يعرفه المطلع البصير من مجتمع يعيش فيه فعلاً، ويدرج بين أهله وعشيرته
وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ الحياة في العظام النخرة بعد أن تكسوها لحماً وتملؤها دماً، وتنفث فيها من الخوالج والخواطر ما يفهمها حساً وفكراً. وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ في ميت العصور روحاً، وتبعث هوامد السنين حية تتحرك وتمر مرها في الفلك ودورات النجوم من جديد
ولكن هذه القدرة الخالقة، لم تقف عند هذا الحد، ولم يكن ابن الرومي ولا حياته، ولا فنونه ومزاياه، هي التي أفادت من هذه القدرة حياة. . بل لم يكن هذا إلا أقل ما في الكتاب من مزاياه
وإنما الميزة الكبرى - في نظرنا - هي البيان العجيب للفن والحياة والبائع الإنسانية، وشرح العبقرية الفنية وحدود النظر للأدب نظرة صحيحة، وتصحيح كثير من الأغلاط الشائعة في ذلك قديماً وحديثاً. بحيث تصلح فصوله أن تكون ديواناً للنقد البصير الحصيف في الأدب العربي، ومقوماً للطبائع والأذهان والافهام، لمن يجد في نفسه استعداداً للإفادة
اسمعه يتحدث عن (عبادة الحياة) في أدب ابن الرومي: (حب الحياة خليقة نادرة، وإن ظن أنها اعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب - سواء حب حياة، أو حب شيء من أشيائها - سهلاً رخيصاً يطمع فيه كل من يريد. فمن الناس من يحب الحياة وكأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئاً غريباً عنه؛ ومنهم من يحبها كما (يحب) الحيوان الأعجم ما هو فيه؛ ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة، لأنه يريد ما يقسر عليه ويأبى أن يفرض للفراق وجوداً، أو يتوقع لهواه تغيرا، فهو سعيد بأن يحب، وان يسمح له بأن يحب؛ وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه، ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا، وتستجد إحساساً وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة. وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجراً غير ما يبتغيه خلص العابدين. فكان حياً كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه)
وإنك لتقرأ هذا فتعجب لانتباه العقاد لكل ألوان (حب الحياة) وفهمه لأصحاب هذه الألوان وطبائعهم، وتعرف أن ذلك وليد إدمان اطلاع وملاحظة للنفوس والآداب، ولكنك خليق أن(261/38)
تقدر وراء الاطلاع والملاحظة طبيعة فائقة مستعدة للنفاذ في اطلاعها وملاحظاتها، وفي تقييد ما تلاحظه، وطريقة تقييده كذلك
وما التفت العقاد إلى هذا كله إلا لأنه في خلة حب الحياة كابن الرومي مع الفرق بين طبيعته الصارمة، وطبيعة ابن الرومي المتماوجة. نعم هذا سر التفاته للحياة ومحبيها وطرائق حبهم وطبيعتها. ودواوينه فائضة بدلائل هذا الحب بل العبادة للحياة
ثم يتحدث عن (حب الطبيعة) بمناسبة حب الشاعر القديم لها:
(وصف الطبيعة شعراء كثيرون، ولم يمنحها الحياة إلا قليلون! أما الذين منحوها حياة نحبها وتحبنا، ونعطف عليها وتعطف علينا، ونناجيها وتناجينا، فأقل من هؤلاء القليلين.
وذاك أن الشاعر قد يؤخذ بأحمرها وأبيضها وأصفرها وأخضرها، ويفتن بما فيها من الزراكش والأفانين، ثم لا يعدو بذلك أن يمدح شيئاً قد يجد مثله في ألوان الحلي وأصباغ الطنافس ونقوش الجدران. أو نحن نخطو وراء ذلك خطوة فنقول: إنه لا يعدو بذلك أن ينظر إلى دمية فاتنة، يروقه منها وجه مليح، وقوام ممشوق وحسن مفاض على الجوارح والأوصال ولكنه لا يتطلع منها إلى عطفن ولا يفتش فيها عن طوية.
وقد يستريح الشاعر إلى الطبيعة لأنها ظل ظليل، ومهاد وثير وهواء بليل، وراحة من عناء البيت وضجة المدينة، فلا يعدو بذلك أن يستريح إليها كما تستريح كل بنية حية إلى الماء والظل والهواء. كذلك تهجع السائمة في المروج وكذلك تهتف الضفدع في الليلة القمراء.
وقد يمنحها الشاعر حياء من عنده، أو من عند الخرافات والأساطير، فإذا هي حياة بغيضة لا تصلح للتعاطف والمناجاة، ولا يصدر عنها إلا الفزع والإحجام، ولا تقوم بينه وبينها إلا الحواجز والعداوات.
أما الطبيعة التي تحب وتناجي، ويتم التعاطف بين الشاعر وبينها عن ثروة غزيرة من الشعر والشعور فهي طبيعة الحور الخافقات في الهواء، والعرائس السابحات بين الأمواج، والعذارى الراقصات في عيد الربيع، والجنيات الهامسات في رفرفة النسيم ورقرقة الغدير وحنين الصدى وحفيف الأغصان، وإن شئت فقل: إنها هي الطبيعة العامرة بما في البروق والرعود والسموات والأعماق من بطولة وعظمة ونضال جياش بالغضب الظافر والسطوة(261/39)
المجيدة والخطر المثير والشجاعة التي تقدم ولا تحجم وترجو ولا تخاف، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة التي تبث الأغراء في كل شيء حتى ليحذر الملاح لجة البحار مخافة أن تستهويه بنات الماء من وراء زرقة الأمواج فيثب إلى أحضانها وكأنما يثب إلى أحضان عروس طال بها عهد الغياب
فعلى هذا النحو تتجلى الطبيعة للعبقرية التي تحبها وتمنحها الحياة فليست هي دمية ولا حلية، وليست هي مروحة للهواء ولا مجلسا للمنادمة، ولكنها قلب نابض وحياة شاملة ونفس تخف إليها وتأنس بها، وذات تساجلها العطف وتجاذبها المودة، ثم هي عماد لا خواء فيه، وأسرة لا تبرح منها في حضرة قريب يناجيك وتناجيه، ويعاطيك الإخلاص وتعاطيه
وقد كان ابن الرومي يحب الطبيعة على هذا النحو ويستروح من محاسنها نفساً تتصبى الناظر إليها وتتبرج له (تبرج الأنثى تصدت للذكر) ويرى وراء هذه الزينة التي تبدو على وجهها عاطفة من عواطف العشق تتعلق بها العفة والشهوة تعلقها بالعاطفة الإنسانية الشاعرة)
هكذا يتحدث العقاد عن (حب الطبيعة) بالطاقة التي تحدث بها عن (حب الحياة) وبالشرح الوافي الذي تجده هناك
وليس من المصادفات أن يكون العقاد نفسه من محبي الطبيعة فهو إن لم يكن من طراز ابن الرومي، فعلى طراز يتفق وإياه في الأساس، ويختلف حين يكون حب العقاد ممزوجاً بالفلسفة، والوعي الفني لما يخالط نفسه من هذا الحب، وهو في هذا يتفق مع طبيعته، ويسير مع اتجاهه الخاص في حياته وتفكيره
ثم اسمعه يتحدث عن (التشخيص والتصوير) في ابن الرومي: (القريحة المطبوعة على إعطاء الحياة، مطبوعة كذلك على إعطاء الشخوص، أو على ملكة التشخيص
ولكننا نحب أن نستثني هنا ذلك التشخيص الذي تلجأ إليه ضرورة اللغة وتسهيل التعبير، مع المتكلم بما في كلامه من المجاز والمفارقة، فقد يتكلم الشاعر أو غير الشاعر عن الشمس بضمير المؤنث وعن القمر بضمير المذكر،، وقد يسند إليهما أفعال الأحياء العاقلة وغير العاقلة، ولكنه بعد تعبير لفظي ليس وراءه تصور، وليس وراء التصور - إن كان - اثر من الشعور، ولا سيما الشعور المتبادل بين طرفين متعاطفين(261/40)
وإنما المقصود بالتشخيص تلك الملكة الخالصة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر. فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسموات من الأجسام والمعاني فإذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة؛ والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامس ولامسة، فيستعبد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة، وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة. وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله وسبب ما عنده م قدرة الأحياء وقدرة التشخيص: قدرة التشخيص التي هي ملكة مقصودة تكون عند أناس ولا تكون عند آخرين، وليست قدرة التشخيص التي هي حلية لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر)
وعلى هذا النحو البارع يمضي العقاد في تصوير ملكات ابن الرومي مستطرداً إلى بحث كامل في الملكات عامة، يبين صحيحها من زائفها، ويكشف عن وشائج هذا بذلك مستلخصاً الصحيح من النظرات، ممحظاً خالصاً
وبمثل هذه البراعة يحلل الأمثلة التي يستعرضها من شعر ابن الرومي، ويكشف عن نواحي القوة أو الضعف فيها؛ فإذا الرجل شاخص وراء هذا التحليل، تطالعك نفسه كالصفحة المبسوطة تحت المجهر الدقيق
هذه ومضات عن ذلك الكتاب الذي ظن أحد الكتاب عندنا أنه يمنحه أقصى حقوقه حينما قال عنه: (لو تقدم به صاحبه إلى أية جامعة لمنحته الدكتوراه!)
هه! الدكتوراه!
ومن يكون الأساتذة الذين يناقشون هذه الرسالة إذن ولمن يمنح (كرسي الأدب) في أية جامعة من جامعات الدنيا إذ ذاك؟
(حلوان)
سيد قطب(261/41)
بين الرافعي والعقاد
القديم والجديد
نقد وتحليل
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 1 -
لعل من أسوأ سيئات عصور الانتقال ظاهرة التمرد التي تغلب على الناشئين فيها، فقد كان الناس قبل أن يبتلوا بعصر الانتقال هذا يرجعون فيما يختلفون فيه إلى أصول مقررة تستند إلى ما يسلمون به جميعاً من دين، أو عرف مستمد من دين، أو إلى أدب عريق تحددت أحكامه وتبينت معاييره ورسخت أصوله على طوال القرون. فلم يكن صغير يخرج على كبير في تحديد ما ينبغي، ولم يكن ناشئ يتطاول على أستاذ فيما يعلم أنه ناشئ فيه وإنه حديث العهد به. فكان الصغير إذا خالف في سلوكه رأى الكبير يخالف وهو يعرف أنه مخطئ، ولم يكن ناشئ مبتدئ في الأدب أو غير مبتدئ يخطر بباله - إذا لم يقتنع برأي أستاذه أو من هو في منزلة أستاذه في اللغة أو في الأدب أو في الدين في مسألة بدا له فيها رأي خاص - أن يعيب أستاذه أو يثلبه أو يصغره أو يحاول أن يعرضه لسخرية الناس. وكان الكبار إذا اختلفوا يتحاكمون إلى ما أجمعوا على التسليم به من الأحكام والأصول. فلم يكن الخلاف في المقاييس ولكن في طريقة القياس؛ لم يكن في القواعد ولكن في التطبيق. فكانوا سرعان ما ينتهي خلافهم إلى اتفاق إن كانوا ممن يبتغون الحق للحق لا للشهوة، أما الذين تأخذهم العزة بالإثم فلا ينزلون على حكم الحق وإن وضح فأولئك في كل عصر هم مصدر الشقاق والفراق، سواء أكان العصر عصر استقرار في المعايير أم كان فيها عصر اضطراب يشبه الفوضى كعصرنا الذي نعيش فيه
كان الأمر كذلك وكان الناس في راحة من أجل ذلك. كان يكفي أن يحتج أحد المتناظرين لرأيه بآية كريمة أو حديث شريف أو رواية في اللغة ثابتة تشهد لأحد الرأيين حتى ينزل صاحب الرأي الآخر على رأي الأول من غير أن يجد في نفسه غضاضة، لأنه في قرارة نفسه يعرف انه نزل على حكم الآية أو الحديث أو الرواية الصادقة، وهذه عنده أحكام(261/42)
يجب أن تطاع وأصول يجب أن تتبع، والغضاضة كانت عنده والهوان في مخالفة تلك الأحكام والأصول بعد أن وضح له وجه الحق منها، لا في مخالفتها نزولا على حكم الهوى والشهوة. وكان الأمر في ذلك كله مداره الدين وعلمُ المرء أن الله سائله عن الحق لَم لمْ يتبعه وقد وقر في نفسه، وعن الباطل كيف اتبعه ولبس به الحق رغم ضميره ورغم قلبه. فكان هذا الوازع الداخلي حاملاً على الحق صارفاً عن الباطل حق الضعف في الناس على الأخص بفشو هذا التجديد الذي يستمد كل قوته من جلال الغالب في نفس المغلوب
ومسألة القديم والجديد عمرها لا يكاد يزيد على ثلاثين عاما أثارها في الناس نفر تثقفوا ثقافة غربية من غير أن يكون لأكثرهم من الثقافة الإسلامية نصيب مذكور. والغرب والشرق على طرفي نقيض لا يلتقيان كما يقول رديارد كبلنج، وإن كان من الممكن أن يلتقيا في العلم الذي هو مفخرة الغرب والذي هو جزء من الإسلام الذي يدن به الشرق. لكن الذي أثاروا مسالة القديم والجديد لم يكونوا يعرفون، ولعل أنصارهم لا يزالون يجهلون أن العلم الذي ظهر به الغرب هو في الإسلام جزء من الدين، وأن المدنية الغربية ليس فيها ما يستحق أن يطلب ويؤخذ إلا ذلك العلم الطبيعي الذي اهتدى إليه الغرب بالعقل والتجربة، والذي يمثل فطرة الله التي فطر عليها الأشياء. أما فطرة الله التي فطر عليها الناس فتلك يمثلها الإسلام عن يقين فكأن الغرب والشرق قد اقتسما علم الفطرة: عَلِمها الغرب في الماديات بالعلم والتجربة وعلمها الشرق في الروحانيات والاجتماعيات بالدين والوحي. فكان الشرق مخطئا حين لا يأخذ بعلم الغرب، وكان الغرب ضالا حين يخالف الإسلام كما أنزله فاطر الفطرة على محمد عليه الصلاة والسلام. وكان سبيل الكمال لهما معا وللإنسانية أن يجتمعا على العلم والدين، علم الغرب الطبيعي ودين الشرق الإسلامي، فيجتمع لهما بذلك علم الفطرة ونظامها في المادة والروح. وكان هذا أيضاً هو سبيل التجديد الصحيح لمن يريد أن يكون مجدداً مصلحاً، يجدد للشرق شبابه ومجده من غير أن يعرضه لشر ما يهدد الغرب من أخطار. وهذا هو السبيل الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني وسار على آثره فيه محمد عبدة. لكن دعاة التجديد الذين جاءوا بعدهما ممن لم يكن لهم مثل علمهما ولا بصرهما بالإسلام ضلوا سبيل الدعوة وصدّقوا الغرب في ظنه الذي ظن بالإسلام من أنه كان سبب تأخير الشرق. ولما لم يطيقوا أن يهاجموا الإسلام مواجهة(261/43)
فيدعوا الناس صراحة إلى نبذه، عمدوا إلى مهاجمته مداورة بدعوة الناس إلى قبول كل ما عليه الغرب إن كانوا يريدون أن يكون لهم ما للغربيين من قوة وحياة. وزعموا للناس أن المدينة الغربية كل لا يتجزأ، فأما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها، إما أن تؤخذ باجتماعياتها وأدبياتها وعلمياتها وإما لا يؤخذ منها شيء. فوقع الناس بهم في مصيبة طامة وفتنة عامة لأن الناس يلمسون قوة الغرب ويريدون أن يكون لهم مثل قوة لينجوا مما هم فيه من رقه واستعباده. فإن كان حقاً ما يزعمه لهم دعاة التجديد الغربي من أن لا سبيل إلى ذلك إلا بأخذ المدينة الغربي بحذافيرها فليس لهم فيما يبدو مفر من ذلك ولو كان في ذلك خروج على الإسلام. ونجحت حركة الالتفات التي قام بها دعاة الغرب ضد سلطان الإسلام في نفوس من أصغى إليهم من الناس حين ألجئوهم إلى أن يميزوا أنفسهم ذلك التمييز بين الإسلام وبين القوة والحياة، من غير أن يتعرض أولئك الدعاة في سبيل ذلك الخطر الذي كانوا تعرضون له من غير شك لو أنهم دعوا الناس مباشرة إلى نبذ الإسلام. وأصبح الذين أصابتهم فتنة ذلك التجديد كمن أحاط به العدو لا بد له من الموت أو التسليم، أو كمن وجد نفسه مضطراً إلى الاختيار بين قتل ولده وبين الحياة. ولقد كان سهلاً على من وقف هذا الموقف من الناس أن يفك عن نفسه ذلك الحصار ويخرج من ذلك الاضطرار الوهمي لو أنه كان يعرف حقيقة دينه وتاريخه حتى صدر الخلافة الراشدة على الأقل، لكن أولياء أمور المسلمين عفا الله عنهم وتداركهم بهدايته وتسديده كانوا ولا يزالون يهملون تعريف المسلمين بدينهم، وتنشئ أبنائهم وبناتهم في الروح الإسلامي بالتربية الإسلامية. ومن هناك كان المسلمون عوناً لعدوهم على أنفسهم. ومن هناك كان كل ما أصاب أولئك (المجددون) من نجاح، وما يهدد الإسلام في بلاده وفي نفوس أهله من خطر. ومن هنا أيضاً هب لدرء هذا الخطر فريق من المجاهدين المحتسبين الذين آتاهم الله فقهاً في الدين وقوة في الجنان وبسطة في البيان، وفي طليعة هؤلاء كان الرافعي رحمة الله عليه فالمسألة بين القديم والجديد كما يسمونها ليست مسألة اختيار بين أدب وأدب وطريقة وطريقة، ولكنها في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين. فالذين يسمون أنفسهم أنصار التجديد يؤمنون بالغرب كله ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا ولو خالف الإسلام في أكثره. والذين يسميهم هؤلاء أنصار القديم يؤمنون بالإسلام كله وبالقرآن كله ويأبون أن يؤمنوا ببعض ويكفروا(261/44)
ببعض، أو أن يدينوا للغرب مؤمنين به من دون الله. وكل الخلاف بين أنصار (القديم) وأنصار (الجديد) منشؤه هذا ومرده إلى هذا. هؤلاء مثلاً يريدون متابعة الغرب في السفور والاختلاط لينعموا بالحب! كيفما شاءوا، وأولئك يرون السفور والاختلاط مفسدة أي مفسدة لأن الله وهو أعلم بخلقه نهى عنهما في الكتاب. هؤلاء يريدون متابعة الغرب في ألا يتزوج متزوج إلا واحدة، وأولئك يرون إباحة تعدد الزوجات لأن الله سبحانه أباحه في الكتاب. هؤلاء يريدون التسوية بين الذكر والأنثى في كل شيء ظناً منهم أن الغرب يسوي بينهما، وأولئك يرون غير ذلك فيما لم يسوّ الله بينهما فيه في الكتاب. هؤلاء يرون الإسلام ديناً عربياً أنزل للعرب ولا يلائم إلا العرب، وأولئك يعتقدونه دين الإنسانية الكامل أنزل للناس كافة بما يضمن صلاح الناس كافة غير متقيد بزمان ولا متخصص بمكان كما نص الله عليه في القرآن وكما يتجدد عليه في كل عصر البرهان
ثم أنصار (الجديد) يضيقون ذرعاً بالقيود الأخلاقية التي قيد الدين بها الناس فيما يعملون وفيما يقولون، ويريدون أن يتحللوا منها فيزعموا للناس أن هذه الأخلاق وقيودها إن هي إلا عرف وتقاليد، وإن التقيد بالعرف والتقاليد في الفن والأدب يعوق الفن ويحول دون ترقي الأدب، فيجب إذن إطلاق الفن وتحرير الأدب من تلك القيود. ومن هنا نشأ خلاف آخر بين الفريقين نقل العراك بينهما من ميدان الاجتماع إلى ميدان الأدب. فأنصار الجديد يدعون إلى الفن العاري والأدب المكشوف ويّدعون للفنان والأديب حرية في القول والفعل لم يأذن الله فيها لإنسان، وأنصار قديم الإسلام يدفعونهم عن هذا ويحدون حرية الفنان والأديب بما حد الله به حرية كل إنسان من قيود الدين والأخلاق وإلا عمت البلية بالأدب وصار شراً ووبالاً على الناس. وأتسع الخلاف وتشعب بين الفريقين. بمضي أنصار الجديد الغربي في توهين السد الإسلامي الذي يجدونه قائماً في وجوههم أينما تلفتوا فيزعمون للناس من طرف خفي أن القرآن من صنع عبقري لا من صنيع الله، وأنه آية فنية لكنه آية فنية إنسانية لا معجزة إلهية، وإذن فينبغي أن يخضع لما يخضع له كل عمل إنساني من النقد والفحص والبحث العلمي فيما يزعمون، ويهب لدرء هذا الإفك العظيم كل كريم نجد من رجال الأدب أو غير رجال الأدب من المسلمين، ويقاتلونهم على إعجاز القرآن وحرمته وتقديسه، ويدعونهم إلى خطة إنصاف ليس من إنصاف بعده: إما أن يتركوا(261/45)
القرآن وشأنه لا يتعرضون له بشيء إن كانوا لا يؤمنون به، وإما أن يذكروه ويدرسوه إذا قدروا على دراسته، ولكن بنفس روح الاحترام والاحتياط والإجلال الذي يدرس به العلماء الشمس والنجم والبحر وما إليها من الظواهر الكونية الثابتة التي لا يد في خلقها للإنسان. وهي كما ترى كلمة سواء غاية في الإنصاف، لو كان لدى أنصار الجديد الروح الذي يقضي بقبولها لما كانت هنالك تلك المرارة في القتال التي جلبها عدم قبولهم شطر الكلمة الأول، ولاصطلح الفريقان وتحابا واجتمعا على التجديد الحق في الأدب وغير الأدب لو أن أولئك قبلوا شطر الكلمة الثاني. وإذن لما كان هناك أنصار جديد وأنصار قديم، ولكن فئة واحدة من المجددين المصلحين الذين يعملون بالحق للحق ضمن دائرتي العلم والدين اللتين يشملهما الإسلام جميعاً
إن من اشد ما يؤسف له أن تفترق قوة أولى القوة في الشرق هكذا فرقتين، إحداهما تهدم والأخرى تدفعها عن الهدم، فيشغل الفريقان جميعاً عن التجديد والبناء وعدوهما واقف لهما بالمرصاد. لكن التمني لا يجدي والواقع هو الواقع. فستستمر المعركة بين أنصار جديد الغرب وأنصار قديم الإسلام كأشد وأحمى ما تكون حتى يقضي الله بينهما حكمه. ومهما يكن من ذلك فالموقف بين الفريقين هو في صميمه كما صورنا. وعلى أساسه يمكن النقد في غير كبير عناء أن يضع الأمر بينهما في نصابه فيما كان وفيما يجد من خلاف. وسنضرب فيما نستقبل من الكلمات مثلاً لذلك بتبيين وجه الحق فيما احتدم حول أدب الرافعي رحمه الله من جدال.
محمد أحمد ألغمراوي(261/46)
بين الرافعي والعقاد
على هامش المعركة
للأستاذ محمد رفيق اللبابيدي
سيدي الأستاذ محرر الرسالة
كتب الأخ الصديق الأستاذ الطنطاوي في معرض التعليق على ما يكتبه الأخ الصديق والزميل الأستاذ سيد قطب. وآثر أن يشتد فيما كتب وأن يسرف في سوء الظن فيما يكتبه الأستاذ قطب.
وبيني وبين الأستاذين الطنطاوي وقطب من الدالة ما يسمح لي أن أقول كلمة في الموضوع الذي بسطا القول فيه، ومن حقي كزميل للثاني عرفه حق المعرفة أن أرد على أخي الطنطاوي برفق قوله: إنه لا يعرفه وإنه الخ. . . فلقد سبق أن عرف الأستاذ الطنطاوي الأستاذ سيد قطب وزامله أيضاً حين كنا ثلاثتنا في فصل واحد وفي سنة واحدة من مدرسة دار العلوم العليا، على أني لست بسبيل تقرير هذه المعرفة فهي ليست بشيء في الموضوع الذي أريد أن أقول كلمتي فيه
كنت قبل أن يكتب الأخ الطنطاوي أوشك أن أكتب في موضوع الخلاف بين الأساتذة العريان وشاكر وقطب، وأنا أعرف رأي الأخ قطب في الرافعي من قبل، وأعرف أنه رأي (غير تقليدي، فلقد كنت في دار العلوم وكانت حلقة الأخوان تضم قطباً وكنا دائماً على طرفي نقيض، فجماعة منا مع الرافعي وأخرى عليه، وكان على ما أذكر الأخ قطب لسانها، فليس حقاً أن يتهم الأستاذ قطب في رأيه هذا، فهو رأي العقيدة - وإن كنا نخالفه فيها كل المخالفة - ثم أن الأخ قطباً من إخواننا النابهين المعروفين في البيئة الأدبية، وليس من العدل أن يجهل هذا الجهل ويرميبهذا النبز من القول الذي جاء في مقال الأخ طنطاوي.
وإذا كان خطأ مناظرك في الرأي مدعاة للتجهيل والوقوع فيه وفي فضله وفي علمه فلم يبق ثمة مجال للجدل والنقاش الأدبيين، وهنا اتهام صريح للرسالة ومحرر الرسالة في إفساح المجال لمن لا يعبأ بقوله أو رأيه. وأعتقد أن الأخ الطنطاوي على قدري إياه كل التقدير وإعجابي به كل الإعجاب قد تنكب أصول النقاش والنقد في الأدب في الوقت الذي يتهم(261/47)
سواه بهذا الجنوح. . .
بعد هذا نحب أن نلج موضوع النقاش من بابه ولا نثب من النافذة، فالأستاذ سيد قطب على ما نعتقد ونرى وعلى ما يتسع له علمنا واطلاعنا لم يوفّق بعض التوفيق في رأيه في فقيد الأدب العربي المرحوم الرافعي، كما أنه لم يوفق ولا بعض التوفيق في نفاحه عن الأستاذ الكبير العقاد
وأصوله وقواعده التي اتجه إليها في كتابته في هذه الموازنة على تسامحنا بهذه التسمية ليست أصولَ الملمْ بأدب من وضعهما في كفتى الميزان الفني. فلا هو يستطيع أن يقول: إنه قرأ كتب العقاد جميعها - على ما يذهب إليه من وجوب اجتماع أكثر من ثقافة واحدة لفهم ما يكتب أو يقول الأستاذ العقاد - ولا هو يطيق أن يقول أيضاً: إنه قرأ الرافعي قراءة المستوفي المستكمل
والأخ الأستاذ سيد قطب معي في أن ما تناوله من أدب الرافعي غيض من فيض، ولعله جنحإلى ما يمكن أن يوقع فيه واختاره ليقول فيه قول الذي قال، وما يمكن أن يقال في مثل هذا من شعر الرافعي يقال في مثل هذه القصيدة التي أضعها بين يدي القراء من شعر العقاد، قال الأستاذ من قصيدة يعارض فيها ابن الرومي:
هل يعرف البيضُ أن الحسن جوهرة ... لها الثراءُ ثراءُ النفس أثمانُ
يقنو نفائسه من لا يسوّمه ... وقد يعز على الَّلآل قنيان
يا جوهراً بت أرعاه على أممٍٍ ... رعى الشحيح ومالي فيه سلطانُ
ما في يدي منه لا عينٌ ولا أثرٌ ... ولى عليه مغاليقُ وأعيانُ
قد نلت ما نلت من حظ به عرضاً ... وقد تولى فحظي منه فقدان
إني على الرعي من عينيك مفتقرٌ ... يا ضوء قلبي فان القلب مِدْجانُ
وحسبي أن أسأل الأستاذ قطباَ رأيه فيها دون أن يكون مني أي تعليق. . .
بعد هذا فالحق أن الأستاذ العريان كان منصفاً كل الإنصاف فيما يؤرخ به حياة الرافعي - رضوان الله عليه - وليس معنى هذا العصمة من كل خطأ، وأيُّ الكاتبين كامل؟؟
ومن الحق أن الأستاذ قطباً تقحم الموضوع على الأخ العريان وأراد أن يثير بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد، والفريقان كثر، معركة أدبية لعل من الخير لو ثارت على غير هذا(261/48)
اللون من البحث، والجدلُ البعيد عن الأثرة يفتق القرائح، وربما جاء بخير كثير وأفاد منه النشء والبيئة الأدبية، ولربما كشف عن مواهب كانت مستورة، وعلم كان خبيئاً، وفضل لم يكن يعرفه القراء
وقد قرأت ما كتبه الأستاذ قطب في نقده فوجدت ألمعية واستعداداً ذاتياً وقوة وبراعة واتساع أفق، ولكني لم أجد في تضاعيف هذا كله الحجة التي تقنع أو تمسح ما في نفسي مما قرأت لها من أدب الرافعي وأقرأها إياه الكاتبون في أدب الرافعي
والرافعي - أحسن الله للأستاذ الزيات - كان كنزاً مخبوءاً في نثره كشفته الرسالة لقراء العربية عامة بعد أن كان معروفاً عند الخاصة في كتبه وفي نتف من بيانه الذي كان يتناقله الأدباء من هنا وهنالك
وقد يجوز للأستاذ قطب أن ينكر ناحية من نواحي أدب الرافعي وأن يدلل على ذلك بقوة، ولكن لا يجوز في منطق سائغ أن ينكره أدبياً على الإطلاق
كما يجوز لي - على صغري وضيق أفقي - أن أنكر شاعرية العقاد إنكاراً أود لو يتسع لي المجال من فسحة هذا العمل الآلي لأبرهن عليه بما يسعني من حجة أو تدليل، على أن إنكاري هذا ليس بضائر فضل الأستاذ العقاد وهو في رأي الكاتب الناثر الجبار في عمق مادته وسعة اطلاعه وغزارة ثقافته
أما أن أثب وثباً منقطع النظير فأنكر العقاد أدبياً وأتجاهل رأي الكثرة الكاثرة من قرائه وأصحاب الرأي الحسن فيه فذلك مما لا يقفني موقف المسموع الرأي عند أهل البصر في الأدب
وقرأت للأخ قطب مقاله الأخير ومحاولته أن يجعل من قصيدة الأستاذ العقاد في الجيبون دائرة معارف ثقافية ففيها من كل علم ومن كل فكر، فهل لو صح هذا كان شعراً. والشعر من الوجدان وإلى الوجدان وماله وهذه اللفتات إلى ما هو عميق متكلف؟
وهل لو صح هذا الوزن لشعر الشراء واصطنعنا هذه المقاييس التي يتفضل بها الأستاذ قطب نكون قرّبنا الشعر من الطبيعة الصادقة والفطرة السليمة ولذوق الذي لا تشوبه شائبة النظريات العلمية القلقة. . .
اللهم لا، ثم لا. وللحديث رجع إن شاء الله(261/49)
(حيفا - فلسطين)
محمد رفيق اللبابيدي
المدرس بمدرسة حيفا الثانوية الأميرية(261/50)
الفروسة العربية
للأستاذ جميل قبعين
- 1 -
محاضرة قيمة ألقاها الميجر كلوب قائد قوة البادية في شرق
الأردن بتاريخ 25 تشرين ثاني سنة 1936 في الجمعية
الأسيوية الملكية في لندن ونشرتها مجلة الجمعية في عدد يناير
سنة 1937
تحمل كلمة الفروسية معاني مختلفة في إنكلترا وتوقظ في أذهان الكثيرين منا شعوراً مبهماً وانطباعاً خيالياً عن فرسان بأسلحتهم اللامعة وملابسهم الجميلة الجذابة، وقد نستعمل هذه الكلمة في كثير من الأحيان للدلالة على احترام المرأة، ولكن إذا ما رجعنا إلى الحقيقة وجدنا هذا الاتجاه في التفكير في الفروسية سطحيا وخيالياً لأن الفروسية نشأت وانتشرت كنظام خاص في الحياة عند بزوغ فجر المدينة. ولكي أوضح ما أقصد باستعمال كلمة الفروسية يجب أن أرجع بكم إلى العصور الخالية.
عندما كانت موارد الرزق تنحصر في الزراعة وتربية المواشي، وكان الإنسان في إنكلترا وأوربا على العموم يستطيع أن يجمع بين العملين معا لأن جو هذه البلاد الرطب كان يهيئ كثرة الكلأ وخصوبة المرعى، ولذلك كان بإمكان المزارع أن ينصرف إلى أعمال الحرث والحصاد، وفي نفس الوقت يقتني المواشي التي ترعى بالقرب من مزرعته لكثرة الأعشاب. ولكن تطبيق هذه الطريقة في تنظيم العمل كان متعذراً في القارات الأخرى وعلى الأخص آسيا وأفريقيا حيث تقل الأمطار وتعاني مساحات واسعة منها المحل والجفاف لقلة سقوط الأمطار وبطبيعة الحال تقل المراعي وتبعد المسافة بينها - ولذلك كان المزارع الذي لا يتمكن من ترك حقله غير واجد مرعى لأغنامه. وهكذا كان الجمع بين الزراعة والرعي غير ممكن. ولذلك بقى سكان تلك البلاد ألوف السنين منقسمين إلى قسمين متباينين الرعاة والمزارعين أو البدو والحضره وهكذا أوجدت طريقتا المعيشة بينها(261/51)
تباينا في الأخلاق وتباعدا في المجتمع فتأصل العداء.
قد يستغرب الرجل الإنكليزي في هذه الأيام أن يجد عندما يزور البدو تشابها عظيما بين عاداتهم وبين عادات الفرسان الأوروبيين في العصر الإقطاعي، ولهذا ترون أنني استعملت كلمة (الفروسية) عنواناً لمحاضرتي.
وقد يكون غريباً أن تعلموا أنه لا توجد كلمة في اللغة العربية للدلالة على الفروسية كنظام خاص مع العلم بأننا نرى البدو يعيشون بروح فرسان القرون الوسطى، والسبب في ذلك أنهم لا ينظرون إلى نظام معيشتهم كنظام يمكن درسه بل كحياة طبيعية ولما كانوا لا يعرفون القراءة لم يتمكنوا من درس أنظمة غيرهم من الأمم، ولهذا لم يجدوا ضرورة لإيجاد اسم خاص لطريقتهم. في الحياة. ولو وصفت الصفات المميزة للفروسية لمزارع أو حضري من سكان هذه البلاد لأجابك على الفور أنك تتكلم عن حياة البدو. وعليه فإني أرجو من حضراتكم أن تبعدوا المعنى الخيالي الذي يتصل بكلمتي الفروسية والفرسان لأني أعني باستعمال هذه الكلمة عادات البدو أي نظام الحياة اليومي ونظام الحكم الديمقراطي بينهم.
حياة البدو والمزارع
يمكننا عند دراسة أخلاق وطباع البدوي والمزارع أن نبدأ بدراسة وجهة نظر كل منهم نحو الحرب. تنحصر كل ثروة المزارع في مسكنه وحقوله وأشجاره فإذا ما سلم أملاكه إلى عدو يصبح على الفور جائعاً متشرداً، وهذه النتيجة المنتظرة تجبره على الاستماتة في الدفاع إذا ما هوجم، وفي نفس الوقت نرى أن الزراعة عمل مستمر يستوعب كل أوقات الفصول الأربعة بحيث لا يبقى له وقت يقضيه بالسفر والتنقل بحثاً عن المغامرة، ولذلك تجده يدافع دفاع المستميت دون الاهتمام بقواعد الحرب أو بتطلب المجد الشخصي، وحالة المزارع هذه تقوده إلى أن ينظر إلى الحرب نظرة الكراهية، فإذا ما هوجم ترى أن همه الأول أن ينتصر بأسرع ما يمكن بطرق شريفة أو غير شريفة، وبما أن غرضه الأسمى هو الدفاع لا المجد، وبما أنه يقطن في القرى نراه يفرض على كل شخص في المجتمع أن يشترك في الدفاع لكي يضمن السلامة والفوز. وهكذا يمكننا حصر نظرة المزارع إلى الحرب فيما يلي:(261/52)
1 - الدفاع المستميت
2 - كره المغامرات الحربية
3 - التصميم على الفوز بطرق مشروعة أو غير مشروعة
4 - فكرة خدمة المجتمع
أما نظرة البدوي للحرب فهي على العكس تماماً وذلك لأن ثروة البدوي هي الخيل والجمال والغنم وليست من الأملاك الثابتة كالبيوت والحقول والبساتين، لذلك نراه غير مضطر لمقاتلة عدو إلى الرمق الأخير بل على العكس قد يتمكن من إنقاذ كل أمواله بتقهقر منظم سريع. وعلاوة على ذلك فإن المواشي شيء مزعج في الحرب إذ أنها قد تتشتت أو تذبح ولو كان صاحبها منتصراً في الحرب. كل هذه الاعتبارات تشير إلى حقيقة واحدة وهي أن طريقة البدوي في الدفاع ضد عدو قوي هي التقهقر السريع وليست الاستماتة في الدفاع كما يفعل القروي
وهنا لا يسعني إلا أن أتحول قليلاً من البحث عن الحرب إلى السياسة. إن الفلاح يدافع عن بلدته ويقاتل قتال المستميت دونها ولكنه إذا غلب على أمره خضع واستسلم إلى العدو تمسكاً بقطعة أرض يتركها له غالبوه، وإذا ما سمح له بالبقاء يدفع الضرائب الفادحة صاغراً ويتحمل أنواع الذل والإهانة. أما البدوي فإذا وجد نفسه محاطاً بعدو قوي استكان دون مقاومة وتظاهر بتقديم الخضوع إلى كبير الفريق الغالب حتى إذا ما رأي من عدوه غفلة رحل بسرعة إلى مكان قصي أمين حيث يصبح حراً طليقاً. وهكذا نرى أن البدوي رغم ضعفه في الدفاع ذو نفسية استقلالية تصبو إلى الحرية وهو أوسع حيلة وأعز نفساً واعظم كبرياء من القروي
وفي الهجوم أيضاً تجد البون شاسعاً بين البدوي والمزارع فإن هذا الأخير مرتبط بأرضه وبأعماله المستمرة، أما البدوي فقليل المشاغل كثير الفراغ وهو بسائق فطرته وطريقة معيشته معتاد ركوب الخيل والجمال وتحمل الأسفار البعيدة الشاقة ولذلك كانت المغامرات الحربية موضوع فخر وتسلية له وكانت الشهرة والمجد مطمعه في الحياة، لأن نظرة البدوي إلى الحرب لا تتجه لخدمة المجتمع نراه يتطلب في حروبه المجد والفخر والقيام بالأعمال العظيمة التي تنيله الشهرة، فالمجد والشهرة هما غايته من الحرب لا سلامة(261/53)
المجتمع.
إن أساليب الحرب في نظر البدوي أهم بكثير من النصر وكسب المعركة، والمجد بالتسابق بأعمال البطولة على أساليب الشرف هدفه الأسمى في القتال. وقد نشأ عن ذلك أساليب وعادات معقدة ورثنا بعضها فيما نسميه الروح الرياضية. فالبدوي لا يجد من الشرف أن يهاجم رجلاً نائماً أو أقل منه سلاحاً، وهكذا ظهرت تقاليد أهم صفاتها تطلب المجد والشهرة وإثارة روح التقدير والإعجاب في الآخرين بإتباع أساليب الشرف. ولا يجدي البدوي غضاضة في الاعتراف ببطولة العدو إذا كانت أساليب الشرف والاستقامة رائد هذا العدو في الحرب. كما أنه ينظر بازدراء للقروي الذي يحارب بقصد النصر دون التمسك بأساليب الشرف.
توجد ناحية غير مستحبة في طباع البدو الحربية وهي الأنانية والحسد، فالمحاربون البدو يحاربون لإظهار فروسيتهم ورجوليتهم وشجاعتهم الفردية بقدر الإمكان، وقد لا يشعر أحدهم بكراهية نحو عدو بعيد ولكنه ينفجر حاقداً إذا ما نافسه أحد رجال قبيلته بأعمال البطولة وسبقه بالشهرة. قد نرى نحن الأوربيين أن هذا أمر غير مستحب، ولكن الحقيقة أن هذه الصفة كانت من أهم الصفات الظاهرة لدى النبلاء الأوربيين في العصر الإقطاعي ومع أنها صفة غير جذابة ولكنها إحدى صفات الفروسية.
معاملة المرأة
إن الشيء الثاني الذي يميز حياة الفروسية أو حياة البدو هو طريقتهم في معاملة المرأة، فالمزارع مرتبط بعمله المنهك فلا ينتظر منه أن يشجع زوجته على التجمل والراحة في البيت بينما هو يقضي 12 - 13 ساعة يوميّاً في أعماله الزراعية، ولذلك تجد أن نساء المزارعين كن دائماً خشنات المظهر لاشتراكهن في الأعمال الشاقة خارج البيت. ولربما أوجدت حياة المزارع الجافة فيه عقلية خاملة خالية من الجو الخيالي البهيج
ولكن نظرة البدوي إلى المرأة تختلف تماماً عن نظرة المزارع إليها لما ذكر فيما سبق من أن البدوي قليل المشاغل وغايته القصوى في الحياة المجد وإثارة الإعجاب. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يتطلب ميزة خاصة على غيره يتطلب ان تعترف له المرأة بتلك الميزة، وأن إعفاء المرأة البدوية من الأعمال الجسيمة الشاقة المنهكة جعلها تحتفظ بنعومتها(261/54)
ورشاقتها، ومن الممكن أن فراغ وقتها أعطاها الفرصة الكافية للتزين والتجمل، ولذلك بقيت جميلة مشتهاة أكثر من زميلتها القروية الخشنة.
ينظر القروي إلى المرأة كوسيلة للخدمة والولادة وواسطة للربح. أما البدوي فيرى فيها مخلوقاً يجب العطف عليه والتغني به ويتخذها البدوي حكماً لتقدير أعماله. ومن المفيد أن نذكر أن المرأة البدوية بالرغم من كونها تعامل معاملة أحسن من زميلتها القروية، فإنها لم تكن مساوية للرجل، وأن التقدير والإعجاب اللذين كانا محيطين بها راجعان إلى اختلافهما في التكوين والخلقة عن الرجل - فالرجل كان المحارب والحاكم، والمرأة هي الجمال. إن الفروسية لا تعترف بمساواة الجنسين لأنهما مخلوقان مختلفان والمرأة لم تحاول أن تشارك الرجل في الحكم يوماً. وفكرة مثل هذه كانت غير مستحسنة من الطرفين
مزايا البدو الأخرى
إن طلاب المجد وحب الشهرة خلقا في البدوي مزايا أخرى أهمها الكرم والسخاء. يعتمد البدوي في حياته على قطعانه، وهي بطبيعة الحال عرضة للسلب والفقدان في كل لحظة، وهذه الحال قد تجعل الرجل الغني الوفير الخيرات في القبيلة يصبح فقيراً معدماً في اليوم التالي - وفي نفس الوقت قد يسترجع ما فقد بغزوة ثانية موفقة يقوم بها، ولذلك فإن البدوي يشبه الأموال بالأوساخ العالقة باليد تأتي اليوم وتذهب غداً. إن حياة التنقل المستمر جعلت من الصعب على البدوي أن يحتفظ بكثير من ضروريات الحياة، كما أن حبه للظهور وتعطشه للمجد كان لهما أثر كبير في أعماله القريبة من الخيال؛ فهو مستعد دائماً لأن يبذل كل ما يملك أو يمنح بسخاء جميع ما غنمه في غزوة شاقة خطرة لكي يظهر بمظهر شائق. أما القروي فهو بعكس ذلك تماماً لأن حياة الشقاء التي يعيشها واستقراره وتمكنه من التوفير أسباب كافية لجعله مقتراً
إن إحدى النتائج التي أجدها الكرم هو حسن الضيافة. وإني لأجد ضرورة لأن أقول بأن كل بدوي يملك بيتاً مفتوحاً أو بالأصح خيمة مفتوحة للضيوف في جميع ساعات الليل والنهار، وتكون الخيمة مقسمة إلى قسمين أحدهما للعائلة والآخر للضيوف. ولقد جرت العادة أن يضيف البدوي ضيفه ثلاثة أيام قبل أن يسائله من أين أتى وما هي مهمته
وهذا الكرم يصل إلى الفقراء من القبيلة، إذ أن من عادات البدو ألا يهملوا شيخاً ولا فقيراً،(261/55)
ولا يمكن لإنسان يعيش بين البدو أن يموت جوعاً. وكثيراً ما نرى شيخ القبيلة يوزع بعد عيد أو وليمة اللحم والأرز بنفسه أو يرسله إلى بيوت المسنين والأرامل. ويمكننا تلخيص صفات البدو فيما يلي:
1 - السعي وراء الشهرة في الحرب بالقيام بأعمال البطولة والمغامرات الفردية دون الاهتمام بربح المعركة
2 - تقدير المرأة واحترامها لأنوثتها واتخاذها وسيلة للتسلية والتمجيد وإن كان لا ينظر إليها كمساوية للرجل
3 - وجود دافع في البدوي يدفعه إلى القيام بأعمال البطولة والكرم حتى تكون أعماله هذه أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة في أكثر الأحيان
4 - الكرم وحسن الضيافة الحاتميان ويرجع سببهما أولاً إلى عدم الاطمئنان إلى بقاء الممتلكات بصورة مستمرة، وثانياً إلى حب التفوق والمجد اللذين يسعى البدوي إلى تحقيقهما في الحرب أيضاً
ولكي أشرح هذه الصفات الأربع سأستشهد ببعض قصص تصف لنا الفروسية العربية. والقصص التي من هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد أشاد بذكرها الشعراء وامتلأت بأخبارها كتب الأدب وتغنى بها العشاق والمطربون. ولقد كان هذا شأن التروبادور في القرون الوسطى في أوربا، واسمهم هذا مشتق من فعل طرب العربي. وقد كانوا يتجولون في البلاد مثيرين الحماسة برواية قصص الأبطال والأحاديث الغرامية
وسأقتصر على بعض القصص والحكايات كما أني سأذكر تجاربي الخاصة.
يتبع
جميل قبعين(261/56)
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
- 1 -
كتب الأستاذ على الطنطاوي في العدد (236) من (الرسالة) بمناسبة إظلال العيد الألفي للجامع الأزهر يقترح على أبناء جامع القرويين والزيتونة والنجف أن يتحدثوا لقراء (الرسالة) عن شيء من تاريخ هذه المعاهد وما ساهمت به في خدمة الثقافة الإسلامية وفنون المعارف الأخرى، كما سيتحدث أبناء الأزهر في ذلك العيد القريب عن أزهرهم ويقومون بإحياء ذكراه الخالدة المحفوظة في ضمير الزمان ما بقي من يراعي الجميل من بني الإنسان. وذلك لأن كثيراً من الناس يتشوقون إلى معرفة أحوال هذه المعاهد والأطوار التي اجتازتها منذ تأسيسها إلى الآن، وسيبلون عطشهم بالنسبة إلى الأزهر؛ أما بالنسبة إليها فسيبقون أعطش مما كانوا، لأن الذكرى تبعث الذكرى. فلا أقل من أن يحظوا ببلالة من العلم في كلمة أو كلمتين عن تلك الجامعات التي غيرت هي والأزهر مدى أجيال تشع على العالم أنوار العلم والمعرفة وتتدرج بالفكر الإنساني في مدارج النمو والارتقاء.
وقد استحسنا اقتراح الأستاذ ولبثنا مدة ننتظر من يستجيب له ويمتعنا بالحديث عن أي جامع كان من تلك الجوامع فما ظفرنا إلا بالخيبة والملل، وأخيراً تكلم بعض أفاضل النجف عن جامعه وهو ثالث الثلاثة الأحق ببسط الكلام فيه والتوسع في الحديث عنه، ولكن ذلك الفاضل اقتضب القول فيه اقتضاباً ووعد بالتبسط مرة أخرى وإنا لوعده لمنتظرون. وقد حبب إلينا لما بقي الميدان خالياً بل رأينا من الواجب أن نتقدم بكليمات عن جامعنا القروي العامر يتعرف بها الجمهور العربي من قراء (الرسالة) عظمة تاريخ ذلك المعهد وما قام به من خدمات جلى للعلم والمعرفة طوق بها المدنية الغربية في فجر نهضتها بأياد بيضاء:
فأولى الميزات التي تبعث على الفخر والازدهار، وهي مما أختص به هذا الجامع، أن مؤسسه امرأة، وامرأة من صميم الشعب، لا ملكة ولا أميرة. وفي هذا ما يكفي لرد ما يتقوله المتقولون على المرأة المسلمة ويصمونها به من الجهل والتأخر عن مجاراة سنن الحياة؛ إذ ما عهدنا في تاريخ أمة من الأمم وفي العصر الحاضر أن يكون مؤسسو الجامعات العلمية العالمية من النساء. ولكن الإسلام الذي رفع من شأن المرأة وأعلى من(261/57)
قدرها إلى ما لم تبلغه في أية شريعة أخرى سواء كانت سماوية أو وضعية هو الذي سما بنفس السيدة أم البنين فاطمة بنت محمد الفهري - إلى هذا المقصد النبيل وبعث فيها الرغبة الملحة إلى بناء جامع القرويين بمالها الحلال الذي ورثته من أبيها وزوجها، لم تنفق فيه سواه احتياطياً منها وتحرجاً من الشبهة؛ وذلك عام (245) وكانت لم تزل صائمة منذ شرعت في بنائه إلى أن تم وصلت فيه شكراً لله تعالى الذي وفقها لذلك العمل المبرور.
وهذا التاريخ الذي بنى فيه جامع القرويين لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة (359). فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف: (إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدمته بأكثر من أربعة قرون) غير صحيح، لا بالنسبة للقرويين كما رأيت، ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة لأن تأسيسها إنما كان سنة (1119م) أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف. إذ أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي (970) وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القرويين فالأزهر فجامعة بولونيا
ومن المعلوم أن القرويين لأول بنائها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها كثير، وجدد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة (307)، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تجديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة (345)، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة (388). ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كله وزيدت فيه زيادة مهمة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته إلى الغاية وكمل ذلك سنة (538) أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بسنة.
ولما ملك الموحدون فاس سنة (540) خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد عليهم الموحدون النقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقلل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمامون الجامع تلك الليلة وغطوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق لمحراب وحوله بالورق ولبسوا عليه بالجص ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلا البياض(261/58)
ونلاحظ هنا أن فقهاء المدينة وأشياخها إنما خافوا انتقاد الموحين عليهم لما كانوا هم المباشرين لبناء المسجد وزخرفته ولم يكن ذلك من عمل المرابطين الذين قام عليهم الموحدون؛ وكذلك كان هذا المسجد منذ تأسيسه من الشعب وإليه. فمعظم هذه الزيادات - إن لم نقل كلها - كانت مما قام به أفراد من الشعب فقهاء وأئمة وغيرهم، بعد استئذان الحاكم طبعاً. ولشد ما كانوا يتحرون في المال الذي ينفق على ذلك، بل في الآجر والماء والتراب الذي كان يدخل في البناء فلا يصرفون فيه إلا ما كان من أصل طيب؛ وربما اشتبه عليهم مال أحدهم فأدى الأيمان الغليظة على أنه من الحلال الخالص الموروث عن آبائه الذين صار إليهم من عمل شريف إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً عند ابن أبي زرع في القرطاس والجزنائي في زهرة الآس وابن القاضي في جذور الاقتباس
هنا كان قد بلغ الجامع كماله فأتى دور المصالح والمنافع والمرافق الملحقة به من فسقيات وميضآت ومستودعات وخزانات ومقاصير ومدارس وما إليها. وأهم ذلك خزانة الكتب التي أسسها به السلطان أبو عنان فارس المريني وأودعها كما يقول الجزنائي: (من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان وغير ذلك من العلوم على اختلافها وتنوع ضروبها وأجناسها ووقفها ابتغاء الزلفي ورجاء ثواب الله الأوفى، وعين لها قيما لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جراية مؤبدة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى سنة 750)
وأسس أبو عنان كذلك مصاحف احتفل في بناها وتشييدها بما لم يسبق إليه، وأعد فيها جملة كثيرة من المصاحف الحسنة الخطوط وكلف بها من يتولى أمرها على أحسن الشروط. ثم لم تزل الملوك والسوقة تقف الكتب على خزانة القرويين بعد ذلك حتى اجتمع بها من المجلدات العلمية والأدبية والدينية ما لا يدخل تحت حصر ولا يستوفيه عد ولا حساب
وأما المدارس وهي بيوت الطلبة الملحقة بالقرويين، فإن من أقدم ما بني منها مدرسة الصابرين التي أسسها أمير المسلمين ابن تاشفين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري (450) والمرينيون هم سباق هذه الحلبة الذين خلفوا لنا أكبر عدد من المدارس المتقنة الصنع المحكمة الوضع، لا حول القرويين فقط بل في جميع أنحاء المغرب ولما كان كلامنا(261/59)
هنا إنما يساق إلى القرويين فلنذكر بالخصوص مدرسة العطارين التي بناها السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. ومدرسة أبي عنان اللتين تعدان قطعتين خالدتين من فن العمارة والنقش والتخريم والتزويق المغربي. وقد تلحق بهما مدرسة الشراطين التي بناها مولاي رشيد من ملوك دولتنا العلوية العلية. أما غير هذه المدارس فإنها وإن لم تكن مثلها في بداعة الشكل وجمال الصنعة إلا أنها لا تقل عنها فخامة بناء ورحابة فناء
هذه العناية الفائقة بالقرويين والاهتمام البالغ النهاية بأمره من الشعب ثم من الحكومة في كل عصر وفي كل دولة - تدلنا على ما كان له من مكانة سامية في النفوس منذ عهد تأسيسه وما كان يخص به من الاحتفال والاهتمام دون بقية المساجد الأخرى. وإلا فأخوه وشقيقه جامع الأندلس الذي بنته السيدة مريم أخت أم البنين وشقيقتها لم يظفر بعشر مما ظفر به هو من ذلك، بل إنه ما لبث أن غطى على جامع الأشراف الذي أسسه المولى إدريس ثاني ملوك الدولة الإدريسية ومختط فاس وبانيها سنة (192) فنقلت خطبة العدوة القروية من مسجد الأشراف المذكور إلى القرويين وأصبح هو المسجد الجامع في تلك العدوة كلها
وأبتدأ نجم القرويين يلمع في سماء العلم منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، وما كاد القرن الرابع يبلغ النصف حتى كان مثل عبد الله بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة والنوادر والذي يعرف بمالك الصغير يشد الرحلة إلى أحد رجاله وهو دراس بن إسماعيل المتوفى سنة 357هـ وفي هذا العهد كان أيضاً أبو جيدة ابن أحمد وهو فقيه فاس ومحررها من سطوة عامل المنصور بن أبي عامر. ولا شك انه كان أحد أساطين هذه الكلية وممن عملوا على رفعة شأنها وعلو قدرها
وتتوالى حلقات السلسلة حتى تصل إلى العصر الحاضر مؤلفة من رجال وقفوا حياتهم على خدمة التشريع الإسلامي تحت راية مالك وأصحابه فبلغوا به الغاية التي ما بعدها غاية في الكمال، وطارت لهم شهرة مطبقة في أرجاء العالمين الشرقي والغربي. فما منهم إلا إمام فتوى ومجتهد مذهب مثل الفقيه ابن عمران الفاسي المتوفى سنة 430 والفقيه ابن محمد صالح المتوفى سنة 631 والفقيه راشد الفاسي المتوفى سنة 675 والفقيه أبي الحسن الصغير المتوفى سنة 719 والفقيه أبي عمران العبدوسي المتوفى سنة 776 والفقيه(261/60)
القوري المتوفى سنة 872 والفقيه المشارك أبي عبد لله بن غازي المتوفى سنة 917 والفقيه أبي علي بن رحال المتوفى سنة 1140 والفقيه الرهوني المتوفى سنة 1230 وغيرهم
وفي الحقيقة إن اكثر الجهود في الكلية في كل عصر كانت موجهة إلى هذه الناحية من التعليم، ومعظم إنتاج رجالها كان في هذا العلم: علم الفقه وما إليه على مذهب مالك رحمه الله حتى ليصح القول إن أهل كل بلاد لم يخدموا مذهبهم بقدر ما خدمه أهل المغرب، وإن المذهب المالكي لم يصل إلى ما وصل إليه من الخصب والنماء والنضوج - حتى أن أتباع غيره من المذاهب ربما اضطروا إلى الأخذ عنه والاقتباس منه كما في بعض قوانين المحاكم الشرعية بمصر - إلا بفضل القرويين وما أبدوه من الهمة الصادقة في هذا السبيل.
(يتبع)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني(261/61)
رِسَالة الشعِر
في حادث العراق
جناية الأقدار
للأستاذ محمود غنيم
كلمة أوحى بها إلى حادث العراق الأليم على أثر ما قرأته من حملات بعض غير المنصفين من كتابنا المصريين وعلى الأخص في جريدة الأهرام
أمر به سَبَق القضاءُ الجاري ... ما حيلةُ الإِنسان في الأقدارِ
لا تأخذوا بالذنب غيرَ جُناتِه ... إن الصوابَ تلمُّسُ الأعذارِ
الرُّزءُ يذهب بالعقول جلاُله ... فحذَارِ من شَطَطِ المقالِ حذارِ
إن تسرفوا في الاتِّهام جَنَيْتُمُو ... أتتم على القُطر الشقيق الجارِ
هي أمةٌ وَزِرَ امرؤٌ من أهلها ... أفتثقلون الكلَّ بالأوزارِ؟
اللهُ يعلم أنَهم ما أضمروا ... للنيل غيرَ الحبِّ والإكبارِ
أوَ لم يُصُبْ (سعدٌ) بأيدي أمةٍ ... تَفدِْيه بالأسماع والأبصارِ
إن الذين أصاب (سيفاً) سهمُهُمْ ... مِنْ دمعهم غسلوه في أنهارِ
ولو استطاعوا لافتَدُوُه من الحِما ... مِ بألف سيفٍ منهمو بتَّارِ
قالوا: العراقُ ومصرُ قُلنا: بل هما ... مِصْرَانِ بل مصرٌ من الأمصارِ
هذا أبٌ أودى به نَزَقُ ابنه ... ماذا تقول لِصِبْيَةٍ أَغْرَارِ؟
ماذا تقولُ لنائبٍ عن رُشده ... يَجْني جنايتَه وليس بدارِ؟
ما حاد عن سَنَن العدالة آخذٌ ... لغريمه من نفسه بالثارِ
عُذْرٌ الشبيبة طيشُها والخِطْءُ ما ... فعلوه عن عَمْدٍ وعن إصْرَارِ
لا كان مخترع (الرصاص) فإنه ... باع المنونَ رخيصةَ الأسعارِ
بغدادُ عذراً للكنانة إن قست ... في عَتْبها والعَتَبُ للأحرارِ
أو ما نظرت إلى الكنانةِ أعيناَ ... تَهْمي وأفئدةً بغير قرارِ؟
إنا لنرخصُ في سبيل الوُدِّيا ... بغدادُ ما يغلو من الأعمارِ(261/62)
وهو الودادُ إذا عُراه توَثَّقَتْ ... أَضْفَى على الآثام كلَّ ستارِ
إحسانُ من عاديتَ كلُّ إساءةٍ ... وكبارُ من صافيتَ غيرُ كبارِ
هذا شهيد العلم عزَّزْنَا به ... مَنْ راح من شهدائنا الأبرارِ
خلِقَ الجهادُ لنا سواءٌ عندنا ... مَنْ بالحديد يموت أو بالنار
والعلمُ مختلِفُ الضحايا كم طوى ... من سابحٍ وقضى على طيَّارِ
يا رُبَّ مخترعٍ يروح ضحيةً ... للكشف عن سر من الأسرارِ
ومعلِّم قد راح يبذلُ نفسه ... بذلَ الكرام لناشئينَ صِغارِ
تمتَصُّ أفواهُ الشبيبة رُوحَهُ ... مثلَ امتصاص النحل للأزهارِ
(عزمي) إذا التأمتْ جراحُك في غدٍ ... وبرِئتِ فاشكُر للطيف الباري
أنت ابتدأتَ رسالةً فأَتمَّها ... واهزَأ بما تَلْقَى من الأخطارِ
املأْ مكانك في العراقِ وقل له ... لا يعرف الجبنَ الأشَمُّ الضاري
محمود غنيم(261/63)
أنت دير الهوى وشعري صلاة
للأستاذ محمود إسماعيل
(إلى غمامتي الشاردة. . . أهدي هذه الصلاة)
أَقبِلي كالصَّلاة رَقْرَقها النُّسْ ... كُ بمحرابِ عابدٍ مُتَبَتِّلْ
أقبلي آيةً من الله عُلْيا ... زَفَّها للفُنون وَحْيٌ مُنزَّلْ
أَقبلي فالجِراحُ ظمآى! وكأس اْلحُ ... بِّ ثكلَى! والشِّعرُ نايٌ معَّطل
أنْتِ لحنٌ على فمي عبقريٌ ... وأنا في حدائق الله بُلْبُلْ
أقبلي. . . قبل أَنْ تَمِيِلَ بنا الرِّي ... حُ! وَيهوى بنا الفناءُ المعجَّل
زَوْرقي في الوجود حَيرانُ شاكٍ ... مثْقَلٌ بالأَسى، شريدٌ مُضَلَّلْ
أَزعَجَتْهُ الرِّياحُ، واغتالَهُ اللي ... ل بجنُح من الدياجير مُسبَلْ
فَهْوَ في ثَوْرَةِ الخضَمِّ غريبٌ ... خلَطَ النَّوْحَ بالمنى وتنقَّلْ
أقبلي يا غرامَ رُوحِي فالشَّطُ (م) ... - بعيدٌ! والرَّوح باليأس مُثقَلْ
وَغمامُ الحياةِ أَعْشَى سواديَّ (م) ... ونورُ المنى بقلبي ترحَّلْ
أنا مَيْتٌ تغافَلَ الْقبرُ عنِّي ... وهْوَ إنْ يَدْرِ شِقْوتي ما تَمَهَّلْ
فاسكُبي لي السَّناَ وطوفي بنَعشي ... يُنْعش الرُّوحَ سِحْرُكِ المتَهَلِّلْ
أَنتِ نَبعي، وأيْكتيِ، وظِلالي ... وَخِمِيلي، وجَدْوَلي المُتَسَلْسلْ
أَنْتِ ليِ وَاحةٌ أفِيء إليهاَ ... وَهَجيرُ الأَسىَ بجنبَيَّ مُشْعَلْ
أَنتِ تَرْنيمَةَ الهدُوء بشِعري ... وأنا الشاعر الَحزينُ المبَلْبَلْ
أنتِ تَهويدَةُ الخيَال لاحزَا ... ني بأَطْيَافِ نورِها أَتَعَلَّلْ
أنتِ كأسِي وَكَرْمَتي وَمُدَامِي ... والطِّلاَ من يدَيْكِ سُكَرٌ مُحَلَّلْ
أنتِ فَجْرِي على الحقُولِ، حياةٌ ... وصَلاةٌ، وَنَشْوَةٌ، وَتَهَلُّلْ
أنتِ تَغْرِيدَةُ الخُلود بأَلْحا ... ني. . وشٍعْرُ الحَياةِ لَغْوٌ مهَلْهَلْ
أنتِ طَيفُ الغُيْوب رَفرَفَ بالرَّح ... مةَ والطهْر وَاْلهُدَى والتَّبَتلْ
أنتِ لي توبَةٌ إذا زَلَّ عُمرِي ... وصَحا الإثْمُ في دمي وتَمَلْمَلْ
أنتِ لي رَحْمَةٌ بَراها شُعاعٌ ... هَلَّ من أعْيُن السمًّا وَتَنزَّلْ(261/64)
أنتِ لي زَهْرَةٌ عَلَى شاَطئ الأَحْ ... لام تُرْوَى بمُهْجَتي وتُظَلَّلْ
أنتِ شِعْرَ الانساَم وَسَوْسَتِ الفُجُّ ... رَ، وذابَتْ عَلىَ حَفِيف السُّنْبل
أنْتِ سِحْرُ الغُرُوُب، بل مَوْجَةُ الإِش ... راقِ عن سِحْرِهاَ جَنَاني يُسْألْ
أنتِ صَفوُ الظَّلالِ تَسْبَحُ في النه ... ر وَتلهوُ عَلَى ضفاف الجدْوَلْ
أنتِ عيدُ الأطْيَار فوْق الروابي ... أقبِلي! فالرَّبيعُ للطير أَقْبَلْ. . .
أنتِ هَولْي وَحَيْرَتي وجنوني ... يومَ للحُسنِ زهوةٌ وَتدَللْ
أنتِ دَيْرُ الهوَى وَشِعْرِي صَلاةٌ ... لكِ طابت ضَراعَتِي والتذلّلْ
أنتِ نَبْعٌ من الَحْناَنِ، عليه ... أطرَقَ الفَنُّ ضاَرعاً يتوسَّلْ
أعيُنٌ للخشوع تُغري، فَخَلَّي ... هاعلى لوْعَتي تُغَضُّ وتُسْبَلْ
واتُرِكيها وسِحْرَهَا يتمادى ... عَلَّماَ (بابلٌ) بنجواه تُشغَلْ
هو فنِّي، ومُلْهمِي. . . فابعثيِهِ ... فهْو من زَهْوِه شَحيحٌ مُبَخَّلْ
يَتَغَافى عل الجُفون، فإن رُحْ ... تُ أناجيه لَجَّ في الكَرى وتَوَغَّل
وانتشى من سَنَاك وانساب في لْح ... ظِكِ يحسو الضّياََء منه وينْهلْ
وَانْبرَى من جُفُونك الْبِيض كالأق ... دار يُرْدِى كما يشاءُ ويقتُلْ
لَيْتَ لي من صراعِهِ كلَّ يومٍ ... غزوةً في سكون قلبي تجَلْجِلْ
وَلَكِ الصوتُ ناغما عادَهُ الشَّوْ ... قُ فأَضحْى حَنينُهُ يترسَّلْ
نَبَراتٌ كأنَّهَا شَجَنُ الأَو ... تارِ في عودِ عَاشِقٍ مُتَرَحِّلْ
أو حَفيفُ الأَذَانِ في مِسْمع الفَجْ ... ر نَدِيُّ الصَّدَى، شِذَيُّ، المنْهلْ
أو غِنَاءٌ الظِّلالِ في خَاطر الغُدْ ... ر انِ شعْرٌ في الصَّمْتِ عانٍ مكَبلْ
أو نَشيدٌ أَذابَهُ الأفُقُ النَّا ... ئي، وَغَنَّاهُ خاطِري المُتأمِّلْ!
ولكِ البَسْمَةُ الوديعةُ. . طُهْرٌ ... وصفاءٌ، وصَبْوَةٌ، وتعزُّلْ
لذةُ الهمْسِ في دَمِي تَنقُلُ الرو ... حَ لِوَادٍ بِصَفْو عُمْري مُظَلَّلْ
فاسكبيها على جَناني، وخَلِّى ... سِحرَها في مشاعري يتَهدَّلْ!
ولكِ الهدْأَةُ التي تغمُرُ اْلحِ_سَّ فيرْوَي من السَّكون وَيَثْمَلْ
وَاحةٌ للْجمال، قَلْبِيَ فيها ... من أَسى الدهرِ ناسِكٌ مُتعزِّلْ(261/65)
علمتني ظلالُها كيف أَنْسي ... صَخَبَ الهم وهو عَصْفٌ مُزَلزِلْ
وَلكِ العِفَّةُ التي عاد منها ... (مريَميُّ) السُّتُور فوقَكِ مُسْبَلْ
فتعاَليْ نَغيبُ عن ضَجَّة الدُّن ... يا، وَنمْضي عن الوجود ونرْحَلْ
وَإلَى عُشْنا الجميلِ. . . فَفيهِ ... هَزَجٌ للْهوَى، وظِلٌّ، وسَلْسَلْ
وعَصافيرُ لْلمُنى تتَغَنَّى ... بالتَّرانيم بين عُشْبٍ وَجدْوَلْ
وَغرامٌ مُقَدَّسٌ، كاد يَضْوِي ... نوُرُهُ العَذْبُ في سَمانا وَيشْعَلْ
وَوَفاءُ يكاد يَسْطَعُ للدُّن ... يا بِشَرْعٍ إلى المحبِّينَ مُرْسَلْ
عادَ لْلعُشِّ كلُّ طَيْرٍ، ولم يَب ... قَ سِوى طائرٍ شَريد مخَبَّلْ. .
هو قَلْبي الذي تناسَيتِ بَلْوَا ... هُ فأَضْحَى على الجِراح يُوَلْوِلْ!
أَقْبِلي. . قبلَ أن تميلَ به الري ... حُ، ويَهوِى به الفَنَاءُ المُعَجَّلْ
(أَقْبِلي. . . فالجراحُ ظمأى! وَكَأسُ الْ ... حُبِّ ثَكْلىَ! والشِّعْرُ نايٌ مُعَطَّلْ!)
(المجمع اللغوي الملكي بمصر)
محمود حسن إسماعيل
-(261/66)
البَريدُ الأدَبيّ
مؤتمر دولي للقوانين ودعوة الأزهر للاشتراك فيه
تلقى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر كتاباً من جامعة جوهانبرج يقول إن فريقاً من علماء القانون ومن أعضاء مؤتمر القوانين الذي عقد في السنة الماضية في هولندا واشترك فيه الأزهر فكروا في إقامة مؤتمر عالمي للقوانين يشترك فيه جميع الهيئات والجامعات التي فيها دراسات قانونية ويشترك فيه كذلك كبار علماء القانون والتشريع في العالم كله
ثم جاء في كتاب الجامعة أنها ترجو أن يستطيع الأزهر المساهمة في العمل لنجاح هذا المؤتمر بإبداء الملاحظات والاقتراحات التي يرى إبداءها على فكرته وموضوعاته وأن يساهم بقسط من المعاونة الأدبية فيه
ثم قال إن أبحاث المؤتمر ستشمل جميع القوانين والتشريعات والمبادئ التي تؤدي إلى تقدم البشرية وتقارب قوانينها ومن التشريعات التي تضمنت قسطاً كبيراً من المبادئ القانونية السامية في الشريعة الإسلامية
أندريه موردا في الخالدين
من أنباء باريس الأخيرة أن الكاتب الفرنسي أندريه موروا انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية في المقعد الذي خلا بوفاة (رينيه دوميك) رئيس تحرير مجلة العالمين والذي كان سكرتيراً دائما للأكاديمية
وأندريه موردا ابن صاحب مصانع كبرى للنسيج في مدينة (روان) وهو اليوم يتولاها أيضا فتدور المصانع على خير وجه يدر المال، وتدور المطابع في باريس بكتبه فتدر المال والمجد
لفت اندريه موروا الأنظار بقصة (صمت الكولونيل برمبل) إذ نجد فيها خلاصة تجاربه واتصاله بالإنكليز في أثناء الحرب عندما كان ضابط اتصال نظرا لتضلعه في اللغة الإنكليزية، هذا التضلع الذي ما لبث أن ظهر أثره في كل كتبه بعد ذلك إذ جعل أكثرها لتاريخ حياة أبطال الإنكليز في الأدب والسياسة مثل بيرون وشللي ودزرائبلي كما كتب حياة تورجنيف والماريشال ليوتي، فضلاً عن (محاورات في القيادة) و (صور إنكليزية) و(261/67)
(مطالعات في ديكنز) ثم محاظراته في جامعة اكسفورد التي لفتت إليه جميع الأنظار.
هذا وقصص موروا من أروج القصص الأدبية والجمهور يتهافت عليها في كافة أنحاء المعمورة. ومن خير ما وصفه به صديقه أندريه بيلي قوله: إنه الذكاء، وطيبة القلب، والحساسية، والاستعداد الدائم للفهم والعطف. . . ليس فيه من التعالي أو التغالي شيء. وكان نجاحه العظيم السريع جاء مفاجئاً بحيث لم يتبينه هو ذاته ولم يقدره قدره!)
وأندريه موروا صديق عزيز لمصر، زارها أكثر من مرة ويحمل لها كل مودة، وفي نيته أن يخصص كتاباً من كتبه.
العربية الفصحى في تدريس المواد
أذاعت وزارة المعارف على حضرات المراقبين والمفتشين ونظار المدارس الكتاب التالي: -
كثرت الشكوى من ضعف التلاميذ في اللغة العربية الصحيحة في تدريس المواد، ولهذا توجه وزارة المعارف نظر حضرات المفتشين ونظار المدارس إلى مراقبة تدريس المواد التي تلقى باللغة العربية سواء أكانت علمية أم أدبية، ووجوب إلقائها بلغة عربية سليمة، والبعد عن استعمال العامية حتى تتمكن في نفوس التلاميذ ملكة اللغة الفصحى ويسهل عليهم الحديث والكتابة بها. وفي مكنة الأساتذة أن يبسطوا أسلوب اللغة الفصحى حتى تكون في متناول جميع التلاميذ على اختلاف أعمارهم وثقافتهم
الثقافة الإسلامية في المدارس الثانوية
يهتم وزارة المعارف بتعزيز برامج التعليم في المدارس الثانوية ببرنامج مفصل عن الثقافة الإسلامية، يدرس في السنتين الرابعة والخامسة، وقد عهد معالي الوزير إلى لجنة مؤلفة من بعض مفتشي اللغة العربية بالوزارة وكبار رجال التعليم وضع هذا البرنامج بحيث يمكن البدء بتنفيذ في السنة الدراسية القادمة
وسيشمل هذا البرنامج بحوثاً مهمة تدور حول التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره، والبطولة الإسلامية والسيرة المحمدية الشريفة
حول نظرية التطور(261/68)
عرض الأستاذ علي الطنطاوي في نقده لشعر الأستاذ العقاد في الجيبون لنظرية التطور وذكر أنها لم يؤيدها العلم، وكنا نود لو يرشدنا الأستاذ الفاضل إلى عالم يحترم علمه يدحض هذه النظرية التي غزت جميع المعارف البشرية وبها سهل تعليل كل نظم الحياة. أما إذا كان اعتماد الأستاذ على ما ينشر في الصحف الرخيصة من أخبار مشعوذي العلم الذين يعارضون النظرية ظناً منهم أنها تعارض الدين، فهذا تملق رخيص لعقلية جمهور القراء لأن خصومها لا يعدون بعض جهلة القساوسة الذين يرون فيها الخطر الداهم على مذاهبهم، في حين أن الطبقة المستنيرة من رجال الدين في إنجلترا يرون فيها ما يؤيد دعواهم الدينية، لذلك نرى المطران انج أبرز شخصية في الكنيسة الإنجليزية يعترف بها، ويعظ بها في كنيسته، والنظرية ليست حديثة كما ذكر الأستاذ طنطاوي فقد بصر بها فلاسفة الإغريق والعرب حتى جاء دارون وجمع شتات الأدلة العلمية ونشر كتابه أصل الأنواع 1858، فكان أول بحث مؤيد بالأسانيد العلمية في هذا الموضوع تلاه أبحاث كثيرة من علماء آخرين أيدوا وجهة نظر دارون، مثل هكسلي وولاس وهيكل والثير ارثر كيث. ومن المفيد أن أذكر أن ابن خلدون كان مغرقاً في إيمانه بالتطور فقد قال إن الجماد يتحول إلى نبات والنبات إلى حيوان والحيوان إلى إنسان
أما اعتراض الأستاذ على معالجة فنون العلم شعراً فهو اعتراض ليس له وجاهة لأن نظرية التطور علم وفلسفة، فهي رغم حقائقها العلمية لها جانب فلسفي يبعث على التأمل، وقد عاش في القرن الماضي بإنجلترا شاعر لا يحضرني اسمه الآن أطلق عليه شاعر التطور لأنه عالج فلسفة التطور شعراً. وقد نظم المرحوم الزهاوي شعرا عن التطور أعجب به كل من قرأه
والدليل على أن لها فلسفة أن سبنسر بنى فلسفته على نظريات التطور فأطلق عليه فيلسوف التطور. وما يقال عن نظرية التطور يقال عن كل علم من أن له جانباً فلسفياً، وعلى ذلك لا يمنع أن يعالج الدكتور ناجي نواحي الطب شعراً. وقد قرأت للعلامة ماكنزي كتاباً في الفسيولوجيا ختمه ببحث فلسفي بديع عن الموت لو وضع في قوالب الشعر لكان تحفة فنية رائعة. وقد نشرت مجلة طبية فرنسية بباريس تدعى فيلسفون منذ أعوام شعراً لطائفة من أطباء فرنسا عن تأملاتهم في الحياة من الوجهة العلمية يعد بحق نوعاً جديداً في(261/69)
الأدب الفرنسي. وقس على ذلك المهندس والرياضي، ما دام وراء كل علم جانب فلسفي للتأمل. وبديهي أنني لا أقصد أن توضع حقائق العلم في قوالب الشعر كما وضعت قواعد النحو في ألفيه ابن مالك، لأن هذا ليس من الشعر في شيء
كامل نصيف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني بلندن
الحلاج
جاء في (قصة الكلمة المترجمة) في الجزء الماضي: (لكنه قاله في (الرسالة) قبل ذلك: (وكذلك قوله الكل (أي قول ابن القارح) إدخاله الألف واللام مكروه) (قاله) صوابه قال - أعني أبا العلاء - وقولي ابن القارح خطأ، صوابه الحلاج. وقد وردت (الكل) في أبيات له رويت من قبل في (رسالة الغفران) قال الحلاج:
ياسرَّ سرٍ يدق حتى ... يجلّ عن وصف كل حيْ
وظاهرا باطنا تبدي ... من كل شيء لكل شيْ
يا جملة الكل لستَ غيري ... فما اعتذاري إذن إليْ
قال أبو العلاء: (قولهإلىْ) عاهة في الأبيات، إن قيْدَ فإلتقييه
لمثل هذا الوزن لا يجوز عند بعض الناس، وأن كَسَر الياء
من (إلىْ) فذلك رديء قبيح. وأصحاب العربية مجمعون على
قراءة حمزة: (وأنت بمصرخيِّ) بكسر الياء، وقد رُوى أن أبا
عمرو بن العلاء سئل عن ذلك فقال إنه لحسن تارة إلى فوق
وتارة إلى أسفل، يعني فتح الياء في مصرخي وكسرها،
والذين نقلوا هذه الحكاية يحتجون بها لحمزة ويذهبون إلى أن
أبا عمرو أجاز الكسر لالتقاء الساكنين، وان صحت الحكاية(261/70)
عنه فما قالها إلا متهزئا على معنى العكس، وهذا كما يقول
الرجل لولده إذا رآه فعل فعلا قبيحاً: ما أحسن هذا!: وهو يريد
ضد الحسن)
الإسكندرية
(* * *)
سؤال إلى الأستاذ سيد قطب
تقول في العدد (259) من الرسالة، إن العقاد (يعني بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء، قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهنية، ويعني بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة)
1 - فهل هناك حياة نابضة في ضمائر الأشياء غير الحياة الظاهرة على سطوحها؟ أو ليست الحياة واحدة في الضمائر والسطوح، وفي الأفئدة والقلوب، وفي الجوارح والأعضاء؟ وإذا كان للحي الواحد حياتان كما تقول، فما حدّ كل واحدة منهما، وما هو وصفها الذي تختلف به عن أختها؟
2 - وهل الحياة الظاهرة على سطوح الأشياء - على حد تعبيرك أنت - غير أشكال الحياة وصورها؟ وما هو الفرق بينهما وكيف تكون العناية بهذه قبل تلك؟
3 - وما هو الفرق (العلمي) بين الخوالج النفسية والصور الذهنية؟ وهل تعني بالصور الذهنية المحاكمات العقلية أم تعني بها ما يسمى بتداعي الأفكار، والخيال المرجع، في علم النفس؟ وما معنى قولك: أدب ذهن، وأدب نفس؟
4 - وهل تريد من قولك أن العقاد يعني بهذا قبل عنايته بالأسلوب والطلاوة - أن من كانت له هذه العناية بالحياة النابضة، والخوالج النفسية، كان شاعراً ولو جاء بأسلوب ركيك، ولغة مرذولة، وعيّ فاضح؟(261/71)
هذا ما نحب أن تبينه لنا، فما فهمنا والله ما تريد منه. وإن في كل فقرة لك لمجالاً لمثل هذه الأسئلة حين تتكلم فلا نفهم عنك، وتأتي بألفاظ لا نعرف لها مدلولاً، وأنت بين شيئين: إما أنك تذهب بنفسك علواً حتى ما يتعلق بك قارئ، وإما أنك لا تدري بالضبط) معاني ما تقول. . .
(دمشق)
ع. . .
بين الرافعي والعقاد
جاء في بحث الأستاذ سيد قطب عن العقاد والرافعي في (الرسالة رقم 260) ما اعتبره الأستاذ تناقضاً بين تلخيص الرافعي لرأي الفيلسوف شوبنهور في الجمال وبين رأي الفيلسوف الحقيقي
وبرجوع القارئ إلى ذلك البحث وتدبِّره لا يذهب مع الكاتب فيما ذهب إليه من وجود ذلك التناقض. ولعل الأستاذ قطب يقرنا على ذلك
فقد قال شوبنهور ما نصّه: (إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة) وقال الرافعي فيما اعتقده رأياً للفيلسوف (إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت عن عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة)، ثم قال (وإنها (تفرحنا) كلما ابتعدت عن عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة)
فإنه واضح من مراجعة الكلام بأنه لا تناقض بين قولي الرافعي الأول والثاني فهما رأي واحد لا تناقض في مضمونه. ولعل الأستاذ قطب قد اعتبر عكس الألفاظ في شقي القول أساساً للتناقض وقد غاب عن خاطره أن (تحزننا) عكس (تفرحنا).
ثم نحن لا نجد (مسخا) لرأي الفيلسوف لأن الرافعي لا يناقض في أي من قوليه رأي الفيلسوف (وهما ينطبقان عليه تمام الانطباق)
ونحن إن أخذنا على الأستاذ قطب عدم تدبره في الحكم في هذه الحالة فنحن نأخذ على الأستاذ الرافعي، رحمه الله، عدم وثوقه بترجمة الأستاذ العقاد مع أنه انتهى في تلخيص رأي الفيلسوف إلى ما ترجمه العقاد(261/72)
وليسمح لنا القارئ إن نحن طالبنا الكاتبين عن أدب الرافعي والعقاد ألا يتخذوا من عبارات وألفاظ مستهجنة (جاءت معبرة عن حالة عاطفية) أساساً يدعمون به حكمهم على كل من الأديبين الكبيرين. ونحن ندعوهم إلى بحث شخصيتهما الأدبية في مخلفاتهم التي تركاها وهم أكثر ما يكونان سكونا وهدوءاً فيجيء حكمهم نزيهاً معتبراً في نظر القراء ويسلمون من كثير من المهاترات التي تصيبهم بين الحين والحين
فلسطين
علي كمال(261/73)
الكُتُبْ
إلهام
قصة مصرية
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
هذه قصة دفعها إليْ صديق من أصدقاء المؤلف، ورجاني أن أقرأها وأرى رأيي فيها؛ وما سهلٌ على كاتب من الكتاب أن يتحدث عن كتاب هو مرجُوٌّ أن يتحدث عنه ويري رأيه فيه، فإن ذلك خليق أن يصبغ الرأي بلون من ألوان الهوى تختفي وراءه بعض الحقيقة؛ ولكني مع ذلك سأحاول أن أكتب، وسأحرص في هذه المحاولة أن أكون ناقداً وحسب. . .؛ ولن يفوت القارئ بعد ما قدّمتُ أن يعرف الرأي في هذا الكتاب على حقيقته، وأن يستخلصه مما قد يكون عالقاً به مما تزيفه النفس على صاحبها لتخدعه عن رأيه. . .
وبعد فهذه قصة مصرية ألفها مؤلفها منذ إحدى عشرة سنة، ولم ينشرها إلا منذ أشهر، وكان مؤلفها يوم ألفها شاباً في الثالثة والعشرين؛ وما بُّد لمن يؤلف مثل هذه القصة في مثل هذه السن أن ينظر إلى ما يحيط به؛ وهذا شئ لا ينكره المؤلف ولا يعترف به كل الاعتراف؛ فهو يقول في تقدمة هذه القصة:
(أعددت قصة إلهام للطبع في سنة 1927. . . . . .؛ ثم أرغمني كثير من ظروف الحياة على أن أهمل أمرها عشر سنوات، وفي هذه السنة أعدت قراءتها، وكنت في أثناء تلك القراءة كمن يسير بين قبور عزيزة تضم رفاتاً مقدساً وذكريات تثير الأشجان
ومع أن هذه القصة لا تصور حياة المؤلف إلا أن فيها بعضاً من نفسه وتجاريبه ومشاهداته. . .)
أما الغاية التي يقصد إليها المؤلف من قصته فإنه يقول عنها: (. . . وسترى أنها قصة مصرية لا تدور حول غاية معينة من أنواع الإصلاح، يغلب عليها ذلك النوع التصويري الذي يصور المناظر والشخصيات والميول والخواطر، لا سيما ما ينساب منها أحياناً في الرأس بلا ترتيب. . . .)
وهذه القول الذي يقوله هو حق إلى حد ما؛ فهو لم ينشئها ناظراً إلى غاية معينة من غايات(261/74)
الإصلاح وإن كان فيها كثير من الدعوة إلى الإصلاح مبثوث في تضاعيف القصة وفي أثناء الفصول بلا ترتيب ولا نظام، وتجد أكثره فيما جعل من الحوار على ألسنة أبطال القصة؛ بل لقد كان حرصه على أن يثبت رأيه ودعوته إلى الإصلاح داعياً له إلى أن يقحم كثيراً من القول في أساليب المحاورة لغير وقته، فكانت بعض المحاورات تطول أحياناً طولاً يدعو إلى الملالة ويبعد بموضوع المحاورة عن أصله وداعيه. والمحاورة كما يعرف كل من عالج القصة أو درس فنها - ليست موضوعاً ملائماً للدعوة إلى الإصلاح وبيان أوجه الرأي فيه، ولكنها وسيلة من البيان في أوجز عبارة تصل بين رأي ورأي أو حادثة وحادثة مما يفيض به موضوع القصة؛ ولن يكون الحوار أبداً وسيلة إلى بث فكرة أو دعوة إلى إصلاح إلا بقدر غير ملحوظ ولا مُدرَكْ في جملته. إنما يكون ذلك في الحادثة لا في الحديث، وفيما يُحكى لا فيما ينطق به. . .
على أننا وقد وافقنا المؤلف على أنه لم يكن له غاية من قصته في الدعوة إلى نوع من الإصلاح، نقول إن (ذلك النوع التصويري الذي يصور المناظر الشخصيات والميول والخواطر) هو في نفسه غاية من الغايات الرفيعة يقصد إليها كثير من أهل الفن؛ وقد بلغ المؤلف في ذلك وأجاد وانتهى إلى غاية. ولقد كنت أقرأ بعض ما كتب المؤلف من الفصول التصويرية في هذه القصة فأشعر بكثير من اللذة والإعجاب؛ وأجمل ما قرأت من هذه الفصول وصفه في الفصل الأول عيد (شم النسيم) كما يحتفل به كثير من طوائف المصريين في الريف والحضر؛ وفي الفصل الرابع وصف حياة الشاب العزب تترامى الآمال حوله في الزواج والمصاهرة، وتعترك حوله أماني الأهل والأصدقاء؛ وفصول أخرى لا تقل عن هذين الفصلين جمالاً وروعة
أما عناية المؤلف بالفن ومقدار توفيقه فيه، فما أريد أن أسهب في الحديث عنه؛ فإن من الظلم أن تكلف فتى في الثالثة والعشرين أن يكون له من السيطرة على نفسه وعلى وجدانه ما يساعده على حبك قصة طويلة كهذه القصة على ما يقتضي فن الرواية على وجهه؛ إذ كان كل هم الشباب في مثل هذه السن أن يحشد كل خواطره وأماني نفسه ومصورات خياله فيما يكتب؛ فأنه ليصعب عليه أن يغفل معنى أو فكرة أو حادثة تلُحّ على نفسه؛ ومن هنا جاءت قصته - كما قرأتها - وكأنها في نفسي قصتان لا رابطة بينهما إلا فيما تبدأ(261/75)
القصة وفيما تنتهي؛ أما في العرض وفي تسلسل الرواية فإن القارئ يكاد يحسّ في أكثر من موضع أنه انتقل من قصة إلى قصة فلا يشعر أنه فيما كان فيه إلا حين يوشك أن يبلغ نهاية الفصل. وذلك شيء حقيق بالنظر والتدبر عن من يريد أن يكون قاصّاً موفقاً؛ فإن أول شرط القصة هي أن تتسلسل بحوادثها تحت عيني القارئ حتى تبلغ بذلك أن تنقله من جو إلى جو فيسير في قراءتها وكأنه يعيش بين أبطالها وعلى مقربة من زمانها ومكانها؛ وما أنكر أن المؤلف قد بلغ إلى ذلك في بعض الفصول ولكنه لم يبلغ إليه في جملة القصة؛ على أن هذا التنافر في موضوع الرواية لا يستمر إلى نهايتها؛ فما هو إلا أن ينتهي القارئ إلى حد ما ثم تسير القصة إلى خاتمتها طبيعية لا تكلف فيها ولا اصطناع، حتى تنتهي إلى نهايتها في حيلة موفقة
على أن هذه القصة - وهي مصرية المغزى والموضوع في جملتها - تبتعد كثيراً في بعض فصولها وحوادثها عن المألوف من عاداتنا وما نعرف، فهي لا تصوّر صورة مصرية عامة يراها كل أحد؛ ولكنها صورة خاصة قامت في نفس كاتبها في يوم ما فرآها على التعميم حقيقة بالتسجيل في قصة يريد أن يجعل بها صورة لبعض ما في مصر؛ ولقد كنت أريد أن ألخص موضوعها في هذا الفصل لأعرضها عرضاً جلياً لمن يريد أن يعرف، ولكني أوثر أن يكون تعريفي بها من بعيد حتى لا أقطع الطريق على من يريد أن يقرأها بقلم مؤلفها ليعرفها العرفان الحق
أما أسلوب المؤلف في الأداء فهو الأسلوب السهل الطبيعي، لا تكلف فيه ولا صناعة؛ وفيه إلى ذلك روح وعاطفة وقلب نابض؛ تقرؤه فتعرف نفس كاتبه بما تجيش به من أماني والآم تراها مصوَّرة أدق تصوير وأبرعه، فكأن وراء كل عبارة قلباً ينبض، وكأن وراء الظلال من كل فصل نفسية سامية تؤمن بالمثل الأعلى إيمان الرأي والعقيدة، وتقف جهدها على تحقيق المعنى الإنساني العام في كل نفس وفي كل إنسان؛ فهو أسلوب قصة، وهو صرخات نفس حانقة، وهو غيظ حبيس يتفجر نثراً وكتابة، وهو أماني وأحلام، وهموم وأحزان؛ وهو غبطة ورضا، وسخط وألم. وإن فيه لمعاني جديدة وفكراً جديداً. . .
ولكن ذلك كله لا يحمل الناقد المنصف على تجاهل ما في أسلوب المؤلف من غلطات في اللغة والنحو وفي استعمال الكلمات كان حرياً أن يتنزه عنها؛ ولو أنها غلطات تعد لما كان(261/76)
من حقي أن أشير إليها هذه الإشارة، ولكنها غلطات عامة ومتكررة بحيث لا تكاد تخلو صفحة من غلطة. . . وإني وقد قرأت للمؤلف وتذوقت فنه وأدبه لأجد من الخيانة أن أغض النظر عن هذه الغلطات؛ فإن كاتباً مثل مؤلف هذه القصة حقيق بأن يكون في غد من أصحاب القلم والفكر في هذا البلد لو كان أحرص من ذلك على لغته وعبارته؛ وإن ذلك الأمل في مستقبله الأدبي ليحملني على أن ألفته إلى ذلك ليستكمل أدواته ويمهد لمستقبله
أما بعد فإنها قصة مصرية وما تزال القصة الطويلة في العربية شيئاً نحاوله فلم نبلغ فيه حد الكمال أو ما يقرب منه؛ وإنه لفن رفيع يستحق العناية من أدبائنا ليسدوا نقص العربية في هذا الباب؛ فما يغيب عني وقد ذكرت ذلك أن أثني على المؤلف الفاضل لهذه المحاولة؛ وما يغيب عني مع كل أولئك أنها قصة ألفها مؤلفها منذ إحدى عشرة سنة وما يزال يومئذ شاباً حدثاً يخطو خطاه الأولى إلى هذا المعترك الأدبي؛ فإذا كنت اليوم أرى فيها ما يستحق الملاحظة والتعليق، فإنها ملاحظات على الأديب الناشئ نقولا يوسف الذي ألف قصة (إلهام) سنة 1927 وهو في الثالثة والعشرين من عمره؛ وهو عندي غير الأديب الفاضل (الأستاذ) نقولا يوسف في سنة 1938، الذي عرفه القراء فيما أنشأ بعد ذلك من مؤلفات لها خطر ومقدار وهو مع ذلك غير الأستاذ نقولا يوسف الذي نرجو أن يكون في غد. . .
(س)(261/77)
العدد 262 - بتاريخ: 11 - 07 - 1938(/)
أسباب ما نعمل
للأستاذ عباس محمود العقاد
السيدة الأرمنية العجوز التي تسكن معنا في الدور الأرضي من المنزل أزمعت النقل إلى منزل آخر على مقربة من الحي، وهي واقفة على الباب تراقب الحمالين وهم ينقلون الأثاث ويرتبونه. ولابد من كلمة تحية ومجاملة في الطريق. فوقفت وسألتها:
إلى أين يا سيدة؟ وما الذي أغضبك من منزلنا؟
قالت: قسمة!
قلت: ألعلك وجدت مسكناً خيراً منه في هذا القيظ؟
قالت: لا. بل هي آخر قسمتنا فيه، وإنما هي كما تقولون أعتاب وأيام!
(سبب امرأة)
نعم. فقد تعودنا حين نسمع أمثال هذه الأسباب التي لا تعليل فيها أن نبتسم ونصرف الحديث قائلين: سبب امرأة، أو هو سبب من الأسباب التي لا يقنع بها غير النساء
والمتفق عليه بيننا معشر الرجال أن أسباب النساء هي الأسباب التي لا تعطيك تفسيراً ولا تزيدك علماً بعلة ما يصنعن وما يتركن، فإذا سألت امرأة: لم صنعت هذا؟ أو لم لم تصنعيه؟ فأغلب ما يكون الجواب: هكذا! أو هل تراني عارفة؟
هذا أو تعطيك جوابين نقيضين لتعليل العمل الواحد. فقد رووا أن رجلا صحب زوجته إلى متجر الملابس لينتقيا حلة تعجبها. فاختار لها لونا من الحرير عرضه عليها، فصاحت به: ما هذا؟ إن جميع الناس يلبسون منه. . . واختار لها لوناً آخر فصاحت به الصيحة الأولى: ما هذا؟ إني ما رأيت قط أحداً يلبسه!
فكان السببان النقيضان عندها صالحين لتعليل العمل الواحد وهو الإحجام عن شراء الحلة المعروضة عليها
لكن جهل الأسباب في الواقع غير مقصور على النساء، وكذلك هذا النمط العجيب من التسبيب
سعيد وإبراهيم وإسماعيل ثلاثة اخوة صغار يلعبون أمام المنزل في معظم الأحيان، أكبرهم في التاسعة وأصغرهم في نحو الخامسة؛ فهو لا يذهب إلى المدرسة أو لا يريد أن يذهب(262/1)
إليها.
لقيته يوماً يلعب مع غير أخوته فسألته:
ماذا تصنع يا إسماعيل؟
قال: لا أصنع شيئاً.
قلت: لكني أراك تلعب، فأين ذهب أخواك؟
قال: إلى المدرسة؟
قلت: ولم لم تذهب أنت معهما؟
قال: هكذا!!
قلت: هكذا؟ هكذا كيف؟
فأعادها مرة أخرى، وأدركه طفل أكبر منه بالجواب، فقال: إنه صغير! وهو على كل حال جواب يحسن السكوت عليه.
قد يقال: وأسباب الأطفال أيضاً هي أسباب النساء. .!
لكن الواقع أن جهل الأسباب على هذا النمط غير مقصور على النساء والأطفال، وأن أناساً كثيرين بعضهم متعلمون وبعضهم غير متعلمين يجهلون أسباب ما يعملون وأسباب مالا يعملون، وتسألهم عن أمر من الأمور التي تقوم عليها الحياة وتتصل بها الأرزاق، فلا يعطونك سبباً، أو يعطونك سبباً قلما يغنيك عن التعليل.
أعرف أسرة من الأذكياء المتعلمين ينتقلون من منزل إلى منزل كل ستة شهور أو كل سنة على أبعد أجل، ويحيل أحدهم على الآخر في بيان أسباب الانتقال، فهذا المنزل كرهه فلان، وهذا المنزل انتقاه فلان، وآخر ما يقال في تهوين هذه المشقة وتهوين ما يتبعها من خسارة ونفقة:
وما الفرق بين بيت مستأجر وبيت مملوك إن كان الإنسان لا يتنقل بين البيوت؟
ومن الواضح أن الإنسان لا يزعج نفسه وأسرته بالانتقال وتحطيم بعض الأثاث وتجديد بعضه على حسب تنظيم المسكن الجديد لغير شيء إلا أن يجد الفرق بين البيت المستأجر والبيت المملوك، أو أن ينفس على شخص واحد أن يتقاضاه الأجر زمناً طويلا فيفرقه بين أشخاص متعددين.(262/2)
فلا بد من سبب ولا بد من باعث، ولكننا نحن الآدميين جميعاً نعمل ولا نكلف عقولنا تبيين أسبابها، وإن كنا نبالغ في سؤال الآخرين عن الأسباب
وقد يسهل على الأكثرين أن يعرفوا أسباب ما يعملون إذا استقصوا هذه الأسباب. أما الذي يصعب على الأكثرين فهو عرفانهم أسباب مالا يعملون، كأنما يحسبون أن الإنسان يترك جميع الأعمال لغير سبب، أو أنه لا يحتاج إلى الأسباب إلا عندما يعمل شيئاً أو يشرع في عمل شيء، فأما أن يكف عن العمل أو عن الشروع فيه فذلك طبيعة لا تحتاج إلى سؤال
هذه حالة إذا أفرطت من إحدى جهتيها انتهت إلى الإباحية التي تتساوى عندها جميع البواعث والدواعي، أو إلى الإباحية التي وصفها ابن المعتز في قوله:
قليل هموم القلب إلا للذة ... ينعّم نفسا آذنت بالتنقل
يعب ويسقي أو يسقى مدامة ... كمثل سراج لاح في الليل مشعل
ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا من يعزلون ومن بلى
ولا صائحا كالعير في يوم لذة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي
وهي حالة قريبة مما نراه من قلة المبالاة أو قلة التمحيص أو قلة (التدقيق) على حد تعبير أبناء البلد - عند أناس كثيرين في العصر الحاضر يعملون وينظرون إلى غيرهم يعمل ثم لا يسألون ولا يفكرون. . . وهذا إن كانوا يعملون وينظرون.
أما إذا أفرطت هذه الحالة من جهتها الأخرى فنهايتها إلى الوسواس والمراجعة في كل شيء والمحاسبة على أهون الأمور، والتردد بين الخواطر حتى لا إقدام ولا إحجام ولا فائدة من الإقدام والأحجام.
إنما الحد القوام بين هذا وذاك أن يكون المرء قادرا على تعليل عمله والنفاذ إلى باطن مشيئته، لأنه متى قدر على ذلك استولى على زمام نفسه، وقبض على سكان سفينته في زعازع هذه الحياة. فمن عرف لماذا يعمل عرف كيف يجتنب العمل إذا وجب عليه اجتنابه
وعرف كيف يقنع به غيره إذا حسن عنده إقناعه
وعرف كيف يصنع على مثال أجمل وأكمل إذا لاحظ تقصيرا فيه
وكذلك من عرف لماذا لا يعمل شيئا من الأشياء، فانه خليق أن يروض نفسه على عمله متى عرف سهولة المانع أو عرف ما فيه من مؤاخذة ونقيصة. وخليق أن يفهم دواعي(262/3)
الأحجام عنده فيعالجها بما يصلحها أو يقربها إلى الصلاح
بعض علماء النفس ينصحون طلاب الرياضة النفسية بتسجيل المذكرات اليومية، لإثبات أعمالهم وقياس الفارق بين أمسهم ويومهم
والذي نراه أن تسجيل المذكرات اليومية لا يجدي جدواه ما لم ينته إلى مساءلة النفس عن بواعثها ودواعيها. فليجرب من شاء أن يختار حادثة من حوادث الحياة كل يوم يسأل عن سببها ويستقصي دخائلها ويصمد على ذلك شهرا واحدا ثم ينظر في نتيجة هذه الرياضة، فإنه واجد لا محالة أنه يتقدم في طريق القدرة على النفس والقدرة على الحياة، وأنه يصبح يوما بعد يوم سيد نفسه ومالك قياده، وتلك بغية الرجل الكامل في الثقافة وفي الرياضة وفي الآداب والأخلاق
عباس محمود العقاد(262/4)
فأصبحتم بنعمته إخوانا
لأستاذ جليل
إلى حضرة الدكتور محمد حسن البرازي
الأستاذ في الجامعة السورية
يا سيدي، إن قولي: (المرء بفضله وفصله، لا بزخرفه وأصله، والأمة إنما هي بلغتها وأدبها وعقيدتها ومصلحتها) وتمثّلي بحديث الهمذاني وجميع ما رقمتُه في تلك القطعة من (الكلمة) - هو إعلان حقيقة قالوها، وليس في شاهدي من كلام (البديع) إزراء بأصلٍ ما، أو استصغار قبيل إن ظن أحد إن ذلك فيه
ولم أنعَ في (كلمتي) - كما لاح لأخي الدكتور - علي مُعْتز إلى الفرنسية نخوته حين قال: (أنا فرنسي، أنا فرنسي، أنا ابن الغول) إنّ له أنْ يقول وينتخي كما يقول الإيطالي والجرماني والبريطاني وغيرهم مزهوين. والمكتوب هناك هو شرح حال. وأرى أن أذكر في هذا المقام أن الأمة الألمانية في تلفيقها وتأليفها إنما هي مثل الفرنسيس وغيرهم من الأمم، وكان صاحب مجلة جرمانية قد اعتزم قبل (الحرب الكبرى) على أن يبحث عن عناصر الجرمان بحث العلماء المحققين فمنعته وزارة الحرب من ذلك
ألمانية نقية صافية خالصة مروَّقة مصفَّقة ما كانت ولن تكون
والسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب (خرَّيج الملك نور الدين محمود بن الشهيد رضي الله عنهم أجمعين) وسادتنا الأيوبيون ملوك العرب لا أعدهم - ونحن في هذا الشكل من البحث - أكراداً، بل هم عرب، بل هم أعرب من يَعْرُب ابن قحطان. وقولي في البرازيين الكرام، في بلاد الشام مثل قولي في الأيوبيين، ولا أقصد بما أقول تفضيل عربية على كردية، أو تفضيل كردية على عربية، فلست في حديثي هذا من (المفضلة).
وبعد فنحن نتلهى في غيبة السلطان الأعظم (أعني الإسلامية) بهذه المسماة (جنسية وقومية ووطنية) ومشابهما من الفتن الأوربية، فإذا جاء القرآن، إذا جاء محمد، إذا جاء الإسلام، الإسلام الصحيح خرست العربية المصرية، وخرست الأعرابية الجزَرية، وخرست الكردية، وخرست الشامية والعراقية، وخرست البربرية والمغربية والغربية، وخرست(262/5)
الهندية والفارسية والصينية والحاوية والتترية
(إنما المؤمنونَ اخوة)
(واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا َتفرَقوا، وذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شَفا حُفرةٍ من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)
قل: نار الضلال والتعادي، نار الجنسيات والقوميات والوطنيات والعصبيات والطبقات
قال الدكتور البرازي في (مقاله): (دين الإسلام عالمي) وهذا أظهر من الشمس، وهذا واضح بّين مثل ضياء القرآن المضيء الباهر
(إنْ هو إلاّ ذِكرٌ للعالمين)
(قُلْ: يا أيها الناسُ إني رسول اللهِ إليكم جميعاً)
ومن الأفاكيه التي تُروى للإطراف والتفكيه قول (طائفة من اليهود يقال لهم: العيسوية - وهم أتباع عيسى الأصفهاني - إن محمداً رسول الله صادق مبعوث إلى العرب وغير مبعوث إلى بني إسرائيل) وقد ذكر ابن حزم هذه الطائفة ومقالتها في كتابه (الِفصَل في الملل والأهواء والنحل) قال: (العيسوية هم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني كان باصبهان، وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى، وهم يقولون بنبوة عيسى ابن مريم ومحمد (صلى الله عليه وسلم) ويقولون إن عيسى بعثه الله (عز وجل) إلى بني إسرائيل على ما جاء في الإنجيل وإنه أحد أنبياء بني إسرائيل وإن محمداً نبي أرسله الله بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل وإلى سائر العرب كما كان أيوب نبياً في بني عيص، وكما كان بلعام نبياً في بني مواب بإقرار من جميع فرق اليهود، ولقد لقيت ' من ينحو إلى هذا المذهب من خواص اليهود كثيراً)
وفي (الفرق بين الفرق) للبغدادي: (وقوم من شاذ كانية اليهود حكوا عن زعيمهم المعروف بشاذ كان أنه قال: إن محمداً رسول الله إلى العرب وإلى سائر الناس ما خلا اليهود. وأنه قال: إن القرآن حق، وإن الأذان وإقامة الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج الكعبة - كل ذلك حق، غير أنه مشروع للمسلمين دون اليهود)
قلت: إن الله (عز وجل) يقول:(262/6)
(وأرسلناك للناس رسولا)
(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)
فهل ترى هذه الطائفة أو تري يَهودُ أنهم ليسوا من الناس. . . وليسوا من العالمين. . .؟؟
الإسكندرية
(* * *)(262/7)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 3 -
تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلاً)
للفلسفة!)
(رينوفيير)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - شيروفون: صديق سقراط: (س)
3 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليلكس: أثيني: (ك)
ط - حسن! ومادمت تُعجب بمهارتك في فن البيان، وبقدرتك على تعليمه للغير، فأخبرني ما هو موضوع ذلك الفن. إن لفن النسج مثلاً موضوعاً هو صنع الأقمشة. أليس كذلك؟
ج - بلى
ط - وموضوع الموسيقى هو تأليف الألحان؟
ج - نعم(262/8)
ط - يالجينون! إني لمعجب جداً بإجاباتك يا جورجياس! إذ لا يستطيع أحد أن يجيب بأقصر من ذلك!
ج - وأنا أغبط نفسي لنجاحي التام في هذه الناحية!
ط - الحق أنك غير مخدوع في ذلك قط! فأرجو أن تجيبني بالمثل عن علم البيان وأن تخبرني عن موضوعه!
ج - موضوعه الخطب والأحاديث
ط - أية خطب يا جورجياس؟ أتلك التي تشرح للمرضى قانون الغذاء الذي يجب أن يتبعوه كما يتم لهم الشفاء؟
ج - كلا
ط - إذا لا يشمل موضوع البيان كل أنواع الخطب؟
ج - من غير شك
ط - ولكنه يعلم الناس - مع ذلك - الكلام؟
ج - نعم
ط - وهو يعلم أيضاً التفكير في سبب تعليمه الكلام؟
ج - نعم دون ما تناقض
ط - ولكن ألا يبحث فن الطب - الذي اتخذناه مثلاً - ويتكلم في الأمراض؟
ج - بالضرورة
ط - وإذاً أيكون الكلام من موضوعات الطب كما يبدو؟
ج - نعم
ط - أو بالأحرى الكلام الذي يتعلق بالأمراض على الأقل؟!
ج - تماماً!
ط - وبالمثل، ألا يكون موضوع (الرياضة البدنية) هو الكلام في حسن استعداد الجسد أو سوئه؟
ج - هذا صحيح
ط - وهل الأمر بالمثل في الفنون الأخرى يا جورجياس؟ هل موضوع كل منها هو الكلام(262/9)
المتعلق بما تعالجه من شئون؟
ج - يلوح ذلك
ط - ولم لا تطلق إذاً اسم (البيان) على تلك الفنون الأخرى التي موضوعها (الكلام) ما دمت تطلق هذا الاسم (إطلاقاً) على فن موضوعه الكلام؟
ج - يرجع السبب في ذلك يا سقراط إلى أن الفنون الأخرى تكاد تتعلق فقط بأعمال اليد أو بما يشبه هذه الأعمال من إنتاج. أما البيان فلا ينتج أي عمل يدوي. ولا يقوم كل أثره ونفوذه إلاّ في الكلام فحسب. وهذا ما يجعلني أصرح بأن موضوع البيان هو الكلام، وما يجعلني أدعى أن قولي هذا صحيح!
ط - أعتقد أني فهمت ما تريد أن تعنيه بذلك الفن. ولكني أريد أن يزداد الأمر وضوحاً فأجبني: أليست عندنا فنون كثيرة؟
ج - بلى!
ط - ومن هذه الفنون - كما أظن - ما يقوم في أساسه على العمل دون أن يحتاج لغير أقل قدر من الكلام، أو دون أن يحتاج إلى كلام قط؛ فيتم عمله في صمت تام كالحفر والتصوير وفنون كثيرة أخرى مما قد قلت عنها - فيما يتراءى لي - أنها لا تتصل بالبيان قط؟ أصحيح هذا؟
ج - إنك لتمسك بفكرتي تماماً يا سقراط
ط - هذا بينا توجد على النقيض فنون أخرى تعتمد تقريباً على الكلام ولا تحتاج إطلاقاً إلى أي عمل كالحساب والإحصاء والهندسة ولعب الشطرنج وفنون أخرى كثيرة، إذ بين هذه ما يتطلب من الكلام أكثر مما يتطلب من العمل، بل إن أغلبها يتطلب بالفعل (كلاماً) أكثر. ولذلك تقوم كل قوتها وأثرها في الكلام فحسب. فترى هل البيان من ذلك النوع الذي ذكرت كما يبدو؟
ج - إنك تقول حقاً
ط - ومع ذلك فقصدك - كما أظن - ليس إطلاق اسم البيان على أحد هذه الفنون، لأنه ما إن نقول عامدين إن البيان فن تقوم كل قوته في الكلام حتى يتعلق بعضهم بالألفاظ ويخرج منها قائلا: (إنك إذاً تطلق البيان على الحساب يا جورجياس!). ولا أحسب أنك تسمي(262/10)
الحساب أو الهندسة بهذا الاسم
ج - إنك مصيب يا سقراط وقد فهمت قولي كما يجب أن يفهم!
ط - إذاً أتمم إجابتك على سؤالي. ما دام البيان أحد هذه الفنون التي تعتمد الكلام اعتماداً أساسياً، وما دامت هناك فنون مثله في ذلك الاعتماد، فأخبرني من أية ناحية يعتمد البيان على الكلام؟ إذ لو سألني مثلا أحدهم عن موضوع فن من الفنون التي أسميها بأسمائها وقال ما هو الحساب يا سقراط؟ فإني أجيبه - كما أجيب الآن - بأنه أحد الفنون التي تعتمد تماماً على الكلام. فإذا سألني ثانياً: من أية ناحية ذلك الاعتماد؟ أجبته: من ناحية الزوج والفرد كيما ندرك عدد الوحدات في هذا وفي ذاك. . . وهو إذا سألني بالمثل عن الإحصاء قلت له أيضاً إنه أحد الفنون التي كل قوتها في الكلام. فإذا طلب: من أية ناحية ذلك؟ قلت: - كما يفعل جامعو الأصوات في الجمعية - إن الإحصاء يقوم للفنون الأخرى مقام الحساب لأن موضوعهما واحد: أي معرفة الزوج والفرد. وهناك فقط هذا الفارق: وهو أن الإحصاء يبحث في كمية الزوج والفرد لا إطلاقاً فحسب، ولكن أيضاً في علاقات هذه الكمية ونِسبها. وكذلك إذا سألني أحدهم ثانياً عن الفلك وأضاف بعد قولي له إنه فن يعبر بالكلام عما هو في دائرة اختصاصه - أضاف: على أي شيء ينطبق القول في الفلك؟ أجبته بأنه ينطبق على حركة الكواكب والشمس والقمر كما يمتد فيتناول علاقات سرعتها بعضها ببعض
ج - حسن جداً يا سقراط
ط - إذاً أجبني بالمثل يا جورجياس! أليس لبيان أحد هذه الفنون التي تعالج كل شيء وتنجزه بالكلام؟
ج - هذا صحيح!
ط - ولكن أخبرني من أية ناحية هذا؟ وما هو الموضوع الذي يتصل به ذلك الكلام الذي يستعمله البيان؟
ج - إنه يا سقراط أعظم أعمال الإنسانية وأرفعها!
ط - لم يزل ما تقول يا سقراط موضع شك وغموض! ويبدو لي أنك قد سمعت في الولائم تلك الأغنية التي يعدد فيها الندماء خيرات الحياة ويقولون إن أول هذه الخيرات هو الملبس الحسن، وثانيها الجمال الرائع، وثالثها الغنى الحلال كما يقول مؤلف هذه الأغنية؟(262/11)
ج - لقد سمعتها حقاً ولكن لم تذكرها؟
ط - ذلك أن أصحاب هذه الخيرات التي يتغنى بها الشاعر كالطبيب، ومدرب الرياضة البدنية، ورجل الأعمال، سيقفون في الحال إلى جانبك، وسيبدأ الطبيب فيقول لي إن جورجياس يخدعك يا سقراط لأن موضوع فنه ليس من خيرات الإنسانية الكبرى في شيء، بينا موضوع فني أنا هو الذي يتصل بهذه الخيرات! فإذا سألته: وما مهنتك أنت يا من ترسل هذا القول فإنه سيقول (إنني طبيب!) وإذا ما سألته: ماذا؟ أتدعي أن أعظم خيرات الإنسانية هو ما ينتج من فنك؟ أفلا يحتمل أن يقول لي متسائلاً: وهل يستطيع أحد أن يجحد ذلك ما دامت (الصحة) هي ثمرة هذه الفن؟ وهل هناك خير يفضل الصحة لدى الناس؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(262/12)
حواء
. . . ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني يصدره الأستاذ الحوماني تحت هذا الاسم وستقدم الرسالة لقرائها نماذج منه في أعدادها التالية ريثما ينتهي طبع الديوان
عبقر الفنان
الأمانيُّ أَعْلَقَتْ بِيَ عيني ... كِ وعيناكِ رمز هذي الأماني
كيف لا أرصد النجوم لعيني ... كِ طَوالَ الدجى ولي عينان؟
أَفما جالتا - وقد خفق الحا ... لم - من وجنتيكِ في بستانِ؟
تملأ النفسَ منه بالأمل الغضّ ... رُؤى عبقرية الألوان
لا عيون الرائي تفوز بما تُب ... صر منها ولا أكفُ الجاني
إنما هن في السما مُثُلُ الفنِّ ... وفي الأرض عبقر الفنان(262/13)
روح الله
مبدعَ الفن! أيُّ كفيكَ خطَّت ... عجب الفن تحت هذه الجباهِ!
في صدور تموج تحت صدور ... وشفاهٍ تهتز فوق شفاهِ؟
إن في الابتسام والدمع سِرًّا ... هو غير العيون والأَفواهِ
أهوَ الحبُّ خلفهن؟ وما الحبُّ؟ ... هل الحب غير روح الله؟
آمنت فيكَ هذه الناس ساهي ... نَ وآمنتُ فيك غير السَاهي
قد تحسست ذات قدسك لا في النا ... ر مسجورة ولا الأَمواهِ
إنما الحب دمعة وابتسام ... وهما أنت في الحقيقة لا هي
الحوماني(262/14)
أحمد الإسكندري بك
بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته
1875 - 1938
بقلم تلميذه وصهره الأستاذ محمد أحمد برانق
أتصل بي كثيرين من الأدباء الذين يقدرون المغفور له الأستاذ أحمد الإسكندري قدره، ويقرون له بالفضل (وبخاصة أدباء لبنان وفلسطين وغيرهما من الأقطار الشقيقة)، وطلبوا إلى أن أقدم لهم كلمة في تاريخ حياته، موجزاً عن آثاره العلمية والأدبية، ليكون نواة لما يقال عنه في حفلة تأبين يقيمها أدباء بيروت، ولما يلقى من محطة الإذاعة في فلسطين، ولكن شدة وقع المصيبة كاد يصرفني عن كل شيء حتى هذا، إلا أني غالبت ذلك الضيق الذي أحس مرارته في نفسي، واستطعت أن أكتب ما أرجو أن يكون فيه بعض الغناء إلى حين، حتى إذا أمكنتني الفرصة من وضع يدي على آثاره الأدبية المخطوطة، جلوتها للأدباء، وفاء له، واعترافاً بفضله.
نشأته:
صدر العلماء، وغرة الأدباء، وباقعة عصره - أحمد بن علي عمر الإسكندري، ولد في مدينة الإسكندرية في 26 فبراير سنة1875، تعهده أبوه بالتعليم، وبعد أن حفظ القرآن وأجاده التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية المعروف بجامع الشيخ. وأكب على التحصيل، ولكن مناهج التدريس لم تشبعه، فكان يقرأ الكتب التي تقع تحت يده، ومنها قصص عنترة، وأبي زيد، وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة، ونحوها، فأولع بالأدب، وقرض الشعر يافعاً، وعرفه بعض أبناء الأعيان المتأدبين، ولكن الأفق العلمي في الإسكندرية أصبح محدوداً أمامه، فرغب في النزوح إلى القاهرة حيث الأفق أوسع، ولكن والده لم يوافقه؛ إلا أن الهمة البعيدة الموهوبة، تفك القيود، وتحطم الأغلال، وتحتال لتقهر كل صعب، فصمم الغلام أحمد الإسكندري على الرحلة إلى القاهرة، وجمع كتبه وحزمها، وخرج في غفلة من أهل الدار، وليس في جيبه إلا دريهمات كان قد ادخرها، وصحبه في سفره اثنان لا أذكر اسميهما، أما أحدهما فإنه تخلف في حدود الإسكندرية، وأما الآخر فأنه صحب أحمد وركبا(262/15)
مركباً يسير في ترعة المحمودية حتى وصلا إلى مدينة كفر الزيات. وهنا نفذ زادهما ودريهماتهما، فعاد الرفيق إلى الإسكندرية، أما هو فأن عزمه حديد لا يفل؛ فقد حمل كتبه على ظهره، ومشى على قدميه من مدينة كفر الزيات حتى وصل إلى القاهرة وهو حدث.
والتحق بالأزهر ليتلقى علوم اللغة والدين. وفي سنة 1894 التحق بمدرسة دار العلوم، وكان أصغر زملائه سناً، وأنبههم ذكراً، وأوسعهم معرفة. وكان من عادة المدرسة حينئذ أن تعقد في أول كل سنة دراسية اختباراً عاماً لطلبة المدرسة في كتب تعينها لهم، ثم في المعلومات العامة، فكان الإسكندري في كل عام فارس الحلبة الذي لا يدرك، فتخصه المدرسة بجوائزها
وكان أيام الطلب مبرزاً في مادة الإنشاء بديع الصنعة، مليح الصيغة. كتب أول أمره على الطريقة الشائعة إذ ذاك، وهي طريقة السجع، وله موضوعات كانت موضع إعجاب أساتذة الإنشاء في عصره، فأطروها ونشروها منسوبة إليه في كتب لهم؛ ولعل من هؤلاء الشيخ مفتاحاً - إن لم تكن الذاكرة قد خانتني - فإنه نشر له موضوعاً في وصف قنطرة قصر النيل (الخديوي إسماعيل الآن) في كتاب له
تخرج في دار العلوم سنة 1898، واشتغل بالتدريس في المدارس الأميرية، ثم كان ناظراً لمدرسة المعلمين في الفيوم والمنصورة؛ وفي هذه الأثناء ظل على نشاطه الفكري، فأخذ من محاسن الآداب بأوفر حظ.
في دار العلوم
في سنة 1907 انتقل إلى دار العلوم لتدريس مادتي الإنشاء والأدب العربي وظل يزاول ذلك العمل بتلك المدرسة زهاء سبعة وعشرين عاماً، ألف في أثنائها كتاباً عن الأدب العربي في العصر العباسي، أجمع الأدباء على أنه كان المعين الذي استقى منه جميع من بحثوا في تاريخ الأدب من بعده. وضع لطلبته مذكرات في العصور الأخرى، كانت وما تزال عدة الطلبة، يجدون فيها طلبتهم فيستعينون بها على تهيئة أنفسهم لأن يكونوا أدباء باحثين لما تحتويه من الحقائق العلمية والفنية الخالية من الزخرفة والتهويل، ولأنها ترسم لهم طريق البحث في أحدث صورة. وكان منهج تاريخ الأدب في دار العلوم يحتوي فوق النظريات العامة تراجم كثيرة لعدد كثير من الكتاب والشعراء والخطباء والعلماء وغيرهم؛(262/16)
فكانوا يضطرون إلى وضع مختصرات تشبه المتون؛ وهذا لا يعلم الطلبة، ولا يربي فيهم ملكة البحث فاقترح - رحمه الله - أن يكتفي بدراسة بضع تراجم بحيث يدرس المترجم دراسة تفصيلية تحليلية وافيه، يرى فيها الطلاب نبراساً يهتدون به إذا حاولوا مزاولة البحث أو تصدوا لاستقصاء أي عمل علمي؛ وحمل هو هذا العبء بادئاً ونهض به. وكان من حسن حظي أن كنت من أول من تتلمذوا عليه حين زاول هذا العمل، فاستفدنا منه أجل فائدة، وهو أول من اقترح تدريس فقه اللغة في مدرسة دار العلوم، وكان غير معروف من قبل في المدارس المصرية. وتقدم لعمل المنهج، وحمل عبء تدريسه، فقسمه قسمين: قسم فلسفي نظري يتعلق بنشأة اللغات والاشتقاق والنحت واختلاف اللهجات وغير ذلك؛ وقسم نظري يتعلق بوضع الألفاظ اللغوية للمسميات، وكان مجدداً في ذلك، فوفقه الله كل التوفيق، وجاء من بعده فاهتدوا بهديه، وساروا في نهجه.
وفي سنة 1922 عرض عليه موظف كبير كان بوزارة المعارف أن يزج بنفسه في المعترك السياسي، وأن يحرر مقالات ينشرها في الصحف اليومية، يؤيد بها حزباً معيناً، فأبت عليه نفسه أن يفعل، محتجاً بأن العلماء أحرى بهم ألا يكونوا ساسة، وأن ما يتطلبه العلم من الأخلاق غير ما تتطلبه السياسة.
وجميع من تخرجوا في دار العلوم من سنة 1907 إلى سنة 1934 تتلمذوا عليه ما عدا فرقتين اثنتين.
في الجامعة
وفي سنة 1933 اختير أستاذاً للأدب العربي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، فاضطلع بذلك العمل على أكمل وجه وأتمه، فأحبه تلاميذه، وأقبلوا عليه، وأفادوا منه.
في المكتب الفني
وفي سنة 1935 كتب إليه وزير المعارف إذ ذاك خطاباً يخبره فيه أنه يريد أن ينتفع بعلمه الواسع وتجاربه الطويلة في المكتب الفني في وزارة المعارف، فكان فيه عضواً عاملاً؛ وكانت له مشاركة تامة في وضع مناهج اللغة العربية للمدارس الابتدائية والثانوية، وفي مراجعة الكتب العربية لهذه المدارس.(262/17)
في المجمع اللغوي
عندما أنشئ المجمع اللغوي الملكي في 13 ديسمبر 1932 وقع عليه الاختيار ليكون عضواً من أعضائه. وإن من يراجع محاضر جلسات المجمع في سنواته الخمس، يجد أنه كان المحور الذي تدور حوله المقترحات والمناقشات، فكان بحق كما وصفه بعض العارفين: (مخ المجمع). ولما تكونت اللجان الفرعية ساهم في أكثرها، فكان عضواً في لجنة الرياضات، ولجنة العلوم الطبيعية والكيمائية، ولجنة علوم الحياة والطب، ولجنة المجلة، ولجنة خزانة الكتب، ولجنة الميزانية، ولجنة الأصول العامة، فكان عضواً في سبع لجان من إحدى عشرة لجنة.
تعصبه للغة العربية
كان يحب اللغة العربية ويتعصب لها تعصباً جعله يصف من يتهاون في أمر من أمورها بالزندقة والإلحاد. وكان يعتبر التساهل وفتح الباب للغات الأجنبية، لغزو اللغة العربية، جريمة شنيعة ومن يرجع إلى محاضر جلسات السنة الأولى للمجمع اللغوي يجد أنه جاهد جهاداً شديداً حتى جعل المجمع يوافق على عدم اللجوء إلى التعريب إلا لضرورة قصوى. وكان يعجب من القوم الذين يعيبون على المجمع استعمال ألفاظ غريبة لمسميات جديدة، لأنه كان يرى أن هذه الألفاظ وإن بدت غريبة الآن فإنها بالاستعمال والمران تسهل على السمع وتجرى على اللسان، وهي أصون للغة من الدخيل. وله في مسألة التعريب مواقف مشهودة وقفها في نادي دار العلوم القديم الذي كان يرأسه المرحوم عاطف بركات باشا، وفي المجمعين اللغويين الأهليين القديمين اللذين رأسهما المغفور له العلامة الشيخ سليم البشري ولطفي السيد باشا؛ ومبدؤه هذا كان يبثه في تلاميذه، ويحضهم على الاستمساك به، حتى لتجد جمهرتهم إن لم يكن كلهم من رأيه ومبدئه.
مؤلفاته
أول كتبه كتاب تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي، ثم ألف كتاباً عن اللهجات العامة، قدمه لمؤتمر المستشرقين سنة 1911، ورأيته عنده مخطوطاً ولم يقع نظري عليه منذ سنتين. ثم ألف كتاباً للمطالعة للمدارس الثانوية في عدة أجزاء، وسماه (نزهة القارئ) طبع(262/18)
منه جزءين نفدت منهما طبعات، قررته وزارة المعارف سنة 1934، ولكن أموراً شكلية تتعلق بشروط قائمة بينه وبين (مكملان) حالت دون التنفيذ
وألف كتاباً عاماً في الأدب العربي في جميع عصوره، يقع في بضعة آلاف صفحة، وكان في نيته أن يطبعه، واشتغل في السنة الأخيرة من حياته بوضع مقدمة له وصفها هو بأنها: تقع من تاريخ الأدب موقع ابن خلدون من التاريخ؛ وأعد العدة لذلك، ولكن عاجلته المنية، فاقتطعه دون الأمنية
وله بعد ذلك مؤلفات في فقه اللغة كان يضعها لتلاميذه؛ لكنه لم يجعلها كتاباً عاماً لاعتقاده أن هذا من شئون الخواص. واشترك مع غيره في وضع كتب مدرسية في التاريخ العام وتاريخ الأدب والنصوص الأدبية أكثرها يدرس اليوم. وليس مقام البحث في هذه الكتب ودراستها، ولكنه مجرد سرد موجز لما عمله.
أخلاقه وصفاته وعلمه:
كان هيناً، ليناً، صريحاً، أبياً، عذب الحديث، بارع الجد، حلو الفكاهة، سريع الخاطر، حاضر النكتة، ظريف التفصيل والجملة، ميالا إلى العزلة، فكان يقضي في بيته أياماً لا يبرحه. وكان كثير القراءة، تمر به أيام يقرأ فيها خمس عشرة ساعة أو أكثر في اليوم. وكان سريع التعليق، ويقتني مكتبة عظيمة، وليس فيها كتاب لم يقرأه ولم يعلق عليه.
وكان أهم ما يعني به في قراءته بعد أن استوعب الكتب القديمة مطبوعة وخطية - هو الكتب المترجمة، وكان أول ما يقرأ في الصحف برقياتها الخارجية
أما معلوماته العامة فواسعة المدى، فهو سياسي مع الساسة، وأثري مع علماء الآثار، ومصور مع علماء التصوير، واجتماعي مع رجال الاجتماع، وهو كذلك رياضي وطبيعي وكيميائي ومؤرخ. وكانت له في كل هذه العلوم مشاركة تامة تدل على استبحاره. والموضوعات التي عالجها في كتابة نزهة القارئ، والكلمات التي وضعها في مجلة المجمع، ورسالته الأخيرة التي قدمها للمؤتمر الطبي العربي ببغداد - كل هذا يشهد بأنه كان ذا نشاط جم، وعقل جبار
ومجالسه مع أصدقائه تشهد بما كان له بينهم من جليل القدر وعظيم الأثر. حدثني أحد الفضلاء أنه شكا إليه يوماً تخبط الإنجليزية واضطرابها في شرح نظرية دارون، وأنه(262/19)
تعب كثيرا في التقصي والبحث إلا أنها لم تصر جلية في ذهنه كما يجب، فأفاض الشيخ في شرح هذه النظرية ببيانه المعروف عنه، وتوضيحه وتذليله وتصويره للحقائق في أيسر صورها، حتى ترك صاحبه ومن كانوا معه يقولون: كأن دارون لم يفض بحقيقة نظريته إلا له، فاختصه الله القدرة على تفهيمنا.
وحدث صديق له قال: صحبته وبعض خلصائه يوماً إلى دار الخيالة؛ وما كدنا نصل إليها حتى أبدى أحدنا غرابة مما وصل إليه العلم من عرض الصور الصغيرة وتكبيرها؛ ثم تسجيل الصوت؛ فما كاد يسمع منه ذلك حتى أنطلق يشرح لهم نظريات عن فن التصوير والعدسات وأنواعها وكيفية استعمالها، ثم عن التقاط الأصوات في (الاستوديوهات) وما يعانيه الممثلون والممثلات. والتفت حوله جمع من الناس وأقبلوا عليه بمجامعهم، يستمعون منه، معجبين به، بل ود بعضهم لو أبطل صاحب الخيالة خيالته ليتم له حديثه.
من ذلك تعلم أنه تبوأ مكانه بجدارة بين علماء عصره. وكان ركناً عظيما تعتمد عليه وزارة المعارف والمجمع اللغوي والهيئات العلمية والأدبية.
وكان إذا أراد أن يعالج موضوعاً عالجه غيره من المحدثين لا يطلع على ما كتبه ذلك الغير إلا بعد أن يكتب. وكان في كبره لا يهاجم من يخطئون كما كان يفعل أيام شبابه، ولكنه كان يرد عليهم في أثناء بحثه من غير إشارة إليهم ومن غير أن يمسهم من قرب أو من بعد.
وكان موضع الثقة من كثير من العلماء الأعلام، يراسلونه ويستفتونه في كثير من المسائل التي يشتبه عليهم الأمر فيها، أو لا يهتدون إلى مصادرها، ومن هؤلاء الفضلاء الأب أنسطاس ماري الكرملي؛ فإن رسالاته لم تنقطع عنه حتى في أيام مرضه الأخير. وكان الأب على جلالة قدره يعترف له بالفضل والأستاذية، كما كان يعترف غيره. كتب إليه يوماً يقول: (. . . جاءني كتابك وفيه من سبحات النور ما جعلني أدعو الله أن يزيدك فضلاً وعلماً للمستجيرين بك واللائذين إلى بحر عرفانك الجم. ولو كان في الإسلام في عصرنا هذا عشرة مثلك في مصر. لانتقل الحنفاء جميعهم إلى هذه الديار المباركة للاقتباس من فيض نورك المتدفق. . . الخ).
وكان في جلسات المجمع الأصلية والفرعية إذا أشكل أمر أو أظلمت مسألة خرج هو على الأعضاء بما يزيل اللبس ويكشف الغموض والإبهام. وكانوا جميعاً يعترفون له بالسبق،(262/20)
ويعتبرونه جهيزة تقطع قول كل خطيب. قال الدكتور منصور فهمي بك عضو المجمع اللغوي في معرض رثائه: (. . . إنا أمس الأول - حين جمعتني وبعض زملائك حلقة من حلقات المجمع اللغوي - كنا نقول فيما كنا نتذاكر فيه: انتظروا السكندري، وأرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا، ولديه حل ما استعصى علينا، والآن يموت حلال المشكلات، والمرتجى في اللغة للمستعصيات. . . الخ).
وعندما سافر سنة 1911 إلى مؤتمر المستشرقين في بلاد اليونان بصحبة المغفور لهم: الأمير فؤاد (جلالة الملك فؤاد)، وأمير الشعراء أحمد شوقي بك وأحمد زكي باشا، وحفني ناصف بك، وغيرهم، خطب في موضوع اللغة العربية الفصحى، وقلة انتشارها بين الغالبية العظمى من أهل الممالك الإسلامية المختلفة، وعرض على جماعة المستشرقين استفتاء في رأى المرحوم يعقوب أرتين باشا وكيل وزارة المعارف إذ ذاك، في: (هل يجوز أن تحل في كل بلد لغة أهله العامية - وهي لغة السواد الأعظم - محل اللغة الفصحى في الكتابة، وتستعمل في المخاطبة؟) وذكر لغات البلاد العامية ولهجاتها المختلفة، وأدب كل لغة في نثرها ونظمها، وقرأ ذلك من كتاب له غير مطبوع. . . قال إن يعقوب باشا كلفه بوضعه عن لغات هذه الشعوب الإسلامية العامية، فقضى في بحث هذه اللغات واللهجات بضع سنين، واقتبس منها ما دونه في كتابه المذكور، وهي لغات العامة في بلاد العرب والشام والعراق ومصر وتونس والجزائر ومراكش وغيرها من البلاد التي يتكلم أهلها اللغة العربية بلهجتها العامية الخاصة بها. وقد اهتم المستشرقون بهذا البحث وناقشوه فيه، وقضوا وقتاً طويلاً في مباحثته ومساجلته، ثم انتهوا من ذلك إلى قرار صريح بأن: (اللغة العربية الفصحى هي اللغة التي تصلح للبلاد الإسلامية العربية للتخاطب والكتابة والتأليف؛ وأن من واجب حكومات هذه البلاد أن تعني بنشرها بين الطبقات الشعبية لتقضى على اللهجات العامية التي لا تصلح كلغة أساسية لأمم تجمعها جامعة الدين والعادات والأخلاق). وكان هذا القرار فوزاً بالغاً له سر به المجمع، لأنه كان تعزيزاً لرأيه ضد رأي أرتين باشا، وهو نصير اللغة العامية، وإحلالها محل اللغة العربية الفصحى.
وفاته
وفي منتصف الساعة الخامسة من مساء الثلاثاء 18 من صفر سنة 1357 - 19 من(262/21)
إبريل سنة 1938: لحق بالرفيق الأعلى، على أثر مرض ألزمه الفراش أسبوعين ولم يجد دواء الطبيب، فلكل أجل كتاب:
دخل الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلوها لنا
فنزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقوم بعدنا
محمد أحمد برانق(262/22)
الإسلام في فارس
للأديب حسن حبشي
لعل أبلغ معجزة للإسلام هي تلك السرعة التي وسِم بها انتشاره في رحاب المعمورة، حتى لقد خفق لواؤه في مدي قرن من الزمان على كثير من بلدان آسيا وإفريقيَّة، وتغلغلت شريعته وحبه والإيمان به في نفوس قوم درجوا على الشرك، وكانوا لا يألون جهداً - هم وأسلافهم من قبل - في صدِّ كل عادية عنه. ومن مظاهر هذه المعجزة إسلام التتر بعد أن كاد الإسلام أن يحتضر من خطبهم وتدميرهم، فلقد كانوا (المصيبة الكبرى التي عقّتِ الأيام والليالي عن مثلها، فأن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها) فإذا هم - بعد اعتناقهم إياه - من أكبر الذَّابين عن حياضه، المدافعين عن بيضته. ويذهب السير توماس أرنولد في تعليله لهذا الانتشار والسبق الذي اختُص به الإسلام دون غيره إلى ما أتَّسَمَت به العقيدة الإسلامية من بساطة لا تعقيد فيها، وإلى وحدانية الله، وإلى أن محمداً عبده ورسوله
لقد درج الإسلام في بلاد الحجاز، ثم ما لبث أن اتسعت رقعته وامتدت فتوحه شرقاً وغرباً فأصبحت العراق وفارس ومصر والشام وفلسطين وبلاد الخزر وإفريقية والنوبة والهند إمارات إسلامية قد انتقلت من الشرك والاضطهاد والنضوب الفكري إلى وحدانية مشرقة، وعدل أظل الجميع بفيئه، ونهضة اجتماعية وذهنية غيرت معالم الحياة بأسرها. ولا غرو فالإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى
وتاريخ الإسلام في مبدئه هو تاريخ تلك الأقطار المفتوحة، وحسبنا في هذا البحث الموجز أن نرى مدى انتشاره في إيران وإن ذهب أهلها شيعاً وتباينوا عقائد
ويرتبط تاريخ إيران الإسلامية أيما ارتباط بهذه الجماعات التي كانت تفد عليها متاجرة أو مهاجرة من جهة، ومن جهة أخرى بتاريخ اللملوك والخانات الذين كان لبعضهم فضل الجهاد في سبيل نشر الدين، وإن وجدوا في كثير من الأحيان إقبالاً من الشعب نفسه يرجع في جرثومته إلى أسباب عدة ليس هذا مجال بحثها. كما أن بعض القواد لم يدخر وسعاً في سبيل نشر الإسلام فكان ابن القاسم فاتح بلاد الهند داعيةً من دعاته، وأحد الحريصين على بث مبادئه العاملين على بسط نفوذه، فلقد عرض على أمراء الهنود اعتناقه، ولم يكن الطمع في الغنيمة فحسب هو الدافع للجند العرب المسلمين على الاستبسال ولاستماتة في هذه(262/23)
الفتوح العظيمة؛ تلك الروح التي تتمثل في قول خالد ابن الوليد حين لاقاه أهل الحيرة فقال لهم (أدعوكم إلى الإسلام فإن أنتم فعلتم فلكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، وإن أبيتم فأعطوا الجزية، فان أبيتم فقد أتيتكم بقوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة)
لقد كان فتح العرب لبلاد فارس حادثا جديدا في تاريخ الإسلام من الناحتين الفكرية والاجتماعية، كما كان له أثره القوي فيما بعد - في الناحية السياسية والدينية لِما ظهر عند أهله من هوى عنيف للمذهب الشيعي، وإن أرجع بعض المستشرقين هذا الميل إلى زواج الحسين بن عليّ (بشاه بانو) إحدى بنات يزدجر الثالث آخر ملوك آل ساسان، ومن زعماء هذا الرأي الأستاذ جولد تسيهر.
دخل المسلمون هذه البلاد الغريبة عنهم في حضارتها وتاريخها ونظمها السياسية وتفكيرها، فكان ثمة احتكاك تولدت عنه نزعات جديدة في كل هذه الأمور، ولعبت العصبية القومية دورا خطيراً على مسرح الحياة العامة فكانت دعامة الدعائم في قيام الدولة العباسية التي اتخذت عاصمتها في بلدٍ ينزع أهله إلى تأييدها
كانت بلاد الفرس وقت أن دخلها العرب مللاً متباينة، ونحلا مختلفة متنازعة، فهناك الصابئة والمجوس وأتباع ماني وزرادشت، وهناك أهل الكتاب من يهود ونصارى، فكان القوم بين مشرك ووثني وموحِّد ومثلث، فلم يكن الاضطراب سياسيا فحسب، بل كان دينيا كذلك. فوجد العرب هذه البلاد على حال من الفوضى السياسية والاجتماعية والدينية، فكان العبء عليهم ثقيلا، وكانت التركة بين أيديهم تتطلب منهم سياسة حكيمة ماهرة، حتى يستطيعوا أن يهيئوها لغد يزهو على الأمس، ويجعلوا من أهلها دعاة للحنيفية السمحاء
لقد مرت القرون تنري والقوم مقيمون على الشرك وعبادة النار والنجوم، فما أهل الإسلام عليهم بنوره حتى تسارعوا زمراً لاعتناقه والدفاع عنه، فكان أئمة الدين وجلة علمائه من أهل فارس حتى لقد لاحظ ذلك ابن خلدون فقال: (من الغريب الواقع أن حملَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي) وكان أشد المدافعين عن الدين وعن العرب من رجال الفرس حتى في الأوقات التي ظهرت فيها العصبية القومية بأجلى معانيها، وفي الوقت(262/24)
الذي أطلت فيه الشعوبية تزعم ما تزعم من جحود ونكران للواقع، وكأن هذا الميل القوي للإسلام لم يرق في نظر البعض فذهب إلى أن مرجع اعتناق الفرس للإسلام أنهم أَلْفَوا في القرآن الأركان الأساسية لديانتهم القديمة وإن اختلفت قليلاً، فلم يكن من العسير على الفارسي أن يقبل على عبادة اهرمزدا واهريمان إلهي الخير والشر حيث استترا وراء كلمتي الله وإبليس في الديانة الجديدة، كما يقول إن الإسلام اتفق والوثنية الفارسية القديمة في القول بخلق الإنسان ووجود الملائكة والبعث يوم القيامة وعودة الروح والجسم ثانية وفي فكرة الجحيم والجنة، فالتقت العقيدة القديمة والدين الجديد في هذه النواحي. وغرض دوزي من ذلك الطعن في إسلام الجماعة الأولى من أهل فارس، وتجاهل هذه الروح الكريمة التي امتاز الإسلام والتي لا زال يغزو بها القلوب حتى في عصر المادة فلا كبرياء ولا أرستقراطية مستهجنة)
لم يقصر فضل الإسلام على الناحية السياسية وانتشال البلاد من التدهور الاجتماعي، بل تعداها إلى الناحية الدينية بين القوم وغيرهم من أهل الكتاب من النصارى واليهود، فعامل الجميع معاملة حببت الجماعة فيه، ولم يرغمهم على التصديق به والإيمان برسالته وإنما حاجَّهم فإن أبوا فليس إلا الجزية، إذ (هي واجبة على جميع أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والسامرة)
ولم تكن هذه الجزية دينية بحتة، وإنما كانت كذلك للقيام بالمحافظة على دافعيها وضمان سلامتهم، في ظل هذا النظام الجديد الذي لم يألفوه من قبل أيام دولة الأكاسرة التي استبدت وبطشت بالمسيحيين وعصفت بهم ولم تحترم شعورهم، بل كانت شديدة الوطأة عليهم فلاقى من عنتها اليعقوبيون والنسطوريون ألواناً من العذاب والتنكيل واضطربت أمورهم في أيامها. أما المجوس فقد اكتفى العرب منهم بالجزية، فلقد قال أبو يوسف إنه (ذكر لعمر بن الخطاب رضى الله عنه قوم يعبدون النار ليسوا يهودا ولا نصارى ولا أهل كتاب (يعني المجوس) فقال عمر ما أدري ما أصنع بهؤلاء؟ فقام عبد الرحمن بن عوف فقال أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وذكر أنه (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي أن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، له ذمة الله وذمة رسوله فمن أحب ذلك من المجوس فهو(262/25)
آمن ومن أبى فعليه الجزية)
يقول الأمير كايتاني (لقد كان الاضطراب المعنوي الذي ملأ أذهان المسيحيين يسير جنباً إلى جنب مع الفوضى السياسية في الدولة، وإذ شغلهم توالي نزول هذه الكوارث والتدهور الخلقي الذي حاق بهم من جراء هذا الصراع العنيف بين المذاهب المتنافرة الموجودة بينهم فلقد مالوا إلى هذا النمط الذهبي العجيب الذي يسهل على العقيدة الجديدة أن تتمكن فيه. ولقد كان أهل فارس - وخاصة الأجناس السامية - في نفس هذه الحال الذهنية مما جعلهم يرحَّبون بالثورة الإسلامية التي سرعان ما أزالت من طريقها فساد الماضي، وساعدها على ذلك ما امتازت به العقيدة الجديدة من بساطة خالصة، هيأت النفوس لعهد جديد فائض بالآمال وخلصت القوم من الرق). . . لقد شهد بذلك كيتاني وهو من هو في دراسته للتاريخ الإسلامي والعقلية الإسلامية
وكان دخول الإسلام بلاد فارس مؤذناً بعصر جديد من التحررالفكري، كما رأى فيه المسيحيون مخلصاً لهم - كما يقول أرنولد - من استبداد ملوك آل ساسان، ولم يركن المسلمون إلى الشدة والعنف في سبيل بث مبادئ دينهم هناك، وما كان إسلام القوم - من مجوس وصابئة ومانوية - عن طريق السيف إذ (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وما كان الإسلام وهو دين العقل ليحاول أن يخرج عما رسمه من حدود النقاش. وحسبه أن يعرض للأمر من جميع نواحيه فلا يزال يدعمه بالحجة والبرهان الصادقين في منطق مستقيم حتى يأخذ به من اتبع العقل ولم يُكابر في الحق. وإذا كانت هناك بعثات تبشيرية فإنها لم تكن تسير على خطة دبرها البعض، وإنما هيأتها الظروف والملابسات وطبيعة الحياة كما كانت مدفوعة بإيمانها الصادق. وكان أغلب هذه الجماعات التي قامت بالتبشير في فارس والهند وبلاد آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر من التجار الذين كانوا حلقة اتصال بين الوثنيين وبين الإسلام أو بين ماض مشترك ومستقبل لا يقر إلا بالوحدانية (قل هو الله أحد الله الصمد) ترفع عن الماديات (لم يلد ولم يولد) وجلَّ عن كل ما يخاله الذهن البشري القاصر عن إدراك ذاته (ولم يكن له كفواً أحد)؛ فالعامل الأساسي في تاريخ الفتوح الإسلامية كما يقول الأستاذ جب إنما هو هذا التبادل الدائم بين أهلي الأقطار المفتوحة وبين العرب(262/26)
حسن حبشي(262/27)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 30 -
(أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم إنه يخيل إليّ دائماً أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه. . .)
الرافعي
مقالاته للرسالة
سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن كل مقالة من المقالات التي أملاها على الرافعي في الفترة التي صحبته فيها منذ بدأ العمل في الرسالة حتى صيف سنة 1935؛ وما يجهل القراء أن كل مقالة يكتبها كاتب لها ظروفها وملابساتها ودوافعها، وما يجهلون أن لكل كاتب عند كل مقالة يكتبها حالة نفسية خاصة يظهر أثرها فيما يكتبه، وإني لأعلم أن هذا التاريخ لا يتم تمامه في نفسي ولا يتأدَّى مُؤدَّاه إلى قارئه على وجهه إلا أن أثبت بعض ما أذكر من دوافع الرافعي إلى كل مقال مما أملاه عليَّ؛ وإني بهذا الفصل لأحاول جديداً في فن الترجمة؛ فما أعرف كاتباً من كتاب التراجم في العربية حفل بهذا الباب في تاريخ الأدباء، على أن له أثراً أي أثر في دراسة أدب المترجم يعين على فهمه وتصويب الحكم عليه؛ فمن ذلك كانت عنايتي بهذا الباب، وإني لأرجو أن تعينني الذاكرة على تمامه حتى أبلغ منه إلى ما أريد. . .
لم يكن بين الرافعي والزيات صلةٌ ما قبل صدور الرسالة، إلا صلة الأديب بالأديب، وما أحسبهما التقيا قبلها قط إلا في كتبهما ورسائلهما. ثم صدرت الرسالة فكانت بريد الأدباء(262/28)
عامة إلى الأدباء عامة؛ وكانت بريد الزيات إلى الرافعي، فتعارفا وأتلفا وإن لم يلتقيا وجهاً لوجه. . . ومضت أشهُر. . .
وتصفَّحتُ الرسالة ذات مساء من صيف سنة 1933؛ فإذا فيها كلمة عن (أوراق الورد) للزيات، يجيب فيها فتاة سألته أن يرشدها إلى شيء مما كتب أدباء العربية في رسائل الحب. ومضت فترة وكتبت الفتاة (عفيفة السيد. . .) رأيها في أوراق الورد فعابتْه ونزلت به منزلة. وكان الرافعي في هذه الأثناء بعيداً عن طنطا يصطاف في (سيدي بشر)، وكان عليَّ في هذه الفترة، والرافعي بعيد عن ميدان الأدب في مصطافه، أن أجمع له كل ما يهمه أن يقرأ مما كتبت الصحف؛ فلما قرأت ما كتب الزيات وما ردَّت به الفتاة، قصصته من صحيفته وبعثت به إليه في سيدي بشر ومعه رسالة مني. . . وقرأ الرافعي ما بعثت إليه، فانتضى قلمه وكتب كلمة للرسالة يردَّ بها رأي الفتاة. وكانت كلمة قاسية لم يجدها الزيات إلا فصلاً من (على السفود) لا تقوى على لذعاته الفتاة الناعمة. . . فطوى الزيات كلمة الرافعي ونشر كلمة في الرسالة يعتذر بها إليه وإلى القراء، ويرجوه بهذه المناسبة أن يكتب للرسالة شيئاً من منثور أوراق الورد. . . ولم يجب الرافعي هذه الدعوة إلا بعد بضعة أشهر
كانت كلمة الرافعي إلى (عفيفة السيد) عن أوراق الورد هي أول ما أنشأ للرسالة من مقالاته، ولم تنتشر. ثم سعى إليه يوماً شاب من المرتزقين بمراسلة الصحف اسمه (يوسف. . .) وكان الرافعي يعطف عليه ويعينه على العيش بما يحسن إليه؛ وإذ كان الرافعي لا يملك ما يحسن إليه بالمال - والمال في يده قليل - فأنه كان يحسن إليه بما يملي عليه من رسائل الأدب، ليأخذها فيبيعها إلى بعض المجلات فيستعين بما تدفع إليه من ثمنها على حاجات الحياة، وهو ضرب من الإحسان على قدر طاقة الرافعي!
. . . جاءه هذا الشاب يسأله ويطلب منه الجواب: (لماذا لا تعالج القصة؟)
وأملى عليه الرافعي جوابه، فذهب فنشره في الرسالة بعنوان (فلسفة القصة). وكانت أول ما نشر للرافعي في الرسالة
ثم كان عيد الهجرة بعد ذلك بقليل، فطلبت الرسالة إلى الرافعي أن يكتب فصلاً للعدد الممتاز؛ فأنشأ مقالة (وحي الهجرة في نفسي)؛ وهو فصل كان يعتز به الرافعي اعتزازاً(262/29)
كبيراً ويتمنى لو أتيحت له الفرصة ليتم الحديث عن (فلسفة) حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) على هذا النهج، ليكون كتاباً بتمامه عن السيرة النبوية على نسق غير النسق الذي جرى عليه (القصَّاص) ممن كتبوا عن حياة محمد. . . ومضى شهر، وأهدى إليه الشاعر محمود أبو الوفا (ديوان الأعشاب) وكان مرجوَّاً أن يكتب عنه؛ إذ كان المقصود من طبع هذا الديوان - وطابعه غير صاحبه - أن يكون إعانة مادية لناظمه توسِّع عليه ما ضاق من دنياه. . .!
وقرأ الرافعي ديوان الأعشاب ثم. . . ثم هزَّته أريحيته إلى أن يكتب عنه، تحقيقا لرجاء الراجين فيه، وبرَّاً بصاحبه. وأبت كبرياؤه أن يكتبه مقالاً يُعَنْونه بعنوانه ويذيله باسمه؛ فدعاني إليه واصطنع حديثا بيني وبينه فأملاه عليَّ لينشر في الرسالة مذيَّلا باسمي؛ وما كان بيني وبينه حديث في شيء، ولكنها مقالة تواضعت من كبرياء فسماها حديثاً. . . وأرضى كبرياءه وعاطفته الرحيمة في وقت معا.
كان الرافعي في حرج وهو يملي عليَّ هذا الحديث؛ إذ كان يخشى أن يناقض نفسه في الرأي وهو يكتب عن هذا الشعر رعاية لصديق، ولكنه خرج من هذا الحرج بحسن احتياله، فجعل أكثر مقالة عن الشعر بمعناه العام ورأيه فيه ومذهبه منه؛ ثم خص الديوان بكلمات في خاتمة الحديث كانت هي خلاصة الرأي فيه؛ وبذلك بريء من الإسراف في المدح ومن الإيلام من النقد، وخرج من الأمرين معاً إلى تحديد معنى الشعر ووسائله وغايته. فأجاد وأفاد في باب من القول له منزلة ومقدار.
ومن كلماته في هذا الحديث:
(متى ذهبت لتحتج لزيغ الشعر من قِبَل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل لتصحيح فساده بالفن؛ فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر. . . لم يستوفي تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأى ناظمه وافتتانه به ودفاعه عنه؛ ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به. . .)
ونشر هذا الحديث في الرسالة، ومضى شهر آخر. . . ثم جاء البريد ذات صباح إلى الرافعي بكتاب من الزيات، يعرض عليه أن يكون معه في تحرير الرسالة بمقالة ينشرها كل أسبوع أو كل أسبوعين، وقدر له أجرا. . . وقَبِل الرافعي، وما كان له بدٌّ من أن يقبل،(262/30)
لبعض ما قدمت من الحديث عن شئونه الخاصة في هذه الفترة من حياته. وكانت مقالته الأولى بعد هذه الدعوة، هي مقالة (لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فَنِّيَّته)
وتوالت مقالات الرافعي بعد ذلك في الرسالة، فنشر في الأسبوع التالي مقالة (الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام) وأحسبه اختار هذا الموضوع - على انقطاع الصلة بينه وبين الموضوع السابق - احتفاء بالمولد النبوي؛ إذ كان هذا موسمه
ثم نشر (موت أم) وهي صورة حية نابضة لصبْية فقدوا أمهم وما يزال أكبرهم في الثامنة؛ وهي صورة حقيقية مرَّت أمام عينيه فانفعلت بها نفسه؛ أما هذه الأم فهي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف، وأما هؤلاء الصِّبية فبنوها؛ اهتصرها الموت في ريعانها فمضت وخلَّفت وراءها أربعة، فبكاها الرافعي بكاء الوالد؛ وما أعلم أنه مشى في جنازة قبل جنازتها، ودفنت في مقبرة آل الرافعي بطنطا. ولما عاد الرافعي من الجنازة ليعزي الأستاذ مخلوفاً في داره، دعا بولده ليمسح على رأسه ويسرِّي عنه، فكان بين عينيه وعينيَّ الطفل حديث طويل؛ فما غادر مجلسه إلا ورأسه يفيض بشتى المعاني وقلبه يختلج بفيض غامر من الألم، وعيناه تترقرق فيهما الدموع!
وروَّح إلى داره فجلس إلى مكتبه يفكر. . . ومضى يوم ثم أرسل يدعوني إليه فأملى عليَّ (موت أم!)
وكان في الأسبوع التالي موعد امتحان الشهادة الابتدائية فكانت مقالته (حديث قطَّين) وإنها لتتحدث بنفسها عن مناسبتها. وإن فيها لشيئاً من خلق الرافعي لم يكن يعرفه إلا الخاصة من أصحابه، ذلك هو طبيعة (الرضا) بما هو كائن؛ فقد كان ذلك من ألزم صفاته له؛ فكان دائماً باسماً منبسط الوجه، يقنع نفسه في كل يوم بأنه في أسعد أيامه؛ فمن ذلك كان يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذةً يُشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيراً يترقبه ويهيئ له. ولعل أحداً لا يعرف أن الرافعي لم يكن يرى في تلك العلة التي ذهبتْ بسمعه وما يزال غلاماً، إلا نعمةً هيأتْه لهذا النبوغ العقلي الذي أملى به في تاريخ الأدب فصلاً لم يُكتب مثُله في العربية منذ قرون! ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدَر وقانونِ التعويض يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . . وذلك بعض إيمان الرافعي!(262/31)
هذا الخلُق هو المحور الذي كان يدور حوله الحديث الذي اصطنعه الرافعي على لسان القِطَّين؛ وهو الذي حمله من بعد على إنشاء مقالتي (سمو الفقر) في العدديين التاليين من الرسالة؛ والشيء يُذكر بالشيء؛ فلولا ما جاء في امتحان الشهادة الابتدائية لذلك العام ما أنشأ الرافعي حديث قطين، ولولا ما ألهمه حديث القطين من المعاني في فلسفة الرضا ما أنشأ مقالتي سموَّ الفقر؛ ففي هذه المقالات الثلاث موضوع واحد اختلف عنوانه واتحدت غايته وكانت مناسبتُه ما قدَّمْت. . .
ثم أنشأ مقالة (أحلام في الشارع) وقصتها أنني كنت أساهر الرافعي أحياناً في قهوة (المنوس) بطنطا أو في السينما؛ فإذا ما انتهت السهرة صحبته إلى قريب من داره ثم أروح وحدي، وكنا نمر في طريقنا كل ليلة بدار (بنك مصر)، ففي ليلة ما كنا عائدين من السينما وقد انتصف الليل؛ فلما صرنا قبالة (البنك) وقف الرافعي هنيهة ليشهد منظراً استرعى انتباهه: طفل وطفلة من أبناء الشوارع نائمان على عتبة البنك، وقد توسَّدت الفتاة ذراعاً وألقت ذراعاً على أخيها. . . ووقف الرافعي ووقفْت. . . ورأى الشرطيُّ ما رأينا فأسرع إلى الطفلين. . .
وفي الغد أملى عليَّ الرافعي مقالة (أحلام في الشارع!). . . وكانت المقالة التالية (في اللهب ولا تحترق!)
وهي الممثلة الراقصة المغنية ف. . . وكانت تعمل في فرقة من الفرق التمثيلية المتنقلة بين الحواضر، حلت مع فرقتها في طنطا في صيف سنة 1934، ولسبب ما لم يذهب الرافعي إلى مصيفه في سيدي بشر هذا العام، واستغنى عن البحر والمصيف بما قد يكون في طنطا من أسباب الملذات والرياضة؛ وإن فيها لَغَناء وعوضاً. . .
وكنا ثلاثة من أصدقاء الرافعي نسمر معه كل مساء (س، ا، ع) وجلسنا حوله ذات ليلة، وكان متعبا مكدوداً يشعر بحاجته إلى لون من ألوان الرياضة يرد إليه نشاطه وانبساطه؛ قال: (أين تقترحون أن نقضي الليلة؟)
قال ا: (إن في متنزه البلدية فرقة تمثيلية، هبطت المدينة منذ أيام، وإن فيها لمغنية راقصة، أحسبها خليقةً أن توحي إليك بفصل جديد من أوراق الورد!)
فمط الرافعي شفتيه ولم يعجبه الاقتراح. وأحسب أن الصديقين اوع كانا على رغبة(262/32)
مشتركة في هذه السهرة، فما أحسَّا رفض الرافعي حتى قال ع: (. . . ولكنها راقصة ليست كالراقصات: إنها صوَّامةٌ قوَّامة، تصوم الشهر وستة أيام بعده، وتقوم الليل إلا أقلَّه، وتصلي الخمس في مواعيد الخمس؛ وما أحسب رقصها وغنْاءها إلا تسبيحاً وعبادة. . . إنها. . .!)
مغنية وراقصة، ولكنها صوامة قوامة. . . يا عجباً وهل في الراقصات كهذه التي يصفها الصديق العابث ع؟. . . ولكن الرافعي صدَّق، وعرف الصديق طريق الإقناع إلى قلب الرافعي. واتفقنا على الرأي. . .
(هذه هي الراقصة التي أعنى. . .) هكذا قال الصديق (ع) فاشرأب الرافعي ينظر من وراء الصفوف. لقد رآها، ولكنها لم تكن أمام عينيه كما هي في أعين هؤلاء الناس. . . كانت تحت عينيه إنسانة أخرى لها طهر وقداسة واحترام. . .
