حرية القول في الأدب العربي الذي شرحناه في أول هذا المقال، ولا من الحق ألا يرى أن حرية القول الناشئة من إطلاق الشاعر نفسه من القيود أثناء البحث شططا منه لم يأت بأشنع من الأمثلة التي ذكرناها للأستاذ من الأدب العربي، بل لعلها أقل شناعة؛ وهي على أي حال ليست من لوازم أي مذهب، فمثلها في آداب العصور والأمم موجود، وواجب الناقد أن يميز بينها وبين الصالح من قول الأديب أو الشاعر. ومما يدل الأستاذ على أن الأدب المصري الحديث خليط من القديم والجديد أن أحدهما يلقى زميله فيسأله هل أنت من أنصار المذهب القديم أم من أنصار المذهب الجديد؟. كأن الحكم ليس لما يؤلفه الأديب من شعر أو نثر، وكأنما يصح أن يكتب الأديب على طريقة المذهب الجديد ويختار أن يعد من أنصار القديم أو العكس. لكن هذا السؤال له معنى وقيمة؛ إذ هو دليل على الحيرة من أجل أن أدب كل أديب خليط من مؤثرات الأدب العربي في عصوره المختلفة والأدب الأوربي أيضاً؛ وإنما هذا الخليط عند كل واحد باختلاف مقادير عناصره. ومن الأسباب التي تدعو إلى سوء الظن بالأديب الجديد علاوة على ما ذكرنا، ما يقرأ منه أحياناً من سخر وتشاؤم، وقد يكون فيهما شطط، وقد يحسبان من قلة الإيمان، ولكنهم قد يكونان من الإيمان الحائر في وجوه الكون والحياة الذي لم يوهب نعمة الأستقرار، وهي حالة تعرض لكثير من النفوس فلا يستطيع تجنب وصفها كل التجنب. وإذا نظر الأستاذ إلى ما ينشر في الصحف والمجلات والكتب في جميع الأقطار العربية من شعر ونثر وجد في تباين أبواب القول الذي يترك جانباً من النفس والحياة لم يحاول نعته، ما يدل الأستاذ على أن هذا التنوع هو خصيصة الأدب الحديث، وهو يشمل ما يشكو منه الأستاذ، ولكنه أعم مما يشكو منه، وقد صار هذا التنوع في الأدب وشموله بحث نزعات النفس وجوانب الحياة قاعدة عامة في آداب العالم كله؛ ولا يمكن إعادة عقارب ساعة الزمن إلى ما كانت عليه في الماضي للقضاء على ما يشكو منه الأستاذ. فإذا أراد أن يظفر بتطهير الأدب كان الأحجى به ألا يتعصب لقديم ولا لجديد، وأن يأخذ من الجديد على تنوع أغراضه وأبوابه ما لابد لإشباع مطالب النفس والفكر في عصر تعددت فيه مطالبهما وأصبحت كمد النهر في فيضانه، وألا ينتقد هذا الأدب الجديد بالجلة كي يصيب سامعاً مجيباً إذا هو قصر نقده على ما في هذا الأدب الجديد من شطط، وأن يتخذ في نقده هذا الشطط طريقة التحليل النفسي والإلمام(270/8)
بأسبابه ونتائجه وشواهده على طريقة الطبيب المداوي بالتحليل النفسي، وألا يقصر نقده على شطط الجديد من غير نظر إلى شطط القديم، وقد أوضحنا أن حرية القول في الأدب الجديد تمت بسبب إلى الأدب القديم سواء أكان ذلك في الغزل والأمور النفسية أم في الأمور الفكرية، وليطهر كتب الأدب القديم وعاداته المألوفة من مجون وشطط فكري كما بينا
وإني لأربأ ببصيرة الأستاذ وعقله أن يظن كما يظن بعض الناس أن إسقاط أديب أو أكثر من أديب من أدباء المذهب الجديد يقضي على هذا المذهب. ولو كان من المستطاع القضاء على كل ما قاله أدباء المذهب الجديد من شعر أو نثر - الجيد منهما وغير الجيد والمقبول، وغير المقبول - فان القضاء على ما قاله المعاصرون لا يقضي على الأدب الجديد، لأن أسبابه أعم وأكبر من أن تحسب من ابتكار أديب أو أكثر من أديب. وربما كان من الحكمة أيضاً ألا ينسى الأستاذ وهو الخبير بالنفس الإنسانية أن بعض العداء الذي لاقاه المذهب الجديد من غير المبرزين الفطاحل كان بسبب الإجادة المحمودة المأثورة المحسودة في بعض هذا الأدب الجديد، وإن كان عداء المبرزين الأفاضل أمثال الرافعي بسبب اختلاف حقيقي في الرأي والروح
(قارئ)
سهو
ذكرت سهوا أن أبيات ابن الرومي في (كتاب صهاريج اللؤلؤ) والحقيقة أنها في كتاب (فحول البلاغة) للمؤلف نفسه أي البكري ولا يوجد شرح ولكنه اختارها هي وقصيدة (بوران) ولم يكف عن اختيار المجون تحرجا. وكذلك لا يوجد شرح في الأرجوزة الأخرى ولكن عدم التحرج ملحوظ أيضاً
(ق)(270/9)
بيجو
للأستاذ عباس محمود العقاد
حُزناً على بيجُو تفيض الدموعْ
حُزناً على بيجُو تثور الضلوع
حُزناً عليه جهد ما أستطيع
وإن حزناً بعد ذاك الولوع
والله - يا بيجو - لَحُزْن وجيع
حزناً عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مُسامري حيناً ومستقبلِي
وسابقي حيناً إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوع
وكلما داريت إحدى التحفْ
أخشى عليها من يديه التلف
ثم تنبهت وبي من أسف
ألاّ يصيب اليوم منها الهدف
ذلك خير من فؤاد صديع
حزناً عليه كلما عزّني
صِدْقُ ذوي الألباب والألسن
وكلما فوجئت في مأمني
وكلما اطمأننت في مسكني
مستغنياً، أو غانياً بالقنوع
وكلما ناديته ناسيا:
بيجو! ولم أبصر به آتيا
مداعبا، مبتهجا، صاغيا(270/10)
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صَدىً فيه ولا من سميع
نسيت؟ لا. بل ليتني قد نسيتْ
أحسبني ذاكرَه ما حييت
لو جاءني نسيانه ما رضيت
بيجو مُعَزَّيَّ إذا ما أَسِيت
بيجو مُناجيّ الأمين الوديع
بيجو الذي أسمع قبل الصباح
بيجو الذي أرقب عند الرواح
بيجو الذي يزعجني بالصباح
لو نبحةٌ منه، وأين النباح؟
ضيّعت فيها اليوم مالا يضيع
خطوته. . . يا بَرْحَها ألأم!
يخدش بابي وهو ذاوي القدم
مستنجداً بي. . . ويح ذاك البكم!
بنظرة أَنطَقَ من كل فم
يا طولَ ما ينظر!. . هذا فظيع!
نَمْ. لا أري النوم لعيني يطيبْ
أنتم خبيرون بنهش القلوب
يا آل قِطمير هواكم عجيب
غاب سَناَ عينيك عند الغروب
وتنقضي الدنيا. . . ولا مِن طلوع
نَمْ واترك الأفواج يوم الأحدْ
والبحر طاغٍ، والمدى لا يحدْ
عيناي في ذاك، وهذا الجسد(270/11)
بوحشة القلب الحزين انفرد
والليل. والنجم. وشعب خليع!
أبكيك. أبكيك وقَلَّ لجزاء!
يا واهب الود بمحض السخاء
يكذب من قال: طعام وماء
لو صح هذا ما محضتَ الوفاء
لغائب عنك. . . وطفل رضيع(270/12)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
4 - وطني
كنت عند صديق لي شاب ذكي، نال شهادة البكالوريا، فلم يطف بها على دواوين الحكومة يستجدي (وظيفة) ويسأل (الخزينة) حسنة، كما يفعل كل شاب في هذا البلد، وإنما نزل إلى السوق ففتح للتجارة محلاً يعيش فيه سيداً عزيزاً، على حين يعيش الموظفون مقيدين مسودين، ويأكل خبزه بكسب يده على حين يأكله كثيرون بضمائرهم وأديانهم، ويخدم أمته هادئاً صامتاً على حين يؤذي أمتهم كثيرون، وهم يخطبون الخطب الوطنية، ويملئون الدنيا كلاماً جميلاً. . .
كنت عند هذا الصديق، ومن دأبي أن أزوره كلما مللت العمل أو نزلت إلى البلد، آنس به، وأشرف من دكانه على الدنيا فأرى ما فيها. . . فرأيت رجلاً يدخل عليه، فيريه نماذج من البضائع يعرض عليه أن يكون وكيل معملها، والتفرد ببيعها لما سمع عنه من الثناء وما وصف له به من الذكاء والاستقامة، ويخبره بالأثمان، فيتهلل وجه صاحبي، ويشرق فرحاً بهذه الأرباح التي سينالها، ولكنه يتريث فيسال الرجل أن يدع له البضاعة ويتركه ساعة يفكر، ثم يعود إليه فيأخذ الجواب. . .
فيمضي الرجل، ويميل علىَّ صاحبي فيسر إلى أن هذه الصفقة أجدى من دكانه وما فيه، فأهنئه وأتمنى له ما يتمنى لصديقه الصديق، ولكنه لا يلبث أن يقلب البضاعة فيعلو وجهه الأشمئزاز، ويبدو عليه الغضب. فأسأله: مالك يا صاحبي؟
فقال: مالي؟ إنها بضاعة صهيونية!
فقلت له: وماذا يعينك منها؟ أنت تاجر، فبع من شاء أن يشتري ولا تدعُ إليها أحداً
قال: معاذ الله! أأنا عدو وطني وديني؟ إني تاجر، ولكني أعلم أن على التاجر أن يخدم أمته من الناحية التي أقامه الله فيها كما يخدمها المعلم والموظف والصحفي. . . وخدمة الأمة بأن تتقدم لها منفعة في مالها أو أخلاقها أو أبنائها أو صحتها، أو تدرأ عنها ضرراً. ليست خدمة الأمة بالجعجعة والصياح والخطب المدوِّية والمقالات الطنانة؟
قلت: وهذا الربح الذي وصفته لي أترضى بأن تدعه لغيرك؟(270/13)
قال: من أراد أن يأخذ جمرة من جهنم فليفعل. أما أنا فلا أريد، سيغنيني الله عنه
ولقيته بعد أيام، فقلت: ما فعل الله بتلك الوكالة؟
قال: رفضتها فعرضوها على أهل السوق فقبلها منهم فلان!
قلت: رئيس لجنة مقاطعة البضائع الصهيونية؟
قال: نعم!
5 - معصرة
كنت أسير في (دوما) قصبة الغوطة الشرقية، فرأيت شارعها الأعظم (الذي يشقها شق شارع الرشيد مدينة بغداد) رأيته يمضي مستقيماً سوياً حتى إذا جاوز ثلثيها انحرف ذات اليمين وما ثمة مسجد يغشى عليه الهدم، حتى ينحرف لأجله الشارع ولا أثر قيم، ولا صخرة قائمة، فعجبت وسألت صاحبي الذي كان يمشي معي
فقال: كان هنا في سالف الدهر معصرة لوجيه من الوجهاء لم يقدر على هدمها، فلوى من أجلها الشارع!
فقلت: هذه هي مصيبتنا! ولو أنها معصرة واحدة لاحتملت، ولكنا كلما خططنا في الحياة طريقا مستقيما اعترضتنا (معصرة) لوجيه من الوجهاء. فكم من (معصرة) في طريق القوانين والنظم، وفي طريق العدالة والقضاء؟
هل خلا طريق لنا من (معصرة)؟ فمتى تهدم هذه (المعاصر)؟
(دمشق)
علي الطنطاوي(270/14)
البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 3 -
الفجر في سورية
سورية وفرنسا
لقد قبل أهل لبنان الانتداب الفرنسي بلا مقاومة عنيفة، بينما بقي السوريون يعتبرونه حالة لا مبرر لها. وقد عبروا عن كراهيتهم له بمقاومات مستمرة مشروعة وغير مشروعة. وكانت ثورة سنة 1925 أبلغ هذه المقاومات أثراً، ولم ينجح الفرنسيون في قمعها إلا بعد عامين. وقد بدأت بعصيان قادة الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز الواقع في الجنوب الشرقي من سورية. إلا أن هذا العصيان ما لبث أن توسع حتى عم البلاد كلها. وقد أدت هذه الثورة التي كانت سادس حركة تحريرية قام بها السوريون إلى ضرب الفرنسيون دمشق بالقنابل في شهر أكتوبر سنة 1925م إذ ضربت مدافعهم بعض أحياء المدينة كما ألحقت الضرر الجسيم بكثير من الأماكن ذات الأهمية التاريخية مثل (الطريق المسمى بالمستقيم)
وسار السوريون في جهادهم للحصول على حقوقهم الطبيعية إلى أن منحهم الفرنسيون عام 1930 رئيساً للجمهورية ووزارة دستورية ومجلساً نيابياً. على أن الدستور الجديد لم يقض على سلطة المندوب السامي الواسعة، فهو ما زال يدير شئون سورية من مركزه في بيروت، كما أنه لم يخرج الجيش الفرنسي من البلاد. أما معاهدة سنة 1936 التي ستوضع موضع التنفيذ بعد ثلاث سنوات من عقدها فهي تتعهد بمنح سورية استقلالها التام. والتحالف السوري الفرنسي بموجب هذه المعاهدة ليس مؤبداً كتحالف لبنان، بل هو موقت بخمس وعشرين سنة
يوجد بين الأهلين في مصر والعراق والسودان أناس يعترفون بفضل بريطانيا العظمى عليهم في الماضي، ولا يشعرون بكره نحو الأفراد البريطانيين. أما هنا فالعداوة بين(270/15)
السوريين والفرنسيين ذات صفة شخصية؛ وهي ليست موجهة ضد الأفراد الفرنسيين فحسب، بل إنها تتعداهم إلى أسرهم. وقد شرح لي أحد السوريين الشعور الذي يحمله أبناء وطنه بهذه العبارة: (أنني أحب فرنسا وأحترم الفرنسيين في بلادهم، ولكي أكرههم في بلادي التي باتت تئن من سوء إدارتهم)
أن أهم ما يتذمر منه السوريون هو أن فرنسا تسعى لجر المغانم المادية من وراء سورية. وهم يحملون الفرنسيين مسؤولية تأخر سورية الاقتصادي منذ عام 1920؛ وهم يتهمون موظفي فرنسا وجنودها باستعمال مراكزهم الرسمية لابتزاز المال. وقد قلت مرة لسوري: أن الرشوة وسوء الاستعمال هما عند الموظفين من التقاليد التي اشتهرت بها الإدارة الوطنية. فأجاب: (من المحتمل أن تكون مصيباً في ملاحظتك، وأنا أؤكد لك أن الذين يؤمنون إيماناً صحيحاً بنزاهة موظفينا في عهد الاستقلال الآتي هم قليلون؛ ولكن إذا كان لا مفر لنا من الخيانة فإننا نفضل أن تذهب الرشوة إلى جيوب السوريين دون جيوب الأجانب فان صرفها في بلادنا لأرجح من صرفها في فرنسا)
ويقال أن هناك سبباً آخر ذا علاقة بالأخلاق يزيد في موقف السوريين العدائي؛ فالأسرة تلعب دوراً مهماً في حياتهم، والفساد الجنسي عندهم أقل مما هو عليه عند الأكثرية من جيرانهم العرب، ولهذا فأن معظم سكان سورية يعترضون بشدة على وجود الجنود الفرنسيين (الملونين) بينهم أن بقاء الجند الأجنبي في البلاد في أيام السلم لابد أن يأتي بنتائج مضرة، وخصوصاً إذا كانت جيوش الاحتلال منسوبة إلى أقوام يشتد عند أفرادها الميل الجنسي
مشاكل وزعماء ومجاهدون
كنت أود الاطلاع على المشاكل التي سيكون لها أثر في حياة سورية المستقبلة، ولهذا قصدت زيادة كل من: بطريرك الروم الأرثوذكس وهو رئيس أكبر طائفة مسيحية في سورية، وفارس الخوري وهو أكبر رجال السياسة في البلاد، والدكتور الكيالي وزير المعارف وعميد الجامعة، وفخري البارودي زعيم الشباب السوري وهو السياسي الذي يحتل المكانة الأولى في قلوب الجماهير
حديث فارس الخوري(270/16)
فارس الخوري هو رئيس مجلس النواب وزعيم الحزب الوطني وقد تمكن بفضل تجاربه الكثيرة في ميدان السياسة التي مارسها مدة طويلة أن يتمتع بنفوذ عظيم بين رجال السياسة في البلاد. وهو من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت وأستاذ في الحقوق في الجامعة السورية. وهو رجل قد أسبغت عليه مقدرته العقلية بالاشتراك مع مظهره المهيب حلة من الوقار. إلا أن جملة لم تكن خالية من الزخرف اللفظي الذي بمبل إليه بصورة جلية. وقد ذكرني وهو جالس وراء منضدته في مكتبة الخالص في دار البرلمان الجديدة بالأستاذ نيكولاس ماراي بتلر. قال بلغته الإنكليزية الصحيحة:
(أن سورية في نظرنا لا تنحصر بالمقاطعة المعروفة بهذا الاسم اليوم، بل هي تشمل كل البلاد التي كانت في وقت من الأوقات جزءاً منها: أي لبنان وفلسطين والعراق. إن حدودنا الحقيقة يجب أن تتاخم حدود تركيا والحجاز ومصر والبحر الأبيض المتوسط وإيران. إننا لا ننكر أن توحيد هذه الأقطار مستحيل الآن، ولهذا فإن همنا موجه أولاً إلى تشكيل اتحاد للدولة العربية تكون أعضاؤه مستقلة. إن اتحادنا مع لبنان هو أول خطوة لتحقيق هذه الغاية، فان انفصالنا عنه أمر غير طبيعي. إن اللبنانيين الذين يتحدثون عن الاختلاف بيننا في الأصل وفي المصالح الاقتصادية لمبالغون. فالواقع أن وجوه الاختلاف بيننا أقل من وجوه الشبه
(إن أمامنا مهمتين رئيسيتين، ألا وهما تشكل الجيش الوطني وتحقيق الإنعاش الاقتصادي. أما الجيش فهو ضروري لحفظ كرامتنا، وفرقة واحدة منه تكفينا الآن إذ أن الجيش الفرنسي الذي لا يوجد عندنا غيره في الوقت الحاضر قد يوجه في يوم من الأيام ضد مصلحتنا وذلك عندما تفكر فرنسا في تحويلنا إلى سفتجة تعرضها عند اللزوم على بريطانيا أو تركيا أو - حتى - إيطاليا. وبالإضافة إلى ذلك فلسنا كالإناث حتى نحتاج حماية جيش أجنبي، فنحن قادرون على حماية أنفسنا) وهنا رفع صوته ليؤكد جملته الأخيرة، وأجال بصره حول الغرفة كأنه يستعرض تلك (الفرقة الواحدة) ثم تابع كلامه بلهجة هادئة فقال:
(أما المهمة الثانية وهي تقوية دعائم البلاد الاقتصادية فان الوحدة العربية ستبقى خيالا إذا لم تسبقها هذه التقوية. إن ما نستورده في الوقت الحاضر من الخارج يساوي أربعة أمثال(270/17)
ما نصدره، وعليه فلا بد لكل دولة عربية من تحقيق توازنها الاقتصادي قبل تحقيق الوحدة العربية المنشودة. ولن تنجح سورية في تعديل ميزانها الاقتصادية ما لم تعمل على تخفيض مقدار ما تستورده تخفيضاً شديداً، وتسعَ إلى خلق صناعات جديدة في البلاد وتحسين الزراعة
(إن نسبة تقدمنا الثقافي تكاد تفوق نسبة ما تتحمله البلاد من تقدم اقتصادي. فالسوري ذو ميل فطري للدراسة؛ ونحن نثقف أولادنا في الجامعات الأوربية حتى أوشك عدد المتعلمين عندنا أن يزيد على الأعمال المفتوحة لهم)
(يتبع)
علي حيدر الركابي(270/18)
النظام القضائي في مصر الإسلامية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
القضاء في أمة من الأمم مظهر من مظاهر تقدمها. ولقد قال لينبول في معرض كلامه عن القضاء في مصر الإسلامية: (إن هذه الروح الاستقلالية عند القاضي الذي كان يُضرَبُ بالسياط إذا ما خالف الأوامر العالية كانت رمزاً لما كان يعامل به غيرُه ممن هم في مرتبته وفي مركزه. ولقد ساد الظلم في هذا العصر وتفشت الرشوة في سائر الأعمال الإدارية، ودخلت البلاد تحت حكم طائفة من الولاة وعمال الخراج ممن جمعوا الأموال كرهاً وعسفاً في عصر لم يكن القاضي ليؤتمن فيه على الشريعة الغراء. هذا فضلا عما كان هنالك من رشوة متفشية وتهديدات مصوبة إلى هذا القاضي
(وربما كانت الشريعة الإسلامية محدودة المادة، وقد يكون القاضي متطرفاً في اعتقاده. غير أنه كان على الأقل على نصيب من العلم والمعرفة، وله خبرة اكتسبها من اشتغاله بالتشريع الإسلامي، كما أنه اشتهر لدى الجمهور بالاستقامة وسمو الخلق، ولما كان لمركزه من أهمية ولشخصه من كبير نفوذ لم يكن يجري عليه ما كان يجري على غيره من العمال، بل ظل القاضي في كثير من الأحيان يشغل منصبه في عهد ولاة عدة، بل كثيراً ما أعيد إلى منصبه إذا ما تولى الحكم أو وال جديد
(ولم يكن هناك أسرع من القاضي في تقديم الاستقالة إذا تدخل في أحكامه الشرعية متدخل. وقد بلغ من محبة الناس للقضاة أن أصبح الولاة يفكرون ملياً إذا حدثتهم أنفسهم بالإقدام على عزلهم حتى لا يعرضوا أنفسهم لكراهة الجمهور التي قد يجرها إليهم أي تدخل من جانبهم في السلطة القضائية. وفي الحق لم يعدَ الوالي في العصر العباسي يملك سلطة عزل القضاة. ويظهر أن تعيين القضاة أصبح منذ أيام أبن لهيعة (155 - 164هـ) تصدر به المراسيم من بغداد عادة، كما غدت مسألة تحديد الراتب ودفعه موكولة إلى الخليفة نفسه)
وهذه العبارة التي ذكرها لينبول في جملتها بمثابة وصف موجز لحالة القضاء في هذا العصر. على أنه بالرغم من ذلك فقد أتى بعض قضاء هذا العصر بضروب من الإصلاح بارزة، فعرف توبة أبن نمر الحضرمي (115 - 120هـ) بالاستقامة، وكان يهيب إخوانه(270/19)
ويصلهم بكل ما ملكت يداه حتى وصفه الناس بالتبذير هذا إلى أن توبة كان أول قاض وضع يده على الأحباس (118 هـ) حفظاً لها من التَّوى والثورات وجعل لها ديواناً كبيراً
كذلك كان القاضي غوث بن سلمان الحضري (135 - 140هـ) حسن الأحدوثة وقد عمل على تطهير القضاء من العيوب التي كانت متفشية فيه وأخصها شهادة الزور. ولقد عالج هذا العيب فكان يسأل عن الشهود سراً. فإذا تأكد من استقامتهم وحسن شهادتهم قبل شهادتهم. وقد عرف غوث بالنزاهة والاستقامة، وكان كما قال الكندي (أعلم الناس بمعاني القضاء وسياسة) وأشتهر بالعدل والاعتدال في أحكامه على الرغم من عدم تضلعه في الفقه الإسلامي. يدلّك على ذلك ما كان من كثرة الخصوم على داره بعد وفاة خلفه. وقد بلغ من عدل غوث هذا أنه جعل الخليفة المهدي العباسي وامرأة شكته إليه على قدم المساواة في الحكم. ولما وكّل الخليفة عنه رجلاً، ساوى بين هذا الرجل وبين الخصم في مجلس القضاء
كذلك كان أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد (144 - 153هـ) فقيهاً متضلعاً في علم الشريعة. ولقد بلغ من نزاهته أنه كان لا يأخذ عطاءه عن اليوم الذي لم يعمل فيه للقضاء شيئاً. وربما يعجب القارئ لما كان عليه هؤلاء القوم من النزاهة والورع في هذا الوقت، ولقد كان يقضي هذا القاضي يومه بعيدا عن مجلس الحكم إذا رأى التخلف لغسل ثيابه أو لحضور جنازة أو نحو ذلك حتى عبر عن اعتقاده بقوله (إنما أنا عامل للمسلمين، فإذا اشتغلت بشيء غير عملهم فلا يحل لي أخذ مالهم)
ولعل القارئ يعجب كيف يتخلف ذلك القاضي العظيم، وهل كان يوجد في ذلك الوقت من يكفيه مؤونة غسل هذه الثياب؟
ولكن أخلاق القضاة في ذلك الوقت كانت أخلاقا إسلامية متواضعة، وكانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في تواضعه وتنزهه عن الكبرياء، فلقد أَثِرَ أنه كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقضي كثيرا في حاجاته بنفسه؛ وهذا العمل في حد ذاته رياضة محبوبة ينزع إليها كثير من العلماء، وهو نوع من الديمقراطية لإرضاء الفقير
وكان أبو عبد الله بن لهيعة (155 - 163هـ) أول قاض ولي من قبل خليفة في العصر العباسي، كما كان أول قاض حضر في إثبات رؤية الهلال. ولقد أتى المفضل بن فضالة (168 - 169، 174 - 177هـ) بكثير من ضروب الإصلاح التي أدخلها على نظام(270/20)
القضاء. وكان كذلك أول من عنى بالسجلات وجعلها تامة وافية، فدوّن فيها السَّحايا والوصايا والديون وأول من أتخذ (صاحب المسائل) ومهمته الوقوف على حقيقة الشهود.
ويظهر أن هذا الإصلاح الأخير إنما كان ظاهرياً فقط، فقد قيل أن هذا الموظف كان يرتشي من بعض الناس ليقرر عدالتهم لدى القاضي. على أن المفضّل فطن إلى ضرر الاستعانة بهذا الموظف، وأضطر أمام الأمر الواقع فعين عشرة رجال للشهادة، ولكن هذا العمل لم يرق في نظر الجمهور لاتخاذ الشهود بهذه القلة، ولأنه عمل جديد لم يسبق إليه أحد من القضاة، فقال رجل يدعى اسحق بن معاذ يقبح رأي القاضي:
سننْتَ لنا الجوْرَ في حكمنِا ... وصّيرت قوماًُ لصوصاً عُدولا
ولم يسمع الناسُ فيما مضى ... بأن العدول عديداً قليلا
وقد نظم لهيعه بن عيسى الأحباس وكانت في أيامه على ما قال هو لأحد أصحابه (سألت الله أن يبلغني الحكم فيها فلم أترك شيئاً منها حتى حكمت فيه وجدّدت الشهادة به) ولا غرو فقد جمع الأموال التي من الأحباس وخصص منها نصيباً لأهل مصر كما أدخل فيها المطوعة الذين كانوا يعمرون المواخير وأجرى عليهم العطاء من الأحباس فكان ذلك أول ما فُرضت فروض القضاة فسنّ الناس هذه السنة بعد لهيعه وسميت (فروض لهيعة) ثم سميت بعد ذلك فروض القاضي وفي ذلك يقول فراس المرادي
لعمري لقد سارت فروض لهيعة ... إلى بلد قد كان يهلك صاحُبهْ
إلى بلد تُقرَى به واليوم والصدى ... تعاوره الروم الطغام تحارُبهْ
رشيد وإضنا والبرلّس كلها ... ودمياط والأشتوم تقوى تغالبه
لهيع: لقد حزت المكارم والثنا ... ومن عند ربي فضله ومواهبه
فقد عمَّرت تلك الثغور بسنة ... تعد إذا عدت هناك مناقبه
على أن لهيعه قد أغضب أهل مصر لما كان من اتخاذه ثلاثين رجلاً من الشهود جعلهم بطانة له، فقال أبو شيب مولى نجيب في صحابه لهيعة شعراً ننقل بعضه لأنه يبين كيف كان يعقد مجلس الحكم في هذا العصر، وأن كنا نرى في هذا الوصف مبالغة قوامها التشهير بهذا القاضي وصحابته:
لازموا المسجد ضلاّ ... لاً من الأمر الرشيد(270/21)
لحوانيت بَنَوْها ... بغناً كلّ عمود
والأحُوا بجباهٍ ... من نطاح الحُصر سودِ
تحت أميالٍ طِوال ... كبراطيل اليهود
وتراهم للوصايا ... وعدالات الشهودِ
في مراء وجدال ... وقيام وقعود
وخشوع وابتهال ... وركوع وسجود
وعلى القسمة أضرى ... من تماسيح الصعيد
هذا حال نظام القضاء في مصر إبان هذا العصر، غير أنه للأسف لم يكن خالياً من عيوب ونقائص جعلته متمشياً في جملته مع تلك الحال السيئة التي سادت البلاد في هذا الوقت. نعم! قد عرف بعض القضاء بسوء السيرة فأساءوا إلى سمعتهم وسمعة كتابهم بما أتوه من أعمال الرشوة؛ على أنه يلوح لنا أن الخلفاء كانوا لهؤلاء وأمثالهم بالمرصاد، فقد ذكر الكندي أن هشام بن عبد الملك الأموي بلغه أن يحيى بن ميمون الحضرمي (105 - 114هـ) لم ينصف يتيما احتكم إليه بعد بلوغه، وحوّل قضيته إلى عريف قومه، وكان اليتيم وقتئذ في حِجره، ثم حبسه حين أتصل به أنه أخذ يشنع عليه ويرميه بعدم إنصافه، وعلم الخليفة بهذا فعظم ذلك عليه وصرفه، وكتب إلى الوليد بن رفاعة عامله على مصر يقول: (أصرف يحيى عما يتولاه من القضاء مذموماً مدحوراً، وتخير لقضاء جندك رجلاً عفيفاً ورعاً تقياً سليما من العيوب لا تأخذه في الله لومة لائم)
حسن إبراهيم حسن(270/22)
فلسفة الأسماء
للأستاذ السيد شحاتة
إن أول ما يصادف الإنسان في حياته فيوسم به ويبقى ملازماً له، ويشتهر به حتى بعد موته، ويمتاز به عن غيره من الناس، هو الاسم. وقد ترتفع بالإنسان الشهرة وذيوع الصيت إلى أن يكون طبيباً نطاسّياً أو شاعراً فحلا أو عالماً نحريراً أو خطيباً لسناً أو صانعاً ماهراً فلا يعرفه الناس ولا يقرون له بفضل إلا مقروناً باسمه
فالاسم هو السمة الواضحة البارعة التي تفصح عن صاحبها وتبين عن مواهبه. وفي القديم والحديث تفنن الناس في انتقائها وجهدوا في اختيارها حتى اتخذوا من الأسماء علامات للخير والشر والذكاء والغباء والسعادة والشقاء
ولرجال التربية مذهب في تسمية الأبناء فهم يرون أن أول واجب على الأب أداء هذا الدين على وجه موفق محبوب باختيار اسم جميل يكون عنواناً محبباً مقبولاً لابنه على تقادم الأيام، يرى فيه عزة وكرامة لا مهانة وسخرية. فهم ينصحون الآباء بأن يؤدوا الأمانة أحسن أداء فلا يسمون أبناءهم باسم قبيح مرذول حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب
وفي الحقيقة أن للاسم تأثيراً كبيراً في توجيه عقلية الإنسان وفي سعادته وفي نبوغه وفي شهرته. وقد تسعد الأسماء أو تشقى بسعادة أصحابها أو شقائهم. وقد يتهافت الناس على أسم فيشيع ويذيع لأنه لنبي أنار الظلمات، أو ولى أزال الشبهات، أو قائد أو زعيم طارت شهرته، فأخذ الناس بسناه، وتأصل بينهم من اسمه سحر يجذبهم إليه
الإنسان والأسماء
لقد كانت التسمية عند الإنسان هي المحور الأساسي الذي تدور عليه قواعد التسمية أجمع، لأن الاسم من أفضل علامات التكريم ومن أبين دلائل الرقي والكمال. وما من شك في أن الله قد كرم بني آدم وفضلهم على سائر المخلوقات
ولكنا على رغم هذا نجد الإنسان نفسه قد استعار من أسمائه ومن غيرها فسمى الخيل والشوارع والقطط والكلاب والبلاد وغير ذلك فأطلق على الخيل (فواز) (غاوي) (سحاب). . . الخ
وفي كل منزل يسمي الناس كلابهم وقططهم بأسماء خاصة يقصدون فيها إلى الرشاقة(270/23)
والدلال. وكذلك الشوارع تسمى بأسماء يخذها المختصون من التاريخ أو الموقع أو اسم أحد الفطان الملوك والزعماء
ولقد غدا تكريم الملوك والعظماء يأخذ من أسماء الشوارع أعز مكان. فهم يطلقون أسم ملك أو العظيم حباً فيه وتخليداً لذكراه واعترافاً بأياديه
والمدن تنسب إلى الملوك (كالإبراهيمية. الفاروقية. الإسماعيلية. بور سعيد. بور فؤاد. الإسكندرية). وقد تدل على صناعة أو زراعة راجت فيها مثل (معمل الزجاج. المعصرة. كفر الزيات. كفر البطيخ. التل الكبير). ومنها ما تنسب إلى شخص أشتهر فيها مثل (أبو حماد. سيدي جابر. جرجا) - نسبة إلى ماري جرجس - ولبعض المدن أسماء غربية من اللغة القبطية القديمة مثل (دمنهور). وهور: أحد آلهة المصريين القدماء. ودمن: أي مدينة
وقد أنساق الناس في تعليلات طريفة لبعض أسماء المدن والقرى فهم يزعمون أن يوسف عليه السلام تقابل مع زليخا زوج العزيز بعد أن طوي شبابها تتابع الأيام فذوت نضرتها وذبل جمالها - تقابل معها في المكان المعروف بمديرية الجيزة فقال لها (أصبح البدرشين) فلذلك سميت مدينة البدرشين باسمها هذا
ويزعمون أن القائد جوهر أراد أن يضع أسس البناء في عاصمة مصر في ساعة سعيدة يقدرها رجال الفلك، فجعل أجراساً تدق للبنائين ليضعوا البناء إذا ما حانت ساعة سعيدة، ولكن الحظ خانه إذ حرك طائر حبال الأجراس، فرنت، فوضع الأساس في ساعة القهر فسميت القاهرة. وهذه مزاعم دفع الناس إليها حرصهم على المبالغة في التعليل.
والمدن كالإنسان خاضعة عند تغيير اسمها إلى قانون فلا يجوز تغيير اسم بلد إلا بعد موافقة وزارة الداخلية ووجود ضرورة لهذا التغيير.
التسمية عند القدماء
لقد وضعت أسماء الأعلام والأجناس للدلالة على أفراد النوع الإنساني وما يحيط به في بيئته الطبيعية وما يبتكره في حياته الفكرية. وليس من شك في أن وضع هذا النوع من الأسماء قد جاء سابقاً في المرتبة على وجود الأفعال والحروف التي ما وجدت إلا لتربط الأسماء في الجمل المختلفة.
ولكن المرجح أن الإنسان لم يتذوق التسمية بمعناها السامي الفني، ولم يعن بها ولم يتفنن(270/24)
في اختيارها قبل أن يعرف الحضارة والمدينة ويسمو إلى أفق الحياة الكاملة. وإنما كان الناس في عصور الجهالة يطلق بعضهم على بعض أوصافا تميز كل واحد منهم من الآخر؛ وهذه الأوصاف تدل على ميزة كل شخص بقدر الامكان، كقولهم (الرجل القصير. الرجل البدين. ذو العين الواحدة. وهكذا. . .) ولكنا نحن في عصورنا هذه عصور الحضارة والمدينة نلجأ إلى ذلك في مواطن كثيرة. فإذا أردنا وصفا دقيقا لمن لا يعرف اسمه وصفناه بأخص صفاته وأظهرها
وقد كان المتوحشون يخافون أن تستحسن العفاريت والأرواح الشريرة أسماء أولادهم فتقبض أرواحهم، فلذلك كانوا يسمون أولادهم بأسماء بشعة (القذر. الوغد. الجبان) وكان بعضهم يسمى الطفل باسم تاريخي (القحط. الوباء. الحرب) وما زلنا نحن نسمي أولادنا بأسماء تاريخية (عيد. خميس. جمعه. شعبان. رجب، محرم. ربيع) ولبعض الأسماء القديمة دلالة تدل على ميزة بها أو أصل طبيعتها؛ فقد أشتق (آدم) من أديم الأرض لأنه خلق من الطين واسم (إبليس) من الابلاس وهو اليأس
التسمية عند العرب
ذهب عرب الجاهلية مذاهب شتى في تسمية أبنائهم، فمنهم من تفاءل بالنصر والظفر فسمى (غالب. غلاب. ظالم. طارق. معارك. منازل) ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ فسمى (سعد. سعود. غانم. غياث. غوث) ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن لإظهار القوة فسمى (صخر. جندل. جبل. قهر)
ومن العرب من كان يخرج وزوجته قد جاءها المخاض فيسمى من تلده امرأته بأول أسم يقابله كائناً ما كان (سبع. ثعلب. كلب) ويروون في هذا أن أسماء بنت دريم من قبائل العرب كانت تلقب (أم الأسبع) لأنها سمت أولادها (كلب. أسد. ذئب. فهد. ثعلب. سرحان. خثعم. هر. ضبع)
ومن العرب من أضيف إلى عبودية الأصنام (عبد العزى. عبد مناه) وقد كان في الأمة العربية من اشتهر بلقب غلب عليه في شعره حتى أصبح علماً له مثل: (عمرو بن رباح السلمي) (أبو الخنساء - الشاعرة المشهورة) إذ سمى (الشربد) لقوله:
تولي إخوتي وبقيت فرداً ... وحيداً في ديارهم شريدا(270/25)
ومنهم (عمرو بن سعيد - الملقب بالمرقش) لقوله:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
ومنهم سالم بن نهار العبدي الذي لقب بالمزق لقوله:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
وكذلك أمرؤ القيس أمير شعراء الجاهلية يلقبونه (بذي القروح) لقوله:
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ... فيالك من نعمى تحولت أبؤسا!
وما زلنا نحن في عصرنا هذا نسمي الناس بشيء يرتبط بهم من صناعة أو أي عمل؛ فعندنا الآن ألقاب ربما شاعت بين الناس حتى طغت على شهرة الاسم الحقيقي، فأصبح المسمى لا يعرف إلا بها (الصحافي العجوز. أبو بثينة. برسوم المجبر. ابنة الشاطئ) وفي العرب أسماء كثيرة من هذا النوع. كما أن بينهم أسماء أخذت في حوادث معينة - مثل جرير الشاعر الأموي المشهور؛ فقد ذكروا في ذلك - أن الجرير في اللغة هو الحبل. وقد سمي الشاعر بذلك لأن أمه رأت في منامها وهي حامل به أنها تلد حبلاً يخنق الناس، فذهبت في الصباح إلى معبر للرؤيا وقصت عليه رؤياها فقال لها (لتلدن ولداً يكون شراً على الناس) وفعلا كان كذلك جرير. وكانت أمه ترقصه وهو صغير وتغني له:
قصصت رؤياي على ذاك الرجل ... فقال لي قولا وليت لم يقل
لتلدن عضلة من العضل ... ذا منطق جذل إذا قال فصل
وسمى الجاحظ جاحظاً لجحوظ عينية. والمتنبي لادعائه النبوة كما أشتهر كثيراً بنسبتهم إلى بلادهم أو قبائلهم (البحتري. أبو العلاء المعري. الطائي. الخزرجي. المزني) ونحن نسمي الأشخاص نسبة إلى بلد أو صناعة (إبراهيم المصري. خليل الزيات. بيومي الطبال. محمد النجار. خديجة العياشة)
وكذلك (الصباغ. الجمال. الدباغ) ومما تحسن الإشارة إليه بمناسبة الدباغ. أن رجلا في الماضي القريب أسمه إبراهيم الدباغ اشتهر بكثير الأكل، فأطلق الناس كلمة دباغ على كل إنسان يكثر الأكل
أما النسب إلى القبيلة كما كان الحال عند العرب، فقلما نجده الآن لشيوع روح المدينة وتقطع التواصل بين الناس وعدم الاعتزاز والفخر بالقبيلة كما فعل العرب، ولأن الوحدة(270/26)
أصبحت للدولة لا للقبيلة
الأسماء والأديان
لم تكن للأسماء في العصور الأولى صبغة دينية خاصة، إلا أن الحال تغيرت بعد ظهور المسيحية، إذ أخذ المسيحيون يقلعون شيئاً فشيئا عن بعض الأسماء اليهودية والوثنية ثم يختارون أسماء جديدة
وفي أوائل عهد النصرانية درج النصارى على أن يسموا أبناءهم بأسماء القديسين والأنبياء، إذ يعلن الأب اسم ابنه جهاراً عند المعمودية فيصبح اسماً معترفاً به قانوناً
وفي فرنسا لا يجوز لأحد أن يبتدع لابنه اسماً غريباً لم يعرفه الناس من قبل، وما يزال في فرنسا حتى اليوم سجل رسمي يحتوي الأسماء التي يجوز للإنسان أن يختارها لأبنائه ولا يجوز له أن يسمى بما عداها، وهذا السجل يهذب من وقت لآخر بإضافة أسماء حديثة وحذف أخرى قديمة
وفي أسبانيا - حيث ديانتهم الرسمية الكاثوليكية وقد كانت حكوماتهم ملكية - كان الآباء مقيدين عند تسمية أبنائهم بطائفة من أسماء القديسين والقديسات مأخوذة من تقويم الكنيسة؛ ولكن بعد زوال الملكية قريباً قد أبطل هذا وصار الآباء أحراراً في تسمية أبنائهم
ولما ظهر الإسلام تطورات الأسماء عند العرب، إذ سمي النبي (محمد) مع أنه لم يسم أحد من قبل بهذا الاسم، ثم شاعت الأسماء المضافة إلى عبودية الله وتعدت لفظ الجلالة إلى غيره من أسماء الله الحسنى. والآن نجد بين المسلمين نحو النصف من الأسماء تدعى محمداً أو ما اشتق منه مثل محمود. أحمد. حامد، وقد أثر عن النبي (صلعم) أنه قال (خير الأسماء ما حمد ثم ما عبد)
والأديان على العموم لا تحرم اسماً ولا تبيح آخر، بل الإنسان حر في التسمية بما شاء. غير أنه على الرغم من هذه الحرية المطلقة نرى بعض أسماء اختص بها المسلمون، وأخرى اختص بها اليهود، وغير ذلك من الأسماء تفرد بها المسيحيون. فمن أسماء النصارى الخاصة (بطرس. ميخائل. حنا. جرجس. عبد المسيح. هيلانة. ماري) ومن أسماء اليهود الخاصة (باروخ. عزرا. كوهين. ليفي. حانان) ومن أسماء المسلمين الخاصة (محمد. مصطفى. حسن. علي. فاطمة. عائشة) ومن أسماء المسلمين المشتركة (يوسف.(270/27)
سليمان. إبراهيم. داود. يعقوب. توفيق)
وفي الواحات المصرية كما في جزيرة قبرص أسماء مخلوطة، فهناك بطرس حسين. جورج محمد. نقولا عثمان. وفي سوريا من المسيحيين من سمى ابنه محمداً. وفي مصر تميل الأسماء المسيحية شيئا فشيئا نحو الإسلامية، حتى أنها لتشتبه بها في كثير من الأحيان. وفي أسبانيا حيث مكثت الديانة الإسلامية نحو ثمانية قرون، نجد كثيراً من أسماء الأجداد الأولين للأسبان المعاصرين تنتهي بأسماء إسلامية.
(البقية في العدد القادم)
السيد شحاته(270/28)
بين الفن والنقد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
قالت لي نفسي بعد شهودها معركة للنقد بين جماعة من أصدقائي لحق منها مؤسسين عظيمين من مؤسسي الأدب الحديث جملة من النعوت أذكر أنها لم تكن لتلحقهما لو مضيا من الحياة ولم يتركها بيانهما العظيم:
(حطم قلمك! وأغلق أقفالي عليّ، واتركني أمضي من الحياة من غير صوت ولا ذيول يتعلق بها متجن وعابث. ودعك من أسطورة الخلود. . . تلك التي تفتنكم وتجركم إلى النزاع وإضافة تعبيرات جديدة إلى سجل الشتائم المهذبة الخالدة المذاعة وقل في تلك الأسطورة ما قال المازني الأديب الساخر منذ سنوات في صحيفة البلاغ: (طُزْ!)
فقلت لها يا نفسي: ألم تعلمي في سنن الحياة أن لكل شيء وجهين: وجه جمال، ووجه قبح؟. ألم تحفظي قول القائل:
نقول هذا مجاج النحل تمدحه=وإن تذم فقل قيء الزنابير
(والعظيم دائماً يحظى بشرف المبالغة من أنصاره وأعدائه) وتاريخ الآداب والفنون والعلوم مملوء بالمعارك العنيفة بين المنتج والناقد وأنصارهما. ولم يفد الأدب والعلم بقدر ما أفادا من النقد على شريطة الإنصاف فيه والبعد عن المهاترة وتسقط العيوب وإدخال النوازع الشخصية في موازينه
غير أن المنتج غيور على إنتاجه، فتارة يجهد نفسه في التجويد والتهذيب والتنقيح قبل أن يعرض نتاجه كما يفعل زهير في حولياته. وتارة لا يلقي باله إلى كلام النقاد ولا يحفل رضاهم أو سخطهم ما دام هو راضياً عن نفسه، كما قال الفرزدق لناقد احتار في إعراب كلمة من شعره (عليَّ أن أقول وعليكم أن تعربوا) وكما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
وكما قال الأستاذ العقاد في تقدمه ديوانه:
هذا كتابي في يد القراء
ينزل في بحر بلا انتهاء
فليلق بين القدح والثناء(270/29)
ما شاءت الدنيا من الجزاء
وكما هو شعار برناردشو الذي يستدفئ بموقد كتبت على حافته هذه الكلمة:
(إنهم يقولون. . . ماذا يقولون؟ دعهم يقولون. . .)
وتارة يحمل المنتج على النقاد فيخافون لسانه ويقرظونه أو يسكتون عنه كما كان يفعل ابن الرومي
وتارة ينال المنتج من الناقدة ثأره كما قال شلي الشاعر الإنجليزي (ما عدا أمثلة نادرة لا يمثل النقاد سوى سلالة غبية خبيثة. وكما يتحول اللص المفلس إلى خفير كذلك يتحول المؤلف العاجز إلى ناقد!) وقال كولردج (النقاد هم عادة أناس كان ينتظر أن يكونوا شعراء ومؤرخين وكتاب سير لو استطاعوا. وقد جربوا مواهبهم في هذا أو ذاك ففشلوا؛ ولذلك انقلبوا نقاداً)
غير أن من القليل النادر أن نجد هذه الغيرة من الفنان والمنتج تبدو في صورة (الكبت) أو (الوأد) ولن يقدم على ذلك أديب أو عالم محترف أو مؤمن بنفسه يريد أن يفرضها على التاريخ؛ وإنما هو أحد رجلين: رجل (هاو) يجمع إلى إنتاجه وفنه حرفة أخرى يلابس الحياة بها وينال احترام الناس منها، فلن يضيره أن يتخلى عن إذاعة فنه عندما يرى أنه سيجلب عليه تنغيصاً ومحنة وعداوة من حيث يرجو الترفيه والحب؛ كما قال المتنبي (أعادي على ما يوجب الحب للفتى)؛ أو هو رجل شاك في نفسه رافع ثقته فيها لا يراها إلا بعيون الناس، فإذا قالوا لها أو عليها فهو وما قالوا
والأستاذ عبد الرحمن شكري والدكتور الشاعر إبراهيم ناجي مثلان مضروبان للرجل الأول في عهد من عهودهما بين يدي هذا العصر؛ كما يضرب أبو حيان التوحيدي الأديب المتوفى سنة 403هـ مثلاً في العصر القديم، فقد أحرق مؤلفاته ولما سئل في ذلك أجاب (شق على أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها)
هذه صورة من غيرة المنتج، في بعضها يصل الناقد إلى حد الجناية لأنه يحمل بعض النفوس على الكبت أو الوأد لما لا بد أن يشتمل على نفع كثير للإنسانية ما عساه أن يكون فيه من ضرر أو تفاهة. نعم إن بعض المنتجين يعرضون أشياء تافهة أو مكررة تستحق(270/30)
التزييف وتأديب أصحابها لأنهم لم يعوا معنى كلمة الجاحظ (ينبغي لمن يكتب كتاباً أن يكتبه على أن الناس كلهم له أعداء، وأنهم أعلم منه بما يقول. وأن لابتداء القول فتنة وعجبا)، ولا قول الآخر: (من ألف فقد استهدف)
غير أن هذا كله ليس مبرراً لتهجم الناقد على نفس المنقود وذهنه، وليس داعياً إلى تحطيم حرماته وإهدار قداسته الطبيعية التي هي له حق طبيعي من قبل أن يخط حرفاً أو يعمل عملا هو فيه حسن النية لا ريب؛ إذ أنه يريد أن يشارك به في المجهود الإنساني. فإذا لم ينل الشكر فلا أقل من ترك حرماته من غير تجريح
وأذكر أنني قرأت منذ عشر سنوات لكاتب تونسي لا أتذكر اسمه كلمة في مقدمة كتاب ألفه، تفيض باسترحام القارئ ليفضي عما في الكتاب من نقص يجده؛ إذ أن مؤلفه كتبه بضياء عينيه ساهداً في جوف الليل ليسعد به قارئوه الذين كانوا نياماً في ذلك الوقت. وهو معنى جميل لو وضعه الناقد أمام عينيه لوقف وقدر ثم وقف وقدر كرتين قبل أن يعمل قلمه بالنقد المسلح الجارح
وأظن أن كاتباً ما، لم يحمل قلمه ويخط به حرفا إلا وهو يضمر مع ما يضمر من شهوة خلود الذكر أو الشهرة، النفع وتنمية الميراث الفكري. وهذا وحدة يحتم علينا احترام اتجاهه تشجيعا له ولغيره. اللهم إلا الكاتبين الهدامين الذين في تركهم أو تقديرهم خطر؛ فأولئك يجب هدمهم بالنقد وإهدار حرماتهم كما أهدروا حرمات المجتمع
وما أجمل مذهب القائل - وأظنه شاعرا سوريا أو لبنانيا معاصراً -:
أيها الناقص أعمال الورى ... هل أريت الناس ماذا تعمل؟
لا تقل عن عمل: ذا ناقص ... جيء بأوفى ثم قل: ذا أكمل
إن يغب عن عين سارٍ قمر ... فحرام أن يعاب المشعل
القاهرة
عبد المنعم خلاف(270/31)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 9 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (رداً على جورجياس) وإذا فلنر الآن إذا كنت أستطيع أن اشرح لك ما أريد أن أقول بوضوح أكثر. عندنا من الفنون بقدر ما عندنا من الجواهر. وأحد هذه الفنون يختص بالنفس وأدعوه (السياسة) والآخر يختص بالجسد ولست أجد له الآن اسماً مفرداً وإن كنت أميزُ في وحدته قسمين هما (الرياضة البدنية) و (الطب) كما أميز في السياسة بالمثل (التشريع) ويقابل الرياضة البدنية، و (العدالة) وتقابل الطب. ولما كانت فنون هاتين المجموعتين تتصل بموضوع واحد فإنها بالطبع ذات علاقات فيما بينها؛ كما هو الحال في الطب والرياضة البدنية من ناحية، وفي العدالة والتشريع من ناحية أخرى، ولكن توجد بينها مع ذلك بعض الفروق. . .(270/32)
هناك إذاً تلك الفنون التي ذكرتها، والتي تعمل على تحقيق أعظم الخيرات، والتي يختص بعضها بالجسد، وبعضها الآخر بالنفس. وهناك (أيضاً) (التملق) الذي لا نستطيع أن نتصوره إلا بالظن والتخمين دون العقل المنطقي، والذي ينقسم في نفسه إلى أربعة أقسام تنزلق تحت تلك الفنون الأربعة الآنفة وتتداخل فيها، ويدعى أنه هو نفس الفن الذي انزلق تحته واختفى فيه. . .، وهو (أي التملق) لا يعني بالخير قط، ولكنه يجذب الحماقة دائماً بما يقدمه لها من (طُعم) اللذة فيغشها ويخدعها وينال بذلك تقديراً كبيراً!؛ (فالطهي) مثلاً ينزلق تحت (الطب) ويتخفى فيه ويدعي مفتخراً أنه يعرف أفضل الأغذية الملائمة لصحة الجسم بحيث لو تجادل الطاهي والطبيب أمام الأطفال - أو من هم مثلهم عقلاً وفهماً - في:
أيهما أعرف من صاحبه بالأغذية المفيدة والضارة؟
لا نخذل الطبيب وباء بالخسران المبين
وإذا هو ما أدعوه (بالملق) يا بولوس، وما أدعى أنه شنيع وكريه، لأنه يهتم باللذات (الحسية) ويهمل الخيرات. وأنا أوجه ذلك التأكيد إليك وأضيف أنه ليس بفن؛ ولكنه مجرد تجربة وتمرين؛ لأنه لا يستطيع أن يبين الطبيعة الحقيقة للأشياء التي يشتغل بها، ولا أن يقدم لها تعليلا! ولذلك لا أستطيع أن أطلق (الفن) على شيء لا تفكير فيه. فإذا كنت تنازعني في ذلك فإني مستعد للدفاع عن قولي!. . . (لا ينطق بولوس)
وأستطيع أن أكرر ثانية أن الملق المتعلق بالطهي ينزلق تحت الطب ويختفي فيه، وأن التزين (أو التبهرج) ينزلق بالمثل تحت الرياضة البدنية ويصبح شيئاً مؤذياً خداعاً دنيئاً غير جدير بالإنسان الحر، لأنه يعمل على تمويه الصور والأشكال، والألوان والأثواب، والبريق والصقال، كيما يجلب للمرء جمالا مصطنعاً، ويصرفه بذلك عن الجمال الطبيعي الذي تستطيع أن تقدمه الرياضة البدنية
وجرياً وراء الاختصار سأحدثك بمنطق الهندسة لأنك قد تفهمني إذا خاطبتك بهذا المنطق فهما أدق وأصح. -: إن التزين بالنسبة للرياضة البدنية كالطهي بالنسبة للصحة. وبالأحرى التزين بالنسبة للرياضة كالسفسفطة بالنسبة للتشريع، والطهي بالنسبة للطب كالبيان بالنسبة للعدالة. وتلك هي الفروق الطبيعية بين هذه الأشياء، ولكنها لما كانت(270/33)
متقاربة فيما بينها فان الخطباء والسفسطائيين يختلط فيهم الحابل بالنابل على نفس الأرض؛ وحول نفس الموضوعات؛ ولا يعرفون ماذا عسى أن تكون وظيفتهم الحق؛ كما لا يقل عنهم جهلا بهذه الوظيفة. . .، والحق أن النفس إذا كانت لا تحكم الجسد، وكان هو المتصرف في أمر نفسه بحيث لا تختبر هي الأشياء بذاتها ولا تفرق بين الطهي والطب، وكان هو الذي يحكم وحده تبعا لما يحصل عليه من لذات، أقول: الحق أن لو كان الأمر كذلك لرأينا في الغالب تلك (الفوضى) التي تعرفها يا عزيزي بولوس، والتي ذكرها (أناجساجور) في قوله (كان حابل الأشياء يختلط بنابلها!)، ولَكُنِّا لا نستطيع أن نفرق بين ما يختص بالطب، وما يختص بالصحة أو الطهي!!. .
فها قد سمعت ما أعتقده في البيان وعرفت أني أعتبره للنفس كالطهي للجسم!؛؛ وقد يكون من التناقض أن أحرم عليك الأقوال المسهبة وأضطرك مع ذلك إلى الإنصات إليّ هكذا طويلا؛ ولكني جدير في الواقع بالعذر؛ لأني عندما كنت أتكلم بإيجاز كنت ألاحظ أنك لا تفهمني ولا تستطيع أن تخرج بشيء من أقوالي؛ فوجب لذلك أن أقدم لك الشروح الكافية؛ وإذا رأيتُ بدوري غموضا في إجابتك فتستطيع أن تبسطها مثلي. أما إذا فهمتها فاتركني أقنعُ بها لأن من حقي. ويسرني الآن أن أسمع ما في مقدورك أن تذكره عن حديثي.!
ب - وماذا قلت؟ أتدعي أن البيان مجرد تملق ورياء؟
ط - لقد قلت إنه قسم من الملق فحسب!. أفيحتاج شبابك يا بولوس إلي ذاكرة؟
وماذا يكون شأنك غدا إذا ما تقدمت بك السن؟
ب - أتعتقد أن الخطباء المجيدين يعدون في المدن كالمتملقين وأنهم لذلك أقل احتراما؟؟
ط - أذلك سؤال توجهه إليّ أم هو حديث ستشرع فيه؟
ب - إنه سؤال
ط - حسن. فأنا ممن يعتقدون أنهم غير محترمين على الإطلاق. . .!
ب - وكيف يكونون كذلك وهم أقوياء وجِدَّ أقوياء في الدول؟
ط - ذلك إذا كنت تعد (القوة) خيراً لمن يمتلكها!
ب - أني لأعدها كذلك!
ط - حسن. ولكني أرى أن الخطباء أضعف المواطنين قوة وبأساً!(270/34)
ب - وكيف؟ ألا يستطيعون أن يقتلوا من يشاءون، وأن ينهبوا أموال من يسرهم أن يفعلوا معه ذلك ثم ينفونه إلى الخارج كما يفعل الجبابرة الطغاة؟
ط - إني لأسأل نفسي - وحق الكلب - يا بولوس عند كل كلمة تقولها لا أعرف إذا كنت تتكلم بلسان أستاذك، أم تعبر عن رأيك الشخصي، أم تبغي رأيي فحسب
ب - إني لأبقي رأيك أنت!
ط - ليكن يا صديقي! ولكنك توجه إليّ سؤالين دفعة واحدة. . .!
ب - وكيف ذلك؟
ط - ألم تقل منذ لحظة أنهم يقتلون من يشاءون كما يفعل الجبابرة الطغاة، وينهبون وينفون من يسرهم أن يفعلوا معه ذلك؟
ب - بلى!
ط - حسن! أرى أن هذين سؤالين مختلفين، وسأجيب على أحدهما ثم على الآخر: إني أعتقد يا بولوس أن الخطباء والطغاة لا يملكون في الحكومات إلا قدراً ضئيلاً جداً من القوة كما ذكرتُ منذ لحظة؛ لأنهم لا يعملون تقريباً شيئاً مما يريدون؛ وإن كانوا ينفذن مع ذلك ما يلوح لهم أنه أفضل الأشياء!
ب - حسن. ولكن أليس هذا (قوة)؟
ط - كلا! وعلى الأقل بالنسبة لما يقول بولوس!
ب - وهل قلت (كلا)؟ لقد قلت على النقيض إن ذاك (قوة)!
ط - كلا وحق الإله! أنك لا تقول ذلك ما دمت قد أكدت أن (القوة) العظيمة خير لمن يمتلكها!!
ب - أتعتقد أنه من الخير للمرء أن ينفذها ما يبدو له كأفضل الأفعال إذا ما كان مسلوب العقل؟ وهل تسمى مثل هذه الحال (قوة كبيرة)؟
ب - كلا!!
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(270/35)
التاريخ في سير أبطال
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 21 -
وأقام لنكولن في الفندق ينتظر يوم الاحتفال؛ وإنه ليحس أنه كالغريب في هذه المدينة العظيمة؛ ولقد كان كثير من أهلها يتوقعون قبل وصوله أن تصلهم الأنباء عن مقتله في الطريق؛ فلما فوت على الماكرين قصدهم ودخل المدينة ولم تزل غافية أصاب المؤتمرين به كمدوغم؛ ولكن هل فاتت الفرصة فلا سبيل لهم إليه بعدها؟ كلا فما زال الكائدون يتربصون به حتى لقد سرت في الناس إشاعة قوية أنه لن يحتفل بالرئيس الجديد؛ وأنه راجع إلى سبرنجفيلد قبل ذلك اليوم حياً أو ميتاً
وكانت المدينة إلى أهل الجنوب أكثر ميلاً منها إلى أهل الشمال؛ وكان سادتها وكبراؤها ممن يقتنون العبيد ويتمسكون بنظام العبيد؛ وكانت تقع عين القادم إلى المدينة على العبيد رائحين غادين؛ ولقد كان هذا منظراً تنفر منه عينا لنكولن وهو يطل على المدينة من الفندق. . . وكان ذوو النفوذ من أهلها يكرهون الجمهوريين ويسمونهم الجمهوريين السود. . . لذلك أحس ابراهام أنه في جو غير جوه كالنبات نقل إلى حيث لا يجدي معه ري ولا ينفع غذاء
وجلس ابراهام يفكر ويتدبر، فإذا امتد إلي الحاضر فكره رأي كيف تشيع الفتنة وكيف يستفحل الشر، وكيف يزلزل بناء الاتحاد حتى ليوشك أن ينهار. . . وإذا استشرفت للمستقبل نفسه رأى ظلمات فوقها ظلمات؛ فالحرب كما يبدو له واقعة لا محالة، ما لم يقع ما ليس في حسبان أحد. . . وهي إذا شبت نارها واستعرت اكتوى بسعيرها أبناء الوطن(270/37)
الواحد وأصحاب المصلحة الواحدة؛ إنها حرب سوف تكون بين نصفي شعب بقاؤه وسعادته لن يكونا إلا في اتحاد كلمنه والتئام شمله. . .
وليت الفتنة اقتصرت على الناس ولم تمتد إلى الحكومة؛ إذاً لكانت أهون على الرئيس وعلى الشعب. . هاهي ذي تندس حتى تتغلغل في وحدات الجيش والبحرية والسادة المسؤولين من رجال الدولة؛ ولقد وقف بيوكانون حائراً لا يدري ما يأخذ مما يدع حتى لم يعد في إمكانه أن يحسم الشر؛ فكان بذلك وجوده على رأس الحكومة يومئذ شراً على شر
ولكن ابراهام لم يكن بيوكانون؛ وحسبه عزمه المصمم الجبار في هذا الموقف الرهيب؛ هذا إلى إخلاصه وكراهته للعدوان ويقينه الذي لا يداخله شك ولا يحوم حوله شيء مما ينسج الباطل من وهم وما يصور من ريبة
ولقد أشفق من لم يكونوا يعرفونه، بل لقد جزع بعض الناس أن تلقى أزمة الحكم في مثل هذه الظروف في يدي رجل هو في زعمهم لم تحسن يداه أن تقبضا على شيء غير المعول؛ وعجبوا أن تترك الأمور للرجل القادم من الغرب. . . لذلك المحامي الذي كان من قبل يخطط الأرض ويوزع البريد؛ والذي نشأ بين الأحراج ونما كما ينمو وحشي النبات. . . وسخط أعداؤه ممن لا يجهلون مقدرته واشتد بهم الغيظ ألا يجلس في كرسي الرياسة يومئذ إلا هذا الجمهوري الأسود! هذا الذي يعد في الجمهوريين كبيرهم الذي ألهمهم ما يلوكونه من عبارات تؤذي الأسماع وتخز القلوب وتقبض الصدور. . .
أما الذين عرفوا لنكولن وعرفوا خلاله فما خالطهم شك أنه الرجل الذي ليس غيره في الرجال تكون على يده السلامة ويتم الخلاص. . والحق لقد خلقت هذه الحوادث هذه الأزمة وخلقت في الوقت نفسه الرجل الذي ينهض لها والذي لن يقوىعلى حمل أعبائها سواه. . ولو لم يكن في أمريكا في تلك الأيام ذلك الرجل الذي أخرجته أحراجها لتغير تاريخها باتخاذه وجهة غير التي سار فيها
وإنا لنرى في ابراهام أحد الأفذاذ الذين يبرهنون بأعمالهم على فساد الرأي القائل بأن الظروف هي التي تخلق العظماء؛ فهذا رجل نجم عن أبوين فقيرين ودرج بين أحراج الغابة وألفافها؛ فلما واجه الحياة وأخذ يعول نفسه راح يشق طريقه في زحمتها ومفاوزها كما كان يشق طريقة بين الأدغال، ولا عاصم له مما يحيط به من مخاوف إلا عزيمته(270/38)
وفتوته
راح ابراهام يستقبل الحياة ويمشي في مناكبها، وكأن الظروف كلها عدوه؛ فما زال يغالب الظروف وتغالبه، ويعركها وتعركه، حتى وصل إلى مركز الرياسة في قومه، دون أن يستمد العون مرة من أحد؛ أو تكون له وسيلة من جاه أو مال؛ أو حظوة عند ذي قوة، أو غير هذا وذاك مما يبتغي به الناس الوسائل إلى ما يطمحون إليه من غايات. . .
ولما أن بلغ هذا المركز كانت البلاد كما أسلفنا تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر؛ فكانت الظروف يومئذ كأسوأ ما تكون الظروف؛ ولكنه على الرغم من ذلك سار إلى غايته غير خائف ولا وان ولا منصرف عن وجهته إلى وجهة غيرها حتى عقد له النصر وتم له أداء رسالته. . .
وكيف لعمري تخلق الظروف والعظماء؟ وكيف يسمى عظيما ذلك الذي تخدمه الظروف فلا يكون له من فضل إلا ما يجيء عن طريق المصادفة؟ ألا إن العظيم الحق إنما هو الذي تخاصمه الظروف فينجح على الرغم ما تكيد له الظروف؛ وتتجهم له الأيام فيقدم على العظائم على الرغم من تجهم الأيام، وتعترضه الصعاب الشداد فلا تثنى له عزمه أشد الصعاب. بذلك تكون الظروف هي التي تخلق العظماء؛ فيكون الرجل الذي يظهر عليها ويظفر على الرغم منها هو العظيم، ويكون في ذلك كالدر تطهر النار جوهره
لبث ابراهام في الفندق ينتظر حتى يتخلى له بيوكانون الشيخ عن قيادة السفينة؛ وكان ابراهام يستمع إلى دوي العاصفة يزداد يوماً بعد يوم فيتلفت فلا يرى حوله غير سيوارد؛ ولكن سيوارد وصاحبه لا يلبث أن يدب بينهما خلاف شديد؛ فلقد كبر على سيوارد ألا يشاوره ابراهام في الخطبة التي أعدها ليوم الاحتفال وكان قد كتبها قبل أن يسافر من سبرنجفيلد. . .
وعلم ابراهام بالأمر فألقى بالخطبة بين يدي صاحبه؛ فاقترح عليه أن يغيَّر فيها أشياء وأن يضيف إليها أشياء، فلم ير ابراهام رأيه؛ على أنه قبل أن يضيف إلى الخطبة خاتمة كتبها سيوارد وتناولها ابراهام بالتغيير ليلتئم أسلوبها مع أسلوب الخطبة؛ وظن ابراهام أنه أرضى بذلك صديقه. . . ولكنه فوجئ في اليوم السابق ليوم الاحتفال بخطاب من عند صاحبه ينبئه فيه أنه يتحلل من وعده الذي سبق أن قطعه على نفسه بالاشتراك معه في(270/39)
الحكم؛ وطوى ابراهام الخطاب متألماً مكتئباً. . . ألا ما أشد عنت الأيام! حتى سيوارد الذي ليس غيره ترجى منه المعونة تكون من جانبه العقبات؟
وأشرقت شمس اليوم الرابع من مارس عام 1861، وكان يوماً من أيام الربيع طلق المحيا رخي النسائم. . . فخرج الناس يشهدون موكب الرئيس الجديد؛ وكان موكب الاحتفال بتولية رئيس الولايات من أعظم ما تهتم به البلاد؛ وهو في هذه المرة أجل قدراً منه في كل ما سلف من الأيام؛ وذلك لما كان يحيط بتولية ابراهام من معان تجيش بها نفوس الخصوم والأنصار
وقضى ابراهام صباح ذلك اليوم يقرأ خطبته من جديد ويهذبها بالحذف والإضافة، حتى متع النهار فجاء بيوكانون إلى الفندق في عربة فركب معه ابراهام، والناس على طول الطريق إلى بناء المحافظة (الكابتول) تقع أعينهم على الرجلين، فهذا هو الرئيس القديم يشيع في رأسه الشيب ويبدو على بدنه ومحياه الهزال من أثر السنين ومن اثر ما حمل من عبء أوشك أن يلقيه وقد أربى على السبعين. . . وهذا هو الرئيس الجديد يبدو قوياً فتيّاً وهو يومئذ في الثانية والخمسين؛ هذا هو الرجل القادم من الغرب، هذا هو ابن الغابة. . . هذا هو النجار تملأ الأعين قامته الطويلة التي تلوح للأعين أكثر طولا إلى جانب صاحبه الشيخ الضئيل. . . وهو يرتدي اليوم حلة ما ارتدي مثلها من قبل، حلة ارتضتها له ماري وهيأنها لذلك اليوم، ثم هو يقبض بيده الكبيرة التي أكسبها حمل المعول كبرها وخشونتها، على عصا جميلة أنيقة
وضاقت بالناس الطرقات؛ وكان رجال الشرطة قد أبعدوا الجموع قليلاً عن حافتي الشارع، وقد أمرهم كبيرهم ألا يسمحوا بأي عبث بالنظام مهما خيل لهم أنه تافه. وكان كبير الشرطة يخاف أن تمتد أيدي الآثمين إلى الرئيس بالعدوان إذ كانت الإشاعات قد اتخذت مجراها في كل سبيل، وملأ الهمس بها الآذان، ووجفت من هول الجريمة قلوب الكثيرين من المخلصين
ووصل الرئيس إلى مكان الاحتفال، وهو مرتفع أعد لهذا الغرض، وقد امتلأت الساحة المحيطة به بجموع من الناس حتى ما تتسع بعدهم لقدم. . . وكان على مقربة من المكان تمثال وشنجطون وقد نحت من المرمر الأبيض وهو يتلألأ في ضوء الشمس وتنبعث منه(270/40)
معاني البطولة والعظمة والحرية والفداء. . .
ووقف الرئيس الجديد يوجه الكلام للشعب جميعاً لأول مرة وقف فتى الأحراج هاتيك المجموع ثبت الجنان، مستوي القامة، مرفوع الهامة، وإلقى نظرة أمامه على علية القوم من الشيوخ والأعيان ورجال الجيش ورجال الدين والقضاة وغيرهم وغيرهم ثم مدّ بصره في المجموع وقد سكنت ريحهم فتهيأ للكلام. . . ولكن ماذا عراه؟. لقد وقف يمسك بإحدى يديه عصاه وبالأخرى قبعته، فكيف يمسك الورق ليتلو منه خطبته؟ ها هو ذا يسند العصا إلى الحاجز الخشبي أمامه فأين يضع القبعة؟ لقد أوشك أن يقع في ورطة، وأوشك أن يثير ضحكات الخصوم بحيرته؛ ولكن هاهو ذا رجل يثبت من مكانه وكان يجلس منه في سمت بصره، فيأخذ القبعة من يده. . . ومن هو ذلك الرجل؟ إنه دوجلاس خصمه القديم ومنافسه ذو البأس الشديد. . .
وكان دعاة الانسحاب من أنصار الجنوب يأملون أن يتهدد لنكولن الولايات الجنوبية ويتوعد، فيشتد بذلك الهياج في تلك الولايات ويتعذر لعدها أن يجنح هؤلاء للسلم، ولكن لنكولن خيب ظنونهم وزادهم بحكمته وحصافته وبعد نظره ويقظته غماً على غم. . .
كانت خطبته خير مثال للاعتدال في غير تفريط، وللتواضع في غير استخذاء أو استسلام، وللتحذير في غير إثارة أو استفزاز، وللمرونة في غير رياء أو التواء، وللعدالة في غير مشادة أو عناد. . . كما كانت كالسلسل العذب فصاحة وسهولة؛ ناهيك بما امتازت به من نصوع البرهان ومتانة الحجة واستقامة المنطق وجمال السبك وبراعة السياق ودقة الإلمام بالموضوع، وسعة الإحاطة بما كان يشغل الأذهان
وكان الخطيب رنان الصوت، قوي الجرس، وثيق الإشارات تشيع في كلماته حرارة الإيمان وقوة اليقين وصدق الإخلاص فتنفذ إلى قلوب أنصاره وخصومه على السواء؛ وإن كان خصومه ليكرهون فوزه وينكرون مبادئه. . .
قال يشير إلى مخاوف أهل الجنوب: (يظهر أن المخاوف تنتشر في الولايات الجنوبية، ومبعثها أن قبولهم الحكم الجمهوري من شأنه أن يعرض أملاكهم وسلامتهم وأمنهم على أشخاصهم المخاطر. إنه لم يكن هناك سبب معقول لهذه المخاوف؛ بل لقد قامت بينهم أقوى شهادة على نقيض ذلك، وكانت دائماً سمعهم وبصرهم. . . إنها تكاد توجد في كل خطبة(270/41)
من خطب ذلك الذي يحدثكم الآن، وإني لأقتبس من إحدى تلك الخطب حين أقول ليس لي من غرض مباشر أو غير مباشر في التدخل في نظام العبيد في الولايات التي يقوم فيها ذلك النظام. . . وإني أعتقد أنه ليس من حقي أن أفعل ذلك، وأن الذين رشحوني وانتخبوني إنما فعلوا ذلك وهم على علم تام أني صرحت كثيراً بمثل هذا، ولم أتزحزح مرة عما قلت)
ولم يقف الرئيس في اعتداله عند ذلك الحد، بل لقد ذهب إلى التصريح بأن العبد الفار إلى الولايات الحرة لا تمنح له الحرية. ولقد أشفق كثير من أنصاره من هذا التصريح، ولكن لنكولن يستند في ذلك التصريح إلى مبادئ الحزب التي لا يمنح بمقتضاها العبد حريته إلا إذا ذهب مع سيده غير فار إلى ولاية حرة وأقام فيها
وتكلم لنكولن عن انسحاب الولايات من الاتحاد فقال: (لن يخول القانون لأية ولاية حق الانسحاب) ثم أردف قائلا أن القسم الذي أقسمه على المحافظة على الدستور يجعل لزاماً عليه أن يقوم بواجبه فيعمل على أن يكون قانون الولايات المتحدة نافذاً في جميع الولايات. وأختم الحديث في هذا الموضوع بقوله: (إني واثق أنكم لن تحملوا على التهديد كلامي، بل إنها كلمة الاتحاد يعلن أنه سوف يحمي ويدعم بناءه على أساس من الدستور. وهو إذ يفعل ذلك لا يرى ثمة حاجة إلى سفك الدماء والعنف، وسوف لا يكون شيء من هذا إلا إذا أجبرت عليه السلطة القومية
وأشار إلى الوحدة من الناحية العضوية فقال أن نصف الشعب لا يستطيع أن يقوم بغير الآخر، وإذا كان في الدستور عيب فمن الممكن إصلاحه على يد مؤتمر يجتمع فيه ممثلو الشعب. فإذا رأى الشعب الانفصال حقاً لكل ولاية فله رأيه وليفعل كما يرى، أما هو فليس لدبه من قوة إلا ما منحه الشعب
وتكلم عن الداعين إلى الثورة فقال إنه لا مبرر للثورة إلا إذا لجأت الأغلبية إلى الطغيان؛ ومثل هذا المبرر لا وجود له، وإن الانسحاب معناه الفوضى ولا نتيجة للفوضى إلا الاستبداد. . .
واختتم لنكولن خطبته بتلك العبارة التي اقترحها سيوارد وتناولها بالتعديل قال: (لسنا أعداء بل نحن أصدقاء؛ ويجب ألا نكون أعداء. ومع أن الغضب قد جذب حبال مودتنا فيجب ألا(270/42)
يقطعها؛ وأن الأناشيد الخفية التي ترن في الذاكرة منبعثة من كل ميدان من ميادين القتال ومن كل قبر من قبور الوطنيين، إلى كل قلب حي وإلى جانب كل موقد في هذه البلاد العريضة لتزيد في جوقة الاتحاد، إذا ما مسها من جديد كما نثق أنها ستمس - وحي من طبيعتنا
وأقسم ابراهام اليمين ويمناه على الإنجيل. وتولى صيغة القسم القاضي تين صاحب قضية دروسكوت الشهيرة وكان يومئذ القاضي الأعلى للبلاد. وبعد أن أدى ابراهام اليمين أن يحترم الدستور ويحافظ على قوانين البلاد سار إلى البيت الأبيض، وكان أول عمل له بعد وصوله أن تناول القلم فكتب إلى سيوارد الخطاب الآتي:
(سيدي العزيز: تسلمت رقعتك المؤرخة 2 الجاري التي تسألني فيها أن اقبل انسحابك من الاشتراك معي في إدارة الحكم؛ ولقد كانت رقعتك هذه سبباً لأعظم قلق عندي إيلاما، وإني لأشعر أني مضطر إلى أن أرجوك أن تلغي هذا الانسحاب. أن الصالح العام ليدعوك أن تفعل هذا، وإن شعوري الشخصي ليتجه في شدة الاتجاه. أرجو أن تتدبر وأن يصلني رد منك في الساعة التاسعة من صباح الغد. . . خادمك المطيع. . .)
(يتبع)
الخفيف(270/43)
تيسير قواعد الإعراب
لأستاذ فاضل
- 5 -
تطبيقات
فرغنا في مقالاتنا السابقة من ذكر مؤاخذاتنا على جماعة وزارة المعارف فيما رأته من تيسير قواعد الإعراب، وكان سبيلنا في هذا مخالفاً لسبيل غيرنا في مؤاخذاته عليها، لأنا نتفق معها في غايتها من الإصلاح، فهدمنا من عملها لنبني أتم منه، وأبطلنا من رأيها لنصل في الرأي إلى ما لا يمكن هدمه، فتعلو به كلمة الإصلاح، وينتصر ما نريده من التجديد النافع. وقد بلغني عن صديق لي أن عضواً بارزاً من هذا الجماعة ذكر له أنه معجب بما كتبناه في ردنا عليهم، فلا أدري ما بمنعه من ذكر رأيه فيما كتبناه من ذلك على صفحات مجلة الرسالة الغراء، ليتبين الحق في هذا الموضوع ونصل إلى ما تريده وزارة المعارف من الإصلاح في قواعد الإعراب
وإني أريد الآن أن أذكر تطبيقات على ما ذهبت إليه في إصلاح هذه القواعد، ليتبين أن ما ذهبت إليه من هذا مذهب مطرد، ورأي لا شذوذ فيه ولا اضطراب
التطبيق الأول
ألا إنَّ قلبي لدى الظاعِنينَ ... حزينٌ فمن ذا يعزَّى الحزينا
(ألا) أداة استفتاح مجزومة بالسكون (إن) حرف توكيد منصوبة بالفتحة (قلبي) مبتدأ منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على آخره (لدى) ظرف مكان منصوب بفتحة مقدرة على آخره، وهو متعلق بحزين مقدم عليه، ولدى مضاف والظاعنين مضاف إليه مجرور بالياء نيابة عن الكسرة (حزين) خبر المبتدأ مرفوع بالضمة (فمن ذا) الفاء للتفريع منصوبة بالفتحة، ومن اسم استفهام مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة في آخره وذا خبر المبتدأ مرفوع بضمة مقدرة في آخره (يعزى) فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة في آخره، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو (الحزين) مفعول به منصوب بالفتحة، ولا داعي إلى ذكر أن الجملة صلة لا محل لها(270/44)
من الإعراب، وإنما يعنى بتقدير الإعراب في الجمل التي لها حظ منه
التطبيق الثاني
ببذلِ وحلم ساد في قومه الفتى ... وكَوْنُكَ إيَّاه عليك يسير
(ببذل) الباء حرف جر مجرور بالكسرة، وبذل مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة في آخره، والجار والمجرور متعلق بساد (وحلم) الواو حرف عطف منصوب بالفتحة، وحلم معطوف على بذل مجرور بالكسرة (ساد) فعل ماض منصوب بالفتحة (في قومه) في حرف جر مجزوم بالسكون، وقوم مجرور بفي وعلامة جره الكسرة، وقوم مضاف والضمير مضاف إليه مجرور بكسرة في آخره (الفتى) فاعل مرفوع بضمة مقدرة (وكونك) الواو حرف عطف منصوب بالفتحة، وكون مبتدأ أول مرفوع بالضمة، والكاف المضاف إليه مبتدأ ثان مرفوع بضمة مقدرة (إياه) خبر المبتدأ منصوب بفتحة مقدرة في آخره (عليك) على حرف جر مجزوم بالسكون، والكاف مجرور به وعلامة جره كسره مقدرة، والجار والمجرور متعلق بيسير (يسير) خبر المبتدأ الأول مرفوع بالضمة
ولا غرابة في أن يكون المضاف إليه مبتدءا في هذا البيت، فان هذا هو الواقع في أمره، أما إعرابه اسما للسكون فأنه هو الغريب في الحقيقة، لأن المضاف إليه ليس اسما له. وإذا كان لنا مبتدأ مجرور بالحرف في نحو - ربه فتى - فأنه لا يكون هناك غرابة في أن يكون لنا مبتدأ مجرور بالإضافة في ذلك المثال ونحوه
التطبيق الثالث
يُغْضِي حياءً ويغضَي من مهابته ... فما يُكلَّم إلا حين يبتسم
(يغضي) فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو (حياء) مفعول لأجله منصوب بالفتحة (ويغضي) الواو حرف عطف منصوب بالفتحة، ويغضي فعل مضارع محذوف الفاعل مرفوع بضمة مقدرة (من مهابته) من حرف جر مجزوم بالسكون، ومهابة مجرور بمن وعلامة حره الكسرة، وهو مضاف والهاء مضاف إليه مجرور بالكسرة والجار والمجرور متعلق بقوله يغضي (فما يكلم) الفاء للتفريع منصوب بالفتحة، وما نافية مجزومة بالسكون، ويكلم فعل مضارع محذوف الفاعل مرفوع بالضمة،(270/45)
والمفعول ضمير مستتر جوازاً تقديره هو (إلا) أداة استثناء مجزومة بالسكون (حين) ظروف زمان منصوب بالفتحة (يبتسم) فعل مضارع مرفوع بالضمة، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل مضافة إلى حين مجرورة بكسرة مقدرة
وفي هذه التطبيقات الثلاثة كفاية
(تم البحث)
أزهري(270/46)
بين اللغة والأدب والتاريخ
الفالوذج
للأستاذ محمد شوقي أمين
- 1 -
لفظه. تعريفه. الإبدال من حروفه. مستعمله في الأدب. واحده. جمعه. معناه. رحلته إلى العرب. إطعامه الناس. تهيب ذوي الورع إياه. رحلة أعرابي إليه.
- 1 -
الفالوذج كلمة فارسية النشأة، أصل على ألسنة أهلها: بالوذة، فأول حروفها: الباء التي بين الباء والفاء، أو المخلوطة بالفاء على تعبير الشهاب الخفاجي. وختامها: الهاء الساكنة على اصل اللسان الفارسي. ومن حروفها الذال المعجمة كما في الكثير الأكثر من كتب اللغة وأقوال الأئمة. ولكن الشيرازي محمداً علياً قال: إن الفالوذج معرب عن بالودة بالدال المهملة. وهذا يؤيد ما نقلته المعجمات المؤلفة لهذا العهد من قولها: إن الفالوذج بالمهملة، لغة فيها بالمعجمة. والشيرازي من نبعة الفرس، فهو يتحدث عن لغة قومه. فحقيق بنا أن نرجع إليه، ونعول عليه، وندع ما لكسرى لقوم كسرى!
وقد عرّب العرب هذه الكلمة، بعد تشذيب وتثقيف، مبالغة في تحقيق الجنسية اللغوية، كما يقول الرافعي، فقد سَمَوْا بالحرف الأول المترجح بين الفاء والباء، إلى الفاء، إذ كان هذا الحرف المذبذب ليس في عداد الأصلي من حروف الفصحى، واستبدلوا الذال بالدال، كما صنعوا في سَذَاب وساذَج وباذَق، فالذال عوض من الدال الفارسية في هذا الألفاظ. ثم جعلوا الهاء جيماً، على أسلوبهم الأغلبيّ في التعريب. فقالوا: فالوذج، ولم يرتض هذا الإبدال الأخير جمع من نقدة اللغة، فقالوا: بل تبدل الهاء قافا، وهي طريقة العرب كذلك، أو تحذف الهاء دون إبدال، وعلى هذا القول المخِّير بين أثنتين من الحذف أو إلحاق القاف: تماسَح فقهاء اللغة، فما إن تجد في المعجمات الوثيقة وما في حكمها إلا: الفالوذ، أو الفالوذق
فأما مناهل الأدب والتاريخ، ومكانز النوادر والطرف، فقد آثرت كلمة الفالوذج على هذا الوجه، فهي ثَمَّ مستعملة سائرة، لا يُعدل عنها إلا في الندرة والفلتات. وهي كذلك في أكثر(270/47)
شعر الشعراء بين القديم ومحدث، ولا سيما عصر بني العباس. وما أجدر ذلك على اجتماعه أن يكون برهاناً قائماً على أن جمهور الأمة العربية كان يجري على إبدال الهاء جيماً، وأن اللفظ قد ذاع على هذه الصورة أول ما ذاع. فتلقفته الألسن بعد ذلك عصراً في أثر عصر، وفي التصحيح اللغوي أثراً مهجوراً لا يقتفيه أحد في صحراء المعجمات!
والطائفة من هذه الحلواء: فالوذجة، كما قال السيرافي، وهذا قول يَعُدَّ كلمة الفالوذج في أسماء الأجناس التي يُفرق بينها وبين وأحدها بالتاء، كتمر وتمرة، وبطيخ وبطيخة. وهي قياس في المخلوقات، سماع في المصنوعات، فما يجئ من هذه مُشَبَّه بما جاء من تلك
ولو أريد جمع الفالوذج جميعاً صناعياً على ما ينقاس في مثله، لكان أقرب شيء متناوَلاً جمع الألف والتاء، كما هو مفهوم قول سيبويه، وصريح رأي أبن عصفور. فيكون: الفالوذجات. ولم يقع لي هذا الجمع فيما قرأت. بيد أن الزمخشري أثبت جمع الفالوذ على فواليذ، في سجعة من أسجاعه الرقاق. ولست أحُق: أذلك تطبيق على القواعد وصناعة، أم نقل لمأثور، أم تقييد لسماع؟. لم ينته إليّ من علم ذلك إلا أن الجمع صحيح على أية خطة!
وقد ذكر أبو علي الفارسي أن الكلمة الفارسية ترجمها: الحافظ للدماغ؛ ويبدو أن هذا التفسير كان متعارفاً للخاصة من العرب حين حلِيَت موائدهم بالفالوذج وحلَت. والدلالة على ذلك فيما حكى عن الخليفة الأموي: سليمان بن عبد الملك، فقد كان أعرابي على مائدته يسرع في الفالوذج. فمازحه سليمان بقوله: أأزيدك منه يا أعرابي، فانهم يذكرون أنه يزيد في الدماغ؟ فقال الأعرابي: كذبوك يا أمير المؤمنين، لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل!
فلم يَنبس سليمان، واحتملها منه، ولم يحتملها له
- 2 -
وكلمة الفالوذج تدل على حلواء ليست من أطعمة العرب، وإنما هي من جملة ما اجتلبوه من موائد الفرس في مستهل الحضارة، قبيل فجر الإسلام. وقد حكى أن عبد الله بن جدعان التميمي، وهوالملقب بحاسي الذهب، لأنه كان يشرب في إناء ذهبي، وفد على كسرى مرة، وأكل عنده الفالوذج، فتعجب منه، وسأل عن حقيقته، فلما أجيب بصفته، ابتاع من بين الفرس غلاماً يحسنُ صنعه، ورجع به إلى مكه، ثم سَمًت به أرْيحِيَّته إلى أن يطعم الناس(270/48)
عامةً جديد هذه الحلواء. فبسط الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى: من أراد أن يأكل الفالوذج فليحضر، فاستجاب له الخلق من كل فج، وكان ممن حضر أمية بن أبي الصلت
فقال يمدحه من قصيدة:
لكل قبيلة هاد ورأس ... وأنت الرأس تقدم كل هادِ
عماد الخيف قد علمت معدَّ ... وإن البيت يرفع بالعماد
له داع بمكه مُشْمَعِلٌ ... وآخر فوق دراته ينادي
إلى ردح الشَّنرى ملاء ... لباب البريُلْبَكُ بالشهادِ
ومالي لا أحييه وعندي ... مواهب يطَّلعن من النجاد؟.
ولما حفلت موائد العِلْية والسراة من العرب المتحضرين بالفالوذج، طوفت في شأنه الأقاويل، فتهيبه ذوو الورع، إذ كان المسلمون حديثي عهد بالحنيفية، يتعففون عن كل ما تطالعهم به الأمم الدخيلة في مختلف أسباب الحياة، وبخاصة المتع واللذائذ، قانعين من شئون اجتماعهم بما أشرقت عليه شمس الإسلام، وما رأي النبي صلوات الله عليه الناس يأكلونه فلم ينههم عنه. فإنه ليحكى أن الحسن البصري - إمام الفقه والفتوى - سمع رجلاً يعيب الفالوذج، فذكر له الحسن أخلاطه التي يبني عليها، وقال: ما عاب هذا مسلم!. . . وعلم الحسن كذلك أن رجلاً يتنزه أن يأكله، فراجعه، فقال الرجل: يا أبا سعيد، أخاف ألا أؤدي شكره، فقال الحسن: يالكع، وهل تؤدي شكر الماء البارد؟ ثم تلا عليه قول الله: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم
ويظهر أن انتشار الفالوذج في الأمصار العربية والحواضر، وتَضوع أخباره في البوادي، شوق الأعراب إلى استكناه هذا الطعام الموصوف، فأني لأنسي ولا أنسى نادرة يقطر منها ماء الظرف، وقعت لي في بعض القراءات، وهي أن أعرابيا خرج يضرب آباط الإبل إلى حضَر المسلمين، يسأل: ما الفالوذج؟. ومُ يُبَرَّدْ ظهر مطيته حتى وصف له، فلما سمع الوصف تَمَطَّق، ثم قال: أي والله لو نزلت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع سجدة. . . وهكذا كشف تلك الرحلة الفالوذجية العاجبة، أمنية أدعى إلى العجب، وهي أن تنزل صفة الفالوذج في محكم الكتاب: سورة الحلوى!!
(للبحث صلة)(270/49)
محمد شوقي أمين(270/50)
حول الطريقة التجانية
للشيخ محمد الحافظ التجاني
شيخ هذه الطريقة بمصر
قرأت في العدد (266) من مجلة الرسالة أسئلة من ألبانيا إلى الأستاذ الحجوي وهذا نصر السؤال:
(أن الطريقة التجانية المنتشرة في أكثر البلاد حتى البلاد الأرناؤودية ولا سيما بلدتنا أشقودرة هل المندمج فيها غير مناف للشريعة الغراء؟ ومنتسبو تلك الطريقة يدعون أفضلية قراء (صلاة الفاتح) لما أغلق على تلاوة القرآن ستة آلاف مرة وهو أكبر الأذكياء متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن كما فصله في كتاب جواهر المعاني المنسوب إلى التجانية، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة الخاصة إنما يترتب عليها الثواب إذا أعتقد أنها من كلام الله القديم من قوله عليه السلام (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً)، وأن تلك الصلاة مع فضيلتها بتلك المثابة لم يعلمها النبي عليه السلام لأحد إلا لمؤسس تلك الطريقة. وفي ذلك مالا يخفى من لزوم الكتمان ومنافاته للتبليغ المأمور به عليه السلام؟ وأن مؤسس تلك الطريقة أفضل الأولياء مع أن الإجماع هو أن الأفضل بعد نبينا محمد عليه السلام، الخلفاء الأربعة على الترتيب المعلوم، وأن من انتسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب وتغفر ذنوبه الكبار والصغار حتى التبعات وغير ذلك مما هو مبسوط في الكتب التجانية)
وحيث أننا - أهل هذه الطريقة أحق الناس ببيان ما نحن عليه - وكان في تلك الأسئلة تحريف عن الحقيقة التي عرفناها ونقلناها عن شيوخنا قاطبة، فإنني أعلن بلسان كل من ينتسب إلى هذه الطريقة أن من يعتقد أن صلاة الفاتح أو غيرها من الصلوات أفضل من القرآن فهو ضال مضل ما عرف الإسلام؛ وليس هناك في طريقتنا من يعتقد تلك العقيدة الزائفة، وقد قال شيخ الطريقة الأكبر في جواهر المعاني:
أما تفضيل القرآن على جميع الكلام من الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الكلام فأمر أوضح من الشمس كما هو معلوم في استقراءات الشرع وأصوله شهدت به الآثار الصحيحة(270/51)
أما الذي نقول به فهو أن من لم يحسن أدب تلاوة الكتاب الواجبة، فلأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل له من أن يتلو القرآن وهو مخل بشروط تلاوته. فالمقارنة في حال التالي لا في المتلو فأنه لا خلاف في أفضلية القرآن. فأي شيء في ذلك وهو الذي يقول به العلماء؟
على أنه لا حرج في رجاء الإثابة على العمل القليل بالجزاء الكثير، وإن كان العامل لا يستحقه ولا العمل، والفضل الإلهي يتسع لإثابة المؤمن على تسبيحة واحدة بجزاء عمل كثير من محض الفضل الإلهي بغير استحقاق. وقد صح في التأمين والتسبيح والذكر شيء من ذلك. وليس هذا من باب تفضيل غير القرآن على القرآن بأي وجه من الوجوه. ولا يذكر هذا ليتكل عليه المؤمنون فالمؤمن يعمل ويخاف ويرجو - وعدم الأمن أصل في العمل بالطريق - ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون - ولا بيأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وإن من مكارم الأخلاق حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله
وليس هناك في طريقتنا من يعتقد أن الشيخ أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعم السائل
وقد صرح في جواهر المعاني أنهم أفضل ممن بعدهم مستدلا بما روى عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله أصطفى أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين) وقال: أعمالنا معهم كسير النملة مع سرعة طيران القطاة. وذكر أن أعمال من بعدهم في صحيفتهم. أما دعوى تفضيله على النبيين فهي دعوى لا تستحق أن يلتفت إليها لوضوح بطلانها
أما صلاة الفاتح ودعوى أن أهل الطريقة يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم كتمها عن أصحابه وأعطاها للشيخ وكونها من كلام الله القديم، فهذه الصلاة موجودة قبل الشيخ، وهي منسوبة لسيدي محمد البكري وهو موجود قبل ولاة الشيخ بزمن طويل، فكيف تكون مكتومة؟ ومن نسب الكتمان له صلى الله عليه وسلم فيما أمر بتبليغه فهو كافر مرتد. وكذلك من اعتقد أنها من أي نوع من أنواع وحي النبوة. ولم يقل أحد عندنا إنها من الأحاديث القدسية. والذي حققه حجة هذه الطريقة سيدي العربي بن السائح في كتابه (بغية المستفيد) أنها يصح أن تكون من الإلهام الذي يجوز للأولياء
قال صلى الله عليه وسلم: (ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. قالوا وما المبشرات يا رسول(270/52)
الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له)
والرؤيا ليست بقاصرة على ما يراه المرء في نومه كما هو معروف في اللغة. وذكر الحافظ بن حجر في شرح حديث أبن عباس هي رؤيا عين أريها صلى الله عليه وسلم الخ في البخاري فيصح أن تشمل ما هو معروف بالإلهام والمشاعر والوقائع والتحديث ونحوه مما حقق العلماء أنه جائز أن يكون نصيب الولي من ميراث النبوة. ويجب عرض ذلك على الشريعة فما وافقها أخذ به ومالا فلا؛ وقد يكون له تأويل كالرؤيا المناسبة سواء بسواء. وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان فيمن قبلكم رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء)
وأهل هذه الطريقة قاطبة في أنحاء المعمورة فيهم واحد على غير مذاهب أهل السنة والجماعة، فهم حنفية أو مالكية أو شافعية أو حنابلة. ومعتقدهم معتقد أهل السنة الذي عليه الفقهاء والمحدثين والأصوليون والصوفية. وقد بلغ فيهم الكثيرون الإمامة في عصرهم في أقطارهم كسيدي إبراهيم الرياحي شيخ الإسلام بتونس، وسيدي أحمد كلانباني شيخ الجماعة بفاس، والفقيه جنون، وسيدي علي بن عبد الرحمن مفتي وهران، وسيدي محمد الحافظ العلوي الشنقيطي
وكل ما يوهم في كتبنا غير هذه العقيدة فقد تصدى علماء الطريق لبيان المراد منه وحمله على الوجه الذي يوافق ما عليه الجماعة ولنا أسوة بمن سبقنا من العلماء. أما ما نسب للشيخ رضي الله عنه مما لا يمكن تأويله ولا يمكن حمله على وجه صالح فنحن نراه كذبا عليه ونرده. وقد سئل: (أيكذب عليك؟. قال نعم - إذا سمعتم عني شيئاً فزنوه بميزان الشرع)
وقد كذب على الله والرسول والصالحين فأي حرج أن يكذب عليه؟
وإن الواقع هو أوضح دليل على براءة الشيخ وطريقته من هذه الأكاذيب المفتراة أو التي ولدها فهم في كلامه لا نقول به يحسب صريحا وهو عندنا مؤول يحرم الأخذ بظاهرة. ذلك الواقع أننا نجد أصحابه لا يقولون بها. وقد أطبق علماء الطريق من عصر الشيخ على إعلان البراءة منها صريحا وبيان أن من يعتقدها ليس في الطريق في شيء. ومعلوم أن أتباع كل امرئ أخبر الناس بما هو عليه. وصريح كلامه الذي لا إبهام فيه ولا غموض هو(270/53)
المرجع الصحيح، وقد تبرأ من كل قول يخالف الشرع ولم يجعل ميزاناً بينه وبين أتباعه غيره
وإذا فليس في هذه الأمور معضلة من معضلات العصر، ولكن المعضل حقيقة هو النزاع فيما بيننا معشر المسلمين؛ ولا شك أن لأعداء الإسلام المصلحة في التفرقة
ولا أدري ألم يحن الوقت الذي يترك فيه نزاع الطوائف الإسلامية ويوضح سلاح الافتراء والتحريف وسوء الظن الذي يتحاربون به؟ وهلا ييسر لهم من يسعى في التفاهم على أساس حسن الظن بينهم وجمع كلمتهم والتماس المعاذير لمن لعل له العذر منهم؟
وليس هذا كل ما يقال عن الطريق فقد ذهب نزاع الطوائف إلى حمل كل موهم في كتبنا على أسوأ الوجوه مما لا يخطر على بال أحد منا ولم نسمعه إلا من خصوم الطريق، وإلى أبعد من هذا، إلى التدليس كما يقال: فويل للمصلين - ويترك الذين هم عن صلاتهم ساهون، وإلى الاختلاق والكذب على التاريخ وعلى الأحياء من العلماء، ووصل حتى إلى الأمور الشخصية، وسأقدم للعالم الإسلامي مثيلين واقعين من ذلك الافتراء:
فها هو ذا جواب العلامة المحدث السيد عبد الحي الكتاني أطال الله حياته على سؤال رفعته إليه عن دعوى رجل زعم أن جواهر المعاني ألفه بعض المستشرقين الفرنسيين وزعم أن الأصل موجود في مكتبة السيد
وزعم قوم أن قبر أوريلي الفرنسية زوجة سيدي أحمد عمار حفيد الشيخ الأكبر جعلت عليه قبة ورسم عليها صليب. والحقيقة أنها ماتت مسلمة وثبت لدى الحكومة الفرنسية ودفنت بالفعل في مقابر المسلمين وليس على قبرها أثر لقبة ولا لصليب. وها هي ذي صورة قبرها بكوردان التابعة للأغواط في صحراء الجزائر. وترى قبور مجاورة سيدي أحمد عمار، وقبر أوريلي هو الثالث الملاصق للجدار في فضاء حديقة القصر ليس فوقه إلا السماء، وقد وضع رجل يده على حجر قائم عليه يقابله حجر آحر عليه تاريخ وفاتها، وأنها ماتت مسلمة بشهادة عدول مسلمين
ولست بعد ذلك بصدد التعرض لجواب الأستاذ الحجوي لأن هذا هو الذي لدينا ونبرأ من كل ما يخالف شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحاب هذه الطريق ولله الحمد من أشد الناس قياماً بالقرآن تلاوة ومدارسة، وبالسنة علماً وعملاً، وأساسها تصحيح(270/54)
العقيدة، والقيام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات جميعها، والتقرب إلى الله بالنوافل على حسب الاستطاعة مع عدم الأمن - ولا واجب عندنا إلا ما أوجبه الشارع ومنه وفاء المكلف بنذره بشرطه المعروف في الفقه، ولا مندوب إلا ما ندب إليه، ولا حكم إلا لله
وليكتب خصوم الطريق (قائمة) بكل ما يخالف الكتاب والسنة من العقائد فنكتب تحتها: هذا باطل لا نقول به، ونستطيع أن نريهم من كلام الشيخ نفسه ما يرده. والفقهاء فيها ممن لهم الباع الطائل في الأصول والفقه كثيرون ولله الحمد، وكلهم أهل سنة واستقامة، وقد بينوا ذلك وشرحوه
وقد عاشرت كثيراً ممن بالمشرق والمغرب من السادة التجانيين فما وجدت أحدا منهم يعتقد شيئا مما يتهم به أهل الطريق مما يخالف الكتاب والسنة. وعلى فرض أن جاهلا اعتقد ذلك فليس منا لمخالفته اعتقادنا، ونحن من اعتقاده بريئون
وإذن فذلك الإنكار المتفرع على تلك العقائد الزائفة لا يصلنا منه شيء، فهو موجه إلى غيرنا ممن يعتقدها. والطريقة وشيخها وأتباعه يبرءون من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وليس لديهم إلا ما عليه أهل السنة والجماعة
(الزاوية التجانية بالقاهرة)
محمد الحافظ التجاني(270/55)
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
تتمة
ومنذ جريان العمل بهذا النظام والانتقادات توجه إليه من كل طبقة من الطلاب. وأحق هذه الانتقادات بالالتفات أن غالب المواد أسندت إلى من لا يحسنها، وأن كتب الدراسة لم يدخل عليها أي تعديل. فالفقه مثلاً لا زال في مختصر الشيخ خليل ذي الشروح العديدة والحواشي الكثيرة؛ والنحو لازال يدرس في الابتدائي بشرح الأزهري للأجرومية. والألفية أبدل شرح المكدودي لها بشرح أبن الناظم وليس بذاك
على أن الذي لا يصح إنكاره من محاسن هذا النظام فضلا عن ضبطه لأوقات الدراسة هو إحياؤه لعلوم الحديث والتفسير، وإدخاله لبعض العلوم التي كان الطالب القروي محروماً منها كالتاريخ والجغرافية والهندسة. فأما كون المواد تسند إلى غير أهلها فالحقيقة في ذلك أن بعض العلوم لم يكن لأهل القرويين في الوقت الحاضر بها مساس مع ما انضم لذلك من إبعاد نبغاء أهل العلم والأدب عن الكلية وأخذهم للوظائف الحكومية؛ فواجب أن تجلب الحكومة بعض أساتذة تلك العلوم من معاهد الشرق بينما ترسل بمئات من أبناء القرويين للتخصص فيها وتدريسها عند عودتهم. كما يجب أن يعاد أولئك الأفاضل المقصون عن الكلية إلى حظيرة التعليم؛ فمن الجور أن يضيع عمرهم في غير ما خلقوا له ويضاع معه مستقبل الطلبة الذي نحن عليه جد حريصين
وأما مسألة الكتب فإن الزمان كفيل بتعديلها على أحسن الوجوه. ومن الإنصاف أن نعترف أن الوقت لم يحن بعد لتسويقها كما ينبغي، لما نرى عليه بلادنا من التأخر المزري في وسائل النشر وصناعة الطبع. وعسى ألا يستمر الأمر على ذلك زماناً طويلاً ولا سيما بعد تنظيم خزانة القرويين والاهتمام بجمع كنوزها وذخائرها وحفظها من التلف ورد اليد العادية عنها فالمستقبل باسم إن وجد من يعمل بجد وإخلاص
هذا، ولنا نظر في إصلاح القرويين ونبديه هنا - ولو لمجرد المناسبة - فهو أقرب تناولا وأمثل سرعة وأنسب حالا من كل إصلاح غيره. وذلك أننا نرى أن تخصص الكلية بالدراسات الإسلامية المحضة وما يعين عليها، من علوم القرآن بما فيها القراءات التي(270/56)
قدمنا ما كان لأسلافنا من العناية بها، والحديث والفقه والأصلين ووسائل ذلك من النحو والفقه والبيان والمنطق والحساب والهيئة ونحوها، على أن تكون دراسة هذه بحسب التبع لتلك، ومن أجل أنه لا يتوصل إلى المطلوب إلا بها، ولذلك كان أشياخنا رحمهم الله يسمونها علوم الآلات، والمقصود الأهم الذي يجعل نصيب العين بالتعمق في النظر والتوسع في البحث هو الفقه والحديث وسائر العلوم المذكورة سابقاً التي نؤمل من وراء دراستها على هذا النمط والانقطاع لها بهذه القابلية أن نخرج رجالاً متضلعين منها أشد التضلع، متقنين لها أحسن الإتقان، فنعيد عهد مالك والشافعي والبخاري وأحمد بن حنبل والأشعري والماتريدي وأبن حزم وأبن العربي وعياض وأبن تيمية وابن حجر وأضرابهم
وذلك في حين توجه الرغبة واشتداد الطلب وتضافر الجهود إلى تأسيس جامعة عصرية ' تتكون من ثلاث كليات إحداهما للأدب والثانية للطب والثالثة للعلوم. والتي للأدب نعوض بها تلك الدراسة الناقصة العقيمة التي حذفناها من برنامج القرويين، إذا اصبح من المسلم به أن الأدب لا يحيا بتلك الطريقة، ولا ينتظر أن يكون له مستقبل في هذه البلاد ما دام لم يوجه الاتجاه المطلوب التي تقتضيه الظروف الحاضرة، وامتداد إبان البحث إلى ما لم تكن عليه في الأزمان الغابرة. واللتان للطب والعلوم نسد بها مفاقرنا في الحياة العلمية والعملية التي ما فتئنا نسمع التبشير بها والوعد باستقبالها منذ ربع قرن فأكثر كما كنا لا نرى لها أثراً إلا عند الغير
وبقطع النظر عن مسألة القرويين ونحن لا نرى بداً - إذا كنا نريد نهضة حقيقية مبنية على أساس متين من الإصلاح الاجتماعي الشامل - من إنشاء هذه الجامعة التي كم عنينا بأمرها وتهممنا بشأنها. ولذلك نتوجه بطلبنا هذا إلى سدة ملكنا المحبوب سيدي محمد الذي نحمد الله على شفائه من مرضه وحفظه لأمته التي لها فيه آمال كبار ومتمنيات جسام لا طمع لها في غيره بتخفيفها وإقرار عينها بها، ومن جملتها الجامعة التي تشرف المملكة السعيدة وتغني كثيراً من أبناء المغرب عن تكبد مشاق السفر والغربة في طلب العلم في البلاد الأجنبية، وما ذلك على همته العلوية بعزيز
(طنجه)
عبد الله كنون الحسني(270/57)
القصص
أماني حسناء
للقصصي الفرنسي كاتول مانديز
بقلم الأديب صلاح الدين المنجد
(كاتول مانديز شاعر وروائي وقصصي. . . أوتي من الفهم والذكاء ما جعله يخوض في كل فن ويطرق كل باب. . . قضي حياته في العمل المثمر والسعي المتواصل، وكان يعشق الحياة والشباب والجمال وله في ذلك قطع أرق الشعر وأحلاه. أشهر مؤلفاته: الأماسي الكئيبة، مجموعة أقاصيص، عذراء افيلا)
كانت رائعة الحسن غضه الصبا. ظهر الورد في خديها الناعمين فوق الزغب الحريري الجميل. وبدا السحر في أهدابها الوطف الناعسة، وتفتحت أنوثتها الرقيقة عن جسم بض ريان، وثديين بارزين فيهما السحر الحلال، فغدت كزهرة من أزهار التفاح في أوائل نيسان. . . كلها فتنة، وكلها جمال
انطلقت ذات صباح تتهادى بين الحقول بتيه وخيلاء؛ يعلو جبينها المشرق سحابة من هّم روع قلبها وأضناه. فرأتها جنية صغيرة كانت تتنقل بين الأعشاب، فحزنت لها وأشفقت على ذلك الشباب. . . فخرجت إليها تجرر ثوبها الأزرق الحريري، وسألتها بصوت هادئ رنان:
- ما الذي يشجيك يا حسناء. . .؟ لقد أوتيت من الحسن ما تتمناه كل فتاة! إن لك لشعراً لونه كلون سنابل القمح في حزيران. . . وإن لك لعينين لونهما في زرقة السماء إذا تنبه الفجر الوسنان. . . وإن لك لفماً رقيقاً وطلعة ساحرة مشرقة، ومشية خفيفة فاتنة، فما الذي ينغص عيشك ويحزنك يا أختاه. . .؟
-. . . . . .؟
- لم لا تقولين ما بك يا فتاة. . .؟ أتشتهين ارتداء ثوب حريري جميل. . .؟
أتودّين لبس حذاء رصع بجوهرة نادرة وزين بشرط ناعمة؟
- أواه! أواه!(270/59)
- لكن حدثيني. . . مالك. . .؟ أتشكين من الخبر الذي تأكلينه؟ أترغبين في العسل الشهي والرُطب الجني؟. . لشد ما تحزنيني يا صبية! تكلمي وأسمعيني. . أتطمعين في أن تكوني ابنة أمير غني ظالم ترفلين في قصره بالدمقس وبالحرير بين ستور الخز ونضائد الديباج، وتحيط بك الوصائف والجواري، تغمضين أجفانك إذا أقبل الليل بين أناشيدهن العذاب، وتفتحين أجفانك إذا أقبل النهار بين رقصاتهن السواحر. . . ويأتي إليك الأمراء ينشدون ودك ويطلبون رضاك. . لتنظري إليهم بطرفك الفتاك، أو لتبتسمي لهم بثغرك الفتان. . .! تكلمي. . تكلمي. .
قالت الفتاة وقد وضعت كفيها الصغيرتين فوق وجهها لتخفي ابتسامة علت ثغرها كلها سحر ودلال. .
- كلا. . كلا. . ما أريد هذا ولا ذاك! ولكني أغار. . نعم أغار من الأزهار. إنهن لجميلات. . وإني لأغبطهن تارةً، ويداخل قلبي الحسد لهن أخرى. . . آه لو كنت زهرة بنفسج في أحد المروج الخضر. . .!
- هه. . هه. . إذن كوني زهرة بنفسج يا حسناء. . .!
فانقلبت حسناؤنا فجأة إلى زهرة بنفسج نبتت بين الأعشاب الندية في أحد الحقول. . . وراحت تغازل الشمس في النهار، وراح القمر يغازلها في الليل. . لقد كانت فاتنة تبهر العين وتغريها. ولقد كان لها أريج عَطِرٌ يسكر النفس ويحيها. . . يا لجمالها! إنها ترقد بهناء وسرور. . تضحك وتلهو. . وترسل شذاها يملأ السهل والوادي. . حتى إن أزاهير الغاب حسدنها، ورحن يتهامسن ويقلن: (يا لسحر هذه الزهرة!. إن الفراشات ليتشاجرن من أجلها، ويترامين فوقها. . يا لسحرها. . يا لسحرها!
ولكن. . ما لها. .؟ أن الكآبة قد عاودتها، وكاد الذبول يقضي عليها؛ وإنها لتذرف الدموع صباح مساء. .!
وجاءت إليها جنيتا تمشي فضلاً بثوبها الأزرق الحريري. . . وقالت لها:
- إيه يا زهرة البنفسج! ما الذي يشجيك أيضاً. . .؟ أما تمنيت أن تكوني زهرة بنفسج فكنتها. . .؟ إنك الآن سيدة الأزهار. . . أن صواحبك زهرات الغاب ليحسدنك على جمالك ونضرتك. فتكلمي يا زهرة البنفسج. . .(270/60)
-. . . . . .!
- لك الله يا زهرة البنفسج! كم أنت حزينة. . . أرغبت عن الحياة بين الأعشاب؟ أتريدين العيش وسط الخمائل والرياض؟ تكلمي. . . أيتها الزهرة الصامتة!
-. . . . . .؟
- أأصابك الملل يا حسناء من أولئك الفراشات اللائي يطفن حولك ليل نهار ويتشاجرن من أجلك ويسعين لتقبيلك؟
فتنهدت الزهرة ولم تقل شيئا
قالت الجنية:
- لشد ما يغيظني صمتك يا زهرة البنفسج! ألم ترقك الحياة هنا؟ أتريدين أن تعيشي في قصور الأميرات لتوضعي في أواني الصين الفاخرة فيعجب من حسنك كل من يراه! ولتحلي صدور أولئك النواعم الحسان. . .! آه منك يا زهرة البنفسج. . . لم لا تكلمينني!
قالت الزهرة:
- كلا يا أختاه. . ولكن حسبت أن زهرة البنفسج هي أجمل الأزهار، وما علمت أنها صورة الحزن ورمز الألم. .! وأنا أنفر كما تعلمين من الحزن وأخاف الألم. . . آه لو كنت زنبقة في إحدى الرياض. . . أن الزنبق لأجمل الأزهار. أليس كذلك؟
- أوه! أهذا كل ما تتمنينه؟ إذن كوني زنبقة كما تريدين!
فانقلبت زهرة البنفسج إلى زنبقة ما رأت العين أجمل منها أبداً. ولكن. . . لقد عاودتها الكآبة بعد أيام. إنها تريد أن تكون ياسمينه بيضاء. . كلا. . كلا، أن الفل أجمل من الياسمين. . وأن شذاه لمسكر! ولكن. . . الورد. . . الورد. . أليس الورد ملك الأزهار؟ إنها تريد أن تكون وردة. . . وردة حمراء. . .!
وانقلبت الفتاة من زنبقة إلى ياسمينه، ومن ياسمينه إلى وردة؛ عندئذ قالت:
- الآن طاب لي المقام وطاب لي العيش. لقد أصبحت سيدة الأزهار وهدية الأحباب إلى الأحباب. . .! وما عليَّ إلا أن ألهو براحة وهناء. . .!
فلما كان الليل رأت فتى وإلى جانبه فتاة يتقدمان على مهل حتى أستقرَّ بهما المكان إلى جانبها. فهمست في أذن جارتها:(270/61)
- أواه أنها لجميلة. . . انظري إلى الجمال كيف يرفَّ في وجهها، وإلى السحر كيف يشيع في صوتها. . . لقد كنت أجمل منها إذ كنت فتاة! يا حسرتاه!. . .
وراحت الوردة تنظر وتصغي. . . تنظر إلى الحبيب يعانق حبيبته، فيلثم تغرها ويجس نهدها. . . أو يناجيها بأرق الغزل وأحلاه. في هدأة هذا الليل المقمر الشاحب، فتجيبه بكلمات تخالها قطع الرياض كسين زهراً!
وذرفت الوردة دمعة. . . وقالت
- آه لو بقيت فتاة إذن لكنت. . . ولكان لي فتى. . .! ولكن. . . أن جنيتي قد تولت عني فمن لي بها؟ لقد قالت لي إنها سترجع، ولكن أين هي؟ وتنبهت الوردة عند السحر، فذكرت ما رأته في الليل. . . وما سمعته، وذكرت جمالها وسحرها، وكيف ذهب الجمال وغاض السحر. فذرفت دمعاً بلَّل خديها وراح يروى الثرى؛ وقضت نهارها في وجوم يبعث في النفس الأسى. فلما كان أصيل الغد، وكادت الشمس أن تطفل، رأت امرأة بارعة القد، صبيحة الوجه، تمشي الهوينا إلى جانب رجل في ريعان الشباب، ومعهما طفل يعدو وراء الفراشات فجلسا إلى جانبها. قالت المرأة:
- أنظر إلى طفلنا يا عزيزي. . كيف يهيم وراء الفراشات هه. . . هه. . . أتذكر يوم لقيتني لأول مرة على ضفاف البحيرة في حديثة كهذه، فجئت إلى فصددتُ عنك. . . ثم. . . يا لله لشد ما تزدحم الصور في مخيلتي! ثم جئت إليَّ وكلمتني كلمات. . وكلمُك كلمات. . . وكان يوم الزفاف بعد أسبوع!. . .
أتذكر يوم قلت لي إنك تريد طفلاً يدخل على نفسينا السرور وعلى عيشنا الهناء؟ فأضحك. . . ها هو ذا طفلنا يلهو ويلعب، وها هي ذي الحياة تبسم لنا وتضحك! تعال يا طفلي أقبلك. تعال فأنت الذي أذقني طعم الهناء. . .
وقام الزوج يطبع على ثغر زوجته قبلة أودعها كل معاني الحب والإخلاص. قالت الوردة:
- الآن فهمت معنى الأمومة ومعنى الزواج
كانت الشمس ترسل أول شعاع لها فتنبه شجيرات الورد الناعس عندما جاءت إليها الجنية تقبلها قبلة الصباح وتسألها عما بها فتجيبها بصوت هادئ حزين:
- آه! لن أتمنى بعد اليوم شيئاً! أريد أن أرجع فتاة لأكون أماً!(270/62)
صلاح الدين المنجد(270/63)
إلي نورك السجين. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(من أحلام كوخي البعيد، أهتز لك بهذه الأنشودة. . . لعل
فيها سلواناً لعذابك!)
إنْ رَأيْتِ النُّورَ مذعُو ... رُ الْخطَى نحْوَ الْمَغيبِ
وَرَأيْتِ الطَّيْرَ يَنْعي ... هـ لأوْرَاد الكثيبِ
وَرَأيْتِ الْعطْرَ نَعْساَ ... نَ عَلىَ الأيْكِ الرَّطِيبِ
وَرَأيْتِ الَّنهْر سرَّا ... لَفَّهُ صَمْتُ الْغُيُوبِ
وَرَأيْتِ الشَّمْس لا شَم ... ْس سَوِى طَيْفِ الْغُرُوبِ
وَرَأيْتِ الَّليْل (قدَّي ... ساً) تَهاَدَي للِصَّلِيبِ
غامضِ الأسْرَارِ يَحْكى ... سِتْرُهُ نَعْشَ الذَّنُوبِ
فاْنظُرِيِ منْ شُرْفةِ الْقَص ... رِ ونادِي: يا حَبِيبي!
تُشْرِقُ الدُّنياَ ويَنْدي ... جَوُّهاَ مِنْ كلَّ طِيبِ
وَتَهِلُّ الْفَرْحَةُ الْكُبْ ... رَى عَلَى قَلْبي الْكَئيِبِ
وَيُعودُ الأملُ ألهاَ ... رِبُ لي عَوْدَ الْغَرِيبِ!
وَإِذَا ما الْفَجْرَ أضْفَى ... نُورَهُ فَوْقَ التِّلاَلِ
وَزكَتْ (مِئْذَنةُ) النَّا ... سِكِ منْ عِطْرِ (الهِلالِ)
وَإِلى اللهِ دَعا الدَّا ... عِى بِطُهْر وابتِهَالِ
وَأفاقَ الدَّيكُ يَنْعِي ... خَلْفَ (تابوُتِ) اللَّياَلي
وَأنْتَشَى الوادِي مِنَ الن ... ورِ وَصَهْباَءِ الطِّلالِ
وَمَضَى الرَّاعِي إلى دُنْ ... ياَهُ في سَفحِ الْجبَالِ
وَاحْتَسَى الْعُصْفُورُ في الرَّوْ ... ضِ عَبيرَ الْبُرْتُقَالِ
وتَنَاغَى هَزَجُ (النَّح ... لِ) بِأفْيَاءِ الدَّواَلي
وغَدَا النَّيْلُ من الْبَهْ ... جَةِ قُدْسيَّ الْجَمالِ. . .(270/64)
فانْظرِي منْ شُرْفةِ الْقصْ ... رِ عَلَى الوْادِي حِيَاليِ
تسْكِرُ الدَّنيَا لِمَرْآ ... كِ تَسَابِيحُ الْجلاَلِ
وَتَرَيْن السَّحْرَ سِحْرَ الْ ... كَوْنِ يَفْنى في خَيَالي
أَنْتَ سِحْري وَفُتُوِني ... وَصَلاَتي وَابِتهاَلي
لا تَظُنِّي نوُرَك الْعل ... وِيَّ تُفنِيهِ الْقُيُودُ
هُوَ كَوْنٌ عَبْقَرِيٌ ... لا تُوَاِتيهِ الْحدُودُ
وهْوَ دُنْيَا مِنْ صَفاَءِ ... لا يُساَمِيهاَ الْوُجُودُ
رَفْرَفٌ للْخلدِ لا يَرْ ... قَى لِشطَّيْهِ الْخلُودُ
تَهْرَمُ الدُّنيا وَتَبْلَى ... وَهْوَ شَعْشاَعٌ جدِيدُ
مَاَلهُ منْ مهُجَتي ( ... م) إلا التّغَّني وَالُّسجُودُ
فاسْكُبِيهِ فَوْقَ عُمْر ... كادَ يُبْليِهِ الُّصدُودُ
أنا ظْمآنُ. . . وَلكِنْ ... خانَ أياَّميِ الوُرُودُ!
وَعَلىَ كَفَّيك أقْدَا ... حِي وخَمري وَالنَّشيدُ. .
فَدَعِي الأغْلاَلَ ماشَا ... َءتْ غَداً يَبْلَى الْجدِيدُ
قَدْ رَعَى اللهُ هَوَاناَ ... وَأظَلَّتْهُ الْعهُوُدُ
ما الَّذي يَبْقَى سِوَى أَنْ ... يُشْرِقَ الْفَجُر السَّعِيدُ!(270/65)
تحية دامية!
للأستاذ أمجد الطرابلس
غردَّي يا دمشقُ لحنَ العيدِ ... وَذي النَّدبَ وأصْدَحي بالنَّشِيدِ
وأسْدلي برُقُعَ الأباءِ على الدّم ... عِ، وأخفى الجراحَ تحت البرودِ
واهتفي فرحةً بأشبالِ مصرِ ... وميامينِها الأباةِ الصِيد
لبت أياّمَكِ الطّوالَ جميعاً ... مثلُ هذا اليومِ الضَّحوكِ السَّعيد!
إيِه أحباَبنا وقد تُنْكَرُ الكُلْ ... فَةُ في رفرفِ الهوى المدود
هذه الدارُ داركم، وبنوها ... أهلكم بين شارخ ووليد
قبَّلتكم فيها ثغورُ الأقاحي ... والنسيماتُ في الربى والنجود
فأنزلوها ملَء القلوبِ الوجيعا ... تِ، ولا تنكروا قَتَادَ المهود!
أيها العرب يا فجار الحضارا ... ت، وأشودة العُلى والخلودِ
يا مشعَّ الأنوار وسط الدياجي ... يا سيوفاً أبت إسارَ الغمود
ليس ينجي النَّعاجَ من شفرة الجزَّا ... ر إيمانُها بعدل الوجود
فاحطموا في الإسارِ إيمانكم بالغر ... بِ والعدل قبلَ حَطْمِ القيود
وانزعوا من صدوركم طِيبةَ القل ... بِ، وشُبوَّا فيها لهيبَ الحقود
فالسياسات لا تدينُ بحقٍ ... لضعيف ولا تفَي بعهود
لو أراد القوىُّ إنقاذ شعبٍ ... لم يمدَّنه بالّلظى والحديد
تَعسِ الخلقُ أن غَداً في البرايا ... من قيودِ المستعبدِ المصفودِ
تَعسَتْ هذه المرؤاتُ إمَّا ... أصبحت في الأنامِ دين العبيد
تعس برُّ العهود إذا صا ... رَ دليلاً على الونى والجمود
إنما الخلقُ ما يقولُ قويٌّ ... يتجنىَّ بعدّةٍ وعديد
كذبُ الأقوياء صدق وعدلٌ ... واعتداء القويّ فوقَ الحدود
ورشادُ الضَّعيفِ شرُّ الضلالا ... تِ، وشكواه من عجيب الكنودِ
وبلاد الضَّعيفِ جسم بغيٍّ ... مستباحُ الهوى لكلِّ مريدِ
يتُنَادى عليه بين الضَّواري: ... أيُّها الطامعون هل من مَزيد؟(270/66)
أيها العربُ، آن أَنْ يعصفَ الهو ... لُ، فيهوي بكلَّ جَوْرٍ مَشيد
آن أَنْ يجمع الأَتيُّ على الأسْ ... رِ ويَطغي على مَنيعِ السّدود
آن أن تُحْشَدَ الحشودُ إلى المجدِ ... وتختالَ تحت حُمْرِ البنود
آن أن تَنبذوا النعيم إباءً ... أَنكَدُ العيشِ في الهوان الرّغيد!
لا يسيغُ الهناَء ندبٌ، أخوه ... من سياطِ الطعام دامي الجلودِ
وعيونُ الكرامِ بَسْلُ عليها ... في جراحِ الكرامِ طَعْمُ الهجوِ
هذه الشام في اللّظى فحرامٌ ... أن تناموا على رنين العودِ
تتلوى على جراحاتِ جَنْبَيْ ... ها، وما للجراح من تضميد
تَصرُخُ الصَّرْخة التي ترعش الأف ... قَ وتبلو النُّجُومَ بالتسهيدِ
وتمدَّ اليدين ترجوا نصيراً ... وهي بين الّتتْرِيك والتَّهويد!
بسمت في وجوهكم وهي تخفى ... من جراح الأيْام أيَّ وقودِ
وكذلك الأباةُ يخفونَ أَوجا ... عَ اللّيالي تحت الإِباءِ العنيد
إيه أحبابَنا! شكوتُ إليكم ... وَعَذيِري ما بيننا من عُهودِ
من لنا أو لكم إذا الغاصِب العا ... تي تَمادى في العَسْفِ والتنكيد!!
هل يُرَجّي الشقيق إلاْ أخاه ... في دُجَي الخطب والبلايا السُّودِ
فإذا عُدْتُمْ غداً في أمانٍ ... ونعمتم بنيلكم والصَّعيد
فاذكروا رفارف الشام أهلاً ... وَجَدوا لقائِكُمْ خَيْرَ عِيدِ!(270/67)
سحر لبنان
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
ربوع لبنان أم جنات رضوان؟ ... وصورة الخلد أم تصوير فنان!
بوركتَ يا فتنة الأجيال من جيل ... سامي الذري مشمخرَّ الأنف ريان
زاهي الربي ناصر الوديان متشح ... في كل ناحية بالحسن فتان
يا ملتقى الخلق من بدو وحاضرة ... ومجمع الشرق من قاص ومن دان
ملأت عينيّ سحراً والفؤاد مُنَى ... ودب سحرك من روحي لجثماني
وشاع عطرك في نفسي فأسكرني ... وذاع ضوءك في قلبي فرواني
لم يبق جارحة إلا نفثت بها ... سحراً حلالاً فجددت الصبا الفاني
حتى غدوت فتياَّ ضاحكاً مرحاً ... من بعد ما هدت الأيام بنياني
لو كان أهليّ في لبنان ما نزعت ... نفسي إلى وطن لي غير لبنان
عبد الحميد السنوسي(270/68)
البريد الأدبي
من غرور الأدب الرسمي
على أثر ما كتبناه عن لجنة إنهاض اللغة العربية وغمطها لحق فريق من الأدباء لشهوة أو جفوة، تحدث إلينا في التليفون الأستاذ محمد جاد المولى بك أحد أعضائها ومفتش اللغة العربية الأول، حديثاً كان في معناه وروحه خيراً من كتاب صديقنا الأستاذ أحمد أمين. فقد أعترف الأستاذ جاد المولى بالحق، وصرح بالاعتذار، وود أن ما حدث لم يحدث. ولكنه قال آخر حديثه:
سنعوضك تعويضاً أدبياً أن شاء الله!
- وما هذا التعويض الأدبي يا أستاذ؟
- أن الوزارة بصدد أن تؤلف كتاباً في المختارات وستختار لك فيه بعض القطع
سبحان الله يا أستاذ! وهل تعتقد بإخلاص أن هناك فرقاً جدياً بين ما ينشره الكاتب في كتبه للناس، وبين ما تنشره له وزارة المعارف في كتبها للطلبة؟ لعل الأستاذ يرى أن وزارة المعارف حين تختار من الكتاب تشهد له رسمياً بأنه يحسن الكتابة! إن كان ذلك ما يراه الأستاذ فأظنني شببت عن هذه الشهادة. وإني أشكر للأستاذ جميل اعتذاره، وخلوص نيته، وحسن قصده؛ وأسأله أن يدع للقراء أن يقرءوا، وللأدباء أن يحكموا، وللزمن أن يغربل!
الزيات
حول ديوان الجارم
كتبت زميلتنا (المكشوف) الغراء كلمة بليغة في (أنانية الأدب الرسمي)، وأشارت إشارة لبقة إلى ديوان الجارم وسرعة إخراجه وطريقة شرحه. ولولا أن يداً أخذت المكشوف ولم ترده لنقلنا هذه الكلمة في العدد الماضي. واليوم أرسل إلينا أديب معروف هذا السؤال ننشره من غير جواب ولا تعليق، قال:
(كتب الدكتور زكي مبارك كلمة حق عن ديوان الجارم في مجلة الرابطة الأدبية فغام عليه الأفق في وزارة المعارف، وأخذه الرعد من كل مكان. وكتب أستاذ آخر مقالين في تقريظ هذا الديوان نشرهما في البلاغ، المقال الأول وهو في التدريس، وأمضى المقال الثاني وهو(270/69)
في التفتيش. فهل كان ذلك لمجرد المصادفة السعيدة؟)
(ز. ح)
بين الأستاذين الغمراوي وقارئ
كتب إلينا صديقنا الأستاذ الغمراوي ما يأتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد قرأت مقال الأستاذ (قارئ) وأنا مريض ببور سعيد، وقرأت عوده إلى الموضوع وأنا مريض بالقاهرة؛ وهذا هو عذري إليك وإلى الأستاذ (قارئ) وإلى قراء الرسالة في تأخيري الإجابة عن نقده. وكل الذي أستطيع أن أقوله الآن هو أن الذي انتقده الأستاذ (قارئ) شيء لم أرده بما كتبت، مع علمي بأكثر الوقائع التي ذكرها الأستاذ في نقده. أما تفصيل ذلك فموعده حين يأذن لي الطبيب في الكتابة
والسلام عليكم ورحمة الله
محمد أحمد الغمراوي
جانب من الوطنية العراقية
ورد لي من العراق منذ أن رجعت منه إلى مصر لقضاء عطلة الصيف ما يزيد على عشرين رسالة من الطلاب. ومما لفت نظري في أكثرها وحملني على زيادة التقدير والإعجاب بالوطنية العراقية أن كل هذه الرسائل ما عدا واحدة، تفيض بأحاديث الغيرة على سمعة العراق، وباللهفة على تعرف أثر مقتل المرحوم الدكتور سيف، وبرجائهم أن نعمل على محو هذا الأثر - إن وجد - بإفهام إخوانهم المصريين أنه حادث فردي لظروف خاصة
وقد تعمدت - كما بينت في ردودي على هذه الرسائل - أن أمرّ هذا الحادث مروري على أي حادث من نوعه يقع في مصر أو في العراق، ولا أشترك في رد الغلو الذي ورد في كتابة بعض الذين تهيجوا للحادث، فعلقوا بعض تعليقات شذت عن تقدير الظروف تقديراً صحيحاً، ورأيت أن ذلك أولى بنا كأمة واحدة، أو كأمم ربط الله مصائرها وآمالها وآلامها برباط واحد، وأن ذلك أحرى بها ما دامت ترمي إلى أهداف مشتركة نرجو من المستقبل(270/70)
القريب أن يحقق لها الوصول إليها. فلا بد أن تتلقى هذا الحادث وأمثاله - ولا أكثر الله من أمثاله - بشيء كبير من سعة الصدر، وعدم التعليق الكثير عليه، والتمطيط في سيرته، والتشقيق لحديثة؛ شأنها في الحوادث المحلية العادية التي تحدث في مصر أو في العراق كما قدمنا. وذلك كله لإفهام الجماهير في الأمتين الشقيقتين والأمم العربية جمعاء، أن أمثال هذا الحادث يجب أن تتوطن النفوس على وقعه ولا تحسب له حساباً في العلاقات الدائمة بين هذه الأقطار
ولكن هذه الظاهرة الحميدة التي لمستها في الوطنية العراقية مما ورد لي من رسائل شباب العراق الذين لم يبلغ أكثرهم بعد درجة المسؤولية الوطنية فيما يتعلق بحسن سمعة الوطن والغيرة عليها بلهفة، وتصحيح خطأ وقع من فرد منها. . . هذه الظاهرة وحدها هي التي حملتني على تسجيل هذا الحديث، وما لغيرها كنت أرضى أن أخوض في حديث هذا الحادث
ومقياس الوطنية عندي هذه الغيرة الحادة اليقظة التي قد تتحول في بعض النفوس الكريمة إلى شبه أنانية فردية. فكأن ما يقع على عموم الوطن يقع على خصوصية الفرد. . . وكأن كل فرد يحمل وطنه على قلبه، فما يثقل على الوطن من مصيبة أو سوء سمعة أو شبهة يثقل على قلوب الأفراد
وفي الحق أن هذا الجانب من الوطنية العراقية يشاهد نامياً بارزاً جدا، مما يجعل الوطن في ضمانه وحمايته وفي أمل كبير منه
فإلى أصدقائي الذين راسلوني من العراق وأداروا هذا الحديث في رسائلهم أرسل هذه الكلمة على صفحات (الرسالة) لأن موضوعها ليس لي ولهم ولا لمصر والعراق فقط، بل هو فوق ذلك أنه للعروبة في جميع بقاعها ممن يقرؤون (الرسالة)
ولتطمئن قلوب الشباب العراقي، وهنيئاً للعراق هذه الغيرة في قلوب بنيه
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف
بين الرافعي والقشاشي(270/71)
مضى الأستاذ محمد سعيد العريان مترجم فقيد الأدب العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي في سبيله يكتب ذلك التاريخ الزاهر، وينشره بشكل مقالات في (مجلة الرسالة) حتى بلغ الآن المقالة (32) وفيها دعا من كان عنده شيء من أخبار الرافعي غير ما ذكره هو، أن يتفضل بالكتابة إليه رأساً أو على صفحات (الرسالة) يحيطه علماً بذلك، وفاء بحق الأدب وأهله، ورجاء إتمام ذلك التاريخ الذي كاد يغمره النسيان ويجني عليه الإهمال
ونحن إجابة لدعوة الأستاذ ننبهه إلى خصومة أخرى كانت قد نشبت بين الفقيد الكريم والأستاذ مصطفى القشاشي صاحب مجلة (الصباح)، ولعلها آخر الخصومات الأدبية للرافعي؛ وقد كانت هي التي أوحت إليه بمقال (صعاليك الصحافة) المنشور (بالرسالة) (أعداد: 189 و 190 و 191 و 192) وقد عرض فيه بالصباح تعرضاً مكشوفاً، إذ أتى في العدد 191 على جملة من عناوين مقالاتها التي كانت صدرت فيها أثناء تلك المدة، كنماذج للموضوعات التي تطرقها تلك المجلة
وكان السبب في هذا الحملة من الرافعي على صاحب (الصباح) أنه حمل إليه كتابه (وحي القلم) ورجا منه أن يكتب تقريظاً له، وهذا ما يؤخذ من كلام الأستاذ القشاشي؛ وبما أن القشاشي تأخر مدة عن كتابه التقريط، وعذره أن الكتاب ضخم يتألف من جزأين في تسعمائة صفحة ويتناول مائة موضوع وموضوع، فإن الرافعي ظن السوء بصاحبه وقام يجلد صعاليك الصحافة، ويا لله من غضب الرافعي فإنه يزري بغضب عنترة!
وشاءت سخرية القدر أن يبرز مقال (الصباح) في تقريظ (وحي القلم) بعد أن ينشر الرافعي ثلاثة أقسام مقاله (صعاليك الصحافة) والقسم الثالث منه الذي به انكشف مراده فظهر أنه يعني صاحب الصباح، صدر في عدد (191) أول مارس 1937 على حين أن تقريظ الصباح كان في عددها 545 (الصادر) في خامس مارس المذكور، وقد كان تقريظاً بليغاً يرضى الرافعي ويدخل على نفسه السرور، وحسبك منه هذه الجملة التي يقول فيها الأستاذ القشاشي: (أن كتاب وحي القلم ليحتاج إلى كتاب آخر في الإشادة بذكره، فلعل ضيق المجال يعتذر لنا عند الأدب العربي ثم عند الأستاذ الرافعي)
ولكن الأستاذ الرافعي قد عجل - وفي العجلة الندامة - فسرعان ما انقلب مدح (الصباح) له قدحاً فيه، وثناؤها عليه طعناً. وكنا نحن قد انتظرنا ذلك لما قرأنا القسم الثالث من مقال(270/72)
صعاليك الصحافة، فكيف وقد قرأنا أيضاً ثناء الصباح وتقريظها؟ وأخذتنا الشفقة على الأستاذ الكبير الذي طالما أشفقنا من الخصومات التي كانت تثور بينه وبين أهل الأدب ولا سيما الإمام العقاد. وهكذا صدق ظننا فبرز مقال الأستاذ القشاشي (صعاليك الأدب واستجداء المدح والثناء) في العدد التالي من (الصباح). ولا تسأل عما يحوي من قوارص الكلم وفاضح التعريض
قلنا إننا نشفق من هذه الخصومات التي تقع بين كبار الأدباء لأنها في الغالب لا يكون باعثها النقد النزيه، فيسمج عندنا أن ينزل مثل العقاد والرافعي من عليائهما إلى ميدان المهاترة إرضاء لحالة الموجدة وطبيعة الغضب كما وقع في قضية الرافعي والقشاشي، فبينما الصفاء والسلام إذ الحقد والحرب. ونحن لسنا من مقلدة الرافعي ولا من المتعصبين للعقاد، ولكن لهما معاً عندنا مقام سام، وفي أنفسنا لكل منهما حيز لا يشغله الآخر. عرفناها معاً من قديم واغتبطنا بآثارهما كل الاغتباط؛ وكنا نأسف على ضياعهما بين قومهم وعدم عرفان حقهما حتى جاءت (الرسالة) فعرفت بالرافعي الذي كان أكثرهما ضياعاً وأنكرهما عند جمهور القراء في العالم العربي. وسيكون لهما من الذكر في المستقبل الأيام ما يغطى على غيرهما أياً كان، بل أنها سيكونان علمي عصر النهضة في تاريخ الأدب العربي الحديث، ورمز المذهبين المدرسي والابتداعي المتكونين في هذا الأدب كما يجب الآن.
ولسنا ندلي برأي إلى الأستاذ العريان، وحسبه من كلمتنا هذه ما يتعلق منها بخصومه الرافعي والقشاشي، لكن القراء أيضاً لهم حظهم فيما يقرأون، فلذلك تطرقنا ولو بهذه الإلمامة الخفيفة إلى وجه الرأي في أدب الرافعي والعقاد، حاسبين أن ما كان بينهما من خصومة إنما هو نتيجة الغيظ وحدة البادرة وأن ما كتبه كل منهما في هذه الخصومة إنما من قبيل ما كتبه الرافعي والقشاش باعثه الظن السيئ والعجلة. وللقوم وفي عمرو بن الأهتم وما كان بينه وبين الزيرقان بن بدر من المنافسة والمشاتمة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شافع وعذر. . .
(طنجة)
عبد الله كنون(270/73)
مستعمرة مصرية في إنجلترا
نشرت جريدة نيوز كرونيكل في مكان بارز خلاصة درس لكتاب عنوانه إيزيس نفتيس في ولتشير وخارجها، تأليف الدكتور رندل هاريس العالم الأثري الشهير وقد طبعته شركة الطباعة في بريستول
فالدكتور هاريس يعالج نظرية مؤداها أن الآثار السابقة للتاريخ قرب سالسبوري التي زارها الملك فاروق أثناء وجوده في إنجلترا إنما هي من آثار قدماء المصرين، وقد ثبت له الآن أن مركز المستعمرة المصرية وجد فعلاً في (لتشير) قرب برادفورد أون أفون
ويعتقد الدكتور هاريس أن المصريين صعدوا في نهر أفون من بريستول واحتلوا تلك الأماكن. وهو يقدم سلسة أدلة لتأييد اعتقاده، مثال ذلك الاحتلال المصري لمنطقة تشالفيلد. فيقول هاريس إن (تشال) محرفة عن الكلمة المصرية (تشار) وهي إحدى الأسماء العديدة المزدوجة للإلهتين إيزيس ونفتيس
المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية
عقد المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية جلسته الأولى في زوريخ يوم الاثنين الماضي، وقد بلغ عدد أعضاء الوفود الممثلة للحومات والجامعات والمجامع العلمية في المؤتمر ألفاً ومائتين، وكان أكثر الوفود عدداً الوفد الألماني ويليه الوفد الفرنسي فالإنجليزي فالبلجيكي فالإيطالي فالبولندي
وأما الوفود الشرقية فأكبرها عدداً الوفد المصري الذي يرأسه الأستاذ محمد قاسم بك ناظر دار العلوم، والوفد التركي وعلى رأسه الأستاذ فؤاد كوبريلي الاختصاص في العلوم التاريخية. ولكل من إيران وأفغانستان وسوريا ممثل واحد ولم يمثل العراق ولا لبنان أحد
وسيلقي ممثل مصر في إحدى جلسات المؤتمر محاضرة موضوعها (توسع أساليب المباحث التاريخية في مصر)
ويتكلم الأمير شكيب أرسلان ممثل سورية عن سيرة صلاح الدين الأيوبي الشخصية. وسيتوفر للشرق الأدنى قسط كبير من مباحث العلماء في المؤتمر: فالأستاذ كوبريلي التركي جعل موضوع محاضرته سياسة الإقطاع عند المسلمين والترك في القرون(270/74)
الوسطى، ويبحث الأستاذ لامونتي الأميركي في أسباب عظمة الإقطاع الإفرنجي في سوريا إبان الحروب الصليبية وانهيارها؛ ويتكلم زميله (ليبيار) عن أهمية السلطان محمد الفاتح في التاريخ؛ وسيتقدم الأستاذ (هاليكي) البولندي ببحث طويل عن تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق؛ ويتناول العالم الإيطالي (مونداييني) تاريخ السياسة الاستعمارية والمستعمرات من سنة 1815 أي منذ سقوط الإمبراطورية الفرنسية الأولى إلى نشوب الحرب العظمى سنة 1914؛ ويحاضر الأستاذ (جويله) الفرنسي في تاريخ البحر المتوسط في القرن التاسع عشر؛ ويخطب أستاذ إيطالي آخر في مساهمة إيطاليا في كشف أفريقيا في القرنين الخامس عشر والسادي عشر، ويتحدث المؤرخ (راين) الألماني عن بسمارك وسياسته الافريقية؛، وجعل مندوب الجمهورية الأسبانية محور بحثه (أصل القنصليات البحرية في سواحل البحر المتوسط)
بين القديم والجديد
سيدي الأستاذ الكبير صاحب الرسالة
تحية: وبعد فقد حسب الأستاذ محمد احمد الغمراوي في آخر مقال حول أدب الرافعي (بين القديم والجديد)، أنه انتهى من (تزييف) كلام الأستاذ سيد قطب إلى المبلغ الذي كان يريد وأكثر؛ وأنه وضع العقاد موضعه والرافعي موضعه، وإن كان هذان الموضعان ليسا إلا أن الرافعي أنصع لفظاً من العقاد، وأنه رجل يهتدي بنور الدين، والعقاد لا يهتدي بأي نور!
كذلك حسب الأستاذ الغمراوي أنه فصل بين الحق والباطل في هذا الأمر واستراح إلى نتيجة تلك، ولم أكن أود أن أنفس عليه هذه الراحة لولا أنه شاء أن يعرض لكلمة سابقة لي في هذا المضمار، ورأى أن يرميني بالفزع من ذكر الدين فزع (الملسوع) بالنار فقال:
(لكن أصحابنا المجددين أنصار ما يسمونه الأدب الحديث يفرقون من ذكر الدين كأنما تلسعهم من اسمه النار، كذلك فزع أحدهم بالعراق، وكذلك يفزع هذا الآخر. . .)
وأنا المقصود ولا ريب بالفازع الأول. والقارئ يذكر أن فزعي المزعوم هذا لم يكن من الدين، فما فيه ما يفرع أو يلسع، وإنما كنت اعترضت على إقحام الدين - بدون داع ولا مبرر ولا فائدة - في نقد أدبي قاله الأستاذ سيد قطب حول بيت من أبيات الرافعي، وجاء الأستاذ الطنطاوي يحوره ويتجه به نحو الدين كما يفعل الأستاذ الغمراوي الآن، وكما فعل(270/75)
المرحوم الرافعي في كل نقد أدبي له، وكما يفعل كل من يؤوده أن يكسر من شوكة هذا الذي يسمونه تجديداً أو كفراً من سادتنا الرافعيين! فما الذي يقصده الأستاذ الغمراوي بالفزع؟ وما شأن الدين بكل شيء يتصل بالأدب الحديث الذي يسعى إلى التجديد والنهوض وتوسع أفق الحياة الأدبية وإخراجها من عصر الاجترار والتخلف، إلى عصر التمثيل والحيوية؟
وإذا كان الأستاذ الغمراوي يقول في مقالة الآنف الذكر:
(إن الفطرة كلها ينشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد اجتمعا على استحالة التناقض في الفطرة، فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة كما يزعم أهلها وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة دين الإسلام في شيء. . .)
وهو بذلك يريد أن يحد من مفهوم الأدب، فما نصنع إذن بالأدب الذي أقره العالم واعترف به أدباً سامياً ولم يكن مصدره الدين الإسلامي، والذي لم يخلفه أدباء مسلمون ولم يأتلف مع قواعد الدين الإسلامي في شيء؟ أقول ماذا بأدب طاغور، وملتون، ودانتي، وتورجنيف، وإيبانيز، وابسن، وموباسان، وغوركي، وهاردي، وجيتي؟. . . بل ماذا نصنع بأدب بودلير، وفرلين، ولورنس، وجويس، وهينسكي، ولوتي؟ هل نرمي بهم في البحر أن نعترف بأدبهم؟ وهل يتفق أدبهم مع الفطرة؟ وهل هو خير أم أدب الرافعي؟
وحضرة الأستاذ يذكر أدب الإيمان فهل يرى أن الشك لا أدب له؟ وما يقصده من التعرض بالإيمان، والشك؟ والحوم حوالي الدين في كل مناسبة عرض لها في نقده وبحثه أدب العقاد والرافعي؟ هل يريد أن نفهم من أقواله تلك أن العقاد ومن يرى رأيه ملحدون لا إيمان ولا نور لهم يهتدون به؟ وكيف يتسنى له أن يحكم هكذا بدون تدليل؟
سيدي الأستاذ:
إن الأستاذ الغمراوي - وقبله الأستاذ الطنطاوي - يريد أن يضع ما اسمه (الأدب) على الرف ويريد أن يدخله في بوتقة الدين بوجه عام، والدين الإسلامي بوجه خاص، وفي هذا من الجناية على الأدب مقدار ما فيه من التجني على الدين وأكثر. ولا أظن الأستاذ يخالفني في أن موضوع الدين موضوع شائك جداً لم يتعرض له متعرض سلم من تهمة المروق! فليفسر موقفنا كيف شاء، وليسمه فزعاً وهلعاً، فالحق أن الدين الإسلامي لم يدخله التأويل(270/76)
والخلاف من كل باب إلا بعد أن أقحم في غير مجالاته! وهو بعد مقحم إقحاماً في موضوع الجدل هذا
وما دام الأستاذ الغمراوي يرى أنه فصل أدبياً في أمر العقاد ومكانه من الأدب الحديث، فلماذا يريد أن يخرجه من دينه فيقول عنه معرضاً: (إن الرافعي عنده نور يهتدي به ليس عند العقاد؟)
وبعد فليكن الرافعي عند الأستاذ الغمراوي ما يشاء له أن يكون، فان ذلك لا يمنع العقاد أن يكون هو الآخر حيث يشاء له الأدب والحق أن يكون. ولسنا نعجب به لشخصه، بل لأنه يؤدي الرسالة عنا؛ فما يقال فيه فينا نحن أنصاره والمعجبين به؛ ولذا أود أم أكرر ما سبق أن قلته وهو أن من الواجب اعتبار الدفاع عن العقاد دفاعاً عن مذهبه في الأدب وفي الحياة لا دفاعاً عن شخصه، فلسنا نملك حق الدفاع عنه
وتقبلوا تحيات المعجب بكم
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(270/77)
المسرح والسينما
المسرح المصري والطريق إلى إنهاضه
يروق لبعضهم في مثل هذه الأيام من كل عام أن يتحدث عن المسرح المصري وطرق إنهاضه ووسائل ترقيته والأخذ بيده في مدارج النجاح. وقد يكون مثل هذا الكلام مفهوماً إذا صدر عن مجرب كبير أو إحدى الأساطين التي يقوم عليها صرح المسرح في مصر. ولكن من غير المفهوم أن يتصدى للحديث في هذا الشأن لفيف من الشباب كل ما يعرفونه عن المسرح أن الناس يذهبون إليه من أجل اللهو والتسلية! ولا ريب أن الخطر على المسرح قائم من جراء هذه الكتابات التي تسيء إليه وإلى القائمين بأمره أكثر مما تفيد أصحاب الصحف الذين يفضلون أن يملئوا صحفهم بأي كلام (والسلام). . .!
كتبت إحدى الزميلات الأسبوعية تقول في لف ودوران إن وزارة المعارف قد عهدت إلى الأستاذ سليمان نجيب بالأشراف على إدارة الفرقة القومية طول غياب مديرها الأستاذ خليل مطران بالإجازة، وأضافت إلى ذلك كلاماً يفهم منه أنها علمت أن الإشراف على هذه الفرقة سوف يعهد به نهائياً إليه، لما تعرفه عنه الوزارة من كيت وكيت. . .
والغرض من كتابه هذا الكلام وأضح، ولا داعي لأن نكشفه؛ ونحن وإن كنا نقدر الأستاذ سليمان وكيل دار الأوبرا ونعرف عنه القدرة على التمثيل الجيد المتقن، إلا أننا نرغب عن نشر أخبار غير صحيحة من جهة، وعن الإساءة إلى بعض الكرامات من جهة أخرى
ولعمري ماذا يجدي وجود مطران أو غيره على رأس الفرقة، إذا كان جسمها ذابلاً خائر القوى تنذر حاله بالموت والفناء؟ ماذا يفعل حاكم الصحراء مع ما قد يكون مشهوداً له به من فروسية وشجاعة إذا أغار على صحرائه جيش وكان هو بلا جيش تتوافر فيه عوامل الكفاح والنضال، أو كان له جيش ولم يكن لديه من الميرة والذخيرة ما يكفل النصر ويؤدي إلى ضد الغارة؟
في أستوديو مصر
يبذل أستوديو مصر جهوداً مشكورة موفقة ليغزو سوق الأفلام المحلية بثلاثة أفلام كبيرة من أفلام الدرجة الأولى، انتهى العمل في اثنين منها هما: (لاشين) و (شيء من لا شيء)، وأوشك العمل أن ينتهي في الجزء الداخلي من الفلم الثالث وهو فلم (الدكتور). ولن نسبق(270/78)
المناسبة فنتحدث بالتفصيل عن هذه الأفلام وإنما ندع ذلك لحين عرضها، ونكتفي اليوم بأن نقول بأن - ثلاثتها - جديدة الموضوع، حية الإخراج، ولكن أهم ما ينبغي أن نسجله في هذه الكلمة الوجيزة هو أن الأستاذ (نيازي مصطفى) مخرج الفلمين الأول والثالث
ويساعد الأستاذ نيازي مصطفى في إخراج فلم الدكتور الزميل الفاضل الأستاذ أحمد كامل مرسى، وهو من أكثر شبابنا المثقف إلماماً بالشئون المسرحية والسينمائية وقد اشتهر في الأوساط السينمائية لأول مرة، كناقد ذي أسلوب خاص، وذوق خاص، وإخراج خاص يرضى الفن وكذلك يرضى الجمهور ثم اشتهر بعد ذلك بأنه بطل تجربة عملية الدوبلاج الصوتية التي أجريت بنجاح لفلم جاري كوبر في نيويورك
(ناقد قديم)(270/79)
أخبار سينمائية
هل يستقيل
ترددت في الأوساط الفنية في الأسبوع الماضي إشاعة فحواها أن سفر الأستاذ حسني نجيب مدير استديو مصر إلى أوربا لم يكن إلا تمهيداً لاستقالته من إدارة الاستديو. وقد حاولنا أن نتحرى عن هذه الإشاعة فلم نوفق ولم نسمع ممن سألناهم غير كلمة (يجوز)!
والحق أننا لم نجد مبرراً لهذه الإشاعة. فالمعروف أن الأستاذ حسني نجيب منتدب لإدارة الأستوديو ولم يعين مديراً له قط، وانتدابه يجوز أن ينتهي في أي وقت تراه شركة مصر للتمثيل والسينما، سواء أكان ذلك بعد عودته من أوربا أو بعد شهرين أو بعد عامين، ولكن ما حيرنا من هذه الإشاعة هو: هل يستقبل من إدارة الأستوديو ويبقى في وظيفة أخرى كسكرتير الأستوديو أم يترك الأستوديو بتاتاً؟ والذي سمعناه هو أنه سوف ينقل إلى وظيفة بالبنك وقد نعود إلى الكلام في فرصة أخرى
طبعة جديدة من فلم ليلى بنت الصحراء
سافرت السيدة بهيجة حافظ إلى أوربا منذ أسبوعين وتركت قرينها الفاضل الأستاذ محمود حمدي يؤدي جهود شركة (فنار فيلم) في الناحية الجديدة التي اختارت أن تكون ميداناً لجهودها هذا العام. ومما ينبغي ذكره أن إدارة هذه الشركة تعني الآن بإدخال تعديلات كثيرة على فيلم ليلى بنت الصحراء وعمل نسخة فرنسية منه لعرضها في باريس وفي الأقطار العربية التابعة لفرنسا، أما مهمتها الرئيسية هذا العام فستكون عرض كثير من الأفلام الفرنسية الكبيرة التي حصلت على امتياز عرضها في الموسم القادم، وقد يذكر القراء أن شركة فنار فيلم استأجرت استديو ناصيبيان لمدة عام كامل، فمعنى هذا أن الشركة سوف تستغل هذا الأستوديو بطريق تأجيره للراغبين في العمل به
عودة الثلاثي الفني
عاد الثلاثي الفني - آسيا - جلال - ماري كويني - من رحلتهما في تركيا ولبنان وسيشرع الأستاذ جلال على الفور في كتابة السيناريو الجديد الذي سمعنا أنه سيفوق سائر السيناريات الماضية رغم أنها كانت جميعاً قوية وناجحة وشهد لها الجمهور شهادة حسنة(270/80)
ونهنئ الأستاذ جلال وباقي الثلاثة بالعودة ونرجو لهم توفيقاً كبيراً في الموسم القادم.
أخبار خارجية
- ظهر (راي ميلاند) في عدة روايات ناجحة في الموسم الماضي منها رواية (السفينة الملعونة). وسيراه الجمهور المصري في سينما رويال في رواية (الضوء الذي خبا) ومن طريف ما نذكره أن راي يمثل في هذه الرواية دور رجل أعمى، وقد اضطر من أجل إتقان دوره إلى معاشرة رجل ضرير لمدة ثلاثة شهور درس فيها نفسية الأعمى وحركاته وخاصياته وأعطاه في نظير ذلك خمسمائة جنيه!
- ومن أشهر الأفلام التي تعرضها رويال للمتروجولدوين ماير في هذا الموسم رواية (ماري انتوانيت) التاريخية الكبرى ويشترك في تمثيلها (نور ماشيرر) والنجم اللامع الشاب (تيرو ماباور)
- وتعرض برامونت للنجم الهزلي الشهير (هارولد لويد) فلما فكاهياً جديد اسمه (كن على حذر أيها المدرس!)
- لما رأى دوجلاس فيربانكس الصغير رواية (طالب في اكسفورد) أرسل برقية إلى النجمة (بربارا ستانويك) يقول فيها (أنا لا أعرف روبرت تايلور ولكن أحب أن تبيني له كم أعجبت بنبوغه في تمثيل الدور وتهنئيه باسمي) وتصادف أن النجم كان يتناول العشاء مع بربارا، وقت وصول البرقية فرد عليه ببرقية يقول فيها (وصل الشكر. . . أشكركم)!!
- يعود (كارل بريزون) إلى الشاشة بعد غياب عامين ونصف فيقوم بالدور الأول في رواية (كلود دوقال)، وآخر فيلم له كان من إخراج البرامونت وكانت تدعى (قهوة في سفينة)
- انتهى النجم (ريكاردو كورتيز) من إخراج أول رواية عهدت إليه بإخراجها استيديوات فوكس القرن العشرين واسمها (فرصة عملية للغاية) وقد حصل كورتيز من إدارة الشركة على عقد بمقتضاه يحق له أن يشتغل مؤلفاً ومخرجاً وممثلا
- من أفلام المتروجولدوين الكبيرة التي تعرض هذا الموسم رواية (امتحان الطيار) ويقوم بتمثيل الدور الأول فيها معبود السيدات كلارك جابل وتشترك معه في تمثيلها (ميرنا لوى)(270/81)
العدد 271 - بتاريخ: 12 - 09 - 1938(/)
إنهاض اللغة العربية
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
جرى قلمك بإضافة اسمي إلى المؤلفين الذين نسيتهم لجنة إنهاض اللغة العربية، وذلك منك تفضل وتلطف، فمن الغريب حقا أن اخطر على بالك أو على بال غيرك، ومالي وسيلة في هذه البلاد غير الكدح الموصول في التفكير والتأليف، وهي وسيلة ضعيفة في زمن لا ينفع فيه غير تضييع الوقت في خلق الصداقات والمودات مع الذين يملكون تأليف اللجان لتقرير مصاير العلوم والآداب والفنون
وأنت قد تشجعت فقلت ما قلت لأنك خارج القفص
أما أنا فأعيش في قفص لأني موظف في الحكومة المصرية، وقد سمعت أنها حكومة رقيقة القلب يؤذيها أن يمر النسيم على خدها الأسيل!
ومن واجبي أن أتلطف بهذه الحكومة وأترفق، وإلا كان جزائي أن اخرج من القفص لأعيش كما كنت أعيش بين الأزهار والرياحين
ولكن الحكومة أمكنتني من ناصيتها هذه المرة؛ لأنها في هذه القضية ممثلة في جماعة من الأدباء كنا نصلح لمحادثتهم ومسايرتهم منذ حين. ومن ذا الذي يتوهم إني اعجز عن مصاولة علي الجارم أو أحمد أمين، وهم خلق من خلق الشعر والنثر والتأليف؟ من ذا الذي يتوهم إني أتهيب مناوشة القائمين بتأليف اللجان في وزارة المعارف وفي يدي قلم أمضى من السيف وأحد من السنان؟
اعترف باني أتردد في الهجوم على وزير المعارف لأنه يملك إيذائي حين يشاء
ولكن وزير المعارف في هذه المرة زميل قديم. وللزمالة وإن قدمت حقوق. وهو قد شغل نفسه في الأعوام الأخيرة يدرس الدين الحنيف، ولابد أن يكون عرف أن لصاحب الحق مقالا، وصاحب الحق في قضية اليوم هو مؤلف النثر الفني، الكتاب الذي استحق أن يثني عليه معالي الدكتور هيكل باشا في مجلة الهلال
ولكن ماذا صنعت لجنة إنهاض اللغة العربية حتى نوجه أليها الملام؟
إنها اختارت طوائف من المؤلفات الحديثة فأقرت مبدأ تعبنا في الدعوة إليه منذ سنين فلها(271/1)
منا أطيب الحمد واجزل الثناء
وأنت تعيب عليها أنها نسيتك ونسيتني، واللوم في هذا عليَّ وعليك، لأننا لم نحسن التذكير بأنفسنا عند السيدين الكريمين علي الجارم واحمد أمين
وأخشى أن نكون أسأنا اختيار الظرف المناسب للتذكير المنشود، فهؤلاء الزملاء يملكون ما لا نملك، وكان العقل يقضي ن ننتظر حتى يتفضلوا بالاعتراف بأننا بشر مثلهم نكتب وننظم ونؤلف!
وكلمة (زملاء) تسبق إلى قلمي بلا تحفظ، لأني واثق بأنهم اكرم والطف من أن يبخلوا علينا بهذا التطاول الخفيف!
إن لجنة إنهاض اللغة العربية فوق الشبهات، ولكني لا افهم كيف جاز أن تقرر كتاب ضحى الإسلام وتنسى كتاب النثر الفني مع أن كتاب ضحى الإسلام لا علاقة له بتقويم الأساليب
ومن الصعب عليّ أن اقبل أن يكون في اللغة العربية كتاب يشبه كتاب النثر الفني، ولكني راضٍ للضرورة بأن يكون قريعا لكتاب ضحى الإسلام. أنا راض بان أكون من زملاء الأستاذ احمد أمين في قوة التأليف ليصل كتابي عن طريق وزارة المعارف إلى الجيل الحديث، إن كان التواضع ينفعني عند أولئك الناس
وأين كانت اللجنة من كتاب (الموازنة بين الشعراء)؟
دلوني متى عرف النقد الأدبي مثل هذا الكتاب؟
إن الحياة في مصر أصبحت جحيما لا يحتمل ولا يطاق بفضل ما يقع فيها من الاستهانة بآثار العقول. وأخشى إن طال هذا الليل أن تنقرض حياة التفكير والتأليف، وأن ينفض الباحثون أيديهم من الثقة بموازين العدل في هذه البلاد
إن مصر لا تعرف أنها مدينة بسمعتها الأدبية والعلمية إلى رجال يعدون بالآحاد لا بالعشرات ولا بالمئات ولا بالألوف، وهؤلاء الآحاد ينفقون من أعصابهم ودمائهم ليحفظوا لمصر مكانتها العلمية بين الأمم العربية
وما يليق بمصر أن تترك مصاير هؤلاء الآحاد لرجل آو رجلين يسمى أولهما علي الجارم وثانيهما احمد أمين(271/2)
ما يليق بمصر أن تسكت عن أبنائها الأوفياء حتى يصرخوا من الظلم والإجحاف
ما يليق بمصر أن يعرف علماؤها وأدباؤها أن لا حياة لهم ألا أن ضيعوا ذاتياتهم بالفناء في خدمة الأحزاب
أما بعد فأنا لا انتظر شيئا من وزارة المعارف، ويكفي ما ظفرت به من القراء الذين استطعت بفضل إقبالهم أن أقول إن في مؤلفاتي ما طبع مرتين وما طبع ثلاث مرات
هذا عصر التضحية يا صديقي، وهذه مصر التي لا تعرف أبناءها الأوفياء
فإن سمعت إننا قهرنا المصاعب فصدق
وان سمعت أننا أمنا عدوان الأحقاد والضغائن فصدق أيضا
صدق كل شيء يا صديقي، إلا شيئا واحدا، هو ما تسمع أحيانا من اعتدال الموازين
وكل ما أرجوه في ختام هذه الكلمة الوجيزة أن تسكت عني سكوتا مطلقا فلا تذكرني بهمومي في وطني وبين أهلي
لقد كنت نسيت فكيف جاز لك أن تصنع ما صنعت!
وهل كان الأمل في إنصاف الزملاء إلا باباً من الخيبة والضياع؟
إن أرزاقنا في آسنة أقلامنا، وسنصبر بعون الله على الصدق في الجهاد
والعاقبة للصابرين والصادقين.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(271/3)
في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
بنيتي العزيزة بثينة
أحدثك عن رحلتي راجيا ألا تكلفيني ترتيب الحديث على ترتيب المشاهد. فإنما هي فرص تنتهز. فسأبدأ بالحديث عن سويسرة قبل الحديث عما رأيت في الطريق إليها.
اكتب إليك من قرية في قمم جبال سويسرة الشامخة اسمها برجنشتوك وقد أضحى النهار، والدجن مطبق، والجو بارد، أحس منه مثل ما أحس في شتاء مصر إذا قرس. وأنا أضع قلمي بين الحين والحين لأعرك كفي إحداهما بالأخرى حتى احسن إمساك القلم. فشتان ما بيني وبينكم؛ شتان ما بين حلوان وبرجنشتوك!
لا تقع العين هنا إلا على خضرة أو زرقة، أو بياض: خضرة العشب الأثيث، والشجر الكثيف، وزرقة السماء إذا تصحو، وزرقة البحيرات ترى من قمم الجبال بعيدة بعد السماء، وبياض السحب.
تسالين: ما الذي أحللك هذه القرية الباردة في تلك القمم العالية؟
نزلت أنا وزميلي الأستاذ احمد أمين مدينة لوسرن من سويسرة، وأردنا أن نركب في البحيرة: بحيرة لوسرن إلى مكان قريب. فقيل: كرسيتن. فقصدناها على باخرة صغيرة بين مناظر معجبة بل مدهشة من جبال تخالط قممها السحب، ويزين سفوحها حلل من الأشجار ضافية في الماء وتطل في مرآة البحيرة منازل متفرقة أو قرى صغيرة كأنها أعشاش الطير بين أفنان الدوح
بلغنا كرسيتن بعد أربعين دقيقة، فنزلنا لنجول فيها قليلا فإذا شاطئ ضيق بين الماء والجبل، فيه فندق ومطعم ودور قليلة، وإذا الناس يجتمعون عند السفح، وإذا مركب عجيب مدت أمامه قضبان من الحديد، ولكن إلى أين؟ إلى ذروة الجبل الرفيعة التي يكاد الطرف يعيا دونها. مدت القضبان على السفح، واعد هذا المركب على شكل لا يميل راكبه مع انحدار الطريق بل يجلس مستويا كأنه في قطار عادي. ويجذب هذه (المرقاة) حبل من حديد مفتول فتصعد خمس دقائق في طريق ضيق عن يساره الجبل، وعن يمينه مهوى(271/4)
هائل إلى الحضيض. انتهى بنا هذا المرتقى المخيف إلى مكان به فنادق عظيمة وطريق ضيقة معبدة، فسرنا نتأمل جمال الخليقة وجلالها حتى راقنا مكان قصيَّ على سفح اخضر؛ فصعدنا إليه، وأخذنا حظنا من الراحة والتأمل والتعجب. وكان معنا طعامنا فطعمنا
وسرنا إلى مرقب يطل على البحيرة يعلو على البحر ثلاثة آلاف وأربعمائة قدم، فجلسنا قليلا ولحق بنا جماعة من السائحين الأمريكانيين معهم امرأة تدلهم الطريق والتاريخ. وقفت وحفوا حولها فقالت: (هنا منظر من أروع مناظر العالم؛ هنا سبع بحيرات؛ إلى اليسار بحيرة سمباخ. ولها صيت في تاريخ سويسرة: هنا كانت حرب بين النمساويين والسويسريين الذائدين عن بلادهم، وكان الأولون مثلى الآخرين عدداً. فلما أعيت السويسريين بين الحيل تقدم واحد منهم إلى معسكر العدو فجمع من رماحهم ما استطاع وهم بالرجوع لولا أن أدركه العدو فقتله. وتحمس قومه وحاربوا حتى ظفروا. هذا البطل اسمه (وينكل ريد). ومضت في حديثها عن البحيرات. وقد رأيت اسم هذا البطل على إحدى البواخر الماخرات في البحيرة
وقرانا في لوحة هناك إن على مسيرة عشرين دقيقة مصعدا هو أعلى المصاعد وأسرعها في أوربا. يصعد خمسمائة وستا وخمسين قدما. فسرنا في طريق بين الأشجار الباسقة تلوح من خلالها زرقة السماء وزرقة البحيرة، وقد تتابعت الأشجار على السفح هابطة، وإن الواحدة منها ليرى جذعها مستقلا بعيدا على السفح، وتشرف ذروتها معتلية مشرفة فوق الطريق. وهذه الأشجار السامقة ترى من الحضيض كأنها أعشاب على سفح أو شجيرات
وانتهى المسير إلى المصعد، فإذا قضبان محكمة على جانب الجبل يصعد بها هذا المصعد وينزل في دقيقة. يصعد من جوف الجبل حينا ثم يبدو بين جدارين ناتئين من السفح، ثم يظهر معلقا في اللوح كأنه طائر يحاول ذروة شاهقة
بدا لنا أن نترك لوسرن لنقيم في هذه الناحية أياما. فسرنا نرود المكان وفنادقه حتى وقف بنا الاختيار على فندق صغير منفرد هو اقرب مكانا ومنظر إلى الريف منه إلى المدن. فقلنا: هذا منزل حسن. . ماذا نصنع بالمدن وهي متشابهة في العالم كله؟ وماذا نرى في الفنادق الكبيرة وهي لا تختلف بين مدينة وأخرى إلا قليلا؟ هنا نظفر بالهدوء والسكون، ونقرب من الغابات والحقول ونرى من عادات القوم ما لا نرى في لوسرن(271/5)
وجاءت الخادم تكلمنا بلغتها وهي لا تعرف لغة مما نعرف فتفاهمنا بالألفاظ المتقاربة بين الإنكليزية والفرنسية وبين السويسرية، ولمحنا في جانب الحجرة رجلا أشيب فأشرنا أليه ليكلمنا فأشارت الخادم انه أصم فقلت: (كالمستجير من الخرساء بالصمم)
أخذنا بعض متاعنا من لوسرن إلى برجنشتوك. وبلغنا الفندق حين الغذاء (والساعة اثنتا عشرة وربع) دخلنا قاعة الطعام فإذا امرأتان ليس في القاعة غيرهما، وقد اعد لنا الطعام معهما. وليس بيننا لغة إلا الإشارات وكلمات حائرة بين ما نعرف وما تعرفان من اللغات. وقدم اللحم فرابني بياضه. فأشرت: أي لحم هذا؟ قالت إحداهما كلاما وحكت صوت الخنزير - وهذا الخنزير يخيفني حيثما حللت من أوربا - أشرت إننا لا نأكل الخنزير. قالت المرأة الأخرى لصاحبتها: إسرائيليان. قلت: لا، لا، لا، ولكن المصريين لا يطعمون لحم الخنزير. فكانت حركة في الفندق وارتباك. ثم قدم لنا لحم البقر سريعا. وفي العشاء قدم إلينا الكاكاو وكثير من اللبن وعجة البيض وفاكهة مطبوخة ورأينا القوم يأكلون العجة مع الفاكهة فعجبنا من اختلاف العادات والأذواق.
استرحنا ثم نزلنا لنخرج فدعينا إلى شرب القهوة وقدم لكل واحد مع القهوة ملء كوب من اللبن الجيد، اللبن عندهم موفور لكثرة البقر وقرب مراتعها، وأصحاب الفندق أسرة من الفلاحين
وكنا حين قدمنا هذا الصقع لأول مرة، سمعنا جلجلة أجراس مختلفة لا تنقطع فحزرت، وصدق الحزر، أنها أجراس في أعناق البقر أو الغنم. (وكننت رأيت في أصفهان من بلاد الفرس أجراسا في أعناق الإبل والثيران، ورأيت البدو يعلقون جرسا في رقبة الكبش تهتدي به الغنم وتجتمع على صوته؛ ورأيت هذا في مضارب قبيلة شمر في العراق وعلمت انهم يسمون هذا الكبش المرباع) فلما استقر بنا المقام في الفندق أردنا أن نجوس خلال الحقول لنرى البقر في مراتعها. وكانت أجراسها تجلجل في الأرجاء بين هذا الجمال الأخضر والجلال الرائع، بل في هذا المعبد العظيم من الخليقة فكأنها أجراس المعابد!
سرنا بين المروج فرأيناها مقسمة بحواجز. كأن لكل بيت مساحة من المرعى، ورأينا على الطريق أبوابا تمنع البقر إن تجاوز مراعيها. ثم رأينا بقر يرعى وقد جعلت أجراسها على قدر أسنانها: للعجل جرس صغير، وللثنى جرس اكبر منه، وللبقرة الفارض جرس كبير(271/6)
كأنه القدح. ورأينا حظائر للبقر تأوي أليها في الشتاء، وهي بيت من الحجر فيه قنوات لسيل الماء، وعنده حوض لشرب الدواب، وفوقه بيت من الخشب يوضع فيه الحشيش وأدوات الفلاحة. وتجعل الحظائر بجانب مكان عال ليتسنى دخول عربة الفلاح إلى الطبقة العليا. وبيوت الفلاحين جميلة المرأى يتجلى فيها النظافة والترتيب والنعمة. وكم تمنيت أن يكون لفلاحنا بعض ما لهؤلاء
ورأينا على الطريق نصبا عليه صليب، فاقتربنا منه فإذا حجر واحد نحتت في أعلاه طاقة عليها شباك من الحديد. فاطلعنا فيها فإذا صورة قديس وقديسة، ورأينا امرأة مرت بهذا النصب فوقفت قليلا تتعبد، وكان كل من يمر بهذا الطريق يقف هناك وقفة للعبادة. وكذلك رأينا بجانب الفندق بنية صغيرة يعلوها صليب، فاطلعنا فيها فإذا معبد يتسع لبضعة نفر، واحسبناه معبد الأسرة التي تقوم على الفندق. وهكذا يحرص القوم على دينهم ويتوسلون إلى العبادة بكل الوسائل
وأما الفندق فهو مثل من نشاط القوم ونظافتهم ونظامهم. هناك أُم كثيرة الأولاد قد أحسنت تربيتهم، ومنحت من قلبها ويدها ما جعلهم قرة عين الرائي صحة وجملا ونظافة. وهي قائمة على الفندق تعينها خادم واحدة لا ترى إلا ساعية أو عاملة أو متكلمة أو ضاحكة. وقد تبؤات الأسرة بعض الفندق وجعلت للنزال بعضه، ولم تنس حقها ولا حق النزال من رفاهية ومتاع. وأنا اكتب الآن وقد جاء صبي من هذه الأسرة يطرب الحاضرين بموسيقاه. وهكذا يبدو النشاط والمرح والسرور ليل نهار
وحول الفندق أشجار الفاكهة، ومزرعة صغيرة عليها سياج ومن هذه الأشجار وهذه المزرعة فاكهة الفندق وبقوله يجنيها الأولاد كما تأمرهم الأم
أحدثك مرة أخرى عن روعة هذا الصقع فقد بدا لي إن أعود إلى هذا الحديث:
خرجنا عصر اليوم فسرنا إلى المصعد الذي وصفته آنفاً في طريق ضيقة نحتت على سفح الجبل ينيف فوقها جبل شامخ وتبدو تحتها هوة هائلة. فلما جاوزنا المصعد تمادت بنا الطريق صاعدة في السفح تخترق الجبل بين الحين والحين إذا لا تجد على السفح منفذاً. فلما اعجز القوم النحت في مواضع من هذا الطود العاتي الأشم مدد الطريق على دعم من الحديد مثبتة في الجبل، فترين السائر معلقاً بين السماء والأرض على هذه الشقة الضيقة(271/7)
حتى يبلغ الغاية
وقصارى القول أن تسخير الإنسان للخليقة سهلها ووعرها وصعبها وسهلها، شجرها وزرعها، وبرها وبحرها، يبدو للسائر هنا في كل خطوة، بل لست ادري أأقول: هنا جهاد الإنسان والخليقة أو اصطلاحهما على العمل والسعادة؟
ولا أنس جلسة في العشي ونحن عائدون إلى الفندق وقد جلل الضباب الخليقة، وأطبقت السحب وأسف بعضها دون القمم، وتتابعت على العين قمم الجبال تسيل منها النضرة والجمال على السفوح، والمساكن والفنادق منثورة في هذه المرائي المدهشة! منظر لا يمكن وصفه، ولا يدركه إلا من يراه!
لا ينقص هذا الجمال إلا أن تكوني أنت وأخواتك معي فأرى دقائقه بأعينكن، وأسمع بيانه البليغ من أفواهكن. فليت ثم ليت!
(جنتشو)
عبد الوهاب عزام(271/8)
في (الحب)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
- 1 -
(يا أخي، أقول لك الحق وأمري إلى الله، أنا لا أعرف الحب، ولا أستطيع أن أحب، ولم يخلقني الله لأحب، فأنا على الأرجح مخلوق ممسوخ، أو هذه الخلائق هي المسيخة إذا صدق ما يزعمون عن الحب وما يعانون من تدليهه؟)
فهز صاحبي رأسه مفكراً وسألني: (وإبراهيم الكاتب؟)
فقلت: (إبراهيم الكاتب مخلوق لا حقيقة له. . . أنا الذي خلقته، فإذا كنت لم أحسن خلقه فاعذرني، فإنها أول تجربة لي في (الخلق). ومع ذلك أدر عينيك في الغادين علينا والغاديات والرائحين والرائحات، وتدبر نفوسهم إذا استطعت، واعذرني: وأحسبك تريد أن تزعم أني وصفت حب إبراهيم هذا، أو معاشقه، وأن هذا وصف خبير. ربما! الحقيقة أني نسيت حكاية إبراهيم هذا ولكني واثق أن عقله لم يطر من الحب، ولبه لم يزدهف، وأنه كان يعرف القيمة الحقيقية لكل واحدة ممن أحب، وكان يستطيع أن يكبح نفسه ويصرفها)
فكابر بالخلاف، فتركت له الصفقة، إيثاراً للراحة من عناء الجدل الذي لا طائل تحته، وأردت أن أستطرد عن هذا الموضوع إلى سواه، فأبى أن يدعني أهرب، فدار بي فعاد إلى الحب، فقلت له: (إني أراك جائعا) قال: (جائع؟ أبداً) قلت: (والله جائع، ومتضور أيضاً. . .) ووضعت إصبعي على قلبه: (هنا فراغ أسميه أنا جوعاً، فأنت لهذا فيما أرجح، تجد لذة في الكلام في الحب الذي حرمت ما تتوهمه نعمته. . . أعترف!)
قال بضحك: (ليتني أكون محباً محبوباً. . . الحقيقة إن حياتي صحراء جرداء)
قلت: (اشكر الله، وأسأله دوام هذه النعمة.)
قال: (يا شيخ، حرام عليك!)
قلت: (والله إني أريد لك الخير، أو اسمع، إذا كان لا بد من هذا، فأحبب أنت كما تشاء، فأن أمرك يبقى بيدك، ولكن إياك أن تكون محبوباً من امرأة، فأن هذا هو العذاب الغليظ)
فظنني أمزح، فقلت: (لا والله. وإني في هذا لأتكلم بلسان الخبير المسكين. هل تصدق أن امرأة في هذه الدنيا يبلغ من قلة عقلها أن تترك الناس جميعاً وتحبني أنا؟)(271/9)
قال: (ولم لا؟ هذا جائز)
قلت: (جائز. . . وهل أنا أتكلم في الجائز وغير الجائز؟ جائز أيضاً أن تصح ساقي المهيضة، وتسلم؛ وجائز أن تطول قامتي وتعرض ألواحي، وأن اصبح مصارعاً ومن أبطال العلم في هذا الباب. . . ولكن تصور عقل هذه الفتاة المسكينة! وتصور موقفي أنا حيالها. . . أنا الذي ليس له طاقة على الحب ولا صبر لي على ما يغري به من الحماقات والسخافات. أقول لها مثلاً، وأنا أناشدها أن تثوب إلى رشدها: (يا ستي! يا حبيبتي! أين ذهب عقلك؟) فتترك السؤال. . . لا تسمعه في الحقيقة. . . وتصيح وتلوح بيديها وتقول: (حبيبتك!؟ هذه أول مرة أسمع فيها منك هذا اللفظ الجميل. . . أعده على سمعي. . . أرجو) فأدهش من سوء التأويل وأقول لها: (يا ستي إنما عنيت. . . لم أعن شيئا في الحقيقة. . . مثل قولي يا صديقتي لا أكثر) فتقطب وتقول (خيبت أملي! لماذا تأبى عليَّ حتى أن أسعد بلفظ؟) فأقول: (يا ستي والله ما أكره لك السعادة ولا أنا آباها عليك لو كان بيدي إسعادك؛ ولكني لا أستطيع أن أكذب عليك، وعلى نفسي. . . هذا الحب شيء لا قبل لي به) فتقول: (ولكني أريده) فأقول: (إذن التمسيه عند غيري. . . اطلبيه من دكان آخر) فتغالط نفسها وتقول: (أنت هكذا دائماً. . مكابر. . هذا أنت. . . بس أريد أن أعرف ماذا تخسر إذا اعترفت؟) فأقول: (وكيف أعترف بما لا أحس به؟) فتروح تحاورني وتداورني، وفي ظنها أني أغالطها وأكذب عليها، أو أن، بي كبراً يمنعني من الإقرار لها بحبها، وتمسح لي شعري. . . أعني الشعرات العشر الباقية في رأسي. . . وتربت على كتفي برقة فأضحك، فتدير إلي محياها الدقيق وعلى ثغرها الرقيق اللين ابتسامة سرور، وفي عينيها ومضة أمل، فأقول، وأنا أرد القهقهة التي أحس أني أوشك أن أنفجر بها: (أتراني لعبة؟) فتقول (لعبة؟ استغفر الله! لماذا تقول هذا؟ أنت عندي. . .) فأقاطعها وأقول (دعي هذا. . . فأني أعرف منزلتي التي لا تدانيها منزلة. ولكن أن تمسحي لي شعري؟ أين هذا الشعر الذي تمسحينه؟ سبع شعرات ونصف شعرة! ومع ذلك أقول لك الحق: أنا استحيي أن أراك تصنعين هذا. . . أحس - لا أدري لماذا؟ - أني ارتددت طفلا صغيرا تلاعبينه. . .) فتقاطعني هي وتقول (يسرني أن ألاعبك. . أن تكون لعبتي!) فأقول: (أما الملاعبة فأنا فيها خادمك المطيع، تعالي نلعب كما تشائين. . . ولكن أن تلعبي أنت بي أنا. . .؟ هذا(271/10)
لا يكون. . . لا استكبارا مني، بل لأن طباعي، وفطرتي لا تساعد على هذا. . . ثم كيف تلعبين بي؟ أأنا كرة؟ أم ماذا! ألا ترين أن هذا كلام فارغ، وإنا نضيع الوقت فيما لا خير فيه ولا متعة؟ أولى بنا أن نضحك، ونلعب. . .)
فتعود إلى رأس البلاء وتقول (ولكن لماذا تكره الكلام في الحب؟ أليس لذيذا؟)
فأقول (لست أكره شيئا، وإنه ليسرني أن يكون مدار حديثنا على شرط أن لا أكون أنا مداره! ثم قولي لي، أليس في عينك نظر؟)
فتعبس وتهز رأسها مستفسرة فأقول: (تحبينني أنا؟ يا خبر أسود! وهل خلت الدنيا من الناس فلم تجدي سواي؟)
فتطمئن وتضحك، وتقول (أنت متواضع. . جدا)
فأقول (يا ستي والله أبدا. . . إن بي كبرا أن يكون بي كبر. ولكن الحقيقة أنك بلهاء أو لا أدري ماذا دهاك. . .)
فتسأل بلا مناسبة: (لماذا لا تحبني؟)
فأقول: (هذا سؤال غريب. . . طيب أسمعي. . . أنا لا أحبك لأني لست عدوك!)
فتصيح: (ايه؟)
فأقول: (تمام. الحب في لغتنا لفظ سقط منه حرف. . . كان يجب أن يسمى الحرب!)
(حرب؟)
(أي نعم يا مولاتي! لأنه ضرب من الجوع)
(جوع؟)
(أي نعم مرة أخرى يا مولاتي. . تجوعين فتشتهين الملوخية بالأرانب، أو الإوز، وتجوعين جوعاً آخر فتشتهين رجلا. . . وأنت تحبين الملوخية، ولكن ليس بينكما مودة متبادلة، وإنما العلاقة بينكما آكل بمأكول؛ وكذلك الجوع الذي نسميه الحب، فأنه ليس أكثر من رغبة في الاستيلاء على مخلوق آخر أو التهامه إذا شئت. وإذا كان الحب متبادلا فان معنى هذا أن الحرب معلنة من الجانبين - كل جانب يريد أن يستحوذ على الجانب الآخر بأسلحة شتى، منها الغزل والقبل والعناق والضم وغير ذلك من وسائل التليين. . .)
قالت: (لا أصدق هذا الكلام الفارغ)(271/11)
قلت: (سامحك الله. وخذي كلاماً آخر لا تصدقينه. . . كما أن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على طعام واحد، فلا يأكل سوى الملوخية مثلا، كذلك لا صبر للإنسان على امرأة واحدة. وصدقي هذا أو لا تصدقيه، فأنت حرة؛ ولكن ثقي أن من يقول لك غير هذا يكون خادعاً أو مخدوعاً: خادعاً إذا كان يدرك الحقائق، ومخدوعاً إذا كان مثلي يأبى أن يواجهها، وأنا أعرف منك بالحياة وأخبر. الرجال جميعاً خوانون غدارون - إذا صح أن نسمي غدراً وخيانة ما ليس سوى نزول منهم على حكم الطبيعة)
فقالت بسرعة: (هذا صحيح. . . كلهم خائن)
قلت: (لا تعجلي فالنساء أيضاً مثل الرجال. والطبيعة واحدة يا ستي!) فلم تقتنع يا أخي، وقد تعبت ومللت، وخطر لي مراراً أن أتركها وشأنها، ولم أكتمها أني ضجرت من هذا الحب، ولكني أشفق عليها وإن كان هذا الحب منها يغيظني ويحنقني. وما ذنبها إذا كانت لا تستطيع أن تدرك هذا الذي أبينه لها؟؟ ثم إن عقولهن غير عقولنا - نحن الرجال عقولنا في رؤوسنا، أو نحن على الأقل نتوهم ذلك، أما النساء فعقولهن ليست في رؤوسهن - هذا محقق - وقد قلت هذا مرة، فثارت علي فتاة ذكية جميلة مثقفة وسألتني وهي محنقة (أين إذن عقل المرأة إذا لم يكن في رأسها؟) فحرت كيف أجيب، وكان الجواب حاضراً ولكن الإفصاح عنه لا سبيل إليه، وألهمني الله أن أخرج من المأزق بقولي (عقولهن في قلوبهن) فأرضاها هذا التعبير الحسن عن معنى يعده الجهلة سيئاً وما هو بسيئ، وإنما هو الطبيعي. فكيف تريد مني وهذا تصوري للأشياء أن أعرف الحب كما تريد النساء والشبان أن أعرفه. . . خيالات وأوهاماً وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، ووفاء وحفاظاً إلى آخر هذا الهراء الذي لا يكون؟؟
فهز رأسه متعجباً، ولم يقل شيئاً، فحمدت الله واغتنمت فرصة سكوته واستأذنت في الانصراف
إبراهيم عبد القادر المازني(271/12)
الدين والأخلاق بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 4 -
لو أن الأستاذ الغمراوي فحص عن أخلاق أمة من الأمم في نفوس آحادها لوجد اتفاقاً أو شبه اتفاق في خصائص تلك الأمة.
