبهم ويهديهم الله إليه بعد جهادهم فيه، فيعرضوها بعد ذلك مع دوائها وبراهين(280/12)
كذبها وبطلانها وعلما منهم كذلك أنهم ما أوتوا علمهم كل شيء، وأن أساطين العلم المادي لم يعرفوا إلى الآن ما هي المادة التي هي أول ما يدرك. . دع عنك ما خفي في عالم الآفاق وعالم الأنفس، وعلماً منهم كذلك أن أكثر الناس ليسوا مثلهم متفرغين للتفكير في الحقائق ومقابلة بعضها ببعض، وإنما أكثرهم يأخذون الحقيقة أو الشبهة أو الأضلولة فيعيشون بها طول حياتهم، وقد يموتون عليها إلا أن يتداركهم الله بمن يغسل قلوبهم من الشبه والأضاليل
تلك ذخيرة الإيمان في قلب! فأين منها تفريغ الإلحاد للقلوب من كل معاني عزائها وهنائها وقوتها وخلودها؟ أين منها ملؤه لها بكل معنى أثيم أو تافه أو فان؟ يا ويل من أراهم فارغي القلوب وقد صاروا الآن لا عدد لهم!
لقد ضاعوا لأنهم فقدوا ميراث عزائهم ولم ينالوا الدنيا
وعندي أن كل ملحد واجب عليه إخلاصاً لإلحاده أن يكون مجرماً سفاكاً أنانياً وحشياً حتى يحقق مقتضيات إلحاده فلا فائدة من الأخلاق والعلوم والبدوات مادام القلب فارغاً من الله. وقد قلنا في مقال (حرمة البيان) (ما هو الحق؟ ما هو الشرف؟ لولا الله، كل المعايير ساقطة باطلة مبلبلة إذا لم تكن في يده هو. . . كل الصدق كذب. . . وكل الخير شر، إذا لم يقله لنا هو. . .!)
لعمر الحياة لو كان الإيمان كذباً لكان ألد من الصدق! ومادام الإنسان يطلب السعادة والراحة فلماذا لا يطلبهما هنا؟ لماذا يخطئ معنى دوامهما؟ افرضوه كذباً. . . فهل برئت حياتكم من الكذب؟ إنها مجموعة أكاذيب مات منها حكماؤكم غيظاً أيها الناس!
إنه قياس أدركه الأقدمون واختار العقلاء منهم ما عبر عنه شاعرهم بقوله:
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
ومادمتم تقيسون قيمة الشيء بالمنفعة، فأيما شيءٍ أنفع من معنى الإيمان في حياتكم؟ إنه أعظم معنى جلب النفع للبشرية. وقصة تقدم الإنسانية هي قصة المؤمنين منها؛ فإنهم هم الذين تسلموا قيادها مرحلة مرحلة لأنهم أحسوا الإيمان بالقيوم الأكبر فأحسوا الوصاية نيابة عنه على القطيع القاصر، وحملوا أعباءه ونهضوا بها نهوض الجليدين الضليعين الذين لم يستول عليهم ضعف البشر لأنهم أولو العزم الذين في قلوبهم ذلك المعنى الحديدي الذي لا يفلت منه شيء: وهو الصبر! (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم(280/13)
فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) فكل معاني شرف الإنسانية شعب وفروع من تلك الأرومة
ولذلك لو تغيرت فكرة الإلهية يجب أن تتغير موازين الخير والشر. ولكم في ضمير الإنسانية إيماناً عميقاً بالخير من غير سبب ظاهر، وكفراً عميقاً بالشر من غير سبب ظاهر؛ وقد أدى ذلك الفيلسوف الإنجليزي (باركلي) إلى أن يأخذ من هنا برهانه على أن هناك عقلاً أعظم قد أقر موازين الخير والشر في القلوب كما هما، لأن الخير والشر عنده كذلك
(الرستمية)
عبد المنعم خلاف(280/14)
التعليم والمتعطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
هناك غير ذلك حب التضحية والإيثار، وفي هذا يقول الله في كتابه الكريم: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وهذا يستلزم أن يمرن الفتى أو الشاب أو الرجل على عمل الخير والإحسان إلى الغير في القول والعمل وأن يقلل من التفكير في شخصه ومصلحته الخاصة. وأن يتعفف عن العمل لنفسه فقط. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) ويقول سنيكا: (لو أعطيت الحكمة كلها لنفسي على أن أستأثر بها وأمنعها عن اخوتي بني الإنسانية لكرهت الحكمة)
ولاشك أن تمرين الإنسان نفسه على حب غيره ومساعدته مع التقليل من حب نفسه يدفعه إلى الإحسان المستمر. وإلى البذل ثم إلى التضحية وإيثار غيره على نفسه. وهو أعلى مراتب السمو الإنساني.
ومن أحسن الأمثال التي يمكن أن تضرب في التضحية والإيثار ما قرأناه عن أمة اليابان الفتية وإقدام أبنائها على بذل المهج والتضحية بالنفوس في سبيلها. من ذلك أن الحكومة أعلنت عن (طوربيد) اخترعه أحد المخترعين يستلزم دخول إنسان فيه يوجه إلى هدفه إذا ما قذف، فإذا اصطدم بالهدف بارجة كان أو نسافة أو غواصة انفجر بمن فيه فقتله في الحال. ولكنه في الوقت نفسه بفتك بهدفه فتكاً ذريعاً ثم أعلنت عن حاجتها إلى أربعمائة شخص لهذا الغرض المهلك. فتقدم إليها سبعة آلاف شاب يطلبون تلك التضحية عن طيب خاطر. وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة من التضحية والإيثار فلقد ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب زوج فاطمة ابنة الرسول أنه قال لها يوماً: جهزي لنا طعاماً. فقالت: والله ليس عندي غير الماء. فقال لها: إذن أمسك اليوم صائماً. ثم قال لها في اليوم التالي: جهزي لنا طعاماً يا فاطمة. فقالت: والله ليس عندي غير الماء. فأمسك صائماً ثم تكرر ذلك في اليوم الثالث. وفي اليوم الرابع خرج إلى السوق فرهن بعض الأشياء عند يهودي واشترى بما أخذه من نقود دقيقاً وسمناً وعسلاً وأحضره إليها. فجهزت الطعام ولما جلسا للأكل دق الباب فقام فوجد رجلاً يبكي فقال له: ما خطبك؟ قال: لي عشرة أيام لم أذق الطعام. فعاد فأخذ إليه ثلث الطعام. ولما جلس مع زوجه إلى الأكل دق الباب ثانية فقام(280/15)
فوجد امرأة ومعها طفل رضيع يبكيان فقال: ما خطبك؟ قالت: لهذا الطفل اليتيم خمسة أيام لم يذق الطعام. فذهب فجاءها بالثلث الثاني من طعامه. ثم عاد فجلس مع زوجته للأكل فدق الباب ثالثة فذهب فوجد رجلاً مسلماً كان قد أسره الكفار ثم هرب منهم ولم يتذوق الطعام منذ خمسة عشر يوماً فجاءه بالثلث الأخير من الطعام، ثم خرج إلى المسجد جائعاً، فوجد رسول الله جالساً فابتسم لما رآه وقال له: لقد أنزل الله فيك قرآناً قال: وما هو يا رسول الله؟ فقرأ (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) فسر عليّ بذلك سروراً عظيماً. وكان هذا نعم الغذاء الروحي. بأمثال هذه القصص والحوادث يجب أن يتعلم الناشئة كيف يكون البذل، وكيف يكون الإيثار
ثم هناك بعد ذلك تعويد الناشئ الاعتماد على النفس والتغلب على الصعاب بالمكافحة والمثابرة وهو خلق نجد شباب اليوم أشد ما يكونون حاجة إليه في معارك الحياة ومنافساتها القوية، ويستلزم أن يمرن الفتى على الصبر على المكروه واحتمال المشاق والمثابرة على العمل فلا يتبرم إذا أخفق ولا ييأس إذا فشل. بل يتابع عمله ويستأنف جهوده مستبشراً بالمستقبل مملوءاً أملا وثقة بالنجاح والوصول إلى هدفه عاجلاً أو آجلاً مهما لقي من عنت أو إرهاق جاعلاً نصب عينيه مثله العليا حتى يفوز بما يبغي. فقد قال نابليون بونابرت: (لا مستحيل على قلب الشجاع) وإن أخوف ما أخاف على شبابنا ضعف العزائم وقلة الأقدام وعدم المثابرة. ولو أنهم قرءوا شيئاً من تاريخ المخترعين والمصلحين والمجاهدين. وما لقيه من عنت وإرهاق هؤلاء وأولئك من أمثال نيوتن وجاليليو وباستير وجان دارك ومصطفى كامل وفريد وسعد زغلول؛ بل لو أنهم قرءوا ما لقيه صاحب الرسالة الإسلامية في سبيل دعوته من عنت وإرهاق واضطهاد وعذاب وتشريد لعرفوا حقاً كيف تكون قوة الإيمان وكيف تنجح المثابرة والمصابرة
وتلك صفات إذا غرست في الفتى، وتعهد المشرفون على تكوينه وتربيته تغذيتها وتقويتها بالمثل الصالحة أنتجت الإنتاج المفيد المثمر، وإن في قول العلامة بوفون (ليست العبقرية إلا الصبر الطويل) لدليل آخر على ذلك
وهناك فوق كل ما تقدم خلق آخر جدير بأن يعني به العناية كلها في وقتنا الحاضر وهو خلق غير فردي، بل خلق جمعي يبث بين الجماعات المكونة لطوائف مختلفة في سبيل(280/16)
مصلحة الجماعة وفائدتها. ذلك هو التضامن وهو الذي يقول فيه الحديث الشريف (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ولقد أصبح هذا الخلق ضرورياً لمختلف الطوائف لأنه من الأمور التي يبنى عليها نجاحها في معترك الحياة، وإن طوائف العمال في مختلف الممالك لم تنجح النجاح الباهر الذي أدى بها إلى تسلم مقاليد الحكم كما حصل في إنجلترا إلا بتضامنها وتعاونها وتساندها. وإن في اشتراك جماعات الطلبة في عمل واحد لا يقوى عليه فرد واحد منهم كما هو الحال في معظم أنواع الألعاب الرياضية لطريقة ناجعة تعودهم هذا الخلق المفيد. تلك هي الأخلاق التي يجب على كل والد أن يتولى غرسها في ولده، كما يجب على كل مدرسة أن تتعهدها وتنميها وتشجعها في أبنائها. وإنه لما يؤسف له حقاً أن المدرسة الحالية توجه أشد عنايتها إلى الكتب ودراستها والمناهج واستيعابها وملء عقول التلاميذ بمحتوياتها ليؤدوا فيها الامتحان المطلوب منهم في آخر العام من غير أن تعنى العناية المطلوبة بتكوين النشء التكوين الخلقي الذي تتطلبه الحياة. يقول صميلز في بدء كتابه عن الأخلاق (الأخلاق من أمهات القوى في هذا العالم. وهي في أبهى مظاهرها تمثل الطبيعة البشرية في أرقى أشكالها. لأنها تظهر الإنسان وهو في أرقى خلاله، ثم إن النوع البشري خاضع مسخر للرجال ذوي الكد والاستقامة المتشبعين بالأخلاق الراقية والأغراض الصادقة الخالصة، لأن الاعتقاد في مثل هؤلاء والثقة بهم والتشبه بأعمالهم غرائز في النفس. أولئك هم دعائم ما في هذا العالم من خير، ولولاهم لكان الوجود في هذا العالم عبثاً، ولئن كانت العبقرية تحرك الإعجاب فإن الأخلاق ضامنة التوقير والإجلال. ذلك أن هذه منشؤها قوة العقل، وهذي منشؤها قوة القلب، والقلب عادة صاحب السيطرة في الحياة. فالعبقريون في المجتمع بمنزلة الذهن من الإنسان، وذوو الأخلاق بمنزلة الذمة. وبينا أولئك يعجب بهم إذ هؤلاء يهرع إليهم) وقال أيضاً: (كم من أناس لا يملكون من الدنيا سوى أخلاقهم، وهم بفضلها كصاحب التاج المدل بتاجه، وليست طهارة الأخلاق وحسنها من مستلزمات ذوي العقول المثقفة بالمعارف. فقد يجتمع التفوق العقلي والأخلاق السافلة فيذل المتعلم المثقف لذوي المقامات الرفيعة. ثم يتغطرس على ذوي المنازل الوضيعة) وقال جورج هربرت: (قليل من الحياة الصالحة خير من كثير من العلم والمعرفة) ثم قال صميلز في موضع آخر) ليس الاستعداد العقلي ولا التفوق الذهني بنادرين في العالم، ولكن هل(280/17)
يعتمد على الاستعداد العقلي وحده؟ وهل يؤتمن التفوق الذهني؟ كلا. اللهم إلا إذا رافقهما الحق فهو الخلة التي تضمن لصاحبها التبجيل والتعظيم، وتحمل غيره على الثقة به، وهو أساس كل فضيلة، ويظهر في معاملة المرء وسلوكه، وهو الاستقامة والإخلاص في العمل وله نور يسطع في كل قول وفعل، هو الباعث على ثقة المرء بنفسه والحامل للناس على الثقة به، والمرء ذو المكانة في العالم هو الذي يصح الاعتماد عليه، هو الذي إذا قال إن له علماً بشيء كان عالماً به حقاً، وهو الذي إذا قال إني فاعل شيئاً قبله حقاً، وهكذا يحصل الواثق بنفسه على ثقة الناس به واعترافهم بقيمته) وقال مرتن لوثر: (ليست سعادة الأمم في كثرة أموالها؛ ولا في قوة استحكاماتها، ولا في جمال مبانيها وشاهق قصورها، إنما سعادتها في أبنائها المثقفين ورجالها المهذبين الذين استنارت بصائرهم واستقامت أخلاقهم، فهؤلاء قوتها الأساسية وعظمتها الجوهرية) فهل بعد هذا كله يحق للمدرسة أن توجه كل جهودها إلى الثقافة ودراسة ما في بطون الكتب إعداداً للامتحان من غير أن تكترث بمادة الحياة الأساسية وهي الأخلاق؟ وهل بعد هذا ننتظر من خريجي مدارسنا أن يقوموا على العمل، وأن يسيروا في حياتهم السيرة الحميدة المطلوبة وقد أهملتهم هذا الإهمال
إهمال المدرسة للأخلاق ونتائجه
وإني لا أستطيع أن أفسر إهمال المدرسة في تقوية أخلاق النشء والعمل على تكوينهم تكويناً خلقياً عالياً إلا بأمور ثلاثة:
الأول: اندفاع المدرسة في تيار السياسة التعليمية التي رسمت لها عملياً من قبل وجعل النجاح في الامتحان في نهاية العام الدراسي هو الغاية التي ليس وراءها غاية من غير أن يفكر ولاة الأمور وقادة التعليم فينا تفكيراً جدياً عميقاً فيما يستدعيه الإصلاح الحقيقي للمدرسة وما يتناسب مع نهضتنا الجديدة وقوميتنا
الثاني: صعوبة ما يستدعيه العلاج الخلقي المدرسي من درس وفحص وتمحيص وما يستلزمه من مرونة في العمل وعدم الوقوف عند الخطة الآلية التي تسير عليها المدرسة الحالية من حيث قياس الأعمال بالدرجات في الامتحانات ونتائجها. وما يستدعيه فوق ذلك من السلطة المركزية من الديوان العام إلى أيدي المشرفين الفعليين على المدارس. وهو الأمر الذي لازال يقاوم إلى اليوم(280/18)
الثالث: عادم ثقة القابضين على زمام الأمر في الوزارة بالمشرفين على المدارس والقائمين بالأمر فيها مما حال بين أولئك وبين ثقة غيرهم بهم. فأدى ذلك إلى انحطاط مستوى رجال التعليم الأدبي ونفوذهم في الهيئة الاجتماعية وفي هذا ما فيه من النزول بالمدرسة إلى مستوى لا يليق بها.
من أجل هذا أهمل تكوين الخلق في المدرسة فانحطت الأخلاق العامة وتدهورت وصرنا اليوم نواجه في شبابنا حالة سيئة لا يرضاها وطني محب لبلاده: نرى شبابنا عاطلاً خلوا من حب المغامرة والإقدام والنزول إلى ميدان العمل والكفاح في الحياة مليئاً بأنواع الخنوثة والطراوة، وعدم القدرة على المثابرة والنضال وأتجه همه إلى العمل ببعض عادات الفرنج التي أصيب كثير من الفرنج يستقبوحنها ويمقتونها كالخلاعة والرقص وحب اللهو والدعارة، وصار أحب شيء إليه التأنق في الملبس وارتياد محال اللهو والفجور والتهتك في الطرقات، وارتكاب المحظورات والمحرمات، والعمل على الحصول على المال اللازم لذلك بالتدليس والغش والنصب والتزوير والاحتيال، مع الخروج على المبادئ العامة المقررة في الأسرة والمدرسة، فالصغير يريد أن يرغم الكبير على الاستماع لأمره وتنفيذ رأيه، والتلميذ يرغب في أن يقلد أستاذه وناظر مدرسته كما يشاء هواه. وقد ساعده على ذلك ما نعرف نحن كما يعرف غيرنا من رجال التعليم من مآسٍ كثيرة وقعت في المدرسة بسبب أخطاء خلقية كبيرة ارتكبها الطلبة وأرادت المدارس أن تقمعها بالعقوبة الرادعة ولكن الوزارة عن طريق الشفعاء السوء كانت تهمل رأي المدارس بل كانت تجبرها أحياناً على القيام بعكس ما تراه بالانتصار للمخطئين والخارجين على حدود الآداب والفضيلة مما أدى في بعض الأحايين إلى نقل ناظر المدرسة أو بعض المدرسين الذين لا يروق لهم ذلك. ولم يقف الأمر عند المدرسة بل انتشرت الفوضى الخلقية انتشاراً مخيفاً يشفق على هذه الأمة منه عقلاؤها. ويكفي أن ندلل على تمسك الكثيرين من المتعلمين بأهداب الفضيلة وكرم الأخلاق مما يقع تحت حسنا ونظرنا في المجتمع المصري في كل يوم وفي كل لحظة: فهلا سمعت برجل الصحافة الذي يهاجم أشراف الناس وأبرياءهم، وهم هادئون آمنون فينهش أعراضهم، ويقذفهم بأشنع التهم وأفحش السباب، حتى إذا ما استدعاه أحدهم ونقده الجنيه أو الجنيهين، انقلب في يوم وليلة مادحاً له معتذراً عما سلف منه بمختلف(280/19)
الأعذار السخيفة، فإذا ما نفحه شيئاً جديداً بعد ذلك كال له من المدائح ما يجعله في مصاف الأبطال والمجاهدين؟ وهلا سمعت بذلك الموظف الذي يدين بمركزه الكبير لوزير من الوزراء فتراه يتردد على منزله كل يوم ليقدم له فروض الطاعة والولاء وليقوم بخدمته في كل ما يطلبه منه مهما جل أو قل، ثم هو فوق ذلك يخضع لهواه في كل صغيرة وكبيرة مهما كلفه ذلك من الشطط والانحراف عن جادة الحق والعدل، فإذا تبين منه قليلاً من الانتقاد أو الامتعاض من موظف آخر صغير لسوء فهم أو التباس في أمر أسرع فأنزل به السخط وألبسه ثوب الذل وصادره في رزقه وكرامته مهما كان ذلك الموظف الصغير مخلصاً في عمله مؤدياً لواجبه مستقيماً في حياته محتفظاً بكرامته. والأدهى من ذلك أننا نجهد ذلك الموظف الكبير الذي ظلم الناس وداس كرامتهم متابعة لهوى سيده ينقلب في طرفة عين عليه إذا ما زحزحت الظروف ذلك الوزير عن مركزه، وحل محله غيره يخالفه في الرأي. فموظفنا العظيم لا ينقطع عن زيارات سيده السابق ولا يقطع علاقته به فحسب، ولكنه فوق ذلك يتحامل عليه وعلى أعماله أمام سيده الجديد إرضاء له، وهو فوق ذلك يحاربه بكل قوة، وينقلب عدواً لدوداً له. وبذلك يكسب عطف سيده الجديد ويضمن الرقي على يديه. وهل بلغك خبر ذلك المحامي النابه الذي يوكله أحد المتقاضين في قضية له، وينقده نصف الأجر ظاناً أنه سيعمل في صفه بإخلاص، فإذا به يتصل بالخصوم، ويأخذ منهم من المال كل ما تصل إليه يده ليهمل في حقوق موكله فتضيع عليه حقوقه؟ وهلا قرأت في الجرائد اليومية حيل المحتالين والنصابين وحوادث التزوير والتدليس، والاعتداء على العفاف والطهر مما يتزايد ضرره كل يوم وتملأ به الجرائد صفحاتها ومع ذاك فهناك فوق ذلك وا أسفاه كثير مما لا يصل إلى تلك الجرائد! هذه بعض الحال السيئة التي وصلنا إليها، وهي تنخر في عظام الأمة نخراً، بينما قادتنا وساستنا لاهون عنها، مع أن معظمهم قد ذاق الأمرين منها وانكوى بنارها، فجدير بهم أن يعنوا بها قبل عنايتهم بأي أمر آخر مهما كان هاماً. وإني لا أرى محلاً للعناية بها وإصلاحها غير المنزل أولاً، والمدرسة ثانياً، وإذا كان المنزل أساسه وقائده وحاكمه هو المرأة، وتربية المرأة متوقفة كذلك على المدرسة، فقد صارت المدرسة عندنا هي الحجر الأساسي في تكوين الأخلاق وإصلاحها.
يقول صمليز في كتابه الأخلاق: (وهكذا اضمحلت رومة ثم لحقها الدمار لما عم أبناءها(280/20)
فساد الأخلاق، واستولى عليهم حب اللهو والخمول، حتى كانوا في أواخر أيامهم يرون العمل لا يليق إلا بعبيدهم. أمسك أبناؤها عن التحلي بما تحلى به آباؤهم الأولون من فضائل الخصال فسقطت الدولة ولم تكن أهلاً للبقاء. وهكذا تسقط الأمم الخاملة المنهمكة في اللذات، الراتعة في بحبوحة الترف، والتي تستنكف العمل الصالح، تسقط لا محالة ويخلفها في عظمتها الأمم الحية العاملة) ثم يقول في موضوع آخر (ومجمل القول أن سلامة الأمم والحكومات تتوقف على سلامة الأخلاق ولن تكون أمة عظيمة من أفراد فاسدي الأخلاق، مهما لاحت عليهم آثار الحضارة والرقي. ولكنهم لا يلبثون أن يتلاشوا متى صادفتهم عقبة أو غشيتهم شدة. ولن يكونوا ذوي قوة حقة ورابطة متينة وسلامة تامة إلا إذا اتصف كل فرد منهم بالصفات الجميلة والخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة).
عبد الحميد فهمي مطر(280/21)
رد على مقال
ولي الدين يكن وشعره السياسي
للأستاذ محمد مجاهد بلال
قرأت في العدد 278 من الرسالة فصلاً للأستاذ كرم ملحم كرم عن ولي الدين يكن، فسرني أن يتحدث أديب من بيروت عن ولي الدين، فإن ولي الدين لا يذكره المصريون، كأنه لم يعش بينهم ولا يتحدثون عنه، كأنه لم يكن شيئاً ذا بال. ويرحمه الله فهو القائل (. . . وليس رجل ينكره معارفه ويتجافاه أقرب أقاربه إلا الأديب، فهو إذا برّز على أقرانه حسدوه وإن قصر عنهم حقروه)
ومن الحق أن أقول إنني لم أكد أفرغ من قراءة المقال حتى أحببت أن أقول شيئاً في ولي الدين، لا لأن الأستاذ كرم حبّب هذا الشاعر إليّ، فإني أحب ولي الدين من قبل، وقد كتبت عنه أكثر من مرة، وإنما لأن الأستاذ له رأي في شعر ولي الدين السياسي لم أستطع فهمه، فهو يقول:
(ولي الدين كان عبد العاطفة، وكل شعر شذ به عن العاطفة كبا فيه، والدليل شعره السياسي؛ فأين هذا الشعر من القصائد المصهور فيها قلب ولي الدين؟ فبينا أنت إزاء ولي الدين العاطفي في حضرة شاعر من الطبقة الأولى إذا بك تجاه شعره السياسي أمام شاعر من الطبقة الثانية بل الثالثة)
ولقد جرى في أكثر حديث الأستاذ معنى هذا الكلام واتضح أنه حكم على شعر الرجل السياسي حكماً لا أقول قاسياً وإنما هو بعيد عن ولي الدين
والغريب أن الأستاذ حين أراد أن يقيم الحجة على رأيه تجاهل شعر ولي الدين السياسي كله ولم يذكر منه إلا هذين البيتين:
هلمو بنا نحو الأمير نسلم ... سلام على عباس مصر المعظم
ألا إن في الأكباد شوقاً مبرحاً ... إليه فقد كادت من الشوق تدمى
مع أن هذين البيتين لا يدخلان في باب الشعر السياسي بقدر ما يدخلان في باب التهنئة والمديح!
أحب الآن إذاً أن أعرض لشعر ولي الدين السياسي وأن أعرض له في شيء من الإيجاز،(280/22)
فإني أعلم أن صفحات الرسالة معدودة ووقت فراغي محدود
شعر ولي الدين السياسي جله عذب وجله قد نطق به (وقلبه مصهور) وأظن أن القلب لا يصهره حب الغواني فقط - كما يفهم من مقال الأستاذ - وإنما تصهره الآلام جميعاً مهما كانت مصادرها. والذي يعرف تاريخ ولي الدين وحياته بين القاهرة والآستانة وسيواس يعرف أن شعره السياسي لم يكن عبثاً وإنما كان ينطق به وعواطفه ملهبة وقلبه ملتاع.
لقد كان ولي الدين أصدر بالقاهرة جريدة سماها (الاستقامة) فمنعت حكومة الآستانة دخولها إلى المالك العثمانية واضطر أن يوقف صدورها ويودعها بقصيدة جاء فيها:
ولي أمل أودي الزمان بنجحه ... وخيبه سوء الظنون فخابا
ولو شئت وفيت الليالي حسابها ... عليه ولكن لا أشاء حسابا
ومنها:
فمن مبلغ عني الغضاب الألى جنوا ... بأني امرؤ ما إن أخاف غضابا
أذم فلا أخشى عقاباً يصيبني ... وأمدح لا أرجو بذاك ثواباً
علام أحابي معشرا أنا خيرهم ... ومثلي إذا حابى الرجال يحابى
إلى أن قال:
ولما غدا قول الصواب مذمماً ... عزمت على أن لا أقول صوابا
فجافيت أقلامي وعفت (استقامتي) ... ورحت أرجي للسلامة بابا
فهل من الحق أن ننكر في هذه الأبيات قلب ولي الدين وعاطفته وهل من الحق أنه قد كبا فيها؟ لا أظن.
وهذه أبيات من قطعة أخرى قالها ولي الدين في منفاه:
فؤاد دأبه الذكر ... وعين ملؤها عبر
ونفس في شبيبتها ... وجسم مسه الكبر
وآمال مضيعة ... ووقت كله هذر
وعيش عذبه مضض ... وعمر صفوه كدر
أما يا ليل من صبح ... لمن سهروا فينتظر
ومنها:(280/23)
علام نلوم أعداء ... على شر إذا قدروا
بلونهم لدن شبوا ... أننساهم إذا كبروا
نصحناهم فما انتصحوا ... زجرناهم فما ازدجروا
لقد صلدت قلوبهمُ ... كأن قلوبهم حجر
إذا ائتمروا على كيد ... فإنا سوف نأتمر
فمن نخشى وفوق العر ... ش مهما يغترر بشر
فهل من الحق أن ننكر في هذه الأبيات أيضاً قلب ولي الدين وعاطفته؟ وهل من الحق أنه قد كبا فيها؟
وانظر إلى ولي الدين وهو يصور رجال العصر الحميدي وقادته في أبيات لا تقل جمالاً عن سالفتها:
كفى حزناً أن الرجال كثيرة ... وليس لنا فيما نراه رجال
نحكم قوماً لا يبالون قائلاً ... وإن قام كل العالمين فقالوا
إذا ارتقبوا أمراً فذلك منصب ... أو اطلبوا شيئاً فذلك مال
بغال تسوس الأسد شر سياسة ... وما ساس أسداً قبل ذاك بغال
أما بعد: فالأستاذ كرم موافق على أن ولي الدين يجيد ويسمو ويبرع ويروع حين يصهر قلبه، فهل حالات ولي الدين التي دفعته إلى أن يقول هذا الشعر الذي قدمتُه لا تصهر قلبه؟ وماذا ننتظر من رجل تحولت آماله آلاما سوى أن نسمع منه صدى قلبه المصهور، ومن رجل منفي سوى أن ينطق بما يكابد ويعاني، ومن رجل حرا أبى - يرى حريته مكبوتة ولسانه معقوداً - سوى أن يترجم لواعجه وفواجعه؟
إحدى اثنتين: إما أن يكون ولي الدين يجيد ويروع حين يصهر قلبه - كما يرى الأستاذ - وإذاً فهذه الأبيات جيدة رائعة، وإما أن هذه الأبيات ليست جيدة ولا رائعة - كما يرى الأستاذ كذلك - وإذا فولي الدين لا يجيد ويروع حين يصهر قلبه فليختر الأستاذ لنفسه إحدى السبيلين
(طهطا)
محمد مجاهد بلال(280/24)
تفتيش المعارف(280/25)
كتاب المبشرين
أغلاطه اللغوية
لأستاذ جليل
كتاب (المبشرين) أغلاطه في اللغة وغير اللغة - يا أخا العرب - كثيرة. وهذا نموذج من تخليطه اللغوي:
1 - في الصفحة (471): (أهل المدينة القربى من الفتيل)
قالت: قالت العربية: الأقرب، ولم تقل في مؤنثه القربى كما لم تقل في الأظرف والأكرم والإشراف: الظرفي والكرمي والشرفي، وهذا باب مرجعه السماع. وإذا جاءت في (أفعل التفضيل) أل غابت من. قال المفصل: (وتعتوره حالتان متضادتان لزوم التنكير عند مصاحبة من، ولزوم التعريف عند مفارقتها) وبيت الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
قال فيه شارح الكافية: (من، فيه ليست تفضيلية بل للتبعيض أي لست من بينهم بالأكثر حصى كما تقول مثلاً: أريد شخصاً من قريش أفضل من عيسى (عليه السلام) فيقال: محمد (عليه السلام) الأفضل من قريش، أي هو أفضل من عيسى من بين قريش) وقال صاحب (الخصائص) وشارح (المفصل) في البيت مثل ذلك
2 - في الصفحة (435): (واستنزلهم على حكم يهودي خائن متمسلم، اسمه سعد بن معاذ) وجاءت (متمسلم) في الصفحة (365) أيضاً
قلت: لا يقال: تمسلم الرجل أي أسلم أو انتحل الإسلام ظاهراً إن كان كتاب المبشرين قصد هذا المعنى. وتمسلم في العربية معناه تسمى بمسلم ففي (القاموس المحيط): (ويقال: كان يسمى محمداً ثم تمسلم أي تسمى بمسلم) وأسلم من هداه الله وتسلّم: دان بدين العدل والمساواة. قال (لسان العرب): (كان فلان كافراً ثم تسلم أي أسلم، وكان كافراً ثم هو اليوم مسلمة يا هذا)
3 - في الصفحة (397): (أشد أذى لهم وأبلغ نكاية عليهم)
قلت: يقال: نكى فيه ونكاه لا نكى عليه، والأقوال العربية وكتب اللغة كلها تخطئ المبشرين. قال (الصحاح): نكيت في العدو نكاية إذا قتلت فيهم وجرحت، قال أبو النجم:(280/26)
(ننكى العدا ونكرم الأضيافا) وفي النهاية: أو ينكى لك عدواً، ومثل ذلك في اللسان والتاج والأساس والمصباح، وقد يهمز، لغة فيه
4 - في الصفحة (21): (ثم أبادهم بنو إسرائيل عن بكرة أبيهم) وفي الصفحة (410): (وإهلاك أهل قرية عن بكرة أبيهم)
قلت: ليس لكلام المبشرين معنى وأصل هذا القول: (عن بكرة أبيهم) مثل، والأمثال لا تغير، وقد ذكرته كتب الأدب واللغة وأوضحته، قال (مجمع الأمثال): (جاءوا على بكرة أبيهم، قال أو عبيد: أي جاءوا جميعاً لم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بكرة في الحقيقة. وقال غيره: البكرة تأنيث البكر وهو الفتى من الإبل، يصفهم بالقلة أي جاءوا بحيث تحملهم بكرة أبيهم قلة. وقال بعضهم: البكرة ههنا التي يستقى عليها أي جاءوا بعضهم على أثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقال قوم: أرادوا بالبكرة الطريقة كأنهم قالوا: جاءوا على طريقة أبيهم أي يتقيلون أثره. وقال ابن الأعرابي: البكرة جماعة الناس يقال جاءوا على بكرتهم وبكرة أبيهم أي بجمعهم. فقلت: فعلى قول ابن الأعرابي يكون علي في المثل بمعنى مع أي جاءوا مع جماعة أبيهم أي مع قبيلته؛ ويجوز أن يكون على من صلة معنى الكلام أي جاءوا مشتملين على قبيلة أبيهم. هذا هو الأصل ثم يستعمل في اجتماع القوم وإن لم يكونوا من نسب واحد. ويجوز أن يراد البكرة التي يستقى عليها وهي إذا كانت لأبيهم اجتمعوا عليها مستقين لا يمنعهم عنها أحد، فشبه اجتماع القوم في المجيء باجتماع أولئك على بكرة أبيهم)
وأورد المثل الصحاح واللسان والأساس والتاج من المعجمات، وكتاب (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري، وكتاب غاية الأرب في معاني ما يجري على ألسنة العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب للمفضل بن سلمة، وروت هذه المصنفات بعض ما كتبه الميداني في شرح المثل.
5 - في الصفحة (160): (إلى أمر جسداني فقط) وفي الصفحة (203): (بملاذ جسدانية)
قلت: النسبة إلى الجسد جسدي، وإذا كانت العربية لم تجز الجسمانيات - كما قال أبن أبي الحديد في شرح النهج - وفيها الجسمان بمعنى الجسم فيكف يكون حالها مع الجسداني والجسدانية؟ وليس الجسداني نسبة شاذة كما قال صاحب (أقرب الموارد) بل هي خطأ،(280/27)
وجريدة الشاذ الطويلة في باب النسبة معروفة. . .
6 - في الصفحة (294): (لكثرة ما انتشب بينهم من الحروب مهدوا)
قلت: انتشب مطاوع أنشب أي اعتلق، وأنشبه هو فيه أي أعلقه فأنشب، وأنشب البازي مخاليبه في الأخيذة. وانتشب حطباً جمعه، وانتشب طعاماً لمه، ذلك ما قالته العربية، ولم تقل: أنشبوا فيهم الحرب فانتشبت. . . وقد جاء في اللغة وهو من المجاز - ناشبه الحرب أي نابذه، ونشبت الحرب بينهم نشوباً اشتبكت.
7 - في الصفحة (232): (لا يحل فيه صيد الوحش ولا قنص الطير ولا اختضاد الشجر)
قلت: في اللسان والتاج: (اختضد البعير أخذه من الإبل وهو صعب لم يذلل فحطمه ليذل وركبه، حكاها اللحياني، وقال الفارسي: إنما هو اختصر) وقالت اللغة: خضد الشجر وخضده أي قطع شوكه، وخضد العود أي ثناه فانخضد وتخضد وسدر مخضود ومخضد وخضيد، وفي الحديث في شجر المدينة: حرمتها أن تعضد أو تخضد. ومن حديث الدعاء: تقطع به دابرهم وتخضد به شوكتهم. وهذا مجاز
8 - في الصفحة (358): (تذييل على الثلاثة فصول الأولى من المقالة) ومثل ذلك في الصفحة 476
قلت: أخطأ المبشرون في (الثلاثة فصول) قال شارح المفصل: (فالطريق فيه أن تعرف المضاف إليه بأن تدخل فيه الألف واللام ثم تضيف إليه العدد فيتعرف بالإضافة على قياس غلام الرجل) وفي (أدب الكتاب): (تقول: ما فعلت ثلاثة الأثواب ولا يجوز العشرة أثواب) قال ذو الرمة وروي الشاهد المخصص وشرح المفصل:
أمنزلتي ميَّ سلام عليكما ... هل الأزمن اللاتي مضين رواجع
ولا يرجع التسليم أو يكشف العمى ... ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
وقال الفرزدق وهو في شرح المفصل:
مازال مذ عقدت يداه إزاره ... يسمو فأدرك خمسة الأشبار
وقد قالوا: (الثلاثةُ الكُتب) والكتب وصف كما في أدب الكتاب و (الثلاثة الكتبِ) شبهوا ذلك بالحسن الوجه كما في المخصص، وهذا شاذ، وعند الكوفيين قياس كما قال الرضي. و (الثلاثة كتباً) ناصبين على التمييز كما في شرح الكافية.(280/28)
9 - في الصفحة (382): (حتى نجعت فيهم هذه الأكذوبة) ومثله في الصفحة (387)
قلت: هذا الكلام خطأ إذ لم يستعمل الفعل (نجع) في العربية لشئون الشر وأمور الضر، وأصل الفعل وحقيقته يوضحان معناه. قالت اللغة: نجع الطعام في الإنسان: هنأ أكله أو تبينت تنميته واستمرأه وصلح عليه. ونجع فيه الدواء: نفعه وعمل فيه. ونجع في الدابة العلف، وماء ناجع ونجيع إذا كان مريئاً، وماء نجوع كما يقال: ماء نمير، والنجعة طلب الكلأ ومساقط الغيث وقال الأعشى:
لو أطعموا المن والسلوى مكانهم ... ما أبصر الناس طعما فيهم نجعا
ومن المجاز: نجع فيه الوعظ والنصح والخطاب وانتجعت فلاناً أي طلبت معروفه. وفي المقامات الحريرية: فناشدناه أن يعود، وأسنينا له الوعود. فلا وأبيك ما رجع، ولا الترغيب له نجع
10 - في الصفحة (126) ما كان يجهل ما لزخرف الخطابة من فعل السحر وسلب الألباب فلذلك لم يهمل شيئاً من بهرج البيان وزخرف الخطابة فيما ادعاه من الوحي)
قلت: أرادوا أن ينجدوا فغاروا، قصدوا ببهرج البيان زينة البيان أو حسنه أو جماله (وهو ما يعنيه الأصل الإنكليزي وما تدل عليه العبارات قبله وبعده) والبهرج في العربية هو الرديء قال الأساس: كلام بهرج وعمل بهرج وكذلك كل موصوف بالرداءة. وفي اللسان: (واللفظة معربة وقيل: هي كلمة هندية أصلها نبهلة وهو الرديء نقلت إلى الفارسية فقيل: نبهرة ثم عربت فقيل: بهرج، ومكان بهرج غير حمي، وقد بهرج فتبهرج. ومثل ذلك في الجمهرة والنهاية والتاج. وقول (أقرب الموارد): (تبهرجت المرأة تزينت) - خطأ، والأصل الصحيح تبرجت (وتبرجت المرأة تبرجاً أظهرت زينتها ومحاسنها للرجال) كما في التاج. وفي (الكتاب) الذي جاء يهدي الناس ويهذبهم: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
11 - في الصفحة (256): (مدعاة إلى الشك معثرة للضعفاء).
قلت: قول المبشرين معثرة - خطأ، ولهم في العربية المزلة والمضلة والمزلفة، وقد أرادوا أن يقيسوا فوقعوا في العاثور وفي تاريخ بغداد أن بعضهم: (طلب النحو فذهب يقيس فلم يجيء فقال: قلب وقلوب، وكلب وكلوب، فقيل له: كلب وكلاب).(280/29)
12 - في الصفحة (95) (يؤيد الأحكام الشفاهية)
قلت: في (الكتاب): (اعلم أنك إذا أضفت (نسبت) إلى جمع أبداً فإنك توقع الإضافة على واحده الذي كسر عليه، فإذا لم يكن له واحد لم تجاوزه حتى تعلم) فالنسبة إلى الشفاه شفيّ أو شفهي أو شفوي، وقد أنكر الأخير الجوهري، وأثبتها الأزهري. وتجمع الشفة على شفاه وشفوات وكلمته مشافهة ومشافاة) كما في المصباح
13 - في الصفحة (432): (أو أن يرجع إليها منشد)
قلت: مقصود الكتاب يقتضي الناشد، وفي أكثر كتب الأدب واللغة، الناشد الطالب والمنشد المعرّف. قال التبريزي في شرح المعلقات: (يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها) ومثل ذلك في الصحاح والأساس والنهاية، وروي الأساس والجمهرة (والبيت للمثقب العبدي):
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة الناشد للمنشد
وفي اللسان: (قال أبو عبيد: المنشد المعرف، والناشد هو الطالب. ومما يبين لك أن الناشد هو الطالب حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) حين سمع رجلاً يَنشد ضالة في المسجد فقال: (يا أيها الناشد، غيرك الواجد) معناه لا وجدت. وقال ذلك تأديباً له حيث طلب ضالته في المسجد. وفي (التاج): وقال كراع في المجرد وابن القطاع في الأفعال، وأنشدتها بالألف: عرفتها لا غير
14 - في الصفحة (235): (وكادت مذاهبهم (أي القرامطة الباطنية) تقلب الإسلام ظهراً لبطن)
قلت: شرّقت هذه الجملة وغرّب مقصودهم. قال الميداني في (مجمع الأمثال): قلب الأمر ظهراً لبطن، يضرب في حسن التدبير، واللام في (لبطن) بمعنى على، ونصب ظهراً على البدل أي قلب ظهر الأمر على بطنه حتى علم ما فيه) وفي اللسان والتاج والمصباح: قلب الشيء ظهراً لبطن: اختبره. وفي الأساس: ومن المجاز: قلبت الأمر ظهراً لبطن، وضربوا الحديث ظهراً لبطن، قال عمر بن أبي ربيعة:
وضربنا الحديث ظهراً لبطن ... وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
وفي النهاية: وفي حديث معاوية لما احتضر وكان يقلب على فراشه فقال: إنكم لتقلبون(280/30)
حوّلا قلبا إن وَقي كبة النار: أي رجلاً عارفاً بالأمور حتى ركب الصعب والذلول، وقلبها ظهراً لبطن. وكان حسن التقلب. وفي (نجعة الرائد) للشيخ اليازجي في فصل في الفحص والاختبار: واستقصيت في التنقير، وتقصيت في التفتيش، وقلبت الأمر ظهراً لبطن
15 - في الصفحة (25): وجه النجاشي جيشاً إلى اليمن لينقذ من فيه من النصارى من اضطهاد ملكهم الملقب بذي النواس وكان يهودياً)
قلت: الملك المقصود في هذا الخبر يقال له ذو نواس (لا ذو النواس ولا أبو النواس. . .) وقد ذكرت ذلك كتب التفسير والتاريخ والأدب واللغة، قال الكشاف في (قتل أصحاب الأخدود): فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم أثنى عشر ألفاً في الأخاديد. وفي خزانة البغدادي، قيل: إن خلفا الأحمر كان له ولاء في اليمن، وكان أميل الناس إلى أبي نواس فقال له يوماً: أنت من اليمن، فتكنَّ باسم ملك من ملوكهم الإذواء، فاختار ذا نواس، فكناه أبا نواس بحذف صدره، وغلبت عليه. وفي (الجمهرة) النوس مصدر ناس ينوس نَوسا وهو الاضطراب وبه سمي ذو نواس ملك من ملوك حمير لذؤابتين كانتا تنوسان على ظهره
قلت: قد يكون لكلمة نواس في الحميرية غير هذا المعنى
16 - في الصفحة (37): إذ بين هاتين الأمتين عظيم مشابهة. وفي الصفحة (53): فكان لقريش شديد انصباب عليها
قلت: إضافة الصفة إلى موصوفها خطأ، قال شارح المفصل: الصفة والموصوف شيء واحد لأنهما لعين واحدة، فإن كانت الصفة والموصوف شيئاً واحداً لم يجز إضافة أحدهما إلى الآخر.
وقد ورد عنهم ألفاظ ظاهرها من إضافة الموصوف إلى الصفة والصفة إلى موصوفها والتأويل فيها على غير ذلك. وقال الدماميني: اعلم إن إضافة الموصوف إلى صفته والصفة إلى موصوفها لا تنقاس
وقال الشيخ عبد الله البستاني (رحمه الله): لا يجوز أن يضاف اسم إلى مرادفه ولا موصوف إلى صفته ولا صفة إلى موصوفها لأن الغرض من الإضافة المعنوية التعريف أو التخصيص ولا يتعرف الشيء بنفسه، ولا يتخصص بها، فإن سمع عن العرب الخلص ما(280/31)
يوهم شيئاً من ذلك أول وقيل: إنه شاذ لا يقاس عليه؛ وإن سمع عن المتأخرين حكم عليه بأنه غلط لا يجوز استعماله
17 - في الصفحة (401): كان قد نفى الأعجاز عن القرآن تضميناً في مواضع متعددة من الكتاب نفسه
قلت: أخطئوا في قولهم (تضميناً) حسب قصدهم المتعسف والحال يقتضي - كما يريدون - لفظة الالماع أو التلميح أو التلويح أو الإيماء وما ضارع ذلك. ففي اللسان ضمَّن الشيء الشيء أودعه إياه كما تودع الوعاء المتاع والميت القبر وقد تضمنه هو. ومثل ذلك في الجمهرة والصحاح والأساس والتاج والمصباح
18 - في الصفحة (91): وحذره ما يحيق به وبقومه من التهالك إذا لم يكف عما هو فيه
قلت: التهالك في الجملة خطأ، وللمبشرين في العربية الهلك والهلاك والتهلكة والمهلكة والإنهاك والإهتلاك. وقد أوضح (الأساس) معاني التهالك: تهالك على الشيء إذا أشتد حرصه وشرهه، وأنا متهالك في مودتك، وتهالكت في هذا الأمر إذا كنت مجداً فيه مستعجلاً، ومر بتهالك في عدْوه: يجد، وتهالك على الفراش تساقط عليه، وتهالكت في مشيتها: تفّيأت وتكسرت. ومثل ذلك مفرَّقا في الصحاح والنهاية ومفردات الراغب والجمهرة واللسان والتاج وشرح المفضليات لأبي القاسم الأنباري
19 - في الصفحة (342): أن الشيعة يجعلون عليا ندا لمحمد، والسنية ينكرون أن علياً أو واحداً من الأنبياء كائنا من كان يمكن أن يكون ندا لمحمد
قلت: الند المثل المخالف، وقد اجتزأ بعض كتب اللغة بقوله: الند المثل وهو في الكتاب الكريم والحديث والأقوال العربية النظير المناوئ. قال الكشاف فلا تجعلوا لله أنداداً: الند المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ، قال جرير:
أتيماً تجعلون إلى ندا ... وما تيم لدي حسب نديد
وناددت الرجل خالفته ونافرته من ند ندوداً إذا نفر وقال في (الفائق): الند والنديدة مثل الشيء الذي يضاده في أموره ويناده أي يخالفه. وفي الحديث في كتابه لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام، وذكرت النهاية قول الفائق في الند. وقال اللسان والتاج والمصباح مقال الكشاف. وقال لبيد (والبيت في الجمهرة والصحاح واللسان والتاج):(280/32)
لكيلا يكون السندري نديدتي ... وأجعل أقواماً عموماً عماعما
وأما قول (سال) إن الشيعة يجعلون علياً نظيراً لمحمد فمن خلط العربانيين فالشيعة فِرق لا يعلم عددها إلا الله والإمامية منها ثلاث وسبعون فرقة كما يقول الرازي في رسالته (اعتقادات فرق المسلمين) وإن عني سال بالشيعة إخواننا الإمامية أصحاب الانتظار فقولهم وقول إخواننا الجماعية في سيد الوجود (صلوات الله وسلامة عليه) واحد. وقد أوضح ذلك علامتنا الكبير (الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء) في مؤلفاته)
الإسكندرية
* * *(280/33)
من مشاكل التاريخ
طبيعة الفتح الإسلامي
للأستاذ خليل جمعة الطوال
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
يقول درمنغهم في كتابه حياة محمد: (. . . . وكان محمد يفضل اهتداء رجل واحد إلى الله على جميع غنائم الدنيا)
وهل في تاريخ الحروب والأديان وصية بلغت من السمو الإنساني مبلغ هذه الوصية التي أوصى بها النبي (صلى الله عليه وسلم) معاذ بن جبل الأنصاري حين سيره على رأس وفد إلى اليمن، وقال له: (يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة، فقل شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
تلكم هي ضالة المسلم المنشودة بعد أن تجرد قلبه من حب المال، ومتاع الدنيا. وتلكم هي الطريق إلى هذه الضالة: شهادة فلجت الشرك، وإيمان زعزع الأصنام
الجنة هي ضالة المسلم التي أخرجته إلى ربه مجاهداً للحصول عليها. الجنة التي لا تشرى بالصكوك، والتي لا تنفع فيها الأموال. الجنة التي ليس في استطاعة بشر أن يلجها وإن غفر له جميع أهل الأرض، إلاَّ أن يكون مؤمناً بالله، وبرسله والأنبياء، الجنة التي ليس للمرء فيها أن يغفر لأخيه، وأن يحل ذنوبه وخطاياه، إلا أن يغفر له الله وهو خير الغافرين
أسر المسلمون في غزوة بني المصطلق عبد الله بن أبي، وحاول عمر بن الخطاب قتله، فقال له الرسول (ص): فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمداً يقتل أصحابه. . .
ثم سمع ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي عزم ابن الخطاب، فجاء النبي (ص) وقال له: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فأن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أثر أبر بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر فادخل النار.
فقال له الرسول: إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا(280/34)
تلكم هي روح الفتح الإسلامي السامية
الله أكبر! رجل يتقدم لقتل أبيه متطوعاً، ليحمل رأسه بيده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكيلا لا يكون عليه غضاضة في دينه، إن هو رأى غيره يقتله، فتحمله عزة الجاهلية على الأخذ بثأره، فيقتل مؤمناً بكافر، ويدخل النار!
سبحانك ربي! أية قوة جَعَلْتَ في رسالتك هذه، حتى استطاعت أن تحول النفوس الضارية إلى شعلة روحية سامية أضاءت الكون وقد كان ظلاماً حالكاً!
أَيحسنُ النبي صلى الله عليه وسلم ويترفق برجل طعن فيه، وشنع عليه، ويظل مع ذلك في الدنيا من يتهمه، ويفتري عليه. .
هذه هي روح الفتوح الإسلامية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يعرف التاريخ قط فتوحاً أرحم وأشرف وأعدل منها. وأما روح الفتوح الإسلامية الأخرى، فحسبكم دليلاً عليها هذه الوصية المثلى السامية التي أوصى بها الصديق قواده حين سيرهم لبث الدعوة إلى الإسلام: (لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا توقدوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً، إلا لمأكلة
وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له:
وسوف تقدمون على قوم: يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا أسم الله عليها
لقد كان الفتح الإسلامي فتحاً روحيَّاً مبيناً، خضعت له الجزيرة بأسرها دون أن تجري الدماء فيها أنهاراً، فتحاً دام تسع سنوات لم يقتل فيها إلا (240) من المشركين و (258) من المسلمين. فلا عجب إذا اتصف بهذه الروحانية السامية، لأن الروحانية كانت العامل الأكبر فيه. فمن أين جاء الجاحدون بهذه الغزوات الدامية التي امتلأت بها كتبهم، وبحت بها حناجرهم؟
من أين جاءوا بهذه المغانم والأرزاق والأسلاب التي أغرت المسلمين على التمادي في الغزو والنهب والسلب؟!
إنه فتح كان الدين غايته، ولولا الذين لكان له غير هذا الشأن(280/35)
كتب عدي بن أرطأة عامل العراق إلى عمر بن عبد العزيز يقول: (إن الناس قد كثروا في الإسلام، حتى خفت أن يقل الخراج) فكتب إليه عمر يقول: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا)
أما والله لو أن حاكماً كتب إلى حكومة بلاده، يصف لها قلة خراج ولايته، لما تحرجت تلك الوزارة عن عزله، ولاجتمعت الأمة بأسرها تعالج تلك الأزمة الاقتصادية المخيفة، ولكن الإسلام إنما جاء ليهدي القلوب، لا ليبتز الجيوب (فإن الله إنما بعث محمداً هادياً لا جابياً)
قال عمر بن عبد العزيز في خطبة له: (وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم) اهـ. ولسنا بحاجة إلى التعليق على هذه الجملة الموجزة وعلى ما تنطوي عليه من الكره لا للغزو والنهب والسلب فحسب، بل لجميع متاع الدنيا
تلكم هي حجة الخصوم في حب الإسلام للنهب والغزو، قد سقطت بين أيديهم، قصاصة ورق، تتلاعب بها الرياح وأمواج الحقيقة. . .
أما القول بأن العرب كانوا وسطاً في القتال فلا يدل إلا على جهل صاحبه بالفطرة العربية، وبأخلاق سكان الصحارى الموحشة، والبراري المقفرة، التي يقوى فيها الذئب، وتصول السباع. ومن شك في تبريز العرب وبصرهم بأحوال القتال، فليستنطق ربوع الأندلس والهند وفارس وأفريقيا، بل وفرنسا، يوم كانت خيول مصر وقحطان تسرح في شرق البلاد وغربها. وكان مجرد أسم العرب يوقع الرعب في قلوب الأعداء لما كان يبلغهم من أنباء فروستهم وبطولتهم. . .
بقي أمر الحروب الصليبية، وقول من قال إنها كانت حروب البسالة والشهامة وأن الصليبيين كانوا عجباً بأنظمتهم وترتيباتهم. ولسنا نزيد في دفع هذا الكلام الغث على إيراد شهادات وأقوال بعض المستشرقين الكبار، وذلك لنكون بعيدين عما يدفع الغير لاتهامنا بالتعرض والتحيز
يقول ديسون: (آن لنا أن نتناول الحروب الصليبية بالبحث تلك الحروب التي بذرت روح العداء بين الإسلام والمسيحية. . . فلقد مشى فيها أقوام كان همهم السلب والنهب والسرقة والقتل، وزاد في ذلك ما وجدوه في طريقهم إلي القدس من وعثاء السفر والمشقات.(280/36)
والحقيقة أن الصليبين - عدا من كان في جيوشهم من اللصوص والمجرمين - قد ظهروا للعالم كبرابرة مخيفين، وقد أظهروا في آسيا صنوفاً من الوحشية والفظائع لم تعهدها قط هذه البلاد التي كان قد مر عليها أربعة قرون آمنة في ظل نظام عربي لم تر له من قبل مثيلاً
وقد اقتحم الصليبيون القدس في 15 يولية 1099 وقتلوا في اليوم نفسه عشرة آلاف من المسلمين التجئوا إلى جامع عمر ظناً منهم أنه يحميهم من وحشية أعدائهم، ولم يكفهم هذا قط، ولا نفع غليل نفوسهم العطشى للدماء بل راحوا في الأسبوع نفسه يقتلون من المسلمين واليهود والمسيحيين (غير الكاثوليك) ما يناهز (60) ألف نسمة
وكان خلفاء الصليبين كأجداهم فظاعة وعسفاً حتى لقد وصفهم بعض كتاب المسيحية وصفاً مؤلماً، وقال أنهم ليسوا من المسيحية الغراء في شيء. .
وقال الأب ربموتد داجيل: (لقد اشتد القتل في هيكل سليمان، وكثرت فيه الجثث حتى أن الجند الذين قاموا بهذه المذبحة لم يعد بإمكانهم أن يطيقوا الرائحة التي كانت تتصاعد من جثث القتلى).
وقال روبرت ل موان: (لقد بدأت مذبحة الترك في 13 ديسمبر ولم يكف ذلك اليوم لقتل جميع الأسرى فأجهزنا على البقية في اليوم التالي).
وقال ميشو: (تعصب الصليبيون في القدس تعصباً لم يسبق له مثيل حتى شكا منه الكتاب المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية، وأعماق الأرض، ويجرونهم في الساحات ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم على ما اتفق على روايته مؤرخو الشرق والغرب سبعين ألف نسمة، ولن ينج اليهود كالعرب من الذبح فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجئوا إليه، وأهلكوهم كلهم بالنار. . .)
وجاء في تاريخ الأمير حيدر: (. . . أخذ ريشارد قلب الأسد سبعمائة من أسرى المسلمين وقتلهم على رأس تل عكا، بمرأى من عساكر صلاح الدين، وبقر عسكره بطون المقتولين ليروا إن كان فيها شيء من الجواهر والذهب، ظناً منهم أنهم ابتلعوا شيئاً منها، وحباً(280/37)
بالانتفاع بمرائرهم يتخذونها دواء يستشفون به)
وجاء في التاريخ العام للافيس ورامبو: (. . بلغت دماء المسلمين التي سفكها الصليبيون في المسجد الأقصى حداً فظيعاً بحيث كان الفارس منهم وهو راكب تصل إلى رجليه دماء المسلمين التي سفكت في ذلك الحرم المقدس، وسالت كالسيل المنهمر!!. . .)
وكتب ريكولدوس حوالي 1294 في مدح المسلمين قائلاً: ومن ذا الذي لا يعجب بحماستهم وخشوعهم في صلاتهم، وبرحمتهم الفقير وبتقدسيهم أسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، ويبسن عشرتهم، ولطفهم مع الغريب؟)
ولله در غوستاف لوبون إذ يقول: (كان يشعر ظاهر الصليبين بأنهم يقصدون خدمة دينهم بالاستيلاء على القبر المقدس، ولكن الواقع أنهم كانوا منحلين من جوهر الدين، وأقرب إلى نزع شعاره متى رأوا مغنماً لهم، أو فاحشة يأتونها
شهادات في الفتح والحضارة الإسلامية: -
جاء في مقالة: للعالم الفرنسي ليوتي - نقلاً عن الأهرام - (وإذ كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية، يزعم أن الإسلام - بفتوحه - يبعث على التدمير والفوضى والتعصب، فأني بعد أن قضيت بين المسلمين مدة من الزمن في الشرق والغرب ولم أكتف بما قرأته عن الإسلام في الكتب - أقول إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة:). . .
وقال العالم الأمريكي لوثرب ستودارد، في كتابه (حاضر العالم الإسلامي): ما كان العرب قط أمة تحب إراقة الدماء، وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليلة الأخلاق والمزايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها، من الحضارة السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعاً. وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة، وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي. وذلك المجموع هو الذي نفخ فيه العرب روحاً جديداً، فنضر وأزهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامي، فاتحد وتماسك بعضه ببعض. فأشرق وعلا علواً كبيراً، وقد سارت المماليك الإسلامية، في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير(280/38)
فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقياً وتقدماً وعمراناً، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء، ومختزن علومهم، يشعان إشعاعاً باهراً. وظل طيلة: هذه القرون الثلاثة يرسل على الغرب النصراني نوراً. . .)
ويقول هربرت جورج ولز: (ساد الإسلام لأنه كان أفضل نظام اجتماعي وسياسي تمخضت عنه الأعصر، وكان حيثما حل يجد أمماً استولى عليها الذل والكسل، وتفشى فيها الظلم والعسف؛ ويجد حكومات متفسخة غاشمة، مستأثرة مستبدة، لا تربطها برعاياها أية رابطة، فمدَّ إلى البشرية يد المساعدة والإنقاذ. . .)
وقال سيدبو: (إن الإسلام هو الدين السامي الذي استطاع أن يسير في فتوحاته دون أن يترك وراءه أثراً للجور، وكانت ترحب به جميع الأمم المغلوبة على أمرها لحكم الروم والفرس. . .)
أفبعد هذه الشهادات الصريحة تقوم ضد الفتح الإسلامي حجة، وينهض دليل؟
هذه صورة من كتابنا (في الدفاع عن الإسلام) الماثل للطبع، وسنتقدم في الأعداد المقبلة بكلمة أخرى نصور فيها الحضارة الإسلامية الزاهرة، ومبلغ ما وصلت إليه من التقدم والرقي، وما ذلك إلا نُصرةً للحق، وخدمة للعلم، والله خير الناصرين.
شرق الأردن
خليل جمعة الطوال(280/39)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
للأستاذ محمد سعيد العريان
1880 - 1937
- 42 -
مقالات منحولة
كثيراً ما تدعو الدواعي كاتباً من الكتاب إلى إنشاء مقال لا يذيله باسمه؛ ويكاد يكون من الشائع المألوف أن يقرأ القراء مقالاً في صحيفة من الصحف غير معزوّ إلى قائله، أو مرموزاً إليه رمزاً ما! ولكن من غير المألوف أن ينشئ كاتب من الكتاب مقالة أو فصلاً من كتاب، أو كتاباً بتمامه، ثم ينسب ما ينشئه إلى كاتب غيره. وللرافعي في تاريخه الأدبي حوادث من مثل ذلك؛ فثمة مقالات، ورسائل، وكتب متداولة مشهورة، يعرفها القراء لغير الرافعي، وهي هي من إنشائه وكدَّ فكره وعصارة قلمه، ولكنه آثر بها غيره زهداً عنها أو التماساً للنفع من ورائها. ولو أني أردت أن أستقصي ما أعرف من ذلك لأغضبت كثيراً من الأحياء أحرص على رضاهم وأخشى غضبهم؛ ولقد كنت على أن أطوي هذا الفصل حرصاً على مودتهم، ولكني وقد وضعت نفسي بهذا الموضع لأكون مؤرخاً بعيداً عن التهمة - لم تطب نفسي بكتمان الشهادة، فإذا لم يكن بوسعي أن أذكر كل ما أعرف، فحسبي اللمحة الدالة والإشارة الموجزة، وللحديث بقية إلى حين، ومعذرة إلى أصدقائي. . .
في سنة 1911 أصدر الرافعي كتاب تاريخ آداب العرب فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكتبت عنه المقالات الضافية في كبريات الصحف، ولكن ذلك لم يكف الرافعي؛ ففي ذات يوم قصد إلى جريدة (المؤيد) فلقي هناك صديقه المرحوم أحمد زكي باشا فأهدى إليه كتابه ورجاه أن يكتب فصلاً عنه؛ فقال زكي باشا: (وماذا تريدني أن أكتب؟) قال الرافعي: (تقول وتقول. . .) قال زكي باشا: (فأكتب ما تشاء وهذا إمضائي. . .!) وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة، فكتب ما شاء أن ينسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيله باسمه ودفعه إلى عامل المطبعة. . .(280/40)
وقرأ الناس في اليوم التالي مقالاً ضافياً بإمضاء (أحمد زكي باشا) في تقريظ (تاريخ آداب العرب) شغل الصفة الأولي كلها من الجريدة. ولكن أحداً من القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه، يثني على كتابه ويطري نفسه!
ولهذه الحادثة أخوات مع زكي باشا نفسه؛ فإنه لما أنشأ الرافعي نشيده (اسلمي يا مصر. . .) قرأ القراء مقالاً في الأخبار بإمضاء أحمد زكي باشا، يثني على النشيد ويطري مؤلفه، ولم يكن كاتب هذا المقال أحداً غير الرافعي؛ بل أن أكثر المقالات التي يرها القراء في الكتيب الصغير الذي نشره الرافعي عن نشيده هذا، هو من إنشائه أو من إملائه!
وقد ظل هذا (التعاون) وثيقاً بين المرحومين زكي باشا والرافعي إلى أخريات أيامهما؛ ومنه أن زكي باشا كان على نية إعداد معجم لغوي كبير قبيل وفاته، وكان للرافعي في إنشاء هذا المعجم أثر ذو بال، وفيه فصول كتبها الرافعي بتمامها وأعدها للإمضاء. . . ولكن المنية أعجلت المرحوم أحمد زكي باشا عن إصدار هذا المعجم، وأحسبه ما يزال محفوظاً بين مخلفاته المخطوطة
ويتصل بسبب إلى هذه المقالات التي كان ينحلها الرافعي صديقه زكي باشا، ما نحل أخاه المرحوم محمد كامل الرافعي من شرح ديوانه الذي أصدر منه جزءين 1903 - 1904؛ فإن شارحهما هو الرافعي نفسه، وفيهما عليه ثناء وإطراء
في الحادثتين السابقتين إشارة إلى بعض الأسباب التي كانت تحمل الرافعي على أن ينحل أصدقاءه بعض ما يكتبه؛ وهنالك أسباب أخرى:
في سنة 1917 وقعت في طنطا جريمة قتل مروعّة؛ وكانت القتيل امرأة عجوزاً مسموعة بالغني والشح الكزازة، تزوّجها قبيل مقتلها شاب من الشباب العابثين طمعاً في مالها، فلم يلبث معها إلا قليلاً ثم وقعت الجريمة!
وتوجهت التهمة أول ما توجهت إلى زوجها الشاب، ثم انصرفت عنه إلى أختها وزوج أختها فسيقا إلى قفص الاتهام، وكانا شيخين عجوزين فيهما بلاهة وغفلة، فلم يستطيعا الدفاع عن نفسيهما، وهّيَّئّا بغفلتهما وبلاهتهما الفرصة للمجرم الحقيقي أن يحوك حولهما الشبكة وأن يصوّب عليهما أدلة الاتهام لينجو هو من العقوبة. . .
كان المجرم الحقيقي معروفاً للجميع، ولكن المحكمة بما اجتمع لديها من براهين مصنوعة(280/41)
لم تجد أمامها غير هذين البريئين المغفّلين فألقت بهما إلى السجن المؤبد؛ وقضيا في السجن بضع سنين!
شيخان على أبواب الأبدية، يساقان إلي ظلام السجن ليس من ورائه إلا ظلام القبر، ولم يقترفا جريمة أو يرتكبا إثماً. . . ولكن القانون قد قال كلمته، والقانون حق واجب الأحترام؛ فلم تبق إلا الرحمة الإنسانية شفيعاً من قسوة القانون. . .
وسعت أسرة السجينين إلى المحامي الأديب الأستاذ حافظ ع تطلب إليه أن يكتب استرحاماً في أمرهما إلى أمير البلاد، لعل في عطفه ما يأسو الجرح ويخفّف وقع المصاب، وجعلت له أجراً على ذلك مائة جنيه!
وما ذل يقول المحامي في قضية فرغت المحكمة من أمرها وقال القضاء كلمته؟
ليس هذا سبيل المحامي الذي يرتَّب القضايا ويستنبط النتائج ويستنطق الصامت ويستوضح الغامض؛ لقد فات أوان ذلك كله فلم تبق إلا كلمة الشاعر الذي يخاطب النفس الإنسانية فيجتلب الرحمة ويستدر العبرة ويحسن الاعتذار عن البشرية من أخطائها فيذكي العاطفة الخابية ويوقظ الإحساس الراقد ويتحدث إلى القلب الإنساني حديث الوجدان والشعر والعاطفة. . .
وقصد الأستاذ حافظ إلى صديقه المرحوم الرافعي، ليضع القضية بين يديه ويسأله أن يكتب الاسترحام إلى أمير البلاد، وسمى له أجرة إن توفق في مسعاه
وقرأ الرافعي القضية وأحاط بها من كافة نواحيها، ثم شرع قلمه وكتب. . . وبلغت صيحته حيث أراد فأفرج عن السجينين في مايو سنة 1921
وتناول الرافعي أجرته على ذلك من المحامي سبعة عشر جنيهاً واستبقى المحامي لنفسه ثلاثة وثمانين. . .
في هذا الاسترحام الذي كتبه الرافعي في بضع وأربعين صفحة ونحله صديقه المحامي ليطبعه باسمه، لون من أدب الرافعي غير معروف لقرائه؛ فيه تحليل نفسي بديع، وفيه شعر إنساني يبلغ الغاية من السموّ؛ وفيه منطق واستنباط وملاحظة دقيقة لا تجد مقلها في أساليب الأدباء
وقد ظل هذا (التعاون) الأدبي متصلاً بين الرافعي وصديقه الأستاذ حافظ إلى ما قبل موت(280/42)
الرافعي؛ ولكن هذا (التعاون) قد خرج من نطاق القضايا والمحاكمات إلى نطاق أدبي آخر ليس من حقي أن أتحدث عنه اليوم. . . . وعند الأستاذ الزيات بقية الخبر، تحدث به الرافعي إليه في مجلس ضمنا نحن الثلاثة. . . .
وفي شهر ديسمبر من سنة ما، قصد الأستاذ جورج إبراهيم إلى صديقه الرافعي، يطلب إليه أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسية في ليلة عيد الميلاد. . .
وكتب الرافعي المسلم كلمة مسلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه. . . وألقتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين المثقفين فخلبت ألبابهم واستحقت منهم أبلغ الإعجاب
وفي الشهر التالي كانت هذه الخطبة المسيحية الرافعية منشورة في (المقتطف) منسوبة إلى الفتاة. وكانت عند أكثر القراء المسيحيين إنجيلاً من الإنجيل
تحت يدي الآن النسخة الأصلية من هذه الخطبة مكتوبة بخط الرافعي، وهي النسخة التي بعث بها إلى صديقه الأستاذ جورج ليدفعها إلى الفتاة؛ وفي صدرها إلى صديقه: (هذا ما تيسر لي على شرط الفتاة، فنقح فيه ما شئت، واضبط لها الكلام. والسلام)
وفي آخرها يتفكه مع صديقه ((وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة) والمضرة، والمعرة يا عم جورجي)
وكان الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي - صهر الرافعي - من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المقربين، وكان أدنى منزلة إليه من كثير من تلاميذه، على أن تأثر به كان من الناحية الأدبية وحسب، على حين كان تلميذه المقرب المرحوم السيد رشيد رضا مخصوصاً بالرواية عنه في الناحية الدينية، فكلاهما من تلامذة الأستاذ الإمام ولكن لكل منهما نهجه وشرعته
فلما هم الأستاذ البرقوقي أن يصدر مجلة البيان - وكان السيد رشيد رضا قد سبقه بإصدار مجلة المنار - قصد البرقوقي إلى الرافعي يقول له: (إنني لا أتصوَّر كيف يصدر العدد الأول من (البيان) وليس فيه كلمة أو حديث أو مجلس من مجالس المرحوم الأستاذ الإمام، وأنا كنت أدنى إليه مجلساً من رشيد رضا الذي لا يصدر عدد من مجلته - المنار - إلا وفيه حديث أو خبر أو مجلس من مجالس الشيخ محمد عبده!)
قال الرافعي: (فابدأ العدد الأول بما شئت من حديثه أو مجالس درسه!)(280/43)
قال البرقوقي: (ولكني لا أجد عندي ما أرويه عن الإمام؛ لقد ترك الشيخ في نفسي أثره ولكنه لم يترك في ذاكرتي من حديثه ومجالسه شيئاً يستحق الرواية!)
قال الرافعي: (. . . . ولابد من ذكر شيء عنه في البيان؟)
قال: (بلى، وإلا غلبني رشيد رضا واستطال عليّ عند قراه بأنه هو وحده تلميذ الإمام وراويه!)
وضحك الرافعي وأطرق هنيهة، ثم تناول قلماً وورقة وكتب. . .
وصدر العد الأول من مجلة البيان، وفيه حديث يرويه البرقوقي عن الشيخ محمد عبده في مجلس من مجالس درسه؛ بأسلوب من أسلوبه وروح من روحه وبيان في مثل بيانه؛ وما قال المرحوم الإمام شيئاً من ذلك ولا تحدث به، ولكنه حديث مصنوع وضعه الرافعي على لسان الأستاذ الإمام ونشره البرقوقي ليقضي لبانة في نفسه. . .
. . . ألقى إليَّ الرافعي هذا الحديث ساخراً، ثم دفع إليّ العدد الأول من مجلة البيان وهو يقول: (أقرأ؛ أترى هذا الحديث من مهارة السبك بحيث يجوز على القراء أنه من حديث الأستاذ الإمام؟)
وضحكْتُ وضحك الرافعي وعاد يقول: (ولكن تمام الفكاهة أن السيد رشيد رضا لما قرأ هذا الحديث المصنوع، التفت إلى جلساته قائلاً: (وأي حديث هذا حتى يبدأ به البرقوقي مجلته؟ لقد كنت حاضراً مجلس الشيخ، وسمعت منه هذا الحديث، ولكني لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته. . .!)
. . . . واستمرّ هذا (التعاون) أيضاً بين الرافعي والبرقوقي طول المدة التي كنت تصدر فيها مجلة البيان، فأيّ مقال قرأت من أعداد هذه المجلة فشككت في نسبته إلى مُذَيَّله بأسمه، فاحمله على أنه مما كتب الرافعي من الأدب المنحول. . .
ويدخل في هذا الباب كثير من المقالات كان الرافعي يكتبها بأسماء طائفة من ناشئة المتأدبين؛ ليدفع عن نفسه في معركة، أو يدعو إلى نفسه لمغنم، أو ليعين صاحباً على العيش، أو ليوحي إلى (صاحب الإمضاء) إيحاءً يدفعه إلى الاستمرار في الأدب والأمل في أن يكون غداً من الكتاب المشهورين. . . وليس يعنيني في هذه الناحية أن أسمي أحداً أو أشير إليه، إذ كان الذي كتبه من ذلك ليس له من القيمة الأدبية ما يدعونا إلى الحرص على(280/44)
تصحيح نسبه، وأكثره لغو مما يُنشر في بعض الصحف لملء الفراغ
محمد سعيد العريان(280/45)
كلمة أخيرة
بين العقاد والرافعي
وبيني وبين الرافعيين
للأستاذ سيد قطب
من بين الرسائل التي تلقيتها في أثناء كتابة هذه الفصول رسالة يقول فيها كاتبها الأديب (صلاح الدين الصدفي) بعد كلام كثير:
(. . . ونحن يا سيدي من سكان الريف الذين كثيراً ما يتأثرون بالآراء المتداولة، والأشعات المفتعلة، وقد كنا نعتقد أن العقاد كاتب سياسي من الطراز الأول، ولكنا نفضل عليه في الكتابة الأدبية آخرين، أسهل منه في الفهم، وأعرف لدى الجماهير، ثم تابعنا كلماتك فاستطعت أن تشوقنا إلى قراءة مؤلفاته النثرية على ضوء جديد، ولكنا إلى أمد قريب كنا لا نميل إلى الاعتراف بشاعرية العقاد، فإن كان شاعراً فهو شاعر الفلسفة والتأمل لا شاعر العاطفة، وإذا سلمنا أن له في شعر العواطف شيئاً، فما كنا نصدق أنه شاعر غزل. وأخيراً انكشفت عنا هذه الحجب التي بثتها فينا دعايات مغرضة، وإذا بنا نفهم أن العقاد هو كل أولئك، وأنه ممتاز في جميع مناحي الشعر، متفوق في كل هذه الاحساسات، وأسفنا على ضياع زمن طويل، لم نتنبه فيه إلى خصوبة هذا الإنتاج الوفير. . .)
هذه الرسالة جماع ما ورد إلي في رسائل متفرقة، وفي هذه الفقرات القصيرة ما يبرر البسط والتوسع الذي عالجت به (غزل العقاد) خاصة، وإن كنت أحس أن في القول متسعاً وأن غزل العقاد وشعره عامة، يصلح لدراسات مستفيضة، ولشروح وتآليف تجعل منه - كما يستحق - مذهباً قائماً، معروف المعالم، واضح السمات.
وشعر العقاد فن خصب، صالح للدراسة على أنماط مختلفة من الطرق والأوضاع، فتستطيع أن تدرس فنونه كل فن على حدة كما صنعت في (غزل العقاد) وتستطيع أن تدرس اتجاهاته وتلتمس لها أمثلة من مختلف فنونه، كما صنعت في محاضرتي عام 1934 عن (وحي الأربعين). وحيثما اتجهت في الدراسة وجدت مادة جديدة، وذخيرة فنية،(280/46)
لأن العقاد صاحب طبيعة وصاحب فلسفة معينة في الحياة.
وقد اخترت أن أعرض (غزل العقاد) لأن الغزل عامة، وعند العقاد خاصة، معرض لجميع القوى النفسية التي تجيش بالشعر، وتحفز للتعبير، وفيه تستطيع أن تدرس نظرة الشاعر للكون والحياة وأغراضهما الأصيلة وآمالهما الخالدة، وتقف على رأيه في المثل العليا والأخلاق والفضائل، وتميز إحساسه بالمرأة والفنون والجمال، على نحو ما رأى القراء في الفصول السابقة.
ثم لقد كان هناك دافع آخر لاختيار الغزل فلقد كان حديثي عن الرافعي في غزله أو ما كتبه هو على أنه غزل، وكان أمامي لإثبات رأيي في كلا الرجلين طريقان: الأول أن أعرض ما قاله الرافعي في هذا الباب وأفنده، وهذا عمل أعتقد أن لا غناء فيه ولا جدوى منه لي ولا للقراء، فقد قرأت كل ما كتبه الرافعي في هذا الباب، فإذا هو خواء مقفر من كل عاطفة وإحساس، فإذا أنا عرضته، فإنما أعرض قطعة من صحاري النفوس ليس فيها ندى ولا حياة، ولن يصبر القراء معي - إذا أنا صبرت على قطع هذا القفار الموحش المتشابه الأرجاء. وبحسبي وحسبهم ما استعرضه من مثل هي نماذج لكل ما هناك
والثاني - وقد اخترته - أن أعرض غزل العقاد، فأكشف عن هذا العالم الحي المائج المضطرب بشتى الانفعالات والاتجاهات ثم يخلص بنا القول فيه إلى أن كل ما تجده هنا لا تجده عند الرافعي، لأن العقاد والرافعي مختلفان متناقضان
ولقد شاءت الظروف أن يكون العنوان: (بين العقاد والرافعي) فتوجد رابطة بين اسمي هذين الرجلين، لا وجود لها في أدبهما ولا اتجاههما ولا في شيء مما يصح فيه التشابه والارتباط
والواقع لقد كان في هذا الجمع بينهما ظلم لكيلهما: فأما العقاد فمظلوم - ولاشك - أن يقرن أسمه إلى أسم الرافعي، وبينهما هذه الهوة السحيقة الفاصلة، الهوة التي تفصل بين الصورة الفنية ترمز إلى معنى وتكاد تجيش بالحياة، وتهمس بالنطق والتعبير والنقوش التي نراها على أبواب المساجد ونوافذها: خطوطاً متعرجة أو مستقيمة ودوائر ومثلثات ومربعات كلها من عمل المسطرة والبركار، ولا شيء وراءها غير المهارة في اللعب والتزويق
فعشاق الصور الفنية محال أن يلتفتوا إلى هذا العبث على أبواب المساجد وأمثالها من شغل(280/47)
(الأربسكة) المعروف عند النجارين، مهما بلغ التفنن في نقوشه وألوانه، وعشاق (الأربسكة) لا يتطلعون إلى فهم الصور الفنية بحال من الأحوال
والرافعي كذلك مظلوم - ولاشك - أن يقرن أسمه إلى أسم العقاد؛ فيطالبه النقاد حينئذ بالحياة والحركة والعمق، أو يطالبونه برأي معين في مسائل الحياة الكبرى وفي نواحي الإحساس والشعور، والرجل في عالم آخر غير هذا كله، عالم الأخشاب المنقوشة والشرفات المزركشة، والأصباغ والألوان. ومازلت كلما عدت إلى قراءة شيء من كتابة الرافعي، يمتد بي الخيال إلى (البهلوان) الذي (يتقصع) في مشيته ويضع يده في خاصرته، ويأبى أن يسير في الطريق بخطوات سهلة كما خلقه الله!
أما شأن الرافعيين معي، فشأن الرافعي مع العقاد سواء بسواء. كنت أعرض لهم الحياة المائجة الهائجة، فيعرضون لي النصوص والألفاظ؛ وكنت أحاول أن أفتح أبصارهم وأفتق إحساسهم، وأفهمهم أن في الدنيا شيئاً غير التعبير المزوق، وغير اللفتات الذهنية القريبة، والمعاني اللولبية، والجمل المنثنية المترقصة، فيأبوا إلا أن يعودوا إلى هذا العبث العابث في لف ودوران
ولست على استعداد أن استعيد ما قلت وقالوا، فقد أنفقوا - على ما يظهر - كل رصيدهم في هذه الكلمات المكرورة المعادة التي كتبوها، وما هذا بعجيب، فما لهم رصيد سوى بضع جمل وبضعة تعبيرات، وما كان لهذا العالم المصنوع الذي يعيشون فيه، ولا ينفذون منه أبداً إلى ضجة الحياة، أن يكون له رصيد مذخور سوى الخواء والإقفار
ولكنني أريد أن أعرض لبعض ما قاله مندوبهم الأخير، وأعاد به ما قالوه واحداً بعد الآخر في جهد وإعياء شديد
لقد أخذ يردد نغمة العوام في الموتى والأحياء، ويعتمد على شعور هؤلاء العوام في تقدير موقفي وأنا أتحدث عن العقاد الحي، وموقفهم وهم ينافحون عن الرافعي الذي مات
والمسألة - في ظاهرها - كما يقولون، ولكن الواقع غير ذلك، فأنا في دفاعي عن العقاد أمجد وأشرف من دفاعهم عن الرافعي، إذا كان مناط الحكم في هذا ما يناله كلانا من ربح أو خسارة، على النحو الذي يفهمونه هم من الربح والخسارة
فماذا يكلفهم الدفاع عن الرافعي؟ إنه لا يكلفهم شيئاً، بل على العكس يكسبهم حسن الأحدوثة(280/48)
- لدفاعهم عن رجل ميت - عند عوام القراء والأدباء في هذا البلد وهم بحمد الله كثيرون؛ ويكسبهم - كما يريدون - سمعة الدفاع عن الدين، وأتباعه بالملايين في مصر والبلاد العربية؛ ويكسبهم محبة الأسلوبيين والعاجزين عن التحليق في الأجواء الفنية العالية، وهؤلاء يكونون تسعين في المائة من القراء بل من الأدباء، ولا يتعرضون لخطر واحد مما يتعرض له أنصار العقاد
أما الدفاع عن العقاد فيكلفني التعرض لغضب الكثيرين من ذوي النفوذ في هذه الوزارة وفي كل وزارة، ومن بينهم كثير من رؤسائي في وزارة المعارف نفسها، لأن العقاد رجل لم تبق له قولة الحق صديقاً من السياسيين، وكثير ممن يظهرون صداقته يكنون له غير ذلك لأنهم ينفسون عليه شموخه واعتداده بنفسه وتعاليه على الضرورات
ويكلفني خصومة الأدباء من المدرسة القديمة والحديثة على السواء. فأما أولئك فسبب سخطهم معروف، وأما هؤلاء فلأنهم ينفسون على العقاد أن يعطيه ناقد بعض ما يستحق من تقدير، ومن لا يعرف هذه الحقيقة فأنا - وقد أتاحت لي الظروف الإطلاع على داخلية كثير من الصحف والأدباء - أعرف ذلك وأعرف أن الكلمات التي يقدر فيها العقاد لا تجد طريقها سهلاً للظهور في الصحف على اختلاف أهوائها ونزعاتها السياسية، واختلاف المشرفين عليها من الأدباء وغير الأدباء
ويكلفني خصومة كثير من ناقصي الرجولة - وهم أعداء العقاد الطبيعيون - وكثير من ناقصي الثقافة الذين لا يفهمون العقاد فيحملونه تبعة عدم فهمه ولا يكلفون أنفسهم عناء الدرس والثقافة. وكثير من مغلقي الطباع الذين يستغلقون أمام كل أدب حي. وكثير وكثير ممن يؤلفون أكثرية القراء في هذا البلد المنكوب. . .
وقد يفهم هؤلاء النفعيون أن للعقاد الآن نفوذاً ننتفع به؛ فلهؤلاء أقول: إن للعقاد نفوذاً نعم، ولكنه لا يستخدمه في قضاء المصالح وتنفيذ الأغراض، إنما يحتفظ به لنفسه في إبداء آرائه، واستقلال شخصيته، وتحطيم من يستحق التحطيم وبناء من يستحق البناء
وذلك بغض النظر عن طبيعتي الخاصة في الانتفاع بنفوذ الأصدقاء، ذلك الانتفاع الذي يبدو غير مفهوم، حينما كنت أناصر العقاد وهو خصم الوزارات القائمة، وأوقع على ما أكتبه بإمضائي الصريح، في أحرج الأوقات(280/49)
فخرافة الموتى والأحياء لا يرددها هؤلاء، إلا كما يرددها الأميون والعوام
وقد استكثر مندوبهم الأخير أن أقول: إن العقاد انتصر على الوفد وعنده عدة المال وعدة الحكم وعدة الماضي الوطني وكل عدة تؤهل للنجاح.
والذين يعيشون في ظلام الجحور يحق لهم أن يعجبوا لهذا الكلام. أما الذي وقف على صنوف محاربة الوفد للعقاد وهو في إبان سطوته، وعرفوا أنها لم تقف عند الخصومة الشريفة في سلاح ولا وسيلة، والذي يذكر الظروف التي خرج العقاد فيها على الوفد وما تلاها، فإنما يعلم أنني اقتصدت في هذا المقال!
الذي يعلم أن هذه الخصومة وصلت إلى حد محاربة العقاد في اللقمة، فلم تكتف بمحاربة الصحف التي يعمل فيها حتى يكف عن الكتابة الشهور الطوال، بل كانت تدفع لأصحاب المكتبات مئات الجنيهات حتى لا تبيع كتاباً للعقاد، وأي كتاب؟ إنه كتاب سعد زغلول الزعيم الأول لهؤلاء الخصوم؟
والذي يعلم أن هذه الخصومة هاجت وماجت لأن العقاد ألقى محاضرة من محطة الإذاعة الحكومية - على عهد الوزارة الصديقة - ولأن هناك مبلغاً يدفع قيمة لهذه المحاضرة، فأما أن تكف المحطة عن محاضرات العقاد وإما أن تعاقبها الحكومة بإهمال تحصيل الضريبة!
والذي يعلم أن هذه الخصومة كانت تلجأ إلى أصدقاء العقاد لتتخذ منهم جواسيس عليه وتدفع لهم ثمن هذه الجاسوسية علاوات وترقيات ومكافآت، فلم يسلم من هذا الأغراء إلا القليلون من خواص العقاد!
الذي يعلم هذا وساوه، ويعلم أن العقاد خرج والوفد في عنفوان قوته الأدبية والمادية، وجرؤ على ما لم يجرؤ عليه إنسان قبل، فحطم قداسة الأصنام، ولقح هذا الجسم الضخم بجراثيم الفناء التي ظلت تعمل عملها حتى خرّ بعد ذلك في الميدان
الذي يعلم كل ذلك لا يستكثر ما قلت، إلا أن يكون كصاحبنا يعيش في صومعة لا ينفذ إليها الضياء
وحكاية الدين والأدب، التي لج فيها، وجعلها محور الحديث، وقد تهكمت عليها من قبل، لأنها لا تناقش بغير التهكم، فأريد أن أفهم إذا نحن سرنا على هذه القاعدة العجيبة، وأسقطنا من حسابنا الأدب غير الديني في الأدب العربي كله، ماذا يبقى لنا بعد ذلك من هذا التراث(280/50)
الضخم؟ اللهم إلا قصيدة البردة وبانت سعاد وبعض الأدعية والأوراد!
وصاحبنا أستاذ الكيمياء في كلية الطب - هكذا كتب أخيراً ليهددنا بعلمه الغزير وينكر علينا علمية التفكير وعلمية الأفكار، ويشرح خواص الذهب الوارد في بيت الرافعي. ومع هذا يطاوعه علمه أن يقول: إن الكيمياويين يصفون الذهب بأنه فلز نبيل، والذي وصل إليه علمي القليل أن هؤلاء الكيمياويين يصفون الذهب بأنه فلز بليد لأنه لا يتفاعل مع الأكسجين ولا مع كثير من الأحماض، ويصفون معدنا كالحديد مثلاً بأنه فلز نشيط لسرعة تفاعله، لأن مدار وصفهم للفلزات قائم على أساس التفاعل لا الثمن، ولا ادري من أين أتى صاحبنا بهذا القول الفريد!
ولست أعني بهذا أن أناقش الكلام الطويل العريض الذي فسر به أبيات الرافعي، فسواء كان الذهب نبيلاً أو خسيساً، فسيبقى شعر الرافعي وأدبه كله يدور حول الصور الذهنية الكابية ويتيه في القفر الجامد اليباب
وبعد فقد رأى الناس مما كتبه هؤلاء وما كتبه الرافعي قبلهم، أنه ليس من اليسير عليهم فهم العقاد، وأنه ليس من مصلحة العقاد أن يفهموه، فما هم بمستطيعين فهمه حتى يسف هو ويقفر ويمسخ خلفاً غير هذا الخلق الباسق الجبار.
ولقد اطمأن العقاد إلى مكانه من الشهرة ومقامه من الخلود، فما يعنيه أن يثلبه ألف رافعي، وما ينقصه أن يقول فيه هؤلاء الرافعيون.
وفي نهاية هذا البحث أجد لزاماً على أن أشكر للرسالة وصاحبها إفساح هذا المجال، وأرجو أن أكون قد أفدت القراء بقدر ما استغرقت من فراغ. والسلام.
حلوان
سيد قطب(280/51)
جورجياس أو البيان
لافلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 15 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - وأي هذه الأشياء التي تتكلم عنها تعتبر أجملها؟؟
ب - أية أشياء؟
ط - الاقتصاد والطب والعدالة؟
ب - أعتبر العدالة أجمل الثلاثة يا سقراط.
ط - ومادامت هي أجملها، فهي إذاً تلك التي تنتج أعمق اللذات أو أعظم المكاسب أو هما(280/52)
معاً.
ب - نعم.
ط - وإذاً فلذيذ أن نكون بين أيدي الأطباء، وأن نترك نفوسنا لعلاجهم!
ب - لست أعتقد في هذا!
ط - ولكن الإنسان يربح من العلاج، أليس كذلك؟
ب - بلى
ط - ذلك لتخلصه من شر كبير، فهو يفضل أن يتحمل الألم وان يستعيد الصحة!
ب - من غير شك.
ط - وفي هذه الظروف، متى نكون في أفضل حالات الصحة؟ أعندما نكون بين أيدي الأطباء، أم عندما لا يكون بنا مرض قط؟
ب - ظاهر أن ذلك يكون عندما لا يكون بنا أي مرض.
ط - ذلك لأن السعادة لا تقوم في الواقع - كما يلوح - في أن نتخلص من الشر، بل في ألا يكون لدينا شر قط.
ب - ذلك صحيح.
ط - وأي الرجلين يكون جسمه أو نفسه مصابة بالشر؟ وأيهما يكون أشقى من الآخر؟ أذلك الذي نعالجه ونخلصه من شره، أم ذلك الذي لا يعالج ويبقى بشره؟
ب - يبدو أنه ذلك الذي لا يعالج
ط - أو لم نقل إن من يلقى جزاء خطيئته يتخلص من أفدح الشرور وهو رداءة النفس؟
ب - قلنا ذلك حقاً
ط - وقلنا لأن العقاب يجعلنا حكماء، ويضطرنا لأن نكون أكثر عدلاً، مادامت العدالة طباً لرداءة النفس
ب - نعم
ط - وإذا فأشقى الناس هو ذلك الذي لا رذيلة أو رداءة في نفسه، لأنا قد رأينا أن (رداءة النفس) أفدح الشرور
ب - من غير أدنى شك(280/53)
ط - ويأتي بعده من نخلصه من (رداءته)!
ب - يلوح هذا!
ط - وذلك الذي نخلصه هو الشخص الذي ننبهه ونعلمه، ونوبخه ونعنفه، ونقدمه ليقلى جزاء فعلته!
ب - نعم
ط - وذلك الذي يعيش كأشقى ما يعيش الناس، هو ذلك الذي يحتفظ بظلمه بدلاً من أن يتخلص منه
ب - نعم
ط - أو ليست هذه تماماً حالة الشخص الذي يرتكب أفظع الجرائم، وينهج أظلم المناهج، ثم ينجح في وضع نفسه فوق الإنذار والعقاب والتأديب، كما فعل - تبعاً لقولك - (أرشليوس) وكما يفعل الطغاة الآخرون من خطباء وسلاطين؟
ب - يلوح ذلك.
ط - إن هؤلاء يا عزيزي بولوس قد سلكوا تقريباً نفس السبيل الذي يسلكه من يصاب بأخطر الأمراض، ولكنه يعمل على إهمال سؤال الأطباء عن أمراضه الجسمية، وعلى الفرار من علاجهم، لأنه يخشى - كما يفعل الأطباء - من أنهم إذا عالجوه بالنار والحديد فإنهم يسببون له شراً.! ألست تتصور حالتهم على ذلك النحو؟
ب - بلى.
ط - والسبب فيما يلوح جهلهم ثمن الصحة وحالة الجسم السليم. وإذا شئنا أن نحكم تبعاً للأصول التي اتفقنا الآن عليها فإنا نقول إن من يسعون لنجنب العقاب يعتزمون تماماً أن ينهجوا نفس هذا السبيل يا بولوس! ذلك أنهم ينظرون للألم ويغمضون أعينهم عما فيه نفع لهم ولا يعرفون كم يجب أن يشكو المرء من السكنى مع نفس مؤذية فاسدة ظالمة كافرة، أكثر من شكواه من السكنى مع جسم مريض معتل.!، ومن هنا تراهم يعملون كل ما يمكنهم عمله لكي لا يكفروا عن خطيئتهم ولا يتخلصوا من أفدح شرورهم، فيحصلون لأنفسهم الثروة والأصدقاء والمهارة التي تمكنهم من إقناع الناس بالكلام! ولكن إذا كانت مبادئنا صحيحة فانظر أنت ماذا ينتج عن ذلك البحث، أم تريد أن نخرج منه نحن بالنتائج؟(280/54)
ب - نعم، إذا سمحت!
ط - ألا ينتج عنها أن أفدح الشرور هو أن نكون ظالمين وأن نعيش في الظلم؟
ب - بلى، كما يتضح
ط - أو لم نعرف من الناحية الأخرى أن الإنسان يخلص نفسه من ذلك الشر إذا لقي جزاء خطيئته؟
ب - ذلك ممكن!
ط - وأن عدم العقاب لا يفعل أكثر من الإبقاء على ذلك الشر؟
ب - بلى!
ط - وإذاً لا يكون ارتكاب الظلم من حيث فداحة الشر إلا في المنزلة الثانية، ولكن الظلم الذي لم يلق جزاءه هو أول الشرور وأفدحها؟
ب - يلوح هذا
ط - أو لم نك يا صديقي العزيز في نزاع بشأن هذه النقطة؟ لقد كنت تقول إن (أرشليوس) سعيد لأنه ارتكب أفظع الجرائم وفر من كل عقاب، وكنت أزعم - على النقيض - أن (أرشليوس) وكل من لا يعاقب على خطيئته يكون بالطبع أشقى الناس وأتعسهم، وأن من يرتكب ظلماً يبقى دائماً أكثر شقاء وتعاسة من ذلك الذي يتحمله، وأن من لا يقلى جزاء خطيئته يظل أشقى من ذلك الذي يكفر عنها أليست هذه هي النقطة التي تحدث عنها؟
ب - بلى
ط - ألم يتضح أن الحق في جانبي؟
ب - يلوح هذا!
ب - بالتأكيد!
ط - ذلك هو المعقول، فإذا كان هو الحق يا بولوس فما عسى أن تكون فائدة البيان؟ إنه يجب في الحق - وتبعاً للمبادئ التي اتفقنا الآن عليها - أن نتجنب قبل كل شيء ارتكاب الظلم نظراً لأن ذلك يكون في نفسه شراً كافياً. ألست ترى ذلك صحيحاً؟
ب - بالتأكيد!
ط - وإذا ما ارتكب أحد ظلماً، وكان هو المرتكب له بنفسه أو شخص آخر ممن يهمهم(280/55)
أمره، فيجب أن يذهب عن طيبة خاطر إلى القاضي حيث يكفر عنه بأسرع ما يمكن كما نذهب إلى الطبيب، ويجب أن يعجل بالذهاب خوفاً من أن يزمن معه مرض الظلم ولا ينتج إلا قرحة لا تشفى، وإلا فماذا نستطيع أن نقول خلاف ذلك يا بولوس إذا ظلت مقدماتنا صحيحة ثابتة؟
أليست هذه هي الحالة الوحيدة التي تتفق فيها نتائجها معها؟
ب - وماذا نستطيع أن نقول خلاف ذلك يا سقراط؟
ط - وإذن لكيما ندفع عن أنفسنا اتهام الظلم عندما نكون قد ارتكبنا خطيئة، أو ارتكبها والدانا أو أبناؤنا أو أصدقاؤنا أو وطننا فإن البيان لا يكون له عندنا أي استعمال يا بولوس إذا لم نقبل على النقيض وجوب اتهام أنفسنا أولاً، ثم والدينا وأصدقائنا في كل مرة يرتكبون فيها ظلماً! وإذا لم نوافق على وجوب عدم إخفاء خطايانا على الإطلاق، وعلى ضرورة إظهارها في وضح النهار كيما نكفر عنها ونستعيد بذلك صحتنا!، ثم إذا لم نقبل تقوية أنفسنا وغيرنا حتى لا نتراجع، وحتى نتقدم بشجاعة وبعين مفتوحة كما نتقدم أمام الطبيب ليبتر أعضاءنا أو ليكويها بالنار! وإذا لم نسلم بوجوب اتباع الحسن والجميل دون النظر إلى الألم، وإذا لم نرض بأنه إذا كانت الخطيئة التي ارتكبناها تستحق الضرب فلنتقدم إليه، أو السجن فلنمد أيدينا للقيد، أو التعويض فلندفعه، أو النفي فلننف، أو الموت فلنتحمله، وإذا لم نك أول من يقف في وجه أنفسنا وأقاربنا ونستعمل البيان فقد لتخليصنا من أفدح الشرور - وأعني به الظلم، وذلك بالكشف عن أخطائنا! فترى هل يجب أن نقول هنا نعم أو لا يا بولوس
ب - يبدو لي أن ذلك غريب يا سقراط ولكنه ربما كان نتيجة لما قلناه من قبل!
ط - وإذا فيجب إما أن ننكر ما قلناه، وإما أن نسلم بهذه النتائج!
ب - نعم، إنه لكذلك
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(280/56)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وللكميت أربع هاشميات أخرى غير هذه الهاشمية اللامية السابقة، وقد اتجه في مطالعها اتجاهاً جديداً ينكر فيه الاتجاهات العابثة التي اعتادها الشعراء في مطلع قصائدهم، وهي هاشمية الميمية التي تبلغ (102) من الأبيات، وثلاث هاشميات بائية تبلغ الأولى منها (138) من الأبيات، وتبلغ الثانية (67) بيتاً وتبلغ الثالثة (28) بيتاً
وقد قال في مطلع هاشميته الميمية:
من لقلبِ متيمَّ مستهام ... غير ما صبوةٍ ولا أحلامِ
طارقات ولا ادكارَ غوَاني ... واضحات الخدود كالآرام
بل هواي الذي أُجن وأُبدي ... لبني هاشم فرُوعِ الأنام
وقال في بائيته الأولى، وهي التي ذكرنا أنه عرضها على الفرزدق فأعجب بها، وفضله على الشعراء جميعهم، من بقي منهم ومن مضى:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ... ولا لِعباً مني وذو الشوق يلعبُ
ولم يُلهني دارٌ ولا رسمُ منزل ... ولم يَتطرَّيْنِي بنانٌ مخصبُ
ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السائحات البارحات عشية ... أمرّ سليمُ القرن أم مرَّ أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حواء والخير يطلب
وقال في مطلع بائيته الثانية:
أني ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريّب
لا من طلاب المحجبات إذا ... ألقى دون المعاصر الحجب
ولا حمول غدت ولا دمل ... مر لها بعد حقبة حقب
ولم تهجني الظؤار والمنزل ال ... قفر بروكاً ومالها ركب
جرد جلال معطفات على ال ... أورق لا رجعة ولا جلب
ولا مخاض ولا عشار مطا ... قيل ولا قرح ولا سلب(280/57)
ما لي في الدار بعد ساكنها ... ولو تذكرت أهلها أرب
لا الدار ردت جواب سائلها ... ولا بكت أهلها إذ اغتربوا
يا باكي التلعة القفار ولم ... تبك عليه التلاع والرحب
أبرح بمن كلف الديار وما ... تزعج فيه الشواحب النعب
هذا ثناء على الديارِ وقد ... تأخذ مني الديار والنسب
وأطلب الشأو من نوازع ال ... هو وألقي الصبا فتصطحب
وأشغل الفارغات من أعين ال ... بيض ويسلبن وأستلب
إذ لمتني جَثْلة أَكَفِّها ... تضحك مني الغواني العجب
وضِرت عَمَّ الفتاة تثئب ال ... كاعب من رؤيتي وأثئب
فاعتتب الشوق عن فؤادي والش ... عر إلى من إليه معنتب
إلى السراج المنير أحمد لا ... يعدلني رغبة ولا رهب
وقال في مطلع البائية الثالثة:
طربت وهل بك من مطرب ... ولم تتصاب ولم نلعب
صبابة شوق تهيج الحليم ... ولا عار فيها على الأشيب
وما أنت إلا رسوم الديار ... ولو كن كالخلل المذهب
ولا ظعن الحي إذ أدلجت ... بواكر كالأجل والربرب
ولست تصب إلى الظاعنين ... إذا ما خليلك لم يصبب
فدع ذكر من لست من شأنه ... ولا هو من شأنك المنصب
وهات الثناء لأهل الثناء ... بأصوب قولك فالأصوب
بني هاشم فهم الأكرمون ... بنو الباذخ الأفضل الأطيب
فالكميت في كل هذه المطالع ثائر على شعراء العربية الذين اتخذوا افتتاح القصائد بالنسيب عادة لهم، ولا يعبأ بما يتكلف لهم في ذلك الاتجاه الذي جمد علبه أولهم وآخرهم، بل يهزأ بسؤالهم الديار ووقوفهم على الأطلال وبكائهم التلاع القفار، لأنه لا فائدة في سؤال من لا يجيب، ولا معنى لبكاء الديار وهي لا تبكي أهلها إذا اغتربوا عنها.
والحق أنه لم يكن هناك معنى في قصائد المدح لافتتاحها بإظهار الهوى إلي غير الممدوح،(280/58)
لأن هذا من الفضول الذي يجب أن يقلع عنه كغيره من كل فضول، والواجب أن يذهب في هذا إلى مثل ما ذهب إليه الكميت من حصر قصده في الممدوح وحده، وعدم لعناية في شعره بغيره، والاتجاهات في ذلك كثيرة لا تقف عند هذا الاتجاه الذي وقف عنده الكميت في شعره، وإن كان قد افتن بعض الأفتنان فيه
وقد جاء أبو نواس بعد الكميت فقلده في هذه الثورة على ذلك التقليد الشعري، وعابه في بعض مطالع شعره كما عابه الكميت في مطالعه، ومن ذلك قوله:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعن عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحة السقم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كانت في الحكم
وإذا وصفت الشيء متبعاً=لم تخل من غلط ومن وهم
ولكن التجديد فيما فعله الكميت لا فيما فعله أبو نواس، لأن أبا نواس لم يزد على أن استبدل بالنسيب في المطالع وصف الخمر، ولا فرق عندي بين افتتاح القصائد بهذا أو ذاك، لأن كلاً منهما أجنبي عن القصيدة ودخيل فيها، وما وصف الخمر إلا نسيب فيها كالنسيب في النساء سواء بسواء.
عبد المتعال الصعيدي(280/59)
الطفل
لشاعر الهند رابندرانات طاغور
بقلم السيدة الفاضلة (الزهرة)
النعاس الذي يهوم على عيني الطفل. . . هل يدري أحد مأتاه؟
أجل. فقد زعموا أنه هناك في تلك الغيمة البديعة الفاتنة، الراقدة في ظلال الغاب الذي تضيئه الحباحب بأنوارها الخافتة. . . حيث برضت برعمتان دقيقتان، يخيم بين تلافيف أوراقهما الناعمة، مرود عجيب صيغ من سحر حلال ليكحل طرف الطفل. .
من هناك يجيء النعاس، ويداعب أجفان الطفل وهو راقد في مهده
الابتسامة التي ترف على ثغر الطفل وتطوف حول شفتيه وهو راقد في مهده. . . هل يعلم أحد من أين تجيء؟
أجل. فقد زعموا أن موجة ذهبية من موجات نور الهلال عند أفوله مست حافة إحدى سحب الخريف المتبددة، فولدت هناك أول ابتسامة، وكان مولدها في حلم الصباح المغتسل بالانداء. . . من هناك تجيء الابتسامة التي ترف على ثغر الطفل وهو نعسان.
النضارة الرقيقة الناعمة التي توقر أعضاء الطفل بأثمارها، وتزين ملامحه بأزهارها، فتضحك عن الأقحوان، وتتنفس عن الريحان. . . هل يدري أحد أين كانت مخبوءة من قبل؟
أجل. فإنها حين كانت الأم عذراء فتية قد انطوت في حنايا قلبها بعناية تجسمت فيها أبلغ أسرار الحب وأجمل خفايا الحنان. . . هنا كانت النضارة الرقيقة الناعمة التي تتفتح أكمامها في صباح وجه الطفل ويترقرق ماؤها على ديباجة خده
(الزهرة)(280/60)
اللقاء الأول
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
هل تذكرين لقاءنا لما التقى ... طرفي وطرفك فالتقى القلبان
في ليلة صخابة وضَّاءة ... من كل مبتهج بها زوجان
أقبلتِ مثل الفجر يفترس الدجى ... فإذا العيون جميعهن روان
تمشين مشرقة الجبين محاطة ... بالسحر في جمع من الخلان
فتلفتتْ عيناي نحوك وانثنى ... قلبي وأفلت من يديَّ عناني
ومشيتُ نحوك واجفاً متردداً ... فكأنني أمشي إلى بركان
متثاقلاً في خطوتي متعثراً ... متهيباً مستهتراً في آن
ثم اتجهتُ إلى الرفاق محيياً ... وجلست منك على شفير دان
وطفقت أهذي في الحديث لعلني ... أخفي الجوى وأَصد من هيماني
فسألتِهم عمَّنْ أكون ورنَّ في ... أذني سؤالك كالحيا الهتان
ورنوت في خفر إليَّ ورقة ... لما علمت من الصحاب مكاني
وأتى الشراب مصفقاً فدعوتِني ... للشرب خجلى فالتقى الكاسان
وشربت من فمكِ الجميل المشتهى ... راحاً فهيّج صبوتي الراحان
وتجاوبت في النفس أصداء المنى ... وسرت حمياً الخمر في جثماني
وخشيت أن تطغى عليَّ لواعجي ... فمضيت في هذري وفي هذياني
أنا من تسامى للكمال فلم أجد ... إلاَّك في هذا الوجود الفاني
أنا من تدلَه في هواك وإن أكن ... لم أقض في دنياك غير ثوان
أنا من بعثتِ الروح فيه فجاءة ... ودعوتِه فسعى من الأكفان
أنا من علمتِ ومن جهلت حنينه ... فتركتِه في ملتقى الوديان
يشدو فيذهب شدوه في عاصف ... داوي الصدى طاغ على الآذان
أبداً ينوح ولو سمعت نواحه ... لشجاك ما يلقى من الأشجان
فلكم بكيتُ فما وجدتُ مشاركاً ... لي في الأسى يبكي لما أبكاني
ولَكَمْ ضحكت وما ضحكت وإنما ... أخفيت في الضحك ما أشجاني(280/61)
وا ضيعة الألحان إن لم تسمعي ... حتى الصدى وا ضيعة - الألحان
عبد الحميد السنوسي(280/62)
الوداع
للأستاذ أمجد الطرابلسي
إلى دمشق وأحبابي فيها أهدي آخر ما نظمته تحت سمائها. ..
ماذا أقول لإخواني وأصحاب؟ ... لعلَّ صمتي قبلَ البَيْنِ أحرى بي!
يا لوعةَ الوجد في داري ومرتبعي! ... ماذا. . . إذا احتجبتْ داري وأحبابي؟
يا قلبُ ويحك! هذا البين قد تعبت ... غربانُه. . . قُتلت من شرِّ نَعّاب!
ألم يكن عهدُنا - والدهر ذو ترةٍ - ... هزءاً بهزءٍ، وألعاباً بألعاب؟
أيْامَ دأبُ الزمانِ الغرّ مظلمتي ... لهواً، وسُخريتي من ظلمه دابي!
أيّامَ يُدْهق لي الأكوابَ مترعة ... سُمَّا، فأّجرع كالصّهباء أكوابي
فما لحصنك قد خارتْ جوانِبُهُ؟ ... كالبيت في القفر لم يُشْدَدْ بأطناب
يَظَلُّ في عَصَفَات الرَيح مُصطفقاً ... يئن أَنَّ الثكالى إثرَ تنحاب
بميل والعاصفَ المجنونَ مُرتنحاً ... كالراقصات تِهادى بينَ شُرّابِ!
قلبي، رشادَكَ! لا يفزعْكَ أن صهلت ... خيلُ النّوى تستحثُّ الركبَ في بابي
أَهلي حَوالَيَّ. . . . ماذا أنت قائله ... لهمْ قبَيلَ نوىً كالليل في الغاب؟
قلبي! أعِندكَ أن تشكو لهم حُرقاً ... تشويك من لاعج في الصدر مِلهابِ
فما فغرت - على ما طال من وجعي - ... فماَ بشكوى لصحب أو لأغرابِ!
ولا سجدتُ لغيرِ الله في زَمَنِي ... ولا وَقَعتُ على أيدٍ وأعتابِ
ولا بسطت يدي للذلّ أقبله ... ولو علمت لديه كل آرابي
هُوَ الشَباب! فلا كان الشبابُ إذا ... لم يستسغ رشفاتِ العزّ في الصَاب!
لا عاشَ إمَّا حنا للبغي هامَتَهُ ... أو ضمَّ برديهِ في الدنيا على عاب!
دمشقُ يا فرحة الدنيا وبسمتها ... ويا مراتعَ تهيامي وتلعابي!
يا ممرح الغيدِ كالأحلامِ حائمة ... ومسرحَ الصيد من صحبي وأترابي
ما لي عدوتُ إذا ما سرت منفرداً ... لم ألقَ غيرَ جميل فيكِ جذاب؟(280/63)
كأن عينيَّ قبل اليوم ما وقعت ... على جمالك هذا الرائع السابي!
كلُّ طريف تروع القلبَ جدتُهُ ... يا طولَ شغل فؤادِ الهائم الصابي
يا منبعَ الحسن والإحسانِ! كم سكرت ... من راحِ دَلِّك أحنائي وأهدابي
مازلتُ أعشق فيك الحسن في دَعَةٍ ... حتى عشقتُ جراحاتي وأوصابي!
أمَّ الميامين! قد غَنَّت ملاحمَها ... فيك البطولات في شجو وإطراب
وجَرّرت من ذيولِ المجد سابغة ... على بطاحِك في تيهٍ وإعجاب!
دمشق أنتِ التي فَجَّرتِ من كبدي ... يُنبوعَ شِعْريَ يجري. . . أَيَّ سَكاّب
كما جرى (بَرَدَاك) العذبُ منفجراً ... ما عاقه طولُ أزمانٍ وأحقاب
مازال فوقَ مشيبِ الدهر منسرباً ... يجري كطفل على الآلام وثّاب
أدرت لي من كؤوس الحسن ألعبَها ... بأنفس وخيالاتٍ وألباب
أرضٌ سماءٌ رياضٌ أنهُرٌ أُفقٌ ... حُسْنٌ أفانينُ. ما عَدّي وتحسابي!
شدَوتُ فيك لحوناً كلُّهَا عَجبٌ ... رَتَّلْتها بين أفراحي وأتعابي
ما كانَ أضيعَ ألحاني يُرَدِّدها ... بعدي صَداها كأن الريح تهزا بي
غداً. . . سأمضي ولكن أينَ مُنْصَرفي ... لا الدار داري ولا الأحباب أحبابي!
لا (نَيْرَبٌ) تَتَصَبّاني خمائِلهُ ... أو (غُوطة) تتلقاني بترحاب!
غداً سَأَلْفِتُ جيدي لا أرى أحداً ... حولي يشاطرني هَمْي وتطرابي
إلاّ خواطِرَ من وَجدٍ يعذبني ... صَبْراً، ويلهب صدري أي إلهاب
وذكرياتٍ عن الأحباب ماثلة ... من واضح خَضِلِ الألوان أو كابي
غداً. سأركبُ بنت اليم راقصة ... على مُتون دَفوع الموج عَبَاب
تَشقُّ بي مسبح الحيتان مائسة ... كأفعوان على البطحاء مُنساب
في ليلةٍ كطيوفِ الجنّ راعبة ... مجنونةِ الموج والإعصار مغضاب
خلفَ الغيومِ ظلامٌ خلفه أَمَدٌ ... من خِلِفهِ الغيبُ في صمت وإضباب
من خلِفِهِ القَدرُ الفجّاع ملتئما ... عن العيون، كميناً خلف حُجّاب
غداً. . . إذا هبَّ طامي اليم يقذفنا ... غَيظاً بموج له كالهُضْب غَلاّب!
وحارَ في أمرِهِ الملاّح وانبعثت ... حَوليَّ أصوات نُوَّاح ونُدّاب(280/64)
وحَوَّمَ الموتُ، في كفّيْهِ منجلُهُ ... وَرفَّ فوق ضحاياه على قاب
أقول للوكب: ما شغلي بهولِكمُ ... وفي فؤادي أعاصيري وتصخابي؟
أينَ السبيلُ؟ وهذا الليلُ معتكرٌ ... لا كوكبٌ فيه لمَاعٌ ولا خابي!
أمضي غداً نحو آفاقٍ تمجّ دمّا ... وجاحِمٍ بيني الإنسانِ لهّابِ!
حيثُ الرّعاة على القطعانِ جائرةٌ ... تسوقها خلفَ أطماع وأسلاب
تُلقي بها للرّدى المنهومِ هَيِّنةً ... سِرباً يموتُ على أشلاءِ أسراب!
تذيقها الجوعَ ألواناً مُلُوَّنةً ... كيما تُسَلّمها بالظفر والنابِ
كيما تقيمَ على أشلائها نُصُبا ... من مفخرٍ كدَويّ الطبل كذّاب!
زعامةٌ أبدعوها فتنةً عَجَباً ... على ظهورِ صعاليك وأوشاب
تستعبدُ الناس، إذ تعمي بصائرَهم ... في عصر نورٍ وعرفانٍ وآدابِ!
دعوا الشعوبَ تَآخَي قبلَ مَصرِعها ... لا تلعبوا بقلوبٍ أو بأعصاب!
لا تستفزّوا بها الأحقادَ نائمةً ... أو ترفد والّلهَبَ الخابي بأحطابِ
لا تهدموا الكون كي تبنوا تعاظَمكم ... وتستطيلوا بشاراتٍ وألقابِ
لولاكم كان هذا الخلقُ في دّعةٍ ... يستمرئُّ السلم في أمنِ وإخصاب
إيهٍ دمشقُ! أرى الأيْامَ مُثقَلَةً ... تحبوا إليكِ بإطماعٍ وإرهاب
برغميَ اليومَ أمضي عنك مُغترباً ... والليلُ حولك داجِ غيرُ مُنجاب
ماذا تجيءُّ به الأيامُ؟ لا بصري ... يجلو الغُيوبَ، ولا وهمي بنَقَاب
أراكِ في ظلمة الأحداث واقفةً ... على رَوابيك منها شرُّ جلباب
تَسْتَنْبِئِيِنَ الليالي وهي صامتةٌ ... صمتَ الرّدى فوق أرماسِ وأنصابِ!
ليلٌ ثقيلٌ تَهادَى شهبُهُ فزعاً ... من حادثٍ مُسْتَكِنٍ فيه رَيّاب
لؤمُ السياسة قد جَرَّبِتهِ زَمَناً ... كم بارقٍ فيه للأبصارِ خلاّب
إن السياسَةَ في تدجيلها سُبَحٌ ... للذكر في كفِّ فتّاكٍ وسلاّب!
وأختك القدس م زالت جراحَتها ... تنصب منها دماها أيّ تَصباب!
لم يرحم البغي في أكواخها ولداً ... في حجرِ أمٍ. ولا شيخاً بمحراب!
ويلَ اللئيم! أما راضت شكيمتَه ... بالأمس صفعةُ صَدقِ العزم غَضّابِ(280/65)
ذئبٌ على الحَمْل السَّاجي فإن زأرت ... أَسدُ العراك تولّى أيَّ هَرّاب!
أمسى يوارى عن الأبصار خزيته ... ببرقع السلم خوفَ الهزءِ والعاب
هذا السلام ذبيحاً فوق مَدرجه ... فكيف أنقذته يا شرَّ كذّاب!
عفواً بلادي! سأمضي عنك، لا كبدي ... حَرَّى، ولا مضجعي بالمُقْلَقِ النابي
ماذا أخافُ وأنتِ الخلدُ أجمعُهُ؟ ... هل في خلودِكِ من حظِ لمرتاب؟
أَلسْتِ مِن حَطَّمَ الأجيالَ صَعْدَتَهُ ... وصارعَ الدهرَ فرداً غير هيَّاب
يأتي الخطوبُ وتمضي عنك مُتْعَبَةً ... وأنتِ في عزمة الرئبالِ في الغابِ!
كم فيكِ للفاتح المأفونِ من حُفَرٍ ... غطّيتها برياحينٍ وأعشاب
ثوى بها فتناسى الدهر سيرَتَه ... وأنتِ باسمة من غير إجلاب
يا أهلُ، عُذْركم! ماذا أقول لكم ... في موقف بفؤاد الصخرِ لعَاب!
أرى القوافي تُعاصيني وأعهدها ... كأخضر زاخر الأمواج صَخّاب!
تنهلّ من خافقِي كالوبلِ مندفقاً ... من مُزنة في أكفّ الريح مسكاب
خلف الجفون دموعٌ جد حائرةٍ ... لولا الحياءُ لقد أوحتْ لكم ما بي
مثل السجين على القضبان منعكفاً ... يفري الحديد بأظفارٍ وأنياب
تجري دماه عليها وهو يقضمها ... هيهات يظفر! ما للسجن من باب!
(باريس)
أمجد الطرابلسي(280/66)
البريد الأدبي
معرض (بونابرت في مصر)
أقيم في متحف (الأورانجري) بحديقة (التويلري) في باريس معرض يحتوي على أهم ما له علاقة بالجنرال بونابرت قائد الحملة الفرنسية في مصر. وقد كثر إقبال زائري هذا المعرض لمشاهدة الصور والتماثيل ورسائل قائد الحملة، وقد خطها بيده، ورسوم الضباط والعلماء والفنيين الذين رافقوا الحملة. ويرى زائر المعرض أيضاً رسوم المماليك وملابسهم وسروج خيولهم وسلاحهم الثمين، كالطبنجات، والغدارات التي يضعونها في مناطقهم أو على جوانب سروج خيلهم، واليطقان، والسيف المدلى من السرج. وكان نصل السيف ماضياً يؤثر تأثيراً شديداً في المضروب به، وقد قال (لاري) كبير أطباء الحملة إنه رأى للمرة الأولى في حياته، في موقعة الصالحية، تأثير سيوف المماليك: فكثيرون من الجرحى كانوا قد فقدوا أعضاءهم كلها أو جانباً كبيراً منها بضربة سيف
وكان للماليك أربعة وعشرون قائداً يحمل كل منهم (بيرقاً) كان الصدر الأعظم التركي أو حاكم مصر يسلمه إليه حينما ينعم عليه بلقب (بك)
وفي المعرض نماذج من تلك (البيارق) ويعلو كل بيرق كرة مذهبة أو صفيحة معدنية عليها كتابة. ويعلق في عصا البيرق الطويلة أذناب الخيل. وكان عدد تلك الأذناب يدل على أهمية المنصب عند الأتراك في ذلك العهد
وفي المعرض صورة كبيرة تمثل معركة الأهرام ويرى الناظر فيها السيوف المصلتة وغلافاتها والغدارات والخيول وسروجها والبيارق وغير ذلك تغطي وجه الأرض، وقد كانت تلك المعركة قاضية على سلطة المماليك في مصر والنظام الذي وضعه فيها السلطان سليم الأول العثماني من نحو ثلاثمائة سنة
كتابة التوراة والإنجيل وأوراق البردي المصرية
ألقى السير فريدريك كنيون محاضرة ألقت ضوءاً جديداً على تاريخ كتابة التوراة وذلك بفضل اكتشاف أوراق البردي في مصر. ومصر هي الدولة الوحيدة التي أمكنها الاحتفاظ بهذه الأوراق السريعة التلف
وقال المحاضر إن الآثار المهمة التي يرجع إليها في تحديد تاريخ كتابة التوراة اكتشفت(280/67)
سنة 1881. ولكن منذ ثلاثة أعوام كان شاب من طلبة العلم يبحث في مكتبة رايلندز في مدينة منشستر فعثر على مجموعة أوراق من البردي تركت في مكانها نحو ثلاثين أو أربعين عاماً. ودقق فيها فوجد بينها قطعة صغيرة تحتوي على بضع آيات من إنجيل القديس يوحنا مكتوبة في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد
ولو أن هذه الورقة الصغيرة وجدت قبل خمسين عاماً لوضعت وقتئذ حدا لخلاف شديد كان ناشباً في شأن التاريخ الذي كتب هذا الإنجيل فيه. فهي تدل على أن هذا الإنجيل كان منتشراً في قرية ريفية صغيرة من قرى مصر سنة 140
وعثر الطالب نفسه سنة 1936 على أقدم قطعة معروفة من التوراة ممزقة من السفر الخامس من أسفار موسى كتبت في القرن الثاني قبل المسيح
فهذه الاكتشافات وأمثالها قربت إلى حد محسوس الشقة بين التواريخ التي كتبت فيها أسفار التوراة وتواريخ أقدم المخطوطات الموجودة منها
أسبوع الكتاب الألماني
خطب الدكتور غوبلز وزير الدعاية في فبمار بمناسبة (أسبوع الكتاب الألماني) ومما قاله إن مبيعات دور الطباعة والنشر في ألمانيا في خلال السنة الماضية زادت مرة أخرى وبلغت هذه الزيادة 11. 2 في الكتب العلمية و 4 للكتب الأدبية. صدر في الأشهر الستة الأولى من هذه السنة 3852 كتاباً (في سنة 1937، 2327 كتاباً) فتكون الزيادة 65 , 8 في المائة ويوجد في ألمانيا الآن نحو 4 آلاف مكتبة في المعامل. ثم أعلن الدكتور غوبلز إنشاء صندوق معاشات للمؤلفين الألمان وقال إنه سينظم معرض عظيم للكتب بعد وقت قصير
بين الرافعي والكرملي
جاء في كتاب الأستاذ الكرملي إلى المرحوم الرافعي الذي نشره الأستاذ العريان في الرسالة مسائل يستفتيه فيها وطلب إلى القراء أن ينشروا ما يرون من رأي فيها ولعله يأذن لي أن أقول شيئاً في بعضها. . . قال الأستاذ الكرملي: في صفحة 8 ورد ذكر (المصنع) والعرب لم تنطق به، على أن القياس لا يمنعه ألا يتخذ الكاتب البليغ الكلمة التي جرت على أسلات(280/68)
السلف وهي (الطراز)؟
والذي أرى أن الكلمة التي هي أولى أن يتخذها الكاتب البليغ وجرت أيضاً على أسلات السلف هي كلمة (المعتمل) فقد جاء في فتح الباري على البخاري للعلامة ابن حجر في الجزء الثاني ص10. . . أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيت لو أن رجلاً كان له معتمل وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق فكلما مر بنهر اغتسل منه الحديث. . . فالمصنع لم تنطق به العرب والطراز لا يدل إلا على الموضع الذي تنسج فيه الثياب الجديدة ليس غير، أما المواضع التي تصنع فيها أشياء أخرى غير الثياب فلا يطلق عليها الطراز إلا على سبيل التوسع والتجوز.
أما (المعتمل) فهو يشمل كل المواضع التي يعمل فيها (العامل).
وقال الأستاذ الكرملي أيضاً: وفي تلك الصفحة: (تراها - أي الطاقات - عطرة بيضاء) وأنا لم أجد إلى الآن في شعر أو نثر من وصف جمعاً مؤنثاً سالماً لعاقل أو لغير عاقل بوصف مفرد مؤنث. . الخ. أقول إن هذا السؤال قد أجاب عنه الرافعي قبل أن طبع كتابه وحي القلم فقد جاء في مقالته لحوم البحر. . وترد الأمواج نقية بيضاء كأنها عمائم العلماء) علق على هذه الجملة في الهامش قال: يرى بعضهم أن مثل هذا الوصف خطأ، وأن الصواب أن يقال (بيض)، ولسنا من هذا الرأي وقد غلط فيه المبرد ومن تابعوه لغفلتهم عن السر في بلاغة الاستعمال مرة في الوصف بالمفرد ومرة في الوصف بالجمع أنظر (الرسالة سنة ثانية ص1487)
(الرشيدي)
برنردشو والمدارس والتعليم
وجهت مجلة عالم المدرسين الإنجليزية استفتاء عاماً إلى عظماء رجال الفكر في إنجلترا عن المدارس والتعليم وما إليها من شئون وحصرت الاستفتاء في تسعة أسئلة تسلمت إجابة (شو) عنها فكانت إجابة عجيبة صريحة لا تصدر إلا عن شيخ الأدباء الفتيّ الجبار الذي يزدري كل شيء في العالم ولا يعجب بأي شيء. سئل شو عما يقدر اليوم أكثر من حياته(280/69)
المدرسية أو الجامعية الماضية فأجاب في بساطة وسخرية: لا شيء. فقيل له: وماذا تأسف عليه من هذه الحياة؟ فقال إنه لا يأسف إلا على ذهابه إلى المدرسة أو الكلية؟!
وسئل عما إذا كان أحد من مدرسيه قد أثر فيه فوجهه إلى الخير أو الشر؟ فنفى أن يكون أحد منهم قد ترك أثره فيه وأنهم لم يكونوا يحبونه مطلقاً ولم يكونوا يفقهون من وسائل التربية السيكلوجية كثيراً ولا قليلاً
وسئل عن الكتب التي تركت طابعها في نفسه أكثر من غيرها في طور طفولته، فذكر أنه قرأ كل ما تيسر له من الكتب إلا كتب الأطفال التي كان يمقتها، ثم أورد الكتب التي ما يزال صداها يملأ ذاكرته فكانت ثلاثة هي رحلة الحاج لجون بنيان وألف ليلة وليلة وروبنسون كروزو
ونفى في سؤال رابع أن يكون لفئة المدرسين في هذا العصر طابع خاص يلفت إليهم النظر، ويميزهم من سواهم من سائر الناس. ثم أجاب عن شطر آخر من السؤال، فقال إن المدرس سجان برغمه للأطفال الشياطين يحبسهم سحابة النهار حتى لا يصيبوا أمهاتهم بالجنون.
وسئل عن الجمع بين الجنسين في التعليم إلى سن الرابعة عشرة ثم ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، هل هو مع الجمع أو هو ضده؟ فقال إنه لا يصلح للحكم في هذه المسألة على أنه لا يرى في الجمع أي بأس لاسيما للأبناء الذين ليس لهم أخوات والبنات اللاتي ليس لهن اخوة
وسئل عما يلاحظ في شباب هذا الجيل من الفظاظة والكسل وانعدام روح المجازفة، فاعترف بكل ذلك، لكنه فضل شباب هذا الجيل من هذه الوجهات على شباب عصره، بل فضلهم على نفسه هو حينما كان طفلاً وشاباً
وسئل عن هذه الفروع المملة من التعليم والتي لا تسيغها نفوس التلاميذ: هل ينبغي مع ذاك أن تكون جزءاً مما يفرض عليهم تعلمه؟ فقال: (حسن! وهل يسيغ أحد من التلاميذ جدول الضرب مع شدة لزومه؟). ثم أوصى بوجوب إثارة الرغبة في نفس التلميذ ليحفظ الجدول وما شابهه وإفهامه أنه بدون هذا الجدول لا يستطيع أن يتصرف في النقود التي يعطيها له أبوه لينفقها وإلا يبعثرها هباء؛ وبهذا يقبل الطفل على كل صعب مملول فيحفظه بدافع(280/70)
الرغبة لا بدافع الرهبة والخوف من العقاب
وسئل عما عسى أن تكسبه الأمة أو تخسره في حالتي تعميم المدرسة الابتدائية أو المدرسة الأولية كخطوة أولى لتعليم الطفل. ويظهر أن (شو) أميل إلى تعميم المدرسة الابتدائية لأن هناك (نهاية صغرى) من المعلومات التي يجب تلقينها للأطفال لا يمكن ولا يصح بأي حال أن ينقص منها شيء ماداموا سيحيون في جماعة إنسانية متمدينة
وبقي السؤال الرابع. . . وهو أعجب الأسئلة كلها لأنه يتعلق بالخط! وهل من المهم أن يكون فرعاً من فروع التعليم المدرسي قائماً بذاته؟ وقد حتم (شو) أن يكون الخط كذلك. غير أنه رأى أن تزود المدارس بصور من خط ميكائيل أنجلو ليضاهي التلاميذ خطوطهم بها. . . وهذا ما لم نفهمه من (شو) فخط أنجلو لا يصلح مطلقاً أن يكون خطا لأبناء هذا الجيل من الكاتبين بالحروف اللاتينية، وكان الأجدر به أن يحتم تدريس الخط كفرع من فروع التعليم المدرسي وحسب(280/71)
الكتب
1 - سياسة الغد
للأستاذ مريت بك بطرس غالي
2 - التصوف الإسلامي
للدكتور زكي مبارك
كتابان قيمان لأستاذين جليلين أولهما ابتكار في السياسة والآخر ابتكار في الأدب. ومن يمن الطالع وحسن التوفيق أن (مطبعة الرسالة) قد افتتحت جهادها في خدمة الثقافة بطبع هذين الكتابين. وقد تلقت الأندية السياسية والصحافة اليومية كتاب الأستاذ مريت بك بما هو أهله من التنويه والتقدير والبحث، وستجد الصحف الأدبية والمقامات العلمية في كتاب الدكتور مبارك كشفاً جديداً لناحية مجهولة من أدبنا العربي يستوجب التسجيل والشكر. وإنا نكتفي اليوم بنشر مقدمتي الكتابين بياناً لغرض الكاتبين وتمهيداً لما سنكتبه عنهما في عدد قادم.
- 1 -
قال الأستاذ مريت بك:
من عادة الكتاب في الشئون العامة أن يستهلوا حديثهم بأن يصبغوا أحوال بلادهم بألوان سوداء قاتمة، كي يتخذوا من ذلك وسيلة لإقدامهم على معالجتها؛ وما كنت لأعدل عن هذه العادة لولا أن أحوالنا الحاضرة أضحت تنطق بنفسها عما نحن عليه، وقد شُغل فكرنا جميعاً بعلامات الضعف في النظام السياسي والقومي، ومظاهر التفكك الاقتصادي والاجتماعي. وشاهدنا في السنتين الأخيرتين على الأخص اهتماماً عظيماً بمشاكلنا الداخلية في جرائدنا ومجلاتنا ومحاضراتنا وفي حديث الناس عامة؛ وترجع هذه الظاهرة الجديدة في حياتنا القومية، على ما أظن، إلى أنَا على أثر اكتساب حريتنا الوطنية انتقلنا إلى عصر جديد في تاريخنا، حتى بدأنا نشعر بأن مستقبلنا القومي أصبح الآن في أيدينا، وليس لأحد سوانا أن ينظّمه ويكوّنه. وقد غطت قضية الاستقلال خلال العشرين عاماً الماضية على شئوننا الداخلية إلى حد ما، وصرفتنا عنها بحيث خيل إلينا أنها على درجة من الرقي مقبولة. وكم كانت خيبتنا عظيمة حين عدنا من الشئون الخارجية إلى الشئون الداخلية، فوجدناها في(280/72)
منتهى الضعف والتقهقر
وحالة مصر في الحقيقة لا تدعو إلى الاطمئنان: فأمامنا اضطراب مستمر في الحياة القومية، وأزمة محقّقة في الآداب العامة، ومشاكل اقتصادية واجتماعية قد تصل في القريب العاجل إلى الحد الأقصى من الخطورة. وليست تلك العوامل بخافية على أحد. وقد أوجدت عند بعضنا شيئاً من التشاؤم في المستقبل، وانتشر القلق في صفوف الشعب، من فلاحين يشعرون به ولا يفهمون أسبابه، إلى مثقّفين ومتعلّمين يرون الأخطار في جلاء ويتوقعون تضخّمها في السنوات القادمة. غير أن علامات الضعف والتفكك لا تظهر على صورة واحدة لكل منا، ولم نبحث وراء تلك الدلائل الخطيرة والعديدة عن الأسباب الأصلية التي عملت على تكوينها وظهورها. وكان لعدم تعوّدنا مواجهة تلك الشئون المعقّدة أن أخذنا ندرسها ونتناقش فيها منفصلاً بعضها عن بعض، ولم نفطن إلى وحدة الحياة القومية وإن بدت مختلفة المظاهر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً
زد على ذلك أن عدم الاستقرار السياسي والإداري يجعل الوزارات التي تتوالى على كراسي الحكم غير قادرة على أن تعد برنامجاً للإصلاح والتقدم، وتواصل تنفيذه منسِّقة بين مختلف التدابير الحكومية وغير الحكومية. حتى أن سرعة التقلب السياسي وكثرة المشاكل الوطنية وتعقّدها تبعد برجال السياسة والإدارة عن الأغراض البعيدة التي كان يجب عليهم ألا يفارقوها أبداً، وتجرهم نحو المجالات الحزبية والمسائل الوقتية أو الثانوية؛ فتظهر تلك المجادلات وهذه المسائل بمظهر هام جداً كلما قربت وضاق الوقت عن حلها، مما يؤدي إلى قرارات غير محكمة وحلول غير كاملة، فتبقى سياسة الدولة عديمة التواصل كثيرة التردد والتقلب
وليس الغرض من هذا البحث أن ندرس جميع المسائل التي تواجه الدولة المصرية في الوقت الحاضر، ولا أن نستعرضها واحدة بعد أخرى ونقترح حلاً وتدبيراً لكل منها؛ بل الغرض أن نلقي نظرة إجمالية على كافة مظاهر النشاط القومي مع التدقيق في العوامل الأساسية التي أدّت إلى تضخم مشاكلنا ومصاعبنا ثم نرسم بعض الخطط العامة التي يحسن العمل على مقتضاها لمعالجة هذه الأخطار. وإلى جانب ذلك نبيّن حاجتنا الحيوية إلى الوحدة والتناسق والتواصل في سياسة الحكومة لتكفل تقدّم الأمة سياسيَّاً وقومياً، وتضمن(280/73)
علاج ما يمكن علاجه من أحوالنا الاقتصادية والاجتماعية
وإذا كانت سماء مصر ملبّدة بغيوم الأخطار الخارجية والمصاعب الداخلية، فجدير بنا ألا نرهب هذا أو نخشاه، ولنطمئن على كل حال إلى ما في قلوب المصرين من عزم وشهامة وإخلاص في خدمة الوطن. ولقد اتفق أول عهد مليكنا المحبوب مع شروق شمس الاستقلال الوطني الذي قضى الشعب المصري قروناً يتطلع إليه، فأصبح عهد (فاروق الأول) حلقة اتصال بين مفاخر مصر القديمة وآمال مصر الحديثة، والله نسأل أن يهدينا سبيل التقدم والفلاح.
- 2 -
وقال الدكتور زكي مبارك:
الحمد لله الذي هدانا لها، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
أما بعد فهذا كتاب التصوف الإسلامي، وهو كتاب شغلت به نفسي نحو تسع سنين، وأنفقت في تأليفه من الجهد والعافية ما أنفقت، في أعوام لو ابتلي بمثلها أصبر الصابرين وأشجع الشجعان لألقى السيف وطوى اللواء، فقد كنت في حرب مع الناس ومع الزمان، ويا ويح من ابتلته المقادير بإفك الناس وغدر الزمان!
ولكن الله عز شأنه لم يخلق الشر إلا لحكمة عالية، فقد قويت عزيمتي بفضل ما عانيت في حياتي من ضروب الاضطهاد، واستطعت أن أقيم الدليل على أن الظلم قد يعجز عن تقويض عزائم الرجال.
وهل كان من هواي أن أسرف على نفسي مثل الذي أسرفت فأقضي عشرين سنة في الحياة الجامعية بين القاهرة وباريس كانت كلها نضالاً في نضال؟
هل كان من هواي أن تخلو حياتي من الهدوء والطمأنينة فلا أُصبح ولا أُمسي إلا في عراك وكفاح؟
هل كان من هواي أن انتهي إلى ما انتهيت إليه فلا يكون لي من نعيم الحياة إلا ما أُصوره بقلمي من حين إلى حين لأوهم نفسي أني أعايش الأحياء؟
تباركت يا ربي وتعاليت! فلولا لطفك وتوفيقك لما استطعت بفضل الجد أن ألقي أهل زماني بالاستطالة والكبرياء.(280/74)
ومن هم أهل زماني؟
هم الكسالى الظرفاء الذين حرمهم الله نعمة البلاه بأقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.
ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين: التصوف في الأدب، والتصوف في الأخلاق.
وقد كان هذا الموضوع فيما يظهر غامضاً أشد الغُموض، فقد طلب مجلس الأساتذة بكلية الآداب أن نقدم له مذكرة نشرح بها الغرض من هذا الكتاب ليقبل أو يرفض جعله موضوع رسالة لامتحان الدكتوراه. وقد أجبنا يومئذ بأننا نريد أن نبين كيف استطاع التصوف أن يخلق فنّاً في الأدب ومذهباً في الأخلاق، وهو موضوع يستحق الدرس بلا جدال.
وكان مجلس الأساتذة على حق، فقد كنا في حيرة مظلمة الأرجاء، وكنا لا ندري كيف نتوجه، وكل ما كنا نملك حينذاك هو الإطلاع على العناصر وتصور ما لها من أهمية لو وضعت في نظام واضح مقبول.
ولكن السبيل إلى ذلك كان في غاية من العسر والصعوبة، فقد كنا جمعنا ألوفاً من الجذاذات لا ندري كيف نربط بعضها ببعض، وكيف نسوي منها رسالة للدكتوراه في الفلسفة تستوفي الشرائط الجامعية.
وتجسم الخطر حين نظر المؤلف فرآه يخترق المصاعب وحده بلا هادٍ ولا معين، فقد كان ظفر بإجازة الدكتوراه قبل ذلك مرتين، مرة من الجامعة المصرية ومرة من جامعة باريس، وكان ذلك كافياً لأن ينصرف عنه الأساتذة ويتركوه يكتب ما يشاء كيف شاء.
ولكن أولئك الأساتذة الذين اعتمدوا على كفايته العلمية لم يتركوه بلا حساب، فقد تدخلوا في تصميم الرسالة وخرّبوها بأيديهم مرتين، فخرج منها كتاب نشر منذ سنين هو كتاب (المدائح النبوية في الأدب العربي)
والشر قد يكون باباً من الخير في بعض الأحيان.
نوقش هذا الكتاب بجلسة علنية في مساء اليوم الرابع من أبريل سنة 1937
ناقشته لجنة عنيفة قهرت المؤلف على التواضع، وهو خلقٌ لم يعرفه من قبل، واقترحت أن يحذف أشياء وأن يضيف أشياء.
وقد رجع المؤلف إلى الكتاب فنظر فيه من جديد وأضاف إليه طائفة من الفصول في الأدب والأخلاق، وحرر بعض الهوامش التي تحدد ما كان يحتاج إلى تحديد في بعض المواطن،(280/75)
وانتفع بإقامته في العراق فتعقب الصلات بين التصوف والتشييع، وقد أعانه ذلك على إمداد كتابه بحيوية جديدة سيرى القارئ شواهدها وهو ينتقل من بحث إلى بحث.
هذا، وقد يجد القارئ ما يثيره في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فإن وجد ما يشوكه ويؤذيه فليرجع إلى ما شاكه وآذاه بالدرس والتأمل مرة أو مرتين أو مرات ليوافق أو يعترض على هدىً وبصيرة. وليتذكر أن الدراسات الفلسفية لا تقوى ولا تجود إلا أن سِلمتْ سلامةً تامةً من الرياء وتخوف العواقب
والمؤلف يرجو أن يتذكر القارئ أيضاً أن الصوفية كانوا من أقطاب الحرية الفِكريةُ، فمحاربة هذه الحرية باسم الغيرة عليهم خطأ لا يقع فيه رجلٌ حصيف
وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أدعو الله تباركت أسماؤه أن يُسْبِغ على هذا العمل الخالص لوجهه الكريم حُلة القبول، إنه قريب مجيبٌ.
زكي مبارك(280/76)
العدد 281 - بتاريخ: 21 - 11 - 1938(/)
من مآسي الأخلاق
بعد عشرين عاماً في الجهاد
في اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر 1918 بُعث نبي الوطنية سعد زغلول، وأوحى إليه أن يذهب هو واخوته إلى جون بول يدعونه إلى الحق، كما أوحى إلى موسى أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون يدعوانه إلى الإيمان. وجون بول كان يزعم كما يزعم فرعون أن له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته. فقال له سعد قوله اللين لعله يخشى أو يتذكر، فأبى واستكبر، ثم طغى وتجبر، فهدَّد وشرَّد، ثم قتَّل ونكل؛ فسلط الله عليه وحدة الأمة النبيلة فرمته بأُسُودها وأشبالها، بنسائها ورجالها، بصليبها وهلالها؛ فلم يجد بدّاً من التسليم لقوة الروح وسطوة الإيمان وغلية الحق، فنزل عن الحماية، وساوم على الأستقلال؛ فما زالت الأمة تداوره وتصابره حتى استردت حقها المسفوه بفضل الزعامة الرشيدة والرأي الجميع والقلوب المؤتلفة والفرص المواتية
وولي الأمر بعد الرسول الوطني خلفاؤه الأربعة الراشدون، فأحسنوا الولاية ووصلوا الجهاد وصدقوا العهد، حتى بغي مروان، وقُتل عثمان، فشتَّتِ الوحدة، وتشعث الرأي، وتصدعت القيادة، وذاق الناس بعضهم بأس بعض، وحمل كل فرق على كل فريق بالأذى والهُجر، يرميه بالفسوق والمروق، وينبزه بالجبانة والخيانة، حتى أُصيب الرأي العام بنوع من الأَفَن لا يستقيم معه منطق ولا يبلغ عليه جهاد!
هذان سرادقان نصبا في مكانين متقاربين في ساعة واحدة لغاية واحدة، فماذا رأى الرائي وسمع السامع في حفلين أقيما لتمجيد الجهاد والتضحية، وتجديد الاتحاد والألفة؟ رأى فريقين كانا في حومة الشرف وميدان الشهادة إخوان سلاح في معسكر واحد، يتحملون مكاره الرسالة كالأنبياء، ويهشون للقاء الموت كالشهداء، ويجهلون أن لهم أنفساً بشرية تبغي المتاع وتطلب السلطان. فأصبحا بعد النصرِ فرَقاً في يد الهوى، يعادي بينهم الحق كما يعادي بينهم الباطل، ويجري عليهم من أنفسهم أضعاف ما كان يجري عليهم من العدو
رأى ذلك وسمع خطيبين يعبر كل منهما عن رأي فريقه، فلم يدعا في مفردات اللغة كلمة تدل على الفشل والغلول إلا تراشقا بها على تصفيق الأيدي وتصديق الألسن من كل جانب. فإذا أخذت بشهادة كل فريق على صاحبه - ولا يخلو الفريقان من شهود عدول -(281/1)
حكمت ولابد بأن الأمة إنما كانت تسير إلى غايتها من الحرية والاستقلال على هدى سليقتها الموروثة، تدعوها الإنسانية الطموحة، وتحثها الرغبة الملحة، وتساعدها المشاكل الدولية
أنا القادة والإدلاء فقد وقفوا على جانبي الجيش يتنافسون في الرياسة، ويتحاسدون على الجاه، فتتعارض المطامع، وتتناقض الخطط، ولا يكون من وراء ذلك لمجاهدين إلا الضلال أو التقهقر
ذلك حكم الواقع إذا صدقت شهادة كلا الحزبين على أخيه؛ وإلا فهو عَكَرُ الأخلاق المشوبة رسب بإِذن الله إلى حين؛ فلما انقضي جهاد العدو واطمأنت النفوس إلى وساوسها وأهوائها، ثار ما في القاع، من الأكدار والأطماع، فأنقلب الأمر نزاعاً على ولاية الحكم، وصراعاً على قسمة الغنيمة!
قالوا إننا أمة تبدأ وحدة وتنتهي آحاداً، وتفشل جماعة وتنجح أفراداً، وتضعف قادة وتقوى أجناداً؛ فليت شعري حتَّام يصدق هذا القول في أمة تزعم أن لها قومية متميزة، ومدنية مستقلة، وعقلية متجانسة، وثقافة متحدة؟؟. .
أحمد حسن الزيات(281/2)
تحية المهد الملكي المبارك
على حواشي الفردوس من دار المًلكِ السعيدة
تطُوف أمانيُّ شُعوب، وتهفو عواطف قلوب، وتلهج ألسنةٌ صادقةٌ بالدعاء، وتفيض جوانح زاخرة بالولاء، وتتنزَّل الدعوات والتهنئات على مطلع البدر، كما تتنزَّل الملائكة والرُّوح في ليلة القَدْر!
وعلى كِلَلِ الورد من مَهْدِ الأميرة الوليدة
تَشِع هالاتُ من نور الحب، وتَشِيعُ نفحاتٌ من سرور الشَّعب، وتتلاقى بسمات المِلكين العظيمين، لأُولى ثمرات القلبين الكريمين، وتَرِفُّ نسمات الرضا الجميل، من عِطاف الوادي وضفاف النيل!
فرِيْالُ يا حلية العرش ودرَّة التاج الفريدة!
إنك وحدة الحب الملكي الصادق والحب الشعبي المكين، وإن مولدك مظاهرة سماوية من أعياد الدنيا والدين: عيدِ نزول القرآن، وعيد الجمعة الأخيرة من رمضان، وعيد افتتاح البرلمان، وعيد الفطر والإحسان!
كذلك عهد أبيك العظيم يا فريال: جمالٌ وجلال، ويمن وإقبال، وشباب وآمال، وقلب كله لله، ورأس كله للوطن!(281/3)
أتاتورك
للأستاذ محمود غنيم
طاف الحمام بعاهل الأتراك ... صبراً (فروق) قد احتسبت فتاك
ما مات فرد وورى بل هوى ... من أفقه فلك من الأفلاك
صاد القضاء النسر وهو محلق ... واها لنسر عالق بشراك
مات مصطفى كمال، وليس عجباً أن يموت في هذه السن الباكرة، إنما العجيب أن يمتد به الأجل فوق ذلك! إن ثمانية وخمسين ربيعاً عمر قصير إذا أضيفت إلى رجل من عامة الرجال، أما إذا أضيفت إلى عاهل الترك فإنها بمثابة قرون وأجيال. لو كان هذا الرأس من ماس لذاب؛ ولو أن تلك الأعصاب من حديد لاعتراها البلى؛ ولو أن هذا الجسم قلة من قلل الجبال، لأسلمه العمل المضني إلى الانحلال.
مات مصطفى، وأسدل الستار على ذلك الوجه الذي قدت عضلاته من الجرانيت، وانطفأت هاتان العينان بل الكوتان اللتان تشعان السحر والمغناطيس، وتنفذان إلى أعماق القلوب، وتنمان عن إرادة من فولاذ.
مات الرجل الذي كان معبود قوم، وقذى في عيون آخرين. مات الثائر الذي حكم القضاء الجائر بإعدامه، فلم يصبه سهم من سهامه. مات الذي طالما نصبت المؤتمرات شركاً لاغتياله، فلم يقع في حباله. مات الذي ناهض السلطان، ودوخ اليونان، وحارب الحلفاء في صف الألمان، فلم يجد الموت إليه سبيلا، كأنما هو في جفن الموت والموت وسنان.
مات مصطفى ميتة ابن الوليد على فراشه، لم يقطع شلو من أشلائه، ولم تسل قطرة من دمائه، فلا نامت أعين الجبناء!
كانت أمة محلولة العرى، مفككة الأوصال، أنهكها من الداخل استبداد الخلفاء، ومن الخارج انتصار الخلفاء؛ غريبة في أوربة بدينها وعاداتها، لا هي من الشرق ولا هي من الغرب، فجمع مصطفى تلك الأشلاء المتناثرة، وواءم بين هذه الأطراف المتنافرة، حتى استقام له شبه هيكل من العظام، كساه لحماً، وركب له أعصاباً، وشق فيه حواس، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو بشر سوى، مقطوع الماضي عن الحاضر، لا يمت أوله إلى آخره بآصرة من الأواصر، فلا غرو إذا قلنا: إن مصطفى كمال، طراز وحده في الرجال. وإننا لنجور(281/4)
عليه وعلى الحق معه إذا قارناه بموسو ليني في الجنوب أو بهتلر في الشمال، فان المعجزة إنما هي في إحياء الميت، أما إحياء الحي فليس من المعجزات في شيء. فان كان هناك فقيد يستحق التخليد، تضاف إلى اسمه البلدان، وتقام له التماثيل في كل مكان، فهذا هو مصطفى كمال، لا غيره من أشباه الرجال الذين تنحت لهم التماثيل من الصخر، وكان جديراً بها أن تصاغ من الشمع، ثم تسلط عليها أشعة الشمس
لم يكن الأثر الذي أحدثه مصطفى كمال قاصراً على رقعة من الأرض، ولكنه غير اتجاهات الأفكار، وامتد إلى النظم التي تواضع عليها البشر، فقلبها رأساً على عقب. إنه لم يؤمن بسنة التطور في إنهاض الأمم، ولم يعترف للزمان بعمل في تكوين الشعوب، بل قال بالطفرة، ثم شفع القول بالعمل، فدفع بأمته من خلف، في قسوة وعنف، ثم سار وأوغل في سيره، والناس في شك من أمره. ولشد ما شده العالم حين رآه يجتاز السبيل، ويتخطى العقابيل، بالغاً بأمته حيث يريد في سلام واطمئنان، والزمان ينظر إليه في خجل، لأنه أسقطه من حسابه ولم يعترف له بعمل
كان مصطفى مثالاً حياً للرجل الثائر، أظلته الثورة من مهده إلى لحده، ما حمل على رأي إلا جرّحه، ولا سيم خطة إلا فندها، ولا حارب تحت لواء قائد من القواد، إلا وجه إليه مرير الانتقاد. ثار في طفولته على فلح الأرض ورعى الأغنام، وثار في شبابه على عبد الحميد ثم على وحيد، وثار في كهولته على العادات والتقاليد. وليست عظمة الرجل في أن يثور، فان الثائرين في الرجال كثير، وما أيسر الانتقاد، وأسهل الهدم على من أراد! ولكن مصطفى لم يكن هادماً فحسب، بل كان هادماً بانياً، يبني الجديد على أطلال القديم، ولا يعمل المعول حتى يضع التصميم
أراد مصطفى استغلال بلاده فلم يلجأ إلى الكلام، إلا بمقدار ما يمهد الكلام للحسام، ولم يلجأ إلى الاستجداء، لعلمه أن الاستقلال أخذ لإعطاء، ولكنه أسمع الغاصب المحتل صوت احتجاجه عن طريق المدافع الدوية، والسيوف المقعقعة، فكان صوتاً يخترق حجاب السمع، وكان أذاناً يطرق الصم من الآذان. وما كان لمصطفى بفلول جيوشه الحديثة العهد بالانهزام أن يطرد المحتلين، وأن يكبح جماح الجيران الطامعين، ولكنها العقيدة المتغلغلة في الصميم، إذا اقترنت بالحق الصراح، والرغبة المدججة بالسلاح، لم يقف في طريقها شيء،(281/5)
بل اجتاحت هي كل شيء، ولم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم
وهكذا استطاع مصطفى أن يخلص الأوطان، من احتلال الغاصب وجشع اليونان؛ ولكن ماذا يفيد جلا الغاصبين، والبلاد واقعة تحت نير السلاطين باسم الدين؟
على رسلك يا مصطفى، إن طريق الدين شائك وعر المسالك فلا تجرح فيه عواطف الأتراك، بل عواطف المسلمين أجمعين. إياك والتعرض للخلفاء، فان للخليفة قوة أربعين من الأولياء. إن المسلمين لابد لهم من إمام، وإن الخلافة ركن من أركان الإسلام. بمثل هذا تعالت الأصوات، من مختلف الجهات، ولكن لمصطفى أذناً صماء، لا تصيخ إلي النداء. هو لا يريد الخلافة، فليكن ما يريد، ثم يضرب الضربة القاصمة، فيطوح بالخليفة في مجاهل الأرض، وتتطاير شظايا عرشه في الفضاء. أما الفقهاء فلهم أن يبدوا ما يحلو لهم من الآراء، وأما الصحف والكتاب، فلهم أن يحكموا هل أخطأ أو أصاب
ترى ماذا كان يكون من أمر الخلافة لو طرحها كمال على بساط البحث، وانتظر فيها قرار المتضلعين من رجال الدين؟ أغلب الظن أنها كانت تسلك الأدوار التي سلكتها من قبل مسألة خلق القرآن في عهد بني العباس، تتناطح حولها الحجج، وتتقارع البراهين، ثم ينتقل التناطح من الحجج إلى الرءوس، والتقارع من البراهين إلى السيوف والتروس، ثم لا ينتهي الأمر، أو ينتهي إلى لا شيء؛ ولكن مصطفى يعرف ذلك، ويعرف بجانب ذلك أن منطق الواقع يغير وجوه الرأي، ويحول اتجاهات الأذهان، ويحمل على التسليم والإذعان. وكأني به جالساً على أحر من الجمر، وأعضاء المجلس الوطني يتداولون الآراء في مسألة الخلافة، حتى إذا نشب الجدل وطال النقاش ساعة من نهار، لوح لهم بحبل المشنقة فصدر القرار
ليت شعري ماذا فعل مصطفى؟ أتراه على عروش الخلفاء، أم أجهز على جريح لا يرجى له الشفاء؟ أهي نزعة من نزعات الألحاد، أم التخلص من عضو دب إليه الفساد؟ للتاريخ وحده أن يحكم؛ غير أني أبرئ من الإلحاد مترجم القرآن، ومعز دين الإسلام، ومرغم الأجانب على احترام الجمعات، وإنما هو النفوذ الديني أسيء استعماله، فوجب استئصاله؛ ذلك النفوذ الذي تغلغل في كل مصلحة، واعترض طريق كل إصلاح، والذي لم يوسم به عصر دون عصر، أو يسلم من شره مصر دون مصر. ذلك الذي جعل مصطفى برماً(281/6)
برجال الدين لا بالدين، حتى إنه ليقول في فورة من فوراته النفسية: (لوددت لو أستطيع أن أقذف بالأديان جملة في أعماق البحار)
وما كان لمصطفى ليضطغن على الإسلام لذاته، ولو لم يحترمه ديناً لاحترمه مقوماً من مقومات القومية التركية، تلك القومية التي كانت هدفه الوحيد بعد أن أغمد سيفه وعاد من الميدان
على أن مصطفى بشر يخطئ ويصيب، وقد يكون جار ليعدل، وانحرف عن الجادة ليصل إلى الطريق القويم. وإنك لن تخيط الثوب حتى تحدث الإبر فيه ثقوباً. ورحم الله القائل (إنا لن نصل إلى الحق حتى نخوض الباطل خوضاً)
ليس الرجل العظيم جديراً بهذا اللقب حتى يكون عظيماً في كل شيء، وقد برهن مصطفى على أنه رجل سلم كما أنه رجل حرب. ما كاد يخلص من قيود وطنه بالتحطيم، حتى تناول داخليته بالتنظيم، فأظهر في ذلك ما لم يكن ينتظر من رجل تخرج في الميدان، لم يعتد إلا حمل السلاح وإطلاق النيران. أنظر إليه يقوم (بتتريك) كل شيء، ويتعصب لقوميته حتى إنه ليحظر التعليم بغير اللغة التركية، ويقصي في سبيل ذلك كثيراً من معاهد الجاليات الأجنبية. ثم أنظر إليه لا يمنعه تعصبه الأعمى لقوميته أن يستعير من الغرب الحروف اللاتينية، فيفرضها فرضاً، ويطوف حاملاً سبورته مبشراً بها في الأندية والمسارح. ثم أنظر إليه يفرض القبعة على الرءوس، ويقذف بالقلبق والطربوش وغير هذين من الأغطية المختلفة الأشكال، التي كانت تجعل من الأتراك شبه (كرنفال). إن مصطفى القائد خبير بعلم النفس، مدرك تمام الإدراك الارتباط الذي بين النفوس، وبين أغطية الرءوس، فعل مصطفى ذلك كله في ثوان، وإن قوماً لا يزالون إلى الآن ينتظرون حكم الفقهاء في ترجمة القرآن، وهم كلما هموا باستبدال لباس بلباس، انتظروا حتى يحكموا الدليل والقياس
إن سر عظمة مصطفى هو في أنه رجل عملي، لا يعرف المناقشات البيزنطية. ما يحتاج إلى قرون، ينفذه في لحظة بقوة القانون. وإنه ليؤثر الأقدام على الخطأ على التردد في الصواب، بل إنه ليحيل الخطأ صواباً بشدة اقتناعه وسرعة اندفاعه. بذلك استطاع أن ينفذ برنامجاً واسعاً من الإصلاحات، وأن يعلن الجمهورية، وأن يلغي الألقاب، وأن يقضي على(281/7)
نفوس كرادلة الإسلام، وأن يحقق غير ذلك من الأغراض التي لم تحققها الثورة الفرنسية إلا بعد عشرات من السنين، أروت فيها خشب المفصلة بدماء الملايين.