هذا الصدر الناهد، وهذه الساق اللفاء، وذلك القوام الأهيف، وهاتان العينان الحالمتان، وهذا الخد الناضر، وهذه الشفة الباسمة، وذلك الشعر اللامع. . . هذه كلها سحر وفتنة، تعترك حولها شهوات الرجال، وتترامى إليها أماني الشباب؛ ولكن رجلاً واحداً بين النظارة لم يكن يبصر شيئاً من ذلك: رجلاً لم يكن أحد فيمن أعرف أضعفَ منه بازاء سحر المرأة، ولكنه الليلة شخص غير من أعرف؛ ولكن هذه الراقصة بازائه غيرها بازاء الناس. . . هي في عين الجميع (أنثى) فاتنة، ولكنها بعينيه هو قديسةٌ تستحق التبجيل والاحترام. . .
كانت على عين الجميع راقصة تغني، وكانت بعينيه عابدة تسِّبح وتصلي. . . كان الناس ينظرون إلى الراقصة وهي تفتنُّ في إغراء الرجال بالنغمة والحركة والرَّنْوَة الفاتنة، وكان الرافعي ينظر في أعماق نفسه إلى صورة أخرى رسمها من خياله فقامت حياله تريه مالا يراه الناس!
وانفض السامرون إلا قليلا تحَّلقوا حول الموائد يقرعون كأساً بكأس، ونهض الرافعي فيمن نهض. . .
ومضى يومان، ثم دعاني ليملي عليَّ مقالة (في اللهب ولا تحترق!)
ولما فرغ الرافعي من شأن هذه المقالة، دعا إليه بصديقه (ع) يستزيده من خبر هذه الياقوتة الكريمة، ويسأله الوسيلة لقائها إن كان بينهما سبب، لعل اجتماعاً بينها وبين الرافعي يفتق ذهنه عن موضوع جديد يكتبه لقراء الرسالة؛ فابتسم الصديق (ع) وقد دبر في نفسه حيلة(262/33)
تجمع بينها وبينه؛ وهل يعجزه هو - وهو مَن هو - أن يجد وسيلة لمثل هذا اللقاء ليمضي في مَزْحَته إلى النهاية؟
وذهب (ع) يسأل عن الراقصة ويستقصي خبرها فعرف. . .
لقد فرَّت (الياقوتة) مع موسيقيَّ الفرقة، ومضى زوجها في أثرهما، فانحلت الفرقة وغادرت المدينة
وجاء النبأ إلى الرافعي؛ فما عرف إلا من بَعد أنها كانت مزحة من الصديق ع فأسرَّها في نفسه. . .
وعاد الرافعي إلى المقال يقرؤه منشوراً في الرسالة وهو يضحك ويقول: (أهذا ممكن؟ أهذا مما يكون؟ أتكون في اللهب ولا تحترق؟)
فرد الصديق (ع) قائلاً: (لقد احترقت!)
وكانت كذبة، ولكنها أنشأت مقالة لم يُنشأ مثلها فيما قرأت من روائع الأدب!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(262/34)
بين العقاد والرافعي
مناقشات وشروح
للأستاذ سيد قطب
- 11 -
عتب علي كثير من الإخوان، وكثير من القراء، انشغالي في بعض الأحيان بالردود على بعض من كتبوا في الرسالة - عن الموضوع الأصيل الذي اخترت الحديث فيه، وعن شرح الآراء العامة التي أدليت بها في أدب العقاد وأدب الرافعي، وسوق الأمثلة وتقرير الحقائق
وعند هؤلاء الإخوان أن آخذ بسبيلي في الموضوع الأصيل غير ملتفت إلى شيء مما يقال - لأنه لم يقل شيء يستحق العناية به - وهذا كان رأيي الذي صرحت به مرة ومرة
وبودي لو أطعت هؤلاء الراغبين في الاستفادة، ولم ألق بالي إلى شيء مما يقال، ولكنني في الواقع أرى هناك ارتباطاً وثيقاً بين الموضوع ذاته وبين المناقشات التي تدور حوله، لا في موضوعها وقيمتها، ولكن في شكلها وبواعثها
وأفسر هذا فأقول: إن المدرسة العقادية تعني بتصحيح المقاييس الأدبية عنيتها بتصحيح المقاييس النفسية، وقد أوردت من هذا نماذج في شعر العقاد، عن (عدل الموازين. والعبوسة والبشاشة. ودرجات الفضائل. . . الخ) فإذا ما عنيت بمناقشة الأستاذ العريان، والأستاذ مظهر، أو سواهما، فإنما أوجه عنايتي إلى (كشف) العوامل النفسية التي تبعثهما على الكتابة، وإلى (فضح) الظواهر المصطنعة التي تبدو فيها الأحكام، وإلى (تشخيص) العنت و (العدالة الزائفة) في إصدارها
وهذا كله يعني المدرسة الحديثة عنايتها بالآراء الأدبية ذاتها، فما تقصد هذه المدرسة إلى تصحيح معايير الآداب والفنون، إلا وهي تعني من ذلك تصحيح الأمزجة والنفوس. وهي لا تقصد بهذا الدعوة إلى المبادئ الخلقية التي يحترمها الناس بقوة العرف والاستمرار، ولكن تريد إن تصح النفوس فتكون هذه المبادئ أثراً لتفاعلها مع الحياة، أو جزءاً من غذائها اليومي الذي يدخل في كيانها، لا أن تكون كالثوب تلبسه وتخلعه حسب المناسبات!(262/35)
ومن هنا كشفت عن (العدالة الفريدة) التي تصف رد العقاد على الرافعي بأنه (سباب وشتائم) وتصف نقد الرافعي بأنه (منزه عن العيوب) وكان هذا الكشف بالأمثلة التي لا تدع قولاً لقائل!
ومن هنا كذلك كشفت عن (النزاهة العجيبة) في وصف الدفاع عن العقاد ومدرسته بالشذوذ ومناصرة شخص على شخص ووصف (على السفود) بأنه (مثال يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص) وجئت كذلك بما استطعت أن أنقله عن الرافعي من أسلوب في شتم العقاد!
وأنا أعتبر هذا جزءاً من تصحيح أساليب الأدب - باعتباره وسيلة لتصحيح النفوس - ولا أدرى أنني عدوت الموضوع الذي أتحدث فيه على هذا الاعتبار.
فأما الواقع فإنني أعجب لهذه الكثرة التي كتبت ترد عليّ دون أن تقول شيئاً في (الموضوع) مع مطالبتها لي أن أترك (الذاتية) وأتناول (الموضوعية) في أدب العقاد وأدب الرافعي!
وهاأنذا أراجع كل ما قيل. فماذا أرى؟
كل ما كتبه أنصار الرافعي، إنما هو شتائم شخصية، لسيد قطب، أكثرها في أدبه وخلقه ونفسه - وهو خارج نهائياً على الموضوع - وأقلها في تفكيره واستعداده واطلاعه - وهو قد يتصل بالموضوع - ولكن بدون دليل، إلا إشارات البكم، وتعبيرات العوام عن المسائل المبهمة في نفوسهم، التي لا يحسنون التعبير عنها ولا يقدمون الدليل.
أفيعنيكم - يا هؤلاء جميعاً - أن تشتموا كاتب هذه الكلمات؟ لئن كان الأمر هكذا فأنا معكم أعاونكم في شتمه إذا عجزتم، وأصرح لكم عنه بما يمنعكم خوف تقاليد الأخلاق - لا حياء نفوسكم - من التصريح به!
ولكن ماذا يعني هذا، وأي شيء يكون قد استوى لكم، أو للمتأدبين والقراء؟ إنه ليبقى وراء ذلك آراء أبديت في أدب الرجلين وأمثلة قدمت لهذه الآراء، وشروح تضمنت بعض النظريات في الأدب وفي الحياة؟ وكل هذا قد بقى سليما كما هو، لم تتناوله ردودكم ومناقشاتكم، لأن شتيمة كاتب معين شغلتكم عن كل ما عداه من الآراء والأمثال!
ولقد أظهرت هذه المعركة أنكم تمضون في الشتائم والتهم فينفسح لكم المجال، حتى إذا(262/36)
قاربتم (الموضوع) وأردتم مناقشة الأمثلة، ظهر العجز الفاضح والقصور في الفهم والاطلاع. ليست كلمات الأستاذ (الطنطاوي) ببعيدة، وقد عجبت لاستطاعة الأستاذ (عبد الوهاب الأمين) أن يصبر على مناقشتها كما عجبت لصبر الأستاذ (كامل نصيف) في الرد عليها، في حين لم أجدني مستطيعا - على فرط المحاولة - أن أنظر إليها كشيء يستحق الالتفات!
وكيف يمكن أن تلتفت مثلا لرجل يكاد يفهم من قول العقاد عن الجيبون (يا عميد الفنون) أننا سنأتي غدا بقرد نجعله عميد (كلية الآداب) أو (الفنون الجميلة) فيفرَق لهذا الحدث الخارق من المجددين!. ثم ينتفض ذعرا من قوله (يا أبا العبقري والبهلوان) ويسأل الله السلامة من هذا (الاعتراف) الذي هو لحسن الحظ (حجة قاصرة)!
أو كيف يمكن أن تصبر على مناقشة رجل، يحلف لك بالطلاق أن كلمة (الجيبون) لا تدخل في شعر عربي، أو يستحلف سواه، ويفتي له بعدم طلاق امرأته! ويكون الحكم طبعا هو (مأذون الشرع) في قيمة الآداب!
وليته مع ذلك ابتكرها، فإنما هي بعينها قولة الرافعي في (على السفود) عن بعض الألفاظ في قصائد العقاد!
ووددت لو يحلف الأستاذ على هذا، فأفرق غداً بينه وبين زوجه - أن كان متزوجاً - لأن (ابن الرومي) وحده وهو شاعر عربي ذكر من مثل هذه الألفاظ العشرات في ألوان الطعام وأسماء الفواكه والخمر. كما ورد في أدب غيره!!
وبعد هذا تجد من يكتب فيقول لك: لم لا تناقش هذا الكلام؟ أناقشه؟ أكل من لاقاك في الطريق فقال كلاماً - أي كلام - تقف لتناقشه؟
على أنني وددت لو خفت حدة المناقشات، ولو عاد إليها هدوءها الذي بدأتها به في الكلمة الأولى. وهاأنذا أحاول الاهتمام ببعض مالا يصح الاهتمام به من الأقوال، وتناسي ما فيها من تعالم وتحفز، أو تفاهة وضآلة. ولعلني مفلح في تحويل هؤلاء الناس - كلهم - إلى معالجة الموضوع
وأبدأ بكلمة الأستاذ (رفيق اللبابيدي) وقد مهد لها بدالَّة الصداقة والزمالة، وساقها مساق من يورد رأيه - وليكن ما يكون - مما يشفع في تناولها بالتمحيص(262/37)
أول ما يراه أنني لم أقرأ كتب العقاد - على مذهبي من ضرورة الثقافات المختلفة لقراءتها - ولم أقرأ كذلك كتب الرافعي كلها
فأما العقاد، فقد قلت: إنني فهمته بمقدار استعدادي واطلاعي، وإنني سأرتقي في فهمه كلما زدت ثقافة واتسعت جوانب نفسي. فكان تفسيري له في هذه الحدود الضيقة بالنسبة له، الواسعة جد اتساع، بالنسبة لمن ينصبون أنفسهم نقاداً له، فيخرجونه من عالم الشعراء، بل الأدباء، وهم جالسون في راحة غبية، و (طمطمة) بليدة!
وأما الرافعي فقد قرأت له معظم ما كتب، فلم أر في شيء منه دلائل على أن هناك استعداداً، لأن يخرج هذه الطبيعة شيئاً مما أطلبه، يحفزني لقراءة الباقي، على الأمل في وجود ذخيرة نفسية. وقد عنيت أن أقرأ له الكتب والمقالات، التي تفيض النفس الإنسانية فيها بالشعور الخاص - عادة - فإذا لم يكن في هذا المجال صاحب ذخيرة، فما هو بصاحب ذخيرة على الإطلاق
أما الأمثلة التي سقتها، فليست منتقاة على اعتبار أنها (مما يوقع فيه) ولكن لأنها أدل على تصوير طبيعة خاصة، ناضبة من الذخيرة الإنسانية، ومن دفعة الحياة والعقيدة (العقيدة في الأدب والحياة لا في القاموس!)
ولي رأي في الأمثلة لا بأس من إيراده هنا. فالأديب قد يخطئ وقد يهبط في كثير من المواضع، ولكنه يبقى بعد أديباً لا تسلبه أخطاؤه ولا يسلبه ضعفه، صفة (الإنسانية) في أدبه (لا الإنسانية التي تقابل الحيوانية في تكوينه كما فهم بعض من يفهمون!) ولا تسلبه صفة (الطبيعة الفنية) وقد يخطئ أديب آخر مرة واحدة، فتسلبه هذه المرة كل الصفات
ومرجع ذلك هو (نوع) الغلطة ومقدار دلالتها على فهم الرجل للحياة، وعلى نوع إحساسه بها. كالرجل الذي يحدثك عن زيارته لمدينة القاهرة، فيترك كثيراً مما فيها من المشاهدات ويخطئ في وصف الكثير، ولا يدل ذلك على كذبه في وقوع الزيارة؛ ولكنه لو قال مثلاً: (إنه كان من المشاهد التي رآها أسد يخترق الشوارع والطرقات) لحكمت من فورك بأنه كاذب في دعواه، وهي مع هذا غلطة واحدة لا غلطات!
فحين يقول الرافعي: إن الحبيبة لا تتعلق بقلب حبيبها بعد انتهاء الحب إلا بخيطين اثنين هما غيظها له، وغيظه لها. . . يدل على أنه لم يحس الحب يوماً ما، ولم يحسن ملاحظته(262/38)
في غيره، بل لم يكن ذا طبيعة قابلة للحب، ولا مستعدة لتلقي دفعاته وانفساحه ولو كتب بعد ذلك عن الحب ألف كتاب
وحين يقول ما يفهم منه أنه يرى النهر الذي حافتاه من الذهب والفضة ومجراه من الدر واليواقيت، أجمل من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر، ومجراه من المدر والطين. . . يدل على أنه لم يحس الإحساس بجمال (الطبيعة)، بل على أنه لم يوهب الطبيعة التي تحس هذا الجمال
وهكذا كل مثال جئت به لمثل هذه الغاية، فهي غلطات: (الأسد الذي يخترق شوارع القاهرة) لا غلطات النسيان والضعف الطارئ، والخطأ العارض في التعبير، ولعل في هذا البيان كفاية
ولعل القسوة التي يتخيلها الأستاذ، ليست في الحكم الذي أصدرته؛ ولكنها في وضع الرافعي مقابلا للعقاد، والجمع بينهما في عنوان؛ فمن هنا بدأت مطالبة الرافعي بأدب الطبع، وأدب النفس، لأن المقابل له فياض بهذا النوع، مبرز فيه، بل هو ميزته ورمز فنه. وقد كان من جراء مطالبة الرافعي بهذا اللون الرفيع من الفن الأدبي، ظهور خوائه، وإنكار أدبه (إذ كان المطلوب نوعاً خاصاً منه يعلو على مجرد الأسلوب المتمايل، والجمل المنقوشة). فهذه هي القسوة. ومتى أعفينا الرافعي من أدب النفس والطبع، فقد نجده بعد ذلك شيئاً في التعبير، في الأخذ بطريق خاصة في هذا التعبير، ولكن ما قيمة ذلك في عالم الطبائع الفنية، وفي معرض التعبير عن النفس وتمثيل الحياة؟
ثم يسألني رأيي في أبيات اقتطعها من قصيدة للعقاد، وشعر العقاد وحدة لا بد من عرضها كاملة - ومع هذا فأي شيء؟ لعله يريد أن يقول: ها هو ذا العقاد يشبه الحسن بالجوهرة، ويذكر اللآلئ كما ذكرها الرافعي!
وهذه ملاحظة شكلية، فما قلت: إن كل من ذكر هذه الألفاظ يكون خواء من تقدير الجمال الروحي، ولكن الذي يقول كما قال الرافعي، ويبدئ ويعيد، ويراها أجمل من الطبيعة كما قال عن (النهر). . . يكون كذلك
فأما حين نقول: إن الحسن جوهرة، ثم لا يكمل البيت حتى نقول: (لها الثراء) (ثراء النفس أثمان) وحين نقول: إن هذا الحسن يناله من لا يعرف قيمته، ويحرمه الخبير بجماله(262/39)
وسحره وطبيعته، كالجوهرة التي يحرمها اللآل ويقنو نفيسها من لا يسومها. . . الخ
حين نقول مثل هذا فنحن في صميم الشعور الروحي. والجوهرة واللآل هنا أدوات للتشبيه، وليست مقصودة لذاتها، ولا مغالي في قيمتها. (وثراء النفس) هو الملتفت إليه، والمقدر ثمنا لهذا الحسن الفريد
أما إنكار الأخ لشاعرية العقاد فليس لي فيه كلام. ووددت - والله - لو أنني أملك طبيعة فنية أخرى، أهبها للزميل. ولكني آسف معذور. وكذلك قولي في الحديث عن (الجيبون)!
أما أسئلة (ع. . . دمشق) فوددت لو خلت من هذا (الجفاف الناشز) في آخرها. ومع هذا فسأغض الطرف عنه، وأعتبرها أسئلة لمستفهم لا متعالم!
فمن السؤال الأول: أذكر أن في الأشياء حياة نابضة في ضمائرها، وهي أعمق وأولى بعناية الفنان من الحياة الظاهرة على سطوحها ولو اتصلتْ بها - فحياة الزهر الظاهرة تبدو في لونها ورائحتها وطراءتها. . . الخ. أما الحياة النابضة في ضميرها فهي المتصلة بتعبير الحياة المعنيَّ في هذه الزهرة، وقصد الطبيعة من إنشائها. وهي الحياة التي تستمد من نهر الحياة الكبير الجاري منذ بدء الخليقة إلى نهايتها، المتدافعة أمواجه في كل حي وجد أو سيوجد. وهي الحياة التي تكون حلقة في سلسلة الحياة الكبرى المتطورة من الخلية الواحدة إلى الإنسان. وهذا الالتفات الأخير هو الالتفات الفني لنظرية دارون، الصالح لأن يتناوله الفن والأدب، لأنه يتناول الحياة في معرض أطوارها ونماذجها المعَّبرة
وعن السؤال الثاني: أذكر أن السائل أخطأ في إرجاع الضمائر إلى ما تعود عليه في الجملة. فنشأ هذا اللبس، فأنا لم أقصد أن الحياة الظاهرة على سطوح الأشياء - غير أشكال (الحياة) وصورها. إنما أردت أنها غير أشكال (الأشياء) وصورها فلا داعي للسؤال. أما أن العناية بالحياة في الضمير والحياة في الظاهر أولى بالتفات الفنان من صور الأشياء وأشكالها، فهذا حق. والذي يقول:
وكأن محمر الشقي ... ق إذا تصوب أو تصعد
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
لا يرى غير أشكال الأشياء وصورها، ولا يعني بحياة الشقيق في سطوحها ولا في أعماقها، فيكون قوله تافهاً وإن سومه عشاق التشبيهات النفيسة بسعر كبير!(262/40)
وعن السؤال الثالث: أذكر أن الخوالج النفسية والصور الذهنية، وأدب الذهن، وأدب الطبع، تدل على ألوان من الأدب تكاد الآن تكون قد أخذت وضوح دلالة (العلم) على المسمى. وقد ضربت لها أمثلة - مع هذا - فمن لم يكن قد سمع شيئاً عن هذه الألوان من الأدب، ولم يكن قد أمكنه الانتفاع بالأمثلة التي سقتها، فليقرأ، ولينتظر حتى تنضج في نفسه هذه المعاني
أما السؤال الرابع فلا معنى له بعد ما قلت عن أسلوب العقاد ما قلت، وبعد ما وعدت بالإفاضة عن هذا الأسلوب. فليقرأ السائل كلماتي كاملة. وليراجع كلمة الأستاذ عبد الوهاب الأمين فهمي مفصحة عن هذه الناحية
وأما ملاحظة الفاضل (علي كمال. فلسطين) فنصفها في موضعه؛ وقد نشأ هذا من اضطراب في ترتيب بعض الجمل! وكثيراً ما يقع مثل هذا فنكتفي بفطنة القارئ. ولكن مع هذا بقي التناقض بين قول شوبنهور وتلخيص الرافعي واضحاً
فالرافعي يقول: (فإن محصل كلام هذا الفيلسوف أن ما تراه بسبب من إرادتك وغرضك وشهواتك، فجماله فيك أنت لا فيه لأنه في هذه الحالة صورة الاستجابة إلى ما فيك، فلو لم يكن معك أنت هذا الغرض، لم يكن معه هو ما خيَّل لك من الجمال. فهو على الحقيقة (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه)
وأول هذا الكلام لا صلة بينه وبين شوبنهور، ولا علاقة في منزع ولا اتجاه، وإنما هو رأي آخر في تعليل الجمال يعتبر رخيصاً جداً إذا قيس مستواه بمستى تفكير شوبنهور في رأيه وآخر هذا الكلام مناقض تماماً لرأي الفيلسوف (راجع ما بين القوسين الكبيرتين على كلام شوبنهور)
وبينما هو يقول - عن شوبنهور خطأ -: (فهو على الحقيقة باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه) - وهو عكس رأي شوبنهور - يعود فيقول: (فالنتيجة من ذلك أن الأشياء تحزننا كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة، وأنها تفرحنا كلما ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة) وهذا عكس ما نسبه الرافعي أولاً لشوبنهور، وإن كان حقيقته هو رأي الفيلسوف المسكين!
الشيء باعتبار الفكرة المجردة جميل في رأي الفيلسوف الصحيح. والشيء باعتبار الفكرة(262/41)
المجردة لا جمال فيه، في الرأي الذي ينسبه الرافعي إليه. وهذا هو سوء الفهم والتخليط
وعلى كل فأنا شاكر لحضرة الأديب ملاحظته
أما الأستاذ سعيد العريان، فقد شغلنا عنه وعن كلامه الطويل بما هو لائق أن نتحدث فيه، فمعذرة يا أستاذ سعيد!
(حلوان)
سيد قطب(262/42)
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 2 -
كتب سيد قطب مقالات عدة يجرح فيها الرافعي وأدبه. وسيد قطب ليس من تلاميذ الرافعي ولا يبلغ أن يكونه، فما أظنه ولد إلا بعد أن ولدت مسألة القديم والجديد، وعمرها كما نبهنا في الكلمة السابقة لا يزيد على ثلاثين عاماً، وإذن فعمره من يوم ولد إلى يوم كتب لا يمكن أن يبلغ عمر أدب الرافعي الذي بدأ يقول الشعر الجيد على رأس التسعمائة كما يدل عليه ما نشرت الرسالة من نماذج شعره في ذلك العهد (أنظر مثلا العددين 213و214 من الرسالة)، وإذا كان عمر أدب الرافعي رحمة الله عليه أكبر من عمر صاحب تلك المقالات فقد كان المعقول أن يكتب عن الرافعي وأدبه بغير تلك اللهجة وبغير ذلك القلم لولا أننا في عصر انتقال من أسوأ سيئاته تمرد الشباب على النظم ولو كانت فاضلة، وتطاول الصغير على الكبير في الإشارة والعبارة إذا كان بينهما خلاف
ونحن إذ نقول هذا لا نأخذ على صاحب تلك المقالات أن يكون له في الرافعي رأي يخالف رأي جمهرة الأدباء، ولكن نأخذ عليه ما أخذه غيرنا من طريقة إبداء هذا الرأي. فلو كان ندا للرافعي لما حسن فيما يبدي من رأي إلا أن يكون مهذب اللفظ مؤدب القلم، فكيف وهو ليس للرافعي بند ولا لبعض تلاميذ الرافعي؟ إن الأديب من غير شك يستطيع أن يعرب عن رأيه في مقام كهذا من غير خروج على أدب القول ومن غير أن يزيد الطين بلة بالتماسه إلى هذا الخروج العلل والمعاذير
على أن إسراف تلك المقالات فيما ذهبت إليه من سوء الرأي في الرافعي وأدبه لا يشك فيه أحد ممن له شيء من الاتزان في التفكير. فلو غير صاحب تلك المقالات خطر له في الرافعي مثل هذا الرأي المسرف من أن ليس للرلفعي إنسانية ولا طبع ولا نفس ولا قلب ولا ذوق ولا ذهن ولا حياة إلى آخر ما شاءت له بغضاؤه أن ينفي عن الرافعي - لو غيره خطر له هذا في الرافعي لوقف من هذا الخاطر موقف المتهم المتشكك على أقل تقدير، إذ(262/43)
غير معقول أن يبلغ الرافعي رحمه الله ما بلغ من حسن السمعة وبعد الصيت في عالم الأدب العربي ثم لا يكون له من كل تلك الصفات حظ يفسر ما نال من صيت حسن وتقدير كبير عند جمهرة الأدباء رغم بعض العيوب البادية في بعض ما كتب من مثل (على السفود) ورغم ما في بعض كتاباته من صعوبة أو غموض. فالرافعي نال ما نال من حظوة ومكانة في عالم الأدب العربي رغم هذه العيوب، ثم نال ذلك غير مؤيد بمال ولا جاه ولا سياسة، وهذا معناه عند الناقد المتزن أن أدب الرافعي لابد عند التصفية أن تبقى منه بقية. كبيرة صالحة تكفي لتمجيده إن لم تكف لتخليده. وإذن يكون عمل النقد الأدبي أن يميز تلك البقية ويُجليها للناس تراثاً طيباً يضم إلى ما خلفت القرون من التراث العربي الأدبي الطيب. لكن مثل هذا الناقد يحتاج من قوة العقل، وسعة الاطلاع، ومحبة الحق والخير، ومجانبة العصبية والهوى، إلى ما لا تنبئ عنه تلك المقالات
إن أظهر ما تنبئ عنه تلك المقالات أنها نتاج العاطفة قبل أن تكون نتاج العقل. فالعاطفة الجامحة أوحت بكتابتها، والعاطفة الجامحة لونت الوقائع لقل صاحبها حين سخرته لحياكة ذلك النقد طبق وحيها. ومدار هذه العاطفة هو حب العقاد وبغض الرافعي: حب العقاد حب مفتون، وبغض الرافعي بغض مجنون. فلا مدح أكبر من أن يفيضه على العقاد، ولا ذم أوضع من أن يكيله للرافعي، وكأنه يعتذر في الحالين من التقصير. ولا عليه في حب العقاد أو غير العقاد أسرف في الحب أو اقتصد، بل لا عليه في بغض الرافعي أو غير الرافعي ما بقى بغضه سلبي الأثر؛ أما إذا حركه الحب أو البغض إلى العدوان على من يبغض في سبيل من يحب، فعندئذ تبدأ تبعته، وعندئذ تجب مراقبته ثم محاسبته على ما يكتب أو يقول خصوصاً إذا أراد أن يستتر بالنقد مبالغة في الكيد أو احتماء من القانون
لو كان للنقد الأدبي في مصر أو في العالم العربي قوامون يغارون عليه ويرعونه لتهيب اقتحامه من لا يحسنه، ولما أقدم على نقد مثل الرافعي من لا يعرف أو لا يراعي أوليات النقد. إن من أبسط أوليات النقد الإحاطة بالموضوع. وصاحبنا الذي لا يعجبه مذهب الأقدمين في النقد، ويريد أن يشق للناس طريقا جديدا، يقدم على نقد الرافعي فيما زعم من غير أن يحيط بأدب الرافعي أو يحاول أن يحيط به. وهو فيما يظهر لا يحس أنه اقترف بهذا جرما لأنه يعترف به في غير اعتذار ولا حياء. يقول في مقاله الثالث إنه كتب كلمته(262/44)
الأولى على صدى مطالعته القديمة للرافعي، وكتب كلمته الثانية وليس بين يديه إلا وحي الأربعين. ثم ذهب إلى رسائل الأحزان يتلمس الأمثلة توضيحا لرأيه فاصطدم بالرافعي كما يقول من جديد؛ وعلى وقع هذا الاصطدام كتب عن الرافعي ثم كتب حتى أبلغ كلماته إلى ثمان. فعمدته في تقدير الرافعي على الأخص شيئان: صدى مطالعاته القديمة، ورسائل الأحزان. وصدى مطالعاته القديمة هو كما يقول (صدى غامض يدل على الجملة ولا يمد الناقد بالتفصيل). ومطالعاته القديمة لا تعدو (حديث القمر) وما كان يكره نفسه على قراءته بعد (حديث القمر). و (حديث القمر) كما أخبر في كلمته الأولى كان أول ما قرأ للرافعي وقد أحس بعده ببغض الرافعي بغضا جعله لا يقرأ للرافعي إلا كارها، فتزداد كراهيته بما يقرأه من غير أن يعرف لذلك تعليلا كما يقول. فصدى هذه المطالعات كان من غير شك صدى بغضاء وكراهية، ومع ذلك فقد ظفر الرافعي من صاحبنا في مقاله الأول بنصيب يكاد يعدل نصيب العقاد حين أراد صاحبنا أن يقسم المزايا الأدبية بين الاثنين. فالعقاد أديب الطبع، والرافعي أديب الذهن. (العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة، والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع. والعقاد متفتح النفس ريان القلب، والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات) هكذا حكم سيد قطب بين الأديبين الكبيرين، وحكم لنفسه ضمنا بشيء كثير حين نصب نفسه حكما بينهما. وإذا تذكر أنصار الرافعي أن هذا الحكم فيما يتعلق بصاحبهم هو صدى غامض لمطالعات قديمة محفوفة بالكراهية والبغضاء كان لهم حقا أن يغتبطوا به. ولا عليهم من (مغلق) (ومتفتح العقل وحده للفتات والومضات) فان الحكم لا يعطي العقاد شيئا من التفتح العقلي ولو للفتات والومضات. فهو سوى بين الاثنين تسوية تكاد تكون تامة، أو بالأحرى جعل المزايا الأدبية قسمة بينهما على سواء تقريبا: أخرج العقاد من دائرة الذهن والعقل، كما أخرج الرافعي من دائرة النفس والقلب، وخص أحدهما بما نفى عن الآخر. فإذا شك أنصار العقاد في أن هذا مفهوم حكم صاحبهم على صاحبه ومنطوقه فليقرءوا مقدمة الحكم إذا شاءوا:
(وبعد فما كان يمكن أن يتفق العقاد والرافعي في شيء! فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء)
فهل لا يزال أنصار العقاد بعد هذا على شك من مفهوم حكم صاحبهم؟ إنهم ليس لهم أن(262/45)
يشكوا بعد هذه المقدمة، إذ لو كان العقاد يشرك الرافعي في أدب الذهن لاتفق الاثنان في شيء، والتقى الأدبان على شيء! أما وهما لا يتفقان ولا يلتقيان في شيء في حكم هذا الحكم المجدد، فما أثبته للرافعي من أدب الذهن الوضاء والذكاء اللماع لا بد أن يكون نفاه عن العقاد إن كان يعرف ما المنطق وما التفكير. ليس عن ذلك محيص
لكن لا عليهم هم أيضاً من حكم صاحبهم فانه لا يعني ما يقول ولا ينظر في أعقاب الكلام ونتائج المقدمات. هو حسن النية يلقي الكلام دفاعاً عن صاحبه كما ألقت الدبة ذلك الحجر المعروف
على أنه كان لحكمه هذا قيمة فقد عاد فنقضه في مقاله الثالث. نقضه بالنسبة للرافعي من غير أن يصلحه بالنسبة للعقاد. ولو خطر بباله أن حكمه ينتج غير ما يريد بالنسبة لمن يحب لأصلحه، ولكن ذلك يخطر بباله فاكتفى بأن نفى عن الرافعي الدائرة التي كان أثبتها له، دائرة أدب الذهن، وترك العقاد في الدائرة التي كان أثبتها له، دائرة أدب القلب، من غير أن يثبت له الدائرة الأخرى التي كان قد نفى عنه. وليس لرجوعه عن حكمه للرافعي داع إلا أنه فيما زعم ذهب يتلمس في (رسائل الأحزان) الأمثلة التي تفصل مجمل ما دل عليه الصدى الغامض لمطالعاته الرافعية السابقة، فاصطدم بالرافعي (واختلف الصدى الغامض القديم عن الصوت الواضح الجديد) كما يقول. فهو حين ذهب إلى (رسائل الأحزان) لم يذهب ليستوثق من صحة دلالة الصدى القديم التي بنى عليها حكمه الأول، لأنه لم يكن يخالطه في صحتها شك، إذ (ما من شك أن الرافعي كان ذكيَّا قوي الذهن) كما يؤكد في كلمته الأولى حين كان يلتمس أن ينفي أن يكون أدب الرافعي أدب طبع عن طريق تبيين أنه (كثيراً ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع إذا كان مع ذكاء وقوة). لم يذهب إلى رسائل الأحزان إذن ليستوثق من صحة تلك الدلالة أو ذلك الحكم ولكن ليؤيدهما ويفصلهما بأمثلة. فلما اختلف الصوتان وتعارضت الدلالتان مال عن الدلالة القديمة الغامضة إلى الدلالة الجديدة الواضحة؛ وهو يظن أن هذا كاف للرجوع عن حكم حكمه ورأى أرتاه، ولا يرى في ذلك شيئاً من سطحية الحكم والنظر التي كثيراً ما يرمي بها خصومه من غيره مبرر. لكن النظر السطحي وحده هو الذي يبرر الرجوع عن ذلك الحكم بمثل هذه السهولة لمثل هذا السبب. إن الغموض الذي وصف به صدى مطالعاته القديمة قد(262/46)
فسره هو وحده بأنه عدم إمداد الناقد بالتفصيل. فذلك الصدى إذن صحيح في جملته وإن لم يكن واضحاً في تفاصيله. والتفكير الصحيح كان يقضي ويتطلب أن يتفق الصديان أو الصوتان في الجملة إن كانا مما يبني عليهما حكم، فإن اختلفا لم يمكن بناء حكم على أيهما حتى يتبين وجه الحق فيهما ببينات جديدة. وكان المنتظر ممن جشم نفسه دراسة المباحث النفسية الجديدة ومباحث علم الأحياء ومباحث الضوء في الطبيعة إلى آخر ما حدث عن نفسه في مقالة السادس أنه قد درسه كي يرقى إلى محاولة استيعاب العقاد - كان المنتظر من مثل هذا أن يكون قد انتفع أيضاً بتلك الدراسات العلمية إلى حد الرقي إلى تذوق الروح العلمية وتفهم الطريقة العلمية في النظر، فهذا أنفع له وأجدى عليه من كل ما عرف من مفردات الوقائع والحقائق والنظريات. فلو كان رقي إلى الروح أو الطريقة العلمية في النظر والاستدلال، ووجد في البحث الذي كان بصدده أن رسائل الأحزان تخالف في دلالتها حديث القمر، وما تبعه من مطالعات للرافعي وأن قلَّت، إذن لوقف موقف العالم الذي يجد نفسه حيال فرضين كل منهما يفسر شطراً من الوقائع التي لديه من غير أن يفسر الشطر الآخر، فينبذ الفرضين جميعاً ويسعى للوصول إلى فرض جديد يفسر الوقائع جميعاً. فإن كانت الوقائع قليلة، كما هي في حالة صاحبنا حين أراد أن يحكم على الرافعي من كتابين اثنين - سعى العالم إلى تكثير الحقائق قبل أن يطمئن إلى فرض يفسرها، كما كان يجب على صاحبنا أن يقرأ كل ما كتب الرافعي قبل أن يطمئن إلى حكم يحكمه، لا أن يقرأ كتابين على فترة طويلة من الزمن حتى إذا اختلف صداهما عنده حكم لأحدهما على الثاني من غير قرينة ولا مرجح. وإذا كان الرأي الذي حكم له أقرب إلى ميله واتجاه عاطفته - كما هو الواقع - لم يبق شك في أن صاحبنا الناقد المجدد مسير بعاطفته لا بعقله: يتبع العقل ما اتفق وعاطفته، فإذا اختلفا ترك عقله واتبع هواه
ومن عجيب أمر كاتبنا الناقد أنه أصدر في أمر الرافعي أحكاماً ثلاثة في كلمتيه الأولى والثالثة من غيره أن يكون لأحد هذه الأحكام أساس معقول. قرأ حديث القمر وما إليه فازداد كراهية لذلك اللون من الأدب من غير أن يجد لذلك تعليلا، غير أنه كان يزعم لإخوانه أن الرافعي خواء من (النفس) وأن ذلك سبب كراهيته له. هذا حكمه الأول أبداه على تردد وكأنه يعتذر منه فكان بذلك أقرب إلى المعقول(262/47)
ثم كتب صديق الرافعي الحميم فصوله الممتعة في تاريخ الرافعي وضمنها تاريخ حب الرافعي في الأعداد 226 إلى 232 من الرسالة بدأها أول نوفمبر وانتهى منها حوالي منتصف ديسمبر سنة 1937 فاغتبط ناقدنا كما يقول لأنه وجد للرافعي حبا له مظاهر وخطوات وأخذ يعلل اغتباطه ذلك بقوله: (إن خيالي المنبعث من قراءة الرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته، فالحب يتطلب قلباً وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب، والحب يقتضي (إنسانية) وكنت أفتقدها فيه). حسن. ها هو ذا قد عرف أن خياله المنبعث من قراءته الرافعي كان مخطئاً، فهل تراه غير رأيه في الرافعي وأثبت له ما كان ينفيه عنه من قبل من أخص خصائص الإنسان بله الأديب؟. لا. واسمع له يتم لك بقية حديثه فانه حديث عجب:
(لقد ظللت هكذا) - أي قاسياً على الرافعي ينفي الإنسانية والقلب عنه - (حتى استطعت أن أكون ناقداً لا يكتفي بالتذوق والاستحسان والاستهجان ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟ لقد عدلت حكمي قليلاً، وخفت حدته ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه ولكن بقي الأساس سليما
كنت أنكر عليه (الإنسانية) فأصبحت أنكر عليه (الطبع)؛ وكنت لا أجد عنده (الأدب الفني) فأصبحت لا أجد عنده (الأدب النفسي)
كلام مرصوص قد ينخدع به مثل كاتبه، إن جاز على أصحاب (الأدب النفسي) فلا يجوز على أصحاب (الأدب الذهني) تأمل هذا الكلام قليلا، تأمل أوله ثم تأمل آخره. لقد ظل ينكر على الرافعي الإنسانية والقلب حتى أصبح ناقداً يعلل ويحلل. وقد رأيت من كلامه قبل ذلك أنه كان على هذا الإنكار حتى حدثه العريان بحديث حب الرافعي في أواخر سنة 37. إذن فاستطاعته أن يكون ناقداً لا يمكن أن تكون سبقت هذا التاريخ، وإن حدثنا في مقاله الخامس عن محاضرة له في وحي الأربعين ألقاها سنة 34. فتلك المحاضرة إذن كتبها قبل أن يستطيع نقداً أو تعليلاً أو تحليلاً إن كان يعني كلامه السابق، ويكون كلامه السابق هدما لما في تلك المحاضرة من نقد وتحليل يحيل عليه في مقاله الخامس. أما إذا كان لا يعني كلامه السابق وكانت محاضرته تلك تحتوي على نقد نفيس فان هناك تفسيراً واحداً لهذا التناقض هو أن صاحبنا الكاتب الأديب لا يحسن التعبير عما يريد باللغة التي هو أخصائي(262/48)
فيها
عد عن هذا وسلم له استطاعته النقد حين قرأ حديث حب الرافعي، بصرف النظر عن مبدأ هذه الاستطاعة؛ وانظر في النتيجة التي رتبها عليها. لقد عدل حكمه قليلاً. لماذا هذا التعديل القليل أو الكثير؟ وما علاقته باستطاعة صاحبه النقد والتعليل والتحليل؟ إنه لم يقرأ للرافعي شيئاً جديدا ينقده، ولم يرجع إلى ما قرأ قديما فيعيد قرأته ليحلله أثره في نفسه. إن المقروء القديم هو: حديث القمر وأكره نفسه عليه. ولو كان قرأه ثانيا من جديد ما كان صداه ذلك الصدى الغامض الذي يدل على الجملة ولا يمد بالتفصيل. إذن فماذا نقد وماذا حلل ولماذا عدَّل؟ هل نستطيع لهذا جوابا؟ هل يستطيع هو لهذا جوابا لا مراوغة فيه ولا (لعب على حبل)؟ إن أحاديث العريان عن حب الرافعي يجب أن تؤخذ كلها أو تترك كلها لأنها من قبيل الأخبار. فان أخذت كلها لزم الكاتب الناقد إثبات (الإنسانية) و (القلب) للرافعي من غير قيد ولا شرط. وإن تركت كلها لزمه الوقوف عند رأيه الأول من غير تعديل كثير أو قليل. فلماذا إذن ذلك التعديل القليل وما علاقته باستطاعة صاحب المقلات النقد والتعليل والتحليل؟ أم هي كلمات ترص ليس تحتها معنى مقصود محدود؟ أم هي العاطفة تسير صاحبها في حكمه وإن قام على خطئها الدليل؟
على أننا سنغض الطرف عن هذا كله ونفرض أن استطاعته النقد مكنته بطريقة ما من تعديل الحكم تعديلا قليلا. فهل تراه عدله تعديلا ما! لقد كان يزعم قبل أن يعرف للرافعي حبا أن الرافعي خواء من (النفس) والآن وقد عرف للرافعي حبا كثيرا أصبح لا يجد عند الرافعي (الأدب النفسي) بعد إن كان لا يجد عنده (الأدب الفني)! أتجد فرقا بين خلو الرافعي من (النفس) وخلو أدبه من (الأدب النفسي) الذي لا يصدر إلا عن (نفس) على حد تعبيره؟ ما نرى صاحبنا إلا وقد سلب الرافعي باليمين ذلك القليل الذي أعطاه بالشمال، وقد صرح بهذا السلب في صدر مقاله الثالث وإن زعم في مقاله الأول أنه اغتبط لما حدثه به العريان من حديث حب عدَّل حكمه من أجله بعض التعديل.
بقيت واقعة صغرى ليست بذات بال في نفسها وإن كان لها دلالتها النفسية على تعبير صاحب تلك المقالات. إنه حين أحس بالغضاضة في التراجع عن حكمه الأول بين الرافعي والعقاد إلى حكمه الأخير الذي بناه على رسائل الأحزان، أراد أن يمهد لذلك التراجع لدى(262/49)
القارئ في مواربة وجمجمة، فهل تدري ماذا صنع؟ إنه زعم أنه أخطأ في عدم تحديد (الذهن) الذي قال إن الرافعي يصدر عنه في أدبه في مقاله الأول، فإن من الأذهان ما هو مشرق أو خاب وما هو متفتح أو مغلق إلى آخر ما قال. لكن رجعة إلى صيغة حكمه الذي نقلناه لك في هذا المقال تبين لك حظ هذا الزعم من الصراحة والصدق. إنه لم يخطئ في عدم (تحديد) الذهن لأنه حدده بأوضح الألفاظ في ذلك الحكم. وقد كان يستطيع أن ينكر ويتراجع في صدق وصراحة من غير لف أو اختداع للقارئ. ولا عليه من شيء قاله أو يقوله من مدح أو ذم، من إطراء أو هجاء، فان المدح والذم يستويان عند (ذوي المواهب الذهنية) إذا صدرا عن (ناقد) تسخَّر عقله العاطفة، كما بينا في هذا المقال، وكما نرجو أن نزيده إن شاء الله بياناً فيما يأتي من الكلام
محمد أحمد الغمراوي(262/50)
محمد إقبال
للدكتور عبد الوهاب عزام
منذ شهرين خفت صوت كان يقصف في أجواء الشرق ليوقظه، وخبا برق كان يتلألأ في الظُلَم المتراكمة يضيئها، وطفئ مصباح كان نوراً للسالكين في هذه الغياهب، وهدى للحائرين في هذه الفتن، وسكن قلب كان يحاول أن يزلزل الأرض بخفقانه، وينشئ الناس نشأة أخرى بإيمانه، وهمدت نفس حرة كانت تكبر على حدود الأوطان والحدثان، والزمان والمكان
منذ شهرين فقد الناس عامة، والمسلمون خاصة شاعراً مفلقاً، ومفكراً مُبدعاً، وفيلسوفاً حرّاً؛ وافتقد شباب المسلمين في الهند وغيرها حامل اللواء الذي كان يدعو إلى السمَّو فوق كل عقبة، والسير وراء كل غاية، ويناديهم صباح مساء
آه للعشق الذي قد ذهبا ... ملأ الأرض ضياء وخبا
رُزق الميلاد في أرض الحرم ... وأتاه الموت في بيت الصنم
كلا. ما خفت الصوت، ولا خبا البرق، ولا طفئ المصباح، ولا سكن القلب الكبير، ولا همدت النفس الحرة، فكل أولئك خالد في آثار إقبال
- 2 -
كان محمد إقبال عقلا كبيراً، وقلباً عظيما؛ درس ووعى مدنية الإسلام ومدنية أوربا ثم قام ناقداً لا مقلداً، وحرّاً لا عبداً؛ فكان من عظم عقله، ووقدة ذكائه، وكبر نفسه، وسموَّ قلبه، ومن العلم الواسع والإلهام الإلهي هذه الآثار الخالدات
وهب إقبال فكره وقلبه للمسلمين يوقظهم ويعلمهم، ويصف داءهم ودواءهم، ويُشيد بماضيهم، ويبشر بمستقبلهم، ويصوغ وحي عقله وعاطفة فؤاده شعراً يوقظ النفوس الهاجدة، ويشعل الهمم الخامدة بل يكاد يبعث الأموات، ويحيى الموات، تنسم فيه نفحات صوفية، وتنير في جوانبه لمعات الاهية. وقد صدق شاعر الإسلام محمد عاكف بك رحمه الله إذ قال: لو أن جلال الدين الرومي صاحب المثنوي بعث في هذا العصر لكان محمداً إقبالا
- 3 -(262/51)
نظم إقبال عشر منظومات نشرت على هذا النسق:
1 - أسرار خودي (أسرار الذاتية)
2 - رموز بي خودي (رموز اللاذاتية)
3 - بانك درا (صوت الجرس)
4 - بيام مشرق (رسالة المشرق)
5 - زبور عجم (زبور العجم)
6 - جاويد نامه (كتاب جاويد سماه باسم أحد أبنائه)
7 - مسافر
8 - منظومة نظمها أثناء الحرب الحبشية وجعل عنوانها (وبعد فما العمل يا أمم الشرق)
9 - ضرب كليم
10 - بال جبريل (جناح جبريل)
ومات وهو ينظم أهنك حجاز (لحن الحجاز)
ومن هذه المنظومات التسع ثلاث بالأوردية والأخريات بالفارسية
وله مؤلفان باللغة الإنكليزية: الأول (تطور ما وراء الطبيعة في إيران) والثاني محاضرات أراد فيها أن يبني العقائد الإسلامية على أسس جديدة وسماها (إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام)
ولا يتسع الوقت للكلام عن هذه المنظومات وما ضمنت من شعر رائع وفلسفة عالية، فحسبي أن أشير إلى كتابيه أسرار خودي ورموز بي خودي، فقد شرح فيهما فلسفة في الذاتية واللاذاتية، وبين أن العالم قائم على الذاتية وأن على الإنسان أن يقويها ما استطاع، ثم بّين كيف تلتئم الذاتيات القوية في الجماعة واتخذ من تاريخ المسلمين رجالهم وجماعتهم مُثُلا لتطبيق هذه الآراء
وكذلك أشيرُ إلى كتابه (بيام مشرق) الذي جعله جواباً للشاعر الألماني جوته صاحب (ديوان الغرب) وفيه صوَر من الشعر والفلسفة يفخر بها الشرق على الغرب، وفيه نقد لكثير من مذاهب أوربا وفلاسفتها
ثم أشير كتابه جاويد نامه الذي قصَّ فيه رحلته في الأفلاك ولقاءه عظماء المسلمين في(262/52)
العصور القريبة والبعيدة. وكان دليله في هذه الرحلة جلال الدين الرومي، ولهذا الرجل العظيم على إقبال تأثير عظيم
- 4 -
منظومات إقبال فيها سعة النفس العظيمة التي لا تحد؛ ولكن يستطيع قارئها أن يتبين أصولا خمسة يدور حولها كثير من شعره:
1 - الحياة هي الجهاد الدائم وتسخير قوى العالَم
(ما الحياة؟ هي أن تأسر نفسُك هذا العالم. فكيف تجعل نفسك لهذا العالم أسيرة؟)
2 - وإنما يصلح الإنسان للجهاد بتقوية نفسه، واستخراج كل ما فيها من قوى. وقد بنى على هذا مذهبه في الذاتية وشرحه في كتاب (أسرار خودي). . .
ومن كلامه في بيام مشرق: (أخرج النغمة التي هي أساس فطرتك. أيها الضالَّ عن نفسه! خل نفسك من نغمات غيرك.) ويقول على لسان البراعة والحباحب: (لست كالفراشة اصطلي بنار غيري. ولكني أشتعل بنفسي ولا أحمل لأحد منَّة؛ إذا صار الليل أحلك من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق)
وتقتضي هذه الذاتية الحرية، وحرَّية إقبال ألا يحدَّ النفس شيء حتى الزمان والمكان
هو بالأمس خبير بغدِ ... وهو اليوم نجيُّ الأبد
وقد بين في أسرار خودي الفرق بين العبد والحر في قوله:
(العبد ضال في ليله ونهاره، والحر يضل في قلبه زمانه. العبد يخيط الليل والنهار على نفسه، وينسج من الأيام كفنه، والحر ينسج على الزمان عزائمه - العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه السبح في الهواء، وصدر الحر الهمام، قفص لطائر الأيام. فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل. ومقامه من الجمود واحد؛ وصوته بالليل والنهار راكد. والحرَّ كلَّ حين خلاق يسكب نغمات جديدة في الآفاق، فطرته لا تحتمل التكرار، وليست طريقه حلقة البر كار، العبد في سلاسل من زمانه، والقضاء والقدر ورد لسانه. وهمة الحرَّ مشيرة على القضاء، تصوَّر يده الحادثات كما تشاء)
4 - العلم وحده حجاب دون الحقائق وعقبة في سبيل الحياة - كما يقول ناحت صنم وبائع صنم وعابد صنم لا بد مع العلم من العشق. وهو يذهب في هذا مذهب الصوفية كفريد(262/53)
الدين العطار في الكلام على العلم والعشق، وهم يعنون بالعشق الوجدان اليقظ وهذه الحرقة التي تسمو بالإنسان عن السفاسف إلى العظائم وتدفعه إلى الحق والخير، وتوجهه إلى الله. وقد ضرب في ذلك مثلاً ابن سينا وجلال الدين الرومي؛ قال: ضل أبو عليَّ في غبار الناقة ونالت يد جلال الدين ستر الهودج، هذا دار مع الفتاة على وجه الماء وذاك غاص في اللجة فظفر باللآلئ
5 - هذه الأصول في فلسفة إقبال لها مُثل لا تحصى في مقاصد الإسلام وسننه وتاريخه. وهو يكره النزعات الوطنية الضيقة ويشيد بالأخوة الإسلامية العامة. وقد بدأ نشيده الذائع في الهند والذي يسمى النشيد الملي بقوله: وحين وعرب هماراً هندوستان همارا مسلم هين هم، وطي هم ساراجهان همارا (الصين والعرب لنا والهند لنا، نحن المسلمون وطننا كل هذا العالم)
وقال في بيام مشرق: إن الناس لاموا طارق بن زياد حينما أحرق السفن وقالوا هذا بعيد من الشرع والحزم. فسل سيفه وقال الأرض كلها ملكنا لأنها ملك ربنا)
- 5 -
كان إقبال واثقاً بنفسه، معتداً بآرائه يتدفق في شعره تدفق البحر لا يعرف خوفاً ولا تردداً. وكان يرى أحياناً أنه بشير المستقبل، وأنه صوت شاعر الغد، وأن العصر الحاضر لا يدرك معانيه، والجيل القائم ليس كفء كلامه
يقول:
(أنا شمس حديثة الميلاد، لا تعرف رسوم هذا الفلك، كما يغمر النجوم ضياؤها ويرقص على صفحات البحار شعاعها. . . أنا نغمة لا تبالي بالمضراب، أنا صوت شاعر الغد. . . إن عصري لا يفهم الأسرار. . أنا يائس من الأصحاب القدماء، وإن طوري يشتعل ليظفر بكليم، بحر أصحابي كالقطرة لا تزخر، وقطري كالبحر فيها طوفان مضمر. نغمتي من عالم آخر وجرسي لغير هذه القافلة. . . كم مرت بهذه الصحراء قوافل تمشي الهوينى كما تسير الناقة ولكني عاشق الصياح إيماني وضوضاء الحشر طليعتي أنا نغمة ولكنها أكبر من الوتر، ولست أشفق على هذا العود أن ينكسر
كم شاعر ولد بعد الموت أغمض عينيه ليفتح عيوننا وبدا من وراء الموت كما تنبت(262/54)
الأزهار في تربته.
ذلكم الرجل الذي فقدناه أمس، والذي يدرك عارفوه ماذا فقد المسلمون منه.
كان إقبال يتمنى أن يموت في الحجاز فإن تكن فاتته هذه المُنية فله بعض العزاء في أن يستمع العالم الحديث عنه من البيت المقدس، من المسجد الأقصى من قبلة المسلمين الأولى
عبد الوهاب عزام(262/55)
تيسير قواعد الإعراب
لأستاذ فاضل
- 1 -
ألفت وزارة المعارف جماعة لتيسير قواعد تدريس اللغة العربية من حضرات الأساتذة طه حسين عميد كلية الآداب، وأحمد أمين وإبراهيم مصطفى الأستاذين بهذه الكلية، وعلي الجارم بك مفتش اللغة العربية الأول، ومحمد أبي بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف، وعبد المجيد الشافعي الأستاذ بدار العلوم
وكان على وزارة المعارف أن تراعي مكان الأزهر في هذا العمل الذي أرادته، فتضيف إلى رجالها الذين اختارتهم من كلية الآداب ودار العلوم أستاذين أو أكثر من رجال الأزهر، حتى يأتي هذا العمل الذي أرادته باتفاق معاهد العلم في مصر، فيكون له مكانته واحترامه، لأن التغيير الذي عملته تلك الجماعة لا يقتصر على تيسير قواعد تدريس اللغة العربية، بل يتعدى هذا إلى إحداث تغييرات خطيرة في نفس تلك القواعد، فكان من الواجب أن يختار لذلك جماعة من هذه المعاهد المختلفة في بيئتها وثقافتها، ليتم الأمر فيه بعد تجاذب العقول المختلفة، والمشارب المتباينة، وبعد دراسته دراسة متزنة تقوى على النقد، وتقبلها هذه البيئات المختلفة
ولقد ظهر عمل هذه اللجنة فظهرت حركة يراد منها القضاء على كل ما عملته بجملته وتفصيله، ولا يهمها بعد هذا أمر تيسير تلك القواعد التي ألفت هذه الجماعة من أجله، وهو أمر لا بد لنا منه في هذا العصر الذي تزاحم فيه العربية مزاحمة شديدة يخشى منها عليها، وتأخذ نفوس كثير من أبنائها إلى الانصراف عنها لما تجده من تعقيد في بعض قواعدها، فلا بد لنل من تذليل هذه القواعد المعقدة وتيسيرها، ولا بد من حذف ما فيها من حشو يمكننا الاستغناء عنه، ويجب إذا ظهر أمامنا عمل في هذا السبيل أن نعمل على الاستفادة منه، وأن يكون رائدنا البحث في تهذيبه وتكميله، ولا يصح أن يكون رائدنا هدمه وتقويضه لا غير، فكم جنى هذا على محاولات الإصلاح فينا، وكم نشر فينا من عوامل اليأس في إصلاح حالنا. وسيكون نظرنا في عمل هذه اللجنة قائماً على أساس التهذيب والتكميل، ونرجو أن يكون هذا رائد كل محب للغته، حتى يتم لنا النهوض بها، ولا يكون حظنا في(262/56)
هذه المحاولة الإصلاحية كحظنا في غيرها من محاولات الإصلاح، معركة من التنابذ والتخاصم تفسد ولا تصلح، وتهدم ولا تبني، ويعمل فيها سوء الظن بكل جديد عمله في توسيع مسافة الخلف، وعدم الوصول إلى شيء يصح الاتفاق عليه. ولولا هذا الظن السيئ بكل جديد لأمكننا أن نصل إلى هذه الغاية التي تقضي على أسباب الخلاف بيننا، وتعمل على توحيد كلمتنا، وتجعل التعاون على الإصلاح رائدنا في كل أعمالنا
باب الإعراب
ترى اللجنة وجوب الاستغناء عن الإعراب التقديري والإعراب المحلي، لأن مثل - الفتى - يعرب بحركات مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، ومثل - القاضي - تقدر فيه حركتا الرفع والجر لأجل الثقل، ومثل - غلامي - تقدر فيه الحركات الثلاث لأجل المناسبة، وفي تقدير الحركات وفي الإشارة إلى سبب التقدير مشقة يكلفها التلميذ من غير فائدة يجنيها في ضبط كلمة، أو في تصحيح إعراب. كذلك الإعراب المحلي، فمثل (هذا هُدىً) هذا يبنى على السكون في محل رفع، ومثل (يا هذا) مبني على ضم مقدر منع منه سكون البناء الأصلي في محل نصب، وكذلك (يا سيبويه) مبني على ضم مقدر منع من ظهوره حركة البناء الأصلي في محل نصب. وهذا عناء مضاعف وجهد يبذل لغير شيء، فيجب الاستغناء عن الإعراب التقديري وعن الإعراب المحلي في المفردات وفي الجمل، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم هذا العناء
وعندنا أن الذي يمكن في هذا إدماج الإعراب المحلي في الإعراب التقديري، فيستغنى بهذا عن باب البناء كله، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم ما يبذل من الجهود في هذا الباب، وما يجب أن يراعى في التطبيقات من الفروق بين الإعراب والبناء، بأن يقال إن هذا مبني وذاك معرب، وبأن يقال في المبني إن محله كذا من الرفع أو النصب أو الجر، ولا يخفى ما يذكر في علة البناء من تكلفات لا داعي إلى ذكرها هنا
فلغة العرب تمتاز على غيرها من اللغات بأنها معربة، أي بأن أواخر كلماتها لا تلازم حالة واحدة، وهذا الحكم عام في أسمائها وأفعالها وحروفها، لأن حروف العربية منها ما هو مفتوح الآخر مثل رُبَّ، ومنها ما هو مضموم الآخر مثل مُنْذُ، ومنها ما هو مكسور الآخر مثل جَيْرِ، ومنها ما هو ساكن الآخر مثل عن، فمثل - رب - يقال في إعرابها إنها(262/57)
منصوبة بالفتح الظاهر، ومثل - منذ - يقال في إعرابها إنها مرفوعة بالضم الظاهر، ومثل - جير - يقال في إعرابها إنها مجرورة بالكسر الظاهر، ومثل - عن - يقال في إعرابها إنها مجزومة بالكسر الظاهر
وكذلك أفعال العربية وأسماؤها، فأفعالها منها ما هو مفتوح أو مضموم أو ساكن، مثل الماضي في - نام - ناموا - نمت - ومنها ما هو مضموم أو مفتوح أو ساكن، مثل المضارع في - يفهم - لن يفهم - ليفهمنَّ - لم يفهم - يفهمن - ومنها ما هو ساكن أو مفتوح مثل الأمر في - افهم - افهمنّ
وهذا كله فيما يتعلق بحركات الإعراب الأصلية، أما العلامات التي تنوب عنها فسيأتي الكلام عليها في العلامات الأصلية والفرعية
وأما أسماؤها فمنها ما هو مضموم مثل المبتدأ والخبر في قولك (الباب مفتوح) ومنها ما هو مفتوح مثل اسم إن في قولك (إن العدل محمود) ومنها ما هو مكسور مثل المضاف إليه في قولك (غلام زيد). ويمتاز الإعراب في الأسماء بأنه يجري على حسب أنواعها لا على حسب مفرداتها، فكل مبتدأ فيها مضموم وهكذا، وكل مفعول فيها مفتوح وهكذا، وكل مضاف إليه فيها مجرور وهكذا، ومثلها الأفعال في ذلك إلى حد ما
والإعراب التقديري يأتي في الكلمة العربية بأن يكون لها حكم في الإعراب باعتبار نوعها، ولكنها تكون في ذاتها متحركة بحركة تخالف حكم نوعها في إعرابه، فمثل (جاء الفتى) الفتى فيه فاعل حكمه الضم، فيكون ضمه تقديرياً، ومثل (جاء سيبويه) سيبويه فيه فاعل مضموم، فيكون ضمه تقديرياً أيضاً
ولا بد من تقدير هذا الإعراب لأنه إذا كان لا يظهر في صاحبه فانه يظهر في تابعه، فتقول (جاء هذا الفاضل)، (ورأيت هذا الفاضل)؛ (وسررت بهذا الفاضل) ولا شك أن وجود هذا الإعراب في التابع يدل على وجوده في متبوعه
وعلى هذا يكون إعراب - جاء سيبويه - مثل إعراب - جاء الفتى - كل منهما فاعل مرفوع بضم مقدر، ولا داعي إلى ذكر سبب التقدير في كل منهما، لأن هذه فلسفة لا طائل تحتها، والاشتغال بها حشو في النحو لا فائدة فيه
ويكون الإعراب التقديري في ثلاثة أقسام من أنواع الكلام: أولها الكلمة المقصورة مثل -(262/58)
عصى - يخشى - الفتى - وثانيها الكلمة المنقوصة مثل - يرمي - القاضي - وثالثها الاسم اللازم، وهو اصطلاح جديد نطلقه على الاسم المبني بعد أن ألغينا ذكر هذا الاصطلاح في النحو، ويدخل في هذا القسم كل اسم لا يتغير آخره في حالات إعرابه من الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة ونحوها، فإذا اتفقت الحركة التي يلازمها مع حركة إعرابه كان إعرابه ظاهرا لا مقدراً، مثل - نحن نفهم - فنحن مبتدأ مرفوع بضم ظاهر في آخره، ويكون حاله في هذا قريبا من حالة القسم الثاني وهو المنقوص، إذ يقدر إعرابه في حالتي الرفع والجر، ويظهر في حالة النصب، ولا يقدر إعرابه في جميع حالاته كما يقدر إعراب المقصور
(للكلام بقية)
أزهري(262/59)
الفروسية العربية
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
- 2 -
الحرب
لا تتجه نظرة البدوي في الحرب إلى ربح المعركة كما قلت سابقاً. وإنك لا تجد فرقاً بين القرون الوسطى في أسبانيا أو مغامرات ريكاردوس قلب الأسد في حروبه عندما يصطف الفرسان ويتبارز الفارس والفارس وبين حروب البدو، وقد انقرضت هذه العادة منذ عشرين سنة فقط. إن حب المفاخرة وتطلب الشهرة واحترام تقاليد أساليب الحرب مع عدم وجود الكراهية الشخصية بين الفريقين المتحاربين هي الروح التي تسيطر على المعارك. وإن البدوي يجد في الهجوم ليلاً على مخيم العدو نذالة بل جبنا؛ وإن معاونة الجرحى وعدم التعرض للنساء في الحرب أمر عادي لديه. ومن تقاليد البدو وعاداتهم إذا ما التقطوا جريحاً أو أخذوا أسيراً أن يعاملوه باحترام ويقدموا إليه طعاماً وشراباً ومأوى إلى أن يشفى، ومن ثم يزودونه بالمؤونة وببعير ليذهب إلى قبيلته بسلام. إن العقيدة أو الفكرة التي نخرج بها من كل هذه التقاليد والاعتبارات هي أن البدوي يهتم أن يحارب بشرف قبل أن يهتم بربح المعركة
والمرأة هي التي تثير حماسة الرجال في الحرب، وكما قلت تحكم على بطولتهم، وقد جرت العادة أن تحضر النساء الموقعة راكبة فوق الجمال في كتبان مزينة، وكثيراً ما تبرز المرأة من الهودج محلولة الشعر كاشفة الصدر وهي تتغنى بأعمال البطولة راوية أعمال الأبطال السابقين، وكثيراً ما تنادي الفرسان بأسمائهم؛ ولا أرى ضرورة لأن أذكر أن الطرفين كانوا يعفون عن النساء أو لا يقربونهن
ومن جهة أخرى فان الإبل كانت تلعب دوراً هاماً في الحرب. إن الإبل من أهم الضروريات للبدوي، ومن المعتاد أن اغتنام قطيع الإبل دليل على انتصار الفريق الغانم على الآخر، ولما كانت الإبل هي ثمرة الحرب فقد كان شيوخ البدو يحرصون عليها(262/60)
ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، وقد جرت العادة أن يسمي الشيخ قطيعه باسم خاص. إن هتاف فرسان البدو في الحرب ينحصر في اسم حبيبة الفارس أو باسم أخته أو باسم قطيع جماله. فيهتف مثلاً (أنا أخو جوزا - فيصل) أو (لعيون حميده) أو (خيال العليا - النوري) والعليا قطيع من الإبل
ومن الحكايات التي تروى عن سلطان بن سويط، وقد كان شيخاً لعشيرة الظفير منذ ثلاثة أو أربعة أجيال، أن جماعة نهبت أموال فتاة على حدود الحجاز؛ ولما كان سلطان مشهوراً بشجاعته وفروسيته فقد هتفت الفتاة: (أين أنت يا سلطان لتدافع عن فتاة) وقد تناقل العرب هذه الحكاية حتى وصلت إلى سلطان فأقسم لينتقمن لها، وكيف لا وقد استغاثت به ولو على بعد مئات الأميال
وسأروي لكم حكاية حقيقية وقعت منذ جيلين فقط: - اشتهرت في الجنوب قبيلتا عتيبة وقحطان بعدائهما الشديد وكثرة غارات بعضهما على بعض، وقد كان لابن هادي شيخ قحطان ابنة صارت مضرب المثل عند العرب في الجمال - وقد رفضت كل الذين تقدموا لخطبتها. وكان ابن حميد اشتهر بشجاعته وفروسيته وكثرة غزواته الموفقة التي شنها على قحطان حتى أقسم شيوخ قحطان يوماً أنهم سينحرون إبلهم في اليوم الذي يأسرون به ابن حميد. وقد حدث أن تقدم رجل لخطبة ابنة هادي، فلما راجعها والدها بهذا الشأن أجابته قائلة: إنني لن أتزوج إلا أشجع فرسان العرب وأكرمهم وأجملهم. وقد كان رجل صليبي يسترق السمع فسمع ما دار من الحديث بين الوالد وابنته، وعندما خرج والدها دخل عليها خدرها وقال إن هذه الصفات لم تجتمع يا مولاتي إلا لابن حميد. فأجابته: ليتني أراه ولو مرة واحدة. فنقل الصليبي هذا الحديث لابن حميد. وقد كانت شهرة بنت هادي وصيت جمالها قد سبقا وصول خبرها إلى ابن حميد فكتم هذا الحديث في نفسه حتى إذا جن الليل غادر منازل عشيرته ذاهبا إلى منازل قحطان وتسلل بين البيوت حتى دخل خيمة الفتاة وأيقظها بلطف وعرفها بنفسه ففرحت به، ولكن لم تكد تهدأ أعصابها بعد فرحها بلقائه حتى جزعت عليه لهذه المغامرة فطمأنها. وظلا يتسامران حتى مطلع الفجر. وكانت العادة أن يجتمع البدو عند شيخ القبيلة صباحا لشرب القهوة وللتداول في شئون العشيرة. فلما اجتمع الشيوخ خرجت الفتاة إلى والدها قائلة: يا أبت أطلب أمنية فهل تعدني بإجابتي إليها؟(262/61)
فأجابها: إن أمنيتك مستجابة قبل أن تطلبيها. عندئذ قالت اشهدوا يا شيوخ قحطان على قول والدي. فأجابوها: نحن شهود على قوله. فقالت: حينئذ أريد أن تُبقي على بن حميد. فأجابها والدها لا تكوني سخيفة! هذا عدو قبيلتنا؛ وعلى كل حال بيننا وبينه مائتا ميل على الأقل. فأجابته: كلا إنه في هذه الخيمة. فقام والدها يريد الرجل لينتقم منه فاستوقفته منادية شيوخ قحطان الذين تدخلوا في الأمر وذكروه بوعده، فخضع للأمر الواقع، وهنا خرج ابن حميد ليتزوج حبيبته بينما نحر شيوخ قحطان إبلهم لا لأسر ابن حميد بل احتفاء بزواجه من فتاتهم.
هذه الحكاية ترينا بجلاء أن غاية البدوي الفخر والمجد لا النصر، والحرب وسيلة المجد وليست وسيلة الكسب. وأمثال هذه الحكاية كثيرة لا تحصى.
لا يكون حديثنا عن الفروسية تاما دون التحدث عن صلاح الدين. في الحقيقة أن صلاح الدين كردي، وقد قاتل لأجل الدين لا لأجل المجد والشرف، ولكن روح الفروسية ظهرت بجلاء في كثير من أعماله. حينما حاصر صلاح الدين قلعة الكرك لأول مرة كان أميرها همفري أوف تورن يعقد قرانه على اليزابث أخت ملك القدس. ولما علم صلاح الدين بالأمر منع جنوده عن رمي السهام على القلعة، كما أن صاحبها أرسل إلى القائد المسلم الخبز والخمر واللحم من وليمة العرس. ولما خرج ريكاردوس قلب الأسد للدفاع عن يافا بالبركان كان راكبا دابة استعارها من أحد السكان، ولكن صلاح الدين الشهم أرسل إليه فورا جوادين مع خادم ليركبهما البطل العربي في المعركة
ومثل آخر من أمثلة الفروسية ما فعله القائد الفرنسي الباسل في فونتانتوني إذ دعا الحامية الإنكليزية إلى إطلاق النار أولا.
إننا في وقتنا الحاضر قد نزدري مثل هذه الأعمال ولكن يجب علينا ألا ننسى أن عقيدة البدوي في الفروسية هي القيام بالأعمال التي تنيل المجد والفخر لا كسب المعركة.
الكرم
يحمل الكثيرون من الأوربيين - كنتيجة لزيارتهم للشرق - فكرة سيئة عن العرب لكثرة المتسولين، ولكني أصرح بأن الذين يتسولون هم الطبقة الدنيا من العرب؛ أما الطبقات الأخرى حتى التي يكثر فيها الفقراء فهم لا يتدانون لمثل هذا العمل، وإذا ما أخذ البدوي(262/62)
دراهم (بخشيشا) فأنه يأخذها ليكرم بها. لأن البدوي كما قلت لا يهتم لمتاع هذا العالم - وهو لا يتردد أبدا في نحر آخر ما يملكه من الإبل لإطعام ضيف يمر به ولو كان هذا الضيف غريبا.
توجد قبيلة من البدو قاطنة في شمال الحجاز فقيرة معوزة حتى أن أفرادها لا يملكون خيماً يأوون إليها وهم يقطنون الكهوف، ولكنهم إذا ما رأوا ماراً بالطريق ركضوا نحوه وأحضروه ونحروا له ما يملكون من المواشي
(يتبع)
جميل قبعين(262/63)
رسَالَة الشِّعر
وحي الشاعرية
مصريات
للأستاذ حسن القاياتي
الجمود العلمي - مشيخة الإسلام - أمنية الإصلاح - مناجاة
الشرق خلال العصر - النيل والحرية - الرياء والذلة -
الانتخابات الزائفة - إلى المنبت
من الملائك في زيِّ الأَناسيِّ ... تبارك اللهُ يا مصر الأَمانِيِّ
النيل مجتمع الحسنى كما احتشدت ... ملاحةُ الروض في خَدِّ الأقاحيِّ
علمٌ وجنَّاتُ نبت مصر بينهما ... أحظى من النحل بالشهد النباتيِّ
العلم حلية عصر نحن شارته ... صوغَ الهلال على العام الهلاليِّ
من يحك عَنَّا يردِّد كلَّ ساحرةٍ ... كالعود ترجم للصوت الغنائيِّ
أدل بالغرْب جيلٌ أوّليتُهُ ... لم تشهد الحسنَ لغربيَّ
كُنا وكانوا فتلك الشمس مخبرةً ... أن ليس في الغرب نُورٌ غير شرقيَّ
في عين شمسٍ لنا أو أرض أندلُس ... وَادٍ من العلم صخَّابُ الاوَاذِيِّ
لنا البديعُ كأَن الشمس قد نُثِرتْ ... صبغاً على كل حالٍ منه شمسيِّ
سحر اليراعة فنَّ كم نساجله ... بكل صنَّاعةٍ للسحرِ فنيِّ
ما أرسلت مصرُ بالتبيان ساحرةً ... إلاّ وقد حاسنته بالقباطيَّ
عطفاً على لغة التنزيل إن لها ... في ندوة الحيَّ شأناً غير منسي
صونوا البيان فللدولات ناهضةً ... شَأوُ في وقع الرُّدَيْنيِّ
مصرٌ على قِلِةٍ في مصر مكثرةٌ ... عَدَّ الأماجيد كالرقم الحسابي
نمشي إلى جنة العلياء نسلُبها ... برد الجوانح من ظلٍّ ومن رِيّ
الجدُّ يعليك فيمن لا تشابُههُ ... كالأَرض تخطر في ركب الدَّرارِيّ(262/64)
النيل بالأزهر الوضاح نهضته ... كالبيت قام على الركن اليماني
ما أنبل الأزهر الديني يقبسه ... عهدُ الصقليَّ من عهد التِّهاميِّ
لله شيعيّة صَلّتْ بقبلته ... فَراح أزهر سُنيِّ وشِيِعيَّ
ما أجدر العلم أن يحيا بموثقه ... وُدُّ الشتيتين مشدود الأواخيَّ
بيتٌ وبيتٌ أقام الرشدُ مدرسةً ... بالقاهريّ وصلَّى بالحجازيَّ
واهاً له أزهراً لو أن عالمه ... مشى إلى الدين في الرأي الأمامي
العلم يَفْتَنُّ وَضَّاحاً فنطلبُهُ ... بالأزهريِّ مُقيماً في الأحَاجيِّ
غفرانك الله إن العصر مُدَّخِرٌ ... للأزهريين ذكراً غير مطويِّ
يا أزهر العلم دُمْ للشرق مدرسةً ... عَزَّ العراقيُّ فيها بالشاميِّ
حيَّ الجديد فما يرضَى معارضهُ ... حتى لدى الموت قبراً غير عصريِّ
لا نضرَّ الله للتثقيف آونةً ... أنحت على الوحي بالشرح الخرافيِّ
عَهْدٌ تزار به الموتى لخشيتها ... وربك الحيُّ فيه غير مخشيِّ
إن الكتاب الذي صَلَّى بسورته ... محمدٌ بَاتَ صَوْتاً في الأغانيِّ
غنت به (أم كلثومٌ) فجاوبها ... من (آل رفعت) أَشْبَاهُ القْمَاريِّ
دين الحنيفيِّ لا يُجْزَى بأزهره ... خيراً ويجزاه للدين السِّيَاسِيِّ
الشرع في القوم يبنيه ويهدمه ... غاوٍ تأنق في الحلم المَناميِّ
أزرى على العلم والدنيا مثقّفةٌ ... علامةُ النَّاسِ بالعلم اللَّدُنِّيِّ
قطب من الرشد أدنى ما يؤُمُّ له ... من السماحة في القطب الشماليِّ
إذا تشكيت للمنَّاع لاِعِجَةً ... سقيت رِيًّا من الماءِ السَّرَابي
زين للشيوخ حَرِيٌّ أَنْ يُسَدِّدَهُ ... هُدَى الكتاب إلى الجواد الفراتي
لا أظلم الجودَ كم سحتوت أرملة ... لدى (الإمامين) والقبر (الحسيني)
يعطي لدى كل قبر كل مكتنز ... باب الزكاة لديه عير مرضِيّ
بنو الحياة حُلاها كيف نطلبها ... بكل غادٍ على الموتى قرافي؟؟
لله علامة بالدين يعصمه ... إن بات عالم دين غير ديني
مِلْءُ العيون سنا والشرق محمدة ... مِلْءُ النفوسِ هدى مِلْءُ الأماني(262/65)
إن دام للأزهر الوَضَّاءِ حاضِرُهُ ... فالأحمديُّ به فوقَ المراغي
تبا لمشيخة الإسلام يفرضها ... مَنْ ينزل الوحي بالأمر الوزاري
شيخ ومن أين للإسلام مشيخة ... لولا تكذّبُ داعٍ أو حواري؟
معليك يا دين إن شابتك زائفةٌ ... فَلَّ الزجاجَ برأي منه ماسِيِّ
باسم الولاية كم شيخ مراشفه ... على يدَيْ كل (شَبَّاك وسُبْكيِّ)
الغرب يضحك والإِسلام يخجله ... من شيخه قبلة في كفِّ سُوقيِّ
بعضُ العمائم يطويه على سخَفٍ ... دين العفيفيِّ عن وحي السباعي
صاد الرفاعيُّ ثعباناً فأَلَّهَهُ ... يا آيَ موسى هنيئاً بالرفاعيِّ
هيهات لن يؤمن الأشياخ أو يصلوا ... دون الأَناسيّ خلاَّق الأَناسيِّ
يا مصلح الأزهر المصدوق آمله ... حياك باريه بالروح السَّماَويّ
طبعت للنفع طبع الشمس منتحياً ... إلى الهُدى سنة النور الصباحيّ
للدين ندعوك، للإصلاح يؤنسُهً ... مجدُ القُدَامىَ، وللنبت العصاميّ
أقبل كوصفك نوراً أَيَّ مشترك ... لا خير في شيمة العلم الأَنانيّ
الدين إن لم تَصُلْ بالعلم حجته ... فاز الخرافيُّ منه باليقينيّ
أعمل حجاك فما أحرى بنيِّره ... أن يجلي الله في العرش الإلهيّ
ذمّ القديمُ فما أصفى بتكرمة ... سوى عتيد العلى من كل عاديّ
أُفٍّ لنفسي فما ترضى بصالحة ... ليس العصاميُّ فيها بالعظاميّ
جهل الأبوة بين النشء مقتلة ... ماذا يحب من الداء الوراثيّ
في معهد أبناءٌ أبُوَّتُهُمْ ... في معهد الدين ألْفَوْا كل عصريّ
إن الحنيفيّة الغراء يشغفها ... لُبُّ الثقافيّ في هدْى الحنيفيّ
يا رُبّ دمع الإسلام متَّهم ... كما تسمَّعتَ للنوح الحماميّ
خافوا على الدين من علم وفلسفة ... ما أنت يا دين بالصرح الزجاجيّ
عداوة العلم والإسلام يعشقه ... سجية الإِفن في اللُّبّ الثقافيّ
العلم أجمع فيه الخير أجمعه ... كالنحل ماذية رفَّتْ بماذِيّ
مهلاُ بني العصر قد جنت شمائله ... إن الهداة حمام عند بازيّ(262/66)
لا السَّرحُ يحميه من أودت بعصمته ... دُنيا الفُتُونِ ولا الراعي بمحميّ
مَنْ نصطفيه لدى الإصلاح ترجمةً ... لآية الرشد في العصر الإباحيّ؟
يا آسي الشرق إن الشرق محتشداً ... يجزيك نعماءِ هادٍ عند مَهدِيّ
واهاً لوصفك مسكيًّا ننافحه ... بكل ذاكٍ من الأَمداحِ مِسْكِيّ
خُذْنَا إلى النور لذاعاً بميسمه ... فلن تضئَ بنورٍ غير ناريّ
الجدُّ من بغية الإصلاح أنجبه ... خلِط الحريريّ منه بالحديديّ
السائسُ البرُّ جبارٌ يصرفه ... لُبُّ الدراسيّ في عزم الحماسيّ
بدِّدْ من الجهل ليلاً أنت غُرَّته ... إن الصَّباح من الليل الغُدافيّ
يا حلكة الجهل فضّاحاً بسبَّته ... متى تجليك بالضوءِ النَّهاريّ؟؟
لا أكذب العصر إن العصر مختلفٌ ... مجد الرشيد وأكوابُ النواسيِّ!
بنا ظِماَءٌ إلى الساقي على يده ... كأس تدفق بالٍسَّمّ الشَّرَابي
ويحي على النيل إن ردت مشارعه ... رِيَّ القلوب من العذب الزلاَليّ
تلك الكؤوس ملاءً كيف يجرعها ... من يرهن النيل في الدين العقاري
نقضي من الدين ما نخزي بمطلبه ... وللكرامة دين غيرُ مقضِيّ!
لُؤمُ التصرُّف إذ نودي بنافعةٍ ... قد لَفّ حَاجِيهَّا ثوبُ الكماليّ
إنَّا لنحمل بالآداب زائفةً ... عبء الخدود من الورد الصِّناعي
كم في الشمائل مطليٌّ نخادعه ... بكل خدٍّ صنيع الحسن مَطْلِيّ
نُنُحي على الحسن إغواءً وتحليةً ... كالشعر يحنو على السحر الخياليّ
ما أعدل الحسن تجزينا لواحظه ... على تصبّيه سحريًّا بسحريّ
يا ربُّ، يا ربُّ خُذْ للنيل من فئةٍ ... ألقَتْ على مصر عاراً غير مصريّ
خافوا علي زيفهم من كل منتقدٍ ... يا ليث رحماك للدَّلّ الكناسيّ
لو أُرَّخَ الفتحُ لم يعدل مُؤَرّخُهُ ... (بيوم بدر) سوى (يوم البداري)
يوم البداريّ فوز ليس يعدله ... للنيل فوزٌ سوى النصر العرابيّ
لله درُّ فلان لست أغمزهُ ... ولا رثى الله للعّهد الفُلاَنِيّ
عهد بكينا له إبَّان مولده ... شرَّ العهود وولَّى عيرَ مبكيّ(262/67)
أنحى على الفكر نفسيًّا فوا كبدي ... هل أنبت السعد فكرٌ غير نفسيّ
إن كان صاحبُ لُبٍّ ليس يعمله ... فأين حدثتَ بالُّلبّ الجمادي؟
خُلْفُ الطوائف للأصلاح منقبة ... شمائل الرشد في الرأي الخلافيّ
لا يملك الشائنُ الفَضَّاحُ منزلةً ... بين الأبيين من ناهٍ ومنهيّ
الْحُرُّ للخطة العلياء غضبته ... وغضبة الوغد للرأي العدائيّ
عُبَّاد كل رئيس لمة ضربت ... في مصرفي مصنع الضرب الحكومِّي
هَمَتْ براعاتهم بالحق منصلتاً ... وَيْحَ الحديديّ من وقع الحريري!
وا حر قلباه كم نفضي إلى شرسٍ ... من الأَناسِيّ في صولات جِنِّيّ
الأمر يبرم سِرّيًّا فَتُلهَمُهُ ... منابتُ الغيّ من بادٍ وسريي
وعدُ المحبين مأْتِيٌّ فإنْ ظفرت ... به العُداة فوعدٌ غيرُ مَأْتِيّ
قيل انتخاب فعاذوا في نيابتهم ... بكل ذئب حديد النَّاب وحشيّ
ما أقتل العدل في الشورى إن التفتت ... عن كل محتفل بالرأي شورى
ضحوا بكل أبيٍّ ليس يفجعهم ... أن رَدَّ دُستورهم بعض الأضاحيّ
ويح الكراسيّ للنُّواب كم حملت ... أشلاء جَلْدٍ على سلبِ الكراسيّ
إن الدساتير إن خطت معطلةً ... قتل الأمانيّ بالُّلؤْم الكتابيّ
ما أعدل الله فرداً في حكومته ... وأعدل الحكم شورى عير فرديّ
للرفق إلمامةٌ بالنبت واعظةٌ ... مثل الجفون ألَمَّتْ بالأناسيّ
يا نبتة النيل يا أذكى صحائفه ... حييتما بين فَدَّاءٍ ومَفْدِيّ
ألنَّبْتُ للنيل فلينْهَدْ لعزته ... بالجد بالعلم، بالسحر البيانيّ
السكرية - دار القاياتي
حسن القاياتي(262/68)
البريد الأدبي
بين العراق ومصر
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
لكم تألمت حين قرأت في (الأهرام) وغير الأهرام وسمعت من إخواننا
المصريين ما كتبوا وقالوا في تأويل حادث الدكتور الشهيد سيف رحمه
الله. وكم وددت أن أكتب كلمة في الموضوع أبعث بها إلى الرسالة أدفع
فيها عن العراق وأبين عن وجه الحق، ثم ظننت أن الرسالة تضيق
عن مثل ذلك صفحاتها فترددت، حتى طلعت علينا يا سيدي بمقالتك
البليغة التي قطعت قول كل كاتب وخطيب، فسرني منها ما يسرني من
كنز أقع عليه، أو أمل أصل إليه، وشكرتها لك أنا وأصحابي، شكر الله
لك سعيك وجزاك خيراً، فلقد ذدت والله عن الحق حين ذدت عن
العراق، ولقد شهدت شهادة الحق بما رأيت في العراق
وهذه شهادة أخرى، أشهدها بالله ولله، أن قد عشت في العراق سنة، كنت فيها مع التلاميذ أخاً بين إخوان، لا مدرساً بين تلاميذ، فما رأيت إلا كرماً ووداً، ووفاء وتقديراً، ورقة في الطبع وسموًّا في النفس. ولقد كنت على أن أكتب ذلك من أمد طويل، فكان يمنعني أن الناس يظنون بكل صاحب ثناء رهبة أو رغبة، وما بي رغبة ولا رهبة، وإنما بي حب العراق وإجلاله كحبي لمصر وإجلالي إياها
وأشهد لقد عرفت هذا الطالب في العام الماضي طالباً في صف البكالوريا فعرفت فيه الفتى المهذب الوديع، فلما سمعت بفعلته التي فعل، بلغ مني العجب، ولم أرد ماذا حاق به بعدي؛ ثم سألت وتحسست الأخبار فعلمت أنها صدمة (الرسوب) طارت بلبه ولم يطق عليها صبراً (والصبر عند الصدمة الأولى) وتملكته حال لو رأى معها أباه لقتله، فعزم وأمضى عزمه في لحظة واحدة فهل يلام في شرع أو عرف من ذهب اليأس بلبه فمضى يفعل فعله من غير لب؟ وهل تؤخذ بجريرته هذه الأمة الحبيبة الوفية المسلمة العربية، وهل تنسى(262/69)
حسناتها كلها لشبه إساءة؟
لئن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعالها اللائى سررن ألوف
وهل لنا (نحن معشر العرب المسلمين) إلا العراق ومصر؟ هناك العروبة منشورة اللواء، وهنا الإسلام رفاف العلم، بل هنا وهناك العروبة والإسلام. لقد أسمعتنا هذه الأمة الطيبة، وهذه الحكومة العربية المسلمة، صوت الإسلام يخرج (في أسبوع المولد) من (محطة) بغداد فتتجارب به أرجاء هذه الكرة، ولقد سمعنا الكلمة من كل مصري في مصر. أفتفصم عرى هذه الأخوَّة التي عقدتها يد الله من فوق سبع سماوات فعلة شاب يائس؟ هل يمكن أن يفرق شيء بين الأمتين المسلمتين الحبيبتين، أمة الملك الصالح فاروق زين شباب المسلمين، والملك الماجد غازي فخر شباب العرب؟
لا والله، إلا أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟
فرحمة الله على الدكتور سيف البطل الشهيد، وعلى الطالب القاتل البريء، وعزّى الأمتين الشقيقتين، بل عزّى الأمة المسلمة (الواحدة) على ضفاف النيل وشواطئ الرافدين، وزادها عزَّا ومجداً و (اتحاداً)
(دمشق)
علي الطنطاوي
نجاح الفنانين المصريين
تلقت إدارة الفنون الجميلة بوزارة المعارف من مدير الجناح المصري بمعرض (بيينال) الدولي للفنون الجميلة المقام الآن بمدينة البندقية والذي اشتركت مصر فيه لأول مرة هذا العام - كتاباً يشير فيه إلى نجاح القسم المصري بهذا المعرض نجاحاً حمل بعض الشخصيات الأوربية على إبداء الرغبة في اقتناء بعض معروضات الفنانين المصرين المشتركين في المعرض. وطلب المدير تحقيقاً لهذه الرغبة أن يخفض الفنانون المصرين أثمان معروضاتهم حتى يتمكن من تسهيل نشر الفن المصري بين الأوساط الأوربية الراقية
ولا شك أن نجاح القسم المصري في معرض دولي يعد من أكبر معارض الفن بأوربا لمما يدعو إلى التفاؤل بمستقبل الفنانين المصريين بفضل الجهود التي تبذلها مراقبة الفنون(262/70)
الجميلة بوزارة المعارف
آثار حملة نابليون بونابرت
سيفتتح قريباً في قصر (التويليري) بباريس معرض لآثار حملة نابليون بونابرت على مصر. وسيضم هذا المعرض مجموعة قيمة من الوثائق الخاصة بإعداد هذه الحملة؛ وهي تدل على أن نابليون - الذي عرف كيف يجمع حوله العلماء - كان قد فكر في جميع التفاصيل المادية. ومن أمثال ذلك أنه حمل معه مطبعة لإعداد مجموعة من البيانات العلمية
وسيتضمن هذا المعرض أيضاً مجموعة من الصور تمثل القواد الشبان الذين اشتركوا في حملة مصر
ولا شك في أن التحفة النادرة في المعرض ستكون الجمل المحنط الذي حمل نابليون في مصر ولا سيما في معركة الأهرام
ومع أن نابليون كان يشعر بمثل دوار البحر عندما يمتطي جمله فقد تعلق به وعهد إلى أحسن علماء الطبيعيات في المتحف بحشوه بالقش بعد أن نفق
وقد مر أمام هذا الجمل مئات من الزوار في متحف باريس أو في متحف نابليون في ايكس
وقد عاد هذا الجمل التاريخي الآن إلى باريس حيث يظهر في المعرض وعليه رحل مزخرف بالذهب والفضة
ويحتمل أن ينقل الجمل - بعد انتهاء المعرض - إلى قصر ماليزون بجوار باريس حيث يبقى إلى جانب السرير الصغير الذي كان ينام عليه بونابرت في منفاه بجزيرة القديسة هيلانة
وفاة أديب إنجليزي
توفي المستر برسي هويت الصحفي الروائي في السادسة والثمانين من عمره، وقد تولى رياسة تحرير جريدة (الرأي العام) ببلك أوبنيون عشر سنوات، واشتغل محاضراً في آداب اللغة الإنجليزية بالجامعة المصرية من سنة 1911 إلى سنة 1924
مكتبة عصبة الأمم ودراسة نظامها
وافقت وزارة المعارف على إيفاد الأستاذ أحمد رامي إلى جنيف لزيارة عصبة الأمم(262/71)
ودراسة نظام العمل في مكتبتها توطئة لاقتباس هذا النظام وإدخاله على دار الكتب المصرية
مقالة في الجدل للإمام الاسفراييني
للإمام أبي حامد الاسفراييني مقالة في الجدل مبينة، وللعلامة أبي نصر السبكي تعليقة عليها لطيفة. وقد رأيت أن أروي التعليقة والمقالة، وإنهما لحقيقتان بالرواية في (الرسالة):
(قال أبو حيان التوحيدي: سمعت الشيخ أبا حامد (الاسْفَرَايني) يقول لطاهر العبَّاداني: لا تعلق كثيراً لما تسمع مني في مجالس الجدل؛ فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته، فلسنا نتكلم لوجه الله خلصاً، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام، وإن كنا في كثير من هذا نبوء بغضب الله (تعالى) فإنا مع ذلك نطمع في سعة رحمة الله)
قال أبو نصر السبكي: (قلت: وهو طمع قريب، فإن ما يقع من المغالطات والمغالبات في مجالس النظر يحصل به من تعليم إقامة الحجة، ونشر العلم، وبعث الهمم على طلبه - ما يعظم في نظر أهل الحق، ويقل عنده قلة الخلوص، وتعود بركة فائدته وانتشارها على عدم الخلوص، فقرب من الإخلاص إن شاء الله)
(القارئ)
من آفات المناظرة
من آفات المناظرة في بلادنا (دون بلاد الله كلها) أن جمهرة القراء تنظر إليها نظرها إلى شكل من أشكال الصراع أو القتال لا ترى بينها وبين الملاكمة فرقاً ظاهراً. فليس الظافر من جاء بالحجة الظاهرة والدليل القاهر، ولكن الظافر من كان أكثر كلاماً، وأطول لسناً، وأدنى إلى التعريض والتسميع بخصمه وأقدر على النيل منه، ومن كان في الجدال؛ بل إن كثيراً، من القراء يرون الظافر من كان صاحب الكلمة الأخيرة، أي أنهم يقرءون لهذا فيميلون معه، ثم يقرءون لذلك فيميلون إليه حتى يسكت أحد الخصمين فيحكموا عليه. أما الموازنة بين الحجج والمفاضلة بين الدلائل، والحكم حكم المنصف العادل والناقد البصير، فشيء لا يكاد ينصرف إليه أحد. ثم إن القراء لا يعجبون بأحد ما يعجبون بكاتب يدافع(262/72)
وحده ويقابل جماعة من الناس، ولو كان مبطلاً يقول الواحد نصف الثلاثة، ولو كانوا محقين يقولون الواحد ثلثها، ولو كان مغالطاً وكانوا أصحاب الدليل، ولو كان ضعيفاً في نفسه، وكان كل واحد منهم أقوى منه؛ والقراء بعد ذلك يريدون من المناظر أن يجيب كل قائل، ولو لم يفرق بين كلمة العقيدة مثلاً تراجع اللسان، وبين العقيدة ذاتها تدرس في كتاب الآراء والمعتقدات، ويحسبون من العجز أن يعرض المرء عن بعض القائلين ولو نالوا منه ولا يجدهم للجواب أهلاً. هذا إذا لم يكن القارئ صاحب هوى يميل حيث يميل به الهوى، ويستقر حيث تطرحه صداقة أو عداوة، فلا يفيد مما يقال شيئاً. . .
. . . فأي فائدة للمناظرة مع هذه الآفات؟
(دمشق)
(ع. . .)
تحية إلى الأستاذ العقاد
عزيزي الأستاذ الزيات صاحب (الرسالة) الغراء
أطلعني (بعضهم) على كلمات هزيلة درجت في جريدة (الإصلاح) السورية تستفتيني الحكم النزيه في أدب الأستاذين العقاد والمرحوم الرافعي، وتدعوني إلى أن أخوض المعمعة الأدبية التي أثارها تلاميذ الكاتبين العظيمين؛ ثم ينقل المحرر عني حديثاً ملفقاً مختلفاً يثبت فيه أني من أنصار الأستاذ المرحوم الرافعي؛ ودليله على ذلك (طبعاً) الحفلة التأبينية الكبرى التي كنت قد عزمت على إقامتها في مدينة ابن الوليد إجلالاً للكاتب العربي الكبير وتقديراً لمنافحته عن الإسلام والعروبة. ثم حالت الظروف القاهرة من دون تنفيذها وإخراجها إلى حيز الواقع والوجود. . .
وليت المحرر الفاضل وقف عند هذا الحد فلا يغش القراء ولا يظلم الحقيقة، بل هو يأبى إلا أن ينحلني مقالة مذيلة بإمضائي مؤداها أني ثائر على أدب العقاد، منكر عليه شعره وفنه، ناعٍ عليه ضيق أفقه وغباوة فهمه لمعنى الأدب الصحيح. . .!
وأنا - الذي أصرح الآن على صفحات الرسالة الغراء بأني من أشد الناس تعصباً لأدبه وعبقريته - لا يسعني إلا أن أحيي الأستاذ الكبير العقاد وأقول باختصار: إن كان كل ما(262/73)
يرويه المحرر الفاضل من هذا القبيل فويل للحقيقة منه وويل له من الحقيقة. . .
(حمص)
عبد القادر جنيدي
أسرار أبي الهول
أنجز الأستاذ سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار كتاباً جديداً نفيساً باللغة الإنكليزية في (أبي الهول وأسراره) وهو في نحو أربعمائة صفحة ومائة وثمانين صورة، والمنتظر أن يقدم للطبع في إنكلترا قريباً
والكتاب أربعة فصول أولها يحتوي على بحث الحفائر حول أبي الهول من عهد الملك خفرع إلى سنة 1938، والثاني بحث في الملوك الذين زاروا أبا الهول من عهد الأسرة الثامنة عشرة المصرية إلى عهد الرومان، والثالث أصل أبي الهول وتحوله شكلاً ورمزاً في الأمم التي أخذته عن مصر، والرابع في المعنى الديني لأبي الهول ووجود مستعمرة كنعانية أو إسرائيلية في جواره والعثور على البلد المفقود اسمه والذي كان هؤلاء القوم يقطنون فيه
وفي هذا الفصل الأخيرة ولا سيما الكلام الخاص بالمستعمرة الكنعانية أمور كثيرة جديدة خطيرة الشأن كشفها الأستاذ سليم بك حسن وأفضت إلى فهم كثير من الأسرار التي كانت ولا تزال مقترنة باسم (أبي الهول)
نشأة الصحافة المصرية اليومية وتطورها
قدم الدكتور كمال الدين جلال رسالة عن (نشأة الصحافة اليومية المصرية وتطورها) إلى جامعة برلين نال بها إجازة الدكتوراه في علوم الصحافة فنال بها أعلى درجة جامعية، وأرسلت الجامعة إلى الجهات المصرية الرسمية في برلين تقريراً تثني فيه على جهود الدكتور جلال وتمتدح رسالته
ولا شك أن أسرة الصحافة المصرية التي يخدمها الزميل جلال خدماته الجليلة المعروفة منذ سنوات يهمها الوقوف على ما تحويه هذه الرسالة النفيسة التي جمعت لأول مرة تاريخ الصحافة في مصر منذ نشأتها الأولى حتى اليوم والتي سيكون لها بعد طبعها قريباً قيمتها(262/74)
العلمية المنتظرة
تعد الرسالة خير دعاية لجهود الصحافة المصرية وكفاحها في سبيل الشعب المصري حتى أصبحت عونه الأول والأخير في نضاله وتقدمه الاجتماعي
قسم المؤلف رسالته - وتقع في نحو 350 صفحة - إلى أقسام يختص كل قسم بعصر سياسي تاريخي في مصر، وقد بدأ الرسالة ببحث ليس بالقصير يقع في فصلين، أولهما عن طريق النشر عند قدماء المصريين (وقد نال هذا الفصل تقديراً وثناء من الأستاذ جرابو أستاذ علم الآثار المصرية في جامعة برلين) وثانيهما عن طرق النشر في مصر تحت الحكم العربي، ثم تطرق الدكتور جلال إلى موضوع رسالته الأصلي فقسمها إلى:
1 - الحملة الفرنسية وأثرها في نشأة الصحافة في مصر
2 - نشأة (الوقائع) في عهد محمد علي
3 - الصحافة المصرية في عصر إسماعيل
4 - الصحافة في عصر توفيق إلى مبدأ الثورة العرابية
5 - الثورة العرابية وأثرها في الصحافة المصرية
6 - الصحافة في عهد الاحتلال إلى أول نشوب الحرب الكبرى
7 - الصحافة أثناء الحرب الكبرى
8 - الصحافة في الثورة الاستقلالية
9 - الصحافة من إعلان الدستور حتى اليوم
هذه هي أبواب الرسالة الرئيسية قسم المؤلف كلا منها إلى ثلاثة فصول: درس في الفصل الأول العصر من الوجهة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وذكر في الثاني الصحف التي نشأت في العصر فتحدث عن كل صحيفة بالتفصيل ثم ترجم لمؤسسيها والمشتغلين بها، وتكلم في الفصل الثالث عن عوامل العصر السياسية والاجتماعية التي أثرت في تطور الصحافة. وقد قارن الدكتور جلال في كثير من العصور صحافة مصر بصحافة البلاد الشرقية المجاورة
أتت هذه الرسالة على جل ما يتعلق بصحافة مصر العربية، فكانت سفراً علمياً جامعاً سد به المؤلف فراغاً في تاريخ النهضة المصرية الحديثة(262/75)
ولقد أحسن الزميل إذ ذكر في مقدمة رسالته أنه يهدي ثمرة جهوده هذه إلى صحافي مصر الذين اتخذوا الصحافة مهنة لهم يخدمون بها وطنهم مصر والذين لم يبالوا بما أصابهم ولن يعبئوا بما يصيبهم في سبيل القيام بهذا الواجب المقدس
فالشباب المصري يفتخر بجهود هذا الصحفي الشاب الذي جمع بين العلم والصحافة وجعلها سلاحه في خدمة بلاده والدعاية لها، ونحن نهنئه من قلوب تنبض سعيدة مستبشرة كلما شعرت بجهود ناجحة في سبيل الواجب
مراد كامل
دكتور في اللغات السامية(262/76)
الكُتبُ
الباب المرصود
تأليف الأستاذ عمر فاخوري
من مطبوعات دار (المكشوف) - بيروت
للأستاذ محمد سعيد العريان
دأبت دار (المكشوف) على أن تنشر لقراء العربية خير ما يؤلفه أدباء لبنان في الآداب والفنون
والمكشوف كما قد يعرف قراء العربية في مصر هو جريدة أدبية يقوم على شئونها طائفة من خير أدباء لبنان، وهي لسان الجيل الجديد من أدبائه وكتابه وشعرائه
أما كتاب اليوم فهو سلسلة مقالات أنشأها منشئها الفاضل في مناسبات عدة، فلما بلغت عَّدتها أن تكون كتاباً أخرجته دار المكشوف لقراء العربية
أما الأستاذ عمر فاخوري مؤلف هذه الفصول فأديب من أدباء لبنان لا نجد ما نعرِّفه به إلى القراء إلا من قوله في بعض رسائل هذا الكتاب
(إني كثير المطالعة قليل الكتابة. وقد أوتيتُ بسطة من العيش وكثيراً من الفراغ يسَّر إلى الانصراف إلى كتبي ودفاتري، أقرأ وأقيَّد ما يعن لبالي، وقلما أغفل شاردة أو واردة لاعتقادي أنها تفيد يوماً من الأيام. ولو شئت الآن أن أعيد النظر في حياتي الماضية وأحصى ما مرَّ عليَّ من حوادث جديرة بالذكر، كي أكتب سيرتي بنفسي، لاستطعت دون عناء اختصارها في هذه الجملة الجامعة (مطالعات في زاوية بيت) فان الكتب التي طالعتها هي أعظم حوادث حياتي!)
ويبدو لي أن هذا الذي يقوله المؤلف عن نفسه هو حق؛ فإن أثر مطالعاته الشاملة المنوعة من أدب الشرق وأدب الغرب، واضح كل الوضوح فيما أنشأ من فصول هذا الكتاب، سواء في الرأي والفكرة والاتجاه العقلي، أو في أسلوب الكتابة
أما موضوع الكتاب فقد أسلفت الإشارة إليه، فهو فصول عدة كتبها كاتبها في مناسبات مختلفة بين سنتي 1926، 1937، ولكنها على طول العهد بين أجزائها تجمعها رابطة(262/77)
واحدة يصح أن نسميها (نظرات في الشعر من بعض نواحيه)
ويتحدث المؤلف في الفصل الأول من هذا الكتاب عن (الشاعر وأبنائه) ويعني بأبنائه: مؤلفاته، أو بنات أفكاره على ما نسميها أحياناً؛ أما الباب الثاني فيتحدث عن الباب المرصود: الباب الذي يخال الإنسان أن وراءه السعادة التي يدأب في السعي إليها
وهو في الفصل الثالث يتحدث عن (كنوز الفقراء)، الكنوز التي يتعزَّون منها بوهم الأماني في الحكايات والخرافات وأساطير الأولين. وله في هذا الفصل فكر وروح شاعرة؛ ولكن له فيه إلى ذلك حديثاً عن النبوة والأنبياء كنا نؤثر ألا ينزلق إليه، وإن كنت أومن في نفسي أنه لم يقصد إلى معنى من المعاني التي تتبادر إلى ذهن قارئه. ولكنا نحب ألا نتناول الحديث عن النبوة والأنبياء إلا بالعبارة الصريحة التي تؤدي إلى نفس قارئها غير معنى واحد
وفي حديثه عن الشعر القومي وعن صديقه الشاعر (عمر الزعني) تقرأ له رأياً في العامية والفصحى أحسب أن لا أحد من أصدقاء الوحدة العربية يوافقه عليه
وله فصل بعنوان (المرأة المجلوة والمرآة الصدئة) جمع فيه إلى رأيه آراء، وتحدث عن الصلة بين الأخلاق والفن، وعن الأسلوب والمعنى، وعن الموضوعات التي ينبغي أن يتناولها الأديب، وهو موضوع له خطره تناوله الكاتب بروح الشاب الثائر يحكم فيه الحكم (المبرم) قبل أن تجتمع له مقدماته؛ فما ينبغي أن نتحدث عن صلة الأدب والفن بالأخلاق قبل أن نتفق على الرأي في الغاية من الأدب وفي رسالة الأديب وما يعود منهما على الإنسانية. ومهما يكن الرأي في ذلك فلا جدال في أن الأمة العربية في حالها الواقع لم تنضج بعد النضج الأدبي أو الخلقي الذي يبيح لنا أن ندعو إلى ما يسمونه الأدب المكشوف، على ما قد يكون فيه - كما يقول دُعاتُه - من السمو بالآداب والفنون!
وفي الكتاب غير ذلك فصول ممتعة، خليقة بأن يجد فيها القارئ لذة وفكراً ومعرفة؛ وحسبي أن أذكر منها: العمود الهادئ، والأحلام، والشاعر في السوق. فأنها فصول جديدة في موضوعها، وقد وفِّق الكاتب في تناولها توفيقاً يدعو إلى الإعجاب. . .
أما بعد فهذا كتاب من منشورات إخواننا العرب في لبنان وما أقل ما نعرف عن أدباء لبنان وغيرها من الأقطار العربية؛ وأقل منه ما نقرأ من مؤلفاتهم ومنشوراتهم؛ على حين يعرف(262/78)
إخواننا في الشرق العربي من أدبائنا ويقرءون من مطبوعاتنا في مصر أكثر مما تعرف مصر نفسها عن أدبائها ومؤلفيها. وما نذكر ذلك لمعنى نفاضل به بيننا وبينهم في الأدب، ولكن لنذكر إخواننا في مصر بأن عليهم واجباً في الوفاء لإخواننا في البلاد العربية عرفوه ونسيناه، وإني لأشير إليه في هذه الكلمة اعترافاً بالحق وعرفاناً بالجميل
وإني لأشعر بكثير من السرور إذ أقدم هذا المؤلَّف إلى من يريد أن يقرأه من أدباء مصر، وإذ أعرفهم بأديب من جيراننا ينبغي أن يعرفوه ويقرءوا له؛ ولعلي بهذا أكون قد اعتذرت لإخواننا مما يظنون بنا وقمت بشيء مما علينا لإخواننا من الوفاء وعرفان الجميل
محمد سعيد العريان(262/79)
العدد 263 - بتاريخ: 18 - 07 - 1938(/)
من الذكريات الجميلة
على ذكر الجدال في الشرق والغرب
عرفت في باريس عام 1925 الآنسة (فرناند) ابنة أحد القضاة في محكمة (ديجون). كانت طالبة بالسنة الأخيرة من كلية الحقوق، وكان لها بالمستشرق المرحوم (ب. كازانوفا) أستاذ الأدب العربي في الكوليج دي فرانس صلة قرابة أو صداقة، فعرفني إليها لتكون لي في مدينة النور ما كانت (بياتْرِكْس) لدانتي في جنة الفردوس
وكانت هذه الفتاة آية في الجمال والذكاء والظَّرف؛ وكان أعجب ما فيها أنها تؤلف في نفسها بين المتناقضات فلا يكاد النظر العادي يلحظ ما بينها من التنافي! فهي منطقية الفكر حرة العقيدة؛ وهي خيالية الذهن شاعرية العواطف؛ تؤمن بنيتشه كما تؤمن بالمسيح، وتقدس جمهورية الثورة كما تقدس مَلَكية البربون، وتُشيد بفتح العرب للأَندلس كما تشيد بغزو الصليبين للقدس، وتعجب بروحية الشرق كما تعجب بمادية الغرب، وتحدثك في ذلك كله حديث المطلع المقتنع الفاهم؛ فإذا أخذت عليها شذوذاً في قياس القضية، أو نشوزاً في سياق الحديث، عمدت إلى المزاح البارع أو التهكم اللاذع أو الأسلوب الخطابي فتميت على لسانك البيان، وتُطير من عقلك الدليل
أدهشني منها إلمامها بأدب العرب وحكمة الإِسلام وفلسفة الشرق. فلما عرفت اتصال سببها بالأستاذ كازانوفا وهو الذي جعل فنَّه أساطير الشرق وأدب القرآن، عزوت إليه هذا الميل وذلك العلم؛ وعرفت منها بعدئذ أنها كانت تستمع إلى محاضراته في التفسير ومسامراته في الآداب، وأنه أهدى إليها (حديقة الزهور) لصاحب المعالي الأستاذ واصف غالي، وأعارها ترجمة ألف ليلة وليلة لماردروس، فكان أكثر حديثها عن بغداد ودورها التي تفيض بالنعيم والسحر، وتنفح بالبخور والعطر، وتمرح بالقيان والغزل؛ وعن دمشق باب الجزيرة إلى الفردوس، وطريق البادية إلى الحضارة، وملتقى القبائل والقوافل في الخانات المملوءة بالسماسرة والتجار، والأسواق المحفوفة بالمغامرات والأسرار، والغوطة الفياضة بالجمال والحب؛ ثم عن مصر التي خلقت المدنية، وأنشأت الفن، وشرعت الدين، وولدت موسى، وآوت عيسى، وتوجت الملوك بالشمس، وكفنتهم بالخلود، ودفنتهم في الذهب. ثم كانت تتحرق شوقاً إلى النيل وأيامه المشمسة التي يضحك فيها القطن، ولياليه المقمرة التي يحلم(263/1)
بها النخيل. فكنت أقرن شوقها إلى مصر بالدعاء إلى الله أن يهيئ لهذا المحيا الفاتن أن يتفتح نظيراً في جوها الإِضحيان الطليق
أدينا الامتحان معاً؛ ثم أرسلت نفسي الحشيمة على هواها ومناها، فزرنا معابد الطبيعة في فنسين وسان كلو وفنتينبلو، وحججنا محاريب الفن في اللوفر والأوبرا وفرساي. وكنت يومئذ أترجم (رفائيل) فكان ما أقرأ وما أكتب وما أسمع وما أرى نَسَقاً عجيباً من الجمال والجلال والفن والشعر والحب والتأمل والاستغراق، لا يدع للخيال الوثاب مَسْبحاً، ولا للنفس الطماحة رغبة. ثم أحَمَّ الفراق فرجعتُ إلى مصر ولحقت هي بأهلها في مدينة (رويَّان)
وكان بيني وبينها رسائل مسكية المداد، وردية الورق، تؤلف كتاباً من شعر القلب والعقل تناول فيما تناول الفروق الناشئة بين الشرق والغرب من اختلاف وجهة نظريهما إلى الحياة، إذْ هي في نظر الشرقي دار ممر، وفي نظر الغربي دار إقامة
وفي فبراير من عام 1928 زارت مصر هي وزوجها، وهو ضابط فرنسي كان في طريقه إلى عمله في جيش سورية؛ فكنت لهما ترجماناً ودليلاً مدى أسبوعين إلى مخلفات الفراعين، وطلول الفسطاط، وقطائع ابن طولون، وقاهرة المعز. وسنحت الفرصة المرجوة فاجتمع القلبان والذوقان على فتون الشرق الحبيب. ورأيت من (مدام روجيه) عزوفاً قوياً عن الشوارع الأوربية في مصر الحديثة، وولوعاً شديداً بالتجوال في الغورية والنحاسين والجمالية وخان الخليلي، وشوقاً ملحاً إلى استطلاع المجهول، واستكناه الغامض، واستخبار الناس، واستحضار الماضي. وكانت كلما أوغلت في هذه الأحياء، واستبطنت دخائل هذه الأشياء، شعرت بالحاجة إلى زيادة الإِيغال وإطالة النظر وإدامة التقصي، كأنما كانت تبحث عن شيء تعتقد وجوده ولا تراه، ثم قالت ذات مساء وهي على شرفة القلعة تشاهد مغرب الشمس من وراء الأهرام:
رباه!! إن من وراء هذه الآثار التي أجهدها الدهر، وهذه المآثر التي شوهها الجهل، وهؤلاء الناس الذين مسخهم الفقر، لروحاً خفية تبعث من خلال هذه الأغشية الكثيفة هذا الشعاع اللطيف الذي يشرق في هذه الوجوه الشقية المحرومة فيبدد عنها كُرَب العيش
هذه هي روح الشرق الإِلهية المجهولة، فمن زعم أنه يحكم عليها من وراء هذه الأخلاق(263/2)
المنحلة، والنظم المعتلة، والمشاهد الزرية، كان كالذي لم ير الشمس ثم يحكم عليها من وراء الغمام والقتام والبعد! اجلوا عن هذا الروح العظيم هذه الغشاوة، واكشفوا عن هذا الجوهر الكريم هذا الرغام، ثم اجعلوه إلى جانب الغرب الخلاق بالعلم، البراق بالصنعة، واحكموا بينهما فلعلكم بذلك تكونون أدنى إلى السداد
أحمد حَسن الزياتْ(263/3)
بين الشرق والغرب
رد على رد
للأستاذ فليكس فارس
كتبت مقالي في العددين (257 و 258) من الرسالة تحت عنوان الشرق والغرب فأوردت فيه بعض مباحث دارت بيني وبين الدكتور إسماعيل أدهم، فإذا به يأتي في عدديْ (259 و 260) بما يعتقده مؤيداً لرأيه، وهو المبدأ الذي حاول تعزيزه في مناظرة (20 مارس سنة 1938) يثبت أن من الخير لمصر أن تأخذ بالحضارة الغربية. وقد أحسن الدكتور أدهم بإيراده ملخص أقواله إذ عرض بذلك على المفكرين ما يتمم البحث بإيضاح النظرية الإيجابية في قضية تشغل كل محب لأوطانه في هذا الشرق العربي الذي آن له أن يعين اتجاهه ويتطلع إلى مصير أبنائه وأحفاده
هذا ولا بد لي في هذا المقام أن أكرر على قراء الرسالة ما قلته لمن غصَّ بهم رحب قاعة المناظرة حين دافع الدكتور عن نظريته، ولمحت شيئاً من الأشياء لموقفه على وجوه الشبيبة العربية. قلت: إن صديقي الدكتور أدهم فيلسوف غربي لا يسلم تفكيره في الاجتماع من نزعات فطرته، كما لا يسلم تفكيرنا نحن من نزعات فطرتنا. فالمسألة مسألة اجتماعية يدور بها الشيء الكثير من حوافز الذوق الموروث، لذلك أرى موقف صديقي مهاجماً أحرج من موقفي مجارياً، فأشكره على صراحته معتقداً بحسن نيته وبأن حبه للشرق ولمصر هو ما يحفزه إلى محاولة إقناعنا بأفضلية الحضارة الغربية؛ ليس عدوَّا من ناقشك ودعاك إلى الأخذ بم يعتقده حقَّاَ لأنه يتمنى لك ما ارتضاه لنفسه
والآن لأرسلن نظرة عجلى في ما كتبه الدكتور أدهم في الرسالة متناولا ما يستوقفني فيه مما لم أتناوله في مقالي السابق متجنباً التكرار متوخياً حصر الموضوع في دائرة محدودة نصل منها إلى نتيجة، لأن اقتحام الجدل من أجل الجدل لا يؤدي في الغالب إلا إلى الانتقال لفروع القضية بالتغاضي عن أصلها
1 - إن مُناظري يعترف بأن لمصر ثقافة تقليدية لا يمكنها أن تخرج عنها ما لم يهتز المجتمع في صميمه، ولكنه يعود بهذه الثقافة إلى أصل فرعوني راسخ سواء في طرق المعيشة أو في الدين؛ ودليله على استقرار مصر على حضارة فرعونية جلباب الريفي(263/4)
الأزرق وطرق الري، وبرهانه على استقرارها على دين الفراعنة تطرق تقاليده إلى الدين الإسلامي، وبتعبير أصح إلى حياة المسلمين
أما أن يعد المناظر طريقة استغلال الأرض فطرة فذلك مما لا يوافقه أحد عليه، لأن المسألة هنا تتعلق بتطور في أساليب الصناعة، ولا شأن للفطرة فيها. ولو كان الأمر كما يقول المناظر لكان كل مرتَدٍ لغير القميص الأزرق، وكل حارث بآلة حديثة، وكل مستبدل (شادوفاً) (بطلمبة)، فاقداً للفرعونية التي يريد المناظر بعثها أساساً لحضارة مصر. . .
أما أن تكون التقاليد التي احتفظ بها السكان من الحضارة المنقرضة دليلاً على بقاء الدين فرعونياً في مصر فذلك ما لا يقره عليه أحد، لأن ما تبقى من العادات يعد بدعاً لا يزال الدين يعمل على اقتلاعها من المجتمع لخيره وسلامة إيمانه
إن مصر لن تكون فرعونية في القرن العشرين إلا إذا تراجع الزمان القهقري طاوياً معه كلمة الله التي جعلت قوم فرعون حديثاً في تاريخ الشعوب
2 - إن مناظري يستبعد سائر البلاد العربية عن البحث مدعياً أن ثقافة مصر مستقلة تجاه الحضارة العربية، لأن لها طابعاً خاصاً، ولأن لغتها العربية استمدت من الثقافة الفرعونية قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر، فاللغة العامية في هذا الوادي إنما هي - بحسب رأي الدكتور أدهم - فرعونية آخذة بأسباب التعرب. . .
أما أن تكون مصر ذات ثقافة خاصة تتميز بها عن سائر الأقطار العربية فذلك ما ننكره على المناظر، لأن لشعوب سائر الأقطار العربية كلها جدوداً عاصروا الفرعونيين وتركوا في التاريخ ذكرى حضارات لم يبق منها سوى أعمدة محطمة وهياكل متداعية
إن في كل من الأقطار العربية من المميزات الإقليمية ما لا ينكره أحد؛ وقد تجد مثل هذه المميزات في أحياء مدينة واحدة، ولكنها أضعف من أن تسلخُ هذه الشعوب عن ثقافة عامة شاملة لها في اللغة والموسيقى ونظام الأسرة وروح التشريع. وهذه المميزات العامة هي ما تقوم الحضارة الأدبية عليه في كل الأمم
أما أن تكون اللغة العامية في مصر عبارة عن لغة فرعونية في أصلها فذلك مما نقف عنده متسائلين عما إذا كان الدكتور أدهم لا يقصد هزلاً به. . .
ليست اللغة العامية في مصر إلا كسائر اللغات العامية في الأقطار العربية، لغة أفسدتها(263/5)
عصور الانحطاط، فانك لو أغضيت عن اللهجات في كيفية الإلقاء، وهذا مما يصعب توحيده في أقاليم أية أمة، فإنك لا تجد إلا كلمات معدودات يختلف النطق بها بين مصر وسوريا وبغداد مثلاً؛ غير أنها كلمات عربية شوهها الاختصار، ولكنه استبقى على أصلها. فأين (دلوقتي) (وإزيك) من لغة الفراعنة؟ وأين (شو بدَّكْ) من لغة أبناء فينيقيه؟
3 - أراد مناظري أن يجعل العلم والثقافة شيئاً واحداً، فهو يقول بانبثاق الثقافة من العلوم الأصلية، ونحن لا نعلم ما هي العلاقة بين علم طبقات الأرض مثلاً والمبادئ الأدبية التي يقوم المجتمع عليها. وقد أوردنا في مقالنا السابق ما يغنينا عن التكرار في هذا الموضوع
يرى المناظر أن اليابان أصبحت عالة على أوربا لأنها أخذت العلم الوضعي عنها ولم تأخذ بحضاراتها في آن واحد. فحضرته يميز إذن بين العلم والحضارة. . . في حين أنه يقول بصدور الحضارة عن العلم
ثم هو يقول إن أوربا تعمل بحضارتها للتحرر من استعباد الآلة. ونحن نرى أن أوربا لن تخلص من هذا الاستعباد إذا هي لم تخرج على مبادئ حضارتها
4 - يعود المناظر إلى التمسك بقوله إن الشرق يقيم الحياة على أساس غيبي لتنظيم الصلات بين البشر؛ ونحن لا ننكر على الشرق هذه الفضيلة، ونود لو اتخذها الغرب أساساً لحضارته؛ لأن كل تنظيم لعلاقات البشر في المجتمع لا يرسو على الإيمان باستمرار الحياة بعد الموت، لا يجد مرتكزاً له في غير مبدأ الحق للقوة سواء أكان ذلك بين الأفراد أم بين الأمم
5 - نشكر للمناظر اعترافه بأن المنطق مشاع بين الأمم، بعد أن كان في مناظرته ينكره على الشرق. ولعله يذكر كما يذكر من حضر المناظرة إصراره على القول بأن الإقليم والبيئة في الشرق يجنحان بأهله إلى الخيال دون التفكير والاستقراء مما دعانا إلى الرد عليه بقولنا:
6 - إذن، لماذا تدعونا إلى ما لا قبل لنا به ولا إمكان لاقتباسه ما لم نهجر أوطاننا ونذهب إلى الغرب نتوطن فيه أجيالاً نستبدل بأدمغتنا الشرقية أدمغة غربية. إذا كان لا يسعنا أن نملك المنطق إلا بهذه التضحية فعلى المنطق العفاء. . . غير أننا كنا عندما أنشأنا حضارتنا على أرض هذه الشرق وتحت سمائه أسياد المنطق في العالم(263/6)
أما وقد أعلن المناظر أخيراً اعتقاده بأن المنطق مشاع بين الأمم وأنه يضعف إذا أهمل، فقد أصبحت دعوته للشرق للأخذ بمنطق الغرب دعوة لا مبرر لها، بل قد أصبحت ولها معنى واحد وهو الاهابة بالشرق للنهوض وللعمل على استعادة مجده بالرجوع إلى تفكيره وشعوره
7 - يقول المناظر إن الفلسفة الإسلامية روحها يونانية ومنطقها يوناني، لأن الفارابي وابن سينا وسواهما علقوا إرادة الخالق بقوانين الكون. ولا نعلم ماذا يقصد الدكتور بهذا. إن فلسفة المفكرين ليست إسلامية ولا مسيحية؛ إن هي إلا آراء في الخلق لا تمتُّ إلى الدين بسبب. إن الإيمان لا يقبل جعل الخالق أسيراً لما خلق. فإن كان الله جل جلاله قد وضع لهذا الكون نظاماً أفيعجز عن تبديله حين يشاء؟ إنها لفلسفة غريبة هذه الفلسفة التي تذهب متحرشة بإرادة المبدع قاصدة تحليلها لتعلم ما إذا كان بوسعه أن يحكِّم إرادته فيما أبدع
إننا نسلّم للدكتور بل نرجوه أن يقتنع بأن هذه الفلسفة منحدرة من ذهنية يونانية تعودت خلق سيئات الآلهة واختراع الأساطير عنهم وتحليل إرادتهم وغضبهم وغشهم وجنونهم وسكرهم
8 - يقول المناظر في ردّه على الأستاذ توفيق الحكيم إن علينا أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً، ثم يقف فلا يورد الشق الثاني من هذه الآية العربية وهو (واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) غير أنه عليّ أن ألفت مناظري إلى أن الملحد لا يمكنه دون أن ينقض مبدأه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً لأنه يعلم أنه صائر إلى العدم وأن أبناءه مولودون لدود القبور فهو مطالب بالتنعم في يومه ما استطاع. إن من لا أبدية له لا غد له. . .
9 - إن المناظر يجد قصوراً في عدم مجاراة العرب لليونان في آدابهم التي جالت على قوله في رحاب الموضوعية خارجة من رحاب الذات، ويذهب بهذا إلى القول بأن التحليل ليس من مكنة الذهنية العربية
لا يا مناظري، إن الأديب العربي قد استوعب في ذهنيته كل ما جال في خاطره وفي الآفاق حوله، فما كان عليه أن يصوّر حياة اليونان أو يتذوق أساطيرهم وخرافاتهم فيحذو حذوهم، لأن فطرته لم تكن تستنيم لثقافة غريبة عنه. وهل لنا أن نلوم الألماني مثلاً لأنه لا يأتينا بما أتى به موسيه، أو نلوم هوجو لأنه لم يكتب كنيتشه؟. . .(263/7)
إن الآداب صورة لثقافة الشعب وحياته، وقد أخذ أجدادنا العلوم عن اليونان لأن العلم مشاع كما سلمت. فهل كانت حضارتنا الأدبية يونانية لتكون آدابنا يونانية؟
10 - إن المناظر يرى في انتصار شارل مارتل إنقاذاً للعقلية الغربية من طغيان روح النسك الآسيوية. وهو يعترف في الوقت نفسه بأن العقلية الغربية كانت رازحة تحت كاهل اللاهوت الكنسي الذي قام في روما رقيباً على النفوس والعقول محملاً بكل سيئات النسك الآسيوية
أفليس من الغريب أن يرى الدكتور أدهم في انتصار مارتل إنقاذاً للغرب من روح النسك الآسيوية في حين أن الإسلام لم يكن فيه شيء من هذه الروح التي سادت بها روما باسم المسيحية؟ فإذا كان مارتل أراد إنقاذ الغرب من النسك، أفما كان عليه أن يتحول من نهر اللوار إلى روما بخيله ورجله؟
بقي علي أن ألقي نظرتي الأخيرة على أول كلمة توَّج بها مناظري ردَّه. وهي كلمة (هابل آدم) التي أوردها آية يدعونا بها إلى الأخذ بعقلية الغرب لنصلح حياتنا حتى إذا انتقلنا إلى الحياة الأخرى فهنالك نتبع العقلية الشرقية الملائمة للحياة الباقية (كذا. . .)
مرحى لهابل آدم. . . أفيلسوف اجتماعي من يقول بمثل هذا؟
ليذهب أشباه (هابل) في هذه الحياة بعقليتهم المنكرة لكل عقاب وثواب. ليسحق الأقوياء الضعفاء سحقاً سواء أكانوا أفراداً أم شعوباً، وليدوسوا على الحق بالقوة الغاشمة وبالقوة المتحيلة، حتى إذا اجتاز الكافرون معبر الموت حقّ لهم أن يعملوا بذهنية الشرق وأن يقفوا أمام الديان هاتفين: ربنا إننا نتوب إليك فاحشرنا مع المؤمنين الصالحين.
(البقية في العدد القادم)
فليكس فارس(263/8)
شوقي
توارد الخواطر
لأستاذ جليل
قصد شاعرنا (أحمد شوقي) وهو تلميذ باريس يطلب (علم الفقه) فيها على علمائها ليرجع إلى مصر قاضياً أو مِدْرها (محامياً) وقد فطره الله شجاع الجنان جبان اللسان مثل الرضيّ (الموسويّ) (محمد بن الطاهر) القائل:
جناني شجاع إن (شعرت) وإنما ... لساني إن سيم النشيدَ جبان
وفخر الفتى بالقول لا بنشيده ... ويروي فلان مرة وفلان
وفي باريس الفاتنة الساحرة هذه قال شوقي قصيدة (خدعوها) وفيها هذان البيتان:
يوم كنا (ولا تسل كيف كنا) ... نتهادى من الهوى ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب ... تعبت في مراسه الأهواء
وقد قال شاعر قديم الأبيات الآتية وهي في الجزء الرابع من (طبقات الشافعية الكبرى) غير منسوبة إلى أحد:
ما على عاشق رأى الحِبّ مختا ... لا كغصن الأراك يحمل بدرا
فدنا نحوه يقبل خدي ... هـ غراماً به ويلثم ثغرا
وعليه من العفاف رقيب ... لا يُداني في سنة الحب غدرا
وهذه الأبيات لم تُر في ذاك الوقت في غير (الطبقات) ولم تكن المطبعة - وشوقي ناشئ أو شاب - قد أظهرت ذلك الكتاب. فهل قرأها شوقي في الطبقات المخطوطة؟ وهل كان يطالع مثل هذه المصنفات في حداثة سنه أو رآها في كتاب مطبوع غير الطبقات أم هذا من توارد الخواطر؟
أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري يقول في كتاب الصناعتين: (قد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدم من غير أن يُلم به، ولكن كما وقع للأول وقع للآخر. وهذا أمر عرفته من نفسي فلست أمتري فيه، وذلك أني عملت شيئاً في صفة النساء: سفرن بدوراً وانتقبن أهلة، وظننت أني سبقت إلى جمع هذين التشبيهين في نصف بيت إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين فكثر تعجبي، وعزمت على ألا أحكم على المتأخر بالسرق من المتقدم حكماً حتماً(263/9)
قلت: والبغدادي هذا هو أبو القاسم الزاهي وقد روى الثعالبي له في (خاص الخاص) و (الإيجاز والإعجاز) هذين البيتين، وقال: (أمير طرائفه وأحسن شعره قوله في النسيب:
سفرن بدورا، وانتقبن أهلة ... ومِسن غصوناً، والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدر أنجما ... جُعلن لحبات القلوب ضرائرا)
وفي شرح المقامات للشريشي: (سئل المتنبي عن اتفاقات الخواطر، فقال: الشعر ميدان، والشعراء فرسان، فربما اتفق توارد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر)
ولقد صدق المتنبي وما كذب، فهناك حقاً توارد الخواطر وهناك - وعلم هذا عند أبي الطيب - غارات الشاعر. . . وقد قال الإمام المرزباني في (الموشح): (كان الأخطل يقول: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. . .)
الياء في مثل هذا الاسم (شوقيّ) هي للنسبة أو الإضافة - كما يسميها صاحب (الكتاب) - وهي هدية أو بلية تركية. ومثل شوقيّ، عدليّ، رشديّ، صدقيّ، حلميّ، حقيّ، حمديّ، حسنيّ، سريّ، سعديّ، فتحيّ، شكريّ، فهميّ، فوزيّ، فخريّ، فكريّ، وصفيّ
والترك اللذين أتحفوا العربية بمثل هذه البلية هم (جيل من الناس) كما قال الصحاح والجمع أتراك، قال الإمام محمود جار الله الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة): (وتقول: تراكِ تراك صحبة الأتراك)
ومن مشهوري الترك وأبطالهم ورجال القتال فيهم: جنكزخان، هولاكو، تمرلنك، أتاتورك
فيحق على كل ناطق بـ (الضاد) في كل إقليم أن يرفض هاتيك (الياء)، وإن الأسماء الجميلة الكيّسة في اللسان المبين لسان القرآن لأكثر عدداً من رمال الدهناء ومن نجوم السماء
(الإسكندرية)
(* * *)(263/10)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 4 -
(تنزل (جوريجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - شيروفون: صديق سقراط: (س)
3 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليلكس: أثيني: (ك)
ط - (تابع ما قبله) وإذا قال لي بعد ذلك مدرب الألعاب الرياضية: (إني لجد دهش يا سقراط لأن جورجياس يريد أن يريك أن الخير الذي ينتج عن فنه أعظم من الخير الذي ينتج عن فني): فإني سأقول له: ومن أنت وما مهنتك يا صديقي؟ وطبعاً سيجيب بأنه مدرب ألعاب، وبأن مهنته هي تجميل الجسم وتقويته! ثم إذا أتى رجل الأعمال بدوره واحتقر جميع المهن الأخرى وقال فيما أظن: (أحكم بنفسك يا سقراط إذا كان جورجياس أو(263/11)
غيره يستطيع أن يأتي بخير أعظم من الثروة؟) فإنا سنقول له: ماذا؟ وأي شيء تمتهن؟؟ وسيجيب مؤكداً ما قال!! وهنا سنسأل: ومن أنت إذاً؟ وسيقول: إنه رجل أعمال! ومن ثم سنقول له: عجباً! أتعتبر الثروة أعظم الخيرات جميعاً؟ وسيكون جوابه: نعم بكل تأكيد!)
فترى هل أتبع يا جورجياس من يدعي أن فنه ينتج خيراً أعظم من الخير الذي ينتجه فنك؟ واضح أنه سيسأل بعد ذلك عن هذا الخير الأكبر الذي تقول به يا جورجياس! فتصور إذاً أن نفس السؤال قد وجه إليك منهم ومني، وأخبرني من أي شيء يتركب ذلك الذي تسميه أعظم خيرات الإنسان، والذي تفخر بأنك تجلبه للناس؟
ج - إنه في الحقيقة يا سقراط أكبر الخيرات وأعظمها! بل إنه ما ينسب إليه الناس دفعة واحدة استقلالهم، وما يمد كل فرد في مدينته بالوسيلة التي يسود بها على الآخرين!
ط - ولكني مازلت أسأل ما هو؟
ج - إنه - فيما أرى - أن يكون المرء قادراً على أن يقنع بالخطاب القضاة في محاكمهم، والشيوخ في مجالسهم، والجماهير في جمعياتهم، أو هو - في كلمة - إقناع من يكونون كل نوع من أنواع الاجتماع السياسي؛ وبهذه القدرة يترامى الطبيب ومدرب الألعاب على قدميك، بل وبها ترى أن رجل الأعمال لا يثرى من أجل نفسه، بل من أجل شخص آخر هو أنت يا من تمتلك فن الكلام وكسب روح الجماعات!
ط - يلوح أخيراً يا جورجياس أنك قد أريتني بكل ما تستطيع من تقريب أي فن هو البيان في رأيك. وإذا كنت قد فهمت حسناً فإنك تقول إنه (عامل الإقناع)، وإن الإقناع غاية كل عملياته، وإنه - بالاختصار - ينتهي إليه.، فهل تستطيع حقيقة أن تبرهن لي على أن قدرة البيان تذهب إلى أبعد من توليد الإقناع في نفوس المستمعين؟؟
ج - أبدا يا سقراط! وأرى أنك قد عرفته تعريفا حسنا لأنه إنما يرد إلى ذلك حقا.
ط - أصغ إليّ يا جورجياس! إذا كان هناك من يتحدث إلى غيره ويرغب في نهم أن يعرف تماماً موضوع الحديث، فكن واثقا أني أملق نفسي بأني من هذا النوع، بل وأحسب أنك منه أيضاً.
ج - وإلى أي شيء يتجه يا سقراط؟
ط - يتجه إلى هذا. سأقول لك إني لا أتبين بوضوح طبيعة ذلك الإقناع الذي تنسبه إلى(263/12)
البيان، ولا من ناحية أي الأعمال يأخذ ذلك الإقناع مكانه!، وليس هذا لأني لا أشك فيما تريد أن تقول فحسب، بل لأني سأطلب منك أيضاً أي إقناع يولده البيان، وحول أي المواضيع يدور ذلك الإقناع. ولتعلم أني إذا سألتك بدلا من أن أشركك معي في أوهامي وظنوني، فإني لا أبغي بسؤالي شخصك، وإنما أبغي به أن يتقدم بنا الحديث على نحو يحدد لنا موضوع السؤال بالوضوح المستطاع. فاحكم بنفسك هل أنا مصيب في سؤالي إذا سألتك: من أي أنواع المصورين وإذا أجبتني بأنه مصور حيوان، ألا يكون لي الحق في أن أطلب منك فضلا عن ذلك: أي الحيوانات يصورها؟ ومن أية ناحية؟؟
ج - بلا شك.
ط - أو ليس الأمر كذلك لأن هناك مصورين كثيرين يصورون حيوانات أخرى كثيرة؟
ج - بلى.
ط - بينما لو كان هو المصور الوحيد للحيوانات فعندئذ تكون إجابتك حسنة.
ج - بالتأكيد.
ط - فأخبرني إذا فيما يتعلق بالبيان، أيلوح لك أنه الوحيد الذي ينتج الإقناع، أو أن هناك فنونا أخرى تستعمل الإقناع بمقدار ما؟ أريد أن أقول أيقنع كل من يُعلمُ شيئا ما ذلك الذي يعلمه أم لا يقنعه!
ج - إنه يقنعه تماما من غير ما تنقض يا سقراط.
ط - ولكيما نعود إلى نفس الفنون التي أشرنا إليها من قبل، ألا يعلمنا الحساب ورجاله كل ما يتعلق بالأعداد؟
ج - بلى.
ط - أو لا يُقنعون بها في نفس الوقت؟
ج - نعم.
ط - فالحساب إذا عامل إقناع كذلك!
ج - يلوح هذا.
ط - فإذا سأل سائل: أي إقناع ومن أية ناحية؟، فالجواب هو الإقناع الذي موضوعه كمية العدد فردا كانت أم زوجا وكذلك نستطيع أن نبين إزاء الفنون الأخرى التي نتكلم عنها أنها(263/13)
تنتج الإقناع وأن نميز فيها النوع والموضوع. أليس ذلك صحيحاً؟
ج - بلى.
ط - إذا ليس البيان وحده هو الفن الذي موضوعه الإقناع!؟
ج - إنك تقول حقاً.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(263/14)
دراسات للمستشرقين
قيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن
للعلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر
حين أبدأ بنشر تعريب بعض آثار المستشرقين أرى أن أذكر أني طالما ترددت في أن أنقل إلى العربية دراسة من دراسات هؤلاء العلماء لتكون ضمن مواد (الرسالة)، وما ذلك إلا لأنه (أولاً) ليس من السهل أن يقع الاختيار على بحث قائم بذاته ليس له ارتباط بدراسة أخرى سابقة له أو لاحقة تستكمله أو تنقض شيئاً منه، ثم هو إلى ذلك مما يستهوي قراء الرسالة. و (ثانياً) لأن أبحاث المستشرقين النابهين هي دراسات علمية أجمع على صحتها، ويستسيغ من تابع دراسة الاستشراق دراسة منظمة فهم تلك الأبحاث وإدراك كنهها. وكنت أخشى أن يصطدم بعض حضرات القراء بهذه العقبة، ولكني وجدت في دراسة العلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر لقيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن ما يغنيني عن الأخذ بهذه التقديرات. وأرى قبل أن أسوق إلى إخواني في اللغة بحثه معرباً - وكان قد نشره باللغة الألمانية في أواخر سنة 1937 - أن آتي بشيء من سيرته؛ أما التبسط فيها فله مجال آخر. وهأنذا أستعير كلمات المغفور له ج. برجستراسر الأستاذ السابق بالجامعة المصرية لنتعرف منها على مكانة الأستاذ العلامة أ. فيشر، فقد وصفه (بالمعلم الأكبر) في الحفلة التكريمية التي أقامها له العلماء المستشرقون من ألمان وإنجليز وفرنسيين وروسيين وغيرهم في جامعة ليبزج بمناسبة بلوغه الستين من عمره، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير سنة 1925. وقد أسس معهد اللغات السامية في ليبزج منذ سبع وثلاثين سنة. وتفرغ للغة العربية الفصحى لعصرها الذهبي (حتى صار حجتها ومرجعها)، (جامعاً بين علوم اللغة وآدابها، متفرداً في دراسة الشعر)، (محيطاً بتاريخ الشعوب الإسلامية والعربية والسامية) (واقفاً على دقائق الحياة الفكرية فيها). ثم هو إلى ذلك (يسيطر على كل اللغات السامية التي لها بالعربية صلة قريبة أو بعيدة). وهو في كل بحث له يتعقب مسائله مسألة مسألة إلى أقصى حدودها) لذلك كانت (دراساته التي ينشرها قطعاً من ذهب جاء بها من كنزه الذي لا يفنى). أما معجمه اللغوي التاريخي الذي أخذ منذ سنين يضحي من أجله جل وقته وجهده، ثم أهداه إلى مجمع اللغة العربية الملكي الذي يسّر له(263/15)
متابعة العمل فيه لنشره فسيكون كما قال برجستراسر (ذخيرة للأجيال المقبلة يستفيد منه أبناء العربية وعلماؤها)
وإني أكتفي بهذا القدر من التوطئة والتعريف بمكانة أستاذي العلامة أَ. فيشر ليطلع القارئ الكريم على بحثه فيما يلي:
توجد للقرآن عدة تراجم إلى اللغات الأعجمية. ولقد تعرفت البلاد الغربية القرآن لأول مرة عن طريق الترجمة اللاتينية التي أوصى ببترفون كلوجني المعروف باسم بطرس فنرابيليس ذي النظر الثاقب، كلا الراهبين روبرتس رتننسيس والأرجح أنه كاسترنسيس أي المنسوب إلى شستر والراهب هرمانوس والماتا بوضعها، وكان ذلك حول منتصف القرن الثاني عشر. غير أن هذه الترجمة لم تظهر إلا عام 1543 ميلادية عن تيودور ببلياندر من مدينة يال ثم اتخذت هذه الترجمة تكأة لأقدم التراجم التي نعرفها في اللغات الإيطالية والألمانية والهولاندية. وتعد ترجمة لدفيكو مراتشي التي تم طبعها في مدينة بادوا عام 1698 ميلادية، وقد حولت الأصل العربي والترجمة اللاتينية والتخطئة أحسن ترجمة للقرآن ظهرت في ذلك العصر. ومن ذلك العهد لم تنقطع قط سلسلة تراجم القرآن إلى اللغات الغربية. ويجدر بنا أن نذكر أن المسلمين من غير العرب ممن لا يفقهون العربية شعروا منذ أمد بعيد بحاجتهم هم كذلك إلى ترجمة القرآن للغاتهم القومية، فكان أن ظهرت تراجم للقرآن إلى اللغات الفارسية والتركية والهندستانية والجودشراتية والبنجانية والسندية والبنغالية والتأميلية ولغة الباشتو ولغة أهل الملايا (وكذلك أيضاً اللغة الصينية؟)، كما أنه ظهرت تراجم ببعض اللغات الأفريقية. ويعد قيام المسلمين في العصر الحالي بترجمة القرآن إلى مختلف اللغات الأوربية أمر له خطورته العظمى. والمرجو عندئذ أن تتوارى التراجم التي قام بها غير المسلمين والتي قد تحمل في طياتها نزعات معادية للإسلام. كذلك يرجى لهذه التراجم المنتظرة أن تكون بمثابة دعاية حسنة للإسلام بين المسيحيين. وهذا الدافع الأخير له أثر كبير في نشاط الأحمدية في هذا الميدان. والأحمدية هي فئة ظهرت حديثاً في لاهور بالهند ابتدعت مذهباً جديداً في الإسلام ونزولا على اقتراح بهذا الشأن لشيخ الجامع الأزهر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المعروف بنزعته العصرية، ذلك الاقتراح الذي عضده فيه(263/16)
جماعة كبار علماء الأزهر الشريف بفتوى منهم، أخذت الآن وزارة المعارف العمومية المصرية في درس الموضوع وتألفت لذلك عدة هيئات من العلماء ليروا هل يحسن أن يترجم القرآن ترجمة أمينة يعتمد عليها، أم يكتفي بترجمة معاني القرآن إلى اللغات الحديثة الحية، فيترجم أولاً إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية، وما ذلك إلا لأن ترجمة كلام الله الكريم في كتابه العزيز أمر مستحيل. كذلك تألفت في حيدر آباد (الدِّكن) هيئة جمعت عددا من أجلاء الهند بغيتها نشر ترجمة للقرآن الكريم بمختلف اللغات الحية مبتدئة باللغة الإنكليزية تتفق ومذهب أهل السنة.
وإذاً ما هي قيمة جميع التراجم الموجودة للقرآن؟
(للبحث بقية)
إبراهيم إبراهيم يوسف(263/17)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 31 -
مقالاته للرسالة (2)
كان أكثر جلساء الرافعي في هذه الفترة هم الأصدقاء (س. ا. ع)، فكان لهم سره ونجواه، وإلى موعدهم مغداه ومراحه؛ وكان حديثهم إليه وحديثه إليهم هو عنده مادة الفكر وموضوع الكتابة؛ وكان لكل واحد من الثلاثة الأصدقاء في هذه الفترة مشكلة تملأ فراغ رأسه، فهي له في الليل مشغلة وفي النهار مشغلة. . .
أما (س) فكان على نية الزواج، وقد ترامتْ أمانيه إلى واحدة من أهله، ولكن (التقاليد) وقفت بينها وبينه موقفاً ما، أورثه ضجراً وملالة وسخطاً على الناس وتبرُّماً بالحياة وخروجاً على ما تواضع الناس عليه من التقاليد في شئون الزواج. . .
وأما (ا) فكان في عهد بين عهدين من حياته: قد ودَّع ماضيه بما فيه من عبث ومَجَانة، وطلَّق شهواته ونزواته إلى عهد يستشرف إلى ما فيه من المتاع الحلال في ظلّ الزوجة المحبوبة المحبّة؛ فسمّى زوجته وعقدَ عقْدَه، ثم وقف ينتظر اليوم الذي يبني فيه بأهله قلقاً عجلان، واليوم الموعود لا يحين لأن التقاليد تبعد به كلما دنا موعده. . .
وأما (ع) فشاب قد انفرد في الحياة من أهله: فَقَد أمه وهو غلام، فما كاد يستوي شبابه حتى مضى يلتمس ما فقد منذ طفولته من حنان الأنثى، فتزوج، ثم فقد زوجه؛ ثم تزوج، فما بقيتْ الثانية إلا بمقدار ما بقيت الأولى، ولكنها خلَّفتْ بضعة منها بين يديه مصوَّرة في طفلة سلبتها القدرةُ أمَّها يوم منحتها الحياة!
. . . هو أب ولا زوج له، وهو عزَبٌ وكانت له زوجتان، وهو فتى يؤمن بالله ويلحد في القدر، وهو شخصيتان منفصلتان تعرف إحداهما في المسجد وتعرف الثانية في الشارع، وله عين عفة وعين فاجرة؛ وله في الحياة تجربة ورأي، وله إلى الهوى والملذات مثلُ اندفاع الشاب الذي لم يذق ولم يجرب بعد!(263/18)
ثلاثة نفر لكل منهم رأيه في الحياة ومذهبه، ولكنهم قد التقوا في مجلس الرافعي على هوى واحد، فأحلوه من أنفسهم وأحلهم من نفسه؛ فكان له من أحاديثهم شعور الشباب ولهم من حديثه حكمة الشيخ، وللأدب من كل مجلس يجمعهم وإياه موضوع حي مما كتب الرافعي لقراء الرسالة. . .
ومن هذه الموضوعات (قصة أب)
ذلك هو الصديق (ع) كان الله له. . .!
جلس مجلسه يوماً إلى الرافعي يشكو بثه وهمه والدموع تترقرق في عينيه؛ واستمع الرافعي إلى شكاته متألماً حزيناً؛ فما فرغ (الأب) من قصته حتى جمع الرافعي (قصاصات) الحديث فجعلها في جيبه وجلس يتفكر. . . ثم كانت (قصة أب)
وفي الأسبوع التالي كان زفاف أبنته إلى ابن أخيه في حفل أهلي خاص وصفه الرافعي في مقاله (عرش الورد)؛ وهو العرش الذي نظمه بيده الأستاذ سامي الرافعي لمجلس العروسين، وجعل فيه فنِّه وعاطفته نحو أخته وابن عمه وقدَّمه إليهما هدية عرس
ولما جلس العروسان ذراعاً إلى ذراع في عرش الورد، بارك لهما الرافعي ودعا؛ ثم خرج ليمضي ساعات في القهوة. ولقيني هناك وحدي، فانتحينا ناحية على حيْد الشارع لا يترامى إليها من أضواء القمر إلا شعاع حائل؛ وكان الرافعي يؤثر دائماً أن يجعل مجلسه على ذلك الرصيف في جانب من القهوة، ويسميه (بلاج طنطا) إذ كان انفساح الشارع أمامه، وما يتعاقب عليه في الليل والنهار من ألوان الجمال في الطبيعة والناس - مما يحبِّب إلى العين أن تنظر، وإلى النفس أن تنبسط، وإلى الفكر أن يبدع فيما يخلق من ألوان الجمال. . .
وكان الليل نائما يحلم، والطبيعة ساجية لا يُسمع من صوتها إلا همسٌ خافت، وفي الجو شعر يهزج في سِرار النسيم وفي حفيف الشجر، وعرائس الخيال تُطيف راقصة تنفح بالعطر وترفُّ بالنور. . ولكن الرافعي جلس مجلسه صامتاً لا يتحدث، إلا كلمات إلى النادل يطلب كوب ماء ليشرب أو جمرات للكركرة. . . واحترمتُ صمته فسكتُّ عنه. . .
ومضت ساعة، ثم رفع عينيه إليّ وهو يقول: (الليلةُ عرس ابنتي. . .!)
ولم يسمع جوابي، لأن دمعة كانت تترقرق في عينيه وهو يتحدث حبستني عن الجواب. . .!(263/19)
دمعة لم أترجم معناها إلا بعد سنتين، يوم جاءني يقول والدمع يلمع تحت أهدابه: (إن وهيبة مسافرة إلى زوجها في أمريكا؛ ليس من الحق أن تبقى هنا وهو هناك!)
ثم يومَ جاءني بعدها يقول وفي يده صحيفة أمريكية. (انظر هذه الصورة، إنهم يسمونه هناك: أصغر سائح مصري في أمريكا. . إنه حفيدي الصغير. . .!)
لقد كان الرافعي يحب أولاده حباً لا أعرف مثله فيمن أعرف؛ ووهيبة كبرى أولاده، ذكرها في (الديوان)، وغنى لها في (النظرات) وأرَّخ زواجها في (عرش الورد)
وكانت المقالة التالية هي (الإنسانية العليا)
وهي باب من القول في الأدب الديني تنتظم مع (وحي الهجرة) و (الإشراق الإلهي) و (سموّ الفقر) تحت باب واحد. . .
. . . كان يعتاد الرافعي كما يعتاد كلَّ إنسانٌ، نوباتٌ من الضيق والهم تقعد به وتصرفه عما يحاول من عمل؛ ولم يكن له علاج من هذا الضيق الذي يعتاده إلا أن يقرأ قرآناً أو ينظر في كتاب من كتب السيرة النبوية، فينفرج همه ويزول ما به، ويهون عليه ما يلقى من دنياه. . .
في نوبة من هذه النوبات التي تضيق بها الدنيا على إنسان، تناول الرافعي كتابا من كتب الشمائل يسرِّي به عن نفسه، فاتفق له رأي. . . وخرج من مطالعته بمقالة (الإنسانية العليا)
. . . وكان للرسائل التي ترد للرافعي في البريد من قراء الرسالة أثر يوحي إليه في أحيان كثيرة بما يكتب لقرائه، فهي منهم وإليهم؛ فمنذ بدأ الرافعي يكتب في الرسالة أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة في موضوعات شتى ولمناسبات متعددة، حتى كان يبلغ ما يصل إليه أحياناً في اليوم الواحد ثلاثين رسالة؛ وكان يقرؤها جميعاً ويحفظها في درج خاص من مكتبه؛ وسأتحدث عن هذه الرسائل في باب خاص له موعده، إنما يعنيني اليوم أن أتحدث عن الموضوعات التي استملاها من رسائله. ومن هذه الموضوعات مقالة (تربية لؤلؤية)
كانت تصدر في القاهرة في ذلك الوقت مجلة (الأسبوع) وقد فتحت صدرها لطائفة من شباب الجنسين يكتبون فيها وحي عقولهم وقلوبهم و. . . وغرائزهم، وكانت صفحاتها(263/20)
لهؤلاء الشبان والشابات أوسع من صدر الحليم، فلم تلبث بهذه السماحة أن صارت - كما يقول العامة - بطن حمار! وأصبحت ميداناً للغزل البريء وغير البريء، وموعداً من مواعد التلاقي والوداع
وفي صبيحة يوم، حمل البريد إلى الرفعي رسالة من سيدة كريمة، تلفته إلى محاورة داعرة تعترك فيها أقلام طائفة من الشبان في مجلة الأسبوع. وبعث الرافعي في طلب أعداد المجلة فجيء بها؛ فما قرأها حتى تناول القلم وأملى على مقالة (تربية لؤلؤية)
في هذه المقالة، خلاصة رأي الرافعي في حرية المرأة وحقها في المساواة؛ وترى لهذا الرأي بقية فيما نشر من مقالات الزواج والطائشة، والجمال البائس، وغيرها؛ وهو يزعم أنه بهذا الرأي من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة. وللرافعي حين يتحدث في هذا الموضوع حجة قوية وبرهان ماض، إلى روح رفافة شعر ساحر. ولست واجداً أحداً يرد عليه في ذلك على قلة من تجد من أنصاره، وقد جلست مرة إلى المربي الكبير الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي لمناسبةٍ ما فيما كتب الرافعي للرسالة، فقال لي (إنك لن تجد أحداً من أنصار الجديد يرضى هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحداً - أيضاً - يستطيع أن يصاول الرافعي في هذا الميدان بمثل حجته وقوة إقناعه. . .!)
. . . وأرضى الرافعي بهذا المقال السيدةَ الكريمة التي كتبت إليه، ولكنه أغضب مئات من القارئات وعشرات من القارئين؛ فانثالت عليه الرسائل من هؤلاء وهؤلاء غاضبة مستنكرة، إلا بضع رسائل. . .
ولما كتب مقالة (تربية لؤلؤة) وأرسل بها، ركب قطار البحر إلى الإسكندرية ليستريح يوماً هناك، يتزود فيه لفنه وأدبه من عرائس الشاطئ. . . كان قد كتب مقالة السالف وأرسل به، ولكن معانيه بقيت في نفسه؛ فلما ذهب إلى الشاطئ وجد تمام موضوعه، فعاد ليملي عليّ مقالة (لحوم البحر) وهي قصيدة مترجمة عن الشيطان على نسق من النثر الشعري فاق فيه الرافعيُّ وغلَب. . .
كان للرافعي عادةٌ حين يعجبه موضوع مما كَتب أن يسأل عنه كلّ من يلقى من أصحابه. . . (هل قرأت مقالتي الأخيرة. . .؟ وما رأيك فيها. . .؟ هل يملك أحد أن يعرض لرأيٍ(263/21)
فيها بالنقد. . .؟
وكان يعتدّ كثيراً بمقالة (تربية لؤلؤة)، وفي ذات مساء بعد نشر تلك المقالة، قصد إلى القهوة ليريح أعصابه؛ فصادف الأصدقاء (س. ا. ع)؛ فما كاد يستقر به المجلس بينهم حتى أخذ يسأل كل واحد: (هل قرأت. . .؟ ما رأيك. . .؟ هل يملك أحد. . .؟)
كان للرافعي في كل واحد من أصدقائه الثلاثة رأي، وكان لكل واحد في نفسه حقيقة، ولهم في الحياة نظرات تغترب وتقترب؛ وكلهم قد حُرِموا المرأةَ لوناً من ألوان الحرمان؛ ولكل منهم في المرأة رأي؛ مما تخيّلها، أو مما كابدها، أو مما شقي بها. . .
والرافعي رجل قد فارق الشباب وخلعه فيما خلع من ماضيه؛ وإنه لزوج وأب ويوشك أن يكونَ جدَّا؛ فلا قدرة له على أن يعود القهقري إلى ماضي شبابه يستوحيه خواطر الفتيان وأحلام الشباب في المرأة والحب والزواج؛ وهؤلاء الأصدقاء - على ما قدّمتُ من نُعوتهم في أول هذا الفصل - تجمعهم صفة العزوبة على اختلاف ألوانها؛ وما يزالون في باكر الشباب وفي يقظات الحُلم؛ وكلهم قد مارس المرأة نوعاً من المراس: في وهمه أو في حياته. . .
فما كاد الحديث يبدأ بين الرافعي وأصدقائه حتى أخذ يتشعب فنوناً، وساقهم الرافعي بحسن احتياله إلى هدف يرمي إليه. . . فما انفض المجلس حتى كان ثلاثتهم على ميعاد مع الرافعي ليجيبوه كتابةً عن أسئلة ثلاث وجهها إلى كل منهم، على أن يلتزم الصدق، وبجانب الحياء، ويخلص في الإجابة؛ وكانت الأسئلة هي:
(ا) كيف ترى المرأة في وهمك؟ وأين مكانها من حياتك؟ وماذا مارست من شأنها وعرفت من خبرها؟
(ب) لماذا لم تتزوج؟
(ج) صف ما تحب من أخلاق زوجتك المستقبلة؟
وجاء الميعاد المضروب، وسعى الأصدقاء الثلاثة إلى الرافعي بأجوبتهم؛ فمنها كانت مقالة الرافعي (س. ا. ع) وهي أولى مقالاته في الزواج؛ ثم تتابعت مقالاته في هذا الموضوع، فخطا بها إلى قلوب الشباب خطوات، وكان بينهم وبينه من قبلُ سد منيع
قبل أن يكتب الرافعي هذه المقالة بأيام، جاءه رسالة من بعض الأدباء يسأله أن يكتب إليه(263/22)
في أسباب أزمة الزواج؛ استيفاء لبحث يهم أن يصدره في كتاب. . . وأحسب أن هذا السؤال كان الحافز الأول للرافعي إلى الكتابة في هذا الموضوع. وقد بعث الرافعي إلى السائل بجواب سؤاله؛ وكان جواباً فيه كثير من الدقة والتحديد والعمق، ولم أقرأه منشوراً منذ أرسله إلى طالبه
بدأ كثير من الشبان يهتمون بما يكتب الرافعي؛ إذ كان بهذا الموضوع يعالج مشكلة كل شاب عَزَب، وتضاعفتْ رسائل القراء إليه، وطال الجدل في موضوعه بين طواف من الشباب في مجالسهم الخاصة. . .
فلما كانت أيام بعد مقالة (س. ا. ع) جاء إلى مجلسنا في القهوة شاب من أصدقائنا المتأدبين، هو الأستاذ إسماعيل خ، وهو محام ناشئ له ولوع بالأدب وشهوة في الجدل، وفيه إلى ذلك لين في الخلق وشذوذ في الطبع؛ وكان الرافعي يعرفه عرفاننا فما رآه حتى وجد فيه عنوان مقالة. . . فما عليه يسأله ضاحكا. . . وأجاب الأستاذ إسماعيل: (الزواج! وما يحملني على هذا العنت؟ أتريدني على أن أبيع حريتي من أجل امرأة؟. . .) ومضى يؤيد دعواه بالبراهين والأمثال. . .
وتم للرافعي موضوعه، فأملى عليّ في اليوم التالي مقالة (استنوق الجمل)
في هذه المقالة يجد القراء سبباً آخر لانصراف الشباب عن الزواج غير ما قدّم س. ا. ع في المقالة السابقة؛ فهي الحلقة الثانية من هذه السلسلة. . .
وأحس الرافعي بالتعب، فانصرف عن الكتابة أسبوعاً ليستجم، ولمْ من هنا ومن هناك طائفة من منثور القول فأرسله إلى الرسالة بعنوان كلمة وكليمة. وهي عبارات قصيرة من جوامع الكلم، ليس بينها رابطة في الفكر ولا في الموضوع، وكل كلمة منها موضوع بتمامه
وقد قدَّمت القول عن هذه الكلمات القصار التي كان الرافعي ينشرها بعنوان (كلمة وكليمة)؛ فحسبي هنا أن أشير إلى موضوع هذه الكليمات ودوافعها:
في هذه الكلمات التي نشرها بالعدد 65 سنة 1934 كلمات عن المرأة والحب؛ وهذه من فضلات المعاني التي اجتمعت له في مقالات المرأة والزواج ولم يجد لها موضعاً مما كتب. . . وفي هذه الكلمات رسائل إلى (فلانة) من تلك الرسائل التي قدّمت الإشارة إليها عند الحديث عن حب الرافعي. وفيها كلمات عن السياسة المصرية يعرف دوافعها من يذكر(263/23)
الحال السياسة التي كانت في مصر لذلك العهد وحكومة صدقي باشا تحتضر. . .