ولا نعني بالخصائص أنها تفردت بأخلاق لا يوجد مثلها في أمة أخرى، فإن الأخلاق شائعة في النفوس البشرية، وإنما نعني أن تلك الأخلاق أكثر شيوعاً فيها بالرغم من تفاوت نفوس آحادها في خصال الحمد والذم والخير والشر، ويستوي في تلك الخصائص من يقرأ فلسفة هربرت سبنسر ومن يقرأ كتب الغزالي، ومن يقرأ شعر شكسبير ومن يقرأ شعر المتنبي، فان تلك الخصائص المتوارثة لها عدوى تذيعها في البيئة الواحدة وهي راسخة لا تغيرها أيام ولا سنوات قليلة، وأسبابها حوادث وشرائع اجتماعية ظلت تؤثر في الأمة زمناً طويلا.
فإذا نظر إلى أخلاق البيئة المصرية وفحص عنها على ضوء هذه الحقيقة وجد أن الخصائص الخلقية شائعة يشترك فيها العظيم والحقير، ويشترك فيها الشيخ والأفندي كما يشترك فيها الفلاح وساكن المدينة بالرغم من التفاوت الظاهري في العادات وفي مقادير رسوخ هذه الخصائص أو المقادير التي تظهر بها وإن كان التشابه في مقاديرها الكامنة أعظم. وأوجه الاختلاف الظاهري تظل ملازمة للمرء ملازمة كبيرة وإن حاول أن يحول بعض خصائص نفسه إلى جانب المقادير المقهورة التي يخفيها في النفس إذا أنتقل من طائفة إلى طائفة أخرى من طوائف الأمة؛ فالفلاح إذا ألبسته طربوشاً أو قبعة لا يخلع خصائصه ولا يستطيع خلعها ويبقى فلاحاً بخصائصه، ولكنه ربما حاول أن يخفي بعض تلك الخصائص في نفسه.
والمذهب الجديد في الأدب هو إلى حد كبير كالطربوش أو القبعة التي يلبسها الفلاح؛ والمذهب الجديد كما أوضحنا قد تأثر مباشرة بما أخذه عن المذهب القديم وبما أخذه بطريق غير مباشر بعد أن تأثر الأدب الأوربي الذي هو وليد نزعة أحياء العلوم في أوربا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بالأدب والفكر العربي.
ولابد أن الأستاذ الغمراوي قد عاشر طوائف مختلفة من طوائف الأمة وإن لم يكن قد درس(271/13)
حالة الأدباء الخلقية دراسة العشير الذي لا يُخاتل لا دراسة القائل بما يسمع. ولابد أن الأستاذ قد أيقن من اتفاق طوائف الأمة في الخصائص الخلقية. ولو أنه أتيح له أن يدرس أخلاق الأدباء لوجد أن الخصائص الخلقية متشابهة فيهم بالرغم من المذهب القديم والمذهب الجديد، وأن التفاوت الفردي بين آحاد كل طائفة ربما كان أهم من تفاوت أدباء كل مذهب. فالاستقامة والصدق والعفة والنزاهة والسماحة في الخلق والوفاء الخ ليست ملكا لمذهب في النثر أو الشعر. وكذلك اللؤم والكذب والغدر والانصراف إلى الملذات والحقد ليست ملكا لمذهب في الشعر أو النثر. ولو أن الأستاذ بحث هذه الخصال لوجد أن خصال الحمد والذم لابد أن توجد في المذهبين، فأن هذه خصال وميول متوارثة تزيدها حوادث الحياة وحالاتها قوة أو ضعفاً. أما غير هذا الرأي فلا يأخذ به إلا من يسهل أن يخدعه التعصب لجماعته، فأن المذهب القديم أو الجديد ليس دينا له أخلاق معينة لا يتعداها، وإلا فإن الأديب الذي يكتب على طريقة الأدب الجديد متأثرا بالأدب الأوربي ويطري الاستقامة، يعد في نظر الأستاذ كافرا بالأدب الحديث؛ وإن الأديب الذي يطري أبياتا فيها مجون من صنع شاعر من شعراء المذهب القديم يعد كافرا بالمذهب القديم. وعلى هذه القاعدة يكون أكثر شعراء العرب وأدبائهم من عهد امرئ القيس (كما ذكر الأستاذ خلاف) إلى عهدنا هذا كافرين بالمذهب القديم؛ وإذاً لا يكون هناك مذهب قديم في عالم الوجود، ويكون السيد توفيق البكري متفرنجا عندما اختار لابن الرومي أرجوزته النونية في وصف الزنا، ويكون الشيخ شريف مفتش اللغة العربية ورجل التربية متفرنجاً عندما شرح أرجوزة اللواط لفظاً ومعنى، أو يكون الأديب الواحد تارة من أنصار المذهب القديم إذا تمثل بأبيات من زهد أبي نؤاس أو أبي العتاهية، وتارة من أنصار المذهب الجديد إذا تمثل بمجونهما. ويكون إذاً حافظ إبراهيم من شعراء المذهب الجديد إذا قص قصص المجون في مجالسه أو روى أشعار المجون، ويكون حافظ إبراهيم نفسه من شعراء المذهب القديم إذا تناول مسبحة وروى أشعار الزهد والتقوى، ويكون كل أديب أو شاعر من شعراء أو أدباء المذهب القديم كما يكون حافظ في حالتيه. ويكون الأديب منهم من أنصار المذهب الجديد إذا تمثل بأبيات من لزوميات المعري لا يرضى عنها الأستاذ الغمراوي، ومن أنصار المذهب القديم إذا تمثل بأبيات أخرى من اللزوميات يرضى عنها الأستاذ. وفي اللزوميات ما يرُضي وما لا(271/14)
يرُضي الأستاذ؛ ويستطيع الأستاذ أن يتخلص من هذه الورطة فيقرر أن الشاعر الذي يجهل اللغات الأوربية ولا يقرأ الأدب الأوربي المنقول إلى العربية هو من أدباء الفضيلة (والفضيلة كما قرر الأستاذ هي المذهب القديم) حتى ولو قال النثر والشعر في المجون والزيغ متأثراً بمجون وزيغ شعراء (الفضيلة) القدماء ممن كتبوا باللغة العربية، وأن الأديب الذي يعرف اللغات الأوربية والذي درس آداب اللغات الأوربية والذي يعد نفسه من أدباء المذهب الجديد هو في الحقيقة من أدباء (الرذيلة) حتى لو أطرى الفضيلة كما أطراها شكسبير وفكتور هيجو. وإذاً يكون من الواجب المحتوم أن الشاب الذي لا هو من أدباء المذهب القديم ولا الجديد، لأنه ينقل عبارات إفرنجية نقلا حرفياً كالضحكة الصفراء (وغيرها من العبارات المضحكة التي يدعي أدباء المذهب القديم أنها من خصائص المذهب الجديد) أقول إنه من الواجب المحتوم أن يعد هذا الشاب من أنصار المذهب القديم مادام يطري الفضيلة حتى ولو أطراها كما أطراها فكتور هيجو إطراء صحيحا ولكن بأسلوب عربي سقيم، وأخشى أن هذا المنطق الغريب قد يسوقنا إلى أن نعد الأسلوب السقيم إذاً من خصائص المذهب القديم مادام صاحبه يطري الفضيلة، وأن نعده من خصائص المذهب الجديد إذا كان صاحبه يطري الرذيلة. على أننا لو فرضنا أن الأستاذ قد أصاب في جعله المذهب القديم مرادفاً للفضيلة وأنه عقيدة دينية، فكم من معتنق عقيدة يقول بلسانه ما لا يتفق وأخلاقه وأعماله! فكيف به وهو ليس عقيدة دينية حتى ولو كان كل أدبائه من عهد حسان بن ثابت إلى اليوم منزهين عن الفحش في قولهم وعملهم فكيف به وليسوا كلهم منزهين عن الفحش في قولهم وعملهم بل كان منهم من بلغ من الفحش في القول والعمل غاية ليست بعدها غاية. ألا يرى الأستاذ أن جعله المذهب القديم مرادفاً للفضيلة مع هذه الحقائق يؤدي إلى أن ينافق من ينافق فيدعي أنه حامي حمى الدين والفضيلة كي ينال ما يرادف هذه الألقاب حسب اصطلاح الأستاذ فيلقب بزعيم النثر وسلطان الشعر؟ إن بعض أدباء المذهب القديم قد نشروا هذا الاصطلاح بكل ما أوتوا من بيان، كما كان كل فريق من الدول في الحرب العظمى يدعي أنه حزب الله المصطفى وأن الفريق الآخر حزب إبليس الخاسر عليه لعنة الله. فكان الإنجليز يقولون إنهم يدافعون عن الفضيلة والحضارة والعدل والخير والحق، وإن خصومهم خصوم هذه الصفات العليا. وكان الألمان ينشرون مثل هذه(271/15)
الدعوة لأنفسهم حذوك النعل بالنعل. وكان كل فريق يضحك في سره من سذاجة من يصدق أقواله. وكذلك يفعل بعض الأدباء هنا وهم يخفون ما يعرفون من أن الشطط في القول لم يكن مقصوراً على مذهب في الفنون والآداب، وأن مناصرة الفضائل ليست مقصورة على مذهب، وأن جعل الفضيلة مرادفة للمذهب القديم والرذيلة للمذهب الجديد شطط وظلم لا يتفق وروح العدل الذي تأمر به الشرائع السماوية، وأنه حتى على فرض أنهم يفعلون ذلك مناصرة للشرائع السماوية لا كسباً للرزق والشهرة والمكانة، فإن مناصرة الشرائع السماوية بما ينقض عدل الشرائع السماوية من تعميم هو غاية الظلم يجعل مناصرتهم للشرائع السماوية مهزلة لا يرضاها الله، فان مناصرة الشرائع السماوية لا تكون ألا بفضائلها، فكيف وهم يعلمون أن شطط القول أو الفعل لم يكن قديماً ولا حديثاً مما يلتصق بطائفة دون طائفة، وأنه لم يخلق الله مذهباً من مذاهب الفنون من عهد آدم إلى اليوم يصح أن يعد مرادفاً للفضيلة في جميع مظاهره؟
قال الأستاذ الغمراوي إن النزعة إلى التجديد بدأت منذ ثلاثين سنة. وقد أوضحنا أن التجديد بمعناه الأعم الذي شرحه الأستاذ بدأ منذ دخول نابليون مصر وذاع أيام محمد علي باشا وإسماعيل باشا، فليس له مبدأ واحد. أما التجديد بالمعنى الأخص وهو التجديد في أبواب الشعر والنثر ومعانيهما فهو أيضاً مما لا يحد بمبدأ واحد كما يعرف من يدرس حياة الأمم ونمو النزعات والأفكار فيها، ولكن الذي يقرأ مقالات الأستاذ وأقوال بعض الكتاب يحسب أن النزعة إلى التجديد هذه نزعة متضامنة الأفراد متحدة العناصر متفقة الأهواء والمشارب والمبادئ بدأت بمؤامرة على الدين والأخلاق. والذي يدرس حياة الأمم ونمو الأفكار فيها يعرف أن هذا خيال في خيال. والذي يدرس النزعة إلى التجديد يرى أنها ليست ذات مبادئ واحدة وأنها نزعات مختلفة، فان من أدباء التجديد من يرى في المذهب الرمزي كل علو فني، ومنهم من لا يستلذه ولا يقنع عاطفته إلى الفن لإبهامه وسقوط الصلة بين الرموز والحقائق التي تشير أليها الرموز، ولتكاثر الصور فيه بعضها فوق بعض. وقد أوضحنا أن الرافعي - وهو في رأي أصدقائه زعيم المذهب القديم - كان أقرب إلى المذهب الرمزي في بعض كتبه مثل حديث القمر. وليس من البعيد أن يأتي يوم يعد فيه الرافعي من زعماء المجددين في الأدب الرمزي أو زعيمه الأكبر. ولا أحسب أن الأستاذ الغمراوي كان منذ(271/16)
ثلاثين سنة متتبعاً تلك النزعات تتبع المعالج للبحث الاجتماعي، فهو إذاً يقول بالسماع. وقد أوضحنا في مقال سابق أن الأستاذ يصنع خيراً لو أنه اجتبى من المذهب الجديد ما يرتضيه وهو واجد الكثير المرتضى نقده يكون أوقع وأنفذ، وإصلاحه أقدر، وحكمه أعدل. أما جعله مذهباً مرادفاً للفضيلة ومذهباً آخر مرادفاً للرذيلة، فليس ذلك من اعتدال أمثاله من العلماء
(قارئ)(271/17)
عود على بدء
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل احمد أدهم
- 3 -
(قلنا في المقال الأول في الرد على مزاعم مناظرنا الفاضل الأستاذ فيلكس فارس إن لكل أمة في العالم روحها التي تحتضن تراثها التقليدي، وعن طريق تحليل تراث مصر التقليدي انتهينا إلى أنها فرعونية آخذة بأسباب العربية لتجاري فن الحياة في ذلك العصر الذي طغت فيه العربية على كل شيء وكانت مركزاً للجذب الاجتماعي في الشرق الأدنى.
وفي المقال الثاني بينا الفروق الأساسية بين ما سميناه ذهنية للغرب وطابعاً للشرق، وقلنا إن نزعة الذهن الغربي يقينية ونزعة العقلية الشرقية غيبية، واستدللنا على هذه الحقيقة من حقائق التاريخ، واستشهدنا بكلام للأديب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم. ولهذا قلنا إنه من الصعوبة بمكان أن تأخذ مصر الثقافة الغربية وهي محتفظة بثقافتها التقليدية وأساسها الإيمان بالغيب. وقد قرأ قراء (الرسالة) منبر الأدب الحي في الشرق العربي رد مناظرنا الفاضل على ما قلناه في عددي الرسالة 263، 264، لهذا اضطررنا أن نعيد الكرة من جديد لدحض ما أثاره المناظر الفاضل من اعتراضات. ولن نتقيد في ردنا على المناظر بما جاء في كلامه، وإنما سنرجع لكتاب رسالة المنبر إلى الشرق العربي فهو إنجيل المناظر في الأيمان بثقافة الشرق)
يقول الأديب النابغة فيلكس فارس:
(الثقافة راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائداً لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة المتمتعة في الإنسان بتلك الحاجة بعد بلوغه إياها)
هذا. . . ونحن نفرق بين الثقافة والفطرة، بين تراث الشعب الذي يخرج به من ماضيه انسلالا على مدى الدهور والأعوام، وبين الفطرة من حيث هي روح الأمة التي تحتضن تراثها. فتراث مصر الفرعونية التي أسلمته لمصر الإسلامية فاختلطت نتيجة لذلك(271/18)
الفرعونية والعربية فكان من ذلك ما سميناه لمصر من ثقافة تقليدية شيء والروح المصرية شيء آخر. إلا أن هذا لا يمنع من أن ترسخ الثقافة التقليدية وتصبح وكأنها من صميم فطرة الشعب. وانسلاخ الشعب عن ثقافته التقليدية، وإن كان لها رجة في صميم الفطرة والروح إلا أنها لا تعني انسلاخ الشعب عن روحه وفطرته. وما ثقافة الشعب وتراثه إلا أثر وقوع الفطرة والروح تحت تأثير ظروف ومؤثرات تجد في طريقها للمحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية للشعب. بيان ذلك أن الروح المصرية تحتفظ بذاتيتها منصبة في قوالب شتى، فهي في قالب في العصر الفرعوني، وهي في قالب في العصر الإسلامي، وجماع هذه القوالب المختلفة يكافئ الحالات المتباينة التي يتضمنها المحيط اجتماعياً وطبيعياً. وإنكار هذا معناه أن الروح المصرية تغيرت من العصر الفرعوني إلى صورة أخرى في العصر الإسلامي. فما الذي يمنع أن تتغير إلى صورة أخرى في العصر الحديث؟ ولعمري هذا لا يتفق مع ما يعرف من قواعد الاجتماع وعلم تكون الشعوب، لأن روح الشعب شيء مجرد، يكتسب عن طريق وقوعه تحت تأثير الفواعل الاجتماعية والطبيعية خصائص متباينة شكلا وإن كانت متفقة روحاُ
من هذا أرى أنه من الضروري التفرقة بين روح الأمة من جهة، وثقافتها وتراثها الشعبي من جهة أخرى، وإذاً أيكون من الممكن لمصر أن تتجرد عن ثقافتها التقليدية، وتستبدل مثلاً بدينها ديناً آخر وبلغتها لغة أخرى كما حدث ذلك في عهد الفتح العربي ومع ذلك تحتفظ مصر بروحها وفطرتها، لأن ما ستأخذه الروح من القوالب سيكون عن طريق الوقوع تحت تأثير عوامل ومؤثرات وجدت طريقها للمحيط الاجتماعي والطبيعي، ويكون بذلك صور متباينة تأخذها فطرة الشعب، وبمعنى آخر قوالب شتى، غير أن قانون العادة يدخل لاستحداث المماثلة في عقل ومشاعر الشعب فيكون من ذلك تماثل الثقافة التقليدية الجديدة في سريرة كل فرد من أبناء الشعب
على هذا الوجه فقط يمكن تعليل تفسير القالب العربي للروح المصرية والذي تكون نتيجة لوقوع الروح المصرية تحت تأثير الثقافة العربية. وعلى نفس الوجه يمكن تفسير وجه قيام الثقافة الغربية في مصر مع احتفاظ مصر بروحها وفطرتها.
وأظن أن هذا الإيضاح كاف يقطع السبيل على كل اعتراض يمكن توجيهه من أن الثقافة(271/19)
الغربية لا تتفق والروح المصرية.
وكل الخلاف على ما يتبين أخيراً راجع إلى عدم التفريق بين الثقافة التقليدية والروح، فعندما يقوم أنصار الثقافة الغربية بدعوة إلى مدنية الغرب يثور عليهم أنصار الثقافة العربية قائلين إن معنى ذلك ضياع الروح المصرية والقومية، مع أن الروح شيء ثابت والثقافة شيء عرضي يتقوم بالروح وفطرة الشعب.
والآن لنتمش مع كلام المناظر في رده ولنعقب عليه بما يكفي لإظهار زيغه وبيان وجه بطلانه.
1 - نقلنا في صدر كلامنا في المقال الأول في الرد على مزاعم مناظرنا الفاضل كلمة عن هابل آدم بك الفيلسوف الاجتماعي المعروف. والكلام واضح بين في أننا بحكم كوننا في الحياة يجب أن نفكر فيها وحدها وأن نعمل لأجلها وأقامتها على أساس إنساني بدون أن نجعل للغيب سبيلاً للتدخل فيها. وهذه الكلمة تتجلى في صدر الحديث النبوي: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا). ومع ذلك رأى المناظر فيها غموضاً وحاول أن يتعسف بتأويل الكلام إلى أن معناه إنكار الآخرة. وقال وأين عجز الحديث: (واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً)
يا صديقي ليس هكذا يكون الكلام!
قد يكون بدؤنا في طريق الله ونهايتنا في طريق الله، لكن (الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة أخرى طريق بعضنا إلى البعض) يجب أن يكون مبدؤها ومردها الأول والأخير عندنا، حيث يقوم العقل الإنساني بتنظيم الحياة البشرية
هذا هو حقيقة كلام هابل آدم في ضوء تحليل مدلول عبارته التي أستهل بها كتابه الخالد (مصطفى كمال للترك كتابي) الذي ترجم لأكثر اللغات الحية ونقل ملخصاً إلى العربية بقلم صديقنا الأستاذ إسماعيل مظهر عن ترجمته الإنجليزية.
2 - قلنا إن موضوع الخلاف بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق يرجع إلى كون الثقافة الشرقية وقفت عند حدود الدرجة الثانية في سلم الارتقاء الفعلي بعكس الثقافة الغربية فإنها اجتازت هذه الدرجة إلى التي بعدها. ولا أدل على ذلك من بعض المراجعة لثقافة كل من الشرق والغرب في ضوء قانون الدرجات الثلاث الذي كشف عنه أوغست كونت(271/20)
يقول أوغست كونت:
(إن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا وكل فروع معرفتنا لا بد من أن تمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة: الأولى الحالة الخرافية وهي حالة تصورية تخيلية، والثانية الحالة الغيبية وهي حال تجرد، والثالثة الحالة اليقينية وهي حالة تيقن)
ومع ذلك يجادلنا المناظر فليكس فارس مرجحاً الحالة الغيبية وهذا قلب لقانون الدرجات الثلاث!
3 - يرى المناظر متابعة لاعتقاده برجحان الحالة الغيبية أن ميزة الشرق هي في الحالة الغيبية وفي إيمانه بالغيبيات. وهذا القول لو صدر من شخص ليس في مكانة مناظرنا الأستاذ فليكس فارس - وهو على علم واسع وفضل راجح - لما اهتممنا له. ولكن صدوره من مناظرنا يجعله حدث الأحداث في عصرنا الراهن
وإذا كان وقوف الشرق عند الدرجة الثانية في سلم الارتقاء العقلي سبباً للاعتقاد بتفوق هذه الدرجة على ما بعدها، فماذا يكون موقف مناظرنا إزاء أحد الزنوج أو متوحش أفريقيا إن وقف يرجح الحالة الهمجية والحالة الخرافية اعتقادا منه بتفوقها على ما فوقها، وقال لمناظرنا ما يقوله هو لنا؟ إذن ماذا يكون منه الجواب؟
4 - إن قول المناظر برجحان الحالة الغيبية على الحالة اليقينية وإن كانت ظاهرة البطلان إلا أن هذا البطلان لا يمنعنا عن مناقشتها حتى لا يظن مناظرنا أن كلامه حق يعلو على التجريح والنقد
يقول العالم الياباني (موريكاتو إيناجاكي) إن في كل عنصر بشري استعداد لأن يظن في نفسه الكمال. ويثبت هذا العالم هذه الحقيقة من حقائق علم النفس والإنسان. وفي ضوء هذا القول نفهم اعتقاد مناظرنا برجحان ثقافة الشرق الغيبية، ولكن ما هي الأسباب العلمية والفلسفية التي يبرر بها المناظر إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية؟
بحثت كثيراً في كلام المناظر وفتشت بين السطور عن الأسباب العلمية لإيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية، ولكن بلا جدوى. فرجعت لكتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فلم أخرج بغير (قانون الرجعي) سببا في تفوق ثقافة الشرق الغيبية!
يرى المناظر أن العلم الحديث أكد وجود قوة مستترة في الإنسان أسماها العقل الباطن،(271/21)
وهي مستودع الفطرة والانطباعات السابقة، وهي نفسها تسير الآن متلبسة بمظهر الاختيار. وما العقل الباطن كما دلت التجارب إلا الحوافز التي وجدت في الأجداد ونمت على اتجاه مقدور أيضاً زمن الطفولة. وهذه الحوافز تكمن فيها فطرة الأمم لأنها أداة شعورها بالحياة. وما دام الأمر كذلك فهو يرى أن سعادة المجتمع العربي في ملاءمته لما فطر عليه هي الغيبيات لأنها استلهام للروح العليا
كلام كما تراه يخترمه التناقض ومجانبة الحقائق. ومع ذلك فلننظر فيه
من المعلوم أن الإنسان بتكوينه الطبيعي يستجيب للمؤثرات الداخلية والخارجية استجابة ذاتية وهذه الاستجابة مرتبطة فيه بأنصاف الكرات المخية التي هي أعضاء رد الفعل في الإنسان. وترتبط بهذه الأنصاف الكروية المخية الوراثة والعقل الباطن. بيان ذلك أننا لو أتينا بكلب ووضعنا أمامه قطعة من الحلوى فان لعاب الكلب يسيل. هذه الظاهرة تحدث بتأثر ذاتي في الكلب ومن غير أن يكون للتجربة يد في تغييره أو تكوينه؛ ومن هنا تعتبر فعلاً عكسياً أصيلاً. وهذه الأفعال العكسية الأصيلة هي ما كنا نسميها من قبل بالغرائز. فالغرائز مجموعة من الأفعال العكسية مندغم بعضها في بعض كما هو الحال في غريزة بناء الطيور لأعشاشها. غير أن هذا الفعل العكسي الأصيل وإن كان يحدث بقاسر ذاتي في الأحياء العضوية لا يتغير فإن ذلك وقف على الأحياء الدنيا. أما في الأحياء العليا في سلم المملكة الحيوانية فان سلوك هذه الحيوانات وإن كان مرتكزاً على استجاباتها بقواسر ذاتية للمؤثرات فإنها تستفيد من التجارب، إذ تترك التجارب أثراً بيناً في سلوكها. والإنسان كأحد أصناف المملكة الحيوانية العليا يخضع لنفس هذه السنن. والأفعال العكسية المستفادة من التجارب مؤصلة لأنها مكتسبة يكتسبها الحي من ظروف حياته كنتيجة لما يلابسه من مؤثرات؛ وهذه الأفعال تختفي وتضمحل إذا ما تغايرت المؤثرات. ولما كانت الأفعال العكسية في الأصل تحدث بقاسر ذاتي مصحوبة بحركة انفعالية جاز لنا أن نعتبر الأفعال العكسية المؤصلة - وهي المستفادة من التجارب - كنمو ارتفاقي في الأفعال العكسية الأصيلة.
ولما كانت هذه الأفعال تقوى وتضمحل وتضعف وتتغاير باضمحلال المؤثرات وتغايرها، فإن مراكزها في الكرات النصفية المخية تكون قابلة لدرجة قليلة أو كبيرة لإمكان تكون(271/22)
الانعكاسات المؤصلة حيث تعتمد في قوتها على التكرار الاصطحابي كما أن ضعف أواصر التلازم أو تقطعها يؤدي إلى ضعف الانعكاس المؤصل أو اضمحلاله. غير أنه يعود بصورة أيسر لأنه يكون قد ترك أثراً في الحي من حالته الأولى الارتفاقية. وهذه الحقائق بإثباتها ديناميكية خاصة للنفس وساحة لا شعورية تبين إلى أي حد قد جانب المناظر في كلامه حقائق العلم. لأن الحوافز التي بالأحياء نتيجة للارتباط الارتفاقي بين الأفعال العكسية الأصيلة والمؤصلة وليست نتيجة للوراثة. وهذا لا يمنع أن الإنسان يولد وفي تضاعيف تلافيف مخه، وفي ثنايا أنصاف كراته المخية، وفي لحائها، وفي مراكز أعصابه ميول وكفايات إمكان لبعض الأفعال المؤصلة. والإنسان بخروجه لعالم الحياة يكون جهازه العصبي في طور نمو وتكوين إذ تسيطر عليه الأفعال العكسية سيطرة مطلقة، وهذه الأفعال مجردة. . . ويكون للمؤثرات التي تلابس الإنسان أثراً في أن تحدث استجابات تكون مقدمة لفعل عكسي مؤصل. فأذن العلاقة بينما هو كائن في النفس عن طريق الوراثة لا تتعدى الإمكان المحض. وهو تحت تأثير المؤثرات يظهر مصحوباً به. فالاعتقاد بوجود أساس وراثي يرثه الإنسان ويتركب عليه مكتسباته لا يتعدى هذه الحقيقة. وهو لا يثبت دعوى أن اللاواعية أو العقل الباطن يحتوي على الحوافز المتوارثة عن الأجداد
فإذا لاحظنا هذا كله وجدنا أن للمحيط الاجتماعي وما يعرض له من العوامل والمؤثرات الأثر الأكبر في تكوين الإنسان على غرار معين. . . وإذاً يكون التجاء المناظر إلى الوراثة والحوافز المتوارثة عن الأجداد - وهي حالات إمكان في النفس - خطأ من الناحية العلمية، ويكون بالتبعية اعتقاده في سلامة وسعادة المجتمع لما فطر عليه من الحوافز المتوارثة خطأ. والصحيح أن يقال إن الإنسان من حيث يولد وهو طفل وأفعاله العكسية المؤصلة هي التي تستحكم في جهازه العصبي، وبتعبير أدق غرائزه، يكون مطواعاً للمؤثرات التي يحتويها محيطه الطبيعي والاجتماعي، ويخرج مصبوبا في قالب معين يكافئ الحالات التي أحاطته. ونظراً لأن المحيط الطبيعي والاجتماعي عادة واحد في الحالات الاعتيادية فإن المؤثرات تكون واحدة، ومن هنا يخرج الناس في قبيل معين وجيل معين مصبوبين في قالب معين.
وقانون العادة يتدخل لأحداث المماثلة في القالب المصبوب فيه القبيل حتى ينتهي لذلك. أما(271/23)
في الحالات التي تكون فيها المؤثرات في المحيط الاجتماعي متباينة، فان القبيل يخرج في قوالب شتى جماعها يكافئ الحالات التي يتضمنها المحيط الاجتماعي؛ وهذا ما هو حادث اليوم في مصر. فإن أهل المدن من الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة يعيشون على غرار غربي، لأن العوامل في محيطهم الاجتماعي متأثرة بالروح الأوربية، بعكس أهل الريف الذين يعيشون على غرار شرقي. وهذا الانقسام في المجتمع المصري ملحوظ للنظر.
وإذن تكون نقطة الخطأ في كلام المناظر، بل الخطأ الأساسي هو إغفاله للمؤثرات الطارئة التي تدخل في المحيط الاجتماعي، وتؤثر في المجموع الإنساني، وتصبهم في قوالب جديدة تكافئ المحيط الاجتماعي في الصورة الجديدة التي أخذها بالمؤثرات التي طرأت عليه. وهذه الحقيقة تتبين من نظرة سريعة في كتاب (رسالة المنبر إلى الشرق العربي).
ولقد كشفنا عن هذه الحقيقة في النقد الذي كتبناه في مجلة (العصبة الأندلسية) في عددي فبراير ومارس سنة 1938 لكتابه، وهي تبين أن المناظر يمضي في كلامه مغفلاً شأن العوامل والمؤثرات التي تجد طريقها إلى المحيط الاجتماعي للشرق العربي. ومن هنا نرى أن الشرق العربي شاء أو لم يشأ مفكروه سيمضي في سلسلة من التغايرات حتى ينتهي إلى أن يحوز المكافأة للمؤثرات التي دخلت محيطه؟
(إسكندرية)
إسماعيل احمد أدهم(271/24)
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
أمسلم مصري أم مبشر بروتستنتي؟
لأستاذ جليل
- 1 -
اقترحت وزارة المعارف المصرية ذاك المقترح في تيسير (القواعد)، وأعلن أولئك الفضلاء (الميسرون) منهجهم، فقال قائلون من العلماء لما رأوه: إن هذا التيسير تعسير، وإنما تسهيل القوم تصعيب. وتجادل الفريقان في الجرائد والمجلات والكراريس. و (كتاب العربية) يقول: (فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
والعربية هي كسائر اللغات وليست بأصعبهن، وإن نحوها - وإن لطفت دقائقه وجلت حقائقه - إلا كنحوهن
وليست المشكلة في صعوبة اللغة أو سهولتها ولا في (قاعدتها) وإنما هي في (المعلم والكتاب) فهما اللذان يسهلان ويصعبان، وهما اللذان يهديان ويضلان، وهما اللذان يحببان إلى الفتى لغته أو يكرهان. فالمعضلة كل المعضلة هي في المعلم وعلمه وتعليمه وكتاب كل صف من الصفوف وتبويبه وتربيته وتبيينه، ولو غزت الوزارة هذين لقرطست
ومن ظن أو أيقن أن تقريب العربية أو تسهيلها هو في تهديم قواعد فيها - فهو مهوَّس يهذي، أو موسوس يلغو. وليست اللغة العربية ملك كاتب أو كويتب، أو أديب أو أُدِّيب، أو عالم أو عويلم، حتى يتصرف فيها تصرف المتملكين، كلا، ثم كلا. إنها تراث قرون وملك أمم، فأين يذهب بكم يا لاعبون؟
واللغات في المشارق والمغارب إنما يقدم فيها ويؤخر، ويلغي ويعلق، وينقص أو يزيد، ويحيا أو يبيد - فأنه لا يفعل ذلك إلا الاحتياج الطبيعي أو الانتخاب الطبيعي وإلا الدهر، لا اللاعب العابث ولا الجاهل الغر. ولقد كان التبديل الطبيعي في هذا اللسان في كل عصر. ولو استمرت تلك المدنية، ولولا التتر والصليبيون المخربون في الشرق، والفرنج الجاهلون المدمرون في الأندلس في الغرب، لرأت الدنيا من ارتقاء العربية كل عجيبة(271/25)
كان مقترح الوزارة أو فتنة الوزارة، وجاء شر يقفوه شر، وأهزأ مهرئون، وانبرى الصبيان يقولون، ونطق الرُّوْبيِضة (واستنت الفصال حتى الفرعي) ثم جاءت الطامة الكبرى: (أعني الضلال الضال في مجلة في القاهرة؛ فقد نجم فيها ناجم وتهدًّم على هذا اللسان العربي وكتابه الكريم بالقول السخيف مُشيعاً بالرأي الركيك والصنع اللئيم. ولو أقتصر هذا الخارجي على بقبقته في تقويض (القواعد) أو نسفها ما باليناه بالةً ولقلنا:
إنما هو ضحكة جاء بأضاحيك، فليضحك الضاحكون؛ لكنه شاء أن ينقلب لعنةً يلعنه اللاعنون؛ فقد تمسك هذا الكاتب في هاتيك المجلة بالذيل أو (التذييل) لكتاب (مقالة في الإسلام) لجرجس سال الإنكليزي (وهو الكتاب الذي نشرته جماعة التيسير بل التضليل من البروتستانت في مصر) وانجرأ واستجر مسلم ابن مسلمين - يا للأسف - للطاعنين في الدين، والمُقْدمين وقحين على تنقص القرآن وتغليطه في العربية. . .!
وهذا هراء صريع (التضليل)! وهذا بذاء صاحب (التذييل)! فاسمع - يا أخا العرب - غرائب العصر، ومضحكات في مجلات في مصر؛ بل شاهد أشراط الساعة، بل انظر أهوال يوم القيامة!
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وإلا فكيف نعرب كلمة (الصابرين) في قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء) كيف نعرب كلمة الصابرين المنصوبة هنا مع كونها معطوفة على جميع المرفوعات التي سبقتها إلا إذا عاوننا المفسرون؟)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت:
(وإذ قد تقرر هذا فلنشرع في تعقب خطئه. قال في سورة البقرة: (ليس البر الآية) وكان الوجه أن يقول والصابرون لأنه عطف على قوله والموفون، لكن المفسرين قالوا إنه نصب الصابرين على المدح)
قال الكاتب المسلم في المجلة:(271/26)
(وقوله تعالى: (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) فنفهم المعنى وإن فات بعضنا سر جزم (أكن) مع مجيئها معطوفة على فعل (أصدق) المنصوب بفاء السببية!)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت:
(وقال في سورة المنافقين (وأَنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) بجزم أكن والوجه وأكون بالنصب)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) فنفهم معنى الآية وإن كنا لا نفهم لماذا قال (كن فيكون) بدلا من كن فكان مادام سياق الرواية كله في صيغة الماضي)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت:
(وقال في سورة آل عمران: (إن مثل عيسى الآية) والوجه فكان، وفي هذا الموضع يقتضيه بصيغة الماضي)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا) فنفهم المراد وإن عجبنا لتأنيث العدد مع أن العدد مذكر، وإن قيل لنا إن السبط يذكر ويؤنث فسنظل نعجب من جمعه المعدود ونتساءل لماذا لم يقل اثنتى عشرة سبطا)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت: (وقال في سورة الأعراف (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا) فأنث العدد وجمع المعدود والوجه التذكير في الأول والإفراد في الثاني كما هو ظاهر)
قال الكاتب المسلم في المجلة: (وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون من آمن بالله. . . الخ) فنفهم معنى الآية ويدهشنا في الوقت نفسه رفع (الصابئون) رغم كونها معطوفة على المنصوبات التي قبلها وكلها واقعة في اسم إن)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت: (وقال في سورة المائدة: إن الذين آمنوا والذين هادوا(271/27)
والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) والوجه أن يقول والصابئين)
قال الكاتب المسلم في المجلة:
(وقوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر) فنفهم أيضاً معنى الآية ونحن لا ندري من سر نصب (المقيمين الصلاة) مع كونها معطوفة على المرفوعات التي سبقتها وأعقبتها إلا ما يقوله المفسرون من أنها وحدها منصوبة على التخصيص)
وقال كتاب المبشرين البروتستانت: (وقال في سورة النساء (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر) وكان الوجه أن يقول والمقيمون الصلاة كما قال بعده والمؤتون الزكاة. هذا ما تقتضيه القاعدة إلا أن المفسرين زعموا أنه نصب المقيمين الصلاة على المدح)
فمسطور (المضلَّل) - كما يرى القراء - هو مكتوب (المذيَّل) وقد نتش (المسلم) أقوال (المبشر) وأربى عليها ذاك الهزأة باستهزائه بآيات (الكتاب). وهل قوله (وإن كنا لا نفهم لماذا) (فسنظل نعجب) (ويدهشنا في الوقت نفسه) - إلا تهكم؟!
وقد تَتَرّس الكاتب في المجلة بقوله (وقوله تعالى) وما حكى (وقوله تعالى) ومسيء إلى إسلاميته وعربيته ومصريته وشرقيته بتصديق الحاقدين الجاهلين ومظاهرة المبشرين رسل الغربيين المغيرين - إنما هو أعزل، وإنما هو أكشف، وإن استجن بكل ترس أو مجن
وسأبين جهل الجاهل وضلال الضال تبييناً
الإسكندرية
(* * *)(271/28)
فلسفة الأسماء
للأستاذ السيد شحاتة
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
القديم والحديث من الأسماء
الأسماء عنصر تاريخي مهم إذ نعتمد عليها كثيراً في الاستدلال على مختلف التقلبات السياسية والاجتماعية، وترشدنا إلى مقدار النفوذ والسلطة لطائفة أو فرد في أيام معينة، كما أن منها ما يتناساه الناس حيناً من الدهر خوفاً من بطش الجبابرة. وقد قالوا إن الناس كانوا يتحاشون تسمية أبنائهم بأسماء علوية خوفاً من بطش الأمويين
هذا إلى أن الأسماء أوضح بيان ولع المغلوب بالتشبه بالغالب ومحاكاته، فمصر في أيامها الحديثة غلبت عليها أسماء تركية أيام أن كانت تابعة للعثمانيين، وسار بعض الناس في تيار الأسماء الأجنبية بعد الاحتلال. كما أننا نجد الأسماء الفارسية واليونانية تشيع أيام العباسيين مما يدل على نشاط هذه العناصر وقوتها في تدعيم أركان الدولة
وقد ينتاب الناس نوع من الاندفاع فيأخذون باسم مخصوص فتكثر التسمية به ويزيد الإقبال عليه. وقد لاحظت ذلك في مواطن معينة من القطر المصري فوجدت اسما مخصوصاً يشيع في الفيوم وآخر يفشو في طنطا وثالثاً يذيع في المنصورة وهكذا. . وليس لذلك من سبب إلا وجود كبير أو ولي يشتهر في كل إقليم
وإننا لندرك عند البحث أن هناك أسماء بادت وانقرضت فلا يسمى بها الناس الآن إلا نادراً (أم الخير. ست أبوها. زنوبة. زهرة. حنونة. مصطفية. مريم - عمر. سالم. جرجس. حنا عثمان) وكثير من الناس اعتادوا في العصر الحديث أن يسموا أبناءهم بأسماء مستحدثة ينظر فيها إلى التجديد والابتكار والرشاقة اللفظية (نبيل. سمير. كميليا. سوسن. آمال. سهير)
كما أن هناك أسماء أخرى يميل أصحابها إلى الشذوذ والغرابة لاعتقادهم أن التسمية تحفظ صاحبها من العين والحسد، أو أنها تطيل العمر فتجد من يسمس (دحيكة. حلوتهم. حلموس. الفص. قطش. بعزق. بندق. مليم. أبو قرشين) وهناك أسماء تدل دلالة صريحة على(271/29)
الموطن، فعندنا في الصعيد مثلا أسماء مخصوصة قل أن تجدها في الوجه البحري (أبو عميرة، وأبو ستيت) ومن الأسماء ما يدل على الجنس كالأسماء الأرمنية فكلها تقريباً تنتهي؛ (يان) (ملكونيان ماتوسيان ببازيان صاروخان يعقوبيان)
الألقاب
لم تعرف اللغة العربية تفخيما في الأسماء قبل عهد العباسيين، وإنما نشأ عن اختلاط الفرس بالعرب إبان الدولة العباسية أن تأثر العرب بالمغالاة في التعظيم والتفخيم، فكانت أسماء الملوك لا ينطق بها أصلا وإنما يطلقون ألقاباً للتعظيم اشتهرت حتى أصبحت أعلاماً (الرشيد - الهادي - الأمين - المأمون)
وفي أزمنة الغلو الديني والتشيع المذهبي يقترن لفظ الجلالة بأسماء الخلفاء والأمراء (الحاكم بأمر الله والعزيز بالله والواثق بالله) وقد يتجرد الاسم عن لفظ الجلالة (المعتمد - المعتصم - المعتضد) مما دعا ابن شرف القيرواني إلى أن يقول:
مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
وفي تركيا درج الأتراك منذ الزمن القديم على طريق ذكر الاسم مجرداً عن اللقب، إلا أنه في العهد الأخير قرروا أن يتخذوا ألقاباً تدل على أسماء تركية يظهر فيها معنى تاريخي أو قومي. فقد تسمي رئيس الجمهورية (أتاترك) ومعناها (أبو الترك)، كما لقب رئيس وزرائهم عصمت باشا بلقب (أون أوين) وهو أسم لبلدة ريفية كانت فيها الموقعة التي انتصر فيها الترك على اليونان في حرب الأناضول
وما تزال الأسر العريقة تشفع أسمها بألقاب مأخوذة من أسماء المقاطعات التي ينتمون إليها (دوق بربانت) - (برنس أوف ويلس) - (دوق يورك). وإن إطلاق اسم أمير الصعيد على صاحب السمو الملكي ولي العهد المحبوب لمن هذا القبيل. ولدينا في مصر بعض من الطرق الظريفة يلجأ إليها الناس في التسمية والتلقيب، فمن ذلك بعض الأسماء التي تطلقها بعض الجرائد والمجلات على كثير من الناس والهيئات فإذا بتلك الأسماء أشهر من الاسم الحقيقي. وفي كثير من الحوادث والمناسبات يشتهر إنسان باسم خاص فيصبح لقباً لأسرته من بعده لا يحيد الناس عنه(271/30)
كما أن ببلادنا نوعاً غريباً من التلقيب وهو دلالة الكنى على أسماء معينة: مصطفى (أبو درش) يوسف (أبو حجاج) حسن (أبو علي) إسماعيل (أبو السباع) علي (أبو علوة) إبراهيم (أبو خليل) محمد وأحمد ومحمود (أبو حميد) كل اسم مصدر بعبد (أبو عبدة) سليمان (أبو داود)
وقد جرت مصر على عادة الألقاب ففيها، كلمتا (أفندي) و (شيخ) وهما تمنحان بلا حساب ولا رقيب، ولقب حاج ويقابله عند المسيحيين المقدس، ولا يلقب بهما إلا من تمتع بالوصول إلى الأماكن المقدسة. وأما بك وباشا فهما من حق صاحب الجلالة مولانا الملك ينعم بهما على من يشاء. ومن الألقاب التي تملكها كل سيدة لقب (هانم) إلا أن العرف والعادة خصت الفتاة قبل الزواج بالآنسة وأطلقت عليها بعد الزواج لقب (السيدة) وقد سار الغربيون على عادة ذكر الزوج بعد اسم زوجته بدل أبيها. ولقد حاكاهم أخيراً كثير من المصريين وشاعت هذه الطريقة الآن , ومن أشهر من سمي بها (صفية زغلول. هدى شعراوي) وكثيرات غيرهما
وقد درج الناس على أن ينعموا بأحد اللقبين (أفندي وشيخ) على من يشاءون، يسمون من كان مطربشاً بالأول ومن كان معمما بالثاني، وفي ذلك من الحيد عن وجه الصواب وما فيه. أما الشيخ فهي كلمة عربية ومعناها (من تجاوز سن الشباب) أو (من توفرت له حكمة الشيوخ وفضلهم ولو كان شاباً). أما الأفندي فهي كلمة تركية كانت تطلق على ولي العهد في تركيا زمن الخلافة، ثم نقلت إلى مصر وشاعت فيها. وإنجلترا تسير على نظام الألقاب (مستر وسير ولورد) أما فرنسا فقد ألغيت فيها الألقاب ولم يبق للعظيم والحقير إلا كلمة (مسيو)، وكذلك فعلت تركيا في عهدها الأخير. وفي سوريا قررت الكتلة الوطنية هناك إلغاء جميع الألقاب من باشا وبك وأفندي وصاحب الدولة والفخامة والعزة والاستعاضة عن كل ذلك بلقب (السيد)؛ وقد قابلت الطبقات السورية كلها هذه الخطة بالمدح والاستحسان. أما في مصر فقد صدر قانون منذ خمس سنوات يحرم ألا يلقب بلقب إلا من أحرزه، فقلل بذلك الألقاب الزائفة إلا أن الأمر مع الأسف اقتصر على المكاتبات الرسمية والصحف. أما في غير ذلك فلا زال الناس يكيلون بغير حساب. وحسناً تفعل الحكومة المصرية لو أنها ألغت جميع الألقاب فيصبح متساوين ولا فضل لأحد على أحد إلا بعمله(271/31)
ونبوغه وقدرته
غرائب التسمية
للأسماء غرائب مدهشات نذكر بعضاً منها:
جرت العادة أن يعرف الإنسان باسمه واسم أبيه وأسرته، إلا أننا في كثير من الأحيان نجد الاسم يطغى على اسم الأب والأسرة فكثير من الناس قد يعرفون الملك أو العظيم باسمه فقط على أنهم يجهلون اسم أبيه
ومن عجائب الأسماء ما شاع اليوم من إطلاق اسمين على مسمى واحد، يظهر ذلك في الذكور والإناث (محمد طلعت - محمود شكري - زينب كميلة - فاطمة ثريا - ثروت هانم).
وفي مصر من أعجب الأسماء أننا نسمع عن اسمين أحدهما أخ للآخر، ولكنا لا نلمح أي اتفاق في اللقب حتى يكادان أن يكونا متباعدين (إسماعيل صدقي أخوه محمد نجيب شكري. عبد الخالق ثروت أخوه مصطفى رياض. أمين أنيس باشا أخوه محمد بك رياض) وتلك طريقة غريبة تضيع معها ألقاب الأسرات بمرور الزمن. ومن أغرب ما سمعت أن المدارس المصرية في عهد المغفور لهما محمد علي وإسماعيل كانت تطلق أسماء جديدة على تلاميذها يعرفون بها في المدرسة ويشتهرون بها في الحياة العامة
وفي الصين نجد معظم السكان لا تتعدى أسماؤهم أربعة (شانج - وانج)
وكل مسمى في الغالب له حظ من اسمه فالذي اسمه (ماهر، ذكي، سعيد) ينال في الغالب شيئاً من دلالة اسمه. و (فؤاد، فاروق، فايزة، فوزية، فوقية، فايقة، فتحية) أسماء بدأت بالفاء: فكل من يسمى بواحد منها يتفاءل أولا لأنها أسماء ملوك وأمراء، وثانياً لأن فيها معنى الفوز والفتح والفضل
والذين ينجمون ويتعرفون حظ الإنسان ويكشفون له عن مستقبله كل عمادهم على الأسماء: فهم يرون في حروف كل اسم ما يدل على حظ صاحبه وما قدر له في عالم الغيب، ولهم في ذلك طرق كثيرة: منها أنهم يقسمون الحروف طوائف وكل طائفة منها تدل على معان يتصف بها صاحب الاسم الذي تغلب فيه هذه الحروف. ومنها أيضاً أنهم يجمعون الأعداد الدالة على الحروف وهو ما يعرف عندهم (حساب الجمل) فيجمعون اسم الشخص واسم(271/32)
أمه ثم يسقطونها سبعة سبعة، والباقي يدل على حظ صاحبه
الأسماء واللغة
اصطلح علماء العربية على تقسيم الأسماء الأعلام إلى ثلاثة: كنية وهي المصدرة بأب أو أم (أبو طالب، أبو الفضل - أم كلثوم أم الخير) ولقب وهو ما أفهم مدحاً أو ذماً (الرشيد، الفاضل، الجاحظ، السفاح) والثالث اسم وهو ما سمي به الإنسان (أحمد، علي، فرج، سليم)
ولو تتبعنا معظم الأسماء لوجدناها تقريباً (من المشتقات) فمنها أسماء فاعلين (حامد، قاسم، راغب، ماهر، عادل) ومنها أسماء مفعولين (محمود، منصور، معروف، مبروك، مسعود) ومنها صفات مشبهة: (سعيد، بخيت، سمير، كريم، ذكي، نبيل) إلا أنه على الرغم من كونها مشتقة فإننا نعتبرها من القسم الآخر وهي أنها جامدة
كما أن هناك كثيراً من الأسماء يختلط فيها المذكر بالمؤنث (عطية، إحسان، ثروت، آمال، رجاء، صوفي) واللغة العربية تنزل المذكر المسمى باسم من هذا النوع منزلة المؤنث فتمنعه من الصرف
اقتراح
وأخيراً لقد تقدم عالم أمريكي وقال إن الأسماء قد كثرت كثرة عظيمة، وصارت من أسباب الفوارق بين أبناء الأمة الواحدة لدوافع دينية، فهو لذلك يقترح الاستغناء عن الأسماء بتاتاً وتسمية الناس بأرقام فيقال مثلا (43 ابن 35) وهكذا. ولذلك سوابق، فالمسجونون والعساكر وعمال الترام يعرفون في معظم الأحوال بأرقامهم
والإنجليز يشيع بينهم اسما (جون) و (إسميث) حتى ليبلغ عدد من يسمون بهذين الاسمين في إنجلترا مليوناً من السكان
وفي مصر نجد الأغلبية يشيع بينها (محمد، محمود، أحمد، علي)
وللألقاب كذلك غرابة: فبعضها يدل على معان غريبة، ربما كانت ثقيلة، ولكنها اشتهرت فأصبحت سهلة ذائعة مقبولة (البلط، الجحش، أبو شوشة، البرش. أبو شناف، عجور، شبايك)
الأسماء والقانون(271/33)
جرت العادة أن يطلق الاسم على الطفل فتسجله القابلة في سجل أعد لذلك بمكاتب الصحة، ومتى عرف الابن أو البنت بهذا الاسم فلا يجوز تغييره إلا بشروط خاصة، أن يتقدم الطالب إلى بعض الجهات القضائية ويدفع رسماً خاصاً، ويأتي بشهود ويسجل اسمه الجديد، والغرض من هذا التشديد في التغيير تضييق السبل أمام من يريد الفرار من حكم القضاء أو من دين عليه. وكثير من الناس يتقدمون لتغيير أسمائهم إما لأنها مكروهة في نطقها أو لاشتهارهم بغيرها بين الناس
وهناك كثير من الناس لهم أسماء رسمية وأخرى عرفية: فالأسماء التي سجلت في سجل الميلاد وهي الرسمية، وقد يعرفون بغيرها عرفاً واصطلاحاً بين مواطنيهم ولكن الأحكام القضائية والشهادات الدراسية تصدر بالاسم الرسمي
الأسماء والخط
التفاؤل بالأسماء والتشاؤم بها قديم جداً، فقد كان قدماء المصريين يتفاءلون بأسماء آلهتهم فيسمون بها أو ينسبون إليها (خفرع، آمون، حتب، توت عنخ آمون) وكان العرب يسمون أولادهم بأسماء يتشاءم منها (تأبط شرا، أبو الغول، أبو لهب، أبو جبل) وفي نفس الوقت يسمون عبيدهم بأسماء يتفاءل بها (الفضل، جوهر، فرج، سالم، سرور) وقد سئل بعضهم في ذلك فأجاب: (إنما سمينا عبيدنا لنا، أما أبناؤنا فسميناهم لأعدائنا) ومما يؤثر: أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم حينما بشروه بولادة النبي قال سموه (محمداً) فإني لأرجو أن يحمد في الأرض وفي السماء، والمسلمون يتفاءلون دائما بهذا الاسم المبارك الكريم
ولكن الاسم فيه معنى من معاني التكريم للإنسان والسمو إلى منزلة يتفرد بها ويمتاز عن غيره من المخلوقات، فلو أخذنا بنظام الأرقام كان ابن آدم سلعة من المتاع ولكن من يدري:
فالليالي من الزمان حبالى ... مثقلات يلدن كل عجيب
السيد شحاتة
المدرس بالجامعة الأمريكية(271/34)
خواطر ورموز
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 - أطماع لا حد لها
تكتب يد بليدة ما رأته عين ضيقة في الدنيا الواسعة ذات الأبواب التي لا عدد لها، كتابة المتعجل الذي يريد أن يرى ويسجل قبل الرحلة التي لا رجعى بعدها هنا. . .
ورحلتنا من هنا قد حملت كثيراً من الركب على أن يتخففوا ما استطاعوا، وأن يمروا على أشياء الدنيا بالنظرة الخاطفة، والخطوة العابرة، إيماناً بأن كل شيء هنا للفناء والعفاء، فلا غناء فيه ولا وراء من أخذه في الحس وتسجيله في النفس والطرس بالتأمل والدرس
بيد أن كل هذه الأضواء الفانية، والألوان الفاصلة، والرؤى المتلاحقة، والدنيا التي تمتلئ وتفرغ كل لحظة. . . هي أحق شيء بالتسجيل وفتح الأعين الخفية عليها من غير إغماض أبداً
فلئن عشنا حياة أخرى، وهو الموقن به في إلهام الروح، والمحكوم به في إثبات العقل، فان أمتع شيء لنا هناك أن نستعرض صورنا هنا يوم تمحي هذه الأرض من الوجود ولا تبقى إلا في النفس الإنسانية كمرحلة من مراحلها في سيرها إلى غايتها المجهولة
ولكن الألفاظ ضيقة والدنيا واسعة والحياة سريعة السير. فلا أدري هل أنا مستطيع أن آخذ في ألفاظي الضيقة ما أريد أخذه حتى أشعر يوم يقبل اليوم النهائي أنني خارج من الدنيا ممتلئ الأوعية (بأفلام) طويلة كاملة الإخراج؟
أنا في إرهاق دائم بمطالب العيش ومشاكل الناس وضرورات الأبدان. . . وإنما أنظر إلى ما أمام الستار وما وراءه، في فترات قصيرة كفترات الأحلام.
فما لي على إدراك هذا يدان ولا قدرة إلا أن يضاعف صاحب الحياة من قوى نفسي فيمدني بعيون كثيرة وآذان كثيرة (وعدسات) كثيرة.
من لي بمن يدمجني في كل شيء حتى أتحدث عنه كأنني هو متحدثاً عن نفسه؟!
فيا أيتها الدنيا البُعْدَى. . .! اكشفي لي القناع واهتكي أستارك لتلك العين الضيقة التي أرمدها السهر على بابك، وولهها الدنو من رحابك، حتى ما وراء الستار.
فإن مبلغ علمي بدنياي أن أولها: أنا. . . وثانيها الأرض. . . وثالثها: السماء. . ورابعها:(271/35)
أنا غير الأولى. . وخامسها: هؤلاء جميعاً!. . .
فهات يا دنيا! املئي يدي وفمي وكل وعاء فيَّ. . . إني واقف أنتظر الكنوز الموعودة. . . يداي مازالتا مبسوطتين منذ أن عرفت. . . وفمي فاغر إلى فوق،. وعيناي كهفا ظلام لم تقنعا بما ينفذ إليهما من هذا الضوء الذي تراه أيضاً كل العيون الضالة فلا يهديها. . .
2 - والمحصول؟
ولكن. . .
هل في الدنيا إلا طريق واحد تذهب فيه الأقدام طولا وعرضاً على الشوك والحصى والغبار، ثم تنتهي إلى الحفرة التي لا تشبع أبداً من الجثث والحطام؟
وهل أنا عالم بذلك علم الذي ينظر الخواتيم دائما في المبادئ؟
وهل لا يزال يزيغ حواسي ذلك البريق الخالب فأجري وراءه وأنا أعلم أني أجري إلى لا شيء؟
أو لم أجرب العناوين وما وراءها ودنيا الألفاظ التي تضع الأسماء ليعيش الناس بها فقط؟
وهل أذهب كما ذهب أكثر الناس غريق الوهم والسعي المكدي إلى الأصفار التي غرنا منها أنها تعد أيضاً كما تعد الأرقام؟
ماذا وراء التراب المزوق يا أولي الألباب؟ املئوا منه أواعيكم ما شئتم. . .!
ماذا وراء التجارة بالألفاظ أيها الحكماء؟ املئوا الصحف بها ما أردتم. . .!
فليس في الدنيا إلا يوم واحد تفرغه الشمس أضواء وظلاماً على أجسادنا فتبينها ثم نبليها به. . .
والأرض دائماً تقرع بالأقدام. . . والصبح دائماً معه صوت الطير. . . والليل دائماً معه نجومه. . . والمحصول عدد لا نهائي من الأصفار!
3 - لابد من جنون أيها العقلاء!
ولكن أيضاً. . .
لابد من جنون أيها العقلاء لندرك!
لابد أن نصر على هذا النداء:(271/36)
أمسكي الماء أيتها الغرابيل. . . اقبضي على الريح أيتها الأصابع. امضغي الهواء أيتها الأضراس. . . أدلي الدلاء إلى السراب أيتها الأيدي. . . اطحني القرون أيتها الطواحين. . .
4 - الأعمى والمرآة
- وهذا الإصرار هو أمانيُّ أعمى ينظر في مرآة! ليرى فيها خيوط ضوء من أفق مجهول يقع على وجهه المجهول لديه الخالد في الظلام بخلود أقفال عينيه!
إنه يتعزى بأن المرآة هي التي تراه. . . فاعذروه واتركوه يقلب وجهه فيها. . .
عبد المنعم خلاف(271/37)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
6 - رطل عنب
كان عندنا منذ أسبوع عمال أنفذهم صحب المنزل ليصلحوا شيئاً في الدار. وابتغاهم من الأرمن ولم يسمع نصيحتي إليه بان يستبدل بهم عمالاً من أهل البلد، وتعلل عليَّ بان هؤلاء أجود عملاً، وأقل كلفة. ولقد وجدتهم والله كما قال: عملوا في اليوم ما لا يعمله غيرهم في الثلاثة، فكنت أرقبهم وأدرس طبائعهم فما أنكرت منهم شيئاً حتى أظهر الظهر وزال النهار، فقطعوا العمل، وقعدوا يأكلون ويستريحون، فلم يجدوا العنب، والعنب الأحمر في الشام قوام حياة العامل لقلة ثمنه، وكثرة فائدته، وإن من يأكله إنما يأكل الصحة والقوة ثمراً شهياً، فبعثوا أحدهم، بقروش ليشتري لهم رطلاً، ولبثوا ينتظرون. . . فمضى ربع ساعة وربع آخر، وربع ثالث، ولم يحضر، ثم جاء يلهث من التعب، فلم أتمالك أن صحت به:
- أين كنت يا هذا؟ أرحلت في طلب العنب، والعنب ملء الأسواق؟
- قال: لقد اشتريته من (البرامكة)
- قلت: من البرامكة؟ على مسافة كيلين اثنين؟ ولم هذا العناء؟. . .
- قال: لم أجد بائعاً أرمنياً إلا هناك!!. . .
7 - أبوه!
أخبرني صديق لي من جلة العلماء، قال:
كنت أتولى المدرسة الخيضرية، وهي من المدارس القديمة في دمشق، فجاءني ذات يوم شيخ هرم عليه ثياب أخلاق، وعمة بالية، فأقبل على استحياء يسألني عملا في المدرسة وظيفته خمسة أرغفة في اليوم. فأعطيته الذي يريد، ولم أسأله عن نفسه حتى مرت أيام، فخبرني أن له ابناً، ولكن ابنه يعرض عنه وينكره، فعجبت من ذلك وقلت له: من هو ابنك؟
- قال: فلان!(271/38)
فلما سمعت الاسم صعقت، وعدت أسأله:
- فلان؟ الأستاذ الكبير، صاحب الشهادات الكبرى من أوربا. .؟
- قال: نعم، هو والله ابني. ولقد أنفقت عليه مالي وشبابي، فلما صار شيئاً، جزاني شر جزاء، وجعل مكافأتي الإنكار والاحتقار، واضطرني إلى سؤال الناس وإراقة ماء وجهي في رغيف من الخبز
فقلت: أنا أكلم ابنك، فهو صديقي. . .
قال: لا، لا تفعل سألتك بالله. . . فأنه إن عرف أني خبرتك ضربني وآذاني. لقد حرم عليَّ أن أنبئ أحداً أني أبوه!
قال صديقي الأستاذ: هذا والله ما كان، ما زدت فيه حرفاً ولا نقصت!. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(271/39)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 38 -
1 - (. . . وأنا على كل أحوالي إنما انظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعا في الهواء: لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى اكبر من المرأة، اكبر منها غير انه هو منها!)
2 - (. . . ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه؛ فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس: ما نطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها ولاشيء غير ذلك؛ ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه اليها، وليس إلا هذا
(والذي هو اعجب أن ليس في حبه شيء نهائي فلا هجر ولا وصل، ينساك بعد ساعة ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب، تبكيه هو أيضاً وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تجبره على جبار الحب!)
(هو الرافعي)
الجمال البائس
وهذا حب جديد وليلى جديدة، ولكنه حب كما وصف الرافعي؛ فما هو إلا سمو بالنفس فوق نوازع البشرية إلى غيب السماوات يتنور في عوالمها الخفية نور الإنسانية في حقائقها العالية
كان ذلك في صيف سنة 1935، وكان الرافعي يصطاف في سيدي بشر؛ ثم كان يقصد إلى الإسكندرية أحيانا ليلقى صديقه السياسي الأديب الأستاذ حافظ. . .؛ فان بينهما لصلات من(271/40)
الود ترجع إلى نحو عشرين سنة، منذ كان الأستاذ حافظ محاميا في طنطا.
وكان صديقه يقضي أجازته في الاسكندرية، مشغولا بكتاب يهم أن يصدره في شأن من شئون الإسلام أوحى إليه بموضوعه فترة غير قصيرة من تاريخه السياسي قضاها في بلاد الحجاز، وكان الرافعي يعاونه في إنشاء كتابه. . .
وكانا يتواعدان على اللقاء في ملهى من ملاهي الإسكندرية على شاطئ البحر، حيث تتهيأ لهما الفرصة من هدوء المكان في النهار وقلة إقبال الناس عليه، لما هما فيه من عمل
في هذا الملهى كانت تعمل فرقة الراقصة المشهورة (ببا) فيعج كل مساء بمن يفد إليه من طلاب اللهو والهوى، ليفرغ للرافعي وصاحبه في النهار يداولان الرأي في شئون الأدب والدين والفلسفة. وشتان ليله ونهاره!
وكثر تردد الرافعي وصاحبه على هذا الملهى حتى ألفهما المكان وألفا ما فيه، وألفهما فيمن أَلِف فتاة من راقصات الفرقة، هي الإيطالية الحسناء (بـ. . .) فما كان بينها وبين الرافعي إلا نظرة وجوابها ثم كانت قصة حب. . .
وجلس الرافعي إليها يتحدثان ذات نهار، وكشفت له عن صدرها وكشف لها، فكان بينهما حديث طويل، شهده الأستاذ حافظ من بدايته إلى منتهاه، ثم ترك الرافعي لهواه وتركته صاحبته. . .
وذاق الرافعي مرة أخرى لوعة الحب وبرجاء الهوى، وكانت محبوبته الأخيرة راقصة من بنات الهوى تعمل في مسرح هزلي من مسارح الصيف المتنقلة بين شواطئ الإسكندرية. . .!
تلك هي صاحبة (الجمال البائس)
وانتهت اشهر الصيف وعاد الرافعي إلى طنطا وعادت الفرقة الراقصة إلى القاهرة، وشت ما بين الحبيبين!
ولقيت الرافعي بعدها فحدثني حديثه والكلمات ترتعش على شفتيه وفي عينيه بريق عجيب؛ ثم تهدج ورق صوته وهو يقول: (مسكينة! يا ليتني أستطيع أن ابلغ ما في نفسها لأعلم ما تشكر من حظها وما تنكر. . . ليس موضعها هناك، ولكنه القدر!)
ولقيته في القاهرة ذات مساء، وقد فرغ من مقالات (الجمال البائس) فدعاني أن اصحبه إلى(271/41)
الملهى الذي تعمل فيه ليراها من بعيد، وأرسل من يطلب له تذكرتين عند الشاب من أبناء عمومته يعمل في (دار الهلال) وأبطأ عليه الرسول فلم ينتظر، فنهض ونهضت معه واتخذ طريقه إلى (عماد الدين). .
ووقف بالباب ينظر الصور ويقرأ الإعلان وهو يسألني: (أين اسمها؟ وأين صورتها؟ وأين. . . وأين هي!)
وطالت وقفته وهو ينظر إلى صورتها في إطار كبير إلى جانب الباب يضم صورتها إلى صور شتى من راقصات الفرقة ما منهن إلا لها جمال وفتنة، ولكن عينيه كانتا تنظران إلى صورة واحدة، إلى صورتها!
ثم تحول عن الباب مسرعا عجلان وهو يجمجم بكلام لا يبين
وقال لي وقد أسرعت إليه حتى حاذيته: (أيليق أن ندخل إلى هذا المكان؟ أتراه من المروءة؟ وددت لو رأيتها ولكن. .)
وانتهينا إلى قهوة (بول لور) فجلس وجلست، ومضى يتحدث عن السحر والشعر وفتنة الجمال؛ فما هي إلا لحظة ثم مرت بنا منحدرة من شارع فؤاد إلى شارع سليمان باشا، فأتبعها عينيه من نافذة إلى نافذة حتى توارت في مزدحم الناس ثم عاد إلى نجواه وشكواه. . .
وجلس مرة يتحدث إلى صديقه الأستاذ حسن مظهر محرر (اللطائف) عن ذات (الجمال البائس) فأهدى إليه صورتها؛ فما زالت هذه الصورة معه إلى أخريات أيامه لا تفارقه.
ولقد كان يحسن الظن بعلمها وفهمها، حتى ليحسبها من قراء الرسالة فتفهم ما كتب من مقالات الجمال البائس لتعرف موضعها من نفسه!
وكان لا ينفك يسأل: (أتراها علمت؟ أتراها قرأت. . .؟)
وما أحسبه لقي صاحبا من أصحابه إلا تحدث إليه عن صاحبة الجمال البائس. . .
جلست منذ قريب إلى الأستاذ توفيق الحكيم نتحدث عن الرافعي ونذكر من خبره فقص علىَّ، قال: (كان الرافعي يجلس على هذا الكرسي، من هذه الغرفة، وكان ذلك قبل منعاه بأشهر قليلة؛ ومضى الحديث بيني وبينه حتى جاء ذكر صاحبة الجمال البائس؛ فأخذ الرافعي يصفها لي وصفا لا أجد أبلغ منه ولا أجمل من صاحبته، وطاوعه القول على(271/42)
تصويرها كما هي في نفسه؛ فما كانت عندي بما وصف إلا امرأة قد أجتمع لها من ألوان الجمال وفنون الحسن وسحر الأنوثة ما لم يجتمع مثله لامرأة؛ وتمثلت صورتها لعيني كما أراد أن يصف؛ فلما بلغ آخر الحديث عنها، قدم إلى صورتها في ورقة لأرى بعيني مصداق ما سمعت. . .
قال الأستاذ توفيق الحكيم: (ونظرت إلى الصورة التي صورها لي حديث الرافعي والى الصورة التي في الورقة، فكأنما استيقظت من حلم جميلّ. . . يرحمه الله لقد كان شاعرا. . .)
كذلك كان سلطانها في نفسه وأثرها في خياله!
وكانت نشأة هذه الفتاة في طنطا لأول عهدها بالرقص، وكانت تعمل مع فرقة قروية أقامت (خيمتها) في طنطا بضع سنين؛ ولم يكن الرافعي يعلم ذلك حتى عرفتها في فرقة (بيا) ورأيت صورتها؛ فلما أخبرته به أغمض عينيه وراح في فكر عميق. . . أتراه كان ينظم شعرا لم يجهر به ولم يسمعه أحد؟
والعجيب أن الرافعي وهو في غمرة هذا الحب الجديد لم ينس صاحبته (فلانة) ولم يفتر حبه لها، بل أحسبه كان أكثر ذكرا لها وحنينا إليها مما كان، وكأنما كان قلبه في غفوة فأيقظه الحب الجديد ورده إلى ما كان من ماضيه
لقد كان قلب الرافعي عجيبا في قلوب العشاق؟ ليت من يستطيع أن يكشف عن أعماقه!
طنطا
محمد سعيد العريان(271/43)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 10 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني:) ك)
ط - (مجيبا بولوس) فبرهن لي إذاً على أن الخطباء قوم عقلاء، وعلى أن البيان من الفنون وليس بأحد أقسام الملق، وهنالك تكون قد ناقضت رأيي!، أما إذا لم تناقضني فلن يكون للخطباء الذين يفعلون في الدولة ما يشاءون، ولا للجبابرة الطغاة أي خير! وها قد اعترفت بنفسك - حسبما جاء في قولك -: بأن القوة خير، وبأن فعل ما يشاء الإنسان عندما يكون مسلوب العقل شر!، أليس كذلك؟
ب - بلى
ط - وإذا كيف يصير الخطباء والجبابرة جد أقوياء في الدول إذا كان بولوس لم يناقض سقراط ولم يقنعه بأنهم يفعلون ما يريدون؟
ب - يا للرجل. . .!(271/44)
ط - إنني أدعي أنهم لا يفعلون ما يريدون! فناقضني!
ب - ألم توافق منذ لحظة على أنهم يفعلون ما يبدو لهم كأحسن الأفعال؟
ط - ومازلت للآن موافقا على ذلك؟
ب - فهل يفعلون - على ذلك - ما يريدون؟
ط - ذلك ما أنكره!
ب - حتى ولو كانوا يفعلون (ما يسرهم)؟
ط - بلى
ب - إنك لتقول أشياء بالغة الغرابة وجديرة بالرثاء يا سقراط؟
ط - لا تلمني هكذا سريعاً يا بولوس إذا استعملت لهجتك وأسلوبك!، إنك إذا كنت قادرا على توجيه الأسئلة إلىَّ فبرهن لي أني قد غششت نفسي!، وإلا فلتجبني بنفسك
ب - وإني لجد راغب في إجابتك كيما أعرف أخيرا ماذا تريد أن تقول!
ط - أتعتقد أن الناس يريدون كل ما يفعلون من أعمالهم أم هم لا يريدونها إلا من أجل شيء آخر؟ مثلا أولئك الذين يتناولون جرعة الدواء التي يقررها الطبيب: أتراهم يريدون في رأيك أن يبتلعوا ما لا يسيغونه؟ أم هم لا يفعلون ذلك إلا من أجل شيء آخر هو (الصحة)؟
ب - واضح أنهم لا يريدون من ذلك غير الصحة!
ط - وبالمثل أولئك الذين يركبون البحر أو ينهمكون في كل بحارة أخرى فانهم لا يريدون ما يباشرنه يومياً - لأن من يواجه البحر يعرض نفسه لصنوف العوائق والأخطار - وإنما الذي يريدونه في رأيي هو الشيء الذي من أجله يبحرون وأعني به (الثروة)، لأنا لا نبحر إلا لكي نثري!
ب - ذلك مؤكد!
ط - أو ليس الأمر بالمثل في جميع الأفعال؟ أي إذا فعل الإنسان شيئا من أجل غاية ما، فانه لا يريد ما يفعل، ولكنه يريد (الغاية) التي من أجلها يفعل ما يفعل؟
ب - بلى!
ط - والآن هل يوجد في الدنيا شيء لا يكون حسنا أو رديئا، أولا هو بالحسن ولا هو(271/45)
بالرديء؟
ب - لا يوجد في الدنيا شيء على خلاف ذلك يا سقراط!
ط - أو لا تعد الحكمة والصحة والثروة وكل الأشياء الأخرى المماثلة من الأشياء الحسنة؟ بينا تعد نقائض هذه من الأشياء الرديئة
ب - نعم
ط - وألا تقصد بالأشياء التي هي بين بين، تلك التي قد تكون حسنة وقد تكون رديئة، أعني تلك التي لا تمايز فيها، كالجلوس والمشي والملاحة والجري، أو كالحجارة والخشب وكل ما شابه ذلك من موضوعات؟ أليست هذه في رأيك هي التي ليست بالحسنة وليست بالرديئة؟ أم ترى هي شيء آخر؟
ب - كلا! إنها كذلك لعمري!
ط - والآن عندما نفعل هذه الأشياء غير المتمايزة، أنفعلها من أجل أشياء حسنة أم نفعل الأشياء الحسنة من أجلها؟
ب - لا شك في أننا نفعل هذه الأشياء من أجل غايات حسنة.
ط - وإذا فهو (الخير) الذي نسعى إليه بالمشي عندما نمشي لأننا نرى أننا نكون في حالة أحسن إذا مشينا. وبالمثل عندما نبقى - على النقيض - ساكنين، فإننا نفعل ذلك من أجل نفس الغرض، وهو الخير، أليس ذلك صحيحاً؟
ب - بلى!
ط - ونحن كذلك لا نقتل - عند ما نقتل، ولا ننفي الغير ولا نسلبه إلا عندما نقتنع بأن الأفضل لنا هو أن نفعل ذلك لا نفعله ألا نفعله؟
ب - بالتأكيد!
ط - وإذا فنحن لا نفعل كل ما نفعل من هذا النوع إلا من اجل (الخير)!
ب - أوافق على ذلك.
ط - وإذا قد اتفقنا على أننا عندما نفعل شيئا من اجل غرض ما، فإننا لا نبغي الشيء حينذاك وإنما نبغي الغرض منه؟
ب - بالتأكيد!(271/46)
ط - وإذا فنحن لا نريد ذبح الناس ونفيهم وتجريدهم من أملاكهم لمجرد هوى يسير، وإنما نفعل ذلك مريدين عندما يكون في ذلك نفع لنا. أما إذا كان في ذلك ضرر لنا فنحن لا نريده لأنا لا نريد إلا الخير كما صرحت أنت بذلك، أما ما هو ليس بالحسن ولا بالرديء فنحن لا نريد كما لا نريد بالأولى كل رديء، أترى ذلك صحيحا؟ أيلوح لك أني محق يا بولوس؟ أجبني بالنفي أو الإثبات. .! مالك لا تجيب؟
ب - إنك محق يا سقراط؟
ط - وما دمنا قد اتفقنا على ما تقدم، فهل إذا قتل خطيب أو طاغ شخصاً آخر أو نفاه من المدينة، أو جرده من أملاكه معتقداً أنه يخدم بذلك منفعته، بينما لا يكون في ذلك إلا ضرره، أتراه يفعل حينذاك ما يسره؟
ب - بلى
ط - ولكن أتراه يفعل أيضاً ما (يريده) إذا رأى أن النتيجة ستكون وبالا؟. . . لماذا لا تجيب؟
ب - لا يلوح لي أنه يفعل حينذاك (ما يريد)!
ط - وإذاً أيمكن أن يلوح لمثل هذا الشخص (قوة كبيرة) في المدينة، إذا صح ما سلمت به من أن القوة الكبيرة خير؟
ب - كلا، فذلك مل لا يمكن أن يكون!
ط - وإذاً فقد كنت محقاً في قولي إن المرء يستطيع أن يفعل في الدولة ما يسره دون أن يكون عنده من أجل ذلك قوة كبيرة أو دون أن يكون فاعلا لما (يريد)!
ب - وما دام من شأنك يا سقراط أنك لا تفضل أن تكون (حراً) في الدولة بحيث تفعل ما يسرك، على أن تكون بعكس ذلك، أفلا تحسد من تراه يقتل ويسلب ويقيد بالحديد؟ من يسره أن يفعل معه ذلك؟
ط - أتقصد أنه يفعل ذلك عدلا أم ظلماً؟
ب - ليكن عدلا ذلك أم ظلماً، أفلا ترى أنه جدير بالحسد في كلتا الحالتين؟
ط - قل شيئاً أفضل من ذلك يا بولوس!
ب - ولم لا؟(271/47)
ط - لأننا يجب ألا نحسد من هم ليسوا جديرين بالحسد كما لا يجوز أن نحسد الأشقياء والتعساء! بل يجب على النقيض أن نرحمهم يا بولوس!
ب - ماذا؟ أترى أن أولئك الذين أتحدث عنهم جديرون بالرحمة؟
ط - وكيف لا يكونون جديرين بها؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(271/48)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 18 -
متى كان الشاعر صادقا في شعوره وتعبيره، صاحب خصوصية في فهم الحب والحياة، متعدد الجوانب منفسح الآفاق؛ كثرت غزله - وفي شعره كله - صور (الحالات النفسية) - وهي الخاصة التي رصدنا لها هذا المقال في غزل العقاد - ولم يقف في الغزل عند الصور العامة الشائعة، لأنه معنيّ بإظهار خاصة نفسه، وتصوير خلجات ضميره.
وخصائص العقاد العامة - كما قلت في الكلمة الماضية - لا يخطئها الناقد في كل بيت له وكل قصيدة، حتى ليستطيع دارسه أن يثبت له أو ينفي عنه أقوالا لم يعلم صدورها عنه. وبعض إخواني الآن يتفكه معي، فيعرض عليَّ أقوالا منثورة ومنظومة ناسبا إياها للعقاد، فلا أجد صعوبة ما في نفي بعضها وإثبات بعضها، وبيان حكمة النفي والإثبات بخصائصه العامة التي لا تخطيء ولا نتخلف
هذه الخصائص أشد وضوحا في شعر (الحالات النفسية) بطبيعة الحال. وهذا الضرب من الشعر يمتاز فيه العقاد بالوفرة والتنوع والشمول، كما يمتاز (بالخصوصية) والتفرد.
ولا بد من التنبيه إلى هذه الامتيازات. فشعر الحالات النفسية قد يكون، ولكنه يكون ذا لون واحد، أو قريبا في غوره وانبساطه، فلا يكون - إذ ذاك - ميزة للشاعر، إلا من حيث إشارته إلى وجود البذرة الصالحة للإنبات؛ بذرة الأساس الصادق الأمين.
والحالات النفسية التي سنعرضها في هذا المقال فيها الطريف في نوعه وشكله، وفيها الشائع في نفوس المحبين الصادقين، ولكنه معروض في شكل جديد ونسق واتجاه خاصين خصوصية العقاد في عالم الشعراء
الصبابة المنشورة:
الحب الذي طمسه السلوان، وعفى عليه النسيان، يبعثه العقاد حيا، ويشخصه جسما، ويقول له ويستمع إليه، ويعجب منه ويرثي لمصيره، في جو مرهوب مسحور، كجو البعث والنشور.(271/49)
صبابة قلبي! أقبل الليل غاضباً ... فهبي فقد يغشى الرفاتُ المغانيا
وقد تهجر الموتى القبورَ أمينة ... إذا الليل غشى بالرقاد المآقيا
وثوبي إلى الدنيا مع النوم فانظري ... مكانك قد أقوى وعرشك خاويا
ومري به مر الغريب. وطالما ... تربعت فيه قبل ذاك لياليا
ولا تسألي: من بالديار؟ فإنها ... على موثق ألا تجيب مناديا
بدا شبح عار من اللحم، عظمه ... يجاذب أضلاعا عليه حوانيا
يقاربُ في قيد المنية خطوَه ... ويمشي به ليلا مع الليل ثانيا
وقال: سلام! قلت: فاسلم وإن يكن ... دعائي لميت بالسلامة واهيا!
من الطارق الساري؟ فقال: صبابة ... نعمت بها حينا وما أنت ناسيا
فقلت: أرى جسما عري من روائه ... وعهدي به من قبل أزهر كاسيا
جهلتكِ لولا مسحة فيك غالبت ... بشاشتها أيدي المنون المواعيا
جهلتك لولا هزة في جوانحي ... يدَ الدهر لا تبقي من الشك باقيا
ألا شدَّ ما جار البلى يا صبابتي ... عليك فكيف استل تلك المعانيا
أأنت التي أسهرتني الليل راضيا ... وأنت التي أسكرت عيني صاحيا
وأنت التي كنا إذا الناس كلهم ... تولوا، وجدنا مغنما فيك وافيا؟
وأنت التي جليت لي الأرض جلوة ... أسائل عنها الأرض وهي كما هيا
أسائل عنها كل شيء رأيته ... أما كنت فينان المحاسن شاديا
نفختِ بها روحا فغرد صامت ... ورنم جلمود، وأصغيت لاهيا
فلما ألمّ البين لاذت بصمتها ... وأمسيت حتى يأذن الله صاغيا
وهل يسمع الصاغي إلى القبر نأمه ... ولو كان فيه (معبد) القوم ثاويا
نعم أنت لولا ساتر من منية ... وحسبك ستراً بالمنية ساجيا
وإن امرأ ماتت خوالج نفسه ... لقد جمع الشرين حياً وفانيا
حياة لها حد ولا حد للردى ... فليت المنايا والحياة تواليا
كما تتوالى يقظة العيش والكرى ... وتعقب أنوار الصباح الدياجيا
إذن لتشوقنا الحمام اشتياقنا ... إلى النوم واشتقنا الحياة دواليا(271/50)
درج الحب:
الحب الظامئ للمزيد ما يصل إلى غاية حتى يتطلع إلى ما وراءها، وهي حالة من أصدق حالات الحب التي لا يلتفت إليها المحبون، في حين أنها تكاد لا تتخلف في كل حب طويل.
أبصرته. فوددت ألزمه ... باللحظ في حل ومرتحل
وطفقت أرجو أن يحادثني! ... فبلغت ما أرجو على مهل
حادثته والنفس شيقة ... للنهل من فمه وللعلل!
وتهم تتبع كل بادرة ... من فيه باللثمات والقبل
قبلته فتجدّدت علل ... غير التي داويت من عللي
الآن أطمع أن أكون له ... ويكون إذ يمسي ويصبح لي!
وأكاد أشفق أن تراعيه ... - حرصاً عليه - شواردُ المقل!
في القلب شيطان يقول له ... زِدْ، كلما أوفي على أمل
بالوكف لا نرضى فوا عجبي ... كيف ارتضينا أمس بالبلل؟
اليوم الموعود:
وليس هو يوم لقاء عادي، ولكنه يوم سيجعل له من جنته التي يخطر فيها كالغريب ملكا ذلولا، يلتذ فيها التذاذ المالك الحر المنطلق من قيود الوله والضرورة والخلسة إلى آفاق المتعة المطلقة الراوية القريرة. وهي قطعة من ثمرات النضوج الفني والنفسي، ومن قطوف الحس الرفيه المترف الذي يفرق بين أدق ألوان الشعور
وفي أولها تعبير مبتكر طريف عن اللهفة إلى الموعد المرتقب حين يقول:
يا يوم موعدها البعيد ألا ترى ... شوقي إليك؟ وما أشاق لمغنم
شوقي إليك يكاد يجذب لي غدا ... من وكره يكاد يطفر من دمي
أسرع بأجنحة السماء جميعها ... إن لم يطعك جناح هذى الأنجم
ودع الشموس تسير في داراتها ... وتخطها قبل الأوان المبرم
ما ضر دهرك إن تقدم واحد ... يا يوم من جيش لديه عرمرم؟
ثم يأخذ في بيان مهمة هذا (اليوم الموعود) وتفرده في الأيام، وما عقد بمفرقه من تحول في(271/51)
هذا الحب إلى الطلاقة والاستقرار:
لي جنة يا يوم أجمع في يدي ... ما شئت من زهر بها متبسم
وأذوق من ثمراتها ما أشتهي ... لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي
وتطوف من حولي نوافر عصمها ... ليست بمحجمة ولست بمحجم
وتلذ لي منها الوهاد لذاذتي ... بتصعد في نجدها وتسنم
لم آس بين كرومها وظلالها ... إلا على ثمر هناك محرم
فكأنما هي جنة في طيها ... ركن تسلل من صميم جهنم
أبدا يذكرني النعيم بقربها ... حرمان مزءود وعسرة معدم
وأبيت في الفردوس أنعم بالمنى ... وكأنني من حسرة لم أنعم
يا يوم موعدها ستبلغني المنى ... وتتم لي الفردوس أي متمم
لا غصن رابية تقصر راحتي ... عنه، ولا ثمر يعز على فمي
سأظل أخطر كالغريب بجنتي ... حتى أثوب على قدومك فاقدم
فأبيت ثم إذا احتواني أفقها ... لم أُنهَ عن أمل ولم أتندم
فرحي بصبحك حين تشرق شمسه ... فرح الضياء سرى لطرف مظلم
ثم يختم القصيدة بخاطرة هي إحدى (خصوصيات) العقاد في فلسفة الحرية والضرورة ممزوجة بعاطفة الحب، فيرى الوله نوعاً من نداء الضرورة لا يليق بالخلد الذي تشبع فيه الرغبات، وتقر القلوب وتحس بالحرية والانطلاق من الضرورات:
أمعيرتي خلد السماء سماحة ... صونيه عن ولهٍ صيانة مكرم
رفقا بخلدك أن تشوبي صفوه ... إن لم ترى رفقاً بمهجة مغرم
الليلة الفطيم:
المتعة الخاصة التي لا يغني عنها سواها، لأن لها أما لا يغني عنها سواها، ولو كن جميلات شهيات، فإذا اجتمعن ولم تحضر هذه (الأم) فالليلة الفطيم لا ترضع ثدياً آخر ولا تجد متعة أخرى!
ياله من طريف!
بكت الليلة الفطيم شجاها ... ما بكاء الفطيم بين الثديِّ(271/52)
الثدي الحسان تبغي رضاها ... ما لثغر الفطيم غير رضيّ؟
لو أرادت لكان عند مناها ... كل صدر، وكل نهد شهي
أمها! أمها! وليس سواها ... ذات صدر على الشفاه ندي
ثم يخاطب ليلته هذه خطاب الأب الواثق، يداعب طفلته واليقين يملأ نفسه، والرضا يطلق البشاشة والدعابة في وجهه ولسانه:
ليلتي. ليلتي الحزينة صبرا ... ليس هذا الفطام بالأبديِّ
سوف تروين من أمْيِمك ثغرا ... فارضعي الآن من دموع الشجي
واذرفي هذه المدامع غزرا ... هل يضير البكاء عين الصبي؟
من أذاب الرضا عينيه وسهرا ... في ارتقاب النعيم، غيرُ شقي
يوم:
يوم أوله لقاء ومتاع، وآخره فرقة ووحشة. وهو يوم يمر على كل حبيبين، وهي وحشة تلمس كل قلب في هذا الموقف، ولكن العقاد وحده هو الذي يعبر هذا التعبير، وهو الذي يستقصي كل شوارد الإحساس، ويتتبع كل مطارح الشعور ويفصل كل هواجس الضمير
ذهب الليل ودار المللوان ... وشدا قبل الصباح الكروان
ومشى الصبح على مهل كمن ... يطرق الدار على غير أمان
وتلمست هنا تغريدة ... في فمي تصدح في هذا الأوان
قبلة منك هي الفجر وفي ... طيها تبدو ثناياه الحسان
عن شمالي كلما ولى الدجى ... وسرى فجر وحنت شفتان
وتراءت نظرة ناعسة ... عند أخرى فتلاقت نظرتان
بان ليلي لا تسلني كيف بان ... أنت تدري فاغتفر عِيَّ البيان
كلما يممتُ داري قلت لي ... أجناحان لنا أم قدمان؟
فأتيت الدار لا احسبها ... قربت قط ودوني خطوتان
لم أكن أطلبها ويحي ولا ... أطلب المهرب منها حيث كان
أين أمضي؟ أين تحدوني الخطأ؟ ... ضاقت الدار وضاق المشرقان
راعني نقص بعيني ويدي ... وفمي الصادي وقلبي واللسان(271/53)
خلتني بدلت منها غيرها ... ولو أستبدلها الخطب لهان
أهزيع منك يا ليل مضى؟ ... أمضى نصف؟ أما ينشطران
بان ليلي؟ لا تسلني كيف بان ... حاطك الله من الليل وصان
إي وربي بان. لكن بعد ما ... نفدت ساعات عمري في ثمان!
لا زمان حيثما لاقيتني ... فإذا فارقتني كان الزمان
طلع الصبح حزينا عاطلا ... أتراه كان بالقرب يزان؟
وسرت أنفاسه يا حسرتا ... أين أنفاسك يا زين الحسان؟
نسمات الصبح أورت كبدي ... فحجبت الأنف عنها والعيان
ثم ماذا؟ ثم يرى أن يتسلى بالقراءة، وأن يستمع إلى أصدقائه وخاصته من دواوين الشعراء. فماذا يكون؟
وتمشيت إلى كتبي على ... مضض مني وللكتب أوان
يا (أبا الطيب) لا تهرف. ويا ... صاحبي (الرومي) ما هذا الرطان!
شعراء الشرق والغرب أما ... تملكون الصمت يوما في عنان؟!
أو فهاتوا الشعر لي صرفا بلا ... أحرف في الطرس منه أو معان
أفرغوه جملة في خاطري ... ليس لي بالطرس والدرس يدان
رب شعر شاقني لما تكد ... شفتا قائلة تنفرجان!
هذا شأنه مع الكتب - وهو ملول قلق - فما شأنه مع الأصدقاء الأحياء؟
وتجلى الباب لي عن زائر ... من أودائي كأنا أخوان
فتعلمت ولبي شارد ... كيف يكسى الود ثوب الشنآن
قال لي: (الأفق جميل) قلت لا ... بل دميم. قال: زاه. قلت: قان
قال: زبد قلت: حاشا فانثنى ... نحو عمرو. قلت: كلا بل فلان!
فمضى يعجب مني سائلا: ... أسلام؟ قلت: بل حرب عوان
ذهب اليوم وما أحلكه ... كان من يوم نماه النيران
لم يكن في صبحه أو ليله ... حظ عين، أو لسان، أو جنان
ذاك يوم يا حبيبي واحد ... وغد منه غني عن بيان(271/54)
نعم يا سيدي (غني) عن بيان، فقد عشنا معك في هذه القصيدة يوماً مخنوق الأنفاس، مكروب الصدر، ورأينا فيه وحشتك وقلقك وتبرمك، بل احسبنا نحن بالوحشة والقلق والتبرم، وتمثل لنا يومك لحظة وساعة ساعة، كالح الوجه كئيب الطلعة، ثقيل الخطوات!
(للمقال بقية)
سيد قطب(271/55)
تاريخ الحياة العلمية
في جامع النجف الأشرف
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
- 1 -
هاهي ذي مجلة الأستاذ الزيات تحمل على أجنحتها رسالة الإخاء الإسلامي العربي! أما ترى كيف أصبحت رابطة التعارف بين أستاذ في جامع النجف الأشرف وبين أخ له وراء الصحارى والقفار؟
أي وكرامة العروبة والإسلام هو أخ لي تضمني إليه ربقة الجامعة المقدسة وإن لم تسبق لي معرفة بذاته الكريمة. هلم بي يا قلمي لتلبية الدعوة وإن أثقلتك المشاغل. هذا أخي الأكرم يناديني من (طنجة) لأبادله المعرفة وأسهب له في حديثي عن سير المعهد العلمي الذي أنتمي إلى قدسيته. . . فهيا إلى (الرسالة) مجلة الأدب العالي
أيها الأخ، إن تاريخ الدراسة في هذا المعهد الجليل يتوغل إلى أعماق العصور الإسلامية إلى أمد بعيد. وبما أن نواته هي البناية التي أقيمت على مرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع) فلابد للراغب في معرفة حياته العلمية والأدبية في أدوارها من طفولتها إلى شيخوختها - أن يلم إلمامة قصيرة بنشأة هذه البنية وتطورها في مراقي العمران. فقد كان حب الشخصية الإسلامية القوية الدفينة هنا، هو الذي جذب العلماء إلى مجاورة المرقد الطاهر ليشيدوا قواعد هذه المدرسة ويكونوا الحلقات لرفع منار الثقافة الإسلامية من الحديث والفقه وأصوله والفلسفة وما تستلزم من مقدمات تمهيدية وأسس أصبحت بعد حين مباني مستقلة بنفسها كفنون الأدب والرياضيات من هندسة وحساب وهيئة. لقد أستمر التدريس في بناية القبر العلوي حتى الآن، فقد درست فيها النحو والمنطق والمعاني والبيان وعلم الفقه وأصوله والفلسفة الإسلامية على أساتذة عرب وفرس في حلقات كبرى وصغرى ولقد نظمنا فيها الجماعات للتذاكر وحل عوائص تلك الأفانين من الثقافة وقضيت فيها ردحاً من الزمن قيماً. أما كيف قامت أركان هذه المدرسة العالية فذلك حديث جذاب ممتع
هناك أسطورة تقص (في إرشاد الديلمي وعمدة الطالب) تقول إن القبر كان مخفيا عن عبث(271/56)
أعداء الدعوة العلوية إلى أن أظهره الرشيد وبنى عليه قبة ذات أربعة أبواب من طين أحمر وعلى رأسها جرة خضراء وتحتها الضريح من حجارة بيضاء. وحكى في فرحة الغري في قصة طويلة أنه قبل الرشيد وضع داود بن علي المتوفى سنة 133هـ صندوقا دُرس بإهماله خوف سطوة العباسيين الذين تبدلت سياستهم تجاه العلويين حتى بطشوا بهم واضطهدوا شيعتهم وقعدوا لهم كل مرصد. وسبب آخر في اندراسه هو عامل طبيعي غير هذا الأدبي، فقد ساعد على ضياعه وقوعه في منخفض الوادي معرضاً لجري السيول ومهب الرياح
قال في نزهة القلوب: وعقيب بناء الرشيد بعد سنة 180هـ جاوره الناس. ويمكنك أن تعتبر هذه المجاورة بذرة الحياة العلمية الأدبية الحاضرة، فمن مستلزمات مجاورة هذا المعبد الإسلامي الذي كان ولا يزال منتجع الزوار من قاصي الأرض ودانيها - تدبر الشريعة الإسلامية وتداول أحكامها. وقد وجدت إجازات برواية أحاديث قال راووها إنهم تلقوها في رواق قبر الإمام (ع) وكان عهد هذا التلقي للعلم الإسلامي سحيقاً في القدم. وقرأت في (فرحة الغري) أنه في أيام المعتضد العباسي بني محمد بن زيد العلوي الداعي الصغير (صاحب طبرستان الذي ملكها عام 270 بعد أخيه الحسن ثم قتل عام 287 كما في كامل أبن الأثير وقد تنسب العمارة لأخيه الحسن) - قبة وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقا. وقد لوح أبن أبي الحديد إلى هذه العمارة إذ قال (زار القبر جعفر الصادق وأبوه محمد ولم يكن إذ ذاك قبراً معروفاً ظاهراً وإنما كان به سرح عضاه حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبة) وقال أبن الأثير (وفي سنة 282 هـ وجه محمد بن زيد العلوي سراً من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد والكوفة والمدينة فسعى به إلى المعتضد فأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهراً وأن يفرق ما يأتيه ظاهراً وتقدم بمعونته على ذلك) وهذا يؤيد ما رواه ابن أبي الحديد. وقد طرأ على ما بناه الداعي بناء الرئيس الجليل عمر بن يحيى القائم بالكوفة فقد عمر قبر جده (ع) من خالص ماله ثم قتل عام 250هـ وحمل رأسه في قوصرة إلى المستعين العباسي
وبعد هذا تقوم بناية ضخمة يشيدها رجل السطوة والعمران عضد الدولة البويهي، فحين(271/57)
تولى السلطة في العراق شاد عمارة القبر الثالثة (أقام بعسكره في ذلك الطرف قريباً من السنة وبعث فأتى بالصناع والأساتذة من الأطراف وخرب تلك العمارة وصرف أموالا كثيرة جزيلة وعمر القبر عمارة جليلة حسنة)
وقرأت في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب. . . إلى أن كان زمن عضد الدولة فناخسرو ابن بويه الديلمي فعمره عمارة عظيمة واخرج على ذلك أموالا جزيلة وعين له أوقافا، ولم تزل عمارته باقية إلى سنة 753 وكان قد ستر الحيطان بخشب الساج المنقوش فاحترقت تلك العمارة وجددت عمارة المشهد على ما هي عليه الآن (توفى المؤلف سنة 828) وقد بقي من عمارة عضد الدولة قليل)
وقال آخر إن عمارة عضد الدولة من أجل العمارات ومن أحسن ما وصلت إليه يد الإنسان في ذلك الوقت بذل عليها الأموال الطائلة وجلب إليها الرازة والنجارين والعملة من سائر الأقطار. قالوا إن هذه العمارة وإن كان لعضد الدولة يرجع تأسيسها فقد عرضت عليها إصلاحات جمة وتحسينات قيمة من البويهيين ووزرائهم والحمدانيين ومن المستنصر العباسي الذي عمر الضريح المقدس وبالغ فيه وزاره مراراً (كما في فرحة الغري) وكذلك لقد عمر من قبل: بني جنكزخان وغيرهم حتى وصلت العمارة إلى ما شاهده ابن بطوطة الرحالة الذي وردها بعد أن قضى حجه عام 725هـ وقال في رحلته: (نزلنا مدينة مشهد علي بن أبى طالب (رضه) بالنجف وهي مدينة حسنة نظيفة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً وأتقنها بناء. . . ودخلنا باب الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي (ع) وبازائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه أحسن. ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة؛ ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة عليه الحجاب والنقباء والطواشية يأمرون الزائر بتقبيل العتبة وهي من الفضة وكذلك العضادتان؛ ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء، وارتفاعها دون القامة وفوقها ثلاثة قبور يزعمون أن أحدها قبر(271/58)
آدم (ع) والثاني قبر نوح (ع) والثالث قبر علي (رض)، وبين القبور طسوت من ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن وجهه تبركا. وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضة وعليه ستور من الحرير الملون يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير وله أربعة أبواب عتباتها فضة وعليها ستور الحرير. وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط لكثرته)
(العراق. النجف الأشرف)
(يتبع)
ضياء الدين الدخيلي(271/59)
رسالة الشعر
في الليل
يا ليلُ طُلْ يا لَيْلُ ... على أليف الوِسَادْ
الويل كلُّ الويلْ ... لمن دهاه السهادْ
دقيقةٌ ساعاتْ ... وساعةٌ أيامْ
شَطْرٌ من الليل فاتْ ... كأنه أعوامْ!
مُضْنيً طَوَاهْ المساءْ ... وَلَفَّهُ في الظُّلَمْ
فهاجت الأدواءْ ... في جسمه المنهدمْ
حيرانُ! ما يستريحْ ... كزورق في عُباَبْ
يشكو بقلب جريح ... ما ذاقه من عذابْ
ويرسل الأسماعْ ... تصغي إلى الأفواهْ
فما توَافِي الرِّباعْ ... بمثله أَوَّاهْ!
ويبصر الأشجارْ ... من حوله وَسْنَى
وفوقها الأطيار ... تقضي الدجى أَمْناَ
أَكلُّ ما في الوجودْ ... غفوانُ حتى الجمادْ
إلا المُعَنَّى الشريدْ ... فقد جفاه الرقادْ؟
الفجْرُ! أين سناه ... يشع في مُقْلَتَيْهْ
وأين طِيبُ نداه ... يَرِفُّ عطفاً عليه
يا ليلُ طلْ يا ليلْ ... على صريع الهوَى
سيلُ من السهد سَيْلْ ... طواه فيمن طوَى
نَزَا به العِرْبيدْ ... يستعجل الوعدا
والدهرُ جافٍ عنيدْ ... يزيده بُعْدا
كم عَاثَ بالعقربيْن ... في الساعة الدائرةْ
وما هما واقفَين ... بل عينُهُ القاصرةْ
وكم أَرَاهُ الخيالْ ... في الموعدِ الُمنْتَظَرْ(271/60)
دُنْيَا من الآمالْ ... تْسبِي النهَى والفِكَرْ
وَحان وَقتُ اللقاء ... ولم يُوَافِ الحبيبْ
فلم يَزَلْ بالرجاءِ ... يدعوه أّلا يخيبْ
وَبَثَّ منه العيونْ ... ترتادُ أقْصَى مَدَى
يا مُسْرِفاً في الظنون ... صَفِرْتَ منها يَدَا
وعاد يطوي حشاهْ ... على لظىً سَوَّارْ
يضجُّ! وا أسفاه ... نار ولا كالنار
والليلُ عوْن الهمومْ ... يهيجها السكونْ
ما الليل للمحروم ... إلا مَثار الجنون
نَمْ يا خَلِي الفؤاد ... وانعمْ بطيب المنامْ
خَلَّ الْجَوى والسُّهاَدْ ... لِذِي الهوى والسقام
(منوف)
فريد عين شوكة(271/61)
شك وأمل
وقنعت منك بنظرة وبلفتة ... وطفقت أحلم بالنعيم المقبل
أصغي إلى رنات صوتك مثلما ... يصغي الغدير إلى هزيج البلبل
وشربت من هذا الحديث المشتهي ... كأساً ألذَّ من الرحيق السلسل
كاشفتك الحب الدفين فأشرقت ... عيناك تفحصني وتنكر مقولي
وظننتني ألهو بقوليَ مثلما ... يلهو الوري في خسة وتبذل
إني أمحضك الوداد فصدقي ... فالشك يطعن مهجتي في مقتل
لوددت أن يبدو فؤادي حاسراً ... لتريْ وفائي في هواك فتعدلي
ستجيئك الأيام بالخبر الذي ... ينبيك عن قلبي فلا تتعجلي
أو ما قرأت الحب في عيني وفي ... نبرات صوتي الواجف المتبلبل
وأبنت لي شطراً من الهم الذي ... يجثو على جنبيك مثل الجندل
فبكى فؤادي حسرة وعجبت من ... دنيا تغر الناظرين وتبتلي
أفمثل هذا الحسن يجرع في الأسى ... ويبيت في ليل بهيم أليل
أخشى عليك لهيب حب جامح ... فأصد عنك وفي صدودي مقتلي
ألقاك بالذكرى على رغم الألى ... بخلوا علينا باللقاء الأول
لأطعت فيك صبابتي مستهتراً ... لولا حديث المحنقين العذل
لكن بحسبي أن قلبك عالم ... بنوازعي وخوالجي وتعللي
إني لأهزأ بالعوالم كلها ... ما دمت أشعر أن قلبك صار لي
(الإسكندرية)
عبد الحميد السنوسي(271/62)
يا أيها الطفل
يا أيُّها الطِّفلُ أَنْتَ أُغْنِيَةُ ... غَنّى بها الدَّهرُ في مَجاَهِيلِ
الشَّدْوُ من نَاظِرَيْكَ أَسمَعُهُ ... يُتْبِع ترتيلَه بتَرْتِيلِ
وَالّلحْنُ من لَفْتَتَيْكَ مُنْطلقْ ... بنْساَبُ حُرًّا بغير تَكبِيلِ
يا أَيُّها الطِّفلُ، أنت أُمنيةُ ... وأنت نَبْضٌ في مُهِجَة الزَّمنْ
كَيْفَ تَرَاني وَكيفْ تَسمعُني ... أجْمَعَ ما في الحياَةِ في قَرَنِ
وكلُّ لحنٍ مما بَعَثتَ به ... طِفلٌ بِحسّ الوجودِ جِدُّ غَنِي
يا أيُّها الطفلُ، أنت خاطرةٌ ... من قبلُ لاحَتْ في خاطِرِ الأبَدِ!
دَعَا بها اللفظُ وهي سَانحةٌ ... فَحُوصرَتْ بين ذلك الْجَسدِ
قد قالَكَ الكونُ قِيلةً عجباً ... في لَفْظةٍ فَرْدَةٍ وَلم يَزِدِ!
(دماص)
العوضي الوكيل(271/63)
بيجو
(كلب الأستاذ العقاد الذي رثاه في العدد الماضي بتلك المرثية
الفريدة)
(بيجو) من الأرض سلام لكا
قد عز عندي أن تهلكا
لو لم تكن مستأهلاً ذلكا
لما بكى (الجبار) من أجلكا
واهتزت الدنيا لهذا الصنيعْ
دنيا الوفاء الحق لا الكاذب
والود: ذاك العجب العاجب
أين صديق الناس يا صاحبي؟
إن لم يكن في سوقها الكاسب
أيشتري - خير له - أم يبيع؟!
خُلدت (يا بيجو) ونعم الخلود
وعدت حياً أيهذا الفقيد
في عالم الذكر الذي لا يبيد
تهفو لك الدنيا بذاك النشيد
فيه أمير الشعر باك ضريع
(دمنهور)
إبراهيم إبراهيم علي(271/64)
البريد الأدبي
مؤتمر المستشرقين في بروكسل
احتفل رسمياً في صباح اليوم الخامس من هذا الشهر بافتتاح مؤتمر المستشرقين في بروكسل وناب عن جلالة ملك البلجيك أحد كبار رجاله، وأعلن وزير المعارف افتتاح المؤتمر بخطاب ألقاه باللغة الفرنسية ثم باللغة الفلمنكية، حيا فيه الأعضاء ورحب بهم؛ ثم تلاه رئيس المؤتمر الأستاذ كافار وهو عالم كبير في الآثار المصرية وله مؤلفات ومقالات تربى على 300، من أحدثها كتابه عن الحضارة المصرية وقد صدر في سنة 1936، فشكر لوزير المعارف وعدد فضائل الأسرة المالكة في بلجيكا واهتمامها بالعلوم ولا سيما الاكتشافات الأثرية في مصر
وتكلم الدكتور طه حسين بك عن كتاب (الفصول والغايات لأبي العلاء المعري) وهو الكتاب الذي صححه وشرحه وضبطه ونشره عن نسخته الوحيدة الأستاذ محمود حسن زناتي
ثم ألقى الأستاذ ماير من جامعة القدس بحثاً عن الدراسات الإسلامية الحديثة في فلسطين ونوه بجهود الجامعة العبرية في المخطوطات وفي الحفر عن آثار الأمويين وأشار إلى النقود الإسلامية
وألقى الأستاذ محمد محمود جمعه بحثاً عن العرب في بلاد فارس في عهد الفاطميين
وفي المساء أقام حاكم بروكسل حفلة شاي فخمة لأعضاء المؤتمر خطب فيها مرحبا بهم، ورد عليه المسيو كافار
واجتمع المؤتمر في اليوم الثاني فتكلم الأستاذ سامي جبره عن اكتشافات الجامعة المصرية الحديثة وعرض بعض صورها
وألقى الأستاذ بروجلهان المستشرق المعروف بحثاً عن الشعر العربي من عهد المرحوم محمود سامي البارودي باشا ذكر فيه من شعراء مصر شوقي وحافظ وأبا شادي وخليل مطران
وتكلم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن السلطان النوري وعلاقته بالعلوم والآداب وعن مخطوط (نفائس المجالس السلطانية)(271/65)
ودعي المؤتمر في المساء إلى حفلة كبيرة أعدتها لهم الحكومة؛ واحتفلت بهم في اليوم التالي جامعة لوفان. وفي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم لبوا دعوة وزير المستعمرات وفي يوم الأربعاء ألقى الأستاذ جب المستشرق الإنجليزي محاضرته في آراء أهل السنة في الخلافة. وفي يوم الخميس زار الأعضاء المكتبة الملكية وشهدوا حفلة افتتاح معرض الدراسات الشرقية
وسيرسل إلينا صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام خلاصة وافية عن أعمال هذا المؤتمر، وسننشر كذلك عنه فصلاً قيماً للدكتور بشر فارس، فقد شهد المؤتمر عن نفسه وعن الرسالة
حول ديوان الجارم
أخي الأستاذ الزيات
أشرتم في البريد الأدبي إلى أن مجلة المكشوف أشارت إلى سرعة إخراج ديوان الجارم، فكأنها تريد أن تقول أنه أخرج بسرعة ليضاف إلى الكتب المقررة لطلبة المدارس
فمن الخير أن أصرح بأني كنت من الداعين لإخراج هذا الديوان وقدمت أصوله إلى المطبعة منذ أربعة عشر شهراً، فالشبهة من هذه الناحية منتفية تمام الانتفاء
وكتب إليكم أحد الفضلاء يقول إني حين شرعت في نقد ديوان الجارم غام على الأفق في وزارة المعارف وأخذني الرعد من كل مكان
ومن حقي عليكم أن تعلنوا أني لم أر في وزارة المعارف شيئاً من بوادر الغيم والرعد، ولن أتهيب كلمة الحق ولو أنذرتني السماء بالصواعق
والجارم لا يملك شيئاً من مصير ديوانه، وسأمضي في نقده بعد الفراغ من طبع كتاب التصوف الإسلامي
والعناية بنقد ديوان الجارم هي مظهر مودة لذلك الصديق. ولو كنت أضمر العتب عليه لسكت عنه. ولعله يعرف أن الثناء الذي يكال لديوانه في بعض الجرائد بلا حساب قد يكون بابا لسقوط ذلك الديوان
لقد انعدم النقد الأدبي أو كاد
فلنتوكل على الله ونواجه ذلك الصديق بكلمة الحق، وإن كنت أومن بصواب الحكمة التي(271/66)
تقول: (إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)
إن الجارم هو الصديق الذي بقي على الأيام، فلنضفه باسم النقد إلى قائمة من أضعناهم من الأصدقاء. والقلم يجني على صاحبه في أكثر الأحيان، وقد جنى علي ما شاء له العنف والإسراف
زكي مبارك
المؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية
أقيمت الحفلة الختامية للمؤتمر الدولي الثامن للعلوم التاريخية الذي عقد في زوريخ، وقد وقع الاختيار على الدكتور ليلاند الأمريكي ليتولى رياسة الاجتماع القادم الذي سيعقده المؤتمر في مدينة براغ في مايو سنة 1939. وقد أجلت المناقشة في الدعوة التي أرسلتها الحكومة الإيطالية لعقد المؤتمر في روما عام 1942
وكانت أهم ما امتازت به أعمال المؤتمر الحالي امتداد نشاطه إلى الهند والشرق الأقصى. وبدلا من أن ينظم المؤتمر الدراسة التاريخية بموضوعات مختلفة، حاول في هذه المرة توسيع نطاق النظام الإقليمي للأبحاث التاريخية، وألف ثلاث لجان لدرس أحوال البلطيق والشرق الأدنى والشرق الأقصى. وستتناول لجنة الشرق الأدنى بلاد البلقان وتركيا واليونان ومصر وفلسطين وسورية؛ وسيكون أهم دراستها الوقوف على مدى نفوذ الفكرة الإسلامية وتأثيرها في هذه البلدان. وسيكون غرض اللجنة التحقق من حالة المعارف الحالية وزيادة عوامل الاتصال بين المؤرخين وجمع المعلومات الجديدة.
إلى الأستاذ محمد سعيد العريان
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة:
أقرأ بإمعان الفصول الممتعة البليغة التي توالون نشرها في (الرسالة) الغراء عن حياة المرحوم الرافعي. وأشهد أن الأستاذ محمد سعيد العريان - صديق الفقيد وكاتب وحيه - قد أنفق جهداً قوياً في أن يجتنب القراء مشاركته فيما يحتمل من عناء ويلقى من مشقة ويذوق من مرارة الصبر والمصابرة ليظهر لهم تاريخ حياة الرافعي كما هو من دون أن يعدل عن الأمانة التاريخية والتحقيق اللذين يفرضهما البحث الحديث فرضاً على الأدباء والمفكرين.(271/67)
وأشهد أيضاً؛ لقد وفق الأستاذ سعيد في ترجمة حياة الرافعي ترجمة يغلب عليها الأسلوب التحليلي الفني أكثر من الأسلوب العلمي الجاف، على ما في الثاني من قوة وسمو. فأنت ترى كيف يعرض علينا حياة الرافعي والمناسبات التي ألجأته إلى كتابة فصوله الممتعة القوية فتحس أنك أبعد شيء عن جفاء التاريخ وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته. . .
لن تكن حياة الرافعي وفصوله الممتعة منذ اليوم، كما كانت من قبل، غامضة مضطربة يتحدث عنها الأدباء بالتقريب لا بالتحقيق، ويقولون فيها بالظن لا باليقين
بلى.! ولسوف يجدون الرافعي عاش مخلصاً للفن يدع أهله وذويه وما هم فيه من هم وبلوى - على فقد زوجة أبنه - ليسجل على القرطاس خلجات فؤاده وشكايات ضلوعه وليخرج لقراء العربية قطعته الخالدة: (عروس تزف إلى قبرها). . .
ثم ماذا؟. . .
ثم نود أن نسأل أخانا العريان عن سر هذا التناقض الذي وقع في السبب الذي من أجله كتب الرافعي مقالاته: الانتحار. فالأستاذ العريان يحدثنا عن السبب بقوله: (فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه (شروع الأستاذ م وهو أبن لشيخ كبير من شيوخ الأزهر) بالانتحار جزع وتطير وضاقت نفسه وناله من الهم ما لم ينله لحادثة مما لقي في دنياه فمن أجل هذه الحادثة أنشأ مقالات الانتحار). . .
ولكن الرافعي يزعم غير هذا الزعم فيقول (عندما انتهيت إلى هذا الموضع من تصنيف هذه الكلمات ألقى إلى كتاب ورد من مدينة (حمص) يذكر فيه صاحبه ضيقاً وشدة ويسأل: (ما هو علاج الملل النفساني واليأس الدنيوي إن لم يكن الموت أن لم يكن الانتحار؟) ثم يرجو أن يتولاه أول عدد ينتهي إليه من (الرسالة) كيلا يبغي على نفسه: وهاأنذا أعجل له كلمات تأتي على أثرها إن شاء الله في العدد التالي مقالة الانتحار) فما هذا التناقض بين الروايتين؟. . . أرجو أن يجلوه لنا الأستاذ سعيد وله الشكر. . .
(حمص)
عبد القادر جنيدي(271/68)
الحفلة التذكارية السنوية لجبران
كان عدد المكشوف الأخير خاصاً بوصف الحفلة التذكارية السنوية لجبران ونشر ما قيل فيها من الخطب. ولعل قراءنا لا يعلمون شيئاً من تاريخ هذه الحفلة، فنحن ننقل لهم طرفاً مما كتبت المكشوف:
عندما توفى جبران خليل جبران منذ سبعة أعوام خلف ثروة قيل أنها تبلغ خمسين ألف دولار، أوصى بها لشقيقته مريانا التي رافقت جثمانه إلى لبنان، ثم عادت إلى بوسطن، حيث تقيم الآن
وفتحت وصية جبران فإذا هو يطلق يد ماري هاسكل في مخلفاته الأدبية ولوحاته الزيتية على أن تختار ما تشاء منها فترسله إلى بشرى. أما ريع مؤلفاته الإنكليزية فقد أوصى بإنفاقه على المنافع العامة في وطنه الصغير
وبلغ مجموع ما أرسل إلى بشرى منذ سبع سنوات إلى اليوم 25 ألف ليرة لبنانية سورية، ويتراوح الدخل السنوي من المؤلفات بين 6و7 آلاف دولار
وترك جبران مخطوطة كتاب بالإنكليزية عنوانه (حديقة النبي). ولكن شقيقته مريانا رفضت ضم دخل هذا الكتاب إلى دخل رفاقه بحجة أن الوصية تشمل الكتب المطبوعة لا المخطوطات. وكانت بينها وبين لجنة جبران الوطنية في بشرى منازعة حول هذا الحق نظرت فيها المحاكم الأميركية فحكمت لها، لأن لجنة جبران لم تتمكن من إقامة وكيل عنها إلا بعد مرور الزمن بعد صدور الحكم لمصلحة مريانا
أما ماري هاسكل فقد نفذت القسم المتعلق بها من الوصية وتتولى الآن تنفيذ القسم المتعلق بالإنفاق على المنافع العامة في بشرى لجنة مؤلفة من 16 عضواً يمثلون جميع الأسر البشراوية ويرأس هذه اللجنة الأستاذ سليم رحمة. ويتجدد أعضاؤها كل سنتين، وهي التي تحيي كل سنة حفلة تذكارية لليوم الذي وصل فيه جثمان جبران إلى لبنان. فيقام قداس في دير مار سركيس الذي يضم بين جدرانه رفات جبران، ثم تقام حفلة خطابية يتكلم فيها أدباء بدعوة من اللجنة
وكان يوم 21 أغسطس الماضي موعد الحفلة التذكارية، فانتدب غبطة البطريرك الماروني(271/69)
سيادة المطران الحاج لإقامة الذبيحة الإلهية في الصباح. وبعد الظهر غصت باحة فندق لبنان الكبير بالمدعوين إلى الحفلة الأدبية التي ترأسها سعادة فؤاد بك البريدي محافظ الشمال وحضرها جمهور غفير من الأعيان والمصطافين وقد تعاقب الكلام عن جبران وأدبه الأساتذة مارون عبود وعمر فاخوري وخليل تقي الدين وحليم كنعان
وقد قال الأستاذ سليم رحمة في خطابه الذي تحدث فيه عن الأعمال التي قامت بها اللجنة:
(أما العمل الذي تعتبره اللجنة في مقدمة واجباتها فهو إنشاء جائزة سنوية قدرها مائتا ليرة لبنانية سورية تشجيعاً للتآليف القيمة وسعياً لتحقيق أمنية في نفس جبران عندما كان لا يزال في قيد الحياة. ويسر اللجنة أن تساهم بهذه الجائزة في الحركة الأدبية، على أن تمنح الجائزة الأولى لأفضل كتاب يدرس جبران درساً واسعاً عميقاً شاملا. وقد سعت اللجنة في تأليف مجمع أدبي من كبار أدباء لبنان قوامه تسعة أعضاء: سبعة من حملة الأقلام المعروفين واثنان من بشرى)
ومن أنفس ما نشر في هذا العدد فقرات من رسائل تبودلت بين جبران ومي وُجدت بين مخلفاته؛ وهي تكشف عن ناحية مجهولة في حياة الصديقين العبقريين نختار منها قطعة من رسالة لمي تاريخها 15 يناير سنة 1924
(. . . ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به. ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيراً فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. ولكن القليل في الحب لا يرضيني. والجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط به، لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلا فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً لأني بها حرة كل هذه الحرية
أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب؟ إن القديس توما يظهر هنا. وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو على هدى، فإني أثق بك(271/70)
وأصدق بالبداهة كل ما تقول. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما في يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق. من خلال السحب العجيبة والأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة، هي الزهرة إلهة الحب. أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد حلو بعيد بعيد هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه، فتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في أسم واحد: جبران.
مصر، 15 يناير سنة 1924
وحي بغداد
صديقنا الدكتور زكي مبارك من الشعراء المقلين القلال. وقد يفيض عليه الإلهام في بعض أحواله فيطول نفسه ويتسع مداه. وقد نظم في هذه الأيام قصيدة عصماء بلغت أبياتها 111 بيت عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة، إلى سعير الوجد في بغداد). وقد تفضل فخص بها الرسالة، وسننشرها في العدد المقبل.(271/71)
الكتب
الفلسفة الشرقية
تأليف الدكتور محمد غلاب
للأديب السيد احمد صقر
الدكتور محمد غلاب في طليعة رجالنا الممتازين الذين جمعوا بين الثقافة العربية، والثقافة الغربية؛ وتذوقوا ما جمعوا، وهضموا ما تذوقوا، وأنتجوا مما هضموا نتاجاً شهياً يمتاز بالعمق، وجدة العرض، وغزارة المادة، ورشاقة الأسلوب. ويمتاز الدكتور غلاب من بين هؤلاء الأفذاذ بميله الشديد للفلسفة، ولعل لوظيفته في ذلك أكبر الأثر. فهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين إحدى كليات الأزهر. ولقد كان الأزهر إلى عهد غير بعيد يحرم الفلسفة ويقذف المشتغلين بها بالزندقة والمروق، أما اليوم فقد صارت الفلسفة بأنواعها تدرس فيه، ووجد من رجاله من يؤلف فيها كتباً قيمة كهذا الكتاب الذي ألفه الدكتور ليسد ثغرة كانت مفتوحة في الحياة العقلية المصرية؛ إذ أن ثقافتنا قد بلغت في العلوم الطبيعية شأواً يسمح لنا بالوقوف في صفوف الأمم الراقية، ولكنها في العلوم العقلية ليست شيئاً مذكوراً (فلا تزال مصر مقفرة في الفلسفة إقفاراً يندى له جبين الإنسانية خجلا، ولا تزال معارفنا الفلسفية بالقياس إلى أوربا تعد جسما بلا روح أو كائناً أعجم إلى جانب إنسان) لذلك أعتزم الدكتور القيام بهذه المحاولة الخطيرة مسترشداً بنور الحق والواجب ففكر وقدر ثم نظر فألفى الشرق - وهو منبع الحكمة، ومصدر العرفان - مغموط الحق، مطمور المجد، مجحود العظمة، في هذه الناحية، فأراد أن يصحر من مجده، ويظهر من حقه، ويجلو من عظمته بكتاب الفلسفة الشرقية والفلسفة الشرقية ليست كما يصورها (بارتلمي سانت هلير) عديمة النفع (لا تفيدنا دراستها إلا من جهة إرضاء النزعة في الإطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيراً، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا) بل هي جمة المنافع، حرية بالبحث والتحليل. والواجب على من أراد دراسة الفلسفة أن يبدأ بها ليكون على بينة من العناصر الأساسية التي تكون منها الجسم المراد درسه من جهة، ولكي يصل أوائل حلقات السلسلة العقلية بأواخرها من جهة ثانية)(271/72)
يقع هذا الكتاب في 550 صفحة من القطع الكبير، وهو مصدر بمقدمة اشتملت على مناهج البحث في العصر الحديث وعلى ما يجب أن يسلكه الفيلسوف في استعراض المذاهب الفلسفية، وما يجب أن يكون عليه من الصفات، وما يجب أن يلاحظ من ترتيب الحوادث بعضها على بعض تبعا لقانون المنطق القويم حتى تكون نتائجه سليمة قويمة، واشتملت فوق ذلك على بحث مشكلتين عويصتين طال فيهما لجاج العلماء. وهما: أصل الفلسفة وهل هي إغريقية مبتدعة أم شرقية متبعة؛ وتسلسل الثقافات بعضها من بعض. أما الكتاب نفسه فقد عرض في تفصيل وتحليل دقيقين للفلسفات المصرية، والهندية، والفارسية، والصينية، والكلدانية، والعبرانية، فدرس في مصر الحياة العقلية منذ نشأتها، وتعقب التفكير وتطوره في عصر ما قبل التاريخ، ثم في عصور: منفيس، ومدينة الشمس، وطيبة، فأبان بإسهاب التطورات التي تعاقبت على آراء المصريين في الألوهية، والنفس والآخرة، والسؤال والميزان، والعقاب والثواب، والأخلاق والآداب، والفنون والعلوم. ولعل من الطريف أن نذكر هنا أن الدكتور قال: عرف المصريون الضمير منذ أقدم عصورهم، ووصفوه وصفا فلسفيا فقال فيه قائلهم: إن قلب الإنسان هو إلهه الخاص، وإن قلبي قد رضى عن كل ما عملته وكل من رضى قلبه عن عمله التحق بمرتبة الآلهة)
ثم أنتقل الدكتور إلى الهند فتناول فيها أربعة عشر مذهبا بين ديني وفلسفي بتحليل ونقد لو أننا حاولنا تعقبهما لطال بنا الكلام ولكنا نكتفي بالإشارة إلى مدارسة (ساسكيهيا) التي وجد فيها المنطق قبل أن يوجد أرسطو بأمد بعيد، ولم يذر الحديث عن الهند حتى قرر (أن الفلسفة بجميع أقسامها قد أزهرت فيها إزهارا فائقا، وأن اليونان مدينة لتلك البلاد بكثير من نظرياتها التي يعتقد السطحيون أنها مبتدعة) وحسبك أن تعلم أنهم (وصلوا إلى نظرية الذر أو الجوهر الفرد قبل (يموقريت) و (لوسيب) وأنهم أساتذة (فيثاغورث) أكبر رياضي اليونان على الإطلاق)
وبعد أن فرغ من الهند انتقل إلى الكلام عن الفرس. فدرس الديانات القديمة ومذاهب (زرادشت) و (ماني) و (مزدك) دراسة وافية ممتعة. ثم عرج على الصين فتناول عصر ما قبل التاريخ. ثم العصر المنهجي، حيث درس في عمق مذاهب: (لاهو - تسيه) و (كونفوشيوس) و (مانسيوس) والمدرسة السوفسطائية والمنطق في الفلسفة الصينية إلى(271/73)
غير ذلك من المباحث القيمة. ثم عرض بما يشبه ذلك إلى الفلسفتين: الكلدانية والعبرية، وبالأخيرة ينتهي الكتاب
ولا أخالني بحاجة إلى أن أقول إن الدكتور أجاد العرض وأحسن القول فقرب الفلسفة إلى الناس، بعد طول نفور وشماس، فذلك معروف له من الفصول التي نشرتها الرسالة من الكتاب قبل ظهوره. بيد أني بحاجة إلى أن أقول كلمة صغيرة لا أجد مناصاً من قولها الخاص) كما يسميه ذلك القديم:
ذهب الدكتور إلى أنه هو الذي أثبت بالأدلة القاطعة (سذاجة أرسطو وأذنابه في دعواهم أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في (إيونيا) في القرن السادس قبل المسيح، وأن أول فيلسوف في الدنيا هو (تاليس المليتي) والحق أن هذا الإثبات قديم الميلاد، وليس أدل على ذلك مما قاله الدكتور عن (ديوجين لا إرس) أنه أثبت في كتابه (حياة الفلاسفة): أن الشرق قد سبق الغرب في النظر العقلي وأنه كان أستاذه وملهمه) وقد عاش هذا المؤرخ الإغريقي في القرن الثالث قبل المسيح.
وبعد فهذه كلمة عابرة أردنا بها التعريف بهذا الكتاب العظيم الذي سيكون - إن شاء الله - عظيم الأثر في حياتنا العقلية عامة، وفي نهضتنا الفلسفية خاصة.
السيد احمد صقر(271/74)
المسرح والسينما
وسائل الإنعاش للمسرح المصري
يبدي كثير من كتاب المسرح الأسف من حالة الضعف والذبول التي وصل إليها في السنوات الأخيرة، ونلاحظ أنهم يسرفون في إبداء ذلك الأسف ويبالغون في تصوير الدرك الذي تسفل إليه المسرح، ويكتفون بعد ذلك بالوقوف على هيكله المحتضر وقراءة الفاتحة من أجله!
وقد جرت للكاتب محادثات طويلة مع أقطاب المسرح وعمده في مصر وأتفق رأينا جميعاً على أن إنعاش المسرح المصري ينبغي له إجراء تجديد شامل في الطرق والوسائل التي يظن أنها مؤدية إلى ما نريد له من سمو وازدهار.
وخلاصة الرأي عندنا جميعاً أن هناك ناحيتين كبيرتين هما اللتان يجدر بنا أن نركز فيهما جهودنا وهما الجمهور والعرض.
وإذا نحن نظرنا ملياً في الأسباب التي من أجلها عاش المسرح في فرنسا وإنجلترا واستطاع أن يقف في وجه التيار السينمائي الجارف محتفظاً بجمهوره وتقاليده، نجد أن من أهم تلك الأسباب وجود جمهور كبير - في فرنسا وإنجلترا على السواء - مسرحي الثقافة والليل، ولا يستبدل بالمسرح سينما أو استعراضاً راقصاً ولا يستغني عن مشاهد المسرحيات الحديثة، على فداحة أسعار الدخول وتخصص المسارح المختلفة في نوع واحد من المسرحيات. وخلق جمهور مثل هذا ليس من الأمور اليسيرة ولكنه ليس متعذراً ولا مستحيلا، لا سيما بعد ما أخذت وزارة المعارف بنظام تعميم فرق الهواة بمدارسها على اختلاف درجاتها، وبعدما أسست الوزارة فرقة كبيرة حبتها بأسباب البقاء والاستقرار وخصصت لها نيفاً وعشرة آلاف جنيه
ولكن قيمة (البضاعة) هي أهم العوامل في جذب العميل بلا مراء. وكلما زاد احتواؤها على الميزات والخصائص التي يرغبها ويريدها، أزداد إقباله عليها وتشجيعه لها. وأنجح الفرق لدينا هي التي تميزت إدارتها بفهم مزاج الجمهور وميوله. ومع ذلك فهناك بدهيات عامة يتفق عليها الجميع، ويقر بها الجميع، وفي مراعاتها إنهاض حقيقي للمسرح.
وخلاصة هذه البدهيات أن المتفرج الذي يذهب لمشاهدة إحدى المسرحيات، يقوم في خياله(271/75)
أنه سوف يشاهد قصة قوية الموضوع، واضحة الفكرة، باهرة الإخراج، رائعة التمثل، تعينه على قضاء سهرة مفيدة ولذيذة في نفس الوقت.
وروعة التمثيل مصدرها محاكاة الطبيعة والواقع والبعد عن التكلف. ومع أشد الأسف نعترف بأنه قل بين ممثلينا ومخرجينا من يجهل هذه البديهة، ولكن قل منهم في نفس الوقت من عرف كيف يتخلص من ذلك التقليد المسرحي القديم، وهو التهويل في كل شيء! أما القصة فقد تحدثنا عنها في الأعداد الماضية بما يثبت أن القصة المصرية الصحيحة، القوية الموضوع الواضحة الفكرة لم توجد بعد والنادر لا حكم له
والحركة الحركة! فإن السينما لم تكتسح المسرح إلا لأنها نشاط وحركة دائمة مستمرة؛ أما المسرح فتهويل وتكاسل ونوم عميق
فليكن أول همنا خلق (الجمهور المسرحي) وليكن اعتمادنا في خلقه على المرغبات العملية التي نقدمها له. ولا فائدة من أية محاولة تقوم على غير هذا الأساس الواضح لكل ذي عينين
(الناقد القديم)(271/76)
أخبار سينمائية ومسرحية
الانتهاء من فلم الدكتور
يتقدم العمل في إخراج فلم الدكتور بسرعة فائقة والمنتظر أن ينتهي في آخر هذا الشهر. وهو ثالث الأفلام المصرية التي يقدمها لنا (أستوديو مصر) في الموسم الذي بات على الأبواب. وممثل الدور (الرجالي) الأول في هذا الفيلم هو الأستاذ سليمان نجيب صاحب الرواية المسرحية الشهيرة بهذا الاسم. أما السيناريو فقد شاركه في وضعه الأستاذ عسر. وتمثل الدور الأول أمامه الفنانة الموهوبة الآنسة أمينة رزق كما تقوم بدور نسائي كبير آخر السيدة دولت أبيض. ويقوم بالإخراج الأستاذ نيازي مصطفى الذي بزغ نجمه في عالم الإخراج المحلي منذ أخرج شريط (سلامة في خير) للأستاذ نجيب الريحاني
فلم عزيزة أمير
ويسرنا أن نعلن على صفحات (الرسالة) عودة مؤسسة فن السينما في مصر إلى إخراج أفلام لحسابها فقد شرعت السيدة عزيزة أمير في عمل سيناريو الرواية التي ألفها لها الزميل حسين فوزي. والمنتظر أن تبدأ العمل قبل نهاية شهر ديسمبر، أما اسم الرواية فلم يستقر عليه الرأي بعد
سيمون سيمون
في أوائل هذا الشهر انتهى العقد بين سيمون سيمون النجمة الفرنسية الأصل المعروفة. وبين شركة فوكس القرن العشرين وعاهلها (داريل زانوك) ومما يؤسف له أن (داريل) رفض تجديد ذلك العقد الذي بمقتضاه ظلت (سيمون) طوال العامين الماضيين تتقاضى أجراً قدره 200 جنيه عن كل أسبوع دون أن تعمل ما يساوي ربع هذه القيمة، إذ أن الشركة لم تستفد منها كما يجب إلا في روايتي (حب وإشارات) و (وأجوزيت) وقد نشرت إحدى المجلات الأمريكية أن سيمون سوف تشتغل بصالات الرقص الغنائي في برودواي
فرانك كابرا
تعرض شركة كولومبيا لفرانك كابرا رواية كبرى هذا العام (أنت لا يمكنك أن تأخذها معك) ويشترك معه في تمثيلها من المشاهير (جين أرثر) و (ليونيل باريمور) وهي(271/77)
مسرحية فكاهية نجحت للغاية في برودواي ولها كسائر روايات في هذا النجم مغزى سام
والت ديزني
جددت شركة (راديو) العقد مع (والت ديزني) الرسام العالمي الشهير. وبمقتضى العقد الجديد في تعهد والت بتقديم فيلم طويل واحد وثمانية عشر فلماً قصيراً للشركة في العام القادم والسبب في قصر الأفلام الطويلة على فيلم واحد هو فيلمه الطويل السابق (سيندريلا والأقزام السبعة) لم ينجح بدرجة فيه من الوجهة المالية، كما كانت به عيوب كثيرة من الوجهة الفنية.(271/78)
العدد 272 - بتاريخ: 19 - 09 - 1938(/)
تذييل للحاشية
للأستاذ عباس محمود العقاد
الشاطئ قليل الزوار، مقفر أو وشيك الإقفار، وقد ظهرت الكروش في الحمامات، فكان ذلك علامة من علامات (التقويم) الذي اصطلح عليه رواد الشواطئ ومراقبوها، فلا تظهر النساء ذوات الكروش في الحمامات المشهورة إلا كان ذلك دليلاً على إقبال الخريف وانقضاء الصيف. إذ كان الزحام مغرياً بالتنافس في محاسن الأجسام، فإذا قل الزحام قل التنافس واجترأت على الظهور، من لم تكن قبل ذلك تجترئ على العبور
وقضى الله ألا يكون شيء من الأشياء نافعاً كل النفع ولا ضاراً كل الضرر. فمن محاسن الشاطئ الذي كثرت أضراره في رأي الوعاظ والمرشدين أنه يهدي إلى حاسة الجمال ويبثها في سليقة النساء والرجال. وهذا غرض كان الأقدمون يتوخونه بالرياضة، وكان الإسبرطيون يبلغونه بإقامة المواسم التي يتبارى فيها الفتيان والفتيات في مرانة الأعضاء ومرونة الأوصال. ولا ينحصر النفع بعد ذلك في تحسين الجسد أو تحسين الذوق أو تحسين الحركات، بل8 يسري إلى الأذهان والأخلاق والأعمال والمعاملات، فإن الذي تعود ملاحظة الجمال في تركيب الجسم وتوجيه حركاته خليق أن يتعود مثل ذلك في فهم الأمور وتقدير المناقب والصفات، ثم يقل اشتهاؤه للجسد من ناحية الغريزة الحيوانية، لأنه لا يستطيع أن يشتهي كل ما يراه، ولأنه يألف ما يراه ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم فينظر إليه نظرته إلى الصور والتماثيل، ويعرضه على مقاييس الفهم والتمييز، ولا يعرضه على مقاييس الشهوات واللذات
فالحسناء التي تبدو على الشاطئ عارية أو شبه عارية لا تثير من غريزة الناظر بعض ما تثيره وهي لابسة جلباب النوم في شرفة الدار، فإذا كان ما يراه مائة حسناء - ولم يكن فرد واحدة - فليس في وسع غريزته أن تنطلق في جماع شهواته ونزواته، ولا بد له من الإخلاد إلى التأمل والاكتفاء بالنقد والتمييز والتطبع بهذا الطبع والإعراض عن حكم الغريزة وحده في النظر إلى الأجسام
وعلى الشاطئ يعرف الناظر معنى الاصطلاح في قوانين الاجتماع، ويعرف أن مسألة الملابس أكثر ما تكون مسألة اصطلاح وعادة وتواضع بين الأمم كل أمة بما درجت عليه(272/1)
وجنحت مع الزمن إليه
فقد كنا نجلس في ديوان من دواوين الحكومة والى جانبنا نافذة تطل على الطريق، وأمام النافذة بيوت وشرفات، فظهر على إحدى هذه الشرفات رجل يلبس (البيجامة) أو المنامة كما سماها صديقنا المازني وأصاب في إحدى قصصه الصغار، فما راعني إلا تأفف لمحته على وجه الموظف الكبير الذي كنت أزوره، وإذا به يصيح في غضب واشمئزاز: أهذا أدب؟ يتعلمون لبس المنامات ولا يتعلمون كيف يلبسونها وأين يدارونها عن الأنظار؟
فخطر لي أن الدعابة هنا واجبة وأنها من الدعابات التي يجئ معها البحث وتحسن فيها المناقش،
فقلت:
أترى الفرق عظيما بين المنامة والملابس التي يلبسها الموظفون من أهل الهند في دواوين الحكومة؟ أليس السروال هنا أسبغ على الجسم وأدنى إلى الوقار؟
فسكت قليلاً كأنما كان هذا السؤال لا يخطر له على بال، وراح يقول في تلعثم: (ولكن الناس عادات، وما يجوز في الهند قد يعاب بيننا نحن المصريين، وهذه المنامة من ملابس الأوربيين فإذا اقتدينا بهم فيها فليكونوا قدوة لنا في مواضع لبسها وآداب الأزياء عندهم في جملتها. . .)
وكان جوابه في الحقيقة مقطع القول وفصل الخطاب في مثل هذا الموضوع، لأن المسألة مسألة اصطلاح وتقدير، فإذا كانت البيجامة لباساً للنوم والتبذل فهي لا تحسن في غير مواضعها من البيت أو مواضعها من رفع التكليف، ولا محل للمقابلة بينها وبين أزياء أهل الهند في دواوين الحكومة لأن الهندي الذي يلقاني بالقميص الطويل والسروال الواسع لا يعتقد ولا أعتقد أنا أنه يلقاني بثياب التبذل أو بثياب النوم، وهذا هو الفارق الذي يفصل بين زي وزي في مشارق الأرض ومغاربها، ولا فارق سواه في اعتبار الثياب والأزياء
إن لاعب الكرة لا يغطي من جسمه نصف ما تغطيه المنامة، ولكنه يظهر بين مئات الألوف في ميدان لعب الكرة ولا يقدر على الظهور بالمنامة لواحد من الزوار غير من يعاشرونه في البيت ويرفعون بينهم وبينه التكليف، وقد بلغ من تحرج بعض الأوربيين أنه لا ينتقل إلى حجرة الاستقبال في داره بغير ملابس الاستقبال، ولو لم يكن هنالك أحد من(272/2)
الزائرين
فالمسألة كلها مسألة اصطلاح حسب الوقت وحسب المكان وحسب السكان
ومن أجل هذا جاز أن يمشي الرجل والمرأة على شاطئ الحمام كالعاريين، ولم يجز لهما في عرف الشرطة أو عرف السابلة أن يصعدا السلم بهذه الحالة إلى عرض الطريق. ولقد يكون الشاطئ حافلا بالمئات من النظارة مستحمين أو غير مستحمين، ويكون الطريق خلوا من عابر واحد في تلك اللحظة، ولكن الاصطلاح وحده هو الذي يمنع هنا ما يجيزه هناك
ليست المسألة إذن مسألة طول (القماش) ولا مسألة شكله ولا مسألة تفصيله أو الجانب الذي يبديه أو الجانب الذي يخفيه، ولكنها كما أسلفنا مسألة المعنى الذي يوقعه في روع الناظر والشعور الذي يبعثه ويوحيه. ومن ثم يأتي اليوم الذي يغلب فيه الاصطلاح المتبع على الاصطلاح المهجور، وتخف وطأة الحكم الذي نحكمه على المستحمين والمستحمات ونحن صادرون عن معنى سابق وشعور قديم
على الشاطئ يعرف الإنسان هذا جميعه ويعرف معه سلطان الإرادة على تكوين الأعضاء، وتكوين الأذواق
فالأجسام الحسان التي ترى هناك لم تولد كلها ولا ريب على هذا الصقل وعلى هذا الهندام، ولعلها لم تكن كذلك قبل عام أو عامين، ولم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بفعل العلاج في الغذاء والعلاج في الحركة والعلاج في سائر الأعمال
وبهذه المثابة نفهم سلطان الإرادة، ونفهم أن الإرادة مسخرة لشعور الجمال حين يستعصي تسخيرها لشعور العقائد والفرائض والعادات
فهذه الحسناء اللعوب التي تحرم نفسها القوت والراحة وتنظر أمامها مشتهيات الطعام على المائدة فلا تقربها، وتصبر على يد الحلاق ساعات، وعلى يد الطبيب شهوراً وسنوات - كم تطيق من كل هذا أو بعض هذا في شهر رمضان؟
وكم تطيق من كل هذا أو بعض هذا إن كانت مسيحية وفرض عليها الدين أن تجتنب اللحوم والأسماك في بعض الأيام؟
بل كم تطيق من كل هذا أو بعض هذا إن قيل لها إن خطراً على الحياة يوجب عليها الصيام عن هذا الطعام أو التدثر بهذا الكساء على غير أحكام المساهر والأزياء؟(272/3)
لا تطيقه كله ولا بعضه، ولا معنى لذلك إلا أن الإرادة تصوغ الأجسام، وأن شعور الجمال يصوغ الإرادة كما يشاء حين يستعصي أمرها على العقائد والفروض. ومتى علمنا ذلك فليس هو بالعلم الهين اليسير، ولا هو بالعلم الذي يأتي في عرض الشاطئ ويذهب في عرض الطريق، لأنه علم أصيل نستفيده ونستفيد به في التربية والتعليم: تربية الأفراد وتربية الجماعات
عباس محمود العقاد(272/4)
في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
بنيتي العزيزة بثينة
لعل رسالتي الأولى بلغتك فسرَّتك. وهذه رسالتي الثانية.
قلت لنفسي وأنا على الباخرة (محمد علي): قد ركبت هذا البحر بحر الروم أربع عشرة مرة فلماذا لم يوح إليَّ شيئاً؟ لماذا لم أصفه أو أصف حالي فيه بكلمة؟ إنني حين أسافر إلى الشام أو العراق أو تركيا أو إيران أكتب عنها جهد المقِل، وعلى قدر ما يواتيني البيان، وتأذن لي المشاغل. وإن لم أكتب أظلّ راغباً في الكتابة، وتبقى في نفسي معان تودّ الإعراب عن نفسها أحدث بها نفسي وأصحابي بين الحين والحين. فلماذا لم أخط حرفاً عن البحر الأبيض وأوربا؟
قالت نفسي بعد تفكير طويل: أنت رجل عصبيُّ قد ملأ نفسك التعصب لقومك العرب ولدينك الإسلام فلست تبالي بغيرهما، ولا تستلهم البيان إلا منهما
قلت: هذا حق، ولكن يحسن أن تُصورِّيه صورة أخرى؛ أحرى بك أن تقولي: إنك حينما ذهبت في بلاد الشرق وجدت قومك ولغتك وتاريخك وآثار أسلافك فتفرح أو تحزن، وتنبسط أو تنقبض، ويجول فكرك بين الماضي والحاضر فاخِراً أو خجلاً، راضياً أو ساخطاً، داعياً أو ناهياً الخ. ولكن أوربا وأهل أوربا ليس بيننا وبينهم من سبب إلا ما أصابنا منهم وإلا هذا الجلاد الدائم بيننا وبينهم
قالت: ألا تكون مرة إنسانياً تسمو على العصبيات وتخرج من هذه الدوائر الضيقة، وتنظر إلى الإنسانية في سعتها، والحقائق في شمولها، والعالم في جملته؟
قلت: قد سألت السبب لك الحق، وصدقتك الجواب؛ فأما الإنسانية والعصبية فموضوع آخر لا أريد أن أكدَّر على نفسي صفو هذا السفر الممتع في هذا الجوَّ الصاحي والبحر الساجي، بالكلام في الإنسانية والعصبية وما يتصل بهما؛ فهذا كلام إن عرف أوله لم يعرف آخره(272/5)
على أني - وحقاً أقول - أحسّ الآن في نفسي معاني كثيرة يلهمني إياها هذا البحر العظيم الذي نبتت حضارة الإنسانية على شواطئه، وحوت أعظم وقائع البشر صفحاته، ولا يزال تاريخ البشر يسكن إذا سكن ويهيج إذا هاج. كم وعى التاريخ من حادثات على سواحل هذا اليم العظيم وعلى أمواجه!
ألم يكن العرب فوق هذا البحر سلطان أعظم من لججه، وعزمات أهوال من أمواجه؟ إن دولتهم لم تبلغ من عمرها خمس عشرة سنة حتى طمحت إليه، ومدت سلطانها عليه؛ ولم تبلغ العشرين حتى جالدت الروم فيه، وحطمت أساطيلهم بأسطولها، وشهد العالم أعجب وقائع البحار: العرب الذين لم يعرفوا إلا الإبل سفن الصحراء، يغلبون الروم في البحر! أجل، هزموهم في موقعة ذات الصواري سنة إحدى وثلاثين. ثم فتح العرب الجزر الشرقية، ثم سارت من بعدُ أساطيل بني الأغلب لفتح صقلية فاستولوا عليها حقباً طوالاً، ثم. . .
قالت نفسي: قد انتكستَ في العصبَّية فانفسح لك مجال القول وانطلق لسانك تُشيد بالعرب ومجد العرب. ألم أقل إنك عصبي؟ ألم أقل إنك عربيٌ مسلم متعصب؟
قلت: إن هذا الأمر عجب! إن ذكرت تاريخ قومي كان هذا عصبية، وإن رويت تاريخ غيرهم كانت إنسانية؟ أليس قومي من البشر فتاريخهم للبشر تاريخ؟
لقد جاوزنا البارحة جزيرة كريد التي سماها العرب إقريطش وكان لهم دُول وغِيَر. أفتلزمني الإنسانية أن أذكر كل من ملكوا هذه الجزيرة إلا العرب؟ ليست العصبية أن أذكر قومي وأشيد بمآثرهم، وليست الإنسانية أن أنساهم وأغمط حقهم وأعق تاريخهم؛ ولكن العصبية أن أتزيد في القول فأحمدهم بما لم يفعلوا، أو أتحيف غير قومي فأبخسهم ما فعلوا. فأما أن أذكر الحق وأروي الصدق، فحقٌّ على الناس جميعاً وهو لقومي أحق
هاهو ذا مضيق مسٌينا قد اقترب، والسواحل عن يميننا وشمالنا تشتعل بالأضواء المتلألئة، والمصابيح المنشورة بين السواحل والجبال. وهو، ونور الحق، وجمال الشعر، منظر رائع جميل في هذا الليل السياحي، والباخرة تشق طريقها متمهلة تأخذ ذات اليمين مرة وذات الشمال أخرى، تتحرى سبيلها بين شعاب البحر وصخوره. والمنارات تومِض وتخبو، تهدي السفينة طريق النجاة وتحذّرها مواطن العطب. لشدَّ ما تعجبني وتملأ نفسي غبطة(272/6)
هذه الحضارة الوهاجة، والمدنية المضيئة! وشد ما أرجو الخير للناس جميعاً في ضوء هذه الحضارة! ولشدَّ ما يؤلمني ويملأ نفسي أسفاً أن أذكر أن في طيّ هذه الحضارة دمارها وأن تحت هذه الأنوار نارها، وأن هذه المياه وهذه السواحل وما وراءها يبيّت للحضارة شرَّا، ويريد بها أمراً نُكرا. ليت الناس يدركون السلام، ويعرفون الوئام، فلا يبنوا ليهدموا، ويعمروا ليدمروا. . .
إن السفينة تتجه شطر الشمال الآن. وهاهو القطب أمامنا وبنات نعش الكبرى قد دارت إلى الشمال وهوت نحو الأفق. ونحن الآن في المضيق. فهذه إيطاليا إلى اليمين، وهذه صقلية إلى اليسار. أأستطيع أن أمر هنا، إنساناً أو شيطاناً، فلا أذكر قومي في صقلية وسواحل أوربا وأفريقية، وما كان لهم من مجد مؤثل، وعزة قعساء، ثم أذكر ما يحل اليوم بساحتهم في أرجاء العالم من العذاب والخراب؟ أأذكر طرابلس أم أذكر المغرب أم أذكر فلسطين؟
. . . إن قلبي يكاد يوحي إلى لساني لعن هذه الحضارة. إني أتخيل الآن ذلك الفقيه أسد بن الفرات يقود جيش الأغالبة على لجج البحر لفتح صقلية، وهو يحمل قلباً أبر بالإنسانية والحضارة من قلوب أبناء عصرنا
قالت نفسي: لا تغضب إذا ذكرتك أن العصبية جاوزت بك الحق. أترى أسد بن الفرات وأساطيله شيئاً مذكوراً بجانب هذه المدنية الخلاقة التي تذكرك بها هذه السفينة الكبيرة تمخر عباب البحر في ظلمات الليل لا تبالي أهاج البحر أم سكن؟
قلت: لم أتكلم عن الصناعة والعلم ولكن ذكرت الرحمة والبر بالناس، والعمل لإسعادهم والإخلاص في إنصافهم، والدعوة إلى المؤاخاة بينهم والتواضع للحق والبعد من الزهو والإعجاب والفخر والكبرياء، ومراقبة الله في خلقه
وبعد فقد جاوزنا المضيق وتركنا صقلية كما ترك الزمان تاريخ العرب. فأريحيني من هذا الجدال، وانظري إلى السماء والماء، واستشعري شيئاً من الصفاء والسلام
وبعد فيا بنيتي العزيزة! قد أخذت القلم لأصف لك بعض ما رأيت بعد أن فارقنا السفينة، وأحدثك عن سفري من جنوة إلى لوسرن في سويسرا، ولكن سبق إلي حديث البحر وتبعه القلم، ولست أجد الآن فراغا لاطالة الحديث. فحسبك هذه النبذة في هذه الرسالة. وعسى أن أجد عما قليل فراغا للرسالة الآتية. وأحسبها ستكون رسالة أختك مي لا رسالتك. والله(272/7)
يحفظك ويرعاك والسلام.
(بركسل)
عبد الوهاب عزام(272/8)
على هامش أبحاث التيسير
ملاحظات انتقادية على قواعد اللغة العربية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العراقية
- 1 -
هذه ملاحظات انتقادية، كانت قد عنت لي في أوقات مختلفة خلال دراستي للكتب المدرسية الموضوعة لتعليم قواعد اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية؛ وكنت سردتها على بعض علماء اللغة ومعلميها، غير أنني أحجمت عن جمعها ونشرها على صفحات الصحف. . إلى الآن.
أما الآن، فبعد أن أطلعت على تقرير اللجنة التي ألفتها وزارة المعارف المصرية لدرس وسائل (تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة) وبعد أن قرأت طائفة من الملاحظات التي أبدتها بعض المحافل اللغوية على المقترحات المدونة في التقرير المذكور، رأيت من المحتم علي أن أجمع وأنشر هذه الملاحظات والانتقادات.
ولهذا السبب جئت أرجو صديقي الأستاذ الزيات أن يتوسط في عرضها على أنظار قراء الرسالة بوجه عام، وعلى أنظار علماء اللغة ومؤلفيها بوجه خاص.
(أبو خلدون)
كلمة تمهيدية
إن الغاية التي استهدفتها في بحثي هذا، تنحصر في مناقشة (قواعد اللغة العربية: الصرفية والنحوية) وحدها، ولا تتضمن شيئاً في انتقاد (اللغة العربية) نفسها.
لأنني أعتقد أن (اللغة العربية) شيء، و (قواعد اللغة العربية) شيء آخر. . .
فإن (اللغة) - بوجه عام - تتكون تحت تأثير الحياة الاجتماعية، وتتطور بتطورها؛ في حين أن (قواعد اللغة) تتولد من الأبحاث التي يقوم بها العلماء، وتتبدل بتبدل النظريات التي بضعها هؤلاء. . .
فنستطيع أن نقول: إن (خصائص اللغة) تدخل في نطاق (الأمور الطبيعية) التي لا يمكن(272/9)
أن تقاس بمقاييس العقل النظري والمنطق الموجود، في حين أن (قواعد اللغة) لا تخرج عن نطاق (الأمور الاجتهادية) التي يجب أن تبقى خاضعة لحكم العقل والمنطق على الدوام.
إنني لا أعترض - في مقالي هذا - على من يقول بوجوب التمسك (بخصائص اللغة) على علاتها؛ غير أني أقول في الوقت نفسه: إن (قواعد اللغة المدونة في الكتب) لا تدخل في نطاق (خصائص اللغة)؛ فمهما تطرقنا في الأخذ بمبدأ (التمسك بخصائص اللغة على علاتها)، ومهما استرسلنا في الدفاع عن نظرية (المحافظة على تلك الخصائص بدون تبديل وتحوير). . . يجب أن نسلم في الوقت نفسه بأن ذلك لا يستلزم - بوجه من الوجوه - (التمسك بقواعد اللغة) على أشكالها الحالية. فيجب أن نتذكر على الدوام أن هذه القواعد من وضع علماء اللغة الأقدمين، وهي تمثل - بطبيعة الحال - طرق تفكيرهم في مسائل اللغة، وأساليب استنباطهم لقواعدها. لذلك لا يجوز لنا أن نقبلها بدون مناقشة وتفكير؛ بل يجب علينا أن نعيد النظر فيها، ونطيل التفكير حولها، لنكشف مواطن الخطأ والصواب فيها، فنسعى إلى إصلاحها وتصحيحها وفقاً للطرق المنطقية المتبعة في الأبحاث العلمية بوجه عام. . .
إن الملاحظات الانتقادية المعروضة في هذا المقال، مستندة على هذا الرأي الأساسي، ومنبعثة عن هذا الاعتقاد الصريح، وهي تقوم بحملة على (قواعد الصرف والنحو المدونة) وتطلب إصلاحها إصلاحاً جوهرياً. . . دون أن تتجاهل (الخصائص) التي تختص بها اللغة العربية، ودون أن تدعو إلى إهمال تلك الخصائص أو الخروج عليها
هذا، ومما يجب ألا يغرب عن البال في هذا المقام أن العلماء الذين توغلوا في استنباط قواعد اللغة العربية وتدوينها لم يتفق بعضهم مع بعض في جميع المباحث والأمور؛ بل كثيراً ما اختلفوا في عدد غير قليل من المسائل والقواعد؛ واختلافهم هذا أدى إلى تكوين مذاهب لغوية شتى
إنني لم أر داعياً لاستعراض جميع الآراء والمذاهب اللغوية خلال هذا الانتقاد؛ بل رأيت أن أحصر بحثي وانتقادي على (قواعد اللغة العربية) التي أصبحت (رسمية نوعاً ما) لدخولها في الكتب المدرسية واندماجها تقاليد التدريس(272/10)
وأعتقد أن الكتب المدرسية التي تمثل (القواعد الرسمية) أحسن تمثيل، هي السلسلة المطبوعة في مصر بعنوان كتاب (قواعد اللغة العربية)، لأن هذه السلسلة تدرس في جميع المدارس المصرية بناء على قرار (وزارة المعارف العمومية) منذ عدة سنوات؛ وهي تحمل توقيعات عدد غير قليل من كبار الأساتذة والمفتشين؛ فقد ألفتها لجنة مكونة من خمسة أساتذة، (ووضعت خطتها وراجعتها لجنة مؤلفة من) خمسة آخرين، وبين هؤلاء المؤلفين والمصححين ثلاثة من أساتذة الجامعة المصرية ومدرسيها: (طه حسين، أحمد أمين، إبراهيم مصطفى)، وثلاثة من أساتذة دار العلوم: (محمود السيد عبد اللطيف، عبد المجيد الشافعي، علي عبد الواحد وافي)، وثلاثة من المفتشين: (محمد عطية الإبراشي، محمد مهدي علام، ومحمد أحمد جاد المولى)؛ وقد ساعدت المكانة العلمية والأدبية التي اشتهر بها هؤلاء الأساتذة والعلماء على انتشار سلسلة هذه الكتب خارج القطر المصري أيضاً، حتى إن هذا الانتشار أخذ في آخر الأمر شكلاً رسمياً في العراق إذ اقتفت وزارة المعارف العراقية أثر وزارة المعارف المصرية في هذا الباب، فقررت تدريس الكتب المذكورة في جميع المدارس الابتدائية والثانوية
فإذا اعتبرنا (قواعد اللغة) المدونة في سلسلة هذه الكتب - المقررة في مصر والعراق - بمثابة (القواعد الرسمية) كنا قد عبرنا عن الحالة الراهنة أحسن تعبير
إن الملاحظات الانتقادية في هذا المقال تحوم حول الخطط المتبعة في الكتب الرسمية المذكورة وقواعد اللغة المدرجة بها
1 - تبويب المباحث
إن أبرز المآخذ التي تلفت أنظار الباحث في كتب (قواعد اللغة العربية) تعود إلى الطريقة المتبعة في (تبويب المباحث وعرضها) فان هذه الطريقة تخالف أصول التربية والتعليم مخالفة صريحة، كما تنافي العقل والمنطق منافاة تامة
وأعتقد أن الأمثلة التالية تكفي لإظهار هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء:
1 - من المعلوم أن مفهوم (المضاف) مرتبط بمفهوم (المضاف إليه) ارتباطاً وثيقاً، لأن كل واحد منهما يكون ركناً أصلياً من ركني (الإضافة). فلا نستطيع أن نتصور أحدهما دون أن نفكر في الآخر؛ ولا يمكننا أن نعطي فكرة واضحة عن أحدهما دون أن نتطرق إلى الآخر.(272/11)
فالمنطق يقضي علينا بالبحث في المضاف والمضاف إليه بصورة مرتبطة، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر
غير أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية تهمل هذا الأمر البديهي إهمالا غربياً فلا تهتم بالعلاقة الوثيقة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما تجعل من كل منهما بحثاً مستقلا يدخل في باب خاص
غير أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية تهمل هذا الأمر البديهي إهمالا غربياً فلا تهتم بالعلاقة الوثيقة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما تجعل من كل منهما بحثاً مستقلاً يدخل في باب خاص
فإذا تتبعنا جميع الأبحاث المتعلقة بالمضاف والمضاف إليه في سلسلة كتب القواعد التي نحن بصددها، نجد أن الجزء الأول منها يبحث في (المضاف إليه) وحده فهو يحاول تفهيم (المضاف إليه) عن طريق مقابلته بـ (النعت)، ويعرفه بهذا التعريف: (اسم يكمل معنى اسم سابق ولا يدل على صفة فيه) (ص - 45)
وأما الجزء الثاني فيذكر (المضاف) في أوائل أبحاثه مستقلاً عن (الإضافة) وعن (المضاف إليه). يتطرق إليه في بحث (المعرفة والنكرة) عندما يستعرض أنواع (المعرفة) تحت تعبير (المضاف إلى معرفة) (ص - 11). وأما (المضاف إليه) فلا يذكره إلا في أواخر أبحاثه في باب الأسماء المجرورة. وهناك فقط يذكر العلاقة بين (المضاف والمضاف إليه) (ص101)
إنني أعترف بأنه يصعب عليّ أن أتصور طريقة بحث وتبويب أبعد من منطق اللغة من هذه الطريقة، كما يستحيل علي أن أبتكر خطة عرض وتعليم أفعل في تصعيب الأبحاث وتشويش الأذهان من هذه الخطة. . .
2 - من المعلوم أن الأسماء تقسم من حيث شمول مدلولاتها إلى قسمين أصليين: أسم خاص أو أسم علم، واسم عام أو اسم جنس. ويعتبر هذا التقسيم من التقسيمات الأساسية والمباحث الأولية في جميع اللغات
غير أن قواعد (اللغة العربية) الرسمية (لا تذكر شيئاً عن اسم الجنس). وأما اسم العلم فتذكره في الجزء الثاني، دون أن تقابله بنقيضه. إنها تذكره في بحث (النكرة والمعرفة)(272/12)
كنوع من أنواع المعرفة، بين الضمير واسم الإشارة والاسم الموصول والمضاف إلى معرفة (ص - 11)
إنني أعتقد بأن من ينظر في هذه الخطة نظرة انتقادية مجردة عن تأثير (الألفة المخدرة)، يضطر إلى التسليم بأنها لا تتفق مع أصول التصنيف العلمية بوجه من الوجوه، كما أنها تنافي أساليب التعليم الصحيحة كل المنافاة
3 - لا يخفي أن الفعل ينقسم - من حيث المعنى - إلى قسمين: لازم ومتعد، ولا حاجة إلى البرهنة على أن المنطق يقضي بشرح هذا التقسيم في باب الأفعال. غير أن (قواعد اللغة العربية) لا تسير على هذه الطريقة المنطقية، بل تذكر ذلك عرضاً في بحث المفعول به، عند استعراض الأسماء المنصوبة في باب (إعراب الأسماء) (الجزء الثالث - ص106)
4 - كذلك لا يخفي أن الفعل ينقسم - من وجهة أخرى - إلى معلوم ومجهول، والمنطق يقضي بشرح ذلك في باب الأفعال بطبيعة الحال؛ غير أن (قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه الطريقة المنطقية، بل تذكر (المجهول) وحده، وذلك بصورة عرضية في بحث (نائب الفاعل) عند استعراض الأسماء المنصوبة في باب (إعراب الأسماء)! (الجزء الثاني ص45)
5 - من المعلوم أن (حرف التعريف) من أهم عناصر الكلام في اللغة العربية؛ وهو كثير الاستعمال جداً في التكلم والقراءة والكتابة؛ ومع هذا إذا تتبعنا كتب (قواعد اللغة العربية) نجدها لا تهتم به اهتماماً يتناسب مع كثرة استعماله:
فإن الجزء الأول منها لا يذكر شيئاً عن حرف التعريف بالرغم من كثرة وروده في عبارات الكتاب اعتباراً من صفحاته الأولى. والجزء الثاني أيضاً لا يلتفت إليه مع أنه يفرد بحثاً خاصاً للمعرفة والنكرة، ويذكر خمسة أنواع من المعرفة فيها الضمير، واسم الإشارة، والاسم الموصول، والمضاف إلى معرفة
إن حرف التعريف لا يثير شيئاً من اهتمام واضعي الكتب المذكورة إلا في الجزء الثالث منها، وهو الجزء الخاص بالصف المنتهي من الدراسة الابتدائية؛ وذلك في بحث أنواع المعارف تحت عنوان (المعرف بأل) (ص - 41)(272/13)
6 - من المقرر أن التنوين من خصائص اللغة العربية التي تستعمل كثيراً، والتي تؤثر في معنى الكلمات تأثيراً كبيراً. ومن الغريب أن كتب قواعد اللغة العربية لا تذكر شيئاً عنه إلا في أواخر الجزء الثالث منها؛ وذلك في بحث (الممنوع من الصرف) - وفي صدد (إعراب الممنوع من الصرف) (ص - 61)
وإذا أجلنا النظر في ذلك البحث وجدنا فيه استعراضاً طويلا للكلمات التي لا يجوز أن تنون، ولكيفية إعراب تلك الكلمات دون أن نجد فيه إشارة إلى مواطن استعمال التنوين، والمعاني المستفادة من التنوين، والعلاقة الموجودة بين التعريف والتنوين. . .
7 - من الواضح أن أسماء الأعداد من أهم أركان اللغات؛ وهي من الكلمات التي تستعمل بكثرة خلال الحديث والقراءة والكتابة؛ غير أن كتب قواعد اللغة العربية لا تهتم بها ولا تذكر شيئاً عنها إلا في الجزء الثالث منها. كما أنها لا تفعل ذلك بصورة عرضية في بحث التمييز خلال استعراض الأسماء المنصوبة) في باب الأسماء المعربة. . . (ص - 130)
أنا لا أرى لزوماً حاجة إلى الإكثار من هذه الأمثلة، ولا إلى إطالة الشرح لإظهار مواطن الخطأ والشذوذ في كل واحدة منها غير أنني لا أود أن أختم ملاحظاتي على كيفية (التبويب والعرض) دون أن أشير إلى ما أعتقده في منشأ هذه المآخذ والأخطاء الغريبة وأسبابها - أعتقد أن أسباب كل ذلك تتلخص في نزعة واحدة وهي نزعة (الاهتمام بالأحكام النحوية وبمواطن الإعراب) أكثر من (الالتفات إلى المعاني المفهومة، ومواطن الاستعمال). كل شئ في الطريقة المتبعة في تبويب القواعد وعرضها يدل على أن الذين دونوا هذه القواعد وجهوا جل اهتمامهم إلى مسائل الإعراب، واعتبروها الغاية القصوى من دراسة اللغة، كأنهم ممن يعتقدون - ضمناً - أن جميع أبحاث قواعد اللغة يجب أن تبتدئ من وجهة نظر الإعراب، وتنتهي بتثبيت قواعد الإعراب، وتبوب حسب ما تقتضيه أحكام الإعراب؛ وأما المعاني التي تؤديها الكلمات والوظائف التي تقوم بها في تكوين العبارات فهي من الأمور الثانوية التي يجب أن تترك على الهامش، أو من الأمور التافهة التي يجب أن تهمل بتاتاً. . .
إن آثار هذه النزعة المخالفة لأهم أسس التربية والتعليم تظهر بكل وضوح وجلاء في الطرق المتبعة في قضايا (التبويب) كما شرحناها آنفاً، وتظهر بوضوح أكثر في الطرق(272/14)
المتبعة في أمور (التعريف) كما سنذكرها بعد. . .
2 - طريقة التعريف
إن معظم التعريفات المدونة في كتب (قواعد اللغة العربية) مخالفة للقواعد المنطقية التي يجب أن تراعى في كل تعريف، ومنافية للأسس التربوية التي يجب أن يبنى عليها كل تعليم. . .
وأبرز أمثلة هذه المخالفة تتجلى في تعريف (اللازم والمتعدي) من الأفعال. . . هذا التعريف مسطور في الجزء الثالث من كتب الدراسة الابتدائية والجزء الأول من كتب الثانوية. . فإذا راجعنا كتاب الدراسة الابتدائية وجدنا فيه هذا التعريف: (يسمى الفعل متعدياً إذا نصب مفعولا به، ويسمى لازماً إذا لم ينصبه) (ص 106) فهذا التعريف لا يدعو إلى التأمل في مدلولات الأفعال لتمييز اللازم والمتعدي منها، بل يطلب النظر في تأثيرها في إعراب الكلمات التي تليها دون ملاحظة طبيعة الحدث المفهوم منها
وإذا استعرضنا جميع التفاصيل التي تتقدم هذا التعريف نجد أن جميعها تسير على نفس النمط: المفعول به هو الاسم المنصوب الذي وقع الفعل على مسماه. . قد ينصب الفعل مفعولا واحداً. . وقد ينصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر. . . وقد ينصب مفعولين أصلهما ليس مبتدأ وخبراً. . . ويسمى الفعل متعدياً إذا نصب مفعولاً به، ويسمى لازماً إذا لم ينصبه. . . (ص105 - 106) هذه هي سلسلة الإيضاحات التي توصل إلى التعريف الآنف الذكر. . .
وأما إذا راجعنا الجزء الخاص بالدراسة الثانوية، وجدنا فيه أيضاً تعريفاً مماثلا للتعريف المذكور بعد كلمة عن رفع الفاعل ونصب المفعول به:
(إذا قلت انفتح البابُ، وفتح عليٌ البابَ، وتأملت الفعل في المثالين وجدت الأول رفع الفاعل فقط، ورأيت الثاني رفع الفاعل ونصب المفعول به. . . وكل فعل من النوع الأول يسمى لازماً، وكل فعل من النوع الثاني يسمى متعدياً. . . فاللازم مالا ينصب مفعولا به، والمتعدي ما ينصب المفعول به (ص - 68)
إن نزعة إهمال (المعنى) والاستناد على (الإعراب) تتجلى في هذه الشروح والتعريفات بكل وضوح وجلاء، وتؤدي إلى التباعد عن جادة المنطق تباعداً غريباً؛ لأن الأسماء التي(272/15)
تقع تحت أبصارنا عندما نقرأ في الكتب والجرائد لا تكون مرفوعة أو منصوبة في حد ذاتها، بل تكون مشكولة، فتحتمل الرفع والنصب على حد سواء. ونحن نحتاج إلى (قواعد النحو) لنعرف ما إذا كان يجب علينا أن نقرأ أواخر تلك الكلمات مرفوعة أو منصوبة. . . وكذلك الأمر في الكلمات التي تجول في خاطرنا عندما نفكر في موضوع ونحاول التعبير عنه، فإنها أيضاً لا تكون مرفوعة أو منصوبة في حد ذاتها؛ ونحن نقدم على رفعها أو نصبها حسب ما تعلمناه أو اعتدناه من قواعد النحو، لذلك نستطيع أن نقول: إن اعتبار (نصب المفعول به) واسطة لتعريف (الفعل المتعدي) يكون بمثابة قلب الأمور رأساً على عقب. . .
إن أبسط قواعد المنطق تقضي بتعريف اللازم والمتعدي من جهة، والفاعل والمفعول من جهة أخرى، حسب معانيها ومعاني العبارة التي تتألف منها، وذلك كما يفعل لغويو العالم بأجمعهم
وأما كيفية الإعراب فيجب أن تكون بمثابة (القاعدة التي نصل إليها، لا (الأصل) الذي نبدأ منه، أو (الأساس) الذي تبنى عليه. . .
فلا يجوز لنا أن نقول: هذا الفعل متعد، لأنه نصب مفعولا به، بل يجب أن نقول: هذا الفعل متعد فيحتاج إلى مفعول به؛ وهذا الاسم مفعول به، فيجب أن يعرب منصوباً
إن طريقة (تعريف الكلمة بالنظر إلى إعرابها) في كتب قواعد اللغة العربية ليست من الأمور المنحصرة في بحث (المتعدي واللازم)، بل هي من الطرق المتبعة في كثير من الأبحاث الأخرى أيضاً:
المبتدأ - اسم مرفوع يقع في أول الكلام (ج - 1 - ص30)
الفاعل اسم مرفوع يدل على الذي فعل الفعل ويذكر بعده (ج 1 ص32)
نائب الفاعل اسم مرفوع حل محل الفاعل بعد حذفه، وتقدمه فعل مبني للمجهول (ج2 - ص46)
المفعول المطلق اسم منصوب من لفظ الفعل يذكر لتوكيد فعله أو لبيان نوعه (ج 2 - ص71)
المفعول لأجله اسم منصوب يبين سبب حصول الفعل الذي قبله (ج2 - ص74)(272/16)
المفعول معه اسم منصوب يبين الشيء الذي قارن وجوده وقوع الفعل، ويكون مسبوقاً بواو بمعنى مع (ج2 - ص77)
ظرف الزمان اسم منصوب يبين زمن حصول الفعل (ج2 - ص80)
ظرف المكان اسم منصوب يبين مكان حصول الفعل (ج2 - ص80)
الحال - اسم منصوب يبين هيئة الفاعل أو المفعول به عند حصول الفعل (ج2 - ص85). . .
كل من ينعم النظر في هذه التعريفات على ضوء الملاحظات التي سردناها آنفاً حول تعريف اللازم والمتعدي يسلم بأنها لا تتفق مع (منطق التعريف) بوجه من الوجوه، كما أنها تخالف (أسس التعليم) مخالفة صريحة. في الواقع أنها لا تستند إلى أحكام الإعراب وحدها - مثل تعريف اللازم والمتعدي الذي انتقدناه آنفاً - ولكنها تجعل الإعراب ركناً أساسياً من أركانها، وتخلط - بهذه الصورة - بين التعريف والقاعدة، وبين الأصل والنتيجة، خلطاً غريباً. فإذا أردنا أن نرجع هذه التعريفات إلى مقتضيات المنطق العلمي، وجب أن نحذف منها كل ما يعود إلى الإعراب. أما مسألة الإعراب، فيجب أن نفرغها في قالب (قاعدة) مستقلة عن التعريف.
فلا يسوغ لنا أن نعرف الفاعل بقولنا: (الفاعل اسم مرفوع يدل على الذي فعل الفعل) بل يجب أن نعرفه بقولنا: (اسم يدل على الذي فعل الفعل) ثم نأتي بقاعدة في إعراب الفاعل مستقلة عن تعريفه، فنقول: (الفاعل يعرب مرفوعاً)
كما يجب أن نتبع خطة مماثلة لما ذكرنا في بقية التعريفات المذكورة آنفاً
ومما يلفت الأنظار في هذا الباب، بوجه خاص، هو أن واضعي كتاب (تكوين الجمل) - الذي يؤلف الجزء الأول من سلسلة كتاب (قواعد اللغة العربية) - كانوا عرفوا الفاعل على هذا النمط دون أن يدمجوا قاعدة إعرابه في تعريفه، وذلك في الطبعة الأولى من كتابهم؛ ولكنهم غيروا خطتهم هذه في الطبعة الثانية، كأنهم اعتبروا تعريفهم الأول خروجاً عن المألوف وغير واف بالمقصود، فأرادوا أن يصححوه بتعريف يستند إلى الإعراب قبل كل شيء. فقالوا: (الفاعل اسم مرفوع يدل على. . .). وبذلك أخرجوا هذا التعريف أيضاً عن جادة المنطق والصواب. . .(272/17)
يظهر من هذه التفصيلات أن الخطة التي يمشي عليها المؤلفون في التعريفات تستمد اتجاهها من النزعة التي ذكرناها آنفاً، خلال تعليلنا للخطة المتبعة في أمر التبويب، وهي نزعة الاهتمام بالإعراب أكثر من الالتفات إلى المعنى والمفهوم
غير أني أعتقد أن لهذه الخطة - ولهذه النزعة - بعض العوامل التاريخية التي تعود إلى أدوار نشأة (قواعد الصرف والنحو)، فان من العلوم أن هذه القواعد دونت - في الدرجة الأولى - تحت تأثير حاجة الأعجام الذين لم ينشئوا على العربية، وذلك كما حدث في أمر تدوين القواعد في سائر اللغات بوجه عام؛ وكان القصد الأصلي من تعليم العربية لهؤلاء الأعجام تمكينهم من قراءة القرآن وتسهيل فهمهم لمعانيه. ومما لا يحتاج إلى إيضاح أن الأعجمي الذي يقرأ القرآن يرى أمام عينيه سلسلة كلمات مشكولة، بعضها مرفوع، وبعضها منصوب، وبعضها مجرور، وبعضها ساكن، فيرى ويقرأ هذه الكلمات قبل أن يفهم شيئاً من معانيها، فإذا اتخذ رفع الكلمة أو نصبها نقطة بدء لدرسه وبحثه فلا يكون قد سلك مسلكاً مخالفاً للعقل والمنطق، من الوجه العملية: فإذا قال: (هذا اسم مرفوع، وقع في أول الجملة فهو المبتدأ إذن. . .) وهذا اسم مرفوع أتى بعد الفعل، فهو الفاعل إذن، يكون قد سار على خطة لا تجانب الصواب - من الوجهة العملية - بالنسبة إلى حالته الخاصة
غير أن الاستمرار على اتباع خطة مماثلة لهذه في هذا العصر ولا سيما في تعليم أبناء الضاد الذين يتكلمون العربية ويقرءون الكتب والجرائد والمجلات المطبوعة - لا يمكن أن يتفق مع مقتضيات المنطق بوجه من الوجوه، ويخالف أصول التربية والتعليم من كل الوجوه
إنني لا أجد سبيلاً لتعليلها إلا بإرجاعها إلى تأثير الأحوال الخاصة التي أشرت إليها، وباعتبارها من تراث العصور القديمة التي نوهت بها. والمآخذ التي سأذكرها في بحث (العلامات) تؤيد هذا التعليل بوضوح أقوى
(يتبع)
ساطع الحصري(272/18)
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
أمسلم مصري أم مبشر بروتستنتي؟
لأستاذ جليل
- 2 -
أراد الكاتب المسلم في تلك المجلة أن يغم إحدى الجريمتين - أعني جريمة اللصوصية - فأوراد في تضاعيف أقوال المبشرين هذا المُمْلي:
(ألسنا نقرأ قوله تعالى: (جنتان ذواتا أفنان) ونراه يثني (ذات) بذواتا مع أن نحونا يقول: إن مثنى ذات ذاتا)
(وقوله تعالى: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما) فلا ندرك سر نصب الظالمين إلا عندما يقول لنا المفسرون إنها منصوبة على التخصيص)
(وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين). فنسأل كتب النحو لماذا لم يقل طائعتين بدلاً من طائعين، وهو يخاطب مثنى والمجيب مثنى أيضاً فلا تسعفنا كتب النحو بجواب وإنما يسعفنا المفسر بقوله: إن المجيب هنا هم سكان السماء والأرض فنفهم المعنى وإن اختلفت القاعدة)
إن تلاعب الكاتب بخلطه أقوالاً بأقوال لم يستر لصوصيته بل ثبتها تثبيتاً، وعلن بأنه خريج في الضلال والتضليل غير حاذق، ودل على أنه يجهل (النحو) الجهل كله و (قتلت أرضٌ جاهلَها) وسأبين اليوم تخليطه ثم أجيء إلى كتاب المبشرين مغلط القرآن في العربية. . .
قال الكاتب المسلم: (. . . مع أن (نحونا) يقول إن مثنى ذات ذاتا)
أقول: إن علم العربية (أي النحو) في كتبه المختصرة وفي مؤلفاته الكبيرة يقول: إن مثنى ذات (ذواتان) وتقول مثل قوله المعجمات القديمة والمعجمات العصرية المبثوثة في كل مكان. و (ذاتان) قليلة جائزة في الشعر، وهي ليست بالقاعدة
قال (الكاتب): (فإنك تقول: ذووي ردّ إلى أصله، لأن أصله فعَّل؛ يدلك على ذلك قولهم ذواتان، وكذلك الإضافة إلى ذاه ذوَويّ)(272/19)
وقال الرضي في (شرح الكافية): (وردَّ لام ذات في التثنية فقالوا: ذواتا مال، وقد جاء أيضاً ذاتا مال وهو قليل)
وقال ابن منظور في (لسان العرب): (وتقول هي ذات مال وهما ذواتا مال، ويجوز في الشعر ذاتا مال والتمام أحسن) ونقل قوله الزبيدي في (تاج العروس)
قال الكاتب المسلم: (. . . فلا بد سر نصب (الظالمين) إلا عند ما يقول لنا المفسرون إنها منصوبة على التخصيص)
أقول: قد ذكرني كلام هذا الكاتب بقول للعامة: (فلان من معرفته بالصحابة يترضى عن عنتر) وصاحبنا من تضلعه من النحو يخلط الخلط الذي ترى. وقد أوضحت الكتب المصنفة للصبيان (مثل الألفية وشرحها لابن عقيل) هذه (القاعدة) وعنوانها فيها: (اشتغال العامل عن المعمول). قال سيبويه في (هذا باب ما يختار فيه إعمال الفعل مما يكون في المبتدأ مبنياً عليه الفعل): (رأيت عمراً وعبدَ الله مررت به، ولقيت قيساً وبكراً أخذت أباه، ولقيت خالداً وزيداً واشتريت له ثوباً. وإنما اختير النصب ههنا لأن الاسم الأول مبني على الفعل فكان بناء الآخر على الفعل أحسن عندهم. ومثل ذلك: قوله عز وجل يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً)
وقال (المفصل) في (ما أضمر عامله على شريطة التفصيل): (فالمختار في موضعين أحدهما أن تعطف هذه الجملة على جملة فعلية)
قال شارحه ابن يعبش: (إذا كان النصب من غير تقدم فعل جائزا كان مع تقدمه مختارا إذ فيه تشاكل الجملتين؛ قال الله تعالى: (يدخل من يشاء الآية)
يقول الكاتب المسلم: (. . . فنسأل كتب النحو لماذا لم يقل طائعتين. . .)
قلت: لو سأل الكاتب (النحو) لأجابه، ولو استهدى لهُدي، لكنه كأنه في مسطوره - فاهالفيه - من (المصحبين. . .) فهو (يلفت القول لفتاً ماضياً على المخَيّل)!
إن المثنى قد تبدي (جمعاً) إذ (أن المثنى جمع) كما قال الرضي شارح (الكفاية) و (من حيث أن التثنية جمع في الحقيقة) كما قال ابن يعيش شارح (المفصل) و (نظيره قولك: فعلنا وأنتما اثنان فتكلمُ به كما تكلم به وأنتم ثلاثة لأن التثنية جمع) كما قال كتاب سيبويه: و (من سنن العرب إذا ذكرت اثنين أن تجريهما مجرى الجمع) كما قال الثعالبي في (سر(272/20)
العربية ومجاري كلام العرب وسننها) وهذا من النحو - والنحو أنحاء - والذي حوَّشته مصنفاته هو جزء من أجزاء، وقد أبان ذلك العالم الشيخ (إبراهيم مصطفى) في كتابه (إحياء النحو)
وقد قال (الكتاب): قالتا أتينا طائعين - ولم يقل طائعتين والسماء والأرض مؤنثتان لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله: (ائتيا) نظيرة كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم فأجرى قوله طائعين على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك)
وإن قال جاهل ضال عمه أو خادم جوعان من خدام المحترفين بالتبشير (التضليل). هي السماء وهي الأرض فتأتيان طائعات لا طائعين فما لهما والياء والنون - أجاب (النحو) في الكتاب): (وأما كل في فلك يسبحون، ورأيتهم لي ساجدين، ويا أيها النمل ادخلوا مساكنكم فبمنزلة من يعقل من المخلوقين ويبصر الأمور، فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء تؤمر وتطيع وتفهم الكلام وتعبد بمنزلة الآدميين) وقال ابن يعيش مثل هذا، وقال (النحو) في (شرح الكافية): (يشبه غير ذوي العلم بهم في الصفات إذا كان مصدر تلك الصفات من أفعال العلماء كقوله تعالى: (أتينا طائعين) وقوله (فظلت أعناقهم لها خاضعين) (ورأيتهم لي ساجدين) ومثل ذلك في الفعل: (وكل في فلك يسبحون) وقال كتاب (أسرار العربية) لأبي البركان الانباري: (فإن قيل: من أين جاء هذا الجمع في قوله تعالى: (فقال لها وللأرض الآية)؟ قيل: لأنه لما وصفها بالقول والقول من صفة من يعقل أجراهما مجرى من يعقل، وعلى هذا قوله تعالى: (إني رأيت الآية) لأنه لما وصفها بالسجود وهو من صفات من يعقل أجراها مجرى من يعقل، فلهذا جمعت جمع من يعقل) وفي (أسرار العربية) للثعالبي مثل ذلك
وذكر الكاتب المسلم في هاتيك المجلة: (إن هذان لساحران) مشددا النون، وسلك في القول الكريم المسلك الزائغ المنحرف. وفي قول (الكاتب) قراءات: (إن هذين لساحران) (وإن هذان لساحران) وإن مخففة واللام هي الفارقة و (إن ذان إلا ساحران) و (أن هذان ساحران) بفتح أن وبغير لام بدل من النجوى، و (إن هذان لساحران) والهاء مراده والتقدير إنه هذان لساحران، وحسنت اللام إذ كانت الجملة مفسرة للمضمر كما قال ابن يعيش. وقال الرضي: (وقد جاء ذان وتان واللذان واللتان في الأحوال الثلاثة) ومما قاله في (ذان): (ذان(272/21)
صيغة مرتجلة غير مبنية على واحده ولو بنيت عليه لقيل ذيان)
ذلك بيان نحو العربية (علم العربية) - لا تفسير المفسرين - في أقوال في (كتاب العربية) وقد أطلت بما أوردت لكيما تعلن خربشة المخربشين وتخاليط المخلطين علانية، وليعلم الجاهلون إما كانوا ينشدون هدى وعلما أن ليس ثم (نحوان): نحو العربية ونحو (القرآن)، إنما هو نحو (الكتاب)، وإنما هو نهج (الكتاب)، وإنما هو بلاغة (الكتاب)، وإنما هي سنة (الكتاب)، وإنما هي شرعة (الكتاب). وهل أقام (قواعد) العربية، وهل شاد مجد العربية، وهل أبدع حضارة العربية، وهل هدى الناس كلهم أجمعين إلا القرآن؟
إنه (والله) لمن دواهي الدهر أن يصير أناس في الغباوة والجهل إلى حيث صاروا، فنجبر أن نقعد نشرح الجلي كل الجلي، وأن نقول مصوّتين في الشرق، في مصر، في نهار غير مغيم، في راد الضحى، أو في الظاهرة: هذه الشمسُ وهذا ضوءها، فانظروا يا ناظرين. . .!
الإسكندرية
(* * *)(272/22)
الدين والأخلاق
بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 5 -
جاء في كتاب الأغاني أن الأخطل الشاعر قال لرجل من شيبان: (إن الرجل العالم بالشعر لا يبالي وحق الصليب إذا مر به البيت العائر السائر الجيد أمسلم قاله أم نصراني) وكل نقاد العرب قديماً وحديثاً يقولون مثل هذا القول سواء أكان الناقد من أدباء المذهب الجديد أم أدباء المذهب القديم. ولو أن محدث الأخطل سأله عن اليهود والبوذيين لأضافهم إلى النصراني في قوله. وأنت ترى أن الأخطل أراد أن يؤكد قوله فحلف بحق الصليب. وكان كثير من المسلمين يفضلون الأخطل على غيره من شعراء عصره بالرغم من النعرة الدينية في قوله. وكان يحدث هذا في صدر الإسلام ولم يكن الدين في صدر الإسلام أقل أثراً في نفوس المسلمين منه اليوم، وإنما كان الأدباء وسامعو الشعر أعرف بتذوق الشعر وأكثر حظاً من نشوته وأريحيته من قراء اليوم. ولم يكن بين الأدباء في صدر الإسلام من يحس خوفاً على منزلته بين الأدباء والشعراء فيدفعه إلى أن يقول إن النصرانية أسقطت شعر الأخطل. نعم إن جريراً يعير الأخطل بخضوعه لرجال دينه. ولم يبحث النقاد عن عقيدة أبي تمام كي يحكموا بها على شعره. ولم يقل أحد من أمراء الشعر والنثر في عصور الأدب العربي إن الأُخُوَّة في الشعر أُخُوَّةَ في الله، أو أن الأُخُوَّةَ في الله أُخُوةٌ في الشعر. فهل كان أمراء البيان في الشعر والنثر في تلك العصور الطويلة على ضلال لا يفهمون الشعر ولا يجيدونه ولا يتبينون أصوله وشروطه وسننه ولا يعرفون كيف يتذوقونه؟ أم أنهم أصابوا عندما قصروا الأخوة في الدين على شعر حواشي ومتون كتب الفقه الديني؟ أليس ادعاء بعض أدباء العصر إحلال عامة الشعر منزلة شعر حواشي الفقه الديني دليلاً على فساد الذوق الشعري في هذا العصر؟ ثم أليس في اتخاذهم وسائل الدول السياسية بنشر الدعوة ضد منافسيهم واتهامهم أنهم أنصار إبليس والرذيلة، ما يدل على جانب من الضعف، وعلى أنهم إنما يريدون استغلال تعصب العامة وأشباه العامة في عصر لا يدرك(272/23)
فيه الرأي العام الشعر كما كان يدركه الرأي العام في عصر الأخطل؟
وليت أن هذه الوسائل كانت تعين على عز وجاه في بلد للشعر فيه كل العز والجاه والمال، ولكنها وسائل لا تغني فتيلا ولا تقرب من عز أو جاه أو مال، لأن هذه أمور لا تنال بالشعر إلا التافه الحقير منها وما أكثر طلابه.