وبعد، فهل لنا أن نضيف مصطفى كمال إلى نابليون بونابرت وإلى محمد علي باشا ثم نعتبر هؤلاء دليلاً على أن رجال الميدان بما تعودوا من سرعة البت وصرامة الأحكام - أصلح لحكم الشعوب من رجال القانون الذين يتحرون المنطق في الأحكام، ويطيلون البحث في فقه الألفاظ ومدلول الكلام؟
وهل لنا أن نعتبر هؤلاء دليلاً على أن الحكم الدكتاتوري العادل هو أصلح أنواع الحكم التي تساس بها الدول؟ إنني لأميل إلى ذلك كل الميل. بيد أنهم يقولون: إن الدكتاتور يبني نفسه على أنقاض غيره، ويقوي شخصيته على حساب إضعاف شخصيات الآخرين. ولئن صح ذلك فأنني لأشفق على تركيا الفتاة ألا تجد خلفاً لمصطفى، أو تجد خلفاً يشغل زاوية من زوايا كرسيه العريض ويترك سائرة شاغراً
(كوم حماده)
محمود غنيم(281/8)
من ذكريات لبنان
راهب الوادي
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت في بيروت فمللت صخبها وضوضاءها وأحسست أن قلبي جائع لا يشبعه إلا الجمال، ونفسي عطشى لا يرويها إلا الحب، وتمنيت أن أعيش يوماً في الجنة. . . وما أقرب الجنة من ساكني بيروت تلوح لهم من شرف السماء كما تلوح الفراديس لعيني العابد المتبتل. . . وتبدو لهم بذراها المكللة أبداً بالثلج رمزاً للصفاء والطهر، وهاماتها المرفوعة المشمخرة صورة للعظمة والمجد، وصخورها الهائلة التي تتلو على الدنيا سورة الخلود، وسفوحها الحالية بأشجار الصنوبر والسرو التي تصف الحياة الباسمة، والجمال الباقي، وقراها الضائعة في الضباب العطِر، وغاباتها السكرى بالنشيد الحلو، وشعابها ومساربها التي يمرح فيها الحور العين، والولدان المخلدون، آمنين في مثابة العشاق، وحمي المحبين، وأوديتها العميقة عمق السر في نفس الصب المدله بحب أن يذيعه ثم يضنَّ به فيختزنه في صدره، الرهيبة رهبة الأزلية عند أبناء هذا الوجود الفاني. . . الساحرة سحر المجهول الذي يحبه الناس بمقدار ما يخافونه!
وكانت الدنيا تخطر في حلل الربيع، وكانت الطبيعة في عرس، فخرجت مع فئة من تلاميذي نؤم دنيا الأحلام، وجنة المستعجل، وذهبنا نصعد في الجبل على غير ما طريق، بل لقد تنكبنا الطرق عمداً ونأينا عن السبل المسلوكة، والقرى العامرة، لنرى الطبيعة العذراء، ونبصر الجمال البكر، لا الذي ازدحم عليه الواردون، فلم نكن نبلغ الذروة بعد طول الجهد، ونحسب أننا قد وصلنا حتى تظهر لنا من ورائها ذرى وضهور فنعود إلى التسلق ظربين، والطبيعةُ، ويح الطبيعة، تعرض علينا من فتونها ألواناً، وتغرينا بالحب ما وسعها الأغراء، فلم تلبث أن أيقظت في نفوسنا بنات الهوى، وشياطين الغرام، فإذا نحن نفتش في أثناء نفوسنا عن ذكرى حب قديم، أو أمل بحب جديد. . . وإذا نحن نحس بهذه العاطفة المبهمة التي يبعثها الجمال في النفوس الشاعرة، فنزهد في المال والجاه والمجد، ولا نطلب من الحياة إلا خلوة هادئة على صخرة من هذه الصخور. نقضي فيها العمر كله مع من نحب في قبلة واحدة. . . وهل يتسع عمر الإنسان (ليت شعري) لأكثر من قبلة(281/9)
واحدة؟
لبثنا صاعدين ساعات طوالاً، والطريق تتسع بنا أو تضيق، والقرى تبدو لنا خيالاتها كأنها الأمل الباسم يومض نوره من خلال الأمل الطاغي، وهي متكئة على أكتاف الصخور، أو نائمة في حجر الجبل نومة الطفل المدلل في حضن أمه الرؤوم، والمشاهد تتبدل لنواظرنا أبداً، فلا تترك جميلاً إلا إلى ما هو أجمل، فلا ندري فيم نتأمل، وأين ننظر، كالذي يشهد معارض الفن الجميل فيحار أين يقف، وعلى أي لوحة يلقي البصر. . .
إن لبنان معرض الفن العلوي الذي أبدعته يد الله، فمن لم ير لبنان (لبناننا الشرقي النقي الطاهر، ولبنان القوم المرح الشاعر) لم ير من دنياه شيئاً!
بلغنا من الصعود ما لا نطيق أكثر منه، فنظرنا إلى أقدامنا، فإذا تحتنا أودية وأودية لا ينال البصر أدانيها، وإذا هي غارقة في الضباب، ومحجوبة بالسحاب الذي علونا عليه فصار جريه من تحتنا، وإذا هي مهولة مخيفة، ولكنها سبيلنا ما لنا من الهبوط إليها يد، بعد أن أضعنا الطريق وبلغنا هذه الذرى الخالية، فتوكلنها على الله وأخذنا نهبط في فزعين، ولم يكن ثمة من طريق فكنا نثب من الصخرة، وننحدر في المسيل، ونتزحلق على الحصى، والوادي العميق لا يزال كما كان غارقاً في الضباب، كأنه صورة مبهمة لاحت لشاعر، أو فكرة غامضة أو مضت في رأس عالم، وكنا كلما هبطنا درجة فتحت لنا صفحة جديدة من كتاب الجمال السرمدي، فلا نكاد نقرأ منها حرفاً، لأن لنا من حيرتنا وتعبنا وفزعنا ما يشغلنا عن تلاوة آيات الجمال. . .
حتى إذا مضت ساعات وآذن النهار بالرحيل، بلغنا قرارة الوادي، فإذا هو خال موحش يبدو لنا كأنه قبر، وإذا الأشواك والأزهار والأوراد قد حفت به متشابكة مؤتلفة حتى لا سبيل إلى بلوغه، ولم تكن قد مستها يد بشرية مدمرة، فبقيت على طبيعتها متعانقة لم يفسد ألفتها شيء، ولم يعبث بجمالها عابث، فدرنا حولها نفتش عن مجاز نجوز منه، فوجدنا بعد لأي طريقاً ضيقاً ملتوياً، فسرنا فيه نلتوي معه حتى بلغنا الأعماق. . .
كان الوادي ضيقاً عميقاً كأنه فجوة صغيرة، فنظرنا في جوانبه فلم نلق أثراً لإنسان فرفعنا رؤوسنا فإذا نحن نبصر على الجانبين جداراً هائلاً من الصخر، لا يبلغ البصر أعاليه، وإذا نحن في بئر عميقة نائية عن الدنيا، لم تبلغها الحضارة بخياراتها ولا بشرورها بعيدة عن(281/10)
البشر لم يصلوا إليها، ولم يعلموا بها فأيقنا أنا قد كشفنا سراً من أسرار الطبيعة في هذا الجبل. وكم للطبيعة فيه من أسرار لم يكشفها إلى اليوم أحد!. . . وملكتنا رهبة المكان فسرنا صامتين، وابتعدت عنهم أنقب في جوانب الوادي، فإذا أنا بسلسال ماء يهبط من الذرى العالية يقطع مئات الصخور والحدور، حتى يستقر في هذا الوادي، كأنه رسالة الحياة وهديتها إليه فذهبت أتبع مجراه، وأتقصى أصله، فإذا أنا ألمح داراً متوارية وراء صخرة من الصخور الضخمة، وإذا أنا أسمع صوتاً يختلط بخرير الينبوع، ويرن صداه الخافت الفاتن في سكون الوادي الضيق، فيهز من القلوب حباتها، فأعجب من هذا الصوت وأقبل عليه على حذر فإذا أنا أتبين فيه هذه الأغنية اللبنانية الخالدة، التي تحمل عبقرية الأجداد، وصورة آلامهم ومسراتهم، وخوالجهم وهواجسهم، فيتلقاها الأحفاد ويزيدون عليها آلامهم وآمالهم فلا تنتهي أبداً، بل تبقى دائماً نشيد الشعب، بل أغنية القلب. . .
عَ اليادل يادل يادل. . . . . .
لَطْلعْ عَ راس الجبل ... وَشْرِفْ على الوادي
وقول يا مرحباً ... نَسَّم هوا بلادي
يا رب يطوف النهر ... ويمتلي الوادي
لَعْمِل زنودي جسر ... ومَرِّيء البنية
يا رايحين على حلب ... حبي معاكم راح
يا مشيلين العنب ... فوق العنب تفاح
كل مين حبيبه معو ... ونا حبيبي راح
يا رب نسمة هوا ... ترد الحبيب ليا
فهزني الغناء، قبلت على الرجل يدفعني الاستطلاع والفضول ويردني الفزع وخشية المجهول، وأثبته نظرا فإذا شيخ همٌّ أبيض اللمة واللحية بأسمال بالية، فلما رآني وثب مرتاعاً فِعْل من لم ير إنساناً قط وقذف في وجهي بصرخة هي إلى صراخ الوحش النافر أدنى منها إلي صياح الناس، وولى هارباً، فخفته، ولكني تجلدت، وتبعته فمررت بأرض مزروعة ورأيت عدداً من الشاء نفرن مني لما أبصرنتي، فأدركته عند باب الدار، فجعلت ألطف به وأكلمه، وهو ينظر إليّ وقد امحت وحشيته الأولى وصار وجهه كوجه طفل(281/11)
بريء، وجعل يصغي إلى كلامي، شارد البصر يحاول أن يتفهم معناه ويردد بعض الكلمات بصوت خافت رهيب، فوقع في نفسي أنه مجنون، أو أنه قد نسى الكلام وكان الليل قد بسط على الدنيا جناحيه ولم يبق لنا بد من المبيت في هذا الوادي، فعدت ألطف بالشيخ وأكلمه حتى أنطلق لسانه فتكلم. . .
قال:
. . . نعم خالفت إرادة السلطان، وفررت بها إلى هذا الوادي. أليست ابنة عمي؟ أليس الحب يؤلف بين قلبينا؟
فهممت أن أسأله عنها، ولكني وجدته لا يعي الكلام وخفت إن أنا سألته أن يفوتني حديث قد لا أسمع مثله أبداً فسكت وعاد هو يقول:
لقد عشنا سعيدين لا نرى أحداً ولا يرانا، نزرع هذه الأرض فنأكل من ثمرها، ونسوق هذه الماشية فننال من ألبانها ولحومها، وكنا أسعد الناس، ولكنها ماتت، ماتت منذ أربعين سنة فماتت معها نفسي. وهذا هو قبرها. . .
وبكى الشيخ فأبكانا ثم قال:
إن أعيش من بعدها بلا حياة، أنا ميت، فاقض في ما أنت قاض. خذني إلى السلطان عبد الحميد ليقطع رأسي، لم يبق لي من الدنيا أرب بعد أن ماتت. . . لقد عشت بحبها، وأموت على حبها وهذا يكفيني. . .
ثم قام مشرعاً فاختفى بين أدغال الوادي، وترك لنا بيته وطعامه وشرابه فلبثنا فيه ننتظر الصباح
(بغداد)
علي الطنطاوي(281/12)
التعلم والمتعطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
خطة الإصلاح الخلقي
والآن وقد كشفنا عن الضعف الخلقي الذي تفشي في شبابنا بسبب إهمال المدرسة للناحية الخلقية نرى لزاماً علينا أن نرسم للمدرسة خطتها التي نعتقد أنها إذا سارت عليها أمكنها أن تصلح من شأن أبنائها. ولسنا ندعي العصمة من الخطأ في ذلك ولكن هذه الخطة هي التي هدانا إليها اجتهادنا وتفكيرنا.
فعلى المدرسة أن تخصص مدرساً لكل عدد من التلاميذ لا يزيدون على العشرين يراقبهم ويدرس أحوالهم، ويكون لكل واحد منهم سجل خاص يدون فيه جميع المعلومات الصحية والخلقية والعلمية المتعلقة به وتحتفظ المدرسة بهذا السجل منذ بداية التحاق التلميذ بها. وعلى هذا المدرس أن يكون مركز الاتصال بين مدرسي هذا التلميذ الآخرين وإدارة المدرسة من جهة، وبين ذويه وأهله من جهة أخرى ليتعرف كل شيء عنه، وليباحثهم جميعاً في أمره وفي تنظيم حياته وفي ترقية حاله وفي إصلاح معوجه كلما لوحظ فيه انحراف عن الصراط المستقيم. وإنا نرى أن التعاون في ذلك بين المدرسة والمنزل من المسائل الجوهرية التي تقس التلميذ شر الشطط والانحراف عن جادة الحق بما يفرض عليه من رقابة شديدة ساهرة تقدم له المساعدة التي يتطلبها، وتبذل لذويه الإرشاد اللازم لصون صحته وأخلاقه، وتشرف على تنظيم أوقات فراغه وسيره في سبيل التقدم المطرد والنجاح المضمون، فيسير نحو الرجولة المنشودة. وهو فوق ذلك أمر يلزم ذويه بالعناية به والاهتمام الدائم بأمره وملاحظته والسهر على تقويمه. وبالرغم مما يلقيه هذا الواجب الجديد الثقيل على المدرس من عبء ومجهود متعب فانه يخفف عن المدرسة كثيراً من أعبائها وإجراءاتها الصورية المتعبة غير المثمرة التي تقوم بها مثلاً في حالة تغيب التلميذ أو مرضه أو تأخره أو تأديبه الخ. .
وفوق هذا فأننا نعلم أن كثيراً من التلاميذ الذين يتعلمون بالمدارس الابتدائية والثانوية يضطرون بحكم بعد المدرسة عن منازلهم أن يقطنوا وحدهم في مساكن كثيراً ما تكون قذرة وغير لائقة لعدم وجود من يعني بأمرهم. وليس هناك من يشرف على أحوالهم المعيشية،(281/13)
أو يرقب عن كثب أحوالهم الخلفية فيرشدهم إذا أخطئوا، ويردهم عن غيهم إذا حادوا عن الصراط المستقيم؛ وفي هذا إفساد لكثير من الشبان من الوجهتين الصحية والخلقية. وإن في وجود هذا المدرس المشرف لضماناً كبيراً يحول دون ذلك لأن في إمكانه أن يفحص أحوال تلاميذه خصوصاً منهم من لا يعيشون تحت رقابة أهليهم.
ويصح أن يجمع عدداً من المتقاربين في أحوالهم المالية والمعيشية فيساعدهم على سكنى منزل واحد وعلى إيجاد خادم يقوم بخدمتهم فينظم بذلك حالتهم المعيشية، ويشرف إشرافاُ تاماً على تكوينهم الخلقي. فلو أن المدرسة عنيت بهذا الأمر حق العناية وحققت هذه الرقابة الدائمة على تلاميذها لخدمت الأخلاق والفضيلة والقومية المصرية خدمة كبرى، ولأدى هذا العمل إلى رفع المستوى الخلقي والقومي إلى حد كبير، ينهض بمصر نهضة قوية، ويضعها في مصاف البلاد العظيمة. وللنجاح في ذلك شرط أساسي يتلخص في أن يعمل المدرسون هذا العمل الجليل عن طيب خاطر وأن يعتبروه خدمة وطنية عظيمة تقدرها البلاد قدرها. ولابد لهؤلاء المشرفين من أن يخفف عنهم عبء العمل المضني في نوح أخرى
ثم إن على المدرسة فوق ذلك أن تعني عناية تامة بالرياضة البدنية المصحوبة بأجراء تدريبات عسكرية نظامية مستمرة. وعليها أن تدرب أبناءها جميعاً على المخاطرات واقتحام العوائق وتذليل الصعاب كالفروسية وغيرها كالسباحة والتجديف وركوب الخيل وأنواع المهارة الرياضية. وعليها أن تشعر الطالب بأن الألعاب الرياضية والتدريب العسكري وأعمال الفروسية من ضروريات الحياة التي يجب على كل واحد أن يأخذها منها بقسط وليست زينة تبرزها المدرسة في حفلاتها الرياضية السنوية فحسب لتباهي بها أترابها ولتظهر بها على غيرها، فإذا انتهت أيامها ماتت الرياضة بالمدرسة حتى تبعثها بعد عام أو عامين فكرة إقامة حفلة أخرى كما هو واقع اليوم، فكل تلميذ يجب أن يقدم على الألعاب الرياضية ويمارسها كل يوم ممارسته لغيرها من الأعمال المدرسية الأخرى. والواجب أن تخصص المدرسة نصف ساعة على الأقل يومياً للتدريب والتمرين الشخصي وأن تكون صفاً عسكرياً نظامياً عاماً يومياً، ويجب أن يخصص للتدريب العسكري فوق ذلك جزء من العام في شهر يناير كأسبوعين أو ثلاثة بصفة خاصة.(281/14)
وليس الغرض من ذلك تقوية الجسم واعتدال الصحة فحسب، بل هناك فوق ذلك غاية أخرى لا تقل أهمية عن هذه وهي تكوين الخلق القويم بتعويد الطالب مغالبة الصعاب والاحتمال والصبر وحب النظام واحترامه وإطاعته وحب التضامن والتعاون مع غيره من أترابه وإخوانه. وهذه كلها أمور تتطلبها الحياة الاجتماعية اليوم وتدعو إليها النهضة القومية. ويعقب ذلك مباشرة الاهتمام بمسائل الرحلات والإكثار منها فلا يصح أن ينقضي أسبوع من غير أن تقوم المدرسة برحلة رياضية في الهواء أو في الصحراء أو في النهر أو البحر أو في الحقول الخضراء اليانعة، حيث يدرس التلاميذ بطريق غير مباشر طرق المواصلات وطبيعة الجهة صحراوية أو إقليمية أو بحرية وما يجري فوق سطح البحر أو تحته مما ينتفع به الناس. هذا إلى الرحلات العلمية التي يجب أن يقوموا بها لدراسة طبيعة البيئة المحيطة بهم، وما يجري فيها من صناعات وتجارات وزراعات. فالواجب على المدرسة أن تجعل من نفسها قطعة من الحياة الاجتماعية العامة المحيطة بها، وعلى المدرسة كذلك أن توجه عنايتها إلى خلق المشروعات الاقتصادية والخيرية بين جدرانها. وإن في قيام التلاميذ بحركة مقصف داخلي بها حيث يقوم بعضهم بشراء مستلزماته ويبعها وإيجاد سجلات لذلك وتدوينها، كما أن في قيامهم بصنع بعض الأدوات المنزلية البسيطة من الخيزران والجلد والقش الخ وبيعها في أسواق خيرية يقيمونها - لعملاً نافعاً يستحق الاهتمام والتشجيع.
وناهيك بما يمكن أن يقوموا به فوق ذلك من أعمال البر والإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين مما يبعث في نفوسهم الشفقة والرحمة. وهو أمر نادر الوجود بالمدرسة المصرية اليوم بينما نجده عملاً ضرورياً في كل مدرسة أجنبية. وعلى الأخص في مدراس البنات إذ يغرسون في قلب البنت العواطف الكريمة: عواطف الرحمة بالضعيف والشفقة على المسكين، والبر بالعاجز واليتيم. وإن من وجب الواجبات إدخال هذا النظام سريعاً والعمل به لما يخلفه من جو كريم ملؤه العطف والحنان ولما يريبه في الصغار من حب البذل والجود في سبيل الخير. وكثيراً ما سمعنا عن مدارس أجنبية بين ظهرانينا تقوم بعمل الكسى وتوزيعها هي والحلوى في أيام الأعياد على الفقراء والمساكين. وإذا كانت المدرسة المصرية قد استحدثت في سنيها الأخيرة نظام توزيع الجوائز على المتفوقين علمياً من(281/15)
أبنائها فجدير بها أن تخص المبرزين من تلاميذها في كرم الخلق والحدب على الضعيف والعطف على البائس المسكين.
وأن تخض أقوم التلاميذ أخلاقاُ وأكثرهم رجولة. جدير بها أن تخص هؤلاء أيضاً بالتشجيع وأن تمنحهم الجوائز والمنح تشجيعاً لذوي الأخلاق الفاضلة وتنبيهاً لغيرهم إلى ما تستحقه تلك الأخلاق من تكريم وتقدير. وليكن لنا في قرين الملكة فكتوريا أسوة حسنة. فلقد كان رجلاً طيب القلب، طاهر الفؤاد، يقدر الأخلاق الكريمة حق قدرها فكلن كلما قرر مكافأة سنوية لمعهد من المعاهد جعلها لأرقى الطلبة خلقاً، ولمن يؤمل فيه أن يكون رجلاُ كبير القلب طاهر الفؤاد عظيم الشمائل، ولم يكن يجعلها لأذكى الطلبة أو أنبههم أو أكثرهم مدارسة للكتب، أو أنبغهم في العلوم
ثم إن على المدرسة بعد هذا وذاك أن تحبب أبناءها في القراءة ومدارسة الكتب وتذوق ما في بطونها. وعليها أن تتخير لهم الكتب المناسبة لعقولهم فتكثر للأطفال من القصص الصغيرة المليئة بحوادث التضحية والبطولة وأبطال الرجال وقادتهم، وأن تضمنها ما كان لعظيم أخلاقهم من سر في بطولتهم. فلكم يحلو للطفل أن يحدثه أستاذه أو كتيبه عن بعض المواقف العظيمة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز. وكم يحلو له أن يقرأ شيئاً عن مصطفى كامل أو سعد زغلول، أو جان دارك، أو غاندي، أو غيرهم من الأبطال المليئة حياتهم بالنوادر والقصص اللطيفة التي تحفز الطفل إلى التقليد والنسيج على ذلك المنوال فيشب معجباً بأعمال البطولة النادرة ويتمنى في نفسه دائماً لو أتيح له أن يكون كواحد من هؤلاء الأبطال. ولا شك أن هذا يدفعه في شبابه بل طول حياته إلى الأعمال العظيمة، كما أنه يحول بينه وبين كل رذيلة أو عمل حقير. وفي المدرسة الثانوية يجب أن يكون في صلب جدولها درسان على الأقل أسبوعياً للمكتبة لكل طالب يكلف فيها بحث إشراف مدرسه بدراسة تاريخ حياة بطل من الأبطال ليكتب عنه ويحاضر فيه إخوانه ويسمر معهم متحدثاً عن سيرة بطله وأعماله ونوادره وأحواله. وفي بطون التاريخ كثير من الأبطال السياسيين وغير السياسيين من المستكشفين والمخترعين وجبابرة العقول والفلاسفة. ولا شك في أن متابعة سير هؤلاء ومدارسة أحوالهم من أشهى وألذ ما يخاطب به عقل فتى تستهويه البطولة والعبقرية، كما(281/16)
أني لا أشك في أمنية كل شاب أن يصير بطلاً كأولئك الأبطال مما يحفزه في أن يسير سيرتهم وينهج نهجهم. بهذا العمل لا نكون قد حققنا غرضاً واحداً، بل عدة أغراض، إذ نعود الطالب الاعتماد على نفسه في البحث والدرس كما نعوده تذوق الفقراء والمطالعة واعتيادها، وحصر أوقات فراغه فيها، ونغرس فيه فوق ذلك حب البطولة وتقديرها والسعي المتواصل إليها. ويا حبذا لو عملت المدرسة من ناحية أخرى على تحبيب تلاميذها في الفنون الجميلة من موسيقى وتصوير وشعر، وذلك بأن يدرس المشرف صاحب سجل التلميذ ميول التلميذ منذ بدء اتصاله بالمدرسة واتجاهه، ثم يحاول أن يقوي فيه تلك الميول حتى يتجه به إلى أحد هذه الفنون فيسير في تعلمها لأنها لا تربي في الإنسان الذوق السليم فحسب، ولكنها تصرف الشاب عن الاتجاهات الفاسدة وتجعله يعرف كيف يقضي أوقات فراغه في هويته التي جذبته إليها من غير أن يتأثر بقرناء السوء أو يفكر في غير اللهو البريء لا اللهو الفاسد الذي يجر كثيراً من الشبان إلى الدمار والهلاك
إذا قامت المدرسة بكل ذلك، ولن تقوم به إلا إذا تخلصت من قيودها الحالية، فإنها تكون قد حققت الغرض الأسمى من وجودها لأنها أحاطت أبناءها بسياج متين من الأخلاق الفاضلة وأعدتهم إعداداً حسناً للكفاح الدائم، والنضال المستمر المنتج في الحياة، ذلكم الكفاح والنضال اللذين يكونان الرجال ذوي العقول المثقفة والضمائر الحية، والأخلاق الطاهرة القويمة، ما يكفل لهم النجاح في أعمالهم والنهوض بأمتهم. وليس للأمة عدة تتكئ عليها في هذا السبيل غير المعلمين الأكفاء الأمناء الذين يقدرون واجبهم تمام التقدير ويسهرون على أدائه خير أداء تعاونهم في ذلك الأمهات المثقفات العارفات بطرق تنشئة الأطفال على الفضيلة وقيادتهم قيادة صحية إلى الحياة الفاضلة السامية. ولن يتوج هذا النجاح إلا بسهر الحكومة سهراً فعالاً على حماية أبناء البلاد وعنايتها بناشئتها ومعونتها المنزل والمدرسة معاونة صادقة في سبيل الطهر والفضيلة وواجبها المحتوم في ذلك يقضي عليها بأن تسن تشريعاً خاصاً يحرم على الأطفال والشبان قبل سن محدودة ارتياد محال اللهو والمقاهي العامة ومحال القمار وغيرها مما يفسد الأخلاق ويقضي عليها إذا كانت لا تستطيع أن تقضي على المحال المفسدة وتحمي جمهور الشعب من مفاسدها. وواجبها المحتوم يقضي عليها أن تنشئ مراكز متعددة للألعاب الرياضية في مختلف جهات المملكة يلتحق بها(281/17)
الشبان بعد انتهائهم من المدرسة فيقضون فيها أوقات فراغهم وتكون مكاناً لتسليتهم وسمرهم وتقوية أجسامهم بدلاً من تلك المقاهي العامة التي انتشرت في كل مكان وأقل ما يقال فيها أنها تعلم الكسل وتعود الإهمال وتباعد بين الرجل المتزوج وأولاده مما له أثر أسيء جداً في حياتنا الاجتماعية والمنزلية
وإني أسأل الله أن يوفق العاملين إلى استئصال تلك الآفات الاجتماعية حتى تصبح أمتنا خير أمة أخرجت للناس
عبد الحميد فهمي مطر(281/18)
الفن
للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
ما هو الغرض من الفن؟ لو قدر للحقيقة أن تصطدم بحواسنا وضميرنا، ولو كان في مكنتنا لأن نتصل اتصالاً مباشراً بالأشياء وبأنفسنا، إذن لكنت أعتقد بأن الفن شيء غير ضروري. أو بعبارة أوضح لكنا نصبح جميعاً فنانين، لأن أوتار نفوسنا ستهتز حتماً بالاتحاد مع الطبيعة؛ ولكانت عيونا تؤازرها ذواكرنا، تتقطع من الفضاء آيات من روائع الفن لنثبتها على صفحة الزمن؛ ولكان نظرنا يلتقط في طريقه أجزاء من التماثيل منحوتة في رخام الجسم البشري الحي لا تقل روعة عن التماثيل الأثرية القديمة؛ ولكنا نسمع نفحات حياتنا الباطنة تتردد في أعماق نفوسنا كأنها ألحان موسيقية، تارة مرحة وأطواراً مشجية، وفي الغالب غريبة غير مألوفة. كل ذلك يوجَد حولنا، كل ذلك يوجد فينا، ومع ذلك فإننا لا نميز بجلاء شيئاً من ذلك كله. إنه يوجد بين الطبيعة وبيننا، أو بالأحرى يوجد بيننا وبين ضميرنا الذاتي وشاح مسدول، وهذا الوشاح يراه العامة من الرجال كثيفاً ولكنه في نظر الفنان والشاعر خفيفاً حتى ليكاد يكون شفافاً عارياً. فأية حورية من الجن قد حاكت خيوطه الناعمة؟ وهل نسجته خبثاً ودهاء أو مودة وتحبباً؟ إن الحياة فرض واجب لابد منه. والحياة تحتم علينا أن نتناول من الأشياء التي تكتنفنا ما نحن في حاجة إليه في علاقاتنا بها.
إن الحياة موقوفة على العمل والمثابرة. والحياة هي ألا يقبل المرء من مؤثرات الأشياء المرئية إلا ما كان نافعاً ملائماً لطبيعته بحيث يتسنى له أن يجيب على اختلاجات هذه الأشياء برجعة متناسبة. وأما ما عداها من المؤثرات فيجب أن تضمحل وتتلاشى أو لا تصل إلينا إلا مضطربة مشوشة. . . إنني أنظر وأعتقد بأنني أرى، وأصغي وأعتقد بأنني أسمع، وأدرس نفسي وأعتقد بأنني أقرأ في أعماق فؤادي. بيد أن ما أراه وما أسمعه في العالم الخارجي ليس إلا ما تستخلصه حواسي لإنارة طريق عملي. إن ما أعرفه من نفسي ليس إلا ما يتجلى للنظر، أي ما يشترك في العمل. وإذن فان حواسي وضميري لا تكشف لي إلا عن ناحية موجزة من نواحي الحقيقة العملية. ففي الرؤيا التي تمثلها لي حواسي وضميري من الأشياء ومن نفسي، تتلاشى الفروق التي لا ينتفع منها الرجل، وتتضاعف(281/19)
المشابهات التي يستفيد منها الرجل، وتتجلى أمامي السبل التي سيطرقها عملي وهي السبل التي سلكتها الإنسانية بأسرها وقطعتها من قبلي. إن الأشياء رتبت طبقاُ للفوائد التي يمكنني أن أستخلصها منها، وهذا الترتيب هو الذي أشاهده أكثر مما أشاهد لون الأشياء وشكلها. لاشك في أن الرجل أرفع مكانة وقدراً من الحيوان من تلك الناحية، وإنه لقليل الاحتمال أن تفرق عين الذئب بين الجدي والحمل؛ فكلاهما في نظر الذئب فريسة مستساغة، وكلاهما سهل المنال، وكلاهما صالح للالتهام. أما نحن فإننا نفرق بين العنزة والخروف، ولكن هل ترانا نميز بين عنزة وعنزة وبين خروف وخروف؟ إن فردية الأشياء والكائنات تغيب عنا كلما تبين لنا أن في جلائها نفعاً مادياً، بل في الأحوال التي نتبين فيها تلك الفردية (كما في الظروف التي نتبين فيها الفرق بين رجل ورجل آخر) فان أعيننا لا تلتقط تلك الفردية بالذات أي بعض التآلف الغريب الذي يوجد بين الأشكال كما يوجد بين الألوان، ولكنها تلتقط لمحة أو لمحتين تسهيلاً للتحقق العملي من وجود الشبه بينهما
ومجمل القول أننا لا نرى الأشياء في ذاتها وإنما تقتصر في أغلب الأحيان على قراءة ما هو مكتوب على البطاقات الملتصقة بها. وهذا الميل الناشئ عن الحاجة يزداد كذلك تحت تأثير الكلام والنطق، لأن الألفاظ (فيما عدا أسماء الأعلام) تعبر كلها عن الأنواع. إن الكلمة التي لا تعبر إلا عن ماهية الشيء المألوفة العادية ولا تدل إلا على مظهره المبتذل تنساب بين الشيء وبيننا فتحجبه عنا وتخفي شكله عن أعيننا إن لم يكن هذا الشكل قد توارى خلف الضروريات التي كانت السبب في خلق تلك الكلمة. ولا يقتصر الأمر على الأشياء الظاهرة وإنما يتعداه كذلك إلى حالاتنا النفسية التي تتواري عنا وتختفي وراء جوهرها الذاتي. عندما نشعر بالحب أو بالحقد، وعندما نشعر بالسرور أو بالكآبة، فهل شعورنا بالذات هو الذي يصل إلى ضميرنا بآلاف التموجات الشاردة وآلاف الأصداء العميقة التي تجعل منه شيئاً من خصائصنا الذاتية المطلقة؟ إذن لكنا نصبح كلنا روائيين، وكلنا شعراء، وكلنا موسيقيين. ولكننا في أغلب الأحيان، لا نرى من حالتنا النفسية إلا نبسطها الظاهر. إننا لا ندرك من مشاعرنا إلا مظهرها الغريب عنا، والذي حدد اللفظ معناه كلية لأنه يكاد يكون متشابهاً دائماً، وظروفه تكاد تكون واحدة عند جميع الرجال. وهكذا فان الفردية تغيب عنا حتى في شخصنا. إننا نتحرك في وسط محيط من الاعتبارات والرموز كأننا بداخل(281/20)
دائرة محاطة بسياج تتبارى فيه قوتنا مع سواها من القوات؛ فإذا ما سحرنا العمل وجذبنا إلى المجال الذي اختاره، في سبيل مصلحتنا، أخذنا نعيش في منطقة متوسطة بين الأشياء وبيننا، خارجة عن الأشياء وخارجة عنا كذلك. بيد أن الطبيعة توجد، على سبيل اللهو، نفوساً أكثر انفصالاً عن الحياة. إنني لا أتكلم عن ذلك الانفصال المقصود الثابت بالبرهان والناتج عن التفكير والفلسفة، وإنما أتكلم عن انفصال طبيعي يعد غريزياً في تقويم الحس والضمير، ويتجلى في الحال بطريقة بريئة للنظر والسمع والتفكير. فإذا كان هذا الانفصال تاماً، وإذا كانت النفس تكف عن الاشتراك في العمل بواسطة حاسة من حواسها، أصبحت تلك النفس نفس فنان لم ير العالم مثلها منذ الأزل. وإنها لتسمو في جميع الفنون معاً، أو بمعنى أصح تصهر جميع الفنون في بوتقة لتخلق منها فناً واحداً؛ وننظر إلى الأشياء في سذاجتها وطُهره الأول. وكذلك تكون الحال في الأشكال والأوان وأصوات العالم المادي وأدق حركات الحياة الداخلية. بيد أننا لو فرضنا ذلك لكنا نحمل الطبيعة فوق طاقتها. ثم إذا نحن دققنا النظر في الذين اختارتهم الطبيعة من بيننا لتجعل منهم فنانين فإننا لا نلبث أن نتأكد من أنها لم تأت ذلك إلا عفواً عن غير عمد، وأنها لم ترفع الوشاح الذي يسترها إلا من جانب واحد، ونسيت أن تقيد الشعور بالحاجة في اتجاه واحد. ولما كان كل اتجاه يقابله ما نسميه حاسة، فان الفنان ينقطع عادة للفن بواسطة إحدى تلك الحواس وبتلك الحاسة فقط. من هنا نشأ تنوع الفنون. ومن هنا أيضاً نشأ تخصص الميول. فمن الناس من يتعلق بالألوان والأشكال؛ ونظراً لأنه يحب الألوان لمجرد الألوان، والأشكال لمجرد الأشكال؛ ويميز كلا منها لذاتها لا لذاته، فان الحياة الداخلية لتلك الأشياء هي التي تتجلى أمام النظارة خلال أشكالها وألوانها فيدخلها رويداً رويداً في إحساسنا المضطرب القلق من تلك المفاجأة. إنه ينزع عنا، ولو لفترة قصيرة، تلك القيود التي تربطنا بأوهام الشكل واللون التي ما فتئت تعترض أعيننا وتحول بينها وبين الحقيقة. وإنه ليستطيع بذلك تحقيق أكبر مطمع للفن وهو - بالنسبة لموضوعنا - إزاحة الستر الذي يخفي الطبيعة عنا. ومنهم من ينطوون على أنفسهم ويقفون جهودهم على البحث عن الشعور وعن حالة النفس على ما هي عليه من سذاجة وطهر، خلال آلاف الأعمال المتولدة التي تعبر عن الشعور، أو من الكلمة التافهة الاجتماعية التي تعبر عن حالة نفسية فردية وتستكملها. وإنهم - لكي(281/21)
يستحثونا على محاولة مثل هذا المجهود في أنفسنا - يجتهدون في إطلاعنا على شيء مما وقعت عليه أعينهم وبعبارات منتظمة موزونة يقولون لنا - أو بالأحرى - يوحون إلينا بأشياء لم توضع الألفاظ للتعبير عنها. وسواهم يبالغون في تعمقهم ويمعنون فيه؛ فتراهم تحت ستار هذه الأفراح وتلك الأحزان التي يمكن التعبير عنها بالألفاظ، يتمسكون بأشياء لا علاقة لها ألبتة بالكلام، أو ببعض نغمات من نغمات الحياة والتنفس هي أعمق في صدور الرجال من أدق مشاعرهم لأنها تمثل الناموس الحي الذي يختلف باختلاف الأشخاص، ويعبر عن كبتها ووجدها، وعن حسراتها وآمالها. فإذا استخلصوا تلك النغمات وضاعفوها فانهم يفرضونها علينا ويلفتوننا إليها، ويعملون على الاندماج فيها عفواً وبغير ما دافع منا كما يندمج المتفرج في حلبة الرقص دون أن يشعر، ويحملوننا بذلك على أن نهز في خبيئة نفسنا أوتاراً متحفزة ترقب من يلمسها لتصدح وترتفع نغماتها
فسواء أكان الفن رسماً أو تصويراً أو شعراً أو موسيقى فلا غرض له إلا أن يُبعد الرموز النافعة والاصطلاحات المشروعة المسلم بها في المجتمع وكل ما يستر الحقيقة عنا ليقف بنا إزاء الحقيقة بالذات وجهاً لوجه. إن الجدل بين المذهب الوجودي والمذهب المثالي في الفن نشأ من نزاع على تلك النقطة. فلا شك في أن الفن ليس إلا مظهراً جلياً مباشراً للحقيقة، بيد أن هذا السمو في الإدراك يستلزم القطيعة مع العرف المصطلح، ونزاهة غريزية محصورة في الحس أو الضمير، كما يستلزم كذلك شيئاً من اللامادية في الحياة وهي ما اصطلحوا على تسميته دائماً بالمذهب المثالي، بحيث يمكن القول، بغير ما تورية أو مجاز، بأن المذهب الوجودي هو في العمل بالذات، بينما المذهب المثالي هو في النفس، وأنه لا يمكن العودة إلى تلمس الحقيقة إلا بقوة الخيالية دون سواها
هنري برجسون
ترجمة سليم سعدة(281/22)
فن القراءة
للأديب نصري عطا الله سوس
القراءة فن له قواعد وأصول. ومهما جد القارئ واجتهد فلن يحصل على ثمرة مجهوده إلا إذ اتبع تلك القواعد والأصول اتباعاً دقيقاً. وكلامنا هذا لا ينصب على كل ما يقرأ، بل على الأدب وحده باعتباره أثمن وأرفع أنواع القراءة؛ ولا على كل من يقرأ، بل على من يعتبر الكتاب صديقاً ومرشداً ومعلماً، ومن تضطرم في قلبه جذوة الشوق إلى المعرفة وفهم الحياة والتمتع بها إلى أقصى حد ممكن واكتناه أسرارها
ينبع الأدب من قدس أقداس النفس، يضمنه الأديب زبدة حياته، وصفوة اختباراته، وما يضطرم في قلبه من آلام وآمال وما يصطرع في ذهنه من آراء عن حقيقة الحياة والموت والقدر واللذة والألم والطبيعة والخالق وغيرها من مشكلات الحياة التي لن تحل أبداً. والأديب هو ذلك الشخص الدقيق الإحساس الرقيق الشعور الذي يتأثر بكل عوامل الحياة أتم التأثير وأقواه، والذي منحته الطبيعة القدرة على التعبير عن آرائه واحساساته التي دفعت به إلى الكتابة. والكتاب الجيد من أثمن النعم التي تتيحها الحياة لمن حبته الذوق الفهم، لأنه خلاصة حياة عظيمة غنية واسعة الأفاق بعيدة الغور؛ وهو ينبوع عذب، فيه ري وفيه حياة لأثمن وأرفع ناحية من نواحي الطبيعة الإنسانية. فالكتاب الجيد يعمق ويهذب شعورنا ويوسع آفاق نفوسنا ويقوي قدرتنا على التفكير ويفتح أعيننا على أنواع من الجمال لم نكن نعرفها أو نحس بها. والإنسان مفهوم بحب الحياة، ودّ لو عاش أعماراً مضاعفة وتذوق كل ما تفيض به الحياة من لذات وآلام، ولكن العمر شحيح. ومن جهة أخرى فالحياة بخيلة لا تتيح أو تسمح لكل إنسان أن يقلب أبصاره بين آفاقها ويخوض بحارها باحثاً عن دررها. لم تتح الطبيعة هذا إلا لأشخاص معدودين جعلت كل واحد منهم أشبه بقيثارة تستنطقها كل أنغامها، وهم الأدباء والشعراء. وبقراءة ما خلف هؤلاء نشبع حب الحياة في نفوسنا. فالكتب تضيف أعماراً إلى أعمارنا، وهي سياحة في المكان والزمان. فالقارئ الجالس على كرسيه في غرفة ضيقة يطوف بذهنه في فجاج الأرض كلها، بل يرقى إلى السماء ويتملى أنوارها، ويرتد إلى الماضي السحيق يحدق في كهوفه وظلماته، ويتقدم إلى المستقبل البعيد يتملى بهاءه وجلاله. فإذا كان الأدب على هذه القيمة(281/23)
والأهمية فكيف نقرأه؟
1 - أول شروط القراءة هو حسن اختيار الكتاب، فالعمر لا يتسع لقراءة كل ما كتب في لغة واحدة - ناهيك بأدب أمتين أو ثلاث - ولا كل ما كتب يستحق القراءة. والملاحظ أن الأدباء - وهم أحسن من يجيدون القراءة - لا يعيرون أهمية كبيرة لما يكتب في عصرهم، بل يوجهون كل اهتمامهم إلى الكتب التي أثبت الزمن قوتها وحيويتها وقدرتها على البقاء. والزمن وحده هو الذي يحكم للكتاب أو عليه؛ والزمن وحده هو الذي حفظ لنا هوميروس وأفلاطون وشكسبير وإضرابهم، لأن أدبهم يشتمل على عناصر الحياة الجوهرية التي لا حياة بدونها. وكم من أديب عاش ومات في غمرة النسيان! وكم من أديب تألق ثم خبا! وكم من أديب يعيش على فضول الكتاب والقراء. علينا أن نهمل كل هؤلاء وأمثالهم وأن ننتخب ما نقرأ من بين أحسن ما كتب. هذا إذا أردنا أن نحيا حياة ذات قيمة.
2 - العامل الثاني هو إجادة القراءة. فهناك قراء يوجهون كل همهم إلى الإحاطة وينسون الإجادة والعنصران قلما يجتمعان إلا في القليل النادر. وقراءة كتاب واحد قراءة تفهم وإمعان أجدى من قراءة عشرة كتب قراءة سطحية. إن الكتاب - كما قلنا - هو زبدة حياة المؤلف، والقارئ النابه لا يتجه إلى مجرد القراءة العابرة، بل إلى تكوين صلات وعلاقات مع المؤلف. فلنجعل نصب أعيننا صداقة المؤلف يجب أن نفهم الكاتب كما نفهم صديقاً: نحيط بظروف حياته: آماله وآلامه، أحلامه وهمومه، فكهاً أو وقوراً، متفائلاً أو متشائماً، وهكذا. . . والخلاصة أنه يجب أن نفتح قلوبنا ليصب الكاتب فيها دمه ونترك ذلك الدم يجري حاراً في عروقنا
3 - العامل الثالث هو نظام القراءة، فكثير من القراء يتبعون في مطالعاتهم سبيلاً ملتوية: كتاب من الشرق وآخر من الغرب؛ كتاب حديث وآخر قديم؛ وهكذا دون ضابط ولا نظام. وهذا المسلك قلما يثمر بل الواجب أن نختار كاتباً معيناً ونقرأ كل ما كتب، لأن كتب الكاتب ما هي إلا جوانب متعددة لشخصية واحدة، ولا حق لنا أن نتحدث عن كاتب أو نصدر عنه حكماً إلا إذا درسنا أدبه دراسة وافية كاملة. ويجب أن نتبع في هذه الدراسة نظاماً خاصاً، فيجب أن ندرس كتبه حسب ترتيب كتابتها، فلا نتناول إنتاجه في أوان شيخوخته، ثم في أوان شبابه الأول، ثم في أوان نضجه، بل يجب أن نبدأه بقراءة باكورة(281/24)
إنتاجه، ثم ما تبعه، ثم ثالث كتاب أخرجه، وهكذا. . . وبهذا فقط يتاح لنا أن نعرف تأثير الحياة والتجارب في تطور شخصية الكاتب: كيف شق لنفسه طريقاً إلى فلسفته؟ وكيف خلص إلى آرائه عن مشكلات الكون؟ هل ابتلته الحياة بالفتور واليأس؟ هل شك في عدالة الكون وعاف الحياة؟ أم هل انجلت عن ناظريه عمايات الصبا وغواياته ودعا إلى الحياة الفاضلة مؤمناً بالله مبرراً سلوكه مع الإنسان؟ هل بقي ساخراً لا يعرف لنفسه فلسفة ولا يخلص إلى عقيدة حتى ذهب في طريق من ذهب؟ وما أثر ظروف حياته من فقر وغنى وصحة ومرض في نفسه؟ هل تغلب عليها واحتفظ بنضارة قلبه وسلامة روحه؟ أم تركها تتسرب إلى أدبه وتكسبه لونها الخاص؟ هل تأثر بروح عصره وجارى سلفه ومعاصريه أم أثر هو في روح العصر ووجه الأدب في طرق جديدة وتناول بالنقد والتفنيد ما استهجنه ودعا إلى مثل جديدة؟ وما أسباب كل هذه المسائل ودواعيها. . .؟ هذه كلها موضوعات يهتم بها القارئ الحصيف، ولكن لا يمكنه أن يكون رأياً عادلاً عنها إلا إذا قرأ بنظام. بهذا فقط يتأتى لنا دراسة الحياة نفسها دراسة شاملة تفهمنا روحها وطبيعتها وفلسفتها. إن التفكير المجرد قلما يخلص بالمرء إلى نتائج سليمة، وعلماء النفس في الوقت الحاضر يدرسون مخلفات الأدباء بهذه الطريقة التي أسلفنا ويكونون نظرياتهم على هدى تلك الكتب، ذلك لأنها تنبع من صميم الحياة الواقعية، والحياة أعمق وأشمل من أن يحكم المرء عليها وليس وراءه إلا تجاربه؛ والفلسفة قلما تسعف الإنسان بعقيدة تغير حياته وتجملها، بل هي غالباً تبتليه بضروب الشك في قيمة الحياة والحيرة في معناها. ولكن الأدب وحده ينبع من أعماق الحياة ويصور ما نعانيه ونحسه من آلام وآمال، وهو الصورة الحقيقة الصادقة للحياة كما هي. بعكس الفلسفة فهي سياحات (فكرية) في عالم المجهول، وما من مذهب فلسفي إلا ومذهب آخر يناقضه، وكل له دعائمه وبراهينه؛ فلا عجب إذاً أن يترك علماء النفس كتب الفلسفة إلى الأدب يهتدون بهديه في تكوين نظرياتهم
4 - العامل الرابع هو المقارنة: كيف يمكننا بعد ذلك أن نقدر الأديب تقديراً صادقاً ونصدر حكمنا له أو عليه؟ لا يمكننا أن نفعل ذلك إلا إذا درسنا معاصريه وتبيننا أين يتفق معهم وأين يختلف عنهم، لأن ظروف الحياة التي أثرت فيهم واحدة لأنهم أبناء عصر واحد، ولكنها أثرت فيهم تأثيراً مختلفاً، وسبب هذا الاختلاف هو تباين طبائعهم ومشاربهم،(281/25)
وبالمقارنة والموازنة بين المعاصرين يتسنى لنا أن نميز الأديب الكبير من غيره. فدراسة معاصري شكسبير مثل بن جونسون ومارلو وبومنت وفلنشر، توضح لنا عظمته وجلاله. وإذا درسنا بوروبيدس وسوفوكلس ألقى كل منهما نوراً ساطعاً على شخصية الآخر. وكذلك إذا درسنا شارلس دكنز مع وليم ثاكري، وتنسون مع بروننج، والأخطل وجرير والفرزدق، وبشار وأبو نواس، وأبو تمام والبحتري، وهكذا. . .
5 - بقي أن نشير إلى عنصر هام من أهم العناصر التي تمكن القارئ من الاستفادة التامة مما يقرأ وهو الصبر والتجاوب مع الكاتب. وكم من قارئ يترك الكتاب بعد قراءة صفحة أو اثنتين لأن الكاتب يختلف عنه ميولاً ومشرباً، وليس أخطر على القارئ من اقتصاره على قراءة ما يتفق ونظرته إلى الحياة. ومن ملاحظات الكاتب الألماني أميل لدفيج أن القراء في العصر الحاضر يطالعون الكثير من القصص لا لغاية إلا تبرير آثامهم وزلاتهم بحجة أن أبطال القصة سلكوا نفس المسلك، وهذا جبن وخور. والواقع أن الكتاب الذي يهاجم أفكارنا وعقائدنا يفيدنا أكثر من غيره. والمعركة بين الكتاب والقارئ ليست بأقل متعة أو جدوى من معركة شريفة بين شخصين إذ يجتهد كل في تبرير رأيه بإظهار براهينه وأدلته ويحاول إفحام خصمه بتفنيد مستنداته، وفي ذلك ما فيه من إذكاء الفكر وشحذ الذهن ومعاودة النظر في الآراء والأفكار والمعتقدات وتبديلها أو تعديلها على هدى نتيجة المعركة. فلم لا نسلك المسلك نفسه مع الكتب؟ ولعل هذا يجدي مع الكتب أكثر مما يجدي مع الأشخاص، لأن النفس الإنسانية مزيج من الخير والشر، وقد يعمد الإنسان إلى هزيمة خصمه بأي ثمن - حتى التضحية بالحق - مدفوعاُ بالأثرة وحب النصر والفخر، ولكنه لا يسلك هذا السبيل مع الكتب خصوصاً إذا كان أصحابها قد ماتوا من زمن
يقول الفيلسوف الإنكليزي (باكون):
(لا تقرأ كي تناقض أو تفند، ولا كي تؤمن وتسلم جزافاً، ولا كي تجد موضوعاً للحديث والمناقشة، بل كي تتبصر وتتأمل)
والتأمل ضرب من الصلاة. . . والصلاة جنة الروح!
نصري عطا الله سوس(281/26)
الأحلام
هل في حقائق الحياة الثابتة ما يفوق الحقيقة التي تؤكد لنا أن الأحلام تصح؟!
إن هذا العالم المدهش العجيب الذي يتجدد كل يوم أمام أنظارنا الحائرة؛ بل إن هذا العالم المفعم بالروائع والآيات الفائقة حد التصديق في الأمس القريب، يجيش بربوات الأحلام التي لا تلبث أن تتحقق اليوم، ويتوج تحققها هامة التفكير الطويل، والانتظار المنقب المستطلع، والكفاح الوجيع الصبور، والفشل الذي يعقب الفشل، ثم الفوز بين المبين أخيراً!
وما من معجزة تحيط بنا - فان الطائرات وآلات الصور المتحركة وأجهزة المجهر (المكرفون) والأسلاك البرقية واللاسلكية والقطارات والسفن - قد كانت في أحد الأيام حلماً تحركت به بعض الخواطر، وهمس في طائفة من الضمائر الإنسانية
ولقد كان العالم يهزأ بالحالم ويسخر ويشك في أمره أعواماً مديدة؛ إلا أن الحالم لابد أن يبوء بالفوز
وقلّ مَن جدّ في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وقد يرى الحالم أن الناس سينظرون من خلال الحجر، أو يتكلمون عبر البحر، أو يحلقون فوق السحاب، أو يبصرون شيئاً على بعد عشرة آلاف ميل، فيتم ذلك جميعه. وقد يحلم أنه يتناول قطعة من الرخام ويصوغها في قالب يأسر الألباب على مر الأحقاب، أو أنه برسم صورة سيدة ذات ابتسامة رصينة مفكرة ويجعل الناس يتأملون هذا الابتسام بخشوع لا يبليه تقادم العهد وكر الأزمان
وقد يحلم أنه يكتب شيئاً يستنزف الدموع من مآقي الذين لم يولدوا بعد؛ أو أنه يؤلف قطعة من الموسيقى تدوي في أروقة الدهور. . . فيتم له ذلك كله. . .
إن المجاهد في سبيل فكرة عظيمة أو مقصد نبيل؛ والمخترع الذي يكد في معتمله والعالم الأديب الذي يستخرج ودائع الغيوب ويحل دقائق الأشكال ويزيل معترض الأشكال؛ والشعب الذي يكافح لنيل الحرية؛ إن كلا من هؤلاء لا يحلم عبثاً، كما أن الجنس البشري الذي يحن إلى الأصلح والأبقى، ويتوق في قرارة النفس الإنساني إلى حياة وادعة تفيض بالأمن والسعادة لا يحلم سدى، لأن الأحلام تصح وتتحقق
ترجمة: (الزهرة)(281/27)
ولي الدين يكن
للأستاذ كامل يوسف
اطلعت على مقال الأستاذ كرم ملحم كرم عن المرحوم ولي الدين بك يكن. وبما أنني اتصلت بأسرة الشاعرة اتصالاً كلياً أثناء إقامتي بحلوان فاسمحوا لي أن أصلح ما قيل من أنه مات مسلولاً. والحقيقة أنه كما ذكر الكاتب كان يشكو الربو، وكان يلجأ إلى تخفيف وطأته عليه بحقن المورفين، وقد أدمن على تعاطيه حتى ضعفت صحته فمات من الانفزيما، وورث ابنه الشاعر الكبير فولاد يكن هذا الداء وأدمن عليه حتى قضي على صيته الأدبي الذي كان يبشر بمستقبل باهر
كان المرحوم ولي الدين بك يكن ثائراً على القديم في كل شيء، وكتاباته التي كان ينشرها في المقطم تحت اسم (زهير) وجمعت فيما بعد في مجلدين شاهد على ذلك. وتجديده في الشعر والنثر لا ينكره أحد. وله مؤلفات عدة كلها تدور كفاحه في سبيل الحرية ومناهضته الظلم. وكان أبي النفس فكان يرفض أن يبيع ضميره؛ وطالما حاول أصحاب النفوذ إغراءه بالمناصب العالية والخير الوفير نظير إيقاف حملاته عليهم، ولكنه أبى أن يبيع ضميره ورضي بحية البؤس، ولا يصدق إنسان أن أثاث منزل ولي الدين بك يكن كان كأحقر منزل رجل عادي وهو سليل أصهار العظماء، وذلك كله في سبيل تحقيق غايته من نصرة الحرية والمظلوم ومحاربة القوة الغاشمة
ولولي الدين يكن مؤلفات كثيرة طبعت، ونشرت وله مؤلفات لم تنشر، وقد جمعت السيدة زوجته (وهي أرمنية) بعض أشعاره ونشرتها على أمل أن تحصل منها على شيء يقوم بحاجة الأسرة الفقيرة، ومن مؤلفاته رواية تمثيلية تدور وقائعها في تركيا على تحرر تركيا الحديثة وإعلان الدستور وعن الدسائس والمظالم في عهد السلاطين، وهي الأشياء التي خبرها ولي الدين بك بنفسه وأجاد الكتابة فيها. وكنت اتفقت مع أسرة الشاعر على تنقيحها لتمثيلها على المسارح المصرية لولا ما حاق بالأسرة من نكبات، منها خيبة كريمته الوحيدة (وكانت تسمى فكتوريا أحياناً وزينب في أحيان أخرى) في زواجها على الدوام، ومنها النكبة التي حلت بابنه الشاعر فولاد إذ انحدر إلى هوة إدمان المخدرات
وكان مما لاشك فيه أن ولي الدين بك يكن سيخلد ذكره في شخص ابنه فولاد يكن، وهو من(281/29)
الشعراء المصرين الأفذاذ الذين كتبوا بالفرنسية، وقد أعجبت بنبوغه الكونتس فالنتين دي سان بوا حفيدة لامارتين (وهي من كبيرات الكاتبات والشاعرات بفرنسا) فاحتضنته، وقدمته لدور النشر في باريس فنشروا له ديوانه البديع (أغاريد شاب شرقي) وهو ديوان شعر يفيض بالعاطفة والجلال والجمال، تقرأه فتجد فيه روح أهازيج شكسبير، وقد نقده كبار الكتاب في فرنسا وأعجبوا به، وقال عنه الكاتب الفرنسي المشهور (بول ريبو) إنه يفيض بالروح البيرونية نسبة إلى بيرون، ونعتَ الشاعر بأنه همزة الوصل بين مصر وفرنسا. وكان فولاد قوة هائلة في العمل الأدبي، فقد كتب تاريخ (سعد زغلول أب الشعب) في أسبوع ونشر في فرنسا. وله ديوان كبير أسمه (أغنية الأرض) وهو ملحمة كبيرة مكونة من عشرين ألف بيت عن الحياة وتطوراتها وتاريخ البشرية حتى اليوم. وقد أرسل هذا الديوان لفرنسا لنشره، ولكن منع ظهوره تخلى الكونتس دي سان بواعنه لما ساء صيته الأدبي من إدمانه على المخدرات وتركه الأدب والالتجاء إلى النسول مما أحزن قلوب جميع من لمسوا في هذا الشاب النبوغ المبكر
ومن الظريف أن يقارن الإنسان بين الشاعر الوالد والشاعر الابن، فقد نظم ولي الدين بك قصيدة عن كليوبترا، كما نظم ابنه فولاد قصيدة عنها في ديوانه (أغاريد شاب شرقي) ولا أنكر أنني أعجبتُ بخيال صديقي فولاد ومعانيه وحسن أسلوبه، ويمكنني أن أقول إن الولد بز أباه في هذا المضمار
وقد اشتغل فولاد في الصحف الفرنسية مدة طويلة، ولكنه أعلن عليها الحرب وناهض أصحابها في اعتقاداتهم الفكرية، وكانت نتيجة ذلك أن منع من التحرير في الصحف الفرنسية، وأنشأ له جريدة أسبوعية لم تعمر طويلاً. وكان له قدرة هائلة في الأدب. وكان يترجم شعر العقاد وشوقي شعراً بكل سهولة؛ وكان إذا نظم لا يترك مكانه قبل أن يكتب نحو مائتي بيت، ولكن الداء قضي على كل هذه المواهب. عزى الله الأدب عنه وعوضنا منه خيرا
كامل يوسف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني(281/30)
من روائع أدب الغرب
الإنسان
'
لشاعر الحب والجمال لامرتين
للأديب حسين تفكجى
- 1 -
(أرسل إليك يا صاحبة السمو، قبل أن أضع رأسي على الوسادة، الكتاب الصغير الذي تفضلت بإعارتي إياه البارحة، ويكفيك أن تعرفي أنني لم أنم وبقيت ساهراً، حتى لاحت تباشير الصباح، وخرجت طيور الفجر من أعشاشها، لأتمم قراءته ولأطلع على ما احتواه بين جلدتيه، من روائع المعاني، وجميل القول. سوف لا أتنبأ لك بشدة تأثيره في أذواق الجمهور من القراء إذ يكفي أن أجعل من نفسي ذلك الشعب الذي سيطلع على هذا الكتاب لأقول: إن هناك رجلاً، وسيشغل الكثير من صفحاتنا)
(من كتاب تاليران إلى الأميرة تالمون)
- 2 -
(وعقب مدة قليلة أثار هذا الكتاب فضول الطبقات الراقية في الروسية. فان النبيلات تجادلن وتسابقن لاقتناء نسخة منه؛ فالتي خانها الحظ ولم تحظ باقتناء هذه النسخة، كانت تكتب في دفترها مقاطع من أجمل الأشعار التي قالها لامرتين، وتجبر نفسها على حفظ أشياء منها. فالسعيد من اقتنى كتاباً من (التأملات) إذ كان يحرص عليه كمن يحرص على مفتاح النجاح وطريق السعادة
(من مذكرات أتون شي)
- 3 -
يا لجريمة لامرتين الفظيعة! فهو سبب نصف جنوننا، فنساؤنا يردن أن يكن أمثال إلفير(281/32)
(فكم أصابنا البرد وألزمنا الفراش أياماً طويلة، لأننا أردنا أن نتمثل شعره، فسرنا على شاطئ البحيرة الزرقاء، نتأمل جمال القمر في السماء، وبدائع أمواج الماء، وروائع الطبيعة على الغبراء، في الليالي الباردة التي كانت تحمل إلينا معها نسيم الليالي الغابرة التي قطعها لامرتين، بينا عوامل الأمراض تنازعنا قوانا وتسلط على أجسامنا)
(إن لامرتين واللورد بيرون، أدارا رؤوس نساء الجيل الحاضر، ولفتا أنظارهن إلي عظمة الوجود والحب)
(الكونتس داش)
- 4 -
أيها الشاعر الباكي، أيها الناظم الشاكي، أيها المؤلف الغائب عن عيني، إنك رمز الجبن والخوف
(فما أشبهك بورقة خريف جففت يد القدر خضرتها، وجردتها من رائع نضرتها، تناقلها نسمات النهار الباردة بين وديان غير معروف مداها، وجبال غير مفهوم منتهاها، تحط دون أن تعرف أين، وترقب النسيم ليرفعها من مكانها إلى حيث لا تعرف إلى أين!
ماذا يحوي شعرك من جمال؟
ما الذي يضم بين أبياته من نضرة؟
لا شيء!
ما معنى الشاعر المحتضر؟
قصيدة يأس من الحياة وخوف من النضال من أجل الوجود. أيها الحيوان الباغم، لست أول نائح على أريكة خضراء، فقد سبقك كثيرون، ولكنك كنت موفقاً في التعبير عما تكنه جوارحك
(موريس ألبر)
آراء متناقضة، سطرتها أقلام كتاب متباينين، لتقدير مزايا ومساوئ شاعر، فمنهم من تأمل في قطعة الخلود، وعرف في شعره معنى الحياة، وفهم بين أبياته مفهوم الحقيقة؛ ومنهم من حمل على هذا الشاعر الباكي الذي لا يرى فجر الحياة إلا من وراء منظار أسود، ولا يتأمل(281/33)
وجه البسيطة إلا بالنشيج والبكاء. فكل ما يقع تحت عينيه يرمز إلى ذلك الحب الذي قضي وحل اليأس مكانه في سويداء الفؤاد
نحن لم نأت بهذه الآراء لنوازن بينها، ولنميز بين حسنها وقبيحها، بل أتينا بها لأنها تعبر عن موجة الأفكار التي اجتاحت عصره، وعن الأثر الذي أحدثه كتابه الصغير (التأملات) الذي أصدره الشاعر، فترجم قطعة من شعره سماها (الإنسان) وأهداها إلى اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي الذي قتل في حرب استقلال اليونان، والذي كان لامرتين معجباً بشعره، مأخوذاً بروعة ألفاظه إذ قال اللورد بيرون في نظري هو أكبر شاعر عرف الطبيعة في زمننا الحاضر. إن من شعره ما يسرني، وإن من بيانه ما يسحرني، إذ وجدت في أقواله خيوط أمل تربط أصواتاً تجيش في صدري، وتفور في سويدائي)
ولكن بالرغم من أن تفاؤل لامرتين يقابله شك بيرون، فان الشاعر لم يجد مانعاُ من أن يرسل هديته إلى نقيضه في أقواله لأنه أراد أن يجره إلى أفكار أقل شيطانية من أفكاره الأولى
فهل أصاب أو أخطأ؟ لا نعرف! بل نحكم عليه بعد قراءة الشعر الذي أرسله إلى الشاعر الشاك
الإنسان
- 1 -
أنت الذي يجهل العالم أسمك الحقيقي، أيها الروح الخفي الشاك. مهما كنت يا بيرون شيطاناً أو ملاكاً، عبقرية ميمونة أو مشؤومة، فإن أغانيك تصوب إلى نفسي بريق الأمل، وتحمل إلى روحي دعة الحمل
أعشق في أشعارك الخالدة أنغامها الغريبة كما أعشق ضوضاء العاصفة المحتدمة، الذي يمتزج بهدير الصاعقة ويعلوا مع أصوات الشلالات المنحدرة
إلى الليل تأوي، وإلى الرعب تلجأ
ما أشبهك بجبار الفضاء، وملك الصحاري! بالنسر الذي يكره السهول ولا يهوي سوى الصخور الوعرة، التي ألبستها يد الشتاء ثوبها الناصع، والتي تفتت تحت ضربات(281/34)
الصواعق المتوالية. يجد لذته على شواطئ غطيت بحطام البواخر الغارقة، وملئت بأشلاء السفن المحطمة. ويذهب عنه حزنه مرأى الحقول المخضبة بدماء المعكرة. بينها البلبل الغريد، ينشد أسقامه، ويغني آلامه، وهو يبني عشه على شواطئ السواقي الجاريات، بين الحقول الزاهرات
يجد النسر لذته فوق قم الأنوس، التي تخترقها الذرى الحادة كأسنة الرماح، فيشق فضاءها بجناحيه، تاركاً ظله يرتسم فوق الهوات الفاغرة فاها. وهناك وحيداً يصيخ لصيحات الفريسة المتعالية التي تحيط به أعضاؤها المختلجة، فوق صخور تقطر زواياها دماُ. وعندما تحتدم رياح العاصفة ينام مسروراً فوق بقاياها
- 2 -
ما أشبهك بنسر السماء هذا يا بيرون!
فن أصوات اليأس أجمل أغانيك
الألم هدفك، والرجل ضحيتك
سبرت بعينك كالشيطان غور الهوة طياتها نفسك، غمرتْ بعيداً عن الإله والأضواء، بعد أن ودعت أملاً راحلاً. فأنت مثله اليوم تسيطر على الأرجاء المظلمة، والأصقاع المعتمة. فاجعل عبقريتك التي لا تقهر تعلو بلحن جهنمي، وتنشد أنشودة الظفر تحت ظلال عرش إله الشر
- 3 -
ولكن أية فائدة تجنى من نضال النهاية المحتمة؟
بأي شيء يدفع العقل العنيد القدر؟
ليس له كالعين، إلا أفق محدود!
فلا تسدد جميل أنظارك إلى أبعد من هذا المدى، ولا تقدح زناد فكرك دون نفع وسدى، فنجد كل شيء منا يفر. الكل ينطفئ كالشمع. الكل يمحى من الوجود. ولكن كيف ولم؟ من يعرف؟ فان يديه القادرتين قبضتا على الوجود والبشرية، ونشرتا في حقولنا الغبار، وجعلتا الأهواء والظلام والأنوار. فهو يعرف ما يعمل. وهذا يكفي فالكون تحت إمرته ويده، وليس(281/35)
لنا سوى اليوم الذي نعيش فيه
إن جريمتنا هي أننا بشر، فينا فضول المعرفة.
ولكن الجهل والخضوع هما قانونا هذا الوجود.
بيرون! إن هذه الكلمات قاسية عليك.
ولكن لم التراجع أمام الحقيقة؟
إن شرفك أمام الإله هو أنك صوغ يديه، فاشعر واخضع في سجنك المقدس
أنت ذرة محمولة، تموج في هذا النظام العالمي، فتمم إرادته بطاعتك، لأنك مخلوق بارادته، وحياتك تمجد هذا الوجود الذي تموت فيه، حيث مصيرك.
أواه بعيداً عن الاتهام. قبل ذلك الرسف الذي تحاول تحطيمه، واهبط من صفوف الآلهة التي تذهب جرأتك، فالكل جيد، والكل جميل، والكل عظيم في مكانه. ففي ناظر خالق الوجود نحوي الحشرة عالماً بنفسها
- 4 -
ولكنك تقول إن هذا القانون يثير عداءك، ولا يعدو في نظرك عن هوى غريب، وشرك نصب ليكبو العقل في كل خطوة يخطوها.
لنعترف بذلك يا بيرون دون أن نحاكمه.
ما أشبهني بك. فعقلي انغمر في الظلمات، ولكن ليس علي أن أشرح لك حقيقة العالم، فالذي أبدع الوجود يلقنك الدرس الوافي.
كنت كلما سبرت عمق الهوة ضعت في فيافيها.
وفي هذه الدنيا لم أر سوى الألم يرتبط بالألم، والنهار يتبع سير النهار، والشقاء يلازم ظل الشقاء، والإنسان السخيف بطبيعته، اللامتناهي بنذوره، إله زل من عليائه، يفكر في سمائه.
حرم مجده القديم، فاحتفظ من مقدراته الضائعة بالذكرى
وغور ميوله السحيق يتنبأ عن عظمته المقبلة.
إذا علا أو سفل، فالإنسان سر عميق.
مقيد في سجن الحواس، على هذه الأرض. أسير يشعر بان له قلباً ولد يتنشق نسيم الحرية.
فياله تعساً يتعلل بالأماني.(281/36)
ويريد سبر غور العالم، بناظريه الضعيفين
ويود أن يعشق دائماً لولا أن ما يحب سريع الفناء.
كل فان يشبه طريد جنة دعن، عندما طرده الإله من الجنة السماوية، فلمح بنظره الحدود المشؤومة التي تحيط به، فجلس باكياً على الأبواب المغلقة دونه. سمع من بعيد، من المسكن الإلهي زفرة الحب الخالدة، ونغمات السعادة، وأغاني الملائكة المقدسة، تصل إلى أحضان الإله لتمجد فضائله، فهبط من السماء، ثم أطلق نظراته من عنانها، فوقعت على مصيره المؤلم. . .
- 5 -
يا لبؤس من يسمع أناشيد عالم يهواه وهو ناء في منفى الحياة السحيق!
يرى الطبيعة تناضل خمر الخلود التي ارتشفها
يتأرجح كالحلم، عندما يرى الحقيقة ضيقة في مكانها، والمستحيل واسعاً في فضائه، والروح مثقلاً بالميول لا يجد مأوى يغرف منه حباً وعلوماً أبداً. والرجل في محيط الجبال والنور، ظمآن، لا يروي غله، فيكسر بالأحلام، كي تعذب رقدته، ويعود إلى نفسه إذا ما فاجأته يقظته
- 6 -
وا أسفاه! ما كانت أخرتك؟ وما هي مقدراتي؟
فقد شربت مثلك، كأس الشك مترعة
وعيناي كعينيك، فتحتا الأجفان دون أن تنظرا!
فعبثاً فتشت عن كلمة الوجود. طلبت أسبابه من الطبيعة. سألت أخرته من كل مخلوق. واستفهمت من القلم حتى ألم. فرجع طرفي كليلاً، ونظري حسيراً، قبل رؤية قرار هوة العالم
كشفت غطاء الأزمان التي هرعت، وأرجعت الأجيال التي مرت، ماراُ بالبحار، مردداً أقوال الفلاسفة، ولكن العالم بقى أمامي، كما هو أمام علماء اللاهوت (كتاباً مغلقاً)
ولأتبين كنه الطبيعة كنت أفر بروحي إلى أحضانها(281/37)
وخيل إلي أني أجد معنى لهه اللغة الغامضة، فدرست القوانين التي تدور حبها، أجرام السموات، فان نيوتن يعتمد عيني في سهولها المنيرة. تأملت بقايا رفات العواهل، ورأيت رومة متدثرة في ظلمات قبورها المقدسة، والقديسين وقد أقضت مضاجعهم. وزنت بيدي رفات الأبطال، وطلبت منه معنى الخلود الذي يأمله كل البشر، ولكن لم أجد في هذا الغبار الفاني معنى الخلود
ماذا أقول؟
لازمت سرير الموتى، لتفتش نظراتي عن معناه في العيون المحتضرة
وعلى هذه الذرى التي توجتها الثلوج مدى الدهر
وفوق هذه الأمواج التي خططتها عواصف الرياح
ناديت دون مجيب
اقتحمت عثار الأحجار وظننت كالعرافة أن الطبيعة بمشاهدها النادرة سترمي إلينا بإحدى عجائبها، فأحببت أن أغمر نفسي في هذه الرغبات الصامتة التي تتوالى
ولكني، في سكوتي وهياجي، فتشت عبثاً عن كنه هذا السر العظيم، فرأيت في كل مكان إلهاً لا أفقهه. رأيت الشر أثر الخير دون خبرة، ودون هدف يسيران كالصدفة، رأيت في كل مكان الشر يختار، فجدفت بحق السماء دون معرفة، فرن صوتي ولاحق السماء كالصدى المدوي، ولكنه لم يرهب القدر، ولم يغضب المصير
(البقية في العدد القادم)
حسين تفكجي(281/38)
مقدمة المنهج الجديد
لتدريس الدين في مدارس الشام
للأستاذ الشيخ بهجة البيطار
(في مصر اليوم ميل قوى إلى الاقتراب من سائر البلدان العربية، وتوحيد برامج التعليم فيها جميعاً. كما أن في مصر نهضة إسلامية قوية، امتدت إلى ديار الشام فحفزت وزير معارفها الجليل إلى إجابة طلب الأمة وتلبية نداء مؤتمر العلماء، فزاد ساعات الدروس الدينية في الدارس الابتدائية والثانوية، وأصلح مناهجها، وهذه هي المقدمة التي كتبها عالم الشام (كما كان يسميه الإمام السيد رشيد رضا) الأستاذ الشيخ بهجة البيطار بتكليف من الوزارة لمنهج الدين في المدارس الثانوية، اقترحت عليه نشرها في الرسالة لأن فيها دليلاً على حركة فكرية جديدة في بلاد الشام ومن مبدأ الرسالة تسجيل الحركات الفكرية ولأن فيها عوناً على ما نريد من توجيه برامج التعليم في الأقطار العربية، ولأنها بعد هذا كله فصل علمي قيم)
علي الطنطاوي
الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والقرآن هو الذي هدَىَ من دانوا به من الأمم إلى جميع ما تمتعوا به من صنوف النعم، وهو الذي أظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة، التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم المعاصرة. وبناءً على هذا الأساس، توجه أنظار الأساتذة الكرام وأفكارهم إلى ما يأتي: -
1 - بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مصالح الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب الأخلاق والعبادات، عُنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدَّها الإسلام من الفروض، وأوجبها على الأمة إيجاباً لا هوادة فيه. قال تعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) وهذا النظر علمي عملي ينتج أفضل النتائج والثمار، وقال: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) وهذا التسخير تسخير تمكين وانتفاع، واكتشاف واختراع، وقال: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وهذا خطاب عام لهذه الأمة يدعوهم ويوجه نظرهم إلى ما خلق تعالى في(281/39)
جوف هذه الأرض من الكنوز والمعادن، ويرشدهم إلى الاستفادة منها، ويثبت أن جميع ما استحدثته أمم الغرب في هذا العصر من القُوى البرية والبحرية والجوية، ومن قوى الكهرباء، وسائر ما ظهر في الوجود من المخترعات والمكتشفات، هو ما أرشد إليه الإسلام، فردُّه ردّ لنصوص القرآن، وتعطيل لأحكامه، وتجريد لهذه الأمة من كل ما يعزز قوتها وينمي ثروتها ويحمي حوزتها ويدفع عوادي الشر عنها. وأي جناية على الإسلام وأهله أشد من هذه الجناية؟
2 - بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته، لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وأن مثل هذه الآيات الكريمة السابقة هي التي أرشدت سلفنا الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر، فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الآلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به الأرض، وساسوا به العالم سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة، ثم بيان أن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة وما فيها من فوضى الآداب والاجتماع، لا يزول إلا باتباع هداية الدين
3 - تطبيق ما في القرآن الحكيم من المواعظ والعبر، على حال أهل هذا العصر والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وحجة القرآن الكريم عليهم
وهذا كله من موضوع علم التفسير: تذكر هذه الآيات الكريمة بمناسباتها وتفسر بالظاهر المتبادر منها، بأسلوب ينطبق على أذواق الطلاب وإفهامهم ويحملهم على العمل بها في أنفسهم وفي أمتهم
4 - مما يجب بيانه في دروس التوحيد قولُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية) وهنا يبين أن العرب كانوا في جاهليتهم مؤمنين بوجود الله تعالى، موحدين له في أفعاله من خلق ورزق وإحياء وأمانة، وتصريف لجميع الأمور. وهذا هو المسمي (توحيد الربوبية) ويستشهد لذلك بالآيات الكريمة كقوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولُن الله) وكقوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض. . . الآية) وكقوله: (قل لمن(281/40)
الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. . . الآيات)
وإنما كان شركهم في توحيد الألوهية، أي في توحيد العبادة، وهو أنهم لم يقصروا عباداتهم بأنواعها على مستحقها وهو الله وحده كالدعاء والخوف والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والذبح والنذر ليقربوهم إلى الله على عزمهم، قال تعالى: (ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. . . الآية) وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. . . الآية) فردّ الله عليهم هذا الزعم الباطل بهذه الآيات نفسها، وبالآيات السابقة في توحيد الربوبية (ولئن سألتهم) (قل من يرزقكم) وأقام عليهم الحجة بما أقروه من انفراده تعالى بأفعال الربوبية، على ما أنكروه من وجوب إفراده تعالى بالعبادة
ومن صنيعهم أنهم كانوا في الشدائد يخلصون لله في الدعاء كما قصّ علينا من شأنهم بقوله: (فإذا ركبوا في الفلك دَعَوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)
5 - من المهم بيان أن الخوف نوعان: خوف عادة كالخوف من عدوّ أو سبع مثلاً، وهذا خوف طبيعي لا محذور فيه، وخوف عبادة، كالخوف من تصرف غائب أو ميت، بعباد الله، كتصرف الله بمخلوقاته، وهذا فيه كل المحذور لأنه يتضمن اعتقاد أن لبعض المخلوقات قدرة على التصرف بأنفس الأحياء وأموالهم، كقدرة الله تعالى، وهذا يخالف الحس والواقع، ويناقض عقيدة التوحيد بأفعال الله تعالى. وهكذا سائر الصفات منها طبيعي ومنها غير طبيعي؛ فمن الطبيعي مثلاً خوف موسى عليه السلام من عصاه لما انقلبت حيّة (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) ومن غير الطبيعي حب بعض المخلوقات حب عبادة، كما يحب المؤمن ربه، قال تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله) أو خشيتُه كما يخش المؤمن ربه، ومن شواهده قوله تعالى (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) ومن الأول أيضاً (أي الطبيعي): (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ومن الثاني (أي دعاء العبادة): (وان المساجد لله، فلا تدعو مع الله أحداً) وهكذا الاستعانة والاستغاثة، منها ما هو عادي طبيعي كاستعانة الناس بعضهم ببعض فيما يقدرون عليه، ومنه قوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه)، فهذا داخل في دائرة الأسباب والمسببات، ومنها ما هو فوق(281/41)
قدرة البشر، كشفاء المرضى في الدنيا وإدخال الجنة في الآخرة، فهو خاص بمن هو على كل شيء قدير؛ ومنه قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ فيجب التمييز بين الأمور الكسبية والأمور الغيبية. فالأولى يمكن طلبها بأسبابها ومن القادرين عليها، والثانية عبادة، وهي لا تكون إلا لله وحده، فيُلجأ إليه في طلبها ويُتوكل عليه في تحصيلها. وليُنتبه لهذا الفرق فانه عظيم
6 - بيان أن عرب الجاهلية كانوا أربع فرق: فرقة كانت تدعو الجن، والثانية الملائكة، والثالثة تعبد الرسل والصالحين، والرابعة وهي أحط الفرق الأربع كانت تعبد الأوثان التي نحتتها على مثال الصالحين. وهذا البيان، من افتراق المشركين إلى أربع فرق قد بينه القرآن، وكلّم كل فرقة بحسب ما تعتقد وردّ عليها، وإليك الآيات التي تدل على ذلك:
الأولى: الفرقة التي كانت تدعو الجن (ويوم يحشرهم جميعاً، ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون، فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضرا)؛ وقال تعالى في شأن هذه الفرقة أيضاً: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلفهم وخرقوا له (اخترعوا) بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون)؛ وقال تعالى في شأن دعاة الملائكة والرسل والصالحين وهما الفرقتان الثانية والثالثة: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذوراً) ولا يمكن لعاقل أن يزعم أن الأصنام كانت ترجو رحمة أو تخشى عذاباً
وقال تعالى في شأن الفرقة الرابعة وهم عبدة الأوثان الذين نحتوها على مثال الصالحين: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها. . . الآيات) وجميع هذه الفرق كانوا يعتقدون أن الخالق لكل شيء هو الله تعالى، وأن دعاءهم لمن يدعون ليقربوهم إلى الله زلفى، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم جميعاً بقوله: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وقد تقدم ذلك. ومن هنا يتبين خطأ من يظن أن الآيات نزلت فيمن كانوا يعبدون الأصنام وحدهم، وقد علمت أن القرآن لكريم تكلم مع كل الفرق(281/42)
7 - يراجع تفسير هذه الآيات الكريمة قبل إلقائها على الطلاب في كتب التفاسير المعتمدة، ليعلم سياقها وسباقها، والأسباب التي نزلت فيها وما فسرها به من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعون لهم بإحسان كتفسيري إمام المفسرين أبن جرير، والحافظ المحدث بن كثير. ثم تفسر بأسلوب سهل خال من المصطلحات، فيكون الأستاذ قد جمع في تفسيرها بين القديم والحديث على أصح الوجوه وأحسنها.
أما الآيات الكونية فيرجع فيها أيضاً إلى ما فسرها به العلماء من محققي هذا العصر.
8 - تشرح في دروس الفقه أركان الإسلام الخمسة التي وردت في حديث (بنى الإسلام على خمس) ويبين معنى كلمة التوحيد التي هي ركن الدين وأساسه الأعظم، وأنها (أي لا إله إلا الله) مسقطة لجميع آلهتهم (أي العرب قبل الإسلام) هادمة لأنواع عبادتهم، ومثبتة لعبادة الله وحده الذي وحدوه بربوبيته (أي بأفعاله) ولم يوحدوه بألوهيته (أي بعبادتهم له كما تقدم) فمعنى (لا إله) هو نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده وهو الله تعالى، ولو كان معناها (لا خالق إلا الله) أو ما هو في معنى ذلك من أفعال الربوبية كالرزق والإحياء والأمانة لما استكبروا عن النطق بها، لأن هذه الأفعال لم يدعوها لآلهتهم، وتقدم بيان هذا في توجيهات التوحيد، فيجب على الأساتذة أن يشرحوا هذه الحقيقة لأنها أصل الأصول وحقيقة الحقائق.
9 - بيان المقاصد الدينة والحكم الاجتماعية للصلاة والزكاة والحج والصيام، وتبين أيضاً فوائد العبادات في معترك الحياة العملي والجهاد القومي. (فالصلاة) الروحية البدنية التي هي فرض عام على كل مكلف، تنهي عن الفحشاء؛ وأشد الفواحش والمنكرات فتكاً وهتكاً هي تلك الجيوش المعنوية التي فتحت بلاد الشرق لها عقولها وجسومها وجيوبها كالخمر والميسر والزنا والربا والأنتحار، فكثير ممن أضاع الصلاة واتبع الشهوات وقع في هذا التيار الذي أسلمه إلى الجنون أو المنون، فكان ذلك من أشد المصائب على الوطن. (والصيام) الذي يدعو إلى إمساك المعدة عن الطعام، وسائر الأعضاء عن الآثام، وصرف جميع القوى والمواهب فيما خلقت له، يعلم الثبات على خلق (أي مبدأ) قويم لا محيد عنه. فالصائم الذي يغلب عقله شهوته ولا يخون دينه بالأكل نهاراً - سراً وعلانية - لا يمكن أن يخون وطنه أو يخدع في أمره فيبيعه بثمن بخس من غير أهله. (والزكاة) إعطاء نصيب(281/43)
معلوم من المال للفقراء والمساكين الذين أقعدهم العجز عن العمل، دون الكسالى المتسولين القادرين على الأكل من كسب أيديهم (وبقية الأصناف الثمانية في آية: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. . .) فإذا حفظت الزكوات والوصايا لمستحقيها ووزعتها عليهم جمعيات التعاون على البر والتقوى، ذوات الاختصاص بتمييز المستحقين من غيرهم، كانت هذه أفضل طريقة تجمع بها الأموال من المحسنين لإطعامهم وإيوائهم وتعليم أبنائهم. (والحج) أعظم مؤتمر إسلامي حر، وأكبر نقابة في الدنيا تبحث في شؤون المسلمين ومصالحهم، وتوازن بين ماضيهم وحاضرهم، وتدافع عن حقوقهم وحرياتهم، وتؤلف بين شعوبهم وقبائلهم. ثم هو فريضة الإسلام والركن الاجتماعي للعام الذي يربط أفراد الأمة الإسلامية بعضهم ببعض، ويشد أواصر التآخي والتراحم بينهم، وينزع الضغن والحقد من بينهم فيصبحون بنعمة الله إخواناً.
10 - المعلمون ورثة الأنبياء في تعليمهم وأخلاقهم، ومن شأن أساتذة الدين أن يكونوا من أكمل البشر وأفضلهم في آدابهم وأعمالهم ومعاملاتهم، ويجب أن تتجلى فيهم مزايا العبادات المذكورة في هذه المقدمة وفوائدها، وأن يكونوا هم صورة كاملة لها، فهم القدوة الصالحة التي ينشدها الطلاب والمدارس، والمثل العليا تستملي من صفاتهم وأعمالهم، لا من الكتب التي بين أيديهم فحسب. والرجاء في أساتذة الدين أن يصبحوا طلابهم في المصلى والمسجد (لا في المقهى والملهى) ويكونوا أئمة لهم في بعض الصلوات، ومؤتمين بهم في البعض الآخر، ولا يرى الطلاب من عملهم مأخذاً لهم يتمسكون به (كعادة التدخين الضارة مثلاً) بل يجب أن يلاحظ رؤساء المعارف كافة والمعلمون منهم خاصة، وأساتذة الدين على الأخص، أنهم ليسوا أشخاصاً عاديين لأنهم يربون أرواحاً ويصلحون إصلاحاً، فيهم يقتدي، وبهديهم ويهتدي، وليذكروا قول المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.)
محمد بهجة البيطار
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق(281/44)
وأحد أعضاء لجنة (تنقيح المنهج)(281/45)
من الأدب المنحول
في عيد ميلاد المسيح
للمرحوم مصطفى صادق الرافعي
(قلت في العدد الماضي إن صديقاً من أصدقاء الرافعي طلب إليه مرة أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسة أجنبية في ليلة عيد الميلاد. . .
(وكتب الرافعي كلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه. وألفتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين، فكانت عند أكثرهم إنجيلا من الإنجيل. . .)
(فهذه هي الكلمة التي عنيت)
سعيد العريان
أيها السادة:
ملك من ملائكة الرحمة، يهبط من سماء الله آتياً من حدود الأبد، ولجناحيه حفيف طالما أنست به نسمات الجنة، وتعلقت بأطرافه أرواح أزهارها الخالدة، كأنها معاني الورد في لفظ عطر الورد. .
صفَّ جناحيه العظيمين ثم خفق بهما خفقة، فانزوت له سماء وسماء، وأسلمه فضاء إلى فضاء؛ فإذا هو في ذؤابة هذا الكوكب الأرضي؛ فوقف هناك عند الحد الذي أقامه الله بين المعنى الخالد والمعنى الفاني، الحد الذي يبتدئ منه ضوء الشمس رقيقاً مستشعراً من رحمة الله، فيكون للمخلوقات الأرضية نوراً وحياة معاً، وهو في أصله لهب ما حق لو ألقيت فيه كرة الأرض لاستحالت في لحظة واحدة شعلة واحدة
هناك حيث تزدحم الأقدار، على مداري الليل والنهار، وقف الملك الكريم ولا تزال على قوادم جناحيه مسحة زاهية من نعيم الخلد، ولا يزال فيها روح من ريحان الجنة. . . وقف ينظر فإذا الأرواح الإنسانية صاعدة من الأرض في زحام، منهزمة من شرور الناس أيَّ انهزام، متقهقرة إلى ربها بعد المعركة بلا نظام.
فصرف وجهة ناحية ثانية، فإذا دعوات المظلومين، وأنات المحزونين، وتأوهات المساكين، وزفرات الوالدات والوالدين
فانفتل إلى ناحية غير الناحيتين، فإذا الحياة الأرضية كأنها خيط وضع من مقراض الفناء(281/46)
بين شفتين، أو غريق يخبط في لجة بين ساحلين، ولا يدري قبره في أي الساحلين، أو المحكوم عليه بالموت أوقف بين سيفين، ولكن الموت واحد في السيفين.
فلم يبق من الجهات الأربع إلا جهة واحدة فتحول إليها الملك، فإذا هناك في أقصى الأفق معنى الرحمة الإنسانية وقد أنكمش وتضاءل واخذ منه الهزال كأنه مريض، أو كأن الحزن على الناس قد أذابه فقطع الرجاء منهم وانزوى في ناحية ينتظر نهاية هذا القدر المنصب من السماء على الأرض.
جزع الملك من ذلك وكاد، وهو قطعة من الخلد، يداخله الخوف ويخالجه الشك وتمسه بعض آثار الحياة الفانية، فقال ما بالى قد تبللت أجنحتي من رشاش هذه الدموع وهذه الدماء، وما بال هذا لعالم الآخر ليس فيه إلا متألم لميت أو متألم لحي أو متألم لنفسه، وما بال الحياة قد أمست من شدة بؤسها وكدرها وهمومها تطحن أكثر مما يطحن الموت؟ هل بقي شيء إلا النفخة في الصور، وبعثرة من في القبور، ووقوف الفلك الدَّوار فلا يدور، وانطفاء نور الأرض فلا ظلوم ولا نور؟
وقف الملك الكريم أربع سنوات وأشهرا وهو ينتظر يوماً يرى فيه السماء مسفرة الوجه برضا الله ونعمته، بعد غضبه ونقمته، فلما سطع ذلك اليوم المضيء وأبرقت بفجره أسارير السماء هز الملك جناحيه على المشرق والمغرب وانتفض في جو الأرض انتفاضة ملائكية أطفأ بردها غيظ القلوب المتأجج الذي تشاتمت به أفواه المدافع زمناً طويلاً، وهب نسيمها الآتي من الجنة فدافع إلى ناحية الجحيم كل روائح البارود ودخان القنابل ولهب النار
ثم ضحك الملك مسروراً فانتثر من ضحكة الابتسام على كل الشفاه، وأصبح جو الأرض من مطلع الشمس إلى مغربها وهو يتلألأ كأنه ثغر طفل يضحك في وجه أمه.
وسمع الملك حمد الناس وشكرهم وتهنئة بعضهم بعضاً، ورأى الأرض وقد سكنت بعد غليانها وأقبل أهلها يصلحون ما فسد، ويبنون ما تهدم، ويديرون في الأرض حركة جديدة ويسخرون العناصر لبناء الطبيعة الاجتماعية أو لهدمها كما كانوا يفعلون
فقال: الآن أصلحت بين الناس وأصلحت الناس للناس، ثم رمى بطرفه إلى الجهات الأربع فإذا معنى الرحمة قد ملأها واستفاض عليها، فهز جناحيه صاعداً في فلك النور، وفي أذنيه تهليل الناس وصلواتهم، حتى إذا انتهى إلى أفقه الأعلى كانت الكلمة الأخيرة التي دخلت(281/47)
معه إلى سماء الله هي نفس الكلمة الأولى التي خرجت من سماء الله
(وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة)(281/48)
نظرة خاطفة
تطورات الأدب الحديث
للأستاذ فؤاد الطوخي
لو بعث أعرابي في الجاهلية وقرأ ما تفيض به أقلام الكتاب في هذا العصر لأعجزه فهم المعاني والمرامي، بل لأعجزه فهم التراكيب والأساليب، ولخرج من مطالعته وكأنه لم يقرأ ولم يفقه شيئاً. ذلك لأننا نكتب بلغة الغرب وندرك الأشياء بعقول هي أقرب ما نكون إلى عقول الغربيين، ونستمد منهم العلم ونستوحيه، ونرتوي من مناهلهم ونعترف، ولا يزال العالم العربي كله يترسم خطاهم ويلف لفهم، ويعاونه على ذلك مرونة اللغة، فهي تتسع لمختلف الأساليب وشتى التراكيب، ولا تنقصها الإبانة عن معاني الغرب كما أبانت عن معاني الشرق.
وهذا التطور الناشئ من طغيان أدب الغرب على اللغة قد ثقلت موازينه على التطورات الطبيعية التي تصيب اللغات من توالي الأجيال وما يلابسها من اختلافات في عالم الفكر وأساليب الحكم وصعود في المشاعر الإنسانية وهبوط. وما الأدب الرفيع إلا دعامة من مقومات الأمة، ومظهر من مظاهر حياتها ونزعاتها؛ بل ترجمان نهضتها يكشف عن أسرارها ويظهر ما كمن في نفسيتها وما استتر. فلما تهيأت أسبابه إبان النهضة المصرية الحديثة في عهد الخديو إسماعيل لم يكن بين المصريين من يعرف الصحافة أو يستسيغها، فنشطت جماعة من أدباء سوريا وممن كان الاستبداد التركي قد أرغمهم على الهجرة إلى أرض الفراعنة - إلى غرس بذور الأدب، فرحب بهم إسماعيل باشا وشجعهم على إصدار الصحف والمجلات وإنشاء فرق التمثيل وقرض الشعر وتأليف الكتب الأدبية. واتصلت مصر بسوريا اتصالاً أدبياً وثيقاً، ولسنا نقول إنهم أجادوا فيما أخرجوه للناس بادئ ذي بدء، ولكن معظم تلك الأقلام على اختلاف ألوانها لا يروقك منها اليوم إلا النذر اليسير. ولم ينزل المصريون إلى هذا الميدان إلا بعد فترة من الزمان. وكان الأزهر الشريف يومئذ يغط في الجمود غطيطاً حتى جاءه جمال الدين فأحيا مواته ونفخ فيه من روحه، وغادر مصر بعد قليل وقد أسلم راية النهضة إلى الأستاذ الإمام العظيم الشيخ محمد عبده، فعمل مع من التف حوله من تلاميذه الأخيار على إعلاء كلمة الأدب، وأرسل من صحن الأزهر(281/49)
الشريف شعاعاً من النور لم يلبث أن بسط رواقه على بعض الأرجاء. ومنيت هذه النهضة بصدمات عنيفة يوم أرغم نصيرها ومحييها الخديو إسماعيل على اعتزال الحكم، وعاد الجمود ولكن لا يمكث طويلاً، وإنما يمكث إلى أن تدور دورة الأيام وتهدأ الأعصاب ويستجم الأدب قوته ويستعيد سيرته، إذ هيهات أن يحول حائل دون نمو شجرة أحكم زرعها وقوى أصلها. وما هي إلا عاصفة أثارها العرابيون حتى نفض الأدب عنه غبار الهدأة وخرج يتلمس مكانه تحت الشمس، وكان الشيخ محمد عبده فارس هذا الميدان أيضاً فجال بقلمه وصال، بل كان رئيس الوزارة نفسه البارودي شاعراً وكاتباً، وملأ عبد الله نديم الميادين والطرقات بخطبه وقصائده وأزجاله، وعالج آل المويلحي فنوناً من الأدب لا تزال بلاغتها تهز القلوب وتثير الشجون. وجاء الاحتلال فجاء معه الجمود للمرة الثالثة، ولكن لا ليستقر أيضاً وإنما يهدأ قليلاً ريثما يعود الأدب من جديد ملكاً ذا سطوة وبأس منادياً بالحرية مصوراً شعور الأمة بمقت الحكم الأجنبي.
وفي ذلك الحين بدأ نجم شوقي يعلو ويلمع، وتلاه حافظ، وتربع على دست الصحافة الشيخ علي يوسف في دار (المؤيد) ثم تلاه الأستاذ الإمام أحمد لطفي السيد في دار (الجريدة) وكانت لا تزال الصحافة السورية راجحة الكفة قوية الشكيمة. وأناخت على الأدب الحرب العظمى بكلكلها ولكن ما جاءت سنة 1919 حتى وصل الأدب ما انقطع، ولا حق ما سابق، وهب أقوى سلطاناً وأكبر نفوذا. فازدادت المجلات والجرائد المصرية دون السورية زهوراً وانتشاراً، واتسع مجال التأليف، وتعددت نواحي التفكير.
وأبرز ما يبدو في الأدب العربي الحديث هو الحيرة وعدم الاستقرار والخلو من الوحدة والتجانس والتماثل؛ فهو لم يعد بعد طور التكوين ولم تقم له شخصية جلية فهو في ذلك إنما يتمشى مع روح الأمة ومشاغلها وأمانيها، ففي مصر مثلاً كان أكبر ما يشغل الأذهان ويتغلغل في النفس هو السعي في سبيل الحرية، فانطبع الأدب بهذا الطابع وظهر أثره في الصحف والمجلات والخطب والتقارير وما إلى ذلك، فتغنى الشعراء بأناشيد وطنية تمس نواحي الأمل تارة، ونواحي الألم تارة أخرى، وكلما تطورت المواقف تطور معها الأدب وجرت بها أقلام الكتاب من حيث يشعرون أو لا يشعرون
ومن العجب العجاب أن الأدب الرفيع قد لاقي من صنوف التنكيل والمقاومة من جبروت(281/50)
الحكومات المستبدة، ومن استهتار الجمهورية ومن إغضاء أغنيائنا عن تعضيده ما لو حدث في غير مصر لتحطمت الأقلام ونضبت الإفهام، وساد الظلام، ولكن كتابنا استبسلوا واحتملوا الفواجع في سبيل الأعراب عن آرائهم الحرة، فنالوا تقدير العارفين وخلدوا في تاريخ مصر المجاهدة صحائف من نور. على أنه لن يمر زمن طويل، ما لم تتأثر مصر بمؤثرات دولية ليست في الحسبان، حتى تهب من أقصاها إلى أقصاها إلى الأخذ بأسباب الإصلاح ويتبع ذلك تطور وتجديد في عالم الفكر وعالم القلم، وتدور رحى المعارك الصحفية على الأعمال لا على الأشخاص، وعندئذ تبرز الشخصية المعنوية للأمة وتبرز معها شخصية الكتابة والكتاب فتستقر في قرار مكين وتصبح في مأمن من زعازع السياسة ومنازع الأغراض فلا يعصف بها استبداد، ولا يلويها عن قصدها حب في سيطرة أو استبعاد
على أنه رغم تلك الاضطرابات العامة والقلائل الجمة، فان مصر بحمد الله قد ظفرت بطائفة من الكتاب لا تقل علماً وأدباً وقوة ومغامرة عن أمثالهم في أعظم الأمم المتحضرة المجاهدة، وما ذك إلا لما هم عليه من ذكاء نادر وعلم وافر ومضاء في العزيمة وقوة في الشكيمة. وإذا حق لمصر أن تفخر بأبناء الجيل الحاضر فمن الأنصاف أن تضع في مقدمتهم الأساتذة الكرام (العقاد، والزيات، وهيكل، وطه حسين، والمازني، وزكي مبارك، وسلامة موسى) وغيرهم
والظاهر أن الحكومة قد فطنت إلى ضرورة تشجيع الأدب فقررت منذ عام وبعض عام منحهم جوائز على موضوعات يتبارون فيها، فكانت فكرة موفقة، ولا نعلم لماذا لم تستمر في ذلك! ولعلها تذكر أن من أكبر الأسباب التي دعت إلى ظهور طائفة كبيرة من الأدباء والشعراء الخالدين في العالم العربي، الصلات القيمة والمنح الكريمة التي وهبها إياهم الخلفاء تقديراً لنبوغهم وتشجيعاً لغيرهم. ولسنا بملتمسين غير العدالة - إن لم يكن الحق - إذا نحن وجهنا نظر حكومتنا إلى ضرورة منح المجلات الراقية في مصر إعانات كفيلة بتوطيد دعائمها حثاً لها على الاستزادة من خدمة قرائها تعميماً للثقافة وتعضيداً للعلم، ولها في ذلك أسوة بالمدارس الحرة ودور المسارح والملاهي
فؤاد الطوخي(281/51)
بين الفن والنقد
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
تدرج الطبيعة بالإنسانية في مدارج الرقي والكمال، وتنهج بها مناهج السمو والتطور، فتحرص على النافع وتختار الأصلح، وتجدد دائماً! فتنقل الناس من حال إلى حال، ونخرج بهم من وضع إلى وضع، وما أداتها في هذا إلا الشخصيات العظيمة، والنفوس الكبيرة، والإرادات القوية الوثابة، التي تحمل في أطوائها عظمة الطبيعة نفسها، فإذا هي في أعمالها وحياتها ومواهبها برامج سامية للجنس، وشرائع عالية للنوع، وعوامل ناهضة بدهماء الناس من ظلمة الخمول، وحمأة الانحطاط، ومُثل رفيعة تنير بروعتها في النفوس أعمق الخواطر، وتلهمها الإنشاء والخلق والإبداع!
وما الأدب في وضعه الشامل، ومادته المتصلة بكل شيء إلا دنيا حافلة، وإنسانية كاملة، فهو - كما يقول مكسيم غوركي - مرآة الحياة تنعكس على زجاجته المصقولة، في هدأة الحزن أو ثورة الغضب، سائر مشاكل الحياة وشعابها المترامية، وخيوطها المشتبكة، ومناحيها المتنائية، كما تنعكس كذلك على أديمه الشفاف كافة رغباتنا وشهواتنا ومشاعرنا وآمالنا، والجداول العميقة الراكدة لحماقتنا وطيشنا، وسعادتنا وشقائنا، وشجاعتنا وفرقنا، أمام الغد المجهول، والمصير المحتوم، ومعاني الحب والبغض لدينا، وسائر معايب نفاقنا وعار أكاذيبنا، ومهانة خداعنا، وركود أذهاننا، وآلامنا التي لا تنتهي منها ولا تنتهي منا، وجملة آمالنا الخفاقة الملهبة لشعورنا، المتنزية في خواطرنا. . . وبالاختصار هو كل ما يحيا به العالم وسائر ما يعتمل وينبض في قلوب البشر. . .
فدنيا الأدب هي دنيا الناس تامة كاملة، يصورها لنا الأسلوب المهذب، ويرسمها التعبير الفني الجميل، وإن النهج الذي تسلكه الطبيعة في دنيا الناس للسموّ بالإنسانية، والترقي بالعالم، هو هو بعينه النهج الذي يحتذيه النقد في دنيا الأدب لخدمته وصقله وتهذيبه واختبار الأصلح منه. . . كما تفعل الطبيعة تماماً في دنيا الناس المادية المحسوسة، وما النقد إلا رسالة من رسالات الطبيعة وعمل من أعمالها، فمن المعقول أن يحتذيها في مهمته، وأن يكون على غرارها في وضعه، فهو - على ما يجب أن يكون - إرادة قوية تكشف وتوضح، وتختار وتميز، وتنفي وتثبت، وتزجر وترشد، قد تبتر الضعيف، وقد تحابي(281/53)
القوي، وما قصدها في ذلك إلى البطش والانتقام، ولا إلى المداهنة والمحاباة، ولكنها تقصد إلى صقل الخواطر، وتهذيب المشاعر، وتطهير الأفكار من مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فما تزال تتعهدها بذلك حتى تقيمها على الوجه الصحيح النافع، فإذا هي سمو بالإنسانية، وصلة بالحياة، ومادة للخلود، ومبعث الروعة والجلال على مدى الدهر وطول الأيام. . .
والأدب والنقد يهدفان إلى غاية واحدة، ويتعاونان في مهمة متفقة، فالأدب - كما يقول الرافعي - يقدّر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولة إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني؛ والنقد من وراء الأدب في هذا كله، يصح له هذا (التقدير) من جميع جهاته، ويسدده على طريقه القويم، ويدله على الصور الرائعة التي يصح أن تكون مثلاً أعلى لما نطلبه من جمال الحياة وجمال العواطف، ومن ثم كان النقد - كما يقل شوقي - حارس الأدب، ومكمل الكتاب والكتب، ومن ثم أيضاً كان النقد أساساً لكل نهوض أدبي مثمر، فإذا ما رأيت أدباً مهذباً يغمر أصحابه بالحياة، ويؤدي لهم غذاء العواطف والعقول، ويملأ نفوسهم باليقظة والحكمة والإحساس، ويرفعهم عالياً إلى الكمال الإنساني، ثم رحت تتلمس السبب في ذلك فلن تجده إلا النقد، ثم النقد، ولا شيء غير النقد. . .
قال لي أديب كنت أبسط له هذا الرأي: ولكنك تعلم يا صاحبي أن أهل الفن قوم خلقهم الله أحرار المواهب، فهم يطلبون حرية الفكر، وذلك عندهم كل شيء، ولعلك تذكر في ذلك قول ملتون الخالد (أعطني حرية القول، وحرية الفكر، وحرية الضمير، ولا تعطني شيئاً غير ذلك) والنقد إنما هو ضرب من ضروب الحجر على هذه الحرية وحبسها عن التحليق في سماء الفن وجو الحياة الفسيح، ولاشك أن الفنان إذا ما فقد حريته فقد فقدَ عبقريته، وتلاشت شخصيته. . . ثم أنت تعلم أن حياة الفن إعجاب وتقدير، وأن الفنان في حاجة كبيرة إلى العطف والثناء والمدد والبخور، ولكن النقد كثيراً ما يرهق أعصاب الفنانين - وهي الدقيقة المرهفة - بصلف الأستاذية، وعنت الحزازة وعبث التطفل، وكثيراً ما هوي فنانون صرعى هذا الطغيان أو قل هذا اللؤم، وكثيراً ما أحجم كرام فضلاء عن الظهور في(281/54)
الميدان ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضراة، وصوتاً لآثارهم أن تبتلى بلئيم لا ينصف، أو جاهل يتعسف. وقديماً قيل: أحق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل! وهذا ما يجعلني أعتقد أن النقد عداوة للأدب، وتهجم على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد، يهدم ويثبط، ويندفع في جبروته واستبداده لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . وهذا ما جعلني أيضاً أرتاح لصنيع ألمانيا يوم حرمت النقد الأدبي، ووقفت به عند عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء أي رأي. ولقد كان وزير الدعاية الألمانية على حق إذ يقل في بيانه الذي أصدره في ذلك الصدد: إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار، والاحتفاظ بكرامتهم الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الصحيحة من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها!
ولقد يبدو هذا الكلام طريفاً لبعض الناس، وأذكر أني سمعت صداه في ندوة أدبية، وقرأت كلاماً بمعناه في إحدى الصحف، ولكنه في الواقع أفن من الرأي لا يصح في عقل، ولا يستقيم في منطق، فان النقد ليس مصادمة لحرية الفنان في شيء ولكنه نهوض بهذه الحرية إلى الأوج، وارتفاع بها عن العبث، وتقويم لها على المبادئ القويمة، والرغبات النافعة، وإذا كان له أن يقف بالفنان عند حدود، أو يلزمه بقيود، فليست هي إلا الحدود الفنية، والقيود التي هي معالم الفن نفسه ودعائم كيانه، وبالتزامها يسمو وينهض، وبمراعاتها ينمو ويفرع. فإذا ما أباح لنفسه أن يتعداها وأن يستهين بها، هان أمره، وهاض شأنه وذهبت شخصيته، وانتهت رسالته، كتلك القيود التي يتملص منها بعض الناس، من تفريط في حق اللغة، عدم العناية بالأسلوب، والاستهانة بأوضاع العرف والأخلاق، والتقاليد والدين!
ثم لماذا يناهض النقد الأدب؟ والنقد والأدب صنوان يجمعهما الفن إلى أصل واحد، ويربطها برباط العصبية والقرابة، أو على الأقل برباط الود والصداقة، فإذا ما نظر النقد إلى الأدب وهو ينصح له، أو يسخر منه، أو ينكر عليه، أو يعجب به، فما هو في هذا كله إلا الصديق الحدب، والرفيق المخلص، من واجبه أن يصور الأدب أمام نفسه بأغلاطه ومساوئه، وصوابه ومحاسنه، وأن يرى في ذلك الرأي الصريح المخلص، كما يفعل الأدب تماماً إذ يصور الحياة أمام نفسها بأغلاطها ومساوئها، وصوابها ومحاسنها، وأن يحكم في(281/55)
ذلك برأيه وتقديره، ولا عيب على النقد في صنيعه هذا، كما لا عيب على القاضي إذا ما أعلن كلمة الحق، والواصف إذا ما قرر حقيقة الموصوف، والصديق إذا ما صارح صديقه بالذي فيه، ولكن العيب ألا يؤدي ذلك جهده، ويعمل له وسعه؛ وإن من خطأ الرأي أن نحسب النقد عداوة للأدب، وتهجماً على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد لا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . فأن الطبيعة ليست بقاسية من ذهابها بالزبد ليبقي ما ينفع الناس، والطبيب ليس بمتجبر ولا بمستبد إذا ما بتر العضو الفاسد لينجو المريض. والصائغ لا يقصد الشر إذا ما تناول حجر الماس بالإحراق والصهر والصقل ليخلص جوهره وتنجلي لمعته، وكذلك قل في النقد إذا ما وضع الحق في نصابه، ودافع عن الفن في نسقه الأعلى، وعمل على تخليصه من شوائب الفضول والدعوى المزورة والمآرب المتهمة، وإن من انقلاب الأوضاع والاستهانة بالحقائق أن نحسب التهذيب عداوة، والصراحة تهجماً، والتطهير هدماً وتثبيطاً، وإذا كان بعض الأدباء لا يفيدون من النقد صقلاً وسمواً وتهذيباً وإرشاداً فليس الذنب ذنب النقد، ولكنه التفريط منهم في الانتفاع بالرشد والإصاخة إلى النصيحة، وما هم إلا كالمريض، يصف الطبيب له الدواء، ويقدر عليه الغذاء، ويقر له ما يأتي وما يدع، ولكنه يستهين بهذا كله، وما يزال حتى ينوء بعلته، ويتلف بدائه، ثم يتبجح فيلحى الطبيب!!
على أننا إذ نقول النقد، فإنما نعني ذلك الفن الجليل بقواعده المقررة، وأصوله المحررة، وغايته الشريفة، وهو شيء أسمى من التقييم والتقريظ والاستجداء، وأنبل من العبث والغرور والتفيهق، وأرفع من الشتم والحسد والحزازة وكل اعتبار شخصي، وإن من اختلاط الأمر أن نحسب كل هذه من باب النقد ونعتبرها منه، وما هي إلا اعتبارات رخيصة، وسفاسف تافهة، وشرور وآثام شأنها من النقد شأن الأعشاب الضارة في الروضة المعطار. والنقد بريء منها، بل إنه ليناهضها كما يناهض كل أذى وشر. ولقد صدق شوقي إذ يقول: (من نقد على غضب أسخط الحق، ومن نقد على حقد احترق وإن ظن أنه حرق، ومن نقد على حسد لم يخف بغيه على أحد، ومن نقد على حب حابى وجمح به التشيع، وإنما النقد فن كريم، وهو آلة إنشاء، وعدة بناء، وليس كما يزعمه الزاعمون معول هدم ولا أداة تحطيم. . .)(281/56)
ثم إننا إذ نقول الناقد فلسنا نريده من أولئك المزورين الأدعياء الذين ليس لهم أداة النقد، ولا عندهم وسائله، ولكنا نعنيه من أهل النظر المميز، والمتأمل الفاحص، أولئك الذين لهم قدرة الحكم، وفيهم قوة الصواب، وعندهم وسائل الترجيح، وغايتهم الأنصاف، وشأنهم خدمة الفن، وهم من ضميرهم في يقظة تلقى في روعهم دائماً أن الناقد مستهدف يعرض عقله وثقافته وحكمه على الناس، فإذا لم يخلص للحقيقة، ولم يفطن إلى مواقع الصواب في كل هذا عرّض نفسه للزراية والسخرية، وتدلى بعقله وفنه إلى أسفل. . .
والقوم في أوربا يفهمون النقد بهذا المعنى، ويجرون فيه على هذا الأعتبار، والناقد لا يقوم فيهم إلا بهذه القوة وعلى هذا الشرط، ولذا نجد النقد عندهم قد أزهر وأثمر، وأفاد ونفع، فهو مجلي العبقريات ودعائم النبوغ وظل التأليف، وعضد الفن، يدعن له الأدباء في ارتياح واطمئنان، ويرمقونه بالإجلال والإكبار ويصيخون لكلمته بالوعي والأنتفاع، وبهه الروح الطبية استطاع (تين) أن يخلق (ستاندال) ويرفع من (كانت)، ويدين تسعة أعشار الطبقة الراقية من الفرنسيين في القرن التاسع كما يقول بعض المؤرخين!
أما عندنا، فموعدنا بذلك بقية المقال.
محمد فهمي عبد اللطيف(281/57)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وقد سلك الكميت مسلكاً متقارباً في قصائده الأربع، فهو في ميميته يتخلص من مطلعها إلى ذكر بني هاشم فيقول فيهم:
بل هواىَ الذي أجنُّ وأُبدى ... لبني هاشم فروعِ الأنامِ
للقريبين من ندىً والبعيدي ... ن من الجور في عُري الأحكام
والمصيبين باب ما أخطأ النا ... سُ ومرسى قواعدِ الإسلام
إلى أن يقول فيهم وفي خصومهم من بني مروان:
ساسةٌ لا كمن يرعى (؟) النا ... سَ سواءً ورِعيةَ الأنعام
لا كعبد المليكِ أو كوليدٍ ... أو سليمان بعدُ أو كهشام
رأيهُ فيهمُ كرأي ذوي الثُّلَّ ... ةِ في الثائجاتِ جُنحَ الظلام
جزُّ ذي الصوف وانتقاءٌ لذي المخ ... ة نعقاً ودَعدعاً بالبهام
من يمت لا يمت فقيداً ومن يح ... ى فلا ذو إلٍ ولا ذو زمام
فهمُ الأقربون من كلّ خيرِ ... وهم الأبعدون من كل ذام
ثم يتخلص من ذكرهم إلى ذكر جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمضي في مدحه وذكر مناقبه الشريفة:
أُسرة الصادق الحديث أبي القا ... سمِ فرعِ القُدامس القدَّام
خيرُ حي وميتٍ من بني آ ... دم طرَّا مأمومهم والإمام
إلى أن يقول فيه:
أبطحي بمكة استثقب الل ... هـ ضياء العمى به والظلام
وإلى يثرب النحول عنها ... لمقام من غير دار مقام
هجرة حولت إلى الأوس والخز ... رج أهل الفسيل والآطام
غير دنيا محالفاً وأسم صدق ... باقياً مجده بقاء السلام
ثم يأخذ بعد هذا في ذكر باقي أصولهم فيقول:(281/58)
ذو الجناحين وابن هالة منهم ... أسد الله والكمى المحامي
لا ابن عم يرى كهذا ولا ع ... م كهذاك سيد الأعمام
والوصي الذي أمال التجوب ... به عرش أمة لانهدام
كان أهل العفاف والمجد والخي ... ر ونقض الأمور والإبرام
نالنا فقده ونال سوانا ... باجتداع من الأنوف اصطلام
وأشتت بنا مصادر شتى ... بعد نهج السبيل ذي الآرام
إلى أن يقول:
وأبو لفضل إن ذكرهم الحل ... وبقيَّ الشفاء للأسقام
صدق الناس في حنين بضرب ... شاب منه مفارق القمقام
وأبو الفضل هو العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الشيعة إلى عهد الكميت يداً واحدة إلى أن تفرقوا في عهد العباسيين إلى علويين وعباسيين، فعادى بعضهم بعضاً بعد أن آل الملك إليهم، واستأثر به بنو العباس كما استأثر به بنو مروان قبلهم. وقد أخذ بعد هذا كله في الحديث عن نفسه في هذا الأمر الذي أخذها به، واستسهل صنوف البلاء في سبيله، فقال:
فبهم كنت للبعيدين عما ... واتهمت القريب أي اتهام
وتناولت من تناول بالغي ... بة أعراضهم وقل اكتتامي
إلى أن يقول:
ولهت نفسي الطروب إليهم ... ولهاً حال دون طعم الطعام
ليت شعري هل ثم هل آتيتهم ... أم يحولن دون ذاك حمامي
وقد أراد أن ينتقل من ذلك إلى ذكر ناقته ووصفها على عادة الشعراء قبله، ولكنه يجعل ذلك في ختام قصيدته ولا يبدأ به في أولها كما كانوا يبدؤون به، فلا يؤثره بهذا على مقصوده الذي ملك عليه مشاعره، وفي هذا يقول:
إن تشيع بي المذكرة الوجنا ... ء تنفى لغامها بلغام
عنتريس شملة ذات لوث ... هوجل ميلع كتوم البغام
إلى أن يقول في الختام:(281/59)
ما أبالي إذا تحن إليهم ... نقب الخف واعتراق السنام
يقض زور هناك حق مزوري ... ن ويحيى السلام أهل السلام
وكذلك يسلك الكميت ما يقرب من هذا المسلك في بائيته الأولى، فقد تخلص من مطلعها إلى ذكر حال نفسه وما يلاقيه في سبيل رأيه فقال:
بني هاشم رهط النبي فأنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مودة ... إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلاء ... مجنا على أني أذم وأقصب
إلى أن قال:
يعيبوني من خبهم وضلالهم ... على حبكم بل يسخرون وأعجب
وقالوا ترابي هواه ورأيه ... بذلك أدعى فيهم وألقب
على ذاك إجرياي وهي ضربتي ... ولو جمعوا طرا على وأجلبوا
وأحمل أحقاد الأقارب فيكم ... وينصب لي في الأبعدين فأنصب
ثم أخذ في ذلك الحجاج الذي جمع فيه بين الشعر والعلم، ولعله هذا كان أول عهد العرب بذلك الأسلوب في الشعر:
بخاتمكم غصباً تجور أمورهم ... فلم أر غصباً مثله يتغصب
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقى ومعرب
وفي غيرها آياً وآياً تتابعت ... لكم نصب فيها الذي الشك منصب
بحقكم أمست قريش تقودنا ... وبالفذ منها والرديفين نركب
وقالوا ورثناها أبانا وأمنا ... وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
ولكن مواريث ابن آمنة الذي ... به دان شرقي لكم ومغرب
يقولون لم يورث ولولا تراثه ... لقد شكرت فيه بكيل وأرحب
ولا كانت الأنصار فيها أدلة ... ولا غيباً عنها إذا الناس غيبوا
فان هي لم تصلح لقوم سواهم ... فإن ذوي القربى أحق وأقرب
إلى أن قال:
فيا لك أمراً قد أشتت أموره ... ودنيا أرى أسبابها تتقضب(281/60)
يروضون دين الحق صعباً مخرماً ... بأفواههم والرائض الدين أصعب
وقد درسوا القرآن وافتلجوا به ... فكلهم راض به متحزب
فمن أين أو أني وكيف ضلالهم ... هدى والهوى شتى بهم متشعب
ثم اخذ في مدح بني هاشم فقال:
فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها ... ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
ألم ترني من حب آل محمد ... أروح وأغدو خائفاً أترقب
أناس بهم عزة قريش فأصبحوا ... وفيهم خباء المكرمات المطنب
خضمون أشراف لها ميم سادة ... مطاعيم أيسار إذا الناس أجدبوا
إلى أن قال:
وقد غادروا فينا مصابيح أنجما ... لنا ثقة أيان نخشى ونرهب
أولئك إن شطت بهم غربة النوى ... أماني نفسي والهوى حيث يسقب
ثم ختم ذلك كله بوصف ناقته كما فعل في ميميته فقال:
فهل تبلغنيهم على بعد دراهم ... نعم ببلاغ الله وجناء ذغلب
مذكرة لا يحمل السوط ربها ... ولأياً من الإشفاق ما يتعصب
إلى أن قال:
كأن حصى المعزاء بين فروجها ... نوى الرضخ يلقي المصعد المتصوب
إذا ما قضت من أهل يثرب موعداً ... فمكة من أوطانها والمحصب
عبد المتعال الصعيدي(281/61)
إلى شباب القصصين
كيف احترقت القصة
قصة المستر فرانك سونيرتن
للأستاذ أحمد فتحي
إن ثلاثين عاماً قد تصرمت بعد إخراج قصتي الأولى سنة 1909. ولذلك فإني أعتذر من عدم تذكري سوى القليل من محتوياتها
كنت في ذلك الحين أعمل في بعض مكاتب النشر، أراجع (البروفات)، وأحرر بعض الرسائل إلى المؤلفين ورجال الطباعة لقاء خمسة وثلاثين شلناً في الأسبوع
وكان من عادتي أن أتناول وجبات طعامي في بعض مشارب الشاي، أو في مطعم رخيص في (سانت مارتن لين) يقال له مطعم (سانت جورج). وبعد أن أفرغ من عشائي تتشعب بي المسالك، فأما أن أذهب إلى ملهى للتمثيل! أو أمضي إلى حيث أسمع محاضرة واحد من الأعلام، وأتوجه إلى بيتي لأكتب بعض الخواطر على منضدة تخيط عليها أمي الثياب، ويرسم عليها أخي بعض الصور لبعض المجلات التي تصدر من أجل الناشئة!
ولم تكن آمالي معلقة باحتراف القلم بل كان من ودي لو أغدو صحافياً لا قصصياً. غير أني كتبت قصة طويلة كاملة وأنا في الثامنة عشرة، ثم أحرقتها! وأتبتعها بأخرى وأنا أبن عشرين ولكنها كانت قصيرة جداً، وكان أسمها (الطريق الحق) عرضتها على ستة من رجال النشر قبل إحراقها. غير أن واحداً من هؤلاء الناشرين جميعاً لم يرفضها بطريقة تبعث على اليأس، بل أعادوها إليّ مصحوبة بكلمات التشجيع، وبعد تجربة أخرى، كتبت قصتي الأولى الناجحة (القلب السعيد)!
وكانت قصة (القلب السعيد) على ما أذكر تنتظم طائفة من الشخصيات، منها البطل، وهو شاب مرح موفق في مثل سني وشقيقته، وصديق له، وحبيبته، وأمه، وأبوه الذي كان يغشى حقيقة حاله غموض كثير. . . كما كان من الشخصيات الملحوظة كذلك فتاة خادم في مشرب، ورجل آخر غير موفق إلى خير
لم تكن لي شقيقة، ولا أب، ولم أكن أعرف - في ذلك الحين - مثل تلك الفتاة الخادم في(281/62)
مشرب الشاي، ولا مثل ذلك الرجل الذي يخطئه التوفيق على الدوام، وأما الأم فقد كانت تختلف تماماً عن أمي، التي كانت أقل النساء إيثاراً لنفسها، وأملهن خطوة بالسعادة! وهكذا لم يكن في القصة من شيء قد استوحيته الحقيقة الماثلة سوى البطل الشاب المرح الموفق. وكذلك لا تعدم الحياة وجود أمثاله على الدوام!
كان هذا الشاب أجنبياً عن البلاد، يشتغل في وكالة لبعض الأعمال الخارجية، وقد عرفته عن طريق أخي الذي كان صديقاً له، وكان يعول أخته، ويجهد أن يعين حبيبته على أمور حياتها. وقد حدث أن خرج وإياها في نزهة، وانتهى بهما المطاف إلى مشرب الشاي، حيث اتفق أن رأته يقبل الفتاة خادم المشرب. ولقد جرت على هذه الأزمة الأخيرة - في القصة - تعنيف صديقه كانت على وشك الزواج، إذ ساءها أن بطل قصتي لم يكن على شيء من متانة الخلق ولا الثبات على حب واحد!
ولست أدري ماذا حدث لقصتي بعد ذلك من حيث تسجيل الحوادث، ولا أظنها كانت متأثرة بواحد من كتاب السلف، عدا (لويزا آلكوت) التي كنت قد قرأت له أقاصيص متتابعة منذ عام 1894
وحين التفت إلى الوراء ثلاثين عاماً، يبدو لي أن مؤلف (القلب السعيد) رجل آخر لا يحمل اسمي ولا يمت إليّ بسبب. وإن صورته الشمسية لتنطق بأنه كان ذا رأس مستطيل، غزير الشعر، وأنه كان بارز عظمتي الوجنة، قصير النظر برغم بريق عينيه، كما أنه لم يكن من النوع الذي تسهل قراءة عواطفه وخلقه من صورته ومظهره الخارجي، سوى ما كان يبدو عليه من إمارات الجد والوقار؛ التي يتميز بها علماء الشباب، ولكنه - إذا صدقت ذاكرتي - لم يكن على شيء من الجد ولا الوقار! كما أنه لم يكن من العلماء بحال!
كتبت (القلب السعيد) في الأمسية وأيام العطلات الأسبوعية، خلال أربعة شهور أو خمسة، وكما صنع (شكسبير) في قصته (بن جونسون) لم أكن أعمد إلى تجفيف سطر واحد!
وكما أن فرصة النشر لم تكن حينذاك أكثر من وهم يتأرجح ويضطرب في ذهني؛ كذلك كانت هذه الفترة من الزمن أهنأ أيام حياتي. . . فقد كان من الفكاهة المستملحة أن أخترع أناساً لا أعرفهم، وأروي عنهم قصة فضفاضة الفصول، ثم أعمد إلى تسجيل الاختراع والحديث في سطور! ولقد سمعت بعد ذلك أنني طالما ضحكت في كتاباتي ضحكاً طليقاً؛(281/63)
ولكني كنت أضحك من غير أن أعني. . . ومن المحقق على أي حال أن كتابتي على تلك الحال لم تكن منجاة لي من الجمود أو الاستخذاء! لأن الكاتب كلما كان مرحاً، وكلما كان له أصدقاؤه وملاهي حياته، وكلما كان مستمتعاً بمحاسن أيامه إلى غير حد - كان غير ذي حاجة إلى إجهاد خياله لافتعال المفاجآت والحوادث. على أن تفكيري كان حاداً بالتأكيد، ولكنه لم يكن علمياً منظماً. وكان تكوين جسدي متيناً. غير أن سلسلة من الأمراض الموهنة قد تركتني سقيم الجسد هزيلاً، غير قادر على مباشرة الألعاب الرياضية، وكل حظي منها لم يكن - فيما سلف - أكثر من العبث بكرة صغيرة في شوارع (لندن) الخلفية! غير أني كنت كثيراً ما أتروض بالسير على القدمين، كما كنت أطلع في سعة، وأفكر في إتقان، وأغشى مدينة (لندن) وريفها بين رفقة يفوقونني خبرة بالحياة، كما كنت قليل الحفل بالمستقبل!
أستطيع أن أقرر أني لم أتوخ في كتابة (القلب السعيد) نهجاً خاصاً أدين به في الحياة الواقعة نفسها. كانت تروق لي نظرية (الاشتراكية) بيد أنني لم أكن أتحمس لها تحمساً فعلياً ولقد كنت في تلك الأيام، حين كان رزقي خمسة وثلاثين شلناً في الأسبوع، كما أنا اليوم. . . بعد أن أتسع رزقي كثيراً. . . شديد الإيمان بأن كل إنسان إنما هو الذي يصنع دنياه الخاصة! بغض النظر عن موارد رزقه. كما كنت ولم أزل شديد الإيمان بأن السعادة إنما هي ذخيرة شخصية، تصونها الطبيعة المرحة السامية أكثر مما تصونها الاعتبارات الاقتصادية! وهذه الطبيعة المرحة هي التي جلوتها في شخص بطل (القلب السعيد) فلقد شرق في الأرض وغرب في غير كبير اهتمام وفي غير ما صرع أو جهاد! ولكنه كان يتعقب الحب الذي يجده القارئ في آخر القصة، ومثله الأعلى لم يكن يعدو الزواج السعيد، وبيت الأسرة، والأطفال، في قناعة بالقليل ورضي بالواقع!
وحدث في عام 1908 أن المستر (فيشر آنون) الناشر المعروف، أعلن مسابقة قصصية عامة، أرصد للفائز الأول فيها جائزة قدرها مائة كاملة من الجنيهات. وكان هذا القدر من المال خليقاً أن يسيل له لعاب مثلى. . . ولذلك أنجزت كتابة قصتي (القلب السعيد) وتقدمت بها بين المتسابقين. وأعقبت ذلك نتيجة محتومة مرتقبة، ولقد كان يرضيني أن أكون عاشر الفائزين إلا أنني لم أربح. . وكان صدمة لي، ولكنها لم تكن شديدة القسوة، وبعد ذلك أتيح(281/64)
لي حظ نادر. . .
كنت - كما قدمت - أعمل في ذلك الحين ببعض مكاتب النشر: أقرأ (البروفات) وأحرر بعض الرسائل، وكان رئيسي في ذلك العمل رجل أسمه (فيليب لي وارنر) كان يعمل معي قبل ذلك في مكان آخر، وكان قد قرأ لي من قبل قصتي القصيرة (الطريق الحق). وقد اتفق أن سألني بعد فشلي في المسابقة ماذا أكتب، فلما رويت له خبر المسابقة ودخولي بالقصة الأخيرة وفشلي، طلب أن أطلعه على تلك القصة، فأجبت رغبته. وبعد أن قرأها دفع بها إلى ثلاثة من أصدقائه الذين يعتد برأيهم. وإني أقرر هذا حتى لا يتوهم بعض البعيدين عن محيط النشر أن فيه سبيلاً إلى التحايل. . . وبعد أن تلقى الرجل آراء أصدقائه هؤلاء طلب إلى إحداث بعض التحوير في القصة، وأعداً بنشرها بعد ذلك. ومن عجائب المصادفات أنه كاشفني بذلك في نفس اليوم الذي كنت أحي فيه عيد ميلادي الرابع والعشرين!
تحدث كل الأصدقاء بحسن حظي، وكانوا جميعاً يشكون في نجاح قصة أنا كاتبها. وقد جاء نجاحها منافحاً عن كفايتي! والحق أنه كان لي على الدوام أصدقاء يقفون في صفي لموجهة ما يكتنفني من أخطار الغرور في النفس! ولم أكن أغضب لهذا أبداً. بل على العكس من ذلك، كنت دائماً أعترف بما كانوا يغمرونني به من صفوة المودة.
ولم يكن الكتاب (القصة) عملاً جيداً تماماً. فلقد كان مكتوباً في سرعة فائقة وفي قلة اكتراث. وكان بذلك أبعد ما يكون من صفات العمل الأدبي الجدي، وأبعد ما يكون من الجدارة بالكتابة عنه، أو مديحه، ولكنه على أي حال كانت تميزه ظاهرتان ينبغي أن يعني بهما كل شاب يريد أن يكتب قصة؛ فقد كانت فيه جدة أصيلة ملحوظة، فضلاً عن اندماج المؤلف في الشخصيات التي خلق منها أبطال قصته!
وبعد ظهور الكتاب، بهرني ما استقبلته به الصحف التي تحفل بفن القصة، والحق أنها كانت رفيقة به كريمة عليه. فقد امتدحه كأنما يتفرد كاتبه بعبقرية من طراز خاص! وقارنته بأعمال (ديكنز) الخالد! وأسرفت في التنويه بما فيه من أصالة وطرافة. بل لقد بلغ من كرم محرر (المانشستر جارديان) أنه قال: (. . . لقد بدأ المستر فرانك سونيرتن - أنا - أعماله الأدبية بإحدى الروائع. فقد جعل أبطال قصته في ارتباط وثيق، كما أقاض عليهم(281/65)
حيوية ملحوظة؛ وكل ما في كتابه يعتبر هدية ممتازة إلى الفن القصصي من الشخصيات، والطبيعة، والحوار. وليس بعد ذلك من شيء يجعل القصة جديرة بالنشر، خليقة بالإقبال!
ونفذت سبعمائة نسخة من الكتاب في موسمه الأول ولم يكن هذا أمراً مرضياً تماماً. ولكنه لم يكن في تلك الأيام نتيجة سيئة. فقد بلغ نصيب الناشر من ثمن هذه النسخ ثلاثين جنيهاً. بينما أخرج (أرنولد بينت) كتابه الأول فلم يكسب أكثر من جنيه واحد بعد أجر من وقع فصوله على (الآلة الكاتبة)!
واستأنفت الكتابة بعد ذلك، لأن الناشر تلقى تشجيعاً كافياً لأن يتفق معي على نشر قصة أخرى. وهذه أيضاً حقيقة لها حظ من الأهمية. فان القصة الأولى للكاتب إن لم تكن أكثر من محاولة غير ناجحة، فان قصته الثانية خليقة أن تكون بداية طيبة لاحترافه هذا الفن!
وأنا الآن لا أكتب قصصي بالسهولة التي كنت أكتب بها منذ ثلاثين سنة. والواقع أن الإنسان كلما تقدمت به السن تزايد شعوره بصعوبة التمشي مع كل الأساليب! وشعوره بتضاؤل استقلاله وحقوقه كمؤلف. ولكن، حينما كنت أكتب قصتي (موسم الفكاهة)، وأنا ابن ثلاث وخمسين سنة كنت أحس بذلك النشاط الذي كان لي حين كنت أكتب (القلب السعيد) قبل ذلك بثلاثين عاماً كاملة.
وحين شرعت في كتابة هذا المقال لم أكن قد تصفحت كتابي الأول منذ ظهوره، ولكني وجدتني مضطراً إلى ذلك حين هممت بتدوين هذا الفصل، لأكتشف ذلك الموضوع الذي دارت عليه فصول كتابي الأول الذي أشعر بأني مدين له، إذ مهد لي السبيل إلى فن من الحياة لقيت فيه ألواناً من السعادة.
فرانك سونيرتن(281/66)
جنون الأقوياء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ملكوا الأرض واستباحوِا حَماها ... واستطالوا بِجِنَّةِ الأقوياء
وسعوا ينشرون في الأرض سرا ... مُنْكَراً في شريعة الأتقياء
تارة في الخفاء بالمكر يَعْدُو ... ن وطوراً في جهرة العظماء
أَهْوَنُ الْوِزْرِ مَا أَتَوْنْ جهاراً ... من صيال وقسوة وبلاء
والذي في الخفاء أقتل للنف ... س وأقسى لصوله في الخفاء
إن رأوا نقص أنفسٍ في خصوم ... استزادوه بالأذى والدهاء
أفسدوا أمرهم ودسوا دُعَاةً ... كي يَهِيجُوا تشاحن الأشقياء
واستمالوا سمع اللئيم بلؤْم ... زاده خِسة على الأدنياء
كصيال الشعوب بالمكر والكي ... د وإنْ أحرزت صفاتِ العلاء
حَلّلُوا للوشاة أن تشتفي من ... لاعِج الحقد بالأذى والعداء
خدعتهم أرصادهم أم رأوا أنَّ ... سماحا بشرهم كالجزاء
مَكَّنُوهُمْ مما ارادوا من الش ... ر جزاءً لَخوْنِهِمْ والرياء
ذاك أنَّ العدوّ أرخصُ شأناً ... مِنْ تَحَامِي الإجحاف في الإيذاء
قَرَّظُوا العلم والحضارة جهراً ... وتقَاةً لله أو للقضاء
ثم ساسو بالختل في السر ما شا ... ءوا وشاءت جوامح الأهواء
لا رقيبٌ على الخفاء ولا الصو ... لةِ فيه ولا عديمِ الحياء
عدموه للكفر بالله والنا ... س سوى ما رجوا من الآلاء
عَلْمَ العِلْمُ إنما النا ... س كَنَمْلٍ سَوَاؤُهمْ كَسَواءٍ
زعموا زعمهم وسموه علماً ... واستطالوا بلؤْم ذاك الذكاء
وأباحوا لِحِقْدِ كل وَلِيّ ... مُثْلِجاً نار إحنة الأحشاء
ثم قالوا وسَطَّرُو في ضمير ... إنه من ضرورة الأشياء
قِسْ على ما بدا من الشر جهراً ... في حروب ونزوة وعداء
ما أَجَنُّوهُ وهو أبلغ في الكِذْ ... ب وفي كل قسوة واعتداء(281/67)
وقديماً جُنَّ القَوِيُّ بما طا ... ع له من تزلف الضعفاء
وضعوه في منزل الله كُفْراً ... فطغى واستباح سفك الدماء
ورأي الخير والفضيلة ما شا ... ء وإنْ كان من أذى الأدتياء
ورأى الشر والكبائر ما عا ... ف وإنْ كان سيرة الأبرياء
وكذا المرء وهو ليس وَلِي ال ... حُكْم يطغى بنصرة اللؤماء
وسواءٌ شعب وفردٌ وذو السل ... طان أو سادر من الدهماء
صنعوا الشر حِسْبَةً ولوجه ال ... له، شاهت وجوههم من رياء
أو لحقدٍ قد مَوَّهُوهُ بخير ... وتباهوا بحسن ذاك لطلاء
أو برأي الأحرار صاغوا قيوداً ... واستباحوا في الناس سفك الدماء
وجنون القَويِّ أقبح من قو ... ة وحش يقوى بغير ذكاء
إيهِ لغز الحياة هل دورة لل ... شر والخير غير ذات انتهاء
لعبة ما أراه أم خَبَلُ الأن ... فس أم نزوة من الحَمْقَاءِ
إحَنٌ في الحياة مثل خطوط ... نسجوها في البُرْدَةِ السِّيرَاء
فغدت نُهْزَة الفنون هو الفَنُّ ... كَنَخْلٍ يشتار أَرْىَ الشقاء
هل لِسِحْرِ الفنون أنْ دَلَفَ الده ... ر وساغ الأنامُ لُؤْمَ البقاء
سحرها يترك اليَبَابَ عماراً ... حافلاً بالنعيم والآلاء
ويُحِيلُ الخسيسَ من معدن العي ... ش شريفاً بصنعة الكيمياء
عبد الرحمن شكري(281/68)
فلسطين
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أتلك فلسطينية الكرْم فاسقني ... سلافاً غذاها بطن واد مطهر
سقاني نجيب جرعة فتمثلت ... مناظر من شتى عصور وأدهر
كأني أماشي الناصريَّ وصحبه ... إلى هيكل نائي الجوانب نير
فحطم ما استعلى بها من زخارف ... وهوَّن أمر التائه المتجبر
تضاءلت الأحبار في ذرواته ... أمام عزيز ليس بالمتكبر
وذلت أنوف شامخات إلى الذرى ... وضاق الثرى منه بكنز مبعثر
فلسطين هذي لا يتيه بها الغنى ... فبشر بذل كل خد مصعر
ومستضعف فيها قليل نصيره ... يعود على الدنيا بنصر مؤزر
فلسطين هذي تنكر اليأس أرضها ... وما هو في أرض سواها بمنكر
رأيت بها الأموات تحيا فجاءة ... أأرض فناء تلك أم أرض محشر
وعينين عمياوين دنياهما الدجا ... تبلجتا مثل الصباح المنور
وأبرص تؤدي العين رؤية جسمة ... فقرت به العينان من حسن منظر
وما كان عهد الله فيها لينقضي ... ولا كان عهد الله بالمتغير
عبد اللطيف النشار(281/69)
مناجاة صورة. .!
للأديب رفيق فاخوري
إليك أبثُّ رسيس الهوى ... وأكشف عن جرحه فَأذن
لديك الضماد فَدَاوِ الجريح ... ومُدَّ يد الراحم المحسن
تعهَّدْ جراحي ونحِّ الطبيب ... فإن البلاسم لم تغنني
لحاظك منها تشعّ الحياة ... فيا عجباً كيف لم تحيني
وهذا المحَّيا الحبيب الرواء ... أثار شجوني فأشقينني
وثغرك وهو معين الظماء ... أجدَّ غليلي ولم يسقني
جلالك المصوّر لي آية ... حجبت سناها عن الأعين
وقلت: ألا فاسرحي في الخيال ... وهبّي على قلبي المدجن
هبوب الحياة على الهامدين ... وعرف الورود على المجتني
وصوني بهاءك عن لامس ... وحسنك عن ناظر ممعن
نفارك أحلى فلا تركننّ ... إلى الناس يوماً ولا تسكن
فإني أخشى عليك الغرام ... وأشفق من دائه المزمن
على ناظريك دلال الصبا ... ووجهك روض النعيم الجني
وأنت - على قدرة في الجنون - ... أرقُّ وأندى من السوسن
ومثلك يغوي الخليّ البريء ... ومثلي عن صبوة لا يني
تمتع بحسنك يا فاتني ... فعود صبائك قد ينحني
وقد يخلق العمر هذا الجمال ... وتذهبه غولة الأزمن
وتسري الكهولة في مائس ... يطير له القلب إذ ينثني
(حمص)
رفيق فاخوري(281/70)
البريد الأدبي
عصمت ابنونو
انتخب المجلس الوطني في أنقرة القائد (عصمت إبنونو) رئيساً للجمهورية التركية، وهو من نوابغ الترك، وقد قالت الصحف الغربية والشرقية إنه أعظم رجل عند القوم اليوم. ومما يعرف عنه أنه ذو أخلاق عالية، منها التواضع والحياء، وهو من بيت تقوى ودين، وأبوه ورع صالح، وقد ورث عنه شيئاً كثيراً، وبينه وبين أسرة عربية في فلسطين قرابة. وأذنه عن لغو الناس صماء. . ومن قول الأمير شكيب أرسلان فيه - وقد لاقاه في لوزان حين ذهب إليها رئيساً للوفد التركي بعد الانتصار وذاك الصيت الحربي وكانت له في المؤتمر تلك الشهرة السياسية: (وجدت أعضاء الوفد التركي جميعهم يحملون حقداً على العرب حاشا عصمت باشا)
فهل تتلاقى في عهد هذا الرئيس قلوب ألف بينها الإسلام وكادت تفرقها حوادث الأيام؟
ماذا يرى ج. ب. بريستلي؟
لخصنا للقارئ في الأسبوع الماضي رأي برنرد شو في شباب هذا العصر ووسائل التعليم فيه. وكان أهم ما عرض له شو أنه لا يعترف لأحد من معلميه في شرخ شبابه بفضل عليه، وأنهم كانوا آلات شيطانية لكبت غرائز التلاميذ وكف أذاهم عن أمهاتهم لا غير، وأنه لا يذكر مدرسته الأولى بخير سواء أكانت مدرسة أو جامعة، وهو يفضل تعميم المدرسة الابتدائية كمرحلة أولى لتثقيف النشء ولا يرى مانعاً من تدريس المواد الجافة لأنها تنفع في المستقبل وضرب لذلك مثلاً بجدول الضرب وأوصى بضرورة لباقة المدرس في تدريس هذه المواد، ثم تكلم عن الجمع بين الجنسين في غرفة الدرس فلم ينكره بل حتمه، وذكر الكتب التي كان لها أكبر الأثر في توجيهه الأدبي فخصص ألف ليلة وليلة الكتاب العربي الخالد ورحلة الحاج لجون بنيان وروبنصون كروزوليفو وختم حديثه بضرورة تعليم الخلط على أن يكون مادة مستقلة
وقد اطلعنا بعد ذلك على رأي ج. ب. بريستلي فرأيناه يعتذر عن الإجابة عن هذه الأسئلة (بالقطاعي!) لأن الأسئلة (القطاعي) أو التي لا رابط بينها تربكه، ثم هو لا يستطيع أن يبدي رأيه بصراحة في مدرسي المدارس إطلاقاً لأن أباه الذي ما يزال حيَّاً يرزق ما يزال(281/71)
مدرساً في مدرسة أولية كذلك. . . وفي قوله هذا جزء من رأيه. . . وقد ذكر أن أبناءه تلاميذ في مدرسة داخلية وقد أختارها لهم لا عن تفكر وتفضيل، بل مدفوعاً بتيار العصر والعرف! أما أحسن ما يجب أن يتحلى به المدرس فهو أن يكون ذا حماسة لفنه ومقدرة طبيعية على النقد بحيث يؤثر في تلاميذه وينمي فيهم غرائز النقد والذكاء والبصر بالأشياء. ثم نعى على المدرس أن يكون متحذلقاً موحشاً. . . ولا جرم فهذا المدرس يكون قليل الثقافة قليل الخبرة، وعلى ذلك يكون أخيب المدرسين!
وبريستلي يحبذ الجمع بين الجنسين في التعليم على شريطة أن يفصل بينهما بعد الرابعة عشرة. أما ما يؤخذ على شباب هذا الجيل من الكسل والفظاظة وانعدام روح المجازفة، فهو لا يرى ذلك ولا يوافق عليه ويعزو القليل منه الملاحظ فيهم، إلى روح العصر نفسه، لأن روح العصر حببت إلى الناس الترف والعيش على هامش الحياة دون التوغل في أعماقها، ولذا لا يلومهم على أنهم قُنَّع. . . لأنهم إذا عدوا طور الشباب إلى طور الرجولة أقبلوا على مصاعب الحياة وتمرسوا بها، فلو علمناهم قليلاً من النظام لظفروا بكل ما واجههم فيها
13 نوفمبر والأدب
مما يؤسف له أن تصدر مجلاتنا الأدبية وليس في واحدة منها إشارة إلى 13 نوفمبر. ولسنا نستثنى الرسالة من تلك الملاحظة بل نحن نكاد نحصها بها لأن 13 نوفمبر هو يوم فاصل بين حياتنا ومع ذاك فقد صدرت الرسالة مساء ذلك اليوم وليس فيها إشارة إليه. . . والمجلات الأدبية تعد ثبتا للحوادث وسجلاً لتوقيعات الأمة، ولم يكن أولى من الرسالة بأن تكون كذلك. ثم نحن نبحث عن صوت الأدباء في ذلك اليوم فلا نكاد نسمع لهم ركزاً، مع أن اليوم هو يومهم قبل أن يكون يوم الساسة الذين أقاموا السرادقات ليطعن بعضهم بعضاً وليوجه بعضهم إلى بعض أقذع ألوان السباب والتشهير والشتم، وهم في ذلك ينسون أنهم قادة أمة وزعماء شعب وكان أليق بهم ألا يظهروا بهذا المظهر الزري. ولكن المسئول عن هذا هم الأدباء لأنهم سمحوا للسياسة بأن تطغى على الأدب في هذا اليوم المقدس الرهيب الذي يحمل للأمة ذكرى جهادها. . وتلك ملاحظة عسى أن تنفع في السنة الآتية
د. خ(281/72)
دار العلوم وكلية اللغة العربية
الذي ينكر فضل دار العلوم في نهضة اللغة العربية في الشرق الحديث هو ضال جاحد قلبه، ولكن الذي ينكر أن كلية اللغة العربية هي شيء عظيم جداً في حياة الأزهر الحديث هو رجل لا يتصل بنهضة هذا البلد ولا يدري عن أطيب ثمارها شيئاً. . . فكلية اللغة العربية التي لا يدخلها إلا حامل ثانوية الأزهر والتي يدرس الطالب فيها لباب هذه اللغة وآدابها ثم يعود فيتخصص في التربية أو علم النفي أو أدب اللغة أو التاريخ على نخبة من جهابذة للعلماء المصريين من رجال الجامعتين ودار العلوم. . . هذه الكلية هي منشأة جديرة بالاحترام والفخر والعطف. . . ومصر مع ذاك في حاجة إلى المعهدين معاً، وكنا نطمع في أن تشتد أواصر المحبة والعلم بينهما بجامع الثقافة ووحدة الغرض، لا أن تدب عقارب الغيرة بينهما فينتقص أحدهما الآخر من أجل مناصب التدريس في معاهد الحكومة. . ونحن نرى أن تتدارك الحكومة هذه الحالة فتجعل مناصب التدريس الخالية في معاهدها قسمة عادلة بين المعهدين. . على أن لنا رأياً في ضم المعهدين سنبديه في حينه
عناية وزارة المعارف العراقية بحركة الترجمة والتأليف
قالت جريدة الأخبار البغدادية: -
وجهت مديرية التربية والتدريس العامة بوزارة المعارف في بغداد كتاباً إلى كل خريج مدرسة عليا من الشباب الدارس في خارج العراق يتضمن تنبيه معالي الأستاذ رضا الشبيبي وزير المعارف في تنشيط حركة الترجمة والتأليف، وقد رجت من هؤلاء الشبان المتعلمين أن يقوم كل منهم بتعريب الكتاب الذي يختاره في موضوع اختصاصه على أن يكون في نشره فائدة علمية في خدمة الثقافة في العراق والبلاد العربية عامة. على أن يقوم المترجم بأعلام مديرية التربية والتدريس بالكتاب الذي وقع عليه اختياره قبل الشروع في الترجمة.
وفيما يلي نص كتاب وزير المعارف في هذا الصدد:
لوحظ أن حركة الترجمة والتأليف العامة في البلاد ضئيلة الإنتاج، ولما كانت هذه الوزارة حريصة جداً على تشجيع الإنتاج العلمي وعضد حركة الترجمة والتأليف بجميع الوسائل(281/73)
المستطاعة نرى أن تذيعوا على كافة خريجي الجامعات والمعاهد العلمية العالية سواء كانوا موظفين في هذه الوزارة أو غيرها أن هذه الوزارة على استعداد أن تعاضدهم في نشر ما يقومون بترجمته من الكتب القيمة كل في موضوع اختصاصه إما بشراء حق الترجمة إن قبل تقرير الكتاب في المدارس أو بغير هذه الطريقة. هذا على شرط أن تقتنع هذه الوزارة بأن العمل يؤدي إلى خدمة نهضتنا العلمية أو الفنية في العراق.
أمة عربية تزول!
كان للكلمة الموجزة التي كتبناها عن مصير طرابلس الغرب تحت حكم الدوتشي (حامي الإسلام!) صدى قوي في البلاد العربية فثارت النفوس بالاستنكار، وتحركت الألسن بالاحتجاج، وتردد ذلك كله في الصحف الحرة اليقظى، وسنقتطف منها نبذاً تدل على قوة الوحدة الشعورية في الأقطار العربية:
قالت جريدة (الرأي العام) العراقية تحت عنوان (طرابلس - برقة ضحية الاستعمار الإيطالي) بعد أن نشرت قرار المجلس الفاشستي بضم طرابلس الغرب إلى إيطاليا:
(إننا نقف موقف المتفرج على ما يراد بقوم هم من العروبة في الصميم، وقد كتبوا صفحات نضالهم ضد القوة الاستعمارية الغاشمة بدمائهم الكريمة، فأية غضبة أعلناها في سبيل طرابلس الغرب العربية وهي تتمزق إرباً؟ وأية مظاهرة قمنا بها لنعلن سخطنا ولو بالمظاهرات على هذه الهمجية التي تفرضها دولة مستعمرة هي من ألد أعداء العرب على قطر عربي استنجد بنا ألف مرة ومرة وناشدنا النجدة والمعونة؟
لحد هذا اليوم نخلع على بعض رجالات العرب صفات البطولة لمواقف مجيدة كانت لهم ضد الاستعمار الإيطالي أيام الدولة العثمانية غير العربية، أفلا يكون شيء من ذلك أثناء وجود دول عربية ذات مركز قوي إن لم تتمكن من حشد الجيوش وجمع الجموع فهي غير عاجزة عن رفع صوتها وإعلان احتجاجها على الأقل؟ أو يعيش رجال من العرب على حساب البطولة (العربية) في أيام العهد (العثماني) غير العربي وهم أتباع، بينما لا تكون لهم تلك البطولة عينها أو بعضها وهم سادة وزعماء في بلدان عربية منبعثة من جديد؟ وما معنى هذا؟ وأية قومية عربية هذه؟
لا مفهوم للوحدة العربية التي نتغنى بها إذا كانت طرابلس الغرب أول ضحايا الاستعمار(281/74)
الوحشي من البلدان العربية لا مدلول لها في منطق (الوحدة) ولا يعنينا أمرها بشيء، ولا تهزنا مأساتها الدامية. لا مفهوم للوحدة العربية ما دمنا لا نهاجم المستعمرين والمفترسين البلدان العربية على حد سواء. إن هذا الأمر بعيد جداً عن الوحدة بل عن الوطنية (ما دمنا نقول بوطن واحد عربي) بل بعيد عن صفات العروبة ومزاياها.
وقالت في موضع آخر:
في جزء غال من أجزاء الوطن العربي المقدس يعيش شعب عربي أبي في بحران من الظلم الفادح والاستبداد العنيف.
شعب أعزل من كل شيء غير قوة الإيمان، شعب فقد كل شيء غير الشرف، لا يزال يقاوم الخطر الذي يكتسحه، ويرد عن العروبة الداهية التي تدهمها، شعب من هذا الطراز يعتقد أن على العرب واجباً نحوه يجب أن يؤدوه، وفرضاً له يجب أن يقضوه
إن تأييد الشعب العربي الطرابلسي البرقوي في نضاله ضد الاستعمار الإيطالي الفاشستي أمر محتم على كل عربي يتألم لألم إخوانه العرب ويخشى المصير الذي صاروا إليه، لأن عطف العالم العربي على المناضلين الطرابلسيين وتأييده لهم يزيدهم قوة فوق قوتهم وإيماناً على إيمانهم
ويفهم في الوقت نفسه المستعمرين أن قضية الطرابلسيين هي قضية العرب أجمعين، وأن على الذي يريد صداقة العرب أن يصادق إخوانهم الطرابلسيين لا أن يتزلف إليهم بيد ويبطش بالأخرى بإخوانهم. . .
حول مقال
سيدي الأستاذ الزيات
تحية وسلام وبعد فقد قرأت يا سيدي ضمن ما أقرأ لك ما كتبته تحت عنوان (شيطان) في عدد الرسالة الغراء رقم 279. والحقيقة أنك قد أتيت على وصف هذه المأساة أدق وصف وحللت شخصياتها أوضح تحليل. واغلب الظن بل ومما لا أشك فيه أن هذه الصورة ليست من نسج الخيال إنما هي بنت الحقيقة، وليس من الغريب أن تقع أمثال هذه المآسي في بلدنا هذا بل إنها واقعة فعلاً في معظم البيوتات المصرية سواء منها الكبيرة أو دونها كل على قدر ما نال. وقد اصبح هذا الداء هو (داء العصر) ولابد أنك يا سيدي الفاضل ترى(281/75)
معي أنه داء عضال لا يرجى برؤه إلا إذا لحظته العناية وقيض الله له نطاسياً بارعاً يستخرج المصل الكافي لقتله - وهذا حسبنا - أو على الأقل يكون واقياً لبقى المجتمع شره الوبيل
وإني لأضع هذه الرسالة في عنقك فأنت خير من يرسل لرفع لوائها وينفث في الأمة روح المعرفة والتوازن بين عادات الغرب الضارة وبين عاداتنا الشرقية الكريمة كي تصلح الشئون ويسعد القوم
والسلام عليم ورحمة الله
قارئ
توحيد برامج التعليم في الشرق الإسلامي
نشرت الصحف مقالاً للأستاذ الجليل محمد العشماوي بك عن توحيد برامج التعليم في الشرق العربي تناول فيه تاريخ الثقافة العربية بعد الإسلام مشيراً إلى الوحدة في الأصل والطريقة والتفكير والغاية التي كان يسير عليها التعليم في مدارس بغداد والبصرة ودمشق والقاهرة وتونس، ثم ذكر نهضة العلوم الحديثة وتبدل روح العصر وما ينبغي لمصر أن تقوم به لتضطلع بحق بالزعامة التعليمية في الشرق العربي فاقترح أن أن تعي المدارس المصرية بدراسة أحوال هذا الشرق وعاداته وتاريخه ودعوة بعض أفراده من شعوبه المختلفة للدراسة في مصر على نفقة المعاهد المصرية وغير ذلك من الوسائل التي تسهل توحيد البرامج في بلدان الشرق فيما بعد، والتي لا يمكن تنفيذ المشروع بدونها. والمشروع بعد هذا جميل وليس خالياً كما يظن دعاة استقلال القومية المصرية أو المعارضون لفكرة اتحاد الشرق العربي لأنه لا يضر وطنيتنا في شيء، بل هو يقويها ويزيد في مقوماتها ويفتح أمام شبابنا ميادين فسيحة لخدمة إخواننا وبني عمومتنا في الممالك الشرقية. ونحن لا نشك في نجاح هذا المشروع ما دام قد نال عناية الرجال المسؤولين(281/76)
الكتب
أفاعي الفردوس
ديوان الأستاذ الياس أبو شبكة
بقلم الأستاذ فليكس فارس
ديوان يحوي ثلاث عشرة قصيدة من شعر الأستاذ إلياس أو شبكة نشرته جريدة المكشوف البيروتية فاسترعت نبراته الأسماع، واستوقفت معانيه تفكير المتأملين
إلياس أبو شبكة نسيج وحده بين شعراء العرب اليوم. ولا أقصد بهذا الوصف أن أرفعه فوق أترابه، فهو وإن كان في الطليعة من نسور الخيال، لا يسبقهم تحليقاً، ولكنه يند عن سربهم نافراً من خطوط الأنوار في أجوائهم إلى مسارح الغيوم السوداء فلا يدور إلا في مقاصف الرعود، ولا يطوي جناحيه إلا ليحط قوادمه على أدواح الغابات الموحشة أو على فوهات البراكين
أو شبكة نسر ثائر مروع لا تستهويه سقسقة الجداول ولا عيون الأزهار ولا ناهدات الأثمار على الأماليد، وليس في إنشاده تغريد بلبل أو غناء شحرور. إن للنسر صرخات مدويات لا يأنس لها إلا من يتعشق ولولة الرياح على القمم، وهدير الأنهار في الأغوار
سمعت أبا شبكة يرسل أوائل صرخاته في القريض وأنا أحول أنين بلادي الخافت إرعاداً أطلقه من قمم المنابر، فكأنني سمعت جباراً إنشاده قرقعة سلاح، وأشعاره خطب قيودها دروع لازرد أغلال
ولو أن أبا شبكة لم يمد جناحيه إلى أفاق الدنيا ولم يطلق نظراته على مجالات الشعر في المجتمع الإنساني، لو أنه حصر تشاؤمه وثورته في حدود بلاده ولم يصطدم بالعواثر من آمال متقدميه، وقد ملأت منعطفات المصاعد كأنها أشلاء، لكان هذا الشاعر يتيه اليوم على أرض الناس لا أرض أجداده، لكان أختار له منفى أو اختير له منفى
من أوائل قصائد هذا الشاعر أبيات وجهها إلى منذ أربع عشرة سنة يشكو بها الحياة وهو لما يزل على عتبة الشباب وقد نشرتها جريدة الشعب، ويلذ لي بل أرى من دعائم بحثي أن أقتطف منها بعض أبيات:(281/77)
قال مفتتحاً:
أشكو إلي قلبك يا سيدي ... قلباً ثوى في حظي الأسود
أطلقته طفلاً ولما نما ... أصبح محتاجاً إلى مرشد
وقال:
فارس، ما للحر من راحة ... في وطن يرتاح للأعبد
ويل الشباب الغض من قلبه ... إذا أضلوه ولم يهتد
يا شاعر الآلام هذا دمي ... ذويته شمعاً على معبدي
هذي شكاتي يا خطيب العلى ... أرفعها للرجل الأوحد
وجدت في نفسك ما لم أجد ... في أنفس مخمدة هجد
لامست في أناتها ثورة ... أخمدت النار ولم تخمد
هذه الأبيات يزفر بها صدر فتى لم يبلغ العشرين، فيها شرارات من اللهيب المندلع اليوم من كل بيت يرسله أو شبكة، وإنني لأغتفر له الآن إغراقه في وصفي بالرجل الأوحد لأنه كان وهو يتلفت إلي في ثورته يناجي ما كمن في نفسه من مُثل يهفو إليها
وقبل أن أعرض لديوان (أفاعي الفردوس) أرى أن أقف عند قصيدة الحجر الحي التي أنشدها صاحب هذا الديوان أمام تمثال المغفور له (فوزي المعلوف) في حفلة إزاحة الستار عنه في السنة الماضية، فأقتطف منها نماذج لاستقرار الإلهام وتطور البيان
أطبق جناحيك معقوداً لك الظفر ... فقد وصلت وشوط المجد مختصر
ما ضر وكرك أن تأتيه منطفئاً ... ما دام قلبك في جنبيه يستعر
عيناك في الحجر المصبوب ساهرة ... يقظانة فيهما أحلامك الغرر
تواجه الليل هول الريح صاخبة ... ما ضرك الذئب جوعاناً ولا النمر
نيران عبقر في عينك إن مردت ... هوج الدجى فعلى عينيك تنصهر
مهما طغى الليل لا تشقيك زوبعة ... إلا على جانبي وقبيك تنصهر
يقظان والناس عمى في مراقدهم ... سيان ناموا على ذل أم احتضروا
عار علينا تنام الليل هانئة ... عيوننا وعباب الليل معتكر
لم يبق من رومة إلا صغائرها ... ومن قياصرها إلا دمي كسر(281/78)
رفعت عنك ستار الناس منتفضاً ... أيحجب الخلد من يفني ويندثر
هذي الستارة كانت في تشددها ... عليك آخر قيد شده البشر
كأنها وهي تنضى خلعة كذبت ... من الفناء لحاء عنك يقتشر
منذ ابن مريم والأكفان هاوية ... عن النبوغ وصخر القبر منحدر
كم في بلادك من نفس تود على ... وقاح عورتها أن تسدل الستر
وبيت الختام هو هذا:
لرب حيّ غدا في قومه حجراً ... ورب ميت غدا حياً به الحجر
هذا أنموذج من شعر أبي شبكة أخذناه من الأماليد ومن الجذوع وكلاهما صلب كالأرز ينقصف عوده ولا يلتوي
وإلى الشعراء الآن مقتطفات من ديوان أفاعي الفردوس، الديوان الحامل أسلوباً لا يمكن لأحد أن ينكر جدته وروعته.