فمن هذه العناصر الثلاثة اجتمع له هذا القدر من كلمة وكليمة
(طنطا)
محمد سعيد العريان(263/24)
تعليم أبناء الفقراء في إنجلترا
للآنسة الفاضلة أسماء فهمي
درجة شرف في التاريخ ودرجة الأستاذية من إنجلترا
وأستاذة بمعهد التربية
استأثرت الطبقات الغنية في إنجلترا بما كان يعد أرقى أنواع التعليم والثقافة إلى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر. وكان يتلقى أبناء تلك الطبقات العلم في المدارس الخصوصية وفي جامعتي اكسفورد وكمبردج، ذات النفقات الباهظة والنزعة الأرستقراطية البحثة، تلك المعاهد التي استحالت بالتدريج إلى معاهد خاصة بذوي اليسر والجاه وأن لم تنشأ في أول الأمر من أجل هذه الطبقة بالذات
أما أبناء الطبقات الفقيرة فكانوا يتلقون قشور العلم في مدارس أولية متواضعة تشبه الكتاتيب في مصر في أكثر نظمها وأساليبها. وكان يقوم بتأسيس هذه المدارس الجمعيات الخيرية وأهل البر والإحسان؛ أما الحكومة فلم تتدخل في أول الأمر تدخلاً مباشراً في شئون التعليم بل اكتفت بتقديم الإعانات المالية للجمعيات ابتداء من سنة 1833، وبتكوين اللجان من حين إلى حين لدرس حالة التعليم وتقديم الاقتراحات والتقارير للقائمين بشأنه، مما كان له أثر يذكر في النهوض بالتعليم وتوجيهه التوجيه الصالح
ولقد كانت نظرة الحكومة والمتطوعين لنشر التعليم بين الفقراء قاصرة مبتورة، إذ كان الغرض مجرد القضاء على الأمية وتعليم الأطفال بعض الأعمال اليدوية التي قد تساعدهم على كسب الرزق. وعلى ذلك كان منهج الدراسة الأولية عبارة عن مبادئ القراءة والكتابة والحساب والدين ذلك الذي كان يمزج بتلقين الطاعة للرئيس والقناعة بنصيب المرء في هذه الحياة الدنيا. والواقع أن التعليم كان مبنياً على أساس الاحتفاظ بنظام الطبقات العتيق وخضوع الفقراء للأغنياء، فكان يخشى أن يؤدي التوسع في تعليم الفقراء إلى عدم رضائهم بحظهم من الحياة. ولقد تجلت تلك النظرة المحدودة في تقرير اللجنة المعروفة بلجنة عهد إليها بدراسة حالة تعليم أبناء الشعب فأصدرت تقريراً وافياً عام 1860 أعلنت فيه رضاءها عن حالة تعليم أبناء الفقراء إذ ذكرت بشيء من الدهشة أن في مكنة ثلاثة أخماس(263/25)
التلاميذ المدونة أسماؤهم في سجلات المدارس الأولية أن يتعلموا القراءة والكتابة دون صعوبة ظاهرة، وأن يقوموا بإجراء العمليات الحسابية البسيطة التي تتصل بحياتهم اليومية كما يتلقون مبادئ الدين الأساسية وما يتصل بها من التعاليم الخلقية. . . أما مواد الثقافة العامة كالتاريخ والجغرافيا التي كانت قد بدأت تشق لنفسها طريقاً في المنهج فلم تعرها اللجنة التفاتاً إذ لم تكن معتبرة من المواد الأساسية
على أن تلك النظرة الضيقة إلى تعليم أبناء الفقراء أخذت تتغير تغيراً كبيراً في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر تحت تأثير عوامل مختلفة أهمها انتشار الأفكار الحرة ونمو حركة العمال واتساع نطاق الحقوق الانتخابية التي شملت طبقة العمال سنة 1867، فأصبحت تلك الطبقة تلعب دوراً هاماً في مصير الأمة وتكييف شئونها. وسرعان ما شعرت الطبقة الحاكمة بأهمية هذا الانتقال الذي أوجب تعليم الطبقات الفقيرة بما أنها ضمت إلى زمرة السادة والحكام نتيجة تعديل نظام الانتخاب. وعلى ذلك نجد الحكومة الإنجليزية تتدخل تدخلا جدياً في شئون التعليم وتسن القوانين لتعميم التعليم الأولى ففي سنة 1870 صدر قانون بتكوين مجالس للتعليم الأولى في المناطق المختلفة التي تقل فيها أو تنعدم المدارس التي كان يقوم بإنشائها الجمعيات الخيرية للقيام بسد النقص وتوفير التعليم لجميع أبناء الشعب، كما جعل من اختصاصها الإشراف على التعليم في المدارس الأولية المختلفة بينما جعلت مدة الدراسة الأولية خمس سنوات من سن الخامسة إلى العاشرة. على أن التعليم لم يصبح إجبارياً يعاقب القانون على تركه إلا في سنة 1880. ومنذ ذلك الانتقال الهام أدخلت مواد جديدة في برامج التعليم الأولى في حين منحت إعانات مالية لكثير من التلاميذ الفقراء النجباء لمساعدتهم على دخول المدارس القانونية والفنية والجامعات. وهكذا نجد أن اتساع دائرة الحقوق النيابية في إنجلترا يقابلها اتساع وإصلاح في دائرة تعليم الفقراء، وفي ذلك بلا نزاع لب الحكمة، إذ أن الخطر كل الخطر في وضع القوة السياسية أو الحقوق الانتخابية في يد قوم جهلاء يقضون على الديمقراطية باسم الديمقراطية
وفي القرن العشرين خطا تعليم أبناء الفقراء خطوات واسعة حوالي سنة 1900، فمدت الدراسة الأولية إلى سن الرابعة عشرة، وأنشئت الخدمة الطبية للمدارس سنة 1907(263/26)
للاهتمام بصحة فقراء التلاميذ. وكان للحرب الأوربية الكبرى أعظم الأثر في تدعيم مبادئ الديمقراطية والمساواة ظهر أثره بجلاء في ميدان التعليم والعناية بأمر الأطفال دون تمييز بين الطبقات. ويشير الأرل بلدوين رئيس الوزارة الإنجليزية السابقة إلى تلك النزعة الحديثة عندما يقول: (إن وجود نوع واحد من الثقافة من أقوى عوامل الوحدة والائتلاف بين أفراد الشعب، وإن إنجلترا لم تربح في الماضي بسبب عدم اهتمامها بتكوين التفاهم والارتباط العقلي بين طبقات الأمة. فلقد كانت مدارسنا مقسمة بحسب الطبقات لا بحسب الفروق العلمية. . . ولكن قد بزغ فجر عهد جديد الآن، فان بناء المدرسة الأولية الهرم قد أقيم أخيراً على أنقاضه بناء جديد. . .)
والواقع أن هذا القرن يمتاز بالرغبة والعمل على القضاء على آثار الفروق المادية والاجتماعية من ميدان التعليم، تلك الفروق التي لم تكن تؤدي إلى الاختلاف في أنواع الثقافة والتربية بين أبناء الشعب فحسب، وإنما كانت تحول في أغلب الأحايين دون ظهور نبوغ أبناء الفقراء لسبب إهمال تنمية مواهبهم مما ينتج عنه بطبيعة الحال إقلال عدد النابغين في الأمة خصوصاً إذا راعينا أن الطبقة الفقيرة لا يقل عدد أفرادها عن أربعة أمثال عدد أفراد الطبقة الغنية والمتوسطة معاً، وأن عدد النابغين فيها إن لم يزد على عدد الموهوبين في الطبقتين المذكورتين لا يمكن أن يقل؛ وهكذا يضيع نصف نبوغ الأمة سدى إذ يقصر على تأدية الأعمال الوضيعة التي لا تستغل ولا تنمي المواهب العالية
ولتحقيق أغراض التربية الحديثة يبدأ الاهتمام بأمر الأطفال الفقراء في سن مبكرة؛ فمن سن الثانية إلى الخامسة يرسل الأطفال - إذا أرادت الأم - إلى مدارس الحضانة التي توجد عادة في الأحياء الصناعية الفقيرة المكتظة بالسكان حيث تضطر الأمهات في أغلب الأحيان إلى مغادرة منازلهن في الصباح الباكر للعمل مع أزواجهن في المصانع؛ فتقوم هذه المدارس بتعهد الأطفال للعب في أمكنة معرضة لأشعة الشمس والهواء، وتزود بكل أنواع اللعب المعدة للتسلية والحركة والابتكار؛ ويقضي الأطفال اليوم في اللعب والغناء والحركات التوقيعية وسماع القصص المصورة كما يعودون على القيام ببعض الأعمال التعاونية كالاشتراك في إعداد مائدة الطعام وتنسيق الأزهار وترتيب الحجرة، كما يعودون على آداب المائدة والترتيب والنظافة واحترام رغبات الغير(263/27)
ويبدأ التعليم الإلزامي من سن الخامسة إلى الرابعة أو الخامسة عشرة. وتقسم مرحلة التعليم الإلزامي الآن إلى ثلاث مراحل؛ فالمرحلة الأولى من سن 5 - 7، وفي هذه المرحلة تسير الدراسة وفق برنامج رياض الأطفال في مصر فيهتم بالألعاب والقصص والرسم والأناشيد والرقص، ويبدأ تعليم القراءة والكتابة عن طريق اللعب. والمرحلة الثانية من سن 7 - 11. وفي هذه المرحلة يدرس الأطفال ما يدرسه تلاميذ المدرسة الابتدائية المصرية ماعدا اللغات الأجنبية في أكثر المدارس. ويهتم في هذه المدارس اهتماما كبير بالأعمال اليدوية والموسيقى. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سن 11 - 14 أو 15 وهذه المرحلة تعرف بمرحلة التعليم الثانوي. وعند بدء هذا الدور يعقد امتحان عام للتلاميذ الذين يبلغون الحادية عشرة، وبمقتضى نتيجة هذا الامتحان يقسم التلاميذ إلى ثلاثة أقسام، فالتلاميذ المتفوقون يرسلون إلى المدارس الثانوية التي تعد للجامعات والوظائف الفنية؛ والذين يكونون في المرتبة الثانية يذهبون إلى نوع آخر من المدارس الثانوية تسمى المدارس المركزية تختلف عن المدارس الثانوية العادية في كونها تتجه في السنتين الأخيرتين اتجاها عمليا، فترتبط مواد الدراسة بالبيئة كأن تشمل مادة الجغرافيا دراسة حالة البلد الاقتصادية وأسواقها التجارية وصناعاتها وعلاقاتها بالأمم الأخرى الخ، وكأن تكون اللغة الأجنبية التي تدرس لغة حية يكون الغرض من دراستها التفاهم بخصوص الشئون التي تتصل بحياة الطالب وعمله ودائرة تفكيره لا أن تكون أكاديمية بمعنى أنها تهتم بخواص الأجرومية أو المعاني والمصطلحات التي قلما يحتاج إليها في الحياة العملية. أما تلاميذ المرتبة الثالثة فيرسلون إلى مدارس ابتدائية راقية تتمشى برامجها إلى حد ما مع برامج المدارس الثانوية من ناحية الاهتمام بالثقافة العام بينما توجه عناية كبيرة إلى إعداد الطالب لبيئته الخاصة فتهتم مثلا بالعلوم الزراعية إذا كان الطالب يعيش في بيئة زراعية، أو بالمواد التجارية إذا كان الطالب يعيش في منطقة تجارية. وبالجملة يراعى في هذا التقسيم التمشي مع مقدرة الطالب العقلية ثم الاهتمام بالناحية الثقافية وتوسيع دائرة اهتمام الطالب بالروابط الإنسانية ونواحي الحضارة المختلفة. ولا يقصد بهذا التقسيم التوجيه المهني بالذات أو إعداد الطالب لكسب العيش بطريقة مباشرة، وإنما الغرض الأول من الدراسة الإلزامية في مراحلها الثلاث أي من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة هو إعداد الطفل لأن(263/28)
يكون إنساناً مهذب الخلق والإحساس ذا قسط من الثقافة قبل أن يعد لأن يكون تاجراً أو صانعاً
ولا يقصر الاهتمام في هذا الدور من التعليم على التربية العقلية والخلقية، وإنما يولي أولو الشأن عناية كبرى إلى صحة التلاميذ الفقراء. فلقد جعل لهم عيادات طبية يشرف عليها أطباء وممرضات تعطي العلاج والدواء مجاناً للتلاميذ، وتقوم الممرضات بعيادة منازل الأطفال لتوجيه النصح والإرشاد للأمهات كما توجد مستشفيات ودور نقاهة خاصة بهؤلاء الأطفال. كذلك تعمل المدارس على علاج ضعاف الأجسام من فقراء التلاميذ بتقديم اللبن لهم مجاناً حتى في أيام المسامحات لمن تظهر عليهم علامات الضعف بسبب رداءة التغذية. ومما يستحق الذكر في هذا المقام أن الأموال التي جمعت لعمل تذكار للملك جورج الخامس خصصت لشراء أراض واسعة تستعمل ملاعب للأطفال الفقراء
ولقد كان من نتائج زيادة الاهتمام بالتعليم الإلزامي وتعديل مناهجه مضاعفة الاهتمام بالمدرسين وإعدادهم إعداداً يتمشى مع تلك النزعة الديمقراطية الحرة؛ وعلى ذلك نجد الاتجاه الآن أن يكون المدرسون ممن حصلوا على تعليم جامعي أو ما يعادله حتى تتوفر لديهم الثقافة الواسعة والتهذيب العقلي والعاطفي الذي يحتاج إليه مربي النشء من بيئة ديمقراطية
ولا تقف مطامع المشتغلين بالتربية في إنجلترا وأنصار مبادئ الديمقراطية والمساواة عند هذا الحد إذ هم لا يكتفون بتعليم أبناء الفقراء حتى سن الخامسة عشرة بل يطالبون بإطالة مدة تعليمهم على نفقة الدولة حتى سن الثامنة عشرة، إذ يرون أن الولد الذي يبدأ حياته العملية في سن الخامسة عشرة لا يكون مزوداً بالمعرفة الكافية، ولا بالإعداد الذي يعينه على اقتحام معركة الحياة بنجاح. وإن الدلائل كلها لتدل على احتمال تحقيق هذا الرأي إما عاجلاً وإما آجلاً
مما ذكر يتبين لنا التغيير الهام الذي طرأ على الأفكار بخصوص تعليم أبناء الفقراء في بحر قرن تقريباً. ففي أوائل القرن الماضي كان يتساءل أعضاء البرلمان الإنجليزي عما إذا كان تعليم الطبقات الفقيرة أمراً مرغوباً فيه؛ واليوم يقولون جميعاً في إيمان إن التعليم الشامل الصحيح الذي يعم جميع الطبقات والذي يبرز النبوغ وينمي الاستعداد ويكون الخلق(263/29)
ويهذب العقل والقلب ويبين السمين من الغث هو حق ضروري لكل طفل بغض النظر عن العوامل المادية. وعلى ذلك لا يكتفي الآن بتعليم القراءة والكتابة ومبادئ الدين والحساب لأن هذا التعليم المحدود لم يعد يلائم حاجات الديمقراطية ولا المبادئ الإنسانية التي لحسن الحظ قد أثمرت أينع الثمر في ميدان التعليم.
أسماء فهمي
درجة شرف في التاريخ
ودرجة الأستاذية في التربية في إنجلترا(263/30)
ذكرى مدام كوري
للكاتب العظيم اميل لودفيج
لا أظن سيدة ذات عبقرية كانت أقل هيمنة على أفئدة الرجال، وفي الوقت نفسه لها من السلطان في نفوسهم ما ليس لغانية من غواني باريس، كمدام كوري
من وقت لآخر كان يفد إلى العالم الفرنسي الكبير بول بانلفية بعض ذوي العبقريات الفرنسيين ويجلسون للسمر لديه في بهوه المتواضع الذي تراه أشبه بالأماكن العامة منه بمجلس عظيم من عظماء فرنسا وكبير من وزرائها، شأن العجوز الأرمل، بل شأن العالم الكبير الذي نفذت بصيرته إلى جمال الحقيقة والعلم فتسلى به عن زخرف الأرائك والطنافس
قصدت ذات يوم هذا البهو وقد سبقني إليه نفر من رجال العلم والسياسة. وكان رب الدار ملازماً لفراشه لانحراف ألم به، فصافحه كل منا على حدة في مرقده، بينما كانت شقيقته تسبغ علينا التحية في مجلس الضيافة. وكنت أشعر بأن عدم وجود بانلفيه بيننا قد جعل رابطة الجماعة مفقودة ومعين سمرها ناضباً
وكذلك كان المجلس فاتراً كأن برودة الطقس قد شابته وأثرت عليه، وبدلاً من إذكاء الحماسة فيه بفنجان من الشاي فقد أُعدت مائدة طعام على الطراز القديم المنمق ثم دعينا إليها بعبارات ملؤها التبجيل والاحترام
وقد أعجبت بانلفيه أن يقدمني إلى ثلاثة من ضيوفه وأهل طبقته من رجالات العلم والسياسة، وهم بيران ولانجفان وأميل بوريل، فأخذتني الرهبة أمام هذه الرؤوس الكبيرة والجباه العريضة لرجال عظماء في أبسط ما يكون من المظاهر، تلك البساطة التي هي زينة العلماء الفرنسيين والتي كانت في العصر الغابر شيمة العلماء الألمان. نعم أخذتني الرهبة أمام هؤلاء الرجال الذين يتعذر على مثلي أن يقدر أعمالهم من تلقاء نفسه وبطريق مباشر. ولما كان من العسير عليّ فهم ما يتخلل أحاديثهم من المباحث العلمية جعلت أتفرس في أدمغتهم الكبيرة وقوالبها المختلفة وما تحمل من علم وثقافة
وبينما نحن كذلك نقطع الوقت بين حديث متكلف تارة وسكوت عميق تارة أخرى، إذ دخلت علينا سيدة عجوز لا تمت إلى الجمال بصلة. كانت ترتدي معطفاً أزرق وعلى عينيها(263/31)
نظارة كبيرة تزيد وجهها عبوساً، وكان من الطبيعي قيام المجتمعين لتحيتها، ولكن هيئة قيامهم، وهيئة انتظارهم مصافحتها إياهم جعلتني أعتقد أنها سيدة المجلس وأميرة المجتمعين، تلك هي مدام كوري التي وقف الجميع لها وقفة الجنود أمام القائد، كما وقفت منعزلاً أفكر في هذه الجماعة المنسجمة من العلماء
ثم انتهت هذه الضيافة وانصرف كل إلى سبيله. وما أصبح اليوم التالي حتى كنت عند مدام كوري في معملها الخاص ومعهد أبحاثها، فوجدتها بين الأجهزة والمعدات المختلفة أهدأ بالاً مما كانت بالأمس حيث لا يرهقها التكلف الذي تضطر إليه بحضرة الرجال. ثم حادثتني قليلاً وقضينا الوقت في التفرج على ما في المعمل من أجهزة وأدوات
كانت تلك السيدة البولونية ذات عيون سوداء قلقة، لامعة كالنجوم، وجميع ملامح وجهها مشربة بالحدة التي في عينها، وعلى الرغم من خشونة مظاهرها، تلك الخشونة التي هي سمة العلماء، فقد ظهرت شيئاً فشيئاً بلين الجانب ووداعة النفس حتى لقد لاحظت ابتسامة خاطفة تشرق من شفتيها في بعض الأحايين. . .
وكانت صورة زوجها التي تعلو رأسها رمزاً ناطقاً لما كان بين هذين الزوجين من تعاون وتعاضد في العمل، فقد كان يجمع إلى صفات الرجل الواسع الخيال، ذي القريحة الوقادة، ما تمتاز به المرأة من تطلع للخلق والابتداع، بينما كانت هي على الضد من ذلك أقرب إلى صفات الرجولة منها إلى الأنوثة، أو بعبارة أخرى كانت تتمثل فيها العلوم الطبيعية بأسرها
وسواء هي في حياة زوجها أم بعد موته فقد كانت تحكم عواطفها وتسيطر على احساساتها بحيث لا ينم حديثها الحازم الدقيق عما يعتلج في صدرها من عواطف واحساسات
ولم يكن المجتمع مديناً لهذين الزوجين باختراعهما السحري الذي أنقذ الملايين من الهلاك، وبصغيرتهما الأنيقة في حسن الذوق فحسب، بل إنه مدين لهما أيضاً بفتاة أخرى هي أولى ثمار حياتهما الزوجية التي ترسمت خطاهما في العمل
وبينما كنت أتحدث مع والدتها في المعمل إذ دخلت علينا بخطى الشباب وألقت نحوي نظرة استفسار وتقصٍ. وعلى الرغم من أنها رشيقة القوام لدنة الغصن فقد كان يبدو عليها الامتعاض من أن أجنبيا يزور المعمل فيعكر عليهما صفاءه التام
وقد رأيتها على جانب عظيم من طهارة الملائكة الذين أجاد سكان فلورانس الأقدمون(263/32)
تصويرهم على شاكلة الشباب، ووجدتها سالكة نهج أبويها لا من ناحية العلم فقط بل كذلك من جانب نوع الحياة الذي اختارته لنفسها حيث لم ترض زوجا لها إلا أحد الطلاب المنتسبين إلى (معهد أبيها بيير كوري)
هكذا رأيت تلك الشجرة المباركة والعائلة الجميلة، سلالة بيير كوري، ولمست بنفسي أساليبها في المحافظة على أصلها والعناية بموهبتها وعنوان فخارها، مما جعلني أتساءل عما لو كان مبدأ المحافظة على السلالة مرعيا لدى الملوك رعايته عند عائلة بيير كوري!
ثم أخذت مدام كوري تذكر لي شيئا عن ابنتها قائلة:
- إن لهما بنتا صغيرة!
وكأنها بذلك تريد أن تذكر لي أن في هذا البيت شيئاً آخر غير الراديوم، ثم قالت:
- وإنها أيضاً تشتغل جيدا، ومما يؤسف له جد الأسف أن والدها لم يكن بين الأحياء فينعم خاطره بعمل ابنته!
وبينما نحن عند السلم نريد اجتيازه إلى معمل آخر رأيتها تلقي نظرة كلها عطف وحنان على ابنتها هذه التي سلخت ثلاثين ربيعا والتي أخذت ترشدني إلى مادة لامعة في ضوء حجرتها الضئيل، ولكني بدلا من الإصغاء جعلت أتأمل بريق شعرها المجعد. وبعد هنيهة عادت مدام كوري للحديث:
- عجب كلها الحياة! معلمة بولونية فقيرة، تجذب طبيبا فرنسيا، فقيرا أيضاً، فيميل إليها قلبه ثم يفهمها وتفهمه!!!
ثم قالت بعد ذلك بصوت الفرح الظافر السعيد بحاضره:
- لم يكن لنا سوى حجرتين في سطح البيت مما يعد لسكنى الخدم!
هكذا يتحدث كل ظافر في معركة الحياة فيذكر أيام بؤسه وشقائه وقد تمكنت فكرة السعادة في نفسه فظل ينشدها حتى اقتنصها وظفر بها. وهكذا بيير كوري وزوجه، فبينما هما في العزلة بغرفتيهما المتواضعتين إذ طلع نجم سعدهما فاهتديا إلى الراديوم وعرفا خواصه الخارقة العجيبة، وسرعان ما تمت الشهرة وذاع الصيت في أنحاء المعمورة ثم نعما بالخير والسعادة، بالسرور والابتهاج، بالنصر والظفر
علمت الدولة بأمرهما فانتشلتهما من وكرهما بسطح البيت وشيدت لهما معهداً فخماً وأغدقت(263/33)
عليهما الأموال ليتسر لهما العبء ويسهل عليهما البحث
على أن هذه السعادة لم تغيرهما ولم تبدل شيئاً من حياة البحث التي اعتاداها، بل واصلا العمل في ظل معيشتهما الهادئة، وربيا طفليهما على حب المثل الأعلى الذي رسماه لأنفسهما. وهكذا كان عماد حياتهما وقوام سعادتهما حجراً ذا سر خفي اهتديا إليه فأرسل عليهما ضياءه، وأسبغ عليهما نعماءه، إلى ما تلا ذلك من نفع عام إذ سلمت به الإنسانية من العطب ونجت به من الهلاك
وما زال بيير كوري وزوجه جادّين في عملهما النافع حتى دهمهما القضاء بغتة، على نمط مفاجأته لهما بالثورة، فقضى على الرجل العظيم واختطفه من أحضان زوجه وكريمتيه، ولكن هذا القضاء لم يفل من عزيمة مدام كوري فقامت وحدها تفكر في عملهما وفي بنتيهما، ثم شمرت عن ساعدها، ومازالت تخطو إلى الأمام حتى اهتدت إلى خاصة أخرى كانت لها مجداً ثانياً وفخراً أبدياً في العالم أجمع
وهاهو ذا رئيس جمهورية الولايات المتحدة قد أهدى إليها قطعة عظيمة من الراديوم تقدر بالملايين، بينما كان الملوك السابقون يهدون إلى العالم مسعطا (علبة نشوق) مزخرفاً بالجواهر. وكم من فرق بين مسعط لا خطر له وقطعة من الراديوم تعتبر تحفة نادرة وتجلب السعادة للملايين من الناس!
والحق يقال إن مدام كوري قد عانت آلاماً كثيرة وقاست هموماً عديدة، ولم تكن مسرات الحياة لتسرِّي عنها إلا في النادر من الأيام، ولكنها مع ذلك إذا دخلت مجلساً فإن عظماء الفرنسيين وكبار علمائهم يقومون لتحيتها وإجلالها، ذلك أن القدر قد رفع هذه المعلمة البولونية الفقيرة، ووضعها فوق رؤوس الملكات والأميرات في العالم كله
ترجمة سيد سليم درويش(263/34)
بين العقاد والرافعي
1 - الدين والأدب
2 - سارة وغزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 12 -
. . . وهذا أيضاً واحد!
وقد عرفت الآن نظام فريق الرافعي! ففي كل أسبوعين أو ثلاثة، يتقدم (عضو منتدب) فيقول كلاماً؛ ثم يدركه الإعياء، وتفرغ جعبة الكلام عن (سيد قطب) بالذات، فيجلس (ليأخذ نفسه ويبلع ريقه) كما يقولون؛ ويتبعه آخر فيعيد الكلام الأول في صورة جديدة أو في الصورة الأولى نفسها مع لف وتطويل شديد!
هكذا قال الأستاذ (شاكر)، وهكذا قال الأستاذ (الطنطاوي)، وهكذا قال الأستاذ (سعيد العريان)، وهكذا أخيراً قام يقول (الغمراوي)
ولست أدري لم يطيل هؤلاء الناس هكذا في الحديث، ولم يمطون الأساليب مطَّا، وكل ما قالوه حتى اليوم يمكن تلخيصه في صفحة واحدة من هذه الصفحات الكثيرة التي شغلوها من (الرسالة)، ولاسيما (المنتدب) الأخير، وإني لأشفق والله عليهم من هذا الكد الطويل!
ولكن من الإنصاف أن نعترف لهذا الأخير، أنه أتى بما لم يستطعه الأوائل، فقد - والله - أخافنا وأفزعنا، وهو يجعل المسألة (ديناً ولا دين) ويلخص المعركة بين المدرستين القديمة والجديدة، في أنها المعركة بين أهل الجنة وأهل النار!
نعم هكذا مرة واحدة؟ ومن لم يكن قد عرف الخوف فليعرفه الآن. فهاهو ذا رجل يمسك بيده ميزان الحسنات والسيئات: فأما من كان مع الرافعي فقد أزلفت له الجنة، وأما من كان مع العقاد فقد فغرت له جهنم أفواهها. وليكن من شاء كيف شاء، فهو وحده الملوم!
فما قولكم. دام فضلكم!
الدين. الدين. . . هذه صيحة الواهن الضعيف، يحتمي بها كلما جرفه التيار، وهو لا يملك من أدوات السباحة ولا وسائلها شيئاً(263/35)
وأشد الجناة على الدين، وأشد المشوهين له والمشككين فيه أولئك الذين يضعونه مقابلا للعلم تارة، وللفن تارة، ثم يحكمون أيهما أصح وأولى بالاتباع!
وللدين مهمة قام بها وأداها خير أداء في إصلاح نفس الفرد للمجتمع، وفي تهيئة هذا المجتمع لحياة الفرد، بالنصح تارة وبالتخويف تارة، وبالتشريع تارة، وبكل الوسائل التي تكفل هذه الغاية الكبيرة، على مدى الأجيال
ولم يأت الدين ليخوض في المسائل العلمية البحتة، ولم يأت ليكون منهاجاً فنياً. فكل زج به إلى الميادين التي لم يأت لها، ظلم له، وتعريض به، وعمل كعمل الدبة التي تحدث عنها صاحبنا الحديث المحفوظ
يقوم الدين على الإقناع الوجداني، وعلى البحث العقلي، بينما يقوم العلم - معظم العلم - على المشاهدات والملموسات، والتجارب المحسوسة، فليس من الحكمة وضع هذا مقابلا لذاك جهلا باتجاه الدين وغايته، لأن كثيرا من النفوس يضطر لتصديق المحسوس المشاهد، متى أرغم على الاختيار بين الطريقتين!
وليس من الحكمة كذلك وضع الدين مقابلا للفنون، فهذه خاصة بالترجمة عن النفس الإنسانية وأحاسيسها وآمالها، وليس هذا من اتجاهات الدين، إلا في الدائرة التي تهمه لإصلاح نفس الفرد للمجتمع، والمجتمع للفرد، على طريقته الخاصة. ومن الناس من يستعز بالخوالج والخواطر والآمال التي تجلوها الفنون، لأنها تلمس كل عنصر حي فيه، وليس من الحكمة أن نسوم هذا الفريق الاختيار بين طريق الفن وطريق الدين، في حين لا يعني الدين ذلك، ولا يرصد نفسه له، وإنما هي الدبة التي تلقي الأحجار على وجوه الأصدقاء!
الدين. الدين. . . قولوها مائة مرة، فلسنا والحمد لله ممن تخيفهم هذه الصيحات الفارغة، ونحن أكثر منكم دراسة وفهماً للدين
ثم ما هذا الرجل (الغمراوي) الذي يفهم أن (السن) هي الحكم في المبادئ والآراء، فمادام (سيد قطب) لم يولد إلا بعد أن كان للرافعي أدب، فلا يحق له أن يكون له رأي في هذا الأدب، ولا يجوز أن يسقطه إن كان يستحق السقوط
ما هذا الفيض الغزير في (القواعد العلمية للنقد)؟ وما يكون الشأن مع أدباء الجيل الماضي(263/36)
الذين ماتوا قبل أن نولد، وما يكون الشأن مع شعراء الجاهلية؟ لنتناولنهم بالتقديس، أو لنبعدهم كالآلهة! أليسوا قد سبق بهم التاريخ؟!
والآن فلندع (اللت والعجن) الذي ليس معه إلا إرخاص الوقت، واحتقار المناقشة الأدبية، وامتهان المعارف الإنسانية
لندع هذا إلى عالم آخر. لنتحدث عن (سارة) قصة العقاد قصة الحب، ترجمة لحياة قلب، فإذا كان هذا القلب قلب العقاد أو قلباً صاغه العقاد، فهي إذن ترجمة حياة ممتازة. وهذه هي (سارة)، التي كان نصيبها من الصحافة المصرية (الصحافة التي تحابي العقاد)! بضع كلمات، لم تصل واحدة منها أن تكون فهماً كاملا لهذه الترجمة الممتازة، ولم تصل الحياة الأدبية في مصر أن تكون لهذه القصة شروح وفقرات تربى على حجمها الأصلي مرات. وهو الذي كان يجب أن يكون!
حين نقول عن هذه القصة: إنها تصوير صادق للحب في النفس الإنسانية، لا نكون قد فهمنا شيئاً كثيراً منها، ولكنا حين نقول: إنها (فيلم) فني يستعرض قلباً وعقلا ممتازين أو (طبيعة فنية ممتازة) في حب امرأة خاصة بكل معاني الخصوص نكون قد وضعنا شيئاً من الرموز لهذه القصة الفريدة
ليس في القصة حوادث (في الخارج) ولكنها حافلة بالصور النفسية الباطنية، والخلجات القلبية المضمرة. وليست مصوغ على مثال من أنواع القصص، ولكنها مصبوبة في القالب الوحيد الذي يناسبها، ويناسب طبيعة العقاد في آن
ما الحب؟
سؤال له عشرات الأجوبة؛ ولكن أي نوع من أنواع الحب هو المراد بالسؤال؟
إن للحب (أنواعا) شتى، فلكل نفس حب، وللنفس الواحدة صنوف منه شتى. فأي (صنف) منه كان حب (همام لسارة) في قصة العقاد؟
إنه حب الرجل الفنان الناضج ذي الطبيعة الممتازة، للمرأة الممتازة في نفسها وجسمها وطبيعتها
وإذا قلنا (الرجل) فقد عنينا الصحة والسلامة في هذا الحب؛ وعلمنا أنه قائم على أسسه الطبيعية الخالدة، التي رسمتها الطبيعة للحياة يوم خلقتها، ومهدت لها وسائل الدوام والخلود(263/37)
وإذ قلنا (الفنان) فقد عنينا الإشراق والجمال في هذا الحب وعلمنا أنه متطلع إلى غاية من غايات الحياة الكبرى، وأمل من آمالها المذخورة لكل قلبين تلمح فيهما فسحة التطلع والرجاء
وإذا قلنا (الناضج) فقد عنينا الفهم والمعرفة في هذا الحب، وعلمنا أنه يعلم منشأه وغايته، ويعرف ما يأخذ وما يدع، ويحسن الانتفاع بكل قوة مذخورة فيه في أقصر مدى، وبأيسر المجهود
وإذا قلنا (الطبيعة الممتازة) فقد عنينا الامتياز في نوع هذا الحب، وعرفنا أنه ليس حب كل يوم وكل ساعة، ولكنه المثال الذي تبدعه الطبيعة بعد مجهود لتقيس عليه وتبرز خصائصه ويهمها من أمره ما لا يهمها من آلاف الأنواع الرخيصة المألوفة
فإذا تقابلت هذه المميزات مع امرأة (خاصة) في طبيعتها، فقد تم لهذا الحب كل عناصر الامتياز والتفرد، وكان جديراً بعرضه في سجل الحياة الممتاز، الذي لا يحوي إلا بضع صور منتقاة في عمر الحياة الطويل
وهكذا كانت (سارة) بقلم العقاد
وحين نريد أن نقوم بالشرح الفني لقصة (سارة) نحتاج إلى مؤلف في حجمها عشر مرات، كما تخفف الشراب المركز بإضافة أضعاف حجمه إليه من الماء ليصبح في متناول الجميع، شراباً تهضمه المعدات. وإذا كان هذا ليس مستطاعاً فإننا سنحاول استعراض شيء من نواحي الامتياز في القصة، بقدر المستطاع
يبدو في بطل القصة، الالتفات إلى كل ذرة في نفس حبيبته، وكل لحظة من لحظات حبه، وكل مظهر وكل لفتة وحركة في الواقع أو الخيال، ومن شأن هذا الالتفات أن يضاعف الشعور بالحب، وأن يجعل منه عالما كاملا يموج بشتى الأطياف، وشتى (الحيوات) ويخلق من هذه المرأة الواحدة، عشرات (المرآت) الخواص الممتازات. وليس الرجل الذي يحب المرأة حباً مبهماً، مندفعا في تيار الغريزة أو تيار الخيال الجامح، كالرجل يحبها وهو متيقظ لكل ما يحب فيها وكل ما يجتنب، وكل ما يرجى فيها وكل ما يخاف. وهو متنبه لخوالجها وحركاتها، متحفز لتلقي معانيها وإشاراتها، ملاحظ لأدق خصائصها، وأدق خصائص نفسه معها؛ فكل هذا معمق للحب، مضاعف لما فيه من لذة واستمتاع.(263/38)
وإنه ليبلغ في ذلك ألا تفوته منها دلالة الملابس التي ترتديها، ودلالة الزينة التي تبدو فيها، وإنه ليتعمق في دراسة طبيعة جسمها والزمن الكافي لشفاء جروحها، ويجري كل هذه الملاحظات حيث تجري في تيار حبه، ومتعته بهذا الحب، في كل لحظة وكل حالة!
والقصة مليئة بمثل هذه الالتفاتات نختار واحدة منها:
(وسارة كانت من ذوات الملامح والوجوه اللواتي لا يطالعنك بمنظر واحد في محضرين متواليين: تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية، تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة ولا رياء؛ وتراها بعد حين - وقد تراها في يومها - فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال. وتضحك ضحكة فتعرض لك وجها لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى - وقد تكون على أثر الأولى - فذاك عقل يضحك ولب يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.
(هي تارة أم رؤوم تفيض بحنان الأمهات حتى ليوشك أن تسع به أطفال العالمين. وحسبك أن ترسمها هكذا ولا تضع في أحضانها طفلا يرضع ولا إلى جانبها طفلا يدرج، لتستحق الصورة عنوان الأمومة
(وهي تارة أخرى شريدة بوهيمية لم تستقر قط في دار ولا وطن، وما استقرت قط مع عشيق
(لها صورة إلى جانب سرير، لو نحيت عنها السرير جانباً لمثلت لك راهبة خاشعة تهم بالصلاة، أو ضحية من ضحايا الآلهة تساق إلى محراب القربان
(ولها صورة على سفح الهرم لو أخفيت منها الهرم لخلتها حورية مخمورة في أرض يونان القديمة تهم بالرقص في كروم باخوس.
(وكان همام يراقب هذه الشخوص ويتصفح هذه الوجوه وهو مغتبط تارة، ومشفق تارة أخرى) ويعزو تقلبها واطرادها إلى الفتوة الحية التي لم تحبس في محابس الأفكار والعادات والتقاليد، فهي أبداً في أيدي العواطف والنوازع، كعجينة الخلق المهيأة للصوغ والتركيب في كل ساعة)
ونقول نحن بعد قول العقاد: (وكان همام يتمتع بكل هذه الشخوص في حب واحد، كما قالت سارة له في فكاهة بارعة صادقة: احمد ربك. عندك من سارة المظلومة حريم كامل، فلا(263/39)
تشكر نفسك كثيراً على الوفاء)
وصحيح أن سارة صاحبة الفضل لأنها صاحبة هذه الشخوص، ولكن (هماما) صاحب الفضل الأول في الفطنة لها، والاستمتاع بها. أو قل: هو العقاد صاحب الفضل ومنشئ سارة وهمام!
ويكمل هذا ذلك الحوار البارع الطريف، الذي عقده العقاد، بين شخوص سارة المختلفات ما بين صفحة (116) وصفحة (119) من الكتاب
ويلفت النظر في هذه القصة، ذلك المزيج الغريب بين متعة الروح ومتعة الجسد، بحيث لا تفترقان ولا تتميزان، فأنت تجد (هماماً) يحب في (سارة) روحها وعقلها وجسمها، ولكن هذه كلها مزاج واحد، وقد ارتفع بلذة الحس فيها إلى الروحانية الصافية، ولكنها ليست روحانية الخيال الغرير، بل روحانية البحر الذي يطهر كل ما فيه ويجلوه ويحيه
وإنك لتقرأ رسالة همام إليها فتدرك منها كل شيء. وإليك بعضها وهو يحاول استنقاذها من السقوط الجسدي الرخيص
(اذكري نوبات الحيرة وتبكيت الضمير التي كانت تساورك حين تحضرين إلي، واذكري كيف كنا نفترق وقد هدأت نفسك بعض الهدوء واسترح ضميرك بعض الراحة. . . كان اهتمامي بك حتى بالغضب عليك يفرج شيئاً من الضيق الذي يسد عليك منافذ الأمل لأنه يعطيك فكرة عالية في نفسك، فيعزيك ويقويك ويرفع عنك ذلك الصغار الذي يسمم كل شعور وينغص كل نعيم
(اذكري كيف كان وجهك يشرق بالبشاشة من عهد قريب، وكيف ظهر ذلك على صحتك وملامحك، فسألتني في يوم من الأيام بين الجد والمزاح: أصحيح: أصحيح أن وجهي يمتلئ ويحلو؟ كان ذلك وأنت تشعرين إلى جانبك بنفس إنسانية تحنو عليك وتفكر فيك، وتجتهد في عذرك ما استطاعت، وترعاك في الغيبة والحضور. وهذا أحوج ما تحتاج إليه المرأة خاصة في هذه الحياة
(فكل امرأة - بلا استثناء - في وسعها أن تجد رجلاً يأخذها جسداً، ويطرحها سائماً بعد حين، بلا أسف ولا شكر ولا احترام
(ولكن ليست كل امرأة واجدة تلك النفس العطوف التي تفهم الدنيا وتفهمها، وتحب لها(263/40)
الخير لغير غاية، وتهتم بها وحدها بين جميع الناس وتراها أهلاً للرضى والغضب والشكر والملام)
وأنت خليق أن تدرك أكثر مما تشير إليه هذه الرسالة متى علمت أن (سارة) أو شبيهتها في موقفها هي المعنية بهذه الأبيات:
تريدين أن أرضى بك اليوم للهوى ... وأرتاد فيك اللهو بعد التعبد
وألقاك جسماً مستباحاً وطالما ... لقيتك جم الخوف جم التردد
رويدك إني لا أراك مليئة ... بلذة جثمان ولا طبيب مشهد
جمالك سم في الضلوع وعثرة ... ترد مهاد الصفو غير ممهد
إذا لم يكن بد من الحان والطلا ... ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي
فتدهش حين ترى المتاع الحسي بامرأة، لا يخلع عنها روعة المسجد، ولا يجعل صاحبها يرتاد فيها اللهو بين الحان والطلا، بعد التعبد والتردد
وما من شك أن هذا إحساس فريد جدير بالتسجيل والبروز لأنه من النماذج التي لا تجود بها الطبيعة إلا وهي شحيحة ضنينة، وما تختص بها إلا نفس فنان عظيم، تتطهر فيها الأرجاس وتشرق وتشع المواد المتكتلة، فإذا هي أشعة وظلال
ومن الأحاسيس الفريدة في (سارة) موقف (همام) مع حبيبته يوم جاءت تعترف له بأنها خانته فعلاً، فلم يجد في هذا الاعتراف ما يستوجب قطع صلاته بها، لأنه كان يحس أن هناك ذخيرة موفورة له في نفسها، وفيضاً غزيراً لها في نفسه. وهو يقول في هذا:
(لم يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداع ولا استغفال ولا احتقار. ولكنه شعر بخسارة وأسف، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضاً يلجأ إليه، واستقبلها عاطفاً عليها متطلعاً إلى ما وراء حديثها، مستعداً للتسامح في الإصغاء إليها)
وبينما يتلقى اعترافها هذا بالقبول، ويستأنف بعد صلاته بها، وإذا به يقاطعها بعد ذلك لمجرد الوسواس والظنون، لماذا؟ لأن الذخيرة النفسية بينهما قد نضبت، فلم يكونا في حاجة بعد ذلك إلى دليل حاسم، ولا اعتراف مكشوف
وهو يصف الفرق بين الحالتين، ذلك الوصف الفريد:
(في تلك الأيام كانت كل هنيهة لها شعورها المحبوب المتجدد البهيج. إذا انفتح الباب للقاء،(263/41)
فذلك شعور القائد الذي يفتح باب حصنه، ليلتقي نجدة الأمان والاطمئنان إلى زمن طويل، وليطرد المخاوف من وراء ذلك الباب إلى مهرب سحيق؛ وإذا انفتح الباب للوداع، فذلك شعور الشارب الذي استوفى نصيبه من العقار، وبقي له نصيبه من النشوة والتذكار، ونصيبه من الشوق في الغد إلى مثل هذا اللقاء، ومثل هذا الوداع، ومثل هذا الانتظار؛ وبين لقاء كل يوم ووداعه ألف لقاء وألف انتقال من حال إلى حال، وألف سكينة وألف ابتدار
(تلك أيام!
(ثم جاءت بعدها أيام
(وشتان أيام وأيام
(نعم شتان حقيقة وتمثيل. . . وأي تمثيل؟! تمثيل اللاعب الذي يساق إلى دوره سوقاً لأنه يخشى الفشل، لا لأنه يأمل النجاح
(واستمرت المواعيد، واستمر اللقاء، واستمرت السآمة واستمر الشقاق، واستمرت مع كل ذلك محاولات عقيمة مستميتة أن يعود ما لا سبيل إلى أن يعود
(وكانت هي تقلد نفسها في أيام الصفاء، فتمد يدها إلى جيبه بعد عاصفة من اللوم الجارح، والملاحاة الموجعة، كما كانت تمد يدها إلى جيبه بعد ساعات الرضا والدلال، لتخرج منه المفكرة المعهودة، وتكتب فيها أسطراً أو كلمات تسجل بها ما كان في ذلك اليوم، فكتبت يوماً بعد مقابلة لم يسمع فيها إلا جدال ومحال، أو سكوت هو أثقل من الجدال والمحال: (نزهة رسمية في عربة، ثم مناقشة جدية، ثم مصافحة وتقبيل، ولا عجب في ذلك. . . فإن الحب يسهر!)
(نعم يسهر من الأرق لا من العناية!
(وسهر الحب إلى اليوم التالي فالتقيا وتراضيا، وتناولت هي المفكرة وكتبت فيها خمس كلمات: (سامحت من غير سبب. أحبك)
ولكنها كانت آخر ما كتبت في مفكرة ذلك العام. وفيما بعده من أعوام)
بهذا التصوير البارع يسجل الفرق بين الحالتين: فليس بدعا أن يعفو في الأولى مع الاعتراف، وأن يجفو في الثانية لمجرد الشكوك(263/42)
ولو كان - غير العقاد - واحد من السطحيين، أو الذهنيين لجعل القطيعة في الأولى أمرا مقضيا بعد الاعتراف، أو لجعل القطيعة في الثانية أبعد الاحتمالات!
أليس هذا هو منطق الذهن؟ قد يكون ذلك! ولكن للنفس وللفطرة الصادقة منطقا آخر، هو الذي صوره العقاد في نفس (همام)
وهذا ما نعنيه بأدب الطبع، وما نعنيه بفسحة النفس، وما نعنيه بامتياز الإحساس
وبعد ففي (سارة) حديث آخر، وفي غزل العقاد حديث أبقيهما إلى الأسبوع القادم. فإلى اللقاء
الإسكندرية
سيد قطب(263/43)
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 3 -
لو كان الرافعي حياً وعدا عليه عاد في نفسه وأدبه كما عدا سيد قطب ما تحرك بالدفاع قلم غير قلم الرافعي. وما أظن سيد قطب كان يتحرك إذ ذاك بثلب للرافعي أو تنقص لأدبه. أما وقد مات الرافعي فقد ظن سيد قطب أنه يستطيع أن يعدو على الرافعي ويسخر من أدبه باسم النقد، وهو آمن أن يوقعه ذلك في ورطة مهلكة كالتي كان يقع فيها لو أنه تناول أدب الرافعي في حياته، بمثل القلم الذي تناوله بعد مماته، لكن الأدب الكبير الحق، ككل شيء حق كبير في الحياة، يدفع عن نفسه بنفسه عدوان العادين حتى بعد موت صاحبه. ودفاع الحق عن نفسه له مظهران: مظهر إيجابي تقف فيه عناصر الصواب والصدق والخير تجادل عن نفسها عند كل ذي عقل وقلب، وتجعل منه حكماً يحكم لصاحبها ولو بين نفسه ونفسه؛ ومظهر سلبي لعله أعجب المظهرين وأخصهما بطبيعة الحق، يتجلى في تورط مخاصم الحق في أغلاط ومزالق ومهاو يتردى فيها من حيث يحذر ومن حيث لا يحذر، فيكون مخاصم الحق بذلك هو نفسه الذي ينتقم للحق من نفسه بما يكشف من عوارها ويبدي من مقاتلها
والأغلاط التي تورط فيها سيد قطب بالعدوان على الرافعي في نفسه وأدبه كثيرة لم يكن ما بيناه في المقال السابق إلا لأقلها. ويؤذن النقدً بها في أول ما يطالع من تلك الكلمات تطرف صاحبها البالغ في الرأي. والتطرف هو دائماً دليل الهوى وفقدان الاتزان في الحكم إن أغتفر للعامة فلا يعذر فيه الخاصة. فالعقاد عند الكاتب أديب الطبع القوي والقلب، ولا طبع ولا قلب للرافعي. والعقاد عنده لا يليق به لقب أمير الشعراء لأن المسافة بينه وبين شعراء عصره أكبر من المسافة بين الأمراء والسوقة؛ ومعنى هذا أن الرافعي الشاعر لا يبلغ أن يكون في السوقة حين يكون العقاد في الأمراء
ويزداد شطط الكاتب كلما تقدم به الشوط. فالعقاد يكتب عن عقيدة في الأدب والرافعي(263/44)
يكتب عن غير عقيدة. والعقاد يخلق حتى المبادئ الخلقية، والرافعي لا يستطيع أن يخلق شيئاً. ونحن نظن أن الرافعي رحمه الله لم يكن يسره أن تبلغ به المقدرة حد خلق المبادئ الخلقية، لكن كان يسره من غير شك أن يكون له على خلق غير المبادئ الخلقية شيء من المقدرة
والعقاد بعد ذلك هو أديب الذهن المشرق (مقال 6) والطبيعة الممتازة والنفس الرحبة والمواهب التي تنتفع بالثقافة وتعلو على حدود الثقافات! أما الرافعي فهو أديب الذهن المريض الخابي المغلق غير ذي النفس ولا الثقافة. ثم العقاد فوق ذلك وقبل ذلك هو الكاتب الجبار الذي بقي (وتضعضع خصومه ووراءهم قوة العدد وقوة الحكم وقوة المال وقوة الماضي الوطني وكل قوة مأمولة في الوجود)! أما الرافعي فهو أحد خصوم العقاد الذين لم يغن عنهم حيال جبورته التجاؤهم إلى الدين وهو أقوى أثراً من السياسة وأكثر اتباعاً، فكانوا رغم استعانتهم بالدين في محاربة العقاد من المغلوبين. فصاحبنا كما ترى لا يتشكك في أن العقاد هو هزم الوفد وهو هزم غير الوفد ممن استعان في خصومته بسلطان السياسة أو الدين. وتقوم غاشية الهوى دون عقل صاحبنا فلا يبصر العوامل المتعددة القوية التي كان مجموعها أقوى من سلطان الوفد فانهزم، ولا يذكر أن المعركة التي انهزم الوفد فيها كان أمضى سلاحها سلاحاً دينياً، وكان من أكثر الناس استعمالا له حين جد الجد العقاد
إلى هذا الحد من الإسراف والغفلة بلغ بصاحبنا هواه. وجدير لمن يتصدى للحكم بين اثنين هذا مبلغ إسرافه فيهما على نفسه أن يغفل حسنات أحدهما ولا يبصر سيئات الآخر، وأن يخرج النقد من قلمه شيئاً آخر أو أقل خلقاً آخر ينكره الحق ولا ينكره الباطل لغلبة الهوى عليه وقلة أثر العقل فيه
لكن صاحبنا لا يعجبه أن ينبه منبه إلى ما في إسرافه ذلك من خطر عليه هو: على نزاهة حكمه وحرية رأيه واستقلال فكره وحيوية نفسه وسلامة طبعه، فيرد على من نبهه رد المغيظ المحنق رامياً إياه بتكلف التورع والتنطس تارة، وبعدم التفريق بين الكيف والكم ولا بين الصدق و (النخع) تارة أخرى، زاعماً أنه فيما قال إنما يتبع البرهان والدليل! وإلى الخطر الذي يحيط ببرهانه هذا ودليله أريد تنبيهه، فلم يزد على أن جاء بدليل آخر على إسرافه في التشيع حين لم يتنبه إلى احتمال وقوع الخلل في رأيه ومنطقة من جراء غلوه،(263/45)
وحين زعم زعم لنفسه وللناس أن رأيه ذلك إنما بناه على البرهان والدليل
إن الناقد الحق كالقاضي العدل، من أظهر صفاته وأوضح إماراته أن يطبق قانونه تطبيقاً واحداً على المتخاصمين. قد يكون للقانون الذي يطبقه القاضي معيباً في ذاته، لكن القاضي لا يسأل في العادة عن ذلك وإنما يسأل عن التطبيق. وقد يخطئ القاضي في التطبيق لكنه على أي حال يجب ألا يخطئ الروح روح الإنصاف والتسوية بين الناس عند تطبيق القانون. والناقد كالقاضي في هذا الشرط شرط وجوب التزام روح الإنصاف والتسوية بين الخصوم عند تطبيق معايير النقد، إلا أن الناقد له على القاضي مزية التمتع بقسط غير قليل من الحرية في اختيار معاييره ومقاييسه في حين أن القاضي لا يملك شيئاً من الحرية في اختيار القانون الذي يحكم به بين الناس. فالناقد والقاضي متساويان في تبعة الروح الذي به يطبقان ما بيدهما من أصول وقواعد، لكن تبعة اختيار هذه الأصول والقواعد إذا أعفي منها القاضي فلا يمكن أن يعفي منها الناقد كل الإعفاء، بل ولا بعض الإعفاء عند التحقيق
والقواعد التي جرى عليها الكاتب في المفاضلة بين الرافعي والعقاد وفي محاجة المنتصرين للرافعي ممكن استنباطها في سهولة من تضاعيف كلامه، لكنا لا نريد الآن أن نحاسبه على قواعده ومعاييره ومبلغها من الصحة والدقة، ولكن نحاسبه الآن على الحد الأدنى من تبعة الناقد وهو القدر المشترك بين الناقد والقاضي من تبعة التسوية بين الخصوم في تطبيق الأصول والقواعد مهما تكن تلك القواعد والأصول
لكنا لا نكاد نشرع في قياس كفايته في النقد ونزاهته في الحكم بهذا الحد الأدنى الضروري حتى يتضاءل وينزوي عنه سجل النقاد كما يتضاءل القاضي وينزوي إذا حاكم الخصمين في المسألة الواحدة إلى غير قاعدة أو مادة واحدة وغلب ذلك عليه في قضائه بين الخصوم
فناقدنا لم يقترف في نقده جرماً أقل من كيله بمكيالين وتفكيره بمنطقين في حكومته بين الطرفين في الموضوع الواحد والنقطة الواحدة، فله ولصاحبه منطق ومكيال، ولخصومها في نفس الموقف ونفس الموضوع منطق آخر ومكيال آخر. والقاعدة في ذلك - على ما يظهر - أن يكون الحكم دائماً لمن يحب على من يبغض. وإليك من ذلك أمثلة في غير إطالة ولا استقصاء
يرى الكاتب أن العريان أساء تقدير العقاد لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً ولم تنفتح نفسه لأدب(263/46)
العقاد فيفهمه ثانياً. والكاتب يقر بأنه لم يختلط بالرافعي وبأنه يكره أدبه. ولا يخطر بباله مع ذلك أنه أساء تقدير الرافعي لنفس السبب الذي من أجله رأى أن العريان أساء تقدير العقاد
ويرى الكاتب أنه ينبغي في تحديد معنى السب والشتم أن يطبق علم النفس وعلم الأخلاق على العالم الأدبي فلا ينظر إلى الألفاظ ولكن إلى أسبابها وملابساتها. ولا يلتمس للرافعي عذراً من هذا الباب الذي فتحه لالتماس العذر للعقاد
ويعذر العقاد في قسوته على الرافعي لأنه يصور على الأقل ما يعتقد هو أنه حقيقة، ولا يعذر الرافعي بمثل هذا العذر في قسوته على العقاد
ويعتذر عن العقاد فيما أتى إلى مخلوف باعتقاد العقاد عظم الفرق بين نفسه وبين مخلوف، وحنقه أن يجترئ مثل مخلوف على نقده. وقطب نفسه مستعد للثورة والحنق إذا تناول أدبه متناول بمثل ضيق الفهم واستغلاق الشعور اللذين تناول بهما مخلوف أدب العقاد. أي يعتذر عن نفسه وصاحبه في غضبهما لأدبهما بحسن رأيهما في نفسهما وسوئه في غيرهما، وهو باب من العذر يسع كل الناس لكنه لا يتسع للرافعي ومن معه وإن كان الرافعي أجدر أن يثور لإنكار العقاد إعجاز القرآن كما حكاه العريان
ويعتب على العريان في صدد ما كتب عن تلقيب العقاد بأمير الشعراء أنه سمح لصداقته للرافعي أن تعدو على التقدير الصحيح للعقاد، ولا يعتب على نفسه هو أن سمح لصداقته أو محبته للعقاد أن تعدو على التقدير الصحيح للرافعي. وبعبارة أخصر، يتهم العريان في تقديره العقاد لصداقته للرافعي، ولا يتهم نفسه في تقديره الرافعي مع ما يعلم من بغضه الرافعي ومحبته العقاد
ويعيب على الرافعي إتيانه في شعره بالمعاني المألوفة المأنوسة التي سبق إليها الشعراء مثل:
إن يقض دين ذوي الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه
ومثل:
تضني المحب كأنما أجفانها ... ألقت عليه فتورها وملالها
يرى ذلك من ناحيته تقليداً من الرافعي لشعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر وشعراء(263/47)
أواخر العهد العباسي! ويراها من ناحية أخرى معاني مطروقة (يباع كل عشرة منها بقرش في هذه الأيام). حتى إذا قال الرافعي:
يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
وهو كما ترى معنى على أفواه الناس سبق إليه القصص القديم ولابد أن يكون سبق إليه كثيرون من شعراء الدول المتتابعة أو شعراء غير الدول المتتابعة - حتى إذا قال الرافعي هذا لم يعبه عليه ولم يتنقصه من هذه الناحية! وهل تدري لماذا؟ لأنه يعتقد أن الرافعي أخذ البيت عن العقاد
ويعيب على محمود شاكر توسعه في تبيين مذهب المقتدرين من شعراء العربية في العصور المختلفة في الغرض الذي كان بصدده، يعد ذلك منه جرياً (على النسق الخالي من كتب النقد لقدامة وأبي هلال العسكري ومن ينقلان عنهما من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً، وحسبان كل شاعر متأخر أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم. . .) وهو مذهب يظن الكاتب به (القصور والجمود) ومع ذلك فظنه هذا لم يمنعه من حسبان الرافعي قد أخذ بيته المذكور آنفاً عن العقاد كما رأيت. ولعل عذره في ذلك أن الرافعي والعقاد كانا متعاصرين حين قيل ذلك البيت فلا سابق منهما ظاهراً في الزمن ولا مسبوق
ثم يرى ناقدنا أن (الحكم على النيات عمل عسير لا يصح الاستخفاف به) إذا كان الأمر متصلاً بالعقاد ونية طه حسين في تلقيبه إياه بأمير الشعراء، أما إذا كان الأمر متصلاً بنية الرافعي في خصومته للعقاد فعندئذ يزول العسر ويجوز الاستخفاف وتتدخل نظرية فرويد والتحليل النفسي في الموضوع فتجعل كوامن الإنسان تظهر من فلتات اللسان، وتكشف قلم الرافعي في رسائل الأحزان عن الرافعي في أعماقه، وتنبئ ناقدنا ذا التعليل والتحليل أن (أهم أسباب الحقد في نظر الرافعي وأظهر دوافعه) هو (فوقان؟ إنسان على إنسان في النتاج الأدبي) وتجعله يصيح: (وهكذا كان الرافعي مع العقاد)!
هذه ثمانية مواقف في الخصومة القائمة حول أدب الرافعي والتي أثار غبارها سيد قطب وجعل نفسه فيها ناقداً وحكما ليس لأحد الطرفين في موقف منها كلام إلا ويصح أن يقوله الطرف الآخر، ولا يمكن أن يستند في الحكم لأحدهما على مبدأ أو أصل أو قاعدة إلا ويمكن الاستناد على نفس هذا المبدأ أو الأصل أو القاعدة في الحكم للآخر لما بين الطرفين(263/48)
في كل موقف من تمام التشابه. لكن صاحبنا واسع الحيلة في النقد، يستطيع أن يفرق بين المتشابهات في الخصومة وأن يطبق المبادئ والأصول والقواعد بحيث تأتي الأحكام كما يريد، فيخرج أحد الخصمين دائماً ظافراً والآخر خاسراً وليس بيد أحدهما من الحجة ما ليس بيد الآخر إلا أن الظافر محبوب والخاسر مكروه لدى ناقدنا المجدد الذي لا يعجبه في النقد مذاهب القدماء
ترى كيف أمكن لهذا الناقد أن يخطئ في تطبيق مبادئه هذا الخطأ ويفرق بين الخصمين في المواقف المتشابهة هذا التفريق إن لم تكن عاطفته قد جمحت به وجعلته يجنح عن صراط النقد السوي والتفكير الحر المتزن ذلك الجنوح الكبير؟
إننا قد بدأنا نشفق على هذا الناقد الناشئ من هول ما جنى على نفسه بتسخيره عقله لهواه في أمر كبير كالذي تصدى له. ولو علمنا أن هذا القدر يكفيه ليفئ إلى أمر الله لوقفنا عند هذا الحد رفقا به وإبقاء عليه فإن فيه عناصر ذات قوة لا يحول بينها وبين النفع والخير إلا أنها تحاول أن تشق لنفسها مجرى غريبا آخر تضيع به حتما بدلا من أن تنضم إلى النهر نهر العربية الكريم الواسع الذي أجراه الله لها بالقرآن.
إن هناك في تاريخ العربية، جداول ضلت الطريق إلى هذا النهر فضاع ضعيفها وكوّن قويها مناقع الأدب العربي ومآسنه ودمنه الخضراء الوخيمة. وأدب الرافعي رحمة الله عليه لم يخطئ منه مجرى هذا النهر القرآني إلا القليل، وإلى هذا القليل نبه الأستاذ العريان فيما أرخ للرافعي وإنْ بأسلوب آخر. وعيب الأديب قطب أنه لم يعرف هذا القليل ولا ذلك الكثير على وجهه، ويحاول أن يتوصل بكل سبيل إلى هدم الرافعي الشاعر الكاتب المجاهد في سبيل الله والعربية والقرآن؛ لكن الذي يحاول هدم الحق ينهدم به وإن تحفظ، ونحن نشفق على أخينا سيد قطب من عاقبة معاداة الحق ومجافاة طريق القرآن. فهل له في أن يفئ إلى الحق وإلى أمر الله؟ إننا نكون أول المغتبطين له وبه إن فعل ونستغفر الله إليه مما يسوءه في هذه الكلمات
(بور سعيد)
محمد أحمد الغمراوي(263/49)
من كتاب البحث عن الغد
لروم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
(أحببت أن أعقب على بحث الأستاذ العقاد بترجمة بعض
المقاطع التي تناول فيها المؤلف لبنان وسورية والعراق
وفلسطين وشرقي الأردن لما تضمنته من تحليل دقيق وآراء
صريحة ومعلومات قيمة)
1 - الجمهورية اللبنانية
لبنان
إن الصلة بين لبنان (هو قطر يسود فيه النصارى) وفرنسا قديمة ترجع إلى عهد الحروب الصليبية ولكنها ازدادت توثقاً سنة 1860 عندما تدخلت الدول الغربية وأجبرت الحكومة العثمانية على منح لبنان شيئاً من الاستقلال المحلي. ومنذ ذلك العهد توسعت المصالح الفرنسية في البلاد وتهيأت نفسية الشعب للحكم الفرنسي بفضل المدارس الفرنسية والكلية اليسوعية في بيروت والرهبان اللبنانيين الذين تلقوا علومهم في فرنسا والكهنة اليسوعيين الفرنسيين. ومع أن دمشق هي عاصمة سوريا الحقيقية إلا أن المندوب السامي يقيم دائماً في بيروت لأن لبنان بسواحله الممتدة يهم فرنسا أكثر من سوريا ذات الحدود الواسعة التي يصعب الدفاع عنها وذات الصحراء المترامية الأطراف
ومع أن فرنسا قد خلقت في سورية عدداً من الدويلات المستقلة كاللاذقية وجبل الدروز وسنجق الاسكندرونة إلا أن سورية ولبنان هما الدولتان الرئيسيتان من الناحيتين السياسية والقومية. وأهمية هاتين الجمهوريتين أعظم بكثير من حجمهما، فمساحتهما لا تزيد على (60. 000 م. م.) وسكانهما لا يزيدون على (3. 500. 000 نسمة). والفضل في هذه الأهمية عائد إلى الوضع الجغرافي والنهضة الفكرية والاتصال الدائم بالغرب. وقد اتحدت(263/51)
كل هذه العوامل مع التنبيه القومي العظيم فجعلت للدولتين أهمية روحية في العالم العربي تكاد تضاهي أهمية مصر. وقد لعب السوريون دوراً رئيسياً في أكثر الثورات والحركات الفكرية والسياسية التي حدثت في الشرق الأدنى منذ عام 1919
يمتاز لبنان على سائر الأقطار العربية بأن الأحزاب السياسية المتناقضة فيه هي المسيطرة على سير الحوادث. والحزبان الرئيسيان هما: أولاً حزب الحكومة المستند بالدرجة الأولى على تأييد النصارى أكثر من غيرهم والذي يرمي إلى أتباع سياسة إفرنسية. وثانياً: الحزب الذي يعارض الأول كل المعارضة ويؤيده أكثر المسلمين وبعض النصارى. وهناك فئة ثالثة ذات رأي معتدل تسعى إلى الابتعاد عن المنازعات الطائفية، أعضاؤها من اللبنانيين المتعلمين والأجانب الذين تمكنوا - بشكل من الأشكال - من أن يلعبوا دوراً هاماً في حياة البلاد
رئيس الجمهورية
لقد دعاني المسيو أميل اده رئيس جمهورية لبنان لتناول طعام الغداء في بيته، وبهذا أتاح لي الفرصة للوقوف على وجهة نظر الحكومة من مصدر عال
يقعُ مكتب المسيو إده الرسمي في السراي الصغيرة في ميدان بيروت الرئيسي، وهي دار الحكومة؛ أما بيته الخاص فهو في الطابق الثاني من عمارة حديثة ذات طوابق متعددة وعلى مدخلها ألواح تشير إلى وجود طبيب وأشخاص من مهن مختلفة بين سكانها. ومع ذلك فإن (الدركيّ) الواقف على الباب والعلم الفرنسي ذا الأرزة في زاويته المرفوع على السطح والعلم الآخر الصغير الموضوع في مكان بارز على السيارة الفخمة الواقفة خارج البناء، كلها دلائل على مكانة أحد سكان العمارة الرفيعة. أما البيت نفسه فهو كبير ومؤثث بفرش حديثة عادية وعلى جدرانه رسوم ليست حديثة تماماً.
إن المسيو اده نصراني لبناني، ولابد في لبنان من ذكر دين الشخص لمعرفة مكانته الرسمية. وقد استقبلني بصحبة زوجه وولدهما. أما منظره فيدل على ذكاء، وهو قصير القامة ويرتدي الملابس الضيقة وقد وضع في صدره شارة جوقة الشرف لجيون دُونير. وكانت كل كلمة أو حركة منه تدل على حيوية لم يسع صاحبها إلى كتمها أو ضبطها. ولو قيل لمن ينظر إليه إنه نائب في مجلس النواب الفرنسي عن مقاطعة في جنوبي فرنسا لما(263/52)
تعجب من ذلك. وهو محام لعب دوراً خطيراً في السياسة اللبنانية منذ الحرب العظمى. وقد تدرج في النيابة إلى رياسة مجلس النواب، إلى عضوية مجلس الشيوخ، إلى رئاسة الوزارة حتى تبوأ أخيراً أعظم مقام رسمي في البلاد.
وكان طعام الغداء لذيذ جداً قدمه لنا خادمان يرتدي كل منهما سترة بيضاء وقفازاً أبيض من القطن. وكان الحديث مثيراً شأن كل حديثُ يتبادل أثناء تناول الطعام في صحبة أشخاص فرنسيين مثقفين، وكان كرم المائدة أعظم ما يواجه الإنسان عادة في بيت مماثل في فرنسا، ولكني مع ذلك كنت أشعر كل الوقت بأني بين جماعة من الفرنسيين حتى أن مظهر زوج الرئيس الجذابة (هي مصرية المولد) وابنته الجميلة وابنه الشاب (الذي يمتهن المحاماة وينظر إلى نفسه والحياة عامة نظرة جدية) كان فرنسياً إلى درجة شعرت معها بأني في باريس نفسها لا في وسط الأسرة الأولى في شعب يفتخر بأنه من نسل الفينيقين.
وبعد الغداء أخذني المسيو إده إلى غرفة صغيرة حيث جلسنا نتحدث، وقد سرني منه أنه كان يستمتع ببسط وجهة نظره أمامي بدرجة استمتاعي بسماعها. قال:
- (إن الفكرة القومية هي الأساس الطبيعي الذي تبنى عليه حياة بلاد فتية، ومعنى هذه القومية في نظرنا هو استقلال لبنان التام باعتبار أنه يشكل وحدة جغرافية وسياسية، وتحالفه المؤبد مع فرنسا. إن بعض المسلمين يتكلمون عن الاتحاد مع سورية إلا أن هذا الاتحاد مخالف لجميع مصالحنا. إننا كنصارى نشكل أكثرية في لبنان، فإذا اتحدنا مع سورية ابتلعنا الأكثرية الإسلامية. وهناك أسباب أخرى تجعلنا معارضين لهذا الاتحاد:
(إن شعبنا - من جهة - يختلف اختلافاً كلياً عن الشعب السوري، إذ أن تقاليدهم غير تقاليدنا وطرز معيشتهم غير طرزنا. أنظر إلى بيروت، هل هي مدينة شرقية؟ إن دمشق شرقية تماماً، ولكن مدينتنا لا تختلف عن أية مدينة في جنوبي فرنسا. أنظر إلى بيوتنا وملابسنا وسياراتنا التي تكاد تبعدنا مئات الأميال عن دمشق. تذكر ليس فقط أن أولادنا قد تعلموا في جامعات أوربية بل أيضاً أن آباءنا قد تربوا تربية غربية، وأن الكثيرين منهم قد تثقفوا في الخارج. أما السوريون فهم ليسوا سوى عرب مسلمين ليس فيهم شيء غربي البتة.
(ثم لنبحث في الناحية الاقتصادية: إن السوريين متشوقون كثيراً إلى مشاركتنا في واردات(263/53)
الكمارك مع أن أكثر هذه الواردات تستوفى من ضريبة مفروضة على بضائع نشتريها نحن لا هم، إذ أن احتياجاتنا أكثر من احتياجاتهم ووسائل الراحة التي نتطلبها أكثر من وسائلهم. نريد أن نكون أصدقائهم ولكن (وهنا أشار المسيو إده بيديه إشارة قوية تدل على التأكيد) يجب أن نعارض دائماً فكرة الاتحاد معهم)
فقلت: (إذاً فإنكم تفضلون يا حضرة الرئيس التحالف مع فرنسا على التحالف مع سورية؟)
فأجاب: (إن هذا التحالف (أي مع فرنسا) هو نتيجة طبيعية للوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه. فإن فرنسا قد ساعدتنا في الماضي وأكثرنا يتكلم لغتها. خذني مثالاً لذلك: إني فرنسي أكثر من أن أكون عربياً؛ وقد تربيت تربية نصرانية وجميع تصرفاتي مشابهة تماماً لتصرفات الفرنسيين). وقد شعرت برنة فخر في صوته عندما تفوه بهذه العبارة
وسألته (ولكن ما الحكمة في تحالف أبدي مع فرنسا؟)
فأجاب (لأننا إذا لم تحمنا دولة أجنبية قوية ابتلعنا جيراننا. وأضيف إلى ذلك أننا نحمل رسالة مقدسة يجب تأديتها في الشرق الأدنى: ذلك لأننا الجزيرة النصرانية الوحيدة في بحر من البلاد الإسلامية)
- (إذاً فأنتم معارضون للوحدة العربية؟)
- (إن الوحدة العربية هي ضد مصلحتنا. فإذا اعتنق هذه الفكرة بعض المسلمين عندنا فإن كل النصارى يكرهونها)
- (لقد أشرتم قبل لحظة إلى رسالتكم المسيحية مع أن النصرانية ليست دين الدولة الرسمي في لبنان)
- كلا! فلعل جمهورية لبنان هي الدولة الوحيدة في الشرق الأدنى التي ليس لها دين رسمي. والسبب يعود إلى وجود عدد كبير من الطوائف الدينية عندنا. ومن سوء الحظ أن الدور الفعال الذي يلعبه دائماً رجال الدين التابعون إلى هذه الطوائف المختلفة قد تجاوز الحد وأصبح مضراً بمصلحة البلاد. ولما كانوا يخلطون بين الدين والسياسة فلا نريد أن نعقد الأمور بإدخال الدين رسمياً في المعمعة بشكل من الأشكال، إذ لو فعلنا ذلك لوقعنا في ورطة عظيمة ولضعنا بين الأكثرية المارونية والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك واللاتين والسنة والشيعة والدروز والأرمن والبروتستانت واليهود!) وهنا ظهرت على(263/54)
وجهه لأول مرة إمارات القلق الشديد وتوقف عن الحديث هنيهة ثم استرسل قائلاً:
- (إن للطوائف المسيحية المختلفة نفوذاً سياسياً قوياً بفضل رجال الدين. ولو أردنا أن نحول دون نشاطهم السياسي لعجزنا عن ذلك؛ ولهذا رأينا المصلحة تقضي بترك هذه المسألة.
ومع ذلك فان تعيين جديد في الحكومة يسبب تذمراً لدى طائفة من الطوائف الدينية. آه لو كنا أحراراً - أحراراً نعمل كما يجب أن نعمل - أحراراً نعين الناس بالنظر إلى مؤهلاتهم لا بالنظر إلى أديانهم. . .)
- (لعل دكتاتوراً يستطيع تسهيل أمرا الحكم في لبنان؟) فرفع يديه وكأنه مشمئز وقال:
(أنا ضد كل دكتاتورية، أنا أؤيد الديمقراطية) وهنا توقف قليلا ثم عاد إلى الكلام بلهجة مختلفة:
(حبذا لو كان بإمكاننا تطبيق النظام الديمقراطي كما تعرفونه في إنكلترا حيث لم يفرض فرضاً غير طبيعي على شعب غير مهيأ له بل كان نتيجة طبيعية للتربية السياسية وفكرة راسخة عند المواطنين الإنكليز. آه ما أسعدكم في إنكلترا وأعظم بها من بلاد!)
وقد رافقت هذه الكلمات أنة شديدة دلت بجلاء على صدق عاطفته
(بغداد - دار المعلمين الريفية)
علي حيدر الركابي(263/55)
حواء
. . . ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني يصدره الأستاذ
الحوماني تحت هذا الاسم وستقدم الرسالة لقرائها نماذج منه
في أعدادها التالية ريثما ينتهي طبع الديوان
كيف أشقى؟؟
خَبِّريني كيف أَشقى وعلى ... فيكِ من روحيَ هذي البَسَماتُ؟
كيف أشقى، وعلى خديكِ من ... كبدي لونٌ، ومن لثمي شِياتُ؟
وعلى عينيكِ من لون الضحى ... حَوَرٌ تطفو عليه القُبَلات
أَوَ أَشقى، والهوى ملءُ فمي ... عَسَلاً تَنْهَلُ منه الوجناتُ؟؟
وبكفيَّ ثمارٌ أنضجتْ ... طَلعَها مني شفاهٌ قَلقِات
ما السعاداتُ التي يَنشدها ... شاعرٌ حَصّتْ جناحَيْه الحياة؟
أَهيَ غيرُ الحبِ، ترعى روضَه ... من قوافيهِ مهاةٌ فمهاة؟؟
خفقتْ روحُكِ في آفاقهِ ... فبدا صبحٌ وهبتْ نَسَماتُ
وطغت في الكون أمواج السنا ... فسرت روحٌ وخفت حركات(263/56)
أنت لحني
سلِمتْ عيناكِ لي، إنهما ... كانتا رمزَ حياتي وخلودي
أَستشِفُّ الروحَ في ظلهما ... فأرى بينهما سرَّ وجودي
كلما اهتزَّ على سلكهما ... ناظري مارستُ فني من جديد
وتولّتْ شفتي تدوينه ... بدمي فوْق شفاهٍ ونهود
وإذا الفن طغى خفَّتْ إلى ... رسمهِ بين عيون وخدود
كلما مرّت بها أُنشودةٌ ... كنتِ من أبياتها بيتَ القصيد
كنتِ في مطلعها زهرَ فمٍ ... وعلى مقطعها لفتة جِيد
أنتِ لحني كلما أنشدتُها ... وإذا لحنتُها كنتِ نشيدي
الحوماني(263/57)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 18 -
وكان ابراهام في الحادية والخمسين من سني عمره بينما كانت تتأهب البلاد لانتخاب رئيس جديد للولايات إذ كان عام ستين وثمانمائة وألف هو نهاية مدة الرئيس القائم؛ وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد، وإنه لأعظم خطر اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرا؛ ذلك أن الانتخاب إنما يقوم هذه المرة على ما يشغل الناس في أمر العبيد وفي أمر الوحدة، لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهد جديدا ويتدرج في مسلك جديد. . .
وكان الحزب الجمهوري وهو الذي ينتمي إليه ابراهام ويعد من أبرز رجاله، أقوى الأحزاب نفوذا وأعزها نفرا،، إذ كانت مبادئه أقرب من غيرها إلى قلوب الناس في الشمال فهو يعمل على أن يحول دون انتشار العبيد وهو يكره نظام الاستعباد ولكنه يرعى جانب الدستور في كل ما يقول أو يعمل
أما الحزب الديمقراطي فقد هان على الناس أمره بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلاته مع لنكولن. . . أو لم يصرح إن لكل ولاية الحق كل الحق أن تقضي على نظام العبيد فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن فريقا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بيو كانون في دستور كنساس حتى لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم! وإنه اليوم ليجني ثمار غرسه. وهل كان له أن يجني من الشوك العنب؟. . . لذلك(263/58)
فشل الديمقراطيون حينما عقدوا مؤتمراً لهم ليجمعوا أمرهم على رجل يعدونه للرياسة وانفض مؤتمرهم وقلوبهم شتى.
وأخذ الجمهوريون يستعدون للمعركة القادمة فامتلأت صحفهم بفيض أقلامهم، وماجت كبريات البلاد في الشمال بمظاهر نشاطهم ومعالم استعدادهم.
ففي ربيع ذلك العام الفذ عقد الجمهوريون في ألينواس مقاطعة لنكولن، مؤتمراً لينظروا في نشر الدعوة له في الولايات ليحظى ابراهام بترشيح الحزب إياه في مؤتمره العام ليكون رجله في انتخاب الرياسة! وفي ذلك المؤتمر التمهيدي الذي عقد في مدينة ديكاتور اشتدت حماسة المؤتمرين لابراهام فما تهتف الألسن إلا به وما تحنو الجوارح إلا عليه؛ ولا يقتصر الأمر على المؤتمرين فهاهو ذا جمع حاشد من الناس يهتف به في شوارع المدينة، وعلى رأس هذا الجمع ابن عم له كان يعمل معه في شق الأخشاب قبل ذلك بثلاثين سنة. . . أنظر إلى ابن عمه هذا يحمل العلم على قطعتين شوهاوين من الخشب، وهو ينبئ الناش في زهو أنهما من صنع أبراهام قطعتهما فأسه يوم كان يعمل في الغابة، فهو من الناس وللناس! ثم انظر إلى وجوه القوم كيف تتهلل بشراً، واستمع إلى ألسنتهم كيف تضيف إلى ألقاب ابراهام التي ألفوها لقباً جديداً، فهو أيب الأمين وهو أيب العجوز وهو أيب فالق الأشجار. . .
وانعقد في الصيف المؤتمر الجمهوري العام في شيكاغو، وتدارس المؤتمرون طويلاً ثم أعلنوا ما اتفقت عليهم كلمتهم من المبادئ، فلم تخرج عما أوضحه ابراهام في خطبه وأحاديثه، وقد احتشد في تلك المدينة عدد عظيم من أهلها ومن غير أهلها بلغ أربعين ألفا ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم والتفت تلك الجموع حول مكان الاجتماع. . .
وجاء دور الانتخاب واجتمع ممثلو الولايات لاختيار رجل يمثل الحزب جميعا، وجرت في القاعة أسماء خمسة أشخاص يختار منهم واحد، من هؤلاء لنكولن من سبرنجفيلد وسيوارد من نيويورك. . . وكان سيوارد في نظر أهل الشمال الزعيم الحقيقي للحزب الجمهوري فهو رجل واسع الثقافة عظيم الخلق يحب بلاده ويكبرها وهو كابراهام يمقت نظام العبيد وقد ظل يحاربه زهاء ربع قرن في غير هوادة.
وظن الناس وشاع فيهم بادئ الأمر أن الأمر سيتم لسيوارد في هذا المؤتمر! وكذلك ظن(263/59)
سيوارد فلم يكن يحس منافسة ابراهام إياه؛ أما ابراهام فكان فؤاده يحدثه أن النصر له هذه المرة فهو يحس في أعماق نفسه دون أن يدري لما يحس سببا أنه عند الناس أرجح كفة من صاحبه وأن شبه لهم غير ذلك
ولكن القلق يساوره أحياناً وهو جالس في سبرنجفيلد في قاعة أحد أصدقائه من رجال الصحافة أثناء انعقاد المؤتمر فهو يقول لهذا الصديق (إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى مكتب المحاماة وأعمل عملي في القانون. . .) ثم يعاوده الأمن برهة ويخالجه الشك برهة كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال حينما ينتظره المرء عاقبة أمر يهمه؛ وأي أمر هذا الذي كان يتوقع إبراهام عاقبته؟ إنه اليوم في مفرق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته. . .
لقد طال به الانتظار حتى كاد أن يسأم، ولم يأته نبأ عن المؤتمر فلينصرف إلى القراءة حيناً، وإنه لكتاب شعر لبيرنز، هذا الذي يقلب صفحاته، ويقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله؛ ولكنه يدع الكتاب ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين. . .
والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في رواية البلاد فصلاً جديداً سوف يترتب عليه كل ما يليه من فصول. . . والناس من حوله يموج بعضهم في بعض، وهم يتساءلون لمن يكون النصر؟ فيؤكد هذا بأن النصر لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازمة، فيقبل عليه جماعة منهم فرحين؛ ويصيح ذاك: كلا بل النصر لفالق الأخشاب. فيتهافت عليه كثيرون. . .
وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات فإذا سيوارد يزيد على إبراهام بسبعين صوتاً وصوت، فيهتف أنصار سيوارد ويكتئب أصحاب ابراهام. . . وتعلن الدفعة الثانية فإذا ابراهام لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات. . . ويسود الصمت في جنبات المؤتمر وقد علقت الأنفاس وشخصت الأبصار وخفقت القلوب وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير. وما هي إلا لحظة حتى يرتفع صوت باسم لنكولن، فهبت في المكان عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق تجاوبها خارجه عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدا إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون. . .(263/60)
وابراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طوراً، ويثق في النصر طوراً، وحوله جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر، وإنهم كذلك إذ يقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة ويطفر بها كما يطفر العصفور من المرح ويقبل على ابراهام فيحمل إليه النبأ السار، ثم يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل. . .
ويقبل على ابراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في قلوبهم من معاني الابتهاج، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد برهة يقول لهم: (إن امرأة صغيرة قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ. يقول ذلك ويمضي مسرعاً إلى ماري فيفضي إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه. . .
ويأتي بعد ذلك وفد من قبل الحزب يعلن إليه رسمياً نتيجة الانتخاب فيلقاهم ابراهام في داره، فما يبرحونها إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل العظيم. . . وهكذا يظفر ابراهام لنكولن فالق الأخشاب بتأييد أكبر حزب في البلاد. . . هكذا يظفر النجار ابن النجار فيصبح رجل الساعة ومناط الرجاء في قومه
ولبث ابراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد حتى حان موعد الانتخاب للرياسة، لبث في المدينة هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أدنى تغير عما كان عليه، فهو في الناس فرد منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض. . . وهل كان مثله يتغير حتى بالذهاب إلى هذا البيت العتيد؟ وهل كانت عظمته إلا منبعثة من نفسه حتى يتكبر أو يظغي؟ إنما هو من الناس وللناس ولسوف يظل أول خادم لهم حتى تزهق روحه في سبيل مبدئه. . .
وظلت سبرنجفيلد أياما في ابتهاج ومرح وابراهام يلقى الوفود في داره خافضا لهم جناحه باذلاً لهم من وده وحبه أكثر مما يبذلون وهم معجبون برجلهم الذي استحق محبتهم وظفر بتأييد كبارهم وتعظيم صغارهم. . . يعجبون منه بكل شيء وخاصة ذلك التواضع الذي يبدو رائع الجلال باهر الجمال. . . لقد أحاطوا بداره ليلة مجيء الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم فأطل عليهم قائلاً (أي مواطني! توجد لحظات في حياة كل سياسي حينما يكون(263/61)
خير ما يفعل أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين؛ وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد حانت الآن بالنسبة إلي)
ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من مقر الحكم للمدينة، ولا يرد عن مجلسه أحداً، ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو أعطاه نسخة من مجموعة خطبه؛ وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي تأتيه من كل فج فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد منها إما بيده أو بيد كاتب قد اتخذه له منذ قريب. . .
ولقد سخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه له؛ وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت صحفهم تناله بفاحش الهجاء، فهو تارة الجمهوري الأسود، وآونة فالق الأخشاب الجاهل، وأحياناً الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفة، وطوراً الشبيه بالغوريلا؛ وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعا ترفع الكرام عن جهل اللئام. . . ولم يحدث منذ تألف الاتحاد أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال مثلما قامت بينهم عقب اختيار الجمهوريين لنكولن
أما أنصاره فما فتئوا يثنون عليه في صحفهم وأحاديثهم ويدفعون عنه مكر أعدائه ويدحضون أباطيلهم؛ وضرب سيوارد للناس مثلا طيبا فكتب في إحدى صحف نيويورك يثني على ابراهام ويهنئ البلاد باختياره هذا ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة. . .
وظل هو في سبرنجفيلد لا يتكلم عن نفسه ولا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه؛ أما عن أنصاره فكان يرتاح إلى دفاعهم وإن كان ليتبرم بينه وبين نفسه بما يزجونه إليه من عبارات المديح والإطراء. وما فتئت الكتب تلقى إليه من أنحاء البلاد وهو يجيب عنها غير متخلف ولا مبطئ؛ ومن أجمل تلك الكتب وأغربها كتاب جاءه من بنت صغيره تستفهمه فيه عن أسرته وتطلب إليه أن يطلق لحيته. ولقد رد عليها بهذا الكتاب قال: (أي فتاتي الصغيرة العزيزة: تلقيت كتابك الجدير جداً بالقبول، المؤرخ في 15 من أكتوبر عام 1860، وإني آسف أن أراني مضطراً إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة. . . إن لي ثلاثة بنين عمر الأول سبعة عشر عاما والثاني تسعة والثالث سبعة، ومن هؤلاء، وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. . . أما عن إطلاق لحيتي، أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما(263/62)
يعد ضربا من التكلف السخيف؟. . . هذا وإني لك الصديق الوفي المخلص. ا. لنكولن). . .
وهبت من الجنوب الشائعات بالنذر، فلقد ازدادت الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وإلى إعلان التمرد والعصيان إذا قدر أن ينتخب لنكولن رئيسا للولايات؛ ونمى إليه فيما نمى من الأنباء أن أهل الجنوب يطاردون بالقوة كل من يدعو إلى تحرير العبيد في ولاياتهم. على أن أعظم ما أزعجه يومئذ ما أفضى به إليه قائد من القواد من أنهم في الجنوب يعدون معدات القتال!. . . لقد ارتاع ابراهام لذلك وأحس بميل شديد إلى معرفة كل شيء ولكنه يشعر، ولم ينتخب للرياسة بعد، أن ليس له حق فيما هو فيه من الاستطلاع فيطلب إلى ذلك القائد أن يتبين قبل أن يزده علما بما يجري فإذا لم يكن في الإفضاء بما يعلم خيانة فليفض به وهو يترك الحكم في ذلك له. . .
(يتبع)
الخفبف(263/63)
الفروسية العربية
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
- 3 -
ومن أشهر الحكايات ما جاء في التوراة عن سيدنا إبراهيم الخليل (بينما هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار - رفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد على الأرض وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. خذوا قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، وخذوا كسرة خبز لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال أسرعي بثلاث كيلات دقيق سميد اعجني واصنعي خبز ملة ثم ركض إبراهيم إلى البقر ثم أخذ عجلاً رخصاً وجيداً وأعطاه إلى الغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم وإذ كان واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا) وأرجو أن ألفت نظركم إلى أن سيدنا إبراهيم عندما دعا هؤلاء الجماعة لم يكن يعرف من هم وقد طلب منهم أن يتناولوا شيئاً من الخبز والماء قائلاً (إن وجدت نعمة في أعينكم) وهذا دليل على أنهم يرفعون من شأنه بتناولهم الطعام عنده، ونراهم جلوساً بانتظار الخبز والماء ولكن نراه يقدم لهم عجلا وزبداً ولبناً بدل الذي دعاهم إليه. ثم يقف بين أيديهم لخدمتهم. فالبدوي يقدم آخر شاة عنده طعاماً لضيف غريب، وهذه هي عادتهم التي ساروا عليها من قرون طويلة. وأظن أن أخبار حاتم الطائي معروفة لديكم إذ أنه بعد أن ذبح جميع ما يملك من ماشية وإبل لإطعام الفقراء من قبيلته في سنة محل ذبح لهم فرسه وهي آخر ما يملك. ومن المتبع أن يقف عبيد الشيوخ على باب الخيمة منادين على الطعام. وقد لقب الناس ابن مهبد أحد شيوخ عنزة (بالمنادي على الطعام) لأن عبيده كانت تنادي الناس يومياً إلى الطعام في سنة قحط
إن العيب كل العيب في نظر البدوي أن تعطي طعاماً يكفي لضيوفك فقط، وحتى في رمضان عندما تكون القبيلة بأجمعها صائمة ترى أنهم ينحرون ثلاثة أو أربعة خراف(263/64)
لإطعام بضعة أشخاص مع علمهم بأن بقية الطعام ستذهب سدى. ولقد تعدى كرم البدوي الإنسان إلى الحيوان. ويروى أن عنترة نحر في يوم زفافه مئات الإبل ورماها في البراري لتشاركه الوحوش في فرحه. والبطل السوري مقري الوحوش كان يطلق في البرية كل ما يربحه من غزواته لأنه كان يطلب المجد لا الكسب. وأنا شخصياً أعرف شخصاً اسمه (معشي الذيب) كان يربط جدياً في البرية عندما يسمع ذئباً يعوي قائلاً: (لا يناديني ضيف في المساء دون أن يتناول الطعام). لقد دعوت أنا شخصياً منذ مدة سمو الأمير عبد الله أمير شرق الأردن إلى وليمة بقرب وادي موسى - بتراء، وقد حضر ما يقرب من 500 شخص من الفلاحين للسلام على سموه، ولم أكن أتوقع حضور مثل هذا العدد، ولكن رجالي وكلهم من البدو لم يكونوا مستعدين أن يعرضوا أنفسهم لألسنة الفلاحين الجارحة، ولذلك فإن الطعام الذي طهي كان فضلا عن كفايته لإطعام الخمسمائة شخص فقد قدموا رزاً مسلوقاً وزبدة إلى مطايا الزائرين
حماية الضعيف
وبالإضافة إلى الثلاث الخصال التي تتصف الفروسية بها يوجد طبع آخر في البدو يحمل نفس الطابع الخيالي الذي اتصفت به عاداتهم الثلاث (المجد في الحرب. احترام المرأة. الكرم) التي سبق أن ذكرناها - وهو حماية الضعيف. فعندما يلتجئ غريب أو أرملة أو يتيم إلى بدوي تراه يدافع عنه حتى ليقاتل أقاربه لأجله. فمثلاً حرب البسوس التي وقعت منذ ألف وثلاثمائة سنة عندما أطلق كليب وائل - كبير شيوخ معد - سهماً على ناقة لخالة جساس أخي جليلة زوجة كليب فقد ذهبت تلك العجوز إلى جساس وروت له الحادث، فما تمت رواية قصتها حتى قام ولبس ملابس الحرب وذهب وقتل كليباً. ويقال إن حرباً دامت أربعين سنة بين الفريقين المتحاربين كانت نتيجة لهذا الحادث. وقد وقع مثل هذا الحادث في قبيلة الرولا - إذ طلب شيخ من عجوز من قبيلة الشرارات وهي قبيلة تحتقرها بقية القبائل يتخذ رجالها صناعة النحاس مهنة لهم، فاستجارت العجوز بابن مشهور الشعلان الذي أنجدها حتى أطلق على نفسه في الحرب (أخو ربدة) اسم المرأة التي استجارت به زيادة في تمجيد عمله العظيم. ومن عادات البدوي نجدة من يلتجئ إلى الخيمة. وبهذه المناسبة أود أن أذكر حادثاً وقع معي شخصياً عندما ثار فيصل الدويش مع قبائل مطير(263/65)
على ابن مسعود فحاربهم وانتصر عليهم وقد أرادوا الالتجاء إلى العراق عندما طاردتهم الجيوش السعودية، ولكن أوامر مشددة صدرت إلي بمنعهم من الالتجاء إلى العراق. وقد تمكنت من إيقافهم في موقع وبقيت في انتظار وصول الجيوش السعودية لسوقهم. وفي ذات يوم بينما أنا في خيمتي إذا برجل - وهو أحد زعماء العجمان - يدخل الخيمة ويصيح: أنا أطلب الحماية - وكان هذا الزعيم من المكروهين والمغضوب عليهم من ابن سعود - لقد كان موقفاً حرجاً ومحيراً إذ أن عادات البدوي تقضي بحماية الرجل، وأوامر حكومتي تقضي بعدم السماح لأحد من المرور إلى العراق. ولكني في النهاية قررت أن أتبع تقاليد البدو فأركبته جملا وأفهمته أن يتوجه إلى قبيلة عراقية ساكنة بالقرب منا. لقد كنت أظن أن هذا الحادث قد انتهى وأن ابن سعود لن يسمع به. ولكن راعني أن قدمت في صباح اليوم التالي أربع سيارات سعودية تحمل وفداً برياسة سكرتير ابن سعود الخاص للاحتجاج على عملي بتهريب الرجل. ولكني بلطف صرفت ذلك الوفد. وبعد فترة عاد الوفد يحمل كتابا شديد اللهجة حول تصرفي - لقد تحرج موقفي إذ أن أوامر حكومتي كانت صريحة ولكني صممت على أن أبقى أمينا على عهدي مع الرجل. لم أجد لي مخرجاً من هذا الأمر إلا بأن أفهمهم الحقيقة. وقد فعلت. طلب ابن سعود من الحكومة العراقية بعدئذ تسليم جميع اللاجئين ولكنه لم يشر بحرف إلى رجلي. إن العرب صلاب أشد الصلابة في المطالبة والمدافعة عن حقوقهم، ولكنك إذا التجأت إلى كرمهم فلن يخيبوا ظنك. وهذه قصة سمعتها من شاب ساكن مع بني صخر في شرق الأردن أصله من البلاد الواقعة قرب الخليج الفارسي - قال: قام الوهابيون وكنت معهم بهجوم على بني صخر فقتلنا منهم وقتل منا خلق كثير. وفي تلك الموقعة أصبت بجراح وأغمي علي حتى لم أفق إلا في صباح اليوم التالي أمام خيام بني صخر. قمت أتحامل على نفسي حتى قربت من بيت شَعر وإذا برجل ما كاد يراني حتى أطلق علي عيارين ناريين - وكان قد فقد أخاه في معركة الأمس - ولكن الغضب والحقد أعمياه فأخطأني. حينئذ أسرعت حتى دخلت الخيمة فما كان منه إلا أن رمى بندقيته وأقبل يغسل جراحي.
ومن عادات البدوي التمسك بالصداقة والاعتراف بالجميل. في يوم من الأيام اقتتل ابن علي وابن رشيد من شيوخ قبيلة شمر فطرد ابن علي ابن رشيد مع أخيه من القبيلة، ترك(263/66)
الإخوان القبيلة ومعهما جمل واحد قاصدين البلد المعروف اليوم بشرق الأردن وفي طريقهما نزلا ضيفين على الخريشة فأكرم العبيد وفادتهما إذ كان الشيخ غائباً. وفي صباح اليوم التالي تهيآ للسفر فوجد أن جملهما قد نفق. فسارا على الأقدام، وفي الطريق قابلهما بدوي فسألهما عن حالهما فأخبراه بواقعة الحال، فنزل عن جمله وقدمه إليهما قائلاً: أنا الشيخ ولن يضيفني إنسان راكباً ويترك منزلي راجلا. وعندما عاد ابن رشيد إلى الحكم بقيت الخريشة صديقة معززة مكرمة. ومن الصفات التي يفتخر العرب بها الأمانة، وقصتنا هي حادثة السموأل الذي ضحى بولده على أن يسلم الدروع التي ائتمنه عليها امرؤ القيس. منذ سنين قليلة مضت أغار عودة أبو تاية حليف لورانس على عنزة وكانت الغلبة لعودة، وفي أثناء المعركة رمى شخص نفسه على عودة يطلب الأمان، فأمنه، ولكن الرجل طلب علامة يدرأ بها الخطر عن نفسه فأعطاه عودة كوفيته ونزل إلى المعركة حاسر الرأس. ومرت السنون وإذا برجل غريب يقدم نفسه إلى عودة قائلاً: إن لك عندي قطيعا من الماشية. فسأله عودة عن ذلك فقال: إنني الرجل الذي أعطيته كوفيتك في الموقعة الفلانية وقد بعتها واشتريت بها ماشية وتكاثرت وهأنذا أقدمها لك. إن عودة كان قد نسى ذلك الرجل وكان العداء لا يزال على أشده بين القبيلتين
(يتبع)
جميل قبعين(263/67)
رسالة الشعر
وحي الشاعرية
نفسية
للأستاذ حسن القاياتي
ظمآنُ لو شئتَ وردْ ... لولاك يا نيل اتقّدْ
برَدُ الحناَ رشفةُ ... للنيل تستَلُّ الكمدْ
للنيلِ من حيث اغتدىَ ... قلبي ومن حيث اعتمدْ
كم صفَّدُوه فاصطفَوْا ... للنيل مُفْتَنَّ الصَّفَدْ
جنَّاتُ علمٍ رَوَّضَتْ ... في مصر جنَّاتِ الرَّغَدْ
لَهفي لمصرٍ جَنَّةً ... لَيْسَتْ تُناغَي بالرشَدّ!
البرّ فينا لمحةٌ ... والغيُّ جياشُ المددْ
غَرّدتُ حتى شفنِي ... منْ يرْتمي طير الغَردْ
عصرُ المرجَّى شد ما ... يمشي إليه في الزَّرَدْ
شكواي وَثابُ الهوى ... في النيلِ خَوَّارُ الجلدْ
تذل التباري يَعْتَلِى ... بالغيِّ طَمَّاحَ الأمدْ!
غنيتُ بالعلم احْتَفَى ... والتعتُ للجهل احتشدْ
إن يهذِ غِرٌ بالعُلَى ... فالهزل رُؤيا من رَقد
بدعان منْ حليِ النُّهى ... تَفْوِيفُ شعري والْغَيَدْ
نمقتُ جنَّاتِ النَّدَى ... فاختالَ فيها من جَحَدْ
كم جفّ رفد بذلهُ ... كاللثم لم يُثقلْ أَحَدْ
إن تَعلُ دُوني رَغوةٌ ... فالنيل فياضُ الزَّبَدْ
صَليتِ حلو المجتَنَى ... يا مصرُ حرَّ المُجْتَلَدْ
من لأبن علياء ابتَنَى ... للوغد مجداً فاقْتَعَدْ؟؟
لم يَحْن فيما يَشْتَهي ... من رأس أوّابٍ سجدْ(263/68)
إن لم تَسدْ بي عِزَّةٌ ... فالدرُ يخزي من زَهد
الندب يخفي حِليةً ... كالروح يخفيه الجسدْ
عصرُ تَغنَّى فازدهىَ ... بالجهل أزري إذ خَلَدْ
يَبْنون لَغْواً كم علا ... كالنعش فاستلَّ الحسَدْ
النبل هَلاَّ يُفتَدىَ ... والهون أَنَّى يُفْتَقَدْ؟؟
حَسبتُ التحدي يرتقي ... للسيِّدِ البرِّ السَّنَدْ
ذَمَّ التجنِّي فانثنَى ... بّرِّ التَّمَنِّي وانفردْ
أَسْوان لو كان اشتفَى ... حَرَّانُ لو كان ابْتَرَدْ
لم يحلُ ظبيٌ أو مُنىً ... إلاَّ تَهَاوتْ أو شَرَدْ
الذُّلُّ يغريه الهوَى ... والعونُ يأباه الصَّيَدْ
الجورُ إِما نَاهِدٌ ... في الجيش أو صدر نَهَدْ
مَلَّ التشكيِّ سيداً ... مَلَّ التشكيِّ فاقتَصَدْ
كالحسن لو شاء استَبَى ... كالعلم لو شاء انتقدْ
سُنَّ التسامي فانبرى ... وانهلَّ رِفدٌ فابْتعدْ
ليت المزايا طَلقْةُ ... من وَدَّ فتَّاناً وجَدْ
الحسن من شاَء انْتَقىَ ... والرأي من شاء اعتقدْ
لو رق حسنُ لم يذُدْ ... عن كل ظبي بأَسدْ!!
الحرُّ سَلهُ ما ارتأى ... والغرُّ سَلةُ ما عَبَدْ؟؟
أهلاً بشورَى لا الهوىَ ... أحييت ولا الشَّغْبُ اتَّعَدْ
الشعْبُ طفلاً قَلما ... تنهاه شورى عن لَدَدْ
للرأي فانْهَدْ وحدَهُ ... العزمُ عند المُعْتَقَدْ
لا حُرّ في أرض الفتَى ... سموه بالفرد الصَّمد!!
حُرُ المساعي سيدُ ... حُرُّ المنى حُرًُّ البَلَدْ
السكرية - دار القاياتي
حسن القاياتي(263/69)
قصيدة القاياتي
وقع تحريف مطبعي في أبيات قليلة من قصيدة السيد حسن القاياتي (مصريات) المنشورة في العدد الماضي، نثبت صوابه فيما يأتي:
باسم الولاية كم شيخ مراشفه ... على يَدَيْ كل (سبَّاك وسبكي)
أعمل حجاك فما أحرى بنيِّره ... أن يُجْلِسَ الله في العرش الإلهي
ذم القديم فما أصفى بتكرمةٍ ... سوى عقيد العُلى من كل عاديِّ
في معهد العصر أبناءُ أبوَّتُهم ... في معهد الدين ألْغَوْا كل عصري
تلك الكؤوس عُقَاراً كيف يجرعها ... من يرهن النيلَ في الدَّين العقاريّ
الأمر يبرم سِرّيّاً فتلهمه ... منابتُ الغَيِّ من بادٍ وسرِّيِّ(263/71)
نجوى القمر
للأستاذ فريد عين شوكة
لَمْلَم الضوء يا قمرْ ... وامْضِ عن مصر في خفر
قلَّ في مصر من سعى ... لك في الليل أو سهر!
إنما أنت في القرى ... باعث الأنس والسمر
تضحك الدور إن بدا ... نور عينيك وازدهر
وتُجلى بك الحقو ... لُ ويزهو بها الزهر
وبنو الريف ساهرو ... ن وما أطيب السهر
تخذوا ضوءك الأبا ... ريق والكأس والوتر
فانتشوا منك بعدما ... شربوا الضوء بالنظر
تسكر العين بالجما ... لِ ويا ويل من سكر
هيه يا باعث الجوى ... هل عن الريف من خبر؟
هل ترى مجلس الهوى ... باقياً فيه أم دَثر؟
وحبيبي! أما يزا ... لُ على العهد؟ أم غدر؟
هدى القلب بعدما ... لُحْتَ للقلب فاستعر
ضوءُك الساحر الرُّؤُى ... بين جفنيَّ كالشرر
حرَّك الماضيَ الدفي ... ن وأغري بيَ الفِكَرْ
يوم كنا ويوم كا ... نَ بك الريف يزدهر
أمسيات تناثرت ... والصبا بعدها انتثر
وطغت موجة النوى ... ودنت ساعة الخطر
فافترقنا وباعدت ... بيننا ضربة القَدَر
فريد عين شوكة(263/72)
البريدُ الأدبيّ
النهوض باللغة العربية
اجتمعت اللجنة التي ألفت للنظر في النهوض باللغة العربية بديوان الوزارة برياسة الأستاذ محمد عوض إبراهيم بك الوكيل المساعد وعضوية الأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك وعلي الجارم بك ومحمد قاسم بك ومحمد عطية الابراشي أفندي ومحمود عبد اللطيف أفندي والشيخ عبد المجيد الشافعي
وبعد أن أطلعت اللجنة على التقارير التي كتبت في هذا الصدد وتبادلت الأفكار وناقشت المقترحات وافقت على ما يأتي:
أولا - إن الطلبة ليسوا ضعافاً في اللغة العربية إلا بمقدار ما يراد أن يكونوا عليه من تقدم يناسب ما عليه أبناء الأمم الأخرى ذات اللغات الحية، وإن الطلبة قد تقدموا تقدماً ظاهراً في الكتابة والخطابة لا يفضلهم فيه أسلافهم من الطلبة
ثانياً - لتنمية هذا التقدم ومجاراة روح العصر الحديث والنهضة باللغة العربية لتؤدي واجبها في هذا العصر ينبغي أن توجه إليها العناية من الطفولة في أوساط التربية والتعليم المختلفة لتكون لغة النطق والكتابة والتعليم ولهذا نظرات اللجنة في وضع قواعد عامة تتناول مراحل التعليم كلها وفي وضع قواعد خاصة لكل مرحلة من مراحل التعليم الأولي والابتدائي والثانوي. وتجمل اللجنة ذلك في ما يأتي:
القواعد العامة
ترى اللجنة أن نشر اللغة العربية وجعلها لغة التخاطب والتعليم بين الطبقات جميعاً لا يكون حقيقة واقعة إلا إذا تمت الواجبات الآتية:
1 - محو الأمية بنشر التعليم الأولي بين الأميين الذين يبلغون أكثر من 80 % من أبناء الأمة لأن المشاهد أن التعليم كلما نهض نهضت معه اللغة الصحيحة وأقبل الناس على القراءة والاطلاع وهذا مما يقوم الألسنة
2 - أن تكون كتب القراءة العربية مما يشوق التلاميذ ويحبب إليهم الاطلاع ومداومة النظر وأن تكون من الكثرة وحسن الاختيار بحيث تغذي التلاميذ وتصرفهم عن غيرها مما يحسن ألا يتناولوه إلا في ظروف خاصة(263/73)
3 - أن يكلف المدرسون النطق باللغة الصحيحة سواء في هذا مدرسو اللغة العربية ومدرسو المواد الأخرى التي تدرس بها وأن يحاسب هؤلاء جميعاً على كل تقصير حتى يشب التلاميذ في بيئة مدرسية صالحة تعوضهم مما يفقدونه في البيئات الخارجية
4 - أن تزداد حصص اللغة العربية في مراحل التعليم
5 - أن يؤخر تعلم اللغات الأجنبية إلى ما بعد السنة الثانية من التعليم الابتدائي ليكون للأطفال وقت كاف لدراسة اللغة العربية واستعداد لتلقي غيرها معها. وقد أجمع علماء التربية على أن دراسة لغتين في وقت واحد وفي سن مبكرة مما ينتهي بالضعف فيهما جميعاً. ويجب أن يكون بين دراسة لغة وأخرى فترة كافية من الوقت وأن يبدأ الأولاد دراسة لغتهم الوطنية وإجادتها أولاً وقبل كل شيء
6 - ألا يقبل بالرياض من كانت سنه أقل من خمس سنوات ولا يقبل بالتعليم الابتدائي إلا من كانت سنه ثماني سنوات ليكون الأطفال أقدر على التعليم والانتفاع بالدراسة والاستعداد لها مع صحة أجسادهم ونمو أفكارهم
7 - أن يعرض ما يقرر من الكتب قبل طبعه على لجان من أساتذة اللغة العربية لإقراره ونفي ما تراه من الألفاظ العامية والأعجمية التي تشوه اللغة وتفسد النطق وتنشر الخطأ
8 - ومما يدعو إلى مضاعفة العناية ما تشعر به اللجنة من أن مكتبة التلميذ العربية فقيرة أشد الفقر ليس فيها ما يحبب إليه المطالعة والأدب وأنها إذا قيست بمكتبة الأطفال في الأمم الحية لم تكن شيئاً مذكوراً. ومن الواجب المبادرة من الآن بإمداد المكتبات المدرسية حتى تنهض وتقوم بقسطها في الحياة المدرسية
مشروع وزارة المعارف العراقية لتعزيز تعليم العربية
رأت وزارة المعارف العراقية أن تأخذ بمشروع مهم لتعزيز تعليم اللغة العربية في المدارس. ولما كان أساس الموضوع يتصل بالمعلمين فقد اختطت الخطة الآتية:
1 - ستختار أكابر الأساتذة الاختصاصيين في تعليم اللغة العربية وآدابها للتعليم في دار المعلمين العليا في بغداد، وهؤلاء الأساتذة يستخدمون من خارج العراق
2 - ستختار أساتذة ضليعين في اللغة وآدابها وتعليمها الدار المعلمين من الخارج أيضاً
3 - ستستخدم جماعة من الأساتذة القديرين لتعليم العربية وآدابها في المدارس الثانوية(263/74)
الكاملة في أنحاء القطر العراقي بالاستعانة بأساتذة الأقطار الأخرى
4 - سيؤسس فرع خاص في دور المعلمين الابتدائية للغة العربية وآدابها يختار لها الطلاب ذوو المواهب الأدبية ويدرسون اللغة وآدابها بمنهج خاص (بجانب دراساتهم مواد دور المعلمين) ويرسم لهم اختصاصات معينة ليصبحوا بعد تخرجهم أساتذة مختصين لتدريس العربية وآدابها.
وبمقتضى هذا المشروع ستحتاج وزارة المعارف العراقية هذه السنة لاستخدام جماعة من أساتذة العربية وآدابها من الأقطار الأخرى ولاسيما مصر حيث يتوفر فيها وجود مثل هؤلاء المدرسين المطلوبين
محاضرة عن مصر القديمة في لندن
ألقى المستر امري العالم الأثري الذي اكتشف ضريح السلالة الفرعونية الأولى في سقارة محاضرة أمام الجمعية الآسيوية في لندن قال فيها: (من المحتمل أن تنقضي أعوام عديدة في الدرس والتحليل والمقارنة قبل أن نصل إلى إدراك نهائي لمعاني الرسوم الهيرغليفية المنقوشة على سبعمائة إناء صغير وجدت في هذا الضريح. فإذا أمكننا قراءتها وإيضاحها أرسلت شعاعاً نيراً مهماً على أحوال السلالة الأولى التي قل ما نعرفه عنها. أما حفر مقبرة سقارة فتم في أقل من عشر سنوات
ثم أشار المحاضر إلى احتمال العثور على اكتشافات أهم من هذه في المكان عينه. وقال: (أكاد أكون على ثقة بأننا سنجد ضريحاً ملكياً كبيراً. ونحن لم نكشف حتى الآن إلا جزءاً صغيراً من تلك المنطقة)
الإمام الاسفرايني وأبو حيان التوحيدي
ذكر في الجزء السابق من (الرسالة) الغراء أبو حامد أحمد ابن طاهر الأسفرايني، وروي له قول في الجدل. وفي الرواية شيء رأيت التنبيه عليه:
راوي المقالة هو أبو نصر عبد الوهاب السبكي صاحب (طبقات الشافعية الكبرى) وقد قال فيها في سيرة الإمام الأسفرايني (قال أبو حيان التوحيدي سمعت أبا حامد يقول الخ) فإن كان السبكي يقصد أبا حيان التوحيدي صاحب المقابسات والصداقة والصديق والإمتاع(263/75)
والمؤانسة فقد وهم فيما حكى؛ واليقين أن صاحب أبي حيان هو أبو حامد أحمد بن عامر المروروذيّ وقد ذكر السبكي نفسه في طبقاته أن (أبا حيان تفقه على القاضي أبي حامد المروروذي) وفي (بغية الوعاة) للأسيوطي: (قرأ أبو حيان على أبي حامد المروروذي) وقال ابن خلكان في (الوفيات) في سيرة أبي حامد هذا: (قال أبو حيان التوحيدي سمعت أبا حامد المروروذي يقول: ليس ينبغي أن يحمد الإنسان على شرف الأب ولا يذم عليه كما لا يحمد الطويل على طوله ولا يذم القبيح على قبحه) وإنما ورط السبكي في روايته التقاء الكنيتين والاسمين واتحاد المذهبين فكلاهما فقيه شافعي، وكلاهما إمام وهما في عصر واحد وإن سبق أحدهما إلى الدار الأخرى صاحبه، فوفاة المروروذي سنة (362) ووفاة الاسفرايني سنة (406)
وإذا ثبت أن مقالة الجدل للاسفرايني كان أبو حيان التوحيدي غيرَ ذاك الخبيث الشيطان صاحب (مثالب الوزيرين): ابن العميد والصاحب (وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى كثيراً) كما قال الفرزدق
وأقول مادمت في التنبيه والإصلاح: جاء في (قصة الكلمة المترجمة) في الجزء (260): (وقد ذكر ابن القطقطي في كتابه الآداب السلطانية والدول الإسلامية) صوابه ابن الطقطقي، الطاء قبل القاف
(ق)
كتاب جديد عن فلسطين
ظهر كتاب جديد عن فلسطين بعنوان (سرج فارس فقير) لمؤلفه دوجلاس دف وقد نشرته دار هربرت جنكنز
ولعل أهم ما يستوقف الأنظار فيه الاقتراح الذي يقترحه المؤلف لحل مشكلات الأرض المقدسة. فهو يقترح أن يتخلى اليهود عما يملكونه في الشمال من بئر سبع وأن ينتقلوا كتلة واحدة إلى (النجب)، ففي هذه المنطقة أربعة آلاف وخمسمائة ميل مربع من الأرض الصالحة للحرث حتى تسترد خصبها القديم المشهور. واليهود بما عرف عنهم من القدرة على استصلاح الأراضي ونشاطهم في تحويل الغامر عامراً خير من يقوم بهذا العمل(263/76)
ويشترط في هذا طبعاً أن يكونوا مستعدين لتحمل المشاق والمصاعب التي تعرضوا لها في بدء استعمارهم الحديث لفلسطين وأن يكون العرب الذين يقطنون في منطقة النجب مستعدين أن يغادروها لينزلوا الأراضي التي أصلحها اليهود في الشمال
وعند المؤلف أنه إذا صح هذا كان فاتحة عهد جديد في فلسطين. ومما يتصوره ويتوقعه إنشاء ميناء من الدرجة الأولى في العقبة في حالة نجاح هذا المشروع وشق طرق صالحة للمواصلات تؤدي إلى الأسواق المصرية وإنشاء مطارات كثيرة
ومؤلف الكتاب كان من رجال البوليس بفلسطين ويعرف البلاد وسكانها معرفة دقيقة، ولكن بعده عن فلسطين قطع ما بينه وبين تحول شؤونها في السنوات الأخيرة
على أن ذلك لم يحل دون نقده لليهود وانقسامهم ونقده للعرب وانقسامهم كذلك
وقد كتب السر متاجيو برتون توطئة للكتاب أشار فيها إلى خطة له من شأنها في رأيه أن تحل بعض مشكلات فلسطين، وقاعدة هذه الخطة منح العرب جميع الأراضي التي قررتها لهم لجنة بيل ماعدا يافا والنجب وتحويل الباقي إلى مستعمرة من مستعمرات التاج. ويكون هذا النظام تجربة. فإذا رؤى في سنة 1950 أن في الوسع استئناف الشركة العربية اليهودية فعندئذ تمنح البلاد كلها مقام دمنيون. وإذا تعذر استئناف الشركة بين العرب واليهود وظهر أن تجربة المستعمرة أصابت نجاحاً فعندئذ تمنح البلاد ماعدا الأراضي التي استولى عليها العرب مقام دومنيون وتستبقي بريطانيا حقوقاً دائمة في مرفأ حيفا وأنابيب النفط والمطارات
والكتاب في ماعدا ما تقدم تلذ مطالعته وإن غلبت عليه مسحة التشاؤم، لأن الكاتب وقد رأى بعينه حدة النضال بين فريقي العرب واليهود، قلما تلوح له بارقة أمل في إمكان الصلح بينهما(263/77)
الكتب
المعجم القضائي
تأليف الأستاذ خليل شيبوب
هذا سفر آخر ينضاف إلى (معجم النبات) للدكتور أحمد عيسى و (معجم العلوم الطبيعية) للدكتور شرف و (معجم الحيوان) للدكتور الفريق أمين المعلوف ليهيئ اللغة العربية إلى مجاراة الحضارة الثقافية لهذا العهد
إن اضطراب شأن المصطلحات في لغتنا أمر معروف. ولو أخذنا نرقب أعمال مجمع اللغة العربية في سبيل تقويمه لنفد الصبر قبل أن تنقع الغلة. فنهوض أفراد من العلماء والأدباء إلى تصنيف المعجمات المختلفة - وإن انطوت هنا وهناك على مغامز - أمر واجب وحقيق بالتنويه
فهذا الجزء الأول من (المعجم القضائي) لصاحبه الأستاذ خليل شيبوب الأديب الإسكندري والشاعر الابتداعي المعروف. وميزة هذا المعجم أنه يترسم المنهج العلمي للمصادر والمراجع القديمة والحديثة التي يقوم عليها، نحو (أحكام القرآن) للجصاص و (رد المحتار) لابن عابدين و (بدائع الصنائع) للكاساني و (تنوير الحوالك) للسيوطي و (كتاب الموافقات) للشاطبي ثم (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة) لعبد الرحمن الجزيري و (القانون الدولي العام) لسامي جنينة ومؤلفات أخرى أمثال نجيب الهلالي والسنهوري وعبد السلام ذهني
وقد استعان المؤلف - فوق هذا - بكتب أدبية، نحو (المخصص) لابن سيدة و (صبح الأعشى) و (نهاية الأرب) فأحسن، وهنا فات المؤلف أن يرجع إلى (مقدمة) ابن خلدون و (الأحكام السلطانية) ثم إلى المعجمات المقصورة على الاصطلاحات، مثل (التعريفات) للجرجاني و (الكليات) لأبي البقاء و (كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي، فضلا عن أنه أهمل تصانيف المستشرقين ولاسيما مباحثهم المنشورة في دائرة المعارف الإسلامية
ومن ينظر في هذا المعجم يطمئن إلى الطريقة التي أجرى عليها لما يلازم الفصول والفقر من البحث المطرد والتقصي والتفصيل. غير أن المؤلف قليلاً ما يثبت المظانّ، فيجهل القارئ آللفظة مما استعمله القدماء أم هي من وضع المحدثين
هذا ومما يحسن التنبيه إليه، على سبيل الإشارة، أن المؤلف - في تضاعيف معجمه -(263/78)
يقول:
(أ) ص88 - (جيش الاستعمار). والمراد (جيش المستعمرات) (لأن جيش الاستعمار) هو الذي يُجهَّز لفتح البلد المطلوب استعماره. وأما (جيش المستعمرات) فهو الذي يُعبأ من أهل البلاد المستعمرة. والعبارة الفرنسية تنظر إلى المعنى الأخير
(ب) ص231 - (طائفة) والمراد (ملّة) بمعنى جماعة دينية (ودليل ذلك (كتاب الملل والنحل) للشهرستاني و (المجلس المللي) عندنا في مصر. وأما لفظة (طائفة) بهذا المعنى فمستحدثة على ما أظن)
(ج) ص301 - (العرف. العادة) للمبادئ القانونية (المستمدة من التقاليد والعادات) والوجه أن لفظة (العرف) وحدها تفيد المعنى المقصود. وأما لفظة (العادة) فلها مدلول آخر معروف وإن جاور مدلول لفظة (العرف)
وبعد، فالمعجم في جملته نفيس لا سبيل عنه لمن يشتغل بالقضاء والمحاماة واللغة
ب. ف
علم النفس في الحياة
تأليف ماندر
ترجمة الأديب نظمي خليل
طبع بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
يعتبر علم النفس من العلوم الحديثة التي أخذت تهم جمهور الباحثين ولاسيما بعد أن انفصل من الفلسفة وأصبح له طابع العلم الصحيح. فبعد أن كان الباحث يحاول أن يقف على خصائص الروح ومواطن العقل وعلاقته بالجسم وغيرهما من المسائل الدقيقة الفهم، البعيدة المنال، أصبح الآن يفسّر جميع مظاهر سلوك الإنسان ويعالج مشاكله النفسية والاجتماعية بالطرق العلمية المعروفة وهي الملاحظة والتجربة
ولقد تقدم البحث في علم النفس في الخمسين سنة الأخيرة تقدماً كبيراً حتى تغلغل في سائر العلوم الأخرى كالطب والتربية والاقتصاد والقانون، كما نشطت حركة التأليف في علم(263/79)
النفس الاجتماعي ومحاولة تفسير جميع علاقات الإنسان في ضوء النظريات السيكولوجية الحديثة مما كان له أكبر الأثر في رقي المجتمع وسعادة الأسرة
ومن بين الكتب الحديثة التي عالجت هذا الموضوع، هذا الكتاب الذي عنيت بنشره لجنة (التأليف والترجمة والنشر) والذي ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ نظمي خليل ترجمة صحيحة تتوافر فيها دقة التركيب وجودة اللفظ وسلاسة الأسلوب
أما موضوع الكتاب فقد شرحه الدكتور (عبد العزيز القوصي) في مقدمته إذ قال: يبدأ الكتاب بالتحدث عن الأسس الأولية التي تتكون منها الشخصية ثم طريقة هذا التكوين ثم يعرض إلى وسائل تنمية العادات الطيبة واستئصال العادات الضارة، ويتخلل هذا الكثير من التفسيرات الصحيحة لغرائب السلوك عند الكبار والصغار، فهو يفسر لنا سلوك من نقابل من أخواتنا وأطفالنا وأصدقائنا وتلاميذنا وأزواجنا ورؤسائنا ومرءوسينا كما يفسر لنا الكثير من سلوكنا الخاص، وما يدخل في هذا السلوك من القوى والدوافع شعورية كانت أو لاشعورية، فطرية أو مكتسبة. ولا ريب أن هذا النوع من المعرفة يجعلنا أقدر على التعامل مع غيرنا ويجعل حياتنا أكثر احتمالا، وسعادتنا أقرب منالا)
فنحن نرحب بهذا النوع من التأليف العلمي الذي سيتيح لقراء العربية الوقوف على بعض تلك الموضوعات الشائقة والمسائل الدقيقة
(* * *)(263/80)
العدد 264 - بتاريخ: 25 - 07 - 1938(/)
قنطار ثمين
للأستاذ عباس محمود العقاد
رأيي في الجسم الجميل أنه الجسم الذي لا فضول فيه، وأنه الجسم الذي تراه فيخيل إليك أن كل عضو فيه يحمل نفسه، غير محمول على سواه
من هنا جمال الرأس الطامح، والجيد المشرئب، والصدر البارز، والخصر المرهف الممشوق، والردف الماثل، والساق التي يبدو لك من خفتها وانطلاقها واستوائها أنها لا تحمل شيئاً من الأشياء، ولا تنهض بعبء من الأعباء
بل من هنا جمال الحيوان الأعجم، وجمال المهر الكريم وقد اختال بعنقه وشال بذنبه، وضمر بدنه وأصبح في جملته كالكلام المختصر المفيد، أو الكلام المختصر البليغ، لأنه يبلغ حيث شاء
كان هذا هو الرأي المصري في الجمال قبل ببضعة آلاف من السنين، أيام كان المصريون سادة في الحياة وكان المثال الفائق عندهم لجمال الرجولة والأنوثة ما نراه على الهياكل من صور الرجال والنساء
ولم يكن هذا هو الرأي المصري في الجمال قبل بضعة أجيال، يوم ركد المصريون ركود البطء والكسل فأصبحت الكثافة الواهنة عندهم مقياس الملاحة والقسامة، وأصبح جمل المحمل و (التختروان) مثال الحسن المطلوب في النساء: تعلو المرأة السمينة وتهبط في مشيتها وما تنتقل شبراً في أقل من خطوتين، والمقرظون من حولها يهللون ويكبرون ويباركون الخلاق العظيم ويعوذون هذا الجرم الذي لا تمضي فيه السيوف من لحظات العيون، ومن حسد الحاسدين!
العالم كله يثوب إلى مذهب المصريين الأقدمين في جمال النحافة والرشاقة والنسج الدقيق، ومن العالم كله المصريون المحدثون
وشاع هذا المذهب بعد الحرب العظمى أشد من شيوعه في زمن من الأزمان، حتى غلا بعضهم فأوشك أن يلتمس الجمال في الهياكل العظمية، وهي على أية حال أجمل من هياكل الشحوم واللحوم!
أهي نفحة من نفحات الفن العلوي هبت فجاءة على أذواق الناس في العالم كله فأصبحوا(264/1)
جميعاً من صاغة التماثيل الملهمين؟
مثل هذه النفحات - فيما أحسب - أغلى وأرفع من أن تكال جزافاً للملايين في المغارب والمشارق، وبين الأذكياء والأغبياء، وعند من يحسون ولا يحسون
إنما هي (الطيارة) جزاها الله خيراً بما هذبت من أذواق وأصلحت من أخلاق
إنما هي (الطيارة) قد أتمت مذهب السرعة في كل شيء، والسرعة والخفة لا تفترقان، والخفة والسمنة لا تتفقان
فالرجل الذي يقفز من القاهرة إلى الإسكندرية في ساعة واحدة لا يلتفت بعد ذلك إلى امرأة تزن القناطير المقنطرة من الشحم واللحم، ليعجب منها في مشيتها بجمل المحمل والتختروان
والرجل الذي يصعد إلى السماء لا يصبر على حمل الجبال، فالملائكة وحدها هي التي تحسن الصعود إلى تلك الآفاق
وهكذا تعلمنا الآلات أحياناً كيف نشعر وكيف نتذوق الجمال وكيف نصحح الأذواق
على شاطئ الإسكندرية - والمصادفة من أجمل المصادفات - طيارة في الهواء، وفتاة على الأرض هي أولى بالطيران من تلك الحديدة الصاعدة؛ بل هي تطير ولا يتخيلها الناظر إلا طائرة تفلت من لحظات العيون وخطرات الأرواح
لا تحس العين أنها أدركتها، لأنها إذا أدركتها تأملت فيها وسرحت في معانيها، فإذا هي بعيد بعيد، أبعد من الفراش الذي يقع عليه الطفل فإذا هو على الغصن، ويثب إليه في غصنه فإذا هو في الهواء
تلك هي القنطار الثمين!
لأنها لا تزيد في الوزن على قنطار، ولم يخلق في الدنيا قنطار أثمن وأولى بالاقتناء منها، أيا كان معدنه ومبناه
جمالها يزيدك عجباً من دقتها، ودقتها تغريك بوزنها وتقويمها. فأما الوزن فهو ما علمت؛ وأما التقويم فهو ما لا تعلم وما لا يدخل في حساب، لأن هزة من الشعور قد تسومها بكنوز الأرضين والبحار، وهزة من الشعور قد تبذلها رخيصة لمن تهواه
قل إنها تساوى وزنها من ذهب(264/2)
وقل إنها تساوى وزنها من كريم الجوهر
فإنما الحياة هنا هي مقياس التقويم والتقدير، وما أحسب شيئاً في هذا العالم إلا ومرجع تقويمه إلى حظه من الحياة
وإلا فكم يساوى القصر المشيد إذا لم يشعر به الساكن فخامة وزهواً وجمالا وطمأنينة وراحة، ولم يشعر به الناظر هيبة واستحساناً ورغبة؟
وكم تساوى السيارة إذا لم يشعر بها راكبها ولم يشعر بها ناظرها ولم يشعر بها من يملكها ومن يتمناها؟
إنما (الاقتصاد) الصحيح هو اقتصاد (الفنان) لا اقتصاد السماسرة وحملة السهوم ومديري المصارف والشركات
إنما الاقتصاد الصحيح هو الذي يقومَ هذا القنطار الثمين فإذا هو أثمن من كل قنطار في معادن هذه الدنيا، لأن ما يحويه من ذخائر الشعور أكبر وأنفس من كل مملوك ومذخور
وإنه ليرخص بالشعور كما يغلو بالشعور. فدع قنطارنا هذا الثمين يهيم حباً بمن شغل عنه، ثم أنظر كم يكون له من ثمن، وكم يكون له من وزن وكم يكون له في رأي نفسه من حساب وتقويم!
وما ندري أمن حسن الحظ أم من سوئه كما يقولون أننا نشعر بالقصور ولا تشعر بنا القصور!!
وإلا فلو وهبت كل قنية ثمينة نفسا تريد هذا المالك ولا تريد ذاك فماذا يبقى من الأثمان؟ وماذا يبقى من البيع والشراء؟
هذا القصر يبذل نفسه لمن يريده بغير ثمن، ويأبى أن يأوي إليه شارٍ غيره ولو بذل فيه ألوف الألوف؛ فهو تارة بدرهم وتارة بالألوف المؤلفة من الدنانير، وهو تارة أخرى بالمجان لمن لا يسومه حتى بهذا الثمن الرخيص
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الشعور هو (وحدة) التقويم والتسويم في كل ما نملك وما نريد، وأن الذين يشبعون من الحياة هم أغنى الناس وأعظم أصحاب الثراء، وان لم يعرف لهم اسم في خزانات المصارف ودفاتر الشركات
أنت يا بنية ذخيرة في الحياة(264/3)
أنت يا بنية كنز من الفتنة والحب والمتعة واللذائذ والآمال والأشجان والأحلام
أنت يا بنية قنطار ترخص عنده قناطير الذهب والفضة وقناطير الجواهر والفصوص.
أنت كل هذا حتى يأخذ منك الشعور ما أعطاك الشعور. وسألت من خلقك هذا الخلق السوي إلا يأخذ منك إلا بمقدار ما يعطيك، وألا يرغبَك إلا بمقدار ما يرغب فيك، فليس آلم من هوان النفيس عند الصيرفي العليم بالحياة إلا نفاسة الهين الزهيد
أنت يا بنية هكذا في لغة الزمان الذي لا نسمع فيه إلا (كم نقصت فلانة) وكم زاد فلان؟ وكم يساوى هذا وتلك في أسعار الأوان؟
وعلى مقربة من (مثابة) الإسكندرية ما أشبه هذه اللغة بأسلوب المكان!
على شاطئ الإسكندرية ثروة لمن أحب الغنى
ثروة لم يملكها قارون عند من يحسب موارده بحساب الحياة وكل ما تتقاضاك من جهد بضع نظرات
عباس محمود العقاد(264/4)
بين الشرق والغرب
رد على رد
للأستاذ فليكس فارس
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أي صديقي أدهم إن الغرب لا يرتقص على براكين من النار إلا لحفرة مثل هذه الآيات القاتلات على ألواحه. . .
أن صاحبك هابل الكاتب الذكي الذي قام بدور له شأنه في عالم الأدب لا يقصد الجدَ فيما يقول، بل هو يتهكم تهكماً ويقول للناس: إن العقلية الشرقية تلائم الحياة الباقية، (فإذا) انتقلتم إلى الأخرى فهناك اتبعوا وحي هذه العقلية!
إن (إذا) لا تفيد الظرفية هنا بل تفيد شرطاً ممتنعاً وما هي إلا أداة تحَد صريح وإنكار مطلق لكل ما لا يقع تحت الحواس الخمس، فكأنك أيها المناظر الكريم وأنت تدعونا إلى اقتباس العقلية الغربية، تهيب بنا مع صديقك هابل آدم إلى الاعتقاد بالعدم قبل الحياة وبعد الحياة. فهل يجاريك علماء الغرب الذي نباهي بحضارته؟ هل يوافقك من يدعون أهل الشرق معك إلى الاتجاه نحو الحضارة الغربية في القول بأن هذه الحضارة الآرية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلاُ عن طريق الإلحاد؟
إن حضارة الأقوام التي ترغب إلينا أن نقتبسها إنما بنيت في تاريخها القديم كما بنيت في تاريخها الحديث على الاعتقاد بحياة أخرى. وما تدعوه (منطق الغرب الإثباتي) الذي ورثه الرومان عن الإغريق هذا المنطق الذي تنكره على العرب لأنهم ذوو استلهام ولأنهم يؤمنون بالغيب ويوحدٌون علة الوجود، إنما هو منطق نشأ في ذهنية فلاسفة كانوا يؤمنون (بأولمب) يغص بالآلهة ذكوراً وإناثاً؛ تلك كانت حضارة الغرب القديمة لم تقتل المنطق فيها حتى عبادة الأوثان ولكنها لم تكن إلاُ حضارة غاشمة شطرت فيها الإنسانية إلى شطرين: الإنسانية المتنعٌمة. والإنسانية التي تعرق دماً تحت لسعات السياط
أما حضارة أوربا الحديثة ففقد قامت على ما نعلم بتعاليم عيسى، وإذا كان قد بقى فيها شيء من الرحمة فهي من آثار موعظة هذا الناصري على جبل من جبال الشرق. وإذا كان قد(264/5)
هبٌ فيها بعد انتصار شارل مارتل من دعوا إلى إصلاح المسيحية فما كان صوت هؤلاء المصلحين إلاٌ صدى للصوت الذي دوى في صحراء العرب منذ ثلاثة عشر قرناً. . .
إن الإيمان الشرقي الذي يدعوه المناظر نسكاً أسيوياً لم يحل إذاً دون سير الغرب على سبيل الاكتشاف والاختراع، وما منع باستور إيمانه وتدينه من اكتشاف الجراثيم وإيجاد أمصالها لإنقاذ الإنسانية من أفظع أدوائها. وما كان أديسون وماركوني ومن تقدمهما من المخترعين إلا من المؤمنين بالله وباليوم الأخير
إن الدكتور أدهم يريد أن يميز بين عقلية الشرقي وعقلية الغربي فيقول إن الأولى مستسلمة (محضاً) للقضاء والقدر تخضع للغيب، والثانية تناضل نضالاً (محضاً) ضد الغيب.
أما أن يكون الشرقي هذا المستسلم الضعيف فمما يكذبه التاريخ، تاريخ المسيحية وتاريخ الإسلام على السواء، فما كان المسيحيون الأولون ليجبنوا حتى بين أشداق الأسود، وما كان المسلمون إلا مجاهدين بالجهادين، توكلوا فما تواكلوا وسلموا أمرهم لله فما استسلموا لزعازع الحياة بل أرغموها إرغاما ليسيطروا عليها بمكارم الأخلاق.
أما قول المناظر بأن العقلية الغربية تناضل ضد الغيب فقول فيه جنوح في التعبير، ولا نعتقد أن الدكتور أدهم يقصد الغيب بل أسرار المادة وما يكمن فيها من تفاعل، لأن الغرب إنما هو من هذه الإنسانية التي حُدت قواها فوقفت واجمة أمام نظام الكون وسرّ الحياة والموت، وما نعلم أن العمل على درس خفايا المادة كان وقفاً على الغرب دون سواه، وقد رأينا العرب يذهبون إلى أبعد الأشواط في هذا السبيل.
هذا وأن الحضارات قد توالت على هذه الغبراء فكان لكل أمة دورها في الاعتلاء والانحطاط، فما تراث الذهنية العلمية إلا مشاع لكل رأس فيه دماغ يفكر لاستخدام عناصر الطبيعة لمنفعته.
ليس هنالك إذاً عقلان عقلٌ للغرب وعقلٌ للشرق في ميادين الاستقراء؛ غير أن هنالك فطرة أو ثقافة تختلف بين شعب وشعب. وقد أراد المناظر أن ينكر استقلال الثقافة الأدبية عن العلم الوضعي فأسماها روحاً كأنه يمحو أثرها باستبدال اسمها.
لتكن الثقافة روحاً كما يريد الدكتور أدهم، فلماذا يطلب حضرته أن يلفظ أبناء الشرق روحهم لتتقمص روح الغرب حضارتهم؟(264/6)
ثم أليس من غرائب المنطق أن يقول المناظر بفرعونية مصر وبتمردها على العروبة نيفاً وثلاثة عشر قرناً ثم يطلب منها أن تتفرنج بين عشية وضحاها؟
إذا كان ما يرمي إليه الدكتور أدهم من تفرنج مصر دفعها إلى طريق الرقى العمراني فقد أثبتنا له أن مصر كسائر البلاد العربية تأخذ بالحكمة السامية: (اطلبوا العلم ولو في الصين) فلا تأنف من الأخذ بعلوم أوروبا الوضعية كما أخذ أجدادنا بعلوم الإغريق من قبل دون أن (يستغرقوا) فعلام يراد منا أن (نستغرب) نحن؟. . .
ما هي الفائدة التي يرجوها المناظر لمصر إذا هي أنكرت إيمانها وأفسدت لغتها وتغنت على الأنغام الإفرنجية التي تتنافر مع ذوقها وحتى مع مخارج ألفاظها، ورَّقصت أبنائها وبناتها متفاخذين متباطنين متناهدين؟. . .
أية فائدة نرجوها لمجتمعنا إذا نحن أعرضنا عن الأخذ بحضارة ثوت مبادئها العليا في سرائرنا لنصبح كالقردة مقلدين نتحرك تبعاً لحوافز غيرنا؟
وأخيراً لا يظنن مفكرٌ أننا نقصد بالحضارة العربية هذه الحالة الراهنة التي أوصلتنا إليها قرون من الويلات والعبودية لأرهقتنا حتى تنكرت لنا أنفسنا
لقد طغت على مجتمعنا في معتقداته وفي نظم أسرته وفي آدابه وفي حكوماته دخيلات من متخلفات جميع العصور وجميع الأمم، فنحن اليوم أشبه بنبيل أخنى عليه الدهر فأجاعه، فهو يأكل من فضلات موائد الأمم، ومزّق ثوبه فهو يستر عورته بترقيعه ملتقطاً له الخرق أمام كل بيت غريب، ومن كل مزبلة تعترض طريقه.
أما والله ما يُهيب بنا إلى الدعوة لإقامة حضارة عربية شرقية بهذه الأوطان إلا الاشمئزاز يستذرف الدمع لما يصدم سريرتنا كل يوم من هذه المساخر تتمشى وهي لا تبالي على قبور الأجداد وعلى مهود الأطفال
وقد يكون هذا النفور نفسه ما يدفع بالمفكرين الأجانب حتى وبعدد من مفكري العرب أنفسهم إلى الإهابة بالشرق للنهوض من كبوته ليستبدل بروحه الراقدة روحاً غربية ناهضة
إنها لعاطفة قد يكون الألم والإشفاق مصدريها، ولكن العربي الأصيل بما يسمع في أجواء نفسه من هتاف القبور لا يقطع الرجاء من حقه في الحياة
لقد ذهبت الطوائف الدينية كل من جهتها مذاهب جد غريبة عن روح الدين الذي أنار الدنيا(264/7)
من مشارقها حتى أصبح من الأسهل عليها أن تعتنق الإلحاد من أن تقضي على تعصبها وتطرح التآويل التي تقضي على اتحادها على الأقل في إقامة حضارة تكفل حياتها
لقد تبلبلت النظم الاجتماعية بيننا إلى درجة يسهل على شعوبنا فيها أن تُغرق فطرتها الأصلية المريضة في تيارات مدنية الغرب من أن تستفيد منها قوتها وتعمل على شفائها
إن الاندفاع إلى الأغوار أسهل على المتعب من العودة إلى تسلق الذرى التي انزلق عنها
ولكن أترضى النفوس العربية النابهة التي لا تجهل ما يكمن في هذه البلاد من قوى أن تتخير الجمود فلا تقوم بواجبها لتحول دون انتحار شعب بزغت أنوار الهداية من آفاقه وبقيت حضارته مدى أربعين قرناً محوراً لتيارات التفكير في العالم؟
لتكتب الأقلام العربية في هذا المطلب، لتملأ الصحف السيارة بالآراء، وليتناقش المفكرون
إن كل أمة قد مرَّت على مفرق الطرق قبلنا لم يتأخر مفكروها عن وضع الكتب الضخمة فالتهمها الشعب الحائر التهاماً، أما هنا فمن العبث أن نعقد الفصول الطوال في كتب عناوينها نفسها تنفر جمهور القراء منها
لقد نشرت في العام المنصرم كتاباً بعنوان (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) فاستنفد نصف نسخه في بلاد المهاجر حيث يعرف النازحون قيمة الوطن، وحيث يشعرون بغربتهم في حضارات ليسوا منها وليست منهم. أما هنا في الأقطار العربية فلم يقرأ كتابي إلا أربعمائة قارئ أهديتهم إياه وثلثهم أو أكثر لم يتفضل بإرسال بطاقة أعرف منها وصول الكتاب إليه
إن معظم القراء يهتمون للمشاكل الراهنة الجوالة من الأمور السياسية والإدارية التي تؤثر في حياتهم في يومهم، فنحن نعيش لعصرنا كأننا لا نترك على أرض الشرق أبناءنا وأحفادنا
لقد تناولت في رسالة المنبر بحث ما نحن عليه الآن وما يجب أن نأخذ به من حضارة تتوافق وسرائرنا وأحوالنا، فإن أنا أردت استيفاء موضوعي الآن حقه اضطررت أن أنشر كتابي برمته على صفحات الرسالة. فلأكتفين الآن بإيراد فقرة من مقدمته أجعلها ختاماً لهذا الرد
(إنني مازلت معتقداً منذ قدر لي أن أعتلي المنابر أن هذه البلاد العربية مستودع لأشرف الثقافات ومكمن لأسمى المواهب، وإن من واجبي أجناد المنابر والأقلام فيها إظهار هذه(264/8)
القوات لأبنائها نزوعاً بهم عن الانقياد لدخيلات العادات والأخلاق التي تغلبت عليهم بما أوجدوه من التوهم في أنفسهم فاستصغروها.
إن كلاً من سلالات العالم تنتفض الآن لتنبه ما يكمن في قومياتها م حوافز وهي تناوئ قوميتنا الساميّة منزلتها منزلة تنحط عن مراتب الشعوب الآرية. فالأقوام المنتشرة في جزيرة العرب وفلسطين وسوريا ولبنان ووادي الفرات ووداي النيل وعلى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط وشواطئ البحر الأحمر تدمغها حضارات الغرب والعالم الجديد بطابع التواكل والخمول، في حين أن القومية في الشرق العربي لا تقف تجاه السلالات المنكمشة على ذاتها في العالم موقف كتلة تبني وحدتها على المميزات الجسمية مفتشة عن الوحدة في الأنساب والعروق بل هي تبنيها على المميزات الروحية في حوافز أصبحت فطرة لكل سلالة قديمة توطنت هذه البلاد التي خشع عظماء العالم تحت سمائها الصافية وفوق أرضها المطهرة بدماء الشهداء من أجل الإخاء الإنساني والحق المطلق. فإذا ما افتخرت قوميات الدنيا بالعرق، فإنما نحن نباهي بالفكرة الحية السماوية التي أقامت من شتاتنا أسرة واحدة كلمة التعارف بينها اسم الواحد الأحد رب العالمين)
فليكس فارس(264/9)
حظي بالشيء. . .
الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري المنصورة، اليازجي. . . .
. . . . .
لأستاذ جليل
- 1 -
روى الكاتب الألمعيّ الأستاذ محمد سعيد العريان في مقالاته الرشيقة الرافعية شيئاً من حكاية هذا الفعل: (حظي بكذا) وأعلن - وهو صديق أبي الساميّ الصادق المَصدق - أن صاحب هذا الاسم: (أديب صغير) في (البلاغ) هو الأديب الكبير الأستاذ مصطفي صادق الرافعي (رحمه الله) وإنه ليؤيد إعلان الأستاذ (العريان) بلاغةٌ في القول المعزو إلى فقيد العربية وبراعة ولباقة بتصريفه وتوجيهه حيث يشاء. وهل يقدر على مثل ذلك إلا الأديب المقتدر، إلا الأديب الرافعي
ومما ينفع الأدباء ويخدم به هذا اللسان أن يروى في (الرسالة) مجلة العرب، وسيحل اللغة والبلاغة والأدب - ما قيل في تغليط من قال: (حظي بالشيء) وتصويبه
وحظي بكذا، وفاز به، وحصّله، وأدركه - من المترادف والفعل الأول هو في الكلام العربي وفي أقوال كبار، ولم يُخَطَّأ إلا في هذا الزمان، خطأه الشيخ إبراهيم اليازجي اللغوي الكبير في مجلته (الضياء) في ثلاثة مواضع، وخطأ الأديب الكبير الأستاذ الرافعي (رحمه الله) في (البلاغ) وصوّب قائليه المرحوم العالم الفقيه الشيخ حسين والي: (المجمع اللغوي) والأستاذ (أزهري المنصورة)
وسأورد في هذه الفصول من أقوال المغلطين والمصوبين ما يستوجبه البحث وما يفيد ثم اتبعه طائفة من شعر القوم وكلام الأئمة تحق صحة ذاك الفعل. وهناك الشرح والتعليق إذا اقتضتهما حال
وإني لأجهر اليوم كجهري أمس بأن هذا الذي أمليه - وهل كاتب غيري في أدب الرافعي في (الرسالة) أو غيرها إلا مثلي - هو من إحسان الأستاذ (العريان) ومن معروف الأستاذ (الرافعي) المفضل الجاري على العربية في الحياة وفي الممات(264/10)
فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعاً
والرافعي في أدبه أعظم ممن قيل فيه هذا البيت في كرمه
أديب كبير شعر فجوّد، ثم نثر فبهر، وكان (وحيُه) في (الرسالة) فكان ختام كلامه في حياته مسكاً
وفي هذا المقام أقول: إن أخطأ كبير في لفظة أو مقالة فهذا دليل الإنسانية، برهان أنه إنسان، وأيّ أديب لا يخطئ؟ وأي عالم لا يهفو؟ وأي عظيم ما زل؟ (ومن ذا الذي ترضى سجياه كلها) كما قال بشار
ولن يضع من فاضل باحث خفيت عليه في مباحثه خافية أو خافيات ثم بُيِّنت له - أن يتقبل هذا التبيين أو التذكير بقبول حسن، فإن كان ثمة نقص تمم، أو كان خطأ اصلح، أو كان لبْس وضح؛ إنه العلم ينوره ويَزبنه التحقيق، وإنه العالم يجله ويعليه الإذعان للحق
ومن مزايا الأدباء المهذبين، والفضلاء الكاملين، والعلماء المسلمين - العملُ بقول الله: (ولا تبخسوا الناس أشياءَهم).
كان (مجمع اللغة العربية الملكي) - وقد قيلت في تكوينه أقوال، وأي شيء أو أي شخص في هذه الدنيا يخلص من القيل والقال - واجتمعت رجاله من العرب والعَربَانيين في داره في شارع (ابن ارحب) في (الجزيرة) في 14 من شوال سنة 1352 ولم ينشد المنشد في ذاك الجمع بيت المتنبي:
تجمع في كل لِسْن وأمة ... فما تفهم الحُدّاث إلا التراجم
بل أنشد بيت البحتري:
إذا تقاربت الآداب والتأمت ... دنت مسافة بينِ العجم والعرب
وقال رئيسه (كلمة الافتتاح) وفيها تحية الأعضاء، والترحيب بهم وتهنئتهم، ثم تلفظ عضو ب ـ (كلمة الشكر) شكر فيها للرئيس تحيته، ودعا لحضرة صاحب الجلالة الملك الذي (رفع شأن مصر بين الأمم وشأن الدين الإسلامي واللغة العربية بهذا المجمع) ثم أرسلت الجماعة إلى (حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء) بهذه البرقية:
(قصر عابدين
حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء(264/11)
أرجو أن ترفعوا إلى السُّدة الملكية السامية، أن أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي، المجتمعين من مصر والبلاد العربية والغربية، في عهد حضرة صاحب الجلالة المليك المعظم - ذلك العهد الناهض باللغة العربية وآدابها المزدهر بالعلوم والفنون - يتضرعون إلى الله تعالى أن يمن على جلالته بالشفاء التام، والصحة الكاملة، ليحظى المجمع بتشريف جلالته لافتتاحه قريباً إن شاء الله تعالى، وينتهزون هذه الفرصة لرفع ولائهم وإخلاصهم إلى صاحب العرش المُفَّدى
30 من يناير سنة 1934
عن أعضاء المجمع
محمد توفيق رفعت)
قلت: يا ليت، يا ليت أن القوم استبدلوا التاريخ الإسلامي في برقيتهم بهذا التاريخ الفرنجي
فملتنا أنّنا مسلمون ... على دين صدّيقنا والنبي
حدّثت الجرائد في اليوم الثاني (15 شوال 1352) أَخبارَ المجمع، وأوردت فيها تلك البرقي، فظهرت في جريدة (البلاغ) المشهورة في 16 شوال 1352 كلمة عنوانها (أول الغلط من المجمع اللغوي) للأستاذ (أديب صغير) وهو الأديب الكبير الأستاذ الرافعي (رحمه الله) قال فيها:
(قالت إحدى الصحف إن حضرات أعضاء المجمع اللغوي اجتمعوا: إلى أن قالت: واتفقوا على إرسال البرقية التالية ورفعها إلى الأعتاب الملكية وهذا نصها) ثم ذكر البرقية ونقد اضطراباً في أسلوبها العربي رآه ثم قال: (وما لهذا كتبنا هذه الكلمة وإنما كتبناها لنسأل حضرات أعضاء المجمع اللغوي في أي كلام فصيح جاء مثل هذا التعبير (ليحظى المجمع بتشريف جلالته) وهل يجوز استعمال الباء مع حظي ثم هل يعرف حضراتهم كيف دار هذا الفعل (يحظى) في كلام المتأخرين، ومن أي معنى أخذوه، وكيف مكنوا له في استعمالهم هذا التمكين؟ فإنهم إن عرفوا هذا كان ذلك نقداً آخر. ويقولون (تشريف جلالته لافتتاحه) ففي أي كلام عربي يستعمل التشريف بمعنى الحضور؟ إنا نسمع العامة يعظمون الضيف فيقولون (شرفت) وهم بالطبع لا يريدون معنى حضرت إذ يكون هذا عبثاً من الكلام. غير أن المجمع اللغوي استعمل التشريف بمعنى الحضور، وهو خطأ شائع)(264/12)
اطلع المجمع اللغوي على هذا النقد فنشر المرحوم الشيخ حسين والي في (البلاغ 17 شوال 1352) كلمة عنوانها (نقد في غير محله) قال فيها:
(نشر البلاغ (لأديب صغير) مقالة بعنوان (أول الغلط من المجمع اللغوي) ينقد فيها كما زعم كلاماً هو في الحقيقة رفيع وَفْق أصول البلاغة والحال التي اقتضت، ولم تنحرف كلمة منه عن جادة العربية) ثم أشار إلى سداد الكلام واطراده ثم قال: (وقال الناقد (وهل يجوز استعمال الباء مع حظي) نعم يجوز فقد قال الزمخشري في أساس البلاغة (وحظي بالمال وتقول ما حلي بطائل ولا حظي بنائل وأحظاه الله بالمال والبنين) وقال الناقد (ويقولون تشريف جلالته لافتتاحه وفي أي كلام عربي يستعمل التشريف بمعنى الحضور) لم يستعمل التشريف بمعنى الحضور، وإنما استعمل بمعناه الأصلي ومعموله مفهوم أي تشريف جلالته إياه، فليرجع الناقد إلى علم البلاغة)
الإسكندرية
(* * *)(264/13)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 5 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: تلميذ سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (رداً على جورجياس) وإذاً فمادام البيان ليس هو الفن الوحيد الذي ينتج الإقناع، ومادامت هناك فنون أخرى تنتج من الإقناع بقدر ما ينتج البيان، فمن حقنا أن نسأل زيادة على ما تقدم (كما سألنا في موضوع المصور): بأي إقناع يختص البيان؟ وما موضوع ذلك الإقناع؟ ألست ترى أن هذا السؤال الثاني مناسباً؟
ج - إنه لكذلك(264/14)
ط - فاجب إذا مادمت تراه مناسباً
ج - حسن يا سقراط. إنني اعني الإقناع الذي يؤُخذ به في المحاكم والجمعيات الأخرى العمومية كما قلت منذ هنيهة، والذي يتعلق بالأشياء الظالمة والعادلة
ط - لقد كنت أشك في أنك تعني حقيقة هذه الأشياء وذلك الاقناع، ولكنني أسألك مع ذلك من جديد، وأرجو ألا تعجب إذا طلبت منك في مجرى الحديث أن تشرح ما يبدو واضحاً من الأشياء، إذ لست أفعل ذلك من أجلك كما قلت قبلاً وإنما أفعله من أجل البحث كيما يتتابع منتظماً، وكيما لا تتذبذب أفكارنا إزاء الأوهام البسيطة يمنة ويسرة، وكيما تستطيع أنت أخيراً أن تكمل القول حسبما تشاء، ووفقاً لما تضع من أصول.
ج - أرى أن ليس هناك أحصف من ذلك السلوك يا سقراط
ط - فلنتقدم إذاً ولنبحث ذلك أيضاً: أتسلم بما يُدعى (معرفة؟)
ج - نعم
ط - وبما يدعى (عقيدة؟)
ج - نعم
ط - وهل ترى أن المعرفة والعقيدة - أي العلم والاعتقاد شيء واحد أو شيئان مختلفان؟
ج - أرى يا سقراط أنهما شيئان مختلفان
ط - إنك تقول حقاً، وتستطيع أن تحكم على هذا النحو إذا سألك سائل قائلاً: هناك يا جورجياس اعتقاد باطل وآخر حق؟ ألست ستوافقه على ذلك دون ريب؟
ج - بلى
ط - ولكن ماذا؟ أهناك بالمثل علم باطل وآخر حق؟
ج - كلا بالتأكيد
ط - فواضح إذاً أن الأمر ليس واحداً؟
ج - ذلك صحيح
ط - ومع ذلك فأولئك الذين (يعرفون) يقتنعون كما يقتنع أولئك الذين (يعتقدون)
ج - أوافقك على ذلك
ط - وإذاً أنستطيع أن نضع نتيجة لذلك نتيجة لذلك نوعين من الإقناع، أحدهما ينتج(264/15)
الاعتقاد من غير علم، والآخر ينتج العلم فحسب؟
ج - حسن جداً
ط - وأي هذين النوعين يستعمله البيان بالمحاكم وبالجمعيات الأخرى في موضوع العدل والظلم؟ أهو الذي ينتج العقيدة بلا علم؟، أم هو الذي ينتج العلم فحسب؟
ج - واضح يا سقراط أنه هو الذي ينتج العقيدة
ط - فالبيان إذا - كما يلوح - عامل الإقناع المولد (للاعتقاد) في موضوع العدل والظلم، لا المولد (للمعرفة) في ذلك الموضوع؟
ج - نعم.
ط - ولا يُعنى الخطيب في المحاكم وغيرها من الجمعيات بتعليم العدل والظلم، ولكنه يسعى فقط لحمل الناس على (الاعتقاد) بهما. ثم هو لن يستطيع أن (يُعلم) أفراداً كثيرين دفعة واحدة مثل تلك الموضوعات الخطيرة في وقت قليل كهذا
ج - كلا بلا شك.
ط - وإذ قد قررنا ذلك أرجو أن نبحث عما ينبغي أن نقوله في البيان لأني لم أكون بعد فكرة دقيقة عما يجب أن أقوله فيه. عندما يجتمع أهل المدينة ليختاروا الأطباء وبناة السفن ومن عداهم أنواع الصناع، أليس صحيحاً أنه سوف لا يكون للخطيب أو (رجل البيان) هنا نصيحة يقدمها، مادام واضحا أنه يجب أن نختار الأكفأ والأمهر في كل من هذه المهن؟؟ وبالمثل في بناء الأسوار والمواني ومصانع الأسلحة: ألا نأخذ بآراء المهندسين؟؟ بل وعندما نتناقش في اختيار أحد القواد أو في النظام الذي نتقدم به نحو العدو أو في الموانئ التي يجب أن نستولي عليها: ألا يبدي هنا رجال الحرب رأيهم من دون الخطباء؟؟ ما رأيك في هذا يا جورجياس؟ إنك رجل بيان، وإنك لقادر على تأليف الخطب، فأنت خير من يتوجه إليه المرء لمعرفة أساس فنك، وتستطيع أن تصور لنفسك فضلاً عن ذلك أنني أعمل هنا من أجل مصلحتك. وأنه قد يوجد بين المساعدين من يرغبون في أن يكونوا تلاميذ لك كما ألاحظ في الواقع، ومن هم كثيرون في العدد إلى حد كبير، ولكنهم قد لا يجرؤون مع ذلك على توجيه الأسئلة إليك. .؛ وإذا فأقنع نفسك بأنني عندما أسألك فإنما أفعل كما لو كانوا هم أنفسهم يسألون قائلين: ماذا عساه يحدث لنا لو قد أخذنا بدروسك يا(264/16)
جورجياس؟؟ وعلى أي أساس نعتمد عندما نسدي النصح إلى مواطنينا؟؟ أنعتمد على العدل والظلم فحسب؟ أم أيضاً على تلك الموضوعات الأخرى التي تكلم عنها سقراط تواً؟؟. فحاول إذاً أن تجيبهم!؟
ج - أريد في الواقع يا سقراط أن أوضح بالتدريج كل خصائص البيان لأنك قد وضعتني تماماً في الطريق حقاً وأحسب أنك تعلم يقيناً أن مصانع أسلحة الأثينيين وأسوارهم وموانيهم إنما أنشأت برأي (تمستوكل) من ناحية، وبرأي (بركليس) من ناحية أخرى دون أن يؤخذ رأي واحد من الصناع!
ط - اعلم يا جورجياس ما يقولون عن (تمستوكل). أما (بركليس) فقد سمعته بنفسي عندما كان ينصح الأثينيين بإقامة سور (مينشي)
ج - وهكذا ترى يا سقراط أنه عندما نحتاج إلى بحث الموضوعات التي تتحدث عنها فهم الخطباء الذين ينصحون والذين يعلو رأيهم!