أما الأستاذ الغمراوي فليست له مطامع دنيوية، وإنما هي العقيدة التي تقدمت به وبهذا المبدأ الذي يريد أن يسنه للشعراء؛ ولكنه لو كشف له عن سريرة الأدباء جميعاً حتى أشدهم تعصباً للقديم لوجد في سريرتهم أنهم يقولون كما قال الأخطل وأنهم يعرفون من أدب اللغة العربية ما يقصر أُخوة الدين على شعر الحواشي والمتون.
قال الأستاذ الغمراوي إن أدباء المذهب الجديد يأخذون عن الأوربيين ما يخالف التقاليد الإسلامية، وأنهم إذاً يريدون (تغلب دين على دين) أي دين الأوربيين على دين العرب المسلمين، وإنهم يبيحون الشهوات، وإنهم أنصار الرذيلة. وقد ناقض الأستاذ نفسه في هذا القول لأنهم لو كانوا يريدون تغليب المسيحية حقاً ما أباحوا الشهوات ولا كانوا من أنصار الرذيلة. وإن إباحة الشهوات ليست مذهباً في الشعر أو النثر جديداً، ففي الأدب العربي في كل عصر من هذه الإباحة ما ليس له مثيل في هذا العصر. وكان الأدباء المبيحون للشهوات أمثال بشار وغيره لا يدينون بدين. وإن أدباء المذهب القديم في عصرنا لا ينكرون أن بشاراً وأبا نواس وغيرهما من مذهبهم الذين يدافعون عنه، أي المذهب القديم، وإن الفضائل إذاً ليست عامة فيهم والرذائل ليست عامة في خصومهم ولا التدين أيضاً، وإنما هم يعرفون أن سليقة الشعر فسدت في أكثر القراء والرأي العام عموماً في عصر عظمت فيه قوة الرأي العام ونفوذه، فهم يريدون استغلال تعصب الرأي العام الذي فسدت فيه سليقة الشعر ولم يبق له أو لطائفة كبيرة منه غير النعرة الدينية التي يريدون أن تستبيح كل شيء حتى المجون ابتغاء مرضاة الله. فقد بلغ القراء خبر الحفلة التي أقيمت لإحياء ذكرى حافظ بك إبراهيم، وقد نشرت الصحف القصائد التي قيلت فيها، وكان بها من المجون ما لو قاله أحد الأدباء الشبان من أنصار المذهب الجديد لقال أدباء المذهب القديم للناس: انظروا إلى خصائص المذهب الجديد كيف يستبيح المجون في حضرة كبار رجال الدولة والذين ينوبون عن المقام السامي! أما والذين نظموه لم يكونوا من أدباء المذهب(272/24)
الجديد فهو إذاً ورع وتقوى وغيرة سامية على الفضائل في القول والعمل. هكذا ألف بعض الأدباء مجون الشعر العربي القديم حتى صار يُعَدُّ من الأخلاق السامية. وما على الأديب في هذا العصر إلا أن يعلن على رءوس الشهود أنه من أنصار المذهب القديم فيباح له كل شيء من أجل عدائه للجديد. ويكون مثله مثل الرجل الذي إذا عده العامة من أولياء الله الصالحين رفعوا عنه (الكلفة) وأباحوا له ما لا يبيحون لغيره من عباد الله. فإذا أرتكب أحد (أولياء) العامة أمراً (ينتقد) وحاول أحد النظارة أن يعيبه به تجمهر الناس حوله وكل يقول له: أتركه يا شيخ ولا تعبه، لأنه من أولياء الله وعباده الصالحين وقد رفعت عنه (الكلفة) فهو غير مسؤول عما يفعل. ومن الغريب أن بعض الأدباء أراد أن يفهم الحاضرين أن حافظ بك مات شهيد الحرب التي شنها عليه أدباء المذهب الجديد، ولم تكن هناك حرب وإنما انتقده الأستاذ المازني نقداً بريئاً خالياً من الفحش والمجون. أما الحرب فقد كانت سجالاً بين أنصار حافظ وأنصار شوقي وكان الفريقان من أنصار المذهب القديم وكانا يستبيحان كل سلاح مهما كان، وتشهد بذلك نسخ الجرائد الأسبوعية التي طبعت في ذلك العهد. وكان أشد الناس حرباً على حافظ بك أنصاره من المرتزقة وكانوا يصنعون صنع الجنود المرتزقة فيخذلونه في أثناء المعركة من أجل رشوة وأجر مُطمع من خصمه
فإذا كان حافظ بك قد هزم في بعض معاركه فالذنب ذنب الجنود المرتزقة الذين خانوه والمعركة قائمة ولم يقدر خيانتهم. ولم يكن للمذهب الجديد وقتئذ أنصار عديدون، ولو قامت بينه وبينهم معركة ما استطاعوا لكثرة أنصاره أن ينالوا منه، ولم يكن لهم حول حتى يدبروا له الدسائس. فكل ما قيل من هذا القبيل في الحفلة من قبيل السمر بالقصص الخيالية، وله منفعة أخرى جلب العداء لأنصار المذهب الجديد بالطريقة التي بها يجلب لهم العداء إذا قيل إنهم أنصار إبليس اللعين. ولو أن حافظ بك إبراهيم كان اليوم حياً لضحك ضحكاً كثيراً إذا سمع ما يقوله أدباء المذهب القديم من أن أدباء المذهب الجديد نالوا منه ودسوا له. نعم إن الرجل كان محاطاً بالوشايات والسعايات من الأدباء، ولا نعني أهل السياسة فهذه مسألة أخرى، وهذه الوشايات كان يتقدم بها الأدباء إما نكاية من بعضهم لبعض واستعانة بحافظ بك في تلك النكاية، وإما نكاية لشوقي منافسة كما كان جلساء شوقي يسعون عنده بحافظ نكاية له(272/25)
ولو أنا رجعنا إلى ما أُلف من المقالات والكتب منذ ثلاثين سنة ما وجدنا أثراً لهذا الاصطلاح: أعني اصطلاح تقسيم الأدب إلى جديد وقديم، وإنما كان الشعراء الذين يسمون الآن أدباء المذهب الجديد يدعون إلى نبذ شعر الغزل المتكلف الذي كان مقدمة لقصائد المدح والهجاء والسياسة، ونظم الشعر فيما تحسه النفس من حب أو غير حب على طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ المغالاة في المحسنات اللفظية التي أولع بها شعراء الدولة العباسية والرجوع إلى طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في تفضيل صنعة العاطفة أو ذكرى العاطفة (وذكرى العاطفة عاطفة). وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ التضييق في أبواب الشعر ونبذ المغالاة في تقييد حرية القول والرجوع إلى شيء من حرية القول التي كانت في كثير من عصور الشعر العربي القديم من غير دعوة خاصة إلى إباحة حرية القول من أجل الإباحية في الخلق
هذه كانت مبادئهم؛ فهم إذاً كانوا أخلق بأن يدعوا رجعيين، فهم كانوا رجعيين في طلب احتذاء شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في وصف أحاسيس النفس وخواطرها رجوعاً عن الغزل الصناعي وأبواب القول الصناعي التي أولع بها المتأخرون. وكانوا رجعيين في طلب احتذاء سهولة العبارة وأقربها دلالة على الإحساس والمعنى كما كان يفعل شعراء الجاهلية وصدر الإسلام رجوعاً عن المبالغة في الصناعة التي أولع بها العباسيون. وكانوا رجعيين في طلبهم ألا يقصر الشعر على معان متفق عليها كما كان المتأخرون يفعلون والرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره وأن يباح له القول إذاً أكثر مما كان يباح للمتأخرين
فالنزعة إلى التجديد كانت في أول الأمر نزعة رجعية كما ترى؛ واتفق أن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية، وأنه إذا تقدم بهم الأدب الأوربي فيكون تقدماً كما كان يتقدم أدب الجاهلية وصدر الإسلام لو أنه لم تعترضه عوارض الجمود والقيود المصطنعة التي تغلبت على الأدب العربي بعد ذلك
فإذا كانت هذه النزعة قد دخلتها المغالاة فهي أمر طبيعي يعترض الأمور في أول الأمر حتى تستقر؛ وإذا كانت قد تفرعت منها فروع بعيدة فهذه سنة طبيعية، فالقرامطة(272/26)
والحشاشون والباطنية فروع بعيدة تفرعت من الشيعة كما تفرعت الشيعة من الإسلام. وربما كان من تلك الطوائف البعيدة ما ينكره الشيعة. كذلك تفرعت من نهضة التجديد الرجعية فروع بعيدة ولا تزال تتفرع، ومن يحاسب نهضة التجديد عليها كمن يحاسب المسلمين عموماً على عقائد بعض الطوائف التي تفرعت من الإسلام
تفرعت من شيعة التجديد طائفة لم تراع أنه إذا أريد الإقلال من صناعة العباسيين فلا بد من الإكثار من سلامة أسلوب كأسلوب شعراء صدر الإسلام مع تجنب حوشي الكلام، فدعت هذه الطائفة إلى أن يكون أسلوب الشعر أقرب الأساليب إلى لغة الكلام؛ وهذا لا عيب فيه إذا روعيت سلامة اللغة والعبارة. وتفرعت طائفة لم تراع أن وصف أحاسيس النفس وخواطرها ينبغي ألا يبلغ حد الإباحية في الخلق إذا أريد أن يحل شرح الأحاسيس والخواطر وبحثها محل الغزل وأبواب القول المصطنعة التي أولع بها المتأخرون. ولا ننكر أن أشد الشعراء حيطة في وصف النفس الإنسانية وخواطرها على هذه الطريقة قد يشتط في بعض قوله، ولكنه شطط محدود ولا يهدم فضيلة المذهب، كما أن الغصة أو التخمة لا تقضي على فضيلة الأكل والطعام. وتفرعت طائفة لم تراع أن تجديد المعاني والأخيلة ينبغي ألا يتعدى المعاني والأخيلة التي يقرها ويفهمها العقل البشري سواء أكان مصرياً أو إنجليزياً أو صينياً. أما الأخيلة البعيدة وأوجه الشبه القصية والضئيلة والتي لا قيمة لها ليست من أوجه التشبيه في الشعر الراقي الذي يعد من الطراز الأول في أي مكان. وتفرعت طائفة ترى أن انقطاع الصلة بين الرموز والأمور التي يرمز إليها بالرموز، وتدخل صور الرموز بعضها في بعض، مما يروق بعض القراء لأنه يروع نفوسهم، ونسوا أن طمس معالم الصور إذا راق فترة لجماعة ليس من وسائل الشعر الخالد الذي يروق العقل البشري العالمي في كل زمان ومكان. وتفرعت طائفة تريد أن تحكم الوعي الباطني (أو العقل الباطن) بدل تحكيم ملكات العقل الظاهر المألوف، ورأوا أن هذه وسيلة للغوص إلى أعماق النفس ونسوا أن الغوص في أعماق النفس يقتضي يقظة الوعيين والعقلين الظاهر والباطن واتفاقهما وإلا كان ما يقوله القائل بالوعي الباطن وحده لا قيمة له
إن أدباء المذهب القديم عندما يحدثون عن نهضة التجديد يغفلون أسبابها والضرورة الاجتماعية التي دعت إليها، وأنها في أولها كانت نزعة رجعية أو شبه رجعية، وأن الأدب(272/27)
الأوربي درس ليشد أزر الرجعية المقبولة، وأن الطوائف المتطرفة التي تفرعت من النهضة لا تمثل النهضة كلها، وأن النهضة لا يحكم عليها إلا بأحسن مظاهرها، وأن أدباء المذهب القديم هم أيضاً قد تأثروا هذه المبادئ الرجعية الحميدة التي تحث عليها نهضة التجديد
(قارئ)(272/28)
ليوم الإسراء: يوم فلسطين
الثورة الفلسطينية ثروة ضخمة للنفس العربية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا مريقي دمائهم لنا! عقوق ما بعده عقوق أن نقدَّم لكم كِفاءها من المداد الأسود!
وأنا أعلم أنكم في شغل بجمع أشلائكم وآرابكم المبعثرة في الطرقات والجبال والمدن، عن جمع هذه الحروف والألفاظ من الصحف؛ وفي شغل يدوي الرصاص عن هذه الأصوات من بني عمومتكم الذين يكتفون في جهادهم لكم بإنشادها وتزويقها وتزويرها أمام عيونهم العمياء وأسماعهم الصماء. . . فلست أسوقها لكم فأهين قضيتكم وعزائمكم التي تقول لنا: الآن فات أوان الكلام وقصائد التشجيع والإطراء. . . وإنما أسوق هذه الكلمة لأنبه القوالين هنا وفي كل مكان عربي إلى أن من العيب الفاضح والقصور الفاحش أن نصر على ألا ندفع في مقابل هذه الثروة النفسية الضخمة التي قدمها أهل فلسطين للعالم الإسلامي والعربي إلا الألفاظ العاجزة الذليلة، وأن نتلهى بإدارة أحاديث شقائهم، ونقنع لهم بدعاء العجائز. . .
إننا نحصل كل صباح ومساء من ثائري فلسطين - والكل فيها ثائر - على مقتنيات من معاني التضحية والأيمان والبسالة، ما حصلنا عليها من كتاب ولا تاريخ ولا مشهد من مشاهد الدنيا ولا حركة من ثورات الأمم
لقد اشترى الله منهم نفوسهم ثم وزعها على أمثالنا من فقراء النفوس! ففي كل نفس مسلمة وعربية الآن قطعة من نفوس مجاهدي فلسطين، وزعها الله القوي بيده ليعطينا خمائر الإيمان به وبالحق إيمان المجاهد لا إيمان الضعيف المستضعف. ولعل وراء هذه المحنة إرادة خفية للقدر في إيقاظ نفوس العرب والمسلمين وتوجيههم إلى الطريق. . . ولعلها رسالة جديدة من فلسطين أرض الرسالات والنبوات. . .
فالله - له العزة - يقترض من الأغنياء للفقراء، والغنى والفقر على سواء في الأموال والأنفس. . . فلنفهم هذا
ولقد تضخمت الثروة النفسية للعرب والمسلمين من هذا القرض الذي يعقده الله لنا من الشهداء والمجاهدين. وقد كنا نعيش في فقر مدقع من الأمجاد والمفاخر منذ عهد صلاح(272/29)
الدين، حتى أتى هؤلاء وجادوا علينا بأقصى غاية الجود فأصبحنا في غنى كبير
إن الله وحده هو الذي استطاع أن يشتري هذه النفوس الشابة من أسواق الحياة الناعمة وأن يرفعها على أعين المسلمين شهيدة كما ترفع الراية أمام الجيش المهزوم فتجمع فلوله، وتذكره بشرفه وترده إلى فكرة وطنه وأهله وذرياته ومصالحه
لقد أعطى الفلسطينيون أممهم الإسلامية والعربية قطعة من الزمن الخالد الذي يقف في مكانه من ذاكرة التاريخ جديداً عجيباً دائماً! مع الأيام الخالدات التي مضى الدهر وتركها للناس لأنها الساعات الفاصلة في وجود نوعهم على وجه الأرض. . . فهم يحتفظون بها في يقظة واعتزاز ويسلمونها كذلك إلى الذريات والأنسال
ولقد كتبوا بدمائهم وآلامهم براهين جديدة على صدق مولانا محمد، وأنه لن يزال مستطيعاً بحفنة من أبنائه أن يفعل في الدنيا الجديدة ما فعله في الدنيا القديمة بحفنة (بدر)!
أتقرءون أيها القراء أخبار ثورة فلسطين كما تقرءون بقية الحروف السوداء في الصحف؟
إني أقسم أني أراها حمراء نارية، صارخة، مطاردة، متربصة، لها وجوه وأجسام تسعى على الصحف كما تسعى وتحيا معانيها ومدلولاتها في الجبال والوديان والكهوف والمدن والقرى!!
إنها أول ما أبادر إلى قراءته كل يوم قبل الوضوء والصلاة لأغسل قلبي بالدم الكريم الذي يفيض من حروفها على نفسي. . ولأتلوها صلاة قبل الصلاة المكتوبة التي أقف فيها بعدئذ بنفس تشعر أنها ذليلة طريدة لم تدخل إلى الله كما دخل هؤلاء المجاهدون، وتشعر أنها في آخر الصفوف حين تكتفي في خدمة الله والحق والمجد بتزويق الحروف!
وقد أصبحت حريصاً على أن أدخل إلى نفسي في صباحها ومسائها أخبار هذه الزلزلة والتحطيم ومصارعة عوامل قوة الضعف لعوامل ضعف القوة، لأرى كيف تترك النفوس المؤمنة الشريفة حياة اللذة والرفاهية وتعيش في الجبال مشردة كالصقور والنسور. ولا ريب أن هذا يفتح أعيننا اللاهية على آفاق في الحياة رؤيتها ألذ من اللذة بألوان النعيم المعهود
ولقد أصبحت أكرر دائماً هذه الجملة:
لابد من جنون أيها العقلاء!(272/30)
وهي جملة أوحاها إلي قلمي مصرع الشهيدين عز الدين القسام وفرحان السعدي: الشيخين اللذين فتحا باب الثورة في فلسطين بتدبير جنوني في رأي من يستعبدهم واقع الحياة، وليس لهم إلهام العقيدة الذي يمتد بالملهمين إلى ما وراء عالم الأعين والحواس. . .
ولكن هذا التدبير أنتج صميم العقل والمنطق لأنه دفع بالقضية الفلسطينية إلى الموقف الفاصل بعد أن سئم المحقون الجدل مع (الثعلب) و (الأسد) في الحق الذي ينادي على نفسه وأصحابه. . .
وسواء انتهى النضال في فلسطين بفوز العرب أم بفوز أعدائهم لا قدر الله، فإنهم أعذروا وأقاموا الحجة وشفوا نفوسهم ونفوس العرب وخلوا أنفسهم من تبعات التقصير، والتبعة الكبرى بعد ذلك على بقية العرب والمسلمين
وآفتنا في قضايانا الوطنية هي هؤلاء العقلاء المناطقة الذين لا يعرفون الفرص التي يجب على الإنسان فيها أن يجن! وأول درجات جنونه ألا يفكر في نفسه، وأن يذهل عنها. وحين ينحرف لهذا عقله وطبعه يفعل الأعاجيب، ويحصل بالجنون من الحياة التي لم تنصفه العقول فيها على كل ما يطلب. . .
انظر إلى المنطق الذي يقعد المسلمين عن الموقف الحاسم في المشكلة الفلسطينية: إنه يتمثل في هؤلاء الأفراد الذين لا يدينون إلا بالفردية ويسخرون من الأشخاص السائرين وراء كلمة الشرف أو (الوطنية) أو (العقيدة) وهؤلاء مقيدون بواقع منافعهم وخصوصياتهم ولذاتهم وحماقات نفوسهم وأجسامهم، وليس عليهم وراء ذلك مسئوليات وتبعات
وهؤلاء هم الذين يقعدون دائماً بأممهم عن الوثبات والقفزات لأنهم غلف القلوب عمي العيون عاجزو الأقدام
فلو فكر الفلسطينيون (بالعقل الوضعي) و (الواقع العملي) في قوة إنجلترا وغنى الصهيونيين، مقارنين ذلك بضعفهم وفقرهم أكانوا أقدموا على عمل شيء من هذه المعجزات التي يقومون بها الآن؟
لقد انطلقوا من كل قيد وصاروا قوة تفكر بالرؤوس والأرجل والأيدي كما توحي الساعة وتلهم الظروف وتحتم الحياة. وصاروا قوة من قوى الطبيعة الغاضبة كالأعاصير والزلازل والبراكين(272/31)
أولى بساستنا وجماهيرنا أن يشعروا حلفاءنا الإنجليز في موقف حاسم تتجمع فيه كل الإيرادات بما في طويتنا من أننا لا يمكن أن نسلم بأن تخرج فلسطين من أيدينا.
والواقع أن هذا هو ما سيكون. ولكن ترددنا وتفرقنا وعدم إظهار مكنون صدورنا في الوقت المناسب هو الذي أطمع اليهود وأوهم الإنكليز أننا سنخدر بالتدريج ونخدع عن مصير فلسطين.
وأؤكد أن الفلسطينيين والمسلمين لو أبدوا من ابتداء ظهور القضية الصهيونية ما يبدونه الآن من الثورة العملية في فلسطين والثورة النفسية المنذورة بالشر في كل بقاع العرب والمسلمين. .
ما سارت فلسطين إلى مطمع لليهود. ولكن ترددنا وانقسامنا وعدم النظر البعيد إلى المستقبل هو الذي أطمعهم في أن يكون لهم حق فيها وان يصير هذا الحق مكتسباً بتوالي الهجرة.
يا أهل فلسطين المعذبين! وحق العزة والشرف لأنتم أسعد المسلمين الآن، وأغناهم وأكثرهم أمنا!
أسعدهم، لأنكم تركتم نحس الذلة وكآبة العبودية، وتحررتم من كل شهوة دنيئة إلى الحياة الحقيرة المحدودة التي يرومها لكم المتآمرون عليكم
وأغناهم؛ لأنكم ملكتم دنياكم وظروفها إذ ملكتم أنفسكم الرحبة العظيمة وصرَّفتم مقدرات وطنكم بها ولم تبيعوا منها شيئاً بشيء من أوساخ الدنيا وأثمان الناس. . بل جعلتموها وقفا محبوسا لله يأخذ منها ويوزع على المسلمين الفقراء إلى النفوس. .
وأكثرهم أمناً؛ لأنكم لكم ما تخافون عليه من الموت بعد أن صار الفداء مشتهى أحدكم. ومتى ما صارت المنايا أماني فالأموال والثمرات والأولاد تسقط من موازين التقدير وحساب الموجود والمعدوم. والنفس تنطلق كما ينطلق الإعصار لا يبالي أن يقع بجسمه على مطرح لين رخو كماء البحر، أو على مطرح قاس كوجه الصخر! إنه قوة مسلطة جائحة، قيل لها من إرادة الحياة العليا: كوني طائعة في يدي. . . ثم هُبي ثائرة جارفة كما أريد فكانت. . .
فالنفس الثائرة لحق الله وحق الحياة، آمنة غاية الأمن ولو طبخت بالنار. . . ولو زلزلت(272/32)
من تحتها الأرض. . . ولو وقع عليها سقف الدنيا!
أيها المسلم!
أيها العربي!
أدفع ثمن ما تأخذ من أهل فلسطين كل يوم من المعاني الكريمة التي تخلقك خلقاً آخر. . . أدفعه للأرامل والأيتام والعجزة المنكوبين في سبيلك وفي سبيل مقدساتك
أدفعه لنفسك إذا كنت ذا نفس!
وإذا كنت أثيراً أنانياً لا تفهم هذا الكلام فافهم وتعلم أن تطفئ النار التي في بيت جارك قبل أن تمتد إلى دارك
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(272/33)
البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 4 -
الفجر في سورية
حديث الدكتور الكيالي
إن وزير المعارف والعدلية الدكتور الكيالي رجل قصير القامة ذو شكل عادي لا يوجد في كلامه أو مظهره ما يميز عن غيره. ولما زرته لأول مرة في مكتبه في (السراي) وجدته شديد التحفظ والخجل، ولكنه فيما بعد بينما كنا نتناول طعام الغداء معاً شعر باهتمامي الزائد فخرج من تحفظه وحدثني حديثاً شائقاً إرضاني أكثر من أي حديث آخر في زيارتي سورية. وقد تبين لي من حديثه أن اهتمامه بروح الأشياء أعظم من اهتمامه بالأشياء نفسها. قال:
(إنه لا خوف على الناحية الفكرية من التعليم في سورية. فالسوريون أذكياء، وقد هضم شبابنا القسم العلمي من منهجهم الدراسي بسرعة، إلا أننا نجد صعوبة في إيجاد واسطة تعبر تعبيراً صحيحاً عن الدافع الروحي وراء ميولهم. ولا شك أن هذا لا يتحقق إلا بإدخال الروح الديني الصحيح على المعارف العامة)
وتوقف الدكتور الكيالي لحظة كأنه يتساءل عما إذا كنت قد صدمت بعبارة كهذه يتفوه بها رجل تربى تربية علمية، ولكنه لما رأى إمارات الموافقة على وجهي استرسل في حديثه وقد زاد حرارة عن ذي قبل. قال:
(ما هو الدين؟ وهل هو عبارة عن دخول المساجد أو إطاعة قوانين الكنائس؟ قد يكون الدين الذي من هذا النوع ضرورياً لغير المتعلمين الذين لا يعرفون ما يمكن جنيه من نتاج الأفكار والعلوم الحديثة. إلا أن هناك نوعاً آخر أبعد نظراً من هذا، ألا وهو السعي الروحاني وراء شيء أسمى من المادة. والرغبة في هذا السعي موجود في كل واحد منا وإن خنقها التعليم المغلوط وجمود القواعد الدينية المقررة عند الطوائف المختلفة. ويمكن(272/34)
تحقيق هذه الرغبة عمليَّاً بواسطة تقوية العقيدة الدينية. إن من واجب الدولة أن تنبه هذه الرغبة في شبابها وأن تفسح لهم المجال للتعبير عنها، إذ بدونها لا تبقى ثمة فائدة للدين أو العلم
(وفي نفس الوقت لا يمكن لوزارة المعارف أن تلعب دور المنافس للمؤسسات الدينية مع أن هذه المؤسسات لا تقوم دائماً بما هو مترتب عليها، وأكثر رجالها يشكون من ضعف الشعور الديني ضعفاً يزداد يوماً عن يوم بينما تتوالى الطلبات على المراجع المختصة في الوزارة من الآباء الذين يرغبون في تعميم التعليم الديني
(وكيف يمكن إجابة طلبات كهذه؟ إن الأولاد الذين شبوا في محيط تشتد فيه محافظة الآباء على الناحية الشكلية من الذين يجب ألا يخرج تعليمهم الديني على القواعد المألوفة والمعروفة، في حين أن الذين قد خرجوا على القواعد التقليدية بتأثير الأفكار الغربية يجب أن يهذبوا تهذيباً دينياً يوجه شعورهم الديني نحو تقوية العقيدة ويكون بعيداً عن الاختلافات المذهبية
(إن الأثرة صفة بارزة في شبابنا، ونحن في أشد الحاجة إلى تبديلها بصفة أسمى ترمي إلى حملهم على التفكير في المجموع، وإن كان تحقيق هذا الهدف أمراً عسيراً. يجب أن نشجع التعاون القائم على إنكار الذات: ومعنى ذلك أننا في الصناعة السورية مثلاً يجب أن نفضل جهود الجماعات وشركات التعاون على الجهود الفردية التي تنحصر غايتها في نفع الذات
(إن أمام جميع الأقطار العربية هدفاً واحداً في التعليم يجب عليها السعي لتحقيقه، ألا وهو تنبيه الشعور الاجتماعي في الصغار وتلقينهم معنى الخدمة العامة أو - باختصار - السعي لإظهار أحسن ما فيهم من صفات كامنة)
كان وزير المعارف، بين من قابلت في سورية، الرجل الوحيد الذي يتكلم بما يمليه عليه صوت قناعته الوجدانية، ذلك الصوت الذي لم أسمعه منذ أيامي الأخيرة في القاهرة، ومنذ تحدثت إلى الملك ابن السعود. وهو نفسه الصوت الذي يحطم الحواجز التي كثيراً ما حالت دون تفاهم العقلين الشرقي والغربي تفاهماً صحيحاً
رأي البطريرك
لم يكن كره الأساليب التقليدية للدين محصوراً في طبقة معينة من السوريين بل هو كره(272/35)
عام لمسته في كل مكان، وقد قال لي البطريرك نفسه إن الطبقات الفقيرة إنما تعتبر الدين واسطة اقتصادية. وقد أخذ أفراد هذه الطبقات في اتباع الكنيسة التي تقدم لهم أكبر مساعدة مالية بصورة مباشرة أو بشكل صدقة. وقد اعترف لي بأن كل الكنائس في سورية قد بدأت تشعر بوطأة ضعف الشعور الديني
حديث فخري البارودي
إن المعروف عن فخري البارودي أن الجماهير تحبه حباً لا يشاركه فيه غيره من رجال السياسة في سورية، وهو نائب دمشق وزعيم الشباب السوري. وقد طلب مني أن أزوره ذات صباح في (مكتب فخري البارودي) المشهور. ولما فعلت استقبلني عند الباب عدد من الشبان ألقوا علي بعض الأسئلة، ثم قادوني إلى باحة داخلية نفذنا منها إلى غرفة كبيرة فارغة نصبت في إحدى زواياها منصة صغيرة جلس فوقها فخري البارودي وراء مكتب صغير يستقبل الزائرين الذين كانوا يساقون إليه الواحد بعد الآخر، فإذا اقترب منه أحدهم مال إلى أذنه وهمس بعض الكلمات بحيث لم يستغرق حديث الشخص الواحد أكثر من دقيقة. إن هذه الحالة حملتني على الظن بأن هناك مؤامرة تحاك لا نائباً يستمع إلى مطالب ناخبيه
ولحظت خارج الغرفة بعض الشبان وهم يرتدون الخوذ والقمصان الرمادية اللون ويرفعون الأيدي بالسلام الفاشستي، وكلهم متلهف لتلقي أوامر القائد، فتنبهت إلى أن هذا المكتب هو في نفس الوقت مركز أول هيئة عسكرية لتنظيم الشباب في سورية وهي فرق القمصان الحديدية.
لم أجد في مظهر فخري البارودي ما يبرر نفوذه السياسي وتعلق الشباب به، فهو رجل نحيف قصير القامة قد تجاوز الخمسين من العمر، وهو في شكله وحركاته وسكناته يمثل سكان الشرق الأدنى أحسن تمثيل. شعره خفيف وغير مرتب، وهو ذو حيوية عصبية هائلة تجعله يقفز من هنا إلى هناك بسرعة واستمرار. ولكني مع ذلك لم أشك قط في إخلاصه الملتهب الذي لمسته فيه أثناء الحديث فرفعه في نظري وجعله ذا شخصية جذابة بعد أن كنت أميل إلى الظن بأنه لا يختلف عن أي سياسي عادي كثير الكلام والحركة.
ولما انقطع حبل الزائرين أخذني إلى غرفته الخاصة في الطابق العلوي حيث سألته:(272/36)
- (وكيف حظيت بهذه المكانة في القلوب؟ وهل توصلت إليها عن طريق الخطابة؟)
فدهش في أول الأمر ثم التفت إلى ثلاثة من الشبان وقفوا بين يديه ينتظرون أوامره وسألهم:
(الخطابة؟ وهل أنا خطيب؟ وهل بذلت جهوداً خاصة لاكتساب قلوب الشباب؟)
فهز الثلاثة رؤوسهم ثم ضحكوا. . .
ومع ذلك فقد أكد لي كل من حدثته في دمشق أن خطبه قد ساهمت مع إخلاصه ورفعته إلى المكانة التي يحتلها. إنه يعرف كيف يستعمل لغة الجمهور الذي كثيراً ما دخل السرور إلى قلبه وضحك ملء شدقيه لتورية خبيثة أتى بها أو فكاهة تفوه بها، وعلى هذا فإن بعض الناس يميل إلى اعتبار فخري البارودي (أفكوهة قومية) لأنه في نظرهم غير جدي، مع أن هناك براهين عديدة على أن إخلاص الخطيب ومحبة الجمهور له لأبلغ أثراً من المواهب الأخرى التي لها صلة بالعقل والأخلاق
وسألته:
(وما هو في نظرك الواجب الأول للشباب السوري؟)
فأجاب:
(أن يحصلوا العلم الذي يجعلهم مساوين لشباب أي شعب أوربي. ومع ذلك فلا تكفي المعرفة والعلم وحدهما: يجب أن نربيهم تربية قومية وسياسية لا يحتاجها شباب بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول التي لها كيان قومي وقد نالت استقلالها منذ أمد بعيد. أما نحن فإننا مازلنا نسعى إلى تحقيق استقلالنا القومي التام، ولهذا فإن فكرة القومية هي أسمى أهدافنا، فلا فائدة لنا من وجود الأطباء والمهندسين الأخصائيين إذا لم يكن الشعور الوطني قوياً عندهم
(إن مثل شبابنا الأعلى - وهو المثل الأعلى لكل السوريين - هو الوحدة العربية. وأول خطوة لتحقيقها الاتحاد مع لبنان، ثم مع باقي الأقطار العربية الواحدة بعد الأخرى. وستدخل مصر نفسها في هذه الوحدة آجلا أو عاجلا. قد نحتاج لتحقيق الوحدة إلى عشرين سنة أو خمسين ولكنها لا محالة واقعة في النهاية)
(يتبع)(272/37)
علي حيدر الركابي(272/38)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
(بقية المقال الثامن عشر)
والآن نستعرض حالة دامية وجيعة، عميقة الألم والفجيعة، يزيدها جرحا وإيلاماً ما يبدو به قائلها من تماسك وتجلد وتجمل.
إنه (يوم الظنون): يوم يقف الإنسان تتجاذبه الدوافع والانفعالات، ويتقاذفه الإقدام والإحجام، وتتراءى له المسارب والطرقات، وهو لا يدري أيها أولى بالاتباع، بل هو لا يملك أن يدري، لأنه مسلوب اللب والإرادة
فإذا وضعت إلى جانب هذه الصورة شخصية العقاد الجبارة، أمكن أن تدرك مدى الألم العاصف، ومبلغ الفاجعة القاصمة:
يومَ الظنون صدعتُ فيك تجلدي ... وحملت فيك الضيم مغلول اليد
وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي ... ما لان في صعب الحوادث مِقودي
وغصصت بالماء الذي أعددته ... للري في قفر الحياة المجهد
لاقيت أهوال الشدائد كلها ... حتى طغت فلقيت ما لم أعهد
نارَ الجحيم إليَّ غير ذميمة ... وخذي إليك مصارعي في مرقدي
حيران أنظر في السماء وفي الثرى ... وأذوق طعم الموت غير مُصرَّد
أروَى وأظمأ: عذبُ ما أنا شارب ... في حالتيَّ نقيع سُم الأسود
وأجيل في الليل البهيم خواطري ... لا شارق فيه ولا من مسعد
وتعيدُ لي الذكرات سالف صبوتي ... شوهاء كاشرة كما لم أشهد
مسخت شمائلها وبُدِّل سمتها ... وبدت بوسم في السعير مخلد
يا صبوة الأمس التي سعدت بها ... روحي، وليت شقيها لم يسعد
وعرفت منها وجه أصبحَ ناضرٍ ... ورشفت منها ثغر العس أغيد
سومحتِ بل جوزيتِ كيف وعيت لي ... بالأمس فيك ضراوة الذئب الصدى؟
سومحت بل جوزيت كيف طويت لي ... زرق الأسنة في الإهاب الأملد
أمسيت حربي في الظلام وطالما ... جلّيت لي وجه الظلام المربد(272/39)
ورجعت أهرب من لقاك وطالما ... ألفيت عندك في الشدائد مقصدي
ما كان من شيء يزيد تنعمي ... إلا يزيد اليوم فيك تلددي
أواه من أمسي ومن يومي معاً ... والويل من طول التردد في غدي
أهب الخلود كرامة لمبشري ... أن ليس يومي في العذاب بسرمد
وأبيع حظي في الحياة بساعة ... أنسى بها عمري كأن لم أولد
وأسوم مرعى العيش غير مزود ... وأرود روض الحسن غير مقيد
يا للهول! لكلما قرأت هذه القطعة سرت رعدة في مفاصلي، وقشعريرة في كياني، وأحسست أمامي بإنسان يعتصر نفسه قطرة قطرة في ألم مبرح كظيم. وهو مع هذا يقظ متنبه لكل وخزة لا ينسى أن صبوة الأمس كانت تخفي في طياتها ضراوة الذئب الصدى، وأنها كانت تفعمه متعة، لتفعمه بعد ذلك ألماً منشؤه هذه المتعة ذاتها لا سواها
وفي يقيني أن هذا أفجع موقف مر بالشاعر، وقد لقي أياماً كثيرة من أيام الظنون، ولكنها ليست من هذا النوع المسموم؛ وما كان ليستطيع بعده أن يفارقه، وما كان قلبه ليصلح أن يوغل في الحب هذا الإيغال، وأن يأخذه بهذا الجد الصارم الذي يجعل الشك فيه دامياً تنضح منه النفس قطرات
وقد عاد إلى الحديث عن هذه (الظنون) في قطعة (الحب المريب) من الوزن والقافية والشعور! فكشف عن حالة نفسية فريدة، صور فيها كيف يحيل الشك متعة اللقاء إلى جحيم لا يعد له جحيم الفقدان، وكيف يقيم الحواجز والأبعاد بين أقرب قريبين في الوجود:
إني لفي ألمي بقربك كالذي ... يحنو على ولد مريب المولد
أبدا يغص بقربه ويبعده ... ما بين عطف أب وجفوة مبعد
وأراك طوع يدي وألبث حائرا ... بين المحاذر منك والمتودد
أرضى وأغضب، لا الرضا ببالغ ... أمن اليقين ولا الغضاب بمهتد
وأظل أسخر من رضاي وغبطتي ... وأظل أسخر من عذابي الأنكد
وأشد من برح اللقاء بلية ... تأبى الشقاء عليك غير مفند
يا هذه الدنيا أيندم باذل ... يعطي القنوط ندامة المتردد؟
جودي علي بشقوة لم ترجعي ... فيها على ندم إذا لم تسعدي!(272/40)
ونستعير هنا من حديث العقاد عن (همام) في (سارة) ما نستعين به على شرح هذه الحالة التي صورها في نفس صاحبه أبدع تصوير:
(كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة. كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا؛ ولا يزال ينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار؛ وكثيراً ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة، في مداعبة الفريسة قبل التهامها؛ فينفرج وينفرج وينفرج، حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض، ولا مكان للتحول والانحراف: بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام، فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.
(وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذباً عنيفاً بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة ولا إلى الاتهام. . . بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام، فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب؛ وهكذا إلى غير نهاية، والى غير راحة ولا استقرار)
حتى إذا انتهى من الظن إلى (اليقين) كان يقيناً قاتلاً دامياً كالظنون!. وهي كذلك حالة فريدة من الحالات النفسية التي تجيش بها نفس العقاد الخاصة:
مضى الشك مذموماً وما كان ماضيا ... فليتك تمسي عن يقينك راضيا
وجل عن التصديق أنك هاجر ... وأنك مهجور وأن لا تلاقيا
فلله ماذا حل بالقلب فارغوي ... وآمنت بالحق الذي كنت آبيا
وأمسيت تدري أن للود غاية ... وأن زماناً سوف يلقاك خاليا
وعشت ترى حبا كحبك ينقض ... وما خلته إلا يد الدهر باقيا
مضى غير مردود كأنك لم تكن ... بعينيك ترعاه وبالنفس فاديا
ألا لا تذكرني بصدق وددته ... على جنبات الغيب ما زال خافيا
ألا لا تذكرني يقيناً شريته ... بأنفس ما يغلو به الشك شاربا
لكذبتُ صدق الهجر لو أن موطناً ... من الشك يوماً لم أثب منه خاويا(272/41)
سل الصبح كم ماريتهُ كلما بدا ... ولم يبد فيه ذلك الوجه حاليا
سل الليل كم جافيتهُ كلما سجا ... ولم أرتقب فيه الحبيب الموافيا
سل النيل كم أنكرته كلما جرى ... ولم ألق فيه ذلك الحسن جاريا
سل الدار كم ناشدتها القرب راجيا ... وأرهفت في أنحائها السمع صاغيا
ويخدعني ما اعتدت من طول قربه ... فأحسبه عندي وقد بات نائيا
يريب فمي صمتي لياليَ لا يرى ... على خده منه نجيا مناغيا
وتنكرني كفي ليالي لا ترى ... على خصره منها نطاقا مدانيا
وتطلبه مني جفون تعودت ... على البعد أن تلقاه في الحي آتيا
ويسألنيه كل يوم وليلة ... فؤاد يراه حيثما كان رائيا
وأين؟ ولو أني قدرتُ لما غدا ... به القلب ملتاعاً ولا الجفن شاكيا
وكيف بالنسيان الأليف الذي به ... تذكره الدنيا إذا راح ناسيا
تفقده في كل شيء فما انثنى ... فآمن بعد اليأس بالبين عانيا
سل الروض مطلولا. سل القفر صاديا ... سل النجم لماعا. سل البدر ساريا
فإنك تدري كيف صدقت باسما ... إذا بت تدري كيف كذبت باكيا
وإنك لا تخشى ردى الموت بعض ما ... خشيت ردى الحق الذي لاح هاديا
وهكذا سار إلى اليقين، بعد ما طرق كل باب من أبواب الشك، فعاد منه خاويا، ولم يصر إليه مع هذا في سهولة ويسر، ولكنه أنكر الدنيا ومعالمها، وأنكرته نفسه وجوارحه. ولولا إرادة من حديد، ما ثاب إلى هذا اليقين الأليم.
علام تدل هذه الصورة النفسية الفريدة؟
إنها دليل الثروة في الأحاسيس، والانفساح في الشعور، ومظهر الحياة النفسية المهيأة للتأثر، القابلة للصوغ والإنشاء.
وهذا وذلك من ميزات المدرسة الحديثة، التي تخلص للحياة والإحساس بها، لا للأوراق وما حفظته منها
وفي ماضي الأدب العربي كله وحاضرة كذلك، لا تجد نظيرا لهذه الصور النفسية، مع شيوع الأحاسيس التي تستدعيها في كل حب قديم أو حديث(272/42)
إنما هي النفس المهيأة، والطبيعة الخصبة، لا الحادثة التي تخلق القول أو الإحساس
(حلوان)
سيد قطب(272/43)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 39 -
(أشكر للأديب الفاضل - عبد القادر جنيدي بحمص - رأيه في هذه الفصول التي أكتبها من تاريخ المرحوم الرافعي؛ كما أشكر لغيره من الأصدقاء الكرام الذين رأوا في هذه الفصول ما يحملهم على الحديث عنها في صحف مصر والأقطار العربية ناقدين أو معجبين أو معقبين. . .
(على أن اعتراض صديقنا الأديب (جنيدي) على السبب الذي نسبنا إليه مقالات (الانتحار) لا يغير شيئاً من حقيقة ما كتبت؛ فإن سببها هو الذي ذكرت فيما سبق؛ أما الرسالة التي يقول الأديب الفاضل إنها وردت إلى المرحوم الرافعي من حمص وأشار إليها في الاستطراد المنشور بذيل كلمته المنشور في العدد 95 فقد جاءته اتفاقاً في الوقت الذي كان يتهيأ فيه لكتابة مقالات الانتحار لسبب سابق، وأحسب الرافعي قد حرص على الإشارة إلى هذه الرسالة في ذيل كلامه ليصرف ظن بعض القراء عن صديقنا الأستاذ (م) الذي كان نبأ شروعه في الانتحار بين الذيوع والكتمان، حتى لا يؤذيه في وقت هو مسئول فيه أن يخفف عنه، إذ كانت نزوة يحرص على كتمان خبرها. وما تزال رسالة الرافعي إلى صديقه (م) محفوظة لديه ذلك، وعلى هامش هذا الجواب إشارات بقلم الرافعي إلى جمل وعبارات من هذا الجواب نقلها الرافعي بنصها في الجزء الرابع من مقالات الانتحار؛ وكان الأستاذ (م) قد اشترط على الرافعي حين كتب إليه جوابه أن يرده إليه بعد أن يقرأه لأن فيه بعض سره، فوفى له الرافعي بما شرط، فاجتمعت - بذلك - الرسالة وجوابها عند الأستاذ (م) عافاه الله وفسح له!)
(م. سعيد)
المشكلة(272/44)
استملى الرافعي موضوع (المشكلة) من رسائل قرائه إليه وصاحب هذه المشكلة هو صديقنا الأستاذ كامل. . . وهي كانت أول صلته بالمرحوم الرافعي ولم يكن لقيه من قبل؛ ولقد كانت قبل أن يكتب إليه مشكلة اثنين: هو وهي؛ فصارت من بعد مشكلتهما ومشكلة الرافعي معهما إذ لم يجد لها حلا. ولقد شغلته هذه المشكلة زمناً غير قصير، ثم اتصل بموضوعها عن كثب حين اتصلت أسبابها بصاحبها وصاحبته. وقد كتب الرافعي ما كتب في هذا الموضوع، ثم مضى وخلف دنياه وما تزال هذه المشكلة قائمة تنشد من يحل عقدتها. . .
كان ذلك في الخريف من سنة 1935 حتى جمعتني ظروف العمل بصديقي الأستاذ كامل في إحدى مدارس القاهرة؛ ولم يمض على تعارفنا أيام حتى استودعني كل السر. . .
. . . فقد أمه وهو غلام، فلم يلبث غير قليل حتى حلت غيرها محلها في بيت أبيه. وكان أكبر ثلاثة أخوة، فاقتضاه حق أخويه عليه أن يستشعر معاني الرجولة وما يزال في باكر الشباب. ورأى أبوه أن عليه شيئاً لهذا الرجل الصغير فسمَّى عليه بنت خاله قبل أن يدرك؛ ورأت تقاليد الريف الذي نشأ فيه أن عليها دوراً في هذه القصة فحجبت الفتاة عن خطيبها ولما تبلغ التاسعة وأغلقت دونهما الباب. . . ومضت سنوات وسنوات وسنوات وهو لا يراها ولا تراه، وفرغ من حسابها بينه وبين نفسه، ثم نسى ما كان وما ينبغي أن يكون؛ وكان يبغضها بغض الطفل والطفلة، فلما باعدت بينهما السنون انقطعت بينهما أسباب الكره والمحبة فلا يذكرها ولا يذكر شيئاً من خبرها. . .
وانتهى الفتى إلى مدرسته العالية وابتعد عن أعين الحراس والرقباء في القرية، فمضى على وجهة في القاهرة العظيمة يلتمس لذات الشباب. . .
وكان له فكر وفلسفة، وفيه خلق ودين ومروءة، وبين جنبيه قلب يحس ويشعر ويتأمل؛ وعلى أنه كان يهيئ نفسه ليكون من أساتذة (العلوم) فإنه كان ولوعاً بالأدب مشغوفاً بمطالعته، فكان له من ذلك روح وعاطفة ورقة؛ وكان في دمه ثورة وغليان، وكان في عقله مثال يريد أن يحققه، وكان في رأسه شِعر يحتاج إلى بيان؛ وكان له من كل أولئك قلب يتحفز لوثبة من وثبات الشباب في قصة حب؛ ثم لم يلبث أن اشتبك في الملحمة. . .
وأحبها وأحبته فما كان له من دنياه إلا الساعة التي يلتقيان فيها، وما كان لها. .(272/45)
وأجمع أمره على أن يتزوجها لينعما بالحب ويحققا المثل الذي ينشدانه من زمان؛ وكان قد مضى على الباب المغلق بينه وبين الفتاة المسماة عليه بضع عشرة سنة. . فما يذكرها ولا يفكر فيها. . وكان نائما يحلم حين ترامى الخبر إلى أبيه بما أجمع أمره عليه، فما وجد أبوه وسيلة إلا بتعجيل زفافه إلى بنت خاله وفاء بوعد مضى في ذمة التاريخ. . .!
غضب الفتى واحتج وثارت كبرياؤه ورجولته أن ينزل على رأي أبيه في شأن هو من خاصة شئونه؛ ولكن الكثرة من أعمامه وأخواله قد أرغمته على إرادته، وساقته في عماية إلى دار خاله ليزف على عروسه ثم يصحبها في السيارة من ليلته مرغما إلى بيته في القاهرة. . . وابتدأت المشكلة. . .
. . . هذه الفتاة هي بنت خاله، وهي زوجه أمام الله والناس، ولكنه لا يحبها؛ ولكنه لا يطيق أن ينظر إليها؛ ولكن فتاة أخرى تنتظر؛ وأن عليه واجبا تحتمه عليه رجولته. . .
وما أطاق أن يمنحها نظرة أو يبادلها كلمة على طول الطريق حتى بلغت السيارة بهما الدار في القاهرة. . . كانت إلى جانبه ولكنه هناك، عند صاحبته التي فتنته واستولت عليه؛ فما نظر إلى وجه زوجه لأول مرة منذ بضع عشرة سنة إلا حين همت أن تنزل من السيارة لتدخل داره. . .
وكان حريا أن تثوب إليه نفسه حين نظر إليها فيعود إلى الحقيقة التي كتب عليه القدر أن يعيش فيها، ولكنه لم يفعل، وما رأى زوجته حينئذ إلا سجانه الذي يحرمه أن يستمتع بالحرية التي وهبها له الله يوم وهب له الحياة، وتأرَّثت في نفسه البغضاء من يومئذ لهذه المسكينة. . .!
وعاشت في بيته بضعة أشهر كما يعيش الضيف: لا يقاسمها الفراش، ولا يؤاكلها على المائدة، ولا يؤنسها من وحشتها بكلمة. . . فما تراه ولا يراها إلا في الصباح حين يخرج إلى عمله، وفي المساء حين يعود إلى داره قبيل منتصف الليل، وما كان بينهما من صلة تجمعهما إلا البغضاء التي تؤج في صدره، والحسرة التي تتسايل دموعا من عينيها، وإلا هذه الخادم التي تقوم لسيدها بشئونه وتقوم لها. . .
ولم يفتر صاحبنا عن لقاء صاحبته والاختلاف إلى ملتقاهما؛ على أن ذلك لم يزده إلا ولوعاً بحبيبته وتبرما بزوجته. . .(272/46)
ومضت الأيام تباعد من ناحية لتقرب من ناحية، حتى جاء اليوم الذي وجد صاحبنا فيه أنه غير قادر على احتمال هذه الحياة أكثر مما احتمل. . . فمضى يدبر أمرا للخلاص من هذه المشكلة، ولكن المشكلة زادت تعقيداً على الأيام ولم يجد وسيلة إلى الحل. . .!
كان كل طريق يفكر فيه للخلاص محفوفاً بأشواك؛ فلا هو يرضى أن يطلق زوجه، ولا هو يطيق أن يهجر حبيبته، وليس في استطاعته أن يجمع على نفسه همين؛ وكان تفكيره في ذلك هماً ثالثاً يضنيه وينهك أعصابه ويعرق عظامه!
وكتب إلى الرافعي يستفتيه في مشكلته. . .
كنت مع كامل حين كتب قصته إلى الرافعي؛ وفي مساء اليوم التالي كنت في مجلس الرافعي بطنطا وبين يديه قصة صاحب المشكلة لم يفض غلافها بعد. . .
وقرأ الرافعي الرسالة ثم دفعها إليَّ وهو يقول:
(ماذا ترى حلَّ هذه المشكلة؟)
قلت: (لقد جهدت جهدي قبل اليوم فما أفلحت!)
قال: (أو تعرف صاحب المشكلة إذن. . .؟)
قلت: (نعم، وما كتب إليك هذه الرسالة إلا برأيي)
وأطرق الرافعي هنيهة يفكر وفمه إلى الكركرة (الشيشة) كما هي عادته حين يستغرقه الفكر، ثم رفع رأسه إلى قائلا: (تعرف؟ إن صاحبك لمفتون بصاحبته إلى درجة الحمق والسفه، وما تنحل هذه المشكلة إلا أن يكون له مع نفسه إرادة صارمة، وأن يكون له سلطان على هواه، وهيهات أن يكون له! فما هنا إلا وسيلة واحدة ترده إلى رشاده فتنحل المشكلة. . .)
قلت: (فما هذه الوسيلة؟)
قال: (أن تدخل بينه وبين صاحبته دخول الشيطان فتفرق بينهما. . . أتراك تستطيع؟)
فضحكت وقلت: (ثم ماذا؟)
قال: (فإذا بدا له من سيئاتها ما ينكر، وإذا بدا لها. . . انتهى ما بينهما إلى القطيعة فيعود إلى زوجه نادماً، وإن مرور الأيام لخليق أن يؤلف بينهما من بعد!)
قلت: (فهمت، ولكن ماذا تراني أقول حتى أبلغ من نفسه ومن نفسها ما تريد؟ وهبني(272/47)
عرفتُ أن أقول له فمن أين لي أن أستطيع لقاءها فأتحدث إليها؟)
قال: (اسمع: أتراها تقرأ؟)
قلت: (إنني لأعرف مما حدثني عنها أنها قارئة أدبية، وأنها من قراء الرسالة، وقد كان فيما أهدى إليها كتاب (أوراق الورد) وأحسبها تنتظر ما تكتب في هذه المشكلة؛ فقد حدَّثها صاحبها أنه كتب إليك. . .)
قال: (حسن! فسأجرب أن أكون شيطاناً بينهما، بل ملَكا يحاول أن يرد الزوج الآبق إلى زوجته بوسيلة شيطانية. .!)
وكتب الرافعي المقالة الأولى من مقالات المشكلة، وكان مدار القول فيها أن يتنقص صاحبَ المشكلة ويعيبه وينسب إليه ما ليس فيه مما ينزل بقدره عند صاحبته، ثم نشر أجزاء من رسالته إليه ودس فيها ما دس مما يوهمها أن صاحبها هو كاتبه؛ وإن فيه لما يعيبها وبثلبها ويضعها بازاء صاحبها موضعاً لا ترضاه. فلما فرغ مما أراد جعل حديثه إلى القراء يسألهم أن يشاركوه في الرأي ويحكموا حكمهم على الفتى وفتاته بعد ما جهد في تصويرهما في الصورة التي أراد أن يكون عليها الحكم في محكمة الرأي العام، وترك الباب مفتوحاً لترى صاحبة المشكلة رأيها في القضية فيمن يرى من القراء. . .
ولقيت صاحب المشكلة من الغد، فسألني: (هل رأيت الرافعي؟)
قلت: (نعم!)
قال: (ورسالتي إليه!)
قلت: (بلغته!)
قال: (وماذا يرى؟)
قلت: (ستقرأ رأيه في الرسالة بعد أيام!)
وأخفيت عنه ما كان بيني وبين الرافعي من حديث وما دبّر من خطة. . . ونشرت المقالة الأولى من (المشكلة)، ومضى يوم، وجاء صاحبي غاضباً يقول: (كيف صنع الرافعي هذا؟) لقد نحلني من القول ما لم أقل. أتراني قلت عنها كما يزعم: لقد خلطتني بنفسها حتى لو شئت أن أصل إليها في حرام وصلت. . .! لقد ساءها ما نحلني الرافعي من الكلام، وقد تركتها الليلة غاضبة لا سبيل إلى رضاها. . .!)(272/48)
وتحقق للرافعي بعض ما أراد، وانثالت عليه رسائل القراء يرون رأيهم في هذه المشكلة، وجاء في ما جاء من الرسائل، رسالة من صاحبة المشكلة نفسها. . .
وفعل برسالة صاحبة المشكلة ما فعل برسالة صاحبها، ولكنه تلقاها تلقَّياً حسنا، ومضى يتحدث عنها حديثا ليس فيه من رأيها ولا مما تقصد إليه، ولكنه إيحاء، إيحاء إلى الفتاة بأنها في مرتبة أعلى، وأن ما بها ليس حبا وإن زعمت لنفسها هذا الرأي؛ ولكنه شيء يشبه أن يكون صورة عقلية لخيال بعيد تظنه من صور الحب وما هو به. . . ثم مضى يفسح لها الطريق للفرار من هذه المشكلة بالإيحاء والإغراء والحيلة. . .
وكانت المقالات الثلاث الأخيرة تعليقا على آراء القراء وسخرية ونصيحة.
وفرغ الرافعي من مقالات المشكلة فما هو إلا أن تلاشى الصدى حتى عاد فلان وعادت فلانه، وما تزال المشكلة تطلب من يحلها. ومضت ثلاث سنين وفي الأتون ثلاثة قلوب تحترق. . . وعلى مقربة من النار صبي يحبو ينادي أباه، وأبوه في غفلة الهوى والشباب. أترى إلى هذه المشكلة وقد دخل فيها عضو جديد قد أوشكت أن تبلغ نهايتها، فيكون حلُّها على يدي هذا الصغير وقد عجز الكبار عن حلها بعد مجاهدة سنوات ثلاث، أم هو قلب رابع سينضم إلى القلوب المحترقة في أنون الشهوات. . .!
ومعذرة إلى صديقي الأستاذ كامل. . .!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(272/49)
حول تيسير القواعد العربية
للآنسة أمينة شاكر فهمي
سيدي الأستاذ صاحب (الرسالة):
تحية وسلاماً. أما بعد فلقد تتبعت بشغف واهتمام مقالات الأستاذ الفاضل (أزهري) عن تيسير قواعد الإعراب إلى أن تم بحثه من عملية التيسير والتغيير، فدهشت جداً لما جاء في مقاله الأخير من تطبيق؛ وما كنت أظن أن موجة التبديل والتحوير تطفو يوماً على اللغة وتمسخها بهذا الشكل الذي ينكره كل مخلص للعربية. فمهما فشت عملية التمدين والتقليد فلا ينبغي أن تمس اللغة التي هي فوق كل المشكلات الاجتماعية والحزبية والعلمية أيضاً. إن لدينا مشاكل عدة أحوج إلى الإصلاح والتيسير من لغتنا المقدسة
نعم إننا نعيش في عصر السرعة التي وفدت إلينا من أمريكا، ولكن غريب أن تطغي السرعة على قواعد اللغة والإعراب فتختصره بهذه الصورة المدهشة التي يقدمها الأستاذ أزهري في بحثه الأخير. فقد اختصر الإعراب وحذف منه حتى كدت لا أتعرفه، وخيل إلي أنني أقرأ لغة أجنبية
غريب أن يتأثر الأزهريون بحياة السرعة الأجنبية فيستعملوها حتى في اللغة وهم حماتها من كل اعتداء. وإني أرجو سيدي الفاضل صاحب (الرسالة) أن يأذن لي بنشر ملحوظتي هذه ربما كان بها شيء من الصحة
لست أدري سبباً لكل هذه الضجة الهائلة على قواعد الإعراب واللغة ومحاولة تيسيرها، وليست اللغة بحاجة إلى تيسير، وإنما التيسير لازم للأسلوب الذي تلقن به اللغة للنشء والكيفية التي تقدم بها إلى التلاميذ. فلا داعي لأن تقوم جماعة الأدب الرسمي بإبدال وتغيير وتحوير وحذف هو أقرب إلى التعقيد منه إلى التيسير، فتضيع معاني الجمل، ويستحيل على التلميذ تفهمها إلا إذا حفظها حفظاً. والإعراب لا يحفظ، بل هو تحليل معنوي للجمل والكلمات.
وكأن اللغة لم يكفها ما نالها من جماعة الأدب الرسمي حتى جاءت الآنسة ابنة الشاطئ تملأ صفحات الأهرام بدفاع عن كل ما تجريه الجامعة من تغيير في اللغة سواء أكان ذلك حقاً أم باطلاً. وفي رأيي أن الفلاح وقضيته أحوج إلى دفاع الآنسة الفاضلة من اللغة(272/50)
وأخيراً جاء الأستاذ الفاضل (أزهري) يبحث في تيسير قواعد الإعراب ويتحفنا بدراسات تكاد تكون قيمة لو لم يناقض نفسه بنفسه ويزيد في تعقيد الإعراب، ثم يأتي بتطبيق غريب لا يتفق وقواعد اللغة. فكيف نعلم التلميذ إعراباً مخالفاً لما حفظناه من قواعد؟ وهل تغير كل قواعد اللغة كي تطابق الإعراب الحديث؟
يقول الأستاذ في مقاله الرابع: (إن الحرف لا حظ له من الإعراب أصلا). ثم يعرب (في، ومن، والباء) بأنها حروف جر مجزومة بالسكون أو مجرورة بالكسرة. ولفظة مجرور ومجزوم لا تستعمل إلا للألفاظ المعربة. والحروف كلها مبنية، فكيف نعلم التلميذ أن الحروف كلها مبنية ثم نقول له إن (في) حرف ولكنه حرف مجزوم؟! ثم ما هي العوامل التي جزمت أو جرت (في، ومن، والباء؟) هل سبقت بحرف جر أو جزم؟ أم كان موقعها في الجملة دافعاً لجرها وجزمها، مع العلم أن حروف الجر لا محل لها من الإعراب؟!
فكيف يتسر للطالب فهم هذه المتناقضات؟ وما المانع من أن نلقنه إعراباً مطابقاً لما جاء في كتب القواعد - من أن الحروف كلها مبنية، وأن (في) حرف جر مبني على السكون - كي تطبق القاعدة على الإعراب؟ وإلا وجب أن نغير القاعدة فنقول إن الحروف معربة وإنها تجزم وتجر وتنصب وترفع حسب موقعها في الجملة وما يتقدمها من عوامل؟! وفي هذا من الشذوذ والاضطراب مالا حد له
يقول حضرة الأستاذ في التطبيق الأول:
ألا إن قلبي لدى الظاعنين ... حزين فمن ذا يعزي الحزينا؟
(قلبي) مبتدأ منصوب. وباب المرفوع في كتاب النحو يثبت أن المرفوع من الأسماء المبتدأ والخبر واسم كان وخبر إن. . . الخ. فكيف يفهم الناشئ وقد حفَّظناه أن المبتدأ دائماً مرفوع - ثم نعلمه إعراب مبتدأ منصوب؟ فمتى يكون المبتدأ منصوباً ومتى يكون مرفوعاً؟ وهل نترك التلميذ المسكين يتخبط في هذه الظلمات أم نخترع له قاعدة جديدة تفهمه الحالات التي يكون المبتدأ فيها مرفوعاً أو منصوباً، وربما يكون مجروراً أيضاً؟ ثم نحذف القاعدة العتيقة التي تنص على أن المبتدأ يجب دائماً أن يكون مرفوعاً ونستبدل بها قاعدة (مودرن). وما الدافع يا ترى - وقد غرسنا في أذهان الطلبة أن إن وأخواتها تنصب الاسم - أن نحذف هذه القاعدة. فبدل أن نعلمهم إعراب (قلبي) اسم إن منصوب لأن القاعدة تنص على أن اسم(272/51)
إن وأخواتها دائماً منصوب - إذ نقول إنه مبتدأ منصوب وقد حفظ التلميذ أن لفظة (مبتدأ) لا يليها إلا كلمة (مرفوع) ولفظة (اسم إن) لا يليها إلا كلمة (منصوب)؟!
وليسمح لي سيدي الأستاذ الفاضل أن أقول إنه أسرف في اختصار الإعراب إلى درجة التشويه والتعقيد. فإن هذا الاختصار لا ييسر الإعراب بل يزيد في اضطراب التلميذ وتعقيد المعنى عليه. ففي اختصار إعراب (إن) وحذف ذكر عملها ينسى التلميذ أن الاسم الذي يليها يجب أن يكون منصوباً. ولا بد أن يستفيد التلميذ من تكرار ذكر هذه القواعد أثناء الإعراب فترسخ في ذهنه. وفي الإعادة إفادة.
ثم ما رأي الأستاذ في الضمائر؟ هل من رأيه أن نحذف لفظة (ضمير) من اللغة؟ فما باله يختصر إعراب الياء في (قلبي)؟ فهل يرهق التلميذ أن يقول ياء المتكلم ضمير متصل - لأن في اللغة ضمائر منفصلة - مبني على السكون - لأن كل الضمائر مبنية - في محل. . . فيطبق ما حفظ من قواعد على الإعراب.
أما (الظاعنين) فيجب على التلميذ أن يذكر أن علامة الجر هي الياء لأنه جمع مذكر سالم، إذ من الضروري تعليل كل حركة كي يطبق القاعدة على الإعراب وتثبت في ذهنه. أما إن اقتصر على أن (الظاعنين) مجرور بالياء فربما استغلق عليه المعنى وظن أن كل ياء علامة جر. وليس بمستبعد أن يظن أن ياء (غَنِيّ) علامة جر. وأذكر مرة إعراب تلميذ كلمة (لسان) إذ قال اللام حرف جر وسان مجرور باللام!
ويترك الأستاذ النون معلقة في الهواء. فكيف تنتظر أن يعرف التلميذ شيئاً عنها؟ ثم نشكو اللغة وصعوبتها ونعيب ما بها من تعقيد.
وأخشى أن تضيق صفحات الرسالة عن التحدث عن باقي التطبيق. وأكتفي بذكر فعل (ساد) في التطبيق الثاني للأستاذ (أزهري) إذ يقول إنه فعل ماض منصوب. والفعل الماضي دائماً مبني ولفظة منصوب لا تطلق إلا على المعرب من الأفعال وغيرها. فما هو الضرر من القول إنه فعل ماض مبني على الفتح؟
فإن كان قصد حضرات علماء اللغة من تيسير القواعد والإعراب هو اختصار الإعراب فإني أرى هذا الاختصار يزيد في ارتباك التلميذ. وأؤكد هذا بعد تجارب عدة قمت بها في تدريس القواعد والإعراب سنين عدة. ولقد نجحت في تدريس القواعد والإعراب بالتطويل(272/52)
وتعليل وتحليل كل حركة وكل شاذة عن القاعدة. وكانت حصة القواعد أقرب إلى حصة إثبات وتعليل وبحث وتطبيق منها إلى حصة دروس نحوية جافة.
إن ضعف الطلبة في اللغة العربية لم ينتج عن عيب في اللغة أو تعقيدها، بل ليسمح لي حضرات علماء اللغة أن أصرح أنه ناتج عن فساد طريقة التعليم، وأن مدرسي اللغة أحق بالعناية والتيسير من اللغة. ولله در من قال:
نعيب زماننا والعيب فينا. . .
وإنني واثقة أنه لو وجه حضرات المشتغلين بالتيسير اهتمامهم إلى مدرسي اللغة في كل المدارس وحاولوا أن تكون طريقة إلقاء الدروس النحوية والتطبيق على أسلوب التحليل والتعليل بسهولة وسلاسة لزال كل ما يشكو منه الطلبة من صعوبات وسلمت اللغة من خطى عملية التيسير.
وخير لنا ألا نستعمل السرعة الأمريكية في تغيير قواعد اللغة والإعراب، فإن هذا عمل أخطر من أن يتم في هذه المدة الوجيزة وبهذه السرعة.
فنحن مسئولون أمام العالم الشرقي كله عن كل حرف يحذف أو يضاف إلى اللغة، وعن كل تغيير في كتب القواعد التي تثبت أجيالاً مضت ولم نثبت بعد خطأها ولم نأت بأحسن منها.
أمينة شاكر فهمي(272/53)
تاريخ الحياة العلمية
في جامع النجف الأشرف
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
(تابع)
وتدل الآثار أنه كان في عهد عضد الدولة حول القبر الشريف العلوي مدرسة إسلامية فيها الفقهاء والقراء يتعاهدها بخيراته ذلك الملك العمراني المحب للعلم وأهله
ففي فرحة الغري عن يحيى بن عليان الخازن بالقبر الكريم أنه وجد بخط ابن البرسي المجاور بمشهد الغري على ظهر كتاب بخطه: قال توجه عضد الدولة عام 371هـ إلى المشهد الشريف الغروي وزار الحرم المقدس فكان مما فرقه ألف درهم على الناحية (الذين ينوحون على الحسين) وثلاثة آلاف درهم على الفقراء والفقهاء. وروى ابن مسكويه في تجارب الأمم (ص407ج6) وابن الأثير (ص234ج8) أنه في عام 369 أطلق عضد الدولة الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالغري وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرت لهم الأقوات
وفي أثناء عهد عمارة عضد الدولة حصل حادث مهم في تاريخ جامع النجف الأشرف كان له الأثر الفعال في تمركز التدريس فيه، فقد هاجر إلى الغرب العلامة شيخ الطائفة محمد أبو جعفر الطوسي فأقام نهضة علمية كبرى ونظم الحركة الفكرية وقواها ورفع منار الثقافة الإسلامية فأم النجف الأشرف من سائر أقطار الشيعة جمع غفير ليرتشفوا أفاويق العلم، وقد صارت في ذلك اليوم مركزاً مهما من مراكز العلوم الإسلامية الكبرى وأنشئت فيها المدارس الكثيرة والمكتبات من قلب سلاطين الشيعة ووزرائهم وأهل الثروة والعلماء أنفسهم
قدم الطوسي عام 408 فدرس على الشيخ المفيد ببغداد مدة حياته وبعد موته على السيد المرتضى صاحب الأمالي، وكان السيد يجري عليه شهرياً اثني عشر ديناراً كما يجري على تلامذته كل سنة. ولقد عظمت منزلته أخيراً وأصبحت له مكانة علمية أقبلت عليه طلاب العلم. حدث في (روضات الجنات) ورجال المامقاني أن فضلاء تلاميذه الذين كانوا(272/54)
من المجتهدين يزيدون على ثلاثمائة فاضل من الشيعة، أما من أهل السنة فما لا يحصى، وأن الخلفاء العباسيين في بغداد أعطوه كرسي الكلام، وكان ذلك لمن كان وحيداً في ذلك العصر. وكانوا مبالغين في تعظيم العلماء لا فرق لديهم بين المذاهب الإسلامية، ولكن الوشايات أخذت تدب حول هذا العلم حتى اضطرته أخيراً أن يغادر الزوراء ويشد الرحال إلى جوار ابن عم الرسول وهناك يقيم دعائم مدرسته. حكى القاضي في مجالسه عن ابن كثير الشامي أن الطوسي كان فقيه الشيعة مشتغلا بالإفادة في بغداد إلى أن وقعت الفتنة بين الشيعة والسنة (وهذه الفتن الداخلية هي التي خضدت شوكة الإسلام حتى انهار مجده) سنة 448هـ. واحترقت كتبه وداره في باب الكرخ فانتقل من بغداد إلى النجف وبقي هناك إلى أن توفي سنة 460هـ. وأضاف في الروضات احتراق كرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام. وحكى جماعة أنه وشى بالشيخ إلى الخليفة العباسي فاستدعاه؛ غير أن الطوسي استطاع أن يزيل ما علق بخاطره فرفع شأنه وانتقم من الساعي وأهانه. وقال ابن الأثير (ج 9 ص 222) وفي سنة 449 نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ وهو فقيه الأمامية وأخذ ما فيها وكان قد فارقها إلى المشهد الغروي. هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف وسكنها وبقي يدرس اثنتي عشرة سنة، وألف كتباً قيمة في التشريع الإسلامي لم تزل مراجع؛ للعلماء فمنها (تهذيب الأحكام) و (كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) و (المبسوط) و (الفهرست) و (ما يعلل ومالا يعلل) و (المجالس) الخ. ثم بقي تلامذته بعد وفاته عند مرقد الإمام واستمر التدريس والمهاجرة إلى المعهد العلمي النجفي حتى ظهر في الحلة المحقق الأول صاحب شرائع الإسلام (المتوفى عام 676) فاتجه رواد العلم إليه وقامت حركة فكرية قوية فيها فيما بعد، من أقطابها تلميذه العلامة الحلي صاحب المؤلفات القيمة الكثيرة في الفقه وأصوله والكلام وغير ذلك وفي أثناء ازدهار الحركة العلمية في الحلة لم تضمحل في جارتها النجف، فهذا الشيخ الرضي كما قال السيوطي في بغية الوعاة (ص 24) هو الأمام المشهور صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل. وقد أكب الناس عليه وتداولوه واعتمده شيوخ هذا العصر فمن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم، وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختبارات جمة ومذاهب، ينفرد بها وله أيضاً شرح الشافية في الصرف. قال في(272/55)
(الروضات) توطن الشيخ الرضي بأرض النجف الأشرف وصنف شرحه المشهور على الكافية في تلك البقعة المباركة، وذكر في خطبته أن كل ما وجد فيه من شيء لطيف وتحقيق شريف فهو من بركات تلك الحضرة المقدسة، توفى عام 686 انتهى. وقد نقل لي بعض الفضلاء أن الرضي ألف شرحه في مكتبة الأمام (ع) التي في الصحن الشريف وأنها كانت مكتبة عظيمة وحتى الآن لا تزال بقاياها تحوي نفائس الكتب، من جملتها قرآن بالخط الكوفي كتب عليه أنه بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومن ضمنها كتب علمية وأدبية نادرة قديمة الخطوط جداً، ويوجد فيها شرح الدريدية لأبن خالويه بخطه؛ ولكن لا ينتفع اليوم بنفائس هذا الكنز لأنه مقبور بالإهمال؛ وكان على مديرية الأوقاف العراقية أن تعهد بهذه المكتبة إلى رجل ضليع لينظمها ويعرضها لاستفادة رواد العلم وإلا فإن تبعثرها وضياعها واضمحلالها أقرب النتائج المترقبة وقد احترقت هذه المكتبة عام 755هـ وجددها جماعة من العلماء منهم ابن الآوي الذي كان صدراً للحكومة الأيلخانية وفخر المحققين ابن العلامة الحلي (كما أخبرني الأستاذ السمّاوي)
جدد تسعير بناية القبر عام 760هـ بعد احتراق عمارة عضد الدولة بعمارة رابعة ذكرها مؤلفون القرن الثامن الهجري مجهولا صاحبها يظن أنه من رجال الحكومة الأيلخانية، وقد أصلحها الشاه عباس الأول من أعظم ملوك إيران المتأخرين، وفي عهد هذه العمارة قويت الهجرة إلى جامع النجف الأشرف في عهد المقدس الأردبيلي (المتوفى عام 996هـ) وكان عالماً فاضلا مدققاً جليل القدر له عدة مؤلفات منها آيات الأحكام قد فسرها فيه وأرجح إليها قضايا الفقه، وله شرح الهبات التجريد وتعليقات على شرح المختصر للعضدي وشرح لإرشاد الأذهان في الفقه. وقد تولى الدرس في مدرسة الصحن الشريف، وكانت له حجرة فيه، هاجر إليه طلبة العلم وتخرج على يده جماعة من النوابغ منهم العلامة السيد محمد العاملي صاحب المدارك في الفقه وشرح القصائد العلويات السبع لأبن أبي الحديد في مدح الأمير (ع) وشرح الشواهد المدرجة في شرح بدر الدين لألفية أبيه ابن مالك وهو كتاب جليل مفعم بالفوائد غزير المادة الأدبية، وممن درس على الأردبيلي صاحب المعالم أحد الكتب المقرر تدريسها في جامع النجف الأشرف. ولنعد إلى بناية القبر الفخمة فإنها تضعضعت وحصلت صدوع في القبة المنورة بمرور العصور وتعاقب الأعوام، وأراد(272/56)
الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول توسعة ساحة الصحن الضيقة فأمر بهدم بعض جوانبه وشيدت هذه العمارة الضخمة الباقية إلى اليوم وفي هذه العمارة كانت القبة الكريمة والإيوان والمئذنتان مبنية بالحجر القاشاني إلى عهد ملك إيران نادر شاه
أما هذا فقد نذر إذا فتح الهند أن يذهب قبر الأمام (ع). وكذلك لقد أمر عام 1155هـ بقلع الحجر القاشاني عن القبة المقدسة والمئذنتين والإيوان وتذهيبها، وبذل أموالا عظيمة فقام بالتذهيب أكثر من مائتي صائغ ونحاس قد جمعهم من سائر أقطار الأرض وفيهم الصبي والهندي والتركي والفارسي والعربي وقد طليت كل آجرة بمثقالين من الذهب الخالص على ما ذكر بعض الصاغة الذين تولوا إصلاح القبة أخيراً
وقد وضع في خزانة القبر الشريف تحفا جسيمة مما استلبه من ذخائر ملوك الهند، هذا فضلا عما أهدى إليها غيره من الملوك والأمراء المسلمين، ففيها من المجوهرات والنفائس مالا يثمن، وإن الأحجار الكريمة لا تعد ولا تحصى. أما القناديل الذهبية المرصعة والسجاد الفاخر الموشى بالذهب والستائر المنتظمة فيها الجواهر، الأمور التي تعز على - الملوك فهي أعلاق ونفائس تبهر العقول ولا يصدق اجتماعها في أعظم الكنوز
وإن بداعة الفن في البناية تبهر الأنظار وتخلب الأفكار بزخرفها وطلائها. وقد قال رحالة مصري: (وقبة القبر ومئذنتاه تكسى بالذهب الخالص في بريق خاطف. جزت الباب إلى الفناء السماوي المربع تطل عليه الحجرات المتجاورة ثم دخلت باب الضريح، وأنى لقلمي الكليل أن يصف إبداعه من نقوش وتطعيم بالذهب والفضة وزخرف بالبلور والزجاج والقيشاني ما فاق فيه جميع المساجد الأخرى) وإن هذه الحجرات كانت مساكن لطلبة العلم قبل أن تشاد المدارس العديدة
وعسانا نعود لدراسة النواحي الأخرى المهمة من جامع النجف الأشرف وحياته العلمية والأدبية
(العراق - النجف الأشرف)
ضياء الدين الدخيلي(272/57)
بين اللغة والأدب والتاريخ
الفالوذج
للأستاذ محمد شوقي أمين
- 2 -
صلاحية معجزة بني. أخلاطه. شهرة النشا به. زعفرته. زبلته اللوزية. لونه. أكان يؤكل حاراً. وصفه بالترجرج. رقة جوانبه. أكان يؤتدم به.
وكما تمنى ذلك العربي، في ظرف وتملُّح، أن تكون صفة الفالوذج آية من الآي، وتنزيلا في التنزيل، بل موضع سجدة، ومحراب ضراعة؛ إغلاء بالوصف، وإعلاء لكلمة الموصوف: ترجِّي أخ له من بعد أن يكون الفالوذج معجزة نبوة، وبرهان رسالة، فإنه في حساب هذا العربي الفكه، لجدير أن تهفو إليه القلوب، وتجتمع عليه الإيرادات؛ وما هي إلا أن يؤمن الناس بمن يجيء بالفالوذج من عند الله: دليل إيحاء، ومظهر إعجاز. . . فقد ذكر أبو هلال أن إعرابِّياً سئل عن رأيه في الفالوذج، فقال: والله لو أن موسى أتى فرعون بفالوذج لآمن به، ولكنه أتاه بعصاه!
- 3 -
وأخلاط هذه الحلواء: لباب البر، ورضاب النحل، وخالص السمن وكان يضاف إلى هذه الأخلاط: النشا. ولعله لباب البر نفسه قال الأصمعي: النشا: شيء يعمل به الفالوذ، فانظر: كيف يذكر النشا بالفالوذج، وكيف صارت نسبته إليه تعريفاً به؟ وإنما جاء ذلك من بعد صيت الفالوذج، وذيوع صفته، ولن يُعرَّف شيء بآخر، حتى يكون الآخر أوسع شهرة، وأندى صوتاً. . .
وكان الزعفران كذلك من أدوات الفالوذج، فقد وصف رجل طعاماً أكله عند بعض الناس، فقال: أتانا بأرُزَّةٍ ملبونة، في الطبرزد مدفونة، وفالوذجة مزعفرة مسمونة. ولا أوقن: أكان يجعل فيه أم كان يصبغ به؟ فإن الكلام يحتمل أن تكون الزعفرة فيه التلوين، إلا أنه يجعل الزعفران فيه أولى، وبسياق الجملة أشكل. ففي الجملة: الملبونة وهي التي فيها اللبن، والمسمونة وهي التي فيها السمن. وقد يكون للزعفران في الفالوذج عملان معاً فهو مادة(272/58)
فيه، وهو صبغة له وطِيب
ومما يؤيد أن الفالوذج كان يصبغ بالزعفران، وأن هذه الصبغة كانت من علامات التجوُّد فيه، وحسن الصنعة له؛ ما يؤثر من أن الكراريسي دعا أبا الحسن بن طباطبا، وقرب إليه مائدة، فخرج أبو الحسن ينظم قصيدة يذم فيها ما قدم له الكراريسي من ألوان الطعام، ويسمي كل واحد منها باسم يعيبه به، ويَزْري عليه؛ وكان مما أنكر من تلك الألوان الفالوذجة، لأنها كانت قليلة الزعفران والحلاوة؛ فسماها: صابونية، وبيتها في القصيدة:
وجام صابونية بعدها ... فافخر بها إذ كانت الخاتمة
فلما بلغ الكراريسي شعر أبي الحسن، وعلم أنه في معشر يبتدرون أكله، ويتنقلون بذمه، حلف لا يُدخل أبا الحسن ولا أحداً من أصحابه داره، ولا يحضرهم طعامه!
وقد اتخذت للفالوذج فوق ذلك زينة مجلوبة، تمدُّ منظره بالبهاء والرونق، وتزيد في طعمه اللذاذة والسواغ، وهي: اللوز المقشور. فكان ينضد أنصافاً في جوانبه كاللؤلؤ، أو ينثر كالنوّار. فلما تواصف الأدباء هذه الحلواء المعجبة، تناولوا زينتها بالتشبيه الجميل. فقد نسب الحصريّ إلى أهل عصره جملة منثورة في وصفه هي: (كأن اللوز فيه كواكب در في سماء عقيق)
ولون الفالوذج كما يدل عليه ظاهر الصفة فيما سبق من النوادر: الحمرة، إذ كان العقيق أحمر تشبه به الأشياء في الاحمرار؛ غير أنه قيل لأعرابي: أتعرف الفالوذج؟ قال: نعم أصفر رعديد! ومفاد قولة الأعرابي الصفرة، على أنه قد يكون المراد منها: لون الورس والزعفران فإنه قيل فيهما: الأصفران. والورس: نبت يضرب من الاحمرار إلى الاصفرار ورَعْياً لهذا يسوغ لنا أن نقول: إن لون الفالوذج هو ما يكون بين الحمرة والصفرة ضارباً إلى هذه والى تلك؛ فهو اللون الورسي الزعفراني المقارب للعقيق، المشبه إياه في التوهج والبريق!
ولهذا شبهوا الفالوذج فيما وصفوه، بالشمس وهي متضيفة للغروب، حائلة اللون، بين الصفرة والحمرة؛ وقد ذكر الثعالبي أبياتاً لأبي الحسن الممشوق الشامي يصف جام فالوذج، منها:
فقد اغتدت في جامها وكأنها ... شمس على بدر أوان المغرب(272/59)
وتخال فيها اللوز وهو منصف ... أنصاف درّ فوق صحن مُذْهب
ويجمل ألا نغفل هنا أن العقيق ليس مقصوراً على النوع الأحمر المتعارف، فمنه أصفر وأبيض، وربما كان الواصف في الكلمة التي نقلها الحصري أراد بالعقيق النوع الأصفر منه، إلا أنني لا أجد في نفسي ميلاً إلى وفاق هذا التخريج على سلامته، فالنوع الأحمر من العقيق هو مضرب المثل، وهدف الوصف، وهو مصرف الذهن إذا أطلق فلم يقيد بنوع خاص من أنواعه المختلفات.
ويشد عضد هذا أن الكلمة المنثورة التي نقلها الحصري تروي شطر بيت في قطعة للسري الرفاء، بعث بها إلى أبي بكر الخالدي، يصف جام الفالوذج ويشير إلى أن أبا بكر يقبل هذه الحلواء رشوة ينحاز بها إلى أحد الخصمين في الأقضية، قال السري:
إذا شئت أن تجتاح حقا بباطل ... وتغرق خصما كان غير غريق
فسائل أبا بكر تجد منه سالكا ... إلى ظلمات الجهل كل طريق
ولاطفه بالشهد المخَلَّق وجهه ... وإن كان بالألطاف غير حقيق
بأحمر مبيض الزجاج كأنه ... رداء عروس مشرب بخَلُوق
له في الحشا يرد الوصال وطيبه ... وإن كان يلقاه بلون حريق
كأن بياض اللوز في جنباته ... كواكب لاحت في سماء عقيق
فقوله: أحمر، وقوله كذلك: لون الحريق، وما تقدم من أن الزعفرة من عملها التلوين، يمنع كل المنع أن يكون المقصود من العقيق النوع الأصفر؛ ما من ذلك بُدّ!
والسري قد جعل المقطع من أبياته تضمينا لبيت لأبي بكر الخالدي المهجو، فإنه يروي له قوله يصف الخمر لا الفالوذج:
كأن حباب الكأس في جنباتها ... كواكب در في سماء عقيق
وفي الحسبان أن العرب كانوا يأكلون هذه الحلواء مثلوجة باردة، إذ كانت كذلك تؤكل لعهدنا هذا. ولكن الجاحظ نقل طرفة واضحة الإفصاح بأنها حارة، وأنها كانت تقدم على هذه الصفة. أو أن منها ما كان يؤكل حاراً، فليست تثبت القصة إلا أن الفالوذج قدم مرة لآكليه يزفر أنفاسه الحرار. قال أبو كعب: كنا عند عياش بن القاسم، ومعنا سيفويه القاص، فأتينا بفالوذجة حارة، فابتلع سيفويه منها لقمة، فغشى عليه من شدة حرها. فلما أفاق، قال:(272/60)
مات لي ثلاث بنين ما دخل جوفي عليهم من الحرقة ما دخل جوفي من حرقة هذه اللقمة! فلو صح أن الفالوذج كان لا يقدم إلا حارا فيؤكل فاترا لوجب تخريج ما سلف من قول السري الرفاء: (له في الحشا برد الوصال وطيبه) فيكون الوصف بالبرودة لغير حسّ الفالوذج، وإنما، هو لمعناه وأثر الالتذاذية. وإذاً يجري الكلام على أن للفالوذج في النفس من اللذة والهناءة، ما للوصال من برد في الصدر وثلج، وهو تخريج بديهأثأ، لا تأباه طبيعة البيان ولا يمس التشبيه بتشويه
وكانت هذه الحلواء هنية الريق، لينة المُزْدَرَد. وهي كذلك عريضة هفهافة الأعطاف، تستجيب للداعي بالغمزة الخفيفة؛ وبمثل ذلك يصفها صاغة الكلام، ويشهُّونها إلى الأفواه فقد سمع الثعالبي صديقه الخوارزمي يقول في وصف طعام قدمه إليه بعض أصحابه: جاءنا بشواء رشراش، وفالوذج رجراج
وقد تكون بعض جوانب الفالوذج في الجامات والصحاف أرق من بعض، فيكون ما رق منها أغبط عند الناس مما غلُظ، وأولى بالإيثار والتكرمة. حدث الجاحظ عن نفسه قال: كنت على مائدة محمد بن عبد الملك، فقدِّمت فالوذجة، فأومأ بأن يجعل ما رق منها على الجام مما يليني، تولُّعاً بي، فتناولت منه، وظهر بياض الجام بين يدي، فقال محمد بن عبد الملك: يا أبا عثمان قد تقشَّعت سماؤك قبل سماء غيرك؛ فقلت أصلحك الله لأن غيمها كان رقيقاً!
وما كنت أفهم حتى الساعة إلا أن الفالوذج كان يؤكل وحده، لا كالطعام يكون إداماً للخبز، فهو حلواء، والحلواء مكتفية بنفسها أبداً، وهو يحوي مادة الخبز كذلك في جوهره، فإن لباب القمح رأس من رؤوس أخلاطه التي يسوَّي بها. ولكن أبا العلاء في بعض تقوله اللغوية قرن الفالوذج بضرب من ضروب الخبز، فأدى إلينا الشك والتَّظَنَّي، ولا سيما أنه يعزو ذلك إلى خلف الأحمر، ومجمل الطرفة التي نقلها المعري أن خلفاً أنشد البيتين:
ألَمّ بصحبتي، وهمُ هجوع ... خيال طارق من أُم حِصْن
لها ما تشتهي: عسلاً مصفى ... إذا شاءت وحُوَّارَي بسَمْن
ثم قال لأصحابه: لو كان موضوع أم حصن: أم حفص، ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: وحواري بلمص، واللمص: الفالوذج، والحوَّاري خبز يكون من لباب البر،(272/61)
وهو السميد. وقد تابع المعرَّي خلفا الأحمر في تغيير قافية البيت الثاني بأشتات من ألوان الإدام، وأَصْبِغة الطعام، وتعبير هذا في غير تَرَيبِ أن الفالوذج كان يؤتدم به مع السميد أو غيره مما يختبز، أو أنه كان يؤكل تارة وحده، ويؤكل مع الخبز تارة أخرى
(للبحث صلة)
محمد شوقي أمين(272/62)
من وحي بغداد
من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد
للدكتور زكي مبارك
وَفَدْتُ عَلَى بغدادَ والقلب مُوجَعٌ ... فهل فرَّجتْ كَربي وهل أَبْرَأَتْ دائي
تركتُ الخُطوب السُّودِ في مصرَ فانبرتْ ... سِهاَم الْعُيُونِ السُّودِ تَصْدَع أحشائي
تركتُ دُخَاناً لو أردتُ دفعتُهُ ... بعَزْمة مفْتُول الذَّراعين مضَّاء
وجئتُ إلى نارٍ سَتَشْوي جَوَانحي ... وتصْهَرُ أضلاعي وتسحق أحنائي
فيا ويح قلبي عضَّه الدهر فاكتوى ... بلَفْحَةِ قَتَّالَيْن: جَوْرِ وإصباء
سمعتُ حَماَماتٍ يَنُحْن فَعَزَّني ... حَنيني إلى صحب بمصرَ أَشِحَّاء
هُمُ أسلَمُوني لا عفا الحبُّ عنهمُ ... إلى ليلةٍ من غمْزَةِ الُحْزن لَيْلاء
أُنادِمُهُم بالوَهْم والقلبُ عارفٌ ... بأني لَدَي كأسٍ من الدَّمُع حمراء
شربتُ الأسى صِرْفاً فثارتْ مدامعي ... تذِيعُ حديثي في الغرام وأنبائي
أنا الطائرُ المجروحُ يَرْميه بُؤْسُهُ ... لشقْوَتِه ما بَيْنَ نارٍ وَرَمْضاء
فإن عشْتُ آذتْني جُرُوحي وإن أَمُتْ ... شَوَتْنيَ في الأرواح نيرانُ بأسائي
أحبَّايَ في مصر تعالَوْا فإنني ... أُوَدِّعُ في بغدادَ أُنسي وسَرَّائي
تعالوْا أَعِينوني على السُّهد والضَّنَى ... فلم يَبْقَ مني غَيْرُ أطياف أشلاء
تعالوا أُحدَّثْكم ففي القلب لَوْعَةٌ ... هي الجاحمُ المَشبُوبُ في جَوْف قصْباء
تعالَوْا تَرَوْا بغدادَ أَغرتْ بمهجتي ... نُيُوبَ المنايا في صَبَاحي وإمسائي
أحبَّايَ في مصر، وَهَلْ لي أَحِبَّةٌ؟ ... أحباي في مصر تعالَوْا أَحبائي
تعالَوْا إلى بغدادَ تَلْقَوْا أخاكم=صريعَ خُطُوب ينَتْحَيِن وأرزاء
تعالَوْا تَرَوْني في صروفٍ من الجوى ... تهدّم بُنْياَني وَتَنْقُضُ حَوْبائي
عفا الحبُّ عن بغدادَ، كم عِشْتُ لاهياً ... أكاثرُ أيامي بليلَى وظمياء
فكيف وقعتُ اليومَ في أَسْرِ طِفْلَةٍ ... مكحَّلةٍ بالسحر ملثوغةِ الراء
أصاولُ عينيها بعينيَّ والهوى ... يُشِيعُ الْحَميَّا في فؤادي وأعضائي
وأشهدُ أطياف الفراديس إن بدتْ ... تراودُ أحلامي مزاحاً وأهوائي(272/63)
وألمس نيرانَ الجحيم إذا مضتْ ... ترُوم بعين الجِدّ بُعدي وإقصائي
أكاتِمُ أهليها هُيلَمي ولو دَرَوْا ... لهامت بجنب الشط أرواح أصدائي
إلى الحب أشكوها فقد ضاق مذهبي ... اخلفني بعد الفراق أعزائي
إلى الحب أشكوها فلولاهُ لم أَبِتْ ... حَليفَ هُمُوم يَصْطَرعْن وأنواء
إلى الحب أشكو بل إلى الله وَحدهُ ... أفوِّض بأسأئي لديها ونعمائي
أَرَبَّاهُ أنقذني فأنت رميتني ... بقلبٍ على عهد الأحباء بَكاّء
أَرَباهُ لا تفعل فإني أرى الهوى ... عَلَى وَقْدِهِ بالقلب أنفاسَ رَوْحاءِ
أُحِبُّ سعير الوجد فارْمِ حُشاشتي ... على جمراتٍ منه حمقاء هوجاء
أُحب شقائي في الغرام وإنهُ ... لأرْوَح من مطلولة الزَّهر شَجْراء
فيا خالق النار العَصُوف وشقائي ... إليها أَدِمْ فيها لَوَاعج إصلائي
أحبك يا ربي فهل أنت شافعي ... إلى سرحةٍ في شَطِّ دجلةَ زهراء
شهدت فنائي فيك حين رأيتها ... تحاول إضلالي وَتَنْشد إفنائي
وَمَن أنت يا ربي؟ أجبني فإنني ... رأيتك بين الحسن والزهر والماء
أنا الفاتِنُ المفتونُ فارحم بليَّتي ... وَقدَّر بأرجاءِ الفراديس إثوائي
وَلاتُخْلني في جنة الخُلْد من هوىً ... بِرُعْبُوبَةٍ لا تعرفُ الرفقَ حمقاءِ
أُحِبُّ المِلاح الهُوجَ في الخُلْد نفسهِ ... عساني بدار الخلد أهجر إغفائي
تباركتَ! ما الجناتُ من دون لوعةٍ ... سوَى بُقْعَةٍ في غابة الموت جَرْداء
يحبّ ضعيف الروح في الخلد أُنسَهُ ... إلى غادَةٍ مأمونة الغيب بَلْهاء
وَأنْشدُ في الجناتِ إن ذُقْتَ رَاحَهاَ ... مَلاَعِبَ مِن طَيْش وَفَتْكٍ وَإغوَاء
أَضاليلُ يُزْجيها خيالي وَأَنْثَني ... إلى ساحةٍ مطموسة الأنس قَفْراء
لقد كنتُ في مصر شقيّاً فما الذي ... سَتَجْنيِن يا بغدادُ من وَصْل إشقائي
أهذا جزائي في العراق وَحُبِهَّ ... أهذا جزائي في رَوَاحي وإسرائي
أَخِلاّيَ ما بغدادُ راحي وإن دَرَتْ ... قلوبُ صَباَياها مدَاَرِجَ إصبائي
أَخِلاّيَ رُدُّوني إلى مِصرَ إنني ... أَرى الظلم دُونَ الوجد تسعير لأواء
سَقَى الغيثُ أيامي بحلوانَ وارتوتْ ... مَلاَعِب أَحْلامي هناك وأَهْوائي(272/64)
فما غدرَتْ بي في حماها نَسَائِمٌ ... سقاها رَبيعُ الُحْبِّ أكوابَ أَنْدَاء
وَللهِ عَهْد بالزمالك لم يكنْ ... سِوَى لمحاتٍ يَزْدَهِينَ وأضواء
هصرْتُ به غُصناً نضيراً تفتحتْ ... أَزاهيرُهُ في ظِل خضراءِ لفَّاء
وأين على مصرَ الجديدةِ مَوْرِدي ... وأين سُهاَدي في حماها وإغفائي
أطايبُ ذقناها ولم نَدْر أنها ... لنُدْرَتِهَا في الدَّهر أزهارُ صَحْراءِ
أَحِبَّايَ في مصر الجديدةِ سارعُوا ... فقد صَرَّعْتني حول دجلة أدوائي
أَجِدّكمُ هل تعلمون بأنني ... وإن كنت جار الشط أشرب إظمائي
خذوني إليكم يا رفاق فإِنني ... أحاذِرُ في بغدادَ حَتْفِي وإصمائي
أخاف العيونَ السُّودَ فليرحم الهوى ... فجيعةَ أهلي يوم أقضي وأبنائي
أنادمُ أَحْبائي وفي الحق أنني ... لهول الذي أَلقى أُصَاولُ أَعْدَائي
أَدِجلةُ ما بيني وبينك؟ أَفْصِحِي ... فقد طال في مغناك تبريح إضنائي
وردتك أَستشفي فثارت بليتَّي ... وَأَرْمضنيِ حُزْني وَأَضْرعني دائي
وَرَدْتُك أشكو النيل يطغي جُحُودُهُ ... فأين سلامي في حماك وإشكائي
سقى وَرْدُك المعسولُ غيري ولم أَجِدْ ... لهول بلائي غير أوشاب أقذاء
أطال أُناسٌ فيك نجوى نعيمهمْ ... وفي شِطك المورودِ ناجيت بأسائي
أَدجلة أين الحب؟ قولي فإنني ... تقلبت في نارين: حقدٍ وبغضاءِ
أدجلة أين النور؟ قولي فإنني ... على الشط أستهدي دياجير ظلمائي
أَدجلةُ أبلاني اغترابي وَشَفَّني ... هُيامي بظُلمي في بلادي وإشقائي
أَدجلةُ أَنت النيلُ بغياً وَكُدْرَةً ... فكيف من النارين تسلم أحشائي
أدجلةُ ساقتني إليك مَقادرٌ ... تأنَّقنَ في كيدي وأبدعن إيذائي
أَدجلةُ واسيني فللضيف حَقُّهُ ... إذا شئت من زادٍ وحبٍ وصهباء
طغى موجك الصخاب فاهتاج لوْعتي ... وَأَيقظ أشجاني وبلبل أهوائي
وقفتُ أَبثُّ الجسر ما بي فلم أكنْ ... سوى نافثٍ في أُذني رَقطاَء صَماَّءِ
وقفتُ أُرجِّيه ولم أَدْرِ أَنني ... أُسطَّر أحلامي على ثَبَجِ الماء
إلى أين هذا التِّبْرُ يجري وحولهُ ... حرائقُ من أَرضٍ على الريَّ جَدبْاء(272/65)
أرَقْتُ دُموعي في ثراها فما ارتوَتْ ... وهل كان دمعي غير أطياف أنداء
شَوَتْنِي الخطوب السُّودُ شياًّ فلم تدع ... لمُعْتَسِفٍ حُلْماً إذا رام إِبكائي
أجِبني يا صَوْبَ الغوادي فإنني ... على علتي في الدهر أَسّاءُ أَدْوَاء
تحدَّرتَ مُختالاً فلم تُغن أُمةً ... تَشْهي لطول الجدب أو شال أنهاء
بكى حولك الماضون دهراً فهل رَأَوْا ... لدي موجك الصخّاب لحظة إِصغاء
تَشَكي العراقُ الَجْدْبَ وارتعتُ أبتغي ... نصيبي فلم أَظْفر لديكَ بإرواء
أَعِنْدَكَ يا صَوْبَ الغوادي تحيةٌ ... لناس عَلَى شَطَّيْكَ ذاوينَ أنضاءِ
تروحُ إِلى البحر الأَجاج سفاهَة ... عَلَى شوْق أَهل في العراقِ أَوِدَّاءِ
أبوك السحاب الَجْوْدُ يرتاحُ جُوُدهُ ... إلى كلَّ أَرْض في العراقيين مَيثْاَءِ
فعمَّنْ أخذت البخل يا جار فتيةٍ ... هم الجعفر المنساب في جوف بطحاء
شكا الزهرُ في شَطَّيْكَ فاخجل وَنجِّهِ ... مِنَ الظمأ الباغي وَمِنْ حيةّ الماءِ
جريتَ بلا وعيٍ إلى غير غاية ... مُحَجَّلة بين المصاير غراء
فدعني أُطل فيك الملام فلم أكن ... سوى شاعرٍ للحمد واللوم وشّاء
أأنت الذي يجفو الظَّماء لينْضَوِي ... إلى لَّجُةٍ في باحِة البحر هوجاء
أأنت الذي يسقي البحار وحولهُ ... أزاهير في سهل يفُديه مِظْماءِ
وقفنا على شطيك نشكو أُوامنا ... على نبرات الدف والعود والناء
فأين العطاء الْجَزلُ يَا فَيْضَ مُزْنةٍ ... مُحَمَّلةٍ بالخير والشر كَلْفَاء
عشقت شقائي فيك للحبِّ إنني ... أُحبُّ شقائي في رحاب أحبّائي
أبغدادُ هل تَدْرين أنيِّ مودِّعٌ ... وأن سَمُومَ البين تلفح أحشائي
وردتُك مُلتاعاً أصارع في الهوى ... دموع رفاقٍ وامقين أخلاّء
تَنَادَوْا إلى باب الحديد فودّعُوا ... بقايا فؤادٍ وافرِ العطف وضاء
وفيهم خَتُولٌ لو أراد لَرَدّني ... إلى روضة من يانع الأنس غناّء
تقدم يستهدي العناق فلم يجد ... سوى صخرة مكتومة السِّرِّ خرساء
وعاد يروض العَتْبُ أحلام قلبهِ ... على خُطة من شائك الهجر عوجاء
وردتك مطعوناً تثور جروحهُ ... فكان بنوك الأكرم ون أطبائي(272/66)
لحبك يا بغداد والحبُّ أهوجٌ ... رأيت فنائي فيك مَشرِق إحياء
تناسيتُ في مصرَ الجديدة صِبيْة ... هم الزهَرُ الظمآن في جوف بيداء
يناجون في الأحلام أطياف والدٍ ... لعهد بنيه وَالْبلَيَّات نسَّاءِ
أبغدادُ هذا آخرُ العهد فاذكري ... مدامعَ مفطورٍ عَلَى الحبِّ بكاّء
أبغدادُ يضنيني فراقك فاذكري ... لدى ذمة التاريخ بيني وإضنائي
خلعت على الدنيا جمالكِ فانثنتْ ... تخايَلُ في طِيبٍ وَحُسْنٍ وَلألاء
سيذكرني قومٌ لديك عهدتُهُمْ ... يحبوُّن ظلاّمين ضُرِّي وإيذائي
سيمُسي خصومي بعدَ حين أحبةً ... يذيعون مشكورين أَطيبَ أَنبائي
ستذكرُ أرجاءُ الفراتين شاعراً ... تفجَّر عن مكنونة الدر عصماء
سيسأل قومٌ مَن زكيٌّ مباركٌ ... وجسميَ مَدْفونٌ بصحراَء صماء
فإن سألوا عني ففي مِصْرَ مرقدي ... وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
ستذكرني غيدٌ ملاحٌ أَوانسٌ ... أطلن بلائي في الغرام وإشقائي
ستذكرني مِصرٌ وَما كان قلبهاَ ... سوى صخرةٍ في جانبِ النيل مَلْساَء
إلى اللهِ أشكُو لؤم دَهْرِي وَصَرْفَهُ ... وَعِنْدَ الإلهِ البَرِّ أُودِع حَوْبائي
زكي مبارك(272/67)
البَريدُ الأدَبيّ
حول لجنة إنهاض اللغة العربية
سيدي الأستاذ الزيات
سرني وأرضىَ نفسي ما كتبتم وما نشرتم لكرام الكتاب من الملاحظات على قرار لجنة إنهاض اللغة العربية وما انتهت إليه في اختيار الكتب التي تصلح لأن تكون في أيدي تلاميذ المدارس الثانوية وسيلةً إلى تقويتهم في اللغة العربية
ولكن شيئاً هاماً في قرار اللجنة قد فاتكم التنبيه إليه وما كان ينبغي أن يفوت: ذلك هو حق أدباء العروبة في مختلف أقطارها في أن يكون لهم ولمؤلفاتهم الأدبية اعتبارا في نظر وزارة المعارف المصرية أولا، ثم أعضاء هذه اللجنة. . .
فهل تذكرت وزارة المعارف المصرية يوماً أن في هذه الأقطار التي تريد أن تفرض عليها زعامتها الأدبية - علماء وأدباء وكتاباً ومؤلفين، هم في الطبقة الأولى من رجال الفكر العربي؟ وهل عرفت أن لهؤلاء الأدباء كتباً ومؤلفات حقيقة بأن تكون موضع تقدير رجال المعارف في مصر حين يريدون أن ينهضوا بالثقافة الإسلامية
ذلك - ولا شك - شئ تعرفه وزارة المعارف ولا تنكره، ويعرفه أدباء مصر ولا ينكرون، ولكن ما وراء هذه المعرفة؟ هل قررت يوماً كتاباً في مدارسها لكاتب عربي في غير مصر؟ هل عملت على أن يعرف تلاميذها في مصر أن تلك البلاد كتاباً وأدباء ينبغي أن تُدرس آثارهم وينتفع بها؟
إن الكتب المصرية تملأ أسواق الشرق العربي ومكتباته ومدارسه، ولا تخلو منها يد تلميذ عربي في تلك البلاد. فهل حرصت مصر على أن ترد هذا الجميل إلى أهله؟ أم تراها ضريبة على هذه البلاد تؤديها لمصر غير منتظرة جزاء عليها ولو كان هذا الجزاء هو الاعتراف بالجميل؟
أين مؤلفات الأساتذة إسعاف النشاشيبي في فلسطين، وأمين الريحاني في لبنان، وعلي الطنطاوي في دمشق، وساطع الحصري وطه الهاشمي في العراق؟ أليس لهؤلاء مؤلفات يمكن أن ينتفع بها في مصر، لتزيد الروابط بين البلاد العربية توثيقاً وقوة؟
م. سعيد(272/68)
اقتراح على الشعراء
تغلي أطراف العالم العربي والعالم الإسلامي لأنهم يوقدون على قلبهما بالحديد والنار والمكيدة في فلسطين، وتسجل الأيام أروع قصة من قصص البطولات والإباء والتضحية في التاريخ كله، وتصبحنا الأنباء وتمسينا بما يبسط قلوبنا ويقبضها سروراً بانتصار إخواننا أو ألماً من اندحارهم
وتلتقي مشاعر المسلين والعرب لقاء عجيباً في هذه البقعة المقدسة من الأوطان العربية مما جعل الثورة الفلسطينية مبدأ عهد لتكوين الشعور الإسلامي والعربي، ومدار ذكرى ومداولات حول النفس العربية وتاريخها وخصائصها وجهادها ومستقبلها
فكيف تمر بنا هذه الحوادث الجسيمة، وتعرض على أعيننا وقلوبنا هذه المشاهد والمشاعر الفذة ثم لا تسجل تسجيلاً فنّياً خالداً في مطولات و (ملاحم) كما كانت حروب (طروادة) مدار أناشيد الإلياذة اليونانية؟
إن في شخصيات باعثي هذه الثورة وفي قوادها وفي جنودها رجالاً ونساء وفي شرفهم وسمو أخلاقهم وفي الأهوال التي تحيط بهم. . . معاني روائية نادرة ومنابع إلهام لذوي الأقلام
فمن يا ترى تنتدبه الأقدار وتصطفي قلمه لكتابة هذا الديوان الخالد كما اصطفت قلم الشاعر الكبير أحمد محرم لكتابة ديوان مجد العرب والإسلام الذي نرجو له التوفيق فيه؟
إني أخشى أن أشير بإصبعي في هذا المقام إلى بعض الشعراء الذين أعرف في خيالهم الواسع قدرة على ملء الفجوات التي بين الحوادث، وقدرة على تلوين الشخصيات والأحداث، وعلى الربط و (الحبكة) الفنية في الإخراج، وعلى خلق شخصيات خرافية عند اللزوم
أخشى هذه الإشارة حتى لا أصد بعض الذين قد يقعدهم أن ذكرهم نبأ عنه القلم في هذا المعرض. ولعل طبعهم الشاعر قد سما ونضج بالثورة الفلسطينية، و (قد يسمو الطبع الخافت لأن حادثة ما تحمله إلى الأفاق العليا من التفكير والأفتنان، كما تعلو العاصفة بالهشيم والريش إلى حيث تحلق ذؤابات الدوح وأجنحة النسور). كما يقول الأستاذ العقاد(272/69)
ومن منا لم تسم بمشاعره حوادث فلسطين وتفجر في طبعه الشعر النفسي الذي يفيض على القلوب في بحوره المرسلة؟
إني لم أتمن أن أكون من رجال الشعر المنظوم الذي يرضي نفسي إلا اليوم حتى أظفر بهذا الشرف العظيم
فيا شعرائنا عشاق الخلود!
ليس التغزل في جسد جميل أو كأس فاتنة، ولا البكاء المزري بالرجولة من نفس هلوك على حبيب هاجر وخدين غادر، ولا الخواطر الكزّة الضيقة في مناسبات الحياة الشخصية الأنانية، ولا الوصف التقليدي للطيارات والقطارات والإبل والأشجار والأطيار، ولا. . . ولا. . . إلى أخر المكرور المعاد من العناوين المتوارثة كما تورث الأوعية والآنية ليصب فيها. . . ليس كل أولئك شيئاً ذا خطر ورجاحة في ميزان المواريث الأدبية الخالدة، لأنها لا تقترن بالنفس العربية العامة الواحدة في كل الأشخاص والأمكنة والأزمنة. . . وما لم يكن على الأثر الأدبي هذا الطابع طابع العموم والشمول فلن يحظى بالخلود
وفي الثورة الفلسطينية أوتار تتصل بكل قلب عربي ومسلم، فمن استطاع أن يجمع هذه الأوتار في يده، وأن ينشد عليها بإيمان وفن واستغراق، فسيذهب نشيده مردداً في كل يوم وفي كل مكان وبكل لسان. . .
وإذا مرت الثورة الفلسطينية من غير شاعر واحد يرصدها ويغني لها ويندب. . فأخشى أن يحكم المستقبل على شعرائنا أنهم (قليلو الملاحظة: يذهبون إلى الغابة للبحث عن وقود ثم يرجعون فارغي الأيدي!) كما يقول المثل الإنجليزي. . . أو أنهم يجرون وراء السراب ويتركون الأنهار المتفجرة. . .
عبد المنعم خلاف
حاجي بابا في إنجلترا
نشرنا في مجلتنا (الرواية) قصة بهذا العنوان للكاتب الإنجليزي جيمز موير وصف فيها بعض النواحي الاجتماعية في بلاد إيران أوائل القرن التاسع عشر. فخشي بعض إخواننا الإيرانيين أن يخلط القراء بين إيران القديمة وإيران الحديثة، مع أن المؤلف حدد زمن(272/70)
القصة بسنة 1822. والواقع أن حاجي بابا لا يمثل في ذلك العهد إيران وحدها، وإنما يمثل مصر والشام والعراق وتركيا تمثيلا رائعاً لا يناقض الحقيقة. ومن يقرأ هذه القصة ثم يزر هذه البلاد اليوم يدهشه هذا التطور الذي نال العقلية الإسلامية في مدى قرن من الزمان. فإن تفتح الأذهان في تركيا وإيران ومصر للآراء الجديدة والمدنية الحديثة لا يدع مجالا للشك في حيوية الإسلام ومرونة الشرق.
إلى الأستاذ الكبير فليكس فارس
تحية معجب أبعثها في هالة من معاني الشكر التي هي جواب لقرار الوفاء. . . وما الوفاء إلا صدى هديتك التي بعثتها إلينا عن طريق الرسالة
أشرفت من فوق منبرك على عالم زاخر بشتى المعاني زادني يقيناً بأن الشرق هو الشرق وأننا كلنا على تباين أمصارنا أمة واحدة. . . وكأن كتابك هذا قد خلفني خلفة ثانية ذات مناعة لا تقبل مبادئ المترجمين المقلدين في رأيي وإن كانوا في رأي أنفسهم مجددين مبدعين
فشد على يدك فأنت صاحب رسالة ورسول بعث، فألق من فوق منبرك الهدايا، وادحض ببيانك وحججك أباطيل المخدوعين المغرورين. أيدك الله بروح من عنده وجعلك في الأواخر مقام المجاهدين العاملين في الأوائل. . .
(الزقازيق)
محمد جمال الدين درويش
بعثة الأمام محمد عبده
كان الدكتور محمد بهي قرقر والدكتور محمد ماضي عضوا بعثة المرحوم الشيخ محمد عبده قد أتما دراستهما في جامعة هامبرج في ألمانيا ونالا إجازة الدكتوراه منها. ثم رغبا إلى مشيخة الأزهر أن تطيل مدة البعثة لهما سنتين لينالا درجة الأستاذية من هذه الجامعة. وعرض هذا الموضوع على المجلس الأعلى في إحدى جلساته السابقة كما عرض عليه ما أظهرته المشيخة من الرغبة في سرعة الاستفادة من عضوي هذه البعثة وتعيينهما للتدريس في الأزهر فرأى المجلس الأعلى للتوفيق بين رغبة المشيخة في سرعة الاستفادة منهما(272/71)
وبين رغبتهما في الحصول على درجة علمية كبرى من جامعة هامبرج أن يعود إلى ألمانيا لمدة فصل دراسي واحد ثم يرجعا إلى مصر للعمل في التدريس بالأزهر على أن يصرح لهما بعد ذلك بالسفر لأداء الامتحان لدرجة الأستاذية في الوقت الذي يطلبان من المشيخة السماح لهما بالسفر فيه.
وقد أرسلت مشيخة الأزهر في طلبهما لالحاقهما بوظائف التدريس في بدء السنة الدراسية القادمة على أن يعودا لأداء الامتحان في السنة القادمة.
العريان يؤرخ الرافعي الخالد
نشرت مجلة اللطائف المصورة في عددها الماضي ما يلي:
منذ نحو تسعة شهور والأستاذ محمد سعيد العريان ينشر في (مجلة الرسالة) فصولاً متتابعة في كل أسبوع عن حياة المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي أبي البلاغة والبيان الذي فقده عالم الناطقين بالضاد في العام الماضي. وقد أذيع أنه سيجمع هذه الفصول الثمينة بين دفتي كتاب يصدره قريباً
والأستاذ العريان معروف بأدبه وسعة إطلاعه. وقد لازم الرافعي العظيم ملازمة طويلة، فكان الفقيد يملي عليه كتاباته ويستشيره في معظم أعماله وأسراره، فأحاط علماً بشخصية الرافعي ووفق إلى دراستهما دراسة مستفيضة. . .
فهو بذلك خير من يتحدث عن الرافعي ويؤرخ حياته وأخلاقه وفلسفته والعوامل التي أثرت عليه وكونته، وطريقته في الكتابة وتسجيل خواطره العالية، وما هي المناسبات والظرف التي كانت تدعوه إلى تأليف الكتب والقصص والمقالات. . .
ولا شك في أن هذا العمل من الأستاذ العريان يعد خدمة أدبية كبرى تفيد الأجيال القادمة أكثر من أفادتها للجيل الحاضر، ولو وفق الأستاذ العريان في تاريخ حياة الرافعي فإنه سيخلد مع الرافعي، فإن كثيرين من الأدباء العالميين اشتهروا وخلدوا بوضعهم المؤلفات عن حياة أدباء سبقوهم أو لازموهم. وقد اشتهر الأديب الكبير (بوزوبل) بملازمته للأديب جونسون وكتاباته عنه. وليس الرافعي بأقل قيمة من (جونسون) فهو شخصية أدبية خالدة شهد لها أقطاب الفكر بامتلاكها ناصية البيان، وقل من يستطيع دراستها والإلمام بها وتحليلها، وهي جديرة بأن تكتب حولها الرسالات التي تجيز لصاحبها أرفع الشهادات(272/72)
الأدبية. . .
فنحي في الأستاذ العريان وفاءه للرافعي في عصر يكاد ينعدم فيه الوفاء، ونثني على خدمته الأدبية الكبرى لعالم الأدب، ونشكر مجلة الرسالة الغراء، مجلة الأدب والفكر الرفيع، مجلة الرافعي الخالد، على تسهيلها للأستاذ العريان مهمته وقيامها بتسجيل هذه الفصول الثمينة عن حياة أبي البيان
للحقيقة والتاريخ
نشرت الرسالة الغراء بعددها رقم 270 مقالة بعنوان (فلسفة الأسماء) للأستاذ السيد شحاتة. وقد جاء في هذا المقال (ولما ظهر الإسلام تطورت الأسماء عند العرب إذ سمي النبي (محمداً) مع أنه لم يسم أحد من قبل بهذا الاسم) والحقيقة أن هناك من سمى باسم محمد في الجاهلية وهم ثلاثة:
1 - محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر المشهور
2 - محمد بن أحيحة بن الجلاح أخو عبد المطلب لأمه
3 - محمد بن حمران بن ربيعة
أما أحمد فلم يسم به أحد في الجاهلية وأن جاء التبشير فيه، قال الله تعالى (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل أني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد)
محمد عبد الغفار
مجلة الأمالي - بيروت
وصلنا العدد الأول والثاني من مجلة (الأمالي) التي يتعاون على إصدارها في لبنان إخواننا الأساتذة الأدباء: محمد علي الحوماني، والدكتور محمد خيري النويري، وعارف أبو شقرا، والدكتور عمر فروخ. ومجلة الأمالي هي شيء جديد في صحافة لبنان، تنقل عن شرقية أصيلة وثقافة شاملة ومنطق متزن، وتشير إلى نهضة متوثبة في الآداب والفنون، وترمي إلى أهداف نرجو لهم فيها التوفيق والسداد. اشتراكها السنوي 750 مليما وعنوانها:
بيروت - صندوق البريد 941(272/73)
المسرح والسينما
إلى اللجنة المشتركة لإنهاض السينما
بوزارتي التجارة والمعارف
تألفت بوزارتي التجارة والمعارف لجنة جديدة من بعض كبار رجال الإدارة مهمتها - على ما قيل وقتذاك - إنهاض صناعة السينما في مصر والأخذ بيدها حتى تصير إحدى صناعات الدخل القومي.
ونحب ونحن في بداية الموسم واللجنة لم تجتمع بعد أن نهمس في أذنها بما يتردد في الأندية والمحافل الفنية من نقدات وملاحظات على سياسة اللجنة السابقة المنحلة بتأليف اللجنة الجديدة. وأغلب ظننا أننا بتسجيلنا هذه النقدات والملاحظات إنما نسجل رأي السواد الأعظم من المشتغلين بإنتاج الأفلام في هذه البلاد
وأول هذه الملاحظات هو أن اللجنة ترى أن الشركات المصرية بحاجة إلى مساعدات مالية تقدم لها بين وقت وآخر وفاقاً لما تراه اللجنة عند تقدير جهودها وفحصها بالمنظار الفني. وهذه السياسة في نظرنا ونظر إخواننا المنتجين غير مجدية؛ وهي وإن أدت إلى رفع بعض الخسائر عن عاتق الشركات فلن تفيد في إنهاض الفن السينمائي ذاته.
إن الشركات بحاجة إلى (رؤوس أموال) لا إلى (إعانات نظامية)، لأن أغلب شركاتنا - إذا استثنينا أستوديو مصر - إنما أسس بأموال فردية، والجزء الأكبر من هذه الأموال استنفدته الخسائر التي تعرضت لها الشركات أول إنشائها. والذي يحدث الآن هو أن المنتج يذهب إلى واحد من كبار الماليين كبهلر وغيره فيأخذ ما يراه ضروريا من المال بفائدة مئوية كبيرة ومع اشتراط الحصول على نسبة مئوية أخرى من الإيراد الكلي للفلم، والنتيجة أن هذا المالي يسترد مبلغه مضاعفاً في مدى شهور معدودة أما المنتج فلا يغل له إنتاجه فائدة، أو هو يغل فائدة صغيرة لا تغني ولا تسمن من جوع
فإذا كانت وزارتا المعارف والتجارة جادتين في إنهاض السينما فليكن ذلك بتخصيص المبلغ المراد إعطاؤه للشركات كل عام كمساعدات نظامية، ليكون رأس مال يوزع منه دورياً على المنتجين بنظام الحصص، فيجدون بذلك ما يغنيهم عن الالتجاء إلى كبار المقرضين، وبذلك يتوفر لهم عن طريق اللجنة جانب كبير من أرباحهم ونتاج جهودهم،(272/75)
وذلك كفيل بأن يدر عليهم ربحاً كافياً. ولم يقل أحد إن إخراج الأفلام غير مربح حتى يحتاج إلى مساعدة دائمة. ويبقى بعد ذلك نوع من الإنتاج السينمائي هو الذي نراه ويراه المنتجون بحاجة إلى المساعدة الدائمة، وذلك هو (الجرائد السينمائية) التي تسجل الحوادث الجارية على الشريط إذ أن هذه الجرائد لا تأخذها دور السينما إلا بإيجار زهيد لا يساعد على تغطية حتى نصف مصاريف عملها. فلا بأس من منح منتجي هذه الجرائد السينمائية مساعدات سنوية، ولكن على أساس العدل المطلق وعدم المحاباة لأي دعوى من الدعاوى، فلا نرى اللجنة تمنح إحدى الشركات مبلغاً كبيراً على أساس زعم من المزاعم التي لا علاقة لها بالسينما والفن السينمائي. . .
ثم إن هناك ناحية أخرى على هذه اللجنة أن تنظر فيها وتعمل على التخلص منها ما دامت تريد نهضة جدية للأفلام في مصر، وهذه الناحية هي جمود اللائحة التي تعمل بها وزارة الداخلية الآن في صدد ما يجوز معالجته وما لا يجوز معالجته في الأفلام من الموضوعات. وعندنا أنه ما لم تعدل هذه اللائحة فلن تشاهد مصر أفلاما لها قوة الأفلام الإفرنجية وروعتها وجمالها وإنما تكون أفلامنا جميعاً (نسخ كربون) من الأفلام التي رأينا حتى الآن، أفلام الغرام الفاشل والزواج غير الموفق، وخيانة الزوجات، وكان الله بالسر عليماً. . .(272/76)
أخبار سينمائية ومسرحية
الانتهاء من فلم الدكتور
بذل الأستاذ نيازي مصطفى وسائر هيئة أستوديو مصر جهداً في الانتهاء من تصوير فلم الدكتور لمؤلفه وممثله الأستاذ سليمان نجيب بطل رواية الحل الأخير. والمفهوم حتى الآن أن الفلم ينتهي في آخر الشهر الحالي ويكون معداً للعرض في أوائل الموسم القادم في سينما تريومف سابقاً. وكل من شاهد منظراً من مناظر ذلك الفلم تأكد لديه أنه سيكون فلم الموسم دون ريب، وأن نيازي يستحق أن يقيم له الزملاء حفلة تكريم من أجله!
جريدة سالم السينمائية
كانت جريدة سالم السينمائية التي شاهدناها في الأسبوع الماضي خير دعاية لجهود هذا الشاب المقدام، وكل من شاهدوها وشاهدوا الجرائد الأخرى التي عنيت بتسجيل حفلة رفع الستار عن تمثال سعد، قد حكموا للأستاذ سالم بالإجادة والإتقان مما شجعه على أن يستمر في إخراج هذه الجريدة السينمائية مرة في كل شهر وكلما كانت هناك حوادث جارية كبيرة يجب تسجيلها
نساء بلا رجال
انتهى الأستاذ أحمد جلال عضو الثلاثي الفني من كتابة السيناريو الجديد لروايته (نساء بلا رجال) ويبدأ التصوير في أوائل الشهر القادم والمنتظر الانتهاء من إخراجه قبل شهر ديسمبر القادم ليمكن عرضه في النصف الثاني من الموسم الحالي
يوم المنى
تعرض سينما كوزمو ابتداء من يوم الخميس الماضي فلم (يوم المنى) لممثله الأول الأستاذ علي الكسار وهو من أقوى الأفلام الفكاهية الطويلة، فقد استغرق عرضه حوالي مائة دقيقة، وأجاد من الممثلات زوز لبيب وسلوى وعلام وبهيجة المهدي. والفلم من إخراج الفيزي وإنتاج شركة أرابيان سيستمر عرضه أسبوعاً آخر لشدة الإقبال على مشاهدته
الفرقة القومية(272/77)
بعد أسبوعين نشاهد على مسرح الأزبكية أولى روايات الفرقة القومية للموسم الجديد، وسنتحدث عنها في عدد قادم
الأفلام الأجنبية الحديثة
- من أهم الأفلام التي تعرضها سينما ستوديو مصر في الموسم الحالي الفيلم (ماري انتوانيت) للنجمة الكبيرة (نورما شيرر) ويظهر فيه أمامها (تايرون باور) و (جون باريمور) و (جلاديس جيورجز وانتيا لويس وروبرت مورلي) وهو فلم الموسم للمترو جولدوين ماير دون نزاع
- انتهى (الكسندر كوردا) عاهل السينما الإنكليزي الكبير من إخراج فلمه الهندي الجديد (الطبلة). وقد اختير غلام هندي للقيام بالدور الثاني في هذا الفيلم فوفق فيه إلى حد كبير وأثبت أن إخواننا الهنود لا يقلون نبوغاً في السينما عن غيرهم
- انتهت استيديوات المترو جولدوين ماير في كاليفورينا من تصوير مناظر فلمها الجديد (غلام من مصحة الدكتور برناردو) وبطل هذا الشريط الكبير هذا الصبي العالمي (فريدي بارثولوميو)(272/78)
العدد 273 - بتاريخ: 26 - 09 - 1938(/)
بين الديمقراطية والدكتاتورية
أسبوع محموم. . .
لم يَعُد الناس في هذه الأيام ناساً لهم دين ومدنية وفلسفة، وإنما عادوا
كما بدأهم الله أصحاب غلبة وأثرة وبغي؛ يتخاطبون بلغة القوة،
ويتجادلون بمنطق الذئب، ويتصاولون بعصبية الجاهلية، ويسرف
عليهم الطغيان فينزلون عن نفوسهم المريدة ليكونوا قطعاناً من ألبهم
تسوقهم عصا واحدة إلى المزرعة أو إلى المجزرة!!
هاهو ذا إنسان القرن العشرين ينسى أنه تقدم حتى جاوز حدود الغيب، وارتقى حتى بلغ أسباب السماء، وتعلم حتى هتك أسرار الكون، وتهذب حتى تخلق أخلاق الملائكة؛ ينسى ذلك ويعود فيقف على الصخرة الصماء التي هبط عليها أبواه من الجنة، عاري الجسم من زينة المدنية، فارغ النفس من كرم الدين، مجرد العاطفة من جمال الأدب؛ ينظر إلى فريسته الدامية وفوه يتحلب ريقاً، ورمحه يقطر دماً، وأشباهه من حوله بين مطعون يتوجع، وموهون يتضرع، وموتور يتوعد!!
وقف الحاكم بأمره على منصة هائلة يحملها سبعون مليون رأس، ونظر بعين النسر إلى فرائسه السمان وهن آمنات في حمى القوانين، غافلات في ظلال المعاهدات؛ فثارت الشهوة في نفسه، وعصفت القوة في رأسه، وزأر زئير الأسد المسعور، وفغر فاه الجهنمي الأهرت عن وسائل المنايا الحمر والسود تضطرب في لعابه، وتصطخب على أنيابه؛ فجزعت البشرية، وريعت الديمقراطية، وخنست المدنية، وخرست عصبة الأمم، ووقفت حجج تشمبرلن أمام رغبات هتلر موقف المضخة الصغيرة أمام الحريق المهول، وأصبح العالم كله لأول مرة في تاريخ حياته يهذي في جهاته الأربع هذياناً واحداً من حمى واحدة: هي إعلان الحرب، وويلات الحرب، ونتائج الحرب!
إذن لم يبق لعلاج ابن آدم حيلة! فشرائع الله، ومذاهب الحكماء، ومراشد العقول، ومناهج التربية، لا تجد سبيلها إلى قلبه إلا حين تسكن الطبيعة فيه؛ فإذا ثارت به لسبب من الأسباب كان حاله كحال العواصف والزلازل والفيضانات والبراكين لا تعرف الأرصاد ولا(273/1)
المقاييس ولا الحواجز. وحينئذ لا ترى الشطئان الجميلة، ولا الأودية الممرعة، ولا المدن الفخمة، ولا الحضارة الرائعة!
منذ أسبوع تحركت طبيعة الإنسان الأصيلة في الدولتين الدكتاتوريتين على حين غرة، فوقع العالم كله في بحران من القلق على حضارته وسلامته؛ وحاول الكتاب بالبلاغة والحكمة، والساسة بالمنطق والحيلة، أن يدفعوا وقوع الكارثة، أو يؤخروا يوم القيامة، فما رجعوا بطائل. ولم يكن ذلك لأن الخلاف بين برلين وبراغ لا يدخل في نفوذ العقل، وإنما كان لأن الذئب متى صمم على افتراس الحمل بطل كل دليل وأَبْدعت كل حجة. وإذا انفجر البركان ودوَّت حُمَمُه وسال حميمه، فمن ذا الذي يقول للطبيعة: رويدك يا أمَةَ الله! إن على السفوح وفوق السهول ملايين من عباد الله لهم حق الحياة وليس عليهم أن يموتوا ليتنفس فلكان من ضيقه في السماء، ويشتفي من غليله على الأرض؟
هذه أزهار الشباب الغضة في أوربا الجميلة تُنظم عقوداً وأكاليل لتذويها سَموم الحرب في غير ذِياد عن حرمة حق، ولا جهاد في سبيل مبدأ. فهل درى هتلر وصاحبه أن كل زهرة من هذه الزهرات بهجة بيت وسعادة أسرة؟
إن السلام العالمي يحتضر الآن بين قرع النواقيس وصلاة الرهبان ودعاء الآباء وبكاء الأمهات، والفكر الإنساني ينظر خزيان إلى كبره وهو يتطامن، وإلى جهده وهو ينهار. فهل استطاع حماة السلم وأُساته أن يحفظوه ومن ورائهم كل حي يطلب الحياة، وكل ضعيف يرهب الموت، وكل فتاة تنشد الحب، وكل أم تلعن الحرب، وكل رافه يريد الطمأنينة؟ ماذا يصنع الطب إذا انتشر الوباء، وماذا ينفع الكوخ إذا عصفت الأنواء، وماذا تغني المذاهب والقوانين والنظم إذا عارضت هوى الطبيعة؟
لا جرم أن الحرب سلاح من أسلحة الطبيعة تدرأ به عن نفسها الفضول والخمود والوهن؛ فهي نوع من التشذيب والتطهير والتنقية تصلح عليه الدنيا، ويتجدد به الوجود. والديمقراطية نظام من نظم الناس أقاموه على الحرية والمساواة، ودعموه بالفلسفة والقانون، ونشروه بالأدب والفن، وقرنوه بالسلام والأمن؛ وفي كل أولئك كفكفة لسلطان الطبيعة، فهي تحاربه بضده كما تحارب الحياة بالموت، والخير بالشر، والجِدَّة بالبلى، فتسلط عليه الطغيان المطلق في بعض الأمم، فيخضد من شوكته، ويقلل من هيبته، حتى يشك الناس(273/2)
في أثره وغناه. فالدكتاتورية إذن هي نكسة الداء الحيواني في الإنسان المهذب. تعود به إلى حمى الشهوة وكَلَب الوحشية فلا يفهم غير لغة السباع، ولا يخرج من النزاع إلا بالصراع.
فمن زعم أن السلم العالمي تحفظه عصبة الأمم أو تحالف الدول أو تقدم الحضارة، فقد أحسن الظن بالإنسان إلى حد الغفلة، وأساء الفهم للطبيعة إلى حد الجهالة. إنما يحفظ السلام السلاحُ الإيجابي وهو القوة. وهذا السلام لا يمكن أن يكون إلا نسبياً ووقتياً بالضرورة؛ فإن القوى إذا تكافأت تساقطت، وإذا تفاوتت كان هناك الآكل والمأكول والغانم والغارم. وهكذا قضى الله على الحياة أن تكون دُولة بين الفساد والكون: تبني جانباً بهدم جانب، وتوجد حياً من عدم حي، وترفع دولة على أنقاض دولة. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
أحمد حسن الزيات(273/3)
في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
بنيتي العزيزة ميّة
لم أجد قبل اليوم فراغاً لأحدثك عن مشاهدي في السفر إلى بروكسل، ولولا وعد سبق في رسالتي إلى بثينة لوجدت من مشاغلي عذراً وأخرت الكتابة حيناً.
بلغنا جنوة ظهر الأحد 25 جمادى الآخرة (21 أغسطس) فبدت المدينة مطلة على خليجها بين أمواج البحر وقمة الجبل. وما راقني مرآها ولا راعني، ولكني حينما دخلتها رأيت مدينة نظيفة الأبنية فسيحة الطرق رفيعة الأبنية يلفت الوافد إليها ضخامة البناء ورفعته، لها على البحر شارع طويل تفضي إليه شوارع أخرى ذات بهاء وضخامة
ولن أحدثك عن شيء في هذه المدينة إلا شيئاً واحداً لا يخطر ببالك أني أحدثك عنه: سمعنا ونحن على الباخرة أن مقبرة جنوة ومقبرة ميلانو جديرتان بالزيارة، ثم نزلنا إلى المدينة مزمعين أن نبيت بها لنستجمَّ ونستعدَّ للمرحلة الثانية. وغادرنا الفندق في العشىَّ نجول في الأرجاء، وبدا لنا أن نسأل عن طريق المقبرة.
ثم عنَّ لنا أن نركب تراما فنذهب معه إلى منتهى مسيره لنرى بعض جوانب البلد! ركبنا فسألنا العاملُ: إلى أين؟ قلنا: إلى نهاية الطريق. وبلغ الترام أطراف البلد وما زال حافلاً بالراكبين. فقلنا: إن للمكان الذي نسير إليه لشأنا. وإلا فما بال الناس لا ينزلون وقد أوشكنا أن نخرج من عمران المدينة؟ ثم بلغ الترام غايته، فإذا الناس يتجهون وجهة واحدة يؤمون باباً رفيعاً واسعاً. قلنا: أتراها مقبرة المدينة؟ ورأينا على جانبي الطريق باعة الأزهار، وأبصرنا كثيراً من الداخلين يحملون طاقات من الزهر فغلب على ظنّنا أنها المقبرة. ثم ولجنا الباب فإذا هالات من الأزهار مسندة إلى الجدار، ثم ولجنا باباً آخر فإذا مدينة الأموات: ماذا عسى أن أصف من مقبرة جنوة الهائلة؟ أصف لك بعض ما وعيت منها، والذي وعيته بعض ما رأيت. ولم أر المقبرة كلها. .(273/4)
هناك جبل عال بنيت المقبرة في حضيضه وسفحه؛ في الحضيض ساحتان متصلتان بينهما جدار، يحيط بكل ساحة منهما أروقة عالية سميكة الجدُر رفيعة العمد. فأما الساحة فقد نظمت فيها صفوف كثيرة من القبور تحنو عليها الأشجار وتعطف عليها الرياحين - قبور بيضاء تختلف أشكالها وما عليها من تماثيل وصور، ويجمعها معنى واحد هو الفناء، بل معنيان: الموت الهامد تحتها، والحسرات المرفرفة فوقها.
وأما الأروقة ففي أرضها بلاطات نقشت عليها أسماء وتواريخ دلت على أن تحتها أجساماً وتواريخ، وفي صدرها صفوف من النواويس الحجرية تتخلل الجدران بعضها فوق بعض، قد انطبقت على أسرارها ونطقت بمواعظها وعبرها؛ وبجانب الجدران نواويس أخرى من الرخام والمرمر افتن النحاتون في تشكيلها ونقشها وإقامة التماثيل عليها - تماثيل الموتى والقديسين والملائكة، وتماثيل لآمال الناس وآلامهم على ظهر هذه الأرض بين المولد والممات. وكأنما يمشي الزائر في متحف ازدحمت فيه التماثيل والصور وبدائع الفنون. وإلى هذا وذاك قناديل معلقة تبِص فيها الفتائل أو فوانيس صغيرة يخفق فيها الشمع: مناظر إذا تقصَّاها المعتبر أو اللاهي أمضى نهاره دون أن يحصيها.
فإذا صعد الزائر على السفح وجد قبوراً أضخم أو حُجَراً تلوح من أبوابها القبور والتماثيل، أو دهاليز نظمت فيها قبور وهياكل وكنائس في أطراف هذه الصفوف؛ ثم إذا صعد رأى نظاماً آخر من القبور والفنون حتى يملَّ أو يتعب فيهبط وهو يصعَّد الطرف في هذا الجلال والجمال ويرجع أدراجه إلى الحضيض ويعود إلى طريقته في الساحة أو تحت الأروقة حتى يخرج وهو يتلفت ليتزود من هذا الجمال في الموت والبقاء في الفناء
جُلنا في المقبرة تسير أفكارنا أكثر مما تسير أرجلنا، وتتلفت قلوبنا أكثر مما تتلفت عيوننا. خرجت قائلاً: ليت شعري أهنا موت أم حياة؟
وأصبحنا يوم الاثنين مبكرين إلى المحطة فركبنا القطار إلى ميلانو نجتاز طريقاً أخضر ممرعاً كثير الزرع والشجر والعشب حتى بلغنا المدينة بعد ثلاث ساعات.
نزلنا بميلانو فأمضينا بقية النهار نجول في أرجائها، ولم نر من مشاهدها العظيمة القديمة إلا الكنيسة الكبرى، وهي من عجائب الأبنية تبدو في حلة من الرخام لم تعطل قطعة فيه من نقش أو صورة أو تمثال، وتبدو شرفاتها ومناراتها في صنعة لطيفة دقيقة كأنما يستقبل(273/5)
رائيها دوحة من الرخام. وليس باطن الكنيسة أقل فخامة ورونقاً من ظاهرها، وهي فيما سمعت من آثار القرن الخامس عشر. برحنا ميلانو صباح الثلاثاء نؤم سويسرة، فلما أجزنا حدودها أحسسنا تغير الأرض شيئاً فشيئاً حتى تغلغلنا في مناظرها الساحرة الرائعة: أودية وبحيرات تطل عليها جبال شاهقة ترقي العين فيها معجبة بالخضرة الناضرة على سفوحها، ثم ترقى فترى الجبل قد انتطق بالسحاب وأوفت قمته عليه، أو ترى القمة قد تغلغلت في السحب فاختفت فيها، وترى زرقة السماء بين السحب وذرى الجبال كزرقة البحيرات في الحضيض فتُسِف العين متمهلة على السفح كأنها تشفق أن تزل إلى الأودية العميقة والبحيرات، حتى تبلغ الماء وكأنما عادت به إلى صفاء السماء وزرقتها. وترين الماء مندفقاً على السفح فإذا حاولتِ أن تعرفي أوله رأيته هابطاً من السحاب كأن السحاب يسيل أنهاراً لا أمطاراً.
وقصارى القول في هذا الجمال الهائل أنه صلة السماء بالأرض، وأنه حيرة الطرف، ومتعة النفس، وروعة القلب، ومسرح الفكر، وتجلى الخالق في جمال خليقته وجلالها في مشاهد لا ينتهي أولها إلى آخر.
ما أعجب هذا مجالاً لشاعر مُلهَم أو كاتب مبين لو اتسع الوقت وأمهل السفر وانفرجت المشاغل عن ساعة يستملي فيها القلم الوجدان والخيال!
بلغنا لوسرن في ثلاث ساعات.
ولعلي أصل الحديث من بعد، وإن لم أجد فراغاً للتفصيل والتطويل لأجعله حديثاً ممتعاً شائقاً.
تحيتي ودعائي لك وللأخوات والأسرة كلها.
(بروكسل 9 سبتمبر سنة 1938)
عبد الوهاب عزام(273/6)
على هامش أبحاث التيسير
ملاحظات انتقادية على قواعد اللغة العربية
للأستاذ أبى خلدون ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العراقية
- 2 -
أبحاث العلامات
إن سلسلة (قواعد اللغة العربية) تحتوي - في أقسامها الثانوية - على عدة أبحاث في (العلامات)، فتذكر سلسلة طويلة من (العلامات) التي (تميز) كلاً من الاسم والفعل والحرف، كما تشرح العلامات التي تميز كلاً من الماضي والمضارع والأمر.
وتذكر تسع علامات للاسم، وخمس علامات للفعل بوجه عام، وعلامتين لكل من الماضي والمضارع والأمر بوجه خاص؛ وأما فيما يخص (الحرف) فأنها تقول في صدده (ليس للحرف علامات تميزه، فعلامته ألا يقبل شيئاً من علامات الاسم والفعل).
إنها تعتبر - مثلاً - (قبول التنوين من علامات الاسم) (وقبول ضمير الرفع المتصل) من علامات الفعل، (وقبول تاء التأنيث الساكنة) من علامات الفعل الماضي، و (صحة الوقوع بعد لم) من علامات فعل المضارع. .
كل من ينظر في هذه الأبحاث، نظرة فاحصة عارية عن تأثير الألفة المخدرة، يضطر إلى التسليم بأنها خالية من الفائدة، ومخالفة للمنطق في وقت واحد. .
من الأمور البديهية أن مفهوم (ضمير الرفع المتصل) الذي يلحق الفعل - مثلاً - أعقد بطبيعة الحال من مفهوم (الفعل) نفسه، ومعرفته أصعب من معرفة الفعل بدرجات؛ فلا يجوز أن نعتبره واسطة لتمييز الفعل من غيره من الكلمات بوجه من الوجوه؛ ولا سيما أن (قبول أو عدم قبول ضمير الرفع المتصل) ليس من الأمور التي يمكن معرفتها رأساً واختبارها مباشرة. فاعتبار (القبول أو عدم القبول) علامة للفعلية أو عدم الفعلية يخالف أبسط قواعد المنطق مخالفة كلية. .
كذلك الأمر في سائر العلامات. فأعتقد أنه يتحتم حذف جميع الأبحاث المتعلقة بالعلامات(273/7)
التي ذكرناها آنفاً، على أن يفرغ البعض منها على (شكل قاعدة) يتعلمها الأطفال: (للعمل) لا (للتمييز):
لا يجوز لنا أن نقول: (دخول قد على الكلمة يدل على أنها فعل)، بل يجب علينا أن نقول: (لفظة قد لا تدخل إلا على الأفعال). .
لا يجوز لنا أن نقول: (صحة وقوع الكلمة بعد لم تدل على أنها فعل مضارع)، بل يجب أن نقول: (إن لفظة لم تدل على النفي؛ غير أنها لا تستعمل إلا في المضارع؛ فيجوز أن يقال لم يكتب، ولا يجوز أن يقال لم كَتب).
وبهذه الصورة تتحول هذه الأبحاث إلى قواعد عملية مفيدة. وأما الاستمرار على استعراض الأمور التي ذكرناها آنفاً كعلامات تساعد على تمييز أنواع الكلمات فهو بمثابة الخروج على المنطق بصورة صريحة. .
أما دخول مثل هذه الأبحاث في كتب القواعد، بالرغم من مخالفتها الصريحة للمنطق، فأعتقد أنه لا يمكن أن يعلل إلا بالرجوع إلى السبب الأصلي الذي ذكرته آنفاً. .
فالأعجمي الذي يتعلم العربية، دون أن ينشأ عليها، والذي يستطيع أن يقرأ الكلمات دون أن يفهم معانيها، قد يستفيد من مثل هذه الأبحاث في تمييز أنواع الكلمات حسب بعض العلامات الظاهرية التي ترافقها؛ فإذا رأى كلمة لا يعرف معناها، ولاحظ أنها منونة استطاع أن يقول إنها (من الأسماء لأنها منونة)، كما أنه إذا رأى كلمة غريبة عنه ولاحظ أنها مسبوقة بلفظة قد، قال (هذه من الأفعال، لأنها قبلت دخول لفظة قد عليها).
فإذا جاز لعلماء اللغة القدماء أن يسلكوا هذا المسلك، متوخين بعض الفوائد العملية التي يستطيع أن يجنيها منها بعض الأعجام. . فلا يجوز لمؤلفي القواعد ومعلمي اللغة في هذا العصر أن يشوشوا الأذهان بمثل هذه الأبحاث الغريبة. .
4 - تصنيف الكلمات والجمل
قبل أن أختم هذه الملاحظات الانتقادية، أرى أن ألفت الأنظار إلى مآخذ الخطة التي اعتادها علماء اللغة العربية في أمر تصنيف الجمل والكلمات:
1 - من المعلوم أن الكلمات تقسم - في قواعد اللغة العربية - إلى ثلاثة أنواع: اسم، وفعل، وحرف؛ في حين أنها تقسم في سائر لغات العالم إلى أنواع كثيرة يبلغ عددها ثلاثة(273/8)
أمثال ذلك.
فيجدر بنا أن نتساءل - تجاه هذا الفرق العظيم - فيما إذا كان هناك مبررات فعلية وأسباب حقيقية تستوجب التباعد إلى هذا الحد بين العربية وبين سائر اللغات من وجهة تصنيف الكلمات.
إذا أنعمنا النظر في المعاني التي يقصدها اللغويون من كلمتي (الاسم والفعل) وجدنا أن علماء العربية يُضيقون (مفهوم الفعل) بعض التضييق، غير أنهم يوسعون (مفهوم الاسم) توسيعاً كبيراً. . .
إنهم يحددون مفهوم الفعل بحدود ضيقة جداً، لأنهم لا يرون (الدلالة على الحدث والعمل) كافية لتعريف الفعل، بل يشترطون فيه (الدلالة على حصول العمل في زمن خاص) ولهذا السبب لا يدخلون المصدر واسم الفاعل واسم المفعول في عداد الأفعال. . .
وأما مفهوم الاسم، فإنهم يوسعونه بدون حساب، ويدخلون فيه كثيراً من الكلمات التي تعتبر في سائر اللغات أنواعاً قائمة بنفسها. ولا نغالي إذا قلنا إنهم يدخلون في مفهوم الاسم كل ما يبقى خارجاً عن نطاق الفعل والحرف. فالاسم الذي يتصورونه يشبه كشكولاً يحتوي على أشياء شتى - من اسم العلم إلى الصفة، ومن اسم الموصول إلى الضمير، ومن اسم الإشارة إلى المصدر. . فيصبح من المتعذر على المتعلم أن يكوّن في ذهنه مفهوماً واضحاً عن الاسم، كما يتعسر على المؤلفين أنفسهم أن يحددوا مفهومه ويعينوا معناه بالدقة التي تتطلبها التعريفات العلمية. .
فإذا استعرضنا التعريفات المسطورة في (كتب قواعد اللغة العربية) الرسمية عن (الاسم)، وجدناها لم تكن من التعريفات الجامعة المانعة، وأن الغموض والنقص والارتباك تسودها بكل وضوح وجلاء. . .
لأننا نجد في الجزء الثاني - الخاص بالدراسة الابتدائية - التعريف التالي: -
(. . . اسم لإنسان أو حيوان أو نبات أو جماد. . .) (ص1) من الأمور البديهية أن التعريف لا يشمل - من الوجهة المنطقية - الصفات والأعداد، ويبقى أضيق من أن يتسع للاسم الموصول ولاسم الإشارة بطبيعة الحال. . .
وأما في الجزء الثالث، فنجد تعريفاً يحاول إكمال التعريف الأول وتصحيحه بقيد جديد: -(273/9)
(الاسم هو الذي يدل على الإنسان أو الجماد أو النبات أو الحيوان وغير ذلك. . .) (ص1) ولا حاجة للبيان أن تعبير (وغير ذلك) الذي أضيف إلى التعريف بهذه الصورة لا يخلو من الغموض، ولا يحدد الأمر بوجه من الوجوه.
وأما إذا راجعنا كتاب الدراسة الثانوية، فنجد فيه تعريفاً آخر يختلف عن التعريفين السابقين اختلافاً كبيراً:
(الاسم ما دل بنفسه على معنىً تام ليس الزمن جزءاً منه) (ص1) كما نجد بعد هذا التعريف بعض التفاصيل الإيضاحية (ويكون: 1 - لإنسان. . . 2 - ولحيوان. . . 3 - ولنبات 4 - ولجماد. . . 5 - كما يكون لمعنى يفهم ويتصور ولا يحس، مثل الذكاء، الحكمة، الفهم (ص1).
إنني أعتقد أن هذا التعريف أيضاً لا يمكن أن يشمل - منطقياً - الضمائر والأسماء الموصولة بالرغم من كثرة المفاهيم المجردة التي تقيّده وتعقّده. . .
وتأييداً لذلك ألفت الأنظار إلى الأمثلة المذكورة خلال التفاصيل التي تلي هذا التعريف، فإنها لا تحتوي على مثال واحد من نوع الضمير واسم الإشارة والاسم الموصول. . .
هذا ولا يستطيع أحد أن يدعي بأن كلمات (الذي، ذلك، نا، كما. . .) تدل على معنى تام قائم بنفسه. . . كما أنه ليس في وسع أحد أن يسلم بأن الزمان ليس جزءاً من مدلول كلمات (الماضي، الآني، الأمس، السنة، الشتاء، أسرع، أقدم. . .).
يظهر جلياً من جميع هذه الملاحظات أن علماء اللغة لم يوفقوا لإيجاد تعريف يشمل جميع الكلمات التي اعتبروها من أقسام الأسماء. . .
فليس من المعقول إذن أن نبقى متمسكين بهذا التقسيم القديم؛ بل من الأوفق أن نعيد النظر فيه على أساس تكثير أنواع الكلمات، أسوة بما يفعله لغويو العالم. . . ولا شك في أن ذلك يكون أقرب إلى مقتضيات العقل والمنطق، وأضمن لتسهيل التفهيم والتعليم.
أنا لا أحاول وضع خطة تفصيلية لهذا التقسيم الجديد، بل أكتفي ببيان الحاجة إليه، وأذكر بعض الأمثلة لتوضيح رأيي في هذا الأمر وتأييده. .
(أ) أن معنى الاسم - في حد ذاته - يختلف عن معنى الصفة اختلافاً بيناً؛ لأن الاسم يدل عادة على الأشياء نفسها، في حين أن الصفة تدل على أوصاف الأشياء وحالاتها. والصفات(273/10)
تقوم بأدوار مهمة في الحديث والكتابة تختلف عن أدوار الأسماء الاعتيادية اختلافاً كبيراً. فلا مبرر لاعتبار الاسم والصفة من نوع واحد خلافاً للخطة المتبعة في تصنيف الكلمات في سائر اللغات.
ومما يجب أن يلاحظ في هذا الصدد إن الاسم والصفة يختلفان في اللغة العربية من وجهة بعض القواعد أيضاً: فإن الاسم - بالمعنى الخاص الذي أشرنا إليه آنفاً - يكون مذكراً أو مؤنثاً في حد ذاته، وأما الصفة فلا تكون مذكرة أو مؤنثة في ذاتها؛ بل تقبل التذكير والتأنيث بطبيعتها، فتذكر أو تؤنث حسب جنس الأسماء التي تصفها. . .
أعتقد أن هذه الملاحظات كافية لاعتبار (الصفة) قسماً خاصاً من أقسام الكلام مستقلاً عن الاسم؛ ولا شك في أن ذلك يكون أوفق وأقرب لمقتضيات العلم والتعليم في وقت واحد.
(ب) إن مدلول الضمير أيضاً يختلف عن مدلول الاسم الاعتيادي اختلافاً واضحاً، ولا سيما الضمائر المتصلة، فإنها تتباعد عن مدلول الأسماء تباعدً كلياً
فإذا احتفظنا بمبدأ تقسيم الاسم إلى ثلاثة أقسام، وفكرنا في القسم الذي يجب أن يدخل فيه (المتصل) من الضمائر وجدنا أنه أقرب إلى مدلول الحرف من مدلول الاسم. وما دمنا نعرف الاسم بقولنا (كلمة تدل بنفسها على معنى تام) ونعرّف الحرف بقولنا (كلمة لا يظهر معناها إلا إذا ذكرت مع غيرها. . .) فلا نستطيع أن ندخل الضمير المتصل - دون أن نخرج عن جادة المنطق - في عداد الأسماء، بل نضطر إلى اعتباره من جملة الحروف. . .
ومهما استرسلنا في سلوك طرق التأويل الملتوية، لا نستطيع أن نجد مبرراً منطقياً لاعتبار لفظة (نا) من الأسماء مع اعتبار لفظة (لا) من الحروف، أو (ها) من الأسماء مع اعتبار (ما) من الحروف. . .
وإذا استعرضنا بعض التعبيرات المتداولة مثل (عنه، منك، فينا، بها، لكم. . .) وأنعمنا النظر في مدلول كل جزء من جزئي هذه التعبيرات على ضوء التعريفات الموضوعة لكل من (الاسم والحرف) لا نستطيع أن نجد أدلة منطقية على أن الجزء الأول منها: (عن، من، في، بِ، لَ) يجب أن يعتبر من جملة الحروف، والجزء الثاني منها: (هُ، كَ، نا، ها، كم) يجب أن يعتبر من الأسماء. . .(273/11)
فمن الأوفق - من جميع الوجوه - أن نعتبر الضمير قسماً مستقلاً من أقسام الكلام، لا نوعاً من أنواع الاسم.
2 - من المعلوم أن علماء اللغة يحصرون الفعل في الماضي والمضارع والأمر، لأنهم يعرّفونه بقولهم: (ما يدل على حصول عمل وحدث في زمن خاص) ويدعون أن اسم الفاعل لا يتضمن (الحدوث في زمن خاص) في حين أن الأمر يعني (طلب العمل بعد زمن التكلم).
إنني أرى في كل ذلك شيئاً من الجبر لطبائع الكلمات، لأن الأمر يدل - في حقيقة الحال - على (طلب العمل) فقط، ولا يدل على زمان العمل مباشرة.
لا شك في أن (الأمر) لا يمكن أن يعود إلى الماضي، والمأمور لا يمكن أن يعمل العمل الذي يؤمر به إلا بعد تلقيه، فيجوز لنا أن نقول بهذا الاعتبار: (إن الأمر يعود إلى المستقبل بطبيعة الحال).
غير أنه يجب أن نلاحظ على الدوام أن المعاني التي يستدل عليها من الكلمات والعبارات بنتيجة المحاكمات الذهنية شيء، والمعاني التي نفهمها منها مباشرة شيء آخر.
وإلا فإذا أردنا أن نسترسل في المحاكمات والتفسيرات استطعنا أن ندعي أن اسم الفاعل أيضاً لا يخلو من فكرة الزمن، كما أن اسم المفعول لا يختلف عنه في هذا الباب. فعندما يقال لنا (الطائر مجروح) نستدل من كلمة مجروح أن الطائر جرح قبلاً، وأن آثار الجرح لا تزال ظاهرة عليه. وعندما يقال لنا: (فلان نائم) نفهم من كلمة نائم أنه نام قبلاً، ولا يزال في حالة النوم. وعندما يقال لنا: (أنا ذاهب) نفهم من كلمة ذهب أن القائل يتأهب للذهاب.
ومن الغريب أن علماء اللغة العربية الذين يتناسون هذه الحقائق الواضحة يسترسلون في تأويلات غريبة لإظهار معاني الأزمنة المندمجة في أسماء الأفعال، فيقولون مثلاً: (آه) اسم فعل مضارع بمعنى (أتألم). و (هيهات) اسم فعل ماض بمعنى (بَعُد). و (هلُمَّ) اسم فعل أمر بمعنى (أقبِل). .
كل من ينعم النظر في هذه التعريفات والتقسيمات والتفسيرات الملتوية دون أن يبقى تحت تأثير الألفة المخدرة، يضطر إلى التسليم بأن كل ذلك يحتاج إلى التبديل والتصحيح، ويتطلب البحث عن تعريفات وتقسيمات جديدة.(273/12)
3 - من المعلوم أن الجملة تقسم إلى نوعين: فعلية واسمية. ولكنا عندما ننظر إلى الأمور نظرة منطقية، يجب أن نفهم من تعبير (جملة فعلية) الجملة التي تحتوي على فعل، وبتعبير آخر: الجملة التي تعلمنا ما حدث وما يحدث؛ كما يجب أن نفهم من تعبير (جملة اسمية) الجملة التي لا تحتوي على فعل؛ وبتعبير آخر: الجملة التي تخبرنا عن أوصاف اسم من الأسماء وحالاته.
غير أن قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه التعريفات والمفهومات المنطقية بل تخالفها مخالفة كلية:
فإنها تعتبر الجملة (فعلية) عندما تبتدئ بفعل، و (اسمية) عندما تبتدئ باسم. ومعنى ذلك: - أنها لا تصنف الجمل حسب أنواع الكلمات التي تتألف منها، بل تصنفها حسب نوع الكلمة التي تبتدئ بها دون أن تلتفت إلى بقية كلماتها.
ونظراً لهذه القواعد الرسمية فإن عبارة (نام الولد) يجب أن تعتبر جملة فعلية، في حين أن عبارة (الولد نام) يجب أن تعتبر جملة اسمية، مع أن كلتيهما تتألفان من نفس الكلمات، وتؤديان إلى نفس المعنى.
إنني أعتقد أن تقسيم الجملة على هذا النمط الغريب نتيجة خطأ منطقي، وقع فيه علماء اللغة - في عصور التدوين الأولي - بسبب اهتمامهم بالأوصاف الظاهرة أكثر من تفكيرهم في المعاني المفهومة. . كما شرحنا ذلك آنفاً.
وأما استمرار المؤلفين المعاصرين على التزام هذه الخطة العجيبة فلم أجد سبيلاً إلى تعليله إلا بتأثير (الألفة المخدرة) ونزعة التفادي من الخروج على التعاريف والتصانيف القديمة. .
ومما يجب أن نلاحظه في هذا الباب أن هناك أمراً آخر يزيد في غرابة نتائج هذين التعريفين، ويوسع المسافة بين المنطق والقواعد:
لقد عرّف علماء اللغة (الفاعل) - تحت تأثير النزعة التي ذكرناها آنفاً - بقولهم: (اسم مرفوع يتقدمه فعل). . فإذا تقدم الاسم على الفعل لا يترتب على ذلك - في عرفهم - تحول الجملة من فعلية إلى اسمية فحسب، بل يترتب على ذلك خروج الاسم من الفاعلية أيضاً. فعندما يقال (الولد نام) لا يرون مسوغاً لاعتبار كلمة الولد فاعلاً، نظراً لمخالفة ذلك(273/13)
للتعريفات التي وضعوها. . .
وبما أن هناك (فعلاً) يتطلب فاعلاً، فإنهم يلتجئون إلى طرق التأويل الملتوية، فيقولون إن الفاعل لهذا الفعل ضمير مستتر، وأما الولد فما هو إلا مرجع هذا الضمير المستتر. وبتعبير آخر: يدعون إن الفاعل ليس (الولد) المذكور صراحة، وإنما هو ضمير مستتر يعود إلى الاسم المذكور. .
إنني أعتقد أن الإنسان لو قصد التعقيد والتشويش لغرض من الأغراض، لما استطاع أن يجد طريقة تصنيف وتفسير أكثر اعوجاجاً وأشد غرابة من تلك. . .
أفلم يحن بعد وقت الإقدام على التخلص من هذه المسالك الملتوية والرجوع إلى طرق المنطق والصواب؟
الخلاصة
إن الأمثلة الانتقادية التي استعرضتها في الأبحاث السالفة تبين بكل وضوح وجلاء أن (قواعد اللغة العربية) الرسمية مشوبة بنقائص كثيرة، من حيث الخطط المتبعة في التعريف والتصنيف والتبويب. . .
وأما الأسباب المولدة لهذه النقائص والشوائب، فتتلخص في تأثير نزعة أساسية، هي نزعة الاهتمام بالإعراب أكثر من الالتفات إلى المعنى، والاعتماد على العلامات المحسوسة أكثر من الاستناد إلى المعاني المفهومة.
هذه النزعة نشأت من الظروف الخاصة التي أحاطت بعلوم اللغة العربية في أدوار تكوينها الأولى، واستمرت بتأثير (روح المحافظة) التي سيطرت على أذهان علمائها في أدوارها الأخيرة. . وباعدت بين قواعد اللغة وأحكام العقل والمنطق من جهة، وبينها وبين أسس التربية والتعليم من جهة أخرى.
ولذلك يجب علينا في موقفنا هذا أن نخرج على هذه النزعة التقليدية، ونعيد النظر في جميع ما ألفناه من أساليب التعريف والتصنيف والتبويب في قواعد اللغة العربية، فنتأمل فيها بنظرة علمية جديدة، مراعين مقتضيات العقل والمنطق من جهة، ومطالب التربية والتعليم من جهة أخرى. . حتى نتخلص على هذا الوجه من أغلاط الاجتهاد والاستنباط التي وقع فيها اللغويون القدماء. . .(273/14)
هذا ما أود أن أدعو إليه العلماء والمؤلفين
أدعوهم إلى إعادة النظر في جميع مباحث الصرف والنحو، بنظرة محايدة خالية من تأثير الألفة المخدرة، مستنيرين بالطرق المتبعة في سائر اللغات، ومستندين إلى المعاني المفهومة من الجمل والعبارات. . .
وأعتقد أن الإصلاح على هذا الوجه يجب أن يكون أول خطوة من خطوات التيسير.
أبو خلدون(273/15)
الدين والأخلاق
بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 6 -
لا يدهش أحد إذا عددنا ما يسمى نزعة التجديد نزعة رجعية في أولها، فقد أوضحت أنها في مبادئها كانت رجوعاً إلى مبادئ الشعر العربي القديم من قلة تكلف الصناعة، ومن نظم الشعر بالعاطفة أو ذكري العاطفة بدل نظمه تعمداً بالصنعة، ومن البحث في خواطر النفس وشجونها وأشجانها والتعبير عنها بدل تنميق المعاني المتفق عليها. فلا شك أن شعر الجاهليين وشعر شعراء صدر الإسلام كان أكثر نصيباً من هذه المبادئ من شعر الدولة العباسية، وإن كان لشعر الدولة العباسية روعة وفيه قوة، ولكن أروعه وأقواه ما قارب طريقة الأقدمين وكان أقل تعملاً في الصنعة، أو ما كانت صنعته أشبه بالطبيعة.
ولا يدهش أحداً إذا وجدنا أن هذه المبادئ يتفق فيها الشعر العربي القديم والشعر الأوربي الصحيح السليم، وأن الصناعات الغريبة في الشعر الأوربي ما ظهرت إلا في عصرنا هذا؛ ولكن كثيراً من أدبائنا الذين لا يعرفون اللغات يحكمون على الشعر الأوربي بشعر شعراء الرمزية أو شعراء الوعي الباطني وأمثالهم، وهي طوائف حديثة في أوربا كما هي حديثة في مصر، ويغر أدبائنا ما يقع فيه بعض المطلعين على الأدب الأوربي من النقل الحرفي لأساليب الكلام والمصطلحات، ولكل لغة خصائص في المصطلحات وأساليب الكلام إذا نقلت نقلاً حرفياً إلى لغة أخرى عدت معاني سخيفة. ومن هنا نشأت فكرة من يقول إن معاني وأخيلة الأدب الأوربي لا تتفق والذوق العربي.
ولكن مما لا شك فيه أنه بالرغم من اختلاف خصائص العربية والإفرنجية، فإن الشعر الأوربي قبل أطواره الحديثة كان في مبادئه الأساسية قريباً من الشعر العربي القديم قبل غلبة الصناعة عليه غلبة قضت على تلك المبادئ.
ولا يدهش أحد إذا قلت إن كل نهضة تجديد دخلت الأدب والشعر العربي حديثاً كانت نزعة رجعية؛ فنهضة البارودي وشوقي وحافظ وحفني ناصف ومطران (في شعره الحديث)(273/16)
كانت أيضاً نهضة رجعية بدأها الساعاتي وقواها البارودي ومن أتى بعده؛ وهي كانت نهضة رجعية لأنهم رجعوا بالشعر عن طريقة البهاء زهير وابن الفارض والبستي وابن نباتة المصري وابن النحاس وخليل الصفدي: طريقة الجناس الغالب والنكات، إلى طريقة الصنعة العالية القوية صنعة مسلم بن الوليد وأبي تمام وإضرابهما. وترى هذه الرجعية ظاهرة في شعر شوقي أعظم ظهور، فقد بدأ بمدح البهاء زهير في مقدمة الطبعة الأولى القديمة من الشوقيات وأسرف في مدحه. وترى شعر شوقي في صباه مما أثبته في الطبعة القديمة بعضه أشبه بشعر المتأخرين، وأظن أنه حذفه ولم يثبته في الطبعة الحديثة؛ ثم صار شعره يقترب من نسق فطاحل الدولة العباسية أمثال مسلم وأبي تمام والبحتري.
وكان منتهى أرب الشاعر قبل نهضة البارودي وشوقي وحافظ أن يكثر من الجناس وأنواع البديع حتى ليقال إن أحدهم أفنى عمره في صنع قصيدة بديعية كبيرة شحنها بما يقرأ طرداً وعكساً، وما يقرأ من أسفل ومن أعلى، وبالجناس وأنواعه، وأشباهه من المحسنات، فاحتال عليه أصدقاؤه وسرقوها منه فمات كمداً وراح ضحية الطرد والعكس وصريع الجناس. وكان الأدباء إذا أرادوا إن يستجيدوا بيتاً أنشدوا بيت ابن نباتة المصري، ولا أذكر كلماته بالضبط، ولكنه يمدح سلطان مدينة حماه في الشام فيقول: إن (حماه) (المدينة) علمتهم نعمى الممدوح حتى غدا كل منهم يحب (حماته) (أي أم زوجه). هذه هي (مفارقات) النكات العامية المصرية التي كانت تطرب الأدباء. أو قول البهاء زهير لمعشوقته إنه دعاها (ست) أي سيدة، لأنها ملكت جهاته (الست).
فرجوع البارودي وشوقي وحافظ إلى عصر أقدم من هذا العصر لا بد أن يسمى رجعية، وليست كل رجعية ذميمة.
والنزعة الحديثة إلى التجديد هي في الحقيقة تكملة النزعة الرجعية التي نشطها البارودي، فكانت نزعة التجديد نزعة تفضيل (مبادئ) الشعر العربي الأقدم من العباسي ومن العباسي ما يقارب ذلك الشعر. وقد شرحنا تلك المبادئ. والذي غطى على هذه الحقيقة أثر الأدب الأوربي، وفتحه أبواباً جديدة من أبواب القول، وشده أزر الخيال والفكر. وغطى على الحقيقة أكثر من كل ذلك تشعب نزعة التجديد إلى فروع جديدة بعيدة كالرمزية وغيرها.
ولكنا إذا نظرنا إلى هذه الفروع وجدنا أن كلاً منها مغالاة في مبدأ من تلك المبادئ كما(273/17)
فصلنا في المقال السابق؛ فالذين يريدون تغليب الوعي الباطن مثلاً إنما تفرعوا من مبدأ جعل الشعر بحثاً في صفات النفس وخواطرها وشجونها وأشجانها بدل ترديد معانٍ متفق ومصطلح عليها. ولا شك أن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا ينظمون بالعاطفة أكثر من شعراء الدولة العباسية. ومعنى النظم بالعاطفة البحث في شجون النفس وأشجانها، فهذه الطائفة في نشأتها كانت رجوعاً إلى طريقة الشعر القديم، وإن كانت قد غالت محاكاة للنزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. وبهذه الطريقة نستطيع أن نرد كل طائفة من طوائف وفروع نزعة التجديد إلى أصلين: أصل في الأدب العربي القديم غالت فيه، وأصل من محاكاة النزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. فإذا تتبع الأستاذ الغمراوي الأسباب والعوامل التي أثرت في الأدب العربي الحديث وجد أنه لم تكن هناك مؤامرة على الدين والفضيلة نشأت عنها النزعة إلى التجديد؛ فإن تتبع الحوادث يُظْهِرُ كيف أن بعض أدباء المذهب القديم يقلبون (النتيجة) العارضة الثانوية المحدودة وهي الشذوذ والشطط فيجعلونها (سبب) نهضة التجديد كلها؛ وقد أوضحنا أن الشذوذ والشطط موجودان في كل عصر ومذهب وذكرنا شواهد وأمثلة.
وإذا نظرنا في تاريخ النزعات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية وجدنا أنها كانت مصحوبة كلها أو أكثرها بشيء من الشطط؛ وهذا الشطط إما أن يكون متعمداً لمحاربة الجمود أو الوقوف، أو غير متعمد، بل تندفع إليه بعض النفوس قهراً. وقد لا يعرف الشطط ولا يميز من غير الشطط إلا بعد عصور طويلة تمحص فيها الأمور. ولو أن كل نزعة من النزعات البشرية رفضت كلها بسبب ما يصحبها من الشطط ما تغيرت الإنسانية. ومن الحقائق الثابتة أن بعض الخاصة كانوا في كل نزعة تجديد يخلطون بين مبادئ النزعة ومظاهرها؛ وبين ما يصحبها من الشطط، حتى كانوا يحسبون أن الجنس البشري مقضي عليه بسبب تلك النزعة. فالنزعة إلى الديمقراطية في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كانت مصحوبة بالشطط. وحسب بعض الخاصة أنه سيقضى على الإنسانية، وأن القيود والشرائع الاجتماعية مقضي عليها بالاضمحلال، فرفضوا النزعة بأجمعها بدل رفض الشطط وحده. وهذا هو ما حدث في نزعة الإصلاح الديني في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو ما حدث في(273/18)
النزعة إلى تحرير الرقيق في أمريكا. ولعل الشطط الذي كان في رفض النزعة كلها كان يغفر الشطط الذي يصحبها ويهون أمره في نفوس أنصارها ويساعد على نجاحها.
ومما يشاهد أيضاً في حياة الأمم أن الفساد الكثير المألوف قد لا يثير من التسخط قدر ما يثيره الفساد القليل غير المألوف، وإن كان الأول أوخم عاقبة وأكثر ضرراً. والنوع الأول من الفساد هو كما في الأدب العربي من مجون وإباحية صقلهما الدهر واعتادهما القراء حتى صارا لا يثيران تسخطاً بل يُنْظَرُ إليهما كما يَنْظُرُ الأب إلى ابنه الكثير الدعابة واللعب فيلومه ولكنه يحن إليه ويعطف عليه وتزيده دعابته ولعبه حباً له.
ومن المشاهد أيضاً أن الأديب أو المفكر قد يدافع عن مذهب وهو يعمل على هدمه من غير عمد، أو يعمل على الأقل لإذاعة نقيضه بمؤلفاته وهو في بعضها يعمل لنقيض هذا النقيض. فشوقي الذي أطرى البهاء زهير في مقدمة الطبعة القديمة من الشوقيات، هو شوقي الذي عمل بشعره المتين الأخير للقضاء على طريقة البهاء زهير وإضرابه. والرافعي الذي يروج أشد مذاهب الأدب الأوربي الحديث تطرفاً وهو مبدأ الرمزية من غير قصد بتأليف (حديث القمر)، هو الرافعي الذي ينتقد الأدب الأوربي أشد انتقاد في مقالاته. وكم من أديب قريب العهد بالأدب لولا بعض كتب الرافعي ما احتذى هذا المذهب فيما كتب.
فالعقل أو الوعي الباطن قد يُمَوِّهُ على العقل الظاهر الناقد. أليس في بعض شعر الصوفيين من شعراء اللغة العربية شهوة مكتومة يبوح بها العقل الباطن بالرغم من صرف العقل الظاهر معناها إلى الذات الإلهية؟ وهذا مع أن أوصاف المحبوب لا تشير إلا إلى إنسان جميل وإن القول شهوة محض.
ولعل الأستاذ قد قرأ وصف النابغة الذبياني للمتجردة زوجة النعمان واطلع على ما فيها من وصف عورة المرأة وما هو أشد من أشد من وصف عورتها في قوله (وإذا. . . وإذا). نعم إن النابغة شاعر جاهلي، ولكن استشهاد الأفاضل الإجلاء من شيوخ الأدب والعلم بهذا الوصف ونشره في الكتب التي يعدونها للقراء ومنهم الفتيان والفتيات، يدل على أن العقل الناقد فيهم قدْسها عن أن هذا الوصف يخالف العرف والتقاليد والآداب الإسلامية.
وهؤلاء الأفاضل هم الذين يسخطون على وصف الغواني في لباس البحر وصفاً لا يبلغ(273/19)
مبلغ وصف العورة والفجر كما فعل النابغة وكما فعل كثير من أدباء العرب في العصور المختلفة احتذاء للنابغة حتى في عبارات وصفه.
على أن رجوع نزعة التجديد إلى طريقة النظم بالعاطفة أو بذكرى العاطفة، ومحاولة الإقلال من المغالاة بالصنعة العباسية ليس من جهل بفضل الأدب العربي في العصر العباسي، ولا من جهل بفطاحل شعرائه وأدبائه، ولكن هؤلاء الشعراء شغلوا بمدح الخلفاء والأمراء ووضعوا لهذا المدح أوضاعاً. وإذا قرأت أجزاء مختارات البارودي هالك نصيب باب المديح من تلك الأجزاء الأربعة، وهالك تردد المعاني في ذلك الباب؛ وهذا معنى ما أشير إليه من جمود المعاني والموضوعات وغلبة الصنعة على العاطفة النفسية، وذلك لا ينفي أن نصيب هذا العصر من التفكير وحرية القول كان عظيماً. ومما يؤسف له أن حرية القول كان أكثرها في المجون إلا عند بعض المفكرين من الشعراء. ولا ينفى أن تلك الصنعة التي ما لبثت أن تحجرت في أوضاع المديح كانت في أول أمرها تجديداً، ولكنها في المتأخرين ضاع التجديد فيها وتدلت إما إلى محاكاة عبارات ومعاني السابقين، وإما إلى ما رأينا من النكات اللفظية والجناس وأشباه من الأمور التي استغنى بها حتى عن روعة الأسلوب وفخامته، إلى أن جاء البارودي وحافظ وشوقي فعادوا إلى محاكاة أفخم أساليب العصر العباسي الأول. ثم جاءت نزعة المذهب الجديد وحاولت إحداث شيء من التجديد في أبواب القول ومعانيه وأخيلته، وفي طريقة بحثه للموضوعات بالرجوع إلى خواطر النفس وأحاسيسها. فإذا كان بعض أدبائها قد وصف في الأحابين خواطر لا يصح وصفها، فإنه أمر عارض لا يصح أن يكون عنواناً للمذهب، أو أن يفسر به المذهب؛ وهو على أي حال أهون مما في كتب الأدب القديم من وصف فُجْرِ ومن مجون يقرؤه الفتيات والفتيان في مكتبات مدارسهم كل يوم حتى صغارهم الذين يكاد المرء يعدهم من الأطفال. فينشأ هؤلاء الأطفال على النفاق والبجح إذا ما لقنهم الملقنون أن الأدب الأوربي من آداب الرذيلة، وهم منغمسون في حمأة الرذيلة بسبب كتب الأدب العربي القديمة. أما ما يأخذه بعض كتاب المذهب القديم على المذهب الجديد من الولوع بشعر التأمل فهو أعجب العجب. وهم إنما يخلطون بين شعر التأمل وبين شعر متون وحواشي كتب الفلسفة، أو بين شعر التأمل وشعر تعليم الأولاد. فشعر التأمل في الحياة والنفس هو خلاصة النفس؛ وهو لا(273/20)
يختلف عن الشعر الذي يقال في وصف أحاسيس النفس في موضوعه ما دمت تحسُّ فيه العاطفة الشعرية. ولا يجوز الحط منه إلا إذا خلا من كل أثر للعاطفة النفسية؛ فليس شعر التأمل في المرتبة الثانية، وإلا أخرجنا أبا العلاء المعري والمتنبي من عدة الشعراء وأخرجنا أجود ما في شكسبير. وقد فرق الأدب الأوربي بين شعر التأمل وبين شعر متون الفلسفة، كما فرّق بين شعر التأمل والشعر التعليمي في الأسماء؛ فلتراجع هذه الأسماء في مصادرها.
(قارئ)(273/21)
عود على بدء
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
- 4 -
كان يرى الأستاذ فليكس فارس رجحاناً لطابع الشرق الغيبي على قالب ثقافة الغرب الأثباتية. ومرد هذا الرجحان كما ظهر لنا من مناقشة كلامه اعتقاده بقانون الرجعى، وبأن لهذا الشرق من كيانه نافذة يتطلع منها إلى الحياة، هي نافذة فطرته الموروثة، فمنها يستقبل النور، ومنها يستقبل النسمات لأنفاسه. . وفطرة الشرق الموروثة على زعمه قائمة على الإيمان بالغيب. ونحن نرى ما يعبر عنه بالفطرة الموروثة هو التراث الشعبي لهذا الشرق والثقافة التقليدية له. وهو شيء كما قلنا غير فطرة الشرق وروحه، لأن الفطرة شيء مجرد يظهر في تاريخ الشعب وفي ثقافاته المتعاقبة من حيث يحتضن ثقافة الشعب التقليدية. إذاً من الخطأ من الناحية العلمية ما يقوله مناظرنا الفاضل الأستاذ فليكس فارس من أن فطرة شعوب الشرق هي الحالة الغيبية. والصحيح أن يقول إن طابع ثقافة الشرق التقليدية هو غيبي.
ولا شك أن طابع هذه الثقافة التقليدية ممكن تغييره بالطابع اليقيني، ولكن هذا التغيير وقف على العوامل والظروف التي تجد طريقها إلى محيط هذا الشرق. فنحن نعلم بأن كينونة الإنسان وقف كما قلنا في المقال السابق على مجموع الصلات المتبادلة بين المؤثرات المختلفة التي يختص بها المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية من جهة، والإنسان من جهة أخرى؛ فإذا ما تغايرت المؤثرات في المحيط الاجتماعي فتبعاً لهل يتغاير منتوج الصلات القائمة بينها وبين البيئة الطبيعية حتى تحوز من المكافأة ما يتوافق مع ما أستجد من المؤثرات. ومثل هذا التغاير الخارجي يؤدي إلى تغير في الأفكار والسلوك الاجتماعي والشعور الذاتي في الجماعة البشرية. . .
وأظن أن مناظري مهما حاول أن يتعسف فلا يساعده المنطق والعلم أن ينال من صحة هذه المقررات الأولية.(273/22)
وإذن يسقط السبب الوحيد الذي يرجع إليه مناظرنا في إيمانه بتفوق ثقافة الشرق الغيبية.
ولنا أن ننظر مع ذلك في حقيقة الاتجاه الغيبي في المجموع البشري كحالة طبيعية تمر بها الجماعات في تطورها التاريخي وارتقائها الطبيعي، مجردة عن تلك الحالات التي تقيمها اليوم في كيان المجتمع العربي على وجه عام، والمصري على وجه خاص. وسنجد أن الحالة الغيبية مبعثها الجهل بأسباب الأشياء الطبيعية وعللها الكونية، فيجنح العقل إلى ما وراء الطبيعة والكون محاولاً أن يستنزل منها تفسيرات وتعليلات للحالات التي يخلص بها من حياته في العالم المنظور. وأظن أن أحسن ما يمكن أن أقدمه لمناظري الفاضل تاريخ النزاع بين اللاهوت والعلم، ففي كل صفحة من صفحات هذا التاريخ يقع على ما يؤيد فكرتنا.
يقول الأستاذ (بيتي كروزيار):
(لقد كف الناس عن القول بأن المذنبات نذر إلهية عندما عرفوا أسباب ظهورها وعللوا وجودها. وكفوا عن القول بأن الصواعق نتيجة غضب إلهي عندما عرفوا حقيقة الكهربائية الجوية، وعندما استكشف (فرنكلين) مانعته المشهورة. ورجعوا عن القول بأن الجنون والمس عائد إلى أعمال السحرة والمشعوذين وأنصار الشياطين عندما دلهم الطب على أسبابها العصبية. ورفضوا الاعتقاد بأن اللغات منشؤها بابل عندما وضعت قواعد مقارنة اللغات).
نعم لقد كف الناس في العالم المتمدن عن كل هذا، وآمنوا بسنة (كُنْت) من أن الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية لا بد أن تعود إلى سبب طبيعي، وأنه من المستطاع تعليلها تعليلاً علمياً مبناه العلم الطبيعي. من ذلك اليوم انهار قائم اليقين بما بعد الطبيعة للإفصاح عن حقيقة الظاهرات الطبيعية، وكان نتيجة ذلك أن خلص العالم المتمدن بعقلية وثقافة جديدتين طابعهما يقيني إثباتي. ونحن أن كنا نقول باستحالة الأخذ بالعلم الأوربي مع الاحتفاظ بالثقافة الشرقية من حيث أن طابعها غيبي، فذلك مرده أن العلم الأوربي قائم على عقيدة أولية في إمكان الكشف عن سبب طبيعي لكل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية.
6 - يظهر أن المناظر الفاضل حين أراد أن يرد على القول بوجود أصل فرعوني في(273/23)
ثقافة مصر التقليدية، تعسف إلى حد أن خرج على الأوليات المعروفة في حقائق الاجتماع وعلم تكون الشعوب. وإلا فليفسر لنا معنى سخريته من هذه الأوليات؟
يقول المناظر الفاضل:
(أما أن يعد المناظر (يعنيني بذلك) طريقة استغلال الأرض فطرة (لم نقل فطرة وإنما كل ما قلناه ثقافة تقليدية أو تراث للشعب، فإذا صحح الكلام على هذا الوجه يستقيم) فذلك مما لا يوافقه عليه أحد - لماذا؟ - لأن المسألة هنا تتعلق بتطور في أساليب الصناعة. ولو كان الأمر كذلك لكان كل مرتد غير القميص الأزرق، وكل حارث بآلة حديثة، وكل مستبدل (شادوقاً) (بطلمبة) فاقداً للأصل الفرعوني في ثقافته التقليدية).
وهذه لعمري إحدى أطاريف الكلام في مناظرتنا. ومنحى الطرافة أن يحمل المناظر الحقيقية على وضع يسخر منه!
نعم أيها الصديق، إن ما تظنه موضعاً للسخرية حقيقة واقعة. وإذا أردت السبب فإننا نسوقه بكل بساطة قائلين:
إن منحنى الحياة المعاشية التي يحياها الإنسان لهل أثر في تحديد مشاعره وتوجيه عقليته وتكوين ثقافته، من حيث أن الحياة المعاشية تقيم جواً طبيعياً واجتماعياً يعيش فيه الإنسان، وإلا فما الفرق بين ثقافة إنسان يحيا حياة رعي وصيد، وحياة إنسان يحيا حياة زراعة، وحياة إنسان يحيا حياة صناعية؟
لا أظن أن المناظر الفاضل يتعسف إلى الحد الذي ينكر الفرق الثقافي بين هؤلاء وأثر حياتهم المعاشية في تكوين ثقافاتهم إلا ويخرج عن الأوليات المعروفة في علم الاقتصاد والاجتماع. وهو إن شاء أن ينكر فلسنا نمنعه. ولكن ليبين لنا إلى أي شيء يستند حتى نناقشه على أساسه؟!
كذلك إنكار المناظر أن تكون التقاليد التي احتفظ بها المصريون من العهد الفرعوني دليلاً على ظهور الدين الإسلامي في مصر على الدين الفرعوني فلا أظن أن منطقه أسعفه في إنكاره، لأنه يعترف ضمناً بهذه الحقيقة في اعتراضه بقوله:
(على أن ما تبقى من التقاليد يعد بدعاً لا يزال الدين يعمل على اقتلاعها من المجتمع لخيره وسلامة إيمانه) فكأن هناك تقاليد تبقت من العهد الفرعوني وتسربت إلى الدين الإسلامي(273/24)
في مصر ولونته بلون محلي. أما أن الدين يعمل على اقتلاعها لخير المجتمع وسلامته فليس ذلك من شأن الباحث المستقري. وله أن ينظر إليها إذا ما نجح الدين في اقتلاعها وأصبحت حقيقة ملموسة.
7 - قلنا إن لمصر ثقافتها التقليدية التي تتميز بها عن جاراتها من بلدان الشرق العربي. غير أن المناظر وإن اعترف معنا بأن للمميزات الإقليمية أثراً على ثقافة الأمم اعتبر أن لكل أمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة، ومن هنا اعترض علينا وقال بوحدة ثقافة أمم الشرق العربي. غير أن هذا الاعتراض في غير محله، لأن اعتباره أن لأمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة إن كانت صحيحة إلى حد ما فهذه الثقافة تتلون وتأخذ طابعاً في كل بلد من بلدان الشرق العربي، فمظهرها في سوريا غير مظهرها في العراق، وهي في العراق غيرها في مصر، وهي في مصر غيرها في الحجاز، وهي في الحجاز غيرها في مراكش أو تونس. وهذه حقيقة قد تظهر أوضح للمراقب الأجنبي من حيث تتميز عنده الفروق الأساسية. ومن مظاهر هذه الفروق اللهجات العربية في مختلف بلدان العالم العربي، ومناحي الحياة المعاشية.
ولقد وهم المناظر الفاضل أننا نهزل حين قلنا إن العامية في مصر هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية، بينما نحن في مجال الجد؛ غير أن ناحية من الهزل بدت من خلال كلامنا حين لم يلاحظ مناظرنا ما قلناه في المقال الأول من أننا نعني بالفرعونية وحدة الحياة - عقلية أو معاشية - متمشية في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني. فإذا قلنا إن العامية هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية فإنما نعني أنها تأخذ طابعاً مصرياً خاصاً بها، هذا الطابع هو الذي يتمشى في ثقافة المصريين التقليدية حتى العصر الفرعوني، ومن هنا جاءت كلمتنا الآخذة بأسباب الفرعونية).
وأظن أن كلامي قد وضح وبان مفهومه وظهر أنه جد لا هزل. . . وبهذه المناسبة ألفت نظر المناظر إلى مراجع قيمة في اللهجة المصرية تشفي غلته وتؤيد وجهة نظرنا، وأهم هذه المراجع بحث للبروفيسور نلينو عنوانه (كتاب في اللهجة المصرية) وهو مطبوع بميلانو عام 1903، ودروس الأستاذ احمد والي ويوسف المغربي والأستاذ كراتشفوفسكي.
(للمقال بقية)(273/25)
إسماعيل أحمد أدهم(273/26)
السلطان الغوري
مكانته في الأدب والعلم وأثره فيهما
للدكتور عبد الوهاب عزام
ظفرنا بهذه الخلاصة الوافية للخطاب القيم الذي ألقاه صديقنا
الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام في مؤتمر المستشرقين
ببركسل؛ فنال إعجاب العلماء المجتمعين بطرافة موضوعه،
ودقة بحثه، وسداد طريقته
(المحرر)
- 1 -
السلطان قانصوه الغوري أحد سلاطين المماليك بمصر. حكم من سنة 906 إلى سنة 922 هـ.
ولست أريد أن أعرض للأحوال السياسية التي تولى فيها، والأحوال التي أزالت ملكه وقضت على دولة المماليك؛ ولكني أريد أن أذكر طرفاً مما عرف من صلته بالأدب والعلم.
كان ذا حظ وافر من العلوم الدينية: التوحيد والتفسير، والفقه؛ وكان ذا نصيب من التاريخ معنياً بقراءة التواريخ والقصص وسماعها، كما كان ذا بصر بالأدب، وله نظم بالعربية والتركية؛ وكانت له مشاركة في الموسيقى والغناء، وله موشحات كان يُتغنى بها.
- 2 -
وتاريخ الغوري مفصل في كتب التاريخ ولا سيما كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لمحمد بن إياس؛ ولكن سيرته في الأدب والعلم تتجلى في ثلاثة كتب لم تنل نصيبها من العناية وفيهما للمؤرخ مجال واسع.
1 - كتاب نفايس المجالس السلطانية، في حقائق الأسرار القرآنية: ألفه حسين بن محمد الحسيني، وهو شريف كما يؤخذ من اسمه ومن عبارات في ثنايا الكتاب، ويظهر أنه تركي(273/27)
ساح في إيران والبلاد الشرقية، وقد نظم بيتين بالتركية في رثاء ابن السلطان الغوري، وروى من شعر حسين بيقرا. وفد على مصر فأقام عشرة أشهر شهد فيها مجالس السلطان الغوري، وجمع في كتابه هذا بعض المباحث التي كان السلطان والعلماء يتكلمون فيها.