وقد جاء أبو شبكة بطابع مستحدث في الشعر العربي سيبقي هو عميده الأول حتى في الزمن لذي سيكثر فيه أشياعه ويفوقون فاتح وهاتك أستاره
لم يشأ شاعرنا أن يتقدم بديوانه دون تمهيد نثري بسط فيه رأيه في الشعر فجاء بنظرات صائبات تسلسلت في درس عميق يطل فيه من شخصية شاعر حكيم له ثقافته واطلاعه الواسع وأحكامه كشرقي مستقل في مبادئه لا يؤخذ بالتيار الغربي الذي يجتاح إلهام عدد وفير من الشعراء في هذا العهد
اسمع أبا شبكة كيف يواجه مسألة الاستلهام في أوطانه:
(وإنني لأسأل ماذا ترانا نستطيع بهذا القاموس الضيق، هذا القاموس المتورد، نتشبث به للتعبير عن أعمق حقائق النفس فترفع الكلفة بيننا وبين اللغة ولا نتورع عن سلوك مهامه غائمة كأننا في حلم؛ وقد يخيل إلينا ونحن نسلك هذه المهامه أننا نسير في الطريق الشعري السوي بينما نحن في الحقيقة لا نحاول إلا الخروج عن أنفسنا مستعبدين لنظريات خاطئة بل مضرة تحرر منها حتى مبدعوها أنفسهم)
إلى أن قال مستنتجاً:
(فالمدارس الشعرية سجون، ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا؛(281/79)
فالطبيعة هي جوه الفسيح فكيف احساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر عن هذا الجو خرج عن نفسه وكذب على نفسه)
هذا ما يقوله أو شبكة عن المدارس الشعرية التي حسن لدى الغربيين أن يدعوها مدارس. وإنا لنرى الفرصة سانحة في معرض هذا البحث لنقول كلمة موجزة عنها وعن الخطأ في تصورها وتسميتها
إذا صح أن نطلق مدارس على المذاهب العلمية والفلسفية فهل يصح أن نطلق هذه التسمية على أساليب الشعراء في بيانهم وعلى ما تستلهمه الأنفس من سرائرها ومما حولها من المشاهد؟
إن أتباع المدارس العلمية والفلسفية ينقسمون أرهاطاً على عقائد معينة تختلف إحداها عن سائر اختلافا بيناً، فهنالك طرائق وأوليات يسلم بها أشياع كل مدرسة كأنها قانون إيمان إن جنح عنه واحد منهم خرج حتما من رهطه ليدخل في رهط مدرسة أخرى. وأين في الشعر مثل هذا الإجماع ما دامت السليقة وحدها هي المتحكمة في خواطر الشاعر وإحساسه ولهجته وطريقة بيانه؟
لذلك يقول لك أبو شبكة:
(إن بول فاليري الذي جاءنا بنظريات خلقت في الأدب الغربي جيلاً مضعضعاً لم يحد عن صراط (ماليرب) ولم يتمرد على القاعدة الكلاسيكية في النظم؛ وإني لأجد في شعر فاليري أبياتاً يستطاع دسها في شعر لامارتين)
إن التضعضع الذي يشير أبو شبكة إليه إنما تشاهده بين فئة المتأدبين والمتشاعرين في كل أمة، لأن المشتهرين في كل نوع من أنواع الفنون ينتصبون في خيال محاولي الإبداع مثلاً عليا يطالبونها بخلع العبقرية عليهم كمكافأة لتقليدهم وتصنعهم
أما الفنان الحقيقي فان طابع شخصيته يتغلب على جميع المؤثرات التي تدور به والخاطرات التي تتسرب إلى سريرته من مطالعاته، فهو يريك أبداً سماءه في إنشائه، ويسمعك نبراته في موسيقى بيانه، حتى ولو تجلت في أقوال من تقدموا وعاصروه من أهل فنه
إذن ليس في الفن - وأخص منه البيان على الإطلاق - ما يصح أن يدعى مدرسة؛ وإن(281/80)
كان هنالك من هم بحق أساتذة فليس لهؤلاء الأساتذة تلامذة بمعنى التلمذة الصحيح، إذ ما يمكن لطالب الأدب أن يستفيد من أدب معلمه سوى تقليده والسير في ركابه إذا لم يكن لهذا الطالب شخصيته المستقلة التي تجري في مسالكها مقتبسة من كل ما يدوي في أجواء الأدب من نبرات العبقرية دون أن تجاري أحداً وأن تقلد أحداً
من الذين تستمر أذواق الشعر في النهضة الحديثة شعراء تغنى الإشارة إليهم عن ذكرهم، وقد كان لكل منهم طابعه الخاص، فما كان أسلوب حافظ ليشبه أسلوب شوقي مثلاً، غير أنك تجد عشرات من الشعراء قلدوا الأول وعشرات قلدوا الثاني فنظموا على وتيرة كل منهما دون أن يبلغ واحد منهم مرتبة أمير الشعراء أو مرتبة شاعر النيل.
وإنني لا أزال أذكر ما شاهدته من ظاهرة التقليد هذه أيام إعلان الدستور حين تسنم المنابر عدد قليل ممن استوحوا الساعة فأهملوا البيان إلهاماً، إذ لم تمض أسابيع حتى غصت المنابر بالمتتلمذين فكنت تسمع أصوات أمراء المنبر وتشهد حركاتهم تقليداً، فمنهم من هو صورة مشوهة للريحاني، ومنهم من تلبس خيال الغلابيني أو مجاعص أو. . . ولكنني لم أر واحداً من هؤلاء المقلدين الذين استنامت شخصيتهم الباهتة للاستهواء بلغ مقاماً له شأنه في مراتب الخطابة
وهنالك ظاهرة أخرى في الفن الغنائي قد تدهشك إذا أنت انتبهت لما يسمعك إياه المذياع كل يوم من أصوات عديدة لأم كلثوم تخرج من حناجر عشرات المغنيات، ومن أصوات عديدة لعبد الوهاب يسمعك إياها عدد من المغنين يتزايد يوماً فيوما.
هذه هي المدارس في الفن، وما هي إلا عبارة عن تجمع كتل من المقلدين حول الأفذاذ النابغين، فما أقل عدد الهاتفين بأصوات تعلق دماء القلوب في نبراتها، وما أكثر الصخور الصماء تدوي في فراغها الأصوات تقذف بنبرة لتخنق نبرات.
هذه كلمة أؤبد بها نظرية صاحب ديوان (أفاعي الفردوس) في إنكار المدارس في الفن، أو بالأحرى في إظهار هذه المدارس على حقيقتها. وما كان أبو شبكة إلا من الثائرين على التقليد والحدود، وهو في شعره أصل مستقل لا يعرف لشعوره حداً إلا ما ينشأ من شعور نفسه
(البقية في العدد القادم)(281/81)
فليكس فارس(281/82)
المسرح والسينما
كلمتان في الفرقة القومية
وفي رواية كرنفال الحب
ليس في الأدباء، ولا بين أكثرهم تشاؤماً من الفرقة القومية وأشدهم
يأساً من استصلاحها - من يتمنى لها الراحة الأبدية، بل بالعكس كلهم
يرجو أن تعصف بها عاصفة خريف تهيئ قابليتها لحياة جديدة في
ربيع مقبل
لتشاؤم الأدباء ويأسهم أسباب وجيهة أوضحوها في شتى المناسبات، ولكن القائمين بأمر الفرقة كانوا يختلفون الأعذار لهؤلاء (المتذمرين المستاءين) يعزونها في الغالب إلى أغراض ذاتية، في حين أن ليس هناك متذمر أو مستاء، كما طاب لمدير الفرقة أن يحرف الوصف تخفيفاً لوقع التشاؤم واليأس في النفس، أو أغراض ذاتية، بل هناك كثرة من الأدباء يائسة كل اليأس من استصلاح هذه الفرقة القومية
ليس بمستغرب أن يفيض مدير الفرقة بالأحاديث ينشرها في الصحف محشوة بالوعود الحلوة والأماني الزاهرة، بل المستغرب أن يكرر هذه الوعود على نسق واحد في مطلع كل موسم للفرقة وعند اختتامه ذاهلا عن أدباء غيورين على هذه المؤسسة الأدبية يراقبون سير أعمالها حباً لها، لا سعياً وراء غرض كما يتوهم حضرة مديرها الهمام
أما سمعته يقول في جريدة البلاغ: (يمكنني أن أؤكد أن الفرقة القومية سائرة في طريقها، ونحن نعمل لاستكمال كل نقص لاحظناه فيها؛ ونحن نعلم الآن العيوب التي فينا وسنعمل على علاجها بالقدر المستطاع حتى تصبح الفرقة قادرة على تأدية الرسالة التي تأسست من أجلها) وأنت لو ناقشته الحساب على هذه الأقوال لسمعت منه قولا في المخرجين والممثلين والمؤلفين والمعربين أشد مما قاله مالك في الخمر بأسلوب شعري يلف به اللعنات بلفائف من حرير، ويتعمد تحاشي ذكر لجنة القراءة صاحبة الرأي في إقرار الرواية قبل تمثيلها كما يتحاشى ذكر أعماله وهو المسؤول الأول والأخير عن تقديم الرواية وعن إعطاء الحساب عن وقعها في نفوس الناس ومبلغ أثرها فيهم(281/83)
أكتفي الآن بهذه الكلمة لأقف عند الرواية التي اختارتها الفرقة لحفلة الموسم، الموسم الذي قال فيه مدير الفرقة قبل أزوفه (إننا ننظر للمستقبل أكثر ما ننظر إلى الحاضر)
الرواية واسمها (كرنفال الحب) تأليف شارل ميريه وتعريب الأستاذ محمد خالد (كذا) تدور حول فتاة ربتها في الدير أمها الممثلة رامية من وراء ذلك إلى جعلها صالحة للزوجية فالأمومة كيلا تذوق طعم الحياة التي ذاقتها هي. فلما شبت الفتاة وزايلت الدير تعرفت في بيت أمها بشاب علقت به وذهبت معه إلى أقصى حدود اندفاعات الشباب
يتقدم كهل غني في طلب يد الفتاة من أمها، فتفرح لهذه السعادة، فتستدعي ابنتها لتزف إليها بشرى الحظ السعيد فتجيبها الفتاة بأنها تحب شاباً وهو يحبها وأنه سيتزوج بها، ولكنها عندما تفاتح الحبيب بالزواج يداور ويتهرب من المسؤولية فتثور ثائرتها ثم تطرده من بيتها وقتما تصادم عن سماع اعترافها له بأنها ستصبح أمَّا وأن ابنه ينبض في أحشائها، وتعود إلى أمها تعلن لها رغبتها في الزواج من الكهل الغني مشترطة أن يتم الزواج في أسبوعين
ترقد الزوجة على جرح الحب، وتوهم الزوج أن ولدها من صلبه. وفي حفلة رقص تنكرية يظهر الحبيب فجاءة لحبيبته وهو متذرع بذرائع إذكاء العاطفة النسائية وغيرتها الدائمة الاضطرام، فتلهب فيها شعلة الحب القديم وتتخاذل فيها فروض الزوجية أمام دواعي الحب
تثور الظنون في صدر الزوج وهو كهل، وعاقل، وحكيم، وإذ يتأكد أن زوجته ما برحت تكتم الحب الأول وتحن إلى حبيب الشباب، وهي تفتديه بكل ما تملك، يعمل على استصلاح سيرة حبيبها الأفاق فينجيه من ورطة مالية كادت تؤدي به إلى السجن، ويجمع بينهما في بيت واحد، ثم يعلن إخلاء السبيل لهما يتمتعان بثمرة الحياة لأنهما شابان متحابان.
هذه خلاصة لموضوع الرواية الذي أتجنب التعليق عليه لأنه يمثل ناحية من صور الحياة الباريسية طاب للفرقة عرضها في مستهل موسمها. فاختيار الرواية منوط بمدير الفرقة، والمدير يقول إن للفرقة رسالة وإنه عامل على تحقيق الرسالة. فهل رأى ووجد في هذه الرواية (الكرنفال) جميع المزايا التي تحقق رسالة الفرقة وتوائم المزاج المصري؟ وهل هو الذي فرض ترجمتها تحقيقاً للخطة التي اختطها وأعلنها في أحد أحاديثه في جريدة(281/84)
البلاغ إذ قال ما نصه (إن عمل الفرقة الآن يمكننا من توزيع العمل بانتظام، وترجمة الروايات بناء على طلبنا، وذلك بأن نعهد إلى شخص معين بترجمة إحدى الروايات التي نراها صالحة لأن تمثل على المسرح) أو أنها فرضت عليه فتقبلها طائعاً راضياً ليقول كعادته (والله يا سيدي هذا اختيار لجنة القراءة وليس اختياري أنا) ليتنصل من كل تبعة ومسؤولية؟؟ أرجو أن يجيب حضرة المدير على هذه الأسئلة لينير لنا السبيل.
أما المسرح فقد ظهر فيه روح جديد، وإن سرنا أنه شمل الإخراج والإضاءة وحركات الممثلات والممثلين إلا أنه ساءنا بطغيانه على طبيعة التحدث فجعلها تفتعل النسق الباريسي في كر الكلام ولفه وإطلاقه بسرعة إلى حد أنني كنت أفقد جملاً بأكملها تضيع المعاني معها.
أريد ألا أنسى أن المخرج فرنسي، والرواية فرنسية، ومزاج المدير مزاج فرنسي، فلا بدع أن تعلو السحب الفرنسية جو مسرحنا المصري. وهذا يفسر لنا معنى اقتصار الفرقة على تمثيل أربع روايات في هذا الموسم، منها اثنتان معربتان، وواحدة مقتبسة في وسع المخرج الفرنسوي استيعابها وإخراجها على وجه صحيح ووضع فني مستحب.
ابن عساكر(281/85)
العدد 282 - بتاريخ: 28 - 11 - 1938(/)
إصلاح الصحافة
للأستاذ عباس محمود العقاد
من وعود خطاب العرش الأخير أن (تعني الحكومة بما يرفع مستوى الصحافة ويحفظ كرامتها، ويكفل في حدود القانون حريتها، وأن تعرض على البرلمان مشروعاً لهيئة الصحافة ينظم ما لها ولرجالها من حقوق وامتياز، وما عليهم من تكاليف وواجبات)
وهذا عمل واجب، ولكن كيف يكون؟
إصلاح الصحافة والصحفيين أمر محمود مطلوب، ولكن من هم الصحفيون قبل كل شيء؟
هذه أول صعوبة في المسألة، لأن إنشاء هيئة للصحفيين ليس كإنشاء هيئة للمحامين أو للأطباء أو للمهندسين؛ إذ كل طائفة من هذه الطوائف لها شروط محدودة ومؤهلات معلومة لا يقع الخلاف عليها. أما الصحفيون فليس من السهل تعريف الصحفي الذي يجب أن يحسب منهم على وجه يبطل فيه الخلاف
فهل الصحفي هو مالك الصحيفة؟ أو هو المحرر في مكتبها؟ أو هو المراسل لها من الخارج، أو هو مدير أعمالها؟ أو هو الكاتب أو المحصل أو الوكيل أو متعهد البيع الذي يتصل بها؟
كل أولئك يعملون في الصحافة وينتظمون تحت عنوانها، وليست مصالحهم مع ذلك متفقات في جميع الأحوال؛ فما هو من مصلحة مالك الصحيفة قد يكون إجحافاً بمحرريها وموظفيها، وما هو من مصلحة المحررين قد يكون إجحافاً بمالكها أو متعهد بيعها، وقد تتسع المشكلة بين الفريقين حتى تتناول المشكلة (الأبدية) القائمة بين العمال وأصحاب الأموال
فأما إذا قلنا إن الصحفي هو الكاتب أو المشرف على مادة الكتابة فما هو شرط الكاتب في صحيفة يومية؟ وما هو شرط الكاتب في مجلة من المجلات على اختلاف أغراض هذه المجلات؟
قد تكون الصحيفة قانونية فهي في حاجة إلى كفاءة محام، أو طبية فهي في حاجة إلى كفاءة طبيب، أو مدرسية فهي في حاجة إلى كفاءة معلم. وقس على ذلك سائر الصناعات والموضوعات(282/1)
بل ربما كانت كفاءة الطبيب حين يكتب في صحيفة طبية ألزم من كفاءة الطبيب حين يعالج المرض في مستشفاه، لأن الكفاءة في الرجل الذي ينشر علمه على الألوف ألزم منها في الرجل الذي يقصد أفراد مسؤولون عن الثقة به والذهاب إليه. وإذا سهل الاتفاق على صفة المحرر الذي يتصدى للكتابة الطبية أو الفقهية، فما هي الصفة التي تشترط في السياسي وفي الأديب؟
لا نقول إن حصر المرشحين للكتابة في الموضوعات الفقهية أمر ميسور مأمون العواقب، فان المتفق عليه أن طائفة من رؤساء المذاهب القانونية لم يكونوا من أهل القانون في التربية والنشأة، وإن كان هذا الحكم لا يسري على كبار الشراح والمفسرين
ولكننا نريد أن نقول إن الاتفاق ميسور على الصفة الواجبة في الفقيه، غير ميسور على الصفة الواجبة في السياسي والأديب
فثلاثة من كبار ساسة العالم الآن كان أحدهم نقاشاً والثاني حداداً والثالث ابن أسكاف أخفق في صناعة أبيه
وغير هؤلاء وزراء ورؤساء وزارات كان منهم الاقتصادي والمحامي والمعلم والصانع الصغير
فإذا كانت هذه شروط قادة الأمم فما هي شروط الكاتب في صحيفة سياسية؟ وما هي شروط الكاتب في صحيفة أدبية؟
على أننا ندع الكفاءة للمادة التي يكتبها الصحفي، وننظر إلى الكفاءة التي لا غني عنها لمن يمارس الصناعة الصحفية
فليس كل قانون ضليع بقادر على ترويج صحيفة قانونية ولو كان أقدر الباحثين في مذاهب التشريع، لأن صناعة الصحافة غير صناعة الفقه القانوني، وغير وضع الشرائع وتطبيق الأحكام، فإذا اكتفيت بالصنعة العلمية فقد تستثنى بذلك صنعة الصحفي التي لابد منها لترويج الصحيفة ولفت الأنظار إليها وتنظيم إدارتها وبيعها، وقد تقضى على الصحافة وأنت تريد لها الكرامة والارتقاء
ونحن هنا في مصر لم نعرف بعد مدارس الصحافة، ولم نبلغ بعد ما بلغته الأمم الأوربية من شيوع التعليم وذيوع الثقافة العامة، فكيف تكون الصعوبة عندنا إذا كانت صعوبة(282/2)
الاهتداء إلى (الصحفي المطبوع) لا تزال قائمة في أمة كالأمة الإنجليزية؟ وأين تذهب صحافتنا إلى جانب الصحف الإنجليزية التي تطبع الملايين وتجمع من الموارد ما يضارع موارد بعض الدول الصغار ويقرأها أناس كلهم أو جلهم متعلمون مثقفون؟
قال ويكهام ستيد الصحفي الذي زاول الكتابة في أكبر صحف العالم: (لن تخرج صحيفة من الصحف بغير مجهود مكتب التحرير أي مجهود الصحفيين الخبيرين فمن هم الصحفيون الخبيرون؟ لقد بذلت شتى المساعي لتدريب الصحفي على صناعته، وقامت مدارس للصحافة، ثم لا يزال مشهوراً مقرراً بين الكثيرين أن الناجح في الصحافة لا يجوز امتحان نجاح ولا يحصل على درجة مدرسية ولا على رخصة من رخص الحرف والصناعات، ولعله هو يشتغل بجلب الأخبار وبيع الأخبار لا يبدو في مرتبة أرفع من مرتبة البائع الجوال الذي يجمع الدريهمات في الطرقات بالنداء والصياح، إلا أن (الوظيفة) التي يؤديها الصحفيون تخولهم مكانة اجتماعية فوق مكانة أناس ينحصر همهم كله في اصطياد العيون والأسماع. فمن أين لهم هذه المكانة؟. . . أحسب أن مرجعها الأخير إلى إدراك الجمهرة العامة بالبداهة الفطرية أن عمل الصحافة الحق إن هو إلا رسالة أو مهمة، وأنها شيء فوق الحرف وغير الصناعة، وسط بين الفن وبين دعوة التبشير، وأن الصحفي الحق موظف غير رسمي وظيفته أن يخدم مصالح الجماعة الإنسانية، فهو بهذه المثابة يولد ولا يصنع، وقد يفتقر إلى التدريب والاختبار ولكنه لا يوجد في الدنيا تدريب أو اختبار يجعله صحفياً صالحاً ما لم تكن في نفسه تلك الشرارة الحية التي تميز بين الصحفي الحق والآلة الصحفية. . . وليس أحمق بل ليس أفجع في بعض الحالات من تخيل بعض الناشئين أنهم متى أفلحوا في المدرسة أو الجامعة وأنسوا من نفسهم قدرة على صوغ الكلمات فهم خلقاء أن يفلحوا في الصحافة إذا ظفروا بعمل من أعمالها، ولعلهم يضيعون سنوات من أعمارهم قبل أن يعلموا أنهم أخطئوا الطريق ولم يدركوا (المهمة التي بغيرها لا يكون العمل في الصحيفة إلا مذلة خاوية من السلوى القلبية)
هذا ما يقوله خبير من أكبر خبراء الصحافة الإنجليزية عن مؤهلات الصحفي بين أناس فيهم من أبناء الجامعات والمدارس العامة والفنية عداد من عندنا من عارفي الحروف الأبجدية، فكيف يكون الحال بيننا يوم نأخذ في انتقاء الأعضاء الصالحين (لهيئة) الصحافة؟(282/3)
وما هي شروط العلم والاختبار التي تفصل بين الأصلاء والأدعياء؟ وما هو ضمان البقاء في تلك الهيئة مع ضمان حرية الآراء، وحرية الإغضاب والإرضاء؟
في البلاد (الفاشية) قانون صريح يجيز للوزير المختص أن يصدر قراراً حكومياً بفصل الصحفي فإذا هو مطرود من جميع صحف البلاد، محرم عليه استئناف ذلك القرار إلى مراجع القضاء
وفي البلاد الديمقراطية يباح لمن يشاء أن يكتب وان ينشئ الصحف وأن يشتغل بأعمال الصحافة دون احتياج إلى إذن من الحكومة أو رخصة بإصدار الصحيفة
فأين نقع نحن بين الطرفين النقيضين؟! أصحفيون موظفون في دواوين الحكومة؟ أم صحفيون لا يحسبون حساباً لغير قانون الأخلاق الذي يدين به جمهرة القراء؟
لسنا فاشيين ولسنا بالغين من الحرية الديمقراطية مبلغ الولايات المتحدة وبلاد الإنجليز، فلنكن وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، ولنترك بقية من درجات الارتقاء يرتقيها الصحفيون مع ارتقاء القراء أجمعين، حتى يكون القراء هم الحكم الفاصل في آداب الكتابة الصحفية فلا نحتاج في كل شيء إلى نصوص القانون وزواجر المحاكم، إذ ليس من الأنصاف أن تطلب من الصحفي أدباً فوق أدب قرائه مجتمعين، فإذا كان أدبهم كافياً ففيه الغني عن الزواجر الحكومية، وإذا كان به نقص أو تخلف فالأولى علاج هذا النقص والتخلف قبل كل شيء، لأن علاج الصحافة وحدها ليس باليسير وليس بالمفيد
عباس محمود العقاد(282/4)
انحني
للشاعرة أيلا هويلر ولككس
بقلم الآنسة الفاضلة (الزهرة)
انحني وتسامي بي عن هذا المربأ يا جوزفين
انحني وأشرفي من المرتفعات الدهرية، والهضاب السرمدية. أو لست ترين كيف أجاهد لأدراك القمم السنية، ولكن لافتقاري إلى الأجنحة أراني عاجزاً عن بلوغ تلك الانجد التي أتوق إلى الجري في غلاء أمجادها بكل قوى نفسي
إني ألتمس طريقي، دون أن استشعر الحزن والوحشة. لأن عوامل الشباب والأمل والصحة تجعلني أظل سعيداً. ولكن وهج الأشعة الساطعة كثيراً ما يبتلى أعيننا بالجهَر والبهَر فلا ننظر، وإذا نظرنا كنا عميان لا نبصر. وأنا أتعسعس التلاع والروابي، محاولاً تصور يفاع رفيعة، لا أستطيع الاهتداء إليها، ولذا أود أن تعلمي أن حاجتي القصوى تهيب بك أن. . . تنحني وتتسامي بي عن هذا المربأ
لم يمض وقت بعيد مذ كنا نطأ معاً يفاع هذه الطريق عينها. وأنت تعلمين كيف كانت تلك الصغائر المغوية تنفه نفسينا بل كيف كانت تلك المنحدرات التي حسبناها سهلة قريبة تعقل أقدامنا بالتعب المعيي والمزاولة المؤجلة، وتصدف بنا عن الجادة. فأنحني وتسامي بي عن هذا المربأ.
أما أنت فلم يعوقك احتفال تشمير، ولم يلبثك تأهب معاد، بل واصلت سيرك إلى الأمام في رصانة، وصعدت إلى فروع العلى في هدوء وأمن، وتركتني هنا - غير مختارة - يا حبيبتي جوزفين وسأقنع إلى النهاية باللبث في هذا المكان لأن الحياة تفيض بالوعود. . ولكن يا صديقتي، ألا تحققين غايتي القصوى فتنحني وتتسامى بي عن هذا المربأ؟ لقد غدوت قوية حكيمة مع أنك كنت ضعيفة ساذجة وقد أوتيت دقة في الحس، وصرت تدركين كل مطالب النفس، وتشعرين بأدق خوالجها وحاجاتها.
وأعرف أن العام الذي قضيته في جوار خالقك، قد جعلك خطيرة النفس، رفيعة الأهواء، مبرورة المقاصد، شريفة المساعي؛ وأوقن أنك تشهدين كفاحي، وتبصرين ما يصهر نفسي من حنين وتوق إلى تفرع ذرى المعالي وتوقل معارج المكارم.(282/5)
فانحني وارفعيني إلى القمم السرمدية
(الزهرة)(282/6)
الحقائق العليا في الحياة
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
(ألفاظ إذا نطقتها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
3 - الإيمان
الإيمان والفلسفة:
قالت عقلية القرن التاسع عشر المزهوة بالكشوف العلمية والناقمة على قضايا بعض الأديان وقيودها وخرافاتها التي تراكمت عليها بتوالي العصور: إن العلم والإيمان لا يجتمعان. وقد سارت في تفسير كل شيء خارج عن حدود المادة والمخابير والمعامل، بتأويل مادي وآلي، وطغت الفلسفة المادية على الفلسفات التجريدية، وأفرغت الطبيعة من (الإرادة، والعقل) وجعلتها رهينة بالصدفة وأعطت للزمن حكم التصفية والتوجيه، وأعطت القوى العمياء قوة الاختيار حتى قالت (إن الوظيفة تخلق العضو!)
وكفرت بحقيقة (السببية) والارتباط بينها وبين (المسببية). . . إلى آخر ما زخرت به كتب هذه الفلسفات مما يصل في بعض الأحيان إلى درجة الهذيان.
وقد كان يجوز أن نقبل هذه الفلسفات التي تسند إلى القوى العمياء بعض (الفاعلية) لو أنها جعلت وراء هذه القوى إرادة واحدة منظمة مختارة موجهة. ولكنا لا نقبل بحال أن تكون هذه القوى فاعلة بذاتها مستقلة عن ذلك النظام العام الموضوع بتدبير محكم، وإلا رجعنا بعقولنا إلى درجة أشبه بطور الوثنيات القديمة التي كانت تعبد بعض القوى قصوراً من عقولها عن إدراك قوة كلية عامة تدبرها جميعها)
وإن أول سؤال يرد على عقل متوسط هو: ما هو العامل الموفق بين فاعليات هذه القوى المتضادة العمياء هذا التوفيق الدائم المطرد البديع لو أن الأمر كان كما يزعمون من تسلط تلك القوى العمياء على الكون؟
والغلط الفاحش المغرور الذي لا يقبله العقل العام المتزن، أن تتخذ حياة الأرض، وهي ما هي من الصغر والضآلة، مقياساً للحكم على العالم كله فرشه وحشوه وعرشه!(282/7)
وقد وصل هذيان هذه البلبلة إلى حد فظيع من الرجم بالغيب باتخاذ الفروق التي تساق في الأصل لملء بعض الفجوات التي بين حقائق العلوم كأساس مسلم للحكم عليه، مثلما اتخذوا الأثير، وليس هو أكثر من فرض فرضه بعض العلماء ليحل به بعض مشاكل الطبيعة، ولا يزال هذا الفرض بين رفض وإثبات إلى اليوم.
ويتعجب العقل البسيط السائر مع أبجديات الطبيعة من أن يصل تفكير بعض الناس - بله كبار الفلاسفة - إلى مثل ما وصل إليه من هدم الحقائق بالفروض!
ليس المقصود من الحياة الفكرة ألا يرضي العقل بالأوليات الظاهرة المسلمة وأن يمعن في الغوص والتعقيد ليخرج بفروض غريبة شخصية ليحل بها ما لا يفهمه من قضايا الكون كما هو الطابع الغالب على الفلسفات، وإنما المقصود من الحياة الفكرية أن يكون التأمل فيها ممهداً للإثبات والعلم اليقيني. فلا يفلت الخيال في حالة الصحو كما يفلت في حالة النوم أو التخدير. . . وما من شك في أن عصور الفلسفة كلها لم تفد الإنسانية بمقدار ما أفادتها الطريقة التجريبية التي دعا إليها فرنسيس بيكون فإنها الطريقة التي قفزت بالإنسانية إلى أسباب رقيها السريع في القرنين الأخيرين، لأنها تركت عالم الأحلام والبدوات والفروض الشخصية التي قد لا تفهم إلا في رءوس القائلين به وقد لا تكون ناضجة الفهم في رءوسهم أيضاً. . . واتخذت البديهيات البسيطة والمركبة أساساً بنت عليه صرح العلم الحديث
ولقد كان جزاء هؤلاء الذين يسرفون في اتباع الظنون والفروض ويتركون البسائط المعقولة بالبديهية إلى الأوهام، أن يعيشوا منكدين أشقياء متشائمين مرضى مضروبين بالشك والألم والبلبلة والشذوذ منفيين من الحياة! وهاهم أولاء أبو العلاء وشوبنهاور ونيتشه أمثلة تضرب في ذلك. . .
إن شوبنهاور قد كذب كذبة بلقاء، وخرف خرفاً عبقرياً! حين زعم أن العالم معدوم لا وجود له إلا في تصورات الإنسان. . وحين أسند العمى والهوج إلى (روح الوجود) وحين زعم أنها لم تدرك نفسها إلا في عقل الإنسان وشعوره، ولذلك أراد أن يغيظها بتمرده عليها وترك ملذاته التي هي ملذاتها في واقع فلسفته. . وكان الأولى بشجاعته هذه أن يقضي على جسمه جملة واحدة حتى يغلق باب المتاع الذي فيه أمام روح الوجود المتعطشة إلى إدراك(282/8)
نفسها فيه وتمتعها بذلك الإدراك. . .
إن أقل ما يجب عقلياً (لروح الوجود) وخالق هذا الكون العجيب أن يتصف بصفات الإنسان العادي المتوسط المحترم بين الناس - بله السوبرمان - فكيف يسلبون المشيئة الغالبة على الكون الصفات الضرورية لبعض ما أوجدته؟! كيف يعطى الخالق ما لا يملك هو من صفات التدبير؟
مهما فلسف الإنسان فلن يستطيع أن يهدم الإيمان العام بحقيقة (السببية) البديهة المستقرة في كل نفس إنسانية أو حيوانية استقرار وجود تلك النفس.
ومنذ عهد (طاليس) إلى الآن ما استطاع فيلسوف أن يغزو فطرة الإنسانية في إيمانها بهذه الحقيقة وينتزعها من إلهامها؟ ولئن كان بعض الشذوذ والانحراف يحمل بعض المتأملين على الاعتقاد بأنه هدمها في نفسه هو، فلن يحكم العقل العام عليه إلا بالجنون!
إن الطفل حين يلتقم ثدي أمه لأول مرة بعد ولادته ليحس الشبع لأعظم مفحم لأكبر فيلسوف يهدم تلك الحقيقة. . . بل إن إدراك البذرة للإنبات في الظلام والثرى المبلل لأدعى إلى اعتبار تلك الحقيقة من الإلهامات الفطرية في كل الكائنات الحية.
والذي يزعم نفسه عاقلاً قادراً على أن يحكم على (روح الوجود) بما يريد ثم في الوقت نفسه يسلبه - عز وتعالى عمال يصفون! - قوة الحكم والتدبير والإدراك فجزاؤه. . . ما جزاؤه؟ إن اللغة تضيق عن نعت له يرضي غيظ السموات والأرض من دعواه! جزاؤه أنه قال ما قال وذلك حسبه لعنة. . .
(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)
(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ)
فما بالك بمن ينكره بتاتاً أو يرميه بالطيش والهوج!
وما يجب أن يلتفت إليه أن أجرأ الناس على الشك في الخالق أو الإلحاد في ذاته وصفاته كان مبعث جرائتهم السكر والتخدير. . والسكر نوعان كما بينا في مقالنا (حنظل وتفاح): سكر باللذة وسكر بالألم. وجرأة السكارى باللذة جرأة سطحية، جرأة طيش وسخرية واندفاع كجرأة الخيام والنواسي. ولكن جرأة السكارى بالألم جرأة غيظ وحقد وعناد وتمرد وقنوط(282/9)
وتحد. وهؤلاء هم أثقل شراً وأكبر لعنة
فالمعري وشوبنهاور ونيتشه غضبوا على الحياة ونظامها وأدمنوا الآلام، وصاروا يناقشون الخالق مناقشة الند للند. . . فلا الخير خيره ولا الشر شره كما رسمهما هو في الطبيعة والشريعة وإنما الخير والشر شر ما يرسمون هم وإضرابهم
وقد أطفأ الأولان شعلة الحياة في جسديهما، ودعوا إلى إطفائها في أجساد الناس جميعاً، حتى تخرب الأرض وتفنى إنسانيتها
وماذا كانت تكون النتيجة لو أن الناس كلهم كانوا رهبان تمرد وعصيان كالمعري وشوبنهاور؟ وكاني بالإنسانية وقفت موقفهما قائلة للخالق: هاك الحياة التي أحييتنا مردودة عليك منطفئة الشعلة! دونك الأرض بحيوانها وشجرها ومرافقها لا نريد. لا نريد! وهانحن أولا رهبان شر أيها الآله إلى أن تموت!
ولكن الإنسانية التي فطرتها وإلهامها الإيمان والطاعة والعبادة لا تنفك تطرد من حياتها هذه الدعايات الشاذة السامة كما يطرد أفرداها عن أجسادهم البثور والقروح والدمامل، ولا تزال سامعة مصغية واعية لذلك الصوت الذي يدوي بهذه الكلمة: (يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا!). ولا تزال سائرة مأخوذة إلى غايتها في سلاسل من الضروات والرغائب. بل لا تزال جنّانُ الحياة وأناسيّثها تنشد قائلة وهي سائرة على الطريق:
(وأن ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً)
(وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به؛ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً)
(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا)
ما هي حدود الإيمان فلسفياً؟ إنها في رأيي هذه:
أنا إنسان صحا من غيبوبة عدم لا يعرف مبتداها، فأدرك نفسه وفتح حواسه على ذلك البيت الهائل البديع: الدنيا، فتساءل بما فيه من إبهام السببية البديهية: من خلفني هكذا بديعاً كامل الأدوات لحياتي في هذا البيت؟
ثم تساءل: ومن خلق هذا البيت العجيب الهائل بأرضه وسمائه وهوائه ومائه وإنسانه وحيوانه وقواه وقوانينه الدائمة الصيانة له؟(282/10)
ثم تساءل: ومن أدخلني في هذا البيت من غير أن يستشيرني؟
ثم تساءل: ومن سيخرجني من هذا البلد من غير إرادة مني كذلك؟
تلك الأسئلة الأربعة هي أبواب الإيمان بخالق. ومن بين الأجوبة عرف الإنسان صفات هذا الخالق من وحدة وعلم وحكمة وقدرة وقهر وقدم وبقاء وإرادة وغيرها من الصفات، ثم أحس الإعجاب بذلك الخالق المبدع، ثم أحس الحب كل الحب له، لأنه أكرمه ونعمه حين أخرجه من العدم وأسبغ عليه الحياة مع أدوات الإطلاع عليها، ثم أدام الفكر فيه. ومن الحب والفكر نشأت العبادة. . .
أما كنه ذات الخالق وزمانه ومكانه وشئونه وغاياته وأسرار صنعته، فأولئك أمور يستطيع الإنسان أن يدركها حين تستطيع النملة الصغيرة أن تدرك المحيط الهادي! ولله المثل الأعلى. .
تلك هي حدود الإيمان بخالق، في تفكير بسيط متزن لا لجوء فيه إلى غيبيات وسمعيات، وإنما إلى مقدمات عقلية هي (قدر مشترك) في عقل الفيلسوف وعقل الفلاح، والمتمدن والمتوحش وهي ما يمكن سلوكه من الطرق إلى تبيين جذور الإيمان، بالتفكير. ولا داعي بعد ذلك إلى ما لا يفهمه العقل العام المشترك بين زنوج أفريقية وأقزام الإسكيمو وفلاسفة الشرق والغرب. ولكن ما هو مصير الإنسان؟
ذاك سؤال يكاد يكون له قيمة الأسئلة الأولى عند كثير من الناس غير أن هناك فارقاً كبيراً بين قيمة الجواب عليه وقيم الأجوبة على الأسئلة الأربعة. ذلك لأن الجواب عليه متفرع من الأجوبة السابقة ولا يصح إلا إذا صحت هي. بل قد يكفي بعض العقول ويريحها من حيرتها أن تؤمن بالخالق وبالحياة الدنيا فقط ولم يكن هناك مصير آخر يحيا فيه الإنسان. لأننا لا نستطيع أن نبحث في غايات الخالق لعجزنا عن ذلك البحث (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
وتكفي الحياة والأنعام بها على من خرج إليها وأحسها، سواء كان على نعمى أو بؤسي، وازعاً للإيمان وحبه والتقرب إليه. أما الحساب على الخير والشر، فالخير جزاؤه فيه والشر جزاؤه فيه.
وهذه نزعة صوفية متطرفة تشذ عن العقل العام، والقدر المشترك ولا تتحاكم إلى سنن(282/11)
الخالق وقوانينه في الفطرة ولا تطلب منه أن ينفذ ما كتبه على نفسه وقد كتب ربكم على نفسه الرحمة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)
ذلك استطراد لجأنا فيه إلى الاستشهاد بالقرآن مخالفين ما اتبعناه في بحثنا تسليم وخير مطلق عن تلك النفوس التي ترى أن تفنى في إرادة الخالق (إيما إلى جنة إيما إلى نار)
ونعبده من غير شيء من الهوى ... ولا للنجا من ناره وعذابه
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه)
ونعود فنقول: إن كل ما في الأرض من قرائن يدل على أن الإنسان هو المقصود بالخلقة فيها، وما عداه فمخلوق له لينتفع به. وله من حياته الفكرية والنفسية ما يشعره بها القصد. فأنها حياة سامية غاية السمو معقدة غاية التعقيد فيها جانب عظيم غير خاضع للحياة الحسية الأرضية، ويكفي في سموها أنها حياة متيقظة لنفسها ومتيقظة للدنيا كلها باحثة عن أسرارها المخبوءة فيها وراء الأجرام والكثافات، حالمة بصورة علوية لكمالها هي وكمال الدنيا، تزعم أنها قادرة على تنقيح الطبيعة، وإعادة الخلقة كلها على وجه آخر أكمل! وقد وصلت بالفعل إلى بعض مفاتيح الطبيعة عن طريق العلم وهي تفكر الآن بجد للوصول إلى المفاتيح الأخرى، وستصل
والقرآن يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق. في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقد ابتدأت الآيات في عالم الآفاق وعالم الأنفس بأعاجيب، فما بالك بما تنتهي إليه؟ ويقول: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها صيداً) وتأمل في قوله (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) فإذا عرفت أن (الظن) هو الأفق الذي تحت العلم والجزم مباشرة تبين لك مقدار ما ستصل إليه قدرة الإنسان في الآباد الآتية حتى يتوهم أنه قادر على الأرض. فهل من المعقول بعد تلك القيمة العظيمة للإنسانية أن تمضي من الحياة كما تمضي الحشرات والبذور من غير مصير علوي يتحقق فيه القصد من حياتها الأرضية التي خلق فيها كل ما في الأرض؟ إن سنة التطور والترقي التي يقول بها العالم الحالي تأبى التسليم بهذه الخاتمة الأليمة لتلك الحياة الإنسانية الرفيعة. . .
تقول بعض الفلسفات: إن الحل لهذه المشكلة هو في القول بالرجعة المستمرة إلى الأرض بالحياة في الأفراد الآتين من النوع. فالكمال الذي ينشده الأفراد ويحملون به سيتحقق في(282/12)
النوع. وكان الإنسانية في خيال هؤلاء هي المعنى الواحد في الأفراد. أما أجسام الأفراد فهي أثواب تنضوها الإنسانية في الأجيال المتعاقبة وتلقيها جثثاً ميتة على طريقها إلى غايتها. . .
ولكن في هذه الفلسفة إهداراً تاماً للفرد وارتداداً بالإنسانية إلى أفق واطئ جداً هو أفق النيات والبذور، دع عنك أفق الحيوان. ونظرة واحدة إلى إخراج الأفراد من الأرحام بصور متعددة الوجوه وشكول مختلفة في العقول والنفوس - وهذا في الإنسان فقط - تحملك على الجزم والاعتقاد بأن القصد في الطبيعة متوجه إلى خلق الفرد بالذات وإحساسه على انفراد بالحياة التي فيه هو، وأنه مخاطب وحده من (إرادة الحياة)
وإن هذه الفلسفة لتبعث القنوط في الفرد لأنه يشعر معها كأنه مسمار في نعل الإنسانية! وإنها لتبعث فيه الشرود والجموح في الحياة لأنه لا غاية فردية له من حياته، ولا هو يدري الغاية من وجه الإنسانية كلها. . .
وإذا كانت الشيوعية لم ترضها الإنسانية في الغايات الاقتصادية فتنفي فيها جهود الأفراد للمجموع فناء مطلقاً فكيف ترضاها في غايات الحياة؟
وفي قنوط الأفراد وفي جموعهم دواع إلى خسة النفس ودناءتها وثورتها على الحياة بحيث لا يرجى للإنسانية بعدها ترق ولإصلاح للحياة الجمعية.
الحق أن الفرد مقصود بالخلق، مخاطب من واهب الحياة رأساً بما فيه من الإدراك مراعي فيه تمييزه بصورته ونفسيته ليشعر بفرديته وغايته الأنانية أولاً. والقدر المشترك الذي بينه وبين الإنسانية لا يحمله مطلقاً على الاعتقاد بأنه فيها كبذرة في نوع من الشجر، ولا كمسمار في نعل، ولا هو يشبه أخاه كما يشبه الغراب الغراب، والنملة النملة. . . فالفروق بين أفراد الأنواع الأخرى فروق ضئيلة لا تكاد تميز في الصورة ولا في الإدراك بخلاف الإنسان فان تنوع صوره الظاهرة والباطنة أمر محير!
(وبعد) فإني لأتساءل دائماً: ما الذي أوجد في نفوس الإنسانية ذلك الشعور الثابت بأنها لا تفني ولا تنتهي حياتها بدخولها المقبرة؟ ولماذا لم تحملها إرادة الحياة، على غير هذا الشعور لو أن الأمر كان غير ذلك؟
ثم لماذا نجد في خيالنا صورة لحياة كاملة لا قيود فيها للجسم ولا للروح؟ من أين لنا هذه(282/13)
الصورة؟ إن كل شيء قد حظي بكماله في دنياه بغير نزوع منه إلى حياة أكمل. مما يدل على أنه قد خلق للحياة هنا فقط، بخلاف الإنسان فأنه يشعر كأنه طير مقصوص الجناحين لا يزال يحلم بالجو الذي خلق ليعيش فيه.
وكيف يؤمن مثل (أديسون) أو (ماركوني) بأنه يفني فناء لا رجعة بعده بينما الأرض مملوءة بآثاره في الكشف والاختراع؟
إن العلم يقول إن الأرض ستفنى بفناء الشمس أو انطفائها فأين يصير ما هنا من الفكر والعلم؟ وماذا يفيد كمال النوع الإنساني لو أن الحياة كانت للنوع لا للأفراد كما يقول نيتشه وأصحاب مذهب (الرجعة)؟
ألا إن الموت (ولادة ثانية) كما يعبر الإنجيل
هذا ولا يزال الحديث الآخرة بقية نرجئها الآن بعد ما طال الحديث. . .
(الرستمية)
عبد المنعم خلاف(282/14)
في غار حراء
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذا يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف، ونحن في البلد الأمين مكة وقد قضينا مناسك الحج. . .
قلت لبعض الرفقاء: هلم إلى غار حراء. فأخذنا سمتنا صوب الشمال ضحوة النهار، منا الراكب ومنا الراجل، وملء القلوب اشتياق وسرور، وعلى الوجوه التهلل والبشر
بلغنا جبل النور - جبل حراء - بعد أربعين دقيقة. وملنا مع الدليل ذات الشمال فإذا امرأة تنحدر من السفح مسرعة تصيح: (أنتم غادين؟) فقلنا: ما تبغين؟ قالت: هنا الطريق. فاتفقنا على أن تهدينا السبيل إلى الغار. ونظرنا إلى الجبل فإذا السفح ينتهي إلى قمة شاهقة ملساء، قطعة واحدة من الصخر قاتمة
سارت فاطمة أمامنا مصعدة خفيفة سريعة لا تبالي الشوك والحصى وأطراف الصخور الحديدية كأنها أروى ترتع على السفح
سارت في طريق معلمة يبين فيها بين الحين والحين تمهيد الإنسان؛ هنا حجارة مرصوصة يرتقي عليها الصاعد، وهناك جدار صغير من حجارة مركومة أو مبنية تعصم المرتقى أن يزل عن الطريق
تتابعنا صاعدين جاهدين منحنيين على المرتقى الصعب، وما في النفوس من رفعة الذكرى أجل وأرفع، وما يبهر النفس من رهبة المكان أبهر وأروع، مما يثقل الجسم في توقل هذا الطود العظيم. وكأنما نرتقي في التاريخ وعبرته، ونصعد في جلال الحق وعظمته، ونطمح إلى السماء، لا إلى قنة حراء. ألسنا مقدمين على مشرق النور، ومطلع الحق، ومهبط الوحي، وملتقى السماء والأرض؟ لكأن هذه الأشعة المرتدة عن هذه القمة الملساء العالية بقية من نور الحق تتألق في حراء، أو آي من القرآن لا تزال ترددها الأصداء
صعدنا ثم صعدنا حتى انتهينا إلى صخرة مُظلة، فأوينا إليها قليلاً نستجم ونمسح العرق. ثم رقينا تتلوى بنا الطريق ذات اليمين وذات الشمال حتى بلغنا مستوى فيه حوض كبير طوله ثمانية أمتار وعرضه ستة وعمقه أربعة، بعض جوانبه الصخور، وبعضها جدار من الحجر، تجتمع فيه مياه المطر. وقد صادفنا فيه ماء صافياً بارداً فشرب من شرب وتوضأ(282/15)
من شاء، وجلسنا هناك جلسة شربنا فيها الشاي واسترحنا، وجمعنا قوانا لبلوغ القمة
على ذروة الجبل بقية جدار تحيط بمستوى ضيق في وسطه صدع في الصخر. يزعم العامة أن عند هذا الصدع شُقَّ صدر الرسول. وللعامة في الأمكنة المقدسة أوهام يصلونها بمواضع من الأرض والجبال والأبنية والأشجار. وكأن السلطان عبد العزيز رحمه الله صدَّق هذا الزور فأمر أن تبنى على المكان قبة عالية كان ارتفاعها ثمانية أمتار. فلما جاء الوهابيون هدموا القبة والجدار إلا بقية
وقفنا على الذروة نسرح العيون حولنا بين جبال وأودية ونرى مكة وجبالها وقلاعها ودورها
هذه قمة حراء فأين الغار؟ جنوبي هذه القمة درجات هابطة على السفح منحوتة ومبنية، هبطنا زهاء ثلاثين درجة ثم سرنا فملنا نحو اليمين إلى صخرة هائلة مائلة على الجبل، وتخللنا مسلكاً ضيقاً قصيراً بينها وبين السفح إلى مستوى صغير، فإذا أمامنا سفح منقطع ينحدر إلى أرض سحيقة، وعلى يميينا قمة حراء التي كنا فوقها، وعلى يسارنا الغار: غار حراء العظيم! فجوة ضيقة تميل على مدخلها صخور تدعم بعضها حجارة مبنية. فأما سعة الغار فمرقد ثلاثة متجاورين، وأما علوه فقامة رجل، وفي نهايته صدع ترى منه الأرض والجبال إلى مكة.
هنا فر محمد بن عبد الله بنفسه - فر إلى ربه من ضوضاء الحياة وأكاذيبها، من مظالم الناس ومفاسدهم، من باطل العقائد وزورها - أوى إلى هذا الجبل، إلى هذا الغار، إلى قلب الخليقة! هنا طود أشم يطل على أودية ألحت عليها الشمس المحرقة ليس بها من معنى الحياة إلا نبت ضئيل، وليس بها من ذكرى الحياة إلا أثر السيل بعد المطر. ووراء الأودية جبال شامخة تتداول عين الرائي؛ وعلى بعد مكة، بين هذه الأودية والجبال وتحت هذه السماء الصاحية حقائق لا يشوبها تمويه ولا تزوير، ولا يلحقها تبديل ولا تغيير، ولا يمسها رياء ولا نفاق.
فرّ محمد إلى هذه الحقائق لا فرار الراهب يترك الناس لينجو بنفسه، ولكن كما يلجأ إلى الشاطئ من يحاول إنقاذ إخوانه الغرقى. هنا جمع محمد نفسه وفتح قلبه وناجى ربه، وهنا تجلى الله لهذه النفس الزكية، وأضاء على هذا القلب الطاهر، هنا جاء الوحي ونزلت الآية:(282/16)
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وهي فاتحة القرآن، وغرة الإسلام، ومسجلة سعادة الإنسان. لله ما وعى هذا الغار من آيات! ويا عجباً كيف ثبت على هذه الرجفات، و (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله!). قلت من قبل في شعر الصبا:
لعل جبال مكة لا يزال ... يجلجل فوقها هذا المقال
ويخفض رأسها ذاك الجلال ... وما نسيت بغار حراء ذكرى
والآن أقول: ألا يسمع هنا ذلك الصوت مدوياً مردّداً؟ ألا يرى هنا هذا النور طائفاً بحراء متلألئاً؟ ألا يجد الواقف هنا روحا من الإيمان، ويسمع وحياً من القرآن؟
خرج محمد صلوات الله عليه من هذا الغار، من حضن هذه الخليقة وهو أشبه شيء بها؛ خرج حقيقة من حقائق الله نقيّة جليّة صريحة، لا تبديل ولا تزوير، ولا لبس ولا تغرير، ولا خفاء ولا اضطراب. خرج قانوناً من قوانين الله التي تسّير الشمس والقمر والنجوم، وتمسك السماء والأرض، يمضي قُدماً إلى الغاية المقدورة مضى النجوم في حبكها، والشمس في فلكها
تمثل الرسول هابطاً من حراء وقد حمل عبء النبوة واضطلع بأمانة الرسالة، وأفضى الله إليه بوحيه وكلفه هداية خلقه
ليت شعري أهبط ونفسه قريرة هادئة كما ينزل النور من الشمس والقمر، أم نزل ونفسه جائشة مجلجلة كما ينزل الغيث بين الرعد والبرق؟ لست أدري، ولكنه نزل ديناً جديداً، وعصراً وليداً، وتاريخاً مديداً، وإصلاحاً شاملاً، وهدى كاملاً، ورحمة للعالمين
أيها الغار! يا مولد الحق، ومطلع النبوة، ومأوى محمد! لولا أن محمداً الكريم نهانا لقبلت أحجارك واكتحلت بترابك
أيها الغار! من لي فيك بخلوة، من لي بخلوة فيك!
ناداني صحبي: هلم فقد حان الرجوع، فعدنا إلى مكة
عبد الوهاب عزام(282/17)
على الخبير سقطت
للأستاذ قسطاكي بك الحمصي
أطلعني بعض الأصحاب الأفاضل على العدد 277 من مجلة الرسالة الوضيئة، وقد رأوا فيها اسم هذا العاجز مذكوراً في مقالة على كتاب المبشرين جاء في حاشية منها استشهادي بأخلاق ونزائع الأخ الحبيب بل أستاذي الجليل الشيخ إبراهيم اليازجي رحمه الله فلم أر بداً من إجابة طلب الأستاذ العلامة صاحب المقالة، وقد دلني قوله على يقين حضرته بما كان بين الإمام وبيني من متين الود والإخلاص ومستسر الأحاديث واتصال المكاتبة مدة ربع قرن أو تزيد
ولقد أورد حضرة الصديق الفاضل صاحب الرد على المفترين ما نشره في الضياء الإمام اليازجي رداً على صديقه وصديقي الإمام صاحب المنار - طاب ذكرهما - ما فيه بلاغ
على أني وفاء بعهدي عند الوداع الأخير لذلك الإمام الجليل بترديدي قول الشريف:
لا دَرَّ دَرِّى إن مطلتك ذمة ... في باطن متغيب أو بادي
وكرامة لتحقيق بغية هذا الأستاذ الجليل أشفع الحجة بالحجة فأقول:
إن الشيخ اليازجي لفرط شغفه بلغته العربية كان منصرفاً عن جميع الملاذ الدنيوية لا يطرب لشيء كطربه لأحاديث اللغة والفنون، وقد جذبه ذلك الشغف إلى إجلال القرآن واحترامه إجلالاً واحتراماً لا يفوقه فيهما أكابر أئمة المسلمين، لأنه هو عماد اللغة العربية وركنها الشديد، وهي التي أفنى أيام حياته كلها في حبها. وكان رحمه الله يقول: لولا القرآن لماتت اللغة العربية، وبموتها تنقرض الأمة العربية وتتداخل في أصول جيرانها الأقوياء والعياذ بالله. وقال لي يوماً في عرض الحديث عن الطاعنين في لغة القرآن كلاماً أذكر معناه وإن تبدلت الألفاظ:
من المعلوم أن القرآن أنزل لدعوة قوم إلى عبادة الله والإيمان برسالة محمد، وكانوا هم وكثير غيرهم من قبائل العرب عباد أصنام، وهم أهل لغاتها، ولم يكن لهم يومئذ كتب لغة وقواعد نحو وصرف، ولا يعرفون من ذلك سوى أشعارهم وأحاديثهم وما يرونه من أقوال خطابائهم وفصحائهم، فلو رأوا في لغة القرآن عوجاً أو أمتاً ومحمد يتحداهم بفصاحة لغة كتابه وفيه: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله(282/18)
ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) وكثير من أمثال هذه الآية. أقول لو رأوا فيها أغلاطاً تخالف متداول لغاتهم لأنكروها عليه وهم لم يقفوا في معاداته وإنكار رسالته عند حد، فقد قالوا عنه أوله؛ إنه شاعر مفتون وساحر ومجنون، وأمثال هذا من القحة والشتم فما الذي صدهم عن المجاهرة في الطعن على لغة الكتاب بعد كل التحدي المؤلم الذي كان يتكرر في آياته؟ فان زعم الطاعنون اليوم أن أولئك قد طعنوا ولم يصل إلينا كلامهم أجبناهم أن الكتاب ذكر قولهم فيه إنه مجنون، وهل هناك نعت يعد أشد إيلاماً من هذا النعت؟
وجملة القول أن الإمام الشيخ إبراهيم اليازجي كان يرى في المطاعن المذكورة نقص اطلاع أصحابها على علوم اللغة وقواعدها وتشعبها في القبائل الكثيرة من العرب. والكتاب كما هو معلوم لم ينزل لأهل قبيلة أو قبيلتين من أفصح القبائل العربية بل لجميع العرب، كما أن واضعي القواعد العربية وجامعي لغاتها لم يحيطوا في كتبهم بكل ما تداولته جميع تلك القبائل، بل اقتصروا على الأفصح تارة وحيناً على الأشهر والأعم لتكون اللغة في ميسور المتعلمين، وهم مع كل احتياطهم وأخذهم بالأحزم لم يجمعوا إلا نحو الثلث من ألفاظ اللغة كما روي كثير من أكابر العلماء كأبي عمرو بن العلاء وابن سيرين وغيرهما. وقل مثل ذلك في قواعدها. قال ابن جني: أخبرني فلان عن فلان عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في القراءات قال: قرأ علي أعرابي بالحرم (طيبي لهم وحسن مآب) فقلت له طوبى، فقال طيبي، فأعدت فقلت طوبى فقال طيبي، فلما طال علي قلت طوطو قال طي طي. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء ولم يؤثر فيه التلقين؟
وقال: سألت يوماً محمد بن العساف كيف تقول ضربت أخوك. فقال أقول ضربت أخاك. فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول ضربت أخوك أبداً
وحكى الكسائي أن قضاعة تقول مررت بّهْ والمالُ لِهْ وأنه فاش في لغتها
ونحن نعلم أن بعض العرب قالوا مررتُ بأخواك وضربت أخواك، وكل هذه وغيرها لغات كثيرة موثوق بها وردت عن العرب. والقرآن ورد على سبع لغات منها، فالطعن في لغته أو لغاته ضعف وقوف على لغات العرب وأقوال العلماء والشراح وهو أمر مفروغ منه
وقال أبن جني: قلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي رحمه الله وقد أفضنا في ذكر أبي(282/19)
علي ونبل قدره ونباوة محله: أحسب أن أباً عليّ قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا. فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول
فإذا كان ابن جني وهو الإمام الجليل بين العلماء المتقدمين والمتأخرين يقول عن أستاذه أبي علي الفارسي وما أدراك من هو؟ إنه انتزع من علل العلم ثلث ما وقع لجميع العلماء إلى عهده وهو يخشى أن يكون قد اشتط في هذا الحكم، فما عسى أن يبلغ علم هؤلاء الطاعنين في لغة القرآن من علم أبي علي الفارسي وابن جني وأمثالهما من المتقدمين وفلاسفة الإسلام وشراح القرآن؟
هذا الكلام وأمثاله دار كثيراً بيني وبين الشيخ إبراهيم اليازجي، وكل من نقل عنه وأذاع حرفاً مخالفاً لما رويته من مذهبه أعلاه أعده كاذباً مختلقاً مفترياً يستوجب اللعنة من الله والناس
وفي الختام أكرر الشكر لحضرة الأستاذ العالم الأجل الذي استشهدني فوفقني لنفي الافتراء البحت وأشكر لصاحب الرسالة الأديب الفاضل إفساحه صفحة منها لكلامي. لا برح خير معوان لنشر الفضائل، ولا زالت رسالته لأفصح اللغات أم الرسائل
(حلب)
قسطاكي الحمصي(282/20)
ليلى المريضة في الزمالك
للدكتور زكي مبارك
صديقي. . .
سألتني أن أكتب كلمة عن ليلى المريضة في الزمالك، فأثرت في صدري لوعة محرقة كنت أرجو أن تصير بفضل الكتمان والتناسي إلى الخمود
وماذا يهمني من أمر تلك الإنسانة الظلوم؟
إن الدنيا كلها سخفٌ في سخف، والحب كله بلاء في بلاء فلتمض تلك الذكريات إلى جحيم النسيان والجحود
وقد تعلمت في حياتي أشياء، وكان أثمن ما تعلمت هو اليأس من وفاء القلوب
وأقسم بالله وبالحب ما خططت هذه العبارة إلا وأنا أقاوم طغيان المدامع، فمن الحسرة واللوعة أن أنْفُضَ يدي من العواطف بعد أن جعلت الكتابة في العواطف مذهباً أدبياً أنصار وأشياع في سائر الأقطار العربية
ولكن خيبتي في الحب لها أسباب
وآه ثم آه، من الاعتراف بالخيبة!
ليت ضلالي في هواي كان دام حتى أخرج من دنياي وأنا موصول العطف على الملاح!
فان سألتَ عن أسباب القطيعة بيني وبين ليلى المريضة في الزمالك فإني أحدثك بأن تلك الأسباب ترجع في جملتها إلى سبب واحد هو العظمة الحقيقية التي فطر الله عليها قلبي
ومعاذ الأدب أن أكون من المفتونين أو المخدوعين، فلي قلب ما عرف الناس مثل جوهره النفيس في قديم أو حديث
هو قلب فطر على الحب والعطف والوفاء
وقد شاء هذا القلب أن يبسط حنانه على ليلى المريضة في الزمالك.
فماذا صنعت تلك الحمقاء؟
لا تسأل كيف كنا إلى خريف سنة 1937
كنا عاشقين
وما أسعد العشاق!(282/21)
كنا نعرف أطايب الخلوات على شواطئ النيل
وما أسعد من يستصبحون بظلام الليل على شواطئ النيل!
كان قلب ليلى أصغر من قلبي
ولكنها مع ذلك كانت تملأ قلبي، وهو قلبٌ يرضى بالقليل في بعض الأحيان
وكنت أتلقى القليل من عطف ليلى بالحمد والثناء
والذوق كل الذوق أن تفرح بالقليل من الملاح
كانت ليلى تَعِد وتخلف وكنت أرى إخلافها من الدلال
وكنت أروضها بنفسي على الإخلاف، لأني كنت أحب أن أخلق منها دُمْيَةً روحانيةً أعاقر في محياها كؤوس النبل والصفاء
وكان ما أردت وأراد الحب العذريُّ حيناً من الزمان
أردنا مرة أن نؤلف رواية. . .
فهل ألفنا الرواية؟
ليتنا ألفنا الرواية!
آه من ليلى ومن زماني!
ودامت دنيانا في قَبض وبَسط وبُؤس ونعيم، إلى مساء اليوم الثامن عشر من الشهر التاسع سنة 1937
ففي ذلك المساء تفضلتْ ليلى فدعتني إلى تناول العشاء لتمنحني القبلة الموعودة قبل رحيلي إلى العراق
وكانت لحظة من الحياة لن أنساها ما حييت، وإن كدَّرتها ليلى بعد ذلك
أحبك يا ليلى، أحبك لتلك اللحظة التي بلبت نجوم المساء
أحبك يا ليلى وأن صيَّرتِ حياتي بؤساً في بؤس، وشقاءً في شقاء
أحبك يا صغيرة القلب، ويا ضعيفة العقل، ويا قليلة الوفاء
أحبك يا مثال النزق والطيش والجنون
أحبك لتلك اللحظة القصيرة التي بددت أضواؤها ظُلمات قلبي
وفي اليوم التالي رحلتُ إلى بغداد وأطياف الزمالك تؤنس روحي(282/22)
ثم سمعتْ ليلاي في الزمالك أني تعرفت إلى ليلى المريضة في العراق
فماذا صنعت الحمقاء؟
أرادت أن تنتقم مني ففتحت أبواب قصرها للواغلين من أدعياء الأدب والبيان
ولم تكتف بذلك، بل أعلنت غضبها عليّ في رسائل نشرتها في مجلة الصباح
وأسرفت الشقية في الحمق فنشرت في مجلة المصور أخبار سهرة تناول فيها السامرون عندها أكواب الصهباء
وكانت الشقية تعلم أن ذلك سهمٌ سيصيب صدر حبيبها في العراق
ولكني تجلدت وتماست، وكتبت إليها أعتب في رفق ولطف فأجابت الحمقاء:
(هل كنت تنتظر أن أضع يدي على خدي إلى أن ترجع من بغداد؟)
خبر أسود!
خبر أسود!
خبر أسود!
كذلك هتفتُ كما يهتف الفلاح المصري حين ينزعج، وعبارات الفلاحين تسبق إلى لساني حين يثور غضبي
إن ليلى المريضة بالزمالك لا تريد أن تضع يدها على خدها حتى أرجع من بغداد، وهي تعرف أني هاجرت إلى العراق لغرض نبيل هو توثيق علائق المودة بين مصر والعراق
وهل تفهم المرأة هذه المعاني؟
آمنتُ بالله، وكفرتُ بالحب!
أما بعد فقد انتهى ما بيني وبين ليلى المريضة في الزمالك، وقد حرمتُ على نفسي رؤية الزمالك إلى أن أموت، فحدثوني يا رفاقي عن أضواء الزمالك وأيام الزمالك وليالي الزمالك، حدثوني كيف يغني الكروان في الزمالك. حدثوني كيف تكون أشجار الزمالك في الليل. حدثوني كيف يثب النيل ليقبل أقدام الزمالك، حدثوني كيف تصبر عني ليلاي في الزمالك. حدثوني كيف تغيب الشمس عن الزمالك. وكيف يطلع القمر على الزمالك. وكيف تثور عواصف الحب والبغض في الزمالك
حدثوني، حدثوني، حدثوني(282/23)
انتهى حُلم الحب، وانتهت أيام الزمالك، وانقضت ليالي الزمالك
تلك الزمالك لم تكن إلا قطعة من وطني، ولو شئتُ لقلت إنها قطعة من كبدي
في الزمالك تعلمت طب الأرواح والقلوب
وبالزمالك شقيّ روحي ومرض قلبي
فأين السبيل إلى الرجاء؟ بل أين السبيل إلى اليأس؟
أحبك يا غادة الزمالك، أحبك يا غادرة، وأعشق ضلالي في هواك النبيل وهواك الأثيم
ليلاي، ليلاي
ما زال روحي الظامئ يحوم على وَرْدك النمير، فارحمي الطائر الذي يرفرف حول حماك في السَّحر والضحى والأصيل، ويخفق بقلبه وجناحيه كلما لذَعه الشوق إلى صهباء الرضاب
أنا مشتاق إلى الكوثر الممنوع الذي كانت قطراته تُسكر روحي وتعقر فؤادي
أنا مشتاقٌ إلى النار التي كوتْ كبدي، فمتى أواجه تلك النار العَصُوف؟
سأقبَّل قدميك حين أراك يا شقية، ولكن متى أراك؟ متى أراك؟
أفي الحق أننا تخاصمنا إلى آخر الزمان؟
أفي الحق أن عربدة الهوى لن تعود؟
لقد شمت فينا الشامتون، فمتى يندحر الشامتون؟
إنني واثق بطهارة قلبك يا شقية، ولولا ذلك لأصليتك نار العقوق.
فحدثيني متى ترجعين إليّ؟ متى ترجعين؟ متى ترجعين؟
ليلى، ليلاي التي خرجت من حماها كما خرج آدم من الفردوس، ليلاي أجيبي
مضت أعوام وأنا أتلقى منك تحية رمضان، فأين تحية رمضان؟
إن الناس يذكرون موتاهم في هذه الأيام يا معبودتي، وأنا قتيل الهوى، فمن يذكرني إذا اصدفت عني؟
لا تؤاخذيني بما جنيت في حب ليلى المريضة في العراق، فما كانت ليلاي هناك إلا صورة من صور الطهر والنبل والعفاف
أحب ليلاي في العراق، وإن تأذيت بذلك فاصنعي ما تشائين(282/24)
أيتها الحمقاء في الزمالك
لا أحب أن أراك إلا يوم تعرفين أني صاحب الفضل على الجميع الملاح، فلولا قلمي ولولا بياني لصارت الصبابة ألعوبة من الألاعيب
أنا أنتظر الجزاء الحق على وفائي وإخلاصي
أنتظر أن تكون دنيا الصباحة والملاحة طوع يدي
فان لم تفعلي - وستفعلين - فودعي دنيا الرفق والحنان
ليلى، ليلاي
إلى صدري يا عروس الزمالك
إلى صدري يا جارة النيل
إلى صدري العاشق الوفي الأمين
زكي مبارك(282/25)
من دموع القلب!
(مهداة إلى الأستاذ أنور العطار)
للأستاذ علي الطنطاوي
(هل تذكر يا أنور، يوم جزنا بمقربة الدحداح ونحن طفلان يتيمان في طريقنا إلى المنزلين الصغيرين المتجاورين في (السمانة) فوقفنا ساعة على القبرين المتدانيين نزور أبوينا. . . ثم ذهبنا مسرعين لنودع آلامنا صدر الأم؟
أتذكر ما قلت لي يومئذ عن حبك أمك وتعلقك بها، وما قلت لك؟ أتذكر أننا اتفقنا على أن الحياة مستحيلة علينا بعد الأمهات وأننا سنبقى معهن أبداً وشملنا جميع وعقدنا متصل؟
لقد كان ما ظنناه مستحيلاً يا أنور. . لقد ماتت أمي وأمك واحتواهما ذلك القبر الذي حوى أبوينا من قبل وعشنا بعدهما. . . لم نعد نملك منهما يا أنور إلا دموعاُ حرى في العين وحسرات لاذعات في القلب. . . لقد غابتا إلى الأبد!)
(علي)
لست أدري ما الذي يحملني على ذكر الماضي ونبش عظامه النخرة؟ وما الذي يغريني بأن أتلمس مكان أحلامي من الواقع. . . وأنا أعلم أن الماضي قد ذهب بمسراته وأحزانه ولم يبق في يدي منه إلا هذه الذكريات التي طالما حاولت أن ألقي بها في الزاوية المظلمة من نفسي لتنام فيها إلى الأبد، فكانت تستفيق كلما أردت نسيانها فتسود صفحة الحياة في ناظري حتى لا أرى فيها جميلاً ولا بهيَّاً. . . وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي، وأنقاض أيامي، ورويت رياضها بدمع عيني، قد جف زهرها، وصوح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة، كما ينهار بيت من ورق اللعب ضربته كف إنسان. . . فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكاومة، فأضحك وأمزح حتى ليظنني الناس أسعد الناس وأنا أشقاهم وأخيبهم أملاً، وأشدهم ألماً. . .
فلماذا أعود الليلة إلى الماضي التي ماتت أيامه، وماتت أحلامه ومات ناسه؟
كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة، بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد أجدى عليك في فهم الحياة من دراسة عشر سنين في هذه الكتب. . .(282/26)
وماذا في الكتب إلا الحيرة والضلال؟ ومنذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدعى أنه فهم الحياة من الكتب؟ أنا أحد صرعى هذه الكتب وضحاياها فسلوني عن خيبتي وخساري؟
قالت الكتب: إن المستقيم أقصر الخطوط فأسلكه تصل، واستقم تبلغ غايتك، فسرت قدماً فاصطدمت بأول جدار لقيته فشج رأسي وقعدت مكاني، واستدار غيري والتوى كما تستدير طرق الحياة وتلتوي فوصل
قالت الكتب: كن فاضلاً واحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل، فوجدت أهل الرذيلة هم الذين يصلون، ورأيت أسفل الناس أخلاقاً صار أستاذاً للأخلاق في أكبر مدرسة، فعجبت من سخر الحياة!
وقالت الكتب: الحق، وقالت الحياة: القوة. . . وقالت الكتب: الفضائل. وقالت الحياة: الشهوات. وقالت الكتب. . . ولكن لم يكن إلا ما قالت الحياة!
ونظرت إلى شارع الرشيد، فإذا السيارات من كل جنس ولون، والعربات من كل شكل ونوع، والدراجات والعجلات، كلها يعدو يريد أن يصل أولاً، وكلها يزاحم، وكلها يزأر ويصيح ويهدد، ولكنها إذا بلغت الغاية رأت أنها لم تصل إلى شيء فعادت أدراجها تزاحم وتعدو وتصيح. . .
فقلت: كذلك الحياة. . . سباق وتزاحم، ولن ما هي الغاية؟ لا شيء. . .!
ودخلت الغرفة وأغلقت عليَّ بابي، وأردت أن أفيء إلى عزلة أسكن فيها نفسي، وأجد فيها راحتي، ولكن الباب قرع، وجاء السيد حيدر الجوادي، الرجل الذي ملك على الدكتور زكي مبارك أمره، وأطربه وأعجبه حتى غدا لا يصبر عن سماعه حيثما رآه، وحتى اضطره إلى الغناء في المكتبة العامة، وقال له: غنّ هاهنا فوالله لتحدثن بها الناس وليقولن إن زكي مبارك ابتدع الغناء في المكتبات. . . جاءني فغناني (أبوذية) من (أبوذيات العراق) التي ما أظن أن إنسياً أو جنياً عرف نغمة أشجى منها وأسرع إلى القلب وصولاً، وأشد للألم تصويراً. هي قطرات من الدمع صورت نغماً. هي خفقات القلب صيغت نشيداً. هي. . . هي خلاصة الفن العبقري الذي يصور الألم العبقري. . . فهز نفسي هزاً عنيفاً، فتح صفحاتها جميعاً ووصل ماضيها بحاضرها، وأسلمها إلى ذهلة عميقة - لذة ممتعة - ولكنها(282/27)
أليمة موجعة، ذكرت (العتابا) تلك الأغنية التي ترن بها أبداً أودية لبنان، وتنحدر أصداؤها على سفوحه وحدوره، ولا يدري أحد من هو الذي وضعها ونظم مطلعها وألف لحنها، (العتابا) الخالدة التي يشترك في تأليفها العصر الجديد والعصر الغابر، ويزيد فيها كل جيل أدواراً فيكون منها الصورة الصادقة لعواطف الشعب وهواجسه وأمانيه وذكرياته، تلك التي تعيش في ترنيمة السواقي المتكسرة على الشعاف والصخور لتبلغ قرارة الوادي، وفي نشيد الرياح في الأودية البعيدة، وفي همس الأوراق في غابات الصنوبر الضاحكة، وفي عطر كل زهرة، وصمت كل صخرة، وأشعة الشمس المطلة من وراء الذرى للسلام، والمشرفة من آخر الأفق للوداع، وفي نور القمر الذي يغمر لبنان بفيض من الشعر والحب والسحر، وتعيش في كل ذروة من لبنان!
رجعتني هذه (الأبوذية) إلى سالفات أيامي، فذهبت أعرض صور حياتي فيها وهي تمر بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما ملتفة بضباب الماضي، فأرى مآسيها المغسولة بالدموع وفواجعها الدامية ولكني لا أرى منظر بهجة ولا سرور. . . فهل أرى البهجة والسرور بعد أن أشرفت على الثلاثين؟
كنت أفكر دائباً في المستقبل، وأنتظر المستقبل، فها هو ذا المستقبل قد صار حاضراً، فهل وجدت فيه إلا الخيبة والألم؟
لقد جربت الصناعات والفنون وطوفت في البلدان، فما أفدت من ذلك كله إلا أني تركت في كل بلد قبراً لأمل من آمالي. لقد أضعت الحب والمال، وأضعت المجد الأدبي، حتى هذه الألحان التي تدور في نفسي ضاعت مني. . . فلم أستطع أن أسمعها الناس أغاني وأصواتاً، ما سمع الناس إلا أقصر أغاني وأقبحها، وتلك هي مقالاتي التي نشرتها، فمتى يسمعون أجمل ألحاني وأطولها؟
في المستقبل!
يا ويح نفسي! هل بقي لي مستقبل إلا الموت الذي غدوت أحبه وأناديه لو كان يسمع النداء؟
لقد وجدت المستقبل عدماً فهل عليَّ من لوم إذا عدت إلى ماضي أعيش فيه؟
في هذا الماضي دفنت أمي، وفيه دفنت أبي، وفيه دفنت أحلامي. . . لقد أحببت كثيراً(282/28)
وتألمت أكثر مما أحببت، ولكن الحب الحقيقي الواحد الذي انطوى عليه قلبي، والألم الفرد الصادق الذي عرفه، هو حبي أمي، وألمي لموتها، وكل ما عداهما حب كاذب، وألم عارض
إني لأنسى البلاد كلها حتى منازل حبي، وربوع هواي، ولكني لا أنسى أبداً ذلك الزقاق الضيق الذي يمتد من العقيبة في دمشق إلى رحبة الدحداح، لأن سعادتي ولدت في أول هذا الزقاق، وماتت في أخره حين مات أبي وأمي. . .
فيا رب ارحمني بالنسيان، وأين مني النسيان؟
إني لأنظر إليها الآن وهي مريضة على فراشها، كأنما كان ذلك منذ ساعة، فيبكي قلبي ولا أستطيع أن أكتب عنها حرفاً. لا أحب أن أنشر أحزاني حتى لا تلوكها ألسنة الناس، فليبق الألم في صدري أحمله وحدي. . . أنا لا أصدق أن هذه السنين السبع قد مرت على ذلك الحادث. . . أأنا أعيش سبع سنين لا أرى فيها أمي، وقد كنت آلم إن غبت عنها يوماً؟ أأعيش وهي نازحة لا تعود بعد عام ولا عشرة، لا تعود قبل يوم القيامة؟
اللهم صبراً فإني والله ما أطيق الصبر!
يقولون إن المصيبة تبدأ صغيرة ثم تكبر، ولكن مصيبتي بأمي تنمو في نفسي كل يوم!
لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها، ويرغبني فيها؟ وماذا في الحياة؟ كل لذة فيها مغشاة بألم، فيها الربيع الجميل، ولكن فيه بذور الصيف المحرق، والشتاء القاسي. وفيها الحب، ولكن لذة الوصال مشوبة بمخافة الهجر. وفيها الصحة والشباب، ولكنهما يحملان الهرم والمرض. فيها الغنى، ولكني ما عرفته وما احسبني سأعرفه أبداً.
لقد كرهت الحياة، وزادها كراهة إلي هؤلاء الناس، فلم يفهمني أحد ولم افهم أحداً. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلاً بأحزاني قالوا، متكبر، وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا، شرس، وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا، فاسق، وإن قلت كلمة الدين قالوا، جامد، وإن نطقت بمنطق العقل قالوا، زنديق، فما العمل؟ إليك يا رب المشتكي فما لي في الدنيا بعد أمي صديق!
تلك هي التي كانت تقبلني على علاتي، والناس لا يقبلون إلا محاسني. تلك التي كانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيّ. تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون، تلك(282/29)
هي دنياي، فو أسفي، إن دنياي قد احتواها التراب!
لم يبق من آثار هذا العالم الحافل بالإخلاص والحب إلا قبر منعزل وساقية صغيرة، تميل عليها شجرة صفصاف، وهذا كل شيء. . .
إني لأقدس ذكرى هذه الشجرة، وأخشع لها. إن حركات غصونها لتحرك في نفسي عالماً كاملاً، ولكنها لا تبالي ذكرياتي ولا تحفلها. إنه قائمة تحنو على اللص الفاتك، كما تحنو على المحب الثاكل، وتؤوي المجرم الهارب، كما تؤوي الشاعر المتغزل، فما أضيع ذكريات المحبين عند الطبيعة، وما أضيعها عند الناس!
لقد انصرف عني السيد حيدر الجوادي، ونام عني أصحابي، وتركوني أتجرع غصص آلامي وحيداً، فمن هو الذي يعطف علي، ويشاركني حمل الآلام؟ لقد أيست من الطبيعة ومن الأصحاب، فهل تسعدني أنت يا أيها المحسن المجهول الذي لا أعرفه أبداً؟ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة الدحداح يزور حبيباً له طواه الرمس، هل تمن على غريب متألم فتحيى عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها، هي أعز عليه من الحياة، لأنها كانت جمال الحياة؟ هل تترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذه الرمال التي تطؤها أطلال قلب كان من قبل عامراً سليماً. . . ترفق فانك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه البقعة ما بين رمالها وترابها، بقايا قلب محطوم، بقايا دامية حزينة شاكية، ولسمعت نشيجها
ما تصدع هذا القلب من هجر الحبيب، ولا هدته أحداث الغرام، ولكن عصفت به عاصفة من موت الأم فهدت أركانه، فأسكب على بقاياه قطرة من الدمع تحيها بها ساعة، أو قل كلمة تسعد بها روحه الحزينة، ثم توجه إلى القبر المحبوب، إلى قبر أمي وأبي أيها الصديق المجهول، فاسأل الله لساكنيه الرحمة والغفران، فما بقي لي بعدهم أحباء، ولا بعده دنيا. . .
لقد تركت تحت أقدامك قلبي وحبي يا أيها المحسن المجهول، فارفق بهما. اسعد هذا اليتيم الضعيف، وإن كان الناس يدعونه شيخاً، وإن كان في الثلاثين من عمره!
رب، رحمة لهذا اليتيم الضعيف، ابن الثلاثين!
(رب أغفر لي ولوالدي؛ رب أرحمهما كما ربياني صغيرا)(282/30)
(بغداد - المدرسة الغربية)
علي الطنطاوي(282/31)
غريب اللغة في الميزان
للأستاذ عبد القادر المغربي
من مشاكل الحياة ما لا يمكن حله، أو لا يرضي الناس أن يتلقوا حلّه من شخص واحد مهما علت منزلته في العلم والفضل لما يصادم ذلك من التحزب للرأي، والمنافسات بين المتنازعين، حتى ينزلوا أخيراً على حكم الجماعات التي لا تجد النفوس (غالباً) حرجاً من التسليم لها والرضى بحكمها
ومن هذا القبيل مشكلة إيجاد كلمات جديدة نحتاج إليها في نهضتنا الحديثة، سواء أكانت تلك الكلمات أعجمية الأصل، أو عربية لكنها غير مأنوسة الاستعمال، فان ضجيج النزاع يشتد حول تلك الكلمات ويَرى كل من المتنازعين أن يُحَكّم ذوقه غالباً، وعلمه أحياناً، في قبول هذه الكلمة، وعدم قبول تلك. والتشاؤم بكلمات اللغة يرجع في الأعم الأغلب إلى أمور أربعة:
1 - كون الكلمة من أصل أعجمي أو عامي
2 - كون الكلمة غريبة غير مأنوسة الاستعمال
3 - كون الكلمة مأنوسة المعنى مكروهة اللفظ ككلمة (ضيزي)
4 - كون الكلمة على العكس مأنوسة اللفظ لكنها مكروهة المعنى كالكلمات الدالة على ما يستحي من ذكره
ويهمنا من هذه الأقسام القسم الثاني: وهو كون الكلمة غريبة لا يُعنى بها إلا المتخصصون في اللغة لكن استجدَّ في لغة حياتنا اليومية فراغ لا يسده إلا بعض تلك الكلمات الغريبة، فكيف نصنع؟ هل نستعملها غير مبالين أذواق القراء؟ أو نهجرها غير مبالين إهمال مصدر من مصادر تنمية اللغة، ولا تعطيل معدن تستخرج من شذراته مادة لتلك اللغة التي يخشى أن تقضي عليها الألفاظ الأعجمية
وعندي أن ليس كل غريب اللغة مما يحسن هجرانه وترك الانتفاع به، بل إن من كلماته ما استجمع شروط الفصاحة وإنما يعوزه الاستعمال فيُصقل ويصبح مأنوساً مألوفاً
ومرادي بالغريب هنا ما يجهله عامة متأدبي هذه الأيام. فهذا ما نريد أن نردد القول فيه، ونميز بين ما نحن في حاجة إليه وما نحن في غنية عنه(282/32)
هذه كلمة (سياسة) لا نستعمل معها مرادفها وهي كلمة (إيلة) فان إيالة الرعية وسياسة الرعية شيء واحد؛ بل ربما كانت (الإيلة) أشهر من (السياسة) في استعمال أهل اللسان الأولين: آل البلاد والرعية أولاً وإيالةً، وتأول البلاد (من التفعل)؛ ويقلبونها أحياناً فيقولون (تألَّي) ومنه قول الشنفري في بيتيه المشهورين (وأمّ عيالٍ قد شهدت تقوتهم الخ)
وقد عني بأم العيال رفيقه في اللصوصية (تأبط شرا) إلى أن قال (أيَّ أول تألت) أي أية سياسة مشؤومة ساستنا بها تلك الأم في توزيع الزاد علينا
وقد يقال أيضاً إن فعل آل إيالةً أعرق نسباً وأشد أصالة في المعنى المراد من فعل ساس سياسة
ذلك أن السياسة تستعمل حقيقة في سياسة الدواب، ومن سياسة الدواب نقلت إلى معنى سياسة الرعية، بينا كلمة (إيالة) خاصة بسياسة الرعية وإدارة مصالح البشر، ولكن هل يشفع كل هذا بها، فترزق الحظ وتحيا بالاستعمال، أو يتشاءمون بها ويهملونها إلى حين؟
(بِزِّيزَي) بكسر الباء وبزايين معجمتين أولاهما مشددة بينهما ياء ثم ألف مقصورة، تقول العرب: (رجعت الإمارة أو الرياسة بزيزي) أي ما عادت تؤخذ بالاستحقاق والكفاية بل بالقوة فمن عز وقوى عليها بزها وسلبها مستحقها. فكلمة (بزيزي) من فعل (بز) المأنوس والمشهور لاستعماله في المثل السائر (من عز بز) أي من قوي سلب. فما أحوجنا إلى أحياء هذه الكلمة ما أكثر المقامات التي تعرض للكاتب أو الصحفي ويتفقد كلمة (بزيزي) فلا تخطر له
ولا أرى كلمة (فوضى) تسد مسد (بزيزي) إذ أن بينهما فرقاً لا يخفى على البصير
فهل يرضى كتابنا عنها ويفسحون لها المجال على أسلات أقلامهم؟ أم يتأففون بها كما تأففوا بالإيالة:
وكلمة (أبهل) ما الرأي في إحيائها من رمسها؟ يقال: أبهل الوالي رعيته إذا تركهم يفعلون ما شاءوا. وكثيراً ما أصبح الأمر فوضى في أطراف المملكة أو في بعض بواديها بسبب عجز الحاكم أو بسبب سوء إيالته (أي إدارته) فهذه الحال هي الأبهال تبهل الحكومة بلداً وتعجز عن ضبطه فتعم الفوضى فيه، ففعل (أبهل) من أجدر كلمات اللغة بالحياة وأولدها بالاستعمال(282/33)
يقول قائل إننا نشعر بالاستغناء عن كلمة الأبهال وتصاريفها ما دام لدينا تعابير أو جمل مركبة نستعملها مكانها
نعم ولكن إذا تداولت واستعملت استجد في نفوسنا شعور وألفة لها: مثل كلمة (هيأة) في قولنا (هيأة المحكمة) و (هيأة كبار العلماء)، فان كلمة رجال القضاء والقانون كادت تجمع على أنه لا تقوم مقامها كلمة سواها مع أن الحاكم والحكام كانوا في غنية عنها أكثر من ألف ومائتي سنة. وهذا كالسيارات والتليفونات في بلاد كمصر مثلاً كانوا يعيشون من دونها، أما اليوم فلم تعد تستتب للناس حياة ولا يطيب لهم عيش إذا حصل إضراب وعطلت السيارات والتليفونات عن العمل
زارني بالأمس زائر كريم من كتاب الصحف وجرى بيننا ذكر الحاجة إلى أوضاع جديدة تقوم مقام تلك الأعجمية. فأجبته ما الفائدة من إجهاد أنفسنا في وضع كلمات عربية جديدة إذا كنتم تأنفون منها بسبب شيء من الغرابة أو الثقل تجدونه فيها فما أسهل إيجاد الأوضاع علينا. ولكن ما أصعب قبولها عليكم
قال: وما مثال ذلك؟ قلت: قد يكون للدولة جيش مختلط من وطنيين وغير وطنيين فهل تقبلون أن نطلق عليه اسماً كانت تعرفه العرب وهو (البريم)؟ وأصل معنى البريم خيط ثخين يفتل من عدة خيوط مختلفة اللون. فالعرب منذ القدم سموا الجيش المتعدد الأجناس (بريماً) تشبيهاً له بالبريم أعني الخيط المذكور.
فقال: ينبغي قبول كلمة البريم لخفتها وإحكام وضعها. أما (البزيزي) و (الأبهال) فلا. ثم اخذ يجادل ويحتج بنفسه بقول الأستاذ (أحمد أمين) وهو:
(إن علينا اليوم أن نختار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر)
قلت: وقال الأستاذ (عزام) ما ملخصه:
(إن علينا اليوم ألا نجعل الذوق حكماً في اللغة لأنه يقتصر على المألوف من الكلمات ويعد ما دعاه ثقيلاً نابياً. وعلى الكاتب ألا يجعل نفسه أسيراً تتصرف به الأذواق الخاصة، بل يستملي فطرته فتملي عليه من الكلمات ما يلائم الذوق العام. الألفاظ أجل من أن يتحكم فيها الذوق وحده. الحاجة الملحة خلاَّقة الألفاظ. وهذه الحاجة لا تبالي بالأذواق؛ فكم من كلمة أجنبية ثقيلة استعملها كتاب العرب وألفتها أذواقهم: كالبروبوغندا والأرستقراطية(282/34)
والميتافيزيقية الخ. وما دام هناك معان شديدة وجب أن يكون إزاءها ألفاظ شديدة، ولا مندوحة لنا عن استعمال تلك الألفاظ لمعانيها كما نستعمل الألفاظ اللينة لمعانيها أيضاً. ونكون في عملنا هذا أحراراً دون أن تأخذنا رحمة بالأذواق، وكما يعالج لين الحضارة بالرياضيات الخشنة القاسية ينبغي أن يعالج لين اللغات بالألفاظ الخشنة القاسية أحياناً. وإن حاجتنا اليوم إلى الإبداع تسوغ لنا أن نتخير من الألفاظ ما نشاء ثم نطبع ذوق الأمة على مشيئتنا هذه. وما أشد حاجتنا إلى كثير من الألفاظ الجديدة التي إذا استعملناها أعانتنا في الإفصاح والإبداع. نعم إذا كان للمعنى الواحد عدة ألفاظ حق للذوق أن يختار منها أحلاها، وأرشقها لا أن يعمد إلى أسمجها وأثقلها فيؤثره على المألوف إغراباً وتنطعاً) اهـ
وقول الأستاذ عزام هذه يشبه ما قلته مراراُ: من أن كلمات اللغة في المعاجم تحكي الأدوات المنزلية في المنازل: منها اللطيف المرهف الذي يًصفف في محاريب الدار (صالونها)، ومنها الضخم الجافي الذي يخبأ في أقبيتها وسراديبها، ولكل أداة وظيفة لا تستعمل فيها الأداة الأخرى؛ فللصديق الزائر متكأ الحرير ومروحة الريش وأكواب السكر؛ وللص الدار الهراوة ويد المهراس ومشحوذ الخنجر
وشتان بين خشونة هذه ونعومة تلك، كما أنه شتان بين كلمات (الجَعْظَرِيّ) و (الجَوْاظَ) اللذين استعملها النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله (أهل النار كل جَعْظَرِيّ جَوّاظ) وبين كلمات (كَيِّس فَطِن حّذِر) التي استعملها (صلى الله عليه وسلم) في حديث (المؤمن كيس فطن حذر)
وكلمة (ضوطار) من كلمات أو أدوات المعاجم القديمة، فهل نستثقلها ونهجرها لثقالتها؟ أم ندَّخرها كما تدَّخر الهراوة للصّ فنخبأ (الضوطار) للرجل الذي ينزل ميدان السياسة ولا سلاح له يضمن له الفوز إلا الجهل والمخرقة فنلقّبه بضوطار السياسة كما لقبه بذلك الشيخ جمال الدين أو الشيخ محمد عبده في جريدتهما (العروة الوثقى)
جاء في صحف الأخبار أن الطيار (فلان) حاول أن يبلغ بطيارته أعلى قمم جبل هملايا وهي قمة (أفرست) وبعد قيامه بما أخذه على نفسه ذكر أنه علا بطيارته في الهواء الملاقي والمحاذي لسفح الجبل عدة مئات من الأميال صعداً قبل أن يبلغ القمة المذكورة وقبل أن يبلغ الفضاء الذي فوقها. فالهواء المحاذي للجبل ماذا يسمى؟ يسمى (نفنفاً). فهذه الكلمة(282/35)
نحتاج إليها للتعبير عن الهواء الذي لا يكون مطلقاً فوق الجبال وإنما يكون محصوراً بينها ومحاذياً لسفوحها، فلا مندوحة للطيارين عن استعمال كلمة (النفنف) في لغة الطيران ومن استثقلها كان أثقل منها لعمري.
يقول الطيار: ثم جاوزت النفنف وأصبحت في الهواء الطلق فوق قمة (أفرست) فبماذا نسمي هذا الهواء أو هذا الفضاء الذي طرت فيه؟ نسميه (اللوح) ونقول له إن طيارتكم بلغت اللوح أو أخذت تسبح في اللوح. و (اللوح) بضم اللام الهواء بين السماء والأرض.
يقول المتشائم بغريب اللغة: إن اللوح فيها غرابة فهل من كلمة غيرها تؤدي معناها؟
نعم كلمة (سُمَّهى) بضم السين وتشديد الميم وألف مقصورة في الآخر.
فيقول: هذه أشد غرابة من تلك وفيها ثقل ليس مثله في كلمة (اللوح) فلنوطن أنفسنا إذن على قبول (اللوح) وصقلها بالاستعمال.
يقول الطيار إنه عاد فارتفع بطيارته إلى أقصى مناطق الهواء بحيث أصبح التنفس عسيراً عليه. فماذا نسمي الهواء ثمة؟
نسميه (الُسكاك) بضم أوله، وفسره علماء اللغة بالهواء الذي يلاقي عَنان السماء، وفسروا (العنان) بالذي يبدو لك من السماء إذا نظرتها، والذي نراه منها هو زرقتها، والزرقة أقصى طبقات الهواء أو مناطق الهواء، في بادئ النظر، فالسكاك إذن هو الذي يكون في أعلى أو أقصى طبقة في اللوح
فيحسن أن ندخل في لغة الطيران هذه الكلمات الثلاثة
(النفْنَف) هو ما بين الجبال
(الوح) هواء الفضاء بين السماء والأرض
(السكاك) هواء أعلى طبقات اللوح
ونكون أهملنا كلمة (السُمّهى) مستغنين عنها باللوح لثقالتها التي ينفر منها المتشائمون. ويطرب لها اللغويون المخصصون.
وحاصل القول أن كلمات المعاجم أدوات كأدوات المنازل:
منها الضخم الثقيل، ومنها المرهف الخفيف. فعلى الكاتب اللبق أن يستعمل كلاً في محله اللائق به. وسلام(282/36)
(دمشق - الشام)
المغربي(282/37)
بيت المغرب في مصر
للأستاذ سيد قطب
هيأ عقد المعاهدة بين مصر وإنجلترا الدولة المصرية الحديثة، أن تنتهج سياسة شرقية عربية كانت تطمح إليها من قبل، فيحول دون انتهابها أولاً مشاغل الوطنية باستكمال الاستقلال، وثانياً تيارات السياسة الاستعمارية المضادة للوحدة العربية الشرقية
وتطرق مظاهر هذه السياسة الجديدة في التفكير المصري الآن، وتتحقق بوسائل عملية لم تكن بارزة من قبل
فالأزهر اليوم يرحب بالبعثات الشرقية عامة، وهو وإن كان من قبل مثابة طلاب هذه البلاد، إلا أنه في هذه الأيام يشملهم برعاية خاصة، تتوجها رعاية الفاروق العظيم لهذه البعوث التي تفضل جلالته فجعل الأنفاق على الكثير منهما من جيبه الخاص
والجامعة تزخر بالكثيرين من أبناء البلاد الشقيقة، وتسهل لهم الطرق لاستكمال دراستهم بها
ودار العلوم تهم بإنشاء قسم داخلي للإخوان الشرقيين بها، مبالغة في توفير أسباب الراحة والدراسة المنظمة لهم
وفي الوقت ذاته تتجه مصر إلى جاراتها العربية للنظر في توحيد البرامج أو تقريبها على الأقل، ويعقد مؤتمر في تونس للثقافة العربية قوامه الأساتذة المصريون
وكلك تمد مصر يدها بخيرة أبنائها لهؤلاء الجيران الكرام، يحملون إليهم العلم والنور والخبرة في شتى الشئون
هذا كله في عالم الثقافة، فأما في عالم السياسة فأن قضية فلسطين كانت محكا لتوثق الروابط بين مصر والبلاد العربية كلها؛ وقد نالت هذه القضية عطف كل مصري واهتمامه، وآخر مظاهر الاهتمام كانت في المؤتمر البرلماني ومؤتمر الجامعة. كما أنني أعلم من مصادر وثيقة أن الحكومة المصرية قدمت لحكومة لندن مذكرة خاصة بهذا الموضوع، ضمنتها رأيها قوياً حازماً صريحاً، وإذا كانت لم تشأ نشر هذه المذكرة، فقد اختارت بهذا أن تتبع الطرق الدبلوماسية المناسبة للمعاهدة
في خلال هذه اليقظة التي تعمر الضمير المصري تجاه البلاد العربية، افتتح (بيت المغرب(282/38)
في مصر) فكان افتتاحه في هذا الأوان علامة من علامات التوفيق، ومظهراً من مظاهر الحيوية العربية الكامنة التي تنبثق في أفضل المناسبات
وهو دليل جديد على الثقة بمصر، والتوجه إليها من أطراف المشرق العربي والمغرب العربي، هذه الثقة التي يحق للمصريين أن يفخروا بها، وأن يعنوا باستدامة أسبابها، وتمكين روابطها
وقد أحسنت مصر استقبال (بيت المغرب) واشتركت الحكومة والشعب بالحفاوة به وبسكانه، لتفتح قلبها اليوم لمثل هذه الصلات، بعد ما خلصت من قيود الاستعمار
ولقد كان لي من قبل حظ معرفة الرجل الوطني العامل الذي يشرف اليوم على بيت المغرب بأقسامه الثلاثة (مقر البعثة، ومكتب التبادل الثقافي، ومعرض الفن المغربي) إذ كان يدرس بمصر عام 1929 وكانت وجهتنا إذ ذاك مع نخبة من أكرم الأخوان المصريين والشرقيين أن نؤلف جمعية للطلبة من هؤلاء وهؤلاء، تمكن من الروابط بين الجميع، وتعمل للمستقبل في توثيق العلاقات وتسهل للطلبة الشرقيين وسائل العلم والراحة في مصر
وكان الأستاذ المكي الناصري أشد المتحمسين للفكرة، وكنا نجتمع - غالباً - في داره بمصر للمباحثات في تحقيق هذا الأمل الكريم
فمن حسن الحظ أن يكون هذا الرجل هو الذي يتولى الآن تنفيذ فكرة (بيت المغرب) إذ هو أصلح رجل مغربي - فيما أعتقد - لتنفيذها، لسابق معرفته بالأوساط المصرية وسابق تفكيره في مثل هذه المشروعات
ورؤيتنا لبيت المغرب حقيقة ملموسة، تثير في نفوسنا التساؤل: متى يكون لكل أمة عربية بيت في مصر على مثال هذا البيت الوطيد؟
إن اليوم الذي تكون فيه لكل بلد شرقي بعثة دائمة في مصر على هذا المثال لهو اليوم الذي يتم فيه توحيد الثقافة والاتجاه بين هذه الأمم، فتتم لها العزة العربية التي تحلم بها في المستقبل القريب - إن شاء الله -
(حلوان)
سيد قطب(282/39)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 27 -
ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس طيلة حياته. وأي شيء أشد سوءاً من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى وبخاصة حين أحس الناس أن الحرب لابد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها. وهاهو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى مسمعيه. وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فان كثيراً من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم وتذمرهم ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية. . .
وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيراً من الناس كانوا يلومونه ويرجعون سبب الهزائم إليه؛ ويغفلون في ذلك عما كان يفعل قواده وعلى الأخص ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به إحدى خطايا الجماعات
ورجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة؛ ذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان لأعدائهم من الجاريات المواخر فيه؛ ولقد استطاع أحد القواد البحريين وهو فَرَّاجُت أن يسير في تلك السنة بسفنه إلى نيوأورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله أهل الجنوب على هذا النحو مما خفف على الشماليين بعض ما كانوا يلاقونه في البر من هوان وذلة. . . ولسوف تكون تلك القوة البحرية في النهاية عاملاً من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة. . .
وبينما كانت الحرب تتأجج نارها ويتفجر بركانها، وتتواثب في البر والبحر شياطينها، كان(282/41)
الرئيس يفكر في أمر هو أعظم ما فكر فيه من الأمر. . . ولقد كان من أجل مواهبه أنه كان يتبين الأمور على حقيقتها مهما التوت عليه سبلها واختلطت وشائجها، وهو في ذلك يلقي بنظره فيتبين حقيقة موقفه وموقف أعدائه ثم يسدد خطاه على هدى مما رأى دون أن تفوته صغيرة أو كبيرة مما تقع عليه عيناه. . .
وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قواه ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الأقدام بد؛ وليس لما عسى أن يلقي من المعارضة أي وزن عنده. . . ومتى عقد إبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو تهاون في العمل على إنفاذه. .؟
صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما انتظر أن تواتيه لها الفرصة. . . أجل، أراد الرئيس اليوم أن يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به ألا وهو تحرير العبيد! وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسمياً وفي مجال واسع ما سبقه إليه فريمونت وهنتر، ولن يتردد أن يأخذ بما رفض من قبل مهما يكن من الغرابة في موقفه، ولكن أية غرابة وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحملهم على قبول حجته؟
الحق أن الرئيس لم يغفل يوماً عن مسألة العبيد، ولم ينس ذلك النظام المنكر البغيض الذي نشأ على مقته وازدرائه والذي طالما تمنى أن تنجو البلاد من آثامه. . . ولكنه كان يحرص ألا تفسد مسألة العبيد عليه قضية الحرب، ولقد كان محور تلك القضية كما مر بنا المحافظة على الوحدة؛ فلما رأى تحرير العبيد قد أصبح عاملاً من عوامل نصرة تلك القضية وعنصراً من عناصر نجاحها، لم يتردد ولم يخف ومضى قدماً إلى غايته. . .
وكان الرئيس قد خطا خطوة في هذه المسألة في أوائل السنة الثانية من سني رياسته (6 مارس سنة 1862) وذلك أنه أرسل إلى المجلس التشريعي مقترحاً أن يصدر المجلس قراراً به تعوض الولايات التي تقضي على نظام العبيد فيها تدريجياً تعويضاً مادياً عادلاً، وأصدر المجلس ذلك القرار ولكن الولايات المحايدة عارضته ورفضته وهي المقصودة قبل غيرها به. . . ودعا الرئيس ممثليها وحاول إقناعهم ولكنهم لم يقتنعوا فمنيت الفكرة بالفشل ولم يفد الرئيس منها إلا أنه تعرض لنقد هذه الولايات ولومها ثم للوم دعاة التحرير من جهة أخرى لأنهم رأوا في الفكرة تردداً وتقاعداً وهم يريدون التحرير العاجل في غير تحفظ أو تراجع(282/42)
وكان الرئيس لا يزال يقلب الأمر على وجوهه، فهو يخشى من التحرير العاجل الشامل أن يغضب الولايات المحايدة فتنضم إلى الاتحاد الجنوبي، وكان يعد ذلك، والحرب قائمة، كارثة؛ ثم هو يخاف أن يتهم أنه ما أثار هذه الحرب الضروس إلا من أجل نظام العبيد مع أن الدستور يقر ذلك النظام.
وهو في الوقت نفسه يرى أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على ساداتهم في الجنوب فتضعف شوكتهم، هذا إلى رفضهم العمل في فلاحة الأرض بعد ذلك فيضطر البيض إلى العمل مكانهم فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلاً عن أن التحرير من شانه أن يكسب الرئيس وحكومته عطف الدول المتمدنة في أوروبا فلا تناوئه وهو فوق ذلك جميعاً يقضي على ذلك النظام البغيض الذي تنفر منه الإنسانية وتستخذي له، والذي ما فتئ الرئيس ينتظر يوم الخلاص منه. . .
ولكن يبقى بعد ذلك حكم الدستور في الأمر، فالدستور يقر امتلاك العبيد، وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه العامل منذ اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقدسيه. . . على أنه يجد مخرجاً من ذلك فالمسألة تدعو إليها ضرورة حربية وهو مستطيع أن يحمل الممثلين بسهولة على تعديل الدستور في هذه النقطة. . .
بذلك لا يعوز الرئيس إلا الفرصة المناسبة وقد لبث يترقبها. . ولهذا كان يرفض أن يشايع دعاة التحرير قبل أن تحين الساعة فلا عجب أن يرفض في مايو من تلك السنة ما فعله القائد هنتر ولكن ليفعله هو بعد حين. . .
لبث الرئيس يترقب الفرصة، وكانت البلاد يتزايد فيها الشعور بضرورة القضاء على العبودية، ويتجلى ذلك الشعور في تلك العبارة التي كتبها قبل ذلك بنحو ثمانية شهور أحد الكتاب المؤرخين والتي جاء فيها (إن هذه الحرب الأهلية هي الأداة التي سخرها الله لاقتلاع جذور العبودية، وإن أعقابنا سوف لا يرضون بنتيجتها إلا إذا كان مما تحدثه الحرب ازدياد عدد الولايات الحرة هذا هو ما يتوقعه الجميع وهذا هو الأمل الذي ينشده جميع الأحزاب)
وكانت أولى الخطوات العملية التي جاءت مظهراً لهذا الشعور أن أصدر المجلس في أبريل(282/43)
قراراً بالتحرير العاجل في العاصمة وما حولها؛ ولما وقع لنكولن على هذا القرار قال: (عندما تقدمت باقتراح إلى المجلس عام 1849 للقضاء على العبودية في هذه العاصمة ولم أكد أجد من يستمع إلى ذلك الاقتراح، لم أكن أحلم أنه سوف يتحقق بمثل هذه السرعة)
ولقد كان هذا القرار بمثابة مقدمة لما سيتلوه في القريب من تحرير شامل عاجل للعبيد في الولايات جميعاً، ذلك العمل الذي سوف يضاف إلى تراث الإنسانية ويعد من مآثر البشرية في هذا الوجود
وكان على ممثلي الولايات المحايدة، تلك الولايات الوسطى أن تعتبر بما جاء في هذا القرار، لكنهم ظلوا على عنادهم على الرغم من أن الرئيس قد دعاهم إلى مؤتمر آخر في يوليو سرد لهم فيه وجهة نظره وأطلعهم على حججه
أخذ الرئيس يتحين الفرصة ولكن الموقف الحربي في صيف ذلك العام كان على ما بينا من حرج وشدة، فالقائد ماكليلان في زحفه على رتشموند متلكئ متردد، ولقد تراجع في يوليو تراجعاً مهيناً مخجلاً وإنه ليرفع عقيرته بالسخط على رجال الحكومة في العاصمة كما أسلفنا، الأمر الذي تألم له الرئيس أشد الألم ووقع منه في غمة شديدة وحيرة
وأراد الرئيس أن يفرج عن نفسه فيعلن التحرير في تلك الآونة، ولكن سيوارد أشار عليه أن يتريث ويرجئ المسألة إلى حين، فانه إن فعل اليوم وأعلن التحرير عد ذلك منه ضرباً من اليأس وهو مهزوم مستضعف. . . ورأى الرئيس وجاهة رأي صاحبه فآثر التريث والصبر قائلاً: إن التحرير معناه يومئذ (آخر صرخة في الهروب)
وأخذت الأصوات ترتفع من كل جانب بمطالبة الرئيس بإعلان قرار التحرير، ومن ذلك ما جاء في جريدة نيويورك تربيون على لسان محررها جربلي وهو ذلك الصحافي العظيم الذي كانت تربطه بالرئيس صلة منذ بدأ يعظم شأنه في الحزب الجمهوري.
كتب جربلي في عبارة صارمة يأخذ على الرئيس تردده ويطلب إليه في لهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الرجاء أن يعلن تحرير العبيد. ولقد عجب الناس حين رأوا الرئيس يرد بنفسه في الصحيفة على محررها ومما جاء في رده قوله (أذا كان هناك من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يحافظوا على نظام العبيد فإني لست معهم، وإذا كان هناك من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يقضوا على نظام العبيد فأني لست معهم! إن غرضي الأسمى(282/44)
هو أن احفظ الاتحاد وليس هو أن أحفظ أو أقضي على العبودية. فإذا تسنى لي أن أنقذ الاتحاد دون أن أحرر عبداً واحداً فعلت ذلك، وإذا كان في وسعي أن أنقذه بتحرير جميع العبيد فعلت ذلك. . . وإذا استطعت أن أحافظ عليه بتحرير بعض العبيد وترك البعض فعلت ذلك أيضاً. . .)
وكان جيش الجنوبيين يزحف على وشنجطون بقيادة لي وقد عبر نهر بوتوماك ونزل في ولاية ماري لند، وأسقط في يد الشماليين وباتت عاصمتهم في ذعر وهلع. . . وحزن الرئيس وضاق صدره بماكليلان وأقسم لئن ارتد العدو ولحقت به الهزيمة ليعلنن قرار التحرير إثر ذلك
وأخيراً التحم الجيشان في سبتمبر: جيش لي وجيش ماكليلان وارتد الجنوبيون عقب معركة أنتيتام التي أشرنا إليها وكان تراجعهم في اليوم السابع عشر من الشهر
وفي اليوم الثاني والعشرين من هذا الشهر دعا الرئيس مجلس الوزراء إلى الاجتماع عنده، ولم يكن أحد من الوزراء يعلم الغرض من هذا الاجتماع، ولما أكتمل جمعهم فتح الرئيس كتاباً كان يقرأ فيه، وأخذ يقرأ في صوت جهوري قصة فيه أعجبته وهو يضحك والوزراء يضحكون ويعجبون إلا أحدهم وهو ستانتون فكان يضيق بكثير مما يفعل الرئيس وبما يأتيه من ضروب المزاح، وهو لا يدري أن مثل هذا الرجل في تلك الشدائد أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويخفف عنها بعض ما بها. . . وإلا فكيف يستطيع أن ينهض بذلك الحمل الذي تنوء به الجبال؟ وكثيراً ما يكون ضحك بني الإنسان مغالبة منهم لما يجيش في نفوسهم مما يصبه الدهر عليهم من آلام وخداعاً منهم لأنفسهم عما بها ولو ساعة أو بعض ساعة
ولما فرغ الرئيس من تلاوة القصة غامت أسارير وجهه وبدت عليه إمارات الجد ودلائل الاهتمام والحزم، فأخرج من جيبه ورقاً طويلاً كتبه بخط يده وتلاه على الأعضاء فإذا هو قرار التحرير
أعلن الرئيس أن العبيد في جميع الولايات بعد اليوم الأول من السنة الجديدة أحرار وأن الحكومة ستعترف بحريتهم وتساعدهم على بلوغها وأنها ستقوم بتعويض الولايات الموالية عما تطلقهم من العبيد. . . وبهذا الإعلان ضرب نظام العبودية ضربة سوف تكون القاضية(282/45)
عليه، وبه تحقق حلم طالما منى الرئيس به نفسه، ورأى ذلك النجار - الذي وقف في صدر شبابه مرة في مدينة أورليانز يشهد سوق العبيد - نفسه يقضي على ذلك النظام فيعلن باسم حكومة هو رئيسها أن عبودية بعد اليوم المحدد وأن الشعب الأمريكي جميعه شعب حر، وأن أمريكا دولة حرة وأمة حرة
أعلن الرئيس كلمته وأدى رسالته، وشهد ابن الغابة اليوم الذي يقف فيه موقف الآمر الذي ينطق باسم شعب في أمر طالما شغل باله وبال الأحرار في ذلك الشعب، ورأى العالم نوعاً جديداً من الحركات الكبرى تؤثر في تاريخه وتضاف إلى سجله، حركة من تلك الحركات التي تنقل تاريخ الشعوب من فصل إلى فصل
وهزت البلاد من أعماقها فرحة عظيمة، وراح الناس يعلنون عن ابتهاجهم بالزينات ينصبونها والليالي يقيمونها ويملئونها بأفراحهم واحتفالاتهم ومظاهر حبورهم
وانهالت على الرئيس رسائل التهنئة والإعجاب يحملها البرق والبريد من أمريكا ومن خارج أمريكا. . . فلقد تلفتت أوربا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن وتضع أسم رجلها وهدية إحراجها لنكولن إلى جانب أسم بطلها ومحررها وشنجطون الذي انتزع لها استقلالها بحد السيف من الغاصبين من أعدائها
والرئيس صامت لا يعرف البطر كما لا يعرف الخور؛ يتلقى تهاني المهنئين وكلمات المعجبين بحزمه في سكون وتواضع، وإنه ليحس ألا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد يرى مظهرهما تلك الحرب التي ما فتئ يتزايد سعيرها. . .
يتبع
الخفيف(282/46)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 43 -
من شئونه الاجتماعية
لم يكن الرافعي عضواً في جماعة من الجماعات، ولا منتسباً إلى حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف؛ إذ كان يؤثر الوحدة والاستقلال في الرأي. وكان من التعصب لرأيه والاعتداد بنفسه بحيث يأبى أن ينزل عن رأي يراه مجاملة لصديق أو خضوعاً لرأي جماعة ينتسب إليها؛ وكان له من علته سبب آخر نّبهتُ إليه عند الحديث عن نشأته. ثم إن الرافعي لم يكن رجلاً اجتماعياً يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوبَ الناس فيما يليق وما لا يليق؛ فهو لا يعتبر إلا رأيَه أو حاجتَه أو مصلحتَه فيما يكون بينه وبين الناس من صِلات، ولم يكن يعرف هذا (النفاق الاجتماعي) الذي يسميه الناس: التقاليدَ، أو الأدب اللائق!. . . فهو بذلك كان عالماً منفرداً يسير في نهجه إلى الهدف المؤمَّل على وحي الفطرة أو هَدْى الإيمان. سمَّ هذا شذوذاً في الخُلق، أو سمَّه استقلالاً في الرأي وأسلوباً من التعبير عن الشخصية المتميزة بخصائصها؛ فما يعنيني هنا إلا إثبات هذه الحقيقة في التاريخ كما شهدتها في معاملاته وفي صِلاته بالناس، وكما لمحتها في جملة من أحاديثه. . .
. . . هذه الأسباب هي أهمّ ما كان يباعد بين الرافعي والاشتراك في الجماعات، أو يباعد بينها وبينه!
على أن ذلك لم يكن يمنعه أن يكون هواه مع جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب في وقت ما لسبب ما، ولم يمنعه ذلك أن يكون عضواً في بعض الجماعات
وأول أمره في ذلك - على ما أعرف - أنه شرع وهو شاب لم يجاوز العشرين في تأليف جماعة من الشباب تدعو إلى نوع من الإصلاح الديني؛ وكان معه على هذا الرأي صديقان(282/47)
من أترابه، أذكر منهما الأستاذ عبد الفتاح المرقي المحامي؛ وقد اتخذوا (مسجد البهي) في طنطا مكاناً لاجتماعهم وتبليغ دعوتهم، وطنطا، كما قد يعرف كثير من القراء، مركز هام من مراكز الثقافة في مصر، وفي أهلها حفاظ وتحرج، ولها صبغة دينية نشأت من أن فيها معهداً دينياً كبيراً في (الجامع الأحمدي) كان في وقت ما يشتد عدْواً في مسابقة الجامع الأزهر بالقاهرة. والأزهريون في طنطا، كالأزهريين في القاهرة إلى عهد قريب: أكثر أهل العلم في مصر حفاظاً على القديم، وأسرعهم إلى سوء الظن بكل إصلاح جديد، من ذلك لقي الرافعي وصاحباه في دعوتهم ما لقوا من عِداء طلبة الجامع الأحمدي وعلمائه، حتى هم الطلبة مرة أن ينالوهم بالأذى في أبدانهم. . . فلم يجد الرافعي وصاحباه في النهاية بداً من التسليم، وانحلت الجمعية الرافعية الصغيرة. . .
حدثني الرافعي حديث هذه الجمعية في خريف سنة 1932 بعد ثلث قرن مما كان؛ وكنت ذهبت إليه يومئذ في وفدٍ ثلاثة ندعوه إلى الاشتراك معنا في جماعة أنشأناها بطنطا في ذلك الوقت باسم (جماعة الثقافة الإسلامية) تدعو فيما تدعو إلى العمل على إحياء الشعور بمعنى القومية الإسلامية العربية، واتخذت لذلك وسائل وشرعت نهجاً؛ وكانت تضم فيمن تضم طائفة ممتازة من أهل الرأي والعلم والأدب، لكل منهم صوت ورأي وجاه في قومه. . .
ولبى الرافعي دعوتنا بعد تمنع، وانتظمت الجماعة على رأي واحد إلى هدف واحد، فلما استكملنا الأهبة، دعونا الشباب المثقفين في طنطا إلى اجتماع عام في ناد كبير، وكان الرافعي من خطباء الاجتماع. . .
صعد الرافعي إلى المنصة، فوقف برهة يجيل نظره في ذلك الجمع الحاشد، ثم انطلق في خطبته. . .
وعلى أن الدعوة إلى الاجتماع كانت عامة، وكان موضوعه هو الثقافة الإسلامية؛ فإنه لم يشهد هذا الاجتماع من شيوخ (الجامع الأحمدي) ومدرسيه غير ثلاثة من الشيوخ، وطائفة غير قليلة من المدرسين غير الشيوخ؛ ولم يفت الرافعي أن يلاحظ ذلك؛ فمال في خطبته إلى هذه الناحية، ينعى على شيوخ الأزهر أن يتجاهلوا واجبهم في مثل هذه الدعوة، وأن يؤثروا القعود على الجهاد لله! وكان فيما قاله: (. . . إن أدبياً كبيراً من وزراء الدولة قد قالها مرة منذ ثلاثين سنة: لو قعد حماري في الأزهر خمس عشرة سنة لخرج عالماً. وما(282/48)
نحب أن يقولها اليوم أحد ليلحد في كفاية طائفة من أهل العلم والدين هم أكرم علينا. . .!)
قالها الرافعي في حماسة وانفعال وفي لهجة خطابية صارمة، فسمع المجتمعون همهمة عن يمينه وشماله، أما عن يمينه فكان للشيوخ الثلاثة قد آذاهم ما قال الرافعي، وأما عن الشمال فكان طائفة من المدرسين غير الشيوخ في الأزهر قد خافوا أن تؤول كلمة الرافعي تأويلاً ينالهم بالشر من إخوانهم الأزهريين. . .
وعلى أن الرافعي كان بريء الصدر فيما قال، ويعلم الأزهريون قبل غيرهم أن هواه معهم، وعلى أن صدر كلامه وخاتمته لم يكن فيه ما ينبئ عن قصد الإساءة، فان هذه الكلمة التي قالها قد أحدثت دوياً بين الأزهريين تهدد الجماعة في نشأتها
وسعى ساع إلى شيخ الجامع الأحمدي (المرحوم الأستاذ محمود الديناري) فأنباه أن الرافعي قد قال في خطبته: (لو قعد حماري في الأزهر بضع سنين لخرج أعلم من شيخ الأزهر. .!)
وكتبها كاتب في رسالة خاصة إلى الأستاذ الجليل الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر. . .!)
وتسامع بها الشيوخ على ما حكاها الراوي فراحوا يتناولون الرافعي وجماعته بما وسعهم من التجريح في أعراضهم ودينهم ومقاصدهم، وقال قائل منهم: (وما حاجتنا إلى هذه الجماعة فيما تدعو إليه؟ لقد انتشر الإسلام ومد ظلاله في العالم على حد السيف فما يغنى غناءه في هذه الدعوة كاتب يكتب أو خطيب يخطب!) وامتدت هذه المقالة الطائشة على لسان طائفة. . .
وعرف الطلاب من الأمر ما عرفوا فأعلنت طائفة منهم الحرب، وسعتْ طائفة في وفد إلى مدير المديرية تطلب إليه أن يقمع هذه الفتنة بسلطانه، واصطبغت المشكلة صبغة سياسية
كان للأزهريين يومئذ في السياسة دولة وسلطان. . .
وإذا اتصل الأمر بالسياسة فقد فزع طائفة من الموظفين المنتسبين إلى الجماعة فآثروا البراءة منها على الدفاع عنها، وأشفقت طائفة على مصير الجماعة فأوفدت وفداً إلى الأستاذ الديناري شيخ الجامع يحقق له الرواية ويبدد سوء الظن ويعتذر. . . ولكن شيخ الجامع رد الوفد رداًّ غير جميل وقال عن الرافعي ما قال. . .(282/49)
وجاء الخبر إلى الرافعي بما أحدثت كلمته، فما أفزعه من ذلك إلا أن يصدق شيخ الأزهر ما نقل إليه منسوباً إلى الرافعي وإنهما لصديقان من زمان. . . فكتب إليه:
(. . . وإن شيخاً من علماء الجامع الأحمدي يزعم أن الإسلام قد انتشر على حد السيف، وهذا كلام، وسيبقى كلاماً ما دمت ساكتاً عنه، فإذا عرضتُ له بالمناقشة فقد تغير وجهه، لو كان وجه النهار لأسودّ!)
وعلم شيخ الأزهر حقيقة الدعوى التي ادعاها خصوم الرافعي عليه وما زادوا فيها ونقصوا، فكتب يعتذر إليه، وكتب إلى شيخ الجامع الأحمدي. . .
وكان الرافعي جالساً إلى مكتبه في المحكمة حين جاءه الرسول يدعوه إلى مقابلة شيخ الجامع الأحمدي فرده، وعاد يدعوه ثانية ويلح في الرجاء فحدد الرافعي موعداً. . .
وذهب إلى لقاء الشيخ فاستقبله العلماء بالباب في حفاوة بليغة، وسعوا بين يديه مهرولين إلى مكتب الشيخ؛ قال الرافعي: (ووجدت الشيخ في انتظاري وبين يديه (إعجاز القرآن)؛ فما لقيني حتى قال: (أتعرف يا سيدي أنني مدين لك؟ هذا كتابك لا أجد لي رفيقاً خيراً منه؛ إنه زادي وعمادي. ثم عبث في درج مكتبه قليلا فأخرج ورقة فيها شعر مكتوب، فدفعها إليّ وهو يقول: وهذه قصيدة أعددتها لأنشدها بين يدي المليك في طريق عودته إلى القاهرة من مصيفه؛ لا أجد من يصلحها خيراً منك، فأنت أنت للشعر وللبيان!)
قال الرافعي: (وبدون هذا كانت تقنع نفسي وترضى، ولكنها كانت وسيلة الشيخ إلى استرضائي بعد الذي قال عني منذ أيام؛ طاعة لأمر شيخ الأزهر. . . . . .!)
تم الصلح بين الرافعي والأزهر، ولكن الأزمة التي كانت، لم تبق على الجماعة فانحلت بعد ما طار منها أكثر أعضائها من الموظفين خشية التهمة بالسياسة، وكان للسياسية يومئذ حديث طويل. . .
ولم يشترك الرافعي على ما أعلم في غير هاتين الجماعتين
ولم تتهيأ للرافعي رحلة من الرحلات يفيد منها علماً أو تجربة طول حياته، غير رحلة أو رحلتين - لا أذكر - إلى الشام، لم يفارق مصر إلى غير الشام من بلاد الله؛ فزار طرابلس حيث ما تزال أسرة الرافعي لها ذكر وجاه، وزار لبنان حيث عرف صاحبة حديث القمر في سنة 1912(282/50)
على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به؛ ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية؛ فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفراً بأمنية عزيزة، لأنه أتاح له أن ينتقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، فلا يكاد يستقر في بلد، فيوماً في القاهرة، ويوماً في الإسكندرية، ويوماً في بور سعيد؛ يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه. حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية فأحس شيئاً من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بور سعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد. .
وقد كان هذا الجواز هو سبب ما بينه وبين الأبراشي باشا مما فصلت مجمله في فصل سابق، حين امتنع الابراشي باشا مد أجل هذا الجواز بعد انتهائه!
وكان يغبط الذين يجدون في طاقتهم أن يقضوا الصيف من كل عام في أوربا ويتمنى لو أتيح له، ليفيد من ذلك شيئاً يجدي على أدبه. على أنه مع ذلك كان يرحل إلى أوربا أيان يريد، ولكن في السيما. . .
كان يسمى السيما: خارج القطر! ويزعم أن في ذهابه لمشاهدتها كلما سنحت له الفرصة غناء عن السفر، فسواء عنده أن يرحل إلى أوربا في قطار أو باخرة، وأن ترحل إليه أوربا بحالها في رواية يشاهدها على ستار السيما؛ فلكيهما أثر متشابه في نفسه؛ وذلك بعض مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة!
وكم كان ظريفاً أن تسمعه يتحدث إلى صديق من أصدقائه قائلاً: (هل لك أن تصحبني الليلة إلى خارج القطر؟) يلقي هذا السؤال بلا تكلف ولا قصد إلى الفكاهة، لأن كلمة (خارج القطر) كانت عنده علماً عرفياً على السيما لا يحتاج إلى تعليق!
وكان عجيبا في إيمانه بالغيب، وتناجي الأرواح، وتنادي الموتى والأحياء؛ وكان يؤمن بالسحر والعرافة؛ وكثيراً ما كنت تسمع منه: (حدثتني نفسي. . . أُلْقِي إلي. . . هتف بي هاتف) وكان يعني ما يقول على حقيقته. جلست إليه مرة في منزله، فأخذنا في حديث طويل. . . وعلى حين غفلة سكت، ثم قال: (وكيف صديقنا مخلوف؟) قلت: (لم أره من زمان!) قال: (إنه قادم الساعة. . لقد أُلْقِي إلي. . . أحسبه الآن يصعد في السلم. . .!) فما(282/51)
كاد يتم حتى دق الجرس. وكان الأستاذ حسنين مخلوف هو القادم، وسألت الأستاذ مخلوفا: أكان على موعد مع الرافعي؟ فنفى لي كل ظنة!
وسألني مرة أخرى: (ماذا تعرف عن صديقنا م؟) قلت: (لا جديد من أخباره!) قال: يهتف بي الساعة هاتف أنه في شر!) وفي صباح اليوم التالي كان نبأ شروعه في الانتحار منشوراً في الصحف!. . . وفي الرسائل التي تبادلاها بعد هذه الحادثة ما يبعد الظن بأن الرافعي كان يعلم شيئاً!
وكان بينه وبين رجل قضية، فغاظه، وجاءني الرافعي يوماً محنقاً وهو يقول: (سينتقم الله منه! سينتقم الله منه! قلبي يحدثني بأن القصاص قريب!) وفي الغد جاءنا نعى الرجل، وكنت مع الرافعي وقتئذ، فتندت عيناه بالدمع، وتناول سبحته وأخذ يتمتم في صوت خافت وشفته تختلج من شدة الانفعال!
هذه حوادث ثلاث رايتها بعيني، ولعلها من عجائب الأخبار عند بعض القراء، واحسبني قد رأيت له غير ذلك، ولكني لا أتذكره الآن. . .
وحدثني أن أباه كان مسافراً مرة إلى بلد ما، وكان عليه صلاة، فافترش مصلى وأخذ يصلي على رصيف المحطة، وإنه لكذلك إذ جاء القطار، قال: وكان أبي حريصاً على ميعاد هذه السفرة، يخشى شيئاً لو تأخر عن موعدها، وما كان بين موعد قدوم القطار وسفره ما يتسع لصلاة الشيخ؛ ولكن الشيخ استمر في صلاته على وّنَى واطمئنان؛ وما تحرك القطار إلا بعد أن فرغ الشيخ من صلاته، واطمأن في كرسيه، وحيَّا مودِّعيه ووصّي؛ وكان سبب تأخير القطار شيئاً غير مألوف يتصل بشأن من شئون المحطة!
وأحسبه ذكر مرة في بعض ما كتب كيف ثقل نعش أمه على كتفه ثم خف!
واخبرني أنه لما مات أخوه المرحوم محمد كامل الرافعي استحضر روحه فلبت نداءه، وكان بينهما حديث لا أذكره؛ وحاول مرة أن يعلمني وسيلة لتحضير الأرواح ولكني لم أتعلم!
وكان يحفظ كثيراً من الأدعية والدعوات لأسبابها!
ولما وقع في حب (فلانة) ونال منه الوجد بها، لجأ إلى العرافين في أمل يأمله، فكتب تميمة فعلقها في خيط فربطها في سارية بأعلى الدار تتلاعب بها الريح. . . قال: ولكن أمورا(282/52)
عجيبة مفزعة وقعت لي ولأهلي ولسكان الدار جميعاً في خلال اليومين اللذين كانت التميمة معلقة فيهما؛ فأيقنت أن ذلك من ذلك؛ فان لكل تميمة غايتين: أحدهما ما تأمل وثانيتهما مما تخاف، وكان ما وقع لي وما يتهددني من شر أكبر عندي من الأمل الذي أرجو؛ فندمت على ما كان، وتسللت إلى السطح فحللت رباط التميمة وفضضت خاتمها. . قال: فما فعلت ذلك عادت الأمور تسير على عادتها في رفق وأناة، وزال ما كنت أحذر وهدأتْ نفسي من ناحيته؛ فما كان شأني في الحالتين إلا كراكب سفينة هبتْ عليها عاصفة ثم قرت!. . . قال: وما كان الذي وقع لي في هذين اليومين مما يقع في العادة، ولا كانت نهايته، وقد فضضت خاتم التميمة، بالنهاية التي تنتظر. . .!
وكان يؤمن إيماناً لا شك فيه بأن يوماً ما سيأتي فيرتد إليه سمعه بلا علاج ولا معاناة، لأن بشيراً من الغيب هتف بهذه البشرى في نفسه وهي لابد واقعة! وقد مات وعلى مكتبه رسالة من صديقه الأستاذ فليكس فارس يشير عليه بتجربة لترد عليه سمعه الذي فقده منذ ثلاثين سنة أو يزيد، ورسالة أخرى من صديقه الأستاذ حافظ عامر فيها شيء يشبه ذلك!
وأحسبه قال لي مرة أو مرات وكنت جالساً أتحدث إليه: (ارفع صوتك بالحديث لعل الساعة الموعودة قد حانت فأسمع ما تقول!)
ولو أنني ذهبت أستقصي ما أعرف من مثل هذه الأخبار ما وسعني الوقت، وفي بعض ما قدمت الكفاية لمن يلتمس أسباب العلم
وكان الرافعي ولوعاً بالرياضة البدنية من لدن نشأته، يعالج أسبابها في أوقاتٍ رتيبة، وكان المشي الطويل أحبًّ رياضة إليه
خرجت مرة في جماعة من صحبي يوم شم النسيم للرياضة بُعيد الفجر، وكان معنا ماؤنا وطعامنا وقد عزمنا أن نقضي اليوم كله في الخلاء، فلما صرنا على بعد ميل من المدينة والشمس لم تشرق، لمحت الرافعي على بعد يخب في مشيته على حافة قناة بين زرعين؛ فلما دنوت منه رأيته يميل فيبلّل كفيه بأنداء الفجر على أوراق البرسيم فيمسح بها وجهه وهو مغتبط مبسوط؛ وأقبلت عليه أسأله، قال: هذه رياضة تحلو لي كثيراً، فما أتركها إلا لعارض، بل إني ليطيب لي أحياناً أن أخرج من البيت قبل الفطور لأجول هذه الجولة، ثم أعود لأفطر وأخرج إلى الديوان. . قلت: وهذا الندى الذي تغسل به وجهك؟ قال: إنه(282/53)
ينِّضر الوجه ويردَ الشباب! ثم سأل: وأنتم أين تقصدون؟ قلت: هذه رياضة لا نقوم بها في العام إلا مرة، وأن معنا لطعاماً وماءً وحلوى؛ فهل تصحبنا؟
قال: وددت ولكن في غير هذا اليوم. . . أسأل الله لكم العافية! ونالنا في هذا اليوم شر لم نتوقعه، فعدنا قبل أن ينتصف النهار محزونين!. . .
وسمع الرافعي بما نالنا فقال: (هو ذلك! إن الشر ليتربص بالمسلم الذي يحتفل لهذا اليوم أكثر مما يحتفل لمطلع المحرم! هذه وصية أب!)
. . . وكان يعالج كثيراً من وسائل الرياضة غير المشي، وقد أتقن أكثر تمرينات (صاندو) الرياضي الفرنسي المشهور. وقد اجتمعت على مكتبه مرة صورتا الشيخ محمد عبده وصاندو؛ فاسترعى اجتماعهما ملاحظتي، فقال: (هذان قوتان تعمل في نفسي: قوة في روحي وقوة في جسدي!)
وكان سباحاً ماهراً، وكانت له جولات في السباحة يشهدها شاطئ سيدي بشر في الصيف، وكان يقصد هو وأسرته للاستحمام هناك جانباً من الشاطئ غير مطروق لعنفوانه وشدة موجه وكان يمزح ويسميه (بلاج الرافعي) إذ قل أن يقصد إليه للاستحمام أحد من المصطافين في سيدي بشر غير الرافعي وأسرته
ولا يطعن في قدرة الرافعي على السباحة أنه أوشك أن يغرق مرة؛ كان ذلك قبل منعاه بأشهر، وكاد يغرق معه طائفة من أولاده، لولا أن أسرع حارس الشط لنجدتهم
وللرافعي صورة طريفة تصورها منذ بضع عشرة سنة، وتمثله في زي أبطال الرياضة المشهورين: عاري الجسد بارز العضلات؛ وددت لو حصلت على هذه الصورة!
وله مقالات مشهورة عن الرياضة البدنية، نشرها مسلسلة في مجلة (المضمار) الرياضية التي كانت تصدر في القاهرة منذ بضع عشرة سنة
وكانت عنايته بالرياضة من أسباب قوته البدنية، ومن أسباب قوته العصبية أيضاً، ومن هاتين كان اصطبار الرافعي على العمل الشاق فيما يعالج من شئون الأدب
ولكنه وا أسفا. . . قد مات بغير علة، لأن القدر أقوى من احتيال البشر!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(282/54)
من رحلة الشتاء
في مضارب عجيل الياور
شيخ مشايخ شمر
للآنسة زينب الحكيم
تركت بغداد في مساء الاثنين 14 من مارس سنة 1938 مستقلة القطار إلى كركوك والساعة التاسعة مساء، فوصلتها في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي، ذلك لأن المسافة من بغداد إلى كركوك زهاء 326 كيلو متراً، وخط سكة الحديد هذه يمتد على ضفة نهر ديالة اليمنى ثم اليسرى، وعرضه متر واحد، ولا تتجاوز سرعة القطار عليه 25 كيلو متراً في الساعة. لأنه بنى على أسس واهية، كالجسور الخشبية والقواعد الترابية. ولأن الأدوات التي استعملت في إنشاء السكك الحديدية هناك لم تغير منذ ذلك الوقت، فقد بليت.
وإدارة سكة الحديد هي التي تقوم برعاية هذه السكك في العراق، ولولا العناية التي تبذلها لكان سير القطر من أخطر الأمور؛ ولأصبح السفر من جهات العراق النائية إلى بعضها عسيراً.
من كركوك أخذت سيارة إلى الموصل، فقطعت 160 كيلو متراً في جادات ولو أنها معبدة إلا أن المطر الغزير قد أتلف أجزاء كبيرة منها، فكاد السير عليها يكون مستحيلاً.
بعد أن قضيت بضعة أيام في الموصل رأيت فيها معالمها التاريخية، والإنشائية، وجزءاً كبيراً من أطرافها (كبلدة تلكيف، والشيخ عدي، والعمادية وغيرها)، وبعد أن فرجني على بساتينها الغناء، ومبانيها الجديدة المشيدة، وشوارعها المرصوفة الواسعة، السيد خير الدين بك العمري رئيس بلدية الموصل، أخذت السيارة منها إلى معاقل قبائل شمر العتيدة.
كنت قد أرسلت خبراً للشيخ عجيلي الياور برغبتي في زيارتي معاقله، فلما بلغني خبر ترحيبه واستعداده لإرسال سيارة من سياراته الخاصة الفخمة تحملني من الموصل إلى خيامه، شكرت له ترحيبه، واعتذرت من قبول الذهاب في سيارته، لأن سيارتي كانت حاضرة. فقبل العذر عن هذه، ولكنه حتم أن يستقبلني رجاله في مناطق معينة من الطريق، وأن يصطحبنا دليل منهم إلى الخيام، خشية أن نضل.(282/56)
قمنا بالسيارة صبيحة يوم الثلاثاء 22 من مارس 1938 من الموصل ووجهتنا (تل أعفر) - وتل أعفر هذه قرية في وسط الطريق الذي طوله خمسون ومائة كيلو متر بين الموصل ومضارب قبائل شمر بالشلقاط.
تقع هذه القرية على نهر دجلة الذي رأيت النساء يغسلن الأواني والثياب على ضفتيه، وأدهشتني طريقة غسل النسوة للملابس، إذ تمسك كل امرأة مطرقة خشبية لدق الثياب.
ولست أفهم الصلة بين إزالة الأوساخ من الثياب وبين دقها بذاك المضرب الخشبي وهي موضوعة على صخرة سوى تمزيقها، ما لم يكن لديهن سر لا نفهمه!!
في تل أعفر أبى مستقبلونا من رجال الشيخ عجيل الياور إلا أن نشرب الشاي فأجلسونا في شيخانة (مشرب الشاي) بسيطة، أحسن الموجود في القرية، وغير مزدحمة بالناس. بعد دقائق قدم لنا الشاي الأسود في كوبات صغيرة، وكان طعمه مثل الماء المذاب فيه (الشبة) الثقيلة جداً
ثم واصلنا المسير، ومعنا دليل الشيخ. أما عن رداءة الطريق فحدث ولا حرج، المطر المنهمر يكاد يغرق السيارة بمن فيها، أما العشب الأخضر النضر على جانبي الطريق، والأزهار البديعة الألوان، المختلفة الأنواع، فتسبح كلها في لجج متموجة. وظهر الجو كأنما خيم عليه ضباب متكلم، إذ يسمع تساقط المطر ولا ترى وحداته لغزارته وسرعته
منظر من مناظر الطبيعة العظيمة الهائلة، فضاء في فضاء لا يحجب النظر فيه إلا الأفق، ويجري الإنسان فيه بقوة العلم والاختراع. فلا ماء المطر على غزارته بمستطيع إطفاء نار السيارة، ولا السيارة تكل عن مسابقة العواصف والمطر، ولا إرادة الإنسان بمستضعفة حتى تبلغ المرمى
الطبيعة عاصفة ثائرة. والإنسان جبار لا ينثني عزمه متى عزم
هانحن أولاء نترك الطريق الطيني المبلل بعد أن سرنا عليه ساعات، ويشير الدليل بالسير على مروج خضراء غارقة في الماء، وبدأ الخفاق يدق بقوة وسرعة، فالعشب مرتفع، ولا يؤمن معه العثار، ولكن من ذا الذي يجرؤ أن يزيد من مخاوف السائق الكردي التعب، الذي هدته وعورة الطريق ورداءة الجو؟!
سيري على بركة الله أيتها الجارية، وأي بركة تحدث لها، إذا كان عليها أن تصطدم فجأة(282/57)
بسيل جارف كون نهراً عالياً؟! إن للبادية لمخاطر ومفارقات، وإن لرجل البادية لنظرا
أشار الدليل على السائق بتحويل اتجاهه، وبشق الأنفس خرجنا من المأزق سالمين
هاهي ذي النفس تنتعش، والصدر ينشرح، فقد ظهرت بعض بيوت الشعر، وفي مقدمتها الخيام البيضاء - خيام العلم والنور، والكرم والضيافة - التابعة لشيخ المشايخ
وهاهي ذي عيون البدو ترمقنا من بعيد، وسيارة الشيخ تسرع في استقبالنا، ونصل إلى المضارب أخيراً، فيزيل عناءنا بشر الشيخ وسجاياه العربية البدوية الكريمة: أهلاً ومرحباً، هاهو ذا المطر قد كف، والسماء بدأت تتكشف، والعاصفة أخذت تهدأ. إن في مقدمكم الخير بنزول الغيث فما أكرمه من مقدم. فسلمنا عليه وجلسنا خارج الخيام، على مقاعد من قماش ذات مسندين وظهر من الخشب (مثل ما نستعمله على ظهر الباخرة أو في الحديقة) فقلت في نفسي: غريب هذا في هذه البيئة! وما أسمع إلا والشيخ صفوك بن الشيخ عجيل الياور وولي عهد ملك البادية يقول: -
(مرحباً بكم. إننا سعداء جداً برؤيتكم هنا)
قال ذلك في نطق صحيح ولهجة إنجليزية أمريكية. فذهلت! شيخ بدوي قح، يرتدي الملابس البدوية والعقال، وبينه وبين الحضر أميال وأميال، أو إن شئت فقل بينه وبين العالم والحياة أجيال، يكون هو هذا المتكلم المداعب في لباقة ولياقة!؟ يا ما في الدنيا عجايب!
وقلت: إنها مفاجأة ظريفة من رجل الصحراء، فاستدرك مسرعاً وقال: بل من رجل البادية
قلت: وما الفرق بين الصحراء والبادية أيها المعلم اليقظ؟
قال: إن الصحراء مجدبة ورمالها أخشن وتراكمها أسمك. أما الأرض هنا (أي بين النهرين دجلة والفرات - موزوبيتميا فمن أخصب بقاع العالم
حقاً لقد رأيتها كلها مغطاة بالعشب المترعرع بقوة، ونبات القمح والشعير حسن النماء، وشجر الزيتون مورق مورف. . انصرفت إلى تفكيري الخاص برهة، أعلل سبب تحول هذه الصحراء إلى بادية ممرعة. وأسعفتني معلوماتي الجغرافية، فتبينت أنه الرافدان بما امتازا به من روافد طميية سميكة إبان الفيضان، ولعدم تنظيم تصريف مياههما لقلة مشاريع(282/58)
الري، تفيض هذه المياه المتدفقة عاماً بعد عام على المساحات الشاسعة جداً فيما بين النهرين وعلى جوانبهما الأخرى. فتتشبع الأرض سنوياً بالمياه ويمتزج رملها بالطمى، فأصبحت بقاعاً من أخصب واصلح البقاع الزراعية في العالم
ولذلك لون التربة أغبر بين الصفرة والحمرة والسمرة، فلونها مخالف لما نراه في صحراء ليبيا أو قرب غزة والعريش مثلاً
هذا تصحيح من رجل البادية عرفه بالتجربة العملية وليس من الكتب، ورجل البادية ولو أنه محدود التفكير إلى حد كبير لبيئته وظروفه، إلا أنه كما لحظت حاد البصر نافذ البصيرة متوقد الذكاء كريم، له استعداد قوي للتقدم، ولكنه شديد الرضى سريع التسليم
ومن أهم ما لفت انتباهي اعتماده على القدرة الإلهية، أو على من يتوسم فيه رعاية مصالحه؛ وكل البدو في هذه المناطق خاضعون للنظام العشائري البحت، ويأبون تدخل الحكومة في فض مشكلاتهم من أي نوع، ولو فرض وكان لبعضهم مشكلات تصل إلى المحاكم في بغداد أو غيرها مثلاً، فشيخ مشايخ شمر أو ابنه، هو الذي يمثل هؤلاء أمام الجهات المختصة ويدفع عنهم ويفض هذه القضايا. ولهذه الاعتبارات وأشباهها تخضع القبائل لرئيسهم خضوعاً تاماً، وهو يسهر على مصالحهم. ويسرني أن أذكر بعض المشروعات الإصلاحية التي بدأت فعلاً بين هذه القبائل البدوية في المقال التالي
زينب الحكيم(282/59)
من روائع أدب الغرب
الإنسان
?
لشاعر الحب والجمال لامرتين
للأديب حسين تفكجي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
- 7 -
ولكن ذات يوم وقد غرقت في خضم السعادة، وأتعبت السماء بشكواي المرة، غمرني نور سماوي يبارك ما شتمت، فخضعت دون مقاومة إلى صوت أوحى إلى نشيد الحق الذي تفجر من قيثارتي:
المجد لك في الأزمان والخلود
أيها العقل الخالد والإرادة العليا
أنت الذي يعرفك الوجود
وتذكر كل صباح أسماؤك الحسنى
فنفختك للبدعة انحدرت نحوي
وظهر من كان طيات العدم لعيني!
عرفت صوتك قبل أن أعرف نفسي
فرميت بروحي حتى أبواب الوجود
هأنذا العدم يحييك قبل أن يولد
هأنذا! ولكن من أنا؟ ذرة مفكرة
من يستطيع قياس المسافة بيننا؟
أنا الذي أستوحي منك خلقه السريع
دون علم من نفسي، أدار حسب هواك(282/60)
ماذا يجب على نحوك؟ أيها الخالق العالي؟
المجد للانهائي العظيم
الذي أبدع الكل من نفسه
لتسر أيها الخالق العظيم، لما خلقته يداك
فأنا أتيت لأتمم أوامرك العليا
ضع؛ أطلب، أفعل، في الأزمان والمكان
وسخرني لأسبح بعظمتك في يومي ومكاني
فذاتي، دون شكوى، دون أن تسألك
بسكون، تسرع لتمجد عظمتك
وكهذه الأجرام المذهبية التي في حقول الفراغ
أتبع بكل هوى ظلك الذي ينير لي الطريق
غارقاً في النور أو ضائعاً في الظلام
سأمشي حيث تدلني
مختاراً منك لأهدي العالم
وعاكساً عليهم نوراً غمرتني به
فأرتمي محاطاً بأسرى النجوم
وأقتحم بخطوة جبارة هوة السموات
أو معتزلاً وحيداً مهملاً من نظراتك
لا تبدع مني أنا المخلوق المجهول
إلا ذرة منسية على شاطئ العدم
أو نقطة من الغبار تحملها الرياح
فافخر بمصيري لأنه صنع يديك
وأذهب إلى كل مكان لأرد إليك واجباً
وبقلب مفعم بحبك أخضع لقانونك
حتى انتهي إلى درك القبر هاتفاً:(282/61)
(المجد لك)
- 8 -
يا ابن الأرض البسيط، مصيري ونهايتي لغز
ما أشبهني بقمر الليالي، أيها السيد العالي، ينير الطرقات المظلمة، حيث تقوده يداك،
يعكس من جهة أنواراً خالدة، ومن جهة أخرى، يغمر في الظلمات القاتلة
الرجل هو نقطة مشؤومة جمعت بقدرة إلهية نهايتين
كلما تقدمت خف شقائي فأعبد دون أن أراك حكمتك البالغة
المجد لك يا من خلقتني وأبدعت أجمل الوجود
وفي هذه الأثناء، رازح تحت أثقال سلاسل الجسد، من المهد إلى اللحد تقودني الخصومة.
أسير يغمرني ظلام حالك في طريق صعبة المسالك. غير عارف أيان أحمل أثقالي، وجاهلاً أيان أحط رحالي. أردد أنشودة الطفولة التي انحدرت كمياه شلال تجتمع لتتعكر.
(المجد لك) فقد اختارني الشقاء حين قذفت على هذه الغبراء وأمسكتني يمينك، تتقاذفني
كألعوبة حية
أطعمتني مجبولاً بالدموع، خبز التعاسة وأسقيتني مزن غضبك
هتفت: (المجد لك)، ولكنك لم تنصت إلى ندائي، فأرسلت إلى الأرض نظرة حيرى،
وانتظرت في السماء يوم عدلك ولكنه قام أيها السيد العالي، ليزيد آلامي
(المجد لك)، البراءة مجرمة في ناظريك
شيء وحيد بقي لي تحت هذه السموات، مزجت بنفسك أيامنا والشجون. حياتها حياتي.
وروحها روحي، وكثمرة ما زالت ناعمة على غصنها، تأملها ناظري ترفع من حضني قبل أن تينع.
أردت أن تكون الضربة هائلة. ولكنك سددتها بهدوء، لتجعل الفؤاد مني حساساً
فكنت أقرأ في أساريرها، المتمثل فيها جلال الموت مصيري
وأرى في نظراتها، نبراس الحياة، الذي بعد عني
فكانت يد الحمام تتقاذف منها الزفرات
ولكنها أبداً، كانت تردد همسة الهيام(282/62)
فكنت أهتف لشروق الغزالة، أيتها الشمس أمهلي يوماً
كمجرم يطلب رحمة، تحت ظلمات متكاثفة
هبط حياً، دركات اللحد
ورأى شعلة براقة تتنازعها أيدي الحياة والموت، فينحني نحوها، ليحفظها فيراها تخبو ثم
تلفظ الأنفاس
فكنت أود أن أحفظ الروح قبل أن نسير في طريق السموات
كنت أفتش عن كنهه في ناظريها المحدقين بالفضاء
هذه الزفرة، سيد الوجود، نشرت شذاها في أحضانها
وبعيداً عن هذا العالم المترع بالضوضاء رحلت قافلة آلامي
فأعف عن يائس جذف بحقك في ساعة غضب
فإني أجرؤ وأطلب الغفران
المجد للسيد العالي
من خلق الماء للخرير، والنسيم للسريان
والشمس للنور، والإنسان للألم
- 9 -
لقد كملتْ حكمتك بحقي
فالطبيعة العديمة الشعور تخضع دون إدراك
اكتشفتك وحدي عندما مستني الحاجة
فأنا أقدم لك نفسي ضحية بكل خضوع وإرادة حرة
فوحدي أطعتك بذكاء
وحدي أتممت نفسي في هذه الإطاعة
ومررت أنفذ في كل مكان، وتحت كل سماء
قانون طبيعتي وأمر إلهي
فأنا أعبد في مقدراتي، حكمتك العالية
وأخضع لأرادتك في آلام تجيش في صدري(282/63)
المجد لك. المجد لك
صيرني إلى الذل، أو اقذفني إلى العدم
فسوف لا تسمع مني سوى كلمة:
(المجد لك أبداً)
- 10 -
وهكذا ارتفع صوتي نحو القبة الزرقاء، فقدمت المجد إلي السماء، والسماء تفي ما بقي
- 11 -
اصمتي يا قيثارتي
وأنت الذي تمسك بيديك قلب البشرية الخفاق (بيرون) تقدم وخذ منها شلالات أنغام
منسجمة فقد خلق الله العبقرية لنمجد الحقيقة
صعد نحو السماء نغماتك، يا مرتل الجحيم
فالسماء نفسها، ترسل للمعذبين، هذه النغمات
فيمكن أن تضيء من صوتك شعلة حية، تنزل حتى قرارة نفسك
ويمكن أن قلبك الحساس، تحت تنقلات مقدسة، سيسر من هذه النغمات
فيخترق ظلام الليل، برق وضاء
فتفيض علينا، من نور يغمرك
- 12 -
أواه! إذا كانت قيثارتك مجبولة بالدموع، تزفر تحت أصابعك رنات الألم، فمن أعماق
الظلال الخالدة، كالملاك الهابط من عليائه، يطوي الجناح، ويرتفع نحو نور النهار، لينصت إلى نغمات مقدسة أصداء هذه القبة الزرقاء، أصوات أوتار نار مذهية ينصت إليها الآله، وهي ترتفع من سارافان
تشجع أيها الطفل الهابط من صفوف الآلهة
فانك تحمل على جبهتك الطابع العالي
وكل رجل ينظر إليك، يرى في عينيك الشعاع الخابي لنور السموات(282/64)
ملك الأناشيد الخالدة، أعرف نفسك بنفسك
واترك (لولد الليل) الشك والتجديف
وابغض كلمات يغشونك بها. فلا مجد حيث لا فضيلة
تعال وخذ مكانك في مجلسك الأول، بين أطفال أتقياء، من المجد والنور، الذي أراد الله
تصويرهم بزفرة مختارة
لقد أبدعهم. . .
للفناء، والدعاء، والرضاء
حسين تفكجي(282/65)
يا فلسطين
للأستاذ محمد بهجة الأثري
إلى شهداء الحرية من أحفاد صلاح الدين، إلى أشبال أسود حطين، إلى المجاهدين المرابطين في سبيل الله
الأثري
اصبِري في الحادث المستفحلِ ... إنما العزّةُ أَنْ تَسْتَقْتِلِي
واسألي (نيرونَ) يُذْكِي نارَهُ ... في سواد البأسِ نُورُ الأَمَل
واُنْهَدِي ما قارع الحقُّ هوًى ... باطلاً يوماً ولم ينْخَذِلِ
لا تُراعِي من كَمِيّ مُبْطِلٍ ... قوّةُ الحقِّ سلاحُ الأَعْزَلِ
أو تُمدِّي من يدٍ ضارعةٍ ... تسألينَ العدلَ من لم يَعْدِلِ
عَزَّ هذا الحقُّ إلا بدمٍ ... جامحِ النَّزْوَةِ حُرٍ يَغْتَلي
فَأَريقيهِ رخيصاً هَيِّناً ... يا فِلَسْطِين وإِلاّ تْؤكَلي
أحرزَ الغايةَ مَنْ حاوَلَهَا ... وحوى النصرَ الذي لا يَأتَلِي
ليس ما دوّى حديثاً أولاً ... عنكِ. كم مَرَّ له من مَثَل!
أيقظ الشجوَ: فمن قلبٍ هفا ... واهنَ العزم، وجَفْنٍ مُسْبِلِ
غير أنّي - والهوى مختلفٌ - ... سرَّني من حيث أحيَا مأملي
كنتُ أخشى، والقُرى أضحتْ قِرى ... أَنْ تكوني من كريم المأكَل
فإذا الدم أَبِيَّا يغتلي ... وإذا الروحُ عزيزاً يعتلي
وإذا القومُ الذي أيأسني ... جامحُ الثورة ماضي المُنْصُلِ
من شبابٍ كشراراتِ الغَضا ... وشُيُوخٍ كصَياصِي الْجَبَلِ
وعَقيلاتٍ كأمثالِ الدُّمى ... هِجْنَ أمثالَ الأُسُودِ الْجُفَّلِ
سِرْنَ صدرَ الصفِّ سرباً باسِلاً ... يتحدَّيْنَ حِرابَ الْجَحْفَلِ
أيُّ معنى عبقريّ لاَح في ... خوضِهنَّ النارَ خوضَ البَطَل
يا وقاها اللهُ أنفاسَ الصَّبا ... كيف قاسَيْنَ سَمُومَ الْجُهَّلِ!