ط - وهذا ما يثير العجب في نفسي أيضاً يا جورجياس، وما قد دفعني إلى توجيه السؤال إليك عن خواص البيان طوال ذلك الوقت. ويلوح لي أن دراسة تلك الخواص على ذلك النحو عظيمة للغاية
ج - إذا عرفت كل شيء يا سقراط فسترى أن البيان يحوي على ذلك الرأي جميع خصائص الفنون الأخرى. وبرهاني على ذلك قاطع ومؤثر. إذ كثيراً ما دخلت مع أخي وأطباء كثيرين على مرضى معينين ممن كانوا لا يتناولون جرعة الدواء ولا يقاسون الحديد والنار بسبب عجز الطبيب عن كسب نفوسهم؛ وممن نجحت أنا أخيراً معهم دون مساعد غير فن البيان. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(264/17)
دراسات للمستشرقين
قيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن
للعلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر
- 2 -
ذكر الأستاذ ي. شاخت في بدء مقدمته لكتاب للمطالعة في تاريخ الأديان عنوانه:
' ,) 1931.) (الإسلام، باستثناء القرآن) أنه استبعد القرآن من كتابه لأنه كما قال (توجد للقرآن تراجم وافية بالحاجة وبعض التراجم الألمانية كاملة وافية، وعلى المرء أن يختار منها ما يشاء) ويصح أن يشمل حكمه هذا المترجم الإنجليزية أيضاً، التي يعتبرها الكثيرون أحسن التراجم (وإني أضع اعتبارهم هذا موضع التساؤل، كذلك يصح أن يشمل حكمه هذا الترجمتين الفرنسيتين الأولى لكازيمرسكي والثانية لمونتيت كما يشمل الترجمة السويدية لزترستين والترجمة الإيطالية لبونللي وبعض تراجم أخرى
سبق لي أن كتبت ما يلي سنة 1906: - (لا يداخل الذي تعمق في أسرار العربية شك في أنه لا يوجد بين تراجم القرآن - سواء كانت ترجمة كاملة له أو هي قاصرة على بعض آيات منه - ترجمة تفي بالمطالب اللغوية الدقيقة) راجع , ? - , , 34 , 1وذكر شوالي رأياً قريباً من هذا في:
(2 ? ' , 219)
إذ قال: (رغم الخطوات الكبيرة التي اجتازها في البحث في القرآن منذ سال لا توجد حتى اليوم ترجمة له تثبت أمام هذا العلم أو أمام التفسير) وذكر باريه في:
, , - , 1935 , 122):
(لابد من إيجاد ترجمة للقرآن صالحة للاستعمال يصح الاعتماد عليها) وراجع أيضاً اقتراح صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشريف والمقدمات المنطقية للفتوى التي أصدرها علماء الأزهر في شأن ذلك الاقتراح، وفيها يعربون عن رأيهم في أن التراجم الموجودة للقرآن فيها (أغلاط كثيرة)
وعلى أي حال فإني لازلت إلى اليوم أعزز رأيي الذي صارحت به عام 1906(264/18)
وليست ترجمة القرآن بالأمر الهين، فقد تنحى عنها أشهر المستعربين من العلماء المستشرقين أمثال رايسكه وساسي وفليشر وده غويه و ? نولدكه وجولدزهر وغيرهم لأسباب منها على الأقل إدراكهم كبير صعوباتها. ولقد كان أغلب مترجمي القرآن مستعربين من الطبقة الثانية، بل ومنهم من هم دون الطبقة الثالثة والرابعة
على أن أهم الصعوبات التي تعترض مترجم القرآن ويتحتم عليه التغلب عليها هي:
1 - كلمات وجمل غير قليلة وردت في القرآن لها معنى مبهم أو لها أكثر من معنى. وقد تأيد ذلك في موضع جدير بالاهتمام (السورة الثالثة الآية السابعة - مصحف ميري).
وَهُوَ الذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتُ هُنَّ أُمٌّ الكِتَاَبِ وَأُخَرُ مُتَشَاَبِهَاتٌ، فأَمَّا الذينَ فيِ قُلًوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَبِعُونَ ماَ تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابتِغْاَءَ تأَوِيِلِهِ، وَماَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ والرَّاسِخُونَ فيِ العِلْمِ يَقُوُلونَ آمَنَّا بِهِ كلٌ مِنْ عِندِ رَبَناَ وَماَ يَذّكَّرُ إلاَّ أُولوُا الأَلْباَبِ)
وفيما يلي نص ترجمة هذه الآية بالألمانية من قلم الأستاذ الدكتور أَ. فيشر:
, ? , , , , , , ? , , ' ?
ونزلت هذه الآية على النبي صلعم حين حاول أعداؤه (وكانوا يهودا وأعرابا أذكياء واسعي المعرفة) إثبات وجود غموض ومتناقضات في الذي أنزل عليه، وكانت محاولاتهم هذه لا تنقطع
2 - يحوي القرآن عدداً وفيراً من التوريات عن أشخاص بالذات وعن أعداء عاديين وعن حوادث تاريخية وعن أحوال عامة وأخرى خاصة. وكثير ما يكون إيضاح وتفسير هذه التوريات صعباً غاية الصعوبة، ذلك لأن هذه التوريات وردت عادة بأسلوب سهل ممتنع لم يرد فيها أي أسم. وفي الروايات العربية القديمة عنها تناقض كثيراً كشف عن عدم كفايتها، ويوجد هذا التناقض في تفاسير القرآن وفي كتب الحديث وفي أقدم السير للرسول، إلا أن التمحيص قد يساعدنا على استقراء حالات كثيرة منها
3 - جمع القرآن وترتيبه ينقصه الوحدة أو الترتيب التنسيقي أو الترتيب التاريخي للسور، وقد تتألف السور الطويلة من وحي نزل مرات عديدة لأسباب متباينة وفي أوقات مختلفة، ولهذا كان غالباً من الصعب تبينها وإدراك كنهها(264/19)
4 - توجد للقرآن عدة قراءات، وغالباً ما يُعلل وجودها إلى عاملين أحدهما أن الوحي لم يدون في حينه ومنذ بدايته بطريقة منتظمة، بل بقي إلى أمد بعيد يتناقل أغلبه بالرواية. والعامل الثاني أن الخط العربي الذي كتبت به الآيات القرآنية بادئ ذي بدء لم يكن وافياً، إذ كان ينقصه الحروف المتحركة وغيرها من علامات الشكل، كذلك كان ينقصه التفرقة الصحيحة بين الحروف الساكنة. ولهذا كان اختيار واحدة من القرارات المحتملة لتلك المخطوطات ليس بالأمر الهين. وقد قام المسلمون في العصر الحديث بأداء أهم جزء من ذاك العمل
وكان من جراء تلك الصعوبات أن اختلفت التفاسير العربية للقرآن الكريم منذ العصور الأولى للإسلام فقد تباينت تبايناً كلياً في تفاسير مواضع كثيرة من القرآن. وليس بالأمر النادر أن يورد بعض المفسرين ستة معانٍ أو أكثر لموضع من المواضع العويصة في القرآن ليتخير منها ما يشاء. ومع ذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن نستغني عن هذه التفاسير، وفي الغالب لم يَعْنِ المترجمون الغربيون العناية الكافية بهذه التفاسير حين قيامهم بترجمة القرآن. ومن المحقق أن البعض أهملها لأن فهمها كان عليهم عسيراً. أما الذين عنوا فلم يكن لدى الأولين منهم خاصة سوى التفاسير المتأخرة فقط، تلك التفاسير التي جاوز فيها الشرح المذهبي التأملي لكتاب الله التفاسير التقليدية القديمة التي لازالت تعتبر إلى حد ما تاريخية لغوية (وأهم هذه التفاسير تفسير الطبري)
ومن هذا البيان يتضح أن الإنسان لن يكون في وسعه أن يدرك كل دقائق القرآن. ولذلك فالمترجم الأمين يضطر دائماً إلى التشكك في صحة عمله، كما يضطر إلى تدوين مختلف المعاني المحتملة.
(للبحث بقية)
إبراهيم إبراهيم يوسف(264/20)
للأدب والتاريخ
مصطفي صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 32 -
(منذ عام دعاني الأستاذ الزيات لأنشر هذا الحديث على قراء الرسالة، فصدعت بأمره عرفانا بحق الداعي والمدعو له. واليوم وقد بلغت هذا المبلغ فلم يبق إلا بضعة فصول، فإنني أتقدم بالرجاء إلى قراء هذه المقالات أن يعينوني على تمام هذا التاريخ؛ فأيما أحد كان عنده من خبر الرافعي شيء أغفلته، أو سهوت عنه، أو تصرفت فيه بنقص أو زيادة، أو لم يبلغني نبؤه - فليتفضل بالكتابة إلي في البريد أو على صفحات الرسالة؛ وفاء بحق الأدب على أهله. وإني لأعني بهذه الدعوة أصدقاءه وخاصته، ومن كتبوا إليه وكتب إليهم، ومن كان عندهم من رسائله ومن أوراقه؛ ولا أستثني هؤلاء الذين عرفوه على بعد أو سمعوا من أنبائه؛ على أني لا أسأل أحداً رأيه، فما يعنيني في هذه الفصول إلا الرواية والخبر والحادثة، وللرأي كتاب ثان بعد الفراغ من تدوين التاريخ)
سعيد العريان
مقالاته للرسالة (3)
كان بين الرافعي والابراشي ما قدمت الحديث عنه في بعض الفصول السابقة، وكان منه أن انقطعت صلة الرافعي بصاحب العرش ليحل محله الأستاذ عبد الله عفيفي. . . وسارت الخصومة بين الرافعي والابراشي إلى مدى، حتى انتهت إلى قطع المعونة الملكية عن (الدكتور) محمد الرافعي مبعوث الخاصة الملكية لدراسة الطب في جامعة ليون!
وضاقت نفس الرافعي بهذا اللون من ألوان الكيد، ولكنه صبر له واحتمل مشقاته وتكاليفه؛ وألزمته الضرورةُ أن يقوم بالإنفاق على ولده حتى يبلغ مأمله، على قلة إيراده وضيق ذات يده؛ فاستمر يرسل إليه أول كل شهر ما يقدر عليه وفي نفسه أن يأتي يوم يرفع فيه أمره(264/21)
إلى الملك فيحط هذا العبء عن كاهله! ووجد الفرصة سانحة لذلك في عيد الجلوس الملكي سنة 1934، فانشأ كلمة بليغة في تحيته بعنوان (آية الأدب في آية الملك) وأرسل بها إلى الرسالة لتنشر في العدد 66 سنة 1934، فلم تنشر به وإنما نشرتها الأهرام في صبيحة عيد الجلوس، وقرأها من قرأها. ثم كانت آخرة العهد الابراشي بعد ذلك بشهر واحد، فكتب من كتب من خصوم الرافعي يعددّ فيما يعدد من (جناية الابراشي باشا على الأدب) أنه كان يصطنع الأدباء ليحارب بهم سلطة الأمة، ويسخرهم للإشادة بحكم الفرد؛ وكان الرافعي عنده من صنائعه، وآيته هذا المقال وآيات أخرى من تلفيق الخيال!
وأرسل الرافعي إلى الرسالة بدل هذا المقال مقال (أرملة حكومة) وكانَ يعني به صديقنا الأديب المهندس محمداً، وهو شاب من (أدباء القراء) أبيقوري المذهب صريح الرأي؛ سلخ من عمره ثلاثين سنة ولم يتزوج، وبينه وبين الأستاذ إسماعيل خ صاحب (أستنوق الجمل) صلة من الود، وشركة في الرأي، وصحبة في البيت والندي والشارع. . .
لقينا مجتمعين في القهوة اجتماعنا كل مساء، فعاج يسلم ثم جلس، وسأله الرافعي: (. . . وأنت فلماذا لم تتزوج؟)
قال المهندس: (لست والله من رأي صاحبي فيما حدثكم به أمس، إني لأريد الزواج وأسعى إليه؛ ولكن من أين لي. . . من أين لي المهر، وهدايا العروس، وأكلاف الفرح؟ إن الزواج عندي ليشبه أن يكون معجزة مالية لا قبل لي بها!. . . ولو قد عرفت أن هذه المعجزة تتهيأ لي بالبخل على نفسي والقصد في نفقاتي وباحتمال العسر والمشقة على نفسي وعلى من حولي - لما وجدت ما يشجعني على هذا الاحتمال. إني لأعرف من بنات اليوم ما لا يعرف غيري، أفتريدني على أن أحتمل هذا العنت سنتين أو ثلاثاً حتى يجتمع لي من المال ما يجتمع، من أجل الوصول إلى زوجة قد يكون لي منها شقاء النفس وعدو العمر. . .؟)
وقال الرافعي. . . وقال الشاب. . . وطوى الرافعي ورقاته وقد اجتمع له موضوع جديد. وتهيأت له الفكرة تامة ناضجة فأملى علي مقالة (أرملة حكومة) وبعث بها إلى الرسالة في البريد المستعجل لتدرك موضعها في عدد الأسبوع
وقلت للرافعي وقد فرغ من إملاء هذا المقال: (أراك لم تنصف صاحبنا المهندس فيما كتبت(264/22)
عنه وما نقلت من رأيه وما رددت به، إنه ليعتذر إليك بعذر لم أجد جوابه فيما أمليتَ عليّ، لقد صدق؛ فمن أين له. . . من أين له هو؟. . . إنه لحري بك أن توجه العتب والملامة إلى آباء الفتيات وإلى هذه التقاليد التي تفرض على الشاب الذي يريد الزواج ما لا طاقة له به إلا أن تكون له معجزة مالية!)
فضحك الرافعي وقال: (أتراه كان يتحدث بلسانك؟. . لقد أخفيتها عني يوم سألتُك؛ وليس ثمة ما يمنعني أن أصحبك غداً إلى ع. . . لأطلب إليه أن يعفيك من هذه المعجزة المالية!)
. . . ومضت أيام، ثم دعاني ليملي عليّ (قصة زواج): قصة سعيد بن المسَّيب إمام المدينة وعالمها الذي ردّ رسولَ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وقد جاءه في خطبة ابنته لولي عهده الوليد بن عبد الملك، وزوَّجها من طالب العلم الفقير أبي وداعة على مهرٍ ثلاثة دراهم!
كانت هذه القصة هي جواب ما سألتُه تأخر إلى ميعاد. وكانت هي أول ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة
وإني لأراني وقد بلغت هذا الحد، مسئولاً أن أتحدث عن قصص الرافعي، وكيف كان يؤلفها، وأول ما عالج منها، وطريقته فيها:
لم يعالج الرافعي القصة - فيما أعلم - قبل قصة سعيد ابن المسيب إلا مرتين: أما أولهما ففي سنة 1905، وكانت مجلة المقتطف قد سبقت بين الأدباء جائزة لمن ينشئ أحسن قصة مصرية، فأنشأ الرافعي قصته الأولى وكان عنوانها (الدرس الأول في علبة كبريت) ولم يحصل بها على جائزة، ولكن المقتطف كافأته بنشرها اعترافاً بما بذل فيها من جهد. وقد أعاد الرافعي نشرها بعد ذلك بثلاثين سنة، بعنوان (السطر الأخير من القصة) وسأتحدث عنها في موضعها
أما القصة الثانية فأنشأها في سنة 1925 بعنوان (عاصفة القدر) ونشرتها المقتطف أيضاً. ثم كانت قصة سعيد ابن المسيب في سنة 1934
على أن ثمة فرقاً بين هذه القصة والقصتين الأوليين؛ ذلك أن هاتين القصتين هو أنشأهما إنشاءً فلم يعتمد فيهما على حادثة في التاريخ أو حدث في كتاب؛ أما قصة سعيد بن المسيب فلها أصل معتمد في التاريخ فلم يكن له في إنشائها إلا بيان الأديب وفن القاص، وكانت(264/23)
نواةً فمهد لها وأستنبتها فنمت وازدهرت. وفي الأدب القديم نوَيات كثيرة من مثل هذه النواة لم ينتبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لها لوجدوا معيناً لا ينضب كان حرياً بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فناً جديداً من غير أن يقطعوا بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي؛ وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين، لا إلى الاستعارة والاستجداء من أدب الغرب والجري في غبار كتابه وشعرائه
. . . أعترف بأن الرافعي لم يكن يعرف عن فن القصة شيئاً يحمله على معالجتها ويغريه على العناية بها؛ وقد قدمتُ القول بأنه كان يسخر ممن يقصر جهده من الأدباء على معالجة القصة ولا يراه أهلاً لأن يكون من أصحاب امتياز في الأدب؛ إذ لم تكن القصة عنده إلا ضرباً من العبث ولوناً من ألوان الأدب الرخيص لا ينبغي أن تكون هي كلَّ أدب الأديب وفن الكاتب. وقد كان يعيب عليّ لأول عهدي بالكتابة أنني لا أكاد أكتب في غير القصة، وأنني أجعل بعض همي في دراسة الأدب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أقرأ عن فن القصة وأسلوبها وطرائقها ومذاهب الكتاب فيها، وكان يرى مني ذلك تخلفاً وعجزاً ونزولا بنفسي غير منزلتها بين أهل الأدب!
على أنه إلى ذلك كان يجد لذة في قراءة القصة على أنها لون من ألوان الرياضة العقلية لا باب من الأدب؛ كما يشاهد رواية في السينما أو يقرأ حادثة في جريدة. وأحسب أنه كان يعتقد - على أنه كان لا يعرف التواضع في الأدب - بأنه لا يحسن أن ينشئ قصة ولا ينبغي له. واحسبه أيضاً حين انشأ قصة سعيد بن المسيب لم يقصد إلى أن تكون قصة، ولكنها هكذا جاءت على غير إرادته فكأنما اكتشف بها نفسه. . .
والحقيقة أن الرافعي كان يملك طبيعة فنية خصبة في القصة، يعرفها من يعرفه في أحاديثه الخاصة بينه وبين أصحابه، حين كان يعتمد العبث والتسلية، فيطوي من الحديث وينشره، ويكتم ويوري، ويورد الخبر إلى مورده، ويهزل ولا يقول إلا الجد؛ ويطوي النادرة إلا أخر الحديث، ويقول في آخر المقال ما كان ينبغي أن يكون في أوله.
وكان له إلى ذلك تعبير رشيق وفكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقُّر المصنوع؛ وإن له في هذه الفكاهة لمذاهب عقلية بديعة تحس فيها روحه(264/24)
الشاعرة وحكمته المتزنة وسخريته اللاذعة. ويكاد كثير من مقالاته يكون برهاناً على ذلك؛ فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة.
. . . وهذه هي كل أدوات القاص الموفق؛ فما ينقصه إلا أن يدرس فنّ القصة ومذاهبها ليكون فيها من السابقين المبرَّزين. ولكن الرافعي كان يجهل طبيعة نفسه، وكان له في كتَّاب القصة ما قدمت من الرأي، فكان تخلفه من هذين!
وحتى فيما أنشأ من القصص بعد ذلك، لم يكن له مذهب فني خاص يحتذيه ويسير على نهجه؛ ولكنه كان يقص كما تلهمه فطرته غير ملقٍ باله إلى ما رسم أهل الفن من حدود القصة وقواعدها؛ فإننا بذلك لنستطيع أن ندرس طبيعته وطريقته القصصية خالصةً له وحده، غير متأثر فيها بمذهب من مذاهب المتقدمين أو المتأخرين من كتاب القصص؛ على ما قد يكون فيها من نقص وتخَّلف، أو ابتكار وتجديد.
وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القُصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالاته في أسلوب جديد؛ فهو لا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي، ثم تأتي الحادثة من بعد؛ فهو إذا هم أن ينشأ قصة من القصص، كان همه الأول أن يفكر في الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في إنشاء المقالات - فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، يكون بذلك قد انتهى إلى موضوعه فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء، وسواءٌ عليه بعد ذلك أن يؤدي موضوعه على طريقة المقالة أو على طريقة القصة فكلاهما ينتهيان به إلى هدف واحد؛ فإذا اختار أن تكون قصة تناول كتاباً من كتب التراجم الكثيرة بين يديه، فيقرأ منها ما يتفق، حتى يعثر باسم من أعلام التاريخ، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه ومجالسه؛ ثم يصطنع من ذلك قصة صغيرة يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل؛ وإنه ليلهَم أحياناً ويوفق في ذلك توفيقاً عجيباً، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ وما للتاريخ فيها إلا نادرة ويرويها في سطور، أو إلا أسماء الرجال. . . . . .
على أن الإبداع في ذلك هو قدرة الرافعي - يرحمه الله - على أنه يعيش بخياله في كل عصر من عصور التاريخ، فيحس إحساسه ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك كثير ممن يقرأ(264/25)
قصة من قصص الرافعي في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء. . .
وأحسب أن الرافعي لم يتخذ هذه الطريقة في تأليف القصص عن عمد واختيار؛ فلم يكن ثمة ما يدفعه إلى معالجة القصة واختيار طريقة فيها - ورأيه في القصة رأيه - ولكنه مذهب اتفق له اتفاقاً بلا قصد ولا معاناة؛ وإنما تأتى له ذلك من طريقته التي أشرتُ إليها في الحديث عنه عندما يهم بالكتابة؛ فقد أسلفتُ القول أنه كان يحرص على أن يعيش وقتاً ما قبل الكتابة في جو عربي، فيتناول كتاباً من كتب الأدب القديم يقرأ منه فصلاً ما قبل أن يشرع في إملاء مقاله؛ فمن هنا كان أول الطريق إلى مذهبه في القصة. ولكل شيء سبب. وأحسبه لما همَّ أن يكتب عن (المعجزة المالية) في تقاليد الزواج وعن فلسفة المهر، وقد اجتمعت له الفكرة في ذلك، تناول - كعادته - كتاباً من كتب العربية يقرأ فيه ما تيسر، فأنفق له في مطالعته أن يقرأ قصة سعيد بن المسيب والوليد بن عبد الملك وأبي وداعة فرآها أشبه بموضوعه وفيها تمامه، فبدا له أن يؤدي موضوعه هذا الأداء فكانت قصة. وأذكر أنه لما دعاني ليملي عليّ هذه القصة قال لي في لهجة الظافر: (. . . لقد وقعت علي نادرة مدهشة من التاريخ تتحدث عن فلسفة المهر حديثاً لا أعرف أبلغ منه في موضوعه. . .!)؛ فمن ذلك أعتقد أن أول هذا المذهب في القصة كان اتفاقاً غير مقصود، صادف طبيعة خصبة ونفساً شاعرة فكان فناً جديداً
وأكثر قصص الرافعي من بُعد على هذا المذهب. على أن لكل قصة من هذه القصص - أو لأكثرها - أصلاً يستند إليه من رواية في التاريخ أو خبر مهمل في زاوية لا ينتبه له إلا من كان له مثل طبيعة لرافعي الفنية وإحساسه ويقظته؛ على أن أهم ما أعانه على ذلك هو عندي صلته الروحية بهذا الماضي وشعوره بالحياة فيه كأنه من أهله ومن ناسه؛ فإن له بجانب كل حادثة وكل خبر من أخبار ذلك الماضي قلباً ينبض كأن له فيه ذكرى حيةً من ذكرياته تصل بين ماضيه وحاضره، فما يقرؤه تاريخاً كان وانطوت أيامه ولكنه يقرأ صفحة من ماضيه ما يزال يحس فيها إحساس الحيّ بين أهله فما أهون عليه أن يترجمها من لغة التاريخ إلى لغة الأحياء!
وتماماً لهذا البحث سأحرص في فصل قادم على أن أرد كل قصة من قصص الرافعي إلى أصلها من التاريخ وأنسبها إلى راويها الأول، ليكون النموذج واضحاً لمن يريد أن يحتذي(264/26)
ليتمم ما بدأ الرافعي على مذهبه في تجديد الأدب العربي.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(264/27)
حواء
. . . عَلَم على ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ الحوماني تحت الطبع تحمل الرسالة نماذج منه إلى قرائها في عالم الفن
حكمة المجنون
أمِنَ الفن كنتِ إذ كنتِ في العا ... لَم، أَم كنتِ عالماً للفنون؟
جُنَّ فيكِ الحكيم فافتَتَنَّ حتى ... كنتِ في فيهِ حكمةَ المجنون
أتناساكِ، والعوالم فوقي ... وأُناجيكِ، والعوالم دوني
أفَكالناسِ كنتِ فيهم وسّوا ... كِ أبوهم من صَلصَلٍ مسنون؟
سَفَهٌ في اكتناهِ ذاتك أن نخل ... صَ منه إلى اكتناهِ الطين
إنما كنتِ كيفما شئتِ إذ قا ... ل لكِ الله كيفما شئتِ كوني(264/28)
فم في فم
أسلميني واستسلمي لي فالح ... بُّ فم في فم وخدٌّ لخدَّ
واكشفي لي نهديكِ أُشرفْ على ... غُرَّ لياليَّ في قرارة مهدي
هل تَرَينَ الحياة ثمةَ إلا ... قطرةً من دمي على كل نهد؟
عند عينيك لي من الأمل البا ... سم في الحب ما لعينيك عندي
فأَعِلي خديك من دم عينيَّ ... وزيدي بما يعلاّنِ وجدي
ودعيني أشمُّ منكِ شذا الح ... بِّ فما يستفزُّني عطر وردِ
الحوماني(264/29)
أثر المرأة في النهضة القومية
للآنسة فلك طرزي
في هذه الآونة العصيبة التي تجتاز فيها الدول الأوربية أزمة سياسية خطرة قد تؤدي إلى حرب طاحنة تقضي على ما بذلته الأمم المتمدنة من جهود في سبيل رفع المستوى الإنساني وإيصاله إلى المثل الأعلى المنشود - يجدر بنا نحن الذين تضعنا حالنا الحاضرة إزاء مشاكل دولية دقيقة، أن نلقي نظرة على أحوالنا الشخصية منها والعامة، نظرة نافذة ثاقبة نسبر بها أغوارنا، لنفحص على بينة ووضوح كل ناحية من نواحي هذه الأمة، فإن اهتدينا إلى تشخيص العلة الأساسية التي تسبب لنا أنواعاً من الآلام والأسقام، استطعنا بعد دقيق الفحص وبُعْد التأمل، إيجاد العلاج الذي يبرئنا شيئاً فشيئاً من هاتيك الآلام والأسقام
ولقد جرينا على عادة لست أدري أأنسب ما نحن فيه من قلق وفوضى إليها، أم أنسبه إلى الظروف الطارئة التي كانت الحائل بيننا وبين ما نصبو إليه جميعاً من واسع الآمال والأماني التي نبتغيها كاملة صحيحة؟
جرينا على أن نبذل في مجتمعنا الكثير من بضاعة الكلام، ونعرض على الأنظار أشكالاً مختلفة من أجناسها وألوانها ثم نهمل العناية بتحويل هذه البضاعة إلى صنوف من العمل المثمر، لنبصر بالعين ما سمعناه بالأذن، ونلمس باليد ما صورناه بالكلام
وتأصلت هذه العادة في أنفسنا بحكم ما أوليناها من شديد الرعاية والعناية، وأخذت تضغط بقوة أثرها الذي تغلغل في كل خفية من خفايا نفوسنا على بقية القوى الكامنة فينا التي في استطاعتنا إذا تعرفنا الوسائل الممهدة لسبيل إبرازها - أن نستغلها أحسن استغلال فنستعين بما تمنحنا من رغبة في العمل وصبر على الجهاد، على تذليل العثرات التي قد تعترض سبيلنا أثناء قيامنا بتحقيق أقدس الأهداف وأنبلها
فأي كلام يبشرنا بنهضة اجتماعية مباركة تضاهي النهضات الأوربية الحديثة لم نسمعه؟
وأي كلام ينبئنا فحواه بمستقبل نير وضاح يبدد سطوع شموسه ما تراكم من سحب وغيوم على سماء حياتنا فحجب رونقها وصفاءها، لم نصغ إليه؟
بل أية آمال وضاءة لألأءة لم نبصرها شذرات متفرقات في هبوب الريح بعد أن أصغينا إلى رنين ضحكاتها يتردد بين قيم الألفاظ وجميل العبارات؟(264/30)
لقد سمعنا كلمة (البشرى) تتردد على الأفواه حلوة فحسبناها لفظاً مبطناً بحقيقة تحمل إلينا ما في الحياة من معاني الكمال والحق
وسمعنا كلمة (المستقبل) ترتل أناشيدها الشفاه، فحسبناها لحناً مستمداً من القلب تكمن وراءه الحيوية المبدعة الخالقة
ثم أصغينا إلى صوت الأمل تتجاوب نبراته بين السطور، فحسبناه أغنية تهدهد أنفسنا المظلمة المكدودة على نغماتها وتدعونا إلى سنة من عميق النوم ولذيذه، فلبينا ما حسبناه صواباً ورحنا في سبات عميق استغرق سنين طوالاً فقدنا خلالها الكثير من الصفات الشخصية والشعبية، فخملت حيويتنا، وبلد تفكيرنا، وانحصرت عقليتنا ضمن ذاكرة تحدها الأوهام وأشباح التقاليد البالية التي قضت عليها وبددت ظلماتها أنوار العلم والثقافة
ولما استيقظنا من نومنا، واستفقنا من سباتنا، تلفتنا يمنة ويسرة، وأدرنا رؤوسنا ناحية الغرب وناحية الشرق، فإذا بكل من هذه اللفتات تضع أنظارنا المشدوهة إزاء تطورات قومية وشعبية، وتنبه حواسنا المخدرة على انقلابات فكرية وعقلية، فمن أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب، تحفز نحو المجد والتقدم، كل أمة تجاهد وتستميت في سبيل التفوق وفرض السيادة على العالم سواء من الناحية العلمية أم الفكرية، أم التجارية. وقد رأينا كيف أخذت اليابان تكتسح الأسواق العالمية ببضائعها وتجارتها. وعمدت بعض الأمم إلى التمسك بنظرية تفوق جنسها على بقية الأجناس البشرية لبلوغ ما تصبو إليه من عزة وقوة وفخار. كل هذه القوى الفعالة التي مهدت لها سبيل البروز والظهور الحرب العالمية الكبرى وما ينتج عنها من التطورات والانقلابات تجري حوادثها أمام أنظارنا، فنسمع بالخيال قرقعة الأسلحة والمدافع تدوي وتنذر بالويل والتهديم، وهي مازالت آلات مفككة تحت آلات المصانع، وندرك بالعقل مبلغ الرقي الذي توصلت إليه في الغرب الآداب على تنوع بحوثها والعلوم على مختلف أنواعها، والفنون على تعدد فروعها، تلك القواعد الثلاث التي لا تقام حضارة أمة بغير أسسها، ونتعرف بالاختبار أي أثر بليغ تتركه التربية العائلية في نفوس الناشئة، وأية توجيهات مختلفة توجهها المبادئ التي تتلقاها في محيط الأسرة حين الصغر، فالناشئة التي تزدهر سنو طفولتها في وسط يدرك الحياة على حقيقتها ويتعمق في معانيها ويسبر غاياتها، هي غير تلك التي تنمو وتشب في آخر لا يدرك من الحياة إلا(264/31)
سطحها، ولا يفقه من معانيها وغاياتها إلا قشورها دون لبابها
ثم نلقي نظرة إجمالية إلى تلك القوى التي تسير العالم المتمدن فنراها منهزمة مرة، منتصرة أخرى، ناهضة تارة، منحطة تارة أخرى، مجسمة في حال نهضتها وانحطاطها، وانتصارها وانهزامها، صورة الإنسان في آلامه وآماله وجبروته وعجزه، وبطشه وضعفه، وطموحه ومطامعه، صورة الإنسان الذي كلما اكتمل تكوينه العقلي والجسدي، اكتشف نقائص جديدة تخل من توازنهما فيعمد إلى مختلف الوسائل يتوسل بها لتقويتها وضبط هذا التوازن بينهما
وكثيراً ما يتعثر بالصدمات فينهزم حيناً تعود بعده نغمة الأمل تتنفس في صدره حارة تمنحه قوة أشد بأساً من كل قوة تنسيه فشله وهزيمته، فيعاود الكفاح والمناضلة من جديد، وكلما عراه ضعف يقاومه بالإرادة والطموح النفسي إلى أن يتغلب عليه
فأي شعور يعترينا يا ترى ساعة يتجسم في مخيلاتنا بعض من صور هذه القوى التي عرضتها الآن؟
بل أي إحساس نتحسسه عندما نأخذ بتقييد كل صنف من صنوف الرقي الذي أمدته الأمم كل من هذه القوى ومهدت له السبيل لتحقيق غاية من الغايات؟
لا شك أننا نتحسر وتنقبض صدورنا ألما كلما تنازعنا فكرة نهضتنا القومية الفتية وإلى جانبها النهضات القومية الأخرى التي قطعت شوطاً بعيداً في مضمار التقدم والحضارة
وثقن أيتها السيدات أنني لا أبني من تساؤلي هذا إضافة حسرة جديدة إلى ما نشعر به من حسرات تتمشى بين جنباتنا كلما شاعت في نفوسنا مرارة هذا التساؤل
وإني ما تساءلته قط إلا ليقيني بأنه يدور في خلد كل منا، وإننا جميعاً مذ أخذت أنفاس اليقظة تنفح على وجوهنا نفحات الجد والتوثب، لا نفتأ نولي أنظارنا ناحية الغرب نتبع حركاته وخطواته ونرقب تطوراته، نستعين بما يسن من قوانين ودساتير على تنظيم هيئاتنا الحكومية والإدارية، ثم نقبس عن مدنيته قبسات تجعل حياتنا شبيهة بالحياة الغربية من بعض نواحيها
ولِمَ لا نتساءل، وبالتساؤل نتعرف مدى شعورنا ومبلغ قوته وغزارته؟
ولم لا نتساءل وبالتساؤل نزداد إحساساً بنقائصنا؛ وكلما ازددنا إحساساً بها ازددنا رغبة في التبرؤ منها؛ وليس الشعور بها شعوراً دقيقاً صحيحاً إلا بشيراً بزوالها(264/32)
فنحن إذن المرضى، ونحن إذن الأطباء، نسمع أنات الألم تزفرها صدورنا المكلومة فنعكف على هذه الصدور نشخص داءها ونتبين علتها، فإذا ما انكشفت العلة والداء سهل علينا وصف الدواء الذي يجدد قوى أمتنا ويشفيها من آلامها
إن أمتنا مريضة في هذه الآونة أيتها السيدات؛ ومرضها لا تشكو منه ناحية جسمها دون بقية النواحي، إنما هو مرض يشمل جميع أطرافها ويخشى عليا من فتكه، إذا لم نسارع إلى إنقاذها من براثنه هي مريضة في تفكيرها، مريضة في ثقافتها، مريضة في عقليتها، مريضة في أخلاقها، ثم هي مريضة بسبب العلة المزمنة التي أصابت موضع القلب منها
فأي شأن من هذه الشؤون يعالج قبل الآخر يا ترى، ليتم لنا ما نريد ونبلغ ما نصبو إليه جميعاً من صميم أنفسنا؟
أنعالج ثقافتها، والعقلية التي تهضم هذه الثقافة وتستسيغها مازالت قلقة مقيدة؟
أم نعالج أخلاقها، والأداة التي تعالج بها هذه الأخلاق - وأعني بها الإرادة - ما برحت ضعيفة واهنة؟
أم نعالج الفكر، والصلة الوثقى التي تربط الفكر بكل ما في هذا الكون من خفايا الأمور وأسرارها مفككة الأجزاء؟
أنا أرى أن أول شأن يجب معالجته قبل بقية الشؤون هذا القلب، أيتها السيدات، لأنه ميزان الحياة الدقيق، والصلة التي تربط الإنسان بها، ومتى قامت بين الإنسان والحياة رابطة متينة تغلغل فكره في زواياها وخلاياها وأدرك كل معنى من دقيق معانيها، وشعر بها تتفجر في أعماقه قوة وحيوية
فإن كان القلب سليماً خفاقاً، جرت الحياة في شرايين الجسم حارة متدفقة
وإن كان سقيماً عليلاً بلدت حركتها واعتراها كثير من الضعف والخمول
فإذا نحن عالجنا القلب ودققنا في تشخيص دائه، فمعنى ذلك أن كل واحدة منا انعكفت على ذاتها، وأخذت تفحص هذه الذات على نور من البينة، فإن بدا لها ضيق في ناحية من نواحيها وسعته، وإن اتضح لها نقص قومته، لأن المرأة من هيكل الأمة بمثابة القلب من جسم الإنسان يضبط توازنه، وينظم الحركة الحيوية فيه
وقد يعترض على قولي هذا معترض، ويخالفني مخالف، مبيناً ما يزعمه من خطأ هذا(264/33)
القول. غير أن في نفسي من العقيدة المبنية على عديد التجارب، ما يجعلني أومن بهذه الحقيقة إيماناً صحيحاً لا يخامره شك ولا يزعزعه ريب.
ولم لا نقر بها وكلنا يعلم أن المرأة مربية الرجل ومهذبته، ومعلمته الأولى في مدرسة الحياة؟
ولم نرتاب في صحتها وقد علمنا الماضي من تاريخ الإنسانية وحاضرها أن نصف الأمة لا يصلح إذا بقي نصفه الأخر مشلولاً؟
بل لم لا نأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، وقد لمسنا أثر المرأة البعيد واضحاً في تكوين نفسية الطفل، وعرفنا مدى تأثيرها في حضارة الأمم؟
فنحن إذا نفذنا إلى دخيلة أمتنا وتغلغلنا في كل مناحيها، مرهفين السمع إلى دقات الحياة ينبض بها قلبها، فماذا نسمع أيتها السيدات؟
أنسمع دقات يؤلف مجموعها وحدة موسيقية جميلة اللحن، منسجمة النغم، تطرب لسماعها القلوب وتسر؟
كلا! إننا لا نسمع إلا دقات متفرقات، تنبض مضطربة حائرة، لا تكاد دقة منها تنبعث من بين الضلوع متزنة قوية، حتى تتبعها أخرى وأخرى، تعيد القلب إلى مجرى الفتور والخمول الذي كان عليه.
فالمريض إذاً من جسم أمتنا هو القلب، وأول الأدواء الذي تجب مداواته هو داؤه لأن عقل الأمة المفكر الذي هو الرجل لا يصبح دقيقاً صحيحاً إلا إذا شفي هذا القلب وعاد ملاذاً أميناً يأوي إليه العقل ليجدد بقربه قواه الفكرية، ويستعين ببصيرته النافذة على استكشاف ما مضى عليه من أمور.
منذ أيام كنت أتحدث إلى عالم جليل وزعيم في طليعة الزعماء الذين أحيوا الحركة القومية في هذه البلاد وبعثوها حية من تحت أردية الموت. ومما قال لي هذه الجملة التي ينطوي معناها الدقيق على حقيقة بليغة:
(إذا أبصرت عبقرية تشع أنوارها وتلألأ في سماء المجد ساطعة، فأيقني أن ورائها امرأة توقد جذوتها وتبعثها من مكمنها.)
عبقرية تبعث فيها الحياة امرأة؛ وتوقد شعلتها المقدسة وتحولها نوراً ينشر ضيائه اللامع(264/34)
على مشارق الأرض ومغاربها، مخترقاً النفس البشرية موضحاً ما غمض من أمورها، كاشفاً ما خفي من ألغازها؟
إنها نغمة انبعثت أول ما انبعثت من أرض عربية، ثم انتشرت على بقية الآفاق فغناها أبناء الغرب وما زالوا يتغنون بها بينما نحن نسينا لحنها
إنها نغمة انبعثت إلى الوجود يوم انبثق فجر الرسالة العربية من آفاق غار حراء، وأخذت أشعته المنيرة تخترق قلب كل عربي فتبدل كفره إيماناً، وشكوكه ثقة وعقيدة، ويوم كانت إلى جانب الرسول العربي الكريم امرأة تحيي عبقرية النبوة في قلبه كلما أصابتها فرية من سهام المفترين
غير أنني لا أحمل المرأة وحدها تبعات هذا النسيان؛ فلشريكها الرجل نصيب غير ضئيل منها، لأنه أهمل شأنها زمناً طويلاً وأسرف في هذا الإهمال، فكان من جرائه أنها بقيت قابعة في زاوية مظلمة من زوايا الحياة لا تشترك في أمر من أمورها حتى تكون لدى الكثير من الرجال اليقين بأنها مخلوق وجد ليحيا على هامش الحياة، وأن جميع حقوقها وامتيازاتها محفوظة للرجل في كل زمان وفي كل مكان
لست في حاجة، أيتها السيدات، إلى إثبات خطأ هذا الادعاء، لأن جسامة خطئه واضحة فيه. بل ما أريده هو كشف اللثام عن إدعاء لست أدري أيسر التصريح به أسيادنا الرجال أم يغضبهم
إن إسراف الرجل في أنانيته قد حمله على إبعاد المرأة عن جد الأمور وخطيرها معللاً ذلك بسبب تجردها من الصفات العقلية والفكرية التي تمكنها من إدراك دقائق هذه الأمور وتقدير خطورتها
وكأني بهذه الدعوى بل هذه النظرية المبنية على غير الواقع قد سرت بالعدوى إلى المرأة فأخذ وهمها يستولي عليها مع مرور الزمن شيئاً فشيئاً حتى أضحت لديها حقيقة واقعة يخيل إليها أنها تبصر وميضها يشرق من نوافذ عقل الرجل ناسية أنها الأم التي أنشأته طفلاً وكونته رجلاً، وأنها الزوج التي قاسمته الحياة على السراء والضراء. فنشأ فيها من جراء هذه الخاطئة ضعف أضاف إلى وضعها الطبيعي ضعفاً آخر، وجعل منها برهاناً يدعم به الرجل صحة دعواه، ودليلاً يثبت خطأ هذه الدعوى(264/35)
وقد انطبعت في المرأة السورية هذه العقيدة المغلوطة، وتمكنت من عقلها إلى حد حملها على اليقين بصحة النقص القائم بينها وبين الرجل، وأنها حقاً دونه عقلاً وفكراً وإدراكاً، وتناست أن مستواها العقلي والفكري كان قد يساوي المستوى العقلي والفكري عند الرجل، لو أن أنانية هذا لم توح إليه بإهمال شأنها وإهمال رفع مستواها إلى أوج الكمال النسبي
فأخذت نظرته إليها - أي الرجل - تنحط مع الزمن وتنحصر ضمن نطاق محدود، وأخذ اعتباره إياها يتضاءل يوماً بعد يوم، حتى أصبح ذات يوم وفي نفسه نحوها احتقار يبيح لسانه الحط من قيمتها واعتبارها وسيلة من وسائل اللهو والتسخير
فليس عجباً أن نفيق بعد هجعتنا الطويلة فنبصر حال المرأة في أوساطنا متقهقرة، وقد أدركنا سر هذا التقهقر. وليس بمستغرب أن نرى الرجل في هذه الأوساط ناقص التربية ناقص التهذيب وقد وقفنا على سبب ذلك النقص. إنما المستغرب في كل هذه الأمور أن ندرك سرها وأسبابها ثم نقف عند حدود الإدراك دون أن نتجاوزه إلى حيز العمل، حيث تظهر حقيقة المرأة ويسطع جوهرها
وفي المرأة أيتها السيدات صفات فطرية مفقودة عند الرجل فهي حساسة بغريزتها رقيقة بطبيعتها، والحس والرقة صفات إذا توصلت المرأة إلى صقلها وتهذيبها استحالت من مخلوق بشري إلى ملاك سماوي يحمل بين جوانحه معاني الرأفة والحب والسلام
والمرأة شاعرة بطبعها وفطرتها، فإن هي عرفت كيف تنمي هذه الشاعرية فيها، وعرفت كيف تغذيها، تحولت كوكباً ينبعث من صميم الحياة نوراً ينشر على هذه الحياة أشعة من الود والصفاء
فأثر المرأة لا يظهر جلياً واضحاً في النهضات القومية ولا يخلف بعده أفضالاً وحسنات ترفع الأمة من الحضيض إلى العلاء، إلا في حين يستيقظ فيها الحس العميق بوجوب تهذيب الصفات الطبيعية التي فطرت عليها، وتحويلها من غريزة إلى شعور سام رفيع، يجعل من رسالتها إلى الأمة، رسالة الحياة وكل ما تحوي هذه الحياة من معاني المجد والحضارة والازدهار.
فلنستعن سيداتي بما ترك لنا أولئك الذين أدركوا النفس البشرية على حقيقتها، واستطاعوا بقوة بصيرتهم اختراق لفائفها والنفاذ إلى أعمق موضع فيها، لنستعين بأنوار نفوسهم على(264/36)
إنارة نفوسنا، فإذا ما نفذت هذه إلى أعماقنا واستقرت فتحت أعيننا على عوالم من مختلف المشاعر والعواطف تحيا في هذه الأعماق فتهدينا إلى كل موضع من مواضع السحر والجمال التي يحويها العالم الخارجي لنتأمل مفاتنه ونصغي إلى موسيقاه، فمن كان له قوة التأمل وقدرة الإصغاء أدرك كبائر الحياة وصغائرها. ويخيل إلي أن نجاح أمتنا وحضارتها متوقفان على دقة البصر وإرهاف السمع. ومن غير المرأة التي فطرت على الإحساس يدرك هذه الدقائق؟.
(دمشق)
فلك طرزي(264/37)
الثقافة الإسلامية
1 - مصادرها
لمناسبة اهتمام معالي وزير المعارف بأمر الثقافة الإسلامية. . . . . .
. . .
للأستاذ إبراهيم جمعة
ثقافة العرب الجاهليين - العرب يستقبلون الإسلام أبعد ما يكونون عن علم أو فلسفة - أثر اليهود والنصارى فيهم - أثر النساطرة من أتباع الكنيسة الشرقية - فضل الإسكندرية على الثقافة الإسلامية - مراكز العلم في حران ونصيبين وجنديسابور - مهمة النساطرة والسريان في النقل عن الإسكندرية إلى الشرق الأدنى - اشتغال العرب بالعلم والفلسفة متأثرين بالنساطرة وبالصابئة في حران - حركة النقل وما نقل العرب عن الأمم الأخرى
الثقافة الإسلامية كما يؤخذ من اسمها وليدة الإسلام، فالإسلام، هو العامل الوحيد في نشوئها، والعرب هم حملة لواء الإسلام فهم إذن الكواهل التي نهضت بهذه الثقافة وأقامت على الزمن بنيانها المكين. ولم يكن العرب ليؤدوا هذه الرسالة الكبيرة وهي رسالة علم جامع شامل، لو لم يكن في طبيعتهم لذلك استعداد وقبول
والعرب الجاهليون أميون، أبعدتهم تضاعيف شبه الجزيرة العربية عن الأمم ذات الحضارة، وعزلتهم عنها انعزالاً لم يخفف من حدته سوى خروج بعض الأعراب وبخاصة من قريش في التجارة إلى الشام ومصر. وقد ذقت أخفاف الإبل على وجه الجزيرة العربية طريقين هامين: الأول طريق حضرموت والبحرين والخليج الفارسي، والثاني طريق اليمن والعسير ومكة والبطراء، فإذا ما انتهت المتاجر إلى خليج فارس وتخوم الشام كان اختلاط بين العرب وسكان الحضر، وكان تبادل في التجارة، وكان امتزاج فيه مصلحة مادية، وفيه تبادل أفكار، وفيه أخذ وعطاء فكريان إلى جانب الأخذ والعطاء المعروفين في التجارة
وقد حل عرب الحجاز محل اليمنيين في السيطرة على الحركة التجارية وعلى مسالك التجارة قبل انبثاق فجر الإسلام بقليل، وكاد عرب الحيرة بسبب شدة ولائهم لفارس، ورغبتهم في تنحية ما عداهم من الأعراب عن خدمة الفرس يستأثرون بتجارة إيران.(264/38)
وظلت متاجر الهند والحبشة والبقاع الخصبة في جنوب شبه الجزيرة العربية تنقل إلى تلك البلاد حتى جاء الإسلام فشغل العرب بالجهاد في سبيله، وانصرفوا إلى الفتح، وما يصحبه من شواغل، واستوطنوا أرضاً جديدة أو قل استوطن كثير منهم البلاد المفتوحة فوجدوا فيها غناء صرفهم عن الكدح في سبيل العيش على النحو الذي عرفوه في جاهليتهم، وكفاهم سواد العراق أول الأمر مشقة السعي المضني وراء الرزق في هجير البادية - ثم استقبلتهم وديان الشام بما خصها الله من خير، وانفتحت لهم أبواب مصر فأبدلتهم بقتاد الصحراء جنة فيحاء، فكان استقرارهم وامتزاجهم بالعناصر الأجنبية سبباً في التحضر وترك عيشة البداوة، والاقتباس الذي زاد على الزمن وانفرجت دائرته، فأحاطت بالشيء الكثير مما عرفت أمم إيران والجزيرة والشام ومصر من مظاهر التمدن. وعلى هذا كان اختلاط العرب بالأمم المجاورة قبل الإسلام بسبب التجارة وامتزاجها بها بعد الإسلام بسبب الفتوح أول خطوة في سبيل تكون ثقافة جديدة لم يكن يعرفها العالم من قبل
هؤلاء العرب الذين شهدوا الحضر شهوداً موقوتاً وهم يقومون على أمر قوافل التجارة أو الذين نزلوه واستقر بهم المقام فيه جنوداً أو بطوناً مهاجرة لم يكن لهم من مظاهر الثقافة إلا ما كان للعرب الجاهليين عامة من لغة وشعر وقصص وأمثال. وينسب إليهم بعض المؤرخين دراية بالطب والتنجيم والأنساب والأنواء. وليس من العدل في شيء أن ننسب إلى جماعة هبط مستواهم الاجتماعي إلى مثل ما هبط مستوى عرب الجاهلية علماً منظماً. بل إن كل ما عرفه العرب من هذا القبيل معلومات تقوم على الخبرة التقليدية التي كثيراً ما تخطئ وقليلاً ما تصيب. يقول الأستاذ أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: (ومن الخطأ أن تسمى هذه الأشياء علماً كما يفعل الألوسي وغيره فيقول - ومن علومهم علم الطب وعلم الأنواء وعلم السماء، ثم يشيدون بذكر ذلك حتى يوهموك أنه كان عندهم علم منظم بأصول وقواعد، فإن ما كان عندهم من هذا القبيل لا يتعدى معلومات أولية وملاحظات بسيطة لا يصح أن تسمى علماً ولا شبه علم)
وقد جهل العرب الجاهليون الفلسفة جهلا تاماً وكل ما عرف عنهم خطرات فلسفية يقول عنها الأستاذ أحمد أمين أيضاً:
(. . . هناك فرق كبير بين مذهب فلسفي وخطرة فلسفية؛ فالمذهب الفلسفي نتيجة البحث(264/39)
المنظم، وهو يتطلب توضيحاً للرأي، وبرهنة عليه، ونقضاً للمخالفين وهكذا. . . وهذه منزلة لم يصل إليها العرب في الجاهلية. أما الخطرة الفلسفية فدون ذلك لأنها لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد، وهذه الدرجة وصل إليها العرب)
إذن استقبل العرب الإسلام وهم خلو من كل علم صحيح أو فلسفة حقة. ويجدر بنا قبل أن نتعرض إلى الموارد التي تطرق إليها العرب ونهلوا منها علماً وفلسفة خارج ديارهم - أن نذكر شيئاً عن أثر الديانتين اليهودية والنصرانية. أما اليهود فالمعروف أنه كانت لهم جاليات في يثرب وتيماء وفدك وخيبر ووادي القرى. وللثقافة اليهودية ناحيتان: الأولى مادية، فقد نشروا بين الأعراب معرفة بضاعة المعادن ولاسيما الأسلحة، كما عرفوا الزراعة. والأخرى معنوية، فقد بثوا بين الأعراب كثيراً من تعاليم التوراة قبل الإسلام، فعرف هؤلاء شيئاً عن البعث والحساب والعقاب، وظل تأثير اليهود باقياً على شكل أساطير وخرافات، ومن ذلك ما بثه في الإسلام كبار من أسلموا من اليهود مثل كعب الأحبار الذي نقل إلى الإسلام فكرة (تحريم التصوير) وهو في ذلك ناقل عن تعاليم اليهود ومتأثر بطبيعة الجنس اليهودي، تلك الطبيعة التي تكره التصوير لأنها تعجز عنه وتقصر دونه
ومن أهم المصادر الثقافية التي أخذ عنها العرب أيضاً المسيحيون في شبه الجزيرة قساوستهم ورهبانهم ومنهم الشعراء والبلغاء أمثال أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة
واليهود والمسيحيون متأثرون بالثقافة اليونانية التي ازدهرت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وغزت بلاد الشرق الأدنى وامتزجت بنفوس سكانه، واتخذت لها مواطن تركزت فيها أشهرها حران وإنطاكية والإسكندرية؛ فكأن شيئاً من الثقافة اليونانية كان قد وصل العرب عن طريق انتشار اليهودية والمسيحية في بلاد شبه الجزيرة قبل الإسلام، ولكن الأثر البالغ لهذه الثقافة الإغريقية وصل إلى العرب عند ما انطلقوا من عقالهم والتقوا خارج بلادهم بممثلي هذه الثقافة في مراكزها أو بعبارة أخرى في البؤرات التي تركزت فيها
وأشهر الأوساط الثقافية التي كان لها على العرب فضل لا يعدله فضل (الإسكندرية) مدينتنا(264/40)
العظيمة، ففيها اختلط ما كان للإغريق من علم وفلسفة، وهناك امتزجت الفلسفة بالدين امتزاجاً جعل منها ضرباً من ضروب التصوف الفلسفي. ولا غرابة في ذلك فقد كان معظم المشتغلين بالعلم في العصور الوسطى من رجال الدين وقد لجأ هؤلاء إلى الفلسفة والمنطق يؤيدون بهما تعاليم المسيحية
واشتهر النساطرة واليعاقبة من أتباع الكنيسة الشرقية باحتفاظهما بعلوم الأقدمين وفلسفتهم، وهم في واقع الأمر حلقة الاتصال بين العلمي اليوناني وبين العرب. وكان النساطرة مترجمين لكثير من كتب الفلسفة واللاهوت عن اليونانية إلى اللغة السريانية كما حذقوا الطب والكيمياء وعرفوا بهما في فارس وفي البلاط العباسي. والعلاقة وثيقة - كما يقول الأستاذ الدكتور بطلر في كتابه (فتح العرب لمصر) - بين لغة السريان وبين العلم. والظاهر أنه كان لابد لكل من يريد أن يحذق علوم الأقدمين من الإلمام باللغة السريانية أولا، وأن يتتلمذ على أساتذة من النساطرة ثانياً
ويهمنا بنوع خاص كمصريين أن نتعرف مقدار ما أفاد العرب من الإسكندرية. والمؤرخون العرب والسوريون يعتبرون الكاتب والمؤرخ (حنا الأجرومي) أصدق ممثل للحركة العلمية الإسكندرية وآخر رجالها، وإليه وإلى الفيلسوف السفسطائي (اصطفان الإسكندري) وإلى اصطفان الأثيني وهو طبيب مؤلف ومعلق على بعض تصانيف (جالين) الطبيب الإسكندري يرجع الفضل فيما نقل العرب من علوم الإسكندريين
وحنين بن اسحق من أكبر الناقلين لعلوم الإسكندرية يذكر لمناسبة نقله لمقالات جالينوس إلى السريانية والعربية أنه قبل الفتح العربي بقليل تضافرت جهود أطباء الإسكندرية على جمع سبعة من مصنفات جالينوس الطبية، أصبحت أساساً للدراسات الطبية في وقت كاد لواء العلم فيه يسقط أو قل سقط بالفعل في مدينة الإسكندرية، اللهم إلا إذا اعتبرنا تلك الاجتماعات التي كانت تعقد ليتذاكر فيها المجتمعون من محبي العلم عامة والطب خاصة بعضاً مما وضع جالينوس، أو بنقلها إلى لغة أخرى من غير كبير تقيد بتعاليم جالينوس نفسه
وممن يذكر المؤرخون العرب أنهم اشتركوا في العمل الطبي الكبير في أخريات أيام العلم الإسكندري: حنا فليوتس واسطفان الإسكندري وجسيوس وبلاديوس ومارينوس، الذين(264/41)
علقوا على مؤلفات أبقراط وجالين
ومما شهد العرب في الإسكندرية مدرسة فلسفية مسيحية أعقبت المدرسة (الأفلاطونية الحديثة) التي كان يتزعمها (الشيخ اليوناني) أفلوطين الإسكندري كما يصفه الشهرستاني
ومن أشهر فلاسفة هذه المدرسة الفلسفية المسيحية الفيلسوف المسيحي السرياني (حنا الأفامي) نسبة إلى أفامية إحدى مدن سوريا الشمالية، والطبيب (سرجيوس الرسعني) المعروف باسم تيودوسيوليس الذي نقل عدداً لا بأس به من مقالات جالينوس إلى اللغة السريانية. وقد أنتجت هذه المدرسة نفسها الطبيبين المصنفين (بولس الأجانيطي) و (أهرون) وقد أثر عن هذا الأخير كتابه (الفتاوى الطبية) الذي نقل من السريانية إلى العربية وكان له أثره المحسوس في الطب الإسلامي في أوائل عهد العرب بالاشتغال بالعلوم الطبية
ومن الطريف أن نعرف كما يقول الأستاذ الدكتور ماكس مايرهوف أن الحجة الذي يحدثنا عن مدرسة الإسكندرية في عصر من عصور اضطراب الإسكندرية وركود حركتها العلمية إنما هو (الفارابي) الفيلسوف العربي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، يقول في كتابه عند ذكر الفلسفة اليونانية وهو كتاب مفقود الآن إلا فقرات منه وعاها كتاب (عيون الأنباء) لابن أبى أصيبعة تفيد أن إمبراطور المسيحيين كان يتدخل في حرية البحث والدراسة ويقصر ما يدرس من علم المنطق في كتب أرسطو على نقط لا تتعدى باب (الأشكال الوجودية) وكان يحرم دراسة ماعدا ذلك لتعارضه مع التعاليم المسيحية. ولا يهمنا ذلك إلا للدلالة على أن الإسكندرية لم تصبح قبيل الفتح الإسلامي وسطاً صالحاً للدراسة الحرة كما كانت من قبل، بل أصبحت الحركة العلمية فيها وقفاً على رجال الدين؛ ولم يكن من خير العلم أن يتناوله رجال الدين؛ فيخضعونه للدين وسلطانه
ويذكر الفارابي أيضاً أن أستاذه المسيحي (يوحنا بن حيلان) رفض أن يعلمه فصولاً بذاتها من علم المنطق لأرسطو كان محظوراً على فلاسفة الإسكندرية في ختام القرن التاسع الميلادي تعليمها إلا حين أبيح ذلك في وقت ما للمسلمين دون سواهم
ولا يعزب عن البال أن الحركة العلمية وإن تكن قد فقدت في الإسكندرية مرتعها الخصب فقد وجدت في النسطورية المنتشرة في الشرق الأدنى وتطرقها إلى جوف الإمبراطورية(264/42)
الساسانية ما أيقظ في الناس هناك رغبة صادقة في العلم في شكله الهليني السرياني
ويعرف التاريخ أنا الإمبراطور (زينو) كان قد أمر بتحطيم مدرسة علمية نسطورية عام 489م كانت مزدهرة في (أودسا) فأعقبتها على الأثر مدرسة قامت في (نصيبين) ببلاد الفرس. ونرى أنه قامت بجند يسابور بإقليم خوزستان بفارس أيضاً مدرسة طبية ذات بال ظلت حتى القرن التاسع الميلادي، وفيها تخرج كثير من الأطباء الذين خدموا بلاط الخليفة العباسي ببغداد وجلهم من المسيحيين. ويهمنا ذلك للدلالة على أن النساطرة كانوا على أقل تقدير منذ القرن الخامس الميلادي يشتغلون بالعلم وبالطب خاصة في أودسا ونصيبين وجنديسابور من أعمال فارس فلم بكن غريباً أن يكونوا حلقة الاتصال بين علم الإسكندرية والعرب فيكون منهم نقلة هذا العلم والحفظة عليه في عصر عصفت فيه أنواء الاضطراب فهددت الثروة العلمية الهيلينية بالزوال
ويحدثنا الأستاذ ماكس مايرهوف عن وثائق قيمة يتضمنها كتاب تاريخ الحكماء لابن أبي أصيبعة وأصلها عن كتاب لأبي نصر محمد الفارابي مفقود تتضمن (أنه بعد خضوع الإسكندرية للإسلام انتقل مركز الثقافة منها إلى (إنطاكية) وهناك استقر طويلا حتى قضى معظم أساتذة العلم نحبهم غير رجلين هجرا إنطاكية يحملان ما اقتنيا من كتب، أحدهما من (حران) في أعالي أرض الجزيرة، والثاني من (مرو) في بلاد العجم. وكانا من تلاميذ (المروزي) هذا إبراهيم المروزى ويوحنا بن حيلان. أما تلاميذ (الحراني) فكان منهم القس (إسرائيل) و (الكويري) وهذا الاسم الأخير تحريف للاسم السريانى كيوريه اوقيرس
وقد أفادت بغداد من علم الكويري والقس إسرائيل وحنا بن حبلان ما أفادت وانتفع بلاط العباسيين بطب هؤلاء، وأخذت عن هذا وذاك الثقافة الإسلامية ما أخذت عن طب القدماء وفلسفتهم.
وكان انتقال مركز العلم من الإسكندرية مستقر العلم الهليني اليوناني إلى إنطاكية في خلافة عمر بن عبد العزيز ومن إنطاكية إلى حران في خلافة المتوكل العباسي. وانتهى العلم في زمن المعتضد إلى عالمين هما (الكويري) و (يوحنا بن حيلان) الذي مات ببغداد في خلافة المقتدر، وعن هؤلاء انتقل إلى (إبراهيم المروزي) و (محمد بن كرنيب) وأبى بشر متي بن يونس وهما تلميذان لإبراهيم المروزي. وينسب إلى متي هذا إنه علق على كتب(264/43)
أرسطو في علم المنطق. وبوفاة متي هذا ببغداد في خلافة (الراضي) انتقلت الفلسفة العربية إلى أبي نصر محمد بن محمد الفارابي أحد تلاميذ حنا بن حيلان وهو أشهر من يرجع إليهم في المسائل الفلسفية من العرب والذي لم يكن ينافسه غير مسيحي واحد هو (أبو زكريا يحيى بن عدي)
ولقد سبق أن عرفنا أن دراسة الفلسفة اليونانية على الشكل الذي انتهت إليه في الإسكندرية هاجرت إلى (حران) مغادرة إنطاكية؛ وغدت حران بذلك وسطا لدراسة الفلسفة اليونانية، وعلم النجوم كما عرفه اليونانيون ولاسيما وقد صادفت هذه الناحية من نواحي الدراسة في حران فئة (الصائبة) من عبدة النجوم فوجدوا فيها مرتعاً ووجدت فيهم تلاميذ مخلصين. وهنا في حران نشأ بعض أعاظم فلكيي العرب أمثال (ثابت بن قرة) والبتاني وغيرهما
وقد تجلت العقلية العربية الهاضمة بكل مزاياها ومميزاتها في حركة النقل الكبرى في عصر المأمون فترجمت إلى العربية أشهر الكتب في كل ناحية من نواحي الثقافة. ويمكننا أن نعتبر هذه الثروة الفكرية الهائلة التي نجمت عن هذه الحركة أساس الثقافة الإسلامية كلها، وهي ثقافة متشعبة الأصول واسعة الأطراف يحتاج الإلمام بفكرة إجمالية عنها إلى مقال خاص
ولا غنى لطالب الثقافة الإسلامية عن الإلمام بالنواحي المختلفة التي شملتها هذه الثقافة وبعضها فكري بحت والبعض مادي له اتصال وثيق بالحضارة. وهذا الجانب المادي في اعتبارنا هو الطابع الجديد الذي طبعه العرب على وجه العالم منذ القرن السابع الميلادي حتى العصر الذي فشت فيه المدنية الأوربية بما استصحبت من ذوق جديد شغف العالم به فكان قاضياً على كثير من نواحي الحضارة الإسلامية، فحب الإيرانيين وشغفهم بتقليد الأوربيين في زمن الدولة الصفوية في القرن السادس عشر طبع التصوير الفارسي وهو مظهر من مظاهر الحضارة الإسلامية بطابع أوربي أفقده مميزاته الأساسية التي هي سر جماله وسحره، وانتشار الطراز الأوربي في البناء قضى في مصر مثلاً على الطراز التركي العثماني وهو آخر مدرسة من مدارس العمارة الإسلامية
ولعل هذه العناية التي بدت من جانب وزارة المعارف لإحياء الثقافة الإسلامية لا تكون قاصرة على إحياء الجانب الفكري منها، بل لعلها تتناول الجانب المادي أيضاً منها، فيعود(264/44)
إلى الحياة طراز إسلامي في البناء تتسم به مصر الإسلامية وينبعث منها إلى البلاد الإسلامية المجاورة، وتعنى مصانع النسج بإخراج أقمشة ذات أنماط فارسية بارعة الجمال كالتي عرفناها في دراساتنا. وتتمتع بلادنا بمركزها الجغرافي بمكانة طالما أدت بها أجل الخدمات كوسيط بين الشرق والغرب. وقد أغرم الغرب يوماً ما بفنون الشرق والغرب. وقد أغرم الغرب يوماً ما بفنون الشرق وحضارته وكان ناقلاً عنه بإعجاب شديد. ويعي تاريخ الفنون كثيراً من المعلومات عما كان بالبندقية في القرن السادس عشر من مدارس فنية مهمتها تقليد التحف النحاسية الشرقية والخزف الشرقي وما كان لصقلية من (طراز) أو مصانع النسج التي كانت تخرج منتجاتها محاكية الأنماط المصرية والفارسية محاكاة تدعو إلى كثير من الاغتباط والإعجاب
ولنا في موضوع الثقافة الإسلامية جولات مستقبلة إن شاء الله نتناول في إيجاز حركة النقل ونشوء المدارس والجمعيات العلمية الإسلامية في مقالنا التالي
(دار الآثار العربية)
إبراهيم جمعة
خريج معهد الدراسات العليا للآثار الإسلامية بدرجة الشرف(264/45)
بين العقاد والرافعي
(سارة) وغزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 13 -
حديثي اليوم عن (سارة) وعن غزل العقاد، فما يصح - في الحقيقة - أن يكون إلى جانب الفن الممتاز، والحياة الدافقة، والعبقرية المرموقة، مجال للأحاديث التافهة، والجدال العقيم، والطبائع المغلقة. نحن هنا في حرم مقدس، فلا يليق تدنيسه بالأهاذير!
ولقد كنت أخذت بعد إجمال الرأي في مكانة سارة من الأدب، أشخص بعض خصائصها. وسأتمم اليوم ما بدأت؛ إلا أن هناك ملاحظة أحب أن أعرضها. فالقارئ لسارة، المتتبع لمواقفها وحالاتها النفسية، التي تجسم حتى تصبح شخوصاً ملموسة، يجد كثيراً من الحالات والشخوص التي تشابهها في قصائد العقاد الغزلية؛ وقد مثلت لهذا في الكلمة الماضية بقطعة (الحان المسجد). وليس هذا عجيباً، فالعقاد هو خالق هذه الشخوص هنا وهناك، ولكنه جدير أن يلفت النظر بدلالته على أن شخصيتي (همام وسارة) عميقتان في نفس الؤلف، وأنه استوعبهما في نفسه وحسه قبل أن يبرزهما على الورق (قصة) ومن هنا كانت حياتها، وكان امتيازها. وسيرى القارئ أمثلة أخرى للتوافق أو التشابه بين كثير من الشخوص النفسية في القصة وفي الديوان
من الخصائص الفريدة في (سارة) تلك الملاحظة الدائبة على تسجيل الحالات النفسية وإبرازها وتحليلها. فما من خطرة خاطرة، أو خلجة عابرة، إلا وهي واضحة مرسومة، تبلغ في وضوحها حد التشخيص. وفي هذا القول ما يشمل الخاصية الأولى التي أشرت إليها في الكلمة الفائتة من التفات همام إلى (كل ذرة في نفس حبيبته وكل لحظة من لحظات حبه) ولكنني أعني هنا أكثر مما عنيت هناك، أعني الحالات النفسية التي أحس بها همام، أو أحستها سارة، أو أحساها معاً في مدى حبهما كله. فمن هذه الحالات تبرز شخوص شتى، تساوي أحفل القصص بالشخوص الحقيقية التي تعيش في الحياة. والواقع أن (الشخوص النفسية) كما أسميها في (سارة) أعمق، والالتفات إليها أصعب، لأنها تعيش(264/46)
فينفس من يرصد نفسه لملاحظتها وتسجيلها! فهي في حاجة إلى طاقة فنية كبيرة، وإلى ترتيب عقلي محكم، لكشفها وإبرازها
وكل شخص من تلك الشخوص لا يقل أصالة وفنية عن سواه، ولكنا نختار:
بعد قطيعة همام لسارة لقيته مصادفة، ودار بينهما حوار، واتفقا على أن تزوره في الساعة الخامسة موعدها القديم للقاء. ولكن هماماً كان قد ذاق قبل القطيعة ما ذاق، ثم آوى إلى ركن شديد واعتصم بالفراق والسلوان الكظيم. فلما كان هذا اللقاء المفاجئ، عادت إليه عقابيل الداء، ولم يعد مصمماً على انتظارها ولا مصمما على لقائها، و (العقاد) يصفه في يوم الموعد:
(ثم استيقظ في الصباح وهو يسأل نفسه كأنما يسأل مخلوقاً غريباً يجهل ما عنده من نية وشعور؟
(أتنوي أن تنتظرها في الموعد)
(فما هو إلا أن وضح السؤال في خاطره، حتى شعر بأنه سؤال غريب، يدل على ما وراءه، وحتى بدت له الدهشة من أن تكون هناك نية معقولة غير الانتظار!
(وهنا دارت في سريرة هذا الرجل - هذا الرجل الواحد - مناقشة عنيفة طويلة كأعنف ما تدور المناقشة بين رجلين مختلفين كلاهما مصر على عزمه، وكلاهما يحاول جهده أن يخدع الآخر ويستميله إلى رأيه، وكلاهما يبذل كل ما هو قادر عليه في هذا الحوار من أساليب الإقناع والأغراء والرياء والتصريح
- كيف لا تنتظرها؟ أتعطي سيدة موعداً ولا تنتظرها فيه؟ أهذا يليق برجل؟
- ولكنها ليست سيدة كسائر السيدات، ولا زائرة من زائرات المجالس العامة اللواتي تقع بيننا وبينهن هذه التكاليف إن هذه المجاملات أو هذه القيود لا حساب لها في العلاقات التي انطلقت من جميع القيود
- ولكن مم عساك أن تخاف؟ أنتظرها وقل لها: إنك لا تريد أن تراها بعد هذا الموعد!
- عجباً. . . أتجهل ما أخافه؟ أتجهل تلك الآلام التي لا حيلة فيها لمخلوق، ولا تزال تبتدئ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبتدأ لأنها تبتدئ من الشكوك، وليس للشكوك قرار حاسم ولا مقطع بيقين؟ أتجهل تلك الأشباح اللئيمة التي تطل عليك في أطيب أوقاتك(264/47)
فتنغص عليك كل لذة، وتكدر عليك كل صفاء؟
- لكن علام كل هذه الشكوك التي ليس لها أول ولا آخر. . . اصرفها عنك مرة واحدة، وافرض أسوأ الفروض، وقدر أنها تخونك، وأنك تلهو بها في ساعات فراغك، ولا يعنيك من شأنها بعد ذلك إخلاص ولا خداع
- أأنت مخلص فيما تقول؟ وكيف تنقلب هذه المرأة التي كانت كل نساء الأرض عندي، وكل ما يخفق له قلبي، فتصبح بين مساء وصباح، وهى لهو ساعة، ومتعة فراغ؟ أهذا خداع يجوز على إنسان؟ أو تضمن إذا أنا اتخذتها لهواً ومتاعاً ألا يتمكن الهو وبطيب المتاع، وأننا لا ننكفئ بعد أيام أو بعد أسابيع إلى استغراقنا القديم، وشكوكنا القديمة، وعذابنا الأليم؟ لا، لا هذا مجال باطل، واستدراج لا يستر ماوراءه، وتزوير لا أرضاه
- (لكن الفتاة مليحة مع ذاك. . تصور بضاضتها وهى جالسة إلى جانبك في المركبة، وأنفاسها وهى تهب على خدك فتسري في جميع أوصالك، وقبلتها وهى ترتعش على شفتيك، وحلاوتها وقد زادها النحول في هذه الأشهر حلاوة على حلاوة، ونحولها نفسه وما ينبئ عنه ويكشفه لك من المودة والحنين، وتصور ذلك كله بين يديك في مدى بضع ساعات، وأنت مع هذا تفكر. . تفكر في ماذا؟ في نبذ هذه النعمة التي تسعى إليك، وفي الخوف والجبن والفرار!
- (هذا حق كله. إن الفتاة لمليحة ولا نكران. . ولكن!
- (ولكن ماذا يا أخي. .! انتظرها واله بها، ولا تدعها لغيرك ينال منها ما لا تنال. . . ولا تستضعف عزيمتك هذا الاستضعاف المهين، وأنت رجل ذو عزيمة ومضاء، فإذا عاودتك الشكوك فأنت قادر على قطع العلاقة بينك وبينها كما قطعتها من قبل، وإلا فأنت رابح ما استرجعت من متعة وسرور.
- (عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هذا النزاع العنيف؟
- (إنها تنجدك في كل حين، ولكنك أنت لا تريدها الآن. . . لا تريد عزيمة الجفاء والقطيعة، ومتى أردتها غدا فهي حاضرة لديك، وهى في كل ساعة طوع يديك. . ومع هذا ألا يشوقك أن تستمع إلى حديثها عن أيام القطيعة بينكما؟ ألا يجوز أن تفسر لك بعض الغوامض، وتريك من البواطن ما ينقض الظواهر، وتصف لك من حالها في غيابها عنك(264/48)
ما يهمك ولو من باب الدراسة والاستقصاء؟.
(وتعاقبت الساعات ساعة بعد ساعة في هذا الحوار الحثيث ولا قرار
(وتناول صاحبنا غداءه ولا قرار
(وجاءت الساعة الرابعة ولا قرار
(نعم لا قرار فيما يشعر به صاحبنا، أو صاحبانا المتحاوران، على أصح التعبيرين. غير أن الذي حدث بعد ذلك يدل دلالة لاشك فيها على أن الإنسان يقرر ما ينويه وهو لا يشعر ولا يعترف بشعوره، بل يدل على أن صاحبينا المتحاورين لم ينفردا بالميدان فيما شجر بينهما من عراك عنيف، وإنما كان معهما ثالث لا يدريان به، وهما ماضيان في الإقناع والإنكار.
(ففي الساعة الرابعة وبضع دقائق - والحوار على أشده بغير قرار - وجد صاحبنا أنه يلبس ملابس الخروج، ويفتح باب حجرته، وينحدر على الدرج، إلى حيث لا يعلم إلا أنه خارج من المنزل وكفى. ومضى في طريقه مهرولا كمن يمضي إلى غاية معلومة يخشى أن يفوته لحاقها، وركب سيارة لم يعرف إلى أين تحمله إلا بعد أن استقر فيها، واستطاع أن يمكث حيث ذهب ساعات ثلاثا لا ساعة واحدة ولا نصف ساعة كما كان يتمنى وهو يعالج أن ينجو من الموعد المحدود!
(ثم ساوره القلق، ودلف إلى منزله بالسرعة التي فارقه بها، واستحالت كل حيرته قبل الخروج إلى حيرة أخرى، أو شوق
آخر: وهو أن يعرف ما حدث في غيابه بجميع تفصيلاته: هل حضرت في الساعة الخامسة أو حضرت قبلها أو بعدها؟ وماذا قالت حين علمت بخروجه؟ وما بدا على وجهها وهى تصدم بهذه (المقابلة)؟ وإذا كانت لم تحضر فما الذي عاقها عن موعدها؟ ولماذا ضربت ذلك الموعد باختيارها؟ هل ضربته وهى تنوي أن تخلفه من اللحظة الأولى، أو طرأ الحائل بعد ذلك على الرغم منها؟)
أما الذي حدث بعد هذا، ففي القصة نبؤه والى هنا يستطيع القارئ أن يدرك الصدق والبراعة والامتياز في تصوير هذه الشخوص النفسية. ومتى علمنا أن القصة حافلة بها، أدركنا قيمتها الفنية، وقيمتها كذلك في الدراسات النفسية العالية.(264/49)
ولعل مما تزيده هذه الحالة وضوحا قراءة هذه الأبيات بعنوان (النعيم المفقود)
فيم اجتنابك ظلها الممدودا؟ ... ولم اتقاؤك يومها الموعودا؟
ولأي طارقة كرهت مزارها ... وذممت طالعه، وكان حميدا؟
تلك المآلف كنت تهتف باسمها ... كيف اجتويت جنابها الممهودا؟
تخشى اللمام بها وتفزع أن ترى ... شفة تردد ذكرها ترديدا
كانت سماءكما فأصبح وردها ... كالقبر يغشاه النزيل وحيدا
وغدت كأنك حيث تقبل واجد ... شبحاً هنالك للنعيم شريدا
الآن فاستقبل بكل محلة ... رصداً يردك هائماً مزءودا
وأقم لنفسك في منازل لهوها ... منفى على قرب الديار بعيدا
لا النيل مطروق الرياض ولا حمى ... خوفو على تلك الذرا مقصودا
وترى دواعي (عين شمس) بُدّلت ... لعناتِ شؤم ينتحين طريدا
يجني عليه بشوشها ويذوده ... ما كان يجذبه إليه سعيدا
وجد الجحيم بكل أرض من رأى ... في حيث سار نعيمه المفقودا
وإذا كنت لا أستطيع أن أستقصي الحالات النفسية في القصة، فلابد أن أشير إلى حالة الشك من ص24 إلى ص27 في القصة، وأن أنصح طلاب الأدب النفسي الرفيع بمراجعتها وقراءة قصائد: (يوم الظنون ص327 والحب المريب ص328 من الديوان. وكذلك فصل (القطيعة) والوعي الفني لحالة همام وسارة قبلها، وهما يندفعان في القرب واللقاء، ويندفعان في الوقت ذاته إلى القطيعة من حيث يشعران أو لا يشعران!، ولا يكون للحب من غذاء هذه الفترة إلا قوة الاستمرار من الماضي، وخوف المستقبل، لا الرغبة في البقاء والدوام وذلك من ص86 إلى ص90 من القصة. ومثلهما حالة (همام) بعد اليقين وسفر أمين في ص191 من القصة ومعها قصيدة اليقين ص339 وقصيدة السلو ص335 من الديوان
وفي قصة (سارة) عقد المؤلف فصلا بعنوان (لماذا هام بها؟) تقرأ هذا الفصل فترى فيها التفسير الكافي لا لحب (همام) بل كذلك لغزل (العقاد) كله في دواوينه، وتلمح فيه ذلك النضوج الفني والنفسي الذي ألمعنا إليه في خصائص (سارة) الأولى.(264/50)
فقد (هام بها) أولاً: لأنها تعمقت في حياته، وتعمق في حياتها رويداً رويداً، وكانت الطبيعة من ورائهما تدفعهما إلى هذا التعمق، وتوغل بهما في دروبها ومنحنياتها، وهما يلتذان هذا الإيغال، لأن الالتذاذ به وديعة مذخورة في نفسيهما من ودائع الطبيعة الأريبة
(وهام بها) ثانياً: كما يقول لأنه وجد (لذة الاستكشاف الدائم المصحوب بالتجديد والتنويع، فإن الرجل ليسره أن يستكشف المرأة، ويسره إلا يزال واجداً فيها كل حين ميداناً جديداً للاستكشاف، ويسره أن يراقب المرأة وهى تستكشفه وتتخذ لها منسرباً إلى عواطفه، وترفع من دخائله حجاباً وراء حجاب، ويسره أن يستكشفا الدنيا معاً، والناس معاً والطبيعة معاً، بروح مركبة من روحين وجسد مؤلف من جسدين، وضياء كله شفوف وتجديد، وآفاق تنساح إلى آفاق
(فإن وقف الاستكشاف ولم يتجدد من جانب الرجل ومن جانب المرأة فقد يكون سبباً للسآمة والعزوف لا سبباً للشغف والهيام
(إن المرأة في استكشافها الرجل لكمن يجوس خلال الغابة المرهوبة ليهتدي أولاً وآخراً إلى موطن الرهبة منها ووسيلة الطمأنينة إلى تلك الرهبة؛ ثم يرتع في صيدها وثمرها ويشبع من مظاهر العظمة والفخامة فيها
وإن الرجل في استكشافه المرأة لكمن يجوس خلال الروضة الأريضة ليهتدي إلى مجتمع الظل والراحة والمتعة والحلاوة بين ألفافها وثناياها. فهو يستكشفها ليعرف أحلى ما فيها، وهي تستكشفه لتعرف أرهب ما فيه، ثم تصبح الروضة روضة وغابة، وتصبح الغابة غابة وروضة، ويقوم حواليهما سور واحد يشعران به إذا خرجا إلى الدنيا، ولا يشعران به وهما بنجوة منها
(وكان همام وسارة يتكاشفان كل يوم ولا يخفيان أنهما يتكاشفان، بل يتحدثان بما يعن لهما من شأنها وشأنه، كأنهما رحالتان في نزهة طويلة، يشتركان في مراجعة عمل النهار كلما سكنا إلى ظلال الخيمة في المساء
(كان يراقبها في نفسها ويراقبها في نفسه؛ كان يرى المرأة المرحة الطروب وهى تلهو وتعبث، ويرى المرأة الكسيرة المطواع وهى تلتمس الأمان والعزاء، ويرى الإنسانة الفطرية وهى تطيع الغريزة وتلبس (دورها) على مسرح الطبيعة بين نباتها وحيوانها(264/51)
ومكانها وأهوائها، ويرى المرأة الذكية وهى تقرأ النثر والشعر، وتنتقد الصور المتحركة، ويرى المرأة العصرية وهى تتغلب على امرأة الجيل الغابر في ميدان، وتخضع لها وتنهزم أمامها في ميدان، ويرى من وراء ذلك جميعه، وفي كل ذلك جميعه، المرأة الخالدة التي لا تتحول ولا تتبدل، و (الأنثى) السرمدية التي يهمها من (الذكر) الحماية والجاه قبل كل شيء وبعد كل شيء، ولا يهمها العقل والرجحان والفضائل والمناقب إلا لأنها وجه من وجوه الحماية والجاه)
و (هام بها) ثالثاً: لأنهما (مازالا يتكاشفان ويتكاشفان حتى علما أنهما مكشوفان لا يتواريان في جنة لا ينبت فيها ورق التين، فكان هذا التكاشف سبباً ثانياً من أسباب هيام همام
(ومن أسباب هيامه بها ألفة متغلغلة في أنحاء النفس والجسد كألفة المدمن للعقار المخدر: من شاء أن يسميها حباً فهو صادق ومن شاء أن يسميها بغضاً فهو صادق، ولمن شاء أن يزعم أن المدمن يتعاطى عقاره وهو راغب فيه، ولمن شاء أن يزعم أنه يتعاطاه وهو ساخط عليه. فقصارى القول أنه يتعاطاه، وأن الإقلاع عنه يكلفه جهد الطاقة وغاية المشقة)
و (هام بها) لغير هذا وذاك وذلك من الأسباب، والقارئ خليق أن يقولها في نفس واحد، لقد هام بها لأنه رجل كامل الرجولة، ولأنها امرأة كاملة الأنوثة مع ما فيهما بعد ذلك من امتياز واختصاص
والناس يحبون، ولا يسألون أنفسهم لماذا أحبوا، ولا يكلفون أبطال قصصهم هذا السؤال. ولكن العقاد هو الذي يصنع ما يقول همام:
(أنا أستمتع بالشيء ثم أبحث عن فلسفته، وإنني لأبحث عن فلسفته كما يجيل الشارب الكأس في جميع جوانب فمه ولهواته، كما لا يبقى جانب من النفس لا يأخذ نصيبه من متاعه، فأحسه، واعمله، وأذكره، وأفكر فيه، وأستقصي معناه!)
وهذه الجملة مفتاح من مفاتيح أدب العقاد، ولاسيما غزله الذي يقف أمامه المغلقون، فيقولون هو غزل عقلي، تملؤه الفلسفة، وتقل فيه العاطفة. ولعلهم يعرفون الآن لماذا يتفلسف العقاد بعد الاستمتاع، ولعلهم يدركون أن هذه إحدى وسائله لتعميق الإحساس بالحياة، وإفساح جوانبها لمتعة العاطفة، وكل جوانب النفس الإنسانية
وأنت واجد بعد كل أولئك في (سارة) مظاهر واضحة لنضوج الحب في نفس (همام)(264/52)
وفسحة النفس لتلقي أطيافه المختلفة، وفسحة أخرى لتلقي أنواع الجمال، وأنواع المرأة وإعطاء كل منهن ما تستحقه طبيعتها من الاهتمام والاتجاه. وخبرة تامة بنفسية المرأة الخالدة وغرائزها وخصائصها الأنثوية، وخبرة مثلها بنفس (سارة) ممثلة هذه المرأة الخالدة، وتصوير بارع لخصائصها ومميزاتها، وتدرك منه مقدار امتيازها واستحقاقها لحب (همام) وقد عقد عنها فصلاً بعنوان (من هي؟) ولكنك خليق أن تطلبها كذلك في غير هذا الفصل من مبدأ القصة إلى نهايتها، فأنت واجد في كل صفحة، وكل موقف جزءاً من (ماهيتها) التي حللها في الفصل المعنوي المحدود
وإنما أجمل هذا الأجمال السريع حيث يحلو التفصيل ويجمل لأنني استغرقت الفراغ المحدد لي من (الرسالة) ولم أتحدث عن (غزل العقاد) وإن كنت قد وضعت بعض الأسس للحديث عنه
فإلى اللقاء.
(حلوان)
سيد قطب(264/53)
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 4 -
أشفقنا على كاتب المقالات (بين العقاد والرافعي) من هول ما جنى على نفسه بتسخيره عقله لهواه فيما تصدى له، فدعوناه إلى أن يفيء إلى الحق ويسلك في أدبه سبيل القرآن قبل أن يحق عليه ما حق على كل مجانب لطريق القرآن من قبله. لكننا لم نكد نتم قراءة مناقشاته وشروحه التي بسط في العدد 262 من الرسالة حتى أيقنا أننا أمام مغرور لن يدع له غروره مرجعاً إلى حق، ولا رجوعاً عما هو بسبيله من مكابرة ومماراة
وكان أكبر ما أيأسنا وآسفنا منه في كلمته تلك جوابه على ملاحظة الفاضل الفلسطيني الذي نبهه بجلاء ووضوح إلى خطئه فيما اعتبره تناقضاً بين تلخيص الرافعي لرأي شوبنهور في الجمال وبين حقيقة ذلك الرأي. في ذلك الجواب بعد أن ذكر أن نصف تلك الملاحظة في موضعه قال: (وقد نشأ هذا عن اضطراب في ترتيب بعض اجمل! وكثيراً ما يقع مثل هذا فنكتفي بفطنة القارئ) ولكن مع هذا بقي التناقض بين قول شوبنهور وتلخيص الرافعي واضحاً). وأكبر المآخذ على هذا الكلام خلقي لا عقلي، وموضع المؤاخذة هو ما بين قوسين - والقوسان من عندنا - فقد كبر عليه أن يعترف بالخطأ صراحة فجعل يخادع عن خطأه بالتماس تعليل لا ينطبق على الواقع كما فعل بالضبط في مقاله الثالث حين أراد أن يخرج من رأي ارتآه في الرافعي إلى رأي. ومخالفة تعليله هذا للواقع يتضح من كلامه الذي انتقده الفاضل الفلسطيني من مقاله التاسع في العدد 260 من الرسالة. ونحن موردون الآن ذلك الكلام بنصه؛ قال:
(ثم هذا الخلط بين الرأي الذي جاء به الرافعي وبين رأي شوبنهور، ونسبة كلام إلى رجل يقول ضده تماماً. الفيلسوف يقول: إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة. فيقول الرافعي عنه: إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة. وهو عكس قول شوبنهور. ثم يعود فيقول: (وإنها تفرحنا كلما(264/54)
ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة. وهو عكس كلام الرافعي الأول!! فأيهما يريد؟ أغيثونا بالله يا أصحاب الفهم وقولوا لنا متى تفرحنا الأشياء ومتى تحزننا؟ وأي القولين ينسبه الرافعي لشوبنهور وأيهما ينفيه عنه؟)
هذا نص كلام سيد قطب الذي يزعم أن في ترتيب بعض جمله اضطراباً هو علة الخطأ الذي نبهه الفاضل الفلسطيني إليه، ويزعم وراء ذلك أن هذا الاضطراب الموهوم في ترتيب الجمل كثيراً ما يقع فيكتفي بفطنة القارئ! والقارئ يرى في الكلام اضطراباً ولكن في الفهم والحكم لا في ترتيب الجمل، فإن الجمل ترتيبها مستقيم كما يتضح لسيد قطب نفسه فإنه مدرس لغة عربية؛ وليس هناك شك في أن الجمل كانت مرادة كما هي بترتيبها ومعناها حين خرجت من قلمه أول مرة. لكن العزة تأخذه بالإثم فيحاول أن يفر من تبعة خطأ في الفهم قد يغتفر فيقع في تبعة ادعاء مخالف للواقع لا يمكن أن يغتفر بحال. ويزعم مع ذلك أنه يمثل مدرسة (جديدة تعنى بتصحيح المقاييس الأدبية عنايتها بتصحيح المقاييس النفسية)!
مثل هذه المكابرة في الواضح المحسوس هو الذي ييئسنا من هذا الكاتب أن يقر بخطأ أو يرجع إلى الحق إذا وضح مادام هذا الحق عليه لا له
وقد ارتكب سيد قطب ذلك الخطأ الخلقي ليفر من خطأ عقلي فوقع في خطأ جديد من غير أن ينجو من خطئه القديم. إن كلام الرافعي في تلخيصه شوبنهور كلام متسق لا ينقض أول منه آخراً ولا آخر أولاً. وإذا كان آخره يوافق رأي شوبنهور بإقرار قطب فأوله يوافقه أيضاً. إنما أراد الرافعي أن يفسر رأي شوبنهور ويقربه للذهن بتعليل معقول يزيل عنه غموضه وتجرده فلم يفهم قطب تفسير الرافعي واستمسك بجملة فيه قطعها عن أخواتها فبدت له كأنها تثبت ما يريد من تناقض الرافعي
شوبنهور يقول - فيما لخصوا له - إن الجمال يكون في عالم الفكرة المنقطع عن الأغراض والشهوات، ولا يكون في عالم الإرادة المتصل بالأغراض والشهوات. وهو كلام غامض ليس يسهل فهمه وتصوره، فالتمس الرافعي له توجيهاً وتعليلاً حسناً بقوله أن الجمال المتصل بغرضك وشهوتك ليس بجمال، لأن غرضك وشهوتك هما زينا الشيء لك فبدا جميلاً وإن لم يكن جميلاً في الحقيقة. فهو باعتبار الإرادة أي الغرض والشهوة جميل،(264/55)
وباعتبار الفكرة المجردة عن الغرض والشهوة لا جمال فيه. فتعلق قطب بالكلمات (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه) كما يتعلق الغريق وقال إن الرافعي يناقض بها رأي شوبنهور! ولو لم يكن يفكر بهواه لا بعقله لرأى أن هذه الكلمات في كلام الرافعي راجعة إلى شيء في عالم الإرادة تعلق به الغرض والشهوة، وهذا الشيء في رأي شوبنهور غير جميل باعتراف سيد قطب نفسه. فقطب هو الذي لم يفهم عن الرافعي، ورمى الرافعي بأنه لم يفهم عن شوبنهور في كلام طويل جعل يشير فيه ويصيح ويستغيث.
هذا المقال يمثل من الناحية العقلية ضربا آخر من أغلاط قطب ويبرز علة أساسية في سوء تقديره الرافعي. إنه في كثير من الأحوال يخطئ غرض الرافعي ويفهم من كلامه غير ما أراد ثم يحكم عليه بما لم يرد وما لا يدل عليه كلامه: يسرف على نفسه وعلى الرافعي في الحكم وهو في الحقيقة قد أخطأ جوهر الموضوع.
خذ مثلاً لذلك رميه الرافعي بأنه ينظر إلى الأمور نظرة مادية ويذكر نفسه وقلبه في سوق (المجوهرات) معتقداً أنها أثمن من القلوب إلى آخر ما تشدق به وافترى على الرافعي.
وسيد قطب يلقي الدعاوى ثم يثبتها بأمثلة، وهو طريق في إثبات الدعاوى غريب لا يثبت منها شيئاً ولو صحت الأمثلة كلها. ومع ذلك فإن كل مثال جاء به سيد قطب ليثبت به دعواه تلك هو مثال أخطأ فيه غرض الرافعي وأخطأ لب الموضوع
إن أول ما هاج قطب إلى تلك الدعوى قول الرافعي من قصيدة له في الحب معجبة:
قلبي هو الذهب الكري ... م فلا يفارقه رنينه
قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينه
وواضح أن هذه كأبيات العقاد التي ذكرها اللبابيدي، من باب التشبيه ومن التشبيه في ناحية مخصوصة واضحة في كل من البيتين. فالرافعي يشبه قلب نفسه بالذهب الكريم لا من ناحية سعره وقيمته - ولو قال الرافعي هذا ما كان فيه عليه من بأس إذ يكون واضحاً عندئذ أن قلبه في القلوب كريم كالذهب في المعادن - ولكن من ناحية أن عاطفته النبيلة لا تفارقه كما لا يفارق الذهب رنينه. والذهب في لغة العلم فلز نبيل لا يصدأ في الجو ولا تؤثر فيه الأحماض ولا القلويات وإن أثر فيه الكلور المتولد. فكأن الرافعي يقول إن قلبه يحتفظ بنبله وطهارته رغم المغريات والفتن كما يحتفظ الذهب برنينه رغم المصدئات(264/56)
والمغيرات. واختيار الرافعي خاصة الرنين من بين خواص الذهب رمزاً لتلك الخواص ينطق بلطف شاعرية الرافعي وسلامة طبعه، فإن خاصة الرنين أشبه خواص الذهب بعواطف القلب: هذه يثيرها ويحركها وقع الحوادث والمناظر، وذاك يثير موجاته نقر القضبان والأنامل. فليست القافية هي التي ألجأت الرافعي إلى اختيار كلمة الرنين، ولو فعلت لكان ذلك أوثق لشاعريته، لأن من أصدق الدلائل على شاعرية الشاعر ألا تصرفه قافية عن غرضه، ولا تستنزله عن بعضه، بل تخدم قافيته غرضه فيجتمعان له كلاهما في سهولة ويسر. وهذا من أصدق مظاهر الطبع في الشعراء
والمهم في بيت الرافعي أنه لم يشبه قلبه بالذهب من حيث قيمته ولا من حيث نوع رنينه، بل في الخاصة الواحدة التي يمتاز بها الذهب من سائر الفلزات غير النبيلة: أنه لا يفارقه رنينه، وإن اختلفت عليه المؤثرات والظروف. وهناك فلزات أخرى كالنحاس والفضة لها رنين قد يكون في الأذن أوقع من رنين الذهب لكن هذا خارج عن مقصد الرافعي. إنما الذي يريد الرافعي توضيحه بالتشبيه هو ثبوت قلبه للحوادث وعدم ذهاب المغريات والأهواء بلبه كما تذهب بأكثر القلوب والألباب. فهدته شاعريته إلى تشبيه قلبه في هذه الخاصة التي تميزه في القلوب بالذهب الكريم الذي يمتاز من غير النبيل من أفراد جنسه باحتفاظه بخواصه ورنينه، على رغم المؤثرات المغيرة، لا يشركه في ذلك فضة ولا حديد ولا نحاس
أما نوع العاطفة التي يستجيب بها قلبه للحوادث فقد أشار إليها ألطف إشارة في البيت الأول حين وصف الذهب بأنه الذهب الكريم. ويشهد للطف حس الرافعي في الشعر أنه اختار هذا الوصف دون كل الأوصاف التي يستقيم بها الوزن. فلم يقل مثلاً قلبي هو الذهب الثمين فيدع لكل متجن مترصد متكأ يتكئ عليه في تهمته التي يتهم بها. والرافعي طبعاً لم يكن يعرف الغيب لكن الشاعر المطبوع يتجنب المزالق بلطف حسه وقوة طبعه. وهذا مظهر آخر من أصدق مظاهر الشاعرية والطبع في الشاعر المطبوع
لكن الرافعي أراد أن يتبع تلك الإشارة اللطيفة إلى نبل قلبه بما يظهرها ويوضحها فلا يكون هناك شك في نبل ما يتحرك به قلبه من عاطفة، كما لم يكن هناك شك بعد بيته الأول في ثبوت قلبه على تلك العاطفة برغم الفتن والأحداث. أراد ذلك فأتبع بيته الأول بيته(264/57)
الثاني:
قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينة
والألماس يعرف بعدة خواص: يعرف بكثافته النوعية، ويعرف بصلابته، فهو يخدش ولا يخدش. لكن هاتين الخاصتين لا تصلحان مطلقاً لأن تكونا وجه شَبه بين الألماس وبين قلب الرافعي، لأنها إلى وصف القلب بالغلظة والقسوة أقرب. فهدى الرافعي لطف حسه وصدق طبعه مرة أخرى إلى اختيار الخاصة الواحدة من خواص الألماس التي تليق أن تكون جامعة بين الألماس وبين قلب مثل قلب الرافعي: خاصة أخذ الألماس للنور والتأثير فيه بتفريقه إلى أضوائه المتعددة بألوانها الزاهية الجميلة، ثم إرسال تلك الأضواء كلها مجتمعة غير مشتتة فتخرج منه باهرة يكاد بريقها يذهب بالبصر. وهي خاصة يشرك الألماس فيها الزجاج والبلور إلى حد ما، ولكن لا بتلك الدرجة التي اختص بها الألماس والتي هي أساس تقدير الناس له، فالألماس بهذه الخاصة الفريدة أشبه قلب الرافعي، وأشبهه قلب الرافعي فيما يتناول ويجمع من مختلف الأحاسيس الكريمة والعواطف النبيلة فيهذبها وينظمها ويرسلها أشعة قلبية كريمة طاهرة باهرة تعرفها في مقالاته رحمه الله في الرسالة، وتعرف قلبه بها في القلوب كما يعرف ثمين الألماس بأشعته من مزور الألماس.
أرأيت دقة هذين التشبيهين وحسن التمثيل فيهما وشموله وكرم المعنى مع كرم اللفظ؟ هذا هو الذي أخطأه سيد قطب فلم يفهم من ذلك اللفظ الواضح إلا ما تبادر إلى ذهنه من المعاني السطحية السوقية المتعلقة بالماديات وسوق (المجوهرات)، فيزعم أن هذا هو مراد الرافعي، ويحكم على الرافعي به وما يحكم إلا على نفسه. ولو كان العقاد هو قائل هذين البيتين لأدرك قطب منهما هذا المعنى الذي وضحنا مع تمام التطابق في أوجه الشبه بين طرفي التشبيه، ولأتخذهما دليلاً لا على نبل العقاد وسموقه وتفرده فقط كما يجب أن يقول، لكن أيضاً على اتساع ثقافته وعلمية تفكيره. لكن اصطناع المعاني العلمية في الأدب يحتاج فيما يظهر إلى شرط آخر حتى يعجب سيد قطب، يحتاج بعد الفهم إلى أن يكون مصطنع ذلك في الأدب هو العقاد.
على أن الرافعي رحمة الله عليه لم يكتف بما في بيتي التشبيه من دلالة على ما يريد مما فصلناه، بل أراد ألا يدع الأمر في ذلك للفهم وقد يخطئ، ولا للتأويل وقد يختلف، إذ قد(264/58)
يكون القلب ما يكون ويزعم صاحبه أنه نبيل يخفق بكل نبيل من العاطفة والشعور. أراد الرافعي أن يرفع الشك من هذه الناحية بالتصريح عما يريد فيكون ذلك تلخيصاً لمراد البيتين وتفسيراً لهما وقطعاً للشك في معناهما فأردفهما رحمة الله عليه بقوله:
قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه
فهو يتأثر بالجمال في شتى مظاهره ومواطنه، لكن تأثره بالجمال وإن عظم لا يخرجه عما يرضي الخلق الكريم والدين القويم كما تخرج أكثر القلوب خصوصاً في هذا الزمن الغريب الكنود الذي كأنما طابع أهله الجحود فيأبون إلا أن يجعلوا شكر الله على نعمة الجمال معصيتهم لله فيه. ولا كذلك الرافعيُّ، فقلبه رحمه الله كان يستجيب لدواعي الجمال فيخفق له خفقاً ويهتز به اهتزازاً لكن من غير أن يخرج في ذلك عما يعلم أن لله فيه رضا. قلبه يحب وإنما أخلاقه فيه ودينه. وهذا عندنا من الفروق الأساسية بين المدرسة القرآنية التي ينتسب إليها الرافعي وبين المدرسة التي تتلقب بالجديدة وهي قديمة قدم الشهوة على وجه الأرض. وقد أشرنا إلى ذلك في كلمتنا الأولى ونرجو أن تكون لنا إليه عودة قريبة إن شاء الله
هذان موضعان أخطأ فيهما ناقد الرافعي غرض الرافعي برغم وضوح كلامه، فأخطأ لب الموضوع واتخذ ذلك دليلاً على ما الرافعي منه بريء
وموضع ثالث أخطأ فيه جوهر الموضوع مرة أخرى واتهم الرافعي، قول الرافعي فيما نقل الكاتب من رسائل الأحزان حين أراد أن يقص على صاحبه قصة حبه بغير ترتيب: (فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم لك تاريخ لؤلؤة فريدة) هذا قول الرافعي الذي جعله سيد قطب مثالاً لمادية الرافعي ومغالاته (بالمجوهرات) إذ لا فرق لدى الفنان الحي بين أن يقص تاريخ صخرة وتاريخ لؤلؤة إلا أن يكون (الثمن) هو الفارق بينهما. والفنان الحي الذي يستشعر الحياة في أعماقها في رأي قطب كان يقول في هذا الموضوع إنه سيقص قصة بنية حية يدخل في تأليفها الحس والشعور (أو تاريخ نبتة تنمو من داخلها أكثر مما تنمو من خارجها) إلى آخر ما أظن أنه يدل على حياة الفنان. ولو جاء الرافعي بمثل ما قال صاحبنا ما سلم من قوارص كلمه وباطل تهمه. وإذا كان كتاب يضطرم بالحب ويتضرم بآثاره لا يدل عند مثل سيد قطب على حياة القلب الذي زاد به(264/59)
العذاب حتى فاض بالكتاب تنفيساً عن نفسه، فهل كان يدل على حياة ذلك القلب عنده أن يمثل في جملة عارضة بنبتة حية أو بنية حية، أو ما شاء أن يختارها من عالم الأحياء؟
على أن النبتة الحية أو البنية الحية التي يدخل أو لا يدخل في تكوينها الشعور لا تغني شيئاً في التمثيل لما أراد الرافعي أن يمثل له. إن الرافعي أراد أن يقول أنه سيقص قصة حب قليل الشبيه عزيز النظير: حب نادر كاللؤلؤة الفريدة لا حب عادي كالصخرة المتدحرجة. فالنبتة الحية أو أي بنية حية يقترحها قطب مما قرأ في علم الأحياء هي والصخرة المتدحرجة سواء في العادية والشيوع، من شاء يضع يده على مثلها وضع. ولو مثل الرافعي بها للحب القادر الذي يريد أن يقص قصته لما كان هو الرافعي في لطف حسه وسلامة طبعه ونفوذ بصره وصدق تمثيله، ولوقع فيما لا يصح أن يتهم من أجله بأنه شكلي ينظر إلى ظواهر الأشياء ولا يفقه بواطن الأمور. لا! ما كان الرافعي في مقام التمثيل للشيء الفريد النادر ليقع فيما كان يقع فيه صاحبنا الفنان الحي من التمثيل بنبتة حية أو بنية حية، دخل في تأليفها شيء غير الزمان والمكان أو لم يدخل. لكن الرافعي اختار للتمثيل شيئاً نادراً قابله بشيء عادي هو الصخرة المتدحرجة من السهل أن يراه الإنسان في مكانه المناسب
ومن الغريب أن الرافعي اختار للتمثل لحبه النادر الذي كان، شيئاً فريداً لا ينتج إلا من الحياة، ومن الحياة عند ملتقى بحرين، وإن كان هو في ذاته غير حي. وكلها أوجه شبه بين اللؤلؤة الفريدة وبين حب الرافعي الذي كان. فهو حب فريد أنتجته الحياة عند ملتقى قلبين أو نفسين مختلفتين في النوع اختلاف البحر والنهر وبينهما مع ذلك من الصلات الفطرية الوثيقة ما بين البحر والنهر. ثم هو حب كان وانقضى فهو كاللؤلؤة لا في الانفراد فقط ولكن في انقضاء النمو وفي عدم الحياة. ترى هل كان الرافعي رحمه الله ينظر إلى كل ذلك حينما مثل لحبه باللؤلؤة الفريدة ولم يمثل بالماسة الفريدة مثلاً، وهي والصخرة من قبيل واحد؟ أكبر الظن أنه كان ينظر إلى كل ذلك في مثله الذي اختار. ولئن لم يكن واختار بفطرته المثال الواحد الذي يشبه حبه من كل تلك الوجوه فلقد أقام من حيث لا يقصد الدليل الحسي الذي لا ينقض على انه رجل الفطرة السليمة والطبع الذي لا يضل. ولا يضره بعد ذلك ألا يسمو إلى فهمه أناس يتهمونه اتهام البغضاء، وهو مما يتهمونه براء(264/60)
وهناك أمثلة أخرى كثيرة أخطأ فيها سيد قطب جوهر الموضوع، لكنا نقتصر الآن على ما هو من قبيل الأمثلة السابقة في غير تفصيل إذ لا نرى الآن إلى التفصيل من حاجة.
هناك قول الرافعي عن الأعرابي الذي كانت الشمس تلوح له على حائط حبيبته أحسن منها على حيطان جيرانها: (قد والله صدق وبرت يمينه فإن في كلماته الشعرية لأثرا من عينيه، إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي لا على الحجر والمدر) فظن سيد قطب أن الرافعي اختار البلور لأنه أثمن من الحجر والمدر، وليس كذلك؛ إنما اختاره لفعله في أشعة الشمس وتفريقها إلى الألوان المحببة التي يفرح بها الصغار إذا نظروا إلى الأشياء من خلال منشور من زجاج الثريات والتي تبدو للكبار إذا ترقرق الندى في ضوء الشمس في الصباح، وتبدو للكبار والصغار إذا انعكس الضوء المائل عن مرآة سميكة من البلور. ولا شك أن الأعرابي في سذاجته لو رأى الشمس ساطعة على (حائط) من البلور لراقته تلك الألوان ولفضلها على الشمس على بقية الحيطان. لكن سيد قطب برغم قراءاته في علم الضوء في الطبيعة لم يفهم عن الرافعي ما أراد فاتهمه مما هو منه براء
وهناك قول الرافعي في رسائل الأحزان: (ثم يجري كلامه فيها شعراً خالداً مطرداً كنهر الكوثر في رياض الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت). قال الرافعي هذا فزعم صاحبنا أن الرافعي لا يتشكك في أن النهر الذي حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت (أجمل) من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر ومجراه على الرمل والطين. ولا ندري كيف استباح أن ينسب إلى الرافعي كلاماً لم يقله ومعنى لم يقصده، وهو على أي حال فيه بعد حتى عن الواقع. فالنهر لا تكون حافتاه دائماً من العشب الأخضر، ولو كانتا فإن الرافعي لم يذكرهما بعشبهما، ولو ذكرهما ما كان ذلك حكماً منه للذهب بأنه أجمل من العشب لأن المقام ليس مقام تمثيل للجمال ولكن مقام تمثيل للخلود والاطراد. وليس هناك من شك، حتى عند مثل سيد قطب فيما نظن، في أن الذهب أمكن في الخلود والاطراد من العشب، بل ولا في أن العشب إنما يضرب به المثل في التغير والزوال لا في الاطراد والخلود، مهما كان حظه من الجمال. فماذا يقول الإنسان فيمن يتصدى لنقد أديب أيا كان، بله مثل الرافعي في أدبه، فيقرأ له ولا يفهم عنه، أو يفهم ولكن غير ما يريد أو عكس ما يريد مع وضوح اللفظ ووجود النص، ويتقول على الأديب غير ما قال، ويتجنى عليه غير(264/61)
ما يقصد، ثم يسرف عليه ويطيل فيه القلم واللسان، فإذا ما نبه إلى غلطه مضى في التجني والتجرم وزعم أن زلة الأديب المنقود زلة بألف، ككذبة الذي يقول أنه رأى أسدا يسير في شوارع القاهرة؟ ماذا يقول الإنسان في ناقد كهذا جديد أو قديم؟ وماذا يظن في إنسان كهذا؟
إن الرافعي هو المسكين لا شوبنهور!
محمد أحمد الغمراوي(264/62)
تيسير قواعد الإعراب
لأستاذ فاضل
- 2 -
ولابد من تقدير الإعراب في الجمل أيضاً، لأنه قد يعطف على الجملة اسم مفرد يراعى فيه تقدير إعرابها، فيجب من أجل هذا تقدير الإعراب فيها، ومن ذلك قول الشاعر:
يا رُبَّ بيضاَء من الْعَواهِجِ ... أمِّ صبيٍ قد حَباَ أو دَراِجِ
ومن قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)
فإذا قلنا - زيد يحسن - فزيد مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة، وجملة يحسن خبر المبتدأ مرفوعة بضمة مقدرة. وهكذا كل الجمل التي تقع خبراً عن مبتدأ أو حالا أو صفة أو نحو ذلك؛ أما الجمل التي لا تقع هذا الموقع فلا يقدر إعراب فيها
وقد ثبت من هذا كله أن ألفاظ العربية كلها معربة، ومن الواجب أن ينقل الإعراب بعد هذا إلى اصطلاح غير الاصطلاح المعروف له، لأن اصطلاحهم في الإعراب أنه عبارة عن تغير أحوال أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليها لفظاً أو تقديراً، والإعراب على هذا لابد له من عامل يقتضيه، فإذا لم يكن هناك عامل لم يكن هناك إعراب، ولهذا كانت الحروف وبعض الأفعال عندهم غير معربة. وقد ذهب بعض من النحويين إلى إعراب فعل الأمر فلم يكن له بد من تكلف عامل في إعرابه لأنه لا يوجد إعراب لا عامل له، والكوفيون هم الذين ذهبوا إلى إعراب فعل الأمر، وهو عندهم مجزوم بلام أمر مقدرة، لأنه في رأيهم مقتطع من المضارع، فأصل - قُمْ - مثلاً - لِتَقُمْ - حذفت اللام للتخفيف، وتبعها حرف المضارعة وهو التاء، وقد قال صاحب المغني: وبقولهم أقول، لأن الأمر معني فحقه أن يؤدى بالحرف، ولأنه أخو النهي وقد دل عليه بالحرف
أما الإعراب في الاصطلاح الذي ننقله إليه فهو عبارة عن تغير أواخر أجزاء الكلام على حسب ما جاء عن أهل اللغة، فلا يلزم في الإعراب على هذا الاصطلاح أن يكون معه عامل مقتض له، ولهذا يجيء عندنا في الحروف والأفعال التي يرى القوم أنها مبنية لا معربة، وهذا الاصطلاح يغنينا عما تكلفوه من العوامل في بعض المواضع التي جاء الإعراب فيها بدون عامل، كالمبتدأ الذي يتكلفون له عاملاً يسمونه الأبتداء، وكالمضارع(264/63)
الذي يتكلفون في رفعه عاملاً يسمونه التجرد من الناصب والجازم
على أن هناك ما هو أهم من هذا في ترجيح اصطلاحنا في الإعراب على اصطلاحهم وما يثبت به أن هذا هو معنى الإعراب في اللغات المعربة، لأن اللغات الغير معربة هي التي تنتهي أواخر كلماتها بالسكون دائماً ولا فرق في ذلك بين أسمائها وأفعالها وحروفها، وهذا كما نراه في لغاتنا العامية وغيرها من اللغات التي لا إعراب فيها، أما اللغات المعربة فهي التي لا تلزم أواخر كلماتها هذه الحالة من السكون، بل يتغير آخرها من ضم إلى فتح إلى كسر إلى سكون على حسب ما جاء عن أهلها، فيجب أن يكون الإعراب فيها بهذا المعنى فلا يختص به نوع من ألفاظها، ويكون عاماً في كلماتها كلها، ويشمل في ذلك أسماءها وأفعالها وحروفها
وقد ذكرنا أن الكوفيين يذهبون في فعل الأمر إلى أنه معرب لا مبني، وهذا يدل على أن مسألة الإعراب والبناء مسألة تقديرية، وأنه لا شيء في أن نذهب فيها ذلك المذهب الذي يتفق مع تلك الغاية التي تريدها وزارة المعارف من تسهيل قواعد الإعراب، وقد جاء عملنا فيها أتم من عمل جماعتها وأعم إصلاحاً منه، وأقرب إلى الغاية التي تريدها، كما جاء دليلاً على أنها كانت مخطئة حينما تناست رجال الأزهر في هذا العمل الذي ألفت من أجله هذه الجماعة ولم تظم إليها من الشيوخ الأزهريين من يهمه أمر هذه اللغة كما تهمها
العلامات الأصلية والفرعية للإعراب
ترى الجماعة في هذا أن تجعل كلا من هذه العلامات أصلاً في بابه، وأن يقسم الاسم المعرب إلى الأقسام الآتية:
1 - اسم تظهر فيه الحركات الثلاث وهو اكثر الأسماء
2 - اسم تظهر فيها الحركات الثلاث مع مدها وهو الأسماء الخمسة
3 - اسم تظهر فيه حركتا الضم والفتح وهو الممنوع من التنوين
4 - اسم تظهر فيه حركتا الضم والكسر وهو الجمع بالألف والتاء
5 - اسم تظهر فيه حركة الفتح وحدها وهو الاسم المنقوص
6 - اسم تظهر فيه ألف ونون أو ياء ونون وهو المثنى
7 - اسم تظهر فيه واو ونون أو ياء ونون وهو المجموع بهما ويستغنى بهذا عند الجماعة(264/64)
عن الإعراب التقديري، وعن القول بنيابة علامة عن علامة
وقد عرفت أنه لا يمكن الاستغناء عن الإعراب التقديري، فلا نعيد ذلك هنا، وكذلك لا يمكن الاستغناء عن القول بنيابة علامة عن علامة، لأن اسم الضم كالمرادف لأسم الرفع وكذلك الفتح مع النصب، والكسر مع الخفض أو الجر؛ فإذا حصل رفع بغير الضم أو نصب بغير الفتح أو خفض بغير الكسر كان الأقرب إلى الفهم في ذلك أن يجعل بطريق النيابة، فيكون ما ذهبت إليه الجماعة فيه تعسيراً لا تيسيراً، وليس هناك ما يدعو إلى ارتكابه من اختصار في الإعراب أو نحوه، بل الأبواب هي الأبواب بحالها، والعلامات هي العلامات بدون تغيير فيها، الله إلا ذلك التغير الذي لا طائل تحته
فيجب أن تبقى علامات الإعراب على حالها، وأن تكون علاماتها الأصلية هي الضم في الرفع، والفتح في النصب، والكسر في الخفض، والسكون في الجزم، وأن تكون علاماتها الفرعية كما هي بدون زيادة أو نقص فيها إلا علامة واحدة نرى زيادتها في باب النداء، لأن المنادى فيه إذا كان مفرداً ينصب بالضم وما ينوب عنه من الألف والنون أو الواو والنون، فتكون الضمة في ذلك نيابة عن الفتحة، وقد نابت الكسرة عن الفتحة في جمع المؤنث السالم، ونابت الفتحة عن الكسرة في الاسم الذي لا ينصرف، فلا شيء في أن تجعل الضمة وما ينوب عنها نائبة عن الفتحة في المنادى إذا كان مفرداً
فيقال في إعراب - يا أحمد - أحمد منادى منصوب بالضمة نيابة عن الفتحة، وفي إعراب - يا زيدان - زيدان منادى منصوب بالألف النائبة عن الضمة نيابة عن الفتحة، وفي إعراب - يا زيدون - زيدون منادى منصوب بالواو النائبة عن الضمة نيابة عن الفتحة، وفي إعراب - يا سيبويه - سيبويه منادى منصوب بالضمة المقدرة نيابة عن الفتحة، ولابد من تقدير الضمة في المثال الأخير كما قدرت فيه عند الجمهور، لأن ظهورها في تابعه دليل على تقديرها فيه
ولا شك أن تقدير الجمهور للضمة في نحو - يا سيبويه - فيه تقريب لما ذهبنا إليه من تقديرها في نحو - جاء سيبويه - لأن الذي منع من ظهور الضمة عند الجمهور في نحو - يا سيبويه - إنما هو حركة البناء الأصلي، وهذا هو عين ما ذهبنا إليه من جعل هذه الحركة موجبة لتقدير الاعراب، وجعلها في ذلك كألف المقصور وياء المنقوص سواء(264/65)
بسواء
(يتبع)
أزهري(264/66)
رسَالة الشَعر
الشاعر في مصر
شكوى
للأستاذ محمود عماد
جبالٌ ووديانٌ جِهامٌ وآجامُ ... أُذللها بالصبر أم تلك أيامُ؟
وما جهدُ هذا الصبر حتى أسومه ... صعاباً بها ناءت نجومٌ وأجرامُ؟
لعلى نجم ضلّ فيها مدارَه ... فأسقطه نحسٌ إلى الأرض جشّام
وإلا فكيف اندك في الأرض جِرمهُ ... ولاح دخان يحتويه وإظلام؟
أذلك شِعري أكتوي بلهيبه ... وفي الشعر ترويحٌ إذا اشتدّ إيلام؟
وذلك فضلي أبهمتني غيومه ... وهل آية الفضل المؤثّل إبهام؟
وهل هذه الدنيا التي في نعيمها ... تحجبت الأخرى فلم يُهدَ أقوام؟
لئن يَهنهِم فيها طعامٌ ومتعةٌ ... فإني ليهنيني صيام وأسقام!
أما قيل إن الصوم يسمو بحسِّنا ... إلى حيث لم تبلغ على الأرض أحلام؟
بلغتُ إذن بالشعر ما فات وهمهم ... وإن خيل أنّ الشعر في الكون إيهام
نعمتُ به في شقوتي فهو دوحة ... وعيشي صحارى لم تطأهن أقدام
إذا اشتدّ بي حَرٌّ أرحتُ بظلِّه ... فراوحني منه نسيمٌ وأنغام
وطاف بصحرائي من الوحي طائف ... وهل في سوى الصحراء وحي وإلهام؟
فيالكَ من شعر بدنياي كلها ... شريتُ. ألا غبنٌ هناك وإلزام؟
ويا أمّةً أعلنتُ فيها رسالتي ... أكلُّكِ فرعونٌ لموساه ظلامّ؟
ألفتِ خوارَ العجلِ حيناً فإن شدا ... هزارٌ نولّي سمعَكِ اليوم إبهام!
إذا كان لَغوُ السامريَّ حقيقةً ... فتوراةُ موسى في بني مصر أوهام
وإن كان حبْوُ العاجزين تقدما ... فإن بحسبي أن عدَوْيَ إحجام
سيلبث شعري رمزَ ظلمٍ وعزةٍ ... بمصر كما في الدهر ترمز أهرام
يقولون لا تجزع ستظفر في غدٍ ... يذكر وللتاريخ في الناس أحكام(264/67)
فأهونْ به ذكراً، لكي ما أناله ... أموت ابتداءً ثم تمحق أعوام!
متى كانت الأموات تهتزُّ غبطةً ... بذكر ويشفيها من الموت إعظام؟
تعلاتُ إفلاس ومَن فاته الغنى ... يقلْ إن فقرَ المرء صونٌ وإكرام
ولكن رويد المترفين فربما ... نعمنا بما نالوا وهم عنه نوّام
نرى الزَهرَ في جناتهم فيروقنا ... ويا ربما هم ما رأوه وما شاموا
لقد جهلوا فيه الجمال وما دروا ... بأن فريقاً بالذي جهلوا هاموا
ولو قيل فيه من طعامٍ لأقبلوا ... أما تأكل الزهر المقدسَ أَنعام؟
يزينون بالأصنام أبهاَء دورهم ... وما عزّت الأبهاَء من قبل أصنام
لقد جلبوها لا لفنٍ وإنما ... بها من سجاياهم جمودٌ وإعجام
وهذا قضاءٌ ما خلا من عدالةٍ ... جمودٌ ومالٌ. أو شعوررٌ وإعدام!
إذا أنت لم تفقد لدى الكون مطلبا ... فما أنت بحاثٌ ولا أنت مقدام
محمود عماد(264/68)
عودي إلي. . .
(إلى التي أنتظر صوتها. . . لأحس بالحياة!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لا زلتُ أَنتَظرُ اللِّقاَء. . وأنَه ... عَهدٌ لِمَنْ صانَ العُهود قَسَمْتِهِ
عَهْدٌ تَرَكتِ به الحَبيبَ مُضيَّعاً ... ما ضَرَّ يا دُنْيا المُنَى لوْ صُنتِهِ؟!
خَلَّفْتني. . وعلى (المَسَرَّةِ) خاطري ... أَمَلٌُ عَلَى أَسلاكِهاَ ضَيَّعْتِهِ
تَهفْوُ لها أُذُنْي كأنَّ بقَلبها ... لحنا عن الوتَر الحَزينِ حَبَسْتْهِ
وكأنَّ صَمْتَ حَدِيدِهاَ تَغْريدةٌ ... سَوْداءُ في نايي الذّي يَتَّمْتِهِ
خَرْساءُ يَصْخَبُ في ظلالِ سُكونِها ... لَهَبٌ بِكَفِّكِ للمُنْى أَشعَلْتِهِ. . .
عُوديِ إلَيَّ. . وَأَسرِعي لِمُدَلّهٍ ... طَلَبَ الخُلْودَ من السَّماءِ فجِئتْهِ
وذَهَبْتِ ما تركتْ عُيونُكِ في دَمي ... إلا عذاباً لَوْ عَلِمْتِ رَحَمْتِهِ
وأَتَيْتنيِ مِنْ قَبْلُ يُطفَأُ مِشْعَلي! ... وتّذُوبُ أَياَّمي عَلَيْكِ وأَنْتَهيِ
محمود حسن إسماعيل(264/69)
الرسم المحترق!
للأستاذ أحمد فتحي
أَهْدَيتَ لي رسْمَكَ في نشوَةٍ ... منْ صَبْوَةِ الحبِّ وسِحْرِ الغَرامْ
وقد تَفَضَّلْتَ، فَطَرَّزْتَهُ ... باسْمِكَ توقيعاً بديعَ النَّظامْ
مؤَكِّداً لي، أن قَلبْي لَهُ ... فيكَ نظيراً عاشقاً مُسْتَهَامْ
حَفِظتُ للرَّسم حقوقَ الهوى ... وصُنْتهُ في مأْمَن لا يُرامْ
وكنتُ إن جَدَّتْ بنا فُرقَةٌ ... وَعزَّ مَرآكَ وَضجَّ الهيامْ. . .
أَخرجْتُهَ، أَملأُ من حُسنِهِ ... عَيناً جَفاهاَ - في نَوأكَ - المنامْ
أراكَ فيه حاضراً واصلاً ... يؤنِسُني من شَفَتَيكَ ابْتِسامْ
أَضَلُّ أَدعوك بِنجوى لها ... في خاطري لُطْفُ صَفَاءِ المُدَامْ
كأنما رَسمُكَ في راحتيِ ... تميِمةٌ - بالوَهم - تَشفيِ السِّقَامْ
وكم أطالَ الناسُ لي عَذْلَهمْ - فيكَ وكم ذا أسْرَفواُ في المَلامْ
عاصَيتُهم فيك جميعاً، ولم ... يُرْعَ لهم عند غراميِ ذِمامْ!
شُبِّهَ لي ناصِحُهُمْ بُومَةً ... وَصوْتُ حُبيَّ لك شدو الحَمامْ
وقد ظلَلناَ زَمناً لا نَرىَ ... لنا مثيلاً - في الهوى - في الأنام!
نسْموُ بِهِ عن ساَنِحاَتِ المُنى ... فَهيَ عَلينا إن عَدَتهُ حَرامْ!
وما الأَمانيُّ؟ إذا لم تكنْ ... وَصْلَ حبيب في ليالي وئامْ؟!
يا رَحَم اللهُ عهوداً طَوَتْ ... في صَفْحَتَيها الدهْرَ، عاماً فَعامْ!
قد لَقيَ الحبُّ بأكنافِهاَ ... فيْئاً وَريفاً من ظِلالِ السَّلامْ
ظنَنَهْا تَخْلُدُ، إذ لم أَكنْ ... أَحسبُ دُنياَهاَ لغَيرِ الدَّوامْ!
حتى تنكرَّتَ لعهد الهوى ... وسُمْتَهُ - بالغَدرِ - سُوَء الخِتامْ
سَمِعْتُ همساً دارَ حولي بما ... أَثِمْتَ، وأنسابَ إليَّ الكلامْ
فكذّبَتْ أُذُنيَ ما أُسمِعَتْ ... عنك وقالتْ من هراءِ الطغاَمْ
لكنني اسْتَوثَقْتُ من أَنَّني ... خُدِعتُ في ودَّكَ خَدعَ الكرامْ
وأَسفَرَ الحقُّ مُبَينَ السَّنَى ... وأنماطَ عن وَجهِكَ ذاكَ اللثامْ(264/70)
فَعُدتُ للرَّسمِ الذي صُنتُهُ ... من غَضبي عَفَّرْتُهُ في الرِّغامْ!
وجِئتُ للنارِ فألقَيتُهُ. . . ... كَيمْاَ أَرى حُسْنُكَ بين الضِّرامْ!
حتى أحْتَوَتْهُ في لَظىَ قَلبِهاَ ... فاضَ عليهِ من دمُوعِي سِجَامْ!
(بني عياض)
أحمد فتحي(264/71)
البَريدَ الأدَبيّ
حكومة التشيك ووضع قاموس للغة العربية
وفد على مصر، منذ أيام، أحد كبار المستشرقين هو وزوجه مندوبين عن حكومة تشيكوسلوفاكيا
وقد قصدا إلى وزارة المعارف وقابلا صاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك وكيل الوزارة، وذكرا له أنهما قدما إلى مصر رغبة في وضع قاموس باللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الوطنية في بلادهما (تشيكوسلوفاكيا) وطلبا إلى سعادته معاونتهما فيما قدما من أجله. وقد رحب وكيل الوزارة بالضيفين
وقد صدر بناء على ذلك قرار بتأليف لجنة من الأستاذ علي الجارم بك مفتش أول اللغة العربية بالوزارة والأستاذ محمد أبي بكر إبراهيم عضو مكتب تفتيش اللغة العربية للقيام بهذه المهمة على أن تعرض الأعمال التي تفرغ اللجنة من إنجازها على سعادة وكيل الوزارة.
وسيبقى المستشرق والسيدة زوجه في مصر إلى أن ينجزا وضع هذا القاموس وسيغادران مصر ثلاثة أشهر في كل سنة يزوران في غضونها السودان للوقوف على حالة اللغة العربية فيه، ومقدار الاختلاف بين اللهجات في القطرين الشقيقين.
هبة الماجور اندرسون
بدأت وزارة المعارف في اتخاذ التدابير لتنفيذ القرار الذي أصدره مجلس الوزراء في يوم 4 يوليو الحاضر خاصاً بقبول هبة الماجور جاير اندرسون بك إلى الأمة المصرية
وتقوم تلك الهبة على تنازل الماجور اندرسون عن مجموعاته الأثرية العربية والأوربية وتقدر قيمتها المادية بنحو خمسة آلاف جنيه للأمة المصرية مضافاً إلى ذلك هبة قيمتها خمسمائة جنيه تستمر ويستخدم ريعها في حفظ المجموعات وصيانتها
وقد منحته الحكومة حق استعمال الدارين (المعروفتين ببيت الكريدلية) والبيت الملحق به المعروف بدار (آمنة بنت سالم) وهما متصلتان وقائمتان على جانبي عطفة المتولي وهي حارة تؤدي إي جامع ابن طولون، وأن يستعملهما دون أن يشاركه فيهما أحد إلى حين وفاته أو مغادرته بلاد المملكة المصرية نهائياً، وذلك بدون إيجار أو مقابل من أي نوع كان فيما(264/72)
عدا نفقات المياه والنور، وأن يقوم المأجور بتبويب هذه المجموعات وان يحتفظ بحق استعمالها وحيازتها هي والقطع التي تضم إليها في المستقبل إلى حين وفاته أو مغادرته البلاد
وتقوم الحكومة بصيانة هذين المنزلين وإبقائهما على حالتهما الراهنة
سلامة الأسلوب العربي في تدوين المقررات المدرسية
لاحظت وزارة المعارف أن كثيراً من الكتب والمؤلفات التي توضع باللغة العربية في مختلف المواد وفروع العلم المقررة في درجات التعليم المتباينة، تبعد في بعض أجزائها عن الأسلوب الذي يجب أن يعنى بها المؤلفون
وقد أعدت الوزارة منشوراً لتلاف هذا النقص، طلبت فيه أن يلاحظ دائماً في الكتب التي توضع باللغة العربية في مختلف المواد وتكون لجان الفحص قد قررت صلاحيتها للدراسة أو تداولها بين الطلاب المترددين على المكتبات المدرسية أو الكتب التي تضعها لجان تؤلفها الوزارة، أن تعرض على أحد حضرتي مفتشي اللغة العربية الأولين لمراجعتها بنفسه أو من يندبه من حضرات مفتشي تلك اللغة وذلك للتحقيق من سلامة الأسلوب وملاءمته من وجهة اللغة لمستوى التلاميذ الذين يقرأ لهم
آلة لتصوير المخطوطات في مكتبة الأزهر
كانت مشيخة الأزهر، وقد اشترت فيا لعام الماضي آلة لتصوير المخطوطات من طراز ألماني حديث، وقد ركبت هذه الآلة في مكتبة الأزهر ورئي أن يقوم باستعمالها أخصائيون متمرنون على التصوير. ولهذا دربت المشيخة بعض موظفيها في أحد المعامل، ولما أتم تدريبه نقلت آلة التصوير، إلى غرفة خاصة بالإدارة العامة، وسيشرع، بواسطتها، في نقل المخطوطات النادرة في مكتبة الأزهر، وإرسال نسخة منها إلى الآثار والمكتبات الكبرى
ومن بين الآثار التي عني بالتقاط صور لها، كتب على جلود الغزلان، ويرجع تاريخ تأليفها إلى أكثر من ألف سنة.
إلى السادة الكتاب
يجمل إلينا البريد فيما يجمل مقالات ورسائل غفلاً من الإمضاء، وقد أعلنا من قبل أننا لا(264/73)
ننشر مقالاً لا يمضيه كاتبه. وللكاتب الحق في أن يرمز لأسمه ما يشاء على شرط أن يكون اسمه معلوماً لرئاسة التحرير. فنرجو من حضرات الكتاب أن يراعوا ذلك حتى لا نضطر إلى إغفال مقالاتهم وهي قيمة
الفروسية العربية
ورد في القسم الثاني من المقال المنشور تحت هذا العنوان في العدد 262 من الرسالة الغراء ما يلي:
(والمرأة هي التي تثير حماس الرجال في الحرب. وكما قلت تحكم في بطولتهم. وقد جرت العادة أن تحضر النساء الموقعة باكية فوق كتبان مزينة) وقد شرح المعرب كلمة كتبان في نهاية الصفحة بقوله:
(الكتب أو الغبيط نوع من الهوادج) والصواب كما اعتقد أن كلمة (الكتب) - إذا لم يكن فيها تطبيع - غير صحيحة ولا تؤدي هذا المعنى. وإنما التي تؤديه (القتب) وتجمع على أقتاب لا (قتبان) كما جمع المعرب كلمة (كتب):
وجاء أيضاً في المقال عينه: (أن هتاف فرسان البدو في الحرب ينحصر في اسم حبيبة الفارس أو اسم أخته أو اسم قطيع جماله، فيهتف مثلاً (أنا أخو جوزا، أو لعيون حميدة، أو خيال العليا) والعليا قطيع من الإبل)
وأقول إن البدوي إذا هتف بقطيع جماله لا يقول (خيال العليا وإنما يقول (راعي العليا) وكلمة (خيال) يرددها عادة إذا هتف بجواده. فيقول (خيال الشقرا) أو (خيال الشهبا) مثلاً كما سمعت ذلك بنفسي من البدو النازلين في أطراف بادية الشام أثناء قيامي برحلتي الطويلة في سوريا.
وأضيف إلى ما تقدم أن البدوي يستهل هتافه دائماً بكلمة (لحّد) فيقول مثلاً (لحّدونا أخو فلانه) وأظنه يقصد بها (لأحد أحد) أي لا أحد يجوس الحمي وأنا أخو فلانه حيَّ ارزق.
هذا وما أبديته لا يمنعني أن أعترف لصاحب الموضوع (الميجر كلوب) بما تحمل من جهد في جمع مواده. وبتحريته الصدق في نقله إلى أبناء جلدته
يافا - فلسطين(264/74)
محمد سليم رشدان
دقائق لغوية في حاجة إلى الجلاء عنها
جاء في الصحاح: (ويقال جمة عظيمة، وجمة عظيمة أي جماعة يسألون الدية). قال الشاعر (وجمة تسألني أعطيت). وفي القاموس وشرحه تاج العروس؛ (ويقال جاء في جمة ويضم (الأول) أي جماعة يسألون الدية. قال ابن الإعرابي: الجمة البركة (بالضم فالسكون) والجمع جمم ولم يضبط حركة الجيم
وفي النهاية لابن الأثير. (الجم (ولم يضبط الأول) جمع جمة وهم القوم يسألون في الدية) وفي القاموس وشرحه: (اللجنة (بالفتح) الجماعة يجتمعون في الأمر ويرضونه) وفي البستان أن هذا الحرف ضبطته التكملة بالضم أي لجنة. ففي هذه النصوص ما يأتي:
(1) كل من الجمة (بالفتح) والجمة (بالضم) بناء مستقل عن الآخر أو هما أصل وفرعه. فأيهما الأصل، وما الدليل على أن كليهما أصيل أو على أن أحدهما فرع عن الآخر؟
(2) كيف يضبط جمم بناء الجمع أبضم ففتح أو بفتحتين؟ وإذا كان الوجهان صحيحين فعلام لم يرد ذلك في التاج نصاً
(3) لم يضبط صاحب النهاية بناء جم، فهل هو بالضم وما الدليل أو بالفتح وما الدليل؟
(4) الجمة بالضم تقع على الجماعة كما مرّ وعلى مجتمع شعر الرأس، فهل ورد المعنيان لبناء واحد أو كل معنى له بناء خاص؟ فإذا كان لكل منهما بناء خاص فما بناء كل منهما؟ وما الجمع؟ لأن الخال بمعنى شقيق الأم له جموع ليست للخال (الشمة) والتليل بمعنى العنق ليست للتليل بمعنى القتيل
(5) الجمة (بالفتح) الجماعة كما مر والبئر، فهل هما معينان لبناء واحد أو كل بناء منهما مستقل عن الآخر وله معناه الخاص، وما جمع البناء الأول وما جمع البناء الثاني؟
(6) ما الفرق بين اللجنة والجمة - وعلام في القاموس وشرحه ذكر اللجنة بالفتح دون الضم ويغير صيغة جمع لها؟ وهل استدراك التكملة صحيح؟ وما وجه صحته؟ وعلام اللجنة بالفتح جمع على لجان كسخلة وسخال، ومرة ومرار وخطوة وخطا؛ وليس لجمة جمع على جمام(264/75)
(7) ماذا تعد الجمة واللجنة، أمن أسماء الجنس أو من أسماء الجموع أو من الجموع؟ وما الدليل الذي يعين الحقيقة؟
ألتمس ممن ندبوا لاستخراج المعجم الوسيط من أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي الجلاء عن هذه الدقائق، لأنها من المشاكل التي تعترض عملهم أثابهم الله مشكورين
(دمشق)
أمين ظاهر خير الله(264/76)
الكتب
ديوان الجارم
للأستاذ حسنين حسن مخلوف
عهد إلي الأستاذ صاحب (الرسالة) أن أكتب عن ديوان صاحب العزة الأستاذ علي الجارم بك إذ كنت عن كثب من الديوان عند طبعه، وكان بيني وبين نغمات هذه القصائد والخيال الخصب الذي ملك علي سمعي وبصري في نسمات الأسحار، حديث ومجاوبة؟ وربما قرأت القصيدة ورددتها مراراً، وظللت مدة طويلة مأخوذاً بسحر البيان حتى أنسى الغرض الذي شرفني الشاعر بالقيام به. فأما إن كتبت عن الديوان فإنما أكتب عن مبلغ علمي، جاهداً أن أصور للقراء شخصية شاعرنا ممثلة في شعره، وأن أرسم ما أحسست به عند قراءتي شعره
إذا جلست إلى الأستاذ الجارم بك رأيت رجلاً تمثلت فيه أعصار الآداب العربية وفنونها من عصر امرئ القيس إلى اليوم؛ فهو قد قرأ الآداب العربية منذ نشأته، ووقف وقفة طويلة عند كل شاعر وكاتب، وحفظ ما استطاع أن يحفظ، فامتزج ذلك كله، وجاوبته نفس نزاعة إلى الأدب فكان الأستاذ الجارم بك. إن شئت أن ترى المتنبي وعمقه وغزارة مادته وجبروته الشعري فأجلس إلى الجارم بك وأقرأ شعره. وإن أردت أن ترى حضور البديهة ورقة الشعور ولباقة التعبير والروح الشعرية الوثابة التي تتمثل في الحديث والظرف والسلام والكلام، فأجلس إلى الجارم بك. فهو شاعر بطبعه، شاعر ببديهته، شاعر بكل معنى من المعاني التي تلمحها في روح الشعراء
إن قرأت أدباً عباسياً أو أندلسياً فرأيتهم يقولون: إن الشاعر لا يكون شاعراً حقاً إلا إذا تمكن من أدوات الأدب، ومارس شعر العرب، وملك ناصية الأدب، ثم أعانه على ذلك قريحة وقادة وبديهة مسعفة وخيال قوي، فإن ذلك كله موفور لشاعرنا الكبير
كان أستاذنا مصطفي صادق الرافعي - طيب الله ثراه - ينكر على الشعراء الذين أنبتتهم طبيعة مصر عمق الخيال وامتداد النفس الشعري؛ وكان يرى أن الشعراء المصريين صغار الدواوين لا يقف الواحد منهم على شاطئ بحر الخيال حتى ينزوي عن ذلك البحر. فلما حدثني بذلك الرأي، وكتب عنه في الصحف عزّ عليّ ذلك؛ فجئته في اليوم التالي بعدد(264/77)
من مجلة (المعرفة) وقد نشرت فيها قصيدة للجارم بك، ونسى محررها أن ينسب القصيدة إلى قائلها، وأطلعته عليها فطرب لها وبخاصة الأبيات الآتية منها:
لعبت بك الحسناءُ تدنو ساعة ... فتثير ما بك ثم تهجُرُ عاما
والحبُّ ما لم تكتنفه شمائلٌ ... غرٌ يعود معَرةً وأثاما
والحبُّ أحلام الشباب هنيئة ... ما أطيب الأيامَ والأحلاما
والحبُّ نيران المجوس لهيبها ... يحي النفوس ويقتل الأجساما
والحبُّ من سرَّ السماء فسمه ... وحياً إذا ما شئت أو إلهاما
يا جنةً لو كان ينفع عندها ... نُسْك لبتْنا سجَّدا وقياما
وسألني: لمن هذا الشعر؟ فلم أجب. وقلت: إن كان هذا شاعراً مصريّاً فقد اعترفت لهم بالقوة وعمق الخيال. إنك شاعر وكاتب ومطلع اطلاعاً وثيقاً، وعليك أن تنسب الشعر إلى صاحبه من غير أن أدلك على اسمه؛ فأجاب فوراً: إنه الأستاذ الجارم. فقلت: أتراني كسبت القضية؟ قال: إنني عندما أستحضر صورة وجه الجارم وهو من رشيد، ورشيد على ساحل البحر أحكم أن دمه ليس خالصاً لمصر؛ فليست كل شاعريته مصرية؛ كشوقي مثلاً فهو مجموعة من عقليات أمم كثيرة تعاقبت على الزمان بالمصاهرة كما قال هو عن نفسه
ولقد كان أستاذنا الرافعي قاسياً على الشعراء المصريين؛ وقسوته في ظني كانت تعود إلى عوامل محلية في علاقته بأدباء مصر وعلاقتهم به، فقد كانوا أثرين يغتصبون الشهرة اغتصاباً، ويتخذ كل شاعر شيعة تسبح بحمده، وكانت الشهرة الأدبية ميداناً للتزاحم ليقول كل واحد: أنا!! فيقول له الآخر: لست ذاك!. وأنا أرجو أن يطهر النقد الأدبي في العصر الحديث من هذه الصغائر والخزعبلات، وأن تتجه الجهود إلى بناء لا إلى الهدم، فالعصر عصر السرعة ونسيان النفس إن أرادت مصر نهوضاً حقاً، وغسلت نفسها في كل نواحيها السياسية والأدبية من قوله أنا! وبعدي الطوفان!
لكل أمة من الأمم بيئة خاصة، وعقلية خاصة، وتيارات في الحياة خاصة توجه أدبها، وهذا الاتجاه يتوارث على توالي القرون؛ فالمدح أو الرثاء في الشعر العربي من طبيعته، وتصوير الأشخاص ورسم صورة فنية لعمال العظماء كانت ولا تزال مجال الشعراء العرب قديماً وحديثاً، والأسلوب كذلك تراث نقلته إلينا الأجيال؛ فالأستاذ الجارم بك تمثلت(264/78)
فيه العقلية العربية وجزالة اللفظ قوة الأسلوب وضخامة التعبير في كثير من الأحيان. ويظهر أن رأيه أن يخدم الأدب العربي العالي بانتقال القراء إليه لا أن ينزل هو إلى القراء ويتملقهم، ويفني شخصيته فيهم، لذلك عهد إلى بعض تلاميذه يشرح الديوان
وأبرع ما ترى في شعره تصويره لشخصية مليكنا الشاب فاروق الأول. وقد تغلغل شعره في نهضة هذه الأمة الكريمة وفضل الأسرة العلوية عليها كقوله في (التاجية الكبرى) التي أنشدها في تتويج مولانا الفاروق:
لله يومك والضياء يعمّه ... فعشيه سِيان والأبكارُ
يومٌ تمناه الزمانُ وطالما ... مدّت إليه رءوسَها الإعصارُ
حامت نسور النصر حول جيوشهم ... حتى كأنّ غُبارها أوكارُ
وقوله في العيد المئوي لوزارة المعارف
فأتاها (محمدٌ) جَدّ (إسما ... عيل) بالخصب مورقاً والحياةِ
هل رأيت النجم الذي يُبهرُ العي ... شَ ويمحو دياجر الظلماتِ
هل رأيت الآمال بعدَ نفار ... واقتبال الشبابِ بعد فواتِ
شاعران في مصر سجلا عزها القديم والحديث، ونثرا على صفحات الأوراق أمجاد العرب والفراعنة في صورة جميلة جذابة ومنطق قويّ خلاب هما شوقي والجارم؛ كلاهما أحس بأمجاد الآباء، وامتزاج روحهم بمصر الحديثة، واتخذ من ذلك سبيلاً إلى إنهاض الشباب وحفز الروح الوطنية والعزة القومية
ولكن شوقي شغف بمصر القديمة بقدر شغف الجارم بمصر العربية والحضارة الإسلامية؛ هما نشأتان في طريقين مختلفين إحداهما في طريق مختلطة اتصلت ببيت الملك والعرش أيما اتصال، وعرش مصر تراث عربي فرعوني. ذلك مجال شوقي.
والأخرى في طريق خالصة للعروبة تمت إلى الدين واللسان العربي بأقوى الأسباب منذ الصبا إلى يوم الناس هذا. ذلك مجال الجارم. وكلاهما يغرف من بحر العربية الأكبر، وتطاوعه ثقافته العربية الواسعة فيلعب بالألفاظ لعب الرياح بالأعواد
اقرأ قصيدته بمناسبة انقضاء خمسين سنة على دار العلوم وأنا ضمين لك أن أعطافك ستثب مع أعطاف الشاعر حين كان يلقيها ومنها مخاطباً دار العلوم: -(264/79)
بسمةٌ للزمان أنت تلتها ... كشرة للزمان عن أنياب
كلما رمتُ خدعْ نفسي بنفسي ... كشفت لي المرآة وجه الصواب
أين تلك الأيام بانت وبنَّا ... وتولت بشاشة الأحباب
إيه دارَ العلوم كنت بمصر ... في ظلام الدُّجى ضياء الشباب
في زمانٍ من كان يُمسك فيه ... قلما عُدّ أكتب الكُتاب
تخذت فيك بنت عدنان داراً ... ذكرتها بداوة الأعراب
فإذا بكى الجارم واستبكى أحسست زفير الحزن يضطرم في قلبك، ودويّ صوته يعتصر عينيك. وبخاصة قصيدته في رثاء المرحوم أبي الفتح الفقي الذي كان وكيل دار العلوم ورئيس جماعتها
أما الحكم البالغة والأمثال السائرة فهي منثورة في جنبات قصائده كقوله:
الدّين طبّ النفس من آلامها ... وهداية الحيران في بيدائه
يكره الظلمُ كلَّ شيء من الضو ... ء ولو كان في ابتسام الفتاة
وفي عزم شاعرنا بعد فترة وجيزة أن يخرج للناس الجزء الثاني من الديوان وفقه الله إلى خدمة العروبة، وأعلى به منار الأدب.
حسنين حسن مخلوف(264/80)
العدد 265 - بتاريخ: 01 - 08 - 1938(/)
يا لله لفلسطين!
يا لله لفلسطين مشرق الهدى والسلام، ومهبط الوحي والإِلهام، ومجتَلى عين موسى، ومسرح قلب عيسى، ومسرى روح محمد، وقدس الأديان الثلاثة، وقبلة الإِسلام الأولى، ومهد الأنبياء، ومقبرة الرسل، ومعبد الشرق والغرب، ومجرى العسل واللبن!!
يا لله لفلسطين! ماذا فعلت بها الأحداث وجرَّت عليها المطامع؟ أبعد أن رفع الإسلام عنها آصار العبودية وأوزار اليهودية تعود بها المقادير السود إلى استعمار (طيطوس) القاهر، واستثمار (يهوذا) الجشع، فيعود إليها الفساد والفوضى والقهر والفقر والموت؟!
أبعد أن استخلصها للعروبة (عمرو الداهية) من (أرطبون)، وسجل استقلالها العالمي (صلاح الدين) على ناصية (جودفروا) يستبيح ذمارها طرائد البشرية وفي صدورهم تِراث الأمم وحزازات القرون، فينزلونها نزول الوباء، ويحلونها حلول الفتنة، ويمتصونها امتصاص العلق؟!
لقد قال المسيح لذلك اليهودي الذي منعه ظل جداره وهو مجهود، وقرى داره وهو جائع:
(ستظل تائهاً في الأرض حتى أعود. . .)
فهل عاد المسيح في ثوب (بلفور) أم كذبت نبوءة (السيد)؟ إن لعنة الله ودعوة المسيح لا تزالان تحرقان قدمي إسرائيل، فهو لا يثبت له قدم في أرض، ولا تطمئن له نفس في وطن؛ وكان من أثر ضلاله البعيد في الآفاق أن اكتسب خلائق النَّوَر: فهو يلصُّ ليعيش، ويخدع ليغلب، ويستوحش ليأمن، ويتعصب ليدافع، حتى انقطعت بينه وبين الناس وشائج النوع، فأصبح خَلْقاً آخر لا يألف ولا يؤلف. فمحاولة إسكانه مع غير أهله وفي غير أرضه تكذيب لكلمة الله وتزوير على قانون الطبيعة!
ليس بصددي اليوم أن أفند هذه السياسة المريضة فحسبها منطق الحوادث وأدلة الواقع؛ إنما أريد بهذه الكلمة أن أصور فلسطين العربية بين بحر يرشُّها باليهود والحرب، وقفر يحصبُها بالمرض والجدب، وأخواتها في العروبة وفي الإسلام مطمئنات على ضفاف الأنهر النضاحة بالنعيم، وعلى رياض السهول الفواحة بالنعمة، ينظرن إليها نظر الغرير الأبله وهي تمشي في النار، وتخوض في الدم، وتطلب القوت فلا تجده، وتنشد الأمن فلا تناله. أريد أن أصور حال هؤلاء الكماة الأُباة الذين يغاديهم الفزع، ويراوحهم الموت، وهم يدافعون عن حقهم في الحياة، وينافحون عن مرقدهم من الأرض، ويقولون للواغل الثقيل(265/1)
وللحامي الدخيل: إنها موتة لا مناص منها. ولأَنْ تُنثر أشلاؤنا على أديم الوطن، وتقبر أجسادنا في ثرى الأجداد، أحب إلينا من أن نعيش عيش اليهود شرداء في كل طريق، طرداء في كل بلد!
لقد شن يهود الأرض على عرب فلسطين الحربَ في صراحة ووقاحة؛ وأعلنوا الجهاد الديني والقومي بالتطوع والتبرع، وسلحوا ذؤبانهم بالمنايا والمنى، ودفعوهم في وجه الحق والعدل والشرف ومن ورائهم مصارف اليهود تمدهم بالذهب، ومصانع الإنكليز تمدهم بالحديد؛ فانطلقوا يخرِّبون المدن، ويحرِّقون الحقول، ويقطعون السبل، ويحصرون المؤمنين الآمنين في أجواف الدور، وفي شعاف الجبال، لا يجدون منصرَفاً إلى الزرع، ولا سبيلاً إلى القوت. وقد شغلهم الدفاع المقدس عن الحمى والنفس عمن وراءهم من الشيوخ والأطفال والنسوة، فتركوهم يتضاغون من الجوع، ويرتعدون من الخوف، ويكابدون رُحاء الهموم على وطن يستبيحه الغريب، وشعب يتخطفه الموت، وحق يتحيفه الباطل، ومستقبل يتكنفه الظلام، وحال من البؤس تقطع الرجاء وتوهي الجَلَد لولا إيمان المسلم وبسالة العربي واستماتة المظلوم
فلسطين العربية كلها اليوم بين منفى يلوذ بكنف الأعداء، وضعيف يتباهى بالدعاء والبكاء، ومدافع يقتات بالعشب ويعتصم بالصحراء؛ وليس للمنفى شفيع إلا الأمل، ولا للضعيف عائل إلا الصبر، ولا للمدافع منجد إلا الأيمان.
أما إخوان النسب وإخوان العقيدة فكأنهم لا يملكون لمأساة فلسطين الدامية إلا عزاء المجامل، ورثاء الشاعر، ودعاء العاجز، وبكاء المرأة.
أيها المسلمون! إذا ذهبت عصبية الجنس فهل تذهب نخوة الرجولة؟ وإذا ضعفت حمية الدين فهل تضعف مروءة الإنسان؟ إنا لا نقول لكم تطوعوا، ولكننا نقول تبرعوا. وليس في التبرع للجريح بالدواء، وللجائع بالغذاء، نقض لمعاهدة ولا غدر بصداقة. وأقل ما يجب للقريب على القريب، وللجار على الجار، يدٌ تواسي في الشدة، وقلب يخفق في المصيبة، ولسان يحتج في المظلمة. فهل يزكو بعربيتكم والجود غريزة في كيانها، وبإسلاميتكم والمواساة ركن من أركانها، أن تقفوا في فلسطين موقف الخلي المتفرج، يسمع الأنين فلا يعوج، ويبصر الدمع فلا يكترث!(265/2)
إن فلسطين تقاتل للحياة لا للمجد، وتناضل عن القوت لا عن العزة؛ وخليق بمن يدفع عن نفسه أن يُعان، وبمن يذود عن رزقه أن يُعذر
إن فلسطين من البلاد العربية بمكان القلب، ومن الأمم الإسلامية بموضع الإحساس؛ وسيعلم الغافلون أن محنتها سبيل المسلمين إلى التعاطف، وصرختها نداء العرب إلى الوحدة. . .
أحمد حسن الزيات
-(265/3)
سخرية الأقدار
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كنت في يوم من الأيام جالساً إلى مكتبي أترقب أن يحمل إلي ساعي البريد (حوالة) مالية. وكنت عاكفاً على الكتابة ولكني كنت أحصى الأبواب والوجوه التي أنفق فيها المبلغ المرقوب. وللذهن قدرة على الاشتغال بأكثر من موضوع واحد في لحظة واحدة. فبينما كنت أجري القلم بوصف ما تعاني فلسطين، وأعرب عما جاشت به نفسي من العواطف من جراء هذه القنابل التي تلقى على باب المسجد الأقصى وفي الأسواق العامرة الغاصة، فتقتل النساء والأطفال والرجال، وتطير أشلاء الإنسان والحيوان وتخلطها بالخضر والفاكهة، واللحم والسمن والعسل، والأنقاض التي تهاوت، والقُفَف التي تبعثر ما فيها؛ وأقول إني أعرف حكومة فلسطين نسفت بيوتاً عدة للعرب، وفرضت غرامات متفاوتة على قراهم الفقيرة، ولا أعرفها هدمت بيت يهودي واحد، أو غرمَّت حياً من أحيائهم أو مستعمرة من مستعمراتهم - أقول بينما كان القلم يسحُّ بهذا كنت أتخيل الثياب الجديدة التي سأشتريها، والأثاث الحديث الذي أحب أن يحل محل القديم في بيتي، والسيارة الجديدة التي سأستبدلها بسيارتي وإن كان عمرها عاماً، وأسأل نفسي هل أستشير المرأة الصالحة التي لا تعترض لي طريقاً، ولا تأخذ عليَّ مُتوَجَّهاً، ولا تنكر من فعلي أو قولي شيئاً، ولا أراها في أي حال إلا راضية، ولا أعرف أن غيرها في هذه الدنيا يمكن أن يطيقني ويحتمل عبثي وسخافاتي وحماقاتي؟
في هذا كله أيضاً كان تفكيري. وكنت أتصور الألوان والثيات والأشكال، وأحاور نفسي وأجادلها، وأتلقى الاعتراضات وأردها، والقلم مع ذلك لا يتوقف ولا يكف عن المضي، وجاءني الخادم بإيصال رسالة بريدية مسجلة لأوقعها، فاستبشرت وقلت: (الحمد لله جاءنا الخير المرتقب. . . خذ يا شاطر فتح الله عليك، ولك. . . (ومددت له يدي بالإيصال) وأسرع. . . عجل، ولك الحلاوة)
وخرج الخادم، وهو يبتسم، وراح هو أيضاً ولا شك يتخيل ما سينعم به في يومه السعيد (بعد أن أعطيته الحلاوة) الموعودة. ومضيت أنا في الكتابة، مغتبطاً، وإن كان القلم يقطر بالنقمة على رؤوس المستعمرين، ورأيتني أدندن، وأنا أجري القلم، ولم لا؟ ألست مسروراً(265/4)
منشرح الصدر، ولا نكران أني كنت ساخطاً ناقماً، ومغيظاً محنقاً، وثائراً فائراً، ولكن هذا جانب، وذاك جانب، فأنا - في الجانب المشرق الوضاء من نفسي - أشعر بالاغتباط والمرح، فأدندن، ولكن هناك جانباً آخر حالك السواد لا يضيئه إلا ما يتهاوى فيه من صواعق الغضب، والجانبان لا يختلطان، ولا يتداخلان، ولا يعدو واحد منهما على صاحبه؛ فالسواد هنا لا يعصف بالبشر المتألق، والسرور هناك لا يمتد نوره إلى الظلمة الطاخية. . .
وعاد الغلام الخفيف الحالم بالحلاوة، ودفع إلي الرسالة المسجلة فنظرت إليها وأنا أتناولها منه، وعرفت ممن جاءتني قبل أن أفض غلافها. ولم يكن هذا لأني ذكي ألمعي أرى بأول الظن آخر الأمر من وراء الغيب، بل لأن الاسم مطبوع على الظرف
وابتسمت وأنا آخذ الرسالة، وأضعها على المكتب كما هي، وأنقدت الغلام المسكين قرشين، وأكببت على الورق أكتب. . وماذا عسى أن أصنع غير ذلك؟ لم تجئ الحوالة المالية المرتقبة، ولا ضير من هذا، ما كانت بي حاجة ملحة إليها، وهي خير إذا جاء فأنعم به وأكرم، وإذا لم يجئ فلا بأس، وستجيء على كل حال غداً إذا لم تجئ اليوم أو بعد شهر أو أكثر، ولو اقتصر الأمر على حرمان ما نعمت نصف ساعة بتخيله لهان، ولكن المضحك. . . نعم المضحك. . . أن يجيئني بالبريد المسجل في هذه اللحظة على الخصوص إنذار من محام بتنفيذ حكم صدر خطأ في غيابي، وعندي المستندات التي تثبت أني أبرأت ذمتي، ولكني لسوء حظي مهمل وشديد النسيان، فلست أذكر أين وضعت هذه الأوراق، وقد كلفني هذا النسيان ما لا يعلمه إلا الله، وبدا لي - لسذاجتي - أن من السهل أن أقنع الخصم بمراجعة أوراقه وحسابه ليتبين أني أديت إليه حقه. وخطر لي أن هذا أسهل من عثوري أنا على مستنداتي التي لا أدري ماذا صنع بها الإهمال، وكان الخصم يضحك مني ويقول للحاضرين (اسمعوا. . . هذا جديد. . . يريد مني أن أقدم أنا له ما يثبت براءة ذمته!! فلماذا لا يعد هو مستنداته؟) فأقول له محتجاً (يا أخي إن المسألة ليست مسألة خصومة وعناد، وإنما هي مسألة ذمة وحق، وعندك دفاتر مسجلة تقيد فيها مالك وما عليك وأوراقي لا أدري أين هي، والبحث عنها يضيع وقتي، ويطير عقلي، ولا صبر لي على هذا على كل حال؛ ولأهون على أن أؤدي إليك المال مرة أخرى من أن أنفق عمري وأطير صوابي(265/5)
في البحث عن هذه الأوراق، فلماذا لا تؤثر العدل والحق فتعاونني؟ إنك ناس، والموكل بهذا الحساب قد ترك عمله عندك، والمراجعة لا تجشمك عناء، فمر واحداً من عمالك أن يقوم بها)
وقد ضاعت سنتان من عمري وعمره في هذه المراجعة التي لم تخل من بعض الفائدة، فقد اهتدينا إلى مبالغ ثبت أني أديتها فتزعزعت ثقته بعامله الذي أكد له أني ما زلت مديناً، ولكن دفاتره كانت على حال من الفوضى كالتي عليها أوراقي في بيتي. ويظهر أنه سئم أو تبلد فلم يعد وخز الضمير يؤلمه أو يزعجه، فقال أنفذ الحكم عليه بما لم نجد دليلاً على أدائه وأريح نفسي، وعليه هو - لا علي أنا - أن يبرئ نفسه بإبراز ما عنده!
وهكذا تلقيت إنذاره
وأتممت المقال ثم فضضت الظرف وقرأت ما في الكتاب وضحكت. لقد كنت أنتظر فرجاً أوسع به على نفسي، فإذا بي أطالب بأداء دين مرة ثانية!؟ فماذا أصنع؟ قلت لنفسي - وكان اليوم الخميس - هذا موقف ممتع. وخير ما أصنع هو أن أركب سيارتي وأستصحب بعض الرفاق، ونمضي جميعاً إلى الإسكندرية فنقضي على ساحل البحر أياماً وليالي ننسى فيها سخرية الأقدار وتهكم الأيام. . .