والعجمة ظاهرة في كتابته حتى اسم الكتاب فقد سماه (نفايس مجالس السلطانية في أسرار مجالس القرآنية) فحذف اللام من المجالس والأسرار
والنسخة التي بأيدينا هي النسخة التي كتبت للسلطان وأهديت إليه. وقد كتب عليها الصيغة المعتادة:
(برسم خزانة المقام الشريف ملك البرين والبحرين مولانا السلطان المالك الملك الأشرف قانصوه الغوري خلد الله ملكه)
ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب: أما بعد فإني لما تشرفت في خدمة أشرف الملوك وأعظم السلاطين ظل الله في الأرضين، ناظر أربع حُرُم رب العالمين، سلطان العرب والعجم، صاحب البند والعلم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ملك الأشرف عزيز مصر أبو النصر قانصوه الغوري، أعز الله أنصاره، وضاعف أقداره - ولازمتُ بابه الشريف عشرة أشهر، وجمعت درر فوائده في سمط العبارة، ونظمت جواهر زواهره في خيط الكتابة. فإن باب الكريم مجمع الأفاضل، وجنابه العظيم بحر الفضائل والفواضل. هذا مع ما خصه الله تعالى من الفضائل النفيسة، والمناقب الشريفة اللطيفة، أعطاه من الفهم أوفره، ومن الذهن أغزره، ومن الحلم أشرفه، ومن العلم ألطفه، ومن الرتب أقواه، ومن الملك أعلاه، ومن الشجاعة أبلغها، ومن السخارة أعظمها، كل هذه الصفات خصه الله تعالى بمجموعها. ولهذا ارتقى إلى الذروة العالي، التي كانت نهاية درجات الأفاضل الأهالي. وفضل هذا السلطان على سلاطين الدنيا كفضل سلاطين الدنيا على الرعايا.
وكل هذه الأوصاف والمناقب بما قرن به من محبة العلم والعلماء والتفتيش عما وضعته الحكماء في كل نوع من العلوم، لو يقول البشر في وصف هذا المظهر إنه هو سلطان العلماء المحققين ما هو كذب في حقه، أو يقول في مدحه: إنه هو سلطان العارفين ما هو عيب في وصفه)(273/28)
وجعل كتابه في مقدمة وعشر روضات. والمقدمة قصيرة تتضمن كلام بعض السلاطين ومنهم الغوري. والروضات العشر يذكر في كل واحدة منها مجالس السلطان في شهر. وكانت المجالس تجتمع في كل أسبوع مرة أو اثنتين أو ثلاثاً.
وأولها مجالس رمضان سنة عشر وتسعمائة. وأول مجلس منها يوم الخميس الثالث والعشرون من الشهر، وآخرها مجالس رجب فهي عشر روضات في أحد عشر شهراً لأن السلطان لم يجلس في شهر ذي القعدة، لوفاة ولده محمد.
والمؤلف يصف كل مجلس وتاريخه ومدته، ويذكر الإمام الذي يحضر المجلس وكبار الحاضرين، ثم يذكر المسائل التي طرحت للبحث في المجلس. يقول في المجلس الأول:
(طلعت يوم الخميس ثالث وعشرين رمضان المبارك في تاريخ سنة عشر وتسعمائة، وكان في خدمته ناصح الملوك والسلاطين شيخ حسن جلبي؛ وكان الإمام في تلك الليلة شيخ شمس الدين السمديسي. وقعدوا في الأشرفية ستين درجة. ووقع في تلك الليلة أسولة. السؤال الأول الخ). .
ويقول في المجلس الثاني من شوال:
(طلعت يوم الأحد تاسع شهر شوال، وقعدوا خمسين دقيقة في البيسيرية الأشرفية. والإمام كان شيخ محب الدين المكي، وشيخ الإسلام كان حاضراً. وخواجه غياث الدين ده دار، وقاضي جمال الدين الخشاب، وكثير من الناس كانوا في الخدمة الشريفية والعتبة العلية).
يبدأ السلطان أكثر الأحيان بسؤال يجيب عنه أحد الحاضرين فيرتضي السلطان جوابه أو يناقشه، وأحياناً يبدأ أحد الحاضرين الكلام. وأكثر المسائل دينية وبعضها تاريخية، ومنها الغاز في موضوعات شتى، وقصص عن الملوك وغيرهم.
وأحياناً يصف المؤلف مشاهد ويروي أحاديث لها في التاريخ خطر كبير.
مثلاً يصف إحياء السلطان المولد النبوي، ويذكر طوائف الناس الذين اجتمعوا، وما فعلوا في هذا المحفل، ويبين كيف جلس السلطان ليلاً وكيف يتقدم إليه كبار الدولة وينشد كل منهم شعراً في مدحه وكيف يقابلهم السلطان. وقد ذكر أن الخليفة يعقوب المستمسك بالله خليفة مصر تقدم (وباس الأرض، كفرض العين وعين الفرض) وأنشد:
إن الخلافة ثوب قد خُصصت به ... إذا لبست فلم يفضل ولم يعزِ(273/29)
ما أودع الله في أحداقنا بصراً ... إلا لنفرق بين الدر والخرزِ
وكذلك يمر القارئ بمسائل ذات خطر في التاريخ والسياسة إذ ذاك كقول السلطان: (الجركس من الغساسنة فهم عرب) وكالبحث في شروط الإمامة في مجلس السلطان وقول مؤلف الكتاب: فإن لم يوجد من يستوفى الشروط من ولد إسماعيل جاز أن يُولّى واحد من العجم أو من ولد إسحاق. وقوله بعد هذا:
الحمد لله والمنة، الجركس من ولد إسحاق. وجميع هذه الشرائط موجودة في السلطان الأعظم.
بل نجد في الكتاب بحثاً صريحاً في نيابة الغوري عن الخليفة العباسي وهل هذه النيابة لازمة لصحة أحكامه في الأمور الشرعية. ويشتد الخلاف بين المؤلف وأحد العلماء في هذه المسألة فيحقر المؤلف الخليفة ويعظم السلطان، ثم يذهب يستفتي العلماء ويأخذ خطوطهم بأن نيابة السلطان عن الخليفة غير لازمة.
ويرى القارئ أحياناً اهتمام السلطان بتعليم المماليك وإحضارهم معه من حين إلى آخر إلى مجلسه ليقرءوا أمامه ويمتحنهم
وهكذا يجد القارئ في الكتاب مسائل مهمة لا يظفر بها في كتب التاريخ، ويرى صوراً من آراء السلطان وعلماء عصره، ويتبين مقدار اطلاعهم ودرجة تفكيرهم
2 - الكتاب الثاني: اسمه الكوكب الدري في مسائل الغوري، وهو يحتوي على ألفي مسألة وأجوبتها من المسائل التي وقع البحث فيها في مجالس السلطان الغوري أيضاً. ولدينا الجزء الأول من الكتاب وفيه ألف مسألة في 338 صفحة. والنسخة مكتوبة في عهد الغوري. . ويظهر أنها نسخة المؤلف. وعليها خطوط ثلاثة من علماء وقته المعروفين يشهدون بأنهم اطلعوا على الكتاب. وبعض هذه الخطوط مؤرخ بالسنة التي تم فيها كتابة هذا الجزء.
ويقول المؤلف في آخر الكتاب: (وكان الفراغ منه في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع عشر وتسعمائة).
ويقول في المقدمة: وبعد فإني لما رزقني الله سعادة الدارين وتشرفت مدة عشر سنين بخدمة سلطان الحرمين الشريفين خان الأعظم وخاقان المعظم، مولى ملوك الترك والعرب(273/30)
والعجم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، وارث ملك يوسف الصديق، إمام الأعظم بالحق والتحقيق، مظهر الآيات الربانية، مظهر الأسرار الروحانية، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، الملك الأشرف ذو الفيض النوري، أبو النصر قانصوه الغوري الخ. . . قصدت أن أجمع در فوايد مجلسه في سمط العبارة والكتابة، وأنظم جواهر زواهره في سلك الاستعارة والكناية، لأنه ورد في كلام بعض الأنام: كلام الملوك ملوك الكلام، سيما إذا كان المبحوث عنه تفسير كلام رب العالمين، ونكات أحاديث سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، ومباحث سلطان الإسلام الخ. . .
إلى أن يقول: وجمعت شيئاً يسيراً وفاتني منه شيء كثير، فجمعت من بحار فوايده قطرة، ومن شموس محاسنه ذرة، لم أقدر أن أجمع إلا واحداً من ألف بل من مائة ألف. . . فجمعت من المسائل المشكلة ألفي مسألة، وسميته بالكوكب الدري في مسائل الغوري. . .
وفي هذه المقدمة شبه بمقدمة الكتاب الأول، وبعض عباراتهما واحدة، وبين تاريخهما زهاء عشر سنين
وهذا الكتاب ليس مقسماً على المجالس كالكتاب السابق، بل المسائل فيه متتابعة بغير فصل. والمطلع على الكتاب يرى صوراً من أفكار علماء مصر وأمرائها في ذلك العصر. يرى إلى المسائل الدينية وهي معظم الكتاب، مسائل تاريخية، وجغرافية، ويرى انتقال الحديث من تفسير آية أو حديث إلى السؤال عمن بنى الأهرام أو عن سبب زرقة السماء أو السؤال عن كيورث أول ملوك الشاهنامة أكان قبل نوح أو بعده، أو عن شهر المحرم لماذا جعل أول التاريخ الهجري، أو هل الأرض أفضل أم السماء. ويجد القارئ في الحين بعد الحين فكاهة من السلطان أو نادرة، ويعرض في المجالس ذكر الملوك المناصرين والأمراء الذين وفدوا على السلطان كابن السلطان سليم. ويرى بعض الأسئلة الدينية التي سألها هؤلاء الأمراء وجواب السلطان أو بعض علمائه
لا ريب أن هذا الكتاب على تفاهة معظم المسائل التي يدور عليها البحث، يصور بعض النواحي الفكرية والاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي، في ذلك العصر
3 - الغوري والشاهنامة:
- 1 -(273/31)
كان حسين بن حسن بن محمد الحسيني الآمدي أحد شعراء التركية في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجري وشهد عهد السلطان الغوري في مصر، ولعله فرَّ إليها إذ كان من المقربين إلى الأمير جم بن محمد الفاتح. وتوفى بمصر سنة 920 وقد أمره السلطان الغوري أن يترجم شاهنامة الفردوسي إلى اللغة التركية فترجمها في عشر سنين آخرها سنة ست عشرة وتسعمائة
وقد نظم الشاعر في مقدمة الكتاب فصلاً يبين فيه سبب نظمه. وخلاصته أن السلطان كان ولعاً بقراءة التاريخ والقصص، وكان في خزانته كتاب الشاهنامة، فدعا الشريفيِّ وقال: إني أحب هذا الكتاب وأعرف ما تضمنه من المواعظ والأخبار وأريد أن يترجم إلى اللغة التركية ليسهل علينا إدراك معانيه. وأعرف أن لك مقدرة على نظمه، فترجمه إلى التركية. فقال الشاعر: أيها السلطان المعظم! كيف تريد أن تسهل عليك معانيه بالترجمة وأنت تعرف لسان العجم أحسن من العجم؟ بل هو أسهل عليك من اللغة التركية، وليس بك حاجة إلى ترجمته.
قال السلطان: أريد أن يبقى ذكراً بعدي، فإنما يخلد الإنسان بالذكر الحسن
قال الشاعر: ولكن نظمي ليس من البلاغة والسلاسة بحيث يعجب السلطان؛ وليس يسيراً أن يبلغ الكلام الدرجة التي ترضيك، والشاهنامة كتاب غير الترجمة.
قال: دع الاعتذار ولا تعتل فأنت من آل الرسول. فشمْر للأمر، وإن لم يكن كلامك مزخرفاً مصنفاً فلست أبالي. لست أكلفك كلاماً ملوكياً، ولكن أريد أن تقول باللسان التركي قولا درويشياً.
يقول الشاعر: فلم أجد بداً من امتثال الأمر على ثقل العبء وعلى بعد ما بيني وبين الفردوسي، وشرعت في نظم الكتاب في وزن آخر غير وزنه الفارسي الخ. . .
- 2 -
في مقدمة الكتاب وخاتمته نحو ألف بيت؛ يبدأ الكتاب بالتحميد، ومدح الرسول والخلفاء على سنّة شعراء الفرس والترك، ثم يذكر سيرة مماليك مصر منذ سنة 970هـ، يذكر قايتباي والملوك الذين خلفوه في فترة الاضطراب التي بينه وبين الغوري، ثم يفيض في(273/32)
مدح السلطان، ثم يبين سبب نظم الكتاب ويشرع في ترجمة الشاهنامة. وفي الخاتمة يمدح السلطان ويبين أنه نظم الكتاب باسمه وأتمه في دولته، ويتكلم عن أخلاق السلطان وسياسته وشغفه بالعلم والأدب، ومعرفته لغات كثيرة، ومشاركته في الإنشاء والشعر ونظمه في توحيد الله ومدح الرسول، وإلمامه بالموسيقى، ونظمه موشحاً للغناء، وولعه بقراءة التواريخ الخ. . . ثم يصف مجلس السلطان واجتماع العلماء فيه لمذاكرة العلم، ويذكر المغنين والموسيقيين الذين يطربون السلطان في مجالسه.
ثم ينتقل إلى وصف عمارات السلطان وصفاً مفصلاً فيعدد تسعاً منها. والخلاصة أن في مقدمة الكتاب وخاتمته ما يكشف بعض تاريخ الغوري ولا سيما الجانب الأدبي منه، ويبين طرفاً من تاريخ مصر - بعد حساب المبالغات الشعرية.
- 3 -
هذا الكتاب له قيمة عظيمة في تاريخ اللغة التركية، فهو سجل جامع لألفاظ اللغة التي كانت مستعملة في القرن العاشر الهجري ولقواعد النحو والصرف التي كانت متبعة إذ ذاك.
وفيه كذلك صورة مفصلة للضرورات الشعرية التي كانت تعانيها اللغة من بعض الشعراء في ذلك العصر، والتي ذكرها ضيا باشا في مقدمة (الخرابات).
- 4 -
ويزيد في قيمة الكتاب وفائدته، أن عندنا منه نسخة الأم أعني النسخة التي كتبها المترجم بخطه، وقدمها إلى السلطان؛
فعلى صفحة العنوان نجد هذه الصيغة:
(برسم خزانة مولانا المقام الشريف السلطان مالك رقاب الأمم، السلطان المالك، الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عز نصره وخلد ملكه.
وفي آخر الجزء الأول:
(وقع الفراغ من تحرير المجلد الأول في أول ليلة من شعبان المبارك في محروسة مصر صانها الله من الآفات، في قبة الحسينية لأمير يشيك، تغمده الله بالرحمة والغفران)، كاتبه ناظمه أضعف عباد الله حسين بن حسن بن محمد الحسيني سنة ثلاث عشر وتسعمائة.(273/33)
والحمد لله الخ. .
وفي آخر الجزء الثاني:
تم الكتاب بعون الملك الوهاب ضحوة النهار يوم الأحد ثاني شهر ذي الحجة الحرام سنة ست عشر وتسعمائة من هجرة النبوية عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، كاتبه ناظمه وهو أضعف العباد حسين بن حسن بن محمد الحسيني الحنفي في مدينة مصر حرسها الله من الآفات والبليات في جامع المرحوم المغفور السعيد الشهيد الملك المؤيد شيخ سقى الله عهده بالرحمة والمغفرة.
وبعد هذا سطران بالتركية:
(بو كتابك نظمنه مولانا السلطان عز نصره الغوري أول سلطنت يلنده ابتدا إيلدك، أون يلده تمام أولندى، أونك دولتذه إتمامه أرشدي).
حسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
(ومعنى العبارة التركية أنه بدأ الكتاب في أول سنة من عهد السلطان وأتمه في عشر سنين في دولته)
- 5 -
والنسخة في 1170 ورقة كبيرة أي 2340 صفحة، كل صفحة 25 سطراً، وهي مذهبة، وبها اثنتان وستون صورة ملونة. وإزاء كل صورة في الحاشية عنوانها بخط مذهب. ولهذه الصور قيمتها في الدلالة على التصوير المصري في ذلك العصر.
- 6 -
ثم يزيد هذه النسخة نفاسة وفائدة أنها واضحة الخط تميز فيها الحروف الثلاثة ب، ج، ز، من الحروف العربية ب، ج، ز، بوضع نقطتين تحت الحرف أو ثلاث. وهذا نادر في الكتب القديمة، وهي بعد هذا مشكولة شكلاً تاماً لا يرتاب القارئ في ضبط كلمة منها
فبين أيدينا زهاء ستة وخمسين ألف بيت من الشعر التركي في القرن العاشر الهجري مضبوطة ضبطاً تاماً، وقيمة هذا في اللغة والأدب ليست هينة
- 7 -(273/34)
عرفنا من هذه الكتب أن السلطان كان مولعاً بالأدب وأن له نظماً بالعربية والتركية. ولدينا نماذج من نظم السلطان في موشح في كتاب نفايس المجالس، وقصيدتين وموشحين بالعربية، وموشح بالتركية في كتاب تاريخ حلب للطباخ، وعند بعض أدباء حلب قطع أخرى من شعر السلطان، وفي أستانبول مجموعة من شعره
عبد الوهاب عزام(273/35)
للتاريخ السياسي
النزاع الروسي الياباني
للدكتور يوسف هيكل
شهد شهر أغسطس (آب) الفائت حوادث دولية متفاقمة الخطورة، إذ طارت شرارة الحرب العالمية في الشرق الأقصى فأشعلت النار بين الروس واليابان، فكادت الحرب تجتاح العالم لولا الجهود الدبلوماسية التي بذلي لإخماد نار الحرب الروسية اليابانية. غير أن شبح الحرب العالمية عاد من الشرق الأقصى إلى أوروبا الوسطى، وأخذ يحوم في جوها مهدداً السلام بشدة.
وحديثنا في هذا المقال مقتصر حول النزاع الروسي الياباني. ولعرض هذا النزاع يحسن بنا التكلم عن أسباب الصدام الذي حدث بين القوى الروسية واليابانية، وعن تطور القتال بينهما، وأخيرا عن المفاوضات الديبلوماسية التي بذلت لعقد الهدنة بين موسكو وطوكيو، وعن شروط هذه الهدنة وأسبابها.
نشأت في اليابان في السنين الأخيرة روح استعمارية جديدة. فبعد أن أغرقت اليابان أسواق الشرق بمنتوجاتها، مما أدى بالدول الأخرى إلى وضع ضرائب فادحة على المنتوجات اليابانية لتحول دون دخولها بلادها، أخذت تتبع سياسة تتعارض وبقاء الأوربيين في الشرق. وكان هدفها الأول إجلاء الأوربيين عن الصين. فعملت، قبل احتلالها منشوريا، على تحقيق هذه الأغراض بالتفاهم مع الصين، ولذلك ساعدت على قيام أحزاب قوية في بلادها مطالبة بأن تكون (آسيا ل
الآسيويين كما أن أوربا للأوربيين، وأمريكا للأميركيين). ثم عملت على إنشاء فروع عديدة لهذه الأحزاب في الصين وجاوة والهند.
ولكن الحكومة اليابانية رأت أن الحالة الدولية تتطلب السرعة في العمل، فعدلت عن سياسة التفاهم مع الصين، وعمدت إلى سياسة القوة التي مكنتها من احتلال منشوريا، على رغم تعدد المصالح الغربية فيها. بعد هذا الفتح واجهت اليابان أوربا بقاعدة جديدة هي (ارفعوا أيديكم عن الصين).
لم تتحسن العلاقات بين اليابان والصين بعد استيلاء اليابان على منشوريا، بل عمدت(273/36)
الصين إلى مقاومة النفوذ الياباني، وجدت في المحافظة على كيانها. غير أن اليابان قررت شل الحركة الصينية المعادية لها بالقوة، فكانت الحرب اليابانية الصينية.
واستيلاء اليابان على الصين يهدد وجود الدول الغربية في البلاد الأسيوية، ولا سيما في الشرق الأقصى والأوسط. ويتحقق حينئذ الخطر الأصفر الذي كان الإمبراطور ولهلم أول المنذرين به.
وفي مقدمة الدول التي تخشى اليابان في الصين الحكومة الروسية. لأن الخطر الأصفر لا يحرم هذه الدولة بعض مستعمراتها فقط، بل ربما يسلخ عنها قسماً كبيراً من بلادها، وهو سيبريا الممتدة في شمالي آسيا من أقصى الشرق حتى الغرب منها. وقد كانت الروسيا في المدة الأخيرة هدف عداء اليابان، إذ أن طوكيو عقدت تحالفاً مع برلين وروما، غايته مكافحة الشيوعية. والشيوعية ما هي إلا رمز يراد به الحكومة الروسية. فهذه المصالح المتضاربة هي السبب الرئيسي لكل حرب تقع بين اليابان والروس، أو بين اليابان وأية دولة غربية أخرى.
أما السبب المباشر للنزاع الأخير الذي حدث بين اليابان والروسيا فهو حادث حدود، وهو أن الجند الروس، حسب قول اليابان، اخترقوا الحدود الفاصلة بين السوفيات (الروسيا) ومنشوكو واحتلوا تشانج كوفنغ ومضيق شانغ كو. ولذلك طلبت طوكيو من موسكو سحب القوات السوفياتية إلى ما وراء الحدود، فرفضت موسكو ذلك أواسط شهر يونيه، مجيبة بأن المنطقة المختلف عليها هي جزء من الأراضي الروسية، وأن طلب اليابان يعد تدخلاً منها في شؤون السوفيات الداخلية
إن تهديد اليابان وجواب روسيا جعلا الدولتين تقفان وجهاً لوجه دون أن تستطيع إحداهما الرجوع عن موقفها من غير أن يكون ذلك تراجعاً منها أمام رغبة الأخرى. وفي أثناء ذلك كانت الجيوش تتجمع، والطائرات تحوم في الجو، فكان التصادم، وكانت حوادث قتال محلية لم تأخذ صبغة حرب بين الدولتين، لأن القوى التي اشتركت في القتال كانت محدودة، ولأن المفاوضات كانت مستمرة لإيقاف القتال وإيجاد حل للخلاف.
أما هدف القتال فكان احتلال قمة (تشانج كوفنغ) وما جاورها. فبعد أن احتلت القوى السوفياتية هذه القمة، أصر الجيش الياباني على إرجاع الروس عنها؛ فدارت معارك(273/37)
عديدة، واشتركت فيها القوى البرية على اختلاف أنواعها والجوية، وأدت إلى استيلاء الجيش الياباني على تلول (تشانج كوفنغ) و (شاتسا) و (بينج) وذلك في 30 يوليه سنة 1938. وقد صرح حينئذ الميجر (اكياما) بلسان الجيش قائلاً (قد عدنا إلى احتلال هذه الأراضي المنشوكية بالقوة، ولا نريد شيئاً أكثر من ذلك. فنحن نجهل النيات السوفياتية. ولكن إذا حاول السوفيات استرداد هذه المواقع وجب أن ينتظروا معاملة أقسى وأشد)
ولكن هذا التهديد لم يثن عزيمة السوفيات بل أثار هياج الرأي العام في روسيا، فقامت الجماهير بمظاهرات عدائية نحو اليابان جاء في قراراتها: (يجب أن لا تنسى قط اليابان وإيطاليا وألمانيا أن الجيش الأحمر لن يتخلى عن متر واحد من الأراضي السوفياتية، كما يجب أن لا يفوتها أن الشعب الروسي بأكمله هو في حالة تجنيد، وأنه يجيب أول نداء تذيعه حكومته وسلاحه بيده) وقد أصدرت الجمعيات العامة المنشأة في جميع أنحاء البلاد قرارات جاء فيها: (إننا لن نتراجع أمام أي تهديد. فحدودنا لا يمكن خرق حرمتها، وستدفع العصابات اليابانية موت جنودنا سيولاً من الدماء).
استعد الروس لاسترجاع منطقة (تشانج كوفنغ)، فظهر الجيش الروسي الأحمر الأول مرة في القتال، فقام في 3 أغسطس بهجوم عنيف على هذه المنطقة، اضطر اليابان إلى دفع عشرين ألف مقاتل لصد هجوم الروس. ولم تكن هذه المعركة حاسمة، ولم يتمكن الروس من استرداد المنطقة التي استولى عليها اليابانيون في 30 يوليه الماضي. على أن القتال لم يقف، بل ازداد حماسة وشدة. فحدثت معارك، أدت إلى تقدم الروس، فأعلنت قيادة الجيش الروسي في 7 أغسطس أن القوى السوفياتية (أجلت بتاتا الجيش الياباني عن الأراضي السوفياتية). ولكن المقامات اليابانية نفت بتاتاً جلاء اليابانيين عن أكمة (تشانج كوفنغ). ويظهر أنه في ذاك التاريخ قد جلا اليابانيون عن قسم من المنطقة المختلف عليها، وظل القسم الآخر تحت سيادتهم
واصل الروس القتال، وتسلم المارشال بلوخر القائد العام للقوات السوفياتية في الشرق الأقصى، قيادة الأعمال الحربية، فتقدم الروس وتراجع اليابانيون. وصدر في موسكو بتاريخ 10 أغسطس بلاغ رسمي يقول: (إن تشانج كوفنغ التي وقع الخلاف عليها بين الروس واليابانيين أمست الآن في أيدي الروسيين).(273/38)
وفي 10 أغسطس أيضاً أعلنت الهدنة بين روسيا واليابان، وأوقف القتال في ساحة (تشانج كوفنغ) عند ظهر اليوم التالي حسب توقيت الشرق الأقصى أي قبيل شروق الشمس في بلادنا.
كانت خسائر الطرفين حسب تقدير اليابان الرسمي 158 قتيلاً و 723 جريحاً من اليابانيين، وما ينيف عن 1700 قتيل وجريح من الروس. غير أن إحصاء الروس الرسمي ينص على أن عدد قتلى الروس 236، وجرحاهم 611، وعدد قتلى اليابان 600، وجرحاهم 2. 500. ومن الأكيد أن هذه الأرقام غير صحيحة لأن من عادة الدول المتحاربة محاولة إخفاء حقيقة خسائرها، والمبالغة في مقدار خسائر الخصم. والغاية المتوخاة من ذلك بيان تفوقها وتقوية روح جيوشها المعنوية من جهة، وإظهار ضعف الخصم وإضعاف روحه المعنوية من جهة ثانية
لم يكن إعلان الهدنة مفاجئاً لأن المفاوضات لتصفية النزاع الروسي الياباني كانت سائرة منذ ابتداء القتال. وكانت الدوائر السياسية الغربية تتفاءل تارة وتتشاءم تارة أخرى، ولكن التفاؤل غلب التشاؤم بتراجع اليابان عن موقفها
فكيف كانت المفاوضات؟ وما هي شروط الهدنة؟ وما هي الأسباب التي دعت اليابان إلى هذا التراجع؟
على أثر دخول الجند الروسي المقاطعة المختلف عليها قابل البارون سيجيمنسو السفير الياباني في موسكو، الرفيق لتفينوف وزير خارجية روسيا عدة مرات طالباً منه سحب القوى الروسية من مقاطعة (تشانج كوفنغ). وكانت خلاصة الحديث الذي دار بينهما في 20 يوليو (تموز) أن الحكومة اليابانية مقتنعة بأن المنطقة الواقعة غربي بحيرة (كاسان تشانتشي) داخلة في حدود منشوريا، وأنها توافق على تعيين الحدود تعييناً دقيقاً، والدخول في مفاوضة مع حكومة موسكو لهذا الغرض؛ ولكن بعد أن يتم انسحاب القوات السوفياتية من المنطقة التي احتلتها. وقد رد وزير الخارجية الروسية على بيانات السفير الياباني بأن الحكومة السوفياتية قدمت إلى السفارة اليابانية عدة وثائق منها معاهدة (هونتشون) والخرائط الملحقة بها المبينة للحدود بدقة وجلاء تامين. وهذه الخرائط والوثائق التي وقعها ممثلو الحكومة الصينية السابقة تثبت أن المنطقة الواقعة غربي بحيرة كاسان داخلة ضمن(273/39)
نطاق الحدود الروسية، وأن روسيا كانت ترسل إليها الدوريات العسكرية ولا تزال تفعل ذلك. فأبان السفير الياباني أن حكومته لن تكون مرتاحة إلى هذا الرد، وأنه من الضروري اتخاذ تدابير تعيد الأمن إلى نصابه على الحدود، وإلا اضطرت اليابان أن تستنتج من ذلك وجوب الالتجاء إلى القوة. فرد الرفيق لتفينوف أن مثل هذا التهديد لا يؤثر في روسيا ولا يخيفها. وعلى أثر ذلك قطعت المفاوضات
وبعد احتلال اليابان لتلول (تشانج كوفنغ) في 30 يوليو (تموز) تلقى سفير اليابان في موسكو التعليمات من حكومته بأن يطلب من الرفيق لتفينوف استئناف المفاوضات بشأن (تشانج كوفنغ) التي قطعت في 20 يوليو (تموز) فاجتمع السياسيان في 4 أغسطس وبسط السفير الياباني وجهة نظر حكومته التي ترمي إلى تسوية النزاع بالطرق الودية. فأصر الرفيق لتفينوف على أنه يجب على اليابان قبل بدء المفاوضات أن تسحب جيوشها إلى وراء الخط المعين في الخريطة الملحقة بمعاهدة (هونتشون) المبرمة عام 1886. فأجاب السفير بأن الخريطة المذكورة التي لا يوجد لها صورة رسمية إلا في وزارة الخارجية في موسكو، لا يمكن قطعاً اعتبارها المستند الوحيد الذي يستطاع استخدامه في تعيين الحدود، لأنها لم تنشر قط، ولأن السلطات اليابانية المختصة لم تعلم بها لحد الآن. على أثر ذلك انفض الاجتماع دون أن يصلا إلى نتيجة إيجابية
وفي اليوم التالي قابل السفير الياباني وزير الخارجية الروسية وعرض عليه اقتراح حكومته المشتمل على النقط التالية:
1 - انسحاب القوات اليابانية إلى المنطقة المتنازع عليها حول جبل (تشانج كوفنغ).
2 - تعهد روسيا بألا تحتل هذه المنطقة.
3 - بقاء هذه المنطقة منطقة حياد إلى أن تقوم لجنة بتخطيط الحدود.
فرد الرفيق لتفينوف على هذا الاقتراح بقوله: إن روسيا لا تدخل في أية مفاوضات قبل سحب القوات اليابانية داخل حدودها. وعلى أثر هذه العبارة استأذن السفير الياباني بالانصراف وارفض الاجتماع. وكان القتال في هذه الأوقات شديداً، وهجوم الروس لاسترجاع منطقة (تشانج كوفنغ) قويا
وفي 10 أغسطس اجتمع الرفيق لتفينوف والبارون سيجيمنسو واتفقا على شروط الهدنة(273/40)
التي تلخص كما يلي:
1 - وقف الحركات العسكرية ظهر يوم 11 أغسطس حسب توقيت الشرق الأقصى أي الساعة الخامسة صباحاً في موسكو.
2 - بقاء قوات الفريقين في المواقع التي كانت فيها في منتصف ليل 11 أغسطس.
3 - تأليف لجنة مختلفة قوامها عضوان روسيان وعضو واحد ياباني، وآخر منشوري لتعيين حدود المنطقة المختلف عليها، فإذا لم تتوصل هذه اللجنة إلى الاتفاق وجب عرض الخلاف على حكم يختاره الفريقان.
4 - تستند هذه اللجنة في أبحاثها إلى الخرائط الملحقة بالمعاهدات المعقودة بين روسيا وحكومة الصين السابقة.
وبرغم الهدنة حدث في 12 أغسطس حادث جديد فحواه، حسب تقرير السوفيت، أن الجيش الياباني أخذ يتقدم، فجابه الجيش الروسي على بعد مائة متر. وبقي الجيشان وجهاً لوجه حتى اتفقا على أن ينسحب كل منهما مسافة ثمانين متراً. وفي 13 أغسطس قدم الرفيق لتفينوف إلى السفير الياباني احتجاجاً على (الاعتداء الجديد على حدود السوفيات) طالباً انسحاب القوى اليابانية، ومهدداً باعتبار حكومة السوفيات الهدنة ملغاة فيما إذا لم تجب الحكومة اليابانية مطالبها. فانسحب الجيش الياباني، في 14 أغسطس، إلى الضفة اليمنى لنهر (تومن) داخل حدود كوريا ولم يبقى جندي واحد في منطقة (تشانج كوفنغ) الواقعة على الضفة اليسرى.
كانت هذه الهدنة فوزاً سياسياً كبيراً للحكومة السوفياتية، عزز نفوذها وهيبتها في الشرق الأقصى، وذلك بإكراهها اليابان على قبول شروطها من سحب الجيش الياباني من المنطقة المختلف عليها، ومن تشكيل لجنة الحدود بحيث يكون فيها أعضاء للروس بقدر ما لليابان وحكومة منشوكو معاً. أما اليابان فكانت تريد أن يكون لكل من روسيا واليابان وحكومة منشوكو عدد متساو من الأعضاء.
وسبب تراجع اليابان هذا أنها يوم أقدمت على إخراج الجنود السوفياتية من هذه المنطقة بقوة السلاح، كانت تظن أن روسيا ليست في حالة تمكنها جدياً من محاربتها، وكانت تعتقد أنها ستلقى من ألمانيا وإيطاليا مساعدة عملية، عملاً بميثاق مكافحة الشيوعية وامتداد محور(273/41)
روما برلين إلى طوكيو.
ولكن الحوادث لم تحقق هذا الظن، لأن حكومة السوفيات أظهرت بطريقة لا شك فيها أنها لا تتردد في خوض غمار الحرب دفاعاً عن كرامتها وسلامة حدودها في الشرق الأقصى. ولأنه ظهر وهن ميثاق مكافحة الشيوعية المراد منه مقاومة نفوذ السوفيت. إذ أنه لما استفسر سفير اليابان في برلين من الهر ريبنتروب وزير خارجية ألمانيا يوم الاثنين الموافق 8 أغسطس، عن مدى المساعدة التي تقدمها ألمانيا لليابان إذا خاضت غمار الحرب ضد روسيا، أجاب الهر ريبنتروب بما معناه: أن ألمانيا مع ميلها إلى اليابان وتمنيها لها الفوز، لا تستطيع في الوقت الحاضر مدها بمساعدة عملية في حالة نشوب حرب يابانية روسية فأبرق السفير الياباني في برلين حينئذ إلى حكومته أن تعمل كل ما في وسعها لعدم تمديد الخلاف مع روسيا
أما روسيا فسوف لا تكتفي بهذا الفوز الأدبي الذي أحرزته على اليابان لأن مسألة (تشانج كوفنغ) لم تكن السبب الحقيقي في النزاع الذي كاد يؤدي بها إلى الحرب (بل هناك سبب أعظم منه هو أن مصالحها الحيوية تقضي عليها بوقف المطامع اليابانية في الصين عند حدودها، فإذا لم تعدل اليابان عن هذه المطامع، وتحل خلافها مع الصين على أساس يكفل للصينيين سيادتهم وسلامة بلادهم، فالحرب واقعة بينها وبين روسيا، وربما تشترك فيها بعض الدول الغربية من أصحاب المصالح في الصين
يوسف هيكل(273/42)
آراء وتحقيقات
الخير والسعادة
الخلاف عليهما عند أكثر فرق الفلسفة
للأستاذ عباس طه
منذ قرابة عامين عرضنا في بعض المجلات العلمية للبحث عن الفرق بين الخير والسعادة لماما، ثم لمدى الخلاف بين المتقدمين من الفلاسفة وبين المتأخرين منهم في ماهية السعادة وهل هي سعادة بالإضافة إلى غيرها أم هي سعادة مطلقة بغض النظر عما عداها من الاعتبارات، وهل هي من ملابسات النفس الناطقة وحدها، أو أن البدن أيضاً من مقوماتها.
لكن البحث لم يتسق للكشف عن مبلغ آراء فرق الفلاسفة في السعادة والخير يومئذ في تلك المجلة. من أجل ذلك نحب أن نعرض لقراء الرسالة - بقدر - في هذا البحث الراهن للسعادة في رأي فيثاغورث وأفلاطون وبقراط، وهؤلاء من متقدمي الفلاسفة، ثم نعرض بعد ذلك لرأي ارستطاليس، ثم نقارب بين رأي فيثاغورس ومتابعيه، وبين جمهرة من المشائين حتى يتسق البحث على وتيرة واحدة، ويجري على سنن مستساغ.
في الاتجاهات التي اتجه إليها فيثاغورث وأفلاطون وبقراط ومن إليهم تلقاء النفس الناطقة أن الفضائل الأربع التي هي قوام السعادة وعتادها حاصلة كلها في النفس وحدها فليس لها مرد من الخارج ولا قوة تصدر عنها سوى النفس الناطقة؛ ولذلك حينما عرضوا لتقسيم قوى النفس في كتبهم اعتبروا كل هذه القوى منحصرة في الفضائل الأربع وهي: (الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة) على ما سيجيء الكلام عنه في بحوثنا المتلاحقة المتعلقة بالنفس الناطقة، ثم رتبوا على ذلك الاتجاه أن تلك الفضائل الأربع وحدها كافية لتكون قواماً للسعادة في فصولها المختلفة، فلا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن ومميزاته ضرورة أن ذا النفس الناطقة إذا حصل تلك الفضائل مجتمعة فلا يغض من سعادته أن يكون سقيماً أو فاقداً لبعض أعضائه أو مبتلى ببعض صنوف العلل والأدوار إلا إذا تأثرت تلك النفس بأوصاب البدن وأسقامه فيما يصدر عنها من أفعال كفساد العقل واضطراب التفكير وضعف الروية والخلط بين الآراء، فإن ارتفعت كل هذه الأعراض على إصابة(273/43)
البدن بعلله وأوصابه فليس بضير النفس الناطقة في شيء أن يعرض لها الفقر والخمول وسقوط الحال وخشونة العيش مثلاً وكل ما هو خارج عنها فليس ما كان خارجاً عن النفس الناطقة بقادح في سعادتها. وبدٌ هي أن فيثاغورث ومن لف لفه يذهب إلى أن السعادة لا تعدو النفس الناطقة فلا تتناول الأبدان ومميزاتها، ويرتبون على ذلك الاتجاه أن السعادة والخير في مختلف مناحيهما ليس لهما إلا مصدر واحد وهو قوى النفس الناطقة وبالتالي الفضائل الأربع، وليس للبدن على هذا الاعتبار إلا مظهر آليته، فالنفس مديرة والبدن لها آلة.
أما جمهرة من الرواقيين فتذهب إلى أن السعادة والخير يصدران عن النفس والبدن معاً. فإذا صدر الخير عن النفس دون تقدير لكفة البدن فإنما يصدر ناقصاً بالقياس إلى ما تتعاون النفس والبدن مجتمعين في صونه وإبرازه.
يأتي بعد ذلك أرستطاليس فينحو نحواً آخر وهو أن السعادة والخير متخالفان، ثم إن السعادة بعد ذلك مقولة بالتشكيك فهي معروضة للمقولات العشر
ومعلوم أن المحققين من الفلاسفة يحقرون شأن البخت والاتفاق وكل ما هو منقطع الصلة بترتيب الفكر وأعمال الروية، ولا يؤهلون أصحاب هذه الاتفاقات وحملة تلك المصادفات لاسم السعادة. فالسعادة في أوضاعها أمر قار غير زائل، بل هم فوق ذلك يعتبرون كل ما يصل الإنسان من غير طريق التدبير والروية ومن غير أن يجري على سنن له مقدماته ونتائجه ضرباً من ضروب البخت فهو قابل عندهم للبقاء والزوال والزيادة والنقص والتعديل والتجريح والصحة والفساد والرفعة والخفض وكل الأشياء ونقائضها؛ وتابعهم في ذلك كثير من متأخري الفلاسفة أخذاً بنظرية صادقة عندهم وهي: من قدمه الاتفاق فقد أخره الاستحقاق. وهنا وقع خلاف ذو شأن بين قدماء الفلاسفة ومتأخريهم فيذهب فيثاغورث وأفلاطون وبقراط إلى أن السعادة العظمى لا تتحقق للإنسان إلا بعد أن تخلع البدن وما يلابسه من غاشيات الطبيعة، تطبيقاً لمذهبهم القائل بأن السعادة لا تحصل إلا في قوى النفس الناطقة. من أجل ذلك أطلقوا على الإنسان أنه جوهر النفس الناطقة دون البدن، فحكموا بأن البدن ما دام سياجاً لها وقفصاً لإيوائها، وما دام يخلع عليها غاشيات الطبيعة وأكدارها ولوثاتها وعلائقها فليست تلك النفس بسعيدة السعادة المطلقة الموموقة؛ ومبعث(273/44)
ذلك الرأي عندهم أن النفس الناطقة لا تستوحي الكمال الذاتي والعقل النوراني ما دامت متصلة بتلك الهيولي التي تحجب عنها العلوم والمعارف الكلية، إلا إذا فارقت ظلمة الهيولي ولوثة تلك الكدورة، وحينئذ تفارق الجهالات المتنوعة فتصفو وتخلص من ربقة البدن فتكتب لها الإضاءة ويواجهها النور الإلهي. ويترتب على رأي هؤلاء بادئ ذي بدء أن الإنسان لا يظفر بالفوز الأكبر والسعادة العليا إلا في حياة الجزاء بعد موته.
لكن تأتي بعد ذلك جماعة أخرى من الفلاسفة المتأخرين وأرستطاليس منهم في الطليعة، فتذهب إلى أن من الشناعة والعبث وتجاهل الواقع أن ينعت الإنسان الذي يعمل الأعمال الصالحة ويعتنق الآراء الصحيحة، ويجد في تحصيل الفضائل لنفسه أولاً ثم لأبناء جنسه ثانياً، فينشئ صروحاً من الخير متنوعة، ويقيم أعماله وما يصدر عنه من الآثار على محبة القلوب وكسب ألسنة الناس في سبيل إعلاء معالم الفضيلة والحق والنصفة وتحقيق معنى العدالة في أنبل مثلها - بأنه شقي في حياته الأولى وأنه لا يعتبر سعيداً إلا إذا فارقها وخرج من طبيعتها وملابساتها.
فالسعادة في رأي أرستطاليس ومتابعيه تتحقق في الحياة الأولى تطبيقاً لنظرية اشتهرت بينهم، وهي: أن الإنسان عندهم مركب من بدن ونفس، ولذلك يحدون الإنسان بالناطق المائت أو بالناطق الضاحك أو ما إلى ذلك، وفرعوا على هذه النظرية أن السعادة تحدث للإنسان إذا جد في طلبها وسلك إليها الوسائل المؤدية إليها. غير أن أرستطاليس حين رأى أن السعادة قد أشكل فهمها على الناس واضطربت فيها آراء العلماء والفلاسفة، عقد لها في كتابه المسمى (بفضائل النفس) فصلا طويل الذيل ضافي التفاريع حافلا بالحجج والآراء، فقال في فاتحة هذا الفصل مع تصرف في المبنى واحتفاظ في المعنى: (من البين أن الفقير في هذه الحياة يرى سعادته في الغنى واليسار، وأن المريض يراها في الصحة والسلامة، وأن الذليل يتمثلها في الجاه والعزة والسلطان، وأن الخليع يلمسها في التمكن من الشهوات المختلفة، وأن النبيل الفاضل الكريم ينشدها في تعميم مناحي الخير وإفاضتها على مستحقيها، والحد من طغيان ذلك الخير حتى لا يشمل غير مستحقيه) ويتحققها الفيلسوف المستقصي لحقائق الأشياء والمستتبع لملابسات القواميس الكونية في أنها إذ تكون مرتبة بحسب تقسيط العقل لها على معنى أن يلحظ فيها وقتها الذي يجب أن تقع فيه وكما يجب(273/45)
أن تكون وعند من تجدر فهي سعادات متنوعة، فما كان منها يراد لشيء يناسبه فذلك الشيء أجدر أن يطلق عليه أسم السعادة.
ثم كشف بعد ذلك أرستطاليس عن رأيه في بسط وإبانة، فقال مع تصرف في مبناه والاحتفاظ في معناه: قلما يتاح للإنسان أن يفعل الأفعال الشريفة المرضية دون مادة تقوم عليها كاتساع اليد وكثرة الأعوان وجودة البخت، ويتضح ذلك جلياً في صناعة المُلْك والرياسات المختلفة حيث لا يواتيهم توطيد لأركان هذه الزعامة إلا مقترناً بالشرائط المبنية على أن هناك نوعاً من الأعطية هي عطية الله تعالى جده، فهي السعادة لأنها عطية منه عز اسمه وموهبة في أشرف منازل الخير وأعلى مراتبه، وتلك الموهبة خاصة من خواص الإنسان الكامل فلا يشاركه فيها من ليست إنسانيته تامة كالصبيان وما يجري مجراه
وتلك النظرية تقوم على نظرية أخرى عند أرستطاليس فهو يرى أن السعادة تعتبر كذلك بالإضافة إلى صاحبها فهي كمال له، فالسعادة على هذا الوضع خير ما، وقد تكون سعادة الإنسان غير سعادة الفرس وما إليه، فسعادة كل شيء في تمامه وكماله الذي يلائمه، وهنا يفرق بين الخير والسعادة فيرى أن الخير من حيث أنه مقصود للناس جميعاً بالشوق إليه والعمل على تحصيله طبيعة تقصد، وله مفهوم عام يدل عليه وهو الخير المطلق للناس من حيث أنهم كذلك. فالناس أجمعون محاصون فيه. لكن السعادة شيء آخر غير الخير عنده، فهي خير ما لواحد من الناس، وهي بالإضافة ليست لها ذات معينة، وهي تختلف بالإضافة إلى قاصديها اختلافاً يرجع إلى مؤهلاتهم وما ركب فيهم من فطر ومعدات، ومن أجل ذلك يكون الخير المطلق غير مختلف فيه. وقد يظن بالسعادة أن تقع لغير الناطقين، لكن ليس على نحو من أنحاء الناطقين فإنها إذا وقعت فإنما هي استعدادات فيها بقبول كمالاتها الملائمة لها من غير روية ولا تدبير، وهي بمنزلة الشوق أو ما يجري مجراه من الناطقين بالإرادة
فما يقع للحيوانات في مآكلها واستجمامها لا يمكن أن يسمى سعادة بل الوضع الصحيح له أن يسمى بختاً أو اتفاقاً، وجلى أن العقل بفطرته قد جعل للسعي والحركة والإرادة المكتسبة للإنسان حداً تنتهي إليه، فذلك كان من المعقول أن يوجد خير مطلق لا تأباه طبيعة هذا الوجود ولا يوجد بين الناس خلاف عليه، فالهمم والصناعات والتدابير الاختيارية المجدية(273/46)
مثلاً، كلها يقصد بها خير ما لوجه الإنسانية على الأقل ولا يرتاب أحد في أنها كذلك وأنها تثمر ثمرتها المرجوة لها، فكل تصرف لا يقصد به خير ما كان عبثاً والعقل يحظره ويأباه
فيكون الخير المطلق مقصوداً إليه من الناس أجمعين، لكن بقي بعد ذلك أن يعلم ما هو ذلك الخير المطلق، وما الغاية القصوى منه التي هي غاية أنواعه وأعلى مراتبه؟ وذلك ما سنعالج تبيانه بعد. غير أن أرستطاليس قسم الخير تقسيماً مفصلاً ونوعه تنويعاً يكشف عنه كثيراً من الإبهام الذي وقعت فيه جمهرة من متقدمي الفلاسفة فهي ترى أن الخير أنواع وفصول، فمنه ما هو شريف ومنه ما هو ممدوح ومنه ما هو بالقوة، فالشريف منها ما كان شرفه مشتقاً من ذاته بحيث بقلع الشرف على من قام به وهو الحكمة والعقل، والممدوح منها كالفضائل والأفعال الجميلة الإرادية. أما ما كان بالقوة فكالتهيؤ والاستعداد لقبول الأشياء التي تكون نوعاً من هذه الأنواع، ومن الخير ما هو غاية، ومنه ما ليس كذلك، ومن الغاية ما هو تام، ومنها ما ليس كذلك؛ فما هو تام كالسعادة، لأن من بلغ إليها كان في غناء عن أن يكون له وراءها مطمع في مزيد، وما هو غير تام كالصحة واليسار، فإن من واتته الصحة وواتاه اليسار لم يكن له عن طلب المزيد غناء، بل ربما كانت الصحة أو اليسار من أقوى الحوافز له على طلب المزيد. أما الذي ليس بغاية منه فكالعلاج والتعلم والرياضة والعمارة والزراعة وما إلى ذلك. وجملة القول في الخير على ما حققه أرستطاليس وحكاه عن فرفوريوس أن من أنواع الخير ما هو خير على الإطلاق وما هو خير عند الضرورة. ومنها ما هو خير ولكن ليس من طريق له مقدماته ووسائله كالاتفاقات التي تتفق لبعض المجدودين من الناس، وأيضاً منها ما هو خير لجميع الناس ومن جميع الوجوه وفي جميع الأوقات. ومنها ما ليس بخير لجميع الناس ولا من جميع الوجوه (وبالتالي) منها ما هو في الجوهر ومنها ما هو في الحكم، ومنها ما هو في الكيف، ومنها ما هو في ألاين، ومنها ما هو في الضاف، ومنها ما هو في الخير. وعلى الجملة فالخير يعرض للمقولات العشر التي يعبر عنها الفلاسفة الأقدمون بأنها الأجناس العالية التي ليس فوقها جنس بل هي أعلى الأجناس جميعاً فهي تحمل عليه حملاً اصطلاحياً إخبارياً. وقد أفاض أرستطاليس إفاضة مبسوطة في تبيان هذه الأجناس العالية، وعروض الخير لها دلالة منه على أن مناحي الخير غير محدودة، وأن نعمة الله التي أسبغها على عباده أوسع(273/47)
من أن تضيق بها تلك الرقعة السوداء بل إن آثار الله وآلاءه مبثوثة في كل جزء من أجزاء الكائنات، حتى يبقى البرهان القاطع قائماً على شيوع الآيات الباهرة في سائر مناحي تلك المجموعة الشمسية
وفي كل شيء له آيه ... تدل على أنه الواحد
وقد سلك أرستطاليس في ذلك مسلكاً يخالف مسلك المتقدمين من الفلاسفة كأفلاطون وبقراط ومن إليهما - فالمفهوم من تفاصيل مذهبه في النفس الناطقة وفي الخير والسعادة التي تنفعل بها قوى النفس جلي، بل إن الخير شيء غير السعادة وإنه شائع بأجزائه في كل مناحي الوجود حتى سرى الخير إلى سائر المقولات سريانه إليها دليلاً على ذيوعه وانتفاع الناس به. فالخير في الجوهر وهو ما ليس بعرض يمثل له أرستطاليس بالحق تعالى جده، فهو الخير الأول على حد تعبيره، فإن جميع الأشياء تتحرق بالشوق إليه ولأنه يفيض السرمدية والبقاء على الخير الذي كتب له الخلود وعلى الآلاء اللانهائية، وعلى كل ما لا يطرأ عليه الفناء من أجزاء العالم الثاني الذي يعبر عنه المتقدمون من المتكلمين بعالم الجزاء. وفي الكم يمثل له بالعدد والمقدار المعتدلين، ويمثل للكيف باللذائذ وألوان المتاع، ويمثل لمقولة الإضافة بالصدقات والرياسات التي تنبعث عنها صلاحية تنطوي على خير الإنسانية في أكمل حدودها، ويمثل لمقولة الأين بالمكان المعتدل في أبعاده وأجوائه ومحيطاته وبالزمان الأنيق البهيج المتفتح الأكمام عن المرح والسرور. ويمثل لمقولة الوضع بالقعود والاضطجاع وسائر المشاهدات المؤثرة، ويمثل للعقل برواج الأمر ونفاذ الكلمة وسعة السلطان. وعلى الجملة فأنواع الخير عنده منها ما هو من قبيل المحسات ومنها ما هو من قبيل المعقولات. ولعل الأستاذ أحمد أمين، وقد أذاع على متن الأثير محاضرتين في السعادة والشقاء، يعود فيصحح بعض نظرياته التي طالع بها سامعيه. ولعل الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وقد أذاع هو الآخر على متن الهواء محاضرتين أو ثلاثاً لا أدري في الحياة المثالية والحياة البدائية وما يتصل بهما من قوى النفس الناطقة، يعود هو الآخر فيصحح بعض نظرياته ليرضي الحق وهيبة العلم في صميمه من جهة، ثم ليرضي في الأقل سامعيه من جهة أخرى، وموعدنا بالكشف عن ذلك كله سوانح مقبلة.
عباس طه(273/48)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 22 -
جلس أبراهام ينتظر رد سيوارد بصبر فارغ وفؤاد قلق، فإنه ليعجب كيف يقف منه صاحبه مثل هذا الموقف؛ على أنه لن يحجم عن مواجهة العاصفة وحده مهما بلغ من شدتها، وإن كان ليود بينه وبين نفسه أن يكون سيوارد إلى جانبه في تلك الشدة التي تطيش في مثلها أحلام الرجال وإن كانت تزن الجبال. . . يود أن يستعين بصاحبه فهو واثق من كفايته مطمئن إلى إخلاصه
وما بال الرئيس تزداد سحابة الهم كدرة على محياه حتى ليبدو للأعين كمن أخذته غاشية من حزن أليم؟ ما باله طويل الإطراق كثير الصمت، لا يستمع إلى حديث زوجه إلا قليلاً ولا يشاطرها جذلها ومرحها ولا يشاركها ما دب في قلبها من الزهو بما باتا يتقلبان فيه من نعمة ويحظيان به من جاه. . .؟
إنما يكرب الرئيس ما آلت إليه حال بلاده، فما به خوف أو تردد وما هو عن البذل بضنين؛ وإنه ليحزنه أن يكون بنو قومه بعضهم لبعض عدو في غير موجب لذلك وهم عن الحق في عماية من تبليل أفكارهم وتسلط العناد على نفوسهم، وما له إلى هديهم بالتي هي أحسن حيلة.
ورضى سيوارد آخر الأمر أن يعمل مع أبراهام، وكان سيوارد قليل الثقة بكفاية صاحبه الإرادية لأنه لم يسبق له أن شغل منصباً إدارياً قبل هذا المنصب الخطير، ولذلك كان يطمع سيوارد أن تكون في يده السلطة الفعلية وتكون للرئيس الرياسة فحسب؛ وبهذه الروح(273/50)
بدأ العمل مع صاحبه. . .
واختار لنكولن رجالاً للحكومة كون منهم مجلسه ومن أشهر هؤلاء نشيس، وكان من أعظمهم كفاية بعد سيوارد؛ غير أنه لوحظ على الرئيس أن أربعة من رجال مجلسه كانوا منافسين له في الرياسة مما يخشى معه أن ينسوا الصالح العام من أجل العمل على توطيد مراكزهم توطئة للانتخاب القادم، ولكن لنكولن رد على هذه المخاوف بما ارتآه من اعتبارات أملاها عليه بعد نظره، فلكل من هؤلاء شيعة وأعوان، وكل منهم يمثل ولاية من الولايات الشمالية؛ هذا إلى ما يعلمه من كفايتهم، وإنه ليركن إليهم مطمئناً إلى وطنيتهم قائلاً إن الوقت عصيب فما يظن أن أحداً تحدثه نفسه أن يعمل لصالحه الشخصي في ظروف كتلك الظروف. . .
ولما جلس لنكولن معهم حول المنضدة عرف كيف يؤلف بين قلوبهم وكيف يحملهم على احترامه ثم محبته ثم الإذعان له والتسليم بالتفوق. ولقد باتوا جميعاً يعجبون كيف يدير الأمور كما يلمسون رجل لم يعهد إليه مثل هذا العمل من قبل، ولولا أنهم يعرفونه جميعاً لما صدقوا أن هذه هي أول مرة يضطلع فيها بمثل هذا العمل
رأوه يخفض لهم جناحه ويبسط لهم مودته ويوسع صدره؛ يستمع لآرائهم جميعاً ولا يتكلم حتى ينتهوا؛ فإذا أعجبه رأي قبله مغتبطاً، وإذا خالف أحداً في رأيه أظهر له في دماثة سبب مخالفته مع شدة الحرص على احترام شخصية من يخالفه وإظهار الاستعداد للاقتناع إذا استطاع محدثه أن يزيده إيضاحاً أو يسوق له الجديد من الحجج
وعرفوا من كثب خلاله فأعجبوا بأدبه وعذوبة روحه ونقاء سريرته وطيب قلبه؛ ولمسوا شجاعته في الحق، وأنسوا نكرانه لذاته ونسيانه كل شيء عدا رسالته التي يستمد منهم العون في أدائها. . . وبلوا بأنفسهم صبره في الشدائد وعزيمته إذا همّ بأمر اقتنع بصوابه؛ وتبينوا حصافته وأناته وبعد نظره، وبهرهم فوق هذا ذهنه المصفى ومنطقه المستقيم وفصاحته وفطنته، تلك الخلال التي جعلته أقدر الناس فيهم على أن يفصح عن آرائه لمن إليه، وأن يتبين ما يأخذ مما يدع في كل ما يعرض له من الأمور مهما تعقدت والتوت على غيره الأمور. . .
ولقد عد كثير من المؤرخين إدارة لنكولن مجلسه على هذه الصورة مظهراً قوياً من مظاهر(273/51)
عظمته، وناحية متينة من نواحي نجاحه، وسلكوه بها في ثبت كبار الساسة في تاريخ الأمم، ولا عجب فإنه ليندر أن نجد في سجل الأيام مجلساً حكومياً شعر أعضائه من معاني الاحترام والمحبة بمثل ما شعر به أعضاء هذا المجلس نحو رئيسهم. . . لا يستثنى منهم أحد، حتى سيوارد الذي كان يدل أول الأمر بتجاريبه ودرايته بأساليب الحكم والسياسة، ما لبث أن اعترف في نبل وكرامة نفس أن رئيسه أقدر منه وأجدر بذلك المنصب. . .
وكان أول ما تلقاه الرئيس من البريد في صباح اليوم الثاني لتسلمه العمل خطاباً من الجنرال أندرسون في حصن سمتر ينبئه فيه أنه ما لم يصل مدد إلى الحصن فإنه لا يقوى على الدفاع عنه أكثر من أسبوع. . . وكان أهل الجنوب وأهل الشمال على اتفاق ألا يهاجم أنصار الانسحاب من الاتحاد الحصن إلا إذا رأوا من أهل الشمال ما يبرر ذلك. . . وماذا عسى أن يفعل الرئيس إذن؟ أيترك حامية الحصن بلا مدد أم يرسل المدد فيتحدى بذلك أهل الجنوب؟ إن عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مرْ.
لذلك أخذ الرئيس يتدبر عله يجد مخرجاً، وهو على عادته طويل الأناة لا يخطو خطوة قبل أن يحسب لكل أمر حسابا، ولكن سيوارد يضيق ذرعاً بهذه الأناة وينصح للرئيس أن يأمر بإخلاء الحصن، وكذلك يشير عليه سكوت رأس جنده؛ وهو لا يرى ما يريان فالمسألة دقيقة شائكة. أو ليس التخلي عن الحصن معناه الاعتراف ضمناً لأهل الجنوب بصواب دعوتهم إلى الانسحاب؟ ثم أليس في ذلك خروج على ما أعلن الرئيس في خطبة الاحتفال؟ وهو أن أرسل المدد إلى الحصن ألا يعتبر عمله هذا تحدياً للثائرين فيكون بذلك هو الذي خطا أول خطوة نحو الحرب، الأمر الذي يحرص أشد الحرص أن يتجنبه؟. . . إذن فلابد من الروية والتدبر والصبر. . .
وجاء رجلان من الجنوب إلى العاصمة الشمالية كممثلين لدولة أجنبية يطلبان أن يفاوضا لنكولن على هذا الأساس، ولكنه رفض أن يلقاهما ولم يفعل أكثر من أن يرسل إلى كل منهما نسخة من خطبته. . وبقي الرجلان في العاصمة يجمعان الأنباء ويرسلانها إلى أهل الجنوب. . .
والصحف تهيب بالرئيس أن يأتي عملاً إيجابياً ولكنه صامت يفكر. . والرأي العام يغلي كالمرجل حتى لقد أطلق الناس ألسنتهم فيه بالسوء من القول، فالرئيس غِرٌ جبان، متورط(273/52)
لا رأي له ولا بصيرة ولا حزم. . . وتفرق الناس في الشمال شيعاً فمنهم من يرى وجوب الحرب، ومنهم من لا يرضى إلا المسالمة والاتفاق، ومنهم من يتذمر ويتبرم ولكنه لا يرى شيئاً ولا يحس غير القلق والخوف، والرئيس لا يجيب إلا بقوله (إذا أخلى أندرسون حصن سمتر فسيكون عليَّ أنا أن أخلي البيت الأبيض). . .
ويهتدي ابن الأحراج بعد طول روية إلى رأي فيه دليل قوي على حنكته السياسية حتى لكأنه مارس السياسة طول حياته، ذلك أنه يزمع أن يرسل القوت ليس غير إلى الحصن، وحجته أن ذلك عمل إنساني لا عدوان فيه، فإذا قبل الثائرون هذا حلت المشكلة؛ أما إذا قابلوا ذلك بالقوة فعليهم إثم ما يفعلون، فهم بذلك يكونون بادئي العدوان ومشعلي نار الحرب. . . ولأهل الشمال بعد ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم العدوان إن كانت في نفوسهم حمية وفي رؤوسهم نخوة الرجال. . .
وتسير السفن محملة بالقوت، بعد أن يرسل الرئيس نبأ عنها إلى قائد الثوار حول الحصن، ولكن القائد لا يكاد يبصر السفن من بعد، حتى يطلق النار على الحصن فيسقط علم الاتحاد وتنسحب الحامية بعد دفاع مجيد. . .
ويثب أهل الشمال للنبأ وثبة واحدة فلا خلاف بينهم بعد ذلك ولا تنازع، وما فيهم إلا من يريد الدفاع عن الاتحاد ورد الإهانة التي لحقت بالعلم الذي طالما خفق على رأس وشنجطون وجنوده البواسل غداة حرب الاستقلال. . .
وما حدث في تاريخ العالم من قبل أن تحمس شعب إلى الدعوة للجهاد كما تحمس أهل الشمال يومئذ؛ فلقد كان الشيوخ قبل الشباب يريدون خوض غمار الحرب، ولم يتخلف النساء ولم يقعدن عن شحذ العزائم واستنهاض الهمم وإن لم تكن هناك حاجة إلى سعيهن. . . أما الشباب البواسل فقد استحبوا الموت على الحياة فساروا مغتبطين يطرحون نفوسهم تحت المنايا كأنما يسيرون إلى نزهة لا إلى مثل عذاب الجحيم. . .
وهكذا تقع الحرب بين نصفي شعب واحد. ولقد كان الرئيس أكثر الناس في الشعب جميعاً تألماً، وكان قلبه الإنساني الكبير يكاد يتفطر، ولكن ما الحيلة وهو يرى بناء الاتحاد أمام عينيه ينهار حجراً بعد حجر؟
وحسبك دليلاً على حماسة أهل الشمال أن الرئيس عندما أهاب بالولايات أن ترسل إليه(273/53)
خمسة وسبعين ألفاً من المتطوعين، هرع إليه أكثر من تسعين ألفاً، وبعد شهرين وصل العدد إلى أكثر من ثلاثمائة ألف من البواسل الأمجاد.
وكان الموقف قبل وصول المتطوعين إلى العاصمة أشد ما يكون هولاً وخطراً. . . فلم يكن لدى لنكولن سوى ثلاثة آلاف، ولن يستطيع هؤلاء الدفاع عن العاصمة مهما كان من استماتتهم وشجاعتهم؛ لذلك سرى الخوف في المدينة وأيقن أهلوها أنها واقعة في أيدي الأعداء لا محالة
والرئيس ينتظر قدوم المتطوعين لإنقاذ المدينة من الخطر المحدق بها؛ ذلك الخطر الذي تشتد وطأته تبعاً لمسلك الولايات المحايدة وعلى الأخص فرجينيا؛ إذ كانت تلك الولايات تقف من النزاع موقفاً مبهماً ظن من أجلها أنها تلتزم الحيدة وإن كانت في الواقع تنزع إلى أهل الجنوب؛ وكانت فرجينيا أقربها موقعاً من وشنجطون لا يفصلها عنها إلا نهر ضيق. وسرعان ما أعلنت فرجينيا انضمامها إلى الاتحاد الجنوبي فبات العدو بذلك على أبواب عاصمة أهل الشمال، بل لقد كان البيت الأبيض على مرأى من الجند؛ لذلك شاع في الناس أن الجند سيعبرون النهر عما قريب فيستولون على مركز الحكومة ويسوقون لنكولن ومجلسه أسرى بين أيديهم. . .
وتزايد القلق وعظم الهول واشتد بالناس الكرب، والرئيس يسأل عن المتطوعين فلا يجد جواباً شافياً من أحد، حتى يصل إلى العاصمة قطار يهرول الناس على صوت صفيره إلى المحطة فتقع أعينهم على أول فرقة من فرق المتطوعين وهي فرقة نيويورك، وتعظم حماسة الجميع فيتصايحون ويرددون الأناشيد.
ويظل الرئيس يبحث عن القائد الذي يوكل إليه أمر هذه الحرب فلا يجد غير رجل يدعى (لي)، وكان يومئذ غائباً في فرجينيا وهو خير من يضطلع بهذا العبء، ولكن (لي) يرفض أن يأخذ قيادة الجيش، فيجزع لنكولن لهذا الرفض ويكتئب.
وبينما هو يبحث عن قائد غيره ينذره أهل بلتيمون، وهم الذين تآمروا من قبل على قتله، أنهم لا يسمحون بمرور جند في ولايتهم لأنهم محايدون. . . وينقضون بعد ذلك على فرقة قادمة من مساشرست، كانت من أقوى الفرق وأعظمها نظاماً، فيقتلون عدداً منها ويجرحون عدداً، ويحمل الجرحى على محفات إلى وشنجطون، فتلهب جراحهم حماسة القوم وتستثير(273/54)
حميتهم وتزيد بأسهم. . .
ولم يكتف الثوار في بلتيمور بما فعلوا فحطموا الجسور التي تصلهم بالشمال والغرب، وعطلوا الخطوط الحديدية المؤدية إلى وشنجطون. . . ولكن أحد القواد الشجعان الموالين للرئيس لنكولن خرج من وشنجطون على رأس عدد من المتطوعين وباغت المدينة ليلاً وقبض على كثير من الثوار وقتل نفراً منهم ففت ذلك عضدهم، وأعلنت ولاية ماري لند بعد أن خضعت عاصمتها على هذا النحو انضمامها صراحة إلى الاتحاد، وكانت هذه الخطوة من جانب أهل الشمال أولى خطواتهم الموفقة
وأعلن الرئيس لنكولن الحصار البحري على موانئ الاتحاد الجنوبي ليقطع الصلة بينها وبين العالم، ثم أهاب بالولايات الخاضعة له أن تمده بعدد جديد من المتطوعين، فما لبثت أن أمدته بما طلب، حتى لقد غصت وشنجطون بهؤلاء المستبسلين الذين أراد لنكولن أن يستعيض بحماستهم عما يعوزهم من التدريب والنظام.
وفي تلك الأيام العصيبة نرى دوجلاس خصم لنكولن القديم يسعى إلى البيت الأبيض ويقابل الرئيس ويفضي إليه بإعجابه بما انتهج من خطة، ويعده أن يظل إلى جانبه خادماً لقضية الاتحاد وتتوثق عرى المودة بين الرجلين، ويستأذن الرئيس صديقه الجديد أن يذيع في الناس هذا النبأ، فيأذن دوجلاس مغتبطاً بعد أن يقرأ ما أعد للنشر؛ ويقابل الديمقراطيون وغيرهم هذا النبأ بالابتهاج، ويشعرون بقوة جديدة يظفر بها أهل الشمال
ولا يني دوجلاس يدافع عن الرئيس وسياسته يخطب الناس في المدن يستحثهم إلى البذل والتضحية؛ ولا يفتأ يضع بين يدي الرئيس من نصحه ومشورته ما يحرص الرئيس على الانتفاع به. ولكن يد الموت لا تمهل دوجلاس أكثر من شهرين فيلقى حتفه، ويتلقى لنكولن نبأ الفجيعة فيذرف الدمع السخين ويشتد به الغم حتى يرمض فؤاده. . .
ولقد امتدت يد الموت قبل دوجلاس إلى شاب مجاهد كان أول أمره يعمل في مكتب لنكولن أيام كان يحترف المحاماة؛ ولقد أعجب لنكولن بذكاء هذا الشاب وملك قلبه شدة محبته له، فلما سار إلى العاصمة سار معه؛ ولما تحرجت الأمور، برز هذا الشاب الباسل الذكي يجمع الفرق ويدربها ويعدها للنضال. . . إلى أن كان ذات يوم فأرسله لنكولن إلى ضفة النهر المواجهة للعاصمة ليحتل المرتفعات هناك. . .(273/55)
ثم إن هذا الشاب الذي يدعى الزورت ذهب على رأس جنده فاحتل الأماكن المعينة؛ وهناك بصر بعلم من أعلام الثوار يخفق على جدار فندق في مدينة صغيرة تسمى الإسكندرية فتسلق الحائط في بسالة عجيبة وانتزع العلم من موضعه، وبينما هو نازل من أعلى الجدار إذ أصابته رصاصة فانكب على وجهه، وتدفق الدم من قلبه على هذا العلم، فكانت ميتته هذه ميتة بطل، تركت في نفوس أصحابه ما لا يتركه النصر في معركة حامية. . . ولا تسل عما أصاب الرئيس يومئذ من هم وحسرة. . . لقد حزن على هذا البطل كما كان يحزن لو أن الميت كان وحيده؛ وجاءت بعده منية دوجلاس فكانت الميتتان فاتحة الكوارث في هذا النضال العظيم. . .
(يتبع)
الخفيف(273/56)
دمعة
لشاعر الحب والجمال لامرتين
للأديب عارف قياسه
فلنقطف الورد في غدوة حياتنا، ولنجن الرياحين في بكرة أعمارنا، ولننسم على الأقل أريج أزهار الربيع الخاطف، ولنغمس قلبينا في فيض اللذة النقية الطاهرة، وليكن هوانا يا حبيبتاه بحراً مسجوراً لا حد لسعته.
حين يبصر الربان زورقه الهش يتراقص فوق أعراف الموج الثائر، ويرجحن على غارب الآذى الغضبان، يكاد يزدرده اليم الهائج، يرجع ببصره إلى الشطآن التي نأى عنها، ويأسف على ما ذاق فيها من متع، وما رأت عيناه من مباهج وفتون
واحسرتاه! لشد ما يرغب في أن ينفق أيامه الداجية في مثوى آبائه وأجداده - غنياً عن فراق وطنه وآلهته - آمن السرب، ناعم الخاطر، لا يشمخ المجد بأنفه، قرب آثار عزيزة عليه، أثيرة لديه، لا يبارح طيفها خاطره، ولا يفارق خيالها ذهنه ولا مشاعره
كذلك الرجل الذي تقوس ظهره تحت أعباء السنين، وآصار الأعوام، يبكي ربيعه البهيج الزاهي - وقد ذهب إلى غير معاد، مَرِه العين، كليم الفؤاد، ويهتف:
(ردي عليَّ يا آلهتي الرحيمة تلك السويعات المضمخة باللذة والنعيم، فقد أنسيت أن أرشف رحيقها في حينه!)
ولكن المنية وحدها هي التي أجابته، وتلك الآلهة لم تصخ لرجائه، ولم ترق لبكائه، وإنما حدته إلى الرمس حدواً، وزجته في غياهبه زجاً، دون أن تأذن له في أن ينحني فيلتقط تلك الأزاهير التي لم يتح له أن يجنيها، فيستروح عَرفها وشذاها، ويفعم أنفه بعبقها ورياها
فلنتساق يا حبيبتاه أكؤس الهوى مترعة دهاقاً
ولنضحك ملء أفواهنا من الهموم التي تساور نفوس الأحياء، وتخامر قلوب الأشقياء!
ولنرث لأولئك الذين أفنوا شطر أعمارهم، سعياً وراء حطام الدنيا الكاذب، وهبائها الغرور.
لنعزف عن صلف أولئك الفارغ، ولنصدف عن ادعائهم الأجوف، ولندع الأمل العريض لمعلمي الإنسانية، يتعللون به ويتفكهون، ولنسارع نحن إلى احتساء كأس عمرنا حتى ثمالتها، ما امتطت تلك الكأس أكفنا(273/57)
وسواء علينا أزانت مفارقنا تيجان الغار، ونقشت أسماؤنا في سجل (بلّون) الصلفة الراعف، على المرمر أو الفلز
أم توج الحب جباهنا المتواضعة بزهرات بسيطة جناها الجمال، فإننا جميعاً في يمْ واحد طاوون، وعلى شاطئ واحد لمتحطمون.
أليس سواء لدى المسافر الفريد، ساعة الغَرَق: أكان راكباً في سفينة شامخة شماء، تشق بحيزومها عباب الماء، تجاهد الزعازع وتصارع الأنواء، أم كان ممتطياً زورقاً خفيفاً تلعب به الأمواج، يلامس الساحل، ولا يجسر أن ينأى عنه؟
حماة (سوريا)
عارف قياسه(273/58)
حول قصة حاجي بابا في إنكلترا
كما يرانا غيرنا
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أشارت الرسالة في عددها الأخير إلى ما يخشاه بعض إخواننا الإيرانيين من اللبس بين إيران كما هي اليوم في مدنيتها الزاهرة وبينها كما وصفها مؤلف قصة حاجي بابا في إنكلترا، تلك القصة التي ترجمتها وتفضلت مجلة الرواية فنشرتها في بعض أعدادها الأخيرة
ولقد ذكر الأستاذ صاحب الرسالة أن مؤلفها نشرها في سنة 1822 ووصف بها إيران كما كانت في عهده غير متجنِ على الشرق كله، فما كان الوصف إذ ذاك قاصراً على دولة دون دولة من الشرق الإسلامي
وما من شك في أن هذا الجواب السديد جدير بأن يزيل كل لبس من هذه الناحية؛ وقد عنَّ لي أن واجباً عليَّ بيان السبب في ترجمتي هذه الرواية لإزالة لبس آخر أخشاه من ناحية الاختيار، فأتقدم إلى قراء الرسالة وهم ممثلو كل الأمم الشرقية الإسلامية بأن جهدي في الترجمة لم يقتصر على تلك القصة، ولكنني ترجمت نحو الخمسين رواية معظمها عن الشرق وفيها عن مصر وعن العرب، وفيما ترجمته عن مصر وعن العرب نقد أشد مما احتوته قصة حاجي بابا، فاختياري قائم على الرغبة في إطلاع الشرقيين وهم جميعاً إخواني على ما يكتب عنهم بلغة اعتدت القراءة بها ليعرفوا رأي الغير فينا. ولا أراني أقل غيرة على دولة شرقية مني على دولة أخرى، فإن الدم الذي يجري في عروقنا نحن الشرقيين دم مشترك. لا بل أجد الفرصة مناسبة لأطرح على القراء رأياً لي في اختيار الكتب للترجمة:
للمستشرقين جهود غير منكورة ولهم أغلاط شنيعة. وكتبهم مقروءة باللغات الأوربية بين من يثقون بهم ويجلونهم ويمدونهم حجة. وكتب هؤلاء المستشرقين وتلاميذهم تعد بالمئات وكتب الذين ينهجون نهجهم ممن لا يساوونهم في المعرفة أكثر عدداً. ومن بين قرائها شرقيون قد يتأثرون بها ويعجزون عن دفع شرها إن كان - فهل يحسن بهم أن ينقلوها إلى لغاتهم الشرقية ليتولى دفع الشبهات من يستطيع ذلك من أبناء تلك اللغات الذين لا يعرفون(273/59)
لغة أجنبية، أو الذين يعرفون ولكن لا يقع في متناول اطلاعهم ذلك النوع من الكتب الممزوج خيرها بشرها؟
أقول ذلك وأضرب المثل بنفسي ولديَّ بحمد الله الشجاعة ما يساعدني على الاعتراف بأني لا أملك تصحيح أخطاء شنيعة في كتاب أترجمه الآن عن الإنكليزية وعنوانه (الواثق)
في هذا الكتاب تجن شديد على خليفة من خلفاء المسلمين وافتيات صريح على التاريخ. وقد قرأته في لغته وقرأه من أبنائها عشرات الألوف في مدى مائة عام مضت من عهد تأليفه إلى الآن؛ وقرأه باللغات الأخرى عشرات الألوف من أبناء الأمم الأخرى؛ فهل يرى الأزهري والدرعمي وخريج مدرسة القضاء الشرعي وغيرهم ممن تخصصوا في دراسة التاريخ الإسلامي أن يظل هذا الكتاب مقروءاً ممن يحسنون لغة أجنبية دون أن تصحح أخطاؤه، أم يرون أن يترجم لهم وهم أقدر على التصحيح ممن يقرؤون عادة باللغات الأجنبية؟
أنا لا أقوم بدعاية لكتاب كهذا حين أترجمه ومن السهل عليَّ تمزيق مسوداته. ولكن هل يزول أثر الكتاب إن فعلت ذلك أم يظل منتشراً بين الناس في لغات أخرى يقرؤها الكثير من الشرقيين؟
أما أنا فرأيي أن نعرف رأي الغير فينا فذلك أدنى إلى تصحيحه وما أحوجني إلى معرفة الحجج التي يدلي بها أنصار التجاهل
عبد اللطيف النشار(273/60)
بين اللغة والأدب والتاريخ
الفالوذج
للأستاذ محمد شوقي أمين
- 3 -
صنفه السوقي، هل وضع له أسم عربي، قول الثعالبي، نقل
السيوطي، رأي السكندري، فصيح الألفاظ في معناه
- 4 -
ولما تألق الفالوذج في دنيا المطاعم، وازَّينت به موائد الأثرياء، تسامع به العامة، فتحلبت له شفاههم، وتشوفت إليه شهواتهم، فراح السوقيون من صناع الأطعمة وباعتها يلهوجونه على ما يعرفون من صفته، فيخرجونه مسيخاً مليخاً لا تأنق في طهيه، ولا استجادة لمادته، حتى يتسنى لهم أن يبيعوه بالثمن القليل الذي لا تعجز عنه طاقة العامة من رقاق الحال وذوي العسرة. ولم يكن هذا الصنف المبتذل من الفالوذج إلا بهرجة صبغ، وتضوُّء بريق فافتضح على الأيام زيفه، وثأرت لأذواقها الألسنة بذمة، فقيل في كل من حسنت جهيرته، ولم تطب سريرته: فالوذج السوق وصارت الكلمة مثلاً سائراً يتناقله الأدباء والشعراء، ومن أمثلة استعماله قول ابن حجاج، وهو الشاعر المزاح السليط الذي ترجم له الثعالبي فأوفى:
أعززْ عليَّ بأخلاق وُسِمتَ بها ... عند البرية يا فالوذج السوق!
وقد أثبت الميداني هذا المثل في أمثال المولدين، وأضاف إليه توأماً له، ذلك هو: فالوذج الجسر. ولا بد أن يكون باعة هذا الصنف الملَهْوَج كانوا يجولون به، فيعرضونه للعامة في الطرق الصادرة والواردة. وبَديه أن من أحفلها بالناس: المعْبَر. فهو ملتقى السابلة من الطبقات العاملة، يغدون على الحاجات؛ ويروحون بالسلَع. فيبلون لهواتهم بالفالوذج المسموع به، الشهي مذاقه، الرائع منظره، ومن ثم شاع اسم فالوذج الجسر، إلى جانب فالوذج السوق، وكانا مثلين لذي المظهر بغير مخبر!(273/61)
- 5 -
أسلفنا القول في صفة الفالوذج، على ما استنبطناه مما أنهته إلينا نقول الأدب والطرائف، وأدرنا الحديث قبل ذلك في لفظه والوجه في تعريبه كما تعرفناه في نصوص المعجمات وما في حكمها. فبان لنا أن اللغويين مجمعون على أنه معرب، فهو في عديد الألفاظ التي اغتنمت العروبة، وارتضى تجنيسها القُوَّام على الفصاحة.
وبقي أن نعرف: هل وضع العرب لهذه الحلواء اسماً فصيحاً غير اسمها الأعجمي، أو اكتفوا باستعمالهم لهذا الاسم بعد تعريبه وإلحاقه ببنات الضاد؟!
ساق الثعالبي جملة أسماء تفردت بها الفرس دون العرب؛ وقال: إن العرب اضطرت إلى تعريبها أو تركها كما هي، وجعل يعد من هذه الأسماء، فإذا من بينها الفالوذج. وقد نقل السيوطي فصل الثعالبي برمته، ما تعقبه بنقد، ولا استدراك عليه من شيء. فهل يريدنا ذلك على أن نعتقد أن العرب اكتفوا بالاسم الأعجمي، ووقفوا عنده، فلم يضعوا لهذه الحلواء لفظاً تقر به عين الزارين على التعريب مهما تمس إليه الحاجة، الضانين بالجنسية العربية على الدخيل، وإن ملك الألسن، وتراوحت عليه الأحقاب؟!
إن قول الثعالبي ونقل السيوطي خليقان أن يهيئا للباحث هذه العقيدة، ويغرياه بها. ولعل ذلك هو الذي مَهَدَ لعلامة الفقه اللغوي الشيخ أحمد الإسكندري - رضوان الله عليه - أن يقول فيما يستعمل من الألفاظ وما لا يستعمل: (وإذا سبق أن استعمل لفظ أعجمي زمن العرب كالفالوذج الذي عرف من أيام الرشيد، فمثل هذا في الواقع لم يكن من تعريب العرب، بل أطلقه طباخ أعجمي، وسمعه العرب واستعملوه؛ فمثل هذا وفُقِّنا إلى لفظ عربي سهل له، استغنينا عنه، لأن الواضع له في الحقيقة أعجمي لا عربي. . .)
فأما قول العلامة الإسكندري إن الفالوذج ليس من تعريب العرب، فهو قول ينفرد به، ولم أجد من سبقه إليه، بل لقد أصفن اللغويون على أنه معرب، وقد جاء في حديث للنبي صلوات الله عليه، أضف إلى ذلك أن العلماء القدامى ناقشوا في تصريفه، وجادلوا في تعيين حروفه. ولا يأخذ لغوي نفسه بهذا الصنيع، إلا إذا كان اللفظ معرباً أُفسح له في البقاء، فوجب توضيح زيه وشارته التي سيبقى بها في وطنه الجديد. وإن لزاماً علينا أن نشير إلى أن قول الإسكندري إنما جاء في عرض حديث شفوي شأنه الإعجال والإرتجال،(273/62)
وهو منقول عنه، ومنسوب إليه، لا مكتوب بقلمه، ومثل هذا لا يؤخذ به صاحبه كما يؤخذ الكاتب راجع ما كتب وحققه على نص ما يريد. والرجاء أن نكون بذلك قد أنصفنا ذكرى رجل نعرف له الفضل والبَصارة، وتطوي له النفس على التجلّة والإكبار.
وأما رغبته في البحث عن لفظ عربي، يوضع للفالوذج اليوم جديداً من الوضع، فقد أداه إليها ما علمه وقدمنا بيانه من قول فقهاء اللغة: إن العرب تركوا الفالوذج على ما هو عليه، فأفهم قولهم هذا أنه لم يوضع له في سالف الزمن لفظ فصيح؛ ومن ثم وجب عنده أن نعمد إلى البحث والتفتيش حتى نوفق إلى لفظ عربي سهل، نستغني به عن الاسم الأعجمي، كما توضع اليوم المصطلحات الجديدة للأشياء المستحدثة بالطرق المعروفة من نحو المجاز والنقل والاشتقاق.
- 6 -
ولقد رصدت عيني منذ عهد ممدود لهذا الشأن فيما أرتصدها له من مباحث الفصحى؛ فتتبعت مواقع الفالوذج في أشتات الكتب، وفتشت عن ألفاظه في أجلاد الألفاظ، واستقريت منها ما راج لي أن أستقري، فتحصل لي من صحاح العربية: اثنا عشر لفظاً، وضعها العرب ليقوم كل منها مقام الفالوذج الأعجمي. ولم أر من المتحققين باللغة من أستوعى هذه الألفاظ، فلاءم بينها بعد الشتات والفرقة، وسوى بها فصلاً من فصول الفقه اللغوي، على نحو ما يصنع الأئمة في المعنى يؤدى بغير لفظ فذ، فقد ظلت هذه الألفاظ في المعجمات اللغوية أباديد، فجعلتها في هذا المعرض فصل من نتاج الاستقراء والتلقط جديد، لم يسبق إليه أحد، فيمن أجد، ولا مسه قلم فيما أعلم.
(للبحث صلة)
محمد شوقي أمين(273/63)
لمناسبة الرحلة الملكية في الصحراء الغربية
لسان الصحراء
في رحلة جلالة الملك
للمرحوم مصطفى صادق الرافعي
(في شهر أكتوبر من سنة 1928 قام المغفور له الملك فؤاد برحلة إلى الصحراء الغربية وواحة سيوة، وكان المرحوم الرافعي يومئذ شاعر جلالته وحادي ركابه؛ فأنشأ هذه القصيدة يتحدث فيها عن الصحراء لمناسبة هذه الرحلة الميمونة
(واليوم - وبعد عشر سنين كاملة - يقوم جلالة الملك فاروق الأول برحلته إلى الصحراء ليرود المعالم التي رادها من قبل والده العظيم؛ فلعل في نشر هذه القصيدة لهذه المناسبة ما يقوم بواجب الولاء ويبعث طيب الذكرى)
سعيد العريان
تَساََءلَ القفرُ إذ حلَّ المليكُ به ... أدار بي موضعي أم حان تجديدي؟
أم بعد زرعي دهوراً لا حصيدَ لها ... من التواريخ، آن اليوم محصودي؟
رَمْلي على الأرض كالدينار من ذهب ... مُلْقىً ضَياعاً وموجوداً كمفقود
أَم غَيَّرَ اللهُ أيامي فأسعدني ... مليكُ مصرَ بيوم منه مسعود؟
كأن لي زمناً ما كان من زَمَنٍ ... وَلا مَشَى بحسابٍ أو بتعديد
والوقت يخضع للساعات تمسكه ... بكل ثانية من غير تبديد
وساعة القفر قفرٌ، فالثلاثُ بها ... كالخمس، كالتِّسع، لا معنى لتحديد
أَم طُولُ صبري على الفِقدان عوَّضني ... بأن يزور قِفاري خيرُ موجود؟
شمسٌ من الله في صدري وما كملتْ ... إلا بشمس من الإنسان في جيدي
أَم ما لقيتُ من الحرمان كافأني ... بأن يحلَّ بأرضي سيِّدُ الجود؟
مَلْكٌ كأن نباتَ العزِّ في يده ... تجنيه من ذهبٍ أيدي المجاهيد
ويسحر الأرضَ حتى الأرضُ من أُفُق ... ويسحر الوقتَ حتى الوقتُ من عيد
أَم ذاك حُلمُ الصحارى بالنعيم سَرَى ... وَمَرَّ منطلقاً في هجعة البيد؟(273/64)
في القفر دنيا ورا الدنيا نفرُّ لها ... على مطايا الكرى من عيش تنكيد
إني كقطعة وحش صُوِّرَتْ بلداً ... أَرْضِي سواءٌ وإنساني وجُلمودي
وَعوُدُ آدمَ عُريانٌ بلا ثمر ... وزهرُ حواَء محطومٌ بلا عود
فلا بَنِيَّ لهم دنيا تَعُدُّهمو ... فيها، ولا أنا في الدنيا بمعدود
لو أنزل الله سقفاً من كواكبه ... لهم ليَبْنُوا لما هَمُّوا بتشييد
لو أمسكوا ظلَّ طير الجوِّ في قفص ... ما أمسكوا ظِلَّ عُمْرانٍ بمجهود
وفي عريض فجاجي الشمسُ طالعةٌ ... تزيد في ظلماتي الحيَّةِ السودِ
في الجدب، في الوحش، في الأحياء، في زمني ... وفي طبائع أرضي، في تقاليدي
فاليوم أعرض آمالي على ملكي ... وهو الكفيل بمرجُوِّي ومقصودي
لعلني خطَّ لي منه كتابُ هُدىً ... وما زيارته إلا كتمهيد. . .
لبَيْك يا مُعضِلات القفر قد بَعثتْ ... لك العنايةُ صنديدَ الصناديد
آباؤه الصيدُ هِمَّاتٌ مُجَمَّعَةٌ ... فيه، وزاد على آبائه الصيد
رَحْبُ الأمانيِّ وثاب على فُرصٍ ... ما أطمعتْ غيرَه في غير تزهيد
يرمي بحَبْلَيْهِِ: محلولٍ وَمُنعقِدٍ ... فيها على كل محلول ومعقود
سرُّ اللُّيوث بعينيه، فنظرته ... فيها اكتشافُ فريساتِ المواعيد
وتحت راحته سرُّ السيوف، فإِن ... أشار راعَ كسيفٍ عند تجريد
وفي أنامله سِرُّ الأعنَّة: لا ... ينفكّ يطلب ميداناً لتأييد
مليكُ معجزةٍ في أرض معجزةٍ ... مخلّدُ الحمدِ في تاريخ تخليد
وما يُسَدُّ طريقٌ دون غايته ... طريقُ كلِّ سعيدٍ غيرُ مسدود
ستستفيض على الصحراء همتُه ... ثجَّاجَةً بالمشاريع المحاميد
فَيُولَدُ الزمنُ المشبوبُ من زمن ... فانٍ تَكلَّحَ في تلك التجاعيد
هيهات هيهات ما يبني القفارَ سوى ... صبرٍ كصبر (فؤادٍ) غير محدود
هُمُ الأعاريب في تلهيب جمرتهم ... مثلُ البراكين لن تحيا بتبريد
يا لَلعزيمةِ لو أخرجْتَهم عربا ... تحت القوانين أحراراً بتقييد
إذن لضاعفَ مِصراً سحرُ ساحرِها ... وَابتزَّ ممدودَها من غير ممدود(273/65)
النيل كنزٌ من الخضراء منكشفٌ ... في جنب كنز من الصحراء مرصود
عَزَّ الذي جَمَعَ الكنزين في يده ... يَحْمى بكنزِ زئيرٍ كنزَ تغريدِ
مصطفى صادق الرافعي(273/66)
تسبيح. . .!
للأستاذ سيد قطب
لعينيك تسبيحي وهمس سرائري ... وفي صمتها الموحى مَرادُ خواطري
تطل على الدنيا فتوقظ قلبها ... وتمنح هذا الكون إيمان شاعر
وتسكب في ألحانه عبقرية ... من الفن لم تخطر بآمال ساحر
وتجلو من الدنيا عميق فنونها ... وتكشف في أطوائها كل خاطر
ومن عجب توحي بفتنة ساحر ... وتهمس في صمت بتقديس طاهر
لقد شف هذا الوجه حتى كأنه ... خواطر فنان ندىّ المشاعر
وقد رق هذا الجسم حتى كأنه ... هواتف حلم ناعمات البشائر
وقد رق هذا الصوت حتى كأنه ... أغاريد لحن في السموات عابر
وقد خف هذا الخطو حتى كأنه ... مرور نسيم بالأزاهير عاطر
وخلتك طيفاً هامساً في ضمائري ... وإنك طيف هامس للنواظر!
لأيقظت في نفسي سعادة شاعر ... وراحة موهوب وغبطة ذاخر
وأشعرتني معنى الطلاقة والرضا ... ومعنى الغنى عن كل آت وغابر
مدى فيه من أفق الخلود مدارج ... رقيتُ إليها في سنى منك باهر
سبقتُ به خطو الحياة لنهجها ... وجزتُ به آفاقها في المعابر
فيا لك من هادٍ سَنِىَّ المنائر ... ويا لي من سارٍ وَحِيِّ البصائر
(حلوان)
سيد قطب(273/67)
أنتِ
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
أَنتِ جدَّدت لي شبابي وقد كن ... تُ دفنتُ الشباب من أزمان
أَنتِ جمَّلتِ لي الحياة فأصبح ... ت أراها كما تشاء الأماني
ومحوتِ الظلماء فاختلب النو ... رُ عيوني وانساب في وجداني
أَنتِ صورتِ لي الوجود وما في ... هـ جميعاً بريشة الفنان
وخلقتِ الحياة خلقاً جديداً ... ونفضتِ الترابَ عن أكفاني
أَنتِ زخرفتِ لي معالم دنيا ... ي فأتقنتِ أيما إتقان
ونفيتِ الركود عني فهبَّ ال ... قلب كالبحر صاخب الإرنان
أَنتِ أفهمتني الذي كنت لا أد ... ريه في الكون من خفيِّ المعاني
وجلوتِ الأسى وغالبتِ همي ... وشفيتِ الفؤاد مما يعاني
أَنتِ فجَّرت في الجوانح ينبو ... عاً من الشعر زاخراً كل آن
وأزحتِ الستار عن عالم الصم ... ت فأطلقتِ عقدة من لساني
أَنتِ أنشأتِ في جنانيَ كوناً ... أي كون أنشأتهِ في جناني!
فائضٍ بالنعيم والخير والنو ... ر وبالحسن والهوى والحنان
أَنتِ قرَّبتني إلى الخلد حتى ... أصبح الخلد قطعة من كياني
أَنتِ علمتني الغناء فَغَنَّيْ ... تُ وأشجيتُ كل قلب مُعاني
غَرَّد الحب في فؤادي فردد ... تُ صداه الشجيَّ في ألحاني(273/68)
البريد الأدبي
إلى وزارة المعارف
في هذا العدد والذي قبله والذي بعده بحث جليل قيم في قواعد اللغة العربية وتيسيرها لعلم من أعلام التربية والتعليم هو الأستاذ ساطع الحصري مدير دار المعلمين في تركيا، ووزير المعارف في الشام، ومؤسس النهضة التعليمية في العراق، ومنشئ أول مجلة تربوية في الشرق، عالج فيه مسائل في تعريف القواعد وتبويبها وترتيبها وتهذيبها لم يفطن إليها من قبله أحد. وهو يقدمها عن طريق الرسالة إلى معالي الوزير وسعادة الوكيل وأعضاء لجنة التيسير عسى أن يجدوا فيها ما يعينهم على ما نهضوا إليه من إصلاح القواعد العربية وتقريبها إلى عقول الطلاب. وفي رأينا أن ملاحظات الأستاذ ساطع جديرة بالاهتمام والنظر لصدورها عن لقانة نادرة وروية صادقة وخبرة طويلة
وزير المعارف يحكم بيننا وبين لجنة إنهاض اللغة العربية
تفضل صاحب المعالي هيكل باشا وزير المعارف فنظر فيما كتبناه ونشرناه عن افتيات لجنة إنهاض اللغة العربية علينا وعلى فريق من الأدباء الفضلاء لا تخشاهم ولا ترجوهم، ثم أمر بتقرير كتابنا (في أصول الأدب) لطائفة من مدارس الوزارة. وصنيع الأستاذ هيكل باشا هو الفرق بين وزير يقرأ ويقضي، وبين وزير آخر يسمع ويُمضي. . .
حول إنهاض اللغة العربية
حضرة الأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة
لا أحسبكم قد فرغتم من الحديث عن إنهاض اللغة العربية في مدارس الحكومة حين فرغتم من الحديث عن الكتب وطريقة اختيارها، فإن شأن اللغة العربية في وزارة المعارف خليق بأن ينال من عنايتكم أكثر من ذلك. ولقد حمدنا لكم ما نشرتم من الملاحظات على لجنة اختيار الكتب، وإننا ليسرنا بجانب ذلك أن تظل الرسالة حاملة راية الأدب الحر، دائبة على إنارة السبيل أمام القائمين على شؤون اللغة العربية في وزارة المعارف. فلقد مضى الوقت الذي كانت فيه وزارة المعارف تعمل منفردة في الميدان، لا تجد من يشد أزرها أو يناقشها الحساب أو يهديها السبيل. وليس من أحد غير الرسالة يستطيع أن يفرض على(273/69)
نفسه هذا الواجب أو يرى نفسه أهلاً لهذا الحق.
كان مما قررته لجنة إنهاض اللغة العربية أن تزيد درسين في كلتا السنتين الأولى والثانية أحدهما اختياري، ودرساً واحداً في باقي الفرق. فهل يعلم سيدي أن هذه الزيادة قد انتهت نهايتها إلى أن تكون من أسباب ضعف اللغة العربية في مدارس الحكومة بدل أن تكون من وسائل إنهاضها وقوَّتها؟
ذلك أن وزارة المعارف حين زادت هذه الدروس لم تحسب حسابها فتزيد عدد المدرسين ليقوموا بهذه الزيادة؛ والمدرسون القائمون بالعمل الآن في المدارس الثانوية لا يسعهم - على ما هم فيه من رهق ومشقة وزحمة في العمل - أن ينهضوا بهذا العبء الجديد. وقد جاء موسم العمل وليس في المدارس حاجتها من مدرسي اللغة العربية، فلم يجد نظار المدارس أمامهم وسيلة - والحالة هذه - إلا أن يزيدوا العمل على المدرسين الذين يعملون معهم - مدرسي اللغة العربية خاصة -: ثلاثة دروس في الأسبوع على كل مدرس؛ فعليه منذ اليوم واحد وعشرون درساً في الأسبوع، بعد ثمانية عشر درساً كان يشكو كثرتها التي تستنفد الوقت والعافية والطاقة العصبية، فليس له معها فسحة ليستجم لعافيته أو ليجدد مادته أو ليبتكر في وسائله
أفتكون هذه وسيلة من وسائل النهوض باللغة العربية أم سبب من أسباب الضعف والخذلان؟
وثمة عبء جديد أضيف هذا العام على كاهل مدرس اللغة العربية، ذلك أن النظام في العام الماضي والأعوام السابقة كان يحدد عدد التلاميذ في دروس اللغات ببضعة وعشرين تلميذاً في كل شعبة فألغي هذا النظام في العام القادم وصار على مدرس اللغة العربية أن يلقي درسه على أكثر من بضعة وثلاثين تلميذاُ إلى أربعين؛ فهل تراه مع ذلك يستطيع أن يعمل وأن ينشط وأن ينهض باللغة؟
ثم إن كثيراً من نظار المدارس الثانوية قد تعجلوا الحكم والاختيار فاستغنوا عن درس من الدرسين المزيدين في اللغة العربية لتلاميذ السنتين الأولى والثانية قبل أن يتحققوا الحاجة إلى هذا الدرس، بل قبل أن تبدأ السنة الدراسية وينتظم التلاميذ.
والخلاصة ما يأتي:(273/70)
أ - أوصت اللجنة بزيادة دروس اللغة العربية فزيدت ولكن على حساب المدرس المرهق بحيث يصير عمله لا خير فيه
ب - أوصت اللجنة بزيادة العناية بدروس اللغات فزيد عدد تلاميذ الفرق بحيث يجتمع على المدرس كثرة لا يستطيع معها أن يعرف تلاميذه
ج - زادت الوزارة بعض دروس اللغة العربية زيادة اختيارية، فألغى نظار المدارس الثانوية بعض هذه الزيادة قبل أن يتحققوا الحاجة إليها رغبة في التخفف من العمل!
. . . وأخيراً ما زالوا يتحدثون عن الوسائل التي قدروها للنهوض باللغة العربية، وما زالوا يكررون الحديث عن تنظيم المكتبات المدرسية، وتوجيه التلاميذ إلى المطالعات الخارجية، وإنشاء المحاضرات، وإقامة المناظرات، وترتيب المباريات بين الطلاب في الكتابة والخطابة والمناظرة والإلقاء. . . ولا عليهم فيما يتحدثون وما يقدرون، وما ننكر أن هذا الذي يتحدثون عنه من أنجح الوسائل في تقويم اللسان وتقوية اللغة، ولكن. . . أين هو المدرس الذي يجد عنده الوقت الذي ينفقه في ذلك؟
نحن موقنون تمام اليقين بصدق نية معالي الدكتور هيكل باشا على النهوض باللغة العربية، موقنون أنه قد أدى واجبه في ذلك على الوجه المستطاع؛ ولكن ما يزال أمام معاليه واجب آخر هو أثقل عبئاً وأكثر نفقة: أمامه أن يباشر تنفيذ الوسائل التي وضعها مستشاروه لينهضوا باللغة العربية؛ فليست تغني النية عن العمل، وليس يكفي وضع البرامج وتمهيد الخطط دون العناية بوسائل التنفيذ. ولربّ عمل صالح أسلمه صاحبه إلى من لا يحسنه أو من لا يخلص له، فأداه غير مؤداه وانتهى به إلى غير غايته
(مدرس)
مجمع المعارف بحيدر آباد (دكن) واجتماعه السنوي الأول
في حيدر آباد (دكن) مجمع علمي أسسه منذ أكثر من نصف قرن المرحوم النواب عماد الدين ورفقاؤه، وغايته الأساسية إحياء الكتب العربية القديمة تعميماً لنشرها وتداولها بين طبقات العلماء. وهذا المجمع يمتاز عن غيره بروحه العلمية وبمطبوعاته الثمينة المتداولة بين أوساط العلم المعتمد عليها من رجال البحث والتحقيق الآن - ومن هذه المطبوعات ما(273/71)
يتعلق بالحديث والرجال، وما يتعلق بالفلسفة والتاريخ، وما يتعلق بالطبيعيات والطب وغيرها من العلوم والفنون - ويقول العلامة السيد سليمان الندوي: نحن، أهل الهند نفتخر، مع إفلاسنا العلمي في هذه الأيام، بهذه الدرر الثمينة النادرة التي أخرجها مجمع المعارف في (حيدر آباد) إلى طبقات العلماء ونرجو أن يعود إلينا مجدنا العلمي تحت ظل الدولة الآصفية.
ولقد فكر القائمون بأمره في عقد اجتماع سنوي عام يدعى إليه العلماء الممتازون في العلوم العربية بأنحاء الهند تنشيطاً للحركة العلمية وتمهيداً لتوسيع أعمال المجمع بالاستفادة من مواهب العلماء الأجلاء غير أعضاء المجمع في البحث والتحقيق، فانعقد الاجتماع الأول الذي دام أربعة أيام من 9 إلى 12 يوليه سنة 938م في خمس جلسات أولها في إيوان البلدية الفخم حضرها أركان الدولة الآصفية وأساتذة العربية في جامعات الهند المختلفة وأرباب العلم وجماعة من الطلبة النابهين، وعلى كرسي الصدارة السر أكبر حيدري الوزير الأعظم. ثم التمس من القارئ إبراهيم رشيد أن يتلو ما تيسر من القرآن بصوته الرخيم، ثم ألقى خطبته الافتتاحية وذكر فيها خدمات المجمع في السنين الماضية بعد أن تلا على الحاضرين رسالة ملكية آصفية مفعمة بالعبارات الرقيقة والعواطف السامية.
فقام النواب مهدي يارجنك وزير التعاليم والسياسات ورئيس المجمع فألقى خطبة بلسانه المبين ذكر فيها غرض المجمع وغايته وما تم من الخدمات وما درج في البرنامج من الأعمال التي يرجو أن يتمها المجمع بتوفيق الله ومساعدة العلماء - وبعده ألقى مولانا عبد الله قصيدة عربية تخليداً لهذا الاجتماع العظيم واليوم المبارك
ثم انعقدت الجلسة الثانية في اليوم التالي وكان الشيخ إبراهيم حمدي، شيخ الإسلام بالمدينة المنورة، النزيل بحيدر آباد الآن، حاضراً، فتفضل بتلاوة آيات من القرآن على النغمات الحجازية. ثم اقترع على من يكون أول المتكلمين في الجلسة فاستخرج بطريق القرعة اسم العلامة السيد سليمان الندوي فقام وألقى بحثاً مستفيضاً عن (كتاب المعتبر) وهو كتاب غير مطبوع للفيلسوف أبي البركات البغدادي الذي عاش في القرن السادس الهجري، وألف كتابه هذا في نقد فلسفة أرسطو ومنطقه وهو كتاب وحيد في بابه فريد في فنه، ثم تكلم الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي الذي حضر إلى مصر في السنة الماضية لطبع(273/72)
سمط اللآلى، ثم سافر إلى دمشق واستنبول باحثاً في دور كتبها ومنقباً في خزاناتها فرجع بكثير من المعلومات عن النسخ والكتب، وكان موضوعه (ما رأيت في دور الكتب بالممالك الإسلامية) وذكر أهمية دار الكتب باستنبول والكتب النادرة فيها. وبعده قام السيد مناظر أحسن الجيلاني رئيس الشعبة الدينية بالجامعة العثمانية، فتكلم عن فلسفة محيي الدين بن عربي وابتدأ بكلام عن تخلص المجتهدين الفقهاء من تصرف الملوك في تدوين الفقه وانتقالهم إلى الأندلس وسبب انتشار المذهب المالكي فيها، ثم شرح فلسفة ابن رشد وأسس بحثه، ثم بيّن كيف خالفه محيي الدين بن عربي في المسائل الفلسفية وحملاته عليه حتى انتهى إلى وحدة الوجود، فإذا هي فلسفته الخاصة
ثم كانت الجلسة الثالثة في قاعة المحاضرات بالجامعة العثمانية وكان أول من تكلم الدكتور داود بوتاء أستاذ العربية بالكلية الإسماعيلية (بومباي) وموضوعه فلسفة ابن خلدون الاجتماعية وكانت المقالة طريفة مصحوبة بالمقارنات والانتقادات، والدكتور المذكور يقوم الآن بترجمة مقدمة ابن خلدون إلى اللغة الانكليزية، وبعده تكلم الشيخ عبد الرحمن عضو مجمع المعارف في علم أسماء الرجال وأهميته، ثم ألقى الدكتور حميد الله أستاذ أصول الفقه والقانون بالجامعة العثمانية، بحثاً مستفيضاً عن (دستور الدولة في العهد النبوي) (هاجر رسول الله إلى المدينة وعقدت معاهدة بين المسلمين واليهود) فجمع الدكتور المذكور أجزاء هذه المعاهدة وشرحها شرحاً وافياً واستنبط منها العناصر الأساسية لدستور الدولة.
ثم تكلم السيد أحمد الله الندوي عضو مجمع المعارف في (علم صناعة الجراحة وشرح آلات الجراحة عند العرب). وفي ختام هذه الجلسة قام الدكتور عبد الحق وألقى كلمة في موضوع (حاجة الهند إلى المجمع العربي)
وفي هذه الجلسة ألقى الدكتور حسين الهمداني أستاذ العربية بكلية استيفن بومباي بحثاً عن (كتاب الرياض لأحمد الكرساتو) وكان أحمد هذا إسماعيليا متكلماً فيلسوفاً عاش في القرن الثالث الهجري وكان معاصراً للفارابي، وأما الدكتور الهمداني فكان أصله من اليمن، ويعتبره علماء الهند أعلم العلماء بالإسماعيليات، وهو أول من عرّف العالَم العلمي بالكتب الإسماعيلية وقد أشار في بداية كلامه إلى تاريخ الأدبيات الأسماعيلية؛ ومقالته مفعمة بالمعلومات الجديدة التي كانت مجهولة من العلماء. ثم ألقى مولانا عبد الله العمادي بحثاً في(273/73)
(علم المرايا والمناظر لأبن الهيثم) وبعده تكلم العلامة مأمون الأرزنجاني من علماء دمشق، في مناهج التعليم العربي، مشيراً أثناء كلامه إلى كتب القواعد والمطالعة التي وضعت على قاعدة جديدة للمدارس بالشام.
وبعده قام الفاضل المولوي عبد القدوس الهاشمي المساعد في ترتيب معجم المصنفين وألقى بحثاً في (كتاب المخترع في فنون من الصنع) ومؤلف الكتاب لا يزال مجهولاً، غير إن النسخة التي توجد في دار الكتب الآصفية كتبت في سنة 876هـ في الهند بقلم ضياء ترك القاضي خان الناخوري. وللكتاب أهمية فيما يتعلق بفنون الصناعات الإسلامية العربية ومناهج الصانعين فيها. ثم تكلم الأستاذ امتياز علي، مدير دار الكتب برامبور في (تفسير الإمام سفيان الثوري) ومن هذا الكتاب نسخة بدار الكتب المذكورة وأشار في بحثه إلى أن المسلمين أول ما خدموا من العلوم علم القرآن وأول ما كتبوا من الكتب في فن التفسير.
وفي الجلسة الأخيرة تكلم الشيخ شبير أحمد ناظر دار العلوم الديويندية ورئيس المدرسين بجامعة دابهيل في موضوع (الوحي معصوم عن الخطأ) واقترح على مجمع المعارف الالتفات إلى علوم القرآن ونشر الكتب في فنونها. ثم ألقى مولانا عبد الرحمن أستاذ العربية بجامعة دهلي بحثاً في (المستشرقين) من حيث التاريخ والخدمات العلمية ومعايبهم. وأخيراً قام الدكتور زبير الصديقي رئيس الشعبة الإسلامية بجامعة كلكته متكلماً في (علم الحديث وخصوصياته) من حيث الإسناد وطرق المحدثين في البحث وعدم خضوعهم لسلاطين الزمان واستقلالهم العلمي واشتراك النساء في الرواية، وهذه هي الخصوصيات التي قد حافظت ولا تزال محافظة على جوهرية الأحاديث من عبث المستشرقين بها كما فعلوا في أكثر الوقائع التاريخية الإسلامية كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
واختتم هذا الاجتماع الذي دام أربعة أيام في حيدر آباد وتناول البحث فيه أهم موضوعات العلوم العربية وفنونها، بالسلام لصاحب الجلالة آصف السابع ملك دكن والدعاء لذاته الكريمة
بدر الدين الصيني
تكريم الأستاذ قسطاكي بك الحمصي(273/74)
أقام أدباء الشهباء حفلة تكريمية للأستاذ قسطاكي بك الحمصي مساء يوم الأحد 4 سبتمبر سنة 1938 بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره وتنويهاً بمآثره وخدماته في عالم الأدب. وكانت الحفلة تحت رعاية معالي الأمير مصطفى الشهابي وزير المعارف سابقاً ومحافظ حلب اليوم. وقد تكلم في الحفلة الأساتذة عيسى اسكندر المعلوف، وأمين هلال، والشاعران عادل الغضبان، وحليم دموس وألقى الأستاذ أسعد الكوزاني كلمة عن أسلوب المحتفى به في الكتابة النثرية سننشرها في العدد القادم. وقد ألقى في ختام الحفلة الأمير مصطفى الشهابي كلمة قال فيها إن هذه الحفلة قد ذكرته بأسواق العرب الأدبية، وتكلم عن فضل النصارى على اللغة العربية، ونوه بالخدمات الجليلة التي قاموا بها في هذا السبيل، وأشاد بفضل المحتفى به ومآثره في عالم الأدب
والأستاذ قسطاكي بك الحمصي من أوائل الأدباء الذين قاموا بخدمة اللغة والأدب منذ ستين عاماً، ولا يزال حتى اليوم على شيخوخته يقوم بخدمتها بالمقالات والأبحاث التي ينشرها في مختلف المجلات والصحف. وقد أقام بمصر في أوائل هذا القرن مدة طويلة اتصل خلالها بأدبائها ولا سيما الشيخ إبراهيم اليازجي الذي كان له أثر بارز في أدبه وأسلوب كتابته. وله من المؤلفات المطبوعة كتاب (منهل الوارد في علم الانتقاد) وهو يقع في ثلاثة أجزاء طبع الجزء الأول منه في مصر سنة 905، وطبع الجزءان الأخيران في حلب بعد الحرب العظمى. وله كتاب (أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر) ترجم فيه للأدباء الحلبيين الذين عاشوا في هذا القرن ولهم أثر من شعر ونثر(273/75)
الكتب
وحي بغداد
للدكتور زكي مبارك
يظهر في الأسبوع المقبل كتاب جديد للدكتور زكي مبارك أسمه (وحي بغداد) والى القراء فاتحة هذا الكتاب
أما بعد فقد كتب الله تباركت أسماؤه أن يجعلني من الموفين بالعهد: فأخرجت كتاب (ذكريات باريس) تحية لمدينة النور التي اتصلت بها نحو خمس سنين، واليوم أخرج كتاب (وحي بغداد) تحية لمدينة الرشيد التي اتصلت بها نحو تسعة أشهر قضيتها في يقظة عقلية أوحت إلى قلمي ألوف الصفحات
وكنت نظرت فرأيت كتاب (ذكريات باريس) أوحى إلى فريق من الكتاب أن ينشئوا المؤلفات عن العواصم الغربية أمثال باريس ولندن وبرلين، وأنا اليوم أرجو أن يكون كتاب (وحي بغداد) سنّة حسنة لمن يعيشون في العواصم الشرقية عساهم يحببون العرب والمسلمين في بلادهم بما يبتكرون من شائق الوصف ورائع الخيال
وقد عجب ناس من وفائي لأهل العراق واهتمامي بتسجيل ما لهم من محامد ومناقب، وكنت أستطيع أن أقول إني عشت في العراق معلماً، ومن واجب المعلم أن يبرز المحاسن ليقوّي الروح المعنوي في تلاميذه ويسوقهم إلى ميادين الجهاد. كنت أستطيع أن أقول ذلك، ولكني في الواقع لم أر من أهل العراق غير الشهامة والنبل والوفاء؛ ويسرني ويشرح صدري أن أقول كلمة الحق في تحية من يعيشون في أنس بزهرات بغداد ونخلات البصرة وسمكات الفرات
وسيأتي يوم يعذرني فيه من اتهموني بالإسراف في حب البلاد التي عرفت بكاء الحمائم وظلام الليل
سيعرف إخواني في مصر أني بنيت لهم صرحاً من الوداد في وطن نبيل هو العراق
سيعرف إخواني أن غيرتي على سمعة العراق ستضاف إلى المحامد المصرية، وسيقول المنصفون إن المصري حين يغترب لا ترى عينه غير الجميل من شمائل الرجال
وهل كنت أملك أن أذكر العراقيين بغير الثناء؟ لقد نُظِمَتْ في تكريمي هناك قصائد وخطب(273/76)
ومقالات لو جُمِعتْ لكانت مادة كريمة لكتاب نفيس، فبأي وجه ألقى الله إذا ذكرت العراق بغير الجميل؟
كنت أعرف أن أيامي قصيرة في العراق فتجشمت ما تجشمت لأزور أشهر الحواضر العراقية، فكانت فرصة عرفت فيها كيف يلتاع من يفارق حواضر العراق؟
يا ليت ماء الفرات يخبرنا ... أين استقلت بأهلها السفنُ
ولا يعلم إلا الله كيف رحلت عن البصرة والحلة والنجف والموصل وكركوك وكربلاء
لا يعلم إلا الله كيف أخفيت يوم الفراق عن أصدقائي في بغداد
لا يعلم إلا الله كيف أخفيت نيتي عن تلاميذي فلم أخبرهم أن التسليم عليهم يوم الرحيل هو آخر العهد
لا يعلم إلا الله كيف انخلع قلبي وأنا أنظر إلى دار المعلمين العالية آخر نظرة، وألقي عليها آخر سلام
وإذا كانت شواغلي بمصر قضت بأن أعتذر عن المضيّ في خدمة تلاميذي بالعراق فسأتعزى عن فراقهم كلما تذكرت أني أوقدت في صدورهم جذوة لن تخمد أبداً، وسيصيرون بإذن الله من أشرف خدام العراق
والعهد بيني وبينهم أن نقضي العمر كله أوفياء للحق والواجب، وألا نرى المغانم في غير طهارة الضمائر وسلامة القلوب
هذا كتاب أوحته بغداد، وفيه ما في جوّ بغداد من طغيان الرفق والعنف، وصولة العقل والفتون
هو كتاب سيّرقَم على وجه الدهر وجبين الزمان
هو كتاب سيسعد به قوم ويشقى به آخرون
ولكنه سيظل أثيراً لدى بغداد، لأنه من وحي بغداد
زكي مبارك(273/77)
المسرح والسينما
ملاحظات وخواطر
حول ترقية الأفلام المصرية
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن ضرورة قيام الحكومة بإيجاد رأس مال مناسب يكون في متناول المنتجين المصريين الذين تعوزهم النقود اللازمة لإكثار جهودهم وموالاتها وأكدنا أن هذه هي أفضل الطرق لترقية الأفلام المصرية والأخذ بيد صناعة السينما في مصر. وقلنا كذلك: (إن هناك ناحية أخرى على اللجنة أن تنظر فيها وتعمل على التخلص منها ما دامت تريد نهضة جديدة للأفلام في مصر، وهذه الناحية هي جمود اللائحة التي تعمل بها وزارة الداخلية الآن في صدد ما يجوز معالجته وما لا يجوز معالجته في الأفلام من الموضوعات في مصر)
ونسجل على هذه الصفحة بضعة خواطر وملاحظات لنا على هذه اللائحة فنقول: إن هذه اللائحة تتناقض تناقضاً بيناً مع القانون الأساسي للبلاد وهو الدستور، وإذا كانت الحكومة قد ظلت مشغولة إلى عهد قريب بالقضية الخارجية، فقد آن الأوان لأن تراجع هذه اللائحة وتحذف منها ما لا يتفق مع هذا الدستور. فقد كفل هذا الدستور حرية القول والتأليف والكتابة والاعتقاد في حدود مبادئ القانون العام وهي ألا يكون في ذلك القول أو التأليف ما من شأنه تقويض النظام القائم أو المناداة بمبادئ خطيرة أو ما يمس الآداب العامة أو الشرف الخصوصي للأفراد والعمومي للدولة وتاريخها ورجال تاريخها. ونعتقد نحن أن في استطاعة قانوني كبير كبدوي باشا أن يضع لنا لائحة جديدة على أساس مبادئ دستورنا فيما لا يزيد على يوم وليلة! حتى لا تعارض وزارة الداخلية بعد الآن في فلم وطني أو سياسي أو فلم يدور حول فتاة لقيط مثلا - كما حدث منذ عامين
روزالي. . . فلم الافتتاح لسينما ستوديو مصر
افتتح أستوديو مصر يوم الاثنين الماضي دار العرض الجديدة التي رأى أن تتخصص لعرض منتجاته على أن تعرض أفلام المترو جولدوين بجوار أفلام الأستوديو. ولسنا في حاجة إلى أن نقول إن حفلة الافتتاح كانت فريدة في بابها ونادرة بين حفلات الافتتاح،(273/78)
ويكفي أن نقول إن جميع ذوي وذوات المكانة من أهل الطبقات الراقية والمثقفة وممثلي وممثلات السينما والمسرح وجميع ممثلي الصحف المصرية العربية والإفرنجية كانوا حاضرين في هذه الحفلة احتفالاً بهذه الخطوة الجديدة الموفقة التي يخطوها أستوديو مصر ولمشاهدة أحد أفلام الدرجة الأولى للمترو جولدوين ماير في الموسم الحالي وهي رواية (روزالي) أو الأميرة الراقصة من تمثيل (الينورباول) و (نلسون إدي)، والفلم كوميدي غنائي راقص مليء بالمواقف اللطيفة المسلية
فتهانينا لبنك مصر وأستوديو مصر وقسم الإنتاج في أستوديو مصر، ونأمل أن تتبع هذه الخطوة خطوات نرى بعدها عدداً من دور السينما الكبيرة مصرياً في كل شيء، وليس ذلك كثيراً على بنك مصر ومديريه الأفذاذ وسعادة الدكتور فؤاد سلطان بك مدير شركة مصر للتمثيل والسينما
خبر سابق لأوانه
أكد لنا أحد كبار ممثلي الفرقة القومية أن كل ما ذكرته الصحف عن مسرح حديقة الأزبكية وعمل الفرقة القومية به إنما هو سابق لأوانه. والصحيح أن مفاوضات دارت بين إدارة الفرقة وإدارة ذلك المسرح، ولكن هذه المفاوضات وقفت حتى يعود الأستاذ خليل مطران مدير الفرقة من إجازته بلبنان. ومعنى ذلك أن الدورة الأولى من موسم الفرقة ستكون في دار الأوبرا الملكية كالمواسم السابقة(273/79)
أخبار مسرحية وسينمائية
مترو جولدوين وتوفيق الحكيم
أبلغنا أحد أصدقائنا المتصلين بالكاتب القصصي الكبير الأستاذ توفيق الحكيم، أن هناك مفاوضات بين شركة المترو جولدوين ماير والأستاذ توفيق الحكيم بخصوص رواية (عودة الروح) إحدى قصصنا الأدبية الكبرى. وأن هذه المفاوضات قد انتهت فعلاً أو أوشكت على الانتهاء وقريباً نرى إحدى معجزات الحكيم الأدبية على الستار الفضي
والحق أننا لا ندري هل نهنئ المترو جولدوين ماير أم نهنئ كاتبنا الكبير بهذه الصلة السعيدة التي نأمل ألا تقتصر على (عودة الروح)
فلم جميل للموسم الجديد
ينتظر أن يكون موسم سينما ديانا عظيم هذا العام. وكفى دليلاً ما قدمته لنا في حفلة الافتتاح وهو فلم (فندق هوليوود) الفلم الغنائي الراقص الجميل.
أجنحة الصحراء والرحلة الملكية
علمنا أن (اللقطات) الأخيرة لفلم أجنحة الصحراء، وهو باكورة منتجات سالم تتم في الأيام القليلة الباقية من هذا الشهر. أما موعد عرض الفلم فقد علمنا أنه سيكون في أواخر النصف الأول من نوفمبر
وبمناسبة الحديث عن الأستاذ سالم نسجل له على هذه الصفحة نجاحاً كبيراً في الشريط الناطق الذي أخرجته جريدته السينمائية للرحلة الملكية السعيدة إلى الصحراء الغربية ويكفي أن يكون عرضه على شاشة الرويال بعد يومين اثنين فقط من عودة جلالة الملك إلى الإسكندرية
شيء من لا شيء
عرضت نسخة كاملة من فلم (شيء من لا شيء) على حضرات أعضاء اللجنة الفنية في أستوديو مصر، فوافقت عليه وأبدت إعجابها به، واعترفت له بأنه من أقوى وأكبر الأفلام المصرية التي رآها الأعضاء حتى الآن. وسيعرض هذا الفلم بسينما أستوديو مصر في الشهر القادم.(273/80)
العدد 274 - بتاريخ: 03 - 10 - 1938(/)
ختام
للأستاذ عباس محمود العقاد
بدأنا بقنطار ثمين فأجملنا ما نراه من مذهب في صفات الجمال، وكانت خلاصته أن الجسم الجميل هو الجسم الذي ليس به فضول، وهو الذي يحمل كل عضو فيه نفسه غير محمول في مشهد العين على سواه، وهو الذي يكون مقياس الفضول فيه أداء الوظيفة، ومقياس الوظيفة بين عضو وعضو وبين حيوان وحيوان قربها من الحرية وبعدها من القيد والضرورة
وهذا مقياس أعضاء وأجسام
ومقياس معان أيضاً وأفكار وأرواح
فأننا بهذا المقياس نعرف الكلمة الجميلة والشعر الجميل والخلق الجميل والفكر الجميل
فلن يكون جميلاً فكر به فضول فهو زائد فضفاض في غير طائل، أو فكر فيه قصور فهو مفتقر إلى غيره وليس بمحمول على نفسه، أو فكر يظهر فيه عجز التقييد وعسف الضرورات
وذلك ما أردناه حين قلنا إن الجمال يخرج الأجسام من عالم الشهوات والنزوات إلى عالم المعاني والأرواح، وأن العين التي تنفذ إلى لبابه تنظر إليه كما تنظر إلى الحقائق العليا، وإلى الأصول الشائعة في نظام الوجود كافة؛ فإذا اتفق أن يعبث العابث بالجمال فكما يتفق أن يسرق السارق جوهرة نفيسة: لا يسرقها لأنها جميلة وهو يحب الجمال، ولكنه يسرقها لأنه يستحضر في ذهنه السوق، والسوء!
ثم رجعنا إلى بقية الذهب، ثم تلاحقت الملحقات من تفريع إلى حاشية إلى تذييل، إلى هذا الختام، وكان به ختام الصيف وختام السفرات في كل أسبوع إلى الإسكندرية
أكتبه إلى جوار الصحراء صديقتي القديمة منذ عرفت الأصدقاء في الأماكن والبقاع
وأصغي فلا أسمع الأمواج كأنها فوران القدر العظيمة عند ميناء الإسكندرية، ولا أسمع الأمواج كأنها غطيط النائم في اطراد رتيب عند ميناء مرسى مطروح، ولا أسمع الأمواج كأنها المارد الوديع الحالم عند ميناء السلوم، فلا هدير له ولا ضجيج، بل سكون كسكون النيل في ساعة صفاء قرير(274/1)
لا أسمع الأمواج ولكني أسمع الصحراء، ومن طالت عشرته للصحراء سمعها وهي تسكت، وسمعها وهي تصخب، وسمعها وهي لا تحفل بأسماع، ولخص ذلك كله في كلمة واحدة، وهي القناعة أو الاستخفاف أو القوة التي تغالب الأزمان؟ لأن الأزمان تقوى على التغيير. . . فإذا لم يكن تغيير فماذا يبلغ من قوة زمان واحد أو من قوة جميع الأزمان، وإذا كان التغيير لا يغير منها الحقيقة ولا يمس منها إلا العرض فلماذا تباليه الصحراء؟
ورجعت أعرض صور الإسكندرية فإذا هي كثيرة تتصل بها أجزاء الدنيا وترينا كيف يتشعب العالم وكيف يؤول إلى التماثل والتوحيد
فالعالم اليوم يحكمه زي واحد تبصره في شواطئ القارة الحديثة، وتبصره في شواطئ الصين، كما تبصره في شواطئ بحر الروم وفي شواطئ بحر الظلمات، الذي ليس فيه اليوم ظلمات
أو هذا كل ما هنالك من تماثل وتوحيد بين أجزاء العالم المتنابذ المستعد في هذه الساعة لأشنع الحروب
كلا. بل هنالك تقارب بين المثل والأوضاع في كثير من الأمور
هنالك العملة التي كانت من قبل أخص الخصائص فيما يسمونه بالسيادة القومية فأصبحت اليوم موضع التفاهم والاتفاق بين شتى الحكومات
وهنالك المحظورات والتواصي بمنعها بين الدول من الرق إلى المخدرات إلى المهربات
وهنالك الجيوش والمؤتمرات التي تنعقد من حين إلى حين لتقرير عددها وتقرير سلاحها وتقرير نظامها، وإن لم تسفر عن وفاق وإجماع
بل هنالك الحرب التي لا يتأتى أن تنفجر في مكان إلا عمت جوانب الأرض بعد بضعة أسابيع
فالعالم يمضي إلى التماثل والوحدة، ولا ينفي هذه الحقيقة أنه ماض كذلك إلى الوحدة في الشرور والنكبات، بل إن هذا ليؤكدها ويجلوها في جانبها المخيف كما يجلوها في جانبها المأمون، وجانبها المحبوب
أزياء الشاطئ تكشف لنا هذه الحقيقة وتكشف لنا معها حقيقة أخرى يأسى لها كثيرون ويغتبط بها كثيرون(274/2)
أو لم يكن الراقصون والمغنون وأصحاب الملاهي والملاعب نفاية الجماعة الإنسانية في الأجيال القريبة؟
فأنظر اليوم من ذا الذي يفرض على الناس الأزياء والآداب؟ ومن ذا الذي يملي عليهم ما يشتهون وما ينبذون؟!
إنهم هم نفاية المجتمع بالأمس وسادة المجتمع اليوم!
إنهم فتيان هوليود وفتيات الستار الأبيض فيها وفي كل مكان
فأين هي اليوم تلك السيدة التي تخجل من ظهورها في مظهر الممثلات على ذلك الستار؟
وما معنى ذلك إلا أن المجتمع ينقلب رأساً على عقب ثم لا يستقر على هذا الانقلاب؟
وهل بعيد ما بين هذه الحقيقة وبين حقيقة أخرى في عالم السياسة الدولية نشهدها ونسمعها الآن فيما نشهد ونسمع من نذير وشرر مستطير؟
ما معنى الحرب اليوم إلا أن نفايات المجتمع قد أصبحوا يسوسون الدول ويقودون الشعوب ولا يؤمنون إلا بما يؤمن به النفايات من غلظة وجور وعنت وتحطيم؟
لئن كان الحجر على هذه النفايات فيما مضى ظلماً لقد رأينا الساعة أن سيادتها ليست بأنصاف، بل فيها الظلم والإنصاف مزيج كريه المذاق، ومصفاة الزمن خير كفيل بالتصفية والترويق، ولا خوف على الزمن آخر الأمر من العجلة ولا من الأناة. .
صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ
وستبقى ما قدر لها البقاء، وسيكون من إبقائها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي (بيجو) الذي فقدناه هناك. وأني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوه من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. . . فكم من مبَّجل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا!
وكم من محَّقر بينهم ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار!
وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الشديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي(274/3)
الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين
فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أياماً في القاهرة وأياماً في الإسكندرية من كل أسبوع، ولم أصحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الثانية ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف، اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة وأن أعود إليه كل أسبوع
ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها، لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في الرحلة الثانية، وزاده إصراراً على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد حمزة طاهينا القديم الذي يعرفه قراء كتابي (في عالم السدود والقيود)
والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يكثر الصلاة والوضوء ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار
وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى. فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا: (يا شيخ أحمد). . . فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد
فلما استحال التوفيق بينهما واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين بالذهاب والإياب، واصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له، يتألف منها تاريخ وجيز. . .
ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم الذي كان فاشياً فيها واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكاناً أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه
وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي وخدش يكاد لا يبين، ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعاً في ركنه يرفع إلي رأسه بجهد ثقيل، وينظر إلي نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار: أحس المسكين وطأة الموت فتحامل على نفسه، وخطا(274/4)
من حجرته إلى باب حجرتي، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته وفتحت له، وهو لا يزيد على النظر والسكوت
كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة حتى وجدناه، وقد شاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به وعطف عليه، لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته، ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصاحبها أكثر من سنتين
سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى، وسيزول منها ما يزول، ولكني لا احسبني أنسى ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله، ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذراً كافياً لإقلاق صديق. ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا ينسى، فأن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظاً من الخلائق الإنسانية، لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيداً من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب
عباس محمود العقاد(274/5)
ملاحظات انتقادية على مقترحات لجنة التيسير
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
مدير دار الآثار العراقية
- 1 -
إن الملاحظات الانتقادية التي نشرتها في العدديين الأخيرين من الرسالة حول كتب (قواعد اللغة العربية) تغني عن شرح طويل لتحديد موقفي وتبين رأيي في المقترحات الواردة في تقرير لجنة التيسير
فبعد تسجيل واجب الشكر لوزارة المعارف في مصر، لإقدامها على تأليف لجنة خاصة لدرس وسائل تيسير قواعد الصرف والنحو، ولفتحها باب الدرس والمناقشة في هذه الوسائل، أرى من واجب الصراحة أن أقول: إني قرأت التقرير الذي وضعته هذه اللجنة بشيء كثير من خيبة الأمل. . . لأني لاحظت أن المقترحات الواردة فيه ضيقة النطاق جداً، وليس من شأنها أبداً أن تؤدي إلى (تيسير) مهم. . .
فاللجنة المحترمة لم تتطرق في تقريرها إلى شيء من المسائل التي عرضتها في مقالي الانتقادي، ولم تنتبه إلى النقائص المهمة والأغلاط العظيمة المندمجة في خطط التبويب والتعريف، ولم تقدم على إنعام النظر في طرق التقسيم والتصنيف. . .
فأستطيع أن أقول إذاً، إنها لم تتخلص من النزعة العامة التي أشرت إليها وإلى أضرارها، ولم تخرج على المسالك الملتوية التي شرحتها وانتقدتها. . .
فجميع الملاحظات الانتقادية المسرودة في مقالي عن (كتب قواعد اللغة العربية) تنطبق على أبواب (الصرف والنحو) التي اقترحتها اللجنة المحترمة أيضاً. . . وفي الواقع أن اللجنة قد صرحت في تقريرها أنها قدمت اقتراحاتها كخطوة أولى في سبيل التيسير إذ قالت ما يلي: (وقد اتصلت اجتماعات اللجنة للنهوض بهذه المهمة التي وكلت إليها حتى انتهت إلى طائفة من الاقتراحات ترفعها الآن إلى الوزارة، لا على أنها المثل الأعلى لما ينبغي الوصول إليه من تيسير النحو والبلاغة، بل على أنها خطوة معتدلة موفقة في سبيل التيسير قد تتاح بعدها خطوات أدنى إلى التوفيق وأقرب إلى الكمال. . .)(274/6)
فقد يقال - نظراً إلى هذا التصريح - إن النقوص والأخطاء التي كانت موضوع مقالي السابق، ربما كانت من جملة المسائل التي لاحظتها ودرستها اللجنة وتركتها إلى الخطوات التالية لاعتقادها صعوبة معالجتها في الخطوة الأولى من خطوات التيسير. . .
غير أني اعتقد أن الخطوة الأولى يجب أن ترمي إلى معالجة (أهم المسائل من حيث مقتضيات العلم والتعليم، وأسهل الإصلاحات من حيث العمل والتنفيذ) كما اعتقد أن النقوص والأخطاء التي أشرت إليها أكثر خطورة وأسهل معالجة من الأمور التي اقترحتها اللجنة. فأقول بهذا الاعتبار أن معالجة هذه النقوص وهذه الأخطاء يجب أن تكون أول خطوة من خطوات التيسير والإصلاح
ولهذه الأسباب أتقدم إلى أعضاء اللجنة المحترمين برجاء خاص أن ينعموا النظر في المآخذ التي عرضتها في مقالي السابقين بنظرة متجردة عن تأثير الألفة المخدرة؛ ولا أشك في أنهم عندما يفعلون ذلك يسلمون بأن قواعد اللغة في حاجة إلى معالجة وتيسير وإصلاح من النقائص التي ذكرتها آنفاً قبل سائر النواحي. . .
- 2 -
بعد هذه الملاحظات العامة التي أنتقد بها اللجنة لعدم تطرقها إلى الأبحاث المهمة يجب علي أن أنتقل إلى المسائل التي عالجتها اللجنة المذكورة فأبدي رأيي فيها. . .
إنني أؤيد معظم آراء اللجنة ومقترحاتها، غير أني أرى نقصاً في بعضها وخطأ في البعض الأخر
أولاً - حللت اللجنة أهم أسباب الصعوبة التي اكتنفت قواعد اللغة العربية فقالت:
(وقد لاحظنا أن أهم ما يعسِّر النحو على المعلمين المتعلمين ثلاثة أشياء:
أولاً - فلسفة حملت القدماء على أن يفترضوا ويعللوا ويسرفوا في الافتراض والتعليل
(الثاني - إسراف في القواعد نشأ عنها إسراف في الاصطلاحات.
(والثالث - إمعان في التعمق العلمي باعد بين النحو وبين الأدب. . .
(وقد حاولنا أن نخلص النحو من هذه العيوب الثلاثة، فبرأناه من الفلسفة ما وسعنا ذلك. ومحونا منه الافتراض والتعليل اللذين لا حاجة إليهما، وقاربنا بين أصوله وقواعده. فضممنا بعضها إلى بعض، كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا)(274/7)
إنني أشارك اللجنة في هذه الملاحظات، غير أنني أرى من الضروري أن يضاف إلى هذه العوامل الثلاثة عامل آخر، ربما كان أفعل من جميعها في توعير المسالك وتوليد الأخطاء:
هذا العامل هو النزوع إلى اعتبار مسائل الأعراب الغاية القصوى من دراسة اللغة، والاهتمام بالأحكام النحوية وبمواطن الأعراب أكثر من الالتفات إلى المعاني المقصودة ومواطن الاستعمال، كما شرحت ذلك وعللته في مقالي الأخير. إنني اعتقد أن التخلص من هذه النزعة ومن نتائجها، من أهم الأسس التي يجب أن تبنى عليها محاولات التيسير والإصلاح. .
ثانياً - تقترح اللجنة ترك فكرة الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وحذف تعبيرات الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ والخبر، واستبدال هذه التعبيرات المختلفة بكلمتي الموضوع والمحمول (حسب اصطلاح المناطقة)
وأنا لا أرى في ذلك وجهاً للتيسير، بل أعتقد أن هذه الخطة تزيد الأمر صعوبة، كما أنها تخالف طبيعة اللغة العربية مخالفة واضحة. . .
وذلك لأن تفهم المبتدأ والخبر، وتمييز الفاعل، أسهل بكثير من تفهم المحمول والموضوع وتصورهما. كما أن تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية أكثر انطباقاً على خصائص اللغة العربية:
إذ من المعلوم أن بعض اللغات محروم مما يشبه الجملة الاسمية، لأن كلمة جملة فيها تحتوي على فعل، ولو كان من النوع الذي يدل على الكينونة والصيرورة؛ غير أن اللغة العربية لا تدخل في عداد تلك اللغات، لأنها تساعد على تكوين جمل بدون أفعال؛ فتمييز الجمل الاسمية من الفعلية، ودرس كل منها على حدة، يكون أقرب إلى طبيعة اللغة العربية، وأوفق لمقتضيات أصول التدريس. . .
ولا أراني في حاجة إلى القول بأن درس كل نوع من هذين النوعين من الجمل على حدة، لا يعني عدم إجراء مقارنة بينهما. . . لأن التمييز بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية لا يمنعنا من لفت النظر إلى المشابهة الموجودة بين الفاعل والمبتدأ، من حيث المعنى ومن حيث الأعراب. . . ولا أشك في أن الإقدام على مثل هذه المقارنات مما يضمن لنا الحصول على الفوائد المتوخاة من التقريب، دون أن يعرضنا للمشاكل التي تتولد من(274/8)
المزج والإدماج. .
ثالثاً - تقترح اللجنة توحيد الاصطلاحات المتعلقة إلى بحركات البناء والأعراب، كما تقترح حذف الأعراب التقديري والمحلي. .
إنني أحبذ ذلك كل التحبيذ؛ غير أنني أطالب بأكثر من ذلك فأقترح حذف الأبحاث المتعلقة بحركات البناء حذفاً تاماً. لأني لا أرى فائدة عملية أو علمية في البحث عن هذه الحركات.
أن حركة الحرف الأخير من الكلمة تكتسب خطورة كبيرة في المعربات، نظراً لتحولها حسب موقع الكلمة من العبارة وعلاقتها بالكلمات التي تسبقها وتليها؛ وأما حركة الحرف الأخير في الكلمات المبنية، فلا تمتاز عن سائر الحروف امتيازاً يستوجب إنعام النظر فيها بوجه خاص. . فإذا عرف الطالب مثلاً - أن (أجلس) فعل أمر، وكلمة (علم) فعل ماض، وكلمة (منذ) حرف، وعرف في الوقت نفسه أن الحروف وأفعال الأمر والماضي من المبنيات. . . فلا يجني أية فائدة عملية، من ملاحظة حركة الحرف الأخير في هذه الكلمات؛ وربما استفاد من الانتباه إلى حركة الحرف الثاني أكثر من ذلك، لكثرة وقوع الخطأ فيها. .
فيكفي الطالب أن يعرف الكلمة، ويلاحظ عملها في العبارة دون أن يتوغل في تعيين حركة بنائها. .
فعندما نسعى إلى تمرين الطلاب على تحليل العبارات، يجب أن نطلب إليهم أن يعينوا نوع كل كلمة من كلماتها. . ويذكروا الوظيفة التي تقوم بها في العبارة كل واحدة منها. وأما إعرابها في المعنى المصطلح والبحث في حركة حرفها الأخير، فيجب أن ينحصر في المعربات منها.
وأعتقد أن هذه الخطة تخلص المعلمين والمتعلمين من أتعاب الذهن وإضاعة الوقت في أمور غير مجدية، وتضع حداً للملل الذي يغشي درس اللغة العربية في أكثر الأحيان.
(بغداد)
أبو خلدون(274/9)
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
أمسلم مصري أم مبشر برتستنتي؟
- 3 -
إن المبشرين البروتستنت الذين أضلوا ذلك الكاتب المسلم فضل وروى باطلهم - ليستيقنون أن القرآن هو الكتاب العربي العبقري، ويعلمون أن تلكم (الآلات) إنما هي قواعده قد أخذت منه، وكانت له. فلن يخطئ فيها. . وكيف يخطئ فيها. .؟!
إن القرآن لهو الكلام العربي الصافي الصرف المحقق الصحيح الذي لا ريب فيه. وكل قول غيره يلاقيه الشك شاكي السلاح. فهو حجة الأقوال العربية وظهيرها. وليست الأقوال العربية - وأن كانت من خدمه - بحجة له ولا ظهيراً
ولقد قال العربانيون المنصفون والعبقريون والمفكرون من الغربيين في عربية القرآن الصريحة الخالصة وعبقريته قولهم، وقرأ المبشرون (المظللون) ما كتب المنصف، وقال العبقري. وإن كتموا الحق، وجحدوا بالذي استيقنته أنفسهم - أينكرون قولاً في كتابهم الذي نشروه للإضلال - مبينا؟
قال (سال) في (مقالة في الإسلام): (مما لا خلاف فيه أنه (يعني القرآن) الحجة التي يرجع إليها في العربية، وأنه شمس قلادة الكتب العربية، وواسطة عقدها)
إن هذا في (مطبوع) المبشرين الذين يخطئون (الكتاب) في العربية. وإنه لذم وتقريع للسفسطيين المقبحين لكن صخري الوجه لا يستحي
وإذا لام (المظللين) لائم، وقبح عليهم ما يصنعون قال لسان الحال: أنا ما شرقنا محترفين بحرفة (التظليل) - وما التظليل إلا حرفة من الحرف - وآخذين جعالاننا إلا لنعمل ما يبغيه المجعلون المطعمون، فهي الجعالة، وهو الرغيف. فلا تلومونا ولوموا المعدة. .
أجل إن المظللين ما طرءوا على هذه الأقاليم ليحقوا حقا، ويرهقوا باطلاً، ويهدوا ضالاً، ويرشدوا حائراً، بل جاءوا مغوين متوهين حتى يخرجوا المسلمين من دينهم فيستعبدهم الغربيون المغيرون استعباد الهون. وقد قال (غلادستون): لا راحة لمعالم (يعني قومه) ما كان القرآن. وقال سواس فرنسيون: لن يكون لنا الملك الحق في بلاد المغاربة أو نغرب دين القوم(274/10)
فالمضللون، مقصدهم أن يصدوا أمة محمد عن كتابها، ويلفتوها عن شريعتها ابتغاء أن تذل للغربي وتستقيد. فليس الشأن إذن في نحلة تبطل أو عقيدة تزول، ولكنه أمر أمم تستخذى وتهون بل تفنى وتبيد. فليدر بهذا السفهاء والبله والأغبياء من المسلمين إما كانوا يجهلون
والمضللون مدفوعون إلى اقتراف ما يقترفون: تدفعهم حرفتهم وجعالتهم والرغيف المأكول، فهم مرغمون أن يسلكوا كل سبيل في التضليل، ويتذرعوا بكل ذريعة غير متذممين من منكر، ولا متصحبين من شيء، وغير حافلين بكل خيبة تجبههم، وبكل خذلان يصعقهم، وبكل لعنة تتبعهم. وطرق الشر عند هذه الإضمامة (الجماعة) كثيرة، وذرائع الفساد مستوفرة. فهناك التنويم المغناطيسي. . وهناك التنويم النسوي. . . وحكايات هذين التنويمين من وسائل التضليل معروفة في القاهرة مشتهرة ومن كفر منوماً وسنان عاد إلى الأيمان سريعاً يقضان. وهناك الجنون المجنون في الإقدام على تغليط القرآن في العربية. . .
ليس في القرآن آية أو كلمة قد عدلت عن سنن العرب، وإن (علم العربية) أو النحو أو القواعد العربية - كما يسميها مسمون - هو حجتها، وهو دليلها، وهو المهيمن عليها، وشواهدها كلماته، وهذا كتاب سيبويه وهذه أبوابه وبيناته
ذلكم القرآن. بيد أن المضللين يقولون: نحن نهذي ونخرفش، وعلى إبليس تتميم العمل. وقد جمعوا في (مكتوبهم) بضع عشرة آية (منها الست التي نقلناها - وزعموا أنها مالت عن نهج العربية، وتلكم الآيات الكريمات كلتهنَّ قواعدهنّ مبينة مفصلة في (علم العربية) تفصيلاً. وهذه أقوال نحوية في الست المنقولة
1 - . . . والصابرين. . . قرء (والصابرون) وقرء (الموفين والصابرين) والنصب على التعظيم والمدح كما قال (الكتاب) وفصلت (خزانة البغدادي) والقراءة الناصبة تنصر قول الخِرْنِق (أخت طرفة):
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
وتؤيد ما أنشد القراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم(274/11)
قال (جامع البيان): (أن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض في المدح والذم بالنصب أحياناً وبالرفع أحياناً)
وقال أبو علي الفارسي (أستاذ الأئمة وشيخ أبن جني): (إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها، ولا تُجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند اختلاف الأعراب يكون وجهاً واحداً، وجملة واحدة)
2 - . . . فاصدق وأكن. . . قرء (وأكون) بالنصب على اللفظ، (وأكون) على وأنا أكون، وقرء (وأكن) على محل فأصدق. قال المبرد: (وأكون على ما قبله لأن قوله فأصدق جواب للاستفهام الذي فيه التمني، والجزم على موضع الفاء) قال الرضي: (وكذا ما جاء بعد جواب الشرط المصدر بالفاء نحو قوله تعالى: (من يضلل الله فلا هاديَ له (ويذرهم) قرء رفعاً وجزماً، ولا منع في العربية من النصب، فلما كان فاء السببية بعد الطلب واقعاً موقع المجزوم جاز جزم المعطوف عليه؛ قال تعالى: فأصدق وأكن)
قال أبن يعيش: (فإذا عطفت عليه فعلا آخر جاز فيه وجهان النصب بالعطف على ما بعد الفاء، والجزم على موضع الفاء، ونظير ذلك في الاسم: (إن زيداً قائم وعمرو، وعمراً) إن نصبت فبالعطف على ما بعد أن، وإن رفعت فبالعطف على موضع إن قبل دخولها وهو الابتداء) والقراءة الجازمة تنصر صاحب الصمصامة في قوله:
دعني فأذهب جانبً ... يوماً وأكفك جانباً
3 - . . . كن فيكون. . . من كان التامة أي احدثْ فيحدث (والرفع على الاستئناف أي فهو يكون) كما قال العكبري. قال الرضي: (وأما النصب في قراءة أبي عمرو فلتشبيهه بجواب الأمر من حيث مجيئه بعد الأمر، وليس بجواب من حيث المعنى) (وهذا مجاز من الكلام وتمثيل، ولا قول ثم) كما قال (الكشاف) وهو (حكاية حال ماضية) كما في هذا الكتاب
وقد كان (يكون) ولم يكن (كان) إذ لو قال: (كان) ما قلنا: إنه (قرآن)؛ إنه (الكتاب) يتكلم لا مخبر مسكين في (الأهرام) و (المقطم) ومثل هذا في (المعاني) مشروح في المطولات والمقصرات أو المختصرات؛ قال الخطيب في (الإيضاح) (قال: (فأضربُها) ليصور لقومه(274/12)
الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيباً من جرأته على كل شدة، ومنه قوله تعالى: (أنُّ مثل عيسى عند الله كمثل أدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون) وكذا قوله تعالى: ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)
وعلم (المعاني) نحو من (علم العربية) بل هو علم معاني النحو، وقد (استقل) يوم قطعوا (العربية) ولن يفارق نشء العرب وطلابهم ذاك الهم، وذاك الغم، وذاك الضيم الأوقت (الضم) وحين جمع الاخوة
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
4 - (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً، أمماً) قرئ وقطعناهم بالتخفيف. وعشرة بكسر الشين. قال (جامع البيان): (قطعناهم قطعاً اثنتي عشرة ثم ترجم عن القطع بالأسباط) قال العكبري: (اثنتي عشرة: مفعول ثان أو حال أي فرقناهم فرقاً (أسباطا) بدل من اثنتي عشرة (أمما) نعت لأسباط أو بدل بعد البدل) قال الزمخشري: (لو قيل اثني عشر سبطا لم يكن تحقيقا لأن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطا موضع قبيلة، ونظيره: بين رماح مالك ونهشل قال أبن يعيش: (فان قلت عشرون رجالا كنت قد أخبرت أن عندك عشرين، كل واحد منهم جماعة رجال كما قالوا: جمالان وإبلان)
وسنين في الآية الكريمة: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) بدل مثل (الأسباط) كما قال أبن الحاجب والرضي والزمخشري وابن يعيش وغيرهم. قال الزمخشري: (وقُرء ثلاث مائة سنين بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله: قل: هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً) قال الرضي: (الأصل في الجميع الجمع فإذا استعمل المميز جمعاً استعمل على الأصل)
5 - . . . والصابئون والنصارى. . . قرى (والصابئون) بالنصب والرفع وأورد العكبري سبعة أوجه في رفعها. قال (الكتاب): (وأما قوله عز وجل (والصابئون) فعلي التقديم والتأخير كأنه أبتدأ على قوله والصابئون بعدما مضى الخبر) قال القراء: (إن كلمة (إن) ضعيفة في العمل ههنا) قال خطيب الري: (إذا كان أسم إن بحيث لا يظهر فيه أثر الأعراب - مثل الذي وهذا واللذين وهؤلاء - فالذي يعطف عليه يجوز نصبه على إعمال(274/13)
هذا الحرف والرفع على إسقاط عمله) وقال (فتح القدير): (إن خبر إن مقدر والجملة الآتية خبر (الصابئون والنصارى) كما في قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والقراءة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه تنصر بشر بن أبي خازم القائل:
وإلا فعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
ونؤيد قول ضابىء البرجمي في رواية:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فأني وقيارٌ بها لغريب
6 - . . . والمقيمين الصلاة. . . قُرء والمقيمون والمقيمين والنصب على التعظيم كما قال (الكتاب) في (باب ما ينتصب في التعظيم والمدح) وذكر العكبري ستة أوجه للنصب. وروي (الكتاب) في ذاك الباب قول ذي الرمة:
لقد حملت قيس بن عيلان حربها ... على مستقل للنوائب والحرب
أخاها إذا كانت غضاباً سما لها ... على كل حال من ذلول ومن صعب
ثم قال: (إن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيماً، ونصبه على الفعل كأنه قال: اذكر أهل ذاك، واذكر المقيمين، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره. وليس كل موضع يجوز فيه التعظيم ولا كل صفة يحسن أن يعظم بها، فاستحسن ما استحسنت العرب، وأجره كما أجرته)
قال البصريون: (إذا قلت مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد، ولك أن تنصبه على تقدير أعني، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم، وعلى هذا يقال: جاءني قومك المطعمين في المحل، والمغيثون في الشدائد) والعربية تنصب على الشتم والذم كما تنصب على التعظيم والمدح. قال أمية بن أبي عائذ:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثاً مراضيع مثل السعالي
وقال أبن خياط العكلي:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم ... إلا نميراً أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحداً ... والقائلون لمن دار نخليها؟!(274/14)
وكتاب (المظللين) هذا معروف، وطبعاته كثيرة، وقد عزي إلى (هاشم العربي) وهو من قبيلة (هيّان بن بيّان أو ضُلّ بن ضلّ) المشهورة. . . وفي (قرار النيابة العامة) الذي أعلنه الأستاذ (محمد نور) رئيس نيابة مصر في شأن أستاذ مسلم - إشارات إلى كتاب المبشرين أرى نقلها في هذا المقام. قال الأستاذ الرئيس (محمد نور):
(. . . على أنه سواء كان هذا الغرض من تخيله كما يقول أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت أسم هاشم العربي فأنه كلام لا يستند إلى دليل ولا قيمة له. على أنا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام كان. . . كما نلاحظ أيضاً أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل لأن وظيفة التبشير لدينه غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر. . . يقول الأستاذ. . . وهاشم العربي يقول في مثل هذا. . فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر!)
ولما ظهر مؤلف المبشرين أشاع مشيعون تكبيراً لحقير، وترويجاً لزائف، وتهويلاً بضئيل شخت - أن هاشماً العربي هو صاحب (مجلة الضياء) ثم نجمت طبعة للكتاب بعد موت اليازجي وفيها: (هاشم العربي الشيخ اليازجي)
(الإسكندرية)
* * *(274/15)
مؤتمر المستشرقين العشرون
المنعقد في مدينة بروكسل
من 5 إلى 10 سبتمبر سنة 1938
للدكتور مراد كامل
حفلت عاصمة البلجيك بنخبة من علماء المشرقيات في الثلث الأول من شهر سبتمبر. وقد زاد عددهم على عدد الذين اشتركوا في مؤتمر المستشرقين السابق المنعقد في روما سنة 1935
هذا وقد قسمت أعمال المؤتمر ومحاضراته تسعة أقسام:
علوم مصرية قديمة وأفريقية - علوم آشورية - آسيا الوسطى - الهند - الشرق الأقصى - اللغات والشعوب السامية - العهد القديم والعلوم اليهودية - الإسلام - الشرق المسيحي
وإذ بلغت المحاضرات التي ألقيت الثلاثمائة أو زادت (بلغات مختلفة منها العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية) سأقصر بياني على أجلها شأناً تارة بالتفصيل وتارة بالإشارة:
القسم الأول: تقرير عن حفائر مدينة إدفو التي قامت بها جامعة فارسوفيا والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية. تكلم فيها المحاضر وهو سانت فارجرنو على آثار الدولة القديمة المكتشفة في الحفريات من الأسرة السادسة ثم على آثار الدولة الوسطى
- ألقى الأستاذ سامي جبره محاضرة بواسطة الفانوس السحري عن حفائر الجامعة المصرية في تونه الجبل (هرموبوليس الغربية) أظهر فيها أهم الآثار المكتشفة وقيمتها التاريخية
- محاضرة عن فكرة النقود والمعاملة بها في مصر القديمة لدِمِل من فينا
- محاضرة عن الضمير في اللغات الكوشية في الحبشة لفراريو الإيطالي
- ألقى الأستاذ مورينو رئيس القسم الشرقي في وزارة المستعمرات الإيطالية محاضرة ذكر فيها النتائج التي وصل إليها العلماء الإيطاليون حديثاً في بحثهم عن لغات السداما الشرقية في الحبشة وعن مركزها بين اللغات الأخرى(274/16)
القسم الثاني: تكلم الأستاذ كرستيان من فينا عن أول ظهور الشعوب السامية في ما بين النهرين وقال أن التاريخ يحقق وجودهم حوالي سنة 2500ق. م إلا أن هناك دلائل لغوية تثبت لنا وجودهم قبل هذا التاريخ
- أراد هروزني أن يثبت بمقارنة لغوية أثر السومريين والأكاديين في الحضارة المصرية لأربعة آلاف سنة ق. م
القسم الثالث: تكلم الأستاذ عيني التركي على اللغة التركية في بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي فذكر قاموس محمود أبن الحسين بن أحمد الكشكري الذي وضعه بأمر الأمير عبد القاسم عبد الله بن الخليفة العباسي المقتدي سنة 466 هـ ثم أشار إلى مخطوط من هذا العصر يحتوي على شعر باللغة التركية والفارسية لعبد القادر الكيلاني
- وقد تكلم الهمداني (لندن) على مخطوط وجده في القسطنطينية فيه قصيدة صوفية فريدة لأوحد الدين الكرماني المتوفى سنة 635 هـ والمسماة (مصباح الأرواح) فنقد القصيدة وترجم للشاعر
القسم الرابع: ألقى شترجي من جامعة كلكتا محاضرة عن مخطوط بالحروف العربية - الفارسية، استخلص منه طريقة نطق اللغة السنسكريتية في شمال الهند في العصور الوسطي
القسم السادس: ألقى الأستاذ بروكلمن المستشرق المعروف محاضرة عنوانها (معضلات الصياغة الشعرية في الأدب العربي الحديث) وقد قصر محاضرته على الشعر المصري الحديث فقال: (إن الشعر العربي بقي موثقاً بالقيود القديمة إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، غير أن استعمال الموشح أدخل نغمة جديدة في النظم التقليدي الجاري على وتيرة واحدة، ثم حطمه الشاعر خليل مطران من قيود القديم متأثراً بألفرد دي موسيه الشاعر الفرنسي الابتداعي فأنشأ مدرسة من أفرادها أبو شادي المتأثر بالأدب الإنجليزي، ثم هب الجيل الحديث فذهب في تجديد الصياغة مذهباً يمتاز بالجرأة والاستقلال) وذكر المحاضر شعر الدكتور بشر فارس مثلا لنظم الجيل الحديث
- أفضت السيدة الإنجليزية تومسن بواسطة الفانوس السحري بنتيجة الكشف عن معبد بوادي عمد في حضرموت ثم تلاها الأستاذ روكمن مجملاً شرح النصوص السبأية التي(274/17)
وجدت بهذا المعبد والتي أنافت على السنتين
- تحدثت الآنسة هوفنر من جامعة جراتز من أعمال النمسا عن نتائج بحثها في المصدر والفعل الماضي في لغات اليمن القديمة القتبانية والسبأية والمعينية
القسم السابع: وجعل الأستاذ بركلند من جامعة أوسلو موضوع محاضرته (كيف نستدل باللغة العبرية على الحالة الاجتماعية لسكان فلسطين في العصور القديمة)
القسم الثامن: وأما القسم الإسلامي فقد كان شاملاً جامعاً كثرت محاضراته وتوافر المستمعون لها. وقد مثل مصر في هذا القسم الدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين والدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ فييت. وكان عدد غير قليل من المصريين يستمعون إلى المحضرات ومعظمهم من الطلبة الذين يدرسون في جامعات أوربا، وسأبسط أهم المحضرات التي ألقيت في هذا القسم بحسب ترتيب إلقائها:
- محاضرة للأستاذ ماسينيون عنوانها (بحث في قيمة الظواهر الفكرية التي نتجت عن سورة أهل الكهف عند المسلمين) ومما ذكر المحاضر أن المتصوفة سلخوا من هذه السورة ميداناً للتأمل (والشطح) فقالوا: (إن الحلاج سر هذه السورة لأنه مات سنة 309 هـ وفي السورة أن الفتية عاشوا في الكهف 309 سنة) وأما الشيعة فقالت: (إنما الكهف هو الزوال الظاهر للحكم) ناظرة بذلك إلى الإمام المختفي. وأما أهل السنة فكانوا أكثر تحفظاً؛ ومما قاله الغزالي: (إن أهل الكهف هم الأقطاب السبعة أو الأوتاد السبعة الذين يحفظون العالم من السقوط لأنهم يمثلون العدل) ثم تكلم المحاضر على تأويل المفسرين لهذه السورة ومذاهبهم فيها وقال إنهم وقفوا عند ألفاظ فيها عدوها (مفاتيح) للولوج إلى كنه أسرارها، ومن هذه الألفاظ: فتية، كهف. فالمحاضرة تدور حول تبيين اعتماد المسلمين على سورة أهل الكهف لشرح أمور إسلامية وقعت بعد نزول القرآن الكريم أو لتعزيزها
- وألقى الدكتور طه حسين بك تقريراً علمياً قسمه قسمين:
الأول في المجهودات التي بذلت في مصر لتيسير قواعد الأعراب وقد أثار هذا الموضوع اهتمام المستشرقين. وأما القسم الثاني فخاص بكتاب الفصول والغايات لأبي العلاء المعري، وفي رأي المحاضر أن كتاب الفصول والغايات هو الخطوة الأولى للزوميات ثم قال: إن أبا العلاء حاول أن يحاكي فيه أسلوب القرآن من الوجهة اللغوية والشكلية(274/18)
- وتكلم الأستاذ لفجرين من جامعة أبسالا عن شروعه في طبع الجزأين الأول والثاني من كتاب الإكليل للهمداني
- وألقى بيرس من الجزائر محاضرة عنوانها (بدء القصص الأخلاقية والاجتماعية في الشرق العربي في مختتم القرن التاسع عشر وغرة القرن العشرين) وقال: أن السياسة تحكمت في الفكر الأدبي ولا سيما في مصر من سنة 1882 حتى آخر القرن التاسع عشر إلى أن ترجم أحمد فتحي زغلول سنة 1899 (سر تقدم الإنجليز السكسونيين). فتنبه المصريون من رقادهم ورجعوا إلى أنفسهم فألفوا في الاجتماعيات وأهم هذه التآليف كتاب المويلحي (حديث عيسى بن هشام) وهو الذي أنشأ هذا اللون من الأدب في مصر
- تكلم الأستاذ جويدي من جامعة روما على نشر مخطوطات الكندي الصحيحة المعروفة بفضل نسخة أيا صوفيا رقم 4832
- حاضر الدكتور عبد الوهاب عزام في (السلطان الغوري ومركزه في الأدب والعلم). فبعد أن ذكر شغف الغوري بالعلم والأدب ومعرفته بعلوم الدين والتاريخ ذكر أن له شعراً بالعربية والتركية ومقطوعات لحنها للغناء. ثم تكلم المحاضر عن ثلاثة كتب ألفت بأمر السلطان الغوري: الكتاب الأول (نفائس المجالس السلطانية) لحسين بن محمد الحسيني، شرح فيه المؤلف بعض مسائل دارت بين السلطان والعلماء، وجعل الكتاب في عشرة فصول وسم كل فصل (بالروضة) ثم شرح المحاضر موضوع الكتاب وبين نواحيه الخاصة وقيمته التاريخية. والكتاب الثاني عنوانه (الكوكب الدري في مسائل الغوري) وفيه ألفا سؤال دارت حولها مناقشات في مجلس الغوري وكل ألف من هذه المسائل يقع في جزء. ثم بين المحاضر هذا الكتاب كمرآة لآراء علماء وأمراء مصر في ذاك العصر. وأما الكتاب الثالث عن الغوري وشاهنامة الفردوسي، فذكر المحاضر كيف أمر السلطان الغوري الشاعر التركي حسين بن حسن بن محمد الحسيني الآمدي بنقل الشاهنامة من الفارسية إلى التركية. وأضاف أن للترجمة مقدمة وخاتمة. تظم ألف بيت تقريباً
- بحث بلاشير كتاب شرح العكبري على ديوان المتنبي وخرج من بحثه بأن العكبري لم يؤلف هذا الشرح وإنما ألفه أحد معاصريه
- تكلم الأستاذ أحمد أمين على كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، فأستهل(274/19)
الكلام بترجمة لأبي حيان، ثم ذكر ما دعا أبا حيان لتأليف كتابه؛ وبيان هذا أن أبا الوفاء المهندس هو الذي قرب أبا حيان من الوزير عبد الله العارض فسامر أبو حيان الوزير ستاً وثلاثين ليلة؛ فسأله أبو الوفاء أن يقص عليه جميع ما دار بينه وبين الوزير فأجاب طلبه بهذا الكتاب. ثم حقق المحاضر شخصية الوزير أبي عبد الله العارض ورجح أنه هو الوزير أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي. ثم ترجم لأبي الوفاء. ثم ذهب المحاضر في وصف الكتاب فبين تنوع موضوعاته وطرافتها وختم محاضراته بأن بشرنا أن الجزء الأول من الكتاب سيكون بأيدي القراء في شهر أكتوبر لهذه السنة وسيلحقه الجزء الثاني
- تكلم الأستاذ كاله على مخطوط لمحمد بن دانيال المتوفى سنة 1311م عن خيال الظل في مصر أعده للنشر
- وألقى الأستاذ شاده محاضرة عنوانها (العمل المشترك بين الشرقيين والمستشرقين لدراسة الأدب العربي)
وألقى الأستاذ جب محاضرة عنوانها (بعض اعتبارات في نظرية أهل السنة عن الخلافة)
- وقال كسكل من دنزخ في محاضرة سماها (مقدمة لتاريخ بلاد العرب): إن تكوين الشعب العربي بدأ في القرن الثاني للمسيح بعد أن أفسح له المجال سقوط دولة النبط. وزاد أن تكوين هذا الشعب ظهر في شمال الجزيرة أولاً واستدل على هذا بوجود اللغة العربية الفصحى على النقوش التي ترجع إلى القرن الثالث للمسيح
- وألقى آبل من بروكسل محاضرة عن (الاتجاهات اللغوية في كتب الشعوبية) وبين أن الشعوبية تأثرت بالفارسية في فارس وباليونانية والسريانية في الشام والعراق. وهذا النوع من البحث يرفع الستار عن اندماج الحضارات المختلفة بالإسلام ويثبت لنا الكثير من تاريخ الفكر العام، ويمكننا من دراسة تطور اللغات ومقارنة اللغات السامية
- وتكلم الأستاذ برتسل من جامعة ميونخ على (طرق الدراسات القرآنية وأغراضها)
- وألقى الدكتور بشر فارس محاضرة بين فيها طريقته في نقد الأدب العربي الحديث، فأبتدأ يعرض مذهبه من الناحية الفلسفية فقال إنه ينظر إلى الأدب الحديث من جانب اجتماعي لكي يلمس ظواهر الأزمة المعنوية والأخلاقية والثقافية التي يعانيها الشرق(274/20)
العربي في هذه الفترة. ثم أخذ يحلل ستة كتب ظهرت سنتنا هذه على سبيل التمثيل. فعرض للأزمة المعنوية بنقد كتاب في (منزل الوحي) لحسين هيكل، و (على هامش السيرة) لطه حسين، ثم للأزمة الأخلاقية بنقد كتاب (سارة) للعقاد، و (في الطريق) للمازني، ثم للأزمة الثقافية بنقد كتاب (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، و (سندباد عصري) لحسين فوزي. فخرج من هذا التحليل بتدليل مستقيم على شرح طريقته التي بينها في أول المحاضرة
- وشرح لنا الأستاذ فييت في محاضرة لطيفة اسطرلاباً مربعاً صنع في دمشق برسم أمير دمشق سنة 767 هـ
- وتكلم لبفي بروفنسال على رسالة وجدها في مكتبه لمدينة فاس وعنوان الرسالة (كتاب الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السِّكة) ألفها أبو الحسن علي بن يوسف الكومي المديوني من سنة 767 - 774 هـ
القسم التاسع: ألقى الأستاذ سيمون أستاذ اللغة القبطية والحبشية في المعهد البابوي بروما محاضرة عن المخطوطات القبطية بلهجة الفيوم المكتشفة حديثاً والتي يرجع تاريخها من القرن الرابع إلى الحادي عشر للميلاد وبين قدر هذا الاكتشاف في تاريخ اللهجة القبطية الفيومية
- وألقى هوسهر محاضرة عن جريجوار القبرسي السرياني الذي عاش حوالي سنة 600 م وتكلم على كتبه في التصوف وعلى أثر تاريخ الأدب الصوفي السرياني في الأدب الصوفي البيزنطي والإسلامي
- وبحث بلايل من هيدلبرج عن بدء الكتابة بالحروف القبطية وذكر اكتشافه لورقتين من أوراق البردي يتبين منهما المحاولات الأولى للكتابة بالحروف القبطية ويرجع تاريخ هاتين الورقتين إلى ما قبل أوراق البردي الموجودة بهيدلبرج والتي ترتد إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وأخبر أيضاً باكتشاف ورقة بردي ترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد تبين لنا كيف استعان المصري بالحروف الديموطيقية لخط الحروف القبطية التي أخذت عن اليونانية
هذا وقد قامت مناقشات بعد إلقاء طائفة من المحاضرات، رأيت إهمال ذكرها خشية الإطالة والإثقال، وممن اشترك في المناقشات فجاء بجديد أو دفع وهماً أو حقق مسألة متشابهة(274/21)
الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين بك والأستاذ جويدي والأستاذ كولان والأستاذ كابار والدكتور بشر فارس والأستاذ كلنجنهيبن والأستاذ كرنكو
(برلين)
مراد كامل
دكتور في اللغات السامية(274/22)
عود على بدء
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية المقال الرابع)
8 - يسخر المناظر من قولنا أن هناك صلة اليوم بين الثقافة والعلم على اعتبار أن الثقافة تنبثق من العلم، نظراً لأن الحياة اليوم ينظمها العلم بقواعده المادية - ويقول: أي صلة المبادئ الأدبية التي يقوم المجتمع عليها وبين علم طبقات الأرض. ونحن نقول إن هناك صلة، ومرد هذه الصلة أن العلم بكشفياته يقيم حياة مصبوبة على نمط معين، ويتأثر هذا بهذا النمط الإنسان في شعوره واتجاهاته ومنحاه، بيان ذلك أن علم طبقات الأرض - وهي التي ضرب بها مثل المناظر - بما تنتهي إليه من اكتشافات لها أثر في الحياة الأدبية، ذلك أنه من المعروف الآن أن الكشفيات الأخيرة في الصعيد من جهة أسوان كشفت عن مناجم للحديد يمكن استغلالها لمتوسط نصف مليون طن سنوياً لألفي عام. فهذا الاكتشاف الذي مرده البحوث العلمية في طبقات الأرض لو استغل استغلالاً صناعياً في مصر لأقام صناعة في مصر يشتغل فيها على أقل تقدير ثلاثة ملايين عامل، ومثل هذه الحياة الصناعية تحدث تغيراً في الحياة الأدبية والتصورات الأخلاقية، إذ يحدث تطور من صور حياة أدبية لشعب زراعي إلى حياة تكافئ جماعة أخذت بالصناعة، وعلى هذا الوجه يستبين مفهوم كلامنا ولقد ضربنا مثلاً بمصر وبطبقات الأرض التي شاء مناظرنا أن يسخر اعتماداً عليها من قولنا بانبثاق الثقافة من العلم في مدينتنا الراهنة لتظهر حقيقة غائبة عن العقول في مصر الحديثة في منحى الأخذ بها نحو الحياة الأوربية الصحيحة بإقامة مجتمع صناعي فيها
أما محاولة المناظر التلاعب بكلامنا بإظهاره في صورة يخترمها تناقض، فهذا ما نأخذه ونحاسبه عليه، فلقد قلنا أن الثقافة تنبثق من العلم ومعنى هذا أن الثقافة شيء والعلم وشيء، وأخذنا على اليابان أنها أخذت بنتائج العلم الأوربي ولم تأخذ بالعلم الأوربي نفسه فكان نتيجة ذلك أنها عاشت عالة على أوربا في علمها وحضارتها؛ وأنها احتفظت بثقافتها(274/23)
التقليدية مع الأخذ بنتائج العلم الأوربي، بمعنى أنها لم تأخذ بعلم أوربا وتقيم لنفسها ثقافة تقليدية جديدة تتكافأ مع العلم الأوربي ومنطقه وتنبثق من أسسه. فأين التناقض في قولنا هذا؟
لا يا صديقي، لا يكون الكلام بإسقاط بعض القول. قلنا أن اليابان أخذت بنتائج العلم الوضعي، فجعلتها يا صديقي أنها أخذت بالعلم الوضعي، وشتان بين الاثنين!
لسنا جوادي رهان نتسابق. ولسنا في مجال نريد أن ننتصر لرأينا حقاً أو باطلاً. إن في أعناقنا مصير قضية ملايين من حيث تعلق مصيرها بقضية الغرب والشرق فيجب أن تكون وجهتنا الحقيقية وعدم تزييف الكلام. . .
9 - يشكرنا المناظر على قولنا بأن المنطق شيء مشاع بين الأمم، ظاناً أننا كنا أنكرنا مشاعيته من قبل، وهذا ظن عريق في الوهم. فنحن لم نغير من موقفنا شيئاً. . . (المنطق مشاع ولكن يجب أن تمرن الأمم عليه قبل أن تصبح متغلفة في تفكيرها، إذ ليس المنطق أسلوباً في التفكير يتبع وأقيسة يجري عليها، إنما هي قبل كل شيء ميل عقلي واتجاه ذهني يمكن أن يكتسب!
هذا ما قلناه في مقالنا الأول، فنحن عند رأينا بأن للمحيط أثره في المنطق والتفكير المنطقي. للمحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي أو بتعبير أدق لنتوج الصلات والفواعل المتخالطة من المحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي أثر في المنطق من حيث هو ميل عقلي واتجاه ذهني، وفي هذا سر قعود الشرقيين عن مجاراة الغربيين، لأن منطقهم حينما يتكافأ ومجتمعهم ذا الطابع الغبي، وحين يتغلب الطابع اليقيني على هذا الشرق فهذا المنطق الغبي سيقف عقبة كؤودا في طريق رقي العالم الشرقي.
سيأتي ذلك اليوم قريباً وذلك الزمان وشيكاً، وستقوم العقلية اليقينية في الشرق والمنطق الاثباتي في العالم العربي نتيجة لتغلب الاتجاه الغربي على هذا الشرق بحكم كون الغرب مركز الجذب الاجتماعي في عصرنا. إذا فلسنا نحن في حاجة إلى الانتقال إلى الغرب لاكتساب عقلية يقينية كما يقول المناظر، إنما كل ما نحن في حاجة إليه أن يتقوى الاتجاه نحو الغرب فتقوم العقلية اليقينية بين ظهرانينا. ومع هذا فالدلائل قائمة على أن العقلية اليقينية أخذت طريقها إلى هذا الشرق، وهي أوضح ما تكون في المفكر المصر البحاثة(274/24)
إسماعيل مظهر وفي جماعة يحتذون حذوه اليوم.
أما ما يثيره من اعتراض لتعبيري بالفلسفة الإسلامية عن فلسفة أبن سينا والفارابي وأبن رشد بأن فلسفة المفكرين في الإسلام لم تكن تمت إلى الدين بصلة، وليست إسلامية ولا مسيحية فمرد ذلك التباس في فهم مفهوم عبارتي، فاصطلاح الفلسفة الإسلامية يعني فلسفة الفلاسفة الذين ظهروا في الإسلام، أو بتعبير أدق يعني الجانب الفلسفي من المدنية الإسلامية. وإذاً يكون كل ما يبغيه على اعتراض ساقط بسقوط الاعتراض نفسه
10 - يتعجب المناظر الفاضل من تحليلنا الفلسفة الإسلامية إلا أنها تقيد إرادة الله بنظام هذا الكون وسننه. واعتبارنا أنها نتيجة للأثر الإغريقي التي توارثته عن مدارس النساطرة والاسكندريين، والواقع أني حائر صدد هذا التعجب الذي لا أفهم له معنى. ولولا حسن ظني بثقافة مناظري وعلمه لقلت إن مرّده عدم الوقوف كلياً على فلسفة فلاسفة الإسلام خاصة والفلسفة عامة، وإلا فما معنى التعجب من تقييد إرادة الله بنظام هذا الكون وسننه؟
ولولا خشية الإطالة لكنت سمحت لنفسي أن أنقل نتفاً من كتب الفلاسفة أشرح لمناظري الفاضل هذه المسألة، وأظن أن في إمكانه أن يغنيني مشقة هذا النقل بأن يراجع كتب الفلسفة وخصوصاً المطولات منها فيما يتعلق بإرادة الله والخلق والإبداع. .
وهناك أشياء لو ذهبت أعلق عليها وأبين زيفها في ردّ المناظر علينا، لانتهت إلى مقالين آخرين، غير أني اكتفي بما اجتزأته في هذا المقال والمقال الذي سبق ففيه الكفاية لإظهار زيف ما ذهب إليه مناظرنا الفاضل، وإني لأرجو مناظري إن شاء أن يعاود الرد ألا يترك لشاعريته المجال فيصول ويجول ويتدفق على غير أساس علمي أو منهج بيّن، وإلاّ لتعذر النقاش. فها هو لم يخرج في كل رده بما يؤيد وجهة نظره أو يرد على وجهة نظري من الاجتماع والتاريخ
لقد كان المناظر كالشلال الهدّار المتدفق في رده، ولكن كان مردّ هذا طبيعته النفسية، ولهذا كانت تتكسر أمواجه على حقائق الاجتماع والتاريخ فما يفيق من الاصطدام بالواقع الملموس وما تقيمه من حواجز أمامه حتى يعود فيرتد ليتدفق من جديد في اندفاع مردّه كما قلنا طبيعته القوية، ولكن ليصطدم بحقائق الواقع فيرتد لينسبط ويتعرج لآفاق وأودية جديدة، وهكذا. . . ولكن إلى متى أيها الصديق؟(274/25)
إني أعوذ الصديق من وضعه منطقه الخطابي وأسلوبه الفياض في نصرة قضية زائفة إلى الحد التي لا تجد لنفسها ما يسندها وتقوم. . . وإني وإن كنت قد شددت القول على صديقي المناظر فما بي الحاجة أن أقول له إن مردّ هذا ما يمليه الموقف علي، وصديقي يعرف ماله من الاعتبار عندي، فلعل فيما قدمت ما يعتذر عني عند الصديق الكريم وحسبي في كل ما كتبته الحقيقة، والحقيقة ضالة الإنسان في هذه الحياة، لا يرتاح إلا بأن ينتهي إلى وجه منها.
(أبو قير)
إسماعيل أحمد أدهم(274/26)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 19 -
الحب دنيا خاصة طليقة
في الاستعراض السريع الذي قمت به في أوائل الحديث عن (غزل العقاد) عرضت رأيه في (الحب) بالعدد 266 من الرسالة؛ وقلت: إنه يراه (رفعة للنفس ونقلة إلى عالم النجوم، وأنه قدرة قادرة تهب أصحابها مشابه من الألوهة ومقابس من النبوة)
فمن كمال هذا الرأي أن أذكر اليوم أن من خصائص غزل العقاد، شعوره بأن الحب يطلقه من قيود الزمان والمكان وضرورات الفناء، ويمنحه دنيا خاصة طليقة من كل قيد معهود.
ولا يكون الشعور بالحب هكذا، حتى يكون صاحبه ذا نفس محقة، وذا طبيعة ناضجة، وذا إحساس مترف. فأما النفس المحقة فهي لازمة له ليتخلص من قيود الزمان والمكان والضرورات عامة؛ وأما الطبيعة الناضجة، فهي ضرورية له ليخلص من اللهفة والوله إلى التأمل والترفع، وأما الإحساس المترف، فليغني به عن المتع الرخيصة إلى الانتقاء والاختيار
وفي هذا المجال أذكر مقطوعتين: الأولى بعنوان (عهد بين عامين) يقول منها:
(سعاد) ويا حسن هذا النداء ... إذا ما وجدتك لي صاغية
نسيت التواريخ إلا التي ... تعود بذكرك لي رواية
فأنت الزمان وأنت المكان ... وأنت غنى النفس يا غانية
ولست أعد حساب السنين ... بالشمس طالعة غافية
ولكن بوجهك لي مقبلاً ... ونظرتك الحلوة الساجية
فيوم الرضا عالم حافل ... من الحب والذكرة الباقية
ويوم النوى عالم مظلم ... تضل الشموس به هاوية
والثانية بعنوان (سنة جديدة) وفيها يقول:
أدركنا موكب السنين ... في موكب الحب سائرين(274/27)
والحب من يغش ركبه ... يساير النجم كل حين
راجع حساب السنين يا ... نجم، فما نحن حاسبين
أبا لألوف احتسبتها؟ ... أم لم تزل تجمع المئين؟
يا سنة أقبلت لنا ... أقبلت ميمونة الجبين
وداعنا فليكن غداً ... كما التقينا. . . أتسمعين
في موكب الحب نلتقي ... وفيه نمضي مودعين
وفي هذه القطعة يتضح المعنى الذي نحن بصدده، فهو يفرض أن الدنيا كلها تسير في موكب السنين العادية، وهما يسيران في موكب وحدهما، وقد تقابل الموكبان صدفة، ثم يدع للنجم أن يعدّ سنيه ويراجع حسابه لنفسه، فما هما بحاجة لهذا الحساب، ولكنه يطلب فقط من هذه السنة التي صادفتهما سائرين في موكب الحب أن تودعهما وهما في هذا الموكب نفسه، وهي كناية طريفة عن الرغبة في دوام الحب واستمراره
وغير هاتين القطعتين كثير متفرق مما يطرق هذا المعنى ويعبر عن هذا الإحساس الذي هو إحدى خصائص غزل العقاد
الحب مطلوب لشوكه كزهره
والحب عند الكثيرين متعة ولذة أو جوى وحرقة، أما هو عند العقاد فقوة من قوى الطبيعة، والشوك فيه كالزهر، والشر كالخير، كلاهما مطلوب لذاته، والألم فيه مقبول لأنه كاللذة عنصر فيه أصيل
ولن ينظر إنسان إلى الحب هذه النظرة حتى يخلص به إلى مرتبة (التجريد) بعد أن يسمو به عن الإحساس القريب المحدود ففي قصيدة (القربان الضائع) يقول:
إله عرش الجمال ما بي ... يقصر عن وصفه خطابي
ما لضحاياي لا أراها ... لديك بالموضع المجاب
ألوم؟ أم لا يلام رب ... يكافئ الحب بالعذاب؟
وكم تجافي إله قوم ... عن سنة العدل في الحساب
يأبى القرابين غاليات ... ويرفع البخس غير آب
فانبذ كثيري فكل حب ... فيه عطاء بلا ثواب(274/28)
وكن كما كان كل رب ... جلَّ عن الصغو والجواب
إني أشبَّ الهيامَ عمري ... في قبلة القلب كالشهاب
فارمقه أو غض عنه لكن ... دعه على الدهر في التهاب
ولا تخل برده سلاماً ... فالنار خير من التراب
حبك أن أخلو منه يوماً ... خلوت في عالم الخراب
فهنا محب لا تقبل ضحاياه، ولكنه يريد هذا الحب مشبوباً، ولا يريده برداً ولا سلاماً إذا كان هذا السلام يطفئ شعلته ويخبئ أواره فيتركه في عالم الخراب
وهو في قطعة عنوانها (في البعد والقرب) يبدأ بالتشكي من اختلاف حال البعد والقرب من حبيبه، فيريد ألا يكون في البعد ناراً. ثم يستدرك فيطلب إليه أن يكون عذاباً كما كان نعيماً لأن الحب لا يكمل إلا حين يكون هذا وذاك:
لن يطيب البعد يوماً لن يطيبا ... هن عليٌّ اليوم إن كنت حبيباً
لا تكن ناراً من الشوق ولا ... دمعة حري ولا قلباً كئيبا
لا تكن صحراء في البعد وقد ... كنت لي في القرب بستاناً رطيبا
إن تغب شمسنا فأوص النوم بي ... قبل أن تعرض عني أو تغيبا
يا حبيبي بل فكن ما كنت لي ... صانك الله بعيداً وقريبا
وأجعل الأنس نصيبي فإذا ... غبت عني فاجعل السهد نصيبا
كن نعيماً وعذاباً، ومنى ... تملا النفس، وحرماناً مذيبا
هكذا الحب دواليك فمن ... لم يكنه لم يكن قط حبيبا
ولن يقول الإنسان هكذا إلا وهو مؤمن بالحب أشد الإيمان متقبل منه كل ما يأتي به كما يتقبل المؤمن الصوفي كل ما يأتي به الإله في خشوع ورضا واطمئنان
ولا يقف هذا الإحساس في العقاد عند هذا الحد، فقد يكون بعض الشعراء جاش في نفسه مثله، فإنما هو في قطعة ثالثة يتلهف على شوك الحب لهفته على زهره، لأن هذا الشوك دليل عنده على قوة الحب ونمائه وفورته، فحبذا هذا الشوك إذن في دلالته، ولا حبذا العشب المريع من عتيد الحب، ولو استنام له الآخرون واستروحوه واستلانوه؛ وذلك في قصيدة فريدة بعنوان (يومنا) وفيها يقول:(274/29)
سنة كانت ربيعا كلها ... بين روض يتغنى ويضوع
زهر ناهيك من زهر فأن ... أنبت شوكاً يكن شوك ربيع
حبذا الشوك من الحب ولا ... حبذا من غير العشب المريع
فإذا وجدنا من المحبين من يقول: سأقبل الشوك من الحب تضحية واحتمالاً، فلن تجد فيهم من يجد في طلبه ويمدحه لأنه شوك ربيع، فهو دليل حياة ونماء في هذا الحب المطلوب المرقوب وهذه - كتلك - إحدى خصائص غزل العقاد
التمتع الفني بالحب في كل حالة
وإذا كانت هذه نظرة العقاد إلى الحب، فكل حالة من حالاته إذن مقبولة ما دامت حية نامية، وهو إنما يرتقي به عن المتاع الحسي إلى المتاع الفني، في رفاهية وترف وطرافة. . . اسمعه يحدثك عن (شوق إلى ظمأٌ) والعنوان نفسه يوحي بما وراءه:
ضِني بيومك إن بدا لك، واتركي ... لي من رضاك غدا علالة طامع
ليس ابتعادك عن هواي بمبعد ... عني هواك، وليس منعك مانعي
إني لألتذ الصدى وأطيله ... شوقاً إلى برد الشراب الناقع
وقد نعرف شاعراً يصبر على البعد، ويستعيض بالذكرى والحنين، عن اللقاء والاجتماع؛ أما أن يطلب الشاعر أن تضن عليه حبيبته بيومها حين يبدو لها، لأنه يلتذ الصدى ويطيله ليلتذ برد الشراب، فهذا هو الطريف، وهو وليد الطلاقة الفنية، والثقة الهانئة!
وكذلك هو في قطعة (سحر السراب):
هذا سرابك جنة تغري ... يا فاتني بالقرب والذكر
صحراء بعدك ما خلت أبدا ... من كوثر في أفقها يجري
لكنه يغري وليس به ... ري، وعندك لجة النهر
وإذا الشراب خلت كواثره ... من مائها لم تخل من سحر
فافتن بذاك وذاك يصف لنا ... أمن المقيم ولهفة السفر
فهو مستمتع بكل حالة، وإذا فاته ري النهر، فلن يفوته سحر السراب، وهذا إنما هو فتنة الشاعر، إذا كان ذلك فتنة الإنسان، والعقاد إنسان وشاعر وكلاهما فيه متفتح يقظ ممتاز و (قبلة بغير تقبيل) ومن يستطيعها حتى يكون من دقة الحس وقوة التشخيص ما كان العقاد،(274/30)
وهو يقول:
بعد شهر: أنلتقي بعد شهر ... بين جيش من النواظر مَجْر!
لم يحولوا - وحقهم - بين روحينا ... وأن ألزموهما طول صبر
تمت القبلة التي تشتهيها ... كلها غير ضم ثغر لثغر
ثم منها شوق، ورفُّ شفاه ... وهوى نية، وخفقة صدر
وهكذا يحلل القبلة الواحدة إلى عناصر وأحاسيس، كل منها وحدة تكون جزءاً، ثم ينظر ما تحقق من (وحدات) القبلة، فإذا هو كل عنصر روحي فيها، فلم يبق إلا مظهرها الحسي وهو (ضم ثغر لثغر) وهذا غير ذي غناء لدى محب فنان!