أيها الجيشُ الذي ناضَلَها ... قد عرفناك منيع المَعْقِلِ(282/66)
فَتَرَنحْ نَشْوَةً أَنْ رُعْتَهَا ... وهي عَزْلا من ظُبيً أو أَسَلِ
واسترِ الوجهَ أو أكشِفْهُ فلا ... تَخْشَ أَنْ يغشاه عارُ الْخَجَلِ
معشرٌ مستوحشٌ ما هذَّبتْ ... من حواشيهِ وصايا الرسُل
إِيه (جُونْ بولُ). وما شئتَ فخُذْ ... فيهِ من مكر عَوِيصِ الْحِيَلِ
قد كشفنا كلَّ كيدٍ مُخْتَفٍ ... وحللنا كلَّ عَقْدٍ مُعْضِلِ
ألصَّهايين؟ فَمنْ هُمْ في الملأ؟ ... أَوَ ليسُوا خَوَلاً من خَوَل؟
إنما أنت الذي ينصُرُهُمْ ... يا عدوَّاً جاَء في زِيّ وَلِيّ
لن تكونَ الدهرَ من أكفائِنا ... أَبَداً في هَيِّنٍ أو جَلَلِ
أبشري إِنَّ الصباحَ المُرْتجى ... يا فِلَسْطِينُ أراه يَنْجَلي
كيف لم ترتقبي من فَرَجٍ ... وَبنُوكِ الصِيدُ حرزُ المَوْئل؟
أنا لم أحسَبُ، وهذا روحُهُمْ ... أَنْ تَظَلِّي تحت حكم السفَلِ
سنةُ الكونِ التي نعهَدُها ... أن يكون النُّجْحُ حظّ الأمثل
ساعِفي (بغدادُ) أنضاَء الوغى ... من بني العمّ وراَء (الكرمل)
رَحِمٌ مَوْصُولة أوشاجُها ... لم يُقَطِّعُهاَ نَكاَلُ الدُّوَلِ
طالما رامُوا تفاريقَ العصا ... والعصا تلقَفُ كيد الدجَل
حَيِّهَا جامِعةً مَرْجُوَّةً ... من تُخُوم (الريف) حتى (المَوْصِل)
إنّي أَلْمَحُهَا ظافرةً ... تستقِلُّ التاجَ مَنْضُور الْحُلِيّ
للِعدا اليوم، وهُمْ ينضُونَهُ ... لا تَظَلُّ الشمسُ فوق الْحَملِ
وأرى في مَطْلَعِ الآتي لنا ... منزلَ البدرِ ومَرْقَى زُحَلِ
خَلِّ عنكَ اليأسَ يَنْأَى جانباً ... يا كليلَ العزمِ وأصحَبْ أَمَلي
انطوى الماضي فلا تنشُرْ له ... صُحُفاً نَضَّاحَةً بالعِلَلِ
وأتى يومُكَ يسعى دائباً ... فارتقِبْ شارقةَ المستقبل
(بغداد)
محمد بهجة الأثري(282/67)
إلى الدكتور زكي مبارك
رداً على قصيدته (وحي بغداد) التي نشرت بالرسالة
للأستاذ إبراهيم أدهم الزهاوي
ما كنت أعلم أن ثغر المغرم ... يفتر عن أمل الوجود الأعظم
حتى وجدتك في (الرسالة) منشداً ... ولرب إنشاد بغير تكلم
حببت لي طعم الغرام وإنه ... مرّ بثغري مثل طعم العلقم
إن التي أحببتها بسقامها ... (حب) لكل مهذب لم يسقم
ما زلت أنشد في هواها شرداً ... يقطرن في وجه الصحائف من دمي
ما ضر (ليلى) أن تكون سقيمة ... إن كان ذاك السقم غير ميتم
فلسوف نبرئ داءها بدوائها ... ونعيدها لجلالها المتقدم
ومملك يحدو بها أمثالكم ... تطأ السماء بخفها والمنسم
أقلامكم متيقظات للعلى ... تلقي السهاد على عيون النوَّم
يهوي أبو الحسن الرضي يراعه ... فيزوره بتلطف وتبسم
نزلت حكومتك التي أصدرتها ... في قلبه برءاً بقلب المسقم
لم ترض دون العبقرية للذي ... هتك الحجاب على بنات الأدهم
إن (الشريف) لشاكر لك خدمة ... وأبو الشريف ومن إليه ينتمي
خلدته وخلدت في تخليده ... ولو أنه من همِّ كل مترجم
قد سار في الدنيا (الزكي) مباركا ... وحباله عن مصر لم تتصرم
صيت كأن الشمس قد نفخت به ... من روحها فسما سمو الأنجم
العقل تنهضه العقول فيستوي ... كالزرع تنبته غيوث الموسم
لله در يراعة في كفه ... شماء مثل شعوره المتضرم
إن العراق ترنحت أعطافه ... لما لهجت بحمده المتحتم
وطن الجدود ومنتهى أمجادهم ... وقصيدة الدنيا التي لم تختم
دار الخلافة كل قلب نحوها ... من منجد في سيره أو متهم
وكأنما أطلالها في عينه ... آماله الكبرى التي لم تنجم(282/69)
فخراً لدجلة أن تكون مقيمة ... أبداً على العهد الذي لم يخرم
وقف الزكي بيانه العالي على ... إنشاء جيل بالعلاء متيّم
وكساه بالحلل الوضاء كأنما ... بالنور يكتب لا بحبر أسحم
يا أيها الوادي السعيد أعدته ... فأعدت خير مهذب ومعلم
كانت نوادينا تنير بنوره ... تفتر عن مثل الصباح المقدم
تلك الدعابات التي يأتي بها ... تشفي القلوب ولو جرت في مأتم
يدري اللبيب بأنها الجد الذي ... يأبى على الدنيا أداء المغرم
شافي جراحات المآسي لم يجد ... لجراحه بين الورى من مرهم
وكذلك القلب الكبير فإنه ... وجدان قلب في القلوب مقسم
ولدته مصر وكم حسام قاطع ... ولدته مصر وكم سنان لهذم
بلد إِذا ما أفلست أيامنا ... جادت سحائبه بدرّ مغنم
طلعت شموس بيانه فتكشفت ... ظلماء عاشت ضعف عمر القشعم
سل ميت الآثار من أومي له ... فأتى يحدثنا بغير تلعثم
الله سدد للكنانة سهمها ... فتصيب مقتل كل خطب مرزم
بلد إِذا ذكرته ألسننا صغت ... كل القلوب لذكره المتبسم
للرافدين صبابة في نيله ... ولنيله ضعف الشعور المضرم
قطران قد طبع الزمان هواهما ... من دون أقطار الأنام بميسم
عاشا لمجد العرب إن لمجدهم ... نبأ ستعلمه إذا لم تعلم
(بغداد)
إبراهيم أدهم الزهاوي(282/70)
البريد الأدبي
آراء طريفة في التربية والتعليم
تواصل مجلة (دنيا المعلمين) الإنجليزية نشر إجابات زعماء الفكر على أسئلتها التسعة التي لخصنا للقراء إجابات برنردشو وبريستلي عنها، وقد أجابت مس دافني دي موريير، وهي من كبيرات الأديبات هناك ومؤلفة ريبكا، ولن أكون صغيرة مرة أخرى، وفندق جاميكا، ورحلة بوليوس. . . الخ فكانت إجاباتها متزنة وأكثر اعتدلاً من إجابات شو. . . وقد ذكرت مس دي موريير أنها لم تذهب إلى مدرسة ما، بل تعلمت في منزلها على أيدي مدرسين خصوصيين وأنها لما بلغت الخامسة عشرة كانت تقرأ أمهات الكتب الأدبية والتاريخية وتدرسها بنفسها. . . ولما سئلت عما تأسف لأنها لم تحصله ذكرت الأعمال المنزلية التي لم تخلق المرأة إلا لتتعلمها، وخصصت من ذلك الطبخ وأشغال الإبرة والخياطة ولم تجحد أثر معلمها كما فعل شو. . . وذكرت أنها قرأت أول ما شغفت بالقراءة كتب الأدب الكلاسيكي ثم شدت القصص فقرأت أحسن ما كتب أدباء قومها. . . واستنكرت عادة منح التلاميذ مكافآت اعترافاً بتفوقهم، لأن هذه المكافآت تولد في نفوس أصحابها الغرور والزهو كما تولد في نفوس الآخرين الحسد والحقد أو تجعلهم يعتقدون أنهم أقل من زملائهم ذكاء وأحط مرتبة. . . ولم تستنكر مس دي مورييه الجمع بين الجنسين في فصل واحد إلى سن الرابعة عشرة، لكنها صرحت أن الجمع بينهما بعد هذا هو منكر يؤدي إلى آفات الغريزة الجنسية ومهاترات الغزل السمج بين الجنسين. . . واستنكرت دراسة بعض المواد الجافة كاللاتينية والرياضيات المعقدة غير العملية وتعميمها في المدارس. . ثم رفضت الإجابة عن بعض الأسئلة الأخرى
المسرح الأوربي
صدر أخيراً في أمريكا كتاب ضخم عن المسرح الأوربي لمصنفه الأستاذ توماس. هـ. دكنسون تناول فيه تاريخ المسرح في أكثر الممالك الأوربية - ما عدا إنجلترا - منذ نهاية الحرب الكبرى إلى اليوم وما جد فيه من صنوف التجديد والتيارات الحديثة. ولم يكتب المصنف كل فصول الكتاب، بل قام بذلك أخصائيون ممن لهم اتصال بالحركات المسرحية في كل من الممالك الأوربية، ومن هنا قيمة الكتاب. . . ونستطيع أن نقول: إن المستر(282/71)
دكنسون لم يكتب إلا مقدمة الكتاب التي تناول فيها شرح الاتجاهات الحديثة في المسرح الأوربي عامة والعوامل الاجتماعية التي خلقت هذه الاتجاهات. . . وقد كتب عن المسرح الروسي الأديبان يوسف جريجور وهـ. و. ل. دانا، وعن المسرح الألماني الأديب المؤرخ يوليوس باب، وعن المسرح الفرنسي العلامة أدموندسي، وعن المسرح الإيطالي سيلفيو داميكو، وكتب عن المسرح الأسباني الأديبان ديي كاندو وجون جارن. . . وفي الكتاب فصول ممتعة عن المسرح في كل من تشكوسلوفاكيا وبولندة وبوغوسلافيا والمجر ورومانيا وبلغاريا والسويد ودنمركة. . . أما لماذا لم يعقد فصل عن المسرح الإنجليزي فذلك - في رأي المصنف - أن هذا المسرح لم يجار نهضة التجديد التي عمت المسارح الأوربية وأن المقصود من الكتاب أن يكون دراسة لمسارح القارة تنفع المسرح الإنجليزي - والكتاب جليل الفائدة فعسى أن يعني به ممثلونا أو أن ينقله أحدنا إلى العربية
أين كان يكتب تشيكوف قصصه
كان تشيكوف الأديب الروسي الكبير طبيباً ولم يكن أديبا ثم نسى الطب واحترف الأدب، فنبغ فيه ولم ينبغ في الطب، وهو في ذلك مثل ولز الذي درس الكيمياء والصيدلة فجذبته صناعة القلم وآثر أن يفرغ لها، ومثل هذا يقال عن مؤسس المسرح الجديد الأديب النرويجي العظيم إبسن الذي درس الكيمياء ثم نزع إلى الأدب وتفرغ له، ويكاد يكون زعماء الأدب في العصر الحديث من العلماء وليسوا من الأدباء
هذه ملاحظة عارضة بدت لنا خلال دراساتنا لحياة تشيكوف تلك الحياة الحافلة الأرستقراطية التي تختلف عما عرفناه من حياة زملائه وأنداده الأدباء الروس الذين ذاقوا من شظف العيش وهوان الأيام ما جعل آدابهم عصارة من البؤس وترجماناً للبائسين وأروع ما يلفت النظر من حياة تشيكوف هذا المنزل الريفي - أو الكوخ الهادئ المكون من غرفتين اثنتين - والمنعزل عن قرية فيسكينو - التي كان منزله الفخم بالقرب منها. . . لقد بنى تشيكوف هذا الكوخ وسط حديقة من أشجار التفاح لتكون مهبط وحيه، ومرتع خياله الخصب، الذي أنتج للعالم تلك الثروة الهائلة من القصص والدرامات
حول كلمة (أنوثة)(282/72)
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء
تحيات طيبات، وبعد فقد قرأنا في العدد 279 من مجلتكم الزاهرة قصيدة الأستاذ إبراهيم العريض (بين عشية وضحاها) الرائعة. ولقد لفت نظرنا كلمة (الأنوثة) في قوله
وتحت يديها يزل النصيف ... عن برعمي صدرها ناحية
وملؤهما عزة بالجمال ... جمال أنوثتها لغافية
وشككنا في وجود هذه الكلمة. ثم جاء (اللسان) يؤيد ما ذهبنا إليه. قال في مادة (أنث)
(ويقال تأنث الرجل في أمره وتخنث، والأنيث من الرجال، المخنث.
(والتأنيث خلاف التذكير وهي الأناثة)
أما كلمة (ذكورة) التي تقابل كلمة (أنوثة) فلم يذكر صاحب اللسان إلا في موضعين لا يقابلان في معناهما (الأنوثة) قال في مادة (ذكر):
(التذكير خلاف التأنيث، والذكر خلاف الأنثى والجمع ذكور وذكورة وذكار. . .)
وجاءت في مادة أنث أيضاً
(روي إبراهيم النخعي أنه قال (وكانوا - أي العرب - يكرهون المؤنث من الطيب ولا يرون بذكورته بأساً.
(وأما ذكورة الطيب فما لا لون له، مثل الغالية، والكافور والمسك، والعنبر والعود. .) هـ.
ومعنى ذكورة الطيب، أي ما كان منه مذكراً، ولا يوجد إذن كلمة (أنوثة) وإنما (أناثة) وهي كلمة لا باس بها، حبذا لو تقوم مقام تلك التي شاعت كثيراً، وحسب كثير من الناس أنها صحيحة.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
بين السيكلوجية والطب
أخذت بعض كليات الطب في أوربا تدخل دراسة السيكلوجية في برامجها بما لها من الفائدة في تشخيص بعض الأمراض إن لم يكن في كل الأمراض. ويجمل بكلية الطب المصرية أن تحذو حذو هذه الكليات فقد انتشر السل في مصر كما انتشرت أمراض أخرى كالجنون(282/73)
والصرع وضعف الأعصاب، والطبيب الذي لم يدرس السيكلوجية الحديثة يعجز في اكثر الأحيان عن تشخيص هذه الأمراض، وقد أصدرت الدكتورة العالمة إليانور. ا. مونتجومري كتاباً جليل الفائدة في هذا الباب بحثت فيه عن العلاقة بين السيكلوجية والطب وهل يستطيع الطب أن يصف للعل الأخلاقية كالجبن واللؤم وتعشق الإجرام من أجل الإجرام دواء مادياً غير العلاج الذاتي الذي تصفه السيكلوجية. . . وقد تناولت المؤلفة وظائف الغدد التي تتحكم في أخلاق الشخص وتقررها وذكرت أن الطب وحده هو الذي يستطيع أن يتحكم بدوره في هذا الغدد، ومن هنا العلاقة الكبيرة بين السيكلوجية والطب
تزوير أدبي
عمد بعض المرتزقة من الناشرين إلى طبع قصة تافهة بعنوان (قتيلة الجوع) نسب تأليفها إلى الأستاذ توفيق الحكيم وكتب اسمه على غلافها، وذلك لكي يضمن رواجها بين العامة من القراء
وقراء الرسالة عامة يعرفون الأستاذ توفيق الحكيم بفنه وأدبه، ويعرفون مؤلفاته وقصصه جميعاً، فما كان بنا من حاجة إلى نص هذا الخبر لولا رغبتنا في أن يلتفت إلى مغزاه القائمون على شئوننا لعلهم يجدون في مثله ما يحفزهم للتفكير في حماية الأدباء والمؤلفين من شتى الآفات التي تنوشهم في كل جانب!
العصور
صدر العدد الأول من مجلة العصور مصدقاً لما قدرناه لها في أنفسنا من قوة التحرير وصدق الأسلوب وشرف المنزع. وقراء الرسالة يعرفون صاحبها الأستاذ محمود محمد شاكر بقوة الأدب وقوة الدين وقوة الخلق، فهيهات أن يجدوا في العصور إلا أثر هذه القوى مجتمعة في قلمه الرصين واختياره الموفق. وإنا لنرجو للأستاذ الصديق أن يوفقه الله فيما نصب نفسه له من الجهاد الصادق في خدمة الدين واللغة والثقافة
لماذا أنا مسلم؟
أخرج الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي الطبعة الثانية من كتبه (لماذا أنا مسام؟) ممتازة بكثير من الزيادات والتنقيحات. وقد وضع المؤلف هذا الكتاب على هيأة مناظرة بين قس(282/74)
من علماء المسيحية المبشرين، وبين شاب مسلم يفهم حقائق دينه فهماً صحيحاً: يوجه القس إلى الشاب المسلم الاعتراضات والشبه التي يتصيدها المبشرون لمحاولة تشكيك المسلمين في دينهم، فيرد عليه الشاب في أدب ولباقة، ومفنداً تلك الشبهات والاعتراضات بمنطق سليم وعبارة فصيحة وحجج دامغة. وقد تناولت المناظرة أهم المسائل التي يتوهم فيها خصوم الإسلام مآخذ يأخذونها عليه
ويمتاز هذا الكتاب بحسن معالجة الموضوعات التي تناولها بأسلوب متسق وعبارة جلية وتدليل قويم
وهو يقع في (88) صفحة من الحجم المتوسط ويطلب من مكتبة الشرق الإسلامية ومطبعتها بشارع محمد علي أمام دار الكتب المصرية(282/75)
الكتب
أفاعي الفردوس
ديوان الأستاذ الياس أبو شبكة
بقلم الأستاذ فليكس فارس
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وإلى الشعراء الآن نماذج من قصائد الديوان الذي أردنا أن نرسم مصغراً عنه ببعض خطوطه:
شمشون:
هي قصيدة رمز فيها الكاتب إلى كل جبار في الحياة تصرعه خدعة الضعفاء، وإلى كل شاعر تلعب الغواية بحياته دون أن تضلل قوة إلهامه فينتقم بهذا الإلهام من نفسه ومن أعدائها.
أسمع الشاعر يخاطب دليلة ليصورها بقوله الرائع:
ملقَّيه ففي أشعة عيني ... ك صباحُ الهدى وليل القبور
وعلى ثغرك الجميل ثمارٌ ... حجبت شهوة الردى في العصير
ملقَّيه فبين نهديك غامت ... هوة الموت في الفراش الوثير
هوة أطلعت جهنمُ منها ... شهواتٍ تفجرت في الصدور
ملقَّيه ففي ملاغمك الحمر ... مساحيق معدن مصهور
يسرب السم من شفافتها الح ... رى إلى ملبس الردى في الثغور
ثم عد فاسمع كيف يصف دليلة عندما جاءت ترقص أمام شمشون وهو مربوط إلى عمد الهيكل وقد دار به عداته الساخرون.
وإذا قينةٌ يخالجها السكر ... على مشهد من الجمهور
فتثنت تضاجع الجوَّ نشوى ... من تلوى قوامها المحرور
رقصةُ الموت يا دليلة هذى ... أم تُراها اختلاجة في الخمور
ثم اسمعه يتكلم بلسان شمشون:(282/76)
بددي يا زوابع النار أعدا ... ء إلهي ويا جهنم ثوري
وتنفس يا موقد الثأر في صد ... ري وأغرق نسلي الربا في سعيري
وامصصي يا دليلة الخبث من قل ... بي فكم مرة مصصت قشوري
في هيكل الشهوات
في أحد الأبيات الأولى من هذه القصيدة ينجلي للقارئ معنى أفاعي الفردوس وهو العنوان الذي اختاره الشاعر لديوانه، قال عن النساء:
فهن من حية الفردوس أمزجة ... يثور فيهن من أعقابها عصبُ
ثم يعود فيخاطب إحدى أخوات الشقاء قائلاً:
أخاف في الليل من طيف يسيل على ... موجات عينيك حيناً ثم يغترب
طيف من الشهوة الحمراء تغزله ... خمرُ الليالي وفي أعماقه العطبُ
ووجهك الشاحب الجذَّاب ترهبني ... ألوانه يتشهى فوقها اللهب
ما زلت تغتصبين الليل في جَهَد ... حتى تجمد في أجفانك التعب
وما السواد الذي في محجريك بدا ... إلا بقايا من الأحشاء تغتصب
سدوم
قصيدة تعد بحق من أروع منظوم أبي شبكة وكنت ترجمتها كلها إلى اللغة الفرنسية فنشرتها مجلة (لاسيمين) فقدرها كثيرون من الأجانب قدرها فقالوا لي: إن لهذا الشعر طابعاً مستقلاً فهو وإن ضاهى شعر (بودلير) فإنه لا يمت إليه بسبب. وقلما يشهد الأجانب بروعة لنا دون أن يرجعوها إلى أسلوب من أساليب إلهامهم:
في صدرك المحموم كبريت إذا ... لعبت به الشهوات فجر أضلعه
في صدرك الدامي مناجم للخنى ... أورثِتها نارَ الزراري المزمعه
فبكل صقع من ضلوعك قسمة ... خُلَع على لهب الشباب موزعه
ثم يتحول الشاعر بعد وصف رائع لسدوم القديمة مخاطباً مدينة هذا الزمان قائلاً:
اسدوم هذا العصر لن تتحجى ... فبوجه أمك ما برحت مقنعه
كانت منكرة كوجهك عندما ... هبت عليها من جهنم زوبعه(282/77)
قذفتك صحراءُ الزنى بحضارة ... ثكلى مشوهة الوجوه مفجعه
بؤرٌ مسترة الفساد بخدعة ... نكراَء بالخز الشهي مرقعه
ويغير الشاعر في القصيدة نفسها الوزن والقافية مخاطباً هذه المدنية:
أسليلة الفحشاء نارك في دمي ... فتضرمي ما شئت أن تنضرمي
أنا لست أخشى من جهنم جذوة ... ما دام جسمي يا سدوم جهنمي
طوفت بي ميتاً بأروقة اللظى ... فحملت تابوتي وسرت بمأتمي
وعصبتُ بالشبق المجمَّر جبهتي ... فرفعتها في عصري المتهكمِ
علمتني لغةَ النبوة عندما ... فجَّرت ألغام السموم بمنجمي
مهلاً كلانا يا سدومُ مسلحٌ ... فلظاك في جسمي وثأري في فمي
الشهوة الحمراء
أنا اتحدنا ليوم واحد وغدا ... يأتي فيخلفني قوم بحبهم
سيعشقونك يوماً يغنمون به ... ما غدرت منك ساعاتي لليلهم
وسوف تنسين (يا أخت الدما) فمهم ... كما نسيتِ على رَغم الدماء فمي
عشرون قلبا شربت الحب من دمها ... وما شبعت ولم يشبعك شربُ دمي
إذن فسوف تظلُّ النفس جائعةَ ... حتى يجف دم في غفلها النهم
حديث في الكوخ
أيها الفجر يا حبيب الشقيين ... ويا مشعل الهوى والشباب
أيها الكوخ والعيون سكارى ... بخمور لم تمتزج بعذاب
لا تجسي قلبي فلم يبق فيه ... من بناء الماضي سوى أخشاب
وانصرفنا وقبل أن أتواري ... عن جمال الشاطئ وعن ساكنيه
قلت للمرأة التي آلمتني ... حين قالت الله ما يُشقيه
لي قلب أفرغته فاتركيه ... في الهوى فارغاً ولا تملإيه
الطرح
وهي آخر قصائد الديوان(282/78)
أسمع الشاعر يقول بلسان والد الجنين الساقط ثمرة متهرئة عن شجرة الحب:
حملت أملك القنوط إلى وجهي ... وكنت الرجاء في أعماقي
جئت في سحنة المسوخ فِلمْ ... حطمت حلماً نما على أحداقي
ألأني بذلت حتى ولم أطعمك ... منه سوت الفتات الباقي؟
ثم يهتف بلسان الحياة قائلاً:
أهلك المائتون في رحمي الحب ... وسمّوا الزلال في ترياقي
فطرحت الأقزام في أسواقي ... عِبَراً للدمار في العشاق
ورأيت الفردوس لفت أفاعيه ... غصوني وكمشت أوراقي
وتراءت لي الطبيعة دنيا ... من كمال نسيقة الأذواق
فرأيت الجماد شبعان حباً ... كل صدر عليه ثدي ساقي
إن في الحب صورة الله لكن ... أين في الخلق صورة الخلاق؟
هذا هو الشعر يتغلغل في تفكيرك وشعورك وذوقك في آن واحد إلى أعماقها جميعاً؛ وكل شعر لا يتحد ثالوث الحكمة والشعور والموسيقى فيه إنما هو محاولة فاشلة
غير أن الشاعر الذي يريد أن يحكم موسيقى بيانه في الدماغ المفكر والحس المرهف تحكماً يتوازى سلطانه فيهما لا يوفق إلى إيجاد الوحدة في كل بيت من أبياته. إن هذه الوحدة وهذا الاتساق والتشابه من حيث الصياغة في كل أجزاء القصيدة إنما يوفق إليها من نظم الحكمة آيات لها ترتيبها وتسلسلها أو من نظم دموعاً وابتسامات وحقداً ونزوات لأنه لا ينقر قيثارته إلا بمضراب واحد، أما من يستنطق أوتاره بهدوء التفكير وثورة العواطف في آن واحد فليس لك أن تطالبه إلا بالاتساق في الصورة الكلمة التي يقدمها لك لأنه يجمع على لوحته بين المتنافرات من الخطوط والألوان
إن شعر أبو شبكة يوقفك منه تجاه فيلسوف ومتشرع ومؤمن وكافر وطاهر وعاهر، ويوفقك من قصائده تجاه عراك بين الفكر والشعور والبيان، فإذا ما شهدت هذه العناصر الثلاثة تتماشى على وتيرة واحدة في كثير من أجزاء قصائده فانك لترى أحدها يسطو في أماكن كثيرة على رفيقته فيخضعهما لسلطانه
إن (أبو شبكة) لا يهمه في فنه إلا أن يصور لك منعكسات الكون على نفسه، ونفسه(282/79)
تتنازعها خلجات قلبه وخاطرات دماغه، فهو يحس بأن الحياة المضللة قد أفسدت الإنسان، ويشعر أن في الإنسان نسمة تتململ بين ما حبكت الأجيال حولها من قيود فيصور لك هذا العراك العنيف بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. وفي لوحات أبو شبكة من دقة التصوير ما لا تراه إلا نادراً في لوحات الأقدمين والمعاصرين من شعرائنا، لأن ريشته تجود على القبح من ألوانها بقدر ما تجود على الجمال، فهو لا ينزلق بها على الشر انزلاقاً بل يثبتها في مجالها حتى ينشبها في أقصر الحقيقة فيأتيك بأروع ما يصور القبح ويصف الشرور والضلال
فليكس فارس(282/80)
المسرح والسينما
الفرقة القومية ومديرها
(إذا وجد من هو أصلح مني لإدارة الفرقة فأني على استعداد
للنزول له عن وظيفتي مع معاونته بكل ما في طاقتي)
هو ذا لب الحديث الذي نشره حضرة مدير الفرقة في جريدة البلاغ دحضاً لإشاعة استقالته من وظيفته
فإشاعة الاستقالة هذه ليس مصدرها (أشخاصاً يلذ لهم أن يذيعوا هذه الإشاعة لأنهم يريدون فيها شفاء لمرض نفوسهم الثائرة على كل ما هو كائن في الوجود) بل مصدرها مدير الفرقة نفسه، فقد سمعتها منه في مرتين، وقد قالها لي في مناسبتين، وقد تحققت بطلانها في ساعتها كما تحققت غرضه من ترويجها وهو النيل ممن يتوهم أنهم يعملون على الحلول محله في وظيفته
لا شأن لي في الانحياز إلى هؤلاء المرضى في نفوسهم الثائرة على كل ما هو كائن في الوجود، والإشادة بكفاءتهم وجدارتهم في فهم فن المسرح وفيما يصلح لمزاج الشعب ويناسب ثقافته. ولا غرض لي في التحزب لمدير الفرقة الصحيح المعافى، المتواضع كثيراً في كل شيء، والمتواضع كثيراً جداً في فهم أبسط فنون المسرح، وإني ما أوردت هذه الحقيقة إلا لأسفر عن طرف من وجه واحد من وجوه تصريف الأمور الخاصة بمدير الفرقة أو بالفرقة نفسها، وعن الجو القاتم الذي استكثفه واستلبده هو بغيوم وسحب من أوهام وظنون صرفته عن غرض الفرقة الثقافي وجعلته يترقب برعشة الوجِل المنخلع اللب هبوب العاصفة وانقضاض الصاعقة
يخلق بي أن أعرب عن شعوري أن استقالة مدير الفرقة تعد خسارة فادحة، وأزعم أنه قد يشترك معي كثير ممن قد يعتقدون اعتقادي، إذ لابد لكل عمل مستحدث من ضحية، فالمدير الحالي خير كبش يقرب على مذبح المسرح، غير أن الأوان لم يأن بعد، ولا عيد الأضحى بقريب
قد كان يتمنى مدير الفرقة أن يكون ضحية مقدسة فعلاً للمسرح، كما هو مقدر لكل صاحب(282/81)
رسالة، ولكن أين رسالة الفرقة القومية غير المكتوبة على الورق؟ أين رسالة مديرها وهل ظهرت براعيمها أو نبتت قرونها بعد؟
بدأت الفرقة أعمالها بلهيب حزمة القش خبا وهجها، وبردت حرارتها، وبقي من رمادها لموسمها الرابع ثلاث روايات، اثنتان معربتان وواحدة مقتبسة! ومن يدري فقد نحمد في العام القادم للفرقة القومية عملها المريض في هذا العام لأنها قد تمن علينا بإعادة تمثيل روايات مثلتها في عامها الأول، أو يطيب لها أن تتبنى الروايات التي مثلتها الفرق الأهلية كما تبنت في هذا العام رواية (مجنون ليلى) وتهمل الروايات الجديدة الموضوعة كما أهملت الكثير من الروايات التي دفعت أثمانها لمؤلفيها وقبرتها في مدافن الفرقة لعدم صلاحها فنياً أو إسكاناً لمؤلفيها الأفاضل
كل شيء ممكن الوقوع، وكل فرض في هذه الفرقة جائز، والذي يهمنا هو معرفة تشخيص العلة ثم العمل على مداواتها؛ ولذلك نسأل أين علة الفساد، أين عوامل الانحطاط؟
أهي الجهل بأصول الفن أم الغربة عن روح المسرح؟
أهي في الأمة التي لا تتذوق الآداب والفنون الرفيعة؟
أهي مرض الصحافة التي أفسدتها الفرقة بمال الإعلانات فصدت أقلام الأدباء والنقاد عن خط كلمة في غير امتداح مدير الفرقة والثناء عليه
أهي في المؤلفين الذي انصرفوا عن الفرقة أو انكمشوا وتباعدوا عنها ضناً منهم بكرامتهم الأدبية أن تكون عرضة لممثلين أعلمهم أجهل من كرّ - مع استثناء واحد أو اثنين منهم - لهم الكلمة الأولى والأخيرة في الحكم على صلاح الرواية للتمثيل أو عدم صلاحها؟
أهي في الأدباء الذين انصرفوا عن الفرقة لأنهم لا موائد لديهم كموائد هذا البربري وذاك الحبشي طافحة بكل ما يطيب للعين والفم؟
أم هي الأطماع بربح المال وجمعه من إعادة تمثيل روايات الفاكهة المحرمة، والحب والدسيسة، والمرأة المسترجلة الرائجة لفكاهتها وفهاهتها، وادخار هذا المال لبناء مسرح خاص من مال الفرقة القومية الخاص، لا من مال الأمة، كأن مسألة الفرقة مسألة تجارية أو عزبة زراعية طاب لناظرها الأمين أن يظهر لسيده ومولاه مقدار ما أدخر من ربح مدة نظارته؟!(282/82)
قد تكون هذه العلل متجمعة هي بعض أسباب تدهور الفرقة، ولكن العلة الدفينة في نفس المدير دون سواه. هي في نفسه وحده - وإني أتعمد مؤقتاً تجاهل العلة المستوطنة في لجنة القراءة وسأعود إلى شرحها قريبا - لأن حضرة المدير يعتقد اعتقاداً راسخاً أنه لا يوجد بين الستة عشر مليوناً من الأنفس من هو أصلح منه لإدارة الفرقة، وأنه إذا فرض المستحيل ووجد هذا الذي لم تلده أمه بعد، فان حضرة المدير - حفظه الله - (على أتم استعداد للنزول له عن وظيفته) على شرط أن يبقى معه (يعاونه بكل ما في طاقته)
لست أحاول تقصي عوامل هذا الوهم الراسخ والاستمساك الأخطبوطي وتحليلها خشية أن تتفكك أو تنحل عناصر قدسية حضرة المدير المنهادية المتساندة، ولا الإيغال في استكناه بواعث الوهم واستنتاج النتائج، بل أقول: إن رجلاً كائناً من كان يقوم في ذهنه مثل هذا الوهم الباطل القائم على الإيمان المحدود لا يرجى صلاح للمسرح على يديه البتة. إن رجلاً يؤمن إيماناً محدوداً أن كل ما يقدمه للناس هو أكثر مما يتذوقون، وأدسم مما يفهمون، وكفاية على ثقافتهم التي لا تستوعب، ومداركهم التي لا تفقه سوى رواية اليتيمة، وبناتنا سنة 1937 وإضرابهما. إن رجلاً كهذا، لا حيلة معه لمائة ناقد وألف ناصح ومشفق على النهضة الأدبية، إذ ليس في وسعهم أن يجعلوا ثقباً في الماء كما يقول الفرنسيون في أمثالهم، ولا أن ينهضوا المقعد الذي قال له المسيح (قم أحمل سريرك وامش) فقام ومشى.
لسنا والحمد لله في زمن العجائب الخارقة، بل نحن في زمن لا نقبل فيه التدجيل والخرافات، ولا عبادة الأصنام، ننظر إلى الماضي لماماً، بيد أن طموحنا إلى المستقبل عظيم نستمده في طموح مليكنا الشاب الجميل، ومن روح الأدب الجميل الذي لا يقر غير الروح الشاب.
هل مدير الفرقة يعوزه الشباب؟ هل لجنة القراءة فتية ينبض دم الشباب في عروقها؟ أو هو وهي شن وطبقة رضى الله عنهما؟؟ سوف نرى.
ابن عساكر(282/83)
العدد 283 - بتاريخ: 05 - 12 - 1938(/)
من مآسي الحياة
ليت للأوقاف عينا!
ليت للأوقاف عيناً تخترق الجُدُرَ وتشق الأستار فترى ماذا يصنع البؤس بأهله!! إنها وا أسفا تسمع ولا تبصر: تسمع ذلك البؤس الملحَّ الوقح الذي يغضب ويصخب ويثور، ثم يقتحم عليها الحجَّاب والأبواب ومعه فوق لسانه الملحف بطاقة من كبير أو وساطة من موظف. وهذا البؤس الذي يدع لأهله قوة السعي وبراعة الحيلة لا يكون في أكثر حالاته إلا طمعاً أو حرفة. أما ذلك البؤس الدفين الصامت الذي يستعين على ضحاياه بكبرياء نفوسهم فيسلبهم الحس والحركة، ويمنعهم الأنين والشكوى، فلا يراه إلا الله الذي فرض الزكاة، وأوجب الرحمة، وجعل على عباده خليفة منهم ينطق بلسانه، ويرى بعينه، ويحكم بأمره
إن في بعض الدور ومن وراء الستور ظلالاً من الحياة الغاربة على أمثال الخيال من بني آدم؛ تنسم أنفاسهم الضعيفة بما بقي من أرواحهم الخافتة في إسلام مؤمن واستسلام صابر. فإذا كشفتهم الحاجة للعيون حسبهم الجاهل أقوياء من الصبر، أغنياء من التجمل، حتى يستوفوا أجلهم المكتوب وتذهب بهم المنون وهم في وحدة الفقر، كما تذهب شمس الصحارى بأنداء الفجر
كان لنا جار مدرس في مدرسة شبرا الثانوية يجثم تحت جناحيه أربع بنات وثلاثة بنين وزوجة وأم، يقلبهم على ما يشتهون من لذاذات العيش الغرير، فيأكلون أكل السرف، ويلبسون لباس الترف، ويلهون لهو المجانة؛ حتى كانت غُرّف البيت من فيض النعيم ومرح العافية كأعشاش البلابل سالمتها الأحداث في جنة من الحُبّ والماء والشجر. ثم لحظتهم عين الدهر فأصيب الأب بمرض السكر؛ وعقر إصبعه الحذاء ذات يوم فأصابته قرحة ساعية. نقلوه إلى المستشفى القبطي فبتر الجراح رجله. وسعت عليه زوجه بالمال والأمل فلم تستطع أن ترد قضاء الله ولا أن تدفع عادى الموت. . . وانقلب المنزل الفرح المرح النشوان قبراً رهيباً يغشاه الحزن، ويجلله السواد، وتخيم عليه الوحشة. فلا زوار يقَدْمون الهدايا، ولا سمار يفدون بالأنس، ولا ولائم تشرق فيها النفوس والكؤوس كل جمعة
وبحثت الزوجة عما خلَّف الزوج الراحل فلم تجد غير ذلك المال الذي كان تحت يدها وقد أنفقته كله في العلاج والجنازة. ونجمت حول بيتها الحزين رموس الدائنين تندلع ألسنتها(283/1)
بالمطالبة الفاضحة. ففزعت إلى وزارة المعارف تسألها أن تسرع في أداء ما لدى زوجها من الحق؛ فأعطتها بعد لأي مكافئتها على السنين السبع التي قضاها في مدارسها. فقد كان من قبل مدرساً بأحد مجالس المديريات، فلم يجتمع له الزمن القانوني لاستحقاق ورثته جزءاً من المال على سبيل المعاش. وذهب الغرماء بالمكافأة، وبقيت الزوجة وحماتها وبنوها السبعة في غشية الهم وصدمة الواقع، يتلمسون نفساً من الكرب أو شعاعاً من الرجاء يطالعهم من قريب أو صديق فلم ينالوا. وتذكرت الأيم المسكينة أن زوجها كان يعلّم ابن وزير الزراعة فلاذت به تسأله أن يساعدها بجاهه على تربية أولادها في مدارس الوزارة، فتخلص منها بخمسة جنيهات ثم أغلق من دونها بابه
كان بين الزوجين ماتة قرابة؛ وكانت أسرتهما من الأسر الريفية التي ألوى بها الدهر المديل، فلم يبقى منها إلا عجائز وأيامى يعشن على معونة الأستاذ الفقيد، ثم موظف صعلوك في شركة سنجر لم تره الأرملة إلا يوم الجنازة. وقد حملها بغروره على أن تنفق خمسين جنيهاً على ليلة المأتم، لأن أقطاب التعليم وأعيان الأدب لا يمشون إلا على الطنافس الفارسية، ولا يجلسون إلا على الكراسي الذهبية!
وكان للفتاة الكبرى خاطب غني من أصحاب أبيها، فلما وقف على حال الأسرة بعد كاسبها أنقطع خبره فكأنما غابا معاً في قبر واحد! وعجزت الأم عن دفع المصروفات المدرسية لبنيها وبناتها، فظلوا حولها في البيت يندبون الميت، ويبكون الحي، ويسدلون على مأساتهم الفاجعة ستاراً من الصمت والعزلة حذر الشامث. فما كان بابهم ينفتح إلا لتجار الأثاث القديم يخرجون منه بصفقة بعد صفقة من الفرش أو المتاع
ولبثوا على هذه الحال ستة أشهر لم يدفعوا عنها شيئاً من كراء المسكن للحاج محمود، حتى أدركته عليهم شفقة المؤمن، فنزل لهم عن الدَّين ونقلهم إلى غرفتين على سطح من سطوح منازله الكُثْر يسكنونها من غير أجرة
وتركنا حي شبرا منذ خمس سنين فلم نعد نعلم من حال هذه الأسرة المنكوبة شيئاً
وفي صباح أمس الأول كنت في ميدان باب الحديد، فتقدم إليّ صبي من باعة الصحف يحييني وهو يبتسم. فتفرسته فإذا هو إبراهيم أوسط الأخوة الثلاثة! فصحت به مستطار القلب من دهشة المفاجأة:(283/2)
- ماذا فعل الله بكم يا مسكين؟
- مرضت أمي بالروماتزم فلا تنهض، وعميت جدتي من الحزن فلا تسعى، وتزوجت أختي الكبرى من أحد السعاة فلم تصبر على عشرته غير ثمانية شهور. فهي تخيط بالأجرة، وأختي الوسطى تدبر المنزل، وأختاي فلانة وفلانة تخدمان، وأخواي فلان وفلان يعملان، أحدهما صبي كواء، والآخر خادم بقال، وأنا كما ترى. وكل ما نكسبه في اليوم لا يتجاوز ثمن الخبز!
ألا ليت شعري هل تقيم الحكومة في عهد الفاروق الصالح المصلح. الركن الخامس من الدين وهو الزكاة، فتتحقق به أخوة الاسلام، وتنجلي عن الناس هذه الآثام والآلام؟
أحمد حسن الزيات(283/3)
القاهرة في العيد
للدكتور زكي مبارك
لم يبقى شك في أن القاهرة أجمل مدينة في الشرق، وقد تكون فيها خصائص لا تعرفها باريس ولا برلين. وترجع تلك الخصائص التي تفردت بها القاهرة إلى ما فيها من اختلاف الألوان والأذواق؛ فهي ملتقّى للحضارات الشرقية والغربية، ومجتمعٌ للصحيح والعليل من العقائد والمذاهب. فالمسلمون ألوان، والنصارى أشكال، واليهود أخياف. وفيها مع ذلك ناس لا يدينون بغير التهالك على مطالب الشهوات والحواس
والمدنيّة العنيفة هي ذلك. هي اصطراع الشك واليقين، والغيّ والرشد، والهدى والضلال: وليست المدنيّة أن يهتدي الناس جميعاً أو أن يضلوا جميعاً؛ وإنما المدنية في تعقيد المذاهب، واشتباك العقائد، وتناحر الأجناس. هي تلك الصورة التي توجب أن تقوم الحانة بجوار المسجد، وأن تدق أجراس الكنيسة بين المواخير، وأن تكون في الجامعات أركان يخلو فيها المقامرون، كالذي كنا نراه في أروقة السوربون
تلك هي المدنيّة. فلا تعجبوا إن رأيتم من رجال الدين من يلطخها بالسواد في الخطب والعظات، لأن رجال الدين لا يتمثلون سيادة الفضيلة إلا في مكانين: الجنة والصحراء
وإنما كانت الجنة مجالاً لسيادة الفضيلة لأن أهل الجنة أعفتهم المقادير من النضال في سبيل الأرزاق. والنضال في سبيل الأرزاق هو الأصل في خلق الضغائن والأحقاد وهو الذي بلبل أهواء العالمين فأغراهم بالقتال حول المذاهب الاقتصادية، والمسالك المعاشية.
ومن فضائل الجنة أنها ستبيح الناس جميع ما يشتهون من رغائب الحواس، وبذلك ينعدم القلق الذي يساور أصحاب القلوب والأذواق. ولعل هذا هو السر في خُلوِّ الجنة من الشعراء والكتاب والمفكرين، فما سمعنا أن الجنة ستكون فيها خطب أو قصائد أو مقالات أو مؤلفات، لأن هذه الفنون الأدبية ليست في الواقع إلا صورة من ثورة العواطف والأذواق والأحاسيس، وأهل الجنة أراحهم الله من هذا الجهاد
والبادية مجال لسيادة الفضيلة في رأي أهل الدين لأنها توحي إلى القلوب معاني الزهد والتصوف فينعدم الطمع أو يكاد، وبانعدام الطمع تزول أسباب الدس والكيد والزور والبهتان(283/4)
هنا القاهرة
أليس كذلك؟
بلى، وأنتم جميعاً تعرفون!
كنا نسمع في عهد الطفولة أن الشياطين تقَّيد في رمضان، ثم يحل وثاقها بعد ذلك
ولكن وزارة الأوقاف أو مشيخة الأزهر في مصر تعرف أن الشياطين تنجو من الأصفاد والأغلال في مكان واحد: هو القاهرة، ومن أجل ذلك يترك الوعاظ أعمالهم في الأقاليم التي قيدت فيها الشياطين ويفدون للوعظ في مساجد القاهرة التي لم تقيد فيها الشياطين
وإنما كان الأمر كذلك لأن القاهرة مدينة عظيمة جداً من الوجهة الاقتصادية. والعظمة الاقتصادية هي الأساس لجميع المشكلات، وهي مصدر الحروب، وهي مثابة الشياطين
وعند النظر في هذه الدقائق نعرف كيف فطنت وزارة الأوقاف إلى سَوق الوعاظ إلى القاهرة في أيام رمضان
ولكن هل شعرت الجمارك بأقوال الوعاظ في رمضان؟
وهل يسر الحكومة أن تشعر الجمارك بأقوال الوعاظ في رمضان؟
ليتني أملك حرية التعبير عما أريد أن أقول!
لو كنت أملك حرية التعبير لقلت: إن في مقدور الحكومة أن تراقب الجمارك في شهر رمضان، ولو فعلت لاستراح الوعاظ من محاربة الشياطين في رمضان
ولكن الحكومة لن تفعل، لأن هناك شيطاناً يصدها عن ذلك هو شيطان المدنية الذي يجعل حرية التجارة من الشرائع. وهذا الشيطان الأعظم هو الذي جعلنا نُزهَى ونختال كلما تذكرنا أن القاهرة أعظم مدينة في الشرق
أترك هذه الفلسفة وأشرع في كلام آخر قد ينفع بعض النفع
أنا أقضي العيد في القاهرة، وهي أول مرة أعرف فيها ملاعب القاهرة في العيد
فقد كنت في الأعوام السوالف أقضي العيد في سنتريس قبل أن يرزأني الدهر بموت أبي، ثم شاءت المقادير ألا أعرف العيد فيما عدا ذلك إلا في باريس وبغداد، فقد دخلت باريس أول مرة في يوم عيد، ثم خرجت منها بعد أداء امتحان الدكتوراه في يوم عيد، وأنا أواجه العيد في القاهرة بعد عيدين قضيتهما في بغداد. . .(283/5)
فهل يكون عجيباً - وهذا حالي - أن أفرح بالقاهرة في العيد؟
أنا في عيد أيها الناس، فدعوني ألهو وألعب يوماً أو يومين!
هذا هو العيد، وتلك هي القاهرة
فاعذروني إن جننت وفتنت بالقاهرة في يوم عيد
لن أذهب إلى نادي المعارف في بغداد لأسأل عن رؤية الهلال، ولن أقضي مساء الشك بمنزلي في شارع الرشيد
وما الموجب لذلك؟ لقد صمنا رمضان ثلاثين يوماً ولم يبق إلا أن نواجه الباسمين والباسمات في شارع فؤاد
إي والله، هذا شارع فؤاد في ليلة عيد!
وهل ينتظر شارع فؤاد ليلة العيد؟
وهل رأى الناس في مشرق أو مغرب شارعاً مثل هذا الشارع في الحيوية والابتهاج والانشراح؟
إن شارع فؤاد لا ينتظر ليلة العيد، فجميع أيامه ولياليه مواسم وأعياد
وما ظن القارئ بشارع يشهد بأن القاهرة أجمل بقعة في الأرض وأنها طليعة الفردوس؟
ما ظن القارئ بشارع يتموَّج فيه الحُسن ويصطخب فيه الفُتُون؟
ما ظن القارئ بشارع يراه أصحاب الأذواق من المعارض الدولية للصباحة والملاحة والجمال؟
ما ظن القارئ بشارع هو الشاهد على أن القاهرة أصبحت أعظم مرجع من مراجع الشعر والخيال؟
وما عسى أن أقول في شارع كان ولا يزال أعظم مصدر من مصادر الوحي لشعراء وادي النيل؟
نحن في شارع فؤاد، وهذا مشربٌ كُتِب على بابه بأحرف من النور الوهاج:
رمضان ولَّى هاتها يا ساقي ... مشتاقةً تسعى إلى مشتاق
رمضانُ ولَّى؟ رمضانُ ولَّى؟
وهو كذلك!(283/6)
هاتها يا غلام!
وما أكاد أنطق بهذا اللحن الطرُوب حتى يدخل شيخ من أعلام رجال الدين فيقول: ما أتى بك ههنا يا دكتور!
فأجيب: أنا في ضيافة أبي حنيفة النعمان!
ويسارع الشيخ فيطلب كأساً من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نؤاس
ويغلبني التجمل والتوقر فأطلب كأساً من قهوة أبي الفضل وأَصدف عن قهوة أبي نؤاس
وما هي إلا لحظة حتى نشتبك في جدال مزعج، ثم يتوافد أمثاله وأمثالي، فتتحول الحانة إلى حلقة من حلقات الأزهر الشريف، وينظر إلينا غلمان الحانة مبهوتين مذعورين
كيف تنقلب الحانة إلى مثل ما انقلبت إليه في ليلة العيد؟
وكيف أعود شيخاً متعجرفاً متغطرساً لا يعرف غير جدال الفقهاء؟
أيها الشيخ
صددت نفسي، صدَّ الله نفسك!
ولكن لا بأس، فتلك هي القاهرة التي يصطرع فيها الهدى والضلال؟
خرجت من الحانة مصدوع الرأس من قهوة أبي الفضل ومن الجدال حول الحرام والحلال، فأين أذهب؟
أين أذهب؟ أين أذهب؟
هذا صديق خفيف الروح، ولكنه أيضاً معمَّم وإن كان يحمل الطربوش، ذلك بأنه يحمل فوق قلبه عمامة أضخم من عمامة الشيخ الفَضّالي، وما رأيت الشيخ الفَضّالي ولكن عمامته سارت مسير الأمثال. وكان هذا الصديق معمَّم القلب لأنه يعايش رجال الدين بالأزهر الشريف
وأين أذهب في ليلة العيد مع هذا الصديق المطربش الرأس المعمم القلب؟
هل أردّه إلى مشارب القهوة والشاي في حي سيدنا الحسين؟
أغلب الظن أنه يتشهى السهر بسقط اللوى بين شارع الألفي وشارع إبراهيم!
رباه ما هذا الذي أسمع؟
لقد سمعت أشياء لم تكن تخطر في البال. فهل أستطيع أن أصرح؟(283/7)
هل أستطيع أن أقول إن حي الأزهر صار قطعة من القاهرة تشتبك فيه نوازع الرشد والغي، والهدى والضلال؟
أنا أعرف أن الأماكن التي تصطبغ بالصيغة الدينية تنتفع من الاتسام بسمة الدين. ولكني أنكر أن يصل الجشع ببعض الناس إلى الوقوع في مهالك الانتفاع.
يجيء جماعة من جاوة أو من الهند أو من الصين للاستصباح بنور الأزهر الشريف فيحيط بهم ناس لا يؤذيهم أن يستغلوا سمعة الأزهر أسوأ استغلال
ولو كان هؤلاء المستغلون تجاراً لخف الأمر وهان. ولكنهم يتصلون بناس لهم في المعاهد الدينية مكان، ولهم مع رجال الدين صلات.
فهل يعرف هؤلاء الغافلون خطر ما يجنون على الأدب والوطنية حين يستبيحون (استغفال) بعض الوافدين على الأزهر من أهل جاوة والهند والصين؟
إن من حق الحي الأزهري أن ينتفع من صفته الدينية. ولكن من واجبه أن يراعي أصول الأدب والذوق فلا يفارقه زائر إلا وهو معمور القلب بأطيب الذكريات، فمن العيب أن نشوه سمعة الأزهر وسمعة مصر لنحصل على منافع خسيسة لا ينصب لها ميزان.
وقد آن لشيخ الأزهر أن يعرف أنه مسئول عن كرامة ذلك الحي، آن له أن يفكر في تنظيم هيئة خالية من المطامع تشرف على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في الحي الأزهري، فأن لم يفعل فسيجني عواقب الإهمال بعد حين.
أيتها القاهرة
ماذا تُظهرينَ وماذا تُضمرين؟
اكشفي القناع قبل أن يمزقه القلم أقبح تمزيق
مضت ليلة العيد وجاء يوم العيد
الدنيا تموج بالمحاسن والمفاتن في كل أرجاء القاهرة، وكل مكان في القاهرة مباح إلا الحدائق
ولماذا؟ لأن النعيم بحدائق القاهرة مقصور على أطفال الملاجئ في يوم العيد
الحمد لله
(لا يزال في القاهرة مجال للطيبات)(283/8)
أما بعد فقد انقضت أيام العيد، وبقيتَ يا قلبي بلا عيد
أين أيامك يا قلبي وأين لياليك؟
وما حظك من هذه المدينة التي تموج بالسْحر والفتون؟
أكل حظك أن يطوف بك العقل حول هذه الأشواك؟
ليت عهدك بالغواية كان طال، وليت الأقدار رحمتك من ثورة العقل في هذه الأيام!
كتب عليك يا قلبي أن تعيش بين أدغال المدنية، حيث لا يحنو قلب على قلب، ولا يأنس روح بروح، ولا تأتلف نفس مع نفس، إلا بروابط وثيقة من أصول المنافع، وآه ثم آه من عصف المنافع بأهواء القلوب!
أتراني غدرت بك، أيها القلب؟
أحذر أن يمرّ هذا في وهمك، فما كنت إلا أكرم صاحب وأشرف صديق
وهل غدرتُ بأحد حتى أغدر بك؟
لقد عانيتُ في سبيلك ما عانيتُ فطوَّفتُ بالمهالك والمعاطب لأروى ظمأك المشبوب، ولأريك مطالع الأهلة في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد
وما زلتُ أتلطف بك يا قلبي وأترفق، وهل صادقتُ من صادقت من كبار الكتاب والشعراء إلا لأزفْ إلى حِماك كرائم المعاني؟
ولكنك - مع فضلي عليك - تلقاني باللؤم في بعض الأحيان
وإلا فما هي حجتك في الهيام بعروس الزمالك؟
عرفتُ حجتك يا قلبي، أنت تريد أن تصدني عن الحتف الذي ينتظرني في البلد الذي أعرف وتعرف
أنت تريد أن تصدني عن (الحبيبة الوفية) التي ترسل بعض جدائلها المعطرة في كل خطاب ولم تظفر مني بجواب، شكر الله فضلها الجميل وعفا عني
عرفت حجتك يا قلبي، فأنت تريد أن تقول:
ويحسبُ نسوانٌ من الجهل أنني ... إذا جئتُ إياهن كنتُ أريدُ
فأقسم طرفي بينهن سَوَّيةً ... وفي الصدر بونٌ بينهن بعيدُ
أتريد أن تقول ذلك؟ وكيف وأنا أحب معك عروس الزمالك؟(283/9)
أحبها من أجلك يا قلبي، وأحبها لأنها سمية الاسم الذي تعرف وأعرف
أحب التي هنا والتي هناك، وأطلع كما يطلع القمر بكل سماء، وأهيم هيام النسيم بجميع الحدائق والبساتين
ولكن متى نجيب صاحبة الجدائل المعطرة يا قلبي؟
حدثني متى نجيب، فقد يحملها اليأس على الصدود
أيها الجمال
تحدث ولا تقل غير الحق
هل عرفت قلباً أشرف من قلبي، وضميراً أطهر من ضميري؟
وأنت أيها الليل
هل عرف المحبون من أسرارك ما عرفتُ؟ وهل استصبحوا بظلامك كما استصبحت؟
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(283/10)
مقالات في كلمات
للأستاذ محمود غنيم
الحياة والأمل
قالوا: إن فرعون حينما أراد أن يبلغ الأسباب، أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، هيئ له تابوت ذو أربعة أعمدة، ثم علق في أسافل تلك الأعمدة أربعة نسور خماص، وفي أعاليها أربعة حملان مسلوخة الجلود، ثم استقل فرعون التابوت فانطلقت النسور تشق أجواز الفضاء، تمني نفسها عبثاً بذلك اللحم الغريض، ثم كان من أمرها ما كان
وما أظن أننا في هذه الحياة إلا أشبه بتلك النسور، وما أظن الغاية التي نسعى إليها أقرب من تلك الحملان، مع تعديل طفيف في طرفي التشبيه، فنسور فرعون تسعى وراء أمنية لا يتسنى تحقيقها، ونحن كلما تحققت لأحدنا أمنية أسلمته إلى أخرى، وهكذا يقضي الإنسان عمره وراء سلسلة من الآمال متصلة الحلقات غير متناهية، حتى يخر صريعاً وأمانيه حوله، وقد حال بينهما من الموت سد منيع
هذا طالب ينشد شهادة، وهذا حامل شهادة ينشد راتباً، وهذا ذو راتب يريد أن يتضاعف، إلى آخر تلك السلسلة التي لا تنتهي حلقاتها
ثم هذا شاب يريد أن يتزوج، وهذا زوج يريد أن ينجل، وهذا ناجل يريد أن يرى أنجاله رجالاً، إلى أخر تلك السلسلة التي لا تنتهي حلقاتها
ثم هذا قائد يريد أن يكون وزيراً، وهذا وزير يريد أن يكون أميراً، وهذا أمير يريد أن يوطد نفوذه أو يوسع رقعة ملكه
قالوا لنابليون ذات عشية ... إذ كان يرصد في السماء الأنجما
بعد افتتاح الأرض ماذا تبتغي؟ ... فأجاب أنظر كيف أفتتح السما؟
الحياة نار مشوبة وقودها الأمل؛ وهي قطار، وهو بمنزلة البخار، وإن للطبيعة في خداع الناس عن هذا الطريق أفانين، فهي تزين للإنسان الغاية من الغايات، فيدمى أخمصيه سعياً وراء تحقيقها، حتى إذا جاءهم لم يجدها شيئاً، فتلوح له بأخرى، وهكذا يقضي الإنسان حياته في سعي متواصل، وهي لا تتورع في هذا السبيل عن خداع الناس بالحق وبالباطل، وعندها لكل صنف من الناس صنف من الآمال يخلب لبه ويغريه ببريقه. أرأيت ذلك(283/11)
الشيخ المحطم الذي يقف بإحدى قدميه على حافة القبر، والذي لا زوجة له ولا عقب يرث ماله من مال أو لقب؟ لقد اخترعت الطبيعة له شيئاً يقال له طيب الأحدوثة، وخلود الأسماء بعد الفناء، فأجهدته في شيخوخته المحطمة ولم تدعه يقضي أيامه المعدودة في أمان واطمئنان
قرأت في بعض المجلات أن الإمبراطور غليوم لا يزال يمني نفسه بالعودة إلى عرش ألمانيا، وأنه لا يزال يترقب اليوم الذي يثوب فيه الشعب الألماني إلى رشده، فيستدنيه من منفاه، ويسلم إليه مقاليد الأمور. ولعلك لا تعلم أن المحكوم عليهم بالإعدام لا ييئسون من الخلاص حتى ساعة التنفيذ، ولهم فروض لا تخطر بالبال، تنتهي كلها إلى غاية واحدة هي النجاة
إنها الطبيعة، الطبيعة التي سلحت النساء بالنعومة والجمال لإغراء الرجال، والتي سلحت الزهر بطيب العرف وألوان الطيف ليجذب الطيور فيشاطر الريح حمل حبوب التلقيح. هي هي التي حاكت لنا خيوط الآمال، لنتعلق بها فيعمر الكون، ويسير نحو الكمال
فليت شعري، ماذا يدعوها إلى ذلك كله؟ أهو شيء لا نعلمه؟ أم لا شيء؟
الأيمان بالحظ
قال صديقي في تهكم: ألم يبلغك نبأ التعينات الجديدة؟
قلت: لا، وماذا يعنيك من أمرها؟
قال: إن بين المعينين مدرساً جديداً، كان بالأمس لي من الأولاد، فأصبح الآن من الأنداد
قلت: وماذا في هذا؟
قال: فيه شيء كثير، فقد كان صاحبنا هذا هدفاً لسهام المعلمين - وأنا من بينهم - وكان المثل في كساد الذهن، وقلما وقعت عيني عليه إلا نائماً أو متثائباً. وكنت أعتبره (ترمومتر) الفصل، ما فهم أمراً إلا اعتبرته مفروغاً منه مفهوماً من الجميع
قلت: هون عليك يا صديق، وماذا أنت فاعل إذا جاءك هذا المتثائب النؤوم غداً يفحص أعمالك، ويقفك منه موقف المسؤول من السائل، تتلقى إرشاداته، وتتقبل نصحه بقبول حسن؟
إنك يا صديقي لا تؤمن بالحظ، أما أنا فإنني مؤمن قوي الأيمان به. أعتقد أن للجد (بفتح(283/12)
الجيم)، المرتبة الأولى في تصريف الأمور، وللجد (بكسر الجيم) المرتبة الثانية، فلو شبهنا العالم بفلك لكان الأول بمنزلة الربان، والثاني بمنزلة السكان
لعل التربة التي أنبتت نابليون - أنبتت من أمثاله عشرات لهم مواهبه ومقدرته على تعبئة الجيوش، وتسلق الجبال، واختراق البحار، ولكن أحدا منهم لم يمهد له الحظ ما مهد لبونابرت من الأسباب. ولو أتيح له ذلك لكان نابليونا ثانيا يصرف ملوك أوربة تصريف قطع الشطرنج، ويلعب بعجينتها كما يلعب الأطفال بالصلصال
إن الحظوظ والمصادفات تلعب دوراً هاما في تاريخ الجماعات بله الأفراد. ومن يدري ماذا يكون مصير مصر لو لم يقع مارك أنطوان في حب كليوباطرة؟ وماذا يكون مصير الإسلام لو لم يتح للمسلمين التغلب في بدر؟ بل ماذا كان يكون مصير البشرية جمعاء لو لم تهف نفس حواء إلى شجرة الحنطة أو التفاح؟
إذا قلت يا صديقي: إن الرجال يسعدون أو يشقون بما يقدمون من أعمال، فما بال الأطفال، يولد أحدهم في الغربال، وتدق لثانيهم البشائر قبل مولده فإذا استهل وجد عرشا يمهد له، وأمة تراض على طاعته، وتهافتت عليه المراضع، وترامت على أقدامه الحواضن؟
إن الإنسان يا صديقي ليقضى زهرة شبابه في كد وتحصيل، ثم يسعى حتى ينتعل الدم في سبيل الوصول إلى منصب يدر عليه في عام ما يتقاضاه بعض المطربين في يوم من الأيام، فهل كون المطرب صوته، وخلق لهاته بيديه؟
وماذا عملت الفتاة تخلع عليها الطبيعة مسحة من جمال، فيتهافت على بابها من الخطاب وفود، بينما لا تجد أختها زوجا من عود؟
وبعد، فإذا قلنا: إن الملوك قادوا الجيوش فتبوؤا العروش، فعلى أي أساس شرف الله - جلت حكمته - برسالته أناسا من الدهماء، فجعلهم أنبياء، وبشر بهم قبل ميلادهم بمئات من السنوات؟
قال صديقي: الآن آمنت
قلت: إذن استرحت
الذوق والشعر
تتناول قطعة من التفاح فتحس لها طعماً لذيذاً، ثم لا يطالبك إنسان أن تقدم على لذتها دليلا،(283/13)
ولو حاولت ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتشم عبير الزهر، فتقول: إنه طيب، ولو سئلت: لماذا هو طيب؟ لم تحر جواباً. وتسمع عزف الموسيقى أو خرير الغدير أو سجع الطيور، فتقول: صوت شجي، ولكن لماذا هو شجي؟ لست تدري ولا المنجم يدري. وتستطيع أن تقول مثل ذلك في كل منظر جميل يقع طرفك عليه، فلا يطالبك إنسان بتعليل جماله، ولو فعلت لطال بك البحث والتدليل، دون أن تنتهي إلى تعليل
ولكنك حين تستطيب قطعة من النظم طالبك النقاد بإيراد العلل والأسباب، كأن طيب الشعر في الذوق غير طيب التفاح في الفم، والزهر في الشم، والموسيقى في السمع، والحسن في العين
إنه الذوق، ثم الذوق وحده، الذوق الذي يجعلك تتشهى طعاماً وتعاف آخر، هو الذي يجعلك تسيغ شعراً وتغص بشعر؛ وهو الذي يقسم القافية إلى قافيتين، إحداهما تشج الجبين، والثانية أندى على الأكباد من العذب البراد؛ وهو الذي يقسم دواوين الشعراء إلى قسمين، أحدهما للخلود، والثاني للوقود
لا يخضع الشعر لمنطق النقاد، فاعتبر كل ما صح من أقيستهم في ذلك سفسطة لا طائل تحتها. وكم من شعر هوجم واستعملت في مهاجمته أسلحة الأقيسة والبراهين، وآخر ناصرته تلك الأسلحة فمات الثاني في مهده، وبقى الأول خالداً، تتداوله الرواة، وتتناوله الشفاه. . .
أرأيت لو قال لك قائل: أن صوت الحمل أشجى من صوت العصفور لأن الأول ألذ طعما وأكبر حجما، وأوفر شحما ولحماً، أو قال لك: أن ريح البصل أطيب من ريح الزهر لأن الثاني مرير الطعم، سريع الذبول، لا يصلح الطعام بخلاف الأول. أرأيت لو قال لك قائل ذلك هل تصيخ إليه؟ إنه لم يكذب ولكنه لن يجد له سميعاً
من هذا القبيل قولهم: إن هذا الشعر حافل بالمعاني الفلسفية، والنظريات الكونية و. . . و. . . ثم هو مع ذلك لا يحرك مشعراً من مشاعرك، ولا يمس وتراً من أوتار قلبك، بل يسمعه النائم فلا يستيقظ، والصاحي فينام، وهبه نافعاً كما يقولون، فما مثله مع ذلك إلا كمثل (زيت الخروع) يستعيذ من شره الإنسان، وإن صحت به الأبدان
حاول ما استطعت أن تعلل سر الجاذبية في الشعر، فسوف يعييك البحث. لن تستطيع(283/14)
رجعها إلى لفظ ولا إلى معنى، فرب لفظين مترافدين أحدهما يقيم البيت، وثانيهما ينقضه من أساسه، ورب معنى واحد في بيتين؛ أحدهما يثير الإعجاب، والثاني يثير السخرية والاستهزاء
أيها القارئ، إذا تلاءم الشعر وذوقك فخذه، وإلا فدعه، فأن قبح الأول لك مقبح، أو حسن الثاني لك محسن، فاهزأ بقوله، واضحك منه ملء شدقيك، ثم استفت قلبك
إنني أومن بالذوق، ولكنني بجانب ذلك لا أجحد أن الأذواق تختلف، وأن منها الفاسد الذي لا يصلح للحكم، بيد أن الذوق على ما به من هنات لا يزال في نظري أصلح المعايير التي يقاس بها الشعر، فينبغي أن نعول عليه، وعليه وحده، حتى نهتدي إلى مقياس محسوس تقاس به المعنويات، كما تقاس الحبوب بالقدح والصاع، والأطوال بالباع والذراع
(كوم حماده)
محمود غنيم(283/15)
في سبيل الإصلاح
داء الشباب!
(الخوف من الكلام في هذا الداء هو الذي أوقعنا فيه)
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . وهل داء الشباب إلا الميل الجنسي الذي يملأ نفوسهم، ويسيطر على أرواحهم، ويتراءى لهم في كل جميل في الكون، شيطاناً لعيناً يقود إلى الهاوية وإبليساً من أبالسة الرذيلة، يدعوا إلى دين الهوى، وشرع الشهوات، ويحدر عقل من يستجيب له فينزل من مكانه في الرأس إلى غير مكانه، ويجعل صاحبه عبداً للجسم، مؤتماً بالشيطان؟
وهل يأتي ممن كان إمامه إبليس، وشرعه هواه، إلا قطْ في شهر شباط. بل ما يبلغ والله أن يكونه، فان القط تشعله الشهوة شهراً في العام، وسائر أيامه للصيد والوثب والسعي للرزق وما خلق الله له القطط، وعبد الشهوة من الناس تتعبده الشهوة في كل حين. . . وللقط طريق واحد إلى بلوغ شهوته هو (الطريق) الذي (شقه) الله لبقاء الجنس، تبعاً للسنة التي سنها، أما عبيد الشهوة من البشر فلهم مائة طريق. تسعة وتسعون منها تخالف سنة الله، وقوانين الحياة، وتأباها العجماوات، ويترفع عنها الحمير، ولا يرتضيها لنفسه (صاحب اللعنات) إبليس. . . والقط في شهر الشهوة، لا ينسى قِطيته ولا يدع صيد الفار، ولا السعي للعيش، والرجل إذا تعبدته الشهوة ينسى إنسانيته، ويهمل الواجب عليه، ويقعد عن المشي في مناكب الأرض في طلب الرزق، بل لقد تبلغ به السفاهة والجهالة أن يفرَّ من الحياة منتحراً جباناً ذليلاً، لأن. . . لأن امرأة لم تعطه من نفسها الذي يريد، ولو عقل عقل القط لتركها إلى غيرها، وليس يبالي القط مادام قد قام بقسطه من حفظ النسل، أكانت صاحبته بيضاء مبرقشة أو سوداء حالكة، ولم نعهد قطاً قطع نفسه بأسنانه، أو ألقى بها في البركة، حزناً على حبيبته القطة. . . والقط (بعد ذلك) يبقى عزيزاً، يطارد القطة مرفوع الرأس، مشدود العضل، بادي القوة، والرجل إذا استعبدته الشهوة يصبح ذليلاً حقيراً، كافراً بالرجولة، فيهمل دروسه إذا كان طالباً لأن صاحبته (أو شيطانته) لم تدع له وقتاً ولا عقلاً للدرس؛ وإذا كان موظفاً أنسته عيناه أمانة العمل، وحرمة المصلحة، وواجب الشرف،(283/16)
وقدسية العدل؛ وإذا كانت صاحبة سره في تجارته نسى تجارته، وأضاع الأمانة والربح، وأهمل السعي والعمل. . . فلا يكون من وراء الشهوة إلا ذل النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفل: المعلم سيد تلميذته، والمدير أمير سكرتيرته، والطالب عزيز حيال رفيقته، فإذا جاءت الشهوة، ذل المعلم فكان هو التلميذ وهي السيدة، وذل المدير فكان هو الأجير وهي الآمرة، وذل الطالب فكان من رفيقته بمثابة كليها. . . يتبعها ويبصبص لها!
أو ليس من الذل أن تكون حياتك معلقة بغيرك، وسعادتك بيد سواك، فأنت مضطر إليه، وأنت لعبة في يديه، إن أقبل عليك سعدت، وأن أعرض شقيت، وان مال إلى غيرك اسودت أيامك، وتمنيت الموت؟
هذا والله الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض، ولا. . . (ملك إنكلترا وتوابعها. . .) وهذه هي حقيقة الحب، الحب الذي ألهه الشعراء!
على أن الحب في الأصل جميل مقدس، وعلى الحب قام الوجود كله وائتلف وسار إلى غايته، والشهوة نافعة لازمة لم تخلق عبثاً، ولا أداة للشر، بل خلقت حياة للجنس وعصمة من أن يمحى أو ينقرض، ولسنا نحقر الحب ولا نذم الشهوة، وإنما نذم الغلو فيهما، وولوجهما من غير بابهما، وأخذهما على غير الوجه الذي خلق الله لهما. . . نذم منطق الشهوة، وللشهوة منطقها الذي يسلب الدين دينه والحكيم لبَّه، ويريه أن له الحق في كل النساء، وانه لم تخلق امرأة إلا للذته (هو) ومتعته، ويصنع له إبليس أدلة هذه الدعوى فيقبلها بعقله الذي انحدر من رأسه، ويتلقاها بأعصابه الهائجة المجنونة، ثم يدله إبليس على سبل تحقيقها، فيسلكها لا يبالي الدين ولا العرف ولا المروءة ولا شيئاً مما تواضع على إجلاله الناس ويتم إبليس عمله، فيدخل في رءوس نفر من الأدباء، ثم ينطق بلسانهم، ويخط بأقلامهم، هذا الأدب الوقح البذيء، أدب أبي نواس من الأولين، وآباء نواس من العصريين، الأدب الذي يستقر في أدمغة الشباب استقرار صناديق البارود في أصول البيوت، فلا يلبث أن يتفجر عند الشرارة الأولى، تخرج من عين امرأة، فينسف عقل صاحبه ودينه، وأخلاق الأمة وصيانتها، ويقطع نسلها ويؤلف (المشكلة الكبرى) التي عرضنا من أسابيع إلى وصفها. . . ولا نعدم مع ذلك من الناس من يعجب بهذا الأدب ويكبره ويسمي صاحبه بأسماء الجهابذة الأعلام من أرباب البيان وحملة الأقلام. . .(283/17)
وهل في الأدب المكشوف، إلا كشف سوأة من سوءات الفكر، وعورة من عورات الضمائر، يحرص العقلاء على سترها كما يسترون عورات الجسم؟
أستغفر الله ماذا أقول إن الناس قد كشفوا عورات الجسم على السواحل وفي المصايف، وأبدوا كل سوأة، وافتخروا بها، وسموها جمالاً وكمالا، وصوروها وملئوا بها جرائدهم ومجلاتهم، أفيلام الشباب إن جن جنونه، واشتعلت في أعصابه النيران؟
اخطبوا أيها المدرسون ما وسعكم الجهد، واهرئوا ما انفسح لكم سبيل الهراء، وقولوا للشاب كن صيناً وعفيفاً. إنها لن تجدي عليه خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم؛ إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب بلغة الطبيعة الثائرة في السوق على لسان (حال) المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية المغرية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجرائد المصورة والروايات الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين. . . ولسان المدرسين حين يدرسون شعر أبي نواس المقرر رسمياً في المنهج!
إن الشاب تتعبده الشهوة فيخضع لها، لأن سهامها تنصب عليه من كل جانب، فلا يطيق أن يتقيها، فيصورها له خياله عالماً مسحوراً عجيباً، وجنة فينانة غريبة، فيتمنى دخولها، فلا يجد من دونها حجاباً، بل يجد من يسوقه إليها، ويحفزه عليها، فلا يخرج منها أبداً، ولا عليه إن ماتت الأمة أو عاشت، فهل فكر أحد من أطباء الأخلاق في هذا الداء؟
بناء الأخلاق ينهار، وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، والقادة والمصلحون وأرباب الأمر يرون ذلك كله، فلا يبالونه ولا يفكرون فيه، ولا يفتشون له عن علاج. . . مع أن العلاج هين ميسور والعقاقير دانية قريبة، لا ينقصها إلا يد تمتد إليها فتأخذها لتجرعها المريض وأين تلك اليد؟
إن الله الذي وضع الشهوة في النفوس جعل دواءها الزواج، فإذا تعذر الزواج فهنالك طرق للوقاية من الفاحشة، وهنالك السدود دونها والحجب: هنالك الدين، فإذا علمتم الشاب دينه، وعرفتموه بربه، ونشأتموه على التوحيد الخالص، والإيمان الصحيح حتى يعلم أن الله مطلع عليه، لاستحيا من الله أن يأتي الفاحشة بسمعه وبصره، كما يستحي أن يأتيها على مشهد من أبيه الذي يجله، أو أستاذه الذي يحترمه، ويعلم أن من حق الله عليه، وقد أعطاه هذه(283/18)
الأعضاء وأنعم بها عليه ألا يستعملها إلا في طاعته. . . هذا أول سلاح تدرأ به المعصية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي لا يستطيع أن يزني وهو مؤمن أن الله مطلع عليه، ناظر إليه، ولمنعه الحياء من الله أن لم يمنعه الخوف من العقاب
وهنالك الشرف، فإذا ربيتم الشاب عليه، وجعلتموه يحس به ويقدره قدره، وأفهمتموه معنى المروءة وقيمة العرض، لمنعه من الفاحشة ما كان يمنع الجاهلي الشريف، من أن ينظر إلى جارته حتى يوارى جارته مأواها
وهنالك الصحة، فلو عودتموه الرياضة، وعرفتموه قيمتها، وأنبأتموه أن الله جعل مع العفاف الصحة والسلامة، ومع الفاحشة الضعف والمرض والمصائب السود لاقتصد في اتباع الشهوة، إن لم يكف عنها، ولم ينظر إليها إلا من سبيلها، وسبيلها الزواج
وهنالك طيب السمعة، وحسن الذكر في الناس، وهنالك الكثير من الأسلحة والحجبَ
والعلاج كله في يد وزارة المعارف وآباء الفتيات
أما وزارة المعارف، فتستطيع أن تعني بالأخلاق العامة، فتبذل جهدها في مراقبة الجرائد والمجلات والروايات، وتبث الوعاظ ينشرون في الناس الفضيلة ويرغبونهم عن التهتك والعري
وتستطيع قبل ذلك كله أن تهتم بأخلاق التلاميذ، فتوكل بهم من يفهمهم (قبل سن البلوغ) حقائق الحياة الجنسية بأسلوب علمي يضرب فيه المدرس المثل بتلاقح الأزهار، واجتماع الحشرات والطيور، ويبين لهم بشاعة الفاحشة على مقدار ما يتسع له القول وأضرار (العادات السرية السيئة) ويكون حكيما في بيانه، فلرب بيان مثل هذا، يخلو من الحكمة، فيقود إلى الرذيلة بدلا من أن ينصرف عنها
وتستطيع وزارة المعارف أن تعلي من شأن درس الدين، وتختار له من المدرسين من يكون قدوة في سمته وخلقه وسيرته، فان المدرس يفعل بسيرته في نفوس الطلاب ما لا يفعل بمحاضراته وتدخل هذا الدرس في الفحوص والامتحانات العامة، وتجعل الطلاب (يرسبون) إذا قصروا فيه، لأن الطلاب لا يمكن أن يعنوا بدرس لا (يرسبون) إن قصروا فيه(283/19)
وتستطيع وزارة المعارف أن تلزم المدرسين بأن يكونوا مثالاً كاملاً للاستقامة والعفة والمروءة، وأن يكونوا قدوة للطلاب صالحة، فأنا قد رأينا من ليس كذلك، رأينا من يصحب طلابه إلى دور الفحشاء!
وتستطيع وزارة المعارف أن تضع القوانين الصارمة لحماية عفاف الطلاب من أنفسهم ومن غيرهم. . .
أما آباء الفتيات الذين لا يزوجوهن إلا بيعاً، فهم رأس البلاء، ولكنه لا ينفع معهم الكلام
أما أنتم يا اخوتي الذين يقرئون هذا الفصل من الشباب، فإني أنصح لكم (وأنا شاب مثلكم)، بأن تصرفوا ميولكم إلى جهة علوية، فان الميل كالبخار المتصعَّد من القدر قد يجد سبيله فيدير الآلة، ويسير القاطرة، وقد يحتبس فتنفجر به القدر، وقد يسيل على الأرض هدراً، فأنا لا أحب أن تسيل ميولكم هدراً، ولا أن تضيق بها نفوسكم حتى تنفجر، بل أحب أن تتساموا بها فتسوقوها في طريق الفن والإبداع
إن من يفكر في المرأة، ويزداد به الشوق إليها، ولا يجدها زوجة لأن الآباء يضنون ببناتهم حليلات ويبذلونهن للناس خليلات، يستطيع أن يصب شوقه في القطعة من الشعر أو القصة من القصص، أو أن يصور شوقه نغمة جديدة، أو صورة بارعة يشعر إذا صنعها بمثل ما يشعر به من بلغ - ما كان يريد - ويجد الاطمئنان، ويمشي في طريق النبوغ
وإن الشباب إذا دأب على المطالعة والبحث، ورغب في التفوق على رفاقه في المدرسة، أو الفوز على خصومه في الجري أو الملاكمة، أو استغرق في تجارة فشغلته، أو صناعة فملأت حياته لا يجد في نفسه بقية للشهوة، إنما تستبعد الشهوة من كان فارغ الرأس واليد والوقت
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة!
وبعد فهذا داء عضال فتاك، فأين أطباؤه، وأين من ينتبه إليه؟ أين الكتاب الباحثون فيه؟ أين أولو الأمر المعنيون به؟ أين الغُيُر على الدين والأخلاق؟ ألم يبقى منهم أحد؟!
(بغداد - المدرسة الغربية)
علي الطنطاوي(283/20)
كتاب المبشرين
من أغلاطه في العربية
لأستاذ جليل
- 6 -
20 - في الصفحة (70): أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك داماسوس وأورسكينوس في المشاحة على منصب الأسقفية ما أفضى إلى. . .
قلت: في القول: (من تهالكهما في المشاحة على منصب كذا) - حذلفة بل عسلطة؛ ولو قيل: كان فيها من تهالكهما على منصب كذا لاستقام الكلام؛ فتهالك على كذا اشتد حرصه عليه، والمشاحة التي أقحمت هذا الاقحام، معناها الضنة، والإحكام يقتضي في هذا المقام (التشاح) - إن أريد ذلك - لا المشاحة، ففي الصحاح: فلان يشاح على فلان أي يظن به.
وفي اللسان والتاج: تشاحا على الأمر تنازعاه لا يريد كل واحد منهما أن يفوته وتشاح القوم في الأمر؛ وعليه شح به بعضهم على بعض وتبادروا إليه حذر فوته وتشاح الخصمان في الجدل كذلك
21 - في الصفحة (70): أسقفية رومة
قلت: في كتب التاريخ والأدب واللغة وغيرها (رومية) لا رومة، وهما روميتان إحداهما - كما قال ياقوت - بالروم، والثانية بالمدائن. وفي معجم البلدان: (ورومية من عجائب الدنيا بناء وعظما وكثرة خلق، وهي اليوم بيد الإفرنج وملكها يقال له: ملك ألَمان، وبها يسكن البابا التي تطيعه الفرنجية، وهو لهم بمنزلة الإمام متى خالفه أحد منهم كان عندهم عاصياً يستحق النفي والقتل، يحرم عليهم نساءهم وغسلهم وأكلهم وشربهم فلا يمكن أحد منهم مخالفته) وفي شعر القيسراني في نور الدين (رضي الله عنه): (فؤاد رومية الكبرى لها يجب) وأما رومة فقرية بطبرية كما في القاموس وفي اللسان موضع بالسريانية. ورومة أرض بالمدينة وفيها بئر رومة كما قال ياقوت وفي كتابه: (وفي الحديث: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار بئر يقال له بئر رومة، وكان يبيع منها القربة بمُدّ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بِعنيها بعين في الجنة،(283/22)
فقال: يا رسول الله، ليس لي ولعيالي غيرها لا أستطيع ذلك. فبلغ ذلك عثمان (رضوان الله عليه) فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم)
22 - في الصفحة (70): فيخرج (يعني أسقف رومية) في المواكب والأبهة بالمركبات والمحفات مسرفا في ترك العيش ولا إسراف الملوك
قلت: أرادوا أن إسراف الأسقف يزيد على إسراف الملوك فجاء مقصودهم معكوسا. وكان ابن الحريري قد قال في (الدمياطية) غدوت قبل استقلال الركاب، ولا اغتداء الغراب. فقال احمد الشريشي أي ولا مثل اغتدائه، فحذف مثل المنصوبة بلا وأقام اغتداء مقامها لأن (لا) لا تنصب المعارف، أراد أن اغتدائي قبل أن يغتدي الغراب، والغراب أكثر الطيور بكورا، وهذه إذا طلبت حقيقة معناه صار المشبه أقوى من المشبه به، تقول العرب: فتى ولا كمالك، يريدون أن مالكا أفضل من الفتى، ومثله مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصداء، فهذا مذهب العرب في ذكر (ولا) بين المشبهين، وكلام العرب فلان أبكر من الغراب لا الغراب أبكر من فلان ولا فائدة في ذلك فإذا حققت لفظة (ولا) في تشبيه الحريري على ما يجب لها في كلام العرب انقلب المعنى. ويستعمل أهل فاس في مغربنا لفظة (ولا) في تشبيهاتهم على حد استعمال الحريري، ولا يستعملها أهل الأندلس
23 - في الصفحة (323) يحترزون عن التشبيه غاية الاحتراز فقلت: احترز وتحرز إنما يعديان بمن لا بعن، ففي أقوال العرب وكتب اللغة: احترز منه وتحرز أي تحفظ وتوقى كأنه جعل نفسه في حرز منه. ولم يجيء في كلام عربي مثل هذا القول: احترز غاية الاحتراز بنيابة غاية عن المصدر، ولم يذكره نحويون متقدمون ولا زاد هذا النائب أو النائبة. . . متأخرون
24 - في الصفحة (246): فالنصارى قد حرم عليهم دينهم السكر والزنى وفيهم مع ذلك من يباهي بارتكاب الفاحشة ومن يفتخر بإدمان المسكر
قلت: لم يقصد كتابهم بقوله يباهي. . . المفاخرة بل قصد الافتخار كما قال من بعد: ومن يفتخر. . . بالصواب يتباهى بكذا أو يبتهي به؛ ففي الأساس: وأنا أتباهى به، ولي به افتخار وابتهاء قال أبو النجم:
ليس المحاذر أن يعد قديمه ... والمبتهى بقديمه - بسواء(283/23)
وفي اللسان والتاج: العرب تقول: إن هذا لبهياى أي مما أتباهى به
25 - في الصفحة (386): وتمرن سائرهم في حمل السلاح
قلت: في اللغة مرَن وتمرن على الشيء لا تمرن فيه. قال الإمام الجاحظ: أية جارحة منعتها الحركة ولم تمرنها على الأعمال أصابها من التعقد على حسب ذلك المنع. وفي الصحاح: مرن على الشيء مروناً ومَرانة تعوده واستمر عليه، وفي الأساس: من المجاز مرنت يده على العمل، ومُرِّن وجهه على الخصام والسؤال
وفي المخصص: مرنت فلاناً على الأمر. ومثل ذلك في الجمهرة واللسان والمصباح والقاموس وشرحه، وأقوال العرب
26 - في الصفحة (128): كان الله يستأنف بلطفه إعلانه للناس على لسان أنبياء متعددين
قلت: لا يعد من الكلام (على لسان أنبياء متعددين) قال الأساس: بنو فلان يتعددون على بني فلان أي يزيدون عليهم، وفي اللسان، قيل: يتعدون عليه يزيدون عليه في العدد ويتعادون إذا اشتركوا فيما يعاد به بعضهم بعضاً من المكارم، وفي الصحاح: وإنهم ليعادون ويتعددون على عشرة آلاف أي يزيدون على ذلك في العدد
27 - في الصفحة (385): وهم عدد قليل في قبائل العرب العديدة
قلت: العديدة الحصة - كما في اللسان - والعديد الكثرة، والعديد العدد، والعديد الند والقرن، والعديد الرجل يدخل نفسه في قبيلة ليعد منها وليس له فيها عشيرة، وهو في عديد بني فلان أي يعد فيهم
فعديدة القوم مثل متعدديهم. . .
28 - في الصفحة (91): وأفرغ جهده في كف محمد عن التمادي بالأمر
قلت: تمادى هو في الأمر، وتمادى به الأمر، قال المتنبي:
إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي
وشغْل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد
وفي اللسان: وتمادي فلان في غيه إذا لج فيه وأطال مدى غيه أي غايته. وفي النهاية: ومنه حديث كعب بن مالك فلم يزل ذلك يتمادى بي أي يتطاول ويتأخر
29 - في الصفحة (216): لم يكن للقبلة من الأهمية عندهم ما صار لها بعد ذلك. وجاءت(283/24)
الأهمية في الصفحة (280)
قلت: أرادوا أن يقولوا: من المنزلة أو القدر أو الخطر أو الشأن فقالوا (الأهمية) وهي لفظة منكرة عامية أو جردية لم تعرفها العربية في وقت وهي منسوبة إلى الأهم، وهو أسم تفضيل من هم، وهو في الحقيقة للفعل (أهم) إذ ليس في اللغة همه الأمر بالمعنى الذي يعرف لأهمه وإن قالت كتب فيها وهمّ كأهم، وفي كلامهم الأمر المهم، ولم يقل جاهلي أو مخضرم أو إسلامي أو مولد متقدم أو مولد متأخر: الأمر الهام كما تقول العوام وفي مفردات الراغب: وأهمني كذا حملني على أن أهتم به قال الله تعالى: وطائفة قد أهمتهم أنفسهم.
وفي الأغاني في سيرة أعشى همدان: فلم يبقى أحد في المجلس إلا أهمته نفسه وارتعدت فرائصه. وفي الصحاح: الأمر المهم الشديد. وفي الأساس: ونزل به مهم ومهمات. وقال عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد:
أبى دهرنا اسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا، إن المهم المقدم
فقولهم: فلان ذو أهمية، وكان لزيد عند قومه أهمية، ولم تكن لكذا أهمية - من الكلام المعتل
30 - في الصفحة (69). يتعنت بها كل من المتناظرين على الآخر
فقلت: في اللغة تعنته أي طلب زلته لا تعنت عليه. قال الأساس: وتعنتني: سألني عن شيء أراد به اللبس على والمشقة. وفي النهاية في حديث عمر: أردت أن تعنتني أي تطلب عنتي وتسقطني. وقالوا: أعنت عليه أمره أدخل الضرر عليه فيه. وفي النهاية: فيعنتوا عليكم دينكم أي يدخلوا الضرر عليكم في دينكم. وقد قالت معجمات عصرية: وربما عدى تعنت بعلى، وهذه التعدية غير محققة.
ومن أقوالهم في النهي عن تعنت العلماء - والقول في العقد - إذا جلست إلى العالم فسل تفقها ولا تسل تعنتا
31 - في الصفحة (438): فاضطرت هذه الشريفة أن تتزوج بالغلام ريثما يتهيأ للمولى أن ينكحها، فلما تهيأ له ذلك أظهر
قلت: ريثما في هذا الكلام للحين الطويل كما تدل القصة في كتابهم على ذلك، وهو في(283/25)
العربية للمدة القصيرة، وأصله مصدر أجرى ظرفا، وأكثر ما يستعمل مستثنى في قول منفى.
ومن الأدلة على قصر المدة لهذا الحرف قول الشنفري (أو خلف الأحمر) في لامية العرب:
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي ... على الذأم إلا ريثما أتحول
وقول أعشى باهلة في رثاء المنتشر:
لا يُصعب الأمرَ إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
وقول بعضهم:
ولي نفس حر لا تقيم منزل ... على الضيم إلا ريثما أتحول
وفي النهاية: فلم يلبث إلا ريثما قلت أي إلا قدر ذلك. وفي اللسان: عن الكسائي والأصمعي: ما قعدت عنده إلا ريث أعقد شسعي، ويقال: ما قعد فلان عندنا إلا ريث أن حدثنا بحديث، ثم مر أي ما قعد إلا قدر ذلك، ومثله في التاج وفي المصباح: ووقف ريثما صلينا أي قدر ما. وفي المقامات الحريرية في الصنعانية: فأمهلته ريثما خلع نعليه وغسل رجليه. وفي النجرانية: فأمسك ريثما يعقد شسع، أو يشد نسع
للكلام بقية - الإسكندرية
(* * *)(283/26)
من رحلة الشتاء
في مضارب شمر
المشاريع الإصلاحية في البادية
للآنسة زينب الحكيم
1 - بدأ الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر منذ سنة 1930 يستعمل نفوذه ليوطن البدو التابعين له في قرى، يطالب بأرضها لهم من الحكومة العراقية بحيث تكون وجهتهم احتراف الفلاحة؛ وقد تمت هذه الصفقات لبعضهم فعلا، وشجعهم الشيخ الياور بشراء بعض الآلات الزراعية من ماله الخاص، مثل المحاريث التي استجلبها من ألمانيا عندما زارها في أثناء زيارته الأخيرة لأوربا
كذلك ساعدهم بشراء بعض المواشي، وبذور النبات، وغرضه من هذا كله أن يسهل لهم احتراف الفلاحة وتحبيبها إليهم. على أني علمت أن هذه التجربة لم تسفر عن نجاح يوازي ما بذل من مساعدات وتشجيع. إذ وجد الشيخ أنه من العسير جداً استقرار البدو - ومن يستطيع أن يحد من حريتهم؟! - ومع هذا استقر كثير من رؤساء العشائر في بعض القرى التي كونوها
ولعله لا يخفى على فطنة القارئ أنه وإن كان ملك البادية يعطف على البدو من رعاياه، ويعطى لهم باليمين، فأنه يأخذ منهم باليسار أتاوات وجعولا على محاصيلهم وأغنامهم وجمالهم وغيرها. وهذا السبب عينه مما ينفر البدو في الاستيطان لكراهيتهم الخضوع للضرائب والتجنيد وما شابه ذلك
2 - مدرسة ابتدائية
مما أثلج صدري حقيقة، وجود مدرسة ابتدائية في وسط البادية. تأسست هذه المدرسة سنة 1932، وبدأت أهلية حيث أنشأها الشيخ عجيل الياور على نفقته، وبدأت بعدد قليل من الأولاد، ولكنه عظيم بالنسبة لعوامل البيئة هناك. فافتتحت لخمسة وعشرين إلى ثلاثين ولداً من أبناء البدو، ومن بينهم أولاد المشايخ بالضرورة، يذهبون جميعاً لتلقي الدروس بالأمر المشدد من الشيخ وأمره مطاع، وإن خالف ذلك ميولهم الخاصة. وشجع الشيخ هؤلاء(283/27)
بمنحهم السكن والملابس
سارت المدرسة في سبيل التقدم، وسعى الشيخ لأن تدخل تحت إشراف الحكومة العراقية حتى تفوز بمنهج منظم، وأساتذة فنيين، وفعلا في سنة 1934 أي بعد سنتين من إنشائها، صارت مدرسة حكومية تمدها وزارة المعارف العراقية بالمعلمين والأدوات المدرسية من حيث الأثاث (وهو عبارة عن خيام بيضاء كبيرة، ومناضد ومقاعد لجلوس الأولاد، وسبورات مع حواملها). أما أدوات الطلاب فلا تزال على نفقة الشيخ
وصار عدد تلامذتها الآن من 50 - 80 تلميذاً يتناقص أو يتزايد العدد بين هذين الرقمين بالنسبة لتنقل العشائر للرعي
ويوجد بين الأولاد بعض البنات، وبالمدرسة ستة صفوف (أو فصول) وتتراوح أعمار التلاميذ بين ست، وست عشرة. (وقيل لي: أحياناً يأتي إلى المدرسة أطفال في سن الرابعة أو الخامسة)
ويدرس بها على منهاج المدارس الابتدائية العراقية، واللغة الإنكليزية هي اللغة الأجنبية التي يتعلمها التلاميذ ابتداء من الصف الخامس، ويستمر تعليمها في السادس
زرت هذه المدرسة في خيامها البديعة، وكان حادثاً في حياة الأولاد وتجاربهم أن يروا سائحة مصرية، فلحظت أنه بقدر سرورهم بهذه المفاجأة، كانت دهشتهم من سفر سيدة تلك المسافات البعيدة حتى وصلت إليهم. وكان شغفهم زائداً لسؤالهم إياي أسئلة شتى، كما بدا لي على وجوههم، ولكن كيف يجرءون على مخاطبة سيدة!
كانت الدروس التي حضرتها في مختلف الفرق متنوعة، وكان أول درس حضرته:
(أ) درس حساب، فبعد أن انتهى الأولاد من حل تمرين أعطي لهم في دفاترهم، وبعد تصحيحه أيضاً، حبب أليّ أن أعطيهم بعض التمارين العقلية، فأدهشني توقد ذكائهم ونشاطهم العجيب. وفي أثناء ذلك فاجأت التلاميذ باختبار ذكاء بسيط، فقلت: تعلمون شيئاً عن الموازين مثل الرطل والأقة مثلاً؟ فقالوا: نعم. قلت: وأيهما أكثر ربحاً للشاري، أرطل من البندق مقشور أم رطل بدون قشرة؟ فرفعوا أيديهم. وسألت أحدهم واتفق أنه خلط في الاجابة، فلم يرض باقي التلاميذ عن هذه الاجابة؛ ولكنهم نظاميون جداً فلا يجاوبون بدون إذن. وفاجأني تلميذ صغير من بينهم قبل أن أسأل غيره، بالسؤال الآتي:(283/28)
من فضلك، أيهما أكثر عدداً 2 + 2 أو2 2؟ قلت: لعلي لا أعرف ذلك، فلنسأل باقي التلاميذ، فقال: لا، هذه بتلك. فضحكت وسررت من جرأة البدوي النجيب، ولمست سمات الانتصار على محيا زملائه
وهل يرضى البدوي بالهزيمة ولو كان في ذلك حتفه؟!
هنا أريد أن أوجه نظر القارئ الكريم إلى أن مشروع اختبار الذكاء أو غيره من الحركات الحديثة في التربية، ليست مقصورة على عقل واحد أو جماعة واحدة، وليست من اختصاص أمة دون أخرى
إن لكل أمة مقاييسها، ولو لم يكن لدى هؤلاء البدو مقاييس ذكاء خاصة يعرفونها ويفهمونها فيما بينهم لما عاملني هذا البدوي وزملاؤه من نوع عملي وجعلوها (دقة بدقة)
(ب) كان ثاني درس رأيته درس جغرافيا. دخلت الفصل وحييت التلاميذ، وكانوا أكبر سناً من الفرقة التي رأيتها
وجدت خريطة كبيرة للقطر المصري معلقة على السبورة، وبدأ الأستاذ يناقش تلاميذه في معلوماتهم عن بلادي، فكان حسن ذوق ومجاملة لطيفة، وانتهزت الفرصة وقلت: ربما لم يسبق لكم يا تلاميذ رؤية مصرية قبلي؟! فقالوا: لا، ونحن سعداء برؤيتك. فشكرتهم، وقلت: أو كنتم تتخيلون المرأة المصرية كما رأيتم الآن؟ قالوا: لا، كنا ننتظر رؤيتها في ثياب سوداء، فإن من العيب أن تلبس المرأة الثياب الملونة، ولا سيما ما كان منها أبيض. قلت: لماذا؟ فقالوا: إن اللون الأبيض من سمات الرجل، أما المرأة فلها الثياب السود. (لم أستطع الوصول إلى التعليل المنطقي منهم لهذا التخصيص، ولعلها مجرد عادة نشأت من الاقتصاد في الغسيل لقلة الماء والصابون في الصحراء)
قلت: وهل تريدون أن تسألوني شيئاً عن مصر؟ قالوا بشوق: نعم. كيف حال فاروق الملك الشاب؟ وهل هو تقي؟ وهل هو يشبه سيدنا غازي الأول؟ وهل فرح بالزفاف الملكي؟ (قد وصلتهم أخبار الزفاف كلها وسمعوا حفلاته بالمذياع ملك شيخهم)
أجبتهم عن كل أسئلتهم، وقد أصغوا إليها في شوق زائد وسرور وغبطة
(ج) زرت التلاميذ في أثناء درس في اللغة العربية، وكان مطالعة مع شرح بعض المعاني والإعراب. فسألت تلميذاً أن يُعرب (جلس التلاميذ بنظام) وحقا كانوا قد فعلوا ذلك وأردت(283/29)
أن أمتدحهم إذا ما فرغوا من إعراب الجملة، فكان أول ما وجه المعلم أنظارهم إليه نطقي الجيم في جلس غير معطشة فقال: هل لحظتم يا تلاميذي كيف تنطق السيدة المصرية الجيم في جلس؟ إنها خففتها وفق ما اتبعوه في بلادهم
طلبت إلى الأستاذ أن يسمعني التلاميذ بعض قطع شعرية مما يحفظون وبعض أناشيد، وقد فعلوا، أما الأناشيد فتلحينها ضعيف
ولما جاء دور المحفوظات استأذنت المدرس في أن أختار أنا التلميذ، وكان من بين التلاميذ شبيه لعنترة صغير، فبتوارد الخواطر، اخترت هذا الأسود ليسمعنا قطعة من محفوظاته. ولكن التلاميذ ضحكوا وتغامزوا فيما بينهم على هذا الأسود، وعلى غرابة اختياري، واتهموا ذوقي. فقلت: أيها التلاميذ النجباء لماذا تضحكون؟ ألا يذكر أحد منكم الفارس العربي المقدام الشاعر الهمام، عنترة العبسي الذي كان يقول:
(لئن أك أسوداً فالمسك لوني)؟
ويقول:
لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب ... يوم النزال إذا ما فاتني النسب؟
ما أسرع البدوي إلى النخوة والشهامة! لقد اعترف الأولاد بخطئهم حالا، وقالوا في نفس واحد: قم يا عنتر ونحن نتبعك. وقام هذا الأسود الصغير، وألقى قطعة حماسية بالغة. ووالله لا أنسى أبداً منظر التلاميذ من خلفه ومن حوله، وهم يشتركون معه في الإلقاء الحماسي، وكأنما تتحرك القناة في أيديهم، والأصائل تكر بهم وتفر لهزم العدو، ولكسب شرف العرب. بارك الله في أبناء البدو الناهضين وقواك الله يا قبائل شمر
بعد هذه المعركة الحماسية قلت لتلميذ في طرف الخيمة، وقد شهدت على وجهه انفعالا: ماذا تريد أن تنال لو خيرت في نيل أمنية؟ قال في غير توان: فرس أصيلة، لأريك أني أبز عنترة العبسي وأباه
فتوجهت إلى الشيخ وسألته: كم ثمن الفرس الأصيلة؟ وعزمت أكيدا أن أترك للتلميذ ثمن الفرس لينال رغبته، ولكن الشيخ لم يقبل، ووعد أن يعطيه فرسا من عنده
(د) حضرت درساً إنجليزياً (مطالعة، ومحفوظات، وتركيب جمل) والتقدم الذي لحظته على التلاميذ كبير، ولفت نظري توقد ذكاء تلميذ من بينهم، وشدة لمعان عينيه، فسألت: من(283/30)
يكون هذا التلميذ؟ فقيل لي: أنه أبن الشيخ عجيل الياور الذي ساح في أوربا كلها مع والده بعد حضور حفلات تتويج ملك الإنجليز
فسألته عما أعجبه أكثر غيره من البلاد الأوربية؟ فقال في إيجاز وتأكيد أعجبت بسويسرا لجمالها، وإنجلترا لتقاليدها ونظامها، وألمانيا لاختراعاتها ونظامها ونظافتها، وهذا التلميذ موجود الآن بكلية فكتوريا بالإسكندرية هو وأخوه، حيث أحضرهما إلى مصر، أخوهما الأكبر الشيخ صفوك الياور، وألحقا بهذه الكلية من بدء العام الدراسي. وكانت مفاجأته لنا بالزيارة حلماً تحقق. هذا ويجلس تلاميذ مدرسة البدو هذه لتأدية الامتحان النهائي لمرحلة التعليم الابتدائي، في الأماكن التي تخصصها الحكومة العراقية، فيرحل التلاميذ عادة إما إلى لجنة الموصل أو سنجار
وقد وجد أن أولاد البدو في مستوى أولاد الحضر، بل يفوقونهم في نسبة النجاح في الامتحانات العامة
ما دخل العلم بيئة طيبة إلا أثمر فيها وأنتج نتاجاً حسناً. وإني أعلق أهمية كبرى على هذه المدرسة في إيقاظ البدو، وأعدها أول نواة صالحة للأخذ بيدهم في مدارج الحياة الإنسانية الحقيقية
(للحديث بقية)
زينب الحكيم(283/31)
للتاريخ السياسي
المفاوضات وتأثير ألمانيا فيها
للدكتور يوسف هيكل
(تعقدت المشكلة التشيكوسلوفاكية في شهر أغسطس (آب) سنة 1938 وأخذ تعقدها يزداد حتى كادت تفجر قنبلة الحرب العالمية. غير أنه لا يزال هناك أمل في إيجاد حل لهذه المشكلة عن طريق المفاوضات بين الحكومة التشيكوسلوفاكية وممثلي حزب السوديت. وبعرضنا لها نتكلم عن المناورات الحربية الألمانية ومهمة اللورد رنسيمان، ونبين تطورات المفاوضات، ونذكر تأثير خطاب الهر هتلر على مسيرها.)
غادر اللورد رنسيمان لندن إلى براغ في أغسطس (أب)، موفداً من الحكومة البريطانية بالاتفاق مع الحكومة الفرنسية، ليكون وسيطاً بين حكومة براغ وحزب السوديت. وكانت مهمته بذل الجهود لمنع فشل المفاوضات السائرة بين الدكتور هودزا رئيس حكومة تشيكوسلوفاكيا، وممثلي الهر هنلاين رئيس حزب السوديت. وفي حالة فشل هذه المفاوضات أعد اللورد رنسيمان مشروعاً من عنده، يوفق به بين وجهتي نظر الفريقين المتنازعين، ليضمن السلام ويبعد شبح الحرب العامة، الذي كان يحوم في جو أوربا الوسطى.
ولما أخذ اللورد رنسيمان يدرس الوضعية في تشيكوسلوفاكيا، جابهت ألمانيا العالم باستعداداتها الحربية الهائلة التي دعتها مناورات اعتيادية تاريخ ابتدائها 15 أغسطس (آب).
وفي الواقع كانت التعبئة، أي التجنيد، لهذه المناورات تعبئة عامة أقلقت الدوائر السياسية واضطرب منها الرأي العام. إذ صدرت الأوامر بتعبئة جميع الأطباء والممرضات. وتلقى الرجال القادرون على حمل السلاح والذين لم يدعوا إلى الخدمة حتى ذلك الوقت، الأمر بأن يكونوا في كل وقت مستعدين لتلبية أوامر السلطات، وحظر على كل ألماني دون الخامسة والستين من العمر مغادرة ألمانيا إلى بلد آخر. وألغيت جميع إجازات العمال في السكك الحديدية، وأبطلت معظم قطارات السفر لإفساح المجال للقطارات العسكرية، وصادرت السلطة معظم سيارات (الباصات) (أتوبوس). وأخذت إنشاءات الطرق نحو(283/32)
الحدود التشيكوسلوفاكية تسير بسرعة عظيمة، وإقامة القلاع على ضفاف الرين وإتمام خط (سيكفريد) المواجه لخط (ماجينو) تجري بسرعة لم يسبق لها مثيل. ثم أرسلت الجيوش إلى حدود تشيكوسلوفاكيا، واحتلت القوى العسكرية قلاع الرين والثكنات المواجهة للحدود الفرنسية.
وكان الغرض من هذه الاستعدادات الحربية الهائلة، غرضاً سياسياً هو التأثير على سير المفاوضات بين حكومة تشيكوسلوفاكيا وممثلي حزب السوديت، والتهويل على حكومتي لندن وباريس، لتفسحا المجال لتحقيق المطالب الألمانية.
في هذا الجو الصاخب سارت المفاوضات بين الدكتور هودزا، والهر هنلاين. وكان الأول، أي رئيس الوزارة التشيكوسلوفاكية يستند في موقفه إلى تحالفه مع باريس وموسكو، وإلى التحالف العملي بين لندن وباريس. وكان الثاني أي رئيس حزب السوديت يستند إلى الهر هتلر. وكل منهما كان يعتقد أنه الأقوى، وكل منها كان يريد من الآخر أن يتراجع عن موقفه. ولهذه انقطعت المفاوضات مراراً، ولم تستأنف إلا بفضل جهود اللورد رنسيمان وتسامح الحكومة التشيكوسلوفاكية. ورغم ذلك كانت نهايتها فشلا تاما. وإننا لذاكرون أهم تطوراتها:
قدم حزب السوديت الألماني مذكرة إلى حكومة براغ، في 7يوليو (تموز) الفائت، وعرض فيها الدخول في مفاوضات على أساس تحقيق المطالب التي جاء ذكرها في المذكرة وهي لا تختلف عن المطالب الثمانية التي أعلنها الهر هنلاين في خطابه الذي ألقاه في كارلسباد في 23 ابريل (نيسان) سنة 1938. وكانت الحكومة حينئذ آخذة في وضع نظام الأقليات، وفي 9 يوليو (تموز) اجتمع الدكتور هودزا مع مندوبي الهر هنلاين وباشروا المفاوضات. وفي 15 منه صدر بلاغ رسمي مشترك يشير إلى أن الاتفاق تم على أن تكون مذكرة السوديت ونظام الحكومة بشأن الأقليات بمثابة أساس مفاوضات بين الحكومة والسوديت.
سارت المفاوضات، وكان يحضرها مندوبو الأحزاب البرلمانية في تشيكوسلوفاكيا، فظن الرأي العام أن الطرفين واصلان إلى نتيجة إيجابية تؤدي إلى الوفاق بينهما وزوال خطر الحرب العالمية.
ولكن بينما كانت المناورات الحربية الألمانية على أشدها، والرأي العام متجه نحوها، أعلن(283/33)
مندوب السوديت، في 17 أغسطس (آب)، عدم قبولهم النظام الجديد الذي وضعته الحكومة لتحسين حالة الأقليات. وأبلغوا اللورد رنسيمان بأنهم لا يرون فائدة من مواصلة المفاوضات مع الحكومة.
اهتم اللورد رنسيمان للموضوع، وبذل جهودا في إقناع مندوبي السوديت بضرورة العدول عن رأيهم هذا، فطلب وفد السوديت مواصلة المفاوضات مع الوزارة فقط، مفاوضة الند للند في جلسات لا يحضرها مندوبو الأحزاب البرلمانية. فقبلت الحكومة طلب السوديت، بعد تدخل الدكتور رئيس الجمهورية التشيكوسلوفاكية واللورد رنسيمان في الموضوع على أثر ذلك وافق مندوبو السوديت على مواصلة المفاوضات مع الوزارة ولكنهم أصروا على رفض الاقتراحات التي عرضت عليهم.
عمدت الحكومة إلى منح السوديت الألمان امتيازات جديدة كتعيين عدد كبير من رجالهم في وظائف كبيرة مختلفة. غير أن حزب السوديت قابل هذه الامتيازات بالاستخفاف والامتعاض. وللوصول إلى اتفاق حاولت الوزارة التشيكوسلوفاكية في 25 أغسطس (آب) إيجاد قاعدة جديدة للمفاوضات، غير أنه ظهر في اليوم التالي أن الأزمة التشيكوسلوفاكية بلغت حد الخطر، إذ شقة الخلاف واسعة بين الطرفين يتعذر سدها، لوقوف حزب السوديت موقف المتصلب والمتشبث بمطالبه كاملة غير منقوصة. وكانت ألمانيا تشجعه على هذا الموقف وتحثه على عدم التساهل. وأخذت الصحف الألمانية حينئذ تحمل حملة شعواء على تشيكوسلوفاكيا من أجل حوادث تافهة لا قيمة لها ولا أهمية. وكان ذلك دليلاً على أن ألمانيا لا تريد حل مسالة السوديت بمفاوضات حرة
وبسبب خطورة الحالة الدولية ضاعف اللورد رنسيمان نشاطه بإيعاز من لندن، وبذل جهوداً لمتابعة المفاوضات، فاجتمع في 28 أغسطس (آب) بالهر هنلاين، وقصد مساء 29 أغسطس (آب) قصر الرياسة وقابل المسيو بنيش ومهد الاجتماع الهر هنلاين بالرئيس وشاع حينئذ أن ذلك الاجتماع يأخذ مكانه بعد ظهر 30 أغسطس (آب). غير أن هذا الاجتماع لم يتم، وبدلاً منه اجتمع الرئيس بنيش بالدكتورين كورندت وسبدوسكي من زعماء السوديت. وعرض عليهما اقتراحات جديدة للحكومة التي وضعت على أساس تقسيم البلاد إلى مناطق ذات حكومات مستقلة لها سلطات واسعة على مثال سويسرا. وقد أكدت(283/34)
المقامات المتصلة ببعثة اللورد رنسيمان أن السوديت الألمان لا يرفضونها إذا تركوا وشأنهم. ولم يقع عليهم ضغط من جهة الألمان. وفي 2 سبتمبر (أيلول) اجتمع الدكتوران كوندت وسبيدسكي برئيس الجمهورية من جديد، وبسطا له آراء السوديت في الاقتراحات الجديدة، التي قدمها إليهم في 3 أغسطس (آب)، وهي تدل على أن حزب السوديت لم يقرر رفض اقتراحات الحكومة بل أبدى في صددها تحفظات كثيرة يتطلب الاتفاق عليها مفاوضات شاقة طويلة
وفي هذه الأثناء أي في أول سبتمبر (أيلول) كان الهر هنلاين قد ذهب إلى (برخستكادن) لمقابلة الهر هتلر بإيعاز من اللورد رنسيمان. ولدى عودته ذهب المستر جوانكين، مساعد اللورد رنسيمان إلى بلدة آش في 4 سبتمبر (أيلول) وقابل الهر هنلاين واطلع منه على ما دار بينه وبين الهر هتلر من حديث، ثم عاد وأطلع اللورد رنسيمان على ما سمع من الهر هنلاين
وبعد عودة الهر هنلاين من ألمانيا اجتمع بمندوبي السوديت الذين كانوا يفاوضون الحكومة، وعلى أثر ذلك نشر حزب السوديت في 5 سبتمبر (أيلول) بلاغاً له مغزاه، طلب فيه تحقيق مطالبه الثمانية التي أعلنت في كارلسباد، حالاً وغير ناقصة
جدت حكومة براغ في 5 سبتمبر (أيلول) في وضع اقتراحات جديدة لحل مشكلة السوديت، راعت فيها تحقيق مطالب الهر هنلاين الثمانية، حسما للنزاع، وتحقيقاً للوصول إلى اتفاق سلمي.
وفي اليوم التالي قابل الدكتور بنيش زعماء السوديت وأسلمهم الاقتراحات الجديدة، أو ما سمي (المنهاج الرابع). وهذا المنهاج محتو على تسع مواد توجز كما يلي:
1 - تمثيل الجنسيات والعناصر بالوظائف الحالية والمستقبلية نسبة لعددها
2 - تعيين الموظفين في الأقاليم من جنس أكثرية السكان
3 - تجديد نظام الأمن بتقسيمه إلى بوليس الدولة وبوليس الأقاليم، ويعين للأقاليم بوليس من جنس سكانها
4 - مساواة لغات الأقليات باللغة التشيكية
5 - القيام بعمل واسع النطاق في سبيل إنماء الحركة الاقتصادية في المناطق الألمانية التي(283/35)
أصيبت بأشد أضرار الأزمة. منها منح هذه المناطق قرضاً تبلغ قيمته خمسة ملايين جنيه بشروط متهاودة
6 - تقسيم البلاد مقاطعات مستقلة استقلالا ذاتياً ومتساوية في الحقوق على أساس عنصرية السكان
7 - إنشاء إدارة خاصة للأقاليم في جميع الإدارات المركزية يديرها وطنيون، لمعالجة المسائل المتعلقة بجنسياتهم
8 - المحافظة على حقوق المواطنين القومية بقوانين خاصة، ويكون للهيئات التمثيلية المختلفة حق الاعتراض على أي تدخل في حقوق أو مصالح الجنسيات التي تمثلها. وستكون سجلات خاصة لكل جنسية
9 - اتخاذ احتياطات حالية للوصول إلى اتفاق على هذه النقاط التي لا تتطلب احتياطات تشريعية. أما فيما يتعلق بوضع قوانين جديدة، فإن الحكومة ستحضرها بالاشتراك مع حزب السوديت الألماني. وستعرض المشروعات على البرلمان وتنفذ بأسرع وقت ممكن
قابل الألمان السوديت اقتراحات الحكومة هذه بارتياح، وقبلوها في 7 سبتمبر (أيلول) أساساً للمفاوضات، لأنهم رأوا فيها تحقيقا يكاد يكون تاما لنقاط كارلسباد الثمانية، فساد التفاؤل وعظم الأمل بالوصول إلى حل ودي. غير أنه في اليوم نفسه وصلت براغ أنباء حادث (ماهريش استراو) فأثارت غضب الألمان السوديت فقرروا قطع المفاوضات. أما حادث ماهريش استراو فيوجز فيما يلي:
وصل في 6 سبتمبر (أيلول) كثيرون من ممثلي حزب السوديت الألمان إلى ماهريش استراو لمطالبة السلطة بالتحقيق في بعض الأخبار التي يؤخذ منها أن الألمان السوديت الذين كانوا قد اعتقلوا عوملوا في السجن معاملة سيئة. ولما دخلوا دار المحافظة تجمع الأهالي الألمان خارج الدار. فأعمل البوليس الركبان فيهم الضرب بالعصي والسياط لتفريقهم. ويقال أن البوليس ضرب اثنين من نواب السوديت على الرغم من تلويحهما بشهادتيهما القانونية
اهتمت حكومة براغ لهذا الحادث، واتخذت التدابير لعدم تكرره، ولتحسين معاملة المساجين الألمان. وطلب رئيس وزارة براغ مقابلة النائبين كوندت وروش، فاجتمع بهما يوم 7(283/36)
سبتمبر (أيلول) ودارت محادثة سوي على أثرها حادث مهريش استراو وانتهت بالاتفاق على استئناف المفاوضات
وبينما كانت حكومة براغ جادة في حل المشكلة التشيكوسلوفاكية بالاتفاق مع السوديت الألمان بمنحهم مطالب زعيمهم الثمانية، فاجأت جريدة التيمس، المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع حكومة لندن، العالم في 7 سبتمبر (أيلول) مقترحة في مقال رئيسي، حل المشكلة التشيكوسلوفاكية عن طريق فصل الأقاليم السوديتية وضمها إلى ألمانيا. ومصرحة ((بأن إرادة الأهالي الذين يعنيهم الأمر ستكون عاملا له أهمية فاصلة في أية تسوية يرضى أن تكون دائمة) وهذا الحل غاية ما يصبو إليه السوديت الألمان، وما يرمي إليه الهر هتلر. غير أن السوديت الألمان لم يجرءوا حتى ذلك التاريخ على طالبه، ولم يأملوا تحقيقه
وبينما كانت المفاوضات تسير في براغ بصعوبة ومشقة، ومن غير أن توصل إلى نتيجة إيجابية، قرب يوم الاثنين الموافق 12سبتمبر (أيلول) وهو تاريخ إلقاء الهر هتلر خطابه التاريخي، الذي كان ينتظره الناس في جهات الدنيا الأربع. فأحالوا نظرهم عن تشيكوسلوفاكيا، واتجهوا نحو نورمبرغ، حيث أنتقل إليها مركز النظر في المشكلة التشيكوسلوفاكية، وحيث يلقي زعيم ألمانيا كلمته الخطيرة
كان خطاب الهر هتلر شديد اللهجة عنيفاً، ولم يكن في الإمكان في أحوال دولية عصيبة كأحوال شهر سبتمبر (أيلول) الفائت، أن يلقي زعيم ألمانيا خطبة أشد لهجة من الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر نورمبرك وكان (ضربة أصابت أساس سياسة التوفيق التي سار عليها المستر نيفل تشمبرلين)، كما قالت النيويورك تايمس في 13سبتمبر
فقد حمل فيه على الحكومات الديمقراطية حملة شعواء، ملؤها السخرية والازدراء، وهاجم حكومة براغ هجوماً عنيفاً بعبارات ملؤها الإهانة والتحقير. ومما قاله بصدد المشكلة التشيكوسلوفاكية:
(. . . إني أعلن أن هذه المخلوقات المضطهدة (أي السوديت الألمان) إذا لم تحصل على حقها وعلى المساعدة التي تستطيع المطالبة بها فإنها ستنال هذا الحق وهذه المساعدة منا. . لقد سبق لي أن أعلنت أني لا أتحمل بعد الآن أن يظل هؤلاء الملايين الثلاثة مضطهدين، وأرجو من رجال سياسة الدول الأجنبية أن يعلموا أن هذا ليس كلاماً بلا(283/37)
معنى). وبعد أن ذكر الفوهور أن ألمانيا ضحت كثيراً في سبيل السلم قال (إن الشعب الألماني ليس مستعداً لأن يقبل آلام ثلاثة ملايين ونصف مليون أو يشترك في تحملها. أني أستطيع أن أؤكد لساسة لندن وباريس أننا عازمون على الدفاع عن مصالحنا في جميع الظروف. وأني أفضل أن أتحمل الضيق والخطر والاضطهاد على أن أعدل عن تحقيق هذا الواجب)
وبعد أن أبان الأعمال التي قام بها منذ 28 مايو (مايس) الأخير لتعزيز قوى ألمانيا الحربية قال: (لقد بذلت هذا الجهد لأضمن السلم، ولست على استعداد لأن أشاهد اضطهاد الشعب الألماني في تشيكوسلوفاكيا بهدوء لا حد له. إنهم يريدون الشروع في مفاوضات وتسويف الأمور ولكن ذلك لا يمكن أن يدوم)
(إن ما يريده الألمان هو حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، وهذا ما يتمتع به كل شعب بدون شك. إني أريد أن ينتهي اضطهاد ثلاثة ملايين ونصف مليون من الألمان في تشيكوسلوفاكيا، فان المسألة مسألة مواطنين ألمان، ولا أرغب في أن تنشأ على الحدود الألمانية فلسطين أخرى، فألمان تشيكوسلوفاكيا لن يظلوا بدون دفاع ولن يتركوا لأنفسهم. . .)
وقد ختم الهر هتلر خطبته بقوله: (إننا لن نذعن بعد الآن لإرادة أجنبية، وإنني أقسم على ذلك وليساعدني الله)
أصر الهر هتلر في خطابه على وجوب إعطاء السوديت الألمان (حق تقرير مصيرهم) ولم يطلب صراحة فصلهم عن حكومة براغ وضمهم إلى ألمانيا، لعلمه حق العلم بأن الألمان السوديت إذا أعطوا حق تقرير مصيرهم يقررون الانضمام إلى الريخ الألماني، وليظهر للعالم بأن ألمانيا لا تريد التوسع في أوربا وإنما البلاد المأهولة بالألمان، خارج حدود الريخ، تريد الانضمام إليه
كان لخطاب الهر هتلر تأثير عظيم على نفسية الألمان السوديت وأنتج تغييرا أساسيا في مطالبهم القومية، إذ أعلنوا أن مطالبهم الثمانية المعلنة في كارلسباد لم تعد أساسا صالحا للمفاوضات. وطافت جموعهم في الشوارع طالبة الاستفتاء، وقامت مظاهرات نادى القائمون بها بالانضمام إلى ألمانيا، هاتفين: (شعب واحد ريخ واحد، زعيم واحد).(283/38)
أدى هذا الهياج إلى حدوث اضطرابات ومصادمات اضطرت الحكومة إلى إعلان الأحكام العرفية. غير أن ذلك لم يرق حزب السوديت فأنذر الحكومة في 13 أيلول وقدم إليها مطالب منها إزالة هذه الأحكام. وأمهلها ست ساعات، مهددا بعدم استئناف المفاوضات. وردت الحكومة على هذا الإنذار بأنها لا ترى مانعا من قبول مطالب الحزب إذا وجه الزعماء إلى الشعب نداء يناشدونه فيه احترام القانون والنظام، وجاء وفد منهم إلى براغ للمفاوضة في هذا الشأن.
لم يأبه حزب السوديت لرد الحكومة، بل أصدر بلاغا جاء فيه (أنه لم يعد من الممكن مواصلة المفاوضات على الأسس التي اتبعت حتى الآن. ولذلك أعفى الهر هنلاين الوفد من مهمته وشكره على جهوده). وفي اليوم التالي طلب حزب السوديت رسميا من حكومة براغ أن يكون للألمان السوديت حق تقرير مصيرهم. ونقل الحزب مركزه من براغ إلى اشن ليكون قريباً من الحدود الألمانية.
وفي 16 أصدر الهر هنلاين بيانا قال فيه (إننا نريد أن نعيش عيشة الألمان الأحرار، إننا نريد أن نعود إلى الريخ). وأخذت صحف الألمان تحمل حملة عنيفة على تشيكوسلوفاكيا، ومما قالته جريدة (فولكشر بيوساختر) صباح 17 سبتمبر (أيلول)، أن الوقت قد حان لا بعاد المسيو بنيش عن مسرح السياسة الدولية الأوربية وإزالة دولة من خريطة أوربا.
إن انقطاع المفاوضات أضاع الأمل في الوصول إلى حل سلمي دون تدخل الدول الأخرى)، وقال اللورد رنسيمان في الكتاب الذي أرسله إلى المستر تشمبرلن في 21 سبتمبر (أيلول) إن مسئولية قطع المفاوضات النهائية في رأيي، تقع على الهر هنلاين والهر فوتك، وعلى هؤلاء من مؤيديهم، داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يحضون على أعمال العنف وعلى الأعمال غير الدستورية)
أقلق خطاب الهر هتلر وما تبعه من اضطرابات وقطع المفاوضات في تشيكوسلوفاكيا، الرأي العالمي وبالأخص في لندن وباريس، ودعاهما إلى بذل آخر ما لديهما من جهود في سبيل حفظ السلام. فما هي هذه الجهود؟ وماذا كانت ثمرتها؟ هذا ما سنعرضه في مقال آخر.
يوسف هيكل(283/39)
المستشرقون الإيطاليون
في مؤتمر بروكسل الدولي
للدكتور أومبرتو ريتزيتانو
نشرت (الرسالة) الغراء في عددها (274) مقالا بسطت فيه أعمال مؤتمر المستشرقين الدولي العشرين المنعقد بمدينة بروكسل في الثلث الأول من سبتمبر الماضي بدار الأكاديمية البلجيكية. وقد لاحظت أن الدكتور مراد صاحب المقالة لم يذكر في حديثه عن المؤتمر إلا ثلاثاً من المحاضرات التي ألقاها المستشرقون الإيطاليون، بينما كانت لمستشرقي إيطاليا في المؤتمر المذكور بحوث قيمة في موضوعات طريفة، ولذلك أرى أن أتلافى هذا السهو على صفحات هذه المجلة المجيدة. ففي القسم الأول الخاص بالعلوم المصرية والأفريقية القديمة مثل إيطاليا الأستاذ بيننيو فراريو مدرس علم الآثار واللغات السامية والحامية في جامعة مونتيفديو عاصمة الأورجواي بأمريكا الجنوبية، وكان موضوع محاضرته (الضمير في اللغات الكوشية) المنتشرة في بلاد الحبشة. وأعقبه في هذا القسم نفسه المدير العام للشئون السياسية في وزارة أفريقيا الإيطالية بروما (وهو اسم أطلق حديثاً على وزارة المستعمرات) الذي أسهب في الكلام عن الأبحاث الإيطالية في لغات السدامة الشرقية ومركزها بين اللغات الأخرى، ولخص في نهاية خطابه النتائج التي وصل إليها الإيطاليون في هذا الميدان العلمي
أما في القسم الرابع الخاص بالهند فقد مثل إيطاليا فيه الأستاذ أمبردجيو باليني من جامعة ميلانو، والأستاذ فيتوري بيزاني مدرس تاريخ اللغات الكلاسيكية المقارن بجامعة كاليري بجزيرة سردينيا، فقرأ أولهما بحثاً من أبحاثه الطريفة استرعى الأنظار، وألقى الثاني محاضرة عن (المهابهاراتا) وهو الكتاب المشهور عند الهنود - وعن تكوينه الأول
أما القسم الثامن الخاص بالعلوم الاسلامية، فقد اشترك في الكلام فيه جم غفير من المستشرقين الإيطاليين. ومن المعروف أن إيطاليا تهتم اهتماماً متواصلا بعلوم الشرق الأدنى نظراً لما لها من المصالح السياسية والتجارية والثقافية في هذه الأصقاع. وهذا هو بلا شك السبب الأساس الذي يدفع الإيطاليين إلى الاسترسال في دراسة هذا القسط من أقساط علم الاستشراق. فتكلم الأستاذ جويدي مدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة روما(283/41)
عن نشرته الحديثة عن مخطوطات الكندي المنقولة من نسخة أيا صوفيا رقم 4832، كما ألقت السيدة الدكتورة لاورا فيتشيا فالييري المدرسة بجامعة نابولي بحثاً عارضت فيه مشروع تيسير قواعد اللغة العربية وذكرت آراءها بصراحة في هذا الموضوع الخطير الذي تعني به وزارة المعارف المصرية في وقتنا هذا - كما قام الأستاذ (بوسي) القانوني الإيطالي من جامعة ميلانو، بذكر بعض الملاحظات الانتقادية في مقارنته بين الكتابين المعروفين (المجلة) (وبمرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان) للمرحوم محمد قدوري باشا
أما في الأدب العربي الأموي فقد تكلم من المستشرقين الإيطاليين الأستاذ جابربيلي من معهد نابولي الشرقي، والدكتور ريتزيتالو كاتب هذا المقال، فتكلم أولهما في خطبة فصيحة عن الشاعر الأموي (كثير عزة) وراويه جميل، والعلاقات الودية التي كانت بينهما. أما الثاني فقد تكلم عن الشاعر الأموي (أبو محجن نصيب بن رباح) وعن الضرورة القاضية بدراسة وافية لشعراء العصر الأموي العقليين لمعرفة شتى الأخبار الموجودة في شذور إنتاجهم الشعري المتفرقة في مختلف كتب الأدب والتاريخ، كما اقترحت السيدة الفاضلة (أولجابينتو) نشر دراسات عن الرحالة الإيطاليين ورحلاتهم في الشرق الأدنى. ولعمري إن هذا المشروع ليستحق كل الاهتمام لأنه سيقدم مساعدة مهمة لعلم الخرائط الجغرافية ونقدها.
كذلك عرفنا الأستاذ بومباتشي من جامعة نابولي بكتاب قد سكنت ريحه عن النحو التركي ألفه راهب يسوعي في القانون السادس عشر
ومما لا شك فيه أن علم الاستشراق في أوربا وبصفة خاصة في إيطاليا قد ازدهر ازدهار عظيما في الفترة الواقعة بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر. وإن اهتمام بلدنا بالعلوم الشرقية يرجع إلى عناصر مختلفة من بينها الروح التجارية المتواصلة، والتبشير المذهبي الديني في بلاد الشرق؛ وعلى العموم الرغبة العلمية المستمرة. ولقد التفتت النهضة الإيطالية نحو الشرق - الأدنى منه والأقصى - في دائرة الإنتاج الأدبي حوالي منتصف القرن الماضي حين ثبت أن الحاجة ماسة فعلا إلى ضرورة الاستمرار في هذه الناحية من نواحي العلم والأبحاث، وإني لا أتردد في القول بأن كل الفضل يرجع إلى المستشرقين الثلاثة ميكبلي آمارى وجرارنا ديواسكولي وانيازيو جويدي في كثير مما شرع فيه ومما تم(283/42)
من التقدم وإيقاظ الهمم في هذه الفترة. كما أنه كان من أسباب إنجاح هذه الحركة العلمية الجديدة المساعي القيمة التي قام بها هؤلاء الأنصار الثلاثة الذين استوفت أبحاثهم ودراساتهم وانتشرت في العالم أجمع
دكتور أومبرتو ريتزيتانو(283/43)
الكونتس فالنتين دي سان بوا
للأستاذ كامل يوسف
جرى قلمي في كلمتي عن المرحوم ولي الدين بك يكن بذكر الكونتس فالنتين دي سان بوا، وبما أنها من الدوحة الشاعرة التي أنجبت لامرتين شاعر الجمال والحب، ومؤلف عشرات الكتب التي تفيض بالشاعرية والخيال الخصيب، أحببت أن أكتب كلمة عنها لتعريف المصريين بها
فهي حفيدة لامارتين، أو على الأصح ابنة ابنة أخته، ورثت عن خال أمها الروح الشاعرية وسمو الخيال، فكانت شاعرة من الطبقة الأولى لا يشق لها غبار. ويمتاز شعرها بالروح الصوفية. وهو ككل شعر صوفي مبهم يحتاج للشرح والتعليق حتى يدرك القارئ كنهه. وقد بدت هذه النزعة في ديوانها الشعري الذي اشتهرت به؛ ويكاد يلمس القارئ لهذا الديوان روح نيتشه في كتابه (هكذا قال زرادشت)، بل إنه يسير على نمطه في الأسلوب. وقد أبديت رأيي هذا في عام سنة 1928 للأدباء الذين كانوا يحيطون بها فلقي منهم التأييد، لأن الكونتس كانت تعجب بنيتشه كشاعر فذ، خصوصاً في سفره (هكذا قال زرادشت) وكانت لا ترى فيه فيلسوفاً له مدرسة فلسفية خاصة
وهذه الروح الصوفية هي التي حدت بها إلى الإقامة بمصر، فهي زوجة وزير من وزراء فرنسا وزارت أسبانيا، وشاهدت هناك جامع قرطبة، فأعجبت بالفن العربي، واتخذ هذا الإعجاب صورة ملية فأرادت أن تلمس حياة الشمس وتختبر روحه، فتركت فرنسا بما فيها من مدنية وجاءت إلى مصر باعتبارها المركز الروحي للبلاد الشرقية، وكان هذا الولع بروح الشرق المتصوفة دافعاً لها على إصدار مجلتها الشهرية (فينكس) للدفاع عن أمم الشرق قاطبة. وقد أنفقت على هذه المجلة مالاً وفيراً، وظلت أكثر من عامين وهي تسخر قلمها البديع لهذه الغاية السامية ولكنها لم تستطع الاستمرار في إصدار مجلتها لنضوب مواردها من أملاكها بمقاطعة سان بوا بفرنسا ومن ربح مؤلفاتها الكثيرة، وذلك عند هبوط سعر الفرنك في سنة 1928
وقد بدت الروح الصوفية عند الكونتس دي سان بوا في أجلى صورها عندما لجأت إلى أسلوب مبتكر للتعبير عن المعاني الباطنية للحقائق الظاهرة، وقد أطلقت على هذا الأسلوب(283/44)
لفظ (الميتاكوري) وقد جاهدت كثيراً في نشره في فرنسا وأمريكا وأنفقت المال في سبيل تقريبه للأذهان، ولكن غموضه كان عقبة كأداء في سبيل ذيوعه. وقد نشرت كثيراً من الرسوم بريشتها لإيضاح غاياتها، ولكن العالم الأدبي لم يفهم ما تريده الشاعرة من هذه الحركة الصوفية. وقد حاولت أنا وصديقي الشاعر فولاد يكن أثناء اتصالنا بها بحلوان أن نفهم هذه الحركة كما يجب، فلم نخرج منها بأكثر من أنها نوع من الرمزية في الشعر والرسم ترمى إلى إبراز المعاني الباطنة لمظاهر الأشياء. ولما رأت عدم استعداد العقول لفهم نظريتها - التي تقول إن فناني الإغريق كانوا يعملون بها - اتجهت للدفاع عن بلاد الشرق المهضومة الحق. . .
وقد أقامت الكونتس دي سان بوا بحلوان بقصر محمد بك أنسي بشارع سيد أحمد باشا. وكانت دارها ندوة للأدباء زارها فيها الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي المعروف وقدم لها ترجمته الفرنسية لكتاب (ألف ليلة وليلة) وكتب الإهداء بالعربية: (هدية من الشيخ الماردريسي). وكان أول من أتصل بها من المصريين الشاعر الكبير فولاد يكن، وحدث ذلك على أثر زواجه من مدام (س) الفرنسية (وهي زوجة أحد كبار كتاب فرنسا) التي استقدمتها وزارة المعارف لتتولى نظارة مدرسة بنات الأسر الراقية. ومع أن هذا الزواج لم يطل فقد كان سبباً في تعرف الأستاذ فولاد يكن بالكونتس؛ وقد رأت فيه الشاعرة مواهب شعرية تنبئ عن مستقبل زاهر في عالم الشعر فاحتضنته، وجعلته كابنها، وأقام بمنزلها بحلوان يأكل ويشرب ويتريض معها كأنه فرد من أسرتها. وقد أنتجت هذه الصداقة ثمارها إذ قدمته لدور النشر الفرنسية فنشرت له بعض مؤلفاته الشعرية والنثرية مقدمة بقلمها البليغ
وكان يجتمع في دارها الأدباء. وقد قدمني فولاد يكن إليها كأديب ناشئ مهتم بالأدب السكسوني وخصوصاً فن برناردشو الذي كنت أؤلف فيه في ذلك الوقت كتاباً عن آرائه في الحياة والأدب والفن والسياسة. وكانت تعرف عني هذا الاهتمام فكانت تدعوني (برناردشو الصغير). وقد قدمتني في إحدى حفلاتها الماسونية لإحدى زوجات سلطان تركيا المخلوع التي قدمت إلى مصر وألقت بنفسها في النيل عند قصر النيل. وكانت هذه الأميرة على غاية من جمال الخلق والخلق، تركت في نفسي أثراً لا يمحى، إذ تمثل لدي في هذه اللحظة(283/45)
عظمة الملك ممثلة في شخص هذه السيدة الكريمة؛ وهي في رزانتها وصمتها أبلغ منها وهي في أبهة العرش. وقد حدث أن ثارت بين أديبين مناقشة عن أدب هوجو، وكان أحدهما يرى أنه فن مزخرف أجوف، وكان يعارضه الآخر بأنه أدب حي، وأبديت رأيي في هذه المناقشة بأسلوبي الفرنسي العاجز، وكنت وقتئذ لم ينضج علمي بالفرنسية لانصرافي للأدب الإنجليزي، فسخر من أسلوبي صديقي فولاد يكن، ونعته بأنه فرنسي صيني، ولم ينجني من حملته علىّ إلا السلطانة، فقد عطفت عليّ بأن قالت: إن أسلوبي كإنسان لم يدرس الفرنسية بالمدارس لا بأس به. وقد حمدت لها هذا الموقف الذي خلصني من المأزق الذي تورطت فيه
وتشاء الصدفة أن أقرأ إبان تعرفي بالشاعرة الكبيرة قصة (روفائيل) ترجمة الأستاذ الكبير احمد حسن الزيات، وأردت أن أذكر لها اهتمامنا بأدب جدها لامرتين، فذكرت لها أنني أقرأ ترجمة عربية لرفائيل تكاد في بلاغتها أن تكون صورة ثانية للأصل الفرنسي؛ وذكر الأستاذ فولاد يكن تمكن الأستاذ الزيات من لغة العرب والفرنسيين مما جعل الترجمة تحفة من التحف في أدبنا المصري الحديث، وقد أعجبت الكونتس بذلك كثيراً. ولكنها كانت لا ترى في (رفائيل) العمل الفني الذي يجب أن يخلد به أسم جدها بمصر، وقالت في ذلك إنه مؤلف يسوده الإغراق في المبالغات مما جعله في مرتبة أقل من غيره من المؤلفات الأخرى، وقد ذكر الدكتور منصور بك فهمي في مقدمته لترجمة الأستاذ الزيات مثل هذا الرأي، وأن ذلك قد دعا لامرتين نفسه إلى إعادة النظر في مؤلفه هذا في الطبعات التالية فأبعد عنه بعض المبالغات العاطفية التي أخذها عليه النقاد
والكونتس دي سان بوا رسامة ماهرة ترسم بالزيت وتحفر على الخشب ويشوب رسومها الروح الصوفية، وهي تزين دارها بهذه الرسوم. وقد بلغت براعتها في الرسم أنها كانت تحفر صورتها على الخشب فكانت ملامحها تنطق كأنها رسم فوتوغرافي. وقد انصرفت في السنين الأخيرة إلى التحرير الصحفي وتولت رياسة تحرير أمهات الصحف الفرنسية بمصر. ويمتاز أسلوبها الفرنسي بالجزالة الكلاسيكية، وقد اكتسبت أثناء إقامتها بمصر صداقة الشخصيات البارزة في المجتمع المصري
واختم كلمتي عنها بما تبديه من عطف على الشرقيين، فقد كانت تغشى حفلات العرب(283/46)
الذين يعيشون في الخيام بقرية حلوان البلد الواقعة على النيل في الليالي القمرية؛ وكانت تعجب بسمرهم؛ وكانت تنثر على أطفالهم النقود، لذلك كانوا يحفظون لها هذا الجميل. وقد أعربوا عن عرفانهم لهذا الجميل فأهدوا إليها كلبا من كلابهم الضخمة، أطلقت عليه اسم (بطل) وكان هذا الكلب موضع عنايتها، وكانت توكل إليه حراسة دارها، وعندما تركت حلوان وأقامت في إحدى فنادق القاهرة الفخمة أخذته معها، وكانت تفخر به على الدوام لأنه (عربون) مودة لا يصح التفريط فيه
كامل يوسف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني(283/47)
الحالمون
ترجمة السيدة الفاضلة (الزهرة)
الحالمون هم الذين أقطعونا في الدنيا جوانب العيش الخصب العريض، والخير الجم المستفيض، وأرشدونا إلى مبادرة السوانح، وفتحوا لنا أمصار الفرص البيض. ولعله لم يخطر لك ببال مطلقاً أن ما تردد فيه طرفك، وتعدّه من خاص ملكك في هذا الكون الوسيع، منتسب إلى عطاء حلم رائع تحقق، ورؤيا مجيدة صدقت. . .
أدر الطرف حولك واسأل: مَنْ ذا الذي منحنا النعم المألوفة لدينا، والصنائع الشائعة بيننا؟ ومَنْ ذا الذي أسبغ علينا النور ليلاً، وحبانا بالمقدرة على الطواف حول العالم؟ ومَنْ ذا الذي أباد الوباء ومحق الطاعون، وأعاننا على قهر جميع العلل والأدواء؟
لقد ملأت جميع هذه المواهب الكبيرة صدر العالم، وتتابعت علينا تتابع القطر على القفر، فورثناها مع الهواء الذي نستنشقه، وتلك الصيحة الظافرة تنبعث إلينا من أروقة الزمن قائلة: (وجدتها! وجدتها!)
إن أرخميدس لم يقم بمظاهر هائلة حين باح للعالم بسر الثقل النوعيً، ولكنه قفز من حمامه فجأة، وراح يركض في طرقات المدينة متهللاً، ويهيب بالناس قائلاً: (وجدتها! وجدتها!)
وكذلك كانت تلك الروح الزخارة، التي أنعشت دنيا العلم قاطبة، دون أن تضطرب بحب الكسب والمنفعة الشخصية، في كيان أي رجل ممن أثقلوا الكواهل بأياديهم التي يفرض لها الشكر ويتحتم، لأنهم بذلوها في سبيل المصلحة العامة، وأضافوها إلى حصائل العمران من فيض سجاياهم البارة، بسخاء نفوسهم الأمارة بالخير، المطبوعة على المعروف كأنه غريزة فيها تشبه غريزة التغريد في الطير، وعنصراً من عناصرها يحاكي الجمال والشذى في الزهر. . . وكانوا جميعهم سعداء مغتبطين إذ مكنوا الإنسان من حكومة نفسه، وضاعفوا قدرته على تصريف أموره والأخذ بناصيتها، وقد حملوا ألوية جهادهم، وبنود كفاحهم، وكلمات كبار (المجالدين) المستميتين من معشر الرومان، تتدفق من شفاههم، ولكن بروح من النبل الذي يبز كل ما اختلج من معانيه في حياة أولئك الرومان الغرّ الميامين وكأنهم كانوا يخاطبون الإنسانية بلسانهم قائلين:
(نحن الذين نوشك أن نموت موت الإيثار والمفاداة نحييك يا قيصر!)(283/48)
حقا إن انتصاراتنا الباهرة على ويلات الحياة مسجلة في سير كثير من أولئك المجالدين البررة. ولئن لم يكن الموت في سبيل العرفان وآيات الجهاد من نصيبهم على الدوام، فان مثابرتهم الصامتة كثيراً ما كانت محفوفة بمرائر جسيمة تتحيف الصبر وتهد الأركان وتجعل الموت عذباً مستساغاً؟
وإننا لنعلم أن (وليم هارفي) حين أعلن في محاضراته المتواضعة سير الدورة الدموية في الجسم الإنساني، وفتح الأذهان لأول مرة لتفهم سر من أسرار الوجود العظيمة لم يكن يطمع في منحة أعظم من إقبال الناس على أبحاثه وقبولها بروح العطف، بيد أن العالم أبى عليه هذه المنحة. وغاليلو لم يتطلب منفعة من اكتشافاته التي جلَّت للإفهام حقائق كثيرة في الفلسفة الطبيعية، بل كان جزاءه التهديد بالتعذيب، ووجد غنمه الأكبر في نجاته من هول الخازوق والعذراء: آلة التعذيب بمطَّ الجسم!
ولقد مات (تيخوبراه) في أحضان الفاقة والشقاء لأنه قشع عن العقول البشرية غيوم الترهات والخزعبلات التي كانت تدفعها إلى الفزع من الأجرام السماوية والكواكب السيارة. وقد أحدث (دارون) وهو في مرتقاه الرفيع، فوق ذروة تلال (كنت) ثورة عظيمة في العقول لم يسبق لها مثيل في كل ما أحدثه عالم من علماء الطبيعة. بل إن الراهب (مِندل) في حديقة صومعته المشمسة، وبنحله وببازلته قد بلغ حيث لم تبلغ جهود دارون في كل ما توصل إليه لاكتشاف ناموس الوراثة. ومع ذلك فقد لاقى هذان الرجلان المناجزة والعداء (مع أن راهب برن الشيخ) قد أسبغ منناً عظيمة كفلت الغذاء الصالح للإنسان والحيوان، وأدخل على نتاج العالم الحيواني والنباتي تقدماً لم يسبقه إليه أي إنسان بل أي جيل من الناس. وكل من يبغي أن يجئ اليوم بسلالة جديدة من الماشية والأغنام، أو نوعاً جديداً من الزهر والثمر والبر والحنطة، لا بد له أن يتبع النواميس التي اكتشفها وفسرها الراهب الشيخ في حديقته ببلدة (برن) وكل ديون العالم تقصر عن الوفاء بحقوقه التي لم يتقاض لأجلها شيئاً من العالم، أو يفرض عليه أجراً لها، بل إنه لم يؤثر نفسه بامتياز من امتيازاتها أو يحتكر حقاً من حقوق اكتشافها، وذلك لأنه كان رجلاً من الرجال الذين يغتذون بالأحلام.
وكذلك كان الحال في الثروة المادية التي تنشط اليوم مئات الصناعات والحرف، وتوطد(283/49)
دعائم حضارتنا، ونحن لا نستطيع بحال من الأحوال أن نحصي أياديها لأنها لا تعد، ولا تقف عند حد. على أن الاستفادة بها والتغني بذكرها هما جل ما يبغيه أولئك الأعلام الذين جدوا وسعوا دون أن يتطلبوا جزاء ولا شكورا في سبيل الإنارة والنهوض بالإنسانية.
ولقد انتقل العالم من عصر الحديد إلى عصر الفولاذ فعصر الكهرباء واللاسلكي، وجميع هذه الاكتشافات الأساسية التي غيرت وجه الوجوه من عصر إلى عصر قد أغدقها علينا رجال أفاضوا شعاب برهم وسحب معلوماتهم وذكائهم كعطايا سمحة لأهل جيلهم. فنحن نشيد عمراننا على أسس وضعها أولئكم المجاهدون الصناديد الذي اتخذوا من ميادين النزال ومعامع الكفاح مدارس للبحث والتفكير والاستقراء ومعتملات للاختبارات والتجارب العلمية. ولقد قدم نيوتن ونابير لعصرهما آلتين من افضل ما جاءت به مستحدثات العلوم الرياضية فزودوا العلم بقوة عقلية تفوق كل وصف. وقد اثبت الطبيب دالتون تلك الصورة النهائية القطعية لنظريته العجيبة - نظرية تركيب الجوهر الذريري. كما وضع العالم الإنجليزي جول الأساس الراسخ لجميع الأعمال الباهرة التي تجري الآن في دائرة (استحالة الاقتدار) وقد ورث العلامة العظيم جيمس كلارك مكسوبل ثروة طائلة من أمالي الفلسفة الطبيعية فاستغلها في التمهيد لاكتشاف التموجات الأثيرية بعد أن تمكن من إدراك أبعادها وتقدير مساحاتها ومقاييسها. وتناول هتريك هرتز الألماني أعمال ذلك العلامة الإنجليزي فتمكن من إشعاع أمواج اليكترماجنتيكيه (المغناطيسية الكهربية) بواسطة جهاز كهربائي للذبذبة وجعل العامل الأساسي لإنتاج هذه الأمواج الشرر الصغير الذي كان يظهر من ثغرة صغيرة في أداة معدنية فيعبر الغرفة دون أن تكون هناك أية حلقة للاتصال غير الهواء. ولقد انسحق قلب دافيد ادوارد هو، من جراء الفشل الذي صادفه في تجاربه اللاسلكية، ولكن جيلاً من الناس الباحثين المستطلعين أفلحوا في تحقيق أحلامهم التجريبية حتى ظهر أخيراً المخترع الإيطالي العظيم جوليلمو ماركوني وتناول أبحاث أسلافه ولم يزل بها حتى تمكن من زيادة الإشعاع وتحسينه وتنميته وضبطه، وتوصل إلى إتمام اختراعه فلم يكد يشارف السابعة والعشرين من سني حياته حتى برهن على مخترعه عملياً وأذاع إشارته اللاسلكية الأولى عبر المحيط الأطلنطيقي، وبذلك أكمل اللاسلكي أهم رحلة في حياته مثبتاً للملأ أنه كان سائراً به في الطريق الموصل إلى ذروة النجاح النهائي بعد(283/50)
أن تجشم صعوبات هائلة وذلل عقبات كبيرة.
ولا شك في أن أغلبنا يعرف عظم ما ندين به لصمام الحرارة (الثرمونيكي) الذي اخترعه الأستاذ (فلمنج) ولا يخفى علينا أن ذلك الصمام ينبعث من كوكبة (هي المصباح الكهربائي) ولكن كم منا يذكر أن هذه الكوكبة لم تكن لتوجد لولا تلك الأنبوبة المفرغة التي ابتكرها سير وليام كروكس؟ على أن هذه الأنبوبة التي كانت فكرة تتردد في مخيلة ذلك الرجل المستطلع، صارت فيما بعد مهداً للخوارق التي بذت جميع ما سبقها من أعمال قوى الطبيعة الغامضة، فقد اكتشف فيها وبوساطتها أشعة (إكس)، وإن من العسير أن نذكر نصف المدهشات التي تأتت من هذه الأنبوبة العجيبة. . .
إننا نعيش كل يوم على المواهب الباهرة التي قدمها لنا (هنري كافنديش) الذي اكتشف غاز الأيدروجين، وجوزيف بريستلي الذي اكتشف الأكسجين، والكمياوي الفرنسي لفوازييه الذي علمنا وظيفة التنفس. . . ولكننا قلما نفكر في الأحلام الطويلة التي استرسل فيها جميع أولئك الفطاحل، ولعلنا ننسى أن بريستلي فر إلى أمريكا قانعاً من الغنيمة بالسلامة في سبيل كرازته عن الأكسجين، وأن الفرنسيين قضوا على حياة لفوازييه بحد المقصلة الجهنمية مجاهرين بأن الجمهورية ليست في حاجة إلى جمهرة الكيميائيين، وأن العدل يجب أن يأخذ مجراه
إن هذه الفيافي التي نجوس خلالها مترامية الأطراف وعرة المسالك ولكنها عظيمة حقاً لأن رجالاً مجدودين عظماء قد عبدوها وأخضعوها لسلطاننا حباً في العلم والعرفان، لا طمعاً في الربح والكسب:
مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يماني
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حال أم بأي مكان
على أن هذا لم يكن قصارى جهدهم فان أولئك الناس الذين كانوا ينهضون للعمل مبكرين ويهجعون متأخرين ليكتسبوا من الطبيعة أدق أسرارها وغوامضها ويستغلون أعظم قوى اقتدارها من أصغر الذريرات الكائنة، قد رصدوا ساعاتهم للكد دون أن يعرفوا طعماً للراحة؛ وكانوا إذا تمت المعجزة على أيديهم وتمكنوا من استخدام الجوهر الفرد في هد الرواسي وزلزلة الجبال وفي إفادة العالم - الذي يكونون جزءاً غير منظور منه - يقدمون(283/51)
هذه المعجزة دون قيد ولا شرط، ويطلعونها عليه طلوع الشمس التي تحفظ الحياة على الأرض. ونحن جميعاً نجني ثمراته ونتقاسمها دون أن نبذل في سبيل الحصول عليها فلساً واحداً. وهكذا تتتابع فصول تلك القصة العجيبة التي بدأت مذ شرقت أول شعاعة من شعاعات العلم والمحبة تبدد الظلمات الداجية والأطماع الأشعبية من العقل الهمجي والفكر المتوحش القاسي. وإننا لن نجد ما يتلو علينا فصول تلك القصة مراراً وتكراراً، بل إن أفصح من ذلك الذي تحدثنا به تواريخ الطب والجراحة الفائقة عطفاً وحباً ورحمة. فما من مصل مما يستعمل لشفاء الأمراض إلا وينتمي إلى ذلك المصل الواقي الذي منحه للعالم بسخاء دكتور جنر لحمايتنا من تبريح الجدري. ولا تجرى عملية عظيمة على يد أحد الجراحين اليوم إلا ونجد الجراح والمريض يلهجان بحمد العزة الإلهية من أجل جيمس سميسون الذي جعل القيام بالعمليات الجراحية الخطيرة ممكناً ميسوراً بفضل اكتشافه جواهر المخدرات التي تفقد الإحساس بالألم. أما لويس باستور الذي علم الناس التحرز من المرض بالتطعيم وحفظ الأغذية والسوائل العضوية بالتعقيم فلم يتقاضى على جهوده غير الثناء والشكران. وجاء جوزيف لستر واتبع أفكار باستور واستخدمها في محو الألم ودرء السموم عن الأجسام فكان عدد الذين أنقذهم من الموت أكثر من الذين أبادهم نابليون، وضفر للسلم من أكاليل المجد فوق ما ضفرته الحرب لا عظم أبطالها الظافرين. وقضي حياته وهو يكدّ ويحلم ويحقق حلمه، وبفضله أصبح ميسوراً للجراحة اليوم القيام بكافة صنوف العمليات واصبح الطبيب القادر على أداء تلك العمليات يفاخر بما أسدته إليه طريقة لستر من تفادي التسمم بل أصبح ينشرها للملأ فيكبر لها مشاهير الجراحين وينهل من فيضها جماعة الطلاب المتعطشين ويجعلونها قبلة أنظارهم
وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كف منعم
ولقد كان لستر يتقاضى مبلغ خمسمائة جنيه من موسر يجري له إحدى عملياته، أما الأجر الذي كان يتقاضاه من فقير لاجئ إلى أحد المستشفيات الخيرية فلم يكن يتعدى عبارة (أشكرك يا سيدي) تتدحرج على شفتي ذلك البائس بصوت مختنق متهدج؛ وكان الرجل العظيم يعود إلى بيته بقلب يطفح شكراً لله تعالى الذي آتاه القدرة على تخفيف بلاء المفلوكين(283/52)
وإذا الرجال تصرفت أهواؤها ... فهواه لحظة سائل أو آمل
ويكاد من فرط السخاء بنانه ... حب العطاء يقول هل من سائل
بيد أن ظواهر هذا البذل الإنساني العظيم لا تقف عند هذا الحد لأن أولئك الرجال الذين يمسحون عنا أمراضنا لا يترددون في الخطار بحياتهم دون ريث ولا إمهال
مسترسلين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام
آساد موت مخدرات مالها ... بين الصوارم والقنا آجام
ولا يوجد علاج أو وقاية من أمراض المنطقة الحارة إلا وقد ابتاعوه لنا بأعمارهم الغالية وأنفاسهم الثمينة، فكان الواحد منهم يجرب علاجه في جسمه قبل أن يجربه في مريض. وتاريخ الطب حافل بآيات الشجاعة والولاء والبطولة التي لا تقل عما تفيض به أخبار أعظم الفاتحين
بل إننا حين نذهب بحديثنا إلى عصرنا الحالي العظيم - عصر الهندسة العملية وإقامة الجسور والقناطر العجيبة، وحفر الترع والقنوات المدهشة نجد الحالم من ورائها جميعاً، ونجد السفن تجري من محيط إلى محيط وادعة مطمئنة في قناة باناما حين كانت الحياة الإنسانية لا تساوي قيمة ريع عشرة أيام لعامل عادي، ولولا أن رجلاً اسمه رولاند روس جلس يحلم ليلة بعد ليلة من خلال منظاره المكبرّ ثم عثر على البعوضة التي تحمل جراثيم الموت وأخبر العالم أننا نستطيع أن نهزأ بالحمى الصفراء وبالحمى النافضة (الملاريا) لو فعلنا بهذه البعوضة ما فعله باستور بالطعام وليستر بالجراح لما حفرت ترعة بناما. وقد جنى مهندسوها وبناتها أرباحاً طائلة من ورائها، ولكن الرجال الذين ابتدعوها في أحلامهم ورسموا فكرتها وسعوا لتحقيقها لم يأخذوا لأنفسهم شيئاً لأنهم كانوا من ذوي الأحلام وكأن الشريف الرضي كان يعنيهم حين قال
وركب سروا والليل ملق رواقه ... على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم
ترينهم نجوم الليل ما يبتغونه ... على عاتق الشعري وهام النعائم
وغطى على الأرض الدجى فكأننا ... نفتش عن أعلامها بالمناسم
وهكذا كان الناس يحملون ويحققون أحلامهم فصيروا عالمنا أجمل وأعظم من عالمهم،(283/53)
ومنحوا العالم قوة ليس وراءها مطلع لحالم؛ ولا فوقها منزع لأمنية ولا مرتقى لهمة، وأصبح من الميسور للإنسان الآن أن يجعل من هذه الحياة الدنيا فردوساً ينقش فيه صورة جنة الخلد ويفرش عليه محاسن النعيم الأبدي
(الزهرة)(283/54)
إلى شباب القصصين
كيف احترفت القصة
قصة السيدة ستورم جيمس
للأستاذ أحمد فتحي
حين كنت في جامعة (كترنج) عام 1914، تقدمت بأطروحة عن (القصة الحديثة في أوربا) علمت أنهم سيكافئونني عليها بدرجة جامعية أخرى فوق الدرجة التي أنا متقدمة لإحرازها، وكان ذلك مدعاة لسروري بعض السرور في ذلك الحين!
وكنت طوال سني دراستي أعلق آمالي باحترافي في التدريس، وكان الأساتذة يعلمون هذه الآمال ويرعونها. ولست أدري ماذا حدث بعد فراغي من الدراسة ووداعي للجامعة؟ فقد تنكر عقلي لكل تلك الآمال العريقة! وانقلب كالوحش وقع وشيكا في الشرك! وتملكته قوة جامحة غضبي. . . وحين ألتفت إلى الوراء أراني وقد كنت بلهاء صغيرة غير مؤذية، لا تدري ماذا عساها أن تصنع، ولا تكاد تتبين سبيلها السوي في الحياة!
وتحت تأثير ظنوني الكبار بضرورات حياة يكفلها رزق ضيق لا يزيد على خمسين شلناً في الأسبوع، التحقت بنادي القراء، وكانت لي في تلك الأيام الطويلة فسحة من الوقت أنفقها في القراءة. ولأول مرة كنت أقرأ وأقرأ غير مدفوعة بإعداد أطروحة للجامعة! ولقد كان كل شيء أقرأه يتيح لي اجترار بعض ما تخزنه حافظتي. على أن القصص قلما كانت تشبع نوازع نفسي. ولقد تناولت أجزاء كتاب (تاريخ النهضة الإيطالية) واحداً فواحداً، وعشتُ بينها في تأثر وحبور لا يوصف. وعلى الرغم من جهلي بالقيمة العلمية التي يمتاز بها ذلك الكتاب، فإني مدينة له بدين لن أقوم بوفائه ما حييت!