وقد كان. قمنا إلى الإسكندرية قبل الغروب بساعة، فلقينا في رحلتنا ما هو أعجب وأغرب مما سأقصه على القراء في المقال التالي
إبراهيم عبد القادر المازني(265/6)
صحيفة وصف وأخلاق
النادي
للأستاذ حسن القاياتي
بكَّرتُ إلى ضاحية نضرة موْنقة ألفت أن أزور نادياً فيها يتألفني بشفوف حسنه الصامت، ويقر بعيني أن أبادله أنفاسي الحرار ببرد نسيمه الذي يأذن له فيتلعب بغلائل زائراته من الغانيات بأرفق من تلعب العيون بالقلوب، ويطيب لي أن أشهد سكونه المعجب لا يحس فيه غير نبض الجوانح بالحب، أو سُرى العيون بنظرة مدلهة
كم خلوت في هذا النادي بنجوى الأمانيَّ الحسان كأنما أتناولها من رقعته النضرة الغضة، وللأمانيَّ في الجو الطلق رفيف كرفيف نسمته يندَى على الكبد
أمانيُّ من ليلى حسان كأنما ... سقتنا بها ليلى على ظمأ بَرْدا
مُنىً إن تكن حقاً تكن أحسن المُنَى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
المتنزه أو النادي جنة معطار بالنسيم، يتيامن قليلا عن الطريق الشارع حيث المدينة، ويتياسر شيئاً عن المزرعة حيث الريف، فهو بينهما قائم يشرف على رقعة نضرة، كأنه الحد بين مصنوع الحسن ومطبوعه، وتلك من أكبر ما يغريني به فقد طبعت علىَّ خلال من حب الوحدة إلى غاية من التبرُّم
أما النادي في صورته فبناء مؤلف من طبقتيه السفلى والعليا، بيد أن عليا الطبقتين خلاء من كل ناحية، سقف على عمد، هل رأيت مظلة في يد؟
تشافهه ذكاء شارقة غاربة، فتطالعه في مشرقها بوجه وضاح متهلل يعيره في المشتى أنفاساً حِرارا كأنفاس الصبابة، وصفرة في أصائل المصيف كصفرة المحب، فاترة اللمح والحرارة، فناهيك من مصيف ومشتى
الخضرة حول المتنزه سائدة، ربما أربق عليها عسجد الشمس فهي بساط رائع، كأنما التقت عليه الخضرة والصفرة في سدى ولحُمة، تؤلف نقوشه من زهرات ترفات لم أر أملح من الفراش يتنقل عليهن تنقل النظر في خدود الأوانس المتوردات
وقد استدارت حوله شجرات قديمات قامت هنالك عطلاً من الثمر والنَّور، كأنها نصفات من الغيد ودعن عهد الشبيبة والذل، فهن سليبات من الحلي وإن كن لا يعدمن مسحة من(265/7)
الحسن. على أن تلك الشجرات ربما أجنت عصفورا لبِقا بالصفير يخرج رأسه في الفينات من حفافي ورق نضر كما تطل مغنية من شباك فيضرب الفتن مرات بجانبي منقاره كما تمسح القلم مرات يمنة ويسرة، أو كما يصلح المغني عوده، ثم يتكلم العصفور بصوت ساحر
وقد يشرف الجالس فيه على ضروب من الغراس حديثة العهد بماء ضحضاح إذا تمايلت فيه وصفها مترجحة كالراقصات أمام المرآة، ذلك حسن منثور فيه، أينما تلفت رأيته كالمحيا الفاتن تجيل طرفك فيه بين فنون من الروعة، فتنقله من خد إلى جيد، ومن طرف إلى خد
تلك حلية النادي في يومه الساحر الوضاح، أما هو في ليله فذلك الحسن كله والسحر، يقبل عليه الليل بقطعاته الجهمات فتتشابه سماؤه وأرضه: السماء روض زهراته الكواكب، والروض سماء كواكبه الزهرات، وتأخذ لألأة الكواكب بالبصر حتى يحسبها الناظر شقوقاً في ثوب الليل، فيرده عن وهمه أن ثوب الليل تشيب، وأنه بعد في مقتبل. أما القمر في ليالي القمر، فأن له على تلك الساحة طغياناً ساحراً كما تدفق النهر في الحديقة؛ وطالما رف بلبل في جوه فرجع ترجيعات مليحات آنقت الأسماع حتى ما يمارى أحد في أن تغريد الطيور من ألحان الطبيعة، وإن كان لا يحسن أن يقول: من أية نغمة هو، وإن تعرَّف حسنه بما أودعه النفس من حرارة الشغف
إن الناظر ليجيل طرفه فيرى على مدى بصره القطار الأبيض في جيئته وذهوبه يتدفع بين تلك الأنحاء السندسية، فيحسبه قناة ماء مسجور يتدفق بين الرياض، ويخيل إليه أن زمجرته هدير القناة، أو يحسبه وهو يمرق ليلاً في غشاء من ضوئه نيزكاً سابحاً يجرر ذيلاً من النور
أجل؛ إن الحياة المريرة النكداء أبخل من أن تخليَ منظراً طريفاً كمنظر هذا النادي من منظر قاس مرٍّ يشق على النفس والبصر. هذه مقبرة قديمة جثمت على قيد خطوات من النادي البديع إذا تلفت الجالس تعثر بها طرفه وشجته كما يشرق الشارب بالماء العذب، هذه المأساة بذلك الجذل سنة الحياة
ألفت غشيان هذا النادي في الأصايل وليلات القمر أسراب من غانيات الأسر فيهن(265/8)
المصرية والغربية، تغرب الشمس فيشرقن فيه يتفرجن من يوميات البيت الجاهدة، ويستسلمن إلى سمر حار ممتع يرسل نفوسهن على السجية؛ وتارة هو ملتقى صفيين يخلوان إلى نجوى الشوق في غفلة من الوشاة
إن الوجوه لتتقابل هناك متعارفة مؤتلفة لكثرة ما تلتقي لديه، حتى لقد ترعى بين زائريه حدود الآداب فيعرف أحدهم لجليسه كرسيه ومجلسه، وكأنما أجد لهم طول الإِلف ضرباً من التفاهم يلفهم فيه أسرة واحدة يرمون المحدث فيهم بالنظر الشزر. أنا جالس في ندينا الساعة حيث أكتب هذا، والدولة لليل، وقد نبض سلك الثريات بالنور فأضاءت، وحوالي خفرات من الأوانس محجبات وسوافر يبسمن لذويهن فيذبن الأسى، تحلل الظلمة تحت الثريات، ويفاوحن الروض بعرف زكي كأنما يرود لهن القلوب، والعَرف من بَريد الحب
شدَّ ما يسترسل الأوانس هناك في تبذلٍ ومجانة يتجاوزن بهما حد الرشاقة والدل إلى الخلاعة، كأنهن حين شهدن تبرج الطبيعة تشهَّين أن يسايرن حسنها السافر فساقطن عن حر الوجوه براقع شفافة كأنها أغشية البلور، وأخذن في مرح بحت يعملن فيه الرشاقة والدل
تلك التي انتبذت ناحية طفلة ناهدُ في سنِّ البدر وحسنه، أحسبها تفلتت الساعة من المدرسة لما يلوح عليها من غرة بالتلفف
جلست الفتاة تتنظر خديناً لها فهي تتلفت متململة تلفُّت الطائر على الغدير، حتى أقبل طلقاً وضاح الأسارير فسلم ثم عدل بها إلى مكان يجور عن مساقط النور ومواقع النظرات، ألف العشاق أن ينزلوه، يسرهم أن يجمعوا بين كحل ظلمته وبين العيون فما ينيره غير جبين وضاح
جلسا معاً هناك، وجه إلى وجه، وساق على ساق، في أمن من سرى الأبصار والظنون:
أقول وجنح الدجى مُلْبِدُ ... ولليل في كل فج يدُ!!
ونحن ضجيعان في مِجْسَدٍ ... فلَّله ما ضمن المجسَدُ!
أيا ليلة الوصل لا تنفدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ
ويا غَدُ إن كنت بي راحماً ... فلا تدْن من ليلتي يا غدُ
يتناجيان حينا بحرِّ الصبابة فيضرِّج الحياء خدها الرقيق:(265/9)
راض بحكمك فاعدلي أو جوري ... ولك المكانة فاهجري أو زوري
ناجيت فاتنتي فأشرق خدُّها ... بالحسن وقْعَ النور في البلور!
وربما سكتا عن حديث البشاشة فتكلمت العيون!
متحابان غاب عن يومهما العَذَل فدعهما حيث شاء لهما الحب ونجواه
وتلك عقيلة نَصَف على أنها مستتمة الملاحة لبقة بالغزل والتصبي، ذات وليد مرضع تحمله وصيفة زنجية متلففة. أقبلت العقيلة تمشي إلى رجل رزين الجلسة هو قرينها فيما يخيل إلى ناظره، أفنى هزيعاً من الليل في توقعها، فالآن حيث أقبلت تخطر حتى جلست إليه في غير تحية ولا كلفة. وإني لأشهدها الساعة تتململ حائرة النفس، وتتخبط برجلها تخبط الظبي في حبالته لترى الجلوس ساقها الضخمة الملتفة كأنها لفائف البللور، وتسارق جاراً لهم النظرات تنتحل لها العلات حذراً من يتقظ الريبة في نفس القرين، وتكثر أن تكشف جيب الثوب عن ناهد رخص مستدير تعلل به الوليد، وجل ما تعتمده أن ترى النظارة وبخاصة ذلك الجار أنها تحمل غض الرمان:
بنفسي من لو مرّ برْدُ بنانهِ ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كلّ أمر وِهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
وهذه فتاة أخرى تتردد بين الصبيحة والدميمة، على نصيب من رشاقة الدل واللباقة، ولكنها طياشة لا يحتويها مكان، تغرق في هذر وضحكات خليعة تستثير بهما هوى الجالسين كما يطارد الصائد الظبي إلى الحبالة فإذا هو أخيذ:
فرقت إني رجلٌ فروق ... من ضحكة آخرها شهيق
تجربات عدة صادقة أفدت منها أن العفاف لون من ألوان المرأة لا جوهر، وأن المرأة لا يسلم لها شرفها الرفيع كائنة من كانت إلا محرزة مكنونة، أو يراق على جوانبه الدم، وإنها إذا استشرفت للريبة استبيحت فلم تعتصم
ذلك رأيي في المرأة جد سديد، وإلا فما هذه النظرات الخائنة التي تخترق الصدور إلى الأفئدة؟ والتفلت من كل عقد اجتماعي أدبي؟
إن المرأة لتحسب أن من وحي الفطرة الزهادة في الأليف الفرد، وذهاب الحسن طلقاً مع الهوى كأنما تخشى عطلة الغزل، وتنفس بالحسن على التملك فيما يقول الإعرابي الغر(265/10)
يقولون: تزويج وأشهد إنما ... هو البيع إلا أنَّ من شاء يكذب
وكأنما تقول:
إن المرأة مخلوقة من جو هذا الكون ونسيمه، فأخلق بها أن تروح في حرية ذلك الجو الطَّلق
يعز علي أن يكون رأيي في المرأة هذا الحكم الجافي، ولو آثرت العاطفة دون العدل لم يكن أحد آثر من المرأة بالترفق
إن اليد التي تصرف القلم بالعاطفة لا تحسن إلا حمل الدف أو العود
هذا كله وأكثر منه في طبقة النادي العليا، أما طبقته السفلى فأن لها شأنا غير تلك نصفه على أنه أعف وأنزه. هذا قس رزين مثر من القساوسة خلفاء المسيح صلوات الله عليه، يحمله إلى النادي مركب سريٌّ، وله ضيعة فخمة، كلٌّ ما يلوح عليه من سمات الدين لحيته وطيلسانه، ومسبحة يديرها آونة، لا يكاد يساجل جليسه إلا حديث الضيعة وقصر يبتنيه؛ ولكنه غر كريم بكل ما يشهده حوله من هذه الحياة الماجنة، يصف الهداية كما تصفك المرآة وكأنه في هذا النادي المستهتر بقية الهدى في فؤاد المفتون!
حبيب إلى نفوسنا أن يتنزل رجال الدين من علياء مجدهم وتدينهم إلى حيث الطبقة المتحضرة اغتباطاً بدنوِّ الدين المصلح الرشيد من المدنية الفاتنة المسترسلة، وأنى يكون ذلك؟
تريدين كيما تجمعيني ومالكاً ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد؟؟
وذلك رومي يجلس على مقربة مني لا ينفك فمه يختلج بهمس تتحرك له شفتاه كأنه ممرور أو موسوس، وكأنما يعد شيئاً يعقد له أنامله. وماذا عسى يعد هذا المنكود إلا أيام عشيق هاجر كأنه يتبرم بالحب؟ وهل لأحد على حبه خيار؟ ذلك طماح شديد
دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا أعُدُّ ولا تعدَّي
أما تلك الفتاة اللعوب الشرهة النظرات التي تتصدر في حفل لها فيه عشيق، فقد ألبس علينا أمرها، أمستباحة هي أم حَصان مخبأة؟ فإنا لفي هدأة من ليل ساج يكاد أحدنا يحبس فيه نبضه خشية أن يقطع سكونه، ويترفق بالنفس خيفة أن يضرمه بحرقته، إذ خلصت إلينا مع النسيم نغمة فاتنة ساحرة، يحملها حمل النفحة مجهولة المهب، على أنها حلوة الخطرة(265/11)
تمسك الحشاشة:
يا ساقيَّ أخمر في كؤوسكما ... أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟
أصخر أنا؟ مالي لا تحركني ... هذي المدام ولا تلك الأغاريد؟
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبُهُ ... أني بما أنا باكٍ منه محسود
واطربا لك أيها الشادي! وحر قلبي عليك! لقد أحسنت وأربيت. من أنت جعلت فداك؟ ومن أية النواحي مَسرَى الموت؟
تلفتت العيون بعد أن تلفتت القلوب تطلب مغدي الصوت فإذا فتاتنا اللعوب هي التي ترسله حاراً كزفرة المحب، وإذا هي مطربة نابهة من المعروفات كأنما تناست مجلسها من الحفل وخيل إليها المرح أنها جالسة بين زملائها على (التخت) فانفرجت شفتاها بتلك الأغنية ثم بدا لها أن تقني الحياء فأمسكت ولم تبرح إلا مكرمة مفداة
بينما نصغي بأسماعنا إلى غناء الآنسة الأخاذ دخل إلى النادي رجل عسكري عظيم في (رتبة اللواء) ألف طروقه يتحدث فيه إلى أستاذ مدرس من المعممين فيزأران بالحديث حتى يستحيل النادي بصوتهما كلية للفنون أو معئرك حرب، يزخر مرة بالبحث والتحليل، ويفهق أخرى بالصليل
يلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمود!
ولعهدي لهذا الصوت الصاخب ينشد شعراً مرة، فليت شعري من راض ذلك الطبع العصيَّ على رقة الأدب، وتناشد الأشعار؟ أجل، إن الراضة يأخذون الليث الهصور بالرياضة والتأنيس حتى يصبح أنيساً طيعاً. هذا كلب صاحب الناديقد شهدت من يلقي له قطعات السكر فيأكلها التهاماً، فلما سمعت الشعر يمتضغه العسكري العظيم، قلت: ما أشبه الشعر في فم الرجل الجاف الخشن بالسكر في فم الكلب الشره! وإن من الشعر لحكمة:
وهذا الرومي صاحب النادي يأبى كل الأباء أن يعد النرد للاعبين في الطبقة العليا من ناديه إغلاء بهدوء الزائرين، أفلا تكون للضابط العظيم شمائل ذلك الرومي الجافي فيعفينا بل يعفي زائراته الرقيقات من الصخب، كما أعفانا صاحبه من (النرد) بل ليت لنا من يقول له: رفقاً أيها الأسد بالظبيات أو القوارير
ليس فيما يقطع السكوت في الخلوات أشهى إلى المستريض المبعد مسه السغب من نداء(265/12)
الباعة على الطعام الشهي اللذّ، والطعام كله على تلك الحالة لذ شهي، بل هو أهنأ الطعام وأمرؤه، وإن فيمن يضمه نادينا الحفيل رجالاً لهم شارة تشهد بغضارة ونعمة. ذلك السيد السري المتصدر واحد منهم، لا تبرح تحت طاعته سيارة وسائق فاره، وهو إذا عاد إلى مثواه عائد لا محالة إلى قصر مشيد وخدم، وبَدِيه إن له طاهياً محسناً لا يصنع طعامه المعجب فحسب، بل يصنع معه الشهية لآكله. وها هو بحيث أراه مكب على قطعتي جبن وخبز ينحى عليهما بأنيابه إنحاء الجائع المقرور!
لقد سوت المسغبة ونزوح ساعة عن المدينة بين السيد الشريف والبائس الذي يتبلغ بالخبز القفار. وتلك حسنة للخلوات تقرّب بين الطبقات بالتسوية فتتركهم سواسية كما هم في رأي الفطرة، سيان الشريف والدون. معدلة من الطبيعة ونصفة؛ على حين تقضي سنة المجتمع ونظمه بتفرقة جارمة
مخلسنا في النادي تحت كرمة عنب فينانة تظل ناحية منه، وتتدلى علينا بأوعية المدام أو العناقيد كأنها ثريات النور
تحملي أوعية المدام كأنما ... يحملنها بأكارع النغران
أذكرتني الكرمة بالراح، وإن كنت لا أشربها والحمد لله الذي يحمد على المحبوب والمكروه، كما تذكر النتيجة بالمقدمات، فذكرت كذلك أن النادي معطش منها، تعطل فيه الأكواب، وأن صاحبه الخبيث يتحرق لهفة لأنه استجدى الأذن ممن يملكه بأن يديرها فيه فلم ينعم له بحمد الله. وخيل إلي أنني تعرفت من وقوع الطير على العناقيد ونقره حبات العنب، لأية علة كانت عربدة العصافير والتغريد. ولو أتيح للخمار الداهية أن تحتث عنده كؤوس الشراب لروعنا بعربدة العيون الساحرة النشوى، فصرنا إلى ناد طروب تعربد سماؤه وأرضه وتُغرد طيوره وغيده!
لا تسقنيه فأني أيها الساقي ... أخاف يوم التفاف الساق بالساق
إن الشراب تهيج الشر نشوتُه ... فميز الشر منه واسقني الباقي
فضيت من الرياضة كل حاجة، وتزودت لرئتيَّ من النسيم العليل، فتشهيت العودة وأخذت سمتي إلى بيتنا الصغير، فإني لجالس فيه صبيحة تلك الليلة جلسة المتعب المكدود أتمثل ما مر بي بالأمس، إذ دخل علينا آنستان فاتنتان كأنهما صورة الحسن، فلما سمعتهما تسألان(265/13)
عني قلت: لبيكما، أنا ذاك. فأقبلتا فجلستا في تخفر واستحياء متصنعين؛ بيد أنهما تخبآن السحر في العيون ثم تحدثتا إلي بأنهما أقبلتا من مدرسة فلان في طلب المسعدة ليتامى قسمها المجاني ويتيماته - فيما زعمتا - ودفعتا إلي بصحيفة أعدتاها للمتبرعين يثبتون فيها الأعطيات، ثم التوقيعات، فتسمحت نفسي بقليل نذر يتذمم الجواد المفضل منه، ثم وقعت في الصحيفة (صانع خير!) ومن يبخل عند الأوانس؟ فانصرفتا في امتنان وحمد. ويمين لا عاهر ولا حانث، ما أعرف أصانع خير أنا أم صانع شر؟ ولكني أعرف أن هذه أساليب هذا العصر، أو هذا البلد، وطرازه الطريف في الاستجداء الكاذب المخزي لمعونة العلم والبر، وأين العلم والبر؟
في الناس من يقتني نفعاً بمُندِيةٍ ... كما جرت قبلة (في سوق إحسان)
وا حر قلباه! حتى البيوت فيها أوانس المجتمعات العابثات؟
لمحة دالة من صفة نادينا الذي يتألفنا بجماله، وهو على ما فيه من هنات إنما يصف المجتمع ونفسياته، كما تصفه كل منتدياتنا، وخلف ما ذكر ما لم يذكر استحياء من الأدب والفضيلة
إن الأندية مرآة صقيلة للشعب تصفه على ما هو عليه من دمامة في صورته الخلقية أو وسامة
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي(265/14)
حواء
. . . عَلَم على ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ الحوماني تحت الطبع تحمل الرسالة نماذج منه إلى قرائها في عالم الفن
وحي القمر
قرأتكِ في الأفق حتى جرت ... سبائكه في جيوب السحرْ
وحتى تدفّقَ من جانبيه ... ضبابٌ على الأرض غطى الشجر
وأوقَدَ في ذرواتِ الغصون ... قناديلَ يزلق عنها البصر
تنوّعَ فيهن لونُ الحياة ... أفانينَ تحمل شتى الصور
تلمستُ روحكِ في أفقها ... وروحُكِ في الأفق وحي القمر
فكانت من الزهر هذا العبير ... ومن ذِروة الغصن ذاك الثمر
في فم الشاعر
لروحكِ في مُلتقى خافقيَّ ... خيالٌ يُرفِّه عن ناظري
أراه بعينيَّ في يقظتي ... وإن نمتُ وأشرق في خاطري
تمرُّ به نسمات العشيَّ ... على صفحة القمر الحائر
وتندى به نسمات الصباح ... فتلفظه في فم الشاعر
وكم صفَّقت جنبات الغدير ... على رقصه في فم الطائر
خيالُكِ مرآة قلبي، يُطلَّ ... على الكون من فمها الساخر
تدور بها في سماء الخلو ... دِ أرحيةُ الفلكِ الدائر
الحوماني(265/15)
في مصر الإسلامية
السيادة المصرية في صدر الإسلام
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان الخراج في الدولة الإسلامية من أهم موارد بيت المال، فلما فتح العرب مصر وجبا عمرو بن العاص خراجها لم يرْض عمر بمقدار الخراج، وظن في عمرو الظنون، فأرسل إليه ابن مَسلمة ليقاسمه ماله، ثم عزله سنة 23هـ قبيل وفاته بقليل عن ولاية الصعيد وأسندها إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح. فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمراً وولى ابن أبي سرح مصر كلها، فكان ذلك سبب الجفاء والعداوة بين عمرو وعثمان حتى قيل إن عمراً أخذ يؤلب الناس على عثمان وعلى سياسته وإن له ضلعاً في مقتله
على أن ابن أبي سرح لم يكد يستقر في ولاية مصر حتى انتفض الرومان وكتب أهل الإسكندرية إلى قسطنطين بن هرقل إمبراطور الروم يصفون له ما هم عليه من الذلة والهوان ويهونون عليه فتح الإسكندرية لقلة من بها من حامية المسلمين، فأنفذ قسطنطين قائده الأرمني الإسكندرية على رأس جيش كثيف فاستولى عليها وأخذ جنده يعيثون في الأرض فساداً حتى وصلوا إلى مدينة نقيوس
ولم يكن قبط مصر يرحبون برجوع بلادهم إلى حوزة الرومان خوف أن يسوموهم الخسف والهوان لما قاموا به من مظاهرة العرب ورضائهم بحكمهم من جهة، ولما كان بينهم وبين الرومان من الخلاف المذهبي الذي كان مصدر شقائهم ومصائبهم في عهد الرومان من جهة أخرى. فكأن عودة مصر إلى حوزة الروم معناه زوال تلك الراحة والطمأنينة اللتين تمتع بهما المصريون في ظل الحكم الإسلامي
لهذا كتب قبط مصر إلى عثمان يلحون في إسناد حرب الرومان إلى عمرو بن العاص لما أحرزه في حروبه معهم من الخبرة الناشئة عن طول المراس، ولأنهم أنسوا فيه الدراية والكفاية على رد غارات الأعداء بخلاف ما كانوا يعرفون عن واليهم الجديد، فولى عثمان عمرا الإسكندرية على أن يتولى حرب الرومان وإخراجهم من مصر(265/16)
وفي مدينة (نفيوس) دار القتال بين جند عمرو وجند مانويل في البر وفي النهر، وكثر الترامي بالنشاب حتى وقع فرس عمرو من تحته. ثم طلب المسلمون المبارزة بين فارس منهم وفارس من الرومان فكانت الغلبة لفارس المسلمين فثارت حميتهم وشدوا على العدو وانتصروا عليه وقتلوا قائده، ثم تعقبوه إلى الإسكندرية وأعملوا السيف في رقابهم. وهنا أمر عمرو بإيقاف رحى الحرب، وأن يبني في الموضع الذي رفع فيه السيف مسجد أطلق عليه فيما بعد (مسجد الرحمة) وهدم عمرو سور الإسكندرية، وبهذا ثبتت أقدام العرب في مصر سنة 25هـ
أقام والي مصر الجديد في الفسطاط يراقب الأمور عن كثب وينتظر ما تلده تلك الحرب الناشبة بين العرب والروم في مصر. ولا شك أن انتصار عمرو ثبت قدم ابن أبي سرح في ولايته. فحذا حذو سلفه في الإصلاح الداخلي وفي الفتوحالخارجية، أما الإصلاح الداخلي فلم يترك له عمرو شيئاً جديداً اللهم إلا ما كان في زيادة الخراج في ولايته حتى بلغ أربعة عشر مليوناً (إن صح أن يسمى هذا إصلاحاً)
أما من ناحية الفتوح الخارجية فإن ابن العاص كان قد أمّن حدود مصر من جهة الغرب بفتح برقة عام 21هـ صلحاً، وبفتح طرابلس سنة 24هـ عنوة. ثم بعث نافع بن القيس الفهري (وكان أخا العاص بن وائل لأمه) إلى بلاد النوبة فقاتله أهلها قتالاً شديداً فانصرفوا، فلما ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزا أفريقية سنة 27هـ وقتل ملكها وغنم المسلمون الغنائم الوفيرة حتى قيل أن سهم الفارس بلغ ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار
ثم وجه ابن أبي سرح همه إلى الجنوب فغزا بلاد النوبة من جديد، وبلغ دنقلة في سنة 31هـ وقاتل أهلها قتالا شديدا، ومع ذلك فإن النصر لم يتم لابن أبي سرح، فلجأ إلى مهادنة النوبيين وعقد معهم صلحاً رواه من المؤرخين البلاذري والكندي والمقريزي وترجمه لين بول في (تاريخ مصر في العصور الوسطى) (ص 20 - 21) وهو أشبه بمعاهدة اقتصادية بين مصر والنوبة: هذه تمدهم بشيء من الحبوب والعدس، وتلك ترسل إليهم الرقيق
كذلك تولى ابن أبي سرح قيادة معركة بحرية نشبت سنة 31هـ بين العرب والبيزنطيين(265/17)
تحت قيادة ملكهم قسطنطين بن هرقل، وكان النصر للعرب على الروم في هذه الموقعة التي عرفت باسم موقعة (السواري) أو (ذات السواري) لكثرة سواري المراكب التي اشتركت في القتال
أما مثير هذه الحرب فهو قسطنطين بن هرقل فلقد دبَّ في نفسه دبيب السخط فعمل على الأخذ بالثأر لما أصاب المسلمون من أملاكه في غرب مصر، فخرج في عدد من المراكب يتراوح بين خمسمائة وألف على ما ذهب إليه المؤرخون على اختلافهم، وخرج ابن أبي سرح بمائة مركب، واشتبك القتال بالغرب من الساحل الأفريقي في الفرضة المسماة بفرضة زيواره
حسن إبراهيم حسن(265/18)
حظي بالشيء. . .
لأستاذ جليل
الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري المنصورة، اليازجي. . . .
. . . . .
- 2 -
طالع الأستاذ الرافعي (رحمه الله) كلمة المجمع اللغوي (البلاغ 17 شوال 1352) فنشر مقالة عنوانها (أول الغلط من المجمع اللغوي، رد على رد) - البلاغ 18 شوال 1352 - أطنب فيها في أمر البرقية ثم قال: (وانتهى الأستاذ (أي مدره المجمع الشيخ حسين والي) إلى مادة اللغة فلم يأتنا بكلام من الفصيح جاء فيه مثل استعمال (يحظى بتشريف) بل سكت عن هذا مع أنه هو كل ما نريد. ثم قال: إنه يجوز استعمال الباء مع حظي واستدل بقول الزمخشري في الأساس (حظي بالمال وأحظاه الله بالبنين) وها هنا أردنا أن يبحث أعضاء المجمع في وجه استعمال حظي بالمال وحظي بالبنين، فأنهم إن اهتدوا إليه فسيرونه رداً عليهم. ولا نزال نطلب إليهم أن يأتونا بالتاريخ الاجتماعي لهذا الفعل (حظي) لينكشف لهم الخطأ في استعماله. ثم قال فضيلته: (إنهم استعملوا التشريف بمعناها الأصلي لا بمعنى الحضور، ومعموله مفهوم أي تشريف جلالته إياه) قال هذا وسكت عن الباقي، والباقي هو قولهم (تشريف جلالته إياه لافتتاحه) فإذا لم تكن هذه اللام في (افتتاحه) نصاً في تقييد معنى التشريف بالحضور فما موضعها هنا؟ إن المجمع على كل حال قد حظي بتشريف جلالته إياه) إذا أريد من التشريف معناه الأصلي، فإن هذا المجمع إنما هو عناية سامية من جلالة مولانا الملك وأثر من آثار فضله وبركة من بركات يمنه وكل هذا تشريف، فعلى تأويل حضرة العضو يكون كلامهم لغواً لا محل له، وإلا فرده هو لغو لا محل له)
الأستاذ الرافعي وأزهري المنصورة
في 19 من شوال سنة 1352 ظهرت في (البلاغ) كلمة عنوانها (حظي بالشيء والأديب الصغير) للأستاذ أزهري المنصورة. ومما قاله: (قال (ديوان الحماسة):
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا(265/19)
وقال (الأساس): (وحظي بالمال، وتقول: ما حِليَ بطائل، ولا حظي بنائل)
وديوان الحماسة هو الذي اختاره أبو تمام، قالوا: (لم يجمع في المقطعات مثل ما جمع أبو تمام) وأبو تمام حجة، فما قولك فيما رواه من شعر العرب. قال (الكشاف): (وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: (الدليل عليه بيت الحماسة) فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه)
والأساس هو (أساس البلاغة) لأستاذ الدنيا جار الله (ومن خصائصه - كما قال أبو القاسم - تخيّرُ ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى تحت استعمالات المفلقين)
فالأديب الصغير لم يحض بالصواب حين خطّأ (حظي بالشيء) في قول حضرة أعضاء المجمع اللغوي لا (حضرات أعضاء المجمع) كما قالت حضرته، لأن الأعضاء كلهم أجمعين حضرة واحدة، ومن المستحيل أن يكونوا حضرتين أو ثلاث حضرات أو أكثر من ذلك
أجلْ، إن أعضاء المجمع اللغوي محظوظون كل المحظوظين لكنهم ما أخطئوا في فعل (الحظوة) كما قال (الأديب الصغير) اليوم، وأديب كبير من قبل
رد الأستاذ الرافعي (رحمه الله) في (البلاغ 21 شوال 1352) على الأستاذ أزهري المنصورة بمقالة عنوانها (حظي بالشيء) ومن هذا الردّ:
جاءنا حضرة أزهري المنصورة بالحجة القاطعة والشهادة القائمة على أن (حظي بالشيء) هي من كلام العرب، فكان كل ما قاله في هذا هو هذا: (قال ديوان الحماسة (وأورد البيت) وقال الأساس (وذكر قوله)
نحن نشير في كلامنا في انتقاد (العشرين حضرة) إلى مغامز دقيقة لا نستطيع أن نكشفها، ولذا طالبناهم أن يأتونا بالتاريخ الاجتماعي لفعل (حظي) إن كانوا علماء لغة وفلاسفة لغة، وسألناهم عن الكلام الفصيح الذي جاء فيه مثل قولهم (حظي بتشريف) وما نجهل ما قاله الأساس ولا بيت الحماسة، ولو سأل (أزهري) حضرة الأستاذ صاحب البلاغ لبيّن له أنا كتبنا هذا البيت في كلمتنا الثانية في الرد على فضيلة الأستاذ الشيخ والي ثم ضربنا عليه وأسقطناه من الكلام إذ ليس من عملنا نحن أن نأتي بالأدلة الفاسدة ثم نزيفها، ونبين فسادها(265/20)
البيت لمحمد بن بشير الخارجي وهو من شواهد النحاة المشهورة ولا مطعن عليه. لكن الشاعر لا يريد الحظوة بل أراد معنى آخر فضاق باللفظ، ولم يوفق إلى غرضه فاضطر أن يضمن (حظي) معنى (ظفر) ونقل الفعل عن أصله، وحوله عن دلالته فلم تبق الكلمة حظي بل ظفر وسقطت حجة أزهري
وقد نص النحاة في شرح البيت على ما ذكرناه من معنى التضمين، ويدل عليه أن بشار بن برد لما أراد هذا المعنى وأطلق العبارة لم يستعمل حظي بل قال:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفانك اللهج
أما قول صاحب أساس البلاغة فلا دليل فيه لأعضاء المجمع بل هو من دليلنا نحن، لأننا ننكر الاستعمال ونستهجنه مقيداً باعتبارين: الأول أنه من أعضاء مجمع اللغة، والثاني أنه في كلمتهم المرفوعة إلى جلالة الملك
وبعد هذا نقول (لأزهري): إن سجعة الزمخشري التي استدل بها هي كأكثر سجع الرجل في كتابه من الكلام الغث البارد الذي لا وزن له، وقد سمّي الرجل كتابه أساس البلاغة ولم يسمه أساس اللغة)
قلت: قال الأستاذ الرافعي (رحمه الله): وهو (أي بيت محمد بن بشير) من شواهد النحاة المشهورة
والشاهد فيه حذفه حرف الجر من (مدمن) ومثل ذلك جائز. ويحذف هذا الحرف في المعطوف على ما تضمن مثل المحذوف وإن انفصل عنه بلا كقوله - وهو من شواهدهم -
ما لمحب جَلَدٌ أن يهجرا ... ولا حبيب رأفة فيجبرا
ولبيت بشار المذكور في (الرد) حكاية لطيفة رواها أبو الفرج وابن الخطيب:
غضب بشار على سَلم الخاسر، وكان من تلامذته ورواته فاستشفع عليه بجماعة من إخوانه، فجاءوه في أمره، فقالوا: جئناك في حاجة، فقال: كل حاجة لكم مقضية إلا سلماً. قالوا: ما جئناك إلا في سلم، ولا بد من أن ترضى عنه لنا، فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: هاهو ذا. فقام إليه سلم فقبّل رأسه، ومثل بين يديه وقال: يا أبا معاذ، خريجك وأديبك. فقال: يا سلم من الذي يقول:(265/21)
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فقال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداءك! قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غمَّا ... وفاز باللذة الجسور
قال: خريجك يقول ذلك. قال: أفتأخذ معانيّ التي قد عنيت بها وتعبت في استنباطها فتكسوها ألفاظاً أخف من ألفاظي حتى يروى ما تقول ويذهب شعري؟ لا أرضى عنك أبداً. فما زال يتضرع إليه ويشفع له القوم حتى رضي عنه)
ولقد تجرأت فذكرت قول الأستاذ الرافعي (رحمه الله): (إن سجعة الزمخشري التي. . .) أجل أن أبين أن الكبير قد يحل على شئ غضبه في بعض الأحايين فيقول. والشاهد في (الأساس) هو (وحظي بالمال) والسجعة إنما هي مثال
وإني لموقن حق موقن أن ليس في هذا العصر من يسبق الأستاذ الرافعي في إجلال إمام الأئمة وعرفان مقداره
وإذا استنزل بعض سجعات في (الأساس) مستنزل ففي (الكشاف) ما (تنقطع عليه أعناق العتاق السبّق، وتني عنه خطا الجياد القرح) وثغث عنده أقول بليغة، قائلوها بلغاء من الطراز الأول
أجاب الأستاذ أزهري المنصورة في (البلاغ 26 شوال 1352) الأستاذ الرافعي (رحمه الله) وعنوان الجواب (أئمة اللغة، حظي بالشئ، الشيخ إبراهيم اليازجي) ومما قال:
(1 - أوردنا بيت (الحماسة) وفيه أن (يحظى بحاجته)، وقد شرح هذا الديوان أئمة كثيرون، وجمع الإمام التبريزي شروحهم، ولم يعترض على قائل ذلك البيت معترض
2 - وجئنا بكلام (الأساس) والزمخشري هو صاحب الكشاف عن حقائق التنزيل
3 - وجاء في (نهج البلاغة): (وحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون)
وقد فسر العلامة (ابن أبي الحديد) العهد الذي فيه هذه اللفظة ولم ينقدها، وشارح النهج من أئمة العلم والأدب
وإذا قيل: هو النهج، وقد قالوا فيه ما قالوه - قلنا: حال (النهج) كخال الأقوال لوفود العرب على كسرى ووفود قريش على سيف بن ذي يزن وأمثالها، وقد اطمأنت الأئمة إلى عربيتها(265/22)
والنهج معظمه ظهر حين افتعال تلك الأقوال. والقرن الثاني والثالث أوله ومنتصفه أقرب إلى العربية الأولى من آخره ومن جميع الرابع. وقد أملى ابن دريد في زمانه (ووفاته سنة 321) تلك الروايات والأساطير، وأصبحت لغتها في كتاب (الأمالي) حجة المحتج
4 - وجاء في المقامات لابن الحريري (وهو من أئمة اللغة) في المقامة الأربعين: (نهضا وقد حظيا بدينارين) وللعلامة ابن الخشاب البغدادي رسالة في تخطئة الحريري، وقد غلطه في ألفاظ كثيرة في مقاماته ولم يخطئه في (حظيا بدينارين)
قد يكون هذا الفعل (حظي بكذا) نشأ في الزمن الإسلامي أو الأموي نشوء ألوف مثله لا قبل ذلك، لكن هذا لا يضير، وقد نجمت ألفاظ في القرن الخامس في (الجزيرة) ولما جاء الإمام الزمخشري وسمعها استجادها وأودعها كتبه
كيف كانت الحال لو لم يجئ الإسلامي والمولد والمعرب؟ وهل كانت ألفاظ (الجزيرة) في الجاهلية تجزئ في تلك المدينة الزاخرة؟)
قلت: أشار الأستاذ (أزهري المنصورة) إلى ناشئات القرن الخامس أو (نواشئه) وإيداع الزمخشري بعضها كتبه. وهذه نتفة منها في (أساسه):
(أهل الحجاز يسمون الزرع والطعام (عيشاً)
سماعي من فتيات مكة: الصوفية (اللوفية): لاف الطعام لوفاً وهو اللوك والمضغ الشديد
سمعتهم يقولون في كل شئ لا يحسن الإنسان عمله: قد (محقه)!
اكتريت من إعرابي فقال لي أعطني من (سطاتهن) أراد من خيار الدنانير
سمعت خادماً من اليمامة يقول - وقد وكف السق -: يا سيدي هل (أهب) عليه التراب بمعنى هل أجعله عليه، وهو من الهبة لأن معنى وهب له الشيء جعله له
رأيت العرب يسمون الكزبرة (الدقة) وسمعت باعة مكة ينادون عليها بهذا الاسم
سمعت بمكة من يقول لحامل الجُوالق (استشق به) أي حرفه على أحد شقيه حتى ينفذ الباب
سمعت بعضهم يقول: (عكشتك) بمعنى سبقتك من قوله (عليه السلام): (سبقك إليها عُكّاشة (وهو عكاشة بن محسن الأنصاري)
ومما أورده الإمام الزمخشري في (كشافه): (مما طنَّ على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشُّقْدف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في(265/23)
طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل، أردت المحمل العراقي، فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت: بلى، فقال: هذا اسمه (الشقنداف) فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمي)
ومن كلمة الأستاذ أزهري المنصورة (لم يقل أحد شيئاً في الفعل (حظي بالشيء) إلا العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي وكان هذا الرجل قد جاء مصر وأنشأ فيها مجلة (البيان) ثم مجلة (الضياء) وعلق ينقد ويغلّط. وكان يغلط كثيراً في تغليطه ونقده. ومن هفواته التي أذكرها زمن الطلب في الأزهر تخطئته الأديب الكبير (حافظاً) في قول في كتاب (البائسين) وقد لاقاه بعد هذا النقد حجة الإسلام (السيد محمد رشيد رضا) فقال له - وقد سمعنا قوله -: (يا شيخ، يا شيخ، إن الذي خطأته في كلام حافظ إبراهيم هو في أول صحيح البخاري) فبهت الشيخ إبراهيم، وترك السيد وهو كاسف البال. وكان وقوف الشيخ اليازجي على المعجمات وكتب الآلات أكثر من اطلاعه على كلام العرب، ومن هنا ومن فرط ميله إلى القياس هوى فيما هوى فيه)
الإسكندرية
(* * *)(265/24)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 33 -
(سقط من المقالة الثانية والثلاثين المنشورة بالعدد الماضي من الرسالة، بعض عبارات خفي فيها بعض المعنى؛ كما وقع بها بضعة أغلاط مطبعية ابتعدت بها قليلاً عن النهج؛ فنعتذر من هذا وذاك إلى قرائنا، راجين ألا تلزمنا الضرورة مرة أخرى أن نعود إلى مثل هذا الاعتذار)
سعيد العريان
مقالاته للرسالة (4)
كان فيما تحدث به صديقنا المهندس الأديب محمد؟ إلى الرافعي من أسباب عزوبته أن الزواج عنده حظ مخبوء، فإنه ليخشى أن يحمل نفسه على ما لا تحتمل من العنت والمشقة في سبيل إعداد ما يلزم للزواج، ثم تكون آخرة ذلك أن يجلوا عليه فتاة دميمة لا يجد في نفسه طاقة على معايشتها ما بقي من حياته، أو فتاة فاسدة التربية لا يدخل بها على زوجته ولكن على معركة. . .
وقد ظل هذا القول عالقاً بذهن الرافعي يلتمس الوسيلة إلى تفنيده والرد عليه، حتى وقع على قصة أحمد بن أيمن (كاتب ابن طولون) فأنشأ مقالة (قبيحٌ جميل) وهي القصة الثانية مما أنشأ الرافعي لقراء الرسالة؛ وهي الحلقة الخامسة من سلسلة مقالاته في الزواج، وفيها توجيه معتبر للحديث الشريف: (سوداءُ ولودٌ خير من حسناء لا تلد!) يسلك هذه المقالة في باب (الأدب الدينيّ) الذي أشرتُ إليه في بعض ما سبق من الحديث.
ثم كانت الحلقة السادسة هي قصة (رؤيا في السماء)، وتتصل بما سبق من المقالات بأسباب، على أنها تتحدث عن الزواج بمعناه الأسمى، وتدعو إليه الدعوةَ الإنسانية التي(265/25)
تعتبر الزواج باباً من الجهاد لسعادة البشرية كلها. . .
في هذه المقالة؛ لا أعرف سببا خاصا من مثل ما قدمت ' دعاه إلى إنشائها، ولكنها جملة الرأي وخلاصة الفكر وأثر اشتغال الواعية الباطنة قرابة شهرين بموضوع الزواج؛ فهي من الموضوع كالهامش والتعليق، أو الحكم بعد المداولة، أو هي الصفوةُ الصريحة بعد ما يذهب الزَّبد وتنطفئ الرغوة. . .
وقد ترجم هذه القصة إلى الفرنسية الأديب الباحث الأستاذ فليكس فارس؛ وكانت هي أول الصلة بينه وبين المرحوم الرافعي ثم اتصل بينهما الود.
لما أنشأ الرافعي (قصة زواج) تحدث بها الأدباء في مجالسهم وتضاعفت رسائلهم إليه معجبين مستزيدين؛ وتضاعف إعجابه هو أيضاً بنفسه. . فاستزاد واستعاد، والتزم الكتابة على أسلوب القصة، فكان على هذا النهج أكثر رسائله من بعد
وجلست إليه ذات مساء نتحدث حديثنا، فقال وهو يدفع إلي طائفة من رسائل القراء: (اقرأ يا شيخ سعيد. . . أرأيت مثل هذا؟ أيحق لأحد أن يزعم لنفسه القدرة على خير مما أكتب في موضوعه؟ أيملك كاتب أن يردَّ عليّ رأياً من الرأي؟. . . ومضى في طرائق من مثل هذا القول عن نفسه وعن طائفة من خصومه؛ فعرفت أنه في لحظة من تلك اللحظات التي تتنبه فيها النفس البشرية إلى طبيعتها، فتؤمن بنفسها من دون كل شئ مما خلق الله، إيماناً هو بعض الضعف الإنساني في طبيعتنا البشرية وهو بعض أسباب القوة في النابغين من أهل الآداب والفنون! ذلك الإيمان الذي نسميه أحياناً صلفاً وعنجهية وكبرياء؛ ونسميه في النابهين والعظماء ثقة بالنفس وشعوراً بالقوة!
وكان يلذني في أحيان كثيرة أن أشهد الرافعي في مثل هذه الساعة من ساعات الزهو والإعجاب بالنفس، وأجد في ذلك متاعاً لنفسي وغذاء لروحي؛ لأن الرافعي بما كان فيه من طبيعة الرضا والاستسلام للواقع كان رفيقاً متواضعاً؛ فلا تشهده في مثل هذه الحال إلا نادرة بعد نادرة؛ فإذا شهدته كذلك مرة فقد شهدت لوناً طريفاً من ألوانه، يوحي إلى النفس بفيض من المعاني وكأنما هو يعدي سامعه من حالته، فيحس في نفسه قوة فوق قوته، وكأن شخصاً جديداً حلَّ فيه. . .
. . . وسرني أن أجد الرافعي كذلك في تلك الليلة، فأصغيت إليه ومضى في حديثه؛ فلما(265/26)
انفض المجلس ومضيت إلى داري، وسوس إلي الشيطان أن أعابثه بشيء. . . فكتبت إليه رسالة بإمضاء (آنسة س) أرد عليه رأيه في قصة سعيد بن المسيب وأعيب ما صنع الرجل بابنته، وعمدت في كتابة هذه الرسالة إلى تقليد أسلوب من أسلوب الدكتور طه، يعرفه قراء الرسالة ويعرفه الرافعي. . .
وبلغته الرسالة فقرأها، فنبهته إلى ما كان فيه من أمسه؛ ووقع في نفسه أن مرسلها إليه هو تلميذ أو تلميذة من تلاميذ طه موحَى إليه بما كتب فتحمس للرّد، وأنشأ (ذيل القصة وفلسفة المهر) وجعل أول مقاله رسالة (الآنسة س) وراح يسخر منها ومن صاحب رأيها سخرية لاذعة؛ ثم عاد إلى موضوع فلسفة المهر. . .
وقرأ الزيات المقالة فرأى فيها تعريضاً بصاحبه لم يرض عنه، فكتب إلى الرافعي يطلب إليه أن يوافق على حذف مقدمة المقالة، حرصاً على ما بين الرسالة وصاحبه من صلات الود. . . وكان له ما طلب، فنشرت المقالة في موعدها خالية من هذا الجزء ولكنها لم تخل من إشارات مبهمة إلى أشياء غير واضحة الدلالة وكذلك نشرت من بعد في وحي القلم. . .
ثم كانت قصة (بنت الباشا) وهي السابعة من مقالاته في الزواج، وقد ألهمه موضوعها صديقه (الزبال الفيلسوف) الذي تحدث عنه في هامش هذه المقالة. وهذه المقالة فيما ترمي إليه تعتبر متممة لموضوع (قصة زواج) فهي دعوة اجتماعية لآباء الفتيات إلى الانطلاق من أسر التقاليد في شئون الزواج، وفيها إلى ذلك شئ من الحديث عن (فلسفة الرضا) التي أسلفت القول عنها في (حديث قطين)
أما هذا الزبال الذي نوه به الرافعي في أكثر من مقالة، فهو من عمال قسم النظافة في (بلدية طنطا)، وكان عمله قريباً من دار الرافعي في الشارعين اللذين يكتنفانها، وكان إذا فرغ من عمله في الكنس والتنظيف اتخذ له مستراحاً على حيد الشارع تجاه مكتب الوجيه محمد سعيد الرافعي (المقاول)، فيقضي هناك أكثر أوقات فراغه، نائماً أو محتبياً ينظر الرائحين والغادين من أهل الثراء والنعمة، أو شادياً يصدح بأغانيه؛ فإذا جاع بسط منديله على الأرض فيأكل مما فيه، ثم يشعل دخينة ويعود إلى حبوته يتأمل. .
كان هذا الزبال صديق الرافعي، بينهما من علائق الود وصفاء المحبة ما بين الصديقين؛ وكان الرافعي يسميه (أرسطو الجديد). وأول هذه الصلة التي بينهما أن الرافعي كان يلذه(265/27)
أحياناً أن يجلس على كرسي في الشارع أمام مكتب أخيه، حيث اتخذ الزبال (محله المختار) فكان يوافقه في مجلسه ذلك على ما قدمت من وصفه، فيرفع يده إلى رأسه بالتحية وهو يبتسم، ثم يجلس؛ فكان يحادثه أحياناً في بعض شئونه يلتمس بعض أنواع المعرفة. . . ويكرمه ويبره. وأنس إليه الزبال، فكان يسأل عنه إذا غاب، وينهض لتحيته إذا حضر؛ وصار من بعض عادات الرافعي من بعد، أن يسأل عن الزبال حين يغيب، وأن يشتري له كلما لقيه دخائن بنصف قرش، مبالغة في إكرامه. . .
وكان الرجل أمياً ولكن الرافعي كان يفهم عنه من حركات شفتيه، وأحياناً يستدعي بينهما من يترجم له حديث الزبال مكتوباً في ورقة، وقد كنت الترجمان بينهما مرة. وكان الرافعي يحرص على هذه الورقات بعد نهاية الحديث كما يحرص الباحث على مطالعة أفكار من غبر عالَمه!
ومما كان يدور بين الرافعي وصديقه هذا من الحديث، عرف الرافعي طائفة من ألفاظ اللغة العامية كان يجهلها، وطائفة من الأمثال ونبهه ذلك من بعد ' إلى العناية بجميع أمثال العامة، فاجتمع له منها بضع مئات بمصادرها ومواردها، وأحسبها ما تزال محفوظة بين أوراقه. كما أفاد الرافعي من صداقة هذا (الفيلسوف الطبيعي) معاني وأفكاراً جديدة في فلسفة الرضا لم تلهمه بها طبيعته.
ولهذا الزبال صنع الرافعي أكثر من أغنية، أعرف منها الأغنية التي نشرها لقراء الرسالة في العدد 71 سنة 1934 وأغنية أخرى دفعها إلى الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف لتضع لها لحناً يناسبها.
وقد كان في نفس الرافعي أن يكتب مقالة عن هذا الزبال يتحدث فيها عن فلسفته الطبيعية العملية، وكان محتفلاً بهذه المقالة احتفالا كبيراً، حتى إنه همّ بموضوعها أكثر من مرة ثم عداها إلى غيرها حتى تنضج؛ وقد هيأ لها ورقة خاصة كان يجمع فيها كل ما يتهيأ له من الخواطر في موضوعها ليستعين به عند كتابتها، ولكن الموت أعجله عن تمامها، وأحسب أن هذه الورقة ما تزال بين ما خلف من الأوراق.
سيدي بشر
محمد سعيد العريان(265/28)
دراسات للمستشرقين
قيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن
للعلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر
- 3 -
وإذا كان الأمر كذلك فليس للإنسان بالطبع أن يطلب اعتبار كل ما حوته تراجم المترجمين الغربيين منَّزهاً عن كل شك. ولكن يمكن مؤاخذة هؤلاء المترجمين - إن قليلاً أو كثيراّ كل حسب عمله - على الأمور الآتية: -
(1) أنهم لم يحاولوا فهم القرآن قبل كل شئ من نصه أولاً، كما يقضي بذلك قانون علم التفسير، بل إنهم انزلقوا دون تريث في البحث وتثبت في الاستقصاء إلى الخرافات القصصية التي ذكرها العرب، وإلى شروح المفسرين المتأخرين التي جارت الافتراض المذهبي التأملي، والتي مر ذكرها
(2) وأنهم كانوا على العكس من ذلك، قليلي الاهتمام بالبيانات اللغوية التي أوردها المفسرون العرب
(3) وأنهم لم يعنوا إلا قليلاً بمختلف قراءات القرآن التي عرفت لعهدهم
(4) وأنهم كانوا يبحثون دائماً عن عناصر يهودية ونصرانية في القرآن، ناسين أن الرسول (صلعم) نشأ في أيام الجاهلية وأنه لذلك تأثر بادئ ذي بدء بعادات ذلك العصر وبالاتجاهات والأسلوب واللغة لشعر ذلك العهد، إذ كان للشعر أهمية عظمى في الحياة الثقافية للعرب الجاهليين
(5) وأنهم لم يكونوا من المسيطرين على دقائق علم النحو القديم ولا هم من المتمكنين من المجاز والاستعارة والمعاني الاصطلاحية في اللغة العربية الفصحى لعهدها المتقدم
(6) أن تراجمهم كانت حرة أكثر مما يحب، وأنهم لم يفقهوا الكثير من المواضع العويصة المبهمة الواردة في القرآن، ولذلك كثيراً ما يحصل القارئ على معنى لا ينطبق بحال على ما حواه النص الصحيح
ولأبرهن على أن حججي التي أوردتها مسبّبة ومدّعمة آني بمثل مجسم هو معالجة ما(265/30)
صارت إليه ترجمة الصورة الحادية عشر بعد المئة في مختلف التراجم الموجودة
ونص هذه الصورة الصغيرة الشهيرة هي:
(1) تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهبِ وَتَبَّ
(2) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
(3) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهبٍ
(4) وَاُمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ
(5) في جِيدَهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدِ
كذا في المصحف الشريف طبع المطبعة الأميرية وكذلك في المصحف طبع فلوغل. وسيأتي الكلام عن بعض الرسوم الهامة التي وردت بها هذه السورة. وإلى جانب هذا نذكر ما يلي:
في الآية الأولى: وردت أَبُو بدل أَبي؛ أنظر الشواذ لابن خالويه صحيفة 182، والكشاف للبيضاوي، وغيرهما، ووردت لَهْبٍ بدلاً من لَهَبٍ؛ أنظر التيسير للداني صحيفة 225، والكشاف، والإملاء للعكبري، وتفسير غريب القرآن للنيسابوري (حاشية تفسير الطبري، الطبعة الأولى) الجزء الثلاثين
وأورد أُبَي بن كعب بين الآية الأولى والثانية الآية التالية:
حَالَفَ البَيْتَ الوَضِيعَ عَلَى البَيْتِ الرَّفيعِ فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ شُغِلَ
راجع:
, ' 1973) , 180.
وفي الآية الثانية: وردت اكْتَسَبَ بدلاً من كَسَبَ (ابن مسعود)، أنظر 112 وابن خالويه صحيفة 182
والرأي عندي أن الذين ترجموا القرآن حتى الآن لم يترجموا من هذه الآيات الخمس الصغيرة سوى الآية الثالثة ترجمة صادقة، أما الآيات الأربع الأخر فقد أساء الجميع دون استثناء فهمها
الآية الأولى والثانية: الفعل الماضي تَبَّتْ وَتَبَّ الوارد في الآية الأولى من السورة، وكذلك الفعل ما أَغنَى الدال على نفي أو على استفهام في معنى الإنكار الوارد في الآية الثانية(265/31)
ترجمها أغلب المترجمين بما يدل على تَمَنٍ - أي دعاء بالشر؛ أو أنهم ترجموها - بما لا يختلف عن ذلك كثيراً - بما يدل على معنى الاستقبال؛ ويندر من ترجمها بما يدل على معنى الحال. والتمني سواء كان للخير أو للشر يكون في اللغة العربية الفصحى، كما هو معروف، بواسطة المفعول المطلق - انظر من تراجم القرآن مثلاً: سال (غالباً لندن طبعة سنة 1734، والنسخة التي لدى طبعة لندن سنة 1850؛ ويري
' , 1882 - 86 , , 293)
ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة سال الإنجليزية. وكذلك أنظر كازيمرسكي (ترجمة القرآن طبعة باريس سنة 1840 غالباً، والنسخة التي طبعت سنة1865) - ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة كازيمرسكي الفرنسية وكذلك انظر أُلمان (ترجمة القرآن طبع كريفلد سنة 1840، الطبعة التاسعة سنة 1896؛ والنسخة التي لدى الطبعة الثالثة سنة 1844) - ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة أُلمان الألمانية. وانظر كذلك سبرنجر في كتابه , 1 , 484)
ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة سبرنجر الألمانية. وانظر كذلك شنيري في كتابه: , , 1 , 439)
ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة شنيري الإنجليزية. ويماثلهم رودول وبالمر وكلامروث وجريجل وهننج وبدرسن في:
`
كتاب للمطالعة في تاريخ الأديان لواضعه ليمان، الطبعة الأولى، صحيفة 138 وغوستاف فيل (في ترجمته للسيرة الجزء الأول صحيفة 174) وغيرهم. وكذلك عدد من المترجمين الحديثين أمثال: محمد علي (أحمدية إينوماني أشاءاتي إسلام، لاهور الطبعة الثانية سنة 1920) - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمة محمد علي الإنكليزية وكذلك:
, , 1923 , 25
جِريمة، - وأورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمة جِرُيمة الألماني وكذلك ورد في:
. . , 1926
- ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمة ماردرو الفرنسية؛ وكذلك بونللي 1929) - ثم(265/32)
أورد الأستاذ أ. نص ترجمة بونللي الإيطالية. وكذلك بوول في هـ. شيدر، طبع ليبزج سنة 1930 صحيفة 168، - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمته الألمانية. وكذلك بكتهول. طبع لندن سنة 1930، - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمته الإنجليزية. وكذلك:
- ,)
لاي - ميش وابن داود، - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمتها للفرنسية. وكذلك جميل سعيد استانبول سنة 1924
ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص الترجمة التركية. ولا تختلف كثيراً عن هذه حقي، الطبعة الثانية استانبول سنة 1932
ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نصها التركي. وكذلك نيكل (أنظر فيما يلي) وغير هؤلاء
(للبحث بقية)
إبراهيم إبراهيم يوسف(265/33)
جورجياس
أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 6 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
(تابع ما قبله)
ج - وأضيف إلى هذا أنه إذا دخل طبيب وخطيب مدينة ما، ثم احتاج الأمر إلى المفاضلة(265/34)
بينهما أمام الجمهور المجتمع أو أمام أية هيئة أخرى، فأنه لن ينتبه أحد إلى الطبيب: وسنفضّل من هو قادر على الكلام إذا كان بالفعل كذلك. وقل بالمثل إذا نافس الخطيب أي رجل من رجال المهن الأخرى،: إذ دائما ما يفضل الخطيب غيره مهما كان ذلك الغير. لأنه ليست هناك مادة ما إلا ويستطيع أن يتكلم فيها أمام الناس بطريقة أكثر إقناعا من طريقة أي صاحب مهنة أخرى مهما كان شأنه!، والحق أن للبيان ذلك المرمى وتلك الخاصة! ولكن يجب أن لا نستعمله مع ذلك يا سقراط إلا كما نستعمل التدريبات الأخرى، ذلك أنه ولو أن الإنسان يستطيع أن يتعلم بتلك التدريبات الملاكمة وطرق استعمال أسلحة الحرب الأخرى بطريقة تكفل له قهر الأصدقاء والأعداء على السواء، فأنه لا يجوز له أن يستعملها من أجل ذلك ضد الجميع، أو أن يضرب بها أصدقاءه ويطعنهم ويقتلهم! ولا يجوز لذلك الذي أكثر من التدريب في الملاعب، وكوّن فيها جسما قويا، وأصبح بين جدرانها مصارعا مجيدا، لا يجوز له أن يضرب أمه أو أباه أو أحدا من أقرباء والديه وأصدقاءه، وأن يعادي ويكره مدربي الرياضة والسيف فيطردهم من المدن! إذ الحق أن هؤلاء المدربين لم يروضوا تلاميذهم بهذه التدريبات إلا بقصد أن يحسنوا استعمالها ضد الأعداء والأشرار، وفي الدفاع لا الهجوم! فإذا وجه التلاميذ بعد ذلك قوتهم وحيلتهم إلى الشر على غير قصد أساتذتهم، فلا ينتج عن هذا أن أساتذتهم أشرار وأن فنهم شرير، لأن الخطأ قائم فقط - كما أرى - فيمن يسيئون استعمال الفن؟.
وهكذا نستطيع يا سقراط أن نصدر نفس الحكم على البيان: إذ الحق أن الخطيب يستطيع أن يتكلم ضد الجميع وعن كل شيء لأنه أجدر الناس بإقناع الجماهير بما يريد، ولكن ما كان هذا ليساعده قط على تشويه اسم الأطباء وغيرهم من رجال المهن الأخرى لأن الأمر على نقيض ذلك تماما؛ وإذا فلا يجب أن نستعمل (البيان) إلا وفقا لقوانين العدالة كما هو الحال في التدريبات الأخرى. فلئن أساء أحدهم - ممن قد أعِّدوا له - استعماله كقوة وفن بقصد ارتكاب عمل ظالم، فلن يكون لنا الحق - فيما أظن - أن نعتمد على العمل وحده ونكره الأساتذة الذين لقنوا الفاعل ذلك الفن وننفيهم من المدن، لأنهم لم يلقوا بفنهم بين يديه إلا بقصد أن يستعمله في أغراض ولأسباب عادلة، فراح هو يستعمله استعمالاً يناقض قصدهم تمام التناقض؛ وإذا فالعدل هنا أن نكره التلميذ المسيء وأن نطارده ونقتله، وليس(265/35)
العدل أن نفعل ذلك مع الأساتذة!!
ط - أظن يا جورجياس أنك قد اشتركت مثلي في مناقشات كثيرة، وأنك قد لاحظت فيها شيئا: هو أن الناس عندما يشرعون في المناقشة يجدون مشقة كبيرة في تحديد أفكارهم من سائر النواحي، وفي الوصول إلى موضوع المناقشة بتوضيحه لأنفسهم وتحقيقه على التبادل، وإذا ما نشأ بينهم بعض التناقض وادعى أحدهم أن الآخر لا يتكلم إلا بقليل من الوضوح والحق، فأنهم يغضبون ويظنون أن المقاطعة إنما توجه إليهم بباعث الحسد وأن المرء إنما يتكلم بعامل الخصومة دون أن يبغي توضيحا للقضية المعروضة. ولذلك ينتهي الأمر ببعضهم إلى تبادل الشتائم المقذعة ثم الانفصال بعد الاحتكاك بشخصيات بغيضة ممقوتة، كما ينتهي بالمشتركين إلى (المساعدين) في المناقشة إلى أن يستنكفوا من وجودهم في مثل تلك الأحوال
فهل تدري لم أخبرك بذلك؟ إنما أخبرك به لأنه يلوح لي أنك لا تتكلم الآن بنحو مجد وبطريق يلتئم تماما مع ما قررت من قبل عن البيان!؛ وأفهم أني إذا ما ناقضتك فسوف لا تقول إن قصدي هو أن أناقضك وأن أقوم في وجهك، وإنما ستقول إن قصدي هو أن يتضح لنا فقط موضوع الحديث!؛ فإذا كنت تنظر للأمر كما أنظر إليه فسأسائلك باغتباط؛ وإلا فلن أذهب معك إلى أكثر من ذلك، وهاك نظرتي: إنني من أولئك الذين يحبون أن يُناقَضوا عندما لا يقولون الحق، ولكنهم يحبون أيضاً أن يُناقِضوا غيرهم عندما يرونهم حائدين عنه، وليس سرورهم بعد هذا من مناقضة غيرهم لهم بأقل من سرورهم عندما يناقضون هم غيرهم! إذ الحق أني أعتبر المناقضة يا جورجياس خيراً عظيما، وأرى أن الأفضل لنا هو أن نخلص أنفسنا أولا من أسوأ الشرور بدلا من أن نخلص غيرنا منها؛ كما أني لم أعرف بعد وزراً يعدل وزر أن يكون لدينا أفكار خاطئة عن الموضوع الذي نعالجه؛ فإذا كان حقاً ما تدعي من أنك مثلي في النظر والاستعداد فلنعد للمناقشة، وإذا كنت ترى أنه يجب أن نتركها حيث وقفنا فليكن ما تريد ولينته الحديث
ج - إني لأفخر يا سقراط بأني من أولئك الذين صورتهم تصويراً، ومع هذا فأحسب أنه يجب أن نعنى كذلك بأولئك الذين يشتركون معنا في الحديث لأني قد شرحت لهم أشياء كثيرة قبل مجيئك بزمن طويل، وإذا نحن عدنا إلى المناقشة فيها ثانياً فسيذهب بنا القول(265/36)
بعيداً جداً. ولهذا يحسن أن نفكر فيهم حتى لا يبقى منهم من يكون له عمل آخر يشتغل به أثناء الحديث
س - إنكما لتسمعان بنفسكما يا جورجياس وسقراط ذلك الصوت الذي يحدثه الحاضرون ليكون شاهداً على رغبتهم في الإنصات إليكما إذا واصلتما الحديث وأرى من ناحيتي أنه لا يرضي الآلهة أن يكون لدي من الأعمال الكثيرة الهامة ما يضطرني إلى ترك مناقشة كلها الفطنة والمنطق كيما أشتغل بما هو أكثر ضرورة منها!
ك - لقد أصبت وحق الآلهة جميعاً يا شيريفين! فأنا الآخر أشتغل بأعمال كثيرة ولكني لا أعرف منها أبداً عملا واحداً يسبب لي من اللذة بقدر ما تسبب لي هذه المناقشة. ولعل هذا هو السر في أنكما تطوقان جيدنا بالفضل (يا جورجياس وسقراط) إذا شئتما وتناقشتما هكذا طوال اليوم!
ط - لن تجد يا كاليكس أية عقبة من ناحيتي إذا وافق جورجياس على المناقشة.
ج - ليكونن عاراً على ألا أوافق بعد اليوم يا سقراط، خصوصاً وقد ادعيت لنفسي القدرة على إجابة جميع ما يوجه إلي من الأسئلة، فلنعد إلى الحديث ما دام في ذلك سرور للحاضرين واعرض علي ما تراه جديراً بالعرض
ط - فلنعرف إذا ما يدهشني من حديثك! - وقد يكون أنك لم تقل غير الحق وأنني قد أسأت الفهم! - إنك تدعي أنك تستطيع أن تجعل ممن يرغب في دروسك خطيباً!؟
ج - نعم
ط - ومعنى ذلك أنك تجعله قادراً على الكلام في كل موضوع بطريقة ساحرة أمام الجماهير بحيث يقنعهم دون أن يعلمهم!؟
ج - تماماً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(265/37)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 19 -
وجاء يوم الانتخاب ففاز لنكولن وأصبح رئيس الولايات المتحدة، أصبح فالق الأحشاب الخليفة الخامس عشر لوشنجطون العظيم بطل الاستقلال. فكأنما كان مجيئه يومئذ من تدبير الأقدار لقرن اسمه في تاريخ أمريكا باسم محررها الأول فعليه اليوم أن يمسك بنيانها أن يخر من القواعد
وكان نجاح ابراهام محققاً قبل يوم الفصل بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال وهم أكثر عدداً وأحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلا عن اتحاد كلمة ذلك الحزب ونشاط أعضائه بينما كان يتنازع الديمقراطيون ويتنابذون وكأن بينهم عداوة
على أن خصوم ابراهام يعيرونه بهذا الفوز إذ كانوا لا يعدونه فوزاً، فهم يقولون أن ما ناله منافسوه من الأصوات يربو كثيراً على ما ظفر به، هذا إلى أن عدداً من الولايات الجنوبية لم يجد عليه أهلها بصوت واحد. . . ولكن أصحابه يعلنون أنه الغالب فأنه ليندر أن فاز قبله أحد بمثل ما فاز به من الأصوات وإن بينه وبين دوجلاس أقوى منافسيه وأقدرهم لفرقاً كبيراً يشهد بغلبته وعظم مكانته. . .
وكان على ابراهام أن يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمة الحكم فقضاها في سبرنجفيلد بينما كان الرئيس بيو كالون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في وشنجطون
ولبث ابراهام في سبرنجنفيلد يلقى زائريه كل يوم ويمشي في الطرقات بين الناس لا يجعل(265/38)
بينه وبينهم كلفة ولا يتخذ من دونهم حجابا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه بأحب أسمائه إليه، فمنهم من يناديه أيب الأمين ومنهم من يناديه أيب العجوز ومنهم من يقولها مجردة من النعوت
وتبدو (أيب العجوز) يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به، فإن على محياه لكآبة هي من أثر ما يهجس في نفسه، وأنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون
أما امرأته فمرحة طروب، لا تملك نفسها من الزهو حينما تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما يطلان على الجماهير الهاتفة وإن كانت لتكره وتتبرم منه بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت لتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس وخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها أخرى جديدة فلا يطيع!
وحق له أن يبتئس وأن يرتاع فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات، فهذه صحيفة من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان أخبار خارجية، وهذا حاكم كارولينا الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد. . . لقد استقال أعضاء الشيوخ لهذه الولاية وانسحبوا من وشنجطون، بينما أخذ الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وصحفه تذيع في صراحة أن قد صار الاتحاد أثراً بعد عين؛ وهو يسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية على الانسحاب بعد أن أعلن على لسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة لهذه الولاية بالاتحاد
وما كان ارتياعه عن خور حين آذنت العاصفة بالهبوب؛ ولعمري ما يكون الخوف كل آونة جبناً ولا الدم كل يوم حلالاً. ثم لعمري ما يكون الإقدام في كل موقف شجاعة، ولا الوثوب في كل مأزق بطولة؛ وإلا فما أضيع الحكمة، وما أتفه البصيرة، وما أسخف الأنات. . . وما كان يخاف ابراهام إلا أن تصيب بلاده فتنة تذهب بكل شيء
وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة يبحث عن الرجال الذين يشدون أزره فيرى - والأسى يرمض فؤاده - أن رجال حزبه أنفسهم لا يرون رأيه فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب وعلى رأس القائلين بذلك سيوارد. . . ولكن ابراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ والتسليم بانتشار العبيد والاعتراف(265/39)
بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد وهو لن يأمن أن يعودوا إلى ذلك في أي وقت؛ فيسمعون ذلك ولكنهم لا يعقلونه ويحملونه كل ما عساه أن يترتب على موقفه من مصائب
والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس، فها هي ذي ست ولايات أخرى تنسحب من الاتحاد وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها اتحاداً جديداً تختار لرياسته جفرسون دافيس. . . وهكذا يصبح في البلاد حكومتان! وهكذا ينهار البناء حجراً بعد حجر والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما تفعل العاصفة
ويحمل البريد إلى ابراهام كل يوم آلافا من الرسائل بينها نوع جديد تنفر منه نفسه، بينها نوع ملؤه الوعيد والسباب وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو مضى فيما هو فيه وأصر على عناده؛ وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين امرأته على صور الخناجر التي تتوج الكثير منها. . .
ويتطلع ابراهام في هذا المأزق الشديد إلى وشنجطون ليرى ما عسى أن يفعله بيو كالون الرئيس القائم؛ ولكن بيو كالون لا يتحرك فيزيد بتهاونه النار اشتعالا ثم يصرح بأنه إذا لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد فليس لحكومة الاتحاد حق ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت فيكون بتصريحه هذا كمن يلقي الحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء. . .! وتشيع الخيانة في وزرائه فيرسلون الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية ويستقيلون. . .
ويشتد عدوان أهل الجنوب وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورا جديدا يقر نظام الاستعباد ويعلن أنه أمر مشروع من ناحيتي الدين والخلق ونظام الاجتماع. . . ويعظم هياج العاصفة ويشتد دويها. . .
وابراهام في سبرنجفيلد كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها، ولن يصيب الجذر مصيبة إلا أن تزلزل من تحته الأرض فتشقق فتميد. . . يخوفه سيوارد عاقبة الأمر فلا يحجم ولا يلين؛ ويسخط أهل الشمال أنفسهم على ابراهام ويظنون به الظنون، ولكنه يقول ذات مرة لرجل ممن يحاورونه (اذهب إلى شاطئ النهر وخذ معك غربالا متيناً فاملأه بالحصى؛ فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من الثقوب وتتوارى(265/40)
عن الأعين إذ تضيع على الأرض، وتبقى في الغربال الحبيبات التي تزيد عنها حجما إذ أنها لا تنفذ من بين الخيوط. . . وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فأنه إذا لم يكن من الحرب بد وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، وبينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة؛ ومن هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم. . .)
هذا هو العزم الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفساً شاعرة وقلباً يحب الخير وينأى بجانبه عن الشر وينفر بطبعه منه؛ وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلاده من شر وبيل فهو لا يهمه أن يذوق الموت بعد أن وطد على الجهاد عزمه ووهب إلى بلاده نفسه. . .
ها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة فهل ابتغى من وراء ذلك جاهاً أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير. . . وإنه ليحس أنه هالك في هذا الجهاد ولا محالة ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات. . . تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز فذكر أنه نظر يومئذ ذات مرة، وقد جلس متعباً على مقعد، إلى مرآة أمامه فرأى فيها لوجهه صورتين فهب من مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس؛ وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة. ولقد أوجس ابراهام خيفة في نفسه؛ ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته بل لما انبعث منه في نفسه من المعاني. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة. . . أما امرأته ففسرت ذلك أنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يا لله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!
وكأنما كان صاحبنا يحس ما يخبئه له الغد من مكروه فهو يقدم في عمله على علم بما وراءه ولذلك لا يتهيب ولا ينكص، يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة. . .(265/41)
وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم فتخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من عنفهم وغرورهم. فهاهي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد حصون في الولايات الساحلية بها جند تحميها وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان أهمهما حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، وكان ذلك عقب إعلان انفصالها
واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بيو كالون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم يستطع بيو كالون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المؤونة والرجال ولكن أهل كارولينا أطلقوا عليها النار في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل. . . وطلبت حكومة الاتحاد الجنوبي تسليم حصن سمتر فرفضت الحامية بقيادة القائد اندرسون أن تسلم، فضرب عليها الحصار. . . وبات في الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب
وعاد سيوارد يلح على ابراهام أن يتفق أهل الشمال مع أهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، فرفض ابراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. . . ولما يئس سيوارد من إقناعه عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين ويأخذ بيده زمام الأمور من بيو كالون قبل أن يستفحل الشر فرفض ابراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور. . .
وازداد الموقف خطورة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيراً من الناس يودون لو ينسحب ويدع تقرير الأمور إلى رئيس غيره من جديد. . . ولو أن رجلاً غيره في موقف مثل موقفه هذا لخارت عزيمته، وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان وما زادته الشدائد إلا صبراً وعزماً ولا المحن إلا رغبة في الجلاد والنضال. . .
وجلس يختار مجلس وزرائه فعظمت حيرته ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد وقد وقف إلى جانب ابراهام بعد أن رأى من ثباته ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضى سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في مركز يعادل مركز وزير الشؤون الخارجية في الحكومات الحالية مضافا إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل أختامه. . وأخذ ابراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة. . .(265/42)
وجال ابراهام جولة في البلاد التي قضى فيها صدر شبابه، وزار من لا يزال على قيد الحياة من أهلها، وحج إلى قبر والده وأوصى أن يعنى به، وبعد أن قضى أرب مشاعره ولبانة قلبه عاد إلى سبرنجفيلد ليودع أهلها قبل رحيله إلى وشنجطون. . .
ولما أزف يوم الرحيل لاحظ على وجهه أهل المدينة شيئاً مثل ذلك الذي يبدو على وجه من يوشك أن يرحل عن وطن اشتد حبه له وعظم تعلقه به، ولقد زاده هذا نحولا على نحوله وهماً على همه، وكذلك اشتد أسف الناس فهم لا يدرون كيف يصبرون على رحيله عن مدينتهم ولقد كان لصغارهم الأب العطوف الرؤوف ولكبارهم الصديق الوفي، والناصح الأمين. ولكنهم يتأسون على فراقه بما باتوا يأملونه من خير للبلاد جميعاً على يديه
(يتبع)
محمود الخفيف(265/43)
بين العقاد والرافعي
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 14 -
لا يزال صاحبنا (الغمراوي) ماضياً في طريقه، عند السفح من مدارج الإحساس والفن والحياة. وما يزال يظن المسألة ردوداً ومحالا. بينما نحن لم نرد إلا أن ينتفع هو وأمثاله ومن هم خير منهم كذلك بما نكتب، وأن يخرجوا قليلا من ذلك الطابق المغلق الذي ينزوون فيه، إلى عالم النور والطلاقة والفن الجميل، المتحرر من القيود والقشور، فيحسوا - ولو مرة - دفعة الحياة، وطلاقة الفن، وفسحة الشعور. ومن حسن الحظ أن يكون الحديث اليوم عن (غزل العقاد) فليحاولوا أن يثبوا ونحن نأخذ بيدهم إلى هذا (العالم) العبقري الفسيح. وإلا فليعذرونا إن نحن جاوزنا الجحور والمغاور، إلى المرج الواسع، أو العيلم المسجور!
الإحساس الساذج الفطري بالحب قريب في منبته من إحساس الجوع والظمأ، ومطلب قريب لا يعلو كثيراً على مطالب الجسد؛ والمتعة فيه غذاء من أغذية الدم واللحم، والحرمان نوع من الخمص والطوى، والآلام لون من وخز الجلد أو لذع النار، أو لفحة السموم. والتعبير عن كل ذلك شبيه بالضحكة والصرخة والآهة والأنين، من أنواع التعبير الفطري عن اللذة والألم
والشاعر حين يقف في إحساسه بالحب، أو التعبير عنه، عند هذا الحد لا يستحق منا لقب الشاعر - بله الشاعر الكبير - وهو لا يستحق هذا اللقب، حتى يكون له في حبه منحى خاص (ليكون شاعراً) وفلسفة شاملة تجعل من هذا الحب مجتمعاً للأحاسيس الفريدة بأعماق الحياة وأصولها وتتصل بوشائج الطبيعة الكبرى، وغاياتها البعيدة، وأنماطها الأصيلة (ليكون شاعراً كبيراً)
فليس الحب الفني، ولا التعبير عنه من السهولة كما يتصورها الكثيرون من ناشئة الشعراء، ومقلدي النقاد، إنما هما عمل عسير في الاستيعاب والتصوير، وما نقرأ لتسعين في المائة من الشعراء، إلا ضحكات وابتسامات أو صرخات وآهات، يحسبونها غاية الحب(265/44)
وغاية التعبير!
لا تقل: إنني أحب؛ وإنني أستمتع بالحب، أو أتعذب وأتألم ثم تحسب نفسك شاعراً، حتى تقول لنا: إنني أحب على لون خاص، وأستمتع بالحب بطريقة خاصة، أو أتعذب وأتألم على لون من ألوان العذاب والآلام. ولا تقل: (أنا أطلب الجمال) وتسكت فلا بد أن تبين لنا ما نوع الجمال أو أنواعه التي تستهويك، وما المعاني التي يشعها فيك هذا الجمال، وماذا تفهم من الصلات بينه وبين غايات الحياة الكبرى، وماذا بينه من الوشائج وبين الطبيعة في كيانها ومراميها
والعقاد وحده في الشعر العربي كله هو الذي يقول لنا هذا في عمق ودقة وقصد، ويصوره بأوضح وأصح ما يستطاع. وأقول (في الشعر العربي كله) وأنا أعني ما أقول، فما يوجد شاعر واحد يجتمع له في شعره العربي ما اجتمع للعقاد، وتتوفر في نفسه هذه الأوتار المتعددة، التي يوقع عليها الحب هذه النغمات كلها، ويخرجها هكذا واضحة سليمة
نعم، يوجد بعض هذه الأوتار، متفرقاً في نفوس الشعراء ولكنها لا تجتمع هذا الاجتماع، ولا تلتئم هذا الالتئام في نفس واحدة، وما يوجد منها متفرقاً لا يبلغ في تفرده وخصوصه وطرافته هذا المبلغ عند أولئك الشعراء
فإذا خطر لأحد أولئك الذين يفغرون أفواههم لسماع هذا الكلام، ويستنكرون تقرير الحقائق وليس لهم من البرهان على إنكارهم إلا إشارات الصم والبكم، فليأتوا بنظائر لكل هذه الأوتار والنغمات لشاعر عربي واحد حتى الآن، أو لعشرة مجتمعين في جميع العصور
وقبل أن نعرف (ما الحب) عند العقاد، لا بد أن نعرف (ما الجمال) الذي يثير هذا الحب، ويدفعه إلى الغزل والتعبير
عرف القراء مما نقلناه عن رأي (شوبنهور) في الجمال، وتعليق (العقاد) عليه، أنه يرى الجمال في (الحرية) وفي العدد الفائت من الرسالة توضيح لهذا الرأي حين يقول:
(رأيي في الجسم الجميل إنه الجسم الذي لا فضول فيه، وأنه الجسم الذي تراه فيخيل إليك أن كل عضو فيه يحمل نفسه غير محمول على سواه
(من هنا جمال الرأس الطامح والجيد المشرئب، والصدر البارز، والخصر المرهف الممشوق، والردف المائل، والساق التي يبدو لك من خفتها وانطلاقها واستوائها، أنها لا(265/45)
تحمل شيئاً من الأشياء ولا تنهض بعبء من الأعباء)
ويقول من الكلمة نفسها في وصف فتاة:
(على شاطئ الإسكندرية - والمصادفة من أجمل المصادفات - طيارة في الهواء، وفتاة على الأرض هي أولى بالطيران من تلك الحديدة الصاعدة، بل هي تطير ولا يتخيلها الناظر إلا طائرة، تفلت من لحظات العيون، وخطرات الأرواح
(لا تحس العين أنها أدركتها، لأنها إذا أدركتها تأملت فيها، وسرحت في معانيها، فإذا هي بعيد بعيد، أبعد من الفراش الذي يقع عليه الطفل، فإذا هو على الغصن، ويثب إليه في غصنه فإذا هو في الهواء)
وقد عثرت أخيراً في الديوان على امتداد لهذا الرأي، يريد أن تبلغ الحرية بالجمال ألا يشعرنا حين ننظره بتعلقنا وتقيدنا به، بل يطلقنا نسبح في الآفاق، ونسمو على الحدود والقيود
والجميل الحق ما يذهلنا ... عنه، لا ما فيه للحس إسار
والجمال عوض عن شين كثير من النفوس في هذه الحياة، وتكفير منها عن هذا الشين، كما أنه رمز لآمال الحياة في مستقبلها الموموق، تشير به إلى ما يختلج في صدرها من الشوق للكمال:
أغلى جمالَك في النواظِر أنه ... عوض لشين في النفوس كثير
وأنا لَهُ منّا المقادةَ أنه ... في الأرض رمز كمالها المحظور
وفي الجمال غناء عن الدنيا كلها، وهو نعيم قريب كالنعيم المتخيل في الآخرة كذلك، فهو نعيم الدنيا حين يقول:
إن نفوْني اليوم من دنياهمو ... وأباحوا لي من الزاد المرام
ثم قالوا ما تشأ منها فخذ ... قلت: هذا. وعلى الدنيا السلام
قلت: هذا، وتطلعت إلى ... هوة الغيب وفي الثغر ابتسام
كيف لا يبسم من قبلته ... تنظم الأوطار طرا في نظام؟
وإذا قبلته مستضحكا ... في تخوم الكون والكون سدام
فهو سخري بالذي ودعته ... واغتباطي بمقامي حيث قام(265/46)
وهو نعيم قريب كنعيم الآخرة البعيد حين يقول:
أيها الباحث عن كوثره ... في السموات. لقد شط المزار
إنما الكوثر ثغر باسم ... من حبيب لك مأمون النفار
والوجه الجميل، هو (الصدق) في هذه الحياة، الذي ينفي عن النفس الريب والشكوك فيها
لك وجه كأنه طابع الصد ... ق على صفحة الزمان المئوف
إن يوماً يمر بي لا أراه ... هو يوم أعده في الريوف
وهو كذلك داعية الرجاء في هذه الدنيا، ومنبع التفاؤل والقبول:
أرى لك أنت فلسفة صراحا ... بلمح العين أقرؤها جميعا
أذم العيش في ألفي كتاب ... وتَعرضُ لي فأمدحه سريعا!
والجمال هو الفضيلة، أو الفضيلة هي الجمال:
شرعك الحسن. فما لا يحسن ... فهو لا يحلو وإن حل الحرام
ليس في الحق أثام بيّن ... غير مسخ الحسن أو نقص التمام
ما عدا هذين مما يمكن ... فاستبحه وعلى الدنيا السلام
ولهذا يحلل الجمال كل شئ، ويمنحه الفضيلة والعفة والثناء:
كل الثياب لمن يزي ... نُ ثيابَه عفٌّ حميد!
والجمال حرم مقدس يحترمه الخصوم والأصدقاء ويلقون لديه السلاح حيث لا تصنع ذلك المعاهدات و (عصبة الأمم) والشرائع والقوانين:
حرم بميدان الحيا ... ة وملجأ لا يعتسف
والجمال الإنساني يرقرق جمال الكون ويصفيه، ويظهره خلاصة نقية:
لا أرى الدنيا على نور الضحى ... حبذا الدنيا على نور العيون
هي كالراووق للنور فلا ... نور إلا صفوها العذب المصون
وهذا الجمال خلاصة جمال الدنيا، وخلاصة تجارب الحياة في مثل الكمال. وله في هذا قطعتان بارعتان: الأولى بعنوان (نشوء وارتقاء)، يتحدث فيها عن جميل كان مولده في الشتاء:
زانك الله بصفو ... وسلام يا شتاء(265/47)
طال بي فكر الليالي ... أو ما فيك عزاء؟
قال لي: هاك فخذها ... زهرة مني إليك
ذات حسن وحياء ... ولها فضل لديك
وسمت بالفكر فاقبس ... فكرة في راحتيك
قلت: حقَّا يا شتاء ... هي حسن وحياء
غير أني وهي صمت ... ليس لي فيها عزاء
قال: يرضيك إذن شا ... دٍ من الطير مجيد
هو للجنة يدعى ... وله منها نشيد
يعشق الليل وإن لم ... يك فيه بوليد
قلت: حقَّا يا شتاء ... هو حسن وغناء
غير أني وهو صوت ... ليس لي فيه عزاء
قال: يرضيك إذن سا ... رٍ من البرق بشير
يصدع الظلماء، يزجي ... عارض الغيث، ينير
فيه من قلبك نبض ... ومن اللمح سمير
قلت: دعني يا شتاء ... من شعاع في فضاء
أئذا جاد بغيث ... كان لي فيه عزاء؟
قال: والشمس فما ظن ... ك بالشمس ذكاء؟
كلما عدت بها سبّ ... ح عشاق السماء
قلت: حقَّا يا شتاء ... هي نور ورجاء
غير أني وهي صبح ... ما عزائي في المساء؟
قال لي: أنفدت كنزي ... كله بين يديك
غير ذخر من بني الإنس ... ان أبقيه عليك
فيه من صبح ومن لي ... ل قصارى غايتيك
أتراه؟ قلت: حقَّا ... هو في الدنيا العزاء
هو حب وحياة ... وربيع يا شتاء!(265/48)
من بني الإنسان في ذا ... ت شتاء ولدا
زينة للعين والل ... ب وللقلب بدا
طاهر كالمزنة البيضا ... ء صاف كالندى
كنبات الروض مفت ... ن الحلي جم الحياء
وارف كالظل مُحْيٍ ... في شذاه كالهواء
يا شتائي فيم إخفا ... ؤك هذا السر عني
أي روض أي برق ... أي شمس فيك أعني
أنا مستغن به عن ... ها فماذا عنه يغني؟
قد تعلمتَ وأيقن ... ت أفانين السخاء
منذ عشرين وخمس ... من سني الدهر سواء
تم عندي كل ما تع ... طي إذا تم العطاء
وجميل كل بدء ... ينتهي خير انتهاء
وجميل زهرك النا ... مي على هذا النماء
صدق العلم وقال ال ... حب حقَّا يا شتاء
سنة الزهر نشوء ... في المعاني وارتقاء
هذه قطعة لا أجدني مضطراً لشرح ما فيها من الجدة والطرافة، فوق الدلالة على فكرتها المقصودة، وفوق تناسقها الفني مع طبيعة الشتاء التي لا تمنح ذخرها إلا ذرة ذرة على ظن وبخل. فمن لم يحس هذا كله بمجرد قراءتها، فخسارة ألف خسارة أن نضيع الوقت في أن نخلق له إحساساً وما نحن بقادرين. وأما الثانية فبعنوان (الثوب الأزرق) وهي كزميلتها في الطرافة البارعة:
الأزرق الساحر بالصفاء ... تجربة في البحر والسماء
جرّبها (مُفصّل) الأشياء ... لتلبسيه بعد في الأزياء
مجوّد الإتقان والرواء ... ما ازدان بالأنجم والضياء
ولا بمحض الزبد الوضاء ... زينته بالطلعة الغراء
ونضرة الخدّين والسيماء ... ولمعة العينين في استحياء(265/49)
إن فاتني تقبيله في الماء ... وفي جمال القبة الزرقاء
فلي من الأزرق ذي البهاء ... يخطر فيه زينة الأحياء
مُقَبّلٌ مبتسم الأضواء ... مردّد الأنغام فالأصداء
وقبلة منه على رضاء ... غني عن الأجواء والأرجاء
وعن شآبيب من الدأماء ... وعنك يا دنيا بلا استثناء
وغير هاتين القصيدتين كثير من الحديث عن هذه الفكرة الصحيحة الطريفة مثل:
وكل ما في الكون من روعة ... لها نظير فيك حيّ جديد
بل أنت دنيا غير هذي الدنا ... وكل حب فيك كون وليد
ويقول عن القماريّ:
وللأناسي حسن لا أبوح به ... هل تعرف الطير ما حسن الأناسي
غنت لزهر وسلسال ولو رشفت ... ثغر المباسم جنت بالأغاني
لذلك فالكون حفي بهذا الجمال الإنساني فخور به:
فلو لم نولّ القلبَ شطرك لامنا ... على الجهل كون بالجمال فخور
ويتضح هذا في قصيدة (عيد ميلاد)
تهيأ الكون من قديم ... ليوم ميلادك السعيد
فعابد الكوكب العظيم ... أحيي ببشراك يوم عيد
ومولد (السيد) الرحيم ... وافقه المولد الجديد
يوم تهدَّي على المديح ... وزفه الخلد بالثناء
فالدهر في عمره الفسيح ... عوّده البشر والدعاء
والإله حفيٌّ كذلك بهذا الجمال، فقد تبارت الشفاه في مزاياها، وتقدم جبابرة العالمين يُدِلون بقوتهم ونادى العبقريون الملهمون بمزاياهم:
وأقبل سرب الظباء الملا ... ح رخيم البغام مليح الكحل
فقال وفي قوله لثغة ... كأنك ترشف منها العسل
لنا القول فيكم رجال الكلا ... م لنا القول فيكم رجال العمل
لمسنا شفاها ففاضت سنى ... وجرنا على جائر فاعتدل(265/50)
ومنا تذوقون طعم الحيا ... ة وهل طعمها غير طعم القبل
تسمونها قبلة واسمها ... رحيق الخلود وريا الأمل
فماذا تظنه كان رأي الإله الذي جلس ليحكم في المباراة؟
فأطرق ربهمو لحظة ... ونادى بأقربهم فامتثل
وقبّل مبسمه قبلة ... تضرم منها مكان الخجل
وقال: أجل! تلك أغلى الشفا ... هـ فأصغوا جميعاً وقالوا: أجل!
ومتى برز هذا الجمال الإنساني، فقد بطل كل جمال، حتى نظم الشعر الذي يستعز به العقاد، فهو يخاطب (جيرة البحر) بعد أن سماهن (المعاني الحية) وبعد أن قال لهن: إن الإله والبحر والشمس وهبوا لهن هبات وافرة:
ورأيت رفرفة النسي ... م على الجسوم الطائرة
فالآن ماذا تنظرون ... من النفوس الشاعرة
لم يبق في كنز الخيال ... بقية من نادرة
برزت معاني الشعر في ... ثوب الحياة الظاهرة
أنتم معانيه فما ... تغني النفوس الحائرة
أنتم عرائسه وها ... تيك المسارح عامرة
هيهات ما لممثل ... أو شاعر من خاطرة
ما الترجمان وتلك أسْ ... رار التراجم سافرة
فإذا بخلنا بالقصي ... د فعاذر أو عاذره
ومتى كان ذلك شأن الجمال الإنساني البارع، فهو يخاطب جميلا:
يغنيك حسن أنت لابس تاجه ... عن دولة السفاح والإسكندر
وما على الفنان إذن إلا أن يسمع نصيحته الشاعرة:
قسم حياتك بين حسن بارع ... يذكي الحياة وحكمة تنميها
ما في سوى الحظين من أمنية ... للمرء ينشدها ويستبقيها
وإنه ليعيش هكذا؛ وقد فهم الجمال، وعرف صنوفه، ولاحظه في كل جميل، وانتهى فيه إلى رأي، وعلم غاية الحياة منه وقصد الطبيعة فيه، على هدى وبصيرة(265/51)
هذه أبيات متفرقة أو قصائد كاملة عرضناها عرضاً سريعاً وهي ليست كل شئ في ديوان العقاد عن مجرد (تعريف الجمال) عنده، وهي وحدها ذخيرة نفسية وغزلية، لو قالها شاعر وسكت، لكان شاعراً كبيراً ممتازاً، وهي مع ذلك نصف (المقدمة) للكلام عن (غزل العقاد)!
وما من شك أن الإحساس بالجمال هكذا، عمل متعب عسير، غير ميسور لكل الطبائع، وهو في حاجة إلى طبيعة عميقة، ونفس فسيحة، وشعور واغل في قلب الحياة، يسمع نبضاته، ويحس آماله، ويستشعر أشواقه، ويشاركه خفقه وهو ينبض بالجمال
وقد استغرق هذا حديث اليوم كله، فأما رأي العقاد في (الحب) فسأتناوله في حديث آخر، وحينئذ نخلص إلى (غزل العقاد) في هينة واطمئنان
(حلوان)
سيد قطب(265/52)
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 5 -
لقد أخذنا على كاتب مقالات (بين العقاد والرافعي) أنواعاً من الأغلاط ذكرنا لكل منها أمثلة عدة دون استقصاء. فهناك أغلاط اضطراب في التفكير كالتي ذكرنا في كلمتنا الثانية؛ وهناك أغلاط جور ومحاباة كالتي عددنا في كلمتنا الثالثة؛ ثم هناك أغلاط ضعف في الفهم أخطأ بها الكاتب لب الموضوع كالتي فصلنا في الكلمة الرابعة. وكلها تدل دلالة واضحة على أن كاتب تلك المقالات لم يكن فيها يفكر بعقله وإنما كان يفكر بهواه.
إلا أن أغلاط التفكير بالهوى ليست كلها في الدلالة أو في التبعة سواء. فان ذا الهوى المتعصب لمذهب أو لكاتب قد يتأثر عقله بعصبيته وهواه من حيث لا يدري، فيقع في الخطأ من حيث لا يقصد، وتكون آثار الهوى والعصبية ظاهرة في كتاباته وأحكامه لكل إنسان سواء هو ومن لف لفه. مثل هذا لا يزيد الهوى والعصبية على أن يفسد عليه تفكيره فتصبح أفكاره وآراؤه وأحكامه غير ذات قيمة، ولكن من غير أن يحمل في ذلك تبعة خلقية تذكر.
أما إذا تأثر ذو العصبية والهوى بعصبيته وهواه إلى الحد الذي يشعر بأثرهما في رأيه وحكمه ثم لا يقاومهما مقاومة مجدية ولكن يتابعهما ويطاوعهما فيما يوحيان إليه من إخفاء ما لا يوافقهما من الحق، وتحريف ما يخالفهما من الواقع، فأنه عندئذ يكون قد جمع على نفسه ضعفين: ضعف العقل وضعف الخلق؛ وتحمل في سبيل هواه تبعتين: تبعة الخطأ وتبعة سوء النية فيه.
وقد كان فيما نبهنا إليه بالفعل من أغلاط ذلك الكاتب غلطتان لا يمكن حملهما على مجرد الخطأ العقلي. وقع في أولاهما حين أراد أن يعتذر عن تغيير رأي كان أرتآه، فيه بعض مدح للرافعي، ووقع في أخراهما حين أراد أن يعتذر عن سوء فهم لبعض ما قال الرافعي نبهه إليه الفاضل الفلسطيني علي كمال. وقد اعتذر في كلا الموقفين بما يخالف الواقع:(265/53)
اعتذر في الموقف الأول بأنه لم يكن حدد نوع الذهن حين قال إن الرافعي أديب الذهن، والواقع أنه كان حدده تحديداً واضحاً، وحدده بنفي بعض الأقسام التي قسم إليها الذهن عند اعتذاره ذلك. واعتذر في الموقف الثاني باضطراب وقع خطأ في ترتيب الجمل التي عبر بها عن رأيه، والواقع أنه لم يكن في ترتيب جمله تلك أي اضطراب، ولم يكن له عذر في مخالفته الواقع في ذينك الموقفين، لأنه كان يستطيع الاستيثاق مما قال أو كتب بالرجوع إلى ما كان قد خطه قلمه في موضعه من كلامه إن كان ضعف الذاكرة هو الذي جعله ينسى حقيقة ما كان قد كتب ولم يكن قد مضى عليه أكثر من أسبوعين. لكن الذي به ليس هو ضعف الذاكرة ولكن صعوبة أو استحالة يجدها في الاعتراف بحق إذا كان عليه، فاعتذر بما اعتذر به رغم مخالفة الواقع اعتماداً فيما نظن على أن القراء يقل فيهم من يكلف نفسه عناء مضاهاة ما زعم بما وقع منه بالفعل.
لكن هاتين السقطتين ليس لهما فوق دلالتهما النفسية أية أهمية ذاتية إذ هما منه وإليه. هو أخطأ وهو يجتهد في ستر خطئه عن الناس ولو بشيء من التوسع في تحديد الصدق. فإذا كان قد فارق الصدق بهذا فالضرر لاحق به هو لا بغيره. أما إذا كان ضرر ذلك يعود على غيره من قريب أو من بعيد فان وجه المسألة يتغير بقدر ذلك. ويصبح وجه المسألة أشد تغيراً إذا كان الذي يتناوله بالتحريف والتلفيق كلام غيره لا كلامه هو. أما إذا كان الكلام المحرف أو الملفق هو كلام شخص يكرهه قد تصدى هو لنقده وكان التحريف والتلفيق من شأنه أن يؤذي الشخص المنقود كما وقع للرافعي، فإننا عندئذ نصبح أمام مسألة جديدة تتعدى الإنصاف في النقد إلى الأمانة في النقل، وتتجاوز الخطأ في الرأي إلى التدليس العمد وإلى محاولة النيل من الخصم في النقد الأدبي عن طريق غير شريف.
ومقالات (بين العقاد والرافعي) لم تبرأ من هذا العيب. ولعلنا كنا نعفو فلا ننتبه إليه لولا غرور ومكابرة يبدوان فيما يكتب صاحبها، ولولا أن صاحبها جعل من الفروق الأساسية بين مدرستي (الرافعي والعقاد) امتياز الثانية على الأولى بما سماه (الصدق الجميل) من ناحية، وتصحيح الأمزجة والنفوس بالأدب وللأدب من ناحية أخرى. فنحن مضطرون إلى تبيين ظاهرة كالتي أشرنا إليها، لا لأنها من الواقع فحسب، ولكن وفاء بحق النقد واختباراً لتينك الميزتين أمتحققتان هما في الكاتب كنموذج للمدرسة التي ينتسب إليها أم غير(265/54)
متحققتين
والزلات التي سقط بها الكاتب وجانب فيها الصدق يصح تقسيمها إلى قسمين: قسم يتعلق بتحريف ما كتب إخوان الرافعي عن الرافعي، وقسم يتعلق بما كتب الرافعي عن نفسه، وهو أهم الاثنين
ونحن إذ نتعرض لتحريف الكاتب بعض ما قال الأستاذان سعيد العريان ومحمود شاكر لا نريد بذلك أن ننصفهما، فهما قادران على الانتصاف حين يريدان، ولكن نريد أن ننصف الرافعي الذي استعان الكاتب على الإساءة إليه بتحريفه قول صديقيه، متخذاً من قولهما المحرف شاهداً عليه
وأول ما يلقي الناقد من هذا النوع من سقطات ذلك الكاتب تزُّيده فيما قال العريان في موضعين على الأقل في مقاله الأول: أولهما يتعلق برغبة الرافعي عن شراء (وحي الأربعين) وهي نقطة تافهة لولا أن صاحبنا المحلل النفسي مولع باستخراج الخطير من التافه. وثانيهما يتعلق بالبواعث التي دعت الرافعي لنقد (وحي الأربعين)
وقد قدم الكاتب بين يدي ما اقترف قوله: (إنما يعنيني اليوم ما كتبه الأستاذ سعيد العريان! ففيما كتبه وهو أخص أصدقاء الرافعي مصداق لكثير مما تخيلته فيه). ثم انتقل إلى تفصيل ما أجمل في هذه العبارة فقال:
(في إباء الرافعي أن يشتري كتاب وحي الأربعين مع حاجته لنقده ما يشير إلى ضيق الأفق النفسي الذي كان يعيش فيه، وتصوير للون من الحقد الصغير قلما يعيش في) نفس (رحبة الجوانب الخ)
فأنت ترى كيف أجدت مطالعاته في مباحث علم النفس الحديثة هذه المقدرة على استنتاج الخطير من التافه. وسنسلم له أن كل ما استنتج من ضيق الأفق النفسي والحقد الصغير أو الكبير ينتج من إباء الرافعي شراء كتاب وحي الأربعين مع حاجته لنقده. سنسلم له تلك النتيجة من هذه المقدمة! لكن بقى أن نثبت المقدمة حتى تصح النتيجة وإلا كان هذا الرجل يفتري على الناس مرتين: يفتري الشتم ويفتري الأسباب إليه. وقد اعتمد كما ترى في ثبوت هذه المقدمة على ما كتب أخص أصدقاء الرافعي، سعيد العريان. فإذا صح هذا فله بعد ذلك أن يستنتج منها ما شاء طبق وحي قراءته الحديثة في علم النفس. وواضح أن(265/55)
مدار الاستشهاد في تلك المقدمة ليس هو إباء الرافعي أن يشتري كتاب العقاد - فما نحسب العقاد ولا قطباً يشتريان شيئاً من كتب الرافعي - ولكن موضع الاستشهاد هو إباء الرافعي شراء الكتاب (مع حاجته لنقده). فبعبارة (مع حاجته لنقده) هي مدار الاستشهاد في الواقع. وعمدة قطب في إثبات هذه الحاجة عند الرافعي هو سعيد العريان
لكن سعيد العريان لم يقل شيئاً من هذا بل أخبر بعكس هذا، أخبر في مقاله الخامس والعشرين (رسالة 240) أنه هو حرض الرافعي على نقده (وحي الأربعين) انتصافاً لمخازن ولدار العلوم، وأن الرافعي أبى أولاً ثم أجاب على شرط أن لا يكون هو مشتري الكتاب (لأن عليه قسما من قبل ألا يدفع قرشاً من جيبه في كتاب من كتب العقاد. . .!)
ولسنا ندري متى أقسم الرافعي ذلك القسم، وليس هذا بمهم الآن، إنما المهم أولاً أن الرافعي لم ير حتى في رغبته في إرضاء صديق ما يبرر نكثه بذلك القسم، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الرافعي أقسم حين أقسم عن عقيدة، واستمسك بذلك القسم حين استمسك عن عقيدة، وهذا ضد ما ذهب إليه قطب في أن الرافعي كان يصدر في أدبه عن غير عقيدة. ثم المهم ثانياً أن الحاجة إلى نقد (وحي الأربعين) لم تكن بالرافعي، ولكن بسعيد العريان. العريان حرض الرافعي على النقد كما ذكرنا ولرغبته في رؤية الأديبين الكبيرين يتصاولان. لكن المسألة على هذا الوضع المتفق مع ما أخبر به صديق الرافعي، ليس فيها شيء يشهد لقطب في شيء مما يريد. فماذا يفعل سيد قطب وهو يريد أن يستشهد لنفسه بصديق الرافعي على الرافعي؟ ينقل حاجة العريان إلى نقد (وحي الأربعين) فينسبها إلى الرافعي، ويترك الخبر بعد تحريفه منسوباً إلى العريان كما كان، فيكون العريان بذلك هو الذي شهد على الرافعي، ويتم لقطب ما يريد من الاستشهاد ولا بأس في ذلك على ما يظهر عند المدرسة الجديدة التي يمثلها سيد قطب، والتي يميزها عن المدرسة القديمة مذهب (الصدق الجميل)
أما الموضع الثاني الذي تزيد فيه قطب ليستشهد بالعريان على الرافعي فقوله من نفس المقال:
(وفي البواعث التي تدعوه لنقد) وحي الأربعين (كما صورها صديقه ما يصور نظرة الرجل إلى النقد والأدب والغاية منهما ومدى نظرته العامة للحياة واتساع مداها في نفسه،(265/56)
وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له) وليس في هذه العبارة شيء حتى تأتي إلى آخرها فتنقلب دلالتها عندك ويصبح الرافعي المسكين بين صديقه وعدوه قد اجتمعا في الجملة على تجريحه وذمه وكاتبها لا يكلف نفسه بها شيئاً، فهو يلقيها دعوى عريضة ثم يتحقق بعد ذلك من صحتها من شاء أو لينقضها من شاء! أما هو فلا يكلف نفسه من إثباتها شيئاً، ويكفيه أن ينتفع فيها بالإيحاء النفسي معتمداً على تصديق القارئ إياه فيما يلقي في روعه عن تصوير صديق الرافعي لبواعث الرافعي على نقد وحي الأربعين. وأكثر القراء حتى من أنصار الرافعي لا يجشمون أنفسهم اختبار صدق دعوى سيد قطب هذه بعرضها على ما قال العريان في موضعه من فصوله في تاريخ الرافعي، فيمر أكثرهم وقد وقر في نفوسهم شيء من هذا الاتفاق ولو في الجملة بين صديق الرافعي وعدوه على تجريح الرافعي.
إنك تقرأ تاريخ نقد الرافعي وحي الأربعين فيما قصه العريان في فصليه الخامس والعشرين والسادس والعشرين فلا ترى أساساً لهذا الذي يدعيه قطب، بل ترى شيئاً ينقض في صميمه دعواه هذه وينقض غيرها مما ادعاه. يعرض الرافعي على العريان ومخلوف أن يختارا أجود ما في الديوان لينظر فيه ثلاثتهم فما اتفقوا عليه فيه جعلوه حكمهم على الديوان كله. وليس وراء هذا في إنصاف خصم لخصمه في الأدب مذهب. فلما استبطأهما فيما انتدبهما له قال (أحسبكما لم تجدا ما تطلبان ولن تجدا. . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!) وآخر قوله هذا مظهر آخر لنفس الرغبة في إنصاف العقاد وإن كان أولهما يدل على عقيدته في أدبه ويستشهد لها ضمناً بإبطاء أديبين في اتفاقهما على جيد في الديوان ينتقيانه، كأن الجيد الذي يتفق على جودته قليل في ذلك الديوان. سيقال طبعاً إن هذا ليس بحكم يعتد به على الديوان، فلو كان الأديبان الناظران فيه من المدرسة الجديدة لأسرع إليهما الاتفاق على جيد كثير. حسن. ولسنا نريد بما قلنا حكماً على الديوان ولكن نريد حكما على الروح التي نظر بها الرافعي وأخواه فيه، وهي روح إنصاف ورغبة في إنصاف من غير شك على نقيض الروح الذي نظر وينظر به سيد قطب ممثل المدرسة الحديثة في أدب عميد المدرسة التي يلقبها بالقديمة ولا يعجبه من أدبها ولا من روحها شيء.(265/57)
نظر الرافعي وأخواه في ديوان العقاد معاً ساعات طووه بعدها، وأشار الرافعي على مخلوف فكتب، وهاج به العقاد ساخراً منه ومن دار العلوم، ولام مخلوفاً إخوانه على تهييج العقاد بدار العلوم، وألقى العريان تبعة ذلك اللوم على الرافعي يريد تحريكه لنقد الديوان؛ وتحرك الرافعي للنقد بعد تردد، ولكنه بعد إذ عزم مضى لا يبالي بما كان للعقاد يومئذ من سلطان مكنه له الأدب السياسي لدى القراء، ولا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته، وسواء عنده أكان رأيه هو رأي الجماعة أم لا يكون ما دام ماضياً على طريقته ونهجه كما يصف العريان.
أي شيء في هذا يا ترى مما يمكن أن يؤخذ على الرافعي من قريب أو من بعيد؟ لا شيء! لا شيء يمكن أن يراه الناقد إلا ناقداً ينظر في أعمال الرافعي بمجهر البغضاء ثم لا يرى إلا ما يصوره الخيال. إنها حكاية واقعية غير عادية تصور الرافعي أستاذاً في مدرسته يلقي على تلميذين وزميلين له درساً عملياً في النقد وفي ما ينبغي للناقد من نزاهة في الحكم، وتحرز من الهوى عند الخصومة وشجاعة في المنازلة إذا لم يكن من المنازلة بد، وتضحية في سبيل الغاية، واستمساك بما يعرف أنه الحق. أما ما ارتآه العريان من تحفز كان بالرافعي لعراك العقاد فالعبرة فيه بأن ذلك لم يسرع بالرافعي إلى تحيف العقاد وظلمه في ديوانه أو هضمه. وفي رأينا أن هذا مظهر لفارق أساسي آخر بين المدرستين: مدرسة الأدب الأخلاقي، ومدرسة الأدب غير الأخلاقي اللتين تتنازعان توجيه الأدب الآن، وهو فارق نعرف أثره في كتابة المنتسبين إلى كل من المدرستين، نعرفه في نزوع شاكر والعريان إلى الإنصاف حتى من أنفسهما وصاحبهما، وقد يغلوان في ذلك أحياناً كما يشتد المدرس على ابنه التلميذ في فصله مبالغة في العدل بين طلبته، وتعرفه في نزوع سيد قطب إلى التزيد والتحريف والإسراف.
أما شاكر فأنه أيضاً لم يسلم مما أصاب العريان من تحريف لقوله في الرافعي. وقد مثل معه سيد قطب حكاية عمرو مع أبي موسى من جديد. لكن يكفينا الآن ما كتبنا في تبيين القسم الأول من مغالطات قطب وتحريفاتها لننتقل إلى تحريفه أقوال الرافعي وهو أهم القسمين.
إن آخر مثال ضربناه في المقال الماضي لسوء فهم قطب هو في الواقع أول مثال لتحريفه(265/58)
كلام الرافعي ليستقيم له وجه الاستهزاء به والزراية عليه. فقد ضرب الرافعي بنهر الكوثر يجري بين شاطئين من ذهب على أرض من الدر والياقوت مثالاً للشعر الخالد المطرد بقوله المحب في حبيبته، فجاء قطب وقال إن الرافعي لا يتشكك في أن نهراً يجري بين شاطئين من ذهب على الدر والياقوت (أجمل) من نهر يجري بين شاطئين من العشب الأخضر على أرض من الرمل والطين. ومهما تكن نتيجة المفاضلة بين النهرين عند المدرسة الجديدة من ناحية الجمال، فان نتيجة المفاضلة بينهما من ناحية الخلود والاطراد ليست موضع شك عند أحد. ولو أخذ قطب الكلام على ظاهره لم يكن فيه مغمز يغمز الرافعي به، فلم يجد بأساً في أن يضع الجمال بدلاً من الخلود والاطراد في كلام الرافعي ليصل إلى ما يريد. ولو غير مدرس للغة العربية فعل هذا لالتمسنا له العذر عن طريق جهله بمعاني الكلمات على وضوحها وبساطتها في هذه الحالة، لكن سيد قطب أخصائي في اللغة العربية وأديب وشاعر فلا يمكن أن يلتمس له العذر من هذه الناحية، ولم يبق إلا أن يكون تعمد التحريف في كلام الرافعي ليصل إلى ما يريد. فإذا أصر على ما فعل، وعدها على الرافعي غلطة بغلطات كخبر (الأسدي الذي يخترق شوارع القاهرة) في مثل زائر القاهرة الذي ضربه ليخلص إلى أن الرافعي (لم يحس الإحساس بجمال (الطبيعة بل. . . لم يوهب الطبيعة التي تحس هذا الجمال) - إذا أصرَّ قطب على زلته إمعاناً في تشويه الرافعي عند القراء كما فعل في مقاله الحادي عشر زاد ذلك في شناعتها وسقط بها في هاوية مالها من قرار.
وإلى مثل هذا عمد قطب حين أراد أن يتكلم عن حب الرافعي ليثبت أنه لا يعرف ما الحب وأن ليس له قلب يقول الرافعي:
(نصيحتي لكل من أبغض من أحب ألا يحتفل بأن صاحبته (غاظته) وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة. إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيدا عن قلبه، فإنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه). وهي قطعة مقتبسة من كتاب (رسائل الأحزان) وهو تاريخ حب للرافعي انقلب إلى بغض كما بين ذلك سعيد العريان في فصوله لمن لم يكن قرأ ذلك الكتاب، فالقطعة تدور كلها وتتوقف استقامة معناها على كلمة (أبغض) الواردة في أولها. لكن سيد قطب لما لم يجد فيها كما هي موضعاً لتهكمه ولا دليلاً على مزاعمه عمد(265/59)
إليها فحرف معناها بأن أسقط منها ما يؤدي معنى البغض وراح يصيح: (أرأيت؟ - إن الحبيبة (بعد انقطاع الحب) لا تتعلق بنفس من كان يحبها إلا بخيطين اثنين: غيظها له وغيظه لها! ولا شيء وراء ذلك!) ثم طفق يعلق على ذلك ما شاء له الحنق والبغض، وانتهى به الأمر في مقاله الحادي عشر إلى أن يقرر في غرور وتوكيد وإصرار: (فحين يقول الرافعي إن الحبيبة لا تتعلق بقلب حبيبها (بعد انتهاء الحب) إلا بخيطين اثنين هما غيظها له وغيظه لها. . . يدل على أنه لم يحس الحب يوماً ما ولم يحسن ملاحظته في غيره، بل لم يكن ذا طبيعة قابلة للحب، ولا مستعدة لتلقي دفعاته وانفساحه ولو كتب بعد ذلك عن الحب ألف كتاب). وتستطيع أن تتبين مبلغ إسرافه بهذا الكلام على الرافعي إذا وضعت فيه بدلا من (بعد انتهاء الحب) كلمات تؤدي معنى الرافعي مثل (بعد انقلاب الحب إلى بغض). هنالك يتضح مبلغ جناية هذا الرجل على الرافعي وعلى الحقيقة وعلى النقد بذلك التغيير الطفيف الذي أدخله على كلام الرافعي جرياً فيما يظهر على قاعدة (الصدق الجميل) الذي يفرق عند هذا الناقد الجديد بين مدرسة الرافعي ومدرسة العقاد. . .
بقى مثال واحد ثم نغلق هذا الباب. انتقد الرافعي بيت العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
بما انتقده به وأخذ على العقاد، وإن في لفظ شديد، أنه لم يحترس مما يدخل في عموم (كل موجود) مما لا يليق أن يكون في حبيبة محب ذي ذوق. وأراد قطب أن يسخف نقد الرافعي فزعم أن الرافعي قال إن (كل موجود هو البق والقمل والنمل. . . الخ) ولو نسب إليه أنه قال: (إن من كل موجود كذا وكذا. . . الخ) لكان كلاماً ظاهر الصدق ليس فيه موضع للتسخيف الذي يريده صاحبنا والذي لا يتأتى إلا إذا سقطت (من) الدالة على البعضية. فلم ير صاحبنا مانعاً من إسقاطها! وهل هي إلا حرف ذو حرفين يتحقق بإسقاطه شيء من تصحيح الأمزجة والنفوس؟
وقد رد أخونا محمود شاكر هذه الغلطة من سيد قطب إلى أنه لم يفهم الفرق بين (من) في كلام الرافعي و (من) في كلام العقاد. ووددنا لو أن الأمر كان كذلك فان عدم فهم الحرف أخف من تعمد إسقاطه، لكن سيد قطب خريج دار العلوم وأخصائي في اللغة العربية يعلم منها تلاميذه كل يوم مثل هذا الذي يعتذر عنه محمود شاكر بأنه يجهله. فلم يبق إلا(265/60)
الاحتمال الآخر على ما فيه.
تلك ثلاثة أمثلة حرف فيها صاحبنا كلام الرافعي تحريف الحاذق الماهر: تحريفاً طفيفاً من حيث اللفظ عميقاً من حيث المعنى، ورتب على ذلك من النتائج الخطيرة ما لا ينتج من كلام الرافعي، فهو قد تجنى على الرافعي مرتين: مرة بذمه ذماً بالغاً باطلا، ومرة بتحريف كلامه لتبرير ذلك الندم. فصدّق بذلك وبأغلاطه الأخرى ما نبهنا إليه من قبل من انزلاق مخاصم الحق وتورطه في أغلاط ومهاو ما كان لولا معاداته الحق ليتردى فيها وينتقم بذلك من نفسه للحق أبلغ انتقام.
محمد أحمد الغمراوي(265/61)
الفروسية العربية
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
(تتمة)
وقد روى لي سمو الأمير عبد الله الحادث التالي: عندما كان الملك الراحل الحسين شريفا على مكة: كانت السلطة على البدو بيده رغم حكم الأتراك؛ وفي يوم من الأيام بينما كان الشريف مع ولده الشريف عبد الله سائرين وقافلة في الصحراء أراد الشريف أن يسبق القافلة ليختار محلا لإقامة الخيام - فذهب معه ولده حتى وجدا محلا مناسبا تحت شجيرات، وكانت بجانبهم إبل ترعى بحماية ولد وأخته الصغيرة، وكعادة العرب ساءل الشريف الولد إلى أي قبيلة ينتمون، فأجاب الصبي من البقوم، فقال له الشريف (ألا تخاف أن ترعى على حدود بني عتيبة الذين قد يأخذون إبلكم) وكان الصبي منبطحا على ظهره يلوح بقدميه في الفضاء فأجاب (أيها الشيخ المجنون البارد، أنت لا تفهم) فأجاب الشريف: قد أكون مجنونا ولكني لم أعرف السبب بعد. فأجاب الولد قائلا (ألا تعلم أنه ما دام الحسين على السرج فنحن لا نخاف الغارات) وعند هذا الحد أقبلت القافلة فعرف الولد أن الذي كان يكلمه هو الشريف حسين، فخاف كثيراً ولكن الملك الراحل طمأنه وسر من هذه الشهادة غير المقصودة. وبقي كل سنة يطلب الولد وأخته إلى مكة ويعيدهما إلى أهلهما مع النقود والملابس.
لقد قلت إن إحدى صفات البدوي القيام بأعمال غريبة لإثارة الإعجاب - ومن ذلك عادة الجاهلية. يحدث أن يعتدي على شرف بدوي أو غير ذلك من الأمور التي تستلزم الترضية، ويرفض البدوي الترضية التي يقدمها المعتدي ويصر على الأخذ بالثأر - وعندها يجتمع شيوخ القبيلة في شبه وفد يذهب إلى بيت المعتدى عليه، وبطبيعة الحال يقدم لهم طعاماً يرفضون تناوله قبل أن يعد بإجابة سؤلهم فيعد بذلك وبعد انتهاء الطعام يشرحون فوائد الصلح إلى آخر ذلك فيتنازل البدوي عن حقه كاملا. فاتهام العرب بالطمع والجشع أمر تنقضه الحقائق، والقصص التي رويتها لكم قمينة بإعطائكم فكرة صحيحة عن(265/62)
العرب والبدوي من هذه الناحية. إن إلحاح البدوي في طلب حقه غريب، ولكنك إذا ما التجأت إلى كرمه كقولك أعفني يا أخا فلانة - فأنه يتنازل عن دَينه. ولعلنا لم ننس قصة هيرودس مع ابنة شالوم التي طلبت أمنية أجابها إليها قبل أن يعرف ما هي تلك الأمنية، وقد كانت رأس يوحنا المعمدان وقد كان هيرودس في شرق الأردن.
الخلاصة
ولكي نجمع ما سبق نقول بأن الفروسية هي نظام حياة البدوي اليومي وأهم مميزاته:
1 - تمجيد الحرب المبني على أساس طلب العلى والقيام بأعمال البطولة لا بكسب المعركة والحرب.
2 - احترام يشوبه الغزل للمرأة المفروض فيها الأنوثة الكاملة والمتممة للرجل مع عدم مساواتها له. والنظر إليها كتسلية للرجل والحكم على أعماله.
3 - الكرم ومساعدة الضعيف لأن هذه الصفات فرصة للقيام بأعمال غريبة تثير الإعجاب وتقرب من الخيال.
4 - وكنتيجة لهذه الصفات نشأت عادة التنافس بين الفرسان حتى أدى ذلك إلى نزاع داخلي في القبيلة.
5 - عدم الاهتمام بالمجتمع لتطلبهم المجد الشخصي.
6 - الفقر الدائم مع احتقار حياة العمل الشاق والبخل وبعكس هذا تجد أن الصفات المميزة للحضر هي:
1 - كره الحرب والدفاع بشدة إذا ما هوجم. همه الأول ربح المعركة دون الاهتمام بالطريقة، شريفة كانت أو غير شريفة.
2 - تطبيق النظرية القائلة بعمل الكل لأجل المجتمع.
3 - عدم الاهتمام بالمرأة وتكليفها بالأعمال الشاقة والنظر إليها كمصنع للأولاد ووسيلة للربح. وقد ترتفع منزلتها عند الحضر فتصبح مساوية للرجل ولكن ليست المتممة له
4 - نظرة الإعجاب إلى العمل الشاق المتواصل والعطش الشديد إلى جمع الثروة. ولهذا أرى أن نبعد عن أذهاننا نحن الأوربيين المعنى الخيالي الغرامي الذي يصوره لنا خيالنا عن كلمة الفروسية، لأن الفروسية هي النظام الخاص لحياة البداوة الذي يميزها عن حياة(265/63)
الحضر
نظرية
إن كل بحث عن الشعوب القديمة يكون ناقصاً مملاً مدرسياً ما لم تحاول أن تربطه بحياتنا اليومية الحاضرة. لا مراء في أن الحضارة الرومانية هي أولى الحضارات التي غزت أوربا وقد كانت حضارة زراعية، وتتكون نظريتهم عن الحرب في أن الفرد يجب أن يفنى في سبيل المجموع وأن الحرب خدعة. وفي القرن السابع ظهر الفتح الإسلامي حاملا معه روح الفروسية - روح الشرق - الروح التي تثير الإعجاب وتهيج النفوس. فغزت هذه الروح جميع البلدان التي اتصل العرب بها، وانتشرت بين سكانها. ولكن إذا نظرنا إلى الفاشستية اليوم نرى أنها احتفظت بالروح الرومانية القديمة بل تطرفت بها وهذه الروح تتنافى مع الروح العربية - روح الفروسية
غزا العرب أسبانيا وفرنسا حتى تور فانتشرت بالبلدين روح الفروسية، ومن فرنسا تسربت هذه الروح إلى إنكلترا ولكنها لم تتعداها - وقد يكون هذا هو السبب في مقاومتنا لروح الدولة الكلية المتطرفة والتي هي عماد الدولة في كل من روسيا وإيطاليا وألمانيا وهي البلدان التي لم تتصل بها ولم تنتشر فيها روح الفروسية. فان صح هذا ألا يكون مبدأ الحرية الفردية الذي نتمسك به وندافع عنه هو تراثنا من العرب؟ بالرغم عن التطورات الحديثة واتباعنا نظرية أن الحرب خدعة - فأننا ما زلنا نحافظ على روح الفروسية فيما نسميه اليوم (الألعاب الرياضية)
إننا نخطئ خطأً فاحشاً إذا ما ظننا أن العرب كلهم بدو، فأكثر العرب اليوم مقبلون إقبالا عظيما على درس الحضارة والمدنية الأوربية برغم نظام الفردية بينهم - وقد لا تمضي فترة قصيرة حتى نراهم يسيرون والأوربيين جنباً إلى جنب في ميدان الحضارة. إن تجاربي السياسية قليلة، ولكني قمت ببعض المهام الصغيرة مع الحكومة السعودية. ولقد كنت أظن أن التفاهم معهم صعب عسير ولكني سرعان ما غيرت هذا الظن إذ وجدت أنني أنا نفسي صرت أحسدهم. إذا صارحتهم - صارحوك. جرب دائما أن تكون معاملاتك مع العرب مبنية على الشرف والأمانة. ويجب ألا يعزب عن بالنا أننا ورثنا عنهم النظرية التي تهمنا نحن الإنكليز بنوع خاص وهي (إن لعب اللعبة أحسن من ربحها)(265/64)
أسئلة بعد المحاضرة
سير رونالد ستروس - هل يتغنى البدو بالشعر الرمزي؟ وهل هناك قصائد جديدة؟
المحاضر - البدو يجهلون الشعر الرمزي ولكن القصائد تتلى في كل خيمة؟
سير برسي كوكز - ما الذي يمكن الإنسان عمله إذا أراد بدوي معدم أن يذبح شاة لإطعام ضيف؟
المحاضر - من الصعب معرفة ما يمكن عمله، ولكني أرى أنه يكون مضطراً إلى محاولة إقناعه بأن يتحول إلى فلاح (ضحك)
مستر ي رانكن - هل تجدون صعوبة في حفظ النظام مع الجنود الأغرار من البدو
المحاضر - ليت الوقت يسمح لي ببحث هذا السؤال. ولكني أقول إننا نجد صعوبات جمة في بادئ الأمر
والنظام مع البدوي يختلف طبعاً عما هو عليه مع الفلاح. لأن البدوي ديمقراطي بطبعه، فالضابط والجنود يأكلون من صحن واحد ويشربون القهوة معاً. والبدوي يفخر بانتمائه إلى القوة التي توافق هواه. وإرهابه بأخذ سلاحه أو بإخراجه من القوة يؤثر فيه أكثر من أي عقاب آخر. ولكن طلبهم المجد الشخصي يولد الحسد فيهم ويسبب بعض المتاعب
لورد ونترتون - أظن، سيداتي وسادتي، أنه لم يبق لي إلا أن أشكر المحاضر بلسان كل فرد منا على محاضرته القيمة النفيسة وأحب أن أقول إن نظريته حول الارتباط بين العرب والإنكليز توافق نظريتي تماماً. إذ أنني أرى أن هنالك مكانين يمكن الإنسان أن يعيش بهما سعيداً وهما البادية وهذه البلاد. ولكن للأسف يوجد فرق واحد: أن البدوي إذا هوجم يستطيع التقهقر إلى صحرائه حيث لا مطمع لأحد هناك، ولكننا إذا هوجمنا فقد يحتل العدو بلادنا. وفي هذا درس علينا أن نحفظه. هذه نظرية قد تشرح قول بعض الأوربيين عنا: إننا مجانين. ولماذا وكيف نصادق كثيراً من الشعوب الآسيوية.
المترجم
جميل قبعين(265/65)
أنشودة
(ليتها تعيها إلى الربيع المقبل!)
للأستاذ صالح جودت
كان ميعادُكِ في هذا الربيعْ ... ثم أخلفتِ، فكان الموتُ لي
ضاع عمري في غرام لن يضيعْ ... فاذكريه في الربيع المقبلِ
الربيعُ الآن؟ مالي لا أرى ... بعد إخلافكِ، ما كنتُ أراهْ؟
هاهو الرَّوضُ، أراه مُقْفِرَا ... ما به من رَونق. . . إلا ثراهْ!
هاهي الدَّوْحاتُ صفراَء الذُّرَى ... تتلوَّى بين أغصانٍ عُرَاهْ
هاهو الينبوعُ. . لكن. . ما جرى؟ ... خبريني يا غرامي، ما اعتراه؟
أهُو اليومَ كما نعهدهُ؟ ... ربما كان لغيري ينجلي
أنا مَنْ قد فاته موعدُهُ ... فاذكريه في الربيع المقبل
كانت الزرقةُ ثوباً للسماءْ ... كانت الخضرةُ ثوباً للأدِيمْ
كان في الروض أزاهيرٌ وماءْ ... كان في الدَّوْح رجيِعٌ ونسيمْ
كان في الدنيا غرامٌ ووفاءْ ... كان في قلبكِ لي حُبٌ مقيمْ
كل هذا شِمتُهُ قبل المساءْ ... كل هذا ذقتُهُ قبل الجحيمْ
أُهْوَ باقٍ مثلما كان لنا ... في لذاذات اللقاءِ الأول؟
إن يكن ما مات، فالميْتُ أنا ... فاذكريني في الربيع المقبل(265/66)
إلى (القصر) الغاشم. . .!
(نفثة جريحة اهتز بها قلبي حيال قصر الملهمة!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لَوْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتي وشَكاتي ... يا (قَصْرُ)! ما قَيَّدْتَ سِحْرَ حَياتي. .
جَجَّبْتَها عَذْرَاَء كادَ غَرامُها ... يُذْكِي سَعيرَ الحُبِّ في الْغُرُفاتِ
وَلَو أنَّها مَلكَتْ جَناح حمامَةٍ ... طارَتْ لعابدِها من الشُّرُفاتِ!
لمَحَتْهُ مِن ْخَلَل السُّتور مُشَرَّداً ... حَيْرانَ مُرتَجِفاً على الطرُقاتِ
في جَفْنِهِ صَخَبٌ! وفي أنفاسِهِ ... لهبٌ! وَسِرُّ المْوْتِ في النَّظَراتِ!
وعَلَى الشِّفاهِ قَصِيدَةٌ غَزَلِيَّةُ ... مَخْنُوقَةُ الأَلْحانِ والنَّبَراتِ
صَرَخَتْ تُذيعُ غَرامَهُ. . . فَأَذَابهَا ... هَوْلُ الأسَى في جاحِم الزَّفَراتِ
يَبْكي ويَضْرِبُ في الْفَضاءِ مُضَيَّعاً ... كالتَّائهِ المْأخُوذِ في اْلفَلَواتِ. . .
قَلْبٌ عَلَى عَتَباتِكَ انْتَحَرتْ به ... أحْلامُهُ يَوْمُ الْفِراق الْعَاتيِ
وأتاكَ مُنْتَفِضَ اْلحَنين، كأنَّهُ ... ذِكْرَى مُجَرَّحَةٌ تَعودُ (فَتاتي)
يا (قَصْرُ) أَبْلِغْهُ الضِّفافَ. . . فَعِنْدها ... أَمَلي، وصَفْوُ مَزاهِري، وَحَياتي!(265/67)
الدمية الحسناء!
للأستاذ أحمد فتحي
فيك َمن رَوْعَة الجمال نَصِيبٌ ... شاهدٌ أن للدُّمَى إغْراَء!
وقديماً أُضِلَّ قومٌ من الخلْ ... قِ، فَضَلّوا ضلالةً عَمْياَء!
عبدوا الوَهْمَ والأساطيرَ حتى ... قدَّسُوها حجارةً صَمَّاء!
وإذا شاءتِ المقاديرُ تَلْهُو ... سَخَّرَتْ للجهالة الفُهَمَاء!
لستُ أَنْسَى يوم الْتَقَيْنَا وكانت ... صفحةُ الرَّوْضِ، فتنةً تتراءى
الأزاهيرُ رائحاتٌ غوادٍ ... تَتَثنَّى مع الصَّبا كيف شاء
والأمانيُّ باسماتٌ لِعَينْي ... يتضاحَكْنَ غِبطةً وصفاء!
والأغاريدُ هاتفاتٌ على الدَّوْ ... حِ نشيداً يُداعبُ الأفْياء
ولقد كنتَ في الخميلةِ تمثا ... لاً من اْلحُسنِ رائعاً وضَّاء
لاح لي من لحاظِ عَيْنَيْكَ سِحْرٌ ... بابِليٌّ، يستضعِفُ الأقوياء
ودعاني هواكَ فانْطَلَقَ القل ... بُ على وجههِ يُلَبِّي النداء
فَرَّ من بين أَضْلُعي ينشُدُ الْحُب ... بَ، كما ينْشدُ الظِّماءُ رَوَاَء
وأتاك المسكينُ حالاً من اللوْ ... عةِ تشكو فصيحةً خَرْسَاَء!
ظَنَّ في صْمتِكَ الرِّضى عن غرامٍ ... كان فيه، غِوايةً شَنْعَاَء
عادَ لي ضاحكاً، قريراً يغَنَّي ... يملأ الأرض شَدْوُهُ والسَّماَء
فَتَوَهَّمتُ أنه رُزِقَ الخَي ... رَ، وأَضْحَى يُسَاجِلُ السُّعَدَاَء
ثم بارَكْتُهُ غراماً عزيزاً. . . ... قد كفاني الهمومَ وَالْبُرَحَاء
ما سَلاَ القلبُ عنك إذ جَدَّ بيْنٌ ... صَيَّرَ الصُبْحَ وَحْشَةً ظَلْمَاء
شَفْنِي الوَجْدُ والنحولُ وكابَدْ ... تُ غرامي داءً دَوِيَّا عَيَاء
وَعفَا الصبرُ عن لِقاَئِكَ حتى ... عَلّمَ العينَ أن تذوبَ بُكاَء
سلك الدَّمْعُ من مآقِيَّ سُبْلاً ... كُنَّ من مَسْلَكِ الدُّموع خَلاَء
زهِدَتْ نفسي الصواحبَ طُرَّا ... وَمَللْتُ الحياةَ وَالأحْياَء!
وَتمنَّيْتُ لو لقيتُكَ يوماً ... وافتقدتُ المعاشرَ الْخُلَصاَء(265/68)
عَلِمَ اللهُ كم سَهِدْتُ الليالي ... أَتشهَّى الرُّقاَدَ والإِغْفاَء
يَقِظاً للخيالِ؛ إن طرَقَ الطَّي ... فُ رآني بَقِيَّةً وَذِمَاء!
ولقد طالما تَعَللْتُ بالقَرْ ... ب، فكانت عُلاَلةً حمقاَء
كيف أنساكَ يومَ قيلَ مُوَافٍ ... يحملُ البُرْء قُرْبُهُ والشِّفاَء؟!
قلتُ للنفسِ ها انْعَمِي بعد بُؤْسَي ... جَرَّعَتْكِ النَّوَى صباحَ مساَء
والتقينا أشكو الذي صنَعَ الشَّوْ ... قُ بقلبٍ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاء
وترامتْ على يَدَيْكَ دُمُوعي. . ... قَطَرَاتٍ كبيرةً حمرَاء!
وتوسَّلْتُ أن تُنَهْنِهَ مِنها ... فإذا أنتَ لا تجيبُ الرَّجاء!
فَتَهاوَتْ مع المدامع آما ... لٌ تُسَامِي صُرُوحُهَا الجوزاء!
وتناثَرْنَ، في الأعاصير نَقْعاً ... حَمَلَتْهُ، قويَّةً، هَوْجاء!!
عاتَبَتْ نَفْسيَ الحزينَةُ قلبي ... في هواكَ الذي أضَّرَ وساء
هَتَفَتْ، أيَّها المعَذَّبُ بالخَفْ ... قِ، تَجَشَّمْ هزيمةً نكْرَاء
قد حَمَلْتَ الغرامَ زَيْفاً من الوهْ ... م أضاعَ الشبابَ عُمْراً هَبَاء
خَدَعَتْك المَنى اللَّعُوبُ، وكانت ... قِصَّةُ الحُبِّ، كِذْبَةً بَيْضاء
شَغَفَتْكَ الحياةُ بالحُسْن، حُبّاً ... فَتَعَشَّقْتَ دُمْيَةً حَسْنَاَء!!(265/69)
فرحة
للأديب محمد قطب
أحلى الأماني والمراح مراحُ حُب
قد فاض قلبي بالسعادة بعد جدب
وطفرت كالمرح اللعوبِ وأي لِعْب!
عاد الشبابُ إليّ بعد طويل شيب!
يا حب ليس سواك فكّ عِقال قلبي
أطلقتني حراً أشارف كل صوب
لا مَنْ يعوق خطاي عن جَرْي ووثب
هي ذي معي، وأنا أبوح بسر حُبي
ما أجمل الحب السعيد وأنتِ قربي
وجمال همس كالطيور أوانَ أوْب
همس الحياة تحيطني من كل جنب
وتحيطني وتحيط بالإعجاب حبِي
فرحانة هي بالغرام يضيء قلبي
إني أحبك يا سعاد وأي حب!
حب تسامى فوق كل هوى محب
حب يرفرف كالحنان المستحَب
حب فريد لن تريه بغير قلبي
إني أتيه على الغرام (بِنَوعِ) حبي!
وأنا سعيد أن أحب وأن تحبي
سترين إعجابي بمن أهوى وعجبي
وسترشفين خلاصة من كل ذوب
ذوب الغرام وذوب تفكيري وقلبي
ذوب الحياة ممحضاً من كل شوب(265/70)
ذوب السعادة خالصاً من كل ريب
أعطيكِ ما قد شئت عذباً أي عذب
أعطيكِ حتى ترتوي حتى تعبّي
أعطيكِ. لست بآخذ أبداً. وحبي!
إلا الجمال فإنه هو وحي قلبي
هاتيه كيف أردت من دل وعجب
إني رضيت بما سآخذ دون غضب!
أفأنت راضية وحظك سوف يُربى؟(265/71)
البريد الأدبي
باريس، أحمد حافظ عوض، أبو تمام
الأستاذ الكبير أحمد حافظ عوض بك اليوم في باريس. وهو يبعث منها برسائل أحمدية: ذات بساط أحمدي. . . وقد أخبر في الأولى التي عنوانها (ما بال باريس اليوم ليست باريس؟) أنه يمم حاضرة الفرنسيس من قبل وهو في الثلاثين ويجئ إليها اليوم أخا ستين - أخو ستين يا أبا الحفَّاظ، الله أدرى بالحقيقة - وأنه ما رآها وهو شيخ كما آنسها في الشباب في شبابه:
// لا يبعدنْ عصرُ الشبا ... ب الناعم الغض الرطيب!
كان الشباب حبيبنا ... كيف السبيل إلى الحبيب!؟
ومما سطره: (فماذا جرى يا ترى، أترى باريس تغيرتْ كما تغيرت، أم كبرتْ كما كبرت؟) ثم أفاض الأستاذ في المقال ثم قال في آخره: (فباريس ليست باريس لأنك أنت لست أنت) ولو تذكر صاحب (الكوكب) بعد هذا الكلام (حبيباً) لأعطاه هذه الأبيات العبقريات فجاءت في الختام من آيات التمثيل الباهرات. وهأنذا أرسل بها إليه في (الرسالة) لينشدها الأستاذ في كل صبح ومساء، ما أقام في باريس:
لا أنتَ أنتَ، ولا الديار ديارُ ... خفّ الهوى، وتولت الأوطار!
كانت مجاورة (الربوع) وأهلها ... زمناً عِذاب الوِرد، فهي بحار!
أيامَ تدمى عينَه تلك الدُّمى ... فيها، وتقمر لُبه الأقمار!
إذ لا (صدوف) ولا (كنودُ) أسماهما ... كالمعنيين، ولا (نَوارُ) نوارُ!
بيض فهن إذا رُمقن سوافراً ... صور، وهن إذا رَمقن صُوار!
في حيث يُمتهن الحديثُ لذي الصِّبا ... وتحصّن الأسرار والأسرار!
وصدر هذا البيت، فحواه أن هناك (اللقاء والحديث) فقط والشطر الثاني ظاهر، وأنا ما ذهبت إلى باريس فلست أعرف حالها، فهل يصدق (العجز) فيها؟ العلم عند الأحمدِين العارفين: أحمد شوقي، أحمد حافظ عوض، أحمد حسن الزيات، العلم عند العارفين. . .
(القارئ)
تكريم الدكتور زكي مبارك(265/72)
أقام الفنان الأديب الأستاذ مدحت عاصم وكيل محطة الإذاعة المصرية شاياً موسيقياً للترحيب بمقدم الدكتور زكي مبارك من العراق دعا إليه نخبة من رجال الأدب والعلم والتعليم والصحافة وعلى رأسهم الأستاذ الجليل محمد بك العشماوي وكيل وزارة المعارف
وقد انتثر المدعوون في جوانب حديقة الدار يستمعون إلى نغمات الموسيقى، ثم انتقلوا إلى موائد الشاي فتناولوا الحلوى والمرطبات، ثم وقف الأستاذ مدحت عاصم وألقى كلمة حيا بها الدكتور مبارك وشكر فيها المدعوين على تلبيتهم الدعوة، وقال أنه ليس بعجيب أن يكرم الفنان أديباً، فالفن والأدب توأمان لا ينفصلان، والدكتور زكي مبارك أديب يقوم أسلوبه على قواعد موسيقية. . .
وبعد ذلك وقف صاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك فارتجل كلمة رقيقة داعب فيها المحتفل به. وقال أنه لا يتكلم الآن باسم الوزير، ولا باسم الوزارة. ولكنه يتكلم معبراً عن رأيه الشخصي. واستطرد فقال:
أعرف الدكتور مبارك رجلاً مشاغباً! وكنت قرأت له حملات على الأدباء والشعراء، فأرى فيه معولا يحتاج إليه البلد في هدم القديم على أن ينشئ مكانه جديداً نافعاً
ولما عرضت فكرة إيفاد معلمين إلى العراق قلت أنها فرصة طيبة للتخلص من شغب الدكتور زكي!
لم يكن الدكتور زكي مبارك قبل سفره، قد عمل شيئاً في وزارة المعارف، فلما سافر إلى العراق عمل هناك أشياء كثيرة. وخلال زيارتي للعراق تحدثت إلى وزير معارفه عن عيوب الدكتور زكي مبارك فقال الوزير - وهو من رجال الأدب المعدودين - إننا راضون بالدكتور على عيبه!. . .
ثم وقف الدكتور مبارك فألقى كلمة بليغة سننشرها في العدد القادم
وفاة الأستاذ نللينو
نعت أخبار روما أستاذنا الجليل الدكتور نللينو الأستاذ بالجامعة المصرية والعضو في مجمع اللغة العربية، وإمام المستشرقين في تاريخ الآداب العربية وأصول اللغة الحميرية وأسرار الحضارة الإسلامية. اتصلت أسبابه بمصر زهاء ثلاثين سنة منذ اختاره المغفور(265/73)
له الملك فؤاد لتدريس الأدب العربي في الجامعة المصرية القديمة يوم كان رئيسها وهو أمير فألقى الأستاذ بها أربعين محاضرة في الأصول المقررة في الأدب والنقد عند العرب فكانت الأساس الوطيد والمنهج السديد لدراسة الأدب العربي في مصر. ثم انقطع ما بينه وبين مصر حينا من الدهر حتى انتدب مرة ثانية للتدريس في الجامعة المصرية الجديدة وانتخب عضواً في مجمع اللغة العربية الملكي فغذى الجامعة والمجمع بأبحاثه القيمة وآرائه السديدة وخبرته الطويلة. وقد بلغ من حبه للغة العرب أن حبب إلى ابنته دراسة الآداب العربية، فهي اليوم من الفتيات الإيطاليات اللاتي يعرفن الشرق العربي معرفة صحيحة ويكتبن عن أدبه كتابة المطلع الفاهم؛ وقد أعانها على ذلك أنها زارت مصر معه مرارا، فلا جرم أن فقد الدكتور نللينو خسارة للأدب العربي وللاستشراق لا يسهل العوض منها، فإن الرغبة في دراسة الشرق القديم قد ضعفت في نفوس الأوربيين بعد أن استبانت معالم الشرق واتضحت السبل إلى استعماره
كتاب رسالة المنبر
تفضل صديقنا الأستاذ فليكس فارس فأهدى إلى مشتركي الرسالة مائة نسخة من كتابه رسالة المنبر. ومتى تسلمتها إدارة الرسالة فسترسلها إلى من يطلبها على شرط أن يكون من مشتركي الرسالة وأن يرسل أربعة قروش نفقة الإرسال
تنظيم دار العلوم
أصدر صاحب المعالي وزير المعارف قراراً باعتماد اللائحة الجديدة لتنظيم (دار العلوم) على منوال يكفل لها استقلالا شبيهاً بالاستقلال المكفول لكليات الجامعة، ويجعل الدراسة فيها تجري طبقاً للمبادئ الجامعية من حيث المحاضرات والبحوث
وتقضي هذه اللائحة بإنشاء قسم إعدادي مدة الدراسة فيه سنتان. ويلتحق به الطلبة الذين أتموا دراسة السنة الثالثة للمعاهد الدينية الثانوية على أن يكون ذلك بامتحان مسابقة بين المتقدمين مع اختبارهم شخصياً
وسيلحق هؤلاء الطلبة بالقسم الداخلي لتهيئة جو صالح لتكوينهم
وسيدرسون إلى جانب العلوم العربية والشرعية طائفة من مواد الثقافة المدنية وهي(265/74)
الرياضة، وعلم الأحياء والعلوم، وإحدى اللغات الأجنبية، والتاريخ، والجغرافيا. فإذا انتهت مدة السنتين انتقلوا إلى (دار العلوم) فيقضون فيها خمس سنوات بدلا من أربع على أن تخصص السنة الخامسة لدراسة علوم التربية وما يتصل بها
وقد نظمت هيئة التدريس على مثال هيئة التدريس بالجامعة تماماً
وقضت اللائحة بإنشاء مجلس أساتذة له ما لمجالس الجامعة المصرية من اختصاصات
وكذلك أنشأ مجلس أعلى برياسة وكيل وزارة المعارف، وعضوية وكيل الوزارة المساعد، وأقدم مراقبي التعليم العام، وأحد أساتذة الأدب العربي بالجامعة، وعضو من أعضاء المجمع الملكي للغة العربية، وأستاذين من دار العلوم، وأثنين من خارج الوزارة والجامعة من المشتغلين بالأدب العربي، وقد منح هذا المجلس اختصاصات مماثلة لاختصاصات مجلس الجامعة، وتعرض قراراته على وزير المعارف مباشرة، وقد أطلق على ناظر الدار اسم (عميد دار العلوم) وأطلق على دبلومها اسم (إجازة دار العلوم) وستتخذ الوزارة الإجراءات لإذاعة نص اللائحة الجديدة وسيعمل بها ابتداء من العام الدراسي الجديد
كتاب حياة الرافعي
جاء في جريدة الأخبار البغدادية هذه الكلمة: جاءنا بتوقيع (أديب) ما يلي:
نظراً إلى أن الكثيرين من العراقيين يرغبون في اقتناء كتاب الرافعي تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان، ولما كان ثمنه قبل الطبع مائة فلس في مصر فالرجاء إلى الأستاذ صاحب مجلة (الرسالة) الغراء أن يوعز إلى وكيل المجلة ببغداد بقبول الاشتراك في هذا الكتاب بزيادة عشرين فلساً أجرة البريد، وحبذا لو أجابت الرسالة الغراء هذا الطلب
(الرسالة): والرسالة تجيب عن رجاء الأديب بأن الاشتراك المخفض في هذا الكتاب يقبل من جميع أقطار العربية ولا يزيد على الاشتراك بمصر إلا أجرة البريد.(265/75)
الكتب
معلومات مدنية
تأليف الأستاذ محمود العابدي
للسيد عبد اللطيف الصالح
مؤلف هذا الكتاب ناظر لإحدى المدارس الحكومية بفلسطين قد اتجه في دراساته الخاصة نحو التاريخ العام فغدا مؤرخاً معروفاً في فلسطين يقدم للنشء والمكتبة العربية ثمار بحوثه وغرس ثقافته، والأستاذ العابدي بمؤلفه (معلومات مدنية) أسدى لا للنشء فحسب بل للمعلم أيضاً خدمة جليلة، وقد قسم مؤلفه إلى ثلاثة أقسام، فجعل الأول لتاريخ المجتمع الإنساني وتنظيماته من العصور الحجرية إلى نشوء نظام السوفيت في روسيا ويدخل فيه تنظيمات اليونان والرومان والعرب والقرون الوسطى والحكومات الأوروبية الحديثة. كل ذلك بتفصيل كاف عن حركة العمال في العالم
والقسم الثاني منه جعله الأستاذ العابدي للمقابلة بين الحكومات في إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وسويسرا والمستعمرات وجمعية الأمم ودوائرها، وألم بهذه المواضع إلماماً مناسباً بحيث يخرج القارئ من هذه الموضوعات ولديه فكرة تاريخية واضحة عن الاصطلاحات السياسية، فقد وفى ذلك. قال المؤلف في مقدمة الكتاب (وفي كل يوم ترد الصحافة تعابير وكلمات كلجنة الانتدابات الدائمة، ومجلس عصبة الأمم والحماية والانتداب وتقرير المصير والدستور والنقابات والسوفيت والبرلمان وحكومة الاتحاد والسكرتير العام والنائب العام، لا يعرف حقيقتها معرفة متوسطة. ومن النقص على شعب يعد نفسه للتقدم والنهوض أن تجهل أكثريته مثل هذه المعلومات الأساسية، وهذا أول دافع دفعني لوضع هذا الكتاب) وفي هذا القسم بحث مستفيض عن أهم إدارات الحكومة النافعة للشعب كالتعليم والصحة والبوليس وواجبات الفرد وحقوقه
والقسم الثالث من هذا الكتاب جعله الأستاذ العابدي لحكومة فلسطين فهو ضروري لكل فلسطيني يريد أن يعرف كيف تدار بلاده، بل إن الاطلاع عليه ضرورة لكل عربي يؤمن بفكرة العروبة وكل مسلم تهمه شئون الإسلام حتى يقف على حالة هذه البلاد التعسة التي(265/76)
هي الآن في فورة دموية قد تجاهل صوتها قادة الرأي في الأقطار الإسلامية، واكتفى بعضهم بقوله: (إنا نعطف على عرب فلسطين ونتمنى لهم الخير) كأن مثل هذه الجملة كافية لردع الإنجليز عن هذه المذابح التي تغرق فيها بلاد هي مهبط الوحي الأمين ومهد الرسالة الربانية. نعم تناول المؤلف في هذا القسم حكومة فلسطين بحيث يخرج منه القارئ وعنده فكرة صادقة عن كيفية الإدارة في هذا الشعب المدافع.
ولقد ظهر لي أثر مجلة (الرسالة) الغراء واضحاً في هذا الكتاب فأستطيع أن أعده من ثمار غرس هذه المجلة العربية التي عم تناولها أبناء العروبة وانتشرت بين أبناء الضاد انتشاراً لا يدانيها في ذلك مجلة أخرى، ولقد أحسن المؤلف في اقتباسه عن أساتذة هم أعلام ثقافات وعلوم كالأساتذة أحمد أمين، وحافظ عفيفي باشا وساطع الحصري وأحمد سالم الخالدي وغيرهم، حتى جاء مؤلفه عصارة مركزة لأبحاثهم المتعلقة بموضوع كتابه
والذي يطالع كتاب (معلومات مدنية) يرى أنه يغلب على أسلوب الأستاذ العابدي الدقة في التعبير مع وضوح وإبانة للغرض الذي يريده، وقد يقرأ القارئ فيه صفحة واحدة فيخرج منها بعلم قد لا تستوعبه صفحات كبيرة، وهذا آت من تمكن الأستاذ العابدي من مادة التاريخ ومن سعة اطلاعه في نواحيها المختلفة. ولا شك أن اتجاه المؤلف نحو الناحية التاريخية في دراساته كان له أثر كبير في قيمة هذا المؤلف فهو دائرة معارف نافعة تغنى به المكتبة العربية كما تغنى بغيره من مؤلفات عربية ثقافية أو اجتماعية
عبد اللطيف صالح(265/77)
مقاييس الكفاءة للاستقلال
تأليف الدكتور ولتر هولمز رتشر
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
نشرت جامعة بيروت الأميركية هذا الكتاب لمؤلفه الدكتور ولتر هولمز رتشر أستاذ العلوم السياسية في تلك الجامعة ولا شك أن هذا الكتاب مما يهم العالم العربي الإطلاع عليه، لأنه يبسط قضية سياسية هي قضية العالم العربي بأسره، فقد تكلم فيه مؤلفه الفاضل عن مقاييس الكفاءة للاستقلال في العراق وفي جزر الفليبين وفي الهند، ثم تكلم عن مقاييس الاعتراف بالدول الجديدة، ومقاييس الدخول في عصبة الأمم، ثم ختم البحث بخاتمة حافلة بالاستنتاجات والمقارنات، جمع فيها أطراف الموضوع جمعاً يحصره في ذهن القارئ، ويقربه من نفسه وإدراكه.
ولقد قدم المؤلف كتابه بمقدمة ضافية، أشار فيها إلى مقاييس الكفاءة للاستقلال كما كانت معتبرة في الماضي، ثم تكلم عن المادة الثانية والعشرين من ميثاق عصبة الأمم فقال بأنها لم تشر بتاتاً إلى المقاييس أو إلى الطرق التي يمكن أن تقدر بها كفاءة الأمم للاستقلال بشؤونها ثم خلص من ذلك إلى توضيح النهج الذي انتهجه.
ولقد جرى المؤلف في حدود المعالم التي رسمها لنفسه فأجاد وأفاد، وأحسن كثيراً في اختيار الأدلة التاريخية المتعلقة بالمقاييس الضرورية لإثبات الكفاءة للاستقلال، كما أحسن في اقتباس الشواهد من التقريرات التي وضعتها اللجان التي قامت بعد الحرب للبحث في حالة الأمم التي هي تحت الانتداب أو التي تطمع في الانتظام في عصبة الأمم.
أما المقاييس التي لاقت القبول العام، والتي يمكن اعتبارها مقاييس صحيحة لكفاءة الاستقلال في نظر المؤلف فهي ترجع أولاً إلى وجود حكومة مستقرة يبرهن على استقرارها بمقدرتها على تسيير الشؤون الجوهرية في الحكومة بصورة منظمة، وأن تكون قادرة على المحافظة على سلامة أراضيها وعلى الأمن العام في البلاد كلها، وأن تكون لديها موارد مالية تسد حاجاتها الاعتيادية، كما يجب أن تكون لها القوانين والأنظمة القضائية التي تضمن العدل المطرد للجميع، ثم لا بد من رأي عام متحد يؤيد طلب الاستقلال.
ثانيا النية الصريحة على إتمام المسؤوليات والواجبات التي تفرضها العضوية في عصبة(265/78)
الأمم، وهذه الواجبات تشمل صيانة الأقليات العنصرية واللغوية والدينية، وحماية مصالح الأجانب القضائية والمدنية والجنائية، ومنح حرية الضمير والعبادة وممارسة الأعمال ضمن نطاق المحافظة على الأمن العام والأخلاق والإدارة ثم القيام بالعهود المالية المقطوعة باسمها ولمنفعتها بواسطة الدولة المنتدبة سابقاً واحترام كل نوع من الحقوق المكتسبة شرعياً في ظل الانتداب.
هذه هي المقاييس التي ارتضاها المؤلف والتي يجدها القارئ في كتابه مشروحة شرحاً وافياً في أسلوب سهل مرسل قد يقع فيه بعض الأخطاء اللغوية والنحوية، ولكنها لا تغض من قيمة الكتاب.
محمد فهمي عبد اللطيف(265/79)
العدد 266 - بتاريخ: 08 - 08 - 1938(/)
بقية المذهب
للأستاذ عباس محمود العقاد
في مقالي السابق (قنطار ثمين) قلت رأيي في الجسم الجميل وهو (الجسم الذي لا فضول فيه، والجسم الذي تراه فيخيل إليك إن كل عضو فيه يحمل نفسه، غير محمول على سواه)
ومن الواجب في هذا المقال أن أذكر أن الجسم الجميل غير الجسم اللذيذ وغير الجسم الصحيح وغير الجسم القوي وغير الجسم النافع، لأن الجسم قد يكون نافعاً أو قوياً أو صحيحاً أو لذيذاً، وهو في كل ذلك غير جميل
قيل لبعض الحكماء: إن فلانة كبيرة البطن ضخمة الثدي فقال: (نعم، حتى تدفئ الضجيج وتروي الرضيع). . . فهذا وصف صادق للجسم النافع ولكنه لا يستلزم جمال الجسم الموصوف، كما يقال إن هذا الكساء يدفئ صاحبه و (يعيش) سنوات ولا يستلزم ذلك جماله فيما يكون به جمال الكساء
نعم ويجب أن نذكر للذين يخرجون من (درس الألفية) ليفصلوا في مذاهب الجمال أن المرجع في هذه الآراء لن يكون إلى أعرابي قضى حياته في بادية جرداء وفي جاهلية عمياء، وإنما يكون إلى أناس سلمت لهم محاسن الأذواق ودرسوا فلسفة الجمال وأصلحوا مئات من الأجسام الجميلة وفاقا لعلم الصحة وفن الرياضة البدنية وأساليب التحسين والتقويم المتخذة في معاهد التطرية والتنسيق، واستعانة بأصول التشريح وأصول التلوين والتظليل، وتجارب التاريخ التي عرضت عليهم صنوفاً من الشمائل الإنسانية في كل أمة خلقها الله
لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطء الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:
وظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
نعوذ بالله!
فإن كان هذا وأشباهه وصفاً لشيء فهو وصف للجسم الشهي أو الجسم اللذيذ، وليس بوصف للجسم الجميل على اعتبار الجمال معنى من المعاني التي تقاس بالإدراك، كما يقاس معنى البيت البليغ، ومعنى الصورة البارعة، ومعنى التمثال المتقن، ومعنى الخيال(266/1)
المجرد، ومعنى الحلم البعيد
والرجال في تفضيل الجسم الشهي أو الجسم اللذيذ مذهبان مختلفان:
رجل عنده عادة الاستحسان كعادة التدخين، فهو يألف طرازاً واحداً من (المرأة) كما يألف المدخن لفيفته المعهودة، فلا يغيرها ولو كان الخلاف بينها وبين غيرها كالخلاف بين علامة (الجمل) في التبغ الأمريكي وعلامة (الخلطة السعيدة) وهما من أصل واحد
هذا الرجل إذا استحسن المرأة الطويلة لم تعجبه القصيرة ولو كانت لها ملاحة ونضارة ومتعة وحلاوة
وإذا استحسن السمراء لم تعجبه البيضاء، أو استحسن بنت العشرين لم تعجبه بنت الثلاثين، أو استحسن المصرية لم تعجبه الإنجليزية أو الروسية، وهما معجبتان
هذا مذهب
والمذهب الآخر مذهب رجل يستحسن النساء كما يستحسن الفاكهة، أو كما يستحسن صحاف الطعام، والمعول على صناعة الطاهي وغواية الأوان!
فالتفاح مقبول، والبرقوق كذلك مقبول، والتين لا يرفض، والجميز لا يعاف، والشواء مستطاب، والسمك المملح له وقت يجوز اشتهاؤه فيه
ومن المعقول أن يشتهي أعرابي من الأعراب امرأة سمينة موفورة الشحم واللحم قليلة الحركة نؤوم الضحى كما يقولون، فإنما عاش الأعراب في صحراء يسوّمون فيها الناقة بمقدار ما عليها من لحوم وشحوم، ويكبرون فيها الأغنياء بمقدار ما يأكلون من سمن ولبن ودهون، ويقال فيها إن فلاناً يملأ جوف امرأته بما يسمنها ويقعدها عن الحركة فيحسبون ذلك غاية العزة والفخار، وذروة النعمة واليسار
أما نحن في عصرنا هذا الذي تتحرك فيه المرأة لتلعب في ميدان الكرة والصولجان إن لم تتحرك لتخدم نفسها وذويها في بيتها، والذي تعددت فيه مظاهر الغنى فلا يحسب فيه امتلاء الجوف بالطعام عنوان وفر وثراء، ولا تحسب فيه الناقة ولا ألبانها (وحدة المعاملة) في الأسواق. . .