ومن آثر ما يروى في هذا المجال، أبياته في (عابر سبيل) بعنوان متاع جديد، وهي فن وحدها، ولكنه ذو علاقة بمبحثنا هذا. وإنما هي امرأة في الأربعين في محياها ثنايا وغضون كما يكون في بنت الأربعين، ولكن بث الغرام أحيا قلبها، ففاض بالجمال على وجهها، وسوى غضونه وثناياه، فكانت بذلك خريفاً أحاله الغرام ربيعاً، وكانت بذلك متاعاً طريفاً لما فيه من معنى عودة الماضي، وهو المستحيل في دورة الأيام:
من جديد المتاع خريف ... تحت وهج السماء عاد ربيعا
ومحيَّا في الأربعين وديع ... تحت بث الغرام شب سريعا
نضح القلبُ بالجمال فسوَّي ... من ثنايا الغضون وجهاً بديعا
ذاك أحلى من الشباب شبابا ... ومن النفس ما يعز رجوعا
يعجبني في هذه الأبيات - أولاً - صدق ملاحظة الواقع، فالمرأة في هذه السن أشد ما تكون استجابة لوهج الغرام، وهذا أسرع ما يكون في إفاضة الحيوية عليها، حتى لتصنع المعجزات في سيماها، وكأنما تخلق خلقاً جديداً. و - ثانياً - تعبيره: (نضح القلب بالجمال) فالقلب هنا هو الذي نضح بهذه الحيوية، فتسوي ما شوهته الأيام. و - ثالثاً - استطرافه لهذا الجمال العائد المفلت من قيود الزمان بقدرة الحب الفنان. و - رابعاً - حسن استمتاعه بهذه الحالة، وهو ما سقنا لأجله هنا هذا المثال وهذه الثالثة من خصائص غزل العقاد
نضوج وفهم للأنوثة
ولقد كنت تحدثت عن مظاهر النضوج النفسي والفني في غزل العقاد، وفي (سارة) بوجه(274/31)
خاص. فالآن أكمل هذا الحديث، حينما يطلع الناقد على فهم العقاد الكامل للمرأة، وخبرته بمسارب الأنوثة فيها ومطالبها لديها. وهذه لا تكون إلا حيث يكون نضوج الشخصية، وكمال التجربة، ووفرة الملاحظة
فيبدو لمن يقنعون بظواهر الأشياء أن المرأة حينما تحب تريد أن (تأخذ) من حبيبها، وتنتظر هداياه ومواهبه ومنحه، وإنما هي في الواقع - حينذاك - تتأهب لأن (تعطي) كل شيء، بل هي تتأهب لأن (تؤخذ) أخذ المشتهي المنتهب، فتحس حينذاك أنها ذات قيمة تستحق من أجلها الأخذ والحيازة!
(قال الشاعر الفرنسي (دوجيرل) لحبيبته: (لو كنت إلها لأعطيتك الأرض والهواء، وما على الأرض من بحار، ولأعطيتك الملائكة والشياطين الحانية بين يدي قدرتي وقضائي، ولأعطيتك الهيولي وما في أحشائها من رحم خصيب، بل لأعطيتك الأبد والفضاء والسماوات والعالمين - ابتغاء قبلة - واحدة)
وسئل العقاد: (وماذا تعطيني أنت لو كنت إلها؟) فقال:
أعطيك؟! كيف وما العطاء بخير ما ... تبدي القلوب من الغرام الصادق!
بل لو غدوت كما اشتهيت وأشتهي ... ربَّا وأخذتك أنت أخذ الواثق
فترين أنك حين فزت بحظوتي ... أحلى وأكمل من جميع خلائقي
وتسيطرين على الصروف وفوقها ... نبضات قلبي المستهام الوامق
إن كان رب الكون عندك قلبه ... أهون لديك بأنجم وصواعق!
وبكل شمس في السماء وضيئة ... وبكل بحر في البسيطة دافق!
ويبدو هذا الفهم في كل غزل العقاد، ولكن هذه القطعة أوضح مثال على هذا المذهب فيما بين الرجال والنساء، في الحب الناضج الطبيعي الصحيح
عنيت أن اطرق هذه النواحي في غزل العقاد، وأختار هذه الأمثلة بالذات، لأوسع الأفق أمام من يهمهم مذاهب الإحساس والتعبير، ولا سيما في الغزل الذي هو أرحب مجال للأدب النفسي الإنساني، وما من شك أن هذه آفاق جديدة لم يطرقها الشعر العربي إلا لماما، فهي ثروة تضيفها المدرسة الحديثة، لا للأدب العربي وحده، ولكن للأدب الإنساني كله. وما بقليل أن يكون لنا شاعر مصري يضيف إلى آداب الإنسانية نماذج في الذروة من هذه(274/32)
الآداب
وقد بقيت لي كلمة أخيرة في (غزل العقاد)
فإلى اللقاء
سيد قطب(274/33)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 11 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ج)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ب - (رداً على سقراط) وإذاً فكل من يقتل (يعدل) يبدو لك شقياً وجديراً بالرحمة والرثاء؟؟
ط - كلا. وإنما هو لا يبدو على الأقل جديراً بأن يُحسد!
ب - ألم تقل تواً إنه شقي وتعس؟؟
ط - لقد قلت ذلك يا رفيقي عمن يقتل ظلماً وعدواناً، وأضفت إليه أنه جدير بالرحمة والرثاء. أما ذلك الذي يقتل بعدل فأقول عنه أنه لا يجب أن يثير حسداً ما!(274/34)
ب - لا شك أن من يستحق الرحمة والرثاء هو ذلك الشقي الذي يموت ظلماً وعدوناً!
ط - ولكنه - مع ذلك - أقل في شقائه وفي جدارته بالرحمة والرثاء من ذلك الذي قتله ومن ذلك الذي مات موتاً عادلاً
ب - وكيف ذلك يا سقراط؟
ط - ذلك لأن أفدح الشرور هو ارتكاب الظلم!
ب - أيكون ارتكاب الظلم أفدح الشرور ولا يكون تحمله أفدح من ارتكابه وأنكى؟؟
ط - كلا يا بولوس!
ب - وإذاً فأنت تفضل احتمال الظلم على ارتكابه؟!
ط - لست ارغب في هذا ولا ذاك. ولكن إذا وجب عليّ إطلاقاً أن اختار بينهما فأني أفضل احتمال الظلم بدلاً من ارتكابه!
ب - وإذاً فسوف لا تقبل أن تكون طاغياً؟
ط - كلا. إذا كنت تفهم الطغيان كما أفهمه!
ب - إني لأعيد عليك فكرتي عنه وهي أن يفعل المرء ما يشاء في الدولة من قتل ونفي إشباعاً للذاته!
ط - حسن جداً يا بولوس، فاسمح لي إذاً أن أتكلم وأنقدني عندما يحل دورك. هب أني أخفيت خنجراً تحت إبطي ثم جئتك في الوقت الذي يزدحم فيه الميدان العام بالجمهور وقلت لك:
(إني لأرى نفسي حائزاً لقوة هائلة تعدل قوة الطاغية، فإذا قررت أن الأصلح هو أن يموت أحد هؤلاء الذين تراهم فإنه يموت في الحال، وإذا قررتُ أنه يجب أن تتحطم رأس أحدهم فإنها تتحطم فوراً، وإذا قررت أنه يجب تمزيق ثيابه فإن ثيابه تتمزق ما دامت قدرتي عظيمة في المدينة). . . فإذا رأيت بعد ذلك أنك لم تصدقني أبرزت لك خنجري! ولكنك قد تقول لي حينئذ: (وإذاً يستطيع كل الناس على هذا الأساس أن يكونوا أقوياء لأنهم يستطيعون بنفس الطريقة أن يحرقوا المنازل التي يريدونها، ومخازن أسلحة الأثينيين وسجونهم، بل وكل السفن التجارية الحكومية والأهلية!). . . فترى هل تعتقد أن عظمة القوة قائمة في أن نعمل ما يسرنا أن نفعله؟؟(274/35)
ب - إذا كان الأمر في مثل هذه الظروف فكلا بالتأكيد!
ط - أتستطيع أن تذكر لي ما تأخذه على قوة كهذه القوة؟
ب - بلى!
ط - وما هو إذاً؟؟ تكلم!
ب - إذا فعل الإنسان هكذا فإنه يعاقب بالضرورة!
ط - أو ليس العقاب شرا!
ب - من غير شك!
ط - وإذاً فقد حكمت أيها الشاب العجيب بأن الإنسان يكون (ذا قوة عظيمة) عندما يرى في إشباع رغباته مصلحة له وخيراً، وقلت أن هذا ما يبدو أنه قوة كبيرة، وأن كل ما عداه شر وضعف! ولكن لنختبر ذلك أيضاً: ألا توافق على أنه قد يكون الأفضل أحياناً أن ننفذ ما نتحدث عنه في الحال كقتل المواطنين ونفيهم وسلبهم، وقد يكون الأفضل ألا ننفذه؟
ط - وإذا يبدو أنك متفق معي على هذه النقطة؟
ب - بلى
ط - وإذا ففي أي الأحوال ترى أن الأفضل تنفيذ تلك الأفعال؟ أرجو لو تحدد لي الموضوع!
ب - الأفضل أن تجيب أنت نفسك على سؤالك يا سقراط
ط - حسن يا بولوس.! وما دمت تفضل أن تسمع مني فأني أقول أن الأمر يكون أفضل عندما ننفذ فعلاً منها بعدل، ولا يكون كذلك عندما ننفذه بظلم!.
ب - لعمري إن مناقضتك لصعوبة جميلة يا سقراط! فالطفل نفسه يستطيع أن يبرهن لك على خطئك!
ط - لأكونن مديناً لهذا الطفل ولك بكثير من الشكر إذا ما نقضتماني وتخلصتما من بساطتي وجهلي!، وإذا فلا يضجرك الإحسان إلى من يحبك يا بولوس، وأمض في مناقضتي!
ب - لن احتاج في مناقضتك إلى الرجوع بك إلى الماضي وأمثلته لأن حوادث البارحة واليوم كافية لأن تثبت خطأك، ولأن تريك أن الظلمة من الناس غالباً ما يكونون (سعداء)!(274/36)
ط - أية حوادث تقصد؟
ب - ألست ترى - من غير شك - (أرشليوس) ابن (بردكاس) الذي يحكم اليوم (ماسيدوينا)
ط - إذا كنت لا أراه فأني سمعت عنه كثيراً.
ب - حسن فهل تراه سعيداً أم شقياً؟
ط - إني لا أعرف عنه شيئاً يا بولوس لأني لم التقي به بعد!
ب - لتدركن سعادته إذا ما التقيت به! والواقع أنك لن تعرف في هذه الناحية غير سعادته فحسب
ط - كلا وحق زيوس يا بولوس!
ب - وإذا فنستطيع أن نؤكد أنك تجهل أيضاً إذا كان أكبر الملوك وأعظمهم، سعيداً أم شقياً؟
ط - ولن أكون مخالفاً للحقيقة في ذلك ما دمت أجهل ما عسى أن تكون عليه نفسه من (عدالة وعلم)!
ب - كيف؟ وهل تقوم (السعادة) في العدالة والعلم وحدهما؟
ط - نعم، حسبما أرى يا بولوس. فأنا أدعي أن كل أمين عادل - رجلاً كان أو امرأة - يكون سعيداً، وكل شرير ظالم يكون شقياً!
ب - وإذاً فهذا (الأرشليوس) شقي تبعاً لقولك يا سقراط؟!
ط - حقاً يا صديقي إذا كان ظالماً!
ب - وكيف كان يستطيع أن يكون عادلاً؟، إنه لم يكن له أدنى حق في العرش الذي يتربع عليه اليوم لأن أمه كانت جارية (لألكيتيس) شقيق (بردكاس)، وكان هو - تبعاً للعدالة - عبداً لسيد أمه. فلو أراد العمل بالعدالة لخدم سيده وسعد بذلك حسبما تدعي، ولما عرض نفسه للشقاء الهائل بارتكابه أفظع الجرائم وأشنعها. . .
محمد حسن ظاظا(274/37)
لبنان الشرقي
مصطاف الزبداني
للأستاذ عز الدين التنوخي
أنا اليوم مصطاف من لبنان الشرقي في وادي الزبداني الذي لو نزله من قبل لامرتين لوصفه بما لم يصف به وادي حمانا في لبنان الغربي، ولا سيما بجفاف الهواء، وصحة الماء، واعتلال النسيم، واعتدال الإقليم
أجل، إن لبنان الشرقي ليمتاز بجفاف الهواء لبعده عن رطوبة البحر ولقربه من البيداء، ولذلك وصفه مشاهير الأطباء للمصابين بأمراض الرطوبة كالرثية - الرومتيزم - والسل وعرق النسا، ووصفوه لعين (بُقَّين) التي تكاد تكون منقطعة النظير بين عيون بلاد الشام كلها في صفائها وخفة مائها، وما اشتملت عليه من عناصر تذيب الرمل والحصاة، وتزيد في الهضم ما تشاء فتتعب الطهاة. ولقد أشرت إلى عجيب تأثيرها في السنة الماضية حينما وصفت في هذه الرسالة عين الصحة المنبجسة من جبال حمانا في لبنان الغربي
ليس مجال القول ذا سعة فأسهب في وصف وادي الزبداني الجميل، ولذلك اقتضبت الكلام في تحليته اقتضاباً: بذكر ما فيه من الطرق المعبدة والمغاني والمباني، وبيان ما استوفاه من منافع وروائع تبر المصطافين وتسر الناظرين. . .
يمتد وادي الزبداني الجميل من الجنوب إلى الشمال بين طودين أو سلسلتين من الجبال الشرقية والغربية، وعلى سفوح الطود الشرقي تضطجع قريتا مضايا وبُقَّين وقصر الجرجانية الأندلسي، وقرية بلودان أعلى قرى الوادي وفيها الفندق الفخم الذي يعد من أجمل قصور الفنادق الشامية، وفي الجانب الشمالي من بطن الوادي قامت قرية الزبداني أم القرى، ومهوى قلوب الورى
إن شرايين الحياة في هذا الوادي هي طرقه الكثيرة المعبدة المزفتة، والزفت شاع أنه نعت سوء في كل شيء إلا في الطرق، فإنه وصف خير ونعت يمن فيها يلبد غبارها ويقي السالك عثارها، منها الطريق السلطانية التي تصل دمشق بالزبداني، وطريق مزفتة تصعد من الزبداني إلى بلودان، وأخرى مثلها تربط الزبداني بالجرجانية وبقين ومضايا، وطريق مخضرة أخرى تصل قريتي بقين ومضايا بطريق دمشق على مقربة من مفرق طريق منبع(274/38)
نهر بردى: نهر دمشق الذي وصفه حسان بأنه (يصفق بالرحيق السلسل) وذكره شوقينا محيياً دمشق بقوله:
سلام من صَبا بردى أرقُّ ... ودمع لا ينهنه يا دمشقُ
أمام أم قرى هذا الوادي البهيج فهي الزبداني مركز القضاء وعامله القائم بشؤونه رجل من أفاضل الرجال غيور على عمرانه، وتوفير أسباب الهناء والبلهنية على نازليه وسكانه؛ وفي الزبداني محكمة يرأسها قاض ماض في أحكامها، ومستوصف طبي للحكومة تام الأدوات يديره طبيب نشيط يداوي الأغنياء من المصطافين والفقراء على السواء. ولا يتقاعس عن تلبية نداء المرضى في مساكنهم، يعودهم ليضعف من الداء الآلام، وليقوي في الشفاء الآمال، ثم هو يعطي الأدوية مجاناً للبائس والمعتر حتى الغني المضطر إن لم يجد علاجه في صيدلية الزبداني العامة.
وفي قرية بلودان صيدلية كبيرة، وفي مضايا أخرى صغيرة، وبذلك يجد المصطاف الصحيح في وادي الزبداني نعيمه المقيم وهناءه؛ والمريض لا يعدم في مغانيه طبيبه الحاذق وشفاءه
ومما تمتاز به الزبداني على سائر قرى الوادي أنها مركز السيارات، وإن فيها محطة القطارات، فهي ملتقى الحاضر والبادي، ومنتدى الرائح والغادي، كما تمتاز برخص أسعار الثمار وكثرتها، وتنوع الخضراوات الغضة ووفرتها، وبسوقها الكبيرة المشتملة على جميع ما يحتاج إليه الاصطياف والانتجاع، وبمنتزهاتها المستوفية لشرائط الإبداع والإمتاع
بعض مناظرها الساحرة: كل ما في وادي الزبداني بهيج جميل: بهيج لعمري مقهى أبي زاد ومنظره الساحر الجميل، ومقهى بقين وعينها التي يحق أن تسمى السلسبيل، وجميل كل الجمال قصر الجرجانية الأندلسي بشلالاته وفواراته، وفخم كل الفخامة فندق بلودان بمقصوراته وحماماته، ورائعة - شهد الله - قرية مضايا بصفاء سمائها. وصحة هوائها، وماذا عسى أن يقول قائل في محاسن الزبداني ومفاتنها؟ فلعل اصدق ما يقال في جنتها قول الشاعر في وصف دمشق وغوطها:
هذه الغوطة ما أبهجها ... وهي في نيسان قيد المتجلي
قال سبحان الذي دبجها ... من رآها فتنة للمُقّل(274/39)
إنه قد شاء أن يخرجها ... جنة في الأرض للمستعجل
إن بطن هذا الوادي المبارك ينقسم إلى قسمين شمالي وجنوبي:
أما الشمالي منه فعامر يبدو بلون أشجاره أخضر نظراً؛ وأما الجنوبي منه فجله غير مغروس ومختلف ألوانه: هذه بقعة منه محصورة تبدو صفراء فاقعة، وهذه بقعة محروثة تبدو حمراء قانية، وتلك رقعة بائرة لم تحرث ولم تزرع فهي نارنجية غير قرمزية؛ وهنالك رقعة مزروعة يضرب لون خضرتها القاتمة إلى السواد فتجتلي عين الناظر من هذه البقعة وهاتيك الرقاع مجموعة من الطنافس المحروثة والزرابي المبثوثة تستهوي الأفئدة وتقيد النواظر
إن من ينكر السحر من أهل هذا العصر يؤمن به مثلي بعد أن يرى ما رأيت من جمال إشراق الشمس على سلسلة الجبال الغربية، ثم يزداد استيلاء الضياء حتى يغمر ما تحت الشناخيب والذرى فتزداد بهجة النفس، فإذا ما بلغت الشمس أشجار الروابي المغروسة راعك مشهد سواد الأشجار مع بياض الأنوار فتخيلت النقاء الليل بالنهار عندما يتنفس الصبح في الأسحار.
وإن أنس لا أنس تلك العشية التي ذهبت فيها إلى مغارة (النابوع) تلك العين التي لا يكاد يرتوي واردها لشدة برد مائها وفرط عذوبته، وكان رفيقي الوفيق في ارتياد هذه العين العجيبة الشيخ حسن بو عياد المغربي من زعماء الإصلاح في المغرب الأقصى، وهو على رأيي في إصلاح المرأة بإصلاح تربيتها وبيئتها، ثم خرجنا من المغارة والشمس في صفرة وجه العاشق الوامق فانتقلنا من لذة إلى لذة: من نشوة الارتواء إلى نشوة الإصغاء. ماذا رأينا من مشهد فخم، وماذا وجدنا من نعيم روح، وماذا سمعنا من حسن لحن؟ مشهد لعمر الحق رائع، ونعيم روح غامر، ولحن مزمار ساحر. شهدنا فوق مغارة النابوع على سفح الجبل قطيعاً من المعزي يثير من ورائه عجاجه منتشرة، ومن أمامه هاديه وراعيه يطرب قطيعه بألحان مزماره الجبلية، كما يطرب الجيش بألحان موسيقاه الحربية، وقد امتزج أنين المزمار برنين الأجراس، وكأنما كان الداعي يهنئ بسلامة الوصول قطيعه الطروب، ويودع بلسان المزمار ملكة النهار الجانحة إلى الغروب، ولا يزال القطيع الزاحف في هبوطه حتى يبلغ قرارة الوادي فينقع ببرد الماد غليل الأحشاء، ثم يتابع سيره الهادئ إلى(274/40)
حظيرته ونحن نتابعه بأبصارنا، ونشيعه وأجراسه وراعيه وأنفاسه، ولا نزال من خلفه مسحورين حتى يتوارى عن العيون بحجاب الليل. . .
وهل أحدث أخي القارئ عن القمر، وكلنا يهوى القمر، وهيهات أن أنسى لياليه القمراء على شاطئ البحر صغيراً، أو لياليه السواحر والفلك يجري بنا في بحر النيل الجميل. لا، ولا أنسى تلك الليالي البهيجة، والقمر يفضض الطبيعة من حولنا ونحن مضطجعون على هضاب المزه الفيحاء. وما لي ولحديث القمر في الدهر الغابر، وأنا أستطيع التحدث عنه في هذا الشهر الحاضر، ذاكراً للقارئ أن أهل دمشق من أعشق خلق الله للقمر، ولو أن الدمشقي كان نباتاً لكان (عَبَّاد القمر) فلقد أخبرني عامل الزبداني عشية أمس بأن عدد المصطافين في الزبداني وحدها قد بلغ في هذا العام نحو ألف نفس يؤلفون مائتي أسرة، ولكن هذا العدد يبلغ في الليالي القمراء أضعافاً مضاعفة فيعج وادي الزبداني بالمصطافين عجيج الحجيج، ولكنهم من حجيج القمر. وتمتلئ الطريق السلطانية بين دمشق والزبداني بالسيارات الممتلئة بعشاق القمر، وتغص بهم مقصورات القطار، في الليل والنهار، وأقمار النساء تشارك الرجال في عشق قمر السماء، وكأنه لا غنى للجنسين اللطيف والعنيف عن المشاركة التي ازدادت في هذا العصر تشابكاً ووشوجاً. فهنالك التربية المشتركة والسباحة المشتركة، والسباقات المشتركة، وهنا في الوادي النزه المشتركة ليالي القمر على طريق الجرجانية وبقين ومضايا.
إن تطور المرأة من الحجاب إلى السفور فالحسور كان سريعاً جداً في مصر، ولكنه بطئ في ديار الشام، ولا تزال الدمشقية مع تعلمها وولعها بالنهضة الاجتماعية تؤثر التدين الصادق على التمدن الكاذب، والكمال والعفاف، على الابتذال والإسفاف وبعبارة أوجز إنها تفضل السفور الشرعي على الحسور البدعيّ، فلا تخلو المرأة المسلمة ولا تسافر إلا بمحرم يحافظ على عرضها وشرفها ويحول دون ما يؤذيها ويرديها
ويزداد السفور الشرعي في دمشق يوماً بعد يوم، ولا يلبث أن يسود على الحجاب أخيراً. ومن الناس من يقاوم هذا التطور الحيوي الذي لا مناص منه بالسفاه والشتائم لا بالحجة والبرهان، بيد أن من عقلاء رجال الدين من يحب للغانيات سفور الراهبات الذي لا حسور معه، ويسعى لإعادة الحاسرات إلى سفور الشرع المحتشم الذي يكفل للمرأة تعلمها وتقدمها،(274/41)
والتربية الإسلامية في المنزل إذا كانت صحيحة تعد البنات للسفور الشرعي الشريف الذي تصان به الكرامة، وتوقى به الحسرة والندامة. وليت رجال الدين يتعاونون تعاوناً معقولاً يتمكنون به من المحافظة على اعتدال المرأة المسلمة، ويبرهنون به على إمكان تعلم المرأة وتقدمها مع ذلك الاعتدال، وإلا فإنا لا نأمن جانب الفوضى في السفور الحاضر كما نشاهد من نماذجه المشوهة الفاسدة في وادي الزبداني من برانيط البنات وقمطات الأمهات، وارتياد السينما والقهوات، وغدا البالات والحانات، ومما أوحى إلى بالأبيات التاليات:
يا صبايا
يا صبايا الزبداني رأفة ... بهواة الحسن منا يا صبايا
قنّعوا عّمن يراكم أوجهاً ... صُقِلت حتى حسبناها مَرايا
واستروا عنا عيوناً خُلِقت ... لقلوب المستهامين بلايا
فَوَّقت ألحاظهن أسهماً ... مُصمياتٍ نحن قد كنا الرمايا
لست أدري ما الذي قد فعلت ... أسهاماً رشقتنا أم منايا
قد سرى يغزو الورى من فِتن ال ... عين - ما أكثر صرعاها - سَرايا
يا سقي الله المناديل التي ... صنتمُ الأعراضَ فيها والملاياَ!
ولحي الله البرانيط التي ... أخذت الأحسابَ منكم والسجايا!
كم عرقنا خجلاً من شربكم ... عَرقاً يعرقكم ديناً ورايا
في محار الصَّون كنتم دُرراً ... كن للأزواج لا غير هَدايا
لم نكن نأمن منكم فِتناً ... في الزوايا، كيف من بعد الزوايا؟
والفؤادُ الحيُ منا هدَفٌ ... لعيون وخدودٍ وثنايا
مسرح الألالم قد هجت لنا ... من رسيس الوجد والحب بقايا
أنا إن لم أكُ أنسى زمنا ... من حياتي فهو هاتيك العشايا
يا رعاكَ الله لولا سربة ... كنَّ ينثرن على الناس الخطايا
رائحات غاديات ضَلَّةً ... بين (بُقَّين) مساءً و (مضايا)
سافراتٍ حاسراتٍ وغداً ... هنَّ أنصاف عرايا فعَرايا!
الزبداني(274/42)
عز الدين التنوخي(274/43)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 23 -
وإنه ليحق للمرء أن يتسأل: ألم يكن في طاقة القائمين بالأمر يومئذ تجنب تلك الحرب الضروس؛ تلك الفتنة التي لم تصب أوزارها فريقاً دون فريق؟
إن هناك من يعتقدون أنهم قادرين على تجنب ذلك الصراع العنيف، وهؤلاء ومن يرى رأيهم من المؤرخين يأخذون الساسة باللوم الشديد، لا يعفون منهم أحداً؛ ويجعلون نصيب كل من اللوم على قدر ما تواتي له من الجاه والنفوذ؛ ولذلك فقد كان لنكولن عندهم أول الملومين وكبير المسؤولين عن ويلات تلك الحرب وبلى لنكولن في ذلك جفرسون زعيم الاتحاد الجنوبي
ولكن الذين يتوخون الأنصاف يرون أن الحرب كانت أمراً لا محيص عنه؛ كان مردها إلى حركة ولدتها الأيام فما زالت تنمو حتى اتخذت آخر الأمر سبيلاً لم يكن في الإمكان أن تسلك غيرها، لم تكن تلك السبيل لتؤدي إلى غير ما أدت إليه من نهاية دامية؛ ومن ذا الذي يستطيع أن يلوي الأيام عن وجهها؛ أو أن يتصرف في الحادثات ليجعلها تفضي إلى نتيجة بعينها؟
لقد كان للزمن وللبيئة حكمها الذي لا ينقض وفعلها الذي لا يقف وسنتها التي لا تبديل لها؛ فهؤلاء أهل الشمال كانوا كما ذكرنا أهل صناعة وأهل ثقافة بينما كان إخوانهم في الجنوب أهل زراعة، ولم يك يتوفر لهؤلاء من العلم مثل ما كان يتوفر منه لأولئك الشماليين
وكانت أعمال الزراعة في الجنوب تتطلب الأيدي الكثيرة، وبخاصة حينما بدأت النهضة(274/44)
الصناعية وتزايد طلب القطن، وكانت زراعة القطن أمراً مرهقاً، لم ير الجنوبيون خيراً من إلقائه على كاهل العبيد؛ ولذلك كان نظام العبيد عندهم أمراً يتعلق بكيانهم ومن ثم كانت سياستهم تدور على هذا المحور الاقتصادي، فكانت بذلك مسألة حياة أو موت. . .
أما أهل الشمال فلم تكن بهم حاجة إلى الزنوج، وما كانوا يستخدمون عندهم في أغلب الأحيان إلا خداماً في المنازل؛ وأملت عليهم ثقافتهم فلسفة إنسانية فكرهوا نظام العبيد واشمأزت منه نفوسهم ودارت سياستهم أول الأمر على هذا المحور الإنساني فكانت بذلك في نشأتها مسألة عاطفية
على أنه كان للمسألة وجه أخر فقد اعتبر عدد العبيد من عدد سكان الولايات عند تقدير عددها للتمثيل النيابي في المجلس التشريعي الأدنى كما نص الدستور، وعلى ذلك فقد أشفق أهل الشمال من تزايد عدد العبيد في الولايات، الأمر الذي يتهدد نفوذهم
وتطورت بعد ذلك مسألة العبيد على النحو الذي أسلفناه، فتزايدت كراهية الكثيرين من الشماليين لذلك النظام حتى تحولت إلى مقت، وظهر من بينهم دعاة إلى التحرير؛ وما زال يعظم خطر تلك المسألة حتى باتت كبرى المسائل
وولد الحزب الجمهوري فكانت مبادئه وسطاً بين مبدأ الجامدين ومبدأ أنصار التحرير، فهو يرى ألا تزداد ولايات العبيد حتى ينقرض ذلك النظام على مر الأيام. ولقد كان إبراهام من زعماء ذلك الحزب الوليد، وهو وإن كان من أشد الناس سخطاً على نظام العبيد إلا أنه آثر الحكمة خوفاً على بنيان الاتحاد؛ فبقاء الاتحاد عنده في المحل الأول من اهتمامه
ولكن مسألة الاتحاد ومسألة العبيد ما لبثتا أن تداخلتا حتى أصبحتا في الواقع مسألة واحدة؛ فلقد فكر أهل الجنوب في الانسحاب من الاتحاد حينما اختير إبراهام للرياسة وحينما أيقنوا أن الحوادث مفضية إلى القضاء على العبودية، وما كانوا يريدون من الانسحاب إلا أن يزيدوا عدد العبيد كما يشاءون. . .
وأنكر إبراهام عليهم حقهم في الانسحاب؛ فهو لن يبخل بشيء في سبيل المحافظة على الوحدة؛ ولكنهم مضوا في سبيلهم لا يلوون على شيء ولا يستمعون إلى رأي؛ حتى نفذوا ما اعتزموه ثم عولوا على أن يجمعوا أنفسهم بالقوة إذا أدت الحوادث إلى ذلك
وكان جيفرسون زعيمهم يقرر حق الولايات في الانسحاب متى أرادت، بينما كان لنكولن(274/45)
يقول: إن مثل الولاية من الاتحاد كمثل قسم من الولاية من هيكلها، فإذا جاز لهذا القسم أن ينفصل عن جسم الولاية، جاز للولاية أن تنفصل عن الاتحاد
وجاءت بعد ذلك مسألة حصن سمتر فكانت بمثابة الشرارة التي أوقدت نار الحرب. . . ولقد عدت تلك الحرب من المآسي البشرية، ذلك لأنها كلفت الفريقين كثيراً من الأموال والأنفس؛ فلقد استحرَّت جذوتها لأن الفئتين كانتا كلتاهما ترى الحق في جانبها. . . وكانت الدماء التي تجري دماء شعب واحد فكل قاتل ومقتول إنما هما صورة جديدة لقابيل وأخيه هابيل
وقفت أمة واحة فئتين تقتتلان؛ فهنا الوحدة والحرية، وهناك الفرقة والعبودية، وهنا وهناك الكثير من مواقف الحماسة والتضحية، يضيع في حميتها وضجيجها صوت الحق ويتبدد دعاء الإنسانية. . .
وكانت أولى المعارك الكبيرة معركة نشبت في فرجينيا بعد ثلاثة أشهر من سقوط سمتر عرفت باسم بول رن. . . وبيان خبرها أن جنود الاتحاد التقوا بجموع الثائرين، وكانت الحماسة والاستبسال هي كل ما لدى هؤلاء المتطوعين من عدة، وكان لأهل الجنوب وإن كان معظمهم من المتطوعين أيضاً، قواد مدربون كانوا قبل في الجيش النظامي للبلاد وتسللوا منه إلى الجنوب حين تفرقت الكلمة!
وتبين أول الأمر أن النصر في جانب الشماليين، ولكن ما لبثت موجتهم أن انحسرت، ثم ولوا بعدها هاربين على صورة منكرة، تبعث على الرثاء حتى لقد قيل إن بعض الفارين لم يقفوا عن العدو حتى دخلوا منازلهم في وشنجطن
ودخلت فلول المنهزمين المدينة في حال شديدة من الذعر والهلع وطافت بالناس الشائعات أن المدينة واقعة في أيدي الجنوبيين، فألقي الرعب في قلوب السكان وبخاصة حينما وقعت أعينهم على أكثر من ألف من الجرحى؛ وحينما علموا أنه قد قتل في هذا اللقاء الأول أربعمائة وخمسون. . .
ولو أن أهل الجنوب تقدموا غداة انتصارهم لأخذوا المدينة ما في ذلك شك، ولكنهم نكصوا ورضوا من الغنيمة بفرار خصومهم على هذا النحو، وحسبوا أنهم بعد ذلك أحرار فيما يفعلون فلا خوف عليهم من أهل الشمال؛ ثم أنهم منذ خيل إليهم أن عدد أعدائهم يبلغ(274/46)
خمسين ألفاً أو يزيدون مع أنهم لم يتجاوزوا ثمانية عشر ألفاً
وكثيراً ما يكون التاريخ في تطوره رهيناً بحادث بسيط، ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوف أهل الجنوب عن الزحف على وشنجطون؛ ولو أنهم فعلوا لكان للولايات المتحدة وجود غير هذا الوجود وتاريخ غير هذا التاريخ
وكذلك كان يتغير وجه التاريخ لو أن القنوط يومئذ تمكن من نفوس الناس؛ ولولا أن كان على رأسهم إبراهام لذهبت ريحهم وخارت عزائمهم وتفرقت كلمتهم. فلقد صمد ذلك الصنديد للنبأ شأنه في كل ما مر به من الحادثات، ولئن ابتأس للهزيمة وتحسر على الفشل في أول لقاء علق عليه الكثير من آماله، لقد صبر وصمم ألا غنى عن الجهاد مهما يبلغ من هول الجهاد. . .
وسرعان ما سرت روح أبن الغابة في الناس، فعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وازدادوا حماسة على حماسة حتى ما يقر لهم قرار بعد اليوم حتى يغسلوا عن أنفسهم هذه الإهانة الجديدة وينصرون حقهم على باطل أعدائهم
ولقد استطاعت قوة الشماليين البحرية بعد ذلك أن تستولي على حصنين على الساحل في موانئ أهل الجنوب، كما استطاع القائد ماكليلان أن يفصل بقوته البرية الجزء الغربي من فرجينيا عن جزئها الشرقي ويضمه إلى الاتحاد، وكان أكثر أهله ممن يرفضون الانسحاب فكان ذلك رداً على الهزيمة في معركة بول زن
وكان لنكولن قد دعا المؤتمر ليشاور ممثلي الأمة في الأمر وليطلعهم على الموقف من جميع نواحيه، ولقد بعث لنكولن إلى المؤتمر برسالة كانت من خير ما كتب من الرسائل، تناول فيها كل ما يهم الناس يومئذ معرفته
بدأ لنكولن يسرد الحوادث حتى انتهى إلى موقف أهل الجنوب فذكر أنهم وضعوا البلاد بين أمرين فإما الحرب وإما تفكك الاتحاد. . . ثم قال إن الأمر لا يقف عند هذه الولايات المتحدة، بل إنه ليتعداه إلى مبدأ عام هو مبلغ نجاح الحكومات الديمقراطية القائمة على إرادة الشعب
ولقد كان لنكولن جد موفق في إشارته هذه إلى ذلك المبدأ العام، كما كان يصدر في ذلك عن طبع، فهو من أنصار الحرية ومن كبار العاملين على سيادة الشعب(274/47)
وتكلم الرئيس عن الولايات الوسطى التي تظاهرت بالحياد فقال: (إنها تقيم سداً لا يجوز اختراقه على الحد الفاصل بيننا، ومع ذلك فليس هو بالسد الذي لا يخترق فإنها تحت ستار الحياد تغل أيدي رجال الاتحاد بينما هي تبيح الطريق في غير تحرج للإمداد ترسل من بينهم إلى الثوار، الأمر الذي كانت تستطيع فعله أمام عدو صريح)
ورد الرئيس على دعوى جفرسون دافيز زعيم الولايات الجنوبية الذي يقول إن مبدأ انسحاب الولايات حق يبيح القانون الحرب من أجله. ولقد اعتبر الرئيس هذه الدعوى من لغو الكلام قال: (إن الستار الذي يتسترون وراءه وهو أن ذلك الحق المزعوم لا يستعمل إلا مع وجود مبرر عادل، بلغ من الرقة حداً لا يستحق معه أية ملاحظة، وهم سيكونون الحكم في عدالة ذلك المبرر أو عدم عدالته)
وكان رد الرئيس على جيفرسون من الخطوات التي ارتاح لها أهل الشمال فلقد أشفقوا أن تجد مزاعم جيفرسون سبيلها إلى قلوب الأغرار والإغفال
ثم أهاب الرئيس بالمؤتمر أن يمده بالمال والرجال فهو في حاجة إلى أربعمائة مليون من الدولارات. وأربعمائة ألف من الرجال؛ وسرعان ما أجابه المؤتمر إلى ما طلب في حماسة جعلته يزيد العدد في المال والرجال عما حدده الرئيس. . .
وأيقن الناس في طول البلاد وعرضها، وقد رأوا من صلابة الرئيس وعزمه ما رأوا، أن الحرب سيطول أمدها، فتألفت في البلاد كلها جماعات للنجدة حتى لكأنما نسى الناس أموالهم الخاصة فليس ما يشغل أذهانهم ويستدعي جدهم ونشاطهم إلا هذه الحرب
ولقد تغلغلت تلك الروح في جميع الطبقات: الكوخ والقصر في ذلك سواء، والقرية الحقيرة لا تفترق فيه عن المدينة العظيمة، وأصبح النشيد الذي يتردد على كل لسان ذلك الذي جُعل مطلعه (نحن قادمون إليك يا أبانا إبراهام ستة آلاف من الأشداء. . . نحن قادمون. . .)
والرئيس لا يعرف الراحة ولا يذوق طعمها. يصل إلى مكتبه في الصباح الباكر قبل أن يطرق البيت الأبيض أحد، ويظل هناك حتى يهبط الليل فيقضي طرفاً منه بين أوراقه. . . وامرأته تضيق بذلك وتعلن إليه غضبها، ولكنه في شغل عنها بما هو فيه من عظيمات الأمور، وأنى له في مثل ذلك الموقف بلحظة من هدوء البال. . .
(يتبع)(274/48)
الخفيف(274/49)
إلى لجنة إنهاض اللغة العربية
الأخلاق والأدب الوجداني الرفيع
للأديب السيد ماجد الأتاسي
منذ أسابيع خلت، عثرت في بريد (الرسالة) الأدبي على كتاب أرسله الأستاذ أحمد أمين إلى صديقه الأستاذ الزيات جواباً عما سأل سائل لجنة إنهاض اللغة العربية عن إغفالها كتب أستاذنا الزيات فيما اصطنعت للطلاب من كتب أعلام الأدب وأمراء البيان
ولقد كنت أوثر ألا أكون بين من يتحدثون عن هذا الموضوع المصري المحلي البحت؛ وإن كنت أومن أم وادي الكنانة وسائر ربوع العروبة الزهراء وطن كل عربي الوجه واليد واللسان
ولكن ما جاء في قرار أعضاء اللجنة وفي كتاب الأستاذ أمين من نعيهم جميعاً على (رفائيل وفرتر) انتهاكهما حرمات المثل الأخلاقية العليا، وذهابهم إلى أن من الخير أن يبعد هذان الكتابان العالميان عن أيدي الطلاب وأعينهم، وما يفهم من حكمهم هذا من مذاهب في العلاقة بين الأخلاق وهذا اللون من الأدب الوجداني الرفيع، كل هذا يغريني بأن أكتب غيرة على الأدب ودفاعاً عن الحق
ولست آخذ اليوم نفسي بالدفاع عن الزيات؛ فتحت أجنحة هذا النسر الجبار يستظل الألوف ممن هم أشد مني بأساً وأقوى مراساً. . ولن يضير الزيات أن تزل في تقدير أدبه مقاييس الحكم أو تطيش فيه نزعات الهوى - إن كان هناك هوى - بل ليفخر الزيات بأن يظلم مع (غوته ولامرتين)
ولئن بغي على النبوغ (قوة السلطان وحكم الأثرة فشهد فيه بالزور وحكم عليه بالباطل) ففي الأجيال القادمة - حين لا أهواء ولا مآرب - سيكون للعبقرية الموتورة نصفة، وللحق المبين رفعة
يقول الأستاذ أحمد أمين: (إن آلام فرتر موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فظيع، وإن روفائيل رسائل غرام بين شاب وامرأة متزوجة. ولم نر من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا ناحيتها البلاغية؛ ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلاب بحق)(274/50)
ويقول هذا العاجز - في هدوء وبعد تفكير وتقدير -: إن من الخير كل الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية، ولو لم نفعل لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا الذين يفهمون من أولياء الطلبة بحق
ففي فرتر ورفائيل مثال من الفضيلة تحس كل نفس الميل إليه وتود لو بلغته أو دنت منه، وفيهما أسوة حسنة للناشئة يتعظون بهما في تثقيف عقولهم، وصقل عواطفهم، وارتفاعهم عن الغرائز الدنيا. ولو كنت أستاذاً أو أباً لأغريت تلاميذي وأبنائي بأن يعرفوهما ويحبوهما، ويكلفوا بهما، ويحاولون أن يتدبروا معانيهما ويتفهموا مراميهما
يعيب الأستاذ أحمد أمين رفائيل لأنها رسائل غرام بين شاب وامرأة متزوجة قضت شرائع المجتمع أن تكون - قلبها وجسدها - لزوجها، ولزوجها وحده
ونحن من الحق علينا لنحكم لهذا الغرام أو عليه أن نتناول بالتحليل عوامله، ومثله، وآفاقه
هناك في فندق من فنادق السافوا عرف رفائيل جوليا، فكان بينهما تآلف وتعاطف، وإن امتدت بينهما أسباب هذه الصلات التي فصلت آياتها في القصة
تعارفا. فأما رفائيل فتعلق بها، وأما هي فعطفت عليه ورقت له، ولمحت فيه مواهب النبوغ والعبقرية تومض وميض الفتنة في الزهرة الأرجة في فتوة مشبوبة القلب، بعيدة الأفق، طاهرة الذيل، جذابة الطوابع، فأعجبت به، واطمأنت إليه واستعانت به على الوحدة، والمرض، وآلام النفس
من هنا كان بينهما هذا اللون المعقد من الصلات العاطفية:
لا هو بالحب وحده، ولا هو بالصداقة وحدها، وإنما هو مزيج من هذا وذاك، فيه من الصداقة أكثر مما فيه من الحب، ومن الإعجاب فوق ما فيه من الرغبة
ولم تذهب هذه الصلات النقية بما لزوج جوليا في قلبها من مكان وحرمة. فلقد كانت تحفظ في أعماق نفسها وأحرج مواقفها العرفان الخالص لجميل هذا الزوج الذي يحبها، ويعطف عليها، ويأسى لها
لقد أخطأت في خطوتها الأولى، ولكن أي زهر فوَّح هذا الذي كان يتفتق على آثار الخطوات التالية؟
وأي حب كان حب رفائيل؟ إنه تذوق الذوق الفني الجميل للجمال الفني يتجلى - في أبرع(274/51)
آياته وروائعه - في قطعة فنية تسمى (المرأة). . . إنه تسبيحة القلوب العلوية الموهوبة ترتفع في هدوء الليل. وابتسام الصبح صلاة حارة ظامئة في الأيمان بالحياة، والشعور بخفقانها
أحب امرأة ممتنعة عليه، وقد هدها السل، فذوت زهرتها ونضب معينها، وتقطعت أسباب رجائها، فهي تنتظر مع الليل هذا الطارق المخيف الذي يروح ويغدو على بابها. . .
الجمال المريض، والأنوثة الوديعة، والشعور الجريح، والقلب الذكي، والأفق البعيد، كل هذا حببها إليه، وأخذ عليه هواه. ولقد دلهه إذ دلهه جاذبية هذا الذبول الذي يبعث فينا العطف والحنان فوق الافتتان حين يمتد إلى زنبقة من زنابق الربيع فإذا الحر يلفحها، وإذا هي تذوي هشيماً وقد كانت من قبل ملء العين نوراً وملء الجو عطراً، وإذا هي في ذبولها أشد ما تكون فتنة وسحراً
ألا فليحلِّل الأستاذ أحمد أمين هذه القبلات الملتهبة التي لم يكن ليطبعها رفائيل إلا على يدي جوليا، وعلى يدها فحسب
أفلا يجد أن فيها - على أنها ذوب القلب، وعصارة الروح - من الإعجاب أكثر ما فيها من الحب، ومن التحفظ فوق ما فيها من الرغبة، ومن معاني الكبت للنزعات الملحة ما يعد مثلاً أعلى يضرب في الأخلاق لأبناء الأرض؟ إنها انتصار الخلق في شفتين ألهبهما الغرام، وأرمضهما الظمأ والسغب. . ليحلل الأستاذ هذه القبلات؛ وليذكر أن هذا الحب - على عنفه - لم يجر إلى معصيته، وأن هذا المحب - على فتوته - عف ولم يسف.
وأما فرتر. . .
يأخذ الأستاذ أحمد أمين على فرتر أنها تنتهي بانتحار فظيع. ذلك هو - عنده - موضع الضعف في القصة لناحيتها الأخلاقية.
وإنني لأربأ بفهم الأستاذ وعلمه أن يجد في موضع القوة ضعفاً وفي محاسن القصة شر المساوئ
لقد هام فرتر هياماً عنيفاً، ولا نزاع في أن هذا الهيام خطر شديد الخطر - بالقياس إلى الكثيرين من الشباب العاديين في نفوسهم وأعصابهم وعقليتهم - فهو إذن إسراف وخطيئة على رغم طهره وصدقه. إذن على هذا النحو يكون الانتحار ثمرة الخطيئة؛ وإذن تكون(274/52)
الخطيئة في القصة قد عوقبت
وهذا هو يا أستاذي كل ما يريده الأخلاقيون
هناك من يقول: إن القصة تحمل الشباب على الانتحار وترغبهم فيه. ودليلهم على ذلك أن عدداً وافراً من الشباب انتحروا في الغرب عند قراءته
والواقع أن الذنب ذنب العصر والمكان، وبرهاني على هذا أنه لم نر الآن في الشرق والغرب من انتحر من الشباب بعد قراءة فرتر، ولقد ترجم إلى العربية كما يقول الزيات منذ ثمانية عشر عاماً وأعيد طبعه سبع مرات، وقرأه كل مثقف في بلاد العروبة، ولم نسمع أن حادثة من حوادث الانتحار قد وقعت بسببه
وهاهو ذا اليوم (يقرأ ويدرس ويمثل في الملاعب ويغني في دور الموسيقى دون أن يحدث من سوء الأثر وقبح العاقبة ما أحدثه في ذلك العصر يوم ظهوره)
يقول الدكتور طه حسين: (لقد أساء بعض الشبان ذوي النفوس المريضة فهمه والاستفادة منه، لأن ظروف الحياة الاجتماعية كانت من الشدة والضيق في أوربا بحيث تجعل نفوس كثير من الناس ضعيفة رخوة، وخانعة مستسلمة، لا تستطيع مقاومة ولا احتمالاً. وأما اليوم فالظروف الاجتماعية التي ملأت نفوس الأوربيين سأماً ومللاً في أوائل القرن التاسع عشر قد انقضت واستحالت وأصبح الناس وقد ملاهم الأمل، وملكتهم الرغبة في الحياة وما فيها من لذة ونعيم، لهذا لم بيق من هذا الكتاب إلا أثره النافع، وهو عظيم جليل الخطر)
ولنفرض أن في رفائيل وفرتر بعض ما لا يرضي الناس، فهل من الأصوب في هذه الحال أن نبعدهما عن أيدي الناشئة أم نقربهما؟ إن الأستاذ أحمد أمين - كما يفهم من قوله - يرى أن خير سبيل إلى حفظ الناشئة من الرذيلة أن يخفي عنهم خطيئات الآخرين، وأن نلقي في روعهم أن ليس في هذا العالم خطايا ولا مخطئون
ليسمح لي الأستاذ أن أقول إنه ليس هناك أخطر على الشباب من هذا الأسلوب من أساليب التربية
إن الطبيعة هي التي تلقننا أبجدية الخطيئة تلقيناً، والطلاب أخذوا عن الطبيعة تلك الدروس، درساً درساً، بل فقرة فقرة؛ وهم تدبروها وتفهموها فامتلأت بها نفوسهم، وصبت إليها قلوبهم، وكلفوا بها كلفاً لا قبل لهم برده. فما الذنب ذنب غوته ولامارتين وغيرهما من(274/53)
أعلام الفن الوجداني الرفيع، وإنما هو ذنب الطبيعة نفسها
فإذا كنت تريد لناشئنا فضيلة وتقوى فأطلعهم على خطيئات لامرتين. افتح لهم أبواب الحياة الواقعية، ولا تخش عليهم بعد هذا بأساً ولا عثاراً؛ فالطبيعة التي أوجدت الخطيئة، جعلت لكل خطيئة في الحياة الواقعية قصاصها، وحاطتها بالعفن والنتن فهي مكروهة حتى من الملوثين بها! وهذا وحده كاف لأن يعرفوا الشر ويتجنبوه. قيل لعمر رضي الله عنه ما معناه: (يا أمير المؤمنين، إن هذا الرجل يقوم ليله، ويتعبد نهاره، ويتقي الله حق تقاته. حتى لكأنه لا يدري ما هو الشر ولا كيف يكون!. .) فأبتسم العبقري العليم بحقائق الحياة، وطبائع النفوس وقال: (إذن هو أحرى أن يقع في الشر لأنه لا يعرفه!)
ورحم الله شاعرنا أبا فراس فقد قال:
عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الناس يقعْ فيه
فالخير كل الخير يا أستاذ أن تأخذ بأيدي شبابك لتريهم - تحت رقابة ذكية فطنة - بؤر الخطايا حيث ينتشر النتن، ويمتد العفن ببهرجها الزائف، وتهاويلها المغرية، وسيتعلمون - على الأقل - كيف يتقون الأشواك حين يمدون يدهم لقطف وردها.
والمناعة ضد الخطيئة، هي في اطلاعهم على عواقبها وعقابها، كما أن المناعة ضد البرد لا تكون في التدفئة - بل إن التدفئة تهيئ للإصابة به - وإنما هي في التعود على التعرض له
أليس من الخير أن يعلموا كيف يرتفع الشباب عن السفاسف والميول الأرضية، وكيف يطهر نفساً وينبل قلباً
أليس من الخير أن نحمل إليهم بأيدينا هذه الكتب الفنية الرفيعة بدل أن تدفعهم وساوس الشيطان إلى ملء ساعات فراغهم ودرسهم بقراءة المجلات الساقطة والروايات الخليعة التي تتملق الذوق العام، فتوغر الميول، وتثير الأهواء، وتوجهها إلى سبيل محفوف بالمكاره والأخطار؟
إن في رفائيل وفرتر وغيرهما من كتب الأدب العاطفي الرقيق الرفيع ترفيهاً عن نفوسهم وتنفيساً لها؛ ولهم فيها - فوق هذا وذاك - مثل في الأخلاق تحس كل نفس الإعجاب بها،(274/54)
وهم يجدون في هذا الترفيه وهذا التنفيس متعة القلب وراحة النفس
يقولون إن في الانتحار في الأمم الكاثوليكية هو أقل منه في الأمم الأخرى. وتعليل هذه الظاهرة عند علماء النفس والاجتماع أن في اعتراف الآثم لكاهنه، ترفيهاً عن نفسه، وتنفيساً عنها. وهذا الاعتراف هو أشبه شيء بمفتاح البخار يفتحه سائق القطار إذا ثقل تكاثف البخار ليخفف الضغط، ورفائيل وفرتر وغيرهما اعتراف نابغين إلى القارئ، وقراءتهما هي اعتراف القارئ إلى نابغين ملهمين
أذكر أنني قرأت رفائيل في الخامسة عشرة، وفي السادسة عشرة قرأت فرتر
وإنها لسانحة سعيدة تسنح لي الآن. أعترف فيها بكثير من الغبطة ورضى الضمير، أنني مدين بفضيلتي - إن كان فيَّ فضيلة وتقوى - إلى غوته ولامارتين والزيات. نعم يا أستاذ احمد أمين إلى غوته ولامارتين والزيات. أعترف فوق هذا أنها كانت ساعة من ساعات حياتي المشهودة المذكورة لها خطرها في حسن توجيه ميولي ونظري وفكري، تلك التي عثرت فيها - في هذه السن الخطرة - على رفائيل وفرتر
(حمص، سورية)
ماجد الأتاسي(274/55)
قسطاكي الحمصي
اسلوبه في الكتابة النثرية
للأستاذ أسعد الكوراني
ليس الكلام في أدب الأستاذ فسطاكي بك الحمصي بالأمر السهل ولا هو بالمطلب اليسير، فالخطباء كثيرون والوقت محدود وأدب المحتفى به، أطال الله بقائه، متشعب النواحي فليس في طوق خطيب أن يلم به في دقائق معدودة. لذلك سأقصر كلمتي على أسلوب الأستاذ في الكتابة النثرية.
يقولون أن أسلوب الرجل صورة عن نفسه. وليس أصدق من هذا القول في التعبير عن الأدب الصحيح. فالأدب مظهر لما تختلج به النفس وتشعر به وتدركه عن طريق العاطفة والعقل. والأديب يؤدي رسالته وقد أذاب ما رآه وأحس به في بوتقة نفسه، فلا بد من أن يجئ أسلوبه قطعة من ذاته.
كل من قرأ للأستاذ قسطاكي بك الحمصي ما خطه يراعه منذ ستين عاماً إلى هذا اليوم يرى في كتابته النثرية قوة في اللغة وصحة باللغة في التركيب والتعبير. وهذه صفات تكفي وحدها لتخليد صاحبها، وقلّ أن اجتمعت في فجر نهضتنا الأدبية الحديثة إلا لأفراد معدودين. ولكنه يجد إلى جانب هذه الصفات صفة أخرى ينفرد بها الأستاذ بين أقرانه، ويندر من يشايعه فيها من أترابه وأنداده، وهي التأنق في الأسلوب. فكأني بالأستاذ لا يرضى من قلمه أن يأتيه بالناصع المشرق من صحيح الكلام وبليغه، بل يريد إلى جانب ذلك أن يكون بيانه عنواناً للروعة والجمال. فهو كالنحات الماهر يستخرج من الصخر الجامد ما يهز الشعور بحسنه وجماله.
ولقد قرأت ما كتبه الأستاذ في شبابه وكهولته وشيخوخته فما شذ أسلوبه عن هذه الصفة في أي دور من أدوار حياته.
نعم قد يختلف أسلوبه قوة وجمالاً في بعض ما كتب عن بعض؛ ولكن طبيعة التأنق كانت بادية على كل آثاره.
ولقد تشرفت يوماً بزيارته ومعي صديقي الأديب جورج اسطنبولية فسمعت من حديثه العذب الفياض، ورأيت من ملبسه وهندامه، وشاهدت في حجرته وعلى منضدته من الأثاث(274/56)
والكتب ما زادني يقيناً بأن أسلوب الأستاذ كحياته صورة صادقة لسلامة الذوق ورائع الفن.
ولعلي لا أطيل عليكم إذا تلوت على مسامعكم قطعة من بيانه لم أخترها اختياراً بل اطلعت عليها اتفاقاً عندما فتحت كتابه الذي وضعه عن (أدباء حلب ذوي الأثر في القرن التاسع عشر) وهي من محاضرة له في وصف قصور الخليفة المأمون وهذه هي:
(وكان يشرف عليها الراكب في دجلة من بعد شاسع، ولا سيما قبابها، فمن مجصص بالجص الأبيض الناصع كالفضة البارقة، ومن مطلي نصفه السفلي بالأخضر الناظر والنصف العلوي بالذهب النضار، وفوقها جامات الذهب تتلامع كالشهب المتقدة، ثم تبدو للعيون تلك الحدائق الممتدة إلى أقصى مدى البصر، تنسرب فيها جداول الماء من برك عظيمة الأتساع مختلفة الأوضاع، ينصب فيها الماء كالفضة الذائبة من أفواه حيتان أو سباع أو ثيران أو نسور، من مرمر مختلف الألوان بالغ من الصناعة نهاية الإتقان بين جنات قد ازدحمت غياضها واشتبكت أشجارها وتعانقت أغصانها وامتد ظلالها، يسير فيها الداخل تحت أقبية وأطواق من فسيفساء الأوراق، في مماش كأنما أرضها خمائل سندسية، وعلى جانبيها درابزينات لا يدرك الطرف منتهاها، قد اعترش عليها الياسمين، وتعلق بها الورد والنسرين)
فهذه قطعة كتبها الأستاذ منذ عهد بعيد، وهي مشرقة الديباجة ناصعة البيان صحيحة اللغة سليمة التركيب لا تقع كثيراً على أشباها في متخير كلام العرب في الوصف الجميل.
غير أن هذه القطعة لا تمتاز بالكلام البليغ والأسلوب الصحيح فحسب، بل تمتاز أيضاً بما فيها من التأنق والعمل الفني الخالص.
فما هي العوامل التي اجتمعت فأشرق منها هذا الأسلوب الوضاح؟ عندي لهذه العوامل أصلان: الموهبة والمحيط.
فالموهبة هي القدرة الطبيعية التي تتجلى في ذوي الكفايات الممتازة.
والميحط هو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان فيتأثر به.
والموهبة لا تثمر ثمرها إذا لم تتعهدها يد التهذيب بالإصلاح. وهي تتكيف بالمحيط ومؤثراته.
ولا خلاف في أن العلامة الحمصي من ذوي المواهب الممتازة النادرة؛ فما هو الوسط الذي(274/57)
عاش فيه فأخذ عنه وأنطبع بطابعه فصدر عنه هذا الأسلوب المشرق؟
ينتسب الأستاذ إلى أسرتين عريقتين في الوجاهة والحسب والنسب، فأبوه من آل الحمصي وأمه من آل الدلال. والأسرتان مشهورتان بالحياة الرفيعة والعيش الرغيد الوارف. وأسرة الدلال معروفة بالأدب، وقد ظهر منها نوابغ لا تزال آثارهم الأدبية ناطقة بفضلهم ومكانتهم. ولقد كان لأم الأستاذ وقوف على الأدب وخاصة على الشعر. فنشأ في هذا المحيط العالي تتعهده أمه - بعد أن فقد أباه وهو في الخامسة من عمره - بخير أنواع التربية والتهذيب.
ومن صفات الأسر العريقة في الوجاهة المحافظة على التقاليد والعادات. فمن الطبيعي إذن أن تبدو مظاهر هذه الحياة العالية بنعيمها وأخلاقها وتقاليدها على أدب الأستاذ؛ وهذا في اعتقادي هو السبب المهم في أتسام أسلوبه بسمة التأنق وروعة البيان.
على أنه يجب ألا تفوتنا ونحن نتكلم عن نثر الأستاذ ظاهرة لها قيمتها في تقدير مكانته الأدبية. وهي أننا لو أخذنا أية قطعة من نثره كتبها قبل أربعين أو خمسين عاماً، ولا سيما ما كان منها دائراً حول الموضوعات الاجتماعية والتاريخية، ثم قارناها بما يكتب اليوم بعد أن أثمرت النهضة الأدبية الحديثة ثمارها لما رأينا بينهما كبير فرق. فكأننا نقرأ بلغة اليوم ما كتبه الأستاذ قبل نصف قرن يوم، كانت أساليب الكتابة ترسف في قيود الركاكة والتقليد والصناعة اللفظية
واسمحوا لي - وإن أطلت الكلام قليلاً - أن أتلو على مسامعكم أسطراً من مقال نشره الأستاذ بعنوان (أهل التقادير وأرباب السعي والتدبير) في الجزء الثالث عشر من مجلة البيان الصادر في أول أيلول سنة 1897 أي قبل إحدى وأربعين سنة وهذه هي:
(قد ألف بعض الناس الاتكال على التقادير أي على ما تولده الليالي من الحوادث التي لم تكن في الحسبان. وخالفهم في ذلك أقوام زعموا أن ذلك مدرجة إلى الكسل، وأنه مما يقف في سبيل التقدم وبلوغ الكمالات الإنسانية. ولكل من الفريقين حجج وبينات يؤيدون بها مدعاهم)
(قال الفريق الأول: لو لم تكن التقادير هي الحاكمة في أنصبة البشر، اللاعبة بحظوظهم، الفاعلة في تغيير أحوالهم وأخلاقهم، لبلغ كل امرئ ما يتمنى على قدر همته وسعيه، وكم(274/58)
من ساع وراء أمر يرومه والتقادير تعانده فلا يبلغ متمناه)
فهذا كلام لو قورن بأسلوب الكتابة في هذه الأيام لما تخلف عنه في كثير ولا قليل، بل ربما فاق أسلوب الكثير من مشهوري الكتاب بصحة اللغة وحسن السبك ومتانة التركيب
وهذه الظاهرة من خير الشواهد على نبوغ الأستاذ، لأن النابغة يتخطى حدود زمانه ويدرك ما لا يدركه معاصروه إلا بعد أمد طويل.
هذه كلمتي في أسلوب أستاذنا قسطاكي بك الحمصي في الكتابة النثرية، وأنا أعلم ما فيها من عجز وقصور عن أدراك شأوه وبلوغ مداه، وإيفاء البحث حقه من الدرس والتمحيص، ولكن أنى لمثلي أن يسابق في هذه الحلبة ويجري في هذا المضمار وقد اجتمع فيه عيون الأدب ومصطفى رجاله لتكريم إمام من أئمة البيان. غير أن لي من حسن نيتي شفيعاً لقصوري، فليتفضل الأستاذ بقبول هذه الكلمات من بهدية مقرونة بالإعجاب بأدبه والدعاء له بطول البقاء(274/59)
تيسير قواعد الأعراب
لأستاذ فاضل
- 5 -
قرأت ما كتبته الآنسة الفاضلة (أمينة شاكر فهمي) وظنته رداً علي، وهو في الحقيقة تأييد لي. وسأثبت لها ذلك بعد أن آخذ عليها هذا الاستفزاز الذي يحرك النفوس الجاهلة إلى الثورة على كل جديد ولو كان نافعاً، ويجعلها تقف في سبيل الإصلاح ولو كان حقاً
تقول الآنسة الفاضلة: (لقد تتبعت بشغف واهتمام مقالات الأستاذ الفاضل (أزهري) عن تيسير قواعد الأعراب إلى أن تم بحثه في عملية التيسير والتغيير، فدهشت جداً لما جاء في مقاله الأخير من تطبيق، وما كنت أظن أن موجة التبديل والتحوير تطفو يوماً على اللغة وتمسخها بهذا الشكل الذي ينكره كل مخلص للعربية. نعم إننا نعيش في عصر السرعة التي وفدت إلينا من أمريكا، ولكن غريب أن تطغي السرعة على قواعد اللغة والأعراب فتختصره بهذه الصورة المدهشة التي يقدمها الأستاذ (أزهري) في بحثه الأخير، فقد اختصر وحذف منه حتى كدت لا أتعرفه، وخيل إلي أنني أقرأ لغة أجنبية. وغريب أن يتأثر الأزهريون بحياة السرعة الأجنبية فيستعملوها حتى في اللغة وهم حماتها من كل اعتداء!)
فما هذا الاستفزاز من آنستنا الفاضلة وهي لم تنقض حرفاً واحداً مما قلت؟ بل أنها تشهد بأني جئت بدراسة في تيسير قواعد الأعراب تكاد تكون قيمة لو لم أناقض نفسي بنفسي وأزد في تعقيد الأعراب، وكان من السهل عليها لو تأملت قليلاً أن تدرك أنه لا تناقض فيما جئت به من ذلك ولا تعقيد
وستجد الآنسة الفاضلة في عدد الرسالة الذي نشر فيه مقالها رداً قيماً للأستاذ الجليل (ساطع الحصري) على خلطها بين اللغة العربية وقواعد إعرابها، وظنها أن في الاعتداء على قواعد الأعراب اعتداء على اللغة نفسها، فاللغة العربية شيء وقواعد اللغة العربية (الأعراب) شيء أخر، لأن اللغة بوجه عام تتكون تحت تأثير الحياة الاجتماعية.
أما قواعد اللغة فتتولد من البحوث التي يقوم بها العلماء، وتتبدل بتبديل النظريات التي يضعونها، فهي من الأمور الاجتهادية التي يجب أن تبقى خاضعة لحكم العقل والمنطق(274/60)
على الدوام، ولا يجوز لنا أن نتقبلها بدون مناقشة وتفكير، بل يجب علينا أن نعيد النظر فيها، ونطيل التفكير حولها، لنكشف فيها مواطن الخطأ والصواب، ونسعى في إصلاحها وفقاً للطرق المنطقية المتبعة في البحوث العلمية بوجه عام
ومن الواجب على الأزهر أن تكون هذه مهمته في هذا العصر، وأن يتأثر بهذه السرعة التي تقول الآنسة الفاضلة إنها وفدت إلينا من أمريكا مع أنها من أصول ديننا، ومن السنن الصالحة التي سنها أسلافنا، وقد رأت الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها فتياناً يقصدون في المشي، ويتكلمون رويداً، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نساك. قالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو والله ناسك حقاً
وما فعلت بما جئت به من مذاهب جديدة في الأعراب إلا أني قضيت بها على ما فيه من حشو لا داعي إليه، وهذا كما في مسألة الأعراب والبناء، فأن تقسيم الكلام إلى معرب ومبني ومبني حشو في النحو لا يدعو إليه ألا ما ذهبوا إليه في الأعراب من تأثره بالعوامل. ولو جعلنا العمل في ذلك للمتكلم لا لهذه العوامل لم يكن هناك فرق فيه بين ما سموه معرباً وما سموه مبنياً، ولأمكننا أن نجعل كلمات العربية كلها معربة، واستغنينا بذلك عن حشو كثير في الكلام على الأعراب والبناء، وفي تطبيقات الأعراب التي نجريها في الأمثلة والشواهد، وليس في هذا أي اعتداء على اللغة العربية، فقد ذهب القراء إلى القول بأعراب الحروف إعراباً محلياً، ومعنى هذا أنها تتأثر عنده بالعوامل كما يتأثر غيرها، وهذا مذهب غريب جداً في الأعراب، لم أصل فيما ذهبت إليه من إعراب الحروف إلي أنها تتأثر في ذلك بالعوامل كما يتأثر غيرها، فهل تعدى القراء بذلك على اللغة العربية؟ وهل اتهمه أحد بهذه التهمة التي تكال جزافاً في عصرنا؟ اللهم لا
وكذلك مسألة الأعراب المحلي والتقديري، فإنه لا يوجد هناك ما يدعو إلى الفرق بينهما، ولا ما يمنع من إدماج الأعراب المحلي في الأعراب التقديري على النحو الذي ذكرته في مقالاتي السابقة، وقد ذهبوا إلى تقدير بعض الحركات من أجل حركة البناء في مثل (يا سيبويه) فلم أفعل إلا أن طردت ذلك في هذا الباب كله، وجعلت الأعراب المحلي إعراباً تقديرياً، لأن الفرق بينهما من الحشو لا يصح وجوده في هذا العالم، بل لا يصح وجوده في العلوم كلها(274/61)
والحق أن كل ما ذهبت إليه في إصلاح الأعراب من القوة بحيث لا يكن معارضته، ولولا تعنت هذا العصر وجموده وجحوده لكان له شأن عندنا غير هذا الشأن، ولوجد من أنصاف العلماء ما يؤثره على مذهب القدماء في الأعراب. وإنه لا يهمنا هذا الجحود والجمود، لأنا بما نكتب في الإصلاح إنما نرضي به أنفسنا قبل كل شيء ونقوم بما نعتقده واجباً علينا، ولا يجني هذا الجمود والجحود إلا على الأمة التي ترضى به، ولا تحاول التخلص منه بعد أن صار بها إلى ما صارت إليه
وهاهي ذي آنستنا الفاضلة تشهد بقيمة هذا الإصلاح الذي أتينا به، ولكنها تقع بعد هذا في سهو ظاهر تنقص بهما هذه الشهادة، والذنب في ذلك عليها لا علينا، لأن ما ظنته تناقضاً في كلامنا لا حقيقة له
فقد بنت هذا التناقض على أنا قلنا في مقالنا الرابع إن الحرف لا حظ له من الأعراب أصلاً، ولو رجعت الآنسة الفاضلة إلى هذا المقال لوجدت أن هذا ليس من قولنا، وإنما هو من قول الجمهور في الرد على القراء، إذ يذهب إلى إعراب الحرف إعراباً محلياً، ويتفق مذهبنا مع مذهبه في ذلك إلى حد ما. ولسنا من الغفلة إلى حد أن نذهب في أول مقال لنا إلى أعراب الحروف إعراباً ظاهراً، ثم نعود فنقول في المقال الرابع إن الحروف لا حظ لها من الأعراب أصلاً
وكذلك لم توفق آنستنا الفاضلة حين أنكرت علينا مخالفتنا فيما أتينا به من تطبيقات للأعراب المعروف في مذهب الجمهور، لأنه لا حرج علينا في ذلك أصلاً، ونحن لم نأت بهذه التطبيقات إلا لنبين للناس مقدار هذه المخالفة، وليس من المعقول أن نخالف الجمهور في قواعد الأعراب ثم نجري تطبيقاتنا على مذهبهم لا على مذهبنا
فلا تناقض إذن في كلامنا، ولا شيء يمنع آنستنا الفاضلة من أن تجعل شهادتها لدراستنا خالصة مطلقة
(أزهري)(274/62)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
8 - سائل
في ميدان (المرجة) أكبر ميادين دمشق وأهمها، وفي محطة (الترام) أظهر بقعة في ذلك الميدان وأحفلها على ضيقها بالناس، سائل طويل بائن الطول، أعمى قبيح العمى، يقوم حيال عمود الكهرباء وكأنما هو لطوله عمود ثانٍ، لا يريم مكانه ولا يتزحزح عنه، ولا يفارقه لحظة من ليل أو نهار، فهو أبداً يزحم الناس بمنكبه الضخم العريض، وثوبه الدنس القذر، ويؤذيهم بصوته الأجش الخشن ونغمته القبيحة المملة، وكلماته التي لا تتبدل ولا تتغير: (من مال الله يا أهل الخير، والله جوعان! الله لا يجوعكم والله كاس العمى صعب. . .) لا يكف لسانه عن ترديدها، كما أن لسان صبيه الذي يحمله دائماً لا يكف عن البكاء والعويل. .
وكنت أمر بالميدان نهاراً، وآتيه نصف الليل، وأجئ تارة عند طلوع الشمس، فأجد ذلك السائل قائماً في الحالات كلها بجانب العمود، وكفه مبسوطة كأنها طبق. . . ولسانه ولسان صبيه عاكفان على السؤال والبكاء، كأنما هما أسطوانة تدور دائماً وأبداً لا كلل ولا ملال. . . فكنت أتألم منه حيناً وأنقم من الشرطة أنها لا تباليه ولا تحفل مكانه، وأشفق عليه حيناً فأعطيه من بعض ما أجد حتى رآني رفيقي فلان، فقال لي:
- ماذا؟ أتعطي مثل هذا؟
- قلت: ولم لا أعطيه وهو أعمى مسكين، يسأل الليل والنهار لا يفتر؟ فلو كان سؤاله تسبيحاً لكان من الملائكة. . .
ويقسم أبداً أنه جائع، وولده على كتفه يبكي من الجوع. . .
أفأضنَّ عليه بقرش واحد يقيم صلبه؟
فضحك رفيقي وقال:
- لا هو بالجائع، ولا الولد ولده، وإنه لأغنى مني ومنك. .
- قلت: هذا لا يكون
- قال: فتعال معي. . .(274/63)
ودنا من السائل، فهمس في أذنه. . .
- يا أبا فلان؟ ألا تؤجرنا دارك التي في (الشاغور)؟
ففتح الأعمى عينيه. . . فنظر في وجهه. فلما عرفه قال:
- بلى، ولكني لا أنزل بها عن عشرين ليرة ذهبية. . .
- قال رفيقي: ألم تؤجر الدار الأخرى بثماني عشرة؟ فهذه مثلها. . .
- فقال: هو ما قلت لك. . .
وعاد يصيح بنغمته القبيحة المملة، وصوته الأجش الخشن:
(من مال الله يا أهل الخير، والله جوعان، الله لا يجوعكم! والله كاس العمى صعب. . .)!!
علي الطنطاوي(274/64)
وحي الشاعرية
ثورة الخيال
(صحيفة اجتماعية مطوية لم تنشر إلا اليوم. جلوة لعهد بعيد،
غير عتيد)
للأستاذ حسن القاياتي
أدلت بي النجوى فأكثرتها رغماً ... وخفت بي الدعوة فأوسعتها عجما
بغيري أبياً يلعب البرق خلبا ... أيقتلني يأساً وقد مدني علما؟
طويت على الشكوى جوانح لم يزل ... يحزُّ الأسى فيها وتكتمه كتما
شجى النفس من ليل الشبيبة أليل ... تألق هذا الشيب في جنحه نجما
أحيدُ بأنفاسي عن الليل رهبة ... كأنيَ أخشى أن تحرِّقه فحما
بنفسي محيا الراح لو أن كأسها ... أطاحت لنا همَّا فلم تولنا هَّما
كريهٌ مذاق الموت في الكوب وحده ... فما بال مفتون تجَّرعَ واشتما؟
يزهدني في مرشف الكأس أنها ... أديرت فما جازت حصيفاً ولا فدما
بكم نالها المتلاف والكأس مغرم ... ليشربها خمراً وقد باعها كرما؟
كأن حميا الكأس أعيت بفاتك ... فصبت على أخلاقه الأفن والوصما
هي الراح ذوب الحسن لا بل ظلاله ... إذا حلَّ في نادٍ فقد طلعت ثمَّا
إلى كم تقاضي المصبيات مكانها ... لديَّ وقد عفت المناغاة والرئما؟
أبيٌ لو أن الماء يسقي بوصمة ... تبدلتُ منه خوفَ وصمته السما
أصد وقد هم الجمالُ ولو قني ... أخي يوسفٌ صبري لصدَّ فما هما
هواناً لغي يهصرَ الحسن وردة ... فهلا يشمون الحياة به شما؟
رويداً بخد الورد شما وزينة ... ورفقاً بورد الخد نذبله لثما
فوا كبدي كم يمنع الحسن شركة ... وما خص بالشجو القلوب كما عما؟
أكل بديع ليس يعدوه حاجب ... يصدُّ قناعاً أو يحيط به كما؟
لثامٌ نهى شطر الجمال فصانه ... فوا لهفتا للبدر لو أنه تما؟(274/65)
جمال الغواني قاسَم الله خلقه ... فصبَّ عليه من تحجبه رغما
كأنك غضبي حين أبدأك برقع ... لقد رقَّ يا أختي فحلاكِ إذ نما
بعينيك من ردَّ العيون فصاغها ... قسياً ومن أصمي بنظرتها سهما؟
جوانحنا من شبَّ فيهن جذوة ... ومن سهدت فيه العيون ومن أدمى
دعونا نرفِّه عن حشانا بآهةٍ ... تبلُّ الحشى برداً ويندى بها نسما
دموع الأسى تشفي وليست مبينة ... تلهيك بالأطيار إذ هتفت عُجما
بني مصر لولا أعينُ الغيد فتنة ... لما مُلئت حسناً ولا مُلئت ظلما
يذمون من (بنت الهوى) طاعة الهوى ... وهم نظموها في شقيَّاته نَظما
شفاء الفتى من سكرة المال والصبا ... ضمين به الإتلاف يلحقه العدما
لمن شرفٌ ريعت به كلُّ حرَّةٍ ... فلم يبكه جانٍ رأى جرحه يدَمى
ولدتم كهاتيك القلوب نوابضاً ... فخافوا عليهن الجريمة والاثما
لقد طُبعت طبع الحديدة فيتةٌ ... تجافت فلا داءً شفته ولا كلما
أجداً يظن الشحُّ ألا أبوةٌ ... عليهم لمن ذاق الخصاصة واليتما
ألا مصنعٌ مجدٍ ألا ملجأ ندٍ ... يفيض لهم علماً ويندى لهم طُعما
مدارسنا لا النبل فيهن حلية ... ولا العلم خصم الجهل يصرعه خصما
مدارس تجار إذا هي أربحتْ ... خسرنا بها الآداب أجمع والعلما
لقد ساد زيغ الرأي فليشك محسن ... كبارَ المساعي يوم تكسبه ذمَّا
كفى الناس تضليلاً بخدٍ مموَّهٍ ... وبالنابه المكذوب يبنونه ضخما
إذا وصفوا بالعلم والفهم نابهاً ... زهْوهُ ولم يفتنك علماً ولا فَهما
كأن بعيد الصيت يعتزُّ باسمه ... تساقط حتى ما يروعك إلا اسما
كأني بسحَّار النباهة كلما ... تقلب في زعم أجدُّوا له زعما
توحَّدَ مغمورُ القوافي بيانهُ ... كخط الأغاني يبعث الطرب الجما
قل الزور يستاق الجماهير فتنةً ... ورحْ شيخها نُبلاً ولح بدرها تما!
صدى الناس من يحكي وكم فيهم صدىً ... ولكنَّ جزْلَ الرأي من يحسن الحكما
سما النيلُ يستعدي على الجور قومه ... فياربُّ سدِّده لأربحهم سهما(274/66)
يمينا لقد أزرى بمصر مفاوضٌ ... رقيق كما ناغيتَ إحسان أو نعما
لمن يؤمن الشرقي في الغرب بعدما ... تداولهُ نهباً وفاز قَسما؟
سواءٌ على الشرقي في الكأس شهدة ... أم الموت فيها يلتذها طعما؟
متى يخلُ غرٌ بالقوى وكأسه ... تكسب لبَّ الغرِّ بل شعبه ضما
إن أعتزَّ باغٍ لم نرَ العدل عنده ... سوى فتكتٍ بالكون تدهمه دهما
كثير التمني أطول القوم غِرَّةً ... وإن كثير النوم أكثرهم حلما
كأنك إذ تفنيِ لياليك عاملاً ... ركضت لما تبقى صوافنك الدُّهما
بنى الشرق من قواده كل سادر ... فهل أصبح البناء لا يحسن الهدما؟
يقولون للخوان: تاب ومادهت ... معتقة إلا بما فتكت قِدْماه
يظن فريقٌ يُسلم الحق أنه ... بحيث يرى الغوغاء والحاشد الفخما
إذا ضلَّ فردٌ أو بق الفرد أمةً ... أدلت به نجلاً فقتَّلها أمَّا!!
يريدوننا في موكب الفرد أمة ... عزيزٌ عليهم أن آنفنا أحمى
أرى الجور قتال الشعوب فما لهم ... يريدونه شعباً ويرعونه بهْمَا
أكل الزعيم عندهم عزّ مثله ... كأن بأرض الشرق ويحهم عُقما
إذا ما استقل الشعب ألفى غوَّيه ... ومن هجر الأوثان أوسعها حطماً
تغضّب لا للدين بعض رواته ... تغضب للأجلال أو طلب النعمى
لقد عُبدت في الشرق حيناً عمائم ... لو أن (أبيساً) قد رآهن لا عتما
كأن الأيادي فوقها ثغر لائم ... صحيفة زور كان توقيعها ختما
مضى كل واه ينحل الدين وهنه ... بروح بلا قسم كأن به السُّقما
هو الدين إن شاءوا يكن ضنك حكمه ... فلاة وإن شاءوا يكن رحبه سَمَّا
فتَاوى كزورات البغي مباحةٌ ... تزيد بها غراماً فتأخذها غنمْا
إذا كانت الأديان حرباً على الحجا ... وخاصمها علم فأهْون بها خصما
إلى الصيت يسمو كل من قيل ملحدٌ ... وما قتل الإلحاد علماً ولا وهما
لأية جدوى يغمز الدين مارق ... أباح فلا حِلاُّ يراعي ولا حِرمْا
أقيما على الآداب والنبل مأتماً ... فقد ذهب عيناً وقد محيا رسما(274/67)
تنكرت الأخلاق حتى لقلما ... صنعت جميلاً لا تجازى به شتما
تهدّ إلى السوءات لا تدعه الهدى ... وغض عن المخزاة لا تدعه الحلما
كفى بتبارينا إلى الشر ضيعة ... وحسبك من تمزيق وحدتنا جرما
عذيري من باك بأجفان عاهر ... على أمة يسعى ليقسمها قَسما
وفاق وأني بالوفاق ودونه ... حسائك صرعى بالتنابذ أو كلمى
تنصح لمن يعصي ودعه فدهره ... سيحسم باللوعات خلفكما حسما
تنزه حب الدار عن صدر جارم ... يضرمها حرباً وقد طبعت سلما
حموا كل حر أن يفدى شعبه ... إلا كذبوا إن العواطف لا تُحمى
هي الدار ليست للمربين طُعمة ... ولكن لنهاضٍ بحجتها شهما
يدسون للمجدي وفي الدوح مثمر ... نعد له فُتْل السواعد والرجما
ألا ليت من يجني لأهليه سوءة ... يبوء بها ذلاً على الأنف أو رغما
نصيبك من حمد فان كنت زاهداً ... فصبرك لا يذهب بصبرك من ذمَّا
غريرٌ لعمري أيها النيلُ ناشئ ... فلا تأمن من الكيد السياسي واللؤما
إذا الشعب أعطى كل غرّ قياده ... فقد حذر الفوضى بما قتل الحزما
بربك سائل مستقلاًّ قيودُهُ ... مجرّرةٌ هلاَّ أطاق لها فصما؟
سلا نائبينا عن سجين مصفد ... ضعيف متى أهدى لنائبه عزمْا؟
عقيد العلى شعبٌ إذا ما أثرته ... تفَّزع لا يرضى هواناً ولا هضما
كفا أنفاً للحر أن حُقوقهُ ... تردُّ له عدلاً فيأخذها غشما
سموك لا تحسب من الحتم ذلةً ... وأنت مُلاق ما سموت له حَتما
أُحبُّ حياة النشء كالنشء جدة ... ولا يزدهيني محدث يشبه القدما
توثب هذا الشرق يبغي ديونه ... فيارب جنبه الدسائس والشؤما
(السكرية: دار القاياتي)
حسن القاياتي(274/68)
البريد الأدبي
القصص في الأدب العربي الحديث
لقد سبق لي أن حدثت قراء (الرسالة) عن المستشرق الفرنسي (هنري
بيريس) يوم وصفت كتابه (أسبانية في أعين الرحالين المسلمين).
واليوم أخرج هذا المستشرق المشتغل بالأدب العربي الحديث رسالة
إضافية في القصص عندنا، وقد نشرها في مجلة معهد الدراسات
الشرقية لكلية الآداب في جامعة الجزائر (الجزء الثالث، سنة 1937
ص1 - ص72)
وللرسالة مقدمة حسنة على قصرها عرض فيها المؤلف نشأة القصة في أدبنا الحديث وارتقائها. فقال فيما قال: إن فن القصة انحدر إلى الشرق العربي من جانب الغرب وإن فارس الشدياق صاحب (الساق على الساق) كان أول من نبذ (المقامة) متأثراً بما وقع إليه من قصص الفرنسيين ولإنجليز. وهنا أشار المؤلف إلى ما صنعه اللبنانيون والسوريون النازحون إلى مصر في سبيل القصة أول أمرها، فذكر سليم الشلفون وأديب اسحق وجرجي زيدان، ولم يفته أن يذكر رفاعة الطهطاوي الذي نقل رواية (تليماك) من الفرنسية إلى العربية فطبعت في بيروت عشرين سنة بعد كتابتها. ثم انتقل إلى عهد المويلحي والمنفلوطي فتكلم على انعطاف القصة نحو الروح المصرية. ثم انتهى عند عهدنا هذا فنوه بخروج القصة من حيز الترجمة والنقل والتقليد إلى حيز الإنشاء والإبداع. ثم أخذ يعدد مجلاتنا الأدبية التي تنشر فيها القصص. ثم رتب أنواع القصص فذكر النوع الابتداعي والواقعي والطبيعي والرمزي والتاريخي والنفساني و (البوليسي)
ومما غاب عن المؤلف فيما أظن أنه أغفل تراثنا القصصي فلم يحاول أن يرد إليه بعض ما يجري في قصصنا (من ذلك (على هامش السيرة) لطه حسين و (شهرزاد) لتوفيق الحكيم فضلاً عن روايات زيدان ومسرحيات شوقي) وأنه أهمل قصصنا الشعبي ففاته أن يتلمسه في طائفة من القصص (من ذلك أقاصيص لجبران خليل حبران وأخرى لميخائيل نعيمة و (يحكى أن) لطاهر لاشين)(274/69)
ويلي المقدمة ثبت أسماء المؤلفين وعناوين القصص على طريقة علمية قوية. والثبت على أربعة أبواب:
الباب الأول: ما ألف في الأدب العربي الحديث عامة، في العربية واللغات الإفرنجية
الباب الثاني: ما ألف في فن القصة، في العربية واللغات الإفرنجية
الباب الثالث: القصص والأقاصيص المنقولة من اللغة الفرنسية إلى العربية
الباب الرابع: القصص والأقاصيص المؤلفة باللغة العربية في القرن التاسع عشر والعشرين
وجل ما يؤخذ على هذا التثبت الدقيق الجامع أن صاحبه لم يرتب الأسماء حسب حروف المعجم
هذا ولعل الأستاذ (هنري بيرس) يواصل عمله النفيس إذ في نيته أن يثبت المقدمات التي يصنعا القصصيون لقصصهم مع النظر فيها وأن يتعقب ألوان الكتب وأنواع التأليف التي سارت في الشرق العربي سنة 1930
(باريس)
بشر فارس
الحركة النسوية في ألمانيا
تعمد ألمانيا الهتلرية إلى توفير أسباب الحياة والراحة للألمان فكان من أثر ذلك حركتها ضد اليهود، ثم نزعتها الأخيرة إلى إقحام مسائل الجنس في الوطنية، وما تدعيه من تفوق الجنس الآري وتقدمه على بقية الأجناس الأخرى في نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، ولما كانت مسألة العطلة من أكبر المسائل التي تواجه الأمم الحديثة، فقد رأت ألمانيا أن تأخذ في الإقلال - جهد الإمكان - من النساء في الصناعات والأعمال التجارية حتى لا يكنّ مزاحماً خطراً للرجال، غير أن الواقع هو أن عددهن يزداد يوماً بعد يوم في دائرة الأعمال، وقد ذكرت ذلك جريدة سويسرية فقالت (إن أهم ما تعنى به ألمانيا الحديثة في تربية نسائها تربية سياسية هو طبع الفتيات بروح الحركة الاشتراكية الوطنية، وعدتها في ذلك الرياضة الذهنية والجسمية، تلك هي أسس جمعية البنات الألمانية ? وتقوم(274/70)
تربيتهن في هذه المؤسسة على أساسين، إحداهما يجعل منها امرأة اشتراكية، تعرف كيف تسوس أمور الدولة إن دعت الحال إلى ذلك، والثاني يعدها لأن تكون أُما قوية البنيان، عبلة القوى، لتنتج (الإنسان الكامل) للوطن؛ ويبدأ انخراط الفتيات في هذه الجمعية منذ بلوغهن السادسة عشرة من عمرهن، فمن أظهرت مقدرة وكفاءة في تشرب مبادئ الجمعية منحت شارة فضية، وهي دليل التفوق الفكري والسياسي، ويعقد لهن كل أسبوع اجتماع ليلي يشرح لهن فيه تطور السياسة في الداخل والخارج، ونصيب ألمانيا من ذلك كله. ولقد أعلن أخيراً (الهرفون شبراخ) زعيم شباب الريخ وجوب اشتراك كل فتاة يتراوح سنها بين 17، 21 سنة في جماعة القوة والجمال) والغرض المنشود منه هو تربيتهن تربية جثمانيه قوامها الرياضة والرقص، وتعليمهن أصول الصحة، وقصارى القول إن مرماه إيجاد جيل نسوي جديد، قوي البنيان، جميل المنظر معتد بنفسه واثق بها.
وفي خلال هذه المدة تتلقى الفتاة نوعاً من التعليم الإجباري في المعسكرات التي أوجدت ألمانيا منها أكثر من ستمائة معسكر في ثلاثة عشرة بلدة، يعشن فيها عيشة خشنة، ويمارسن أشق الألعاب.
وعلى الرغم من أن ألمانيا النازية ترى أن مكان المرأة الأول هو البيت، إلا أنهنَّ ينافسن الرجال في كثير من الأعمال، حتى لقد بلغ عددهن اليوم قرابة 25. 5 % فيما يختص بالفتيات الناشئات، أما الأمهات وسيدات الجيل الماضي، فقد أوجدت لهن ألمانيا (اتحاد وهو بجانب تحبيب النازية إليهنَّ، يقوم بتعليمهن الحياكة والحضانة وشؤون المنزل ورعاية الطفل
نور الدين وصلاح الدين في فلسطين
نشرت جريدة (النهار) في بيروت مقالة بعنوان (إلى الأستاذ إسعاف النشاشيبي) أشارت فيها إلى ما نشرته (الرسالة) في عنوان (من أمين الريحاني إلى محمد إسعاف النشاشيبي) وذكرت - مطنبة - تحية الأستاذ الريحاني، وبكاء الأستاذ النشاشيبي واستنجاده بسيد المرسلين، وبكت متأثرة معه، ومما جاء في تلك المقالة: (إنني كل يوم أرى المجاهدين يخطون بدمائهم حطيناً جديدة، وكل ساعة أرى بينهم نور الدين، وصلاح الدين وعماد الدين)(274/71)
الفلسفة الشرقية
قرأت في العدد 271 من مجلة (الرسالة) الغراء ذلك المقال القيم الذي كتبه حضرة الأديب السيد أحمد صقر عن كتابنا (الفلسفة الشرقية) فسررت من قراءة هذا المقال سروراً عظيماً ولكن، لا لما قد يتبادر إلى ذهن القارئ للوهلة الأولى من أن مبعث هذا السرور هو ثناء مستفيض على الكتاب ومؤلفه وإنما مبعثه هو ما ظهر لي من خلال المقال من أن كاتبه لم يكتبه إلا بعد أن طالع الكتاب في دقة وتمعن
غير أن لنا بعد هذا ملاحظة وجيزة على ذلك المقال نحب أن نسجلها هنا وصفاً للحقيقة العلمية في نصابها
قال كاتب المقال: إني ذهبت إلى أني كنت أول من أثبت بالأدلة القاطعة سذاجة (أرسطو) وأذنابه في دعواهم أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في إيونيا في القرن السادس قبل المسيح، وأن أول فيلسوف في الدنيا هو تاليس المليتي ثم علق على هذا بقوله: (والحق أن هذا الإثبات قديم الميلاد وليس أدل على ذلك مما قال الدكتور عن (ديوجين لاإرس) في كتابه (حياة الفلاسفة) وأن الشرق قد سبق الغرب في النظر العقلي، وأنه كان أستاذه وملهمه. .
ويظهر أن حضرة الأديب خيل إليه أن بين العبارتين ومعارضة إذ تدل الأولى على أن مؤلف كتاب (الفلسفة الشرقية) هو الذي أثبت تأثر الفلسفة الإغريقية بالفلسفة الشرقية، بينما تنص الثانية على أن (ديوجين لاإرس) قد سبقه إلى هذا الثبات.
والحق في هذا الموضوع هو غير ذلك تماماً، إذ أن (ديوجين لاإرس) لم يزد في كتابه (حياة الفلاسفة) على أن حدثنا (حديثاً يثبت أن الشرق قد سبق الغرب إلى النظر العقلي وأنه كان أستاذه وملهمه كما هو النص حرفياً. أما نحن فقد أثبتنا هذه الدعوى بالطريقة العلمية الحديثة وهي استعراض نظريات الإغريق ومذاهبهم وإبانة مواضع تأثرها بالفلسفة الشرقية بالأدلة الناصعة التي لم تكن قد وجدت بعد في عصر (ديوجين لاإرس) وفوق ذلك فقد أتينا من نتائج البحث الحديث بطائفة من الأدلة العلمية التي تؤيد هذه الدعوى تأييداً قاطعاً، وذلك مثل اكتشافات الأستاذة المستمصرين (ماسبرو) و (لوريه) و (موريه) و (بريستيد) التي استغللتها في إثبات دعواي استغلالاً لم يتح مثله لديوجين لاإرس، ومثل نتيجة بحوث العلماء الطبعيين الذين أوضحوا الفرق الطبيعي بين الجماجم الشرقية(274/72)
والجماجم الإغريقية، وأتاحوا لنا الفرصة لاستنباط أن كثيراً من النظريات الإغريقية مبنية على أسس شرقية، ومثل اكتشافاتي الخاصة التي وصلت إليها بعد الموازنة الدقيقة بين كل هذه الفلسفات، إلى غير ذلك مما نستطيع أن نجزم في صراحة أن (ديوجين لاإرس) لم يوفق منه إلى شيء يذكر
وأحسب أن حديث ديوجين لاإرس الذي يستنتج منه استنتاجاً تأثر الفلسفة الإغريقية بالفلسفة الشرقية لا يساوي في نظر العلم إثباتنا هذه الدعوى بالحجج القاطعة التي لا تحتمل الجدل والتي لو وفق (ديوجين) إلى مثلها لما جرؤ (سانت - هلير) على جحود هذه الفكرة بمثل ذلك التثبت الذي ورد في مقدمة ترجمته للكون والفساد
ولهذا الفرق الذي يوجد بين طريقتنا في الإثبات وطريقة (ديوجين لاإرس) عبرنا في جانب طريقته بقولنا: (إنه حدثنا حديثاً يثبت إلى آخره) وعبرنا في جانب طريقتنا بقولنا: (إننا أثبتنا بالأدلة القاطعة إلى آخره). ولا شك أن هذا كاف في وجود الفرق بين الطريقتين.
على أن (ديوجين لاإرس) كتب ما كتب في الغرب وقد ظل المتفيهقون في الشرق يدعون عكس ما قرره. أما بعد هذه البراهين التي أدلينا بها، فلا يجادل في هذه الفكرة إلا مكابر أو جحود.
بهذه الإشارة الوجيزة يتبين أن ادعاءنا أننا أول من أثبت هذه الفكرة لا يتنافى مع نصنا على أن (ديوجين لاإرس) حدثنا هذا الحديث منذ زمن بعيد.
وأخيراً أكرر تهنئتي للأديب صقر على روح النقد الحر الذي نحن في أشد الحاجة إليه في نهضتنا الحاضرة.
الدكتور محمد غلاب
الأمالي
قال الأديب الفقيه الأستاذ داود حمدان: ما مفرد الأمالي؟
قلت: الإملاء. وقد رأيت أن أروي في (الرسالة) الغراء كلمة في أمالي السلف الصالح لملا كاتب جلبي وقولاً للشيخ إبراهيم اليازجي في هذه اللفظة ومفردها، فيه فائدة
قال الأول: (هو جمع الإملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس فيتكلم(274/73)
العالم بما فتح الله (سبحانه وتعالى) عليه من العلم، ويكتبه التلامذة فيصير كتاباً، ويسمونه الإملاء والأمالي، وكذلك كان السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية وغيرها في علومهم فاندرست لذهاب العلم والعلماء؛ وإلى الله المصير، وعلماء الشافعية يسمون مثله التعليق) ثم ذكر في مصنفه (كشف الظنون) (66) كتاباً مسمى بالأمالي، منها: (أمالي ابن الحاجب في النحو وغيره، أمالي أبن دريد في العربية لخصها السيوطي وسماها (قطف الوُرٌيد)، أمالي أبن الشجري، أمالي أبي العلاء المعري، أمالي أبي يوسف (صاحب أبي حنيفة)، أمالي بديع الزمان، أمالي جار الله الزمخشري من كل فن، أمالي الشافعي في الفقه، أمالي القالي في اللغة، أمالي الصفوة من أشعار العرب لأبي القاسم فضل بن محمد البصري، أمالي نظام الملك (الوزير العظيم العالم) في الحديث، أمالي المطلقة للسيوطي)
قال الثاني: (هناك ألفاظ لا ندري بم ننعتها. . . وذلك كقول القائل: (آمال فلكية) فجاء أول هذه الكلمة أشبه بوزن أفعال نحو آبال وآرام، وآخرها أشبه بوزن فعال المنقوص كجوارٍ وليالٍ، وهذان الضبطان لا يجتمعان في صيغة عربية. وكأن الكاتب رأى هذه اللفظة في بعض الكتب لكنه لم يعلم ما هي، فمد أولها لأنه وجد هجاءها يشبه هجاء آمال جمع أمل، ورأى آخرها منوناً تنوين الكسر فحكاه فيها، فجاءت على هذه الصورة المنكرة. وإنما هي الأمالي جمع إملاء مصدر أملي، وأصلها أماليُّ بالتشديد بعد قلب همزتها ياء، ثم حذفت إحدى الياءين جوازاً كما هو القياس في مثلها من الجموع فصارت أمالي بتخفيف الياء، وإذ ذاك عوملت معاملة جوارٍ ونحوه)
القارئ(274/74)
الكتُب
اعترافات فتى العصر
لألفريد دي موسيه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
درة من آداب الغرب جلاها ببيانه العربي الرائع الأستاذ فليكس فارس وقدمها بتمهيد بليغ قال فيه (ليقرأ فتيان عصرنا الحائرون هذه الاعترافات الخالدة التي كتبها دي موسيه بدماء قلبه عبراً لا بد أن يجد فيها كل فتى صورة لحادث من حوادث حياته إن لم يجد فيها صوراً لمعظم حياته)
والأستاذ فليكس فارس شخصيته عميقة الأثر في نهضة الشرق العربي، فلا بدع إذا رأينا يلبس الاعترافات ثوباً قشيباً طرزته يد فنان شاب بارع
لقد انتظرت هذا الكتاب منذ أعلن عن ظهوره، ولو أني قرأته في مجلة الرواية القصصية الراقية شقيقة الرسالة الأدبية العالية؛ غير أنني أردت أن تضم مكتبتي المتواضعة هذه التحفة الأدبية الرفيعة، ولما تفضل وأهداني إياه أقبلت عليه فالتهمته، ولشد ما رغبت صادقاً لو طال حديث الاعترافات ليطول بذلك استمتاعي بتلك اللذة الساحرة التي لا يظفر بها المرء إلا في أمثال هذه الآثار الفنية. . .
وللاعترافات ميزة كبيرة ترتفع بها إلى مصاف القصص الخالدة التي لم تنشأ لمجرد اللهو والتمتع بالجمال الفني، فإنها جمعت إلى روعة الفن فلسفة الحياة ونظرات في إصلاح المجتمع قلما تراها في سواها
ففي ترجمة هذه الاعترافات معنى يرمي إليه المترجم الفاضل، إذ لم يترجمها لمجرد أنها قصة يلهو بها القراء، بل نشرها بين الشبيبة كطبيب اجتماعي عرف مواطن الأدواء في بلاده، وقد وجد أن شبيبة الشرق يراود فكرها وعواطفها الجحود بالأيمان والعبث بالحب، فلم يجد أروع من اعترافات فتى العصر يقدمها صرخة داويه تهيب بالشبيبة التي ترود مزالق الغواية والإلحاد. . .
وإن ما عجبت له حقاً هو التوافق الغريب بين أدواء عصر الفريدي دي موسيه وأدواء(274/75)
عصرنا الحاضر. ولقد كان الأستاذ فليكس فارس موفقاً كل التوفيق في اختيار هذه الاعترافات ليعالج أدواء الشرق بما تحتويه من صور صادقة لحياة الشبيبة فيه
ولقد ختم الأستاذ فليكس تمهيده الموجز البليغ بآيتين لخص فيهما الاعترافات فقال:
إن من جحد إيمانه جحدته حياته
ومن أتخذ الحب ألعوبة طرده الحب من جناته
أما الترجمة فحسبك ما قاله فيها فقيد الأدب العربي مصطفى صادق الرافعي: (أما الاعترافات فهي جيدة جداً؛ ولو كان مؤلفها هو المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع الشيخ فليكس فارس)
عطيه محمد السيد(274/76)
المسرَح والسينما
بوادر الموسم السينمائي الجديد
لا نغالي إذا قلنا إن الموسم الذي بتنا على أبوابه، سيكون موسماً هائلاً
تعرض فيه بضعة أفلام من ذات الطول الكامل تحوي كل خطى التقدم
التي خطتها صناعة السينما في مصر في العام الماضي، وحتى أفلام
الدرجة الثانية أو الشركات الأقل استعداداً، ستكون أقوى من أفلام العام
الماضي بكثير
أستوديو مصر
وفي مقدمة الشركات المصرية التي خطت بالأفلام المصرية خطوات كثيرة موفقة، شركة مصر للتمثيل والسينما التي يتبعها (أستوديو مصر)، إذ يقدم لنا هذا الأستوديو ثلاثة أفلام كبرى في هذا الموسم هي (لاشين) و (الدكتور) من إخراج نيازي مصطفى و (شيء من لا شيء) من إخراج الأستاذ بدر خان وهو الذي تقرر أن تبدأ به سينما ستوديو مصر (تريومف سابقاً) برنامجها المصري لهذا العام. وقد أعلن عنه في الصحف والمجلات المتصلة بإدارة الأستوديو. . . ويقوم بتمثيل الدورين الأولين في هذا الفلم المطرب المحبوب الأستاذ عبد الغني السيد والمطربة المبدعة الآنسة نجاة علي كما اشترك في تمثيله نفر من خيرة ممثلي المسرح المحترفين نذكرهم ونذكر شيئاً عن الفلم عندما يتحدد موعد عرضه
شركة أفلام أحمد سالم
ومن الشركات القوية الجديدة شركة الأستاذ أحمد سالم مدير أستوديو مصر السابق، وقد انتهت هذه الشركة من إخراج فلمها الأول (أجنحة الصحراء) وهو ذو موضوع وحوادث حربية جوية ولم يسبق إخراج مثله في مصر، من حيث جودة التصوير وإتقان الديكور واختيار الأرتست وتقطيع السيناريو. وستقدم الشركة في هذا الموسم كذلك أول فلم بوليسي يخرج في مصر، هذا علاوة على أعداد (جريدة سالم السينمائية) التي ظهر منها عددان(274/77)
حتى الآن، أحدهما خاص برفع الستار عن تمثال سعد والآخر خاص برحلة صاحب الجلالة الملك في الصحراء الغربية.
أخبار مسرحية وسينمائية
أفلام الثلاثي السينمائي
وتقدم لنا شركة (لوتس فلم) فلمين في هذا الموسم أتم الثلاثي الفني إحداهما قبل سفره إلى تركيا ولبنان، وانتهى الزميل احمد جلال من كتابة السيناريو للفلم الثاني وقد أسماه (نساء بلا رجال) وقد شرعت الشركة في التقاط مناظره في استديو ناسبيان. وأفلام هذه الشركة معروفة بموضوعاتها المبتكرة وسنيارياتها المحبوكة ونجومها اللامعة وبخاصة النجمة المحبوبة السيدة آسيا، والنجمة الرشيقة ماري كويني، والممثل الصحفي القصصي أحمد جلال. وإذا كان النقاد والجمهور بصفة عامة قد شهد لفلم (بنت الباشا المدير) بأنه أحد أفلام الدرجة الأولى الثلاثة في الموسم فلا شك في أنه سوف يحكم لفلمي لوتس الجديدين بأنهما جديران بمشاهدة كل هواة السينما
أفلام فنار فلم
وتخرج شركة فنار فلم طبعة عربية جديدة لفيلمها السابق (ليلى بنت الصحراء) وطبعة فرنسية من نفس الفلم يعرضها في باريس والبلاد التي تسودد فيها اللغة الفرنسية. أما باقي أعمال الشركة التي سوف تستغرق جهودها هذا العام فهو عرض الأفلام الفرنسية الكبيرة التي نالت احتكارها وإخراج أفلام لحساب الغير في أستوديو ناسيبيان التي استأجرته الشركة بعقد لمدة طويلة، كما أن فلم السيدة عزيزة أمير القادم سوف تقوم بإخراجه هذه الشركة التي انضمت السيدة عزيزة إلى المساهمين فيها
المسرح الخصوصي للفرقة القومية
قام حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية بزيارة لإدارة الفرقة القومية ومخازنها وخطب في الممثلين والممثلات خطبة حماسية مستفيضة لفت أنظارهم فيها برقة ودعابة إلى أن من الواجب مضاعفة الجهد وبذل العناية في الموسم القادم حتى لا يقول البرلمان والنقاد في الفرقة ما قالوه عنها في الموسم الماضي. وتحدث الوزير كذلك عن رغبة(274/78)
الوزارة في الإسراع بإنشاء مسرح خاص للفرقة تعمل عليه طوال الموسم، وأكد أن (رسومات نموذجية) عن أشهر المسارح العالمية قد أحضرها سعادة حافظ عفيفي باشا معه من أوربا وقدمها للوزارة لدرسها واختيار الشكل الملائم لمصر، وقد شكره الممثلون على عطف معاليه عليهم وتقديره لجهودهم ووعدوه بأن يكونوا عند حسن ظنه!
فرقة الأستاذ علي الكسار
بدأت فرقة الأستاذ علي الكسار موسمها على مسرح برنتانيا برواية جديدة استعراضية تدعى (من أول وجديد) من تأليف الأستاذ أحمد شكري وبرواية قصيرة اسمها (الكابتن هول) من اقتباس الأستاذ علي الكسار، وقد اشترك مع الأستاذ الكسار في تمثيل هاتين الروايتين السيدة عقيلة راتب (بريمادونة) الفرقة المحبوبة والأستاذ حامد مرسي مطربها المعروف، والثنائي الفني (حسين ونعمات المليجي) وسيظل الأستاذ الكسار عاملاً بهذا المسرح حتى أول رمضان.
يقوم (تيرون باور) بالدور الأول في رواية (ماري انتوانيت) أمام نورما شيرر، ويشترك في تمثيل هذا الفلم (جون باريمور) و (أنيتا لويس) ويعرض هذا الفلم في سينما رويال(274/79)
العدد 275 - بتاريخ: 10 - 10 - 1938(/)
في سبيل فلسطين
المؤتمر البرلماني للأمم العربية الإسلامية
لأول مرة في تاريخ العروبة والحنفية يجتمع وفود الأمم الإسلامية
الشرقية والغربية في مكان واحد على شعور متفق وغرض مشترك
وسياسة عامة. ولهذا الحادث الفريد المجيد معان من الدعوة النبوية
التي قامت على جلجلة الوحي ويقظةالضمير، وانتصرت بقوة الإيمان
وعبقرية الجنس، وانتشرت بوحدة العقيدة والفكرة والهوى والألم. فأن
السبب الأول في نجاح الدعوة الكبرى إنما يرجع إلى يقظة الحس
العربي واستعداده للكمال الروحي والاجتماعي في زمن البعثة، كما
تتيقظ الأرض وتستعد للتجدد والأثمار في زمن الربيع. ومحنة فلسطين
على فداحتها لو حدثت في غير هذا الوقت لمرت على مشاعر العالم
الإسلامي كما تمر الريح العَصوف بالصخور الصم في الجبل، أو
بالجذور الميتة في الغابة. وهل مأساة فلسطين إلا فصل من مأساة
الأندلس؟ ومع ذلك حدثت تلك على مسمع الدول العربية والإسلامية فلم
تثر لمحنتها أمة، ولم تتفق على نصرتها كلمة؛ وانقطع أنين الأندلس
الشهيدة على فنون شتَّى من عذاب الجسم والروح، والمسلمون والعرب
غافون من خدَر الذل والاستكانة لا يحفلون بالوجود ولا يشعرون
بالزمن. فلو كان الألم وحده مغنياً في أيقاظ الشعور وتأليف القلوب
وجمع الأيدي، لكانت هذه النكبة وحدها حرية بتوحيد الأشتات وبعث
الأموات وتناصر الأخوة
أريد أن أقول أن هبَّة العرب والمسلمين لنجدة فلسطين إنما انبعثت عن حياة جديدة، كانت(275/1)
فلسطين مظهراً لها لا سبباً فيها؛ وهذا هو الأمر الخطير الذي ينبغي لخصومنا أن يحسبوا حسابه ويتدبروا عواقبه. فأن فلسطين نفسها ما كانت تستطيع بفقرها وقلتها أن تنازل اليهود وهم أغنى الشعوب، وتصاول الإنجليز وهم أقوى الدول، لولا هذه الحياة الجديدة. وصحوة العرب ليست كصحوة غيرهم من الأجناس، فقد صحوا صحوتهم الأولى فملكوا الأرض والسماء، وخلَفوا الرسل والأنبياء، وقادوا العقول والأهواء، ولا يدري إلا الله ماذا يفعلون في هذه الصحوة الأخرى
في الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة الماضي اجتمع في مؤتمر القاهرة البرلماني المغرب ومصر وفلسطين وسورية ولبنان واليمن والعراق وإيران والهند والصين ويوغسلافيا وعرب الهجر للدفاع عن فلسطين، فكان هذا الحشد الحاشد في لغة الحرب تعبئة عامة لقوَى العروبة والإسلام ذياداً عن جزء عزيز من أجزاء وطنهما الأكبر، دهمه المستعمر بالقوة، واقتحمه المستثمر بالحيلة، فوقف يدافعهما عن قُوتِه وعن سكنه، ولا وزَر إلا الحق، ولا عُدة إلا الصبر، ولا سبيل إلا التضحية. أجل عبأت العروبة قواها بعد أن سألت إنجلترا الحق فلم تعط، وناشدتها العدل فلم تجب، وأهابت بضمير الإنسانية في قاعة العصبة، ودار البرلمان، وإدارات الصحف، فلم تجد إلا طمعاً ختم على الأسماع، وهوى غشُّى على الأفئدة، وسياسة قامت على المقايضة والمقارضة بين القوى والقوى على حساب المخدوع والضعيف
لقد بلغت القضية الفلسطينية اليوم الحد الفصل، فهيهات يغني الجدال والمطال والخديعة. كانت فلسطين قبل هذا المؤتمر تجاهد العدو وحدها بالاستبسال والمصابرة، وأخواتها في الشرق والغرب لا يمدونها إلا بأسلحة العجز من كلام ودموع. فلما رأوا أن حقهم يميته القول، وباطل غيرهم يحيه الفعل، جمعوا أمرهم على الجد، وطووا قلوبهم على العمل، وقالت مصر على لسان نائبها وخطيبها الأستاذ علوبة باشا: (إن الحلال بيَّن والحرام بيَّن، ومن الخير أن تعمل الوزارة الإنجليزية على البت في مأساة طال أمده وتنوعت كوارثها، فإما اعتراف بحق المظلومين، وإما جنوح إلى باطل الصهيونيين). وقالت العراق بلسان نائبها مولود باشا مخلص: (إن السلام لا يمكن استقراره إلا بحل عادل لمشكلة فلسطين، وإن العراق مستعدة لأي عمل لإنقاذ فلسطين). وقالت سورية بلسان ممثلها وخطيبها الأستاذ(275/2)
فارس الخوري بك: (إن قيام دولة أجنبية بين نحر الأمة العربية وقلبها لا يوافق عليه العرب بحال من الأحوال. وفلسطين قلب العروبة حقاً، لأنها تتصل بمصر وشرق الأردن والعراق وشطرها الآخر: سورية). وطلبت الهند إلى إنجلترا بلسان رئيس وفدها الأستاذ عبد الرحمن الصديقي أن تختار إما المسلمين وإما أعداء المسلمين. وقال: (إ ن ثمانين مليوناً من الهند على استعداد لأن يلبوا أول صوت يصدر عن القاهرة). وقالت سائر الأمم على ألسنة وفودها مثل هذا، فلم يبق لإنجلترا حليفةِ العربة والإسلام إلا أن توازن بين ذهب الصهيونيين، وصداقة العرب والمسلمين، وتنظر إليهما في كفة الميزان فتعلم أيهما أرجح وزناً في الحرب العالمية المقبلة، وأغلى قيمة في السوق الاقتصادية العامة، وأقوى أثراً في إقرار السلم في الشرق القريب والبعيد
إن حياة إنجلترا في السلم، وشرفها في العدل، وسلطانها في الديمقراطية؛ وفلسطين كانت منذ أنشأها الله بلاءً على المعتدي وشؤماً على الظالم. وقد التقى عندها الغرب والشرق مرة في عهد عمر، ومرة في عهد صلاح الدين، فكانت العاقبة في كلتا المرتين غروب الغرب وشروق الشرق، فهل يريد تشمبرلن رسول السلام ونصير الإنسانية أن يجمعهما على ثراها مرة ثالثه!
احمد حسن الزيات(275/3)
فلسطين لا تقهر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كنا في حديث فلسطين يوماً، فأخذ بعضنا يصف ما يبدي الثوار من الجرأة، والذكاء، وسعة الحيلة، وحسن التدبير والحكمة، وروي في هذا المعرض قصصاً عجيبة، فهم بالقليل الموجود من السلاح القديم، يقاومون أمضى الأسلحة الحديثة، من طيارات، ودبابات، ومدافع جبلية، ومدافع رشاشة، وليس لهم سيارة واحدة يتنقلون بها، ولكنهم في كل مكان، ويصنعون القنابل بأيدهم، ويتخذون من أنابيب الماء فوهات مدافع، ويتخذون خطة الهجوم في كل حال، ويتولون الحكم بين الناس، ويقضون بالعدل، ويفضون المنازعات، ويطوون صفحات الخلافات والعداوات القديمة، ويدخلون المحاكم، وينحون قضاة الحكومة ويقضون هم فيما هناك، فينفذ أمرهم، ولا ينفذ أمر الحكومة، ويشيرون باتخاذ (العقال) بدلاً من الطربوش أو غيره من ألبسة الرأس، فإذا هو على رأس كل عربي من أبناء البلاد، ولو كان يصطاف في مصر أوسورية. وقد زالت هيبة الحكومة؛ وكفت (محاكم الصلح) عن العمل إلا في مدن أربع ليس إلا، وصارت الحكومة الحقيقة هي حكومة الثوار.
وقال أحد اللذين كانوا في المجلس: (إن هذا العجيب! ولا شك أن بين الثوار كثيرين من المثقفين والمتعلمين؛ ولكن السواد الأعظم أقرب إلى السذاجة والفطرة، فكيف تيسر كل هذا لهم؟)
فلم يسعني إلا أن أقول: (إنهم يعملون بوحي الفطرة المستقيمة. وليس عجيباً أن يحسنوا التدبير، ويحكموا الخطط، ويضبطوا الأمر، ويظهروا ذكاء واقتداراً. وهل كان عمر بن الخطاب، وخالد بين الوليد، وعمر بن العاص، ومعاوية وإضرابهم من خريجي كمبرج، وسان سير، ومن حملة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ أريد أن أقول إننا لا نتعجب لما ظهر من مواهب العرب بعد ظهور الإسلام، وما كان من تغلبهم على دولتين كبيرتين في ذلك العهد، وفي آن معاً، فلا محل إذن للتعجب لما قدرت عليه ثورة العرب في فلسطين حيال دولة كبرى شاكية مستعدة)
والواقع أن فلسطين لم يعد في الإمكان قهرها وإرغامها على قبول ما لا تقبل. ولقد أستفزها إلى هذه الثورة المجيدة ظلم أريد بها ولا مثيل له في التاريخ، على الأقل فيما أعرف أنا.(275/4)
ويجب أن نذكر أن العرب كانوا حلفاء لبريطانيا وزميلاتها في الحرب العظمى، وقد خرجوا على دولة الخلافة يومئذ، وهي دولتهم، وأكثرهم مسلمون، بل كان الثائرون على السلطة العثمانية، الملتحقون بجيش الثورة العربية، من المسلمين.
فعلوا ذلك لأنهم طلبوا الحرية، ونزعوا إلى الاستقلال. وقد عرفت بريطانيا هذا، ورضيت به، وشجعتهم عليه، ووعدتهم بتحقيقه؛ ولو كانوا يعلمون أنهم سيصيبهم ما أصابهم لما ثاروا، إذ لا خير ولا معنى لاستبدال نير بنير
وهذا الجيش العربي هو الذي أعان على فتح فلسطين وسورية، وسلخ البلاد العربية كلها من السلطة العثمانية. وكان جيش بريطانيا يدخل بلداً بعد بلد، فيجد الأمور ممهدة، ويقابل بالترحيب والحفاوة، لأنه حليف العرب. فماذا كان جزاء العرب؟
مزقت بلادهم كل ممزق، وأخلفت الوعود كلها، فلم ينجز الحلفاء للعرب منا واحداً. وما استقلت العراق إلا بثورة، ولا عقدت المحالفة السورية إلا بثورة بل ثورات، ومع ذلك لا تزال معلقة لا يعرف مآلها أحد. أما فلسطين فكان خطبها أدهى، فما أكتف بريطانيا بالأنتداب، بل رمتها بشعب غريب فتحت له الثغور وقالت له أدخل، واستول على البلاد، وأقم لك فيها دولة، واتخذ منها وطناً. وما كانت البلاد بغير أهل حتى تفعل بريطانيا ذلك، ولا هي بالأرض الواسعة الرقعة، العظيمة الخصب، حتى تتحمل هذا السيل من المهاجرين إليها. وإن اليهود لمضطهدون في أنحاء شتى من الأرض، ولكن ما ذنب فلسطين؟ ومن تهكم الحوادث وسخر الأقدار أن ترمي بالهجرة اليهودية والوطن القومي الصهيوني البلاد العربية التي نعم اليهود في ظل دولتها بالعدل والعطف والحرية كما لم ينعموا في ظل دولة أخرى، فقد كنوا في الأمم الأخرى مضطهدين محقرين، وكان البريطانيون أنفسهم في القرون الوسطى يعدونهم أنجاساً منبوذين. ونحسب أن اليهود يقرءون روايات وولتر سكوت!.
فإذا كان الشعب الفلسطيني قد ثار، فله العذر؛ وإذا كان على قلة عدده وانقطاع المدد عنه، قد راع الدنيا بثورته الجليلة فلا عجب، فأنه يدافع عن حقله وبيته بأدق المعاني العرفية للفظ الدفاع عن الحوزة، فإن بيته ينسف بالديناميت فيتشرد هو وأبناؤه ونسائه في الجبال الجرداء، والسهول الخصبة التي يملكها تقتطع وتوهب للدولة الصهيونية، فماذا يصنع هذا(275/5)
الشعب غير أن يثور؟ وماذا يسعه، وقد ثار، إلا أن يستبسل ويستميت؟ إنه موت بموت، فالموت مع الشرف وبعد الدفاع الكريم إلى الرمق الأخير، أولى من الموت جوعاً في جبال عارية لا ماء فيها ولا شجر، هي التي يراد طرد العرب إليها لإنشاء الدولة الصهيونية
يضاف إلى هذا أن الغدر الفظيع الذي تنطوي عليه هذه السياسة، بشعب كان من أقوى الأعوان لبريطانيا في الحرب العظمى، وأخلصهم لها، يضاعف عزم الثوار، ويجعلهم أقوى وأجرأ
ومن الجلي أن سياسة الوطن القومي على حساب العرب قد أخفقت، وأن إنشاء دولة صهيونية في فلسطين قد أرتد إلى عالم الخيال الذي لا محل له في عالم الحقائق. ومن الواضح الآن أن على بريطانيا إذا أرادت إمضاء العزم على تقسيم البلاد وإقامة دولة للصهيونية فيها، أن تجيش الجيوش وتسير الأساطيل لتفتح فلسطين عنوة، فما يكفي كل مالها هناك الآن من قوة وعتاد. وأوضح من ذلك كله وأجلى حقيقتان أخريان، فأما الأولى فتلك أن ثورة فلسطين - وهي أعدل ثورة قامت في الدنيا وأروع ما شهد العالم من مثيلاتها - قد جمعت قلوب العرب في الأقطار جميعاً وألفت بينها، فهم الآن أمة واحدة وإن كانت دولهم كثرا، وعلى بريطانيا أن تختار صداقة هذه الأمة أو عداوتها، وعليها أن تقيس قدرة العرب جميعاً إلى قدرة فلسطين وحدها ونعتقد أنها تؤثر صداقة العرب ولا تجازف بعداوتهم ولا سيما أنه ليس لها باعث من مصالحها الخاصة الحيوية على اختيار خطة العداء. والعرب يقولون الآن لبريطانيا كما قال أبن الرومي
أمامك فأنظر، أي نهجيك تنهج ... طريقان شتى، مستقيم، وأعوج
والمستقيم أولى، وهو الذي سيكون إذا كان علمنا بالإنجليز ليس كله خطأ.
والحقيقة الأخرى أن بريطانيا لا تخدم اليهود بهذه السياسة، وإنما تثير عليهم نقمة العالم العربي والعالم والإسلامي، وهم أمة لا ينقصها أن يزيد كارهوها. ونحسب أن اليهود قد بدءوا يدركون هذا، ويفطنون إلى أن السياسة الصهيونية تورثهم عداء هم في أشد الغنى عنه.
إبراهيم عبد القادر المازني(275/6)
أشرق الأمل يا فلسطين!
للأستاذ علي حيدر الركابي
لقد قضيت عمري تائهاً في صحراء الحياة، أرى العواصف الهوجاء تهب حولي حتى تكاد تطمرني فأسير وأنا واقف في أرضي، وأرنو إلى الأفق البعيد أنشد فيه خيال واحة أستظل بظلالها وأرتوي بمياهها، فإذا بالأمل قد خاب، وإذا بالسراب قد تلاشى وانكشف عن فقار تمتد إلى اللانهاية لا أدري إلى أين المصير
وقد قضيت عمري غريقاً في بحر الحياة اللجب، تقاذفتني أمواجه الملتجة حتى كادت، تغرقني فكنت لا أتقدم خطوة نحو شاطئ النجاة إلا أبعدتني عنه خطوات؛ وكانت الأمواج ترفعني تارة فيخيل إلي أني قد بلغت مثلي الأسمى؛ ثم تسخر بي وتضحك ملء شدقيها وتفتح فاها المخيف وتجذبني إلى أعماق جوفها وكأنها تريد ابتلاعي، فأشعر أن قد دنا أجلي وأصيح وأستغيث ولكن لا ملبي لندائي ولا مغيث
وقد قضيت عمري هائماً في ليل الحياة المظلم وقد خيم سواده على كل مخلوق فحجب عني الحقيقة، وضللت الطريق ورحت أخترق حجب الظلام ببصري عله يقع على قبس من نور ولو ضئيلاً أهتدي به. ولكن الجهد كاد يفقد عيني بصرها فسرت وأنا كالأعمى أتخبط في دياجير الظلام بلا هدف ولا أمل
وقد صعدت قمة الهرم الكبير، وأجلت الطرف حولي، ثم انحدرت إلى الوادي السعيد فلم أعثر على منقذي، بل عثرت على نفوس فقيرة حقيرة أضعفتها الجيوب المنتفخة، وضربت حولها أسواراً من الذهب الوهاج، وأقامت لها داخل هذه الأسوار عروشاً من الماس فاستوت عليها قانعة شاكرة، وعثرت إلى جانب هذه النفوس الفقيرة الحقيرة على نفوس غنية كبيرة قد نمتها يد البؤس والشقاء حصرتها في أسوار من الإملاق، فلما عجزت من تحطيمها أو اجتيازها خضعت للأمر الواقع واستسلمت للأوهام تستمد منها حرية تستعيض بها عن حرية الحقيقة. فيئست من النفوس الفقيرة وبكيت على النفوس الغنية وغادرت الوادي السعيد وهرمه العظيم بقلب مفجوع وأمل خائب
وقد تبعت طريق بني إسرائيل لما خرجوا من مصر فقطعت صحراء التيه ثم وقفت على جبل الطور وتوجهت بناظري إلى الشرق فنفذ بي من أعماق الغور الأعظم إلى أفق أسود(275/7)
قاتم تتدلى في سمائه الغيوم الباكية، ولاح لي شعاع من ذلك الأفق الممتد وراء الأردن فرقصت طرباً وخلت أنه النور الذي سيهديني، ولكني ما لبثت أن أدرك أنه برق بدأ لحظة ثم أختفي وتلته رعود قاصفة تنذر بدنو العاصفة، فحولت بصري عن الشرق وأخذت أجيله في الجهات الأخرى عساي أحظى بضالتي المنشودة. إلا أني ما رأيت سوى القتلى في كل مكان قد صُرع كل واحد منهم بسهام ثلاثة خرجت من أقواس لثلاثة صيادين: أولهم صوبها بنفسه معتمداً على مهارته معتزاً؛ بقوته والثاني ضعيف لم يقو على شد القوس فأستأجر بدراهمه الكثيرة من يقوم مقامه من الرماة الماهرين؛ أما الثالث فقد كان يسعى ويجد حتى لا يخطئ قلب أخيه المغدور، يفعل ذلك طمعاً في اكتساب رضاء الأول والحصول على دراهم الثاني، فعريت صدري للسهام المتناثرة كي يصيبني أحدها فيضع حداً لحياة قد فقدت معناها وضلت هدفها إلا أن السهام أخطأتني ولم تفرج كربتي فغادرت الطور شقياً هائماً على وجهي
وقد انتقلت إلى جنة الله على الأرض وأطلقت روحي في الهواء فصاحت الطير وحلقت معه في الفضاء الواسع بين الجبل الأشم والسهل الخصيب، تغرد معه على الأغصان، وتصغي معه إلى قيثارة الغدير. ولما عادت هذه الروح إلى جسدي أنبأتني بما فهمته من الطير والغصن والغدير؛ فقالت: إن الطير تبكي ولا تغرد، وإن الغصن قد قوسته الأحزان، وأن الغدير يرسل زفرة الكليم، وذلك لأن هذه المخلوقات قد أرسلها خالقها هدية إلى قوم لم يقدروا قيمتها ولم يفهموا معناها، إذ أنهم استعاضوا عن المهدي وهديته بأصنام من صنعهم شيدوا لها الهياكل والمعابد وراحوا يحرقون أمامها البخور ويقدمون لها الضحايا؛ فلو عاد محمد صلى الله عليه وسلم نفسه لتحطيمها للاقى منهم ما لاقاه من قريش. فقلت: يا للمصيبة، وغادرت الديار غير آسف وتوجهت نحو الصحراء الشرقية يدفعني الألم مما خلفت ورائي والأمل بما استقبلت أمامي.
وقد جلست في قارب صغير وهمست في أذن النهر العظيم قائلاً: (أنك تحمل في طياتك تجارب آلاف السنين، وأخبار مئات الأقوام، وقد مَرْ فرعاك بأقصى البلاد وأدناها فبالله حدثني) فلم أحظ منه بجواب لأنه كان نائماً فرفعت صوتي وكررت الطلب ففتح إحدى عينيه ثم الأخرى ثم تثاءب وأعقب ذلك ضحكة أهتز لها صدره حتى كاد قاربي ينقلب ثم(275/8)
قال: (إني لمرتاح، وإني لمسرور كما ترى. فقد مرت عشرات السنين وأنا أشقُ طريقي إلى البحر بكل حرية فلا يعترضني أحد ولا يُنقص من مادتي شيئاً) فثرت على هذا الكسل وصحت: (ولكن هذه الحرية المزعومة إن أرضتك فقد أشقت التربة الصالحة وقلبتها صحراء قاحلة حتى مدَّ الجوع يده إلى ألف ألف بيت). فضحك مرة أخرى وقال: (رويدك يا صاح! وما شأني أنا؟ ولِمَ تلومني؟ نعم أنا مرتاح إلى هذه النتيجة إلا أني لم أكن سبباً في وقوعها. . .) ثم أغمض عينيه وعاد إلى سباته العميق وتركني وحيداً وسط الخضم أنادي فلا أجد من يلبي وأصيح فلا أسمع سوى صدى صيحتي الضائعة.
ولما خاب كل أمل لي في النجاة وأيقنت أني سأبقى تائهاً في الصحراء بلا دليل، وغارقاً في اللجة بلا منقذ، وضالاً في الظلام بلا نور هادي، ولما تسرب اليأس إلى قلبي فإذا بي أرى العاصفة قد سكنت، وإذا بيد بيضاء تمتد لانتشالي، وإذا بالشمس الضاحكة تضيء ما حولي، وإذا بحياتي قد ملئ فراغها بالأمل لأن نفسي قد اهتدت أخيراً إلى الطريق الذي يوصلها إلى الغاية. فمن هو هذا المحسن العظيم الذي فعل ما عجز عنه غيره؟ من هو هذا الإنسان الذي استطاع أن ينفخ في قلبي القانط روح الأمل ببني الإنسان؟ وما الذي قام به هذا الشخص حتى أعاد لنفسي شيئاً من ثقتها بالبشر؟
إنه طالب عراقي فقير أصغر مني سناً وأقل علماً، ولكنه مع ذلك قد لقنني - وهو التلميذ وأنا الأستاذ - درساً بليغاً في الخلق السامي والتضحية النادرة.
تعاقب خطباء المدرسة على المنبر فهزوه هزاً وبُحَّت حناجرهم وكلهم ينادي (فلسطين! فلسطين!) واحمرت الأكف من التصفيق وهي تقول بلغتها العجيبة (لبيك! لبيك!) ثم انقضى دور الدعاية والكلام وحل محله دور العمل والإغاثة الفعلية فاشتد الحماس وجاء الطلاب الريفيون الفقراء بالمال إعانة لمنكوبي فلسطين وبذلوا بذلاً وقف دونه من هو أوفر منهم مالاً. وفي وسط هذا الحشد الثائر جلس الطالب حكمة عبد العزيز يفكر؛ فإن قلبه مملوء أيماناً بالله ونبيه أولاً، ثم بلزوم إعانة فلسطين وهو لا يملك فلساً فما العمل؟ ولكنه تردُّدُ لحظة لا أكثر اندفع على أثرها إلى المنبر وأخذ ينزع ملابسه حتى عرى جسده إلا مما يستر عورته وهو يعلن بصوت خرج من أعماق قلبه أنه لا يملك ما يتبرع به غير هذه الملابس (وأنا أعلم - والله يشهد - أنه معوز) فلتبع على قِدَمِها وليخصص ثمنها لإغاثة(275/9)
سكان الأراضي المقدسة. وما كاد يتم كلامه حتى دوى المكان بالتصفيق واهتزت الجدران بالهتاف العالي المتواصل. وعرضت ملابسة للبيع فتنافس الجميع في شرائها كل يريد أن ينفرد بشرف الحصول عليها حتى بلغت قيمتها حداً عظيماً. وأراد الشاري أن يعيد الملابس إلى صاحبها بعد أن تم المقصد من تقديمها ولكن هذا أبى ذلك بشدة واعتبر هذا العمل إهانة له. وبعد ملابس حكمة أمطر الطلاب المنبر بوابل من أشيائهم الخاصة طالبين بيعها فهذا قدم قلمه السيال وذاك محفظته وثالث ساعته ورابع نظارته وهلم جرا.
هذا ما قام به طالب عراقي فقير من الأرياف، وهو عمل قد يعتبره بعض الناس عادياً، ولكن المتعمق لا يسعه إلا أن يعجب به ويمجده ويبني عليه الآمال العظام لأننا نعيش الآن في عصر شمل فيه الانحلال كل شيء حتى بات العمل الصالح نادراً يجب التمسك به وإعلانه إلى الملأ عند العثور عليه.
فاهنأ بعيشك يا حكمة فأن أمة فيها شاب مثلك لن يكتب لها أن تموت، وإن شعباً فيه روح مثل روحك هو شعب حي سيسود رغم كيد العدوين: الأجنبي المستعمر والوطني الخائن. سر في طريقك على بركات الله ولا تجزع، فأن كنت قليل المال أو معدومة فإنك غني النفس، وقد استطعت بهذا الغنى أن تقدم لفلسطين مساعدة مادية، وأن تضرب للشباب مثلاً سامياً في التضحية، كما أعدت إلى اليائسين أمثالي ثقتهم بشباب هذا الجيل - وكل ذلك وقف دون تحقيقه من هم أغنى منك مالاً لأنهم أصغر منك قلباً وأحقر نفساً، نم مرتاح الفؤاد يا حكمة فأن قصتك ستبقى خالدة على الدهر يستنير بها الشباب ويتخذونها شعاراً حياً يرمز إلى كل ما في كلمة (جهاد) من معنى.
وأنت يا فلسطين، ماذا أقول وكل حرف من أسمك المطهر يفجر قلبي نبعاً جديداً من الأسى؟ أأرثي لحظك المنكود أم أرثي أرضك التي لم تراعَ حرمه لقدسيتها؟ أم أنوح على مئات الضحايا تقدمينها كل فجر على مذبح الشرف والحرية؟ أم هل أشق الفضاء بصيحات أندب فيها قراك الخربة ومنازلك المتهدمة وحقك المسلوب؟ كلا والله ليس البكاء والعويل بمنقذك.
أي أندلسنا الجيدة: إن أبناء الأندلس القديمة لم يبخلوا بالندب والنواح والاستغاثة والصياح، ولكنهم مع ذلك خسروا بلادهم واخرجوا عن دينهم لأنهم اكتفوا بأنات الألم واستسلموا(275/10)
لليأس وسلموا قيادهم من يجهل معنى الإخلاص. أما أنت فقد خرجت الآن من دور البكاء والاستسلام والتسليم، وما عادت تجوز عليك خدع المتزعمين من أبنائك طلاب السلطة والمال، وقد دخلت أخيراً في دور الجهاد المبارك الذي أعلنه المخلصون من أبنائك البررة - أبناء الشعب السذج ذوي الأيمان القوي والعقيدة الراسخة والأرض المسلوبة.
فجاهدي وناضلي يا فلسطين واعلمي أنك قطعة ثمينة من الوطن الأكبر الذي لا يزال فيه بقية من الخلق الذي كان يتحلى به فتيان محمد (ص) الأولين. وهذه البقية الباقية إن كانت ضئيلة اليوم فلن تبقى ضئيلة إلى الأبد فإنها والله لكالجمرة التي خلفتها النيران في الرماد وظن الناس أنها منطفئة، حتى إذا ما هبت العاصفة أطارت الرماد وعرّت الجمرة ونفخت فيها الحياة فاحمرت ثم اندلعت منها ألسنة اللهيب واتصلت بما حولها وتوسعت دائرة الاشتعال حتى أصبح إخمادها في حكم المستحيل. وهاهي ذي عواصف الاضطهاد والإرهاق تكتنفنا من كل جانب وهي كفيلة بإذكاء نار الحمية فينا وإعادة ذلك العهد الذي دُكت فيه عروش الأكاسرة والقياصرة على يد فئة قليلة يقوها بدوي أمي خرج من قلب الصحراء المقفرة.
وهذا الأمل الجديد الذي أبشرك به يا فلسطين لقد ولده في قلبي عمل حكمة أحد فتيان محمد (ص). فأرسلي ناظريك إلى ما وراء الصحراء وترقبي - مثلي - خروج القائد المنتظر في بلاد (حكمة) ومن جيل حكمة.
(بغداد - دار المعلمين الريفية)
علي حيدر الركابي(275/11)
في مصر الإسلامية
تنازع البقاء بين العلوية والعثمانية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
الأستاذ بكلية الآداب
كان من العوامل الخارجية التي نازعت سلطان العلويين في مصر وجود حزب الأمويين في الشام، وعلى رأسه معاوية أبن أبي سفيان الذي أخذ يعمل على سلخ مصر من علي بن أبي طالب. وسار معاوية إلى هذه البلاد ونزل بسلْمنْت من كورة عين شمس (في شوال 36 هـ)، فخرج إليه أبن أبي حذيفة وأنصاره ليمنعوه، فبعث إليه معاوية يخبره أنه لا يريد قتالاً وإنما يريد أن يدفع إليه رؤوس قتلة عثمان، فأبى ذلك عليه، فبعث معاوية يطلب إليه تبادل الرهائن والودائع، كي يضمنوا جميعاً أن يكف الفريقان عن الحرب، فقبل ذلك أبن أبي حذيفة.
ولعل أبن أبي حذيفة لم يفطن إلى ما كان يرمي إليه معاوية، وأن هذا الطلب لم يكن في حقيقة الأمر إلا مكيدة حاك شراكها دهاؤه، فاستخلف على مصر رجلا من أنصاره، وهو الحكم بن الصلت، وخرج في الرهن هو وغيره من قتلة عثمان، ثم سجنهم معاوية في (لدّ) من أرض فلسطين، وسار إلى دمشق، فهربوا من سجنهم، إلا واحداً أبى الفرار، فتعقبهم عامل معاوية وقتلهم، وكان من بين القتلى محمد بن أبي حذيفة. (ذو الحجة 36 هـ) وذلك بعد مقتل عثمان بسنة كاملة
ولسنا ندري كيف يعلل خروج أبي حذيفة، وهو رأس شيعة عليّ في مصر وغيره من أنصار العلويين وزجه بنفسه في مغامر هذا الرهن. بيد أن المصدر التاريخي الذي نعوّل عليه في هذه المسألة وهو كتاب (الولاة) للكندي (350 هـ) أقدم مؤرخي مصر بعد أبن عبد الحكم (وعنه أخذ غيره من المؤرخين المتأخرين، وأهمهم أبن دقماق والمقريزي وأبو المحاسن والسيوطي) لم يذكر لنا السبب الذي حدا بابن أبي حذيفة وأنصاره إلى الذهاب في الرهن، بل ولم تذكر المراجع كلمة واحدة عن رجال معاوية الذين دخلوا في هذا الرهن، الذي لم يكن في حقيقة الأمر - إن كان قد وجد فعلاً - على قدم المساواة بين الفريقين(275/12)
المتخاصمين.
وقد يكون معاوية رأى أنه مع استطاعته فتح مصر أن الوقت لم يحن بعد لهذا الأمر، إذ لا بد له من الاحتفاظ بقوة كبيرة لمنع مناوأة العلويين، لأن جميع أهل مصر بايعوا أبن أبي حذيفة إلا نفراً يسيراً انتصروا لعثمان، فعول معاوية على استئصال شافة رءوس قتلة عثمان ليتمكن من حرب علي ثم يستولي على مصر متى تهيأت له الفرصة بعد أن يوقع بجيش علي.
وبعيد جداً أن يكون أبن أبي حذيفة قد اضطر إلى قبول طلب معاوية، لأن الرجل لم يبال بخصمه. يدلل على ذلك أن معاوية لماّ بعث إلى ابن أبي حذيفة يطلب منه أن يدفع إليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر وهما رأس قتلة عثمان امتنع أبن أبي حذيفة وقال: لو طلبت منا جدياً رطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك) وهذا يحملنا على الظن بأن معاوية لجأ إلى هذه الحيلة حين لم تجد جهوده الحربية مع أبن أبي حذيفة نفعاً.
ولما بلغ علياً قتلُ أبن أبي حذيفة ولى مصر قيس أبن عبادة الأنصاري، فدخلها في ربيع الأول 37 هـ، وكان من أهل الرأي والبأس، واستمال إليه العثمانية المقيمين بخُرْبتا (شرقي الدلتا) وأحسن إليهم، وكان أهل مصر إلا هؤلاء (وعددهم زهاء عشرة آلاف) مع عليّ بن أبي طالب.
وقد حاول معاوية وعمرو بن العاص التغلب على مصر، فأمتنع قيس هذا على معاوية، فلم يكن بدٌ إذاً من إعمال الحيلة لإخراجه، فأذاع معاوية أن قيساًُ من شيعة عثمان وأن كتبه تأتيه. فلما سمع عليّ بذلك، أمر قيساً بمحاربة العثمانيين بخربنا، فأجابه بأنه أمّنَهم على أنفسهم ليأمن جانبهم، لأن فيهم كثيرين من وجوه أهل مصر وأشرافهم، فعزله عليّ ووليّ مكانه الأشتر بن مالك لأنه ثقل عليه، فأبعده عنه.
على أن والي مصر الجديد لم يكد يصل الفلزم (وهي السويس الحالية) حتى شرب شربة من العسل لا يبعد أن يكون قد دُس له فيها السمْ فمات، فولى مصر بعده محمد بن أبي بكر، فأظهر الخيلاء وأساء إلى العثمانية، وبعث إلى رأسهم معاوية بن حُدَيْج يدعوه إلى بيعة عليّ، فلم يجبه إلى طلبه، فهدم دورهم، ونهب أموالهم، وآذى أولادهم، وحبسهم؛ فعوّلوا على حربه، ولكن أبن أبي بكر رأى أن يتلافى ما قد يجرّه الاشتباك في حرب معهم(275/13)
فصالحهم، ثم سيرهم إلى معاوية فبقوا هناك إلى أن انتهت موقعة صفين وعقدة التحكيم.
ولم يكن معاوية بالذي يَفْتُر عن استخلاص مصر وانتزاعها من علي. وزحف عمرو بن العاص على رأس جيش من أهل الشام، وحَميَ القتال بين الفريقين، فوقعت الهزيمة على أهل مصر، ودخل عمرو الفسطاط واختفى محمد بن أبي بكر، فبعث معاويةُ بنُ حديج عدوُّه القديم العيون والأرصاد، حتى اهتدوا إلى مكانه، فقتله أبنُ حديج ثم جعله في جيفة حمار، واحرقه بالنار وكان ذلك في صفر سنة 38 هـ.
وبذلك خلصت مصر لمعاوية، فولاها عمرو بن العاص ولاية مطلقة، وجعلها له طعمة بعد النفقة على جندها، وما تحتاج إليه من ضروب الإصلاح. ولما قتل عليّ بن أبي طالب سنة 40 هـ، وتحولت الخلافة إلى بني أمية، أصبحت الأجناد وأهل الشوكة في مصر شيعة عثمان، بيد أن بقية المصريين ظلّوا يشايعون على بن أبي طالب وأهل بيته، فظل العداء قائماً بين الحزبين في هذه البلاد (وفي غيرها) طوال عهد الأمويين، وفي الصدر الأول من أيام العباسيين.
حسن إبراهيم حسن(275/14)
من مشاكل التاريخ
مكتبة الإسكندرية
تأسيسها ورواية إحراقها
للأستاذ خليل جمعة الطوال
تنزع بعض الأقلام عن جادة الصواب إلى هوة التغرض والتشيع، وتساق إليها بتهور عاطفة أصحابها، وانحيازهم معها إذا يكتبون مائلين إلى الناحية التي تكمن فيها أغراضهم الذاتية، وأهوائهم القومية والعنصرية. والعلم متى اصطبغ بالتشيع، وتلون بالتغرض، ومال حيث تميل العاطفة، فسد وصار باطلاً مفتعلاً، وهراء مبتذلاً. ومن نكبة العلم أن تقوم فئة من المؤرخين المتشيعين، فتعلن عدائها للعرب، وتروح بدافع هذه العداوة تشوه وجه تاريخهم المشرق بشتى الوسائل والسبل؛ آناً بالوضع والاختلاق، وحيناً بسوء التفسير والتأويل، حتى نفثت فيه من سمومها كل ما ينتقص جليل قدرهم، وينال جميل سمعتهم، ويضع من عالي مكانتهم، وذلك شفاء لغيظ نفوسها، وإطفاء لحزازات صدورها. ومن هذه السموم والأباطيل ما يروج له بعضهم من أن الفاروق هو الذي أمر بإحراق خزانة الإسكندرية على حين قد أثبت المنصفون إنها قد أحرقت قبل الفتح الإسلامي
تأسيس هذه المكتبة
لم يكد الإسكندر المقدوني يعبر البحر إلى أسيا، ويمعن في أقطارها فتحاً واستعماراً، ويستولي فيها على إرث ملوك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس، حتى أخذ يستفيد من حضارات ومدنيات وعلوم وآداب هذه الأمم المغلوبة على أمرها، فسعى في نقل ما في خزائنها إلى اللسان اليوناني والقبطي وأرسله إلى مصر. فقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست ص 329 ما نصه: (أن الإسكندر لما فتح عاصمة الفرس (أصطخر) نسخ جميع ما في خزائنها من الكتب إلى اللسان اليوناني والقبطي، وبعث بها وبسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى مصر)
وفي عام 323 ق. م. توفي الإسكندر فكأنما كان موته ريحاً زعزعاً، بدد شمل تلك الإمبراطورية التي أقام بنيانها، وأسس دعائمها، إذ اقتسمها قواده من بعده، فأختل النظام،(275/15)
واضطرب حبل الأمور، وعمت الفوضى وكثرت المظالم، فرحل معظم علماء اليونان عن بلادهم إلى مصر والشام والعراق، حاملين معهم نتائج قرائحم، وخصب عقولهم، فأنشئوا المدارس في الإسكندرية وإنطاكية وبيروت، وكانت الإسكندرية إذ ذاك تحت حكم البطالسة، وكان سوتر أول ملوكهم عادلاً محباً للعلم والعلماء، فتوجهت إليها الأنظار، وتوافدت عليها العلماء والأدباء والفلاسفة، أفواجاً أفواجاً، حتى غصت بهم مدارسها ودورها وأنديتها. فتقرب إليهم سوتر، وأدناهم من بلاطه، وأغدق عليهم منحه عطاياه، فكان ذلك مشجعاً لهم على مواصلة البحث والدرس والتأليف، فأصبحت الإسكندرية بفضل سياسته قبلة المتأدبين، ومثابة العلماء يحجون إليها من مختلف الأقطار، ويجدون فيها من أسباب اليسر والرخاء ما ينصرفون معه إلى مواصلة دروسهم والانقطاع إليها
ويروي لنا التاريخ أن خطيباً أثينياً أسمه ديمتريوس فاليروس كان قد أشار على سوتر بإنشاء مكتبة يجمع إليها الكتب من مختلف أنحاء الدنيا، فقبل مشورته، وعهد إليه بذلك، فأخذ فاليروس يجمع الكتب ويبتاعها من تجار بغالي الأثمان، فجمع منها في مدة وجيزة (54 ألف كتاب)، فكون منها مكتبة الإسكندرية الشهيرة التي عبثت بها الأيام فيما عبثت، وقد كانت تحتوي على الكتب التي بعث بها الإسكندر من اصطخر وغيرها إلى مصر، ثم أنشأ سوتر المتحف أو النادي على شكل مدارس أوربا، ويعرف في التاريخ باسم مدرسة الإسكندرية الشهيرة
وفي عام 285 ق. م. تولى عرش البطالسة بطلوماوس فيلاذلفوس، وكان كسلفه محباً للعلم مشجعاً له، فعمل على توسيع هذه المكتبة، وأضاف لها من كتب علوم اليونان وغيرهم ما لم يكن موجوداً فيها، وابتاع لها الكتب التي كانت موجودة عند أرسطو، وكثيراً من مؤلفات اليهود والمصريين القدماء
ومن المؤرخين من ينسب فكرة تأسيس هذه المكتبة إلى بطلوماوس لا إلى سوتر، فقد ذكر أبن النديم في كتابه الفهرست ص 239 رواية عن إنشاء هذه المكتبة لرجل يدعى اسحق الراهب وإليك نصها: (إن بطلوماوس فيلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك فحص عن كتب العلم وولى أمرها رجلاً يدعى بذميرة فجمع من ذلك على ما حكي أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتاباً، وقال له: أيها الملك قد بقي في الدنيا شيء كثير في السند(275/16)
والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم)
وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من كتاب تراجم الحكماء لوزير حلب المعروف بالقفطي، وتحتوي على نفس عبارة الفهرست عن تاريخ هذه المكتبة ومؤسسها. على أن الثابت من إجماع آراء المؤرخين والمستشرقين هو أن المؤسس لهذه المكتبة هو سوتر لا بطلوماوس، فقد جاء هذا فعمل على توسيعها، ثم خلفه بطليموس أورجينوس عام 247 ق. م. فأضاف إليها كثيراً من كتب الأدب والشعر والتمثيل مما وجده في خزائن أثينا. ويروى أنه فرض على كل من يقيم في الإسكندرية أو يمر بها من رجال العلم أن يقدم للمكتبة نسخة من كل كتاب يملكه، فزهت الإسكندرية بذلك ونبغ فيها من العلماء عدد كبير
وما زال أمر هذه المكتبة في تقدم مطرد وازدياد عظيم، فقد ذكر بطلر نقلاً عن أميانوس مارسلينوس أنها بلغت سبعمائة ألف مجلد. وذكر العالم أكبر سيم أنها قد قسمت إلى شطرين ووضع الشطر الثاني منها في معبد سيرابيس
وفي عام 47 ق. م. حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية فأحرقت جنوده قسماً من هذه المكتبة عن غير قصد
ولما تولى الإمبراطور تودوسيوس أصدر أمراً بتحريض جماعة من المتعصبين للمسيحية بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها فنال هذه المكتبة العظيمة من جراء ذلك ضرر جسيم
وفي عهد الإمبراطور طيودوس منعت الآداب والفلسفة اليونانية منعاً تاماً بأمر الأسقف تيوفيل، وبأمره أيضاً دمرت السيرابيوم عام 391 م. وبنى على أنقاضها كنيسة أو جملة كنائس ولم يبق من هذه الدار إلا بعض الجدران، كما ذكر سيديو (ج 1 ص 155)، وذكر أيضاً أن الكتب الوثنية التي كانت بالسيرابيوم قد أحرقت كلها، وأما الكتب العلمية فإنها حملت إلى القسطنطينية ثم تطاولت الأيدي إلى هيكل (سرابيس) فدمرته وأحرقته في الحال هو وجميع محتوياته والكتب التي كانت فيه.
وهكذا تكون هذه المكتبة قد دمرت وأحرقت غير مرة بأمر قياصرة وبطارقة الروم. وقد تلاشت قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة. ومن المؤرخين من يزعم أنها أحرقت دفعة واحدة، فقد ذكر بطلر نقلاً عن (مبالوس مارسلينوس) أن السبعمائة ألف مجلد التي كانت تحتوي(275/17)
عليها مكتبة الإسكندرية قد أتلفت إتلافاً تاماً حين حوصر يوليوس بالإسكندرية.
ومهما يكن من أمر الخلاف حول عدد مرات حريق هذه المكتبة العظيمة فأن الآراء جميعها متفقة على أنها قد تلاشت قبل الفتح الإسلامي بقرنين، وإنه لم يكن في الإسكندرية حين الفتح العربي ما يحرق من الكتب.
وحوالي عام 414 م. زار أورازيوس الإسكندرية وذكر إنه وجد رفوف هذه المكتبة خالية من الكتب، وفي ذلك أكبر دليل على تبرئة العرب من هذه التهمة الشنيعة التي حملت عليهم زوراً.
شهادات المستشرقين
ونود بعد الذي فصلناه في هذه الكلمة العجلى أن ندلي بشهادات بعض المحققين المستشرقين في الموضوع:
قال مسبرك في كتابه (الادعاءات الكاذبة): (إن الإفرنج هم الذين أحرقوا خزانة الإسكندرية). وقال بونه موري في كتابه الإسلام والنصرانية نقلاً عن فوت واهلويلر في كتابهما (جنايات الأوربيين) إن تيوفيل هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية لا المسلمين، لأن الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب.
وقال غريفيني من علماء المشرقيات في إيطاليا: بعد أن فتح عمرو بن العاص الإسكندرية مرت ستة قرون كاملة لم يسمع خلالها قول لمؤرخ مسلم أو غير مسلم يتعرض لاتهام عمرو بن العاص بإحراق خزانة الإسكندرية. وينقض هذه التهمة ما اشتهر به عمرو من سياسة اللين والتساهل التي جرى عليها وشهد له بها أشهر المؤرخين النصارى الذين كانوا في عهده، كيوحنا النيقيوسي في كتابه تاريخ مصر الذي وضعه باللغة الحبشية القديمة.
وقال بونه موري أيضاً: يجب أن نصحح خطأ شاع طول القرون الوسطى، وهو أن العرب أحرقوا خزانة الإسكندر بأمر الخليفة عمر، والحال أن العرب في ذلك العصر كانوا أشد إعجاباً بعلوم اليونان وفنونهم من أن يقدموا على عمل كهذا، كما أنه معلوم أن قسماً من تلك الخزانة كان قد احترق في أثناء ثورة الإسكندريين التي باد فيها أسطول قيصر، وأن قسماً آخر أحرقه النصارى في القرن السادس، واختط العرب الفسطاط وتركوا للقبط ممفيس ولم يتعرضوا لهم في دينهم وعاداتهم، وأطلقوا لهم الحرية في انتخاب البطريرك وبناء(275/18)
الكنائس. وغاية ما أبطل عمرو من العادات القديمة، هو ما كانوا جارين عليه من زمان الوثنيين من رمي فتاة في النيل كل سنة التماسا لفيضانه
وقال أرنست رينان في خطاب له في المجمع العلمي الفرنسي:
. . . لست أعتقد أن عمراً هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية لأنها أحرقت قبله بزمن طويل
وذكر أكبرسيم في كتابه لم تحرق مكتبة الإسكندرية التي قال بعضهم إنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد الأمام عمر ولا بأمره كما جاء في بعض المصادر. فإن هذه الدعوة من الأغلاط التاريخية العظيمة، إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة عندما فتح العرب مدينة الإسكندرية
ومع كل هذه الشهادات، وظهور الحق الجلي في هذه الغلطة التاريخية الكبرى، فهناك من لا يزالون متمسكين بهذه الأكذوبة المختلقة على العرب، ويستندون في تأييدها إلي أقوال هي في قوتها أوهى من خيوط العنكبوت، وسنورد فيما يلي بعض هذه الأقوال والروايات وندلل على فسادها
يزعم بعض المؤرخين أن من لفق هذه الرواية على العرب هو أبو الفرج بن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول) وروي ذلك العالم الإنجليزي جبون في تاريخ سقوط دولة الرومان قال: إن هذه الفرية على المسلمين قد لفقها أبو الفرج العبري في تاريخه مختصر الدول، وذلك بعد الإسلام بنحو ستة قرون، ولم يتعرض قبله أحد لذكرها من المؤرخين) وذكر أرفنج أن هذه الفرية لم يكن لها ذكر قبل ترجمة مختصر الدول إلى اللاتينية. على أننا لسنا نعتقد بصحة هذا الزعم، إذ تبين لنا أن أول من نسب هذه التهمة إلى عمرو بن العاص والفاروق هو عبد اللطيف البغدادي إذ ذكرها في كتابه (الإفادة والاعتبار ص 28) وكان قد ألفه قبل ولادة أبي الفرج عام 1266 م.
رواية عبد اللطيف:
ففي أواخر القرن السادس للهجرة زار عبد اللطيف مصر وكتب عن مشاهدها وآثارها وذكر إحراق العرب لهذه المكتبة قبل أن يولد أبو الفرج ببضع وعشرين سنة وإليك نص عبارته: (ورأيت أيضاً حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة بعضها صحيح(275/19)
وبعضها مكسور، ويظهر من حالها أنها كانت مسقوفة، والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها. وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطو طاليس وشيعته من بعده وأنه دار المعلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بأذن عمر رضيّ الله عنه)
والظاهر أن هذه العبارة قد جاءت في كلام البغدادي عرضاً عن غير قصد، ومما يطعن فيها أن يذكرها بعد ستة قرون ولا يدل على المصدر الذي نقلها عنه، والأغرب ألا يذكرها مؤرخان مسيحيان معاصران من مصر، فقد كتب أفتيكيوس بطريرسك الإسكندرية كلاماً مستفيضاً عن استيلاء المسلمين على ثغر مصر ولم يشر إلى هذه الحادثة قط، وكذلك أوتينموس، فإنه لم يشر إليها أيضاً، ومثله المؤرخ (يوحنا أسقف نيقوس) وتاريخه مصدر يركن إليه.
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعه الطوال(275/20)
للأدب والتاريخ
مصطفى صاق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 40 -
(طال بي الحديث إلى قراء الرسالة عن الأسباب التي كانت تملى على الرافعي موضوعاته التي كتبها لقراء الرسالة، فسأرجئ ما بقي من هذا الباب إلى موضعه من كتاب (حياة الرافعي) الذي يصدر قريباً؛ ليتسنى لي أن أنشر على القراء ما يتيسر نشره من فصول هذا التاريخ قبل الفراغ من طبع الكتاب)
سعيد العريان
رسائل القراء إليه:
لم يكن بين الرافعي وقرائه صلةٌ ما قبل أن يبدأ عمله في الرسالة، ولم تكن أصوات القراء تصل إليه من قريب أو من بعيد، إلا طائفة تربطه بهم صلات خاصة كان يكتب إليهم ويكتبون إليه؛ فلما اتصلت أسبابه بالرسالة، أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة، حتى بلغ ما يصل إليه في اليوم ثلاثين رسالة أو تزيد. وأستطيع أن أقول غير مبالغ: إن الرافعي قد عرف من هذه الرسائل عالماً لم يكن به عهد، وانتقل بها نقلة اجتماعية كان لها أثر بليغ في حياته وتفكيره وأدبه. وإذا كان مؤرخو الأدب قد اصطلحوا على وجوب دراسة البيئة التي يعيش فيها الأديب والتطورات الاجتماعية التي أثّرت فيه، فأن مما لا شك فيه أن الحقبة التي كان الرافعي يكتب فيها للرسالة - كانت تطوُّراً جديداً في حياته الاجتماعية نقله إلى عالم فيه جديد من الصور وألوان من الفن تبعث على التأمل وتوقظ الفكر وتجدّد الحياة. وقد عاش الرافعي حياته بعيداً عن الناس لا يعرف عنهم ولا يعرفون عنه إلا ما ينشر عليهم من رسائله ومؤلفاته، فكان منهم كالذي يتكلم في (الراديو) يسمعون عنه ولا يسمع منهم، وليس له مما يستمد منه الوحي والإلهام إلا ما تجيش به نفسه، ويختلج في وجدانه، غير متأثر في عواطفه الإنسانية بمؤثر خارج عن هذه الدائرة المغلقة عليه(275/21)
وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علّته سبب يباعد بينه وبينهم؛ فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويُحصِّل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم. . .
ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفتْه طائفة لم تكن تعرفه، وتذوْق أدبه من لم يكن يسيغه؛ وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئاً يعبر عن شيء في نفوسهم؛ فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فأنفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطلع على خفيات من شئون الناس كان له منها علٌم جديد. . . فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فأنتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة. . .
هي نقلة اجتماعية لا سبيل إلى إنكار أثرها في الرافعي وأدبه، وإن لم يفارق بيئته ومنزله وأهله
والآن وقد وصلت إلى جلاء هذا المعنى كما شاهدته وعاينت أثره، فأني أتحدث عن ضرب من هذه الرسائل التي كانت ترد إلى الرافعي من قرائه، ليعرف الباحث إلى أي حد تأثر الرافعي بها، وأيَّ المعاني ألهمته وقدحت زناد فكره؛ وإذا كانت بعض (الظروف الخاصة) قد حالت بيني وبين الاطلاع على كل هذه الرسائل التي خلّفها لتتم لي بها دراسة التاريخ، فحسبي ما أقرأني الرافعي منها في أيام صحبته، وما اطلعت عليه بنفسي من بعد. . .
نستطيع أن نردّ الرسائل التي كانت ترد على الرافعي إلى أنواع ثلاثة:
1 - رسائل الإعجاب والثناء
1 - رسائل النقد والملاحظة
3 - رسائل الاقتراح والاستفتاء والشكوى
أما النوعان الأولان فليس يعنينا منهما شيء كثير، وحسبي الإشارة إليهما؛ على أنه ليس يفوتني هنا أن أشير إلى أن أكثر ما ورد إلى الرافعي من رسائل الإعجاب، كان عن مقالاته في الزواج وكان أكثر هذه الرسائل من الشبان والفتيات، وقلما كانت تخلو رسالة من هؤلاء أو هؤلاء، من شكوى صاحبها أو صاحبتها وتفصيل حاله. وأطرف هذه الرسائل(275/22)
هي رسالة من آنسة أديبة في أسيوط كتبت إلى الرافعي تسأله أن يكتب رسالة خاصة إلى أبيها - وقد سمْته في رسالتها - يعيب عليه أن يعضل ابنته ويردّ الخطَّاب عن بابه حرصاً على التقاليد. . .
. . . ثم رسالة من (مأذون شرعي) يحصي فيها للرافعي بعض ما مر عليه من أسباب الطلاق في الأسر المصرية، ويردها كلها إلى سوء فهم الناس لمعنى الزواج وحرصهم على تقاليد بالية ليست من الدين ولا من المدنية، وفي هذه (الإحصائية) الطريفة قصص خلقية بأن تنشر لو وجدت من يحكيها على أسلوب فني يكسبها معنى القصة
واعجب ما قرأت من رسائل النوع الثاني، رسالة جاءته بعقب نشره مقالة (الأجنبية) عليها خاتم بريد (شطانوف) فلما فض غلافها لم يجد فيها إلا صفحات ممزقة من الرسالة التي نشرت فيها القصة ومعها ورقة فيها هذه الأسطر:
سيدي الأستاذ إن كان لا بد من رد فهذا هو خير رد، وإن كان لا بد من كلمة فكلمتنا إليك هي تلك الكلمة التي ختمت بها هذا الكلام المردود إليك
(مصري)
ومن النوع الثالث من هذه الرسائل، كان استمداد الرافعي ووحيه ودنياه الجديدة، وإلى القراء نماذج مختلفة من هذه الرسائل
1 - هذه رسالة فتى في العشرين، يكتب إلى الرافعي من الإسكندرية يقول:
(أستاذي الكبير
(ليس لي الآن إلا ربي وأنت يا أستاذي، وإن من حقك عليَّ أن أسألك حقي عليك وقد هداني الله إليك
(. . . قرأت وتدارست ما كتبته عن الانتحار، فماذا تقول في امريء علم عمن الجنة تحت أقدامها أنها فسقت وزلْت. . فهو يتحين الفرصة ليقتلها. إني أبكي يا أستاذي إذ أعيد هذا القول.
أبكي دماً. لي أخوة وأنا أكبرهم، ولا أخاف إلا أن لي أختاً.
وأبي - غفر الله له - ليس له ما يكون للرجل من معاني الرجولة ليضمن ألا يكون في بيته شيء مما قد كان. . .(275/23)
(الشك يساورني منذ أكثر من عامين. واليوم فار التنور، إذ سمعت إنها حبلى. ووقع في يدي ما ملأني يقيناً بتصديق إثمها؛ ولقد همت أن أفعل ما لا يُفعل، وأنا أخشى ألا يتداركني حكمك.
(. . . ماذا تقول يا أستاذي؟ أنا الصابر أبداً كاد الصبر يتلاشى من نفسي، أنا المطمئن أبداً كاد أمري يضيع من يدي. أنا كالمجنون لا يبقني شبه عاقل إلا أنت، فماذا تقول يا أستاذي وبماذا تحكم؟ يكتبها الله لك فتداركني برأيك. . .
(ولك مني شكر من يسأل الله ويسعى إلى أن يكون بنفسه وحياته من حسنات تربيتك، وأن يكون في اليوم الآخر كلمة من سطر من كتابك القيم. . .
(ومعذرة لي من لدنك إن أغفلت الآن اسمي)
في 1451935
2 - وهذه معلمة في إحدى مدارس الحكومة، حامت حولها ريبة فوقفتها وزارة المعارف حتى تحقق أمرها، فكتبت إلى الرافعي تسأله أن يعينها بجاهه حتى تعود إلى عملها الذي تعول منه أبويها؛ فيشفق عليها الرافعي ويسعى سعيه لبراءتها. . . وعادت إلى عملها؛ وحفظت الجميل للرافعي، فكانت تكتب إليه كل أسبوع رسالة تبثه خواطرها، وتصف له من أحوالها وما تعمل؛ وتكثر رسائلها إلى الرافعي حتى يزول الحجاب بينهما، فتصرح له بما لا تصرح فتاة، ويؤول أمرها في النهاية أن تكتب للرافعي بأنها عاشقة. . . وأن معشوقها الصغير - التلميذ في إحدى المدارس الصناعية بالقاهرة - لا يعلم ما تكن له. هي تلقاه، وتماشيه، وتخلو به خلوات (بريئة) ولكنها لم تكشف له عن ذات نفسها، وتأكلها النار في صمت. . .! وتقول في رسالتها إلى الرافعي:
(. . . فدبرني يا سيدي في أمري؛ قلبي يحس أنه يحبني، لقد قالتها لي عيناه، ولكنه لم يتحدث إلي، ولست أجد في نفسي القدرة على التصريح له. . .)
وتتوالى رسائلها إلى الرافعي تصف له ما تلاقي من الوجد بحبيبها الذي تكبره بسنوات، ويقرأ الرافعي رسائلها فيبتسم، ويتناول قلمه الأزرق فيثوِّر فيها علامات يشير بها إلى مواضع وفِقَر تلهمه معاني جديدة وفكراً جديداً؛ ويشتط الحب بالمعلمة العاشقة حتى تنظم الشعر، فتبعث إلى الرافعي بقصائدها ليرى رأيه فيها. . .(275/24)
بين يديّ الساعة آخر رسالة من رسائلها إلى الرافعي. بعثت بها إليه قبل منعاه بقليل. ليت شعري كيف انتهت قصة هذا الحب؟
3 - وهذه رسالة من (حلب) يدهش كاتبها أن يرى صورة (الشيخ) مصطفى صادق الرافعي مطربشاً حليق اللحية أنيق الثياب، فيكتب إليه:
(. . . لقد رأيت رسمك يا مولاي فتأملته. . فوجدته من أناقة الجلباب ومظهر الشباب على حظ. فهل لك يا مولاي في مجاراة المدنية ومماشاة الحضارة رأى دعاك إلي هذا المظهر الأنيق؟. . .)
4 - وتلك رسالة من (دمشق) وقع كاتبها في هوى مغنية مشهورة، يحسن الظن بها إحساناً يمثلها لعينيه مَلَكا أنثى؛ لا يترك مجلساً من مجالس غنائها، ولا يفكر في خلوته إلا فيها. .
ثم يأتيه النبأ أنها قد سُمِّيتْ على رجل من ذوي اليسار والنعمة، وأنها موشكة أن تصير له زوجة، فيطير به هذا النبأ ويؤلمه أيَّما أيلام؛ فيكتب إلى الرافعي يقول:
(. . . إن خطيبها على غناه رجل فاسد الخلق، متقلب القلب، دنس الذيل؛ وأنا على يقين أنها ستشقى به وقد خفيت عنها حقيقته. وأنا أحبها وأشفق عليها وأتمنى لها السعادة. . .
(هل يجب عليُّ أن أقف وقفة المحذر بإقناعها بالعدول عن هذا الزواج الذي لا أتوقع له إلا نهاية واحدة قريبة، أو ألزم الصمت وأدع الأمور تجري في مجاريها وأقطع علائقي معها فأرد لها صورها ورسائلها احتراماً لهذا الزواج من الناحية الشرعية وأدفن ذلك الحب لها في ركن من أركان قلبي؟)
5 - وذلك طالب في الجامعة، له دين وخلق ومروءة، بلغ مبلغ الرجال وفار دم الشباب في عروقه فتسلّطت عليه غرائزه، تغالبه شهواته فلا يكاد يغلبها، ولا يجد له سلطاناً على نفسه أو وسيلة لقمع شهواته إلا أن يحبس نفسه أياماً في غرفته الموحشة، ومع ذلك لا تزال (المرأة) تتخايل له بزينتها في خلوته وفي جماعته، فليس له فكر إلا في المرأة، وأنه ليخشى الله، وما به قدرة على الزواج، ولقد جرب الصوم فما أجدى عليه، وقد أوشك أن يفقد نفسه بين شهوات تتجاذبه ودين يأبى عليه. . . فماذا يفعل؟
6 - وهذه فتاة متعلمة، تعيش بين أبيها وزوج أبيها في هم لا يطاق، كل سلوتها في حياتها أن تقرأ، وهي لا تحسن عملاً ولا تجد لذة في عمل غير القراءة، ولكنها تنكر موضعها بين(275/25)
أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعتها عبث ولهو وسوء خلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعد، ولو أنه طرق بابها لأشاحت عنه معرضة في وجل، لأنها تسيء الظن بكل الرجال. فماذا تعمل؟
7 - وهذا فتى مثاليٌّ يحسن الظن بالأيام ولكن الأيام تخلفه موعده: أحب فتاة من أهله وأحبته وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوجوها من غيره
والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكن وجدها غُلاًّ في عنقه وكمامة على فمه
وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدراً بوفاء
وكلما غرس زهرة هبت عليها أعاصير الحياة فاقتلعتها وألقتها في مواطئ النعال
وبرم الحياة وضاقت به الدنيا وما يزال في باكر الشباب. . . فماذا يصنع؟
8 - وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين يخاف الله ويخشى عذابه: أحب فتاة من جيرته حباً (عُذرياً) وأحبْته، وبرّح بهما الحب حتى ما يطيقا أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيته ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة، ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما. . . ووقعت الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له. . .
. . . ولما فاءت إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقاً في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تُطق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث ولم تطق أن تراه بعد؛ وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتت محترقة. . .
وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعاً كيف ماتت. . . ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته؛ ومضت سنتان منذ وقعت الفاجعة ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته:(275/26)
(. . . إنني أنا الذي قتلتها، إن دمها على رأسي؛ لقد ماتت ولم يعلم بسرها أحد غيري وهذا أشد ما يؤلمني، ولقد احتملت بصبر وثبات كل ما نالني في هاتين السنتين من تأنيب الضمير وعذاب القلب، ولكني اليوم أحس بأن صبري قد انتهي ولم يبق فيّ قوة على الاحتمال أكثر مما احتملت. . . فماذا أفعل، ماذا أفعل. . .؟)
ألوان وصور، وملائكة وشياطين، ونفوس تتعذب، وقلوب تحترق، وأنات وابتسامات، ودنيا لم يكن للرافعي بها عهد، ولم تكن تخطر له على بال.
وفي الأسبوع الآتي بقية الحديث عن رسائل القراء.
(شبرا)
محمد سعيد العريان(275/27)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 12 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلاً)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: الفسفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ب - (متابعاً حديثه عن أرشليوس) والواقع أنهُ بُعِثَ أولاً ليبحث فيما يقال عن (الكتِاس) عمه وسيده كيما يرد إليه العرش الذي سلبه منه أخوه (بردكاس) ولكنه ما أن عثر عليه حتى أسكره وأثمله هو وولده (الكسندر) الذي كان يقاربه في السن، ثم وضعهما في عربة وخرج بهما ليلاً إلى العراء حيث ذبحهما وأخفاهما دون أن يتصور أنه قد أصبح بعد جريمته هذه أشقى الناس وأتعسهم، ودون أن يشعر حيالها بأي ندم أو تأنيب!!؛؛ وبعد فترة(275/28)
قصيرة مضى إلى أخيه ذي الحق الشرعي في العرش - وكان طفلاً لم يبلغ السابعة بعد، وبدلاً من أن يسعد نفسه بالأشراف على تربيته وتعليمه كما كان يجب عليه، وبدلاً من أن يمنحه السلطة المشروعة: رمى به في بئر وقال لأمه (كليوباترا) إنه وقع فيها ومات بينما كان يجري خلف إوزة!!؛؛ وعلى هذا يجب أن يكون أشنع أهل (ماقدونيا) إجراماً، وأكثرهم تعاسة وشقاء بدلاً من أن يكون أوفرهم سعادة وهناء! ولكن ربما يوجد أكثر من أثيني - إذا بدأنا بك - يفضل مركز أي مقدوني آخر على مركز (أرشليوس)!!
ط - لقد هنأتك منذ بدأ الحديث على ما لاح لي من تدفق خطابك. ولكني قلت لك حينذاك إنك أهملت فن الحوار إهمالاً! والآن هل هذا هو التدليل المشهور الذي يستطيع حتى الطفل أن يناقضني به؟ وهل أستطيع أن أقتنع بك وبقولك إني كنت مخطئاً عندما قلتُ إن الرجل الظالم لا يكون سعيداً؟ وكيف أقتنع وأرضى يا عزيزي وأنا لست على وفاق مع أي تأكيد من تأكيداتك؟
ب - ذلك من سوء إرادتك لأنك في صميمك ترى رأيي!!
ط - حسن جداً يا بولوس فأنت تحاول أن تناقضني بأسلوب المحاماة كما يدعي من يفعل ذلك في المحاكم!، إذ هناك يعتقد المحامون أنهم يناقضون خصمهم إذا هم دعموا دفاعهم بشهود عديدين محترمين في الوقت الذي لا يستطيع الخصم فيه إلا أن يحضر شاهداً واحداً أو لا شاهد على الإطلاق!.، ولكن هذه الطريقة عديمة الجدوى لأن الفرد الواحد قد يتعرض لشهادات خاطئة من شهود عديدين ومعروفين بالنزاهة والاستقامة!! وإذا شئت في حالتنا الراهنة، وفيما يتعلق بما تقول، أن تقدم شهوداً يشهدون على خطأي، فسترى أن جميع اليونانيين والأجانب تقريباً يرون رأيك الخاص! وأنت تستطيع إذا شئت أن تجعل (نكياس) ابن (نيسراتوس) يشهد في جانبك ومعه أخوته الذين نرى مواقدهم مصفوفة في محراب (ديونيسس)، كما تستطيع أن تجعل (اريستوقراط) ابن (سكيليوس) صاحب القربان الجميل في (بيثو) أن يشهد بالمثل، لا بل أمامك إذا رغبت كل عائلة (بركليس) أو أية عائلة أثينية يسرك بعد ذلك أن تختارها!!، ولكن سيظل رأيي - ولو أني وحيد - مخالفا لهؤلاء جميعا لأنك لم تقنعني بعد! ذلك أنك لم تفعل سوى التقدم بذلك الجمع من الشهود الزائفين لكيما تنزع مني الحقيقة والخير!، ولكن - على النقيض - إذا لم أظفر بك أنت نفسك، وأنت(275/29)
وحدك كشاهد، وإذا لم أجعلك توافق على قولي، فأني أعد نفسي كأني لم أقدم ما يجرؤ على حل السؤال الذي يشغلنا، كما أعدك لم تفعل شيئاً بالمثل إذا لم أشهد لك وحدي وبشخصي. وإذا لم ترفض عداي كل الشهود الآخرين! فهناك إذا طريقة للمناقضة هي تلك التي تعرفها ويعرفها معك الكثيرون، ولكن هناك طريقة أخرى أتخيلها من ناحيتي. فلنقارن إذا هاتين الطريقتين، ولنر إذا كانتا تختلفان فيما بينهما، لأن الأشياء التي نتنازع فيها ليست باليسيرة في نتائجها، بل أنه لا يوجد ما هو أجمل في معرفته ولا أشنع في الجهل به منها، لأنها تتعلق إجمالا بمعرفة ما هو جميل وما هو قبيح.!!. .
ومن حيث النقطة التي تشغلنا: أترى إن الإنسان يستطيع أن يكون سعيداً عندما يظلم ويرتكب الشر، لأنك تعتقد أن ذلك هو تدليلك؟
ب - نعم، انه هو إطلاقا!
ط - وأنا أزعم إن ذلك محال!. وتلك هي النقطة الأولى التي نختلف فيها فلنمض إلى الثانية. أيكون الظلم سعيداً إذا تقدم للعقاب؟
ب - كلا على الإطلاق!. إنه يكون تعيساً جدا في هذه الحالة!!
ط - وإذا فأنت تراه سعيداً إذا لم يعاقب؟
ب - بالتأكيد!
ط - وأنا أزعم يا بولوس أن ذلك الذي يرتكب الظلم ويحمله في قلبه يظل شقياً في جميع الأحوال، وأنه يكون أكثر شقاوة إذا لم يعاقب على ظلمه، أما إذا عوقب ولقي جزاءه من الآلهة والناس فانه يكون أقل شقاء!
ب - إنك تروج يا سقراط لمتناقضات عجيبة!!
ط - سأحاول يا رفيقي أن أشركك في عاطفتي لأني أعدك صديقاً. هاك هي النقط التي نختلف عليها فلترها بنفسك. لقد قلتُ من قبل إن ارتكاب الظلم أفدح من احتماله؟
ب - نعم!
ط - وقلتَ أنت إن احتماله أفدح من ارتكابه؟
ب - نعم
ط - وقلتُ أيضاً أن مرتكبي الظلم أشقياء فناقضتني؟!(275/30)
ب - نعم وحق زيوس!
ط - أذلك هو ما تعتقد - على الأقل - فيه يابولوس؟
ب - ولي الحق في الإيمان به!
ط - ذلك جد ممكن. ولكن أترى من ناحيتك أن أولئك الذين يظلمون يكونون سعداء إذا فروا من العقاب؟
ب - تماما
ط - وأنا أرى أنهم أشقى الأشقياء وأن أولئك الذين يلقون جزاء ظلمهم يكونون أقل منهم شقاء!. أتريد مناقضتي أيضاً في هذه النقطة؟
ب - أواه يا سقراط إنها لأصعب في المناقضة من سابقتها!
ط - لا تقل (أصعب) يا بولوس بل قل (مستحيل) لأنك لن تناقض (الحق أبداً)
ب - أي شيء تقول؟ ذاك هو شقي باغتناه وهو يحاول أن يكون ظالماً طاغياً فأوقفناه، وعذبناه، فسلمنا عينيه وقطعناه بقسوة بمختلف وسائل التعذيب، ثم أنزلنا بامرأته وأولاده نفس العذاب، ثم صلبناه أخيراً وطلينا جسده بالقار وحرقناه حياً!، أترى لا يكون هذا الشخص أسعد لو قد فَرَّ وصار طاغياً فحكم مدينته، واشبع شهواته، وأصبح موضوعاً للإعجاب والحسد من الأجانب والمواطنين؟؟ ذلك ما ترى أن مناقضته مستحيلة يا سقراط!!
ط - إنه لخيال مزعج ذلك الذي تقدمه أيها الشجاع بولوس! ولكنك مع هذا لم تناقضني في شيء لأنك لم تفعل إلا مثلما فعلت عندما كنت تقدم شهودك!! لذلك أرجو أن تذكرني بشيء يسير!. لقد فرضت أن ذلك الشخص كان يطمح (بظلم) إلى الطغيان؟؟
ب - نعم!
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(275/31)
العاطفة
وأثرها في التقدير الأدبي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
لما وضع أرسطو مذهبه في النقد الأدبي، أقامه على المنطق والفكر، واعتبر العقل وحده كلَّ شيء في أدراك الحقيقة الفنَّية النافعة، يكشف ويوضح، ويقيس ويضبط، ويتلمس ويعلل، وينتهي من وراء ذلك كله إلى جملة من الضوابط والقوانين، يراها صالحة في كل زمان ومكان لقياس الفن، وتقدير الأدب، وفهم الجمال. فكأن النقد عند هذا الفيلسوف الخالد، باب من الفلسفة؛ وبحث في العلم، فهو يعالجه بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر، والشاهد البينّ، فأما الحس فلا اعتبار له عنده، ولكنه - كما يقول المعري - زجر طير هي خليقة بالكذب، فأن صدقت فباتفاق!!
هذا المذهب الذي وضعه أرسطو كان مثار خلاف بين النقاد من بعده، وخصوصاً النقاد الفرنسيين الذي نهلوا من مراشف الثقافة الغاليَّة، فجماعة من ورائه يقولون العقل فحسب! وجماعة يذهبون إلى أكثر من ذلك فيقولون: العقل والعاطفة. والذين قرءوا تاريخ الآداب الفرنسية يعرفون إلى أي حد كان النقاد في الطور الأول يمجدون العقل ويذعنون لمنطقه، حتى لقد حاول (ماليرب) أن يخضع له قرائح الشعراء وعواطفهم، ثم أتى من بعده (بوالوّ) الذكي الفطن فمنح العقل المرتبة الأولى في عداد الصفات البشرية، واعتبره مصدر كل أثر ذي شأن في النقد والأدب. ولكن لما جاء (شاتوبريان) انتهج في النقد نهجاً أحفل بالفن فقال: إن العقل وحده لا ينتج أعمالاً عظيمة، وإن الناقد الحقيقي من حكّم عقله وقلبه، واستغلَّ منطقه وعواطفه معاً في فهم ما يقرأ. فلما كان العهد الأخير قامت المناظرة حادة عنيفة بين فردينان برونتيير وأناتول فرانس حول الملكات المعتبرة في النقد فقال برونتيير: العقل. . . ثم العقل. . . ثم العقل. وقال فرانس: كلا!! لا يمكن أن يكون فن الأدب غير عاطفي، وكذلك نقده. لأن الفن ذاته عاطفة، وكاذبون هم أولئك النقاد الذين يزعمون أنهم قادرون على انتقاد الأدب وتقديره دون عواطفهم! وعندي أنه ليس أسخف من ناقد يتخذ مقاييس الألفاظ والأوزان في نقد قطعة فنية نفخ فيها صاحبها من عواطفه، واعتصرها من روحه وإحساسه، فأن المشاكل الخفية في الأدب والنقد لا يحلها علم النحو(275/32)
والصرف، ولا تشرحها المعاجم وأوضاع اللغة، ولكنها في حاجة إلى تلك العاطفة العلوية الفياضة التي لا تقيدها فواصل وحدود، ولا تحدها أبعاد وتخوم!!
والواقع أننا نستبد بعواطفنا كثيراً ونجحد الحق وما هو ثابت من نواميس الحياة إذ نندفع في تيار أولئك الواقعيين فنعتبر العقل كل شيء في تعليل كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا؛ فأن هناك القلب يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أرهف وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة. ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيماً لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر بعض الناس في هذه الأيام بالموت والانتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة النافعة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يمجدها أولئك الواقعيون الماديون أنفسهم. وأنت - أبقاك الله - تأمل في نفسك، وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية، والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة، والأب، والأم، والزوجة، والوطن، والدين، والتقاليد، وفكرات الشرف والعرض، وكل ما إلى ذلك، ثم استسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في فهم تلك الأمور عامتها، تجده يجيبك جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر فلإنسان - كما يقول العقاد - لا يحيا بالعقل وحده، ولا يفهم بالعقل وحده، ولكنه يحيا بالحياة التي هي مجموعة من الحس والغريزة والعطف والبداهة والخيال والتفكير. فأنت إذا أردت أن (تفهم) إنساناً فليست كل وسائلك إلى فهمه أن تسلط عليه ملكة التحليل والتعليل، بل أنت مشترك في فهمه بخيالك وحسك وغريزتك وتفكيرك وعطفك وجميع أجزاء حياتك، وشأنك في فهم الكون كشأنك في فهم الإنسان أو فهم أي شيء من الأشياء وخاطرة من الخواطر. فقولك (تفهمها) مرادف لقولك تحسها وتتخيلها وتشملها بعطفك وبديهتك وتفكيرك. ولأن تحس ما ينبغي لك عمله دون أن تقوى على تعليل ذلك خير لك وألف خير من أن(275/33)
تعلل وتحلل وأنت عاجز عن العمل والإحساس
وإذن فليس من الصواب أن نتخذ العقل وحده طريق إدراك وفهم، وأداة تقدير وحكم، وإنما الواجب أن نستخدم في ذلك جميع حواسنا وعواطفنا وكل ما لدينا من المواهب والملكات.
وإذا كان هذا من اللازم بالنسبة لاعتبارات الحياة ومسائل العلم، فأنه لا شك ألزم بالنسبة لتقدير الأدب الذي هو فيض العواطف، وذوب المشاعر، ورسالة الروح، ومن ثم تعلم سر الفشل الذي يحيق بأناس يحملون أنفسهم على معالجة الأدب، ويبيحون لضمائرهم القضاء في مسائله وهم أجلاف غلاظ قد سلبوا كل إحساس وكل عاطفة. ولقد حكى العقاد فقال: كنا منذ أيام نتطارح قصيدة أبن الرومي في رثاء ولده (محمد) وهي القصيدة التي يقول فيها:
طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ... وأخلفت الآمال ما كان من وعد
ألح عليه النزْف حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
إلى أن يقول:
وأولادنا مثل الجوارح أيها ... فقد كان الفاجع البيّن الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أو السمع بعد العين تهدي كما يهدي
ثكلت سروري كله إذ ثكلته ... وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد
إلى أن يقول:
محمد! ما شيء توهم سلوه ... لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوه بل حزازة ... يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد، إلا رجلاً لا بأس باطلاعه كان يقول: ولكن أحسن من هذا قول أبن نباته في رثاء ابنه:
قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فما يكاد يجيبه(275/34)
هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه
وقوله فيه:
يا راحلاً من بعد ما أقبلت ... مخايل للخير مرجوة!
لم تكتمل حولاً وأورثتني ... ضعفا (فلا حول ولا قوة)
وجعل يعجب من (وليده وحبيبه) التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف قوله (فلا حول ولا قوة) ويقول: إن في هذا المعنى لحسناً! وقد استغرب العقاد ذلك الاستحسان من ذلك الرجل الذي (لا بأس باطلاعه) وعجب له كيف يرفع أبن نباته في شعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه؛ وعندي أنه لا وجه للعجب والاستغراب، لأن ذلك الرجل وإن كان (لا بأس باطلاعه) إلا أنه - على ما هو واضح من شأنه - لم يرزق الإحساس الفني، والعاطفة الفياضة التي تفتح له آفاقاً من الفهم، وتهيئ له الإدراك والنظر في الأدب وما هو بسبيل الأدب من مظاهر الفن والجمال، فليس من الغرابة أن يخطئ ذلك الرجل في التقدير الأدبي، وأن يسف هذا الإسفاف البين في الحكم على الشعر، ولكن من الغرابة أن يباح له النظر في الأدب، والحكم على أقدار الأدباء، ووضعهم فيما هو جدير بهم من المكانة الفنية، وما هو من أهل ذلك ولا عنده أداته من الطبع والحس والعاطفة وبشاشة الروح. وكأن الجاحظ كان يقرر هذا المعنى إذ يقول: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيده فرأيته لا ينتقد إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتّاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. وصدق أبو عثمان، لأن أدباء الكتاب أدق إحساساً، وأوفى شعوراً، وأرهف عاطفة، فهم أقدر على اختراق معالم الوجدان والإحساس بجمال الآثار الفنية، والصور الذهنية المرسومة، فيكون بين الناقد والقائل تجاوب روحي، وامتزاج في الأحاسيس، وهذا هو طريق الإدراك الصحيح، والتقدير الحق، وكأني به الطريق الذي ينشده الفنانون أنفسهم، فقد طلب (بودلير) في الناقد أن يكون مرهف العاطفة، دقيق الإحساس، ينتقد بانفعال، لأن الانفعال يقرب بين الأمزجة ويسمو بالمدارك وكذلك اشترط البحتري في نقد الشعر أن يكون من شاعر مارس الفن، إذ سأله عبيد الله بن طاهر فقال: يا أبا عبادة! مسلم أشعر أم(275/35)
أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس لأنه يتصرف في كل طريق، ويتنوَّع في كل مذهب، أن شاء جد، وأن شاء هزل! ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا! فقال: أيها الأمير! ليس هذا من علم ثعلب وإضرابه. . . وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه!!
وإنها لنظرة بصيرة اتفق فيها الشاعران الفرنسي والعربي، لأن الناقد فنَّان قبل كل شيء، وإن التقدير الأدبي موهبة لا تتأتى ولا تستقيم كما يظن بعض الناس بدراسة النحو والصرف، واللغة والغريب، والتوفر على البحث في بطون الكتب، فأن هذا كله لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية، وعاطفة فياضة فنّانة، وإن العلم مهما بلغ مقداره لا يخدم في الفطن الحمأة، ولا يقوّم المشاعر المعوجة. ويا ضيعة الأدب، ويا خسارة الفن إذا ما جمدنا في تقديرهما على أوضاع أهل اللغة، واعتبارات علماء البلاغة. ولعمرك إلى أي حد تفيد هذه الأشياء في التقدير الفني لقول الطغرائي مثلاً يصف شجو حمامة سمعها تنوح وهو غريب بالعراق:
أيكّيه صدحت شجواً على فننٍ ... فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إلفاً ولا فجعت ... فذكرتني أوطاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة ... أضحت تجدد وجد الموثوق العاني
تشبهت بي في وجدي وفي طربي ... هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر ... من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربّة البانةِ الغناءِ تحضنها ... خضراء تلفت أغصانها بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ... ناءٍ عن الأهل ممنوع بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب ... وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوان
أولا فقصرَك حتى أستعين بمن ... يعنيه شأني ويأسو كلم أحزاني
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ... مني الهموم ولا تدرين ما شأني
كلي إلى الغيم إسعادي فان له ... دمعاً كدمعي وإرناناً كأرناني
أو كقول أبن الجهم:
وا رحمتا لغريب بالبلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا؟(275/36)
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وفي غربته: ... عدل من الله كل ما صنعا!