وبعد تلك القراءات الكثيرة، وفي تلك الأيام التي لم أكن أجد فيها الراحة الكافية لاستئناف القراءة، كنت أكتب وحدي. . . وكذلك بدأت تسجيل فصول قصتي في بطء. وإني لأود الآن أن استدعي ذكريات حالتي النفسية والعقلية حين بدأت كتابة القصة، فلست أدري ماذا كان يروق لي أن اصنع! ومن المحقق أنني لم أكن أتوق إلى تأليف قصة، ولا ابتكار شخصيات؛ وفي الكناشة الضخمة - التي أحتفظ بها وحدها - صفحتان أو ثلاث تحوى(283/55)
مذكرات مبعثرة متناثرة كنت قد وضعتها نواة لقصتي الأولى؛ وإن معظمها ليبدو لي الآن بلا معنى كما تحوى كذلك مذكرات قصيرة جداً عن شخصيات القصة؛ التي ألاحظ فيها شيئاً واحداً فريداً، هو أنني لم أكن قد وضعت لها فكرة تامة شاملة. . . على أن بعض هذه المذكرات كان ينتظم النظريات الحيوية التي كنت أومن بها في ذلك العهد
لا شيء يبعثني على تصفح هذه القصة الأولى لأرى كيف ائتلفت من تلك المذكرات المتناثرة فصول كتاب كامل ومن الواضح أن رغبة الطبيعة في أن تجعل مني كاتبة قصصية، لم تكن أعظم من رغبة الجامعة في أن تجعل مني مدرسة فيها! فليس في تلك القصة الأولى ثمة فكرة ناضجة؛ بل بضعة مناظر مترابطة. وليس فيها شخصيات؛ بل عظام جافة في وادي عقلي لأفكار مجتمعة لي من سني قراءتي السقيمة، مقتبسة من (العصر الحديث) متذاكرة من أحاديث التلاميذ. ولا أستثني من ذلك سوى نسمات سرت إلى قصتي من سماء الوحي. . .! إذ حدث أن تحرر ذهني مرة من صلته بأفكار الناس، متخذاً سبيله بين آمال الحرية الطليقة، مما سأذكره مفصلاً فيما بعد!
وشبت الحرب فرحت إلى (ليفربول) وكان أن أحكم على الشرك الذي ظننتني قد نجوت من أسره! إذ تزوجت وغدوت ربة بيت لم أكن أرجع عن بعض أعماله إلا وقد أنجزت كل أجزائه؛ وبقدر بغضي للخدمة أصبحت أكثر أمانة من أية سيدة يمكن كراؤها لذلك. وما كان في وسعي أن أقرأ أو أكتب في غرفة غير وثيرة إلي أبعد حد. . .! وقد كتبت النصف الباقي من قصتي في فترات الراحة التي كنت أخلو فيها من عناء الأعمال المنزلية كالطبخ والغسل وتنظيف الأثاث وغير ذلك. ولم أكن قد أنجزت هذا النصف الباقي حين وضعت طفلي في منتصف عام 1915 في (هويتبي). وبعد ذلك أهملت القصة على ركن من رف ظلت به خمسة شهور في برد من الغبار!
وفي ديسمبر عدت ثانية إلى (هويتبي) ومعي طفلي وقصتي التي أقحمتها حقيبة ثيابي في الدقيقة الأخيرة ساعة الرحيل. إذ خطر لي أنني سأكون في سعة من الوقت تهيئ لي فرصة الكتابة. وكانت الحرب حينذاك مستأثرة بأصدقائي. . . محيطة كل شيء بالمظان من كل جانب. غير أن ذهني كان صغيراً جداً وكذلك كانت سني، فلم أكن أتطلع إلى المستقبل بغير آمالي وحدها. . .(283/56)
سرت عدوى (السعال) من شقيقتي إلى طفلي وهو في شهره السادس. غير أن إصابته لم تكن حادة عنيفة. على أنه كان يستيقظ مرات في الليل ليسعل. وذات ليلة كنت راكعة إلى جوار مهده أعني به وهو نائم، وأتلهى بإضافة شيء إلى قصتي. وكنت ساعتئذ أكثر ما أكون تشتت بال ورهافة سمع. فحدث أن تمثل لي شاب سميته من فوري (بوسكت)؛ بلغ من شدة تصوري وجوده أن حسبته حقيقة ماثلة لا خيالاً طارقاً؛ بل لقد خفت أن يكون من لصوص الليل، غير أني ما لبثت أن هدأت إلى هدوئه، فقد بدا لي - هو نفسه - خائفاً! بوجهه المستدير، وقسماته الغامضة المعقدة. كما تبينت للوهلة الأولى نواحي ضعفه، وغير ذلك من طباعه وعاداته! واتفق أن استيقظ الطفل ليسعل فجاءة؛ فأقبلت عليه وما زلت به أطيب خاطره حتى عاوده النوم، ثم رجعت إلى رجل خيالي (بوسكت) الذي لم يكن فارق ذهني بعد. . .! وظللت أستوحيه ما أكتب حتى صرخ الألم في ركبتي وأنا راكعة عليهما؛ وحتى تقلصت عضلات معصمي، وسرى البرد إلى جسدي فاقتادني راغمة إلى الفراش!
ولم أنجز الكتاب كله في ذلك الحين أيضاً. . . ولكني أضفت إليه بعض العبارات في أيامي الأخيرة في (هويتبي). وحدث ذات مساء أن أطفأت الأنوار الكهربائية إيذاناً بغارة جوية من مناطيد (زبلن). فالتمست في الظلام ورقة صغيرة جعلت أكتب عليها قطعة شعرية من القصة - إلى جانب أمي - على ضوء شمعة؛ وحين فرغت من نظمها كانت الأنوار قد عادت. فأخذت أقرأ الشعر لأمي، وأنا شديدة الأيمان بأنه شعر رائع، وهي تزعم كذلك أنني شاعرة مطبوعة!.
وفرغت من الكتاب عام 1916 في (كترنج) ولا أستطيع الآن أن أستدعي الكثير من الذكريات عن ذلك العهد. غير أني كنت ولم أزل قليلة الفراغ كثيرة المتاعب. وعلى أي حال فقد انتهيت من كتابة القصة، ثم وقعتها على آلة كتابية عتيقة بالية، فاستغرق ذلك حيناً. . .
وحين رحلت عن (ليفربول) في ربيع 1917، كان معي الكتاب مكتوباً بأحرف الآلة الكاتبة، بعد أن رفضه أحد الناشرين لعله (دكورث) وقد أرسلته من (ريدنج) إلى ناشر آخر. ومع أن الكتابة القصصية لم تكن تروق لي كثيراً، فقد لبثت أرتقب ماذا يقدر لكتابي الأول، الذي هو محاولتي القصصية الأولى!(283/57)
وجه إلى المستر (فيشر آنون) الناشر المعروف - الدعوة للقائه، والحق أنني اضطربت لتلك الدعوة، وتهيبت ذلك اللقاء. وقبل أن تتم المقابلة آثرت أن أمر بالرجل الذي يقرأ للمستر (آنون) ما يراد نشره، وقد تلطف الرجل معي ورق حديثه، ولا أحسبه قد أشار علي بإحراق قصتي! ثم لقيت المستر (آنون) نفسه في غرفة مكتبه الأنيقة. وبعد حديث قصير اقترح علي أن اقدم إليه أعمالي القصصية (الستة) التالية! وما كان لي غير إقرار هذه الصفقة المقترحة من جانب واحد! غير أن فكرة كتابة قصة بعد أخرى - بدأت تفزعني. وحين هممت بالانصراف من حضرته شيعني إلى الباب، كأي جنتلمان مهذب رقيق الحاشية، وفي اللحظة الأخيرة قدم إلي نسخة من قصة (طريق النسر) مصحوبة بقوله (إني أعطيك هذا الكتاب لتقرئيه، ولترى كيف ينبغي أن تكتب القصة)
ومضى هذا الحادث عنيفاً. وتركت القصة في مكان لا أذكره، وافتقدتها فلم أعثر عليها إلا بعد حين، فأرسلتها إلى دار (كونستيبل) للنشر، وكنت في بعض ريف (هامشتر) حينذاك.
وتلقيت من (كونستبل) أنهم راضون عن القصة، راغبون في لقاء المؤلفة، بيد أني كنت قد زهدت في هذا اللقاء، بعد ما حدث في لقائي للناشر السابق الذي أراد أن يعطيني درساً في الفن على يدي بعض كتبه! ومن الجهة الأخرى - لم أكن أود إنفاق أجر السكة الحديدية في سفرات لا أريدها! وكذلك كتبت إلى (كونستبل) أستفهم عما إذا كانوا جادين في رغبتهم نشر قصتي؟
وأعتقد أنني سررت حين علمت أن كتابي سيطبع وينشر حقاً! والواقع أني لا أكاد أذكر شيئاً عن ذلك، ولكني أرجح أني تلقيت الأمر في قلة اكتراث. وإن ذاكرتي لتختزن القليل من مشهد جلوسي في غرفة بمنزل (ميخائيل سادلر) في لندن، وأني لأتصور الغرفة الآن وطولها ميل أو أكثر، كما أتصورني وأنا أعبر طولها ذاك حابية على كفي وركبتيّ!. وبعد أن تناولنا الطعام تناولت قلمي فأجريته فوق بعض عبارات من القصة زعم صاحبنا أنها غير ملائمة. ولقد ساعد على اقتناعي برأيه السيئ فيها زهدي في احتراف القصة. كما أنني تركته يستبعد كلمات من العنوان نفسه
وبعد أن تم التعاقد بيني وبين دار (كونستيبل) للنشر بأسابيع فجأتني حاجة عنيفة إلى المال، فكتبت إليهم أطلب نقوداً. في حين أنني لم أكن أعلم ماذا صنعوا بعد إتمام التعاقد؟(283/58)
غير أنني كنت متأثرة بإحساس باطني جديد يخيل إلي أن تصرفي ذاك لم يكن أكثر من مشاكسة لا بأس بها! ثم إني قلت لنفسي إنهم قاموا بنشر كتابي. . . ولا بد أن يكون شيئاً ما؟. ولم يكن يتطرق إلى ذهني أن قبول نشر هذا الكتاب لم يكن أكثر من رغبة من الناشر في مساعدتي!. . .
وإن أي إنسان يتوهم أن الناشرين - عدا واحد أو اثنين - قوم غلاظ القلوب - لخليق أن ينكس رأسه خجلاً، فقد تلقيت بعد خطابي عشرة جنيهات، ومعنى ذلك أن دار (كونستيبل) للنشر قد زادت خسارتها مقدار هذه الجنيهات العشرة!!
وظهرت القصة في أوائل عام 1919، وعبثاً أحاول تذكر شعوري في ذلك الحين، وأنا شابة صغيرة السن خاملة الذكر. وكل ما أذكره أنني لم أصادف في الأيام الأولى بعد ظهورها أحداً من الأصدقاء أستطيع التحدث إليه في شأنها. ولعل هذا لم يكن يعنيني كثيراً. . .
ولم يسرني كثيراً - في جهالتي - أن الصحافة قد احتفت بقصتي الأولى. وهي على أي حال لم تظفر بإطراء مسرف. ولكنها لقيت اهتماماً ملحوظاً. ولقد احتفظت حيناً طويلاً بما كتب بين المدح والقدح؛ احتفظت بهذه الكتابات أربع سنين أو خمساً، في حين أنني كنت أحرق كل شيء من الخطابات والصحف وسواها، وكذلك أصنع الآن، غير أنه يندر أن أحفل بما تكتبه الصحف عني وعن كتبي. ولن أترك بعد موتي قدراً كبيراً من الأوراق، فإني أمزق خطاباتي بعد تحرير جوابها إلى أصحابها، كما أمزق المذكرات التي أصنعها لموضوعات كتبي، وكذلك اصنع بمفكراتي الخاصة. كما أني أميط كل أثر لي عن وجه هذه الأرض التي سوف أرحل عنها جِدًّ آسفة. . .!!
ومن المحقق أنه يكون من بواعث ارتياحي أن أحرق كل نسخة أعثر بها من قصتي الأولى هذه، وقد نسيت أن أذكر أن اسمها كان (الوعاء يغلي). . . ومن دواعي اغتباطي أنني موقنة من أنها لم تكن عملاً أدبياً يستحق أن يباع للقراء! ومن حسن الحظ أن حقوق الطبع بيدي، فلن يتاح لهذه القصة أن يعاد طبعها أبداً. . . إلا إذا عقدت مسابقة في أردأ القصص! والحق أنها كانت رديئة إلى حد لا يصدقه إنسان. ولكنها قد لا تكون أردأ ما كتبت أنا! وإن رداءتها المنقطعة النظير لتثبت أني لم أكن أبداً قصصية موهوبة. ولكن فيها(283/59)
درساً لا ينساه كاتب مبتدئ لم ينشأ في أسرة يتكنفها جو أدبي. فلم يكن بجواري حين كنت أكتب قصتي الأولى إنسان واحد يحبوني بنصح أو تحذير. كذلك لم يكن لي من ذوق طبيعي في الأدب، غير أنه كان بي جوع شديد إلى المعرفة، شجع في أشنع أغلاطي كمؤلفة!. .
كان رأسي بمثابة (الخلية) تضم (عسل) الرجال الآخرين وكانت العلة في ذلك هي تلك البرامج الجامعية التي تنتهي بمثلي إلى نيل درجة علمية في اللغة وآدابها. فلقد لبثت ثلاث سنوات أقرأ وأقرأ وأقرأ. . . من غير تمييز! ومن غير أن أجد جواً صالحاً لكي أنضح بما استوعبت في قراءاتي المتعاقبة. وخلفت الجامعة بذهن تعصف به الأصداء! من غير أن تتهذب ملكة النقد الطبيعية في ذهني. والحقيقة أن كاتباً موهوباً لم يكن ليستطيع أن ينتج بمثل ما قدر لي من سهولة الإنتاج! فان لي لمقدرة على التفكير المنظم والصبر؛ ولكنها مقدرة قصيرة النظر! تذكرني دائماً بحصان ركبته مرة واحدة في حياتي، إحدى عينيه تالفة، ويتوهم أنه يستطيع اجتياز أي حاجز!!
وبالرغم من نسياني كل شيء عن قصتي الأولى يخيل إلي أنه كانت تبدو فيها مهارة فنية خشنة غير صقيلة؛ كانت لي في تلك الأيام ولم يتناولها أحد من الناشرين أو الصحافيين بحسبان أنها كتاب (شاب) ناشئ، مما يجعلني أعتقد أنها كانت عملا ضئيلا جدا، لا يمكن أن يجد مثله اليوم سبيلاً إلى النشر. ولو أن ناشراً أخرجه للناس لما لقي شيئاً من عناية النقد ولا التفات الصحافة
على أن الكاتب المبتدئ الآن قد اصبح عليه أن يقتحم ميداناً شديد الزحام؛ يكون حسن الحظ لو لم يختنق فيه بعد بضع دقائق!. فإذا وفق إلى استرعاء الأنظار كان خليقاً أن يأمل في نقد ينتفع ببعضه. وهذا الزحام الشديد لا يمكن أن ينكره كاتب ناشئ قليل الأنصار. وإن خير آماله ليجب أن يعقد بعقد صداقات نافعة في الجو الأدبي بأسرع ما يستطيع. فمثل هذه الصداقات خليق أن ينقذه من إضاعة وقته سدى مشتغلا بكتابة قصة لا يبلغ من أمرها أكثر من أن يسمع لأجلها بضع كلمات تافهة تلقى بعدها وهي ترسب آخر الأمر. ومتى علم ذلك الكاتب الناشئ كان جديراً ألا يرفض المشورة بعقد مثل هذه الصداقات محتجاً أن فيها تجنياً على روحه الفني ووقته. وعليه أن يذكر دائماً أنه ينبغي له اختيار أضأل الضررين. . .!(283/60)
ولقد أصبح رزق مثله في ذلك الميدان وكثير غيره، أعسر مما أتيح لي منذ عشرين سنة. فان كسب المال غداً أقل يسراً مما كان عليه في ذلك الحين. ومع هذا فماذا ربحت؟ عشرة جنيهات في مقابل عمل ثلاث سنين!
بل إن هذا المبلغ لم أكسبه بالطريق العادي في الواقع. . .
وإن لآسفة حتى الآن على أني لم أحترف التدريس!
ستورم جيمس(283/61)
شجرة الذكرى
للأستاذ محمود الخفيف
وَيْحَ مَن شَجَّت يداه الشجَرَه ... وطوت أغْصَانَها المزدَهِرَه
ويح من أهْوَى بفَأسٍ لا تني ... تَركتْ أشلاََءها منتثِرَه
قَطَعَتْهَا سَرْحةً طَيَّبَةً ... تَبْسُطُ الظلَّ وتؤتي الثَّمَرَه
جِئتُ والصَّيفُ على أهبته ... ويَدُ الدُّنيا تُعَفّى أثَرَه
والخريفُ السَّمْحُ في أعقابه ... يَتَقَصَّى في هُدُوءٍ خَبَرَه
يَسْأَلُ القَرْيَةَ عما أدَّخَرَت ... لليالي المُرَّةِ المُعْتَكِرَه
لا يَرَى غَيْرَ فُتورٍ سَابِغٍ ... في نواحِيها وصَمْتٍ حَيَّرَه
أتُراها لَمَحَتْ فيِ بُرْدِهِ ... شَبَحّا لِلْكُدْرَةِ الُمنتظَرَه؟
أم تُرَى أذْهَلَهَا ما مَسَّها ... من لظًى كانَتْ بها مُسْتعِرَه؟
جِئتُ كالحاجِّ وفي مُهْجَتِهِ ... فَرْحَةُ الناسِكِ يقضِى وَطرَه
طفْتُ بالقرية من أركانها ... كل حُسْنٍ أَتَمَلّى صُوَرَه
أتَقَرَّى أينما سِرْتُ يَدَ الدَّهْ ... رِ وأحصى من قَرِيبٍ غِيَرَه
كُلّمَا أبْصَرَ طَرْفِى لِلْبلَى ... أثَرًا دبَّ إِلَيْهَا كَدَّرَه
وإذا أبْصَرَ فِيهَا طَارِفاً ... زادهُ العَيْشُ عليها أنْكَرَه!
كًلّ مَا غَيَّرَ من صُورَتِهاَ ... كَمْ تَمَنَّى عِنْدَهُ لو لم يَرَه!
مِلْتُ لِلْبسُتْانِ في أطرافها ... مَلْعَبٌ ما كان أحلى مَنْظَرَه
فَتَوَقَّفْتُ لَدى مَدْخَلِهِ ... وتَلَفَّتُّ أُرِيدُ الشَّجَرَه
لم أجِدْ غيْرَ فَضَاءٍ بَلْقَعٍ ... وَبَقَايَا أَغْصُنٍ مُنْتَشِرَه
شَدَّ ما أوْجَعَ نَفْسِي أن أرى ... ذلك المنظَرَ أو أن أذْكُرَه
مَنْظَرٌ ما يَبْعَثُهُ ... من أسًى كُلُّ فؤادٍ خَبَرَه
طاف بالبستان مِنهُ وَحْشَةٌ ... فتَرَى الدَّوْحَ عَلَيها غَبَرَه
وترى الأطْيَارَ في أنحائه ... سَاهِماَتٍ ساَءها ما غَيَّرَه!
سَرْحَةٌ كُنَّا نرى أيَّامَنَا ... من جديدٍ عندها مُخْضَوْضِرَه(283/62)
ولقد كنتُ إذا ما جِئْتُهَا ... عَادَ مِن عُمْرِيَ سِنُّ العَشرَه
رُحْتُ ألْقَانِي لديها ناَشِئاً ... لا يرى في العيشِ إلا زَهَرَه
يَعْشِقُ الرَّيفَ ويهوِى شَمْسَه ... وينُاَجِي في الَّليَالِي قَمَرَه
إبن عشر تضحك الدنيا له ... ليته لم يتجاوَز صِغَرَه
هذه الدوحة كانت مُلتَقًى ... ومِقيلاً للصحاب البَرَرَه
كم جَعَلْنَا عندما موعِدَنا ... وزمَانُ اللهو يُزْجى زُمَرَه
فَنَهَلْنا الوُدَّ عَذْبًا صافيًا ... لم يَشُبْهُ عَنَتٌ أو أثَرَه
زَمَنٌ قد أَدْبَرَت أَنْعُمُهُ ... هذه السَّرْحَةُ كانت مَظْهَرَه
لمسَتْ كَفِّى جناني عندها ... وتَبَدَّت مُقْلَتي مُسْتَعْبِرَه
وَلَحَانِي صَاحِبِي مُسْتَنْكرِاً ... وفؤادي مُنْكِرٌ أن يَزْجُرَه!
كُلُّ مَوْتٍ يترَاءى لبني المو ... ت ترى الأعْيُنُ فِيهِ نُذُرَه
تَلْمَحُ الأنْفُسُ في غُمَّتِهِ ... يَدَهُ العَابثَةَ الُمقْتَدِرَه
والذي تَأْلَفُهُ نَفْسُ ... يَحْسَبُ النَّاقِصَ فِيهِ عُمُرَه
محمود الخفيف(283/63)
من وحي العيد
آخر الأناشيد
للأستاذ أحمد فتحي
طابَ لِي الزُّهْدُ فاْبخَلِي أو فَجُودِي ... لا أُبالِي بالوَصْلِ أو بالصُّدودِ
قد تَبَرَّأْتُ مِن حَمَاقَةِ عُمْرٍ. . . ... ضاعَ بينَ السَّقاَمِ والتَّسْهيدِ
وأَسَتْ جُرْحِيَ الليالِي وأَضحَيْ ... تُ - كما تُبْصِرِينَ - جِدَّ سَعِيِدِ
ضَاحِكاً للحياةِ، أَهْزَأَ بالأحْ ... زانِ، في عَزْمَةٍ، وبَأْسٍ شَدِيدِ
نَاعِمَ البالِ، راضيِِاً بِخَلاَصِي ... مِنْ فُتُونِ الهوَى وأسْرِ القُيُودِ
أتَغَنَّي كالطَّيْرِ، أَمْلأُ دُنْياَ ... يَ. بألحانِ صَادحٍ غِرِّيدِ!
ليسَ بالطَّارِقِي خَيَالُكِ إنْ أَغْ ... فَيْتَ يُقْصِى عن ناظِرَيَّ هُجُودِي
لا، ولا عائِدِي من الشَّوْقِ طيفٌ ... يُلْهِبُ الحُبَّ في فؤادي العَمِيِدِ!
قد مَضَى الحبُّ؛ وانْطَلَقْتُ مِن الأسْ ... رِ لِظِلِّ الطَّلاقَةِ المَمْدُودِ!
دُونَيِ الرَّاحَةُ التي كنتُ أرْجُو ... نِعْمَ مِن رَاحَةٍ؛ وَعَيْشٍ رَغِيدِ
يا فَتاَتيِ: لَقَدْ صَحَا بَعْدَ ما أَسْ ... قَيْتِهِ مِنْ سُلاَفَةِ العنُقْوُدِ
ذَلكَ القَلْبُ؛ لم يَعُدْ لَكِ سُلْطاَ ... نٌ عليهِ، فَلْتَبْخَليِ، أو فَجُودِي!
أَنْصِتِي، لو وَعَيْتِ رَجْعَ نَشِيدِي ... أنا شَادِيكِ في غَدَاةِ العيدِ
لا تُشَيِحِي عَنِّي بِوَجْهِكِ حَتَّى ... تَأْخُذِي من فَمِي حَدِيثَ الخلُودِ
الأَمَانِي. . . أَحَبُّها في بَياَنِي ... والتَّحايا أَرَقُّها تَغْرِيدِي!
وأنا الكافِلُ الخُلودَ لِحُسْنٍ ... عَبْقَرِيّ مِن مُقْلَتَيْنِ وَجِيدِ
رُبَّما رَجَّعَ الزَّمَانُ قَوَافِيَّ م ... وأَصْغَتْ آذَانُهُ لِنَشيِدِي!
أنا شادِيِكِ في غَدَاةِ العِيدِ ... فاْسَمعِي حِكْمَةَ الْجَوَى واسْتَعِيدِي
أَنْتِ أَطْفَأْتِ جذْوَةَ الحُبِّ إذْ أَحْ ... بَبْتِ تذْكِينَ نَارَها بالصُّدُودِ
لا يَرُوعَنَّكِ التَّجَنُّبُ مِنِّى. . . ... والْقِلَى بعد فَرْط شَوْقٍ أَكيدِ
غَاَيةُ الشَّوْقِ سُلْوَةٌ واصطبارٌ ... وكذا النارُ أَمْرُهَا للخُمودِ
وكأيَّامِنا. . . تَحُولُ وَشيكاً. . . ... بِيضُ هاِتِيكِ بَعدَ تلكِ السُّودِ(283/64)
حِكْمَةُ الله لا دَوَامَ لِحالِ. . . ... من نُحوسٍ في الحظِّ، أو مِن سُعُودِ
ولكِ الصَّبْرُ يا فتاتِي، ولي مِنْ ... هُ كفاءُ المُؤَمِّلِ المُسْتَزيِدِ
جَانِبي الوَجْدَ، واْمرَحِي من جَدِيِدِ ... وإلي البِشْرِ والتَّفاَؤُّلِ عُودِي
وابْسِمِي يَبْتَسِمْ لَكِ الزَّمَنُ الجَهْ ... مُ، ويَغْشَى الحُبورُ وَجْهَ الوُجودِ
واغْنَمِي صَفْوَهُ وقد جَاَء يَسعْىَ ... عِيدُ آمالِكِ الحِسانِ، وَعِيدِي
وانْشُدِي في الأَنامِ (قيساً) جديداً ... علَّ أنُ تَبْعَثيِ الهوَى مِن جَديدِ
ما تزالِينَ مِن شبابِك في غَضِّ م ... رَبيعٍ، يَحْكِيهِ عُمْرُ الوروُدِ
لا تُضِيعيِهِ في اْبِتئاَسٍ وَوَجْدٍ ... آفَةُ الحُسْنِ لَوْعَةُ التِّنكيدِ
أو تْبالِي هوايَ حينَ تَقَضَّي ... فهواكِ الخليقُ بالتَّجديدِ!
يا ليالي غَرَامِها: لا تَعُودِي! ... قَدْ حَنَى الدَّهْرُ بالتَّجاريبِ عُودِي
لا رَعَى اللهُ من زَمَانٍ تَقَضَّي ... في كِذابِ المُنَى وخُلْفِ الوُعودِ
قد أَقَرَّ السُّلُوُّ عَيْنَيَّ وارْتاَ ... حَ فُؤَادُ المُعذَّب المعْمُودِ
فِيِمَ أذْوِي الشبابَ بالدَّمْع والسُّهْ ... دِ وَأَرْضَى في الحُبَّ طوالَ الجُحودِ؟
إنّما الحُسْنُ فِتْنَةٌ تَتَبَدَّى ... تَجْلِسُ اللُّبَّ من حَكيمٍ رَشيدِ
وضَلالُ الهوَى اضطرابٌ من الفِطْ ... نَةِ بينَ التِّرْغِيب والتزهِيدِ
وسُمُوُّ الأَرْوَاحِ فَضْلٌ من الِله م ... وَوَحْيٌ من العزيزِ الحميدِ!
حَبَّذا العُمرُ في زَهَادَةِ نَفْسٍ ... عَزَفَتْ بي عن كُلِّ حسناَء رُودِ!
أحمد فتحي(283/65)
مصرع قصيدة. . .!
للأستاذ سيد قطب
أحسست مصرعها بنفسي ... بين التأوه والتأسي
وسمعت حشرجة الجريح ... تئن في أطواء حسي
هي من بنات الشعر لم ... تولد، ولم توأَد لوكس!
جاشت لفاتنة على الشطآ ... ن ذات رضا وأنس
نضجت محاسنها كما ... نضجت قطوفُ جَنًي بغرس
وحسبتها صينت على الْ ... أَنظار من قطف ومس
فهممت أدعوها دعا ... ء الفن في خطرات همس
شعراً يسجل حسنها ... للكون في أحناء طرس
وإذا الأيادي القاطفا ... ت تجول في عبث وبخس!
يا ويل قطاف الجما ... ل بغير ما ورع ونطس
بيننا نحوم عليه في ... تقوى كما نرنو لقدس!
وإذا التي جاشت بنفسي ... تثوى مضرجة بحسى!
(حلوان)
سيد قطب(283/66)
البريد الأدبي
المركزية في التأليف
في الجامعة وفي وزارة المعارف (شركات) للتأليف، تفرض مؤلفاتها فرضاً على الوزارة وعلى المدارس وعلى التلاميذ. وهذه الشركات قد بلغت من السلطان والثقة بالنفس والحرص على الغلبة بحيث صارت مناهج التعليم مناهج التعليم موكولة إليها تغير فيها وتبدل، وتمحو وتثبت، وتنقض وتبرم، وبحيث قد أغراها ما أغرى على أن تتعارك وتتصارع وتتوسل بوسائلها لتضمن كل (شركة) لنفسها الغلبة على ما دونها من شركات التأليف والاحتكار؟
وأولى هذه الشركات هي شركة الجامعة؛ وثمة شركتان أخريان في مكتب تفتيش اللغة العربية في وزارة المعارف. وقد بلغ من تنافس هذه الشركات في التأليف ما نسجل مظاهره فيما يأتي:
1 - وضعت لجنة تيسير قواعد اللغة العربية - وأعضاؤها من شركة الجامعة للنشر والتأليف، منهجاً جديداً للبلاغة في السنة التوجيهية، يقوم على أسس وأصول لا نعرفها من قواعد البلاغة. وإذا كان هذا المنهج جديداً في موضوعه على التلاميذ وعلى المعلمين جميعاً، كان لا بد من كتاب ولا بد من مؤلِّف. . . ونشطت (شركة الجامعة) لمهمتها؛ ولكن نبأ جاءها أن إحدى الشركتين في مكتب التفتيش تعمل ناشطة لإخراج الكتاب المرجو في وقت قريب لا تستطيع لجنة الجامعة أن تسبق إليه؛ ولكن حرص الجامعة على أن يكون كتابها أسبق ظهوراً، قد ألهم أساتذة الجامعة خطة، فأصدروا قرارهم بوقف العمل بهذا المنهج حتى تفرغ الجامعة من إصدار كتابها. ومضى شهران من السنة الدراسية قبل أن يعلم التلاميذ والمعلمون في السنة التوجيهية أن المنهج الذي أعدوا له ودرسوا منه قدراً ما قد وقف العمل به. . .
2 - وللسنة التوجيهية منهج في الأدب وضعته كلية الآداب، وألف له فيمن ألف اثنان من خيرة المعلمين في وزارة المعارف. وراج كتابهما منذ العام الماضي رواجاً أغرى إحدى الشركتين في مكتب التفتيش على مشاركتهما في ثمراته؛ فصدرت منه الطبعة الثانية منذ قريب وعلى غلافها اسم صاحب العزة المفتش الأول إلى أسماء كثيرة منها المؤلف ومنها(283/67)
صاحب التوقيع. . .
وكانت شركة الجامعة تعمل عملها لإصدار كتاب في الأدب التوجيهي حين جاءها النبأ بصدد كتاب المفتش الأول وزملائه، فسعى ساعيها إلى وزارة المعارف يستعديها على (شركة مكتب التفتيش). وفي اليوم التالي كان كتاب سري من وزارة المعارف على مكاتب نظار المدارس جميعاً يمنعهم استعمال كتاب المفتش الأول ويتوعدهم بأقصى العقاب!
واحتج التلاميذ، واحتج المعلمون؛ وحق لهم أن يحتجوا ما داموا لا يجدون أمامهم كتاباً في منهج الأدب التوجيهي غير الكتاب الذي يحمل اسم المفتش الأول. ولكن شركة الجامعة التي تحرص على الغلبة في هذا التنافس العجيب قد التمست لذلك وسيلة قريبة، فأشارت بأن يوزع كل ما طبع من كتابها على التلاميذ قبل تمامه ملزمة ملزمة، وحسب المطبعة أن تسبق التلاميذ بدرس واحد ما دام هذا يحقق الغاية ويفوت على شركة مكتب التفتيش حق الانتفاع بالكتاب الذي ظنت بإصداره أنها ستستأثر بالسوق. .
هذان مثلان حسبنا أن نذكرهما باختصار وبلا تعليق؛ ولا نظن الفضوليين بعد ذلك يلحون في السؤال: لماذا تتغير مناهج التعليم بين عام وعام قبل أن تظهر ثمرة التجربة في منهج من هذه المناهج؟ فعل لهم في هذين المثالين جواباً لما يسألون!
(م. أ)
اللغة العربية في مدارس إيطاليا
أبدت الحكومة الإيطالية أخيراً رغبتها في إدخال اللغة العربية بين برامج التدريس في معاهدها بإيطاليا، فاتصلت ببعض الجهات الرسمية في مصر وطلبت إليها إمدادها بالمدرسين الفنيين وموافاتها بالمنهج الذي تقترحه. وقد أيدت هذه الجهات رغبتها في إجابة هذا الطلب، غير أنها ترى إرجاء ذلك إلى العام المقبل، نظرا إلى ابتداء العام الدراسي الحالي في مصر
ويؤخذ من البيانات الخاصة بهذا الموضوع أن الحكومة الإيطالية شرعت في تدريس اللغة العربية في مدارسها تحت إشراف بعض المستشرقين الإيطاليين. وقد طلبت إلى الحكومة المصرية، في الوقت نفسه، تقوية التعاون الثقافي بين البلدين واقترحت لذلك أن توفد أستاذا(283/68)
ليقوم بتدريس اللغة الإيطالية في كلية الآداب المصرية على أن يتقاضى مرتبه من حكومة بلاده، غير أن جامعة فؤاد الأول أبدت للحكومة الإيطالية شكرها على ذلك، معتذرة من عدم إمكانها إجابة هذه الرغبة، في الوقت الحاضر، لأن اللغة الإيطالية غير مقررة في مناهج الدراسة بكلية الآداب، ولأن أمر تقرير دراستها يرجع إلى مجلس الكلية والجامعة. ثم ذكرت أنها ستعرض الموضوع على هذين المجلسين لاتخاذ قرار فيه.
الثقافة في خدمة السياسة
نشرت الصحف خبراً قد يبدو بريئاً في مظهره، ولكنه يحمل بين سطوره نتائج سياسية خطيرة. ذاك هو الخبر الخاص بالجهود التي أخذت تبذلها إيطاليا في سبيل توثيق العلاقات الثقافية بين مصر وإيطاليا خصوصاً في ميدان التعليم. . . وبديهي أننا نتمنى مخلصين إيجاد تعاون فكري وثيق بين جميع بلاد العالم. فمثل هذا العمل إذا تم بين الأمم، سيساعد بلا شك على إزالة أسباب الخلاف وسوء التفاهم التي أحدثت وهناً ظاهرا في الروابط التي تربط بلاد العالم بعضها ببعض. ولكن فيما يختص بايطاليا، لا يسعنا إلا أن نحترس ونتحفظ. ومما يبرر موقف التحفظ الذي نقفه أن كل ما يحدث في إيطاليا من الأمور خاضع للسياسة، حتى العلم والأدب. والمعروف أن السياسة الإيطالية ترمي إلى غزو الشرق وإعادة الإمبراطورية الرومانية، بعد إخضاع الشعوب الشرقية واستعبادها. وما اقتراح إيطاليا إرسال مدرسين لتعليم اللغة الإيطالية في المدارس المصرية على حسابها الخاص، إلا مظهر من مظاهر هذه السياسة ووسيلة من شتى الوسائل التي تستخدمها الدعاية الإيطالية لتمهيد الطريق أمام السياسة الفاشية.
لقد ازدادت الأمور تحرجاً منذ قررت الحكومة الإيطالية تحويل لوبيا إلى ولاية إيطالية بحتة، وطرد أهلها العرب إلى قفار الصحراء، ليحل محلهم خمسة ملايين من الإيطاليين. وما هذه الاقتراحات الإيطالية الخاصة بالثقافة. إلا وسيلة لتخفيف وطأة الأثر السيئ الذي أحدثته في نفوسنا مطامع إيطاليا في الشرق
مبادلات ثقافية! فليكن. ولكننا لا نسمح بحال أن تكون تلك المبادلات الثقافية شركاً للمطامع السياسية
(ح. هـ)(283/69)
دار العلوم وكلية اللغة العربية
نشرت الرسالة (العدد 281) في البريد الأدبي كلمة بهذا العنوان تضمنت استنكار الخصومة بين المعهدين من أجل مناصب التدريس في المدارس، والإشارة بأن تسوي الحكومة بين خريجي المعهدين في هذه الوظائف. والواقع أن دار العلوم في مستقرها الطبيعي، ومحاولة المنافسة آتية من جهة الأزهر، فليس من الحق أن يطالب الأزهريون بالتدريس في المدارس، في حين لم يطلب أبناء دار العلوم بوظائف التدريس في الأزهر. وليس من المساواة الحقيقية أن يعين الأزهريون في وظائف التدريس بالمدارس دون أن يعين أبناء العلوم في وظائف التدريس بالأزهر. هذا إلى أن الأزهر يولي بعض المدرسين من غير علمائه مهمة تدريس العلوم الحديثة بمعاهده ويهمل أبناء دار العلوم وهم أجدر بها
على أن دار العلوم في عهدها الجديد تتفرد من بين جميع معاهد التعليم بدراسة اللغات الأجنبية والسامية وآدابها، إلى جانب الدراسة المستفيضة للغة العربية وأدبها، وهذه الدراسة لها أثرها في خدمة العربية وإسباغ الجدة عليها وتجلية آدابها وتبرئتها من الجمود
وعلى أن دار العلوم أحد معهدي التربية الذين تنظمهما وزارة المعارف لإعداد المعلم الفني وتبذل الأموال والجهود لتوفير أساليب التربية الحديثة فيهما، وجعلهما البيئة الصالحة لإعداد المعلم الذي تتطلبه حاجة الأمة في نهضتها التربوية. فأن تجاوز الوزارة المعلم الذي تنشئه على عينها وتعده لمهمة خاصة إلى غيره ليس من حسن تصريف الأمور وإقرارها في قرارها. ووزارة المعارف اليوم جادة في وضع الأسس الثابتة للتعليم، وقد بدأت هذه الأسس بتنظيم دار العلوم ومعهد التربية. إذ عليهما يقوم كل بناء في التعليم
(ع. ح. خ)
البحوث العلمية في البحر الأبيض المتوسط
عقدت اللجنة الدولية للبحوث العلمية في البحر الأبيض المتوسط اجتماعها السنوي في باريس ثم أنجزت أعمالها في اجتماع ثان عقدته في موناكو برياسة الدكتور جول ريشار مدير متحف الأبحاث المائية في موناكو
وبعد أن تناول الأعضاء بعض المسائل الإدارية انتقلوا إلى البحث العلمي فعالجوا مسألة(283/70)
بعض أنواع السمك وتوحيد المناهج لتحليل مياه البحر الأبيض المتوسط والقواعد العلمية لصناعة المأكولات المحفوظة في ذلك البحر
وقدم رئيس كل وفد بياناً عن الأعمال التي تمت في بلاده فتكلم الدكتور حسين فوزي مندوب مصر فقال إن المصلحة التي يديرها والتي تبحث في هذا العلم في مصر قد أطلق عليها بأمر جلالة الملك فاروق الأول اسم (معهد فؤاد الأول للأحياء المائية وصيد الأسماك) تخليداً لذكرى الراحل العظيم مؤسسها. وقد بسط الدكتور فوزي ما كان من تشجيع جلالة خليفته لهذا المعهد
واقترح الدكتور فوزي وضع الباخرة (مباحث) تحت تصرف البعثة التي ستوفدها اللجنة للقيام ببعض الأبحاث في شرف حوض البحر الأبيض المتوسط وذلك بجميع ضباطها وبحارتها مع اثنين من الاختصاصيين المصريين، وقد تقرر أن تتولى مصر مفاوضة الدول الأخرى التي تريد الاشتراك في هذه البعثة وذلك قبل الانعقاد القادم للجمعية العمومية للجنة في مدينة البندقية
مسابقة التأليف
كانت وزارة المعارف قد أعلنت عن مسابقات في مختلف العلوم والفنون والآداب، ابتغاء حث رجال التعليم على البحث والدرس والتأليف
وقد بدأت الوزارة تتلقى رسالات في هذا المضمار
وستبدأ الوزارة في الشهر القادم في تأليف لجان التحكيم لفحص هذه الرسائل توطئة لإعلان النتيجة
جيروم تارو في الأكاديمية الفرنسية
انتخب المسيو جيروم تارو عضواً في الأكاديمية الفرنسية في الدور الأول بأكثرية 19 صوتاً ضد 11 صوتاً نالها المسيو فرنان جريج. وكانت إحدى أوراق الاقتراع بيضاء
وقد ولد جيروم تارو في 11 مايو 1874 في سان جونيان بمقاطعة (فسييين العليا). وقد كان مديراً لجامعة بودابست ثم انقطع إلى الكتابة والتأليف بالاشتراك مع شقيقه جان تارو. ونال الشقيقان جائزة جونكور سنة 1906 لكتابهما (دنجلاي كاتب شهير). وقاما برحلات(283/71)
كثيرة خصصا لها كثيراً من مؤلفاتهما ومنها: (في بريطانيا)، (في فلسطين)، (مراكش أو سادة الأطلس)، رباط أو الساعات المراكشية). وقد نال جيروم وجان تارو سنة 1919 الجائزة الكبرى للآداب(283/72)
الكتب
عبقرية الشريف الرضي
تأليف الدكتور زكي مبارك
بقلم الأديب حسن حبشي
الدكتور مبارك من أكثر أدبائنا إنتاجا. لا يكاد يضع القلم من كتاب حتى يتهيأ لتأليف آخر. وهذه ناحية من النشاط محمودة. وإنه ليخيل لقارئ كتب الدكتور زكي أنه يضن بما يضطرم في نفسه من خواطر، وما يجول في ذهنه من أفكار وآراء ألاّ يسجلها في مؤلفات يطالعها الناس، ومن هنا كانت كثرة ما كتب، وقد اعترف هو نفسه بذلك في مؤلفه هذا (ج2 ص197) في الفصل الذي عقده عن حجازيات الشريف
وكتاب (عبقرية الشريف الرضي) والتصوف الإسلامي آخر مطبوعات الدكتور وليسا آخر مؤلفاته، وأحسب أن لن يكون ثم كتاب أخير له حتى لا يكون في الوجود زكي مبارك
والمترجم له من فطاحل شعراء العربية، وهو مغمور إن قيس بأنداده الذين ذهبوا بالذكر والشهرة، أما الرضيَّ فلم يظفر إلا ببضعه أسطر أو صفحات مبعثرة في ثنايا الكتب الأدبية، وببعض مقالات نشرت هنا وهناك، وذلك على الرغم من الدور العظيم الذي مثله على مسرح السياسة والأدب في عصره
تناول الدكتور زكي في هذا السفر صاحبه الرضي من نواح عدة، إلا في السياسة فقد مرَّ عليها سريعاً، كما ألم ببعض مواقف الشريف وحوادثه، غير أنه كان يعرض أحياناً للرواية دون بحث أو نقد، وقد يكون ظاهرا فيها الوضع. أوَ ما ترى ذلك فيما نقله عن صاحب التبيان (ج1 ص278) من أن المرتضى نظم ذات يوم أبياتا فوقف به بحر الشعر، فأشار على من يحملها إلى الرضي ليتمها فأتمها بقوله:
فردَّتْ جوابا والدموع بوادِرٌ ... وقد آن للشْمل المشتِّ ورودُ
فهيهات من ذكرى حبيب تعرَّضت ... لنا دون لقْياهُ مَهامِهُ بيدُ
قال أبو الحسن النحوي: (فأتيت بها المرتضي، فلما قرأها ضرب بعمامته الأرض وبكى وقال: يعزَّ عليَّ أخي يقتله الفهم بعد أسبوع) فما جاء الأسبوع إلا وجاء نعي الرضي. هذا(283/73)
ما نقله صاحب التبيان، وجاء به صاحب العبقرية، فانظر ماذا كان تعليقه ونقده عليها. قال: (. . . وهذه نادرة يستبعدها الناس، ولكنها طريفة، إذ تجعل موت الشريف بالشعر شبيها بحال من يخنقه أرج الأزهار فيموت) أما كاتب هذا المقال فلا يرى فيما نقله الدكتور عن صاحب التبيان إلا قصة ظاهراً فيها الوضع، وأية دلالة على موت الشريف قد اضطم عليها البيتان السابقان؟ ثم أين نقد الدكتور لهذا الوضع الظاهر؟ أشهد لقد غلب خيال الشاعر على موقف الناقد في تعقيب المؤلف. فان في تعليق الأستاذ مبارك بهذه العبارة السابقة روحا من الشعر، وعبيقا من الفن الأدبي
ألمَّ الدكتور زكي بنواح عدة من الشريف الشاعر، وأحسب أن مقاله عن الجندي المجهول الذي أستهل به كتابه، إنما هو من المقالات التي تظهر فيها شخصية الرجل الذي يقدر كل التقدير منزلة الشريف، فهي رثاء للعبقرية الموءودة في كل زمان، ونفحة من نفحات الإجلال للنبوغ المقتول، وللذكاء المحكوم عليه بالإهمال في الشرق.
أفراد المؤلف فصلا عن (أسرار العلائق بين الرضي والصابي) مع ما بين الاثنين من اختلاف في العقيدة، وقد صور المؤلف في مستهله قوة الصلة التي كانت تجمع بين أبي اسحق الصابي وأبي أحمد الموسوي والد الشريف، ويعرض لأثر الكتاب في هذا العصر (ص49 ج2)، وإلى الألفة والتوافق في المذاهب الأدبية، وهذا من الفصول القوية التحرير، القوية العرض، الدقيقة البحث في هذا الكتاب، وحجة الدكتور في هذه الصداقة التي تجمع بين الاثنين أن الصابي كان يحبب للشريف أن يطلب الخلافة الإسلامية لنفسه، وكان الشريف شاباً والشبان (يحبون أن يصلوا إلى قمم المجد في يوم وليلة، ويبحثون عمن يزكيهم ويؤيدهم ويدعى لهم التفوق، وقد تلفت الشريف وهو طفل فرأى شيخاً جليلاً يتنبأ له بمستقبل جليل فأحبه كل الحب) وفي هذا الفصل بالذات إيماءات خفيفة للنوازع والحوافز السياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر. ولكم كنت أحب أن يعقد المؤلف فصلا أو فصلين يتناول فيهما الشريف الشيعي، وما هما بالكثير على شاعر اختلف المؤرخون - العرب والأوربيون على السواء - في مسألة تشيعه، ثم هي تتصل اتصالا وثيقاً بالحركة السياسية في عصره، وتصور ميل الشريف للفاطميين في مصر بقولة:
أحمل الضيم في بلادي الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي(283/74)
من أبوه أبي، ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيدا النا ... س جميعاً محمدٌ وعليُّ
لقد جاءت هذه الأبيات عفواً في كتاب (عبقرية الشريف) وكان الأمثل أن يتناول المؤلف مسألة تشيع الرضي، وقد عدها الكثيرون) ومنهم ابن الأثير في الكامل (ص8 ج8)، والمقريزي في اتعاظ الحنفا (ص15) اعترافاً صريحاً من الشريف الرضي بصحة نسب الفاطميين إلى علي بن أبي طالب.
وفي كتاب الشريف مقدمة، وللمقدمات عندي أهمية قصوى فهي عرض موجز للكتاب، ولربما كانت المقدمات في بعض الكتب كتباً بذاتها لها قيمتها الأدبية والفنية والنقدية، كهذه التي يكتبها برناردشو وألدوس هكسلي وغيرهما. أما مقدمة كتاب اليوم فهي إشادة بالكتاب والكاتب، وإن كانا في غير حاجة إلى ذلك، إذ أن المؤلف عد الرضي أعظم شاعر عرفته العربية لأنه كتب عنه، ولا يدانيه في مرتبته المتنبي الذي يرى الدكتور زكي أنه سيكون أعظم شاعر - هو الآخر - يوم أن يكتب هو عنه
وإني لأسأل الدكتور ماذا يكون موقفه إن هو أبصر هذه المقدمة في كتاب لشاب؟ أكبر الظن أنه كان يتناوله بسيف المحارب ومبضع الجراح
هذه أوجه النقد في كتاب (الشريف الرضي) الذي ألفه الدكتور وطلع به على أهل العراق في محاضرات سمعوها ثم قرأها من بعدهم الناطقون بالضاد في كل صقع وناد
وأسلوب صديقنا الدكتور أسلوب عربي قوي، لا عوج فيه ولا التواء، ينساب في كثير من المواضع كالجدول الصافي، كما أن مطالع جزئيه هذين يندر ألا يقع على تعابير ذاتية مبتكرة، فليقرأ الأدباء كتابه أنه سفر بحث ونقد وأدب
حسن حبشي(283/75)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
(مجنون ليلى) المدير ولجنة القراءة
لا مرية في أن لعزة النفس، وحب المجد، والأطماع الذاتية أثرا جميلا
في حياة الرجل؛ ولا ريب في أن نصف العبقرية، هو الصبر يكال
هامة الرجل العامل الدءوب بإكليل الظفر. فنحن إن كنا لا نغالط ولا
نتهاون في تسمية أعمال مدير الفرقة بأسماء لا تقبل أكثر من معنى
واحد، فلأننا نرمى إلى دغدغة عزة نفسه وتشبثه بالمجد الذي يطمع أن
يختتم فيه سفر حياته في الفرقة القومية، وإلى مداعبة صبره الدال على
نصف عبقرية - كما يقولون - لم نر بعضها في أعماله بهذه المؤسسة
الأدبية، نفعل ذلك لنستثير كوامن النخوة فيه فتدفعه - برغم شيخوخته
- إلى العمل الكامل الذي يرضي النفس الأدبية ويغذي الروح الأدبي
العام. ولهذا نعد اختيار رواية (مجنون ليلى) وتمثيلها على مسرح
الأوبرا مأثرة طيبة نذكرها لحضرة المدير بالخير الكثير، على رغم
أن له في هذه الرواية رأياً خاصاً كان ينفثه في المجتمعات الأدبية
والأرستقراطية، فيقول فيها إنها مجموعة أناشيد تختلف بالأوزان
والقوافي، وإن الحوار فيها هزيل سقيم، وإن الباعث على تأليفها نزوة
قامت في رأس شوقي بك في أيامه الأخيرة لتأليف الروايات الشعرية
البعيدة عن بساطة الطبيعة أو شيء من هذا المعنى. فإغضاء المدير
عن رأيه وتنازله عن النقد الفني لروح الروايات ومبناها، وسعيه إلى(283/76)
إبرازها على المسرح بعد إدخال بعض محسنات زخرفية عليها
بالإنشاد، وإظهار جهود الفرقة بالإخراج البديع والأضواء المتناسقة، قد
أفاء على الرواية ظلا فنياً بارعاً لا أحسبه خالصاً لوجه الفن والأدب؛
وأكاد أسمع وسوسة شيطاني تقرر أسباباً نفسية خاصة بحضرة المدير
وهي:
أولاً: الإفلاس الأدبي. وثانياً: الكسل العبقري. وثالثاً: حب الوقوع تحت تأثير أدبي ومعنوي إرضاء لطبيعة الشعراء في الوحي والإلهام؟!
ولما كان تبيان ذلك قد يستغرق منا صفحة قد يكون في كتابتها الآن ما يقطع سلسة الكلام عن إظهار علل انحطاط الفرقة وتدهورها، فإنا نرجئ هذا الإيضاح إلى ما بعد. أما الآن فلا ينبغي أن يفوتنا أن نهنئ الممثل أحمد علام الذي استطاع بلباقة وكياسة أن يبعث هذه الرواية من مرقدها، وأن يجيد إجادة موفقة تقمص روح المجنون إلى حد حسبناه قد مسَّه طيفُ جنةٍ مثله، كما نمتدح اقتدار الممثل الألمعي عباس فارس على إيفاء كل دور يمثله حقه الأكمل، وأن نطمئن حضرة مدير الفرقة بأن رواية المجنون خير رواية تدر الجنيهات لا القروش تترع خزانة الفرقة وتغمرها بالربح
حصرت، في مقال سابق، علة انحطاط الفرقة وتدهورها في مديرها الفاضل نفسه لاعتقاده أن ليس في الأمة المصرية من هو أصلح منه لادارتها، واستنتجت من هذا الزعم أن لا وسيلة في صلاح يرجى من رجل محدود العقيدة، وتعمدت تجاهل علة مستوطنة مستعصية في لجنة القراءة إلى حين. وهأنذا أقول إن علة هذه اللجنة هي من ذات نوع علة المدير، أو هي جرثومة واحدة تقسمها قسمة عادلة خمسة أشياخ اكليريكيين ذهناً وعقلا، لم يدخل (بعضهمْ) مسرحاً ولم ير تمثيلا أو داراً للسينما إلا في القليل النادر
أردت استطلاع آراء هؤلاء السادة الإجلاء واحداً بعد واحد فأجاب الأول على سؤالي قائلاً ما نصه: (مهمة اللجنة تنحصر في قراءة الروايات التي تقدمها الفرقة، وإصدار الحكم عليها إما بالقبول كما هي، وأما بالقبول بعد التعديل، وإما بالرفض)
قلت: هل تنظرون إلى الرواية إذا كانت مستكملة الخصائص الفنية المعروفة أم تستمعون(283/77)
إلى رأي مدير الفرقة؟ فقال:
(قد جرت العادة بأن مدير الفرقة هو الذي يتولى تقديم الروايات مشفوعة بتقارير عنها، وهو على جلالة علمه، وضافي أدبه ونفوذ نقده يأخذ نفسه في هذا الباب بالتحفظ التام)
سألت: هل لرأي النقاد المسرحيين قيمة في نظر اللجنة؟ فأجاب:
(الواقع أن النقاد المسرحيين إنما يبدون آراءهم بعد تمثيل الرواية حيث يكون الأمر قد انتهى وخرج عن يد اللجنة، على أنه قد يحدث أحياناً أن نرجع بواسطة مدير الفرقة بالضرورة إلى رأي كبار المخرجين (؟) وكبار الممثلين (كذا) فيما إذا كان يمكن تمثيل الرواية على الصورة التي قدمت بها أو لا)
قلت: إذا أجمع النقاد على القول بعدم صلاح رواية مثلتها الفرقة فهل من الحق الأدبي والفني تحدي النقاد وتخطي أقوالهم وإعادة تمثيل الرواية؟ فقال:
(قلت إنه بمجرد إجازة رواية يخرج الأمر من يد اللجنة بتاتاً ولا تستطيع أن تعمل شيئاً)
قلت: من يكون المسؤول عن هذا إذا وقع، وقد وقع فعلا، فإعادة تمثيل روايات تزري بسمعة فرقة أهلية متواضعة فضلا عن الفرقة القومية، منها رواية اليتيمة وغيرها. . فقال:
(أرجو إعفائي من هذا السؤال)
قلت: ألا تريد أن تقول كلمة في الدفاع عن لجنة القراءة وقد قبلت هذه الروايات المشلولة، وفي الدفاع أيضاً عن مدير الفرقة وقد مثلها ثم أعاد تمثيلها؟ فكرر الرجاء بأن أعفيه من الرد ومن الخوض في هذا الموضوع، وقد تفضل فحدثني حديثاً ودياً خاصاً تناول فيه ناحية من (الأخلاق الحكومية) كما سماها لا أسمح لنفسي بنشره الآن
قلت: هل خطر للجنة أن توازن بين الروايات التي مثلتها الفرقة وبين الروايات التي تمثلها الفرق الأهلية وفرق الهواة لتعرف مبلغ تقدم الفرقة القومية على الفرق الأهلية؟ فقال:
(إننا لا نقارن بين الروايات التي تقدم للفرقة وبين غيرها، لأن المقارنة تقتضي فحص الروايات الأخرى وهي لم تقدم إلينا
قلت: أليس من واجب مدير الفرقة أن يفعل ذلك ليقدم للناس، على الأقل، أحسن ما تمثله الفرق الأخرى. فأجاب بعد هنيهة من تفكير:
(ليس لأحد سبيل على أحد، والفرقة القومية إنما نختار من بين الروايات التي تقدم لها هي،(283/78)
وليس لها سلطان على من لا يقدم إليها روايته)
قلت: هل لاحظتم تقدماً في تأليف الروايات خلال السنوات الثلاث، لأني أزعم أن الروايات التي مثلتها الفرقة في عامها الثالث أحط منزلة من الروايات التي مثلت في العامين الثاني والأول؟
اعترض محدثي الفاضل على الشطر الثاني من السؤال قائلاً (إني أجيبكم عن الشطر الأول فقط: على العموم يمكنني أن أؤكد لكم أنني شخصياً كنت من بضع سنوات في شبه يأس من نجاح التأليف التمثيلي في مصر. على أنني لم يرعني، وخصوصاً في أثناء قراءة الروايات التي قدمت للمباراة في هذا العالم، لم يرعني إلا أن أرى شبه طفرة في الروايات المؤلفة مما يدل على أخذ الفكر الروائي في نضوج بل في نضوج سريع. حقيقة أننا لم نبلغ الكمال ولم نقترب منه بعد، ولكن يمكنني أن أقول إننا نمضي سراعاً إلى الكمال. ويحسن في هذا المقام أن أقول إن الجودة النسبية لم تقتصر على الروايات الست التي أجيزت، بل إن هناك روايات أيضاً، وإن لم تصل في نظرنا إلى مدى هذه، فان مؤلفيها ولا شك يستحقون الإعجاب والتقدير)
انتقلنا إلى الكلام عن أسباب صدوف كبار الأدباء من مؤلفين ونقاد عن الفرقة القومية، وعبرتُ عن هذا الرأي بصراحة تؤلم اعتداد أعضاء لجنة القراءة بأنفسهم. فقال محدثي الفاضل بشيء من الحماس المتزن:
(لاشيء يبعد المؤلفين عن الفرقة القومية سوى تهيبهم كتابة الرواية المسرحية ووقوفهم في صف واحد مع الكتاب الناشئين)
اكتفي بهذا القدر من الحديث لضيق المجال، تاركا التعليق عليه إلى المقال التالي، وبذلك يكون قد تيسر لي حضور تمثيل إحدى الروايات التي فازت بجائزة المباراة التي قال عنها وعن أخواتها حضرة محدثي الفاضل إنه رأى فيها شبه طفرة تدل على نضوج الفكر الروائي ومضيه سراعاً إلى الكمال
أبن عساكر(283/79)
العدد 284 - بتاريخ: 12 - 12 - 1938(/)
من مآسي الحياة
بل ليت للأوقاف قلباً!
ذلك ما ابتدرني به رجل يهدف للخمسين أشمط الرأس أصهب الشارب جركسي البشرة، يترجم كلامه عن العزة، وينم هندامه على الفاقة، ويشير سَمْتُه إلى مسحة من الأرستقراطية تتراءى ضئيلة على معارف وجهه وحركات يده
دخل عليَّ المكتب أول أمس في أدب كأدب البيوتات الكريمة الدارسة: سلام تحس فيه تواضع المملوك وكبرياء الملك؛ وبسمة متملقة تجري على شفتيه الرقيقتين كأنها من طبَعيَّتها خِلْقة؛ وأسلوب هذبته (الإتيكيت) فهو مختار اللفظ موزون الإشارة؛ ثم شكر لي المقال الذي افتتحت به عدد الرسالة الماضي وقال:
إذا كان طلاب الأوقاف الخيرية يتمنون أن تكون للوزارة عين، فإن طلاب الأوقاف الأهلية يتمنون أن يكون لها قلب. أولئك يشكون أنهم يبأسون من وراء عينيها فلا ترى، وهؤلاء يشكون أنهم يشقون بين يديها ولا ترحم! وما دام المستحقون لا ينالون نصيبهم من الحق، فكيف تزجو أن ينال المعتَفون نصيبهم من الخير؟
كان الرجل يتكلم كلام الشاكي الكظيم يهمه أن يقول ولا يهمه أن يسمع. فتركته يستريح إليّ بما في نفسه، لا أعترض عليه ولا أصح له، فإن عليَّ أن ابلغ أولي مسامع الأمر زفرات الصدور المكروبة، وعليهم هم أن ينظروا إن كان مبعثها خطأ النفس على النفس، أو خطأ الناس على الناس.
قال محدثي وهو يضع سيجارته الملفوفة باليد في مبسم طويل من الآبُنُوس:
- إذا عذرنا وزارة الأوقاف على أنها لا تسعف أولئك المنكوبين الذين انفرد بهم البؤس في ظلام الدور، ومنعتهم الأنفة عن الخروج إلى النور، فكيف نعذرها على أنها تدُخل البوس بيدها على قوم جعلهم أهلوهم في ذمتها وأمانها، تحفظ لهم الملك وتثمرِّه، وتبسط عليهم الرزق وتوفره؟ أنا ضحية من ضحايا الأوقاف الأهلية، اعتمدتُ منها على جُرُف منهار فهويت إلى قرارة الفاقة. لم أتهيأ للعمل الحكومي بشهادة، ولا للعمل الحر بصنعة؛ وإنما نشأت في بيت جدي فلان باشا نشأة المترفين المدللين، أجيد ركوب الخيل، وأحذق أنواع الصيد، وأساهم في تجميل حياة القاهرة بالسرف في الملاهي، والقصف في البيوت،(284/1)
والمقامرة في السباق، والافتنان في المظهر. وكان أبي رحمه الله ناظراً على ما وقف جدي على أسرتنا الكبيرة المتشعبة من الضياع والرباع، فكان يغرق رغباتي في فيض من المال لا يغيض ولا يخُلْف. فلما توفاه الله آلت النظارة من بعده إلى أرشد أعمامي، فانقبض عني شيء من بسطة العيش. وكان لي بنون وبنات نشئوا في نعمة أبي. كما ينشأ النبات الربَّعي في خصيب الأرض، فلم أرد أن يمس نضرتهم ذلك الضيق الذي جره علينا طمع الناظر، فبعت ما ورثت عن أبي، وعشت سنين على الخفض والسعة. حتى إذا لم يبق إلا الوقف أخذت أرُوض نفسي وأهلي على التدبير، فاختصرت المسكن، واختزلت الأثاث، وضيقت المطبخ، ورضيت أن أركب (التاكسي) وأن أجلس في (النيوبار). . . وليت ذلك يا سيدي دام! فإن كبار المستحقين شغبوا على الناظر فعزلوه، وتألبوا على خلفه فشلوه، وأستحكم بينها الشقاق فلم يتفقوا على ناظر منهم. ثم لم تَنقطع أسباب هذا الخلاف، إلا (بتنظير) وزارة الأوقاف!
كان لجوء المستحقين إلى تنظير الوزارة، كلجوء القطين المتنازعين على قطعة الجبن إلى تحكيم القرد. فلم يبق لهم على الأعيان الموقوفة عين ولا يد. وأدارتها الوزارة على المنهج الحكومي فأرهقتها بالكتاب والنظار والمفتشين والمراقبين والخبراء؛ ولكل واحد من هؤلاء طريقة في العمل ورأي في الإصلاح يتغيران بتغييره. فالبناء الذي أُقيم يُهدم، والمصرف الذي حُفر يرُدم؛ ثم يسُتأنف البناء والحفر في مكانين آخرين! وهكذا دواليك: يتعاورُ البناء والتخريب، ويتعاقب الاقتراح والتجريب، حتى تذهب غلة الأرض بين نفقة الإدارة وحصة الوزارة! وأما الدور فهي قصور فسيحة ذات أسوار وحدائق رغب الناس عن سكناها لمخالفة طرازها لمقتضيات المدنية الحديثة. وأغفلتها الوزارة فلم تفكر في تجديدها واستغلالها ولا في بيعها واستبدالها، وإنما تركتها لمعول الزمان فلا تؤجرها إلا مخازن للتجارة وزرائب للحيوان ومساكن للفعلة!
كان دخلي على عهد الناظر الطماع ستمائة جنيه في العام، فأصبح على عهد الوزارة شيئاً لا أسميه! فهو سنة يكون ستين، وسنة يكون ستة، وسنة يكون مطلاً، وسنة يكون دَيناً! وأنا وزوجتي وأولادي نكابد غصص الحرمان في ركن رطيب من إحدى دورنا الخربة؛ فالبنون لا يجدون عملاً لمكانهم من الجهل، والبنات لا يجدن أزواجاً لمكاني من الفقر، ولا(284/2)
نقضي أيامنا السود إلا على اقتراض من الجزار والبدّال والعياش والقماش، حتى ضاق بنا العيش، وعاقنا الوجود، وأصبحنا إذا دخلنا أقضنا الهم، وإذا خرجنا أمَضَّنا الخجل. . .
يا سيدي! إن الوقف إن حفظ العين فقد أضاع الرَّيع. وليس لهذه الغاية الحمقاء وقف الواقفون. فسبيل الإصلاح في عهد الصلاح أن يُحَل؛ فإن المرء أدرى بشأنه وأعلم بخيره، وليس من يعمل لنفسه كمن يعمل لغيره. . .
احمد حسن الزيات(284/3)
تحية الشتاء
للأستاذ عباس محمود العقاد
الحرية والأمان هما قصارى أمل الإنسان
وكون الإنسان آمناً في سربه حراً في عمله ورأيه هو المطلب الذي لا يتخطاه إلا وهو ظالم نفسه وظالم غيره، إلا أن تكون سيادة على الآخرين برضى منهم وشهادة له بالاستحقاق، وتلك غاية لا يطمح إليها كل إنسان
وللحرية من الطبيعة موسم، هو الصيف
وللأمان من الطبيعة موسم، هو الشتاء
فبركة الصيف هي الطلاقة، وبركة الشتاء هي الطمأنينة، وهذا إذا صلحت الأحوال. . . فأما إذا فسدت فلا بركة في صيف ولا شتاء
إذا لاح الصيف خرج الناس إلى المنازه، وكرهوا الحدود والقيود، فلا سقوف ولا أسوار، ولا غطاء ولا دثار، وإنما الحرية كأنما الإنسان نفس من الهواء، لا يريد إلا نفساً من الهواء
وإذا لاح الشتاء فالرياح تزمجر، والسماء تمطر، ومن فوقنا حجاب ومن ورائنا حجاب، ولا سرور إلا أن تسكن إلى الدفء الوثير بين الجدران
وهكذا تتمثل في الطبيعة غاية مطالب الإنسان: الحرية والأمان والناس يزعمون أن البركة كلها في الربيع، وأنه موسم الزهر والفاكهة، ومشهد الحب والجمال، ومعرض المدينة والريف. فهل بقيت للشتاء بقية بعد هذه المحاسن والخيرات، وبعد يقظة النفس ويقظة الدنيا؟
والناس لا ينصفون، أو لعلهم ينصفون وينسون. فبعد الربيع يبقى الشعور بالربيع، ومن أوفى نصيباً من هذا الشعور؟ أهل الربيع أو أهل الشتاء؟ الذين يجدون الربيع سهلاً غير مرقوب، أو الذين يجدونه عسيراً بعد ارتقاب واشتياق؟
ما عرف الربيع أناس كالذين اختبروا قسوة الشتاء، فالشمس ضيف ثقيل في بلاد الصيف القائظ، وطلعة جميلة في بلاد الشتاء القارس؛ والزهرة فتاة مبتذلة من فتيات الطريق عند من يشهدونها في كل يوم وفي كل مكان، وهي عروس خفرة و (رسولة) مبشرة عند من(284/4)
يشهدونها آونة بعد آونة، ومقبلة مع الخير والحرية ومحاسن الأرض والسماء
أهكذا وحسب؟
كلا. بل للشتاء أثر في تقويم الجمال غير هذا الأثر في تعريفنا بقيمة الربيع
للشتاء أثر في أمم الشمال نلمسه فيما رزقته من حصافة وخيال، فهو الذي علمها الشعر والفن، وهو الذي علمها العمل والصناعة، وهو الذي علم أقوامها أن يطلبوا شيئاً فوق الأمان والحرية، ونعني به سيادتهم على الأمم التي جاءتها حرية الطبيعة بغير عناء
تخيل رجل الشمال المثلج والريح تعصف، والبرق يخطف، والرعد يقصف، والسماء لا شمس فيها ولا قمر، والأرض لا زهر فيها ولا ثمر، والنفس لا ترى لها مدى تمتد فيه إلا أن تثوب إلى سريرتها وتتغلغل في طويتها، وتخلق الصور وتناجي الأحلام وتأنس بالخواطر والأشجان
وتخيل هذا الرجل منفرداً في كوخ منفرد، ولا بد من انفراد في ساعة من الساعات وفي أمد من الآماد
ألا ترى أنه خليق أن يعمر عالم السريرة بخلائق الخيال، وأحلام الشوق والجمال؟
ثم تخيل قوم هذا الرجل سنة بعد سنة وجيلا بعد جيل، وكل سنة تضيف إلى قدرتهم على كفاح الشتاء قدرة جديدة، وإلى حيلتهم في دفاع البرد حيلة مفيدة، وإلى عزيمتهم في درء السيول والأمطار عزيمة رشيدة. فكيف تراهم يكونون بعد مائة شتاء وبعد ألف عام، وبعد ما لا عداد له من أجيال وسلالات؟
ثم تعلم أن الأعصاب هي خزانة الأخلاق الموروثة والقوة النفسية المذخورة، فماذا تكون الأعصاب التي تفتلت على هذا الجلد وهذا الجليد؟ وماذا تكون الطاقة فيها على استيعاب الشعور واختزان الأحاسيس وتصوير الأخيلة والأشكال؟
ففي الشتاء تربية للخيال، وتربية لوعي السريرة، وتربية للأعصاب وتربية للأخلاق، وفي كل أولئك استزادة من نصيب الشعور، ونصيب الفهم، ونصيب العزيمة، ونصيب الخلق والإبداع
ومن ثم يأخذ القوم من الربيع فوق ما يعطيه أهله المعرضين عنه الجاهلين بقدره، الناظرين إليه عن عرض كأنه زينة نظر في ساعة صفو أو ليلة سمر، فلا أعماق له وراء(284/5)
ذلك ولا أسرار
على أن الشتاء قد يفرط في قوته وقسوته حتى لتبطل فيه كل حيلة الإنسان فلا يبقى له غير حيلة الحيوان: جلد دب مسلوخ، وإيواء إلى كوخ، كأنه كهف، أو كهف كأنه كوخ، وهكذا شتاء القبائل الحافين بقطب الشمال
وإن الصيف ليفرط في طلاقته حتى تنقلب إلى مطاردة كأنها الملاحقة بالسياط الكاوية، فتبطل فيه كل حيلة الإنسان، ولا يبقى له غير حيلة الحيوان: بركة ماء، أو ظلال غابة غبياء، وكذلك صيف خط الاستواء
ولا بركة في هذا ولا في ذاك، وإنما البركة فيما لم يجاوز الحدين من هذين الموسمين
وبعد فنحن نذكر بركات البرد والحر، فهلا ذكرنا أناساً لا يجدون البركة في أوان، ولا في مكان؟
يقول حكيمنا:
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرى أو أمير مدوج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحوم قوتا واحد وهو أحوج
هذا الواحد أولى بذكر الألوف، لأنه واحد تجتمع منه ألوف، ولن ينساه في مستهل الشتاء إلا مخلوق يستحق النسيان، بل يستحق الذكر بالمسبة إن كانت قوانين أبناء آدم لا تذكره بالزجر والعقاب
ما تمنيت لمصر عملا من أعمال الأمم التي هدمت الديمقراطية إلا إعانة الشتاء التي يخرج كبراء الألمان لجمعها من الخاصة والعامة في الطرقات والأسواق: ذلك عمل مجيد نحن به أولى، ونحن إليه أحوج، ونحن عليه أقدر، فيما يبدو لنا من تفاوت بين رخاء بلادنا وضنك البلاد الأخرى
فإذا ألهمنا أن نعين المحتاجين منا إلى معونة الشتاء فقد حق لنا أن نسبغ على شتائنا صفة الأمان الشامل، وأن يشتمل علينا جميعاً راضين آمنين. . . ونرجو أن نلهم هذه المبرة فما فيها مشقة على قادرين ولا أشباه قادرين
وكل شيء تقال فيه كلمة ثناء، حتى الشتاء
عباس محمود العقاد(284/6)
رجال التربية والتعليم
في وزارة المعارف
للدكتور زكي مبارك
الذي يقرأ الجرائد المصرية يتوهم أن وزارة المعارف عبارة عن بناية فسيحة الأرجاء، يجلس فيها الموظفون هادئين وادعين يتبادلون التحيات والسجائر والشاي والزنجبيل
وإنما يكثر اللغط حول وزارة المعارف لأن موقعها بين سائر الوزارات، يشبه موقع كلية الآداب بين سائر الكليات. فوزارة المعارف تهتم بتعويد الناس على فصاحة الكلام فيكثر حولها الكلام الفصيح، بالنقد والتجريح؛ وكلية الآداب تحرص على أن تتفلسف فيكثر في نقدها المتفلسفون، ولا يظلمك من يرد إليك بعض ما تنفق!
والحق أن وزارة المعارف في هذه الأعوام لا تعرف الهدوء، فهي نار تستعر في الصباح والمساء
ومن كان في ريب من ذلك فليزر مكاتب الوكلاء والمراقبين والمفتشين، فان فعل فسيعرف أن في القاهرة مكاناً يشبه برج بابل في أساطير الأولين
يستطيع من يهمه الوقوف على مصادر الحيوية في وزارة المعارف أن يزور أي مكتب من تلك المكاتب ليوقن بأن الجد الصريح هو أساس العمل في تلك الدار الفيحاء
احضر إن شئت إلى تلك الوزارة وفي يدك قلم وقرطاس لتدون ما تسمع من الجدل حول المذاهب التعليمية، ولتدون ملاحظاتك الخاصة على مذاهب أولئك القوم في الحياة، وإني لموقن بأنك ستخرج من ذلك بمحصول نفيس
ويحسن ألا تمر على مكتب وكيل الوزارة أو مكتب الوكيل المساعد، فان الاستفادة من هذين المكتبين لا تضمن إلا لمن عرف سرعة الكهرباء في إنجاز الأعمال
ويغلب علي الظن أن الرجل الذي اسمه محمد العشماوي يملك شيئاً من مواهب الشعراء، فسرعته في تسوية المشكلات ليست إلا ضرباً من أعمال الشياطين
أما عوض إبراهيم فتظهر قدرته السحرية حين تصبح الأعمال كلها فوق كاهله حين يغيب الوكيل. وهذا الرجل من كبار الأكفاء ومن أعمدة وزارة المعارف، وإن كان يتعرض لطغيان الألسنة من حين إلى حين(284/8)
وفي برج بابل هذا ناس لا يتكلمون إلا قليلاً، أمثال حسن فائق ومحمد حسين وصادق جوهر وأحمد عاصم والعجاتي ومحمد الدمرداش، ولكن في هؤلاء الرجال الصامتين خصوصية عجيبة، فهم يعتقدون أن وزارة المعارف دارهم، ولا يخطر في بالهم أنهم موظفون، وإنما يكافحون ويجاهدون وكأنهم يدبرون ملكهم الخاص، وما وقع بصري على هؤلاء الرجال إلا أحسست الغيرة تلذغ قلبي، فأنا أتمنى أن أملك بعض ما يملكون من قوة وإخلاص ويؤذيني أن يكونوا أصدق مني في خدمة الواجب
ولكن برج بابل لن يكون كله صمتاً في صمت، وهل يصمت برج بابل؟ هيهات!
هناك محمد فهيم الرجل البسام الضحوك الذي تلقاه فيقلب مشكلات التعليم كلها فوق رأسك، ويفرض عليك ألا تغادر مكتبة إلا بعد ساعة أو ساعتين. وهذا الرجل متعب جداً، لأنه ينتقل بك من موضوع إلى موضوع، ويبلبل رأسك ولسانك بلا ترفق، فمن الحزم ألا تمر عليه حين تزور وزارة المعارف
وهناك نجيب حتاته، وهو رجل لا تعرف أين يذهب. فهو يلطف حين يشاء، ويثقل حين يشاء، فان لطف - وهو الأغلب - طاف بك حول مشكلات كثيرة تمس التعليم وتمسّ المجتمع. وإن ثقل - وهذا قليل - سلم عليك بأطراف أصابعه كما يصنع مدير الجامعة المصرية
وهناك علي الجارم - جعل الله كلامي خفيفاً عليه - وهو رجل كثير المزاح، ولكن إقباله على الواجب يبهرك ويرضيك
وهناك محمد جاد المولى، وهو في مظهره ومخبره صورة صحيحة من الطيبات في أدب القول وشرف النفس
وعندنا طموم مراقب المستخدمين، ومكانه في وزارة المعارف يشبه مكان محمد الهراوي في دار الكتب المصرية، كلاهما يسأل عن الحساب، مع أن الأدب عندهما فوق الحساب
وعندنا توفيق الحكيم الذي حوسب أمام مجلس التأديب منذ أيام، وهو في رأيي (أعقل) رجل في وزارة المعارف بعد طبيب ليلي المريضة في الزمالك
ولتوفيق الحكيم قصة وقضية، وكيف لا تكون له قصة وقضية وهو صديق طه حسين؟
هذا الرجل أعلن عداوته للمرأة بضع سنين، ولم تعد عليه تلك العداوة بسوء، فظن لغفلته(284/9)
أن العداوات كلها سواء فأعلن أنه يعادي المرأة ويعادي النظام البرلماني، ولكن النظام البرلماني غير المرأة، لأنه محروس برجال أشداء يقابلون الجميل بالجميل!
أترك هذا وأنتقل إلى أحاديثي مع عمدة برج بابل حفظه الله فهل تعرفون من هو عمدة برج بابل؟
هو المحدث البارع الذي لا يسكت أبداً والذي قضى الله أن ألقاه من يوم إلى يوم؟
من هو عمدة برج بابل؟ من هو؟ من هو؟ ألا تعرفون؟
هو محمد رخا الذي يقيم بمصر الجديدة ويطرب لسماع القرآن بالألحان
ابتليت من هذا الرجل بداهية، وابتلى مني بداهية:
ابتليت منه بداهية لأن لقاءه يوجب أن أكون صافي الذهن حاضر البديهة، ومن المزعج أن أطالب بصفاء الذهن وحضور البديهة، لأني لا أذهب إلى وزارة المعارف إلا بعد أن تكون أعمالي أخمدت ذهني وأذوت نشاطي
وابتلى مني بداهية لأني سأسجل عليه كل شيء، وسأصنع معه ما صنعت مع الرجال الذين عرفتهم بوزارة المعارف العراقية، وأنا رجل رمته الأقدار في ذاكرته بشذوذ عجيب، فأنا أنسى الأعلام والأرقام بصورة مزعجة مخيفة، وما قدمت كتاباً إلى رجل من أقطاب وزارة المعارف إلا سألت كاتبه الخاص عن أسمه بالضبط لأقيده في ورقة قبل أن أخط اسمه على الكتاب، ولكن ذاكرتي في الحوادث والمعاني قوية إلى حد الشذوذ، فأنا أستطيع اليوم أن أدون أول محاضرة سمعتها بالجامعة المصرية سنة 1913 وأستطيع اليوم أن أدون جميع المحاضرات التي سمعتها في جامعة باريس.
وأستطيع أيضاً أن أسجل الكلمات التي سمعتها من الدكتور هيكل باشا، الكلمات التي تشهد بأنه يشجع التأليف بالقول لا بالفعل.
محمد رخا يتكلم في كل وقت كما يتكلم الفرنسيون في كل وقت
فهل أستطيع أن أعطيه درساً عساه يقتصد في الكلام بعض الاقتصاد؟
إليكم ما دار بيني وبينه منذ أيام:
دخلت عليه وفي مجلسه رجلان نسيت اسمهما مع الأسف، ولعل أولهما يسمى رفعت
وابتدأ فسألني عن الليسيه الفرنسية المصرية بمصر الجديدة، فقلت إن مديرها هو المسيو(284/10)
دي كومنين، أعظم أصدقائي في دنياي، فاستطرد وقال: وما رأيك في ذلك المعهد بعد أن زرته مرتين؟ فقلت: إن الغاية نبيلة ولكن تحقيقها صعب، لأن هذا الرجل، يريد أن يصل تلاميذه إلى البكالوريا المصرية والبكالوريا الفرنسية في وقت واحد
ثم انتقلنا بسرعة إلى الأصول التي يجب أن يراعيها أساتذة اللغة العربية في المدارس الأجنبية. فقلت إن الخطر كل الخطر أن يفهم تلاميذ تلك المدارس أن عندنا لغتين، الفصيحة والعامية، فهذا الفهم الخاطئ يشعر التلاميذ بأن اللغة الفصيحة لغة ميتة وأن مكانها يشبه مكان اللاتينية بالنسبة إلى الفرنسية والإيطالية
وهنا يحسن أن نسجل ما اتفقنا عليه في ذلك الحوار الطريف
اتفقنا على أن التلميذ إذا كتب (محطة باب الحديد) فليس من واجب المدرس أن يشطب كلمة (محطة) ويضع مكانها كلمة (محط) بحجة أن هذا هو اللفظ المختار في كتب المطالعة المدرسية
وإذا كتب التلميذ (بائع متجول) فليس من حق المصحح أن يشطب كلمة (متجول) ويضع مكانها كلمة (جائل)
والتلاميذ جميعاً يقولون (قط) بضم القاف كما يقع على ألسنة الناس في أكثر البلاد العربية، فليس من الحتم أن نصحح هذه الكلمة كل يوم وأن ننص على أنها بالكسر، لأن سيرورتها مضمونة تشهد بأن الضم لغة من اللغات وإن لم تنص المعاجم على ذلك
وإذا قال التلميذ (فرشة) فليس من الواجب أن نفرض عليه أن يقول (فرجون) لأن الفرشة ذاتها مخففة من الفرجون
وإذا قال التلميذ (أجفف وجهي بالفوطة) فلا تفرض عليه أن يقول (القطيلة) لأن الكلمة الأخيرة مهجورة ومنسية وثقيلة، ولا كذلك للكلمة الأولى فهي مأنوسة ومألوفة لجميع الناس.
وإذا قال التلميذ جلست على (السفرة) فلا تحتم عليه أن يقول (المائدة) لأن السفرة كلمة فصيحة وإن كان العرف نقلها من وضع إلى وضع.
وإذا قال التلميذ (الليالي القمراء) فلا تلزمه بأن يقول (الليالي القُمر) لأن الكتاب في العصر الحديث تسامحوا في هذه القضية، ولأن أسئلة الامتحان بوزارة المعارف جاء فيها مرة كلمة (الليالي القمراء) ولأن للشيخ النجار كتاباً اسمه (الأيام الحمراء) ولأننا نستثقل عبارة(284/11)
(الحدائق الغنّ) ونستخف عبارة (الحدائق الغناء)
وإذا قال التلميذ (خَطوة) بالفتح فلا توجب عليه أن ينطقها بالضم، لأن الفتح لغيَّة وهو اليوم أسهل وأفصح
وإذا سكن التلميذ بعض أواخر الكلمات فلا تفرض عليه أن يراعي التحريك في كل وقت، إلا إذا كان يهمك أن تختبره في الإعراب، لأن من المستبعد جداً أن يكون العرب التزموا الإعراب في جميع المواطن، وهم قد نصوا على أنه يجوز نصب الفاعل ورفع المفعول عند أمن اللبس، ومعنى ذلك أن الإعراب لا يطلب إلا لتحديد المعاني.
وأغلبُ الظن أن العرب لم يلتزموا الإعراب إلا في موطنين اثنين: الشعر والقرآن.
وإنما التزموا الإعراب في الشعر لمراعاة الوزن، والتزموه في القرآن لأن القرآن نظم نظماً غنائياً فهو في أغلب أحواله كلام موزون روعي في وزنه أن يصلح للترنم والترتيل
واتفقنا على أن اللغة العربية ليست بدعاً بين اللغات، فالتعبير بها يختلف باختلاف أقدار المخاطبين؛ والمدرس الحق هو الذي يفرق بين ما يعبر به وهو يلقي درساً في مدرسة أولية، وما يعبر به وهو يلقي درساً في مدرسة ثانوية؛ والمدرس الغافل هو الذي يتكلم بطريقة واحدة في جميع الفصول
واتفقنا على أن أساليب التعليم لا يجب أن تكون واحدة في جميع المدارس، وإنما يجب أن نراعي مقتضيات الأحوال فنسلك في المدارس الأجنبية غير ما نسلك في المدارس المصرية
وأصول التربية نفسها توجب ذلك. إنها توجب أن تخاطب كل تلميذ بأسلوب خاص بعد أن تدرس نفسه حق الدرس، لأن الناس يختلفون في العقول كما يختلفون في الوجوه. وهذا لا يمنع من أن تكون هناك سياسة عامة يعامل بها جميع التلاميذ
واتفقنا على أن مدرس اللغة العربية يحق له أن يكون أقرب الأساتذة إلى قلوب الطلاب، لأن عنده فرصاً لا تتاح لسواه، إذ كان يقدر بلباقته أن بجد في دروس المطالعة والمحفوظات والأدب مجالاً لمحادثة الطلبة في معان كثيرة تتصل بالعقل والقلب والوجدان
ومدرس اللغة العربية يستطيع إذا كان من أصحاب المواهب أن يضع في صدور تلاميذه بذور الشوق إلى المشاركة الجدية في الحياة الأدبية والفنية والاجتماعية. وفي مقدوره إن(284/12)
أخلص لواجبه أن يدفع تلاميذه دفعاً إلى رحاب الواجب في خدمة الوطن الغالي. وهو يستطيع أن يخلق منهم رجالاً يفرقون بين المعاني الوطنية والمعاني الإنسانية بحيث يصبحون فيما بعد من دعائم الحياة القومية
مدرس اللغة العربية مسئول قبل سواه عن خلق الروح المعنوي في المدارس لأنه يملك التعبير الجميل، ولأنه ارتاض على سياسة القول، ولأن لديه فرصاً كثيرة يستطيع بها توجيه التلاميذ إلى شريف الأغراض وكريم المعاني
ثم انتقلنا إلى موضوع شائك هو تحديد الفروق بين المدارس المصرية والمدارس الأجنبية
والظاهر أني أحب المدارس الأجنبية حبا يجعل ذنوبها حسنات، وقد فصلت رأيي في حضرة رخا بك وارتضاه، فما هو ذلك الرأي؟
من بين أبنائي ثلاثة يتعلمون بمعهد الليسيه في مصر الجديدة. وهؤلاء الأبناء الثلاثة يختلفون عن أخيهم الأكبر الذي يتعلم في مدرسة مصرية. فأخوهم الأكبر يأخذ مصروفه على أسلوب رتيب لا يتغير ولا يتبدل؟ أما أولئك الثلاثة فيزعجون المنزل بالمطالب المتنوعة في كل يوم، وقد قاست أمهم ما قاست حين كنت بالعراق، فلما اختبرت الأمر بنفسي ضِقْتُ به ذرعاً لأول وهلة؛ ثم تبينت أن تلك المطالب المتنوعة هي شواهد الحيوية في الحياة المدرسية، فالتلميذ لا يجد الفرصة ليهدأ ويسكن، وإنما يشعر بالمسئولية تتجدد أمامه في كل لحظة، فهو اليوم في حاجة إلى كتاب، وكان بالأمس في حاجة إلى كراس، وهو غداً في حاجة إلى ثوب جديد للحفلات، وهو بعد شهر سيقدم إلى المدرسة ديناراً للاشتراك في رحلة مدرسية، إلى آخر مالا آخر له من موجبات اليقظة في المدارس الأجنبية
أقول إن هذه المطالب راعتني لأول وهلة، ثم رأيت أن هؤلاء الأبناء حالهم أحسن من حال أبيهم، الأب المسكين الذي يخترق شوارع القاهرة في كل يوم ولا يراها، لأنه لا يمتطي تراماً أو سيارة إلا وهو مشغول بمطالعة الجرائد والمجلات أو مراجعة بعض الأوراق
أترونني على حق في استحسان هذا المذهب في التثقيف؟
إن كنت مخطئاً فاعذروني لأن اتصالي بالأجانب حبَّب إلي الحركة وزهدني في السكون!
هل تصدقون أنني لا أستريح إلى الدعوة التي تكررها الجرائد في الصبح والظهر والمساء،(284/13)
الدعوة إلى الوفاق والاتحاد والائتلاف؟
هل تصدقون أني أعتقد أننا نختلف أقل مما يجب، وأنه ينبغي ألا نعرف غير النضال والصيال؟
هل تصدقون أن التجارب علمتني أن الراحة نذير الموت؟
هل تصدقون أني نفرت من منزل جميل في باريس لأن أصحابه كتبوا على بابه عبارة تشير إلى أنه معروف بالهدوء؟
هل تصدقون أني لم استرح في بغداد إلا حين اهتديت إلى منزل تحيط به الضوضاء؟
الحق أن مزاجي أفسدته المدنية الحديثة فساداً لا يرجى له صلاح
ولكن هذه هي المدينة، وهذا هو عقل العصر الحديث، وأنتم تطلبون أن نروضكم على التخلق بأخلاق العصر الحديث
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم انتقلنا إلى تعليم البنات فعرفنا بعد الأخذ والرد أن البنت في المدرسة المصرية تقتل قتلا بالدروس، فلا تستطيع أن تكون بهجة البيت في المساء
والواقع أننا كنا أخطأنا في تقدير مناهج التعلم بمدارس البنات، فقد كانت البكالوريا واحدة للبنات والبنين مع أن المزاج يختلف بين النوعين أشد الاختلاف
وقد لوحظ أن البنات في المدارس الأجنبية يعاملن معاملة تقوم على أساس العطف والرفق، والمفهوم عند الأجانب أن البنت إنما تتعلم لتصلح تمام الصلاحية لتكون ربة بيت.
ولوحظ أيضاً أن مديرات المدارس الأجنبية يحاولن أن يعرفن كيف تعيش العائلات التي تجيء منها التلميذات ليستطعن تلوين الحياة المدرسية بألوان مختلفات
وهذا شيء قد لا تعرفه المدارس المصرية لأن الصلات قد تكون مقطوعة بين المدرسة والبيت
والظاهر أني لا أزال استجيد الوصف الذي أطلقته على مدارسنا منذ أكثر من عشر سنين حين سميتها (مجازر بشرية) فنظام هذه المدارس لا يتيح فرصة للتعمق، وإنما يلهي الطلبة بالقشور لكثرة ما يعرض عليهم من العلوم والفنون
وسيجيء يوم يعرف فيه الناس أن أسلافنا كانوا أبصر منا بالمذاهب التعليمية لأنهم كانوا(284/14)
يعرضون على الطالب علوما قليلة ثم يفرضون عليه أن يتعمق
ولو شئت لقلت إن المدارس الفرنسية تريح التلاميذ من الدروس يومين كاملين، ومع ذلك لم يقل أحد بأن الفرنسيين تخلفوا في الميادين العلمية
ولو شئت لقلت إن الامتحانات عندنا لا تزال جائرة الميزان، فليس من المعقول أن يكون تلاميذنا من الضعف والجهل بالمنزلة التي توجب ألا ينجح من كل مئة غير عشرين أو ثلاثين
وهناك مجموعة يعرفها جميع المعلمين، وهي مجموعة الأسئلة الخاصة بالامتحانات العمومية، ونظرة واحدة إلى تلك المجموعة تشعر المنصف بأن الممتحنين لا يرون التيسير من الأمور ذوات البال، والأساتذة أنفسهم يحتاجون إلى تأمل يسير حين ينظرون إلى الأسئلة المسطورة في تلك المجموعة، فكيف يصنع التلاميذ وبينهم وبين أساتذتهم من الفروق ما تعرفون؟
ولو شئت لقلت إن أسئلة الامتحانات العمومية يضعها رجال مكدودون من بين المفتشين والمراقبين، والعقل يفرض أن يتفرغ لوضعها جماعة من الأساتذة ينقطعون إليها أسبوعاً أو أسبوعين حتى تسلم من العنت والإرهاق
أحب أن يشعر التلميذ المتوسط بأن من حقه أن ينجح. أحب أن يشعر التلميذ الضعيف بأنه قد ينجح إذا ضاعف من نشاطه وبذل ما يملك من العافية في الاستعداد للامتحان
ولكن هذه آمال لا تتحقق إلا إذا غير الممتحنون ما بأنفسهم فعرفوا أن الشهرة بالشدة والعنف مطلب سخيف
ثم ماذا؟
ثم تحدثنا عن الصلة بين المدرسة والبيت، واتفقنا على أن الواقع أننا نتكلم ولا نفعل
وأين المدرس الذي يجد من الوقت ما يزور فيه بيوت التلاميذ؟
وأين الناظر الذي يجد في جيبه ما يسعفه بأن يقيم للتلميذ وآبائهم حفلة أو حفلتين؟
لقد حاولت ذلك بنفسي ثم عجزت، لأني كنت أخرج من المدرسة مكدوداً لا أصلح لشيء
ولو شئت لصرحت بأن المدرسين يعجزون عن متابعة النشاط المدرسي، لأن المناهج لا تقيم له أي ميزان، وهو سخرة يقوم بها المدرسون بلا جزاء(284/15)
أما بعد فهذه صورة لساعة لطيفة قضيتها مع الأستاذ رخا بك. فان أعجبته هذه الصورة فذلك ما أرجوه، وإن رآني أذعت ما لا ينبغي أن يذاع فليعرف أن هذا مذهبي، وعليه أن يعقل لسانه حين يراني
يا مصر
إنك تستعدين لأخطار عظيمة في بناء الجيل الجديد، فاعرفي ما تأخذين وما تدعين، واحذري أن يعتقد أبناؤك الأوفياء، أنهم لا يلقون منك حسن الجزاء
وأنتم أيها المدرسون
ثقوا بأن واجبكم الأول هو التغلب على المصاعب، المصاعب التي تواجهكم في الحياة المعاشية والحياة المدرسية، واعرفوا أن الاخلاص للواجب هو الكفيل بأن يرفع عن كواهلكم أثقال العيش وأعباء التعليم
إن التدريس مهنة لا يعرف فيها الراحة إلا من يتعب نفسه في تأدية الواجب، ولا يشقى في هذه المهنة إلا من يؤديها بتهاون واستخفاف
إن العناية التي تبذلونها في إلقاء الدروس تعدي تلاميذكم بالجد والنشاط، وتروضهم على النظام، وتغريهم بحب التفهم لما يسمعون وما يقرءون
وأنتم القدوة الصحيحة للتلاميذ، فاحذروا أن تعدوهم بالضجر واليأس. وتذكروا دائماً أن المدرس المنشرح الصدر، المبتهج النفس، هو وحده الذي يقدر على جعل المدرسة أحب إلى التلميذ من كل مكان
إن في الدنيا متاعب كثيرة تنتظر رجال الغد من تلاميذكم، فأعطوهم من ذخائر الأمل والبهجة ما يدفعون به متاعب الحياة في الأيام المقبلات. والله بالتوفيق كفيل.
مصر الجديدة
زكي مبارك(284/16)
كتاب المبشرين
من أغلاطه في العربية
لأستاذ جليل
(بقية المقال السادس)
32 - في الصفحة (330): مضطر على أفعاله
قلت: اضطر على كذا خطأ والصواب اضطر إلى كذا (ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار) (وقد فصل لكم ما حرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وفي الجمهرة: وللضرورة والضارورة واحد وهو الاضطرار إلى الشيء، ومثل هذه التعدية في كلامهم وفي كتب اللغة. وفي كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري هذه الفائدة: ولهذا المعنى قال المحققون من أهل العربية إن حروف الجر لا تتعاقب حتى قال ابن درستويه: (في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها، والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس) وذلك أنها إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها، ووقع كل واحد منهما بمعنى الآخر فأوجب ذلك أن يكون لفظان مختلفان لهما معنى واحد، فأبى المحققون أن يقولوا بذلك وقال به من لا يتحقق المعاني. ولعل قائلا يقول: إن امتناعك من أن يكون للفظين المختلفين معنى واحد - ردُّ على جميع أهل اللغة لأنهم إذا أرادوا أن يفسروا اللب قالوا: هو العقل، أو الجرح قالوا: هو الكسب، أو السكب قالوا: هو الصب، وهذا يدل على أن اللب والعقل عندهم سواء، وكذلك الجرح والكسب، والسكب والصب، وما أشبه ذلك. قلنا ونحن أيضاً كذلك نقول، إلا أنا نذهب إلى قولنا اللب وإن كان هو العقل فأنه يفيد خلاف ما يفيد قولنا العقل. ومثل ذلك القول وإن كان هو الكلام والكلام هو القول فان كل واحد منهما يفيد بخلاف ما يفيد الآخر، وكذلك جميع ما في هذا الباب
33 - في الصفحة (329): في كل محرس من الليل
قلت: إن كان المراد الحرس فالحرس الدهر أو وقت من الدهر دون الحقب. والذي يقال في هذا المقام هو الجرس أو الجرش، ففي تهذيب الألفاظ لابن السكيت: مضى جرس وجرس من الليل، وفي الصحاح: أي طائفة منه، وفي المخصص مضى جرش من الليل والجمع(284/17)
جروش وأجراش، وقد يقال بالسين وفي اللسان: وقد يقال بالشين، وفي التاج: أتيته بعد جرش من الليل - مثلثة - ما بين أوله إلى ثلثه وقيل هو ساعة منه، والسين لغة، قال أبو زيد: مضى جرش من الليل أي هَوِىّ (أي هزيع من الليل أي طائفة منه. . .)
34 - في الصفحة (80): ثم حسن لخديجة وهي أرملة ذات شرف ونسب أن تتخذه فيخرج في تجارتها
قلت: في كلام العرب وأكثر كتب اللغة: الأرملة التي مات زوجها وهي فقيرة. قال المصباح قال الأزهري: لا يقال لها أرملة إلا إذا كانت فقيرة فإذا كانت موسرة فليست بأرملة. وفي الأساس: وأرملت ورملت من زوجها ولا يكون إلا مع الحاجة. وفي اللسان والتاج، قال ابن الأنباري: سميت أرملة لذهاب زادها وفقدها كاسبها ومن كان عيشها صالحاً به، ولا يقال إذا ماتت امرأته أرمل إلا في شذوذ لأن الرجل لا يذهب زاده بموت امرأته إذا لم تكن قيمة عليه. . . والرجل قيم عليها، وتلزمه مؤنتها ولا يلزمه شيء من ذلك. وفي القصيدة الطويلة - كما يسميها أديبنا الكبير الأستاذ المردمي - المنسوبة إلى أبي طالب في مدح سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
وأنشد ابن بري:
لبيك على ملحان ضيف مدفّع ... وأرملة تزجى مع الليل أرملا
35 - في الصفحة (132): وقد تكرم عليه في آخر سنة من عمره بأن متعه بالنظر إليه
قلت: تكرم عليه خطأ، والتكرم تكلف الكرم، وتكرم تكلف الكرم قال المتلمس:
تكرم لتعتاد الجميل ولن ترى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما
وتكرم عن كذا أي تنزه عنه وترفع. قال أبو حية:
ألم تعلمي أني إذا النفس أشرفت ... على طمع لم أنس أن أتكرما
ولم يجئ في كلام العرب ولا في معجمات الألفاظ ولا في معجمات المعاني تكرم عليه بمعنى أفضل عليه، تفضل عليه، أجدى عليه، من عليه، تطول عليه، تندى عليه، تسخى عليه، أسدى إليه؛ يدي عليه، أيدي عليه، أنعم عليه
36 - في الصفحة (396): أما الوعد فانه عرف من شدة انهماكهم على الملاذ الشهوانية(284/18)
قلت: لا يقال في العربية انهمك على الشيء بل أنهمك فيه. ففي حديث خالد بن الوليد (رضي الله عنه) أن الناس انهمكوا في الخمر. وفي الصحاح: انهمك الرجل في الأمر أي جد ولج، وكذلك تهمك في الأمر. وفي الأساس: انهمك في الباطل وفلان منهمك في الغي. مثل هذه التعدية في الجمهرة والنهاية واللسان والمصباح والتاج والمعجمات العصرية. والملاذ في اللغة جمع ملذ وهو موضع اللذة. وفي الفائق: النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ركب أحدكم الدابة فليحملها على ملاذها: أي ليسرها في المواضع التي تستلذ السير فيها من المواطيء السهلة غير الحزنة والمستوية غير المتعادية والشهوانية نسبة إلى الشهوان أو الشهواني وهو شديد الشهوة ومنه قول رابعة: يا شهواني. والشهوة اشتياق النفس إلى شيء كما في المصباح، أو نزوع النفس إلى ما تريده كما في مفردات الراغب. فماذا يعني كتاب المبشرين بكلامه الطمطماني؟
37 - في الصفحة (340): قال الغزالي قد انتهى قوم في الشطح (لعله يريد الشطط) والدعاوى العريضة إلى دعوى الاتحاد بالله وارتفاع الحجاب.
قلت: لا يريد الشطط بل يريد الشطح، وإن من يجهل هذا المصطلح المشهور عند المتصوفة لجاهل. وهذه اللفظة إن لم تضعها العربية من قبل فهي كلمة اصطلاحية. ولم يكتب في التصوف كاتب، ولم يؤلف في طريقة القوم مؤلف، إلا ذكرا هذا الشطح كثيراً. ولن يسد شطط الشاطين ولا طائفة كبيرة من خلط المبشرين مسد الشطح. . . جاء في التاج: اشتهر بين المتصوفة الشطحات وهي في اصطلاحهم عبارة عن كلمات تصدر منهم في حال الغيبوبة وغلبة شهود الحق عليهم بحيث لا يشعرون حينئذ بغير الحق كقول بعضهم أنا الحق، وليس في الجبة إلا الله، ونحو ذلك. وفي التعريفات: الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهو من زلات المحققين، فانه دعوى بحق يفصح بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر بالنباهة. . .
38 - في الصفحة (437) فهذا الكلام يستلفت نظرنا من جهتين
قلت: استلفت خطأ، وإن قبل: قال سيبوبه في (هذا باب استفعلت): (وتقول استعطيت أي طلبت العطية، واستعتبته أي طلبت إليه العتبى، ومثل ذلك استفهمت واستخبرت أي طلبت إليه أن يخبرني). قلنا: جاء ما ذكره سيبوبه ولكنهم لم يقولوا استلفته أي طلب لفته؛ ثم(284/19)
اللفت في اللغة ليّ الشيء عن الطريقة المستقيمة، ولفته لواه على غير جهته - كما في اللسان - فيكون معنى الجملة حسب بناء هذا الفعل؛ (وهذا الكلام يطلب ليّ نظرنا على غير جهته من جهتين. .) وهناك نظران: نظر البصر ونظر البصيرة فأيهما المقصود؟
39 - في الصفحة (153) ويعتقد المسلمون بعصمة الأنبياء
قلت: قالوا: اعتقد كذا بقلبه - كما في الصحاح - ولم يقولوا اعتقد بكذا. وفي المصباح: اعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير
40 - في الصفحة (59): على أنها أيضاً تعلق في الكعبة بأمر الأمة مكتوبة في ثوب قبطي بماء الذهب
قلت: اضطر (سال) أن يقول في (ثوب قبطي) حتى يوضح في لغته اللفظة. ولو كان مترجم (المقالة) وذو الذيل ممن شدا من العربية شيئاً لجلب الكلمة التي وضعها اللغة أو التي أوردتها كتب الأدب في خير المعلقات والتعليق وهي القباطي ومفردها القبطية. قال أبن رشيق في العمدة: (وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة. وقال صاحب العقد: (فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها في أستار الكعبة) والقبطية في الشعر القديم وفي الحديث. جاء في الفائق: كسا (صلى الله عليه وسلم) امرأة، قبطية فقال مرها فلتتخذ تحتها غلالة لا تصف حجم عظامها. ومن حديث عمر (رضي الله عنه) لا تلبسوا نساءكم القباطي فانه إلا يشفّ، فانه يصف
أجتزئ بما أوردت من أغلاطهم وسائرها سيظهر في وقت، في كتاب
(الإسكندرية)
* * *(284/20)
سر العالم
لشاعر الهند رابندرانات طاغور
ترجمة الأديب عبد الوهاب مصطفى بحلاق
عندما مرت الدهور، وتردد النحل على حدائق الصيف، وابتسم القمر لزنبقة المساء، وبعث البرق قبلاته النورانية للسحب، وسرح ضحكاته في الفضاء. . وقف الشاعر في ركن مشحون بالأشجار مكلل بالسحب، وظل قلبه صامتا كالزهرة. . . يستطلع خلال أحلامه كما يفعل الهلال، ويهيم كما يفعل نسيم الصيف لغير ما غرض. .!
وفي إحدى ليالي إبريل عندما بزغ القمر كفقاعة ماء من أعماق الغرب. . . وكانت إحدى الفتيات مشتغلة بري النبات وأخرى تطعم غزالها، وثالثة ترقص لطاووسها بدأ الشاعر يغني:
(آه. . . أنصتوا لأسرار العالم. . . إني أرى أن الزنبقة شاحبة مصفرة لأنها تحب القمر. . . وزهرة اللوتس تسحب قناعها أمام شمس الصباح، والسبب جلي لو أنعمتم التفكير. ومعنى طنين النحل في إذن الياسمين الصبوح قد غرب عن خاطر العلماء ولكن الشاعر يعلم. . .!)
وذهبت الشمس في تورد الحياء، وصعد القمر متمهلاً خلف الأشجار، وهمست ريح الجنوب لزهرة اللوتس أن الشاعر ليس بساذج كما يظهر منه. فشبك الفتيات والشبان أيديهم وصاحوا:
(لقد انكشف سر العالم. .!)
ثم نظر بعضهم في عين بعض وأنشدوا:
(ليطر سرنا أيضاً على أجنحة الريح. .!)
عبد الوهاب مصطفى بحلاق(284/21)
رسالة من باريس
بعض الدكاترة الفخريين
الذين منحوا الدكتوراه في فرنسا هذا العام
للباحث الأديب مصطفى زيور
- 1 -
سيدي رئيس تحرير الرسالة وأستاذي العزيز
ولا يغضبك من تلميذك أن يذكرك بعهد كرت عليه الأيام، وطواه الدهر في صفحات بدأ يعلوها الاصفرار. فكم في مثل هذه الذكريات من العذوبة ما ترق له النفس، وتذوب حنانا، يرسل في قسوة الحاضر سحر الماضي، فنرضى ونبتسم. . . ثم ينسينا التلهفَ على الماضي حسنُ الظن بالمستقبل. وهكذا تدفعنا دائماً مناعة النفس ضد التبرم بحقائق الحاضر أن نلوذ بما نتصوره سحر الماضي، حتى ترهقنا الحقيقة ونرى قلم الزمان يجر رقما جديدا في حساب الأعمار، فندير إليه ظهورنا ونتعلق بآمال المستقبل
فإذا أنكرت من تلميذك حديث الحنان ومنطق العاطفة، وإذا اتهمته بسوء النية في إثارة حديث الأعمار، فهو يدفع عن نفسه بأن التلميذ غير مسئول إذا اصطنع حديث العاطفة - ولو لم يكن هذا في فطرته - إذا كان أستاذه هو صاحب ذلك الأسلوب الموسيقي في ترجمة (آلام فرتر) و (رفائيل)؛ وهو متأهب بعد ذلك أن يسل حسام المنطق الجاف، منطق العقل الخالص، يعالج به مشكلة الأعمار ويقيم الدليل على أنه لم يكن ماكراً خبيثاً في إثارتها، وهو الذي لا يقنع بتلك الحجة البائسة تساق للسلوة عما مضى من الشباب، في قولهم إن مع المشيب نضوجا وحكمة، فما كانت هذه الحكمة في الغالب إلا خمودا في جذوة الحياة، وفرقا من اعتناق ثائر الأنظار تضطرب من تحتها الأرض. لا يقنع تلميذك بهذا بل هو مصطنع لسان الطب يعالج به مشكلة الأعمار فيقول: إن ما يختلج أعضاء المرء من الحيوية لا يقاس بما مر من السنين على بزوغ هذه الحيوية، وقديما قال الفرنسيون: وما عمر المرء إلا عمر عروقه ' وهو ما يعبر عنه بلغة البيولوجيا الحديثة (أو قل علم الحياة حتى يرضى عني أنصار ترجمة المصطلحات العلمية) بأن مبلغ الطاقة الحيوية في المرء(284/22)
موقوف بما عليه إفراز غدده الصماء كما وكيفاً، وبما تطبقه مجموعته الاشتراكية بالفعل وبالقوة. فإذا كانت المقاييس الحديثة لنشاط هاتين المجموعتين قد أدت إلى تقرير مبادئ جديدة في حساب الأعمار يستند إليها علم حديث يدعونه بيوتبيولوجي يرمي إلى تمييز الشخصية الحيوية للأفراد لتوجيههم في معترك الحياة، بأن يدلهم على ما يصلحون له وما يطيقونه؛ وإذا كنا نرى هذا البحث الجديد قد جعل من بعض الشيوخ شبابا ومن بعض الشباب شيوخا، أفلا يرى معي أستاذي أن لا بأس على الشيوخ إذا كان نشاطهم شابا، وأن يخفف الشباب من غلوائه إذا كان نشاطه متقاعدا هرما؟
فإذا لم يرضك مني حديث المنطق بعد حديث العاطفة، وهممت أن تجري قلمك الأحمر على هذا اللغو تحذفه من كلمتي كما تعودت أن تفعل معي قديما في (كراسة الإنشاء) فإني أهيب بك أن تسمح لي بالاستئناف أمام أستاذي أحمد أمين، فلعله يكون أقل صرامة في الحكم، وقد سمعته يشير إلى تلك الظاهرة النفسية التي تدفع بالكاتب إلى الحرص على آثار قلمه والاعتزاز بها الغث منها والسمين، كما تحرص الأم وتحب فلذات كبدها، الدميم منهم والجميل
وبعد فهأنذا أفي بوعد قديم فأكتب (للرسالة) صفحات أردت أن أشير فيها إلى بعض تيارات الفكر العلمي الحديث في الغرب، التي تعنيها تلك المظاهر الدولية تعلن لحاملي لوائها تقدير الأوساط العلمية، فتجيزهم جوائز فخرية مثل جائزة نوبل أو الدكتوراه الفخرية تمنحها لهم الجامعات
وقد كان منح الدكتوراه الفخرية هذا العام في الجامعات الفرنسية حادثاً جللا بالنسبة لمصر، فقد رأينا لأول مرة أديباً مصرياً ينال هذا الشرف هو الدكتور طه حسين بك. ولست أشك أن غيري كتب في الجرائد المصرية يبين خطر هذه المنحة. وحسبي أن أشير إلى أن الجامعات الفرنسية ضنينة بإجازاتها فلا تمنحها لغير العلماء الذين ثبت فضلهم على العلم؛ فلم نر إينشتين يمنح الدكتوراه الفخرية من باريس إلا سنة 1929 بعد أن نال جائزة نوبل مرتين. وها نحن أولاء نرى بين العلماء الذين فازوا بهذا الشرف هذا العام اثنين من العلماء هما (تزنت جيورجي) و (كارر) قد سبق أن فازا بجائزة نوبل الأول للطب والثاني للكيمياء لقيامهما - منفردين - بأبحاث خطيرة في مسألة الفيتامين كما سأبين بعد(284/23)
وليس في عزمي أن أقدم إلى قراء الرسالة الدكتور طه حسين بك كما سأقدم إليهم العلماء سورنسن، وتزنت جيورجي، وكارر من بين العلماء الذين فازوا بالدكتوراه الفخرية من فرنسا هذا العام، فإن عميد كلية الآداب ليس في حاجة إلى أن يقدم إلى صحف الأدب العربي، كما أنه ليس في عزمي أن أتناول بهذه المناسبة مؤلفاته الأدبية بنقد أو تحليل، فلم يكن الأدب من عملي ولم أكن يوماً من الأدباء
وحسبي أن أردد ما قاله ممثل الجامعة الفرنسية في عميد كلية الآداب من المقابلة بينه وبين أديبهم الفرنسي رينان، فقد قال: إن رينان كان أديباً فذاً ولكنه كان إلى ذلك مؤمناً قوي الإيمان بمستقبل العلم نصيراً له؛ وكذلك الدكتور طه في مصر فهو إلى صفاته الفنية في الأدب قد بعث فيمن حوله روحاً علمية صحيحة وأنفق من الجهد في نصرة الروح للعلمية والأخذ بمنهجها ما يجعله حقيقاً أن يحتفل به العلماء قبل الأدباء. ومن أجل هذا فإني أسجل له تحيتي هنا
العلامة سورنسن ?
يمتاز هذا الكيميائي الدانمركي بعبقرية مبتدعة في طرائق البحث التجريبي واختراع الوسائل الفنية التي يدعونها بتلك الكلمة اليونانية الأصل (تكنيك)؛ ولعل العلماء المبرزين في هذا النوع من النشاط العلمي أقل حظاً من غيرهم في ذيوع الشهرة وجريان أسمائهم على أفواه المتعلمين؛ ذلك لأن هذه الوسائل وما يتصل بها من الأجهزة تبقى في العادة داخل المعامل يستغلها الباحثون في الكشف وتحقيق الفروض، فإذا ما انتهى إلى جمهور المتعلمين شيء منها فهي نتائج هذه البحوث: قانون طبيعي، أو نظرية جديدة في تفسير طائفة من الظواهر تحمل اسم قائلها ولكنها غفل من اسم مخترع الوسائل التي أدت إلى هذا الكسب الجديد في ميدان المعرفة. ومع ذلك فان هذه الوسائل كثيراً ما كانت تكأة لفتوح خطيرة في العلم بل تكأة لعلم بأسره؛ فكثير منا يعلم مثلاً أن جاليليه هو أول من أقام الدليل على صحة نظرية كوبرنيك في دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها، ولكن كم منا يعلم أن هذا الجهاز البسيط المقرب للأبعاد المدعو تلسكوب، والذي خرج من خلاله كل محصولنا الحالي في علم الفلك بل كل هذه الثورة على جدل القرون الوسطى النظري وتوجيه العلم نحو الملاحظة والتجريب، كم منا يعلم أن المنظار المقرب يحمل اسم جاليليه؟(284/24)
ثم كم من الأطباء في العالم الذين يستعملون كل يوم منذ أكثر من قرن ذلك الجهاز المدعو (سنتوسكوب) أي السماعة الطبية ويقيمون تشخيصهم على ما يسمعونه خلالها، كم منهم يعلم أنها تحمل اسم الطيب الفرنسي الكبير (لَيْنِك) مؤسس فن التشخيص السمعي؟
اتجه نشاط سورنسن بعد بحوث في الكيمياء المعدنية نحو دراسة المكون الرئيس للمادة الحية: المواد الزلالية المسماة في الاصطلاح الدولي بروتيد؛ بدأ باستخلاصها في حالة النقاء أي خالصة من المواد الأخرى العالقة بها مما مكنه ومكن غيره من الباحثين من دراسة خصائصها الكيميائية والفيزيقية؛ أجرى عليها تجربة التحليل الغشائي، أي النفاذ خلال الأغشية وهي أجسام من أصل نباتي أو حيواني ذات ثقوب دقيقة (مثل جلود الحيوانات) لا تسمح لغير الجزئيات الدقيقة مثل جزئيات الملح الذائبة في الماء باختراقها، بينما الجزئيات الزلالية لا تنفذ منها. ونتيجة هذه التحليل الغشائي أن الجزئيات الغريبة العالقة بالجزئيات الزلالية تنفذ خلال هذه الأغشية تاركة الجزئيات الزلالية في حالة النقاء. وهكذا تبدو لنا المحلولات المحتوية على مواد زلالية كأنها تسلك مسلك المحلولات الغروية (نسبة إلى الغراء) أي تلك المحلولات التي تختلف عن المحلولات العادية - المسماة بالمحلولات البلورية مثل محلول الملح - بكبر حجم جزيئاتها مما يمنعها من اختراق تلك الأغشية، والتي تختلف عنها أيضاً بأنها لا تترك بعد تبخير السائل الذائبة فيه دقائق متبلورة بل تترك جسماً يشبه الغراء
ولكن هذه الحقيقة، حقيقة وجود المواد الزلالية وبالتالي المادة الحية على الحالة الغروية تحمل نتائج غاية في الخطورة؛ ذلك أننا نعلم أن المحلولات الغروية تنفرد بصفات خاصة يرجع إليها السبب في ثبا بهذه المحلولات أي بقاء الجزئيات منتشرة في السائل لا تسقط، فإذا ما حدث اضطراب في هذه الصفات فان جزيئات المحلول الغروي تتهالك بعضها على بعض أي تفقد ثباتها فينهار المحلول الغروي. ولما كانت المادة الحية توجد على الحالة الغروية فان بقاء الحياة واستمرارها يترجم عنه من الناحية الفيزيقية بثبات الحالة الغروية، وفناء الحياة أو اضطرابها يترجم عنه من الناحية الفيزيقية بانهيار الحالة الغروية
أما أهم هذه الصفات التي يرجع إليها ثبات الحالة الغروية فهو وجود شحنة كهربائية من نوع بعينه تحملها الجزئيات المنتشرة فتدفعها إلى التباعد بعضها عن بعض فتمنعها من(284/25)
التهالك. فإذا ما أُدخل على المحلول الغروي جسم يحمل شحنة كهربائية مضادة لشحنته لا تلبث جزئيات المحلول الغروي أن تتجاذب مع هذا الجسم الغريب وفقاً للقانون الطبيعي الذي يقرر التجاذب بين جسم موجب وآخر سالب، وبالتالي ينهار المحلول الغروي؛ وهذا ما يحدث بين السموم المفرزة من الجراثيم وبين الجزئيات الزلالية في الأنسجة الحية. ومما يجدر ذكره أن تقدم الكائن الحي في السن وانحداره نحو الهرم يقابله تغير في الصفات الغروية الخاصة بأنسجته ينتج عنه تباطؤ في نشاطها؛ وهكذا يمكننا أن نقرر دون خشية الخطأ أنه في اليوم الذي تتم لنا فيه معرفة جميع الصفات الغروية نكون قد كشفنا الغطاء عن جميع معميات المظاهر الفسيولوجية في الصحة والمرض
ومن المسائل التي استرعت اهتمام سورنسن مسألة الوزن الجزيئي للزلاليات، أي وزن أصغر جزء له نفس صفات الجسم الذي يتركب من عدد كبير من هذه الجزئيات؛ فاستعان بالضغط (الأسموزي) أي الضغط الذي يحدثه دفع محلول على جدار غشاء إذا وجد من الناحية الأخرى من هذا الغشاء محلول ذو تركيز يختلف عن تركيز المحلول الأول. وبواسطة قانون (فان تهوف) الذي يعين العلاقة بين الضغط ودرجة الحرارة المطلقة والتركيز الجزيئي يصبح من السهل استنتاج الوزن الجزيئي. أدت هذه الطريقة سورنسن ثم (أدير) إلى تقدير الوزن الجزيئي لزلال البيض ب 34. 000 وبضعف هذا العدد لزلال الدم. وقد حققت التجارب التي أجريت بواسطة طرق فيزيقية أخرى هذا العدد كما حققت أن المواد الزلالية المختلفة لا تختلف في وزنها الجزيئي إلا بأنها حاصل ضرب هذا العدد في أعداد صحيحة. وليس في ذلك غرابة، فنحن نعلم أن المواد الغروية تتكون من وسط منتشرة فيه دقائق مؤلف كل منها من عدد معين من الجزئيات قد يختلف من مادة غروية إلى أخرى. ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في الوزن الجزيئي فان ما يسترعي النظر حقاً هو ضخامة حتى أصغر قيمة وجدت للوزن الجزيئي في الزلاليات وهي 17. 000 (يلاحظ أن نصفها 34. 000)؛ ذلك لأننا لا نعرف جسماً يقترب وزنه الجزيئي من هذه القيمة مما يدل على شدة التعقيد في تركيب المواد الزلالية؛ ومع ذلك فان تحليل هذه المواد إلى عناصرها الأولية لا يؤدي إلا إلى أربعة عناصر بسيطة هي الكربون والهيدروجين والأكسجين والأزوت، ثم في معظم الحالات أيضاً للكبريت. إذن فالتعقيد لا يأتي من ازدحام(284/26)
عدد كبير من العناصر الأولية، بل من النظام الداخلي في ارتباط هذه العناصر. كيف تتركب إذن هذه المواد؟ إذا أجرينا على المواد الزلالية تحليلا خميريا أي بواسطة الخمائر مثل خمائر الأمعاء فإنها تنحل في النهاية إلى عدة أجسام بسيطة التركيب إلى حد ما، يدعونها الأحماض الأمينية أي أجسام يعينها وجود وظيفة حمضية بجانب وظيفة أمينية (وهي وظيفة قلوية تحتوي على الأزوت منتشرة في المواد العضوية)؛ وعلى ذلك كان من السهل أن يتحد حامض أميني مع حامض أميني آخر بأن ترتبط الوظيفة الحمضية لأحدهما مع الوظيفة الأمينية للآخر، كما أنه يمكن أن يتحد هذا الجسم المزدوج الجديد مع حامض أميني ثالث بنفس الطريقة وهكذا. وقد تمكن فيشر من تركيب نحو ثمانية عشر حمضاً أمينياً بعضها مع بعض فنتج لديه أجسام لها كثير من خصائص المواد الزلالية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان الأحماض الأمينية نفسها يمكن تركيبها من أجسام بسيطة. وقد كان لسورنسن الفضل في دراسة وتركيب أحد الأحماض الأمينية الهامة وهي الأرجينين، كما كان له فضل ابتداع طريقة للتقدير الكمي للأحماض الأمينية في محلول يحتوي عليها
للبحث بقية
مصطفى زيور(284/27)
للتاريخ السياسي
جهود المستر تشمبرلين
وما أدت إليه
للدكتور يوسف هيكل
(علمتني التجارب أن الضعف في القوة العسكرية يعني
الضعف في السياسة)
تشمبرلين - 6 أكتوبر
إن خطاب الهر هتلر في نورمبرك وما تبعه من اضطرابات في تشيكوسلوفاكيا، وقطع المفاوضات بين حكومتها وحزب السوديت الألمان، أقلق الرأي الدولي ولا سيما في لندن وباريس. فقام المستر تشميرلين، رئيس الحكومة البريطانية، بالاتفاق مع المسيو دلادييه رئيس الحكومة الفرنسية، ببذل جهود شخصية لم يكن أحد يتوقعها منه، لإبعاد شبح الحرب العالمية وتثبيت السلام. وإننا في عرضنا لهذه الجهود نتكلم عن مباحثات برختسكادن ومشروع لندن، ونذكر مطالب الهر هتلر الجديدة، ونبدي ما تلاها من الذعر الدولي، وما تم في مؤتمر مونيخ
مباحثات برختسكادن ومشروع لندن
اشتدت خطورة الحالة في تشيكوسلوفاكيا في 13 سبتمبر (أيلول) وخشي حدوث حرب أهلية بين التشيك والألمان السوديت على أثر انتشار الاضطرابات بين العنصرين في كثير من المقاطعات السوديتية، وذلك مما كاد يؤدي إلى تدخل الجيوش الألمانية، وبالتالي إلى مساعدة الجيش الفرنسي لحكومة براغ. وهذه الأعمال الحربية إن وقعت، لا تلبث أن تصبح حربا عالمية بتدخل الدول الأخرى عملا بالمحالفات تربطها مع براغ وباريس من جهة، ومع برلين من جهة ثانية
وبما أن النظام الدكتاتوري الذي يضع مصير البلاد في قبضة رجل واحد قلل الانتفاع من النظام الدبلوماسي الاعتيادي ولا سيما في ساعات الأزمات، لذلك قرر المستر تشمبرلين،(284/28)
بالاتفاق مع حكومة باريس، الذهاب إلى ألمانيا، ومقابلة الهر هتلر، ليتحقق ما إذا كان لا يزال باقيا أي أمل في حفظ السلام. فأرسل إليه في 14 سبتمبر (أيلول) برقية قال فيها:
(نظرا لازدياد تحرج الحالة أرى أن آتي لمقابلتكم بقصد السعي لإيجاد حل سلمي. وفي عزمي أن آتي بطريق الجو، وإني مستعد للسفر غدا. فأرجو أن تخبرني عن أقرب وقت تستطيع فيه مقابلتي، وعن المكان الذي نجتمع فيه). فرد الهر هتلر على هذه البرقية بقوله إنه مستعد لمقابلة رئيس الوزارة البريطانية غداً في برختسكادن
طار المستر تشمبرلين إلى ألمانيا صباح 15 سبتمبر (أيلول) فوصل برختسكادن الساعة الرابعة. وبعد تناول الشاي مع زعيم ألمانيا أخذ رجلا الدولة يتباحثان. ولم يحضر مباحثاتهما هذه التي دامت ثلاث ساعات غير المترجم
خلال هذه المحادثات أبان الهر هتلر بوضوح وتأكيد، وجوب إعطاء السوديت الألمان حق تقرير مصيرهم، والعودة إلى الريخ إذا كانوا يريدون ذلك. وإذا لم يعطوا ذلك الحق فان ألمانيا تأخذه لهم بالقوة.
وقد تذمر الهر هتلر من تهديدات بريطانيا له فأجاب المستر تشمبرلين على ذلك أنه يجب التفريق بين التهديد والإنذار. وقد يكون للهر هتلر سبب معقول من التذمر لو أن المستر تشمبرلين مكنه من التفكير في أن بريطانيا لا تدخل ضده في حرب مهما كانت الظروف، ولكن عملياً توجد حالات إن وقعت تضطر بريطانيا إلى دخول الحرب ضد ألمانيا.
ظهر للمستر تشمبرلين أن الهر هتلر كان يتأهب إلى اكتساح تشيكوسلوفاكيا مما جعله يسأله لماذا مكنه من السفر إليه مسافة طويلة، ما دامت نتيجة ذلك ضياع وقته فقط. فأجاب الهر هتلر على ذلك أنه لو أن المستر تشمبرلين يؤكد له هناك (أي في ألمانيا) وفي ذلك الوقت - أن الحكومة البريطانية تقبل مبدأ حتى تقرير المصير، لكان (أي الهر هتلر) مستعداً لبحث الطرق والوسائل لتنفيذ ذلك. ولكن إذا كانت الحكومة البريطانية لا تعتبر هذا المبدأ، فان من الحق ألا تكون هناك فائدة من متابعة المحادثات. غير أن المستر تشمبرلين لم يكن حينئذ وفي ذلك المكان في حالة تمكنه من إعطاء مثل ذلك التأكيد، فأعلم محادثه أنه يريد العودة للمشاورة مع زملائه في هذا الشأن، إذا امتنع الهر هتلر عن القيام بأعمال عدائية ريثما يتمكن من معرفة جوابهم. فوعده الهر هتلر بذلك(284/29)
عاد المستر تشمبرلين إلى لندن صباح 16 سبتمبر (أيلول)، معتقداً أن لا شيء يحول دون احتلال الجيوش الألمانية تشيكوسلوفاكيا إلا منح الألمان السوديت حق تقرير مصيرهم في وقت قريب. وكان ذلك في رأيه، الأمل الوحيد في الوصول إلى حل سلمي.
وفي اليوم نفسه، وبطلب من المستر تشمبرلين عاد اللورد رنسيمان من براغ إلى لندن. ولما سأله الصحفيون عن رأيه في الموقف أجاب: (كنت أود لو أني أعرف عن الموقف ما تعرفون، وأخشى ألا يكون عندي من المعلومات ما أفضي إليكم به غير القول بأن الحالة دقيقة جداً وأنها بين يدي الله).
وفي مساء ذلك اليوم عقد مجلس الوزراء البريطاني جلسة، حضرها اللورد رنسيمان. وفي هذه الجلسة عرض رئيس وزارة بريطانيا لزملائه ما سمع من الهر هتلر، وما حمل من فكرة عن موقف الجيش الألماني إزاء المشكلة التشيكوسلوفاكية. وفي هذه الجلسة أيضاً أوقف اللورد رنسيمان الحكومة على الحالة في تشيكوسلوفاكيا وأبدى لها ما يعتقده من حل حاسم لمشكلتها.
بعد أن عرض اللورد رنسيمان سير المفاوضات ووضع مسؤولية فشلها على الهر هنلاين ومعاضديه داخل البلاد وخارجها قال: (مع ذلك فإنني أعطف على قضية السوديت. إنه من المؤلم جداً أن يخضع الشعب لحكم شعب غريب) ثم أبان أنه حين وصوله كان زعماء السوديت المعتدلون لا يزالون يرغبون في حل يبقيهم داخل حدود الدولة التشيكوسلوفاكية، لتأكدهم أن الحرب ستقضي على بلادهم لأنها ستكون ساحتها. وقد حاول اللورد الوصول إلى مثل هذا الحل ولكنه لم ينجح، لتصلب اتباع الهر هنلاين وإيجادهم العراقيل أمام تحقيق الحلول المعروضة. لهذا أخذ اللورد رنسيمان يدين بأن المقاطعات المأهولة بأكثرية كبيرة ألمانية يجب أن تعطى حالاً حق تقرير مصيرها، وأنه إذا كان لا بد من إلحاق بعض الأقاليم بألمانيا، وهو يعتقد بضرورة ذلك، فانه يجب أن يكون حالا ومن غير تأخر. لأنه يوجد - حسب رأيه في ترك الحالة غير جلية - خطر حقيقي: خطر حرب أهلية. ولذلك يرى وجوب اتباع سياسة سريعة حاسمة. أما إجراء الاستفتاء في المقاطعات التي تكون أكثريتهم الساحقة ألمانية، فما هو ألا عمل شكلي إذ الأكثرية من سكان هذه المقاطعات تحبذ الانضمام إلى ألمانيا. والاستفتاء لا يؤدي في هذه الحالة إلا إلى تهيج شعور الجمهور،(284/30)
وبالتالي إلى نتائج سيئة. لهذا فان اللورد رنسيمان يوصي بضم هذه الأقليم التشيكوسلوفاكية إلى ألمانيا
أما الأقاليم التي فيها النسبة الألمانية قليلة فانه يوصي بإعطائها الاستقلال الذاتي ضمن حدود الجمهورية التشيكوسلوفاكية
وبعد أن عرض اللورد رنسيمان مسألة الحدود، تناول الأوجه السياسية التي تتعلق بسلامة الجمهورية التشيكوسلوفاكية وبتحسين علاقتها مع مجاوريها الملاصقين، ولتحقيق ذلك يوصي:
1 - منع الأحزاب والأشخاص في تشيكوسلوفاكية الذين يشجعون اتباع سياسة الخصومة لمجاوريها، من متابعة تحريضهم حتى ولو باتخاذ وسائل قضائية ضدهم
2 - تغير حكومة براغ علاقاتها السياسية الدولية كما تعطي تأكيداً لمجاوريها بأنها لا تريد مهاجمتهم في أي ظرف من الظروف، أو بالاشتراك في أي اعتداء عليهم تنفيذاً لمعاهدات مع دول أخرى. ومعنى ذلك إلغاء حكومة براغ لمحالفاتها الدفاعية مع فرنسا والروسيا
3 - ضمان الدولة الرئيسية - الذين يهمهم السلام في أوربا - حدود تشيكوسلوفاكيا في حالة التعدي عليها، غير المحرض عليه
4 - عقد معاهدة تجارية بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا إن كان ذلك مفيداً لاقتصاديات البلدين
كان لتقرير اللورد رنسيمان تأثير عظيم على الحكومة البريطانية. وقبل أن تضع خطتها النهائية، رأت من الضروري استشارة الحكومة الفرنسية، فدعا المستر تشمبرلين المسيو دلادييه رئيس وزارتها، والمسيو بونيه وزير خارجيتها إلى لندن للتشاور مع الوزراء البريطانيين في 18 سبتمبر (أيلول)
اجتمع الوفد الفرنسي بالوزراء البريطانيين، وأبان له المستر تشمبرلين مطالب الهر هتلر ورأي الحكومة البريطانية فيها، وأوقفه على ما وصل إليه اللورد رنسيمان وقد تم الاتفاق بينهم على مشروع لحل النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي ضمن تحقيق مطالب زعيم ألمانيا ويحتوي على النقط التالية:
1 - فصل المناطق المأهولة بأكثرية ألمانية عن تشيكوسلوفاكيا وضمها إلى الريخ.
2 - عدم إجراء الاستفتاء، للصعوبات التي تنجم عنه، والاستعاضة عنه بالتنازل عن(284/31)
المقاطعات التي كان يجب إجراء الاستفتاء فيها.
3 - تأليف لجنة دولية، تكون تشكوسلوفاكيا أحد أعضائها، لتعيين الحدود التشيكية الجديدة والأشراف على تبادل السكان.
4 - تعهد حكومة بريطانيا بالاشتراك بضمان دولي للحدود التشيكية الجديدة بدلا من معاهدات الدفاع الحالية.
وافقت الوزارة البريطانية بالإجماع على هذا المشروع، أما في فرنسا فاعترض عليه أربعة من الوزراء. وفي 20 سبتمبر (أيلول) أرسلت حكومة براغ ردها على مشروع لندن إلى الحكومة البريطانية، أبانت فيه الأسباب التي تدعوها إلى عدم قبول التنازل عن الأرض السوديتية. وأشارت إلى أنها لا يمكنها فقط قبول الاقتراحات الإنكليزية الفرنسية التي وضعت دون موافقتها، وطلبت أن يكون الخلاف بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا موضع التحكيم، وفقا لمعاهدة عام 1926 المعقودة بين هذين البلدين، وأن تعيد حكومتا لندن وباريس النظر في المسألة؛ غير أن سفيري بريطانيا وفرنسا زار الرئيس بنيش في الساعة الواحدة والربع من صباح 21 سبتمبر (أيلول) وألحا عليه بضرورة قبول مشروع لندن، وقد أفهماه أن الحالة في بريطانيا لا تمكنها من دخول حرب دفاعاً عن تشيكوسلوفاكيا، وبالتالي فان الحكومة الفرنسية لا تستطيع نجدة حليفتها. فقضت حكومة براغ ما بقي من الليل في درس الحالة. وفي الصباح أصدرت بياناً ذكرت فيه الأسباب التي اضطرتها إلى قبول مشروع لندن. ومما جاء فيه، أنه (لم يسع رئيس الجمهورية والحكومة إلا قبول اقتراحات الدولة الكبرى لأننا وجدنا أنفسنا بلا معين).
على أثر ذلك اضطرب الرأي العام في تشيكوسلوفاكيا، وقامت في البلاد مظاهرات وطنية، واحتشدت الجماهير أمام قصر الرياسة صارخة (فليحي سيروفي، وليحي الجيش). فأطل الجنرال سيروفي مفتش الجيش العام من شرفة قصر الرياسة وألقى خطاباً قال فيه: (إنكم لا تعلمون الأسباب التي حملت الحكومة على اتخاذ القرارات الأخيرة. إني أحب الجمهورية بقدر ما تحبونها. إننا لا نستطيع أن ندفع بالشعب إلى الانتحار). فأجابت الجماهير (إننا نفصل الانتحار ولا نريد أن يمس شرفنا. نريد الكفاح). . . وكانت النساء على الأرصفة يشهقن بالبكاء، والدموع تتساقط من أعين رجال البوليس.(284/32)
وفي صباح 22 سبتمبر (أيلول) استقالت وزارة الدكتور هودزا وأعلن تأليف وزارة قومية برياسة الجنرال سيروفي، رجل تشيكوسلوفاكيا القوي.
وبرغم مطالب بولندا وهنغاريا التي زادت تعقيد المشكلة التشيكوسلوفاكية فان الدوائر السياسية ظنت أن الأزمة الدولية قد انفرجت بقبول تشيكوسلوفاكيا مشروع لندن الذي هو عبارة عن تحقيق مطالب الهر هتلر. واعتقدت أن طيران مستر تشمبرلين إلى ألمانيا للمرة الثانية في 22 سبتمبر (أيلول) مكلل بالنجاح. فهل تحقق ظن هذه الدوائر؟ هذا ما سنعرفه في المقال المقبل
يوسف هيكل(284/33)
في اللغة
المؤنث والمذكر في اللغات السامية
للأستاذ عمر الدسوقي
(نقدم إلى قراء الرسالة كاتبا جديداً من نوابغ الشبان الذين جمعوا بين الثقافتين الشرقية والغربية وهو الأستاذ (عمر الدسوقي). فقد تخرج في دار العلوم سنة 1932 ثم أرسل إلى إنجلترا للتخصص في اللغات السامية، فدرس منها الحبشية والحميرية والآرامية والعبرية، ودرس إلى جانب ذلك اللغات الفرنسية في إنجلترا وجرنوبل بفرنسا، والألمانية بإنجلترا وجامعة (بن)، ودرس أيضاً الفلسفة في جامعة لندن، وحاز على بكالوريوس الشرف في اللغات السامية من معهد اللغات الشرقية بلندن. وقد وعد الأستاذ أن يخص الرسالة ببحوثه القيمة في المواد التي تخصص فيها)
ما الفكرة التي حدث بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر؟
وهل كان هذا التقسيم معتمداً على فكرة تشبعت بها أذهانهم وتصوراتهم أم كان ذلك عفواً ومن غير قصد؟ لماذا كان الذهب مذكراً والفضة مؤنثة، والكرسي مذكراً والمائدة مؤنثة، والبيت مذكراً والدار مؤنثة، والقمر مذكراً والشمس مؤنثة؟
تسأل علماء اللغة وكتب اللغة فلا تجد جواباً شافياً، اللهم إلا هذا التقسيم القديم، وهو انقسام الاسم إلى مذكر ومؤنث، والمؤنث إلى حقيقي وغير حقيقي ومعنوي ومجازي ولفظي؛ ولكن لماذا لحقت تاء التأنيث وأخواتها المؤنث غير الحقيقي؟ أو لماذا اعتبروا بعض الأسماء مؤنثاً ولو لم تكن بها إحدى علامات التأنيث؟ هذا ما سيدور عليه البحث الآتي: -
نجد في اللغات الأوربية الهندية مذكراً ومؤنثاً، وألفاظاً لا هي بالمذكرة ولا هي بالمؤنثة، وهي ما تسمى بالإنجليزية وأن بعض اللغات الأوربية قد اقتصر على المذكر والمؤنث كالألمانية والفرنسية ونجد بعض كلمات في الإنجليزية مؤنثة أو بعبارة اصح تعتبر مؤنثة، مع أنها بعيدة عن فكرة التأنيث حيث (الجنس) أي فمثلاً كلمة سفينة مؤنثة، وكلمة أي قمر مؤنثة، وكلمة أي آلة مؤنثة، ولكنها كلمات قليلة لعلها أثر من آثار الماضي. أما اللغات السامية فقد اتحدت على تقسيم الاسم إلى مذكر ومؤنث، واتحدت في الأسماء التي تؤنث، وهذا ما جعل المستشرقين - ما عداً نولدكه وفنسنج - يقولون إن الساميين قد قاموا(284/34)
بهذا التقسيم حينما كانت لغتهم لا تزال لغة واحدة - وإن نظريتهم إلى الأشياء كانت نظرة عميقة جعلتهم يتخيلون فيها المذكر والمؤنث.
اعتبر العرب بعض الأسماء مؤنثة وإن لم تكن بها علامة تأنيث، ولا تدل على مؤنث من حيث الجنس كالدار والنار، والذراع والإصبع، والسوق واليمين، والأرض والأذن والعين والسن والشمس والحرب، وهذا ما يسمى مؤنثاً مجازياً؛ وتجد من هذا النوع خمسة عشر اسماً في جسم الإنسان، وأحد عشر اسماً من أسماء الآلات، وأحد عشر اسما لأجزاء السماء والأرض، واسمين للأمكنة، وخمسة للحيوانات. ويلاحظ أن هذا المؤنث المجازي يخرج تدريجيا في بعض اللغات السامية من المؤنث إلى المذكر؛ فمثلاً كلمة (رحى) وكلمة (كأس) نجد كلاً منهما في العربية والسريانية مؤنثة وفي الآرامية مذكرة، ومؤنثة تارة ومذكرة أخرى في اللغة العبرية. وخذ مثلاً كلمة (شمس) تجدها مؤنثة دائماً في اللغة العربية، ومذكرة دائماً في الآشورية، ومؤنثة تارة ومذكرة أخرى في الآرامية والعبرية.
أما في الحبشية فقد تطورت هذه الكلمات تطوراً آخر، فحينما نسي الناس الفكرة الأصلية للمؤنث والمذكر حدث خلط حتى في الكلمات المنتهية بإحدى علامات التأنيث
ويظهر أن هذا الانتقال من المؤنث للمذكر لم يتبع في كل حال انتقال الكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد كما حدث في كلمة (دار) حين أصبحت في العبرية (دور) بمعنى الجيل، وانتقلت بذلك من المؤنث إلى المذكر، بل ربما كان هذا الانتقال لضعف فكرة التأنيث كما في (رحى، وكأس).
وقد أسترعي نظر بعض العلماء وجود علامات التأنيث لا في الاسم الدال على مؤنث حقيقي فحسب، ولا في الاسم التي اعتبرها الساميون مؤنثة لفظاً، بل في بعض المصادر وبعض الجموع، وكثير من الكلمات التي تدل على الكثرة والقوة. فنجد الألف المقصورة علامة من علامات التأنيث. كما في سلمى وحبلى، وليلى؛ ونجدها في جمع فعيل، كصريع وصرعى وجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وميت وموتى. . . الخ. ومعنى هذا أنه لا فرق في العلامة بين صيغة المؤنث وصيغة الجمع.
ونجد الألف الممدودة علامة من علامات التأنيث كما في شقراء وزرقاء وصحراء، وورقاء، ونجدها في جمع فعيل بمعنى فاعل إذا كان وصفاً لعاقل معتل اللام أو مضعفاً مثل(284/35)
أغنياء وأشداء وأقوياء؛ ونجدها كذلك في جمع فعيل بمعنى فاعل وصفاً لعاقل غير معتل اللام ولا مضعفاً مثل كرماء وجبناء، وبخلاء وسعداء وعظماء؛ وهذان الجمعان من جموع الكثرة.
ونجد أيضاً التاء علامة من علامات التأنيث كما في فاطمة وسكينة؛ ونجدها كذلك في بعض أوصاف الذكور للمبالغة كعلاقة وفهامة وبحاثة، ورواية ونابغة، وداهية وقعدة، وجثمنه، وضجعة ونؤمة، وفي العبرية (قُوِحِلة) وهو الذي يؤم الناس في الصلاة. ونجد أيضاً هذه التاء تلحق الجموع لفاعل وفَعلة، وخائن وخونة، وعامل وعملة، وكاتب وكتبة، وكامل وكملة، وطعام وأطعمة، وغلام وغلمة، وصبي وصبية، وجهبذ وجهابذة؛ وفي العبرية (أو رحاه) جماعة المسافرين.
وتأتي هذه التاء في المصدر كتجارة وزارعة وصباغة، وحمرة وزرقة ودكنة وعذوبة ونباهة، ومجادلة ومسابقة ومخاصمة، ودحرجة ووسوسة وبعثرة وزمجرة، وتلبية وسيطرة
والتاء في السريانية كعلامة للمبالغة والكثرة والمصدر والمؤنث ليست نادرة ولكنها تأتي مع (آن) وذلك موجودة بالعربية أيضاً؛ فعندنا في المصدر غليان وفيضان وخفقان، وفي الوصف عطشان وظمآن، وفي الجموع إخوان وفرسان وشجعان وفتيان وغلمان وولدان وسودان وحمران، وهي الصيغة المألوفة في الحبشية لجمع العقلاء ونعوتهم؛ ونجدها في العبرية بأسماء التفضيل دلالة على بلوغ النهاية (ريشون) الأول، و (آمرون) الآخر و (حيصون) الخارج، و (حيخون) الداخل و (عليون) الأعلى. . . الخ
وتأتي في الآرامية علامة لجمع المؤنث. ويقول الأستاذ مولر إنها كانت أول الأمر (آت) كما في مسلمات وفاضلات، وأصبحت (آن) قياساً على جمع المذكر في الآرامية وعلامته الياء والنون
وليست هذه العلامات قاصرة على المؤنث والجمع والمصدر، ولكنها تلحق الكلمات الدالة على أمور معنوية: مثل رحمة، ورأفة، وشفقة، وقسوة، وغلظة، وكرة، وحياة، وشقاوة، وسعادة وبلواء وبأساء وبغضاء، والعلامة هنا تدل على (شدة) ومتانة في المعنى كما يقول العلامة فنسنج ويقول أيضاً إنها تلحق المصغر لتفخيمه وتعظيمه مثل حديا وعجيلي وحميا
يدلنا كل هذا على ما يأتي: -(284/36)
أولاً: ليس للمؤنث علامة خاصة به من حيث كونه مؤنثاً باعتبار الجنس.
ثانياً: وجود صلة وثيقة بين المؤنث والجمع والمصدر والأسماء، الدالة على الكثرة والقوة والأمور المعنوية
ثالثاً: هذه الصلة هي دلالة الجمع على بلوغ النهاية وتركز الفكرة ومتانتها
رابعاً: وعلى هذا فالفكرة التي حدت بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء تأنيثاً حقيقياً أو غير حقيقي هي دلالة هذه الأسماء على بلوغ النهاية في بابها أو لعظمتها وما عليك إلا أن تقرأ صفحة من أحد معاجم اللغة في باب الهاء لترى ذلك واضحاً جلياً: فالقهقهة شدة الضحك، والكمه العمى يولد به الإنسان، والكنه جوهر الشيء وغايته، والكهة الناقة الضخمة المسنة العجوز. . . الخ
وسأبين في المقال الآتي إن شاء الله لماذا نظر الساميون هذه النظرة المملوءة إكباراً وتعظيماً للمؤنث.
عمر الدسوقي
بكالاريوس الشرف في الآداب من جامعة لندن
ومدرس بحلوان الثانوية(284/37)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 44 -
الخاتمة
مات الرافعي فانطوت صفحة من تاريخ الأدب في مصر وانقرض جيل من أدباء العربية كان له مذهب ومنهاج؛ ولكن الرافعي الذي مات وغيَّبتْه الصفائح قد خلَّف وراءه تراثاً من الذكريات والآثار الفنية ستتعاقب أجيال قبل أن يفرغ الأدباء من دراستها والحديث عنها؛ وإنها لذكريات تثير في كل نفس ما تثير من عوامل الكره أو المحبة، وإنها لآثار. . .
أما هذه الذكريات، على ما تبعث في نفوس طائفة من الأدباء من معاني الغضب أو معاني الرضا، فقد أثبتّ منها في هذه الفصول ما قدرت عليه؛ وليس يعنيني ما تترك من أثر في نفس قارئها، إذ كانت غايتي التي أحرص عليها هي جلاء هذا التاريخ لقراء العربية كما أجد صورته في نفسي وأثره في وجداني، متجرداً ما استطعت من غلبة الهوى وسلطان العاطفة وتحكم الرأي؛ لأضع بين يدي كل قارئ - اليوم أو غداً - المادة التي تعينه على الدرس والحكم والموازنة
وأما آثاره الأدبية فقد فصَّلت الحديث عن بعضها في بعض ما سبق من هذه الفصول، وإلى القارئ جملتها مرتبةً على التاريخ الزمني:
1 - ديوان الرافعي: ثلاثة أجزاء، صدرت بين سنتي 1903 و 1906، وقدم لكل جزء منها بمقدمة في معاني الشعر تدل على مذهبه ونهجه، وهي مذيلة بشرح يُنسب إلى أخيه المرحوم محمد كامل الرافعي وهو من إنشاء المترجم نفسه
2 - ديوان النظرات: جزءان، صدر بين سنتي 1906 و 1908
3 - ملكة الإنشاء: كتاب مدرسي يحتوي على نماذج أدبية من إنشائه، أعدّ أكثر موضوعاته وتهيأ لإصداره في سنة 1907، ونشر منه بعض نماذج في ديوان النظرات، ثم(284/38)
صرفَته شئون ما عن تنفيذ فكرته فأغفله، وقد ضاعت (أصوله) فلم يبق منه إلا النماذج المطبوعة في ديوان النظرات
4 - تاريخ آداب العرب: صدر في سنة 1911 بسبب من إنشاء الجامعة المصرية، ويراه أكثر الأدباء كتابَ الرافعي الذي لا يعرفونه إلا به
5 - إعجاز القرآن: وهو الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، طُبع ثلاث مرات، أخراها في سنة 1926 على نفقة المغفور له الملك فؤاد
6 - حديث القمر: أول ما أصدر الرافعي في أدب الإنشاء، وهو أسلوب رمزي في الحب تغلب عليه الصنعة، أنشأه بعد رحلته إلى لبنان في سنة 1912، حيث التقى لأول مرة بالآنسة الأديبة (م. ي) فكان بينهما ما كان مما أجملت الحديث عنه في بعض الفصول من قصة حبه
7 - المساكين: فصول في بعض المعاني الإنسانية ألهمه إياه بعض ما كان في مصر من أثر الحرب العامة أنشأه في سنة 1917
8 - نشيد سعد باشا زغلول: كتّيب صغير عن نشيده: (اسلمي يا مصر!) الذي أهداه إلى المرحوم سعد زغلول في سنة 1923، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة؛ وأكثر ما في الكتاب من المقالات هو من إنشاء الرافعي أو إملائه
9 - النشيد الوطني المصري: (إلى العلا. . .) ضبط ألحانه الموسيقية، الموسيقار المشهور منصور عوض
10 - رسائل الأحزان: كتاب أنشأه في سنة 1924 يتحدث فيه عن شيء مما كان بينه وبين فلانة، على شكل رسائل يزعم أنها من صديق ببثَّه ذات صدره
11 - السحاب الأحمر: هو الجزء الثاني من قصة حب فلانة، أو الطور الثاني من أطواره بعد القطيعة، صدر بعد رسائل الأحزان بأشهر
12 - المعركة تحت راية القرآن: هو كتاب (الجديد والقيم) وفيه قصة ما كان بينه وبين الدكتور طه حسين بمناسبة كتابه (في الشعر الجاهلي)، صدر في سنة 1926
13 - على السفود: قصة الرافعي والعقاد، نشرته مجلة العصور في عهد منشئها الأول الأستاذ إسماعيل مظهر، ولم تذكر اسم مؤلفه ورمزت إليه بكلمة (إمام من أئمة الأدب(284/39)
العربي)
14 - أوراق الورد: الجزء الأخير من قصة حبه، يقوم على رسائل في فلسفة الجمال والحب أنشأها ليصور حالا من حاله فيما كان بينه وبين فلانة، ومما كان بينه وبين صديقته الأولى صاحبة حديث القمر
وتعتبر كتبه الأربعة: حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد - وحدة يتمم بعضها بعضاً، لأنها جميعاً تنبع من معين واحد وترمي إلى هدف واحد وإن اختلفت أساليبها ومذاهبها
15 - ؟؟؟: كتاب لا أسميه، أنشأه في صيف سنة 1935، استجابة لرأي صديقه فلان وإليه ينسب!
16 - وحي القلم: مجموع مقالاته في الرسالة بين سنتي 1934 و1936 إلى مقالات أخرى، طُبع منه جزءان
وله عدا ذلك كتب لم تطبع أهمها ما يأتي:
1 - الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب: تام التأليف والتصنيف تقريباً
2 - أسرار الإعجاز: فيه فصول تامة التأليف، وفصول أخرى أجمل فكرتها في كلمات على ورق أو أشار إلى مصادرها، وكان الرافعي يعتدّ بهذا الكتاب اعتداداً كبيراً، وهو جدير بذلك حقاً؛ وقد أطلعني - رحمه الله - على فصول منه، كما تحدث إليّ من نهجه في تأليفه، وأذكر أن نهجه فيه كما يأتي:
أ - يتحدث في صدر الكتاب عن البلاغة العربية، فيردها إلى أصول غير الأصول التي اصطلح عليها علماؤها منذ كانت، ويضع لها قواعد جديدة وأصولاً أخرى
ب - ويتحدث في الفصل الثاني عن بلاغة القرآن وأسرار إعجازه، مسترشداً في ذلك بما قدم في الفصل السابق من قواعد
ج - ويتناول في الفصل الأخير من الكتاب، آيات من القرآن على أسلوب من التفسير يبين سر إعجازها في اللفظ والمعنى والفكرة العامة؛ ويعتبر هذا الفصل الأخير هو صلب الكتاب وأساسه؛ وقد أتم الكتابة - إلى آخر يوم كنت معه - عن بضع وثمانين آية على هذا النسق؛ وقد نشر منها في الرسالة بضع آيات مفسرة على ذلك النهج، جعلها في بعض(284/40)
أقاصيصه
3 - ديوان أغاني الشعب: وهو ديوان من الشعر جعل فيه لكل جماعة أو طائفة من طوائف الشعب نشيداً أو أغنية عربية تنطق بخواطرها وتعبر عن أمانيها؛ وقد أنجز الرافعي طائفة كبيرة من هذه الأغاني نشر بعضها وما يزال سائرها بين أوراقه الخاصة ومؤلفاته التي لم تنشر. وأكثر الأغاني في هذا الديوان مأنوس اللفظ رشيق المعنى مما يجعل وقعه في النفس ويخف جرسه على الأذن.
4 - الجزء الثالث من وحي القلم؛ وفيه سائر المقالات التي كتبها، سواء منها ما نشر في الرسالة وغيرها من المجلات والصحف، وما لم ينشر من قبل
5 - الجزء الأخير من الديوان: وهو مجموعة كبيرة من شعره بين سنتي 1908 و 1937، بما فيه من شعر الحب، والمدائح الملكية التي أنشأها للمغفور له الملك فؤاد
هذا إلى شتيت من المقالات والرسائل الأدبية أنشأها لمناسباتها ومنها كثيرة من مقدمات الكتب المطبوعة، بعضها منسوب إليه وبعضها منحول مجهول النسب!
وعلى كثرة ما ألف الرافعي وأنشأ من الكتب والرسائل والمقالات والشعر، فانك لا تكاد تجد كتاباً من كتب الرافعي في دكان من دكادين الوراقين، اللهم إلا نسخاً من كتاب وحي القلم في مكتبة لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي طبعته قبل نعي مؤلفه بأشهر
أما المطبوع من سائر الكتب فقد نفذ من السوق، وأما غير المطبوع منها فما يزال ورقات وقصاصات على مكتبه، وإني لأخشى أن يمضى وقت طويل قبل أن نتنبه إلى ضرورة العناية بهذه المؤلفات التي خلفها الرافعي ورقات مخطوطة يكاد يبليها الإهمال والنسيان أو يسبق إليها العث والقوارض
ولدى الدكتور محمد الرافعي مشروع لأحياء تراث أبيه، لست أدري أيجد الوسائل لتنفيذه أم تحول دونه الحوائل وتمنع منه الضرورات!