أما نحن في هذا العصر فما حاجتنا إلى اقتداء بذلك الأعرابي فيما استملح واستطاب، وما لنا ولغيلانه وعذاراه، أصلحه الله وأشبعه ورواه!(266/2)
وما بالنا نقتدي به ولا نقتدي بإخوانه الذين عرفوا ملاحة الهيف والرشاقة وتجملوا تارة بجمال الفطرة، وتارة أخرى بجمال الحضارة؟
أذكر أنني نظمت قصيدة في شتاء أسوان يوم كانت تزدحم بالوافدين والوافدات من آفاق المغرب والمشرق، فشببت فيها بالعين الزرقاء والشعر الأصفر والوجه الأزهر. . . فعابها ناقدون يقرءون الألفية ويحكمون على الآداب والفنون ومذاهب الجمال، وقالوا: يا رعاك الله! متى كان الشعر الأصفر مما يستملح في القصائد العربية؟ ومتى كانت زرقة العينين مما يحمد فيه الغزل والتشبيه؟
وكنت أقول لهم يومئذ: إني إن زعمت أن حسان أوربا سود العيون والشعور كذبت على الحقيقة
وإن زعمت أنهن زرق العيون مذهبات الشعور ولكنهن دميمات مجتويات كذبت على نفسي وعلى الله. . . فكيف تريدوني أن أقول؟
صفعة على القفا، علمت الآن، أجدى في مناقضة أولئك (الآدميين) من كل ذلك النقاش والحوار
قال ابن أبي ربيعة:
ولما تفاوضنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
وقال المثل المصري: (من أعجبه جسمه عرَّاه، ومن أعجبه صوته علاَّه)
ورأينا نحن مصداق هذا وذاك على شاطئ الإسكندرية، ولا نزال نراه في كل معرض جمال
فهنا لا تلبس المرأة شيئاً ولا تخلع شيئاً إلا لتبدي حسناً وتستر عيباً، وهنا بحر زاخر لمن ينظرون على مذهب التدخين، ومن ينظرون على مذهب الفاكهة والطعام، ومن ينظرون على مذهب الجسم الجميل كما بيناه، رفيعاً جداً فوق مذهب المدخنين ومذهب الآكلين، ورفيعاً جداً فوق مذهب الجسم النافع والجسم اللذيذ.
عباس محمود العقاد(266/3)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
1 - مجدد
لقيته في مكتبة كان من عادتي أني أرتادها كل يوم فألبث فيها ساعة أو نحوها كما يرتادها غيري من المشتغلين بالأدب والواغلين عليه، ومن أهل العلم والأدعياء فيه، فيقلبون المكتبة إلى ناد أدبي، أو قاعة للجدل والمناظرة، فلا يكون حظ صاحبها المسكين من تجارته إلا الكلام، تمتلئ به أذناه، وجيبه من المال خال. . . وهل عاش قط وراق على أديب؟ ومتى كان عند الأدباء مال حتى يشتروا؟ إن الناس بين رجلين: رجل يحب الكتب ولكنه لا يجد ما يشتريها به، ورجل عنده مال ولكنه لا يحب الكتب. فيا بؤس الوراقين بين هذين الرجلين!
لقيته ولم يكن لي شرف معرفته، فنسبوه إليّ وعرفوني به: (الأستاذ فلان) فقلت الكلمة التي يضطرني النفاق الاجتماعي إليها: (تشرفنا) كأننا كنا قبل لقائه على غير شرف. . . وانتظرت منه أن يتكلم لأضعه في منزلته؛ وقديماً قال من لست أدري من هو: (إنك لا تعرف منزلة الرجل حتى يتكلم، فإذا تكلم رفعته أو وضعته) أو ما هذا معناه فما احفظ الكلمة على أصلها. . . ولم يطل الرجل بحمد الله انتظاري، وراح يلقي كلاماً أقرّ على نفسي بأني لم أفهم منه حرفاً، اللهم إلا كلمات تتردد فيه لها في أفرادها معان، وليس لها في جملتها معنى، من أمثال: (الوعي الطبقي) و (التقدمية واللاتقدمية)، وطفق يسرد أسماء إفرنجية لها أول وليس لها آخر، ثم قفز قفزة إلى التاريخ، فعاب علينا أننا نكتب في التاريخ، ونؤلف الكتب عن أبي بكر وعمر، وساق في ذلك كلاماً على نحو كلامه الأول، ثم جاء بالطامة فقال بأن سورة (الناس) ليس فيها من بلاغة القول شئ، وزعم أن كاتباً من أبلغ كتاب العربية في هذا العصر (ذهب مغفوراً له) قال: لو أن تلميذاً كتبها لي في امتحانه لأعطيته الصفر. . .
فلم أعد أطيق على وقاحته وجهالته صبراً. وللمرء أن يتكلم في الأدب أو في النقد، ويطيل أو يقصر، ويعرض جهله أو علمه، وسفاهته أو تهذيبه، فالناس يميزون الخبيث من الطيب ويعرفون المحق من المبطل؛ وما كل من قال كلاماً كان بليغاً، ولا كل من أمسك بقلم ونشر(266/4)
كلاماً في مجلة، كان ناقداً أو كاتباً. . . أما أن يتكلم أمرؤ في الدين بلا علم ولا هدى، وبغير بينة ولا دليل فلا. . . ثم لا!
تركته يوقد نار حماسته في كذبه، حتى إذا ظنها استحالت جمرة متقدة ألقيت عليها دلو ماء فقلت له:
- هل تسمح يا سيدي بسؤال: كيف عرفت أن سورة (الناس) ليس فيها من البلاغة شيء، مع أن علماء هذا الفن ومن هم المرجع فيه والحجة قالوا غير ما تقول؟
قال: لأن للبحتري شعراً لا شك (عندي) أنه أبلغ منها
قلت: أئن كان للبحتري شعر أبلغ من شعر المعري مثلا كان شعر المعري خالياً من البلاغة؟ ثم من قال لك إن شعر البحتري أبلغ من سورة الناس؟
قال: لأن البلاغة فيهِ أظهر!
قلت: ما هي البلاغة (عندك)؟
قال: هي أن يكون الكلام بليغاً. . .
فكان الضحك عاماً مجلجلاً!
ولقيت هذا المجدد كرة أخرى فلم يقل شيئاً، لأنه قال كل ما يحفظ في المرة الأولى، ثم لم ألقه بعد أبداً!
2 - أوربي
فلان. . . من أسرة دمشقية أصيلة، ولكنه أقام في أوربة سنين عايش فيها القوم، فظن أنه حين أساغ في حلقه طعامهم، وأدار في فمه لسانهم، قد صب في عروقه دماً من دمائهم، ووضع في رأسه دماغاً من أدمغتهم، فاستقر في رأسه أنه أوربي ولكن النطفة أخطأت طريقها فكانت شرقية فلما عاد من أوربة ودخل علينا - وكنا يومئذ تلاميذ وكان هو أستاذنا - استقبلناه استقبال التلاميذ المخلصين أستاذهم الذي غاب عنهم سنين بعد ما اتصل حبله بحبالهم وأحبوه وأحبهم ورحبنا به فنظر إلينا نظر المنكر، وقلب شفتيه اشمئزازاً ولوح بيديه على طريقة أهل باريس، وقال لنا بالفرنسية (ما ترجمته بالحرف):
- ما هذا؟ أهكذا يكون الاستقبال؟ إنكم يا أهل الشرق لا تتمدنون أبداً. ولقد رأيت اليوم ما كنت أسمعه. . . فيا ليتني لم أسافر إلى الشرق!(266/5)
(دمشق)
علي الطنطاوي(266/6)
في مصر الإسلامية
سياسة العرب المالية في مصر
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان الوالي يُعَيّن من قبل الخليفة لينوب عنه في حكم البلاد، وهو الرئيس الأعلى للقضاء والصلاة والخراج والجند والشرطة وما إليها من مهام الدولة. وكان يستعين في إدارة البلاد بطائفة من كبار الموظفين وأهمهم ثلاثة: عامل الخراج أو صاحب بيت المال، والقاضي، والقائد أو صاحب الشرطة. وكانت وظيفة الخراج أهم هذه الوظائف الثلاث
وكان الوالي يحتفظ بها لنفسه؛ وربَّما أسندها الخليفة إلى رجل من قبله فيعمل هذا مع الوالي جنباً إلى جنب: هذا يدير دفة السياسة. وذاك يتولى أعمال الدولة المالية. فكان بمثابة الرقيب على أعمال الوالي، فكأنّ مصر إذ ذاك كان يحكمها واليان من قبل الخليفة مما أدى إلى تنازع السلطة والمنافسة بين الرجلين: وذلك مما يعلل قصر عهد الولاة وعمال الخراج، وبهذا خسرت مصر تحت حكمها أكثر مما كانت ترجوه من التقدم في سبيل الإصلاح.
كان القضاء والصلاة من الأمور الجوهرية التي تناولها هذا التغيير في النظم الإدارية في عهد الإسلام لارتباطها ارتباطاً وثيقاً بالدين، وهو مصدر الحكم في الإسلام.
أما عن الخراج فقد سار عمرو بن العاص مع المصريين بمقتضى شروط الصلح من حيث تقسيم الجباية ومراعاة حال النيل في النقصان والزيادة مما أضطره أحياناً إلى تأخير الخراج على الرغم مما اشتهر عن عمر بن الخطاب من التشدد في دفعه. ذلك أن عمرا حين جبى خراج مصر في السنة الأولى من ولايته عشرة ملايين دينار لم يعجب ذلك عُمر، بل ولم يعجبه أيضاً ما كان من نقصان الخراج إلى اثني عشر مليوناً في السنة التالية، وذلك لما بلغ الخليفة من أن الخراج وصل في عهد المقوقس إلى عشرين مليوناً وأكثر، وجعله بعض المؤرخين 24 , 400 , 000 دينار في عهد الفراعنة، وبالغ بعضهم فجعله في زمن الريان بن الوليد (وهو فرعون يوسف) 90 , 000 , 000 دينار، فلا غرابة إذا عجب عمر من أن البلاد لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه إن صح أن مصر كانت(266/7)
تؤدي هذا المقدار قبل الإسلام. على أن عُمر إنما أراد بتشدده وتمسكه أن يحلب البلاد حلباً ويقطع درها بخلاف ما كان يتوخاه عمرو بن العاص من مراعاة حال البلاد من شدة ورخاء.
وقد لغط المؤرخون في مقدار الخراج، وقصره بعضهم على جزية الرءوس التي كان مفروضاً أداؤها على أهل الذمة من القبط وغيرهم لأن الخراج في عهد الإسلام كان من ناحيتين (الأولى) الضرائب الشخصية المعروفة بالجزية أو جزية الرءوس (والثانية) ضرائب الأطيان، ومجموع هذين يعرف بالخراج.
على أن قصر بعض المؤرخين الخراج على جزية الرءوس مع خطئه يجعل الاهتداء إلى معرفة عدد سكان مصر وقت الفتح أمراً مستحيلاً، ناهيك ما هنالك من الاختلاف الكبير بين روايتي ابن عبد الحكم (267هـ=781م) وهو أقدم مؤرخي مصر الإسلامية والبلاذري (290هـ=892م) وهو من معاصري ابن عبد الحكم.
وقد ذكر ابن عبد الحكم أن عدد من ضربت عليهم الجزية من المصريين في عهد عمرو ثمانية ملايين عدا الصبيان والنساء والشيوخ، ولو بلغ عدد من ضربت عليهم الجزية رُبع سكان البلاد لكان أهل مصر طبقاً لهذا التقدير اثنين وثلاثين مليوناُ من النفوس. وهذا بعيد التصديق، إذ لو كان هذا العدد صحيحاً لبلغت جزية الرءوس وحدها ستة عشر مليون دينار وهو يخالف ما أجمع عليه المؤرخون من أن خراج مصر بنوعيه لم يزد في السنة الأولى من ولاية عمرو على عشرة ملايين، ولم يزد في السنة التالية على اثني عشر مليوناً. كذلك روى البلاذري أن عمرا فرض على كل مصري عدا النساء والصبيان والشيوخ دينارين فبلغ خراج مصر (بما فيه جزية الرءوس) مليوني دينار، فإذا خصصنا لجزية الرءوس مليوناً اقتضى أن يكون عدد من فرضت عليهم الجزية خمسمائة ألف نسمة، وعلى هذا القياس لا يزيد سكان مصر على مليوني نسمة.
هذا ولم يكن للخراج نظام ثابت، فكانت ضريبة الأطيان تقل وتكثر حسب الاهتمام بالتعمير وإصلاح الجسور والخلجان ونحوها، كما أن جزية الرءوس كانت تتناقص بالتوالي لدخول أهل مصر في الإسلام، إما رغبة في اعتناق هذا الدين، أو فراراً من دفع الجزية. وقد رأى بعض العمال عدم دفع الجزية عمن أسلم. يدلك على ذلك كتاب وإلى مصر إلى الخليفة(266/8)
عمر بن عبد العزيز يشكو إليه من أن الإسلام أضرّ بالجزية ويسأله أن يأمر بفرضها على من أسلم، فما كان من عمر إلا أن كتب إليه كتابه المأثور، وفيه يقول (. . . فضع الجزية عمن أسلم - قبح الله رأيك - فان الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً. ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه)، وعلى الجملة فقد كانت سياسة الخلفاء ترمي إلى الإكثار من الخراج حتى أن بعضهم لم يأبه بما حلّ بالأهلين من شراهة العمال الذين عملوا على إرضاء الخليفة، الذي كان رضاؤه متوقفاً على تأدية الخراج، وعلى سدّ جشعهم في جمع الثروة الضخمة حتى لا تعوزهم الحاجة بعد عزلهم، الذي كانوا يترقبونه في كل وقت؛ مما أدى في كثير من الأحيان إلى انتقاض الأمة، وقيام الثورات في عهد بني أمية وبني العباس. وليس أدلّ على عناية الخلفاء بإكثار الخراج من أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما جبي خراج مصر وبلغ 14 , 000 , 000 دينار بعد أن جباه عمرو 12 , 000 , 000 دينار، عيّر عثمان بن عفان عمرا بقوله: (إن اللقاح بعدك درّت ألبانها) فأجابه عمرو (. . لأنكم أعجفتموها) مما يدلّ على أن سياسة الخلفاء نحو جباية الخراج كانت تميل إلى الشدّة، وعلى الأخص في عهد بني أمية وبني العباس، على أن خراج هذه البلاد أخذ يقلّ بعد عمرو وابن أبي سرح حتى أنه لم يبلغ زمن الأمويين والعباسيين ثلاثة ملايين إلا مرات معدودات حتى اضطر بعض الولاة إلى وضع الجزية على من أسلم.
حسن إبراهيم حسن(266/9)
حظي بالشيء. . .
لأستاذ جليل
الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري، المنصورة، اليازجي. . .
. . . . . .
- 3 -
ردَّ الأستاذ الرافعي (رحمه الله) في (البلاغ 28 شوال 1352) على الأستاذ أزهري المنصورة (البلاغ 26 شوال 1352) فقال:
(عاد الفاضل أزهري المنصورة إلى هذا الفعل وجاءنا بدليلين آخرين من استعماله فتمت حججه أربعا أحصاها هو بقوله: (1) - أوردنا بيت الحماسة. . (2) - وجئنا بكلام الأساس. . (3) - وجاء في نهج البلاغة: (وحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون) (4) - وجاء في مقامات الحريري: (نهضا وقد حظيا بدينارين)
وعجيب جداً أننا لم نجد أحداً يتنبه إلى مدار الحجة أو يفطن إلى وجه النقد. على أننا أومأنا إلى شيء، وعرضنا بشيء، وقلنا: أن لهذا الفعل (حظي) تاريخاً اجتماعياً وأن هذا التاريخ هو الذي يعين للكلمة ظاهرها الظاهر وباطنها الباطن. وكان في هذا كاف أن يدرك من يدرك أن في اللغة ألفاظاً أخذت من معنى بعينه، ولا يستعمل إلا فيما هو بسبب من هذا المعنى
أما بيت الحماسة فقد قلنا إن حظي فيه مضمنة معنى (ظفر) فهي هذه لا تلك وبطل الاستدلال بالبيت. ونقول مثل هذا في كلمة الحريري وإن كان الشريشي قد فسرها بمعنى (سعد) وهو المعنى العامي الذي شاع به الكلام في العصور المتأخرة. فيقولون: حظينا بلقاء فلان، وحظينا بتشريف فلان. وأكثر ما كان هذا الاستعمال في البلاد التي يعسفها الحكم التركي، ولهذا كانت فاشية في سوريا حتى لا عامي ولا خاصي هناك إلا وهي في لسانه وبخاصة الجرائد
وأما كلام صاحب الأساس فقد قلنا أنه من دليلنا لا من دليل المجمع ونحن على هذا الرأي
وأما عبارة نهج البلاغة فهي الآن محل القول، وسنرفع عليها مصباحاً من مصابيح علاء(266/10)
الدين ليتبين الأزهري والمجمع بنوره الساطع كيف وقعت (حظي) من العبارة في أحسن مواقعها، وقامت في الكلام على رجليها لا على أصابعها!
يقول الإمام: (وحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون) فالجملة الأولى مقيسة على الثانية في الاستعمال إذ الأصل هو ما حظي المترفون به ثم أخذت من حظوة الآخرين الذين أشبهوهم: فبماذا يحظى المترفون ومن هم؟ جواب هذا في قوله تعالى: (واتَّبَع الذين ظلموا ما أُتْرِفوا فيه) وقوله: (وأخذنا مُترفيهم بالعذاب) وقوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً)
والآن فلنطفئ مصباح علاء الدين فان لم يكن المعنى الذي نرمي إليه قد انكشف ففي مقالة أخرى سنستعير مصباحاً كشافاً من الأسطول البريطاني)
قلت: في هذا التفسير تعمُّق، وهذه هي الجمل التي وردت قبل عبارة (الخطوة) وبعدها، وفيها البيان الكشاف:
(إن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أُكِلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم).
وقال الأستاذ الرافعي (رحمه الله: (ثم قال الأزهري: لم يقل أحد قولا في (حظي بالشيء) إلا العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في هذا الزمان، ثم ذكر انتقاد اليازجي استعمال شاعرنا حافظ إبراهيم في ترجمة البؤساء قال: (فلاقاه بعد أيام حجة الإسلام السيد رشيد رضا فقال له - وقد سمعنا قوله - يا شيخ يا شيخ إن الذي خطأته من كلام حافظ إبراهيم هو في أول صحيح البخاري قال: فبهت الشيخ وترك السيد وهو كاسف البال).
وترى ما الذي فهم القراء من هذا؟ وما هو الذي يُعد من كلام حافظ إبراهيم وفي صحيح البخاري في وقت معا؟.
لا بأس أن نفيد قراء (البلاغ) فائدة وأن نصحح لحضرة أزهري، فأن اليازجي لم ينتقد (حظي بالشيء) كما يزعم، وإنما انتقد استعمال المصدر قال: (ويقولون الحظوي وإنما هي(266/11)
الحظوة) بالهاء ولم يزد على ذلك. ومما أخذ به حافظ في ترجمة البؤساء أنه يتكلف في الاستعمال وعد من ذلك قوله: (كأني أسمع صوتاً يقطر منه الدم) قال: وقطران الدم من الصوت مما لا تأنس به الأفهام. وهذه هي العبارة الواردة في البخاري ولكن حافظ (رحمه الله) لم يأخذها من البخاري وإنما سلخها من (الأغاني) وقد سار شيطانه بعد انتقال اليازجي، فلقى بعض أصدقائه فقال له بالحرف: (اليازجي غير مطلع في العربية).
قال الصديق: لماذا؟
قال: أنه عاب عليّ: (أسمع صوتاً يقطر منه الدم) مع أن العبارة في الأغاني
قال صديقه: يا حافظ، اتق الله، لأن يقول الشيخ: إن في العبارة مجازا بعيدا خير لك من أن يقول: أنك سرقتها من الأغاني. . .
أمّا هل أخطأ اليازجي أو حافظ فهذا كلام آخر)
قلت: ومما نقده الشيخ اليازجي في (البؤساء): (فخرجت ربة المنزل بالصمت عن لا ونعم أي لم تقل لا ولا نعم، ومن هذا القبيل: أحمل له ضبَّ الضغن. على أن الضب والضغن شيء واحد وكلاهما بمعنى الحقد)
ولم يحك لنا (صديق حافظ) قوله في نقد اليازجي هاتين العبارتين فحالهما كحال ذاك (الصوت) والقياس يدل أن هناك ثورة وسورة وقولا. . .
وقد غزا حافظ في الأولى بشارا:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم
وإذا قلت لها: جودي لنا ... خرجت بالصمت عن لا ونعم
وأغار في الثانية على ربيع بن مقروم:
وكم من حامل لي ضبّ ضغن ... بعيد قلبه، حلو اللسان
قال التبريزي في (شرح الحماسة): (الضب الحقد. وأضافه إلى الضغن لأن الضغن العسر، فكأنه حقد عسر) وغزوات حافظ البريطانية الإيطالية الفرنسية. . . وغاراته التركية. . . في (بؤسائه ولياليه) تخبرنا أنه خليفة سعيد بن حميد في هذا العصر قال ابن النديم في (الفهرست): (سعيد بن حميد كاتب شاعر مترسل عذب الألفاظ، مقدم في صناعته، جيد التناول للسرقة كثير الإغارة. لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك لما بقي معه(266/12)
شيء) ومن نقد (البؤساء) لليازجي: (استعماله (البرهة) للزمن القصير و (باهت اللون) بمعنى كمده و (تبقى عليه كذا) أي بقي و (ألم تعثر في طريقك أيها الراهب بغلام) والمنصوص عليه في هذا المعنى عثر عليه لا به، وبقيت (تقضقض) من البرد أي تقفقف، ولم يجيء قضقض بهذا المعنى).
قلت: قضقض الشيء فتقضقض كسره فتكسر، والقضقضة صوت كسر العظام، وفي شعر أبي تمام:
طلبُ المجد يورث المرء خبلا ... وهموماً تقضقض الحيزوما
وفي حديث صفية بنت عبد المطلب: (فأطل علينا يهودي، فقمت إليه فضربت رأسه بالسيف، ثم رميت به عليهم، فتقضقضوا) أي انكسروا وتفرقوا كما في النهاية
وفي ذاك (النقد): (ولمحتُ بأحد فخذيك (فدعا) والفدع يكون في القدم لا في الفخذ، وهو أن يعوج الرسغ حتى تنقلب القدم إلى انسيها، وقيل: هو أن يمشي على ظهر القدم).
قلت: أكثر ما يكون الفدع في الرسغ من اليد والقدم، وفي (اللسان): (الفدع عوج وميل في المفاصل كلها خلقة أو داء كأن المفاصل قد زالت عن مواضعها، لا يستطاع بسطها معه).
ومن ذاك (النقد: (عولت على مغادرة ابنتي: أي أجمعت وصممت، وليس هذا معنى اللفظة، ولكن يقال. عوّل عليه بمعنى اتكل).
قلت: في (الجمهرة): عوّل عليّ بما شئت أي حملني ما شئت من ثقلك، وفي (الصحاح): عول علي بما شئت أي استعن بي ومثل هذا في (اللسان والأساس) وفي (الأساس): (ويقال: عول على السفر إذا وطَّن نفسه عليه) وقول حافظ يضارعه. وفي الرابعة والثلاثين من المقامات الحريرية: (قال: أتدري لمَ أعولت، وعلام عوّلت؟) وقد فسر بعض الشراح عول بمعنى عزم واعتمد، وهو مقصود ابن الحريري، ولم ينقد ابن الخشاب هذه اللفظة. وفسر الشريشي عول بمعنى اتكل، وعبارة المقامة لا تعني الاتكال.
ونقد اليازجي (النجمة للنجم).
قلت: النجمة ضرب من النبت كما في (الصحاح) والنجمة الكلمة، ولم أجد النجمة للنجم في المعجمات المعروفة المطبوعة. غير أني قرأت في (التاج) في مستدركه: (ونجمة الصبح فرس نجيب) ورأيت في (أقرب الموارد): (النجمة النجم وهي أخص منه) وقد جاء هذا بعد(266/13)
تفسير: (علم النجوم، نجوم الأخذ، فلان ينظر في النجوم) فغير العارف يظن أن النجمة مثل النجم. والأصل لما فيه (أقرب الموارد) هو في (النهاية): (ومنه حديث جرير: بين نخلة وضالة ونجمة وأثلة. النجمة أخص من النجم وكأنها واحدته كنبتة ونبت) وروى (اللسان) هذا الكلام، فنقل صاحب (أقرب الموارد) منقوله، ورتبه كما رتّب ليظل من يطالع معجمه. والشيخ سعيد الشرتوني فاضل كبير، وله مصنفات حسنة، ومقالات متقنة، لكن معجمه (أقرب الموارد) لا يوثق به، فقد تكردست فيه الأغلاط تكردسا.
الإسكندرية
(* * *)(266/14)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 34 -
مقالاته للرسالة (5)
لم تكن قصة (بنت الباشا) هي آخر حديثه عن الزواج، وإن كانت آخر ما أنشأ في هذا الموضوع بخصوصه؛ ثم بقي عنده طائفة من المعاني والخواطر في موضوع الزواج والمرأة جاءت مبعثرة في طائفة من المقالات من بعد؛ ومنها مقالة (احذري) وهي قصيدة من النثر الشعري مترجمة عن الملك، تقع منزلتها بازاء القصيدة المترجمة عن الشيطان في مقالة (لحوم البحر).
وكان الرافعي في هذه الفقرة قد اصطنع مودة بينه وبين طائفة من الشباب اللاهين، كانت تجمعهم قوة (لمنوس) في طنطا للعبث واللهو والمجانة؛ فتألفهم بالنادرة والفكاهة ليجمعهم إليه فيستمع إلى أحاديثهم في شئون المرأة والزواج؛ وقد قدَّمت القول في بعض ما سبق من هذه الفصول بأن ذهن الرافعي كان سريع الالتفات إلى معاني المرأة، وكانت أعصابه قوية الانفعال بحديث النساء، حتى لتراه وهو يستمع إلى محدِّثه إذ يتحدث عن الحب والمرأة كأنما يخيل إليه أنه يرى قصة ما يسمع، وأنه يشهد حادثة لا حديثا؛ ثم يزيِّن له خياله ما يزين فيضيف من وهمه إلى ما سمع ما لم يسمع؛ فتراه كما ترى الفتى المراهق: يجد حديث الغزل والحب حريقا في دمه وثورة في أعصابه لا حديثا في أذنيه. . . فيستزيد مما يسمع وهو صاغٍ ملذوذ؛ فيحمل محدثه بذلك على الإطناب والاسترسال حتى ينفض جملة ما في نفسه من رواية الواقع أو مبتدعات الخيال. . .!
وعلى شدة إحساس الرافعي بمعاني (الجنس) إلى هذا الحد، فانه بإيمانه وخلقه وتديُّنه واعتصامه بالوحدة، كان قليل الخبرة ضئيل المعارف في هذا الباب: فكان له علم جديد في كل ما يسمع من هؤلاء الفتيان من قصص ما بين الشبان والشابات من ناشئة هذا الجيل؛(266/15)
وكان هذا العلم الجديد يسرع به إلى سوء الظن بكل فتى وكل فتاة، وكان من هذا الظن مذهبه الاجتماعي الذي يعرفه القراء.
من أحاديث هؤلاء الفتيان، كان إليه وحي المعاني في قصيدة (احذري)؛ كما كانت توحى إليه حوادث بعض الصحف وأحاديث بعض المجلات بكثير من المعاني وكثير من الموضاعات؛ إذ كان يحرص على أن يقرأ كل ما تنشره الصحف والمجلات من أحاديث الهوى والشباب ومصارع الأخلاق.
وكان الرافعي يختلف في طنطا إلى بيوت طائفة من مهاجرة لبنان كان بينه وبينهم صداقة ومودة؛ فكان يزورهم بين أهليهم، فيكرمونه ويتسعون له ويحفون به؛ والرافعي محدِّث لبق ظريف المسامرة؛ فكانت مجالسه هناك تطول ساعات يتحدث إليهم ويتحدثون إليه. وفي بيوت المتمصرين من أهل لبنان عادات غير ما نعرف في بيوتنا، فكان الرافعي يجد هنالك جواً يوحي إليه ويمده بعلم جديد. . .
وأنا لم أصحب الرافعي في طنطا إلى (زيارة مصرية) إلا فيما ندر، على أني كثيراً ما كنت أصحبه في تلك الزيارات. . .!
وأعترف بأن الرافعي لم يكن يقصد إلى زيارة أصدقائه هؤلاء لغرض مما يتزاور من أجله الأصدقاء، ولكنها كانت زيارات يقصد بها إلى معنى مما يتصل بفنه وأدبه؛ وأحسب أن كثيراً ممن كان يزورهم ويزورهن كن يعرفن له ذلك فيهيئن له أسبابه وكثير من نساء لبنان أحفل بالأدب من رجال في مصر.
وقد صحبته مرة إلى زيارة أسرة الآنسة ق، وهي فتاة ذكية من أهل الفن والأدب؛ وقد ألحَّ عليَّ يومئذ إلحاحاً شديداً أن أصحبه، ولم أكن أعلم ما يقصد إليه بهذه الزيارة إلا أن تكون تسلية بريئة ومتاعاً من متاع أهل الفن.
وكنت في ذلك اليوم صانعاً أغنية عامية في معنى من معاني الشباب تعبر عن حال من حالي في تلك الفترة، ودفعتها إلى الرافعي لينظر فيها؛ فلما قرأها طواها وجعلها في جيبه. . .
. . . وصحبت الرافعي إلى حيث يريد، فاستقبلتنا الفتاة وأمها وشاب من قرابتها، ثم لم يكد يستقر بنا المجلس، وأهل الدار حافون بنا يبالغون في إكرامنا، حتى أخرج الرافعي الورقة(266/16)
من جيبه فدفعها إلى الفتاة. . .
وقرأت الفتاة الأغنية، ثم ردتها إلى الرافعي وهي تقول: (جميل. . . شعر عاشق!)
قال الرافعي وهو يشير إليَّ مبتسما: (إنها أغنيته!)
قالت: (إيه. . .! أعاشق هو!)
قال الرافعي: (نعم!. . . ومن أجلك صنع هذه الأغنية!)
ومضت فترة صمت، وصبغت حمرة الخجل وجه الفتاة، وتولتني الدهشة مما سمعت فما استطعت الكلام، ونظر الرافعي إليَّ نظرة طويلة لم أفهمها، وكان بي من الحياء أضعاف ما بالفتاة. . . وكانت دعابة غير مألوفة ولا منتظرة، أوقعتني في كثير من الحيرة والارتباك. . .
وقطعت الأم هذا الصمت الثقيل قائلة: (أغنية رقيقة!)
وردد الشاب صدى صوتها يقول: (. . . رقيقة!)
وثبتُّ في مكاني لا أتحرك، لا أرى أمامي غير تلك الابتسامة الغامضة على شفتي الرافعي. . .
ثم نهضت الفتاة إلى الغرفة الثانية وعادت بطبق الحلوى فقدمته إليَّ؛ ثم إلى الرافعي؛ واتخذت مجلسها إلى جانبي. . . وعاد الحديث ألواناً وأفانين بين الجماعة وأنا صامت في مجلسي لا أكاد أفهم ما يدور حولي من الحديث!
وجعلت أسائل نفسي وأكاد أنشق غيظاً: (ترى ماذا حمل الرافعي على هذا القول. . .؟)
فلما انفض المجلس وخرجنا إلى الطريق نظرت إلى الرافعي مغضباً أسأله جلاء السر، فضحك ملء فمه وهو يقول: (قصة طريفة. . .) لقد عقدنا العقدة فانظر في طريقة للحل. . . سيكون فصلا أدبياً ممتعا يا شيخ سعيد، تكون أنت مؤلفه وعليَّ أن أرويه؛ لقد سئمنا الخيال فالتمسناك وسيلة إلى الحقيقة. . .!)
وغاظني حديث الرافعي أكثر مما غاظني الذي كان منه فتمردت عليه، ولكن الرافعي عاد يضحك ويقول: (أتراك - إن أبيت - تستطيع أن تمنع نفسك الفكر فيها وأن تمنعها؟ لقد بدأت القصة فما بدٌّ من أن تكون لها خاتمة!)
وضقتُ بهذه الدعابة وثارت نفسي فأخشنتُ القول؛ فزاد به الضحك وهو يقول: (وهذه(266/17)
الثورة أيضاً هي حادثة من فصول هذه الرواية. . .!)
واعداني مرح الرافعي وانبساطه فضحكت، ثم لم أجد للجدال فائدة فسكتُّ على غيظ ضاحك. ولقيتُ الفتاة بعدها مرتين فتناسيت ما كان ولم أسأل نفسي عن شيء من خبرها. . . ومضى زمان، ثم جاءني الرافعي يوماً يقول: (أن بينك وبين صديقنا الأديب ج لشيئاً؟) قلت: (ماذا؟)
قال: (أحسبه يغار منك على خطيبته الآنسة ق؛ فأنه ليعلم أن بينكما عاطفة. . .!)
وقال لي ع الذي صارت ابنته في داري من بعد: (أتراك كنت مع الرافعي أمس في زيارة فلانة؟) فتوجست من سؤاله شيئاً. . .
وكادت تكون قصة كما أراد الرافعي ولكني حسمت أسبابها فراراً بنفسي!
. . . من مثل هذه الحادثة كان يلتمس الرافعي موضوعاته ويبدع معانيه في المرأة والحب والزواج ومشاكل الأسرة؛ ومن هذه المجالس التي كان يصطنعها أو يسعى إليها ويهيئ أسبابها، كانت تنجلي له الفكرة ويومض الخاطر وتتشقق المعاني؛ ومن هذا الجوّ زخرت نفسه بالعواطف النابضة التي ألهمته من بعد أن ينشئ ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة، ومنها كانت قصص الأجنبية، وسموّ الحب، والله أكبر، واليمامتان، وغيرها، وما أعني أن ذلك كان يملي عليه القصة والموضوع، إنما كان يمده بالمعاني والخواطر حتى يملأ نفسه ويوقظ حسه؛ فما تزال هذه الخواطر والأفكار مضمرة في الواعية تزبد وتتوالد وينضم شيء منها إلى شيء حتى يأتي وقتها؛ فإذا همّ بموضوع مما يتصل بهذه الخواطر المضمرة انثالت عليه المعاني انثيالا حتى يتم الموضوع تمامه على ما يريد.
ولما قص الرافعي قصة (الأجنبية) وحكى حكايتها على لسان ولده الدكتور محمد، أحس بالتعب والملل، وراجع ما كان من عمله في الأشهر الستة الماضية منذ بدأ يعمل في الرسالة، وما عاد عليه؛ فضاقت نفسه وبرمتْ به، وأحس في نفسه شعوراً جديداً ليس له به عهد، وقال لنفسه وقالت له، وثقل جسمه في الفراش بما يحمل في صدره من هم وما يضني جسده من علة؛ وخفت روحه إلى سماواتها، وتنازعته قوتان. . . وهم أن يكتب إلى الأستاذ صاحب الرسالة ليعفيه من الاستمرار في العمل. . . وطال الحديث بينه وبين نفسه فأرّقه ليلة. . .(266/18)
وتركته وروّحت إلى داري وهو شاك متبرم ينكر موضعه من الحياة ومكانه بين أهل الأدب. فلما كان عصر اليوم التالي دعاني ليملي عليّ (قلت لنفسي. . . وقالت لي. . .)
من أراد أن يعرف الرافعي العرفان الحق، فليقرأ هذا الحديث يعرف نفسه الصريحة على فطرتها؛ ثم يعرف مذهبه في الأدب وهدفه في الحياة.
إن غاية ما ينشده الباحث عندما يهم بالبحث في حياة إنسان له أثر في تاريخ الحياة أو تاريخ الأدب، أن يعرف مضمر نفسه من ثنايا أعماله أو من حديث معاصريه؛ وإنه مع ذلك ليخطئ أو يصيب سبيل المعرفة، ولكن هاهنا إنساناً يتحدث عن نفسه وتتحدث نفسه إليه، حديثاً كله صدق لا اختراع فيه ولا تزوير ولا سبيل فيه إلى الخطأ
وأشهد أني رأيته قبل أن يملي عليّ الحديث وان في وجهه لمعانيه قبل أن يكون كلاماً؛ فما رأيته ورأيت حديثه من بعد إلا كما تصور معركة في حكاية وصف: هذه هي هذه، وكانت حركات صامتة فصارت عبارة ناطقة.
وأكثر معانيه في هذا الحديث قديم في نفسه؛ وقد نظم شيئاً منها قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في قصيدة نشرها في مجلة المقتطف
. . . وكما تثوب إلى المحزون نفسه إذا صرح بشكاته إلى صاحب سره، هدأت نفس الرافعي بعد إملاء هذا المقال وثاب إلى الطمأنينة والرضى، وكأنما نفض همومه وأحزانه في هذه الكلمات وكانت تثقل رأسه؛ أو كأنما كان يستمع إلى مداولة الرأي في محكمة الضمير بين نفسه وهواه، فما هو إلا أن استوعب ما قال وقالت حتى اطمأنت نفسه إلى الحكم الأخير، وانتصرت الروح السامية على ما كان ينازعها من أهواء البشرية. . .
ثم كان هلال رمضان فأنشأ مقالة (شهر للثورة) وهي السابعة مما أنشأ من المقالات الدينية لقراء الرسالة
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(266/19)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 7 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: تلميذ سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (مخاطباً جورجياس) وقد قلت زيادة على ذلك أن الخطيب يولد من الاعتقاد فينا ينفع الجسد أكثر مما يولد الطبيب!؟
ج - نعم. قلت هذا ولو أن عمل الخطيب يختص بالجمهور!
ط - وتقصد بالجمهور الجهلة من غير شك لأنه واضح أن الخطيب لا يفضُل الطبيب أمام(266/20)
جمع من المتعلمين؟!
ج - إنك تقول حقاً!
ط - وما دام الخطيب أجدر بالإقناع من الطبيب فهو أجدر به أيضاً من العارف؟!
ج - بلا شك!
ط - حتى ولو كان هو في نفسه غير طبيب، أليس كذلك؟
ج - بلى
ط - ولكن واضح أن ذلك الذي هو ليس من الطبيب في شيء يجهل الأشياء التي يحذق علمها الطبيب؟!
ج - نعم - هذا واضح -
ط - وهكذا يصبح الجاهل أقدر من العالم على إقناع الجهلة في اللحظة التي يصبح فيها الخطيب أليق للإقناع من الطبيب؟ أليس ذلك معقولاً؟ أم ترى عندك شئ آخر؟
ج - كلا، فهذا هو الذي يحدث في هذه اللحظة
ط - وهذه الخاصة التي يمتاز بها الخطيب وفنه: أليست واحدة بالنسبة للفنون الأخرى؟ أعني ليس ضرورياً أن يعنى رجل البيان بطبيعة الأشياء، وحسبه أن يلتمس طريقة ما للإقناع بحيث يبدو في عين الجهلة من الناس كما لو كان أكثر علماً من أولئك الذين يجيدون هذه الفنون؟
ج - أليس جميلاً يا سقراط ألا نكون محتاجين إلى تعلم فن آخر غير ذلك الفن الذي لا ينبغي أن نتنازل عنه قط لأي محترف آخر؟
ط - سنبحث حالاً فيما إذا كان الخطيب يتنازل عنه من هذه الناحية للغير أو لا يتنازل حسبما يتطلب الموضوع. ولكن لننظر أولاً فيما إذا كان الخطيب يستطيع إزاء الحق والباطل، والجمال والقبح، والخير والشر: أن يكون كما يكون بالنسبة لما يجلب الصحة ولموضاعات الفنون الأخرى، بحيث يجهل ما هو الخير وما هو الشر، وما هو الجمال، وما هو القبح، وما هو الحق، وما هو الباطل، ولكنه يتخيل مع ذلك وسيلة للإقناع بهذه الموضاعات، ويبدو في عين الجهلة كما لو كان أكثر علماً من العلماء، بينما هو نفسه جاهل خاوي الوفاض! أو فلنر بالأحرى إذا كان لازماً وضرورياً لمن يريد أن يدرس البيان(266/21)
أن يبحث عن كل هذا وبمهر فيه قبل أن يتلقى دروسك؛ أم أنك - وأنت أستاذ البيان - سوف لا تعلم شيئاً من كل هذه الأشياء إذا لم بك لديه معرفة بها لأن هذا ليس من شأنك؛ وأنك فقط ستسلك معه - في هذه الحال - سلوكاً يجعله يبدو كما لو كان عارفاً بها، وبخلع عليه الخير دون أن يكون رجل خير بالفعل! أم (لا هذا ولا ذاك) لأنك سوف لا تستطيع أن تعلمه البيان مطلقاً قبل أن يعرف الحقيقة المتصلة بهذه الموضوعات على الأقل؟ فماذا ترى في هذا يا جورجياس؟ وهل ترى - وحق جوبتير - أننا نتقدم في خواص البيان كما وعدت أنت منذ لحظة؟
ج - أرى يا سقراط أنه عندما لا يكون لديه شيء عن كل هذه الموضاعات فإنه يستطيع أن يتعلمه مني!
ط - أرجو أن تقف هنا فإن إجابتك حسنة للغاية! أليكما تستطيع أن تجعل من أحد الناس خطيباً يجب أن يكون (هذا الراغب في الخطابة) عارفاً بالظلم والعدل، سواء أتت هذه المعرفة قبل مجيئه إلى مدرستك، أم منك أنت؟
ج - لا تناقض في هذا!
ط - ولكن ماذا؟ أيكون هذا الذي تعلم (النجارة) نجاراً أم لا يكون؟
ج - يكون نجاراً
ط - وعندما يتعلم الإنسان الموسيقى، ألا يكون موسيقياً؟
ج - بلى
ط - وعندما يتعلم الطب، ألا يكون طبيباً؟ وبالاختصار فيما يتعلق بالفنون الأخرى - ألا يكون الإنسان كما ينبغي أن يكون تلميذ كل فن منها عندما يتعلم كل ما يتعلق بها؟
ج - أوافق على هذا
ط - ويكون - لنفس السبب - كل من تعلم ما يختص بالعدالة عادلاً!؟
ج - دون تناقض
ط - ولكن هل يؤدي الرجل العادل في مظهره أعمالاً عادلة؟
ج - نعم
ط - وإذاً يجب أن يكون الخطيب عادلاً، وأن يكون الرجل العادل راغباً في أداء الأفعال(266/22)
العادلة!؟
ج - هذا ما يلوح - على الأقل -!
ط - ولا يرغب الرجل العادل أبداً في ارتكاب ظلامة ما؟!
ج - هذه نتيجة محتومة!
ط - ويجب بالأحرى أن يكون الخطيب بعد كل ما قيل رجلاً عادلاً؟!
ج - نعم
ط - وإذاً فلن يرغب الخطيب في ارتكاب ظلامة ما؟!
ج - يلوح أن لا
ط - وهل تذكر أنك قلت منذ قليل إنه لا يجوز أن نقف في وجه مدرب الألعاب وننفيه من المدينة لأن أحد المصارعين أساء استعمال الملاكمة وارتكب بها عملاً ظالماً، وإنه - لنفس السبب أيضاً - إذا أساء أحد الخطباء استعمال البيان يجب ألا نُرجع الخطأ لأستاذه وننفيه من المملكة، بل يجب أن نلقي المسئولية على الفاعل الذي لم يستعمل البيان كما ينبغي؟ أقلت هذا أم لم تقله؟؟
ج - قلتُه
ط - وهل ترى هذا الخطيب نفسه عاجزاً عن ارتكاب ظلامة ما أو سوف لا نراه؟
ج - سنراه!
ط - وقد قررنا من المبدأ يا جورجياس أن موضوع البيان هو الكلام الذي يعالج العدل والظلم لا الزوج والفرد، أليس هذا حقاً؟
ج - بلى
ط - عندما تكلمت بهذا النحو ظننت أن البيان لا يستطيع أن يكون أبداً شيئاً ظالماً لأن كلامه يدور دائماً حول العدالة. ولكن عندما سمعت بعد قليل أن الخطيب يستطيع أن يستخدم البيان استخداماً ظالماً عجبت واعتقدت أن قوليك متناقضان. وهذا ما جعلني أقول إنك إذا كنت ترى معي أن المعارضة خير فأننا نستطيع أن نواصل المناقشة، وإلا فلنتركها حيث وقفنا؛ فلما أن درسنا الموضوع فيما بعد رأيت بنفسك أننا قد اتفقنا على أن الخطيب لا يستطيع أن يستخدم البيان استخداماً ظالماً ولا أن يرغب بنفسه في ارتكاب ظلامة ما(266/23)
وأرى - وحق الكلب - أن هذه ليست بمادة مناقشة يسيرة يا جورجياس، وإذاً فلنبحث في عمق ما يجب أن نراه في ذلك الشأن
ب - ماذا يا سقراط؟ أعندك حقيقة الفكرة التي قد ذكرتها عن البيان؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(266/24)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 15 -
لقد جهد أخونا الغمراوي أن ينقض ما قلت عن الرافعي فجاء بمغالطات لم يعصمه منها ما يتشح به من دين وخلق محتكرين للرافعيين وأغاليط يعرفها طلاب المدارس الثانوية عن المعادن وخواصها! ثم لم يبلغ بعد الجهد والعرق المتصبب إلا كما يبلغ من تقول له: إن هذه المسألة ليست من الرياضيات العالية، فهي مسألة على (القواعد الأربع الأصلية) وحلها هو كذا. فيأتي لك بحل آخر، ويظن أن ذلك يخرجها من الحيز الضيق، حيز القواعد الأصلية، إلى مجال الرياضيات العالية
ذلك شأني وشأنه في تفسير كلام الرافعي، وربما كان ختام هذه المقالات، تفكها بتلك (الغمراويات) والأمر لله!
على حدود تعريفنا للشاعر الكبير، التقينا البارحة بالعقاد في حديثه عن الجمال، ونحن بالطبع لم نستقص ما قال، ولكنها نماذج تبين الوجهة، وتكشف عن المعدن، وسيأتي غيرها في (غزل العقاد)
وهانحن أولاء نلتقي به اليوم كذلك في حديثه عن (الحب) على هذه الحدود، بل نلمحه وراءها ببعيد، يهضب في خطواته الجبارة، وهو ما يكاد يلقي باله إلى الزواحف والفواحص حوله من المتظلعين على الطريق!
فما الحب عند شاعرنا الكبير؟
إنه لن يقف به عند اللهفة الظامئة، أو الفورة العارمة، ولا عند الحنين والدموع، أو الفرحة والاستمتاع. فللحب بعد هذا وذلك وشائج بالحياة الكبرى، ومسارب في الكون والطبيعة، ومدارج وملاعب في ساحة الخلود
وليس هو إحساساً في نفس فرد، ولكنه فورة وقوة في نفس كون، ودفعة ومضطرب في ضمير دنيا، وحياة وحركة في قلب وجود
وليس هو مصادفة عابرة، ولا فلتة غير مقصودة، ولكنه نظام وقصد، تهيئهما الأقدار لبلوغ مآرب وغايات، ولتحقيق آمال وخيالات(266/25)
والنفس الكبيرة التي يحملها العقاد، والقلوب المنفسحة التي وهبت لأمثاله، إنما هي معارض يبدي فيها هذا الحب فنونه ويلعب أدواره ويقرب فيها من غاياته، ويحقق أحلامه في أنسب الظروف والأحوال!
فالحب تمهيد للخلود، ومران على حياة الخالدين، حتى لا يفاجأ القانون بهذه الحياة، على بعد النقلة والشقة بين الحياتين!
هذي الليالي الدنيوية نفحة ... من عالم الملكوت والأعراف
لولا النعيم بها لما خطرت لنا ... مُثلُ النعيم بجنة ألفاف
ولهذا يتيقظ المحبون، ويعافون النوم. أليس النوم راحة لأهل الفناء من المتاعب وتجديداً لقواهم المنخذلة في كد العيشة، فما شأنه في اللحظات المقبوسة من النعيم الخالد
يقظة الحب من خلود وماذا ... يصنع النوم بين أهل الخلود؟
وإذا ذقت من موائد هذا الح ... ب فالنوم من فتات العبيد
والحياة والأحياء، إنما كانوا ينزعون للخلود، ويبتغون الدوام، فلما عز عليهم المطلب، وأبت طبيعتهم ما يطلبون، عوضوا عنه بالحب، فكان عوضاً كاملاً شائقاً تمناه الخالدون!
ما الحب، ما الحب؟ إلا أنه بدل ... من الخلود فما أغلاه من بدل
نزهي به حين يزهى الخالدون بما ... نالوه من أبد باق ومن أزل
داموا فلما تقاضينا الدوام لنا ... قالوا لنا: (حسبكم بالحب من أمل)
داموا وقد حسدونا في سعادتهم ... على السعادة بين الموت والقبل
وفي هذا الإحساس الفريد، يلتقي الشاعر الكبير، بالعالم المفكر، بالفيلسوف العظيم، وتصح نظرة كل منهم في الحب، وغاية الطبيعة منه، وذلك حد العبقرية في الفنون
ويصح أن نتبع بما سبق قوله:
أتحلمين بشيء كامل أبداً ... أتم من عالم في قلب حِببن؟
(فالكمال) المنشود في الحب صنو (الخلود) أو غايته أو وسيلته: فهو صنوه لأنه غرض مثله من أغراض الحياة؛ وهو غايته، لأن الحياة إنما تريد الدوام لتتهيأ به للكمال؛ وهو وسيلته، لأن الحياة لن تنال الخلود وهي ناقصة متحيفة الجوانب والأجزاء وهو هذا كله في حس الشاعر الملهم بما في ضمير الأكوان والآباد(266/26)
ويكمل هذه النظرة ويشرحها حديثه في كتاب (مراجعات في الآداب والفنون) في فصل: (الزهر والحب):
(لقد تعودنا أن نحسب العلاقة بين الذكر والأنثى أصلاً الحب بجميع صنوفه وألوانه، ولكنا إذا واجهنا الحقيقة من وجهة أعم وأعمق، تبين لنا أن هذا الحب بين الذكر والأنثى هو فرع طارئ من أصل إلهي قديم شامل للموجودات، مستقر في طبيعة الوجود، هو حب الكمال والدوام، وليس الحب بين الذكر والأنثى غاية في ذاته، وإنما هو واسطة من وسائط هذا الحب الأصيل)
والحب قد احتضن الحياة وهي جنين، حتى إذا برزت للوجود أخذ بيدها وقادها في مسالك الطبيعة، وحاول أن يسمو بها عن منبتها وينزع بها إلى الخلد والسماء:
هي الحياة جنين الحب من قدم ... لولا (التجاذب) ما ضمتك أكوان
والتجاذب بين (الإلكترون) و (البروتون) يقوم عليه بناء الذرة، فتبني على أساسها الأكوان. ولم يكن العقاد في حاجة للعلم بهذه النظرية التي أثبتها أخيراً (تحطيم الذرة) ليقول إن الحياة جنين الحب، ولكنها الشاعرية الكبيرة تنساح في تيارها العلوم والثقافات حتى تعود جزءاً منها لا ينماز عن طبيعتها وماهيتها
والحب يقود هذه الأرض، وينزع بها عن منشئها، ولهذا ينادي ربان الزورق النائم، وهو في سبحة من سبحات الحب:
نام رباننا وهمنا بعيداً ... فامض يا فلك في يدي (كوبيد)
وأتّبعه فالكون أجمع يا فل ... ك لَقي في يمين هذا الوليد
هو ربان هذه الأرض فأمن ... هـ على ملكك الصغير الزهيد
وتعلم منه عبور السموا ... ت فما دون سبحه من بعيد
وإذا كان الجمال كما قدمنا آنفاً هو خلاصة آمال الوجود وأشواقه، فحب هذا الجمال حب للوجود، ما كان منه ومن كان. والمعانق للجمال معانق للفضاء بأسره بما فيه من أنواع وأطماع. ومن يعش في بحبوبة الحب فإنما يعيش في الكون كله، فهو مدار العالم. يتضح كل ذلك في قصائد متفرقة:
إنا لمن معشر حب الجمال لهم ... حب لما كان في الدنيا ومن كانوا(266/27)
وأنا المعانق للفضاء بأسره ... في جسم أغيد كالندى شفاف
نحن في بحبوحة الحب وهل ... غير هذا الحب في الكون مدار؟
والحب رفعة للنفس؛ ونقلة إلى عالم النجوم، وعمق في الحيوية تطول به الأعمار، وإيغال في المجاهل والآباد والعهود والأزمان
كم علونا من دارة بعد أخرى ... وطوينا العهود بعد العهود
والحب من يغش ركبه ... يساير النجم كل حين
لحظة ترفع عمري ... حقبا متصلات
ربّ عمر طال بالرف ... عة لا بالسنوات
لحظة لا بل خلود ... لاح بين اللحظات
كالسموات تراها ... في شباك الحلقات
رب آباد تجلت ... من كوى مختلفات
وقطيرات زمان ... ملأت كأس حياة
وأنني لأكتفي في هذه النماذج، بما سقتها من أجله؛ وإلا فوراء هذا مجال واسع لبيان الطرافة في الحس والتعبير، في رؤية الخلود من خلال هذه اللحظات، كالآباد تتجلى من كوي مختلفات أو كالقطيرات التي تمتلئ بها الكأس، وهي قطيرات زمان فاضت بها كأس حياة. . .
والحب قدرة قادرة، تهب أصحابها مشابه من الألوهة، ومقابس من النبوة، وتنضح بالمعجزة. لا، بل إنها لتهب في بعض الأحيان ما لا تهبه الأقدار:
ليس مكان في السماء كلها ... عن شاعر أو عاشق بناء
بجناحيه من الحب ومن ... حسنك الخفاق ينجاب الفضاء
داوني داوني فقد كان عيسى ... يبعث الداثرين بالأسماء
وكلا الحب والعبادة وحي ... فوق ذرع الحجا وفوق الذكاء
أمسيت أنظر لا أرى أمنية ... كبرت وما خلقي بالاستخفاف
تبسم ألا يرضيك أن ابتسامة ... بثغرك أمضي من صنوف المقادر
والحب بهذه القدرة يجمّل الحياة ويجددها، ويخلق منها دنيا بعد دنيا، وكوناً وراء كون:(266/28)
أنظر فهل تجد المروج كعهدها ... من قبل في الحدقات والآناف
وهي السماء أم ارتقت أجوازها ... في النور آلافاً على آلاف؟
ويقول في أبيات بعنوان (معنى جديد):
قد شهدتُ الزمان في كل وجه ... وبلوتُ الحياة في كل معنى
وختمت الدنيا! فما من قديم ... كان إلا يعاد وصفاً ولوناً
فإذا للحياة معنى جديد=لم نجده من قبل أو لم يجدنا
ذاك معناك أنت حين وهبت ال ... قلب نوراً من طلعة الشمس أسنى
ومنحت الحب الإلهي حبَّا ... وكسوت الحسن السماوي حسناً
وفي قصيدة بعنوان: (جمال يتجدد)
كما قلت لي الربيع جميل ... قلت حقاً وزاد عندي جمالا
عجباً لي. بل العجيبة عندي ... صور الكون كم يسعن كمالا
خلتني قد وعيتهن عيانا ... وتتبعت من وَعوها خيالا
شاعراً عاشقاً وقارئ كتب ... قرأ الكتب دارساً، فأطالا
فإذا نظرة بلحظك تبدى ... صوراً ما طرقن عندي بالا
بعداد الأنوار في أعين الحُ ... بِّ نعد الأكوان والأجيالا
وبعض هذا كان يمكن سوقه في معرض الحديث عن (الجمال) ولكن التفرقة بين حديث الحب وحديث الجمال في النفس الشاعرة ليس بمستطاع في كل الأحوال، وكلاهما مادة واحدة في الحس والخيال
ويحسن أن نتبع حديث الشعر بحديث النثر، وكلاهما يتساوق ويتكامل في فن العقاد. يقول في كتاب المراجعات من فصل بعنوان: (أصل الجمال في نظر العلم):
(ومما لا مراء فيه أن الحب يرينا من فتنة الحياة مالا نراه بغيره وأن جمال المرأة أغلى محاسن هذه الدنيا المشهودة. بيد أن الحب لا يخلق فتنة الحياة؛ وليس جمال المرأة هو كل ما في الدنيا من المحاسن، ولكنهما يصبغان الدنيا بهذه الصبغة لأنهما يوقظان القلب ويذكيان الشعور ويبعثان كوامن الوجدان فيفتح لما حوله، ويرى ما لم يكن يراه، ويستوعب ما كان يلمحه بطرف العين، ويستحسن ما كان في غفلته عن حسنه قبل أن تتراءى الدنيا لخواطره(266/29)
في ثوبها الجديد. وكذلك تفعل الخمر حين تركض بالشعور وتلهب الدم فإنها تري النشوان من المحاسن ما لم يكن يراه في صحوه وتضاعف إحساسه وعطفه فيشعر بسرور هذا العطف في داخل نفسه ويشعر في الدنيا ببهجة تخفي على من حوله؛ ولذلك قيل إن الحب سكر أو أنه ضرب من الجنون)
والحب ملخص للأحاسيس الإنسانية في نفس الشاعر
غض عينيك قليلاً واستعد ... خطوات العام في الأفق الوسيع
كم ترى من خفقة غنت بها ... ساعة العمر التي بين الضلوع
كم ترى من قبلة رنت بها ... تلكم الساعة؟ قل لو تستطيع
كم ترى من نشوة حامت بنا ... حول عليين والعرش الرفيع
هو (حب) فإذا فرقته ... فهو ما راع قديماً ويروع
ووراء دلالة هذه الأبيات على ما أوردناها له تلمح ملكة التشخيص والتصوير، وهي تعمل عملها في نفس الشاعر وتخلق له من لحظات حبه شخوصاً ماثلة في ضميره، يغمض عينيه عن الدنيا الظاهرة ليتملاها ويستمتع بها واحدة واحدة، ويعمق بهذا متعة الحب، ويجوف خطراته
ولا ننس وراء ذلك كله هذا الخيال الطريف الذي يصور (العام) وهو يخطو في الأفق الوسيع، مرموقاً باللحظ والانتباه والإعجاب!
والحب معلم، يهب الحس فطانة، والروح نفاذا، والفكر يقظة، وفيه مهرب من الحياة إذا ساءت إلى دنيا جديدة:
إذا ساءت الدنيا ففي الحب مهرب ... وتحسن دنيا من أحاط به الحب
فبالحب تدري الحسن والقبح عندها ... وفي الحب علم لا تعلمه الكتب
والحب هو الذي يعمر القلب ويحييه، وحين يخلو القلب منه ينتهي إلى عالم خراب، وجدب كجدب اليباب:
هو الحب الذي يع ... مر هذا القلب لا المجد
حبك إن أخل منه يوماً ... خلوت في عالم خراب
يمر بي اليوم لا أراك كما ... يمر بالأرض عامها القاحل(266/30)
وهو ليس دموعاً ولا آهات، وليس ابتسامات وتثنيات:
إنما الحب شراب عاصف ... يسكر الراوين منه والظماء
لهذا كله فالكون والحياة حفيان بالحب، يستقبلانه بما فيهما من سرور وابتهاج، ويهيئان له من الطرافة والجدة كل ثمين مذخور، ويبذلان له من كنوزهما وأسرارهما ما لا يباح، ويعترفان بحقه عليهما وفضله:
وهو يقول من قصيدة عن يوم لقاء:
قال: سيوفي زائراً في غد ... يا لغد! كيف غد يشرق
بالشمس؟ أم شمس غد وحده ... مذخورة من أجله تخلق
كيما نرى الدنيا، وما شأنها ... سربالها المبتذل المخلق
في حلة لا تتحلى بها ... إلا لمن يَعشق أو يُعشق
وفي قصيدة بعنوان عروس الليالي:
عروس الليالي تهبط اليوم من عل ... وتدنو على طول النوى والتدلل
سرت بين شرق من ضياء ومغرب ... وبين جنوب من ضياء وشمأل
ولما سألته الحياة جواز المرور بها، لم يجد أحظى لديها من الحب يفتح منها المغاليق والستور:
قالت جوازك قلت هاك ... حب أنال به رضاك
فدخلت في حذر الحيا ... ة وراء ألفاف الشباك
هذا هو (الحب) عند العقاد: عالم مترامي الأطراف، وفن من أعجب فنون الحياة، ومجال للخيال والحس والتعبير على غير مثال
ونحن نعيدها مرة أخرى: لو أن شاعراً قال هذا وسكت لجاوز حد الشاعر الكبير
وعلى هدى من رأيه في الجمال، ورأيه في الحب، سنتحدث عن (غزل العقاد). وإن كان كثيرون سيتساءلون الآن: ماذا سيقول غير ما قال؟ وسنجيبهم بعد قليل: تلك أوليات المقال
(حلوان)
سيد قطب(266/31)
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 6 -
لعل من الخير أن ننظر نظرة في الأمور التي تشبه أن تكون أصولاً في النقد عند صاحب مقالات (بين العقاد والرافعي) والتي يمكن استنباطها من كلامه
ولعل من أبرز هذه الأصول ما يصح أن يسمى بالعلمية. ولسنا نريد بالعلمية هنا علمية التفكير، فقد وزناه من ناحية علمية التفكير فلم نجده منها في شيء؛ إنما نريد بها هنا علمية الأفكار. فصاحب تلك المقالات معجب جداً فيما يبدو بالعلم وبما يمكن أن يدخله الأديب في أدبه من النظريات والحقائق العلمية. تعرف ذلك من طبيعة أكثر الأمثلة التي ضربها لتفوق العقاد عنده على الرافعي، وتعرفه من تجشيمه نفسه قراءة ما قرأ من المباحث العلمية المنقولة إلى العربية كي يرقى كما يقول إلى محاولة استيعاب العقاد. وهذه النزعة إلى العلم تشكر فيه لولا ما يفسدها عليه في الموضوع الذي هو بصدده من تعصب للعقاد يجعله يتلقى كل ما يرد أو يتوهم أنه ورد على قلم العقاد من الأفكار العلمية كما يتلقى الوحي بالتسليم والإكبار المطلقين
والمثال الأول الذي ضربه لاحتياج الناظر في أدب العقاد إلى ألوان من الثقافة كالتي استمدها هو من قراءاته العلمية قطعة من (وحي الأربعين) عنوانها (سعادة في قمقم). وقد تساءل بعد أن ذكر أبياتها التسعة (هل فهم الرافعيون شيئاً من هذه القطعة مع وضوح كل لفظة فيها وكل عبارة؟). وما نظن الرافعيين أو غير الرافعيين يفهمون من مرماها شيئاً حتى يبلغوا البيت السادس منها
بسر على شفتي فاتن ... يباح إلى شفتي مغرم
وهو بيت رقيق ليس في القطعة كلها مظهر للشاعرية غيره، إذا بلغه القارئ ظن أن القطعة كتبت في قبلة، لأن السر الذي يباح إلى شفتين لا يمكن أن يكون غيرها. حتى إذا بلغ القارئ البيت الثامن(266/33)
وما أنا بالمشتهي قبلة ... ولا بالحريص على مغنم
زال عنه كل شك في المراد من القطعة كلها، وإن بقي حيث كان من صعوبة توجيه القطعة إلى المعنى المراد كما يصعب أحياناً على قارئ اللغز حتى بعد عرفانه الحل أن يطبق لفظه على الشيء المقصود!
ولكي يشاركنا القارئ في تقدير القطعة نوردها له وإن شغلت مكاناً.
هنا قمقم سابح في الدم ... أسائل عنه ولم أعلم
جهلت خباياه حتى أتى ... عريف الطلاسم بالمعجم
ففيه كما قيل مسجونة ... سعادة بعض بني آدم
تجن جنوناً بنور الضحى ... وتذبل في حبسها المظلم
وقد زعموا أن إطلاقها ... رهين بهمة ذاك الفم
إلى هنا لا نظن قارئاً مهما بلغت ثقافته من التنوع والعمق، وبلغ هو من الاستعداد الطبيعي، يستطيع أن يدرك من هذه الأبيات معنى واضحاً، أو أن يقول إن المقصود بها هو قبلة حتى يقرأ عقب ذلك:
بسر على شفتي فاتن ... يباح إلى شفتي مفرم
فهل أنت مطلقها منعماً ... فديتك أم لست بالمنعم؟
وما أنا بالمشتهي قبلة ... ولا بالحريص على مغنم
ولكنما أنا أبكي أسى ... لتلك الشهيدة في القمقم
فليس في القطعة كما ترى ما يدل على المراد منها غير البيتين اللذين ذكرنا. والآن وقد عرفت المراد هل تستطيع ولو بشيء من التعسف أن تطبق القطعة على القبلة المطلوبة؟ سيد قطب يقول إنك تستطيع بشرط أن تعرف نظرية فرويد في العقل الباطن، وأن تكون على استعداد لأن تحس (بأن النوازع والرغبات المكبوتة في النفس، والأشجان والبلابل والاضطرابات التي تعتريها إبان ضرام الحب، تظل تعتلج في النفس وتقلقها وتهزها هزا كمواد البركان المكتوم حتى ينفس عنها ويتاح لها التعبير فإذا هي سعادة وهدوء وراحة.) (وكيف يكون التعبير؟ يكون بقبلة على شفتي فاتن تبيح السر إلى شفتي مغرم، وعندئذ تنطلق تلك الشهيدة في القمقم التي يبكي لها أسى). فهل تستطيع الآن بعد هذا التفسير(266/34)
الطويل المبني على نظرية فرويد في العقل الباطن أن تطبق أبيات القصيدة على القبلة المقصودة فتقول مثلاً ما هو ذلك القمقم السابح في الدم المسجونة فيه تلك الشهيدة؟ أما نحن فلا نحسب أحدا في حاجة إلى نظرية فرويد أو غير فرويد في العقل الباطن أو الظاهر ليعرف أن رغبات الحب التي يتلهف إليها تؤلمه قبل تحققها فإذا تحققت هدأ وارتاح وسعد زمنا ما، ولا نحسب معرفة ذلك تحتاج إلى استعداد خاص في أحد، فكل إنسان يدركه في نفسه، حتى الطفل لو نطق وأحسن التعبير لقال إن ذلك كذلك، وفي دموعه قبل تحقق كل رغبة شديدة وابتسامه أو ضحكه بعد تحققها ولما تجف دموعه ما يغني عن كل نطق وتعبير. لكن صاحبنا ذا الثقافات يزعم أنك لا تعرف ذلك إلا إذا كنت ذا استعداد خاص وتثقفت بنظرية فرويد!. ليكن ذلك. فكيف يمكن فهم تلك الأبيات إذن في ضوء نظرية فرويد؟
إن أقل ما يطلب في الشعر الجيد ذي المعاني العلمية المتراكبة أن يحتوي على إشارات واضحة تكون مفتاحاً إلى تلك المعاني لمن يعرفها، بحيث إذا توجه الذهن إليها بدأ يدرك المعنى العميق المقصود، ولا يزال ذلك المعنى يزداد وضوحاً وتفصيلاً بالإشارة بعد الإشارة، والقرينة جنب القرينة، حتى يرتفع كل شك فيه، ويلبسه الكلام كأنما كان مقدراً عليه. لكن هذه القطعة فيها إشارات تصرف الذهن عن معناها إذا كان معناها هو كل ما ذكر سيد قطب. وأول ما تلقى فيها من هذه الصوارف هو هذا القمقم السابح في الدم، فانك تحاول جهدك أن تجد له تفسيراً حتى بعد معرفتك مرمى القطعة فلا تستطيع.
ثم ليكن ذلك القمقم ما يكون، فعند أي طرفي الحب هو! إن كان عند المحب فهو لا شك يعرف رغبة نفسه ويعرف طريق التعبير الذي يريد، فلا حاجة إلى معجم عريف الطلاسم ليحل له اللغز. وإذا كان القمقم للحبيبة وكانت سعادته هو مسجونة فيه - كما هو الأقرب إلى المعقول - قام تفسير السيد قطب وتطبيقه نظرية فرويد حائلاً دون ذلك، إذ تصبح النوازع والرغبات المكبوتة هي نوازع الحبيبة ورغباتها، فكأنها هي التي تشتهي القبلة لا هو، والشعر صريح في أن عكس ذلك هو المقصود.
فالقطعة كما ترى متخاذلة متضاربة إن حاولت أن تطبق عليها كل علم سيد قطب، وأن تفهم منها بالعقل ما فهم هو منها بالوهم. أما إذا تركت النظرية العلمية جانباً وحاولت أن(266/35)
تفهم من القطعة مرادها في بساطة بدليل البيتين اللذين ذكرنا لك، أصبح للقطعة معنى مفهوم على غموض فيه وعيوب فيها. فما دام المطلوب هو قبلة من الحبيبة فيها سعادة المحب، والحبيبة هي التي تملك منحها من فمها الشبيه إلى حد ما بالقمقم، أمكن توجيه القطعة وتبرير الشاعر إلى حد كبير في تخيله أن سعادته المتمثلة في قبلة من حبيبته محبوسة في فم تلك الحبيبة حتى تطلقها هي. أما وصف القمقم بأنه سابح في الدم فيجب حمله على ضرورة الشعر والقافية، أو على أنه وصف معيب لشدة احمرار الشفتين، أو على أن الشاعر أراد أن يلغز في قبلة فجاء بهذا الوصف وبغيره ليعمي على القارئ بعض التعمية.
فأنت ترى أن القطعة لا تحتاج إلى علم فرويد أو علم سيد قطب لحلها، بل هي تزداد تعقيداً وبعداً عن المعقول إن أنت حاولت إدخال العلم فيها. لكن العقاد لا يكون هو ما هو عند سيد قطب إلا إذا حشر العلم في شعره، وإلا فبم يمتاز العقاد على الرافعي ويمتاز هو عن مثل شاكر والعريان؟
هذا عن المثال الأول. أما المثال الثاني فقطعة مأخوذة عن (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر) وهي في رأينا قطعة حسنة أوضح كثيراً من القطعة الأولى، لكنها لا تحتاج من العلم لفهمها أكثر مما يعرف الطالب الثانوي عن انعكاس الضوء وانكساره وامتصاصه، وعن التمثيل الخضري في النبات. وليس هناك بعد ذلك إلا خيال الشاعر في التصوير يجاريه خيال القارئ في التصور. وقد أحسن كل الإحسان حين لخص الموقف في طول عمر الجوهر الجماد وقصر حياة الزهر بقوله على لسان الزهر يخاطب الجوهر:
ومعدن النور فيك حي ... وفيك معنى الحياة فان
فيا زماناً بلا حياة ... إني حياة بلا زمان
وإن كنت تلمح شيئاً من تقصير اللفظ عن المعنى في قوله:
(وفيك معنى الحياة فان) فان (فانٍ) في الغالب لا تستعمل إلا للدلالة على الموت الذي سيكون بدلاً من الموت الواقع، لكن الشاعر المقيد بالقافية قلما يجتمع له في الشعر كل ما يريد. على أن المهم فيما نحن بصدده هو ما في تقدير سيد قطب للثقافة اللازمة لفهم القطعة(266/36)
من الإسراف والتهويل
أما المثال الثالث فهو قول العقاد:
بك خف الجناح يا أيها الط ... ير وما كنت بالجناح تخف
لطف روح أعار جنبيك ريشاً ... فمن الروح لا من الريش لطف
وهما بيتان ليس فيهما معنى كبير، وليس فيهما من الصنعة أكثر من عكس الترتيب الطبيعي وهو كثير في الأدب العربي؛ لكن سيد قطب الذي لا بد أن يجد لكل قول للعقاد معنى علمياً ما أمكن ذلك، يتمثل في هذين البيتين نظرية علمية يحكيها في قوله (فعلم وظائف الأعضاء يقول إن الوظيفة تخلق العضو) ويطيق النظرية بقوله: (فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح!)، فجاء قوله هذا دليلاً واضحاً على أن الأديب إذا لم يترب تربية علمية، وجمع آراءه وأفكاره العلمية من الكتب والمجلات، يكون أميل إلى تصديق كل ما يساق إليه باسم العلم وإن خالف في ظاهرة المعقول. وإلا فكيف يمكن أن تخلق وظيفة الطيران الريش والجناح قبل أن توجد الوظيفة نفسها؟ إذ من الواضح أن لا طيران ولا وظيفة طيران في طائر قبل أن يوجد الريش والجناح. فلو قال قائل مثل هذا الكلام من غير أن ينسبه للعلم لكان موضعاً لتهكم صاحبنا واستهزائه. أما وقد نسب هذا الكلام إلى العلم فيما قرأ فهو يقبله من غير نظر ولا تمحيص.
إن المعقول ليس هو خلق الوظيفة العضو، ولكن تنميتها إياه. فالعضو لا بد أن يوجد لأداء الوظيفة، واستعماله فيها بعد ذلك ينميه ويقويه ويرقيه. أما سبب إيجاد العضو فليس العلم يعرفه وإن حاول بعض العلماء أن يفسره بمثل هذا الغرض الذي لا يفسر شيئاً، والذي لا يعبأ العلم به في الواقع لأنه لا يمكن أن يختبر صحته لا بالتجربة ولا بالمشاهدة. والفروض العلمية لا حرج على العلماء في فرضها. فليفرض منهم منها ما شاء ما دام ذلك يساعده على التفكير. لكن العلماء يعرفون أن لا قيمة لهذه الفروض ما لم تساعد على إجراء تجارب ومشاهدات لاختبارها، وما لم تؤيدها هذه التجارب والمشاهدات بعد إجرائها؛ لكن غير العلماء يكبرون كل ما ينسب إلى العلم وينزلونه من عقولهم منزلة واحدة، فلا يفرقون بين حقائقه ونظرياته وفروضه. وعندنا أن مسارعة المشتغل بالأدب إلى قبول مثل هذا الفرض الذي يخالف المعقول تنازل من ذلك الأديب عن حرية التفكير التي يحرص عليها(266/37)
مثلاً ويغالي فيها إذا كان الموضوع لا يتصل بالعلم ولكن يتصل بالدين.
والمثال الرابع الذي ضربه سيد قطب لاتساع ثقافة العقاد وتفوقه بها على الرافعي يتصل بنظرية دروين، وهو مقطوعة (الجيبون) أو (أمام قفص الجيبون) وأحسن ما في هذه المقطوعة خيالها؛ أما اتصالها بالواقع وبحقيقة نظرية دروين فليست منه في شيء كبير. إنها تذكر النظرية كما يفهمها غير العلماء، فتجعل (الجيبون) أبا العبقري أي الإنسان، وتجعل الناس أبناء (الجيبون). والناس في العادة ينسبون هذا الرأي لدروين ودروين منه بريء، فان دروين لم يقل إن الإنسان أصله قرد كما يقول العقاد، وإن صح أن يفهم من نظريته في أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي أن القرد والإنسان يرجعان في سلسلة النشوء إلى أصل واحد بعيد ليس بقرد ولا إنسان، فترقي فرع عن هذا الأصل فصار إنساناً، وسار فرع آخر سيرة أخرى فصار قرداً. فقول العقاد للجيبون:
كيف يرضى لك البنون مقاماً ... مزرياً في حديقة الحيوان
قول يدل على سوء فهم لنظرية دروين.
ثم إن النظرية لا تقول بأن الفرق بين الإنسان والقرد فرق زمني في صميمه، ولا أن الإنسان أقدم من القرد حتى يصح لأحد أن يظن أن القرد إذا استوفى زمنه ومرت عليه ملايين السنين صار إنساناً. إن القرد أقدم ظهوراً على الأرض من الإنسان في حكم العلم إلى الآن، فلو كان القرد يستطيع رقياً إلى الإنسانية لترقى. إن سنن الترقي قد حكمت حكمها بين الاثنين، فلن يصير القرد إنساناً مهما عاش، وإن جاز أن ينحط الإنسان فيصير قرداً أو شبه قرد إذا قصر في استعمال ما وهبه الله على الوجه الذي اختاره الله له حقبة كافية من الزمن؛ فان هناك سنة انحطاط بالترك والإهمال والمعصية، كما أن هناك سنة ارتقاء بالاستعمال والإحسان والطاعة.
والناس يعطون نظرية دروين فوق ما لها من قوة عند العلماء فيظنون أنها تفسر خلق الأنواع، ويضل منهم بهذا الظن من يضل إذ لم يبق عنده لوجود الإله من داع. لكن النظرية في حقيقتها لا تفسر إلا حفظ الأنواع، أما مجيء الأنواع وخلقها فان النظرية لا تفسره. هي - كما يقول دريتش في محاضرات جيفورد التذكارية - سلبية الأثر لا إيجابيته: تفسر كيف انعدم المنعدم من الأنواع، ولا تفسر كيف وجد الموجود.(266/38)
على أن من المهم أن ننبه في هذا المقام أن سنة التطور لا يشك فيها الآن أحد من العلماء، لكن طريق التطور وعلمه وأسبابه هي موضع الأخذ والرد والبحث بينهم. فأخونا علي الطنطاوي كان على حق حين أنكر نظرية دروين كما يصورها العقاد في مقطوعته، والذي انتقده في الرسالة على حق في قوله: إن التطور يقول به كل العلماء المعتد برأيهم، وعلى باطل إذا كان قصده بهذا أن هؤلاء العلماء يفهمون من التطور ما فهمه ووصفه العقاد في مقطوعته.
فمقطوعة العقاد إذا أخذت بتفاصيلها العلمية مبنية على خطأ كبير، وهي من الناحية العلمية لا تساوي أكثر مما يعتقده الناس عادة في نظرية دروين؛ وإذا أخذت من الناحية الشعرية الخيالية وحمل خطؤها العلمي على أنه خيال شاعر كان لها شيء من القيمة، ولكن شتان بين قيمتها هذه وبين ما يدعيه لها سيد قطب بضعفه العلمي وافتتانه بالعقاد.
فالعلمية التي يقيس بها سيد قطب تفوق العقاد على الرافعي علمية ضعيفة ناقصة في بعض الأمثلة، ومهوَّلة هوّلها الوهم والافتتان في بعض الأمثلة الأخرى. وهي في الحالتين لا تزيد شيئاً عنها في الأمثلة التي جاء بها من كلام الرافعي واتخذ منها سبباً للزراية عليه، وإن سلمت أمثلة الرافعي من الخطأ الذي وقع في بعض أمثلة العقاد.
ومن أول ما تهكم به على الرافعي من هذا النوع قوله في حبيبته:
سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها
وقوله فيها أيضاً:
يا نجمة أنا في أفلاكها قمر ... من جذبها لي قد أضللت أفلاكي
ولا يزيد قطب في نقد هذين البيتين على أن يقول مبالغة في الإيحاء بتهكمه إلى القارئ: (ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً)!. ويظهر أن عيب هذين البيتين وأمثالهما عنده هو وضوح معناهما، فان الرافعي عنده (سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء)، مع أننا لا نظنه يفهم كثيراً من (حديث القمر) لو أعاد قراءته الآن. فصعوبة الكلام على فهمه مزية يكبر بها الكلام عنده فيما يظهر، ويسميها في العقاد سموا وسموقا وإن كان يسميها في الرافعي مداحلة ومعاظلة! هذا هو القياس عنده في الواقع لا العلمية، وإلا فأي فرق في العلمية بين المعنى العلمي الواضح والمعنى العلمي الغامض لو كان يقيس قياساً(266/39)
صحيحاً؟ بل الوضوح في المعاني العلمية أحق بالتقدير في الأدب من الغموض
إن السبيل في مثل هذا أن ينظر إلى دقة المعنى العلمي ودقة التطابق في الاستعارة بين الحقيقة وبين المجاز. وليس أصدق في التعبير عما يعتري المحب من هزة ورجفة إذا اقترب منه حبيبه من تشبيه ذلك بالهزة التي تعتري من يسري فيه سيال كهربائي. ولا يقدح في التعبير وحسنه ولا في البيت وصدقه أن المعنى العلمي المستعار معروف مألوف، فذلك مما يزيده حسناً عند من يريدون بالكلام الإفهام لا الإبهام. أما البيت الثاني فهو من باب الاستعارة التمثيلية النادرة. وهو بيت بقصيدة وحده. ثم معناه ليس بالشائع المبتذل، والقانون العلمي المشار إليه فيه أعم وأهم من نظرية دروين. فذلك البيت الفريد ليس فيه عيب ولكن السبب في ناقده الذي يكيل بمكيالين ويفكر بمنطقين
ومثل هذا البيت الثاني قول الرافعي لحبيبه الناسي له:
يا من على البعد ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر ... له صباح متى تدركه أخفاكا
وهذا البيت الثاني هو أيضاً من الاستعارة التمثيلية النادرة والمعنى المستعار ظاهرة طبيعية معروفة مألوفة، لكن المطابقة بين حال الرافعي في شقائه بحبه المنسي ورجائه الفرج بالنسيان، وبين ظلام الليل يجلو القمر فإذا جاء الصباح أخفاه - هذه المطابقة في الاستعارة مطابقة نادرة لا يكاد الإنسان يقضي حقها وحق أمثالها عجباً. لكن صاحبنا الذي يرمي الرافعي ومن معه بأنهم شكليون يخطئ جوهر الموضوع مرة أخرى فلا ترى من البيت إلا تمثيل الحب بالظلام، والحب عنده لا يكون ظلاماً أبداً فالرافعي لا يمكن أن يكون ذاق الحب أبداً، وليس يشفع للرافعي أن الحب الذي شبهه بالظلام هو حب شقي به لنسيان حبيبه إياه، فلا يصح في إنصاف ولا في أدب أن يقاس على حب آخر يسعد به صاحبه لاستجابة حبيبه له فيه. لا! الحب أياً كان لا يمكن أن يكون ظلاماً عند سيد قطب؛ فمن رآه ظلاماً فقد زل زلة بألف، ودل دلالة قاطعة على أنه شكلي لم يذق الحب قط! ليت شعر النقد - إن صح هذا - ماذا يكون الحكم فيمن شبه الحب بالجحيم وظلمتها؟ ومن هو؟ سيد قطب! هو سيد قطب في شعره الذي نشره بالرسالة (عدد 220) بعنوان (ريحانتي الأولى أو الحرمان)(266/40)
وإليك بعضه إن كان لا بد أن نذكر لك منه مثالاً:
ريحانتي الأولى وروح شبابي ... أئذا دعوت سمعت رجع جوابي
أنا في الجحيم ها وأنت بجنة ... من روح إعجاب وريق شباب
أنا في الجحيم وأنت ناعمة المنى ... خضراء ذات تطلع وطلاب
أنا لا أريدك ها هنا في عالمي ... إني أعيذك من لظى وعذاب
ولكيلا تظن أن سيد قطب يتفلسف حين يقول هذا اقرأ له من مقطوعة أخرى من نفس الشعر:
عيني رعتك وأنت نابتة فلم ... تغفل ولم تفتر ولم تتألم
حتى إذا أينعت وانطلق الشذى ... ألفيت نفسي في صميم جهنم
ملقى هنالك لا أحس ولا أرى ... إلا الشواظ وكل داج معتم
أفي نورٍ هذا من حبه يا ترى أم في جب من جهنم؟ هذا هو الذي لم يعجبه بيت الرافعي فتجنى عليه ما تجنى وأطال قلمه فيه بما أطال، وأنساه تجنيه وهواه الواقع وما خطت يمينه قبلها ببضعة أشهر ليكون كلامه حجة عليه يفضحه الله به، وليعلم الناس أجمعون أن مقالات (بين العقاد والرافعي) كتبها عابث يتجنى لا ناقد يتحقق، ولا أديب يبتغي وجه الأدب
محمد أحمد الغمراوي(266/41)
2 - البحث عن غد
للكاتب الإنجليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
روم لاندو كاتب إنجليزي معروف، زار بلاد الشرق الأدبي زيارة المستطلع الباحث، ثم دون ما رأى وسمع في نشره بعنوان (البحث عن الغد) وقد نشرنا ما يتصل بمصر مترجما بقلم الأستاذ العقاد فلم يعترض على قوله أحد؛ ثم أخذنا ننشر ما كتب عن لبنان وسورية مترجما بقلم الأستاذ علي حيدر الركابي فلم يكد ينشر المقال الأول حتى ثارت النفوس في بيروت لهذا الحديث الغريب الذي نسبه الكاتب إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، وعقدت الوزارة مدفوعة بهذه الثورة جلسة خاصة أبرقت على أثرها إلى الرئيس تسأله في عرض البحر عن هذا الحديث، فأجاب بأنه لم يعط حديث كهذا وطلب من الحكومة أن تكذبه فكذبته. إزاء هذا التكذيب الرسمي لم نشأ أن ننشر ما كتبناه وكتبه غيرنا تعليقا على هذا الحديث الطائش، ولكن بقي لنا أن نسأل: من الذي زور هذا الحديث على فخامة الرئيس؟ لا يمكن أن يكون أحد غير الكاتب الإنكليزي نفسه، لأن الحديث لم ينشر في صحيفة يجوز عليها الدس والغفلة، وإنما نشر في كتاب أصدره الكاتب تحت اسمه وعلى مسئوليته، وسمى فيها الأشخاص وذكر المكان والزمان والمناسبة، فلا مناص إذن من أن تتخذ الحكومية اللبنانية إجراء قضائياً أو دبلوماسيا نحو الكاتب (الكاذب) ليتسنى له هو أيضا أن يقول كلمته
(المحرر)
الجمهورية اللبنانية
وجهة نظر المعارضة
لقد تحدثت إلى أحد الوزراء كما تحدثت إلى بعض الوجهاء فلمست منهم تأييداً لوجهة النظر الرسمية التي بسطها رئيس الجمهورية، حتى إن بعضهم أكد لي بأن الوحدة العربية إنما هي الوحدة الإسلامية بعينها. ومع ذلك فان زعماء المسلمين الذين زرتهم قد نفوا لي هذه الفكرة. ومما يؤيد صحة نفيهم أن الشعور الديني لدى مسلمي لبنان سائر نحو الضعف(266/42)
بصورة جلية تجعل المرء يعتقد أن ميلهم إلى الوحدة العربية لا بد أن يكون مبيناً على أسس غير الأسس الدينية. وهذا ما قاله لي عربي من كبار رجال التعليم في بيروت:
(لا بد لنا إذا أردنا الحياة من أن نتعاون في الأمور العسكرية والاقتصادية، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بواسطة الوحدة العربية أو - في بادئ الأمر - الوحدة السورية. إن الناحية العنصرية لا تهمنا كثيراً، ولكن اشتراكنا في اللغة وتحملنا نفس المصاعب لما يدفعنا للسعي وراء نوع من أنواع الاتحاد. قد تختلف بلاد مصر ونجد والحجاز وشرقي الأردن وسورية والعراق الواحدة عن الأخرى، إلا أن أمام كل واحدة منها مشاكل متشابهة يجب حلها، منها تعليم الفلاحين والبدو وسكان الجبال، وتعميم الوسائل الحديثة لحفظ الصحة العامة، ورفع المستوى العام من الناحيتين الثقافية والاجتماعية. إن التعليم في مصر نفسها لا يتعدى طبقة محدودة راقية. وهناك رابطة التاريخ المشترك التي تعطينا الحق في أن نفتخر بماض زاهر، ونسعى لإحياء ذكرى هارون الرشيد. ولعلك تعتبر هذه الرابطة خيالية وعاطفية، ولكني أؤكد لك أننا نعتبرها دافعاً حقيقياً وقوياً لنا في نهضتنا. إن الماضي يمكن أن يصبح حاضراً مرة ثانية إذا اتحدنا مع سورية أولاً، ثم مع الأقطار العربية الأخرى)
قد يظن البعض أن العرب الذين يعتنقون فكرة الوحدة السورية غارقون في بحر من الأوهام. والواقع أن فكرتهم هذه بالرغم من غموضها لأجدر بالتقدير من فكرة الرجال الرسميين ذوي الخبرة الواسعة وأتباع الحقيقة دون الخيال الذين أتضح لي أن تفكيرهم محصور لا يتجاوز مراميهم القريبة. لقد وجدت أنصار الوحدة السورية من العرب عنيفين وغير منظمين، إلا أني واثق في نفس الوقت من أنهم أصحاب بصيرة، وأن نار إيمانهم بمثَلهم الأعلى لتتأجج تأجج النيران العظيمة في باطن الأرض
وقد اتضح لي - كما كنت أتوقع - أن كلا الفريقين: الرسمي والعربي كان متطرفاً قد خفي عليه جزء من الحقيقة. وهذا أمر طبيعي في بلاد أصبحت القومية فيها قوة ذات قيمة بالرغم من حداثة عهدها. والواقع أن ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الثروة قد ولدا في اللبنانيين ميلاً إلى احتراف السياسة سواء كانوا من السياسيين المسيحيين أم من المسلمين. وقد سلم بعض العرب في لبنان بالفكرة الفكرة القائلة بأن البلاد لا يمكن أن تستغني عن فرنسا، وأن الصواب يقضي بالاعتراف بالأمر الواقع ونبذ أحلام الوحدة العربية. وهذا(266/43)
الشعور بالانخذال قد جعلهم أقل إيماناً بتحقيق المثل العليا في عرب سورية. ومن نتيجة ذلك - على ما يقال - أن الأغراض الشخصية تلعب في بيروت دوراً أعظم من الذي تلعبه في دمشق
النصرانية العملية
إن أعظم مشكلة معقدة يجابهها لبنان هي مشكلة الدين، فإننا نرى من جهة أن المزج بين السياسة والدين قد حشر الدين في أمور غريبة عنه في الأصل. ومن جهة أخرى فان الدين قد أصبح بعيداً كل البعد عن أسسه المشروعة
ليست حكومة لبنان حكومة حزبية ولا هي بالحكومة ذات الاختصاص الفني البعيدة عن الأحزاب، وإنما هي حكومة تتشكل من ائتلاف دائم يمثل الطوائف المختلفة. فان كلا من الوزير والموظف الإداري والمعلم وطبيب البلدية يعين بالنظر إلى طائفته لا بالنظر إلى مقدرته الفنية. وقد أدى تدخل الكنيسة في السياسة إلى إساءة الاستعمال كما أدى إلى انحطاط عام في الدين. وقد كاد جميع من تحدثت إليهم (وبينهم أستاذ الجامعة والسياسي والتاجر وصاحب العمل الحر والمسيحي والمسلم) يجمعون على الشكوى من أعمال الكنيسة السياسية، ومع ذلك فلم أجد لدى أحد ما الجرأة الكافية لمعالجة هذا الموضوع
إن الفرنسيين يفتخرون في بلادهم بفصل الدولة عن الكنيسة، ولكنهم في لبنان قد استعملوا الاكليروس الماروني منذ البدء لتحقيق غاياتهم السياسية. إن كليات اليسوعيين الفرنسيين ومدارسهم نفسها قد أصبحت مراكز للدعاية الفرنسية، حتى إن أكثر القسيسين الفرنسيين يعتبرون أنفسهم جنوداً يخدمون الراية المثلثة الألوان كما يخدمون الصليب. وقد شعر رجال الاكليروس من غير الموارنة أنهم لا يجوز أن يتأخروا عن إخوانهم في هذا المضمار فدخلوه بدورهم، وأخذوا يستعملون نفوذهم الديني لتحقيق الأغراض السياسية. أما المسلمون فان دينهم في الأصل لم يفرق بين القوانين الدينية والمدنية، ومع ذلك فقد كانت سلطة الأئمة والمفتين في الأمور غير الدينية لا تشمل غير الأفراد التابعين لهم. أما الآن فقد أصبحوا هم أيضاً يلعبون دوراً سياسياً
إن الدولة المنتدبة لم تعمل شيئاً للوقوف في وجه حركات رجال الدين السياسية، بل هي على العكس قد شجعتهم عليها لأنها أدركت أن أي خلاف ينشب بين فئات متباينة من أهل(266/44)
البلاد من شأنه أن يقوي مركزها. إن روح الاستخفاف التي تنطوي عليها هذه السياسة قد بينتها جريدة الطان بجلاء، إذ أشارت في مقال لها في شهر يناير عام 1926 إلى مهمة المسيو دو جوفنيل المندوب السامي الجديد بهذه لعبارة: (إن وظيفة المسيو دو جوفنيل لواضحة تماماً: فهو يجب أن يفرق لكي يسود) على أن خطر هذه السياسة قد أخذ يتناول الفرنسيين أنفسهم، فالمارونيون شرقيون في الدرجة الأولى وإن كانوا نصارى؛ ولا رغبة لديهم في أن ينقادوا لفرنسا انقياداً أعمى. ومن المحتمل أن يجدوا أنفسهم في المستقبل في صف المسلمين
والإنصاف يقضي بأن نعترف بأن اشتغال رجال الدين بالسياسة لم يمح كل أثر للشعور الديني، فإننا نجد بين النصارى طائفة لا تزال شديدة التمسك بالدين، ألا وهي طائفة الأرمن، وكذلك الفلاحون في الجبال الذين يختلفون عن باقي فلاحي الشرق الأدنى بسمو أخلاقهم. أما الإسلام فهو منذ الحرب العظمى قد أخذ نفوذه يضعف. وأما الدروز فأنهم على الرغم من تمسكهم بدينهم كادوا يفقدون تأثيرهم في حياة المجتمع الروحية بسبب اعتصامهم وراء طقوس دينهم السرية
إن الكثيرين من مثقفي النصارى والمسلمين لا يفرقون بين الدين كما هو معروف في بلادهم وما تتطلبه الحزبية من دسائس وفساد. وهذا ما حمل بعضهم على الافتخار بأنه لا ديني؛ ففي بادئ الأمر كنت أستغرب قول بعض المتمسكين بتعاليم الدين لي بأنهم ضد الدين، ولكني ما لبثت أن أدركت أنهم يقصدون بذلك أنهم ضد رجال الدين
إن الحكومة اللبنانية تشعر بضعفها وهي لهذا لا تجرؤ على السعي للقضاء على نفوذ رجال الدين السياسي لكيلا تعرض نفسها لغضب قسم من رعاياها عليها
(يتبع)
علي حيدر الركابي(266/45)
فتاوى شرعية
معضلات العصر
للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
وزير معارف الحكومة المغربية
- 1 -
إن أهم ما اهتم به النبيون والمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين ثم الفلاسفة الأقدمون والمتأخرون؛ والعلماء المؤلفون، معضلات عصورهم التي تهم الفكر العام. وعليها يتوقف تحسين حال مجتمعهم وإن كان في غفلة أو إغفاءة عنها في بعض الأوقات.
ففي عصر نبينا العربي عليه صلوات الله وسلامه، كان أهم معضلة هي الوثنية وفساد المعتقد وتنوعه في جانب الله؛ وعن ذلك ينشأ تشتت الأفكار، وفداحة الجدل. ثم رداءة حال العرب بل العالم من حيث افتقاره إلى شريعة منظمة تكون رابطة متينة للمجتمع تذهب بها فوضى الحقوق والأخلاق، وتنتظم بها الأحوال وتتناسق الأعمال.
وهكذا النبيون قبله، ما من رسول إلا وقد جاء بحل أهم المعضلات، وأعقد المشكلات؛ وكذلك الفلاسفة اليونانيون وغيرهم ما كانت فلسفتهم إلا لحل مشكلات عصورهم، يعلم ذلك من يتتبع موضوعات مؤلفاتهم المتنوعة.
ثم كان علماء هذه الأمة الكريمة على ذلك، فتجد أكثرهم يؤلف في النوازل التي تنزل أو يتوقع نزولها بعد المعضلات. وبالنظر في كتب الفتاوى والأحكام يتبين ذلك، بل لا تجد كتاباً في فن إلا والقصد منه سد فراغ وكفاية حاجة من حاجات المجتمع في نظر مؤلفه.
بناء على هذه السنة جعلت هذه الأوراق أجوبة على أسئلة ثلاثة وردت عليّ من عالم نبيل من علماء أشقودرة (ألبانيا) يطلب مني الجواب عنها وهي:
1 - لبس البرنيطة 2 - قبض مرتب بدون عمل 3 - مفتريات أهل الطريقة التجانية.
وهذا نص السؤال، ويليه الجواب:
(صاحب الفضيلة والسماحة والأيادي الجليلة، لا زالت أعماله مشكورة، وآثاره مبهورة، الأستاذ الكبير الإمام الشيخ محمد ابن الحسن الحجوي الثعالبي الجعبري وزير معارف(266/46)
الحكومة المغربية. بعد إتحافكم درر التحيات السنية، وغرر التسليمات البهية، أعرض أن كثيراً ما يجول في عقولنا ويخطر ببالنا الترامي إلى أعتابكم الشريفة سائلين منها حل مسائل يكون الناس فيها ما بين كفر وضلال، وكثر فيها القيل والقال، حتى افترق الناس فريقين في أكثر البلاد خصوصاً في بلادنا الألبانية وأشقودرة، إلا أن الشواغل التي كثرت لديك من المسائل العلمية التي توجه إليك من جميع الأطراف قد منعتنا من السؤال عنها، لكن عندما اشتد الخلاف فيها الآن بحيث صار لا يمكن أن يدفعه أحد غيرك في اعتقادنا ما وجدنا مناصاً من أن نطلب ونرجو من فضيلتكم أن تضع هذه المسائل في مقدمة المسائل التي تعني بها عناية كبيرة لما لها من شأن عظيم وهي:
مسألة البرنيطة أو القبعة
كان ملك ألبانيا قد أصدر أمراً لكل رجل موظف له مرتب شهري أن يلبس البرنيطة وإلا يعزل عن الوظيفة والمأمورية؛ فهل يجوز لذاك المأمور الموظف أن يلبس البرنيطة تبعاً لأمر الملك أو يترك الوظيفة والمعاش ويقبل العزل؟ وكذلك قرر مجلس وزراء ألبانيا أن يلبسن البرنيطة جميع الصبيان الذين يداومون بالتحصيل في المدارس والمكاتب، فهل يجوز أيضاً لآباء وأولياء هؤلاء الصبيان أن يلبسوا البرنيطة الصبيان أم يقبلوا طردهم وإخراجهم من المدرسة ويتركوهم بدون تحصيل ولا تعليم خصوصاً في هذا الزمان؟ يعني هل يعد التحصيل والمعاش ضرورة للبس البرنيطة أم لا؟ وغير الموظفين والمأمورين من العوام قد تركهم الملك مخيرين إن شاءوا لبسوا لباس القوم الأرناءودي مع الطربوش الأبيض كما هي عادة أهالي أشقودرة وألبانيا. هؤلاء الذين تركهم الملك مخيرين هل يباح أو يكره أو يحرم عليهم لبس البرنيطة أو يكفر لابسها إن لبسها بالاختيار. ثم إن القلنسوة التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية بقولهم: من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قيل يكفر وهو الصحيح، وقيل لا يكفر. ما المراد بهذه القلنسوة؟ أهي التي جعلوها علامة على خدمة دينية أو الدخول في الدين كطيلسان اليهود وجبة القسيس وما يلبسه صبيان النصارى وبناتهم حين الدخول في التكليف الديني، أم تشمل كذلك القلنسوة التي لم يقصد منها الدلالة على الدين، وإنما هي لباس أمة صادف أن كان كلها أو معظمها غير مسلمين بحيث يلبسها النصراني واليهودي ومن كان يولد من تلك الأمة، بها وكذا يلبسها المسلمون في هذا(266/47)
الزمان، يعني ما الفرق بينهما؟
المسألة الثانية:
رجل ألباني أو بغدادي أو شامي مثلاً في دار يأخذ مرتباً شهرياً سياسة من الحكومات المتجاورة مثل إيطاليا أو فرنسا: أو فرَّ وخرج من دار سياسة أيضاً إلى دار أخرى ويأخذ من تلك الحكومة التي يقيم فيها هل يحل لذلك الرجل أن يأخذ فرنكات كثيرة من تلك الحكومة المجاورة أم لا؟
المسألة الثالثة:
وهي أن الطريقة التجانية المنتشرة في أكثر البلاد حتى البلاد الأرناؤودية ولا سيما بلدتنا أشقودرة هل المندمج فيها غير مناف للشريعة الغراء، ومنتسبو تلك الطريقة يدعون أفضلية قراءة (صلاة الفاتح) لما أغلق على تلاوة القرآن ستة آلاف مرة وهو أكبر الأذكار متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن كما فصله في (كتاب جواهر المعاني) المنسوب إلى التجانية، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة الخاصة إنما يترتب عليها الثواب إذا اعتقد أنها من كلام الله القديم من قوله عليه السلام: من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً. وإن تلك الصلاة مع فضيلتها بتلك المثابة لم يعلمها النبي عليه السلام لأحد إلا لمؤسس تلك الطريقة، وفي ذلك ما لا يخفي من لزوم الكتمان ومنافاته للتبليغ المأمور به عليه السلام؛ وإن مؤسس تلك الطريقة أفضل الأولياء، مع أن الإجماع هو أن الأفضل بعد نبينا محمد عليه السلام الخلفاء الأربعة على الترتيب المعلوم؛ وأن من انتسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ويغفر ذنوبه الصغار والكبار، حتى التبعات وغير ذلك مما هو مبسوط في الكتب التجانية.
فهنا نحن متعطشون لفتواكم فهي لنا بمثابة نور يسطع وسط الظلمات فيبددها حتى نكون بعد ذلك على طمأنينة، ولذلك نطلب ونرجو من فضيلتكم توضيح هذه المسائل المهمة بالبراهين القاطعة والأدلة المقنعة موقنين أنكم ممن يعملون بقوله تعالى (وأما السائل فلا تنهر) نسأل الله تعالى أن يفيض عليك من نعمه، ويمدك بوافر فضله وكرمه، وأن يقيك من جميع البلايا والآفات، في جميع الأزمان والأوقات، وتقبلوا فائق احترامي وجميل شكري.(266/48)
أحد منتمي العلم في بلدة أشقودرة
حافظ إبراهيم ربيشطي
وأن تتفضل بإرسال الأجوبة الشافية بكتاب خاص بالعنوان بالحروف اللاتينية:
انتهت الأسئلة بحروفها
(يتبع)
محمد بن الحسن الحجوي(266/49)
مصر والبلاد العربية
للدكتور زكي مبارك
أشكر لأدبكم وكرمكم التفضل بالحضور للتسليم على صديق كان قد اغترب مدة في سبيل خدمة العلم في العراق
وأعتذر عن كلمة (اغترب) واقترح حذفها من المعاجم فهي كلمة تفردت بها اللغة العربية، ولا يكاد يوجد لها نظير في اللغات الأجنبية، وعن لغة العرب نقلت إلى الفارسية والتركية وهي كلمة حزينة يتمثل سوادها في كلام من يقول:
وكل محبّ قد سلا غير أنني ... غريب الهوى يا ويح كل غريب
وفي كلام من يقول:
أنا في الغربة أبكي ... ما بكت عين غريب
لم أكن يوم خروجي ... من بلادي بمصيب
عجباً لي ولتركي ... وطناً فيه حبيبي
ولي مع هذه الكلمة الحزينة تاريخ، فقد سببت أول معركة أدبية شهدتها في العراق، ذلك بأني كنت نشرت مقالاً في مجلة الرسالة عنوانه (القلب الغريب في ليلة عيد)
فعزّ على أدباء العراق أن أقول إني في بلدهم غريب، ودار الجدل أشهراً حول ذلك المقال في الجرائد والمجلات. والحنين إلى الوطن مرض لا يصيب غير الضعاف في عالم الإنسان والحيوان، فأرجو أن يكون فينا من القوة ما يعصمنا من هذا المرض العضال.
أنا ما كنت غريباً في العراق، وإنما كنت بين أهلي وقومي.
وإذا صح للمصري أن يشعر بالغربة وهو في وطن عربي مثل العراق فماذا ترونه يصنع لو هاجر إلى بلد في استراليا أو في إحدى الأمريكتين؟
لقد آن للمصري أن يبرئ نفسه من ذلك المرض الذي يقضي بان يتوجع حين تنقله الحكومة من القاهرة إلى حلوان، آن للمصري أن يفهم أن في دمه روحاً عربياً يسوقه إلى الانتقال من أرض إلى أرض في سبيل المنافع العلمية والأدبية. آن للمصري أن يفهم أن رجولته لا تكتمل إلا إذا واجه المصاعب واستطاع أن يخلق لنفسه ولوطنه أصدقاء في مختلف البلاد.(266/50)
وما أقول إني كنت أقوى من سائر الزملاء الذين تشرفوا بخدمة العلم في العراق، وإنما أقول إني رضت نفسي على التخلق بأخلاق أسلافنا من العرب فرأيت الأرض كلها وطناً أصيلاً ولم تجر كلمة الغربة على لساني إلا تأثراً بالميراث الحزين الذي قضى بأن تتفرد لغتنا بكلمة (غريب) من بين سائر اللغات.
ولما زار سعادة العشماوي بك مدينة بغداد دعا الأساتذة المصريين لسماع ما قد يكون عندهم من مقترحات أو شكايات، فمضيت أبحث عمن أعرف منهم لأصدهم عن حضور ذلك الاجتماع فقد كنت أحب ألا يكون بيننا وبين حكومة العراق وسيط ولو كان ذلك الوسيط هو العشماوي بك الذي أحب العراق وأحبه العراق.
إن صداقتنا للعراق لا تزال في أول عهد من عهود التكوين، وهي لا تزال في حاجة شديدة إلى من يحرسها ويرعاها، وهي تستحق الحراسة والرعاية لأنها رباط بين أمتين كانت بينهما صلات ودية من أقدم عهود التاريخ.
ولا يعرف قيمة هذه الصداقة إلا من زار العراق. فأهل العراق بمودتهم المتينة يبعثون فينا شعور الثقة بالنفس، ويفرضون علينا أن نؤمن بأن جهادنا في سبيل العلم والمدنية لن يضيع.
أهل العراق منا ونحن منهم. ولو نطقت الأحجار لحدثتكم أن علماء العراق اتصلوا بمصر ونقلوا إليها علومهم ومعارفهم يوم أراد التتار أن يقرضوا حضارة بغداد.
ولعل هذا هو السبب في أن مخارج الحروف لا تتفق بين أمتين عربيتين كما تتفق بين مصر والعراق.
أهل العراق منا ونحن منهم؛ فالمؤلفات القديمة في معاهد مصر هي في الأغلب عراقية، والمؤلفات الحديثة في معاهد العراق هي في الأكثر مصرية. فأرجوكم بالله أن تكونوا جميعاً أنصاراً للأخوة التي تربط بين مصر والعراق.
وقد عجب بعض الناس حين رأوني أتصدى لدفع الأذى عن سمعة العراق، فاعرفوا إن شئتم أني أدفع ديناً ثقيلاً. فأهل العراق في أنديتهم وجرائدهم ومجلاتهم ومدارسهم يدفعون عن مصر قالة السوء ويخاصمون في سبيلها كثيراً من الناس، ولو عرفتم من ذلك بعض ما عرفت لرأيتم أن من القليل أن ينهض كاتب أو كاتبان للإشادة بفضائل أهل العراق.(266/51)
إن القاهرة تقوم في العصر الحديث بالواجب الذي كانت تقوم به بغداد في عصر بني العباس، فمن واجب القاهرة أن تحمل من التكاليف ما حملت بغداد، بل من واجب القاهرة أن ترحب بمطلع اليوم السعيد الذي يقضي بان يكون لها في الشرق منافس قوي هو بغداد، فتفرد القاهرة بالزعامة الأدبية قد يضر أكثر مما ينفع، لأن التفرد بالتفوق قد يخلق عيوباً أيسرها الزهو والخيلاء والاطمئنان إلى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وقد بدأت هذه العيوب تظهر مع الأسف، فأهل مصر شغلتهم ثقافتهم التي اتسعت وتشعبت عن التطلع إلى ما يبدع أهل العلم والأدب في العراق وسورية ولبنان وفلسطين والحجاز واليمن والجزائر وتونس ومراكش وما إلى هؤلاء من البلاد العربية؛ وانصراف أهل مصر عن الأدب في تلك البلاد يحجبهم عن تطور الحياة في أقطار حية سيكون لها بإذن الله مكان بين الأقطار التي تسود العالم في المستقبل القريب.
ومن الواجب في مقامي هذا أن أوجه أنظاركم إلى حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان: تلك الحقيقة هي أن مصر تتفرد اليوم بالسيادة العقلية في البلاد العربية. فمؤلفات مصر ومجلات مصر ليس لها مزاحم يخشى خطره في تلك البلاد؛ وشعراؤنا وكتابنا هم الذين يقدمون الغذاء الأدبي لجمهور المتعلمين في الأقطار العربية، وبفضل إقبال أولئك الإخوان على مؤلفات مصر ومجلات مصر استطاعت اللغة العربية أن تقف على قدميها بجانب اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية. فاللغة العربية اليوم لغة حية حقا وصدقاً، وهي تكافح وتناضل لتسيطر وتسود. وما كان من الغريب أن تسيطر اللغة العربية في أقطار كتب الله أن تستعرب منذ أجيال طوال، ولكن فساد الزمن وتوالي الأحداث والخطوب جعل سيادة اللغة العربية في بلادها من الغرائب، فلنفهم ذلك ولنواصل الجهاد، ولنعرف أن من أعظم الشرف أن نكون في الحياة من المجاهدين، ولنتذكر دائماً أن انتصار اللغة العربية في أوطانها هو البشير بأن تلك الأوطان تستعد من حيث تشعر أو لا تشعر لحياة مجيدة سترون أعلامها بعد حين.
وإخواننا العرب يعجبون من تفرد مصر بالتفوق في اللغة العربية، فان أذنوا شرحت لهم بعض أسرار هذا التفوق. فمصر هي الأمة الوحيدة التي استعربت استعراباً تاماً، وصارت العربية لغتها الرسمية والقومية في مدة ترجع إلى ثلاثة عشر قرناً. وهذا حظ لم يظفر بمثله(266/52)
المغرب ولا الشام ولا العراق، فما انقرضت اللغة البربرية في المغرب، ولا اللغة السريانية في الشام، ولا اللغة العبرانية في فلسطين، ولا اللغة الكلدانية في العراق.
وإنا لنرجو أن تكون لمصر يد بيضاء في رجوع اللغة العربية إلى بلاد فارس بفضل المودة الجديدة التي أنشأتها المصاهرة الملكية بين مصر وإيران. فمن المؤكد أن قادة الرأي في تلك البلاد سيراعون عواطفنا مشكورين فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما فعل إخواننا الأتراك سامحهم الله حين استبدلوا الحروف اللاتينية بالحروف العربية.
وقد وقع بيني وبين سفير إيران في العراق عتاب حين رأيته أول مرة في بغداد، ولم أكن أعرف أن الله سيخلق بيننا وبينهم صلات جديدة تجعل من الحق علينا أن نذكرهم بماضيهم الجميل في خدمة لغة القرآن يوم كان منهم كبار النحويين وكبار اللغويين.
إن فرنسا لها مدرسة في طهران لنشر اللغة الفرنسية بين أهل إيران، فمتى يجيء اليوم الذي تقوم فيه مدرسة عربية في وطن الجرجاني والتوحيدي وابن العميد؟
لقد ألفت كتابي النثر الفني أول مرة باللغة الفرنسية وأنا في باريس، وكان قلبي يفيض بالحزن الدامي كلما تذكرت أن أكثر من تحدثت عنهم في كتابي كانوا رجالاً نشأوا في بلاد فارس، وأن لغة العرب في تلك البلاد صارت غريبة الوجه واليد واللسان.
وكذلك كان حالي حين ألفت كتاب التصوف الإسلامي فقد رأيت أن أرواح التصوف هبت علينا من الأقطار الفارسية.
فيا أصدقائي الأعزاء في إيران تذكروا ثم تذكروا وأنتم مسلمون أبرار أن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الرسول، وتذكروا أن الأمم العربية لها في العالم السياسي والأدبي والاقتصادي موازين، وأنها خليقة بأن تزيدكم قوة إلى قوة حين تراكم ترحبون باللغة العربية التي كان لها في بلادكم أبناء وأحفاد وأسباط. . .
تلكم مكانة مصر بين الأمم العربية والإسلامية، وذلكم حظها بين الممالك والشعوب، وهذا التجاوب الأدبي بيننا وبين من نعرف ومن لا نعرف لم يقع من باب المصادفات، وإنما هو علامة حب صادق يضمره لمصر من عرف فضلها من الرجال.
وأخشى، والحزن يفعم قلبي، أن يكون ما ضفرنا به من المجد الأدبي ميراثاً تلقيناه عن أجدادنا النبلاء الذين ملأوا الدنيا بالتأليف والتصنيف وجعلوا مصر تاجاً تزدان به هامة(266/53)
اللغة العربية.
أخشى ألا تكون لنا سياسة رشيدة تفكر دائماً في حفظ مكانة مصر بين الأمم العربية. أخشى أن نجهل نعمة الله علينا فننسى أننا أغنى الأمم العربية بالأموال والرجال. أخشى ألا نعرف أن الجهاد في سبيل اللغة العربية هو مجد أبقى على الزمن من الأهرام ومن قصر الكرنك وقصر أنس الوجود.
إن اللغة العربية هي التي ستجعل لنا لسان صدق في الآخرين، وهي التي ستسطر محامدنا على جبين الزمان.
والذي أدعوكم إليه هو تجارة لا تعرف غير الربح، فإن كنتم في ريب من ذلك فسيروا في الأرض وانظروا كيف تذكر مصر بالحمد والثناء.
إنني أفرض زيارة الشرق على رجلين: الأول وزير المعارف والثاني وزير الخارجية.
أما وزير المعارف فهو اليوم معالي الدكتور محمد حسنين هيكل باشا، وليته كان في بغداد كما كنت في بغداد يوم ظهور كتابه عن منزل الوحي، ليته كان هناك ليرى كيف استقبل البغداديون كتابه بموكب لم يعرفه القاهريون. وأما وزير الخارجية فهو اليوم دولة عبد الفتاح يحيى باشا، وليته يرى كيف يأنس أهل بغداد إلى صوره الكاريكاتورية في الجرائد والمجلات، إنه لو رأى ذلك لعرف أن مصر لا تعيش وحدها في وإنما تعيش في أنس بأصدقائها في الشرق.
ولن أنسى اليوم الذي زرت فيه نادي المعارف في بغداد مع سعادة الأستاذ طه الراوي، فقد رأيت مكتب رئيس النادي يزدان بصورتين كريمتين: صورة الملك فاروق الأول وصورة الزعيم سعد زغلول.
ولما زرت النجف أراد أدباؤه أن يقدموا إلي هدية فكانت تلك الهدية هي صورة الرجل الموفق محمد العشماوي بك، وكان زار النجف واستقبل فيه أكرم استقبال.
ولما زرت الموصل رأيت رئيس نادي الجزيرة أحد تلاميذي القدماء فأحسست أنني في داري وبين أهلي.
فيا أهل مصر، متى تعرفون نعمة الله عليكم؟ ومتى تؤدون للأمم العربية واجب الوفاء؟
إن الذي كتب أن تكون عاصمتكم عروس الشرق هو وحده القادر على أن يجعلكم أهلاً(266/54)
لرعاية العهد وحفظ الجميل.
زكي مبارك(266/55)
تيسير قواعد الإعراب
لأستاذ فاضل
- 3 -
ألقاب الإعراب والبناء
جعل النحاة للإعراب ألقاباً هي: الرفع والنصب والجر والجزم، وجعلوا للبناء ألقاباً هي: الضم والفتح والكسر والسكون، وقد رأت جماعة وزارة المعارف أن هذه التفرقة دعت إليها الدقة في الاصطلاح بدون حاجة إليها، ولهذا رأت ألا يكون هناك فرق بين ألقاب الإعراب وألقاب البناء.
ولا يخفي أن ما ذهبنا إليه من إنكار البناء في العربية لا تتأتى معه هذه التفرقة، ولكن لا بد فيما ذهبنا إليه من أن يبقى الرفع والنصب والجر والجزم ألقاباً للإعراب، وتبقى الحركات من الضم والفتح والكسر وما ينوب عنها والسكون وما ينوب عنه علامات لهذه الألقاب. ولا شك أن ما تذهب إليه هذه الجماعة من أن يكون لكل حركة لقب واحد غير جدير بالاعتبار، لأن هذا قد يمكن في الإعراب بالحركات، أما الإعراب بالحروف فلا يتأتى فيه ذلك، لأنا إذا جعلنا الرفع عبارة عن حركة الضم لم يمكن أن نجعله عبارة عن حرف من الحروف التي تدل عليه، كالواو في جمع المذكر السالم، وكالألف في المثنى. ومن الإعراب بالحركات ما لا يتأتى فيه ذلك أيضاً، وهذا كما في جمع المؤنث السالم في حالة النصب، لأنه ينصب بالكسرة، فلا بد أن تكون الكسرة في ذلك علامة لا لقبا، لبعد ما بين اللقب والعلامة فيه. وإذا كانت جماعة وزارة المعارف قد وجدت من السهل ألا تفرق بين النصب والفتح في مثل - رأيت إنساناً - فإنه يصعب عليها ألا تفرق بين النصب والكسر في مثل - أكلت تفاحاتٍ
الجملة
رأت الجماعة أن تجري في النحو على إصلاح علماء المنطق فتسمى جزأي الجملة موضوعاً ومحمولاً، والموضوع هو المحدث عنه في الجملة، وحكمه الضم عندها إلى أن يقع بعد إن أو إحدى أخواتها، والمحمول هو الحديث أو المحدث به(266/56)
1 - ويكون اسماً فيضم إلا إذا وقع مع كان أو إحدى أخواتها
2 - ويكون ظرفاً فيفتح
3 - ويكون فعلاً أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة ويكتفي في بيان إعرابه بأنه محمول
وترى الجماعة أنها بهذا كله يسرت إعراب الجملة وقللت إصلاحاتها وجمعت أبواب الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ واسم كان واسم إن في باب الموضوع، وجمعت أبواب خبر المبتدأ وخبر كان وخبر إن في باب المحمول، وخففت عن المعلمين والمتعلمين برد باب ظن إلى الفعل المتعدي
ونحن نرى أن كلاً من تقليل الاصطلاحات وتفصيلها قد يكون يسراً في العلم وتدوينه، وقد يكون يسراً فيه، فيجب أن يصار إليهما بقدر ما تدعو إليه الحاجة فيهما، وإلا كان الإجمال غموضاً في العلم وكان التفصيل حشواً لا فائدة فيه، وهذه الأبواب التي جمعت في باب واحد ذات أحكام كثيرة مختلفة، فمن الواجب أن يقتصد في جمعها، وقد يؤدي الإسراف في تقليل اصطلاحاتها إلى عكس ما نرجوه منه
والذي نراه في ذلك أن يلحق باب كان وأخواتها وباب إن وأخواتها بباب المبتدأ والخبر، فتجمع هذه الأبواب الثلاثة في باب واحد، ويعرب اسم كان وخبرها مبتدأ مرفوعاً وخبراً منصوباً، ويعرب اسم إن وأخواتها مبتدأ منصوباً وخبراً مرفوعاً لأن الإعراب فرع المعنى ودليله، وهذه الصيغة الإعرابية المشهورة لا يمكن أن تدل على معنى في جملة كان وأخواتها وجملة إن وأخواتها، بل هي صيغة لا معنى لها في ذاتها، إذ لا يمكنك أن تفهم معنى لكون اسم كان وأخواتها اسماً لها، ولا لكون خبرها خبراً لها، وكذلك الأمر في إن وأخواتها، فصاحب الخبر في قولك: كان زيد قائماً - هو زيد لا كان، وموقعه في هذه الجملة موقع المبتدأ المخبر عنه، فأصدق شيء في إعرابه أن يقال إنه مبتدأ، وأن يقال فيما بعده إنه خبره لا خبر كان، وليست كان في جملتها إلا قيداً فيها، لأنها تقيد الخبر بمفادها وهو الزمان الماضي، فكأنك قلت في ذلك المثال - زيد قائم في الزمان الماضي
وأمر ذلك في إن وأخواتها أظهر منه في كان وأخواتها، لأن قولك - إن زيداً قائم - لا تفيد إن فيه إلا تأكيد ثبوت الخبر للمبتدأ، فلا يزال المبتدأ فيها مبتدأ على معناه وإن تغيير(266/57)
إعرابه، ولا يزال الخبر خبراً له بإعرابه الذي كان له
وليست منزلة هذه الأدوات من المبتدأ والخبر إلا كمنزلة أدوات الشرط من فعل الشرط وجوابه. وأنت حينما تعرب فعل الشرط لا تقول إلا أنه فعل الشرط، ولا تقول إنه فعل الأداة، وكذلك تقول في الجواب إنه جواب الشرط، ولا تقول إنه جواب إن وأخواتها، فإذا أضيف الشرط أو الجواب في بعض الأحيان إلى هذه الأدوات فان ذلك لا يكون إلا على ضرب من التجوز، لما لها من علاقة المجاورة والعمل فيهما، ولا يدل على أمر حقيقي في معنى الجملة
فهذا هو الذي نراه في اختصار هذه الأبواب، قد راعينا فيه ما يجب من مطابقة الإعراب للمعنى، ولم نقصد فيه الاختصار لذاته كما قصدته هذه الجماعة
وعلى ما ذهبنا إليه في ذلك يكون المبتدأ هو الاسم المحدث عنه في الجملة الاسمية، فيشمل ذلك اسم كان واسم إن، ويكون الخبر هو الاسم المحدث به في الجملة الاسمية، فيشمل ذلك خبر كان وخبر إن. وقد ذهب الكوفيون إلى أن المنصوب بعد كان وأخواتها حال لا خبر؛ ويمكن على هذا أن يكون المرفوع بعدها فاعلا لها، ويكون حكمها في ذلك حكم سائر الأفعال، ولا يكون هناك داع إلى تقسيم الأفعال إلى تامة وناقصة
ولا نرى بعد هذا كله في ذلك الموضوع إلا أن يلحق باب النائب عن الفاعل بباب المفعول به وغيره مما ينوب عن الفاعل، فيكون لنا مفعول به مرفوع في نحو - قُضيَ الأمرُ - ومصدر مرفوع في نحو - فإذا نُفخ في الصور نفخة واحدة - وظرف مرفوع في نحو - سهرت الليلة - وهذا الإعراب أولى من الإعراب المشهور في ذلك، لأن إعراب ذلك نائب فاعل لا يقوم على أساس قوي، إذ ليس في ذلك إلا حذف الفاعل للعلم به أو نحوه مما يحذف لأجله، والمفعول بعد حذف الفاعل باق على مفعوليته، ولا معنى لدعوى نيابته عن الفاعل، بل قد يحذف الفاعل ولا يجود ما ينوب عنه، نحو - سُقط في أيديهم - وهم يذهبون في هذا إلى نيابة المجرور، ولكنه تكلف ظاهر، وليس من اللازم أن ينوب شيء عن الفاعل عند حذفه، كما لا يلزم هذا في حذف المبتدأ ونحوه
(يتبع)
أزهري(266/58)
رسالة الفن
موت فرنشيسكو فرنشا
مترجمة عن الإيطالية
يا بني! لا جدال في أن عصر النهضة الإيطالية عصر ربيع الحياة الفنية العظيمة؛ أورق الفن فيه وأزهر، ونهض الرسم نهضة قوية جبارة، إذ نفض عن كاهله رماد الموت، ونفخ في هيكله روح حياة جديدة، فجاءنا بكل شهي بهي، وأسعف ذوقنا بكل رائع خلاب
أوجد من الرجال العظام ومن الرسامين الفطاحل ما يدهش لمده وحصره كل قارئ وكل مؤرخ: رجال أكفاء، أفذاذ، في المناقب والأعمال، جبابرة في التفكير، عظماء في الإبداع والخيال
وكلنا مشوق ولا شك إلى دراسة حياة رجالات هذا العصر، لتفهم طراز درسهم للفن، وطرق تدرجهم نحو ذروة الكمال والمجد: بعد أن طواهم الردى واحتوتهم الرموس ومن الغريب العجيب كما قال (أوسيان) أننا حين ذكرانا لهم وتتبعنا لخطواتهم ينهضون معاً ويأتوننا مجتمعين ليذكرونا بقيمة فهم المتحد المشترك، وبقوة الدهر الذي عاشوا بين أحضانه حتى اصبحوا خير مثل
هناك حوادث كثيرة، ومناقب طريفة نقلنا إلينا تاريخهم العامر المجيد، قد نظنها عند سماعها إنها من خيال الكتاب أو من تزويق الرواة مستحيلة الوقوع خارقة لطبيعة الواقع. ولكن ها هي آثارهم الخالدة لا تزال تستهوي لبناً بعد أن طواها البلى، فكيف بها وقت أن كانت في صبح شبابها الرائع، وفي عصرها الذهبي الذاهب؟!
هناك قصة يهلع لسماعها القلب ويخشع، هي قصة الفنان العظيم (فرانشيسكو فرانشا) أستاذ المدرسة البولونية اللومباردية
ولد فرانشيسكو فرانشا في أسرة متواضعة فقيرة
ثم جعله أهله في صغره عند صائغ فكان الفن الرفيع متجلياً فيما يبدع. ولما شب كان أمراء (لومبارديا) يتقدمون إليه لينقش لهم صورهم على العملة التي كانوا يسكنوها. ولم يقتصر الإعجاب به على أمراء بلده فحسب، بل تدعاهم إلى أمراء المقاطعات المجاورة، فكانوا هؤلاء إذا زاروا (بولونيا) - موطن الفنان - أوفضوا إليه ليطبع صورهم على اللوحات(266/60)
المعدنية، وينقشها على العملة التي يريدونها، كما كان يصنع لأمراء بلدة وأقيالها
ومع ما بلغه فرانشيسكو من المنزلة السامية والمكانة المرموقة كانت نفسه التواقة تتطلع إلى ذروة أسمى مما وصلت. ولما بلغ الأربعين حولاً، وجه عزيمته الجبارة لشق طريق جديد لم يسلكها أحد قبله. . . تعتمد على العلم والدراسة والذوق والحس. . . وها هوذا يبدأ بدراسة الرسم، فيدرس توافق وتراكيب الرسوم، وتناسب وامتزاج الألوان، وأثر وقوى النور، وأساليب رسم المنظور بالطرق الهندسية. فاستطاع بعد هذه الدراسة يخط في مدة قصيرة لنفسه طريقة جديدة في عالم التصوير: هي المعروفة في التاريخ (باسم المدرسة البولونية اللومباردية)
اعترى سكان لومبارديا ضرب من الذهول والتعجب حين طلع عليهم فرانشيسكو بلوحاته الجميلة وجاماته البديعة، وكانوا يعتقدون استحالة الجمع بين النقش والتصوير، وخاصة بهذه السرعة العجيبة. ولكن الأمراء لم يسيروا مع ذهولهم ولم تطل ساعة تعجبهم بل راحوا يختطون ما أنتج من لوحات وما أبدع من جامات ليزينوا بها دورهم وقصورهم كما كانوا يستبقون قبلاً لشراء آثاره المعدنية المنقوشة. . .
نال فرانشيسكو فرانشا منزلة سامية في الرسم لا تقل عن منزلته في النقش في وقت كان فيه اسم (رافائيللو سانسيو) العظيم فنان روما وصاحب الحظوة عند البابا، قد سار به الركبان وردده الخافقان. فنجاح فرانشيسكو لا يفسر بخلو المكان وفقدان المنافس، كما أن شهرته في النقش لم تكن زريعة للنجاح أو الزلفى إلى الأمراء والكبراء، لأن الكفاية الفنية ليست كضربة لاعب أو رمية رام؛ بل هي ومضة علوية تشع آلاف الأشعة الوهاجة، فتنير من نفسها طريق الفهم وتدلنا على مواقع الإسفاف أو السمو بدون إبهام ولا خداع؛ فنرى بأعيننا آثار هؤلاء الفنانين العظام الذين هم بحق نعمة من نعم السماء
لا شك أن فرانشيسكو كان من ألمع رجال الفن في عصر النهضة. له كما لهم المنزلة المرموقة في نفوس رجال النقد والتأليف في العالم أجمع، لا لشيء إلا لأن هذه الصفوة العجيبة من الفنانين العظام استطاعت أن تشيد على أنقاض الجاهلية الجهلاء صرحاً مكين الدعائم رفيع الأركان في أفسح ساحات المدينة الفاضلة وفي عالم الفن الرفيع المخلد. وكانت يد فرانشيسكو من أطول الأيدي وأقدرها على رفع الأساطين وتشييد الجدران،(266/61)
فأنتجت وافر الإنتاج وأبدعت غاية الإبداع، وطافت على قصور (لمبارديا) فكستها الجمال، وأكسبتها الفتنة والملاحة. وراحت إيطاليا كلها بعد لومبارديا تذكر فرانشيسكو بكل إجلال وإكبار
كان رافائيللو في روما يرهف سمعه للصدى الخلاب الذي تتجاوبه الأفواه المعجبة. وكان يصغي بقلبه للحديث العذب الذي يتحدث به أهل بولونيا عن فنانهم العظيم، وكان يطرب لموسيقى اسم الفنان ويتشوق لرؤية آثاره وطلعته، وقد أسعفه الحظ فرأى ما أعجبه فاتصل روفائيللو بفنان لومبارديا فأطرى طريقته إطراء جميلاً وامتدح أسلوبه وقرظ فنه الحسن العجيب
لقد بلغ فرنشيسكو بحق منزلة رفيعة من لطف الحس ورقة الروح وجودة الأسلوب ودقة العمل، وقد أعجب بفنه كثير من الكتاب، وغالي أحدهم فدعاه إله الفن. وقد قال (كافاتزوني) إن روفائيللو بعد أن رأى (عذراء فرانشيسكو) تحرر من الجمود الذي علق بفنه من إتباعه طريقة (بروجا) وخلص من الجفاف المشاهد اليوم على بعض لوحاته من قبل تأثره بفن فرانشيسكو. وروح الفنان كالأسفنجة ما جاورت غديراً إلا تشربت من مائه
لم يكن إطراء رافائيللو لفرانشسكو إلا قوة جديدة دفعته إلى الاستزادة، ورأى أن فنه لم يصل بعد إلى المكانة القصوى، واتخذ من مدح رفائيللو له جناحاً جديداً سيساعده على الطيران في عالم الخلود
كان فرنشيسكو دون سائر الفنانين يستطيع أن ينافس رفائيللو الحظوة التي كان ينعم بها عند البابا وفي نفوس أهل روما، وكان في قدوة فرنشيسكو أن يباري رفائيللو في حلبة الفن ويطاوله في سماء المجد، ولكن الحظ لم يواته فلم ير لرفائيللو أثراً ليضرب الطريقة التي يسير عليها ضربة قاتلة. كان مقيما ببولونيا لم يبرحها طيلة حياته، وكان رفائيللو مقيما بروما وروما ضنينة به والبابا من أحرص الناس على ملازمته. وكان فرانشيسكو الشيخ يتشوق لرؤية آثار فنان روما قبل إغماضه الغمضة الأخيرة، رغم الفكرة التي استخلصها من وصف الناس لفنه ومن الكتب التي كان يتلقاها منه لماماً، فقدر أنه مثيله في نواح متعددة، وقد يفوقه في إحدى النواحي العميقة التي وصل إليها بطول المدة التي مارس فيها الرسم(266/62)
جاءه البريد يوماً بكتاب من رفائيللو يقول له فيه: إنه أرسل إليه لوحة (للقديسة سيشيليا) أعدها لكنيسة (سان جوفاني) بمدينة بولونيا نفسها، وأنه يرسل هذه اللوحة إلى صديقه (فرانشيسكو) أولاً راجياً منه التكرم بمراقبة وضعها بالمكان الذي أعدت له. وقد يكون السفر الطويل قد أضر بها، أو ربما يرى فيها بعض هفوات فنية، فهو (أي رفائيللو) يرجو منه إصلاح ما فسد وتصحيح ما أخطأ فيه. على أن لغة التواضع التي اتبعها رفائيللو في كتابه إلى صديقه فرانشيسكو وأذن له بأن يعمل ريشته في اللوحة التي سيرسلها إليه ليتحقق من سلامتها وصحتها؛ كل هذا أثار في نفسه ثورة متضاربة شديدة من الأخيلة المضطربة، ولم تسعفه مخيلته في تصور ما سوف يري، أو في تقدير ما سيشاهد من المقدرة الفنية والبراعة التصويرية
وفي عصر يوم من الأيام التي مرت على وصول رسالة رفائيللو إليه رأى تلاميذه يوفضون إليه فرحين مستبشرين يزفون إلى أستاذهم خبر البشرى بقدوم اللوحة المنتظرة، وكانوا قد أعدوا لها مكاناً حسناً في المعمل على ضوء كامل
ها هي الدنيا تدور برأس فرانشيسكو الشيخ. . . ولماذا؟. .
أنى لنا أن نصف لرجال هذا العصر الشعور الذي غمر نفس ذاك الفنان العظيم حين شاهد لوحة أعجبته وملكت لبه؟! هو شعور أخ فارق أخاً له منذ الصغر، وارتقب عودته على نار الغضى. . . وفي الوقت الذي فتح ذراعيه لعناقه كان أمام. . . أمام ملاك سماوي باهر الضياء
خفق قلب الشيخ المسكين وعنا وجهه وخشع أمام جلال الفن الرهيب، وانحنت رجلاه ساجدتين كأنه أمام كائن سماوي مهيب. . .
سمر في مكانه وتسارع الطلاب إلى أستاذهم يسرون عنه بعض ما حل به، ولا يفهمون لكل ما حدث سبباً. . . أمطروه بالأسئلة والشيخ في عالم غير عالمهم. . .
صحا الشيخ قليلاً. . . ولكنه ما زال شاخصاً نحو اللوحة السمائية (لوحة رفائيللو) ينظر وينظر. . . وكيف لنا أن نعرف ماذا كان يفكر في هذه الساعة الرهيبة؟
لقد تحطم المسكين أمام شعاع العظمة. . . وهاهو يسائل نفسه بغصة وألم عن السبيل إلى التفكير عن الجريرة التي اقترفها. إنه لكنود كفور. تطاول على رفائيللو العظيم وغمطه(266/63)
فنه. ولقد خيل إليه عن جهل وطمع أنه صنو له وند. . . وقد طفق يعمل أصابعه الواجبة بشعره الأشهب الأشيب ويزرف الدمع سخيناً غزيراً على ما فرط في جانب الفن. لقد كد وجد في حياته طعماً في المجد، ولكنه في الساعة الأخيرة من عمره رأى صرح فنه الفخم ينهار أمام عظمة روفائيللو. تطلع إلى حيث كانت تنظر القديسة المصورة. . . إلى السماء وكشف عن قلبه المحطم وصلى صلاة قصيرة طلب فيها الصفح والغفران. . .
خانته ركبتاه وضعفت رجلاه عن حمله فسارع تلاميذه إليه فحملوه. . .
وكان هو خارج من معمله ينظر إلى بعض لوحاته المعلقة ونفسه تذوب حسرات وألما. وألقى نظرة الوداع على لوحة دفن القديسة سيشيليا التي كانت لا تزال في معمله وخرج.
مرض الشيخ، واصطلحت عليه الأوصاب. وأخذت ذاكرته تخبو، واستولى عليه هذيان الحمى الأخير، وراحت تعتاده السكرات والغمرات. . . لقد خان العقل الجبار صاحبه في أواخر ساعاته، ذلك العقل الذي غبر زمناً طويلاً يبدع الوجوه المشرقة ويسوى الأجسام على الأقمشة بالألوان والأصباغ. . .
واجتمعت تلك الوجوه التي أبدعتها مخيلته السحرية وخلقتها ريشته الصناع دفعة واحدة مع سعير الحمى المتأججة وراحت ترقص رقصة الشماتة والسخرية. وترفل في ثياب رثه بهيئات مقلوبة ممسوخة ووجوه مشوهة دميمة، تدق طبول الهلع وتنفخ في بوق الفزع، وتقرب ما بينه وبين الهوة المجهولة. . .
وزاره طلابه يستفسرون عن صحته. . . فإذا هو قد فارق الحياة. . .
حقاً لقد كان هذا الرجل عظيماً، حينما شعر بالضعف أمام عظمة روفائيللو العلوية، عظيماً عندما أثر في نفسه فن رفائيللو هذا الأثر الغريب. إن عبقرية فرانشيسكو في رأي حكم النقاد والمؤرخين هي في طليعة العبقريات الفذة، وآثاره تنطق بأنه راح ضحية النشوة والانفعالات الفنية
زفر الشيخ (فاسرى) زفرة عميقة وهو يقص على فاجعة الفن بموت أبي الفن فرانشيسكو فراننشا، ثم أردف قائلاً: عجبي من تلك العقول القاصرة التي تدعي النقد والعلم والتي لا تريد أن تفهم أو التي لا يمكنها أن تفهم سر تلك العبقريات التي أودعها الله سبحانه تلك النفوس العظيمة التي هي ولا شك من طينة غير طينة الناس، وتريد هذه العقول أن تقول(266/64)
إن كل ما نقل إليها وما قيل لها عن هؤلاء الأبطال الجبابرة حديث خرافة أو ضرب من خيال الرواة، وليس هذا غريباً من عقول لا تسمو بطبيعتها إلى عقول هؤلاء الرسل والأنبياء: رسل الإلهام والخيال، وأنبياء الفن والجمال
إنني لآسف يا بني أن نسمع من يقول بوقاحة وصفاقة إن فرانشيسكو فرانشا قد مات بالسم.
المترجم
محمد غالب سالم
خريج الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بروما(266/65)
من صميم الصحراء
إنسانة الحي
للأستاذ إبراهيم العريض
اسْتَمرَّتْ ذُكاءُ شا ... خصَةً من مغيبِها
وعلى البِيدِ حوْلها ... أثرٌ من شُحُوبِها
صُفرةٌ شابَها مِن ال ... ظِلِّ ما يزْدَهي بها
وكأنَّ الرِمالَ في ... لُجَّةٍ من كِثيبها
تارةً تكتِمُ الرسو ... مَ وطوراً تشى بها
وتَوارتْ. . . فأعْلَنَ ال ... أفْقُ منْعى غُرُوبها
ثُم أرخَى سُدولَه الْ ... ليلُ. . . تنْدَى بِطيبها
فتُطِلُّ النجومُ با ... سِمةً من ثُقوبها
أيُّ طَيْفٍ أثارَ رحْ ... متَها في قُلوبها
إنَّها غادةٌ على ... موْعِدٍ من حبِيبها
غادة في وُجومِها ... كالدُمى البِيضِ ساحِرَهْ
من خِلالِ الخِيام تَحْ ... دِقُ في الليْلِ حائره
تُطْرِقُ الرأسَ كيْ تِس ... يخَ إلى النُوقِ سادره
ثم تُلقِي بطَرْفِها ... حوْلَها كالمحاذِره
لأَقلِّ القليلِ من ... هَمساتِ العبَاقره
وإذا قلَّبتْهُ ترْ ... سِمُ في الأفْق دائره
لا تَرى في الظلامِ غيْ ... ر يدِ الله قاهره
يُثْقِلُ النومُ جفْنَها ... ثمَّ تخْشى بَوادِره
فتُناجِي بكفِّها ... أنجُمَ الليْلِ حاسره
(جنِّحِي يا عرائِسَ ال ... ليْلِ باليُمنِ طائرَه)
لمحَتْ شخْصَهُ على ... تلَّةٍ من تِلالِها
فتَثنَّتْ. . . كأنها ... بانةٌ في اعتِدالها(266/66)
بعْدَ أن نفَّضتْ عباَ ... َءتَها مِن رمالها
ومشَتْ كالقَطاةِ نا ... هِدةً في اختِيالها
وَهْيَ تُوحِيْ لصَدْرِها ... خَفَقاتِ انتِقالها
ثم حيَّتْهُ عِندَ نا ... رِ قَرًى في اشتِعالها
لم يكُنْ حوْلها ولا ... واحِدٌ من رِجالها
وعلى ثغْرِها ابتِسا ... مٌ جزَى عن مَقالها
فرَأى ما يزِيدُ في ... حُسنِها من دَلالها
ظبْيةٌ في كِناسِها ... ملء عيْنَيْ غزَالها
طلَعا فوْق ربْوَةٍ ... رفَّ كالليْل ظِلُّها
وعلى قُلَّةٍ من ال ... رمْلِ ضافٍ محلها
من وراءِ الخِيام حيْ ... ثُ ترى البِيْدُ كلها
بسَطتْ كفُّهُ الرِدا ... َء إلى مَنْ يُجلِها
خشْيةً أن يَمسَّها ... من نَدى الأرض طَلها
وهُناكَ اسْتَمرَّ في ... حُظْوَةٍ لا يَملها
لم يعِبْ حُسنَها سِوى ... أنَّهُ يسْتَقِلها
ظمَأٌ في لهاتِهِ ... هلْ لها ما يبلها
غيْرَ أنْفَاسِ ساعةٍ ... في الدُجى يسْتَغِلها
فَتَعاطى مِنَ الحدِيْ ... ثِ مُداماً يَعِلُّها
ناوَلتْهُ يمينَها ... فحنا فوْقَها الشِفاهْ
هامِساً بيْنَ قُبْلتَيْ_نِ تشِفَّانِ عن جواه
بلسانٍ مُبلبلٍ ... بعْضَ ما جاشَ من هواه
وأسمُها في حَدِيثِهِ ... دائِرٌ دوْرةَ الحياه
ثم ألقَتْ بطرْفِها ... في فُتورٍ إلى الفلاه
فترى في شُرُوقهِ ... قمراً مُرسِلاً سناه
يَملأ البِيْدَ فِضَّةٍ ... دُونَها فِضَّةُ الغُزاه(266/67)
فتُناجى حبِيبَها ... لوْ يراهُ كما تَراه
أفَيُلقِي لغيْرِها ... بالَهُ. . . وهْيَ في سماه
إنَّما في سَوادِ نا ... ظِرِها كلُّ مُشتهِاه
ها هُمَا - والنُجُومُ تر ... عاهُما - وهْيَ زاهِيَهْ
صورَةٌ حُلْوةٌ لقُ ... رةِ عيْنٍ بثانِيه
إنّها كالرَضيع بَيْ ... نَ ذِراعيْهِ غافيه
والي الشَعْرِمن غَدا ... ئِرِها في ترامِيَهْ
أرَجُ كالنَسيم يَنْ ... فحُ من كلِّ ناحِيه
كلَّما سرَّحت أنا ... مِلَها فيهِ ساهيه
مالَ من فَوْقِها ليُنْ ... شِدَها فيهِ قافيه
ثم يغْزُو بثغْرِهِ ... تغْرَها من حواشِيه
فيَمسُّ الشِّفَاهَ وَهْ ... يِ تحاذيهِ راضِيه
ريْثَما تُصْبحُ الشِّفا ... هُ من الْحُبِّ دامِيه
تَصْهرُ الشمْسُ جمْرَة َال ... قَيْظِ في البِيْدِ ثانِيَه
فتَبينُ الرِّمالُ بِيْ ... نَ يدَيْهَا كما هِيَه
وعلى الرَّمْلِ حبَّةٌ ... من لآلٍ ثمانِيَه
هِيَ قَبْلَ الصَّبَاحِ كا ... نَتْ على جِيْدِ غانِيَعْ
(البحرين)
إبراهيم العريض(266/68)
الباحث عن الهدوء. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(. . وإني لأخشى أن يستمرئ القلق حياتي فيحجبني عنك
الهدوء الأخير!)
لَقَدْ نَصَبَ الْعُمْرُ إِلاَّ شُعَاعاَ ... يَكادُ عَلَى أَعْينُي يُحْتَضَرْ
يَشُقُّ إِلَيكِ ضَبَابَ الْحياةِ ... وَيَنْفُذُ في غَيْبها المُسْتَتِرْ
فَيَخْتَنِقُ النوُّر في صَفْحَتَيْهِ ... كما اخْتَنَقَتْ آهَةُ المُنْتَحِرْ
وَيمضِي. . عَلَيْهِ غُبَارُ الْجُنُونِ ... وَتَهوِيمَةُ الفاَرِسِ المُنْدَحِرْ
وَذُلُّ النَّدَى في شِغَافِ الْهَجِيرِ ... وَذُلُّ الُّدجى في ضِفَافِ الْقَمَرْ
وذُلُّ السَّنَا في جُفُونِ الْحَزينِ ... إذا شاَبَ في مُقْلَتَيْهِ السَّهَرْ
وذُلُّ السَّنَا في جُفُونِ اَلْحزينِ ... إذا شَابَ في مُقْلَتَيْهِ السَّهَرْ
وذُلُّ اْلأَماني بِقَلْبي الْجَرِيح ... وَقَدْ مَزَّقَتْهُ رِياحُ الضَّجَرْ
فلا يلْمَحُ النُّورَ فَوْقَ السُّهُولِ ... ولا الظِّلَّ تحْتَ غَوافي الشَّجَرْ
ولا بَسْمَةَ الْجَدْوَل الْعَبْقَرِيِّ ... إذا عانَقَتِهُ طُيُوفُ السَّحَرْ
ولا فَرْحَةَ الْمَرْج يَوْمَ الرَّبيعُ ... تَلَقَّاهُ في لَوْعَةِ الْمُنْتَطِرْ
فألْقَى عَلَيْهِ الهوَى وَالشَّبَابَ ... وَأحْيَا لَدُنيَاهُ عِيدَ الزَّهَرْ. . .
سَوَاءٌ لَدَيْهِ مُسوُحُ الشِّتَاءِ ... وَأَشجانِهِ في الظَّلاَمِ الْعَكِرْ
وَفَجْرُ الرَّبيعِ وَقَدْ شاعَ فيهِ ... عَلَى صَفْحَةِ النُّورِ فَنُّ القَدَرْ!
سَوَاءٌ لَدَيْهِ رَأى كَوْنَهُ ... أَمْ ازْوَرَّ عَن كَونِهِ وَانحَسَرْ
لَقَدْ ذابَ فيهِ خَيَالُ الْوُجُودِ ... وَشَرَّدَهُ الْقَلَقُ المُسْتَمِرْ
فلا تَسْأَليهِ هُدُوَء الْحَيَاةِ ... فَقَدْ ماتَ في خاطِري وَانْدَثَرْ
سَلاَمٌ عَلَيْكِ مَعَ الْهَادِئينَ ... وَفي قَلَقي جَذْوَةٌ تَسْتَعِرْ
كَأني سَفَاةٌ دَهَتْهَا الرِّياحُ ... وَجُنَّ بهَا عَاصِفٌ ذُو شَرَرْ
كأَني جُنُونُ الهوَى في الْقلُوبِ ... إذا عاجَلَتْها ليالَي السَّفَرْ(266/69)
عَلَى رِعْشَةِ الشَّوْق لا أسْتريحُ ... ولا أَسْتَفِيقُ، ولا أَسْتَقِرْ. .
أَلاَ فارْفَعِي السِّتْر طالَ الْعَذَابُ ... وَطالَتْ لَيَالي الأَسَى وَالْفِكَرْ
وَغَنَّيْتُ حَتَّى مَلِلْتُ الْغِنَاَء ... وَمَلَّتْ عَذَابي شُجُونُ الْوَتَرْ
أَلاَ أَسْرعي قَبْلَمَا يَحْتَوَيني ... هُدُوءُ الْبِلَى في ظَلاَمِ الْحُفَرْ!
محمود حسن إسماعيل(266/70)
البريد الأدبي
فلسطين وصاحب الرسالة
جاءتنا هذه الكلمة الكريمة من صديقنا الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي فنشرناها نزولا على إرادته. قال شكر الله له:
يُطلّ من مصر كاتبُ العرب وأديبهم الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب (الرسالة) على أخوته الأشقياء البائسين من العرب والمسلمين في هذا الإقليم الشقيّ المبتلَي بالإنكليز وباليهود، ويشاهد ما يشاهد - ولا تسلْ عن هول تلك المشاهد - فتُملى على يراعته إسلاميّتُه وعربيته وبلاغته مقالته: (يا لله لفلسطين!)
وإنها (والله) لصفحة عربية عبقرية تضاف إلى صفحات لها مثلها كثيرات، وحسنةٌ أحمدية حَسَنِيّة مضمونة عند الله وفي التاريخ إلى مآثر جمة له وحسنات
وإن (أحمد) لَلْمسلم المؤمن يذكّره (كتابُ الله) فيدعو ويقول، وإنه لَلْبليغ كل البليغ يجول في ميادين الإنشاء والإبداع ويصول. وما (رسالته) في مصر إلا رسالة الإسلامية تخدم محمداً (صلوات الله عليه) وقرآنه وأمته ولغته وبيانه و (فيها هدًى ونور)
فحيّا الله أخانا في الدين والعربية، وحيّا رَبْعَه، وشكراً له وشكراً لهم، وبارك الله في (مصر) التي وقت حضارة الإسلام والعرب في الأمس، وأعادت ذلك المجد القديم اليوم
محمد إسعاف النشاشيبي
رأي مجلس الشيوخ في الجامعة المصرية
قدمت اللجنة المالية في مجلس الشيوخ تقريرها عن ميزانية الجامعة بهذه الكلمة:
ثلاثون سنة انقضت على وضع الأسس الأولى للجامعة قبل أن تتسلمها وزارة المعارف العمومية وتلحق بها تباعاً للمدارس العليا فتكون منها كليات تتألف منها (الجامعة المصرية) الآن وهي كليات الآداب والعلوم والحقوق والطب والهندسة والزراعة والتجارة والطب البيطري. وقد نمت روح الجامعية وترعرعت وكان لها أثر يذكر في بيئاتنا العلمية والاجتماعية على حداثة عهد هذه المؤسسة عندنا
فالجامعة المصرية بفضل عدد الكليات التي تتألف منها، والدرجات العلمية التي تمنحها،(266/71)
وأعلام الأساتذة الذين يشغلون كراسيها، والروح الجديدة التي أشاعتها في أساليب البحث والدرس، قد أصبحت أداة صالحة لنشر الثقافة العليا، وهيئة كاملة التكوين من الهيئات المماثلة في البلدان الراقية
على أننا نطمع في أن تسير جامعتنا خطوات واسعة إلى الأمام من حيث رفع مستوى التعليم، وبث روح البحث والتنقيب في صدور الأساتذة والطلبة رغبة في العلم من أجل العلم، حتى تصبح في القريب من الزمن منارة علم وعرفان يشع نورها في أنحاء هذا الشرق فيقصدها طلابه من كل صوب للاستزادة من التثقيف، كما يقصدون الجامعات المعروفة في أوروبا وأمريكا، وكما يقصدون الجامعة الأزهرية للاستزادة من العلوم الدينية، ولا شك في أن النهوض بهاتين الجامعتين لمن أهم العوامل الكفيلة بالاحتفاظ للمملكة المصرية بزعامتها الأدبية والفكرية، بل والسياسة أيضاً بين دول الشرق، فتستعيد سالف مجدها وعزها
وليس بنا من حاجة إلا الإضافة في هذا الموضوع، فان كمبردج وأكسفورد في إنجلترا، والسوربون والكوليج دي فرانس في فرنسا، من أهم دعائم عظمة هاتين الأمتين. ويقال مثل هذا في سائر الجامعات في سائر البلدان. ولعلنا قائلون قريباً مثل هذا القول عن جامعتنا المصرية بالنسبة إلى مصر
المجمع اللغوي وتبسيط قواعد النحو
ذكرنا من قبل أن وزارة المعارف ألفت لجنة من أساتذة الجامعة ودار العلوم ومفتشي اللغة العربية بالوزارة، وأن هذه اللجنة أتمت مهمتها وهي وضع قواعد لتبسيط اللغة العربية وتدريسها لطلبة المدارس
وقد تلقت رئاسة المجمع الملكي للغة العربية كتاباً من وزارة المعارف تطلب فيه من المجمع درس المقترحات التي وضعتها اللجنة خاصة بتبسيط القواعد وموافاتها بملاحظات المجمع على هذه المقترحات. وأرفقت الوزارة بكتابها صورة من قرار اللجنة
وقد أرسلت إدارة المجمع كتاباً خاصاً إلى جميع الأعضاء تبلغهم فيه كتاب الوزارة وصورة مقترحات اللجنة وتطلب إلى كل منهم دراستها وإبلاغ إدارة المجمع ملاحظاته عنها
وقد تلقت الإدارة بعض ردود من الأساتذة الأعضاء تضمنت طائفة من هذه الملاحظات،(266/72)
سترسل إلى وزارة المعارف، بعد وصول تقارير بقية الأعضاء
مؤتمر تعليمي عربي
فتى العرب الدمشقية:
علمت أن وزارة المعارف السورية تدرس فكرة عقد مؤتمر تسليمي عربي تدعو إليه الأقطار العربية كافة، وقد وضعت الوزارة النقط اللازمة لدراستها والعمل على تحقيق هذه الفكرة
وقد اتصل بها أن الوزارة تفكر الآن في إرسال بعثة من الطلاب والأساتذة إلى العراق لزيارة القطر الشقيق وأخرى إلى القطر المصري لتبادل الزيارات بين الأقطار العربية وتوطيد العلائق والروابط بينهما
تأثير اللاسلكي في اللهجات
جاء في نشرة هيئة الإذاعة البريطانية الأسبوعية للإذاعة العربية ما يلي:
بين الأحاديث التي يتناولها برنامجنا لهذا الأسبوع حديث الأستاذ حميدة الذي سيعالج فيه مسألة السينما واللاسلكي وتأثيرها في مختلف اللهجات. والموضوع من حيث فكرته ليس بالجديد في أوربا فقد شغلت هذه المسألة بال علماء اللغة في إنكلترا منذ أن استهدفت اللغة الإنكليزية لخطر النطق المبتور والتعبيرات المهلهلة التي بدأت تتسرب إليها عن طريق بعض الأفلام الأمريكية.
ولا غضاضة - في عرفنا - أن يكون كل من السينما الناطق واللاسلكي أداة لتقريب اللهجات المختلفة، فمصلحة أبناء اللغة الواحدة تقضي بأن يفهموا جميع لهجاتها. ولكن هل من مصلحة أمة تتفاوت في اللهجات كالأمة العربية مثلا أن تتكلم لغة واحدة؟ وإذا كانت المصلحة تقضي بذلك فأي اللهجات ستختار؟ هل تختار يا ترى اللهجة الحجازية أو العراقية أو لهجة مصر أو الشام؟ أو هل يمكن النهوض بالتعليم إذا تكلم جميع أبناء العربية اللغة الفصحى؟ هذه هي المعضلة التي تجابه في إنكلترا أنصار توحيد اللهجات فاللغة الإنكليزية تشمل عدة شعوب وأقوام كل منها يتكلم لغته الخاصة وإذن كان من الصعب التوفيق بين هذه اللهجات المتنافرة؛ وطبيعي أن تثير هذه المسألة اهتمام هيئة الإذاعة(266/73)
البريطانية فسعت لحلها بطريقة من شأنها الاحتفاظ بكرامة اللغة الصحيحة مع عدم المساس بلهجتها المحلية فهداها البحث إلى الاستعانة برأي لجنة استشارية مؤلفة من أعلام اللغة الإنكليزية أسندت إليهم مهمة توحيد النطق ووضع قواعد له وقيدت مذيعها باحتذاء هذه القواعد في إذاعتهم للأخبار والبيانات. واحتفظت فيما عدا ذلك باللهجات المحلية المختلفة وبذلك أمسكت العصا من طرفيها - على حد التعبير الغربي - على أن هذا الحل الوسط إذا أرضى مستمعي هيئة الإذاعة البريطانية فأنه لا يعتبر حلا كاملا لهذه المسألة الدولية التي ما زالت مدار بحث جدلي بين العلماء
حول لجنة من لجان الوزارة. .
حمدنا لوزارة المعارف عنايتها باللغة العربية والعمل على إنهاضها وتقوية أركانها، ووضع ما يضمن للتلميذ حياة أدبية خالصة تقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة بأساليب الأدب وضروبه. . .
وكنا نرقب مع الراقبين ما تطالعنا به اللجنة المؤلفة من أعلام وزارة التربية والتعليم لمعالجة مشكلة لغة الضاد، وما يجده الطالب من صعوبة في تفهم ما في بطون الكتب من معان وأفكار
وقد قامت اللجنة بوضع المبادئ التي رأتها صالحة لتقوية الناحية الأدبية من نفوس النشء، كما واعتمدت في عملها هذا على ما لها من خبرة واسعة بالتعليم وشئونه. . . بيد أن هناك ملاحظة بخصوص الكتب الحديثة التي اختارتها اللجنة على أنها صورة من أدب العصر، تدرس في معاهد العلم. وقد وقع اختيارها على الكتب الآتية: (قصص القرآن. ويوميات نائب في الأرياف وديوان الجارم. والنظرات. وزينب. وعلى هامش السيرة. والأيام. وديوان حافظ. والفضيلة. والمختار (الجزء الأول). وحياة محمد. ومطالعات في الكتب. وديوان شوقي. والمثل الكامل. وقادة الفكر. وعلى هامش السياسة. وحصاد الهشيم. وضحي الإسلام. وديوان البارودي. وابن الرومي)
وفي ذلك الاختيار كثير من التجني على الأدب والأدباء معا؛ فليس من الخير في شيء أن تختار اللجنة كتابين أو ثلاثة لأديب واحد في الوقت الذي أغفلت فيه طائفة من الأدباء الأفذاذ الذين لهم أثر ظاهر في توجيه الحياة الفكرية في الشرق، ولهم أيضا أدب أثر يمتاز(266/74)
بقوة العبارة وسمو المعنى وجمال اللفظ. . .
وبعد فهذه ملاحظة أردنا أن نسوقها إلى أعضاء اللجنة، وإليهم يساق الحديث
بني مزار
الطهناوي
(الرسالة)
جاءنا في هذا الموضوع طائفة من الرسائل وكلها مجمعة على أن اللجنة لم ترع جانب الحق حين قصرت اختيارها على كتب أعضائها ومن ترجوهم أو تخشاهم من الأصدقاء والرؤساء. . .
حقيقة جامع طوكيو
كتب العلامة السيد سليمان الندوي في مجلة (المعارف) التي تصدر عن أعظم كره (الهند) في عددها الصادر في شهر يونيه حقيقة جامع طوكيو ما يأتي:
(نجم قرن الإسلام في اليابان وأخذت أشعته تنبسط في عواصمها - فأسس أول بيت الله في مدينة كوبي، وذلك قد تم بفضل التجار الهنود. وكان أولو الأمر بهذا المسجد قد سعوا لدى الحكومة اليابانية راجين منها أن تعترف به معبداً للمسلمين رسمياً، فذهب سعيهم سُدًى؛ بيد أنهم أرسلوا هذا العام وفداً من أعضاء لجنة التنظيم للمسجد إلى طوكيو عاصمة اليابان بفضل مساعيهم زال بعض العراقيل من أمامهم
وبعد تشييد الجامع بكوبي شعر المسلمون في طوكيو بحاجة إلى مسجد، لكنهم جماعة قليلة العدد ولا يتيسر لهم أن يجمعوا مالاً كافياً لبناء هذا المسجد بها، ففطن بعض رجال الحكومة اليابانية إلى أهمية عمل هكذا في عاصمة اليابان. ثم فجمعوا من ذوي الخير والسراوة نحو مليون وربع مليون (ين) وبنوا بها جامعاً ومدرسة بجانبها. تم بناء الاثنين وافتتحا رسمياً في شهر مايو الماضي، وأدى رسم الافتتاح المستر (توياما) من دهاة اليابان وهو الذي دخل المسجد أولا ومشى بقدميه قبل الناس فلحقه التتار داخلين مكبرّين، ثم صلوا ركعتين شاكرين، وكان بخارج المسجد سرادق نصب للاحتفال خطب فيه دهاة اليابان وأكابر المندوبين من البلاد الإسلامية. وكان الأمر الذي يبدو عجيبا للمسلمين الحاضرين أن(266/75)
مندوبي أفغانستان وتركيا وإيران لم يحضروا الحفلة؛ ولعل سبب ذلك أن هذا المسجد ذو صبغة سياسية
يقيم في طوكيو زعيم تتاري معروف باسم قربان علي، له مكانة ممتازة نصفها من لون ديني والنصف آخر من لون سياسي - وله جماعة من الأنصار من التتار عدتها خمسة وعشرون رجلاً، وغيرهم من التتار المقيمين في طوكيو وغيرها من مدن اليابان وعددهم يصل إلى خمسمائة على التقريب - كانوا يشكون منه مرّ الشكوى - فاعتقل لذلك في وسط مايو وفوضت الزعامة إلى الشيخ عبد الرشيد إبراهيم فزال بعض العراقيل التي كانت تؤدي إلى عدم تعاون التتار مع رجال الحكومة في شأن المسجد. ثم أرسل رجال طوكيو دعوتهم إلى المسلمين بكوبي يرجون اشتراكهم في أمور جامع طوكيو؛ غير أنهم أجابوا: (نحن مستعدون للاشتراك إذا كان للمسلمين حرية مطلقة في تصريف أموره). فوعدهم رجال الحكومة اليابانية بذلك وها نحن أولاء ننتظر الوفاء. . .)