أو لهذه القطعة التي نفث بها حافظ وقد عبر بدار كانت مدرجة لهوه، وملعب شبابه، فلما رآها قد غيَّرت معالمها الأيام حتى خفيت عليه جاشت نفسه بالشعر فقال:
كم مر بي فيك عيش لست أذكره ... ومرّ بي فيك عيش لست أنساه
ودّعت فيك بقايا ما علقت به ... من الشباب وما ودعت ذكراه!
أهفو إليك على ما أقرحت كبدي ... من التباريح أولاه وأخراه
لبسته ودموع العين طيعة ... والنفس جياشة والقلب أواه
فكان عوني على وجد أكابده ... ومر عيش على العلات ألقاه
إن خان ودي صديق كنت أصحبه ... أو خان عهدي حبيب كنت أهواه
قد أرخص الدمع ينبوع الفناء يه ... والهفتي ونضوب العيش أغلاه
كم روح الدمع عن قلبي وكم غسلت ... منه السوابق حزناً في حناياه
لم يدر ما يده حتى ترشفه ... فم المشيب على رغم فأفناه
قالوا: تحررت من قيد الملاح فعش ... حراً ففي الأسر ذل كنت تأباه
فقلت: يا ليته دامت صرامته ... ما كان أرفقه عندي وأحناه
بدلت منه بقيد لست أفلته ... وكيف أفلت قيداً صاغه الله؟
أسرى الصبابة أحياء وإن جهدوا ... أما المشيب ففي الأموات أسراه!
فهذا شعر حي نابض، يتفجر بالعواطف، ويفيض بالأحاسيس حتى لتلمس فيه من ذلك أجساماً حية. . . وإنه لنمط أعلى من الفن الخالد على الأيام، الباقي على الدهر، ولكن ترى ماذا تكون قيمة هذا الشعر إذا ما وقف ناقد في تقديره عند قواعد اللغة والنحو، وتناوله بمقاييس (التورية والجناس) والمقابلة والطباق؟ إنه لا شك ينحط به سافلاً سافلاً حتى الحضيض، وإنه لا شك سيرتفع عليه عالياً عالياً بسفاسف الطبقة النازلة من أمثال أبن النبيه والشاب الظريف كما رفع صاحب العقاد (أبن نباته بشعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه) ومن هنا تنقلب الأوضاع، ويغدو النقد وهو أداة جمود الأدب، وخذلان للقرائح العبقرية، وعامل تقهقر يرجع بالفن إلى الوراء أضعاف ما يجب أن يندفع(275/37)
به إلى الأمام!
فالناقد الحقيقي هو من حكم عقله وقلبه كما يقول شاتوبريان واستغل منطقه وعواطفه في تقدير ما يقرأ، حتى يستطيع أن يقدر التقدير الصحيح، وأن يخدم الحقيقة الفنية والجمال البياني وإلا فهو فاشل في مهمته، يجني على الفن، ويبخس النبوغ، ويكشف نفسه ويعرضها للسخرية، وكأن العلماء قد أدركوا تلك الحقيقة إذ أنكروا على (المعلمين) والرواة أن يكون لهم في نقد الشعر والحكم عليه، فكثيراً ما تنادر الجاحظ عليهم من جراء ذلك حتى أتخذهم مادة لعبثه ومضاحيكه؛ وكثيراً أيضاً ما نالهم الشعراء أنفسهم بقوارص الكلم، وأليم الهجاء. ولعل من أفكه ما لهم في ذلك قول عبيد الله بن عبد الرحمن الأهوازي في معلم أزري على شعره:
يعبب الأحمق الممرور شعري ... وهجوي في بلادته يسير!
ويزعم أنه نقاد شعري ... هو الحادي وليس له بعير
وفي هذا النمط ما روي من أن أبا جعفر الخزاز عاب شعراً للبحتري، فكانت كبيرة على نفس البحتري حتى عدها إحدى نوائب الدهر إذ يقول:
الحمد لله على ما أرى ... من قدر الله الذي يجري
ما كان ذا العالم من عالمي ... يوماً ولا ذا الدهر من دهري
يعترض الحرمان في مطلبي ... ويحكم الخزاز في شعري
وقد كان الخزاز كما وصفه ياقوت راوية مكثراً موصوفاً بالثقة أخذ عن أبي الحسن المدائني والعتابي، فما نحسب البحتري أنكر عليه النظر في الأدب والحكم على شعره من جهة اطلاعه وعلمه، ولكنه لا شك أنكره عليه من جهة استعداده الفني، ورحابة عواطفه، وسماحة طبعه. ولست ادري ماذا كان يقول أبو عبادة لو أمتد به الأجل ورأى الأدب يحتمل الرهق كل الرهق من (خزازين) كثيرين يتولون دراسة الأدب في مدارسنا المصرية وهم كجماعة المعلمين في قرطبة الذين تحدث عنهم أبن شهيد في قصة التوابع والزوابع ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران إلى فطن حمأة، وأذهان صدئة، لا منفذ لها من الرقة ولا مدب لها في شعاع البيان، وكل بضاعتهم من الأدب كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف وعلوم البلاغة لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني من الرقص(275/38)
على الإيقاع، والزمر على الإلحان. فهم يتنكبون النواحي العاطفية في الأدب، ويقفون في تقديرهم عند الصور الجافة من الفن البياني يقدمونها لتلاميذهم فيجد التلاميذ في تناولها غضاضة دونها غضاضة المريض من تناول الدواء، الأمر الذي ألقى في روع أولئك المساكين أن الأدب العربي كله نمط واحد من الكزازة والجفوة والتشوفة والغثاثة والثقل، فانصرفوا عنه يطلبون متاعهم العقلي ولذتهم العاطفية في رياض الآداب الغربية، فإذا ما جلست إلى الواحد منهم وجدته من العلم بتلك الآداب بمكان، على حين لا تجده من الأدب العربي على بال، وتلك حال لو دامت فستكون الشر المستطير، والخطر الكبير
محمد فهمي عبد اللطيف(275/39)
إلى مؤتمر نواب العرب
لبيك! لبيك! فلسطين
للأديب السيد ماجد الأتاسي
إذا كانوا يزعمون أن هذا العصر عصر الديمقراطيات والحريات والمساواة في الحقوق والواجبات، فهو إذن عصر المؤتمرات للأفراد والجماعات والهيئات. ومن الناس يأتمرون من مختلف الأمم، ويريقون على هذه المؤتمرات عواطفهم وميولهم، وينفضون عليها آمالهم ومثلهم، ويحيطونها بالضجيج وفنون الدعاوى، فإذا الناس يتحدثون عنها إذا أمسوا وإذا اصبحوا، حين يكتبون، وحين يخطبون، وحين يسمرون، وحين يهذون. وقد تصبح هذه المؤتمرات ملء الدنيا وشغل الناس، وقد يكون لها نصيب من حق، وحظ من جمال، ونَسَم من مثل عليا، ولكنها - على هذا كله - تبقى مؤتمرات تضم طائفة من أهل الأرض!
ولكنها - على هذا كله - تبقى أرضية، أرضية!. . .
أما مؤتمر العرب اليوم، دفاعاً عن فلسطين، فهو نوع آخر من المؤتمرات فذ طريف؛ من طراز لا عهد لأبناء الأمم الأخرى به ولا قبل لهم بمثله. . .
هو مؤتمر برئ كرقصة العجوز، صادق كصلاة الطفل، رائع كحلم الحسناء، شريف كأغنية البطل في جوف الليل.
هو، يا أهل المشارق والمغارب، مؤتمر اشتركت فيه الأرض والسماء! وهل اشتركت الأرض والسماء في مؤتمر قبل اليوم؟!.
من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل الأرض لم تتصل مرة بالسماء، اتصالهما بالقاعة التي ضمتكم، تلك القاعة التي هيأتها الأقدار لتكون اليوم مهبط الوحي، ولتكونوا أنتم اليوم رسل هذا الوحي إلى العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها!. .
من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل مواكب العرائس من الحور العين كانت تمتد على حفافي طريقكم إلى قاعة المؤتمر مزغردات، هازجات، فأثارت على رؤوسكم الفل والياسمين والريحان، نافحاتٍ مواكبكم بأطياب العطور!. .
من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل أجنحة الملائكة كانت تخفق في جو القاعة المباركة، فتنفض عليه النور والقوة، والهناء والثقة؛ ولعل أرواح الأنبياء كانت - إذ وطأت أقدامكم(275/40)
عتبتها - تفوح حمداً ودعاءً، احتفالاً برسل الأخوة، وقيام الدعوة مرة أخرى إلى (حِطِّين) ثانية!. . آيات من وحي السماء كانت
من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل آيات من وحي السماء كانت تتنزل على شفاهكم حين تكلمت قلوبكم من على المنابر الخاشعة، فخنس - إذا تكلمت - الشيطان، وارتعد الأرعن العجلان، وكبَّرت وهللت - إذا تعاهدتم - الأرض والسماء وملائكة الرحمن!. .
اليوم تأتمرون، وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين. .
واليوم تتلفت فلسطين المفجوعة، ترسل النظر الحائر الدامع إلى قبلة الهرم، ترتقب من قاعة المؤتمر ومضة النور، ونفحة القوة، ودعوة الجهاد؛ وجبل النار، جبل النار الذي صهرته الشدائد، وهدته النوازل، وطهرته الدماء، واجتاحته النار ليكون روضة من رياض الجنان، يرتقب اليوم من مؤتمركم قطرات الندى لزهره الذي ذوي، وانبعاث الربيع لربعه الذي أقوى، وانتعاش الحياة في هيكله الذي يضوي.
اليوم، تأتمرون، وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين!. .
واليوم، ترنو إليكم - في إسارها ومحنتها - بضراعة المهان، وانكسار الذليل، واستغاثة المصاب، ابنة عم قيدوها عند صخرة المسجد الأقصى، ومهد المسيح
اليوم تمد يديها إليكم، وقد بهرتها الشدائد، وفدحتها المصائب، وأجهدها اللغوب؛ وأبناؤها المدافعون بالأيدي عنها، يتساقطون - والهف نفسي عليهم - بالقرب منها عزلاً واحداً بعد واحد، وزمرة بعد زمرة، مشردين في مجاهل المفاوز، وخوادع السبل، بين شاب كزهر الصبح معفر الوجه - واحسرتاه - بالرمال، وشيخ يلفظ النفس في شعاف الجبال، وطفل يتضور جوعاً في الحصار، وفتاة كالبدر تبكي مروعة في الأسحار، وفارس يصبح ويمسي كل يوم في ميدان، لحافة السماء ومهاده صهوة الخيل، وقوته الأعشاب، يذب عن ثاني القبلتين وأيكة الأنبياء والأقطاب، وخميلة الوحي والإيمان، وعروس الأديان في كل زمان، يذب عن عذارى العرب المروعات، يذب عن الأعراض والحرمات، يذب عن الشرف العربي خشية أن يهان، يذب واهباً لله نفسه، والوطن روحه، والعروبة ماله، فاتحاً ذراعيه للقاء العرائس الملوحات له من وراء النظر وقد فتحن له باسمات مزغردات أبواب الجنان، ففاحت عطورها، وتضوعت زهورها، وهبت نسائمها، وصدحت طيورها، وكبرت وهللت(275/41)
سدنتها يباركون (العريس) الجديد، يباركون الزائر القادم، يباركون هذا الجندي الفارس الملثم من جنود صلاح الدين. . .!
اليوم تأتمرون وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين!
واليوم أنتم اليد الملائكية الناعمة، تمتد في هدأة الليل، لتكفكف دموع ذلك اليتيم العربي الهائم على وجهه في فيافي بئر السبع؟ يفتش عن جثة الأب الشهيد!
أنتم اليوم قطرات الندى يتساقط في غلس الفجر على قبور الشهداء فترف على زهرات هذه القبور؛ تلك الزهرات التي رويت من دم قلوبهم فتفتقت - في رواءها ونضرتها - رمزاً حياً لأمانينا ومثلنا، رمزاً لأماني العروبة المجاهدة في فلسطين!
أنتم اليوم زمجرة الثأر تعصف فتهتز لها طرباً عظام الشهداء الهاجعين في سفوح الجبال، وترقص عليها النسوة المروعات في الأسحار!
أنتم اليوم لمعة النور تومض في معامي الأفق الغائم، فتهفو لها قلوب المؤمنين الآمنين المحاصرين في أجواف الدور، وشعاف الجبال، في فلسطين!
أنتم اليوم بسمة الأمل لمن خلف المجاهدون في فلسطين وراءهم من شيوخ وأطفال ونساء!
أنتم اليوم، لحن العزاء لهؤلاء الشيوخ المكابدين لواعج الأحزان على حرمات تنتهك، ونفوس تزهق، ووطن يستباح، وشعب يموت، وحق يهضم، لسواد عيون شعب (مدلل) جميل، لسواد عيون الحسان من بنات صهيون!
أنتم اليوم شبح القصاص يطارد، بعد موهن الليل. بنات صهيون المجررات عند الأقصى أذيال الخطايا والآثام!
أنتم اليوم حلم الخلاص الجميل يداعب جفون العذراء العربية عند مهد المسيح الغارقة في غفوة الأحلام؟
أنتم. . . أنتم. . . وإن لم يكن بيدكم هذا السوط الذي يهزه اليوم هتلر وموسوليني في وجههم. . . فإذا هم كالأنعام. . .
أنتم. . . أنتم. . . وفيكم اليوم ما يخيف: فيكم تاريخ يثور، وماض يبعث، وحاضر يتوثب، ومستقبل يتوعد، وعلى لسانكم - فوق هذا وذاك - حق يتكلم
والمجرم، المجرم، يا قوم؛ هو أجبن خلق الله وإن كان أقوى الأقوياء! هو يحمل اللعنة في(275/42)
ثيابه، وإهابه، ويرن أبداً بين أذنيه صوت القصاص. . .
أنتم. . . أنتم. . . وفيكم اليوم ما يخيف: اليوم يعلمون حق العلم أن هؤلاء الذين أمامهم هم هم الذين عرفوهم، منذ قرون تحت أسوار أورشليم. واليوم يعلمون حق العلم أن أولئك الفرسان الذين يسابقون الريح في خطوط النار، هم هم الفرسان الذي كان يرتفع غبارهم وراء رايات صلاح الدين في حطين. . .
وكل عربي اليوم صلاح الدين. وكل بلد عربي اليوم حطين
أيها المؤتمرون:
أتقولون اليوم: إن فلسطين لأهل فلسطين، وأن ما يقترف في فلسطين اليوم دونه مآسي تيمورلنك، ونيرون، وجنكيز؟ أم تقولون أن العرب لن يرضوا بعد اليوم بعَظْمة يهودي صهيوني واحد ترمى في فلسطين؟! هذه العظمة المنتنة التي عافتها أنوف العالمين، أتقولون هذا؟ حذار! حذار! فالسلم العزيز الرهيف النحيف إذن (يتوعَّك والتوازن الدولي الجليل الحسَّاس يختل ويغضب، والدنيا تصبح في خطر، وأصحاب الضمائر والعهود الصادقة لن يرضوا في حال من الأحوال أن ينكثوا بعهد قطعوه، ووعد منحوه على حساب شعب برئ آمن مطمئن!
السلم، والمدنية، وحق تقرير مصير الشعوب؛ كل هذا هو الحسان اللواتي لسواد عيونهن قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، يوم حطم موسوليني تحت سنابك خيله أعرق تاج في ربوع الحبشة
واليوم لسواد عيون هذه الحسان نفسها، يجلون في فلسطين شعباً كاملاً عن وطن آبائه وأجداده ليحلوا محله حثالات الشعوب فهم يخربون المدن، ويقطعون السبل، ويحاصرون الآمنين، ويروِّعون النساء، ويقتِّلون الأطفال. كل هذا لأجل السلام! ووفاء بالعهود والوعود!
أفتدرون، يا قوم، ما الفرق؟
الفرق هو أن يد موسوليني يد قاسية تؤلم إذ تضرب وتوجع. . وأما يدهم فناعمة رهفة، فهي - إذ تضرب - كأنها تربت وتلاعب وتغازل. . .
إذن اضربونا، اضربونا ما أجمل هذه الأيادي وما أشد نعومتها!. . وما أحلى ضرباتها، يا(275/43)
منصفون!
أيها السلم، أيها التوازن الدولي، أيتها المعاهدات والوعود! أيتها الحسان الزرق العيون، يا معبودات تشمبرلن وديلاديه خذوني، وضموني بين ذراعيكم إلى صدركم الجميل!. .
يا لله، ما أعجب شأنكن! أنتن في أحلام الشعراء، وعلى ألسنة الساسة، وفي كتب القانون، تلك (المروحة) أمام وجه الإنسانية الثائرة المحمومة، تخفف عنها وطأة الحر والحمى!. . أنتن عند هؤلاء رسل الحب والقبل بين الناس. . . وأنتن - في الواقع الملموس - ذئاب تعوي، وأرانب تفر، وثعالب تمكر؛ بل أنتن هذا الثوب الفضاض الجميل الذي يحيكونه في لندن وباريس ليحجبوا به عن الأعين الدم القاطر من أيديهم! أنتن - كما قيل - (القفاز الأبيض في اليد الحمراء)، (أنتن النقاب الخادع يستر الوجه الكاشر، والطرف الغادر)، (أنتن حجة ذئب (لافونتين) يفرضها على الحمل الضعيف)، (أنتن معاني الظلم والعنف واللصوصية والاغتصاب تختبئ في مصطلحات القوانين!. . أنتن. . أنتن كل ما بلغت الإنسانية، بعد جهاد قرونٍ، من قدرة على الكذب والتمويه!
سمعنا، يا حسان؛ أن أباكن ويلسن، هذا السياسي الطيب القلب سياسي الكتب والأحلام، قد أقام لكن هناك على ضفاف بحيرة (جنيف) الساحرة مقراً منيفاً ترسلون منه إلى العالم أجمع قبلات الحب والأخوة، ورسائل السلام والوئام، وتبعثون منه، وإلى السماء صلوات المثل العليا!. .
أيها الطيب القلب، الغافي في هدوء الضمير،
اسمعنا من هنا، أسمع أنات عانينا، ونشجات باكينا، وضجات جناحنا المهيض.
اسمعنا: أن هذا القصر الذي شدته بيديك الطاهرتين المشبوبتين ليكون هيكلاً مقدساً لصلوات نسَّاك الحب والمساواة والسلام، أصبح اليوم حانة من حانات الليل، تدار فيها خمور الشهوات، وتدفع بالثملين معربدين في أجواء العالم، وبقاع الأرض، عائثين فيها كاشرة أنيابهم، محمارة عيونهم، مفتحة خياشيمهم، معكرين على الإنسانية صفوها، منغصِّين عليها أحلامها!. .
أصبح اليوم داراً من دور الميسر تلهو به الأمم الكبيرة لا الأفراد، و (الروليت) هناك تدور وتدور، و (القبيش) يرتفع ويهبط، وهي في هذا الدوران والارتفاع والهبوط تدور معهما(275/44)
وترتفع وتهبط لا أموال الأفراد، ولكن - واحر قلباه - مصائر الشعوب، ومقدرات الأمم والضعفاء!. .
أصبح اليوم: سوقاً يأوي إليها تجار الرقيق (بالجملة) (ليتساوموا) فيه، ويتبادلوا، ويتهادوا!. .
أصبح اليوم مأوى للذئاب الخائفين من شرور أنفسهم! والآن، أيها المؤتمرون، إن فلسطين تناديكم.
تنادي المتربعين على عروش الذين كانت تصهل خيولهم، وتلمع أسنتهم، ويرتفع غبارهم، تحت أسوار أورشليم!. .
فمن يكون اليوم منهم صلاح الدين؟
من يكون اليوم منهم (المعتصم) لينقذ اليوم ألف عربية بين أيدي الجنود تنادي من وراء قضبان الحديد، في غلس الليل (وا معتصماه!)؟
أيها المؤتمرون، أيها الملوك، أيها الأطفال، أيها الشيوخ، أيتها العجائز، أيها العرب، أيها المسلمون: صلوا حين تأوون إلى فراشكم وحين تصبحون، لأجل فلسطين!
صلوا حين تجلسون إلى موائدكم لأجل المتضورين جوعاً في فلسطين!
صلوا حين تجلسون إلى أولادكم لأجل اليتامى المشردين في فلسطين!
صلوا حين تجلسون إلى نسائكم لأجل الأرامل المروَّعات في فلسطين!
صلوا: لأجل الشهيد العربي المجهول الهاجع بين وكور النسور في جبل النار.
صلوا لأجله: فهناك من تراب النبي حفنة، ومن البقيع الأطهر قطعة، ومن الفراديس روضة، ومن رضى الله بسمة ومن البركان نفحة.
صلوا، صلُّوا لأجل الشهيد العربي في فلسطين.
(حمص - سوريا)
ماجد الأتاسي(275/45)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . .
- 24 -
وأنى للرئيس أن يستمرئ الراحة أو يهفو إليها حتى يفرغ من رسالته؟ لذلك فهو يجعل للعمل وقته جميعاً لا يكاد يدعه لحظة وكان له في هذا الجهاد الأكبر خير عون من عافيته وقوة بدنه، فلقد بنته الغابة كما تبني دوحاتها العظيمة، كأنما كانت تهيئه لهذه العظائم. . .
ولم تكن الحرب وحدها هي كل ما يحمل الرئيس من عبء، فلقد كان له ممن يعمل معهم من الرجال، كما كان له من اختلاف الأحزاب وتبلبل الرأي العام أثقال فوق أثقاله.
وهناك عدا ذلك موقف الولايات الوسطى التي عرفت باسم المحايدة فكان يخشى الرئيس أن تنظم إلى الاتحاد الجنوبي فتزيدهم قوة وعزماً ولن تكون تلك القوة في الوقت نفسه إلا خسراناً لأهل الشمال. . .
ثم هناك موقف أوربا من هذا النزاع. . . وهو أمر له خطره يحسب الرئيس له ألف حساب، وإن كان سيوارد لا يرى له أول الأمر ما يراه الرئيس من خطر.
ولم يترك الناس رئيسهم يعمل لقضيتهم الكبرى فحسب، بل راح الكثيرون يطرقون بابه يرجونه ويسألونه إلحافاً، فهذا ممن ساعدوا الحزب الجمهوري يطلب من طريق خفي أن يكافأ على خدماته. . . وذاك يطلب وظيفة يأكل من راتبه فيها. . . والموظفون في البيت الأبيض يعجبون من هذا الرئيس الذي لا يجعل فرقاً كبيراً بين قاعة الحكم هناك وبين حجرة مكتبه في سبرنجفيلد. .
لقد جعل للناس يومين كل أسبوع يلقاهم فيهما جميعاً لا يوصد بابه في وجهه أحد، وإنه(275/46)
ليستمع إلى كل ذي حاجة، فأن استطاع أن يمد إليه يد المساعدة دون أن يجوز بذلك على القانون لم يتردد أو يتأخر. وكثيراً ما كان يجعل الرحمة فوق العدل، إذا رأى نفسه بين أن يعدل فيقسو أو يرحم فيميل بعض الميل. . . ولكنه في ذلك لا يسئ إلى الخلق أو يتهاون في قاعدة جوهرية وحاشاه أن يفعل هذا أو ما هو دونه. . .
ولن يضيق صدره بذوي الحاجات لديه، مع أنهم كانوا يلقونه على السلم، ويقفون أمام غرفته صفوفاً خلف صفوف، بل كثيراً ما كانوا يستوقفونه على الطريق ويزحمونه. . . ولكنه من الكاظمين الغيظ. . ولن يستطيع قلبه الكبير أن ينهر السائل فيزيده بؤساً على بؤسه، وهو الذي عرف اليتم منذ حداثته وذاق الشقاء ألواناً. . .
على أنه مهما بلغ من رحمته وبره بالمساكين، يعرف أساليب الماكرين، فلا ينخدع بما يراه من ادعاءاتهم فيصرفهم بالحسنى وإلا فبشيء من الشدة يشبه التأنيب ويراد به الزجر. . . دخل عليه رجل كسرت ساقه يسأله عملاً إذ فقد رجله في الحرب، فسأله الرئيس أيحمل أية شهادة أو دليلاً على صدق دعواه، ولكن الرجل لا يحمل شيئاً، فصاح به الرئيس قائلاً: (ماذا؟ ليس لديك أي أوراق أو أي شهادات أو أي شيء يرينا كيف فقدت رجلك. . . فليت شعري كيف أتبين أنك لم تفدها في فخ وقعت فيه وقد سطوت على بستان غيرك. . .)
ويعجب القائمون على الحكومة كيف يطيق الرئيس وقد ملأت وقته الأحداث الجسام أن يلقى هؤلاء الناس ويستمع إلى مثل هذه الأمور الصغيرة وكان جديراً به أن يكلها إلى غيره. . . ولكن أليس هو من الناس؟ أليس هو خادم الجميع قبل أن يكون رئيس الجميع؟ وهل يغير المنصب ما فطرت عليه الأنفس الكريمة من كريم الخصال؟. . .
هاهو ذا ابراهام النجار تراه في البيت الأبيض ولم يزل هو هو، وداعة في قوة، وتواضع في عزة، ورقة في وقار. . . ومن وراء ذلك قلب تسع رحمته شكوى الناس جميعاً، قلب لا يتهنأ ولا يفرح إلا إذا صنع المعروف وأدلى الجميل فأفرح القلوب وأدخل عليها الهناءة.
وما كان أعظم الرئيس وأجمل خلقه حين يلقى في الطريق إلى غرفته أحد معارفه ممن لاقاهم قبلُ في مضطرب الحياة، فيقف يضحك وإياه ويده على كتفه ويسأل عن أمره وأمر أسرته. . .
ولقد يأخذه معه إلى قاعة الرياسة فيذكر له الأيام الماضية حتى ما يشعر الرجل أنه بين(275/47)
يدي رئيس الولايات المتحدة
ثم ما كان أعظم الرئيس حين كان الفقراء يستوقفونه في الطريق فيقف ليستمع إليهم وليكلمهم كأنه أحدهم، فلا ترفع ولا كبرياء. ولن يستنكف الرئيس أن يطيل الحديث أحياناً عله يستطيع أن يكفكف بكلامه شيئاً من دموعهم ويخفف بالعطف عليهم بعض آلامهم. . . ولئن كانت هل حيلة إلى أجابتهم إلى ما سألوا فما هو عن ذلك بضنين
ولقد كان ينكر عليه مسلكه هذا بعض موظفي البيت الأبيض. . ولكنهم حين كانوا يزعمون أنه لا يليق ذلك بمن كان في مثل مركزه كان يغيب عنهم أنه لا مسلك غيره لمن كان له مثل قلبه. على أنهم لم يلبثوا أن أكبروا الرئيس وأعجبوا بخلاله، وأصبحوا لا يرون أي مأخذ عليه، وأصبح من المناظر المألوفة عندهم أن يدخل أحدهم ببطاقة للرئيس فيراه ينهض بنفسه إلى خارج الحجرة يلقي مرسلها مرحباً ضاحكاً. . . أو أن يروه يأتي بنفسه إلى الحاجب فينهره حين يسمعه يمنع طالبي الدخول عليه. . .
أما الوزراء وكبار الموظفين وقواد الجيش فقد اعتادوا أن يروا الرئيس يسعى إليهم أحياناً بدل أن يدعوهم إليه. . وكثيراً ما كان يلتفت الواحد منهم فإذا حاجبه مقبل يعلن إليه أن الرئيس على السلم أو في طريقه إليه
ويدخل الرئيس فيجلس إلى مرؤوسه يستفهمه عما يريد وينصت إليه؛ فان كلمه مرؤوسه في أمر فني كلام الأخصائي، لا يستنكف الرئيس أن يستوضحه وكأنه منه التلميذ حيال أستاذه؛ ويعجب المرؤوسون من هذا الرجل الذي لا يدعي أبداً العلم في أمر يجهله، والذي يفهم ما يُبَيَّنُ له في فطنة وسرعة
ماجت واشنجطون بالمتطوعين حتى أصبحت المدينة معسكراً عظيماً، ولكن الرئيس يعوزه القواد. . . وإنه ليطيل التفكير فيمن عساهم أن يصلحوا للقيادة في هذا النضال الهائل. . إن على رأس القوات الآن القائد سكوت ولكنه شيخ كبير ناهز الخامسة والسبعين، والموقف يتطلب قائداً فتياً يبث من روحه في قلوب جنده ويمشي بهم إلى النصر. . . ألا ليت القائد لي لم يرفض ما عرض عليه، ولكن بئس ما فعل لي فلقد أنضم إلى الثائرين وأصبح ن أكبر قوادهم
فكر الرئيس وتدبر. وأخذ يقلب الأمر على وجوهه والرأي العام من حوله يزيد موقفه(275/48)
صعوبة، فلكل حزب رأي، ولكل جماعة فكرة، ولحكام الولايات آراؤهم وإلا توقفوا عن إرسال الجنود. . . والرئيس يهيئ له الناس بسكوتهم الجو ليختار قواده على أساس الكفاية ولكنهم لا يفعلون، وهو لا يستطيع أن يغضب تلك الجهات في هذه الظروف القاسية، بينما هو فيالوقت نفسه لا يستطيع أن يرضيهم جميعاً
ويستعرض الرئيس الموقف الحربي، فيجد القائد ماكليلان قد وفق في أعماله في فرجينيا الغريبة، ويسمع الثناء عليه من جهات كثيرة حتى لقد سماه نابليون الجديد. . . ولذلك يدعوه الرئيس ويعينه قائداً عاماً للقوات في فرجينيا
وتتجه الأنظار كلها إلى القائد ماكليلان فهو شاب في الرابعة والثلاثين؛ وفيه كثير من الصفات التي تحمل الناس على محبته؛ فله حسن السمت وهيبة الطلعة وروح الشباب؛ وله من صغر جرمه ما يشبه به نابليون، وكذلك له من صفات نابليون بريق عينيه ومضاء عزيمته وتوقد حماسته
وسرعان ما تعظم شهرته حتى يجري اسمه على الألسن جميعاً؛ وكم له في الحياة من أشباه ممن قامت شهرتهم على أوهام الجماعات ولكن لعل الأيام تثبت جدارته، فإن الأعين والقلوب متفقة على الإعجاب به
على أن للشباب نزاعاته ونزواته، فهذا القائد يدل بجاهه من أول الأمر، حتى ليعد نفسه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مما هي فيه. . . ولقد شايعه في هذا الزعم كثير من الناس. . . حتى رجال مجلس الوزراء قد عظمت ثقتهم فيه إلى حد إنهم كانوا يميلون إلى جانبه أحياناً إذا هو رأى ما لا يرى الرئيس والرئيس يتذرع بالصبر ويتغاضى عن ذلك في سبيل ما يعقده من الآمال على ما عساه أن يأتي به ذلك الشاب
وأخذ القائد الشاب يدرب مائتي ألف رجل على حدود فرجينيا، وقام بذلك العمل على خير ما يرجى، ولكنه أطال التدريب وأطاله حتى تسرب الملل إلى الرأي العام فضاق بما يفعل فإن الناس كانوا يستعملون الزحف؛ وكذلك ضاق الرئيس ذرعاً، ولكن ماكليلان يعد الناس أنه ستعد لحركة عظمى سوف تطفئ نار الثورة
وشاع في الناس أسم قائد أخر هو القائد فريمونت، ولقد كانت له مواقف محمودة في الجهات الغربية يومئذ، وكان هذا الرجل من قبل أول مرشحي الحزب الجمهوري للرياسة(275/49)
فله بذلك في الناس منزلته وخطره، وله في قلوب الساسة وأولي الرأي نفوذ كبير
ولن يقل فريمونت عن ماكليلان اعتزازاً وترفعاً، فهو يحيط نفسه بفرقة من الحرس، ويرقي بعض الجند دون أن يرجع إلى الرئيس وهو بحكم مركزه القائد الأعلى لقوات الدولة. . . وكذلك يتباطأ فريمونت في الرد على البريد القادم من العاصمة. . . ولن يقف الأمر عند ذلك، بل تأتى الأنباء أن فريمونت ينوي إقامة اتحاد ثالث في الجهات الشمالية الغربية
ولكن الرئيس لا يصدق هذه الأنباء فهو واثق قبل كل شيء من إخلاص الرجلين لقضية الاتحاد، وإلا فما كان ليضعهما حيث وضع مهما يكن من الأمر
وأحاط فريمونت نفسه أول الأمر بجو من السكوت، ولكنه ما لبث أن أذاع قرارا خطيرا اهتز له الرئيس وتبرم منه وضاق به، وذلك أن القائد أنذر أهل مسوري في أخر شهر أغسطس عام 1861، أي بعد قيام الحرب بنحو أربعة أشهر أنه ينفذ قوانين الحرب في الولاية، ولذلك فهو يحدد منطقة يجعلها محرمة، يعدم كل من يحمل السلاح فيها ضد حكومة الاتحاد وكذلك يعلن القائد أن كل من تحدثه نفسه بالثورة من أهل الولاية جميعاً يكون جزائه مصادرة أملاكه وتحرير عبيده إن كان له عبيد. . .
ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفذ صبره، وكان يلاحظ من يرونه غداة هذا القرار علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم كانوا كذلك يلمحون إمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم والثبات
انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة، فلقد جعل مبدأ الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد سبيلها إلى القلوب وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة ولا تدع سبيلاً لأحد أن يتهم أهل الشمال بأنهم أوقدوا النار ما أجل أغراضهم وعواطفهم في مسألة العبيد. . . وكذلك كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنظم إلى أهل الجنوب، ويفقد الرئيس كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها فقد كان فيها كثير ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطراً كانت ولاية كنتولي التي ينتمي إليها الرئيس منذ نشأته، فلقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى(275/50)
جانبه أو لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في الحرب شأن أي شأن
ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار الطائش؛ فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون بنظام العبيد من أهل الولايات الشمالية
وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. . . ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء عاصفة شديدة من الرأي العام، فأن دعاة التحرير وأعداء نظام العبيد ما لبثوا أن هتفوا بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما يعيبون على الرئيس تردده وخوره
وانطلقت الصحف تدعوا الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه فيعلن قراراً عاماً ينطبق على الولايات الثائرة جميعاً. ولما وجدوا منه الأعراض والغضب، عصفت برؤوسهم النزوات وراح بعضهم يدعوا إلى إرغام الرئيس على الاعتزال ووضع فريمونت في مكانه
ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، إذا العاصفة تشتد وتشتد؛ ولكنه الرجل الذي لم يخلق له الفزع؛ وهل يذكر أنه خاف العاصفة يوماً ما حينما كانت تنطلق عاتية مدوية فتهتز لها أرجاء الغابة، وهو واقف منها موقف المتفرج؛ ذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني الأحراج الذين ألفوا ملاقاة العواصف؟ ٍ. . .
(يتبع)
الخفيف(275/51)
خاطر
رفائيل
الدنيا ذات الطهر والسحر
(مهداة إلى لجنة إنهاض اللغة العربية)
للآنسة الفاضلة ف. ن
كنت أود لو أن الصديقة التي قضيت معها ساعات القيلولة من كل يوم طيلة أيام الربيع الماضي، تحكي هذا الذي أريد أن أحكيه عنها وعني، فلقد كانت حافلة بموضوع الحديث، مشوقة للبحث فيه، هيَّابة لذكراه، إذا ما أقدمت على طرقه فكأنها تقدم على طرق حديث من عند الله. . . وما كانت لتنساه، ولم يكن لها مجال لتنساه وأنا معها ليلَ نهار!
- رفائيل أيضاً؟.
- أيضاً رفائيل!.
هكذا كانت تبتدرني كلما لقيتني في فناء المدرسة أو في ناحية من نواحيها، متأبطة كتاب رفائيل، وهكذا كنت أرد عليها وأردف بابتسامة تفهم معناها الذي في قلبي. . ثم أسير عنها، فإذا بها تتبعني. كأني أحمل قوة من السحر تجذبها من غير أن تدري! وأدرك ناحية هادئة اعتدتها فأحتل مكاناً لي فيها كفلته خالياً كثرة جلوسي هناك، فإذا بها قربي. . وأتجاهل ما تريد فأصمت عنها وهي ترتقب حركة مني، حتى إذا وثقت من إصراري على الصمت صاحت بي وقد نفد صبرها (افتحي!) فأبتسم. . وأفتح. . . ونقرأ الكتاب الذي أعجز عن عدّ المرات التي قرأناه فيها وكأننا نقرأ لأول مرة. وتستوقفنا المعاني الرائعة فتفلت من صدرينا آهات خافتة هي التأثر، وهى الإعجاب، وهي صدى الروعة في النفس وفعلها في الشعور! ونغرق في السحر الذي يفيض من قلبينا حتى يغمرنا، ونذهب في سكرة لذيذة لا نصحو منها إلا على صوت الجرس، معلناً انتهاء ساعات الفراغ، فينال من لعناتنا ما ينال ونحن في حنق عليه!
هكذا بدأت أيام إعجابها الأولى بالكتاب، ثم سارت - هذه الأيام - في طليعة أيام بعدها، حفرت لها في قلبينا أثراً بعيداً لن تمحوه الحوادث مهما جارت!. . تلك كانت ساعات(275/52)
القيلولة في الربيع الماضي، عندما تجد أثر النعاس اللذيذ في كل جفن، على الرغم من توسط الشمس قبة السماء بهيجة ساطعة؛ وعندما تلمس روح الهدوء في كل حي، كأن الكل شعراء يحلمون!
هكذا كان حَفَلها بالكتاب عظيماً وأنا أطلعها عليه للمرات الأول. على أنها لا تفهم العربية الفصحى جيداً، فكنت أتناول عميق المعاني بالإفصاح والطلوع بها إلى سطح معرفتها باللغة - وفي هذا ما فيه من تشويه - فلا تتمالك نفسها من أن تقول والدهشة تملأ فاها (أهذا السحر في العربية؟) فأجيب (بل وفي قلم الزيات أيضاً!)
ما كانت تدري أن في العربية سحراً، وقد شبت جاهلة بها. وهي وإن كانت عربية فيها دم فارسي إلا أنها تجيد الفرنسية قبل كل لغة (هكذا شاءت إدارة المدارس الفرنسية، وهكذا خضعت حكومات البلاد العربية لهذه الإرادة القاسية!)
لقد عرفتها قبل أن أعرفها (برفائيل) بثلاثة اعوام، أطلعتها فيها على كثير مما جادت به القرائح والأقلام العربية فأعجبت بالكل وذهلت برفائيل! ولم يكن هذا الإعجاب الطاغي، أو هذا (الذهول) ليغمط حق سائر الكتب التي اطلعت عليها. فلكل طريقته وأسلوبه ورائع معانيه، إنما في (رفائيل) روح لا توجد في سواه، روح عالية سماوية ليس فيها من نزعات الأرض واحدة!
- ماذا؟ أصديق جديد؟
قالت عندما رأت (رفائيل) في يدي لأول مرة. . كلمتان اعتادت أن تقولهما كلما رأت في يدي كتاباً جديداً. .
قلت: لا، بل معلم مجيد، بل عالم سماوي ليس فيه خبث ولا دنس. أنه (رفائيل) روح من السماء كما كانت في السماء. .
كنت أود لو أن الصديقة التي قضيت معها الساعات الغارقة في الإعجاب، المتسامية بروحينا عن عالم وضيع إلى دنيا ليس فيها حياة إلاَّ الطهر والسحر. . كنت أود لو أنها تحكي هذا الذي حكيته، إلاَّ أنها بعيدة. . وإلاَّ أنَّ هذا الخاطر هاج فيّ ولا أظنه هاج فيها، وذلك لنظري إلى الكتاب لا كنظرتها فقط إنما هناك عوامل أخرى، تخلق فيّّ نظرةً أخرى، تقيم الخشوع في نفسي كلما ذكرت شيئاً من الكتاب أو قرأت فيه شيئاً. .(275/53)
أنا عندما أقرأ مأساة رائعة أبكي ويعتصر الألم قلبي فألازمه أياماً. . وعندما أقرأ صفحة في البطولة، تهيج في نفسي عوامل الشعور بالقوة في الروح وفي الجسم وفي الأماني، وفي كياني كله. ولكني عندما أقرأ (رفائيل) أحسُّ عالماً جديداً في داخلي، وعالماً جديداً حوالي!
سواء علي أوثق القراء بما أقول أم لم يثقوا، فحسبي أني أصف خاطراً في نفسي أهاجته خواطر في نفوس الغير. . سواء علي أوثق القراء من أني لم ألقَ تهذيباً في البيت أو في المدرسة من أمي أو من مدرَّساتي، أو من أية ناحية من نواحي الحياة بقدر ما ألقي في صفحة. . بل في بضع جمل من رفائيل!. سواء أوثق القراء أم أبوا فأني أقول هذا للحقيقة لا للدعاية - وهل يحتاج مثل رفائيل للدعائية؟
كل ما في نفسي من غرائزها البشرية الرديئة، كل ما فيّ من أثرة وحسد وبغضاء ونزوات دنيئة، كلها تموت وتتلاشى إذا ما قرأت في رفائيل صفحة. . وأعود لا أرى في الدنيا وفي قلبي إلا المعاني الجميلة، الدنيا الطاهرة التي في رفائيل. . وأعود لا أرى الحبَّ إلا عذرياً نقياً كحب رفائيل. . ولا أرى الصداقة إلا بريئة من كل شائبة كصداقته. ولا أرى العفة في كل عاطفة إلا عفته، ولا الدنيا الصادقة إلا دنياه؛ ولا الحياة الزاخرة بوجدان حي إلا حياته. ولا أرى المثل الصادق للتهذيب الذي يدخل النفس من حيث لا تشعر فينقيها ويجلو محاسن ربها فيها، ويهيئها لعالم كل مادته ومعناه وجدان طاهر وعاطفة بلا شائبة، ذلك التهذيب اللين الجارف في غير قسوة ولا تشديد، إلا في كلمات يلقيها رفائيل في الحس فتمهد الدرب، في غير صعوبة، إلى أعماقه. . وفي جمل رائعة يصف فيها حبه وحياته وآلام قلبه فتحس جلده على تحمل آلام اليأس الذي ما كان ليراه يأساً. . وصبره على حرمانه الذي يجد فيه كل المتع، ويلقى فيه من السعادة ما يحمله على الهزء بأسباب لذاذات الناس أجمعين، لذاذات فانية تشمئز من أصحابها. .
كذا يجب أن يكتب الكاتب، وكذا يجب أن يقولوا للناس كباراً وناشئة. . إذ ذاك يكونون قد عرفوا عظم مسؤولياتهم تجاه الجمهور القارئ. وإذ ذاك يكف النقاد عن صيحتهم: (اتقوا الله فيما تكتبون فان عليكم تبعة الأثر الذي تتركونه في النفوس. .) كذلك فليكتب الكتاب، وإذ ذاك يقال عنهم إنهم مخلصون جد مخلصين، وإذ ذاك يكونون أصحاب رسالات في الإصلاح والتهذيب لكل جيل وكل جنس وكل روح:(275/54)
هذا كتاب للتهذيب!. لعل صاحبه يوم كتبه لم يقصد به إلى هذا، إنما كذلك كانت نفسه، وقد أراد به التعبير عنها ووصف ما خالجها فجاءت هذه الصفحات الرائعة من حياة الوجدان والقلب. وإنما قصد به إلى هذا مترجم تلك الصفحات وناقلها إلى أمته أصدق نقل في أروع أسلوب وأعف حديث. . وأي بلاغة في القول المهذب أعظم من قول رفائيل في معنى (كان حبنا ينمو كل يوم دون أن تمسسه يد النقصان أو الفناء، لأننا كنا لا نقطف ثماره بل ندعها حية يانعة تنمو وتنمو!.) وأي معنى أروع في تهذيب العاطفة من غضبة الشاعر على حبيبته يوم أظهرت له تحسرها على شبابه وأيامه تنطوي بهذا الحرمان في حبها، تلك الغضبة التي تشتد وتحتد، حتى يترك القارئ وفي نفسه أنه لا يذوق لذة فانية من حب مهما تيسر له ذلك، لأن الحب هو لك الذي في قلب رفائيل وحبيبته ليس إلا.
هذا خاطر في النفس أهاجته خواطر في نفوس الناس. . وأن النفس من رفائيل لعوالم، وأن أثر الصفحة منه في الروح كتب. . وأثر الجملة أحلام، وأثر الكتاب تهذيب وصقل وبلاغة قول، وسلامة منطق!. ولا يفكر في ترجمة رفائيل إلا ذو نفس كنفس رفائيل! فهل يشكرها الجمهور على هذه الخدمة الصادقة، أم يشكر ربها الذي براها؟!
وبعد فأن في صدر الساعات الدافئة من الربيع الذي مات، أثراً من آهات خافتة كانت صدى الروعة في النفس، وعمل (رفائيل) في الحس؛ حملتها نفس (الربيع الذي مات) إلى جنة الخلد. . إلى رفائيل!. .
(البصرة)
الآنسة
ف. ن(275/55)
بين اللغة والأدب والتاريخ
الفالوذج
للأستاذ محمد شوقي أمين
- 4 -
توجيه الاشتقاق، الصفات فيه، سبيل العرب في الوضع
, إني سائق لآن هذه الألفاظ بمرة، فمعيدها لفظاً بعد لفظ لبيان وجه الاشتقاق، وعلة الوضع، وتقدير العلاقة بين اللفظ الموضوع وبين مدلول الاسم الأعجمي
والألفاظ هي: السرطراط، السريط، المرطراط، اللمص، اللواص، الملوَّص، الرعديد. المزعزع، الزليل، اللقاء، المزعفر، الصفرَّق
- 7 -
ا - مادة سرط تصف الابتلاع وسهولته، تقول: سرطه وتسرطه واسترطه: ابتلعه. وانسرط في حلقه سار سيراً سهلاً ثم اشتق منها: المسرَط: للبلعوم، والسرواط: للأكول، والسرطة: السريع الاستراط
وقد صيغ من هذه المادة: اسمان للون من الأطعمة، الأول السريطاء، والآخر السرَّيطي، لنوع من الحساء
فلما تعورف الفالوذج، اشتق العرب من هذه المادة: اسمين له، الأول: السرطراط، بكسر السين والراء، ويفتحان، قال السيد مرتضى: (كررت الراء والطاء تبليغاً في وصفه، واستلذاذ آكله إياه إذا سرطه وأساغه في حلقه) وقد جمعه الإسكافي على سرارط. وثاني الاسمين: السريط، قال الفيروزابادي والشيرازي: هو كزُبَيْر، وقال صاحب التاج: الصواب بتشديد الراء المفتوحة
والاشتقاق كما ترى ملحوظة فيه انسياغ الفالوذج، وسرعة ابتلاعه!
ب - مادة مرط تصف الإسقاط والإسراع والأخذ الخاطف تقول: مرط: أسرع، وأمرطت النخلة: سقطت بسرها، وأمرطت الناقة: أسرعت وتقدمت. وتمرط الشعر: تساقط، وامترطه: اختلسه(275/56)
وقد اشتق من هذه المادة اسم اللهاة، وهو المريطا، لأن الطعام يسرع فيها، ويتساقط إليها. ثم صاغوا من المادة أسماً للفالوذج وهو: المرطراط بكسر الراء والميم على زنة السرطراط، فوجه الاشتقاق هو: ليان الفالوذج وطواعيته لامتراطه والإسراع فيه
ج - تصف مادة اللمص مما تصف: التناول بالإصبع. تقول لمص الشيء: إذا أخذه بطرف إصبعه. قال أبن دريد: لمصت الشيء: إذا لطعته بإصبعك ولحسته
وقد صيغ من هذه المادة اسم العسل، واسم لشيء كان يأكله الصبيان، ذلك الاسم المشترك هو: اللمص؛ بفتح فاسكان فأخذت هذه الصيغة للفالوذج. وعلة الأخذ واضحة، وهي أن الفالوذج كان يتناول بالأصابع، ففي هذا الوضع روعيت طريقة التناول لهذه الحلواء
د - تدل مادة لوص على الحيدان والحركة، تقول: لاص حاد. ولاوص: نظر نظرة الخانل يمنه ويسرة، وأليص: أرعش وما به لويص، أي قوة وحركة. وتلوص: تلّوى وتقلب
وقد وضع العرب من هذه المادة اسماً للعسل. فقالوا: اللواص. ثم قالوا لوصّ الرجل: أكل العسل. ثم كان منهم بعد ذلك أن أشركوا في هذا الاسم: الفالوذج. فسموه: اللواص وأضافوا إليه أسماً ثانياً من المادة نفسها، هو الملوص، وهو اسم مفعول من الفعل: لوصّ الذي كان مستعملاً في معنى تناول العسل، فالتلويص في الفالوذج كالتلويص في الشهد
والوضع في هذه المادة ملحوظ فيه هيئة الفالوذج، فهو يتلوى في الصحاف ويتقلب، ويظل في إرعاش وحَيَدان وهذه الصفة أوضح ما يرى من هذه الحلواء، وأبدأ ما يبدهك من سماتها وصفاتها
هـ - مادتا: رعد وزعزع ظاهرتان في دلالتهما على الهيجان والتذبذب تقول من الأولى: ارتعد: أضطرب، وسمى الجبان: رعديداً، لأنه يشتد به الفرق، فتهتز نفسه حذر المخاوف، وتقول من الثانية: تزعزع الشيء، تحرك تحركاً شديداً
وكان بديهياً أن يلحظ العرب في الفلوذج أنه دائب الارتجاف سريع التحرك، يتزعزع ويتمايل، فيرتضوا له الكلمتين: الرعديد والمزعزع. وقد سبق في طلائع هذا البحث ذكر جواب أعرابي سئل في الفالوذج، فوصفه بالارتعاد، وكذلك مضى وصف الخوارزمي له بالترجرج
ويتحير في صيغ مادة زلل معنى الخفة والسرعة والانزلاق، تقول: استزله: زلَّقة، وزلَّ(275/57)
هو: زلَق وسقط.
والرجل الأزل: السريع. ويوصف الماء بأنه زُلال إذا كان عذباً صافيا يمرً سريعاً في الحلق
فاجتلب العرب من هذه المادة لفظاً للفالوذج. هو الزليل، إذ كان خفيفاً على اليد حمله، سريعاً في الفم انزلاقه. وفي مبادئ اللغة أنه يجمع على: أزلة. ويستفاد من إثبات صاحب المبادئ لهذا الجمع أنه مسموع فوق أنه مقيس
ز - جاءت نوبة كلمة: الُّلقاء، وتلك لم اعثر عليها في معجم ولا أسفرَت لي في أوراق فقه اللغة. وإنما جرت في كلام لأبي العلاء المعري، قال: (العاجلة، كلبيد الراجلة، يُلقي لتقيها لقاء، ويطعم فاجرها مُرّ المقرات. . .) ثم شرح ذلك فقال: (اللبيد: جوالق صغير، أو خرج. والراجلة: الكبش الذي يحمل عليه الراعي خُرجه. واللقاء: الفالوذج) ولقد فتشت عن هذا اللفظ كل مفتش، فيما بين يدي من المراجع، حتى ضاق به الصدر، فكأن أبا العلاء استخرجه من ملاعب الجن. وما أظن الظنون بشيخ المعرة، فأني لأعلمه: صاحب الغريب، وهدهد الشوارد. فليس لي إلا أن أستريب بحروف هذا اللفظ، وأن أُقدِّر أن تحريفاً عدل به عن كنهه. وكان بودي أن أجلو هنا ما دار به الخاطر فيما عساه يكون الأصل، ولكنني أوثر أن أحجم حتى أسمع كلمة الأستاذ الفاضل الذي بعث الفصول والغايات من مرقدها، فلا بد أن يكون عنده من هذا اللفظ علم، ولعله متفضل فمجيب. وسيتبع إحجامي عن الكلام في الأصل، تأخيري النظر في الاشتقاق. إذ كان هذا متعلقاً بذلك تعلق النتائج بالمقدمات
ح - الزعفران نبات أصفر الزهر، أحمر الصبغ، وزعفره: صبغه بالزعفران. ولا أُحق: أسموا الفالوذج مزعفراً لأنه مصبوغ به، أم لأنه مجعول فيه، أم لأنه على لونه، فالأمر على التشبيه؛ أم لكل هاته الأشياء؟؟ وإن من سنة العرب في التسمية أن يوصف الشيء بالشيء لشبه اللون، فقد وضعوا للأسد أسم الورد، لأنه ورد اللون. بل إنهم سموه: المزعفر، فقالوا: المزعفر: الأسد الورد لأنه أحمر. وقد أنهينا فيما سبق قول بعضهم (فالوذجة مزعفرة) ورجحنا ثمة أن تكون الزعفرة فيه الصبغ والتطييب، وليس الكلام على التشبيه والمشاكهة
ط - أجمع فقهاء الألفاظ على أن الصُّفرُّق اسم للفالوذج، ومثل به سيبويه في الكتاب ونقله(275/58)
الصاغاني عن كتاب الأبنية، وقال في اللسان: هو الصُّفروق. ولم يثبت بناء الصفرُّق. وقد انتقب وجه الاشتقاق لهذه الكلمة، فيما لدى من المظان. فالكلمة في مادتها يتيمة، إن شئت قلت: درة لها من استئحادها عضمة وزهو، وان شئت قلت: شريدة لا يؤاخيها شيء، ولا تجد لها منتمى. وأنا حابس القلم الساعةَ عن اقتحام الكتابة في زائد حروفها، ومرجعها إلى الصفرة في اشتقاقها، والوجه في ذلك كله، فلذلك مجاله أخرى
(للبحث صلة)
محمد شوقي أمين(275/59)
رسالة الشعر
في سبيل الله والعروبة والوطن
المجاهد
للأديب السيد جورج سلستي
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)
اَلحبُّ والأمَلُ الوضيءُ كلاهما ... صَبَوَا إليه معاً فأَعرضَ عنهما
وهَفَتْ لَهُ الدنيا الطروبُ فعافَها ... وتَعَلَّقَتْهُ فَصدَّها متبرّما
وَسَعى الثراءُ إليه يخطبُ ودَّهُ ... فأبى وآثَرَ أَنْ يظلَّ المُعْدِمَا
واُلْحرُّ يَهْزَأُ بالنُضَارِ ويزدري ... متَعَ الحياةِ إذا دعا داعي الحمى!
هَجرَ الأحبّةَ والمنى مُتَحَدِّياً ... جُهْمَ النَوَائبِ ضاحكاً مبتسّماً
بَطَلٌ بدا فيه الوفاءُ ممثّلاً ... وبدا الإباءُ بشخصه متجسّما
بَطَلٌ يَمُورُ العَزْمُ في قَسَماتهِ ... أبدأً يُرَى ثَبْتَ اَلْجنانِ غَشَمْشَما
تَتَساََءلُ الآجَامُ إِمَّا يجتمعْ ... بالليثِ أَيُّهما الغَضَنْفَرُ منهما
بَطَلٌ مَشى مُستَبْسِلاً ليَذودَ عن ... وَطَنّ يَعزُّ عليه أَنْ يَتَقَسَّما
إِنّي أَرَاهُ وقد ذكا لَهَبُ الوغى ... وتَسَعَّرَتْ نيرانُهَا متحدّما
مُتَوَثّباً أَبداً على أَعدائه ... شَأْنَ الأتيّ تَدَفّعاً وَتَهَجُّمَا
يُصْلي فوارسَهُمْ وهم يُصْلونَهُ ... ناراً أَشَدَّ من اَلْجحيمِ تَضَرُّمَا
فإذا هُمُ أنهزموا فذاكَ، وإن قَضى ... صلّى الإلهُ على ثَرَاهُ وَسلّمَا
يا سائلي عَمَّن قضى مُسْتَشْهِداً ... روحي فداؤك عارفاً مُسْتَعْلِما
أَتقولُ مَنْ آلُ الشهيد وكلنا ... عَرَبٌ نَمانا للمعالي مَنْ نَما؟
للعُرْبِ نُنسَبُ حينَ ينتسبُ الورى ... ولسانُنَا العَرَبيُّ أَشْرَفُ منتمى
والعُرْبُ مهما تَخْتَلِفْ أَهواؤهم ... أَهْلٌ يؤاخي العيسويُّ المُسْلِما
إِنَّا تُوَحّدْنا العَرُوبةُ أَينما ... كنّا وتجمعنا المكارمُ حيثما
والفَذُّ بين القوم ملْكُ بلاده ... إِنْ عالماً أو فارساً أو مُلْهَمَا(275/60)
والرُزْءُ فيه فجيعةٌ وطنيّةٌ ... عظمى تئنُّ لها البلادُ تأَلُّمَا
يا مَنْ ينامُ الليلَ مِلَء جفونه ... ويعيشُ مَوْفُورَ الرخاءِ مَنعَّما
أَهْلوكَ في مسرى النبيّ تجشّموا ... ما لا يطيقُ الصَخْرُ أَنْ يتجشّما
وتحمَّلُوا ما لو حَمَلْتَ أَقَلّهُ ... لَغَدَوْتَ أَشْبَهَ بالَخيالِ أو الوما
والنومُ أَبعدُ ما يكونُ عَنِ العُيُو ... نِ وقلّما تلقى هنالك نُوّما
فكأَنما نسى الكرى أَجْفَانَهم ... مِنْ طوْلِ ما سَهِرُوا الليالي قُوَّما
وَسَلَتْ مضاجعَها الجوانبُ بعد ما ... أَمسى الهناءُ على النفوسِ مُحرَّما
والْحَربُ من حولينِ ما زالتْ مُؤَجْ ... جَجَةً وما زالَ المنايا حُوَّما
فامددْ يداً بيضاَء تُسْعِفْ عاجزاً ... أو تَأْسُ مَكْلوماً وتُنْجِدْ أَيِّما
ولقد عرفتُك باذلاً متكرّماً ... فَأَعِنْ بمالكَ مَوْطِناً متردّماً
هو مَوْطنٌ غَمَرَ الأَسى باحاتِه ... وغدا الشقاءُ على بَنيهِ مُهَيْنِما
قد كانَ مثل العُرْسِ بَّسامَ الرؤى ... طَلْقاً فحوَّله الأجانبُ مَأْتما
قَدْ باتَ يَنْطُفُ عَنْدَما بالأوصيا ... ءِ وكانَ حتى الأَمْس يَنْضَحُ بلسما
قد كانَ مِنْ أَفْضَالِ رَبّكَ جنَّةَ ال ... دنيا فَصَيَّرَهُ الدخيلُ جَهَنَّما
إِن الدخيلَ، وإِنْ تَأَلَّهَ، مُجْرِمُ ... مُتَنكِّرٌ فاحْذَر - فُدِيتَ - المجرما
قالوا التمدُّنُ عَنْ يَدَيْهَ فقلتُ لا ... كانَ التمدُّنُ عَنْ يَدَيْهِ مُتَمَّما
أَين التمدُّنُ عند مَنْ يَنْز وهوىً ... ويروغُ ثعلبةً ويسعى أَرقما
أَمن التمدُّنِ أَنْ يُبَاعَ الدينُ بال ... دنيا وتُغتَصَبُ الحقوقُ وَتُهْضَما
وَيُحَلَّ قَتْلُ الأبرياءِ وهَدْمُ دو ... رِ المُبْعَدِينَ وَنَفْيُ أَحرار الحمى؟
أمُعَيَّري بالبَرْبَريَّةِ إِنني ... متأخّرٌ فاهنأْ وكُنْ متقدّما
إِني لأَهوى البربريةَ إِنْ يَكُ الت ... مدينُ هَضْمَ الحقِّ أو سَفْكَ الدما
ولقد تركتُ لكَ الرقيَّ فَخَلِّنِي ... متسكّعاً بين الجهالة والعمى
فأنا امرؤٌ نزَّهِّتُ عن حَمَاءِ الخنا ... نَفْسي وآبى أَنْ أُقارفَ مَأْثما
يا حارسَ الحرمَ الشريفَ وحامياً ... مَهْدَ المسيحِ وأنتَ أَشْأَمُ من حَمَى
المهدُ واَلْحَرمُ الشريف تملمَلا ... ولو استطاعا من أَسىً لتكلَّما!(275/61)
للبُطْلِ صولةُ ساعةٍ فإذا انقضتْ ... وتصرَّمتْ ولّى الطغى وتصرَّما
لا بدَّ إِمّا عاجلاً أو آجلاً ... للحقَّ أَنْ يعلو وَأَنْ يتسنمَّا
والظُّلْمُ أَوْخَمُ مَرْتَعٍ فاحذرْ إذا ... كنتَ الحكيمَ المرتع المتوخما
أَأَخي الشهيد لقد قَضَيْتَ مجاهدا ... ليعيشَ مَوْطِنُك الحبيبُ مُكَرَّما
يهنيكَ أَنْ وَفَّيْتَ قسْطَك للعلي ... وَرُزِقْتَ حَيّاً عند ربّك في السما
(بيروت)
جورج سلستي(275/62)
في السماء
للأستاذ سيد قطب
أيقنت أنبل ما يُجِنُّ ضميري ... وبعثت جوهر عنصري المطمور
فإِذا أنا الروح التي تسمو بها ... دنيا الحياة لأوجها المنظور
وإذا أنا النور الذي تجلو به ... تلك الحياة غياهب الديجور
وإذا أنا الشوق الذي يحدو لها ... فتَغِذُّ بين مسالك وصخور
وإذا أنا الشعر الذي تشدو به ... في نشوة وتجيش بالتعبير
وإذا أنا الخير الممحض والهدى ... والحب والنجوى خلال ضمير
فبأي معجزة كشفت ضمائري ... وجلوت كل محجب مستور؟
وغذوت فيَّ فضائلي ورويتها ... حتى أطلت بالجني المذخور؟
وجعلت من زاد الخلود مطامحي ... وجعلت أشواقي صلاة طهور؟
بالحب والحسن الوديع ونظرة ... بيضاء صافية تريح شعوري
وتُحيل أشواقي رضاء مخلّد ... راض بخلد لم يُشَبْ بقصور
وتحيلني روحاً تَرِفّ على الورى ... كالعطف، أو كالحب، أو كالنور
فإِليك تسبيحي وهمس سرائري ... وإِليك غاية غبطتي وسروري
حلوان
سيد قطب(275/63)
البريد الأدبي
رأي الأستاذ مارجليوث في تيسير القواعد العربية
أذاع راديو لندن في الأسبوع الماضي الحلقة الثانية من سلسلة محاضرات كبار المستشرقين البريطانيين في موضوع (ما الذي تعلمته من الناطقين بالضاد) وهي محاضرة الأستاذ مارجليوث
وقبل أن يتلو المذيع المحاضرة حيا الأستاذ مارجليوث المستمعين بكلمة قصيرة ألقاها بلغة عربية فصيحة
وقسم الأستاذ مارجليوث محاضرته إلى قسمين الأول ما الذي تعلمه هو شخصيا من الناطقين بالضاد والثاني ما الذي تعلمه غيره من الأوربيين
ثم ذكر ألفاظاً كثيرة من المصطلحات المستعملة في اللغات الأوربية والمشتقة من أصل عربي أو جاءت إلى أوربا عن طريق العرب، وقال إن أوربا مدينة للحضارة العربية بالشيء الكثير
وبحث في أحوال اللغة العربية وقواعدها واتساعها وغناها وأشار إلى اقتراح بعضهم تسهيل قواعدها وانحنى باللائمة عليهم وقال إن ما يقترحونه لا يكون تيسيراً بل تعقيداً ويثقل حافظة الطالب بمجموعة جديدة من القواعد هو في غنى عنها
وخطأ القائلين بأن الألفاظ العربية الشفهية أصح وأوضح من المكتوبة، ثم قال إنه لا تأثير للتعصب الجنسي والديني عند العرب، وأن في عصور الإسلام الزاهرة كثيرين من الحكام والقواد والعلماء وقادة الرأي من غير العرب أو المسلمين. وذكر أن صلاح الدين الأيوبي كان كردياً، وإمام المحدثين البخاري والطبري وأبن رشد وأبن خلدون لم يكونوا عرباً أصليين
واختتم محاضرته قائلاً:
(وقبل أن أختتم كلمتي يجب أن أوفي المصريين حقهم من الثناء لما أدوا من الأعمال في خدمة اللغة العربية، وقد عرفت من هؤلاء كثيرين وتشرفت بصداقتهم في سنة 1904 عندما حللت القاهرة لأمر يتعلق بالجامعة، وكان لي شرف الاتصال بالإمام الكبير المرحوم الشيخ محمد عبده، وعرفت كذلك المرحوم السيد رشيد رضا الذي كتب سيرة الشيخ محمد(275/64)
عبده وكان صاحب مجلة المنار ذات الفائدة الكبيرة لكل من تصدى لدرس الإسلام، والعالم السيد توفيق البكري صاحب المؤلفات النفيسة، والصحافي الكبير الدكتور يعقوب فارس نمر، وزميله العالم المرحوم الدكتور يعقوب صروف والمرحوم جورج زيدان، وشاعر مصر المرحوم حافظ إبراهيم، وأمير الشعراء أحمد شوقي وقد أسمعني قصيدته عن أثينا، والمرحوم سليمان البستاني مترجم إلياذة هوميروس إلى العربية، وكذلك اتصلت بالشيخ طنطاوي جوهري صاحب تفسير القرآن والذي جاهد كثيراً في التوفيق بين العلم والدين، وعرفت أخيراً البحاثة المرحوم أحمد زكي باشا الذي شغف بجمع الكتب القديمة والمخطوطات، وكان لي شرف الاتصال عن طريق المراسلة بالمرحوم تيمور باشا. ويرجع الفضل في نهضة مصر إلى هؤلاء العلماء الإجلاء الذين نهض كل منهم بنصيبه في خدمة اللغة والعلم)
مصر المستقلة
تعمل جماعة (الدراسات الإسلامية) بمعهد دراسات السياسة الخارجية في باريس على وضع مجموعة من المؤلفات عن العالم الإسلامي، ولا شك في أن المكانة التي يحتلها وادي النيل في هذا العالم جعلت القائمين بأمر الجماعة المذكورة يوجهون إليه اهتمامهم ويضعون المؤلف الأول من مجموعتهم عن (مصر المستقلة).
وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام: الأول خاص بالتطور السياسي والاجتماعي في مصر وهو يتناول تكوين الدولة المصرية (1805 - 1918) وحالة الأمة المصرية غداة الحرب وتطورها من 1918 إلى 1936، والأزمة الإنجليزية المصرية السياسية بعد الحرب، وفترة الانتظار من 1925 إلى 1934، وتطور الشبيبة المصرية وتحرير مصر بمعاهدة 26 أغسطس سنة 1936
والقسم الثاني خاص بالأجانب ونظامهم في مصر وهو يبحث نظام الامتيازات قبل مؤتمر مونترو ومصالح الأجانب في مصر، ومؤتمر مونترو ونتائج هذا المؤتمر.
والقسم الثالث خاص بالحالة الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية في مصر.
والقسم الرابع والأخير يتضمن دراسة خاصة عن تاريخ الصحافة المصرية وتطورها، وفي ختامه كشف بجميع الصحف والمجلات من عربية وإفرنجية التي تصدر في مصر.(275/65)
ومن يتصفح كتاب (مصر المستقلة) يجد أن هناك مجهوداً كبيراً قد بذل في وضعه لا سيما وأنه يتضمن معلومات وافيه عن التطورات السياسية التي مرت بوادي النيل في الأشهر الأخيرة.
مجمع علمي أدبي في حيدر أباد
جاء من مراسل الشرق العربي في بمباي أن لفيفاً من رجال العلم والأدب في حيدر أباد أسسوا مجمعاً علمياً باسم (مجمع حيدر أباد) لتشجيع التأليف والأدب. وسيعمل هذا المجمع برعاية شخصيات كبيرة بينها أمير بيرار وسراكبر حيدري رئيس مجلس وزراء حيدر أباد والمهراجا كيشن برشاد بهادور. ونواب سالا رجونغ بهادور وغيرهم. وسيصدر المجمع مجلة باللغة الإنجليزية ولغة الأوردو ينشر فيها أبحاث أعضائه ومقتطفات من مؤلفاتهم وترجمة بلغة الأوردو لدائرة المعارف الإسلامية. وستنشر المجلة أيضاً أبحاثاً عن المؤلفات المعروفة في اللغات السنسكريتية والفارسية والعربية والهندية المختلفة، وقد انتخب نواب مهدي ياربهادور مدير جامعة (عثمانية) وعضو مجلس حيدر أباد التنفيذي التهذيب والسياسة رئيساً للمجمع.
كتاب عن فلسطين في ثورتها
لم ير العالم ثورة صادقة الإيمان كتلك التي شب أوارها في فلسطين، والتي يجود فيها العرب بأرواحهم وما ملكت أيمانهم في سبيل الذب عن وطن يحاول اليهود أن يجعلوا منه أرض المعاد، ويتخذوه وطناً قومياً لهم، بعد أن شردوا طول الزمن.
فلا عجب أن لفتت هذه الحركة العربية أنظار الكتاب والسياسيين على السواء فصدرت عنها المؤلفات بأقلام من تعنيهم دراسة هذه الناحية ومن ذلك ألمت فيه مؤلفته بالثورة في فلسطين، وما قدمه العرب من تضحيات عجيبة، ورفضهم أن تكون فلسطين وطنا لليهود تنفيذاً لوعد بلفور، وأبوا أن يجعلوا هذه الأرض المقدسة (عند المسلمين والنصارى على السواء أرضاً للفئة التي لقيت المسيحية منها أشد عدوان في مستهل ظهورها، وناهضت المسيح ما وسعتها الحيل وأسعفتها القوة) وقد زارت السيدة اليزابث مؤلفة هذا السفر فلسطين، وجالت في نواحيها، واتصلت بكثير من رجال العرب والثورة هناك فلم تر(275/66)
فيهم إلا (توطيد النفس على عدم تقسيم فلسطين العربية) وهي تصف في دقة الشهامة العربية التي مهدت السبيل للعرب في أمسهم الدابر لأن يكونوا سادة أهل العصور الوسطى.
وتقول المؤلفة (أن عجلة الزمن تسير في وناء في هذه البلاد (فلسطين) التي يرجع تاريخها لا إلى عدة قرون فحسب، بل إلى آلاف السنين الغابرة. وإن التلال الخالدة، والصخور الباقية منذ القدم التي شهدت مجيء إبراهيم بعائلته، وأطلت على قطعانه وقومه، لتشهد اليوم أرضاً قد ألقيت البغضاء بين أهلها. وإن العرب واليهود ليقفون اليوم وجهاً إلى وجه متخاصمين متنابذين. لقد كان أحد الخصمين يرتكن من قبل على ماله وثرائه في نيل مطالبه، أما اليوم فتؤيده القوات، ويشد أزره أعضاء منه في مختلف الحكومات، وأما الخصم الأخر فلا يملك غير إيمانه بحقه، وإنه ليستشهد مقبلاً غير مدبر، باسماً غير عابس، راضياً غير مكره، حتى ينال مطلبه أو يموت دونه شهيداً)
وهكذا نري المسألة الفلسطينية اليوم لم تعد شغل الساسة فحسب، بل كان من آثارها هذه الكتب التي تتناول فلسطين من نواحيها المختلفة، كما استطاع العرب بفضل ثباتهم أن يجتذبوا إلى جانبهم العطف الأدبي عند كثير من رجال الحكومات المختلفة.
من الأستاذ الكرملي إلى المرحوم الرافعي
(لما أصدر المرحوم الرافعي كتابه (وحي القلم) في يناير سنة 1937 أهدى نسخة منه إلى صديقه العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي عضو المجمع اللغوي؛ فبعث إليه بالرسالة التالية وفيها مسائل لغوية يطلب حلها، وقد وقعت لي هذه الرسالة بين ما خلف الرافعي من أوراق، ولم أعلم ماذا كان رد الرافعي عليها، فآثرت نقلها إلى قراء الرسالة ليروا رأيهم في هذه المسائل اللغوية التي تناولتها رسالة العلامة الكرملي. وهذه هي الرسالة:
إلى حضرة فخر بلغاء المصريين الأستاذ الجليل مصطفى صادق الرافعي، رفعه الله إلى أعلى مقام
أبدأ كلمتي هذه بتأدية عبارات الشكر الصادق للهدية التي أطرفتني بها وأنت نابغة بلغاء مصر على ما أعتقده في صميم القلب.
وأحسن دليل لذلك أني اقتنيت جميع مؤلفاتك وزينت بها خزانتي فأرجع إلى مطالعتها الفينة(275/67)
بعد الفينة كلما أردت أن أنزه نفسي وأطربها وأربحها من متاعب الحياة. إذن حل عندي (وحي القلم) محلاً رفيعاً لما حوى من مختلف الموضوعات التي جاءت بأفصح عبارة وأبلغها، بل تتحدى كل كاتب أن يأتي بضرعها؛ ولا سيما لأن أغلبها لم تمر على خاطر من سبقنا في الكلام؛ ولهذا اعتبرت دائماً الأستاذ الرافعي جاحظ العصر، أو أبن مقفعه، أو بديع زمانه. وقد نصحت لكثيرين من أبناء العراق أن يطالعوا ما كتبه أو يكتبه إذا أرادوا الجري فالسبق في ميدان الفصاحة والبلاغة ورفيع الإنشاء، فأخذوا بكلامي
بقي الآن أن أسألك عن أشياء لم أستطع أن أهتدي إليها، فالرجاء منك أن تعينني على تفهمها:
1 - جاء في الجزء الأول في ص6 ذكر (الكهربائية) والذي اعلمه أن الكهرباء قصور لا ممدود. وقد صرح بذلك صاحب تاج العروس؛ وجاء بالقصر أيضاً في جميع أسفار الأقدمين من العصر العباسي، فأن صحت هذه الرواية أفننسب إليها بالهمز أم بحذف الألف فيقال كهربي وكهربية كما يقال مصطفىّ ومصطفية على ما صرح به سيبويه، وإلا فأي فصيح قال كهربائي؟
2 - في ص8 ورد ذكر (المصنع) والعرب لم تنطق به. على أن القياس لا يمنعه، وقد ورد في الصحف والكتب العصرية ولا يزال يرد بهذه الصورة، ولكن ألا يتخذ الكاتب البليغ الكلمة التي جرت على أسلات السلف وهي (الطِراز) فقد قال في القاموس: (الطراز. . . الموضع الذي تنسج فيه الثياب الجديدة)؟
3 - وفي ص10 ذكر (الديناميت) فلو قيل البارود الناسف أو أن نكتفي بقولنا (الناسف) أو (النسَّاف) كما يقول العراقيون، عامتهم وخاصتهم، أما يكون أحسن؟
4 - وفي ص34 جاء ذكر (ملك الزمن الربيعي)، وأنا لم أجد إلى الآن فصيحاً نسب إلى الربيع بإثبات يائه بل قال (الرَّبّعي) فهل عثرت على مثل كلامك في (كتاب بليغ صحيح قديم)؟
5 - وفي تلك الصفحة قيل (يضحك ويستحي) وقد تكررت استحى يستحي وزان افتعل يفتعل مراراً كثيرة وقد أنكرها بعض الفصحاء وقالوا في مكانها استحيا يستحي
6 - وفي تلك الصفحة (تراها - أي الطاقات - عطرة بيضاء) وأنا لم أجد إلى الآن في(275/68)
شعر أو نثر من وصف جمعاً مؤنثاً سالماً لعاقل أو لغير عاقل بوصف مفرد مؤنث وهي من باب أفعل فعلاء الدال على لون أو عيب أو حلية. فهل مرت تحت عينيك هذه الصيغة في كلام قديم بليغ من أهل الجاهلية أو صدر الإسلام؟
7 - وفي ص35 ورد: (تعطي لكل شيء تماماً) وهو تعبير جائز؛ لكن ألا يكون أبلغ لو قيل: تعطي كل شيء؟
8 - وضبطت (البلُّور) في ص44 وزان تنُّور، كما في القاموس؛ ولكن اللغويين البصراء الحُذَّاق الأئمة أنكروها وفضلوا عليها البِلّوْر وزان سِنَّوْر، كما في اللسان ولم يعرفوا سواها. فما الجواب؟
9 - في ص45 (تحتاجه الحياة) وهذا من باب الحذف والوصل، وهو كثير في كلامهم؛ لكن أليس الأبلغ أن يقال (تحتاج إليه الحياة)؟
10 - كنت أظن أن (البركان) الوارد في ص101 وسواها لفظة لا نعرفها العرب الأقدمون، بل كانوا يعرفون (الأطمة)، أفليس الأحسن لنا أن نقر ألفاظ السلف على ألفاظ الخلف التي لم يعرفها الأوائل وفيها خلف ظاهر؟
11 - ضبطت في تلك الصفحة (وغلظته) بضم الميم وأنا لم أجدها في معجم.
12 - وكثيراً ما جاءت (النواميس) ومفردها (الناموس) في وحي القلم ففي ص102 (إن النواميس الطبيعية) وفي ص9 من الجزء الثاني: (في تحقيق ناموس)؛ وقد تكررت الكلمة مفردة ومجموعة. وكنت أتوهم أن العرب لم تعرف هذه الكلمة بمعنى (السنة) وإنما جاءت بمعان أخر مذكورة في دواوين اللغويين. أما الناموس بهذا المعنى (أي بمعنى السنة) فقد أدخلها (النصارى) المعربون منذ صدر الإسلام لوجودها في التوراة والإنجيل بهذا المعنى. وكذلك تراها مبثوثة في كتب المنطق والفلسفة والطبيعة والطب واللاهوت وما وراء الطبية؛ لكن فصحاء المسلمين لم يحقوها ولم يقروها في أسفارهم ولا في معاجمهم، فهل وجدتها بهذا المعنى في الدواوين القديمة في غير ما أشرت إليه من التصانيف؟
. . . هذه بعض أسئلة - وليس فيها شيء من النقد، معاذ الله - وقد خطرت ببالي وأنا أتلذذ بتصفح هذا السفر الفذ، وأتوقع الجواب عنها. فعسى ألا أحرم أنوارك المبددة للظلمات، وأختم كلمتي هذه بالشكر ثانية لأياديك البيض كما بدأتها به.(275/69)
(الأب أنستاس ماري الكرملي)
. . . فإلى اللغوي العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، أن يتفضل على قراء الرسالة بنشر ما قد يكون وصله من جواب الرافعي على هذه المسائل
وإلى اللغويين من قراء الرسالة أن ينشروا على القراء رأيهم في جواب هذه الأسئلة، وإلى النقدة من كتَّاب العربية أن يقرءوا هذه الرسالة لعلهم يجدون فيها مثلاً في أدب النقد
وفي صفحات الرسالة متسع إن أذن الأستاذ الزيات.
محمد سعيد العريان(275/70)
الكتب
الحيوان للجاحظ
تحقيق وشرح الأستاذ عبد السلام محمد هارون
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أقدم عملاً عظيماً في لون من ألوان الأدب العصري لم يوجد إلا بعد أن وجدت المطبعة، ووجدت بحوث المستشرقين وفن إخراج الكتب
وهو عمل يتصل بالعلم بما فيه من التحقيق وتحرير النصوص، ويتصل بالأدب بما فيه من ملكة التذوق والترجيح واستفتاء الثقافة الأدبية والاعتماد على المحفوظ المذكور من نصوصها، ويتصل بالفن بما فيه من تنسيق وتبويب وإخراج جميل يروع ويجذب العين واليد إلى الكتاب
وكاد هذه العمل يكون خاصة موقوفة لأقلام علماء المشرقيات الأجانب لولا نفر قليل من المشارقة أنفسهم ساهموا بأقلامهم في هذا العمل النافع القيم الذي هو في الحق ميلاد جديد للكتب القديمة تهتز له عظام مؤلفيها القدامى غبطة بتسهيل الانتفاع بما تركوا من آثار جليلة قد يذهب بما فيها من الفائدة عند شباب هذا الزمان أنها ألفت على غير ما ألفوا من الكتب الحديثة المبوبة التي يعلن فيها كل مبحث عن نفسه في سهولة واقتراب إلى الأذهان التي لم تتعود الصبر والجلد على التعرف إلى الآثار القديمة لانقطاع الأسباب وبعد الزمن وتغير الأساليب وكثرة الملاهي وحب السرعة، ومرض الهمة وكلال العزيمة
وإذ أقدم هذا العمل العظيم أشعر في نفسي بغبطتين: الأولى غبطتي ببعث مكتبة الجاحظ أديب العربية العباسية الأكبر، ووارث علوم علمائها وأدب أدبائها وخفة ظرفائها، وسجل دنياها الزاخرة، ومصور حياتها المتشبعة، بعث فيه من الجدة والفن والطرافة ما يخيل إلينا أنها انحسرت عنها قريحة معاصرة
والثانية غبطتي بأن هذا البعث كان على يد صديقي الثبت الضليع الأستاذ عبد السلام محمد هارون الذي أعرفه كما اعرف نفسي إذ كان صديقي الأول وصنوي في عهد الدراسة العزيز(275/71)
وأخشى أن يحسب حاسب أنه قد طغى وثوقي بهذه الشخصية وحبي لها على تقدير عملها في (الحيوان) تقديراً بعيداً عن الغلو، كما أخشى أن يظن ظان أن الأمر في هذا التقديم مرجعه إلى (توريط) الصداقة وتقريظ الأصدقاء بعضهم بعضاً. وحسب ذاك الحاسب وهذا الطغيان أن يرجعا إلى الجزء الذي طبع من الحيوان ليريا المجهود فيعرفا الشخص الذي بذله كما عرفته أنا منذ خمس عشرة سنة أدبياً متصلاً بصميم الأدب العربي مقلباً يده وعينه في مراجعه القريبة والبعيدة ممتلئاً من حُر نصوصه.
وإذا كانت الأمور تقاس وتقدر بما يبذل فيها من مجهود له نتيجته النافعة فأظن أن ما في المطبوعة الحديثة من الحيوان من التحقيقات وتحرير النصوص وفهارس المعارف وأجناس الحيوان وأعلامه وأعلام الناس والقبائل والطواف والبلدان والأماكن والأمثال والشعر والأرجاز واللغة والكتب وأيام العرب، أظن هذا كله عملاً أشق وأنفع من كثير من الكتب التي يرسلها مؤلفوها إرسالاً سهلاً. وأظن أنه يستتبع تقدير صاحبه تقديراً ترضى به نفسه. وقد صار العلم الآن بما في الكتب القديمة سهل المورد بأمثال هذه الفهارس التي تنفض ما في الكتب نفضاً، وتعلن عن كل كلمة فيها إعلاناً عريضاً يأخذ بعيون الباحثين إلى ما يلقون من الأشباه والنظائر والمختلفات، مما يوفر عليهم الجهد والوقت والاستذكار، حتى لقد شاعت هذه الكلمة (أن العلم الآن معرفة ما في الفهارس)
وقد ابتدع الأستاذ هارون فهرساً قيماً لما في الحيوان من المعارف التي وضع لها هو أيضاً عنوانات فصلت أثناء الكتاب، وهو لون طريف في التعريف بما ورد في الكتاب حشوا في غيره، مما قد يمر عليه القارئ عفواً بدون ترقب ولا تعقب؛ وهو عمل عظيم في كتب شأن مؤلفيها الاستطراد وإلقاء ما في الذاكرة متى حضر ولو بدون مناسبة قريبة، وإنما هو جود الذاكرة.
والأوائل كانوا على رأي في الأدب هو انه الإلمام من كل شيء بطرف، ولذلك كانوا يخرجون كتبهم الأدبية إخراجاً يرضي هذا التعريف. فكانت كتبهم الغالبة أشبه شيء بحديث المجالس وأماليها. غير أن هذا اللون من التأليف نبأ عنه الذوق العصري الذي لا يرضي من المعارف إلا ما كان فصائل وأجناساً مضموماً بعضها إلى بعض مميزة بعنوانات تضم الشتيت كما يضم اللقب الأسرة، ولا يرضي أن يذهب فكر القارئ شعاعاً(275/72)
وبدداً هنا وهناك وقت القراءة.
وعلى ذلك كل عمل يرشد القارئ الجديد إلى ما يبحث عنه في بطون الأسفار القديمة رأساً بدون اضطراره إلى الخوض في بحر لا ساحل له، وفي مباحث لا حاجة له إليها، فهو عمل من أعظم ما يربط أسباب الجديد بالقديم ويجلو الدرر المدفونة بين طيات الكتب التي فيها كثير من الحصا والتراب.
وقد قدم الأستاذ هارون (مكتبة الجاحظ) التي (سيعمل جهده على إخراج ما يمكن منها بعون الله ما مد له في الحياة) تقديماً بديعاً تحدث فيه عن بيان الجاحظ وعصره والتأليف في عصره ومؤلفات الجاحظ ومنحاه في التأليف وقيمة كتبه في نوادي الأدب وذيوعها ووراقيها. وقد أتى في هذا الحديث بفوائد ممتعة.
وقد قدم كذلك كتاب الحيوان تقديماً خاصاً عرض فيه لمنشأ التأليف في الحيوان عند العرب ولمراجع الجاحظ في تأليف كتابه من القرآن والحديث والشعر العربي وكتاب الحيوان لأرسطو ومحاولات المعتزلة وجدالهم فيما بين أيديهم من ألوان المعارف جليلها ودقيقها؛ ثم المجهود الشخصي للجاحظ وولوعه بمباحث الحيوان ولوعاً حمله على أن يجالس الملاحين وصائدي العصافير والحوائين وغيرهم من القائمين على شؤون الحيوان. وهو لعمر الحق مبحث في غاية النفاسة وفي صميم الأدب الأصيل اهتدى إليه الأستاذ هارون ابتداء، لم يسبقه إليه سابق فيما أعلم. ومن المباحث القيمة أيضاً في هذا التقديم تحقيق زمن تأليف الجاحظ للحيوان وتبيين قيمة كتاب الحيوان بما فيه من المعارف الطبيعية والمسائل الفلسفية وسياسة الأقوام والأفراد ونزاع الطوائف، والمسائل الجغرافية وخصائص الأجناس وقضايا التاريخ وأحاديث الطب والأمراض والمفردات الطبية، وأحوال العرب وعلومهم ومزاعمهم، ومسائل كثيرة في الفقه والدين، مضافاً إلى ذلك كله فكاهة الجاحظ الساخر، أو فلتير الشرق - كما لقبه الأستاذ الزيات - واختياره للصفوة المختارة من حر الشعر العربي ونادره. . . إلى أخر ما تمتاز به مؤلفات أبي عثمان البحر. . .
(وبعد) فنظرة واحدة إلى صفحة من صفحات الكتاب بصلبها وهامشها تقف القارئ مباشرة على مقدار الجهد العنيف الذي بذله الأستاذ الصبور محقق الكتاب، في ضبط الألفاظ وشرحها وفي مقابلة النسخ القديمة التي اعتراها كثير من التصحيف والتحريف، وفي أمانته(275/73)
وحرصه على استئذان القارئ فيما أثبت أو نفى من أوضاع الكتاب وكلماته وتوجيهاته. مع تواضع جميل يعرف في طبعه كما يعرف في قوله من تقديم الكتاب: (وأما أنا فلست بمكان من يدعي العصمة أو يخال السلامة، فليس يكون ذلك إلا لمن ذهب عن نفسه وتعلق بالباطل
(ولكنني يعجبني أني بذلت فيه غاية الجهد وأني التزمت جانب الأمانة فلم أسقط حرفاً ولم أزد حرفاً إلا استأذنت القارئ)
ثم نظر أخرى إلى ثبت مراجع تقديم الكتاب وتحقيقه وشرحه ترى القارئ مقدار سعة اطلاع الأستاذ واهتدائه إلى مواطن القوى فيما يشتبه عليه من خبر أو نص أو توجيه وإلى ما يعتمد عليه في إخراج هذا السفر الجليل وما وراءه من مكتبة الجاحظ
فجزاه الله الكريم وأمتع به أصدقائه ونفع بجهوده الموفقة اللغة العربية
والشكر الجزيل لحضرات ناشري الكتاب في ثوبه الأنيق وورقه الفاخر وحروفه الواضحة
عبد المنعم خلاف(275/74)
المسرح والسينما
أخبار الأسبوع
شيء من لا شيء
يبتدأ اليوم 10 أكتوبر في عرض فلم (شيء من لا شيء) على ستار سينما أستوديو مصر وهو من أفلام أستوديو مصر لهذا الموسم. وبطلاه هما عبد الغني السيد (هلال) ونجاة علي (نجمة) والفلم غنائي كوميدي اشترك فيه جمجوم وشفيق والقصري من كبار ممثلي الكوميدي في عالم المسرح المصري. وهو من إخراج الأستاذ (بدر خان). والمنتظر أن يمتد عرضه بضعة أسابيع، لأنه يعتبر تحفة الموسم الغنائية بغير منازع
مارجريت لوكووود
اختيرت (مارجريت لوكووود) بين ثلاثة وعشرين نجمة، نموذجاً للفتاة الإنجليزية وذلك للقيام بتمثيل الدور النسائي الأول في فلم (أود بوب) الذي يخرجه الكسندر كودرا. كما اختير النجم الإنكليزي (جون لودر) لتمثيل الدور الأول بعد أن كان ترتيبه الأول في نفس المباراة للرجال ويرى القارئ صورتهما مع هذا الكلام
الدكتور
المنتظر أن يكون الأستاذ نيازي مصطفى في نهاية هذا الأسبوع قد انتهى من تصوير الديكورات المعارة في فلم الدكتور وبذلك لا يبقى غير أجراء المونتاج النهائي وذلك تمهيداً لعرضه قريباً. ومما هو جدير بالذكر أن السيدة دولت أبيض تقوم في هذا الفيلم بدور هام كبير يتفق مع سنها وأدوارها المسرحية. وقد سبق أن ذكرنا أن بطليه هما الأستاذ سليمان نجيب والآنسة أمينة رزق وبهذا الفلم تكون المفاجأة الثانية للأستوديو لهذا الموسم
يوسف وهبي على مسرح ماجستيك
يستعد الأستاذ يوسف وهبي استعداداً كبيراً لافتتاح موسمه الأول لهذا العام على مسرح الماجستيك بشارع عماد الدين، وهو المسرح الذي كان يعمل به على الدوام الأستاذ علي أفندي الكسار. . والمعروف حتى الآن أن الأستاذ وهبي يبدأ بروايات قوية جديدة وأن(275/75)
الروايات السابق تمثيلها لن تمثل إلا في أيام العيد. ونحن نرجو أن يصادف الأستاذ وهبي في موسمه الشتوي، وخاصة في شهر رمضان المبارك الذي يبدأ فيه عمله، ما صادفه في موسمه الصيفي على مسرح الليدو بالجيزة، فقد ضرب الأستاذ يوسف في هذا الموسم كافة أرقام الدرام القياسية السابقة
في سبيل الحقيقة
قامت جماعة أنصار التمثيل والسينما يوم الخميس الماضي بتمثيل رواية (في سبيل الحقيقة) مسرح الحمراء بالإسكندرية في الحفل السنوي الذي تقيمه جمعية المواساة ويشرفه حضرة صاحب الجلالة الملك. ومن الأقوال المعادة أن نقول إن أفراد الفرقة جميعاً، والممثلات اللوائي استعين بهن من الخارج، قد أجدن أدوارهن إجادة تامة واستحققن من أجلها تهنئة المليك وعطفه السامي، وهو جد غال ولا يكون إلا في موضعه. . وقد ضحك الجمهور كثيراً لدى سماعه شخصية الدكتور الذي كان صورة طبق الأصل من الدكتور محجوب ثابت، بقافاته وشخطاته ونطراته. .؟
لوتس فلم
من الله على السيدة آسيا مديرة شركة فنار فلم بالشفاء، وقد بدأت الشركة في تصوير فلمها الثاني لهذا العام، ونحن نهنئها بالشفاء ونتمنى لها توفيقاً كبيراً
ميرنا لوي
- تظهر (ميرنا لوي) في فيلم (جابل) الجديد واسمه (ساخن ولا يمكن لمسه). . . وهو من إنتاج المترو جولدوين ماير وسيعرض في الرويال بالقاهرة
بيتي ديفيس
- تظهر (بيتي ديفيس) في فيلم (جزبيل) مع النجمين الشهيرين (هنري فوندا) و (جورج برنت) وهو من أقوى أفلام الموسم الحالي للبرامونت(275/76)
العدد 276 - بتاريخ: 17 - 10 - 1938(/)
الصقر نحن به أولى
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتبنا في (الرسالة) قبل عام كامل على التقريب مقالاً عن الحكيم الحاكم (مازاريك) رئيس الجمهورية في بلاد التشك والسلواق ختمناه بما يأتي:
(سيرة الرجل عبرة لا تنقضي ودروس لا تنفذ. أولها: أن الفيلسوف لن يسلم من لوثة الحكم والسياسة ولو أضمر الخير وأسلف الجهاد الطويل في قضايا المظالم والشكايا. وثانيهما: أن الديمقراطية لا تسلم في وطن تختلف أجناسه ولغاته وأديانه وطبقات الحضارة فيه إلا على أساس الولايات المتحدة التي يستقل فيها كل فريق بالحكم والتشريع. وثالثها: أن أوربا الوسطى لا تزال كما كانت قبل الحرب العظمى غيلا تصطرع فيه ضواري الأحقاد ويوشك أن يندفع بالعالم مرة أخرى إلى حرب لا تؤمن لها عاقبة. وإننا على ما انتاب الديمقراطية من خيبة، وما تعاورها من نقص وتقويض لا تزال على إيمان وثيق بأنها هي كهف السلام ومعقل بني الإنسان، ومآل الحكم في المستقبل البعيد إن لم يعجل لها النصر في مستقبل قريب
(فالدول الديمقراطية لا تبغي الحرب كما تبغيها الدول الدكتاتورية؛ وبريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة، لا يخشى منها على سلام العالم كما يخشى من إيطاليا، وألمانيا، واليابان والجمهوريات الروسية)
كتبنا هذا المقال على أثر وفاة مازاريك، ودار العام والحوادث تثبت لنا أن كثيراً من المسائل الأوربية خليق أن ننظر إليه كأنها مسائل (محلية) نكترث لها في أوانها وقبل أوانها لنصبح على أهبة دائمة للقائها، ثم نثبت لنا الحوادث أن الجمهورية التشكية لو بادرت إلى تعميم نظام الولايات المتحدة بين شعوبها الصغيرة لكان ذلك خيراً لها، وإن كنا لا نظن أن أسباب الأزمة الدولية الأخيرة تنحصر في هذه الوجهة، لتعدد وجهات المسائل الدولية عامة
ولا أدري لم نشعر بالعطف على بلاد الفيلسوف مازاريك ونود لها الحياة والسلامة؟ فلعل السبب الأول أنها هي بلاد الفيلسوف مازاريك وأنها (تشخصت) في مثال إنساني رفيع محمود العمل والأثر معروف في عالم الأدب والحكمة معرفة الناس به في عالم السياسة(276/1)
والإدارة والكفاح
ولعل أسباباً أخرى ترفد ذلك السبب الوجيه الراجح، ونعني بها الأسباب التي توجب العطف على كل شعب صغير مجاهد صبور يحمل من الأعباء فوق ما يطيق، ولكنه لا يرزح بتلك الأعباء ولا يعالجها بالحول والحيلة حتى يروضها ويمشي بها إلى غايته القصوى وهي أشرف الغايات، لأنها غاية الحرية والثقافة والجمال
شعب مازاريك مثل جميل من أمثلة الجهاد الحسن في سبيل الحرية والقوة والجمال، سلبته الدولة النمساوية سلطانه فلم يستسلم ولم يركن إلى الخنوع والمهانة، وصنع ما هو أنبل وأكرم من ذلك لأنه جاهد في رفع الضيم فلم يقصر جهاده على المؤامرات والمشاغبات وحوادث الغيلة والانتقام، بل عمد إلى التعليم فأشاعه بين أبنائه حتى محا الأمية محوا قبل أن تفلح الشعوب القوية في محوها من بلادها. ثم لم يكفه ذلك حتى أدرك أن الكتابة والقراءة لا تكفلان وحدهما الغلبة والحرية للشعوب الضعيفة، فأضاف إلى سعيه في نشر التعليم سعياً آخر في نشر الفتوة بمعناها الأصيل، ومعناها الأصيل في عرفنا أن يكون الإنسان شهم النفس شهم الجسم شهم الذوق سريعاً إلى ما يجمل ويحسن بأدب الإنسان وذوقه واستجابته لدواعي الحياة
تلك هي حركة (الصقر) التي شاعت في أوربا باسم (الصكل) وقلنا في عنوان هذا المقال إننا نحن أولى بها من غيرنا، لأننا نرجح أن أصل الكلمة عربي أخذته أمم السلاف من جيرتها الأسيوية إذ تعلموا الصيد والفروسية قديما من سادات العرب يوم غلبة سلطانهم على أواسط آسيا وتخوم بلاد المغول، فأصبح اسم الصقر مصحفا عندهم باسم (الصكل) وهو عنوان الحركة الرياضية الكبرى في أمتي التشك والسلواق
رأس هذه الحركة المباركة هو (تيرش) العظيم أوحاها إليه أنه زار بلاد الإغريق في أواسط القرن الماضي فراعته المثل العليا التي أقامها الإغريق الغابرون لجمال الفتوة وصحة التكوين، وعلم أن نهضة الكتابة والقراءة لا تغني أمته عن نهضة النفس من طريق رياضة البدن وثقافة الذوق ونشاط الشعور، فأجمع النية الصادقة على إنهاض قومه في هذا الطريق، وأعد عدته لتنظيم الفرق الصغيرة فالفرق الكبيرة لتدريب الرجال والنساء من سن الطفولة إلى سن السبعين وما بعد السبعين، وما يعني بذلك التدريب إلا أن يجعل الجسم(276/2)
على أصح وأصلح مثال يستطاع، فلا يترك لعضو من الأعضاء بقية من كمال يستطيع بلوغها إلا استوفاها على نمط جامع بين الصحة والقوة والنسق والجمال. وأوجز ما نلخص به فلسفته الرياضية أنها رياضة جسدية موسيقية، لا تقصر على سهولة الحركة الجثمانية بل تقرن بها الرشاقة والوزن والتنغيم
وكان (غاريبالدي) الإيطالي يومئذ قدوة المجاهدين في سبيل الأوطان، فلما عبر (تيرش) بالبلاد الإيطالية راقه أن يستعير (القميص الأحمر) للفرق الجديدة وجعل لها قبعة عليها ريشة صقر فمن هنا اسم أو الصكل الذي عرفت به هذه الحركة الرياضية الكبرى، وهو لفظ (الصقر) بلغة التشك والسلواق
قال روبرت يونج في كتابه (شاب ينظر إلى الديار الأوربية) رواية عن رجل في الستين يصف الحركة وهو يشاهدها في ميدانها ببراغ:
(معظم الأعضاء يتصرفون لمعاشهم نهارا ويتلقون تدريبهم الرياضي أثناء الليل. . . ولا حاجة بنا إلى الرياضيين المحترفين لأننا نؤمن بأن الديمقراطية ينبغي أن يكون لهم من العقيدة الديمقراطية أن يبذلوا اختيارا وطواعية جزءا من وقتهم لتجميل أحوالهم الجسدية)
واستطرد الكاتب إلى بيان موارد الإنفاق على الحركة فإذا هي قائمة على جيوب أعضائها والقسط اليسير الذي يؤديه كل منتم إليها، أما معونة الحكومة فهي شيء طارئ وهي مع ذلك تنقص عاما بعد عام تبعا لتفاقم الأزمة المالية واشتدادها على كاهل الحكومة والأمة
وقال ويكهام ستيد الكاتب المشهور يصف عرض (الصكل) في شهر يوليه الماضي، خلاصته: (أي جندي لا يأخذه منظر ثمانية وعشرين ألفاً من الشبان الأصحاء الأشداء يمشون في ميدان مازاريك الذي تبلغ مساحته خمسة وأربعين فداناً فيتفرقون إلى أماكنهم جميعاً لابتداء التدريب الإيقاعي في خلال ربع ساعة، ثم ينتهي التدريب فينصرفون كرة أخرى ثمانين صفاً كل ستين في صف واحد خلال اثنتي عشرة دقيقة. وإنني لأشك في استطاعة جيش منظم أن يعبر خمسة وأربعين فداناً جيئة وذهوباً وتدريباً في سبع وعشرين دقيقة دون أن يقع فيه شيء من الارتباك والعجلة. أما النساء وقد أدين تدريبهن قبل الرجال وبلغن ستة عشر ألفاً عداً فقد ضارعن الرجال في النشاط والنظام)
حركة الصقر هذه نحن أولى بها وأحوج إليها، وقد رأينا نموذجاً منها في (إصلاحية(276/3)
الأحداث) التي تشرف عليها مصلحة السجون، فرأينا كيف يراض المئات من الأطفال والصبية على الحركة الإيقاعية في وقت واحد بغير قيادة معلم أثناء الأداء، وعلمنا أن تعميم هذه الحركة مستطاع كل الاستطاعة لن يبذل الجهد الذي بذلته مصلحة السجون في تدريب أطفال نسميهم مجرمين
وما حاجتنا إلى حركة الصقر؟ إنها دفاع جنود يحمون الأوطان، بل هي كذلك وهي فوق ذلك عدة حياة لدفاع آفات كثيرة هي أشد خطراً من غارات الأعداء
عباس محمود العقاد(276/4)
التعليم والعاطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
الأستاذ عبد الحميد فهمي مطر أحد رجال التربية المثاليين
الذين يسيرون إلى غايتهم من التعليم مستقلين على ضوء
الفكرة والخبرة والاطلاع، فهو لا ينفك منذ 24 عاماً معنياً
بمسائل التربية في مصر باحثاً في عللها ناقداً لنظمها في
صراحة وجرأة. وقد توفر أخيراً لدرس هذا الموضوع
الخطير، وهو معضلة الساعة؛ ثم تفصل فوعد بنشره تباعاً في
الرسالة.
المحرر
نشأت في قرى الريف بين حقول الطبيعة وإحراجها مغرما بها، في أحضان الحرية وبين ضلوعها هائما بها، ثم دفعت بي الأقدار بعد الدراسة في الكتاب إلى المدرسة الابتدائية التي جذبتني إليها جذباً بطربوشها وملابسها الإفرنجية. ذلك الطربوش الملون بلون الورود، الذي كان لا يزال يتعشقه أبناء الريف منذ ظهر في الوجود، والذي بمجرد أن لبسته أنا وإخواني تأكدنا من المستقبل السعيد، في ساحة الدواوين، بين الموظفين.
فكان ذلك الغرض الذي يملأ نفوسنا حافزاً لكل منا إلى الاجتهاد والجد. وبالرغم مما صدمتنا به المدرسة من ضغطها وشدتها وعصبها وجبروتها وحدتها، مما بغض الجميع فيها فقد كان الغرض السامي يدفعنا أبداً إلى الأمام، إلى العمل المتواصل، إلى المدارس الثانوية من غير أن يتخلف منا إلا القليل. أما من تخلف فقد وجد السبيل إلى العمل أو إلى مدارس أخرى سهلا ميسورا، ثم كان النجاح في البكالوريا فكان الفرح الشامل
وألحقناه بين الحفاوة والتبجيل، وعظيم الدعاء والتهليل، بالمدارس العليا يحدونا الأمل الكبير إلى المستقبل الحافل الذي لا يحلم به أحد من موطنينا الريفيين. فلما حصلنا على(276/5)
الشهادة العليا تخطفتنا الأيدي إلى العمل الحكومي، فولجناه نشيطين جادين. فكان منا المعلمون والأطباء والمهندسون ورجال القضاء، الذين ملئوا دواوين الحكومة بأعمالهم ولم يجد العمل الحر سبيلاً إليهم، وبالرغم مما لقيناه من تكريم فقد بقيت في نفوسنا للمدرسة مرارتها، ودامت فيها ذكريات ضغطها وشدتها. ولكن ذلك كله هان بجانب ما أوصلتنا إليه من نتيجة طيبة. فتلخص في سهولة الحصول على وظيفة حكومية
عملت بين جدران المدارس بعد ذلك زمناً طويلا كنت أحس فيه أن المدارس التي عملت فيها تلميذاً والتي عملت فيها مدرساً والتي عملت فيها ناظراً لم ينلها شيء محسوس من التغير ولم يتطرق إلى روحها شيء من التجديد أو التبديل، فهي لازالت تسير على نفس الوتيرة القديمة، مليئة بنفس الروح القديمة، يحس تلميذها إذا ما دخلها بانقطاعه عن العالم وما فيه إلى شبه سجن غير محبوب إن لم يوصف بأنه مكروه، ولكن الجميع ظلوا يكبتون عواطفهم إزاءها لما تجلبه من خير الوظيفة إلى طلابها بعد نيل شهادتها، وظلت المغريات القديمة تدفع الناس دفعاً للسعي إليها
وبدأت بعد ذلك تظهر مشكلة المتعطلين من المتعلمين بعد أن امتلأت الدواوين بالموظفين وكنت قد تبينت بالبحث حالة المدارس في البلاد الأخرى، وما تسير عليه من أنماط وأساليب، تغاير ما نسير عليه في مدارسنا فرفعت بعض التقارير إلى وزراء المعارف في نقدها مبيناً عيوبها، واستمر ضغط حملة الشهادات على الدواوين حتى اكتظت بهم، وأصبحت المدرسة لا تجد سبيلاً لتصريف الخريجين من أبنائها، مما اضطربت له أفئدة المسئولين. وأخذ ألم المتعطلين يحز في نفوسهم ونفوس أهلهم، ويثبط من همم الناشئين المتعطلين، ويضغط في الوقت نفسه على الحكومة ورجالها ضغطاً شديداً. ثم أخذ الحال يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. أما المدرسة التي كنا نتحمل قديماً شدتها، ونخضع لما فيها من ضغط وإكراه، في سبيل غرضها الأسمى، فقد أصبحت اليوم لا غرض لها إليه إذ أحس كل من فيها بزوال غرضها القديم الذي كانت تتجه بكليتها إليه، هذا فوق شذوذها عن الطريق السوي لبعدها عن الحياة وما يجري فيها. وهكذا ساءت الحالة إلى مدى بعيد بين جدران المدارس نفسها، فأنحط مستوى التعليم كما انحطت الأخلاق فيها؛ ذلك إلى العطل الذي ضرب إطنابه بين خريجيها مما أصبح خطره يهدد المجتمع في نظامه وحياته، ذلك(276/6)
المجتمع الذي لم يضمن بأنفاق الملايين من الجنيهات على مدارسه في سبيل الانتفاع بمجهودات أبنائها
إزاء كل ذلك لم أجد بداً من هذا البحث الذي أنشره في الرسالة تباعاً واضعاً فيه نتائج بحثي وعصارة تجارب حياتي تلميذاً ومدرساً وناظراً بعد جهاد طال أكثر من خمسة عشر عاماً بيني وبين أنصار القديم كنت فيه هدفاً لسهامهم نظراً لما كنت أتمتع به في كتاباتي وأقوالي من حرية الرأي التي نشأت عليها. وهأنذا اليوم أتقدم بالصراحة التي عرفت بها إلى أمتي العزيزة وعلى رأسها عنوان الشباب وقوة العزيمة مليكها المحبوب المتفاني في حبها المتحمس لنفعها وخيرها - بخطط جديدة للإصلاح متمشية مع الروح الجديدة في عالم التربية متضمنة لأحسن الآراء والمذاهب من غير أن أتعرضللتفصيل، ليمحص تلكم الآراء ذوو العقول والأفكار الناضجة في سبيل تنفيذ الصالح منها. ولست أدعي أن الخطط الجديدة التي تضمنها هذا البحث كلها سليمة لا غبار عليها، لأني أعتقد أني لست معصوماً من الزلل، ولكني أقرر أنني بحثتها ومحصتها وأعتقد أن الأخذ بها ينقل عالم التعليم والتربية عندنا من حال إلى حال، لأنه يمنح المدرسة الحياة الحرة المستمدة من حياة مصر الحرة، كما يضع أمامها هدفاً تسعى إليه عن طريق العمل المفيد المثمر. إذ أنها بحالتها الحاضرة تنبو عن أصول التربية والتعليم، كما تتجافى مع الآراء الحديثة فيهما. ولا تتنافى فقط مع ما يجري في مثلها من البلاد الأخرى، بل تتنافى أيضاً مع ما يقع في بلادنا بين سمعنا وبصرنا في المدارس الأجنبية. فلا يليق باستقلالنا ونهضتنا وحريتنا أن تبقى المدرسة أسيرة لروح التمسك بالقديم. تلك الروح التي قد اضطررت للتنديد بها لما رأيته من وقوفها حجر عثرة في طريق الإصلاح حباً في الراحة والاطمئنان، أو احتفاظاً بالنفوذ والسلطان. ولو أن المسألة وقفت عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنها تعدت إلى الأضرار بمصالح الملايين من فتيان هذه البلاد وفتياتها، بل إلى المساس بمصالح أمة يخشى على نظامها الاجتماعي من الانهيار. من أجل ذلك تقدمت راضياً بتحمل كل تضحية، راضيا ببذل كل مرتخص وغال في سبيل مصلحة بلادي وإخلاصي لمليكي، بالعمل على إنقاذ هذا الوطن من خطر العطل المحدق به والذي شعر به الجميع، وخشيه الجميع، وأشفق على مصر منه الجميع، راجياً ألا تذهب صرختي هذه أدراج الرياح كما ذهبت صيحاتي السابقة. آملا أن(276/7)
يقرأ المسئولون عن مستقبل هذا البلد هذا البحث برؤية وإخلاص وأن يبحثوه ويمحصوه. فإذا اقتنعوا بكل ما فيه أو ببعضه عملوا على تنفيذه وإلا فأني أكون قد أرضيت ضميري وأديت واجبي. هذا وان كنت قد اضطرني البحث إلى ذكر بعض مساوئنا وأخطائنا، قائما فعلت ذلك ليكون في حاضرنا عبرة لمستقبلنا. وإذا كنت كذلك قد اضطررت إلى التنديد بروح الاحتفاظ بالقديم في ديوان المعارف وفي معاهد التعليم، فأني أرجو ألا يفهم من ذلك إني أوجه النقد إلى أشخاص معينين، لأن البحث العلمي فوق الأشخاص. وما كان نقدي إلا في سبيل الصالح العام وهو موجه إلى سياسة عامة أنتجت نتائج سيئة هامة؛ خصوصاً أننا نعلم أن الأشخاص يذهبون ويزولون، أما السياسة العامة فبقاؤها أدوم وأثرها أعظم في الأبناء والأحفاد، بل وفي مرافق البلاد.
ويكفيني أن يشاركني في ذلك مندوبو مصر في مؤتمر الاتحاد العالمي لجمعيات التربية في جنيف سنة 1929 في تقريرهم عن هذا المؤتمر الذي طبعته وزارة المعارف سنة 1936 وقد جاء فيه (ص35) في سياق الكلام عن المعرض الذي أقيم في هذا المؤتمر ما يأتي: (وأني أقول آسفاً إننا لم نعان في الحياة أشد من مرارة المقارنة بين ما نحن عليه من تأخير وجمود وما وصلت إليه تلك الأمم المتمدنة الناهضة. وأمر من ذلك أن نعد أجيالا طوالا لابد من أن نمضي قبل أن نلحق بهم ما لم يهم أولياء الأمور فينا بثورة على القديم، ونهضه تحطم الأغلال العتيقة، وتقلب نظام التربية الحديثة عندنا من أساسه فندب الروح الجديدة في التعليم من كل نواحيه)
(يتبع)
عبد الحميد فهمي مطر(276/8)
كما يرانا غيرنا
رجولة باكرة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
كان السائح الأمريكي (بايارد تيلور) شاعراً كاتباً ذا ولع
بالأسفار وقد ولد في (بسيلفيانيا) عام 1825. وألف كتبا كثيرة
في وصف رحلاته منها كتاب يصف فيه رحلة إلى السودان
ومصر ومنه نقتطف هذه القطعة
وقد عين سفيراً للولايات المتحدة في برلين وعاش مدة طويلة هناك وتوفي عام 1878 وهو يشغل هذا المنصب الرفيع
قال:
من بين الموظفين المصريين الذين عرفتهم في الخرطوم سيد كان قد نفاه إليها والي مصر. وهذا السيد المنفي هو رفاعة رافع الطهطاوي، وهو من ذوي الثقافة العالية والذكاء المتوقد، وقد أحزنه كل الحزن إبعاده عن وطنه وعن أهله إلى هذا البلد السيئ الجو الذي عانى فيه ألما شديداً بسبب الحمى المنتشرة فيه
وكان لا يعرف إلى أي مدى تطول مدة نفيه. وقد قضى إلى الوقت الذي لقيته فيه عامين في المنفى خاضعاً لرقابة شديدة تَفْرض عليه ألاَّ يتسلم خطاباً إلا عن طريق الحكومة التي تفض رسائله لتعرف ما بها. وقد امتنعتْ عليه بهذه الوسيلة صلته بأصدقائه في مصر ممن يخشون عواقب تلك الرقابة. ولم يكن في وسعي أن أعرف السبب الذي نفي من أجله، وقد يكون هو نفسه غير عالم بسبب هذا النفي
وليس في البلاد الشرقية انتخابات عامة ولا للشعوب الشرقية رأي في اختيار حكامها، فكل من بها من الحكام يعينهم الولاة وفق أهوائهم ولا يستطيعون الاحتفاظ بمناصبهم إلا كما يريد الولاة. وقد يدفع التنافس أو الحسد واحداً من الباشوات إلى إهلاك خصم له بريء غافل عن سبب الكيد. وربما كان سبب الكيد لا يعدو أن يكون أحدهم طامعاً في منصب(276/9)
الآخر فيوغر عليه صدر الوالي حتى ينفيه
وقد اكتسب هذا السيد محبتي وعطفي العميقين في الليالي التي كان يقضي فيها السهرة معي ومع القنصل الأمريكي. وكان يطمئن إلى مجلسنا فيشكو لنا ما يعانيه من الظلم. أما حين نلتقي به في منزل أي موظف مصري فقد كان يحرص على عدم الخوض في هذا الموضوع خشية أن تُنقل عنه أحاديثه إلى الحكومة
ولما كنت أجنبياً غريباً فإنه لم يخطر ببالي قط أن في وسعي أداء أية خدمة لرفاعه باشا. وكنت مزمعاً العودة إلى بلادي عن طريق مصر. ولكن معرفتي بالغة العربية محدودة وإلمامي قليل بعاداتها ونظمها. وفضلا عن ذلك فقد كنت أرجو ألاً أطيل بها المكث إلا ريثما أعبر إلى الشاطئ
على أنني كنت أسير وإياه في الطريق في ليلة من لياليَّ الأخيرة في السودان فقال لي همساً إن لديه حديثاً يريد أن يسره إليَّ
ومع أن الليلة كانت مقمرة فقد كان معنا خادم وطني يحمل المشعال، فأمره الباشا بأن ينصرف، فاختفى عن ناظرنا بعد قليل في منعطف ضيق من منعطفات الطريق، وكان الصمت مخيماً لولا أصوات الرياح إذ تتخلل أطراف النخيل البارزة رؤوسها فوق أسوار الحدائق
وقال الباشا وهو يمسك بيدي: (لنا أن نتحدث الآن بضع دقائق دون أن يسمع أحد حديثنا ولي رجاء لديك)
قلت: (على الرحب إن كان في وسعي)
فقال: (إنك لن تتكلف مشقة ما، ولكنك ستؤدي لي مع ذلك خدمة جليلة. أرجو أن تحمل عني خطابين إلى مصر، أحدهما إلى نجلي في طهطا، والآخر إلى المستر موري القنصل الإنكليزي في القاهرة، ولا أستطيع ائتمان التجار المصريين على هاتين الرسالتين، فلو فضتا وقرأتا لطال أمد نفي في هذه البلاد سنين عدة. أما إذا تفضلت بإيصالهما فإن أصدقائي بمصر سيعرفون السبيل إلى معاونتي وربما تمكنوا من إعادتي إلى وطني
فوعدته بأن أسلم الخطابين إلى صاحبيهما يداً بيد. فبدا الانشراح على وجه الباشا وودعني عند باب القنصل الأمريكي(276/10)
وبعد أيام قليلة استأنفت رحلتي، وكان من أيسر الأمور أن أتصل برفاعة باشا وأن يسلمني الخطابين دون أن يتنبه أحد إلى ذلك، ووضعتهما في حافظتي مع سائر أوراقي ولم أتحدث في هذا الشأن مع أي إنسان في الخرطوم
وكانت رحلتي إلى مصر طويلة شاقة يستغرق مني وصفها أياماً لو حاولت ذلك، فقد قضيت في السفر شهرين قبل أن أتمكن من تسليم رسالة الباشا إلى أبنه المقيم في طهطا بصعيد مصر على بعد بضعة أميال من مجرى النيل. ويحيط بها سهل جميل يغمره ماء النيل مرة في كل عام
وبعد تحريات قليلة وصلت إلى منزل رفاعة باشا ولكن لم يؤذن لي بالدخول لأن السيدات المصريات لا يسمح لهن باستقبال الأجانب. وكان بالمنزل قاعة واسعة مفتوح بابها على الطريق، فأجلست فيها ريثما تذهب جارية سوداء لتأتي بابن الباشا من المكتب؛ وجلس معي في تلك القاعة خادمي الأمين. وقد تسامع أهل البلد أثناء وجودي في الانتظار أني آت من الخرطوم وأني أعرف الباشا فأتوا من كل حدب ليسألوني عنه، وكانوا جميعاً في نهاية الأدب والود، واغتبطوا لما طمأنتهم عليه كما لو كانوا جميعاً من أفراد أسرته
وبعد ربع ساعة عادت الجارية يتبعها ابن الباشا ومعلمه في المكتب، وكان هذا المعلم قد صرف جميع الطلبة وأغلق المكتب وجاء ليسمع أخبار الباشا.
كان عمر هذا الصبي أحد عشر عاماً ولكنه أطول قامة ممن هم في مثل عمره. وقد ابتسم حين رآني ابتسامة عذبة، ولولا إلمامي بعض الإلمام بعادات هذا الشعب لمددت إليه يدي وأجلسته على ركبتي وطوقت خصره بذراعي وتحدثت إليه بغير تكلف، ولكني رأيت أن أصبر حتى أرى كيف يكون مسلكه نحوي.
حياني في وقار وجلال كما لو كان رجلا له سمت وأبهة؛ ثم تناول يدي فأدناها من قلبه ثم من شفتيه ثم من جبينه؛ ثم اتخذ مجلسه فوق ديوان عال بجانبي.
وأعاد تحيتي وهو في مجلسه وصفق ثلاثاً، فجاءت جارية أمرها بأن تعد لي القهوة ثم قال: (كيف صحتك يا صاحب السعادة؟) فأجبته: (بخير والحمد لله)
قال: (هل لديكم أوامر لي؟ مروا تطاعوا!)
فقلت: (أشكر لطفك، وليس لي إلا تحيات أحملها إليك من أبيك الباشا، وخطاب منه وعدته(276/11)
بأن أسلمه إليك يداً بيد)
ثم دفعت إليه بالكتاب فوضعه على قلبه ثم قبله وفض غلافه. وبعد قرأته التفت إليَّ وقد توردت وجنتاه وسطعت عيناه وقال: (أتأذنون لي يا صاحب السعادة بأن أسألكم هل معكم كتاب آخر؟)
قلت: (نعم ولكن سأسلمه لصاحبه كذلك يداً بيد)
قال: (أصبت. ومتى تصلون إلى القاهرة؟) فقلت: (الأمر يتوقف على حالة الرياح ولكني أظن أن المدة لا تتجاوز سبعة أيام)
وأسر الصبي بكلمات إلى معلمه، وبدا على وجهيهما الاغتباط. . ولم يعد كلانا إلى التحدث في هذا الموضوع.
وجيء بشراب لا شيء فيه سوى عصير الليمون المحلى وماء الورد. ثم جيء بالرمان وسألني الصبي أن أشرفه بالبقاء لديه سائر اليوم
ولولا أنني كنت أرى وجهه وهو يحادثني لظننت أني أحادث رجلا، فقد كان هذا الصغير من الجلال وقوة الأسر كعظماء الرجال
وكان الناس حولنا كأنهم معتادون مشاهدة هذا النضوج السابق لأوانه في الأطفال. وكنت مضطراً إلى أن أتخذ حياله من الاحتشام والكلفة كما لو كان هو حاكم المدينة. على أن ذلك لم ينقص من محبتي؛ إياه وودت لو عرفت موضوع حديثه مع معلمه. ولست أشك في أنهما كانا يحاولان تدبيراً لإعادة الباشا من منفاه
وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات عدت إلى السفينة التي جرت بي في بطء إلى الشمال.
نهض الصبي عند نهوضي ومشى بجانبي إلى آخر حدود المدينة والناس على أثرنا في نظام وعند وصولي إلى السفينة حياني مودعاً مثل تحيته إياي مسلماً وقال: (اسأل الله أن يجعل رحلتكم سعيدة يا صاحب السعادة)
وقد بدا لي أن منظر استقباله ووداعه والوقت الذي قضيته وإياه - لقد بدا لي أن كل ذلك كان قطعة من ألف ليلة، فإني إن نسيت شيئاً فلا أنسى تلك الذكرى الجميلة البارزة. أما بالنسبة لهذا الشعب فما من شك أن هذه الحالة هي حالتهم العادية التي تتكرر كل يوم
عبد اللطيف النشار(276/12)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 13 -
(تنزل (جورجياس) من آثاره (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكيس: الأثيني: (ك)
ط - (مجيبا بولوس الذي اعترف بأن الطاغي ظالم) وما دام الأمر كذلك فلن يكون أحدهما أسعد من الآخر، لا هذا الذي نجح بظلم وصار طاغياً، ولا ذلك الذي أسلم نفسه للعقاب، لأنه لا يستطيع أحد الشقين أن يكون أسعد من أخيه!! ولكن أشقاهما - مع ذلك - هو من فر من العقاب وصار طاغياً، فترى أي معنى لذلك يا بولوس؟ أتضحك؟ أمن الأساليب الجديدة في المناقضة أن تهزأ وتسخر مما يقال دون أن تقدم أي سبب لهزئك وسخريتك؟
ب - ألا تعتقد أنك تكون قد نُوقِضتَ إطلاقاً يا سقراط عند ما تقول بأشياء لا يقرها إنسان؟ سائل بالأحرى أي مساعد تشاء!
ط - لست من عداد السياسيين يا بولوس، وقد شاء القدر أن أكون في العام الماضي عضواً بمجلس الشيوخ عند ما سادت قبيلتي بدورها في الجمعية العمومية، فلما وجب عليّ أن(276/14)
أتكلم عن السؤال المعروض ضحكتُ ولم أدر ماذا أفعل، فلا تطلب مني اليوم إذاً أن أعرف رأي المساعدين! وإذا لم يكن لديك شهادة أفضل من شهادتهم فدعني آخذ مكانك كما اقترحت عليك منذ لحظة، ودعني أسائلك كما أفهم المسألة! ذلك أني لا أستطيع أن أدعم تأكيداتي إلا بشاهد واحد هو نفس من أتناقش معه دون أن أعني بالعدد الكبير من الناس! وبعبارة أخرى إنني أعرف أن أحمل شاهدا واحد على الكلام ولا أعني بمناقشة العدد الكبير في شيء!! فلتر إذاً إذا كنت توافق على أن أسألك فتجيب!. لقد أقنعت نفسي بأنك وبأني والجميع نرى ارتكاب الظلم أكثر شراً من احتماله، وأن احتمال العقاب أقل شرا من الفرار منه!
ب - وأرى أني لست في جانب هذا الرأي ولا أي إنسان آخر!. فهل تفضل أنت احتمال الظلم على ارتكابه؟؟
ط - أنا وأنت والجميع يفضلون ذلك!
ب - هيهات، فلا أنا ولا أنت ولا أي إنسان يفضل هذا!
ط - ألا تريد أن تجيب؟
ب - نعم بالتأكيد لأني مشوق جدا إلى ما تستطيع أن تقول!
ط - إذا كنت تريد أن تعرف ما أستطيع قوله فأجبني كما لو كنتُ بدأت في مسألتك: ما هو أفدح الشرور في رأيك يا بولوس؟ أهو ارتكاب الظلم أم هو احتماله؟
ب - إنه احتماله - فيما أرى -!
ط - ولكن أجبني: أيهما (أقبح) ارتكابه أم احتماله؟
ب - ارتكابه
ط - وإذا فالارتكاب أفدح الشرور مادام هو (الأقبح؟)
ب - كلا - على الإطلاق!
ط - ألا تعتقد أني أفهم - فيما أرى - أنه لا خلاف بين الحسن والجميل من ناحية، والرديء والقبيح من ناحية أخرى؟
ب - كلا بالتأكيد!
ط - ولكن ماذا عساك قائل في ذلك؟ أتطلق الجمال على كل الأشياء الجميلة من أجسام(276/15)
وألوان وأشكال وأصوات وأعمال من غير موجب؟ ولنبدأ مثلا بالأجسام، ألا تقول إنها جميلة، بسبب استعمالها نظرا لما نستمده منها من نفع، أو بسبب لذة خاصة يثيرها منظرها في نفوس المشاهدين؟ أم هل لديك أسباب غير هذه تحملك على إطلاق (الجمال) على الأجسام؟
ب - كلا - ليس لدي!
ط - أو ليس الأمر بالمثل في كل الأشياء الجميلة من أشكال وألوان؟ ألسنا نسميها جميلة بسبب لذة خاصة تثيرها، أو بسبب نفع تقدمه، أو بسبب الاثنين معا؟
ب - بلى.
ط - أو ليس الأمر بالمثل في الأصوات وفي كل ما يختص بالموسيقى؟
ب - بلى.
ط - وهو بالمثل أيضاً في القوانين والأعمال، إذ الجميل منها ليس بجميل قط إلا بسبب لذته، أو نفعه، أو هما معا؟
ب - ذلك صحيح فيما يلوح.
ط - أو ليس الأمر بالمثل في جمال العلوم؟
ب - بلى بغير ما تناقض. وإنك لتعرف (الجميل) تعريفا فذا بقولك إنه الحسن واللذيذ.
ط - وإذا فستعرف (القبيح) تعريفاً حسنا بالضدين (الرداءة) و (الألم)؟
ب - حتما.
ط - وإذا فيكون أحد الشيئين الجميلين (أجمل) من الآخر بسبب تفوقه عليه في إحدى الصفتين أو فيهما معا؛: وأعني بهما اللذة، أو المنفعة، أو هما معا!
ب - بالتأكيد.
ط - ويكون أحد الشيئين القبيحين (أقبح) من الآخر بسبب ما يجلبه من ألم أكثر أو شر أفدح. أليست هذه نتيجة محتومة؟
ب - بلى.
ط - فلنر الآن ماذا قلنا توا عن الظلم المرتكب أو المتحمل، ألم تقل أنت أن (الأردأ) هو (احتمال) الظلم، وأن (الأقبح) هو ارتكابه؟(276/16)
ب - قلت ذلك حقا!
ط - وإذا كان ارتكاب الظلم (أقبح) من احتماله، فأنه لا يكون كذلك إلا لأن أحدهما يزيد على الآخر - أي الارتكاب على الاحتمال - بالألم أو الشر المسببين، أو بهما معاً. أليس ذلك ضرورياً بالمثل؟
ب - بلى، دون تناقض.
ط - وإذاً فلنر أولا إذا كان الظلم المرتكب يسبب من الألم أكثر مما يسبب الظلم المتحمل، وإذا كان من يرتكبونه يتألمون أكثر مما تتألم فرائسهم!
ب - ذلك ما لا أراه يا سقراط
ط - وإذاً فليس الظلم المرتكب يزيد على الظلم المتحمل بالألم؟
ب - كلا بالتأكيد!
ط - وإذا كان لا يزيد عليه (بالألم)، فلن يزيد عليه أيضاً (بالشر والألم) معا؟
ب - واضح أن لا.
ط - فيبقى إذا أنه يزيد عليه بالآخر وحده؟.
ب - نعم!
ط - أعني بالشر!؟
ب - كما يلوح!
ط - وما دام ارتكاب الظلم يزيد على احتماله (بالشر)؛ فإذاً يكون الارتكاب (أردأ) من (الاحتمال).
ب - ذلك واضح.
ط - أو ليس مسلماً به من أغلب الناس، أولم تعترف لي بنفسك سابقاً، أن ارتكاب الظلم (أقبح) من احتماله؟
ب - بلى.
ط - وقد رأينا أيضاً أن الارتكاب هو (الأردأ)؟؟
ب - يلوح ذلك.
ط - والآن أتفضل ما هو أكثر رداءة وقبحاً على ما هو أقل منهما في ذلك أم لا تفضله؟؟(276/17)
أجب من غير تردد يا بولوس فلن يصيبك أدنى سوء، وأسلم نفسك للحوار بشجاعة كما تسلمها للطبيب، وأجبني بنعم أو لا.!
ب - كلا يا سقراط فأنا لا أفضله
ط - وهل هنالك إنسان يفضله؟
ب - يلوح أن لا، وعلى الأقل بعد ذلك التدليل!
ط - وإذاً فقد كنت محقاً في قولي إنه لا أنا ولا أنت ولا أي إنسان آخر، يفضل ارتكاب الظلم على احتماله، مادام أن ذلك شيء أكثر (رداءة)!
ب - ذلك واضح.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(276/18)
من مشاكل التاريخ
مكتبة الإسكندرية
تأسيسها ورواية إحراقها
للأستاذ خليل جمعة الطوال
(بقية المنشور في العدد الماضي)
قال الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار: ولكن متى علمنا أن عبد اللطيف البغدادي الذي كان قبل أبي الفرج بزمن قليل قد ذكر أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية كانت التبعة عليه دون أبي الفرج لاحتمال أن يكون أبو الفرج قد أخذ هذه المقالة عن عبد اللطيف البغدادي الذي رمى بهذه الجملة بغير سلطان أتاه. ولم يقل لنا من أي تاريخ أخذ ولا من أي مصدر استقى. والظاهر أنه حين علم بأنه كان في هذا الكان مكتبة عفى الزمان على أثرها، افترض أن الذي دمرها إنما هو عمرو بن العاص، وربما شجعه على ذلك أقوال العامة أو نحو ذلك فظن الأمر حقيقة واقعة. . .
وقال الدكتور (غوستاف ليبون) نقلا عن (لودفيك لالان) الذي ناقش مسألة إحراق مكتبة الإسكندرية مناقشة علمية مختصرة: إن أول مؤلف ذكر حريق العرب لهذه المكتبة هو عبد اللطيف الطبيب العربي البغدادي الذي توفي سنة1231 م أي بعد 591 سنة من وقوع تلك الحادثة. أما من خصوص حريق مكتبة الإسكندرية المزعوم فإنه همجية وعداوة للمدنية، منافية لأخلاق العرب على خط مستقيم، حتى إنه يمكن أن يسأل الإنسان نفسه كيف أن قصة كهذه قبلها منذ زمن طويل كثيرون ممن يعتد بعلمهم؟ وقد كذب العلماء هذه القصة في زمننا مرات كثيرة فلا نرى حاجة في العودة إلى تكذيبها، ولا أسهل من الاستشهاد على ذلك بإيراد أقوال كثيرة جلية تثبت أن المسيحيين كانوا أعدموا الكتب الوثنية التي بالإسكندرية، قبل العرب بزمن طويل وكسروا كل التماثيل أيضاً. ويفهم من ذلك أنه لم يكن بالإسكندرية بعد ما يحرق.
وأما أبو الفرج الملطي فقد نقل روايته عن جمال الدين القفطي وكان قد توفى قبله بنحو أربعين سنة تقريباً في حلب أي عام 646 هـ وقد ذكرها هذا في نسخة خطية في دار(276/19)
الكتب المصرية مكتوبة سنة 1197 م من كتاب له أسمه تاريخ الحكماء وإليك نص روايته:
(وعاش (يحيى النحوي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى فأكرمه عمرو ورأى له موضعاً وسمع كلامه في أبطال التتليث فأعجبه، وسمع كلامه أيضاً في انقضاء الدهر ففتن به وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن العرب بها أنسة ما هاله. وكان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكاد لا يفارقه، ثم قال له يحيى يوما (إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها، فأما مالك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وأما ما لا ينفع لكم منه فنحن أولى به، فأمر بالإفراج عنه) فقال عمرو: (وما الذي تحتاج إليه؟) قال: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية، وقد أوقعت الحوطة عليها، ونحن محتاجون إليها، ولا نفع لكم بها. فقال له: (ومن جميع هذه الكتب وما قصتها؟) فقال له يحي: (إن بطلوماوس فيلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها وأفرد لها خزائن فجمعت وولي أمرها رجلا يدعى بابن مرة (زميرة) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل واجتمع له من ذلك في مدة خمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتاباً
(ولما علم الملك باجتماعهما وتحقق عدتها قال لزميرة، أترى بقي في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا؟ فقال له زميرة (قد بقي في الدنيا شيء في السند والهند وفارس وجرجان، والأرمان وبابل والموصل وعند الروم. فعجب الملك من ذلك وقال له: دم على التحصيل. فلم يزل على ذلك إلى أن مات، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلبي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا). فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وعجب منه وقال له (لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب). وكتب إلى عمر وعرفه بقول يحيى الذي ذكر واستأذنه ما الذي يصنعه فيها فورد عليه كتاب عمر يقول فيه (وأما الكتب التي ذكرتها فأن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله تعالى فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامها) فشرع عمرو(276/20)
بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وأحرقها في مواقدها وذكرت عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفدت في مدة ستة أشهر فاسمع ما جرى واعجب)
هذه هي الرواية التي نقلها أبو الفرج عن القفطي فيما بعد فتداولتها الألسن على علاتها، وروج لها الشعوبيون على أنها حقيقة لا غبار للشك عليها. وقد دحضها كل من جبون، ولوبون، وبطلر، وسيدُّيو، وشبلي النعمان
ولقد أعجبنا في دحض هذه الفرية دفاع الدكتور حسن إبراهيم حسن إذ يقول: (ومما يدل على اختلاق رواية أبي الفرج ومن تقدمه ما ذكره بطلر، إذ حلل هذه الرواية تحليلا لا يسع القارئ إلا أن يحكم ببراءة عمرو بن العاص مما نسب إليه، والاعتراف بأن مكتبة الإسكندرية لا بد أن تكون قد فنيت قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة؛ فذكر نقلا عن (اميانوس مارسينوس) أن السبعمائة الألف مجلد التي كانت تحتوي عليها مكتبة الإسكندرية قد أتلفت إتلافا تاماً حين حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية كما تقدم، وممن أيَّد هذا الرأي أورازيوس حيث أعتقد أيضاً أن هذه المكتبة قد دمرت في حريق يوليوس المذكور
وأضاف (بطلر): (ومن سوء الحظ أن مثل جواب عمر قد ورد أيضاً بخصوص إحراق الكتب في فارس). وقد علق الأستاذ (بري) بقوله: (إن شعور المسلمين نحو كتب الوثنين الفرس يختلف اختلافاً تاماً عن شعورهم نحو كتب النصارى إذ كانوا يكرهون أن يتعرضوا لما فيه اسم الله)
وإذا سلمنا جدلا بأن احتراق مكتبة الإسكندرية قد حصل فعلا كما رواه أبو الفرج الذي ذكر أن الكتب قد وضعت في سلات وزعت على الأربعة آلاف حمام، وأنها ظلت تسخن مياهها ستة شهور، فإن هذا الخبر على ما يظهر لنا عبارة عن أكاذيب وأضاليل لا حقيقة لها أصلا، إذ لو قصد تدمير هذه الكتب حقيقة لأمر بإحراقها في الحال، ولم يكن عمرو بالرجل الساذج الذي يضع هذه الكتب تحت رحمة أصحاب الحمامات، فلا يصعب بذلك على (يوحنا) أو أي إنسان سواه أن يستولي على قدر عظيم منها بثمن بخس، ولدى يوحنا وغيره من عشاق الكتب ما يكفي لتحقيق هذه الأمنية وهي انتشال عدد كبير منها من مخالب النيران. على أن ما جاء برواية أبي الفرج من أن هذه الكتب كفت الحمامات ستة(276/21)
أشهر مما يثير الدهشة والاستغراب في نفوسنا لأنه لو قدر لكل حمام مائة مجلد في اليوم على الأقل (وعددها أربعة آلاف حمام) لبلغ هذا العدد الذي أحرق في ذلك الوقت (72 , 000 , 000) مجلد وهو ضعف عدد مجلدات المكتبة الحقيقي بنحو 103 مرة تقريباً. ويستدل مما ذكر أن السبعمائة الألف مجلد لم تكن لتكفي الأربعة الآلاف حمام ساعة واحدة لا ستة شهور
وزاد على ذلك أستاذنا إسماعيل رأفت بك مؤيداً استبعاد وقوع هذا الأمر بقوله: (إن الكاغد بقطع النظر عن الرق وإن كان يصلح لا يقاد النار، إلا أنه لا يصلح لبقائها متقدة أصلاً)
وقد برهن بطلر على أن يوحنا النحوي الذي ذكره أبو الفرج في روايته لم يكن حياً يرزق وقت فتح الإسكندرية، سنة642 م لأن يوحنا هذا كان قد اشترك مع (ديوسفوروس) و (جايوس) و (ساويرس أسقف إنطاكية) في الكتابة ضد مجمع خلقدونية، ويكون قد عاش في أوائل القرن السابع الميلادي: أي قبل سنة 642 م. ولا بد أن يكون قد مات قبل دخول عمرو الإسكندرية بثلاثين أو أربعين سنة. . . الخ. وختم بطلر كلامه قائلا: لا أزال أقول إن إحراق العرب لتلك المكتبة غير محتمل جداً، لأن العرب لم تدخل الإسكندرية إلا بعد استيلائهم عليها بأحد عشر شهراً. وقد ذكر في عهد الصلح (مادة 4 , 6) أنه يجوز للروم أن يحملوا إلى بلادهم كل أمتعتهم، وفي غضون هذه المدة كان البحر مفتوحاً ولم تكن أمامهم أية صعوبة لحملها إلى بلادهم، وما كان يصعب على يوحنا (بفرض وجوده) وأمثاله أن يقتنوا هذه الكتب قبل أن تقع الإسكندرية نهائياً في أيدي العرب. انتهى كلام الدكتور حسن إبراهيم حسن
هذه هي المصادر والروايات الهامة التي يتعلق بها الشعوبيون في الحط من كرامة الفاروق العاص، وفيما سلف أن فصلناه الكفاية للدلالة على ضعفها وفسادها، وأما بقية الروايات فإنها قد أخذت عنها وتنطوي تحت حكمها
وأما عبارة حاجي خليفة وهي: (ويروي أنهم أحرقوا ما وجدوه من اكتب في فتوحات البلاد) فلا يصح أن تؤخذ حجة على العرب لأنه لم يذكر فيها اسم هذه المكتبة، ولا أشار إليها، ولكنه أراد أن يقول أن المسلمين في أول فتوحهم لم يعتنوا بالعلم لتعلقهم بالوحي وخوفهم من تسلط العلوم الأجنبية عليهم وعلى عقولهم(276/22)
ولقد اعتاد الناس إذ ذاك أن يقاوموا الأديان الجديدة المخالفة لعقائدهم، فلما جاءت المسيحية قاومتها الوثنية مقاومة عنيفة، وأوقعت بأتباعها مرَّ العذاب، وشديد التنكيل، فلما ظهرت هذه عليها كالت لها الصاع صاعين، وبادلتها الشر بمثله، وكان المسيحيون يعتقدون إذ ذاك أن هدم المعابد والهياكل الوطنية شرط لازم لتأييد المسيحية، ولذلك فإن أباطرة الروم عندما تنصروا كان أول ما أمروا به هدم هياكل الأوثان في مصر وإحراقها بما فيها من الكتب. ولما كانت مكتبة الإسكندرية من آثار الوثنيين ومؤلفاتهم، فليس هنالك ما يبرر حرقهم إياها.
ولم يقتصر هذا الأمر على الكتب الوثنية فقط بل تعداه إلى جميع الكتب غير المسيحية، فقد أحرق الكردينال كسيمنس جميع كتب المسلمين في غرناطة وكانت ثمانين ألف مجلد، وأحرق الأسبانيون غيرها عشرات المكاتب الهامة في القرن السادس عشر كرهاً للعرب، وفي القرن الثاني عشر أتلف الصليبيون معظم مكتبة طرابلس، وكذلك يوم أمر ضجيل بإحراق كتب دار العلم فيها وكانت تقدر بأكثر من مائة ألف مجلد.
ونحسب بعد هذا أن قد وفينا الموضوع حقه من البحث، في دحض هذه الفرية الشائنة التي لفقها بعض الشعوبيون على العرب تلفيقاً، وأننا قد بلغنا بالقارئ محجة الإقناع. وسنتقدم في مقال آت لدحض فرية أخرى عن الإسلام لا تقل عن هذه شناعة. وسنواصل نشر هذه البحوث في الرسالة العزيزة حتى يتم طبع كتابنا في الدفاع عن الإسلام، وبذلك نكون قد وضعنا تحت متناول القارئ ما يساعده على مجابهة الخصوم، ونكون قد أدبنا لهذه الأمة العزيزة بعض ما أخذنا على عاتقنا عبئه، وأنجزنا بعض ما سجلته علينا الرسالة العزيزة من الوعود القاطعة.
خليل جمعة الطوال(276/23)
على ذكر مؤتمر القاهرة
فلسطين العربية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
إن أبرز ما يتسم به الإسلام هو التسامح إزاء من يعيشون معه أو في كنفه، وتلك جِبِلّة في العربيّ أنّى كان؛ غير أن خصومه لك يقدروا فيه ذلك التسامح حق قدره، ولم يحملوا للعرب هذه المكرمة التي يظهرونها في كل حين مهما اشتدت بهم الأمور، وحاقت بهم الخطوب
واليهود في ادعائهم فلسطين وطناً قومياً لهم إنما يتنكّبون السبيل السويّ والصراط المستقيم، فما كان لهم في عصر من العصور وطن قومي حتى يجوز لهم اليوم التشبَّث به. وخير لهم أن ينضووا تحت ظلال الشعوب التي هم بينها. وأنى لهم أن يعرفوا (الوطن القومي) وهم لا يعرفون الشعور القومي، ولكنهم قوم غرقوا في العصبية الجنسية تقليداً فحسب، فلا جرم إذا هم سعوا وراء مصالحهم قبل أن يفكروا في مُعَاونة من هم بينهم، ولا غرابة - حين يبدو هذا منهم - أن تقف منهم جميع الدول الغربية موقف المضطهد المستنكر لأعمالهم، ذلك لأنها أحست بوطأتهم وضررهم، ورأت أنهم يتعصَّبون لجنسهم لا لقومية فيهم، فاليهودية اسم للدين لا للوطن، على حين أننا إذا قلنا (العروبة) شخصت الأبصار والأذهان إلى الجزيرة العربية وأطراف العراق وبلاد الشام موطن الغساسنة
لقد كتب الله على اليهود التشتت والتفرقة (ضربت عليهم الذْلة والمسكنة وباؤا بغضبٍ من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وكيف يريدون أن تكون فلسطين وطناً لهم وفي بلاد العروبة أنفس أبيَّات لا ترضى الذّل وتأبى الصبر على الهوان؟ وكيف يريدون فلسطين وطناً لهم وهي مهبط المسيحية الغراء، والأرض التي درج عليها عيسى عليه السلام، وفيها مناسك النصرانية؛ وهي الأرض المقدسة بعد الحجاز عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ قل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). ولو(276/24)
رجعنا إلى التاريخ نستوحيه الخبر عنهم، لرأيناهم لا يستقيم لهم أمر إذا التأموا، فلقد كانوا حرباً عوناً على المسيح وأنصاره، مؤيدين للظلم ولو عرفوا الحق
أما في الإسلام فقد حاربوه وناجزوه العداء وهو دين الوحدانية، ولم يتورّعوا عن اتخاذ أية وسيلة لمحاربته، وكانوا كثيرين في الجزيرة، ولكن نصر الله نبيّه وأيَّده بروحه، وأمدّه بكل ما حقق به الإسلام والعروبة الفوز المبين والنصر الباهر
نشب النضال بين اليهود والمسلمين منذ رحل النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنوّرة، واتخذها مركزاً لبث دعوته، ورأوا في محمد (صلوات الله عليه) وفي دينه منافساً جديداً يوشك أن يقضي على نفوذ كل دينٍ غيره، فأبوا إلاَّ محاربته، مع أنهم كانوا يستنصرون به على العرب في الجاهلية ويقولون (اللهم انصرنا بنبيّ آخر الزمان) فإذا سألهم العرب قالوا (أن نبينا قد قرب زمانه، وسيكون لمن اتّبعه العز والنصر إلى يوم القيامة) ويتوعدون العرب باتباعه والاستنصار به عليهم، ولكن ما كاد محمد عليه السلام يذيع رسالته حتى ناصبوه العداء، بعد أن كانوا يستفتحون به عليهم
وكان اليهود يكرهون محمدا والعرب والمسلمين، وينظرون إليهم والى دعوته بعين الخوف والفزع من أول يوم طلع عليهم في أفق يثرب، ثم زاد خوفهم منه وظهر حسدهم له عندما رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فأخذوا يكيدون للإسلام والمسلمين بالدّس والإرجاف، ثم بالمراء والجدل فيما يعلمون ومالا يعلمون؛ وإذا سئلوا عن شيء مما في كتبهم حرَّفوا الكلم عن مواضعه وألبسوا الحق بالباطل، ليكسِبوا ولاء المشركين.
وقد نعى الله عليهم ذلك فقال (بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزلَ الله بغياً أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده) وكانوا يسعون في دين الله معاجزين لكي يفتنوا المسلمين عن دينهم، ويوهنوا عقائدهم بالشّبه والأباطيل، فقال تعالى (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق)، كل هذا والنبيّ يصابرهم ويصبر عليهم، ويسوّي بينهم وبين المسلمين في المصالح ويحترم شعائرهم. ولو تركنا ما قاساه النبي والمسلمون من كيد اليهود لهم بكافّة الطرق، بل وانتهازهم الفرص لقتل الرسول وتأليب العرب عليه وتحزيب الأحزاب ضده، ونقضهم عهود المسلمين في أحرج الأوقات، لو تركن ذلك كله، ورجعنا إلى عهد إبراهيم عليه(276/25)
السلام لوجدنا أنه لم تكن فلسطين وطنه الأصلي، ومن هنا تنهار إحدى الدعائم التي يستمسك بها اليهود في أحقيتهم لها؛ فقد ولد عليه السلام بالعراق، ثم أمره الله تعالى بالدعوة إلى التوحيد، ثم سار إبراهيم وزوجته سارة وغيرها ممن آمن بدعوته إلى حران، ثم أتى مصر حيث لحق بهم حنق فرعون الذي أطلقه هو وزوجته بعد أن ظهرت على يد إبراهيم آيات النبوة، ووهب سارة هاجر جارية لها، وسار ثلاثتهم إلى الشام، ثم شخص إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى بلاد الحجاز، فأية دعوة لليهود بملكية فلسطين؟ ولو أجيبوا إلى دعوتهم لحق لأهل بريتاني الفرنسية المطالبة بملكية إنجلترا دون الإنجليز، لأنهم غزوا إنجلترا وسكنوها، حتى نسبت البلاد إليهم كما غزاها الرومان إلى سنة 54ق. م والإنجليز والسكسون والدنيمركيون، وغزاها كذلك وليم الفاتح النرميدي (من مقاطعة نرمنديا بفرنسا) وانتصر سنة 1066م في موقعة هستنجس، فهل يحق لفرنسا وإيطاليا والدانمرك أن يطالبوا بإنجلترا اليوم لأنهم غزوها واستولوا عليها بحد السيف في يوم من الأيام؟ هذا على الرغم من أن اليهود لم يغزوا فلسطين ولم يفتحوها عنوة أو بحد السيف وإنما لجئوا إليها كما لجئوا إلى غيرها من بلاد العالم.
ولقد غلا اليهود في زمن موسى عليه السلام واشتطوا، ورأى فرعون مصر ذلك منهم فطردهم من بلاده، فلاذوا بفلسطين وظلوا بها حتى أخرجهم الإمبراطور الروماني تراجان سنة 105م وكانوا شرذمة عديمة النفع، كبيرة الضر، عاكفة على الشر، مؤيدة للباطل. وإن التاريخ ليأبى إلا أن يعيد نفسه، فقد نكل بهم الروم في مصر فخلصهم العرب المسلمون من نيرهم، واستعملوا سياسة التسامح التي عرف بها الإسلام، كما نكل بهم القوط في الأندلس، وكانت نجاتهم على يد العرب، فظهر منهم الأطباء والفلاسفة ورجال الأعمال وأسندت إليهم مناصب الدولة.
وبعد سبعة عشر قرنا نرى هتلر وموسليني يمثلان معهم نفس هذا الدور الذي مثله معهم من قبل فرعون مصر والروم والقوط وغيرهم. وكأن الصهيونيين لم يشعروا بضرورة وطن قومي لهم إلا بعد عشرات القرون، ولكنهم قابلوا جميل العرب بالخيانة والعدوان عليهم، لقد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله (اتق شر من أحسنت إليه) فأية جريرة ارتكبها العرب والإسلام حتى يكيد لهم اليهود وينتقموا منهم في عرب فلسطين وهم(276/26)
السواد الأعظم من الآهلين؟
إن فلسطين عربية منذ الجاهلية السحيقة، سكنها الغساسنة وهم عرب، حتى إذا كان الإسلام فتحها المسلمون بحد السيف، فقد أنفذ أبو بكر الجيوش العربية نحو الشمال، وعقد لأبي عبيده (ووجهته حمص) وعمرو بن العاص (ووجهته فلسطين)، ويزيد بن أبي سفيان (ووجهته دمشق) وشرحبيل بن حسنة (ووجهته وادي الأردن).
ثم فتحت هذه البلاد في عهد عمر بن الخطاب، وأبى البطريق سفرونيوس تسليم بيت المقدس إلاّ لعمر نفسه، فأتى الخليفة، وتسلم منه مفاتيحها وأعطى لأهلها الأمان المعروف. وصفوة القول أن العرب فتحوا فلسطين، وأن القتال قام بينهم وبين الروم المسيحيين أصحاب هذه البلاد دون اليهود الذين لم يكن لهم أي أثر في هذه الفتوح.
وفي عهد آخر نرى في فلسطين تلك الحروب الطاحنة، وهي الحروب الصليبية التي قامت بين المسلمين والمسيحيين، وأريقت فيها دماء كثيرة، وأبلى فيها البلاء الحسن أمثال صلاح الدين والظاهر بيبرس والأشرف خليل، فأين كان اليهود في ذلك الزمن المفعم بالخطوب والويلات؟ لعلهم كانوا في غفلة، أو لعلهم لم يكونوا في هذه البلاد، أو لعلهم لم يكونوا قد تعلموا بعد أساليب القومية والوطنية. ولو فكر الصهيونيون لرأوا أن من الخير لهم أن يعقدوا أواصر المودة وحسن التفاهم مع العرب، وفلسطين اليوم تعتبر بحق حلقة من حلقات الاتصال في الثقافة بين الشعوب العربية، هذا إلى أن استقلال الصهيونيين بجزء من فلسطين يهدد مصر نفسها، والعرب رأوا أن لا سبيل لتأمين الشام وفلسطين جنوباً إلا بفتح مصر، كما اتبع هذه السياسة قبلهم الكلدانيون والآشوريون والفرس والروم، كذلك سيهددون مصر إذا هاجر إلى فلسطين يهود ألمانيا وبولندة وغيرهما. ومن ثم نرى أن الواجب يقضي على مصر حكومة وشعباً أن تنظر إلى مغبة الحركة الصهيونية بعين الحذر، وأن تقف منها موقف الصراحة في القول، وأن يعمل الجميع متكاتفين متساندين مع إخوانهم عرب فلسطين وسائر أهالي البلاد العربية. ولا مشاحة في أن وقوف مصر هذا الموقف الحازم سيكون له أثره في موقف العرب إزاء الحركة الصهيونية، وسيعزز مركز مصر عند سائر البلاد العربية خاصة والشرقية عامة.
حسن إبراهيم حسن(276/27)
متى يوجد منقذ العرب
للآنسة فلك طرزي
يحلو لي أحياناً استجلاء بعض أمور الحياة ومحاولة تحليل بواعثها وأسبابها ساعة أخلو بنفسي في وحدة صامتة لا يكون رفيقي فيها إلاَّ قلبي وضميري، لأن الساعة التي يجالس المرء فيها ضميره وينفرد في ظلال التفكير والتأمل بعد ساعات يقضيها بين الناس تعد من أعظم ساعات الحياة نفعاً وأرفعها شأناً، وأكثرها فائدة. فكم من ضال مخطئ كانت الوحدة سبيل هدايته إلى الحق والصواب! وكم من نفائس علمية وفنية وأدبية لم يتحفنا بها رجال العلم والفن والأدب إلاَّ بعد ساعات بل أيام انفردوا خلالها بأنفسهم وضمائرهم، فإذا ما اطمأنوا إلى صمت هذه الوحدة وسكونها، أرسلوا أنفسهم على سجيتها فانطلقت من عقالها مجتازة الحدود، مخترقة بنفاذ بصيرتها صميم الحياة، تكشف الحجب عن حقائقها وترشدهم إلى كل موضع ومعنى من مواضعها ومعانيها، فيستجلون بدقة خيالهم صورها، ويدركون بقوة عبقريتهم دقائقها، فإذا ما انتهوا إلى الإدراك، عرضوا صور الحياة على اختلاف ألوانها ومعانيها، أمام أبصارنا واضحة صافية، فيها دقة الفن وفيها دقة الأداء، لأنهم حين استخرجوها من مكمنها وأخذوا في توضيحها، مزجوا ألوانها بألوان نفوسهم، وأضافوا إلى معانيها من معاني قلوبهم، وأفرغوا فيها الكثير من إحساسهم وشعورهم
وليس النضال الذي تخرج منه العبقرية إلى النصر بعد عراك طويل مستميت مع مختلف عوامل الحيرة والضعف التي تعتري نفس الفنان أحياناً بأصغر شأناً وأقل خطراً من نضال القائد الجبار الذي يقوم بتدريب فرقة من فرق الجيش في ساحات الحرب.
أجل يحلو لي اللجوء إلى الوحدة في ساعة من الساعات تحن نفسي فيها إلى الصمت وتشتهيه، لكي يتسنى لي عصر قلبي، فأستنزف منه قطرات من دم الصدق والإخلاص
لقد حدثتني نفسي أن تأخر الأمة العربية عامة والسورية خاصة ناتج عن سبب خلوها من النهضة الفكرية أو بالأصح من التفكير الصحيح المستقيم الذي هو بمثابة مشعل ينفذ بحامله إلى خفايا حياة أمته ويتغلغل به في جوانبها وزواياه، ليطلعه على مختلف شؤونها ونقائضها، ثم ليقوده بعد النفاذ والتغلغل إلى تشخيص الداء الأساسي الذي تشكو بسببه علتها ومرضها(276/29)
خذ دليل ذلك أيها القارئ، وبرهانه الساطع من تاريخ النهضة العربية في غابر العصور، وتأمل ضخامة الدرس الذي ألفته الأمة العربية على الإنسانية جمعاء، ثم تأمل في سرعة الانقلاب الذي حدث في تلك الجزيرة المحاطة بالجدب والقحط من كل نواحيها، فإذا بها تصبح في مدة من الزمن لم تبلغ نصف قرن ينبوعاً صافياً يؤمه كل ظامئ إلى معرفة الحق، ليرتشف من مناهله ماء الثقة والأيمان
أنظر كيف أن قريشاً لم تنهض من الجهل الذي كانت واقعة فيه ولم ترتفع من الدرك الذي انحطت إليه، إلا حين خرج النبي المفكر البصير، فبدد جهلها بآيات الكتاب المبين الذي حملته يمينه، وأيقظ في قلوبها الحق والأيمان مشعل الحقيقة الذي كان نوره ينبعث من بين جوانحه فإذا به يجري عجباً، وإذا به يغير حالاً بحال، ويبدل أموراً بأمور، فتمسي قريش التي كانت من قبل تغط في غياهب الجهل والشرك، كعبة المدينة والحق، والمنارة التي ترشد الإنسانية إلى سبيلهما
ثم انظر إلينا كيف نسير متلكئين في طريق نهضتنا الفتية ونحن بعد بين هجعة ويقظة. . . بين ظلام الليل ونور النهار، نحاول في سبيل إيجاد الحل الموافق لقضيتنا المعقدة نتبع خطوات الأمم التي أحدثت الحرب العظمى تغيراً في نظمها ومناهجها الدولي، ناسين أو متناسين أن للعوامل الإقليمية والتاريخية والنفسية شأناً كبيراً وأثراً بعيداً في اختيار نوع من أنواع الأنظمة الدولية المختلفة الذي يلائم أمة ولا يلائم غيرها، إذ هي الدعائم الأولى، بل القاعدة الأساسية التي يشيد عليها مؤسسو النهضات القومية بناء هذه القومية.
فلا النظام الشيوعي ولا النازي ولا النظام الفاشستي يلائم الأمة العربية: هي بحاجة إلى نظام خاص يكون مقتبساً من تاريخها، ومستمداً من قوة الحاضر وواقعه.
القضية العربية تشكو خلوها من عالم مدقق حصيف يدرسها على ضوء المنطق، درساً عميقاً مستفيضاً، كما درس موسليني القضية الإيطالية، وهتلر الألمانية، وكما درس من قبلهما الفيلسوف الاجتماعي مونتسكيو القضية الفرنسية فكان كتاب (روح الشرائع) الذي أخرجه بعد درس النظام الدولي الأنكليزي، درساً مشبعاً بروح البحث والتمحيص، ومشعلاً استنار به الفرنسيون واسترشدوا بقوانينه وشرائعه، فجاء مطابقاً لأهوائهم، ملائماً لرغبائهم، محاكياً ميولهم محققاً آمالهم وأمانيهم.(276/30)
الأمة التي في عبقريتها وجوهر، تخلق ذاتها، وتوجد نهضتها بهذه الذات، وتختار بفضل تفكيرها وجهودها نوع الأنظمة الذي يوافق طبيعة إقليمها ويلائم مستوى شعبها الفكري والعقلي والأخلاقي. فهي إذن في غنى عن تقليد هذا النظام وذاك المنهاج، وهي في غنى - إذا كانت شروط العبقرية متوفرة لديها - عن اتباع النظم الدكتاتورية التي خلقت الحرب الكبرى وجودها في بعض أمم الغرب.
ولست أعتقد أن سمة التقليد هي سمة الأمة العربية التي برهنت وتبرهن الآن في أجل وأقدس بقعة من بقاعها على أنها أمة فيها نبوغ وفيها عبقرية.
أمتنا شبيهة بتلك النفس المضطربة الحيرى التي تحس في أعماقها بحاجتها إلى الصديق العالم المخلص العطوف الذي يحنو عليها برفق ليسير بعقله حقيقتها، ويملك بقوة (سيكولوجيته) كل ناحية من نواحي خلقها ونفسيتها، ويحبها بقلبه وجوارحه حباً عميقاً صادقاً لا يخالطه زيف يحوجه إلى سلوك طرق النفاق والتدجيل.
ويوم يعلن لها ضحاه وجود هذا الصديق تستطيع هذه الأمة التعسة أن تنام قريرة العين، لأنها سوف تستودع آمالها وأمانيها في قلب وفي أمين، تعلو به مشاعره النبيلة عن الخيانة والكذب، ويرتفع عن استعمال أحط الطرق والوسائل في سبيل خدعها والسخر منها
فلك طرزي(276/31)
بين الشرق والغرب
لباحث فاضل
قرأنا كما قرأ كثيرون غيرنا ما كتب في الرسالة في موضوع الغرب والشرق؛ تتبعنا مناظرات كثيرة لفئة من الكتاب منهم العرب وغير العرب. وهذا الموضوع ليس حديث العهد بالجدل والمناظرة، فلطالما قام التفاضلُ بين الشرق والغرب على أن التفاضل فيما مضى قد قام على أساس جغرافي في تقسيم العالم لأن لكلٍ مِن العالمين عادات وطبائع تباين الآخر ولقد اتسع مدى هذا التباين حتى ألبس العقلية في كل منهما مظهراً خاصاً تميزت به عن الآخر، فليس غريباً بعد هذا أن نجدَ مثل هذا الاختلاف ممثلاً في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. وما مظاهر الحياة وطقوسها في جميع بلدان العالم إلا صورة لشخصيات الشعوب التي نشأت فيها والتي اشتركت البيئة والتراث في تكوينها
على أن هذا الاختلاف وإن شمل مناحي الحياة المتعددة وألبس العقلية مظهراً خاصَّا بها فلا نعتقد بأنه اختلاف أساسي في العقلية؟ إذ من الواضح أن طبيعة العقلية قد استوت في قدرتها وقابليتها في أصل جميع الشعوب. وذلك الاختلاف الذي نرى أثرَه في منازع التفكير المتعددة يجب أن يرجع إلى بيئات تلك الشعوب والى المؤثرات التي قدِّر لكل شعب أن يتأثر بها. فمن سكن اليمن من العرب غير من سكن الأندلسَ منهم؛ فأوجه الحياة قد اختلفت فيما بينهما من أصلٍ واحد. فمن رجع إلى تراث الأندلسيين ثم نظر إلى تراث اليمنيين تبين له الفرق الشاسع في كلِّ شيء، أفيكون هذا الاختلاف داعيا إلى شطر العقلية إلى شطرين منها للأندلسي والناقصُ لليمني؟ ثم هل يعجز ساكنُ البادية عن مجاراة أعظم الأمم حضارة في كل شيء؟ إن هذا ليحملنا على تقرير الحقيقة وهي أنه ليس فرق أساسي بين طبيعة العقليات جميعاً. وعلى هذا فإن الصور الذهنية لكل شعب يغلب أن تكون مرآة للشكل المتكون من تفاعل خصائص ذلك الشعب التاريخية مع البيئة
أما القابلية العقلية والقدرة الفكرية فلا يحكم على مدى كل منها بمجرد النظر إلى طبيعتها في زمن واحدٍ وعصر منفرد. ذلك لأن العقلية تخضع كغيرها إلى مؤثرات تختلف قوة وضعفاً. ونصيب العقلية من كل ذلك أن تنزع في كثير من الظروف منازع شتى تباين(276/32)
الأصل والطبيعة، فتراها تتلون بلون المؤثر إن ضعفت بالنسبة له، أو تراها تلون المؤثرَ إن قويت عليه، أو تراها تمتزج معه إن تعادلا منزعاً وقصداً وغاية. وهذه هي الحقيقة الواضحة التي نلمحها في ثقافات الشعوب المتعدَّدة
أتيتُ بهذه المقدمة لا لأبحث في نشوء العقليات وتطوِّرها فهذا أمرٌ لا قدرة عليه إلا لمن أوتي القدرة على تفهم ثقافات الأمم جميعاً وإرجاعها كلها إلى الصور العقلية والذهنية التي صدرت عنها وهذا بعيد على مَن يحاوله. ولكننا رغبنا أن نظهر ببساطة أن منازع التفكير لا تدعو إلى تفاصيل في العقلية، ثم هي بعد هذا لا تبيح للكاتب أن يفاضل بين الشرق والغرب فيقرّر حدوداً قاطعة بينهما لأن العقل لا يعرف الحدود القاطعة الحاسمة
وقد درَج الكتاب على تقرير عقلية للشرق وأخرى للغرب؛ وذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فقرروا طبيعة كل من هاتين العقليتين وأن الواحدة منهما لا تقبل إلا المظهر الفلاني ولا تتلون إلا بلون خاص. وهم بقياس المظاهر الفكرية لهذه العقليات قد طبقوا هذا القياس نفسه على الشعوب فتفاضلت بسبب ذلك
هذه ملاحظة أساسية استخلصتها من بحث للدكتور إسماعيل أدهم في موضوع الشرق والغرب المنشور في الرسالة (259، 260) ولست أقصد في هذه الكلمة أن أناظِرَ الكاتب في هذا المبحث فإن الوصول إلى حد حاسم في هذا الشأن بعيد الوقوع. ولكن بعض الحقائق التي تضمنها بحثه المذكور تفتقر إلى تدقيق؛ ثم هو بعد هذا لم يشأ أن يستند في النتيجة التي توصل إليها إلى الحقائق التاريخية فأورد بعضها ونسى أو تناسى الآخر. ولقد أحسن الدكتور صنعاً في أن دعا إلى مناقشة ما أتى به. ولا زلنا نرغب معه في أن تجلو الأقلام كثيراً من الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع فننصف الشرقي والغربي وننصف معهما الفكر العربي من كثير مما أصابه وهذا مما لا يرتكز على حقيقة
(أولاً) تحديد لفظي الشرق والغرب، فقد حرنا حقيقة في جلاء ما قصده الكاتب في هذين اللفظين. فهو تارة لا يرجعه إلى أساس جغرافي في تقسيم العالم إلى بلدان في قوله (إن ما نعنيه بإصلاح الشرق والغرب لا يقوم على تقسيم العالم من شرق وغرب في تقويم البلدان) ثم نراه مرة أخرى يقف عند هذا الحد فلا يظهر لنا ما عناه بهذا المصطلح فيقول (إنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق) وبعد هذا(276/33)
تبقى كلمتا الشرق والغرب مجهولتي المعنى والتحديد. على أننا مع هذا نستطيع أن نبين ما رمى إليه الكاتب من وراء هذا المصطلح وإن جاء ذلك متداخلاً مضطرباً.
فعلى فرض أن (الغرب) مصطلح علمي يدل على شيء أو أشياء معينة فقد أراد أن يثبت بأن ما يدل عليه هذا اللفظ إن هو إلا العقل الحر الذي لا يتقيد بالروحانيات وما إليها، في قوله: (إن في الشرق استسلاماً محضاً للغيب وفي الغرب نضالاً محضاً مع قوى الغيب)
ثم إن الغرب يعني العقل المتفلسف لأنه (يبدأ من عالم الغيب وينتهي للعالم المنظور. والغرب بعد هذا يعني العقلية العلمية التي (تأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر) والغرب يعني أيضاً (تحكم العقل في محاولة تنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري)
وأخيراً فإن الإنسان في نظر الغربي) قادر على تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المحكمة في وجوده)
وأما الخالق (الذي خلق هذا الإنسان) فهو مقيد بهذه السنن والنواميس، وإرادته (أي الخالق) مقيدة بنظام هذا الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار)
في مطلع الشرق قد أدرج ما يعكس مدلول الغرب؛ فله العقل المقيد بالعقيدة، وله الجمود الفكري (في أن تكون العصور الوسطى صورة من الصور الشرقية). والعصور الوسطى هي عصور مظلمة عمت فيها الفوضى في مهامه الجهل
إلى هنا أحسن الكاتب صنعاً. ولو أنه لم يتعد مدلول هاتين اللفظين كما (تصورناه) لكان بحثه (بحق) أوفي ما يكتب في بحث مظاهر العقليات. ولكنه رغب في قرارة نفسه أن يتعدى هذا المدلول وأن يكشف عن نياته الصادقات عن الشرق والغرب فتراه أكسب العقليات الصفة الشعبية. فاليونان من الغرب؛ وكذا أهل أوربا في عصور النهضة والنشاط الفكري. أما أوربا في غير تلك العصور فليست من الغرب. فهي في عصر النور غربية وفي عصر الظلام شرقية مع أن الشعوب التي سكنتها في كل من العصرين لم تختلف في عنصرها ولا في جنسها.
والعرب كذلك (في رأيه) عقليتهم العلمية ترجع للغرب لأنهم أخذوا أصولها عن فلاسفة اليونان، أما روحانيتهم فهي للشرق لأن الشرق منبع الأديان وكل ما فيها روحاني الطبيعة(276/34)
والمظهر. وسبب هذا التباين الذي اعتبره أساسياً أن العقلية الشرقية ابتدأت بالاعتقاد إلى خالق ثم انتهت بالطبيعة. والعقلية الغربية بدأت بالطبيعة وانتهت في الخالق، ثم هو لا يوضح متى بدأت كل من العقليتين الأولى في اعتقادها بالخالق، والثانية في بحثها عنه عن طريق الطبيعة. ونحن لا نطالبه بهذا الإيضاح، فالثابت الذي لاشك فيه أن الغرب قد سبق الشرق في كلتا الناحيتين وما كان الغرب إلا مقلداً لها ومتأثراً بسببها.
ولنعد الآن إلى ما جاء في البحث المذكور الذي أوردناه أهم النقط التي تضمنها فيما مضى من السطور لتسهل مناقشتها.
(ثانياً) إذا كان الأساس العلمي هو المقياس لتفاضل العقليتين، وإذا كان البحث في نواميس الطبيعة والكون من المظاهر العلمية للعقل، فهل للفاضل الكاتب أن يقرر لنا متى بدأ يتحسن الخالق في سر مخلوقاته. أهو الشرقي مصرياً كان أو آشورياً أو كلدانياً أو عربياً أم بدأ به اليونانيون والرومان والسكسون؟
إن العقلية اليونانية التي ادعى الكاتب أنها أصل البحث العلمي الذي أخذ عنه فلاسفة الإسلام، هذه العقلية هل انفردت عن غيرها من العقليات المعاصرة أو السابقة في نهج الأسلوب العلمي؟ وهل يعتقد أحد بأن من قيمة العقل العلمي المتفلسف أن يقف عند حد المنطق في وضع أصول الشك ولا يتعدى تطبيق هذه الأصول على حقيقة الوجود كي ينتهي إلى الخالق؟ ثم نواميس الكون وسنن الوجود التي توصل إليها اليونانيون بأي خالق ربطت وعلقت؟ هل الجانب العلمي الذي أخذه العرب عن اليونان انتهى إلى الحد الذي انتهى إليه اليونانيون في تقريرهم بأن عشرات الآلهة تحكم عالمهم، وأن هذه الآلهة تموت وتحيا وتقتل؟ أم أن ذلك الجانب العلمي هو أن تكون الأسطورة ديناً لهم كما كانت إلياذة هوميروس دينا لليونان قروناً طويلة؟
إذا كان الشرقي قد أدخل العنصر الروحي في تقرير المعاملات بين الناس فهل يتنافى هذا مع العقل السليم؟ وهل يتهم بعد ذلك بأنه قاصر ونحن نعلم علم اليقين بأن الشرقي في اعتقاده الروحاني قد اتسع أفق تفكيره فشمل عالمين بينما قصر غيره عن ذلك فانتهوا عند حدود عالم واحد أخطئوا حتى في تحديده؟
لقد نظر إخناتون في مصر إلى العالم الذي أحاط به فرأى أن لا بد لنواميس الكون من(276/35)
مدبر فنادى بالتوحيد، وكان إيماناً جميلاً أن يبدأ ملك (كان ينتظر أن تسيطر أبهة الملك المادية على قوى تفكيره) بالطبيعة وينتهي للخالق
ونظر إبراهيم إلى الكواكب وكان قومه يعبدونها فرآها تأفل فشك في أن تكون رباً له، وكان شكه داعياً لإيمانه فقال في ذلك تعالى: (فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)
ونظر الأعرابي في الصحراء إلى ما أحاط به من شمس وقمر ونجوم فداخله الشك (وهو الساذج) في أن تكون معبوده وإلهه، أو تكون مطلقة التصرف في شئون نفسها. وهذه الشمس، وهذه النجوم تغرب، وها قوم يموتون فلا يعودون. فمن يطلع الشمس ويغربها، ومن يسطع النجوم ويعزبها، ومن يذهب بأولئك فلا يعيدهم؟ أذلك الصنم في معبد الأعرابي؟ أم تلك الأسطورة عن زفس وأبلون في مخيلة اليونان؟
هذا الشك بدأ في الشرق وانتهى أهلوه إلى الخالق عن هذا الطريق. فأصول الشك وجدت في الشرق قبل أن يعلمها الغرب بآلاف السنين. وهذا الشك كان أهم الأسس التي قامت عليها النهضة الأوربية الحديثة. وبعد هذا فما الشرق وما الغرب؟ ومن صاحب الخالق الواحد، ومن صاحب الآلهة التي تقتتل؟ وأين العقلية العلمية بينهما؟
(البقية في العدد القادم)
(* * *)(276/36)
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 1 -
(ما من مفكر أشد إخلاصا من نيتشه، إذ لم يبلغ أحد قبله ما
وصل إليه وهو يسير الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي
بما يعترض سبيله من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من
اصطدامه بالفجائع في قرارتها أو من الانتهاء إلى لا شيء)
(أميل فاكيه)
هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض فلسفته. وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوربا؛ فإنك لو استعرضت المؤلفات التي كتبها العباقرة العديدون، ومنهم من يعتقد بتخبطه على غير هدى، ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة لا تنجلي معانيها إلا للعقل النافذ والحس المرهف، لرأيتهم قد أجمعوا على وصفه بالمفكر الجبار المتجه إلى الحقيقة يطلبها وراء كل شيء حتى وراء المبادئ التي يقول بها
وما أجمع هؤلاء المفكرون إلا على الصواب في هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه لنفسه إذ قال:
(لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه، لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان في ذلك مخالفاً لعقيدته؛ فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها
إياك أن تقف حائلاً بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين
عليك أن تصلى نفسك كل يوم حرباً، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني(276/37)
عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك)
قال نيتشه بهذا المبدأ، وعمل به وبالرغم مما يتجلَّى في تعاليمه من غرور وصَلَف، فإنه كان يسير في أبحاثه ولا هَّم له سوى استكشاف الآفاق فيورد اليوم فكرة يكذِّبها غداً، فكأنه بإنكاره الخير والشر لم يجد بداً من إنكار كل عقيدة ثابتة. فإذا أنت أردت أن تسير وراء هذا الفيلسوف طلباً للعقيدة فلا تتعب نفسك باللحاق به في مراحل يقطعها بخطواته الجبَّارة لأنه هو نفسه قد أَصابه الخبل وبصيرته تائهة في استلهام الحقيقة واستقرائها
مَنْ قال لك:
(إنه لا مكتشفَ لحقيقة ذاته إلاَّ من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شرّي فيُخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخيرَ خيرٌ للكل والشرَ شرٌّ للجميع)
من قال لك هذا، لا تتوقع منه أن يأتيك بشِرعةٍ تقوم مقام الشرائع التي يثور عليها
إن نيتشه المفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد آفاقاً وسيمة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل، تائقاً إلى إيجاد إنسان يتفوَّق على إنسانيته بالمجاهدة والتغلُّب على العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم، يقف وقفة الحائر المتردد عند ما يحاول إقامة مجتمعٍ لأفراده المتفوِّقين، بل هو يضطر إلى نقض أوليَّاته القائمة على احتقار الرحمة والرُّحَماء حتى ينتهي إلى قوله:
(إن العالم الذي يتفوَّق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأَصاغر والمتضعين)
وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها والى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر يعود مفتشاً بين أنقاض الألواح التي حطَّمها على كلمات قديمة يجعلها دستوراً لإنسانيته المتفوِّقة
إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدى في تفحُص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حلِّ المعضلات الاجتماعية، لأنه إذا أمكن للفرد المنعزل أن يختطَّ لنفسه منهجاً يوافق هواها باعتقاده أنه هو المُبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضواً حياً في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع إخوانه بأنه ليس مصدراً لذاته ولا مآباً لها(276/38)
إن مَنْ يطمح إلى مثل ما طمح إيه نيتشه من تكوين مجتمعٍ منظم يسود فيه المتفوِّقون ولكلٍ منهم شرُّه الخاص وخيره الخاص، وخيره لا يوجِدُ في النهاية إلا مجتمعاً يتفاوت التفوُّق فيه بين أفراده فيقضى الأقوى منهم على الأقل قوةً منه حتى يقف آخرُ الظافرين منتحراً بقوته وعنفه كما انتحر إلهُ نيتشه برحمته
غير أنَّ المبدع لزرادشت لم تفته هذه الحقيقة، فعاد إلى الشريعة الأولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصيةً لدنياه فقال:
(حذارِ من الطُّفْرة في مسلك الفضيلة فعلى كل فردٍ أن يسير في طريقه وإن جنح عن مسلك الآخرين، فلا يطمحنَّ إلى بلوغ الذروة وحدَهُ إذ على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين)
أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت في مفكراته نفسها إذ قال:
(على أهل السيادة في الإنسانية المتفوِّقة أن يمهِّدوا سُبُلَ السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذَّاتهم وراحتهم، وعليهم أيضاً أن ينقذوا مَنْ لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال)
بل كيف يتفق القسم الأول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟ ومن له أن يضع مقياساً يقضي به على مَنْ لا يصلحون لها إذا اتبع القاضي شرعة زرادشت القائل بأن على اتباعه أن تتجلى القوة فيهم من الرأس حتى أخمص القدم
ولو أن مذهب نيتشه هذا طُبَّقَ قبل ميلاده لكانت السلطة التي يراها مثلاً أعلى قضت على أبيه وأمه دون إمهال فما كان له هو أن يظهر في الوجود بدماغه الجبار وبسُم الدعاء الذي جال من دمهما الملَّوث في دمه. . .
ثم، أليس هنالك غير هذه الأدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها، ما يقضي على الإنسان بالرضوخ له من حالة في جسمه لا قبل له بتبديلها أو تعديلها؟ أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحباً معه إليها من سلالته الضعف الذي سيقضي عليه؟ أفليس في كل دارج على هذه الغبراء علة أو علل كامنة في تكوين أعضائه ستورثه الردى حين تدنو ساعته؟
أي جسم مهما ظهر لك صحيحاً ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات في سلسلة أعضائه وفي فراغ مناعته المحدودة انفصام العرى وبداية انحلال العناصر في الهيكل الفاني؟(276/39)
أين هو الجسم المنيع الذي يتوق نيتشه إلى إيجاده مربعاً من قمة الرأس إلى أخمص القدم؟
لقد عمل العالم المتمدن على إيجاده الرياضة فأوجد الرقاب الغليظة والعضلات المتضخمة مسبباً منها تضخم القلب وجفاء الطبع وبلادة التفكير وانحطام أجنحة الخيال
يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق جباراً كشمشون وشاعراً كداود وحكيماً كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان (التافه) القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره
إن المجتمع لا يقوم من الوجهة العلمية على أفراد يحاولون الإحاطة بكل شيء فلا ينالون منها شيئاً
وليس الحال إلا على هذا المنوال من الوجهة الروحية أيضاً، فإن مَنْ تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لا بد له أن يسلم أخيراً بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها، ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج
إن في الحياة مسالك خطتها الإرادة الكلية وليس للإرادة الجزئية أن تتناولها بتحوير، ومصاعد الرقي للأرواح منتصبة من كل مسلك في عالم الظاهر نحو العالم الخفي، وما خصت العناية أقوياء الجسوم بالارتقاء
ولربَّ صعلوك في نظر نيتشه لا يصلح للحياة ويجب أن يُقضى عليه دون إمهال تتفجر منه قوة لا تراها إلا البصائر النيِّرة
من لنا بسبر الأغوار البعيدة القرار لندرك سرَّ التكامل في الذات والحكمة في حد الأشواط لكل روح لتقوم بقسطها من المقدور؟
ومن لنا بادراك سرَّ الضعف والقوة وقد يكون الضعف في الجسم السليم والقوة في العليل من الأجسام؟
إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أُعطى من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة، لأن للصحة محنتها كما للمرض محنته، والأنفسُ الطامحة إلى مُثُلها العليا سواء أكانت هذه المُثُلُ في(276/40)
هذه الحياة أم ما وراء الحياة، إنما تتغذَّى من الجسد ناحلاً عليلاً كما تتغذَّى منه مليئاً بالنضارة والصحة والبهاء
إن للحكمة العليا مقياسها في تقدير الجهاد الأكبر على كل نفس، ومن يدري في أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخطُّ الروحُ الأسيرة آخر سطر من كتابها؟. . .
إنَّ محور الدائرة في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوّق على الإنسانية. لذلك تراه يهزأ بكل من عدّه التاريخ عظيماً بين الناس قائلاً: إن الجبل الذي يلد العظماء لم يولد بعد، وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوّق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثل الأعلى هو أن يتشوّقوا إليه ليخرج من سلاتهم في مستقبل الأزمان
وسوف يرى القارئ في الفصول الأخيرة، ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقَّع نشوءه، وغير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي ويرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفاً منتثرة لا معنى لها لا يقول لنا بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدوداً لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعود بصيرته على مجاراة نيتشه في الرؤى التي يهيم فيها يستوقفه قوله:
(إن ما فُطرنا عليه هو أن نخلق كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل)
ثم يستوقفه في موضع آخر قوله:
(إنني لم أجد امرأة تصلح أُماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها)
فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله
وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر
ولولا أننا درسنا ملياً مسألة اعتلاء الأمم وانحطاطها ببحث صحة النسل واعتلاله في فصل (منابت الأطفال) من كتابنا (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) لكنا نثبت هنا أن إيجاد الإنسان الكامل في إنسانيته، لا الإنسان المتفوق على نوعه كما يريد نيتشه، إنما يقوم على مجاراة حوافز الاختيار الطبيعي في الزواج باعتبار كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت(276/41)
هاتف الاختيار سواء في الرجل أو المرأة جناية على الإنسانية
هذا وإننا لا نجد بداً من نقل بعض فقرات من فصل منابت الأطفال تأييداً لهذه الحقيقة
(إن الإنسان لا يريد الانقياد للانتخاب الطبيعي فهو يطمح إلى تحكيم اختياره في حوافز لا يعلم منشأها، فيعمد الرجل إلى استيلاد المرأة أطفالاً تتجلى فيهم كوامن علله وعلل المرأة التي يرغمها إرغاماً بدلاً من أن ينقاد إلى الانتخاب الطبيعي الذي تتذرع به الطبيعة للغلبة على العاهات والأمراض وللقضاء على حوافز الخبل والإجرام
إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنساء الطامعات المظللات
(ومما لا ريب فيه أيضاً أن الطبيعة في حرصها على طابع الأبوين في الأبناء تطمح دائماً إلى الجمع بين رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة في الآخر، ولا يقف طموح الطبيعة عند حد إصلاح الأعضاء بل هو يتجه خاصة في الإنسان إلى إصلاح ما تطرق من عيوب إلى صفاته الأدبية العليا، ولعل في هذا بعض التفسير لسيادة الإيقاع بين رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاعُ أعضائهما ومظاهر قواهما الأدبية والعقلية، فقد لا تجد مصارعاً قوي العضلات يعشق مصارعة مثله، ولا فيلسوفاً يتوله بفيلسوفة. ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متلاعب محتال، أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل قبيح. إن بعض العشق ينشأ من حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء. . .)
(إن المفكرين يثورون على الشبان الذين يقدمون على الزواج وفي دمائهم سموم، وفي مجاري نطفة الحياة منهم صديد، ومن الأمم من سنت القوانين الصارمة لمنع زواج المبتلى بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة على صحة النسل، ولكنني لم أقرأ لمفكر رأياً في الحيلولة دون الزواج الآلي المجرد عن كل عاطفة، ويتراءى لي أن طفلاً يجني أبواه عليه بايراثه دماً أفسدته الأمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إضراراً بالمجتمع يرث من أبويه عهر العاطفة وضلال الفطرة.
لقد تشفى العقاقير أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش الرجل المفترس في أحشاء المرأة المنكسرة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون إلا وحشاً كأبيه أو(276/42)
عبداً ذليلاً كأمه)
(يتبع)
فليكس فارس(276/43)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 20 -
كل ما استعرضه حتى الآن من خصائص غزل العقاد، جائز أن يشركه فيه سواه، في الفكرة الخاصة أو في الاتجاه العام؛ وهي على ندرتها في عالم الشعراء الكبار، وتفرد العقاد بكثير منها في الشعر العربي كله كما بينت ذلك بوضوح، ليست ملكا خاصا له بمقدار اختصاصه فيما أفرد له اليوم هذا المقال من (خصوصيات)!
الغزل غرض مباح لجميع الشعراء، ومذاهب الحس والتعبير فيه ملك كذلك للجميع، إلا أن العقاد وحده هو الذي يقول ما سأعرضه في هذا المقال الأخير، ولن يشركه أحد في اتجاهه هذا، ولا في فكراته أو تعبيره، لأنه فيه هو (العقاد) بشخصه ولحمه ودمه، لا سواه من الأناسي - قبل الشعراء - وهو هنا في تقاطيعه وتقاسيمه وسحنته التي يلوح فيها، ويتميز بها:
غني عنده ما يعطيه
في قصيدة (تبسم) بالجزء الثاني من الديوان صفحة 172 يقول لحبيبه
فلا تبتعد عني فإنك راجع ... متى تبتعد عني بصفقة خاسر
ومن لك بالقلب الذي أنت مبصر ... به كل إعجاز لحسنك باهر
تراه عصيا - إن نأيت - على الرضا ... ولا قلب أرضى منه إن كنت زائري
وفي الناس مطوي الضلوع على الشجا ... ولا مثل شجوى بين باد وحاضر
إذا شاركوني في هواك فما لهم ... سروري بما أصفيتهم وتباشري
وفي هذه الأبيات يشخص العقاد الشاعر بأن عنده ما يعطيه وأن حبيبه سيسخر حين يفقده؛ الشاعر بتفرده في سروره وشجوه على السواء، وكأنما هو من عنصر غير عنصر البشر الذين يعج بهم الكون، وتهفو قلوبهم إلى هذا الحبيب، ولو شاركوه في هواه، فمن لهم بقلبه في شجوه ورضاه؟
وغير العقاد يقولون لأحبائهم: إنكم لن تجدوا إخلاصاً كإخلاصنا، ولا تضحية في سبيلكم(276/44)
كتضحيتنا. . . الخ مذاهب القول في هذا الباب، ولكن العقاد لا يعني شيئاً من هذا، إنما يعني أن قلبه فريد في نوعه لا في مظاهر إحساسه كالحب والإخلاص والتضحية وما إليها، وأنه ممتاز حتى في (شجوة) وأن شجوه الممتاز هذا يُغلبه ويرتفع به، كالسرور الممتاز على السواء!