على أني أكاد أومن بأن هذه ليست هي الوسيلة للمحافظة على تراث الرافعي؛ فليس من الوفاء للرافعي وحسن الرعية لأولاده أن نحمل عليهم هذا العبء وما انتفعوا من أبيهم بأكثر مما انتفع كل أديب وكل مسلم وكل عربي في مصر وغيرها من بلاد العربية
هل عرفت الحكومة المصرية أو عرف الأدباء في مصر ما عليهم لأسرة الرافعي من حق(284/41)
قبل أن نحمل عليها هذا العبء إلى ما تنوء به من أعباء؟ إنه عقوق وكفر وإنكار للجميل!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(284/42)
من رحلة الشتاء
في مضارب شمر
أكبر بيت من الشعر في الجزيرة (موزوبتيميا)
للآنسة زينب الحكيم
زرت جملة من بيوت البدو عاليها ومتوسطها وفقيرها. فوجدتها كلها تتحد في نوعية النسيج التي صنعت منه، وفي النظم التي اتبعت في إقامتها منذ القدم
أما الفروق التي بينها، فمن حيث الحجم وازدياد الأثاث، وإن محتويات تلك الديار بسيطة ساذجة بوجه عام، ولا تشمل إلا أهم الأدوات الضرورية للحياة المتقشفة. على أن من أكبرها وأعمرها وأكثرها تحضراً، دار ملك البادية شيخ مشايخ شمر
زرت هذه الدار، فإذا بها دار طويلة عريضة، متينة الأوتاد قوية الحبال، مهفهفة الجوانب. كلها من نسيج صوف الأغنام والجمال، على شكل دهليز طويل مقسم إلى حجر، وهذا التقسيم إما بالنسيج أو بالحصير (السمار)، وأرضها مفروشة بالأكلمة أو بالسجاد العجمي الجميل أو بالحصير؛ ويتبع هذه الدار على مسافة قريبة جدا منها دور أخرى، منها ما يختص بالمطبخ أو بالمخازن الخ
وصف الحجرة التي استقبلتني السيدات فيها
خباء من الشعر في أحد أطراف الدار عن يمين الداخل إليها طالما تخيلناه وتمنينا رؤيته، وضع في الجهة اليسرى منه نوع من السرير العريض، عليه فراش وثير مغطى بغطاء من الحرير الخالص الملون. وإلى جانبه (شلت) زرابي مبثوثة على الأرض المغطاة بالسجاد العجمي، وتحت السرير حقائب وصناديق، تبنت فيما بعد أن بها ملابس وحليا، وحلوى تقدم للزائرات
كانت السيدة الأولى التي استقبلتني ابنة الشيخ عجيل الياور، وهي فتاة رائعة الحسن: لون خمري جميل، وخد أسيل، ولحظ كحيل، ووجه مستدير عليه وشم قليل. إذا تكلمت فكأنما صوتها موسيقى الجنة العذبة قد انبعثت إلى عالمنا، دلال في وقار كالنسيم إذا سرى، وكالزهر إذا تمايل(284/43)
اسمها ملك وهي ملك حقا، تفيض رقة إذا حودثت، وتذوب عاطفة إذا استلهمت، حياء في غير تعمل، وشمم في غير تكبر. عرفتني بعدد من زوجات أبيها وأخيها، كلهن كحيلات الطرف أو متكحلات، يغطى الوشم الأخضر أجزاء من وجوهم وأجسامهن، فمنهن من غطى كل ذقنها برسومه، أو زججت حاجبيها به، ومنهن من وشمت شفتها بحيث لا تظهر حمرتهما، وإنما اندمج لون الوشم مع لون الشفاه فصار اللون أخضر داكنا. وبعضهن طرزن قبب أعينهن برسوم غريبة، هذا والحناء تخضب أناملهن وأكفهن وكعوبهن
أما (ملك) فكانت في زينتها وأناقتها تفوقهن جميعاً رقة ودقة وملاحة
سألتها كيف تمضى أوقاتها، فقالت إنها لا تعمل شيئاً (هذا لأنها ابنة ملك البادية بالضرورة) قلت: ولكن ألا تضجرين؟ قالت: بلى، ولكن هنا ماكينة خياطة أخيط عليها أحياناً. قلت: وهل تقرئين وتكتبين؟ قالت في غضاضة وألم: لا، إنهم لم يعلموني. قلت: وهل لك شقيقات؟ قالت: لا، أنا وحيدة. قلت: إذن تفضلي معي إلى مصر وأكون أختا لك والدار دارك أنت. توهجت وجنتاها بالدم العربي النقي ولمعت عيناها، وانحبست أنفاسها، ثم قالت في حرارة: لا يسمحون (تعني أباها وأخاها) قلت: قد يسمحان، قالت: قولي لهما
وفعلاً سألت أخاها (لأن والدها كان قد سافر إلى بغداد) إذا كان مما يتمشى وتقاليدهم أن تسافر البنت إلى بغداد أو إلى مصر مثلاً، فقال: هذا ضد نظام العشائر. فسألته لماذا لا تتزوج (ملك) فقال: هي لا تريد، ومن جهة أخرى حتى يتيسر من يناسب مقامها (فهمت من سياق الحديث أن الزواج هناك يجري على أساس سياسي بحيث تصير بعده مصاهرات صداقة واكتساب قوة للعشيرة)
الملابس
أعجبت بثياب تلك البدوية، فعزمت على أن أرتدي زياً كاملا منها حتى أصوَّر به. وأسرعت فأخرجت من صندوق تحت السرير، ثوبين من الحرير أحدهما أحمر والآخر أخضر، باردان طويلة واسعة. فارتديت هذين الواحد فوق الآخر
ثم ارتديت معطفاً من الجوخ الثمين يقارب طول الثوبين، وردنه طويل واسع مفتوح إلى نصف الذراع، ثم ارتديت معطفاً ثانياً من الجوخ أيضاً أقصر من الأول وعلى نظامه فيما عدا ذلك، وهما مزركشان بتطريز جميل. ووضعت على رأسي نوعين من الغطاء، أحدهما(284/44)
رفيع والآخر سميك، وحليت معصمي بجملة من الأساور الذهبية، ووضعت على رأسي حليات ذهبية، وعلق في شعري قرب أذني مثلثين من الذهب الخالص المطعم بالأحجار الكريمة، لا يقل الواحد منهما عن نصف رطل
وطوقت جيدي بطوق من الذهب في إحدى أطرافه حلية ذهبية دقيقة الصنع جميلة المنظر جداً. وفوق هذا كله ارتديت العباءة الصوفية الشفافة، ثم العباءة الصوفية الثقيلة التي تستعمل في الشتاء
شعرت أني مشلولة الحركة، ثقيلة الخطى، لا أستطيع التنفس، عكس ما تتمتع به صديقتي (ملك) البدوية التي تمتاز بخفة الحركة ورقتها. والإنسان ابن العادة
الطعام الذي تناولته في مضارب شمر
من أهم ما كنت أرقب مشاهدته، تناول الطعام على الطريقة البدوية في البادية، ولما كان وصولي إلى مضارب الشيخ عجيل الياور بعد الظهر، فانهم بالضرورة لم يعزموا عليّ بتقديم الغداء، ولا ينبغي أن نتصور أن أهل البادية يستطيعون إعداد طعام بالسرعة التي يؤدي بها هذا العمل في الحضر
ويصعب جداً على نفس البدوي أن يظهر بغير المظهر اللائق به، لا سيما أمام الزوار الأجانب، أو أبناء العشائر الأخرى
وقد قدّم لنا الشيخ الشاي الحار اللذيذ مع اللبن على طريقتنا نحن، فكان أول فنجان من الشاي استسغت طعمه من مدة طويلة، وقدم معه أنواعاً من البسكوت الجاف الأفرنجي
العشاء
وفي المساء حوالي الثامنة، دعينا إلى تناول العشاء في خيمة بيضاء كبيرة أقيمت في وسطها مائدة أنيقة الترتيب إفرنجية. وكان الندل من العرب النجدين السود البشرة، يقدم ألوان الطعام على أحدث نظام، قلت: يا حضرة الشيخ، ما لهذه النظم والقيود أتينا. قال: في الصباح تأكلون على الطريقة البدوية. قلت: ولكننا نسافر في الصباح الباكر، قال: لا، بل تبقون ثلاثة أيام على الأقل، قلت: شكراً، ولكن وقتنا محدود، فقال: إذا يكون الرحيل بعد الظهر(284/45)
وجاء الصباح، وجلسنا حول مائدة الإفطار، وكانت أيضاً على أحدث نظام أوربي أنيق؛ فقلت: حقاً لقد خسرنا القضية في هذه الرحلة يا حضرة الشيخ، قال: لا، الغداء سيكون بدوياً فلا تخافي، وحقاً لقد كان
الغداء البدوي
انتشرنا بعد تناول طعام الفطور في البادية نستجلي مباهجها، ونستكشف أزهارها، ونجمع أنواعها الغريبة، ونبحث عن الكمأة (الكمه) - وهي نوع من الفطر يوجد تحت الأرض، يشبه البطاطس، ولا ورق له ولا فروع - يستعملها البدو كنوع من الخضار يطهى مثل البطاطس. وتجفف منه كميات كبيرة لفصل الصيف المجدب
عند الساعة الثانية عشرة ظهراً دعينا لركوب السيارات، وإذا بها تسير بنا من حيث خيام الشيخ إلى قلب البادية، فقطعنا نحو عشرة أميال على بساط سندسي جميل على أرض مستوية ثابتة، حتى وصلنا مجرى ماء بجري في مساحة طويلة وسط البادية (كونته سيول الأمطار الغزيرة) وهناك وجدنا عبيد الشيخ، قد فرشوا سجادة عجمية نفيسة حمراء اللون، قرب مجرى الماء. ووضعت صينية كبيرة فضية وعليها حَمَل محمر، ومعه أرز الزعفران المزخرف بالكشمش (أي الزبيب)
قال الشيخ: هكذا يكون أكل البدو، وضرب بيمناه في الأرز المحشى به الحمل، وأخذ منه كمية طيبة إلى فمه، ثم بدأ يوزع علينا من اللحم الشهي. فكانت أكله بدوية بحته، بين مظاهر الطبيعة الخلايا، والنفوس العربية الكريمة والأيدي السخية
تفضل الشيخ فسمح لي باستخدام صحن خاص أضع فيه الكمية التي أستطيع أكلها، وما كدت انتهى منها حتى أمر الندل أن يضع لي كمية أخرى، وما أرى وقد حمل المغرفة وملأها بالأرز وفتات اللحم، وينوي وضعها في صحن، فقلت له: لا أريد مزيداً، أشكرك، فظل ممسكا المغرفة بيده الممدودة نحوي وقال: ولكنه أمرني (يعنى أن سيده قال له ضع طعاماً للسيدة) ومن سلوكه وتوخيه تنفيذ أمر شيخه المطاع، شعرت ضمناً أنه يقول (من لم يمت بالسيف مات بغيره)، وكبشة الندل كانت (غيره) على التحقيق ما أشد إصرار البدوي، وما أقوى عزمه فقلت: حسن أطع أمر الشيخ بارك الله فيك. فوضع ما بالمغرفة في صحن وصار جذلاً(284/46)
بعد أن تناولنا الفاكهة، وغسلنا أيدينا بالماء الدافئ والصابون، انطلقنا للصيد. وكانت محاولات الرماة كلها غير صائبة، ما عدا الشيخ صفوك الياور، فقد رأى ثلاثة من طير الحباري الكبيرة، فقال: لأرمينها ونحن في السيارة، أسرع يا سائق ولا تتوقف أبداً أو تبطئ. وهاهو ذا يصيب طائرين من الثلاثة، حملنا واحداً منها معنا هدية لأصدقائنا في أربل، فإن هذا الطير لذيذ الطعم بعد الطهي
وبذلك انتهت زيارتنا للبادية مع شديد الأسف
(للحديث بقية)
زينب الحكيم(284/47)
طاقة أفكار
للأديب محمد فهمي
إن أبطال التاريخ هم أفرادٌ متحمسون للمُثُل العليا إلى درجة الجنون. ومجنونٌ واحد من هذا النوع في مصر يغير مجرى تاريخها. . .
الثقة الهائلة بالنفس والإيمان بها إلى غير حدهما مفتاح العظمة.
ثلاثة لا يصح أن يطلبها في الحياة عاقل: الراحة السعادة. الوفاء.
لقد عاد الغرب إلى الوثنية، ومعبودة تمثال من الذهب على صورة المرأة.
يُخَيَّل إلي أن كل ما يقوله الفلاسفة والحكماء عن الحقيقة كذب صراح ليس بينه وبين الحقيقة أية صلة، والدليل على ذلك أنهم منذ آلاف السنين للآن لم يتفقوا على رأي في تعريفها، وحتى آراء الشخص الواحد وحكمته تتغير وتتبدل حسب حالاته النفسية وانفعاله بالبيئة ثم هي لا تثبت كلما تمادت به السن. أما الحقيقة (إذ كانت حقا هناك) فما زالت بِكراً محجبة ما دَخل خدرها مغرم!
لو فهم الفنان الحياة لما صار فنانا.
ينظر الفنان إلى الناس وكأنهم أشباح تعيش في عالم الوهم والخيال وينظر الناس إلى الفنان كأنه طيف بشر يعيش في عالم أوهامه وخيالاته. . .
لولا نصفنا الأسفل لصرنا ملائكة.
ابحثوا عن النفوس الشريفة بين المغمورين.
يصعد البارزون في الحياة والمجتمع عندنا على جثث صرعى المثل العليا.
إذا عشقت الحياة وضحيت في سبيلها بكل شيء غمرتك بالرضا وهناء العاشقين. وأما إذا ازدريتها ومضيت صاعداً نحو (المثل الأعلى) عدوها اللدود جردت خنجرها وطعنتك من الخلف. فإذا أصابتك قتلتك وإذا أخطأتك صرت معبود الملايين. فإذا بها تسعى إليك ذليلة خاضعة تتمرغ عند قدمي معبودها الجبار ولكن حذار أن تصغي لتوسلاتها، إنها تضمر لك الانتقام الهائل المروع. فإذا انخدعت هوت بك من حالق فإذا أنت سخرية الملايين!
الطمع رأس الفضائل كلها، والنفوس الشريفة تحققه بالوسائل الشريفة فيكون طموحاً والنفوس الدنيئة تسعى إليه بدنيء الوسائل.(284/48)
الطمع هو الذي يقود الإنسانية إلى الأمام. فالطموح إلى السيطرة والطمع في امتلاك الشرق والغرب هو الذي قاد الاسكندر من مقدونيا إلى الهند - فامتزجت ثقافات وولدت ثقافات. وهو الذي قاد قيصر إلى أوربا حتى بريطانيا (إنجلترا) فنشر لواء الحضارة الرومانية بين البرابرة. وهو الذي قاد ويقود الأوربيين في مشارق الأرض ومغاربها ومسيرَّ ويسير الحضارة والإنسانية إلى الأمام
القناعة داء الشرق العضال فمن لي بطبيب يداوي هذا العليل؟!
لأن تكون كل فضائل القناعة والزهد في الحياة فأنت أبعد الناس عن الفضيلة؛ فان المشهورين بالقناعة والزهد من السلف الصالح وأبطال الإسلام كانوا على قناعتهم أكبر الطامعين في ثواب الله ورضائه، ومن أجل هذا قاموا بأعمال جليلة من الفتوحات والغزوات. وهم في هذا يتفقون ورجال الغرب الذين قادهم طمعهم في السيطرة والجاه إلى التحكم في أمم الشرق ولا فرق غير أن طمع الأولين كان في نعيم آجل، وطمع الأوربيين في نعيم عاجل
ما يتعلمه الشيخ من الشاب هو تجاهل الأمر الواقع في طلب المثل الأعلى وازدرائه المستحيل
أقارن بين الشباب والشيوخ فأرى كفة الأولين أرجح، فالشباب يفتقرون إلى الحنكة وخبرة الحياة وهذا ما سَيُكْتَسب بطول العمر. أما الشيوخ فينقصهم الحماس والثقة التي لا حد لها وهذا ما فقدوه إلى الأبد
الحياة كالمرأة، لكي تنال رضاها يجب أن تفعل من أجلها كل شيء
الكبر في الرجل زراية وفي المرأة وقاية
إذا رأى الثور مظاهرة من الجماهير تهتف بطلب الحرية والاستقلال - ظن أنهم جائعون يطلبون العلف والشعير وهكذا لا يعرف الجاهل من الحياة إلا أنها أكل وشرب:
آه. ما اسهل أن ينصح الإنسان غيره ولكن ما اصعب أن يعمل هو بهذه النصائح:
الوفاء. والشرف. الأمانة. فضائل يكثر التحدث بشأنها والتحسر عليها والنعي على المجتمع لإغفاله أمرها، وما ذلك إلا لأن هؤلاء الذين يتحسرون عليها لا يذكرونها إلا إذا كانوا هم في حاجة لأن يعاملهم بها الآخرون، أما عندما تطالبهم هذه الفضائل بالعمل بها فانهم(284/49)
يشيحون عنها بوجوههم ثم ينسون أن غيرهم لا يفعلون إلا مثل ما فعلوا
الحب شيطان جميل
قل لمن يطلبون الراحة في الحياة. مهلاً فإنها تنتظركم ولسوف تملونها. . . هناك في القبر
(القاهرة)
محمد فهمي(284/50)
رد على باحث فاضل
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
تتبعت في شيء غير قليل من الإمعان والتدبر ما كتبه (باحث فاضل) على صفحات (الرسالة) أخيراً تحت عنوان (بين الشرق والغرب) تعليقاً على ما جاء في المقالين الأول والثاني من مقالاتي في الردّ على ما أثاره صديقنا الأديب النابغة (فليكس فارس) من اعتراضات استمدها مما قاله في مناظرة جرت له معنا منذ عام أو أكثر، وذلك في صلب مقال نشرته له (الرسالة) وجهها لفنان مصر (توفيق الحكيم) بمناسبة ما كتبه عن الشرق والغرب في قصته (عصفور من الشرق).
وقد راعني من كتابة باحثنا الفاضل تخبطه في أمور لا أعتقد أن لها سبباً غير ضعف كفاية التأمل والقياس العلمي عند الجيل الحاضر من كتابه العربية، فقد انساق باحثنا إلى مواقف ما كان ليقفها لو كان التأمل والقياس عنده اكتملت أسسهما من المنطق العلمي. والمسألة بعد لم تخرج بيني وبين باحثنا المفضال عما كان بيني وبين الصديق (فليكس فارس)، خصوصاً وأن الكثير من أجزاء مقال الباحث مقتعلة من المادة التي جابهنا بها مناظرنا (فليكس فارس)، والتي كانت مقالاتنا في (الرسالة) بياناً مفصلاً لزيفها، وأنها لا تثبت لكي تقف على قدميها لترجح رأياً. لأنها تحمل في طياتها أدلة ضعفها. وبعد فباحثنا الفاضل حاول أن يكون في كتابته منطقياً على قدر الإمكان، فجاء في الشطر الأول من تعليقه بكلام يرد فيها كلامنا إلى أصولها الأولى وخطوطها الأساسية، ويفصل فيها برأي عنده، هو الحد الفاصل على ما يرى بين اعتقاد له في الشرق واعتقاد لنا في الغرب.
والمسألة لم تخرج عن كونها قضية إن احتلت الجدل من ناحية المنطق الشكلي من حيث هو إدارة الكلام في صور من الأقيسة لإثبات وجهة من النظر معينة، إلا أنها من ناحية الواقع لا تحتمل الجدل؛ ذلك أنها أولية من الأوليات التي تنزل من مواضعات فكرنا الحديث من حيث لقح بالمنطق العلمي. ونحن في ردنا على ما أثاره باحثنا الفاضل من اعتراضات ظنها تقوِّمُ وجهة نظر في تفاضل الشرق على الغرب، فإننا نرجو أن نفصل الكلام بعد في موضوع الغرب والشرق موجهين البحث إلى وجهه الصحيح بعد أن تشعب(284/51)
وطال باعتراضات استلزمت ردوداً منا وكلاماً.
وأول شيء ننظر فيه مع باحثنا المفضال في أساس المفاضلة وهل تقوم على أس من شطر العالم إلى شرق وغرب كما هو في تقويم البلدان. أما باحثنا فهو يرى هذا، فلكل من الشرق والغرب عنده عادات وطبائع تباين الأخر، ولقد اتسع مدى هذا التباين حتى ألبس العقلية في كل منها مظهراً خاصاً تميزت به عن الآخر.) ونحن من جهتنا نتفق إلى حد ما مع مفهوم هذا الكلام، ولكن نقطة الافتراق أننا نرى طابع العقلية الإنسانية كان يتأثر في كل من الغرب والشرق في عصور التاريخ بمد وجزر العقليتين الشرقية والغربية في حالة جزر، ويقابل ذلك مد من جهة العقلية الشرقية فان عوالم من الغرب كانت تدخل في منطقة المد الشرقي تتأثر بطابع العقلية الشرقية، وأحياناً كان يحدث العكس. إذا فيجب أن نكون محتاطين في قبول الأساس الجغرافي تقسيم العالم إلى شرق وغرب. لأن الشرق كان يمتد في بعض عصور التاريخ فيشمل بقاعاً من العالم الغربي، كان يصل إلى سفوح جبال البرانس بأسبانيا وسلسلة جبال الكرابات والطونة في البلقان ولمبارديا في إيطاليا، كما أنه كان يتقلص في بعض العصور فينسحب إلى الصحراء العربية في الشرق الأدنى والصحراء الكبرى في أفريقيا. وهذه مسائل ملحوظة من التاريخ لا تحتاج إلى بيان، فمن هنا يتضح أن كلامنا عن التفرقة بين الشرق والغرب إلى ما يمكن له من طابع للغرب وطابع للشرق أدق ما يمكن أساساً لبحث الفروق الكائنة بين طبيعة العقل الشرقي وطبيعة العقل الغربي. والموضوع بعد ذلك راجع لمفهوم الشرق والغرب من علم تقويم البلدان، ولكن بالصورة القاطعة التي تستخلص من التحديد الجغرافي الصرف، وإنما على وجه مرن يتفق والواقع الملموس.
وبعد فيتبين أن ما حار فيه باحثنا الفاضل في تحديد لفظي الشرق والغرب من كلامنا واضح ليس فيه موضع للبس أو غموض أو إبهام. أما أنه يرى بعد هذا كله كلمتي الشرق والغرب مجهولتا المعنى والتحديد في كلامنا، فلسنا نرى لكلامه هذا وجهاً. وهو الذي بعد أن انتهى من تلخيص رأينا في طبيعة العقلية الغربية وطبيعة الذهنية الشرقية ذهب يقول: (إلى هنا أحسن الكاتب صنعاً - يعني بذلك دراستنا لطبيعة العقلين الشرقي والغربي - ولو أنه لم يتعد مدلول هذا، يعني بذلك أننا لو وقفنا عند هذا الحد ولم نعمل على كسب تحليلاتنا(284/52)
العقلية صفة الشعبيات لكان بحثه (بحق) أوفى ما يكتب في بحث مظاهر العقليات) ولسنا نعرف كيف يتفق رأيه في اعتبار بحثنا أو فيما يكتب بحق في بحث مظاهر العقليات من حيث تتناول الفروق الكائنة بين طبيعة العقل الشرقي والعقل الغربي مع قوله إن مفهومي الشرق والغرب بقيا مجهولي المعنى في كلامنا. . .
إذن لنا أن نصرف النظر عن هذا الكلام الذي يخترمه التناقض والاضطراب، ولننظر فيما يعيبه علينا من إكسابنا العقليات مظهر الصفات الشعبية، فهو يرى أن ليس ثمة فرق أساسي بين طبيعة العقليات جميعها. وعلى هذا فالصور الذهنية لكل شعب - عنده - قد يغلب أن تكون مرآة للشكل المتكون من تفاعل خصائص ذلك الشعب التاريخية مع البيئة. وباحثنا المفضال في رأيه هذا يفترق عنا عند نقطة أساسية، ذلك أننا نرى أن هنالك فروقاً بين عقليات الشعوب، فطبيعة العقل الألماني غير طبيعة العقل الفرنسي، وطبيعة العقلين الألماني والفرنسي غيرها بالنسبة لطبيعة العقل الإنجليزي. ذلك أن طبيعة عقل شعب ما ليست سوى خصائص ذلك الشعب منعكسة من مرآة نفسه. . .، وطبيعة عقل الشعب يتلون بها العلم تلونا كبيراً ذلك بحكم أن العلم نتاج ذو شكل خاص للعقل الإنساني، وهذه حقيقة تنكشف لمن يتعمق في المسائل العلمية الصرفة. وأنا شخصيا بحكم اختصاصي في العلم الرياضي لي أن أتكلم عن هذه الفروق في مادة تخصصي، وكل ما لي الآن أن أفعله هو أن أنقل لباحثنا المفضال بعض السطور من كتابنا (الفيزبقا والرياضة والمنطق) الذي نشره غوستاف م. فيشر عام 1930 بالألمانية عن ليزبغ ويتا، وذلك عن الصفحة 218 فقد جاء هنالك ما ترجمته:
(إن التمايلين اللذين نلمسهما في علم الرياضة، من حيث رجوع أحدهما بوتيرة سير الاستدلال الرياضي للحدس والآخر للمنطق - مرده ما هنالك من فروق بين طبيعة الذهن الألماني من الجهة الأولى والذهن الفرنسي من الجهة الأخرى.)
وقد جاء في هامش كتابنا هذا تعليق على هذه الفقرة ننقله كما هو مترجماً للعربية:
(أما قطب أن التمايلين الأساسين في علم الرياضة راجع لطبيعة العقلين الألماني والفرنسي وما بينها من فروق فذلك حقيقة أولية لا يتنازع عليها، غير أنه يجب أن نلاحظ أن هنالك من الرياضيين في ألمانيا من تأثر بالعقلية الفرنسية وطابعها الخاص، أذكر من هؤلاء شيخ(284/53)
المدرسة التحليلية في الرياضة جوتفريد ويلهلم لينبتز، فقد كان المذكور تلميذاً لديكارت، وكانت عقليته عقلية فرنسية صرفة. أما في فرنسا فهناك قد تأثروا بطرائق العقلية الألمانية نذكر منهم البروفسور شارل هيرميت من دهاقنه العلم الرياضي البحت في القرن التاسع عشر، والمسألة بعد ذلك راجعة في العموم إلى طبيعة العقلين وخصائصهما).
وإني لأذكر أنني منذ مدة لا تتجاوز ربيعاً واحداً من عامنا هذا كنت في زيارة الصديق حسين فوزي في مكتبه بإدارة الأبحاث الألمانية، وكان على مكتبه بضعة أعداد من مجلة (نيتشز) الجديدة وفي أحدها وقفت على مقال لعالم ألماني كبير على ما أذكر هو رئيس لمعهد ويلهلم للبحث العلمي يقرر فيه أثر الدم السامي في العلوم الوضعية، وأنه يجنح إلى صور يمليها من الخيال على العلم فتعرقل سير العلم الصحيح. وهذا كلام إن لم نتفق مع صاحبنا عليه في تفاصيله فلا يمكننا أن ننكر أن فيه من وجهة عامة عنصراً من الحق، أتى من جهة التجريد الذي هو طبيعة الذهن السامي.
إذا صح هذا، من أن العقليات تكتسب الصفة الشعبية كثيراً على عكس ما ذهب إليه باحثنا الفاضل في تعقيبه على ما كتبناه سقط كل ما أقامه على هذا الوجه من آراء
وبعد فللباحث المفضال سقطات استوجبها عدم تعمقه في مدلول عباراتنا والنظر إلى ما وراء ألفاظها الظاهرة، فهو يتساءل قائلاً: متى بدأ الإنسان يتحسس الخالق في شر مخلوقاته، أهو الشرقي مصريا كان أو آشوريا أو كلدانيا أو عربيا أم بدأ به اليونان والرومان والسكسون؟ والسؤال على هذا الوجه لا معنى له بالنسبة لنا، لأن الأصل فيه تحسس الخالق بآثاره في مخلوقاته، فالخالق هنا أصل والمخلوقات أو الطبيعة فرع. ونحن نقدر أن مثل هذا النظر كان من خصائص العقل الشرقي!. . وليتأمل بعد موضع كلامه باحثنا المفضال!. . .
غير أن السؤال لو وضع في صيغة أخرى تتفق مع نظرة العقلية الغربية للأشياء لكانت إفادته: متى بدأ الإنسان النظر في الطبيعة؟ ومتى انتهى من نظرته هذه إلى الخالق؟ أهو الغربي أم الشرقي نظر على الوجه؟ فان السؤال يستقيم له إجابته من أن مثل هذه النظرة من خصائص العقلية الغريبة
والواقع أن باحثنا الفاضل يلزمنا عسيراً مثل هذه الاعتراضات ووجه العسر أنها تضطرنا(284/54)
أن نعيد القول ونكرره ونتكلم في الأوليات
ووجه آخر من أوجه اعتراضات الكاتب، ذلك قوله: إذا كان الشرقي قد أدخل العنصر الروحي في تقدير المعاملات بين الناس فهل يتنافى ذلك مع العقل السليم؟ وهل يتهم بعد ذلك بأنه قاصر؟
لا. . . أيها الباحث! ولكن قبل كل شيء يجب أن تنتبه إلى هذه الحقيقة وهو أننا لم نقل إن الشرقي يدخل عنصراً روحيا بين الأشياء حتى تنحلنا هذا الرأي، وكل ما قلناه إن الشرقي يدخل العنصر الغيبي في الأشياء لأن نظرته غيبية فجعلتها أنت العنصر الروحي. . . وشتان بين العنصرين، وأين كلامك من كلامي هذا!. . .
ثم مسألة أخرى. . . قلنا إن الغرب اتجاهه في النظر للأشياء البدء من العالم المنظور، أعني عالم الطبيعة، وهو ينتهي منه إلى العالم غير المنظور إن كان هنالك ثمة وجه لمثل هذا الانتهاء. ولكن باحثنا الفاضل يتساءل متى بدأت هذه العقلية في الغرب بحثها عن الخالق عن طريق الطبيعة، وهو يجيب أن الشرق هو الذي سبق الغرب بمثل هذا الاتجاه، وما كان الغرب إلا مقلداً لها ومتأثراً بها وبأسبابها. وهذا وهم عريق في الخطأ، وناحية الخطأ أن الباحث الفاضل توهم أن معنى النظر في العالم المنظور والبدء منه أن ينتهي منه الإنسان للعالم غير المنظور. والمسألة لم تخرج عن أن صاحبنا ينظر لكلامي من ناحية عقليته الشرقية وهنا موضع الداء في كلامه
(البقية في العدد القادم)
إسماعيل أحمد أدهم(284/55)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 28 -
وكان على الرئيس ورجال حكومته بعد قرار التحرير أن يبذلوا غاية جهدهم ليضعوا حداً لتلك الحرب، فان انتصار أهل الجنوب معناه القضاء على كل شيء، فبه تصبح الحرية مجرد أمنية وتصير الوحدة ضرباً من الوهم. . .
ولقد انقضت تلك السنة الثانية للحرب والجنوبيون أرجح كفه، ففيها أرغم ماكليلان كما رأينا على التراجع وكان من رتشمند عاصمة الجنوب على بضعه أميال، وفيها حلت الهزيمة بالقائد بوب وهو يدافع عن طريق العاصمة الشمالية، وكذلك انتصر الجنوبيون في الميادين الغربية؛ ولقد كان مرد تلك الانتصارات إلى كفاية قوادهم وحسن نظام جنودهم. . .
وفي نهاية تلك السنة حل محل ماكليلان في قيادة الجيش المرابط على نهر بوتوماك، في طريق العاصمة، قائد آخر هو بيرنشيد؛ ولقد برهن هذا القائد الجديد على كفايته في بعض الأعمال الحربية من قبل، ولذلك اتجهت الأنظار إليه في مركزه الجديد، وراح أهل الشمال يعلقون الآمال على تغيير القيادة، أن كان قد ألقى في روعهم أن ما حل بهم من الهزائم فيما سلف إنما يرجع إلى سوء تدبير ماكليلان. . .
ولكن في الجيش عدد كبير من الجند قد آلمهم أن يفارقهم قائدهم أو أن يحال بينهم وبينه على هذا النحو، لذلك لم يحسنوا لقاء القائد الجديد أو لم يشعروا تحت رايته بما كانوا يشعرون تحت راية ماكليلان من حماسة(284/56)
وزحف القائد الجديد على رأس جيش ليحتل فردريك سبرج على الضفة الأخرى للنهر، حيث كان يرابط لي قائد الجنوب العظيم؛ ووقف القائد الشمالي تجاه خصمه يفصل بينهما نهر يوتوماك، وقف ينتظر أن توافيه هناك تلك المعابر المتنقلة التي لا بد له منها ليعبر النهر ولكن المعابر وصلته متأخرة فاستطاع خصمه القوي أن يحصن المرتفعات حول المكان، فلما أخذ يعبر النهر هو وجنوده انصبت عليهم النيران الحامية من كل صوب، ونظر القائد فإذا كثير من جنده حوله صرعى لا يقل قتلاهم عن الجرحى، فكان لا بد أن يتراجع وكانت هزيمة جديدة تضاف إلى سلسلة الهزائم في ذلك العام المشئوم. . .
وحمل الجرحى إلى وشنجطون فضاقت بهم المستشفيات حتى لقد حول عدد كبير من الكنائس وغيرها من الأبنية إلى أمكنة للجرحى، وطافت النذر بالمدينة، وانعقدت في جوها سحب الغم مركومة سوداء، وأخذت الناس غاشية من الحزن ورجفة من الذعر زاغت لهما الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. . .
وأخذت الأنظار تتجه إلى البيت الأبيض وليس فيها من معاني الأمل بقدر ما فيها من معاني اللوم والغيظ، وكأنما كانت ترف من حوله أرواح القتلى فتلبسه كآبه وتشيع فيه ما يكرب النفوس ويؤلم الصدر. . .
وأخذ يظهر في العاصمة حزب جديد ترمي أغراضه إلى وضع حد لهذه الحرب بأية وسيلة، وألفى الرئيس نفسه بين تيارين، فهنا من ينادون بوضع حد لتلك المحنة، وهنا من يطلبون إعادة ماكليلان إلى القيادة والسير في الحرب ولكن في سرعة وحمية وإقدام، وغير هؤلاء وهؤلاء قوم يطالبون بتغير القواد والبحث عن وسائل جديدة تكفل النجاح، وقوم آخرون خيل إليهم أن الفرصة قد سنحت لهم لإعلان رأيهم في مسألة تحرير العبيد وكان رأيهم ألا يمس ذلك النظام بما يغير من أصوله. . .
وترامى إلى الناس فضلا عن مزعجات الحرب وشائعاتها أن المجلس التشريعي منقسم بعضه على بعض، وأن مجلس الوزراء نفسه قد شاع الخلاف بين أعضائه، ورأى الناس مما يشاع ويذاع أنهم على حافة الكارثة. . .
ولكن السنديانة ثابتة على رغم العاصفة لا تنال الريح العاتية شيئاً من ثبوت أصلها وسموق فرعها. أو لم يك في الغابة منبتها وكان فيها غذاؤها وريها؟. . . أجل، إن رجلا واحدا هو(284/57)
الذي بقي أمام هذه الشدة رابط الجأش صارم العزم قوي الإيمان، وذلك هو الرجل الذي ألقت عليه الأقدار عبء قومه دون غيره من الرجال فكانت كأنما اختارته عن بينة مما تبيت وتدبر!
وقف ابراهام عزيزاً لا يهون، صلبا لا يلين، بصيرا لا يطيش حلمه، أميناً لا يخون العهد الذي قطعه على نفسه، مؤمنا لن يقعد حتى يتم رسالته أو يموت. . . وكان موقف الرئيس هذا هو كل ما بقي للقضية من عناصر القوة. . . ولكن أية قوة لعمري هي أعظم وأبقى من تلك القوة؟ ألا أن الظروف التي بالغت في قسوتها على الاتحاد وأنصاره قد عوضتهم من جهة أخرى خير العوض بأن جعلت على رأسهم ذلك الرجل العظيم. . .
وليت شعري ماذا كان عسيا أن يحدث من أول الأمر لو لم يكن على رأس البلاد هذا الذي درج من بين أدغالها؟ بل ماذا كان عسيا أن يحدث في هذه الآونة الدقيقة التي لم يكن للبلاد فيها من عاصم إلا الصبر كأعظم ما يكون الصبر؟ وأي صبر هو أشد وأبلغ من صبر ذلك الطود الراسخ الأشم؟
وكان من قواد الحرب يومئذ قائد يدعى هوكر وهو في المرتبة الثانية من بعد بيرتسيد، راح في ذلك الوقت يذيع في الجند أن البلاد أشد ما تكون حاجة إلى ديكتاتور يقضي على المنازعات ويرغم الأحزاب أن تحبس هذرها وتدفن خلافها، وأن الجيش لن يقوده إلى النصر إلا مثل ذلك الرجل الذي يقبض بيد قوية على أزمة الأمور في الدولة وفي الميادين جميعاً!. . . ولقد ذاعت أفكار هوكر حتى لقد اجترأ ضابط كبير أن يعلن (أن الجيش وعلى رأسه ماك الصغير يستطيع أن يطهر المجلس التشريعي والبيت الأبيض). . . قالها من غير تحرج وإن كان قد ألقي القبض عليه من أجلها. . .
وكتب لنكولن إلى هوكر يعاتبه على ما يذيع من أفكار ويحذره العاقبة ويعينه قائداً لجيش بوتوماك، ومما جاء في خطابه قوله: (إنك لن تستطيع أنت ولا نابليون - إذا قدر له أن يبعث - أن ترجع بخير من جيش هذه هي روحه. . . ألا حذار من التعجل، حذار من التعجل، ولكن أقدم في نشاط وحمية لا تخبو واكسب لنا النصر)
انتهى العام الثاني بهذه الحرب الهائلة، وقد لاقى الشماليون ما لاقوا من الهزائم، ولقي الرئيس من عنت الظروف والرجال ما لاقى، وحل العام الثالث فلقي الرئيس في مستهله(284/58)
وفود المهنئين بالعام الجديد وباليوم الذي يحل فيه موعد التحرير، والرئيس مشغول بالحرب وما تتطلب من الرجال والمال. . . وهاهو ذا يعلق الآمال على ما عسى أن يفعل هوكر ويسأل ترى ماذا سيكون نصيب القضية في هذا العام
وزار الرئيس ميدان القتال على نهر بوتوماك وقضى هناك أسبوعاً يشرف بنفسه على الجيش ثم عاد إلى العاصمة يمني نفسه بالعوز الذي يضع حداً لهذا القلق الذي تزايد حتى عم الرجال جميعاً
وتحرك جيش بوتوماك في إبريل من تلك السنة ولكنه ما لبث أن هزم هزيمة منكرة في شانزلورزفيل، بعد أن أبلى في المعركة بلاء حسناً أول الأمر. . . ثم انقطعت أخبار الجيش عن العاصمة بعد الهزيمة حتى بات الناس في حيرة شديدة. . . ورضي لنكولن من الغنيمة بالإياب، فكان يمني نفسه أن يعود الجيش إلى موقفه الأول فيمنع الطريق إلى العاصمة. . . وأخيراً وصلته رسالة من القيادة أن الجيش قد عاد إلى موضعه، ولقد تسلمها الرئيس وقرأها فتندت جفونه، وهو يقول لمن حوله من أصحابه: ماذا عسى أن يقول الشعب؟ ماذا عسى أن يقول الشعب؟ واشتد به الغم حتى ما يفلح كلام في الترفيه عنه. . .
وركب الرئيس وجماعة من صحبه زورقاً بخارياً إلى حيث يرابط الجيش، فاستطلع واستفهم القائد عن سبب الهزيمة ثم رجع إلى المدينة وقد عقد النية على أمر. . . أعلن الرئيس ما يشبه الأحكام العرفية، فحد من حرية الصحافة ومن حرية القول، وأنذر من يعمل على عرقلة قضية الاتحاد أنه سوف يقدم إلى المحاكم العسكرية لتنظر في أمره، ولم يعبأ الرئيس فيما فعل بالنقد الشديد يوجه إليه من كل جانب، فلقد كان مستنداً إلى أحكام الدستور الذي يخول له أن يتخذ عند الخطر ما تتطلبه مصالح البلاد من الأحكام
وحل الورق محل الذهب والفضة في المعاملة إذ كانت الحكومة في حاجة إلى المال لتنفق منه على هذه الحرب الضروس، ولقد التجأت من أجلها إلى القرض. . . وعمت الضائقة حتى شملت الناس جميعاً وهكذا ظهر للناس أن هذا العام الجديد أشد هلعاً مما سبقه
ولكن هذه الشدة لم تأت بالغرض منها، لقد وجد أعداء الحرب وأعداء القضية فيها فرصة لنشر آرائهم، وسرعان ما تألفت في نواح كثيرة من البلاد جمعيات سرية تعمل على مقاومة الرئيس وحكومته بكل ما يمكن من الوسائل(284/59)
وجهر فريق من ذوي الرأي والمكانة بمقاومتهم هذه السياسة ومن هؤلاء وَلندنجهام وهو نائب عن أهايو في المجلس التشريعي. . ولقد أخذ هذا الرجل يعمل في نشاط وقوة على معارضة كل مشروع في المجلس يراد به نصرة قضية الحرب، وفي خارج المجلس راح يطلق لسانه في الرئيس بكل فاحش من القول فتارة يسميه (الملك لنكولن) وتارة يسخر من ذلك الرجل الذي يريد (أن يخلق الحب بالقوة، وأن ينمي شعور الإخاء بالحرب) وتطرف ذات مرة فهتف بسقوطه في مجتمع احتشد فيه عدد من الديمقراطيين الذين أعجبوا به
وكان برنسيد يقود الجيش في الجهات التي تقع فيها أهايو مدينة ذلك النائب، ولقد أعلن القائد أن كل شخص يعمل ضد الحرب وقضية الاتحاد جزاؤه أن يقدم إلى محكمة عسكرية لينال عقابه على يديها. . . ورد وَلندجهام على هذا بخطاب حماسي احتشد الناس في تلك الولاية لسماعه ودعا الناس إلى رفض هذا القرار وعصيانه؛ ولم يسع القائد إلا أن يقبض عليه ويسوقه إلى المحكمة العسكرية فقضت بحبسه في أحد الحصون هناك. . .
وارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذا الفعل الذي يتجلى فيه خنق الحرية، فغير لنكولن حكم الحبس بالنفي إلى خارج مناطق النفوذ الشمالي، وأرسل ذلك النائب المتمرد إلى الولايات الجنوبية في حراسة نفر من الجند
تكاثفت السحب واكفهر الجو، ولم يعد يرى الناس بصيصاً من نور الأمل، فيئسوا من النصر، وتحرجت الأمور حتى ما يعرف لنكولن نفسه ماذا يفعل!. . . ألا هل من قائد يكسب معركة واحدة فيعيد الرجاء إلى النفوس، والأمن إلى الخواطر، والعزم إلى القلوب؟
إن هزيمة الشماليين في شانسلو رزفيل كانت أقسى ما لاقوا من المحن، حتى لقد عد مايو وهو الشهر الذي وقعت فيه الهزيمة شر الأيام هولا في تاريخ تلك الحرب الأهلية الكبيرة. . . ولقد كانت خسائر الشماليين في تلك المعركة بعد ما ذاقوا من الهزائم من قبل، مما يثبط الهمم ويحل العزائم بينما خرج منها الجنوبيون ولم يخسروا كثيراً اللهم إلا إذا ذكرنا خسارتهم الفادحة بموت قائدهم جاكسون الذي خر صريعاً من رصاصة طائشة أصابته من يد أحد جنوده. . .
هاهو ذا الرئيس يفكر ويدور بعينه يتلمس القائد الذي يفلح مسعاه بعد أن خابت مساعي القواد. . . ألا من له بهذا القائد؟ من له بهذا القائد؟. . . ولكن أين جرانت؟ أنه هو الرجل،(284/60)
وإن قلب الرئيس ليلتفت إليه في هذه المحنة كأنما يلتفت من إلهام. لقد برهن جرانت على كفايته في بعض المواقع وإن لم تكن بذات بال، وحسبه النصر فيها على أي حال، ولعله لا يتخلف عنه النصر إذا ألقيت على عاتقه القيادة في غيرها من المعارك الكبيرة. . . لقد استطاع أن يستولي على حصني هنري ودونلسن على نهر المسيسبي في فبراير من عام 1862 سنة الكروب والهزائم واستطاع كذلك أن يحمل الجنوبيين في أبريل على التراجع في معركة حامية حدثت في أبريل من تلك السنة
وكان الرئيس لا يعرف جرانت معرفة شخصية، ولكن هاتيك الانتصارات في أوقات عز فيها النصر تنم عن كفاية، وتدل على بطولة، وإن عين الرئيس البصيرة لتستشف من وراء تلك الأخبار الرجل المرجو. . . وإذا فليرسل الرئيس إليه وليعطه الراية ولينتظر النصر على يديه
ولكن بعض الرجال يلقى إلى الرئيس من أنباء ذلك الرجل أنه بابنة العنقود مولع حتى ما يفيق منها إلا قليلا، فاستمع إلى الرئيس وقد هداه قلبه الذي لا يكذبه ودلته بصيرته التي لا تخطئه، استمع إليه يقول لهؤلاء الناس (أرجو أن تدلوني: أي نوع من أنواع الويسكي يشرب ذلك الرجل لأرسل منه دنا لكل قائد من قوادي الآخرين)!
أيقن الرئيس أن سوف تنقشع السحب ويتنفس الناس الصعداء، فلئن لم يكن لهم إلا ثقتهم في رجلهم، لقد امتدت عيناه البصيرتان إلى القائد الذي يكون في ميادين القتال مثل ابراهام في البيت الأبيض، رشيدا لا يزوغ بصره، قويا لا يكل عزمه، ثابتا لا يخف حلمه، حكيما يعرف ما يأخذ مما يدع، جريئا مؤمنا يرى الحياة الحقيقية في أن يموت في سبيل مبدئه. . .
(يتبع)
الخفيف(284/61)
خطوات في الحياة والموت
عند رؤية جمجمة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
رحيقك يا كأسَ النهى والمشاعر ... ومهبط سر الله بين السرائر
أكأس الحجا أين الرحيقُ تَرَشفتْ ... علالاته نَشْوَى النهى والبصائر
أجُرِّعَةُ ثغر من الموت ظامئ ... طوى ما طوى من فطنة وخواطر
حوتها عوادي الدهر إلا أقلها ... إذا خُطَّ لفظ في بطون الدفاتر
بدا الناس جيلاً بعد جيل كأنهم ... تَهَاوِيلُ سِحْرٍ أو سمادير ناظر
وما تُدْرِكُ الألباب منهم عديدهم ... إذا استجمعتهم بين ماضٍ وحاضر
كأنْ لم يَلُحْ منهم إذا الموت غالهم ... ومَيض الثنايا أو بكاء المحاجر
ولم يعرفوا الآلام تُحْسَبُ أنها ... ستَخْلدُ في جسم إلى الموت صائر
فأين مضت أحقاد قوم كأنها ... لهيب جَحِيمٍ خَاِلدٍ في السرائر
وأين ولوع بالجمال كأنه ... زعيم بتخليد الوجوه النواضر
وأين فِعَالٌ يحسب الناس أنها ... على جبهة الأيام من وشم قادر
وأين جيوشٌ دَكَّتِ الأرضَ خَيْلهَا ... مضت حيث لا تمضى خواطر شاعر
وأين الغزاة الفاتحون وقد بدوا ... كما تبعث الأشْبَاحَ نفثةُ ساحر
فهل أنتِ ممن قد جنته سيوفهم ... وداسته خيل تحتها بالحوافر
أم ازدان تاج قد لبست بحكمة ... بها اسْطَعْتِ تصريف الصروف الدوائر
وهل أنتِ مِمَّنْ دَبَّرَ الشرَّ لبُّهُ ... وأحكم زَهْوُ النفس جَرَّ الجرائر
أم الخير ما حنت إليه نوازع ... لديك وإن لم تحتقب خير غادر
لقد كنتِ وكر اللب لو أن عادياً ... من الموت لم يهبط عليك بكاسر
بِكِ ارتاع مسعود إذا ارتاح يائس ... بذكرى الردى يرجو عُلاَلَةَ صابر
قد اختلف الأقوام في العيش والردى ... فَمِنْ ظافر يهوى الحياة وخاسر
هنيئاً لكل ما يرى من عُلاَلَةِ ... بحسن حياةٍ أو بنجوى المقابر
وما عَلَّلَتْ نفسُ الفتى بِمنَيَّة ... ستطوى هموم العيش طي الدساكر(284/62)
سوى رغبة في العيش يرهب صرفه ... فيعدو على البُؤْسَى بذكرى الغوابر
بذكرى الحتوف الجاليات على الورى ... من الراحة الكبرى أجَلَّ البشائر
عبد الرحمن شكري(284/63)
الليل
للأديب حسن حبشي
أيُّها الَّليْلُ: أيُّها الكاهِنُ الصَّا ... مِتُ من فَجْرِ عُمْركَ الوَسْناَنِ
نَشَأتْ في ضِلال صَمْتِك أحْلاَ ... ميِ فكانَتْ كالزَّنبَقِ الغَيْسَان
وَاكتَسَتْ مِنْ جَلاَلِ رَوْعَتكَ الكْبرى ... تَهَاوِيل حُسْنهَا الفّتَّانِ
وَتَبَدَّتْ كغاَدَةٍ نَسَجَ اُلْحسْ ... نُ لها تَاجَ رِقَّةٍ وَحَنَانِ
شاَعَ في النَّفْس نورُها، وَمَحَا لاَ ... لاَؤُهَا ظُلمَةَ الفؤادِ العَانيِ
أتُرُاهَا يَدُ اَلمِسيحِ أزَالَتْ ... كلَّ يأسٍ مِنْ خاطِري المدْجَانِ؟
كم سُكُونٍ يَفُوحُ بالعطر رَفْافاً ... وبالشَّرْ والهوَى الرَّيَّانِ
ولكَمْ فِيكَ نَغْمة رَقَصَ الْقَلْبُ ... لها هَاتِفاً بشَتَّى المعَانيِ
أتُرَى هَذِهِ النّجُومُ نوافيسٌ ... بمِحْرَابِ أفْقِكَ الفتَّانِ
من بنَاَهُ وَشَعْشَعَ النَّوُرَ فيه ... سَاحِرَ الُحْسنِ فِتْنَةَ الأذْهَانِ
أيَّهَذا الظَّلاَمُ يا أفُقُ العُمْ ... رِ، وَياَ مَعْبَدَ الأمَانيِ الحِسَانِ
إنمَّاَ أنْتَ هَيْكَلٌ جَثَمَ الظَّنَّ ... عَلَى باَبِهِ جَهُول البيَاَنِ
لم تَطَأى قدْس أرضهِ أو تَجُبْهُ ... غَيْرُ أوْهَام شاِعرِ فَنَّانِ
نَظَمَ الُحبْ والَجَمال نِشيداً ... وَقَّعَتْهُ يَدُ الهَوَى فيِ الأغَانيِ
وتغَنَّى ياَ ليْلُ في صَمْتِكَ المُشْ ... جِي طَروباً بمِسْكرِ الألْحانِ
بَعْدَ مَا حَطَّمَتْ هَوَاهُ الَمنَايا ... وَرَمَتْهُ بِكاَلحِاتِ الأمانيِ
وِطَوِى صَفْحَة الشَّباَبِ على كُرْ ... هٍ، وأغْضَى على شَبَاةِ السَّنانِ
حسن حبشي(284/64)
إلى صاحبة السمو الأميرة فريال
بسمة المنى
للأستاذ إبراهيم مأمون
يا ابنةَ التاج مِنْ أبيك مثالٌ ... هو في الصَّيد مَضربُ الأمثال
هو وحيُ السماء في نهضة الدي ... ن نمتهْ جلائلُ الأعمال
عصم الشعبَ من نيوب العوادي ... وأعزَّ الحمى بالاستقلال
ولدى مَهْدك الطهورِ رَءُومٌ ... هي غرس الندى ونَبْتُ الكمال
أنجبتك العُلا وظلَّك الطه ... رُ وما زلتِ في أعف ظلال
وغدت مصرفي رحابكِ فِرْدَوْ ... ساً لولدانها، وللأطفال
انظروا ضافيَ المبرَّة يمتدَّ ... فيكسو طفولةَ الأقلال!
فاض نور الِمهاد حتى كساهم ... نضرةَ النور ضافي الأذيال
بين أيديهم الأمانيَّ تسعى ... في ثغور المنى وحسن المآل
خطروا أمس بالبلاد يطوفو ... ن ومن نورهم سنا الإجلال
فإذا مصرُ من سناهم نعيمٌ ... وإذا هم مطالعُ الإقبال
لو رأيت الجنانَ قلتَ هم الول ... دان، أو هم فرائدٌ وغوالِ
هبة الله للمليكْين (فريا ... لُ) فأنعمْ بما حَبَا ذو الجلال
يا ابنة التاج: خلف ركبك ركبٌ ... حوله الدهرُ والملوكُ مَوالي
فاملئي المُلْك مِنْ أريج المعالي ... واجعلي المهدَ غابةَ الأشبال
كتب الله أن يعزَّ بك الطه ... ر وتعتز صاحبات الحجال
نهض الدين بالفتاة قديماً ... وسقى الوائدينَ كاس النكال
فاحشري الدينَ في ظلالك يصط ... ف وفي الدين أعظم استقبال
ربَّما كنتِ كالبتول مكاناً ... تضربينَ الأبطال بالأبطال
ربَّما كنتِ مريمَ ابنة عِمْرا ... ن تَحُلَّين فوق كل منال
حفصة الأمس سايرتْ أبويها ... ومشى الدين خلفها في احتفال
حفظتْ غرةَ الكتاب من الده ... ر وصانتْهُ من يَد الأهوال(284/65)
والحميراء فيأتْنا نُهاها ... وأشاحتْ عن شِرعة الجهَّال
نِصْف دين السماء يُؤخذ عنها ... ومِن الله والنبيَّ أمالي!
أنتِ في الدين بينهن وفي الحر ... ب كجنْدرك في صفوف القتِال
قد حشدْنا لدى الزفاف الفراع ... ين وركب الملوك والأقيال
وسألتُ البيان ترديد ما قل ... ت فأغضى وما استجاب سؤالي
وإذا بي أجيل في مولد الطه ... ر قصيداً في غرة وتعالي
سوف ألقاه بالقصيدة حَفيا ... فوق ما تعهدُ اللّغى من الأقوال
والبيان الموهوب لا يعرف العو ... نَ، ولا ملجأ إلى التسآل
أنا لا أعرف الخواطر تنسا ... ب سواَء ولا اتفاق المقال
ربَّما تجمع السباقَ المذاكي ... ولكلّ ميزاته في المجال!
ربما يعرض الأديب أديباً ... فتراه كناحت التمثال
والدراري وإن نظُمْن عقود ... مَيزَتهنَّ قدرة اللآل
والقوافي إذا اتحدن بحوراً ... ضل فيهن سابح الأوشال
فتياتِ البلاد قد بسم الده ... ر وزالت فوادح الأغلال
هذه مصر ترتجيكنّ للمج ... د وحمل اللواء غير أوال
إيه ثَبَّتْن للحنيف لواءً ... وأنِرْنَ الطريق بالأعمال
واستَعِدْن التاريخ في صحف الغي ... ب كما كان في السنين الخوالي
تلك (فريال) في التقى فتمشي ... ن إليها علىَّ تُقىً واعتدال
واتخذْن الكتاب في نهضة الشر ... ق دليلاً تُزِلْنَ كل اعتدال
يا مَليكَيْ كنانة الله في الكو ... ن رسا الملك في أصول الجبال
فاهنآ تهنأ البلاد بفريا ... ل مدى العمر في السنين الطوال
طلعتْ مطلع الجلال على الشر ... ق فكانت لمصر أيمنَ فَال
إبراهيم مأمون(284/66)
البريد الأدبي
أحمد زكي باشا والرافعي
في المقال رقم 42 من مؤلف الأستاذ محمد سعيد العريان في (مصطفى صادق الرافعي) أن (زكي باشا (شيخ العروبة) كان على نية إعداد معجم لغوي كبير قبيل وفاته، وكان للرافعي في إنشاء هذا المعجم أثر ذو بال، وفيه فصول كتبها الرافعي بتمامها وأعدها للإمضاء)
والذي أعرفه حق المعرفة، للصلة التي كانت بيني وبين احمد زكي رحمه الله، أن ذلك المعجم كان مجموعة من الجزازات على الطريقة الإفرنجية، وهي الطريقة التي حذقها احمد زكي دون غيره من أهل اللغة عندنا فيما أعلم. وقد اتفق لي غير مرة أن أنظر في هذه الجزازات فكانت من خط أحمد زكي أو من خط كاتبه الخاص. هذا وقد وقع لي أن أطلع على مسودات القليل المدون من هذا المعجم، فإذا الخط خط احمد زكي. ذلك ما اعرفه وربما غابت عني أشياء، أو ربما كان احمد زكي يستشير الرافعي كما كان يستشير غيره من المشتغلين باللغة، وليس في ذلك مغمز.
أما حديث المقالات التي كان يكتبها الرافعي يمدح فيها نفسه ثم يستدرج احمد زكي إلى توقيعها فمن الغريب أن يعدها الأستاذ العريان مما انتحله احمد زكي وهو تأليف الرافعي.
والحقيقة أن هذه المقالات مما أراد الرافعي، لسبب في نفسه، أن ينسبه إلى احمد زكي.
ب. ف
الأستاذ محمد محمود باشا
قال صاحب المقام الرفيع الأستاذ محمد محمود باشا رئيس الوزراء في خطبته الغراء في الإسكندرية: (نحن الآن نجتاز (أوقاتٍ) ملأى بالأحداث والعبر). وصاحب المقامات المشهورة أبو محمد الحريري في (ملحمة الأعراب) يقول:
وكل ما كثر في الجموع ... كالأسْد والأبيات والربوع
فهْو نظير الفرد في الأعراب ... فاسمع مقالي، واتبع صوابي
وقال الناظم في الشرح: (وفي جمع التكسير ما يوجد في آخره ألف وتاء فيتوهم المبتدئ أنه من قبيل جمع المؤنث السالم الذي لا تفتح تاؤه في النصب، وذلك مثل أبيات وأقوات(284/67)
وأموات فهذه الجموع الثلاثة من نوع جمع التكسير ويدخل تاءها النصب)
الأستاذ محمد محمود باشا من الفصحاء المعربين إذا خطب. وكان الشاعر العظيم (أحمد شوقي) يقول لي: (إنه من المشغوفين بالعربية) لغة آبائه الكرام العرب، وقد صادق الأستاذ الرئيس - ولم يعاد كدأب كثير من عمال السلطان - كتب اللغة والأدب. والكبير المشهور تقلده الناس مخطئاً ومصيباً؛ ومن أجل ذلك كتبنا هذه الأسطر
القارئ
دار العلوم وكلية اللغة العربية
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الكريمة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قرأت - بإعجاب يمازجه الشكر - ما كتب تحت العنوان الآنف، في عدد الرسالة رقم 281، وشاركني في عرفان هذا الجميل كل أزهري.
وقد أتاح لي إعلانَ هذا الشكر ما كتبه حضرة (ع. ح. خ) في العدد (283) رداً على الكلمة السالفة، إذ أورد حضرته شبهات ليس من الخير أن تمضي بلا جواب.
يرى حضرته أن محاولة المنافسة بين المعهدين آتية من جهة الأزهر؛ وأنه ليس من المساواة الحقيقية أن يعين الأزهريون في وظائف التدريس بالمدارس، دون أن يعين أبناء دار العلوم في وظائف التدريس بالأزهر؛ وأن أبناء دار العلوم أجدر بتدريس العلوم الحديثة، والأزهر يوليها سواهم؛ وأن دار العلوم في عهدها الجديد تنفرد من بين جميع معاهد التعليم بدراسة اللغات الأجنبية والسامية وآدابها، إلى جانب الدراسة المستفيضة للغة العربية وأدبها، دراسة تبرئها من الجمود؛ وأن دار العلوم تنشأ في كنف الوزارة وعلى عينها. الخ.
وأكبر الظن أن حضرة (ع. ح. خ) هذا لا يمت إلى دار العلوم بنسب قريب؛ إذ لو كان من صميم أبناء الدار الكريمة لعرف أن في مختلف المعاهد الدينية: الابتدائية والثانوية، عدداً ليس بالقليل من أبناءها، يعرفون من حسن زمالة إخوانهم الأزهريين ما ينكره حضرته، ويشاركونهم فيما لهم وما عليهم، إلا في الرواتب، فان حظ أبناء الدار منها أسعد. وإذا كان(284/68)
حضرة الكاتب يريد بالعلوم الحديثة التي ذكر الجدارة بدراستها: العلوم والآداب، فجوابه عند حضرة صاحب العزة خالد بك حسنين ورجاله، لا عند الأزهريين الشيوخ.
فأما كلية اللغة العربية، فالدراسة فيها إلى رجال من الأزهر يتولون دراسة العلوم الأزهرية في كتبها القديمة، يزاملهم صفوة من خير رجال الدار، على رأسهم أستاذ الأساتيذ: أحمد بحاتي؛ ويتولون دراسة الإنشاء، وفقه اللغة، وأدب اللغة، للفرق العالية، ويشاركهم بعض من لا يذمون مشاركته من الأزهريين في الفرق الأخرى.
ويستأثر بالدراسة في تخصص التدريس رجال من أعضاء البعوث: أبناء دار العلوم وأبناء الجامعة، لا يشاركهم فيه أزهري واحد في كلتا سنتيه؛ وهم أنفسهم الذين يقومون على تمرين طلابه، وامتحانهم، وتخريجهم. فان لم يكن في كل أولئك ضمان لتبرئة الأدب من الجمود، فلا أبرأه الله إلى يوم القيامة. . . ولئن نامت عين الوزارة عن هذه الجهود المشتركة، إنها لنؤوم. . .
ولقد تجنى الكاتب على الأزهريين في رميهم بالتعدي ومحاولة المنافسة، كما بالغ في الآمال التي يبنيها على العهد الجديد لدار العلوم. ولو راجع ذاكرته، لذكر أن الاتفاق بين الأزهر والوزارة على حلول كلية اللغة محل دار العلوم بالتدريج، حديث مفروغ منه. كما أنه لو رمى بنظره بعيداً للمح أن دار العلوم الحق تنقرض؛ وأن العهد الجديد سيميل بها عن مقامها الكريم إلى التعاليم الغربية الجامحة التي تباعد بين القديم الخالد، وبين ناشئة الأمة ورجال مستقبلها. ومن لنا بدار العلوم؟!!
عذيرك من خليلك من مراد ... أريد حياته، ويريد قتلي
وأما بعد، فان بين الأزهريين وبين الخلص من أبناء دار العلوم من الروابط والصلات ما لا يدفعه تهافت الواغلين، ونزوات الطائشين، من أبناء المعهدين: كلية اللغة العربية، ودار العلوم.
أزهري
حول المركزية في التأليف
قرأت في الرسالة بتوقيع (م. ا) نقداً لمناهج الأدب وتأليف الكتب للمدارس، فلا يسعني إلا(284/69)
أن أصحح ما تورط فيه الكاتب من خطأ قد يكون تلقفه من أفواه الناس من غير أن يراجع الكتب قبل أن يخط حرفا.
ونحمد الله أن الحملة ليست موجهة إلى المادة العلمية في الكتب، وإنما هي راجعة إلى اشتراك المفتشين والمدرسين، ولكن ما ذكره الكاتب من أن بعض المفتشين اشترك باسمه في كتبنا فهو تجن وتحكم. ولو كان في الواسع أن أقول: كتب فلان وأرشده فلان، وحقق معه المراجع العلمية فلان، لندم كاتب الرسالة فيما خاض مع الخائضين
وأما كتاب السنة التوجيهية الذي ألفه اثنان من زملائنا في العام الماضي فهو واحد من الكتب التي اشتركنا فيها، وما دام الكاتب المقنع قد جار على الحقيقة وظلم الناس، فأنا مستعد أن أضع أمام عينيه في إدارة الرسالة نسخة قديمة ونسخة جديدة من التي اشتركنا فيها، وعليه أن يراجع الموضوعات موضوعا موضوعا القديم منها والحديث، وأنا واثق نه سيعود إلى ما كتب بالتصحيح إن كان يقصد وجه المصلحة العامة.
حسنين حسن مخلوف
المعاهد العلمية الإسلامية في الهند
جاء من عليكرة أن اللجنة العامة للمعارف في الهند اجتمعت في جامعة عليكرة الإسلامية للنظر في تنظيم التعليم في الهند. وقد بسط الدكتور راكز حسين للجمعية برنامجه الخاص بالتعليم وهو يلخص في أن تجعل الحكومة التعليم مجانياً وإجباريا في المدارس الابتدائية للأولاد لمدة ثمانية أعوام وللبنات لمدة ستة أعوام، وأن يفرق بين البنين والبنات في المدارس المشار إليها، وأن تكون لغة التدريس في كل مدرسة لغة المقاطعة التي تقع فيها المدرسة، وأن يتعلم التلميذ صنعه يدوية أو فنية، وأن ينشأ فرع لإخراج المعلمين من الطلبة المسلمين، وأن تساعد الحكومة المدارس الأهلية، وأن يكون التعليم الديني إجبارياً في المدارس
ومن أنباء كلكوتا أن رئيس وزراء البنغال السيد فضل الحق رأس حفلة افتتاح المدرسة الإسلامية العليا في كلكوتا، وقد ألقيت خطب ترحيب عديدة من مندوبي المدارس الإسلامية فرد رئيس الوزراء وقال: إن الضرورة كانت تقضي بفتح مدرسة لتعليم لغة الأوردو وأثنى(284/70)
على الثقافة والأدب البنغالي. وتألف بعد ذلك موكب سار مع الوزير إلى باب المدرسة ففتحه السيد فضل الحق بمفتاح من الفضة
بين مصر ولبنان
حضر الأستاذ محمد عمر منيمنه مدير الكلية الشرعية على رأس بعثة الكلية لمصر؛ وقد وفق لأخذ قرار مجلس الأزهر الأعلى بمعادلة شهادة الكلية الشرعية الثانوية الأزهر، وأدخل خمسة طلاب في كليات التخصص في الأزهر، وثلاثة في دار العلوم العليا، وواحدا في جامعة فؤاد بكلية الآداب.
والأستاذ محمد عمر منيمنه مدير الكليات الشرعية يسعى لدى المراجع الرسمية لتكون الكلية الشرعية في بيروت مشمولة بالرعاية الملكية والمعاضدة السامية الخاصة فندعو له بالتوفيق. . .
الإذاعة المدرسية وتفاهة المكافآت
أشرنا مراراً إلى الجهود الجبارة التي تبذل في جميع الممالك الغربية ولا سيما إنجلترا من أجل الإذاعة المدرسية؛ وأشرنا مراراً إلى الميزانية الضخمة التي تعدها إنجلترا سنويا لهذه الإذاعة ونحن هنا في حاجة إلى ستين إذاعة - لا غير - ثلاثون منها للمدارس الابتدائية والثلاثون الأخرى للمدارس الثانوية، وكلا الإذاعتين صالحتان لجميع السكان غير التلاميذ - فلو أن الوزارة جعلت مكافأة الإذاعة الواحدة جنيهين لكان المبلغ المطلوب لهذه الإذاعات الستين مائة وعشرين جنيها. . . ولكن وزارة المعارف تقول: لا لا! هذا المبلغ يرهقني! اجعلوا مكافأة الإذاعة الواحدة خمسين قرشاً فأدفع لكم عن الإذاعات الستين ثلاثين جنيها، وأنا لا يهمني أن تنفق إنجلترا على إذاعتها المدرسية تسعين ألف جنيه فإنها دولة غنية وهي تعني بالتربية الصحيحة أكثر مني!
ومع ذلك فالوزارة تطمع في اشتراك كبار رجال التربية في الإذاعة المدرسية ولو بالمجان
بين الإسلام واليهودية
كتب إلينا الدكتور م. هـ. يقول: إن ما يبديه العالم الإسلامي اليوم من روح العداء لليهود يخالف تقاليد الإسلام. فقد ظل اليهود خلال القرون العصيبة آمنين في حمى المسلمين(284/71)
بالأندلس وتركية ومصر وسورية، وذلك لقوة الرابطة بين العرب واليهود في أصل الجنس وأصل الدين وأصل اللغة وأصل الموطن. وكان الأحرى بأبناء العم أن يعطفوا على السامية المضطهدة في بلاد الدكتاتوريات القائمة على عصبية الجنس واللون ومجافاة الإنسانية والدين. . .
ونحن نؤكد للدكتور م. هـ. أن ليس بين المسلمين واليهود إلا فلسطين. ونقصد باليهود هنا الصهيونيين الذين يريدون أن يجعلوا من فلسطين وطناً قومياً لهم على حساب العرب. أما اليهود المصريون والعراقيون وغيرهم ممن لا يدين بالصهيونية، ولا يساعد على هذه اللعبة الإنجليزية، فانهم يعيشون مع المسلمين في كل مكان على وفاق تام وأخوة شاملة
اللغة الأجنبية ومعلمو اللغة العربية
جاء في الأهرام بتاريخ 4 ديسمبر سنة 1938 تحت عنوان (تنفيذ خطة الإصلاح في معهد دار العلوم) أنه قد (استقر الرأي على إنشاء قسم لتعليم اللغات الأجنبية وآدابها لخريجي دار العلوم على أن تكون الدارسة ليلية. وسيذاع في الأيام القادمة بيان بأغراض هذا القسم ونظام الدراسة فيه، على أن يبدأ العمل فيه من منتصف الشهر الحاضر)
وهذا إصلاح جدير بالثناء يتقبله خريجو الدار بنفوس راضية مطمئنة متشوقة إلى الكمال، راغبة في الاستزادة من العلم. فاللغات الأجنبية الآن من أعظم مناهل الثقافة في العلوم والآداب؛ وهم شديدو الرغبة في ورود مناهلها، ولديهم الاستعداد للاستفادة منها، حتى تجدي عليهم في أدبهم ورسالتهم التي يودون أداءها على أحسن الوجوه وأكملها
ولكن ليس كافياً أن تفتتح الوزارة قسما لتعلم اللغات الأجنبية وآدابها، وتنادي المعلمين: هلموا إلى هذا القسم، فإذا هم إليه يوفضون، ومنه يستفيدون مادة جديدة؛ ثم إذا هم يصدرون عنه وقد حمدوا الورد والصدر، وروّوْا نفوسهم من معينه، وتحببوا رِيّا من نميره؛ وإذا هو اصبح طيب الأثر لديهم عظيم الجدوى على علمهم وأدبهم وصناعتهم
لا. ليس هذا كافياً، بل لا بد أن تنظر الوزارة إلى الموضوع من ناحية أخرى: تلك هي أنهم ينوءون الآن بعملهم، فلا يتوقع لهم أن يصلوا إلى الفائدة المرجوّة ما لم يجدوا الوقت فسيحاً يمكن لهم من إتقان عملهم الأصلي أولاً ومن التحصيل المثمر ثانياً
إن المعلم الابتدائي مثلا يقوم بتدريس 24 حصة في الأسبوع؛ وقد يكون لديه عمل إضافي(284/72)
كمكتبة المدرسة، فيشغل نفسه بالتحضير والتدريس والتصحيح وغير ذلك من الأعمال الإضافية؛ ثم لا يجد وقتا للاستجمام وتجديد المعلومات والاطلاع على ما يجد من البحوث؛ مع أنه كان أولى من غيره بالبحث والاطلاع والإنتاج؛ ولكن عمله الأصلي يأكل وقته ويلهيه عن العناية بشأن نفسه، بل يورثه الكلال والأسقام
كنا في لجنة امتحان لا نزيد على عشرة معلمين من خريجي دار العلوم؛ ولعل القارئ يأخذه العجب إذا علم أن ستة من هؤلاء كانوا على الطعام يتناولون أدوية تساعد على الهضم وتنظيم عمل المعدة وهم في سن تعد عند غيرهم سن الشباب؛ ولكن الذي خبر المهنة وأحس متاعبها يعجب كيف لا يصطحب العشرة جميعهم قارورات الدواء إلى مقر الامتحان!
إني لأعرف كثيراً من معلمي اللغة العربية أقبلوا على تعلم اللغة الإنجليزية حتى نالوا منها قسطا كبيرا جديرا بأن يفيدهم لو بقي في نفوسهم، وهيهات أن يبقى مع تتابع أعمالهم المرهقة
وهذا واحد منهم تعلم ستة اشهر بمدرسة أجنبية، وحصل من اللغة الإنجليزية في هذه المدة القصيرة ما لم يحصله التلميذ في ثلاث سنوات. أتدري ماذا من أمره بعد ذلك؟ لقد قضى سنة يتردد على أطباء العيون والمعدة والأسنان والمفاصل والأعصاب. أما ما عرفه فما لبث أن استحال ضبابا غائماً، ثم تصاعد بخاراً دائبا
إذا كانت الوزارة تعتزم الإصلاح حقا، فلتتخذ الوسيلة لذلك بتخفيف العبء عن معلمي اللغة العربية؛ ولتجعل أقسام اللغة الأجنبية في المدن الكبرى متعددة ليسهل على كل معلم أن يرد القسم القريب من مسكنه؛ حتى يحفظ وقته، ويحصل أكثر ما يستطاع
ولا يجولّن بخاطر أحد أن المعلمين يرجون التخفيف بطرا وتجنبا. لا بل إن كل نقص في الكم يقابله تحسين وتجويد في الكيف. فلتسلك الوزارة السبيل القاصدة تحمد غبها وتجد خير النتائج إن شاء الله
مدرس
حول بيت للكميت بن زيد(284/73)
قرأت في العدد 281 من مجلة (الرسالة) الكريمة ما كتبه الأستاذ البحاثة الشيخ عبد المتعال الصعيدي عن (الكميت بن زيد، شاعر العصر المرواني) وقد ورد في هذا الفصل بيت من هاشمية الكميت الميمية ذكر الأستاذ أن الشاعر قاله في بني هاشم وفي خصومهم بني مروان، ورواه على الوجه التالي:
ساسة لا كمن يرعى رعيةالنا ... س سواء ورعية الأنعام
وإذا ما رجع حضرته إلى هاشميات الكميت بتفسير أبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي المطبوعة في ليدن عام 1904م بعناية المستشرق جوزيف هوروفتس، رأى هذا البيت على وجهه الأصلي الصحيح كما نذكره:
ساسه لا كمن يرى رعية النا ... س سواء ورعية الأنعام
هذا ما أردت تبيانه وعرضه على الأستاذ الصعيدي عن طريق (الرسالة) الغراء والسلام. . .
(الأعظمية - بغداد)
(ص)
موقف مصر تجاه فكرة العروبة
تلقينا بعد الفراغ من طبع هذا العدد مقالا لصديقنا الأستاذ الجليل ساطع بك الحصري وجهه إلى الدكتور طه حسين بك رداً على ما جاء في الحديث المنسوب إليه في جريدة المكشوف البيروتية حول موقف مصر من فكره العروبة، فأرجأناه مضطرين إلى العدد المقبل
فرنسس برت بنج والحياة المدرسية
لخصنا للقراء آراء برنردشو وبريسنلي ومس دي موربير في المشاكل المدرسية التي استفتّهم فيها مجلة عالم المدرسين الإنجليزية، وقد نشرت المجلة في عددها الأخير رأي الأديب الكبير فرنسس برت بنج، وأهم ما ذكره الأستاذ هو أسفه على أنه بدأ تحصيله كبيراً وشكاً من ضعف حافظته، واعترف بما كان لترجمة الإنجيل الإنجليزية من الأثر العظيم في توجيهه الأدبي. . . ثم أنكر أثر مدرسية فيه. . . وإلى هنا يتفق أولئك الأدباء(284/74)
الأربعة في هذه النقطة. . . ولم يخصص كتاباً كان له فيه أثر يذكر، بل كانت كل الكتب لديه سواء، وذلك أنه كان يقرأ منهوماً لا يبقي على شيء ولا يفضل شيئاً على شيء. . . ونحن نعلل ذلك بمزاجه الديني الفج، وإن يكن اليوم من أكبر الأدباء الإنجليز. . . وقد أوصى المدرسين أن ينموا قوة الملاحظة في تلاميذهم وأن يحببوا إليهم الحياة بكل ما فيها على أن يعرفوا حقائقها. . . ولم ينكر الجمع بين الجنسين في المدرسة إلى الرابعة عشر واستحسن التفريق بعد ذلك، فيكون برنردشو هو وحده لم ينكر الجمع بعد هذه السن مع أنه أكبر أدباء العالم الأحياء سنا. ونفي بنج ما يتهم به تلاميذ هذا العصر من الفظاظة والغرور ومحبة العيش على هامش الحياة. واستحسن أن يعمم التعليم الابتدائي لكل التلاميذ على أن يكون مرحلة أولى في تثقيفهم؛ وحبذ تعليم الخط على أن يكون مادة مستقلة؛ تم أنكر أن يعلم التلاميذ المواد الجافة التي لا تصلها بالحياة العملية صلة المنفعة.(284/75)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
مديرها ولجنة القراءة
كلمة عن رواية طبيب المعجزات
أرجو ألا يداخل مدير الفرقة شك في تجنينا الشخصيات فيما نكتب، سواء أكان أصحابها من رجال الإدارة أو لجنة القراءة أو اللجنة العليا أو طائفة الممثلات والممثلين أو غيرهم، لأن لكل شخصية في نظرنا حرمة وكرامة، ولأننا جميعاً سنزول، أما الفرقة القومية للتمثيل فستبقى، لأنها في نظر الحكومة التي أنشأنها، وفي نظر النواب والشيوخ الذين يعتمدون ميزانيتها، وفي نظر الأدباء الذين يغارون عليها، مؤسسة أدبية لها خطرها في الثقافة العامة. فإذا كنا أهملنا اسم الأستاذ عضو لجنة القراءة الذي تحدث إلينا حديثه الشائق (؟) ونهمل أيضاً ذكر اسم حضرات الأساتذة الذين أدلوا إلينا بآرائهم؛ وإذا كنت تعمدت إخفاء أسمي الصريح عن القراء والاستعاضة عنه (بابن عساكر) فلكي أستبعد كل مظنة، وأنفي كل شبهة أو تأويل، ولأبرز قدر المستطاع رغبات الغيورين على الفرقة، الراغبين في حياتها حياة تتواءم ونهضتنا الأدبية، الوجلين أن يدب إليها سوس الهرم وهي في المهد، فتنالها الشيخوخة بعدوى من روح شيوخها القائمين عليها
هو ذا غرضنا بأوضح تعبير. فإذا طاب لمدير الفرقة - وهو وحده المسؤول عنها - ألا يحمل دعوتنا إياه رؤية خلايا الفساد تنتشر في جسم الفرقة، على محملها الصحيح، أو إذا أحب أن يغضب فيعمد إلى استدعاء محرر بإحدى المجلات كما فعل فيقول له في سياق الحديث: (لقد يصل بي الأمر إلى أن أعطل الفرقة وأقفل أبوابها وأقدم تقريراً إلى وزارة المعارف أقول فيه أن التجربة قد فشلت)
إذا طاب له ذلك فهو وشأنه، ولكننا نستبعد إقدامه على تنفيذ تلك الفكرة، فهي فضلاً عن أنها تثير الضحك، تهدم جميع ما بناه في سني حياته الأدبية. ثم هو يعلم جيداً أن وزارة المعارف لن توافقه على إلغاء الفرقة القومية بجرة قلم استرضاء لخاطر مديرها الموتور من تألب أدباء البلد وفنانيها عليه، وتفكههم في مجالسهم بتصرفاته الدالة على بُعده عن فن(284/76)
الرواية والمسرح، وأنه أقحم على هذا الفن إقحاماً لا مبرر له
نعود الآن إلى أحاديث أعضاء لجنة القراءة فأقول: لقد تفضل حضرة الأستاذ. . فأجاب على سؤالي بقوله: (مهمة لجنة القراءة هي قراءة الروايات التي تقدم إليها وفحصها من جميع النواحي، أعني النواحي الفنية، والخلقية، والاجتماعية، واللغوية؛ فإذا أجازتها فذاك وإلا رفضتها. على أنه قد يكون في بعض الروايات عيوب من ناحية من هذه النواحي ممكن علاجها. وحينئذ ترد إلى المؤلف أو المترجم ليعالجها طوعاً للملاحظات التي تبديها اللجنة، ثم ترد إليها لترى إذا كانت صالحة بالعلاج أم لا)
سألت: هل لرأي النقاد المسرحيين قيمة في نظر اللجنة؟ فأجاب (ليس للنقاد المسرحيين رأي في النواحي التي ذكرناها (كذا) وإنما لهم رأي من ناحية الإخراج، كمعدات الإخراج، وطول الروايات وقصرها عن الوقت المناسب، ونحو ذلك مما يتعلق بعملهم الفني البحت (؟؟!!) أما أن الروايات قيّمة أو ليست قيمة، أو مناسبة أو غير مناسبة، فمن عمل اللجنة وحدها) ثم أردف قائلاً (لم أر إلى الآن في مصر نقداً فنياً قوياً يستطيع أن يسقط الروايات أو يعليها، وكل الذي رأيت محاولات أولية من هذا القبيل. وَهب أنه كان هناك نقد قوي فأعضاء اللجنة نقاد أيضاً (كذا) فلنا رأينا كما لهم رأيهم
هذا من جهة النقاد الفنيين، أما من جهة جمهور النظارة فقد يخالف حكمه حكم اللجنة فيقدر تقديراً عالياً رواية حكمت اللجنة أنها متوسطة، أو يحكم بأنها متوسطة وقد حكمت اللجنة عليها أنها راقية. وسبب ذلك أن الجمهور قد يقدر الروايات من نواح غير فنية ككثرة ما فيها من فكاهات، أو لأن مغزاها قريب المتنأول، وهذا لا يظهر إلا بعد أن تكون اللجنة قد أصدرت حكمها من قبل. ومع هذا فاللجنة تستفيد من رأي الجمهور فيما لا يعجبهم وما لا يعجبهم، وكل هذا يؤثر عند نظر اللجنة في الروايات المقبلة لا في الروايات التي أصدرت حكمها عليها
قلت: هل معنى كلامكم أن اللجنة تؤثر حكم الجمهور وتستفيد من رأي الجمهور ولا تأبه لرأي النقاد؟
فأجاب: (لا، من غير شك. يجب أن يكون رأي النقاد الفنيين في المقام الأول لأن منزلتهم منزلة الخبراء، ولكن قلت لك إنني فيما قرأت لم أر نقداً قوياً إلا في القليل النادر، وما عدا(284/77)
ذلك فمدح مفرط من غير أسباب فنية، أو ذم مفرط لأسباب شخصية غير فنية. والرأي الواجب الاحترام هو ما يصدر من فنيين راقين ينقدون الفن للفن. وإذا حدث ذلك، وقليلا ما يحدث، أحللناه المحل الأول من الاعتبار وقدرناه أكثر من تقدير الجمهور) قلت: هل لاحظتم تقدماً في تأليف الروايات خلال السنوات الثلاث، لأني أزعم أن الروايات التي مثلها الفرقة في عامها الثالث أحط منزلة من الروايات التي مثلت في السنين الثانية والأولى؟ فقال:
(من غير شك لاحظت هذا التقدم خصوصاً عندما قرأنا الروايات التي قدمت للمسابقة الأخيرة. نعم إننا لم نجد روايات حازت المكافأة الأولى، ولكننا رأينا روايات ظهرت فيها القدرة الفنية، وظهر فيها حسن السبك، وحسن الحوار، وإذا قارناها بالروايات التي قدمت في ظروف أخرى قبلها رأينا هذا التقدم محسوساً)
قلت: ما رأيكم في رواية ردتها لجنة القراءة إلى مؤلفها غير مرفقة بأسباب الرفض رأفة به، ثم أعيد تقديم تلك الرواية المرفوضة بعينها إلى اللجنة مع ما تقدم إليها من روايات للمباراة ففازت وأعلن فوزها مع أنه لم يتغير فيها سوى اسم مؤلفها الشاب باسم فتاة، فهل المسؤول عن هذه (اللعبة) مدير الفرقة أم لجنة القراءة؟
حدجني محدثي الفاضل بنظرة الدهشة والاستغراب، وبعد صمت هنيهة قال: (أحب أن أعرف رأي مدير الفرقة في هذا الواقعة) فأجبته بأن مهمتي هي استطلاع رأيه هو لا نقل آراء زملائه إليه
لم أحاول الاتصال بالشيخ الثالث من أعضاء لجنة القراءة لأن مهام الحكم أبعدته عنها، فلم يبقى أمامي سوى رابع الشيوخ الإجلاء وقد كنت أؤمل أن يكون بعيداً عن تخبطات زميليه الفاضلين فيما قالاه عن النقد والنقاد وفيما زعماه من نضوج الفكر الروائي السريع ومن تقدم المسرح نحو الكمال؛ غير أن حضرته أعز الله به دولة الأدب قال لي ما نصه: (يمكنك أن تقول لقراء الرسالة أو من شئت من الناس إن فلاناً، وذكر اسمه مجرداً من اللقبين العلمي والحكومي، لا يريد أن يقول كلمة في الفرقة القومية) وأرى أن في إصراره على عدم الكلام هو التهرب، وهو يتهرب من الكلام عن المسرح الذي طالما تكلم عنه قبل أن يكون لنا فرقة قومية(284/78)
بقي مدير الفرقة وهو الشيخ الخامس المتمم لأعضاء لجنة القراءة، وهو ما فتئ يقول للمجلات الأسبوعية إن فرقته ستصل إلى مستوى الكمال بعد حين، وأنه سيبني لها مسرحاً من المال المدخر، وأن الأدباء لا يوالونه بالتعضيد لأغراض ذاتية، وأن الصحافة لا تأخذ بناصره قبل أخذ ما بخزانته
لم يتيسر لي حضور تمثيل رواية (طبيب المعجزات) والذي أعرفه عنها، وقد قرأتها قبل عرضها على لجنة القراءة، أنها تدور حول شاب طبيب انقطع إلى البحوث العلمية فهداه علمه وتجاريبه إلى استنباط إكسير يطيل الحياة ويقضي على الموت. تفرح الأمة والحكومة، وتفرح حماته أيضاً بهذا الاختراع الذي أنقذ البشرية من الموت المكروه، ورفع مقام صهرها إلى مصاف الخالدين بتخليده الحياة
تجمع الأمة والحكومة على تكريمه، ثم لا يلبث الحال أن ينقلب عليه لفساد جميع النظم الاجتماعية وتغير الأوضاع وتساوي الحياة فيثور الناس على المخترع المسكين فيعمد إلى قواريره فيكسرها وإلى عقاقيره فيفسدها ليعيد العالم سيرته الطبيعية
وبهذه المناسبة أقول لحضرات أعضاء لجنة القراءة: إن قراءة الرواية شيء يختلف جد الاختلاف عن مشاهدتها تلبس ثياب الحياة على المسرح، وأن لا محيد للقارئ عن خصائص فنية مكتسبة وموهوبة تجعل حكمه غير مقتصر على الخلق والاجتماع واللغة فقط
ابن عساكر(284/79)
العدد 285 - بتاريخ: 19 - 12 - 1938(/)
من مآسي الحياة
يا إنسان! أين الإحسان؟
ما أطول أحاديث البؤس وأكثر حوادِثَ أهله!
كان للمقالين الذين كتبناهما في غفوة الإحسان عن مرتجيه، وقسوة الوقوف على مستحقيه، رجْعٌ شديد في أكثر النفوس. فقد غدا علينا البريد بعشرات من الرسائل الباكية كأنما كتبت بدموع العين ودماء القلوب فلا تدري أهي كلمات أم أنَّات! ولو شئت أن أنقل إليك بعض ما فيها لدهشت أن يكون في مصر - وهي البلد الذي يجري نيله بماء الحياة، ويفيض ثراه بطيبات الرزق - خَلْق من بني آدم يدمنون الصيام من الجوع، ويلبسون الظلام من العُرْى، وتصبح أمانيُّهم على الله أن ينقذهم من الحياة بالموت!!
هاك حالة واحدة من ألوف: روى الشيخ عبد الغني في رسالته الضافية ما ألخصه لك في هذه الأسطر:
طرابيشي في حي (السيدة زينب) كان يعيش من فضل الله وربح الحرفة في نعمة سابغة. كان رحْب الدكان والصدر، يجلس عنده سراة الحي فيتحادثون ويتنادرون ويفضي بعضهم إلى بعض بأسرار البيوت وأخبار الصحف، والمكاوي لا تنقطع عن الكي، والعمال لا يفتُرون عن البيع. وكان رخي البيت والأسرة، يغشى فناءه السهلَ ذوو القربى وأولو الحاجة، يتقلبون في أعطافه، وينالون من أَلطافه، ويستريحون إلى ظله. فلما تعود الناس قلة النفقات من كثرة الأزمات، ووفدت على مصر من وراء البحر بدعة العُرى، فتعرّت أرجل النساء من الجوارب، ورؤوس الرجال من الطرابيش، أخذت نار الطرابيشي تنطفئ وحركته تسكن ومورده يغيض، وأخذ الغرماء مجالس العملاء، وزاد عدد المحضرين على عدد المشترين؛ فكان الرجل يفتح دكانه يوماً ويغلقه أسبوعاً، حتى فتحه الدَّين وأعيته الحيلة فباع الملك، وركبه الهم والمرض فلزم البيت، وتفجَّرت عليه المصائب من كل جانب، فمات ولده الوحيد وكان في السنة الثالثة من كلية الطب، وتوفى أخوه البارُّ وكان موظفاً في إدارة القرعة، وتأيمت أخته الفقيرة الولود فلاذت بحماه، ووجد الداء في جسمه الواهم المنحلّ مجالاً فاستشرى، ورأف الله به أن يعاني الألم في نفسه وفي أهله طويلاً فتوفاه. وبقيت بعده زوجته المقطوعة، وأخته الأرملة، وابنتاه العانستان، يعشن على خمسين قرشاً(285/1)
في الشهر! أتدري من أين تأتيهن هذه الخمسون قرشاً؟ تأتي من أجرة الدكان. فقد استأجر الصانع الذي كان يعمل فيه آلاته وأدواته وأثاثه بمائة قرش، فكن يعطين وزارة الأوقاف منها ثمانين كراء المحل، حتى سعى لهن أهل الخير لديها فجعلته خمسين.
ويتساءل الناس بعد ذلك كيف يعيش هؤلاء النساء الأربع على هذا النزر اليسير من الرزق فلا يستطيع أحد أن يجيب، لأنهن أغلقن على أنفسهن وعلى بؤسهن غرفة من غرف الغسيل في بيت متهدم من بيوت (زين العابدين) فلا يدخل عليهن إلا جارة برغيف، أو خادمة بصحن. . .!
فليت شعري أتقنع الفتاتان كما قنعت المرأتان بهذا العيش، أم تُحملان آخر الأمر على ركوب الغواية والطيش؟
ذلك سؤال كان ينبغي أن يوجه إلى وزارة الأوقاف وأغنياء الأمة؛ ولكن وزارة الأوقاف ليست بيت المال الذي كان يقوم عليه عمر، والأغنياء في مصر كلما أفعم الله جيوبهم بالمال، أفرغ جنوبهم من الرحمة. فأموالهم للأحزاب والانتخاب، وعواطفهم للخيل والكلاب، ودنياهم للغرور والأبَهة. فلم يبق لطرائد الشقاء وفرائس الفاقة غير الله. ولله في أموال هؤلاء القساة حق معلوم هو الزكاة. والزكاة ركن من أركان الإسلام كالشهادتين والصلاة. والإسلام يعيد اليوم في عهد الفاروق زمانه وسلطانه، فالأمراء والوزراء يصلون، والمترفون والمثقفون يحجون، والدين والمدنية يتعاونان على تنزيه النفس وترفيه العيش وتأمين الحياة. فلماذا يظل هذا الركن مهدوماً وهو وحده العماد القوي لبناء الأمة، والطِّباب الناجع لأدواء المجتمع؟ لقد فرضت الحكومة على الأموال الثابتة والمنقولة ضرائب العمارة والدفاع والأمن، وجبَتها على الطوع والكَره؛ فما بالها وهي الحكومة الإسلامية القوية لا تجمع بوسائلها الإدارية ما جعل الله للفقراء، في أموال الأغنياء، ثم تقسمها على من سماهم الله في كتابه، فتأمن بذلك ثورة النفوس واضطراب الأمن وسخط العدالة؟
إنها إن تفعل ذلك تُرض نفوس العامة. وفي رضا هؤلاء تكثير النسل وتوفير الإنتاج وتيسير المعيشة. ولن تجد في جباية الزكاة ما تجد في جباية الخراج من امتعاض أو اعتراض أو مشقة، فإن البذل في سبيل الله ربِا المؤمن. ومليونا جنيه من الصدقات يدخلان بيت المال في كل سنة مع الأمانة والعدل، لا يتركان في الأمة سائلاً في شارع، ولا جائعاً(285/2)
في بيت، ولا جاهلاً في عمل. وكلما استبحر العمران، واستذأب الناس، واستشرت المطامع، تبين أقطاب الرأي وأصحاب الأمر أن الله الذي جعل الفساد في الدنيا، جعل الصلاح في الدين؛ فما من علة في الفرد، ولا آفة في الجماعة، إلا نبَّه إليها بنوره، وطبَّ لها في شرعه، وخفف منها بلطفه.
فهل تفكر حكومة الفاروق خليفة الله على وحيه، في إقامة الدين على وجهه، فتهدأ ضلوع، وتجف دموع، ويتذوق الناس في ظلال الإخاء، سعادة الأرض ونعيم السماء؟
أحمد حسن الزيات(285/3)
مصر والعروبة
إلى الدكتور طه حسين
من الأستاذ ساطع الحصري بك
أيها الأستاذ:
نشرت مجلة المكشوف البيروتية حديثاً جرى بينكم وبين جماعة من شبان العرب، على ظهر باخرة تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، قلتم في خلال ذلك الحديث إنكم تنادون (بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل التبادل الثقافي بينها)، وترون (من المفيد أن يكون تعاوناً اقتصادياً، وحتى تحالفاً عسكرياً) بين تلك الأقطار؛ غير أنكم لا ترضون وحدة سياسية، سواء أكانت (بشكل إمبراطورية جامعة) أم على طراز (اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري). وعللتم آراءكم هذه بقولكم (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين؛ وإنها ستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى).
قرأت هذه الآراء بدهشة غريبة، لأنني استبعدت صدورها منكم كل الاستبعاد، وقلت في نفسي: (لعل الكاتب نقلها على غير حقيقتها)، وأعدت قراءتها بإمعان، ولكني لمحت في عدة نقاط منها أسلوبكم المعروف، فقلت لعل الدكتور أراد أن يمتحن هؤلاء الشبان، ويتأكد من مبلغ إيمانهم بالقضية، ويسبر غور درسهم لوجوهها المختلفة: فالآراء التي أدلى بها ربما كانت من نوع الآراء الجدلية التي ترمي إلى حمل المخاطب على التعمق في التفكير. فوجدت نفسي تجاه هذه الملاحظات بين عاملين مختلفين: عامل يدفعني إلى الإسراع في مناقشة هذه الآراء لكي لا أترك مجالاً لزعزعة إيمان بعض الشبان بتأثير سلطتكم الأدبية السامية، وأسلوبكم الأخاذ. . . وعمل يدفعني إلى التريث في الأمر لكي أتأكد من صحة الحديث المعزو إليكم. تريثت لذلك مدة من الزمن. . ولما لم أطلع على تصحيح أو توضيح صدر منكم، رأيت من الواجب علي أن أقدم على المناقشة بدون أن أنتظر مدة أطول. . .
فإذا كان في الحديث الذي نسب إليكم شيء من البعد عن الواقع، فأرجو أن تعتبروا كلمتي هذه بمثابة رد على الآراء المسرودة في ذلك الحديث، بقطع النظر عن قائلها؛ وإذا كان فيه شيء من قصد المناقشة الجدلية - كما أسلفت - فأرجو أن تعتبروا هذه الأسطر بمثابة صفحة من صفحات تلك المناقشة الجدلية. . .(285/4)
قلتم للشبان الذين تحدثتم إليهم: (إن المصري مصري قبل كل شيء، فهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف. . .)
فاسمحوا لي أن أسألكم: هل الوحدة العربية تتطلب من المصريين التنازل عن المصرية؟ أنا لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي، لأني أعتقد بأن دعوة المصريين إلى الاتحاد مع سائر الأقطار العربية لا تتضمن بوجه من الوجوه حثهم على التنازل عن (المصرية). إن دعاة الوحدة العربية لم يطلبوا ولن يطلبوا من المصريين - لا ضمناً ولا صراحةً - أن يتنازلوا عن مصريتهم، بل إنهم يطلبون إليهم أن يضيفوا إلى شعورهم المصري الخاص شعوراً عربياً عاماً، وأن يعملوا للعروبة بجانب ما يعملونه للمصرية. . فهل لديكم ما يبرهن على أن ذلك من نوع (طلب المحال)؟ وهل لديكم ما يدل عل أن العروبة والمصرية ضدان لا يجتمعان، وعنصران لا يمتزجان؟
وقد قلتم لمخاطبكم: (ولا تصدق ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة. . . فالفرعونية متأصلة في نفوسهم) ثم أضفتم إلى ذلك حكماً قاطعاً، فقلتم: (وستبقى كذلك. . .)
فهل تسمحون لي أن أستوضحكم ما تقصدونه من كلمة (الفرعونية)؟ هل تقصدون منها الأخذ بحضارة الفراعنة، أم الاعتزاز بثقافة الفراعنة، أم تقصدون منها بعث اللغة الفرعونية أو الآداب الفرعونية، أو الديانة الفرعونية، أو السياسة الفرعونية؟
أنا لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا منها الحضارة أبداً: لأنكم لستم - بدون ريب - ممن يقبلون لمصر ولغير مصر - حضارة في هذا العصر غير الحضارة العلمية الحالية. . . كما لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا من هذه الكلمة (الديانة الفرعونية) أيضاً. . .
هذا ومن جهة أخرى فإنني أجد في مناداتكم (بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل التبادل الثقافي بينها) دليلاً قاطعاً على أنكم لم تقصدوا منها الثقافة الفرعونية أو اللغة الفرعونية أيضاً.
فماذا تقصدون منها إذاً؟ السياسة؟ فهل تعتقدون بأن (السياسة الفرعونية) تتطلب (الاكتفاء بحدود مصر الحالية) فترفض (التوسع) بكل أنواعه، حتى ولو كان عن طريق (قبول انضمام) الأقطار العربية؟
إنكم أشرتم في حديثكم إلى الآثار الباقية من عهد الفراعنة بشكل يستوقف الأنظار، وأردتم(285/5)
أن تدعموا آرائكم بجلال تلك الآثار إذ قلتم:
(لا تطلبوا من مصر أن تتخلى عن مصريتها، وإلا كان معنى طلبكم: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام، وتغاضي عن جميع الآثار التي تزين متاحفك ومتاحف العالم، وإنسي نفسك واتبعينا. . .)
يظهر من هذه التأويلات أنكم تودون أن تخلقوا للفكرة العربية خصوماً من الآثار القديمة، وأن تضعوا في سبيل تيار هذه الفكرة سدوداً من الرموس والأطلال. فهل فاتكم أن التعارض والتصادم لا يحدثان إلا بين الأشياء التي تسير على مستوى واحد، في عالم واحد؟ وأن الفكرة العربية التي تعمل في القرن العشرين - للأجيال القادمة - لا يمكن أن تتعارض مع آثار بقيت ميراثاً من ماض سحيق، يرجع إلى أكثر من خمسة آلاف من السنين؟
إن مصر قد تباعدت عن ديانة الفراعنة دون أن تهدم أبا الهول؛ وتخلت عن لغتها القديمة دون أن تقوض الأهرام؛ وجميع آثار الفراعنة التي زينت بها متاحف مصر ومتاحف العالم لم تُولَد نزوعاً للعودة إلى الديانة التي أوجدت تلك المآثر الخالدة، ولا حركة ترمي إلى بعث اللغة التي رافقتها خلال قرون طويلة، فهل من موجب لطلب هدم الأهرام وتناسي الآثار لأجل الوحدة العربية؟
إن الأهرام - مع جميع الآثار الفرعونية - لم تمنع مصر من الاتحاد مع سائر الأقطار العربية اتحاداً تاماً - في ميدان اللغة - فهل يمكن أن تحول دون اتحادها مع تلك الأقطار في ميدان السياسة أيضاً؟
كلا أيها الأستاذ، إن التيارات القوية العميقة التي جرفت حياة مصر إلى اتجاهات جديدة منذ عشرات القرون، والتي أخرجتها من ديانتها القديمة وأنستها لغتها الأصلية - بالرغم من وجود الأهرام وقيام أبي الهول - سوف لا تحتاج إلى هدم شيء من آثارها القديمة، لتجرفها نحو السياسة التي يؤمن بها دعاة الوحدة العربية، ولا سيما أن هذه السياسة ليست إلا نتيجة طبيعية للغة مصر الحالية ووضعها العام.
إن دعاة الوحدة العربية لم يقولوا ولن يقولوا لمصر: (إنسي نفسك) بل يقولون وسيقولون لها: (استزيدي من ثروة نفسك) بالعمل على توحيد أبناء لغتك. (إنهم لم يقولوا ولن يقولوا(285/6)
لها: (اتبعينا)، بل يقولون وسيقولون لها: سيري إلى الأمام، ونحن نتبعك على الدوام.
سألتم خلال الحديث: (أتريدون أن تتحقق الوحدة العربية؟ فعلى أي أساس علمي تنادون بها؟) ثم قلتم: (تعالوا معي نستعرض الروابط التي تصل مصر بالأقطار العربية الأخرى) فاسمحوا لي أن أشترك معكم في الإستعراض، لاناقشكم في أهم المواقف التي وقفتموها خلاله:
لقد وقفتم أولاً أمام قضية (الأصل والدم) وقلتم: (إن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء)
وأنا لا أود أن أتطرق - في هذا المقام - إلى مسألة أصل المصريين القدماء، ولا أن أبحث عن علاقتهم أو عدم علاقتهم بالساميين عامة وبالعرب خاصة. . . سأسلم - جدلاً - بما تقولونه في هذا الباب، مع هذا سأسألكم بدوري: هل علمتم بوجود أمة على الأرض انحدرت من أصل واحد تماماً؟ وهل تستطيعون أن تذكروا لي أمة واحدة ترتبط بروابط الدم فعلاً وحقيقة؟
إن جميع الأبحاث العلمية تدل على عكس ذلك تماماً. إنها تدل على أنه لا توجد على وجه البسيطة أمة خالصة الدم. . . حتى الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم الأوربية في طريق الوحدة والاستقرار، لا تدعي وحدة الأصل والدم. وعلماؤها يعترفون بأن الأجناس التي دخلت في تركيبها تعد بالعشرات، كما يعترفون مثلاً بأن أهالي جنوب فرنسا يختلفون عن سكان شمالها - من حيث الأصل والدم - اختلافا كبيراً. أيمكنكم أن تدعوا - والحالة هذه - أن عدم وحدة الأصل والدم، يجب أن يحول دون انضمام مصر إلى حركة الوحدة العربية؟
ثم وقفتم أمام مسألة التاريخ، وادعيتم أن (تاريخ مصر مستقل تمام الاستقلال عن تاريخ أي بلد آخر)
فاسمحوا لي أن أقول بأن هذا الادعاء افتئات صارخ على الحقائق الواقعة. . . فإن تاريخ مصر اختلط اختلاطاً عميقاً بتاريخ سائر البلاد العربية وتشابكت أوشاجه معها، خلال القرون الثلاث عشرة الأخيرة على الأقل. . . فكيف يحق لكم أن تحذفوا هذه القرون من تاريخ مصر؟. . . أنا لا أنكر أن تاريخ مصر لم يبق متصلاً بتاريخ سائر الأقطار العربية(285/7)
على الدوام، غير أنني أدعي أن ذلك شأن تواريخ الأمم الأخرى بدون استثناء. فإن تواريخ الأمم تشبه الأنهر الكبيرة التي تتكون من روافد عديدة بوجه عام
إن من يلقي نظرة عامة على تواريخ الأمم المعاصرة لنا كأن يستعرض تفاصيل تاريخ الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم في طريق الوحدة القومية - كما ذكرت آنفاً - يضطر إلى التسليم بأن العلاقات التاريخية التي تربط مصر بسائر الأقطار العربية، أقوى وأعمق وأطول من العلاقات التاريخية التي تربط الأقاليم الفرنسية بعضها ببعض. . .
وإذا أظهرتم شيئاً من الريب في هذا الباب فإنني مستعد لذكر التفاصيل والأسانيد التي تبرهن على صحة دعواي برهنة قطعية.
والآن انتقل معكم إلى آخر المواقف التي وقفتموها خلال استعراض الصلات. . . لقد أنكرتم (تأثير اللغة) في تكوين (الوحدة العربية) وقلتم: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا وسويسرا، ولا أمريكا ولا البرازيل ولا البرتغال. . .)
فاسمحوا لي أن أناقشكم في هذا الموضوع المهم مناقشة طويلة:
لو كنتم أقدمتم أيها الأستاذ على كتابة بحث مثل هذا البحث للبرهنة على نظرية مثل هذه النظرية - قبل ربع قرن - لاستطعتم أن تضيفوا إلى هذه الأمثلة مثالين آخرين. . . لقلتم عندئذ: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت الإمبراطورية النمسوية، ولا السلطنة العثمانية. . .)
ولو كنتم ممن عاشوا وكتبوا قبل ذلك بنصف قرن. . . لاستطعتم أن تضيفوا إلى أمثلتكم عشرات الأمثلة الأخرى، ولأرخيتم العنان لقلمكم الجواب لينتقل من جنوب إيطاليا إلى شمال ألمانيا. . ولقلتم: (لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم. . . لما كانت ساردونيا وساكسونيا، ولا بيه ده مونته وباديرا. . .)
غير أن تقلبات الزمان، أزالت من عالم الوجود جميع تلك الأمثلة والشواهد الكثيرة، وحرمت النظرية التي تقولون بها إمكان الاستناد إليها، فحصرت الأمثلة في الأسماء التي ذكرتموها. . . أفلا ترون إليها الأستاذ إن هذه الملاحظة وحدها كافية للبرهنة على أن مثل هذه البراهين لا تخلو من مزالق كثيرة، فلا يجوز الاعتماد عليها في حل القضايا الاجتماعية؟.(285/8)
أفتلومونني إذا قلت إن هذه المحاكمة لا تخلو من الشبه بمحاكمة من يقول: (لو كان لجاذبية الأرض وزن في تقرير مواضع الأجساد لما بقيت القناديل معلقة في السقوف، ولما صعدت الأدخنة إلى السماء، ولما طارت الطيور وارتفعت المناطيد.)
اسمحوا لي أن استعرض الظروف الخاصة التي تلازم كل واحد من الأمثلة التي ذكرتموها، لكي أبرهن على صحة تشبيهي هذا.
إن أول الأمثلة التي ذكرتموها للتدليل على عدم (وزن اللغة في تقرير مصير الأمم) هو وجود بلجيكا. وهل فاتكم أن بلجيكا ليست متجانسة من حيث اللغة، بل هي من المناطق التي تتلاقى وتتشابك فيها اللغات؟ ولا شك في أنكم تعلمون أن النصف من سكانها يتكلم الفرنسية، في حين أن النصف الآخر منها يتكلم الفلامندية. . . فاتحاد كل فريق من هؤلاء مع سائر أبناء لغتهم يتوقف على (تجزئة وتقسيم بلجيكا) في حين إن ذلك يصطدم بمشاكل عظيمة وموانع جسيمة من الوجهة الجغرافية والاقتصادية والسياسية.)
أولاً - إن حدود الألسن في بلجيكا لا تخلو من تشابك وتعقيد؛ فعاصمتها بروكسل - مثلاً - تقع في منطقة فلامندية مع أنها من أهم المراكز الفرنسية، يتكلم سكانها اللغة الفرنسية في حين إن سكان القرى والقصبات المحيطة بها يتكلمون الفلامندية؛ ولا شك في أن هذا التشابك يجعل أمر تجزئة هذه المملكة من المشاكل العويصة من الوجهة المادية والجغرافية.
ثانياً - إن حدود المناطق اللغوية في بلجيكا لا تتفق مع حدود المناطق الاقتصادية، مما يجعل أمر التقسيم عسيراً جداً من الوجهة الاقتصادية أيضاً. . .
ثالثاً - تشغل بلجيكا موقعاً هاماً بين ثلاث من اعظم الدول الأوربية وهي ألمانيا وفرنسا وإنكلترا، ولا حاجة لإيضاح أن تعارض منافع هذه الدول المنظمة الثلاث (جعل أمر) إبقاء المملكة البلجيكية على حالتها وعلى حيادها (من لوازم التوازن الدولي العام، ومن مستلزمات (السياسة العالية الهامة، فكيف يجوز لكم أن تعتبروا (وجود بلجيكا) دليلاً على عدم (وزن اللغة) في تقرير مصير الأمم؟ أفلم أكن محقاً فيما قلت: - إن ذلك يشبه اعتبار توازن بعض الأجسام دليلاً على عدم تأثير الجاذبية الأرضية عليها؟. . .
هذا، ومن جهة أخرى أود أن أسألكم: هل من وجه لتشبيه قضية (بلجيكا والأمم المجاورة لها) بقضية مصر والبلاد العربية المتصلة بها؟ وهل من مجال لاعتبار مصر أو الأقطار(285/9)
العربية المتصلة بها من مناطق تشابك اللغات وتعقدها؟ وهل يتوقف اتحاد مصر مع سائر الأقطار العربية على تجزئتها أو تجزئة غيرها؟
ترون أيها الأستاذ أنه لا يوجد في مثال بلجيكا ما يؤيد دعواكم بوجه من الوجوه.
أما قيمة المثال الثاني الذي ذكرتموه، فلا تختلف عن ذلك كثيراً: فإن سويسرا أيضاً من مناطق تلاقي وتشابك اللغات، تتلاقى فيها اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية، كما تتلاقى فيه أهم سلاسل الجبال الأوربية. . . فلا يجوز اتخاذها دليلاً على عدم وزن اللغة في تقرير مصير الأمم بوجه من الوجوه. .
وأما المثال الثالث الذي ذكرتموه، فهو أيضاً لا يؤيد دعواكم في هذا الباب: أنا لا أرى لزوماً - في هذا المقام - إلى شرح خصائص أمريكا، ولا إلى البحث في قضية العناصر بها. . . بل سأكتفي بالإشارة إلى عظمة المحيط الاطلنتيكي الذي يفصلها عن القارة الأوربية. . . واعتقد أن هذه الإشارة وحدها تكفي للبرهنة على أن قضيتها لا تشبه قضية البلاد العربية بوجه من الوجوه. . . فإن الأقطار العربية متصل بعضها ببعض اتصالاً جغرافياً تاماً. . . والقطر المصري يشغل بين هذه الأقطار مركزاً هاماً. وأما الحدود التي تفصلها عن سائر الأقطار العربية، فتنحصر - في بعض الجهات - بخطوط وهمية تمتد فوق رمال الصحراء. . . فهل تعتقدون أن هذه الخطوط الوهمية التي تفصل مصر عن سائر الأقطار العربية بصورة اعتبارية واصطناعية، تستطيع أن تعمل عملاً مماثلاً لعمل المحيط الذي يفصل أمريكا من أوربا بصورة حقيقية وطبيعية؟. . .
بعد أن شرحتم، أيها الأستاذ، وجهة نظركم في الوحدة العربية، رأيتم أن تقدموا نصيحة إلى محدثيكم الشبان، فقلتم:
إن كان لي نصيحة أسديها إليكم فأن تتمسكوا بالواقع العلمي وتهملوا سواه، مهما كانت قوته العاطفية والخيالية. افهموا أن المنفعة تسير الشعوب. فإن لم تفهموا هذا اليوم فسترغمون على فهمه غداً. . .
أنا أضم صوتي إلى صوتكم في هذه النصيحة، من حيث الأساس؛ غير أنني أنكر عليكم النتائج التي وددتم أن تصلوا إليها تحت حماية هذه النصيحة. . .
تقولون إن المنفعة تسيّر الشعوب؛ فهل تعتقدون أن (اتحاد الأقطار العربية) مخالف لمنافعها(285/10)
أو خال منها؟ وهل تدعون أن منافع كل واحد من الأقطار العربية ستحول دون اتحادها؟
أما أنا فأعتقد عكس ذلك تماماً. أعتقد أن فكرة الوحدة العربية لا تستند إلى العاطفة وحدها، بل تستند إلى المنفعة أيضاً. أعتقد أن منفعة مصر نفسها تتطلب منها الاتحاد مع سائر البلاد العربية، كما اعتقد أن منفعة مصر في هذه القضية ليست من المنافع البسيطة الطفيفة، بل هي من المنافع الهامة الحيوية. . وإذا كان الذين يقدرون أهمية هذه المنافع لا يزالون قليلين اليوم، فلا شك في أنهم سيكثرون يوماً بعد يوم.
وعلى كل حال أؤكد لكم أنني من الذين يؤمنون بالوحدة العربية ويدعون إليها، لا بتأثير العواطف فحسب، بل بملاحظة المنافع أيضاً. . ولهذا السبب عندما قرأت قولكم: (إن المنفعة تسيّر الشعوب) قلت في نفسي حالاً: (وهذه المنفعة هي التي ستسيّر المصريين نحو الوحدة العربية، عاجلاً أو آجلاً)
هذا، وأرى ألا أختم اعتراضاتي دون أن أتوجه إليكم بكلمة شكر، فإني أشكركم من صميم فؤادي على مناداتكم بتوحيد الثقافة بين البلاد العربية، لأنني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. . . فأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة.
(بغداد)
أبو خلدون ساطع الحصري(285/11)
مقياس الثقافة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يرى أكثر الناس أن الحق جوهر لا يتجزأ، وانه إذا كان عند إنسان أو طائفة من الناس لم يكن عند خصومه أو خصومهم شيء منه. ومن ير هذا الرأي تضؤل ثقافته ويضؤل فكره. وهؤلاء المؤمنون بالحق قد يرون من المنكر الشنيع أن يجزئوه بين خصمين أو أكثر. وفي الناس طائفة أخرى على شيء من الثقافة تستطيع أن ترى ما للأضداد من الحق، ولكنها من أجل ذلك لا تؤمن بالحق لزعمها أن الحق لا يتجزأ، فإن تجزأ انعدم؛ وإنكارها الحق بسبب تجزئه نقص في ثقافتها ينشأ من قليل من الثقافة، فإن بعض الثقافة عن يعوِّق عن بعض. والدهماء وأشباه المتعلمين يغرون بمحاكاة هذه الطائفة في إنكار الحق، والتشبه بها في الزراية عليه من غير بصيرة ولا فهم، ويتشبهون بها في الزراية على كل ذي حق من فضل في العلم أو العمل أو الخلق، ويتشبهون بها في إظهاره بمظهر المزيف المخادع. وإذا كثر أمثال هؤلاء وأشباههم في أمة ماتت روحها وأصابها الركود وإن كانت حية ترزق. والرجل من هؤلاء إذا وجد لإنسان حقاً أنكره، وإذا وجد له نصف حق أنكره، وإذا وجد له ثلث حق أو ربع حق أنكره، لأنه في سريرة نفسه لا يرى لنفسه ذرة صغيرة من الحق تعدل اعترافه بجزء غيره من الحق أو كله. وكلما عظمت الثقافة عرف كل خصم جانب الحق الذي لخصمه، بقدر عرفانه جانب الحق الذي في ناحيته؛ وهم إذا عرفوه حقيقون أن تقل الخصومة بينهم، ولكن ربما لا تنعدم، لان كل إنسان يرى لنفسه من الحق نصيباً أكثر من نصيب غيره، فيتقاتلون على تعيين حدود أجزاء الحق إن لم يتقاتلوا على تعيين حدود الحق كله. على أن الثقافة كفيلة بأن تلطف تلك الخصومة، لأن المثقف الباحث في نفسه المفكر فيها كثيراً ما يراجعها، فإذا عادى عادى وهو يحسب في خصومته حساباً لما قد يكون من خطأ النفس الذي لم يفطن له بعد في تقدير حقها، ويحسب أنه ربما يفطن له في مستقبل أمره. أما غير المثقف فإنه لا يستطيع أن يحسب حساباً لما قد يكون من خطأ النفس الذي لم يفطن له. ولعل ألصق خصائص الثقافة وألزمها لها عرفان أوجه الحق عرفاناً ملحاً يدعو إلى الاعتراف بها ويدعو إلى حسبان سقطات الفكر من غير قصد والى إسقاط المرء الشيء ولو القليل من الثقة بالفكر كي يعدل به ما قد يكون من خطأ لم يفطن(285/12)
له.
وقد ولع بعض الكتاب بالزراية على الحق زراية ليست زراية من يريد أن يقلقل المتنطسين في التشيع لجانب منه عن تنطسهم كي يدركوا الجوانب الاخرى، وإنما هي زراية الجاهل الذي يريد أن تعم الفوضى كي يكتسب فيها ومنها من غير حق، كاللص الذي ينتهز فرصة فوضى العراك كي يسرق دراهم الناس. وأمثال هؤلاء الكتاب يجدون رواجاً في أوساط التدهور حيث يصير السخر بالحق وأوجهه خطة عامة لا يستثنى منها فضل أو علم أو عمل أو خلق. فلا غرابة إذا ماتت روح أمة هذا شأنها وإن كانت حية ترزق. والحق عند الجاهل كالدنيا عند الأبله الساذج بقعة حول نفسه أو داره أو قريته. وكلما زاد المرء علماً كبرت الدنيا في نظره حتى يعرف أنها عوالم ونظم شمسية عديدة لم تحص بعد. وكلما ازداد المرء فطنة وثقافة عظم الحق في ذهنه كعظم الدنيا في رأي علماء الجغرافية والفلك. على إن عظم الحق في نظر المفكر قد يعدم الحق كما رأينا، فيقول المرء لا حقيقة في الحياة، بل كل أقوال الناس دعاوى باطلة، وإنما مَثَلُ نظر هذا المفكر إلى الحق مَثَلُ نظر المُطِلِّ في الماء وقد قذف فيه بحجر، فهو ينظر إلى دائرة موقع الحجر في الماء تتسع حتى تفنى. ولكن هناك حالة من حالات الثقافة يطمئن فيها المرء إلى أن تباين أوجه الحق لا ينفي الحق. ألم تر أن الدواء يشمل الأضداد ويشمل حتى السم، فلا ينفي ذلك أنه دواء. وحبذا لو فطن إلى ذلك أصحاب الأوهام الغريبة الذين لا يرون الخير إلا الخير المطلق الذي ليس متصلا بالشر، والحقيقة المطلقة التي لا تتصل بباطل ولا تتجزأ، فإذا وجدوا أن الخير في الحياة ممتزج بالشر قالوا أن لا خير ولا شر؛ وإذا وجدوا أن الحق ممزوج بالباطل قالوا أن لا باطل ولا حق، وإنما هي كلمات واصطلاحات، وإن كل إنسان يعد الحق والخير ما في ناحيته وما فيه نفعه، ولكن لو أن أحد الناس نظر في وجوه الناس ثم في وجوه الحيوانات والطيور ثم قال: إن اختلافها يدل على أن ليس في الكون ما يسمى وجهاً أكان يكون مصيبا في مقاله؟ وكذلك من نظر إلى الدنيا نظرة الراهب الزاهد فيها ونظرة المقبل على مباهجها وأطايبها ونظر إليها نظرة القوي ثم نظرة الضعيف وجد أن أوجه الحق مختلفة، أكان يكون مصيبا لو قال إن اختلاف أوجه الحق ينفي الحق؟ أليس قوله مثل قول من يعرف أن النور إنما يتكون من ألوان عدة، ويقول إن اختلاف مظاهر(285/13)
الألوان التي يتكون منها شعاع النور ينفي وجود النور. وإنما دفعه إلى إنكار الحق أن نغاير وجوه الحق قد يجعله عند الناس كمقياس من الجلد القابل للتمدد يتخذونه لقياس الأقمشة وهم تارة يمطونه إلى نصف مط، وتارة يمطونه إلى آخر ما يستطاع فيه من المط حسب أهوائهم. وكذلك يطيلون الحق ويقصرونه حسب أهوائهم فيصير الحق مقياس محتال وآلة خداع فتقل حماسة المرء في سبيل الحق، ويحتقر الجهاد في الحياة لنصرة الحق، ويدفعه اختلاف أوجه الحق إلى إنكار الحق، ويهيئ له العذر في نصرة الباطل لأنه يرى أن الإحساس بالحق والباطل يختلف كاختلاف الإحساس بالحر والبرد حسب الأمزجة والطبائع. وإذا نظرنا إلى اكثر الممتعضين من الحياة الراجين إصلاحها وجدناهم من أصحاب المزاج الشاذ أو من ذوي الفشل أو الفقر؛ وبالرغم من أن أساس هذا الامتعاض فردي، وأنه شعور خاص، فإنه من وسائل الرقي والإصلاح، ويؤدي إلى كثير من الخير والحق. وكذلك إذا نظرت إلى أصحاب المزاج المعتاد وأهل النجاح والسعادة وجدتهم يكرهون كل تغير، ويرون صلاح الحياة في بقاء كل قديم على حاله؛ وبالرغم من أن أساس رأيهم شعور خاص بما فيه النفع لهم فإنهم يدافعون عن الحق الكائن والخير القديم ويفطنون إلى ما في رأي الممتعضين من الحياة الراغبين في إصلاحها من وهم وباطل وشر وإن لم يفطنوا إلى ما في رأي هؤلاء من حق وخير. والرجل المثقف هو الذي يستطيع أن يجمع بين النظرتين من غير أن ينعدم الحق في نظره، والذي يعد فريضة التشبث بالقديم ليست من الباطل بل هي الحجر الذي يحتك به زناد المتطلعين إلى منازل الرقي الراغبين في إصلاح الحياة فيوري هذا الاحتكاك نور الحق ونار الحياة. وإنما ضربنا مثل هاتين الطائفتين كي نوضح أن اختلاف منازل الحق لا ينفي الحق. وليس من الصعب تطبيق هذه الفكرة بالرجوع إلى كل أمر من أمور الحياة، والى كل فريق من طوائف الفكر والعمل، والى كل مذهب من مذاهبهما. ومن أجلها كانت كل حقيقة متممة لأختها؛ ولا يتم الحق في رأي إلا بما في نقيضه من حق، كما لا يتم الباطل في رأي إلا بما في نقيضه من باطل متصل به أو قد يتصل به. والذي يحير المفكر الذي لا يجد في الثقافة عزاء ولا هو ممن يتغلب على نزعات الفكر الحر بالتعصب لجانب منه أنه يريد حياة بسيطة ولكنها ليست بسيطة، بل إنها كالخيط المعقد تلوى بعضه في بعض. فإذا(285/14)
استراح المرء إلى الثقافة وجد فيها عزاء، ورحب صدره ولبه بقدر اتساع الحق في نظره، ولم يحزنه اختلاف أوجه الحق، ولم يضله إلا في ساعات كلل الذهن أو ساعات الخوف أو التعب أو السقم والتشاؤم الذي يتهيأ في هذه الحالات أو في مثلها. على أن مذهب من ينكر الحق بسبب اختلاف مظاهره هو أيضاً من الوسائل التي تستقيم بها الحياة وتستفيد منها، فالحياة تتخذ من كل مذهب وسيلة وتقبل نفعه وتدفع ضره، وبمذهب من ينكر الحق لاختلاف مظاهره تستطيع الحياة أن تداوي نقيضه وهو مذهب المتعصب لجانب واحد من جوانب الحق. وإن المفكر ليرى في العقل البشري على العموم خصيصة تمكنه في بعض حالاته من قبول أي رأي أو معتقد سواء أكان قريباً أم بعيداً، متزناً أم غير متزن، جليلاً أم غير جليل. وهذه الخصيصة قد تدعو إلى الباطل، ولكن من الثقافة ألا ييأس المفكر من أجلها لأنها دليل على أن العقل البشري قادر على أن يرى كل جانب من جوانب الحق في الأمور في أثناء التخبط في جوانب الباطل منها. وما دام الرأي لا يصير عادة أو قيداً وسجناً أو ألفاظاً ميتة مستحبة أو شيئاً لا يصح الرجوع عنه بطريق الثقافة، فالأمل معقود في التخبط والتهدي حتى ولو قبل العقل البشري من الآراء في بعض الأماكن والأزمنة والحالات ما قبلته عقول زنوج الغابات ونفوسها وما قبلته عقول القبائل البشرية من آراء رهيبة يصف أمثالها السير جيمس فريزر وسجموند فرويد. وأشد منها رهبة وخطراً على العقول البشرية أن يحرم محرم في أرقى الدول الحديثة حضارة وفكراً على العقل البشري أن يفكر إلا فيما تسمح بالتفكير في تلك الدول، لان الأمل معقود بتخبط الفكر البشري وتهديه ما دامت الثقافة رائدة، وما دام الرجل المثقف يفسح صدره لرأي خصومه، لان كل جانب من جوانب الحق قد يتصل بجانب من جوانب الباطل، إذ بينهما تقارب وتناسب؛ فالرغبة في بلوغ الكمال وولوع الفكر به وبتحقيقه مما يوطد سبل التقدم، ولكنها أمور قد تدفع إما إلى اليأس إذا فشلت، وإما إلى الإجرام في أثناء محاولة تنفيذ أغراضها، فتكون داعية إلى الحق من ناحية. وإلى الباطل من ناحية أخرى، وكذلك الرأي القائل بإنكار استطاعة رقي الإنسانية وكما لها قد يؤدي إلى الحق الذي في جانب الاتزان والتؤدة والمحافظة على الحق المستطاع بدل لفظه في سبيل الحق المنشود. ولكنه قد يؤدي من ناحية أخرى إلى الأثرة وتبرير الفساد الموجود لأنه موجود في وجود أنكر هذا الرأي(285/15)
إمكان إصلاحه. والرأي القائل بالإيثار له جانب حق كما أن للأثرة جانباً آخر يُنشد في تهيئة الآحاد والأفراد بالقوة والإقدام، وفي قوتهم وإقدامهم قوة للمجتمع الإنساني وإقدام له.
وعمل الثقافة في الحياة هي أن تؤسس الحياة على أساس صالح يوفق بين جوانب الحق في الأضداد، وأن تفصل بين كل جانب من جوانب الحق وما يلائمه من جوانب الباطل.
عبد الرحمن شكري(285/16)
صور من الحياة في بغداد
للدكتور زكي مبارك
يظن فريق من الناس أن الحياة متشابهة الألوان، وإن اختلفت البلاد. وحجة هذا الفريق أن الناس متقاربون أشد التقارب في الغرائز والميول. ويشهد بصحة هذه الحجة أن مذاهب الناس في ملاعبهم وملاهيهم قد تقترب في هذه الأيام مما كانت عليه قبل آلاف السنين. وكذلك تقترب مذاهبهم في فهم الحقائق الأخلاقية والاجتماعية، بحيث يمكن القول بأن حكماء مصر وبابل والهند والصين في العصر القديم عبروا عن آراء وأفكار ليست بعيدة كل البعد عما نعرف في العصر الحديث.
وقد دهشتُ حين زرت مدينة رُوَان في سنة 1927 فقد رأيت بعض الأحياء القديمة هناك تشبه بعض الأحياء القديمة في القاهرة من حيث تخطيط الشوارع وهندسة البيوت.
وكذلك دهشت حين زرت بغداد في السنة الماضية، فقد رأيت فيها أحياء تشبه بعض الشبه حيّ الداوودية بالقاهرة، من حيث إقامة الرواشن وزخرفة الأبواب.
والحق أن هناك موجات مدنية تغمر العالم من حين إلى حين فتوحد مذاهبه في العيش بعض التوحيد. ويوضح ذلك ما نراه من طغيان المدنية الأوربية في هذا العصر: فهي تكاد تحوّل العالم إلى شكل واحد في الملابس والعادات والمذاهب المعاشية، وكذلك كان الحال يوم سادت المدنية المصرية والمدنية الرومانية والمدنية العربية.
ولكن تشابه الناس في بعض مناحي التفكير وخضوعهم لطغيان بعض المدنيات لا يمنع من وجود خصائص أصيلة يمتاز بها بلد عن بلد، وشعب عن شعب.
وهل يمكن القول بأن الوحدة السياسية في قطر من الأقطار تفرض أن يتْسم بوحدة اجتماعية؟
إننا نعرف أن أهل مصر يختلفون في كثير من العادات والتقاليد باختلاف المناطق، ولو شئت لقلت أن عندنا مِصرَين: مصر الشمالية، ومصر الجنوبية؛ ولكل ناحية من هاتين الناحيتين خصائص ومميزات تتمثل في أشياء كثيرة منها طرائق التعبير وأساليب الغناء.
ونعرف أيضاً أن فرنسا تنقسم إلى أمم وشعوب بالرغم من وحدتها السياسية، ولكل أمة من تلك الأمم مذاهب في العيش والتعبير، ولها كذلك أذواق خاصة في الطعام والشراب.(285/17)
فإذا انتقلنا إلى العراق الذي نخصه بهذا الحديث لم نجده بدعاً بين الأمم والشعوب، وإنما نجده يتأثر في عاداته وتقاليده بما يخضع له من تيارات جوية واجتماعية واقتصادية.
وهل يمكن أن يتم التشابه بين أهل البصرة وأهل الموصل في كل شيء؟
إن الذي يطلب ذلك يصح في ذهنه أن يتشابه (الصعايدة) و (البحاروة) في كل شيء، وذلك غير معقول.
تقدَم الموصل فتروعك سنابل الحِنطة وهي تتموج في واسعات الحقول، وتقدَم البصرة فيروعك النخيل الذي يعد بألوف الألوف.
وتدخل بغداد فترى فيها سمات من الشَّمال وسمات من الجنوب.
فهل نستطيع بعد هذا التمهيد أن نجد صوراً خاصة من صور الحياة في بغداد؟
إن الصور التي تنفرد بها بغداد كثيرة جداً، ولكن كيف نبرز الملامح من تلك الصور الخصوصية؟
هنا أشعر بأن الوصف أصعب ضروب البيان، ولكني سأحاول رسم ما رأت عيناي من الصور البغدادية.
وأبدأ بالحديث عن أذواق أهل بغداد في تنظيم السهرات.
وكلامي في هذه القضية يحتاج إلى سناد مما قرأتم في كتب الأدب والتاريخ، وأنتم قد قرأتم أن البغداديين كانوا مولعين بالموسيقى والغناء. فاعرفوا اليوم أن هذه النزعة لا تزال حية في بغداد، ومن النادر أن تقوم سهرة بلا غناء.
ويظهر جمال هذه العادة اللطيفة إذا تصورتم ما يقع في دجلة أيام الصيف. ولدجلة من هذه الناحية منظر أخاذ حين تمسي ملعباً للسفائن الخفيفة الروح التي تحمل أفواج اللاهين واللاعبين وبأيديهم آلات الطرب وفي قلوبهم مشاعل الوجد المشبوب.
وأنتم تذكرون أن الجاحظ نص على استكراه المغنّي الوَسط فاعرفوا اليوم أن لذلك صلة بالحياة العراقية. فكل إنسان في العراق يرى من حقه أن يغني، وكان الأمر كذلك لان جو العراق يهيج الشجون. وقد حدثتكم مرة بأن العراق هو البلد الوحيد الذي لا تنقطع فيه الحمائم عن النواح.
ومن أجل هذا أيضاً نص أدباؤهم وفقهاؤهم على آداب الوجد والسماع والشراب، لأن(285/18)
السهرات الوجدانية لها في ماضيهم وحاضرهم مكان ملحوظ؛ وهم يشدون إليها الرحال من أرض إلى أرض، وقد يتحملون في سبيلها ما لا يطاق.
ولكن ما هو الغناء الذي يميل إليه البغداديون في هذه الأيام؟
عندهم فن من الغناء يسمى الأبوذية، وهو في أغلب أحواله غناء حزين، ولكنهم مع ذلك يصطنعونه في الأفراح، والحجاز بين الفرح والحزن حجاز دقيق عند من يعرف أن العراقي حين يطرب قد تجود عيناه بالدمع السخين.
وقد كلفوا في الأعوام الأخيرة بأغاني أم كلثوم، كلفوا بها كلفاً شديداً جداً، وهم يعلنون عن سهراتها في جرائدهم بالمجان. ولشعرائهم في الهيام بأغاني أم كلثوم قصائد جياد.
ولا يبعد عندي أن يدّعوا نسبتها إلى العراق بعد حين، فأم كلثوم فيما يظهر سرقت حنجرتها من الحمائم الموصلية. والله أعلم!
ولم يكن أهل بغداد يطربون لاغاني عبد الوهاب. ولذلك سبب تحسن روايته في هذا الحديث.
كان عبد الوهاب زار بغداد في عهد الملك فيصل، طيب الله ثراه، وكان وقع في غلطة ذوقية ثار لها البغداديون، كان لقيهم بمظهر من الأرستقراطية لا يرتاحون إليه فانصرفوا عن أغانيه كل الانصراف.
ولكن تغير الحال حين رأوا فلم (يحيا الحب) فأحبوه إلى حد الجنون.
ويظهر إن السيدة التي غنت أنشودة البرتقال هي السبب في انجذاب البغداديين إلى عبد الوهاب، فتلك السيدة عراقية الملامح وهي تشبه ليلى في تقاسيم الوجه ورخامة الصوت.
أترك هذا وأنتقل إلى صورة ثانية
قلت مرة إن أنهار العراق مسمكة جداً، فاعرفوا اليوم أن عندهم لوناً من الطعام هو السمك المسقوف.
والسمك المسقوف مشهور جداً في بغداد، وينص عليه في الدعوات كأنه من غرائب الأشياء.
ولكن السمك المسقوف له تقاليد يعرفها أهل بغداد، فهو لا يؤكل في كل وقت وفي كل(285/19)
مكان، وإنما يؤكل بالليل وفي الفضاء.
وإنما سمي مسقوفاً لأنه يوضع فوق قضبان من الحديد ثم تشب من حوله النار فينضج بالحرارة، كما يصنع من يشوون اللحم في محل (الدهان) إن كنتم رأيتموه.
وفي دجلة جزيرة صغيرة ينحسر عنها الماء بعد الفيضان، وهم يسمونها جزرة، وأهل بغداد يختارون هذا المكان لأكل السمك المسقوف في ليالي الصيف، ويظهر أنه كان مجال اللهو والطرب منذ أجيال طوال، فهو يواجه الكرادة، والكرادة فيما يظن كثير من البغداديين محرفة عن كِلْواذ التي قال فيها أبو نواس:
قالوا تنسك بعد الحج قلت لهم ... أرجو الإله وأخشى طير ناباذا
أخشى قُضيِّب كرم أن ينازعني ... رأس الخطام إذا أسرعت إغذاذا
فإن سلمتُ وما نفسي على ثقة ... من السلامة لم أسلم ببغداذا
ما أبعد الرشد ممن قد تضمنه ... قطرُّ بلٌ فقرى بنَّا فكلواذا
والتي دعا عليها مطيع بن إياس فقال:
حبذا عيشنا الذي زال عنا ... حبذا ذاك حين لا حبذا ذا
زاد هذا الزمان شرا وعسراً ... عندنا إذ أحلنا بغداذا
بلدة تمطر الثراب على النا ... س كما تمطر السماء الرذاذا
خُرِّبت عاجلاً وخرَّب ذو الع ... رش بأعمال أهلها كلواذا
وقد دعيت ليلة لأكل السمك المسقوف في تلك الجزرة، وكانت سهرة لطيفة في ليلة قمراء، ويظهر أن النسيم أراح أعصابي فغلبني النوم ونحن عائدون في السفينة، ثم استيقظت مذعوراً على صراخ النساء فظننت أن السفينة أشرفت على الغرق، ثم ظهر أنها اصطدمت بالارض، فضحكت وحمدت الله على النجاة!
وإنما نصصت على هذه الصورة لتعريفكم بأن لأهل بغداد ألواناً من الطعام تغاير الألوان المصرية، والفرق بعيد جداً بين ألوان الطعام في القاهرة وألوان الطعام في بغداد. والظاهر أن المائدة المصرية الحديثة منقولة عن المائدة التركية، ولا كذلك المائدة العراقية فلها مذاق خاص بأهل العراق، وربما كان لها اتصال بما يتذوق الفرس والهنود.
قد تقولون: ولكن أكل ما تختص به بغداد هو الطعام والشراب والغناء؟(285/20)
إن قلتم ذلك فإني أجيب بأن لبغداد خصائص غير هذه الخصائص، منها الجد الرصين الذي يتمثل في تناول الحياة من نواحيها العنيفة في الكفاح والجهاد.
وأؤكد لكم أن البغداديين صبروا على ما لم يصبر عليه أصدق الرجال.
صبر البغداديين على بلايا كثيرة أخفها الأوبئة والطواعين، وصبروا على مكاره الدهر وتصاريف الزمان.
والبغدادي له لحظات بؤس يواجه فيها نفسه وهمومه ورزاياه، والشعور بالكرب هو أخص ما يلازم البغدادي حين يجلس وحده في المقهى أو في البيت، وهذا الحزن القاتل الذي يساور أهل بغداد من حين إلى حين هو الذي يجعلهم أقرب الناس إلى الغريزة الإنسانية، وهل يسيطر الحزن إلا على كبار القلوب؟
وأعيذكم أن تظنوا ذلك الحزن علامة من علامات اليأس. لا فالبغدادي يأنس بحزنه ليتخذ منه ذخيرة لمواجهة الخطوب. وما عرف البغداديون مواقع النصر في التاريخ إلا في أعقاب الأحزان.
وتفسير ذلك سهل: فالحزن الموجع هو الذي يحمل الرجل على أن يستيئس فيستقتل ويستميت.
والحق أن البغدادي يسرف في الفرح ويسرف في الحزن، ومن هذه الطبيعة المزدوجة استطاع البغداديون أن يكونوا من أسمح الناس وأشجع الناس.
وما وقع بصري على رجل من أهل بغداد إلا تألمت وحزنت، لأني أرى الدهر طبع على وجوههم سمات الحزن الدفين، ثم يخف ألمي وحزني حين أتذكر أن تلك الوجوه الشواحب تعرف كيف تصبر على مواجهة الخطوب.
وما كانوا جميعاً مكروبين ولا محزونين، ولكن الأقدار أبت أن تسبغ عليهم ثوب الصفاء، ليكونوا كأشجار البادية التي تقاوم العواصف وتصبر على الضمأ والقيظ بلا توجع ولا أنين.
ولكن ما هي الصور التي يدفع بها العراقيون تلك الموجعات؟
للعراقيين أساليب كثيرة في جلب المسرات إلى قلوبهم، منها الاشتغال بالفروسية والتأهب للحرب، فمن أعظم الملاهي عند الشبان العراقيين في هذه الأيام أن يكونوا طيارين وجنوداً(285/21)
وضباطاً في الجيش، ويظهر هذا اللون من اللهو في أجمل مظاهره حين يُستعرَض الجيش أو حين يقوم سباق الطيران.
وما أقول إن هذا النوع من أنس النفس بمظاهر القوة خاص بالعراق، لا، فهو موجود في كل أرض، ولكن إقبال العراقيين عليه يتْسِم بسمات من الروعة توحي إلى من يراه أنه من خصائص أهل العراق.
ومن كان في ريب من صدق هذه الحقيقة فليتصل بالراديو العراقي مرة ليسمع بعض الأناشيد الوطنية أو العسكرية، فإن فعل فسيعرف أن الحماسة في صدور الشبان العراقيين حماسة رائعة جداً، وأنها صادقة كل الصدق لا تكلف فيها ولا افتعال.
ومن هذه النزعة نشأ عند العراقيين عيب جميل هو الغرور القومي، فالعراقيون يعتقدون اليوم أن جيشهم أقوى جيش في الشرق، ويندهشون حين يسمعون أن مدرسة الحربية في القاهرة أعظم من المدرسة العسكرية في بغداد. وقد نشرت إحدى جرائدهم مرة أن مصر أوفدت أربعة شبان ليتعلموا في المدرسة العسكرية عندهم، فصدقوا الخبر وعلقوا عليه في المجالس والأندية والجرائد.
وترجع هذه السذاجة الطريفة عند الجمهور العراقي إلى منزع جميل هو قوة الروح المعنوي هناك.
وهذا الروح تمده روافد كثيرة في العراق يصدر بعضها عن المدارس وبعضها عن الجمعيات والأحزاب.
ويجب أن أنص في هذا الحديث على ظاهرة نفسية كاد ينفرد بها العراق، وهي إلحاحه على وجوب الإسراع في تكوين الوحدة العربية، فهم يتكلمون ويخطبون ويكتبون كل وقت في تأييد هذه القضية، ويتمنون على أسلوبهم في السرعة أن يتم ذلك بعد يوم أو يومين.
وهذه الظاهرة تفسر ظاهرة أخرى لا يفطن إليها كثير من الناس.
وبيان ذلك أن الصحافة العراقية لا تملك حرية التعبير في كثير من الأحيان.
والذي تصل إلى أذنه أخبار القيود التي تعانيها الصحافة العراقية يتوهم أن العراق يعيش في ظل الجور والاستبداد.
والواقع غير ذلك. الواقع أن الحكومة العراقية تعرف الفورات التي تصطرع في أنفس(285/22)
الشبان، وتعرف أنهم يتسامون إلى أغراض لا تتحقق في عام أو عامين، فترى من الواجب أن تحمي أولئك الشبان من النزعات المتطرفة التي يخرج لهيبها من الجرائد والمجلات.
والواقع أيضاً أن حرية الصحافة في مصر تؤذي كثيراً من أهل الشرق، فهم يتوهمون أننا صرنا أعظم منهم لأننا نملك من الحرية الصحفية ما لا يملكون، ولو أنهم تدبروا لعرفوا أن حرية الصحافة في مصر لا تؤذي أهل مصر إلا قليلاً، لأن المصريين عرفوا مصايرهم السياسية والاجتماعية منذ أعوام، وهم لا يستوحون الجرائد في كل وقت، ولا ينزعجون حين يقرءون غرائب الاتهامات في الجرائد والمجلات بفضل ما درجوا عليه من نقد الأخبار والأحاديث.
وهذا الذي أقوله يفسر الخبر الذي قرأته في جرائد العراق منذ أسابيع، فقد أصدرت وزارة المعارف العراقية منشوراً يحرم على المدرسين أن يتعرضوا لغير الشؤون العلمية في ساعات الدروس.
وليس في هذا المنشور شيء من الغرابة، لأن المدرسين ممنوعون من الخوض في السياسة في جميع البلاد، ولكن تأكيد هذا المعنى من وقت إلى وقت شيء يحتاج إليه المدرسون في العراق.
قد سمعتم أشياء كثيرة عن العراق في هذا الحديث، منها الجِد الصارم ومنها المزاح المقبول، فاسمحوا لي أن أضيف إلى الصور السوالف صورة أجمل وأروع، وهي اهتمام أهل العراق بأخبار أهل مصر وشغفهم بأن يسمعوا ما يسرهم عن هذه البلاد.
فمن تقاليد الشبان والكهول في العراق أن يقرءوا المجلات المصرية وأن يستمعوا ما يلقى في الإذاعة المصرية، ومنهم من يعرف تخطيط القاهرة وإن لم يرها مرسومة في خريطة لكثرة ما يتأثر بالأوصاف المبثوثة في الجرائد والمجلات.
إن الشبان في العراق يتأثرون خطوات إخوانهم في مصر ويتمنون لهم المزيد من نعمة الصحة والعافية.
فيا أبناءنا في المدارس المصرية، تذكروا، ثم تذكروا
تذكروا أن لكم إخواناً في الأقطار العربية والإسلامية، وهؤلاء الإخوان يسألون عنكم في كل وقت، ويتمنون أن تتسع آفاق أذهانكم فتعرفوا أنكم لستم غرباء في الشرق، وأن الفتى(285/23)
منكم إذا شرَّق وجد أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان.
إن الشرق يدعوكم إلى أن تتعرفوا إليه كما يتعرف اليكم، فليكن من أمانيكم أن تزوروا الحواظر العربية والإسلامية وأن تعقدوا صلات المودة والإخاء مع إخوانكم في الشرق.
تذكروا يا أبناءنا في المدارس المصرية أن الوطنيَّ الصادق هو الذي يخلق لوطنه صداقات ومودَّات، فكونوا أوفياء لهذه المعاني في خدمة الوطن الغالي.
والله يتولاكم برعايته، ويسبغ عليكم ثوب العافية في العزائم والضمائر والعقول.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
-(285/24)
الحقائق العليا في الحياة
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان
بقية الحديث في مصير الإنسانية
إن مصير الإنسانية ليس بالأمر الذي يمر عليه القلم بدون إلحاح في تركيزه في العقول وتبيين آثاره في الحياة وفي النفس. إنه الحياة كلها في رأي الدين، والعدم كله في رأي الإلحاد. وشتان بين الحياة كل الحياة، والعدم كل العدم فيما وراءهما من آثار! شتان بين أن يعتقد الإنسان أنه جنين في بطن الدنيا سيولد منها ولادة ثانية، وبين أن يعتقد أنه سيخرج منها سقْطاً مَسْبُوتاً هالكاً إلى غير رجعة! إنها مسألة عظمى في قيمة الإنسان وفي سكينته واطمئنانه إلى مركزه في الحياة.
إن الإنسان العادي غير الصوفي لا يحتمل أن يتلقى القول بأنه مخلوق للحياة هنا فقط، دون أن يثور على الحياة أو يقنط قنوطاً قاتلاً لحيويته.
لقد وصل القول عند بعض الفلسفات إلى اعتبار الإنسان مظهر الإلهية أو شرارة من روحها! فكيف إذاً ينطمس هذا المظهر، أو تنطفئ تلك الشرارة؟
ثم لنرجع إلى ما يثبته العقل للخالق من حكمة وعدل تقتضيهما ضرورة الكمال الإلهي الذي لا يستطيع العقل أن يستغني عنه كصفة ثابتة للإله، فنتساءل: هل في الدنيا مع آلامها وشرورها عدل مطلق؟ يجيب المؤمن والملحد عن ذلك جواباً واحداً: كلا! ثم يفترقان، فيذهب المؤمن إلى أن كمال العدل المطلق وراء هذه الحياة، في تلك الحياة المثالية التي فيها كل خيالات الكمال وأطياف السعادة التي طافت بأحلام كل الناس وسكنت رؤوس الفلاسفة والحكماء، أوجدها في نفس الإنسان إلهام عميق خفي لتتم الصورة العقلية للكمال الإلهي. وفي هذه المقدمات وفي نتائجها المستمدة من منطق الطبع ومنطق التجريد راحة النفس المؤمنة وسكونها وطمأنينتها.
أما النفس الملحدة فماذا عساها أن تصنع غير طيران خواطرها في فراغ لا قرار له؟ إنها(285/25)
لا تملك أن تسقط على قرار حتى تتحطم فتستريح! ومِلاكُ ما تنتهي إليه إن حياتها كحياة تلك الحشرات والديدان التي (تعيش) على الروث والعفونة في الظلمات ثم تموت عليها وتدفن فيها! ولْتَحْيَ بعد ذلك السموات أو فلتسقط! ولتكن هذه العوالم الزاخرة بالعلوم والجمال والعجب العجاب لتراها فقط أشباح تلك الحشرات الصغيرة والكبيرة من بُعْدٍ فتقتل غيظاً كل يوم ألف مرة ثم تذهب إلى غيبوبتها الكبرى مع الجمادات كما كانت! والحياة إذاً بلا قصد أو غاية، والرؤوس الإنسانية إذاً تفرز التفكير كما تفرز الكبد الصفراء، أو كما يفرز ذيل العقرب السم!
سلام لك أيتها النفوس المعذبة مما أنت فيه وإنه لعذاب غليظ!
إن الإلهام الذي فيك من الخالق يناديك: أنت المقصودة بالخلق في الأرض. . . أنت خالدة. . .
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولكم الويل مما تصفون)
ثم مادام كل ما في الفلسفة فروضاً لا تدخل في قليل أو كثير إلى العلم اليقيني، فما بالنا نترك الإيمان بوجود مصير رفيع للإنسانية على أنه فرض فلسفي؟ إنه أصح الفروض وأصلحها للحياة الدنيا وادعاها إلى الإصلاح المستمر المخلص.
وهنا دليل ينبع ويستنبطه العقل من بين ما أقول: ذلك أن أقرب الفروض إلى الحق في الدنيا هو ما يدعو إلى صلاحية النفس للحياة وإصلاحها لها، وما يحل به أكبر مقدار ممكن من المشكلات، وما صح تطبيقه على وجه الشمول بين الناس في كل مكان وزمان. ذلك مبدأ تسلم به الفلسفة والعلم ومذاهب الأخلاق.
ومصير الإنسانية إلى حياة أخرى أسمى من هذه الحياة هو ذلك الفرض الذي ينطبق عليه ذلك التعريف السابق، هو لا غيره.
وقد عودتنا الحياة المدنية أنها لا تحترم ولا تبقى إلا ما يتفق مع حفظ قوانينها ويضمن اطراد تقدمها. فمتى خلينا الدنيا من هذا الفرض أمام الإنسان فهنالك تكون الحالفة: حالفة(285/26)
العمران. وإذا كانت معرفة مثل الزهاوي أن الإنسان لا يأتي إلى هذه الدنيا مرتين قد حملته على أن يطلق لنفسه العنان في اقتراف اللذات ويدعو إلى ذلك فيقول:
لا تقف في وجه لذا ... تك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دني ... اك هذى مرتين
فما بالنا لو عرف الناس أنهم لا يأتون إلى دنياهم ولا يذهبون إلى مصير آخر؟ إنهم يفعلون كل جريمة للذة وانتهاز فرصة الوجود الواحد في هذه الحياة التي ليست حينذاك إلا وليمة أدبها لنا القدر لنتلذذ ونتشهى فيها كما قال الأول:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
وحق لهم أن يفعلوا ذلك!
ينبغي أن تعلم وتتذكر دائماً أن (إرادة الحياة) إنما تحفل غاية الاحتفال بعقليات أكثرية الإنسانية لا بعقليات هؤلاء الفلاسفة المسرفين، وقطيع الإنسانية يسير بإلهام مركب كما تسير قطعان الحيوانات الأخرى بالهام بسيط، وإذا كانت قطعان الحيوان لا تحتاج في حياتها إلى فلسفة لأنها تسير بنظام أشبه بالنظام الآلي فإن الإنسانية تحتاج في سيرها في الحياة إلى الفلسفة ولكن من غير إسراف. فلا يفرضن حكيم أو فيلسوف شذت فيه شعلة الخيال والذكاء وقوة الافتراض عقله وطريقة إدراكه للأشياء على جميع عقليات الإنسانية المرهونة بالبسائط والسجينة في أقفاص فولاذية من الضرورات الجسدية. وقد دلت الإنسانية بتاريخها العتيد أنها لا تستجيب لخيال الفلاسفة المسرفين إلى درجة الهذيان أحياناً. ومن مصيبة بعض الفلسفات أنها تتخذ الشك ديناً؛ والشك حسن على أنه باب إلى اليقين عند من في عقولهم محطات ورباطات تقفهم عند البديهي، لا على أنه حالة استقرار فإنه حينئذ يُجِنُّ ويشقى ويشرد العقل الإنساني وينفيه من حياة الإلهام البسيط والمركب، وكل شيء في الحياة لغز وأُحْجِية من ذرة المادة وصورها وتكوينها وطاقتها وقواها إلى الروح وأسرارها وخفاياها. كل شيء يحمل كل عقل بصير يقظ على أن يقف أمامه دائراً بأسئلة عنه لا عدد لها، وقد نقلنا في مقال (النار المقدسة) المنشور في عدد سابق من الرسالة عن (ملكن) العالم الكهربائي الكبير قوله: (خبروني ما هي المادة؟ أخبركم ما هي الروح. . .)(285/27)
وقد خابت الفلسفة اليونانية في أن تخرج ديناً عاماً يتبعه جميع اليونان، دع عنك أكثر الناس. وكانت كل مدرسة من مدارسها لا تظفر إلا بعدد محدود من التلاميذ لا يلبثون أن يتفرقوا بعد موت أستاذهم أو في حياته، من غير أن تقدم إحدى تلك المدارس إلى الناس وازعاً يقوم مقام وازع الوثنية التي كانت تضج بها معابدهم. ولا يزال (العقليون) خائبين في إيجاد ذلك الوازع الأدبي الذي يحكم الجماعة من الداخل كما تحكمها القوانين من الخارج. ذلك لأن الإنسانية ممدودة بالإلهام الذي يربطها بما وراء الطبيعة. ولن تستغني عن وازعه بما تقدمه لها العقول؛ إذ هي من جهة حائرة في أي العقول تتبع، ومن جهة أخرى هي لا تؤمن بما تصنعه هي، ولا تعتمد عليه في رغبتها ورهبتها. وما تقدمه إليها العقول مصنوع مخلوق أمامها فهو أرضى ضعيف غير ممدود بما وراء الطبيعة، فلا يعزى ولا يخيف ولا يرغب.
وهذا هو ما يسلمنا إلى الحديث عن (النبوة والرسالة) ووجوبهما. والعمدة فيهما على معرفة (الوحي) وقد خرج الحديث عن الوحي من منطقة الفلسفة إلى منطقة العلم بالبحوث العلمية الأخيرة في النفس الإنسانية وقواها وأسرارها. وهي بحوث مبنية على التجارب التي هي أداة (العلم) بمعناه الاصطلاحي الآن.
الرستمية
عبد المنعم خلاف(285/28)
أمر؟!!
من زينب الحكيم إلى توفيق الحكيم
هناك في حلوان على يسار الداخل إلى الجهة اليمنى (الشرقية) من الحديقة (اليابانية) يرى الزائر: جانباً من الحديقة منسقاً بفكرة خاصة؛ حيث هيئت بركة مائية على شكل حدوة الحصان من قاعها، وينتهي وسطها بزاوية حادة من أعلى حواشيها.
وأقيم كشك على شكل مظلة، على الأرض التي تتوسط البركة من الطرف المفتوح من الحدوة، وقد زين هامشها بالزهور وسياج من السلك الشائك. ووضع تحت المظلة مقاعد خشبية، جلست على مقعد منها، بحيث أتمكن من رؤية البركة كلها وما يحيط بها.
نسق هذا الجزء من أرض الحديقة، على شكل سهل يرتفع بالتدريج، إلى ربوة منحدرة خضراء، شيدت على قمتها مظلة مثل التي أجلس تحتها. أما حواشي البركة فترتفع من الجهة اليمنى، وتنخفض من الجهة اليسرى تبعاً لطبيعة ذلك الجزء من الأرض. وأقيم على حافتها من الجهة الشمالية الشرقية، عدة تماثيل طوبية اللون (أي أشبه بلون طوب البناء الأحمر الضارب إلى الصفرة).
والذي استرعى انتباهي هو اتحاد جميع التماثيل في الشكل والنوعية والفن. ولم يشذ منها إلا تمثال واحد، تبينت أنه لسيدة، وهو أكبر حجماً.
أحصيت تمثال الرجل الواحد فوجدتها ثمانية وأربعين تمثالاً، صُف ستة عشر منها على حافة البركة اليمنى، ثم يأتي تمثال السيدة، ويتبعه على الجهة ذاتها اثنا عشر تمثالاً يقع موضع آخر واحد منها في وسط هامش البركة. ثم يتبعه في اتجاه مقابل من الجهة اليسرى عشرون تمثالاً.
ما عسى أن يكون المعنى الذي يشير إليه هذا الوضع؟ إنه يشبه مجلساً ملكياً ترأسه ملكة وهؤلاء مستشاروها. لكن الغريب في هؤلاء المستشارين أنهم جميعاً سواسية في الجلسة والهيئة والسحنة والرداء وكل شيء، حتى تلك الدائرة الصغيرة البارزة الموضوعة على جباهها. ورءوسها كلها عارية خالية من الشعر، أما رأس الملكة فتغطيه جدائل سميكة من الشعر، مصففة بشكل يحيط الرأس ويغطي الجبهة حتى تلك الدائرة الصغيرة البارزة في وسطها.(285/29)
عجيب هذا - وما معناه -؟ الكل يرتدي ثوباً منسدلا منسجما عليه بنظام واحد كون شبه قلادة حول العنق تتدلى إلى الجزء الأعلى من البطن، أما عند السيدة فتنحدر قليلاً إلى أسفل. ووضعت اليدان متقابلتين على الحجر فوق الركبتين، والراحتان منقبضتان في يسر، والإبهامان ملتصقين، وشكلها كما لو كان الإنسان يفكر في شيء مهم يشغل كل انتباهه وجميع حواسه. فالتماثيل كلها مسبلة الجفنين، مطبقة الشفتين، تومئ قليلاً إلى أسفل، وتتجه جميع الوجوه إلى الأمام.
عجيب هذا الأمر الذي جعل من تسع وأربعين شخصية مختلفة شخصية واحدة، كأنما تنازلت عن ذواتها في سبيل هذا الأمر الواحد، فظهرت كلها متحدة متشابهة! أو لعلها شخصية واحدة نحت لها ثمانية وأربعون تمثالا وراءها تمثال لسيدة لا يختلف عنها كثيراً!
وأنت أيتها السيدة، منصرفة إلى تفكير عميق مثلهم، لا تمتازين إلا بشيء آخر غير الشعر، وهو أن يديك وإن كانتا تشابهان باقي الأيدي في وضعها إلا أنهما شاذتان عنها في نوع القبضة وتقابل الإبهامين، حيث يدل منظرها على تمسك برأي أو بمبدأ. وكأنما تعرضين هذا الأمر على مجلسك فيقبله مستشاروك بروح سلام وإعمال فكر، بدت آثاره على محياهم، وانصرف جميعهم إلى التفكير العميق فيه بلا انقطاع؛ ويلوح أن الكل مشبع بروح الود والإخلاص والتضحية، والرأي لم يبرز نتاجه بعد، ولم يتم حكمه.
ترى ما هذا الأمر الذي لا يترك أثراً للتأفف على الوجوه، ولا على السلوك؟!
هاهي ذي الشمس تشع، ويسطع نورها على التماثيل التسعة والأربعين فيعمل اختلاف مسقط الظل عمله، فتظهر التماثيل المتحدة، بأشكال وسمات مختلفة؛ وبذلك تنعكس طبائع النفوس على حقيقتها وإن اتسمت كلها بسمة واحدة ووضع واحد ونوعية واحدة في ظاهرها. إن فن المنظور يحتم تضاؤل أو تعاظم هذه التماثيل بالنسبة لارتفاع المواضع أو انخفاضها، وبالنسبة لبعدها أو قربها. وهاهي ذي عين الإنسان، تتغير نظرتها وتتبدل، بالنسبة لهذه التماثيل مرات في وقت قصير.
الشمس تحجبها السحب، فيظهر المنظر كله من نوع آخر ومعنى آخر. وإذا ماء البركة الذي كان يتماوج ويوحي الفلسفة، ويدعو إلى التفكير ويستلهم منه مجلس التماثيل الاستشاري الصامت إلهامه من لحظات مضت - قد تسرب، وظهر قاع البركة جافاً، إلا(285/30)
من بضع نقر بها أوشال من الماء هنا وهنا. ولكن التماثيل لا تزال هي هي، في وضعها وسماتها، تومئ إلى تلك البركة في رخائها وجدبها، وارتفاعها وانخفاضها، وطهرها وأسنها.
وعقلية تلك التماثيل ومنطق وضعها الدال على فكرة خاصة ومقصد مبهم، لا تزال جادة في تفكيرها وتدبيرها لذلك الأمر الواحد.
ترى ما هو؟!
الطبيعة الصامتة تكوّن بيئة فخمة لذلك المجلس الصامت. العشب الزبرجدي يكسو الربوة العظيمة التي خلف الملكة وحاشيتها من الناحية اليمنى، والشجيرات الأرجوانية الزهر، نامية رابية وراء الصف المقابل من التماثيل في الناحية اليسرى، ويهتز مع النسيم ورق وغصون الأشجار العالية خلفها جميعاً، والشجيرات الخضراء التي بين كل تمثال وآخر، تحمل قليلاً من الزهر الأبيض النقي، يضع أوسمة على صدور بعض التماثيل، وتمسح غصون لطيفة خضراء على رؤوس البعض الآخر أو تظللها.
ويحجب بعض التماثيل كلها أو أجزاء منها عن ناظري الأشجار المشذبة المتناثرة هنا وهنا؛ والطيور تحلق وتغرد، وتهبط وتصمد، والزوار يغدون ويروحون منهم المفكر واللاهي، والمستشفي والساعي، ومنهم الطفل ومنهم الكهل.
كلها مناظر وأوضاع تستدعي الانتباه واليقظة، ولكن يخرجني من هذا كله صوت ذلك الناقوس البعيد، فأنظر إلى السماء فإذا بها السماء بزرقتها وسحبها وطيورها، وانظر إلى الأرض، فإذا بها الأرض بترابها وأحجارها، ومائها ودوابها وأشجارها.