بدر الدين الصيني
تأديب الناشئة بآداب الدين الإسلامي
أذاعت وزارة المعارف منشوراً على نظار المدارس هذا نصه:
(تحرص وزارة المعارف على أن تكون دراسة الدين الإسلامي مقصوداً بها تأديب الناشئة بآدابه وإحساسها الإيمان الصحيح والخلق السليم، وأن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وتهذيب نفس الناشئ وتقوية عقله وقلبه بالمبادئ الإسلامية السامية مبادئ الإباء والأنفة والمحبة والإيثار والبر والتقوى ليصل بذلك إلى كمال الخلق وليحصل منه القواعد السليمة لصلاته بغيره، وهذه قواعد لحضارة إنسانية يقوم النظام الروحي والحياة لكمال الخلق ويكون الخلق فيها أساساً للمعاملات فيها أساساً الاقتصادية.
وتثبيت هذه القواعد في نفس الناشئة بتفقيههم في قواعد الإسلام وعباداته وتوجيههم إلى إدراك الحياة على أساسها إدراكا علمياً دقيقاً وتفتح أذهانهم بذلك إلى المثل الأعلى الذي يدعو الإسلام إليه وتقويم أخلاقهم ليكون هذا المثل الأعلى غاية مبتغاهم، هو ما نرجو أن يكون الثمرة للتعليم الديني في المدارس حتى يتأتى لمصر بقوة إيمان أبنائها أن تنهض(266/76)
بحظها من رسالة الحضارة في العالم).
جامعة عليكرة الإسلامية
جاء من مراسل الشرق العربي في بمبادئ أن عظمة نواب رامبور قرر أن يساهم بمبلغ كبير في توسيع نطاق جمعية الطلبة في جامعة عليكرة الإسلامية التي يشملها عظمته برعايته.
وجامعة عليكرة فريدة في نوعها في العالم الإسلامي؛ وقد أنشأها السير سيد أحمد خان وهو أول مسلم أذاع فوائد الثقافة الغربية في بلاده، وحاول التوفيق بين هذه الثقافة والثقافة الإسلامية في الهند. وبفضل مساعيه قررت الحكومة الاشتراك في جامعة عليكرة، ولا تزال إلى الآن تدفع لها إعانات مالية تخليداً لذكرى سيد أحمد خان.
وكان المرحوم حميد علي خان والد عظمة نواب رامبور من الذين شملوا الجامعة برعايتهم، وكانت الجامعة في ذلك الوقت تدعى المدرسة الإسلامية الإنكليزية الشرقية.
ومساهمة عظمة نواب رامبور السخية في توسيع جمعية الطلبة جاءت الآن برهاناً جديداً على أهمية اتحاد الطلبة وهو أقدم اتحاد في الهند اشترك فيه عدد كبير من الأشخاص البارزين والطلبة يتمرنون في هذا الاتحاد على الخطابة وغيرها من العلوم والفنون والاتحاد يتمتع باستقلال خاص والطلبة ينتخبون رؤساء الاتحاد ولجانه. وقد تألفت في جامعة عليكرة جمعيات عدة تعني بالدروس الدينية الإسلامية ويلقي فيها كثيرون من الطلبة القدماء محاضرات نفيسة في الشؤون الاجتماعية والدينية.
وقد أنشئ أخيراً في الجامعة فصلان جديدان لتدريس الشرع عند الشيعة والسنيين ويدير هذين الفصلين فرع الشريعة في الجامعة.
وكانت الصلاة في الجامعة تفرض على الطلبة بموجب قانون خاص ولكن هذا القانون لا يعمل به الآن نظراً إلى اهتمام الطلبة بشؤونهم الدينية من تلقاء أنفسهم.
إعادة الحياة بعد الموت
لقد دفع حرص الناس على الحياة منذ العصور القديمة بعض العلماء إلى محاولة إعادة الحياة إلى الأجسام بعد أن تفارقها أرواحها. وزعم فريق منهم أنهم قاموا بتجارب رجحت(266/77)
إمكان وصولهم إلى ما يبتغون. ولعل أحدث تجربة من هذا النوع هي التي قام بها الدكتور روبرت كورنيش أحد أطباء كلفورنيا ولكنه لم يجرها على إنسان بل على كلب.
وطريقة ذلك أنه خدر الكلب بالكلوروفورم ثم قتله به. وبعد أن تأكد أن الكلب أصبح جثة هامدة انتظر بضع دقائق ثم حقنه في القلب بمادة الأدرنالين ومدده على مائدة في الهواء الطلق. فبعد دقائق لاحظ أن القلب عاد يعمل وأن دقاته بدأت تعود إلى حالتها الطبيعية.
وبعد بضع ساعات استطاع الكلب أن ينهض وأن يلعق بعض السوائل؛ وبعد عشرة أيام استطاع أن يتناول طعاماً، ثم يحرك رجليه بضع خطوات.
ولكن الدكتور لاحظ أن الكلب لم يستعد قواه الذهنية وأنه فقد الكثير من حساسيته، إذ أصيب بالصمم فلم يسمع صفيراً حاداً كما فقد حاسة الشم؛ وضعف نظره ضعفاً شديداً فكان لا يرى إلا المرئيات القريبة الكبيرة الحجم كما أن صوته ضعف فاصبح لا يقوى على النباح.
وظل الكلب يعاني هذه الحالة ثلاثة شهور ثم فاضت روحه من الضعف الشديد الذي أنهك جسمه.
على أن الدكتور روبرت كورنيش يزعم أن هذه التجربة التي قام بها تعتبر الأولى من نوعها من حيث نتيجتها، كما أنها مكنته من ملاحظة حالات سيسترشد بها في التجارب القادمة التي اعتزم القيام بها.
وبالرغم من أن بعض العلماء يرجحون إعادة الحياة إلى الأجسام التي تفارقها أرواحها، فهم يشكون في إمكان إعادة الحساسية إلى الأعضاء والقوة إلى الذهن. وأقصي ما يطمعون فيه هو أن يطيلوا خفقان القلب بضع ساعات يتمكنون فيها من القيام ببعض الأبحاث العلمية.(266/78)
العدد 267 - بتاريخ: 15 - 08 - 1938(/)
هذه داري وهذا وطني
ولكن أين أحبائي؟!
للدكتور زكي مبارك
هذه داري، الدار التي أقمتها على أطراف الصحراء بمصر الجديدة لأفتح أمام قلبي آفاق المجهول من عوالم المعاني، وهذا وطني، الوطن الذي عانيت من أجله ما عانيت، ولم أخنه في سر ولا جهر، ولم ير مني غير الصدق والوفاء
هذه داري وهذا وطني، ولكن أين أحبائي؟
من كان يظن أني أقضي الأيام والأسابيع فلا أجد من يسأل عني بعد غياب الشهور الطوال؟ من كان يظن أني لا أجد أنيساً غير بريد بغداد على بُعد ما بيني وبين بغداد؟
من كان يظن أني أحبس نفسي في داري لياليَ وأياماً فلا يُسهد لعزلتي جفن، ولا يحزن قلب، ولا يرتاع وجدان؟
من كان يظن أني لم أتلق من الإسكندرية غير خطاب واحد، ولم أتلق من دمياط غير خطاب واحد، ولم أتلق من سنتريس غير خطابين اثنين، وسكت من أهواهم في المنصورة وأسيوط؟!
من كان يظن أني لم أعبُر شارع فؤاد غير مرة واحدة منذ رجعت من بغداد؟
وما فائدتي من عبور ذلك الشارع المتموِّج؟
كان لي في القاهرة هوًى معبود فتبدد وضاع، كانت ليلاي في الزمالك، فأين ليلاي وأين الزمالك؟
أنا أطفئ المصباح بعد نصف الليل وأفتح النوافذ لأرى كيف يهيم نور القمر فوق رمال الصحراء، فماذا تصنع ليلاي بالزمالك أو ليلاي في العراق؟
آه ثم آه من حيرة القلب في غفوات الليل!
أيتها الصحراء
إن حالك مثل حالي مَوَات في مَواَت
وقد تمرح فوق ثراك الميت هوامّ وحشرات
وفوق ثرى قلبي الميت تمرح هوام وحشرات هي السخرية من الناس، واليأس من صلاح(267/1)
القلوب، وجمال الوجود
وقد ترقّ حواشيك بالندى أو الغيث فتنبت فوق ثراك الأعشاب!
أما قلبي فقد أمحل إلى الأبد ولن ينبت فيه شيء
وأشقى الناس من يعيش بقلب أبخل من الصحراء
أيها الليل!
هل رأيت في دنياك من ينافسك في ظلامك غير قلبي؟
هل عرفت منذ أجيال وأجيال شقاء مثل شقائي؟
أيها الليل
خذ السواد من قلبي إن أعوزك السواد
خذا الظلام من حظي إن أعوزك الظلام
خذ من قلبي ومن حظي ذخيرتك للأحقاب المقبلات
خذ مني ما تشاء، أيها الليل، فلن تجد مشتهاك عند إنسان سواي
خذ مني ما تشاء بلا مَنٍّ عليك، فما أخذت السواد إلا منك ولا ورثت الظلام إلا عنك،
ومثلي يحفظ الجميل
أيها الليل
لا تجزع من العزلة، فأنا هنالك أسامرك وأناجيك
لا تفزع من الوحدة، ففي قلبي ظلمات تساير ما تحمل من ظلمات
عندي آلامي، وعندك آلامك، والجريح يأنس بالجريح بالليل
أنا أعرف من أنا في دنياي، فمن أنت في دنياك، يا ليل؟
أنت جزء من الزمان هجرته الشمس فأظلمت دنياه
وأنا جزء من الوجود هجرته الشمس فأظلمت دنياه
إن شمسي تغرب في الزمالك أو في بغداد، فأين تغرب شمسك
إن شمسك تغرب ثم تعجز عن الصبر على فراقك فترجع
وشمسي تغرب فلا ترجع
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!(267/2)
والمقادير تترفق بك فتسوق القمر والنجوم لإيناسك
وأنا أعاني الظلام المطلق حين تغيب الشمس التي تعرف
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!
وأنت باق على الزمان، وأنا صائر إلى الفناء
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!
والناس يخافون بأسك فيتقربون إليك بالقناديل والمصابيح
وأنا مأمون الجانب فلا يتقرب أحد إليّ بشيء
فليت حظي كان مثل حظك يا ليل
من أسمك يا ليل جاء اسم ليلى، ففيها طغيانك وفيها ظلامك فلا عفا الحب عنها ولا عفا
الله عنك!
هذه داري، وهذا وطني، ولكن أين أحبائي؟
إن قلبي يستحق التأديب، فليتلق من الضيم ما هو له أهل
ألم يتلق رسائل الشوق من بغداد فسكت عنها سكوت الغادرين؟
ألم يتلق رسائل الشوق من باريس فسكت عنها سكوت الجاحدين؟
ألم تنتقل إليه الغادة النورمندية فاستعفى من صحبتها بالقاهرة محافظة على سمعته بين
الناس؟
إن قلبي يستحق التأديب، فليتلق من الضيم ما هو له أهل
أيها الليل
قد اقترب صباحك، فمتى يقترب صباحي؟
لك الخلاص من ظلماتك، فأين الخلاص من ظلماتي؟
ستمضي لشأنك وتتركني يا ليل
إن الظلمات تقتل شبابي وتحيي شبابك
إن الظلمات تصَّيرك أقوى وأعنف، وتصيرني أرقَّ وألطف، والرقة واللطف من بواكير
الفناء
أيها الليل!(267/3)
لقد عرفت قسوتك في بلاد كثيرة من الشرق والغرب، وما كنت أعرف أنك أقسى ما
تكون في داري وفي وطني
أما بعد فأنا أعترف أن قلبي يستحق التأديب
كنت أصم أذني عمن يسألون عني في باريس وفي بغداد لأفرغ لما سموه الواجب، فليتني
أجبت الدعوة في باريس وفي بغداد لآخذ ذخيرتي من الحب والعطف!
ليتني صنعت وصنعت، ولكن هيهات فقد فات ما فات!
أيها الليل في مصر الجديدة
أنا على كل حال رفيقك وأخوك
وستمضي الأعوام والدهور، ولا تعرف أصدق مني يا ليل
سيذكرني الناسون يوم تشوكهم ... شمائلُ من بعض الخلائق سُودُ
سيذكرني الناسون حين ترُوعهم ... صنائع من ذكرى هوايَ شهود
فوالله ما أسلمت عهدي لعدرةٍ ... ولا شاب نفسي في الغرام جحود
ولا شهد الناسون مني جناية ... على الحب إلا أن يقال شهيد
زكي مبارك(267/4)
ذكريات مدرسية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
سأقتصر في هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهدين - عهد كنت فيه تلميذاً وعهد تال كنت فيه مدرساً وسأكتفي بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التي تغنى عن التفاصيل، ولست أرمي إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلاً يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائي إذا قلت إن تلميذاً كان معنا في المدرسة نال الشهادة الابتدائية فعين في السنة التالية مدرساً لنا في السنة الرابعة التي تعد لنيل الشهادة الابتدائية. وأبلغ من هذا في الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى (الأشياء) وهي عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الإنجليزية. وأرسم خطاً آخر تتم به الصورة فأقول إن ناظرنا كان يقول عن نفسه إنه جاهل جاهل ولكنه إداري إداري، وكان حديث عهد برتبة البيكوية فكانت عبارة (يا سعادة البك) تغفر كل ذنب وتمحو كل خطيئة. وليس أقدر من الصغار على التفطن إلى مواطن الضعف في الكبار، وليس أعرف بالمعلم من تلاميذه. وحسبه كشفاً لستره أن مئات من العيون تفحصه كلما بدا لها، وأن مئات من الألسنة الثرثارة لا تنفك تلغط بما أدركته رؤوس أصحابها الصغيرة. وأذكر أني كنت ألاعب تلاميذاً فشتمني فضربته بسلسلة مفاتيح فقطعت جلد وجهه، فذهب يعدو إلى الناظر والدم يسيل من جرحه وقال له وهو يبكي: (يا أفندي ابن عبد القادر ضربني) فأسرها الناظر وبعث يطلبني وسألني لماذا فعلت ذلك؟ فقلت: (يا سعادة البك إنه شتم أبي) وأنكر المضروب وقال: (لا والله يا أفندي) وتكرر من المضروب نعت الناظر بالأفندي وتلقيبي له بسعادة البك، فضاق صدر الناظر جداً وأهوى على المضروب بخيزرانته وهو يقول: (أفندي في عينك قليل الحيا) ولا أحتاج أن أقول إني نجوت مما كنت أستحقه من العقاب وإن الفضل في نجاتي إنما كان لكوني لم أنس (يا سعادة البك) وأن خصمي نسيها
وأوفدني إليه التلاميذ يوماً لأرجو منه أن يسمح لنا بزيارة حديقة الحيوانات مجاناً فدخلت عليه وسلمت ومهدت بيا سعادة البك ورفعت إليه رجاء الفرقة فدق صدره بكفه وقال: (حوانات حوانات إيه يا ابني. . . أسد فك السلاسل نهش عيل منكم نبقى نقول يا مين؟)(267/5)
فلم نزر حديقة الحيوانات كما لم يزرها ناظرنا الذي كان يتوهم أن الأسود فيها تربط بالسلاسل
ودخل علينا مرة ونحن نتلقى درساً في الحساب فوجد المدرس يملي علينا مسألة خلاصتها أن فلاناً أقرض فلاناً مبلغاً من المال بفائدة كذا في المائة، فاستوقفه الناظر وقال لنا أن المسألة غلط، وطلب منا أن نبين موضع الغلط فيها، ويظهر أن المعلم كان أعرف منا بالناظر فقد اكتفى بالابتسام، ورحنا نجيب بما يخطر لنا والناظر يرفض كل جواب. وأخيراً التفت إلى المدرس وقال له: (يا فلان أفندي المسألة كذب في كذب فأرجو ألا تعلم الأولاد الكذب مرة أخرى) وخرج
وكان في كل مدرسة فرقة للعب الكرة ولكن أعضاء هذه الفرقة لم يكونوا جميعاً من التلاميذ، فأني أذكر أن المدرسة جمعت من كل تلميذ منا خمسة قروش لتدفع للوزارة (المصروفات المدرسية لرجل ضخم عملاق حليق اللحية والشاربين أحمر الوجه ليلعب مع الفرقة في المباريات مع المدارس الحكومية الأخرى، وكان هذا العملاق المخيف يجيء إلى المدرسة وقت الظهر ويخرج منها بعد الغداء، وكانت مائدته تزدان بأنواع من المخلل يؤتى له بها خاصة. وكان إذا أحب أن يبقى في المدرسة نصف ساعة أو ساعة لا يجلس إلا في غرفة المدرسين وهناك تقدم له القهوة والسجاير فيشكر ذلك بهزة من رأسه، والساق على الساق والسيجارة في فمه انتظاراً لمن ينهض إليه ليشعلها له من المدرسين. وكنا نحن نتزاحم على الباب والنوافذ لنفوز برؤية هذا المنظر
أظن هذه الخطوط كافية لرسم صورة واضحة لمدرستنا الابتدائية الحكومية في ذلك العهد. والآن أنتقل إلى طائفة أخرى من الصور للمدارس الثانوية
كان التعليم الثانوي انتقالاً بأدق المعاني فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزياً - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية. وأنا إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف كنت أنجح في الامتحانات، وأكبر ظني أنهم كانوا يترفقون بنا ويعطفون علينا ويتساهلون معنا ويتركوننا ننجح على سبيل الاستثناء. وأدع غير وأقتصر على نفسي فإني أعرف بها، فأقول إني ما استطعت قط أن أفهم علوم الرياضة أو أن أقدر فيها على شيء، ومع ذلك كنت أنتقل من سنة إلى أخرى بلا عائق. وكان الأساتذة يختلفون فمنهم الفظ ومنهم الرقيق،(267/6)
وأذكر أن أحدهم كان يذكرني درسه بالكتاب الذي حفظت فيه القرآن الكريم، فقد كان يملي درس الجغرافية، فإذا كان الدرس التالي طالبنا به محفوظا ً عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعة واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع في كل ركن واحداً من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئاً عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس في الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتي كلها بسببها. وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظاً، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له: تهج كلمة بليد مثلاً أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيراً من تدريسها في الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا!. وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلاً طيباً ووقوراً مهبباً، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئاً من ذلك بل نراه أمراً طبيعيَّاً جدَّاً. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فأني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئاً يستحق الذكر. ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب في تقريره إلى الوزارة إلا خيراً. وقد اتفق لي بعد أن تخرجت في مدرسة المعلمين وعينت مدرساً في المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت: (يا أستاذ، ما هو الاسم العربي الصحيح لهذا الدخان الذي نسميه الدخان تارة والتبغ تارة أخرى) فقال: (أنظرني يا سيدي حتى أنظر في الكناشة). وأخرج مما يلي صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدري كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت:
كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شت وطباق
ومضى عني. وفكرت أنا في كلمة الطباق التي جاءني بها الشيخ. فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة التبغ التي نعرب بها اللفظ الإنجليزي أو الفرنسي (توباك أو(267/7)
توباكو)
ومن حوادث الشيخ حمزة معي أني كنت أؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية وكان هو رئيسا للجان اللغة العربية فلما جاء دوري اتفق أنه كان موجوداً، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ. وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جداً وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر قل يا شاطر. قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، فاكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب
ولكنه في مرة أخرى كاد يضيع علي سنة. وكنت طالبا في مدرسة المعلمين وكانت لجنة الامتحان في اللغة العربية برياسته فقال أحد أخواني بعد خروجه من الامتحان: أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب، فأيقنا بالفشل. وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (أعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) الخ. فقال: ضع الكتاب. موضعته، فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدي وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها (الفعل) (اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت إنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بهما هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال: ولكن لهذا سبباً، قلت: إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فان هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأيي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش - وكان عضوا في اللجنة - تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال: (العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (أي نعم) وذهب للصلاة ونسيني فكان(267/8)
في هذا نجاتي. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتي به
ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة في مدرسة المعلمين، ويكفي أن أقول إنه كانت لنا في الأسبوع ثماني ساعات لا نتلقى فيها أي درس، فترك هذا التخفيف وقتاً كافيا للمطالعة الخاصة؛ وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدا
وقد صرت معلما بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين؛ خمس منها في الوزارة وخمس في المدارس الحرة، وفي هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ في محاولة المعاكسة ولكني كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية في الشقاوة. وكانت طريقتي أن أتجاوز عن الذي لا ضير منه فلا أشغل به نفسي والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه في ذلك فلا أعد هذا من الكلام الذي لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله. وقد حدث يوما وأنا مدرس في الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبي كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لا شك أنه معتمد، وكان تلاميذي لا يجهلون كرهي للرياضة، وكنت أنا لا أكتمهم أني أعد نفسي جاهلا بها حمارا في علومها؛ وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثوني عسى أن أثير الضجة التي يشتهونها ولا يفوزون مني بها. ولكني لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت الفراش فحمل هذه الأدوات ووضعها في مكانها ثم بدأ الدرس. وأتفق يوماً آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفاً والجو حاراً جداً فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثي نفوسهم معي أيضاً. فحالهم ليس خيراً من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصراً علي ولا أنا منفرد به؛ وإنهم لأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال، فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان.(267/9)
تصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم إمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطاً في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام فقد كنت عارفاً أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم، واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعاً واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي، وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وإن الأمر كان مقصوداً به غيري، وإنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكني تجاهلت وسألتهم عما يعنون. وقالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. وقلت: رائحة. . . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئاً فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم، وكان هذا درساً نافعاً لهم ولو أني عاقبت أحداً لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا علي، وأن ينجح معي عبثهم الطبيعي في مثل سنهم
وفي آخر سنة من اشتغالي بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إني ألغيت العقوبات جميعاً فلا حبس ولا عيش حاف ولا شيء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ. ونظريتي هي أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها، وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغي أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغي له الخير ويخدمه ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمي استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئاً بل يرغبه في الدرس ويحبب إليه التحصيل. وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر مني أي معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا في هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان(267/10)
كبار لهم وأصدقاء نافعون ولم أكتف بهذا بل ألغيت (الجرس) الذي يدق إيذاناً بابتداء الدرس أو انتهائه لأني لم أر حاجة إليه بعد أصبح التلاميذ يحرصون على الحضور والمواظبة من تلقاء أنفسهم وبدافع حبهم للمدرسة ورغبتهم في الوجود بها مع إخوانهم المدرسين حتى لقد كان الواحد منهم يمرض فيحضر، وبهذا استغنيت أيضاً عن الدفاتر الكثيرة التي تستعمل في المدارس والتي تحتاج إلى موظفين كثيرين لا داعي لهم. وقد كنت أحب أن أظل في هذه المدرسة لأرى نتيجة التجربة، ولكن الحركة الوطنية بدأت في صيف ذلك العام وجرفنا جميعاً تيارها الزاخر فهجرت التعليم إلى الصحافة. ولو عدت إليه الآن لكان من المحقق أن أخفق فقد اختلف الحال جداً وانقلبت الأوضاع.
إبراهيم عبد القادر المازني(267/11)
حرمة البيان
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لو كان الأدباء (إلهيين) يقدمون لله الأزهار التي يقطفونها بأقلامهم من حديقته قبل أن يقدموها للناس، لحسبوا للحق والشرف والجمال الأصيل أكبر حساب، ولاستحيوا أن يقدموا لعين الله الناقدة العالمة كلاماً باطلاً أو دنيئاً أو زائفاً. . . ولكن كثيراً منهم رضوا بأن يكونوا (وثنيين) ينحتون من الألفاظ أصناماً يزوقونها ويصرفون الإنسانية بها عن وجه الله في بعض الأحيان. . .!
فهم يقدمون أزهارهم للأعين الكليلة البليدة مُغْفلين (الفنان الأعظم!) الذي يجب أن يرفع إليه كل عمل جميل شريف حتى يوقع عليه بطابعه. . .
ما هو الجمال؟ ما هو الحق؟ ما هو الشرف؟ لولا الله. . .
كل المعايير والموازين ساقطة باطلة مبلبلة إذا لم تكن في يده هو!
كل الصدق كذب. . . وكل الخير شر. . . وكل الحق باطل إذا لم يقله لنا هو!
ما الفرق بين صانع الكلام وصانع الأحذية إذا كان مدار الكلام هو الخبز. . . أو إرضاء جمهور الحرفاء أو الشهرة الجائعة التي لا تشبع أبداً؟
إني أقرأ بعض صحف الكلام فأشعر أنها من حقارتها وذلتها كالنعل. . . وكالنعل البادية القذرة لكثرة ما فيها من خروق عقل صاحبها أو خروق خلقه. . .
إن حاسة البيان جانب مقدس لأنها خاصة الإنسان المترجم عن الإلهية، فيجب أن يكون فيها ذلك السيال الخفي في الأصوات أو في السطور
وإن في حديقة الله أعاجيب وتهاويل وحقائق كبيرة لا يسمح إلا للأقلام النظيفة بالقرب منها ورصدها وتقريبها لذوي النظر القاصر من الإنسانية المادية العاملة التي ليس لها وقت للوقوف عند كل شيء ومحادثته وأخذه في النفس بالتأمل والدرس
إن في الأدب صوفية وكذلك في الفن على العموم، والصوفية نظافة وإدراك مرهف ودوران حول النفس والطبيعة وحساب دقيق للنسب بين الموجودات ثم نظرة دائمة إلى الفنان الأعظم!
فمتى يدرك الأدباء أن هذا أساس البيان وأن مقاييس الشرف الأدبي تسقط الأدب الكاذب أو(267/12)
الداعر أو الزائف أو الجاهل بهذه الحقائق ولو ساقوا ألف دليل ودليل على أن مهمة الأدب تسجيل كل ما في الحياة ولو كان فحشاً أو نكراً؟
إني أنزه حرمة البيان أن أسخره في شيء تافه أو دنس حتى لا أصرف عنه عيون عشاق الحكمة الشرفاء الذين إليهم وحدهم يجب أن يرفع الكلام ويوجه الأثر الفني. . . وحتى لا أقذي به عيون النساء والناشئين الذين يجب أن نصونهم عن القبح والزيف؛ والطفولة والشباب هما موضع آمال الإصلاح وقوالب المثل العليا التي فاتنا أن نحققها في أشخاصنا، والنساء هن مستودع تلك القوالب. . .
أنا أريد وأتمنى أن يكون الأدب واحة في صحراء الحياة المادية بجانب واحة الدين، لتفر إليها النفس المتهالكة المختنقة من ضجة الآلات ومادية العيش والارتفاق. وإن في الأدب صوراً تلمس فيها ذكاء وعبقرية صنع، ولكنها لا تحرك في نفسك ذلك الإحساس العميق بالحياة، ولا تثير في قلبك ذلك الدم النادر الذي لا يثور إلا في عبادة خالصة أو في فرح مقدس أو ألم مقدس. وهنالك أدب يشعرك بذلك المعنى السامي الذي يؤكد لك الإحساس به أنك أعظم من جسدك الحيواني. . . وأنك أوسع من تلك الكتلة اللحمية المحدودة. . . وأنك أخف من ذلك الجرم الترابي الكثيف المربوط بالأرض. . . وأنك باستمرار محوط بأسرار وقوى تخاطبك وتجاذبك. . . ولكنك لا تسمع ولا تحس إلا إذا فتحت سمعك كلمة منبهة من قلم نظيف حساس. . .
جوهر النفس والطبيعة ينبغي أن يكون هو وحده مطلوب الفنان، أما القشور فلا يطلبها فنان ذو افتتان بالحقائق الكبيرة التي تتطلب من راصدها عشقاً لها وحدها وأمانة لقوانينها وفضائلها.
هنالك أدب كموسيقى (الجازبند) يثير في النفس أطيش ما فيها وأخفه وأحمقه، ولا يدخل عليها محصولاً من شعور نبيل أو فكرة كريمة، ولا يلفتها إلى شيء مخبوء، ولا يفتح لها باباً مغلقاً. . . هو تماماً كتلك الموسيقى المجنونة البربرية التي تحمل على طيش الجسد ورقصه وضجة شهواته وحماقاته. قد يكون فيه براعة لفظية وخفة يد أو لسان. . . ولكنها كبراعة (الحاوي) وخفته. . . ولا تحملك على اعتقاد بأن صاحبها خالق أو جاد يقصد لباب الحياة. . .(267/13)
ومنذ أن قال امرؤ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح!) - منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة وعشاق الحكمة والمشغولون بالحق والجمال الأصيل إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله
لماذا يتكلم الناس؟ أللإبانة عما في نفوسهم؟ أم لإخفاء ما فيها كما يقول (تاليران) الخطيب الفرنسي المشهور؟
أنا مع تاليران كما دلتني مواقف كثيرة كنت أقرأ فيها على الوجوه وأشعة العيون غير ما يقول اللسان. . . وقد قرر عمر بن الخطاب أن مع التفاصح النفاق حين حبس الأحنف بن قيس مدة لما رأى من فصاحته ولَسنه فخشي أن يكون وراءهما نفاق، ثم تبين له شذوذ القاعدة في الأحنف فأطلقه. وقد دلتني على ذلك أيضاً ألاعيب صناع الكلام والمفتونين فيه الذين يكفرون بالحق لأجل كلمة، ويغيرون معايير الطبيعة لأجل قافية، ويخسرون صداقة الفضيلة لأجل سجعة أو نكتة!
ولو كنت ذا وصاية عامة على تهذيب الناشئين لكانت مهمتي تتلخص في تربيتهم على الاقتصاد في الكلام ما وسع الصمت وعلى التفكير فيه وحديث النفس به قبل إعلانه على تلك الآلة الصغيرة الخطرة: اللسان أو القلم!
التفكير التفكير، وارتياد طريق الكلمة قبل تسجيلها بالصوت أو المداد، وبعث الكشافة من شعور النفس وفروض السامعين أو القارئين، والإتيان بجديد إن كان المقصود بالبيان هو (الأثر الفني) وترك الآثار مدة حتى تختمر وترجع النفس وافرة وتقر الأخلاط الثائرة وتذهب فتنة ابتداء القول والإعجاب به كما يقول الجاحظ، وكما أشار العماد الأصفهاني إلى طبيعة الإحساس بالنقص في الأثر البياني من صانعه بعد مرور حين من الزمان. . .
لا يعني الشاعر المتأمل أن يتكلم بقدر ما يعنيه أن يتأمل! وإن لذة الخلوص إلى النفس، والشعر النفسي الذي ترسله الروح بحوراً لا قيود لها ولا تكلف ولا كذب ولا ألفاظ بها قراءة آثار الغير وقراءة الدنيا بدل الإملاء عليها. . . ليست أقل من لذة الكلام وإظهار ما(267/14)
في النفس، إن لم تفقها بأضعاف! بل إن الثانية يصحبها ألم تقييد المطلق وتحديد اللانهائي وتضييق الواسع وضغط المعاني في قوالبها وطمس جمالها بالألفاظ العجزة
وأنا شخصياً لا أجد في نفسي نشوة حين أقول بقدر النشوة التي أجدها حين أفهم ما يقال من الآثار الجميلة
والإلحاح في طلب الشهرة من طريق تتابع الآثار الأدبية الخفيفة الوزن والمحصول هو عيب أكثر أدباء الشباب. فلو عرف كل أديب أن لا عليه أن يصمت حيث لا جديد عنده يضيف إلى ميراث الأدب سطراً قيماً، لاستراح هو من النقد واستراح القارئ من تكرير المعاد المكرور (ومت بداء الصمت خير لك من داء الكلام)
والإلحاح في طلب الشهرة ينبئ عن (مركب نقص) دخيل يحسه صاحبه ويريد أن يغطيه عند نفسه أولا وعند الناس ثانيا. وما يعظم العظيم حتى يتوارى عن أعين الناقصين إشفاقا عليهم من آلام الحسد والفقد. وإذا اكتملت معاني الثقة والعظمة في نفس عاشت منها في ضجة يخيل إليها معها أن بصيرة الناس تحسها وآذان القلوب تسمعها، فلا حاجة بها بعد ذلك إلى إعلان أو إلحاح ولجاجة.
وكم يحملني شخص لم يكتب إلا كلمة أو لم يخطب إلا مرة واحدة على احترامه وتقدير ما عنده لأني عرفت نفسه وجوهر فكره وقلبه.
وكم يحملني آخر من (محترفي صناعة الكلام) على احتقاره وازدراء ما عنده ولو غطى نفسه بألف رداء من التظرف أو التوقر أو البراعة في اللعب بالألفاظ. . . جوهر النفس أشع وأوضح من أن يخفى. . فليعرف ذلك الخادعون للناس والمخدوعون في أنفسهم المغرورون بالألفاظ، السيئو الظن بعقول الناس وذاكرتهم وتأويل صمتهم. . .
ألاعبون بالألفاظ أيها الأدباء. . . أم مؤمنون بالخير والجمال الأصيل؟
أأرضيون أنتم تترجمون عن حياة حيوانية. . . أم متعلقون بما فوق. . .؟
أأذكياء أنتم تعرضون فصاحتكم وشقشقتكم واختلاج ألسنتكم وأقلامكم. . . أم لكم قلوب تشيرون بها وحدها إلى الحقائق الكبيرة في الحياة؟
أمصرون على التلهي بالأصداف والقواقع والقشور. . . أم ساعون جاهدون إلى إدراك الجوهر واللب؟(267/15)
أأوابد مفرقة متهاترة. . . أم جنود في كتيبة واحدة لغاية واحدة؟ إنكم بالأوضاع الأولى محترفون للتعيش والكسب. . . وبالأوضاع الأخرى أصحاب رسالة. . . إنكم بالأولى ترضون أن تبيعوا أقلامكم وتعيشوا من غير عقيدة وهدف وتؤجروا كما تؤجر النوادب أو القيان للوقوف في المآتم والأعراس بدون قلوب ولا دموع ولا ابتسام ولا ابتهاج. . .
وإنكم بالأخرى تفرضون صحتكم على أمراض العقول وتصحيحكم على أغلاط الناس وتسيرون في الناس كالراعي في القطيع وكالآباء في الأسرة. . .
يا لضيعة الإنسانية إذا ما سخرت جهالتها علومَها وآثامها فضائلها وأمراضها سلامتَها! يا لضيعة الرءوس إذا ما تحكمت فيها الأقدام والأيدي والمعدات!
غفرانك يا قلم! وصفحاً عن جريرة الذين يحملونك ولا يدرون مجدك وملكوتك!
هم لا يدرون أين يغمسونك. . . فهم يغمسونك في الأوحال والأدناس ويقدمون على طرفك للناس بعراً. . . وهم يتوهمونه زهراً. . . من تدليس معاطسهم وكيد أنوفهم وانتكاس طبائعهم
إن بعض الكتاب لا يغمسونك إلا في دماء قلوبهم ولا يصدرون بك إلا عن وحي الحق والواجب والمجد والجمال الأصيل فهم لا يكتبوا ليملؤا صحائف بمداد أسود وكفى. . . فعل الذين يعلنون به عن أنفسهم التي تحس الحقارة وتغطيها بالشهرة وتريد أن تقول حتى للحمير والكلاب والأحجار: هأنذا. هأنذا أديب كبير أيتها الأحجار والحمير! ولكنهم يكتبون فاهمين حرمة القلم الذي أقسم به الإله. . . وفاهمين أنه هو الذي غير تاريخ البشرية وجعلها تسير نحو مجدها وتسجل خطواتها، فليس لأحد أن يستعمله إلا في مطالب الشرف
ولو درى بعض الأدباء أي جناية يجنونها على الخلق والشرف والجمال في نفوس الشباب لحطموا أقلامهم واستبدلوا بها الفئوس أو المكانس. . . فان استعمال الفأس أو المكنسة معنى سامياً في خدمة الإنسانية من وجوه. . .
إن بعض الأدباء أفلسوا في أن يقدموا للإنسانية معنى يرفعها أو شعاعاً يهديها. . . فماذا يفعلون ليشتهروا؟ لا شيء إلا أن يقدموا لها معنى يخفضها. . . على مذهب القائل:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يرجى الفتى إذ ما يضر وينفع
وشهد الله أننا ما نكتب لشهوة الكلام، ولا لرؤية الصحف المسودة. . . ولا ليقال عنا إننا(267/16)
كذا وكذا. . . وإنما نكتب حين نشعر أن دمنا يسير إلى أقلامنا ويرعش بنائنا فترسم به صوراً. . .!
ليس بنا فتنة الحديث إلى أحد. . . وإنما نتحدث إلى أشياء أخرى لا يراها الناس. . . نتحدث إلى طبقة (أرستقراطية) مخبوءة مضنون بها على أكثر العيون والأسماع. . . نقول لها وتقول لنا، ونلازمها وتلازمنا متفاهمين ليس بيننا غل ولا شحناء. ترينا من عجائبها وتلبسنا مما عندها مناظير وأثواباً. . . وتضيء لنا بمصابيح. . . وتعرفنا إلى جهات مجهولة، وتقذف بنا إلى كل ناء بعيد. . . وتقول للدنيا المستورة: هذا قارع لبابك طويلاً فافتحي له وخذيه. . . .
وأعود فأكرر: إن في حديقة الله أعاجيب وتهاويل وحقائق كثيرة لا تنالها ألا الأقلام النظيفة
وإن في الأدب الحق صوفية تحتم إدامة النظر إلى (الفنان الأعظم) الذي (إليه يصعد الكلم الطيب)
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(267/17)
البصرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
خرجنا من الناصرية على الفرات جنوبي العراق نريد البصرة يوم الخميس 30 أبريل سنة 1936 والساعة ثلاث وعشر دقائق بعد الظهر، والناصرية حاضرة لواء المنتفق بنيت على نظام حسن منذ ثمانين عاماً، وسميت باسم ناصر باشا السعدون رئيس عشائر المنتفق، وبينها وبين البصرة مائة وخمسة عشر ميلاً.
سارت بنا السيارة ثلاث ساعات على حافة بادية الشام في قسمها الجنوبي المسمى بالسماوة، نجد على البعد ريح نجد ونرى الشيح والقيصوم؛ وبينا نحسب الساعات والأميال، تشوقنا البصرة وذكرياتها. قال أحد الرفاق: انظروا إلى شجرة الأثل - هذا أثل الزبير. قاربنا المدينة
مدينة الزبير مدينة صحراوية على مقربة من البصرة الحديثة بينهما نحو عشر كيلات، وكانت في العصور الخالية قسماً من البصرة القديمة، سميت باسم الزبير بن العوام أحد الصحابة قتل بعد موقعة الجمل في وادي السباع على مقربة من المدينة ودفن بها
وسكان الزبير معظمهم نجديون أهل نشاط وتجارة، وقد جلبت إليها الحكومة العراقية الماء من البصرة منذ سنتين وكان شربهم من الآبار
وبها من المشاهد قبر الزبير رضي الله عنه في مسجد كبير، وفي جانب من هذا المسجد قبر عتبة بن غزوان مؤسس البصرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. قلت في نفسي: قبر العتبة يذكرني بالفتح والتعمير، وضريح الزبير يذكر بالخلاف والقتال بين المسلمين، وتلك أمة قد خلت. أسأل الله إصلاح النفوس وتأليف القلوب. وخرجنا من مسجد الزبير إلى ظاهر البلد فرأينا قبة صغيرة تحتها قبران: قبر الحسن البصري، وقبر محمد بن يسرين من التابعين، قلت: قد أصطبحا حيين وميتين. وإن الذي يذكر الحسن يملأ نفسه الإجلال والإكبار لهذا الرجل رجل الذكاء والعلم والفصاحة والورع والجرأة في الحق. وقد روي عن ثابت بن قرة أنه قال: ما أحسد هذه الأمة العربية الأعلى ثلاثة أنفس: عمر بن الخطاب والحسن البصري والجاحظ. وقال عن الحسن: كان من دراريّ النجوم علما وتقوى، وزهدا وورعا وعفة ورقة وفقها ومعرفة. . . يجمع مجلسه ضروبا من الناس، هذا(267/18)
يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي له الفُتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ، وهو في جميع ذلك كالبحر العجاج تدفقا، وكالسراج الوهاج تألقا. ولا تنس مواقفه ومشاهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل واللفظ الجزل. . . الخ
وأما قبور الصالحية التي ذكرها ابن بطوطة كمالك بن دينار وسهل ابن عبد الله فلم نجد عند القوم خبرا عنها. وأما قبر أنس ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند وادي السباع بعيد عن المدينة.
فصلنا عن مدينة الزبير فرأينا على بعد قبة منفردة في البرية وعرفنا أن تحتها ضريح طلحة بن عبد الله أحد الصحابة، وقد قتل في واقعة الجمل أيضاً. ثم مررنا بمأذنة مفردة ليس بجانبها بناء فقيل إنها مأذنة مسجد علي رضي الله عنه. وكان هذا المسجد في وسط المدينة. وكان مسجداً عظيماً بقي وحده بعد خراب البصرة القديمة ورآه ابن بطوطة وقال إنه من أحسن المساجد وصحنه متناهي الانفساح، مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل
ثم دخلنا مدينة البصرة وهي على ثمانية أميال إلى الشمال والشرق من البصرة القديمة التي تم خرابها في أوائل القرن الثامن الهجري وخراب البصرة يضرب به المثل
ولله ذكر تحيط بالداخل إلى البصرة! إنها ذِكَرُ الفتح والتعمير الإسلامي. إنها ذكر العلوم والآداب العربية. هنا ولد النحو وعلوم اللغة؛ هنا أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي ثم الحريري؛ وهنا بشار وأبو نواس؛ وهنا أئمة المعتزلة إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف؛ وهنا نادرة الزمان أبو عثمان الجاحظ. هنا إخوان الصفاء الذين دونوا خلاصة الفلسفة الإسلامية، وهنا المربد حيث كان يجتمع الشعراء والفصحاء فيستمع الناس ويقضون لمتكلم على آخر. هنا أنشد جرير والفرزدق وغيرهما.
سألت أين المشان قرية الحريري التي كان بها نخله الكثير فقيل لا يزال اسمه معروفاً شمال البصرة فأنشدت ما كتبه سديد الدولة ابن الأنباري إلى الحريري:
سقي زرعي الله المشان فأنها ... محل كريم ظل بالمجد حاليا(267/19)
أسائل من لاقيته كيف حاله ... فهل يسألن عني ويعرف حاليا
البصرة اليوم مدينة عامرة كبيرة، واسعة التجارة قد شمل التنظيم الحديث قسماً كبيراً منها، وقسمها الحديث يسمى العشار يقع على شط العرب، وتشرف على هذا النهر العظيم قصور أغنياء البصرة تتباين فيها الغنى والبذخ والترف، لها مجالس على النهر وسلاليم ترسو عليها الزوارق
وعلى بضعة أميال من المدينة تقع ميناء البصرة الحديثة تدخل إليها البواخر الكبيرة، ولها مستقبل تجاري وحربي عظيم؛ والجهة التي بها الميناء تسمى المعقل ويسميها الأوروبيون مركيل وأحسبها مسماة باسم معقل بن يسار المزني. وكان هناك نهر يسمى نهر معقل. وجاء في الأمثال: إذا جاء نهر الله فقد بطل نهر معقل
والبصرة مدينة البندقية العربية فهي واقعة على شط العرب العظيم تخرج منه أنهار كثيرة تخترق المدينة، فتجد الأنهار في شوارعها الفسيحة تطل عليها الدور والبساتين
وأذكر أني سرت من المدينة إلى أبي الخصيب في طريق معبدة تظلها النخيل والأشجار نحو عشرين ميلاً فاجتزت أربع عشرة قنطرة على الأنهر الآخذة من شط العرب
والبصرة أكثر بقاع العالم نخلاً، بها نحو عشرة ملايين نخلة. ويكاد النخيل يتصل ما بين القرنة حيث يجتمع دجلة والفرات إلى مدخل خليج البصرة وذلك نحو 150 كيلا. وقد روى الأصمعي عن الرشيد أنه قال: نظرنا فإذا ما على وجه الأرض من ذهب وفضة لا يبلغ ثمن نخل البصرة. . . الخ
وهذا الخصب العظيم والعمران الكثيف على مقربة من البادية. فمن شاء تحضر ونعم بألوان الحضارة، ومن شاء تبدّى واستمتع بحرية البداوة وبالصيد وغيره
وقد قال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:
يا جنة فاقت الجنان فما ... يعدلها قيمة ولا ثمن
ألفتها فاتخذتها وطنا ... إن فؤادي لمثلها وطن
زوَج حيثانها الضباب بها ... فهذه كنة وذا ختن
فانظر وفكر لما نطقت به ... إن الأديب المفكر الفطن
من سفن كالنعام مقبلة ... ومن نعام كأنها سفن(267/20)
وقال خالد بن صفوان: يغدو قانصنا فيجيء هذا بالشبوط والشيم، ويجيء هذا بالظبي والظليم. . . والشبّوط والشيم من أنواع السمك
وقال ابن أبي عيينة أيضاً:
ويا حبذا نهر الأبلة منظرا ... إذا مدّ في إبانه الماء أو جزَر
ويا حسن تلك الجاريات إذا غدت ... مع الماء تجري مصْعدات وتنحدر
وسقيا بساتين البصرة ومزارعها من المد. وذلك أن شط العرب يمد ويجزر. وقد وصفه الشعراء والكتاب والرحالون على اختلاف العصور
قال خالد بن صفوان:
وأما نهرنا العجيب فان الماء يُقبل عنقاً فيفيض متدفقاً، يأتينا في أوان عطشنا، ويذهب في زمان رينا، فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فُرشُنا. فيقبل الماء وله عباب وازدياد لا يحجبنا منه حجاب، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا يتنافس فيه من قِلّة، ولا يحبس عنا من علة
وقال الجاحظ وهو يعدد عجائب البصرة:
منها أن عدد المد والجزر في جميع الدهر شيء واحد، فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتد عند استغنائهم عنه؛ ثم لا يبطئ عن الأرض إلا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها عطشاً ولا غرقاً. يجيء على حساب معلوم، وتدبير منظوم ومدد ثابتة، وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه. فلا يخفى على أهل الغلات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون، بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة، ومفخرة وأحدوثة، لا يخافون المحْل ولا يخشون القحط
قال ياقوت الحموي:
كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلا من شاهد المد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى كيش ذاهباً وراجعاً، ويحتاج إلى بيان ليعرفه من لم يشاهده: وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهراً عظيماً يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب؛ فهذا يسمونه جزراً، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدا، يفعل ذلك كل يوم وليلة مرتين. فإذا جزر نقص نقصاناً كثيراً بينا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى أو(267/21)
أكثر. وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر ووسطه أكثر من سائره الخ أ. هـ. كلام ياقوت
وهذا النظام لا يزال سارياً اليوم، ولكن حفر مدخل الشط في السنين الأخيرة لتتمكن السفن العظيمة من الدخول فصار المد أقل مما كان قبلا
وأما هواء البصرة فحار رطب. وكان من حسن حظنا أن كنا بها في أوائل أيار (مايو) فلم نصادف إلا هواء معتدلا بالنهار بارداً بالليل. وقد وصف القدماء هواء البصرة بشدة الاختلاف. قال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد، لأنهم يلبسون القمص مرة، والمبطنات مرة لاختلاف جواهر الساعات. ولذلك سميت بالرعناء، قال الفرزدق:
لولا أبو مالك المرجو نائله ... ما كانت البصرة الرعناء لي وطناً
وذلك أن ريح الشمال في البصرة باردة، وريح الجنوب حارة؛ ولذلك قال ابن لنكك الشاعر البصري:
نحن بالبصرة في لو ... نٍ من العيش ظريف
نحن ما هبت شمال ... بين جنات وريف
فإذا هبت جنوب =. . . . . . .
ويكمل الشاعر بيته بشطر لا يحسن إنشاده
وكانت البصرة إلى عهد قريب كثيرة الحميات، ويقول ابن بطوطة بعد ذكر المد والجزر: (وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد) وألوان أهلها مصفرةً كاسفة حتى ضرب بها المثل. وقال بعض الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترّجة
لله أترج غدا بيننا ... معبرا عن حال ذي عبرة
كما كسا الله ثياب الضنى ... أهل الهوى وساكني البصرة
وسمعت في العراق أن أهل البصرة قد ألفوا الحمى حتى أن أحدهم يكون سائرا مع صاحبه فيحس الحمى فيقول له: ائذن لي أن أذهب إلى البيت لأحمّ. هذا كله كان قبل أن تنالها يد العناية - عناية الحكومة العراقية. وأما اليوم فقد أصلحت الحكومة الطرق والأنهار والمستنقعات، وتوسلت بوسائل طبية كثيرة حتى قلت الحمى هناك جدا، ويرجى أن تزول(267/22)
فلا يبقى لها أثر بعد سنين قليلة.
ومن الإنصاف أن أذكر ما عرف به أهل البصرة في الماضي والحاضر من كرم الخلق ورعاية الغريب. قال ابن بطوطة:
(وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق، وإيناس للغريب، وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب)
وفي ياقوت: (وقال شاعر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم) وياقوت خبير بالبلد وأهله
وكذلك أهل البصرة اليوم تغلب عليهم الأخلاق العربية على كثرة ما نابهم من محن، ومر بهم من شدائد
وفي البصرة مدارس أولية وابتدائية كثيرة ومدرسة متوسطة وأخرى ثانوية. والتعليم فيها يزداد ويزدهر سريعا. وعسى أن يكون لها بعد قليل ما كان لها من مجد وصيت يوم كانت مهد العلوم العربية والإسلامية.
ويعد للبصرة من موقعها وأرضها ومائها وعناية الحكومة العراقية بها ما يضمن لها مستقبلا زاهرا. وإنا لنرجو أن تعيد سيرتها، ولتعمل لخير العربية والإسلام ما عملت في ماضيها إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(267/23)
حظي بالشيء. . .
لأستاذ جليل
الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري المنصورة، اليازجي. . . .
. . . . .
- 4 -
تتمة
قال الأستاذ الرافعي (رحمه الله): (فلقي (حافظ) بعض أصدقائه، فقال له بالحرف: (اليازجي غير مطلع في العربية) قال الصديق ولماذا. . .)
وأغلب الظن أن ذلك الصديق الذي حاور حافظاً هو الأستاذ الرافعي بنفسه، وكأن ضلعه في حديثه على حافظ، وهو يبدو منافحاً عن صاحب (الضياء) وكان يوقر صاحبه، وسماه في إحدى مقالاته (أديب النصرانية) وقد طالع أقواله جلها أو كلها. وفي (تاريخ آداب العرب) من مجلتي البيان والضياء) شيء كثير وإن لم يُعزَ إليهما، وخطة الأستاذ الرافعي في ذلك الكتاب قلة العزو، وهذا قوله بيناً: (أصطلح بعض المتأخرين على أن يذكروا في مؤلفاتهم أسماء الكتب التي ينقلون عنها، ويعينون مواضع النقل ليخرجوا من تبعة ما ينقلون إذا كان خطأ فيلقون ذلك على الكتاب زيادة في حسنات مؤلفه. . . أما نحن فلما كنا نستهجن أن نثبت شيئاً لا نمخض الرأي فيه، ولا نثق بصحته بعد تقدم النظر دون أن ننبه عليه إن مست الضرورة إلى إثباته فقد أهملنا ذكر الكتب لأن ذلك تطوير من غير طائل، ولأننا نبسط كل معنى نأخذ فيه، ولم نعين مواضع ما ننقله لأن علينا تبعته)
ومما أخذه من (البيان) قوله: (وهم (أي الإسماعيلية) ينسبون إلى إسماعيل عليه (عليه السلام) وخبر نزوله بالحجاز مذكور في التوراة! وقد تزوج هناك برعلة بنت مضاض أحد ملوك جرهم وهي القبيلة التي ذكر جدها في التوراة باسم ألموداد)
و (البيان) يقول: (وسائر القبائل العرب تنسب إلى أجداد ذكرت في التوراة، منها ألموداد جد قبيلة جرهم التي اتصل بها إسماعيل بن إبراهيم الخليل فتزوج برعلة بنت مضاض أحد ملوكها وكانت مساكنها في الحجاز)(267/24)
وفي منقول الأستاذ الرافعي رحمه الله شيء نفوّض البحث عنه إلى الكاتب المشهور الدكتور طه حسين ليفيض فيه حتى يطرفه محمد نور ثانٍ أخاً لذاك (القرار). . .
وقد عرف الشيخ اليازجي فضل الأستاذ الرافعي في مبتدأ أمره، وأطراه في مجلته، وقرظ الجزء الأول والجزء الثاني من ديوانه، وروى طائفة منهما في التقريظين، ونقد أبياتاً في الأول منها هذا البيت:
أرى ذا الليل قد خفقت حشاه ... وبيض عينه نزف الدموع
قال: (فأنث الحشا وهو مذكر)
قلت: الحشا مذكر، وقد جاء في (رسائل الجاحظ) التي انتقاها من كتبه الأديب الأستاذ حسن السندوبي: (فأنا بين حشا خافقة ودمعة مهراقة) فهل كان الأصل: (فأنا بين حشا خافق ودمع مهراق) ثم جاءت هذه البركات، هذه التاءات من عند الناسخين أو الطابعين أو المنتقين. . .؟
وفي (أقرب الموارد) للشرتوني: (وهو (أي الحشا) يؤنث كقوله:
لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
والبيت للمتنبي، والرواية في (ديوانه) يكون - بالياء - لا تكون - بالتاء -. وممن أنث الحشا ابن الفارض وابن نباتة المصري وقد نقدهما اليازجي
ومن نقد اليازجي العروضي لأبيات للرافعي:
أنا لم يبق بين جنبيّ إلا ... كبد من لوعة الشوق حرىّ
في عجزه نقص خفيف بين كبد ولوعة
صدّت فكان كلامها نزرا ... وغدت تضن بذلك النزر
جاء بالعروض الحذاء مضمرة والإضمار مع الحذذ لا يقع إلا في الضرب)
وقد ذكّرنا نقد اليازجيَّ الرافعيَّ بنقده (شوقيَّاً) في مثل ذلك:
ما نحن قلنا فالحب قائله=وما فعلنا فللهوى الفعل
وإن نقلنا لبقعة قدما ... فللهوى لا البقعة النقل
البيت الثاني مختلف الوزن من بحرين، لأن الشطر الأول من (المنسرح) وهو بحر سائر القصيدة والثاني من ثالث السريع:(267/25)
تلك سماء الهند شاهدة ... وأرضها والجبال والسهل
خالف بين الشطرين فجعل الأول من السريع والثاني من المنسرح)
ثم قال اليازجي بعد نقده تلك الأبيات في ديوان الرافعي: (على أن هذا لا ينزل في قدر الديوان وإن كان يستحب أن يخلو من مثله، لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب، وما أنقدنا هذه المواضع إلا ظناً بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب ورجاء أن يتنبه لمثلها في المنتظر، فان الناظم كما بلغنا لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنيه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة من البراعة في مثل هذا السن سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر)
قلت: صدقت كهانة الشيخ فقد أمسى الرافعي من الأفراد المجلين في هذا العصر، وهو إن صلى في النظم فقد جلى في النثر
ونشر الأستاذ الرافعي (رحمه الله) ثلاث قصائد من شعره في مجلة (الضياء) الثالثة في السنة السابعة من تلك المجلة (الجزء السابع 15 يناير 1905) وعنوانها (حسان الأرض والسماء) وفي القصيدة هذا البيت:
هيهات قد أصبح معنى الهوى ... بين الغواني نحو (سوِّرْ يدي)
قلت: فهن يبغين قلْباً ولا قَلْباً، قلوباً لا قلوباً: (يُردن ثراء المال حيث عَلِمْنَه)
وقد رأيت وقد رويت قول (أديب النصرانية) في (أديب الإسلامية) وإن لم يكن الرافعيُّ يومئذ الرافعيَّ - أَن أورد قولا لحجة الإسلام الإمام الشيخ محمد رشيد رضا في الأستاذ الرافعي وفي كتبه عامة وكتاب المساكين خاصة:
(الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صاحب هذا الكتاب أشهر من نار على علم، يراها كل أحد ولا يصل إليها أحد، فهو معروف والمعروف لا يعرّف. أوتي عقله نصيباً كبيراً من فلسفة النفس والاجتماع فهو يغوص في أعماقها، وأوتي خياله حظاً عظيماً من المعاني الشعرية فهو يطير في أجوائها، وأودع ذهنه مادة واسعة من اللغة العربية مفرداتها وأساليبها؛ فهو يبرز النظريات الفلسفية في صور من التخيلات الشعرية، تتجلى في طرز طريفة (مودات) من الحلي والحلل اللغوية، جمع فيها بين الإجادة في المنظوم والمنثور(267/26)
وقلما تتفق الإجادة فيهما معاً إلا للأقلين كما قال الحكيم ابن خلدون. وبهذه المزايا كان أمة وحده في الكتاب والشعراء والمصنفين، وكان جمهور قراء العربية يشكون شيئاً من الغموض في كلامه، والحاجة إلى التأمل الكثير في بعضه لاستبانة مراده، ولكن لا ينكر أحد من أولي الفهم أن كل قارئ له يرى فيه من فرائد اللغة ودقائق التعبير البليغ عن المعاني ما لم يكن يعلمه، فهو كثير الابتكار والإبداع. ولو كان جمهور القراء يفهمون لغته حق الفهم لعم انتشارها
له عدة مصنفات أجلها موضوعاً وأوضحها بياناً (إعجاز القرآن) وقد أعطيناه حقه من التقريظ فنشر معه، وطبع ثلاث مرات، ويليه (تاريخ آداب العرب) و (تحت راية القرآن) ومنها (حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد) وهذه الأربعة كتب فلسفة وشعر
وأما كتاب المساكين الذي جعلناه ذريعة لتقريظها كلها فقد عرفه مصنفه بكلمة بيّن بها ما أراده منه وكتبها تحت اسمه وهي: (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس) ولقد صدق في قوله ووفى بمراده، ولقد كنت أعجز كما أخال أن كل أحد غيره يعجز عن تعريفه هذا. ثم وصفه بكلمة أخرى قال: إنها (من قلم الغيب) وذكر أنها أوحيت إليه في النوم وهي: (هذا كتاب المساكين، فمن لم يكن مسكيناً لا يقرؤه لأنه لا يفهمه، ومن كان مسكيناً فحسبي به قارئاً، والسلام) فإن صدق في أن هذه الكلمة من قلم الغيب كما صدق في أن من لم يكن مسكينا لا يفهمه، فأنا أظن أنه لا يوجد مسكين يفهمه، ذلك بأنني أظن أنني مسكين ولم أفهمه، إلا أن مسكنتي مسكنة أخلاق لا مسكنة إملاق، ولا أدري أية مسكنة ينتحل منشئ كتاب المساكين الذي لا يفهمه من ليس بمسكين. قرأت صفحات منه ففهمت بعض جمله، وأعجبت ببعض حكمه، واستعذبت بعض استعاراته التمثيلية والتخييلية. ولكني اقر بأنني لا أفهمه كله فهما إجماليا يمكنني تلخيصه به، ولا أفهم فصلا منه فهما تفصيليا يمكنني من تفسيره لمن لم يفهمه ولا تفسير كل جملة من جمله، فالكتاب في جملته من قلم الغيب، هبط على عالم الشهادة، وفي الاطلاع على عالم الغيب من اللذة الروحية والأنس ما ليس في الاطلاع على عالم الشهادة، وإن حارت فيه الإفهام، وكان حلما من الأحلام)(267/27)
قلت: إن الأئمة قالوا:
(أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه)
(أحسن الكلام ما أعرب عن الضمير، واستغنى عن التفسير)
(لا يستحق الكلام اسم البلاغة حتى يكون معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك)
(البلاغة أن تظهر المعنى صحيحاً، واللفظ فصيحاً)
ولا ريب في أقوال الأئمة هذه، وفضيلة العربية بيانها، وفضيلة العربي التبيين، وهذا اللسان إنما هو اللسان المبين. ولو اطلع (حجة الإسلام) على (وحي القلم) وهو مقالات (الرافعي) في (الرسالة) لراقه فيه كلام جليّ، وسرّه قولٌ منوِّر
ووحي القلم هو كما قال فيه الأستاذ النابغة الموهوب (الدكتور عبد الوهاب عزام) في (الرسالة): (إن شئت فقل جنات في صفحات، وعباب في كتاب، وإن شئت فقل: إنه العالم في سطور قد انتظم، ووحيٌ إلهي سماه الرافعي وحي القلم)
أجاب الأستاذ أزهري المنصورة الأستاذ الرافعي (رحمه الله) في (البلاغ في 2 من ذي القعدة 1352) فمما قال:
(1 - انتقد الشيخ إبراهيم اليازجي استعمال المصدر لحظي في مقالة (لغة الجرائد) فقال: (ويقولون طلب الحظوى بهذه النعمة وسرتني الحظوى بلقاء فلان، والصواب الحظوة بالهاء) وهو في نقده هذا مصيب، وقال ما قاله في شأن حظي بالشيء في غيرها من مجلته (الضياء)
2 - ما حقيقة (ظفر بالشيء وحظي بالشيء) وهل اللفظتان عربيتان، وقد نجمتا في (الجزيرة) وكانتا من المجاز، فكانت الأولى من إنشاب الضاري أظفاره في فريسته أو الصائد في طريدته، وكانت الثانية من حُظوته بحظوة أو حِظاء أو حظوات للصيد أو غيره؟
فإن كانتا عربيتين وكان أصلهما ذلك الأصل فظفر بالشيء وحظي به سواء، والحظ إن كان عربياً فمن (الحظوة) لا من غيرها
3 - الحضرة، المجلس، (المشهد) المقام (المقامة) بمعنى واحد فتقول: رأت حضرة أعضاء المجمع اللغوي، أو قال مجلس أعضاء المجمع (أو قالت مقامتهم) ولا تقول: قالت حضرات(267/28)
أعضاء المجمع أو قالت مجالسهم (أو مقاماتهم) لأنهم كلهم أجمعين حضرة واحدة، مجلس واحد. وهذا واضح)
قلت: هذه الكلمة هي آخر ما قيل في البحث عن (حظي بكذا) ولم يظهر في (البلاغ) شيء بعدها في هذا المعنى
هذه أقوال الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته (الضياء) في نقد الفعل (حظي بالشيء)
في السنة (6) في الصفحة (216) في جواب سؤال:
(وأما قوله (يحظى على الانسجام) يريد يظفر به ويحصل عليه فهو من كلام العامة لأن الحظوة في اللغة بمعنى المنزلة والمكانة والقرب المعنوي كما فسرها في تاج العروس تقول: حظي فلان عند الأمير وحظيت المرأة عند زوجها، على أن العامة يقولون حظي بالشيء ولا يقولون حظي عليه فهو غلط في اللغة العامية أيضاً)
في السنة (7) في الصفحة (375) في مقالة عنوانها (لغة الجرائد): (ويقولون حظوت برؤيا فلان أي فزت برؤيته فيضعون الرؤيا مكان الرؤية، والأشهر فيها أنها مصدر رأي الحلمية وأما رأي البَصَرية فيقال في مصدرها الرؤية كما أن رأي العقلية في مصدرها الرأي، وقولهم (حظوت) فيه غلط في اللفظ والمعنى؛ أما في اللفظ فلأن هذا الفعل من باب علم لا من باب نصر فيقال فيه حظيت بالياء مع كسر الظاء، وأما في المعنى فلان الحظوة - وهم يقولون الحظوى - معناها المكانة والمنزلة يقال حظي فلان عند الأمير وحظيت المرأة عند زوجها، ولا يقال حظي بالشيء بمعنى ظفر به إنما هذا من استعمال العامة)
في السنة (8) الصفحة (545) في مقالة عنوانها (أغلاط المولدين):
قال محمد بن بشير الرياشي:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
أراد أن يظفر بحاجته فعبر بيحظى ولا يكون يحظى بهذا المعنى كما نبهنا عليه في لغة الجرائد. قال في لسان العرب: الحظوة والحظة والمكانة والمنزلة للرجل من ذي سلطان ونحوه، وقد حظي عنده، ورجل حظي إذا كان ذا حظوة ومنزلة. ا. هـ. ومثله في سائر اللغة، ولم ينقل أحد حظيت بكذا بالمعنى المتقدم، ولا ورد في كلام قديم، لكن غاية ما هناك أنه يمكن أن يقال حظي فلان عند الأمير بصدق خدمته مثلا أي كان صدق خدمته سبباً(267/29)
لحظوته عند الأمير ومن هذا قول أبي نُوَاس:
ومالكَ غير ما قدّمت زاد ... إذا جعلت إلى اللهوات ترقى
وما أحد بزاد منك أحظى ... ولا أحد بذنب منك أشقى
قوله فما أحد بزاد منك أحظى أي لا يكون أحد أحظى بواسطة هذا الزاد منك كما لا يكون أشقى بذنبك منك، وعبر بلفظ التفضيل وهو غير مراد، والمعنى لا يسعد أحد بالزاد الذي تقدمه سواك كما أنه كما أنه لا يشقى أحد بالذنب الذي تقترفه سواك. ومثل قول محمد بن بشير قول الصفيّ الحلّي:
من لي بقربك والمزار عزيز ... طوبى لمن يحظى به ويفوز
وقول ابن التعاويذي:
لم أحظ منها بسوى نظرة ... خالستها من جانب الخدر وهو استعمال عامي)
قلت: بيت أبي نواس روايته الصحيحة هي:
وما أحد بزادك منك أحظى ... وما أحد بذنبك منك أشقى
وهي رواية (الديوان) ورواية المبَّرد في (الكامل) ومن قبيلة بيت الفرزدق وهو في (النقائض) وفي (ديوانه):
فأدركها وازداد مجداً ورفعة ... وخيراً، وأحظى الناس بالخير فاعله
وبيت الحَكميّ (أبي نؤاس) لا يفتقر إلى مفسر أو ترجمان ولا إلى هذا الذي خطة الكاتب (اليازجي)، ومن عجائب الزمان أن مخطئ العربي الأول يستعمل في أثناء تخطئته قول المتأخر فيقول (بواسطة هذا الزاد) والواسطة في العربية معروفة
هذه طائفة من الأقوال العربية والإسلامية والمولدة قد جاء فيها حظي بالشيء بمعنى ظفر به، ولم أورد معها ما ذكره الأستاذ أزهري المنصورة. والقائلون من المولدين كلهم أئمة:
في (سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) لابن هشام في قصيدة لحذيف بن غانم:
وخيرهم أصلا وفرعاً ومعدناً ... وأحظاهم بالمكرمات وبالذكر
في (كتب الحماسة) للبحتري في مقطوعة لعمر بن مالك:
موارده فيها الردى وحياضه ... وإن أترِعت لم يحظ بالري شاربه
وفي (أمالي القالي) من قصيدة للشنّي(267/30)
ولست بقائل قولا لأحظى ... بقول لا يصدقه فعالي
ومن الشواهد النحوية:
ماذا ولا عتب في المقدور رمت أما ... يُحظيك بالنجح أم شر وتضليل
وفي (الأغاني) لبشار:
بكيت على من كنت أحظى بقربه ... وحق الذي حاذرت بالأمس إذ ساروا
وفي (ديوان أبي تمام)
منظمة بالموت يحظى بحليها ... مقلدها في الناس دون المقلَّد
وفي (الأغاني) في سيرة بشار: فلم يحظ منه (أي من المهدي) بشيء فهجاه
وفي (الأغاني) في الجزء الثامن: حظي بها من غير نصب ولا كدح
وفي (طبقات الشعراء) للجمحي: فلم يحظ ولم يحل منه بشيء
وفي (الموشح) للمرزباني: فوالله ما حظي البحتري من المعتز في هذه القصيدة بطائل
وفي (رسائل الهمذاني) في مناظرة الخوارزمي: أو قلت لك أكتب كتابا يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل، أو تبل لهاتك بناطل
وفي رسالة (الغفران): لقد شقيت في الدار العاجلة بجمع الأدب ولم أحظ منه بطائل
وفي (سقط الزند) لأبي العلاء:
وزند عاطل يحظى بمدح ... ويحرمه الذي فيه السوار
وفي (المقامات الحريرية) في الثلاثين: صلى الله عليه صلاة تُحظيه بالزلفة
وفي (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) للبطليوسي في شرح المقدمة عند ذكر كاتب التدبير: ويحظى بمنزلته لديه
وفي (مفتاح العلوم) للسكاكي، في خاتمته: وإذا جئتهم من علم الأصول وجدت علماءهم مقلدة ما حظوا إلا بشم روائح
الإسكندرية
(* * *)(267/31)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 35 -
مقالاته للرسالة (6)
كانت خير أوقات الكتابة عند الرافعي في المساء حين يعتدل الجو، وتسكن الحركة، وتخف المعدة؛ إذ كان عمله في المحكمة يملأ بياض نهاره. فلما كان رمضان سنة 1353 (1934 الميلادية) سألني: (كيف نصنع يا شيخ سعيد في هذا الشهر وأيّ أوقاته نجعلها للكتابة؟) قلت: (فأنظر فيما تراه خيراً لك ولست أرى ما يمنع أن تستمر على عادتك فتجعل مجلسك للكتابة بعد العشاء) قال: (لا سبيل إلى ذلك والمعدة مثقلة بعد خلاء، ولكني سأحاول أن أكتب في العصر، فأنه حيثما ما امتلأت المعدة ثقل الرأس، فلعل فراغها في النهار أن يشحذ الذهن ويصقل الفكر).
وحاول أن يكون ذلك فلم يقدر عليه، ومضى يوم ويوم ويوم وانتهى الأسبوع الأول من رمضان ولم يكتب شيئاً للرسالة، واستحيا أن يعتذر، فلم طائفة من (فتات المكتب) وجعلها الجزء الثاني من (كلمة وكليمة) وبعث بها
في هذه الكلمات المنشورة بالعدد 76 كلمات عن السياسة تفسرها الحالة السياسية في مصر في أوائل عهد وزارة المغفور له نسيم باشا، وفيها حديث عن الزكاة والصوم، وفيها كلمات عن الزواج والمرأة، وفيها رسائل إلى (فلانة)!
ثم كانت مقالة الأسبوع التالي هي قصة (سمو الحب)
أشياء ثلاثة أملت عليه موضوع هذه القصة: رمضان، وكتاب الأغاني لأبي الفرج، وما يسمع من أحاديث الشبان عن الحب.
أما رمضان فسما بروحه وأمده بما في القصة من المعاني الدينية التي حكاها على لسان مفتي مكة وإمامها (عطاء بن أبي رباح) والرجل الزاهد (عبد الرحمن القس بن عبد الله بن(267/32)
أبي عمار)
وأما كتاب الأغاني فأعطاه صلب القصة وأساس البناء في سطور يرويها من خبر (سلاّمة المغنية) جارية يزيد بن عبد الملك، وقد وقع الرافعي على هذا الخبر اتفاقاً في إحدى مطالعاته في كتاب الأغاني
وأما أحاديث الشبان فحفزته إلى إنشاء هذا الفصل ليضربه مثلا لسمو الحب يصحح رأي الناس في الحب ويكون منه لشباب الجيل درس وموعظة
في هذا الفصل يجد كل سائل جوابه إن كان يعنيه أن يعرف كيف يجتمع الدين والمروءة والحب في قلب رجل كالرافعي يعرفه الناس فيما يكتب شيخاً من شيوخ الدين فيه تحرج وخشية، ويعرفه من يعرفه من أصحاب مجنونَ لَيْلَياتٍ وقيسَ لُبنَيات!
. . . ولكي ينتفع الرافعي بوقته في رمضان كان يتخفف من طعام الفطور، ثم يجلس مجلسه بعد العشاء للإملاء؛ فإذا فرغ من الكتابة أو الإملاء تناول السَحور، فيعوِّض فيه بعض ما فاته من فطوره ثم ينام!
على أنه لم يجد راحته في هذا النظام أيضاً؛ فلما كان الأسبوع الثالث لم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فعاد إلى أوراقه القديمة يبحث بينها عن شيء يصلح للنشر ليستريح أسبوعاً من العمل، فوقع على ورقات من مجلة المقتطف في سنة 1905 كان قد نشر بها قصته الأولى: (الدرس الأول في علبة الكبريت)، فعاد إلى قراءتها، فلما فرغ من القراءة التفت إلي قائلا: (هذه قصة ينقصها السطر الأخير) قلت: (وماذا يكون هذا السطر؟). قال: (اسمع: هذا غلام سرق علبة كبريت منذ ثلاثين سنة فحوكم بها وحكم عليه. . .) قلت: (نعم!). قال: (فما تظن هذا الغلام الآن بعد هذه الثلاثين؟) قلت: أراه الآن رجلاَ يفلح الأرض أو يعمل بالفأس في حجارة أبي زعبل!)
قال: (هذه الأخيرة أمثل به؛ لقد تلقى الدرس الأول في علبة كبريت فقاده إلى الحبس، فهل تراه بعد هذه الثلاثين إلا قد أتم دروسه ووقف على عتبة المشنقة. . .؟ أكتب. . . أكتب)
وأملى على مقالة (السطر الأخير من القصة)
لم يغير الرافعي هذه المقالة عن أصلها فيما عدا الخاتمة وعبارات قليلة؛ وزاد عليها شيئاً من المحاورة بين الغلام وقاضيه؛ وما كان حرصه على بقائها كذلك إعجاباً بها، ولكن كأنما(267/33)
ردته هذه المقالة إلى شيء من ماضيه تروَّح فيه من روح الصَّبي والشباب؛ فمن ذلك كان إبقاؤه عليها ليبقى فيها روح الصَّبي والشباب!
وفي الأسبوع التالي - وهو الأسبوع الأخير من رمضان - أملي على قصة (الله أكبر)
وهي بسبيل مما سمع من أحاديث الشبان عن الحب، وهي رُقية ثانية من رُقى الحب الداعر: كانت الرُقية الأولى هي كلمة (برهان ربه) في قصة سموّ الحب، وكانت الرقية هنا هي كلمة (الله أكبر)
وأول الأمر في هذه المقالة أنني كنت جالساً إلى الرافعي في القهوة نتحدث في شأن ما، وساقنا الحديث مساقه إلى بعض شئون العيد، ولم يكن بيننا وبين عيد الفطر إلا أيام، وقال الرافعي: (. . . وأنا لو ارتدّ إليّ السمع لن يطربني شيء من النشيد ما كان يطربني في صدر أيامي نشيد الناس في المساجد صبيحة يوم العيد: الله أكبر الله أكبر! يعج بها المسجد ويضج الناس. . . ليت شعري هل يسمع الناس هذا التكبير إلا كما يسمعون الكلام! الله أكبر! أما إنه لو عقل معناها كل من قالها أو سمع بها لاستقامت الحياة على وجهها ولم يضل أحد!)
ومضى يتحدث عن روح المسجد وفلسفة التكبير عند الأذان وفي كل صلاة، فما فرغ من الحديث حتى طرقنا زائر من روَّاد القهوة فحيا وجلس. . . وتنقل الحديث بيننا من فن إلى فن إلى فنون. . .
وتهيأ موضوع القصة في فكر الرافعي، فلما دعاني ليمليها عليّ لم يجد في نفسه إقبالاً على العمل، فوقف في الإملاء عند منتصف المقالة ونسأ البقية إلى غد، ثم كان تمامها
وفي صبيحة يوم العيد ذهب على عادته إلى المقبرة لزيارة أبويه وقد كان في الرافعي حرص شديد على ذكرى أبويه؛ فهما معه في كل حديث يتحدث به عن نفسه، وزيارة قبرهما فرض عليه كلما تهيأت له الفرصة؛ وما إيثاره الإقامة في طنطا على ضيقها به وجهلها مقداره إلا ليكون قريباً من قبر أبيه وأنه. وقد نقلته وزارة الحقانية مرة نقلة قريبة، فتمرد على أمر الوزارة وأبى الانتقال وانقطع عن العمل في وظيفته قرابة شهرين حتى ألغت الوزارة هذا النقل، وكانت كل حجته عند وزارة الحقانية في إيثار طنطا: أن فيها قبر أبيه وأمه!. . . وقد مات ودفن إلى جانب أبيه وأمه، فلعله الآن سعيد بقربهما في جوار الله(267/34)
ولعلهما به
. . . ولما عاد من زيارة المقبرة أملى عليّ مقالة (وحي القبور!)
ثم عاد إلى موضوع الزواج يتناوله من بعض أطرافه، فأنشأ قصة (بنته الصغيرة) وهي الثالثة مما نحل أئمة الصدر الأول من القصص؛ تحدث في (قصة زواج) عن سعيد بن المسيب، وتحدث في (سمو الحب) عن عطاء بن أبي رباح، وتحدث هنا عن مالك بن دينار والحسن البصري
في هذه القصة يتناول الرافعي موضوع الزواج على النحو الذي تناوله به في قصة (رؤيا في السماء) على أنه باب إلى السمو بالإنسانية، وفيها إلى ما فيها من الدعوة إلى الزواج وبر البنات شيء من الأدب الديني يضمها إلى سابقاتها
ثم نشر بعد هذه القصة الجزء الثالث من (كلمة وكليمة) - العدد 84 سنة 1935 - وفيها كلمات عن السياسة وحديث عن المرأة، ونظرات في أخلاق بعض الناس أوحى إليه بمعانيه قضية كانت له في المحكمة شغله أمرها وقتاً ما. وقصة ذلك أن الرافعي كان اشترى قطعة أرض للبناء في شمال المدينة ونقد البائع ثمنها وجعل لها حدوداً مرسومة؛ ثم أعجزه أن يبنيها فضلت خلاء بضع سنين، وكانت هي كل ما حصل الرافعي من الاشتغال بالأدب أكثر من ثلث قرن؛ ثم طمع البائع أخيراً فيما باع؛ فتحيّف القطعة من أطرافها، واصطنع بينه وبين الرافعي مشكلة قانونية تعجزه عن بلوغ حقه إلا بعد مطاولة تدفع إلى اليأس، وشكاه الرافعي وتأهب لمناضلته، فاستعان عليه خصمه بواحد من ذوي صهره يعمل مفتشاً في وزارة الحقانية، فانْتدَب للتفتيش عن أعمال الرافعي الرسمية في محكمة طنطا مهدداً متوعداً، لعله يحمله بذلك على النزول عن بعض حقه!
طالت القضية بين الرافعي وخصمه، وتعددت جلسات المحكمة وطالت كذلك دور التفتيش وكثرة تحدي المفتش للرافعي، حتى لزمه ثلاثة أشهر يفتش عن أعماله. فحص فيها عن بضع مئات من القضايا التي قدر الرافعي رسومها، لعله يعثر لهو فيها على غلطة تحمله على الخضوع له؛ وغلطة في تقدير الرسوم لقضية من القضايا معناها غرامة مالية. . . ومن أين للرافعي؟
وكنت متعودا أن أغدو على الرافعي في المحكمة في أوقات الفراغ؛ فلما علمت أن مفتشا(267/35)
عنده أقصرت؛ فلما علم مني سبب امتناعي عن زيارته قال: (لا عليك وخلِّ عنك هذا الوهم فلا تغير شيئا من عادتك!)
وزرته بعد ذلك مرات والمفتش عنده، وكان يدنيني إليه في مجلسه، ويجعل كرسيَّ إلى جانب كرسيه خلف المكتب، ويتأبىَّ على المفتش أن يذهب إليه حيث يكون، ليحمله على الحضور بنفسه ليسأله عما يريد من غير أن يغادر مجلسه؛ وفي أحيان كثيرة كان يحضر إليه المفتش وأنا في مجلسه ليسأله عن أمر من الأمر، فيدعه الرافعي واقفاً ويتحدث إليه وهو جالس حديثا كله سخرية وتهكم، ثم لا ينظر إليه إلا ريثما يجيبه عما سأل، ثم يغضي عنه ويدعه واقفا، ليعود إلى ما كان فيه من الحديث معي أو المطالعة في صحيفة أو كتاب!
وعلى أن المفتش لم يظفر بشيء مما أراد بالرافعي، فإنه استطاع أن يشغله بنفسه ثلاثة أشهر أو يزيد، على رغم ما كان يبدو على الرافعي من إهمال شأنه وعدم الاكتراث به!
. . . ثم انتهت قضية قطعة الأرض إلى الحكم للرافعي، وانتهت كذلك دورة التفتيش على غير طائل؛ ولكن هذه وتلك قد شغلتا الرافعي شطراً كبيرا من سنة 1935، وأوحت إليه بكلمات وكُليمات مما نشر لقراء الرسالة في هذه الفترة.
. . . ولم يفرغ بعد كل أولئك مما يتصل بموضوع الزواج وشئون الأسرة، فكانت القصة التالية (زوجة إمام) الإمام أبو محمد سليمان الأعمش، وزوجه، وتلميذه أبو معاوية الضرير.
قصة أراد بها أن يستوفي موضوع الزواج بالحديث إلى النساء عن واجب الزوجة؛ وبها تم ما أملاه عليّ في موضوع الزواج، وعِدتّه ثلاث عشرة مقالة في خمسة عشر عدداً، أولها مقالة (س. ا. ع) بالعدد 63 سنة 1934 وآخرها الجزء الثاني من (قصة إمام) بالعدد 86 سنة 1935
وددت لو أن الرافعي حين أعاد نشر هذه المقالات في وحي القلم، نشرها على الترتيب الذي كانت به والذي رويت ما أعرف من أسبابه الظاهرة؛ فان ذلك كان خليقاً أن يعين الباحث على دراستها مجتمعة متساوقة فصولها فصلا إلى فصل؛ ولكنه جمعها في وحي القلم على ترتيب رآه فجعل منها القصة، والمقالة، والحديث الديني؛ وجعل كلا من هذه الثلاثة في بابه؛ على أن ذلك لا يمنع الباحث الذي يتهيأ للرأي في هذه المقالات أن يقرأها على الترتيب الذي قدمت أسبابه وأسبابها معه.(267/36)
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(267/37)
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
أستاذ الكيمياء بكلية الطب
- 7 -
لقد آن لنا أن نختم هذه الكلمات بعد أن بلغنا من تزييف مقالات (بين العقاد والرافعي) أكثر ما نريد. لقد كانت حملة جائرة قامت على الإفك والباطل تلك التي قام بها صاحب تلك المقالات على الرافعي رحمة الله عليه. وكان أمامنا لتبيين إفكها وباطلها طريقان: طريق يهملها ويجلو للناس حقيقة أدب الرافعي بدراسة ذلك الأدب ونقده؛ وطريق يدع أدب الرافعي حيث هو، يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، ويعمد إلى تلك المقالات فيضرب بعضها ببعض وينسفها بعوامل نسفها المستكنة فيها. وكان الطريق الأول يحتاج إلى زمن وجهد أكثر مما يتيسر لنا فاضطررنا إلى الطريق الثاني. ونظن أن لم يبق بحمد الله من تلك المقالات الآن إلا ما يدع اللغم من البناء المنسوف
غير أننا نحب مع ذلك ألا نختم الموضوع من غير أن نقول كلمة نبين بها ما نعتقد أنه الفارق الحقيقي بين المذهبين اللذين يمثلهما في الأدب كل من الرافعي والعقاد
لقد جرى الناس على رد التفاصيل في الأدب إلى أصلين: اللفظ والمعنى، وابدءوا في ذلك وأعادوا وأسرفوا في الاختلاف بينهم: أي هذين الأصلين يقدمون على الآخر في تقديم أديب على أديب. واختلافهم هذا الشيء عجيب، فان اللفظ والمعنى ركنان متلازمان لا ينبغي التقصير في أيهما للأديب المكتمل. فكأن مثل اختلافهم لك لا تدعو إليه الحاجة إلا عند المفاضلة بين أدباء مقصرين. وإذا كان لا بد من الإعراب في هذا الشأن عن رأي فالتعبير له المقام الأول في الأحوال التي تكون الفكرة المعبر عنها شائعة لا تكلف مجهوداً؛ والتفكير له المقام الأول إذا كان الموضوع يستلزم أعمار الفكر لاستخراج الصواب؛ وعندئذ يكفي من التعبير الصحيح ما يجلي ذلك الصواب، ويكون كل ما يعوق ذلك عيباً ولو كان زيادة تفنن في التعبير. فإن أمكن الجمع بين التفنن في التعبير والجلاء والدقة في(267/38)
المعنى المعبر عنه كان الأديب أمكن في الأدب من غير شك وكان أولى بالتقديم
إن امتلاك ناصية اللغة أمر لا بد منه لكل أديب يريد أن يبلغ في الأدب مرتبة الخلود. وليس معنى هذا أن امتلاك ناصية اللغة وحده كاف للخلود، فليس في الأدب مكانة لخلود صاحب المعنى الخسيس في اللفظ الأنيق إلا إذا انحط الأدب. إنما الآداب الرفيعة آداب نبل قبل كل شيء: نبل في المعنى ونبل في التعبير على السواء. ونبل التعبير راجع إلى حد كبير لنبل المعنى عند تمام الأداء. لكن لن يستطيع البلوغ في الآداب حد التمام إلا من امتلك ناصية اللغة فلم يعجزه معنى مهما دق أو اتسع عن أن يجد له من التعبير ما يلبسه ويظهره ويستفرقه، فلا يقصر عنه ولا يزيد عليه. فشرط امتلاك ناصية اللغة شرط أساسي في كل أديب يطمع في ذلك المجد الباقي الذي نسميه الخلود خلود الذكر إذا صار الأديب حديثاً من الأحاديث. هو شرط أساسي لكنه وحده غير كاف، كالماء أو الهواء أو الطعام كل منها ضروري للحياة لا تقوم بدونه، لكنه وحده لا يكفي للحياة
وإذا تسائل متسائل أي الأدبين أدل على امتلاك لناصية اللغة واقتدار على التفنن والتصرف في التعبير بها؟ أدب الرافعي أم أدب العقاد؟ كان الجواب الذي يسرع إلى الإنسان في غير تكلف ولا تحيز: أدب الرافعي كان أملك لناصية اللغة من غير شك وأكثر افتناناً فيها وتصرفاً بها. ولا نظن العقاديين أنفسهم يمارون في هذا، فأكبر ما ادعاه للعقاد مفتونهم به هو أن الأسلوب الفخم والتعبير الجيد غير بعيدين عن شعر العقاد
لكن التفوق من ناحية اللغة لا يبلغ أن يكون فارقاً بين مذهب ومذهب، فأبناء المذهب الواحد في الأدب كثيراً ما يتفاوتون في المقدرة اللغوية تفاوتاً مذكوراً. لو كان العقاد ممن يثبطون عن اللغة أو يدعون إلى اتخاذ العامية لغة كتابة كما هي لغة حديث لكان ذلك فارقاً أساسياً بين الرجلين ينسبهما في اللغة إلى مذهبين مختلفين. لكن العقاد لا يفعل شيئاً من هذا. إنه يرجو أحياناً أن يجد الشعر العربي طريقاً إلى أن يتحلل بعض التحلل من القافية ليتسع مثلاً لشعر الملاحم، لكن هذا وحده، مهما خالفه الرافعي فيه إن كان خالفه، لا يكفي لأن يتعاديا فيه أو ينتسبا به إلى مدرستين أو مذهبين في الأدب مختلفين
بقيت ناحية المعنى. ولم نر أحداً ظلم في معانيه مثل ما ظلم الرافعي. فكلام بعض أنصاره مثل أخينا علي الطنطاوي لا يقدر ناحية المعنى حق قدرها فيظن خصوم الرافعي أن هذا(267/39)
هو مذهب الرافعي، ويتخذونه فيما يتخذون دليلا على تقصير الرافعي من ناحية المعنى. أخونا الطنطاوي يرى المعاني قريبة المتناول يأخذها الإنسان مما يسمع أو يقرأ أو يشاهد، فلا فضل فيها لأحد على أحد، ويكون التعبير عنها هو مظهر التفاضل بين أديب وأديب. لكن هذا إذا صدق على الشائع المألوف من المعاني فليس يصدق على النادر الطريف. ومعاني الرافعي يكثر من بينها الطريف كثرة تدعو إلى العجب؛ كثرة لا نظن أحداً من المحدثين يفضله فيها أو يزحمه. فالرأي الذي ذهب إليه أخونا الطنطاوي من شأنه - عرضاً - أن يهضم الرافعي من هذه الناحية التي تعد من أكبر مفاخره.
وطرافة معاني الرافعي يرجع جزء كبير منها إلى خياله. ومن رأينا أن ناحية الخيال من النواحي التي تفوق فيها الرافعي وامتاز فتم بها تفوقه في التعبير والبيان. هذه الناحية في الرافعي أدعى إلى الإعجاب حتى من مقدرته اللغوية، فالمقدرة اللغوية لا تحتاج بعد الاطلاع والإحاطة إلا إلى حسن الاستعمال؛ لكن الخيال ملكة أخرى لعل قوتها ورقيها أدل الدلائل على الشاعرية. ونحن فيما قرأنا للقدماء أو المحدثين لم نرها بلغت من النمو والقوة والسمو ما بلغته في الرافعي. وليس معنى هذا طبعاً أن أدب الرافعي هو خير أدب وجد، لكن معناه أن ناحية الخيال أظهر في أدب الرافعي وأسمى منها في أدب أي أديب قرأنا له. وسواء أكان من قرأنا لهم في الأدب كثيرين أو قليلين، فليس لدينا شك في أن ناحية الخيال ناحية امتاز فيها الرافعي وتفوق على العقاد.
لكن ليست المعاني كلها تدور حول الخيال، وإن كان الرافعي لقوة حاسة الخيال فيه يكاد يجد للخيال موضعاً في كل معنى. إن روح المعنى بالطبع هو منزلته من الحق ومن الصواب، والحق والصواب لهما معايير ليس الخيال أحدها قد ضلها المتأدبون في هذا العصر حتى كاد الأمر يكون بينهم فوضى. فأما ما اتصل من المعاني بالعلم فمن السهل الرجوع فيه إلى أصل يحسم الخلاف أو يخفف من الخصومة فيه. لكن ما الحيلة فيما اتصل من المعاني بالفن، والفن قد كثرت مذاهبه وتضاربت حتى لم يبق لترجيح رأي على رأي ولا مذهب على مذهب إلا الميل والهوى الذي يسمونه الذوق؟ كيف يمكن تبين الحق والصواب في ميدان الفن الذي منه ميدان الأدب، فيما لم يتصل بعلم وفيما لم يتصل بلغة؟ إن الوصول إلى جواب صائب على هذا السؤال أمر حيوي لا غنى عنه البتة، لا لأنه(267/40)
يعين النقد في الحكم بين أديب وأديب، أو بين مذهب، في الفن ومذهب حكما يبقى على الورق لا يدري من تأثر به، ولكن ليتبين الناس به سبيلهم في فوضى الفنون هذه فيأخذون من الفنون ويدعون طبق ما هو حق وطبق ما هو خير
إن الفن ومنه الأدب له من الأثر في حياة الفرد وفي حياة الجماعات أكثر مما للعلم، لأنه متصل بدخيلة هذه الحياة في حين يتصل العلم عند أكثر الناس بظاهرها؛ وإذا اتصل عند أقلهم بباطن حياتهم النفسية فقد صار باباً من عند ذلك القليل. إن الفن يعمل في نفس الفرد ويكيف حياته الباطنة أن لم يكن كل التكييف فبعض التكييف، لكنه على أي حال تكييف بعيد الأثر في حاضر الإنسان ومستقبله. ولسنا نغالي إذا قلنا إن مستقبل الإنسان فرداً أو جماعة يتوقف الآن على نوع هذا الأثر الذي يحدثه الفن في النفوس
ومن عجيب الأمر أن الناس يكتبون ويتكلمون عن الفن كأنه دائماً يوجه إلى الخير وكأنه دائماً على صواب. إنه ينبغي أن يكون دائماً كذلك من غير شك، لكن هل هو دائماً كذلك؟ بل هل هو دائماً كذلك؟ إنك لا تستطيع أن تجيب جواباً نافعاً حتى يكون لديك معيار صدق تعرف به الخير من الشر في الفنون كما تستطيع أن تعرف الحق من الباطل في العلوم. ولن تجده في هذه الفوضى السائدة بين مذاهب الفلسفة والأخلاق والفنون وإنما تجده من غير شك في الدين
لكن أصحابنا المجددين أنصار ما يسمونه الأدب الحديث يفرقون من ذكر الدين كأنما تلسعهم من اسمه النار. كذلك فزع أحدهم بالعراق، وكذلك يفزع هذا الآخر في مصر وإن زعم أنه أفهم منا في للدين. ليته كان كذلك حقاً فنغتبط له، فان ذلك مما لا ينقصنا من ديننا شيئاً ولكن يزيده في دينه. لكن المسألة في الدين ليست مثلها في الأدب الذي يكتبون كلاماً لا يرجع فيه أصل ثابت ولا معيار. إن كل ما يتصل بالدين ممكن الرجوع فيه إلى الأصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: القرآن. وما غمض علينا من القرآن يمكن تبين معناه المقصود من السنة سنة الرسول صلوات الله عليه. ونحن معشر المسلمين مأمورون بأن نرد كل ما نختلف فيه إلى الله والرسول إن كنا نؤمن بالله واليوم الآخر: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) فلعل صاحبنا إن(267/41)
كان أفهم منا للدين لا يعيب كلامنا هذا بأنه من كلام خطباء المساجد ويقبل على تفهم وجه الحجة فيما نلقي عليه فإنما الحق والإصلاح نريد
إن المسلم الذي يفقه دينه ويفقه الحياة أينما نظر لا يجد مفراً من أن يصل هذه الحياة أدبها وفنها وعلمها بالدين كما أنزله الله على رسوله محمد بن عبد الله، أي كما يتبين من القرآن ومن عمل الرسول. إن الإسلام دين يشمل الحياة بحذافيرها ويحيط بها من جميع أطرافها. ومن أخص خصائصه أن يكون الإنسان في خلجات نفسه مع الله، وأن يخلص نوايا قلبه لله، وهذا هو معنى إسلام الوجه لله، ومنه اكتسب الدين اسمه الكريم: الإسلام. والمظهر العملي للإسلام هو طبعاً إتباع ما شرع الله للإنسان في الحياة من نظم وأحكام، لكنه لن يستطيع أن يحقق هذا حتى يكون سره ونجواه ونيته لله. وعن هذا الطريق طريق إسلام الوجه والنفس والقلب لله يكون تمام اتصال الإنسان بربه خالق الكون وفاطر الفطرة الذي إليه المرجع ومنه الهدى وبه الحياة. . .
فإذا كان ذلك كذلك، وإنه لكذلك، فكيف يجوز في غريزة أو عقل أو علم أن يجمع الإنسان بين الحياة الإسلامية والحياة الفنية أو الأدبية أو العلمية إن لم يكن بين الفن والأدب والعلم وبين الإسلام تمام التطابق والاتفاق؟ والاتفاق التام بين العلم والإسلام ثابت لا شك فيه، فليس في الثابت من العلم شيء ينقض شيئاً من الإسلام، وليس في الإسلام أصل ينقض حقيقة ثابتة في العلم. وكل ما يثبته العلم في المستقبل يقبله الإسلام مقدماً بنص القرآن، ويؤول إليه النص إن خالفه في الظاهر. وهذا دليل جديد لا ينقض على أن الإسلام هو حقَّا من عند الله فاطر الفطرة، وأنه حقا دين الفطرة كما وصفه الله في القرآن. أفلا ينبغي أن يثبِّت هذا في الدين هؤلاء المتزلزلين من أهل (التجديد) الذين يريدون أن يَلُفُّوا الدين ويضعوه على الرف ويقطعوا باسم التقديس ما بينه وبين الحياة في مظاهرها خارج المساجد في الأدب والفنون والاجتماع؟
إن الفطرة كلها منشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد اجتمعا على استحالة التناقض في الفطرة. فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة كما يزعم أهلها وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة دين الإسلام في شيء. فإذا خالفته في أصوله ودعت صراحة أو ضمناً إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها، وعاقت الإنسان(267/42)
أن يعمل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح - إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق ودابرت الخير وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق، والتي تريد الفنون أن تكون منها في الصميم، فإذا كان من شأن بعض ما يعمل أو يكتب باسم الفن أو الأدب أن يتجاوز في تأثيره ما سبق على عظمه، فيحول بين الإنسان وبين ربه، ويدخل عليه الشك في دينه بأي صورة من الصور ولأي حد من الحدود، كان ذلك البعض المعمول أو المكتوب باسم الفن أو باسم الأدب زوراً وإفكاً في الفن والأدب والفطرة والدين على سواء
فنحن حين ندعو إلى وجوب نزول الفن والأدب على حكم الدين وروحه، وتحريهما التطابق التام بينهما وبينه، لسنا نبعث ولا نتجنى ولا نتحكم في الأدب والفن بما لا ينبغي التحكم به فيهما
إننا نوجد معياراً للحق والصواب والخير في الفن والأدب حين لا معيار لذلك كله فيهما؛ ونيسر للفن والأدب طريق التثبت من انطباقهما على الفطرة التي فطر الله عليها الناس، ونحقق لهما بذلك اتحادهما مع الفطرة في الصميم. ونحن بذلك الذي ندعو إليه ونقول بوجوبه نحقق بين الفن والأدب وبين الدين تلك الوحدة المتحققة بين الدين والعلم، فتتحقق وحدة حياة الإنسان كلها بذلك وتبرأ حياته من ذلك الداء المستعصي والشر البالغ شر وجود التناقض والتنافر بين ما يعشق من فن ويعتقد من دين. ثم نحن بعد هذا ووراء هذا نترك الفن والأدب بما قلنا ودعونا إليه من وجوب سيرهما مع الدين يداً بيد، وجنباً لجنب، وروحاً مع روح، على الطريق التي يحققان منها رسالتهما في الناس، رسالة الصدق والحق والخير والفضيلة والعزة والسعادة والهدى والنور، لا رسالة الكذب والباطل والشهوة والإثم والمجون والفجور
فالمسألة في الأدب - إذ لا بد من الرجوع إلا ما كنا فيه - ليست مسألة لفظ ومعنى فقط ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً بحتاً يتمتع صاحبه بما حرم الله وما أحل، لا يفرق بين معروف ومنكر، ثم يصف ما لقي في ذلك من لذة أو ألم أو غيرهما من ألوان الشعور ويخرج ذلك للناس على أنه هو الأدب! وفريق يريد(267/43)
أن يحيا الحياة الفاضلة في حدودها الواسعة التي حدها الله، وبمظاهرها المختلفة في الفطرة كما طهرها الله، لا كما دنسها أو يريد أن يدنسها الإنسان، ويصف ما يتمتع به من تلك وما يلقي أو يتجشم في سبيل ذلك غير ناس لحظة أن الوجود كله من الله وأن الدين كله لله، وما يصف ويحلل يخرجه للناس على أنه هو الأدب. فأي الأدبين يا ترى أرحب وأسمى وأطهر، وأيهما أولى بالحياة وأصلح للبقاء؟ إنه لا شك عندي فيما تجيب به بفطرتك على هذا السؤال
إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه بالأدب الجديد ويمثله العقاد، وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم ويمثله الرافعي، وقد عرفت الآن فيم يتفقان وفيم يفترقان. الرافعي كما قلنا يتفوق على العقاد في التعبير وفي الخيال؛ وكلاهما يحتفل بالمعنى أكبر احتفال؛ غير أن الرافعي عنده نور يهتدي به ليس عند العقاد فكان لذلك أقل من العقاد عاباً وأكثر صواباً. لكن ذلك كله لا يكفي لأن يفرق بين أدبيهما تفريقاً يجعل منهما ممثلي مذهبين مختلفين في الأدب. إنما الخلاف الأساسي بينهما خلاف في الروح؛ هما من حيث الروح مختلفان كل الاختلاف، وعندك للحكم بين الروحين معيار صدق لا يخطئ هو معيار الدين. وإذا أردت معياراً جزئياً يغنيك عند التقريب فمعيار الخلق الفاضل. وإذا قست الأدبين بأحد هذين المعيارين لم يبق عندك شك في أيهما أولى بالإكبار وأصلح للبقاء لأنه أعون للإنسان على الارتقاء: الأدب الأخلاقي أم الأدب غير الأخلاقي، على ألطف وأخف تعبير
والمقياس الذي نبهنا إليه في الفن والأدب ليس من البعد عن الفن والأدب كما يصور العقاديون، بل هو من روح الفن والأدب في الصميم. أليس روح الفن والأدب والجمال، أليس الجمال النفسي روح الجمال الإنساني؟ ثم أليس روح الجمال النفسي إخباته وإخلاده وإسلامه لله؟ من هذا الإخبات والإخلاد والانقياد لله تأني الفضيلة والسلامة والسعادة في الحياة، ومن محبة الله سبحانه يشيع في النفس الهدى ويشع منها النور. فقل لي بربك كيف يمكن أن يكون لأدبهم المكشوف نصيب من روح الجمال الإنساني يستهوي النفس التي فيها بقية من الفضيلة والخير؟ إنا لا نشك في أن ذلك الأدب المكشوف مثل سارة وما إليها يصدم أول ما يصدم مقر الفضيلة من النفس ويؤذي أول ما يؤذي حاسة الجمال النفسي في الإنسان. فهو في صميمه أدب غير جميل، يلذه ويستمع به من مسخت نفسه فصارت تعاف(267/44)
الطيب وتستمرئ الخبيث. أما غير هذه النفوس مما لا يزال هلا من الخير والفضيلة والدين نصيب فأنها تجد صعوبة في أن تمضي في قراءة مثل ذلك الكتاب إلى تمامه إلا أن تعطل من ذوقها أو تنيم من ضميرها أو تحتال عليه بالإقرار له أن الكتاب من الناحية الخلقية معيب قبيح لكنها تقرأه لتحيط بأدب العصر أو لتدرس من الكتاب أسلوبه أو ما شابه ذلك من معاذير. ويكون جزاؤها على ذلك أن تخرج من القراءة وقلبها أكثر مرضاً، وذوقها الأدبي أقل تمييزاً، وحسها الخلقي أكثر انثلاماً. ولا تلبث إذا تكرر ذلك منها أن تفقد أكبر مميزاتها ومزاياها فتهبط من معارج الرقي النفساني إلى مدارج الانحطاط؛ ويكون الأدب المكشوف بذلك قد فعل فعله وأدى رسالته من مسخ الطباع وإفساد النفوس والصد عن سبيل الله
محمد أحمد الغمراوي(267/45)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 20 -
وجاء يوم الرحيل وآن لفتى الأحراج أن يؤدي رسالته. . . آن لابن النجار أن يأخذ بيديه أزمة الحكم في قومه؛ وتأهب ليواجه العاصفة، وإنه ليراها اليوم عاصفة دونها تلك العواصف التي طالما هبت في الغابة هوجاء عاتية، فزعزعت باسقات الدوح وشعثت كثيفات الألفاف وأفزعت الرجال والدواب. . . إنه يراها اليوم عاصفة من عمل الإنسان لا من عمل الطبيعة، وما أهول ما يفعل بنو الإنسان حين ينسون إنسانيتهم فتستيقظ فيهم غرائزهم التي دبت فيهم أول ما دبوا على هذه الأرض. . .
عول على الرحيل (الرجل القادم من الغرب) كما اعتاد أن يسميه أهل العاصمة وغيرهم من أهل المدن الشرقية السابقة في المدنية. . . وتقدم الربان ليقود السفينة ودوى الأنواء في مسمعيه
ذهب مساء اليوم السالف ليوم رحيله إلى مقر عمله في المحاماة فجمع طائفة من الكتب والأوراق فلفها وربطها بيده وحملها معه ثم أوصى أن تظل الرقعة التي تحمل اسمه واسم زميله هرندن حيث هي على الباب قائلاً: إنه عائد - إن مد في أجله بعد انقضاء مدته في الرياسة - إلى عمله في المحاماة كأن لم يكن هناك شيء
وكان قد حزم متاعه وأعد كل شيء ليكون على أهبة إذا تنفس الصبح، وأعد فيما أعد خطاباً يذيعه في الناس ساعة الاحتفال بتسلمه مقاليد الأمور، ولقد احتفل لهذا الخطاب وكانت معانيه محتبسة في نفسه زمناً تهدر كالسيل وتجيش وتجتمع(267/46)
وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة وقد تلاقى هناك نفر من أهل المدينة جاءوا يحيونه فما رآهم حتى وقف على سلم العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه وتندت عيناه فقال: (أي أصدقائي؛ لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك ما يخالجني من الحزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله؛ ولقد لبثت فيه من عمري ربع قرن وتدرجت فيه من شباب إلى رجل مسن. . . هنا ولد أبنائي وهنا دفن واحد منهم؛ وهأنذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائداً إليكم بعد اليوم. . . أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك الذي ألقى على كاهل وشنجطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبداً. . . ولئن ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب. فلنأمل في حسن المنقلب مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ومعكم والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني حين أكلكم إلى عنايته كما آمل أن تكلوني إليها في صلواتكم أقرئكم وداعاً حارَّا. . .)
وانطلق به القطار وقطرات المطر تنزل على رؤوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، ولكم التقت ساعتئذ تلك القطرات بما فاض من المآقي. . . ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس فإذا هو شهيد تمزق الجراح جثته
وقضى في رحيله إلى العاصمة اثني عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس إلا من ملكه حب الاستطلاع؛ وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء
وكان قد عقد النية أن يظل صامتاً إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من تحيات؛ ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم؛ ثم إنه - دون أن يعرف التظاهر أو الغرور - رأي أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ظهيراً فيما هو مقدم عليه من كفاح
وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة؛ فقليلاً ما كان يبرم أمراً أو يقطع في المسائل القائمة برأي؛ وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركاً الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في أنديا نابولس: (أي(267/47)
مواطني، لست بمبرم أمراً، إنما أنا ألقي عليكم أسئلة لتتدبروها. . .)
ولقد تكلم في هذه المدينة فأشار إلى ما كان يجري على الألسن يومئذ حول حق الاتحاد في رد الولايات الخارجة عليه بالقوة؛ ولقد عد أنصار الجنوب ذلك العمل عدواناً؛ فتساءل الرئيس هل يكون في الأمر عدوان إذا لجأت حكومة الاتحاد إلى المحافظة على ما تملك هناك من عقار، أو إذا حافظت على سبل مواصلاتها وحرصت على جباية المال المقرر على البضائع الواردة؟
واستقبل إبراهام في سنسناتي استقبالا لم تر هذه المدينة لأحد من قبل نظيراً له؛ وتزاحم الناس عليه يريدون رؤيته وباتت المدينة في مثل فرحة العيد، ففيها الأنوار الوضاءة والأناشيد الصداحة والجموع الغفيرة المستبشرة، وفيها ما هو أعلى من سمات العيد هذه ألا وهو الحب الصادق تفيض به القلوب
ومر بحدود كنتوكي وهي ولاية من ولايات العبيد تشتد فيها الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد فقال يوجه الكلام إلى أهلها مشيراً إلى ما اعتاد أن يخاطب به أهل الجنوب من قبل: (أي مواطني أهل كنتوكي، هل لي أن أدعوكم بمثل ما أدعو؟ إني في موقفي الجديد، لا أجد حادثاً ولا أحس ميلا يدعوني أن أغير كلمة من هذا، فإذا لم تنته الأمور إلى الخير فثقوا أن الخطأ ذلك لا يكون خطئي. . .)
وفي بتسبرج أفصح عن سروره أن كان استقباله هناك استقبالاً شعبياً لا أثر للحزبية فيه ثم قال: (إذا لم تجتمع كلمتنا الآن لننجي سفينة الاتحاد القديمة الطيبة في رحلتها هذه، فلن يكون ثمة من فرصة بعدها لقيادتها إلى رحلة غيرها)
وفي محطة من المحطات الصغيرة وقف لنكولن بعد أن قرت حماسة المستقبلين فقال إنه يذكر أن خطاباً جاءه من فتاة هذه بلدتها تسأله فيه أن يطلق لحيته، ولقد فعل كما أشارت فهو ذو لحية اليوم كما يراه الناس، ثم عبر عن رغبته في رؤية تلك الفتاة إن كانت حاضرة، فبرزت من الجموع تلك الفتاة ومشت على استحياء حتى وصلت إلى الرئيس، فقبلها قبلة على جبينها، والناس بذلك معجبون فرحون!
وفي ألبني عاصمة ولاية نيويورك العظيمة كانت حفاوة الناس به شديدة؛ وكذلك كأن شأنه في مدينة نيويورك التي سبق أن زارها لأول مرة من قبل ليخطب الناس فأصاب من(267/48)
النجاح ما سلفت الإشارة إليه
ووقف في ترنتن على مقربة من ميادين القتال التي سالت فيها دماء الثورة غداة حرب الاستقلال، فأخذه جلال الموقف وهزته روعة الذكرى فجري لسانه بما اختلج في نفسه قال (إني لأرجو أن تسامحوني إذا ذكرت في هذه المناسبة أني في أيام طفولتي وفي مستهل عهدي بالقراءة قد تناولت كتاباً صغيراً يدعى حياة وشنجطون تأليف ويمز؛ وإني أتذكر كل ما جاء فيه عن ميادين القتال وعن مواقف النضال من أجل الحريات في هذه البلاد، ولكن ما من حادثة تركت في نفسي من أثر مثل ما تركه موقف النضال هنا في ترنتن نيوجرسي). . . وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث قال. . . (وإني لأذكر الآن أني فكرت يومئذ ولما أزل غلاماً صغيراً أنه لا بد أن يكون أمراً غير عادي ذلك الذي كافح من أجله هؤلاء الناس؛ وإني لأحس رغبة ملحة قوية أن هذا الذي كافحوا من أجله وشيئاً آخر هو أعظم من الاستقلال القومي: شيئاً ينطوي على وعد يوعد به الناس جميعاً في هذا العالم في كل ما هو آت من العصور. . . أقول أني شديد التطلع أن أرى الوحدة والدستور وحريات الناس بحيث تصبح أبدية وهي مقرونة بتلك الفكرة الأصلية التي من أجلها قام الكفاح. ولسوف أكون جد سعيد إذا أصبحت الآلة المتواضعة في يد القوى العلي وأيدي هؤلاء الذين يكادون أن يكونوا شعبه المصطفى للعمل على أن يدوم ذلك الذي انبعث من أجله ذلكم النضال العظيم)
وكان الكتاب الذي يشير إليه لنكولن في هذه الذكرى هو بعينه ذلك الكتاب الذي أعاره إياه أحد معارفه والذي بللته قطرات المطر فأصابته ببعض العطب، وتركت الصبي الفقير في حال شديدة من الغم حتى لقد سار يحمله إلى صاحبه وهو شديد الحيرة، فلما جاءه عرض عليه أن يعمل عنده بما يساوي ثمنه. . . ذلك هو الكتاب الذي قرأ فيه النجار الغلام حياة وشنجطون العظيم، ولم يكن يدور بخلده أنه سيجلس يوماً حيث كان يجلس وشنجطون ويسدي إلى بني قومه وإلى الإنسانية جميعاً من صنيعه ما لو شهده ذلك البطل الكبير لطمع أن يكون ما تقدم يداه فوق ما قدمت
واستأنف الرئيس لنكولن ومن معه سيرهم إلى العاصمة حتى وصلوا فيلادليفيا؛ وهناك علم أن فريقاً من بني جنسه يأتمرون به ليقتلوه!. . . سمع إبراهام أن أمامه الخطر يوشك أن(267/49)
يحدق به؛ وما كان إبراهام بدعاً من العظماء، فكم من أماثل خلوا من قبله لاقوا مثلما يلاقي اليوم من عنت، ودبر لهم مثلما يدبر له، فما وهنوا ولا اصرفوا عن وجهتهم حتى أدركوا الغاية أو أدركهم الموت. . .
وارتاب لنكولن أول الأمر، فما كان يظن أن أحداً تحدثه نفسه بإتيان هذا العمل، ولكن جاءه رسول من عند صديقه سيوارد ينبئه أن قائد الجيش حدثه أن هناك مكيدة تدبر له وأن عليه أن يحذر حتى لا يكون ضحية للغادرين. . . فلما سمع لنكولن هذا لم يعد يرتاب وبات على حذر وإن لم تأخذه خيفة
وكانت لفيلادليفيا وهي المدينة التي كتب الثوار فيها وثيقة الاستقلال وصاحوا صيحة الحرية منزلة عظيمة في نفسه وفي نفس كل أمريكي من أنصار الحرية، وكان أبراهام قد وافق أن يخطب الناس في تلك القاعة التاريخية التي ولدت في ساحتها الحرية، وكأنما توافقت الذكريات لتزيد في جلال الموقف فلقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو عيد ميلاد الزعيم وشنجطون؛ ورغب الناس أن يرفع العلم على رأس القاعة الزعيم لنكولن. . . ووافق لنكولن على ذلك مغتبطاً مرحباً كما وافق أن يخطب الناس مساء ذلك اليوم في مدينة هرسبرج وكانت تقع غير بعيد من فيلادليفيا. . .
وخشي أصحاب أبراهام أن يفتك به المجرمون في زحمة الناس في ذلك اليوم المشهود في أي من المدينتين وأشاروا عليه أن يقتصد في الاتصال بالناس فيفوت على الغادرين قصدهم، ولكنه أبى إلا أن يفي بوعده ولو كان في ذلك هلاكه. . .
ورفع أبراهام العلم في فيلادليفيا وكان في ذلك موفقاً، فإنه صعد في ثبات إلى حيث ينتصب العمود الذي يثبت فيه العلم فشد الحبل فانبسط العلم ورف، وخفق الناس واستبشروا وهم ساعتئذ جموع خلفها جموع إلى آخر ما يذهب فيهم البصر. . . وكلهم يحيون الرئيس في حماسة وغبطة
وخطب في القاعة التاريخية فأفصح عن شيء من سياسته على خلاف ما جرى عليه في خطبه السالفة؛ قال: (كثيراً ما سألت نفسي ما ذلك المبدأ أو ما تلك الفكرة التي حفظت الاتحاد هذا الزمن الطويل؛ إنها لم تكن مجرد انفصال المستعمرات عن الأرض الأصلية، ولكنها كانت تلك العاطفة التي منحت الحرية لا لهذه الأمة فحسب، بل للناس جميعاً في كل(267/50)
عصر مقبل كما أرجو؛ إنها كانت تلك التي بشرت أنه متى حان الوقت المناسب رفع العبء عن كواهل الناس جميعاً ومنح كل امرئ فرصة على قدر ما يمنح أخوه. . . تلك هي العاطفة التي انطوى عليها إعلان الاستقلال. والآن أسائلكم يا أصدقائي هل يتسنى خلاص هذه البلاد على هذا الأساس؟. . . إذا أمكن ذلك فإني إن استطعت أن أساعد على خلاصها أعد نفسي من أسعد الناس في هذا العالم. أما إن كان من المستحيل خلاصها إلا أن يضحي هذا المبدأ، فإني أفضل أن أغتال في هذا المكان على أن أضحي به. والآن أرى من شواهد الحال القائمة أنه ليس ثمة من ضرورة إلى سفك الدماء والحرب. ليست ثمة ضرورة إليها؛ وإني لا أميل إلى اتجاه كهذا؛ وأضيف إلى ذلك أنه لن تقوم حرب إلا إذا أجبرت الحكومة عليها؛ ولن تلجأ الحكومة إلى القوة إلا إذا أشهر في وجهها سلاح القوة. . . أي أصدقائي! هذه كلمات جاءت على غير ترتيب سابق ألبتة؛ فأنا لم لأكن أتوقع قبل وصولي أن أدعى إلى الكلام هنا؛ لم أكن أحسب إلا أني سأرفع العلم فحسب؛ وعلى ذلك فربما كانت كلمتي هذه خلواً من الحرص ولكني لم أقل إلا ما أريد أن أعيش به وما أريد - إذا كانت تلك مشيئة الله - أن أموت به. . .)
وذهب لنكولن في المساء إلى هرمسبرج وخطب الناس كما وعد؛ وكانت بلتيمور هي المدينة التي اعتزم المجرمون أن يقتلوه فيها وهي في طريقه إلى العاصمة؛ فعاد لنكولن إلى فيلادليفيا قبل الموعد المضروب، وركب ومن معه قطاراً عادياً كان قد استبقي بناء على إشارة قادمة ليحمل (طرداً) هاماً إلى وشنجطون وترك لنكولن القطار الخاص الذي كان معداً لسفره، فمر ببلتيمور قبل الموعد المعروف ففوت بذلك على الكائدين كيدهم فكانوا هم المكيدين. . .
وفي الساعة من صباح اليوم التالي وصل (الرجل القادم من الغرب) ومن معه إلى وشنجطون، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها؛ اللهم خلا سيوارد ورجل آخر كانا على علم بمقدمه فلقياه. . . وركب لنكولن إلى فندق لينتظر بضعة أيام حتى يحتفل بتسليمه أزمة الحكم. . . دخل الزعيم لنكولن عاصمة البلاد في مثل تلك الساعة المبكرة وفي مثل تلك الحال المتواضعة ليجلس في كرسي الرياسة الذي جلس فيه من قبل وشنجطون، دخل ليحمل العبء وليبدأ في حياته مرحلة من الجهاد والجلاد دونها كل ما سلف من جهاد(267/51)
وجلاد. . .
(يتبع)
الخفيف(267/52)
فتاوى شرعية
معضلات العصر
للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
وزير معارف الحكومة المغربية
- 2 -
نص الجواب عن الأسئلة الأشفودرية
جواب السؤال الأول:
الحمد لله الفتاح العليم، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وآله وصحبه المستحقين لكل تكريم. أما بعد فأما مسألة إلزام الملك أحمد زوغو سدد الله له الخطا، وأبعد عن الخطا، موظفيه وتلاميذ المدارس لبس البرنيطة (القبَّعة) - فاعملوا أنه لم يأت في القرآن العظيم ولا في الأحاديث الصحاح التي وقفت عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم من أسلم من أهل الكتاب أو المشركين، ولا الخلفاء الراشدون بعده، تغيير الزي أو جعلوا للمسلم لباساً خاصاً يتميز به. قال الله تعالى: (قُل من حرَّم زينةَ الله التي أخرج لِعباده والطيِّباتِ من الرزق)، وزينة الله ما يتزين به عباده من اللباس على اختلاف أنواعه. وقد استثنت السنة من ذلك الحرير والذهب، فان لبسهما حرام على ذكور الأمة دون نسائها. وقد أسلم عدي بن حاتم الطائي وكان نصرانيِّاً حاملاً لصليب فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطرحه ولم يصح أنه أمره بتغيير اللباس ولا أمره غيره بذلك. وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبَّة روميةً ضيقةَ الكمين في السفر. وما جاز لبسه في السفر جاز في الحضر من باب لا فرق. وقال عليه السلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة) أخرجه البخاري تعليقاً ووصله أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي وسقط وتصدقوا من رواية الحارث وزاد في آخره: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده. وأخرجه ابن أبي الدنيا بتمامه في كتاب الشكر. وإبيان البخاري بصيغة الجزم وهي قال دليل على قوة إسناده، بل على صحته كما هو مصطلحه في المعلقات من صحيحه. وعلق البخاري من(267/53)
صيغة الجزم أيضاً عن ابن عباس موقوفاً عليه: (كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة): وقد وصله ابن أبي شيبة في المصنف. نعم استثنت السنة أيضاً ما كان من باب التشبه بالكفار، فقد أخرج الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به عن علي كرَّم الله وجهه مرفوعاً: (إياكم ولبوس الرهبان فان من تزيا بهم أو تشبه فليس مني) فاتضح لكم ما استثني من الآية وما بقي فيها على العموم. وأعلم أن التشبه بالكفار في اللباس سواء للبدن أو الرأس أو الرجل فيه نوعان:
النوع الأول أن يَلبس لباساً خاصاً بالرهبان دالا على رتبة من رتب الرهبنة وكان بحيث أن من لبسه يدل حاله على أنه ارتدّ عن الإسلام ودخل في الكفر. هذا هو الذي يترتب عليه الكفر لأنه دليل على تغيير الاعتقاد الديني وتحوله إلى معتقد الرهبان؛ وهذا هو المعنيُّ بحديث عَليٍّ السابق؛ ولذلك قال عليه السلام: فليس منّي. وفي هذا النوع يقول الشيخ خليل المالكي في مختصره: الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وشد زُنّار قال. بناني في حاشيته: الزنار ثوب ذو خيوط ملونة يشده الكافر في وسطه يتميز به عن المسلم. قال والمراد به ملبوس الكفار الخاص بهم قال ومَحل هذا إن فعل ذلك محبة في ذلك الزيّ وميلاً لأهله؛ وأما إن فعله هزواً ولعباً فهو محرم، إلا أنه لا ينتهي لحد الكفر كما قال ابن مرزوق ا. هـ. ا. فالردة عند المالكية متعلقة بتغيير الاعتقاد الإسلامي بناء على أن الإيمان محله القلب؛ وكذلك الكفر فلا يحكم بالردّة إلا إذا صدر عن المرتد قول يصرح بذلك أو فعل يقتضيه اقتضاء واضحاً كشد الزنار لقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله) فالآية واضحة الدلالة على أن الكفر والإيمان مناطهما الاعتقاد بالقلب، فكل ما دل على ترك معتقد المسلمين دلالة صريحة فهو كفر كنبذ أحكام الإرث والزواج والطلاق وكل ما علم من الدين بالضرورة، وكل ما لم يصل إلى ذلك فلا. واعلم أن الحكم على المسلم بالردَّة حكم بإخراجه من جماعة المسلمين وحكم بإراقة دمه، ولا أخطر من هذا الأمر في الإسلام الذي يحرص على تنمية عدد المسلمين وليس من شأنه أن يطردهم لأدنى شبهة وهم يذكرون الله ويعبدونه، فان الله يقول: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الآية ويقول: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) الآية(267/54)
وننبه هنا إلى أن متأخري السادة الحنفية حكموا بالكفر في عدة فروع بأدنى شبهة وخالفوا مبدأ إمامهم المبني على التثبت والأخذ بحديث: إدرأوا الحدود بالشبهات. وتوسع في درء الحد بالشبهة إلى أقصى حد؛ ولهذا أنكر عليهم الإمام ابن الهمام منهم، فكان يترك الفتوى بما رأوه ويفتي بغيره. ولنكتف بهذا القدر تجنباً من الدخول في معمعة مذهبية غير مرغوب فيها
النوع الثاني من التشبه كان خفيفاً لم يصل إلى حد الكفر بحيث لا يدل دلالة واضحة على تغير اعتقاد المسلم كحلق اللحا، ولبس لباس غير زنار، وسدل شعر الرأس. وفي هذا ورد حديث البخاري عن ابن عباس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب مما لم يؤمر فيه؛ وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون، رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد) يدلنا هذا الحديث على أن الأمر العادي إن وقع السكوت عنه في الشريعة ولم ينزل فيه وحي كان يحب موافقة أهل الكتاب تأليفاً لهم وطمعاً في اجتذابهم إلى الإسلام، أم لأنهم أهل شرع سماوي بخلاف كفار العرب الوثنيين، ثم لما أيس منهم صار لا يوافقهم ففرق شعره. وكان الصحابة بعده مخيرين من يفرق منهم ومن يسدل إذ ليس هذا من قبيل التعبد بدليل قوله فيما لم يؤمر فيه، وعلى هذا فلا نسخ في الحديث إذ لا تعبُّد فيما يظهر، وبعيد كل البعد أن تكون الأحكام الإلهية تبعاً للأحوال السياسية، والوحي ينزل: هذا وليس كل ما فعله الكتابي أو المجوسي يجب علينا مخالفته فيه. كلا. فهذا عمر بن الخطاب أحدث التاريخ في الرسائل الرسمية ودون الدواوين وكتبها بلغات أجنبية ونظم البريد وفعل غير ذلك مما يفعله الروم والفرس ولنا فيه فائدة تعم مصلحتها. وعلى هذا فكل ما لنا فيه فائدة ومصلحة عامة كلباس الجند وإحداث الأنظمة المحكمة وتقريب المواصلات وتعجيل الأخبار كالتليفون والبرق وغير ذلك مما لا يحصى من الأمور الصحية والطبية ونظام الجندية واقتناء آخر طرز من الأسلحة والطائرات الجوية وغير ذلك، فكل ذلك لا معنى للطعن على من أخذ به أو الانتقاد بالتشبه عليه أو نسبته لفعل بدعة دينية. فالتشبه الذي نهينا عنه له حدٌ محدود وقرينة الحال تدل على ذلك؛ وهو كل ما كان راجعاً إلى تغيير الأمور التعبدية أو إذهاب الشعائر القومية التي تفني بذهابها ذاتية الأمة في ذاتية أمم أخرى مما يمس جوهر الإسلام وأبهته ويحط من(267/55)
قدره. وإذا نظرنا إلى تغيير الزِّي بلبس البرنيطة الذي هو غير مفيد للإسلام في شيء وعرضناها على المعنى المقصود وجدناها ليست من النوع الأول قطعاً الموجب للردة، إذ ليست خاصة بأهِل الكفر من الرهبان؛ وإنما هي من النوع الثاني لما فيها من محو شعار القومية، فغاية الأمر أن تكون محرمة أو مكروهة. وأما حديث أبي داود والترمذي مرفوعاً: فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس، فلا تنهض به حجة لقول الترمذي: إن إسناده ليس بالقائم وفيه رجلان مجهولان. ثم إن البرنيطة بالنسبة إلى موظفي ألبانيا قد تكون جائزة في حق من هو فقير منهم بحيث إذا عزل أصبح يتكفف الناس وله عيال، وهذا وإن لم يصل لحد الضرورة المبيحة كأكل الميتة لكنه محتاج إلى ذلك والحاجة في المذهب المالكي ملحقة بالضرورة. وقد أفتى ابن مرزوق: أن من لبس الزُّنار الذي هو موجب للردة مضطراً كأسير عندهم فلا حرمة عليه فضلا عن التكفير؛ نقله بناني في الحاشية وسُلِّم له؛ كما أفتى بأن من لبس الزنار هزلاً ولعباً لا يكفر؛ وإنما يكون فعل حراماً. أما أغنياء الموظفين الذين ألزموا بلبسها وهم غير محتاجين للوَظيفة فهؤلاء قد يقال تكون في حقهم محرمة أو مكروهة، ولا ردة تلزمهم في ذلك ما دام الإيمان ثابتاً في قلوبهم. أما من تورع عنها وزهد في وظيفته لا يكون فيه حرَّاً حتى في لباسه فذلك أحسن
وإني على علم من أن بلدكم هي الدولة الإسلامية الوحيدة في أوربا ويتعادل فيها عدد المسلمين مع غيرهم. فلو أننا كلفناهم بتقديم استقالتهم جميعاً احتجاجاً على عدم رضاهم بتغيير زيهم الذي هو شعار قوميتهم التي تتعين المحافظة عليها، لأخذ وظائفهم غير المسلمين ودال الأمر إلى تمكين غيرهم من التصرف في مصالحهم بما قد يكون مضراً بهم وبدينهم. والقاعدة الشرعية إذا اضطر المسلم إلى أحد الضررين وجب اختيار أخفهما. وعلى هذا فلا تحرم حتى على أغنياء الموظفين ولا على من استعملها في بلد غير إسلامي قصد الستر وأمن المكر. أما المسلم الذي يلبسها اختياراً في بلد إسلامي فلا شك في الحرمة لما فيه من التشبه وإهانة القومية وتفريق جمع الإسلام وإباحة عرضه للطاغين
نعم لو فرضنا أن الموظفين المسلمين لا يستغني عنهم، وأن الملك يضطر عند تقديم استقالتهم جميعاً إلى العدول عن أمره بلبس البرنيطة وجب عليهم جميعاً تقديم استقالتهم، ووجب على غيرهم ألا يقبل أي وظيفة منها إلا بعد الرجوع في الأمر المذكور؛ والوسيلة(267/56)
تعطي حكم مقصدها؛ وأظن أن هذا عندكم غير متيسر، بل إن الأفكار (الكمالية) فعلت فعلها واحتلت كثيراً من الأدمغة الألبانية حتى تخطتها إلى علية القوم وسراتهم
لذلك لا يسعنا إلا أن نفتيكم بامتثال أمر الملك المؤيد، وننصحكم بالعدول عن كل حركة يخاف منها على الأمن في مملكة صغيرة فتية محاطة بالمطامع نرجو لها النمو والنجاح. فإياكم إياكم الخلاف ما أمكن. وعليكم طاعة السلطان إن كانت في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. لكن للضرورة أحكام. وطاعة السلطان واجبة كطاعة الوالدين التي جعل لها الحق سبحانه نهاية وآخرة في قوله: (وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)
أما تلاميذ المدارس الذين ألزموا ألا يقبلوا في مدارس الحكومة إلا بالقبعة (البرنيطة). فأما من كان منهم دون بلوغ فغير مخاطب بتكفير ولا بتحريم وإنما المخاطب بذلك وليّه. وأما من كان بالغاً عاقلاً فان مصلحة تعليمه مقدمة على مفسدة تغيير زي قوميته في نظري. ولا داء أدوأ من الجهل للبالغ وغير البالغ. يا إخواني إن هذه السياسة العميقة التي تشدَّ إزرها الأحوال والأفكار المحدِّثة تسوَّغ لي أن أتنبأ لكم والأسف ملء جوانحي بأن البرنيطة عما قريب ستصير لكم اللباس القومي والشعار الألباني قبل انقراض الجيل الحاضر. وا أسفاه! إن اللباس العربي الذي كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين فتحوا أكثر العالم في مدة جيل واحد وهذبوا وعلموا ومدنوا ما فتحوا - قد قضت عليه أزياء الفرس والروم، بل حتى أزياء الرهبنة، فأن القنباز عندنا قريب من سترة الرهبان، وهكذا الطربوش النمسوي الذي عممَّ الممالك الإسلامية، والجبدور الذي يوجد في أكثر بلاد الإسلام؛ حتى النعال، كل ذلك نسخ اللباس العربي ولم يبق منه إلا العمامة والقلنسوة. وهذه البقية الباقية من الزي الشرقي والشعار الإسلامي قد أخذت الأفكار الكمالية تكتسحها وتعفي أثرها، ولله في خلقه شؤون. وأرجو أن تكونوا قد أخذتم أيضاً بالتغييرات والإصلاحيات الحقيقية المفيدة التي أدخلها الكماليون على بلادهم لتذهب الحسنات بالسيئات. ذلك كتنظيم الجند على الطراز الحديث، وجعل أسطول جوي عتيد يقاوم كل طمع في بلادكم، وكتنظيم المالية بالضبط الحقيقي، وتوحيد الفكرة الألبانية في كل ميادين الحياة؛ واستخراج كنوز الأرض لكفايتها أهلها عامة، وتوحيد طرق التعليم والتهذيب لتجمع الأمة شملها وتكون على(267/57)
قلب رجل واحد؛ وترقية الشؤون الاقتصادية، إلى غير ذلك
إخواني إن الإسلام ركنه الأعظم فكرة واعتقاد متين مؤسس على أصول الوحي والعقل القطعيين فلا تزعزعه الكوارث ولا يتأثر بالتغيرات
والذي أوصيكم به وأحضكم عليه والذي تبذلون دونه كل غال ورخيص، ونفس ونفيس، هو القرآن الذي هو الحبل المتين، والركن المكين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية الصحيحة، مَرّنوا أولادكم على التمسك بهما وحفظهما والاحتفاظ بهما، والعمل بما فيهما، فذلك برنامج الفتح الإلهي، والتقدم الحقيقي. عضُّوا عليهما بالنواجذ ولا يضر المسلم أن يتقمص في أي ثوب كان إذا كان متمسكا بهما؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. عليكم إخواني بالتعليم. . . التعليم. . . التعليم. . . تعليم العلوم القرآنية الخالية من شوائب الشذوذ، والعلوم الحديثة الصحيحة واتباع طريق السلف الصالح وخير القرون في كل أمر ديني. وعليكم بالجد والاجتهاد في اقتناء العلوم الدنيوية على اختلافها كيفما كانت ومن أيِّ جهة جاءت، والبلوغ في الاقتصاديات لأعلى المجد واتباع أحدث الطرق فيها. وروح النجاح في ذلك كله هي الأخلاق الإسلامية المؤسسة على السيرة النبوية وتاريخ الإسلام المجيد الذي هو الإكسير الصحيح الذي يقلب الأمم الخاملة إلى أمم راقية ناهضة؛ والله يؤيد حكومتكم ويجمع عليها كلمتكم ويؤلف بين قلوبكم وبين قلب كل الباقين كيفما كان مذهبه ويبعد عنكم أحقاد التفرقة السياسية بمنه وفضله آمين
(يتبع)
محمد بن الحسن الحجوي(267/58)
رسالة الشعر
في دخان اليأس
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(يقولون: غن الشعر أبيض هادئاً ... وكيف تغني في الهجير البلابل؟)
وَقيَّدَ عُمْري حُبُّها في قرَارةٍ ... من الْهمِّ لا يُرْجَى لها الْيَوْمَ ساحِلُ
عَلَيْها دُخَانُ الْيَأْسِ سَأْمانُ، وَاجِمٌ ... كَظِيمُ الْحَواشي مُقْلَقُ الذَّرِّ ذَاهِلُ
قتامٌ عَلَى أَسْدَالِهِ يمْرَحُ اْلأَسى ... وَقَبْرُ الْمُنَى في ظِلِّهِ يَتَخَايَلُ
وَلِلْخَيْبَةِ الكُبْرَى عَلَى جَنَبَاتِهِ ... خَيَالٌ لِحظِّي في دُجَى النَّفْسِ ماثِلُ
إِذَا أَنا سَرَّحْتُ الْخَوَاطِرَ صَدَّها ... وَعادَ بهَا لُجٌّ منَ الْيَأسِ غائِلُ
كأنِّيَ أَعْمَى يَخْبِطُ الْكَوْنَ هائماً ... عَلَى خَطْوِهِ سِنُّ الْعَصاَ تَتَحَايَلُ
سَوَاءٌ لَدَيْهِ حِينَ يَظْمأُ لِلسَّنَا ... عَشاَيَاهُ يُتْرعْنَ الدُّجَى وَالأصَائِلُ
كأني لَحْنٌ طاشَ مِنْ كَفِّ عازِفٍ ... عَلَى وَتَرٍ جافَتْ هَوَاهُ الأَنامِلُ؟!
نزَلْتُ عَلَى الْوَادِي وَنَفْسِي كئِيبَةٌ ... وَنايَي مَفْجُوعُ التَّرَانيمِ ثاكِلُ
وَبِي أَمَلٌ أَنْ يْمسَحَ الْحُبُّ شَقْوَتي ... وَيُوهِنَ مِنْ عِبْئي الذي أَنا حَامِلُ
فعُدْتُ وَبي قَيْدَانِ: قَيْدَ صَباَبَتي ... وَهَجْري وَقَيْدٌ أَحْكَمَتْه النَّوازِلُ
كأني سَجِينٌ سُدَّتْ الأَرضُ حَوْلَهُ ... وَكادَتْ بِساَقَيْهِ تَنُوحُ السَّلاَسِلُ
فلاَ الدَّهْرُ أَخْلاَني وَلاَ غادَةُ الهوى ... أَفاقَتْ لأَِشْجَاني، فما أَنا فاعِلُ؟
يقُولونَ غَنِّ الشِّعْرَ أَبْيَضَ هادِئاً ... وَكيْفَ تُغَنِّي في الهجِير الْبَلاَبلُ؟
وَكَيْفَ وَقلبي لا يُفِيقُ مِنَ الأَسى! ... وَنَجْمِي إلى أُفْق الْمَنِيَّاتِ مائِلُ!
لأَقْسَمْتُ ما غَنَّيْتُ شِعْراً! وَإِنما ... حُشاَشَةُ رُوحي بالأسَى تَتَهَادَلُ!
فَيَا غادَةَ الإِلهامِ وَالشِّعْرِ! وَمْضَةً ... لَعَلَّ بِصَحْرَائي تَرِفُّ الخمائِلُ
وَتحياَ الرُّبى وَالظِّلُّ وَالزَّهْرُ والشذَى ... وَتَيْنَعُ أَيَّامِي، وَتَصْفُو المناَهِل
فَنَشْرَبُ مِنْ أَحلاَمِنا خَمرَةَ الهوَى ... وَيَجْرَعُ مَنْ سُمِّ الْهَوَانِ الْعَوَاذِلُ. . .
أَطلِّي عَلَى دُنْيَاي - سِحْراً - وأَشْرِقي! ... جَبِينُكُ ما أَمَّلْتُ فيها، وَآمُلُ!
وَذَاتُكِ قُدْسي وَانْتِعاَشي وَفَرْحَتي ... وَفَيْءٌ لِرُوحي ما وَعَتْهُ الظَّلاَئِلُ(267/59)
فَلاَ تَتْرُكي يأسِي يَلِجُّ فإنَّهُ ... ظَلاَمٌ لرُوحي الْمُسْتَهاَمَةِ قاَتِلُ
وَأَخْشَى يُنادِيني الرَّدَى فأُجِيبُهُ ... فَيَصْمُتُ طَيْرٌ بالهوَى الْعَفِّ زَاجِلُ
وَتَخْرَسُ أَيَّامِي. . . وَيَنْدَثِرُ الّذِي ... قَضَى الْعُمْرَ عَنْ يَوْمِ اللِّقَاءِ يُسائِلُ!(267/60)
حواش وجيوب
للأستاذ الحوماني
قربي نهدَيكِ أَلمسْ وَأَرى ... كبدي فوقهما كيف تذوب؟
كلما أمررتُ كفي بهما ... ندَّ عنها برعمٌ واحمرّ كُوبُ
أتلقى بفمي زهرهما ... فإذا ملءُ فمي خمرٌ وطِيبُ
وإذا أمعنتُ في عصرهما ... دَمِيتْ منا عيونٌ وقلوب
ما ترى عيناكِ من أخيلةٍ ... تتراءى لي وأحياناً تغيبُ
أَهيَ الآلامُ مرّت وعلى ... وجهها منا غبارٌ وشحوبُ؟؟
أم هِيَ الآمال لاحت وعلى ... صدرها منا حواشٍ وجيوب؟
مبسمٌ من قُبَلِ الآتي نَدٍ ... ومُحيَّا من دم الماضي خضيبُ
الحوماني(267/61)
عزلة
للأستاذ خليل هنداوي
أغادرُ هذا الحمى هائماً ... وأَسرى، وأسرى أريد الفضاءْ
فلا يسع الكون قلبي الصغير ... ولا تسع النفس كل السماءْ
بنا عزلة جوعها دائم ... تضيع بوحشتها الأضلع
ونطعمها من طعام القلوب ... ونملأُ فاها فلا تشبع
يضم الهوى جامعاً بيننا ... وتسكرنا رشفات القبل
فننسى الحياة وننسى الوجودْ ... وتغمرنا مغريات اْلأَمل
ولكننا بعد ذاك العناق ... تعاودنا العزلة القاسية
تريد غذاء جديداً لها=فنذبح أَنفسنا ثانية. . .
خليل هنداوي(267/62)
وحي الشاعرية
للدين
للأستاذ حسن القاياتي
ليس يدري أن للناس إلهْ ... كلَّ غاوٍ لو دراه لاتقاهْ
سادَ بالدين فريقٌ شدَّ ما ... آنق الأعين في زِيِّ الهداه
قام يَدْعُو من يصلي والخنا ... قائمٌ يضحك من تلك الصلاة
المصلي في خداع ماله ... قام فخاً، ما طَوَاهُ ما ثناهْ؟
يذكر الله ويٌوْصِي لحظُهُ ... من أُتيحا للخنا أن يُشْرِكاه
صَرَّع الموتُ غويَّا فانبرَى ... مَعْبَداً يلحد فيه من دعاه
ويح شعب لم يُسَدَّد بابنه ... للمساعي كيف أودى فارتجاه؟
إن في الشرق لَعِلماً كلما ... أقبل الشرقُ على النُّبل نَهاَهْ
كل سفرِ لست تدري صوغه ... من خبال حيث تدري ما عناه!
طاعة الدين لدى جُهَّالِهِ ... تصرع التفكير عن حكم الرُّواهْ
يا بني الأُخْرَى وساَءت سُبَّةً ... إن للمجد سواكم لدُعَاهْ
إن للتقبيل في راحاتكم ... نغمة الفحشاء في لثم الشفاه
كيف تقبيلُ بنانٍ لم يكن ... رَبُّهاَ بَرَّا. ولم تحمد يداهْ؟؟
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي(267/63)
جرح هوى قديم
جرح هواكِ اليومَ في مهجتي ... ما زلتُ أستشعر منهُ الأَلمْ
كأنه جرح هوى طارفٍ ... لا جرح حبّ مُوغلٍ في القِدَمْ
العوضي الوكيل
البريد الأدبي
إلى الأساتذة أحمد أمين والجارم بك وجاد المولى بك
أعضاء لجنة إنهاض اللغة العربية
نشرت البلاغ في عددها الذي صدر يوم الخميس الماضي هذه الأسئلة، ونحن ننقلها عنها بنصها:
ذكرتم في تقريركم الذي رفعتموه إلى وزارة المعارف أن من وسائل إنهاض اللغة العربية أن يكون في أيدي التلاميذ طائفة اخترتموها من الكتب الأدبية الحديثة لم نر من بينها (في أصول الأدب) ولا (آلام فرتر) ولا (رفائيل). وهذه الكتب قد عرفها الجمهور وقرأها وحكم لها؛ فإذا كنتم تجهلونها كان هذا الجهل عيباً في الاختيار الذي نشرتموه. وإذا كنتم تعرفونها ثم أغفلتموها حق لي أن أوجه إليكم هذه الأسئلة:
1 - إذا كان اختياركم مقصوراً على الكتب الأدبية الموضوعة، فلماذا اخترتم الفضيلة (بول وفرجيني) وتركتم (في أصول الأدب؟)
2 - إذا كان الاختيار مطلقاً من هذا القيد فلماذا أغفلتم (آلام فرتر) و (رفائيل)؟
3 - هل تستطيعون انتم ومعكم غيركم أن تأخذوا على هذه الكتب شيئاً في اللغة أو في الأسلوب أو في الغرض؟
4 - إذا كنتم لا تختارون إلا لأدباء وزارة المعارف فلماذا اخترتم للعقاد والمازني والمنفلوطي وشوقي
5 - إذا سألكم هذه الأسئلة وزير الأدب هيكل باشا فهل تستطيعون الإجابة عنها من غير حرج؟
(سائل)(267/64)
(الرسالة) وهذه الأسئلة بعينها يصح أن يوجهها إليهم (سائل)
عن كتب الرافعي وعزام وزكي مبارك
الأستاذ العقاد وامرئ القيس
قال الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد في مقالته (بقية المذهب) في الجزء السابق من (الرسالة) الغراء: (لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطء الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:
وظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
نعوذ بالله!
قلت: امرؤ القيس يقول هذا البيت في وصف الناقة التي عقرها للعذارى (المحبوبات) لا في وصف فتاة من الفتيات، وقبله:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي ... فيا عجباً من كورها المتحمَّل
وقد قال الزوزني في البيت (اللحمي والشحمي): (فجعلن يلقي بعضهن إلى بعض شواء المطية. . .)
وامرئ القيس الكندي أو حماد الرواية أو صاحب هذه القصيدة إنما يستحسن في المرأة ما يستحسنه الأستاذ العقاد النقاد ويستقبح ما يستقبحه وهو يقول في (معلقته) التي لم تعلق في كعبة ولا خيمة ولا خصّ:
مُهفهفة بيضاء غيرُ مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
قال الزوزني: (يقول: هي امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن، غير عظيمة البطن ولا مسترخيته، وصدرها براق اللون متلألئ الصفا تلألؤ المرآة) فأمير الأعراب - وهذا قوله - ونائب الأمة في (دار الندوة) الأستاذ العقاد في قضيتهما في (الحسان) سيان، ولم يختلف في الحق الأميران. . .
(القارئ)(267/65)
مالطة عربية
كتب المستر مكنزي المحرر في جريدة أجبشيان غازيت رسالة إلى جريدة (الديلي تلغراف) تناول فيها ما يزعمه الإيطاليون من أن بينهم وبين أهالي مالطة علاقة لغوية وبالتالي عنصرية. ويؤكد المستر مكنزي أن اللغة المالطية ذات علاقة شديدة باللغة العربية. وهي من ثم من آثار العهد الذي كانت فيه للعرب دولة عظيمة مترامية الأطراف يقول عنها الدكتور فيليب حتى اللبناني أستاذ التاريخ في جامعة برنستون في الولايات المتحدة إنها كانت (أعظم من الدول الرومانية في عنفوان مجدها) فمن جهة اللغة تكون مالطة إذن عربية الأصل أكثر كثيراً مما هي إيطالية
مصر والثقافة العربية
سافر إلى لبنان حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل محمد بك العشماوي وكيل وزارة المعارف، فكان موضع الحفاوة والترحيب من رجال الأدب والفضل في لبنان. وقد تحدث مرة في حلقة منهم بحديث عن عناية مصر بالثقافة العربية قال فيه:
(سأسعى لأن تنفذ الثقافة المصرية إلى جميع أقطار العرب؛ فمصر واجب عليها أن تتزعم الحركة الفكرية وأن تكون فعلا في المقام الذي تضعها فيه بلاد العرب
وارى أن توحيد الثقافة العربية ومناهج التعليم واجب؛ وسأسعى إلى ذلك بما في جهدي وطاقتي
وقد أنشأت وزارة المعارف المصرية فرعاً خاصَّاً ليكون على اتصال تام بجميع أقطار العرب يتابع النهضة الثقافية فيها ويقدم إلى البلدان العربية جميع ما تعمله الوزارة من أعمال وما تقرره من شؤون
ولا يقتصر النشاط والاهتمام ببلادنا العربية على وزارة المعارف فان وزارة الخارجية أنشأت قسماً شرقياً خاصاً لهذا الشأن فمصر ستعني عناية خاصة بكل ما يجري من تحول في البلدان العربية والاهتمام الثقافي هو الخطوة الأولى التي تتبعها خطوات أخرى في جميع الميادين
وليس أدل على اهتمام مصر ببلاد العرب من هذه الحالة التي أبسطها فان مدارس المعارف(267/66)
تضم تلاميذ من طيطوان كما أنها تضم تلاميذ من سورية والعراق والحجاز ولبنان وكلهم يتلقون التعليم الابتدائي والثانوي والعالي على حساب الحكومة المصرية ويحاطون بكل عناية
وفي المدة الأخيرة كتب حضرة سلطان حضرموت إلى صاحب الجلالة الملك فاروق الأول بشأن إيفاد بعثة من التلاميذ تعلم مجاناً في مدارس المعارف المصرية فاصدر جلالة الملك أمره بقبول البعثة مع تسديد نفقات إقامتها وملابسها وجميع ما تحتاج إليه
ولا تتأخر مصر عن الاضطلاع بما تعده واجباً عليها للغة العربية والعرب
وأشار في ختام حديثه إلى المؤتمرات التي أعدتها مصر وإلى المؤتمرات العربية التي تنوي عقدها عاماً فعاماً في جميع بلدان العرب لتوثيق العلاقات بينها وبين تلك البلدان)
ثقافة السودان
كتب إلى جريدة التيمس المستر كيروان يقول: (إن مراسل التيمس في الخرطوم كتب إليها حديثاً يقول فيه إن السودان كسائر البلدان العربية في العالم الحديث يجب أن يعتمد في إقامة ثقافته الوطنية على مصدرين أساسيين. الأول ميراثه الإسلامي وتقاليده العربية، والثاني الثقافة الحديثة في الغرب. وأهم طريق للوصول إلى المصدر الأول هو مصر، وإلى الثاني هو إنجلترا
(فالشق الأول من هذا البيان قابل للمناقشة: فان ميراث السودان الإسلامي وتقاليده العربية التي يستفيدها عن طريق مصر تظهر لنا ضئيلة. فالسودان بخلاف البلدان العربية الأخرى إنما اعتنق الإسلام منذ عهد قصير ربما لا يرجع إلى أبعد من القرن السادس عشر. وكان قبل ذلك ميداناً للنصرانية، وقبل ذلك قضى السودانيون أجيالا طوالا متمتعين بثقافة راقية كل الرقى مستفاد بعضها من مصر. وتحت وشاحهم الإسلامي الحالي يمكننا أن نلحظ حتى اليوم تلك الثقافات السالفة
فيكون إذن مهما للسودان أن يستند في تأسيس مدينته الأهلية الجديدة إلى ميراثه الوطني من تقاليد إسلامية وتقاليد سابقة للإسلام والعرب
عنصر جديد في عالم الطب(267/67)
جاء في مذكرة تلقتها وزارة الخارجية من المفوضية المصرية بألمانيا: أن البروفسور فالدمان الطبيب الألماني المشهور كشف مادة جديدة لمقاومة الحمى القلاعية وأنه بهذه الواسطة حقق غرضاً من أهم الأغراض العلمية بإيجاد (عنصر جديد في عالم الطب) كما قالت الصحف الألمانية
ونظراً إلى أهمية هذا الاستكشاف وما ينتظر له من النتائج أرسلت المفوضية نص حديث للبروفسور مع الصحف الألمانية عن هذا الموضوع الذي ينتظر أن يعني ببحثه قسم الطب البيطري في وزارة الزراعة
تيسير قواعد اللغة العربية
وضعت جماعة دار العلوم ملحوظات قيمة على تقرير اللجنة التي ألفت في وزارة المعارف لتيسير قواعد اللغة العربية. وتقع هذه الملحوظات في اثنتي عشرة صفحة من القطع الكبير بينت فيها الطريق الذي سلكته اللجنة ثم ناقشت آراءها في النحو والصرف والبلاغة وما اقترحته في هذا الشأن
وقد قدمت الجماعة هذه الملحوظات إلى وزارة المعارف
تكريم شاعرة فرنسية في إفيان
في آخر الأسبوع الماضي رفع الستار عن النصب التذكاري الذي أقيم في أمفيون بالقرب من إفيان للشاعرة أن نواي في أملاك هائلة برنكوفان. وبعد أن أقيمت حفلة في دار البلدية أطلق محافظ المدينة اسم الشاعرة على الطريق الذي يربط إفيان بأمفيون
وقد ألقى كل من مندوبي معهد فرنسا والأكاديمية الملكية في بلجيكا وبلدية باريس ومحافظ إفيان خطباً تناسب المقام
وأقيمت مأدبة عشاء خطبت فيها هيلين فا كارشيكو والبرنس كوتسنتين دي برنكوفان(267/68)
الكتب
هكذا أغني
ديوان الأستاذ محمود حسن إسماعيل
للأديب عباس حسان خضر
يقول شاعرنا:
إن تسل في الشعر عني ... هكذا كنت أغني
ونحن نسأل عنه في الشعر، فلننظر كيف يغني. . .
هو يغني بشعره، صادراً عن طبيعة خصبة، مترجماً عن نفس زاخرة بعناصر الشاعرية من إحساس مرهف، وعاطفة مضطربة، وعقل (فني) يدرك به الجوانب الفنية للأشياء، يتملك كل هذه خيال طامح متوثب. وهو عندما يشحذ هذه العُدة يمضي متدفقاً مندفعاً عنيفاً، وفي كثير من الأحيان يتبع هذا التدفق والعنف عدم اكتراث بسلامة الذوق، واعتساف في الفكر وفي التعبير - كما نبين فيما يأتي - معتمداً في ذلك على قوة طبيعته ونشاط خياله، غير متقيد ولا محترس، فهو يعول على الهبة الفطرية أكثر مما يعول على المهارة الاكتسابية
ويمتاز شعر هذا الديوان بشيء لعلي موفق إذ أسميه (الروعة) وهو ذلك الذي يستغرق المشاعر ويروع العواطف ويأخذ بالذهن إلى عوالم متنائية الأطراف، ولعل مبعثه بُعد المدى في الخيال، والإيغال في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض، ومن ذلك كثرة ترديده لذكر الرهبان والقسس والأديرة وانتزاع الصور من محيطها الغامض. ومما تتجلى فيه تلك الروعة قصيدة (دمعة في قلب الليل) وقد أبدع في وصف الدموع في هدأة الليل، وأفتن في تصوير المعاني افتتاناً. قال يخاطب الليل:
خلني للدموع وحدي أناجي ... ها في العزلة السوداء
أنا من كأسها شربت صبيًّا ... خمرة سلست من البأساء
عصرت من مطارف الألم الدا ... وي بقلبي وعتقت في دمائي
تخِذتْ جامها المحاجر والسا ... قي همًّا يؤج في أحشائي(267/69)
هي أشهى إلى عيوني من النو ... ر، وأبهى من لمحة الأنداء
هات يا ليل قطرها فهي حيرى ... كتمت برحها من الكبرياء
فأنظر كيف يصور الدموع خمراً عصرت من قلبه موطن آلامه ثم اتخذت لها مسرى دمائه دناناً تعتق فيها، ثم صبت في كؤوس من محاجر العيون، يقوم على سقيها ساق من الهم يضطرب في الأحشاء. . . ثم انظر كيف يستقطرها الليل لتترقرق مستورة حيرى في عزلة الليل وقد برح بها الكتمان لأن الكبرياء أبت عليها الظهور في وضح النهار. وإن كان قد شاب هذه الصورة بفساد في بعض التصوير، فقد قال (عصرت من مطارف الألم) فجعلنا نتمثل امرأة حاسرة عن ذراعيها أمام طست الغسيل تعصر تلك المطارف والأثواب. . .
وهاك مزهراً تتكون أوتاره من الأهداب وتحدث أنغامه من رنين البكاء:
همسها في الجفون أصداء ناي ... بلعت شدوه رياح المساء
مزهر للعيون أوتاره الهد ... ب. . . وأنغامه رنين البكاء
يستعذب الشاعر دموعه ويطرب من ذرفها فيصورها في الجفون هذا التصوير الرائع. . . كصدى الناي البعيد تستهلك شدوه الرياح فلا يصل إلى السمع منه إلا كالهمس. . . هذه - من غير شك - دموع شاعر يتغنى على تسكابها فيبدع ويطرب
وهناك في ذلك الظلام السائد يرزح تحت أثقال الليل كوخ:
رجفت شمعة بجنيه تهفو ... في دجاه كالمقلة العمشاء
خنق الليل نورها خنقة البؤ ... س لأرواح أهلها التعساء
إنك لتشعر بالروعة حيال هذا المنظر: كوخ يعاني ضوء شمعته الخافت من الظلام ما يعاني أهله من البؤس
وأبرز شيء في شعر شاعرنا اللمعة الذهنية المتألقة حتى أنه ليُذهل بها عن كثير مما لم يمسه التنقيح والتهذيب، فهو بذلك يختلف عن شعراء يعاودون كلامهم بالصقل ويتناولونه بالتشذيب فيخرج سليماً مثقفاً، ومع ذلك ليس فيه من المفاجآت الشعرية ما يملك الحواس ويؤثر في العواطف
وقصيدة (ثورة الإسلام في بدر) تدل على اقتدار الشاعر على استيحاء الحوادث أروع(267/70)
معاني الحياة وانتزاع المغزى الفني من الوقائع المادية، فهو يتعرض لمواقف غزوة بدر تعرض شاعر يزجي الحقائق ملونة بخواطره، ويبرز ما يرمي إليه في أبرع الصور حتى لقد جاءت هذه القصيدة ملحمة صغيرة رائعة. استمع إليه ينطق الأصنام بالحديث عن الإسلام:
سجد (اللاتُ) مؤمناً! وجثا (العز ... ى) يناجي (مناة) يا صاح أبشر!
هلْ في ساحنا وميض من النو ... ر غريب التلماح، خافي التصور
ذره أرعد الصفا! وأحال الص ... خور روحاً يكاد في الرمل يخطر
لا من الشمس فيضه فلكم شع ... ت علينا فلم ترع أو تبهر
لا من النجم لمحه. . فلكم لا ... ح كئيب الضياء وهنان أصفر
قد نسخنا به! ومن غابر الده ... ر نسخنا البلى ولم نتغير
ألهونا. . وعفروا - وهم الصي ... د - علاهم على ثرانا المعفر
سر بنا يا (مناة) نخشع جلالا ... لسنا النور. . . عله اليوم يغفر
عجباً! خرت المحاريب والأص ... نام دكا. . والعبد ما زال يكفر!
وشاعرنا فنان يصرف الكلام تصريف اللبق، يقول في جلالة الملك:
سجدات وجه مشرق نضح التقى ... في كل ما لمحت به سيماؤه
لو راءه عاتي المجوس تخشعت ... للنار من غي النهى أعضاؤه
لانحاز في ركب النبي، وناره ... نور تدفق في الصلاة ضياؤه
استطاع - بمهارة في التعبير - أن يحول المجوسي من غيه في عبادة النار إلى الإعجاب بنور الهدى
تلك بعض خصائص الشعر في ديوان (هكذا أغني) وذلك بعض ما تغنى به فأطرب. . . وقد ألمعنا إلى مآخذ فيه (وهي النشاز) يقتضينا الإنصاف أن نسوق من الدلائل عليها:
يقول في قصيدة (يوم التاج) يصف مغنياً في حفلة عابدين الساهرة:
وقف المغني في حماك مجلجلا ... باللحن تخفق في الورى أصداؤه
فيه من الأقدار وهلة غيبها ... خبأته عن لمع الحجا أطواؤه
ومن الكتائب أرزمت أسلاتها ... صخب يزمجر بالفتوح نداؤه(267/71)
ومن المواكب هولها في فيلق ... نشوان في يوم الفخار لواؤه
فأي مغن هذا المجلجل الذي اجتمعت فيه وهلة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! إن هذه الصفات المروعة لا تصطلح على مغن ولو كان من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة. . .
يقول في قصيدة (الذهول)
أم بلبل تحت ظلال النخيل ... أسكره الصدح
فنام. . . واستلقى عليه الأصيل ... والظل والدوح!
فإذا تصورنا استلقاء الأصيل أو الظل على البلبل بمعنى وقوع الظلال عليه، فكيف تستلقي الدوح على ذلك المسكين دون أن يرديه هذا المزاح الثقيل. . .؟
ويقول في هذه القصيدة:
الوجه ساج كصلاة الغدير ... . . . . . . بين الطيور
فكيف يصلي الغدير بين الطيور؟ لعله يريد (صلاة) الطيور على الغدير بحسوها منه، فقلب التعبير، كما فعل في مطلع قصيدة (عارية ستانلي باي) إذ قال:
من علم البحر لجاج الهوى ... وأترع الحب بشطآنه
فما أرى للشطر الثاني معنى مستقيماً إلا على (القلب) كأنه يريد: وأترع شطآنه بالحب، وإلا فما معنى أن الحب ملئ بشطآن البحر؟ ليس هذا إلا كخرق الثوب للمسمار!