رجولة صارمة
يرضى المحبون ويغضبون، ويقولون في الرضا ما يقولون، ويبقى للعقاد غضبه ورضاه، متميزاً بطابعه الذي لا ينساه. وفيما مضى رأى القارئ كيف يرضى العقاد في كثير من الأمثلة مثل (سنة جديدة) و (عامنا) و (قبلة بغير تقبيل) وسواها. فمن أراد أن يعرف كيف يغضب العقاد وكيف يكون صارماً باتا في هذا الغضب، فليقرأ: (الهجر الصادق):
تجشم فيك القلب ما ليس بعذب ... أما آن لي منك النجاء المحبب؟
فهجرا فهذا القيد قد طال عهده ... أليس لقلبي غير حبك مذهب؟
هجرتك هجر المرء أسود سالخا ... يمج حماما كيفما يتقلب
هوى الموت أحلى من هواك لأنه ... هوى صادق الميعاد لا يتذبذب
وما كنت فتانا ولكن فتنتني ... بما قد صنعت عيني من الحسن أعجب
فلا تغترر مني بما قد عهدته ... لدن كنت أعفو إذ تسيء وتذنب
فما كل حين يغلب الحبُّ ربَّه ... ولا الصبر في كل المواطن يغلب
لتظمأ ليال كان دمعي شرابَها ... فحسب الليالي دمع من لم يجربوا
أنا اليوم في هجري على الكره صادق ... وقد كنت في هجري على الكره أكذب
هكذا في نفس واحد، وفي نفثة واحدة، صرامة قاسية، هي طابع العقاد حين يكره، وحين تسأم نفسه طول الإساءة، وجفاف الصلات، وحين يجنح إلى اختيار الهجر بعد اليقين والاعتزام
وليس هو هكذا في الغزل وحده، فهو بعينه في الصداقة وفي السياسة وفي الآراء والمعتقدات في شتى مناحي الحياة: ضربة قاصمة، لا رجعة بعدها ولا اتصال
اليقظة والوعي الفني والتأمل الفلسفي(276/45)
ولقد كنت أفردت مقالا للحديث عن هذا العنوان، وضربت من الأمثلة ما فيه الكفاية. ولكنني هنا ماض على نهجي للغرض الذي صدرت به هذه المقالة من استعراض (الخصوصية) المعبرة عن شخص العقاد، لا عن مناحي تفكيره واتجاهاته
فمن اليقضة التي هي جزء من شخصه قوله تحت عنوان (الهزيمة المرغوبة)
أريد التي ألقي سلاحي وجنتي ... إليها وألقاها من البأس أعزلا
وأطرح أعباء الجهاد وهمه ... لدى قدميها مغمض العين مرسلا
وأنت إذا أقبلت جحفلا ... وجردت أسيافا وشيدت معقلا
فإن تهزميني فاهزمي عن بصيرة ... مريداً لأسباب الهزيمة مقبلا
فها هنا رجل يعرف إحساسه، ويدرك قواه وقوى حبيبته، ولكنه يجنح إلى الفطرة، ويريد المرأة ليلقي إليها سلاحه وجنته ويلقاها أعزل من كل قوة، لتحضنه كالأم الرءوم، بعد ما ضاق ذرعاً بالجلاد والكفاح، فآوى إلى الهزيمة المرغوبة وهو قوي عالم بقواه!
ومن التأمل الفلسفي أن ينظر إلى حبيبه الغرير، الذي لا يدرك فتنة سحره فكأنما هو منها محروم، بينما العقاد قد فطن إلى هذه الفتنة وقطف من ثمارها وعرف الدنيا على ضوئها، وتملى الحياة على نورها، فعاد مالكا لها، وصاحبها محروم منها!
يا ساحراً فاتته فتنة سحره ... وتنقبت عن لحظه العسّاف
نجني الثمار من القفار بفنه ... ونَصيبُه منها التراب السافي
نرثي لسحرك أم نجل فعاله؟ ... ما أجدر المحروم بالتعاطف!
سحر خصصت به وأنت حُرمته ... حرمان لا حرج ولا متلاف
لا يقول هذا إلا العقاد، المتأمل في كل لفته ولمحه، الواعي للظواهر والبواطن، المعنيّ بالموافقات والمفارقات في عالم المعاني والإحساس
صوت الفطرة
وصوت الفطرة السليمة مسموع في كل ما يكتب العقاد، ولكنه في الأبيات التي نعنيها هنا مكشوف ناصع، لا يحتاج إلى الكشف والبيان، ولا ينسرب في الرموز والألوان، وهو - مع هذا - صوت فطرة العقاد الخاصة به، وإن كانت قبساً من الفطرة الخالدة(276/46)
يقول بعنوان (عيوب المحب):
لا تعدّي على عيباً فإني ... لك كلي محاسني وعيوبي
وعيوب المحب أولى بعطف ... من كمال فيه وحسن وطيب
هي كالطفلة الشقية تلقي ... من حنان الآباء أوفى نصيب
فليس التأمل وليست الدراسة النفسية وحدهما يوحيان بهذا المقال، إنما هو الشعور الفطري الصادق قبلهما يوجه النفس هذا التوجيه. يعرف ذلك الآباء المشغوفون من لدن الحياة بالأبناء، والبنات الأشقياء والشواذ، لأن هؤلاء أحوج للرعاية في منطق الحياة! ويعرفه كذلك المحبون الذين يزيد شغفهم بحبيباتهم ما ينفر سواهم الخليين من أقوال وتصرفات. ويعرف العقاد هذا فيطل بوجهه من خلاله وكأنه وشاحه الخاص، الذي لم يفطن إليه سواء
الملك بالمعرفة
وبعد فهذا فن وحده، واتجاه في الإحساس غريب: محب ينقضي ما بينه وبين حبيبته من حب ومن لقاء واتصال وأخذ وعطاء، ويفصل بينهما فاصل من هجر مرير بعد شك دامٍ ويقين أليم حدثناك عنهما في كلمة سابقة، ثم يحس في خلال هذا كله أنه ما يزال مالكا لهذه الفتاة، مالكا لها إلى الأبد، لا يملكها سواه أبداً، ولا تفلت من بيده أبداً. . . لماذا؟ لأنه يعرفها بكل ما فيها، ولأن غيره لن يعرفها مثله، ولن يطلع منها على ما اطلع هو، وهي له وحده، لأن صفحتها مفتوحة أمامه يقرؤها بلا مفسر وبلا منظار، ولأن أحداً لن يحبها حبه أو يكرهها كرهه، بل لأن أحداً لا يزدريها ازدراءه!
ألقاءٌ أم لات حين لقاء ... وسلام أم تلك حرب عداءِ!
وفراق تُجدد العتبَ فيه ... يوم تخلو على مهاد الصفاء!
أم فراق على الحياة طويل ... كفراق الردى بغير انتهاء!
أنا ما بين هاتف ونذير ... ذاهب السمع إثر كل دعاء
هاتف في الضمير أن ليس هذا ... آخر العهد فاعتصم بالرجاء
ونذير بأنها غضبة العمر ... وعقبى مودة الأصفياء
ليت عاماً من الحياة تَقضّى ... لأرى في غد بعيد القضاء
وأرى الخير لا يطول انتظاري ... وأرى الشر لا يطول عنائي(276/47)
لا لعمري بل يكذب الخير وال ... شر وتعفو معالم الأنبياء
ويقول الزمان قولا فإني ... مرسل قوله مع الأصداء:
أنت لي أنذر الزمان بِشرِّ ... أم مضى هاتفاً مع البشراء!
أنت لي أضمرت نَياتُك حباً ... أم طوت سرها على البغضاء!
إن لي فيك يا بنية حقاً ... فوق حق الهوى وحق الدماء
مزجت في قرارة الحب نف ... ساناً وسيطت أيامنا في وعاء
وترائيت لي بقلب ولب ... من وراء الحياء والكبرياء
من مِن الناس قد تذوق منك الع ... يش صفواً والعيش جم الشقاء؟
من مِن الناس قد توسم فيك ال ... حسن نوراً والحسن من ظلماء؟
من مِن الناس قد أحبك حبيب ... ك ومن منهم ازدراك ازدرائي
من مِن الناس قد رأى خير ما في ... ك وأخفى ما فيك من أدواء؟
من جمال ومن ذكاء ومن غد ... رٍ ومن صدق شيمة ورياء؟
هذه أنت لا تزالين لي وحد ... ي - جميعاً - لا تظهرين لراء
يعرف العارفون منك لماماً ... بعض ما قد عرفت من سيماء
فلهم منك صورة وأحا ... ديث ولي منك لب ذاك الطلاء
هذه أنت لا فؤادك خاف ... عن عيناي ولا ودادك ناء
إن يطل بيننا النوى فالتلاقي ... من ندائي بموقع الإصغاء
ولنا في صحيفة الدهر غيب ... سيعيد انتهاءنا لابتداء
وكنت أود أن أعقب بشيء على هذه القطعة، ولكنها ليست بحاجة إلى الشرح، وإن كانت بحاجة إلى حس غني مرهف يتلهمها بمجرد قراءتها. فمن كان له هذا الحس فما هو بحاجة إلى بيان، ومن لم يكن له، فما أنا ببالغ شيئاً في إفهامه
وإنني لمفتون بهذه القصيدة، أكاد لفتنتي بها، ولمسي لقلب الشاعر فيها، أفضلها على كل غزل العقاد!
والآن أختم حديثي عن (غزل العقاد) وقد طالت عنايتي بهذا الضرب من شعره لأسباب سأشرحها في الكلمة الختامية بعد الحديث عن (أسلوب العقاد) في مقال تال(276/48)
(حلوان)
سيد قطب(276/49)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
9 - قارئ
كنت عند صديق لي يبيع الصحف والمجلات أجوز به كل يوم، فجاءه رجل محترم، عليه سيما الوقار ومعه نسخة من مجلة الرسالة فقال له:
- لقد أخذت هذه المجلة أمس من عندك، وقد بدا لي فيها، أفلا تحب أن تأخذ قرشاً وتعطيني بها الرواية؟ فنظر فيها البائع فإذا هي جديدة سالمة، ولم ير في طلب الرجل شيئاً فقبل وأعطاه الرواية فأخذها شاكراً. فلما كان من الغد عاد والرواية معه فقال:
- هذه هي مجلة الرواية التي أخذتها منك أمس، أفتأخذ قرشاً وتعطيني (الدنيا)؟
- قال: نعم، وأخذ القرش والرواية وأعطاه الدنيا، فمضى شاكراً. فلما كان من الغد عاد فقال له:
- أتحب أن تأخذ هذه المجلة وتعطيني بها (الحرب العظمى) وعدداً من جريدة يومية؟
- قال: نعم وأعطاه. . . فلما كان غد عاد فقال:
- أتشتري مني (الحرب العظمى) بنصف ثمنها؟
- قال: نعم، وأعطاه (نصف فرنك) فأخذه ومضى شاكراً فقلت لصديقي البائع:
- لقد شهدت من صبرك على هذا الرجل عجباً؟ أفلا طردته أو أنبته واسترحت منه؟
- قال: ومن أبيع إذا طردت مثل هذا؟ إن أمثال هذا هم (القراء) في هذا البلد، أفتعجب بعدُ أن كان يباع من مجلة (كذا) مثلا خمسون عدداً في دمشق كلها؟
10 - أمام
رأيت في سينما روكسي، رجلاً بلحية وقفطان، ولكنه حاسر الرأس، غير مرتد رداء، ولا متخذ جبة، فعجبت منه وجعلت ألحظه، وأنكر مكانه من السينما، حتى إذا انقضى التمثيل وخرجنا رأيته يدخل غرفة (المدير) فيلبث فيها دقائق ثم يخرج منها شيخاً بعمة وجبة. . . فسألت رجلاً كان معي:
- ماذا يكون هذا الشيخ؟(276/50)
فضحك وقال:
- ألا تعرفه؟
- قلت: لا
- قال: هذا من خطيئات النظام الحزبي. . . كان تاجراً، فاشتغل بالسياسة وأقبل عليها حتى أدبرت عنه الدنيا، وخسر رأس ماله كله فابتغوا له عملا يعيش منه، فكان عمله مراقب (الأفلام السينمائية) ولكن وظيفة هذا العمل قليلة، ففتشوا عن وظيفة أخرى ترفدها، فجعلوه إماماً في مسجد (كذا) وعزلوا إمامه الشيخ الصالح، فمن أجل ذلك كان بعمة وجبة وكان في السينما. . .
- قلت: عاش النظام الحزبي. . .
11 - مشعبذ
سمعت الكثير من أحاديثه - وأخبار (علمه اللدني) - وقدرته على استحضار الجنّ، وكشف السرقات واستحضار المغيبات، وبراعته في (عالم الحرف) وأسرار العدد، فأحبت أن أراه. . . كما يحب المرء أن يرى حيواناً عجيباً، أو تحفه نادرة. . . وسألت صديقاً لي أن يجمعني به، فأخذني إلى داره في (برج أبي حيدر) فدخل بي دهليزاً مستطيلاً يفضي إلى غرفة في داخلها غرفة - مفروشة بالطنافس. . . في جوانبها مئات من الكتب الصوفية والروحانية - وفي وسطها مجمرة يحرق فيها البخور فتمتلئ به الدار، والشيخ جالس أمامها وقد وضع في عنقه سبحة طويلة أخبرني صديقي الذي جاء بي، أن فيها ألف حبَّة، في كل حبة منها حرف يدعي به ملك من ملوك الجان فلا يلبث أن يحضر ملبياً طائعاً، وعلى رأس الشيخ عمة ضخمة أحسبها تزن خمسة أرطال. . . فلم يقم لنا حين دخلنا وإنما مدَّ يده لنقبلها، فعجبت من فعله وتلكأت، فهمس صاحبي في أذني، أن قبلها وإلا رأيت من القوم ما تكره. . . فنظرت في وجوه القوم فإذا هي قد اربدَّت، وإذا عيونهم محمرَّة، فآثرت السلامة وقبلت يده الطاهرة وجلست. . .
وشرع القوم يعرضون على الشيخ قصصهم - كما كانت تعرض القصص والحاجات على الملوك والأمراء، وهو يعد ويؤمل. . . والقصص شتى والحاجات متباينات، فهذا الرجل له قريب أصابته آفة في بطنه أجمع الأطباء على أن شفاءها (عملية) جراحية، فخاف(276/51)
المريض منها وبعثه يرجو الشيخ الخلاص من هذه (العملية) فوعده أنه سيجريها له وهو نائم فلا يفيق من منامه إلا وقد صرف الله عنه ما يحس به، فدعا له الرجل ودس في يده ما تيسر. . . وهذا رجل له امرأة عاقر فهو يسأل الشيخ أن يجعلها ولوداً. . . وهذا آخر سرق ماله كله وعجز الشرط عن معرفة السارق، فهو يطلب من الشيخ كشف السارقين. . . وأمثال ذلك، وهم ينصرفون واحداً إثر واحد، حتى لم يبق أحد. . . فمال علينا يحدثنا. . فكان من حديثه إلينا أنه وقع على النسخة الفريدة من كتاب (أسرار الحرف) تلك التي فتش عنها (العلماء) القرون الطوال فلم يسقطوا لها على أثر. . . فكانت له مفتاحاً لكل باب، فإذا أراد أن يأتي بأموال (بنك فرنسا) مثلا لم يحتج إلا إلى حروف يكتبها في ورقة ويلقيها في البحر، ظهر يوم الاثنين، أو فجر يوم الأربعاء، وإذا شاء أن يصطاد سمكا، كتب حروفاً على الشبكة فأقبلت إليها الأسماك والحيتان حتى لا يبقى في البحر حوت
قلت: فلم يا سيدي لا تأتون بأموال فرنسا وإنكلترا وهم أعداء الله وأعداء رسوله؟
قال: لم يؤذن لنا في ذلك، ولكني سأكون مفتياً للجيش الفرنسي فأجعله كله من جنود الله!
ومرت على هذه المقابلة الطريفة سنون، لقيت بعدها ذلك الصديق، فقلت:
- ما فعل الله بصاحبنا الشيخ؟
- قال: ذهب المسكين يصطاف، فمنوا عليه بدار في (دمر) منفردة. فلم يبت فيها إلا ليالي حتى نزل عليه اللصوص فلم يدعوا له شيئاً. . . وبقى هو وأسرته بلا فراش!
- قلت: أولم يستطع أن يعرفهم؟ أما كان يكشف السرقات ويظهر المخبئات؟
- قال: مسكين، إنه يرتزق. . . أفتريد له الموت جوعاً؟
دمشق
علي الطنطاوي(276/52)
من أشهر المحاكمات الجنائية
محاكمة فرنسوا داميان
الذي حاول قتل الملك لويس الخامس عشر
للكاتب كريجيل -
بقلم الآنسة مفيدة إسماعيل اللبابيدي
ولد (روبرت فرنسوا داميان) في تيوللوي (شمال فرنسا) سنة 1715 من أسرة خاملة كانت تمتهن التزام المزارع، وقد أراد أن يحمل لويس الخامس عشر على عزل وزرائه لغرض لم يكشفه التحقيق، فذهب يوم 5 يناير 1757 إلى فرساي وطعن الملك في خاصرته اليمنى طعنة غير مميتة ولم يستطع الهرب فقبض عليه وحوكم وعذب ثم أعدم على صورة بشعة جداً
والمهم في هذه المحاكمة أنها تكشف لنا عن طريق التعذيب في القرون الوسطى توصلاً لاستلال الاعتراف بالجريمة من المجرم وما يصاحبها من إجراءات عدت زماناً إحدى طرق التحقيق القانونية فصبغت وجه الإنسانية بحمرة من الخجل لا تمحى
في الخامس من شهر يناير سنة 1757 وفي الساعة الخامسة من مسائه، روع باريس خبر ذعر له أبناء الشعب والأشراف على السواء: ألا وهو جرح الملك المحبوب لويس الخامس عشر في فرساي من يد رجل يدعى داميان حسن الحظ أن قبض عليه في الحال
وعندما انتشر خبر الجريمة توجه الأمراء والضباط والسفراء برغم البرد القارس نحو فرساي، وفي بضع ساعات كان طريق فرساي مغطى بالكراسي والمركبات وجميع أصناف العجلات على ما يروى أحد مؤرخي هذا العصر
ولفائدة التحقيق أوقفت امرأة داميان وابنته اللتان زجتا في الحال في (الباستيل) لأنه لابد أن تكونا مطلعتين على نية القاتل السيئة
وفي الثامن عشر من ذلك الشهر وحوالي الساعة الثانية صباحاً اقتيد فرنسوا داميان من فرساي إلى باريس مخفوراً بعدد وافر من الجنود
وكان السجين في داخل عربة لا ضوء لها، فأدخلوه من حاجز السيفر ليمنعوا المتفرجين(276/53)
عنه ثم أودعوه القصر في برج (مونتكوميري) تحت رقابة من الحرس الفرنسي يجري تبديلهم كل أربع وعشرين ساعة
ثم في الصباح ذهب مفوضا الشرطة (سه فرت وباسكيه) والرئيس الأول والرئيس (موله) ليحققوا معه، وقد دام هذا التحقيق من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الساعة الخامسة بعد الظهر، وكان أحد طهاة الملك مكلفاً بإعداد طعام داميان وكان هذا لا يخرج من البرج مطلقاً
وكان فوبير من كبار الجراحين في ذلك العصر، لا يترك السجين الذي كان يقاسي الآلام الممضة من ساقيه اللتين كويتا فوراً بعد توقيفه بسيخ أحمى حتى احمر
أما الملك الذي شفي سريعاً من جرحه فقد أرسل 300000 ليرة إلى قس باريس لتوزيعها على فقراء رعيتهم فداء عن نفسه
كان سجين داميان مستديراً وقطره لا يزيد على اثنتي عشرة قدما، وكان الهواء لا يدخله إلا من فتحه ضيقة ذات صفين من القضبان الحديدية مفتوحة في حائط سمكه خمس عشرة قدما، وكان الضوء يمر من خلال الأوراق المزيتة
وكان السجين محصوراً في نوع من الصداري التي لا تترك له الحرية في أقل حركة
بلغ هذا التضييق الملك فوجده مفرطاً لأنه في الحقيقة لم يؤخذ تدبير ضد متهم أكثر تضييقا وأقل رأفة مما أخذ ضد داميان، فبعث الملك طبيبه الأول الدكتور (سه ناك) فزار داميان ثم أمر أن يترك للسجين بعض الحرية وأن يعامل بشيء من الإنسانية
وكانت الدعوى تسير ولكن ببطء، فقد زج في الباستيل ستون أو ثمانون شخصاً اتهموا بأنهم كانوا على علن بنية داميان المجرمة، ثم أطلق سراحهم من السجن تدريجياً. ولما حضر داميان أمام محكمة تورنل في 17 آذار، دافع بأنه ما كان يرغب إلا في إنذار الملك وحمله على عزل وزرائه
وفي الحادي والعشرين من ذلك الشهر أرسل إليه الكاهن (كه رمت) خوري كنيسة القديس بولص ليعظه حتى يحمله على قول الحقيقة
وفي السادس والعشرين من الشهر المذكور اجتمعت المحكمة الكبرى المؤلفة من أمراء البيت المالك والدوقات والرؤساء والقضاة والمستشارين. وكان المحامون جلوساً في(276/54)
أمكنتهم، وجيء بالمجرم فأجلسوه في قفص الاتهام ولم يكن يظهر عليه أنه (محروم) ولا ظهر عليه أمام هذا المجلس أقل اضطراب بل كان يتظاهر، بالهدوء وعظمة النفس ثم استعجلوه بتسمية شركائه في الجريمة، فأجاب: إنك تتكلم جيداً يا سيدي باسكيه ولكن هأنذا أمام الصليب ليس لديَّ ما أعترف به
وحينئذ فتحت الجلسة فقرئ تقرير النائب العام الذي يتلخص في طلب إدانة داميان بجريمة محاولة قتل الملك فأحيل للعذاب طبق ما هو مقرر
وفي الساعة السابعة مساء أصدرت المحكمة الحكم الآتي على روبرت فرنسوا داميان:
إن المحكمة بحضور عدد وافر من الأمراء والقضاة نظرت في التهمة الموجهة ضد روبرت فرنسوا داميان، وهي تعلن إليه بناء على اعترافه بأنه مجرم بالاعتداء على صاحب الجلالة الملك بصفته الإلهية البشرية وكونه الرئيس الأول، تلك الجناية الفظيعة الشنعاء الموجهة ضد شخص الملك، وللتكفير عن فعلته يحكم عليه:
1 - بأن يقاد عارياً إلا من قميص، ممسكاً بمشعل من الشمع الملتهب يوزن ليبرتين إلى أمام الباب الرسمي لكنيسة باريس، وهناك يركع ويعترف جهاراً بأنه اقدم على ارتكاب جريمة قتل الملك، تلك الفعلة الشنعاء الممقوتة، وأنه جرح الملك بضربة سكين في خاصرته اليمنى، وأنه قد تاب وأناب فيطلب العفو من الله ومن الملك ومن العدالة
2 - بأن يساق إلى محل الإعدام ويرفع على صقالة ثم يسحب ثدياه ولحم ذراعيه وفخذيه ورجليه بكلاليب، أما يده اليمنى فيمسك بها السكين التي حاول بها قتل الملك وتحرق بالنار والكبريت، وأما الأقسام التي جز لحمها فيصب عليها الرصاص الذائب والزيت الحامي وصمغ البطم الحار والشمع والكبريت ممزوجة جميعها معاً
3 - بأن يشد بدنه أربعة أحصنة وتقطع أطرافه ثم تحرق بالنار حتى تصير رماد تذرى في الهواء
4 - بأن تصادر جميع أرزاق المحكوم عليه وأملاكه في أي مكان كانت لحساب الملك
5 - تأمر المحكمة بأنه قبل هذه الإجراءات يحال المجرم داميان إلى التحقيق العادي وغير العادي (التعذيب) ليقر بشركائه في الجريمة
6 - وتأمر أيضاً بتدمير البيت الذي ولد فيه المجرم داميان، أما الذي يملك هذا البيت(276/55)
فيعوض عنه، على ألا يحق له في المستقبل أن يقيم مكانه بناء آخر
وبينما كانت المحكمة تقرأ الحكم كانت الاستعدادات لتنفيذ الحكم قائمة في محل الإعدام
وفي الثامن والعشرين من الشهر صباحاً أخرج داميان من سجنه وسيق إلى غرفة في الطبقة السفلى من (الاوتيل ده فيل) محمولا على أيدي الشرطة في نوع من الحقائب اللينة التي تصنع من جلد بعض الحيوانات والتي لا تسمح لغير الرأس بالظهور، ثم أخرج منها وأركع وتلى عليه الحكم، وقد لوحظ أنه كان مصغياً بانتباه إليه، ثم انفرد به خوري كنيسة القديس بولس في وسط المكان بضع دقائق انسحب بعدها الخوري وشرب داميان جرعة من الخمر وضع بعدها في الحقيبة المذكورة مرة أخرى ونقل إلى غرفة التعذيب حيث هناك المحققون مفوضا الشرطة، والرئيسان موله وموبو، والمستشارون رولان وباسكيه وسه فهر، فجرى استنطاقه من جديد.
وحينئذ أحاط به منفذو الحكم وألبسه الجلاد الخف وحين ضغط على الزاوية الأولى أجبرته على الصراخ الشديد، فأقر بأن الموسيو (غوتيه) وكيل عضو في البرلمان والمسيو (له متر) الذي كان يسكن في شارع الماسونيين هما اللذان دفعاه إلى الجريمة. فصدر الأمر في التو بتوقيف هذين الشخصين.
وعندما ضغط على الزاويتين الثانية والثالثة صاح من جديد صيحة ألم، وفي الرابعة طلب العفو. ولما وصل المتهمان الجديدان (غوتيه) و (له متر) واجهوهما بداميان فرجع عن إقراره عنهما. فأعيد إلى العذاب ثانية وضغطوا على الزاوية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة من الخف، وهنا أعلن الأطباء الجراحون بأن المجرم لم يعد في طاقته تحمل تجربة جديدة، وقد دام التعذيب ساعتين وربع الساعة.
ولما دقت ساعة القصر الرابعة تقدم (جيرائيل سانسون) من المسيو (غه ره) والمسيو (مارسيللي) وقال لهما إن ساعة التنفيذ قد حانت. ومع أنه تكلم بصوت خافت فقد سمعه (داميان) الذي دمدم بصوت مخنوق (نعم بعد قليل يخيم الليل) وبعد فترة قال: (أواه، غداً يكون نهاراً لهم).
وحينما وصل (داميان) إلى أسفل الصقالة طلب أن يكلم مفوضي الشرطة فحمل إلى (الأوتيل ده فيل) حيث استدرك من جديد الاتهام ضد (غوتيه) ثم أوصى المسيو (باسكيه)(276/56)
بزوجته وابنته.
وفي الساعة الخامسة أنزلوه إلى الميدان ورفعوه فوق الصقالة ثم نزلوا وربطوا كل طرف من أطرافه بمجر حصان، وكان لكل حصان مساعد يمسك بلجامه، وآخر وراءه يمسك سوطاً، ووقف الجلاد وأعطى الإشارة، وعندها وثبت الأحصنة الأربعة بقوة شديدة وفي اتجاه مختلف فسقط أحدها، ولكن جسم الشقي لم يتقطع، فأعادت الأحصنة الكرة ثلاث مرات وفي المرات الثلاث كانت تتقهقر أمام صلابة الجسم.
ولهول المنظر أغمي على الخوري، وكان المتفرجين في ذهول وذعر عميقين، ثم تعالت الأصوات من كل جانب بصورة مرعبة.
وعندها صعد الجراح (بوير) إلى (الأوتيل ده فيل) وطلب إلى مفوضي الشرطة أن يضربوا المحكوم عليه بالساطور على مفاصله فصدعوا بالأمر.
وأخيراً فصلت الأطراف وخرجت من جميع الصدور تنهدات عميقة وتنفسات حارة.
ولكن الواقعة لم تنته، فجمعت الأطراف الأربعة والجذع وجمعوا كومة من الحطب، ثم ارتفع اللهيب فيها.
حلب
مفيدة إسماعيل اللبابيدي(276/57)
رسالة الفن
شيء من فلسفة الموسيقى
للدكتور أحمد موسى
إذا انحصرت فلسفة الموسيقى في تفسير جمالها وإيضاح التأثر بسماعها أمكننا أن نعتبر التمتع النفسي بهذا السماع أهم عنصر مكون لجمالها الذي هو بدون شك جزء من الجمال العام
وإذا كان جمال الفن المكاني منحصراً فيما يمكن رؤيته، أو ما يمكن لمسه، كان جمال الفن الزماني منحصراً فيما يمكن سماعه
وعلى ذلك يكون التأثر بهذا المسموع وقياس القدر الفعال في نفسية المستمع هو موضوع فلسفة الموسيقى
ومعنى هذا أن نقد وتحليل ما نسمعه منها على قاعدة الأسمى والأجمل والأروع هو الغرض الأول من التفلسف الموسيقي
وإذا كان أثر الجمال هو دخول السرور المطلق على النفس نتيجة المشاهدة، كان أثر الموسيقى السامية الجميلة الرائعة نفس السرور المطلق نتيجة هذا السماع
ولا يخرج السرور هنا عن معنى الارتياح والرغبة في الاستزادة دون رد فعل يُشعر بالخيبة أو الضجر، حتى ولو كانت القطعة الموسيقية تمثل الحزن والألم؛ لأن هذا ما تصادفه أحياناً في المشاهد الطبيعية التي تكون ثورة بركانية، أو اصطدام غيوم نشأ عنه برق ورعد، أو مطر غزير لا يبعدها عن الجمال الذي يمكن للفنان أن يتأمله ويتأثر به دون رد فعل
فالألحان الموسيقية تكون تارة ممثلة لحلاوة اللقاء، وأخرى لمرارة الفراق، وغيرها للذة الانتصار، أو لقساوة الانهزام، وما إلى ذلك من مختلف النواحي التي يتصيدها الفنان بفنه
وعلى هذا القياس يمكن اعتبار كل ما يلفت الإرادة الشخصية إلى السماع دون إرغام موضوعاً من موضوعات الموسيقى - على أني لا أقصد بالسماع مجرد الإنصات، بل السماع المشفوع بالتفكير والفهم والتقدير والتأثر؛ إذ عندئذ نجد العقل مفكراً لتكوين حكم معين على ما يسمعه، بعد قياس درجة تناسب الأصوات وانسجام أجزائها المكونة للقطعة،(276/58)
وأخيراً لاتحاد الهارموني فيها
والموسيقي الفنان الذي يعبر عما يجول بنفسه الثائرة هو ذلك الذي يدرس الطبيعة في مختلف مظاهرها ويتأملها فلا يقنع بما فيها فيشقى؛ ثم يجدُّ في الوصول إلى غايته راغباً التعبير عما يتغلغل في نفسه من جمال كمالي يعتقد بوجوب ظهوره فيعجز، ثم يقنع بتقليد ما فيها إلى حد ما، في أصوات يخرجها للناس، متوخياً الوصول إلى ذلك المثل الأعلى الذي لا يخرج عن كونه الظمأ نحو الخلود.
والمثل الأعلى مما لا يمكن وجوده أو رؤيته أو سماعه، ولهذا فهو غاية نسمو إليها بالخيال الذي يعبر عنه الفنان الموهوب بما نسميه الوحي أو الإلهام وما يسميه الجميع الخلق الفني
والفن روح خفية تسكن نفس الفنان فتبعث فيه عينين قادرتين على النظر لا كما يرى الجميع، بل على ذلك النظر التقديري الذي يتعرف به الجمال أينما كان، وأذنين قادرتين على السمع لا كما يسمع الناس، بل على السمع الدقيق الفائق الذي به يستطيع التفرقة بين ما هو سام وما هو غير سام. لذا وجب أن يكون الموسيقي رجلا تمثلت كل قواه في عينيه وأذنيه، فبالعينين يتلمس الجمال المشاهد، وبالأذنين يتلمس الجمال المسموع، فيخرج للناس ما لا غنى لهم عنه، ألا وهو الخلق الموسيقي السامي
والأصل في الخلق الموسيقي السامي هو حاسة النظر بلا شك لأن بها يتأثر الفنان - موهوباً كان أو ملهماً - بما في الحياة، وتكون نتيجة هذا التأثر القدرة على الخلق الفني، وعلى ذلك نرى الفنان دائم التأمل الذي يعود عليه بالبؤس - غالباً - فهو أشبه بالفيلسوف الذي لا يقنع بما يراه أو يسمعه؛ فيقضي حياته عاملا مكملا قدر استطاعته، ولكنه يفنى دون أن يصل إلى ما تصبو إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت على نفوس المجموع بصفاء النظر ودقة التأمل والدرس والتغلغل في كنه المرئيات والمسموعات وأخيراً بالهيام والمقدرة الهائلة على تفهم الجمال المطلق. كل هذا متجمعاً يكون لك تلك النفسية البريئة الهادئة الوديعة، نفسية الفنان.
يقول أرسطو إنه لا ينبغي أن يقف الغرض من الموسيقى عند حد التلهية والتسلية، لأنها من أهم وسائل التهذيب الأخلاقي ومن خير طرق العلاج الفعال البطيء لتنقية النفس من عيوبها المتأصلة(276/59)
وقد التفت إلى هذا رجال التعليم في العصر الحاضر فأخذوا ينشرون الموسيقى في دور التهذيب، أما فيما يتعلق بعلاج الأمراض فقد دلت آخر الأبحاث على فائدة الموسيقى إلى حد أدهش العلماء.
وثبت أن الألحان ذات أثر مختلف في مستمعها الفاهم لها، فمنها ما يؤثر تأثيراً هادئاً يعقبه نوم عميق، ومنها ما يوقظ ويبعث نشاطاً عجيباً. ولا أدل على ذلك من تأثير قطعة أيرل كوينج ليبتهوفن على مرضى الميلانخلولي، أو قطعة تانهويزر لفاجنر، أو قطعة الافتتاحية لميستر زنجرن اللتين تلائمان مرضى الغضب السريع
ودلت تجارب عدة على أن الدورة الدموية تتأثر أيضاً بالموسيقى إلى حد أنها تنتظم وتصل إلى المستوى الطبيعي
وجد الدكتور تراخانوف أن الموسيقى السهلة تساعد على تنشيط العضلات الضعيفة، على حين لاحظ أن الموسيقى المدرسية (كلاسيك) لا تؤثر هذا الأثر؛ بل على النقيض تكسب العضلات شيئا من التراخي
والعناية بأمر الموسيقى في علاج الأمراض قائمة على أشدها في ألمانيا - بلاد العلم والفن والمدنية - حتى لنرى أن أعظم جامعة فيها وهي جامعة برلين قد منحت دكتوراه الشرف للموسيقي المغني ماكس ريجر الذي أثبت أن المعالجة بالموسيقى ذات أثر قيم قائم بالدليل في معالجة الأمراض النفسية
من كل هذا نرى أن الموسيقى هي إحدى نعم الله التي منحها خلقه العاقل المعذب، والتي بها يستطيع أن يبعد عمل الشيطان من نفسه، ويلتفت إلى ما في الوجود من جمال يدل على قدرة الخالق وعظمته
ولعل الشاعر شكسبير لن يبالغ بقوله في رواية روميو وجوليا (1593) أن الموسيقى بلسم القلوب الجريحة ونعيم العقول المتعبة، إذ بصوتها الفضي يكتسب القلب بهجته والعقل راحته
وإذا رجعنا إلى كتاب شوبنهاور (الدنيا كإرادة وتصور) نجد فيه الفيلسوف يقول إن أحسن موسيقى وأسماها هي تلك التي لا نستطيع وصف أثرها في نفوسنا عند الاستمتاع بها، حيث تذهب بنا إلى جنة الخيال البعيد عن مرارة الحقيقة الراهنة(276/60)
أما جوته (1827) فقد وجد أن الموسيقى تعاصر الإنسان منذ خلقه، قديمة بقدمه، تناسبت مع نفسه وروحه وشاعريته ووجدانه، فتطورت بتطوره. ويؤمن بأن الإنسان قد يستمع لموسيقى جديدة فلا يطرب لها لأول وهلة وذلك لعدم تفهمه إياها (قصد موسيقى فاجنر)، أما بعد أن يألفها فإنه يجد استمتاعه بها متناسباً مع تفهمه لها، حتى يحين الوقت الذي يجدها فيه خير معَّبر عن مثله الأعلى في ناحية من نواحي وجدانه، ألا وهي ناحية العاطفة السامية والحس الدقيق
وهذا تفلسف اتفق مع الواقع، ولا سيما أنه اشترط في الموسيقى أن تكون متناسبة مع عقلية الإنسان وتفكيره ودرجة فهمه وتمدنه، فقد ترى السذج يطربون لموسيقى لا انسجام فيها ولا طرب؛ على حين تجد أولئك الذين أنعم الله عليهم بنعمة العقل وسمو المشاعر لا يطربون إلا لما أخرجه الفنان الموهوب الذي أمكنه التعبير عن حب دفين لا نهائي للخالق جلت قدرته في أصوات منسجمة متوفرة الارتباط، تسمو بالمستمع إلى ملكوت مقدس بعيد كل البعد عن الطرب المصطلح عليه في الشرق
أحمد موسى(276/61)
رسالة الشعر
التمثال الحي
للأستاذ إبراهيم العريض
سكنتْ في الطابقِ المُظ ... لمِ من دارٍ سويَّه
غادةٌ لا تملكُ القُو ... تَ. . . وبالحُسنِ غنيه
هيَ في الأسمالِ لكنَّ ... لها رُوحًا ذكية
سلبتْها كلَّ شيءٍ ... ثَورةٌ إلا التقيه
تَتلوّى كلّما أب ... صرَتِ الدارَ خليه
أينَ عنها أبَواها ... في ظلامِ الأبدية
وأخُوها جَدّلتهُ ... في الوغى كفُّ شقيه
فثوى والعَلَمُ الخا ... فِقُ يَلوى بالتحيه
كيفَ لا تَبكِي وهل أب ... قَى لها الدهرُ بقيه
خرجتْ تعثر في الذَّيْ ... لِ إلى جار قريبِ
عاشَ بينَ الناسِ في عُز ... لتِه مِثلَ الغريب
وخطَ الشيبُ عَلى جبْ ... هِته شِبهَ النُدوب
أينَ في الدهرِ فؤادٌ ... لم يُرّوع بالخُطوب
وأتتهُ وهْوَ في مع ... مَلِه جِدٌ دَؤوب
ينحتُ الجِسمَ من الصَخْ ... رِ فَيأتي بالعجيب
ورآها وهي في الأسْ ... مالِ تمشي كالمُريب
ومِن الجُوعِ على الخدّ ... يْنِ آثارُ شُحوب
فاثني يرمِقُ ذاكَ ال ... حُسنَ في صمتٍ رهيب
ودَنا من جسمِها المحْ ... مُومِ لكن بفُتُوَّه
ما لَها لم تضطرِبْ مِن ... هُ ولا خافت دنُوه
إنَّ في عينيهِ. . لا غض ... هُما. . . نورَ النُبوّه
مِن هُواةِ الْحُسنِ للفَنّ ... وإن غاَلى غُلوه(276/62)
وأحسَّتْ كفَّهُ تن ... تزِعُ الثَوبَ بقُوه
فأرادتْ سِترَ نهْدَي ... نِ حياءً ومُروه
(إنّني أُنثى. . . ألا تش ... عُر أنّى فَوقَ هُوّه)
قالَ (كُفِّي - أنتِ من شَيْ ... بىَ في ظِلِّ الأبوة
لَو تَجَرّدْتِ سَما الفَنُّ ... بِعطَفْيكِ سُمُوّه)
فَرَمتْ ما كانَ لا يَسْ ... ترها إلا قليلا
ثمَّ قالت (ومَتى تُط ... عِمُني). . . قالَ (أصِيلا)
وجثَتْ بينَ يديْهِ ... في تَعريِّها طويلا
وهْوَ لا يُنكرُ مِن قا ... مَتِها إلا النحُولا
فانحَنى يمتحِنُ الجِسْ ... مَ فُروعاً وأصُولا
إنّ في إطراقِها مُغمِضةً شَيْئاً مَهُولا
ثمَّ لّما سَمِعتْهُ ... فاهَ بالحُكم جميلا
نهضَتْ تبْسمُ في الدَمْ ... عِ وقدْ سَالَ مسيلا
(هلْ لِهَذا الحُسْنِ أن يخ ... لدَ بي جِيْلا فجِيلا)
وقفت عارِيةً بَيْ ... نَ التماثِيلِ كَدُرَّه
تحمِلُ الثَغْرَ على الضِحْ ... كِ وفي العينَيْنِ عَبره
ومضَى يقدِرُ بالازْ ... مِيلِ في المَرمر قَدرَه
لَمْ تُحاوِل قَطّ أنْ تَثْ ... نِيَ جِيداً فتَضُرَّه
لبَثتْ في وَضعِها ذَ ... لِكَ يَوْمًا مُستمِرّه
إنَّهُ يعملُ للفَنِّ ... . . . وهَل فِيهِ معَرّه
هِيَ لوْلا الجُوع لمْ تَر ... ضَ بأن تَصبِرَ صَبرَه
وهْوَ في عالَمِه. . . لَو ... يُدْرِكُ العالَمُ سِرَّه
نظرةً يُلقِي عَليْها ... وعَلَى المرمَرِ نَظْره
ماَلتِ الشمسُ إلى الغَر ... بِ ومَا زالَ مُجِدّا
واستَحَالَ المرْمرُ المس ... نُونُ حتى صارَ قَدَاً(276/63)
فانحَنتْ مِن كفَّها أن ... مُلةٌ تُسْنِدُ خدا
فانجَلى الصَدرُ وفَوْقَ ال ... صَدرِ شيءٌ يتحَدى
واستدارَ البَطنُ في طَيَّ ... تِه أحسَنَ جِدا
قالَ (لولا الجُوْع لم يَبْ ... لُغْ مِن الغَادةِ حدا)
ثمَّ مَدَّ الراحةَ اليُم ... نَى عَلَى الفَخْذَينِ مدا
فأطالَ الساقَ حتى ... شارفَت في الكَعبِ ضِدا
وبَرَاها قدَماً يَحْ ... لُو لها أن تَسْتَبِدا
ودَجَا الليلُ. . . فلم يُلْ ... قِ إلى الغادَةِ بالا
غايَةُ الفَنَّانِ أن يَب ... لُغَ بالفَنّ كمالا
فطَوَي الشَعْرَ على الرأ ... سِ كمَوْج يتوالى
فجَلا الجَبْهةَ غَرا ... َء كمِرآةٍ تَلالا
فأرَى لمحَةَ عينَي ... نِ تُطِيلاَنِ السُؤالا
فلوى في جانِب الأُذْ ... نِ مِنَ الصُّدغ هِلالا
وَأقامَ الأنفَ كالإبْ ... رَةِ حُسناً واعتِدالا
ثمَّ لما جاَء للثَغْ ... رِ رَأى فيهِ احتِمالا
قالَ (لو يَفترُّ هَ ... ذَا الثَغرُ لازدادَ جمالا)
وإذا بالصوتِ. صوت ال ... دِيكِ صُبحاً يَتَعَالى
تمَّت الدُمْيةُ لا يَن ... قُصها غَيرُ الحِوارِ
فانثَنى يضْحَكُ للغا ... دةِ في شِبْهِ اعتِذار
(أُنظُري صُنعَ يَدي فَهْ ... وَجدِيرٌ باعِتبار)
(إنّها مُعجِزةٌ خا ... لِدَةٌ مِثلَ النهار)
ورآها لم تُحَرِّك ... شفَةً. . . والجِسم عار
فدَنا منها وفي أَض ... لُعِهِ جَمْرةُ نار
وإذا بالَخْودِ في مَو ... ضِعِها مِثلَ السَوَاري
جسَدُ مِن غَير رُوحٍ ... مُستمِر في انتِظار(276/64)
إنّمَا الثَغرُ كما يَهْ ... واهُ في حالِ افتِرَار
وانحَنى بَيْنَ يديَهْا ... باكياً سُوَء مآلِهْ
وطَوَى حاشيةَ الثَوْ ... بِ علَيها في اعتِلاله
(أنا أدعُوكِ. وهل يَسْ ... معُ مَيتٌ صَوتَ واله)
(أنا أفديكِ. وهل يُجْ ... دِيكِ شَيْبي في ابتهاله)
ثمَّ ألقى نظْرَة حا ... ئِرَةً نحْوَ مِثاله
فرآهُ يُحدقُ الطرْ ... فَ ولا يَرثى لحاله
فأتى في اليأسِ أَمْراً ... لم يكُنْ قَطّ بباله
إذ رَمي قِطعَةَ صَلْدٍ ... شَوَّهَتْ بَعضَ جماله
ومضَى يَعثِرُ بالشي ... ءِ ويَهذي في اختِباله
وقفَ العاِلمُ ما بَيَ ... نَ الجَماهيرِ خطيبا
قالَ (ترَوِى بعثةُ الشَرْ ... قِ لنا أمراً عجيبا
بينَما كانوا يجوبو ... ن الصَحاريَّ جَنُوبا
عثَرُوا فيها بتمثا ... ل سَأَجْلوه قريبا
يَعلمُ اللهُ لئِن أُلْ ... فِىَ في الزَنْدِ مَعيبا
فهْوَ ما زالَ على العَيْ ... بَةِ يستدمِي القلوبا
إنَّهُ أجملُ تمثَا ... ل لحسناَء أُصيبا
وأزاحَ الِسترَ عنهُ ... فاستهلَّ الكلُّ طُوبى
خَلّدَتْ في المْرمَرَ الص ... دِ يدُ الفَنِّ حَبِيباً
(البحرين)
إبراهيم العريض(276/65)
بمناسبة المؤتمر البرلماني الشرقي
يا لله لفلسطين!
للأستاذ احمد فتحي
مَرْحباً بالنشيدِ بعدَ النَّشيدِ ... يهبطُ الأرضَ مِن سَمَاءِ الْخُلودِ!
مَرْحباً بالبيانِ أسْوانَ جَهْماً ... يبعثُ العَزْمَ في الأباة الصِّيدِ!
مَرْحباً بالرَّوائع الغُرِّ، تحكي ... وامِضَ البَرْقِ في الليالي السَّودِ!
فَتْيَةَ العُرْبِ قد دَعَوْتُمْ فلبَّا ... كُمْ على قَدْرِ ما استطاعَ قصِيدي
غيرَ هذا البيانِ أَخطأَ جَدِّي ... وكذا الشعرُ، خصْم تُلكَ الجُدودِ
نحنُ نَشْقَى به وتَسْعَدُ دُنيا ... تَنْتَشِي بالنشيد بعدَ النَّشِيد!
إنَّ لِلْفَنِّ نَشْوَةً لا تُسَامَى ... أَزْهَدَتْ في عُصَارَةِ الْعُنْقُودِ!
كم غَفلْنا بها عن الزَّمَنِ العا ... بثِ بالخَلْقِ في فُتُونِ الوَليدِ!
وصَحَوْنا على الأغاريدِ نَشْوَى ... والوَرَى في مناحَةِ التَّنكيدِ
ما انتفاعي بِقَافِياتٍ وِضَاءِ ... تُشْبِهُ الدُّرَّ في نِظامِ العُقودِ؟
ليتَ هذا القَريضَ يجري جُيوشاً ... من كِرَامٍ أَصائِلٍ وجُنودِ!!
يَنْصُرُ الواهِنَ الضَّعيف ويُوهِي ... عَزْمَةَ الباطِش الغَشُومِ العنيدِ
لَهْفَ نَفْسِي عليكِ يا حَوْزَةَ الَمقْ ... دِسِ ضُيِّعْتِ في البلاءِ الشَّديدِ
ما لأَِضْيَافِكِ الَّلئامِ يَلُوذُو ... نَ بِفَرْطِ اْلأَذَى، وفَرْطِ الجُحُود
رَوَّعَ الشَّرْقَ أَن دَهَاكِ اقْتِسامٌ ... هل يُبَاعُ السَّادَاتُ بَيْعَ الْعَبِيِدِ
لا رعاكَ الزَّمَانُ يا (وَعْدَ بَلْفُو ... ر) ولا فُزْتَ مِنْهُ بِالتَّخْلِيدِ!
طُرَدَاءُ الشُّعُوبِ غَالوا بلاداً ... كانَ تاريخُها شبابَ الوُجُودِ
(أُرْشَلِيمُ) العُلَى تَرَامَى بها الخَطْ ... بُ ودَوَّى في كُلِّ مَرْمًى بَعِيدِ
لَهْفَ نَفْسِي، وشَدَّ مَا حَزَّ في النَّفْ ... سِ اقْتِحَامُ الكلابِ غابَ الأسُودِ
لَهْفَ نَفْسِي على الصِّغَارِ تَرَامَى ... بهِم الْيُتْم في زَمَانِ الكُنُودِ
لَهْفَ نفسي على نُوَاحِي البَوَاكِي ... والخَلِيُّونَ دُونَهُمْ في هُجُودِ!
لَهْفَ نفسي على الشُّيوخِ ضِعَافاً ... بين نارٍ مشبوبةٍ وحَديدِ!(276/66)
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى الملاحِ وَكَمْ فِي ... هِنَّ مِنْ حُلْوَةِ المفاتين رُودِ!
لَهْفَ نَفْسِي لِفَاجعِ الخَطْبِ يَمْتَدْ ... دُ ذُبُولاً إلى وُرُودِ الخُدُودِ
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى المْدَامعِ تَجْرِي ... فَتُرَوَّى بها ظِماءُ البِيدِ!!
مَرْحَبَاً بِالْوُفُودِ بعدَ الْوُفُودِ ... والْحَشِيدِ النَّبِيلِ بَعْدَ الحشيدِ
مَرْحَبَاً بالْكِرَامِ مِنْ آلِ عَدْنا ... نَ اطْمَأَنَّتْ جُمُوعُهُمْ في صَعِيدِ
مَرْحَباً بالْخِفافِ نحو المعالي ... والبهاليلِ في سَخَاءٍ وَجُودِ
دونكم مصر فانزلوا من رُباها ... كلَّ رَوْضٍ، وكلَّ ظِلٍ مَديد
وارشفُوا السَّلسَبِيلَ مِنْ نيلها السَّمْ ... حِ خصيب الضِّفاف عَذْبَ الورودِ
وانْعَمُوا بالنَّسيم في ضفَّتَيْهِ ... إذ يُحَيِّيكمو بِثَغْرٍ بَرُودِ!
شاوِرُوا فتيةً بمصرَ تَسَامَوْا ... لذُرَى المجد، في كفاحِ مَجيدِ
عاونوُهْم على بَقَاءِ فلسطي ... نَ، بِمَنْجىً مِن فاجع التَّهويدِ
مَهْبِطُ الْوَحْي والنُّبُوَّاتِ أَوْلَى ... مِنْ حُمَاةِ التُّرَاثِ بالتأييدِ
أجمعِوا أمْرَكم عَلَى نصرَةِ الح ... ق تُعيدوا جَلالَهُ مِنْ جديد!
آهِ يا أورشليمُ لو كنتُ أسْطي ... عُ لحطَّمْتُ ما أَرَى مِن قُيودِ
عَلِمَ اللهُ كم أَرِقْتُ الليالي ... لَكِ، بينَ الدُّمُوع والتَّسْهِيدِ
مُستطارَ الْجَنَانِ أَدْعُو لَكِ الله ... بِقُرْبِ الْخَلاَص والتَّسْدِيد
وأصوغُ القريضَ فيكِ عقوداً ... مِن بَيانٍ نَدٍ ودُرٍ نَضِيدِ!!
(القاهرة)
احمد فتحي(276/67)
البَريدُ الأدَبّي
الدكتور زكي مبارك والشريف الرضي
روى الأديب المشهور الدكتور زكي مبارك في مصنفه (عبقرية الشريف الرضي) هذا البيت للرضي:
والحظوظ البلهاء من ذي الليالي ... أنكحت بنت عامر من ثقيف
ثم قال معلقا: (لما ظهر ديوان زكي مبارك اعترض بعض أدباء العراق على هذا البيت:
لم تنسني فتنة الدنيا وزينتها ... ما في شمائلك الغراء من فتن
وقالوا لا توصف الشمائل بأنها غراء، وإنما توصف بأنها غر، وأطالوا الجدل في مجلة أبوللو، واشترك الأب أنستاس في الجدل، وعارضنا معارضة شديدة في منزل الدكتور بشر فارس، والآن نرى الشريف يصف الحظوظ بأنها بلهاء لأبله، فلينقل العراقيون المعركة إلى شاعر العراق)
قلت: ألا يرى الدكتور أن في البيت خطأ ناسخ أو طابع وأن الرواية الحق هي:
وحظوظ البلهاء من ذي الليالي ... أنكحت بنت عامر من ثقيفِ
فإذا ثبتت هذه الرواية - وهي عندي ثابتة - فقول حضرة البحاثة (الأب أنستاس ماري الكرملي) في (فعلاء أفعل) صفة لجمع - هو القول. وظهير القسيس الفاضل في مذهبه هذا - كتاب الله وحديث نبيه (صلوات الله وسلامه عليه) والأقوال العربية الموثوق بها قاطبة
والأب أنستاس هو أول من نبه على هذه النكتة اللغوية المهمة في هذا العصر
في القصيدة التي منها ذلك البيت هذان البيتان المحكمان:
أمهِل الناقصون واستعجل الده ... ر بسَوقٍ للفاضلين عنيفِ
من يكن فاضلا يعش بين ذا النا ... س بقلب جَوٍ، وبالٍ كسيف
القارئ
مكتبة التلميذ
أخي الأستاذ الزيات
أقدم إليك والى قراء الرسالة ما يأتي:(276/68)
قد يتفق لبعض مفتشي اللغة العربية أن يلاحظوا أن مكتبات المدارس الابتدائية والثانوية لا يوجد فيها من الكتب العربية غير المراجع أو ما لا ينتفع به في الأغلب غير الأساتذة وكبار الطلاب
وقد فكرت مرات فيما ينتفع به التلاميذ والطلاب من أطايب الأدب الحديث، ولكني خشيت ألا أشير بغير الاعتماد على مؤلفاتي ومؤلفات أصدقائي، فما رأيك إذا استشرنا أفاضل الأدباء من قراء الرسالة في اختيار خمسين كتاباً من الأدب الحديث تزود بها مكتبة التلميذ في المدارس الابتدائية والثانوية؟
أرجو أن يتسع المجال لقراء الرسالة ليجيبوا في نزاهة وإخلاص، فقد يكون في أجوبتهم ما ينتفع به المدرسون في تكوين مكتبة التلميذ
زكي مبارك
حول كلمة اللقاء
صديقي الأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة:
تحية واحتراماً. وبعد فإني أحسبك لم تنس بعد كما لم ينس الأستاذ الفاضل باحث الفالوذج في الرسالة أنه سألني بحضرتك من شهر مضى تقريباً عن كلمة (الُّلقاء) التي جاء بها أبو العلاء في كلام له في كتابه (الفصول والغايات) ثم فسرها بالفالوذج وأنه متشكك فيها، فذكرت له أنها وردت هكذا في نسخة الأصل وهي نسخة جيدة وأني طلبتها في كل مظانها فلم أجدها. وقلت له إن أبا العلاء ربما وجدها فيما وقع له من الكتب التي لم تصل إلينا، ورجحت أنت صحتها للمجانسة اللفظية بين كلمتي (يُلقى) و (لقاء) التي كان أبو العلاء يحرص على أمثالها
هذا ما عندي، وقد كنت أنتظر منه أن يقول (فلست بمنكره في يوم من الأيام) ثم يعقب عليه بما يشاء
محمود حسن زناتي
حول تيسير قواعد الإعراب
حضرة الفاضل الأستاذ (أزهري)(276/69)
نعم يا سيدي الفاضل، إن من مميزات عصرنا الحاضر هو كما تقول: (التهم التي تكال جزافاً) دون دوية ولا إمعان.
وهذه أيضاً من تأثير السرعة التي اقتبسناها ولم نحسن استعمالها. فإن النفوس التي تتهمها (بالجهل والجمود والجحود) تفهم السرعة في المواصلات والسرعة في الإدراك - وسرعة الخاطر -
ولكنها قاصرة عن فهم السرعة في الحكم والدرس والإصلاح خصوصاً إذا تعلق هذا الإصلاح بمستقبل قواعد لغة عدة شعوب وملايين من الناس.
إن (نفسي الجاهلة) لتأخذ على أستاذها الفاضل سرعة الحكم؛ فقد كان من السهل عليه لو تأمل قليلاً أن يدرك أن ليس في ردي عليه استفزاز ولا خلط. ولكني نسبت ما في القواعد من تعقيد وصعوبة إلى المدرسين القائمين بتلقينها للنشء لا إلى نقص في القواعد نفسها. ثم أخذت عليه تغيير الإعراب وبقاء القواعد كما هي، وفي هذا من الخلط والتعقيد ما هو بريء من التيسير. فإذا قلنا مثلاً إن حرف الجر مجزوم وجب أن نحذف من كتاب القواعد أن الحروف مبنية. وإذا سلمنا أن الفعل الماضي منصوب وجب حذف باب (بناء الأفعال). وهكذا يجب تغيير وحذف كل القواعد التي لا تتمشى والأعراب الجديد. وإن كان ذكر النون في جمع المذكر السالم (حشواً لا داعي إليه) فلا أرى ما يمنع حذفها. والمعقول أن ما يعتبر حشواً يمكن الاستغناء عنه. وكما قلت سابقاً إن عملية التيسير أخطر من أن تتم بهذه السرعة، وإننا مسئولون عما نأتيه من تغيير في قواعد اللغة التي ثبتت أجيالا مضت ولم نثبت بعد خطأها ولم نأت بأحسن منها.
لقد طالعت أبحاث أستاذنا المحترم بكل تؤدة وإمعان، ثم بينت لكل اعتراض سبباً منطقياً يقره العقل والفهم. فأين إذن الخلط والسهو من كلامي هذا؟؟ ولو تفضل الأستاذ المحترم وراجع مقالي السابق لوجد أنه مختص بالبحث في عملية التيسير من ناحية صلتها بالنشء. ولا يخفى على الأستاذ الفاضل أن فكرة التيسير لم تنشأ إلا لتسهيل درس قواعد اللغة للطلبة بعد أن لوحظ شدة ضعف المتخرجين في الدراسة الثانوية والجامعية.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أشكركم لما نسبتموه إليَّ من جهل. فإنه لفخر لي أن يتهمني عالم جليل بالجهل.(276/70)
أمينة شاكر فهمي
من المرحوم زكي باشا إلى المرحوم الرافعي
كنت رأيت على مكتب المرحوم الرافعي في سنة 1933 طائفة
من أوراق مخطوطة حدثني هو عنها أنها معجم يؤلفه زكي
باشا وبعث به إليه يستعينه عليه؛ وقد وقعت لي الرسالة الآتية
بين ما خلف الرافعي من رسائل أصدقائه، بخط المرحوم أحمد
زكي باشا، فرأيت أن أنشرها على قراء الرسالة. وهذه الرسالة
مكتوبة على ورقة مستعملة ممزقة الأطراف، يظهر أنها كانت
غلاف رسالة إليه عليها خاتم (حلب)، والمعروف عن المرحوم
أحمد زكي باشا أنه كان يكتب ما يريد أن يكتب على ما تيسر
له من الورق ولو كان ورقة ممزقة من سلة القمامة!
سعيد العريان
عزيزي الأستاذ الرافعي:
كنت كتبت خلاصة وافية عن حرف الألف لوضعها في أول باب الهمزة، ثم عنَّ لي أن أرسلها لرجل في حلب عرفت تعمقه في النحو، وإذا به أعادها إلي مع مقالة أخرى تدل على شدة تقعره، وفاته أن الغرض هو الإلمام بكل أحوال الألف بلا شرح إلماماً قاموسياً
أرجوك نظر المقالين واختار أحدهما مع التنقيح أو التصحيح أو الحذف والزيادة كما تراه، وإبقائه عندك إلى حين رجعتي من الإسكندرية وسلام الله عليك من المخلص
أحمد زكي(276/71)
تدريس اللغة العربية في فرنسا
جاء في بلاغ من وزارة التربية الوطنية أنه أنشئ فرع لتعليم اللغة العربية في مدرسة (سان لوي لي جران) في باريس ومدرسة (بيريه) في مرسيليا
وجاء في هذا البلاغ: أن اللغة العربية سبق أن قبلت على قدم المساواة مع اللغات الأجنبية لا في امتحانات البكالوريا والليسانس فقط بل في امتحانات المدارس العسكرية كمدرسة سان سير وغيرها
والأهمية المتزايدة لأفريقيا الشمالية في الاقتصاد والدفاع الوطني وحاجة فرنسا لأن تنشئ معها علاقات تزداد وثوقا مع الزمن، كل ذلك يعد من الأسباب التي تبرر التدابير التي اتخذتها وزارة التربية(276/72)
الكتب
عرض وتحليل
هكذا أغني
للشاعر محمود حسن إسماعيل
بقلم الأستاذ إسماعيل كامل
عندما أخرج الشاعر الأديب محمود حسن إسماعيل ديوانه (أغاني الكوخ) وكان لي حظ الاشتراك في حفلة تكريمه كان أهم ما دارت حوله كلمتي التكريمية أن الشاعر صادق الحس مشبوب العاطفة قوي الإيمان ينتزع الأخيلة من أطواء وجدانه في غير افتعال أو تعمل، وأنه يمثل الريفي المؤمن الصادق الأحاسيس الذي يقبس من جلال المناظر الطبيعية خير ما تختلج به نفسه الجياشة بحب كل ما هو طبيعي لا أثر للصنعة الزائفة فيه
وأخيراً جاء ديوانه الثاني (هكذا أغني) صورة صادقة تؤيد ما ذهبت إليه في كلمتي الأولى وتعزز تلك النظرة الصائبة التي لم تخب فيما خرجت به من دراسة شاعر الشباب النابغة
وأنا في هذا البحث العاجل أحب أن أنتزع من الديوان الأخير صوراً فاتنة تؤيد ما ذهبت إليه يوم قام الأدباء من الشباب يحتفلون بذلك القبس الباهر الذي كشف عن درر الشاعر الفذ
ميزة تفرد بها الشاعر محمود ولم يجر فيها على منوال كثير من شعراء كل مناسبة يأتي من ورائها الغنم والفائدة! تلك ميزة الوفاء لنفسه والإخلاص لمشاعره والاعتداد بشعره؛ فلم يكن يوماً بوقاً للظروف أو أداة للملابسات، بل ظل الشاعر الرفيع الإحساس المترفع بشعره أن يتلمس جوانب النفع ووجوه الاستغلال أينما ساقتهما الأقدار أو دفعت بهما الرياح وفي ذلك يقول الشاعر لمليكه:
للشاعرين بلاغة فضفاضة ... حشدت بلفظ في الحلوق مجلجل
وأنا الذي شعري نفاثة مهجتي ... سكبت جداولها بهمس السنبل
يوم الفخار سنلتقي. . . أنت العلا ... وأنا الصدى في ظل عرشك! فأصغ لي
أنظر إلى محمود الشاعر الريفي الذي يلوذ بأذيال الخمائل يقتطف منها شذا الزهور،(276/73)
ولحون الطير، ونور الصباح، وعبير الضحى، لتعينه على الهتاف للمليك إن عاونته تلك العوامل كلها على أن ينتمي لبلابل الخلد السواجع
وانظر إلى ذلك الشادي من أين يقبس قريضه. . من الطبيعة الوارفة ومن الأيمان الصادق:
شاديك من قصب الفرادس غايهُ ... ومن السنا والطيب عُل عناؤه
ومن الصَّبا نهلتْ حلالَ أراكةٍ ... سجواَء، نافجها غفت أنداؤه
ومن الطفاوة في أصيل خاشع ... سجدت على زهر الربا أضواؤه
ومن المساجد هينمت تحت الدجى ... صوفيُّها سجدت على زهر الربا أضواءه
ومن الشعاع المستهام بقبلة ... في النيل طهرها هوَاه وماؤه
ومن السنا الرقراق في قدح الضحى ... أغرى النديم فولولت صهباؤه
وشاعرنا كثير التبرم بالقلوب الغوادر وما جبل عليه الناس من فضول وتهاتر، ولكنه يرتد ساخراً هازئاً لاعتداده بنفسه، وعرفانه بقيمته وبفيض من حنانه على (الغراب) قسيمه في الحظوظ وصاحبه في الجدود وقرينه في تحامل الناس الظالم دون إثم يبرره:
وأنت - كمثلي - هارب من فضولهم ... جوابك للأكوان: إني ساخر!
فدعهم يلوكون الحديث، وأصغ لي ... فما منهم للسمع إلا التهاتر
سلاماً قسيمي في الحظوظ. . وصاحبي ... وقد أرخصت عهدي القلوب النوادر
عشقتك منذ النخل مد ظلاله ... عليَّ تغاديني وبه وتباكر
ويكاد يتفرد الشاعر محمود بقوته الهادرة وفتوته الفائزة في كل ما يقرض من النظم حتى حين يتحدث إلى موسيقى النقوش
ابعثي اللحن يدَّوي ... كيفما شئت وشاء
لن ترىْ في الأرض سمعاً ... يشتهي هذا الفناء
غير سجعي فهو من دن ... ياه في دنيا فناء
لكنه كغيره من الشباب إذا أحب وعف واعترضت العقبات سبيله راح يتفجع ويتوجع وإن كان لا يسف إلى درك التوسل والاستعطاف، بل يهدد وبتوعد. . يهدد بالجنون والانتحار والفناء
وانظري جذوة الهوى في خيالي ... وشحوب الفناء في نظراتي(276/74)
وتهاويل من بقايا جنون ... خلفتها الأحزان فوق سماتي
وبريقاً من الشباب المولى ... كهشيم الريحان فوق الرفات
منية أزهقت وأخرى تعايا ... والبقايا في الصدر منتحرات
أسرعي قبلما تغيب الأماني ... في دخان الهموم والحسرات
وتصيرين في الهوى قصة الغد ... ر وأسطورة على نغماتي
أسرعي قبل أن تموت الأغاني ... فتناجيك، بعدها مرثياتي!
وما أحسب الشاعر ينتوي ما يهدد به ولكنه يتوعد حبيبه بشر ما ترتاع له النفوس حتى ينطلق من محبسه ويثور على أغلاله وإلا ما قال بعدئذ:
حجبوك عن نظري وخلوا مهجة ... حيرى يجرعها الهوى أتراحه
وأنا الذي سأظل باسمك هاتفاً ... حتى يمد الموت نحويّ راحه!
حجبوك هل حجبوا نفاثة عاشق ... أضرى الغرام جلاده وكفاحه؟
متولع بهواك ما أغرى به ... بينٌ ولا فلَّ الفراق سلاحه
وهو ليس دائم الشكوى والنواح بل طالما ركن إلى الصمت القاتل وكبت مشاعره حتى لا يستذله الضعف وبعد أن صدف الناس عن الشكوى وتغافلوا عن الشاكين:
والناس. . لا ناس إذا خلجت ... عيني. . كأني في الحياة عَمِ
صدفوا عن الشكوى فلا أذن ... تصغي لما رتلت من نغم
حسبوا أنين القلب فلسفة ... عبثت بها أنشودة القلم
فتغالوا عني ولو علموا ... شربوا صباب الدمع من ألمي
أنت عاتبت على الصمت. . . فاسمع ... نغمات الجراح تحت الجنوب
أنا همس يموت في قلب ناي ... نبذته الرياح خلف الكثيب
أنا صمت الكهوف يهتز للوحي ... إذا هل في السكون الرهيب
وقصارى ما يقال في شاعرنا الفذ أنه ينتزع مادته في جميع الاتجاهات والأوضاع من الطبيعة الساحرة في صمتها وشجوها وتغريدها لا من التأثر الدراسي أو الاطلاع الفردي وحدهما، بل إنني كنت مع بعض الواهمين قبل أن أعرفه في أنه قد قبس كثيراً من معانيه البكر من شعراء الفرنجة الطبيعيين أمثال وردثورت وشيلي وبيرون.(276/75)
وشاعرنا قد جمع في وثبته بين القديم والجديد: فهو يمثل جزالة الشعر العربي الرصين وقوة أسلوبه ومتانة بنائه، كما يمثل الجديد في سلاسة معانيه، وطرافة موضوعاته وحداثة مراميه، فكان وسطاً حبيباً بين العهدين، وروحاً فياضة بين الجيلين وعلماً فرداً في توسط الاتجاهين.
وهو نسيج وحده في أغلب الموضوعات التي يطرقها لا يشبه فيها شاعر اللهم إلا في الموضوعات الاجتماعية التي يظهر فيها تأثير البيئة الواحدة في جميع الأقلام، وفي هذا يمثل الشاعر بيته وما يعتمل في أطوائها وما يشيع في أجوائها خير تمثيل.
وقبل أن أختتم كلمتي العاجلة أود أن ألمس المدى الذي بلغه الشاعر في ديوانه الأخير والخطوة الواسعة التي خطاها في أغانيه الأخيرة بعد أن انقضت أعوام ثلاثة على ديوانه الأول (أغاني الكوخ)
إن من قرأ للشاعر في ديوانه الأول حديثه الفطري عن (حاملة الجرة) ثم يقرأ قصيدة الرائعة عن (الغراب) في ديوانه الأخير يلمس عمق التأمل وغور الاستيعاب الوافدين على شعره الجديد وقد أضفيا على قريضه القوة والمضاء. كذلك يلمس القارئ في ديوان الشاعر الأخير مدى توسعه في الموضوعات الاجتماعية وشبوب عاطفته في الناحية الغزلية، وذلك الطهر الذي يهيمن على مشاعره
وليس ثمة ما أعيبه على الشاعر غير تلك الرهبنة وذلك المذهب الكنسي الذي يصبغ أكثر قصائده، ولكن العارف المشرف على حياة الشاعر والدارس لبيئة لا يعجب لتلك القوة المسيطرة عليه فقد أخذت على الشاعر الصديق في حديث لي معه هذا المنحى الغالب على تأملاته؛ ولكنني عرفت أن في بلدته (النخيلة) تنهض الكنيسة على كثب من المسجد ويبعثان في النفس الطاهرة رهبة الإيمان والتقديس
فإذا أضفنا إلى ذلك نشأة الشاعر الريفية الساذجة أدركنا عمق التأثير الشخصي إلى جانب التأثير العام فيما يصدر من القريض
وليس للشاعر محمود نوع خاص من الفلسفة، فهو يرى الفلسفة في ذلك التأمل العميق في أسرار الحياة أينما وقعت عليها العين الفاحصة والشعور الملهم
بقي أن أقول صراحة إن ديوانه الأول (أغاني الكوخ) كان يمثل الفن الرفيع وحده، فلم(276/76)
يقحم فيه الشاعر تلك المراثي التي حشدها في ديوانه الأخير، أو تلك السياسات التي اندفع فيها نتيجة لشعوره مهما كان صدق هذا الشعور، فما هي بالموضوعات التي تجمع بين دفتي ديوان لتبقى مدى الأحقاب والأيام
إسماعيل كامل(276/77)
المسرح والسينما
شيء من لا شيء
باكورة الموسم المصري لأستوديو مصر
عرضت سينما أستوديو مصر في الأسبوع الماضي أول أفلامها المصرية للموسم الحالي وهو (شيء من لا شيء) الذي حدثنا عنه قراء الرسالة في مناسبات كثيرة بما جعلهم يوقنون قبل رؤيتهم إياه من أنه سيكون فلماً من الأفلام الممتازة دون ريب. . .
وفي الأسبوع الماضي عرض الفلم فكان ممتازاً رائعاً حلواً فكرة جديدة. . . إخراج جديد. . . ملابس فخمة. . . غناء عذب. ولعمرك ماذا يريد الإنسان في فلم واحد أكثر من اجتماع ذلك كله بعضه ببعض؟ إنه فلم يستحق الأستوديو من أجله تهنئة من أعمق الأعماق
واحمد بدرخان بهذا الفلم - حتى مع انعدام غيره أو انعدام المؤهلات - يدخل في زمرة كبار مخرجينا بحق ما دام قد تسنى له أن يخرج هذا الفلم، وما دام قد تسنى له أن يخرجه بهذه الطريقة الناجحة
خلاصة قصة الفلم
جيشان يلتحمان في عراك، كلاهما من جند المسلمين، يبدأ الفلم بفلول الجيش المنهزم وأحدهما يندب كتفه الكسير وكرشه المبقور وأمعائه الممدودة أمتار على الرمال. . .
ويفتح المنظر التالي على ملك الجيش الغالب وهو يستقبل قواده الظافرين، ويسألهم - بين ما يسألهم - عن الغنائم والأسلاب والأسرى، ويفهم في النهاية أن هنالك أسيرة واحدة، أما الرجال فكثيرون. وبتحدث الملك إلى قادته: ماذا يفعل بهم؟ فبقى الرأي في النهاية على (ترحيلهم) إلى جزيرة المنفى. وفي هذه اللحظة يرى الجمهور المطربة المحبوبة نجاة علي لأول مرة، ويرى بعدها الأستاذ عبد الغني السيد، وهو مضمد الرأس من الجراحات يغني ويغني معه زملائه الأسرى وهم يدخلون المركب التي أقلتهم إلى حيث أريد لهم. . . ويحار الملك في الأسيرة ماذا يفعل بها، والى من يقدمها؟
وإذ ذاك تحدث منافرات ومقارعات بين الحاضرين كلها فكاهات لطيفة، وأسمار لذيذة، وينتهي الأمر بأن يقرر الملك تزويج الأمير عنتر منها، وعنتر هذا هو القائد الجديد للجند،(276/78)
وشخصية عنتر هذه من أهم الشخصيات الفكاهية في الفلم
وينادي الملك الأسيرة وهي ابنة أخيه ويزف لها خبر تقريره تزويجها من الأمير عنتر، فترفض وتثور وتعود إلى منامها والأمير يهدر ويزمجر، ويهدد ويتوعد. . . ويقول لها بأنه إزاء ذلك لا يسعه إلا أن يزوجها من أحقر شخص في المملكة وهو ذلك الأسير الشاب. . .
وتنساق حوادث الرواية أمام المتفرج بعد ذلك وتتعرف الأسيرة إلى الأسير الشاب ذي الصوت الجميل. . وبعد صد وطول عدم اكتراث، تقع في حبه، أو بالأحرى في حب صوته.
ويغتاظ الأمير عنتر، فيقوم بمحاولة أخرى ويهبط على الأسيرة في منامها ويكاد يعتدي عليها هو ومن معه من الجند، لولا أن الأسير الذي هو زوجها يحضر في الوقت المناسب ويعمل في الأمير ورجاله سيفه، فيقتل أحد رجاله ويجرحه هو جراحاً بالغة. . .
ويقدم الأسير للمحاكمة، وهي محكمة من أغرب المحاكم التي سمع بها الناس من قبل. . .
ويرفض المتهم الدفاع عن نفسه ويسكت كل من يحاول الكلام في صالحه، فلا يسع هذه المحكمة إلا إصدار الحكم عليه بما يقتضيه القانون. . .
والجمعية السرية. . لا ننس الجمعية السرية. . ولغتها (المختلطة) ورئاستها البارعة في الخوف والوجل. . فإنها من ألطف وأندر ما ملئت به القصة. .
وعندما تنتهي حوادث تلك القصة التي لم تراع فيها وحدة زمان أو مكان أو نظام ملابس أو لهجة كلام أو خلافه. . .
لما تنتهي هذه الحوادث يشاهد المتفرج رجلا بلدياً يسقط من فوق الفراش هو وزوجته وهي تناديه ليستيقظ ويكون في حلم قد وصل إلى حد قوله (ليسقط. . .)
الناحية الفنية
وبعد هذا هو ملخص القصة. وقد سبق أن قلنا أن الفلم من وجهه العام ناجح ومشرف لأستوديو مصر ولمخرجه الأستاذ بدرخان، ولكن لنا ملاحظات عليه. . على رغم أنه حلم ليلة صيف. . وبرغم أن المفروض فيه هو أنه (تخريف وهلوسه)
من هذه الملاحظات أن دوري نجاة علي وعبد الغني السيد لم يكونا ظاهرين ولا مفهومين في بادئ الأمر. . وكان كلام مقطوعاتهما الغنائية ضعيفاً كما كان التلحين أضعف وأكثر(276/79)
ارتباكا. . . ولسنا ندري هل كان ذلك من الملحن أم من الممثلين. .
ومن هذه الملاحظات أن القصة كلها كانت مسجوعة. . . والسجع عادة كالشعر - يستولي من المشاهد - على جانب كبير من انتباهه. . ومن هنا يخسر الفيلم هذا الجزء من انتباه القارئ دون مبرر. . هذا إلى أن أغلب السجعات كان بارداً وسخيفاً. .
ويدافع بعضهم عن هذا بأن المقصود من هذه السجعات السخيفة هو الإضحاك. . ولكن هذا لا يعد دفاعاً قدر ما يعد اتهاماً. . فإن الفلم لا يصح أن يكون مصدر سرور الناس منه احتواءه على سخافة وحسب. .
ولا تحضرنا الآن بقية الملاحظات فموعدنا بها عدد تال، ونكرر في نهاية هذه الكلمة ما سبق أن ذكرنا أكثر من مرة من أن هذا الفلم - على رغم الأخطاء التي به - يعتبر فتحاً جديداً في عالم الأفلام المصرية، ويستحق أستوديو مصر عليه كل تهنئة
سالم ينتهي من أجنحة الصحراء
انتهى الأستاذ أحمد سالم في الأسبوع الماضي من تصوير آخر (ديكورين) في فلمه الجديد (أجنحة الصحراء) وقد كان أحدهما كبيراً وفخماً بدرجة لم تعرف من قبل في الأستيديوات المصرية. ورآه مخرجون مصريون كثيرون فهنئوا الأستاذ سالم بتوفيقه في بناء هذا المنظر. والصحفيون يعترفون بأن القراء سوف يشاهدون عجباً في فلم سالم هذا عندما يعرض في منتصف الشهر القادم
جلال يعمل. .
أبلغنا زميل أن الأستاذ احمد جلال قد انتهى من كتابة السيناريو الجديد للفيلم الثاني لشركة لوتس في هذا الموسم والحيرة الآن، أو المفاوضات، دائرة بين آسيا وبين الزميل حول اختيار الاسم الصالح. . وقد رددت زميلات أسماء غريبة، نفتها لنا السيدة آسيا بكل شدة.: والمعروف أن تصوير هذا الفيلم الجديد يبدأ في أوائل الشهر القادم. . .(276/80)
العدد 277 - بتاريخ: 24 - 10 - 1938(/)
العامية والفصحى
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أنا متهم بعدائي للغة العامية، وياما أكثر من في الحبس من مظلومين - كما يقول عامتنا في أمثالهم - ولست أريد الآن أن أدافع عن نفسي وأبرئها من شيء، فان لي الحق في المعاداة والمصافاة كغيري من الناس تبعاً لرائي وهواي، ولكنما أريد الآن أن أضع أموراً في مواضعها على قدر ما يتيسر لي ذلك.
الأمر في اللغة العامية أن نطاق الأداء بها محدود. وهي في هذا النطاق وافية بالحاجة وكافية جداً للأغراض التي تطلب بها ولكنها تخذلك إذا أردت أن تتجاوز هذا النطاق. أي أنها تصلح للحديث العادي والحوار في المسائل اليومية، وللعبارة بها عن الأَغراض المألوفة بين الناس عامة، فإذا أردت أن ترتقي بها عن هذه الطبقة وأن تتناول بها حديث العلم أو الأدب أو الفلسفة أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى قصرت بك وعجزت عن الوفاء بهذه المطالب فتحتاج إلى لغة أخرى تستطيع أن تواتيك وتساعفك - لغة أخرى تكون أوفى وأزخر وأوفر مادة وأكثر عناصر، ولا لغة هناك لنا غير اللغة العربية الفصحى التي لا تعد العامية إلا لهجة مشتقة منها. وهذا شأن كل لغة عامية في الدنيا. وكل عامية تعجز عن أداء ما هو أكثر من المطالب العادية. وحدود كل لغة عامية هي حدود العامة أنفسهم، ونطاقها هو نطاقهم، فإذا احتجت إلى ما يجاوز نطاق العامة ويرتفع عن طبقتهم فانه لا يسعك إلا أن تلجأ إلى لغة أوسع من لغتهم وأغنى وأقدر. قد يقال ولكن في الدنيا عاميات ارتقت إلى مصاف اللغات الفصيحة كالإيطالية واليونانية الحديثتين. وهذا صحيح غير منكور. وفي وسع كل عامية أن تصبح هي لغة الكتابة والأدب والعلم والفلسفة وما إلى ذلك إذا وسعتها وضبطتها وأجريت الأمر فيها مجرى اللغات الصحيحة ذات الأحكام والضوابط، وأنجيتها من الفوضى التي تلازم العاميات في العادة. وهذا هو الذي حدث في اللغة الإيطالية الحديثة واللغة اليونانية الحديثة اللتين حلتا محل اللاتينية والإغريقية القديمتين. ومؤدي هذا أن العامية عندنا في صورها الحالية لا تصلح للأداء ولا لأن تتخذ لغة كتابة وأدب وعلم وفلسفة وغير ذلك لأنها فوضى وتحتاج إلى ضبط وإصلاح وتوسيع وإغناء. وقد قلت (في صورها الحالية) ولم أقل (في صورتها الحالية) وأنا أعني ما أقول،(277/1)
فان عامية مصر غير عامية الحجاز أو العراق أو الشام أو تونس والمغرب على العموم أو السودان، ولكل بلد من هذه البلدان عاميته الخاصة، بل نحن في مصر لنا أكثر من عامية واحدة، فعامية القاهرة غير عامية الصعيد وغير عامية الإسكندرية أو الأقاليم الشمالية، فأي هذه العاميات كلها تريد أن تكون لغتك؟ ولكل منها خصائصها وعناصرها التي اقتضت طبيعة الحياة الخاصة بها أن تتألف منها. فعامية مصر أو عاميات مصر - فأنها كثر - فيها عناصر من العربية والفرعونية وعناصر من اللغات الأوربية بحكم موقع البلاد الجغرافي، وعامية العراق فيها عناصر من العربية والتركية والفارسية والهندية وغير ذلك، وهكذا
والعامية لا ثبات لها ولا استقرار. والملاحظ - والطبيعي أيضاً - أنها ترقى مع انتشار التعليم وتقترب شيئا ًفشيئا ًمن اللغة العربية. يدل على ذلك - إن كان الأمر يحتاج إلى دليل - أن حوار المتعلمين لا يكاد ينقصه من اللغة الفصحى إلا ضبط أواخر الكلمات أي بناء الكلام على معاني النحو؛ والعربية على عكس العامية أداة ثابتة على كثرة ما يطرأ عليها من التطور، وهي تتسع وتلين وتزداد صقلا على الأيام على خلاف العامية التي لا تثبت ولا تستقر بل تندمج في العربية بعد أن اشتقت منها وانفصلت عنها.
وهنا أنتقل إلى نقطة أخرى أود أن تتقرر في الأذهان؛ وتلك أن العامية ليست لغة أجنبية وإنما هي لغة عربية محرفة، فهي بنت العربية وصلتها بها وثيقة كما هو الحال في كل عامية بالقياس إلى اللغة الصحيحة. وكثيرون منا ينظرون إليها غير هذه النظرة، فإذا كتبوا أو خطبوا اتقوها جداً وخافوا منها وتحاموها ونفروا من كل لفظ مستعمل فيها، وبهذا يباعدون مباعدة شديدة غير نافعة بين الكاتب والقارىء، وهذا خطأ فان العامية كما قلت بنت العربية وفرع منها، وإذا ما نظر الإنسان إلى العامية هذه النظرة ألقى فيها كنوزاً ونفائس لا تقوم، وأغناه ما يجد فيها عن كثير مما يلتمسه ولا يهتدي إليه، أو يهتدي إليه ولكنه لا يكون في الأكثر والأعم إلا نابياً ثقيلا مستكرها ًفي السماع أو منفراً من العربية نفسها. وقد كنت كغيري أتقي كل لفظ مما يجري على ألسنة العامة لتوهمي أن ما يجري على ألسنتهم لا يمكن أن يكون عربياً صحيحاً، ولكن مطالب التعبير والأداء أحوجتني إلى البحث عن مفردات كثيرة فالتمستها في كتب الأدب ومعاجم اللغة، فأما المعاجم فقليلة الغناء(277/2)
في هذا الباب وهي تجمع الحي والميت من الألفاظ ولا تفرق بين هذا وذاك. وأما كتب الأدب فإن اللفظ المستعمل فيها يكون لفظاً حياً استطاع أن يبقى ويدور على الألسنة والأقلام، والألفاظ كالناس وككل مخلوق، تحيا وتموت، والصالح منها هو وحده الذي يبقى، أما غير الصالح فينتهي به الأمر إلى أن يهجره الناس ويتركوه مدفوناً. ولا خير في محاولة إحياء لفظ مات ونشره بعد أن طواه الزمن، وإنما الخير أن تتركه حيث هو وأن تلتمس سواه من الألفاظ التي قدرت على البقاء والمكافحة والنضال.
نظرت هذه النظرة إلى لغتنا العامية فعثرت بلا جهد أو مشقة في بحث على مئات من الألفاظ العامية التي نتوهم أنها غير عربية أو لم يستعملها العرب، ونتحاماها لذلك، ولو استعملناها لجاء الكلام أوضح وأبين، ولكان فهمه أسهل ومطلبه أيسر. وبعض هذه الألفاظ عربي أصيل، والبعض مولد أو دخيل ولكنه مما استعمله العرب وأجروه مجرى ألفاظهم الأصلية. وكل هذه الألفاظ تمتاز بأنها استطاعت أن تعيش وان تجري على ألسنة الأمم والشعوب، آلافاً من السنيين الطويلة، فمادة الحياة فيها قوية ولا معنى لهجرها وإهمالها لا لسبب سوى أن العامة يستعملونها كأن كل ما يستعمله العامة يجب أن يحتقر ويرمى ويطلب غيره، وهي سخافة ظاهرة.
وقد علمت أن الدكتور احمد بك عيسى قدم إلى المجمع اللغوي رسالة في الألفاظ العامية وأصولها تشتمل على ما قيل على ألفي كلمة، ولا اعتقد أن هذا الرقم أدنى مبالغة فأني أنا وحدي بلا بحث يستحق الذكر وبمجرد تقييد ما يعرض لي من ذلك في مناسباته العارضة وقعت على اكثر من ألف كلمة، وقد نشرت في الرسالة طائفة منها، فأحر بالباحث الذي يعنى بدرس الموضوع وتعقب الألفاظ أن يهتدي إلي أضعاف أضعاف ذلك. والذي أرجوه أحد أمرين، أن يطبع المجمع هذه الرسالة النفيسة: أو إذا كان ثم مانع معقول - ولست أرى أي مانع - فليطبعها الدكتور عيسى بك ولينشرها فإن الفائدة منها جزيلة، إذا كانت هذه الألفاظ السهلة المعروفة التي يفهمها كل إنسان متعلماً أو غير متعلم تغنينا عن ألفاظ مهجورة ميتة نضطر إلى الالتجاء إليها والاستعانة بها على التعبير فلا يفهمها أحد إلا بالشرح والتفسير أو الرجوع إلى المعاجم، وهذا كله عناء باطل لا يجوز تكلفه مع وجود الألفاظ المأنوسة.(277/3)
أن اللغة - كل لغة - ليست أكثر من أداة للإفهام أي لنقل المعنى أو الصورة أو الإحساس أو الخالجة على العموم من ذهن إلى ذهن ونفس إلى نفس. واللغة - كل لغة - بطبيعتها أداة ناقصة ووسيلة غير وافية، وهي في الحقيقة أشبه بإشارات الخرس التي تشير إلى المراد ولا تبين عنه. وكل من عانى الكتابة بأية لغة يعرف ذلك ويحسه ويستطيع أن يشهد به. وما أكثر ما نعجز عن التعبير عنه فنتركه إلى سواه مما يؤاتينا عليه البيان، ومتى كان هذا كذلك فإن من الشطط أن نزيد الأمر صعوبة بالأغراب والحذلقة بترك السهل إلى المهجور، والمأنوس إلى الحوشى، أي بجعل مهمة الإفهام أشق على الكاتب والقارئ معا، وما دامت اللغة العامية مشتقة من العربية وفرعا من أصلها فإن من الحمق أن نترك ما فيها من الصحيح وأن نروح نبحث عن غيره لنعبر به.
وفي العامية فضلا عن ذلك تعابير لا سبيل إليها في اللغة العربية على ما نعلم، مثال ذلك هذا البيت العامي:
(يا بت أنا بدي أبوسك ... بس أبوسك
واطرب وأحظى بكؤوسك ... رقي شوية)
هذان البيتان العاميان كل ألفاظهما عربية صحيحة - البت هي البنت ولو نطقناها بنت لما تغير الوزن. وبدي من قولك لا بد لي أو من قولهم بودي، وأبوسك كلمة عربية صحيحة لا تحريف فيها ولا تصحيف ولا شيء غير ذلك والفعل باس يبوس بوساً وهو عندي خير من قبل يقبل. وأطرب وأضحى والكؤوس ورقي كلها أيضاً صحيحة. بقيت شوية وبس، فأما شوية فتصغير شيء، وأما بس فلا مثيل لها ولا غناء عنها بغيرها في اللغة العربية. وقول الشاعر العامي أو الشعبي (بس أبوسك) تعبير لا يقابله مثله في العربية، وقد حاولت مراراً أن أجد بديلا منه فلم أوفق. فإذا كان غيري يستطيع أن يهتدي إلى بديل منه في اللغة الفصحى فليفعل وليحتقب شكرنا. أمثال هذا التركيب لا أرى أي مانع في إدخاله في لغتنا العربية الفصيحة والانتفاع به فيها وإغنائها بذلك فإنه تعبير ينقصنا فعلاً وإن كنا لا نعدم منه بديلاً غير سائغ أو مقبول. ومن هذا القبيل كلمة (بقي) وكثيرون يظنونها من الفعل العربي (بقي يبقى) والحقيقة أنها فرعونية الأصل ولا معنى لها، وإنما هي كلمة يستعان بها على التمهل للتفكير مثل كلمة (ألور) في الفرنسية.(277/4)
وألخص موقفي من اللغة العامية ورأيي فيها فأقول إنها فرع من هذه الشجرة العظيمة التي نمت على الأيام وأصابها الركود الشديد عصوراً غير قصيرة وأعنى بها اللغة العربية. ولكنها - أي العامية بحالتها الراهنة لا تصلح أن تكون أداة لأكثر من التخاطب في الشئون العادية فلا يجوز اتخاذها أداة للكتابة وما يطلب بها من الأغراض، وهي فضلاً عن قصورها تختلف باختلاف الأقطار بل الأقاليم المتقاربة، فلهذا لا تصلح أن تكون لغة عامة، ومن السخافة أن نتخذ لغة قاصرة غير وأفيه لا يفهمها إلا عدد محدود وأن نهجر لغة عامة يفهمها كل أحد في كل بلد. ومن السخافة أن نقتل لغتنا العربية التي خلف لنا أصحابها كل هذه الكنوز في الأدب والعلوم والفلسفة والتاريخ وغير ذلك من أجل لغة لا ماضي لها ولا حاضر أيضاً، لأنها غير ثابتة وتحولها دائم مع ارتقاء التعليم وانتشارة، ولا مستقبل لها كذلك إلا الاندماج في اللغة العربية الفصحى بفضل تقدم التعليم وانتشاره كذلك. ولكن هذه العامية التي لا تصلح أن تتخذ أداة الكتابة عربية الأصل وإن كان فيها كثير من الدخيل من لغات أخرى بحكم اتصال الشعوب بعضها ببعض وأخذ بعضها عن بعض، ولهذا يحسن الانتفاع بما فيها من العربي الصحيح وإن كان محرفاً قليلاً. ويجب لهذا الغرض أن نعنى بإحصاء الألفاظ العربية في العامية وأن نردها إلى أصلها إذا احتاج الأمر إلى ذلك وأن نستعملها ونستغني بذلك عن البحث العقيم عن ألفاظ أخرى بدلاً منها في ما مات من ألفاظ اللغة العربية وعجز عن البقاء. وفي العامية فضلاً عن ذلك تعابير مثلها غير موجود في العربية، أو موجود ولكنه غير سائغ لا يقبله الذوق العام، فهذا يحسن اتخاذها أيضاً وإغناء العربية بها فإنها بذلك تتسع وتلين وتكتسب المرونة اللازمة. فيحس ابن اللغة وهو يستعملها أنها أداة حية نابضة لا جامدة ناشفة.
وأظن أني بعد هذا لا أحتاج أن أقول أني لست عدواً للعامية أو سواها؛ وقد يساعد على نفي هذا الوهم أن أذكر أني استعنت بها في الحوار في بعض ما كتبت من الروايات أو القصص بالقدر اللازم ليس إلا - استعملتها في هذا النطاق المحدود في روايتين على الخصوص رواية إبراهيم الكاتب ورواية تمثلية اسمها (غريزة المرأة أو حكم الطاعة) ولكنى التزمت حدوداً معينة لم أتجاوزها. ولا يحسب أحد أني أريد الإعلان عن هاتين الروايتين فقد نقدتا من زمان طويل.(277/5)
إبراهيم عبد القادر المازني(277/6)
في سبيل الإصلاح
المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ علي الطنطاوي
(أعد الأستاذ هذا البحث ليحاضر به الناس في ناد من أندية دمشق الأدبية، ولكن مرض الكاتب ولبثه أربعين يوماً في المستشفى، ثم اضطراره إلى السفر العاجل ليتسلم عمله في مدرسة بعقوبة (العراق) حال دون إلقائه).
صورة المشكلة
آلاف مؤلفة من الشبان يبتون مسهدين ينتظرون أزواجهم اللائى خلقهن الّله لهم. وآلاف مؤلفة من الشابات يبتن الليل مؤرقات ينتظرن أزواجهن الذين يراهم الله لهن والذراري تطل من شرفة الغيب ترقب تعارف أبويها، لتأخذ بأذن الله، طريقها إلى عالم الوجود، فيكون منها عباد الله صالحون، وجنود للوطن مخلصون، وأنصار للحق ثابتون.
ثم إذا قدر الله وكان زواج، كان الزواج (أكثر ما يكون) همَّا ونكداً، وخلافاً مستمراً، وآض البيت من بعده جحيماً محرقاً، وسجناً مظلماً، ونشأ الأولاد على غير تهذيب، ومن غير دين ولا أخلاق. . . هذه هي صورة المشكلة: انتظار أليم يسلم إلى الجنون أو إلى الفسوق أو إلى اليأس، ونقص في الأولاد، وضعف في الأمة، وخراب للبيوت، وضياع للأسر، وفقد للسعادة. . .
سبيل العلاج
هذه هي صورة المشكلة، فما هي أسبابها؟ وما نتائجها؟ وما علاجها؟ بل وما نفع الكتابة فيها؟
لقد كُتب فيها وكُتب (حتى لو أن محصياً أحصى المكتوب فيها لجاء معه كتاب ضخم) فلم يُغن المكتوب شيئاً، ذلك أن المشكلة تحتاج إلى حل عملي يقوم به الآباء، لا إلى نظريات وفلسفات يدلي بها الكاتب والأدباء، من اجل ذلك نحوت في هذا البحث نحو العمل فلم أتعمق ولم أتفلسف! ومن اجل ذلك ضربت من الواقع أمثلة، وأخذت من الحياة شواهد وصوراً. . . على أنها لا تغنى المباحث، ولا تجدي الشواهد ولا الصور، ولا المقترحات(277/7)
ولا الآراء، ما لم يحققها عقلاء الآباء، أو من لهم في الأمة أمر أو نهي، ومن أرباب الحكم وأصحاب السلطان!
موانع الزواج
لو سئلت أكثر العزاب من الشبان: (ما منعكم من الزواج؟) لكان جواب الأكثرين إن لم أقل جوابهم أجمعين: (المهر، وما يتصل بالمهر من تكاليف وبلايا)، ولست اذهب بالقارئ إلى بعيد، بل أضرب له المثل من نفسي. . .
أنا أريد الزواج، وأنا امرؤ في رأسه أشياء وليس في كيسه شيء. . . أما الذي في رأسي، فقد أفنيت في تحصيله شبابي، وبيضت في طلبه ليالي وسوّدت نُهُرى، وخدعني عن حقيقته معلمي فحسبته أثمن شيء في الوجود، وصدقت أن العلم خير من المال. . . فرأيت من بعد أن المال خير من كل شيء. . . وأما كيسي فما فيه وفر، ولكن فيه مرتباً يكفيني ويكفي بحمد الله أربع زوجات معي، لو أن الزوجة بقيت إلى اليوم شريكة الحياة وربة البيت، وتطلب حياة هنيئة وزوجاً صالحاً، بيد أن هذا كله قد ذهب. . . وصارت الزوجة (يا أسفي!) متاعاً يشرى، ولابد للمتاع من ثمن، فإذا أخذ الأب الثمن لم يبال بعده شيئاً، ومتى كان يبالي التاجر إذا استوفى الثمن بأخلاق الشاري أو سيرته في أهله؟ وثمن الزوجة (أقل ما يكون) خمسون أو مائة (ليرة) ذهبية، فتصور يا صديقي القارئ متى تجتمع لرجل مثلي مكساب متلاف لا يستطيع أن يمسك شيئاً، أو لا يفضل عن نفقته شيء؟ وليست هذه المصيبة كلها. إن بعدها نفقات العقد (الكتاب) وقبل العقد خاتم الخطبة، وما يكون إلا من الذهب، و (الشبكة) وما يصلح لها إلا حلية لها قيمة. . . وبعد العقد الهدايا والّلُطف بحملها إلى دار (الزوجة العتيدة) كلما زارها، ولابد له من أن يزورها؛ ثم تأتي بلايا العرس، وما أدراك ما بلايا العرس: كسوة أهله وأقربائه ممن تجب عليه نفقتهم (وكسوة النساء أقبح التبذير، لأنهن يشرين قماشاً لا يدفئ ولا يستر، ويدفعن ثمنه غالياً، ثم إذا مرت شهور بطل طرازه (مودته) فأصبح لا يصلح لشيء. . . وبعد الكسوة نفقات حفلة الزفاف. ثم إذا دخل على زوجته، وانفرد بها، لا تكلمه حتى يدفع إليها (ثمن شعرها) وهي جملة من المال ولا تقل عن (بعض ليرات ذهبية) ولا حد لزيادتها، وما أدري والله كيف تنزل الفتاة للحلاق عن شعرها يقصه ويلقيه على الأرض، ثم تطلب (ثمنه) من زوجها؟ ثم إذا أصبح أعطاها(277/8)
(وجوباً) عطية أكبر من (ثمن الشعر) هي (الصّبْحة) فإذا زال النهار أهدى إليها هدية، لابدّ أن يكون فيها إزار للحمام ثمين وقد يكون منسوجاً بخيوط الفضة، ومناديل (مناشف) الخ. . . ثم تأتي نفقات (السبعة الأيام) يقيم فيها الأقارب والأهلون في داره، تولم لهم كل يوم الولائم، وُيطرفون بأنواع الطرف، فإذا انتهت دعوا جميعاً إلى الحمام، وقد قلّ ذلك في هذه الأيام منذ كثرت الحمامات في الدور، وأهملت الحمامات العامة أو كادت، ثم يدعو أهلها (أي أهل الزوجة) جميعاً وأهله إلى وليمة كبيرة تسمى (التعريفة) يعرَّف فيها بعضهم ببعض - وقد يبلغ المدعون إليها المئات في بعض الأسر الكبيرة. . .
فأنى لمثلى الطاقة على هذه المصروفات التي تخرب بيوت الأغنياء؟ وإني لأعرف قاضياً شرعياً زوج ابنه، فتكاثرت عليه النفقات، فلم يقدر عليها حتى باع بيته - لينفق ثمنه في ليالي العرس! هذا أول موانع الزواج وأظهرها. . .
الحجاب
وهب أني قد وقعت على كنز، أو أصبحت إرثاً فأصبحت غنياً توفر لي ما أبتغي من المال فكيف أختار زوجتي؟ أما الحاسرات المتبرجات اللائى يعرف الرجال كلهن: صدورهن ونحورهن وأيديهن وسوقهنَّ، فأنا (بحمد الله) أعقل من أن أتخذ منهن زوجة، ولو كانت ابنة ماء السماء، وأعلم العلماء، وما أحسب ذا دين ومروءة، يرضى أن يتزوج بمن رضيت لنفسها إهمال الدين، وإسقاط المروءة، بتعرّضها في زينتها وفتنتها للرجال، تستهويهم وتأخذ بأيديهم إلى النار. . . بقى علىَّ المتحجبة من بنات الأسر، وهي التي لا سبيل إلى رؤيتها إلا ليلة الزفاف، وبعد أن يكون الغلَّ قد استدار حول عنقي، والقيد قد أحكم أقفاله على يدي ورجلي، ولم يبقى لي إلا أن أقبل بها ولو كانت لها وجه قرد وأخلاق شيطان!
أفهذا من المعقول؟
يريد المرء سفراً، فيتحرى عن أخلاق رفيقه أياماً، ليعلم أيوافقه أم يخالفه؛ ويبتغي أجيراً فيراه ويبحث عن أصله وفصله، ويجرَّبه أياماً؛ ويعزم على أن يتزوج، فلا يرى رفيقة حياته ومهوى قلبه، وموضوع حبه، إلا بعد أن يتم كل شيء؟
مع أن الشرع أباح له أن يراها ويجالسها. . . ومع أنها تخرج إلى السوق فيراها (على(277/9)
خلاف الشرع) البائع ومن كان عنده، ويقدم إليها القهوة ويحادثها، ويراها عمال السينما، ويراها ويراها، فما الذي حاق بالآباء حتى هان عليهم كل محرّم، وصعب عليهم ما أحلَّ الله؟
هذا هو المانع الثاني من موانع الزواج، بل إن هذا الوضع هو الذي سبب ما نرى من تبرج النساء وحسورهن، وعريهن على السواحل. . . ولا علاج له إلا بحجاب شامل (وذلك ما لا يستطاع) أو بسفور شرعي، كالذي سماه صديقي الأستاذ عز الدين التنوخي بسفور الراهبات، وذكر أن الحشويين الجامدين، يقابلون من يدعو إليه بالسباب والشتائم، وذلك هو الواقع، فإن هؤلاء قائمون بالمرصاد لكل من يعرض رأيا في إصلاح حال المرأة الذي كاد يصل إلى حد العرى المطلق بل لقد بلغه فعلاً. .
ولكنهم لا يأنون بأي رأي من عند أنفسهم، ولا يهتمون بما يرون، فهم هادمون ولا يبنون، وهم مفسدون لعمل كل مصلح ولا يصلحون. . . ولله الحمد على أن ضعفت مُنَّتهم، وخفتت أصواتهم، وبادت جماعتهم، ونسأل الله أن يبدلنا بهم علماء يفهمون روح الإسلام ويعرفون حقائقه، ويفهمون روح العصر ويعرفون حاجات أهله
الخلاف العائلي
فإذا يسر الله لامرئ سبيل الزواج، وأنجاه من هذه الموانع، عرضت له مشاكل، ورأى من المتاعب ما يندم معه على ما أتى، ولو ذهبت تتقصى أحوال المتزوجين ودخائلهم في بيوتهم لوجدت أكثرهم متألماً شقياً، ولهذا الألم أسباب يمكن تلافيها لو فكر فيها الزوج، وعزم على التلافي.
أول أسباب الخلاف
أعرف أخوين: أما أحدهما فشيخ محافظ توفى رحمه الله من سنين طويلة، أما الثاني فأديب موسيقي على الطراز الجديد. تزوج الأول، ولبث مع زوجه ستة عشر عاماً حتى توفي عنها ولم يكلمها على مسمع أهله كلمة، وإنما كان يوجه الكلام إلى أخته سائل حاجته، أو يأمر أخته أن تقول لها ما يريد، وألفت ذلك منه ورضيت به أو صبرت عليه. وكانت تخشاه كخشيتها لله أو هي أشر خشية. . وأما الثاني. . لا. بل إن أكثر من عرفنا من(277/10)
الأزواج (المجددين) تتحكم بهم نساؤهم، فيأمرونهم وينهينهم، ويشتمنهم و. . ويضربنهم! وهم يخافونهن ولا يجرءون عليهن. .
أي أن الأزواج بين رجلين، رجل أعمل سلطته، وأسقط عاطفته فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم الحب، ولا عرف السعادة الزوجية، ورجل تبع عاطفته فأرضاها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً. .، وتفصيل ذلك أن الزوج هو الذي يحكم على نفسه، ويختار طريقه. فإذا دلل زوجه في الأيام الأولى، ومثل لها (دور العاشق في الروايات الخيالية، ومنحها قياده، وأراها أنها حياته، وأنها الآمرة الناهية عليه، وتذلل لها وخضع، (ولذة الحب في التذلل والخضوع) ألفت ذلك منه، تعوده. . فإذا طارت من رأسه سكرة الحب، وأحب أن يحكم في الدار، كما يحكم رب الدار، وجد الأمر قد أفلت من يده، فيبدأ الخلاف، ثم لا ينتهي أبداً. وإذا هو ضبط نفسه في الأيام الأولى، ولم يعط إلا بمقدار واستعمل عقله وسلطانه، ألفت منه الزوجة ذلك، فوجدت كل عطف منه بعد ذلك غماً كبيراً. .
فالزوج العاقل الحازم من لم تلهه حلاوة العسل التي تدوم له شهراً، عن مرارة العلقم التي ستبقى دهراً طويلاً. ومن لم تشغله اللذة الجسمية العاجلة، عن السعادة الزوجية الآجلة، فلينتبه لهذا الأزواج، فمن هنا منشأ الخطر. .
حقوق الزوجين
ومن أسباب النكد البيتي، والشقاء الدائم، الخلاف على حقوق كل واحد من الزوجين، فمن الرجال من يأخذ أكثر من حقه، ومن النساء من تقيم نفسها مقام الرجل، تفرض عليه سلطانها، حتى إن الرعناء لتسأله: أين كنت؟ ومن كلمت؟ بل إن من النساء الحمقاوات المتحذلقات ممن يحسبن أنهن متعلمات، من تحاسب زوجها على زيارته أهله، وصلته رحمه، وتغار عليه إذا كلم عمته أو زارها. . حتى أصبح الأمر فوضى لا نظام له وظلمة لا نور فيها: مع أن الشرع الإسلامي (الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا بين وجه الحق فيها) قد حدد حقوق الزوجين، فجعل من حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه فيما لا معصية فيه، وأن تصون عفافها، وألا تخرج إلا بأذن منه أو لضرورة، وأن تحرص على إدخال السرور عليه، وألا تكلفه ما لا يطيق ولا تطالبه بالزائد من حاجة نفسها، وأن تبذل(277/11)
جهدها في أداء واجباتها الدينية، وأن تعطيه زمام الرياسة المنزلية. ومن حقها عليه أداء مهرها كاملاً إليها - الاتفاق عليها بالمعروف - أن يجتهد في تعليمها واجبائها الدينية - أن يكتم سرها ولا يتحدث به - حسن خلقه معها - احتمال بعض الأذى منها - ممازحتها ومداعبتها - أي أن للرجل على الجملة رياسة المنزل (حين لم يكن بد لكل شركة أو جماعة من رئيس) وله السيادة فيه، وحفظ كرامته، وإدارة شؤونه الخارجية والأشراف على أموره كلها، وله الحكم في كسوة المرأة وخروجها، وله تأديبها بالعدل، ومن غير أن يخرج على ما أحل الله وذكر في كتابه، وللمرأة حق التصرف بأموالها، وإدارة شئون المنزل الداخلية، والنفقة عليها وضمان حاجاتها اللازمة؛ ولها عليه أن يحرص على سعادتها وسرورها، ويعاملها بالخلق الحسن، والقول اللين، ويتغاضى عن خطيئاتها ما أمكن التغاضي، ويعلم أنها شريكة حياته، وأدنى الناس إليه فلا يستأثر دونها بطعام أو شراب، ولا يدعها في المنزل وحيدة متألمة، ويسهر في المقاهي والملاهى، ولا يقدم نفسه عليها في كسوة أو متعة من متع العيش.
المشاكلة بين الزوجين
وإن من أظهر الخلاف بين الزوجين، ألا يكون بينهما مشاكلة ومماثلة، كأن يكون فقيراً وتكون هي غنية، فتعيره بفقره، وتترفع عليه بمالها، أو أن يكون من رجال الأعمال، وتكون متعلمة، على أن المتعلمة العالمة حقاً لا ينتظر منها إلا كل خير، ولكن البلاء في هؤلاء اللائى يحسبن أنفسهن متعلمات، لأنهن كن قبل الزواج معلمات في مدرسة أو مديرات، وإن كن لا يفتحن في السنة كتاباً، ولا يفهمن شيئاً، ولا يعرفن إلا تنكيد حياة الزوج، وإضاعة ماله في الولائم والاستقبالات، والكسوة والزينة، هؤلاء هن البلاء الأزرق، وخير منهن الأمية الجاهلة.
ومن أشنع أشكال الاختلاف بين الزوجين، حال من يتزوجون بالأجنبيات، فيرون منهن (على الغالب) ما يتمنون معه الموت الأحمر. وإني لأعرف من الناس رجلاً درس في فرنسا وجاء معه بفتاة زعم أنها من أكرم الأسر الفرنسية وأعرقها، وتزوج بها، فكان من أيسر ما تصنع أنها تذهب إلى السينما فترى الضباط الفرنسيين فتحن إليهم بصلة الدم، فتكلمهم وتصادقهم ثم تدعوهم إلى دارها فلا يروع صاحبنا إلا الضباط قد ملئوا بيته ثم(277/12)
انتهى أمرها بالفرار مع واحد منهم!
ومن العجب أن دماغين كبيرين تواردت خواطرهما على مسألة وأحدة، وبينهما الدهرالأطول، وبينهما ما بين المشرق والمغرب فوقعا فيها على الصواب الذي نعرفه ولا نريد أن نتبعه: ولما كانت القادسية، ولم يجد الناس نساء مسلمات، تزوجوا نساء أهل الكتاب، فلما كثر المسلمات بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بن اليمان بعد ما ولاه المدائن: (بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها) فكتب إليه: (لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟) فكتب إليه عمر: (لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، وإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم) فقال حذيفة: الآن! وطلقها.
هذا حكم الرجال العظيم، عمر، وقد حكم به في المدينة منذ ألف وثلاثمائة سنة. وأما الثاني فحكم الرجل العظيم موسوليني، حكم به المؤتمر الفاشي في روما، في هذا الأسبوع، حين كان من مقرراته منع الإيطاليين من الزواج بالأجنبيات فمن لم يعظه قول عمر، فليعظه حكم موسوليني!
(البقية في العدد القادم)
دمشق
علي الطنطاوي(277/13)
كتاب المبشرين الطاعن في عربية القرآن
الشيخ إبراهيم اليازجي
لأستاذ جليل
- 4 -
عمل (المظللون) بالقول الأوربي المشهور الملعون: (المأرب يبرئ الذريعة) فأشاعوا مشاعهم، وطبعوا في (كتابهم) مكذوبهم: (هاشم العربي الشيخ اليازجي) مسيئين إلى صاحب (الضياء) في حياته ومماته. وقد صدَّق الناس من بعد ما رأوا الكلام فربتهم. وهأنذا أصدع اليوم بالحق معلناً في (رسالة الإسلام والعربية) براءة اليازجي مما قذف به. ومعي برهانان دامغان؛ فقل للضالين المضلين أصحاب الكتاب المزور وذوي الكذب السخت (قل: هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين).
البرهان الأول
كانت تلكم الإشاعة، ونشر المضللون قطعة من (مكتوبهم) في مجلتهم التضليلية. فكتب حجة الإسلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في (مناره) عجلان غير مستأن ولا متثبت - هذه الجملة: (نشرت مجلة البروتستنت المصرية نبذة في الطعن في القرآن نقلها عن كتاب لهم يقال: أن للشيخ إبراهيم اليازجي يداً في تصحيحه أو تأليفه أو ترجمته والزيادة فيه) وقد حدا الإمام على التسرع بما كتب غضبه الغضوب للدين، ومزاج كريم يشتعل بأدنى قدح. . .
فلما أطلع صاحب (الضياء) على الذي في (المنار) هاج أيما هيج بل كاد يجن؛ إذ فحواه عنده أنه عسيف من العسفاء عند (المبشرين) و (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) وأنه يجهل العربية - وما يعرف منها هو رأس ماله في الحياة - وأنه عدو للمسلمين - وهنا الخطب المهم - فسارع إلى إذاعة كلمة في (ضيائه) قال فيها: (وقفنا نقلب الطرف في هذا الكلام ونحن نستحضر ما كر علينا من سوالف الأيام، ونتمثل ما مر بنا من غرائب الأحلام، لعلنا نتذكر في أي عهد كنا من المناقشين في العقائد الدينية، وفي أي زمن كنا نؤلف الكتب في الطعن على الأسفار السماوية. ومتى كنا نتعاطى حرفة التبشير بالأديان، وأي ثمرة لنا في(277/14)
صرف بعض القوم عما اعتقدوه من الأيمان. أمور يعلم كل من له أدنى معرفة بنا أننا من أبعد الناس عنها) (نحقق لحضرة الرصيف الفاضل أننا براء مما أتهمنا به أو اتهمنا به لديه، وأننا من أبعد خلق الله عن هذه السخافات التي يتاجر بها قوم لاستدرار الرزق من أخبث موارده. وإن لم يكن له بد من ملازمة هذا الموقف والنضال بهذا السلاح فعنده من قسوس الإنكليز والأمريكان ومن ينتمي إليهم من المنقسسين - وكلهم معروفون لديه اسماً وجسماً - ومن يكفيه استنزالنا إلى هذا المجال، وتكليفنا أن نعمل بضد ما طبعنا عليه)
هذا كلام اليازجي، وهو قول جاد لا الهازل، والصادق لا الكاذب، وقد كان الرجل صادقاً، وكان ذا إباء وكبرياء، يعرف ذلك في خلائقه من يعرفه، فلم يخدم المبشرين في حال، ولم يسف إلى تلك (السخافات التي يتاجر بها قوم لاستدرار الرزق من أخبث موارده) ثم إن اليازجي من طائفة (الروم الكاثوليك) والمضللون من البروتستنت، والكاثوليكي حرب البروتستنتي، والبروتستنتي لابن الكنيسة الكاثوليكية عدو مبين فقل لي: (عمرك الله كيف يلتقيان؟)
البرهان الثاني
أغلاط اليازجي في إنشائه وفي تغليطة غيره، فيها البركة. . . لكنه لن يخطئ فيما أثخنه معرفة وفيما خطأ فيه الأدباء. وفي (كتاب التضليل) أغلاط نبه عيها هو نفسه. وكان إعلانه إياها وتلفيق ذاك الكتاب في برهة واحدة، ومستحيل أن يحرم الخطأ عاماً ويحلله عاماً تلبيساً وتدليساً كدأب مضلل أو شعوذي وهذه أقوال (المضللين) وهذه أقوال (الضياء):
1 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين، الصفحة (69): (يتردد إليها جماعة القسس)
قال الشيخ اليازجي (الضياء، السنة (1) الصفحة (357): (ويقولون جماعة القسس بضمتين، يريدون القسوس فيحذفون الواو، لأن فعْلا الساكن العين لا يجمع على فُعُل)
(قلت): في (المصباح): القس جمعه القسوس، وفي (التاج): جمع القس قسوس بالضم. وفي (اللسان): القُسُ العقلاء، والقسس: الساقة الحذاق. . .
2 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (84): (إنه كان كسائر بني جلدته) (يعني سيد الوجود صلوات الله وسلامه عليه)(277/15)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (1) الصفحة (449): (ويقولون: فعل هذا لمصلحة أهل جلدته يريدون قومه وأهل جيله - الجيل الصنف من الناس كالعرب والترك والروس - وقد أولع بهذا العبارة، وتناقلها بعضهم عن بعض من غير بحث ولا تنقيب عن أصل مغزاها ومراد قائلها)
(قلت): تجادل الأستاذ قسطاكي الحمصي والأستاذ سليم الجندي في هذه اللفظة فوافق الأول اليازجي على نقده وخالفه الثاني فيه قائلاً: (قال في اللسان وفي الحديث قوم من جلدتنا أي من أنفسنا وعشيرتنا) ولكل مقام مقال، ولكل حال ألفاظ، والقصد من إيرادنا قول المبشر وقول (الضياء) الأعلام بأن اليازجي لا يستعمل شيئاً أنكره هو.
3 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (321): (ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وإنما نحن مكلفون بالاعتقاد بأن الله لا شريك له ولا شبيه ومن هؤلاء مالك بن أنس)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (7) الصفحة (323): (ويقولون: كلفته بالأمر فيعدون هذا الفعل إلى المفعول الثاني بالباء، والصواب تعديته إليه بنفسه، تقول: كلفته الأمر)
(قلت): الأقوال العربية والمعجمات كلها تساند اليازجي، ولم يعد هذا الفعل بالباء إلا في كلام المتأخرين من المولودين. وفي (الجمهرة): تكلفت الشيء تكلفاً إذا تجشمته، والكلفة من التكلف، والتكلفة تكلفتك الشيء وتحملك إياه.
4 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (392): (فشرع (أي بحيرا الراهب) يفكر في ما يفعله لردّ أهلها عن الشرك ويتطلب رجلاً منهم يستعين به على غرضه حتى عثر بمحمد)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (5) الصفحة (620) في نقده (البؤساء) لحافظ: (وربما وقع له غير ذلك كقوله: (ألم تعثر في طريقك أيها الراهب بغلام) والمنصوص عليه في هذا المعنى عثر عليه لا به)
(قلت): رويت في الجزء (266) من (الرسالة) - الصفحة (1288) ما قاله اللسان والصحاح والأساس في هذا الفعل، ولا ريب في خطأ المبشرين
5 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (327): (وأنت إذا أمعنت(277/16)
فيه النظر وجدته)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (1) الصفحة (354): (ويقولون أمعن في الأمر وتمعن فيه أي تدبره وتقصى النظر فيه، وربما قالوا تمنعه، وأمعن فيه النظر. وكل ذلك غلط لأن الإمعان بمعنى الإبعاد في المذهب، وهولا يستعمل إلا لازما.
يقال: أمعنت السفينة في البحر، وأمعن الطائر في الطيران إذا تباعد، وقد يستعمل بمعنى المبالغة في الأمر مجازاً، يقال: أمعن في الطعام والشراب، وأمعن في الضحك. وأما تمعن فلم يثبت وروده في شيء من كلام العرب)
(قلت) يقال: أنعم النظر في شيء لا أمعن النظر فيه. قالت (النهاية) ومنه الحديث: أمعنتم في كذا أي بالغتم، وأمعنوا في بلد العدو وفي الطلب، أي جدوا وأبعدوا. وقالت: (وفي حديث صلاة الظهر: فأيرد بالظهر وأنعم أي أطال ألا براد وأخر الصلاة، ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء أي أطال التفكير فيه) وفي اللغة (التمعن) غير أن معناه التصاغر والتذلل انقيادا ًكما في النهاية واللسان والتاج
6 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (73): (ولذا كان محمد في بادئ أمره يداريهم)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (7) الصفحة 354): (ويقولون فعل كذا في بادئ الأمر أي في أوله وبدئه لا معنى للبادئ هنا لأنه اسم فاعل والمقام يقتضي المصدر أو الظرف) قلت: قالوا: (وافعل هذا بدءاً وبادئ بدء وبادئ بدئ) وفي (التاج) جل الصور لهذا التركيب. وفي (اللسان): (وبادئ الرأي أوله وابتداؤه، وعند أهل التحقيق من الأوائل ما أدرك قبل إنعام النظر، يقال: فعله في بادئ الرأي. وفي التنزيل العزيز: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) قرأ أبو عمرو وحده بادئ الرأي ومعنى قراءته أي أول الرأي أي اتبعوك ابتداء الرأي حين ابتدءوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك) قال العبكري: (بادئ هنا ظرف وجاء على فاعل كما جاء على فعيل نحو قريب وبعيد وهو مصدر مثل العافية والعاقبة والعامل فيه أربعة أوجه)
7 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي: (كتاب المبشرين 89): (ويشفع فيمن يعترف من أهلها الأشقياء التعساء بعدل قضاء الله عليه)(277/17)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (1) الصفحة (324): (ويقولون رجل تعيس وقوم تعساء وهو من أهل التعاسة، وكل ذلك خلاف المنقول عن العرب. والمسموع عنهم رجل تاعس وتعس بوزن كتف وقد تعس بفتح العين وكسرها، والمصدر التعس بالفتح والتعس بالتحريك، ويعدى الأول بالهمزة والثاني بالحركة نقول: تعسه بالفتح، وهو متعس ومتعوس لم يحك فيه غير ذلك)
(قلت): كتب اللغة المعروفة المطبوعة - ماعدا الجمهرة - لم تذكر التعيس. ولم أجد هذه اللفظة إلا في كتاب ابن دريد وفي رسالة الغفران في بيت لأحد الجن. . قالت الجمهرة: (ورجل تاعس وتعس وتعيس) وقال الجني (أي أبو العلاء. .)
حتى إذا صارت إلى غيره ... عاد من الوجد بجد تعيسْ
وإذا صحت اللفظة فاليازجي ينكرها لا يقولها ولا يقول جمعها، لا يقول: التعساء.
8 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (445): (وغير ذلك من معائب الكلام)
قال الشيخ اليازجي (الضياء، السنة (1) الصفحة (452) (ويقولون في جمع المغارة مغائر، وصوابه مغاور بالواو كما يقال في جمع مفازة مفاوز لأن حرف المد إذا كان أصلا لا يهمز ومثله قولهم معائب ومشائخ ومكائد بالهمز أيضاً وصوابهن بالياء)
قلت: قال ابن يعيش: (ألا تري أنك لا تهمز ياء معيشة بل تتركها ياء على حالها في الجمع نحو قولك معايش لكون الياء فيها أصلا، متحركة في الأصل) وقد استعمل كتاب المبشرين في الصفحة (148) لفظة معايش صحيحة لأن مغلط القرآن في العربية وجدها وهو يطالع (الكتاب) ليظهر أغلاطه - كذلك فاستبقاها كما رآها ولما جاء إلى شبيهتها في قاعدتها همز، ويل له ما أجهله!
9 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (215): (إذا حانت صلاة من هذه الصلوات دعاهم إليها المؤذنون من مآذن مساجدهم إذ لا يجوز عندهم قرع النواقيس كما تفعل النصارى)
قال الشيخ اليازجي (الضياء السنة (7) الصفحة 515): (إنما النواقيس جمع ناقوس وهو كما فسره صاحب القاموس خشبة كبيرة طويلة تقرع بخشبة قصيرة يقال لها الوبيل إيذانا(277/18)
بوقت الصلاة، وكل أحد يعلم أن هذا النوع هو لا يعرف له وجود في جميع أوربة)
(قلت): لو كان مترجم (مقلة في الإسلام) وذو الذيل هو اليازجي ما قال (النواقيس) لأن اللفظة في الأعجية هو وسأل منشئ (المقالة) يجهل الناقوس في الشرق، ولا يغنى إلا الذي عرفه في بلاده. فلن يستعمل اليازجي ما نقده، ورأى أنه وضع في غير مكانه.
10 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة (30): (فكم من قائد جيش زحف عليهم فعاد عنهم بالفشل)
قال الشيخ اليازجي (الضياء) السنة (5) الصفحة (564): (ومثل هذا لا يتصور من الفشل لأن معناه الجبن والفزع والضعف)
(قلت): يقصد كتاب المبشرين أنه رجع بالخيبة، والفشل في الأقوال العربية والمعجمات كلها: الجبن والضعف والفزع وما أشبه ذلك، وهو الفشل - بكسر السين وسكونها للتخفيف - والجمع إفشال. وفي (الأساس): دعي إلى القتال ففشل أي جبن وذهبت قوته، وعزم على كذا ثم فشل عنه أي نكل عنه ولم يمضه
11 - قال هاشم العربي الشيخ اليازجي (كتاب المبشرين الصفحة 320): (أفتدري بكم من سنة قبل أن أخلق قد كتب التوراة)
قال الشيخ اليازجي في مختصر (كتاب نار القرى في شرح جوف الفرا): (إن كم تخص بجواز جرماً يرمى بعدها بإضمار من وذلك إذا دخل عليها حرف جر نحو بكم درهم تصدقت قاصداً للمشاكلة بينهما. غير أن النصب هو المختار ولا يجوز عند الجمهور إظهار من لأن الحرف الداخل على كم عوض عن التلفظ بها)
قلت: لن يقول اليازجي (ولا يجوز) ثم يجيز، وقد قال سيبويه: (وسألته (يعني الخليل) عن (على كم جذع بيتك مبني) فقال القياس النصب، وهو قوله قول عامة الناس، فما الذين جروا فانهم أرادوا معنى (من) ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفاً على اللسان، وصارت (على) عوضاً منها. ومثل ذلك: الله - بكسر الهاء وفتحها - لا أفعل، وإذا قلت لاها اللهِ لا أفعل لم يكن إلا الجر، وذلك أنه يريد لا والله ولكنه صار (ها) عوضاً من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه ومثل ذلك آلله لتفعلن إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجر وحذفوا تخفيفاً على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلاً منه في اللفظ معاقباً) وروى ابن يعيش في شرح(277/19)
(المفصل) قول (الكتاب) مؤيداً.
وقال شارح (الكافية): فكأن الجار الداخل على كم داخل على مميزه فالجر عند الزجاج بسبب إضافة كم إلى مميزه كما في الخبرية، والمجوَّز قصدُ تطابق كم ومميزه جراً، وعند النحاة هو مجرور بمن مقدرة) وقال محمد بن مالك:
وأجِزَ أن تجره (من) مضمراً ... إن وليت (كم) حرفَ جر مظهراً
وقد جاء مثل (الصبان) في آخر الزمان يقول: (وقيل يجوز نحوبكم من درهم اشتريت) وقد قال قبل ذلك: (ظاهره منعُ ظهور من عند دخول حرف الجر على كم وهو المشهور لأن حرف الجر الداخل على كم عوض من اللفظ بمن المضمرة)
الإسكندرية
(* * *)(277/20)
تسهيل الدراسة الدينية
للأستاذ داود حمدان
بمناسبة ما أثير من جدل حول تيسير قواعد اللغة العربية يصح للإنسان أن يبحث في تسهيل الدراسات الدينية أيضا، فأنها في حالها الحاضر من الصعوبة والعقم بحيث تستدعي البحث وكثرة التفكير، ولعل هذه الكلمة تفتح الباب للباحثين. والله الموفق.
لاشك أن الدراسة الدينية في حالها صعبة، وغير مؤدية إلى فائدة، لاسيما في تعليمها العالي، وبالموازنة بين الماضي والحاضر يظهر الفرق العجيب.
لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بتبليغ الدين، عملا ًبقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) كان الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على دين مما يعرف الجاهليون إذ ذاك فيمكث عنده ساعة من زمان يتلو عليه النبي فيها بعض آي القرآن الحكيم، فيقوم الرجل من عنده وهو مسلم حسن الإسلام، مؤمن كامل الأيمان، عالم بما أوجبه الله وما حرمه عليه.
واليوم يذهب المسلم المولود من أبوين مسلمين إلى أعلى معاهد العلم الديني فيشتغل بضع عشرة سنة، ثم يرجع إلى قومه وقد زادت الفوارق بينه وبين الدين كما زادت بينه وبين الناس.
وكان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فيتلقفون القرآن ويتدارسونه، فيملئون الأرض علماً وحكمة، كما يملئونها طهراً وعدلاً وصلاحاً.
واليوم يتخصص أوفرهم ذكاء، وأكثرهم اجتهاداً، وأصبرهم على الدرس، سنوات عديدة وقصاراه أن يحصل بعض ما علموه، وبتحلي بحفظ بعض ما قالوه. واليوم يدرس الدارس بضع عشرة سنة ويظل العامي أكثر منه ورعاً وتقوى.
بهذه الموازنة يظهر بكل وضوح أن تعليم الدين في الماضي كان مؤدياً أجل النفع، وأعظم الفائدة، وأنه في الحاضر قليل النفع والفائدة، بل ضار أعظم الضرر.
فالامَ يرجع السبب هذا الاختلاف بين الماضي والحاضر؟ هذا سؤال لم يكن أحد ليعيا بالجواب عنه إذا علم من أين كان يؤخذ الدين بالأمس، ومن أين يؤخذ اليوم.
إن المسلمين كانوا يأخذونه من القرآن، ثم صاروا يأخذونه من غير القرآن، وما القرآن(277/21)
عندهم - والحالة هذه - إلا مادة كمالية. ومهما أنكروا هذا بألسنتهم فهم ملزمون به من عملهم.
ألا ترون أن طالب العلم الديني يدرس كتب الفقه ويعرف أحكام الدين - في زعمهم - ويدرس كتب التوحيد والعقائد قبل أن يدرس القرآن وتفسير القرآن؟ بل ربما لا يحضر دروس التفسير أصلاً، وإن هو حضرها فلا يستطيع أن يأخذ منها حكما واحداً لأن طريقتها لا تعود الاستقلال في الفهم ولأنه نشأ على ذلك.
في صدر الإسلام كان النبي عليه السلام لا مادة عنده للدين غير القرآن، فمنه كان يعلم الناس، وبتلاوته عليهم كانوا يسلمون لما يأخذهم من روعة وبلاغته، وصدق لهجته، والشعور بإعجازه. وبالقرآن كان الصحابة ومن بعدهم يبلغون الدين. وفي تلك الأوقات كان النابغون في علم الدين أكثر من أن يحصوا، بل تستطيع أن تقول إنه لم يكن أحد حينئذ يقلد أحداً فيه، وإذا جهل أحد شيئاً فإنما كان يرشده به للدليل ولا يلقنه الحكم تلقينا.
ولما فشا التأليف، وأكثر المتعلمون من قراءة الكتب التي ألفها أصحابها فيما استنبطوه من الأحكام الفقهية، والمجادلات الذهبية، نقص معدل النبوغ، ثم صار يزداد نقصاً كلما كثرت المؤلفات الفقهية وأقبل الناس على دراستها. فلما كان العصر الخامس بدت تلك القولة المجرمة الأثيمة، ألا وهي سد باب الاجتهاد، وصرح بعض الفقهاء أن الاجتهاد بعد الأربعمائة منقطع، وذلك لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس. فضعفت الهمم، ومازالت الأمة إلى الوراء حتى عصرنا هذا. فالمسلمون من العصر الخامس حتى اليوم، بل من العصر الثالث لا يأخذون الدين إلا من كتب الفقه والكلام طبقة عن طبقة؛ فكل طبقة تنظر في كلام سابقتها وتشرح أو تعلق أو تؤول، حتى وصلنا الدين بحالته الحاضرة وبعبارة صريحة: وصلنا وهو بعيد عن القرآن ألفا وأربعمائة سنة. إي والله ألفاً وأربعمائة سنة نحن بعيدون عن القرآن، وإن كنا نتلوه للتبرك، وذلك بسبب الالتواء في الدراسة. وقد وصدق علينا المثل العامي: تمسك من الدين بذيله: نترك رأس النبع وهو القرآن، ونأخذ من ذلك الرشاش المتطاير منه إلى إفهام الناس. أفلا ينظر المسلمون إلى أي هوة وصلوا من جراء هذا؟! كانوا عند ما لحق الرسول بالرفيق الأعلى أمة واحدة، لا يعرفون لهم إماما إلا القرآن. وأصبحوا لا تحصى فرقهم ومذاهبهم وشيعهم. ولكل فرقة أو شيعة إمام غير(277/22)
القرآن.
لا يقولن قائل إن السبب في بعض الاختلافات كان سياسياً. فإن الاختلافات السياسية كان ينبغي أن تموت بموت سببها، ولكن بقاء الكتب وداستها فيما بعد، دون دراسة القرآن الكريم بعقل مجرد عن تأثير تلك الاختلافات، هو الذي أبقاها
وكان المسلمون لا يتركون القرآن إلى سواه، ولا يبحثون عن حديث الرسول في قضية ما إلا إذا لم يجدوا لها نصاً في كتاب الله، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة. فإذا اضطروا إلى حديث أخذوه بكامل التحري. واصبحوا اليوم (ولديهم مئات الألوف من الأحاديث) يجعلونها في مرتبة القرآن ويختلفون: هل ينسخ الحديث القرآن أو يقيد مطلقه ويفصل إجماله؟! وصاروا يؤولون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليوافق كلاماً رووه، ولو حققوا لما رووه. وذهبوا إلى أبعد من هذا فأولوا القرآن ليوافق مذاهبهم ونحلهم، وأقربهم اعتدالاً أول آية التيمم لتوافق المذاهب المعروفة وعدها من المشكلات، ولم يجز لنفسه أن يؤول تلك المذاهب لتوافق القرآن. ولعل أصحاب المذاهب لو انتبهوا لمخالفة القرآن لرجعوا إليه.
وكان الدين سمحاً سهلاً قليل التكاليف، يستوي في فهمه البدو والحضر، والأذكياء والبلداء، والمتعلمون والعوام، لكونه دينا عاماً لا يختص بطبقة دون طبقة، ولا يقبل دون قبيل.
فمن المعقول ألا يختلف في إدراك عقيدته، ومعرفة تكاليفه أقل الناس إدراكاً عن أعلاهم ذكا، ولكن الاختلاف إنما يكون في طرق الاستدلال. فالفيلسوف يستدل على وجود الله بفلسفته، والطبيب بما يرى من دقائق تركيب الجسم، والحراث مثلاً يستدل عليه بما يقع تحت حسه من نبات وحيوان وكيفية نشأته ونظام حياته - أقول كان الدين سهلاً ولكن كتب العقائد هي التي جعلته صعباً عسير الفهم، لأنها من الكبر والاتساع بحيث تحتاج إلى سنين لدراستها، ومن الدقة والعمق بحيث يعيي فهمها الأذكياء والعباقرة. وكذلك الفقهاء الذين فرعوا الفروع، وفرعوا من الفروع فروعاً (وولدوا البنات من الأمهات، كما يقول ضاربو الرمل) حتى فضوا المستحيلات، فهؤلاء قد طمسوا على سماحة الدين، وجعلوه كثير التكاليف، كثير الحشو. وأذكر مما يحضرني الآن مسألتين: قالوا: بعد أن يتوضأ المتوضئ أينشف أعضاءه أم لا؟ وجعلوها مسألة خلافية. ومن العبث والغفلة أن يقال إن هذه المسألة(277/23)
تدخل في حساب الدين، فالمقصد الطهارة وقد حصلت بالوضوء، ولا ينظر الدين إلى ما وراء هذا. والمسألة الثانية أنهم أدخلوا في الدين ما ليس منه كمسألة الأزياء والملابس، فألف بعضهم كتاباً في سنية العمامة. وما لبس النبي العمامة إلا لأن بيئته كانت هكذا تقتضي، ولو نشأ في بيئة أخرى تلبس غير العمامة كما يلبسون، لأنه عليه السلام ما جاء لتغيير الأزياء، ولكن لتغيير العقائد.
بهذا الحشو وأمثاله امتلأت كتب الفقهاء، وبهذا وأمثاله يضيع الذين يتعلمون العلوم الدينية زهرة شبابهم، وصفوة عمرهم وقوة تفكيرهم، حتى إذا انتهوا منه كانوا بعيدين عن الدين مراحل عديدة، مقدارها ألف وأربعمائة سنة.
لقد جرى إصلاح في منهج دراسة الدين في بعض المعاهد الدينية، وينبغي أن يجري الإصلاح أيضاً في مادة الدراسة الدينية، وذلك يكون بأمرين: الأول: دراسة اللغة العربية بطريقة سهلة غير طريقة الكتب التي تدرس الآن. والثاني: دراسة القران نفسه، وأخذ الأحكام والأخلاق والمعارف الدينية منه بقطع النظر عن المذاهب، وطريقة ذلك كما يلي:
1 - في دور التعليم الابتدائي
من اللغة يعطي التلاميذ جملاً وقطعاً من منثور الكلام البليغ بقدر ما تتسع طاقتهم لحفظه، ومن الغلط أن يختار لهم من أقوال العصور المتأخرة، فإن القصد أن يقروا من لغة القرآن، وتتجنب ألفاظ الغربية. وكل ما شاكل ألفاظ القرآن فهو مأنوس وليس بغريب. وكلما ارتقى التلاميذ يزداد لهم في المقدار الذي يحفظونه. وعند شرحه بكلمة أو كلمتين؛ ويستطيع المعلم الحاذق أن يبين للتلاميذ موقعاً لكلمة من رفع أو نصب الخ باختلاف الجمل، وبالتكرار تنطبع في ذاكرتهم، فيتعودون النطق الصحيح بسهولة، وبممارستهم الكلام البليغ يتربى فيهم الذوق العربي. وبعد الثالث الابتدائي تشرح لهم الجمل شرحاً نحوياً بسيطاً ويزداد كلما ارتقوا. ومن الرابع فصاعداً تكون اللغة الفصحى لغة الدراسة في جميع المواد ولغة التخاطب، ويستعملون ما حفظوا من الكلام البليغ. وليس هذا غريباً بين العرب، حتى ولا بين غيرهم، فإن الإنكليزية لغة الدراسة والتعليم في جميع مدارس الهند، وليست أسهل من اللغة العربية. هذا من اللغة.
ومن القرآن يحفظ التلاميذ أكبر قسط يمكنهم على الترتيب: من سورة الناس فصاعداً.(277/24)
وتختار لهم الآيات التي فيها أحكام التكاليف وتشرح لهم بإيجاز. وتختار لهم آيات أخلاقية وتشرح بإيجاز.
2 - في دور التعليم الثانوي
من اللغة يعطى التلاميذ الشيء الكثير من منثور القول ومنظومه على أن يكون من أقوال العصر الأول والثاني، ويشرح لهم شرحاً يشمل النحو والمعاني بتحليل تتحمله عقولهم، ويزداد كلما ارتقوا. ومن القرآن يحفظون قدراً كافياً مرتباً أو مختاراً ويدرسون آيات الأحكام بتوسع، ويقدم الإلزام فالإلزام، وتؤخر مثل أحكام الطلاق واللعان إلى السن المناسبة، ويعودون الاستنباط بأنفسهم، ويدرسون قسطاً وافراً من آيات الآداب والأخلاق والعبر، والآيات الكونية والاجتماعية، ويحفظون شيئاً من الأحاديث المختارة في الأدب والاجتماع، وتكون لغة الدراسة والتخاطب اللغة كما سبق.
3 - في دور التعليم العالي
(وهذا لا يكون إلا في معاهد العلم الديني، لأن غيرها لا تدرس الدين مادة في الصفوف العالية) في هذا الدور تدرس آداب اللغة العربية بتوسيع، وأعنى الآداب نفسها، لا تاريخها، فإن دراسة تاريخ الآداب شيء قليل الفائدة، وتشمل دراسة الآداب دراسة الحديث الشريف على أنه نمط من أنماط الكلام البليغ. ويدرس القرآن كله بلا استثناء دراسة وافية تؤخذ منها العلوم والمعارف الإسلامية، والبدائع اللغوية؛ ويراعى في هذا الدور أن يكون التدريس مجرد إرشاد لطريق الاستنباط وتطبيق القواعد. ويطالب الطلبة بالاستنباط بأنفسهم، وبمعرفة الخطأ والصواب بعرضه على مقاييس العلم والأدب. ويدرس الحديث على أنه مادة من مواد الدين تؤخذ منها الأحكام والحكم والمواعظ، ولكن ينبغي أن تكون شروط صحة الحديث غير الشروط الحاضرة فيحذف أولا كل ما نشأ أو يظن أنه نشأ عن أسباب سياسية، أو لتأييد فرقة، أو بقصد الهدم كالأسرائيليات، ثم يجعل للمعنى حظ من الاعتبار كما للرواية، أي ليس كل ما استكمل شروط الرواية كان صحيحاً حتى يستكمل شروط صحة المعنى أيضاً. وفي هذا الدور يدرس النحو في بعض الكتب المعتبرة المؤلفة قديماً تثبيتاً لما تلقنوه من القواعد أثناء الشرح، وزيادة في البحث، وفي نهاية هذا الدور أو(277/25)
في دور التخصص تدرس بعض كتب الفقه والأصول والتوحيد للاطلاع والبحث. لا لتأثر خطواتها وتقليدها.
بهذا تسهل دراسة الدين وتؤتى أكلها بأذن ربها، ويلاحظ هنا أن الكلام في دراسة الدين وأنه ليس المقصود أن تقتصر الدراسة في المدارس على مادتي اللغة والقرآن فان مواد العلوم الأخرى لها مكانها من برامج الدراسة.
ليس المجال متسعاً للتفصيل والشرح فهذه اقتراحات يمكن نقدها وتحسينها والزيادة عليها، ولكن لا يمكن قط أن يقال: إن دراسة كتب الفقه أجدى في الدين من دراسة القرآن وأحب أن ألفت النظر إلي أنه ليس بيننا وبين النابغين الأولين في علوم القرآن إلا إتقان اللغة العربية، وأنها ليست صعبة كما يتصورون، وأن ثلاث سنين تكفي لإتقان علومها إذا هذبت طرق تعليمها كما قال الأستاذ الإمام محمد عبده
ولا أحدثكم بعد عن الفوائد التي نجنيها من إتقان اللغة العربية ودراسة القرآن، فإن الهداية والتقوى تكون ملازمة للعلم بأحكام الدين لملازمة ذكرهما في آية واحدة أو آيتين متجاورتين، ولما يغمرنا من الشعور ببلاغة القرآن وسلطانه على النفوس، ثمرة ذوقنا اللغوي الذي نكتسبه من ممارسة اللغة. أما الفوارق المذهبية والشيع المختلفة فإنه يقضي عليها بأذن الله، ويصبح المسلمون - كما كانوا - أمة واحدة يتعاونون على البر والتقوى. والله الموفق
(فلسطين)
داود حمدان(277/26)
البحث عن غد
للكاتب الإنكليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
- 5 -
الفجر في سوريا
المجاهد
إن للسياسة أثراً بليغاً في تفكير السوريين لا يجاريها فيه شيء، فإن سورية كلها تشكو من مرض واحد هو شدة الحيوية السياسية. وهي الحيوية التي مازالت في الشرق الأدنى مطلقة لا تقيدها عوامل ضبط النفس أو الشعور بالمسئولية المدنية إنه لمن الصعب جداً معرفة الفروق الرئيسية التي تفصل الحزب الحاكم عن المعارضين الذين لا يسمح لهم بأن يمثلوا في مجلس النواب. ومع ذلك فإن الطموح الشخصي وميل البعض إلى الشعوذة حملا كلا الفريقين على الاعتقاد بأن الفوارق بينهما عظيمة كما أن كل جهة راحت تتهم الأخرى بسوء الائتمان وتزعم أنها هي الممثلة الوحيدة للوطنية الحقة - وبهذا تقيم الأحزاب البرهان على أنها تحافظ على التقاليد الشرقية تمام المحافظة.
ومن أعظم ما أدهشني في سورية الرغبة الشديدة عند رجال السياسة في الإعلان عن آرائهم. ومع أن البعض نبهني إلى أني لن أحظى من السوريين إلا بتصريحات عامة وغامضة فقد وجدت السياسيين يندفعون في الحديث بعد مضي خمس دقائق أو عشرة على بدء اجتماعي بهم ويصرحون بما يزيد على مطلوبي، فكان علمهم بأني رجل محايد لا أهتم بالسياسة كثيراً يدفعهم إلى الاعتراف أو الشرح أو الاتهام. وعلى كل حال فقد كان لهذه الاعترافات عندي أهمية كبرى من الناحية النفسية إذ أنها أطلعتني على بعض الأمور التي سيكون لها أثر فعال في حياة العرب السياسية في المستقبل وإن كانت هذه الأمور نفسها غير واضحة تماماً الآن.
وقد وصلت الصراحة ببعض السياسيين إلى حد أنهم بينوا لي الوسائل التي يودون تسخيرها للنيل من سمعة الحزب المستولي على الحكم. وبالرغم من أن تهديداتهم كانت(277/27)
فارغة وأنها ربما لن تتجاوز حد الكلام إلا أنها كانت دليلاً قاطعاً على فقدان روح المسئولية في الأسلوب السياسي المتبع. فالمعارضون يعتبرون القابضين على زمام الحكم في عداد الخونة، وهؤلاء يعتقدون أن الواجب يدعوهم إلى اتخاذ أي تدبير كان ماداموا يعتقدون فيه الصلاح. وعلى هذا فإن كلا الفريقين يسير على غير بصيرة في طريق ينهى عنه العقل السليم ويجعل ادعاء كل منهما الإخلاص في العمل على نفع الأمة وزعمه أنه مستعد للموت في سبيلها كلاماً بلا معنى.
لقد ظهر لي أثر العاطفة المتطرفة في السياسة بجلاء لما زرت أحد أعداء الحكومة وكان من قواد الثورة على الفرنسيين عام 1925. ولم يؤكد لي أشخاص مختلفون بأنه كان يقود الحملة تلو الأخرى ضد الفرنسيين لما صدقت قط أن هذا الرجل كان في يوم من الأيام مصدراً عظيماً لقلق القيادة العسكرية الفرنسية فقد استقبلني عندما زرته في ساعة متأخرة من الليل بجلباب من الحرير الأبيض الفاخر الموشي بخيوط حمراء وذهبية وكان يقطن (شقة) حديثة فخمة. وهو خريج جامعة ألمانية مشهورة ولكنه يتكلم الإنكليزية بسهولة وعذوبة تتناسب مع سكناه في منزل جميل وارتدائه الحرير الأبيض لاستقبال الضيوف الأجانب.
ذكرت لمضيفي بعض رجال الحكومة فانفجر واتهمهم بالخيانة وسوء الائتمان، وعندما سألته عن الوسيلة الناجمة لإزالة الفساد المالي من حياة سورية السياسية أجاب على الفور وبلا تردد:
- (يحب أن نقتل هذه الفئة المسيئة أولا)
فأخذتني الدهشة وسألته:
- (ومن تقصد بذلك)؟
- (الذين بيدهم الحكم فهم لا يعلمون إلا لتحقيق مصالحهم الخاصة)
- (ولكن، لي من المعقول أن ترغب في قتلهم لمجرد اعتقادك انهم غير نزيهين)
- (القتل هو الطريقة الوحيدة لتعليمهم النزاهة في الحكم. يجب أن نقتلهم، وسنقتلهم عندما يحل الميعاد)
- (وهل تعتقد حقاً أن القتل مازال في هذا العصر الحديث أحسن وسيلة للتهذيب(277/28)
السياسي)؟
- (نعم، ففي الشرق الأدنى لو يزل القتل أحسن واسطة. إنه ليس من المؤكد أن ننفذ القتل في هذه السنة أو التي تليها ولكنك عند ما تعود إلى سورية بعد بضعة أعوام ستشهد بعض التبدلات الخطيرة، وربما وجدت بعض الأشخاص الذين تعرفت إليهم هذه المرة قد انتقلوا إلى غير هذا العالم)
لقد تفوه بهذه العبارات القاسية بكل هدوء، مثله في ذلك مثل البط البري الذي لا تؤثر المياه في أجنحته عندما يغطس في البحيرة. وقد اتضح لي أنه لا يعترف بأية صلة بين الدعوة التي أخذ يبشر بها وبين ما يترتب على تطبيق وسائلها من عواقب مخيفة، فهما في نظره أمران لا ارتباط بينهما.
مما لاشك فيه أن لشخصية هذا الرجل جاذبية قوية يعترف بها أعداؤه أنفسهم. وكانت حقيقته تخفى عن الناس بفضل الجاذبية ولفضل طريقته في الكلام عن أهم معتقداته بلهجة عادية كأنه يشرح أمراً بسيطاً. لقد وخط المشيب رأسه، ومع ذلك فقد كانت حركاته كحركة الفتيان تدل على قوة العضل ومرونته.
أني صدقت القصص التي رواها لي عن عمله مع لورنس إذ كانا يشتركان في نسف القُطرُ العثمانية والتمتع بنشوة الحرب والقتل يتحلى هذا الرجل بكل الصفات الخيالية التي تجعل في الثائر العربي فتنة للزائر الأجنبي، وخصوصاً إذا كان هذا الزائر جاهلاً بما هو مخبوء وراء ذلك السحر الخارجي. إني لأذكر في هذه المناسبة العبارات التي قالها رجل بريطاني عقب زيارته لمفتى فلسطين: (يالها من عيون بريئة! ياله من وجه صبوح جميل!) لم تكن عيون مضيفي في دمشق بريئة ولكنه كان يتغنى بالآداب الاجتماعية التي لقنته إياها المدينة الغربية، ومع ذلك فان تمدينه الظاهر الذي يتنافى مع ما يخيفه من غرائز أولية ربما كان عائقاً يؤخر إصلاح الشرق أكثر من الوطنية المتطرفة المصحوبة بالنية الحسنة التي يتصف بها فخري البارودي. ومع أن هذا المضيف قد استنشق الهواء في جامعات أوربية مختلفة وكان ينتقل بين أثاثه الضخم بكل ثقة واطمئنان فهو لم يتعلم بعد أن القتل لم يعد الوسيلة الوحيدة لتعليم السياسيين الأخلاق. إن أمثال هذا الرجال ليعرقلون المساعي المخلصة التي يبذلها المستنيرون من العرب(277/29)
لقد أدركت عند ختام زيارتي دمشق السبب الذي جعل سورية تخرج هذا العدد الكبير قادة السياسة في البلاد العربية، كما أدركت الداعي لاعتبارها ركناً من أركان الحركة العربية الحديثة: إن في العقل السوري لفطنة، وإن في أكثر رجال السياسة في سورية لمضاء في العزيمة لم ألحظه في مصر؛ وخيل إلي في فلسطين أنه موقت يزول بزوال الظروف الحاضرة. إن جميع الصفات التي تميز الخلق العربي بارزة في شخصية السوريين بكل وضوح وجلاء، مما لاشك فيه أنهم سيلعبون دوراً رئيسياً في حياة الشرق الأدنى المستقبلة.
إن طبيعة السوريين والظروف التي أحاطت بهم جعلت منهم شعباً ثائراً، ولهذا كان منتظراً أن يعجز الفرنسيون عن إدارة سورية في جو هادئ. غير انه لا يمكن اعتبار فرنسا وحدها مسؤولة عن تمرد السوريين وما أنتجه من حركات منذ عام 1920، كما أنه ليس من المؤكد أن تنتهي المنازعات الداخلية بعد نيل سورية استقلاها التام عام 1939 إذ أن السوريين في أشد الحاجة إلى كثير من التهذيب السياسي والاعتياد على ضبط النفس ليصونوا البلاد من التفكك الداخلي. إن أمثال الدكتور الكيالي يجب أن يجدوا ويجتهدوا لكي يجعلوا الصداقة الأبدية مع فرنسا التي يدعو إليها المسيو إده في لبنان بأعلى صوته ضرورية لسورية.
علي حيدر الركابي(277/30)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 41 -
رسائل القراء إليه:
المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم. . . شاب له خلق ودين، وفيه اعتزاز بالعربية والإسلام؛ فهو من ذلك يحب الرافعي وينتصر له، ويتبع بشوق وشغف كل ما ينشر من كتب ومقالات. ولكنه مع ذلك يحب العقاد وينتصر له، ويراه صاحب مذهب في الشعر ورأي في الأدب، جديراً بأن يتأثر خطاء ويسير على نهجه. وليس عجيبا - فيما أظن - أن يجتمع الرأي لأديب من الأدباء على محبة الرافعي والعقاد في وقت معاً، كما أنه ليس عجيباً أن يتعادى الرافعي والعقاد أو يتصافيا ما دام لكل منهما في الأدب طريق ومذهب؛ ولن يمنع ما بينهما من العداوة أو من الصفاء، أن يكون لكل منهما قراؤه المعجبون به، أو يكون لهما قراء مشتركون يعجبون بما ينشئ كل منهما في فنون الأدب؛ وإنما العجيب أن يبلغ إعجاب القارئ بالكاتب الذي يؤثره إلى درجة التعصب؛ فلا يعتبر سواه، ولا يعترف لغيره أن يكون له مكان بين أهل الأدب. . . على أن شأن صاحبنا المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم مع الرافعي والعقاد يبعث على أشد العجب وأبلغ الدهشة. . . إنه يحب الرافعي ويؤثره، ويعجب به إعجابا يبلغ درجة التعصب؛ وإنه يحب العقاد كذلك ويعجب به ويتعصب له. . . لكل منهما مكانه من نفسه، مكان لا يتسع إلا له، ولا يزاحمه فيه خصمه؛ ولكنه يحبهما معاً، ويعجب بهما معاً، ويتعصب لهما معاً!
رأيان يتواثبان، وشخصيتان تتناحران، وإسراف في التعصب لكل منهما على صاحبه؛ فأين يجد نفسه بن صاحبَيْه اللذين يؤثر كلاَّ منهما بالحب والإعجاب والأستاذية؟
صورة طريفة وقعتُ عليها فيما وقعت بين رسائل الرافع!
هذه رسالة من الأستاذ إبراهيم إلى الرافعي يقول فيها: (سيدي، إنني أحبك، وأعجب بك،(277/31)
وأتعصب لك؛ ولكن موقفك من العقاد يا سيدي. . . ليت شعري لماذا تتخاصمان؟. . . لقد كنت على حق. . . ولكن العقاد على حق. . . هل تأذن لي أن أكون رسول السلام بينكما؟)
ثم لا تمضي أيام حتى يعود فيكتب إلى الرافعي رسالته الثانية: (معذرة. . . أنك لتتجنى على العقائد تجنيا ظالماً، فما لك وجه من الحق في عدائه والحملة عليه. لقد عقمت العربية فلم تنجب غير العقاد. . . وإنك أنت. . . إنك كبير في نفسي، كبير جداً، وإني لأقلب تاريخ العربية بين يدي فلا أجد غير الرافعي. . . أنت. . . والعقاد. . . أين ترى يكون اللقاء؟)
وعلى هذا المثال قرأت لصاحبنا المحامي الشاعر بضع رسائل بينما خلف الرافعي من أوراق، تملأ النفس عجباً ودهشة. وآخر مما وصل إلى الرافعي من رسائله، رسالتان، كتب إحداهما في المساء، وكتب الثانية في صباح اليوم التالي؛ ولولا خط الكاتب، ونوع الورق، وخاتم البريد، لما حسبتهما إلا رسالتين من شخصين لو أنهما التقيا في الطريق لتضاربا بالأكف. . .!
على أن الرافعي مع ذلك كان يرد على رسائله! ووددت لو ينشر صاحبنا بعض رسائل الرافعي إليه!
والآنسة الأدبية ف. ز. معلمة في إحدى مدارس الحكومة كان أبوها زميلاً للرافعي في محكمة طنطا، وكان بينهما صلة من الود، فلما مات لم تنس أبنته صديق أبيها، فكانت تستعينه في بعض شؤونها، ومن ثمة نشأت بينهما مودة، فكانت تراسله ويراسلها، ومن رسائلها إليه كان له علم جديد في شئون وشئون.
صحبته إلى زيارتها مرة في ليلة من ليالي الشتاء، مع الصديقين كامل حبيب وسعيد الرافعي؛ فلقيناها مع بعض صديقاتها، وكانت جلسة طالت ساعات، اعتقد أن الرافعي قد أفاد منها بعض معانيه في قصة (القلب المسكين!). . . وقد أنشأت هذه الرسائل بين بعض قرائه وبينه صلات عجيبة من الود؛ فهو منهم أب وصديق ومعلم ومشير؛ وجلس على (كرسي الاعتراف) فترة غير قصيرة من حياته، تفتحت فيها عيناه على كثير من حقائق الحياة لا يبلغ أن يصل إليها من رحل وطوف. وكان له في كل دار أذن وعلى كل باب(277/32)
رقيب عتيد! ولست بمستطيع أن أفسر سّر هذه الثقة العجيبة التي ظفر بها الرافعي من قرائه؛ ولكني أستطيع أن أجزم بأنه كان أهلاً لهذه الثقة؛ فما أعرف أنه باح بسرَّ أحد فسماه أو عرَّف به، وما أطلع على رسائل قرائه أحداً غيري إلا قليلاً من الرسائل كان لا يرى بأساً من إطلاع نفر قليل من أصحابه عليها لغرض مما يستجرَّه إليه بعض الحديث في موضوعها؛ بل إن كثيراً من هذه الرسائل قد أخفاه عني - وما كان بيني وبينه حجاب أو سر - فما عرفت خبرها إلا بعد موته. ويستطيع أصحاب هذه الرسائل أن يطمئنوا إليَّ؛ فستظل أسرارهم - في يدي - مصونة عن عيون الفضولين، فلم أتناول الحديث عنها إلا من حيث يدعوني الواجب لجلاء بعض الحقائق في هذا التاريخ.
وكان له مراسلون دائمون. . يجدون الكتابة إليه جزءاً من نظام حياتهم، فلا تنقطع رسائلهم عنه، ولا يخفي عليه شيء من تطورات حياتهم وقد أكسبهم طول العهد بالكتابة إليه شيء من الأنس والاطمئنان إليه كما يطمئنون إلى صديق عرفوه وجربوه وعايشوه طائفةً من حياتهم؛ وأن القارئ ليلمح في هذا النوع من الرسائل الدورية التي يبعث بها إليه هؤلاء الأصدقاء الغرباء، مقدار ما اثر الرافعي في حياتهم منذ بدأت صلتهم به، فتطورت بهم الحياة تطورات عجيبة؛ وأدى الرافعي إليهم دَينه وأثر فيهم بمقدار ما كان لهم من الأثر في أدبه وفي حياته الاجتماعية. وإني لأضرب مثلا لواحدة من هؤلاء الأصدقاء: فتاة من أسرة كريمة في دمشق، نشأت في بيت عز وغنى وجاه، وهي كبري ثلاث نشأن نشأة يفاخرن بها الأتراب؛ ثم تقلبت بهن الحياة فإذا هن بعد الغني والجاه ناسٌ من ناس. . واضطرت الكبرى أن تخرج إلى الميدان عاملة ناصبة لتعول أسرتها، وكان لها من ثقافتها وتربيتها معين ساعدها دون أختيها في ميدان الجهاد؛ وعلى أنها كانت أجمل الثلاث وأولاهن بالاستقرار في بيت الزوج الكريم فقد سبقتها أختاها إلى الرفاء والبنين والبنات وضلت هي. . وما كان ذلك لعيب فيها ولكنة سرَّ لم يلبث أن أنكشف لعينيها: لقد كانت هي وحدها ومن دون أختيها التي تستطيع أن تعول أسرتها لأنها عاملة. . .
وتألمت حين عرفت السَّر ولكنها كتمت آلامها وظلت (صابرة) ومضت الأيام متتابعة والأماني تخلف موعدها؛ وتحركت فيها غريزة الأمومة ولكنها قمعتها بإرادة وعنف ومضت تصارع الطبيعة وتتحدى القدر بعزيمة لا تلين؛ ولكنها لم تلبث أن أحسَّت بوادر الهزيمة(277/33)
بعد طول الكفاح فشرعت قلمها العذب وكتبت رسالتها الأولى إلى الرافعي بإمضاء (الصابرة) وقرأ الرافعي رسالتها ثم قص على خبرها وتندت عيناه بالدموع: يالها من فتاة باسلة!
وأجابها الرافعي على رسالتها بتذييل صغير في حاشية إحدى مقالاته في الرسالة. . وعادت تكتب إليه وعاد يجيبها وتوالت رسائلها ورسائله وقد كتم اسمها وعنوانها عن كل أحد - وكانت كتبته إليه في ورقة منفصلة في إحدى رسائلها ليمزقه وحده إن عناه أن يحتفظ برسائلها - وكان لها الرافعي كما أرادت: أباً وصديقاً ومرشدا ًومشيراً؛ ولم يأبَ عليها في بعض رسائله أن يتبسط في الحديث إليها عن قصة (القلب المسكين) لعلها تجد فيما يكتب إليها من شئونه عزاء وتسلية. . وتعزت المسكينة عن شيء بشيء، وثاب إليها الاطمئنان والشعور بالرضا. وبدا في رسائلها لون جديد لم يكن في رسالتها الأولى. وأخذت تكتب إليه عن كل شيء تحس به أو تراه حولها، وتستشيره فيما جلَّ وما هان من شئونها، في سفرها، وفي إقامتها، وفي رياضتها، وفي عملها، وفي يقظتها، وفي أحلامها. . في كل شيء كانت تكتب إليه، سائلة ومجيبة، ومخبرة ومستشيرة، حتى في صلاتها مع صديقاتها وأصدقائها، وفي الخطاب الذين يطرقون بابها يطلبون يدها. . ولم يكن يضن عليها بشيء من الرأي أو المشورة. .
وكان للصابرة جزاء ما صبرت، وتحققت أمانيها على أكمل ما تتحقق أماني إنسان، وجاءها العروس الذي لم تكن أحلامها تتطاول إليه في منامها، وبرق في إصبعها خاتم الخطبة فانيهرت منه عيون! لا أريد أن أذكر من صفات خطيبها حتى لا أعرف بها وبه، وليس من حقي أن أكشف ما تريد هي أن يظل مستوراً. . . لو قلت أن خطيبها كان وزيراً لما بعدت! واستمرت تكتب للرافعي والرافعي يجيبها. . . حتى رسائل خطيبها إليها كانت تبعث بها إلى الرافعي ليشير عليها كيف تجيب، وحتى برنامجها قبل الزفاف وبعده كان بمشورة الرافعي ورأيه. . .
وجاءته آخر رسالة منها مؤرخة في 341937 (نعى الرافعي
في 1051937) تقول فيها:(277/34)
(الصديق الكريم. . .
(ما أحلى دعوتك يا صديقي وما كان أشدها تأثيراً على نفسي! لقد شعرت وأنا أقروها بسرور عميق، وتركز في ذهني أن هذه الدعوة مقبولة. . . ما أسعدني إذا صرت في المستقبل أما (أعتقد أنك تعرف تماماً أن حنيني للزواج في فيما مضى وتمردي وثورتي على هذه الحياة، لم تكن إلا لأني رأيته وسيلة للحصول على الطفل؛ فقد تنبهت في غريزة الأمومة بشكل هائل؛ تصور يا أستاذي، صرت أكره الأطفال لأني ليس لي بينهم ولد؛ وكنت إذ أرى أمَّا تعانق طفلها وتضمه إلى صدرها أحس بألم مرير ويحز بقلبي وكاد يقطعه. وكثيراً ما كنت أتشاغل وأشيح بوجهي حتى لا تقع عيني على هذا المنظر. لست حسودة والله، ولكن شدة إحساسي كانت تجعلني بهذا الوضع. . . أما الآن فأنا مسرورة لأقصى حدود السرور، وأتمنى لو أنثر الخير والسعادة على الجميع. . . . . .
(. . . والله يعلم أن ليس لي أي غاية مادية من وراء هذا الزواج، وليس قصدي منه إلا الحماية والستر، لأني مللت ومرض قلبي من فضول الناس. . .)
وكانت على نية زيارة مصر لتزور الرافعي مع زوجها، اعترافاً بحقه عليها، ولكن القدر لم يمهله حتى يحين الموعد، وحان أجله قبل أن ينظر بعينيه الفتاة التي تبناها على بعد الدار وشغلته أحزانها بضع سنين، فلما ابتسم لها القدر وتحققت أحلامها ناداه أجله وما شاركها ابتسامة الفرح وتهاني المسرة. . .!
تقول له في رسالتها المؤرخة 1511937: (الصديق الكريم. ..
(. . . ولماذا أخشى هذه المقابلة يا أستاذ؟ وهل أنت مخيف لهذه الدرجة. . . على كل حال إذا وجدت ما يرعبني فسأختبئ وراء (زوجي) ولا بد أنه يحسن الدفاع عني. لا، لا، سألبس درعاً متينة تقيني (شرّ) هذه المغناطيسية القوية، ولكني أخاف يا أستاذي أن يكون الحديد أكثر انجذاباً، وأكون حينئذ أسأت من حيث أردت الإحسان. . . صحيح أنني معجبة، ولا أزال، وسأبقى دائماً، ولكن ألا ترى أن الإعجاب و. . . قد يتفقان أحياناً وقد يختلفان؟ ثم أليس. . . معان كثيرة وأساليب عديدة. . .؟(277/35)
(تريد رأيي في صاحب القلب المسكين؟ أنت تعرفه جيداً فلماذا تريد إحراجي. . .؟
(الجمال ليس مدار بحثنا، وليس له أهمية قل أو كثر، ومع ذلك فصاحب القلب المسكين يتمتع بقسط وافر منه. اسمع، سأبدي رأيي. لا لا، ما بدَّي أقول، أستحي. . .!)
وكانت تعرف من أمره مع (فلانة) ما قص عليها في رسائله وفي رسائلها حديث كثير عنها، وقد زارتها مرة عن أمره لتنبئه بخبرها. . .
وأعتقد أن في رسائله إليها ما يكشف بعض الغموض في قصة الرافعي و (فلانة) ويكون فيه برهان إلى براهين لدينا؛ فحبذا أن تتفضل السيدة الكريمة بالنزول عن حقها في هذه الرسائل فتهديها إلينا لتتم لنا بهذه الحلقة المفقودة سلسة التاريخ!
إنها أديبة وعالمة، وإنها بذلك لتعرف حق التاريخ وحق الأدب عليها في هذه الرسائل، ولها علينا ما تشترط فنوفيه، فلعل صوتي أن يبلغ إليها في مأمنها. ضمن الله لها سعادتها وحقق لها ما بقى!
هذه قصة فتاة يجد فيها القارئ بين أولها وآخرها أشتاتاً من تاريخ الرافعي؛ وفيها مثال يبين معنى ما سميته (النقلة الاجتماعية) في حياة الرافعي بما كان بينه وبين قرائه من صلة الرسائل. على أن هذه القصة بخصوصها كان لها من عناية الرافعي حظ أيّ حظ. وقد كان على أن يكتب - بما اجتمع له من فصول هذه القصة - مقالة بعنوان (الصابرة) جمع لها فيما مع من نثار الأفكار قدراً غير قليل، وما أخره عن كتابتها إلى أن وافاه الأجل إلا انتظار الخاتمة فيما أظن، وإلا شدة احتفاله بهذا الموضوع. وهكذا نجد أن شدة احتفال الرافعي بموضوع مّا يكون سبباً في تعويقه عن كتابته أو عن تمامه: كان يحتفل بكتابة (أسرار الإعجاز) فلم يتمه، وبمقالتي (الزبال الفيلسوف) و (الصابرة) فلم يكتبهما؛ ولكن التاريخ لم ينس له.
شبرا
محمد سعد العريان
ظن بعض أصدقاء الآنسة الأديبة أمينة. ش أننا نعنيها بقولنا في الجزء السابق من هذه المقالات: (إن فتاة أدبية من أسيوط كتبت إلى الرافعي تشكو إليه أن أباها يعضلها ويذود(277/36)
الخطاب عن بابه حرصاً على بعض التقاليد) فتعذر للآنسة الأديبة من سوء ظن أصدقائها بما كتبنا، ونؤكد لهؤلاء الأصدقاء أنها غير المعنية منا بهذا القول.(277/37)
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة السير (هيو والبول)
للأستاذ أحمد فتحي
- 1 -
ننقل إلى القراء في هذا المقال وما يعقبه سلسلة فصول تنشرها إحدى الصحف الأدبية الكبرى في لندن، على أسابيع، متضمنة جواب استفتاء وجهته إلى تسعة من كبار القصصيين الإنجليز، راجين أن ينتفع شبابناً من عشاق القصة وكتابها بهذه الفصول المترجمة بكل أمانة وإتقان.
في أوائل السنة القادمة: أي بعد بضعة أسابيع، أرجو أن يتاح لي الاحتفال بانقضاء ثلاثين سنة على ظهور قصتي الأولى وإن يكن قد مضى على هذا الحادث الهامّ في تاريخ حياتي كل هذا الزمن الطويل الذي يجعل من العسير أن أستدعي كل ذكرياته على وجه التحقيق، فإنني أستطيع أن أذكر كل شيء بغاية الوضوح!
وحين يسألني الشبان، كما يفعلون كثيراً، عن طريقة لفت الجمهور إلى قصصهم الأولى، وعما صنعت أنا نفسي في مثل ذلك، يعود بي خيلي طائراً إلي الوراء، حتى ليخَيَّلُ إلى أنه الأمس القريب، حين عدت إلي بيتي في (شلسي) ووجدت ما سيجده القراء مفصلاً في هذا المقال. . .
من المحقق أن القصة الأولى التي أخرجتها لي المطبعة لم تكن أول أعمالي القصصية. فلقد بدأت أعالج كتابة القصة منذ طفولتي المبكرة. ولكنني لم أضع قصتي الناضجة الأولى إلا حين كنتُ في (ليفربول)، وبعد أن فرغتُ من دراستي في (كيمبردج)
ولقد كان سفري إلى (ليفربول) بسبب أن أبي كان يحب لي أن أكون قسيساً! وأن أتنكر (لادّعائي) الكتابة! ولهذا التحقتُ بإحدى البعثات الدينية لرجال البحرية، وامتطيتُ ظهر السفن لأداء واجبي كرجل من رجال الدين. واتصلت بكثير من النوتَّية المرحين أمامي الآحاد السعيدة. غير أنني لم أصادف نجاحاً يذكر! وبسبب ما كنت أحسَّ ُ من اندماجي مع(277/38)
مشاعر فتيان البحار، وبسبب أنني لم أكن سعيداً أبداً لإيماني بأني سأكون (قسّيساً) فاشلاً، مما بعث في نفسي مضاضة وحزناً! ولقد عاونتني الأمسية التي كنت أقضيها في بيتي على كتابة سبعة فصول من قصتي الأولي، وكان اسمها (الدير)، وقد ثبت عندي أنها كانت بشيراً بأخرى كتبتها بعد ذلك بأمد أسمها (الكاتدرائية)، وبعد هذه الفصول السبعة ازدحمت في ذهني شخصيات كثيرة من أبطال قصة (الدير) وأخذت تختلط وتختلط حتى فقدت قيمتها ومميزاتها. ولقد عّلمني ذلك شيئاً. والحق أن الفصل الأول من هذه القصة قد احتفظ به ذهني حتى جعلت منه (الفصل الأول) في قصة أخرى كتبتها بعد ذلك باسم (الفضولي)!
ولما أدرك أبي أنني لا يمكن أن أكون قسيساً، ظن أنني قد أصلح لأكون مدرساً! ومِنْ ثمَ وجهني إلى ألمانيا وفرنسا لأتعلم لغة كِلّ من البلدين العظيمين. ولكنني لم أتعلم لغة هذه ولا تلك، وإنما كتبت قصة طويلة كاملة أسمها (تروىْ هانتون)! ليس في وسع ألفاظ أن تعبر عن كيفية انكبابي على الكتابة. . . وبعد أن فرغت منه هذه القصة كنت شديد الإيمان بأنها من روائع الفن القصصي! وهذا ما لا أعتقد الآن في شيء من كتبي! فأرسلت بها إلى دار (آرثر بنسون) للنشر، فقد كان أحد أصحابها معي في (كيمبردج) ولقد تلقيت منه في (كيمبرلند) كتباً عدة عن هذه القصة، يقول في أحدها: (إني لأخشى أن تكون قصتك رديئة! ولكن هنالك شيء واحداً أعتقده تماماً: ذلك إن ليست لك أية مقدرة على الابتكار. وقد تصبح ناقداً يوماً من الأيام؛ ولكن النقد الأدبي لن يكفل لك أكثر من حياة بئيسة!)
ولقد بلغ من ثقتي بالرجل أنني أحرقت قصتي هذه. على أنني انتفعت كثيراً من صورها - فيما بعد - في قصة أخرى سميتها (الصبر). . .
والتحقق بعمل جديد، مدرساً في كلية مدينة (ابسم) ولقد توجهت إليها وحيداً، فقد كانت على مقربة من (لندن) وفيها كنت أرجو أن أبدا حياتي الأدبية والحق أني إلى تلك اللحظة لم أتلق كلمة تشجيع واحدة لأعمالي الأدبية من أي إنسان!. وفي (ابسم) كتبت قصتي الأولى التي أخرجتها المطبعة للناس بأسمى. وقد اخترت لها أسم (الحصان الخشبي) وكنت قد أظهرت على نصفها أستاذاً كانت تلوح عليه إمارات الذكاء؛ ولكنه ردَّ علىَّ أوراقها مع قوله: (لست يا (والبول) قصصيأ على أي حال. . .!)
وبالرغم من هذا فمهما بلغ من قلة ثقة الناس بي؛ فلقد كنت وطيد الثقة بنفسي! ولقد بدا لي(277/39)
عجيباً جدَّا أن يكونوا جميعاً بهذا العمى! ولقد أصبحت الآن، بعد هذه السنين الطويلة، أعجب لما كان لي من ثقة بالنفس لم يكن يشجع عليها شيء! واعترض طريق حياتي رجل بادن يقال له (ماَّسي) أبَجَلّ الآن وأحيَّي روحه المرح لأنه كان أول من تفضل عليّ بالتقدير. ومع أن تقديره ذاك بدا لي في ذلك الحين طبيعياً، بل حقا من حقوقي، فإني الآن لأعجب لهذا التقدير من الرجل؛ في أي تربة نبَت؟!
كان (ماَّسي) ضخم الجسم شاحباً غائض دم الوجه. وكان يشرك (كرتسي براون) في وكالة أعمال أدبية. وقد أبدى لي رغبته في استخدامي لعمل خاص بتلك الوكالة الأدبية على أن يوظف لي جنيهات قليلة كلَّ أسبوع. وبهذا الروح المرح قذفت بعمل التدريس الذي كنت أمقته. وا كتريت حجرة أرضية صغيرة في (شلسي) أجرها الأسبوعي ريال واحد! وهكذا بدأت حياتي الأدبية. .
كانت فكرة (ماَّسي) أن أضع كتاباً يبحث قي طرق توجيه الناشئة. غير أنه لم يكن عنده، ولا عندي، رأى ما في الموضوع!. غير أن الرجل ظلَّ يدفع لي المال الذي وعد به عاماً كاملاً. وهو شديد يحقق تلك الثقة بي؛ وأخشى ألا أكون قد صنعت شيئاً يحقق الثقة العمياء!!
أكملت قصة (الحصان الخشبي) وكان على بعد ذلك أن أبحث عن ناشر. . وإني لأذكر كيف كتبت أسماء كافة الناشرين في (بريطانيا العظمى) على رقعة طويلة من الورق. وكنت أظن حينذاك أنني سأبعث بالكتاب إلى كل هؤلاء الناشرين تباعاً، بعد أن أنتزع عنه اسمي واضع مكانه اسماً مستعاراً هو (م. س) لأنني كنت قد قرأت الكثير عن العبقريات المبتدئة، وعلمت أن العبقري الناشئ لابد أن تردَّ عليه قصته التي تحمل اسمه المستعار - بدلا من اسمه المجهول - مرات كثيرة، قبل أن يحين يوم حظه السعيد! وكان قد أول نشر وقع عليه اختياري هو (سميث إلدر). . لأنه كان قد نشر أعمالاً ناجحة كثيرة. وكان يخيل إلي أن كتابي يجيب أن تظل آمالي فيه معلقة بهذا الناشر بضعة أسابيع. .!
ولقد كنت في تلك الأيام سعيداً إلى غير حد، إذ كان يسيراً جداً أن أعيش بمائة وخمسين جنيهاً في العام. كنت طليقاً، وكان لي أصدقاء في لندن؛ وإن لم يكونوا بكثرة أصدقاء واحد من رجال الأدب بعد. وإني لأذكر كيف كان يروقني أن أتروض بالسير في (طريق الملك(277/40)
في شلسي) وكيف كنت أقول لنفسي حين أبصر السابلة: (سيأتي يوم يقف فيه هؤلاء للناس وسط طريقهم ويشيرون إلى وهم يقولون (هذا هو والبول يمشي هناك!)
وكان إلى جانب النهر مطعم كنت استمرئ فيه وجبات طعامي، وكان الفنانون يجيئون فيحتلون منضدة متوسطة، وهم يضجون في مرح. ولقد كنت أشعر بأن جوهم يحتضنني أيضاً. وكثيراً ما كنت أغشى مرقص أو داراً للتمثيل، كلما كان ذلك في طاقة نقودي. ولم يكن لي من الرغبات ولا المخاوف شيء في الحياة!!
وعدت إلى غرفتي يوماً ووجدت خطاباً من الناشر، يقول في بلغة بالغةٍ حَّد العظمة والكبرياء (إنهم سيطبعون كتابي) ولقد قرأت هذا الخطاب مرات ومرات. ثم أصابتني حمى الفرح!. ويستطيع المؤلفون أن يقولوا لك إن سعادة في الدنيا لا يمكن أن تقاس إلى سعادة المؤلف بقبول الناشر إخراج كتابه الأول! وفي الحق، لقد مرت بي إلى ذلك الحين لحظات كثيرة من السعادة، ولكنها جميعاً لم تكن تعدل سعادتي بذلك الخطاب.
ووثبت إلى الطريق والخطاب في يدي، وهرعت إلى المطعم العتيد واندسست بين الفنانين الجالسين؛ وبرغم أنى لم أكن أعرف أحداً منهم فقد حدثهم بما صادفني من حسن الحظ. فشربوا نخبي، وبعد الغداء اصطحبوني إلى (استديو) أحدهم، ومن هذه اللحظة؛ أحسست أن حياتي قد بدأت!
بعد ذلك توجهت لزيارة دار (سميث إلدار) للنشر والتقيت بالمستر (ريجنالد إلدر). وإني لا أتصور الآن أن في دار من دور النشر مثل ما كان في غرقته من الفخامة والعظمة والأبهة! وقد كان رجلاً طويلاً له سالفتان من شعر كثٍ تتدليان إلى جانب صدغيه، كما كانت تبدو عليه الهيبة التي كانت تلازم رجال النشر في تلك الأيام!
ودعا لي الرجل بالتوفيق، وبعد ذلك عرَّج على حديث سوقيّ! قال إن الوقت عصيب بالنسبة للناشرين، ولهذا لم يكن في وسعه أن يدفع لي شيئاً من المال عن النسخ الثمانمائة الأولى من كتابي. وبعد بيع هذا العدد من النسخ يكون لي حق النشر في ثمن ما يباع. ولم يسترع قوله اهتمامي، إذ لم يكن يعنيني شيء سوي أنني لن أدفع شيئاً!.
ولقد كان (ريجنالد سميث) رجلاً طيباً، كما يبدو من اسمه. فأخرج (الحصان الخشبي) في غلاف رائع بالألوان. وبعد شهرين فقط رأيت في محل أحد باعة الكتب النسخة الأولى من(277/41)
كتابي. وبعد أسبوع من ظهور الكتاب كنت أجلس مع (المستر تشارلس ماريوت) في (الكورنول) وهو مؤلف كثير من أحسن القصص التي كتبت عن (الكورنول) قدمت إليه واحدة من النسخ الست الأصلية من (الحصان الخشبي).
وبعد ستة أشهر أخبرني الناشر بأن ثمانمائة نسخة من كتابي - بالضبط - قد نفذت. وكنت قد اتفقت ثلاثة جنيهات في كتابة النسخ الأصلية على الآلة الكاتبة. ولهذا كنت إلى ذلك الحين محتملاً خسارة هذه الجنيهات الثلاثة. ولكن لو لم يكن من الغرور والفخر لذكرت أن الكتاب كان يباع دائماً. وأنني تلقيتُ بعد وقت قصير حصتي في ثمن النسخ التي بيعت ذلك العام وهنالك شيء أظنه على غير قليل من الطرافة، هو كيف أنني انقلبت من قصصي هاوٍ فاشل إلى مؤلف محترف بكل معنى الاحتراف، وهذا ما لم أفهمه أبدا.
وبالرغم من أن قصتي (ترُوىْ هانتون) لم تكن قصة مؤلف محترف متمكن على ما أذكر، وأني ارتكبت فيها كل الأخطاء الممكنة من حيث الفكرة والأسلوب والبناء، فإن قصتي (الحصان الخشبي) التي كتبتها بعدها مباشرة؛ كانت أحسن ما كتبتُ من قصص مُجَوَّدة. وقد لا تكون مكتوبة بيدٍ مرنة طويلة الخبرة بدقائق الفن؛ ولهذا السبب فإن قيمتها الأدبية التافهة لم تكن شيئاً يذكر؛ ولكن. . . بعد أن تعلمت هذه الدقائق الفنية لم تعد لي هذه التفاهة في التفكير!
وعلى أي حال فقد مضت سنون سعيدة جداً قبل الحرب، لم يكن التزاحم بين القصصيين قد بلغ من العنف ما بلغه اليوم ولم تكن الصحف الكبرى تعنى بنشر روائع الفن القصصي. ولهذا لم يبرز من القصصيين العباقرة سوى أفراد قلائل جداً، مثل (مردث) و (هاردي) و (هنري جيمس)، في حين كان معظم كتاب القصة مشغولين بقصّ حكايات يستمدون أبطالها من شخصيات الحياة العملية بقدر الإمكان. ولم تكن هنالك اتجاهات نظرية معينة في الفن القصصي إلا بقدر محدود، كما أنه لم يكن هنالك من يعني بشيء من وسائل الدعوة الخاصة على وجه الإطلاق!
ولقد كان للحياة في هذه السنين منظر ساحر خلاب بصفة عامة. فإذا أنت كتبت عن شخصية سعيدة ثم اختتمت قصتك ختاماً سعيداً أيضاً، فأنك تكون بذلك فناناً أميناً على الحق في فنك. وإذا حملت على بعض مظاهر السلوك الخلقي أو السياسي، فانك بذلك لم تكن قد(277/42)
تطورت في موضوع رديء!
تركت (الدر سميث) بعد أن نشرت لي كتابي الثاني، لأني كرهت أن أحرم ثمن النسخ الثمانمائة الأولى من كل كتاب من كتبي: وصادقت (مارتن يكر) ذلك الناشر النبيل الذي كان في ذلك الوقت يدعى (د. هـ. بورنس وكومبتون ماكنزي وفرانك سونيرتوس وفرانسيس برت يونج وجلبرت كانان) وليس في وسع بياني أن يعبر عما ندين به للصديق (مارتن سيكر) فلقد كان صديقاً وفياً. يتولى مهمة الناشر في إخاء ومودَّة، وإنه ليسعدني أن أذكر أنه حينما غامر بنشر قصتي (الصبر)؛ لم يأسف على هذه المغامرة!!
القاهرة
احمد فتحي(277/43)
بين الشرق والغرب
لباحث فاضل
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(ثالثاً): (كذلك لا يعترض علينا بالجانب العلمي من الثقافة الإسلامية لأنها نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني)
انتهى الكاتب إلى أن الجانب العلمي من الثقافة الإسلامية نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني. ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟
1 - (الذين يتفكرون في خلق السماوات ولأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا. . .)
2 - (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت. . .)
3 - (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون)
4 - (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخلق من بين الصلب والترائب)
هذه آيات بينات اعتقدها المسلم لا بالسيف ولا بغيره، ولم تدخل في معتقده عن طريق العاطفة والمسايرة بل دخلت عن طريق العقل فقط. ألا تري أن في كل حرف فيها دعوة صريحة إلى التفكير في مخلوقات الله؟ ولماذا دعاهم إلى هذا التفكير؟ ليعتقدوا بعظمة الله أم يهتدوا بوجوده؟ لاشك بأن للاهتداء إلى الوجود لأن التعظيم يكون لشيء يعتقد بوجوده وهم لم يعتقدوا بعد ذلك.
سمح لهم بالشك في كل شيء والتفكير في كل شيء ودعاهم إلى تحرير عقولهم من قيود العبودية الزمنية. وبعد ألا تعتبر هذه الدعوة أساساً عملياً، لأن استمال العقل في التفكير في مخلوقات الله وهو الأسلوب العلمي بعينه. أفيكون اليونان أصحاب الفضل في ذلك فيأخذ عنهم فلاسفة المسلمين هذا الجانب العلمي أم يكون الدين الإسلامي هو الأصل الأول؟ لهم لا يكون اليونان وفلاسفتهم أصحاب هذا الفضل إلى إذا أخذ القرآن بأساليب الفكر اليونان أو إلا إذا اعتبر متكلمة المسلمين وفلاسفتهم فلسفة اليونانيين مصدر أوليا في معتقدهم وكان القرآن مصدراً ثانوياً، والحقيقة تكذب هذا وذاك. وهم ما استعانوا بالفلسفة اليونانية إلا بعد أن تشربت قلوبهم معتقدهم الديني، وما كانت لهم الفلسفة إلا أداة منطقية لا علمية، والمنطق(277/44)
غير العلم إلا إذا امتزجا (قبل أيام)
(رابعاً): (انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وانتهى الغربي إلى أنه قديم)، وهذا ما قاله. والمقصود من هذا واضح، وتقرير هذا القول يحمل الناس على تقرير التفاصيل بين العقلية العلمية للغرب وبينهما لمتكلمة المسلمين. هذا صحيح لو كان الكلام صحيحاً، ولو عنى متكلمة المسلمين بكلمة حادث ما عناه حضرة الفاضل. فأنا نعلم وغيرنا يعلم بأن كلمة (حادث) هنا لا تعني ولا تدل على تاريخ زمن معين كأن يقال كذا آلافاً من السنين، وإنما عني متكلمة المسلمين بهذه الكلمة أن العالم حادث بالنسبة للخالق، أي أن الخالق قديم بالنسبة لمخلوقاته، فقرروا القدم الذي لا حد له إلى الله وقرروا الحدثية إلى مخلوقاته
(خامساً): وبعد ذلك فمتكلمة المسلمين (انتهوا إلى أن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكلَّ ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وسيكون). هذا ما قاله حضرة الفاضل، فهل نفي بهذا القول طبيعة العقل العلمي لهؤلاء المتكلمة؟ أليس الدين الإسلامي المرجع الأول لهؤلاء المتكلمة؟ فلماذا نأخذ الناحية السلبية من هذا القول ولا نقرر بأن الدين الذي اعتمدوا عليه كأساس أولى في مذاهبهم الكلامية قد دعاهم إلى أن يسعوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه وهو الذي دعاهم إلى ألا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة؟ فإذا كانوا قد اعتقدوا تلك الناحية السلبية فقط من قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون)، فهل يتناسب هذا الاعتقاد مع حقيقة الواقع وهم إنهم جعلوا للعقل حقه في تقرير مصير صاحبه ثم هل يتفق هذا القول مع كثير من أقوال متكلمة المسلمين كالنظّام والجاحظ وغيرهما في الشك وفي تقدير العقل إلى أبعد حدود التقدير؟
ثم نراه منح العقلية الغربية منحة تأباها وقرر لها مذهباً تنفر منه لأن العقل لا يقره فقال: (انتهى الغربي إلى أن إرادة الله مقيدة بنظام الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار).
أي كلام هذا؟ وكلام من هو؟ ومن قال بأن الغربي يعتقد هذا إلا إذا فقد الجانب العلمي من قوى تفكيره؟ للكون سنن ولنظامه نواميس فمن أقرها ومن وضعها؟ أليس هو الله؟ ومن يفكر بأن إرادة الله هي التي تسيطر على هذا الكون؟ أفيكون خالق الشيء مقيداً به وتكون إرادته متعلقة به؟(277/45)
فإذا كان بقاء النظام الكوني دليلاً على شيء فهو أن إرادة الله لم تتغير وأنه أراد الكون على حاله. فإذا تغير هذا النظام الذي أراده الله اعتقدتم بأن هذا النظام مقَّيدُ بإرادة الله إذا فلتنتظروا.
(سادساً): في نظر الغربي (أن في قدرة الإنسان تغيير القدر له عن طريق معرفة النواميس المحَكمة في وجوده) أهذا كلام يقال؟ فلا هو منطق ولا هو علم، ولا هو حقيقة ولا هو خيال. رجل لا يعلم ما قُدَّر له فكيف يكون قادراً على تغييره؟ ثم هب بأنه علم ما قدر له كأن أوحى الله له بذلك أفيكون قادراً على تغيير ما أراد الله وتكون إرادة الله؟ نحن لا نفهم من هذا القول إلا أنه كفر من ناحية دينية وكفر آخر من ناحية عقلية؟ وكفر ُواحد عظم في حد َّذاته فكيف بالكفرين؟
إذا كانت علوم الغرب دليلاً على عقليتهم فإلى أي حد انتهوا في علومهم؟ كان يقال قديماً بأن مَن بحث في العلوم الطبيعية ابتعد عن الخالق، واليوم يقال بأن كل من امتهن هذه الصنعة وسلك هذا الطريق فلا شك بأنه يسير بخطى واسعة نحو الخالق إن كان كافراً به.