وأنظر إلى ما حولي، فإذا بي أرى المجلس الصامت بين الطبيعة الصامتة، والكل وراء أمر غامض.
ترى ما هو؟!
وأنظر أخيراً إلى ساعتي، فإذا بها الواحدة، ووقت الغداء في الفندق قد حان، فأنصرف مسرعة إلى الحياة العملية التي لا نصيب منها إلا كسرة بها نقتات، وخرقة بها نحتمي.
أما التفكير، وأما الفلسفة، وأما التصوير - فليغير هذا العالم.
زينب الحكيم(285/31)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 16 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (رداً على بولوس الذي سلم بقول سقراط) ولنأخذ الآن الحالة المضادة، ولنفرض أنه يجب أن ننزل شراً بأحد من الناس عدواً كان أم غير عدو، وإنما على شريطة ألا نكون قد أُصبنا منه بسوء - إذ يجب أن نحذر من ذلك تماماً - فإذا كان إذاً غيرنا هو الذي أُصيب منه، فيجب أن نبذل كل الجهود الممكنة من أعمال وأقوال حتى لا يعاقب ولا يمثل أمام القاضي، وإذا هو قُدِّم إلى المحكمة فيجب أن يعد السبيل لفراره وعدم عقابه، بحيث لو كان قد سرق كمية كبيرة من الذهب فإنه لا يعيدها إلى صاحبها بل يبقيها وينفقها على نفسه وأتباعه بطريقة ظالمة جاحدة، وبحيث لو كان قد استحق الموت بجرائمه فإنه ينجو منه، بل إذا أمكن ألا يموت أبداً وان يخلد برداءته وشره، أو إذا أمكن على الأقل أن يعيش إلى أطول حد مستطاع بحالته تلك - فليكن له ذلك. . .!(285/33)
تلك يا بولوس هي الغايات التي يلوح لي أن البيان يستطيع أن يخدمها لأني لا أراه يقدم فائدة كبيرة لذلك الذي لا يستطيع أبداً أن يرتكب ظلامة ما، إذا صح أن يقدم له أية فائدة! وقد رأينا في مناقشتنا السابقة أنه (أي البيان) لا يصلح لشيء.
ك - أخبرني يا شيريفين! أترى سقراط جاداً فيما يقول أم هو يهذر؟
ش - يلوح لي يا كاليكليس أنه جاد كل الجد، ولكن ليس أفضل من أن توجه إليه سؤالك.
ك - وأنا أرغب في ذلك كل الرغبة وحق الآلهة! أخبرني يا سقراط: أيجب أن نعتقد أنك كنت جاداً طوال هذه اللحظة أم كنت تهذر؟ ذلك أنه إذا كان كلامك مقصوداً، وإذا كان قولك حقاً، فإن حياتنا الاجتماعية لا شك معكوسة، وإنا لنفعل - فيما يلوح - نقيض ما يجب أن يفعل!
ط - إذا لم يكن الناس يا كاليكليس خاضعين لأهواء واحدة وكان لهؤلاء اتجاه ولأولئك اتجاه آخر، بل وكان لكل منا هواه الخاص الذي لا يتصل بأهواء الغير، فإنه لا يكون سهلاً ولا ميسوراً أن نجعل الغير يدرك ويفهم ما نشعر به، وإذا كنت أقول ذلك فإنما أقوله لأني قد لاحظت أننا الآن - أنت وأنا - في نفس الحالة، فنحن الاثنين عاشقان لموضوعين اثنين، أنا (لألسبيادبن كلينياس) والفلسفة؛ وأنت (لديموس) الأثيني (ولديموس بن فيريلامب) ولذلك أتخيل دائماً أنه بالرغم من فصاحتك الخاصة، فإن كل ما يقوله موضوع غرامك وهواك وأي نحو يري به الأشياء، لن يجد منك القدرة على مناقضته! بل إنك سوف تترك نفسك كالريشة في مهب أفكاره، بحيث لو قد بسطتَ في الجمعية العمومية فكرة ما، وقام (ديموس) الأثيني يعارضها، فإنك ستتركه يفعل ما يشاء، وستعدل من لهجتك تبعاً لأهوائه؛ كما إنك قمين بأن تفعل مثل ذلك إزاء هذا الفتى الجميل ابن (فيريلامب)! ذلك لأنك يا كاليكليس في حالة لا تسمح لك بمعارضة رغبات وأقوال محور عشقك وهواك، بحيث إذا دُهِشَ بعضهم وبُهت في كل مرة تتكلم فيها، وساير أقوالك فوجدها سخيفة معتلة فإنك ستستطيع أن تجيبه - إذا أردت أن تقول الحق - بأنه إذا لم يمنع أحد (غرامك) من أن يتكلم كما يتكلم، فإنك لن تستطيع أن تمنع نفسك من أن تقول ما تقول! فقل لنفسك إذاً إنها يجب أن تنتظر نفس الإجابة من ناحيتي. ولا تعجب من الأقوال التي سأقولها، ولكن أرغم - (إذا استطعت) - موضوع حبي - (وهو الفلسفة) - على أن يكفَّ عن قول ما(285/34)
يقول! إنه هو في الحقيقة يا صديقي العزيز الذي يقول من غير توقف ما تسمعني أردده في هذه اللحظة، وإنه لأقل تغيراً بكثير من موضوعات غرامي الأخرى؛ لأن (ابن كلينياس) يتكلم أحيانا بطريقة أخرى، بينما لا تتخذ الفلسفة دائماً إلا قولاً واحداً؛ إنها هي التي نطقت بالأقوال التي أدهشتك، والتي ساعدت بنفسك في مناقشتها؛ وأكرر أنها بالتالي هي التي عليك أن تناقضها، فبرهن إذاً على أن ارتكاب الظلم والعيش بعد ارتكابه دون عقاب ليس بأفدح الشرور؛ وإلا فإذا تركت ذلك القول دون أن تنقضه، فإني أقسم لك (بالكلب) إله المصريين يا (كاليكليس) أنك لا تتفق مع نفسك، وأنك تعيش معها في اضطراب دائم؛ وأنا أفضل من ناحيتي يا صديقي الحاذق أن تكون لي ربابة غير متوافقة الأوتار وكلها نشوز، أو أن أكون رئيساً لفرقة مغنين مضطربة الأصوات، أو أن أجد نفسي معارضاً ومناقضاً لأغلب الناس، على أن أكون مختلفاً فقط مع نفسي ومناقضاً لها.
ك - يبدو لي يا سقراط أنك تبدع في كلامك كما يبدع الخطيب الشعبي؛ وإنك لتخطب هكذا لان بولوس قد أصيب بنفس الغيبوبة التي قد اتهم جورجياس بإصابته بها حيال أقوالك. والحق أن بولوس كان محقاً في قوله إن اعتراف جورجياس - عندما سألته أنت هل سيعلم (العدالة) لذلك الذي سيقصد إلى مدرسته راغباً في تعلم البيان دون أن يعرف شيئاً عنها، وأجابك هو بأنه سيعلمه إياها جرياً وراء خجله الكاذب، وخوفاً من أن يصدم آراء أتباعه السابقة الذين كانت ستغضبهم أية إجابة غير هذه - أقول الحق بأن بولوس كان محقاً في قوله. إن هذا الاعتراف جعل الرجل يتناقض مع نفسه ويحقق ما كنت تبغيه منه تماماً؛ ولكن هاهو ذا بولوس قد أصبح بحق (أيضاً) موضع سخريتك فيما يلوح لي، وذاك هو السبب الذي جعله يضع نفسه موضع جورجياس: فإني لم أرض من ناحيتي عن موافقته لك على أن (الأقبح) هو ارتكاب الظلم لا احتماله: لأنك استطعت بعد ذلك التنازل منه عن رأيه أن تعرقل مناقشته بتدليلك، وأن تقفل فمه فلم يجرؤ على الكلام متابعاً رأيه، والواقع أنك في الوقت الذي تزعم فيه وتؤكد أنك تبحث عن الحقيقة وحدها نراك تسلك مسلك الخطيب الشعبي المهرج وتوجه الكلام نحو (الجميل) لا تبعاً لأحكام الطبيعة، بل تبعاً لأحكام القانون، ولكن الحق أن الطبيعة والقانون يتناقضان في أغلب الأحيان، فإذا حدث وغلب الحياء على المتكلم فمنعه من التصريح بما يراه فإنه يضطره إلى مناقضة نفسه؟(285/35)
وذاك هو السر الذي اكتشفته يا سقراط لتستعمله في نصب اشراكك وفخاخك في المحاورة، حتى إذا تكلم أحدنا مشيراً إلى القانون، سألته أنت بالإشارة إلى الطبيعة، وإذا تحدث عما هو كائن في نظام الطبيعة سألته مشيراً إلى القانون، وهكذا فعلت مثلاً في الظلم المرتكب والمتحمل، إذ بينما كان بولوس يتكلم عن الأقبح تبعاً للقانون، كنت أنت تتابع المناقشة مشيراً إلى الطبيعة، لأن كل ما هو (أردأ) في نظرها هو أيضاً (الأقبح) مثل احتمال الظلم، بينما (الأقبح) تبعاً للقانون هو (الارتكاب) لا الاحتمال، والواقع أنه ليس من طبيعة الإنسان الحر أن يحتمل الظلم، وإنما ذلك من طبع العبد الذي يرى أن الموت أفضل من الحياة، والذي يؤثر ألا يدافع عن نفسه وهو محتقر مكلوم، وألا يدافع أيضاً عمن يهمه أمرهم؛ ولكني أرى أن الضعفاء والسواد الأعظم هم الذين سنوا القوانين! وهم لذلك قد جعلوها لأنفسهم ولمصالحهم! لهذا تراهم لا يوزعون ثناءهم ومديحهم، أو لومهم وعتابهم، إلا من أجل ذلك الصالح الخاص ولكيما يخيفوا الأقوياء - وهم أولئك الذين يستطيعون أن يعلوا عليهم - ولكيما يحولوا بينهم وبين ذلك العلو، تراهم يقولون أن الظلم والعار في الطمع فيما هو أكثر من نصيبك، وإن الظلم إنما يقوم في الرغبة في امتلاك شيء أكثر مما يمتلك الآخرون؛ وإني لأتخيلهم يرضون ويقنعون بأن يكونوا على قدم المساواة مع من هم أفضل منهم! وذلك هو السبب في أنهم يقررون في عالم القانون أن الطمع في إحراز ما هو أكثر من النصيب العام للأفراد ظلم وقبح! بل ذلك هو ما يسمونه (بالظلم)! ولكني أرى أن الطبيعة نفسها تعلن أن العدل إنما يقوم في أن ينال الأحسن أكثر من الأسوأ، والقوي أكثر من الضعيف، وإنها لتقدم لنا ألف مثال لتثبت أن الأمر كذلك، لا في عالم الحيوان فحسب، بل في النوع الإنساني أيضاً بين المدن والأجناس جميعاً، حيث نستطيع أن نتبين أن العدالة تبغي أن يسود (الأقوى) على (الأقل قوة) وأن ينال نصيباً أوفر من نصيبه. فمثلاً بأي حق في الواقع قام بالحرب في بلاد الإغريق؟ وبأي حق قام بها أبوه في هذا إذا تركنا الأمثلة اللانهائية التي نستطيع أن نذكرها من ذلك النوع. إنهم يعملون فيما أرى تبعاً لطبيعة (الحق)! وقسما بزيوس، تبعاً (لقانون الطبيعة) الذي ربما خالف قانون الناس!
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(285/36)
التعليم والمتعطلون في مصر
عيوب التعليم الحاضر وطرق إصلاحها
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
العيوب العامة
وجهنا عنايتنا في الماضي إلى نشر التعليم فقط بدليل البيان البليغ الذي نشره معالي هيكل باشا وزير المعارف الحالي في أول عهده بهذه الوزارة في مايو سنة 1938. ولقد قمنا بما قمنا به من نشر على أساس النظم القديمة من غير أن نعمل عملاً جدياً في سبيل إقامة التعليم على أساس جديد وطيد سداه المبادئ التعليمية الحديثة ولحمته القومية المصرية والطابع القومي، فالرجل المتخرج في إحدى المدارس القائمة منذ نصف قرن من الزمان إذا دخلها اليوم يرى الطابع القديم بارزاً بها، والروح القديمة متأصلة فيها، والنظام القديم قائماً بين جدرانها؛ ولا يرى التغيير إلا في إحلال مدرسين وتلاميذ حديثين بدلاً من غيرهم من القدامى. وليس معنى ذلك الثبات على تقاليد قديمة مألوفة، ولكن معناه مع الأسف الجمود على نظم بالية معروفة؛ ومعناه كذلك أن كل مدرسة مصرية سواء أكانت في قنا أو الإسكندرية تسير على وتيرة أختها في كل شيء بدون تبديل ولا تحوير مهما بعدت الشقة بينهما ومهما اختلفت ظروفهما ومهما تفاوتت بيئتهما، مما دعا المستر مان إلى القول في تقريره: (قد سبق توجيه النظر في الفصل الثاني المختص بإدارة التعليم العامة في مصر إلى خلو نظام التعليم العام من المرونة والتنوع. رأينا بعض ما ينجم من هذا الجمود من النتائج السيئة الأثر في التربية القومية، بيد أنه يستحسن أن نعيد القول هنا بأن كل مدرسة مصرية تماثل في الوقت الحاضر كل مدرسة أخرى من درجتها كل المماثلة التي يستطاع إيجادها بواسطة اللوائح والقوانين، وبأن نظار المدارس ومدرسيها يكادون يعدون بمثابة آلات لإنفاذ ما تفرضه الإدارة الرئيسية من خطط دراسية لم يشتركوا في وضعها، ولم يؤخذ رأيهم فيه إلا في حالات لا تكاد تذكر، وهذه الخطط تطبق تطبيقاً عاماً من الشلال إلى الإسكندرية على نمط واحد بدون أية مراعاة لمصالح التلاميذ وحاجاتهم المتنوعة وبغض النظر بتاتاً عما إذا كانوا من سكان الريف أو المدن وعما إذا كانوا سيحترفون في(285/38)
المستقبل الزراعة أو سيزاولون التجارة أو الصناعة في المدن. ويجب أن نؤكد مرة أخرى أن مثل هذا النظام لا يحول فقط دون الانتفاع بخبرة النظار والمدرسين الفنية ومعرفتهم للشؤون المحلية في أغراض التعليم العامة، بل يمنعهم فعلاً من استخدام مواهبهم وكفايتهم استخداماً تاماً في إدارة مدارسهم بحسب ما تقتضيه أحوال البيئة ومرامي التعليم، لأنهم مهما رأوا في المنهج العام وخطة الدراسة وعدم الملاءمة لحاجات تلاميذهم الخاصة فإن واجبهم يحتم عليهم أن يتبعوها اتباعاً دقيقاً. أعود فأذكر أن ليس معنى ذلك الثبات على تقاليد معينة، إذ ليس لإحدى مدارسنا القديمة تقليد معين كتلك التقاليد المرعية التي يعرفها خريجو المدارس في إنجلترا مثلاً، ويفخرون بها، ويحافظون عليها. هذا والمعلم القديم الذي باشر العمل في المدارس المصرية منذ عشرين سنة ولا يزال يباشره إلى اليوم يشعر بالأسف العميق يملأ جوانح قلبه مما يراه اليوم من الانحطاط العام الذي أصاب حالة التعليم فيها ومن روح التواكل والتكاسل التي عمت أرجاءها؛ وهو لا شك يشعر بالأسف العميق أيضاً إذ يحس أن روح الجد والعمل من ناحية التلاميذ قد انقلبت إلى روح استهتار وقلة اكتراث وكسل يصحبها ميل شديد إلى الأخذ بأكبر نصيب من المتعة واللذة وحياة الطراوة والهزل حتى حار فيهم المربون وضاقوا بهم ذرعاً، واستولى اليأس من إصلاحهم على قلوب الكثيرين؛ وأصبحت الحالة لا تطاق بين جدران المدارس بسبب ما يوجد من الاستهتار والرعونة والخروج على المبادئ الأساسية المرعية بين التلميذ ومعلمه. وإن الفوضى التي تنتاب المدارس أحياناً وبخاصة في الأسبوع الأخير من العام الدراسي من خروج على النظام والآداب وإتلاف لبعض أثاث المدرسة مما يتناول كرامتها وكرامة أساتذتها، ولما تحزن له النفس ويهلع له القلب. وهذه حال ستؤدي حتماً إلى تدهور خلقي أشنع مما تقاسيه البلاد الآن إذا لم تجد اليد القوية الحازمة الرادعة التي تضع الأمور في نصابها فتعيد إلى المدرسة كرامتها، وتجعل أساس المعاملة بين التلميذ وأستاذه ومدرسته الاحترام الحقيقي المشوب بالعطف الأبوي يقابله في الوقت نفسه حب بنوي. وفي هذا يقول سعادة حافظ عفيفي باشا في كتابه على هامش السياسة (إما أسباب هذه الفوضى فهي ترجع إلى عدم تنفيذ القوانين المتعلقة بنظام المدارس تنفيذاً لا استثناء فيه. والى تركيز كل السلطة في وزير المعارف نفسه والى أخذ التلاميذ بسياسة مضطربة، فهي الشدة المتناهية أحياناً واللين(285/39)
المتناهي أحياناً أخرى والذبذبة بين الشدة واللين في أكثر الأحيان. الخ) وبعد كلام طويل عن تعديل القوانين بما يضمن للطالب الحرية في حدودها المعقولة، وللناظر والمعلم التمتع بالاحترام الواجب قال (. . . أما أن يشير ناظر المدرسة على وزارة المعارف بأن تتخذ نحو تلميذ بالذات قراراً معيناً فترفضه الوزارة أو تعدله فهذا هو الوسيلة لإضاعة نفوذ ناظر المدرسة. وبالتالي هو السبب لإفساد النظام نهائياً فيها. . .)
فإذا كانت المدرسة قد جمدت في نظامها فإن التلميذ قد اندفع في حريته إلى الفوضى التي لا يقرها عدل ولا نظام. وخير علاج للحالة الأخيرة هو طريق الإقناع الفردي الودي المشوب بالعطف؛ فإذا لم يجد ذلك كانت الشدة واجبة كل الوجوب. ولا بأس من استعمال العصى أحياناً بيد عاقلة حازمة كما يجري في كلية فكتوريا وفي المدارس الإنجليزية البحتة وقت اللزوم اتقاءً للخروج على الآداب ودرءاً للخطر في المستقبل، متمثلين بقول الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم
أما العيوب الفنية العامة الأخرى بالمدارس المصرية فتتلخص فيما يأتي:
أولاً: خلق الطبقات
الطفل المصري الراغب في التعليم الآن يجد أمامه من المدارس المختلفة المراتب والأوضاع والمزايا روضة الأطفال، والمدرسة الالزامية، والمدرسة الأولية، وفرقة تحفيظ القرآن الكريم، والمدرسة الابتدائية، والمعهد الديني، والملجأ، والمدرسة الأجنبية، والشارع وهو أهمها الآن، إذ تجد به من الأطفال حوالي مليون ونصف المليون، بينما جميع المدارس السابقة الذكر لا يبلغ عدد من يؤمها اليوم المليون عدا. فهذه المدارس الشعبية الأولى المتعددة تخلق أول تصدع في بناء الأمة الواحدة لأنها تخلق نظام الطبقات المختلفة في جسم هذه الأمة ذات الدين الواحد والعادات المتحدة، واللغة الواحدة. وخلق الطبقات بين أمة هذا حالها لا يقره دين ولا نظام، فالديمقراطية تنفر منه كل النفور لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى الاشتراك في الميول والرغبات، ولا يمكن أن يؤدي إلى الاتحاد في الفهم العام، وهو أساس التفاهم بين الأفراد، فهو إذن ينزع إلى التفرقة الشاملة بين أفراد الأمة الواحدة، ولعل قيامه بهذا الشكل السر الأول في هذه الفرقة التي نحسها في ديارنا في كل شيء، وما دام قائماً في هذه المدارس المتباينة التي نرى في كل منها اختلافاً في الطرائق والأساليب(285/40)
والمذاهب وطرق التفكير فلن تكون لنا وحدة متماسكة ولن نستطيع أن نخلق من أبناء النيل أمة متحدة في الفهم والقصد ترمي إلى غرض واحد وتتعاون في طريق واحد! فإلى متى يا ترى يستمر تعليمنا عاملاً جوهرياً من عوامل التفرقة، وخلق الطبقات المختلفة المتباعدة في الفهم، المتنافرة في التفكير، مما يؤدي إلى النزاع الدائم المستمر الذي ينهى الله عنه بقوله (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ولقد كانت هذه النقطة هي الأولى التي لفت إليها نظر معالي وزير المعارف في تقريري الذي رفعته إليه من مدرسة الفيوم الابتدائية في 16 مارس سنة 1936 لأنها من الأهمية بحيث تحتل المكان الأول من الإصلاح المطلوب، فلا سبيل إلى محو تلك الفروق والتقليل من تلك النزعات المختلفة بين أفراد الشعب الواحد والتقريب بين إفهامهم إلا بجعل أساس التعليم واحداً، ألا ترى كيف تعمل الدول المختلفة على نشر ثقافتها بين الشرقيين، وكيف تجهد نفسها، وتنفق الطائل من أموالها في سبيل جعل لغتها وطرق تعليمها هي السائدة حتى تتمكن من التفاهم مع تلك الشعوب. وتفوز بكسب عطفها وتقديرها.
فالتعليم هو الطريق الفعال المؤدي إلى التفاهم والتعاون، لذلك أرى أن أساس الإصلاح هو في التوحيد بحيث لا يوجد بيننا غير نوع واحد من المدارس يبنى على أساس واحد يسمى بالمدارس الشعبية، تندمج في تكوينه كل أنواع المدارس السالفة الذكر، ويتعلم فيها أبناء النيل على السواء لا فرق في ذلك بين غني وفقير، أو عظيم وحقير، تتلوه بعد ذلك مراحل التعليم الأخرى المختلفة فيشعر أطفالنا في تلك المدارس الشعبية العامة بأنهم جميعاً أبناء شعب واحد تسري عليهم حالة واحدة كما هو الحال في سائر البلاد الأخرى، ولا تفضيل لأحدهم على الآخر إلا بالجد والعمل والأخلاق الكريمة الفاضلة، كما نشعر جميعاً ونحن في المساجد متراصين متوجهين إلى الله أن لا فرق بين صعلوك وأمير. وكبير، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). هذه الوحدة الشاملة والألفة العامة، هي التي يجب أن تكون الغرض الأساسي من التعليم، والتي يجب أن تكون المدرسة أول عامل على خلقها. قال ديوي: (ومن مفسدات الديمقراطية أن يسمح بإنشاء طبقات مستقلة في الأمة، فإن التباين في الثروة، ووجود عدد وافر من جهلة أرباب الصناعة، واحتقار العمل اليدوي والعجز عن إدارة التربية التي تمكن(285/41)
من التقدم في سبيل الحياة، كل ذلك يتضافر على إحداث طبقات مستقلة متفرقة وتوسيع شقة الخلاف والتفريق. على أن في إمكان أرباب السياسة والتشريع أن يدفعوا شيئاً من هذه الغوائل، كما أن على أهل المساعي الخيرية القيام بشيء من هذا الغرض النبيل. إلا أن العامل الأكبر الأصيل في هذا السبيل هو النظام المدرسي الشامل للامة جمعاء) ثم يقول: (لا يجوز أن تكون تفرقة بين أنظمة المدارس، فلا ينبغي وجود نظام لأبناء الموسرين، وآخر لأولاد العاملين بالأجور، فإن الفصل المادي بين الفريقين بسبب هذا التنظيم لا يتفق مع ترقية روح الإخاء المتبادل)
ثانياً: عزلة المدرسة
المدرسة المصرية معزولة عن بيئتها عزلاً تماماً، فترى التلاميذ يدخلونها فينقطعون عن كل ما يحيط بهم من الأعمال، كما نرى المدرس أو ناظر المدرسة خصوصاً في الأقاليم يترفع عن الشعب الذي يزود المدرسة بأبنائه، ويحاول الابتعاد عن أولئك الفلاحين كأنهم من طينة أخرى غير طينته، لانه يعتبر نفسه موظف حكومة كمأمور المركز، عليه أن يحتفظ بينهم بمكانته وعلو مركزه كما يتوهم، وبذلك لا يختلط بهم، ولا يمكنه أن يعرف الأحوال الحقيقية لأبنائهم الذين بالمدرسة، ولا يستطيع أن يتعاون معهم التعاون الفعال على إصلاحهم بمعرفة نقط الضعف المختلفة في تكوينهم. ثم إن التلميذ يرسخ في ذهنه الاعتقاد بأن المدرسة لا صلة لها بالحياة وما يجري فيها من زراعة أو صناعة أو تجارة أو أعمال، وبأنه إنما يجيء إليها ليقضي جزءاً من وقته فيها لغير ما غرض واضح في ذهنه، اللهم إلا إعداده لأن يكون موظفاً حكومياً ولذلك يندفع في الابتعاد عن كل ما يمت إلى الحياة العلمية بسبب، حتى إن بعض التلاميذ يتعجب عندما يعلم إن المياه التي يشربها والتي تصل إلى منزله عن طريق الأنابيب أو عن طريق الترع والقنوات، ما هي إلا من مياه نهر النيل الذي يرسمه في علم الجغرافيا، فما بالك بعد هذا إذا خرج يسعى إلى الكسب في الحياة العامة؟ إنه لا شك يكون كالأعمى أو كالذي يذهب إلى ديار مجهولة لا يعلم عن أهلها وعن أعمالهم شيئاً، فيحار في أمره ويرتبك في حياته ولا يدري ما يعمل ليكسب قوته. وهذا في الحقيقة هو السبب الأساسي في خلق المتعطلين وقعودهم عن العمل لجهلهم بأحوال بيئتهم وما يحيط بهم من ظروف وأعمال. ولو أن المدرسة لم تفصلهم انفصالاً تاماً عن المزارع(285/42)
والمتاجر والمصانع المحيطة بهم وجعلت بينهم وبينها صلة قوية وجعلت من نفسها وحدة تشابه بيئتها لما كان ذلك العجز عن مواجهة الحياة. فهي إذن بعزلتها هذه تقصر في تربية التلميذ وتكوينه من الوجهتين الفعالتين القويتين: وجهة الاتصال المباشر بالمنزل، إذ الواجب يقضي بتعاونهم تعاوناً عملياً على النهوض بالتلميذ وتحسين حاله الصحي والثقافي والخلقي، ووجهة فصل التلميذ عن بيئته، وما يجري فيها من أعمال يحتاج إلى مزاولتها وممارستها في مستقبل حياته. ولقد أصبح لزاماً على المدرسة المصرية كغيرها من سائر المدارس أن توجه أكبر عنايتها إلى ذلك.
عبد الحميد فهمي مطر(285/43)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 45 -
ليس الغرور لميت بمتاع؛ وما يجدي شيئاً على الرافعي أن يكون كل وفاء العربية له أن نقول: كان وكان يرحمه الله!
لقد كان الرافعي صاحبَ دعوة في العربية وفي الإسلام يدعو اليها؛ فحقُّه على العربية، وحقُّ العربية على أدبائها، وحق الإسلام على أهله، أن نجدِّد دعوته، وأن نبقي ذكره، وأن ننشر رسالته، وأن نُعنى بآثاره؛ فإذا نحن قد وُفِّقنا إلى كل أولئك فقد وفَينا له بعض الوفاء!
والآن فلننظر لنرى مقدار ما يمكن أن تصل إليه هذه الدعوة من النجاح؛ وأمامنا إلى ذلك وسيلتان:
أولاهما أن نعرف مدى تأثير الناشئة من المتأدبين اليوم بأدب الرافعي ومذهبه؛ والثانية هي البحث عن آثار الرافعي ومنشآته الأدبية وتراثه الفكري لنحرص عليه من الضياع.
فأما الأولى فإن بين الرافعي والأكثرين من ناشئة المتأدبين في هذا الجيل حجاباً كثيفاً يمنعهم أن ينفذوا إليه أو يتأثروا به لعوامل عدة:
فالرافعي أديب الخاصة، كان ينشئ إنشاءه في أي فروع الأدب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة تعلو بها وتَعِز مكاناً بين اللغات؛ ثم ليبدع أدباً يسمو بضمير الأمة ويشرع لها طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد ومجد التاريخ.
وشبابنا أصلحهم الله لا يعرفون الأدب إلا ملهاة وتسلية، لا ينشدونه للذة العقلية وسموِّ النفس ولكن ينشدونه لمقاومة الملل وإزجاء الفراغ.
فهذا سبب
والثاني أن الرافعي - رحمه الله - لم يكن يكتب الكتابة الصحافية التي ينشئها أكثر كتابنا ليتملقوا غرائز القراء بالعبارة المتهافتة والقول المكشوف. وعند المتأدبين من ناشئة اليوم(285/44)
أن قيمة الأدب هي بمقدار انطباقه على أهواء النفس وارتياحها إليه وقدرتها على أن تسيغه بلا تكلف ولا عناء.
وثمة سبب آخر، هو طغيان السياسة على الأدب في هذا الجيل طغياناً أقحم على الأدب ما ليس فيه وعلى الأدباء من ليس منهم؛ بحيث يتحرج أكثر الأدباء أن يقولوا قلة أو رأياً أدبياً في أديب أو شاعر إلا متأثرين بما كان له من مذهب سياسي أو رأي في السياسة المصرية.
والرافعي رجل - كان - لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها، ولم يكن يعتبر له مذهباً في النقد إلا المذهب الأدبي الذي لزمه منذ نشأ في الأدب؛ فمن ذلك كانت خصوماته الأدبية تنتهي نهايتها إلى اتهامه في وطنيته وفي مذهبه السياسي؛ ورآها أكثر خصومه من كتاب الشعر فرصة سانحة لينالوا منه عند القراء، فانتهزوها، وبالغوا في اتهامه، وأغرقوا في الطعن على وطنيته وتأولوا مذهبه، حتى عاد عند أكثر القراء رجلاً لا وطنية له ولا إنسانية فيه ولا إخلاص في عقيدته. وما تزال السياسة عند أكثر شباننا ذات سلطان، وما زال الأدب يجري في غبار السياسة وهو أعلى مكاناً وأرفع منزلة. . .
ولقد يضاف إلى كل أولئك سبب أخير، هو أن أكثر ما كان يتناوله الرافعي من شؤون الأدب هو ما يتصل بحقيقة الإسلام أو معنى من معانيه. على أن الكثرة من ناشئة المتأدبين يريدون أن يفرقوا بين الأدب والدين، فلا يرون ما ينشأ في هذا الغرض لوناً من ألوان الأدب أو مذهباً من مذاهبه.
تلك جملة الاسباب، أو مجمل الأسباب، التي باعدت بين أدب الرافعي وبين الجمهور من ناشئة المتأدبين، ما بد من النظر فيها والبحث عن علاجها حين نهم بأن نجدد دعوة الرافعي وننشر رسالته، إن كان ثمة يقين بأن أدب الرافعي حقيق بالخلود؛ وإن اليقين به ليعمر قلب كل أديب يؤمن بأن الدين واللغة هما أول المقومات لقوميتنا العربية المسلمة.
ذلك شيء.
أما آثار الرافعي فلها حديث طويل.
هذه دكاكين الوراقين ليست فيها كتاب من كتب الرافعي،
وهذا مكتب الفقيد عليه كتب من كتبه لم تطبع ولا يعرفها أحد من الأدباء.(285/45)
كل ما في يد العربية من منشآت الرافعي هو صدى كلمات وعنوانات كتب، أما حقيقتها ومعناها فقد انفرط الجيل الذي درسها أو كاد فلم يبق للجيل الناشئ منها غير عنوان:
ديوان الرفعي، ديوان النظرات، تاريخ آداب العرب، إعجاز القرآن، حديث القمر، المساكين، رسائل الأحزان، السحاب الأحمر، أوراق الورد، تحت راية القرآن، على السفود، وحي القلم
هذا كل ما طبع من مؤلفات الرافعي؛ فليسأل كل أديب نفسه: ماذا قرأ من هذه الكتب وماذا حصَّل وماذا أفاد؟
إنها لمكتبة حافلةٌ جديرة بأن تنشئ مدرسة جامعة لمن يريد أن يتزوَّد من العربية أَمرأ زاد وأشهى غذاء، ليكون أديباً له لسان وله بيان وله منزلته الأدبية في غد
إني لأكاد أوقن أن تسعين من كل مائة من القراء لا يعرفون من هذه الكتب إلا أسماءها، وإن منهم لَمن يتوهم أن من حقه أن يتحدث عن الأدب ويؤرخ لأدباء الجيل.
وما عيبٌ على مَن لم يقرأها أنه لم يقرأها؛ ولكن العيبَ كلَّ العيب علينا عامة نحن المشتغلين بالأدب أن يكون كل وفائنا لمن يموت من أدباء العربية أن نقول كان وكان ويرحمه الله ولا نعمل على تخليد أدبه بما ننشر من آثاره
لقد أدى الرجل واجبه ما استطاع وبقى علينا فرضٌ واجب الوفاء
على أن ما سبق طبعه من كتب الرافعي هينٌ خطبه؛ فسيأتي جيل يكون أكثر تقديراً لأدب الرافعي من هذا الجيل وسيُعيد سيرته وينشر أدبه
ولكن كتباً هناك ما تزال قصاصات من ورق على مكتب الفقيد تنتظر من يخرجها للناس قبل أن يسبق إليها العث والفيران.
فهل في أدبائنا وفي حكومتنا من العزم وحسن التقدير ما يحملهما على معرفة واجب العربية وواجب هذا الراحل؟
كم نبكي وكم نعول على ما ضاع من تراثنا الأدبي وما فقدته المكتبة العربية من منتوج أدبائها الفحول في عصر الجهل والانحطاط، وهذا تراث بين أيدينا يوشك أن يتبدد ويذروه الهواء!
لقد أورثني الرافعي بعض تبعاته، وإني لأحس بثقلها على عاتقي أكثر مما أحس بحاجتي(285/46)
إلى التحدث عن ماضيه
لقد عاش الرافعي حياته يجاهد لامته ما لم يجاهده أديب في العربية منذ قرون، وقضى حياته يلقى من العقوق ونكران الجميل ما لم يلق أديب في العربية منذ كانت العربية؛ ومات فما كان حظه منا في أُخراه أحسن منه في دنياه. فهل لي أن أؤمل أن تتنبه الأمة والحكومة إلى ما ينبغي أن يكون، وفاءً لهذا الراحل الكريم؟
ليس يكفي أن يكون كل وفائنا للرافعي، حفلة لتأبينه وبضع كلمات في الصحف لرثائه، ولكن الوفاء حق الوفاء أن نعمل على تخليد ذكراه بتخليد أدبه، وتجديد دعوته، وإبقاء ذكره، ونشر رسالته، فليكن هذا الكتاب الذي أنشأته عن (حياة الرافعي) أولاً له ما بعده، لنفكر في الوسائل النافعة التي تجدي على الأدب والعربية أكثر مما تجدي رسائل التائبين وكلمات الترحم والاسترجاع!
أما هو فقد انطوى تاريخه على هذه الأرض، فلن يجدي عليه شيئاً ما نفعل وما نقول؛ ولكن ما نفعله وما نفكر فيه إنما هو لخيرنا وجدواه علينا، فلنفكر في أنفسنا وفي ذواتنا وفيما يعود علينا وعلى العربية في تجديد ذكر الرافعي، إن كان يعز علينا أن نعمل أو أن نفكر إلا فيما تكون منفعته إلينا ولنا من ثمراته نصيب!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(285/47)
في اللغة
المؤنث والمذكر في اللغات السامية
للأستاذ عمر الدسوقي
(تتمة)
ذكرت في المقال السابق أن المؤنث ليست له علاقة خاصة به من حيث كونه مؤنثاً باعتبار الجنس، وأن بعض الجموع والمصادر والصفات الدالة على المبالغة، والأمور المعنوية، تلحقها نفس العلامات التي تلحقه. وقلت أن الصلة بينها جميعاً هي الدلالة على القوة وبلوغ النهاية؛ ووعدت أن أوضح سبب نظرة الساميين إلى هذه الأشياء نظرة الإكبار والتعظيم.
أتى على الإنسان عصر كان يقدس فيه القوى الطبيعية، المنتج منها والمدمر، يتملقها بالعبادة والقرابين استرضاءَ لها واتقاءَ لشرها
كان يقدس الريح، لأنها إذا سخطت أتت صرصراً عاتية، تعبث به وبكوخه ومتاعه، وتزأر زئيراً يقشعر له بدنه، وترتجف منه أوصاله؛ وإذا رضيت أتت رخاءَ لينة، تخفف حدة القيظ، وقر الشتاء
كان يقدس الشمس، لأنها تبعث في الحيوان والنبات الحياة والقوة، وتجلب الضوء فتمكنه من السعي في مناكب الأرض والخروج للصيد، وتجعل من رمال الصحراء ناراً متقدة، ومن حرم ضوءها ذوى وذبل.
وكان ينظر إلى السماء وما حوت نظرة تقديس وإجلال، فيراها موطن الأجسام المتلألئة اللماعة، تهديه في شراه، وتمن عليه بالضوء ليلاً ونهاراً، ويتطلع إليها كأنها مصدر القوى المسيطرة على العالم.
وكان يرى في الأرض أماً يسكن إليها إذا ريع، ويعتمد عليها في طعامه، وشرابه، وحياته. درج عليها صغيراً، وجاب نواحيها كبيراً. زرع فيها الحب فآتى أكله، وغرس فيها الشجر فأثمر.
وكان يرى في السحب إله الرحمة، تنقع غلته من حياها، وتنمي زرعه من غيثها، وتدر الماء فتربو الأرض وتنتج من كل زوج بهيج.(285/48)
وكان يرى النار مصدراً للخير والشر، تنضج له طعامه، وتضيء له كوخه، وتلتهم كل ما يملك.
اعتبر كل هذه القوى أشياء طبيعية، خفية، غامضة، ذات قدرة سحرية، قادرة على النفع والضر، فأشار إليها بضمير خاص مميزاً لها عن بقية الأشياء التي تقع تحت سمعه وبصره، ذلك الضمير الذي يشير به إلى الانثى، وكانت في نظره قوة منتجة ذات تأثير بين في حفظ النسل وإخراجه إلى الحياة وتعهده بالرضاعة والنمو، ولأنها لغز لم يستطع إدراكه، فهو لا يستطيع الحياة بدونها، ويجدها مصدر العطف والرحمة، واللذة والألم، والقسوة والصبر
وكان الآشوريون وهم أقدم الأمم السامية وأقربهم إلى الأمة الأصلية، يعتقدون أن المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تفهم السحر وتقوم بالأعمال السحرية، وأنها تعرف أسرار الغيب، والتكهن بالمستقبل
وكان عند العرب من العرافات والكواهن في الجاهلية عدد لا بأس به كطرْيفة الخير، وسلمى الهمدانية
وكان العرب يسمون كثيراً من آلهتهم بأسماء الإناث، ولا سيما أقدمها وأعظمها، فكانت (مناة) أعظم أصنام الأوس والخزرج، وكانوا يجلونها وتعتبر أقدم أصنامهم. وكانت (اللات) أكبر أصنام ثقيف. وكانت (العُزَّى) أعظم أصنام قريش، يزورونها، ويهدون لها، ويتقربون إليها. وقد قيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكرها مرة فقال: (لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي). وهذه الأصنام الثلاثة هي التي خصها القرآن الكريم بالذكر
تلك كانت نظرة الساميين القدماء للأنثى: اعتبروها قوة من القوى المنتجة، ونسبوا إليها القدرة على القيام بالأعمال السحرية والكهانة والعرافة.
ولذلك أنثوا كل الكلمات الدالة على القوة، والتي ترمز إلى أمر خطير ذي أثر بين في حياتهم: أنثوا الخمر لأنها تجلب إليهم المرح والسرور، وتنسيهم أحزانهم وآلامهم؛ وأنثوا الروح والنفس، لأنهما من القوى الخفية التي بها يحيا الإنسان وبدونها يصير جثة هامدة، لم يقفوا على سرهما وكنههما: (ويسألونكَ عن الرُّوحِ قل الرُّوحُ من أمر ربي). والنفس عندهم(285/49)
تعني الدم والنَّفَس، ولا زال النَّفَس يعد قوة سحرية، يسلطه السحرة على الأفاعي لتسكن إليهم وتطيع أوامرهم ولا تؤذيهم. وكانوا ينفخون على الجروح لتبرأ، ولا زال هذا معمولاً به إلى اليوم
وأنثوا الحرب، لان فيها ضراً وفيها نفعاً؛ يتخذونها مورداً لأرزاقهم، فيسبون ويغنمون، وإن كانوا يعرضون أنفسهم للتهلكة؛ وتاريخ العرب في الجاهلية على ذلك شهيد
وأنثوا من أعضاء جسم الإنسان أحد عشر عضواً، كاليد والأذن والعين، لأنها أوعية القوى التي يكون بها الإنسان إنساناً؛ وكانت اليد عندهم آلة البطش والقدرة والتأثير: (يدُ الله فوقَ أَيديهم)، (بيده المُلك).
وأنثوا من الآلات أحد عشر اسماً، كالفأس والرحى والدرع، لأنها تعنيهم على الإنتاج والدفاع والقوة.
وربما قال قائل: إن كل الأسماء التي ذكرتها خالية من علامات التأنيث، وقد اعتبرها العرب مؤنثاً مجازياً. وأقول: هو ذاك؛ هي مؤنثة باعتبار الفكرة التي كانت تدور في أذهانهم، ومع ذلك فالعلامة ليست شرطاً في التفرقة بين المؤنث الحقيقي والمذكر. خذ مثلاً: الأب، ألام. والحصان والفرس، والحمار والأتان. وتجد أن الصفات التي أختص بها المؤنث لا تحتاج إلى علامة مثل: مرضع وحامل وحائض وعاقر، وثيب وعانس. وذلك لأن فكرة التأنيث عند ذكر هذه الصفات والأسماء كانت حاضرة في مخيلتهم. ويذهب العلامة برو كلمان إلى أبعد من ذلك فيقول: لم تكن الحاجة ماسة في أول الأمر للتمييز بين المؤنث والمذكر بعلامة، إذ كانت الطبيعة قد وضحت بينهما. وهذه الكلمات التي ذكرت آنفاً تعتبر من أقدم الكلمات في اللغات السامية. ووضعت علامة التأنيث فيما بعد لما أعتبره الساميون مؤنثاً لتقوية الكلمة وتشديدها وزيادة تمييزها عن غيرها
أما الأمور المعنوية، كالرحمة والقسوة، والشفقة والبغضاء، والبلواء، والسعادة والبأساء، فلأنها أمور دقيقة لم يستطع ذلك الإنسان الفطري إدراك كنهها، وإنما عرفها بآثارها الظاهرة المحسوسة، فألحقها بالمؤنث، ووضع لها العلامة لان فكرة التأنيث بها ربما كانت غامضة، أو ضعيفة فقواها
أما الجموع فأمرها هين ولا سيما جموع العقلاء، مثل عامل وعملة، وكاتب وكتبة، وصبي(285/50)
وصبية، وكرماء وأشداء وعظماء وأقوياء، إذ أن الجموع قوة تستطيع أن تفعل ما لا يفعله الفرد.
أما المصدر ففكرة مجردة، ويقول العلامة (دلمان) إن الفكرة المجردة يتصورها الإنسان كقوى منتجة خالقة، ولذلك جاء الكثير منها مؤنثاً.
ويمكنك أن تدرك الفكرة التي حدت بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء والصفات في تلك النعوت التي تدل على المبالغة وبلوغ النهاية مثل: راوية ونابغة، وداهية. . . الخ.
أما أمكنة الإقامة، كالمدينة، والقبة، والدار، فلاتصالها بالأرض، وقد بينت في أول المقال كيف نظر الساميون إلى الأرض. وتسألني ما بال البيت مذكراً؟. نعم إن البيت مذكر، ولكن أثراً من آثار صيغته الأصلية المؤنثة لا يزال موجوداً في اللغة الآشورية، حيث يستعمل مذكراً تارة ومؤنثاً أخرى، كأجزاء الأرض مثل الطريق، والسبيل. ولعلك تتذكر أني بينت في المقال الأول كيف تخرج هذه الكلمات من المؤنث تدريجياً لضعف فكرة التأنيث فيها.
ولعلي أكون قد وفقت في توضيح هذه الفكرة التي حدت بالساميين لتأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر، فالغرض من علامات التأنيث هو تقوية الكلمة، والضغط عليها، وإظهارها بمظهر الشدة، لما ترمز إليه من المعنى القوي، والأمر الخفي ذي الأثر والنفوذ والقدرة السحرية.
عمر الدسوقي(285/51)
رسالة من باريس
بعض الدكاترة الفخريين
الذين منحوا الدكتوراه الفخرية في فرنسا هذا العام
للباحث الأديب مصطفى زيور
- 2 -
إذا أضفنا إلى هذه المحاولات لتركيب المواد الزلالية وبالتالي المادة الحية من المواد اللاعضوية البسيطة، إذا أضفنا إلى ذلك نتائج بحوث الكيميائي الكبير (لوب) التي أثبتت بطريقة لا تحتمل الشك العلمي أن المواد الزلالية لا تختلف في قوانين تفاعلاتها الكيميائية عن قوانين تفاعلات المواد اللاعضوية، وبعبارة أخرى أن المادة الزلالية لا تنفرد بكيمياء خاصة، فإنه يبدو لنا أن هؤلاء العلماء المنكبين على دراسة المادة الحية يتخذون فرضاً لعلمهم وبحوثهم أن هذه المادة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المواد الأخرى. وليس في ذلك غرابة فإن أي تقدير من جانبهم يختلف عن ذلك كأن تعتبر المادة الحية خاضعة لسلطان ميتافيزيقي يجعل موقفهم متناقضاً، لان البحث التجريبي لا يمكن أن يتناول إلا ما يقبل التجريب وبالتالي ما يخضع لقانون طبيعي
ولكن المسألة التي استرعت اهتمام سورنس بنوع خاص هي من غير شك مسألة (مبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة) في سائل بعينه، وأهمية ذلك بالنسبة للمظاهر الحية. ويجدر بي قبل أن أبين خطر هذه البحوث أن أقدم لها بكلمة قصيرة أبين فيها ما الذي يعنونه بمبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة أو جهد الهيدروجين المكهرب
لاحظ فراداي، ذلك العبقري الإنجليزي أحد مؤسسي المغناطيسية الكهربائية في أوائل القرن التاسع عشر، أننا إذا أحدثنا فرقاً في الجهد الكهربائي بين قطبين منغمسين في محلول ملح ما فإننا نرى تياراً كهربائياً يمر يصحبه انحلال الملح إلى أجزاء تحمل شحنة كهربائية بعضها موجب يوجهها إلى السير نحو القطب السالب، وبعضها سالب يوجهها نحو القطب الموجب، وهكذا يتكون لدينا تيار من هذه الأجزاء ناقل للشحنات الكهربائية أي لكمية الكهرباء. هذه الأجزاء المكهربة هي التي يسمونها منذ فراداي باللفظة اليونانية (أيون) أي(285/52)
سائرة ومتجهة. على أن (أرينبوس) بيَّن فيما بعد أن انحلال الجسم الذائب في سائل ما إلى أيون لا يحدث تحت تأثير مرور تيار كهربائي. بل إن هذا الانحلال يحدث لمجرد ذوبان الجسم في السائل؛ ذلك لأن ذرة كل جسم تتكون من نواة ذات شحنة موجبة يحيط بها كهيربات ذات شحنات سالبة يدعونها (إلكترون) تعادل الشحنة الموجبة فتصبح الذرة متعادلة لا هي موجبة ولا هي سالبة؛ فإذا ما أذيب جسم في سائل يضطرب هذا التعادل بأن تفقد الذرة كهيربا سالباً فتصبح موجبة أو تكسب كهيرباً سالباً فتصبح سالبة.
فإذا أذبنا حامضا في سائل ما، وليكن حامض الكلوريدريك المكون جزآه من ذرة من الكلور وذرة من الهيدروجين فإن بعض هذا الحامض ينحل إلى ذرات كلور ذات شحنة سالبة، وذرات هيدروجين ذات شحنة موجبة. ولكن ذرات الهيدروجين المكهربة هي التي تعين الحموضة، فكلما كانت قابلية الحامض إلى الانحلال كبيرة، وبالتالي عدد أيون الهيدروجين المنتشرة في السائل كبير، كانت درجة الحموضة كبيرة، بصرف النظر عن كمية القلوي الذي يمكن أن يعادلها ذلك الحامض، والتي تعين قوته الحامضية الكاملة. وكذلك الحال في جسم قلوي مثل الصودا الكاوية المكون جزآها من ذرة صوديوم متحدة مع مركب يدعونه هيدروكسيل يتألف من ذرة هيدروجين وذرة أوكسجين، فإذا أذيبت الصودا الكاوية في سائل فإن جزءاً منها ينحل إلى ذرات صوديوم تحمل شحنة موجبة، والى عدد من الهيدروكسيل المذكور يحمل شحنة سالبة. وكما أن عدد ذرات الهيدروجين المكهربة هو الذي يعين درجة الحموضة الحالية، فإن عدد الهيدروكسيل المنتشر هو الذي يعين درجة القلوية الحالية
ولكن ظاهرة الانحلال هذه تحدث حتى بالنسبة للماء النقي؛ فنحن نعلم أن جزئي الماء يتكون من ذرة أوكسجين يرمز لها بالحرف (أ)، (أي الحرف الأول من أوكسجين) وذرتين هيدروجين يرمز لكل منهما في العربية بذلك الرمز العجيب (يد)، (الحرفان الثاني والثالث من هيدروجين). وهنا أحب أن يسمح لي القارئ أن أترك موضوعنا لحظة لكي أعلق على هذا الرمز الغريب، فلست أشك أن المترجم المصري عندما أراد ترجمة الرمز الدولي بدء النهضة العلمية الحديثة في مصر منذ نحو ربع قرن، ظن أن الكلمة هي إيدروجين بإبدال الهاء همزة كما يحصل في النطق الفرنسي، ويدل على ذلك ما جري عليه الكيميائيون في مصر من كتابة هذا العنصر على هذا النحو الأخير أي إيدروجين. ولما كان الحرف (أ)(285/53)
سبق أن اختاره المترجم المصري رمزاً للعنصر أوكسجين فلم يكن بد من اختيار الحرفين الثاني والثالث من إيدروجين بجعلهما رمزاً لهذا العنصر. ولكن الواقع أن الكلمة هي هيدروجين بصرف النظر عن نطقها في بعض اللغات. والواجب إذاً أن يتخذ الحرف (هـ) الذي يقابل رمزاً لهذا العنصر إذا كان لا بد لنا من الاستمرار فيما درجنا عليه منذ نحو ربع قرن من نقل الرموز الدولية إلى رموز عربية. فماذا يرى عالمنا الكبير الدكتور أحمد زكي؟
رأينا أن جزيئات الماء التي تتكون من ذرة من الأوكسجين وذرتين من الهيدروجين ومن ثم يرمزون لها يد 2 أينحل بعضها إلى ذرات هيدروجين موجبة يرمز لها هكذا يد + وهيدروكسيل سالبة يرمز لها هكذا أيد -؛ ولكنه من الواضح أن أيون الهيدروجين الذي يحمل شحنة موجبة لابد أن يتحد من جديد مع أيون الهيدروكسيل الذي يحمل شحنة سالبة فتتكون جزيئات مائية من جديد، بينما تنحل جزيئات مائية أخرى إلى أيون هيدروجين وهيدروكسيل، وهكذا حتى تصبح سرعة التفاعل في الناحيتين متعادلة، فينتج لدينا حالة استقرار في مبلغ تركيز الأيونات يمكن التعبير عنها بأن حاصل ضرب عدد الأيونات مقسوم على عدد الجزيئات الغير منحلة ينتج عدداً ثابتاً:
(يد +) (أيد -)
ـــــــــــ=ث (عدد ثابت يدل على حالة الانحلال وبالتالي يدل في حالة حمض أو قاعدة على قوة الحمض
(يد 2 أ)
أو القاعدة).
ولكن في حالة الماء فإن الجزيئات الغير منحلة قليلة التغير
وبالتالي فإن حاصل ضرب (يد +) (أيد -) يكون ثابتاً، وتقدر
قيمته في لتر من الماء بكسر اعتيادي مقامه الوحدة يتبعها
أربعة عشر صفراً 11014 فإذا تصورنا الماء في حالة
التعادل التام أي أن أيون الهيدروجين يساوي عدد أيون(285/54)
الهيدروكسيل فإن الرقم الذي يدل على تركيز أيون
الهيدروجين يكون في هذه الحالة 1107
ولتسهيل الإشارة إلى الحموضة الحالية أي لمبلغ تركيز اليون يد + أو جهد الهيدروجين اقترح سورنسن أن يعبر عنه بمقلوب اللوغاريتم العشري أي بعدد الأصفار الذي يتبع الوحدة في مقام الكسر الاعتيادي الدال على مبلغ التركيز أي بالعدد 7 في حالة التعادل، وأن يرمز له بالحروف الدولية ما يمكن ترجمته بالحروف العربية ج يد حيث أن الحرف الأول من جهد (وليس القوة كما أشار بذلك البعض لأن لفظة القوة ترجمة فلسفية قديمة وتدل عند المشتغلين بالعلم في مصر على محدث العمل). كما كان لسورنسن الفضل في استنباط طريقة لقياس درجة الحموضة هذه بواسطة تفاعلات ملونة
أهمية مبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة أو جهد
الهيدروجين ج يد في المظاهر الحية
قد لا يكون من المبالغة أن نقرر أنه ما من ظاهرة من ظواهر الحياة لا تخضع لهذا العامل الأساسي: مقدار الحموضة الحالية أي جـ يد؛ فقد تبين أن الكائنات الحية حتى الدنيئة منها مثل الجراثيم لا يمكن أن تعيش إلا في وسط له درجة حموضة معينة خاصة بكل نوع من أنواع الكائنات لا يجب أن تتغير وإلا فقدت الحياة. ويكفي أن أشير إلى أن درجة الحموضة في دم الإنسان ثابتة ثباتاً يسترعي النظر حقاً، وتعمل على هذا الثبات وظائف لها من الدقة والانتظام ما يدل على خطورة مقدار الحموضة الحالية في بقاء الحياة. وتبدو هذه الخطورة بوضوح إذا علمنا أن تلك الصدمات العنيفة المصحوبة بهبوط شديد في ضغط الدم والحرارة وضربات القلب بحيث يصبح الموت قاب قوسين أو أدنى، والتي تحدث من إدخال بعض المواد الغريبة في الدم أو نتيجة لبعض الأمراض، هذه الصدمات يصحبها تغير في درجة الحموضة المذكورة.
وهنا يجب أن أشير إلى ما يدعونه نقطة التساوي الكهربائي في الزلاليات حتى يتم لنا هذا العرض السريع لمسألة الحموضة وأهميتها البيولوجية(285/55)
سبق أن ذكرت أن المواد الزلالية تتركب من أحماض أمينية تحتوي جنباً إلى جنب على وظيفة حمضية ووظيفة قلوية؛ وعلى ذلك من السهل أن نفهم أن المواد الزلالية تنحل فتترك ذرات هيدروجين موجبة من جهة كما يحدث في الأحماض، وهيدروكسيل سالبة من جهة أخرى كما يحدث في القلويات.
فإذا ما كانت درجة الحموضة الحالية ج يد في الوسط الموجودة فيه هذه المواد الزلالية كبيرة فإن هذه المواد تسلك كما لو كانت قلوية فقط فلا تنحل إلا إلى أيونات هيدروكسيل (أو على الأقل فإن النتيجة العملية هي كذلك)، وبالعكس فيما لو كانت درجة حموضة الوسط قليلة أي قلوية؛ وبين هذين الطرفين توجد نقطة في درجة الحموضة تنحل عندها الزلاليات إلى مقدار متساو من أيون الهيدروجين وأيون الهيدروكسيل، فيحدث نوع من التساوي الكهربائي يمكن أن نرمز له هكذا ج يد س (س=الحرف الأول من الفعل الماضي أصل الاشتقاق ساوي)
والآن من السهل أن نفهم أهمية نقطة التساوي هذه إذا تذكرنا أن العامل الرئيسي في ثبات المحلولات الغروية هو وجود شحنة كهربائية تمنع الجزيئات من التهالك، ولما كانت هذه الشحنات الكهربائية تنحط إلى مقدار ضعيف عند نقطة التساوي ونتيجة لهذا التساوي، فيمكننا أن نتنبأ بقلة ثبات المحلولات الغروية وبالتالي المادة الحية وميلها إلى الانهيار عند هذه النقطة. وهذا ما يحدث بالفعل ويوضح لنا أهمية درجة الحموضة ج يد والخطر الذي ينتج من تغيرها على مظاهر الحياة.
وأخيراً فإن الفضل يرجع إلى سورنسن في بيان أهمية درجة الحموضة بالنسبة للتفاعلات الخميرية، فقد بين كيف أن الخمائر - وهي تلك المواد الخاصة بالكائنات الحية تساعدها على تحقيق التفاعلات الكيميائية - لا تقوم بعملها إلا في درجة حموضة معينة خاصة بكل خميرة؛ فنحن نعلم مثلاً أن خمائر المعدة لا تقوم بعملها في الهضم إلا في درجة حموضة معينة مرتفعة بالنسبة لدرجة الحموضة اللازمة لخمائر الأمعاء.
وفي النهاية لست أحب أن أترك القارئ يفهم أن جميع المسائل التي ذكرتها ومحصولنا العلمي فيها يرجع إلى أبحاث سورنسن وحده، فإني أكون إذن تعديت الأمانة التاريخية؛ ولكنه لم يكن في استطاعتي أن أبين قيمة أبحاثه دون أن أذكر بجانبها الأبحاث التي(285/56)
أثارها، ثم الأبحاث التي سبقته حتى نقدر مجهود هذا الكيميائي الكبير. وبعد كل شيء فإني لم أقصد إلى تحقيق تاريخي فليس هنا مقام ذلك، ولكني قصدت إلى اتخاذ بحوث هذا العالم مناسبة للإشارة إلى بعض التيارات العلمية السائدة.
للكلام بقية
مصطفى زيور(285/57)
أتوق
لشاعر الهند رابندرانات طاغور
بقلم الآنسة الفاضلة (الزهرة)
أتوق إلى مخاطبتك بأدق الكلمات وأملأها بالمعاني العميقة التي تجيش في حنايا قلبي،
ولكني لا أجرؤ خشاة أن تضحكي مني
لذلك أضحك من نفسي، وأشجب سري الخفيِّ بالهز والتنادر، وأذيعه في شظايا النكات
والإشارات
وأستخف بألمي لكيلا تستهيني أنت به
أتوق إلى مصارحتك بأصدق الكلمات، ولكني لا أجر خشاة ألا تصدقيها. . .
لذلك أطويها في رداء التمويه، وأضفي عليها أبراد الكذب وأقول عكس ما أبطن، وأجعل
ألمي يبدو بلا سبب ولا علة لكيلا تري أنت فيه هذا الرأي
أتوق إلى صوغ أثمن الكلمات التي أدخرها لأجلك، ولكني لا أجرؤ خشاة أن تبخسيها
حقها وتصفقيني صفقة الغبن والخسران
لذلك أنتحل لك صفات فظة، وأطلق عليك أسماء غليظة وأتبجح بقسوتي وصلابتي،
وأباهي بقوتي وأيدي، وأنالك بالأذى خشاة ألا تفقهي للألم معنى أو تذوقي لمرارته طعماً
أتوق إلى الجلوس قربك صامتاً، ولكني لا أجرؤ لئلا يقفز قلبي من بين شفتي ويترامى
تحت قدميك
لذلك أثرثر وأهذر وأتنادر لكي أخفي سر قلبي وراء ألفاظي وأتلاعب بألمي في عنف
دون هوادة ولا رفق خشاة أن تتلاعبي أنت به. . .
أتوق إلى الابتعاد عنك، ولكني لا أستطيع أن أجد إلى الفرار منك سبيلا، لئلا ينكشف
أمامك جبني، ويستعلن لك خوفي ووجلي. . .
لذلك أرفع رأسي بافتخار، وأشمخ أنفي في شمم، وأمثل أمامك غير حافل ولا مبال. مع
أن السهام المنطلقة من عينيك على الولاء تجدد ألمي باستمرار. .
(الزهرة)(285/58)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 29 -
وكان لهذا القائد الذي بزغ نجمه شبه كبير بالرئيس في نشأته وفي كثير من طباعه، كلاهما واجه الحياة وهو في سن اللهو واللعب، وكلاهما شق طريقه فيها بنفسه فكان كالنبتة القوية المستقيمة التي تفلق التربة وهي بعد صغيرة، لا كتلك الألفاف الملتوية التي لا تعرف من معنى النماء إلا أن تتسلق على غيرها وهي في ذاتها هزيلة نحيلة. . .
كان جرانت كأبراهام قوة إرادة ومضاء عزيمة، وكان مثله يلم بما حوله من المشكلات إلماماً تاماً ويستوعب أجزاءها لا تفوته منها صغيرة ولا تستعصي عليه كبيرة، كما كان يعرف في كل موقف قدر نفسه لا يغتر ولا يزهى ولا يتضاءل ولا ينكص. . وهو إن لم تكن له سماحة الرئيس وعذوبة روحه، فقد توفر له الكثير من بساطته ووداعته. . .
كان جندياً في سني يفاعته، ثم انصرف عن الجندية إلى الزراعة حيناً ثم إلى التجارة بعد ذلك، وظل بضع سنين حائراً يضرب في الأرض في طلب الرزق. ولو لم تقم تلك الحرب الأهلية لما وعى التاريخ عنه إلا بقدر ما يعي عن الآلاف غيره من البشر اللذين يعبرون هذا الوجود وكأن لم يخلقوا!
وأحس لنكولن أن في هذا الرجل من الصفات ما يعد متمماً لصفاته، فهو متحمس سريع المضي إلى غايته إذا اتجه همه إلى أمر؛ وهذه الحمية يقابلها عند الرئيس الروية قبل البدء، والتمهل إذا مضى في سيره. . .
هذا هو القائد الذي أحس أبراهام أن سوف يكون على يديه النصر بعد تلك الهزائم الشائنة،(285/60)
وبعد أن خذلته الظروف، وتنكر له الرجال وضايقوه على صورة لم يكن يطيقها غيره. . .
أراد الجنوبيون أن يقوموا بهجوم قوي على العاصمة الشمالية فيضربوا الاتحاد الضربة الحاسمة، فزحف قائدهم الكبير لي بجيشه فعبر نهر بوتوماك وسار حتى أصبح على بعد خمسين ميلاً أو نحوها من وشنجطون في مكان يدعى جتسبرج، وهناك التقى به جيش الشماليين بقيادة ميد وهو قائد جديد جعله لنكولن على رأس جيش البوتوماك بعد أن ضاق بتلكؤ سلفه.
ودارت في هذا المكان معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام، وقد استبسل الفريقان فيها واستقتلوا وتوالى بينهما الجزر والمد، وكأنما طاب لهم الموت فتسابقوا إليه جماعات، وانتهى الصراع بانسحاب لي ولكن في ثبات واطمئنان. فكانت هذه المعركة التي سقط فيها أكثر من عشرين ألفاً من الضحايا فاتحة الانتصارات الكبيرة لأهل الشمال. وما أن وصلت أنباؤها إلى العاصمة حتى تدفق الناس إلى حيث يجلس الرئيس وهم من فرط ما قد سرهم من النبأ لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو رجلهم، نحو هذا الحصن الحصين وهذا العتاد المتين.
وكان هذا النصر الباهر في اليوم الثالث من يوليو عام 1863 ولقد نام الرئيس ليلته ملء جفونه لأول مرة منذ قامت الحرب، وفي اليوم التالي حمل إليه البرق رسالة من القائد جرانت، وكانت له القيادة في الغرب على ضفاف المسيسبي. . . وفض الرئيس الرسالة فإذا جرانت ينبئه أن قد سقطت في يده فِكِسبرج. . . وكانت هذه المدينة تسمى (جبل طارق) المغرب، إذ كانت مفتاح النهر إلى الجنوب. ولقد جمع فيها أهل الجنوب ما استطاعوا من قوة وعدة؛ وكان جرانت قد اتجه إليها منذ فاتحة ذلك العام، وكان هو وجنوده يلقون النار الحامية من المدافعين عنها، ولكنه لم يعبأ بما كان يلقى، ولبث يعمل في صمت وهدوء حتى أحكم الخطة فأحاط بالمدينة، وأتى حاميتها من فوقهم ومن أسفل منهم وما زال بهم حتى أجبروا على التسليم تاركين في يده ثلاثين ألفاً من الأسرى وعدداً هائلاً من البنادق والأسلحة ومقداراً كبيراً من المؤونة والزاد. . .
ولا تسل عما فاض في العاصمة الشمالية من مظاهر الجذل والحبور؛ فلقد شعر الناس بقرب انكشاف الغمة والتمعت في سمائهم بوارق الأمل في النصر النهائي بعد هذا العذاب(285/61)
الشديد. . .
واشتدت العزائم ورأى المستضعفون واللذين استكبروا ما كانوا قبل في عمى عنه؛ رأوا فضل رئيسهم وعاقبة ثباته وصبره، فراحوا يتوبون إليه ويهنئونه بما صبر. . .
والرئيس يشارك القوم جذلهم، ولكن نشوة النصر لا تصرف عينيه عما هو فيه، كالربان الماهر الحاذق، لن يدير عينيه عن البحر إذا هو اجتاز مكاناً تتجمع فيه الصخور، ولن يزال محدقاً متيقظاً حتى تلقى السفينة مراسيها. . .
وكان في نفس الرئيس شيء يكاد يكربه فينسيه فرحة النصر، وذلك أن ميد قد وقف فلم يتعقب لي ويجهز على جيشه لدى انسحابه، فلقد كان عليه أن يعبر النهر ليعود إلى ولاية فرجينيا، وعبور النهر ليس بالأمر الهين على جيش ينسحب؛ ولكن ميد كان يرى الجيش في حالة من الإعياء لا يستطيع معها أن يقوده إلى أي زحف مهما هان أمره، فلقد جاء نصره بشق الأنفس. . . وأحس القائد المنتصر الحرج من وقوف الرئيس حياله فطلب إليه أن يعفيه من القيادة، فرد عليه الرئيس ملاطفاً في صفح يشبه الاعتذار
وكأنما جاء انتصار الشماليين في المعركتين في تلك الأيام على قدر من الظروف، فلقد كانت تأتي الأنباء من خارج أمريكا بسوء موقف الحكومة الإنجليزية من قضية أهل الشمال! تلك الحكومة التي كان يعتقد لنكولن أنها سوف تحمد له قضاءه على العبودية فأعلن قرار التحرير وفي نفسه هذا الرجاء؛ ولشد ما آلمه بعدها أن يرى الحكومة تتذبذب وتلتوي ولا تخطو إلا على هدى من مصالحها المادية.
وكان مما يخفف وقع هذا الجحود على نفس الرئيس ما كانت تأتي به الأنباء من موقف أحرار الشمائل من الشعب الإنجليزي حياله، فلقد علم أن اجتماعات عقدت في مانشستر ولندن هتف فيها باسم الرئيس هتافاً عالياً حتى لقد وقف الناس في أحدها دقائق يلوحون بقبعاتهم في الهواء عند ذكر اسمه؛ وظل هذا موقف الأحرار في الشعب الإنجليزي حتى وصلت إليهم الأنباء بالانتصار السالف الذكر فاستخذى الطامعون وذوو الأغراض من رجال الحكومة والبرلمان، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يتخذوا من انتصار الجنوبيين ذريعة لإعلان اعترافهم بهم كأمة مستقلة، والذين بلغ بهم الحقد على لنكولن وحكومته أن جهزوا سفناً لمناوأة تجارة الشماليين في المحيط وأرسلوا بعضها فعلاً لهذا الغرض.(285/62)
تلك هي نتائج الانتصار في المعركتين وأثره في الداخل والخارج. . قال لنكولن عندما قرأ رسالة جرانت: (الآن يستطيع أبو المياه أن يذهب من جديد إلى البحر وليس في سبيله عائق). . واجتمع الناس في حفل كبير في مكان معركة جتسبرج ليمجدوا ذكرى ضحاياها وطلبوا إلى الرئيس أن يخطبهم في هذا الحفل المشهود فكان مما قاله: (منذ سبعة وثمانين عاماً أقام آباؤنا في هذه القارة أمة جديدة، نشأت على الحرية وعلى ما نودى به من أن الناس خلقوا جميعاً على سواء، ونحن الآن في حرب أهلية هي بمثابة اختبار لنرى هل تستطيع هذه الأمة أو أية أمة نشأت نشأتها أن تعيش طويلاً. . . ونحن نجتمع هنا لنخلد موضعاً منها نجعله مقراً نهائياً لهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم كي تستطيع أمتهم أن تعيش؛ وهذا عمل مناسب ولائق بنا، ولكنا لن نستطيع في معنى أوسع أن نخلد أو نقدس هذه البقعة. . . إن البواسل من الرجال سواء في ذلك الأحياء والأموات الذين ناضلوا هنا قد خلدوها أكثر مما تستطيع قوتنا أن تزيد عليها أو تنقص منها وإن العالم سوف لا يهتم كثيراً وسوف لا يتذكر طويلاً ما نقول هنا ولكنه لا يستطيع أن ينسى ما فعل هؤلاء). . . ثم زاد على ذلك فقال (يجب أن نصمم على ألا ندع موت هؤلاء يذهب عبثاً وعلى أن تعطى هذه الأمة في عناية الله مولداً جديداً هو مولد الحرية، وعلى أن تكون حكومة الشعب التي قامت بالشعب وللشعب، بحيث لا تزول أبداً من فوق الأرض)
هذا هو خطاب الرئيس الذي سمعه الناس في تلك البقعة التي صبغتها دماء المجاهدين. ولقد وصلت كلماتها إلى أعماق نفوسهم فهزتها هزاً لم يتمالك معه الكثيرون أن يحبسوا دموعهم من فرط ما أحسوا من المعاني. . .
وآمن كثير من دعاة الهزيمة والتردد بما كان لثبات الرئيس من فضل، وأيقنوا أن سوف يكون مرد انتصارهم في النهاية إلى هذا الذي يحمل أثقال قومه فلا ينوء بها ولا يزداد على المحن إلا صلابة واعتزاما.
ولاحظ عليه المتصلون به أن تلك الشدائد وإن لم تنل من عزمه، قد نالت من جسده، ورأوا السنديانة يمشي إليها الذبول شيئاً فشيئاً حتى ليخافوا أن تذوى فتسقط - أجل فزع الناس أن يروا إبراهام تتجمع وتتزايد في وجهه التجاعيد وهو من صدر شبابه لم يك خلوا منها، وأن يلمحوا في صفحة هذا الوجه المحبوب إمارات الجهد، وفي نظرات تلك العينين الواسعتين(285/63)
أثر السهد وطول العناء. . .
ولكن روحه أقوى واعظم من أن يتطرق إليها الوهن، أو أن تتأثر بشيء مما يصيب جسده. . . أليسوا إذا جلسوا إليه لا يزالون يستمتعون بأحاديثه العذبة ونكاته المطربة الظريفة؟ أو ليسوا يسمعون حتى في تلك الأيام ضحكاته التي قد يطلقها أحياناً فتذهب في أرجاء الحجرة مجلجلة مدوية؟ ذهب إليه أحد الرجال في أمر من الأمور الهامة فأخذ الرئيس يقص عليه من قصصه حتى لم يطق الرجل صبراً فقال وفي لهجته حدة وفي عبارته شدة: (أيها الزعيم إني ما جئت هنا هذا الصباح لأسمع قصصاً. . . إن الوقت عصيب). فاستمع إلى الرئيس يقول له في رزانة وأدب (اجلس يا أشلى، إني احترمك كرجل مخلص ذي حمية، وإنك لم يبلغ اهتمامك أكثر مما بلغ اهتمامي هذا الذي ما فارقني منذ أن بدأت تلك الحرب، وإني أقول لك الآن إنه لولا هذا الذي نفس به أحياناً عن نفسي لحاق بي الموت).
ومن أولى من هذا الرجل وأحق أن ينفس عن صدره في هذه الشدائد المتلاحقة؟ هذا إلى أنه فيما يفعل إنما يصدر عن طبيعة لا قبل له بالتخلص منها. ولقد كان مما يستعين به في ضيقه أن يقرأ، وكانت مآسي شكسبير وفي طليعتها ماكبث ما يتناوله من الكتب. وأنه يفرح ويهش لمن يشاركه عواطفه وميوله كما أنه كان يضيق بالمتزمتين اللذين يزيدون الحياة بتبرمهم وسخطهم أثقالاً فوق أثقالهم. .
وسار العام الثالث إلى نهايته والبلاد يتزايد أملها في النجاح بعد أن كاد يعصف اليأس بالقضية كلها فيأتي عليها، فلقد رأينا ما كان من دعاة أعداء الحرب وعملهم على عرقلة مساعي الرئيس ومن هؤلاء ولدنجهام الذي مر بنا ذكره. . . وهنا نشير إلى رجل آخر هو حاكم ولاية نيويورك، فلقد كان هذا الرجل من أكبر المنادين بضرورة وضع حد لهذه الحرب أن كان لا يصيب الشماليين منها إلا الهزائم. . . ولقد أدت سياسته إلى قيام ثورة عنيفة في مدينة نيويورك قام فيها المشاغبون ودعاة الفوضى بأعمال عنيفة، وبالغوا في تمردهم وعصيانهم، حتى اضطرت الحكومة أن ترسل عليهم فريقاً من الجند يقضون على الفتنة. ومن غريب أمر هؤلاء المتمردين أن قامت حركتهم التي دبروها من قبل عقب الانتصار في جتسبرج وفكسبرج، وسبب عصيانهم يرجع إلى قرار أصدره المجلس(285/64)
التشريعي في مستهل ذلك العام بناء على اقتراح الرئيس يحتم على كل رجل صحيح البدن بين العشرين والخامسة والأربعين أن يحمل السلاح في سبيل قضية الاتحاد. . . ولقد كانت حركة نيويورك هذه من مآسي ذلك العام، ولولا أن جاء النصر وأشرق نور الأمل في ظلام اليأس لكان من الجائز أن تمتد الفتنة فتأنى على كل شيء.
وافتتح العام الرابع والأحزاب تتأهب للانتخاب، فلقد قرب موعد الانتخاب للرياسة، ورأى المخالفون الفرصة تواتيهم ليعلنوا ما في نفوسهم نحو الرئيس لنكولن وسياسة حكومته.
وظهرت في الصحف وتواترت على الألسن أسماء مرشحين جدد لينافسوا الرئيس؛ فإن الديمقراطيين كانوا يقدمون ماكليلان، ذلك الذي انسحب من الحرب على نحو ما رأينا؛ وكان بعض الجمهوريين، وعلى رأسهم جريلي، ذلك الذي ما فتئ ينتقد الرئيس ويسدي له النصح، يرشحون جرانت وتشيس وزير المالية، وفريق منهم رشحوا فريمونت لهذا المركز السامي.
ولبث الرئيس مطمئناً ساكناً إن خاف على شيء فليس خوفه على كرسي الرياسة، ومتى ذاق طعم الراحة في ذلك الكرسي؟ وإنما كان يخشى أن يترك قيادة السفينة لربان غيره وهي لما تزل في طريقها، ولو أنه كان موقناً أنه يوجد غيره يقودها كما يقود هو لما تردد أن يعطيها له، فحسبه أن تصل إلى المرفأ. . . وكثيراً ما كان يقول: إنه لو وجد في الرجال من يحسن إدارة الأمور خيراً منه لتنازل له عن طيب خاطر بل لقبل ذلك مبتهجاً إذ يرى فيه وسيلة من وسائل النجاح.
على أنه يترك الأمر للبلاد فهي صاحبة القول الفصل، قال في تلك الأيام لبعض جلسائه: (إن انتخابي للرياسة مرة ثانية إنما هو شرف عظيم كما أنه عبء عظيم، وإني لن أجفل منهما إذا قدر لي ذلك. . .
ولكن البلاد لم تبغ من رجلها بديلاً، وما لبث أن أدرك مخالفوه أنهم كانوا واهمين، وكيف تتخلى البلاد عن ذلك الذي تدين بنجاحها له؟ ولماذا ينصرف عنه الناس ومكانته عندهم في صميم قلوبهم؟ لأنه أبلى فاحسن البلاء، وصبر فاجتنى من الصبر الظفر، وسهر فلم يشك يوماً من السهر؟. . . لقد كان الناس يدعونه في تلك الأيام بقولهم: (أبونا إبراهام) وكانوا يخاطبونه فيقولون: يا أبانا ماذا ترى في كيت وكيت، وما كان أحلى هذا اللقب يضاف إلى(285/65)
ألقابه. . .
ألا إن الناس ليحرصون على (أبيهم) لا تدور أعينهم إلى غيره ولا تتسع قلوبهم لسواه؛ فها هي ذي العرائض بترشيحه تترى على الحزب من أنحاء البلاد ومن ميادين القتال في كثرة عظيمة تليق بجلال قدره وخطورة شأنه وجليل ما قدمت يداه. . .
وندع الآن ذلك لنعود إلى الحرب وشؤونها؛ وأول ما نذكره أن الرئيس قد أتفق مع المجلس التشريعي على إسناد القيادة العليا للجيوش جميعاً إلى القائد جرانت. . ثم كتب إلى جرانت يدعوه إلى العاصمة فحضر اليها، وذهب إلى البيت الأبيض فلقى الرئيس وسمع منه عبارات الإطراء والثناء ثم تلقى منه نبأ تعيينه في منصبه الخطير.
ولقد تزاحم الناس وتدافعوا بالمناكب حول البيت الأبيض وفي قاعاته ليروا هذا القائد الذي تعلق عليه بعد زعيمهم الآمال. . . ولقد علق جرانت على هذا اللقاء العظيم بقوله (هذه معركة أشد حراً مما شهدت في الميادين من المعارك. .)
وبعد أن درس القائد خططه المقبلة مع الزعيم ورجاله، استأذن في الرحيل فطلب إليه الرئيس أن يبقى قليلاً ليحضر وليمة أعدتها زوجه تكريماً للقائد ولم يكن يعلم بها من قبل ليدعوه إليها فاعتذر شاكراً من عدم قبوله بقوله (حسبي ما لاقيته من تلك المظاهر أيها الزعيم. . .) وفرح الزعيم أن يسمع ذلك من القائد وهل يهدم الرجال إلا الغرور وحب المظاهر الفارغة؟
ورحل جرانت إلى الميدان وقد زوده الرئيس بقوله (أنت رجل همة وعزيمة، وأنا لا أريد وقد سرني ذلك أن أضع في طريقك ما عساه أن يعوقك، وإذا كان في طاقتي أي شيء يمكن أن أمدك به فدعني أعرف ذلك. . . والآن سر في عون الله على رأس جيش باسل وفي سبيل قضية عادلة).
(التتمة في العدد القادم)
الخفيف(285/66)
في الأدب العراقي
ديوان الشبيبي العتيد
للأستاذ الحوماني
في الكرادة من ضواحي بغداد وعلى شاطئ دجلة بيت متواضع يسكنه الشاعر العراقي الكبير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) وزير معارف العراق.
هو في منتهى دور الكهولة ويوشك أن ينهد إلى الخمسين، يعمل عقله فيما يجيب أو يقترح، تتخلل جمله في القول فترات تنم على ذلك، رزين كل الرزانة وهو يحدث، ويميل في شعره إلى الإصلاح الأخلاقي في المجتمع. لا يحب أن يجامل ولا أن يظهر أمام زائره بمظهر العز المكسوب، يزيد التألم خديه وما أحدق بعينيه - وهو يتكلم - تجعداً يبدو لك من وراءه ومن خلال ابتساماته الضئيلة سر عميق في نفسه يبعثه البؤس والشقاء مما يكابد في قومه. وإذا لم يرقه حديث جلسائه ولم يستطع مغادرة المجلس تشاغل بمطالعة الصحف، وقد يشيح بوجهه وهو يتكلم كأنما قد ذكر أمراً قد أنسيه، ثم يمعن في التشاغل عنك حتى إذا لفته إليك أدب المجالسة عاد مقبلاً عليك تقرأ في وجهه الاعتذار لك. لا يستقر به المجلس أكثر من بضع دقائق، وإذا لفته الزهر المحدق بالمجلس رأيته على ما فيه من رزانة يستخفه النظر فيهيم في الروض مع نسيم دجلة البليل.
الروح الشاعرة إما أن يربيها الألم فينشأ صاحبها متشائماً قليل الحظ من متع الحياة، فلا تراه في شعره غير شاك أو متألم؛ وإما أن تربيها اللذة فينشأ صاحبها متفائلاً لا يعرف وجهاً للألم في الحياة.
وقد تربى الروح الأولى في النفس نقمة على المجتمع واستعداداً للانتقام منه، كما قد تربى الروح الثانية في نفس الشاعر النكتة في الأدب والاستسلام للشهوات.
وقد يتعزى الشاعر المتألم بملهى أو مقهى كما قد يثوب أخوه الغاوي ويرعوي عن غيه فيلهمانه معاً جمال الشعر النفسي في معرض الآلام، على أن الأول أكثر تألماً لما يستقبل، والثاني أمضى ألماً على ما خلف
يعجبني من النوع الأول شعر العلامة الشبيبي يقول:
هي السائل والأشعار والخطب ... هَمٌّ عليَّ ثقيل هذه الكتب(285/67)
إحدى العجائب عداً أن يثقفنا ... قوم ثقافتهم في أرضنا عجب
من معدن الشر ما سنوا وما شرعوا ... ومن معانيه ما خطوا وما كتبوا
في كلماته هذه صورة بالغة في الألم النفسي. وأمض ما يؤلم الشاعر الحر أن يرى الحق مهجوراً والباطل يعمل به، وآلم لديه من ذلك أن يرى ذا الباطل يتولى الحكم في الناس على أنه محق ثم يعاقب المحق على أنه مبطل.
يرى الشاعر الحر كل ذلك ثم يرى بعده أن المجتمع راض عن هذه الحكومة، أو يتجرعها على مضض وهو يستطيع أن يلفظها، فلا يلبث شاعر الإنسانية أن يقذف بركانه حجراً تفيض به نفسه شعراً.
شر العصور وفي العصور تفاوتٌ ... عصر به تتقدم الأوغاد
أنظر إلى الأعجاز كيف تصدرت ... وعمائم السادات كيف تُساد
ثم هو يقول وقد غادر وطنه العراق إلى دمشق فحن إلى الكرخ أحد أحياء بغداد:
ببغداد أشتاق الشام وها أنا ... إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
هما وطن فرد وقد فرقوهما ... رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
ويقول في التمدن العنصري مشيراً إلى الغرب:
يعيش سعيد مفرد بين معشر ... شقي وحيٌّ واحد بين أموات
وكم جسد فوق الأخادع شاخص ... إلى جثة تحت الاخامص ملقاة
وما الزمن الماضي بأعظم محنة ... من الحاضر الموصول بالزمن الآني
يظنون هذا العصر عصر هداية ... وأجدر أن ندعوه عصر ضلالات
فإن خرافات مضت قد تبدلت ... حقائق إلا أنها كالخرافات
تلك هي نفثات شاعر المجتمع ينظر إلى أمة بعين ملؤها الحنان وقد ضغطها ظلم القوى فأهابت بشاعرها وهو مغلول اليد فأطلق فكرة من عقال الوهم والخيال، ثم أجالها فيما يقمع الظلم ويتمشى معه إلى إصلاح شعبه. ألم تره وقد لاح له بارق أمل يتلمس في أمته روح النهضة من وراءه، يثير الهمم ويشحذ العزائم حيث يقول:
نفذ الصبر فهبت فزعاً ... وأبى السيف لها أن تضرعا
أمة خرساء كم واش وشى ... بنواديها وكم ساع سعى(285/68)
أزمعت ألا يراها حملا ... غاصب صال عليها سبعا
إلى أن قال:
صلة الشرقي بالماضي ارجعي ... لا تعودي سنداً متقطعا
جددي عهد على غازياً ... وأعيدي مالكا والنخعا
ربما وقفت من الشاعر على بيت واحد علمك أنه شاعر، فلا أريد أن أشير لك إلى هذه القطع وما فيها من روح فياضة بالألم الممض مما يسمع ويرى، ولا أن أقول لك إن الروح الفياضة بالحزن أدق شعوراً بالحياة من الروح الفياضة بالسرور، وقد عرضت لإثبات ذلك مراراً مرت بك. أجل، ولا أريد أن أرجع بك في إثبات الشاعرية لهذا المصلح العراقي الكبير، إلى ما في هذه الأبيات من دقائق وقفت بالشعور الحي أن يتجاوزها إلى ما تسمع كثيراً وتقرأ كثيراً من شعرائنا الخنع في عصر النهضة.
وإنما أريد أن تعود معي إلى تصفح هذه القطع مرة ثانية لأسألك عما تشعر وأنت تقرأ عجز المطلع الأول: همٌّ عليَّ ثقيل هذه الكتب. وعما يخلقه في نفسك حنينه وهو في الشام إلى الكرخ من بغداد؟ ثم إلى ماذا يصل بك عبث الخيال وما يأتيه من فن؟
وقد يحسب العقل الواهم أن الشاعر قلما يعمل الخيال فيما تثور معه العاطفة من شعر، وكثيراً ما يقولون: إذا ثارت العاطفة كان الشعر، غالباً، خلواً من الإبداع في الفن.
أما إن عنوا بذلك خلوه من الفن اللفظي فأنا معهم، لان توجيه الفكر إلى صناعة اللفظ يحول دون فيضان الروح بما تتأثر به من مشهد يثير فيه عاطفة ما، وإذا تأثرت الروح فليس للعاطفة أن تمهل الفكر في أعمال الخيال، ضرورة أن الإبداع فعل، وثورة النفس انفعال يجيش بركانه في الصدر فيقذف حممه.
وأما أن يريدوا خلوه من الإبداع في الفن من حيث تناوله اللفظ والمعنى معاً أو المعنى فقط فلا أراني على وفاق تام معهم لما سمعت من قوله (شر العصور الخ) إلى ما جاء في القطعتين الأخيرتين فقد يبرهن لك عن اجتماع الخيال مع العاطفة فيخرج الشعر خالد الفن بين خيال يبدع وعاطفة تثور.
هذه كلمة نسوقها تمهيداً لهذا الشعر الخالد من الشعر العبقري قبل أن يخرج ولما يزل تحت الطابع؛ وسوف نعززها بكلمات بعد خروجه تكشف عن كثير من أسرار هذا الشاعر(285/69)
العبقري المعجز في عالم الفن.
الحوماني
نزيل بغداد(285/70)
النارنجة الذابلة في الربيع
لفقيد الشباب والأدب
المرحوم محمد الهمشري
كانت لنا عند السياج شجيرة ... ألف الغناَء بظلها الزرزور
طفق الربيعُ يزورها متخفياً ... فيفيض منها في الحديقة نور
حتى إذا حل الصباح تنفست ... فيها الزهور وزقزق العصفور
وسرى إلى أرض الحديقة كلها ... نبأ الربيع وركبه المسحور
كانت لنا. . . يا ليتها دامت لنا! ... أو دام يهتف فوقها الزرزور
قد كنت أجلس صوبها في شرفتي ... أو كنت أجلس تحتها في ظلتي
أو كنت أرقب في الضحى زرزورها ... متهللا يغشى نوافذ حجرتي
طوراً ينقِّر في الزجاج وتارة ... يسمو يزرزر في وكار سقيفتي
فإذا رآني طار في أغرودة ... بيضاء واستوفى غصون شجيرتي
فمتى يؤوب هتافه؟ ومتى أرى ... نوَّارك الثلجي يا نارنجتي؟!
ومتى أطير إليك. . . ترقص مهجتي ... فرحاً. . . وآخذ مجلسي من شرفتي؟!
هيهات لن أنسى بظلك مجلسي ... وأنا أراعى الأفق نصف مغمض
خنقت جفوني ذكريات حلوة ... من عطرك القمري والنغم الوضي
فانساب منك على كليل مشاعري ... ينبوع لحن في الخيال مفضض
وهفت عليك الروح من وادي الأسى ... لتعبَّ من خمر الأريج الأبيض
هيهات. . . لن أنسى ضحى (سبتمبر) ... والنحل يغشى نورك المتلالي
ومساء مارس كيف يهبط تلة ... شفقية. . . ممدودة الأظلال
نزل الحديقة تحت أرهام الندى ... وضفا عليك معطر الأذيال
فهناك كم ذهبية شغفت بها ... روحي فتاهت في مروج خيال
وهنا تحركت الشجيرة في أسى ... وبكى الربيعَ خيالها المهجور
وتذكرت عهد الصبى فتأوهت ... وكأنها بيد الأسى طنبور
وتذكرت أيام يرشف نورها ... ريق الضحى ويزرزر الزرزور(285/71)
وعرائس النارنج تحلم في الندى ... فيرف فيها طيفه المسحور
وتذكرت عند (السياج) أزاهراً ... صفراء رفت في ظلال العوسج
(زهر القطيفة) كيف خان عهودها ... نسى الهوى من عطرها المنبلج
وتذكرت. . في رعشة لما سبا ... زرزورها منها ولم يتحرج
وهنا نشبت في الشجيرة خلجة ... وبكت حنيناً للشذا المتأرج
وتذكرت شفقاً توهج حمرة ... خلل الغيوم على ربا الآصال
وبدت غصون الجزورين كأنها ... قلع ترفرف في بحار خيال!
وهنا تحركت الشجيرة في أسى ... وبكى الربيع خيالها المهجور
وتذكرت عهد الصبا فتنهدت ... وكأنها بيد الأسى طنبور
وتذكرت شجر النخيل وهدهداً ... قد كان يقصدها صباح مساَء
وتذكرت في اليوسفي يمامة ... كانت تنوح الليلة القمراء
وضفت على كل الغصون سحابة ... وزكا الغصين وفتَّح النوار
وتهلل الزرزور في أوراقها ... وزها السياج وفاحت الأعطار
حلمت بأرض في الخيال سحيقة ... في ذلك الأفق القصى النائي
خلدت إلى صمت هناك مخيم ... تسجوا عليه خوافق الافياء
هي جنة الأشجار والاظلال وال ... أعطار والأنغام والأنداء
يتزاهر البشنين فوق شطوطها ... ويغازل الدفلى زهر اللوتس
وعرائس النارنج فاح عبيرها ... بالنخل تحلم في السكون المشمس
وهناك زرزور يغرد دائماً ... ويقص أحلام الزهور النعس
يروى لها أسطورة سحرية ... مما يفوح به خيال النرجس
نارنجتي! والله مذ فارقتني ... وأنا حليف كآبة خرساء
أصبحت بعدك في انقباض موحش ... وكأنني منه مساء شتاء
تستشرف الأعطار في آفاقها ... روحي إليك وراء كل فضاء
وترف في دهليز كل أشعة ... قمراء أو ترنيمة بيضاء
قد كنت أرجو أن تكون نهايتي ... في ظل هذا السور حيث أراك(285/72)
ويكون آخر ما يخدر مسمعي ... زرزورك الهتاف فوق ذراك
ويطوف في غيبوبتي فيفيقني ... فجر قصير البعث من رياك
والآن إذ عجل القضاء فإنما ... سيقوم في الذكرى خيال شذاك
وسرى إلى أرض الحديقة كلها ... نبأ الربيع وركبه المسحور
كانت لنا. . . يا ليتها دامت لنا ... أو دام يهتف فوقها الزرزور
محمد الهمشري(285/73)
البريد الأدبي
كتاب جديد في التصوف الإسلامي
محيي الدين بن العربي من كبار متصوفة الإسلام وأقطاب فلاسفته الذين تركوا ذخيرة فكرية غير ضئيلة، ولم يتعرض لدرسها غير نفر قليل من أعلام المستشرقين، فقد تناولوا بعض نواحيها بما هي جديرة به من البحث والتنقيب. وتقوم اليوم جامعة كمبردج بطبع رسالة لأستاذ مصري هو الدكتور أبو العلا عفيفي قدمها منذ بضع سنوات لنيل إجازة الدكتوراه منها وهي
وقد تناول المؤلف في هذا البحث القيم عدة نواحي جديدة في فلسفة ابن العربي، ودرسها دراسة عميقة، محللاً ومفسراً وناقداً فقسمها إلى أربعة أقسام.
تناول في القسم الأول (النظرية الوجودية) عند هذا الفيلسوف المسلم، وهي تتعلق بنظرته للوجود الإلهي وبوجود العالم؛ ثم خصص القسم الثاني منها لنظريته (المعرفة) وبحث فيه عن أنواع المعارف الإنسانية عامة والمعرفة الصوفية خاصة وكيف يتوصل إليها، والذين درسوا التصوف الإسلامي لا بد قد أدركوا (غموض المعرفة) وما يحتاج إليه دارسها من صبر طويل في تقصيها من نواحيها المختلفة.
وتناول الدكتور أبو العلا عفيفي في القسم الثالث منها (علم النفس كما يفهمه ابن عربي) وهو باب جديد في دراسة ابن العربي استطاع المؤلف فيه أن ينفذ إلى آفاق جديدة وأن يخرج منها بآراء مستجدة في هذه الناحية المجهولة.
وتناول في القسم الرابع والأخير منها آراءه في الأخلاق والجمال وفي مصير الإنسان وفي معنى الجزاء بصورتيه (الثواب والعقاب) وفي الدار الآخرة. ولا مشاحة في أن قيام جامعة كمبردج بطبع هذا السفر للمؤلف المصري دليل على أهمية الكتاب من حيث التحليل والبحث لشخصية تعد في طليعة الشخصيات التي تركت أثراً عظيماً في الفلسفة الإسلامية وفي التفكير الإسلامي ونحت به منحى خاصاً فيه كثير من العمق.
(ح. ح)
النظام والخليل في ضحى الإسلام(285/74)
روى الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام (3: 106) في سياق ترجمته للنظام - عن صاحب كتاب سرح العيون - أن النظام دخل على الخليل بن أحمد وهو صغير، ثم ساق محاورة جرت بينهما لا يعنينا أمرها، وإنما يعنينا أن هذه الرواية مدخولة ظاهرة الدخل من حيث إمكان التلاقي بين الخليل والنظام. فأما النظام فقد ذكر الأستاذ في الصفحة نفسها أنه مات سنة 221 في نحو السادسة والثلاثين من عمره. ومعنى هذا أنه ولد في نحو سنة 185 وأما الخليل فقد ذكر الأستاذ أيضاً في ضحى الإسلام (2: 184) أنه مات سنة 175، كما ذكر ابن النديم أنه مات سنة 170، يعني أن بين موته وبين ميلاد النظام عشر سنوات على الأقل.
فرواية سرح العيون لم يكن من اللائق علمياً أن يعتمد عليها وخصوصاً إذا كانت هذه الرواية قد أوردها الجاحظ في الحيوان (3: 146) بصورة أخرى لم يذكر فيها اسم الخليل.
لعل الذي حمل الأستاذ على الاحتفاء برواية سرح العيون، وإغفال رواية الحيوان، هو أن الأولى مفصلة والأخرى مجملة، وليس هذا بمرجح في التحقيق العلمي، فلعل ذلك التفصيل هو من قبيل الحمل والتزيد. إن مما يحمل على العجب أن تفضل رواية ابن نباتة في القرن الثامن عن النظام على رواية معاصره الجاحظ فما بال الأستاذ إذا كانت رواية ابن نباتة على ما رأينا من فساد ظاهر؟
أبو حيان
رابطة التربية الحديثة
تنوي رابطة التربية الحديثة أن تدعو الأستاذ ادولف فربير وهو من أعلام التربية الحديثة لإلقاء بضع محاضرات عامة في هذا الشتاء.
وقد تلقت الرابطة من مركزها الرئيسي بلندن قائمة تنظيم الموضوعات التي تشغل بال رجال التربية في الوقت الحاضر وهي: -
التنافس والتعاون. المقصود من الحرية في التربية. النظام. المسؤولية والحكم الذاتي. المدرسة كمجتمع. الطرق الفردية في الفصل. علم النفس الحديث والطفل. الدين والتعليم الديني. تشغيل الأحداث وبطالتهم. آثام الأحداث. التعبير الذاتي الابتكاري. إعداد المعلم.(285/75)
وستعمل الرابطة على دراسة تلك الموضوعات دراسة علمية فنية. أما أعضاء الرابطة المصريون فقد قام لفيف منهم بدراسة بعض الموضوعات في إجازة الصيف. ونذكر رؤوس تلك الموضوعات فيما يلي:
التربية الجنسية. مشروع لمدارس الحضانة. تقريرا مان وكلاباريد وما استفادته مصر وما يمكن أن تستفيده منهما. البحث العلمي في التربية. سجل التلميذ. التفرقة أو التوحيد بين الولد والبنت في التعليم. مشكلة تعليم اللغات الأجنبية في مصر. وسائل النهوض بالحياة الريفية. اتجاه جديد في دراسة الأدب العربي. حاجة مصر للتوجيه المهني. هل يقوم التعليم الصناعي على أسس صحيحة. التوفيق بين طريقة المشروع والبرامج الحالية في مصر والخارج. سياسة التعليم بمصر. الروح المدرسية.
دار العلوم وكلية اللغة العربية
كتبت في الرسالة (العدد 283) كلمة عرضت فيها بعض الحجج التي تدفع محاولة الأزهر منافسة دار العلوم في تدريس اللغة العربية بالمدارس، وتبين تفرد دار العلوم من حيث ثقافتها الشاملة ومن حيث إنها البيئة التي تعد فيها وزارة المعارف المعلم على الغرار الذي تتطلبه لمدارسها. فتعرض (أزهري) في العدد (284) لما سقته في الكلمة السابقة وناقش المسائل الآتية:
قلت: ليس من المساواة الحقيقية أن يعين الأزهريون في وظائف التدريس بالمدارس دون أن يعين أبناء دار العلوم في وظائف التدريس بالأزهر. فرد (أزهري) على هذا بأن في المعاهد الأزهرية مدرسين من أبناء الدار كثيرين. فهو يحتج بوجود كبار الأساتذة من أبناء دار العلوم الذين انتدبهم الأزهر أو عينهم حين بدء في إدخال عناصر ثقافية جديدة فيه. وأنا لم أقصد هؤلاء لان الأزهر استدعاهم لحاجته الطارئة، وإنما أعني اللذين يتخرجون في دار العلوم في الحال: هل يأخذ الأزهر منهم للتدريس في معاهده كما يأخذ من المتخرجين في كلياته؟ أم هل يجري بين هؤلاء وهؤلاء مسابقة لذلك، كما يريد الأزهريون أن يشغلوا وزارة المعارف بإجراء مسابقة - لا مقتضى لها - بينهم وبين أبناء دار العلوم للتدريس في المدارس؟
وقلت إن دار العلوم في عهدها الجديد تتفرد من بين جميع معاهد التعليم بالجمع بين(285/76)
الدراسة العربية المستفيضة ودراسة اللغات الأجنبية والسامية وآدابها. فقال (أزهري) إن العهد الجديد يميل بدار العلوم إلى التعاليم الغربية الجامحة التي تباعد بين القديم الخالد وبين ناشئة الأمة. وهذه فلتة من فلتات ما وراء الشعور، فالأزهر يحرص في هذه الأيام على الدعوي بأنه يعمل على مسايرة روح العصر. وليعلم (أزهري) أن النهضة الفكرية والأدبية خاصة قامت على الجمع بين الثقافتين العربية والغربية وإنكار ذلك من قبيل إنكار البدهيات؛ وهذا ما عنيت بالتبرئة من الجمود، أبرأ الله (أزهرينا) منه.
وقال (أزهري): لو راجع الكاتب ذاكرته لذكر أن الاتفاق على حلول كلية اللغة العربية محل دار العلوم، حديث مفروغ منه. فمتى كان هذا الاتفاق؟ ولم؟ وفي أي ذاكرة يوجد غير ذاكرة الأحلام؟! والغريب أن يتمثل بعد ذلك بالبيت الذي أصلحت (الرسالة) روايته:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وهو يريد تنفيذ ذلك الاتفاق الموهوم بإلغاء دار العلوم، فكيف يريد حياتها؟!
وبعد فإن إخواننا الأزهريين في مطلبهم ذلك إما أنهم يريدون أن ينفعوا بعلمهم، وإما أنهم طلاب وظائف فحسب. أما الأولى فإن أبناء دار العلوم يقومون بالمهمة خير قيام، ولا نحسب خريجي كلية اللغة العربية أكثر كفاية من اللذين ينتدب الأساتذة من بينهم لتعليمهم، فيبقى الأمر الثاني وهو أنهم يطلبون الوظائف فحسب، وهذا ما لا حق لهم فيه، فإن في ميدان الوظائف الأزهرية ما يكفهم عن ترزيء أبناء دار العلوم فيما يضيق بهم، وما خلقوا من أجله.
(ع. ح. خ)
وفاة شاعر شاب
فجع الشباب والأدب في ليلة الأربعاء الماضي بوفاة الشاعر الوجداني الرقيق محمد الهمشري محررمجلة التعاون بوزارة الزراعة، فكان لنعيه الفاجيء وجوم شديد في أندية الأدب والصحافة، لأنه كان أملاً من آمال الشعر الحديث، ومثلاً من الأمثال الطيبة للخلق وللصداقة. وقد نشر الفقيد ملحمة بعنوان (شاطئ الأعراف) واشتهر بقصيدته (جيث الفاتنة) وكان بصدد أن يجمع من شعره ما نشر وما لم ينشر في ديوان. رحمه الله رحمة واسعة(285/77)
وألهم أهله وصحبه جميل الصبر.
رواية جان دارك
الموضوع: جان دارك، والمؤلف: برناردشو، والمترجم: الدكتور أحمد زكي بك ناقل ذات الكمليا وقصة الميكروب! فالقارئ لا يدري من أية جهة يأخذه البيان والفن والسمو! أخرجتها لجنة التأليف والترجمة والنشر فيما أخرجت من عيون الأدب الغربي فكانت واسطة القلادة. نبادر اليوم بإعلان ظهورها إلى قراء الرسالة، وسنعود إلى الحديث عنها في العدد القادم.
رواية بيت
حضرة الأستاذ الأديب الكبير صاحب الرسالة الكريمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عذيرك من خليلك من مراد ... أريد حياته، ويريد قتلي
أوردت البيت على هذه الصورة في كلمتي التي تفضلت الرسالة بنشرها في العدد (284) دار العلوم والأزهر - فعلقتم عليه بما نصه: الرسالة: (روي الأستاذ الكاتب هذا البيت على هذا النحو، وهو لدريد بن الصمة، وصوابه:
أريد حياته، ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وفي الأغاني ج14 ص32 طبعة الساسي المغربي، في أخبار عمرو بن معد يكرب ما نصه: (وكان عمرو غزا هو وأبيَّ المرادي، فأصابوا غنائم، فادعى أبيَّ انه قد كان مسانداً، فأبى عمرو أن يعطيه شيئاً، وكره أبيَّ أن يكون بينهما شر. . . فأمسك عنه. وبلغ عمراً أنه توعده، فقال عمرو في ذلك قصيدة له، أولها:
أعاذل، شكتي بدني ورمحي ... وكل مقلص سلس القياد
إلى أن قال فيها:
ولو لاقيتني ومعي سلاحي ... تكشف شحم قلبك عن سواد
أريد حِباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وفي أخبار دريد بن الصمة ج9 ص12 من الكتاب نفسه ما نصه:(285/78)
عن أبي عبيدة قال: قالت امرأة دريد له: قد أسننت، وضعف جسمك، وقتل أهلك، وفنى شبابك، ولا مال لك ولا عدة، فعلى أي شيء تعول إن طال بك العمر؟ أو على أي شيء تخلف أهلك إن قتلت؟ فقال دريد:
أعاذل، إنما أفني شبابي ... ركوبي في الصريخ إلى المنادي
وبعد أن روى أبياتاً من هذه القصيدة قال:
هذا الشعر رواه أبو عبيدة لدريد، وغيره يرويه لعمرو بن معد يكرب، وقول أبي عبيدة أصح. إلى أن قال: (وخلط المغنون بهذا الشعر قول عمرو بن معد يكرب في هذين اللحنين:
أريد حِبَاَءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ولو لاقيتني، ومعي سلاحي ... تكشف لحم قلبك عن سواد اهـ
ومثل ذلك في معاهد التنصيص ص225 ج1، الطبعة البهية المصرية.
فالبيت على رواية سيدي الأستاذ - مع استبدال حباءه بحياته - لعمرو بن معد يكرب، لا لدريد بن الصمة، كما قال حضرته، وقد كنت أجزم بذلك من قبل، بيد أن شاعراً (أنسيته) أورده على سبيل التضمين، مقلوباً في قصيدة لامية، فكانت صورته في نفسي أنسب بمضمون كلمتي، ولذلك لم أنسبه والأمر سهل، والعصمة لله وحده.
أزهري
مكتب البعث العربي
إن البسالة العربية التي أعرب عنها المجاهدون العرب في فلسطين، في مواقفهم الدامية وجهادهم الدائب لهي من الأمور التاريخية التي ترفع جبين القومية العربية عالياً وتوقظ في الشعب أحلام الوطنية الصحيحة والتفاني المجيد. ولا شك أن ثورة فلسطين التي هي ثورة الحق على الباطل، وثورة العدل على الظلم، هيأت الأسباب التحريرية الباعثة على النهوض في قابلية العرب الطبيعية اللذين منهم الأفراد المهاجرة في الأمريكتين الجنوبية والشمالية، وأفريقيا الفرنسية والإنكليزية وسائر المقاطعات الأخرى، وهؤلاء الأفراد الذين نزحوا بأجسامهم إلى ما وراء المحيطات الهائجة الصاخبة، وتركوا قلوبهم ثائرة في أقاليمهم(285/79)
وطافحة بذكر الله وذكر الوطن؟!
ولذلك فإن مكتب البعث العربي - تقديراً لهذا الجهاد المشترك - يضع أمام شعراء العرب هدية نفيسة تقدر قيمتها بخمسين دولاراً أمريكياً لأحسن نشيد ينظم للمجاهدين والمهاجرين. وتفسير ذلك أن توضع قطعة نشيد للمجاهد وأخرى للمهاجر يدور محورها على استعراض ما يقوم به هؤلاء من تضحيات هائلة لم يشهدها التاريخ، على أن ترسل جميع الأناشيد بالعنوان المرقوم أسفل حيث تنظر اللجنة فيها وتقوم بإعلان النتيجة في العاشر من شهر أيار - شهر الزهر سنة 1939.
عبد الله بري
مدير مكتب الشعب العربي العام
1732(285/80)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
مديرها وسكرتيرها الفني
رواية شمشون لا رواية طبيب المعجزات
يرى المقبل على دار الأوبرا رقعة عريضة طويلة مكتوباً عليها بخط يقرؤه الأعشى عن بُعد أمتار (طبيب المعجزات) ويقرأ الناس في الإعلانات الملصقة على جدران الأوبرا وفي الشوارع وعلى مدخل غرفة بيع التذاكر ما يفيد أن هذه الرواية تمثل ابتداء من 9 لغاية 13 من الشهر الحالي.
أخذت تذكرتي على هذا الاعتبار وجلست في مكاني أنتظر مشاهدة تمثيل رواية طبيب المعجزات - درة الموسم - حائزة الجائزة في المباراة.
رفع الستار وإذا بالممثلين يمثلون رواية (شمشون). دهشت لهذه الصدمة الباردة، ثم عدت فافترضت أيسر الفروض المبررة لهذه الفعلة وأبعدها عن التعسف، افترضت مرض ممثلين هما بطلا الرواية وقلت: هل يعيق الفرقة مرض ممثلين اثنين عن تمثيل رواية ملأت الإعلانات عنها الشوارع والمنازل ومركبات الترام وصحف القاهرة؟ وسألت: أين الممثلون الاحتياطيون للطوارئ؟
قيل لي إن علاماً الممثل مريض فعلاً، فقلت: أما كان الأخلق بمدير الفرقة الفني أن يمثل رواية من روايات الموسم، أي يقدم رواية متأخرة بدلاً من تمثيل هذه الرواية التي جمع مؤلفها الفاضل جميع ألفاظ السباب والشتم المعروفة لغة وعرفاً وحشرها في هذه الرواية الفاضلة؟ يقول شمشون لخليلته دليلة: (إني أفرغ فيك شهوتي كأني أفرغها في جميع بنات قومك)، ويقول مصراييم لكهنة اليهود: (تتوهم دليلة أني خصي في حين أني. . أموت وجداً بها) ولقد سمعنا مئات من كلمات الفحش والفاسقة والمومس، والوحش والشهواني وما إليها من ألفاظ تتناثر من أحاديث شمشون ودليلة. ولعل أغرب من كل ما حوته هذه الرواية الفاضلة من تعابير لا أسمح لقلمي بتدوينها هي أن يجر شمشون خليلته دليلة إلى خبائها فنسمع من وراء الستار زمجرة الشهوة شهوة شمشون، وأنين اللذة أو آلام لذة دليلة، ثم(285/81)
تخرج هي شعثاء الشعر وهو محلول الإزار. وهنا يصح أن نسأل حضرات الشيوخ الأفاضل أعضاء لجنة القراءة هل نظروا (النواحي الفنية والخلقية والاجتماعية واللغوية) في هذه الرواية الفاضلة؟
أرى الحديث يجذبني للسؤال (عن المدير الفني) وذلك بمناسبة الحديث الممتع الذي أفضى به حضرة مدير الفرقة إلى محرر مجلة الصباح بمناسبة استقالة سكرتير الفرقة والاستعاضة عنه بالقائم بأعماله الآن ما نصه: (كان بودي أن تتحقق أمنيتي، أن أخلق من الفرقة ومن بين أفرادها مديراً فنياً يتولى جميع أعمالها الفنية ويدير شؤونها من هذه الناحية وتكون له السلطة النافذة. . إلى آخره) فهل تحققت أمنيته يا ترى في إيجاد (السكرتير) الحالي القائم فعلاً بالإدارة الفنية وغير الفنية، فارتأى هذا بثاقب فنه إرجاء تمثيل رواية طبيب المعجزات لأن بطلها الممثل علام مريض والاستعاضة عنها بتمثيل رواية (شمشون) ثم روايتي فتياتنا سنة 1937 ومجنون ليلى وبطلها الممثل علام المريض! أم أن هناك باعثاً فنياً قاهراً أوجب تأجيل عرض رواية طبيب المعجزات استيفاء لأغراض فنية، أو أن هناك أسباباً غير ما ذكرنا يجهلها مدير الفرقة غير الفني ويتحدث بها الأدباء والممثلون في مجالسهم؟
السكرتير الحالي رجل فاضل يضرع رواية شمشون بالفن والفضل، ودليل ذلك أنه كان قبل أن يرقى إلى (مقامه) الحالي، يشرف على نشر الإعلانات وإلصاقها في الشوارع، وهو هو صاحب الإعلان المشهور عن رواية (الفاكهة المحرمة) فقد طبعه لوحده - على ما نقل إلي - ووزعه وألصقه على الجدران ولم ينتبه للغلطة العربية الفاضحة (تأليف الأستاذان) إلا بعد أن ضج الناس وهرعوا إلى التلفون ينبهون مدير الفرقة إلى هذه الغلطة الشانعة.
ما كنت أقصد ذكر هذه الحادثة الفردية التي تدل على مدى فضل (السكرتير الفني) الذي اصطفاه مدير الفرقة لولا اتصالها بلب موضوعي وهو الفوضى المطلقة من الجهل المطلق للفن المسرحي
عرف مدير الفرقة غلطة من اختاره ليكون خير خلف لخير سلف فهل غضب لها؟
كلا لم يغضب، بل أمر - أدام الله دولته - بطبع الإعلان صحيحاً من الغلط وأن يلصق فوق الإعلان الأول ليستر فضيحة الجهل بأبسط قواعد اللغة.(285/82)
ولم الغضب، وأجرة استعادة طبع الإعلان وتوزيعه وإلصاقه لا تقل كثيراً ولا قليلاً من مبلغ الخمسة عشر ألفاً من الجنيهات المنتزعة من الأمة، المرصدة على (تكية) التمثيل وإعاشة المرتزقة. إن أجرة الإعلان المغلوط لا تساوي عشر ثمن رواية واحدة من الروايات التي فرضتها لجنة القراءة على مدير الفرقة كما يقول هو، أو التي قبلها هو ودفع ثمنها ليدفنها في أدراج مكتبه.
أعرف عشرات من هذه الروايات المدفونة، أذكر منها الأجنبية لمعربها جورج سمان، والصدر الأعظم لمصنفها شوكت التوني المحامي، ووحيد لمؤلفها حسين عفيف المحامي وغيرها لمحمود كامل المحامي صاحب مجلة الجامعة وسواه من أنداده. فما قيمة أجرة إعلان ضاعت سدى إزاء أثمان هذه الروايات التي لا تقل أدناها عن خمسين جنيهاً؟!
لست أحاول النيل من أدب الأدباء الذين أهملت رواياتهم ولا القول البات بأن مدير الفرقة دفن هذه الروايات دفناً أبدياً، بل أشعر بالواجب الأدبي يدعوني إلى السؤال عن معنى الرجوع إلى الروايات القديمة وعند مدير الفرقة عشرات من الروايات التي لم تمثل بعد. فهل في ذلك سر غير سر الوحي الذي يطيب للمدير أن يتلقاه من موح جديد يرتاح إليه كما يرتاح الشعراء إلى وحي شيطانهم؟
هل لاحظت لجنة التحقيق بوزارة المعارف هذا الضرب من الإسراف والتبذير، أو الإعانة الفردية على حساب الأمة؟ هل فكرت في حصر المبالغ التي دفعتها الفرقة ثمناً للروايات فعرفت ما مثل وما دفن منها؟
ابن عساكر(285/83)
العدد 286 - بتاريخ: 26 - 12 - 1938(/)
تنظيم الإحسان
الإحسان في مصر - وإن شئت قلت في بلاد الإسلام - فوضى. وإذا كان للفوضى نظام فهو أن ينال المستطيع ويدرك السريع ويظفر المُلِح. والبؤس يسلب المنة ويعقل القدم؛ فلا يغشى مساقط الندى ومهابط الرحمة إلا من اتخذ الفقر تجارة والتكفف حرفة. أما الذين واراهم التعفف وأقعدهم العجز، فهم يتضاغون من السغوب وراء الحجب، فلا تبصرهم عين، ولا تسمعهم أذن. والناس من هؤلاء العاجزين المتعففين، وأولئك القادرين المتكففين في مأساة تبكي وملهاة تضحك!
دخل علينا القهوة ذات مساء فتى ريان الجسم بالشباب والصحة؛ على رأسه طربوش، وحول عنقه كوفية، وفي يده خيزرانة؛ فحيى بأدب وضراعة، ثم أخذ يسترحم القلوب ويستندي الأكف بأسلوب يخبل العقل النير ويختل الطبع الحريص. وكان خطابه التمثيلي المؤثر يدور على عزته التي لا تألف الهون، وأسرته التي لا تصيب الدُّون، وكفايته التي لا تجد العمل. . . فأعطاه بعض من في المجلس، ثم استدناه صديق من أهل السراء وأرباب الضياع وقال له:
- لِمِلا تطلب العيش من طريق أخلق بالرجولة وأليق بالكرامة؟
- طلبت العمل يا سيدي في كل مكان فلم أجده
- أتقبل العمل عندي في المزرعة؟
فبدا على الفتى شيء من التردد والحرج لأنه أحس الجد في لهجة الرجل، ولكنه سأل:
- وماذا يعطيني ألبك إذا قبلت؟
- ثلاثة جنيهات غير طعامك وكسوتك
فابتسم الفتى ابتسامة فيها معان شتى من الدهش والعجب والتهكم، وقال وهو يدني فمه من أذنه كأنما يريد أن يساَّره:
يا سيدي، إني أسأل في اليوم الواحد ألفاً على الأقل ممن أتوسم فيهم رقة القلب وكرم المهزَّة؛ فإذا أعطاني مائة وردني تسعمائة تجمَّع لي من ذلك في الشهر خمسة عشر جنيها، أصيبها وأنا في القاهرة أتقلب بين مطاعمها ومقاهيها، وأتمتع بمناعمها وملاهيها. فكيف تريدني على أن أقبل ثلاثة جنيهات في الريف على عمل قذر متعب بين الأجلاف والبهائم؟
أرأيت خمسة عشر جنيها يجبيها من الأغرار هذا المتبطل المتعطل وينفقها في الخمر(286/1)
والقمر والحشيش، ومئات من الأسر الكريمة تكابد عبث الأقدار أو خطأ الأغيار فلا تجد مواسيا في معروف الأحياء ولا في موقوف الموتى! وخمسة عشر ألف فدان يقتنيها ذلك الغنى الشره ينفق ريعها الفياض على وساوس غيه وهواجس أحلامه، ومن حوله ألوف وألوف لا يدرون من طول الحرمان لماذا شق الله لهم الأفواه وجوّف فيهم الأبطن!
هذا البليد الملحف، وذلك الجمَّاع الطماع هما اللذان أكلا نصيب العاجز من رزق الله! فلو أن السائل المحترف ترك نفحات الأيدي للفقير، والغني المنهوم عف عن فضول الرزق للعاجز، لما رأيت عليها رجلاً يشرق بالدموع بجانب آخر يشرق بالشمبانيا! ولكن النفس البشرية تؤثر الجانب الأيسر من العيش، وتطلب النصيب الأوفر من المتاع، فلابد من سلطان يقيم المعدلة بين الساعي بقوته والقاعد لضعفه. ومن ثَمَّ جعل الإسلام تنظيم العلاقة بين الغني والفقير ركناً من أركانه الخمسة، يصلح به وبالحج أمر الجماعة، كما يصلح بالصلاة والصيام أمر الفرد وكان هذا الركن الإسلامي الركين عسيّاً بعناية أولي الأمر يجعلون له (مصلحة) أو (وزارة)، تأخذ من أموال الناس صدقة تزكي النفوس من حقد الفاقد على الواجد، وتطهر المجتمع من بغي طبقة على طبقة. ولكن الأمم الإسلامية الحديثة توزعتها الجهالة والمذلة، فحسبت أن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية الغالبة؛ فتركت شريعة الله إلى شريعة نابليون، وهجرت سياسة الرسول إلى سياسة كارل مَرْكس، فلم يكن بد من قسوة الأكباد لجفاف القانون، وثورة الأطماع من شدة التنافس. وليست الرهبانية من نظم الإسلام حتى تقوم الراهبات. بما لم تقم به الحكومات من جمع الزكوات وتوزيعها على صرعى الفاقة وأسرى المرض، فكان ما لا حيلة في اتقائه من فوضى الإحسان، فحبس عن غير أهله، وحل في غير محله، وذهب كله للمتشردين في الطرق، والمحتالين في البيوت، والمتبطلين في المساجد
إن فريضة الزكاة في الإسلام هي الفرق بين الدين والقانون، وبين الشرق والغرب، وبين الإنسان الذي يعيش بالروح والإنسان الذي يعيش بالآلة. فمن المحتوم على دولة تطمح الى الخلافة أن تُلزِم بها الناس لتكون حكومتها للشعب كله. وإلا فما جَداي أن أقول إن لي دولة دستورها المساواة وقانونها العدل، ووطناً ثراه الذهب وماؤه الكوثر، وأنا محروم لا أنتفع بخير الحياة، ومهضوم لا أتمتع بحقوق الحي؟(286/2)
إما أن تقولوا إن من عجز عن واجب السعي نزل عن حق الوجود، وإما أن تنصفوا بعض الناس من بعض فيشعروا أنهم عباد لإله واحد ورعايا لملك واحد. أما أن تتعدد الآلهة فيكون لكل أرض إله وهو المالك، وتتنوع الملوك فيكون لكل عمل ملك وهو المموَّل، فذلك مالا يطيب به عيش ولا يصلح عليه أمر
افرضوا الإحسان كما فرضه الله، ونظموه كما نظمته الشريعة، واجبوه كما جباه الراشدون، ووزعوه كما وزعه القرآن، تضمنوا للفقير سكون الجوف، وللغني زوال الخوف، وللأمة بأسرها السلام والوئام والمحبة
أحمد حسن الزيات(286/3)
المذياع الآدمي
للأستاذ عباس محمود العقاد
حالة نفسية غير نادرة، ولاسيما في الأيام الغائمة أو الماطرة.
على الأفق البعيد رباب مسف جاثم، وفي الجو شوب من ضباب كالغبار يحجب صفاء السماء، والأشجار هنا وهنالك كأنما تتوارى من الناس، وعلى النفس سآمة قائمة لا تتحرك كأنها فرغت من النقاش والسؤال عن الأسباب، وخلصت إلى اليقين والقرار، وكل شيء عبث. . . وكل عمل عقيم. . . وما هذه الدنيا القاتمة بالباطل، وما هذا العناء في غير طائل؟ باطل الأباطيل. . . قبض الريح. . . متاع الغرور!
حالة غير نادرة
لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها فلسفة حياة وصبغت بها وجه الكون، وبسطتها على الدنيا، أو قبضت الدنيا حتى انطوت فيها، وكنت من المتشائمين
لم تكن الحالة الأولى من نوعها، فلهذا لم تكن فلسفة باقية، بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تنتزع منها زاوية صغيرة يهمس فيها هامس مسموع مستجاب: كلا! ليست الدنيا كذلك. ليست الدنيا كذلك. . . إنما هي نوبة تزول، وركود راحة بعد جهاد، أو ركود استجمام قبل وثوب
وحالة أخرى غير نادرة، ولاسيما في أيام الإشراق والنضرة والإقبال، صيفا كانت أو شتاء، وربيعا كانت أو خريفا. فهي شائعة موزعة بين جميع المواسم والفصول
لمعة الشعاع على الصخرة الملقاة تبعث الفرح من أعماق السريرة، ورجفة الورقة على الغصن رقص وانتشاء، ومشية المسرع استطارة سرور، ويمشي المتأني فكأنه يتملى متعة المشي ويستوفي نعمة الرياضة، ومنظر الشجرة كأنها باثفة تنطلق في السماء، وليست بالجاثمة المقيدة بالغبراء، وكل شيء حسن كما هو في غير حاجة إلى تفسير أو عافية منظورة، وليس في الإمكان أبدع مما كان
حالة غير نادرة
لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها كذلك فلسفة حياة ونفثتها في ضمائر الكون، ورأيت الدنيا معها فردوسا سماويا لا حدود فيه ولا انتهاء لمشاهده ومعانيه، وكنت في(286/4)
عليين ولا يغنيني أن أقول: كنت من المتفائلين
ولم تكن الحالة الأولى من نوعها فلهذا لم تكن فلسفة باقية بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تملك زمامها وهي إلى جوارها فلا يزال فيها هامس مسموع مستجاب يردد في غير إلحاح ولا إعنات: كلا. لست في عليين، لست في عليين!
أإذا عرفنا أسباب الحالة الأولى جاز لنا أن نقول: إنما هي ضلالة في الحس من أثر الغيم أو من أثر السوداء أو من أثر المعدة الشاكية؟
كلا. لأن معرفة السبب الذي يريك الشيء لن تنفي وجوده، كما أن شعورك بألم الآخرين من أجل القرابة بينك وبينهم لا ينفي أنهم متألمون وأن الألم موجود هناك. ثم نقترب من المحسوسات فنقول إن رؤيتك الجراثيم بالمجهر وعلمك بأن المجهر هو سبب الرؤية لا ينفي الجراثيم ولا ينقض صحة ما تراه
وكذلك الحالة الثانية لا يدحضها أن تعلم أسبابها، وهي الإشراق والصحة وامتناع الأكدار والأحزان، فإن العلم بأسباب إحساس من الأحاسيس لا يقدح في حقيقته ولا في صواب الشعور به حيث كان.
لذلك أقول إن السريرة الآدمية كالمذياع، وإن الدنيا المحزنة والدنيا المفرحة ودنيا القنوط ودنيا الرجاء موجودة لا تظهر للنفس إلا حين يصل المفتاح الى وجهته المرسومة، وإلا فهي صمت وخفاء
في النفس الإنسانية متسع لجميع العوالم، ولكنها تتهيأ لكل عالم من هذه العوالم بحالة من الحالات، أو بمفتاح من المفاتيح، فإذا هو موجود مسموع منظور محسوس، وإذا أنت لا تسمع غيره ولا تعيش في غيره، لأن إدارة المفاتيح كلها هي الفوضى التي يبطل فيها الإحساس، ويفسد فيها التعبير المفهوم، فهو إذن لغط وأصداء
إن كنت تسمع حديث القاهرة فليس معنى هذا أن حديث باريس باطل، وإنما معناه أن المفتاح في هذا الاتجاه وليس في اتجاه غيره، وحديث باريس بعد ذلك صادق عند أناس آخرين صدق حديث القاهرة، وغيره من الأحاديث
وإن كنت في دنيا من دنياوات الإقبال والتفاؤل فليس معنى ذلك أن دنيا السآمة والقنوط عدم وضلال، وإنما معناه أن المفتاح هنا، وأنه لو تحول قليلاً لأصبح هناك!!(286/5)
امتناع الحس لا يدل على امتناع المحسوس
وبهذا نفسر العبقرية التي ترى الأخيلة والشكول والمعاني والتوفيقات حيث لا يبصرها أحد ولا يسمعها أحد ولا يدري بها أحد، ولكنها تظل في صمتها وخفائها حتى تصادف من يدري بها ويستمع إليها، فهي موجودة له معدومة لسواه
وبهذا نفسر الصوفية التي تلمح من الخفايا ما ليس يلمحه المصاقبون والجيران، وتقترب من الآمال والمخاوف قبل أن يقترب منها المزاملون والرفقاء، وتبصر بعيني (حزام) والناس من حولها ضاحكون لا يصدقون، وإن قال لهم ألف قائل:
إذا قالت حزام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حزام
لأن ما يرى بالعين على مسيرة يوم سوف يرى بالعين على مسيرة ساعة. أما ما يرى بالسريرة فقد تكثر فيه المغالطة والمكابرة كلما اقترب واقترب حتى تتناوله جميع السرائر: أهذا الذي أنبأتنا به؟؟ لا. إنك أنبأتنا بغير هذا، ولن تزال في ضلالك القديم!!
ولنهبط من العبقرية والصوفية إلى المشاهد الملموسة في حياة الحيوان.
فأين من الناس من يشعر بأن ملامسة اليد للمنديل تترك فيه أثراً من الرائحة المحسوسة يشمها الأنف بعد أيام؟ وأين من يثبت لهم ذلك لولا أن شاهدوه وكرروا شهوده من بعض الحيوان؟؟
أفينقض (وجود) تلك الرائحة أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الحيوان إلا لأنه كلب يشم بحاسة الكلاب؟
أفينقض (وجود) تلك المعاني والتوفيقات أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الناظم أو ذلك الموسيقي إلا لأنه مجنون مخبول؟
فلم لا يكون الخبل المزعوم هو المفتاح الذي يوجه السريرة إلى وجهة تلك المعاني والتوفيقات؟؟ ولم ننكر (المحطة) لأننا لا نملك المفتاح وإن رأينا من يسمعها ويروي لنا ألحانها وأناشيدها في تناسق وانتظام؟
فالعالم حافل بما يحس ويشعر
حافل بالمنظورات وإن لم يشهدها كل نظر، وحافل بالمسموعات وإن لم تسمعها كل أذن، وحافل بالطعوم وإن لم يذقها كل لسان، وحافل بالحياة وإن لم تتصل بها اتصال التعاطف(286/6)
والتفاهم كل حياة
فلم لا نقول على هذا القياس إنه حافل بالمعاني، وحافل بالمدركات، وحافل بالوحي والتعبير، وإن العبقري له حاسة في الروح تلتقط هاتيك المعاني والمدركات من حيث لا يحلم أحد بموقعها هناك؟؟
لم لا نفهم أن المحسوسات الذهنية التي تتناولها العبقرية لن تنفد بالتقاط الأذهان منها لأنها ليست بأجسام، وأن الشيء الذي ليست له مادة تنفد لن يرى على وضع واحد بل يرى على ألوف الألوف من الأوضاع حسب من ينظرون إليه وينفذون فيه؟
لم لا تكون الدنيا مفرحة محزنة، عادلة ظالمة، منظومة مشتتة، لأن هذه المعاني لا تتناقض في عالم الإلهام كما تتناقض السوداء والبيضاء في عالم العيان، وإنما يصعب التوفيق بينهما في إلهام واحد كما يصعب التوفيق بين مفاتيح المذياع، فنخرج إذا أدرناه جميعا من الفهم والنظام، إلى أصداء لا تقبل الفهم ولا النظام؟
إذا مرت بي حالة عابرة إلي جانب الحزن والقنوط قلت هي حالة صادقة في مفتاحها
وإذا مرت بي حالة عابرة إلى جانب الفرح والرجاء قلت هي أيضاً حالة صادقة في مفتاحها
ولم أقل إن العالم السرمدي ينحصر في هذه أو في تلك، ولكني أتلقى درساً من المذياع وأومن بأن السريرة الإنسانية أكبر - على الأقل - من صندوق الكهرباء، وإن عالم الإدراك أكبر - على الأقل - من مراكز الإذاعة، وأن الوصلة بين الطرفين أكثر على الأقل من الموجات القصار والوسطى والطوال
عباس محمود العقاد(286/7)
مصر والعروبة
للدكتور طه حسين بك
(أخي العزيز
قرأت مقال الأستاذ ساطع الحصري بك في رسالة الاثنين الماضي، وأظن أن من حقي عليك أن تنشر ردي على هذا المقال، وما أرى أنك تبخل علي بهذا الحق
وهذا الرد فصل من كتاب (مستقبل الثقافة) الذي سيظهر بعد أيام، فهو إذن قد كتب وطبع قبل مقال الأستاذ الحصري. . . ولك أصدق المودة وأخلص الإخاء)
طه حسين
قد أشرت منذ حين إلى أن من الحق على الدولة المصرية للثقافة أن تذيعها في طبقات الشعب المصري من جهة، وأن تتجاوز بها الحدود المصرية إلى الأقطار التي تستطيع أن تسيغها وأن تنتفع بها من جهة أخرى
ولأمر ما قالت بعض الأقطار الشرقية لمصر إنها زعيمة الشرق العربي، ولأمر ما صَّدقت مصر ما قيل لها. فإن كان هذا حقاً فإن له نتائج يجب أن تنشأ عنه وتبعات يجب أن تترتب عليه. وإن لم يكن هذا حقاً فإن من الواجب علينا أن نحققه لأن فيه تحقيقاً لكرامتنا من ناحية، ولأن فيه ارتفاعاً عن الأثرة التي تليق بشعب كريم. والشيء الذي لا شك فيه هو أن الله قد هيأ لمصر من أسباب القدرة على إحياء الثقافة ونشرها ما لم يهيئ لغيرها بعد من الأمم العربية. فمما لا يليق بالمصريين وقد تسامع الناس بأنهم كرام، وزعموا هم لأنفسهم أنهم كرام أيضاً، مما لا يليق بهم أن يؤثروا أنفسهم بما أتيح لهم من الخير ويختصوها بما أتيح لها من النعمة، وإنما الذي يلائم كرمها وكرامتها وما تطمح إليه من المثل الأعلى أن يكون حديثها ملائماً لقديمها، وأن تكون مشرق النور لما حولها من الأقطار، وأن تكون البلد الذي تهوي إليه أفئدة الراغبين للعلم والراغبين فيه
وقد يظن المصريون أنهم يبلون في سبيل ذلك بلاء حسناً. فأحب أن أصارحهم بأنهم لم يفعلوا في سبيل ذلك شيئاً
إن الأقطار العربية تقرأ ما ينشر في مصر من الصحف والكتب والمجلات، ولكن مصر لم تصنع إلى الآن شيئاً لتيسر لهذه الأقطار قراءة كتبها وصحفها ومجلاتها. ولعل من هذه(286/8)
الأقطار ما يلقى كثيراً من الجهد في الظفر بحاجته من هذه الكتب والصحف والمجلات. ولقد يسرت مصر للأقطار العربية قراءة آثارها المطبوعة لما بلغت من خدمة الثقافة إلا أيسرها وأهونها، على أن ذلك يعود عليها بالمنفعة المادية والمعنوية جميعاً
نعم، إن مصر تيسر لبعض البلاد العربية استدعاء بعض المعلمين، ولعلها تنفق في ذلك شيئاً من المال، ولعلها تجد في ذلك شيئاً من الجهد، ولكن هذا من أيسر الأمر أيضاً. وتبعات المركز الممتاز الذي أتيح لها بين الأقطار العربية تفرض عليها أكثر من ذلك. ولست أذكر إلا أمرين اثنين، أحدهما قد أخذت مصر بأسبابه ولكن في بطء وتردد، وهو فتح أبواب مدارسنا ومعاهدنا للطلاب الشرقيين والعناية بهم إذا وفدوا على بلادنا، لا بأن نيسر لهم طلب العلم فحسب بل بأن نيسر لهم حياتهم في مصر أيضاً. وإني لأوازن بين ما تصنعه البلاد الأوربية لتحقيق العناية بالطلاب الأجانب وما نصنعه نحن فأوازن بين الوجود والعدم. ومع ذلك فأوربا حين تعنى بالطلاب الأجانب إنما تنشر الدعوة لنفسها وتستقدم الأجانب لينفقوا فيها أموالهم وليعودوا منها وقد تأثروا بها وأصبحوا لها رسلاً في بلادهم. فأما نحن فلسنا في حاجة إلى نشر الدعوة لأننا لا نطمع في شيء، ولأن الدعوة المصرية تنشر نفسها في الأقطار العربية لما تقوم عليه من الحب والمودة والإخاء. وإنما يجب علينا أن نيسر لطلاب الأقطار العربية الدرس والإقامة في مصر أداء للحق ونهوضاً بالواجب ووفاء للأصدقاء وصرفاً لهؤلاء الأصدقاء عن الرحلة إلى أقطار الغرب إن وجدوا في هذه الرحلة مشقة أو عناء.
والأمر الثاني دعوت إليه سراً منذ أكثر من عشرة أعوام حين تولى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وزارة المعارف للمرة الأولى. فقد شهدت مؤتمراً للآثار عقد في سوريا ولبنان وفلسطين. فلما عدت رفعت إلى الوزير تقريراً خاصاً طلبت فيه أن تنشئ مصر مدارس مصرية للتعليم الابتدائي والثانوي في هذه الأقطار. وكان الذي أثار في نفسي هذا الاقتراح ما رأيته من السلطان العقلي للمدارس الأجنبية على هذه الأقطار. وكنت أرى أن العقل المصري أقرب إلى العقل السوري والفلسطيني وأحرى أن يتصل به ويؤثر فيه تأثيراً حسناً من العقل الأمريكي أو الفرنسي. ولكن وزير المعارف حينئذ نبهني باسماً إلى أن ذلك ليس ميسوراً، فقد تريده مصر ولكن السياسة الأجنبية ستأباه من غير شك. وكان(286/9)
هذا حقاً حينئذ، فأما الآن وقد عقد بيننا وبين أوربا اتفاق مونترو، وقد ظفرت سوريا ولبنان ببعض الحرية، واستقلت العراق، فما أرى أن مصاعب سياسية تقوم دون هذا النوع من التعاون الثقافي بين الأقطار العربية التي تجمعها وحدة اللغة والدين والمثل الأعلى، والتي تشترك في منافع اقتصادية عظيمة الخطر.
ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية تحمل إلى أبنائها ثقافة عربية شرقية، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم وعرب مثلهم يتحدثون إليهم بلغتهم ويشاركونهم في الذوق والميل والشعور. وما أظن أن السياسة الأوربية تمانع في ذلك وقد تم الاتفاق بيننا وبين أوربا على أن تستقر في بلادنا مدارس أوربية وتستمتع بكل ما يمكنها من النهوض بمهمتها في حدود القوانين المصرية، وعلى أن يكون التبادل أساساً لهذا الاتفاق
وواضح أننا لا نريد أن ننشئ مدارسنا المصرية في فرنسا أو إنجلترا أو إيطاليا؛ ولكن من حقنا أن ننشئ المدارس المصرية في البلاد العربية التي تتأثر بسلطان هذه البلاد ونفوذها تأثراً قليلاً أو كثيراً
ومن المحقق أننا إذا أنشأنا المدارس المصرية في الأقطار العربية فسننشئها وسنسَّيرها على النحو الذي نحب أن تنشأ عليه المدارس الأجنبية في بلادنا وأن تسير عليه أيضاً. سننشئها على أنها معاهد للتعاون الثقافي بيننا وبين أهل هذه البلاد، لا يستأثر المصريون وحدهم بالعمل فيها، بل يستعينون بمن يقدرون على معونتهم من الوطنيين. ولا نفرض فيها الجغرافيا المصرية والتاريخ المصري دون الجغرافيا الوطنية والتاريخ الوطني، وإنما تكون معاهد ينشأ فيها الوطنيون لأوطانهم لا لمصر، وحسب مصر أنها تعين على ذلك وتشارك فيه وتؤدي ما عليها من الحق لجيرانها وشركائها في اللغة والدين والاقتصاد، وحسبها أن تظفر منهم بالحب والمودة والإخاء
وقد يقال إن أعباء الدولة المصرية أثقل من أن تسمح لها بمثل هذا التوسع في إذاعة الثقافة خارج حدودها على حين أنها في أشد الحاجة إلى إذاعة الثقافة داخل هذه الحدود. وقد يكون هذا حقاً من بعض الوجوه، ولكن من الحق أيضاً أن لحياتنا المستقلة تبعاتها، وأن التقصير في النهوض بهذه التبعات لا يلائم ما نزعمه لأنفسنا من الكرامة والزعامة(286/10)
ومما لا شك فيه أن هذه المدارس إن أنشأناها ستكون أنفع لمصر وللبلاد التي تنشأ فيها من كثير من القنصليات والمفوضيات التي نبثها في أقطار الأرض ولا نكاد نجني منها، ولا تكاد البلاد التي نبثها فيها تجني منها نفعا
ومما لا شك فيه أيضاً أن العبء المالي الذي يتبعه إنشاء هذه المدارس لا ينبغي أن يقع كله على الدولة وإنما ينبغي أن يشارك فيه القادرون على هذه المشاركة من المصريين أولاً ومن الوطنيين ثانياً. وحسب الدولة أن تعينها معونة قيمة بالمال والرجال
على هذا النحو تحمل مصر تبعاتها وتنهض بواجباتها الثقافية، وتلائم بين حديثها وقديمها، فقد كانت مصر فيما مضى من العهود الإسلامية مصدر الثقافة والعلم للأقطار العربية في الشرق القريب. لم تقصر في ذلك إلا حين اضطرها السلطان العثماني إلى التقصير فيه. فأما الآن وقد استردت استقلالها فيجب أن تسترد مكانتها الثقافية في الشرق القريب. وهناك بلاد عربية لم ينشئ فيها الأجانب ولا يستطيعون أن ينشئوا فيها المدارس والمعاهد، ولا يجد أهلها فضلا من المال ينفقونه في تنمية الثقافة كما ينبغي. فالحق على مصر أن تسرع إلى معونة هذه البلاد وألا تدخر جهداً إلا بذلته في هذه السبيل، وهذه البلاد هي الحجاز وبلاد الدولة العربية السعودية بوجه عام. وما أشك في أن المصريين يرضون كل الرضى عن إنشاء مدرستين على اقل تقدير، إحداهما في مكة والأخرى في المدينة، بل ما أشك في أنهم يتجاوزون الرضى إلى البذل والإنفاق. وقد علمت أن أهل الحجاز أنفسهم يتمنون ذلك ويلحون فيه
وليس هذا كل ما ينبغي أن تنهض به مصر لنشر الثقافة في الأقطار العربية، بل هناك شيء آخر قد عم الشعور به واشتدت الحاجة إليه حتى أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد له وهو: التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة. يدعو إلى ذلك حاجة هذه البلاد إلى توحيد الجهود مادام مثلها الثقافي الأعلى واحداً؛ ويدعو إلى ذلك أن التعليم الحالي في مصر قد بلغ من الرقي درجة تدعوا إليه طلاب العلم في الأقطار العربية، وللتعليم العالي في مصر نظم دقيقة وشاقة قد تحول بين هؤلاء الطلاب وبين الانتفاع والظفر بإجازاته ودرجاته، فلابد من أن يهيأ هؤلاء الطلاب لهذا التعليم تهيئة حسنة تلائم تهيئة المصريين له. وقد اجتمع فريق من قادة الرأي الشرقي(286/11)
العربي منذ أكثر من عام لجنة التأليف والترجمة والنشر وتشاوروا في ذلك كما تشاوروا في غيره من ألوان التعاون الثقافي، ورسموا لذلك خطة وشرعوا له نظاماً. ثم أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد للدعوة إلى مؤتمر عربي شرقي. والذي أرجوه أن يكون انعقاد هذا المؤتمر دورياً وأن يكون هذا المؤتمر متنقلاً في الأقطار العربية على نحو ما يسير عليه المؤتمر الطبي الذي أنشئ منذ حين.
وقد شهدت في العام الماضي - ممثلاً لوزارة المعارف - مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري، فتحدثت فيه إلى المؤتمرين بأن مصر تستطيع أن تكون مركزاً من أهم المراكز لهذا التعاون الفكري إذا نهضت بتبعاتها الثقافية نحو الأقطار العربية. ذلك لأنها بحكم مركزها الجغرافي وبحكم نهضتها الحديثة أصدق صورة لما تطمح إليه عصبة الأمم من هذا التعاون الفكري الخالص الذي يقارب بين الأمم ويلغي ما بينها من الفروق ويرتفع بحياتها العقلية عن ألوان الخصومة وضروب النزاع. فالجامعة المصرية مثلا بيئة تلتقي فيها الثقافات الإنسانية كلها تقريباً، يحملها إليها أساتذة ممتازون من المصريين ومن الأوربيين على اختلاف أوطانهم ومذاهبهم في السياسة والدين والاقتصاد. وهذه الثقافات كلها تلتقي وتمتزج وتصهر في العقل المصري الذي يسيغها ويتمثلها ويطبعها بعد ذلك شيئاً ما بطابعه المصري الخاص. وهو قادر بعد هذا على أن يذيعها في بلاد الشرق شرقية غربية عربية أوربية بريئة مما يفسد الثقافة عادة من التعصب والهوى.
وقد وقع هذا الحديث من المؤتمرين موقعاً حسناً. فهل يقع هذا الحديث من المصريين أنفسهم موقعاً حسناً، وهل يشعر المصريون بأن فرصة ذهبية كما يقال تتاح لهم الآن؟، فلكل شر أثر حسن، والشر أن حاجتنا إلى الأوربيين لا تزال شديدة في التعليم، والأثر الحسن لهذا الشر أننا نستطيع أن نكون رسل العلم والثقافة والأمن والسلم والتوفيق بين الشرق والغرب جميعاً.
فإذا أرادت مصر أن تنتهز هذه الفرصة فذلك يسير عليها لا يحتاج إلا إلى أن تعنى بتقوية الصلة بينها وبين لجنة التعاون الفكري في جنيف ومعهد التعاون الفكري في باريس من جهة، وبينها وبين البيئات والمعاهد العلمية في الشرق العربي، بل في الشرق الإسلامي من جهة أخرى.(286/12)
طه حسين(286/13)
الحج
للدكتور عبد الوهاب عزام
كان سلفنا إذا أرادوا الحج تأهبوا لسفر شاق، وغاية بعيدة وتزودوا لشهور عدة، ووطنوا أنفسهم على ما يلقون من المشقات والشدائد والأخطار. كان المصريون يذهبون بالبر من طريق سيناء فالعقبة لا يركبون البحر، أو يسيرون إلى القصير فيجتازون البحر إلى الحجاز. ثم جاء عصر البواخر فتيسرت الغاية وقصرت المدة، ولكن بقي بعد هذا قطع المسافة بين مكة والمدينة على ظهور الإبل، وبقي سوء الأحوال الصحية في مجامع الحج، والتعرض للصوص وقطاع الطريق في كل مرحلة وكل حين. بل كان المحمل المصري وهو في حراسة الجند والمدافع لا يجتاز المسافة بين مكة والمدينة إلا بعد إرضاء القبائل الضاربة على الطريق. وكان هؤلاء يتحكمون ويشتدون في مطالبهم، فإذا لم تجب مطالبهم باغتوا الحجيج بالغارة. بل قال المرحوم إبراهيم رفعت باشا الذي تولى إمارة المحمل سنين إنه زار غار حراء سنة 1318 ومعه مائة جندي وقال (ومما ينبغي لزائري هذا الجبل أن يحملوا معهم الماء الكافي وأن يكونوا جماعاً يحملون السلاح حتى يدفعوا عن أنفسهم شر اللصوص من العربان الذين يتربصون الفرص لسلب الحجاج أمتعتهم ونقودهم خصوصاً في مكان منقطع كهذا لا يقصده إلا بعض الحجاج. وقد بلغني أن أعرابياً قتل حاجاً فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو فرح: الريال أحسن منه)
ذلكم الحج قبل سنين، وأما الحج في هذا العصر فقد تهيأت وسائله وتيسرت مسافاته وأمنت سبله. تنقل الحجاج بواخر كبيرة. وحسبك ببواخر شركة مصر التي أعدت لراحة الحجاج وتمكينهم من أداء فرائض الدين في يسر وطمأنينة. في كل باخرة مصلى تقام فيه الصلوات الخمس ويؤذّن لكل وقت. فإذا بلغ الحاج جدة وجد المطوفين في انتظاره يتكفل المطوف الذي يختاره براحته وإعداد السيارات له في كل طريق. ويجدون في مكة العناية براحة الحجيج وصحته. فالحكومة تتخذ الوسائل التي تمنع الزحام، وتراقب مساكن الحجاج وتلزم أصحابها أن يطهروها وينظفوها
فإذا حان وقت الخروج إلى منى وعرفات، احتاطت الحكومة فمنعت التزاحم في الطريق وعنيت براحة الحجاج على قدر استطاعتها. وإذا قضى الناس مناسكهم وأرادوا السفر إلى(286/14)
المدينة رُخِّص لهم في السفر على ترتيب قدومهم مكة الأسبق فالأسبق حتى لا يختل النظام، ويشتد الزحام، وحتى لا تضيق بهم المدينة. وكذلك يلزم زائرو المدينة. الخروج بعد ثمانية أيام ليفسحوا لغيرهم فلا يجتمع فيها إلا وفود ثمانية أيام طول الموسم
والناس في إقامتهم بمكة، وسيرهم إلى منى وعرفات، وسفرهم إلى جدة والمدينة يرتحلون بالليل والنهار آمنين مطمئنين لا يخافون على نفس ولا مال. ويظفرون بطمأنينة لا يظفرون بمثلها في البلاد الأخرى، ولا يغلو في الحق من يقول إن الأمن في بلاد الحجاز اليوم لا يظفر به إنسان في غيره من بلاد العالم. فإذا خرج الرجل الفرد يملأ جيوبه الذهب يقطع الطريق بين مكة والمدينة نهاراً وليلاً ليس معه رفيق ولا حارس لم يخش على نفسه ولا ماله، وأحاط به الأمن في يقظته ونومه وليله ونهاره. أمر لم نسمع به ولا نسمع به اليوم في قطر من أقطار العالم المتمدن أو المتوحش
وقد حدثني أحد الحجاج ونحن بمكة أنه ذهب إلى المدينة في رفقة فوقعت منهم حقيبة في الطريق ولم يشعروا بها وتعطلت السيارة في الطريق يوماً أو يومين. فلما بلغوا المدينة افتقدوا الحقيبة فأخبروا الشرطة فردتها إليهم بعد قليل. وأُخبرت أن حاجاً آخر كان يطوف بالكعبة فسقطت منه ساعة فذهب إلى الشرطة فردوها إليه. وأعرف أن طالباً من طلبة الجامعة سقطت منه ورقة بنك قيمتها جنيه في سوق مكة ولم يفتقدها إلا بعد أن رجع إلى المدرسة السعودية التي كنا ننزل بها. فلما رجع إلى السوق وجدها حيث سقطت أمام الدكان الذي كان يشتري منه. وقد تواترت الأقوال في أمثال هذه الحوادث حتى لم يبق مكان للشك فيها، وحتى اطمأن الناس فتركوا أمتعتهم الثقيلة في مساكنهم ليرجعوا إليها بعد قضاء مناسكهم ولم يجدوا حاجة إلى أخذها معهم. فنحن تركنا بعض متاعنا في جدة أمام الفندق المصري فأرسل إلينا في أيام مختلفة لم نفقد منه شيئاً وقد تأخر متاع بعض الطلبة كثيراً فقلق؛ فقلت له: ستأتي حقائبك لا محالة فإن شيئاً لا يضيع في هذه البلاد. وكان يسكن إلى قولي حيناً ثم يعتاده القلق حتى جاءت أمتعته كاملة. وأخبرني مخبر عن رجل من الذين ذهبوا إلى الحجاز أنه كان في سيارة ضاقت بأمتعة الراكبين فأخذوا حقيبة عليها اسم صاحبها وتركوها في الطريق عمداً ليتحققوا ثم طلبوها حينما بلغوا غايتهم فردت إليهم والمسافة بين مكة والمدينة زهاء 500 كيلو كانت تقطع في أربعة عشر يوماً وقد قطعها(286/15)
ركب المحمل المصري سنة 1318 من الهجرة في 125 ساعة وخمسين دقيقة في أربعة عشر يوماً. وتقطعها السيارات الكبيرة اليوم في أربعة عشرة ساعة، ولكن المسافرين يحتاجون إلى الراحة مرات على الطريق فيبيتون ليلة في بعض المراحل، والطريق كله غير معبّد، وفيه مسافة قصيرة رملية تسوخ فيها السيارات إن لم يحذر السائق
وقد خرجنا من جدة إلى المدينة بعد المغرب فبلغنا رابغاً بعد سبع ساعات، وبتنا بها ثم استأنفنا السير ضحى آملين أن نبلغ المدينة في نهارنا ولكن ساخت بعض السيارات في الطريق فآثرنا أن نبيت في مكان اسمه أبيار بني حصان. وخرجنا منها ضحى فبلغنا المدينة بعد العصر. ولكنا في رجوعنا إلى جدة خرجنا من المدينة ضحى فبلغنا رابغاً وقت العشاء بعد أن استرحنا في الطريق ساعتين ونصفاً في ثلاثة مواضع. وبتنا في رابغ وتركناها ضحى فبلغنا جدة ظهراً بعد سير خمس ساعات. فكان سيرنا من المدينة إلى جدة ثلاث عشرة ساعة ونصفاً. وإذا أصلح الطريق سهل أن تقطع المسافة كلها في عشر ساعات. وأمكن الراكب المتعجل أن يقطعها في ثماني ساعات أو سبع. وما أقرب هذا سفراً وأيسره
- 2 -
ولست أقول إن وسائل الحج بلغت من اليسر والنظام الغاية التي نرجوها؛ ولا أزعم أن الحرمين الشريفين والحجاز، في الحال التي يتمناها مفكرو المسلمين؛ فلا يزال المسلمون يرجون للحجاز نظاماً وعمراناً لا يذكر معه ما يسره الله في السنين الأخيرة من الإصلاح والتنظيم ولا يزال مفكرو المسلمين يطمعون في أن يروا في الحجاز آثار التعاون الإسلامي، وبذل المال في سبيل الله حتى تكون أحوال الحجاز مكافئة لمكانته عند المسلمين ومصورة عناية المسلمين به وتقديسهم إياه
لا يزال المسلمين يتمنون أن يروا الحجاز آخذاً من ثروة المسلمين وعلومهم وفنونهم ما تأخذه الأماكن المقدسة الأخرى من الذين يقدسونها
وما أسعد المسلم الغيور على دينه المعنيّ بإقامة شعائره يوم يذهب الى الحجاز فيرى الطرق ممهدة بين جدة ومكة فمنى فعرفات وبين جدة فالمدينة، ويرى في طريق المدينة فنادق يأوي إليها فيجد راحته وطعامه وشرابه كما يشتهي، ويجد مواضع للوضوء والصلاة(286/16)
تمكنه من إقامة الشعيرة على خير الوجوه
ما أسعده يوم يجد في منى وعرفات مواضع للطهارة والصلاة ميسرة على وجه يليق بهذه البقاع المطهرة. إن المسلمين يضربون اليوم خيامهم في منى وعرفات في أمن وسلام ونظام، ولكن هذه الخيام المتفرقة تقسمهم فلا يجتمعون إلا قليلاً. فما أجمل أن يهيأ في منى وفي عرفات مكان واسع جامع يسع الناس جميعاً في صعيد واحد يرى بعضهم بعضاً فيشعر المسلم بالجماعة الإسلامية ممثلة والأخوة الإسلامية مصورة. فإذا استمع هؤلاء جميعاً إلى خطيب أو واعظ أو داع يتكلم في مجهر فيسمعهم معاً ويعظهم معاً ويدعو فيؤمنون بصوت واحد ويرفعون أيديهم جملة واحدة كان في هذا من الجمال والروعة ما لا ينساه المسلم على مر الزمان وبقيت هذه الصورة في نفسه حيثما سار تذكره بالأخوة الإسلامية
وهل أغلو إذا قلت إن من المسلمين من يرجو أن يكون في منى مدرج ينحت في الجبل يسع مئات الآلاف من الحجاج يجتمعون إذا شاءوا ويتفرقون في سكون وطمأنينة وسلام في وقت قليل وحركة يسيرة كما تفعل الأمم الأخرى في مجامعها التي تضم آلافاً كثيرة؟ ولماذا لا يكون للأمم الإسلامية بيت في مكة أو المدينة يجتمع فيه بعد موسم الحج مثلا ممثلو هذه الأمم ليتشاوروا فيما بينهم ويداولوا الآراء فيما يصلح المسلمين ويرفع أخلاقهم ويسعدهم بين الأمم؟. لماذا لا يبذل المسلمون من أموالهم وأفكارهم لإنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات في الحجاز، وفي إنشاء المكاتب ونشر الكتب الإسلامية والمجلات تبحث الأمور الإسلامية المشتركة وتقصد الى التقريب بين التربية الإسلامية والثقافة الإسلامية في العالم الإسلامي جهد الطاقة. إن الحجاز ينبغي أن يكون ملتقى الثقافات الإسلامية
ثم يرجو كل مسلم أن يصلح المسعى بين الصفا والمروة ليفصل من السوق والطريق ويجعل على شاكلة تشعر الساعي أنه في عبادة ينبغي أن تفرغ لها نفسه، ويتم لها توجهه. وما أحوج الحرمين في مكة والمدينة إلى أن تزحزح عنهما الأبنية المجاورة ويدور بهما مهبع واسع يظلله الشجر. وهناك بعد هذا إصلاح مذبح منى وحفظ لحوم الأضاحي وجلودها لينتفع بها أو بأثمانها الفقراء طول العام. ثم تعبئة ماء زمزم في أوان ترسل إلى الأقطار الإسلامية، وقد أثبت البحث أنه ماء نافع مريء فضلاً عما له في نفوس المسلمين(286/17)
من حرمة. ثم إضاءة مكة والمدينة وسوق الماء إلى دورهما ومساجدهما، وأمور غير هذه كثيرة
هذا كله جدير بعناية المسلمين وتعاونهم وبذلهم من أموالهم وأفكارهم وأعمالهم. ولن يؤدوا واجبهم ويعربوا عن اهتمامهم بدينهم ويبرءوا من التقصير حتى يحققوا هذا كله بل أكثر منه
وقد تحقق الشرط الأول لكل إصلاح وهو الأمن الشامل والطمأنينة العامة يسرهما الله للحكومة السعودية واستحقت بهما مثوبة الله وشكر المسلمين كافة. فعلى المسلمين جميعاً أن يتقدموا فيتعاونوا جميعاً على خطة معينة خالصة لوجه الله يعالجون بها من أمور الحجاز ما يجعله صورة لحضارة المسلمين وتآلفهم وتعاونهم. ومن أولى من المسلمين بالتعاون والتآخي ودينهم دين الأخوة العامة والتعاون على البر والتقوى. والله يهيئ للمسلمين من أمرهم رشداً ويوفق للخير حكومات الإسلام عامة والحكومة المصرية خاصة وهي التي حملت النصيب الأوفر في أمور الحجاز منذ قرون كثيرة والتي يؤمل المسلمون فيها خيراً كثيراً في رعاية جلالة الملك الصالح (فاروق الأول) حفظه الله
فبلغنا رابغا بعد ثلاث عشرة ساعة، وقد استرحنا على الطريق ثلاث ساعات وعشرين دقيقة في ثلاثة منازل. فكان مسيرنا بين المدينة ورابغ زهاء عشر ساعات
واستأنفنا السير ضحوة الغد فبلغنا جدة بعد خمس عشرة ساعة وكان توقفنا على الطريق ساعة في منزلين، فكان مسيرنا من طيبة إلى جدة أربع عشر ساعة. والمسافة بينهما نحو خمسمائة كيلو تقطعها السيارات بالسير الوسط في عشر ساعات ويستطيع المتعجل أن يطويها في ثماني ساعات أو سبع. فماذا يشكو المسافر من سفر يقدره بالساعات لا الأيام والشهور ثم لا يمسه فيه ظمأ ولا جوع ولا حر ولا قر ولا خوف؟
عبد الوهاب عزام(286/18)
الحقائق العليا في الحياة
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان والعلم:
لا حاجة بنا إلى إفاضة القول في أن العلم بمعناه الحالي - وهو اليقين والإثبات المبني على التجربة والمشاهدة الحسية - إنما هو من أدوات الإيمان بالخالق المدبر. فلو فرضنا وقالت كل الفلسفات والجدليات إنه ليس هناك خالق للكون لظل العلم وحده يقول بوجود ذلك الخالق. لأن كل ما في الطبيعة يشير ويصيح بأن له خالقاً عالماً يقف أمامه العقل العلمي حائراً دهشاً من سر صنعته وتركيبه وإعداده الأشياء للحياة!