فهؤلاء علماء مادة الحياة كلما عجزوا عن تفهم سر شيء ازدادوا إيماناً بأن قدرة عليا فوق قدرتهم واتفقوا على غير موعد بأن إرادة الخالق قد أخضعت كل النواميس لها، ونحن ما علمنا ليومنا هذا إلا ما أراد الله لنا أن نعلم. أفيذهب بنا الغرور إلى حد تقييد الله بشيء خلقه؟
(سابعاً): (ثم المسيحية هي التي سادت أوربا في العصور الوسطى فنزعت بها منزع التفكير المعروف) الواقع يقرر عكس هذا، إذ ليس في الدين المسيحي ما يقرر ذلك الجمود في القوى الفكرية كالذي ساد في العصور الوسطى.
نحن نعلم بأن المسيحية وجدت في الشرق فكانت سبباً إلى حد كبير في توجيه منازع التفكير المختلفة من روحية واجتماعية وخلقية فقامت بنصيبها من الإصلاح، وسارت المسيحية بتعاليمها إلى الغرب ذاته وكانت حاله أسوأ حال فهذبت من نفوس أقوامه ما ساعدتها طبيعتهم الخشنة وعقليتهم السميكة. وخنقت المسيحية في الدير والكنيسة تراث اليونان والرومان وغيرهم فقدمت للتاريخ العلمي خدمة لا تقدر بقيمة. وبعد هذا لم تكن المسيحية ولم تكن روح النسك الشرقية التي جاءت معها سبباً فيما ساد العصور الوسطى(277/46)
من فوضى واضطراب وقصور في النواحي الثقافية والعلمية. أيتهم الشرق بأنه سبب ذلك ولا يتهم الغرب وأقوامه هم الذين وجهوا تعاليم الديانة المسيحية وجهة مادية؟
ثم ما هي العقلية التي جاءت بصكوك الغفران وما هي الطبيعة التي تقبلت الشرائع القوطية؟ أجاءت مع المسيحية من الشرق أم نبتت في الغرب ومن بنات أفكار أقوامه، وهذا هو الواقع.
(ثامناً): (فإن شارل مارتل أنقذ العقلية الغربية من العقلية الشرقية حين كانت تغزو أوروبا على يد العرب) لو جاء بهذا الكلام أحدُ من الغرب لعذرناه، وطبيعة الإنسان كثيراً ما تغالط نفسها فتنكر الفضل على مستحقه. ولكن أن يأتي هذا الكلام من شرقي عربي فهذا ما لا يصدق.
حقيقة صد شارك مارتن تيار العرب، فترى ماذا صد مارتل وماذا منع عن أوروبا؟ أمنع روح النسك؟ والعرب لم يعرفوا بذلك لا في الشرق ولا في الغرب؟ أم أنه صد عن أوربا سبعة قرون من ينابيع الفكر والعلم والثقافة؟ وهذا ما أقر به علماء الغرب ومؤرخوهم قبل أن ينكره أحد من الشرق والعرب. سلوا مؤرخي النهضة الأوربية واستفتوا كتبهم عن أثر الأندلس في تلك النهضة، ألم تكن جامعاتها وحلقاتها قبلة للطلاب من كل ركن في أوربا؟ فلماذا تأثروا بالعلم ولم يتأثروا بالنسك؟ ألان العلم أسهل اقتباسا من النسك أو لأن العلم كان لديهم ولم يكن النسك؟
أفيكون مارتل بعد هذا قد أنقذ العقلية الجرمانية وهي كما يعلمها طلبة التاريخ من العقلية الشرقية يأتي بها العرب، أم يكون مارتل قد أنقذ الجهل من العلم قروناً؟
(تاسعاً) وأخيراً، وهذا أبعد ما استبعدنا أن يأتي به الدكتور العالم وهو أن العلم يتلون بروح الأمة، فكتب الرياضيات والطبيعيات وحقائقها في فرنسا هي غيرها في ألمانية، لأن لكل لوناً خاصاً في الحياة. فالنظرية الآرية تختلف في كل قطر على هذا الأساس الذي أتى به لأن روح الأمتين مختلفة. ولربما كانت نظرية الحمار في بلاد الإنكليز نظرية الدب في روسيا لأن روحيهما مختلفان.
هذا بعض ما لاحظناه على المقال المذكور ولو كان مجرد رأي لما حاولنا الجدل فيه، ولكن الكثير منه يتصل بالأمة العربية والأمم الإسلامية وبعضه يتصل بالحقائق التاريخية.(277/47)
أما الرأي من حيث هو فيما لا يتصل بهذا أو ذاك فميدان المناظرة فيه واسع فسيح وهذا ما لم أقصده في هذا المقام والسلام.
(* * *)(277/48)
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 2 -
(إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحة متقلبة كالحياة نفسها، وفي النسا كما في الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون على أية مائدة ويرتوون من أي ينبوع. وماذا عساه يفهم من الحب من يرى المحبوب مائدة وينبوعاً؟ قلّ من الناس من يدرك أن من أنكر على المحبوب شخصيته التي لا تستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها)
(لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ مائلة لعيان من يريد أن يرى أفما كانت كل الأمم التي اندثرت واستبعدت تمر أولا في مرحلة تدني الأخلاق وانطلاق الشهوات عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان؟)
(سوف يأتي يوم، وهو غير بعيد، تتنبه المدينة فيه إلى أن الرجل المتفوق الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ولا من فحص خلايا المتزوجين بالمجهر حتى ولا من تلقيحهم بالمواد الكيماوية أو تطعيمهم بغدد القرود
إن الرجل الكامل أو الأقرب إلى الكمال إنما هو ابن الحب الكامل، فالمحبة وحدها هي السبيل المؤدي إلى إدراك الحق والقوة والجمال لندع العالم المتمدن يفتش في علومه ونهضة مفكريه عن هذا الحب الذي تخيله ماركس متجلياً في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع هذا الفيلسوف في نظرياته، ليفتشوا أنهم لن يتصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.
أما نحن أبناء هذا الشرق الذي انبثق الحق فيه انصباباً من الداخل بالإلهام لا تلمّساً من الخارج، فلنا المسلك المفتوح منفرجاً أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.
لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنة ثراءً وتنظيماً تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.
إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلاً حراً قوياً(277/49)
يفهم حقيقة الحياة ويتمتّع بالعظمة الكامنة فيها إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لأعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلاً وتتحطم كل محاولة للنفوذ إلى علته المستقرّة فيه منذ تكوينه)
(ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمَّشى بلا سند إلى قبره. ليست المرأة المستعبدة بلقمة ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير، ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم آباؤهم وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود ويرهقوهم بالقطعية والإهمال بعد أن يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة المتعثرة. . . الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة، والمرأة التي تتقصف متهتكة ماسخة هيكل نسمات الله مركعاً لنفايات البشر من عبّاد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودَين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة َّوالآلام المحتّمة، ومن يدري أن حديث معصية الأبوين ليس رمزاً لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم. . . ويلُ للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه، وويل للمرأة التي تدنس منبت أطفالها)
ليس في تمهيد موجز كهذا مجالُ لبحث فلسفة نيتشه التي شغلت كبار كتاب القرن التاسع عشر ولم يزل الفلاسفة يكتبون عنها إلى اليوم، غير أن ما تناولناه إلماماً من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص من قدر هذا العبقري لأنه اقتحم أسرار الكون معتمداً ذاته فعاد عن هذه الأسرار مدحوراً. وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها عند عقيدة صريحة تستغني عن الإيمان بالقوة الخفية المتعالية عن التعليل والتحليل؟ حَسْبُ نيتشه في موقف حيرته، وما هي بالدرجة الوضعية على سلم التفكير، أن يهتك سريرته أمامك دون أن يلجأ إلى إعمال السفسطة لإيجاد وحدة ظاهرية وتناسب ٍمزّيف في صرح تفكيره، حسب أن أندفع وراء المثل الأعلى الكامن في (إرادة القوة) تبعاً لتعبيره وفي نفس الإنسان الخالدة تبعاً لعقيدة المؤمنين، فبسط أمام المفكرين من مشاهد المجتمع ومن مسالك الأرواح على معابر الأرض ما لم يلمحه سواه من المنشئين.
إن ما ترانا بحاجة إلى الوقوف عنده من فلسفة نيتشه في كتاب زرادشت الذي لم تفته(277/50)
قضية اجتماعية لم يقل فيها كلمة كان لها دويها في العالم الغربي، إنما هو هذه المبادئ التي تجتث ما غرست قرون العبودية في أوطاننا من استكانة حولت إيمانها إلى استسلام في حين أن روح شرعتها يهيب بالنفس إلى الجهادين في سبيل الوطن والإنسانية جمعاء.
إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب، وما علَّم هذا الدين أن الحياة معبر على المؤمن اجتيازه وهو مُعرِضَ عن كل ما حوله معلق أبصاره على باب قبره. بل علم أن الحياة مرحلة من أشواط الآزال والآباد وما تطهر أنفسَ لم تحترق أجسادَها ولم تَعد صلاحاً لباقياتها بإصلاح زائلاتها.
ليس نيتشه إذا مبدع فكرة التكامل للإنسان على الأرض فإن التكامل مبدأ جعلته الأديان السماوية أساساً لكل وصية تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، غير أن الدين قد أراد للإنسان تكاملا ًروحياً يهيئه إلى أدراك بارئه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر مالا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على الأرض فيجعلها جنةَ خلدٍ يستوي عليها بجبروته إلهاً. . .
وقد عزب عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرَّت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان، ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية.
لذلك الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيواناً أو استبدال الحيوان إنساناً. لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقبٍ كرَّت ما ورراه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبداً ضمن حلقة إنسانيته.
لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية: (لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى. على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته)
ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله، فكيف زين له خياله أن في هذا النوع إنساناً فائقاً لا يزال كامناً منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا(277/51)
على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضاً في عاصفات الأحقاب؟. .
إن بدعة الإنسان المتفوق إنما هي تقديرنا تشوق نفس شعرت بأنها كانت وستكون، وقد ضرب الإلحاد حولها نطاقا ًفتوهمت أنها ستبلغ في هذه الحياة ما ليس من هذه الحياة.
إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة ويباهي بكفره؛ غير أننا لا نكتم القارئ الكريم ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى ويستجلي كل رمز، يحفزنا إلى القول بأننا لم نر كفراً أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادى بموت الله ثم يراه متجلياً أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة، فإن هذا الملحد، بالرغم من اعتقاده بأن الجسد هو اصل الذات وان الروح عرض لها وبأن كلا الروح والجسد فانيان، لا يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل شيء واستمرار كل شيء فيقول:
- أواه كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداءَ. إني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأنني أحبك أيتها الأبدية!
إنني أحبك، أيتها الأبدية
أين هذه الهتفة الرائعة تصدو في أعماق روح تتطَّير من الزوال من ابتسامة الملحد الصفراء وهو لا يرى وراءه وأمامه إلا العدم والزوال، بل يكاد يرى وجوده خدعة وخيالاً كاذباً.
إن فلسفةّ لا تستنيم لفكرة الفناء ولا ترى في النهاية إلا عودة إلى بداية ليست بالفلسفة الجاحدة، فالمفكر المؤمن بإنسانية عليا تتدرج إلى الكمال حتى ولو قال بألوهية الإنسان على الأرض لا يمكنه أن يؤمن في قرارة نفسه بكمال مطلق تتشوق روحه إلية ما وراء هذا العالم.
ولابد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة الفيلسوف، وليس في حياته القصيرة وهي مليئة بالآلام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها. وهل نيتشه إلاَّ فكرة وهل حياته إلاَّ وقائع ميادينها السطور والصفحات؟
ولد هذا العبقري الثائر سنة 1844 في بلدة روكن من أعمال ألمانيا وكان أبوه واعظاً(277/52)
بروتستانياً من أسرة بولونية هجرت بلادها في القرن التاسع عشر على أثر اضطهاد شرد منها أشياع كنيسة الإصلاح.
وما بلغ فردريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه فكلفت أمه تربيته وتربية أخته فأرسلته إلى مدرسة نومبورغ ثم انتقل منها سنة 1864 إلى كلتيّ بون وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره سنة 1869 تجلَّى نبوغه فعين أستاذاً للفلسفة في كلية بال.
بعد سبع سنوات أي سنة 1876 ظهرت عليه أعراض (الزهري الوراثي) فحكمه صداع شديد أضعف بصره فبقي يلقي الدروس حتى سنة 1879 إذ اضطر إلى الاستعفاء ليذهب متنقلاً بين روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو يعمل الفكر ويكتب مصارعاً علته عشر سنوات، فلا هو يبرأ منها فيحيا، ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت إلى أن جاءته سنة1889 بالفالج مقدمة للجنون فتوارى سنة 1900 بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة وإرادته الوَّثابة الجبارة
(يتبع)
فليكس فارس(277/53)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
لم يتردد في العمل على إبطال قرار فريمونت على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي العام له ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا؛ ولقد كان من أبرز خلال أبرا هام أنه كان لا يعرف التردد أو النكول إذا هو عقد النية على أمر اقتنع بصوابه واطمأن إلى نفعه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به؛ وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأى ثم انصرف عنه، ولذلك كانوا إذا عزم أذعنوا طوعاً أو كرهاً فما لهم من ذلك بد. . .
وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يسأله أن يعدل قراره وأن يظهر للناس كأنما يفعل ذلك من تلقاء نفسه؛ ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن يتراجع؛ فلم ير الرئيس بدَّا من أن يعلن قراراً عدل به قرار فريمونت غير عابئ بما كان من مخالفة الرأي العام له ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير. . . وبذلك العمل الحازم الحكيم قضى الرئيس على نذير من نذر الفرقة والتنابذ، وكسب بذلك وقوف ولاية كنتولي إلى جانبه. . . ولا تتحسبن الرئيس كما تقول عليه خصومه ومخالفوه في الرأي من أنصاره، قد اتخذ بذلك سبيلاً رجعية؛ كلا، إنما هي السياسة الحكيمة تقضى عليه ألا يتنكب الطريق التي رسمها منذ شبت الحرب، ألا وهي جعل المحافظة على الوحدة أساس هذا الصراع القومي؛ أما مسألة العبيد فما هو بغافل عنها وإنما هو يؤثر الأناة حتى تتهيأ الفرصة. . .
هذا ما كان من أمر فربمونت؛ أما ما كليلان فلقد ظل يدرب جيشه على حدود فرجينيا وهو لا يفتأ يرسل إلى الرئيس يطلب فرقاً جديدة، ولا يفتأ يتبرم بأي استفهام يأتيه من قبل الرئيس عما هو عسىُّ أن يفعله؛ ولقد كان هذا القائد الشاب يكره من الحكومة تدخلها في(277/54)
شؤونه؛ بل لقد كان يزدري أعضاء مجلس الوزراء ويرميهم بالغبا، أو كما يقول إنه شاهد أكبر نوع من الإوز في ذلك المجلس.
وبلغ به الذهاب بنفسه حدَّا جعل الناس يظنون به الظنون حتى ليحسبونه يتطلع إلى الرياسة، فهو ينتظر لا يعمل عملاً حتى تواتيه الفرصة إلى انقلاب يأتي به على غرة. . . ولكن الرئيس على الرغم من مسلك ما كليلان يعينه قائداً عامَّا للقوات بعد أن يترك سكوت العمل لكبر سنه.
ولا يقف صلف ماكليلان عند حد، فلقد ذهب الرئيس مرة إليه يستنبئه عن أمر، فتركه القائد لحظة ينتظر قبل أن يلقاه؛ وشاع ذلك في الناس، وأشارت إليه الصحف، وانعقدت الآراء على استنكاره، ولكن الرئيس لم يعبأ بما حدث، فما كان هوبالذي تلهيه المسائل الشخصية عما هو فيه، ولقد رد على ذلك بقوله (إني لأمسك لما كليلان زمام جواده إذا هو جاء لنا بانتصارات).
ولكن حدت بعد ذلك أن ذهب الرئيس ومعه كبير وزرائه إلى مكان القائد فلم يجداه، فجلسا ينتظران حتى رجع؛ وأنبأه بعض الجند بانتظارهما إياه؛ فصعد إلى غرفته وأرسل إليهما رسالة يأسف فيها لعدم استطاعته أن يراهما لأنه متعب! واستشاط سيوارد من ذلك غضباً، ولكن الرئيس راح يهون الأمر عليه. .
على أنه كف بعدها عن زيارة ذلك القائد المدل بنفسه. .
وقدر الرئيس فضلاً عن ذلك أن يلاقي العنت من الرأي العام كما يلاقيه من أكابر قواده، ومن أمثلة ذلك ما كان من موقف الناس إزاء قرار فريمونت فلقد بالغوا يومئذ في إعنات الرئيس وإحراجه. . حتى كان موقف آخر فعادوا إلى غيهم يأخذون على الرئيس مسالك القول والعمل، وكان ذلك الموقف نتيجة لما أدت إليه الحوادث بين حكومة الاتحاد الشمالي وبين الحكومة الإنجليزية. .
كان لنكولن يخشى أن تسوء العلاقات بين حكومته وبين إنجلترا، إذ كانت الأنباء تنذر بذلك؛ فكثير من رجال الحكومة الإنجليزية كانوا يرون أن تعترف حكومتهم بالاتحاد الجنوبي كحكومة مستقلة حتى يتسنى لإنجلترا أن تدخل سفنها الموانئ الجنوبية وعلى الأخص موانئ القطن، دون أن يكون في ذلك تصادم مع الحصار المضروب عليها من(277/55)
الشماليين. . وأخذت الصحف الإنجليزية تدعو إلى ذلك وتلح في الدعوة غير عابئة بما ينطوي عليه ذلك من التحدي لأهل الشمال. واشتد غضب حكومة الاتحاد الشمالي بقدر ما عظم فرح الجنوبيين، إذ كان كل فريق ينظر باهتمام شديد إلى ما عساه أن يحدث من جانب إنجلترا. . وبلغ من استياء سيوارد أنه كتب احتجاجاً إلى الحكومة الإنجليزية، لم يخفف من حدته ما أدخله عليه الرئيس من تعديل، فلقد كان يحرص أشد الحرص أن يفوت على الجنوبيين ما يأملونه من انضمام إنجلترا إليهم.
وفي هذا المأزق الحرج يأتي أحد القواد البحريين عملاً تزداد به الأمور تحرجاً حتى ليحسب الناس أن الحرب واقعة بين إنجلترا والولايات المتحدة ما من ذلك بد. . .
وبيان ذلك أن القائد البحري ولكس داهم سفينة إنجليزية كانت تحمل رسولين من قبل الولايات الثائرة أحدهما إلى إنجلترا والآخر إلى فرنسا أبحرا ليسعيا لدى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية أن تأخذا بيد الاتحاد الجنوبي. . . وأرغم ولكس الرسولين على النزول فأسرهما على الرغم من احتجاج قائد السفينة الإنجليزية.
ووصلت الأنباء إلى وشنجطون فراح الناس يعلنون إعجابهم بالقائد ولكس ويثنون على عمله، وما لبث أن انهالت عليه رسائل الإعجاب والثناء؛ ولقد أثنى عليه فيمن اثنوا المجلس التشريعي نفسه، وكثير من الزعماء ورجال الصحافة؛ وهكذا انحاز الرأي العام إلى جانب ولكس كما انحاز إلى جانب فريمونت من قبل لتزداد بذلك الأمور تعقداً وخطراً. . .
أما عن موقع النبأ في إنجلترا فلك أن تتصور مبلغ ما أثار من سخط واستنكار، في ظروف كتلك التي نتحدث عنها، وكذلك كان للنبأ في فرنسا موقعه الشديد وأثره السيئ.
اعتبرت إنجلترا هذا العمل من جانب القائد ولكس إهانة موجهة إلى العلم البريطاني الذي كان يخفق في سارية تلك الجارية التي كانت تحمل الرسولين وقدمت لندن وشنجيوط احتجاجها وأنذرتها أن تقابل العدوان بمثله إلا أن تسرع بتقديم الترضية الكافية، ولن تقنع إنجلترا بأقل من إطلاق الرسولين وعدم التعرض لهما ثم الاعتزاز عما حدث. . .
عندئذ اشتد هياج الولايات ورأت في إنذار إنجلترا إياها معاني الإذلال وسوء النية وقبح استغلال الحوادث؛ وأصر الناس على المقاومة مهما يكن ثمنها. وأمدت إنجلترا حامية كنده(277/56)
وأخذت الولايات تزيد في قوة ثغورها الشمالية، وفي الجملة لم يبق إلا إعلان الحرب. على أن بعض العقلاء استطاعوا أن يطيلوا الوقت المحدود للإنذار بضعة أيام عل أهل الولايات وخصومهم في إنجلترا يرون حل تحقن به الدماء.
وأخذ الوقت يتصرم ولكن أهل الولايات مصرون على موقفهم لا يثنيهم عنه شيء! ورئيسهم ووزراؤه يفكرون في هذا الخطر الداهم، وكان سيوارد يميل إلى خوض غمار الحرب ضد هؤلاء الإنجليز الذين تنطوي قلوبهم على الحقد والحنق منذ خلعت الولايات الأمريكية نير إنجلترا في عز ة وإباء.
وهكذا يجد لنكولن نفسه في شدة ما مثلها شدة. . . فهو بين أن يجاري الرأي العام وبذلك يجر على البلاد حرباً خارجية طاحنة تأتي مع الحرب الداخلية القائمة في وقت واحد، أو يطلق الرسولين ويقضي على أسباب الخلاف بينه وبين إنجلترا وبذلك يجنب بلاده خطراً محدقاً، وإن تعرض بعدها للوم اللأمين وسخط الساخطين واتهامات المبطلين. . .
ولكنه لنكولن الذي لا يعرف الخور والذي لا يطيش في الملمات صوابه. . . إنه الرجل الذي تزداد عزيمته مضاء بقدر ما تزداد الحادثات عنفاً وخطراً، والذي تزداد قناته صلابة كلما ازدادت الخطوب فداحة والأعباء ثقلاً واستفحالاً. . .
عقد أبرا هام مجلس وزرائه وأخذ يناقش الأعضاء ويناقشونه وهو من أول الأمر لا يؤمن بعدالة ما فعله ولكس؛ وبعد جهد استطاع أن يحمل المجلس على قبول رأيه ثم أعلن بعدها في شجاعة وحزم إطلاق الرسولين، وأجاب على إنذار الحكومة الإنجليزية برسالة متينة جاءت دليل قوياً على حكمته وبعد نظره، رسالة احتفظ فيها بكرامة بلاده وعزة قومه، وجنبها بها في الوقت نفسه خطراً ما كان أغناها عنه يومئذ.
وارتاحت إنجلترا لما فعل الرئيس وأثنى رجالها على حنكته وشجاعته! ولكنه لاقى في بلاده من السخط والاستياء ما لا يقوي على مواجهته غيره، وأوشكت مكانته في القلوب أن تزعزع، وراح يرتاب فيه المتحمسون ويصفون عمله بالجبن والخور. . . ولكنه فيما بينه وبين نفسه يعتقد أنه أسدى صنيعاً إلى قومه لا يدركه إلا العقلاء، الذين لا يجعلون في كل وقت للعواطف سلطانا على أعمالهم. . . . قال مرة يرد على الساخطين (لقد حاربنا بريطانيا العظمى مرة لأنها فعلت عين ما فعله الكابتن ولكس؛ فإذا ما رأينا إنجلترا تحتج(277/57)
على هذا الفعل وتطلب إخلاء سبيل الرسولين فواجبنا هو ألا نخرج على مبادئنا التي ترجع إلى عام 1812. . . . يجب أن نطلق هذين السجينين وحسبنا حرباً واحدة في وقت. . . .)
ومضى العملاق بعدها في سبيله يؤدي للإنسانية رسالته؛ وإننا لنرى هذا الجبار الذي درج من بين الإحراج والأدغال يحمل العبء وحده في الواقع. . . بل إنه كما ذكرنا ليلاقي مما يفعل كثير من أكابر رجاله أعباء تضاف إلى أعبائه ولكنه معود حمل الأعباء ومواجهة الأنواء.
وإنه ليسأل نفسه: ألم بأن لهؤلاء الرجال أن يعملوا كما تطلب الظروف؛ وماذا على فريمونت لو كان رجع إلى الرئيس، ثم ماذا على ما كليلان لو أنه خفض جناحه وألان جانبه واخذ الأمور بالشورى. .؟ ولكن ها هو ذا قائد آخر يفعل مثل ما فعل فريمونت، وذلك هو هنتر الذي كانت له القيادة في كارولينا الجنوبية؛ وكان هنتر أكثر جرأة من فريونت أو على الأصح أكثر نزقاً فلقد أعلن أن سكان فرجينيا وفلوريدا وكارولينا الجنوبية من العبيد أحرار بعد اليوم إلى الأبد. . . .
ولم يسع الرئيس إلا أن يجعل ينقض هذا القرار في غير مجاملة أو هوادة، فلقد كان هنتر خليقا أن يعتبر بما كان من أمر صاحبه فريمونت مما أعلنه الرئيس قوله: (إن حكومة الولايات المتحدة لم تخول للقائد هنتر ولا لأي قائد أو شخص سواه من السلطان ما يعلن معه تحرير العبيد في أية ولاية من الولايات، وإن هذا الإعلان المزعوم، سواء كان حقيقياً أو زائفاً، هو إعلان باطل)
ولا يكاد الرئيس ينتهي من نزق إلا ليواجه نزقاً غيره، فهاهو ذا وزير الحربية كامرون يرسل رسالة إلى بعض الضباط شبيهة بما أعلنه فريمونت وصاحبه. . ولولا أن تدارك الرئيس الأمر لأحدثت من سوء الأثر ما يصعب بعد علاج؛ ولقد أبرق الرئيس إلى مكاتب البريد لترد نسخ تلك الرسالة المطبوعة وحال بذلك دون وصولها إلى وجهاتها. .
ولما أن يئس الرئيس من ما كليلان وقد مضى عليه أكثر من عام وهو لا يعمل اكثر من تدريب جنده ولا ينفك يطلب فرقاً جديدة؛ رأى أن الموقف، يقضي عليه أن يدرس فنون الحرب والتعبئة! أليس هو بحكم مركزه القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية؟ وإذاً فعليه(277/58)
أن يتعلم فن الحرب اليوم كما تعلم مسح الأرض من قبل وتخطيطها وكما تعلم القانون حتى حذقه، بل وكما تعلم القراءة والكتابة قبل ذلك جميعاً وهو بين مطارح الغابة.
شمر الرئيس عن ساعده وراح يدرس ويتعلم لايني ولا يكل ساعات طويلة من النهار وساعات من الليل؛ الخريطة مبسوطة أمامه، ومعلموه من الحربيين يتناوبون العمل معه واحداً بعد الآخر حتى فهم بعض الفهم وأصبح له شيء من الرأي! يا الله من هذا العبقري الجبار الذي يحمل على كتفيه ما كان ينوء بحمله أطلس أو أخيل!
واستطاع الرئيس بعد مدة أن يدلي للقواد برأي في فهم، ولكنه كان حذراً يعرض الفكرة ويترك القطع بصحتها للقائد المرسلة إليه. ولقد كتب مرة إلى أحدهم برأيه ثم شدد عليه ألا يتقيد به قائلا إنه يلومه أكبر اللوم إن هو تحيز له أو تردد عن العمل تمليه عليه خبرته إذا كان ذلك الرأي لا يتفق وهذه الخبرة. . .
على أنه يكتب إلى ما كليلان نفسه ذات مرة مشيراً عليه بما يجب أن يعمل، في خطة مرسومة على أساس فني، ولما رد ما كليلان عليه يرفض تلك الخطة لم يقره الرئيس، وعاد فكتب إليه يسأله أسئلة تدل على فهم دقيق وإلمام شامل، ويدع له أن يجيب على تلك الأسئلة الفنية إجابة صريحة ونزيهة والرئيس مستعد بعدها أن يقره. . ثم تحاكما إلى أخصائيين، فما زال الرئيس يدلى لهم بحججه ويريهم أن خطته أضمن وأسلم من خطة القائد ما كليلان، ولكنهم، آخر الأمر أقروا خطة ما كليلان، فلم يسع الرئيس إلا أن يذعن وإن كان لا يزال يرى وجاهة آرائه. .
(يتبع)
الخفيف(277/59)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 7 -
منزلة الشعرية
كان الكميت شاعرا عالماً جمع من الثقافة العلمية ما لم يجتمع لشاعر في عصره، حتى قال بعضهم: كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلياً، وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وكان رامياً لم يكن في بني أسد أرمى منه، وكان فارساً، وكان شجاعاً، وكان سخيا دينا
وقال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني عمي، قال حدثني محمد بن سعد الكراني، قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط، قال: اجتمع الكميت بن زيد وحماد الرواية في مسجد الكوفة، فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك اعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: وما هو إلا الظن، هذا والله هو اليقين، فغضب الكميت ثم قال له: لكم شاعر بصير يقال له عمرو بن فلان تروي؟ ولكم شاعر أعور أم أعمى اسمه فلان بن عمرو تروي؟ فقال حماد قولاً لم يحفظه، فجعل الكميت يذكر رجلاً رجلاً من صنف صنف ويسأل حماداً هل يعرفه؟ فإذا قال لا، أنشده من شعره جزءاً جزءاً حتى ضجرنا، ثم قال له الكميت: فأني سائلك عن شيء من الشعر، فسأله عن قول الشاعر:
طرحوا أصحابهم في ورطة ... قَذْفَكَ المقلةَ شطر المعترك
فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:
تدريننا بالقول حتى كأنما ... يدرين ولداناً تصيد الرهادنا
فأفحم حماد، فقال له: قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمون(277/60)
بها الماء، والشطر النصيب، والمعترك الموضع الذي يختصمون فيه الماء، فيلقونها هناك عند الشرب، وقوله (يدريننا) يعني النساء، أي ختلتنا فرميننا، والرهادن طير بمكة كالعصافير.
وذكر ياقوت أن ابن عبدة النساب قال: ما عرف النُّسَّابُ أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها.
وأخرج ابن عساكر أنه كان يقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت، فمن صحح الكميت نسبه صح، ومن طعن فيه وهن.
وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان، ولا للبيان لسان.
وقد عنى ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت، ولم يكن يعنى إلا بالشعراء الفحول الذين يعرفون النساب، أو يمتون بعرق إلى الأساليب الجاهلية؛ ولم يعن ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت فحسب، بل كان يذكر به من يغفلون عنه حين يعرضون عليه ما عرفوا من معاني الشعراء.
وأخرج أبو عكرمة الضبي عن أبيه قال: أدركت الناس بالكوفة يقولون: من لم يرو:
(طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ)
فليس بهاشمي، ومن لم يرو:
(ذكر القلبُ إلْفَهُ المهجورَا)
فليس بأموي، ومن لم يرو:
(هلاَّ عرفتَ منازلاً بالأبرقِ)
فليس بمهلبي، ومن لم يرو:
(طَرِبْتَ وهاجَكَ الشوقُ الحْثِيثُ)
فليس بثقفي.
فهذا كله إلى ما نقلناه عن معاذ الهراء يظهر لنا كيف كانت طائفة كبيرة من العلماء والأدباء تتعصب للكميت وشعره إلى هذا الحد من التعصب، وما نظن أن نظرهم في هذا كان يجاوز جانب اللفظ والمعنى في شعر الكميت، فلا ينظرون إلى شيء آخر بعدهما يسمو به(277/61)
الشعر أكثر مما يسمو بهما، ويمتاز به الكميت ابن زيد على شعراء عصره جميعاً.
وكان يوجد إلى جانب هذه الطائفة المتعصبة للكميت طائفة أخرى من الأدباء والشعراء تتعصب عليه وتقدح في شعره، ومن هؤلاء المتعصبين عليه بشار بن برد، وكان يقول: ما كان الكميت شاعراً، فقيل له كيف وهو يقول:
أنصفُ امرئٍ منْ نصف حيٍ يسبني ... لعمري لقد لاقيتُ خطباً من الخطبِ
هنيئاً لكلبٍ أن كلباً تسبني ... وأني لم أرددْ جواباً على كلبِ
لقد بلغتْ كلبٌ بسبيَ حظوةً ... كفتها قديماتِ الفضائح والوصبِ
فقال بشار: لا بَلَّ شانئك، أتري رجلاً لو. . . ثلاثين سنة لم يستملح منه شيء؟
وقد كان مذهب بشار من الشعر إيثار اللفظ السهل على العويص، وكان في هذا قدوة من أتى بعده من الشعراء المولودين، والكميت يخالفه في هذا المذهب مخالفة تامة. قال محمد بن أنس الأسدي، حدثني محمد بن سهل راوية الكميت، قال سمعت الكميت يقول: إذا قلت الشعر فجاءني أمر مستو سهل لم أعبأ به حتى يجئ شيء فيه عويص فأستعمله.
ومن هنا يجئ تحامل بشار على الكميت. وعندي أنه لا يصح أن يقدح في الشعر أن تكون ألفاظه سهلة أو عويصة، فلكل من ذلك مقامة في طباع الشعراء وتمكنهم من اللغة وغريبها، وكذلك ما يحيط بالشاعر من ظروف الزمان والمكان وغيرهما.
وممن كان يتعصب على الكميت أيضاً رؤية بن العجاج، وقد ذكر المبرد عن رؤية أنه قال: قدمت فارس على أبان بن الوليد البجلي منتجعاً له، فأناني رجلان لا اعرفهما فسألاني عن شيء ليس من لغتي فلم أعرفه، فتغامزا بي، فتقبعت عليهما فهمدا. ثم كانا بعد ذلك يختلفان فيسمعان مني الشيء فيكتبانه ويدخلانه في أشعارهما، فعلمت انهما ظريفان، وسألت عنهما فقيل لي: هما الكميت والطرماح
وكان ذو الرمة يرى في الكميت ما يراه فيه رؤية بن العجاج، وقد أتى الكوفة فلقيه الكميت فقال له: إني قد عارضتك بقصيدتك، قال أي القصائد؟ قال: قولك:
ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ ... كأنه من كلى مفريةٍ سَربُ
قال: فأي شيء قلت؟ قال قلت:
هل أنتَ عن طلب الأيفاعِ منقلبُ ... أم كيف يحسن من ذي الشَّبية اللَّعِب(277/62)
حتى أتى عليها، فقال له: ما أحسن ما قلت، إلا أنك إذ شبهت الشيء ليس تجئ به جيداً كما ينبغي، ولكنك تقع قريباً، فلا يقدر إنسان أن يقول أخطأت ولا أصبت، تقع بين ذلك ولم تصف كما وصفت أنا ولا كما شبهت. قال: وتدري لم ذاك؟ قال: لا، قال: لأنك تشبه شيئاً قد رأيته بعينك، وأنا أشبه ما وصف لي ولم أره بعيني، قال: صدقت هو ذاك
وليس هذا من رؤية وذي الرمة إلا تعصباً على الكميت من اجل أنه حضرياً، وأنهما كانا بدويين يذهبان في الشعر مذهب أهل البدو. وقد ذكرنا أن الكميت كان يجمع في شعره بين أدب الحاضرة والبادية، فكان من جهة اللفظ والأسلوب كسائر شعراء البادية في الإسلام والجاهلية، وكان من جهة الغرض الذي يرمي إليه في شعره حضرياً يذهب في ذلك مذهباً جديداً يليق بشاعر مثقف بمثل ثقافته، وهو في هذا يخالف شعراء عصره إذ كانوا يذهبون في أغراض الشعر مذهباً بدوياً جاهلياً لا أثر فيه للثقافة الإسلامية، ولا تتفق غايته مع الغاية التي كان يجب أن تكون غاية الشعر في هذا العصر.
والشعر عندنا كما يوزن بألفاظه ومعانيه يوزن بأغراضه ومقاصده، فلا يصح أن يكون الشعر الذي له غاية سامية في الحياة كالشعر الذي لا يراد منه إلا اللهو والعبث، وليس جد الحياة كهزلها، ولا حقها كباطلها، فليكن جد الشعر فوق هزله، وليكن حقه فوق باطله، وليكن الكميت في هاشمياته فوق شعراء عصره جميعاً.
عبد المتعال الصعيدي(277/63)
من أجل فلسطين
وطن يعذب في الجحيم
للأستاذ أحمد محرم
خُلُقُ (العروبِة) أن تجدَّ وتدأبا ... وسجيَّةُ (الإسلام) أن يتغلْبا
لا تلكَ تخفض من جَناحَيها، ولا ... هذا يرُيدُ سوى التفوق مطلبا
رَفعَ النّفوسَ عن الصَّغارِ، وصانها ... عن أن تَخافَ عدوَّه أو تَرهبا
دينُ الفتّوةِ والمروءةِ، ما طغت ... لُجَجُ المنايا حّوْلَه فتَهيَّبا
المؤمنونَ على الحوادثِ أخوةٌ ... لا يعرفون سوى (الكتاب) لهم أبا
سَلهْمُْ عَلَى شَرفِ الأُبُوَّةِ هَل رَعوا ... ما سنَّ من أدب الحياة وأوجبا؟
بَيتٌ تَفّرق في البلادِ، وَأُسرةٌ ... صَدعَ الزمانُ كيانَها فتشعَّبا
وَهَنَ البناءُ، فَعَاث في فَجَواتِه ... عادِى الفساد مُدَمَّراً ومُخرّبا
لَبَّيْكَ يَا (وَطنَ الجهاد) ومرحبا ... لَبَّيْكَ من داعٍ أهابَ وَثَوَّبا
لَبَّيْكَ إذ بلَغَ البلاَء، وإذْ أبَى ... جدُّ الزَّمانِ وَصَرِفه أن نلعبا
مَنْ ذا يَرى دَمَهُ أعزَّ مكانةً ... من أن يُخضَّبَ من (فلسطين) الرُّبى؟
كَبَّرْتُ حِينَ عَفا الوفاءُ. ومَا عَفا ... في أرضها أثرُ (البُراق) وَلا خَبا
إني أرى (المعراجَ) عند جلالهِ ... وأرى (النبيّ) وصحبَه والموكبا
وَطَنٌ يُعَذَّبُ في الجحيم وَأمَّةٌ ... أعزِزْ علينا أن تُصابَ وتَنُكبا
بقُلوبناَ اَلْحرَّى، وفي أحشائنا ... ما شَبَّ مِنْ أَشجَانها وَتَلهَّباَ
وِبنَا مِنَ الألمِ المبَرّح ما بها ... وأرى الذِّي نَلْقَى أشدَّ وأصعبا
نَتَجَرَّعُ البلوَى، ونَدَّرِعُ الأسى ... نَرْعَى لاخوتنا الذّمامَ الأقربا
إنّا لَنعلمُ أنَّ آكلَ لَحْمهمْ ... سَيَخُوضُ مِنّا فيِ الدّماء ليشربا
جَعلوا الكفاحَ عن العروبةِ حَرثُهُمْ ... وَتَعَهَّدُوهُ، فَكَان حَرْثاً طَيَبّا
يَسْقُونَ مَا زَرَعُوا دماً في مخْصبٍ ... لولا الَّدمُ الجاري لأصبحَ مُجْديا
(البيتُ) يَطْرَبُ من أنين جريحهم ... أرأيتَ فيِ الدُّ ُنْيَا أنيناً مطربا؟
إِنّ الّذِي زَعَمَ السَّلاَمَ مُرَادهُ ... جَعَلَ الدّماَء سَبيلهُّ والمركبا(277/64)
إن كان قدَ غَمَرَ الزمانَ وأَهْلَهُ ... كَذباً، فَمِنْ عاداته أن يَكذبا
رَكِبَ الرياحَ إلى القويّ، يَرُوضُهُ ... شَرساً، يُقَلّبُ ناَبهُ وَالمخْلَباَ
طَارَت بِهِ، وَفؤُاَدُه في روعةٍ ... يَتَلمَّسُ الْمَهْوَى ويبغي المهربا
أرأيت إذ سَكَبَ الدُّمُوعَ غَزِيرةً ... يَأبَى الحياءُ لمثلها أن يُسكبا؟
مُتصنَّع، باسم الضَّعيفِ يرُيقهُاَ ... وهو الذي ترَكَ الضَّعيفَ مُعَذبا
مَا كانَ أَصدقَ نُسْكهُ لو أنه ... رَحِمَ البرىَء، ولم يُجابِ المذنبا
يَهذي بذكرِ العدلِ في صَلَوَاته ... أرأيتَ عَدْلاً بالدماءِ مُخضَّبا؟
(رُسُلَ العروبِة) هَلْ سَأَلتم جُرحَهاَ ... مَا بالُهُ اسْتَعْصَى؟ ومَاذا أعقبا؟
جُرْحُ تَقَادَم عَهْدُهُ، وتَفتَحَّتْ ... أَفْوَاهُه ُتَدْعُو الأسَاةَ الغُيَّبَا
أنتم أُساةُ الجرخِ، فاتخذوا له ... من طِبّ (شيخ أُساتكم) مَا جَرَّبا
وَصَفَ الدّوَاَء لكم، وخَلَّف عِلْمَهُ ... فيكم، فأَين يُريدُ منكم من أبى؟
يَا قَوْم لَسْتُم بالضّعافِ فغَاِمروا ... وَخُذُوا مَطَاِلَبكم سِراعاً وثُبّا؟
أفما كفاكم قُوّةً من دِينكم ... ما جَمَّعّ الإيمانُ فيهِ وألَّبا؟
يَا (آلَ يَعْرُبَ) مَنْ يُرِيني (خالداُ) ... يُزجى الخميسَ، وَيَسْتَحِثّ المِقنَا؟
مَنْ شاَء منكم فَلَيُكنْهُ، وَلاَ يَقُل ... ذَهَبَ القديُم، فإِنهُ لَنْ يَذهبا
السَّر باقٍ والزَّمَان مُجدَّدٌ ... وَالسيفُ مَا فّقّدّ المَضاَء وَلا نَبا
رُدُّوا المظالِمَ عن مَحارم أمَّةٍ ... رَدَّتْ ظُنُونَ ذَوي الجهالة خُيَّبا
لَمْ يُعُطِْ أوطانَ حَقَّهَا ... مَنْ كانَ يَطْمَعُ أَن تُباَعُ وتوهبا
أحمد محرم(277/65)
جحيم
للأستاذ عبد الحميد السنوسي
أتخافين في اقترابك مني ... واقترابي مصارع العشاق؟
أم تخافين أن ترانا عيون ال ... ناس في خلوة وطيب عناق؟
أم تخافين ألسن الناس تمشي ... في هوانا بالسوء عند التلاقي؟
أم تخافين لوم من ليس يرضي ... هـ لقائي واللوم مر المذاق؟
لو سما غيرنا إلى أفق الحب ... ولاقوا في حبهم ما نلاقي
لاستراحوا من التهامز والغمز ... فقرّتْ قلوبهم والمآقي
ضللتهم شكوكهم فاستباحوا ... ما استباحوا من الدم المهراق
وبقينا كما ترانا صديعين ... على الدهر في جحيم باق
لَم مَنَّيْتنِي إذا كنت تخشين ... لقائي وتنكرين اشتياقي؟
لِمَ جددت باللقاء الأماني ... ثم عذبتني بهذا الفراق
لِم أوريت باللقاء حنيني ... ثم أسلمتني إلى أشواقي؟
لم عجَّلت اللقاء بتوْد ... يعي فودعتني بهذا التلاقي؟
أتسرين بالضرام إذا ما ... شب في أضلعي وفي أحداقي
أتسرين بالمدامع تجري ... إن دمعي دم الفؤاد المراق!
عبثاً أرتجي لقاءك ما دم ... تِ تخافين خلوة المشتاق
عبثاً أرتجي لقاءك ما دم ... تُ على القرب والنوى في احتراق(277/66)
أين عيناك
للأديب محمد هاشم الموصلي
يا حبيبي تطاول البعد واربدّ ... تْ سمائي بحالكٍ من غمام
أين عيناك تقرأان بعينيّ ... سطور الشقاء والآلام
وأرى فيهما بريق أمانيّ ... فيغفو قلبي على الأحلام
أبداً تعتري فؤاديَ ذكرا ... كَ فاهتزّ من أسى وهيام
كلما أوشكتْ تحور إلي البر ... ء جراحي تجددت بابتسام
يا نجىَّ في وحدتي وسميري ... ورُؤى مقلتي وطيف منامي
طف بقلبي كما تطوف ألامانيّ ... وهدهد جرح الغرام الدامي
ثم كفكف مدامعي فعيوني ... ليس ترقا من لوعة وغرام
وارْو من مورد الحنان بقايا ... مهجة لم تُرَعْ من الأسقام
(حمص)
محمد هاشم الموصلي(277/67)
كيف يعيشون. . .؟
للأستاذ رفيق فاخوري
من لي بقلب كالصفاة مُفْلق ... غفلان من سجن الهموم مغلق
خال - كجوف العير - مما ينفع ... ليس له وليس فيه مطمع
من العلوم والفنون أصفى ... فما يحير الدهر منه حرفا
لا يعرف الكْتب ولا الدروسا ... أفرغ من فؤاد أم موسى
إِمَّا يطف به الغباء يعلق ... وإن يلامسه الذكاء يزلق
من لي بمال تالد ما تعبت ... يدٌ بجمعه ولا رجلٌ سعت
أنفقه في طاعة النفس متى ... شئت ولا أعرف من أين أتى
يسحرني في الكيس حسن شكله ... يعجبني في السوق صدق فعله
أحمد آبائي عليه ألفاً ... أغرف باليدين منه غرفا
ببأسه أطول من يطاول ... بسيفه أصرع من يصاول
أشري به جاهاً وعزاً أغلبا ... وسؤدداً فوق الُّسها مطنَّبا
ونسباً متصلاً بيعرب ... ما خالطته لوثة من أجنبِي
لو أن لي هذا الذي وَصَفتُ ... لعشتُ في قومي كما أردت
سبحان من قد سوَّد البهائما ... وخصَّ بالمكرمة السوائما
رفيق فاخوري(277/68)
البريد الأدبي
والله لا يستحي من الحق
قرأ ابن كثير في رواية شبل: (لا يستحي) بياء واحدة، وهذه تميمية، كما قال الأخفش، واستحيا حجازية، (ووزنه على هذا (يستفع) إلا أن الياء نقلت حركتها إلى العين وسكنت؟ وقيل المحذوف هي العين وهو بعيد) كما قال العكبري، وفي (الأساس): (واستحييت منه، واستحيت، وأنا أستحي منه) وفي (الصحاح): (يقال: استحيت بياء واحدة، أعلوا الياء الأولى والقوا حركتها على الحاء) قال سيبويه: (وإنما فعلوا ذلك حيث كثر في كلامهم) وفي (القاموس): (واستحى منه) وفي (التاج) كلام مستفيض في هذه الفظة، وفي (اللسان): (واستحيا واستحى حذفوا الأخيرة كراهية التقاء الياءين. الأزهري: للعرب في هذا الحرف (يعنى الكلمة) لغتان) واستحيا هي الفصحى، واستحى فصيحة
(* * *)
جائزة واصف غالي باشا
أرسل واصف بطرس غالي باشا إلى المسيو فرنسوا بياتري رئيس جمعية (فرنسا ومصر) كتاباً قال فيه: - (بمناسبة الذكرى الثالثة لإنشاء هذه الجمعية رأيت تنويها بما تبديه فرنسا من الاهتمام الخاص نحو مصر أن أرسل إليكم تحويلاً بألف جنيه عسى أن يكون في وسع الجمعية أن تنشئ من إيراد هذا المال جائزة لمكافأة الأعمال الفنية والعلمية والأدبية التي تزيد في إنماء العلاقات والروابط العلمية والأدبية والاقتصادية بين البلدين، أو تنشئ نوعا من المباراة بين الطلبة الفرنسيين والمصريين في موضوعات تتناول عمل فرنسا واشتراكها في أي فرع من فروع الحياة المصرية. وما أوسع مجال هذا العمل منذ الحروب الصليبية إلى الآن. وإني أعرض عليكم هذا الرأي كعضو في الجمعية تاركاً لكم حرية العمل كما تشاءون)
ومن العلوم أن واصف بطرس غالي باشا انتخب منذ حين قريب عضوا في اللجنة الفخرية في هذا الجمعية.
مكتبة الأزهر(277/69)
تحتوي مكتبة الأزهر على أعظم مجموعة من المؤلفات العلمية القيمة بعد مجموعة دار الكتب المصرية. إذ أن فيها الآن نحو 160 ألف مجلد في مختلف العلوم والفنون قديمها وحديثها، وأكثر هذه المجلدات من تأليف فحول العلماء في مصر والبلاد الإسلامية الأخرى في العصرين القديم والحديث.
ويكاد يزيد المخطوط من المؤلفات في هذه المجموعة النادرة من الكتب على نصفها. فهو لا يقل بحال عن ثمانين ألف مجلد ويستطيع من يرى تلك المخطوطات في المكتبة الأزهرية أن يلمس مالها من قيمة، فهي تعطي صورة كاملة للخطوط في مختلف الأمم والعصور الماضية. فهذا أندلسي، وذاك كوفي، وذلك فارسي، وهذه كتابة على رق غزال، وتلك سطور في رقاع يرجع تاريخها إلى ما قبل قرون وأجيال.
وبين الكتب المخطوطة في مكتبة الأزهر كتاب (غريب الحديث) للأمام أبى عبد الله القاسم بن سلام المتوفى سنة 223 هـ وهو مكتوب بخط أبي الخطاب الحسيني بن عمر ألعابدي؛ وقد فرغ من كتابته سنة 311 هـ أي قبل بناء الجامع الأزهر بثمانية وأربعين عاماً.
وقد تشرف جلالة الملك فأبدي اهتماما خاصاً بهذا الكتاب الذي يكاد يكون أقدم مؤلف مخطوط في بابه، وتكاد النسخة الموجودة منه في الأزهر تكون مقطوعة النظير حتى أن جلالته أوصى بالمحافظة عليه ويلي هذا الكتاب في قدم العهد بكتابته مؤلف مخطوط آخر هو (رسالة في الحاسد والمحسود) ألفها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وكتبها بخطه على بن هلال المتوفى سنة 412 هـ. أي أن هذه الرسالة قد مات كاتبها منذ 944 سنة.
وفي المكتبة مجموعة من المصاحف المخطوطة مختلفة الأحجام والخطوط، ومنها مصحف يرجع تاريخ كتابته إلى أوائل القرن الرابع الهجري، وهو مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال من القطع الكبير.
ومنها مصحف كتبه علي بن أمير حاجب بخطه سنة 722 هـ وأتم كتابته في ستين يوماً، وهو في مجلدين كبيري الحجم، في كل منهما نصف القرآن. ويمتاز هذا المصحف الخطي النادر بما في أوله من إحصاء دقيق بعدد حروف القرآن، وآياته، وسوره ورموز القراءة، والسجدات والسور التي تشمل على الناسخ والمنسوخ، وكيفية نزول القرآن، وجمعه وبيان بعض القراءات.(277/70)
حول تيسير قواعد الإعراب
لقد شاءت الآنسة الفاضلة (أمينة شاكر فهمي) أن ترد علي بعد أن نبهتها إلى تلك الأخطاء الظاهرة في ردها الأول، ومنها أنها لا تزال تدعى أنى غيرت الإعراب وأبقيت القواعد على ما هي عليه، مع أني غيرت القواعد أولا، ثم غيرت الإعراب ثانياً، وإني بعد هذا لا يسعني إلا أن اختار السكوت فيما بيني وبينها، والسكوت في بعض الأحيان قد يكون خير من رد.
(أزهري)
دراسة التصوف في أوربا
يحلو لكثير من المشتغلين بدراسة التصوف الإسلامي أن يقارنوا بينه وبين التصوف في العصور الوسطى في أوربا، وبينهما وبين التصوف الهندي، وهى بحوث لا تخلو من لذة، ويزعم بعض المستشرقين أمثال الأستاذ فون كريمر أن التصوف الإسلامي يرجع في بعض نواحيه إلى النرفانا، ويماثلونها (بالفناء) عند الصوفية من أهل الإسلام، وينقض هذا الرأي الأستاذ رينولد بيكلسون - وهو اليوم أعظم المشتغلين بهذه الناحية - ويرى أن الزهد الإسلامي مستقل عن أي تصوف آخر، ويميل لهذا الرأي الأستاذ ماسنييون وهو أيضاً من أقطاب الباحثين فيه.
وعلى الرغم من كثرة الكتب في هذا الباب، فإن هناك عدداً وفيراً لازال رهن المخطوطات، ومبعثراً في دور كتب أوربا؛ ومن المشتغلين اليوم بهذا الفرع من الدراسة الأستاذ آرثر حنا أربري (وكان من قبل أستاذاً بكلية الآداب بالجامعة المصرية) فنشر بضع مخطوطات منها كتاب (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النَّفري (المتوفى سنة 360 هـ)، وطبعه في سلسة جب التذكارية، وأرفق النص بترجمة له، ودراسة وافية - بالإنجليزية - عن الألفاظ الصوفية التي استعملها المؤلف، واصطلاحات المتصوفة ومقدمة في حياة النفري.
وأسلوب النفري في غاية العمق، كما أن كثيراً من عباراته تكاد تكون غامضة مهمة تتطلب خبرة غير قليلة ودراسة قوية للتصوف، أما المخاطبات فبينه وبين الحق، كما في قوله(277/71)
(أوقفني في العلم وقال لي: حجبتك بعلمك في حجاب من علمك فما عرفتني، فإن لم تخرج من علمك إلى معرفتك فأنت في حجاب من العلم) وابن عبد الجبار النفري يتكلم عن ناحية الإلهام وعن الذات الإلهية،، ومواقفه بين يدي الحق مثل موقف العز والانتقام والخوف ثم تعتريه حالات تطرأ على نفسه فيذكرها.
كذلك نشر الأستاذ أربري من قبل في مصر كتاب التوهم للحارث بن أسد المحاسبي (سنة 243هـ) وهو أشبه ما يكون برواية طريفة في ذكر الجنة والنار، وكان ابن أسد المحارثي هذا من معاصري احمد بن حنبل (راجع تاريخ بغداد ج8 ص211 - 126) وأسلوب المحاسبي في هذا الكتاب أميل للناحية الأدبية، والقطعة التالية منه تبين أسلوب الكتاب ومرمى المؤلف، يقول (وتوهم حين وقفت بالاضطراب يرعد قلبك، وتوهم مباشرة أيديهم على عضديك وغلظ أكفهم حين أخذوك، فتوهم نفسك محثوثة في أيديهم وتوهم تخطيك الصفوف، طائر فؤادك، فتوهم نفسك كذلك حتى انتهى بك إلى عرش الرحمن فقذفوا بك من أيديهم، وناداك الله عز ووجل بعظيم كلامه، (أدن منىّ يا ابن آدم) فَغَيَّبَك في نوره) وقوله في موضع آخر حيث الصراط (فتوهم نفسك وقد أنهيت إلى آخره فغلب على قلبك النجاة وعلا عليك الشفق، وقد عانيت نعيم الجنان وأنت على الصراط). .
ويشتغل الأستاذ أربرى هذه الأيام في إخراج مخطوط آخر للمحاسبي، وهو يجد لذة في إخراج أمثال هذه المخطوطات التي ليس من شك في أنها تلقى ضوءًا جديداً على دراسة التصوف، وتنير السبيل للباحثين فيه.
وهناك من المستشرقين المهتمين بهذه الناحية الأستاذ ميشيل أزين بلاتشيوس الأسباني، وهو يعكف منذ أمد بعيد على دراسة التصوف الإسلامي، والفلسفة الإسلامية وخاصة ما كان منها متعلقاً بمسلمي أسبانيا، وقد نشر منذ أمد بعيد رسالة قيمة عن ابن مرْة (بالأسبانية) عالج فيها مبادئه وآراءه، وأفكاره السياسية، وبسط فيها الفكرة الشيعية التي أثرت عليه فجعلت منه داعياً وفيلسوفاً.
المستشرقون والحياة الشرقية
في الخامس من شهر سبتمبر الماضي انعقد بمدينة بروكسل مؤتمر المستشرقين، حيث ألقى فيه الأستاذ (بروجلهاون) - وهو من علماء الاستشراق المعروفين بحثاً وافياً عن تطوّر(277/72)
الشعر العربي في نصف القرن الأخير، وألم فيه ببعض شعراء مصر. واهتمام المستشرقين بدراسة الأدب العربي ليس بالشيء الجديد، وإن كان - على أية حال - يشير إلى عناية هؤلاء القوم بدراسة الشرق في نواحي تفكيره المختلفة. وفي عصوره القديمة والحديثة على السواء.
ودراسة المستشرقين لأقطاب الفكر العربي دراسة تحلو من كل مغمز، قوامها تحليل ما يكتبه هؤلاء وعرض آثارهم الفكرية على العالم الغربي والمهتمين بتتبع الأمور في بلاد الشرق. ومنذ أمد قريب نشر الأستاذ كراتشوفسكي المستشرق الروسي مقالاً عن الأدباء المحدثين في مصر وسورية، كما نشر من قبل الأستاذ جب سلسلة من الأبحاث القيمة الدقيقة في مجلة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، تناول فيها أدباء مصر ومؤلفاتهم، كذلك نشر الأستاذ كمبفماير عدة بحوث عن شاعر العراق المرحوم جميل صدقي الزهاوي، وترجم إلى الألمانية بعض قصائده.
والمتتبعون لما يكتبه الدكتور بروكلمان يرون أنه في الملاحق التي أضافها لكتابه قد تناول كثيرين من أدبا العربية في مصر والشام والمهجر أمثال العقاد وهيكل والمازني وطه حسين والزيات ومنصور وفهمي وسلامة موسى وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة واليازخي وغيرهم مشيراً خلال ذلك إلى إنتاجهم الفكري في الترجمة والتأليف.
ولما طبع المرحوم شوقي بك روايته (مجنون ليلى) ترجمها بأذن منه الأستاذ أربري وكان إبان ذلك الوقت أستاذاً بكلية الآداب بالجامعة المصرية، ولقد حافظ المترجم في ترجمته هذه على الروح الأصلية فجاءت آية في بابها، ومثالا يحتذي في دقة الترجمة، وإدراك العاني كما تدل على أصالة شعرية وطبع موهوب، ولعل البعض يسأل عن علة اختيار هذه الرواية بالذات؛ والجواب على ذلك أن الأستاذ ممن لهم ولع بدراسة التصوف الإسلامي في رواية مجنون ليلى تتجلى روح قل أن تنبه لها إلا القليلون، تلك هي أن ليلى عاشت عذراء وماتت عذراء طاهرة رغم زواجها وقصارى القول أن عناية المستشرقين روائع الأدب العربي الحديث إلى لغاتهم الأوربية أو الكتابية عن أقطاب الفكر في مصر والشام وغيرهم من المعاصرين لها دلالتها على حيوية الأدب الحديث، كما أن فيها إطلاع الغرب على النهضة الفكرية في الشرق.(277/73)
ح. ح(277/74)
المسرح والسينما
شيء من لا شيء أيضاً
مدت سينما ستديو مصر عرض فلمها الأول لهذا الموسم (شيء من لا شيء) أسبوعاً آخر، دالة بذلك على أن الإقبال عليه كان عظيماً في الأسبوع الأول. وهذا صحيح، فقد أقبل المتفرجون والمتفرجات ووحدانا ومن كل فج من فجج القاهرة والضواحي لرؤية باكورة إنتاج ستديو مصر في هذا الموسم، ومصدر ذلك الإقبال الذي شاهدناه بأعيننا هو أن الجمهور اعتاد من هذا الاستديو الكبير أفلاماً ممتازة بين زميلاتها المصرية، قوية بالنسبة لغيرها، في الموضوع والإخراج والتمثيل والمونتاج. وقد يجوز لنا أن نعترف لهذا العلم بأنه حققا الأمل ولكن إلى حد، لأنه وإن كان قوياً في بعض النواحي ضعيف في أكثرها، ولاسيما الفنية منها. وذلك ما نأسف له كثيراً، ونهتم له كثيراً في الوقت عينه. وما دمنا كذلك فلا يلمنا لائم إذا نحن عرضنا لتعداد بعض ما في هذا الفلم من عيوب، بعضها ظاهر لاحظه الجمهور كما لاحظناه، وسجله نقاد آخرون كما سجلناه، والبعض الآخر تسنى لنا أن ننفرد بتسجيله حتى يتنبه المسؤولون إليه ويعنوا بتلافيه في الأفلام القادمة.
الرواية: خيالية شرقية مقتبسة من ألف ليلة وليلة، وهي في الأصل غنية بالمواقف المؤثرة والمناظر المضحكة والعبارات الرائقة وفي رأينا أنها صالحة لأن يصنع منها سيناريو جيد
السيناريو: كان ضعيفاً مع الأسف، الشديد، فليست له وحدة تجلو الموضوع من جهة، و (التقطيع) فيه مقتضب وغير متمش مع أصول القصة من جهة أخرى، وقد كان ذلك مثار دهشة النفاد جميعاً لأن أفلام الاستديو السابقة كان لها سيناريات أقوى وأمتن وأدق من هذا السيناريو
الإخراج العام: لعله أحسن ما في هذا الفلم. وهذه شهادة طيبة للأستاذ بدر خان مخرجه، فقد راعى فيه الفن كل المراعاة تصميم الديكور: لم يكن به عيب، ولكن اغلبه التقط من زوايا غير مناسبة ومجموعة الديكور في (شيء من لا شيء) خير من سائر مجموعات الأستديو السابقة بلا استثناء.
الملابس: لم نفهم فيها شيئاً، وكانت خليطاً غريباً من ملابس العرب والمسلمين والعرب والروس والأروام في وقت معاً، ولعل مرجع ذلك أن الرواية خيالية، وتنسيق الملابس كان(277/75)
اجتهادياً.
الحوار: كان سخيفاً مع أن واضعه من مشاهير كتاب الحوار. وقد علمناً أنه كلف بكتابته سجعاً، وقد بينا أثر السجع على انتباه الجمهور في العدد الماضي فلا داعي لإعادته. ونحن نرجو بشدة ألا يتكرر مثل هذا.
الأغاني: لم يصادفها التوفيق قط، وكان تلحينها (أوبرا) مزيفة، وفي مناسبة الأوبرا ومناسبة الغناء الارتجالي العادي، وكانت فاترة ولاسيما أغاني بطل الفلم عبد الغني السيد الذي سمعنا له مقطوعات في الإذاعة أقرب إلى طبيعة صوته وأدنى إلى الجودة وبراعة التلحين من مقطوعاته بالفلم.
التمثيل: وفق الأبطال المضحكون الثلاثة كل التوفيق في إضحاك الجماهير. ولكنهم فشلوا كممثلين سينمائيين. فقد كانوا يتبعون طريقة المواقف المسرحية الاستعراضية، وكانوا يكثرون من (القفش والتنكيت) وكان لهم في بعض المواقف (تهريج) غير محمود وإن كنا نظن أنه أعجب كثيراً من الناس. وقد طغى الجانب الفكاهي على الجانب الغنائي، وفشلت نجاة على وزميلها عبد الغني السيد في أداء دوريهما فشلاً ذريعاً، والمسئول عن ذلك هو المخرج دون سواه؛ ويكفي أن نقول إن وجه عبد الغني السيد لم يكن يعبر عن شيء قط، وكانت حركات فمه أثناء الغناء غير متفقة مع مخارج الكلمات التي ينطقها!
المونتاج: أصيب الفيلم من جرائه بتلف كبير واقتضبت لقطات كثيرة دون سبب ظاهر. مثال ذلك عبد الغني السيد حين عاد إلى غرفة حبيبته من الخارج فوجد بها الأمير عنتر يحاول أن يقبلها، فقد رأيناه يدخل الغرفة، ثم رأيناه مباشرة (نازل طحن) في الأمير عنتر ورجاله بسيف من سيوف الشيش لم يعرفه المسلمون دون ريب من قبل هذا الفيلم! ولولا المونتاج لكان الفيلم أقوى كثيراً مما هو الآن.
كلمة أخيرة: ويطول بنا الكلام إذا نحن توسعنا في ذكر سائر العيوب ولذلك نكتفي بما قدمنا، راجين من حضرات الأخوان الذين يخصهم هذا الكلام من رجال الاستديو أن يطالعن بغاية، ويجتهدوا في تلافي هذه العيوب في الأفلام القادمة ولعل ذلك يكون قريباً إن شاء الله، أن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا وما توفيقنا إلا بالله.
والت ديزني(277/76)
وأخيراً!!.
لاشك أن رواد السينما يعرفون رجلاً اسمه (والت ديزني) يقدم لرواد السينما من وقت لآخر قطعا من الرسوم المتحركة الملونة نالت إعجابهم وتقديرهم لأنها في الحق بلغت الذروة في جمال رسومها وألوانها. . . استمر والت ديزني هذا يعمل ثلاث سنوات في الخفاء أنفق خلالها مليونً من الجنيهات المصرية وبمساعدة 500 فنان أنتج (الأميرة الصغيرة والأقزام السبعة) وهي اعظم فيلم عرفه العالم في هذا النوع.
بهجة الحياة
رأت شركة ر. ك. و. راديو أن تشارك الأمة المصرية أفراحها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك فقررت عرض رواية (بهجة الحياة) أعظم رواية مضحكة أنتجتها شركات السينما للآن تمثيل إيرن دن ودوجلاس فيربنكس الصغير؛ وهذه الرواية عرضت في لندن 4 شهور متوالية، وفي نيويورك 7 شهور وفي باريس 3 شهور، وفي روما 5 شهور!! وقد نالت هذه الرواية نجاحاً لم يسبق له مثيل في العالم، ويكفى أن نقول: إنها أضحكت كل مدينة بأسرها حينما عرضت فيها ونالت إيرن دن بعد تمثيلها هذه الرواية لقب أعظم ممثلة مضحكة! أما دوجلاس فيربنكس الصغير فقد أصبح من كبار ممثلي السينما بعد أن أضحك أوربا وأمريكا!
ومن أظرف ما يروى عن هذا الفلم أنه حين عرض في نيويورك أغمي على 37 شخصاً من شدة الضحك في الحفلة الأولى، وكانت هذه أقوى دعاية عرفتها السينما لفلم ما!(277/77)
العدد 278 - بتاريخ: 31 - 10 - 1938(/)
إحياء الأدب العربي
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشرت الصحف اليومية أن صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف (يعنى الآن بدراسة طائفة من المشروعات التي ترمي إلى بعث كتب الأدب العربي القديم، وصوغها في أسلوب عصري يقرب من ذوق الطلاب ومريدي الأدب، وإن الوزارة تفكر في نشر المخطوطات المجهولة التي تتصل بالأدب المصري وفيها فائدة للطلاب)
وإن الوزير الأديب ليصنع خير صنيع إذا وجه وزارة المعارف هذه الوجهة النافعة، ولديها ولا ريب وسائلها الوافية. فالآداب العربية مشحونة بالذخائر النفيسة التي عليها طابع الذهن العربي والحياة المشرقية لا يشركها فيها أدب من آداب الأمم الأخرى بمثل هذه الخصائص أو بمثل هذه الوفرة. وعندنا في الكتب المطبوعة والمخطوطة ثروة من أدب النوادر والفكاهات والأمثال والآراء الموجزة والملاحظات النفسية لا تجتمع في أدب أمة أخرى. وأحسب أن الأجوبة العربية التي اشتهرت بالأجوبة المسكتة لو ترجمت كلها إلى اللغات الأوربية لغطت فيها على شهرة الأجوبة اللا كونية المنسوبة إلى إسبرطة والمأثورة بين الأوربيين بالإيجاز والإفحام والمضاء، وتشبه هذه الأجوبة الأمثال والحكم والمشورات والنوادر التي يسوقونها بغير تعقيب ولا تفسير، ولكنها كبيرة المغزى عظيمة الإيحاء عند التأمل فيها والتدبر في أغراضها. ويقترن بما تقدم كله سير (الشخوص) التاريخية التي ظلمناها بإهمالها واستصغارها، وإن في كلمة من بعض كلماتها، وفي حيلة من بعض حيلها، وفي خطة من بعض خططها، ما يسلكها بين أعظم الشخوص العالمية التي تحيا في سجلات التاريخ بكلمة أو بمشورة أو بخليقة من خلائق السيادة والسياسة
هذه ثروة يسرف من ينبذها وهو في حاجة إليها، ويسهل علينا جدَّا أن نضعها بوفرتها بين أيدي الناشئة المصرية فتغنم منها الفوائد الذهنية وتغنم منها الثقة النفسية في زمن كثر فيه المتحدثون بفضائل الأجناس والفصائل والأعراق
وقد نحصر الأسباب التي تحول بين الناشئة وبين هذه الثروة فإذا هي لا تخرج عن سبب من الأسباب الآتية وهي:
1 - التطويل والحشو(278/1)
2 - التشتت والاختلاط
3 - صعوبة المفردات والمصطلحات
4 - العبارات النابية التي كان المؤلفون في جميع الأمم القديمة يقحمونها بين أخبارهم ولا يتورعون من التصريح بها لأنها من جهة لا تصل إلا إلى أيدي القليلين من نساخ الكتب للتعلم والإستفادة، ولأنهم من جهة أخرى كانوا يعيشون في زمن الفطرة التي لا نتحرج من بعض ما تحضره لباقات الحضارة وكناياتها
وجميع هذه الأسباب علاجها ميسور وعناؤها غير كبير
فالتطويل علاجه الاختصار، ونعني بالاختصار هنا حذف أجزاء وإبقاء الأجزاء الأخرى بنصها العربي القديم، لأن المقصود بالإحياء هو هذا النص لا مجرد الحكاية ولا فحواها. وقد يجوز أن نختصر حكاية لا تهمنا إذا كانت الحوادث هي المقصودة بالوعي والصيانة. أما إذا كان المطلوب هو نمط الأداء وأسلوب التعبير والنظر في وضع الجمل والمفردات فينبغي أن يكون الاختصار بطريقة أخرى غير طريقة التلخيص وتغيير الكلمات، ليعلم الطالب وهو يقرأ الكتاب أنه يقرأ المؤلف لفظاً ومعنى ولا يقرأ كاتباً حديثاً ينقل المعاني من ذلك المؤلف القديم
وأما التشتت والاختلاط فليس أيسر من ردهما إلى نسق واحد ونظام متلاحق. ولا ضير هنا من جمع مؤلفين عدة ومؤلفات شتى في كتاب واحد إذا اتفقت الموضوعات والمناسبات مع الإشارة إلى أسماء المؤلفين وأسماء الكتب في ذيل كل فقرة، وإلحاق المنقولات بترجمة وجيزة للمؤلف وبيان وجيز عن الكتاب
أما صعوبة المفردات والمصطلحات فعلاجها الأوفق في رأينا هو التفسير دون التغيير، وأن يترك ما هو صعب لمن هم أقدر على فهمه من الطلاب، وأن يقصر الناشئة الصغار على السهل السائغ في المعنى وفي التركيب؛ ولتدرس الكتابات المغلفة على النحو الذي تدرس به روايات شكسبير اليوم في الجامعات والمدارس الثانوية، أي مقرونة بالحواشي والهوامش ومقصوداً بها علم اللغة والإحاطة بالفحوى حيناً آخر، وذلك أفضل من نقلها إلى عبارة أخرى تخرج بها من نطاقها وهو نطاق الأدب القديم
وأسهل الأسباب التي ذكرناها علاجا هو سبب العبارات النابية والأخبار (المكشوفة) كما(278/2)
نسميها في اصطلاحنا الحديث، فهذه كلها تحذف حذفا من الكتب التي يتداولها الطلاب ولا يسمح بالاطلاع عليها في المدارس ولا في الأسواق العامة إلا لمن يريدها من الباحثين والمنقبين عن أطوار الشعوب ودقائق التاريخ
بقى أن نعرف ما هي الكتب التي يشملها الاختيار والإحياء؟ وفي أي عنوان نلتمسها إذا طلبناها - مثلا - في إحدى المكتبات؟
أفي عنوان الأدب وحده أو في غير ذلك من العناوين والأبواب؟
والرأي، فيما أحسب، أن نوسع الاختيار حتى يشمل جميع الأبواب ولا ينحصر في باب الأدب وحده بمعناه المشهور
فرب كلمة عارضة في رحلة من الرحلات تصف مدينة أو رجلا أو شعبا من الشعوب هي أدخل في باب الأدب من رسائل المنشئين البلغاء
ورب قصة في سياق تاريخ هي أدب صميم وخيال محض ليس فيها من التاريخ بقدر ما فيها من الإبداع والافتنان
ورب شاهد في تفسير آية أو حديث يحتاج إليه الأديب أضعاف حاجة الفقيه
ورب مجاز في استخدام لفظ مهجور تحتويه المعاجم يكون مفتاحا لأسرار التشبيه والتعبير عند واضعيه الأولين
ورب شتيت متفرق بين كتب الجغرافية والنبات والطب والكيمياء يتألف منه رأي جميع لا يستغني عنه المقتبس والمستفيد
فالاقتصار على ما اشتهر من كتب الأدب يفوت علينا شوارد هذه الأبواب ويضيق علينا الأفق الذي نملك توسيعه إلى غاية مداه
فكل ما صلح للاقتباس والاطلاع فليقتبس من أي كتاب ومن أي باب، وإذا كنا لا نأخذ كل ما في باب الأدب فليس صواباً أن نغلق كل ما عداه من الأبواب
إن المطلب عظيم ومستطاع، وعند وزارة المعارف وسائله من المصادر ومن العاملين، وكل عناء مبذول فيه هو عناء دون الفائدة المرجوة منه للجيل الحاضر ولمقبل الأجيال
عباس محمود العقاد(278/3)
في سبيل الإصلاح
المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ علي الطنطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
سقت إليك في الفصل الماضي طرفاً من حديث المشكلة، وانتهيت بك إلى الكلام على المشاكلة بين الزوجين، وأنها ركن كبير من أركان السعادة الزوجية، فإذا لم تكن مشاكلة، وكان بينهما اختلاف في الغنى أو العلم أو الجاه كانت الحياة الزوجية موتاً بطيئاً. على أنه لا بأس أن يكون الزوج هو الأعلى في جاهه أو ماله أو علمه، ولكن البأس كل البأس حين يكون الأدنى، لأن الغنى والعلم والجاه من وسائل السلطان، فإذا كانت للمرأة زاحمت الرجل على سلطانه، ونازعته رياسته ففسد الأمر، واضطرب حبل الودّ. وأحسب أن مبدأ الكفاءة في الزواج (في الفقه الإسلامي) هو الدواء لهذا الداء
وأنا متحدث إليك في هذا الفصل عن سائر أسباب الخلاف بين الزوجين، ولست أزعم أني متقصيها كلها أو محيط بها، فذلك مالا أقدر عليه، ولكني ذاكر منها ما انتهى إلىَّ خبره
موقف أهله وأهلها
فمن ذلك موقف أهله وأهلها، فانه من أظهر أسباب الخلاف بين الزوجين، وأكثرها انتشاراً بين ظهرانينا، حتى أنه يبلغ منا العجب حين نسمع أن داراً تجمع بين الكنه والحماة، ولا تجمع إليهما النكد والشقاق والبلاء تصبَّه على الزوج صباً. . . فلا يكاد يروح إلى داره ليجد فيها الراحة بعد تعب النهار، والهدوء بعد الكدح المضني، والكدَّ المميت، حتى تستقبله المعارك والشكايات والدسائس، وما أكثر القراء به عالمون. . . فيحار في أمره: لا يدري أيسوء أمه وهي التي حملته جنيناً، ورَّبته صغيراً، وأحبَّته وجعلته أملها في حياتها، أم يسوء زوجه وهي التي هجرت أهلها وفارقت عشها لتجعله أهلها من دون أهلها وأمنها ومفزعها، ثم إنها قد تكون بريئة لا ذنب لها ويجد أن أمَّه لا ترضى عنه حتى يفارق زوجه - وييّتم أولاده - وزوجه لا ترضى عنه حتى يطرد أمه، ويعصي رَّبه، وهما خُطتان أهونهما أصعب الصعاب، وخيرهما من شرَّ الأمور. . . وليس إلى إقناع إحداهما من(278/4)
سبيل، لأن للمرأة منطقاً خاصاً، يجعل بينها وبين الرجل هوة لا يلتقيان معها أبداً، ويدع الرجل وإقناع ألف رجل أسهل عليه من إقناع امرأة واحدة. . .
والخلاف بينهما أزلي ثابت لا تتغير أسبابه. فالأم ترى أنها هي سيدة الدار لأنها الكبرى، ولأنها الأصل، وأن على الكنه التي أحضرتها بيدها واختارتها برأيها، أن تطيعها، وتعمل بأشارتها؛ والزوجة ترى أن الأم العجوز قد مضى زمانها، وذهبت أيامها، وأصبحت كالموظف المتقاعد، له مرتب وليس له أمر ولا نهي، وأنها هي السيدة في الدار، وأن لها الرأي في إدارتها. . ثم إنهما تختلفان على قلب الرجل، فالأم التي عرفته وليداً، وربته طفلا ويافعاً، وكان لها وحدها - لا تطيق أن تراه وقد صار لغيرها، ولا تقدر أن تبصر نفسها فريدة في غرف الدار، كأنما لم يكن لها ولد لأن ولدها خال بزوجته. . . والزوجة التي أعطت زوجها قلبها كله وحبها وحياتها ولم تجعل له شريكاً فيها، لا تستطيع احتمال هذه الشركة بينها وبين هذه العجوز، ولا يقنعها إلا أن يكون الزوج خالصاً لها. . .
وما يقال في الأم يقال مثله في الأخت، بل إن، الأخت إذا كانت عانساً لم تتزوج، وإذا كانت على بقية من شباب، تكون أشد على الرجل من أمه، لأنها أقل منها حباً وحناناً عليه، وأكثر غيرة لمكان الصبوة من نفسها، ولأنها ترى امرأة غريبة تستمع بالزواج الذي حرمت هي منه، ويكون هذا الزوج أخاها، غلبتها هذه الغريبة عليه، وحرمتها عطفه وحبه، فيكون حرمانها مضاعفاً. . .
هذا وليس ينفرد أهل الزوج بإدخال الألم عليه، وتنغيص حياته الزوجية، بل يشارك في ذلك أهل الزوجة، يكرهون فتاتهم على الزواج بمن لا تريده، لعلو سنه عن سنها، أو قبحه وجمالها، فلا يحفلون إرادتها ولا يبالونها لأنهم يرونه غنياً، فهم يبيعونها منه بيعاً، أو صاحب جاه فهم يجعلونها وسيلة إلى الانتفاع بجاهه، بل ربما زوجوا الفتاة بنت خمس عشرة، بالشيخ أبي الستين، ولم يستأ مروها ولم يروا رأيها، وربما زوجوها من الرجل القبيح. ولقد قال عمر (الرجل الملهم) فيما أحتفظ من قوله: (لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح فأنهن يحببن ما تحبون). . . فتدخل الزوجة دار زوجها وهي كارهة، فلا يأتي منها إلا مساءته وأتعابه، إن لم يسقها صباها وعجزه إلى أن تتصل بغيره من الفتيان أو تموت سلاً وكمداً(278/5)
هذا طريق، ولأهل الزوجة طريق آخر إلى إفساد الحياة الزوجية، هو التقصير في تربية فتاتهم أولاً، وعجزهم عن ضبطها وتأديبها ثانياً. فإذا كانت الزوجة سيئة الخلق وعناء، فأنها تدع دار زوجها لأتفه الأسباب، وتذهب مغاضبة تشكو إلى أهلها وتستعديهم، فإذا كان أهلها عقلاء ردوها إليه، وأصلحوا ذات بينهما، ولاموها على خلوة بها، كما يلومونه على خلوة به، فيؤلف الله بين القلبين، وتعلم الزوجة أنه لا ملجأ لها إلا دار زوجها، ولا منجي لها إلا حسن خلقها فترضى وتستقيم، وأما إذا كان أهلها جاهلين فإنهم يغضبون لها غضبة الجاهلية فيعينوها على طلاقها ويزيدون في عنادها فيخربون بيوتهم بأيديهم، ويسوقون الشقاء إلى فتاتهم، ويكونون شراً عليها وعلى زوجها ووبالاً. . .
ودواء هذا الداء أن يبحث الرجل عن أخلاق الأسرة، وأسلوبها في تربية بناتها، وحال أمها مع زوجها ومبلغ طاعتها له ورضاه عنها، قبل الإقدام على الزواج، فإذا اطمأن إلى ذلك وصاهر عقلا حازما، وكان الزواج برأي الفتاة ورضاها، من غير احتيال عليها ولا إكراه لها، فقد أمن جانب أهلها، وبقى عليه جانب أهله. . . والمصيبة بهم أشد. . . والعلاج أن يتفرد عنهم بزوجته. فإذا لم يستطيع ذلك، فعليه بالحزم في الأيام الأولى، وأن يعرف لأمه حقها، فان زوجه تطيعه وتتخرج عليه وتتربى على ما يأخذها به، أما أمه فلا سلطان له عليها. . . ولا عليه بعد ذلك أن يرضى زوجته فيما بينه وبينها، ويعوضها بما فقدت من السيطرة في الدار، بما يدخل السرور على قلبها ويملؤه رضى وأملا والسبل إلى ذلك شتى
المشاكل المالية
أولها هذا (الجهاز) فكم ثار من أجله من خلاف، وكم هد من أسر، وكم أصاب من بلايا. . . يتنافس القوم من أجله في إغلاء المهور حتى تبلغ المئات من الجنيهات، فتبور سوق الزواج، وتكسد البنات، ثم إذا كتب الله على الزوج أن يدفع هذا المهر الفاحش، لم يكن دفعه غنما للأب ولا لفتاته، لأن عليه أن يدفع مثل ما دفع الزوج أو قريباً منه، ثم يشتري بذلك كله أثاثا ومتاعا، وما شئت من الخرثى الذي لا ينفع في دنيا ولا آخره، فمن خزانة محفورة منزَّل فيها أدق الأصداف ثمنها سبعون جنيها، ومن مقاعد وأرائك على نحوها ثمنها مائتان لكنها لا تقيم على الاستعمال عاما واحدا، ومن ستائر للنوافذ ثمن إحداهنَّ عشرة جنيهات، ومن أوان فضية وقوارير كولونية تصف على المناضد صفا، كصف الجند(278/6)
ثم لا تفتح أبدا، والمناضد (نسيت المناضد) وثمن إحداهنَّ عشرات الجنيهات، وغير ذلك مما لا أعرفه ولا أذكر اسمه وان كنت قد رأيته في دور الحمقى والمغفلين. . .
ولقد عرفت شابا مستور الحال أراد الزواج فطلبوا منه أربعمائة دينار ذهبي، فباع داراً كانت لأبيه، وأعدَّ المهر، فسلمه إلى أم الزوجة، وضمت إليه أمها ثلاثمائة من عندها لتشتري بها جميعا (جهازاً) لابنتها، فلما بلغه ذلك طار عقله وذهب يقنع أم الفتاة أن تشتري لها بذلك داراً (عمارة) يكون لها ملكها وريعها وتبقى على الدهر فقبلت ومرت أيام فبلغه أنها قد عدلت عن ذلك وأنفقت المال كله في الجهاز. . . فسألها عن السبب فإذا السبب أن البنت بكت وقالت: هل أنا دون ابنة فلان، وقد جهزوها بكذا. .؟؟ قالت الأم: (فقطع قلبي بكاؤها، فلم يسعني إلا أن أفعل ما تريد. . .)
وتم العقد واستأجر الزوج داراً فخمة (على نسبة الجهاز) فلم تمض إلا شهور حتى ركبه الدين، فاضطر إلى استئجار دار تليق به، ويحتملها مرتبه، فلم يلق فيها مكاناً لهذا (الجهاز) فذهبوا يبيعونه؛ فلم يأتهم بأكثر من مائة وعشرين، وقد كان ثمنه سبعمائة. . .
ومن مشاكل الجهاز أن الزوجة تجده رأس مالها، وقنيتها في حياتها، فتحافظ عليه محافظتها على روحها، وتكره أن يدعى إلى الجلوس على مقاعده ضيوف زوجها، أو أن يدخل غرفته زوار أهله، وقد لا يكون في الدار غرفة للاستقبال سواها، لان الناس يجعلونها أبداً للاستقبال. فتبدأ المشاكل. . . وقد تنتهي بالطلاق. . . رأينا ذلك مراراً
وعندي أن الدواء إبطال الجهاز بالمرة، وأن يفرش الرجل داره كما يريد ويستطيع، ويشتري بالمهر القليل الذي يدفعه الزوج عقار تملكه الزوجة ويسجل باسمها، أو حلية ذهب تبقى لها محتفظة بثمنها
والمشكلة المالية الأخرى نفقات المرأة وكسوتها. وقد قدمت القول بأن كسوة النساء (إلا الضروري منها) تبذير من عمل إخوان الشياطين وإسراف لا جدوى منه، وسبيل إلى كل ما يكره الرجل وتأبى العادات والمروءات وينكر الدين، من أجل ذلك قال عمر الذي ينظر من وراء الغيب بعينين من إلهام وتحديث (استعينوا على النساء بالعرى) وليس يرى العرى المطلق، بل النزاهة عما يضيع المال والعرض معا!. . .
أقص عليك قصة امرأة واحدة، فيها وصف لنساء كثيرات، تلك هي امرأة موظف كبير(278/7)
مرتبه ثلاثمائة ليرة سورية، وهو مبلغ في دمشق ضخم، تخرج من دارها كل يوم في عربة أو سيارة لا تستطيع لثقلها أن تمشي، فتطوف على بيوت الناس، فأصبحت تعرف عشرات من الأسر الغنية المبذرة. فلا يمر أسبوع لا تدعى فيه إلى عرس أو حفلة إلا كلفت زوجها كسوة جديدة. لأن من العار عليها أن ترى بثياب قد سبق فرئيت فيها من قبل. فتشتري الإزار والرداء (أو ما يقابله في الاصطلاح النسائي فما أعرف ماذا أقول. . .) والحذاء والجوارب، ويتراوح ثمن ذلك (كما حدثني المسكين وحلف لي) ما بين ستين وتسعين ليرة سورية فلا يقوم مرتبه كله بكسوتها. فيستدين ليتم لها ما تريد وينفق على نفسه وأولاده. حتى هذه الدين وأصبح مضطراً إلى بيع أملاكه المرهونة. . .
ومن النساء من لا تبالغ في الإسراف هذا المبلغ، فتكتفي بنصفه أو ثلثه، ولكن مرتب الموظف المتوسط نصف مرتب صاحبنا أو ثلثه، فتبقى النسبة على حالها؛ أما الموظفون الصغار كالمدرسين الذين يأخذون خمسين ورقة في الشهر وأربعين وثلاثين والصناع وصغار التجار، فتصور أنت موقفهم من نسائهم، فما يبلغ القول تقرير الحقيقة ووصف الواقع
ولست أزعم أن النساء كلهن عمياوات لا يبصرن حالة أزواجهن، وأن قلوبهن قد قدت من حجر فلا تشفق ولا تحزن، بل أن في النساء عاطفةً وحسَّا، ولكنهن يألفن حالة، فلا يطقن أن يراهن أحد على حالة دونها، ويستحيين من صاحباتهن ورفيقاتهن. . . ووراء هذه المشكلة الحزم في الأيام الأولى من الزواج (وهو رأس الأدوية كلها) وتقليل الاختلاط، والاقتصاد في زيارة الناس ومصاحبتهم، وليس من بأس بعد ذلك أن يخصص الزوج لزوجته مبلغاً من المال لكسوتها يدفعه إليها مشاهرة، ويدعها تفعل فيه ما تشاء، على أن تقنع به، ولا تسأله من بعده درهماً واحداً لكسوة أو ثياب. ولقد جرب هذه الطريقة كثير من الرجال فوجدوها صالحة مؤدية إلى الراحة والاطمئنان
مشاكل أخرى
إن من طبيعة المرحلة التي تجتازها اليوم أمم هذا الشرق الإسلامي: مرحلة الانتقال، أنه يلتقي فيها عصران، ولكنهما لا يأتلفان فيتحدان، ولا يختلفان فيتباينان، فينشأ عن ذلك هذا الازدواج في الحياة، فيعيش قوم في عصر مضى، وقوم في عصر لم يأت، فكيف يلتقي(278/8)
الزوجان وبينهما عصر مديد. . . هو يعيش محافظاً، وهي تريد التجرد مما يحافظ عليه. هو متدين وهي رقيقة الدين! إن كل شيء يحتمل، ضياع المال والتعب والشقاء، ويجد الإنسان عزاءه عنه في انتظار ثواب الله، في الآخرة، يجد عزاءه في الدين، فإذا ضاع الدين فأين يجد العوض منه والعزاء فيه؟
لذلك كان أول ما يجب على الزوج أن يفكر فيه، هو أن يختار زوجه من طبقته ورأيه، محافظة أو تجديداً، وإلا كان الزواج شراً كله
هذا أصل يتفرع عنه فروع كثيرة، أولها: تأدية حق الله في العبادة، والمحافظة على الصلوات، والرجوع إلى أحكام الدين فيما يختلف فيه من أمور الحياة، إلى غير ذلك مما يراه المسلم رأس الأمر وملاكه ويسميه المجددون (المتجردون) رجعية وجموداً.
وثانيها: خروج المرأة من دارها، وحالها عند الخروج وزيها وزينتها، وتبرجها في الأسواق وتيممها السينمات ودور اللهو، وعرض مفاتنها على الرجال، وما إلى ذلك مما يسميه المسلم وقاحة ورذيلة وقلة حياء. . . ويدعوه المتجردون مدنية وتقدماً. . .
وثالثها: الاتصال بالناس، وتخصيص الأيام الكثيرة لاستقبالهم، وإضاعة الأموال في إكرامهم وتعطيل أعمال الدار، وتربية الأولاد في سبيلهم - وما يجره الاختلاط الكثير. . . الذي ينفر منه العقلاء، ويرونه فساداً لا خير فيه، وبابا لا يلج منه إلا كل ضرر، لأن النساء لا يقبسن من النساء إلا السيئ المكروه، ويراه أهل التجديد واجباً لا بد منه، وفرضاً لا تكون المرأة متمدنة محترمة. . . إلا به!
ورابعها: اتباع (المودة) والأيمان بها إيمانا لا شك فيه، والخضوع لها خضوعاً أعمى، والتعامي عما تجر على الأسرة والأمة من ضرر. وهذه ثمرة من ثمرات الاختلاط المرة، يراها العقلاء سخافة وحماقة، ويعدها أهل التجرد والتجدد من فروض العين!
ومن هذه المشاكل الفرعية الخلاف على تربية الأولاد حين يحكم المرأة عاطفتها فتأبى على الأب أن يأدب ابنه أو يأخذه بالحزم، وهذا فضول من المرأة لا معنى له.
على أنها قد تثور الثائرة بين الزوجين لغير ما سبب واضح، كأن يكون الزوج متألما في نهاره أو مصابا بمصيبة لا يحب لأن يسوء بها أهله، فيدخل مقطباً من حيث لا يشعر فتحسب الزوجة أن ذلك موجه إليها، فتغضب وتعرض، فيألم الزوج في نفسه، ويظن أنها(278/9)
رأته في مصيبة فأعرضت عنه بدلاً من أن تعطف عليه وتواسيه، وينأى كل واحد منهما عن الآخر، ويوسوس له الشيطان حتى يصبحا متنافرين حقاً، وهذا مشهور يتكرر تمثيله دائماً، وداء يعتاد الأزواج في كل حين - ودواؤه الناجع كلمة يقولها أحدهما يشرح بها حاله، وقهر لهذه الكبرياء الخبيثة التي تمنعه من هذه الكلمة
كلمة الختام
وبعد فهذا كله سهل يُتداوى منه بشيء من الحكمة والحزم فما دواء حماقة الآباء في إغلائهم المهور، وتمسكهم بهذه العادات الباطلة، حتى أدى ذلك إلى (أزمة الزواج) التي اشتدت وعمَّت؟
ومتى نجد الأب الذي يملك في نفسه من الجرأة، وفي رأسه من العقل، وفي صدره من الدّيِن، ما يكسر به هذا السدَّ الذي يمنع عن الأمة كل خير وسعادة، ويعيد لنا سعيد بن المسيب في قصته التي رواها الرافعي (رضى الله عن الاثنين)؟
هل فسد الزمان حتى ما نجد في أربعمائة في أربعمائة مليون مسلم (سعيداً) واحداً؟
(دمشق)
علي الطنطاوي(278/10)
مصر وعلاقتها بالخلافة
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
خاض الجند العرب غمار الفتن السياسية التي قامت بين الخلفاء الأمويين والخارجين عليهم، وكذا بين العباسيين ومناوئيهم. وكان لتدخلهم أثر ظاهر في هذه الفتن. وسنأتي بوصف موجز لها لنبين ما كان لدخول جند مصر في غمارها من أثر
تألب محمد بن أبي حذيفة على خليفة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وإخراجه إياه من الفسطاط إلى خلع عثمان، وأسعر البلاد بنار الثورة التي انتهت بقتل عثمان وتولية علي بن أبي طالب، وما تلا ذلك أيضاً من الحوادث التي قامت بين حزب علي وحزب معاوية، وقيام الدولة الأموية. ولا غرو فقد كان لجند مصر في هذه الحوادث كلها نصيب وافر، ناهيك بما كان من قتل عثمان الذي تمَّ على أيدي الثوار من مصر دون غيرهم من عرب البصرة والكوفة
وفي عهد يزيد بن معاوية، دعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه (سنة 64 هـ) وصادفت دعوته نجاحاً عظيما في بلاد العرب والعراق. إلا أن تنصَّل محمد بن الحنفية بن عليَّ بن أبي طالب عن مبايعة ابن الزبير، ومبايعة يزيد بن معاوية لعدم وثوقه بأهل الكوفة الذين خذلوا أباه وأخويه من قبل، وخروج الكيسانية مع المختار ابن أبي عبيد الثقفي، ودعوتهم لمحمد بن الحنفية؛ كل هذا فتْ في عضد ابن الزبير، وآذن بانحلال أمره
صادفت دعوة ابن الزبير في مصر بعض النجاح، فشد أزره أنصار العلويين اعتقاداً منهم أنه لأهل البيت، ولحق به كثير من المصريين، وسألوه أن يبعث إليهم والياً من قبله، فبعث عبد الرحمن بن جحدم الفهري، فدخل مصر في شعبان سنة 64 هجرية في جمع من الخوارج من أهل مصر وغيرهم الذين انضموا إلى ابن الزبير في مكة. فاضطر عرب مصر من شيعة بني أمية إلى مبايعته على كُرْهٍ
ولما بويع مروان بن الحكم في ذي العقدة سنة 64 هـ كاتبته شيعة الأمويين في مصر سراً، فسار في كثير من الأشراف وبعث ابنه عبد العزيز في جيش إلى أبلة (عند العقبة) ونشط ابن جحدم لحربه، وأشار عليه بعض رجاله بأن يحفر خندقاً (موقعه الآن بجهة(278/11)
القرافة) فتمَّ حفره في شهر واحد، وفي ذلك يقول ابن أبي زمزمة الشاعر:
وما الجِدَّ إلاَّ مثل جدِّ ابنِ جَحْدمٍ ... وما العزْم إلاّ عزمُه يوم خندقِ
ثلاثون ألفاً قد أثارُوا ترابه ... وخدّوه في شهرٍ حديث مصدَّق
وبعث ابن جحدم الجيوش والمراكب لحرب مروان وابنه عبد العزيز، فانهزمت جيوش والي ابن الزبير، ولم ينفعه خندقه، ودخل مروان عينَ شمس ثم الفسطاط في أول جمادى الأولى سنة 65هـ. وبنى الدار البيضاء لتكون مقرَّاً له، وبايعه الناس إلاَّ نفراً ظلوا على تمسكهم ببيعة ابن الزبير، فضرب أعناقهم وكانوا ثمانين رجلا من المعافر. وقتل أيضاً سيد لخم (الأكدر ابن حمام بن عامر بن مصعب) فأتى زهاء ثلاثين ألفا من لخم، وهم مدججون بالسلاح، ووقفوا بباب مروان ثائرين فتوسط بعضهم في الصلح وانصرف الثائرون. واتفق أن توفي عبد الله بن عمرو ابن العاص في اليوم الذي قتل فيه الأكدر (15 جمادى الآخرة سنة 65هـ). فلم يستطيع القوم أن يخرجوا بجنازته لتألب الجند على مروان، فدفن في داره
لقد كان للجند العرب في مصر أثر ظاهر في الفتن التي انتهت بقتل عثمان وعلى أيديهم وحدهم تمَّ ذلك. ولما انتشر أمر ابن الزبير في الحجاز والعراق وامتدَّت دعوته إلى مصر حيث لاقت قبولا من نفوس العلويين أُخِذَت له البيعة على يد واليه عبد الرحمن بن جحدم الفهري، ولما بويع مروان بن الحكم سنة 64 هـ كاتبه أنصار الأمويين فسار إلى مصر وانتصر على أتباع ابن الزبير ثم دخل الفسطاط سنة 65هـ، وبايعه الناس إلا نفراً قليلا أمر بضرب أعناقهم
كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب في النزاع الذي قام بين العباسيين والأمويين، ذلك النزاع الذي انتهى بقيام الدولة العباسية. فلما أتى مروان بن محمد مصر فارا من وجه العباسيين لم يستطع أن يصد صالح بن علي الذي تعقبه إلى مصر، ولم يقو على مقاومته العباسيون، لما كان من تألب الجند عليه في هذه البلاد، فقد خرج القبط بسمهود، وخالفه عمرو بن سُهَيل ابن عبد العزيز بن مروان، وتابعه قوم من قيس، ونزلوا في الحوف الشرقي، وأظهروا العصيان. ولما علم جند مصر بمسير مروان إليهم أجمعوا على منعه، فلما قدم (22 شوال سنة 132هـ) ليس أهل الحوف الشرقي السواد لباس العباسيين، وحذا(278/12)
حذوهم أهل الإسكندرية والصعيد
وعلى الرغم من هذا كله فقد استطاع مروان أن يدخل الجيزة، ومن ثم شرع في محاربة الجند العرب في الحوف الشرقي وفي الإسكندرية والصعيد، وفي قمع فتنة القبط في رشيد، ثم قدم صالح بن علي العباسي (10 ذو الحجة 132هـ) في إثر مروان، فسار هذا إلى بوصير، في كورة الأشمونين (من مديرية بني سويف) فوافاه صالح بن عديَّ في جيوشه وقتله (الجمعة 23 ذي الحجة سنة 132هـ) ثم تعقب ذوي قرباه والممالئين له في هذه البلاد، ودخل الفسطاط (23 المحرم سنة 133هـ)، وبذلك زال سلطان بني أمية وتوطدت دعائم الدولة العباسية. ولا شك في أن لقيام جند العرب في مصر في وجه مروان أثرا ظاهرا فيما أحرزه صالح بن علي العباسي من نصر معجل على مروان، مما أدى إلى زوال سلطان بني أمية زوالا لا رجوع بعده
استعمل العباسيون اسم الشيعة أداة لإزالة الخلافة الأموية، فلم يكد يتم تأسيس الدولة العباسية حتى قام النزاع بينهم وبين العلويين الذين أخذوا يكيدون لهم بالسيف حيناً وبالحيلة حيناً آخر. وفي خلافة المنصور (136، 158هـ - 754، 775م) دعا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية إلى نفسه سراً، وتلقب بأمير المؤمنين. ثم ظهر في سنة 145هـ بعد أن صادفت دعوته نجاحاً عظيماً في مكة والمدينة، حيث اعترف الناس بإمامته، وأفتى الإمام مالك بأحقيته بالخلافة من أبي جعفر. ومن المدينة أرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة لنشر دعوته
ولكن محمداً لم يعش حتى يرى نتيجة دعوته، فقد مات على يد ابن موسى العباسي، فدعا أخوه إبراهيم إلى نفسه، وشد أزره كثير من فقهاء البصرة وغيرهم من ذوي الرأي والجاه، وانضوت المعتزلة والزيدية تحت لوائه وعاونه الإمام أبو حنيفة وراسله سرَّا. وبهذا كله تمكن إبراهيم من الاستيلاء على واسط والأهواز وفارس
بيد أن حياته آلت إلى ما آلت إليه حياة أخيه من قبل. فقد قتله عيسى بن موسى (الاثنين أول ذي الحجة 145 هـ - 682م) في موقعة باخمرا التي بين الكوفة وواسط. ولقد ظهرت دعوة ابن عبد الله في مصر وتابع كثيرون من أهل هذه البلاد ابنه علي بن محمد الذي أنفذه أبوه لنشر الدعوة(278/13)
غير أن والي المنصور على مصر استطاع أن يحيط أعمال على وأعمال من ناصروه، وظل على ذلك حتى وصل إلى مصر خبر وفاة إبراهيم بن عبد الله فسقط في يد الشيعة، وانطفأت جذوة الثورة. ولا يعلم المؤرخون ما آل إليه علي بن محمد بن عبد الله
كذلك كان لجند مصر نصيب كبير في الفتنة التي قامت بين الأمين وأخيه المأمون شأنهم في الفتن الخارجية التي كانت تنشب بين الخلفاء والخارجين عليهم أو المنافسين لهم، وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات مألوفاً لديهم، حتى في الأحوال التي لم يكن لمصر ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها
ولسنا ندري ما الباعث الحقيقي الذي كان يدفع هؤلاء القوم إلى الزج بأنفسهم في غمار هذه الثورات. ولا شك في أنه لم يكن لهذه الثورات علاقة ما بالعصبية العربية التي جاء الإسلام ماحيا لها، وإن كانت قد ظهرت في مواطن كثيرة بعد الإسلام. ويظهر أن الجند العرب كانوا لا يزالون مرتبطين بدار الخلافة بروابط الجنسية أكثر من ارتباطهم بمصر نفسها، إذ لم تكن القومية المصرية قد شملت بعد المصريين من القبط والعرب جميعاً. غير أن الأمر الذي يسترعي النظر ما رواه الكندي من أن مصر كانت حين قام النزاع بين الأمين والمأمون في أمن ودعة، وكذا كانت راضية عن واليها جابر بن الأشعث الطائي، وعن حكمه، وأن هذا الوالي كان محبوباً لدى الخاصة والعامة في هذه البلاد
على أنه سرعان ما احتدم النزاع بين الأمين والمأمون بسبب ما كان من خلع الأمين أخاه المأمون وترك الدعاء له على المنابر وتوليته عهده ابنه موسى بدلا منه حتى غضب العرب في مصر وغيرها، وتكلموا في خلع الأمين لنكثه العهد الذي تركه أبوه الرشيد وأودعه الكعبة الشريفة، وهذا كاف وحده لإثارة سخط الناس عليه. وظهر في مصر السري بن الحكم الذي استغل هذا الظرف لنفسه لإعلاء شأنه ورفع ذكره، إذ كان منذ أتى مصر في أيام الرشيد خاملاً لا حيثية له. فدعا إلى المأمون فبايعه نفر يسير. ولكنه ظل على نشاطه في نشر الدعوة حتى دعا المأمون أشراف مصر إلى بيعته فأجابوه سرا. وأتى كتاب هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون المعدودين إلى وكيله على ضياعه بمصر وهو عباد بن حيان، فقرأ هذا الكتاب (كتاب هرثمة) على ملأ من الجند في المسجد ودعاهم إلى خلع الأمين فأجابه السواد الأعظم منهم وخلعوه (جمادى الآخرة سنة 196هـ)، ثم بايع الناس(278/14)
عبادا على ولاية مصر، وأخرجوا والي الأمين من الفسطاط فثبت المأمون عبادا في هذه الولاية.
ولما علم الأمين بما حدث في مصر من خلعه وإخراج عامله كتب إلى ربيعه بن قيس (رئيس قيس بالحوف) بولايته على مصر وكتب إلى اليمانية يطلب إليهم أن يقوموا بمعاونة قيس هذا فأظهروا دعوة الأمين وخلع المأمون، وخرجوا إلى الفسطاط، ودارت بين الفريقين مناوشات وحروب كان النصر فيها في جانب أنصار المأمون. على أنه لما بلغ قيسا قتل الأمين (المحرم سنة 198هـ) وبيعة المأمون تفرقوا - شأنهم في الفتن التي اشتركوا فيها.
هذا ما كان من أمر اشتراك عرب مصر في الفتن الخارجية وهي فتن سياسية في جملتها وإن كانت قد أُلْبِست لباس الدين، ليكون تأثيره في النفوس أقوى وأشدَّ
ولا يعزب عن بالنا ما كان من الانقسامات المذهبية التي شطرت العالم الإسلامي شطرين: سنة وشيعة. ولقد كان لكل من هذين المذهبين في مصر أنصار وأعوان، كما كان بها أيضاً أنصار لمذهب الخوارج الذين اعتزلوا علياً، فضلا عما كان لظهور المذاهب الأربعة من التأثير في مصر حيث ساد مذهب مالك في القرن الثاني للهجرة، وظل على ذلك نحو قرن ثم ساد بعده مذهب الشافعي، وبقى على ذلك إلى اليوم، وإن كان التأثير من هذه الناحية لم يظهر في ثوب عدائي مصحوب بفتن وحروب
وعلى الجملة فقد كان عمل الجند العرب في مصر ينحصر في عدة أمور
1 - القيام بالفتوح الخارجية لتأمين مصر من الغرب والجنوب
2 - الاشتراك في الغزوات البحرية التي قام بها الخلفاء الأمويون والعباسيون ضد الدولة الرومانية الشرقية أو القضاء على المحاولات التي بذلتها هذه الدولة حيناً بعد حين لاسترداد مصر
3 - قمع الثورات الداخلية التي كان بها المصريون في وجه الولاة
4 - الاشتراك في الفتن التي قامت بين الخلفاء والخارجين عليهم أو المنافسين لهم
وطالما انقسم العرب في مصر على أنفسهم إلى فريقين: فريق يناصر الخليفة وفريق يناصر الخارج عليه والمنافس له(278/15)
هذا إلى ما كان من قيامهم في وجه الولاة والعمال إذا ما اشتطّوا في جمع الخراج ومن انقسامهم على أنفسهم بسبب ما كان من ظهور الاختلافات المذهبية في المدنية وفي دمشق وبغداد
وقد ظل عرب مصر على ذلك إلى أيام الذي غالي في عقوبتهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة فاستكانوا. ناهيك بما كان من إسقاط المعتصم العرب من الديوان، فلم يشتركوا بعد ذلك في فتن سياسية ولم تعد لهم كلمة، واستعاضوا عن الاشتغال بالحروب والسياسية والزراعة وكسب العيش عن طريق غير طريق العطاء، وساروا في مناكب مصر وانتشروا في المدن والقرى، واختلطوا بالسكان الأصليين اختلاطاً تاماً، فانحطت العصبية العربية في مصر وفي غيرها من البلاد، ولم يحكم مصر بعد ذلك والٍ من العرب إلا عنبسة بن اسحق (سنة 238هـ - 242 هـ) اللهم إلا ما كان من دخول هذه البلاد تحت سلطان الخلفاء الفاطميين مدة قرنين وتسع سنين (358 - 567 هـ)
حسن إبراهيم حسن(278/16)
التعليم والمتعطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
الثقة بين رجال التعليم
قبل أن يتناول بحثنا المدرسة المصرية الحالية، وما وقع في تكوينها من أخطاء، وما يجري بين جدرانها من نقائض وعيوب وما نقترحه في سبيل إصلاحها لتفي بالغرض من وجودها من مقترحات - لا بد لنا من التحدث إلى القارئ عن بعض الأمور الأساسية المتصلة بها اتصالا مباشراً لما لها من أثر فعال في تكوينها وتأثير قوي في كيانها. وهي أمور من الأهمية بحيث نرى أن من واجب طالب الإصلاح وضعها دائماً نصب عينيه، فرجال التعليم على اختلاف طبقاتهم يألمون أشد الألم مما يصيبهم من أذى وحرج بسبب ضعف الثقة بهم الذي تظهر آثاره من آن لآن، ويتردد صداه من وقت لآخر في كل مكان، ولكن لعل ذلك كله بدأ منا وانتهى إلينا، فكنا نحن مع الأسف الشديد السبب المباشر في وجوده والعاملين دائماً على استمراره
أن ضعف الثقة بين الرئيس والمرؤوس مسألة قديمة، وهي لم تقتصر على وزارة التعليم فحسب، بل انتشرت في جميع دواوين الحكومة المصرية، فأزعجت الموظفين وجعلتهم جميعاً يفرون من المسئوليات، ويلقون على غيرهم التبعات، وأفقدتهم التعاون والتضامن فتعطلت الأعمال وساءت الأحوال حتى نهض المثل السائر: يوم الحكومة بسنة، وأصبح معروفاً عند الخاص والعام. وكانت وزارة المعارف من أقدم الوزارات التي تمسكت بذلك وحرصت عليه حتى هان أمر كل مرءوس على رئيسه، وأصبح كل منهما يرى في الآخر عدواً يحاول اقتناصه والإيقاع به، وبرزت إلى الوجود بين المتحذلقين منهم مسألة الأوامر الكتابية، فكل كلمة تصدر عن رئيس لا تكون ذات قيمة إلا إذا كانت مكتوبة ممهورة بتوقيعه، وكثيراً ما رأينا أحد المدرسين يتحدى ناظر مدرسته بقوله: (أكتب إليَّ رسميا) فينزعج الناظر من ذلك ويخشى تلك الكتابة التي قد تجر عليه النكبات، إذ كثيراً ما أدت إلى الانقسامات بين صفوف المدرسين، والى الاضطرابات والارتباكات؛ وكثيراً ما قامت الوزارة وقعدت وأرسلت بمفتشيها لإجراء التحقيقات وتحديد المسئوليات كما يقولون، لذا نرى معظم نظار المدارس يعاملون المدرسين عندهم بكل حذر. بينما نرى بعض المدرسين(278/17)
والمرءوسين يحصون على ناظرهم كل صغيرة وكبيرة، حتى إذا جد الجد وجاء دور التحقيق بينهم أبرزوا ما حوته مذكراتهم من حركات الناظر ومخالفاته شهوراً طويلة. فهل في جو مثل هذا الجو يمكن أن يطمئن والد على تربية ابنه وتثقيفه وتنشئته تنشئة خلقية فاضلة!
ظهر ضعف الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين في قانون نظام المدارس العتيق المعمول به من قديم الزمن في مواضع عدة نذكر منها على سبيل المثال تحريمه على ناظر المدرسة أن يكاتب أية مصلحة أخرى إلا عن طريق الوزارة، فكان ناظر المدرسة بالفيوم مثلا الذي يرغب في مكاتبة مجلسها البلدي لزيارة التلاميذ وابور المياه أو وابور الثلج لا يمكن أن يفعل ذلك رسمياً إلا إذا كتب للوزارة بذلك، وهي في دورها تخاطب بلدية الفيوم. وناظر مدرسة قنا الذي يرغب في زيارة تلاميذه آثار الأقصر لا يستطيع ذلك إلا عن طريق الوزارة وهكذا. كذلك كان يحرم القانون على ناظر المدرسة تناول المدرسة طعام الغداء بين تلاميذه بالمدرسة من نفس الأصناف وبنفس الكميات التي يأكلونها حتى ولو كان ذلك على نفقته الخاصة حسب التعريفة المقررة، وذلك مخافة أن يحابيه طباخ المدرسة فيما يأكله من الطعام. في حين أن القانون إلى جانب ذلك يحرم على الناظر في موضع آخر مغادرة المدرسة أو تركها في أية لحظة من لحظات اليوم المدرسي لأي سبب من الأسباب حتى ولو كان لتناول طعام الغداء
وفي قانون نظام المدارس مادة أخرى تحرم على المدرس أن يعطي درساً خاصاً لتلميذ عنده في الفصل حتى ولو كان هذا التلميذ داخلاً في امتحان عام كامتحان البكالوريا أو الابتدائية بعيداً عن مدرسته وأساتذته. فإذا علمت أن هذا المدرس هو أعرف الناس بمواضع ضعف هذا التلميذ وهو أعلم طبيب بالطرق الناجعة لعلاجه لاتصاله المباشر به وإشرافه اليومي عليه وعلمه بعقليته وتعرفه لأسباب ضعفه تبينت مقدار تعنت المشرع في ذلك ومقدار عدم ثقته بالمدرس. لأن الذين نشأوا على هذا التشريع وقتلوه بحثا ًيعللون ذلك بأن المدرس ربما يتأثر بالعلاقة الجديدة التي تنشأ بينه وبين هذا التلميذ إذا سمح بإعطائه درساً خاصاً فيحابيه في أثناء الدرس العام أو يعمل على نجاحه آخر العام الدراسي إن كان ممن يمتحنون بالمدرسة، هذا بالرغم من أن أوراق امتحان النقل جميعها توضع عليها أرقام(278/18)
سرية لا تمكن أي مدرس من أن يعرف أوراق أي تلميذ، فعلام هذا التحوط وعلام كل هذا الخوف؟
أما الأرقام السرية في الامتحانات فحدث عنها وعن أهميتها ولا حرج، فقد كانت في بادئ الأمر توضع على جميع الأوراق التي يدون عليها التلاميذ إجابتهم في الامتحانات العامة كامتحان الشهادة الابتدائية وشهادة الدراسة الثانوية، ثم انتقلت عدواها إلى أوراق امتحان النقل في جميع مدارس التعليم العام في أنحاء المملكة المصرية بناء على قرار وزاري خاص فأصبحت هي السر الهائل من أسرار لجان الامتحان الذي إذا حاول أي إنسان كشفه لأي غرض كان نفسه لأشد العقوبات ولأعظم النكبات، ولا يتولاها من عرف بحفظه للأسرار وكتمانه لها كتماناً تاماً. ولكم وجدت لها ضحايا من رجال التعليم بين آن وآخر من الذين لا يعملون بإحكام على كتم مكنوناتها وصون أسرارها العتيدة. وبالرغم من نظر الرسميات لها هذه النظرة فهي في نظرنا اللطمة التي تصيب سنوياً صميم الثقة العامة برجال التعليم، وهي الصفة القوية المؤلمة التي يصفون بها جميعاً في كل عام مرتين من غير أن يعيروها أدنى اهتمام بعد أن اعتادوها ودرجوا عليها. ولكنهم لو تأملوها لأدركوا أن هذا التحيز الذي يتهمون به، وتلك المحاباة التي يرمون بها، ويخشى من أجلها على تلك الوريقات أو الشهادات التي يتسلمها الطلبة، والتي أصبحت اليوم تافهة القيمة لا تقدم الشخص في حياته ولا تؤخره، وأن تلك الروح المعقوته التي يوصفون بها - ما هي إلا لطخة في جبينهم لا يقرها إنصاف ولا عدل. بل هي نكبة من النكبات التي أصيبت بها الثقة العامة برجال التعليم يندى لها جبينهم وتحترق لها أفئدة المخلصين منهم على مدى الأيام، وسيظل الضمير العام لرجال التعليم متألماً، وسيظلون أبداً وراء صفوف الهيئات والطوائف الأخرى ومحل عدم اكتراثها، وستظل مصر مجافية لروح التجديد والإصلاح في تكوين ناشئتها ما دام هذا النوع من العمل قائماً؛ فهي الامتهان للكرامة بعينها والقضاء على الثقة بكامل معانيها، ولن تقوم لرجال التعليم قائمة إلى أن يتخلصوا من هذه الوصمة التي أصابت ضميرهم وصميم الثقة بهم. وإنها لبدعة دنلوب تحمل بين جنبيها التناقض الصريح في جعل المدرسين أنفسهم يمتحنون الطلبة الامتحان الشفوي في اللغات حيث يكون من السهل معرفة التلميذ للممتحن ومعرفة الممتحن للتلميذ. ومع كل ذلك فقد تمسكنا بها تمسكاً(278/19)
كبيراً وحافظنا عليها ونقلناها من الامتحانات العامة إلى أنواع الامتحانات جميعها؛ وقد غلونا فيها وعمدنا إلى تنظيمها وتعميمها حتى شملت جميع المدارس وبعض كليات الجامعة مع الأسف بعد أن كان الواحد منا قديماً يأخذ معه في منزله أوراق الطلبة فيصححها باطمئنان على مهل ثم يعيدها، كما يفعل القاضي بالقضايا، وكما يفعل المهندس بالمقايسات والرسوم المختلفة، وكما يفعل سائر الموظفين في باقي الأعمال الهامة التي لها مساس كبير بمصالح الجماهير، والتي بالرغم مما نسمعه كل يوم من ضبط المختلسين والمرتشين لم يفكر أحد قط في جعل البحث فيها سرياً كما يجري عندنا، حتى لقد أصبح المدرس الذي يقوم طول العام على تعرف عقلية تلميذه ومقدرته ليس فقط ممنوعا من إبداء رأيه في نقله من فرقة إلى أخرى، بل هو فوق ذلك متهم في أمانته، متهم في ذمته، متهم في أخلاقه، مصاب في كرامته، فهل يصح بعد انتزاع هذه الثقة الغالية منه أن يؤتمن على تكوين الفضيلة وبث الأخلاق الحسنة في تلاميذه وأبنائه!!. . .
اللهم أنها نقمة حلت بالتعليم وأهله نسألك أن تزيحها عنهم حتى تعود الثقة بالمعلمين الذين يصفهم الناس إلى اليوم بهتاناً وزوراً بأنهم ورثة الأنبياء، مع أنهم جردوهم من أثمن الفضائل وأغلاها ولقد كان لانتزاع الثقة العامة من رجال التعليم الأثر البالغ في رجال السلطة التعليمية العامة الذين ينتخبون من بينهم فضعفت الثقة بين المراقبين والمساعدين، وبين المساعدين والمفتشين، وبين المفتشين والنظار والمدرسين الخ. . . وأصبح الواحد منهم يخشى الآخر ويحذره ويعمل ما استطاع على الهرب من المسئولية وإلقائها كلما جد الجد على غيره، فأصيب الكثيرون منهم بالضعف والخور وفقدان الشخصية. وصار كل منهم يتلمس حرفية القانون فينفذها فقط مخافة أن يقال له يوماً إنه خالف القانون وصار كل تفكيره منصبا على ما هو مكلف به من غير أن يفكر في إصلاح أو تجديد، لأنه يرى بعيني رأسه أن المتحمسين للتجديد المندفعين في تياره بما جبلوا عليه من حب للعمل والغيرة عليه كثيراً ما ينالهم الأذى من وراء ذلك إذا وقعوا في أتفه مخالفة للقانون حتى ولو كانت تلك المخالفة في صالح العمل وتقتضيها مصلحته. ونتج عن ذلك نتيجتان وخيمتان:
أولاهما: الجمود الفكري الذي استحوذ على المدرس في فصله والناظر في مدرسته. حتى(278/20)
صار الواحد منهم لا يعبأ بمعرفة شيء عن أصول التربية الحديثة ومستلزماتها ولا يهتم بالتمشي مع أصولها خوف ما يقع عليه من المسئولية والأذى إذا حاول الشذوذ عما يرسم له بتطبيق نظرية حديثة أو فكرة جديدة، وأصبح لسان حال كل منهم يقول (لماذا أتعب نفسي وأهتم بأي شيء قد يجر على مالا تحمد عقباه؟ فما علي إلا أن أردد كل عام الدروس التي رددتها من قبل أو أن أعمل العمل الذي كنت أعمله في الأعوام السابقة في سبيل الحياة وأكل العيش)
وثانيتهما: إعدام التعاون بين أعضاء المجموعة الواحدة، كل يفكر في نفسه غير مبال بغيره حتى لقد يمر العام كله على مدرسين في مدرسة واحدة لا يعرف أحدهم اسم الآخر كما قد يمر العام على مدرسين في فصل واحد لا يتذاكرون شيئاً عن أحوال تلاميذهم أو أخلاقهم أو عقلياتهم. وليس هناك أمر من الأمور يعرض عمل أية مجموعة أو طائفة من الناس للخيبة كفقد رابطة التعاون والتضامن بينهم، وخصوصاً إذا كان ذلك بين جدران المدارس التي يجب أن يكون التعاون غرضاً من أغراضها الأساسية. فالمسألة أصبحت قاصرة على أن كل واحد منهم يعمل عمله المتكرر الممل المعاد سنة بعد سنة بدون تأمل في إصلاح ولا تفكير في تجديد وأنى لهؤلاء أن يبعثوا بملكة التأمل والتفكير في تلاميذهم إذا كانوا قد أصبحوا هم أبعد الناس عنها!!
عبد الحميد فهمي مطر(278/21)
لا كرامة لنبي في وطنه!
ولي الدين يكن يتجاهله المصريون
للأستاذ كرم ملحم كرم
مما يؤلم أن ليس لأديب مصر ولي الدين يكن صدى مسموع في وادي النيل وهو الذي ملأ وادي النيل صيحات وأغاريد، فالمصريون إخوانه لا يحفلون به كما يحفلون بسواء من رجال الأدب والعلم، فكأنه لم يكن، مع أن ولي الدين بلغ مكانة في الأدب والبيان يحن إلى بلوغها عدد وافر من بني قومه. ومعظم هؤلاء الذين يكتبون اليوم في مصر لا يجيدون الكتابة كما أجادها ولي الدين. فان لولي الدين في الإنشاء أسلوباً لم يسبقه إليه منشئ، وما جاراه فيه مقلد، فارتقى إلى ذروة سامية كان فيها نسيج وحده. فنفحنا بلغة القرآن كما نفحنا جبران خليل جبران بلغة التوراة، وظهرت لنا فيه الفخامة، والتشبيه البكر، والرقة، والبلاغة. وقد يكون في بيانه أقدر كاتب عرفته مصر، فما في أسلوبه تقعر ولا تحذلق ولا ترهل، بل قوة ورسوخ، قوة مصدرها القلب، ورسوخ لحمته الإخلاص؛ فليس يكتب ولي الدين ليملأ فراغاً بل ليجود بما تزخر به نفسه من عواطف وأشجان.
وإن يكن ثمة أديب يدل إنشاؤه عليه فهو ولي الدين، ففيما يكتب تجري نفسه: فيما يكتب الأنفة، وولي الدين أنوف. فيما يكتب الجرأة، وولي الدين جريء؛ فيما يكتب ثورة على الظلم وولي الدين ثائر على الظلم. فيما يكتب عن العظمة، وولي الدين عظيم. في أصله وفي قلمه. فان إنشاءه إنشاء ملوك، وهو من حفدة أصهار الملوك والسلاطين
لقد استعان المنفلوطي بعواطف سواه لما كتب، فزخرف ونمق؛ وذلك حسبه، على حين أن ولي الدين خلق، وهذا هو المنشئ البليغ. كتب ما بحسه بلغة رفيعة وجيزة تنطلق كالسهم فلا انحناء ولا التواء؛ ومع كونها لغة ما قل ودل فأنها لتموج بالزخرف كالعروس
ولولي الدين في الأدب أنداد جروا مجراه في الأنفة والسمو والنبل. ومن هؤلاء أبو فراس الحمداني، والشريف الرضي. أبو فراس طمع في العرش الحمداني والشريف الرضي في الخلافة. وبين ولي الدين وبينهما شبه متعدد الوجوه في عواطفه وشعره
ولي الدين عانى وحشة المنفى، وأبو فراس ذاق مرارة الأسر. أبو فراس عاش ومات مقهوراً، وولي الدين عاش ومات مقهوراً. شعر المتنبي طغى على شعر أبي فراس، وشعر(278/22)
شوقي طغى على شعر ولي الدين. على حين أن قصيدة أبي فراس: (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. . .) تساوي ديواناً. ولا جدال في أن صاحبنا أبا الطيب يتمنى لو تكون له، إلا أن عواطف المتنبي بعيدة كل البعد عن رقة أبي فراس في غزله بعد رقة شوقي عن طبع ولي الدين
فلسنا نحس ونحن نقرأ شوقي قلبه يجول في السطور. فما هناك غير شاعر ينقر العود ليطرب سامعه، وربما ليرفعه إلى أعلى ذروة من عالم الطرب؛ على حين أن ولي الدين في شعره الغزلي يثب وثباً إلى القلب ويتلاعب به ويملكه ويذله ويدعوه إلى الإقرار مكرهاً بأنه فعل فيه فعله، وبأنه تأثر كل التأثر به، وبأن ما في هذا الشعر يحاكي عواطفه وميوله؛ فهذه نفسه مسبوكة في أبيات من الشعر ذوات قواف وأوزان، بينما هو يقف أمام شوقي وقفة الإعجاب، وقفة الاحترام والخشوع، فيتأثر عقله لا قلبه، شأن كل منا أمام الأهرام وقلعة بعلبك وخرائب تدمر، فنعجب بالصانع والمبتكر دون أن يكون لهذا الإعجاب صلة بالقلب. فالقلب يظل مستقراً في زاويته لا تهتز منه الأوتار، على حين أن تغريدة بلبل وزقزقة عصفور تحتلان منه الصميم
وهذا موقف أبي فراس من المتنبي: المتنبي شاعر القوة وأبو فراس شاعر المهجة المقروحة، والاثنان لا يلتقيان. فالمتنبي لما عاد من مصر بالإخفاق، واحتل قلبه اليأس لم يفكر في سوى الهجو، في غير ضرب العصا، فما جرى في منظومة قلبه بل حقده، بل أعصابه الثائرة وحنقه. فأطلقها تغلي كالمرجل الجياش:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... يا ليت دونك بيد دونها بيدُ
وهذا شعر، ولكنه شعر حجري مقدود من الجلمود!
وأبو فراس يئس كالمتنبي لدى وقوعه في الأسر، ولا نكير في أنه كان أشد من المتنبي يأساً وقد نزعت منه حريته وبات تحت رحمة ملك الروم. على أن هذا اليائس لا يضرب بالعصا وهو ينظم الشعر، فلا يقول كالمتنبي:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
بل ينشد:(278/23)
أقول وقد ناحت بقربي حمامة: ... أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى=ولا خطرت منك الهموم ببال
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالي؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالي
وهذا الشعر يائس، ولكن القلب يتكلم فيه، لا الحنق ولا العصا، وليس منحوتاً في صخر!
في طليعة الشعراء العاطفيين في مصر إسماعيل صبري وولي الدين. وما اشتعلت العاطفة إلا في الأيام الأخيرة في صدر شوقي. ولقد اندفع إليها مضطرا. حمله عليها أبطال رواياته. فلا يسعنا القول أن شوقي شاعر عاطفي لكونه أنطق ليلى العامرية ومجنونها بالغزل والنسيب. فالموقف جره إلى ما كلف نفسه إياه. فنطق بيانه لا قلبه. كان مصوراً لا حساساً يعطينا من كبده
وفي هذه الناحية اختلف ولي الدين عن شوقي: ولي الدين كان عبد العاطفة. وكل شعره شذ به عن العاطفة كبا فيه. والدليل شعره السياسي. فأين هذا الشعر من القصائد المصهور فيها قلب ولي الدين؟
فبينا أنت إزاء ولي الدين العاطفي في حضرة شاعر من الطبقة الأولى إذا بك تجاه شعره السياسي أمام شاعر من الطبقة الثانية بل الثالثة، وأين قصيدة:
الله في وجدٍ وفي مأمِلِ ... من لي بعود الزمن الأول
قد كنت أشكو عّذلي في الهوى ... وها أنا أثنى على عّذلي
مللت عذب اللوم جهلاً به ... لو كنت أدري الحب لم أملل
من قصيدته في تهنئة سيد مصر يومذاك عباس حلمي الثاني:
هلموا بنا نحو الأمير نسَّلم ... سلام على عباس مصر المعظم
ألا أن في الأكباد شوقاً مبرحاً ... إليه فقد كادت من الشوق تدَّمى
ففي القصيدة الأولى تكلم قلب ولي الدين فأسمعنا أبرع الشعر، وفي الأخرى تكلم لسانه بما تقضي به المجاملات فعدا سجيته ولم يكن من الظافرين.
وهذه حال ولي الدين في قصائده كافة: يجلي في شعر العاطفة ويكبو فيما جاوز هذا الشعر. ولسنا بحاجة إلى الأمثال وهي موفورة في كل قصيدة من نظم الرجل. وأي جسامة في(278/24)
الفرق بين قصيدته:
أعلمت الهوى الذي أخفيه ... أي سر في القلب لم تعلميه؟
هو مأواك منذ كان وهل يح ... جب شيء في البيت عن ساكنيه
وقصيدته في رثاء أحمد خيري بك:
يا روح خيري حين جدَّ الرحيلْ ... قفي قليلا وكفانا الدليل
الموت قد بت الذي بيننا ... لم يبق منه غير حزن طويل
فلا صلة بين القصيدتين ولا قرابة: فكأن هذه من نبع وتلك من نبع آخر. وعلى المرء أن يعالج ما خلق له، وولي الدين على سمو منزلته في الأدب، وهو ممن يمشون أبداً في الطلائع والنظائر، لم يدرك الفوز فيما لم ينشأ عليه. لقد تفوق في شعر العاطفة وكان عليه أن يملأ به ديوانه فحسب، لا أن يجري على ما ليس فيه!
ومع أن من حق مصر أن تفاخر برجل موهوب من أبنائها كولي الدين فإنها لتحدق إليه شزراً كأنما يضيمها أن تتعرف إليه على حين تغبطها سائر البلاد العربية على أديب فريد في نثره وفريد في شعره العاطفي في هذا العصر
يقول الناقمون على الرجل إنه ساير الإنكليز فوقف عليهم قلمه، ورحب باحتلالهم وادي النيل، وجوابنا أن الإنكليز ساعدوا على ترقية مصر، فان يدهم في عمرانها غير منكورة عليهم. وفئة محترمة من زعماء مصر، وبينهم من تربعوا في العرش المصري وكانوا منه كالسوار من المعصم، اعترفت للإنكليز باليد البيضاء على وادي النيل. فان يكن ولي الدين جارى هذه الفئة فلا عليه. وقد سمعنا النحاس باشا نفسه، زعيم الوفد المصري، يتدفق بالشكر لإنكلترا على أثر إبرام المعاهدة المصرية الإنكليزية!
وثمة من ينعى على ولي الدين عبثه بالتقاليد، إذ حارب الخليفة، وتزوج مسيحية، وأطلق على أبنائه أسماء غريبة، فأنكره ذووه ومالوا عنه فعرف البؤس المرير:
تعوَّد كلٌّ بؤسها ونعيمها ... وعشنا على بؤسي ولم نتعوَّد
على أنه ما شأن الأدب في حياة الأديب الخاصة؟ هذه في واد وهو في واد. وإذا جئنا ندين الأدباء في حياتهم الخاصة اضطرنا إلى حذف تسعة أعشارهم من السجل. وهو مجهود سخيف!(278/25)
ولقد بسم الحظ لولى الدين، ولكن ما بسم له حتى مات، وهذا نصيب المنكود من دنياه. كان ولى الدين من مؤيدي السلطان حسين كامل. فلما تولى السلطان حسين عرش مصر قرَّب إليه الأديب الموهوب؛ غير أن الموت زاحم مولى مصر على ابنها البار فدهمه داء الربو فمات وهو في حلوان، وقيل إنه مات بالسل
ومهما يكن فليس ولي الدين ممن يجب الإغضاء عنهم وله على البيان العربي يدٌ طاهرة. عدا أن محاولة طمسه لن تأتي بفائدة؛ والغد كفيل بأن يحييه. فما أبقى ولي الدين من آثار أدبية يضمن له الخلود. فليس من أديب في مصر يأتي فوراً تلو شوقي سوى ولي الدين، أي إن إنكاره وغمط فضله لا يؤثران فيه، بل يدلان على نية فاسدة. وإننا لننزه القوم في مصر عن التحزب في الأدب، ويكفيهم أن يعلموا أن التحزب العباسي قضى على تسعة أعشار منظوم بشار بن برد وظل بشار من الخالدين!
(بيروت)
كرم ملحم كرم(278/26)
مصدر الهتلرية
منذ أعوام أصدر مستشار الريخ كتابه (كفاحي) متضمناً السياسة التي عول على السير بمقتضاها، وهي سياسة صريحة لا مراوغة فيها ولا مداورة. فهل كان هتلر هو خالق هذه المبادئ وواضع تلك السياسة؟
يرى فريق من المتتبعين لتطور السياسة الألمانية في نهاية القرن الماضي أن كل ما جاء به دكتاتور ألمانيا إنما هو مأخوذ عن المبادئ التي وضعها الأستاذ هنريك فن تريتشكي أستاذ التاريخ الحديث في جامعة برلين وبثها في محاضرات ألقاها على القوم في فريبرج ولينرج وبرلين، أيام كانت ألمانيا تحرز النصر تلو النصر على الدانيمرك والنمسا وفرنسا (أعني في المدة ما بين 1866 - 1872) ووقت أن كانت تحتاج ألمانيا إلى روح من (مركب النقص) تدفعها على الدوام لأن تتبوأ القمة بين دول أوربا
يقول الأستاذ همبدن جاكسون في بحث نشره عن نظريات تريتشكي: (يحتمل أن تكون آراء تريتشكي قد استمدت مباشرة من كتاب (كفاحي)، لولا أنها ظهرت قبل أن يعرف الوجود هذا الكتاب بنصف قرن) ولقد كتب تريتشكي يقول: (إن الحكومة هي القوة، ووظيفة الحكومة الجوهرية هي شن الغارات، وبدونها لا تكون هناك حكومة قط، فلولا الحرب ما كانت الدولة. وينبغي أن يجعل المرء شعاره على الدوام: (إن الحروب دواء الأمم المريضة) كما أنه في الساعة التي تقول فيها الحكومة: (إن كياني ووجودي في خطر) ينبغي أن يغفل المرء البحث عن مركزه الاجتماعي، وأن يتناسى كل حزب خصومته، وينكر كل فرد ذاته، وأن يعتقد أن ليست حياته بشيء إن هي قيست بخير المجموع. وفي هذه اللحظة ذاتها تتجلى عظمة الحرب التي تقول بوجوب تلاشي الضعيف، أما المثل الأعلى للسياسة فهو الذي ينشد الحرب بينما تنفر منها المادية. ما أبعد الأخلاق عن الواقع حينما تحقر شأن الغلبة في الكيان الإنساني)
ولقد حذا هتلر حذو تريتشكي فما حاد عن تعاليمه قيد شعرة، فقال عن المعاهدات: (ليس في وسع أية حكومة أن تجعل مستقبلها رهن مستقبل حكومة أخرى، فلكل دولة الحق في أن تعلن الحرب متى شاءت، كما أن لها الحق في أن تنقض أية معاهدة متى رأت فيها غلا لها. إن لكل زمن معاهدة)
لم يقتف هتلر خطى الزعيم المدرس المتوفى عام 1895 في السياسة فحسب، بل اتبعه في(278/27)
جميع نواحي الحياة السياسة والاجتماعية، فمن قبل أعلن ترتيشكي رأيه في المسألة العنصرية الجنسية فقال (إن كلمة (نبيل) لا تفيد إلا معنى العنصرية، ولا يمكن فهمها إلا على أساس اعتقاد أن المميزات الشخصية إنما يتوارثها الخلف عن السلف، وأفضل ما في الجنس الآري صفة الشجاعة، فرجاله دائما على أهبة امتشاق الحسام للذود عما كسبوه بقرائحهم) كما أن رأي هتلر في النساء قد سبقه إليه ترتيشكي من قبل في قوله: (ليس للمرأة من وظيفة في الحياة غير الزواج وتدبير المنزل. إن الجميع - حتى الذين لا يميلون بطبيعتهم للخير العام - يكرهون استخدام المرأة في المصانع) ويقول ترتيشكي عن الجيش: (ليس له من حق في إبداء الرأي، وإنما هو قوة فعالة تنفذ ما يُلقى إليها. أما إذا خُوَّل الحق في إعلان رأيه اضطراب الأمن. وليس ثمة بلاء أنكى على الدولة من جيش يتناقش، ثم يفترق شيعا وأحزابا) وهذه الكلمات التي ننقلها هنا، جاءت في محاضرة له ألقاها عام 1892م، وفيها ما يميط اللثام عما أحاط مسألة التطهير التي جرت في يونيه 1934م عندما قتل هتلر الجنرال فون شليخر، وقادة فرق القميص الأسمر الذين حاولوا أن يكون لهم رأي في إدارة دفة الحكم
أخذ ترتيشكي يدعو إلى احتقار الجنس السامي، ويذكى غضب عشرائه ويستغل حماسة طلابه في تهديد اليهود لألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر حيث يقول: (والآن حيث أصبح في ميسور الآريين تصريف الشؤون المالية فقد انتهت مهمة اليهود ولم تعد لهم ضرورة. بل لقد أصبح خطرهم شراً جسيما يهدد كيان الدولة بانحلال قواها، ويحمل هذا الأمر في طياته نذير قيام جنسيات مختلفة) غير أن ترتيشكي لم يستطع أن يضع حداً فاصلا (لليهودي الخالص) وبين الذين يمتُّون للجنس الجرماني بنسب فقال: (وأستطيع - إلى مدى بعيد - ألا أجد غير وسيلة واحدة لإنقاذ هذا النشاط، تلك هي تنمية مجهودنا القومي الذي ينبغي أن يكون طبيعة ثانية بجانب طبيعتنا، وأن نلزم أنفسنا برفض كل مالا يحمل الطابع الجرماني، فيعم الخير الجميع؛ في ساحة الملاهي وصالات الموسيقى وفي قراءة الصحف؛ أما حيث يوجد القذى اليهودي فعلينا أن نبتره بتراً، فأن استطاع العيشَ بعد ذلك فتبعة هذا اللوم واقعة على المتساهلين معهم، المترَّفقين في بغضهم للجنس السامي)(278/28)
ويرى تريتشكي أن حاجة ألمانيا إلى المستعمرات من المسائل التاريخية والسياسية والاقتصادية فيقول: (إن حربنا المقبلة الناجحة، ستنجلي عن الحصول على المستعمرات بأية وسيلة، فحاجتنا تاريخية لأن الألمان قاموا بأكبر مشروع استعماري عرفه التاريخ منذ عهد الرومان، ألا وهو استعمار الوثنية من الألب حتى ثم هي مسألة معنوية لأن الأمم العظيمة في التاريخ ترى واجبها في طبع القبائل البربرية بطابعها، والآن (1892) نرى أن أوربا منهمكة في إيجاد أرستقراطية عامة للجنس الأبيض على سطح الكرة الأرضية. كذلك هي مشكلة سياسية لأن الدولة التي ليست لها مستعمرات ستنتهي إلى مركز حقير، حتى ولو كانت قوية من ناحية أخرى، وخلاصة الموقف الألماني تتمركز في سعيه لأن يتكلم الناس قاطبة لغته حتى تكون لغة المستقبل)
هذه هي آراء تريتشكي، وهي نفسها آراء هتلر
(ح. ح)(278/29)
أسلوب العقاد
للأستاذ سيد قطب
نصف الحياة اضطرابٌ ... ونصفها أوزانْ
هذا هو مذهب العقاد في الحياة، وهو مذهبه في الفنون، وهو رائده في التعبير. . . الشعر حركة في الضمير، وهزة في الشعور - وهذا هو الاضطراب - وهو بعد ذلك لفظ مقروء وجرس مسموع - وهذه هي الأوزان - فإذا اضطربت العواطف واشتجر الشعور وماجت الأحاسيس، فيجب - لتكون فناً - أن تضبطها الأوزان وتحدها الألفاظ، ويحكمها التعبير
من فهم هذا المذهب على حقيقته، فقد فهم أسلوب العقاد، وتنبه إلى الدقة في ترتيب المعاني وتنسيق العبارات، وفي إيراد الألفاظ المعبرة عن المعنى بلا زيادة ولا نقصان
التعبيرات الطائرة، والأساليب المزوقة، والجمل المتراقصة، كل أولئك لا نصيب له في شعر العقاد، لأن الشعر أقدس لديه من أن يكون ثوب مهرج، أو قفزات بهلوان! وهو كذلك مالك لريشته، متنبه لتعبيره، فلا مجال لغير الدقة والقصد والإحكام
هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى أن الأحاسيس والمعاني التي يضطلع بها الأسلوب في شعر العقاد ليست رخيصة مبتذلة، ومعظمها ليس متداولا متعارفاً، وهي على العموم ليست (ملقاة على قارعة الطريق). فالأسلوب في شعر العقاد إذن يضطلع بعبء لا يضطلع به عنه سواه، وهو عبء من نتاج الإنسانية الممتاز، ومن ثروة الفن العالي، ومن الخلاصات النفسية، فمن حق هذا الأسلوب أن يتريث ويتأنى، وأن يكون له وقار من وقار المعاني التي يحملها، وجلال من جلال الأحاسيس التي يصورها، وأن ينظر فيه أولا إلى مقدار الذخيرة الفنية التي يفيض بها، وأن تكون الموسيقية الممتازة فيه هي موسيقى المعاني والأفكار والآفاق الجديدة التي يرتادها في هدوء وعمق وسموق، لا الموسيقية اللفظية الرخيصة وحدها، وهي ليست بذات بال
وما أقول هذا لأن شعر العقاد تنقصه هذه الموسيقى اللفظية ففيه الكثير منها، بل في هذا الشعر مجموعة من القصائد التي تتوفر فيها هذه الخاصة، قلما يوجد نظيرها في دواوين الشعراء الموسيقيين، كما أن الرصانة والجزالة في عامة شعر العقاد ملحوظة واضحة.
وإذا شاء أحد أن يأخذ على بعض من ينتسبون للمدرسة الحديثة من الشبان قصوراً في(278/30)
التعبير، أو عدم عناية بالديباجة العربية السليمة، فما هو واجد من ذلك شيئاً في شعر العقاد بالذات، ودون هؤلاء دواوين العقاد كلها إذا أرادوا
ولكن جماعة ممن يبيحون لأنفسهم أن يقتعدوا مقعد النقاد بلا مؤهلات، يقسمون الإنسانية تقسيما غريباً، ولا يسمحون أن يحتاز إنسان لنفسه موهبتين أو أكثر، كأنما يخشون نفاذ هذه المواهب التي بين أيديهم! فمن كان شاعر معان وأحاسيس، فما هو بشاعر موسيقى وتعبير، والعكس بالعكس، إلا من يشاء لهم (الإنصاف البديع) أن ينالوا أكثر من قسط، وهؤلاء يجب أن يكونوا من خصوم العقاد!
ومن هنا كان العقاد - عند هؤلاء - كاتباً ولم يكن شاعراً، فإذا سمحوا له بقسط من الشاعرية، فليكن هذا القسط في المعاني والأفكار، وليبق الأسلوب والتعبير وقفاً على طائفة خاصة من غير المغضوب عليهم، أو من أولئك الشعراء المريحين الذين لا يتعبون هؤلاء المحترمين في فهمهم وفي التسلق إلى مستواهم الرفيع، ولتختلف المقاييس حسب اختلاف الأهواء، فتارة يكون الأسلوب الجيد هو الجزل الرصين، حين يستعرضون للعقاد بعض القصائد السهلة الرشيقة، وتارة يكون الأسلوب الجيد هو العذب اللذيذ حين يعرضون للعقاد بعض القصائد المتينة الرصينة، ولو أنصفوا أنفسهم وأراحوها لقالوا: إن الأسلوب الجيد هو غير أسلوب العقاد في كل حالة، لأن هذا ما يرضي نقصهم وقصورهم حيناً، وحقدهم وتعنتهم أحياناً!
وهاأنذا أفتح الجزء الأول من ديوان العقاد، وهو الجزء الذي ابتدأ به حياته الشعرية، وانتهى من نظمه وهو في الرابعة والعشرين، وأختار هذا الشعر بالذات، لأن الشاعر في أبانه لم تكن قد استقامت له بعد طريق البيان، ولم يكن مالكا لريشته وألفاظه، وكان خليقاً أن يقصر ويعذر في التقصير
ولكن شيئاً من هذا لا تلمحه في ديوان الشاعر المبتدئ، بل إنني لأريد أن أفهم كيف يكون الأسلوب العربي الرصين المشرق، إذا لم يكن كالقطعة الأولى في الديوان الأول بعنوان (فرضة البحر)، حين يقول
قطبَ السفين وقبلة الربان ... يا ليت نوركِ نافع وجداني
يرجى منارك بالضياء كأنه ... أرَق يقلب مقلتي ولهان(278/31)
وعلى الخضم مطارح من ومضة ... تسري مدلهة بغير عنان
كمطارح الأفكار في لجج على ... لجج من الشبهات والأشجان
تخفى وتظهر وهي في ظلمائها ... باب النجاة وموئل الحيران
أمسيتِ إحداق السفائن شُرَّع ... صُور إليك من البحار روان
كالبيت يجمع بعد تشتيت النوى ... شمل الأحبة فيه والإخوان
جوديَّ كل سفينة لم يبنها ... نوح ولم تمخر على الطوفان
فيها التقى بر وبحر واستوى ... شرق وغرب ليس يستويان
بسطت ذراعيها تودع راحلا ... عنها وتحفل بالنزيل الداني
زمر توافت للفراق فقاصد ... وطنا ومغترب عن الأوطان
متجاوري الأجساد مفترقي الهوى ... متبايني اللهجات والألوان
فانظر إلى تلك الوجوه فانها ... شتى ديار جمَّعت بمكان
في فرضة متقاصر عن متنها ... موج أشم أحم ليس بوان
موج بطيف بها وقدران الكرى ... فيها طواف الضيغم الغرثان
ألقت مراسيها السفائن عندها ... وتحصنت منها بدار أمان
فكأن ضوء منارها نار القرى ... لو كان يُبعث ميت النيران
بل كيف يكون الأسلوب العربي المشرق إذا لم يكن مثل قصيدة (عزاء) في الصفحة الثانية من الديوان الأول حين يقول
يا شاكيا وصبا أحاط بنفسه ... أربِعْ عليك لكل يوم كوكب
حمّل الفؤاد ما يؤودك حمله ... أني لأجلدُ للهموم وأصلب
أنت النعيم لناظريَّ وخاطري ... عجبا وحقك من نعيم ينحب
يشكو من الدنيا الآلي لولا همو ... ما كانت الدنيا تحب وترغب
إما بكيتَ فلستَ أول شارق ... يجلو العيون وقد حواه الغيهب
قد كنت تبلغ ما تريد وتشتهي ... لو أن للأيام عينا ترقب
لا يذهبن بك القنوط فربما ... عاد الصباح وأنت لاه تطرب
دمع الشبيبة لا حرمتَ ثمارَه ... يروى به اللب الغضيض فيخصب(278/32)
فأما حين يطلبون الرصانة وقوة الأسر وجزالة الأسلوب وفخامة التعبير، فإن الجزء الأول من ديوان العقاد يجيبهم إلى طلبتهم في عدة قصائد أذكر منها (وقفة في الصحراء) وفيها يقول:
هضابكِ أم هذي أواذيَّ عيلم ... وهل فيك من ورد لغير التوهم
تخايلت كالدنيا وأقفرت مثلها ... فلا تخدعني إنني لست بالظمى
أيا ربة الآل الحلوب وإنما ... إلى الآل ركب الناس جمعاء فاعلمي!
خلوت فلا آثار حيٍّ ثوابتٌ ... عليك ولا آثار ميت معظم
نَبا بِكِ عن حال العمار وضده ... شِماسٌ فلم تبنى ولم تتهدمي
تشابهت الأيام فيك فلم يكن ... إلى السعد يومٌ أو إلى النحس ينتمي
صحارى من الدهر الفسيح جديبة ... كعهدك لم تعبس ولم تبتسم
لَفيكِ وإن طال الزمان غوارب ... على الناس أخفى من غوارب أنجم
أضاءت عليها النيرات ولم تزل ... هنالك في ليل من الغيب أيهم
إلى أي ركن فيك يلجأ هارب ... وفي أي ظل من ظلالك يحتمي
تسدين أرجاء الزمان بحاصب ... من النار موار العجاجة مظلم
تثور كأفواج الدخان تطلعت ... إلى عُلْو من قاصي قرار جهنم
إذا ما رآها الوحش ولى كأنها ... من النقع تجلى عن خميس عرمرم
يلوذ ببطن الأرض والأرض جمرة ... خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم
ويذهل حتى يفلت الليث صيده ... ولا تفرق الغزلان من ناب ضيغم
وما سكنتها الوحش إلا لأنها ... أحب إليها من جوار ابن آدم
وقفت عليها والمطايا تقلنا ... مطايا ثمود قبل ذاك وجرهم
ذميلاً وإرقالا وما تستحثها ... سياط سوى الرمضاء أيان ترغى
فقلنا بأوجار الضباع فأكرمت ... على البعد مثوانا ولم تتقدم
كرامة مضطر ويا رب طارئ ... يكرمه من لم يكن بالمكرم
هذه أو قصيدة (ليلة نابغية) حين يقول:
إلى أي قولي قائل أنت أميل؟ ... وعن أي حاليك العشية تسأل؟(278/33)
عرفت مدى شطر وشطر جهلته ... فحسبك من بلواك ما لست تجهل
تغوص على الأوجاع بُهراً كأنني ... بريء من الأوجاع لا أتململ
فيالك من قلب إذا ما تعللت ... قلوب الورى لم يغن عنك التعلل
تعلق إلا بالمحال رجاؤه ... وأقسم لا يلهو ولا يتأول
ضمنتَ كدُفَّاع الضرام لواعجاً ... أأنت لنيران اللواعج هيكل؟
فيا من يراني والفؤاد كأنه ... إذا الليل أغضى قاتل يتزمل
ويا من يراني والنجوم كأنها ... نواظر من خوف المنية تقفل
كأن الفضاء لم ير الشمس مرة ... ولم يسر فيه بدره المتهلل
أبيت وبي ليلان: ليل صباحه ... يرَّجى وليل مدبر الصبح مقبل
أضمد جرحي باليدين وفيهما ... جراح يغشيها النجيع المسلسل
وأحمل نفسي وهي ولهى طليحة ... إذا التام منها مقتل سال مقتل
إذا أدبر الليل استرحت وإنما ... يوكل بي الليل الذي هو أطول
عفاء على الأضواء ماذا انتساخها الل ... يالي وليلى آخر الدهر مسبل
فيا شهب خطى بالرجوم على الدجى ... وباصبح فاسمعني ويا ناس فانقلوا
ضؤلت سراجا يا شموس إذا خبا ... سراجي وليلي قاتم الجنح أليل
فأما حين يطلبون السلاسة والعذوبة، فما أكثر ما يجيبهم ديوان العقاد الأول وحده إلى ما يطلبون، وأقرب ما تقع عليه العين قصيدة الحب الأول ونقتطف منها قوله:
يهنيك يا زهر أطيار وأفنان ... الطير ينشد والأفنان عيدان
طوباك لست بإنسان فتشبهني ... إني ظمئت وأنت اليوم ريان
هذا الربيع تجلى في مواكبه ... وهكذا الدهر آتا بعده آن
تفتحت عنه أكمام السماء رضىً ... وزفه من نعيم الخلد رضوان
وشائع النور في البستان باسمة ... والأرض حالية والماء جذلان
الشمس تضحك والآفاق صافية ... جلواء والروض بالأثمار فينان
وللنسيم خفوق في جوانبه ... وللطيور ترانيم وألحان
في كل روض قرى للزهر يعمرها ... يا حبذا هي أبيات وسكان(278/34)
مستأنسات سرى ما بينهما عبق ... كما تراسل بالأشواق حبان
الورد يحمر عجبا في كمائمه ... والياسمين على الأغصان ميسان
وللقرنفل أثواب ينوعها ... عن البلور صناع الكف رقان
وللبنفسج أمساح ممسكة ... كأنه راهب في الدير محزان
وحبذا زهر الليمون يسكرنا ... منهن جام خلا من مثله الحان
والليل يحييه والأطيار هاجعة ... بلابل وشحارير وكِرْوان
مؤذن الطير يدعو فيه محتسبا ... فيستجيب له بر وغيان
والصبح في حلل الأنوار طرزه ... في الشرق والغرب أسحار وأصلان
كأنما الأرض في الفردوس سابحة ... يحدو خطاها من الأملاك ربان
ضاق الفضاء بما يحويه من فرح ... فكل ما في الفضاء الله فرحان
. . . الخ. . . الخ
وعلى قيد صفحات من هذه القصيدة الرائقة الرائعة تجد (ليلة الأربعاء) وفيها يقول:
شف لطفاً عما وراء السماء ... نور بدر مفضض اللألاء
رق سجف السماء حتى كأن ال ... عين تتلو هناك سر الفضاء
وسرى الطرف في الفضاء فما يث ... نيه ثان عن خوض ذاك الفضاء
وربا النور كالعباب فما في ال ... كون غير الظلال من ظلماء
تلك أولى لوائح الصيف والصي ... ف بهيج في الليلة القمراء
يمن الله سعيه من رسول ... يطرق الأرض وافداً من ذكاء
مولد الأرض فهي تلبس فيه ... كل عام مطارف الأضواء
أضرم الجو بالمشاعل كالظا ... فر يعدو في إثر جند الشتاء
إلى أن يقول في عذوبة رقيقة:
ليلة الأربعاء بالله عودي ... وأعيدي يا ليلة الأربعاء
ليلة أرسل الزمان بها عف ... واً فجاءت كحكمة البلهاء
قد نسينا الصباح حتى ذكرنا ... هـ بنور من بدرها الوضاء
فوصلنا مساءها بصباح ... ووصلنا صباحها بمساء(278/35)
وشربنا ونحن مرضى من الهم ... دواء أنعم به من دواء
ثم يقول من هذه القصيدة:
أين لا أبعد المهيمن داراً ... لك يا من أجله عن ندائي
أذكرتني بك الكواكب والبد ... ر ونفخ الرياض والصهباء
أنت أقصى مني ضمائر لو شئ ... ت لباتت في غبطة وهناء
أنت شمس لهيبها في فؤادي ... أنت نور لظاه في أحشائي
أنت عندي كليلة القدر في الدهـ ... ر ولكن لن تستجيب دعائي
تتجلى في كل حسن فأرعا ... ك وأنسى محاسن الأشياء
. . . الخ
تلك نماذج مختلفة من أسلوب العقاد في أول ديوان يصدره منذ خمسة وعشرين عاما مرن على النظم، واستجابت له التراكيب وسلس له التعبير، وتهيأ له خلالها ما يتهيأ لأي شاعر عادي من المران والدربة والإتقان.
فإذا استغنينا بالجزء الأول وحده، فنحن واجدون للعقاد كثيرا من شعر الأساليب الفخمة الجزلة، والأساليب الرصينة المتينة، والأساليب العذبة السلسة، وكل ما يعنيه الأسلوبيون ببدائع الأسلوب. ودع عنك ما وراء أسلوب العقاد من معان وفكر وأحاسيس وعوالم واسعة من الفن الفريد
فماذا يريد إخواننا الرافعيون؟
إنهم ليستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم في آذانهم، ويذهبون ويتجنون وينكرون، وما على العقاد ولا على المدرسة الحديثة منهم، بل لا كانت هذه المدرسة إذا كانت تنظر إلى رضاء الرافعي!
(حلوان)
سيد قطب(278/36)
العزلة
للشاعرة ليلا هويلر ويلكسكس
بقلم السيدة فله فهمي
إضحك، يضحك معك العالم
إبك، تبك وحدك
على الأرض الحزينة الهرمة إن تنشد سرورها،
لكن لديها من الهم الكفاية.
غن، تردد غناؤك التلال،
ولكن تنهداتك تتبخر في الفضاء.
يلتقط الصدى الصوت الطروب
لكنه يحجم عن الصوت الحزين
إن تبتهج، سعى إليك القوم،
وإن تحزن، ولوا عنك.
إنهم ليرغبون في أكبر قسط من لذاتك
بينما هم في غير حاجة إلى هموم نفسك.
كن طروباً، يكثر أصدقاؤك
وكن حزينا، تفقدهم جميعاً.
ليس هناك من يعف عن رحيق خمرك
لكن عليك وحدك أن تكرع علقم الحياة
أَوْ لِمْ تزدحم قاعاتك
صُمْ، ينصرف عنك العالم.
انجح وامنح، فذلك يعينك على الحياة
لكن ليس من يستطيع أن يحمل عنك آلامك
هناك مكان في قاعات السرور. . .
لكل من يقطع مرحلة الحياة الشاقة،(278/37)
لكن علينا أن نجتاز واحداً فواحداً
ممر الألم الضيق. . .
فله فهمي(278/38)
الفهم
وصلته بالحكم الأدبي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
قرأت فيما قرأت للمرحوم الرافعي كلاماً يقول فيه: إن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وإن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وإن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا!
وهذا الذي قاله الرافعي كلام يتهالك في أوله، بقدر ما يتماسك من آخره. نعم فقد أخطأ الرافعي إذ حسب أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، فإن الفهم شيء والذوق شيء آخر، وإذا كان الذوق يستلزم الفهم كما يقولون، فان الفهم كثيرا ما ينفك عنه فلا يستلزمه ولا يقتضيه. ولقد يتأتى للشخص أن يفهم الأثر الأدبي على خير ما يكون الفهم، ومع ذلك لا يقع من ذوقه أدنى موقع، كما هو حال كثير من علماء النحو ورجال اللغة!! ولكن الرافعي مصيب من غير شك إذ يرى (أن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا) فأن الناقد إنما تتم له الأداة، ويصح له أن يحكم على الأثر المنقود، إذا ما فهم ألفاظه ومعانيه، ووقف على إشاراته ومراميه، وتلمس له كلَّ وجهٍ يستقيم عليه منطوقاً ومفهوماً، وكل مدلول يقتضيه صريحاً واستلزاما
تلك حقيقة هي من الوضوح إلى حد البداهة، ولكن الدكتور طه حسين نقل كلاما عن الشاعر الفرنسي بول فاليري زعم فيه: أن موت الأثر الفني إنما يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا ما قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذن جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئ فقد غلب، وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب القارئ ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط، ومن هنا كان النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم! والدكتور طه لا يميز الناقد في هذه الغمرة عن أي قارئ آخر، بل ولا يرضى له أيضا بفهم (الأثر الفني الخليق بهذا الاسم) ليتم لذلك الأثر البقاء كما يقول، ومن ثم طار إلى الأوج بقصيدة (المقبرة البحرية) لصاحبه فاليري، وكل دليله في ذلك أنها استغلقت على النقاد فلم ينفتح لهم فيها باب الفهم، على الرغم مما بذلوا في الفهم ووسعوا في التأويل، وكأني بالدكتور الفاضل قد فاته أن اللغة - في أرقى أوضاعها وفي أحط أوضاعها - ليست إلا سبيل الفهم، والفهم إنما هو أساس المعرفة،(278/39)
والمعرفة إنما هي قوام الحياة، وصلة الإنسان بالعالم. ثم كأني بالدكتور الفاضل قد نسى أنه من قبل ذلك ردَّ كتاب رسائل الأحزان الرافعي، وكانت حجته في ذلك أنه قرأ الكتاب فلم يفهمه وهو لا يستطيع أن يحكم على شيء استغلق عليه فهمه، وتعذر دركه!
ومهما يكن من شيء فإن هذا الذي نقله الدكتور طه على أنه من طريف أوربا له شبيه طريف في تاريخ الأدب العربي، فقد حدَّث ابن سنان الخفاجي قال: جرى بين أصحابنا في بعض الأيام ذكر شيخنا أبي العلاء بن سليمان المعري، فوصفه واصف من الجماعة بالفصاحة، واستدل على ذلك بأن كلامه غير مفهوم لكثير من الأدباء، فعجبنا من دليله وإن كنا لم نخالفه في المذهب وقلت له: إن كانت الفصاحة عندك بالألفاظ التي يتعذر فهمها فقد عدلت عن الأصل في المقصود بالفصاحة التي هي البيان والظهور، ووجب عندك أن يكون الأخرس أفصح من المتكلم، لأن الفهم من إشاراته عسير بعيد، وأنت تقول: كلما كان أغمض وأخفى، كان أبلغ وأفصح. وعارضه أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب وقال: صدقت. إننا لا نفهم عنه كثيراً مما يقول، إلا أنه على قياس قولك يجب أن يكون ميمون الزنجي الذي نعرفه أفصح من أبي العلاء، لأنه يقول ما لا نفهمه نحن ولا أبو العلاء أيضاً، فأمسك!
وسواء أأمسك الدكتور طه كذلك الرجل أم لم يمسك، فما يعنينا ذلك، وليس من وُكدنا أن نطيل في تفنيد دعوى باطلة لا يمسكها دليل من عقل أو فهم، وما كنا لنعرض لها بذكر لولا أن رأيناها قد جازت عند بعض الناس. وإننا لنمضي فنقرر بأنه إذا كان الحكم فرع التصور كما يقول المناطقة، فان الفهم لا شك دعامة من دعامات الحكم الأدبي، وشرط أساسي لا بد منه في تقدير الكلام والحكم على الأثر المنقود، كما هو شرط في الحكم على أي شيء آخر، وقديما قيل: يكفي من حظ البلاغة ألا يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من فهم السامع، ولا جرم أن الناقد إذا لم يفهم، واستباح لنفسه أن يحكم، فهو إما مسيء إلى صاحب الأثر المنقود، فإذا كتب الله له السلامة من الإساءتين فذلك شيء بقضاء وقدر، ولا صلة له بتقدير الفن ومقاييسه، ولا يد فيه ولا عمل لمواهب الناقد وملكاته!
هذا وللجاحظ كلام حلو مستقيم يدخل في هذا الباب، فلا بأس من إيراده وإن كان مرده إلى(278/40)
جهة القائل لا إلى جهة الناقد. قال أبو عثمان: (قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المختلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن أفكارهم - مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، وحاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمور، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها، وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً، والغائب شاهداً، والبعيد قريباً؛ وهي التي تخلص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيداً، والمقيد مطلقاً، والمجهول معروفاً، والوحشي مألوفاً، وعل قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وافصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع في البيان. . . والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه، ويدعو إليه، ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم. . . والبيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصول، كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر، والغاية التي إليها يجري القائل والسامع: إنما هو الفهم والإفهام. . . وقال علي بن الحسين رضي الله عنه: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الإستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن درك ذلك كان يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة)
ولعمري لقد أصاب الجاحظ شاكلة الصواب في قوله: إن الغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام، فالمسألة قسمة بين القائل والناقد، فإذا كان من الواجب على الأول أن يقول ما يفهم، فأن من الواجب على الثاني أن يفهم ما يقال، ومن ثَمَّ كان طلبهم في الشاعر الحاذق بالصناعة أن يكون شعره مفهوماً واضحاً يسبق معناه ولفظه، وكان شرطهم في الناقد إذ كان يدعي علم الشعر ويتحقق بالأدب، أن يكون يفهم معاني الشعر، وله دربة الغامض والظاهر منها. وهذا رأي قويم تقع به مهمة البيان موقعها من جهة، ومن(278/41)
جهة أخرى يستطيع الناقد أن ينهض بمهمته، وأن يخدم الأدب والفن كما يجب، فيميز بين الخبيث والطيب، ويفصل بين الشريف والأصيل، ثم هو يقضي في ذلك ونفسه مطمئنة، ورأيه عن ثقة وتثبت. وقد أجاد الآمدي وأفاد في هذا المعنى إذ يقول في صدر باب من كتابه الموازنة:
أما بعد: فإني أدلك على ما تنتهي إليه البصيرة، والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة - يريد صناعة النقد - والجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض. . . فأن علمت من ذلك ما علموه، ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموه، وأخروا من أخروه، فثق حينئذ بنفسك، واحكم يستمع حكمك، وإن لم ينته بك التأمل إلى علم ذلك، فأعلم أنك بمفردك عن الصناعة. . . لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه، فينبغي أصلحك الله أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك!!
على أننا إذ نقول الفهم، فما نعني فهما كالذي يقصد إليه عالم كالعكبري مثلا إذ يقول في مقدمة شرحه للمتنبي:
(وأما بعد، فإني لما أتقنت الديوان الذي اشتهر ذكره في سائر البلدان، وقرأته قراءة فهم وضبط. . . ورأيت الناس قد أعربوا فيه بكل فن وأغربوا، فمنهم من قصد المعاني دون الغريب، ومنهم من قصد الأعراب باللفظ القريب، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب، ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قصد إليه، فاستخرت الله تعالى وجمعت كتابي هذا. . . وجعلت غرائب إعرابه أولا، وغرائب لغاته ثانياً، ومعانيه ثالثاً. .) نعم! نحن لا نعني هذا الفن من الفهم وما هو على غراره من الأساليب التي انتهجها القدماء في شرح الآثار الأدبية، لأن فهم الآثار الأدبية ليس هو بتفسير الغريب، وإعراب المشكل من التراكيب، والتنبيه على مذاهب الاستعارات والكنايات وما إلى ذلك من اصطلاحات أهل البيان، فما هذه كلها إلا مجهود ضئيل قد يأتي بشيء ولكنه لا يأتي بكل شيء، وإنما الوضع الصحيح لفهم الآثار الأدبية الذي يولد فينا الذوق الأدبي، ويقوي فينا الشعور بالجمال، ويصل بنا إلى مقصد الشاعر أو الكاتب، هو أن نستنطق الأثر الأدبي في كل ما يلابسه ويحيط به، وأن نتبين ما هناك من ميول وأهواء، ونزوع واتجاه، في(278/42)
كلام المؤلف، وشعر الشاعر، وبيان الخطيب فان من وراء هذا كله أشخاصاً ينطقون ويشعرون، فإذا ما خالطنا هذه الآثار ومازجناها، أحطنا بظواهر أصحابها وبواطنهم، واتصلنا بأسرارهم ودخائلهم، وعرفنا خصائصهم وطبائعهم، واهتدينا إلى أخلاقهم وميولهم، ووقفنا على سلوكهم وأوضاعهم، وفي هذا كله ما فيه من ثقافة للذوق، ومتاع للعقل، ثم فيه ما فيه من إفادة للناقد، وتسهيل عليه في درك الحقيقة التي ينشدها، والصواب الذي يسعى إليه.
وهنا سؤال لا بد منه، وقد يكون القارئ فطن إليه من قول العكبري: (ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قد قصد إليه)، فأن القائل قد يقصد في قوله إلى شيء، ولكن الناقد يذهب بفهمه إلى شيء آخر، ما دام اللفظ يتحمله، والتعبير يتسع له، ثم إن الإفهام تختلف، والنقاد يختلفون في استخلاص المعنى من اللفظ، (فمنهم من تكفيه اللمحة الباردة لينتبه إلى النكتة اللطيفة والتلميح البعيد المستظرف في عروض كلام الكاتب فيعدَّ ذلك له من القلائد ويفهمه حسبما أراد به وقصد إليه، ومنهم من يحسبها جملة جرى بها قلم الكاتب عن غير تعمد، إذ أنه يرى فيها شيئاً يشبه وجهاً محجوباً بستر صفيق فلا يدري أحسن هو أم قبيح، ومنهم من يمرَّ بالكلام ولو سألته ماذا أراد به كاتبه لعجب من سؤالك! إذ أنه لم يرَ فيه شيئاً استوقف خواطره، وعلى حسب ذلك الفهم وذلك الشعور ينتقد ويحلل) ويقدَّر ويحكم، وأنت لو نظرت إلى النقاد الذين انتقدوا المتنبي مثلا، لعجبت من مدى خلافهم في تفهم معانيه، والوقوف على أغراضه، وهو نفسه يصوَّر ذلك في أبرز صورة إذ يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
إذن فماذا يكون حظ (الحكم الأدبي) من فهم الناقد، وكيف يقع موقعه من الحق والصواب ما دام للناقد أن يذهب بفهمه على ما يرغب، وما دامت إفهام النقاد تختلف في الدرجة والطاقة على حدّ تعبير العلميين!
والجواب على هذا السؤال سهل قريب، والتعليل له أسهل وأقرب، فان الأمر ليس منوطاً برغبة الناقد يذهب فيه مذهبه ولكن هناك قيود والتزامات، فالفهم المعتبر عندهم في تكوين الحكم الأدبي، والذي يجب أن يتوجه إليه الناقد بكل ما عنده من علم وزكانة، إنما هو(278/43)
الوقوف على غرض القائل وما يرمي إليه، والى غير هذا الهدف لا يباح له أن يصوب النظر، إذ المقصود إنما هو الحكم للقائل أو عليه، والوقوف على حظه من العبقرية الفنية، وليس مما يصح في منطق العقل أن نحكم على رجل بغير مقصوده، وأن نؤاخذه بغير ما يريده!
إن من الواجب على القاضي في عرف القانون أن يحاول جهده الكشف عن نية المتهم فيما ارتكبه ليحكم عليه في غير ما حيف ولا جنف، والناقد لا شك له مكانة القاضي ومهمته، فمن الواجب عليه كذلك أن يفهم كلام القائل (حسبما أراد به وقصد إليه)، والسابقون من النقاد قد عبَّدوا السبل إلى ذلك، فاهتموا بالتغلغل في شخصية الشاعر أو الكاتب، والكشف عما أحاط به من العوامل والمؤثرات ليكون ذلك في هداية الناقد ومعونته على فهم القائل حق الفهم، ولذلك يقول (سانت بوف): إن من أراد أن يكتب عن شاعر أو كاتب فليبحث حياته وسيرته بحثاً دقيقاً ليعرف كيف كان يعيش في منزله وفي الخارج حتى يمكن تصويره في جميع صوره، ومن المأثور عن هذا الناقد الكبير أنه كان يهتم بقراءة رسائل الذين كان يرغب في الكتابة عنهم الخصوصية وكذلك مفكراتهم واعترافاتهم لأنهم يظهرون فيها غالبا بمظاهرهم الحقيقية
ثم هناك ناحية هامة لا نحسبها تخفى على القارئ الفطن، وهي أننا إذا تركنا الناقد يفهم في الكلام كما يشاء، ويحكم على الأثر المنقود حسبما يذهب إليه فهمه وتصوره، فان حكمه - والحال هذه - يكون على مواهبه هو، ومدى إدراكه وفهمه، لا على مواهب القائل ومدى ما عنده من الفن والعبقرية. ولا شك أن هذا تعطيل لمهمة النقد، وخروج بالحكم الأدبي عن وضعه، ومن ثمَّ فقد أخذ الوهم بعقول بعض الناس فزعموا أن النقد لا حقيقة له، لأنه ليس إلا فهم الناقد لا فكرة القائل، بمعنى أننا إذ نكشف عن معنى في تعبير أدبي، فلسنا نكشف في الواقع عن معنى قصد إليه الشاعر أو الكاتب، ولكنا نكشف عن معنى انقدح في ذهننا وتمَّثل لفهمنا! وقد يكون هذا المذهب صحيحاً أو غير صحيح، ولكنا لا شك نرده على أصحابه إذ نطلب من الناقد أن يكون فهمه إنما هو لمقصود القائل وما يرمي إليه، وهذا أمر هين على الناقد المستكمل الأداة المتدرب بالمران
محمد فهمي عبد اللطيف(278/44)
فردريك نيتشه
للأستاذ فليكس فارس
- 3 -
ذلك كان فردريك نيتشه، مجسَّم القوة المفكِّرة التي دارت بها النائبات وحاصرتها الأوجاع وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوربا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهزُّ المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته
فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها ناشرة في أوربا مزيجاً من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإدارة الحرة، فقال شوبنهور إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره فوجم حائراً وفي نفسه ظمأٌ في صحراء لا ماء فيها غيرُ وهج السراب، ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها والالتجاء إلى الزهد وانتظار الفناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصية فيها
وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات للاحتفاظ بالعقيدة المسيحية بأبحاث لاهوتية ينسجها حول تعاليم عيسى رهطٌ من المفكرين كنويمن وكورليج وكارليل وشلير ماخر وبيالرووجان باينو وشارل سكريتان وإضرابهم فزجَّوا بالإنجيل في مآذق مجادلات ليست منه وليس منها في شيء. وهل خطر لذلك المعلم الإنساني وهو يدعو إلى تطهير النفس ومقاومة الظلم والأخذ بالرحمة وإقامة الإخاء بين بني الإنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح والانعكاسات من الآفاق والانطباعات في السرائر؟ بل هو خطر له أن يبحث علاقته بالله وعلاقته هو وحده أو هو وأبو الخليقة كلها بروح القدس؟
وأخذ نيتشه بهذه التيارات تهبُّ من كل جانب على فكره الوَّقاد تلهمه الآلام وتثير تشوَّقه إلى حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صبره وجهاده
إن الرجل المتمتع بصحة الجسم وبشيء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما تعطيه، فإذا آمن بالله واليوم الآخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحاً إلى ضميره، وإذا أُخذ بفلسفة الجحود رضي بهذه المرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل جهد(278/46)
ولا يسطو القلقُ الفكري بخاصة في حالة الحيرة من أمر هذه الحياة إلا على الإنسان الذي يؤدي ثمناً باهظاً من أوجاعه لكل لذَّة يختلسها كالسارق من قوَّته الأسيرة في ضعفه الجائر
إن مثل هذا الإنسان إذا عززته القوة الخفية بالحس المرهَف، يطالب الدنيا ببدلٍ لما يبذل فيها فيستنطق نفسه والآفاق ليعلم ما إذا كان لهذه الإنسانية المعذَّبة المجاهدة ما يبرر محنتها وجهادها
وفريدريك نيتشه كان ذلك الإنسان فما أَرضته من الفلسفة اللاهوتية تلك الأحاجي التي أُحيطت المسيحية بها، وما كان ليرضى من جهة أخرى بهذه القوة الهوجاء التي صوَّرها شوبنهور موجدةً لإنسان لم يُعط له إلا التصور لإقامة أشباحٍ تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه
ونظر نيتشه إلى الوجود فرأى وراء صوره المتحولة مادة تتعالى عن الاندثار، فنشأت فيه فكرة العودة المستمرة، وبدأت صورة زرادشت ترتسم في ذهنه حتى استكملها فأنشأ كتابه في أوقات متقطعة من سنتي 1883 و1885 في فترات كانت تسكن فيها حِدَّة دائه أو هو يسكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال المخدر. وهو نفسه يقول: إنه كتب كلاًّ من الأجزاء الثلاثة الأولى من زرادشت في مدى عشرة أيام كان فيها مأخوذاً بإلهامه خاضعاً لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرهقته إرهاقاً
إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح الأحلام، فان نيتشه يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتاً من رقابة القوى الواعية فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحلام تبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية ولكنها تتبع في مرورها وحركاتها ما نحسبه تضعضعاً في عالم القوى الساهية المجهولة
لقد ماشينا نيتشه في حلمه وهو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساهية اسم زرادشت الفارسي الذي قال بالخير والشر كقوتين تتنازعان حياة الإنسان، فرأينا زرادشت المزيف لا يقلد الأصلي باتخاذه أتباعاً له وباقتباسه لهجة حكماء الشرق إلا ليعارض فكرة الخير والشر قائلاً: إنها نشأت دخيلة على الإنسانية، وأن ليس لهذه الإنسانية أن تتفوق على ذاتها إلا بإنكار الخير والشر وتحطيم ألواح الشرائع المقدرة لقيم الأعمال، لأن كل شعب(278/47)
أشترع لنفسه ما لا يتوافق واشتراع جاره
ولكن نيتشه المتلبس خيال زرادشت في رؤياه لم ينتبه إلى أنه يرتكب تناقضاً بيناً في دعوته إذ ينكر ما يراه من خير وشر طلباً لحالة جديدة يراها هو خيراً يريد أن يتسلح به للقضاء على شر ينكر وجوده
ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخير والشر كما يدعي زرادشت الجديد، أو بتعبير آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخير فلماذا يطلب زرادشت هذه الحقيقة وهو يعلن أنها الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركته؟
إن تحديد الخير والشر في الكلمات العشر إنما هو أساس كل شرعة تكفل حق الفرد ونظام المجموع
لقد تتناقض الأحكام التي تسنها الحكومات والجماعات في مجال الأزمان مستوحاة من حالةٍ موقتة تدفع إليها حاجةٌ ملحَّةٍ، فتُكتب ألواحٌ تستبدَلُ بتبدُّل الوضع والملابسات ولكنَّ السننَ التي تسن لهم من الشريعة الموحى بها لا يمكن أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيلات الأوضاع الإنسانية. وكلُّ شرعةٍ أصيلة تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتماً وكلَّ شريعةٍ تحدَّرت مثلها من ذلك الأصل
إن زرادشت الجديد لم يَجُلُ في مسارح حلمه فاتحاً لسريرته مجالات التفكير إلاَّ وهو يحتفظ بانطباعاتٍ من تواريخ الأمم القديمة الوثنية وبصورٍ متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثَّلت هذه السننُ أشباحَ ألواحٍ نتراقص عليها ألوانُ البِدَع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو اتباعه إلى تحطيمها
أما اللوحان الأوَّلان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسان أخاه بما يريد أن يعامله أخوه والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكلِّيات تُستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فان زرادشت لم يبحثها، مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراءَ أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته. وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدَّع بما حُشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شُغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار(278/48)
وتبلبل الفكر فيضطر من أَلمَّ بها إلى نبذها جميعاً لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها
وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادماً كلَّ ناموسٍ ونظامٍ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجودٍ شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبداً قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ
ولا يطمعنَّ القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهاماً لأنه لن يظفر منه صور يلمحها لمحاً في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثرٌ لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه وهولا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسيه ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلواها جثة على مدى الأحقاب.
لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوَّهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصباً وجهلاً فوقف مفكراً جباراً لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين. وهكذا هبَّ يطلب للإنسانية إلهاً منها يسودها، وللأرض معنى أبدياً يحول كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود. . .
ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكملا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيماناً بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلام من مبادئ اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستوراً يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع، ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محباً للحياة والقوة والجمال والحرية دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها
ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد رأى أن التكامل النبل عطف الألوهية الراسخة في الأذهان(278/49)
والتخلص من عقابها الصارم يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العقلية الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة فثار على هذه الألوهية المزيفة التي ما عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه، وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته
هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت وهو في تقديرنا إذا نحن استترنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيتنا السامية جحودٌ يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد رب الناس أجمعين.
بل أننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في حديث للنبي الكريم على قولٍ أو في كلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر، وهي
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)
إذا ذكرنا ذلك، يتضح لدينا أن نيتشه قد ذهب إلى أبعد مدىً في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصية الثانية وهي وصية راسخة في أرواح أبناء هذه البلاد الشرقية العربية، فليس إذاً في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يتمشى والمبادئ العليا التي اتخذها السلف الصالح أساساً لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة
(البقية في العدد القادم)
فليكس فارس(278/50)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تشيعه
يقوم التشيع على أساس اعتقاد انحصار الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في علي وقرابته من بني هاشم، وهو بعد هذا ذو درجات مختلفة في العلو والاعتدال، فيصل في الغلو إلى حد تكفير الصحابة الذين حالوا بين علي والوصول إلى حقه في الخلافة ويصل في الاعتدال إلى حد الرضا عن الشيخين أبي بكر وعمر دون غيرهما ممن حكم بعدهما
وكان الكميت أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وقد قال الجاحظ ما فتح للشيعة الحجاج إلا الكميت بقوله:
فأن هي لم تصلح لحيٍّ سواهمُ ... فأن ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثهُ ... لقد شركت فيها بكيل وأرحب
وهو يرد في هذا على من يقول في هذا على من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث كما يورث غيره، فيقول إنه لولا تراثه وأن آل بيته أحق بالخلافة لأنهم ورثته لكانت لتينك القبيلتين وغيرهما من القبائل العربية نصيب في الخلافة، وكان الناس كلهم سواء فيها
ولكن الكميت لم يكن يعلو في تشيعه إلى الحد من تكفير أصحاب رسول الله، وكان يتورع في شعره عن لعنهم وإن كانوا مخطئين في نظره، وهو إنصاف من الكميت لم يكن يعميه عنه خصومة الرأي. ويظهر أن الإنصاف كان طبعا له مع كل مخالفيه في الرأي، وقد ذكرنا ما كان بينه وبين الطرماح ابن حكيم من المودة والألفة، وكان الطرماح من شعراء الخوارج. ويجب أن نستثنى بني مروان من هذا الاعتدال في خصومته، لأنه كان يغالي في خصومتهم كغيره من الشيعة، ولعل السبب في ذلك أن خصومتهم كانت هي القائمة في عهد الكميت، أما خصومة غيرهم فكانت خصومة قديمة لا معنى لاحيائها والغلو فيها. وقد أفرط بنو مروان في خصومتهم لبني هاشم، فأفرط الكميت في خصومتهم كما أفرطوا(278/51)
وغالى فيها كما غالوا.
وقد ذكر الكميت أبا بكر وعمر رضى الله عنهما في بعض هاشمياته فتحرج في أمرهما بعض التحرج، وقال في ذلك:
أهوى عليا أمير المؤمنين ولا ... ألوم أبا بكر ولا عمرا
ولا أقول وإن لم يعطيا فدكا ... بنت النبي ولا ميراثه كفرا
الله يعلم ماذا يأتيان به ... يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
وكانت فدك قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهلها سنة سبع من الهجرة يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوه على نصف الأرض، فقبل منها ذلك وصار نصفها خالصا له، لأنه لم يوجف على ذلك بخيل ولا ركاب، فكان ينفق ما يأتيه منها على أبناء السبيل، وفعل ذلك الخلفاء الراشدون بعده، فلما ولى معاوية أقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لبنيه، ولما ولى عمر بن عبد العزيز ردها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله والخلفاء الراشدين، فوليها أولاد فاطمة رضى الله عنها، ثم أخذت منهم بعده، ثم ردها المأمون إليهم سنة عشرين ومائتين، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تصدق بها على فاطمة رضى الله عنها
وأما منع أبا بكر وعمر وفاطمة ميراثها فقد اعتمد فيه أبو بكر على ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) برفع صدقة على أنه خبر المبتدأ قبله، والشيعة يروونه بالنصب على أنه حال لا خبر، وتقدير الكلام على هذا - لا نورث ما تركناه حال كونه صدقة - ويفهم من هذا أنهم يورثون غيره
وقال الكميت في ذلك أيضاً:
نفى عن عينك الأرق الهجوعا ... وهمٌّ يمتري منها الدموعا
دخيل في الفؤاد يهيج سقما ... وحزناً كان من جذل منوعا
لفقدان الخضارم من قريش ... وخير الشافعين معاً شفعيا
لدى الرحمن يصدع بالمثاني ... وكان له أبو حسن قريعا
حطوطاً في مسرته ومولى ... إلى مرضاة خالقه سريعا
وأصفاه النبي على اختيار ... بما أعيا الرفوض له المذيعا(278/52)
ويوم الدوح دوح غدير خم ... أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها ... فلم أر مثلها خطراً مبيعا
فلم أبلغ بها لعناً ولكن ... أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار بذاك أقربهم لعدل ... إلى جور وأحفظهم مضيعا
أضاعوا أمر قائدهم فضلوا ... وأقومهم لدى الحدثان ريعا
تناسوا حقه وبغوا عليه ... بلا ترة وكان لهم قريعا
فهو في هذا أيضا يأخذ عليهم ما فعلوه في الخلافة مع علي رضى الله عنه، ولكنه لا يصل في أمره إلى لعنهم، ولا يغمط ما كان لهم من العدل في الحكم كل الغمط، وإن كان يرى أنهم أساءوا في ذلك وضلوا عن الحق، وهذا غاية ما كان يمكن أن يقوله الكميت فيهم لترضى تشيعه، ويلائم بين شعره وعقيدته. وغدير خم موضع بين مكة والمدينة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضى الله عنه (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) وقال أيضا (من كنت مولاه فعلي مولاه) فقال عمر رضى الله عنه: طوبى لك يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة
هذا ولا يزال المسلمون يتنازعون في كتب الكلام على هذا المنوال الذي لا يفيد شيئا في هذا العصر، وقد خرج الأمر من أيدي بني هاشم وقريش جميعا، ولا معنى لهذا النزاع بعد مضي تلك الأزمنة التي كان له معنى فيها، ولكنه الجمود على تلك الكتب هو الذي يجعلنا نعكف عليها، وإن كانت تزرع بين المسلمين حقد بعضهم على بعض، وتفرقهم أحزابا وشيعا في وقت هم أحوج فيه إلى الاتحاد والتحاب، ولعل الله يرزق المسلمين من المصلحين من يجمع كلمتهم بعد افتراقها، ويربي فيهم خلق الإنصاف والتسامح، حتى تصفو بينهم هذه الحياة، ويسود بينهم الإخلاص والمودة، ولا يحملون من اختلافهم في الرأي سببا في الانقسام والتفرق، لأن هذا الخلاف لا بد منه، وهو إذا خلا من ذلك الغلو توسعة ورحمة
عبد المتعال الصعيدي(278/53)
إلى شباب القصصيين
كيف احترفت القصة
قصة الآنسة (ج. ب. ستيرن)
للأستاذ احمد فتحي
في تعاون خبيث بين عقلي الواعي والباطن، يبدو لي دائماً أنني كنت - حتى الثامنة عشرة - قد أرصدت عمري كله لإخراج قصتي الأولى. ولكنني حين أرجع البصر في الموضوع؛ أتبين أنني لم أخرج هذه القصة الأولى إلا بعد أن بلغت الحادية والعشرين. وإن أبعث للإنسان على استدعاء صور الماضي أن يكون قد كتب قصته الأولى وهو لم يودع من عمره سوى ثمانية عشر ربيعاً، وأن تكون قصته تلك على جانب من الأمانة الفنية، كما أذكر من أمر قصتي الأولى (يانتومايم)!
وحين أنظر الآن إلى القصص الأولى لكثير من الكتاب المعاصرين، أجدها تتساوى في السطحية والضآلة وإظلام آفاق التفكير. فما أجد بينها واحدة كانت خليقة أن تبشر بخير، غير أنها جميعاً تنطق أفصح النطق بما أحب أن أدعوه (فوضى السخرية!). . . والحقيقة أنني كنت أميل كثيراً إلى القصص الساخر إلى ما قبل ظهور قصتي الأولى بسنوات. وهذا اللون الساخر نفسه من ألوان الفن القصصي، كان صورة من أظهر صور العصر. وكم كنت أرقص طرباً كلما قرأت شيئاً لأحد من أعلامه، ولا سيما كاتب (برونللا) وهو (لورنس هاوسمان) وكاتب (مهرج العصر) وهو (إيرنست داوسن)!
ولقد كانت تلك سني حياة ساخرة عابثة مرتجلة!. . ولربما أسفت عليها الآن وحننت إليها حنيناً. . .
وتأثرت بطراز هذه القصص الساخرة فكتبت على غرارها كثيراً من القصص، أذكر منها واحدة اسمها (بائع الأحلام)
وكان هنالك كاتب اسمه (باري) وآخر اسمه (لوك) وإني لأذكر كيف كان أبي في أحيان كثيرة يقول لي (آه. . . حينما تستطعين أن تكتبي مثلما يكتب (لوك!) ثم يهز رأسه في قنوط؛ دون أن يتم العبارة. .!(278/54)