واعتقادي أن أكبر خادم للإيمان هو العلم الكوني، وأن المختبرات والمعامل لو أنصف الناس لعدوها من أقدس المحاريب التي يعبد فيها الإله وينعت بما يليق بكماله وجلاله.
والإلحاد بين علماء الطبيعة أقل منه في أي طائفة من طوائف علماء العلوم أو الفنون الأخرى. ولذلك قال القرآن (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وصدر الآية يدل على أن العلماء هنا مقصود بهم علماء الطبيعة والمتأملون فيها إذ يقول (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى الله من عباده العلماء)
ولو أن علماء الطبيعة يدخلون معاملهم ومختبراتهم مستحضرين روح العبادة كما يفعلون إذ دخلوا إلى المعابد إذاً لتنزل عليهم إلهام وتوفيق ولذات لا تفنى.
العلم لا سلطان له على البحث في ذات الخالق لأنه ليس من مجاله فمجاله ما يقع تحت الحواس، وإنما يستطيع أن يستنتج صفات الخالق. وهو في هذا الاستنتاج يلتقي مع الفلسفة، فأرسطو الفيلسوف وأرسطو العالم الطبيعي التقيا في إثبات (السبب الأول) وكذلك اسحق نيوتن الفيلسوف والعالم التقيا في قوله (إن خالق هذا الكون على علم تام بعلم الميكانيكا!) وقل مثل ذلك في بقية العلماء الإلهيين كباستور وغيره من العلماء الذين إن(286/19)
ألحدوا في إله الكنيسة فلن يلحدوا في إله الطبيعة الذي هم أقرب الناس إلى معرفته وتقدير صفاته.
ومن المؤسف أن إله الكنيسة في أغلب الأديان غير الإله كما يدركه العلماء في الطبيعة. هو إله بشري يتشكل في أجساد البشر في بعض الأديان، خاص بقبيل من الناس في بعضها الآخر، محب للدماء في البعض الثالث، محب لعذاب الناس وفناء أجسادهم في البعض الرابع، معقد فيه ناسوت ولاهوت وأقانيم متعددة في البعض الخامس. وهكذا وهكذا مما يعذر العلماء السائرون مع الفطرة البسيطة إذا كفروا به وآمنوا بمن يجدون يده في الطبيعة
وهنا يمتاز الإسلام امتيازا رائعاً في تقديم صورة للإله هي أسمى ما يمكن أن يدركه عقل علمي عن الكمال الإلهي مع بساطة واستيعاب هما سر الفطرة وطابعها الذي يأخذ بنواصي جميع الناس علمائهم المنتهين وجهالهم المبتدئين ومن بينهما في آفاق المعرفة والإدراك في القطبين وفي خط الاستواء وفي الشرق والغرب.
والواقع أن كل الأديان الإلهية قدمت هذه الصورة التي يدرسها العقل. ولكن يد التحريف وحب التأويل وتزيدات الكهان وعوامل الفناء التي لحقت الأديان وتقلبات الحوادث بنصوصها الأصلية هي التي مسخت الصورة الرائعة الكاملة التي قدمها الرسل عن الإله كما أوحى إليهم.
لقد وصف الإسلام الإله بما يرضي جميع الناس، فوصفه بأنه جبار قهار، ورحيم لطيف، ومنتقم ورؤوف، إلى آخر الأسماء الحسنى حتى يرضي أمثال زنوج أفريقيا وبرابرة التبت الذين لا يعبدون الإله إلا إذا كان جباراً، ولذلك يصورون آلهتهم كالفيلة بصور هائلة ذات عدة رؤوس وأيد وأرجل، وليرضي أمثال اليونانيين الذين كانوا يتخيلون آلهة متعددة للرحمة والجمال والتناسق والقوة والحب والحرب وغيرها.
وكأن الإسلام يقول لهؤلاء وهؤلاء: ربكم واحد فيه جميع ما تتصورون جميعا من الصفات الحسنى، فالتقوا جميعاً في رحابه بعبادة واحدة وأسلموا وجوهكم وقلوبكم إليه. (ولله المشرقُ والمغربُ فأينما تُولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (هو الله الذي لا إله إلا هو الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ(286/20)
الجبارُ المتكبرُ. سبحانَ الله عمَّا يشركون، هو اللهُ الخالقُ البارئُ المصوّر له الأسماءُ الحسنى)
ولذلك حينما وصف الإسلام لنيتشه أو شوبنهاور - لا أذكر - قال لمحدثه (إذا كان الإسلام كما وصفت فنحن كلنا مسلمون!) مع أنه كان ملحداً منكراً لعقيدة الجماهير
ولبساطة العقيدة الإسلامية ووضوحها وقوتها وتمشيها مع الفطرة لم يجد الإلحاد طريقاً إلى الذين اشتغلوا قديماً بالفلسفة والعلم من المسلمين؛ لأنهم كانوا مزودين بتلك الصور الواضحة البسيطة من قضايا الدين. وكانت الفروض التي قرءوها في الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية فروضاً ناقصة أو معقدة أو مختلة لا تنهض أمام ذلك اليقين الفطري الذي يستطيع الفلاح والفيلسوف أن يفهماه ويعتقداه بكل راحة وطمأنينة في الإسلام
وعلى العكس عند غير المسلمين، فقد كان كل فيلسوف لابد أن يكون (هرطيقا) ولذلك كان كل من يدرس الفلسفة مطارداً من السلطة الدينية لأنها تعلم أن العقيدة الموروثة ستهزم أمام التفكير؛ ولما خابت المطاردة، نظرا إلى نزوع الناس وتطور الزمان وهجوم العلوم، زعموا أن الدين قلبي وجداني فقط لا أثر فيه للتفكير، وإنما يستند إلى ذلك الشعور، ليقولوا بعد ذلك إن الإنسان يستطيع أن يجمع بين متناقضين أحدهما يسكن فكره والآخر يسكن قلبه! مع أن أساس الدين قائم على التفكير وإلا ما لزمت حجة الله أحداً من خلقه مادام فكره لم يعقل ولم يفهم وهو منصف، بل مادام فكره ينقض ما يأتي به الدين في بعض الأحيان
ومن المؤسف أن المسلمين ورثوا هذه الفكرة الباطلة مؤخراُ من أرباب الأديان الأخرى، مع أن الإسلام قائم على التفكير، وحجته العقل، ومعجزته عقلية دائمة تسير مع رشد الإنسان وتقول له (لا تقْفُ ما ليس لك به علم) (والذين إذا ذُكروا بآيات ربهمْ لم يخرُّوا عليها صمّاً وعُمياناً!)
وآفة الإسلام هي جهل أكثر المسلمين بأصوله وتفاصيله، واتباعهم القضايا التي لم تمحص وتنطبق على بيئتهم وما فيها، وتسليمهم بالنظريات الغربية كما يسلمون بالمسائل العلمية المادية
وأحسب أن أكثر قادة الفكرة والمصلحين الغربيين لو أتيح لهم أن يطلعوا على الإسلام الصحيح لتغيرت أحكامهم التي أرسلوها في مسائل الخلاف بين الدين والعلم. ويكفي دليلاُ(286/21)
على ذلك مقال فلتير في مارتن لوثر: (إنه لا يصلح أن يحل نعل محمد. . .) مع أن فلتير لم ينصف محمداً للسيرة المشوهة التي لم يتهيأ له أن يعرف عن محمد سواها
ومن قرأ كتاب (الزنجية تبحث عن الله) لبرناردشو يدرك أن (شو) ارتفع بمحمد والإسلام إلى قمة الأنبياء والنبوة. وسيرة (جوته) تدل على أنه افتتن بالإسلام، ولذلك شرع في تعلم العربية وفي تأليف (رواية) عن محمد. وقد مدح أسلوب القرآن وطريقته ككتاب دين. وكلمة شوبنهاور أو نيتشه التي أشرنا إليها سابقا تدل على أن أي عقل متمرد قد يجد سلامه وطمأنينته في الإسلام. ومقال كارليل عن رسول الإسلام لا يغيب عن بال أحد
وهكذا وهكذا مما لا مجال لذكره الآن، ومما يبين قوة غزو الإسلام للعقول المتمردة والآراء الفلسفية، ومما لا يصح معه إدخاله مع غيره في مسائل الخلاف بين العلم والدين
واعتقادي أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده أن يحمي الإيمان من أن تجرفه تيارات المادية والإلحاد، وهو الذي يستطيع أن يقره في كل نفس كما هو في الطبيعة البشرية بجانب (نزعة الإثبات) التي أنتجت العلم و (نزعة التأمل) التي أنتجت الفلسفة بحيث يعود الإيمان باعث فخار بين الناس كما كان وكما يفتخرون الآن بالعلم والفلسفة، لا كما يغضي بعضهم منه حياء إذا قيل عنه إنه مؤمن، وترجمة هذا القول عند الجهال بالعلم والدين معا: إنه مخرف.
وقد تراكمت عقد خفية في نفوس إنسانية هذا العصر حول الدين لأن كثيراً من الذين ينتسبون إليه حملوا عليه ميراثاً كبيراً من الخرافات ومن تضييق الواسع ومن غباوة بعض رجاله الذين لا يعرفون المهمة الأصلية فيه، ومن تحويل التدين الى نوع من الهستريا المنفعلة المغفلة عن حكمة الله في اختلاف الإنسانية في الآراء والمعتقدات.
وكم هي كبيرة جناية الرموز والطقوس وثياب رجال الدين وشاراتهم وسماتهم التي تميزوا بها من غيرهم! إنها جناية تحويل الملكية العامة إلى احتكار. . . وجناية إقامة السدود والقيود على الطريق الواسع الذي يوصل كل شخص إلى الله. . وجناية إقامة السدود والقيود على الطريق الواسع الذي يوصل كل شخص إلى الله. . . وجناية تحديد أبواب معينة لا يحل لأحد أن يجتاز إليه من غيرها، وجناية إقامة حراسة وخفارة عليها من فئة معينة ربيت تربية خاصة منفصلة عن تربية بقية الناس لا يدخل أحد إليه إلا(286/22)
بإذنها. . . وجناية تحديد بقع ضيقة من الأرض لا يحل التعبد له إلا فيها، بعد بخور وعطور وطبول وزمور. كأنهم يستحضرون عفريتاً من الجن إلى حفلة زار!)
وقد أطلق الإسلام الدين من كل هذا الذي ألصقه به الأطفال والمجسمة والمشبهة، وجرد محيط العبادة من التماثيل، والصور والرموز، وجعل الأرض كلها مكان عبادة فأعاد الى الطبيعة قيمتها كمحراب دائم للصلاة. وجعل روح الدين في الشارع والسوق كروحه في المسجد: ففي السوق والشارع عبادة عملية، وفي المسجد عبادة نظرية هي موقف تصفية وجرد لشؤون الحياة كلها!
ولم يجعل طبقة معينة تحتكر شؤون الدين وتلبس زيا خاصا بها بل حتم على جميع معتنقيه أن يكونوا علماء به ما أمكنهم العلم، ورأى لأئمته ألا يتزيوا بزي خاص حتى لا يشعر الناس بانفصال حياة الدين عن حياة الدنيا.
ولو فهم الناس أن الدين في الشارع والسوق أهم منه في المعبد لتغير وجه الحياة وسير التاريخ، ولحت المشكلة التقليدية الموروثة المعنونة (الدين والدنيا)
من هنا يتبين لنا أن عبء المسلمين فادح وحسابهم عسير أمام الله والحق والبر بالإنسانية، لأن إهمالهم إصلاح نفوسهم وتثقيفها وإعدادها بما في الإسلام لأداء رسالته العالمية هو الذي يجر على الناس كل المشقات والمصائب والحيرة والضياع، وهو الذي يخرج من حظيرة الإيمان كل عقل غربي كبير بما يقرؤه من الفروض الفلسفية وبما يلمسه من وجوه الخلاف بين قضايا العلم وبعض نصوص دينه تهافته التي تدل أول نظرة صحيحة إليها أنها من غير المنبع الإلهي.
ومن الغريب المؤسف أن القائمين على الشيوعية أو الفوضوية مثلاً يجاهدون في سبيلها جهاداً مستميتاً لينشروها ويجعلوها دين الناس ويحسبون أنفسهم أصحاب رسالة يجب أن تتم وتشمل الأرض جميعها. . . بينما المسلمون الذين عندهم علاج كل نكبة في العقل أو في النفس أو في المال يجهلون مهمتهم ولا يؤدون رسالتهم كما كان أجدادهم الأقدمون يؤدونها ويموتون في سبيلها على ضفاف الكنج وأسوار الصين وشواطئ بحر الظلمات، وهم معتقدون أنهم يؤدون إلى الناس أعظم خدمة وأكبر منة تطيب بها نفوسهم عن اقتحام ديارهم وثل عروشهم وهدم أصنامهم الحسية والمعنوية!(286/23)
إن إنسانية الشرق والغرب لا تزال حائرة ترسل روادها وأرصادها (للبحث عن غد) يشرق عليها ضحاه وهي في واحة السلام والطمأنينة. . . لا تزال (زنجية تبحث عن الله)! والمسلمون الذين أسعدهم الله بمعرفته وبالطمأنينة والهدى لا يشعرون بتبعاتهم الثقيلة نحوها، ولا يزالون يعيشون لأجسادهم وأنفسهم فقط. . . بل إن الثقة بما عندهم قد ذهبت عنهم. وقاتل الله الجهل وحياة الفسولة!
(الرستمية)
عبد المنعم خلاف(286/24)
للتاريخ السياسي
جهود المستر تشمبرلين وما أدت إليه
للدكتور يوسف هيكل
من الممراندوم إلى مؤتمر مونيخ
ظنت الدوائر السياسية أن الأزمة الدولية قد انفرجت بقبول تشيكوسلوفاكيا مشروع لندن، وهو عبارة عن تحقيق مطالب الهر هتلر. وغادر صباح 22 سبتمبر (أيلول) المستر تشمبرلين لندن إلى ألمانيا مرتاح النفس مطمئنها. وقبل صعوده إلى الطائرة قال: (إن تسوية المشكلة التشيكوسلوفاكية تسوية سلمية تعد شرطاً أساسياً لتفاهم الشعبين الإنكليزي والألماني. وقد كان هذا الشرط أيضاً أساساً ضرورياً للسلم الأوربي الذي ترمي إليه جهودنا، وإني أرجو أن تفتح زيارتي الطريق التي تؤدي إليه)
وبعد ظهر يوم وصوله إلى (كودسبرغ) اجتمع بالمستشار الألماني، وعرض عليه ما اتفقت عليه حكومتا لندن وباريس، من التنازل عن الأقاليم السوديتية لألمانيا، وتعيين حدود جديدة لتشيكوسلوفاكيا، وضمانها ضد الاعتداء غير المحرض عليه
لم يعترض الهر هتلر على فكرة الضمان، غير أنه أبان لا يضمن الحدود الجديدة إلا إذا كانت الدول الأخرى، ومن بينها إيطاليا، ضامنة لها أيضاً؛ وأنه لا يشترك في الضمان الدولي لتشيكوسلوفاكيا إلا بعد أن تنال الأقليات الأخرى فيها مطالبها. أما الاقتراحات الثانية التي وضحها له المستر تشمبرلين، فلم يقبلها الهر هتلر، بحجة أنها لا تحقق حلاً سريعاً، وتعطي فرصاً عديدة للتشيك للتهرب منها. وقد أصر على ضرورة حل سريع للمشكلة التشيكوسلوفاكية، وأخذ يوضح للمستر تشمبرلين نوع هذا الحل الذي وضعه فيما بعد بمذكرة (ممراندوم)
كم كانت دهشة المستر تشمبرلين عظيمة عند ما وجد نفسه في وضعية لم تكن منتظرة قط. إنه كان يعتقد اعتقاد اليقين، أن ما عليه عندما يذهب إلى كودسبرغ إلا أن يبحث مع الهر هتلر الاقتراحات التي قدمها إليه، بحثا هادئاً يؤدي إلى الاتفاق السريع عليها. لأن الهر هتلر أعلم المستر تشمبرلين في برختسكادن أنه إذا قبل مبدأ حق تقرير المصير، فإنه(286/25)
مستعد ليبحث معه الطرق والوسائل لتنفيذها. ولما قبل المستر تشمبرلين هذا المبدأ، وقدم مشروع لندن المبني عليه، رفضها الهر هتلر رفضاً باتاً حين ابتداء المحادثات. كان ذلك صدمة عنيفة للمستر تشمبرلين، وخيبة لآماله التي كان يعلل النفس بها. ولكي يهون عليه الهر هتلر ذلك، ويجد لموقفه المناقض مع قوله عذراً، قال لرئيس وزارة إنجلترا إنه لم يخطر على باله أنه (أي المستر تشمبرلين) يتمكن من العودة إلى ألمانيا حاملا قبول مبدأ حق تقرير المصير
كانت الصدمة عنيفة حتى أن المستر تشمبرلين شعر أنه في حاجة إلى الوقت ليفكر فيما يجب عليه عمله، فانسحب، وقبل انسحابه طلب من الهر هتلر أن يعيد له التأكيد بعدم الزحف على تشيكوسلوفاكيا أثناء المحادثات، فأكد له الهر هتلر ذلك
وكان موعد متابعة المحادثات الساعة الحادية عشرة والنصف من اليوم التالي؛ وكان المستر تشمبرلين يتأكد من أن الهر هتلر لم يفهم حق الفهم ما كان يقول له عن طريق المترجم، لهذا فكر أم من الحكمة أن يرسل إليه قبل الشروع في المحادثات، ملاحظته كتابة على مطالب الهر هتلر الجديدة. ومما قال في ملاحظاته أنه سيرسل المطالب إلى الحكومة التشيكوسلافية، وأبان الصعوبات العظيمة التي تحول دون قبولها. ولما تسلم المستشار الكتاب، أظهر رغبته في الجواب عليه كتابة. ولذلك ألغى الاجتماع لمتابعة المحادثات وأرسل الجواب بعد الظهر.
ظن المستر تشمبرلين أن التأخير في إرسال الجواب ناجم عن إجراء بعض تعديلات في مطالب الهر هتلر. وعندما تسلم الكتاب خاب ظنه، إذ وجده يحتوي على توضيحات للمطالب ولا يعدل فيها شيئاً. فطلب المستر تشمبرلين نص المطالب، وصورة من الخريطة المرفقة بها، لإرسالها إلى براغ، وعزم على العودة إلى لندن. فقدم إليه ذلك خلال اجتماعه بالهر هتلر الذي ابتدأ الساعة العاشرة والنصف من مساء 23 سبتمبر (أيلول) واستمر حتى الصباح الباكر.
وقبل أن يودع المستر تشمبرلين الهر هتلر، قال له زعيم ألمانيا إن بلاد السوديت آخر الأراضي التي يطمع فيها بأوربا، وإنه لا يرغب في أن يضم إلى الريخ شعوباً غير ألمانية. وقال أيضاً إنه يرغب في أن يكون صديقاً لإنكلترا. ثم أردف قائلاً: صحيح أن(286/26)
هناك مسألة المستعمرات، ولكنها لا تولد حرباً، ولا تنتج تعبئة عامة
عاد المستر تشمبرلين إلى لندن في 24 سبتمبر (أيلول)، حاملا مذكرة الهر هتلر بدلا من الموافقة على اقتراحات لندن. وهذه المذكرة تحتوي على النقاط التالية
1 - سحب جميع القوى التشيكية من جند وشرطة وبوليس جمارك وحراس حدود من المقاطعات التشيكوسلوفاكية المعنية في الخريطة المرفقة، والتي يجب أن تسلم إلى ألمانيا في 1 أكتوبر
وتحتل الجيوش الألمانية هذه المقاطعات دون اعتبار وجود الأكثرية التشيكية في بعض أجزاء هذه الأقاليم. وتسليم هذه الأقاليم يكون بحالتها الراهنة، أي من غير تخريب وإتلاف أي شيء من الأملاك والأموال، حتى إنه لا يجوز سحب المواد الغذائية والبضائع، والحيوانات، والمواد الخام.
2 - إجراء استفتاء في المقاطعات التي فيما وراء المقاطعات التي ستحتل، والمبينة في الخريطة، قبل 25 نوفمبر تحت إشراف لجنة دولية. ويحق الانتخاب للأشخاص الذين كانوا يقطنون هذه المقاطعات في 28 أكتوبر سنة 1938، وكذلك للأشخاص الذين ولدوا.
3 - تعيين لجنة ألمانية تشيكية، ولجنة دولية، للحدود الجديدة الناجمة عن الاستفتاء. . .
4 - تشكيل لجنة ألمانية تشيكية لتسوية التفاصيل الأخرى. وعلى الحكومة التشيكية أن تسرح حالاً جميع الألمان السوديت الذين يخدمون في الجيش والبوليس، وأن تخلي جميع المسجونين من السياسيين الألمانيين.
أرسل المستر تشمبرلين المذكرة إلى حكومة براغ لدى وصوله لندن في 24 أكتوبر فوصلها مساء ذلك اليوم. وفي اليوم التالي تسلمت حكومة المستر تشمبرلين جواب حكومة الجنرال سيروفي، الذي أكدت فيه أن مطالب الهر هتلر، بصفتها الحالية، غير مقبولة بلا قيد ولا شرط، لأسباب ذكرتها، ومنها أن هذا الممراندوم يحرم تشيكوسلوفاكيا، من بلادها الصناعية، ومن تحصيناتها، ومن أموالها المنقولة، من قطارات وعربات، بل يحرم المزارعين الذين يريدون الرحيل عن وطنهم من أخذ مواشيهم وحيواناتهم وهو يدخل 836000 تشيكي تحت السيادة الألمانية. أما المقاطعات التي تريد ألمانيا إجراء الاستفتاء فيها فتحتوي على 1. 116. 000 تشيكي و 144. 000 ألماني! وهو يقصي الدول(286/27)
الغربية، (أي فرنسا وإنكلترا) عن تصفية بقية المسائل ويضع تشيكوسلوفاكيا تحت رحمة ألمانيا. والممراندوم لا يذكر شيئاً عن ضمان الحدود الجديدة
ذعر الرأي العام، واضطربت الدوائر السياسية من ممراندم الهر هتلر. وأصبح الكل يعتقد أن الحرب واقعة لا محالة. وتواردت ألوف الرسائل على المستر تشمبرلين وعلى زوجته، شكر مرسلوها فيها مساعيه للسلم، وابدوا في منع الحرب وأظهروا كرههم لها. وذهب المسيو دلادييه والمسيو بونيه مساء 25 سبتمبر (أيلول) إلى لندن، لتداول الأمر، فوقفا فيها على جواب حكومة براغ. وفي اليوم التالي تابع ممثلو الحكومتين درس الموقف، فأكد مسيو دلاديبه لزملائه البريطانيين أنه إذا هوجمت تشيكوسلوفاكيا فإن فرنسا تقوم بواجباتها نحوها. فأجاب المستر تشمبرلين، أنه إذا كانت نتيجة هذه الواجبات اشتباك الجيوش الفرنسية مع القوى الألمانية، فإن الحكومة الإنكليزية تشعر بأنها مجبرة على معاضدتها. وقد صدر في اليوم نفسه بيان بهذا المعنى. وفي 26 سبتمبر (أيلول) أعلنت تشيكوسلوفاكيا التعبئة العامة، واتخذت فرنسا إجراءات حربية واسعة، وأمر وزير البحرية البريطاني، دوف كوبر، الأسطول بأن يكون على استعداد. فأصبح الرأي العام ينتظر انفجار قنبلة الحرب العامة من ساعة إلى أخرى.
(للمقال بقية)
يوسف هيكل(286/28)
من رحلة الشتاء
في مضارب شمر
البادية
للآنسة زينب الحكيم
إن للبادية طابعاً خاصاً، فهي في النهار غيرها في الليل، وهي في شقشقة الفجر غيرها في غلس المساء. في الصباح الباكر تبدو الطبيعة هواؤها وماؤها، نباتها وطيورها، حيوانها وإنسانها متمالكاً قواه، على أتم استعداد للنشاط والإنتاج، يبدو الزهد على كل شيء والتضحية بكل شيء، ويظهر محيط موحد بضم هذه العناصر جميعها.
يبقى هذا المنظر لحظات سريعة المرور خطيرة الأثر. وتبكر لشمس فتمتد خيوطها الجميلة فتحيي الزهر، وتنعش العشب، وتنشط الهواء، وتداعب الندى.
وتسرع القطعان ورعاتها للسعي والتنقيب، فينكسر سكون الصباح، وتسمع هنا مواء، وهنا نباحاً، وهناك صياحاً وغناء.
ويدور الأحياء دورتهم، في شؤون الحياة العملية الصرفة، صابرين على هجير البادية وقارس بردها، وعلى جدبها وخصبها، راضين بسكونها وثورتها.
هاهو ذا المساء يتقدم، وذكاء على وشك الغروب وراء الأفق، وكذلك تسرع القطعان ورعاتها إلى حظائرها، ويدور الفلك دورته العكسية الأبدية. يا لله من أضداد الطبيعة، وهي هي بعناصرها ومحتوياتها، سكون شامل رهيب، يتلاشى فيه ثغاء الأغنام وهدير الإبل، ويرتفع فيه نباح الكلاب - ترهف فيه الأسماع وكل الحواس. قبة زرقاء صافية في الصباح الباكر، يزينها الضوء الهادئ البديع، والضباب الخفيف والنسيم العليل؛ وقبة زرقاء، قاتمة في المساء، تتلألأ فيها نجوم زاهرة، وتتماوج نسائم بليلة حائرة، وتشمل الكون بمن فيه رهبة قاهرة.
ليلة؟؟
أذهب مسرعة إلى الخيمة التي أعدت لنومي وسط هذه الطبيعة الغريبة، والبادية البعيدة، فيدخل معي الشيخ ليدلني على نظمهم، ومعه خادمان، يحمل أحدهما مصباحاً، والثاني طستاً(286/29)
وإبريقاً به ماء دافئ؛ وأشكر الشيخ على شدة عنايته باستكمال وسائل راحتي، فيقول عمي مساء، وينصرف في رداء العربي الشريف، ونظرة البدوي الشجاع.
ويحملق العبد في وجهي يسألني إذا كنت أريد شيئاً قبل أن ينصرف فأشكره وآمره أن يترك المصباح عندي على المنضدة. وسألته إذا كان لديه شمعة وعلبة ثقاب. فناولني علبة الثقاب أما الشمعة فلا توجد. وضعت الكبريت على الكرسي القريب من السرير؛ وقلت للعبد: من فضلك اخرج وأقفل باب الخيمة. فبدأ يضع الحبل في الثقوب المعدة لذلك بشكل فني، وكنت واقفة أرقب ما يعمل (وهنا تذكرت خيام الكشافة، وكل ما تعلمته من حركاتها النافعة، وأوصي كل فتاة وكل فتى أن يندمج في سلكها وقتاً ما، فإنها للحياة العملية وحياة السياحة والمخاطرات من الدرجة الأولى في الأهمية)
أوشك العبد أن يتم عمله، ولم يبق إلا ثقبان بدون توثيق، فنظر إلي من بين طرفي الباب والخيمة، بحيث لم يظهر منه إلا وجهه الأسود، بأنفه الكبير المفرطح، وعينيه اللامعتين المخيفتين، وشاربه الطويل الغزير، وظهرت أسنانه الكبيرة البيضاء ولسانه الأحمر العريض عند ما قال: عمي مساء سيدتي. قلت: عم مساء وأشكرك. وفي سري قلت: (أبغض منظرك المخيف الهائل في هذه الظلمة الحالكة، والسكون الرهيب)
وأردت أن أستوثق من أن جوانب الخيمة محبوكة، فأطمئن إلى أن كائناً ما لا يمكنه دخولها، فجلست القرفصاء أختبر ذلك. وما كان أشد جزعي، وأبعد تخيلي عما توهمت! لقد وجدت طرف الخيمة يصل إلى حافة السجاد المغطي أرض الخيمة فحسب، والهواء البارد يمر من جميع نواحيها، ويستطيع أي حيوان أليف أو متوحش، الدخول بلا أدنى عائق. فاستولى علي جزع لم أعهده في حياتي، وعبثاً أحاول إقناع نفسي بالتذرع بالشجاعة، أو باستعادة الماضي. فكم من ليال نمتها في أشباه هذه الخيمة في إنجلترا، في أجواء أردأ وأشد صقيعاً ومطراً بل وثلجا.
وإن تمح من ذاكرتي أهم الحوادث الغريبة، التي حدثت لي في بعض هذه المخاطرات، فلن تمحى الحادثة الآتية التي حدثت لي مرة ونحن نخيم في البرية في جهة من جهات إنجلترا:
اتخذنا مخيمنا وسط أرض جيدة، توسمنا أنها خير ما ظهر لناظرنا صالحا لهذا الغرض. وكنا بعيدين جداً عن السكان، وكنا كلنا طالبات فتيات، متخذات من شبابنا قوة على أعمال(286/30)
الكشف والتقشف. وبعد جهاد يوم شاق من الصباح الباكر إلى المساء المتأخر، أخذنا عدتنا للنوم، فدخلت كل منا في كيس نومها الذي يغطي جميع أجزاء جسمها، وتربط طرفه الأعلى حول عنقها، فلا يكون غير الوجه ظاهراً، ويغطي بغطاء خفيف يمنع الحشرات ويسمح للتنفس.
على بركة الله افترشنا الأرض والتحفنا الخيمة؛ وما كدت أسلم جفني للكرى حتى شعرت بحركة غريبة تحت جنبي، فقلت لعلني أنام على جنبي الأيسر، مما سبب للقلب قلقاً، فانقلبت على الجانب الأيمن، ولكن الحركة استمرت، بل زادت شدة، فجمد الدم في عروقي، وهدأت حركتي قسراً، إذ تصورت أن عفريتاً تحت الأرض، كأنما يقصد أن يشق بطن الأرض فيخرج منها، ويتخذ جسمي بديلا. وخطرت ببالي جميع خرافات الجن والشياطين والأرواح، وعقد الخوف لساني، فلم أستطع الاستغاثة بصديقاتي، ولا أملك تحريك أطرافي فأدفع عن نفسي ذلك العفريت الأرضي.
ولما اشتدت حركات العفريت وعنفت صرخت مستغيثة كمن أصابه مس مؤكد. فهرعت إليّ الطالبات، يستفسرن الخبر فأخبرتهن، فقالت واحدة: أسرعي (درثي) أحضري الكيس، وصاحت أخرى: (نللي) أحضري حبلا، وأسرعت ثالثة ورابعة بأيديهما سكين ومسدس، وتصورت أن الجني قد أتت ساعته، وحان حينه، وأني كنت على حق فيما أحسست، وحمدت الله على أني لم أكن مدعية، وبدأت أنشط مع الجماعة لأنتقم لنفسي من ذلك الشرير الذي طالما اختفى، وها قد حان الوقت لرؤيته وكشف سر العفريت كلها بعد كشف حاله.
وضعت الفتيات الكيس مقلوباً على المكان الذي تصورنا أن العفريت سيخرج منه، بحيث انسجمت فتحة الكيس على الموضع تماماً، واجتمعت الأيدي على تثبيتها بحيث لا يستطيع فكاكا.
وتوجهت همة الفتيات كلها إلى القبض عليه في الكيس حتما.
وأخيراً وبعد جهد شاق، قفزت عفاريت ثلاثة من باطن الأرض إلى داخل الكيس المتين، ثم انتهت الحركة في باطن الأرض، فقبضت الطالبات على فتحته، وبدأن يذبحن الشياطين الكفرة! قاتل الله الأرانب البرية! لقد كان شكلها جميلاً وطعمها لذيذاً، ولكن فعلتها كانت(286/31)
شنيعة بالنسبة لي وحدي، لأنه لم تكن لي هذه التجربة من قبل، مثل باقي زميلاتي، اللاتي اعتبرن حدوثها لي حسن حظ وتوفيق أتى للجماعة الكشفية، عن طريق الساحرة المصرية، التي تعرف سر الكشف عن الكنوز في زعمهن.
هذه هي قصة الحادثة الغريبة التي سبق أن حدثت لي، وكان يجب أن أكون أكثر شجاعة مما كنت تلك الليلة في مضارب شمر. ولكن ليذكر القارئ أن شعور الأمان والنظام الذي يحسه الإنسان في بلاد الإنجليز، غير الشعور الذي يحسه في أي بلد آخر. فما بالنا بما يشعر الإنسان به بين اشد القبائل البدوية مراسا وقوة! إن تلك الحادثة على فظاعتها وما سببته لي من رعب لم تكن أشد تأثيراً في نفسي من تلك الليلة في خيمة البادية.
لم أذق للنوم طعماً طول تلك الليلة، لا خوفاً من البدو والعرب أنفسهم، ولا من عبيد الشيخ كما توهمت، بل بالتحليل النفسي الذي شغلت نفسي به، توصلت إلى التعليل الآتي، وأظنه معقولاً تماماً:
1 - كان الطريق وعراً جداً وطويلاً متعباً إلى أقصى حد احتملته، فضعفت عندي قوة المقاومة والتعليل الوقتي المتزن.
2 - هذا بالإضافة إلى حياة مباينة كل التباين لما سبق أن أعتدته زمناً طويلاً من النوم داخل مبان، مما جعلني أشعر أني أنام في العراء، وسبب هذا لي وحشة شديدة لم تتحملها أعصابي وجسمي المتعبان، فحدث لي الأرق والرعب.
ومع كل هذا أشهد أني قمت في الصباح، تاركة فراشي على أحسن ما يمكن من الصحة والنشاط، كما لو كنت نمت الليل كله ملء جفني، فإن الهواء هناك صحي منعش، وبذلك قد عوضني بدل النوم، ولعل هذا سبب ثالث لعدم نومي، ولعله من الأسباب المهمة أيضا في قوة بنية البدو أنفسهم.
الحياة الاجتماعية عند البدو (قبائل شمر)
لهم مجالس محادثات في الأمور المعاشية، ثم لهم مجالس الشعر والرواية. وتستعمل الربابة قليلا، والموسيقى كانت من أهم الأشياء التي افتقدتها في العراق وكردستان، وفي الجزيرة.
أما الراديو، فيعوض الآن جانبا كبيراً من هذا النقص، و (يتونس) به البدو على حد تعبيرهم بدرجة محسة كلما أداره الشيخ(286/32)
وألعابهم كثيرة منها نوع يشبه الهوكي، ومطاردات الخيل (الفروسية) أما المبارزة فانقرضت الآن.
يلعبون ألعاب الورق (الكوتشينة) قليلا للتسلية فقط.
أما في أيام رمضان فيلعبون (الورسان) وهو نوع من أزلام الميسر؛ ويلعبون الضامة.
شخصية الشيخ عجيل الياور
لا يمكن وصفها أو تصويرها تماماً لعظمتها، ويكفي أن يقال فيه: إنه خبير وداهية البادية، ولو أنه أمي، إلا أنه يبز كثيرين جداً من المتعلمين.
ابنه الشيخ صفوك الياور:
ثقافته حديثة، فقد درس في الكلية الأمريكية ببيروت، ثم عاد إلى البادية لمساعدة والده في سياسة العشائر.
وسياسة رؤساء العشائر عربية كانت أو كردية، في تربية أبنائهم، هي أن يعلموهم الآن في المعاهد الحديثة لينوروهم، ويقووا عقلياتهم، لا على أن يهجروا البادية، بل ليزدادوا حبَّا لها، وعناية بمصالح البدو. وهم لذلك يحرصون الحرص كله على إبعاد كل فكرة من شأنها إفساد أبنائهم عليهم أو تنفيرهم من الحياة التي شب آباؤهم وأجدادهم عليها.
وأهم الصعوبات في سياسة العشائر هي المخاصمات بينهم، ثم الذود عن مصالحهم عند الحكومة، لأنهم جهلة، لا يستطيعون قضاء مصالحهم، أو حل مشكلاتهم بأنفسهم لقلة خبرتهم. والذي يقوم بأداء هذا كله الشيخ وابنه.
معلومات عن قبائل شمر وعددها
وهي مستقاة من ابن شيخ المشايخ:
قبائل شمر مكونة من مجموع قبائل: (1) زوبع (2) السناعيس (3) أهل الحية (4) أولاد علي.
وكل ما يعلم عن قبائل شمر أنها متنوعة ومتفرقة جداً، ولا يكاد المرء يحيط بها لكثرتها. والقبائل المذكورة اختلطت فروعها بعضها ببعض
نبذة عن قبائل شمر - من اطلاعي الخاص(286/33)
تنقسم قبائل شمر إلى قسمين، قسم منها يقطن جنوبي العراق ويسمى (شمر الطوقة) وقد صاروا من القبائل المتحضرة.
ويسمى القسم الآخر (شمر الجربة) وهو يتألف من القبائل الساكنة في شمالي العراق في الجزيرة بين دجلة والفرات. وقد هاجرت هذه القبائل من جبل حائل في منتصف القرن السابع عشر.
أما الأرض التي تقطنها شمر الجربة في الجزيرة، فتمتد من شرقي دير الزور شمالاً إلى هور (عقرقوف) جنوباً، ومن الفرات غرباً إلى الموصل شرقاً، وتراها قد احتفظت بالبقعة الخصبة الواقعة في شمال شرقي الخابور، ولاسيما حوض وادي جنجغ الفياض.
وتعيش شمر على حالة البداوة، وتسكن بيوت الشعر، وتنزل أحياناً، بين شهري أبريل ومايو في شمال جبل سنجار، وتنتشر إلى جوار نصيبين ووادي السويدية.
أما في الأشهر الأخرى فتنزح إلى الجنوب، وتتحول في المنطقة الواقعة في جنوبي جبل سنجار.
وهي من أقوى العشائر مشاجرة، ولا تزال في خصام مستمر مع قبائل دليم وبقارة، وعشائر علي الكردية.
والعداء القديم متمكن بينها وبين قبائل عنزة، وهذه تملك أحسن الجياد وأكثر الجمال. ويبلغ عدد نفوس قبائل شمر من 50 إلى 65 ألف نفس.
زينب الحكيم(286/34)
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة المستر كومبتون ماكينزي
للأستاذ أحمد فتحي
من المحقق أنني تبيَّت ميولي الأدبية وأنا لا أزال في دراستي الجامعية، إذ كنت أصدر مجلة خاصة في أكسفورد كانت تظهر لي فيها بعض الأشعار، كما أنني كتبت في عام 1900 أقصوصة صغيرة تافهة، ثم أتبعتها بأخرى بعد عامين. وكان أهلي على قلة تفاؤلهم يتوقعون لي شيئا من الحظ في احتراف الأدب، وتجلى ذلك في أن أبي قد اتفق معي على أن يظل خمسة أعوام يوظف لي مائة وخمسين جنيهاً في السنة. غير أن الاتفاق أوشك أن ينقض حين أقدمت على الزواج؛ فرأى أبي أن هذا الزواج أمر خارج على حدود الاتفاق. ولكنني عالجت الموضوع من ناحية أخرى، إذ جهدت غاية الجهد حتى كتبت مسرحية كاملة في أسبوعين فقط سميتها (ذو الرداء الداكن) وقدمتها إلى أبي وقام بإخراجها على المسرح الملكي في (إدنبره) في فبراير 1907 واحتجزها مدى خمسة أعوام أكبر الظن أنها مثلت خلالها مرات ومرات. وبعد ذلك انصرفت إلى الريف حيث دفعت إلى المطبعة بمجموعة من شعري قام بنشرها (بلاكويل). وفي خريف ذلك العام مضيت إلى حيث لأقضي الشتاء عند صديق قديم كان حينذاك قَسَّا في (كورنوول)، آملاً أن أوفق في وضع مسرحيات جديدة. . .
ولعل سروري بظهور هذه المجموعة الشعرية قد ترك أثره في نفسي، إذ فضلت الاشتغال بوضع الكتب على كتابة القصص للمسرح. ويخيل إلي أن الكتاب المبتدئين يؤثرون مشاهدة قصصهم تمثل وراء ستار المسرح على أن يظلوا يقلبون صفحات كتبهم بعد طبعها؛ بيد أني آثرت تأليف الكتب على أي حال. ولعل مبعث ذلك إنما هو عدم رضاي عن قيام الممثلين بأدوارهم، إذ كنت شديد الثقة بأنني أستطيع أن أقوم بتمثيل الأدوار خيراً مما يصنعون جميعاً! والعجيب أن هذا الاعتقاد نفسه قد عزف بي عن احتراف التمثيل! والحق أنني كنت أضيق بطريقة أداء الممثلين لأدوارهم، فقد كنت أتبين أن الشخصيات(286/35)
التي وضعتها في مسرحيتي لم تكن تخرج على المسرح ولها الخواص والمميزات التي كنت حريصاً عليها حين وضعت أشخاص مسرحيتي قبل التمثيل.
واتفق بعد ذلك أن نضجت في ذهني فكرة قصتي الأولى (الزواج السري). وظلت صورة بطلتها تتمثل لي مع كل صباح؛ حتى كان نوفمبر سنة 1907، إذ جلست إلى منضدتي أسجل بقلم الرصاص فصول هذه القصة التي تولى نشرها (مارتن سيكر) في صيف عام 1910
مضيت في كتابة هذه القصة ببطء شديد. ولم تكن لي مرانة قصصية تذكر، غير أني مضيت في تسجيل فصولها على غرار الأساليب المعروفة في القرن الثامن عشر، وكذلك كانت هذه الفصول تدور حول حياة أشخاص عاشوا في ذلك القرن نفسه. وإني لأذكر أنني فرغت من كتابتها في عام 1909، ثم آثرت أن أبعث بها الى صديقي (جون موراي) الذي كانت لأبيه دار للنشر. على أني كنت ضعيف الأمل في أنه مستطيع أن يحمل والده على قبول نشر قصتي. ولم ألبث بعد إرسالها إليه سوى أسبوعين، كتب إليّ بعدهما يقول إن ممن يقرأون لهم اثنين نصحا لهم بعدم نشر هذه القصة، وإنه لا يستطيع أن يصنع من أجلي شيئاً!! وقد عجبت لذلك كثيراً. . .
وبعد ذلك تلقى أبي من صديقه (هنري جيمس) كتاباً يقول فيه إنه بعث بقصتي إلى الناشر (هانيمان) وطلب إليه أن يعيرها عناية خاصة. وقد كان أبي حينذاك ينظر إلى كتابتي القصصية على أنها ليست فقط مضيعة لوقتي، بل هي فوق ذلك مضيعة لنقوده أيضاً!
كان (هنري جيمس) رجلاً طيب القلب إلى أبعد حد. غير أنه لم يكن ذا ولع بأن يقرأ قصة من طراز القرن الثامن عشر؛ وقد بدا ذلك جلياً في خطابه ذاك. وإني لأقرر في هذا الصدد أنني أستطيع أن أعد على أصابع اليد الواحدة أولئك الناشرين الذين يحكمون على ما ينشرونه بمحض آرائهم الخاصة. ولعل ذلك من أشنع العيوب التي يمكن اجتلاؤها في ميدان النشر
وأكبر الظن أن القصة لم تصل إلى يدي (هانيمان) إذ بعث بها (هنري جيمس) إليه. فقد عاد بها البريد إليّ بعد ثلاثة أيام مع أن (هانيمان) كان وقتها مسافراً في مكان بعيد، كما علمت بعد ذلك. وقد أرسلت بها مرة أخرى إلى ناشر آخر لم يوافق على طبعها إلا إذا(286/36)
قمت بنفقات الطباعة! فقصدت إلى ناشر غيره رفض أيضاً، ثم إلى ناشر ثالث حجزها بضعة شهور قبل أن يرفضها هو أيضاً. وهكذا تعدد عرضي إياها على الناشرين، كما تعدد إصرارهم على الرفض. وكان أبسط نتائج هذه الحالة أنني يئست من مستقبلي ككاتب قصصي، فعدت أحاول أن أعالج المسرحية من جديد، فكتبت قصة تمثيلية جديدة وقدمتها إلى والدي ولكنه رفض إخراجها! فعزف بي ذلك عن كل رغبة في احتراف القلم؛ وبدا لي أن من الأوفق أن أجرب حظي في الاشتغال بتربية الأزهار واستنباتها، وقد أصبت في هذا العمل حظاً من التوفيق فأصررت على ألا أخط بقلمي حرفاً واحداً من قصة جديدة؛ إلا إذا طبعت قصتي الأولى (الزواج السري) ورأيتها منشورة في كتاب يجثم على مائدتي!!.
وحدث بعد ذلك أن أنذرني أبي بأنه قد بر بوعده وأمضى خمس سنين وهو يعطيني مائة وخمسين جنيهاً في العام - غير أنه لا ينوي استئناف تأدية هذا المال معاونة لي على استنبات الأزهار أو كتابة القصص! وهكذا وجدتني مرغماً على احتراف التمثيل مثله. وكان هو في ذلك الحين قد أرصد قدراً من المال لإخراج مسرحية جديدة للكاتب العظيم (هول كين) في سنة 1910 وكان في هذه المسرحية الجديدة دور يلائمني، ولم تكن أمامي عقبة سوى موافقة المؤلف (هول كين) نفسه لأقوم بأداء هذا الدور في نظير أجر أسبوعي قدره عشرة جنيهات
وأخرجت المسرحية، ولعبت دوري فيها؛ وظللنا نخرجها أسبوعاً واحداً. غير أنها جلبت عليّ بعض الحظ. فإن بعض أصدقائي الفنانين قد أخبرني بأن الموسيقي (بليسييه) كان يبحث عن شاعر يضع لفرقته بعض الأناشيد، غير أني لم ألبث أن مرضت بالتهاب في الحلق، ولكن مرضي لم يحل دون قيامي بنظم ما يريده من شعر غنائي ومن حوار موسيقي. وهكذا وجدت لدى الرجل عملاً موافقاً لمدة عام واحد كتبت خلاله قصتي الثانية الشهيرة (كارنيفال)
وفي تلك الأثناء أخبرني بعض الأصدقاء بأن (مارتن سيكر) يلح في طلب قصتي الأولى (الزواج السري)، التي كان قد قرأها قبل أن يحترف النشر وأنه يحب أن يجعلها أحد كتابين يريد أن يبدأ بطبعهما حياته العلمية كناشر. فتواعدنا على اللقاء في مشرب للشاي. وفي هذا اللقاء اتفقنا على كل ما يعنيني ويعنيه من أمر النشر، بعد أن غيرت اسم القصة(286/37)
فصار (الزواج السري) بعد أن كان اسمها إلى ذلك الحين (موارد الستار)، وقد سر المستر (سيكر) بهذا التغيير أيما سرور
كنت أختلس الفراغ بين مشاغلي لأقوم بمراجعة (بروفات) الكتاب حال طبعه، إذ كنت أعمل مع الموسيقي (بليسييه) كما قدمت، ولن يكن عملي معه يقتصر على تأليف الأغاني بل كان يتعداه إلى كثير من المهام الفنية المتصلة بطبيعة عمله. بل إني لم أكن أفرغ لمراجعة هذه (البروفات) إلا وقد نال مني الجهد وكدت أسقط من الإعياء، وقد سبب ذلك وقوع كثير من الأخطاء المطبعية المضحكة في الطبعة الأولى من الكتاب.
ولم يكن الناس يعتبرون (يناير) من شهور موسم النشر، ولكن بدا لي أن ظهور كتاب جديد لمؤلف مغمور في مثل هذا الوقت الخارج عن موسم النشر قد يكون تنبيهاً خاصاً إلى ظهوره. وقد أسفرت التجربة عن صحة حدسي. وكانت الصحف كريمة في استقبال كتابي غاية الكرم. وأفاد الكتاب من هذا كثيراً، إذ بيع منه خمسة آلاف نسخة قيمة كل منها ستة شلنات، وكان هذا العدد يعتبر ضخماً في ذلك العهد.
وينبغي أن أذكر هنا أنني أشرت على الناشر بأن يبذل غاية الجهد في سبيل الإعلان عن الكتاب في كل مكان. وقد أثر الإعلان كما كنت أرجو، إذ استلفت أنظار القراء إلى كتابي الأول.
كومبتون ماكينزي(286/38)
مدام كوري
للدكتور محمد محمود غالي
مدام كوري مكتشفة الراديوم التي ارتفعت إلى مقام نيوتن
ودريكات وباستور، أستاذة السوريون وحائزة جائزة نوبل
للطبيعة سنة 1903 وجائزة نوبل للكيمياء سنة 1911
إن الذين يعجبون في قرارة نفوسهم إعجاباً علمياً بالراديو والتليفزيون وغيرهما ويشعرون بالدور الذي ينبغي أن تلعبه مصر والبلاد الشرقية لاستكمال الانتصارات العلمية لتقدم الإنسان يهتمون ولاشك بمعرفة أخبار المعامل العلمية، فتلك الهياكل المقدسة كما يسميها باستور، هي التي يجب أن نحميها أكثر من حمايتنا لأنفسنا، إذ فيها تنمو الإنسانية وتقوى ويزدهر التنسيق العالمي، بينما الإنسان في خارجها ينساق أحياناً لأعمال بربرية وتحمس أحمق لتحطيم نفسه وتحطيم البشر
وإنه ليحلو لي في هذه الأيام التي يهتم العالم فيها بالتسلح والتسابق للتهلكة، في هذا العهد الذي يقف فيه كل عمل إيجابي لننساق إلى ما هو سلبي، يحلو لي أن أحدث القراء في أحب سير المعامل العلمية، فأحدثكم عن مدام كيري واكتشافها للراديوم: قصة وإن لم تكن قصة اليوم، وعمل وإن لم يكن وليد هذه الساعة، إلا أنها ليست بالقصة التي ننساها مع الزمن، ولا بالعمل العادي الذي يمر ككل عمل
إن عمل كيري للنجاح لا يقف عند حد، فقد كنا أمام مادة جديدة في طبيعتها وخواصها، بل كنا أمام نشاط إشعاعي حراري كهربائي، بل كنا أمام تكوين جديد للهيليوم وتحول للعناصر وتغيير فجائي في المادة، فلا عنصر بالمعني الذي كنا نفهمه، ولا ذرة غير قابلة للتجزئة، إذ في كل ثانية تمر تطرد جسيمات الراديوم ملايين من ذرات الهيليوم بقوة كبيرة. على أن بقايا هذا الانفجار هي ذرات غازية تتحول هي أيضاً إلى جسم إشعاعي آخر، ثم يتحول هذا من جديد، وهكذا سلسلة من الأعضاء كل عضو في أسرة سلالة آبائه الذين تحولوا إليه. فالبولونيوم من سلالة الراديوم، والراديوم من سلالة الأيرانيوم، وهذه الأجسام التي تتكون في كل لحظة تنعدم من جديد وفق قانون أزلي، وهكذا في المادة الصماء التي كنا(286/39)
نعتقد جمودها نجد عالماً حافلاً بالمواليد والوفيات والحوادث والاصطدامات. فيه صورة للحياة وفيه طريق للموت
هذه الحقائق الأولى التي كانت نتيجة لاكتشاف الراديوم عظيمة إلى أقصى درجات العظم، فهي تظم فلسفة جديدة وتفكيراً جديداً وعلماً يختلف عن كل ما تقدمه، ونتائج تقلب ما ألفناه، حتى كان على الفلاسفة أن يبدءوا فلسفتهم من جديد، وعلى الطبيعيين أن يعيدوا في ضوء هذه الحقائق بناء العلم الحديث
ولا يمكن في مقال واحد أن نستعرض الانقلاب الذي حدث من جراء اكتشاف الراديوم في التفكير الطبيعي أو في الناحية الرياضية أو الجيولوجية. لقد كان له في هذه العلوم أثر كبير، وكان له في الناحية الطبية معجزة أخيرة فإن الراديوم يلعب دوراً في سعادة الإنسان. وعلى حد تعبير أيف كتابها عن والدتها: (قد تحالف الراديوم مع البشر ضد المرض خبيث هو السرطان)
وقد ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها في كلية العلوم مساء الأربعاء 30 نوفمبر بمناسبة الذكرى الأربعينية لاكتشاف النشاط الإشعاعي النتائج الأولى لاكتشاف الراديوم وهي المحاضرة التي بسطتها في حديث في نفس المساء من محطة الإذاعة اللاسلكية، كما ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها في يوم الأحد 27 نوفمبر سنة 1938 في كلية الطب وهي المحاضرة الرابعة في أسبوع السرطان النتائج الأولى لفالكوف وجيزل اللذين بينا ما للراديوم من التأثير الفسيولوجي. كما ذكرت علاقة هذه النتائج بالأبحاث التي قام بها بيير كيري الذي عرض ذراعه لفعل الراديوم، وذكرت دراسته الخاصة بأثر الراديوم في الحيوان واشتراك أطباء من أعلام الطب مثل بوشار وبالتازار اللذين اقتنعا من اللحظة الأولى في (تيرابي) جديدة سموها كيري تيرابي من اسم مدام كيري، كما نوهت بأعمال دولوس ودجريه وفيكام وغيرهم، وهم الذين كانوا أسبق الأطباء إلى استعمال الراديوم بنجاح في الأغراض الطبية)
وهكذا لم يصبح الراديوم موضوعاً خاصاً بالعلوم البحتة والعلوم التجريبية فقط بل أصبح مادة لازمة ونافعة، وهكذا لم ينشأ علم جديد فحسب بل نشأت صناعة جديدة أيضاً
ولنبدأ الآن في سرد الوقائع التي أدت إلى اكتشاف الراديوم والنشاط الإشعاعي بعد أن(286/40)
اكتشف رنتجن أشعة عرض هنري بوانكاريه الرياضي الفرنسي المعروف بتكهناته العديدة في جلسة بالمجمع العلمي الفرنسي أول لوح فوتوغرافي أخذ بهذه الأشعة وفكر مع بكارل فيما إذا كانت هناك أشعة أخرى غير الأشعة السينية من نوعها يكون مصدرها الأجسام الفلورية أي الـ عند تعرضها للضوء
فامتحن هنري بكارل أملاح بعض المعادن النادرة (الايران) وبدل أن يقع على الظاهرة التي يتوقعها مع زميله بوانكاريه وجد ظاهرة أخرى تختلف عن الأولى كل الاختلاف. ذلك أن ملح الايرانيوم تنبعث منه دون تأثير سابق للضوء أشعة طبيعتها غير معروفة. ومما يجدر بالذكر أن تجارب بكارل كانت تنحصر في أن يعرض الايرانيوم لضوء الشمس ثم يضعه على اللوح الفوتغرافي ليرى أثر الإشعاع الذي اكتسبه من الشمس، وقد حدث أن الجو ظل قاتماً في باريز بطريق الصدفة ثلاثة أيام متتالية (يقول سودي في كتابه ثلاثة أسابيع) في وقت كان قد نسي فيه بكارل قطعة من الايرانيوم على لوح فوتوغرافي مغطي بورقة سوداء رغم عدم تعرض هذه القطعة لضوء الشمس. وقد تأكد بكارل أن هذه الخواص لا تتعلق بتعرض سابق للشمس، بل إن هذه الإشعاع يستمر مهما طالت المدة التي تحجز فيها قطعة من الايرانيوم في الظلام. وهكذا اكتشف بكارل في الواقع الظاهرة التي أسمتها مدام كيري فيما بعد بالنشاط الإشعاعي
وكانت ماري سكلودوفسكا (مدام كيري فيما بعد) قد انتهت من حصولها على ليسانس العلوم في السوربون بباريز وشرعت تبحث عن مكان للبحث في المعامل التي يريدها في ذلك الوقت الأستاذ لبمان والتي يديرها اليوم أستاذي الكبير كوتون رئيس المجمع العلمي الفرنسي، وكانت تتجه في ذلك الوقت إلى بحث الأمواج اللاسلكية، فلم تجد مكاناً لها بالعمل وكانت تطالع النشرات الأخيرة للمجمع العلمي الفرنسي علها تجد مبحثاً آخر لا يحتاج للأدوات العديدة التي يحتاجها الموضوع الأول (الذي كما ذكر (سودي) حضرت فيه درجة أستاذ في العلوم) وإنه ليسرني أن أسرد هذه الوقائع في مصر لأول مرة هذا الشهر وهي التي استقيتها من الأستاذ الكبير جييه أثناء إقامتي الطويلة بالسوربون. وما كان أسعد حظ العالم عندما طالعت مدام كيري نشرة بكارل الخاصة بإشعاع الأيرانيوم
لفليب فرانك أستاذ جامعة براج دراسة فلسفية في مناقشة الأسباب والمسببات وكتاب لاقينا(286/41)
صعوبة في دراسته، ولأميل بورل الوزير السابق وأستاذ السوربون دراسة هامة في موضوع الصدفة والاحتمالات. ولو أنهما في دراستهما للأسباب والمصادفات أرادا أن يجدا مثلاً أعلى يضربانه لحدوث المصادفة والمصادفة السعيدة للعالم، لاعتبرا الساعة التي طالعت فيها مدام كيري نشرة بكارل من الساعات السعيدة للعالم! ومن يدري فإن مركزنا العلمي اليوم وطريقة فهمنا للأشياء في العلوم الطبيعية، في نظرية الكم وغيرها، كان يتغير تغييراً كلياً، لو أن كيري لم تطالع هذه النشرة من نشرات المجمع العلمي
لقد شغلت أشعة بكارل ذهن مدام كيري: من أين هذا النشاط؟ وما هي طبيعته؟ هذا موضوع شائق للبحث. هذه تصلح رسالة تحضرها بعد أستاذية العلوم للحصول على دكتوراه الدولة في العلوم. هذه أرض عذراء للعمل والإنتاج، فأعمال بكارل حديثة لم يتعمق أحد في كل المعامل البحث في أوربا فيها، فلا كتب ولا نشرات علمية ولا مقدمات غير هذه النشرة الخالدة لبكارل التي تحمل سنة 1896 مولد الكثير من الأحياء منا
وهكذا احتوت مدام كيري حجرة خالية من وسائل التدفئة ليست بالسوربون بل بفناء مدرسة الطبيعة بشارع لوموند، ولا يهم المشتغل بالأبحاث العلمية في جامعة كبيرة كالسوربون سوى السماح له بمكان يعمل فيه، وعلى الذين يقصرون عنايتهم على المباني فينفقون عليها الأموال الطائلة أن يتذكروا أن المباني ليست كل شيء، فالجامعات لم تكن يوماً أعمدة وصالات ونواقيس وأبراج، إذ من تلك الحجرة المتواضعة خرجت أبحاث الراديوم للعالم منتصرة مؤذنة بعصر جديد، تلك الأبحاث التي استحقت عليها مدام كيري جائزة نوبل مرتين
وقد بدأت أعمالها بأن تقيس قوة إشعاع الأيرانيوم وتوصلت في المبدأ لقواعد عامة غاية في الأهمية، منها أن قوة الإشعاع تتناسب مع كمية الأيرانيوم وأن الإشعاع لا يتأثر بالتفاعل الكيميائي للأيرانيوم ولا بالعوامل الخارجية كالحرارة والضوء
يحدث كثيراً في العلوم التجريبية أن ظواهر لا تجد تفسيراً في المبدأ ويحار الباحث في تعليلها، ولكنه لا يلبث أن يجد التفسير في قوانين معروفة وسابقة فيقف التجديد في هذه الناحية عند هذا الحد. أما هذه الملاحظات الأولى وغيرها لمدام كيري فقد كانت على عكس ذلك، إذ ظهر لها أنها أمام ظواهر جديدة وأن أصل الإشعاع لابد وأن يكون خواص(286/42)
جوهرية للذرة نفسها
وقد تساءلت فيما إذا كان هناك أجسام أخرى لها هذه الخاصية من الإشعاع، فتركت مؤقتاً دراسة الأيرانيوم إلى دراسة كل الأجسام الكيميائية المعروفة، فوجدت أن لمركبات مادة أخرى اسمها (التوريوم) إشعاعاً له نفس القوة
وهكذا وجدت أن ظاهرة الإشعاع لم تكن خاصة بمادة دون الأخرى، لذلك سمتها النشاط الإشعاعي وسمت الأجسام التي لها هذه الخواص عناصر مشعة
ولقد كانت مدام كيري متعطشة للمعرفة لأقصى حد، وهي صفة من صفات العلماء، فبدل أن تحصر دراستها في المركبات البسيطة بدأت تفحص جميع العينات التي كان يختارها معها بيير كيري والموجودة بطريق الصدفة في مدرسة الطبيعة فتضعها الواحدة بعد الأخرى أمام الألكتروسكوب. وقد حصرت مجهودها في جميع العينات التي تحوي فقط الأيرانيوم أو التوريوم، وهنا كانت المفاجأة الكبرى والنتيجة غير المتوقعة فقد وجدت أن الإشعاع هذه المرة أقوى بكثير جداً من الإشعاع الذي تسببه نفس الكمية الموجودة من الأيرانيوم أو التوريوم في هذه العينات
وقد اعتقدت مدام كيري أن هذه المفاجأة قد تكون وليدة خطأ في سير التجارب نفسها، ومن عادة الباحثين أن يجعلوا الشك في العمل أولى دائماً من الاعتقاد بالوصول إلى شيء جديد، ولكن كيري أعادت هذه التجارب عشرات المرات دون أن يتغير الموقف، ولم يكن للعالمة سوى مخرج واحد وتفسير واحد هو ضرورة احتواء هذه المعادن على مادة أكثر إشعاعاً من الأيرانيوم والتوريوم. ولكن ما هي هذه المادة يا ترى، ونحن نعلم أن مدام كيري كانت قد قامت بتحليل كل العناصر الكيميائية؟
لقد أجابت مدام كيري على هذا السؤال بشيء من الثقة بالنفس، إجابة هي طابع كبار العلماء، فوضعت فرضاً جديداً ورأياً جريئاً، هو أن هذه المادة عنصر جديد غير العناصر التي نعرفها ورجحت وجود عنصرين لا عنصر واحد
هكذا اكتشفت مدام كيري وقرينها عنصري البولونيوم، نسبة إلى بولونيا موطنها الأصلي، ثم الراديوم الذي يزيد إشعاعه على مليون مرة بالنسبة لإشعاع الايرانيوم الذي اكشفه بكارل، وهكذا تمت الخطوات الخمس من اكتشاف الراديوم والنشاط الإشعاعي(286/43)
الخطوة الأولى: اكتشاف أشعة وملاحظة بونكاريه وبكارل
الخطوة الثانية: النشرة التي وقعها بكارل سنة 1896 عن اكتشاف خواص الايرانيوم
الخطوة الثالثة: النشرة التي وقعتها كيري بمفردها عن اكتشاف خواص التوريوم
الخطوة الرابعة: اكتشافها مع قرينها البولونيوم، على أثر ملاحظتها الشخصية عن زيادة الإشعاع في مركبات تحوي مواد مشعة إشعاعاً ضعيفاً
الخطوة الخامسة: اكتشافها مع بيير كيري وبمون الراديوم
وإذا ألقينا نظرة على ما نشر بعد اكتشاف بكارل ثبت لنا بلا جدال أن الدور الهام بين الثلاثة الذين تكاتفوا في الأيام الأولى لاكتشاف الراديوم كان لمدام كيري (ماري سكلودوفسكا في ذلك الوقت)، ولعل أعظم هذه الأيام ذلك اليوم التاريخي الذي دخلت فيه ماري معمل لبمان بالسوربون لتكتب نشرتها الخالدة للمجمع العلمي الفرنسي المؤرخة 12 أبريل سنة 1898، والتي بينت فيها زيادة الإشعاع في مادة بها ايرانيوم عن الأيرانيوم نفسه والتي استنتجت فيها العناصر الجديدة
ولقد انحصرت المسألة بعد ذلك في عمل مضن طويل لعزل هذين العنصرين البولونيوم والراديوم، حيث تطالع في النشرات الخاصة بوجودهما أسماء مدام كيري وبيير كيري وبيمون، وحيث نرى كلمة راديوم لأول مرة في نشرة وقعها الثلاثة معاً في 26 ديسمبر سنة 1898، وحيث نعلم أنه لتحضير أول ديسجرام من الراديوم قضت مدام كيري وقرينها أربعة أعوام في هذه الحجرة الخالية من وسائل التدفئة بل في هذه السقيفة المجهولة، وهي الكمية الأولى التي كانت لازمة لتواجه بها علماء الطبيعة والكيمياء والتي استطاعت أن تحسب بواسطتها الوزن الذري للمادة الجديدة التي وضعتها في جدول العناصر
ومما يجدر بالذكر أنه عندما قرر المجمع العلمي باستوكهولم إعطاء جائزة نوبل للطبيعة في نوفمبر سنة 1903 قرر منحها لبكارل ومدام كيري وبيير كيري
(للكلام بقية)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون(286/44)
رسالة من باريس
بعض الدكاترة الفخريين
الذين منحوا الدكتوراه الفخرية في فرنسا هذا العام
للباحث الأديب مصطفى زيور
- 3 -
العلامة تزنت جيورجي
لا يمكن أن تذكر مسألة الفيتامين دون أن يذكر اسم العلم البيولوجي والطبيب المجري تزنت جيورجي؛ فإذا علمنا أن مسألة الفيتامين كسبت في ثلاثة السنوات الأخيرة أهمية جديدة بما أحرزته البحوث فيها من تقدم كبير، وبما ألقته هذه البحوث من ضوء جديد على طائفة من أهم مسائل علم الحياة، فإننا نفهم كيف أن جائزتين من جوائز نوبل تمنحان هذا العام للعالمين هما تزنت جيورجي و (كارر) اللذان وقفا مجهوديهما على البحث في هذه المسألة، وكيف أنهما يفوزان في نفس العام بالدكتوراه الفخرية من باريس، بحيث يمكننا أن نقول إن عام 1938 هو عام الفيتامين.
ولكي نقدر مجهود هذين العالمين ونفهم خطورة أبحاثهما، أرى من الواجب أن أقدم لذلك بكلمة تاريخية قصيرة في مسألة الفيتامين، حتى يتبين كيف أن هذه المواد التي كانوا يصفونها منذ بضعة سنوات بأنها (غامضة) أو (خفية) أصبحت من الأشياء التي يحضرها الكيميائي في معمله بل يركبها تركيباً صناعياً من مواد بسيطة محاكياً في ذلك الوظائف الحية، ويضعها في أوعية يأخذها إلى الطبيب ليعالج بها مرضاه.
نشأت فكرة الفيتامين حوالي سنة 1912 على اثر ملاحظات وتجارب عديدة قام بها الأطباء من ناحية وعلماء وظائف الأعضاء من ناحية أخرى، أدت إلى فكرة وجود مواد طبيعية في الأغذية وظيفتها حفظ التوازن الحيوي ودرء أمراض معينة.
أما ملاحظات الأطباء فقد كانت في الأمراض الآتية:
(1) - مرض البري بري: (لفظ من أصل سنغالي معناه الضعف) وهو مرض منتشر في شرق آسيا ويظهر على أحد شكلين: شكل يتميز بالشلل وضمور العضلات، وشكل يتميز(286/46)
برشح المصل الدموي في الأنسجة فيحدث أوراماً مائية مصحوبة بأعراض خطيرة مختلفة لا تلبث أن تؤدي بالمريض إلى الموت.
(2) - مرض الاسخربوط (سكوربيك): كما سماه الهولنديون (لعلها من الألمانية القديمة ويسميه الفرنسيون والإنجليز ينتاب هذا المرض المعروف منذ أبقراط سكان المدن الواقعة تحت الحصار والنوتية الذين يقلعون في أسفار طويلة، أي كلما اقتصر غذاء الإنسان على الأطعمة المحفوظة لمدة طويلة. وتبدأ أعراضه بأورام وأوجاع في المفاصل ونزيف في اللثة لا يلبث أن يشمل باقي الأعضاء فيهزل الجسم ويدنو المريض شيئاً فشيئاً من نهاية محزنة.
(3) - مرض البلاجدا: مرض معروف في بعض أرياف مصر وفي جنوب أمريكا وبعض بقاع جنوب أوربا، يتميز بطفح جلدي خاص (ومن هنا جاء اسمه: من اللاتينية أي جلدو أي خشن) ثم باضطرابات في القناة الهضمية مصحوبة بالإسهال، وأخيراً بهزال شديد ثم باضطراب عصبياً وعقلية مصحوبة بالهذيان فالموت.
(4) - الكساح: وهو مرض ينتاب الأطفال فيضطرب نمو عظامهم وينتج عن ذلك اعوجاج في العمود الفقري والأطراف.
(5) - كرتومالاسي: وهو مرض في قرنية العين لدى الأطفال فلا تلبث أن يصيبها العطب وتصحبه قابلية شديدة للعدوى بالأمراض العفنة.
لم يغب عن الأطباء طويلاً أمر هذه الأمراض، فقد تبينوا منذ القرن السابع عشر أن مرض الاسخربوط يصيب من امتنع عن الخضروات والفواكه الطازجة، كما لاحظوا فيما بعد أن مرض البري بري يحل في الشعوب التي يتألف غذاؤها الرئيسي من الأرز المقشور (كما في الصين وفي اليابان)، وأن البلاجرا تنال من الجماعات التي تقتصر في غالب الأمر على الذرة (كما في بعض أرياف مصر ورومانيا وأسبانيا. الخ)، وأن الكساح يصيب من الأطفال من ساءت تغذيته وحرم ضوء الشمس. أما كرتومالاسي فينتاب من الأطفال من بودر بتغذيته غذاء قوامه دقيق الحبوب. وهكذا تبين لهم أن السبب في جميع هذه الأمراض يرجع إلى تغذية سيئة تقوم على نوع بعينه من الطعام، أو على طعام أحاله القشر وما إليه من العمليات الصناعية إلى غذاء ناقص، ومن ثم لم يكن من الصعب أن يجدوا العلاج لهذه(286/47)
الأمراض: أرز كامل بدلاً من الأرز المقشور ضد البري بري، والفواكه والخضروات الطازجة ضد الاسخربوط، وغذاء متنوع ضد البلاجرا، وضوء الشمس ضد الكساح، وأخيراً زيت سمك الحوت ضد هذا المرض وضد كرتومالاسي. ويلاحظ أن الأطباء كانوا يصفون زيت السمك دون أن يعرفوا فائدته في شفاء الكساح، كما يلاحظ أن بعض وسائل العلاج لهذه الأمراض، وقعت عليها الجماعات من تلقاء نفسها بمجرد التجربة اليومية، فقد كان سكان النرويج يعالجون من أصابه مرض الاسخربوط بشيء من عصير البرتقال. ومما يلفت النظر أن مقداراً تافهاً من هذا العصير - وهذه نقطة رئيسية في فهم طبيعة عمل الفيتامين - يكفي للوقاية من هذا المرض الخطر.
أما بحوث علماء وظائف الأعضاء التي قاموا بها مستقلين عن الأطباء وأدت إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الأطباء، فقد كانت ترمي إلي دراسة غذاء الإنسان ودراسة كميتة وكيفيته لمعرفة المواد الغذائية اللازمة وحفظ توازنه الحيوي، وتحديد المقادير والصفات الكيميائية التي لا مندوحة عنها حتى يكون الغذاء كاملاً.
كان محصولنا في الكيمياء البيولوجية عند بدء هذه البحوث بحيث لم يلبث علماء وظائف الأعضاء أن تبينوا ضرورة ثلاث مواد عضوية رئيسية هي: البروتيد أي المواد الزلالية، والليبيد أي المواد الدهنية، والجلوسيد أي المواد النشوية السكرية، ثم بعض الأملاح المعدنية مثل كلورور الصوديوم أي ملح الطعام وأملاح الحديد والكلسيوم، وأخيراً مقدار من مواد غير قابلة للهضم مثل السليلوز لتنبيه الأمعاء على القيام بوظيفتها في الطرد. هذه هي المواد التي رأى علماء وظائف الأعضاء في بادئ الأمر ضرورة وجودها بمقادير خاصة في غذائنا حتى نحصل على حاجتنا من الطاقة من جهة وعلى المواد اللازمة لبناء أنسجتنا وإصلاح ما تفقده منها من جهة أخرى.
وطبقاً لمبدأ التحقيق التجريبي في البحث العلمي بادر علماء وظائف الأعضاء بتغذية بعض الحيوانات المستعملة في المعامل لهذا الغرض (مثل الفيران والأرانب وغيرها) بمقادير معينة من هذه المواد للتحقيق من قيمة النتائج التي أوصلتهم إليها البحوث الكيميائية السابقة. وإليك مثلين تاريخيين لهذه التجارب:
في سنة 1881 عمد (لونين) السويسري إلى فيران يغذيها باللبن فبقيت عدة أشهر في(286/48)
صحة جيدة، حتى إذا بدأ يغذيها بالمواد العضوية الرئيسية التي يتركب منها اللبن أي الكازبين وهو زلال اللبن ثم الزبد وهو مادته الدهنية ثم اللكتوز وهو سكر اللبن وأضاف إليها المواد المعدنية التي يحتوي عليها اللبن - رأى لونين هذا الغذاء لا يلبث أن يورث الفيران انحرافاً فتضطرب صحتها وتموت، والنتيجة المنطقية من هذه التجربة أن اللبن يحتوي على مواد لازمة للحياة غير المواد المعروفة إلى ذلك الوقت.
وهاهو ذا (هبكنز) الكيميائي الإنكليزي الكبير يقوم حوالي 1906 بتجربة مشابهة فيعمد إلى فيران يطعمها غذاء مكونا من المواد الآتية: زلال اللبن والسكر والنشا وشيء من دهن الخنزير وبعض المواد المعدنية، فلا تلبث هذه الفيران أن يقف نموها وتهزل، حتى إذا أضاف إلى غذائها ثلاثة سنتيمترات مكعبة من اللبن يومياً أي ما يساوي نصف ملعقة صغيرة تقريباً، فإنها تبل مما أصابها وتتقدم صحتها. ولكن هذا المقدار من اللبن لا يمكن أن يعتبر غذاء في ذاته لقلته؛ إذن النتيجة المنطقية من هذه التجربة أن الأغذية الطبيعية تحتوي زيادة على المواد الأربعة الرئيسية المعروفة (الزلاليات والدهنيات والنشويات والمعدنيات) على مقادير صغيرة من مادة طبيعية أخرى لازمة للحياة تقوم بوظيفة (العامل المساعد) في التغذية كما يقول هبكنز، أي كما يحدث في التفاعلات الكيميائية العادية كأن يضاف قليل من ثاني أكسيد المنجنيز إلى كلورات البوتاس حتى يساعدها على التفاعل واستخلاص الأكسجين الذي تحتوي عليه.
والآن يمكننا أن نتبين كيف نشأت فكرة الفيتامين على أثر ملاحظات الأطباء وتجارب علماء وظائف الأعضاء التي لم يكن بينها علاقة في بادئ الأمر. لاحظ طبيب هولندي كان يعمل في مستشفى الحكومة في جاوة حيث كان ينتشر مرض البري بري بين الأهالي، أن الفراخ الموجودة في فناء المستشفى والتي كانت تتغذى بالأرز المقشور - وهو الغذاء الرئيسي للأهالي - كان يبدو عليها أعراض مرض يشبه مرض البري بري. فما لبث أن نشأت لديه فكرة وجود علاقة بين الغذاء المكون من الأرز المقشور وبين ظهور أعراض هذا المرض، ومن ثم بادر بإعطاء هذه الفراخ (ردة) فشفيت مما أصابها. على أثر هذه التجربة عمد كيميائي بولوني يدعى فونك حوالي سنة 1912 إلى قشر الأرز يستخلص منه (العنصر) الفعال في شفاء البري بري، فنجح في استخلاص مادة فعالة، ولو أعطيت(286/49)
بمقادير صغيرة، ولما كانت هذه المادة تحتوي على وظيفة أمينية (وظيفة قلوية تحتوي على الآزوت ومنتشرة في المواد العضوية)، ثم لما كانت وظيفة هذه المادة حفظ التوازن الحيوي فقد دعاها فيتامين (فيتا اللاتينية أي حياة وأمين الخاصة الكيميائية) وهكذا وجدت كلمة جديدة في لغة العلم بل فكرة عامة جديدة لأن هذه الكلمة لم تلبث أن عمت وأطلقت على مختلف المواد العضوية الغذائية اللازمة بمقادير صغيرة لحفظ توازن الحياة.
ولكن العلم لا يدين للكيميائي فونك باكتشافه الكيميائي فحسب، بل إن هذا الاكتشاف على خطورته لم يكن نهائياً من الناحية الكيميائية، لأن المادة التي استخلصها لم تكن (العنصر) الفعال في شفاء البري بري ولكنها مادة تحتوي على ذلك العنصر كما تحتوي على عناصر أخرى استخلصت في حالة النقاء فيما بعد، ومن ثم لم يمكنه تحديد تركيبها الكيميائي. يدين العلم لفونك قبل كل شيء بإدراكه العلاقة بين ملاحظات الأطباء المبعثرة من جهة وتجارب علماء وظائف الأعضاء من جهة أخرى، كما يدين له بإدراكه خطورة اكتشافه وتعميم فكرته على مواد لم تكن بينها رابطة واضحة في بادئ الأمر.
ويمكننا الآن بعد هذه المقدمة أن نعرف الفيتامين: (بأنها مواد عضوية لازمة بمقادير صغيرة لنمو الجسم وحفظ توازنه الحيوي وقدرته على التناسل، مواد يجب أن يحتويها غذاؤنا (أو على الأقل يحتوي على المواد التي يمكن للجسم أن يؤلف منها حاجته) وإلا انحرفت الصحة ولحق الجسم أمراض معينة)
وهاهي ذي أنواع الفيتامين المختلفة التي استخلصت في حالة النقاء وتمت دراسة تكوينها الكيميائي بل ركبت تركيباً صناعياً من مواد بسيطة.
(1) فيتامين ا: (أو: أكسروفرول) وهو مادة لا تذوب إلا في المواد الدهنية مثل زيت السمك والزبد، وتوجد فوق ذلك في كثير من النباتات على شكل مادة يدعونها (كاروتين) نسبة إلى كاروت أي الجزر لأنها المادة الملونة للجزر) يحولها الجسم إلى فيتامين ا، وأهم هذه النباتات هي الجزر ثم السبانخ والطماطم والخس والذرة ثم كثير من النباتات الخضراء ذات الكلوروفيل (أي مادة النبات الخضراء) لأن الكاروتين يوجد عادة بجانبها وإن غلب لون الكلوروفيل لون الكاروتين. يقوم هذا الفيتامين بوظيفة العامل المساعد في النمو والوقاية من الأمراض العفنة ومن مرض يصيب قرنية العين يدعى كسروفتالمي (ومنه اسم(286/50)
الفيتامين ا: أكسيرفرول)
(2) فيتامين د: (أو: كالسفيرول) وهو مادة لا تذوب كالمادة السابقة إلا في المواد الدهنية، توجد في زيت السمك واللبن وصفار البيض ولا تكاد توجد في غير ذلك من الأطعمة، وظيفتها مساعدة عنصر الكلسيوم اللازم لبناء العظام على الاندماج في هذا البناء، فإذا ما خلا الغذاء من الفيتامين د وخاصة لدى الأطفال بقي الكالسيوم الذي نحصل عليه من المواد الغذائية دون أن يدخل في بناء العظام وطرد من الجسم في النهاية مع الإفرازات وتكون النتيجة أن يصيب الأطفال اضطراب في نمو عظامهم يورثهم الكساح.
(3) فيتامين هـ: (أو: توكوفيرول) وهو مادة لا تذوب كالمواد السابقة إلا في المواد الدهنية، توجد في بذور الحبوب وخاصة القمح ثم في الخس. ووظيفتها مساعدة القدرة على التناسل ويحدث عدمها عقماً في الذكر وفي الأنثى.
(4) فيتامين ج: (أو: حامض آسكوربيك) وهو مادة تذوب في الماء منتشرة في النباتات وعلى الأخص في الفواكه الطازجة مثل البرتقال والليمون والعنب والموز، وفي الخضروات مثل الطماطم والخس والإسباناخ والكرنب والفاصوليا الخضراء الخ ووظيفتها كما سأبين ذلك بالتفصيل مساعدة تفاعلات الاحتراق والاختزال في الأنسجة وينتج من عدمها مرض الاسخربوط. ويتميز هذا الفيتامين بشدة حساسيته للحرارة والتأكسد بأكسجين الهواء.
(5) فيتامين ب1: (أو: أنورين) وهو مادة تذوب في الماء لا توجد إلا بمقادير تافهة في بعض المواد الغذائية مثل بذور الحبوب وخميرة البيرة وبعض البقول وصفار البيض واللبن بعض الخضروات. وظيفتها مساعدة الأحماض الناتجة من اختمار النشويات أن يكتمل تحللها.
وينتج من عدم الفيتامين ب1 نقص في هذا التحلل فيصيب الأعصاب تسمم من هذه الأحماض يورث مرض البري بري.
(6) فيتامين ب2: (أو: لاكتوفلافين) وهو مادة ملونة تذوب في الماء منتشرة في الفصيلتين النباتية والحيوانية، وتوجد على الأخص في اللبن ومصل اللبن (السائل الذي ينفصل عن اللبن إذا تخثر) وظيفتها مساعدة تمثيل المواد النشوية، وتدخل هذه المادة في تكوين خميرة(286/51)
بيولوجية هامة تدعى الخميرة الصفراء أو خميرة التنفس وظيفتها مساعدة تفاعلات الاحتراق والاختزال في الأنسجة أي التنفس داخل الأنسجة كما يفعل فيتامين ج؛ وينتج من عدم فيتامين ب2 اضطراب في تمثيل المواد النشوية ولذلك يصفونها دواء في بعض حالات مرض السكر.
وهناك عدة أنواع أخرى من الفيتامين لم يعرف بعد تركيبها الكيميائي بالدقة وأهمها الفيتامين الواقي من البلاجرا ثم الفيتامين المدر للبن ثم الفيتامين الواقي من عطب يصيب جدار قنوات الدم الشعرية.
والآن بعد هذه المقدمة يمكننا أن نتناول بحوث تزنت جيورجي
(للكلام صلة)
مصطفى زيور(286/52)
رد على باحث فاضل
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية ما نشر في العدد 284)
أن معنى النظر في العالم المنظور هو النظر الحر من أوجه العالم المشهودة بدون أن يشوب هذا النظر اتجاهات مستنزلة من النظر الغيبي، والبحث عن الخالق عن طريق الطبيعة نظرة للطبيعة ولكن مشوبة بالنظر الغيبي. إذن فمتى سبق الشرق الغرب بمثل هذه النظرة الحرة للأشياء من أوجهها المشهودة؟ أليس اليونان أول من أطلقوا العقل من عقاله وحرروه من الخضوع في اتجاهاته للنظر الغيبي، وأعادوا العقل إلى مكانه الصحيح في عالم الشهادة؟
وبعد فيظهر أن باحثنا المفضال، متأثراً بعقليته الشرقية من جهة وبعدم تفهمه ما وراء عباراتنا من معان من جهة أخرى، انساق لاعتراضات ومواقف ليست من الحقيقة في شيء. ولا أدل على ذلك من تعليقه على رأينا (من أن الجانب العلمي والفلسفي من الثقافة الإسلامية نتيجة للأخذ بأساليب الفكر اليوناني) بقوله: (ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟) ونحن إزاء هذا التساؤل لا نملك أنفسنا من السخط لا على أن باحثنا أتى بشيء ليس لنا قبل برده؛ ولكن لاعتراضه على حقيقة معروفة للجميع بمثل هذا التساؤل الذي لا يعني شيئاً غير قصور صاحبه عن الوقوف على تأثير الفكر اليوناني في نشأة الثقافة الإسلامية. يقول البروفسور نيلينو المستشرق الإيطالي المعروف في كتابة تاريخ علم الفلك عند العرب ص 141 ما نصه:
(في أواخر مدة الدولة الأموية، ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحاً أثناء المغازي المتواصلة والفتوح من أقصى بلاد ما وراء النهرين في تركستان إلى منتهى المغرب والأندلس. فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان وغلبت على ألسنتهم الأصلية فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو ملة لا يستخدمون في الإنشاء أو التأليف إلا لغة العرب. فابتدأت وحدة الدين تستوجب وحدة(286/53)
اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد)
وقد قلنا في نفس هذا المعنى شيئاً في كتابنا (الرسالة الأولى من مصادر التاريخ الإسلامي) ص 37 - 83 (طبع 1936 - الإسكندرية)
(لقد فتح العرب البلاد وملكوا الأمصار عن طريق الحرب وقد نجحوا في نشر الإسلام في الأمم المغلوبة. ودخول هذه الأمم الإسلام جعلهم يخضعون لروح الإسلام الديني والاجتماعي إلى حد. إذ لم يكن هؤلاء إلا أبناء تواريخ مجيدة وحضارات تليدة فسرعان ما رأيناهم قادة المدنية الإسلامية في ساحات التفكير والحضارة. . . دخل أبناء هذه الأمم الإسلام وهم يحملون في تضاعيف عقولهم مرونة فكرية، وبين ظهرانيهم كانت مذاهب دينية متعددة في انتشارها من الوثنية إلى المسيحية في صورتيها النسطورية واليعقوبية، وكانت عقولهم تحمل في طياتها بذور المدنية اليونانية كما نقلها لهم اليعاقبة، ولم تخل أذهانهم من منازعات ستة قرون في المسائل الدينية
دخلوا الإسلام فمحا كل هذه المظاهر من عالم الشعور، ولكنه لم يمحها من طيات النفس وعالم اللاشعور، فأثرت هذه العوامل على مر الزمن عن طريق غير شعوري في تعاليم الإسلام فظهر علم الكلام
فإذا كان علم الكلام وهو من أخص العلوم الإسلامية، ظهر تحت تأثير الامتزاج الغريب بين العناصر الثقافية المختلفة في كيان الشرق العربي مع غلبة للعنصر الثقافي اليوناني في هذا الامتزاج، فلا شك أن مثل الدعوى التي يقدمها باحثنا الفاضل بأن العلم والفلسفة في تاريخ المدنية الإسلامية يرجعان إلى أصل من الإسلام في القرآن، دعوى لا تجد لها ما يسندها من حقائق التاريخ الإسلامي وفلسفة هذا التاريخ
ونقطة أخرى من نقط اعتراضات كاتبنا (باحث فاضل) فهو يعلق على قولنا (انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وانتهى الغربي إلى أنه قديم) بأن معنى حادث عند متكلمة المسلمين لا تدل على تاريخ معين، وإنما أراد بها المتكلمة أن العالم حادث بالنسبة للخالق، ونحن نقول: من ذا الذي أنبأ صاحبنا بأننا لا نعني من كلمة حادث ما يعنيه المتكلمون، ونحن ننسبها لأصحاب الكلام من المسلمين. والمسألة عندي أن الشرقي يعتقد أن العالم(286/54)
حادث على الوجه الذي تكلم به الإمام الغزالي، والغربي يعتقد أن العالم قديم على الوجه الذي تكلم به ابن رشد فيلسوف قرطبة، و (تهافت الفلاسفة) و (تهافت التهافت) هو الحد الفاصل بين هذين الاعتقادين: اعتقاد في حدوث العالم من جهة المتكلمين، واعتقاد في مقدمه من جهة الغربيين انتهت إلى صورة في الفكر الإسلامي على أنها من آراء الفلاسفة الواجب تكفيرهم من أجلها. وبعد فهذه المسألة معروفة لطالب الثانوي من طلبة المعاهد الدينية في مصر، وهم يدرسونها في علم التوحيد (الكلام) فكيف بعد ذلك يسمح كاتبنا المفضال لنفسه أن يتخذ من هذه الأولية مثاراً لاعتراض؟!. . .
هذا وقد وقف الفاضل في القسم الثاني من تعليقه في الرسالة يغمز غمزات ويدير الكلام على وجه لا يتفق مع الحقيقة، من ذلك أنه علق على قولنا (انتهى الغربي إلى أن إرادة الله مقيدة بنظام الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار بعبارة من عنده قائلاً: كلام من؟ وأي كلام هذا؟. . .
أما كلام من؟ فالإجابة هينة: هو رأي الفكر الغربي إذا ما آمن بالله! وإذا أراد باحثنا الفاضل أكثر من ذلك قلنا له إنه رأي الفلاسفة من المسلمين ذلك أن هذا الرأي قائم على الاعتقاد بأن وجود العالم صادر عن الله بطريق التعليل. أما استنكار الكاتب هذا الكلام فليس لنا في هذا الكلام شيء فنحن نقرر الواقع، ولكن لنا أن نتساءل: لم هذا الاستنكار؟
أليس هذا رأيا يدرسون في كلية (أصول الدين) بالأزهر دلائله ويناقشونها مناقشة جدلية صرفة؟ أليست كتب الكلام فيها عشرات الصفحات في مناقشة هذا الرأي؟
أليس تكفير الغزالي لابن سينا والفارابي كان من أجل هذا؟ ألم يرد ابن رشد على الغزالي في تكفيره ابن سينا والفارابي من أجل هذا الموضوع في كتابه (تهافت التهافت)؟
وبعد فيظهر أن باحثنا الفاضل نسي أو تناسى كل هذا فوقف يصرخ قائلاً: من قال بأن الغربي يعتقد هذا إلا إذا نقد الجانب العلمي من قوى تكفيره؟ أما هذا القائل فهو أنا. . . ذلك أن الغربي حين نظر للأشياء نظر إليها من ناحيتها المشهودة الواقعة في العالم المنظور، فانتهى عن طريق النظر فيها إلى أن العالم مسوق في سيره بسنن وقوانين ونواميس، وهذا جعله ينتهي بتفكيره إلى اكتشاف الأسلوب العلمي
وقد جاء لنا في ذلك من بحث منشور بالمقتطف م93 ج4 (نوفمبر 1938) ما نصه:(286/55)
(لقد كان الإنسان من عهد سقراط الحكيم (469 - 399 ق م) يرى غاية التفكير في إدراك الماهية، وذلك بمعنى تكوين معاني تامة الحد. وكان معين التفكير طيلة هذا المهد منحصراً في الاستقراء حيث يتدرج العقل من الجزئيات إلى الماهية المشتركة بينها راداً كل جدل إلى الحد والماهية
وفي أوائل القرن السادس عشر أخذت جماعات قليلة من مفكري الغرب يشكون في قدرة الأسلوب التجديدي وإمكان الوصول به إلى نتائج عملية تطبيقية. وأخذت هذه الجماعات تعمل على إدماج النتائج التي تسفر عنها المشاهدات والتجارب في نظام مادِّي على قاعدة الوحدة والعلاقة. . . وكان يحدوهم في تفكيرهم هذا إيمان ثابت بنظام العالم الخارجي وتجانسه ووحدته
إذن يتبين أن التفكير العلمي قام على أساس أولي هو الإيمان بنظام العالم الخارجي وثبات هذا النظام. وهذا يعني أن العالم بقوانينه ونواميسه خالد (أبدي)، فإذا انتهى رجل العلم اليوم إلى الخالق قيده بنظام هذا الكون، على اعتبار أن العالم صادر عنه بطريق التعليل
وصرخة أخرى. . . ذلك أننا قلنا: (إن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجوده) وهنا أولاً: نسبة هذه الوجهة من النظر إلى الغربي. ثانياً: ورود لفظ النواميس تجعل معنى المقدر للإنسان ما قدر له حسب نواميس الطبيعة. وهذا المقدور بطبيعة الحال يفترق عن مفهوم المقدر للإنسان في علم الله عند الشرقي. فإذا كان الأول من الممكن تغييره، وحياة الإنسان منذ بدء وجوده على الأرض تغيير للمقدرات الطبيعية له، فإن الثاني ليس في الإمكان تغييره. . . وكأني بصرخة باحثنا الفاضل قد انبعثت من عدم تفهمه كلامنا على وجهه الصحيح.
وبعد فننهي ردنا هذا بكلمة هادئة لباحثنا الفاضل، فقد وهم حين ظننا من العرب أولا ومن الشرقيين ثانياً، فلسنا من أصل عربي ولسنا شرقيين، وهذا نسبنا وتاريخ حياتنا مبسوط في شيء من الإسهاب في مقدمة دراستنا التحليلية (طه حسين) التي صدرت ربيع هذا العام. وعلى فرض أننا شرقيون ومن أرومة عربية فهل كوننا شرقيين أو عرباً يمنعنا عن قول الحقيقة إذا كانت ضدنا؟
أما ما أثاره الباحث الفاضل من اشكالات في نهاية مقاله فموعدنا بالرد عليه مقال تال،(286/56)
نضمنه رداً لنا على ما أثاره من اشكالات واهية ذلك الأديب الكبير الذي حاول أن يتعرض لإحدى فكراتنا بالمناقشة بين سطور مقال كتبه في مناقشة لكتاب للبروفسور مارتن الإنجليزي.
إسماعيل أحمد أدهم(286/57)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
(تتمة)
برز جرانت إلى الميدان وفي نفسه من العزم بقدر ما في فؤاده من الأمل، وكأنما سرت عزمته إلى قواده وجنوده فما منهم إلا من وطد النفس على أن يخوض أهوال القتال إلى النصر، ونبغ من هؤلاء البواسل قائدان صار لهما في تلك الحرب خطر عظيم هما شيرمان وشريدان
وزحف جرانت بجيشه في مايو عام 1864 وكانت خطته أن يواصل الزحف ما وسعه القتال حتى يأتي رتشمند عاصمة الجنوبيين فيحصرها. ولقد لازمه النصر في هذا الهجوم على الرغم من مقاومة أعدائه، ومازال يدفعهم أمامه حتى أصبح على مقربة من عاصمتهم؛ وكانت تصل أنباء انتصاره إلى العاصمة فتهزها هزاً وكان الناس يجتمعون حول البيت الأبيض فيطل الرئيس عليهم ويخطبهم وقد سره أن ذهب عنهم الروع
وكذلك سار شيرمان مبتدئاً من الغرب، وراح يدفع أعداءه أمامه، وإنهم لينازعونه الأرض شبراً شبراً ويعركون جيشه عركاً شديداً حتى واتاه النصر عليهم في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو، فسقطت في يده مدينة أتلنتا بعد أيام، وهي موقع حصين ومركز حربي خطير، وكان على رأس الجنوبيين في تلك الجهة قائدهم هود، وهو من ذوي البأس ولقد لم شمل جيشه وخاض الحرب مرة أخرى ولكنه ما لبث أن عاودته الهزيمة، وسر الرئيس وأصحابه بانهزام هود وجنوده فلقد كانوا يوجسون منه شراً
ونشط الشماليون في البحر وضيقوا الخناق على أعدائهم فأذاقوهم لباس الجوع والخوف،(286/58)
وكانت سيطرة فراجت على البحر وثيقة، فكان بذلك موقفه عاملاً من أكبر عوامل النصر
وراح جرانت يبذل كل ما في وسعه ليحيط بالقائد الكبير (لي) قائد الجنوبيين، فإنه يدرك أن تطويقه خير وسيلة لهزيمته وإجباره على التسليم؛ وكان جرانت يدرك أن عدته وجنده أوفر مما هو لدى عدوه منها، ولذلك عول أن يشد عليه الوثاق
وكان لنكولن وأصحابه يتلقون هاتيك الأنباء الطيبة فتطمئن نفوسهم، ولكن الرئيس كان لا يفتأ مهموماً ضائق الصدر؛ وكيف يطبق قلبه الكبير أن يعلم نبأ هاتيك الضحايا دون أن يتحرك؟ لقد كان يجزع أشد الجزع لمرأى الأمهات والزوجات يقفن في طريقه أو يجتمعن حول البيت الأبيض متسائلات وإنه ليسأل الله أن يجعل للناس من هذا البلاء مخرجاً. . .
وبينما كان جرانت وشيرمان يروعان بجيشيهما أهل الجنوب على هذه الصورة، زحف أحد قواد الجنوب ويدعى إيرلي زحفاً باغت به وشنجطون إذ صار منها على سبعة أميال. . . ولقد كان عمله هذا من أسوأ ما لاقته تلك المدينة في هذه الحرب، فما أقبح الخوف بعد الأمن وما أوجع الكربة بعد الفرح. ولكن جرانت لم يلبث أن أرسل شريدان فأقصى هذا العدو ورماه بالهزيمة وكان ذلك في أوائل سبتمبر عقب سقوط أتلنتا بيوم واحد. . .
وكان انتصار الجيوش على هذا النحو مما قضى على كيد الكائدين من خصوم الرئيس إذ كانت البلاد تتأهب للانتخاب؛ وكان الديمقراطيون يذيعون في الناس إن من مصالحهم أن يختاروا رئيساً غير هذا الرئيس، وراحوا تارة يقولون إن الحكومة من الوجهة الحربية قد منيت بالفشل منذ قامت الحرب ولا محيص من أن تتبع في الحرب سياسة أقوى وأسرع من سياستها، وتارة أخذوا يطالبون بمصالحة أهل الجنوب ووضع حد لهذا البلاء، وهم في ذلك يرشحون ما كليلان للرياسة ضد إبراهام، ولقد اختاره لذلك مؤتمرهم الذي انعقد في شيكاغو في أغسطس من ذلك العام
وكان بعض الجمهوريين من حزب لنكولن يدعون إلى انتخاب غيره إذ كانوا ينقمون عليه كما يزعمون ابتعاده عن مبادئ الحزب وروحه، فهم يخالفونه فيما أعلن غداة تحرير العبيد من أن ذلك كان من أجل ضرورة حربية وهم يعيبون عليه مسلكه تجاه الولايات الوسطى وتجاه أهل الجنوب، كما أنهم يقولون إن الحرب لا تسير على خير ما يرجى
وكان هؤلاء الجمهوريون يرشحون جرانت تارة، وفريمونت تارة، ولكن معظمهم كان يميل(286/59)
إلى تشيس وزير المالية، وكان تشيس هذا من أكفأ الرجال، وكان الرئيس يحترم آراءه ويحرص على أن ينتفع بها كما كان يشهد له بالذكاء ويقر بفضله. . . ولكنه كان دائم الشكاوى من الرئيس وكثيراً ما ضايقه بتقديم استقالته من الحكم، وكانت أخرى تلك الاستقالات في صيف هذا العام، ولشد ما أدهش الوزير أن قبلها الرئيس في غير تردد. وكان تشيس ينفس الرئيس مركزه ويعتقد أنه أحق به منه وأجدر
وما كان الرئيس كما أسلفنا يحرص على الحكم إلا أن يكون وسيلة لتحقيق غرضه، قال ذات مرة يرد على الداعين إلى ترشيح جرانت: (إذا كان الناس يعتقدون أن القائد جرانت يكون أسرع في القضاء على الثورة إذا كان في مركزي فإني أتخلى عنه له)
وعلى الرغم من ذلك كان خصومه يدعون أنه حريص على الحكم مولع بالرياسة، وكان من أقدر هؤلاء الخصوم وأنشطهم الصحفي جريلي، ذلك الذي طالما حرص الرئيس على مودته وعمل على إرضائه. . . على أن الرئيس كان على علم بهذا كله فلم يعبأ به وذلك لأنه كان يجعل اعتماده على عامة الناس، وهل اعتمد على غيرهم منذ كان يلوح بين الإحراج؟ وجاءت بعد ذلك أنباء انتصار جنده فكان ذلك أبلغ رد على ما يزعم المخالفون والخوارج
ولقد كان مؤيدو الرئيس من الجمهوريين أعز نفراً وأعلى في البلاد صوتاً، وهؤلاء أجمعوا أمرهم على ترشيحه في مؤتمرهم الذي عقدوه في الثامن من يونيو عام 1864، وكانت حماستهم له جديرة به شديدة على خصومه وكارهيه. . . وحمل إليه نبأ ذلك فتلقاه على عادته في دعة، قال: (إنهم رشحوني لا لأنهم رأوني اعظم وأفضل رجل في أمريكا، وإنما كان ذلك لأنهم لم يروا من الحكمة أن يستبدلوا الخيل أثناء عبورهم الماء، ولأنهم رأوا بعد ذلك أني لست فرساً بلغ من السوء مبلغاً لا يمكن معه استخدامه ولو في مشقة أثناء محاولة ذلك العبور). . .
وكان المؤتمر قد عبر عن رغبته في تعديل الدستور بحيث لا يكون من مواده ما يتضمن الاعتراف بنظام العبيد حتى لا يتعارض قرار التحرير مع نصوص الدستور. ولقد وافق الرئيس على ذلك قائلا: (إن مثل هذا التعديل المقترح يجيء خاتمة مناسبة ضرورية للنجاح النهائي لقضية الاتحاد، وهذا وحده يقف رداً على كل تجن. . . وإن الذين يوافقون(286/60)
على الوحدة بلا شرط من الشماليين والجنوبيين يدركون خطورته ويتعللون به، فباسم الحرية والوحدة مجتمعين دعونا نعمل على أن نكسبه صفة شرعية وأثراً عملياً). وسمع أن ولاية ماريلند قد عدلت دستورها على هذا الأساس فعلاً فاغتبط قائلاً (إن ذلك عندي يساوي انتصارات كثيرة في الميدان)
وحسب جريلي أنه واجد غميزة أخرى في سياسة الحرب فراح يندد بها وبتطاولها ويدعوا إلى الصلح قائلاً إن البلاد قد باتت على شفا جرف هار وإن السلم على شروط معقولة خير من هذه الحرب التي ضجت البلاد منها ورزحت تحت أعبائها. ومما ساقه في هذا المجال انه على صلة بقوم من الجنوب يقبلون الصلح على أساس الوحدة والقضاء على العبودية، وهنا لم يتردد الرئيس أن يرسل إليه يقول إنه على استعداد أن يلقى أي رجل أو جماعة من الجنوب يفاوضونه على هذا الأساس على شرط أن يكونوا مسؤولين وليكن جريلي شاهداً على ذلك؛ وعاد جريلي مستخذياً وقد رأى أن الذين دعوه إلى السلم من الجنوبيين قوم لا أهمية لهم. . .
وتطلبت الحرب عدداً جديداً من الرجال وأشفق أنصار لنكولن أن يدعوا البلاد إلى رجال في مثل هاتيك الظروف، ولكن هل كان مثله يحجم عن أمر يعتقد صوابه وعلى الأخص إذا كان هذا الأمر يتعلق بالحرب بله الحرب تحت قيادة جرانت؟. لم يحجم الرئيس ولم يتردد وأصدر أمره في ثبات وجرأة. . .
وجاء يوم الانتخاب فكان فوز الرئيس عظيماً كما كان تواضعه غداة فوزه عظيماً. قال وما أجمل ما قال: (إني أعرف قلبي وأرى غبطتي لا يشوبها شائبة من الفوز الشخصي، وإني لا أعترض على بواعث أيشخص ضدي. وليس مما يسرني أن أظفر على أحد ولكني أشكر الله على هذا البرهان الشاهد على اعتزام الناس أن يؤيدوا الحكومة الحرة وحقوق الإنسانية)
وكان الداعون إلى السلم ينشرون مبدأهم في العاصمة الشمالية ولم يكفوا عن ذلك منذ الصيف. وفي الشتاء وجدت دعوتهم قبولاً لدى الكثيرين في العاصمة الشمالية حتى لقد أخذوا على الرئيس أنه يصم إذنه عن هذه الدعوة. . . وحدث أن أرسل جفرسون دافز رسولاً إلى لنكولن يدعوه إلى السلم ويقترح عقد مؤتمر لتقرير ذلك. وكتب الرئيس لنكولن(286/61)
رداً حمله ذلك الرسول إلى جفرسون وفيه يوافق الرئيس على عقد المؤتمر؛ واجتمع في مركز قيادة القائد جرانت ثلاثة من قبل أهل الجنوب وناب عن الشماليين سيوارد ثم لحق به الرئيس، وعرض الشماليون شروطهم فلم تحز قبولاً لدى خصومهم. ورأى الرئيس أن في الأمر خداعاً وأنهم لا يريدون سوى أن يكسبوا الوقت بالمفاوضة ريثما يعدون ما يستطيعون من قوة. . . ولذلك نراه ينصح إلى جرانت ألا يتهاون أو يخفف من وطأته وانفض المؤتمر ولم يصل إلى رأي. . .
وأوضح الرئيس سياسته في خطابه الرسمي الذي ألقاه غداة تسلمه أزمة الأمور للمرة الثانية. وإنك لتجدها واضحة في تلك العبارة الجميلة التي اختتم بها ذلك الخطاب قال: (والآن فمن غير موجدة على أحد، بل مع الإحسان للجميع، والثبات على الحق كما يطلب الله أن نرى الحق، دعونا نجهد لنفرغ من هذا العمل الذي نحن بصدده، وأن نضمد جراحات الأمة، وأن نعنى بهؤلاء الذين قاموا بالجهاد وبأراملهم وأيتامهم. وأن نبذل كل ما في وسعنا لنصل إلى السلام الدائم ونعزه بين أنفسنا وبين جميع الأمم)
وجعل الرئيس ينتظر أخبار الميادين، وكثيراً ما كان يقضي وقتاً طويلاً في غرف البرق يترقب ويتوقع. . . وكثيراً ما كان الرئيس يشخص بنفسه إلى مراكز الجنود فيزورها واحداً بعد الآخر! وجاءت البشائر بالنصر يتلو النصر. ففي الحادي والعشرين من ديسمبر أخذ شيرمان مدينة سفانا عنوة فأبرق إلى الرئيس يقول: (أرجو أن تسمح لي أن أقدم إليك مدينة سفانا كهدية في عيد الميلاد) واستمر شيرمان في زحفه فاستولى على كولومبيا وشارلستون، وما زال حتى دخل ولاية كارولينا الشمالية وأصبح على اتصال بجنود جرانت وبذلك أوشكت جنودهما أن تحيط بجيش الشماليين
وكان جرانت يثخن في أرض الجنوبيين لا يألوهم نزالا كأهول ما يكون النزال، وكانت ضحاياه كثيرة يدمي لها قلب الرئيس، ولكنه كان لا يلين وما لبث هو وأعوانه أن يهزموا الجنوبيين في كل مكان حتى لم يبق في الميدان غير لي. . .
وحاصر جرانت مدينة رتشمند ودام حصاره لها طوال أشهر الصيف من عام 1864 واشهر الشتاء من عام 1865، وفي السابع والعشرين من مارس التقى لنكولن وجرانت وشيرمان على ظهر زورق تجاري في نهر جيمس بالقرب من مركز القيادة وتداول ثلاثتهم(286/62)
في الأمر. ولشد ما تألم الرئيس أن علم أنه لا يزال دون النصر معركة حامية، وراح يتساءل في جزع: (ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟ ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟)
وأمكن تجنب تلك المعركة الحامية فلقد تمكن شيريدان وكان إلى يسار جرانت أن يقطع على (لي) آخر منفذ للهرب فتم لهما تطويقه، وأصبح تسليمه أمراً لابد منه. وفي اليوم الثالث من أبريل سقطت رتشمند التي كانت طروادة هذا الصراع العنيف
وأنى للكلام أن يصف مبلغ ما كان بالعاصمة من شعور الفرح والحبور. . . لقد بات الناس وأفاقوا على مثل مظاهر العيد. وأي عيد أجمل من هذا الذي يبشر الناس فيه بانفراج الغمة واتحاد الأمة؟
وكان الرئيس في المعسكر منذ شهر مارس يبيت مع الجند ويستطلع الأنباء كل يوم ولقد نال الجهد والإعياء من جسده حتى ليبدو كالمريض وهو الرجل الذي عرف فيما سلف بقوة بدنه ووفرة حيويته. . . ولما بلغه سقوط رتشمند وصل إليها في بساطة وهدوء، وليس معه إلا بحارة قارب حربي كان يرسو على مقربة منها فلا خيل من حوله ولا جند يفسحون له الطريق. ودخل الرئيس العظيم المدينة يمسك بيده يد ابنه الصغير تاد وهو يمشي على الأرض هوناً وليس في وجهه زهو ولا تطاول
وهرع الناس من كل فج يشهدون الرجل الذي دوت البلاد باسمه، فلما رأوه شعروا جميعاً نحوه بمثل ما يشعر الأبناء نحو أبيهم، وهو بين الجموع رابط الجأش يظهر قوامه الطويل للأعين. وتلفت الرئيس فإذا جموع السود تتقاطر من كل صوب وهم يملئون الجو بهتافاتهم باسم مخلصهم ومحطم أغلالهم، وكانوا من حوله يرقصون ويقفزون في الهواء لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا المحرر الأعظم. . . ثم تقدموا متزاحمين فتلاقوا على الأرض أمامه يقبلون قدميه وهو يرفعهم بيديه ويمسح بهما على جباههم وأكتافهم والدموع تتسايل كبيرة ساخنة من عينيه الواسعتين فتجري على محياه الكريم
وحار الرئيس برهة ماذا يقول وهو الذي لم يعرف قبل عياً ولا حصراً، ثم ناداهم قائلاً (أي أصدقائي المساكين أنتم أحرار، أحرار كالهواء. إنكم تستطيعون أن تطرحوا اسم العبودية وتطأوه بأقدامكم؛ فأنكم لن تسمعوه بعد اليوم. . . إن الحرية حقكم الذي منحكم الله كما منح غيركم) وتألم الرئيس من أن يخروا سجداً على قدميه فقال: (لا تسجدوا لي، هذا ليس(286/63)
بالصواب، يجب أن تسجدوا لله وحده وأن تشكروه على الحرية التي سوف تتمتعون بها منذ اليوم. . .)
وعاد الرئيس إلى وشنجطون وفي وجهه مثل ما يكون في وجوه الأبرار الصالحين، والناس حول ركابه يهتفون باسم (أبيهم أبراهام) بطل الحرية ومحطم الأصفاد ومعيد الوحدة إلى البلاد وحامي دستورها ورسول حاضرها إلى غدها. . .
وفي اليوم التاسع من هذا الشهر المشهود سلم لي جيشه للقائد جرانت وتلقت العاصمة النبأ وتلقاه الرئيس، وتنفس الناس الصعداء. وأحس ابن الإحراج بعد هذا الكفاح الطويل الشاق أن قد آن له أن يستريح ولو بضعة أيام. . . وتزاحم الناس حول البيت الأبيض وهم من فرط سرورهم يبدون كأنما طاف بهم طائف من الجنون، وأطل الرئيس عليهم وهم يتصايحون ويتواثبون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، فلم يدر ماذا يقول. ثم مسح بيده الدموع المنحدرة من عينيه وطلب إليهم أن يهتفوا ثلاثاً بحياة القائد جرانت ورجاله، وحياة القواد البحريين ورجالهم، وعاد إلى داخل حجرته. . .
وفي اليوم الرابع عشر كان على مجلس الوزراء أن يجتمع ظهراً، وكان جرانت ممن سوف يشهدون الاجتماع. وكان يبدو على محيا الرئيس قبل الاجتماع شيء من الهم، قال لبعض أصحابه: إني رأيت حلماً كريهاً لا أرى مثله إلا قبيل حادث عظيم. . واجتمع المجلس ليرى ماذا تفعل الحكومة لإصلاح ما أفسدته الحرب. وفي هذا الاجتماع عارض الرئيس القائلين بالانتقام من أهل الجنوب وصاح بهم (كفانا ما ضحينا من الأنفس. يجب أن نطفئ في قلوبنا السخائم إذا أردنا أن نقيم الوحدة والوفاق) ألا ليت أعداءه سمعوه وهو يقول ذلك، ألا ليتهم سمعوه. . .
وركب الرئيس وزوجه في نزهة عصر ذلك اليوم. وفي المساء ذهب ليشهد رواية تمثيلية في المسرح، وكانت الصحف قد نشرت اعتزامه الحضور ومعه القائد جرانت، وتخلف القائد لأمر ما، وذهب الرئيس وجلس في مقصورة هو وزوجه وقائد من القواد. وفي الساعة العاشرة والنصف تسلل إلى باب مقصورته رجل فاقتحمه وفي يده مسدس أطلقه على رأس الرئيس. . . وكانت في يده الأخرى مدية طعن بها القائد، وقفز إلى خارج المسرح وكان هو وشركاؤه قد أعدوا حصاناً ليهرب به عدوا. . .(286/64)
وروعت العاصمة بالنبأ الفاجع، وتلاقت أمة تحمل شهيدها الأكبر ومحررها العظيم إلى مقره ليستريح الراحة الأبدية، وذهبوا بجثمان البطل إلى سبرنجفيلد في نفس الطريق الذي جاء منه إلى العاصمة قبل ذلك بأربع سنوات، والناس على جانبيه يشهقون اليوم ويجهشون ولا يملكون غير الدمع في هذا الخطب الفادح. ودفن الرئيس إلى جانب ابنه الصغير. . . ألا ليتهم حملوه إلى الغابة ليدفن حيث نشأ وحيث شب
(تم)
الخفيف(286/65)
يوم مطير
للأستاذ عبد الرحمن شكري
نهار تَدَانَى الدَّجْنُ في عُلوِ اُفِقِه ... مُبَلَّلَةٌ أرجاؤه ومَنَاكِبُهْ
خَبَتْ شمسه كالجمر يخبو لهيبه ... وعاد رمادا حسنُهُ وعجائِبُهْ
دجا مثل وجه الهمِّ إلاَّ جلاله ... فللدَجْن سحر يَحْزِنُ النفسَ خالِبُهْ
ثقيلٌ على القلب البَهيجِ عُبُوُسُهُ ... ولكنه قد يَسْحِرُ القلب كاَرِبُهْ
كما كان بعضُ الحزنِ للنفسِ شائقا ... تُعَاقِرُهُ في نشوة وتُقَارِبُهْ
ترى قطراتِ الغيث كالخيلِ اُطْلِقَتْ ... لِكَسْبِ رهانٍ أحرز السبقَ كاسبه
وتحسبها كالطير تهفو تَنَزِّياً ... تَنَزِّي الدَّبَي إن أهرقَ الغيثَ ساكبه
كأن الصِّلال الزاحفات على الثرى ... تجوس إذا ما الغيث جاست سواربه
كما عاج حيران يمينا ويسرة ... من الذعر، شر الذعر ما عاج صاحبه
على الأرض والجدران والدوح قطرُهُ ... ويَدْفَعُ في وجه المُشَرَّدِ حَاصِبُهْ
أيسطوا عليه الغيث يغسل نحسه ... أم الغيث من لَهْوٍ تراه يداعبه
كَلَهْوِ غلام مُلِّكَ القَسْوُ قَلْبَهُ ... إذا حيوانٌ هَابَهُ فَهْوَ ضاربه
سجيةُ كل الناس من هاب شَرَّهُمْ ... رَمَوْهُ بِبَأسِ اللؤم والخوفُ شائبه
ويعزو خيالُ المرء للكون روحَهُ ... مناقبهُ تُجْلى به ومثالبه
إذا رَنَّقَ التربُ الهواء انبرى له ... من الوَدْقِ طُهْرٌ يغسل الجو صائبه
ترى البرقَ فيه مُصْلِتِاً سيف نقمة ... لها الرعد صوت يذهل اللبَّ راعُبهْ
إذا خف كان الغيث لهواً ونعمة ... وإن لج لاحت للعيون خرائبه
ويطغى على الوادي بجيش عَرَمْرَمٍ ... مسالكه مذمومة وعواقبه
يخف على لوح الزجاج فصوته ... طنين فَرَاشٍ مَرَّ باللوح حاصبه
وطوراً يُلِحُّ الودق منه فصوته ... خريرٌ كما يَسْتَحْلِبُ الدَّرَّ حالبه
ويرنو إليه المرءُ من ثقب بيته ... كَأَنَّ غريباً يَتَّقِي منه هائبه
وطوراً ترى الغلمان تلقط طَلَّهُ ... يداعب صِنْوَ صِنْوَهُ ويلاعبه
ترى كل لَوْنٍ بعده قد زْها به ... كأن طِلاَءً فوقه لجَّ خاضبه(286/66)
يُعَلِّقُ قُرْطاً في ذرى الدوح قطره ... فتحسبه قد نَظمَ الدُّرَّ ثاقبه
عبد الرحمن شكري(286/67)
البريد الأدبي
موعد العيد الألفي للقاهرة
سئلت كلية الآداب بالجامعة عن اليوم الذي يحسن أن يجرى فيه الاحتفال بالعيد الألفي لمدينة القاهرة. وقد أحالت الكلية هذا السؤال على أساتذة التاريخ بها. فدرسوه وأصدروا قراراً قدموه إلى مجلس جامعة فؤاد الأول في اجتماع يوم الأحد الماضي فأقره ورفعه إلى مجلس الوزراء مقدماً إليه بهذا البيان:
(دخل جوهر مدينة الفسطاط في 17 من شعبان سنة 358هـ (17يولية سنة 969م) ووضع في تلك الليلة نفسها أساس المدينة التي عزم على إنشائها لتكون حاضرة الدولة الفاطمية. وفي ليلة الأربعاء 18 من شعبان سنة 358 هـ وضع جوهر أساس القصر الذي بناه لمولاه المعز
ولما فرغ جوهر من بناء قصر الخليفة وأقام حوله السور سمى المدينة كلها بالمنصورية نسبة إلى الخليفة المنصور أبي المعز. وظلت هذه التسمية حتى قدم الخليفة المعز، فسماها القاهرة
وكانت القاهرة في عهد ولاية جوهر صغيرة ليس بها سوى قصر الخليفة والجامع الأزهر وثكنات الجنود ورجال الحاشية ودور المغاربة الذين استعان بهم الخليفة المعز في فتح مصر - ثم ظلت تتدرج في العمران حتى بلغت في نهاية عصر الفاطميين درجة كبيرة من التقدم
(وفي يوم الجمعة 24 من شعبان سنة 362هـ و30 مايو سنة 973م دخل المعز الإسكندرية وسافر منها في أواخر الشهر المذكور فوصل إلى الجيزة في 2 من رمضان - وأقام فيها أياماً - ثم عبر النيل ووصل إلى القاهرة في يوم الثلاثاء 7 من رمضان سنة 362هـ. (الأربعاء 11 يونية سنة 973م) ودخل القصر الذي بناه له جوهر. وفي اليوم التالي لوصول المعز خرج أشراف مصر وقضاتها ووجهائها ورجال العلم فيها لتهنئته والاحتفاء به. وفي يوم 15 من شهر رمضان سنة 362هـ جلس المعز في الديوان الكبير من قصره على السرير الذي أعده له جوهر، واستأثر الخليفة الفاطمي بكل ما كان يتمتع به جوهر في مصر من نفوذ. وأصبحت مصر منذ ذلك الحين دار خلافة بعد أن كانت دار(286/68)
إمارة تابعة للخلفاء الفاطميين ببلاد المغرب. وغدت القاهرة - بدل المنصورية مركز الدولة الفاطمية الشاسعة الأرجاء
والأزهر أول مسجد بني في القاهرة، شرع جوهر في بنائه يوم 4 من شهر رمضان سنة 359هـ (11 يولية سنة 970م) وتم بناؤه في سنتين تقريباً. وأقيمت الصلاة فيه لأول مرة في 7 من رمضان سنة 361هـ (22 يونيو سنة 972م)
ونرى أن يقع الاحتفال الألفي بمدينة القاهرة في يوم 7 من رمضان سنة 1362هـ (7 سبتمبر سنة 1943م) أي بعد مرور ألف عام على دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة واتخاذها حاضرة للخلافة الفاطمية)
وقد علمنا أن الكلية ستساهم في هذا الاحتفال التاريخي بطائفة من الأعمال، منها إنشاء متحف تاريخي يمثل القاهرة في مختلف عصورها، وإصدار كتاب جامع عن القاهرة، وإخراج بعض النصوص التي تتصل بهذا التاريخ
افتتاح الدورة السادسة للمجمع اللغوي
افتتحت في الأسبوع الماضي الدورة السادسة لمجمع فؤاد الأول للغة العربية، فوفد على داره أعضاؤه ماعدا الأستاذ هيتمن الذي سيحضر إلى مصر في أوائل شهر يناير القادم، والأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا العضو التونسي الذي اعتذر من عدم حضور هذه الدورة لأعمال اضطرته للتخلف في تونس
وقد حضر جلسة الافتتاح كثير من الكبراء يتقدمهم أصحاب المعالي والسعادة وزير الأوقاف وعبد الرحمن رضا باشا ومحمد قاسم بك عميد دار العلوم وجاد المولى بك مفتش اللغة العربية وحسن فايق بك مراقب التعليم الثانوي وغيرهم
وحضر معالي الدكتور هيكل باشا وافتتح الجلسة بخطاب قيم
ثم وقف على أثره الدكتور محمد توفيق رفعت باشا رئيس المجمع فألقى كلمة الافتتاح. ثم وقف الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين الأستاذ بكلية أصول الدين وعضو المجمع فألقى قصيدة. ووقف الدكتور فيشر فألقى كلمة في الموازنة بين المجامع الغربية وهذا المجمع، وقد ألمع فيها إلى ما سبق في عصور التاريخ العربي من مجامع عربية كان لها الأثر المشكور في إحياء اللغة العربية ونموها(286/69)
ثم ألقى الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع خطبة ضمنها الرد على ملاحظات الجمهور على أعمال المجمع وذكر الخطة التي يجب أن تتبع لإبلاغ الجمهور حاجته التي يرجوها من المجمع
وبذلك أعلن انتهاء الاحتفال ونزل معالي وزير المعارف وكبار الزوار إلى حجرة رئيس المجمع ودعي حضرات الأعضاء إلى الاجتماع في حجرة أخرى حيث عينت مواعيد الجلسات اليومية وهي الساعة الخامسة من مساء أيام السبت والأحد والاثنين والساعة العاشرة من صباح الثلاثاء والأربعاء والخميس
وذهب بعد ذلك حضرات الأعضاء وفي مقدمتهم معالي وزير المعارف إلى القصر الملكي لتسجيل أسمائهم في سجل التشريفات
المجمع اللغوي يتجه إلى الاتصال بالشعب
ظهرت أخيراً في أفق المجمع اللغوي ظاهرة طيبة وهي محاولة الاتصال بالمصالح الشعبية لتبادل الرأي معها. وقد تألفت لهذا الغرض لجنة من حضرات الأعضاء الأساتذة عبد القادر المغربي وعلي بك الجارم وماسينيون المستشرق الفرنسي. ومهمة هذه اللجنة بحث خير الطرق للاتصال بالمصالح الشعبية، تمهيداً للتعاون معها ومعرفة دوران الأساليب والمفردات الشعبية، للاهتداء بها فيما يقر المجمع من مصطلحات أو يضع من مفردات
ولكننا علمنا أن هذه اللجنة اصطدمت بقرار سابق للمجمع حظر فيه التعريب على غير العرب الأولين. وهو قرار يعرقل العمل الجدي للمجمع، ويقوم سداً بينه وبين التجديد المفيد فيحسن به أن يعيد النظر فيه
الثقافة العربية وترجمة آدابها إلى اللغة الفرنسية
تقوم الآن الجمعية الفرنسية المعروفة باسم (جيوم بادوا) بنشر الآثار العلمية والأدبية والفلسفية لليونان والرومان، ونشر ما يتصل بحضارة البحر الأبيض المتوسط من الأدب القديم والمتوسط والحديث
ولما كانت مصر تعتبر في مقدمة الدول التي أثرت منذ فجر التاريخ في حضارة العالم وهي تقع في مركز ممتاز بين دول الأبيض المتوسط رأت الجمعية أن تعنى عناية خاصة،(286/70)
إلى جانب عملها عل نشر آداب اليونان والرومان، بنشر المشهور من الأدب العربي وترجمته إلى اللغة الفرنسية، ورغبت لتحقيق هذه الغاية في أن يكون لها في مصر فرع يشترك في أعمالها
وقد عرضت هذه الفكرة على صاحب المعالي وزير المعارف فأبدى ارتياحه لها. وستؤلف لهذا الغرض لجنة يكون معاليه رئيس الشرف لها وصاحب العزة وكيل الوزراء رئيسها العامل
أما أعضاء اللجنة فسيختارون من بين أساتذة الجامعة المصرية وبعض المستشرقين، على أن يشترك معهم من الموظفين الأجانب في مصر مسيو فييت مدير الآثار العربية، والمسيو دربوتون مدير المتحف المصري
مجلس الأبحاث الأهلي
كان البرلمان قد أبدى لمناسبة التفكير في تخليد ذكرى الملك فؤاد الأول رغبته في أن ينشأ لهذا الغرض معهد للأبحاث العلمية؛ وكان صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة قد قدم إلى مجلس الوزراء مذكرة بسط فيها قيمة البحث العلمي وأثره في ترقية الصناعة. واقترح أن يؤلف المجلس المصري على غرار مجلس الأبحاث الأهلية في إيطاليا.
وقد تم إعداد المشروع الخاص بهذا المجلس. وينص في أول مواده على اعتبار هيئة مستقلة تتألف من كبار العلماء والعاملين في الصناعة والمشتغلين بالبحث العلمي من الجامعيين.
ونص المشروع على ضرورة رجوع الحكومة إلى المجلس قبل إقرار التشريعات الخاصة بالإنتاج الصناعي والزراعي وغيرها من التشريعات التي يمكن أن تفيد في البحث العلمي.
ويتجه المشروع إلى تركيز البحث العلمي في الهيئة التي يتألف منها المجلس بحيث يكون كالرأس المدبرة التي تشرف على شتى مناحي التفكير والتجارب العلمية، فهو ليس معهداً نظرياً ولكنه، إلى جانب فكرة التركيز المشار إليها، يتجه في عمله إلى الإفادة من العلم وتطبيقه لما فيه مصلحة البلاد
والمجلس المقترح لا يمس الوظائف الجامعية، ولا يغض من نشاطها فالجامعة تختص بالبحث النظري الخالص. أما هذا المجلس فسيعني بالبحث العلمي الصناعي، والتطبيقات(286/71)
العلمية للاستنباطات النظرية والاستفادة منها اقتصادياً.
وسيعرض المشروع على اللجنة الوزارية المؤلفة برياسة وزير المعارف وعضوية وزير الأشغال ووزير التجارة ومدير الجامعة وعميد كلية الطب ومدير مصلحة المعامل، وعمداء كليات العلوم والزراعة والهندسة.
ومتى أتمت هذه اللجنة بحث المشروع اتخذ المشروع مراحله التشريعية المعتادة.
تخليد ذكرى شاعر الهند محمد إقبال
من أنباء بمباي أن الجمعيات الأدبية والعلمية في الهند قررت تخليد ذكرى الشاعر الهندي الكبير المرحوم السير محمد إقبال فأنشأت في جايبور بولاية راجبوتانا مؤسسة باسم (مؤسسة إقبال) وانتخبت السيد جويال مديراً لها. وأصدرت المؤسسة مجلتين باسم (إقبال) الأولى باللغة الإنكليزية والثانية باللغة الأوردية.
وصدر من المجلة عددان في شهر أكتوبر الماضي. وكان العدد الأول يحتوي على مباحث باللغتين الإنكليزية والأوردية في تمجيد أعمال الشاعر الراحل وشرح مؤلفاته. وقد أعطيت جوائز للكتاب والرسامين الذين ساهموا في إصدار هذا العدد الممتاز
وقد عقد السيد رشيد أحمد مقالاً مسهباً عن الشاعر إقبال في إحدى صحف لاهور قال فيه: إن الفقيد العظيم قد أعطى الشعر الهندي أجنحة للتحليق في أسمى ارتفاع بلغه الشعر إلى الآن. وتمتاز فلسفة محمد إقبال في نظرياته الخاصة بالله عز وجل وما ينال الإنسان من نعم الخالق القدير. وقد مات محمد إقبال تاركاً للهند وللمسلمين على الخصوص أثراً قيماً بمؤلفاته التي تعد مفخرة من مفاخر الهند. وفيها عالج إقبال جميع الموضوعات من أصغرها إلى أكبرها بمقدرة لم يبلغها سواه من قبل. فهو جدير باللقب الذي أقر له به الأجانب قبل أبناء الهند وهو لقب شكسبير الهند
افتتاح المعرض السادس لفن التصوير الشمسي
افتتح الأسبوع الماضي حضرة صاحب المعالي وزير المعارف المعرض السادس لفن التصوير الشمسي
وقد أشرفت على إقامة المعرض جمعية محبي الفنون الجميلة التي يرأسها حضرة صاحب(286/72)
السعادة محمد محمود خليل بك رئيس مجلس الشيوخ
وعلى الرغم من أن غالبية العارضين كانت من الأجانب فإن معروضات الفنانين المصريين كانت موضع إعجاب الزائرين من أجانب ومصريين، وعلى الأخص معروضات الدكتور أحمد موسى محرر الرسالة الفني؛ ومن بين لوحاته لوحة سماها (في رحاب الفضاء) بلغ من روعتها أن الكثيرين حسبوها خدعة لا صورة من الطبيعة، لأنها صورة فلكية أخذها الدكتور في الاتجاه الجنوبي الغربي للقبة السماوية فبدت الكواكب فيها نقطاً لامعة في السماء أخذت اتجاهين مختلفين أبدعت عدسة الفوتوغرافية في التقاطها
ولوحات الدكتور موسى الأخرى مثل عال في التصوير الفوتوغرافي وخاصة لوحاته في الطبيعة، ومنها: (الأنساق) و (أحزان الغسق)
وتبلغ لوحات المعرض حوالي 350 لوحة يلمس المشاهد فيها كثيراً من روائع الفن الفوتوغرافي في مختلف البيئات المصرية والأجنبية وفي مختلف الدراسات والاتجاهات الفنية
الخطأ في طبعات المعجمات
في البقية من نقدي (كتاب المبشرين المزور) في الجزء السابق من (الرسالة) الغراء في كلام ابن الأنباري المروي عن اللسان والتاج -: (لأن الرجل لا يذهب زاده بموت امرأته إذا لم تكن قيمة عليه) (ولا يلزمه شيء من ذلك) والصواب (إذ) (ولا يلزمها) وإذ للتعليل. وليست زيادة الألف تطبيعا بل هي خطأ في طبعتي اللسان والتاج. والتطبيع في هذين المصنفين - يا طالب العلم - كثير، وهما المرجعان العظيمان في اللغة. وما أقول ما أقول لكي أنجي سرعة قد أخطأت - مما لا نجاة منه. إنها لملومة وربها ملوم
الإسكندرية
* * *
مخطوط ثمين نادر
أضافت الجمعية الملكية الآسيوية في البنغال إلى مجموعتها الثمينة مخطوطاً فريداً. وكان هذا المخطوط الى الآن ملكا لسلطان ميسور ومحفوظاً في مكتبته. وقد اشتراه الدكتور هداية(286/73)
حسين من أعضاء الجمعية الملكية الآسيوية. وعنوان المخطوط (جلزار اي ابراي) أي ورود الأبرار؛ وهو مكتوب بالفارسية ويحوي سيرة حياة الأولياء الصوفيين في الهند من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر؛ وفيه 575 سيرة كاملة. ولا يوجد في العالم غير نسخة واحدة كاملة من هذا المخطوط الثمين. وفي المتحف البريطاني في لندن جزء يسير منه. فالنسخة التي حصلت عليها الجمعية الآسيوية فريدة في العالم(286/74)
الكتب
جان درك
تأليف برناردشو
وتعريب الدكتور أحمد زكي بك
الحقيقة بطبيعتها جافة ثقيلة على النفس، ولكنها إذ تمتزج بالفن يتجلى فيها الجلال والجمال، والقوة والأناقة، والبهاء والرواء، والصفاء والوضوح، فتهش لها النفس، وتهفو نحوها الروح، وينطلق العقل في رحابها الفسيح نشوان متيقظاً كالنحل يرف على رحيق الزهر
ولا غرابة إذ لم يكن للحقيقة من نفسها بعض هذا، وكان لها من الفن كل هذا، فإن مهمة الفن أن يجمل الأشياء، ويقرب الأوضاع، ويزين الواقع، ويصل الحقائق المجردة بالعواطف والأحاسيس، وغاية الرضا عند الإنسان أن يشبع ما فيه من العواطف والأحاسيس
لهذا نجدنا نجفو كثيراً من الحقائق إذ يسردها التاريخ، ولكنا نهش إليها إذ يرويها الفن، وأنا لنرددها كثيراً فلا تزيدنا إلا متاعا ولذة، ونكررها مراراً فلا تغمرنا إلا بالراحة والاطمئنان. وهانحن أولاء نحب أن نتغنى كثيراً بحروب طروادة، ونشغف بأخبارها وملامحها غاية الشغف ولكن لا كما رواها الرواة ودونها المؤرخون، بل كما أنشدها في القديم الغابر شاعر ضرير اسمه (هوميروس)
وهذه القصة التي نقدمها للقراء اليوم إنما هي حقيقة من تلك الحقائق التاريخية خرجت في إطار من الفن المهذب، فموضوعها (حياة جان درك) وهي أشهر مجاهدة قديسة في تاريخ النصرانية، وأغرب شخصية بين الكفايات الممتازة الشاذة الأطوار في القرون الوسطى، جاهدت أن تفرض نفسها ودعاواها على الناس فرضاً، فشاع اسمها وذاع في غرب أوربا، ولم تكن بلغت العشرين بعد، وقد نهضت من الحضيض إلى العلاء نهضة باغتة، فلم يكن للناس فيها إلا رأيان: رأي يقول: إنها آية من آيات الله، ورأي يقول: إنها امرأة ثقيلة الظل لا يطيقها إنسان(286/75)
أما واضع القصة ومؤلفها فهو (جورج برناردشو) وهو في الأدب الإنجليزي من أكبر شخصياته إن لم نقل أكبرها في القرن العشرين، وفي أحقاب خلت. . . والقوم هناك يقدسونه إلى حد كبير، فلن تجد بينهم اسماً في عالم الأدب والسياسة ترهف له الآذان كاسمه، ولا جدلاً يهرع الناس لحضوره كجدله، ولا لساناً أقذع في النقاش وألذع في الجواب كلسانه، ولا فكاهة تنم عن صاحبها كفكاهته، فهو شخصية قوية، وعبقرية متميزة بكثير من المواهب، وإن له في فن القصة آيات بينات.
وأما المترجم فهو رجل درس العلم، واتصل بالأدب، وعالج الترجمة، فأكسبه العلم الدقة في الأسلوب، والتعقل في الاختيار، وأفاده الأدب السلامة في التعبير، والأناقة في اللفظ، وكان له من علاج الترجمة خير مران مكنه في هذه الناحية وثبت قدمه، فهو أمين في نقل غرض المؤلف، فطن في فهم إشاراته ومراميه، واضح في التعبير عن ذلك كل الوضوح. وتلك درجة قل في المترجمين من يبلغها، وهي الفرق بين ترجمة وترجمة. . . وهي التي تثبت شخصية المترجم فيما ينقل، وأنا إذ أقول سلامة التعبير، فأنا أشهد بأن المترجم قد بلغ في ذلك الغاية، فقد قرأت الرواية وأنا أراقب الرجل في أسلوبه، وحاولت جاهداً أن أحصي عليه، فلم أقع إلا على (أصواتها الداوية ص71)، (كلما داهمهم ص234) (نقص نضوجها ص268). على أن تلك من الأخطاء الشائعة في الألسن والأقلام، فقليل في الأدباء من يفطن إلى الصواب في ذلك فيقول: (مدوية. ودهمهم. والنضج). على أن الأخيرة مما يصح في القياس وإن تثبت في السماع.
ولقد كثرت الترجمة في هذه الأيام، وملأت فجاج الأرض وزادت على حاجة القراء خصوصاً في الأدب الروائي، ولكنها في الواقع ترجمة مبتذلة، لا تتصل بفن، ولا تقوم على وضع ولا تزيد في الثروة الأدبية ولكنها نقص وتدهور، فهي لا تعنى إلا بالقصص الداعر، والغراميات الحيوانية، وحوادث الإجرام واللصوصية، والسفك والانتحار، وكل ما هو على الأخلاق وقلب للأوضاع، واستهانة بالتقاليد. أما الترجمة القويمة التي نحن في أشد الحاجة إليها لتنهض بنا في مناحي العقل والتفكير والشعور والإحساس والحب والعطف والخير والكمال فذلك عندنا شيء قليل نادر كالكبريت الأحمر، وما ترجمة (جان درك) إلا من هذا الشيء القليل النادر، المفيد النافع، فهي ليست من القصص الفارغ الذي يطلبه(286/76)
القارئ لقتل الوقت وتزجية الفراغ، ولكنها أثر أدبي جليل حي بموضوعه وبفنه، فترجمتها إلى العربية يد جليلة وفكرة رشيدة قد أسداها الدكتور الفاضل إلى اللغة العربية والفكرة العربية
وقد تقول: إن قصة (جان) أليمة في وقائعها قاسية على العواطف بفجائعها، وأنا أقول: أجل ولكنها مع ذلك سائغة محتملة بالفكاهة الطريفة والنكتة المستملحة، والنادرة الساخرة، والبادرة البارعة، يحرص (شو) على ذلك في كل مواقف الرواية وحوادثها، وناهيك بفكاهة (شو) وبراعته في ذلك، ولقد زاد في قوة الرواية الفنية تلك الحياة التي خلقها (شو) في كل أشخاصها فكل منهم متحرك في عمله، وكل منهم ظاهر بنفسه في تأدية دوره، فلا ظهور لشخص على حساب شخص معطل كما يفعل ذلك كثير من القصصيين، ولا نبو ولا شذوذ ولا إغراق كما صنع مارك توين في قصته عن (جان) ولكنها الحوادث تجري على الوضع الطبيعي، وتستقر على النهج المألوف
ومما يزيد في قيمة الرواية ويرفعها تلك المقدمة الحافلة التي تناول فيها المؤلف شخصية (جان درك) الغريبة، فنظر إليها من جميع جهاتها، وأبدى رأيه صريحاً في كل مظهر من مظاهرها وقارن بينها وبين الأشخاص الذين هم على شاكلتها، وأنت تعلم أن جان فرنسية، وشو إنجليزي، وجان كاثوليكية، وشو نشأ في بيئة بروتستنتية، وجان روحانية في تفكيرها وفي آرائها، وشو رجل يحترم عقله ويقدس العلم والفكر الحديث، ولكنه فيما كتبه عن جان وضع الحق فوق كل اعتبار فكان حراً صريحاً، وكان باحثا مخلصاً ينظر إلى الواقع بعقله وقلبه وروحه وشعوره وعلمه وخبرته، وقد استعرض (شو) أقوال الكتاب والروائيين الذين كتبوا عن (جان) من قلبه، فانتقد ما فيها من التهافت والإغراق، وحاول أن يظهر جان في شخصيتها الطبيعية مرتفعاً بها عن المبالغات قوم قدسوها فطاروا بها إلى مسبح الأفلاك، وتحامل قوم حقروها فانحطوا بها إلى مجرى الأسماك، وعندما يقف عقل (شو) فلا يجد له منفذاً للتأويل والتخريج تجد الرجل لا يواري ولا يداري ولكنه يصارحك بالحقيقة التي في نفسه كما يقول وهو يتحدث عن أصوات جان وأطيافها: إن العقيدة تتحصل للإنسان فيما تتحصل من أنماط عيشه وعادات بيته، فأما أنماط عيشي ففكتورية، وأما عادات بيتي فبروتستنتية، فمن أجل عاداتي وأنماطي هذه أجدني عاجزاً عن التملص من نفسي لأحكم(286/77)
حكماً مجرداً بأن أطياف جان كانت أطيافاً حقة)
ففي قصة جان وفي مقدمتها اجتمع فن (شو) وعقله، وتجلت عبقريته وبراعته، وإن الدكتور أحمد زكي بك خير من يؤدي ذلك بدقته وأناقته، فلا غرابة إذا قلنا إن القصة قد جاءت في موضوعها وفي تأليفها وفي ترجمتها آية القوة والبراعة والدقة
محمد فهمي عبد اللطيف(286/78)
المسرح والسِّينما
آراء أعضاء لجنة القراءة
في الفرقة القومية
نعود الآن إلى الآراء التي أبداها أعضاء لجنة القراءة لنتبيّن منها مدى معرفتهم فن الرواية، وروح المسرح، وخاصية الناقد، إذ على الإدراك الصحيح يقوم البناء الصحيح للمسرح، فأعضاء اللجنة يرى - من تكلم منهم ومن آثر الصمت - (1) شبه طفرة في الرواية المؤلفة مما يدل على أخذ الفكر الروائي في نضوج سريع (2) وأن الفرقة لم تبلغ الكمال ولم تقترب منه بعد إنما هي تمضي سراعاً إلى الكمال (3) وأن رأي النقاد المسرحيين يجب ألا يدنو من النواحي الفنية والخلقية والاجتماعية واللغوية، لأنها من اختصاص أعضاء لجنة القراءة وحدهم (4) وأن اختصاص النقاد يجب ألا يتعدى ناحية إخراج الرواية ومعدات الإخراج وطول الرواية وقصرها عن الوقت المناسب (5) وأن حكم النقاد على أن الرواية قيمة أو ليست قيمة، أو مناسبة أو غير مناسبة، فمن عمل اللجنة وحدها (6) وأن ليس في مصر الآن نقد فني قوي يستطيع أن يسقط الروايات أو يعليها (7) وأن النقد الحالي محاولات أولية قائمة على مدح مفرط من غير أسباب فنية، أو ذم مفرط لأسباب شخصية (8) وأنه أن كان هناك نقد قوي فأعضاء اللجنة نقاد أيضاً (9) وأن النقاد يبدون آرائهم في الرواية حيث يكون الأمر قد انتهى وخرج من يد اللجنة، وأن الكرامة تأبى على مدير الفرقة سحب رواية وضح فشلها (10) وأنه قد يحدث أحياناً أن ترجع اللجنة بواسطة مدير الفرقة بالضرورة إلى رأي كبار المخرجين وكبار الممثلين لترى إذا كان يمكن تمثيل الرواية على الصورة التي قدمت بها (11) وأن كبار المؤلفين لا شيء يبعدهم عن الفرقة سوى تهيبهم كتابة الرواية المسرحية ووقوفهم في صف واحد مع الكتاب الناشئين
هذه خلاصة لما يراه أعضاء لجنة القراءة وهم عمد المسرح الحقيقيون ودعامته القوية، ولكن ما قول هؤلاء الأعضاء الأجلاء إذا كان فن الرواية، وروح المسرح، والواقع المنظور المحسوس الملموس تنكر عليهم دعاواهم؟ ما قولهم إذا لم يكن في البلد أديب واحد يقرهم على أقوالهم وهي التخبط بعينه؟ ما قولهم وقد دلت أقوالهم على أنهم في درك الوادي(286/79)
وأن فن المسرح والرواية في القمة الشاهقة؟ ما قولهم وقد كاد الأدباء يجمعون رأيهم يأساً وقنوطاً على ضرورة إهمال الروايات المؤلفة والالتفات إلى الترجمة فهي أقل أذى للنفوس من الروايات الموضوعة؟ ما قولهم في أن الروايات التي قبلتها الفرقة وبذلت الحكومة من أجلها من أموال الأمة مبلغ ستين ألفاً من الجنيهات هي أقل قيمة وأحط معنى ومبنى من الروايات التي كانت تمثلها فرقة السيدة فاطمة رشدي وفرقة رمسيس في بداية أعمالهما؟ ما قولهم في أن الأدب والأدباء والفن والفنانين، وكل من يشيع فيه روح الغيرة على الأدب والفن يصرخون في خمسة شيوخ جامدين، جامدين، جامدين، وغرباء جد الغربة عن روح العصر ووحي البيئة والجيل؟
أيريد هؤلاء السادة الأجلاء المعترف لهم بعلمهم وأدبهم وفضلهم وغيرتهم على الثقافة العامة أن نقول لهم: اعتزلوا أيها السادة أماكنكم قبل أن يقبض أعضاء البرلمان أيديهم عن الفرقة وهي جد عزيزة علينا؟
أيريد هؤلاء السادة الأجلاء المعترف لهم - مرة ثانية - بعلمهم وأدبهم وفضلهم وغيرتهم على الثقافة العامة أن نقول لهم بصراحة أن ليس فيهم من يعرف حدود المطلوب منه، أو المطالب به فينتحل كل واحد لنفسه السلطة التي يشتهيها، والأستاذية التي يفرضها على الناس، والحق في الطعن في ذوق الأمة وفي كفاية المثقفين
أيريدون الاطلاع على بواعث ما انتابهم أحرج الصدور وأرهف الأقلام لنقد أعمالهم؟
الباعث الأول - في اعتقادي - هو الإدارة الفوضى التي يتولها ذهن هو مثال لعداوة النظام وحب الاستئثار
فالنظام يقضي أن يتولى مدير الفرقة بذاته وبمؤازرة سكرتيره الفني فحص الروايات التي تقدم إليه والتي يكلف تراجمة أكفاء بترجمتها فيختار ما يصلح منها، أي ما يوائم (رسالة) الفرقة الثقافية
والنظام يقضي بأن يستعين مدير الفرقة بأعضاء لجنة القراءة على فحص الروايات التي تقدم إليه، لا أن يتخذ منهم أساتذة أو مستشارين أو غلالة يستر ضعفه ورائهم. والنظام يقضي أن تؤلف لجنة من الممثلين والمخرجين تكون مسؤولة عن فشل الرواية أو سقوطها لأن لهؤلاء دراية فنية تكتسب بالمران ليس للمدير نظيرها(286/80)
ولكن الفوضى، بله الضعف الإداري بأوسع معانيه، وافتقار مدير الفرقة إلى معرفة فن المسرح وفن الرواية، وهو الذي جعل لأعضاء لجنة القراءة قوة غير قوتهم وسلطاناً غير سلطانهم، وسول لبعضهم أن يفضح ذاته ويعرض أقرانه للفضيحة، فاضطرنا ذلك إلى نقل مركز الثقل من على كتف المدير المسؤول لنضعه على أكتاف من تطوعوا لتحمل المسؤولية لوجه شيطان الكبر والإدعاء
يحسن الوقوف قليلا عند رواية طبيب المعجزات، أولا لأنها الرواية المصطفاة من بين الروايات التي حازت جائزة المباراة؛ ثانيا لأنها توضح بأجلى بيان مبلغ فهم القائمين على شئون الفرقة للفن المسرحي والتأليف الروائي. ورواية طبيب المعجزات هذه كما لخصتها في مقال سابق معتمداً على قراءتها قبل تمثيلها وقد استبدلت خاتمتها بسواها، تدور حول طبيب استغرقه البحث العلمي فتوصل بعد جهد ومثابرة إلى إكسير يطيل الحياة مئات من السنين؛ وإذ يبلغ الأمة خبر هذا الاختراع العجيب من الصحافة التي رصدت له أوجه صفحاتها تهلل وتكبر وتفرح بطول الحياة، ثم تشارك الحكومة الأمة في تقدير العالم الجليل فتمنحه رتبة الباشوية وألزمت الناس بالتطعم بهذا الطعم.
ينام الطبيب فتتجلى له في الحلم مضار اختراعه. فيرى الحكومة تكلفه رسميا إلقاء محاضرة يوضح فيها خواص الإكسير، ويسمع أسئلة الناس تنهال عليه.
ونسمع الطبيب يوضح خواص اختراعه فيقول إن الرضيع تدوم مدة رضاعته خمس عشرة سنة، ويبلغ سن الرشد في سن المائتين والخمسين، وهكذا تتراكم على الطبيب الخيالات في الحلم فتهدم ما بناه في اليقظة.
هذه هي، رواية الموسم، هل تجد فيها (الفكر الروائي الناضج) أم هي (كوميديا) من النوع الذي يسر بعض أوساط من الناس عائشين على هوامش الحياة؟ هل يمكن أن تكون هذه الرواية أنموذجاً للكمال الذي قال فيه أحد أعضاء لجنة القراءة (إن الفرقة تمضي سراعاً إلى الكمال)؟
ابن عساكر(286/81)
العدد 287 - بتاريخ: 02 - 01 - 1939(/)
الرسالة في عامها السابع
بلغت الرسالة - والحمد لله على تأييده وتسديده - سنتها السابعة. والسبعة في عقيدة الشرقيين عدد يدل على الكمال واليمن والكثرة. وله في الفلك والرياضة والأساطير والدين مزايا وخواص. وهو في عمر الإنسان سن التمييز وأول الفتوة. فإذا بدت على الرسالة اليوم مظاهر النشاط ودلائل الاغتباط ومصاديق التجدد، كان ذلك جارياً على سنن الطبيعة. فان الحي ينمو، والنامي يتطوّر، والمتطوِّر يخضع لضرورة الوجود وحاجة الموجود، فلا يكون إلا ما ترضاه الحياة وتريده الخليقة. والرسالة وليدة الفكر المستقل في نهضتنا الحديثة؛ تخلَّقت من أمشاجه، وتغذت على إنتاجه، ورقَتْ على أسباب رقيه. فلو أنها كانت للعامة لقتلها مللها، أو كانت للسياسة لأصابها فشلها؛ ولكنها كانت للفكرة الحرة التي تَرُود ثم تقود ثم تهيمن؛ فإن شئت قلت هي الروحية في هيكل الوطن، وإن شئت قلت هي الإنسانية في معنى الأمة.
من أجل ذلك عاشت الرسالة. ولكنها تعيش كما يعيش الجِد، وتمشي كما يمشي الحق. والجد يعيش متزايلاً ولكنه ينال؛ والحق يمشي متثاقلاً ولكنه يصل.
لقد أصبحت الرسالة بفضل ما مكن الله لها في النفوس القريبة والبعيدة
عنواناً من عناوين المجد القومي الخالد، وفصلاً من فصول الأدب
العربي الحديث. فإذا وجدت على جنبات النيل مصر العاملة المدبرة،
وجدت على صفحات الرسالة مصر الشاعرة المفكرة. وشتان بين يد
تعمل في التراب، وفكر يجول مع السحاب، فيومض في كل نفس،
ويمطر في كل بلد! وإذا فني أثر اليد مع الإنسان، بقي أثر الروح
سرمداً مع الله. فمن ذا الذي يستكثر على الرسالة منا أن نُسهر لها
العيون حتى تَعشى، ونُرهف لها العزم حتى يكل، ونحبس عليها القلب
حتى يقف؟؟ أليست هي كما ذكرنا وكررنا ديوان العرب المشترك،
جَمعت فيه الأشتات إلى الأشتات، ووفَّقت بين الأصوات والأصوات، ثم(287/1)
ألفَّت من هذه الآلات المنفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع
الوجود أناشيد الخلود؟
يتساءل الذين اكتنهوا حرفة الأدب وكابدوا بلاء النفس فيها: كيف تسنى للرسالة أن تعيش على خفض الاشتراك ونقص المورد من الإعلان؟ ونحن نقول عن عقيدة وخبرة: إن وفرة المال لا تضمن النجاح، كما أن كثرة الجيوش لا تكفل النصر. إنما القوة الروحية هي المدد الإلهي الذي يهبه الله للمجاهدين متى شاء أن تدول دولة، أو تعلو كلمة، أو تبلغ رسالة. وتبليغ الرسالة جهاد. والمجاهد عتاده الإيمان وزاده الصبر؛ ومن وجد في العمل منجاه من الهم وملاذه من الناس فقد وجد الثواب عليه فيه.
على أن الرسالة مع ذلك شيدت داراً وأنشأت مطبعة. وهي ترجو في عامها الجديد أن يظاهر الله عليها المعونة حتى تقوم بإنجاز ما وعدت من توسيع الخطو وتنويع العرض وتوفير العُدة
نعم وعدت الرسالة! وكان من طبعها ألا تمالق الرغبات بالتمنية، وألا تستميل الشهوات بالوعد؛ كما كان من عقيدتها أن العمل الصامت أنطق الأدلة على توخي الحق، والماضي الواضح أضمن الوثائق للمستقبل المبهم؛ ولكنها في ميعة النشاط ونشوة الأمل تطيع سورة الشباب، فتطمح إلى الكمال مغضية عن العجز، وتثب إلى الغاية مستخفة بالعوائق. وما وعْدُها اليوم إلا فيض من الرجاء طفح مما تسر على ما (تعلن)!
شكونا من الحكومة أنها تهمل الأدب، وعتبنا على القراء أنهم يعزفون عن الجد، فما نفعت الشكوى ولا أجدى العتاب. ذلك لأن الحال التي نحن عليها اليوم من اضطراب الحكم بين رغبات الأمة وحملات المعارضة، وتوزِّع الرأي المثقف بين الأهواء المتعارضة في السياسة، لا تزال تبعدنا عن حياة الأمن والاستقرار التي تعود إلى الناس فيها لذة التفكير وشهوة القراءة. فليس لنا من سبيل إلا أن نؤدي واجبنا ونسكت، أو نقول كلمتنا على رأي المسيح ونمضي. والأديب مكتوب عليه أن يجاهد ويضحي، لا يستمد العون إلا من ربه، ولا يلتمس العزاء إلا من قلبه، ولا يبتغي الثواب إلا من سلطان ضميره.
وقد ظهر في العالم الأدبي مع هذا العام الجديد مجلتان محترمتان هما (العصور) و (الثقافة)، وسيكون لصوتهما مع صوت الرسالة دوي شديد يفتح العيون الوسْنى على(287/2)
الصحائف المكتوبة بعصارة الأذهان ومهج القلوب، فيهتز الأدب الذاوي، وتنشط العقول الفاترة.
اللهم إن كنا أسرفنا في الرجاء فذلك لحسن الظن بك وقوة الأمل فيك؛ فهب لنا من لدنك ولياً يكفكف نزوات النفس، ونصيراً يكفينا عوادي القدر، ومرشداً يجنبنا مزالق الرأي، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى الناس.
أحمد حسن الزيات(287/3)
سبيل الصحافة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن الكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني:
(كيف ترى الخبر الفلاني؟)
قلت: (عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم)
قال: (أنا جئت به)
قلت: (أهنئك. فمن أعطاكه؟)
قال: (قد والله سرقته!)
فضحكت وقلت: (اللص الشريف!)
وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال: (بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعتُ. وما أظن إلا أنه مغيظ محنق)
فقلت: (إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب)
وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت:
إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانينها إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارطة القديمة كان يذهب مذهباً آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارماً. والنتيجة واحدة، فان السارق الذي يستطيع أن يستر فعلته لا يصيبه شيء، وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل
ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئاً - لم يسرق خبزاً ليأكل، ولا مالاً لينفق على نفسه وعلى عياله، أو ليوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئاً في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططاً غير مقبول، وأمراً لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو -(287/4)
كما تعلم - سنيٌّ متدين، غير أن كونه سنيَّاً ومتديناً لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفاً أو بيضة لكان جزاؤه ما يبينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت (معدة ثعلبها لاحسٌ، وتارة أرنبها ضاغبُ) كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع به ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحبُ عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، وسارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء، لكان المحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرئ سارق المذكرة. وقد يرى القاضي أن الفاقة (ظرف مخفف) - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده (ظرفاً مبرئاً)
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعمله، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له، بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل به من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه وينفي أن يكون عنده مثله؛ وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم انه ما أغراه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطلق العقل
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة ولست أعرف صحفيَّاً واحداً أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته به أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي (حنبليًّاً) في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف على خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذا كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم؛ ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى(287/5)
الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة، فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها، مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها ما دام راغباً فيها ويحارب دونها؛ وهو الآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعاني متاعب المنافسة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره ومثاله أيضاً أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة
كذلك تفعل الصحافة. حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس. وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى (السلطة الرابعة؟). ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة. بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم - أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البغض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها. . .
وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملاً محموداً، ومن مرتكبها لصًّاً شريفاً! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبنائها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاماً، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء
إبراهيم عبد القادر المازني(287/6)
من برجنا العاجي
هاأنذا أهبط إلى برجي العاجي مع الشتاء، في الوقت الذي يهبط فيه (الأب نويل) مع عيد الميلاد. إني أرى لحيته الطويلة البيضاء تمتد لتلتف حول الكوكب الأرضي. لقد كان طرفها بالأمس في بلاد الجليد، فإذا هي اليوم في بلاد الشمس والهلال. لقد طفت بالمدينة فرأيت عجباً. لقد انقلبت القاهرة رأساً على عقب. أنوار وأعلام، وزينات وأفراح، والناس جميعاً مشغولون بإعداد سهرات العيد. الشرقيون قبل الغربيين يتسابقون إلى الاحتفال بعيد ليس عيدهم، ولكنهم يريدون تقليد الأجانب. بل إني لأعرف بيوتاً وأسراً شرقية مسلمة تقيم في منازلها (شجرة الميلاد) أسوة بالأوربيين. نعم. لقد ذهبت أعياد الشرق فلم يعد أحد يأبه لعيد الأضحى أو الهجرة أو ليالي رمضان. إن أعيادنا تقبل علينا فلا نبسم لها ولا نخرج لاستقبالها. إنما نحبس أنفسنا في بيوتنا كأننا نخجل منها ومن أنفسنا. فإذا جاءت أعياد الأجانب أسرعنا فخرجنا لها باشين مهللين. نحن في بلادنا نشارك الأجنبي في أعياده، وهو على أرضنا لا يشاركنا في أعيادنا. وبذلك أفهمناه وعلمنا آلنا وأطفالنا منذ الصغر ازدراء ما هو شرقي واحترام ما هو غربي. وهكذا أثبتنا للعالم أن مجرد وطء أقدام الأوربي أرضنا كاف أن يزلزل حصوننا المعنوية. نعم ما كان الغربي يتصوَّر أن الشرقي ينبذ من أجله حتى أفراحه التاريخية العريقة بألوانها الزاهية وطابعها الأصيل. إني ليخيل إلي أن الغربي ذاته، ذلك الضنين بتقاليده، الحريص على تجميل خرافاته، يدهش لرؤيته وجه الشرقي قد انطمست ملاحمه بهذه السهولة، وضاعت معالمه من الرؤوس والنفوس، وزال رسمه الحقيقي إلا من تلك الصفحات الرائعات التي سطرها أمثال بييرلوتي وجيراردي نرفال من الأوربيين أنفسهم الذين أعجبوا بالشرق يوم كان الشرق يحتفظ برداء شخصيته فلا يخلعه ليجري عارياً كالشحاذ خلف الغرب. إني لم أر قط باعتنا المتجولين يصيحون (بعرائس مولد النبي) في الطرقات ولكنهم صاحوا البارحة بنداء شق الفضاء: (الأب نويل بقرش أبيض! الأب نويل بقرش أبيض!). وبهذا تم لذي اللحية البيضاء غزو الشرق
توفيق الحكيم
الشريف الرضي وخصائص شعره
للأستاذ عبد الرحمن شكري(287/7)