يقول في قصيدة: (دمعة في قلب الليل)
لامَني في هواه خال من اله ... م بليد الفؤاد جمُّ الغباء
ردَّ عني يا ليل دعواه. . . إني ... كدت من لومه أحطم نائي
وهو - بطبيعة المعنى - يقصد من (نائي) الناي، ولكن القافية الهمزية العصّية جنت على الناي فهمزته ولمزته. . . ولست أدري لماذا لم ينتفع الشاعر بهذه الكلمة (ناء) التي اخترعها - في تصريع قصيدة (يوم التاج) إذ قال في المطلع:
شاديك من قصب الفرادس نايه ... ومن السنا والطيب علَّ غناؤه
ولم يقل (ناؤه) بدل (نايه)؟ لعله لم يرد استغلال الاختراع كثيراً، فاقتصر على حاجة القافية الماسة، أما التصريع فأمر فواته أهون. .(267/72)
يقول في قصيدة (من لهيب الحرمان):
رب ومض من لحظ عينيك ساج ... فجر الوحي من سنا لمحاتك
ومض لحظ العينين هو سنا اللمحات، فكيف يفجر ومض لحظ العينيين الوحي من ومض لحظ العينين؟
يقول في قصيدة (الذهول) السالفة، ويظهر أن الشاعر قالها في ذهول:
وذاع من جفنيك فيها عبير ... . . . . . . دام حسير
إذا أكرهنا المجاز على تقبل ذيوع العبير من الجفنين، فأي ذوق يسيغ وصف العبير بأنه دام. . .؟
تقدم في أبيات من قصيدة (دمعة في قلب الليل) قوله:
عصرت من مطارف الألم الدا ... وي بقلبي وعتقت في دمائي
والمقصود هنا كلمة (الداوي) فهي من الأغلاط الشائعة لأن الفعل الموجود لهذا المعنى (دوَّى) بالتشديد وليس هناك (دوي) ثلاثياً حتى يجئ منه (الداوي)
الشاعر مغرم بكلمات يرددها كثيراً مثل الغناء واللحن والناي وما إليها، حتى أنه في قصيدة واحدة هي قصيدة: (هكذا أغني) أطال استخدام مادة واحدة هي: (غنى يغني) وصاغ منها ثماني قواف. . .
وبعد فإن ديوان: (هكذا أغني) زاخر بالشعر النابض بالشباب، يتمثل فيه جلال التخيل، وقوة العاطفة، وتألق الشاعرية، والقدرة على استخدام تعابير حية؛ والواقع الغريب أن استشراء الصفات الثلاث الأولى يؤدي بالشاعر إلى الاندفاع الجارف. والأستاذ محمود حسن إسماعيل لا ينقصه - ليكون في شعراء الذروة - إلا أن يعاود ما ينشده بالصقل والإصلاح
عباس حسان خضر(267/73)
المسرح والسينما
التلفزيون في دور السينما
نشرت إحدى المجلات السينمائية الإنكليزية بحثاً عن التطورات السينمائية التي ينتظر أن يمتاز بها العهد السينمائي الجديد فقالت إن (التلفزيون) هو أهمها وأقربها إلى أن يكون حقيقة واقعة في العام القادم. والتلفزيون جهاز لالتقاط إذاعات لاسلكية صوتية وبصرية في وقت معاً. ولا شك أن احتواء البرامج السينمائية عليه هو خطوة كبيرة في سبيل إبلاغ السينما إلى المستوى (العلمي) المنشود. ولكن هل التلفزيون من الوجهة (الفنية) يعتبر تحسيناً للسينما؟ وهل يعده الجمهور ميزة فيزداد إقبالاً على الدور التي تحوي برامجها شيئاً منه! يقول الفنيون إن التلفزيون لا يمكن أن يعد تحسيناً، لأنه سيقتصر على بضعة مجموعات من الإذاعات المنقولة - صوتاً ونظراً - لتحل محل (الجريدة السينمائية) والطبعات الأخيرة من الجرائد السينمائية الناطقة، ليست في الواقع إلا إذاعات ناطقة مصورة، وفيها نرى (المشاهد) على الشاشة أهم الحوادث العالمية الجارية كما نسمع أشهر الخطب و (الإستهلالات الموسيقية) التي تصنع من أجل التمهيد لهذه الخطب وخلافها؟!
فإذا كان ما قرأناه صحيحاً، وهو أن البرامج اللاسلكية المصورة سوف تقتصر إذاعتها على دور السينما الكبيرة ولن يكون في مقدور من لديه جهاز للتلفزيون أن يتلقاها على الشاشة المنزلية فلماذا يعد احتواء البرامج السينمائية على بضعة إذاعات لاسلكية مصورة تطوراً جديداً في صناعة السينما، بعد ما ثبت أنه لا جديد فيه وأن محطة أو محطات معينة هي التي سوف تقدم لدور السينما فصوله اللاسلكية المصورة، سواء أكانت مصنوعة أو مأخوذة من الطبيعة مباشرة؟!
إن التلفزيون على النحو السابق إنما يعد تقدماً أو تحسيناً في (طرق العرض السينمائي) لا في (صناعة السينما) ذاتها. .!
في السينما المحلية
يكاد النقاد السينمائيون في مصر أن يتفقوا على أن شركاتنا السينمائية قد استطاعت أن تخطو بالفلم المحلي الخطوات الابتدائية التي جرت العادة بأن تكون متعبة يبذل فيها من الجهود أضعاف ما يبذل في الخطوات التي تليها(267/74)
وبدهي أن فيما أخرجت شركاتنا المحلية أخطاء كثيرة. ولا غرو فالأفلام تخرج - في مصر وغيرها - وفاقاً لأصول جملة فنون وصناعات عملية لا يملك الإنسان أعنّتها إلا بعد المران، ونحن لا نزال ناشئين في هذه الصناعة. لذا وجب على الناقد أن يساهم في توجيه الجهود الفنية الوجهة المنتجة
وأول ما نريد أن نلفت النظر إليه هو ضرورة التخصص. فالشركة الصغيرة ينبغي لها أن تتخصص في نوع معين من الأفلام والممثل السينمائي يحسن به أن ينصرف إلى تمثيل نوع معين من الأدوار أو الروايات، والمخرج الذي ينتظر له النجاح والإجادة هو الذي يقتصر على إخراج نوع معين من الروايات وبطريقة معينة
والواقع أن نظام التخصص قائم عندنا إلى حد ما، ولكن في الشركات التي تتولى إخراج أفلام خاصة، كشركة الأستاذ محمد عبد الوهاب التي تخرج الأفلام الغنائية التي يكون هو بطلاً لها، وكشركة يوسف وهبي التي تخرج أفلاماً درامية من النوع العنيف يكون هو بطلها، وكشركة لوتس فيلم التي تخرج أفلاماً من نوع الفودفيل الدرامي الضاحك يقتصر تمثيلها دائماً على الثلاثي الفني آسيا وجلال وماري كويني. . .
ولكننا نريد أن يعم هذا النظام شركاتنا الكبيرة ذات الأموال الكبيرة، كاستوديو مصر مثلاً، وكالشركة الكبيرة الجديدة التي أنشأها الأستاذ أحمد سالم
ونظرة واحدة إلى الأفلام الأمريكية تكفي لأن يسلم الجميع بأن التخصص هو العامل الأول والأهم في نجاح الشركات والنجوم كذلك
(سينمائي)(267/75)
العدد 268 - بتاريخ: 22 - 08 - 1938(/)
تفريع على البقية
للأستاذ عباس محمود العقاد
في أوربا تقل قيود المرأة وتقل قيود الفنان، ولكننا يندر أن نرى امرأة ممن عاشرن الأدباء ورجال الفنون على شرط الجمال الأوفى عند أولئك الأدباء والفنانين، وهم كما نعلم نقاد الجمال وخلاقو المقاييس والآراء فيه.
وقد رأينا صور النساء اللواتي عاشرن بيرون وجيتي وداننزيو، وهم قبل كل شيء من طبقة النبلاء أو يعيشون في تلك الطبقة ويتنقلون حياتهم بين الأمراء وأميرات، وهم بعد هذا شعراء (عالميون) استفاضت شهرتهم في البلاد الأوربية وغير الأوربية، وهم بعد هذا أرفع أمثالهم ذوقاً وأدباً وقدرة على الانتقاء صنوف الجمال، ومنهم من لعب بالمال لعبا وساح في الأرض وهام بالنساء.
ومع هذا يندر كما قلنا أن تجد بين حبائبهم ومواصفاتهم من هي على شرط الجمال الأوفى عندهم وعند ممن يشابهونهم ويتوسلون بأشباه وسائلهم.
وسبب ذلك معروف لا ينبغي أن نستغربه ولا أن نحار في تعليله، فان الدواعي التي تدعو الرجال إلى المرأة أو تدعو المرأة إلى الرجل كثيرة غير الجمال في صفاته العليا، فمنها الذكاء، فقد تكون المرأة ذكية وهي قليلة الحظ من الجمال، أو غبية وهي أجمل من ترى العيون؛ ومنها العطف، فقد ينجذب الرجل إلى المرأة، العطوف وينفر من المرأة الشموس وهي سيدة النساء في جمال الوجوه والأجسام؛ ومنها المركز الاجتماعي، ومنها الرغبة الجنسية، ومنها الغرابة التي تستهوي الرجال حين لا تستهويهم المحاسن والأخلاق؛ ومنها التنافس على الغلب كما يتنافس الفرسان على قصبة وهي من سقط المتاع.
فإذا وصف الشعراء امرأة أو أحبوها فليس باللازم أن تكون هذه المرأة طرازهم الأعلى في محاسن النساء وشرائط الجمال بله الطراز الذي يتفق عليه جميع الناس، وتتلاقى عنده جميع الآراء، وتتوافى لديه جميع الفلسفات. وإذا قلنا إن الجسم الجميل هو الجسم الذي لا فضول فيه والذي يحمل كل عضو من أعضائه نفسه غير محمول على سواه، ثم رأينا ألف امرأة على غير هذه الصفة ممن أحبهم ملوك الذوق وأساتذة الفنون فليس ذلك بمانع صحة التعريف ولا بناقض صواب الرأي، لان (ملوك الذوق وأساتذة الفنون هنا) كالقاضي خارج(268/1)
الجلسة، أو كالقاضي الذي بينه وبين المدعين قرابة واتصال.
وهذا بين الأوروبيين على ما عندهم من حرية وثقافة ذهنية ورياضة بدنية وعلوم صحية ومعارض يومية وتاريخية، فكيف بأعرابي في البادية يقولها كلمة عائرة ولعله لا يعني ما يقول!!.
قلنا في مقالنا السابق (بقية المذهب):
(لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطأ الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:
وظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
نعوذ بالله)
وكتب (القارئ) الفاضل في الرسالة يقول أن امرأ القيس يستحسن في المرأة ما يستحسنه الأستاذ العقاد النقاد ويستقبح ما يستقبحه وهو يقول في معلقته:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
. . . يعني امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن غير عظيمة البطن ولا مسترخية، وصدرها براق اللون متلألئ الصفاء تلألؤ المرآة.
فأمير الأعراب ونائب الأمة في دار الندوة الأستاذ العقاد في قضيتهما في الحسان سيان. . .)
فأحب أن يذكر (القارئ) الفاضل أن امرأ القيس قال أيضاً:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق. . . . . . إلى آخر البيت
وهذا ما ليس يقال في امرأة على ما وصف في البيت الذي استشهد به
وقال أيضاً:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... علىَّ هضيم الكشح ريا المخلخل
وامتلاء الساق مع دقة الخصر ليس من الصفات المنتقاة في نماذج الجمال.
ثم نقض قوله حين عاد فقال، إن كان عاد أو إن كان قال:
وكشح لطيف كالجديل مخصّر ... وساق كأنبوب السقي المذلل
ثم قال:(268/2)
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... تؤم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فهو يستحسن الكسل والتراخي، وكثرة النوم، والترامي بالشحم واللحم وليس ذاك مما يستحسن في رشيقات النساء
وقال امرئ القيس في غير هذه القصيدة:
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير مجبال
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
وأين هذا من الجسم الذي لا فضول فيه؟
فلو أن (القارئ) الفاضل الذكر هذا وما جرى مجراه من الشعر الذي قاله الشاعر أو نسب إليه لعلم أن صاحبنا في عالم غير عالم التعريف بالجمال المثالي أو المذاهب الفنية فيه، بمعزل عن أهواء الفنانين، ولعلم كذلك لماذا وضعنا كلمة (محبوبات) بين قوسين قبل أن نسمع منه مثل هذا الاعتراض، فأن وصف الرجل لامرأة يحبها ويستمتع بها غير وصف الفنان للجمال الخالص أو لصفاته التي تبلغ مبلغ الكمال، والتي تدركها القرائح معنى من المعاني كمعنى البيت والصورة والنشيد والتمثال.
ومصداق ذلك أن كاتب هذه السطور وصف امرأة محبوبة في رواية سارة:
) هي جميلة لا مراء. ليست أجمل من رأى همام في حياته، ولا أجمل من رأى في أيام فتنته وشغفه، ولكنها جميلة جمالاً لا يختلط بغيره في ملامح النساء. فلو عمدت إلى ترتيب ألف امرأة هي منهن لنظمتهن واحدة بعد واحدة في مراتب الجمال المألوف، ونحّيت سارة عن الصف وحدها. . . فمها فم الطفل الرضيع لولا ثنايا تخجل العقد النضيد في تناسق وانتظام، ولها ذقن كطرف الكمثري الصغيرة، واستدارة وجه، وبضاضة جسم لا تفترقان عن سمات الطفولة في لمحة الناظر؛ وبين وجهها النظير وجسمها الغضير جيد كأنه الحلية الفنية سبكت لتنسجم بينهما وفاقاُ لتمام الحسن من كليهما. . . وتكفل بها مدير معهد من معاهد التجميل الحديث لخفف شيئا من قوامها الرواح بين الربعة والطويل قبل أن يبرزها في معرض الرقص والرشاقة. ولو تكفل بها قهرمان القصر عند كسرى أو عبد الحميد لما ضاره أن يزيد فيها حيث ينقص زميله الحديث قبل أن يزفها إلى الشاهنشاه)
فالمرأة المحبوبة شيء والمرأة الموصوفة على مثال الجمال في معانيه المجردة شيء آخر.(268/3)
وامرئ القيس لم يحبب قط امرأة على مثال الجمال، وإن كان قد وصف من النساء شمائل محمودة عند من ينظرون إلى ذلك المثال. ولعله فطن لهذه الشمائل بذوق الحاضرة وذوق الإمارة، لا بذوق الأعراب في عماية الجاهلية. ولو أنه تعمد أن يرسم للأنوثة مثالا موافقاً لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة أو الرغبة الجنسية لأعياه المطلب، لتخلف الأوان وندرة الأسباب.
سألني سائل: أولا تكون المرأة إذن جميلة على شرط الفن والرياضة الحديثة إلا أن يكون وزنها قنطاراً أو دون القنطار؟
وجاوبنا الذي نطمئن به الكثيرين على عجل: كلا! قد تكون ووزنها قنطاران، إذا تهيأ لامرأة أن تبلغ من الطول والجسامة ما تزن به القنطارين في غير فضول واسترخاء.
وستتلو هذا المقال (حاشية على التفريع) نتم فيها ما ينبغي إتمامه من هذا البحث الذي لا فضول فيه!
عباس محمود العقاد(268/4)
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
3 - مجنون
أصبحت اليوم خاثر النفس لَقساً، فتركت عملي وركبت (الترام رقم 6) الذي يجوز بداري ثم يذهب فيخترق (الغوطة الشرقية) - حديقة الأرض - حتى ينتهي إلى (دوما). فنزلت على ابن عمٍ لي فيها طبيب، فلم ير أبلغ في إكرامي من أن يحملني في سيارته إلى (القصير) فيجمعني بإخواننا الكرام ساكني تلك الديار. ولم يكن الدخول إلى (القصير) سهلا ولا ميسوراً، وما كنّا نطمع أن يؤذن لنا به، فجعلنا نطيف بتلك الحدائق الواسعة الجميلة فما راعنا إلا القوم قد ملئوا الحدائق، خارجين إلى النزهة والعمل فجعلنا نكلم من نراه منهم من وراء الدرابزين فنسمع عجباً كما نرى عجباً. فمنهم من هو نائم على وجهه؛ ومنهم من قائم على رجل واحدة؛ ومنهم من يرسم في الهواء دوائر وهمية، ويكلم أشباحاً لا ترى؛ ومنهم من هو باك منتحب ثم لا يلبث أن يضحك حتى يكركر من الضحك. . . وما ظنك بسكان القصير؟
وكان أعجب ما شهدنا من العجب رجلاً عارياً إلا من خرقة تستر عورته، ولحية له طويلة عريضة تبلغ والله سّرته وتحجب صدره. حقيقة أقول لا مبالغة ولا مجازاً، وقد انتحى ناحية من حدائق (المارستان) ثم مشى فيها مقبلاً مدبراً متبوعاً عجلا، فقلت لابن عمي: تنح بنا عنه وتنكب طريقه، فربما بطش بنا. . . وإني لأرى جسماً قوياً، وعصباً مشدوداً، وما في كل من رأينا (أو ما رأينا فأننا نتحدث عن المجانين) من هو أظهر منه جنوناً، وأبدى حماقة. . .
قال: عجباً منك! هذا الشيخ فضل الحموي!
قلت: بل منك والله العجب. . . أتراني سائلاً إذا هشم أنفي وهتمت أسناني، أفعل ذلك الشيخ فضل الحموي أم الشيخ محمد المغربي؟ حسبي منه أنه مجنون. . . فعدّ بنا عنه!
قال: إذن يذهب سعيي باطلا، فما حملتك في السيارة وجئت بك إلى هذه الديار، إلا لأريك الشيخ فضل الحموي؟
قلت: دعني. فلقد رأيت مجانين كثيرين، شباناً ومشايخ، وأدباء وعلماء، وعاشقين(268/5)
ومعشوقين، ولم يبق لي في رؤية مجنون أرب. . . وإنما غدا أربي في رؤية عاقل
قال: هذا هو الذي تريد. . . هذا رجل يتظاهر بالجنون، وهو أعقل العقلاء
قلت: أو يكون هذا؟ أئذا لم أجد في المدرسة والكلية عاقلاً والسوق والنادي أجده في (البيمارستان)؟
قال: نعم، تعال انظر
فأقبلنا نميل إليه. فلما رأى السيارة مقبلةً قال ما لا يفهم، وأشار بيديه وأبدى سيما المجانين، فنظرت إلى ابن عمي وابتسمت، فأشار لي أن أنتظر؛ ونادى الرجل باسمه، فلما عرفه هدأ، وقال له: هذا أنت يا فلان؟
قال: نعم. وهذا الشيخ. . . (وسمّاني)
فنظر إليَّ وابتسم، فظننت أنه قائل لي مقالة كل (عاقل) يلقاني: أين العمة واللحية والشارب؟ كأن الشيخ لا يكون شيخاً إلا بهذا! ولكن (المجنون) لم يقل شيئاً. فقال له ابن عمي:
ألا تعجب منه شيخاً حليق الوجه حاسر الرأس؟
قال: ويحك يا فلان! ألا تعلم أنها إذا اتصلت الأرواح، بطلت الأشباح؟
وأفاض في كلام مثل هذا بلغة صحيحة وإلقاء متزن، فقلت في نفسي هذا من (عقلاء المجانين) الذين ألف في أخبارهم أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري رحمه الله، ولست آمن أن تدركه الآن جٌنته فيؤذينا، ووقفت حذراً. . . .
فلما انتهى قال له ابن عمي وقد أمتد إلينا الظلام ونحن في ظلال الأشجار
ألا تسير بنا إلى النور؟
فقال لنا وهو يضحك، وما رأيناه إلا ضاحكا:
لولا أننا هنا لقلت لكم (إن نوركم كاف) ولكن مثل هذا (النفاق) لا يقال هنا. . .
فقلت: ولمه؟ أولا ترى لنا نوراً؟
فقال: إن في كل كائن نوراً وجمالا، ولكن العيون المدركات قليل. . . إن الناس جميعاً يؤخذون بجمال القمر، ولكن الشمس لا يؤخذ بجمالها إلا من كان له عين تصبر على نورها. ولذلك كان الشمسيون من الناس (والتعبير له) أقل من القمريين وأندر؛ وهؤلاء هم(268/6)
الكبار من الصوفية، فإذا جازوا مرحلة الشمس ونفذوا منها إلى منطقة السديم استوى عندهم جمال القمر وجمال النجم، واستوت عندهم الظلمة، والنور لأنهم بلغوا مرتبة الفناء في الموجد، فلم يبالوا بعد بالموجودات. . .
وتكلم في مثل هذا أكثر من ساعة كلاماً ما سمعت مثله ولا قرأته، وفسر آيات، وتمثل بأبيات، وذكر نظريات العلماء المحدثين حتى أدهشني والله، وكاد يمضي في كلامه إلى الليل لولا أن قرع الناقوس ليدخلوا فودعناه وقلت له: لقد استفدت منك
فضحك وقال: لا ترفع صوتك فيسمعك أحد
قلت: ولمه؟
قال: ولمه؟ أعاقل يستفيد من مجنون؟
وكان الحارس قد وصل، فلما رآه الشيخ فضل غمرني بعينه وعاد يقول ما لا يفهم، ويشير إشارات المجانين، فدعوت الحارس فسألته:
ما هو جنون هذا الرجل؟
قال: أما ترى؟ أما ترى لحيته وعريه؟
قلت: بلى، فماذا في العرى؟ أليس الرجال جميعاً والنساء على ساحل الإسكندرية وحمامات بيروت على مثل عريه؟ ألا يتكشف (الكشافة) دائماً؟ أما اللحية فقف في السوق وانظر كم ترى من لحية. فلم أمسكتم بهذا وحده دون أولئك؟
قال: هذا يقول بأن كل شيْ هو الله. أما هذا جنون؟ أما هو كفر؟
قلت: من حسن حظ الشيخ محي الدين بن عربي أنه مات قبل افتتاح مستشفى القصير!
قال: أنه يتكلم ساعات فلا يفهم عنه أحد
قلت: كذلك كل الفلاسفة وكذلك أكثر المعلمين. .
قال: ويسكت أحياناً يومين كاملين
قلت: هذا من العقل، هذا. .
فنظر إلي الحارس نظرة فهمت منها أنه يعجب مني كيف لا أدخل المستشفى وأكون من أهله! فأسرعت بالهرب قبل أن يقبض علي بتهمة الجنون. . .
(دوما)(268/7)
علي الطنطاوي(268/8)
الدين والأخلاق
بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
الظاهر أن الأستاذ الغمراوي رجل حسن النية صادق السريرة. وقلت الظاهر لأني لا أعرفه؛ ولا أريد أن أتعرض لنقده ما يسميه المذهب الجديد، ولا للنزاع الثائر بين أنصار الرافعي وبين أنصار العقاد. ولو كان الأستاذ قد اكتفى بالنقد الفني وقصره على ذلك النزاع الفني لسلم من بعض الهفوات التاريخية والاجتماعية؛ فقد قال إن نزعة التجديد يرجع أولها إلى نحو ثلاثين سنة، وقد ذكر فيما ذكر من التجديد أخذ الآراء الأوربية، ولم يكتفي بذكر ما أخذ منها مما هو في باب الآداب، بل ذكر أيضاً ما أقتبس من النظم والمبادئ الاجتماعية. وهذا الوصف الشامل للتجديد لا ينطبق على نزعة بدأت منذ ثلاثين سنة، وإنما ينطبق على النزعة بوجه عام منذ جاء نابليون إلى مصر، ومنذ عهد محمد علي باشا وإسماعيل باشا، ومنذ أدخلت المطابع وأرسلت البعوث العلمية واقتبست القوانين المدنية، ونظمت المحاكم الأهلية التي صارت تحكم بغير أحكام الشريعة الإسلامية، وكثر نقل الكتب إلى العربية. والأستاذ الغمراوي يعيب على المجددين أنهم يريدون رفض بعض أحكام الشريعة، ويذكر كيف أن بعض الكتاب يحبذ منع تعدد الزوجات. ويقول الأستاذ أن للدين وحدة تامة فلا يجوز أخذ بعضه وترك بعضه. ويا حبذا لو أن الأستاذ كان قد فصَّل هذه الناحية من التجديد في مقال مستقل عن النزاع على التجديد في معاني الشعر والنثر، إذ ما صلة الذين قاموا بإنشاء المحاكم الأهلية وأحلوا أحكامها محل الشريعة الإسلامية، وما صلة الذين يريدون منع تعدد الزوجات ومنع الطلاق، بمعاني شكسبير والمتنبي وملتون وأبي العتاهية مثلاً، ولعل أكثرهم كانوا لا يهمهم النزاع الفني الأدبي مطلقاً. نعم إن الدين والأخلاق لها مظاهر في الشعر والنثر فكان ينبغي للأستاذ الغمراوي وقد حكم للمذهب القديم أنه قوام الدين والأخلاق، وحكم على المذهب الجديد أنه بؤرة الإلحاد والمجون، أن يثبت هذا الزعم فينفي عن شعراء المذهب القديم كل كفر وإلحاد ومجون، وينفي عن شعراء المذهب الجديد كل تدين وإيمان بالفضائل مستشهداً بأقوالهم من شعر ونثر فإن هذه هي الطريقة الفنية للمفاضلة بين المذهبين من حيث الدين والأخلاق. وإن لم تخني الذاكرة(268/9)
فأن الأستاذ قد لخص المذهب الجديد في الأدب بأنه نزعة تغليب دين على دين، وإذا كان لهذا القول معنى فمعناه أن أدباء المذهب الجديد يريدون تغليب الديانة المسيحية على الديانة الإسلامية. فإذا لم أكن مخطئاً في هذا التفسير كان واجباً على الأستاذ أن يقيم الدليل على أن أدباء المذهب الجديد يريدون تغليب دين على دين، وقد نسى الأستاذ أن كثيراً من مظاهر الحضارة الأوربية الحديثة لا علاقة له بالمسيحية التي هي دين أكثر الأوربيين، أو لعل الأستاذ قد أراد أمراً آخر لم نفهمه. ولو رجع الأستاذ إلى العصر الذي كانت فيه النزعة الدينية المسيحية متغلبة في أوربا وهو عصر القرون الوسطى عصر التزهد والرهبنة والتقشف لعلم أن المحافظين من رجال الدين والكتاب كانوا يخشون على الدين والأخلاق من غزل العرب ومجون شعرائهم وقصصهم ومن حرية أفكارهم في المسائل الدينية والكونية، وكانوا يرمون الأدب العربي بالإباحية في الأخلاق، وكانوا يلومون الآباء الذين يرسلون أبناءهم إلى مدارس البلاد العربية كالأندلس وصقلية؛ فلم يكن عداؤهم للكتب العربية الدينية فحسب، بل كان عداؤهم لكتب الأدبية العربية والفكرية أشد. وموقف هؤلاء المحافظين من الأدب والفكر العربي كان شبيهاً بموقفهم من الأدب والفكر الإغريقي القديم. وهذه الحقيقة تنبه الأستاذ إلى أن الدولة العربية الإسلامية لم تلبث على الفطرة السليمة وعلى حالها من الأدب كما كانت في صدر الإسلام مثلا بل دخلها الترف وتفشت فيها لذائذ الحضارة وكثر المجون في أقوال الشعراء والكتاب وبقية أصناف المجون والإلحاد مخطوطة إلى عهد أن دخلت المطابع البلاد العربية الإسلامية. ولا احسب أن أهلها كانوا على فطرة يخشى عليها من تلك الكتب فأن حالة الأخلاق في عهد دخولها لم تكن أرقى مما هو موصوف في تلك الكتب إلا في أوساط محدودة معروفة بالنزاهة والعفة والاستقامة وصدق القول والعمل؛ وكان يضرب بها المثل؛ وكانت كالشامة البيضاء تنعت نفسها لوضوحها في الجلدة السوداء. ولا تنس أن البدو كانوا بطبيعتهم يكرهون الضوابط والروادع أية كانت، فسرعان ما حثتهم الحضارة ولذائذها على التحلل من روادع الدين. وقد بدأ المجون يعود إلى استفحاله بعد عهد قريب من صدر الإسلام، وبلغ أشده في الدولة العباسية، وكان مصحوباً في كثير من الأحوال بالكفر والزندقة والالحاد، وكان كل منهما في بعض الأحايين مستقلا عن الآخر، فقد كان بعض الملحدين من أشد الناس زهداً ومحافظة(268/10)
على الفضائل كما كان المعري مثلا
يقول الأستاذ إن المذهب الجديد في الأدب الذي يقول عنه الأستاذ إنه بدأ منذ ثلاثين سنة خطر على الأخلاق والدين، فهل يستطيع الأستاذ أن يأتي بأبيات من شعر هذا المذهب الجديد في شناعتها كأبيات ابن الرومي النونية التي يقول فيها:
صوت يد العجان في العجين ... أو صوت رجلي عامل في الطين
وهي أبيات قد أختارها له السيد توفيق البكري في كتاب (صهاريج اللؤلؤ) الذي ألفه كي يقرأه الناس رجالا ونساء وفتياناً وفتيات، والبكري كما يعلم الأستاذ الغمراوي كان شيخ السادة البكرية ورجلاً من رجال الدين والفضل ومن أدباء المذهب القديم، ولكنه لم يتحرج من إطلاع سيدة أو فتاة فاضلة على ما في كتابه هذا من المجون الشنيع. ولأن يعطي الأديب من أدباء المذهب القديم أي قول قاله شعراء وأدباء المذهب الجديد لأخته أو لفتاة من أقربائه لتقرأه؛ لأَصون لها ولأخلاقها من أن يعطيها كتاب صهاريج اللؤلؤ هذا إلا إذا طمس المجون قبل أن يقدم إليها الكتاب. وقد طبع الشيخ شريف جزءين من ديوان ابن الرومي في أحدهما أرجوزة مطلعها (رب غلام وجهه لا يفضحه) وفيها يصف طرق اللواط في أوضاع وأشكال مختلفة. وقد عنى الشيخ شريف بشرح لفظه ومعناه كما عني السيد توفيق البكري بشرح الأبيات النونية. والشيخ شريف كان مفتش اللغة العربية وأديباً من أدباء المذهب القديم، ولكنه لم يتحرج كما لم يتحرج البكري من شرح وطبع هذا المجون وإيضاح معناه كي يقرأه ويفهمها الفتيان والفتيات. فأي أديب من أدباء المذهب القديم يرى أن يعطي أخته أو أخاه الصغير هذا الكتاب، أو أن يطلعهما على قصيدة ابن الرومي أيضاً في (بوران). أو على ديوان أبي نواس أو على ما في كتاب الأغاني أو كتاب يتيمة الدهر للثعالبي من مجون لا تسمح أية دولة أوربية بنشره، بينما أدباء المذهب القديم يشرحونه ويطبعونه ويستحلونه في مجالس أنسهم ويضحكون تفكها به، حتى إذا جاء ذكر ما يسما بالمذهب الجديد وأثر الأدب الأوربي فيه أخذتهم رعدة الغضب وادعوا أن المذهب القديم عماد الأخلاق والدين، وأن المذهب الجديد بؤرة المجون والإباحية والإلحاد. إن المسألة بسيطة والأمر هين. نستطيع أن نطبع على الناحية اليمنى من صفحات المجلة ما نجده من مجون وإباحية شعراء المذهب القديم في العصور المختلفة حتى عصرنا هذا، وعلى هؤلاء(268/11)
الأدباء أن يقدموا ما يستطيعون أن يعثروا به من أقوال أدباء المذهب الجديد لتطبع في الناحية اليسرى من المجلة. لاشك أن أدباء المذهب القديم يتهربون من مثل هذه المقابلة كل التهرب. وما يقال في كتب المذهب القديم الأدبية يقال أيضاً في كتب التاريخ. أنظر بالله إلى الأبيات التي زعموا أن مسيلمة الكذاب بعث بها إلى سجاح المتنبئة والتي فيها (وإن شئتِ. . . وإن شئتِ) كيف يستطيع أديب من أدباء المذهب القديم أن يطلع أخته أو بنته أو قريبة له من الفتيات على هذا الشعر؟
ثم أنظر إلى ذكر الفحش وقصصه ونظم الهجاء فيه شعراً تجد أن أدباء ما يسمى بالمذهب القديم في كل عصر حتى عصرنا هذا كانوا أكثر حظاً منه. ولا أعني جميعهم، ولكنهم حتى الأفاضل منهم قد وجدوا هذا الأسلوب من القول عادة صقلها الدهر وهون أمرها فأصبحوا لا يجدون خطراً على الأخلاق في نظم الهجاء فحشا ولا في التحدث عنه، ولكن الخطر كل الخطر هو تأثر الأدب العربي بنواحي القول كما وردت في كتب الأدب الأوربي.
وبعد فأي أدب أوربي يعنون؟ لقد تقلبت على الدول الأوربية عصور اتخذ الأدب في كل منها نزعة خاصة، ولكنهم إذا تكلموا عن الأدب الأوربي خيل للقارئ أنهم يعدون جميع الأدب الأوربي في عصوره المختلفة على طراز واحد وأنه مأوى المجون والإباحية والزندقة. أن عصور الأدب الأوربي تختلف اختلافا يجعل بعضها أقرب إلى بعض الأدب العربي منها إلى عصور أخرى من عصور الأدب الأوربي، فالأدب الإغريقي في سهولة معانيه وخيالاته أقرب إلى الأدب الجاهلي العربي منه إلى الأدب الرمزي الأوربي الحديث. والأدب الأوربي الحديث في حرية الفكر أقرب إلى الأدب العباسي العربي منه إلى الأدب الأوربي في القرون الوسطى. فإذا كان بعض الأدب الأوربي الحديث قد دعا بعض أدباء المذهب الجديد إلى إبهام الإيجاز والصور المتداخلة بعضها في بعض وإلى غموض الرمزية فقد ألف بعض أدباء المذهب القديم على هذه الطريقة في إبهام الإيجاز من غير أن يطلعوا على الأدب الأوربي. أنظر مثلا إلى إيجاز الرافعي في كتاب (حديث القمر) والكتب الأخرى التي كتبها، وكأنه لم يكتبها إلا لكي يثبت أنه يستطيع أن يزيد على معاني وصور أدباء أوربا والمذهب الجديد وأنه أغنى منهم بمعانيه كما أنه أغنى منهم بأساليبه اللفظية الفصيحة العربية؛ ولكن فصاحة لغته العربية لم تخف الحقيقة الفنية، وهي أن الرافعي(268/12)
صاحب (حديث القمر) و (السحاب الأحمر) أقرب إلى أدباء الرمزية الأوروبيين منه إلى الرافعي صاحب كتاب (إعجاز القرآن). وإن بين أدباء المذهب الجديد من هم أقرب إلى الرافعي صاحب (إعجاز القرآن) وأقرب إلى أدباء العربية الأقدمين من الرافعي صاحب (حديث القمر) وأعني القرب في أسلوب التخيل وأسلوب عرض الصور الفكرية وكل صورة مستقلة غير متدخلة في أختها. فإذا أراد إذاً ناقد أن ينتقد المذهب الجديد أو الأدب الأوربي كانت الطريقة المثلى أن ينتقد ما يعيبه فيه على طريقة النقاد الفنيين فيبين الغث من السمين ويوضح أسباب حكمه على كل قول وكل أديب. أما أن يقول أن الأدب الأوربي كأدب المذهب الجديد فأسد المعنى والخيال ينبو عنه الذوق العربي وتمجه الفصاحة العربية، وإنه مباءة المجون والإباحية والزندقة، فقول من لا يريد أن ينقد ولا أن تقدر قيمة ما يقول قدراً صحيحاً، ولا أعني الأستاذ الغمراوي فان هذه أحكام شائعة. نعم إن بعض الأدب الأوروبي ولاسيما الحديث منه يحث أدباء العربية على بعض ما يخالف العرف والتقاليد الإسلامية، ولكن أليس في أقوال الشعراء العرب وأدبائهم في كل عصر أشياء كثيرة تخالف العرف والتقاليد والآداب والأخلاق الإسلامية كما أوضحنا بالشواهد؟
ونعترف أن في بعض الأدب الأوروبي الحديث ما يحث على الإلحاد، ولكن أليس في أقوال زنادقة الدولة العباسية وفي لزوميات رجل فاضل كالمعري مالا تسمح الحكومة بنشره لو أن أحد شعراء المذهب الجديد كان هو قائله؟ ولكن أقوال أدباء الدولة العباسية والمعري أقوال صقلها الدهر واعتادها الناس فلا بأس من أن يتفكه بها أدباء المذهب القديم في مجالسهم ولا بأس من نشرها وإيداعها مكتبات المدارس
وكما أن بعض الأدب الأوروبي أقرب إلى بعض الأدب العربي منه إلى عصور أخرى للأدب الأوروبي فكذلك بعض أدباء المذهب الجديد أقرب إلى أدباء المذهب القديم منهم إلى أدباء آخرين من أدباء المذهب الجديد، فأدباء المذهب الجديد اليوم أكثر حرية في القول واكثر نصيباً من الرمزية من أدباء المذهب الجديد الذين ظهروا منذ ثلاثين سنة
(قارئ)(268/13)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 8 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إِنجيلا للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ب - (متحديا سقراط) ماذا يا سقراط؟ أعندك حقيقة تلك الفكرة التي شرحتها عن البيان؟ أولا تعتقد أن الحياء قد أخذ جورجياس فلم يستطع أن ينكر أن الخطيب يعرف الخير والحق والجمال، عندما أضاف إلى أقواله أنه إذا أتاه من لا يعرف هذه الأشياء فانه سيعلمه إياها بنفسه؟ لقد نتج عن ذلك ما يحتمل أن يكون بعض تناقض في كلامه فاتخذت أنت من ذلك مسرة لك ورحت تشغل الغير بهذه الأسئلة المعسولة؟ ولكن أتصدق أن من الناس من لا يصرح بأنه يعرف العدالة وبأنه يستطيع أن يعلمها للغير؟ الحق أنه الذوق السقيم الذي قد طوح بالمناقشة إلى مثل هذه الأرض!
ط - يالك من ظريف يا بولوس! وهل نريد الأصدقاء والبنين لشيء غير ذلك؟ إنما نريدكم أيها الصغار لكي تقوموا أعمالنا وتصححوا أقوالنا عندما تتقدم بنا السن وتزل القدم! وها(268/14)
أنت ذا هنا لترد زلتي أنا وجورجياس إذا ما أخطأنا في المناقشة لأن هذا هو واجبك. وأقول من ناحيتي أنك إذا وجدتنا غير مصيبين في الاتفاق على هذه النقطة أو تلك فإني مستعد للنزول على هواك إذا لاحظت شيئا واحدا. . .!
ب - أي شيء؟
ط - التقليل من هذا الإسهاب الذي بدأت به يا بولوس!
ب - كيف؟ أليس لي الحق في الكلام بإسهاب كما أشاء؟
ط - ليكونن عار عليك يا بولوس العظيم أن تحضر إلى أثينا - وهي البلد الإغريقي الفريد الذي يسمح للناس بأكبر قسط من حرية القول - فتعرف فيها بهذه الخاصة! ومع كل فضع نفسك موضعي!: ألا يكون من حقي - إذا رأيتك ترسل الكلام الكثير دون أن تجيب على أسئلتي -: أن أرثي لنفسي وأن آسف على عدم السماح لي بالرحيل دون سماعك؟ الحق إذا كان يسرك ما أخذنا فيه من قول بحيث ترغب في تنقيته وتصحيحه، فلتعد توّاً كما قلت إلى أية نقطة تشاء، ولتسائل أو فلتدعنا نسائلك كما فعلت مع جورجياس، بل ولتناقض أو لتتركنا نناقضك!، إنك تدعي بلا ريب أنك تعرف نفس الأشياء التي يعرفها جورجياس!؟ أليس كذلك؟
ب - بلى
ط - وأنت تدعوا مثله الشبان إلى توجيه ما يشاءون من الأسئلة إليك لأنك واثق من قدرتك على إجابتهم؟
ب - بالتأكيد!
ط - حسن! فأختر ألان ما يروقك سائلا أو مجيبا!
ب - هذا ما سأفعل!. أجبني. أي شيء هو البيان في رأيك ما دام قد لاح لك أن جورجياس مرتبك في طبيعة هذا الفن؟
ط - أتسأل عن أي نوع من الفنون هو في نظري؟
ب - بلى!
ط - إذا شئت الحق فأنا لا أعده فنَّا!
ب - وإذاً فماذا تراه؟(268/15)
ط - أراه شيئاً جعلت أنت منه فنَّا في الرسالة التي قرأتها لك أخيراً
ب - وماذا تعني بذلك؟
ط - أعني نوعاً من التمرين والممارسة؟
ب - وإذا فالبيان في رأيك تمرين وممارسة؟
ط - نعم. إذا لم يكن لديك اعتراض!
ب - وعلى أي شيء ينطبق ذلك التمرين؟
ط - أنه يجلب نوعاً من اللذة والاستحسان
ب - ألا ترى إذاً أن البيان شيء جميل ما دام يجلب اللذة؟
ط - سنرى يا بولوس! أو قد أصغيت حتى الآن إلى رأيي في البيان كيما تقفز هكذا وتسألني عما إذا كنت أراه جميلا؟
ب - ألم أسمعك تقول إنك تعده نوعاً من التمرين؟
ط - وما دمت تعلق أهمية كبيرة على جلب اللذة، ألا تود أن تسبب لي قليلا منها؟
ب - إني لأبغي ذلك بكل سرور!
ط - إذاً سلني من أي نوع من أنواع الفنون هو (الطهي) في رأيي؟
ب - وإني لأسائلك أي فن هو الطهي؟
ط - أنه ليس من الفن في شيء يا بولوس!
ب - إذاً فأخبرني ما هو؟
ط - إنه نوع من الممارسة والتمرين!
ب - وعلى أي شيء ينطبق؟
ط - إنه يجلب اللذة والاستحسان يا بولوس!
ب - وإذاً فكلا البيان والطهي واحد؟!
ط - كلا، ولكنهما قسمان في مهنة واحدة!
ب - وأية مهنة تريد أن تذكر؟
ط - قد يكون من الخشونة والغلظة أن نصرح بالحقيقة يا بولوس. وإني لأتردد في الإفضاء بها لوجود جورجياس! ذلك أني أخشى ألا يتصور غير رغبتي في الهزء به(268/16)
والسخرية منه. إنني لا أدري إن كان البيان الذي يمتهنه جورجياس من النوع الذي أعرفه أم ليس منه، لأن مناقشتنا منذ هنيهة لم توضح لنا قط فكرته عنه. ولكن ما أدعوه أنا بالبيان ليس إلا قسما من شيء ليس بالجميل على الإطلاق!
ج - أي شيء ذاك يا سقراط؟ تكلم دون أن تخشى إساءتي!
ط - حسن يا جورجياس: فأني أعتقد أنه عمل لا يحتاج إلى شيء من الفن، ولكنه يتطلب فقط ذهناً فطناً جريئاً وقادراً بالطبع على الاتصال بالناس. وأساس هذا العمل كما أرى هو: الملق والرياء، ويشمل الملق أقساماً كثيرة الطهي أحدها، ويعد البعض هذا الأخير فناً ولكني أراه مجرد تجربة وتمرين. كما أرى بالمثل أن البيان والتزين والسفسطة من أقسام الملق كذلك، فكأننا لدينا أربعة أقسام متصلة بأربعة موضوعات
فإذا شاء بولوس الآن أن يسألني فليفعل لأني سأبين له من أي أقسام الملق هو البيان في رأيي، إذ هو لا يتصور أني لم أجبه بعد عن هذه النقطة، وهو يلح فقط في سؤالي عما إذا كنت أراه جميلاً! ولكني سوف لا أخبره إن كنت أعد البيان جميلاً أو قبيحاً قبل أن أجيبه: أي شيء هو؟ وإلا فلن يكون كلامنا منطقياً يا بولوس! وإذاً فسلني - إذا كنت تريد أن تعرف - أي قسم من أقسام الملق هو البيان في عُرفي؟
ب - إني لأسائلك عن إي قسم هو؟
ط - أترى ستفهم إجابتي؟ إن البيان عندي صورة ومثال لأحد أقسام السياسة!
ب - وماذا تعني بذلك؟ أتريد أن تقول أنه جميل أم قبيح؟
ط - أريد أن أقول إنه قبيح لأني أسمي قبيحاً كل ما هو رديء! ما دام يجب أن أجيبك كما لو كنت تعرف ما أريد أن أقول
ج - وأنا بالمثل لا أفهمك وحق زيوس يا سقراط!
ط - لست أعجب من ذلك لأني لم أشرح بعد قولي! ولكن بولوس شاب متحمس!
ج - فلتدعه ولتخبرني كيف تستطيع أن تقول أن البيان صورة ومثال لأحد أقسام السياسة!؟
ط - سأحاول إذاً أن أبين أي شيء هو البيان في رأيي، فإذا لم يك على ما أعتقد فليناقضني بولوس: أهناك من غير شك ما يسمى بالجسد وما يسمى بالنفس؟(268/17)
ج - بلا تناقص
ط - ألا تعتقد أن لكل من هذين حالة تدعى (صحة)؟
ج - بلى
ط - وقد تكون هذه الصحة ظاهرية فقط وليست بحقيقية! أريد أن أقول إن كثيرين ممن يلوح أنهم ذوو جسم صحيح ضعاف في صحتهم، وعسير على غير الطبيب أو مدرب الرياضة البدنية أن يتبين ذلك؟!
ج - هذا صحيح
ط - وأدعي أنه يوجد في النفس والجسد بالمثل ما يجعلهما يلوحان في حالة جيدة بينما هما ليسا كذلك؟
ج - إنك تقول حقَّاً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(268/18)
السلطتان الروحية والزمنية
كما يراها الإسلام
للأستاذ عباس طه
كانت السلطة الزمنية والسلطة الروحية - ولا تزالان - في تقدير الإسلام من أخص أوضاعه ومميزات أسراره
والسلطة الروحية هي التي تنظم علاقة الإنسان بربه في عباداته ومعاملاته الظاهرة والباطنة، وتخضع ناموس المشاعر وقوانين القلوب لذلك السلطان القاهر الذي له الهيمنة على الإنسان في شتى مناحيه
والسلطة الزمنية هي التي تنظم علاقة الإنسان بالإنسان وترسم لتلك العلاقة حدوداً في المعاملات بشتى ملابساتها وتتفرع عن هذه السلطة سلطات ثلاث: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية
كانت هاتان السلطتان متلازمتين في الإسلام، فهما ملاك هذا الوجود وقطب رحاه، وهما اللتان أقام منهما حارساً على بناء هذا المجتمع أن تنهار أسسه وتتداعى نظمه؛ ذلك الإسلام في مناعته وقوة حياطته وما كفله في أطوائه من تلمس أقوى العوامل إنهاض هذا المجتمع حتى يظل باقياً يؤدي رسالته ويذيع في البشر أمانته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وبدهي أن الإسلام دين روحي زمني ينتظم في أبلغ أوضاعه عملي الدنيا والآخرة، فهو بطبيعة وجوده مصدر يصل بين حياتي المعاش والمعاد، ويكل إلى المضطلعين بأعباء السلطة الزمنية أن يستمدوا قوانينها ومبادئها وأحكامها من السلطة الروحية، ضرورة أن السلطة الروحية قد فرضت الفروض ورسمت الحدود في آي الفرقان بما يجمع تراثاً خصباً صالحاً حين ترجع أليه الرسل ومن بعدهم خلوفهم. من أجل ذلك رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمد أحكام السلطة الدنيوية من السلطة الدينية لأنهما توأمان لا يمكن ألبتة الفصل بينهما إلا بتحكم الطغيان الجائح فيهما فقد درج الخلفاء الراشدون والصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم على تطبيق الجزيئات الفرعية والمسائل الموضعية التي لم ينص عليها قانون المسائل الكلية وإن شملها بالقواعد العامة المندرجة في أطوائه، وذلك يكون بالمقارنة والاستنباط وملاحظة المفاهيم العامة والمآخذ المطلقة ورد(268/19)
الفروع إلى أصولها. ومن هنا كان اصل القياس منبعثاً من منابع ثروة التشريع الإسلامي حتى لا تشذ الجزئيات عن كلياتها، وحتى لا تبطل في الأرض حجج الله وبيّناته، وحتى ينتظم التشريع الإلهي حيوية تلك المجموعة الشمسية، ومن ذلك كان الإجماع القطعي من الطرائق العملية، حكمه في إثبات الأحكام الفرعية وتحقيق النظريات الفقهية حكم الكتاب والسنة والقياس مع الفارق المرسوم بين هذه الأصول الأربعة قوة وضعفاً، وفي توجيه النصوص الروحية أو الزمنية الصرفة وما كانت مزيجاً منهما
لذلك لما كان الإسلام دين تشريع وهداية كان تطبيق الأحكام على الناس حسب مقتضيات الأحوال ومناسبات الأسباب والعلل، فمن المتعذر أن يؤخذ الناس بأحكامه طفرة واحدة ضرورة أنهم لم يمرنوا على مثل هذه الطفرات في أبان ظهوره خصوصاً ما كان متعلقاً منه بأمور لم يكن لهم بها عهد ولا ممارسة، فكان بديهياً أن يحمل الدين الإسلامي في أطوائه تينك السلطتين: السلطة الزمنية والسلطة الروحية، لتكون له المكنة مجتمعة من تنظيم حياتي المعاش والمعاد عند معتنقيه، وإقامة المجتمع على مناهج لا عوج فيها ولا أمت حتى تكون طريقاً إلى الحياة الأخرى في أسعد غاياتها وأرفه نهاياتها. وإلا فلو أغفل الإسلام تلك السلطة الزمنية وبقى لا يحمل إلا السلطة الروحية لكان دينا كهنوتياً في مراميه، ولأجفل الناس عنه إجفالا يمكن لهم في الفوضى وسوء المنقلب، ولتراخت الهمم وتخاذلت العزائم وأصبح المسلمون شيئاً لا يحده قانون الاجتماع ولا تعرفه نواميس البشرية
كذلك لو أغفل الإسلام السلطة الروحية وظل مستمسكا بالسلطة الزمنية لكان مزيجاً من أخلاق متدافعة وعادات متناقضة، ولكان قصارى جهد معتنقيه أن يخضعوا لنواميس هذا المجتمع في علله وأوصابه وتدافع أسبابه، وأن تكون الغلبة فيهم للقوي العاتي، وأن توجد الفروق بين الطبقات والأسر والقبائل والبطون قلة وكثرة وقوة وضعفاً وعزة وذلة، والأشياء ونقيضها، فلا يعدو أن يكون كالشريعة الرومانية أو الفقه الروماني ارتحلت صولته وبقيت محنته وسقطت هيبته وزالت روعته، ثم بعد هو لا يعدو أن يكون بين الأجيال المتلاحقة أنباء قصصية ونظريات فلسفية أفلاطونية، تعالى الإسلام عن ذلك علواً كبيراً(268/20)
من أجل ذلك مشت السلطة الزمنية في الإسلام بجانب السلطة الروحية في نظام الحكومة على معنى أن نظام الحكومة كان مستهدياً في جميع أدواره بهدى السلطة الروحية، وكانت السلطة الزمنية أساساً من الأسس السماوية التي جاء بها الكتاب لترسم الحدود وتقيم المعالم وتشعر الحاكمين والمحكومين بتبعاتهم كل في حدود عمله، وتقوم على رعاية الأنظمة البشرية في المعاملات المختلفة سواء منها ما كان متعلقاً بأحوالهم الشخصية أو بالمعاملات المتبادلة بينهم القائمة على البيع والشراء وما يلحق بهما حتى في الحكومات التي لم يكن لها لون ديني بالمعنى المفهوم. وكثيراً ما لجأ الملوك والأمراء في عهود سابقة إلى حملة الشريعة وحماة الدين إذا عميت السبل عليهم في المعضلات وحجبتهم الجهالة المطلقة عن الوصول إلى شاكلة الصواب، يتعرفون منهم المنهاج الصالح لشكل الحكومة وترسيخها على أمتن الدعائم حتى تبقى تلك الحكومة بما تستمده من هدى الفرقان محتفظة بهيبتها وجلالها ومحبة الشعب لها، لأن الشعب إذا أستيقن نزاهة الحكم وتوزيع العدالة بين الأفراد بالقسطاس، المستقيم وقتل روح الأثرة، والاستجابة إلى داعية القربى والمصاهرة، والتفرقة بين العمال الموكلة بهم خدمة الجماهير ورعاية مصالحهم في فرض الجعالات وسن الإتاوات وتغليب عوامل التشهي على أي عامل آخر، وسم خصومها بميسم الخيانة العظمى، واختلاق الأكاذيب عليهم، وبث عوامل الشكوك والريب في نفوس الجماعات في أولئك الخصوم وتأليب الأوشاب والدهماء على منافسيهم - اتخذوا من تلك الحكومة مثلاً صالحاً وأحلوها من قلوبهم محل الشغاف، والعكس بالعكس
حمل الإسلام فيما حمل أسمى المبادئ مبدأ الشورى لتكون أساس الحكومة الصالحة ودعامته، تتلاقى عنده سائر الرغبات والأماني، لأن الشورى في أبسط أحكامها خير من رأي الفرد، فهي وليدة آراء مستخلصة من قوة الجماعة لا يراد بها غير إسعاد المجموع وإشعاره بمبدأ العدالة والمساواة حتى يظل آمناً في سربه حصيناً في أغراضه ومراميه، وإن لم تكن الشورى القائمة بيننا الآن في الشرق والغرب هي التي تعنيها مبادئ الإسلام فالشورى التي تعنيها مبادئ الإسلام هي المستخلصة من قوة الجماعة كما قلنا ليس فيها أثارة من تشيع الهوى أو أخذ بنحيزة أو إصغاء إلى ضغن في سائر مرافق الدولة
من أجل ذلك نرى فقهاء القانون الدستوري في حواضر أوربا يقيمون النظريات الصادقة(268/21)
على فشل الحياة النيابية في الأمم المتحضرة في عصرنا الراهن، وعجز الدستور بأحكامه عن أن يخلع على الناس خير الأشكال يقيمون عليه دعائم حياتهم وأسس وجودهم. وكثيراً ما تحاكم المسلمون في صدر الإسلام إلى الكتاب والسنة فما ضلوا في حياتهم وما حادوا عن الجادة الواضحة قيد أنملة، لأنهم اطرحوا دواعي النزوات واستجابوا دواعي الإخلاص لله في السر والعلانية فمكن لهم في الأرض وخضعت لسلطانهم شعوب وقبائل
قرر الإسلام السلطتين الزمنية والروحية معاً فلا يمكن فصل إحدى السلطتين عن الأخرى لأنهما متلازمتان في وجودهما.
فالسلطة الزمنية ترسم شكل الحكومة ومقاصدها المختلفة، وتؤسس الأنظمة المتنوعة لشتى الأفراد والأسر والجماعات والقبائل والأمم، وتضع أحكام الحرب والسلم وسياسة القضاء والإدارة ونواميس الاجتماع؟ ثم هي تنساب بعد إلى الأحوال الشخصية المتعلقة بذات الإنسان فتنشئ علاقة زوجية صالحة بين الرجل والمرأة وترتب عليها حقوقاً قبل المرأة وحقوقاً قبل الرجل، ثم تتناول أحكام الإرث فتوزع الأنصباء من تركة الميت على ذويها توزيعاً قائماً على أدق أنواع الرعاية وأحكم مراميها، ثم تتعهد الحاكمين بالوصايا الجامعة حتى لا يندوا عن شريعة الحق ولا تصغي قلوبهم إلى شوائب الهوى، ثم تهيب بالمحكومين إلى السمع والطاعة فيما أمر الله، وبهذا التساند بين الهيئتين ينتظم الأمة والحكومة عدل قائم على الخلاص المتبادل وتسودهما روح طيبة في مرافق البلاد وحيويتها
لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوفه من بعده في يديه بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية فأقام بهاتين السلطتين خير حكومة من حكومات الأرض في تاريخ البشرية، وأسس للإنسانية العامة أفضل المناهج في الحكم حتى فاضت القلوب باليقين الراسخ والطمأنينة الشاملة، ولا أدل على ذلك من أقوال الرسول وأعماله وما ينزل به الملك من الآيات منجمة بحسب الوقائع سواء أكان ذلك متعلقاً بأمر من أمور المعاش أم المعاد إذا استثنينا بعض مسائل تقليدية تافهة لا يتصل وجودها بقانون الحكومة أو الاجتماع، ثم درج من بعده خلوفه على قدمه صلى الله عليه وسلم فكانوا نعم الخلف لنعم السلف. وناهيكم بعمر الفاروق الذي كثرت على يديه الفتوح الإسلامية مؤسسة على الكتاب والسنة وهدى الرسول الأعظم، فاستدام بذلك القاموس السماوي أصلح الطرائق في أنواع(268/22)
الحكم وأهدى السبل في إسعاد الأفراد والجماعات والأمم، ولا يزال الإسلام يذيع في الناس رسالته متعلقة بالسلطة الزمنية إلى يومنا هذا، فهو يعني بنشر هذه السلطة ألا توجد فروق موهونة ذات أثر سيئ في كيان الشعوب ووجودها على معنى أنه يريد التوحيد بين الأمم في الأخلاق والعادات وأن يسودها نوع من المعاملات صالح يوحد بين مرافقها ويجمع بين شتاتها وان اختلفت لغة وإقليما وترتب على ذلك الاختلاف تباين في العادات ضرورة أن تلك الأمم المتخالفة لغة وإقليما لو خلت من تطبيق السلطة الزمنية وهيمنتها على مرافقها لكانت لكل أمة ندحة أن تسن لها تشريعا إسلاميا ينشئ قانون شكل الحكومة وأنواع المعاملات، على حين أن الجميع يدينون بالسلطة الروحية ويؤمنون بحياة المعاد في قرارة نفوسهم.
وهذا من غير شك من شأنه أن يفت في عضد المسلمين وأن يوتر ما بينهم من صلات وأن يجعلهم خاضعين لأحكام قوانين وضعية لا تثبت صلاحيتها لحكم الشعوب إلا بمقدار ما تتوارى عيوبها وأخطاؤها، فإذا دلت التجارب على فساد أحكامها وعقم نتائجها فما أسرع العدول عنها وأن تصير في تراث الماضي البغيض
أما تلك الشريعة السماوية فهي شريعة الخلود والبقاء لأنها جمعت بين حلقات من الزمن دابر وحاضر فوضعت لكل عصر وجيل أحكامه وطرائقه فكانت شريعة الإسلام خير الشرائع وأمثل القوانين
وغني عن البيان بعد هذا التقرير أن الذين يقولون بضرورة فصل السلطتين وبالتالي فصل الدين عن السياسة قد جهلوا حقائق الإسلام أو على الأقل تجاهلوا نظام الحكم فيه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلوفه من بعده، أولئك الغر الميامين الأطهار الذين حكموا دينهم في الدولة فسادوا لأنهم قضوا بهذه السياسة العالية أوطار الأفراد والجماعات وحققوا لهم كل رغبة صالحة ثم اجتاحوا لوثة الوثنية ومستهجن العادات في عهود الجاهلية
ولعل النمط الذي جرى عليه توزيع الزكاة والصدقات وإقامة الولاة في الدولة ورسم الحدود ووضع الخطط التي ينتهجونها في أمثل حكومة عادلة بواسطة برامج تكشف لهم حقيقة حكم الشعوب الداخلة في الإسلام وأخذهم بالهوادة في موضعها وتيسير الأمور عليهم حين لا يضيق عنهم التيسير ونوع معاملة أولئك الولاة للذمي والحربي والمدى الذي توزع به(268/23)
السلطات بين شؤون الرعية آية الآيات على أن الإسلام في حقيقته لا يعرف الفصل بين السلطتين، لكن قد تغلغلت المدنية الآرية في الشرق فانطمست معها الحقائق وغابت السلطة الزمنية للإسلام بتضافر شتى العوامل مما سنكشف عنه في أعداد تالية إن شاء الله
عباس طه
المحامي الشرعي(268/24)
حرمة البيان
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
لا تزال في نفسي بقية من هذا الحديث، هي حديثي عن واجب الأدباء في أن يكونوا مخلصين لفنهم وأنفسهم فيصنعوا المقالة الأدبية كما يصنع المهندس بيتاً لنفسه يعيش فيه، يري فيه ويرى له الناس أنه مأواه وحصنه وعش أطفاله.
حينئذ سيلمس القارئون نبضات قلوب الكتاب في الألفاظ كأنهم يضعون أيديهم منها على أجسام حية. . . وحينئذ سيعز على الكتاب أن يرسموا صورا بأيديهم ثم يدوسوها بنعالهم. . وأن يخلقوا خلقا جميلا ثم يئدوه ويدفنوه. . .
فمن حرمة البيان أن يعيش فيه أصحابه ولا يتركوه ألفاظا خربة كالتماثيل الجامدة القائمة من غير روح الحياة.
أجل! إن صنع الألفاظ أكبر مسئولية من صنع التماثيل والدمى والصور، يحتاج إلى أن ينطق بها صاحبها ويفعل ما ينطق. فإذا خص أديب الطبقة الفقيرة برعاية قلمه فواجب أن يخصهم برعاية جيبه. . .
وإذا أكثر من أدب القوة فليكثر على الأقل - من مواقف الرجولة والبطولة في محيطه
وإذا أدمن على تصوير الجمال فلا أقل من أن يكون نظيف النفس والثوب مهندم المظهر بقدر الإمكان. .
وإذا أكثر في أدب النفس فحذار أن يخالف على أمره فيقذف من حالق وتهوى به الألسنة والأقلام في مكان سحيق، ثم يرجم برجوم من ألفاظه هو. .
وهكذا يعيش الأديب الحق كما تعيش دودة القز لعمل القز ثم (تموت) في صميم ما صنعت لتبعث منه خلقاً آخر: فراشاً جميلاً طائراً على الأزهار. . . وكذلك يبعث الأديب الصافي بعد موته روحاً رفافاً على الأرواح. .
أريد وأتمنى أن يعيش الأديب المبين دائماً بصميم نفسه التي يرسمها في صحفه ولا يدعها تفارقه لحظة. . .
فالذين يواجهون الحياة دائماً بنفوسهم وبمثلها العالي وبوسيلتها إليه وإيمانها به. . . هؤلاء(268/25)
هم الذين يتركون آثارهم ويشقون طريقهم ولو في الصخور. . . لأنهم ألحوا على جبهة واحدة في الحياة، ولم يتخذوا لأقلامهم سبيلا عوجاء؛ فكان من اللازم المحتوم أن ينفذوا من السدود، ولو كان مبلغ آثارهم قطرة واحدة متكررة دائبة كما يقول إنجيل برنابا ما معناه: القطرة الصغيرة المتكررة تشق الصخرة الكبيرة أو تترك فيها آثارها
والأديب المخلص لمثاله العالي الذي يصوره لا يتعب دارسيه في تطبيق حياته على آرائه، ولا يحملهم على الإسراع بالشك في تلك الآراء حين يرونه في حياته الخاصة بعيداً عنها مكذباً لها ولا يحملهم كذلك على رجمه بألفاظه كما رجم حسان بن ثابت بأبياته في الشجاعة إذ كان جباناً، وكما رجم أبو العتاهية بأبياته في الزهد إذ كان بخيلا، وكما رجم البحتري بأبياته في الجمال إذ كان قذراً، وكما رجم المتنبي بأبياته في الحكمة إذ كان أخرق وإن كان قد كفر عن جرمه هذا بإسراعه إلى تلبية نداء شعره حين ذكره غلامه ببيته: الخيل والليل والبيداء. . . الخ. وقتل دفاعاً عن حرمة بيانه، وكتب بيته ذاك بدمه بعد أن كتبه بمداده. . .
فأمثال من ذكرنا من الأدباء حكم عليهم التاريخ ببقاء ألفاظهم خربة من نفوسهم. ولكن ما الفائدة من أن أقول قال فلان كذا. . . بينما تاريخ فلان هذا يقول لي كذب صاحبك! لا جرم أن تطير هالة الخيال إذا رُئي المثال، وأن يدخل البيان إلى النفس في استحياء وخجل تكاد تُزْلقه عيون الشبهات!
فالخلود الحق للأديب أن تعيش نفسه في نفوس قارئيه مع كل كلمة من كلامه تملؤها وتشرحها وتشير إلى النموذج الذي حققته الحياة. . .
فليحذر الأدباء أن يحكم على ألفاظهم رعاة الإنسانية الذين وضعت الأقدار في أيديهم موازين الحكم والنقد والاعتبار كما حكم محمد رسول الله على أمية بن أبي الصلت أنه (قد آمن شعره وكفر قلبه)
أنا بالطبع في دنيا غير دنيا أكثر الأدباء التي يعيشون فيها ويأخذون منها أفكارهم. . . أناديهم من مكان بعيد. . . ولكن ما حيلتي والحقائق الكبرى في الحياة هي التي توحي بذلك. . . الإيمان والحق والخير والجمال والحب والقوة، تلك المعاني التي حملها وحدها الرجال الأمهات. . .! الذين ولدوا الإنسانية وعاشوا لها وعاشت في نفوسهم وتقاليدهم. . .(268/26)
ولم يخلد من الأدباء بل من الناس جميعاً إلا خدام هذه الحقائق مجتمعة أو منفردة. وخدمتها لا تكون أول ما تكون بألفاظ وأناشيد. . . وإنما بالنفس! ومعنى خدمتها بالنفس أن تفقهها وتراها رأى العين أنها أعمدة السموات والأرض فتلوذ بها وتعيش معها دائما، ثم تخلقها هي مرة ثانية بالقول الجميل أو اللحن الجميل أو الرسم الجميل. . .
إني إنسان سائر مع الطبيعة. . . أستحي من وجوهها الصادقة أن أمر عليها بوجه كاذب. . . وإن صداقتي لها أمر ثمين عندي أثمن من صداقة الناس. . وإني أستحي من الجماد والنبات والحيوان أن أكون أقل منه صيانة لقانون الله بارئي وبارئ الفطرة. . . والتناسق والنظام يحتمان عليَّ أن أسير في مواكب الطبيعة على قدم واحدة وموسيقى واحدة وإشارة واحدة. . .
لماذا يكذب الإنسان وحده؟! إن النحلة لا تخرج علقما. . . والحية لا تقبِّل الخدود. . . والحنطة لا تنبت عقارب. . . والنار تحرق دائما. . والماء يغرق دائما. . .
إن كل شيء صادق في الدنيا فلماذا نكذب نحن؟!
عجبا أعجبه معك يا أبا العلاء حين تسأل عن النجوم:
وتكذب؟! إن المين في آل آدم ... غرائز جاءت بالنفاق وبالعهر
نكبة الأدب هي التزوير فيه: تزوير النفس وتزوير الحياة حتى تستحيل إلى خيال شارد. .
لماذا يتغزلون وهم لا يحبون؟ ولماذا يمدحون وهم يكرهون؟ ولماذا يتظرفون وهم ثقلاء؟ ولماذا يتحمسون وهم خونة جبناء؟ ولماذا يفخرون وهم ناقصون؟ ولماذا يسودون الحياة في وجه الناس وهي بيضاء، ويبيضونها وهي سوداء؟ لماذا يبلبلون قلوب الناشئين ويبذرون فيها بذور الشك في الحقائق الثابتة التي لا يمكن الدنو منها والحكم عليها إلا بعد الامتلاء والانتهاء من العلم والدين والفن وتجارب الحياة؟
أكل هذه الفتنة القول والقوافي والأسجاع والنكات والشهرة؟!
أتت علل المنون فما بكاهم ... من اللفظ الصحيحُ ولا العليلُ
كلا بل ضحكت منهم الألفاظ وشيعتهم ساخرة يا أبا العلاء!
إن الخواطر لا تنتهي، وإطلاقها ينتهي بعقول أصحابها إلى الجنون. . . وحرية الأفكار ليس معناها حرية الطباع، والحرية الفكرية معناها تقديم مقترحات ضد بعض الأوضاع(268/27)
والتقاليد التي يرى ناقدها أنها فاسدة ولكن في عرض جميل. . . لا تقديم خواطر تهجم على حق أو تجرح فضيلة. . .
ويا ويل من يقع قلبه فريسة لأدب الأدباء المزورين! إنه لا يتيقظ إلى أنهم متناقضون متهافتون إلا بعد فوات الأوان. . . بعد أن ينطبع ذهنه على قبول الخيال الناقص والكاذب ويقئ الحقائق ولا يهضمها. والأدباء المزورون أهل شطحات، ينسون فيها كل ماضيهم وآرائهم فيناقضون أنفسهم مناقضة فاضحة إلى حد أن يحكموا على أنفسهم أحكاما قاسية مسقطة لعدالتهم الأدبية وهم لا يشعرون
وهم لا يصدرون آرائهم عن وجهة واحدة في الحياة، ولذلك تراهم (في كل واد يهيمون) وليس لهم مذهب ورأي ذو سلطان له مدرسة وتلاميذ يتشيعون له ويعيشون لنشره وشموله ولو أقتصر كل منهم على المتح مما في نفسه من منابع الإلهام وعلى رصد مخلوقات قلبه، ولم يتكلف نظم قول لا يؤمن به ولا يحسه حياً في نفسه، إذاً لظفرت الآداب بكنوز من دفائن القلوب، ولأحس القارئون حين يقصدون إلى فصل أدبي، أنهم قادمون على معرض جميل من معارض الحياة لفنان صادق. . .
فواجبهم أن يستحضروا الجد ويقظة الدرس والتحصيل لما في هذا المعرض من آراء وأرصاد ورؤى وفكاهات وعضات قنصها ذلك الفنان الصادق من خواطره وإلهامه ليقدمها للناس على أنها نتيجة التقائه بالحياة. . .
ومجتمع الرأي: أنني لا أومن بالأدب ولا أعترف بحرمة البيان - ذلك الجانب المقدس في الإنسان - على أنه تسلية وتزجية فراغ تقصده النفس في غير إجلال، وتلعب فيه الأيدي بالأقلام لعب الأرجل بالكرة. . . وإنما أُومن به على أنه - في مجموعه - معرض للآراء المصححة لأغلاط الحياة، وللمشاعر النبيلة من حياة القلوب، وللموسيقى اللفظية التي تساعد على خلق جو روحي أثناء القراءة
وأختتم هذا الحديث بإيراد أقصوصة تمثيلية قرأتها في بعض الآثار اليهودية، وهي تمثل حرمة البيان وجنابه العظيم:
قيل أنه لما فرغ الله من خلق الدنيا قال لأحد الملائكة:
أنظر هل ترى في السماء والأرض والماء والهواء نقصاً؟ فنظر ثم عاد فقال: لا ينقصها(268/28)
إلا شيء واحد يا رب، هو الكلام الذي يبين ما فيها ويتحدث عنها. فخلق الله ذلك النوع الممتاز!
(القاهرة)
عبد المنعم محمد خلاف(268/29)
حواء
ديوان شعر طريف في المرأة يصدره الأستاذ الحوماني وتقدم الرسالة منه بضعة نماذج لقرائها قبل صدوره في مأتي وجه ثمنه عشرون قرش صاغ قبل صدوره ويطلب من إدارة الرسالة
دموع قيثارة
يتصبَّاني من الروض إلى ... وجهكِ الفاتن أرضٌ وسماءٌ
الثرى عينٌ وخدٌ وفمٌ ... والسما نورٌ وعطرٌ وغناءٌ
يستظلُّ الزهر أفياَء المنى ... والمنى تطغى عليه الْخُيَلاَءُ
فتمجُّ الشمس في أعطافها ... خمرة نكرع منها ما نشاءُ
يتصباني إلى عينيكِ من ... روضتي غصنٌ وعصفورٌ وماءٌ
يتغنين فيملأنَ فمي ... ضَرَباً تغرف منه الندماء
يا لها قيثارة، ملءُ يدي ... من مآقيها دموعٌ ودماء
خفقت بين يديها كبدي ... فجثت بين يديَّ الشعراء(268/30)
بعض كياني
ألهميني سرَّ عينيكِ وما ... يعتريني كلما أبصر ثاني
كم تساءلتُ ونفسي عنهما ... وتحرّيتُ شعوري وبياني
فإِذا زهرهما ملءُ فمي ... وإذا عطرهما ملءُ جناني
وإذا السرُّ الذي أنشده ... فوق ما يشعر قلبي ولساني
ربما ألهمني سحرهما ... روعةً تملأَ بي كل مكان
وأراني همتُ في الأرض فما ... وسعتْ رقعتها بعض كياني
وتشوّفتُ إلى الأفق الذي ... يسع الشعر فأعياني عياني
الحوماني(268/31)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 36 -
مقالاته للرسالة (7)
كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل؛ فإذا لم يجد له عملا في المحكمة أنصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة. وكان يزورني أحيانا في المدرسة ليقضي معي وقتا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته. وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادةً تلهمه الفكر والبيان؛ ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة. . .
وزارني يوما، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان؛ فكان يصحبه شرطيٌّ كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إليَّ لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا؛ ونظر الرافعي أليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلّع لا يكاد يتقار في موضعه. . .
ثم أنصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، وألتفت الرافعي إليَّ يسألني: (. . . وبين تلاميذك الكثير من مثل هذا الشَّمعون؟)
وكلمة (شمعون) عند الرافعي هي عَلَم مشترك لكل فتى جميل. وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي الشاعر؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر. . . وكان اسمه (شمعون) - قال لي الرافعي: (وكان فتى جميلا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى. . .!) - ورآه الرافعي كثيراً في صحبة الكاظمي، فوعى أسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعد علما على كل غلام(268/32)
متأنث. . .
. . . قلت للرافعي: (هذا ابن فلان الحاكم، وهذا الشرطي الذي يتبعه هو من جنود أبيه، وإن من خبره. . .)
قال الرافعي: (وهذا موضوع جديد!)
فهذا كان سبب إنشائه قصة (الطفولتان)
وكان الرافعي مؤمن بالغيب إيمانا عميقا لا ينفذ إليه الشك. وكان له عن الشياطين والملائكة، وعن الوحي والإلهام، وعن تجاوب الأرواح في اليقظة والنوم، أحاديث ينكرها كثير من شباب هذا الجيل. . .
. . . وكان له - إلى إيمانه وتديُّنه - نزوات بشرية تعقبها التوبة والندم، فكان أكثر وقته على تربص دائم من وسوسة الشيطان، فكان إذا مرت أمامه امرأة فأتبعها عينيه، أو سمع حديثاً عن غائب فتعقبه بالحديث عن بعض شأنه، أو ناله أحد بمساءة فردها إليه، استعاذ وحوقل، وقال: هذا من عمل الشيطان!. . . وإذا همت نفسه بشيء تنكره المروءة، أودعته داعية من هواه إلى ما يتحرج منه المؤمن، أو صرفه شأن من شئون الحياة عن واجب من واجبه، حمل نفسه على ما لا تحتمل، وأنكر على نفسه ما همت به أو دعت إليه أو انصرفت عنه، وذم الشيطان وتجنى عليه الذنب. وفي مقالته (دعابة إبليس) حديث يحقق هذا المعنى
. . . فأني لَمعَه ذات مساء إذ جاءه البريد برسالة من آنسة في دمشق، ومعها صورتها مهداة إليه، تبثه لواعجها وأشجانها، وتشكو إليه أنها. . . مفتقرة إلى رجل!
ونظر الرافعي إلى صورة الفتاة فأطال النظر، ووقف الشيطان بينه وبين الصورة يحاول أن يزيدها في وهمه حسنا إلى حسن، ويرسم له خطة. . .
ثم وضع الرافعي الصورة في غلافها وهو يقول: (أعوذ بالله من الشيطان. . . أَما إنه. . .)
وقال شاب في المجلس: (وهل الشيطان إلا هوى النفس؟)
وقال الرافعي: (وهل تنكر. . .؟)
وطال الجدل، ومضى الحديث في فنون. . .(268/33)
من هذا الحديث وهذه الحادثة كانت مقالة (الشيطان)
وكان لولده الأستاذ سامي زوج لم يدخل بها، وقد مرضت بذات الصدر بعدما سماها وعقد عليها؛ فأقامت زمناً في مصحة حلوان؛ ثم ارتدت إلى طنطا لتقيم بين أسرتها ما بقي، وزوجها حفيٌّ بها قائم على شئونها، ثم جاء موعدها فدعا الرافعي ليراها فجلس إلى جانبها لحظات وهي تحتضر، فكان له من هذا المجلس القصير، مقالة (عروس تزف إلى قبرها!)
كنت ليلتئذ على موعد معه في القهوة، فظللت أنتظره ساعات ولم يخلف الرافعي موعده معي مرة من قبل، فلما طال بي الانتظار مضيت لشأني. وفي الصباح جاءني نعي الفتاة فعرفت عذره؛ فلما كان العصر ذهبت في نفر من الأصحاب لتعزيته في دار صهره، والتمسناه فما وجدناه، وسألنا عنه فعرفنا أنه آب إلى داره بعد الجنازة لبعض شأنه؛ ولقيته بعدها فعرفت أنه ترك المأتم والمعزين ليفرغ لكتابة مقالة قبل أن تذهب معانيه من نفسه!
يرحمه الله! لم يكن يمر به حادث يألم له، أو يقع له حظ يسرُّ به إلا كان له من هذا وذلك مادة للفكر والبيان، وكأنما كل ما في الحياة من مسرات وآلام مسخرة لفنه؛ فهي عند الناس مسرات وآلام، وهي له أقدار مقدورة ليبدع بها ما يبدع في تصوير الحياة على طبيعتها وفي شتى ألوانها، ليزيد بها في البيان العربي ثروة تبقى على العصور، وهو إخلاص للفن لم أعرفه في أحد غير الرافعي!
وإذ ذكرت السبب الذي دعا الرافعي إلى إنشاء مقالة (عروس تزف إلى قبرها!) أراني مسوقاً إلى ذكر حيث بيني وبين الرافعي يتصل بهذا الموضوع، وإنه ليدل على خلق الرافعي وطبعه، وهو بسبب مما سميته فيه من قبل (فلسفة الرضا)
لم يكن لأحد رأي في خطبة هذه العروس إلى سامي، ولكنه هو خطبها لنفسه، وكان يحبها ويرجوها لنفسه من زمان، ولم يكن بينهما حجاب، فإنها بنت خاله؛ فلما أجمع أمره على خطبتها بعدما تخرج وصار له مرتب يكفيه، ذهب يعرض أمره على والده، فعارضه فيما ذهب إليه لسبب سببه، ولكنه مع اعتداده برأيه في هذه المعارضة تركه لهواه ولم يفرض عليه رأيه؛ إذ كان يرى من حق ولده أن يختار زوجته لنفسه، فليس له عليه في هذا الشأن إلا أن يبذل له النصح، ثم يدع له الخيرة في أمره
وخطب سامي فتاته، وعقد عَقده. وكان حموه يعمل في مال فأكلته الأزمة، وقُدر عليه رزقه(268/34)
بعد سعة؛ ثم مرضت الفتاة مرضها، فأكرمها زوجها وأقام على شئونها، وأنفق ما أنفق في طبها وعلاجها سنتين أو يزيد، بين طنطا وحلوان!
وتداعت فنون الحديث يوماً بيني وبين الرافعي حتى جاء ذكر سامي وزوجته، وكانت ما تزال في مصحة حلوان؛ فقال لي الرافعي: (أنظر! إنها حكمة الله فيما يجري به القدر! ظلّت البشرية إن هي حاولت النفاذ إلى الغيب لتتحكم في أقدار الناس. . . ليس للإنسان خيرة من أمره، ولكنه قدر مقدور منذ الأزل يربط أسباباً بأسباب، ويجري بالحياة وحدة متماسكة، فما يجري هنا هو بسبب ما يجري هناك، فلا انفصال لشيء منها عن شيء. . . تُرى مَنذا كان ينفق على هذه المسكينة ليطب لها من دائها لو لم تكن الأقدار قد أحكمتْ نظامَها وكان سامي هو زوجها؟ هل كان إصراره على الزواج منها بعدما قدمت له من الرأي والنصيحة إلا لأنه في تدبير القدر المرجوٌّ لهذا الواجب من بعد. لقد كنت مستيقناً من أول يوم أن من وراء هذا الزواج حكمة خافية، وإنني اليوم وقد انكشف لي هذا السر العجيب في حكمته البالغة لأشعر بكثير من الرضى إلى ما كان!)
ثم كتب بين مقالة (بين خروفين)
وهي تمتّ بسبب إلى مقالة (حديث قطين)؛ وفيها حديث عن ولده عبد الرحمن، وهو أصغر بنيه؛ وكان الرافعي يرجوه ليكون من أهل الأدب؛ فما يزال يستحثه ويحمله على الدأب والمثابرة ليكون كما يرجو أبوه، ويحمله بذلك الرجاء على ما لا يحتمله. وكان (الإيحاء) وسيلة الرافعي إلى تشجيعه وتحميسه إلى العمل؛ ويبدو مَثل من هذا الإيحاء فيما تحدث به الرافعي عنه في أول هذا المقال
وكان الرافعي معنياً بمستقبل أولاده عناية كبيرة، فكان يحملهم على العمل بوسائل شتى. وكثيراً ما كان يرسم لهم الخطة للتحصيل والمذاكرة، وقد وجدت بين أوراقه حديثاً له إلى ولده إبراهيم ينصحه ويرسم له منهجاً ليهيئ نفسه للامتحان، لو أنه اتبعه لكان اليوم غير ما هو!
ومن أجل أولاده أنشأ كثيراً من المقالات عن عيوب الامتحانات لمناسبات مختلفة كان ينشرها في المقطم؛ وكانت له طلبات ومقترحات إلى وزارة المعارف أجابت أكثرها ولم ينتفع بها أحد من ولده ومن أجلهم أنشأها!(268/35)
أنشأ هذه المقالة قبيل عيد الأضحى، وكان اشترى خروفين للتضحية أودعهما فوق سطح الدار إلى ميعاد؛ فما نزعه إلى كتابة هذا المقال إلا هذان الخروفان، ثم حاجته إلى أن يقدم إلى ولده نموذجاً في الإنشاء يعينه على بعض واجبه المدرسي
وكان للرافعي رأي فيما تنقل الصحف من أخبار تركيا تفسره مقالة (تاريخ يتكلم)
وقد دعاه إلى إنشاء هذا المقال أخبار تناقلتها الصحف في ذلك الوقت عن أحداث تجري في تركيا، رأى فيها مشابهة من حوادث سبقتها في مصر قبل ذلك بألف سنة في أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي
وفي أحيان كثيرة كانت تثور نفس الرافعي لما يسمع من أخبار تركيا فيهمْ أن يكتب ثم يمنعه من ذلك خشيته أن يكون فيما يكتبه شيء يقفه موقف المسئول عن غلطة تعكر صفاء ما بين الدولتين؛ ثم جاءت مناسبة هذه المقالة فأنشأها وجعل الحديث فيها عن الحاكم بأمر الله وهو يعني رئيس الجمهورية التركية؛ وكانت هذه التعمية وسيلته ليتهرب من التبعة السياسية، ومنها كان الغموض في كثير من معانيه؛ فمن شاء فليعد إلى هذا المقال ليقرأه وقد عرف داعيه، فلعله لا يجد فيه غموضاً من بعد
ومن أجل هذا السبب ولهذا المقصد نفسه كان مقالة (كفر الذبابة) الذي أنشأه على أسلوب كليلة ودمنة بعد ذلك بأشهر.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(268/36)
تحرير الألفاظ
الروعة والطرب
للأستاذ محمد شوقي أمين
تقول اللغة في مشهور ما تقول: طرب الرجل: فرح، وطرب: حزن. وتقول أيضاً: راعه الأمر أعجبه، وراعه: أفزعه
والقائم في الأذهان أن لفظيْ الروعة والطرب من باب الأضداد المتعارف شأنهما في خصائص الفصحى؛ على حين أنهما في الحق لا يدلان على واحد من الضدين بعينه حقيقة ووضعاً، فحقيقتهما ووضعهما للموجان والتضرّب لا غير. فالروعة والطرب يدلان كلاهما على اهتزاز النفس وتحركها، وهيْج الخاطر وتأثره؛ وإنما يدل كل منهما على معنيي الفرح والحزن دلالة مجازية يبين السياق نص موقعها من الإبانة والإفهام، وتؤازر القرائن المقصود لذاته منها أسلوب الكلام
وربما كان الصوت الرخيم شبيه ما نحن بصدده من هذين اللفظين، فإن الدلالة المعنوية للصوت الرخيم على معنيي الحزن والفرح، أكثر شيء وفاقاً لدلالة لفظي الروعة والطرب على ذَيْنِك المعنيين
متى ذكر جمال الصوت ورقته، انصرف الذهن أول ما ينصرف إلى الفرح؛ فالغناء فيما يبدو للناس على وجه عام، بريد المسرة، ووافد الابتهاج. مع أنه في حقيقة الأمر يستنبث الشجو، كما يستثير الغبطة؛ ويرتاح له الشعور الحزين، كما يأنس به البال الرفيه. فهو منتجع الشجيين والخليين على سواء بينهما. وكم أنبطَ الغناء من عبرات حِرَار لم تكن تبضَّ قطراتها لولا رِشاء النغم الحنون!
تلك هي النائحة المستأجرة، تبعث صوتها المتحزِّن في مناحات النساء، فإذا به وقود تتضرّم به مجامر الزفرات، ورنين تستيقظ به كوامن الأحزان. فتمضي النساء وقد حضرتهن الهموم يبكين شجْوَهن!
وهذا ابن سريح ظل صدر شبابه ينوح. وقد أُنسيت: أين؟ أفي مكة أم في المدينة؟ وحيثما كان فقد نوّح دهراً وهو ورقاء هتوف، قبل أن يغني في بغداد وهو بلبل صَيْدَح. . . هاج صوته خلف الجنائز لواعج الحزانى، من المكيين أو المدنيين بين رجال ونساء، وأحيا ذلك(268/37)
الصوت نفسه ليالي البغداديين الملاح، فكان عون اللهو ورُقْيةَ الصبوات!
ذلك لأن الغناء في ذاته لا شأن له بما يكون في النفس من أفراح أو أتراح، وإنما هو ذوب ينسرب إلى أذن السامع، وسحر يمشي في حسه، فيهزَّ مناحي الشعور، ويضيء ظلام الجوانح، فينكشف مستورها من الأفراح أو الأتراح. . .
فعمل الغناء على هذا هو التنبيه والإيقاظ، سواء أكانت النوائم آلاماّ أم لذائذ. وهكذا الشأن في لفظي الروعة والطرب فهما يدلان على الهيجة والهزة والتحرك، سواء أكان ذلك للذائذ أم للآلام
أما مفاد القول اللغويين في لفظة الروع فهو: الفزع، وقالوا: سُمي القلب رَوعاً بالضم، لأنه موضع الفزع. فقولك: راعه الأمر، أي بلغ الرّوْع رُوعه، والأمر الرائع هو الذي يصل الفزع منه إلى القلب
وفي رأيي أن العرب سموا القلب روعاً وجرا بينهم استعماله ثم اشتقوا منه الفعل: راع، ليفيد إصابة القلب كما يقال: فأده أصاب فؤاده، ورأسه أصاب رأسه، وعانه أصاب عينه. وهذا الباب من أبواب العربية ينفسح لكل الأعضاء، فقد ألمع العلماء إلى اطراده، تقول: فَعَلَه، أي: أصابه، وفُعِل هو، بالبناء للمجهول، أي أصيب
وقد أخلي أصحاب المعجمات أسفارهم من الإشارة إلى هذا الوجه خلال أقوالهم في اشتقاق فعل: راع، وعلقوا الصلة بينه وبين الروع بمعنى القلب على بلوغ الفزع، وذلك التعليق هو الذي إياه نأبى، وغيره نرى.
على أنهم في تعليلهم لبعض الاستعمالات العربية في هذا اللفظ ذكروا ما يقوم مقام التنزُّل عما سبق أن علّقوه. جاء في شرح القاموس نقلا عن حُذاق اللغة: (ما راعني إلا مجيئك، معناه: ما شعرت إلا بمجيئك، كأنه قال: ما أصاب رُوعي إلا ذلك) وهذا التفسير اللغوي يفيد، على الجلاء، أن راعه الأمر: أصاب روعه، أي قلبه، دون ذكر لخوف أو فزع.
وهذا تعبير عربي وثيق، تقول: (وقع ذلك في روعي، أي نفسي وخلدي وبالي) فالوقوع هنا خالص مجرد، وهو يفيد الوصول إلى القلب، غير محدود بوصف، ولا معّين في وجه.
ومن فُصح العربية كذلك قولك: (فلان يرتاع للخير) ووجه هذه العبارة أن ارتاع هنا مطاوع راع، ففلان يروعه الخير، أي يمس قلبه، ويقع في نفسه، فهو يرتاع للخير، أي(268/38)
يرتاع إليه، ويطمئن به.
وعلى هذا، تقول: راعني الأمر، أي وصل إلى خاطري، وتأثر به جناني، فإن كان ذلك الأمر داعية بهجة فذاك، وإن كان نذير مساءة فكذلك، فالزينة الرائعة هي الرائقة التي يبلغ إلى القلب الإعجاب بها؛ والفجيعة الرائعة هي المفزعة التي تهزُّ القلب نبأتها.
وأما لفظ الطرب فأن الخطب فيه أيسر. وقد تضاربت فيه أقوال فقهاء اللغة، ومن هذه الأقوال ما نوافقه فيما ذهبنا إليه.
هي آراء ثلاثة في ذلك اللفظ:
أولها أن الطرب للفرح، وللحزن. ومن شيعة ذلك الرأي (ابن الأنباري) فقد حشده في كتاب (الأضداد) فيما حشد من مادة كتابه!
والثاني أنه حلول الفرح وذهاب الحزن. وقد ذكر هذا الرأي صاحب اللسان، وكأنه عرف ضعفه فصان اسم صاحبه عن نسبته إليه
ثالث الآراء هو الذي نواطن اللغويين عليه، وهو أن الطرب خفة تعتري عند شدة الفرح أو شدة الحزن. وقد ذكره مكن أعلام اللغة جمع بينهم (ابن دريد) في الجمهرة و (الجوهري) في الصحاح
وممن أرتضى هذا الرأي من المتأخرين صاحب المصباح، فأنه أثبته في موضعه من معجمه وزاد عليه قوله: (والعامة تخص الطرب بالسرور). فهل فات الفيومي أن العامة تجري في هذا التخصيص على رأي أسلفنا ذكره هو الرأي الثاني؟ أم يذهب إلى أن هذا الرأي ينزل من الآراء منزلة العامة وقالة السوق؟!
ولعل أوفق ما قيل في معنى لفظ الطرب قول الثعلب: (الطرب (عندي) هو الحركة) فهذا هو القول الصائب على ما ترى؛ ولكن ابن سيدة قال في التعليق عليه: (ولا أعرف ذلك). . . على أن فقد المعرفة ليس بإنكار ولا تخطئة، ولثعلب أن يكون له (عند) وما هو بظنين
وثم لفظان هما عسيَّان أن يدخلا من هذا الباب، وتصدق عليهما هذه الصفة، ذانك لفظ الشجو، ولفظ الوله. فقد أصفق اللغويون - وبينهم الكسائي - على أن شجاه: حزنه وطرَّبه ضد. وذكر بعض منهم في المعجمات أنه قيل: إن الوله يكون من الحزن والسرور. وأنا لم أجد حول هذا الذي قيل في الوله ما يعزز جانبه، ولم أجمع من صيغه ولا من صيغ لفظ(268/39)
الوله ما يسفر به وجه الاشتقاق، فأحتسب الآن بالإشارة إليهما، والتنبيه عليهما، غير مبرم لهما قولاً، ولا قاطع فيهما برأي
وقصار البحث أن لفظي الروعة والطرب لا يدلان إلا على تأثر النفس بما يُحضرِّك ما فيها من المباهج أو الكروب، فالغناء يَرُوع ويُطرب، والمغنِّي رائع مطرب؛ لأن روعة الغناء وطربه يستخفان المشاعر؛ فَتَتَبرج الفرحة الخَفرة أو يهتاجُ الأسى الكظيم؟
محمد شوقي أمين(268/40)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 16 -
الآن يصل أخونا (الغمراوي) إلى النهاية البائسة التي وصل إليها إخوانه من قبل. فهم وهو، يظلون متماسكين - بعض الشيء - وهم يدورون بالكلام ويلفون حول الأشخاص بالجمل العائمة والتعبيرات التي ينبت رأسها في ذيلها - وبالعكس! - حتى إذا بلغوا الحديث عن النماذج، ولمسوا جانب الأحكام الأدبية، (آن لأبي حنيفة أن يمد رجله)!
من كان ينظر إلى (الجمال) وينظر إلى (الحب) نظرة (العقاد) التي أسلفنا عنها الحديث في مقالي (سارة) وفي مقالي (غزل العقاد) فهو خليق أن يسمعنا من
(الغزل) - تعبيراً عن أثر الجمال والحب في نفسه - أنماطاً أخرى غير ما عهدناه في الشعر العربي قديمه وحديثه، وأن يكون في هذا الغزل صاحب (خصوصية) أولا، وصاحب (فلسفة) شاملة ثانياً
وليقل بعض الجهلاء الغلاظ ما يشاءون عن فلسفة الشاعر، ولينكروا أن يكون لكل شاعر كبير فلسفة خاصة، يفسر بها الحياة كما تنطبع في نفسه النموذجية، لا نتيجة (التأمل) وحده كما يفهمون، بل نتيجة الفطرة الممتازة كذلك، ونتيجة الطبع المتفرد، الذي تهبه الحياة لصاحبه، وهي ترتقب منه دنيا جديدة يخلقها، لا كدنيا الناس، تضمها إلى متحفها الضخم الفريد
والعقاد في غزله يجيبان إلى ما نترقب، ويرتفع فوقه درجات، ويحيل الدنيا - حين يحب - متحفاً حياً من الصور والحالات النفسية، ومن شخوص اللحظات والليالي والأيام التي تدب وتتنفس وتحيا! ومن الألوان والظلال التي تلقيها المواقف والآلام والأحلام والآمال؛ ومن الأصداء المنبعثة من أوتار نفس متعددة الأوتار
هي دنيا عجيبة يعيش فيها القارئ بضع ساعات، فيلتقي فيها بوجوه عدة، وأنماط من الشخوص نادرة، ويرى هناك نفساً - بل نفوساً - هادئة ثائرة، راضية ساخطة، بانية هادمة، محلقة في الرجاء، وجاثية في القنوط أو محيرة في الشك والارتياب، ويجدها روحانية ترفرف بأجنحة من السماء تارة، وبوهيمية تلتهم قطوف الواقع تارة، وكثيراً ما(268/41)
تجمع بين السماء والأرض في قدرة كقدرة الخالدين
ولكن الميزة الكبرى لهذه النفس أنها تبدو صادقة في كل حالة، طبيعية في كل وجه، أصيلة في كل سحنة، فليست هي في حالة المتعة والإقبال بأقل منها في حالة العزوف والأدبار؛ وليست هي في ساحة الرجاء الطليق بأفضل منها في حرج القنوط المطبق، أو الشك الأليم. . .
وتلك قدرة - أو موهبة - لا تتاح لكل شاعر كبير، بل لعدد محدود من الشعراء الكبار؛ فقد يكون شاعراً كبيراً وهو يمتاز في ناحية واحدة من نواحي الاتجاهات النفسية الكثيرة ويرى الدنيا كلها في ضوء هذه الناحية الممتازة فيه
ونحن لا ننصف الرجل حين نقول: إن الأوتار التي يوقع عليها الحب في نفسه، لم تجتمع قط لشاعر عربي، ولا تجتمع لعشرة من شعراء العربية في جميع العهود
نحن لا ننصفه حين نتحدث عن اللغة العربية وحدها؛ ولكنا نقول ذلك مؤقتاً، لأنها اللغة التي نستطيع الحكم على آدابها حكما نملك أدلته كلها ونجزم فيه بالصواب. وإلا فبين يدي معربات كثيرة لشعراء من الغرب مشهورين معروفين (كبيرون وشيلي والفريد دي موسيه وفكتور هوجو)
لا أرى فيها من تعدد الجوانب الصادقة الأصيلة ما أراه في غزل العقاد وشعره عامة
وما أقول هذا وأقصد به إصدار حكم لا أملك كل مستنداته ولكنه توجيه لدارسي هذه الآداب، ودراسة تنفع للحكم بين شاعر مصري كبير ينالنا شرف سبقه وتفوقه في هذه الميادين، وبين شعراء العالم المشهورين المقروءين.
أول ما يطالعك في غزل العقاد - وفي شعره عامة - اليقظة والوعي الفني، والانتباه لما يجول في نفسه من الخواطر والأحاسيس، وما ينبض به قلب من يحب من المشاعر والأشواق وما يحيط بها من أجواء وآفاق.
وينشأ عن اليقظة الاتجاه الفلسفي، لتعميق الإحساس بالحب، كما ذكر على لسان (همام) في (سارة) وأسلفنا عنه الحديث. كما ينشأ هذا الاتجاه عن رأيه في الحب والجمال، وعلاقتهما بأغراض الحياة الكبرى، ووشائجها بالكون في آماله الفسيحة.
ولا مفر لمن ينظر هذه النظرة أن يجاوز التعبير عن خاصة نفسه في الغزل، إلى صلة(268/42)
حبه بالحياة والكون، وان تتسرب إلى هذا تجاربه وتأملاته في الحياة ما دامت النفس الإنسانية وحدة لا تقوم الحواجز بين أجزائها ومكنوناتها. فتتألف من ذلك كله فلسفة، يحسبها السطحيون بعيدة عن الحب والغزل لأنه لم يكتب عليها لافتة (يافطة) تقول: (هنا عاطفة!)، ولأن الحب عندهم هو ذلك الظمأ والطوى، الذي لا يبعد كثيراً عن الحس الساذج القريب، ولأنهم ذوو نفوس ضيقة ناضبة لها وتر ضئيل.
وليس في غزل العقاد ولا في شعره كله هالات وظلال، (مما قد يكون جميلا في شعر آخرين ليست لهم هذه الطبيعة) وليس هو ميالا للرمزية - وبخاصة كما يصورها بعض أتباع هذا المذهب في هذه الأيام - واليقظة والوعي الدقيق، والانتباه الصارم، لا يناسب هذه الرمزية ولا يستريح إلى الإيغال فيها إلا بمقدار.
ومثل العقاد في هذا كمثل الجهاز السليم الدقيق، يرصد الكواكب والسدم، فيدركها واضحة محدودة عما حولها، فعلام تكلفه أن يظهر لك الصورة ظلالا وأشباحا، وهو يرى أضواء وشخوصا؟ ألأن جهازا آخر مختلا أو ضعيفا، أو على عدسته غشاوة يسجل تلك الظلال والأشباح؟
نعم قد يظهر لك في بعض الأحيان غشاوات وسحبا، لأن هناك سدما غير واضحة في ذاتها - لا في عدسته - وهنا تكون الرمزية الصادقة التي تكنى لأنها لا تملك التصريح، وتسجل الغشاوة لأنه لا سبيل إلى الوضوح
على أن هناك سبباً آخر لسلوك العقاد هذا المسلك في الإحساس بالحياة والتعبير عنها في وضوح دقيق، ذلك هو فلسفته العامة عن الحياة
فالعقاد ليس من الشعراء الذين لا يجدون في هذه الحياة المنظورة جمالا فيعمد إلى التوشية والتظليل ليداري العيوب ويخلق المحاسن المتخيلة الغامضة؛ أو يتركون هذه الحياة كلها، ويرسمون من الخيال حياة أخرى يغشيها الضباب والدخان، وتزينها التهاويل والأطياف!
إن هذه الحياة المنظورة جميلة عند العقاد تستحق الحب والالتفات، وهي كذلك رفيعة تستحق التقديس والاحترام:
يا طالباً فوق الحياة مدى له ... يعلو عليها. هل بلغت مداها!
ما في خيالك صورة تشتاقها ... إلا وحولك لو نظرت تراها(268/43)
ومن المستحسن أن نوضح ماذا يعني العقاد بالحياة المنظورة، فهو يعني بها الحياة في كنهها وذاتها، في ماهيتها كقوة خالدة، ويراها وحدة من مبدئها إلى منتهاها ويظم إليها آلامها في جهادها وأشواقها إلى غايتها، وخطواتها إلى الدوام والكمال
هذه هي الحياة التي يهيم بها العقاد - كما هي - ويراها وافية بتحقيق مطالب الخيال والأشواق؛ وليست هي حياة الساعة واليوم، أو حياة الفرد والجيل المحدود
وهذه الحياة - عنده - (روح نلمسها بيد من المادة)، ولا انفصام - بل لا اختلاف - بين القوة والمادة فيها، وقد يرهن العلم في محاولاته الأخيرة على صدق هذه النظرة بالفطرة السليمة، فما الذرات التي تتألف منها المواد إلا كهارب موجبة وسالبة ينشأ من تعادلها وجود المادة في الحس، وليس ما يعرف في الطبيعة (بالمقاومة) إلا قوة تعارض قوة ايتهما زادت طاقتها تغلبت وظهرت
ومن هنا ينشأ احترام العقاد للجسم في عالم الجمال، أو ما اصطلحنا على أن نسميه (جسما) وهو طاقة من قوى الحياة تتمثل فيها للحس، وتلمس باليد. ولهذا فحين يبلغ الحس غايته يجعل من المحسوسات أرواحاً، ويحيل المتع كلها روحية علوية:
ما نعيم يمنح الك ... فَّ غذاء المهجات؟
تقصر الألباب عنه ... وهو بعض اللمسات
في يدي أدعوه خصراً ... تارة أو زهرات!
في فمي أدعوه ثغراً ... تارة أو قبلات!
والسماء والأرض - على هذا - متقاربتان في الحياة. أنظر إلى الحياة في قيودها وضروراتها فأنت منها في أرض جاثية. وانظر إليها في آمالها وأشواقها، فأنت منها في سماء طليقة. وهي هي الحياة في أرضها وسمائها وحدة لا تتجزأ، مقبولة الأعذار، مغفورة الزلات، محبوبة المباهج، مرموقة المناظر، لأنها الحياة!
ومن شأن هذه الفلسفة ألا تلجأ إلى الألغاز والمعميات، ولا إلى الأشباح والخيالات، ولا إلى الظلال والغشاوات، إلا حيث يكون هذا كله جزءا من كنه الحياة وقبساً من طبيعتها. وذلك لأنها تواجه الحياة بخيرها وشرها، وتعترف بهذا الخير والشر كمزاج أصيل لها، وتدرك ما فيها من جمال حقيقي موجود، لا غاية بعدها لوهم ولا لخيال(268/44)
وقد استطردنا في بيان فلسفة العقاد العامة، فسقنا فيها بعض خصائصه في غزله وهي (التوحيد بين متعة الحس ومتعة النفس أو بين الأرض والسماء). ثم دعانا هذا الاستطراد إلى تأجيل الأمثلة التي نأخذ منها دلائل اليقظة والوحي الفني. والآن فلنأخذ في إيراد الأمثال:
يقول في قصيدة بعنوان (تبسم):
تبسم فإن القلب يسعد بالذي ... سعدت به واضحك وغرد وخاطر
يلذ لنا منك اغترارُك بالصبا ... غرورُ الصبا روْح لقلب المحاذر
ويعجبنا أنا نرى فيك معجَبا ... مدلا على الأيام إدلال ظافر
بشوشاً تكاد العين تلمح قلبه ... وتسرد في نجواه نظم السرائر
إذا غامت الجلَّى تبلجت بينها ... تبلج ومض البرق بين المواطر
وتضحك والأتراح حولك جمة ... تخافك خوف الجن رجم الزواهر
وتبكي وأفراح الحياة كثيرة ... يحاذرننا من حولنا كالطوائر
فيا قرب ما بيني وبينك في الهوى ... ويا بعد شقّيْ دارنا في الخواطر
طوى الحب ما بيني وبينك من مدى ... فنحن قرِينَا موطن متجاور
أيا من رأى ليلاً وصبحاً تلاقيا ... وإلفين من صفو وشجو مخامر
لئن تخش مني الليل صعباً مراسه ... لقد بت أخشى منك شمس الهجائر
فيا لي من ليل بحبك موثق ... وثاق الضواري في كناس الجآذر
تطالع منه الهولَ سهلا مقاده ... رخاءٌ غواشيه، شجيَّ الزماجر
ويا ربَّ مرهوب السطا وهو مطلق ... إذا كُفَّ أضحى متعة للنواظر
أنا الليل فاطرقني على غير خشية ... ولجْ باب أحلامي وجلْ في حظائري
وسرْ حيث يخشى غيهب الليل نفسه ... وتعثر بالظلماء ظلماء كافر
لتعلم ما الدنيا إذا غال غولها ... وأنت أمين من طروق الدوائر
وتعلم أن الشمس تكذب قومَها ... إذا حدثتهم عن خفي وظاهر
فكم بين لألاء الضحى من مناظر ... طوتها يد الأحداث عن كل ناظر
فها هنا رجل يحب ويعبر في غزله عن هذا الحب، ولكن اليقظة التي ابتعثها الحب في(268/45)
نفسه وفكره تجعله جميعاً يتنبه إلى خصائص نفسه وخصائص من يحبه، ويلمح الفروق الواضحة بينهما التي يؤلف منه الحب وحدة ونظاماً! ثم تدخل في المضمار فلسفته العامة ونظرته إلى الحياة قيودها وطلاقتها، ضروراتها وأشواقها، فيتألف من ذلك كله غزل ناضج فريد على غير مثال
ومن حق الأدب علينا أن نشرح هذا كله في تلك الأبيات يعجب العقاد في حبيبه بالجمال، ولكنه لا يقف عند هذا الذي يدركه كل شاعر - إن أدركه هو على نحو خاص - فإنما يعجب فيه باغترار الصبا، والإدلال على الأيام إدلال ظافر، والبشاشة التي لا تفرض وجوداً لعبوسة الحياة
وإلى هنا يمكن أن يصل شاعر ممتاز. ولكن ما يعجب العقاد في هذا هو معنى أبعد وأرقى. إنما يعجبه من هذه الغرارة والبشاشة، غلبة الحرية على الضرورة في هذا الجميل، وغلبة الفرح الطليق على الانقباض الحبيس، وغلبة البشاشة الراجية على العبوسة اليائسة
ثم يلقى نظرة أخرى على هذين القلبين اللذين جمع بينهما الحب، فإذا أحدهما يضحك والأتراح حوله جمة، وثانيهما يبكي وأفراح الحياة حوله كثيرة، وهي مفارقة من مفارقات القدرة الخالقة في الحب، التي تهزأ بالظواهر والأشكال وتمزج بين العناصر أبعد ما تكون طبيعة وكنهاً. ويلتفت من هذا إلى أثر هذا المزاج العجيب، فإذا قلبه المرهوب بما فيه من آلام وجماح، وقد غدا مروضاً مذللاً بهذا القلب الآخر المشرق البشوش، فصار مأموناً لا يرهب، كما تشاهد الضواري موثقة فتكون مسلاة، وكانت وهي طليقة تبعث الرعب والفزع
ثم ينتهي من هذا إلى أحسن تعبير عن اطمئنان صاحبه إليه، والتذاذه بكشف مجاهل نفسه وغياهبها، في ظل الحب وحراسته وأمنه فيدعوه أن يجول في هذا القلب الوعر المرهوب ليستمتع بمشاهدة الخطر المأمون، ويعلم أن الشمس لا تكشف إلا الدنيا الظاهرة، وأن ليس غير الحب يكشف أعماق القلوب
مثل هذا لن يفهمه من يفهمون الغزل لهفة ودموعاً، أو فرحة واستمتاعاً؛ ولن يفهمه بطبيعة الحال من يريدون عواطف الحب قالباً مصبوباً من غزل العذريين أو البوهيميين في الشعر العربي المحدود. ولكنه أحق القول باسم (الغزل) وأدخل قول في العاطفة اليقظة المشبوبة، المنيرة بالحب حتى تكشف ما حولها، وتضمه بجناحيها(268/46)
ويقول في قصيدة بعنوان: (المغنم المجهول):
يا من عليه تلهفي وتلددي ... قد جرت فلتهنأ بأنك جائر
وأريتني ما لا ترى، ووهبتني ... ما لست تملكه. فما لك شاكر
محضتني سرَّ الحياة وسرُّها ... خاف عليك: جليله والضامر
أن الضياَءُ يرى العيونَ ولا يرَى ... والحسن يوقظ وهو غاف سادر
فلئن بخلت بما ملكت فحسبنا ... ما لست تملك. فهو عندك وافر!
أنسيتني نفسا وقد أذكرتني ... نفسا. خيرهما التي أنا ذاكر
لكشفت باطنها فقد أنكرتُها ... لما بدا منها القرار الغائر
فامنح وصالك أو قلاك فإنني ... راض بتلك الحالتين وصابر
وهنا أيضاً شاعر يتغزل، ويقول في أول هذه القصيدة ما ينتظر من شاعر مثله في الحب والجمال، ووصف هجر حبيبه وما يبعثه في نفسه من إحساس، ثم يتيقظ إلى ما أثاره هذا الحب في نفسه - مع الحرمان - وأنه وهبه ما كان مخبوءا عنه في أطواء نفسه، لا يعلم حتى هو بوجوده، وأن هذه الهبة لا يملكها الحبيب الهاجر، لذاته ولا لصاحبه، وأنها مغنم جليل يعوض عن المتاع والوجدان.
وندع العقاد نفسه يعبر عن هذه الأماني أدق تعبير حين يقول:
(إذا اعتلجت بالنفس عاطفة قوية أثارت رواكدها، واستفزت رواقدها، فانكشف للإنسان من نفسه ما لم يكن يعرف، واختبر من قواه وطباعه ما كان خافيا عنه، فصحح نظره في الحياة، وتغيرت بين يديه حقائق الأشياء فرآها كما ينبغي له أن يراها، لأن معرفة النفس مقياس معرفة الوجود، ومن أخطأ تقدير نفسه لم يصب في تقدير ما حوله، لأنه يقيس الأشياء بمقياس مختل مجهول
(والحب أقوى العواطف وأعمقها تفتيشاً في النفس. فهو ينبه فيها الإعجاب والعبادة والبغض والألم والغيرة والاحتقار والشفقة والقسوة، وكل ما تشتمل عليه من حميد الخصال وذميمها؛ فإذا وقف الإنسان على حقيقة نفسه، وقف على كل حقيقة يتاح له الوقوف عليها. وكان الجمال له معلماً يستفيد منه ما لم يعلمه الجمال نفسه، ومنعما يهبه ما لا يملك! كالشموس والأقمار التي تضيء للعين المنظورات، وهي بلا عين تبصر أو نفس تشعر.(268/47)
فإذا خسر الإنسان في الحب غرضاً أراده، ربح منه غرضاً لم يرده، وكان ما جاءه من الربح عفواً أكبر مما توخاه عمداً)
وهذا القول نفسه دليل من أدلة اليقظة التي يبعثها الحب في نفس العقاد اليقظة (المركبة) التي تتيقظ وتعرف أنها تتيقظ في الوقت ذاته. وهذا نادر في النفوس
وبين يدي ثلاثون مثالا على ما ذكرت على هذه الخاصة في غزل العقاد، بل لدي غزل العقاد كله يصدق هذا الكلام، ولكن حسبي المثالان السالفان، وإلى مقال آخر نستعرض الخصائص الأخرى هذا الاستعراض
(الإسكندرية)
سيد قطب(268/48)
فتاوى شرعية
معضلات العصر
للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
وزير معارف الحكومة المغربية
تتمة
نص الجواب على الأسئلة الأشفودرية
جواب السؤال الثاني:
إن الذي يأخذ مرتباً كبيراً من الدولة الأجنبية سواء الذي في بلاده أو في بلاد مجاورة إن كان يتقاضى ذلك في مقابلة عمل يضر بأحد كالجوسسة أو الوسوسة أو خدمة مؤامرة أو إيقاد فتنة أو إي ضرر آخر بفرد أو بالأمة، فالمرتب حرام وسحت، والفعل المذكور مذموم وخيانة عظمى، والجاسوس ملعون ومعلوم حكمه في كتب الفقهاء فلا نطيل عليكم به. ومن أحكامه إباحة دمه حسب نظر الإمام وكما تقتضيه المصلحة، ما لم يؤد ذلك إلى فتنة أعظم فللإمام النظر فيه. وبالجملة إن السؤال عن المرتب وهو سحت وحرام فأن لم يكن في مقابلة ذلك بل كان لأمر اقتصادي أو مرتباً عمريَّاً في خدمة مشروع أو نحو ذلك مما لا ضرر فيه على أحد فلا شيء فيه
جواب السؤال الثالث:
. . . في الطرق الصوفية التيجانية أو غيرها. . .
إن هذا السؤال كان سألني عنه شيخ الإسلام المقدس المبرور سيدي احمد بيرم التونسي بذاته وكنت أجبته مشافهة بمحضر جمع من علماء تونس والجزائر ومنهم العلامة صفينا سيدي الحاج أحمد سكيرج، أحد عظماء الطريقة التيجانية الأعلام
وهأنذا أكتب لكم ملخص الجواب الذي أجبته به بمحضرهم بمعناه: إن الطرق الصوفية تجانية أو غيرها، إنما حدثت في الإسلام لجمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة الغراء إقامة كاملة كافلة تطهير النفوس من الأخلاق الذميمة، وتحليتها بحلية مكارم الأخلاق ضمن دائرة العمل بالكتاب والسنة والمحافظة على أنفاس العمر ألا تضيع في سفاسف الأعمال،(268/49)
مع التراحم والتواد بين عموم المسلمين كما أشرت لهذا في كتابي (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) في الربع الثالث منه عند الكلام على تاريخ علم التصوف، وقد بسطته أتم بسط في كتابي (برهان الحق في الفرق بين الخالق والخلق) حيث تكلمت على الكثير من الطرق ومنها الوهابية
فكل طريقة وجدناها تخدم الإسلام بإخلاص سائرة على هذا المبدأ سيراً مستقيما فأنعم بها وأكرم؛ وكل طريقة حادت عن هذا المبدأ نبذناها نبذ المستقذرات وتبرأنا من عملها تبرؤ إبراهيم من أبيه. أن سيدي الوالد المقدس كان من أتباع الشيخ التيجاني - رحم الله الجميع - وكان يؤكد لي أن الشيخ كان يقول لأصحابه: زنوا كلامي بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما فخذوه، وما خالف فانبذوه. فنحن نعمل بوصية الشيخ ونزن ما ينسب إليه بعض الجهلة من أصحابه إليه الذين لا يفرقون بين النبي والولي ولا بين الخالق والمخلوق - بميزان الشريعة، ثم نفعل ما أمرنا به قدس الله روحه
وعلى هذا فالقولة التي شاعت وذكرها بعض المؤلفين منهم ونسبها للشيخ وذكر أنه وجدها بخطه وهي: أن صلاة الفاتح لما أغلق تعادل ستين سلكة من القرآن أو ثمانين. ثم جاء بعض المؤلفين منهم فزاد صفراً وقال ستمائة، ثم جاء محشيه وزاد صفراً ثانياً وقال ستة آلاف سلكة
نقول إنا عرضناها على الكتاب والسنة فلم نجد إلا ما يردها وينبذها لأنها تقتضي كناية وهي أبلغ من التصريح أنها أفضل من الصلاة الإبراهيمية التي صحت بها الأحاديث بل ومن القرآن أيضاً وأن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق (ولذكر الله أكبر)
دعني من فرية أنها من الكلام القديم فمثل هذا لا ينطلي حتى على المغفلين ولا يلتفت إليه المؤمن بالله الذين يعلمون أن الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن إلمامات المتصوفة والمرائي المنامية لا قيمة لها في الحجية عند كافة أهل العلم والدين المعتد بهم؛ والثواب على الأعمال ومقداره عند الله لا يدرك إلا بطريق الوحي الحقيقي ولسان النبوة الناطق؛ خلافاً للمعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين؛ وأن العقل يستقل بمثل هذا
ومن المكر الخفي والكيد للإسلام المنطوي تحت هذه المقالة تزهيد الناس في القرآن العظيم وفي تلاوته ثم الأعراض عنه إلى ما هو أخف عملاً وفي الميزان أثقل في زعمهم الباطل(268/50)
وإني لأعجب لمسلم استنار قلبه بنور القرآن يقبل هذه المقالة الشنعاء في الإسلام فلا حول ولا قوة إلا بالله
لذلك إذا أحسنا الظن بالشيخ - كما هو شأن المسلمين مع سلفهم الصالح - واعتقدنا فيه الكمال، فلنكذب نسبتها للشيخ ونسترح، فإن الاشتغال بتأويل كلام غير المعصوم من العبث وتضييع الوقت. ثم لأن سند نسبة المقالة للشيخ واه من أصله لضعف سند الوجادة إن صدقنا من قال إن الخط خط الشيخ. وقد جرب المحدثون التغفل على الكثير من العباد والمتصوفة، لذلك ضعفوا رواية كثير منهم كما هو مقرر في فن المصطلح. كما أننا جربنا الكذب والبهتان والتغفل والبله على كثير من الأتباع لما يحملهم عليه التعصب الطرقي والتحزب المذهبي وحب انتشار الطريق، لأن ذلك من أساليب الارتزاق، واستغلال استبلاه المغفلين الجاهلين، يحببون إليهم الطرق بتكثير ثواب الأعمال وطرح المشاق وسهولة الوصول وتخفيف المسؤوليات أمام الله.
فيقولون للمريد: من عمل في طريقنا قليلاً كان له أكثر من الأجر الذي يكون لغيرنا بأضعاف. فإذا كان لمطلق المسلم ليلة قدر واحدة في السنة فالتجاني كل لياليه ليلة القدر. وإذا كان لغيرنا على الحسنة عشر حسنات فلنا آلاف الحسنات؛ وإذا كان غيرنا عليه حساب ومسؤولية أمام الله ثم عقاب، فنحن ندخل الجنة بغير حساب. نحن لنا سيد أحمد التجاني ضامن وهم لا ضامن لهم؛ وكل تجاني يحضر سيدي أحمد لقبض روحه. إلى غير هذا مما هو معلوم لدى كل من خالطهم، فيصورون له طريق التجانية بأجمل صورة يتصورها الوهم. فكأنها ورقة حماية من دولة لها سلطة عالمية، تعلى من يجير ولا يجار عليه، فكأنهم نسوا القرآن
فبهذا صارت الطريقة التجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرار ضد الإسلام
فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهم يقولون في الشيخ التجاني هو الختم، وهو لبنة التمام للأولياء، فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة؛ وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا أن التجاني رجله على رقبة كل ولي لله بهذه العبارة الجافة من كل أدب والجارحة لعواطف(268/51)
كل مسلم، لأن الولي في عرفهم يشمل النبي، إذ يقولون إن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصحابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب؛ ولم يكن عندهم بشارة النجاة منهما. إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
حكي لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلاً في البادية. وقد تقصيت الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون على الحقوق؛ وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعاً تجانيون، فبقيت متحيراً حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب بترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم. كل هذا سببه الفساد الذي أدخله جهال الطريق عليها فأفسدوها وانعكس المقصود من الطرق التي كان يقصد منها ردع الخلق عن المعاصي والتوبة منها وزيادة خوف الله فصارت إلى أمن مكر الله، وإزالة مخاوف الآخرة من عقولهم فلا يبقى في قلوبهم ذرة من خوف الله وإنما تمتلئ بتعظيم شيخهم حتى تتراءى لهم عظمته فوق عظمة الله ورسوله
ومعتقدي في الطريق التجانية الحقيقية نزاهتها عن هذه الهذيانات وهذه الإباحة المقنعة إذ كان فيها فحول الدين وأساطين العلم، مثل أشياخنا: مولاي عبد الملك العلوي الضرير سيدي محرب التهامي الوزاني، سيدي الوالد المقدس، سيدي الحاج محمد بن محرب عبد السلام كنون، سيدي أحمد بن أحمد بناني. . . ومن قبلهم كسيدي إبراهيم الرياحي التونسي ومن قبله، ومن بعدهم ممن هم موجودون الآن وفر الله جمعهم ووفقهم للقيام بأحكام الطريق. وقد ذكرت في الفهرست وفي الفكر السامي تراجم جملة منهم. وكانوا سرج هدى في علوم القرآن والسنة والوقوف عند أمرهما؛ وحاشاهم أن يتمذهبوا بطريق تؤسس على ما يوهم خلاف عظمة الإسلام والشرع الإسلامي أو يرضوا بذلك وهم من هم علماً وديناً وورعاً وذباً عن الإسلام وغيرة عليه. ومنهم من كان يذكر هذه الزوائد علناً، ومنهم من أنفصل عن الطريق لأجلها كسيدي الفاطمي وغيره رحمة الله عليه
أما كتاب (جواهر المعاني) الذي ألفه أحد العوام من أصحاب الشيخ التجاني، فأخذ أكثره حتى الخطبة بلفظها من كتاب (المقصد الأحمدي) الذي ألفه قبل الشيخ التجاني سيدي محمد(268/52)
ابن الطيب القادري في مناقب سيدي أحمد بن عبد الله معن الأندلسي، والمقصد الأحمدي قد طبع فبان عوار جواهر المعاني حتى الشعر الذي قيل في سيدي أحمد بن عبد الله أخذه بنفسه وجعله في الشيخ التجاني ونقل الفضول بلفظها، بل كل ما وصف به سيدي أحمد بن عبد الله جعله وصفاً لشيخه ظاناً أن اتحاد الاسم اتحاد للوصف. وذلك ما يدلك على براءة الشيخ التجاني من كل ما تضمنه الكتاب المذكور
ومن أغلاط أدباء هذه الطائفة وغلوِّهم المفرط أنهم جعلوا قانوناً لطريقتهم ضمنوه مختصراً على لهجة مختصر الشيخ خليل المالكي نسقاً وأسلوباً، وبينوا فيه الأحكام الخمسة من وجوب وحرمة وندب وكراهة وجواز كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى (إن الحكم إلا لله)
ومن عجيب أمرهم أنهم جعلوا حكم الردة عن طريقهم أقسى وأهول من حكم الردة عن الإسلام
فإن من ارتد عن الإسلام تقبل توبته ولو تكررت: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) الآية. أما من أرتد عن الطريق التجاني فلا تقبل توبته وليس له إلا الخلود في النار والموت على سوء الخاتمة، ويبقى عندهم ملحوظاً بتلك السمة، ولا مطمع في قبول توبته، ولو أناب ورجع لطريقهم. ويظن بعض أنه لو كانت لهم سلطة متمكنة لقتلوه وما استتابوه
فعملهم هذا يتخيل منه أن لهم برنامجاً خاصا يستدرج طريقهم لتصير ديانة مستقلة عن الإسلام. . . حكي لي أن محمد الأمين الشنقيطي لما ألف المختصر المذكور ظاناً أنه عمل عملاً عظيماً حميداً - جاء به إلى الأستاذ العارف سيدي العربي الموساوي ساكن زرهو، وهو من علماء هذه الطائفة الكبار ومقدميها الأخيار؛ فلما اطلع عليه وبخه توبيخاً عنيفاً قائلاً: أتجعلون طريقنا مسجد الضرار للإسلام؟ السنة تجمعنا والبدعة تفرق بيني وبينكم، أو ما هذا معناه. ولم يقدروا على إظهار هذا المختصر إلا بعد وفاة هذا السيد الجليل رحمه الله. وبعد موته وجد في تركته فسرقه من سرقه ونسبه لنفسه وطبع ونشر فكان موت الأكابر زلة الأصاغر
لقد وقع مثل هذا في الديانات تسلط عليها الجهلة فأفسدوها ظانين الإصلاح فكيف بالطرق؟
وهذه صورة مصغرة ترينا كيف وقع في الديانات حتى اختل نظامها وطمست أعلامها وهرمت بالقلب والإبدال الذي أشار إليه القرآن. . .(268/53)
وإذا لم يتدارك هذه الطريقة علماؤها بحذف ما زيد فيها، وإبطال كل ما خالف القرآن والسنة ونبذ كل تأويل وتضليل فإنها تؤول للاضمحلال، إذا الإسلام أفاق من سكرته، ولم تعد أفكار أهله تقبل أدنى شيء يمس بجوهر أصول الكتاب والسنة أو يخالف العقل الصحيح
وتمسكوا أي تمسك بقاعدة أن الدين لا أمت ولا عوج؛ وهو ما بين دفتي المصحف والبخاري ومسلم وصحيح السنة من رواية العدول الثقات دون المغفلين الجاهلين، ورموا خلفهم كل ما خالف ذلك غير ملتفتين لتأويل المؤولين وتظليل المرتزقة المضللين
وإني على يقين أنه بانتشار التعليم الصحيح المؤسس على الأصول السابقة، تنكمش تعاليم المخرفين وتظهر رداءة نفوذهم المزوَّرة، فتنكشف صبغة نفوذهم المدبرة بإشراق شعاع شمس الكتاب والسنة والعقل الصحيح؛ فاجتهدوا في تعليم أولادكم الدين القويم قبل أن يسبق إلى قلوبهم أي تعليم آخر سواه؛ فهو يناضل عن حوزته لأن برهانه في نفسه: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). (إن الله متم نوره ولو كره الكافرون) وعليكم سلام الله ورحمته من منبطه وجامعه معتذراً بقصوره وكثرة شواغله
(الرباط)
محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري(268/54)
تيسير قواعد الأعراب
لأستاذ فاضل
- 4 -
وذلك التكلف في نيابة المجرور عن الفاعل في نحو - مُرَّ بزيد - هو ما ذهب إليه جمهور النحاة. وهناك تكلفات أخرى فيه، منها أن النائب ضمير مبهم مستتر في الفعل، وبه أخذ ابن هشام وغيره
ومنها أن النائب ضمير عائد على المصدر المفهوم من الفعل، وبه أخذ ابن درستويه والسهيلي والرُّنديُّ
ومنها أن النائب حرف الجر وحده في محل رفع، وبه أخذ الفراء. وقد قال أيضاً بأن الحرف في محل نصب بعد الفعل المبني للفاعل في نحو - مررت بزيد - وهو عندهم مذهب في غاية الغرابة، لأن الحرف لا حظ له في الأعراب أصلاً، ولكنه عندنا مذهب يؤيد ما ذكرناه من أن مسألة الأعراب والبناء مسألة تقديرية، ويجعل ما ذهبنا إليه من الأعراب الظاهر في الحرف مذهباً قريباً سائغاً، لأنه أقرب من ذلك الأعراب المحلى الذي يتكلفه الفراء فيه
فالمذاهب في ذلك أربعة كلها متكلفة. ومذهبنا أن الجار والمجرور متعلق بالفعل، وتعلقه به في ذلك كتعلقه به في نحو - مررت بزيد - وإذا بطلت النيابة عن الفاعل في ذلك بطلت في غيره، ولا شيء في أن يكون لنا مفعول به منصوب ومفعول به مرفوع، ولا في أن يكون لنا مبتدأ مرفوع ومبتدأ منصوب، ولا في أن يكون لنا خبر مبتدأ مرفوع وخبر مبتدأ منصوب، فإن هذا كله لا يبلغ الأمر فيه أكثر من أن يكون مثل الفعل المضارع في رفعه ونصبه وجزمه، فهو فعل مضارع في جميع حالاته، مع أنه قد تأثر في لفظه ومعناه بدخول عوامله عليه كما تأثر المبتدأ والخبر عواملهما، فليكونا مثل المضارع في ذلك، وكذلك غيرهما مما ذكرنا
متعلق الظرف وحروف الجر
قسم النحاة هذا المتعلق إلى قسمين: متعلق عام كمتعلق - زيد عندك أو في الدار -(268/55)
ويقدرونه - كائن أو استقر - وهو عندهم واجب الحذف، ويعربونه هنا خبرا
الثاني متعلق خاص كما في نحو أنا واثق بك، وهو الخبر أيضا وترى جماعة أن المتعلق العام لا يقدر، وأن المحمول في مثل - زيد عندك أو في الدار - هو الظرف والجار والمجرور لا المتعلق. ونحن نرى أن الخطب في هذا سهل، وقد ذهب إلى مثل ذلك الرأي بعض النحاة، فهو رأي قديم معروف، وليس برأي جديد لهذه الجماعة
الضمير
ترى الجماعة إلغاء الضمير المستتر جواز أو وجوبا. فمثل - زيد قام - الفعل هو المحمول ولا ضمير فيه، فليس بجملة كما يعده النحاة، وهو مثل - قام زيد - ومثل - الرجال قاموا - الفعل محمول اتصلت به علامة العدد ولا يعتبر جملة، ومثل - أقوم ونقوم - الفعل محمول والهمزة أو النون إشارة إلى الموضوع أغنت عنه
والجماعة هنا تناقض نفسها، فبينما ترى الاستغناء عن الضمير المستتر جوازاً أو وجوبا ترجع إلى تقديره في مثل - أقوم ونقوم - وتجعل الهمزة والنون دليلا عليه، ولا بد لها أيضا من تقديره في مثل - قم - بدون أن يكون هناك ما يدل عليه من همزة أو نون، وإذا رجعنا إلى التقدير في الضمير المستتر وجوبا فلنرجع إلى التقدير في المستتر جوازا من باب أولى، لأن جواز ظهوره فيه دليل على وجوده عند عدم ظهوره، بخلاف الضمير المستتر وجوبا، فأنه لا يجوز ظهوره كما يجوز ظهور الضمير المستتر جوازا
وقد غفلت الجماعة عما يجب من ربط الخبر بالمبتدأ، فلم تقدر الضمير في مثل - زيد قام - مع أن الضمير هاهنا واجب التقدير لأجل ما يجب من هذا الربط في هذا المثال ونحوه
التكملة
وترى الجماعة أن كل ما يذكر في الجملة غير الموضوع والمحمول فهو تكملة، وحكم التكملة أنها مفتوحة أبداً إلا إذا كانت مضافاً إليها أو مسبوقة بحرف جر، ثم ذكرت أن التكملة تجيء لبيان الزمان أو المكان، ولبيان العلة، ولتأكيد الفعل أو بيان نوعه ولبيان المفعول، ولبيان الحالة أو النوع؛ وقد ظننت أنها بذلك جمعت كثيراً من الأبواب كالمفاعيل والحال والتمييز تحت أسم واحد وهو التكملة دون أن تضيع في ذلك غرضاً(268/56)
ونحن نرى أنها لم تفعل في ذلك شيئاً، فقد كانت هذه الأبواب يجمعها قديماً أسم الفضلة، فلم تفعل الجماعة إلا أن جمعتها تحت أسم التكملة، ثم قضى عليها ما بينها من خلاف أن ترجع إلى تفريقها في بيان اختلاف أغراضها، وكذلك يقضي بهذا التفريق اختلاف أحكامها وأحوالها، فكل واحد منها لابد له من باب تجمع فيه أحكامه، وتبين فيه أحواله، وهذا أوفى بضبطها من جمعها كلها في باب واحد تحت أسم التكملة، وليس هناك ما يدعو إلى جمعها في باب واحد. وقد حاولنا أن نجمع فيها مثل ما جمعنا في باب المبتدأ والخبر فوجدناها أبواباً مختلفة المعنى، متميزة الغرض، ولم نجد إلا أن نتركها على حالها
الأساليب
ذكرت الجماعة أن في العربية أنواعاً من العبارات تعب النحاة كثيراً في إعرابها وفي تخريجها على قواعدهم مثل التعجب فله صيغتان هما - ما أجمل زيداً، وأجمِلْ بزيد - فرأت أن تدرس أمثال هذه العبارات على أنها أساليب يبين معناها واستعمالها ويقاس عليها، أما إعرابها فسهل - ما أحسن - صيغة تعجب والاسم بعدها المتعجب منه مفتوح، و - أحسن - صيغة تعجب أيضاً، والاسم بعدها المتعجب منه مكسور مع حرف الجر
ونحن نرى أن هذا أعراب ناقص لا يبين معنى الجملتين، وأنه لا شيء في أن نختار من إعراب النحاة فيهما أقربه إلى الفهم وأدناه إلى تصوير المعنى المراد من اللفظ، فالصيغة الأولى - ما أحسن زيداً - ما فيها أسم بمعنى شيء أبتدئ به لتضمنه معنى التعجب، وأحسن فعل ماض، وزيداً مفعول به، والمعنى شيء عظيم أحسن زيداً. والصيغة الثانية - أحسن بزيد - أحسن فيها فعل أمر، وفاعله ضمير المخاطب، والجار والمجرور متعلق بفعل الأمر، والمعنى أعجب بحسن زيد؛ فهذا إعراب تام عرف فيه موقع كل كلمة من هذا الأسلوب، وليس فيه ما يمكن أن تأخذه هذه الجماعة عليه
وقد انتهت الجماعة بهذا من رأيها في تيسير قواعد الإعراب ثم سكتت عما وجه إليها من النقد، لأنها قد أخذت فيه بأمور لا يمكنها أن تدافع عنها. ولا أدري ما يسكتها عنا وقد ذهبنا في نقدها مذهباً يتفق مع غايتها في إصلاح قواعد الإعراب، ويذهب في ذلك إلى أكثر مما ذهبت إليه، ويقوض من القواعد القديمة ما لم تمن به من يوم أن دونها الأقدمون من النحاة
وسيكون ما ذهبنا إليه من ذلك فخراً جديداً للأزهر الذي تناسته وزارة المعارف في هذا(268/57)
الإصلاح الذي ظنت أنها تقدر بدون الأزهر عليه. وسيكون مذهباً نحوياً جديداً تباهي به مصر في عهد الفاروق نحاة البصرة والكوفة في عهد الرشيد والمأمون، ويقف به الأزهر مجدداً مجتهداً في النحو، وينفض عنه غبار التقليد الذي تراكم عليه حتى ناء به
وأما حظي من هذا المذهب فإني أدخره للمستقبل الذي يمكنني أن أصرح فيه باسمي، وآمن فيه على نفسي مما يمكن أن يصيبني بمخالفة المألوف في النحو من يوم خلقه وتدوينه، وأجد في الأزهر من يعنى بما جئت به من ذلك على خلوه من المآخذ التي أخذت بها جماعة وزارة المعارف، ومع هذا تجد هذه الجماعة من وزارة المعارف عناية بعملها، فتعرضه على رجالات العلم هنا وهناك، ولا يضيق صدرها بمخالفته للمألوف في ذلك العلم، وهذا أمر نحمدها عليه، وندعو الله تعالى أن يقرب ذلك اليوم الذي يأخذ فيه الأزهر بمثله
(أزهري)(268/58)
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
- 2 -
ولم يصل الاشتغال ببقية العلوم الإسلامية بالقرويين إلى درجة الاشتغال بالفقه ولكنه لم يقصر عنها كثيراً؛ فكانت علوم الحديث والتفسير والأصول مما لم ينقطع تدريسه في الكلية في أي عصر حتى العصور المتأخرة. حين كان بعض هذه العلوم في بلاد أخرى لا يقرأ إلا للتبرك بسرده. وكانت هذه الدراسة مجال البحث والاستنتاج وفرصة المحاضرات القيمة في التربية والتهذيب، وحسبك أن تقرأ وصف مجلس من مجالس العلامة أبي القاسم العبدوسي الذي قضى التونسيون العجب منه في ذلك الوقت وأن تعلم أن ابن الصباغ أحد رجال هذه الجامعة أملى علي حديث: يا أبا عمير ما فعل النفير 400 فائدة
ومن ثبت أسماء النابهين في هذه العلوم وأسماء مؤلفاتهم تدرك مبلغ القيام الذي كان لأهل القرويين عليها. ونحن نذكر بعض البعض ممن نعرفهم ونعرف انقطاعهم في الكلية الذي تنقطع دونه الأطماع، ولا يمنعنا من التبسط في شرح ذلك إلا إرادة الإيجاز وخوف الإملال وهؤلاء مثل العالم الصوفي الجامع علي ابن حرزهم المتوفى سنة 550 والمتكلم أبي بكر السلالجي صاحب البرهانية في علوم الاعتقاد، كان يعد في طبقة أبي المعالي الجويني؛ توفى سنة 564، والمفسر المحدث ابن عبد الجليل القصري المتوفى سنة 615، والمفسر الأصولي أبي عبد الله المزدغي المتوفى سنة 655 والمحدث الرواية ابن رشيد السبتي المتوفى سنة 692، والعالم الصوفي الجامع الشيخ زروق المتوفى سنة 899، والحافظ أحمد بن يوسف الفاسي المتوفى سنة 1021، والحافظ أبي العلاء العراقي المتوفى سنة 1183 والمفسر المتكلم الشيخ الطيب ابن كيران المتوفى سنة 1227
ولا ننس أن ننبه إلى ما كان لعلوم القراآت من شأن كبير في الكلية فقد كانت العناية بها شديدة في كل عصر، وكان يتخصص فيها كثير من العلماء فضلا عن مشاركة جمهورهم فيها، لأن أوائلها كانت تتلقى في الكتاتيب القرآنية التي ما كان يتولاها إلا كبار الأساتذة المتحققين بتلك العلوم وغيرها. تأتي هي الثانية بعد الفقه في برنامج العلوم التي كانت تدرس في القرويين وفي جميع المغرب. ويكفيك أنه كان لطلبتها مدرسة خاصة بهم هي(268/59)
مدرسة السبعيين (أي القراء بالروايات السبع) الواقعة بازاء مدرسة الأندلس والتي كانت قد درست معالمها وأغلقت منذ مدة ثم هي الآن قيد الإصلاح والترميم.
ومن نبغاء خريجي القرويين في هذه العلوم ميمون الفخار صاحب التحفة والدرة وغيرهما المتوفى سنة 716 وابن بري صاحب الدرر اللوامع المتوفى سنة 731 والخراز صاحب مورد الظمآن المتوفى سنة 818 وسواهم كثير.
وأما علوم اللغة والأدب فقد ظلت الكلية رافعة رايتها منذ انبثاق فجر النهضة العلمية في المغرب على عهد المرابطين إلى يوم الناس هذا. ومر عليها زمن لم يكن ينافسها معهد آخر أيا كان في أداء رسالة الأدب العربي والقيام على حفظ تراثه من الضياع، وذلك حين يقول الشيخ محمد بيرم الخامس في كتابه (صفوة الاعتبار): (لعمري أن صناعة الإنشاء في الدولة باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على دولة مراكش)
ولقد درج في الكلية من فطاحل علماء اللغة وكبار أهل الأدب ما بقي فخراً لها على مر السنين والأعوام، مثل الشاعر الأديب يحيى بن الزيتوني الذي قهر ابن زيدون في بلاط ابن عباد، والشاعر الباقعة ابن حبوس الفاسي، والعلامة ابن رقية من ذرية المهلب ابن أبي صفرة كان حجة في الأدب وله كتاب في الشعر والأنساب توفى سنة 606هـ. والشاعر المشهور أبي العباس الجراوي الذي يعد من مفاخر هذه العدوة، وصاحب كتاب صفوة الأدب وديوان العرب المعروف بالحماسة المغربية الموجود مختصره في مكتبة بالأستانة توفى سنة 609 بعد وفاة المنصور الموحدي مخدومه بنحو 14 عاماً خلاف قول ابن خلكان أنه توفى في آخر أيامه. والشاعر الفيلسوف أبي العباس الجزنائي الذي كان محفوظه من شعر المحدثين فقط عشرين ألف بيت. توفى سنة 479؛ والنحوي أبي عبد الله بن آجروم المشهور المتوفى سنة 723؛ والنحوي اللغوي أبي زيد المكودي المتوفى سنة 807 والنحوي أبي العباس القدومي المتوفى سنة 992، والأديب الشاعر الناثر عبد العزيز القشتالي، مفخرة المغرب في عصره، المتوفى سنة 1032؛ والنحوي محمد المرابط الدلائي المتوفى سنة 1089؛ والشاعر الأديب أبن زاكور شارح الحماسة والقلائد وصاحب كثير من الكتب الأدبية القيمة المتوفى سنة 1120؛ والشاعر الرقيق ابن الطيب العلمي صاحب الأنيس المطرب المعروف المتوفى سنة 1134؛ وإمام أهل اللغة في عصره أبي عبد الله(268/60)
محمد بن الصميلي صاحب الحاشية الفريدة على القاموس الذي استقى منها كثيراً السيد مرتضى صاحب (التاج)، وعنه يعبر بشيخنا وله عشرات الكتب غيرها في اللغة والأدب توفى سنة 1170، إلى غير ذلك. . .
بقى الكلام في العلوم الفلسفية بمعناها القديم الذي يشمل الرياضيات والطبيعيات ومنها نوعان لهما ماض زاهر في الكلية، فمنذ انضمام الأندلس إلى المغرب في أيام المرابطين، جعل الاحتكاك بأهل الجزيرة يفعل فعله في توجيه أنظار أهل هذه البلاد إلى الأخذ بأسباب تلك العلوم، وكان أن انتقل إلى هنا - بانتقال الدولة - كثير من علمائها المتحققين بأجزائها فتهافت عليهم طلبة القرويين يقتبسون من مشكاتهم ويأخذون بأدواتهم فما لبثوا أن شاركوهم في جميع تلك التعاليم ونظروا إليها نظرتهم ونبغ منهم أفراد كثيرون كان لهم قياس (حس) على فنون من العلم الطبيعي والرياضي والإلاهي وآثار جميلة في جميع ذلك وما برحوا عاملين على بثها ونشرها والتواصي بتبليغها وتلقينها لمن يأتي بعد جيلاً فجيلا حتى تأدت بقية منها إلى العصر الحاضر في مظهر من البلى والقدم لا يٌرضي أنصارها ومحبيها وإنما كان ما تحت ذاك المظهر لا يزال يحوي كثيراً من الفوائد القيمة والحقائق العلمية الثابتة
فمن رسل الثقافة العلمية من أهل الأندلس إلى المغرب أبو بكر ابن باجة الفيلسوف والعالم الطبيعي والرياضي والطبيب والموسيقار المشهور، وأبو العلاء بن زهر الطبيب البارع المدقق في شتى الأمراض، وابنه أبو مروان صاحب كتاب التيسير في المداواة والتدبير، والذي أثر تأثيراً بليغاً في الطب الأوروبي بترجمة كتبه وهو ميت فكيف يكون تأثيره في المغرب وهو حي؟ وأبو بكر ابن طفيل الفسكسي والطبيب والفيلسوف المشهور صاحب قصة حي بن يقظان وأبو الوليد بن رشد الذي ما أثر تأثيره أحد في نهضة العلوم بأوربا. وقد كان في بلاط الخليفة الموحد يوسف ابن عبد المؤمن الذي بلغ في رعايته وإكرامه وهو الذي حمله على شرح كتب أرسطو وتلخيص فلسفته
ومن الأفراد النابغين في هذه العلوم من أبناء البلاد الذين درجوا من الكلية وتخرجوا فيها العلامة أبو الياسمين كان فرداً في العلوم الرياضية من هندسة ونجوم وعدد، وله أرجوزة في الجبر قرأت عليه بأشبيلية سنة 587 وكان هو الذي نشر ذلك العلم بها. ويوسف بن مأمون الإسرائيلي الطبيب والرياضي الكبير قرين موسى بن ميمون وصاحبه بمصر(268/61)
واجتمع هو وإياه على إصلاح ابن افلح الأندلسي. وهذا وان لم يدرس بالقرويين فإن تخرجه على يد علمائها لأنه من أهل فاس وبها درس كما يقول ابن القفطي. وابن البناء العدوي، العلامة الرياضي والفلكي والطبيب المشهور له موضوعات كثيرة في الحساب والجبر والفلك وغير ذلك وتفوق على كثير من علماء الرياضة قبله سواء في الشرق أو المغرب وخاصة في حساب الكسور، توفى سنة 721؛ وابن أبي الربيع اللجائي العالم الرياضي الفلكي المبدع له أعمال متفوقة وآلات نافعة في علم الهيئة، وكانت وفاته سنة 773 والعلامة الجادير صاحب روضة الأزهار في علم الهيئة المتوفى سنة 818؛ وأبي الفديم الوزير الطبيب والعالم النباتي المشهور صاحب مدينة الأنوار في شرح ماهية العشب والأزهار، وكان طبيب المنصور الذهبي الخاص. وأبي القاسم الغول العالم الرياضي والطبيب مؤلف كتاب حافظ المزاج ولافظ الأمشاج المتوفى سنة 1059 وابن حميدة المطرفي صاحب المقرب في الهيئة المتوفى سنة 1001، وأبي سليمان الشروداني الفيلسوف والرياضي البارع له أعمال وآلات لم يسبق بها في الفلك توفى سنة 1095 وعبد الرحمن العبابي العلامة الطبيعي والرياضي والفيلسوف مؤلف الأنتوم في مبادئ العلوم تكلم فيه على زهاء (150) علما واستوعب نظرياتها واستوفى حدودها فهو من الموسوعات العظيمة الفائدة توفى سنة 1096، وعبد الوهاب أدران الطبيب المدقق صاحب الذيل على أرجوزة ابن سينا وغيره من الكتب الموضوعية المتوفى سنة 1159، وعبد القادر بن شقرون صاحب الشقرونية وغيرها في الطب، وكثير غير هؤلاء لم نشر إلى أسمائهم اختصاراً لحصول المقصود من الرسالة على ما قامت به هذه الجامعة في الماضي من نشر الثقافة العلمية وتأدية رسالة العربية كما حملت. ولهذا لا يستغرب أن يؤمها الطلبة من أقصى بلاد أوربا وغيرها، فهناك في تلك العصور التي يدعونها عن حق - بالعصور المظلمة - لم يكن قد تقرر للعلم مدلول بعد. وقد اشتهر كثير ممن درس فيها من الأجانب وكان لهم تأثير قوي على العقلية الأوربية في ذلك الحين، ومن أعظمهم البابا سلفستر، الذي هو أول من أدخل إلى أوربا الأعداد العربية التي لا تزال مستعملة في المغرب إلى الآن وتعرف بحروف (الغبار) أو (بالغباري) بدون إضافة
ثم إن نظام الدراسة في القرويين لا يختلف عما هو عليه في الجامعات الإسلامية الأخرى،(268/62)
كما لم يختلف عما كان عليه منذ الأزمان المتطاولة: يجلس الأستاذ فيحلق عليه الطلبة ويأخذ في إملاء درسه الذي يكون في الغالب تفسيراً لمتن وتقريراً لأقوال شراحها ونظراً فيما بينها من الاختلاف، وقد ينجر به الحديث إلى الخروج عن الموضوع، إنما إذا كان ضليعاً في مادته واسع الاطلاع عظيم المحفوظ فلا خوف على الطالب من ذلك الخروج، بل أنه ليستفيد منه ما لا يقدر أن يجده في كتاب أو يهتدي إليه بمجرد فهمه
وإذا كان الطالب ممن لازم الحضور بمجلس أستاذ ما، وظهرت عليه مخايل النجابة فانه يحق له أن يتقدم إلى ذلك الأستاذ بطلب إجازة تكون - كأنها أهم ما أنشأه في حياته الدراسية - بمثابة أطروحة منها تتقرب منزلته في التحصيل
(يتبع)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني(268/63)
رسالة الشعر
مَيّ
للأستاذ إبراهيم العريض
وَلما تفيَّأنا ظِلاَلَ خَمِيلَةٍ ... تُساَقِطُ مِثْلَ الدُّرِّ فوق خُطاناَ
وحدَّثتُهاَ بالْحُبِّ وَهْيَ مُصِيخَةٌ ... عَلَى أَمَلٍ أَن تلتقيِ شفَتَاناَ
أشاحتْ إلى الأزهارِ عنِّي بوجهِها ... دَلاَلاً وقالت لي كفَى هَذَياناَ
أَتأملُ مني أن أُصَدِّقَ بالهوَى ... جُزافاً. وطرْفي لا يراهُ عياَناَ
فقلتُ لها يا مَيُّ ما الروضُ ناضِراً ... ولا الطيرُ أحلى ما يكونُ لِساناَ
بِأَحْسَنَ من خَدٍّ تَوَرَّد في الصِّبا ... وأعْذب من ثغر يفيضُ بيَاناَ
لقد كانَ أَولى أن نمتِّعَ بَعضْنَا ... بأَنظارِ بعْضٍ في جُنونِ صِباناَ
وَما قِيمة الأزْهَارِ في جانِبِ الهوى ... أَليسَ الهوَى يا مَيُّ أعظَمَ شاناَ
أُنَاشِدُكِ الْحُبَّ الذي عَهْدُنا بهِ ... سوِيّاً كأخْفَى ما يكونُ مكاناَ
ألم تَشْعُري شيئاً تمثَّلَ بينْنَاَ ... لأَوَّلِ عهدٍ تمَّ فيهِ لِقاناَ
أَبعْدَ تعاطِينا مَعاً كأسَ أُلْفَةٍ ... يجوزُ لنا ألا نحِسَّ صَداناَ
فماَلكِ تَسْتَعْدِين قلبي عَلَى الهوَى ... كأنَّكِ ما شاطرْتِهِ الخفَقاناَ
تعالَيْ إلى عَهْدٍ وَثيقٍ من الهوَى ... نعِيشُ عليهِ في الْحَياةِ كلاناَ
فلا يَزْدَهِي قلبي بِشَيءٍ مُؤَمّلٍ ... إذا لم يُصَادِفْ في فُؤَادِكِ شاناَ
ونُفرِغُ في كأسِ الأمانِيّ حُبَّناَ ... فتَسعَى بِهِ ما بيْنَناَ شفَتاَناَ
وَلا نْلَتقِي إلا كما لَفّتِ الصَّبا ... فُروعاً تفيَّأنا بِهن أَماناَ
ونختالُ في رَوْضِ المحبَّةِ وَحْدَنا ... فلا يتَغَنّى طَيْرُها لِسِوَانا
وإن تَعْهَدِي يَوْماً فؤَادَكِ خافِقاً ... شَعَرْتُ لقلبِي مِثْلَهُ خفَقاَناَ
كأنَّ الذي ينساَبُ مِلء كِليْهِماَ ... صُباَبَةُ ما سَاقي الغَرَام سقاَناَ
وآناً نُبَكِّي كالطّيُورِ وُجُودَنا ... بِلحْن وكالأزْهارِ نَضحَكُ آناَ
فنُسْعِد بعضاً باشتِرَاكِ سُرُورنا ... ونُسْعِد بعضاً باشتِرَاكِ أَساَناَ
كذلِكِ نحْياَ بالسَّوَاءِ وَها فَمي ... ضَماناً لعَهْدٍ لو أَرَدْتِ لكاناَ(268/64)
فَعِنْدَئذٍ مالَتْ إليَّ ببِشْرِها ... فأَيْقَنْتُ أَنّا شَيِّقاَنِ كِلاناَ
فأَدْنَيْتُ ثَغرِي باشْتِياَقٍ لِثَغْرها ... فما افتَرَّ حتَّى قَبَّلَتْهُ حَناناَ
وقالت (إذاً هَذَا هُوَ الْحُبُّ) قلت ُ (لا ... بَلِ الراحُ) قالت (فَلْنَبُلَّ صَدَاناَ)
(البحرين)
إبراهيم العريض(268/65)
أنا ما لي. . .
للأستاذ صالح جودت
تركَتْني في اعتلالي ... وَرَمَتْني لليالي
بعدما أشهدْتُها القل ... بَ فقالت: (أنا ما لي!)
أنتِ يا مَنْ أُرسلُ الدم ... ع إليها. . . وهو غالِ
أنا ما آمنتُ قب ... لك يوماً بالجمالِ
وأنا بالسحر والفت_نة ما كنتُ أبالي
ذهب الحبُّ بنفسي ... ووقاري وجلالي
أيّ خَطْبٍ عندما تدْ ... مَعُ آماق الرجال!
أَنتِ يا مَنْ أسأل الأيَّ ... امِ عنها والليالي
ليتها تستشعر القس ... وَةَ في ذُلِّ السؤال!
تركتني في اعتلالي ... لم يَرُعْهاَ سوءُ حالي
فتضرعتُ إلى اللي ... ل بقلبٍ غيرِ سالِ
قلتُ يا ليلُ أما عن ... دكَ من طيفِ خيال؟
رَقَّ قلبُ الليل حتى ... بَعَثَ الطيفَ حيالي
فتمنيتُ عليه ... بشحوبي وهزالي
إن رَأَى رَيَّتَهُ قَ ... صَّ عليها ما جرى لي
فانثَنى عني ملالاً ... وَتَوَلَّى في دلال
بعد ما ردد ما يح ... فظ عنها: (أنا ما لي!)
قلتُ لله وقد قَ ... لَّ مع الدنيا احتيالي
أأنا يا رَبِّ عبدٌ ... لك لم يخطرْ ببال؟
وإذا ضَلَّ فؤادي ... أَفيعييكَ ضلالي؟
وإذا ضاقَتْ بيَ الأر ... ضُ فهل تأبى احتمالي؟
آه لو قلت كما قا ... ل حبيبي (أنا ما لي!)(268/66)
حسناء في بحر الروم
للأستاذ محمود عماد
عومي على الماء يا أَصفَى من الماءِ ... ثم ارسبي فيه ضوءًا طيَّ أضواءِ
واستقبلي موجَهُ يُقبلْ على عجل ... إليكِ موجُ المحيطِ الهادئ النائي
يا فرحةَ البحر تَسْرِى في جوانبه ... ووحشةَ البرِّ أقوَى أَيّ إِقواءِ
سَلِي الأجاجَ أَلم يفقدْ ملوحتَهُ ... وأَنتِ مطويّةٌ منه بأطواءِ؟
كم من قلوب عليكِ اليوم حائمة ... لا تغرقيها إذ ما غبتِ في الماءِ
كذا أظلتْ سليمانَ الطيورُ فهل ... أتاكِ هدهدُكِ الوافي بأنباءِ؟
أم أنتِ (فينوس) تُجلَي من محارتِهاَ ... في يوم ميلادها الثاني إلى الرائي؟
هاتي قصاراكِ من حُسنٍ ومن مرح ... واعلِي على كل تشريع وإجراءِ
فعالَم البحرِ يَرْعَى شرعةً وسطا ... ما بينَ عالم أشباحٍ وأَحياءِ
تجردَ الجسمُ فيه من كثافتهِ ... وهام كالطيفِ في ماءٍ ولألاءِ
لم أدرِ ما الأرضُ لولا البحر لطّفهاَ ... ولا الحياة بلا لهوٍ وإغراءِ(268/67)
لحن جديد
للأستاذ فريد عين شوكه
أَسْلَمْت لِلْقَدَر الرَّضِىِّ يميني ... فحناَ ولم يُخْلِف عليَّ ظُنُوني
وَمَضى فَوَافَى بي إلى سِيفِ المنَى ... فَلَثَمْتُ طهْر ترابه بجبيني
وَعَبَأْتُ أحشائي بطيبِ نَسيمه ... وكَحَلْتُ بالنُّور السنىِّ جُفوني
وَسَعَيْت في جَنَباَتِه أشكو لها ... عَبَثَ النَّوَى وأَبثُّهُنَّ حنيني
يا طاَلماَ أَمَّلْت حُلوَ لقائه ... فتحَّطَمت دون اللقاء سَفِيني
وظلِلْتُ في بحر الحياة مُغالبِاً ... موجاً يثور عليَّ كالمجنونِ
ما كان أضعفني حِياَلَ كِفاَحِهِ ... لولا المنَى بَرِقَتْ فجنَّ جُنوني
ٍلولا الأمانيُّ العِذابُ وَسِحْرها ... ما عاش هذا الكون بِضْع سِنين
يا مَشرقَ الأمَل الرَّغِيبِ الْمُشْتَهَى ... لا زال فَيْضُ سَناَكَ مِلَْء عُيُوني
لازِلْتَ تُسْعِدُنِي بكل رَجِيَّةٍ ... تَجلُو الأسى عن قلبيَ المحزونِ
بَدِّدْ ظَلاَم اليأس بينَ جَوَانحي ... وَارْدُدْ علىَّ الْبِشرَ غيرَ ضنِين
وانشُرْ شُعاَعاتِ الرِّضى في خاطِرِي ... تُسْكِنْ نَوَزِايَ ثَوْرَتِي وَشُجُوني
ما أَفْسَدَ الأيَّامَ يغمرها الأسى ... فتضيع بينَ شكايةٍ وَأَنينِ
يا قَلْبُ وَافَتْكَ المنَى بَسَّامَةً ... كالْبَدْرِ يَسْطَعُ في الليالي الْجُونِ
فَتَحَتْ ذراعَيْهاَ إِليكَ وَأَقبَلتْ ... فَتَّانَةً تسعَى إِلى مَفْتُونِ
صَفِّقْ لها يا قلبُ بَعْدَ صَباَبَةٍ ... وَاطْفِرْ بها يا قلبُ بَعْدَ سكونِ
وَاغْنَمْ لذاذَتَهاَ وَعُبَّ رَوِيَّهاَ ... عَبَّ الظِّماَءِ وَرَدْن خير مَعَينِ
وَدِّعْ حياةَ الزُّهد فهي ثقيلةٌ ... كالسجْنِ أَعْباَءٌ على المسْجُونِ
وَانْعَمْ فأَيَّام الحياةِ عزيزة ... إِن وَدَّعَتْ أَرخَصْنَ كل ثمين(268/68)
البريد الأدبي
بيننا وبين لجنة إنهاض اللغة العربية
أرسل ألينا صديقنا الأستاذ أحمد أمين هذا الكتاب جواباً عما سأل (سائل) في (البلاغ) وفي (الرسالة) ننشره ثم نعقب عليه:
أخي الأستاذ الزيات
سلام عليكم ورحمة الله
قرأت في مجلة الرسالة سؤالاً موجهاً إلى لجنة إنهاض اللغة العربية يسأل صاحبه لِمَ لم تقرر اللجنة كتب الأستاذ الزيات
ورداً عليه أقول: إن اللجنة لم تفتها كتب الأستاذ كتبت فيما كتبت للوزارة:
إن للأستاذ الزيات كتابين في مستوى الطلبة هما آلام فرتر ورفائيل، وهما من خير الكتب من حيث دقة الترجمة وجزالة الأسلوب ونصاعة التعبير وقوة البيان - ولكن آلام فرتر موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فضيع. ورفائيل رسائل غرام بن شاب وامرأة متزوجة
ولم نرى من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا لناحيتها البلاغية، ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلاب بحق
أما كتاب (في أصول الأدب) فقد منعنا من اقتراحه عدم الوحدة في موضوعه واشتماله على مقالات فوق مستوى الطلبة
فهل يرى السائل بعد هذا البيان أن اللجنة تجنت على الأستاذ الزيات أو غمطته حقه في الأدب أو مست شيئا من مكانته في علو البيان؟
لا شيء من ذلك ولكنه الحق قدمته على كل اعتبار. وهل يطالب المرء بأكثر من أن يعمل وفق ما يعتقده من حق؟
أما ما وراء ذلك من لمز بأننا تملقنا الرؤساء وقصرنا اختيارنا على مؤلفات من نرجوهم أو نخشاهم فإننا نعرض عن الرد عليه والخوض فيه، فقد التزمنا في الحياة أن تصم آذاننا عن السباب وما يتصل به. والسلام عليكم ورحمة الله
17 - 8 - 938
أحمد أمين(268/69)
ذلك هو جواب الأستاذ أحمد أمين عن أسئلة (سائل). والذي يعرف الأستاذ أحمد أمين ويعلم أن أخص ما يميزه حياة الضمير وسلامة المنطق، يدرك ما كابده الأستاذ من الجهد في إقناع نفسه بهذا الجواب. فإن (آلام فرتر) كتاب عالمي قرأه ولا يزال يقرأه ملايين من الفتيان والفتيات في جميع أمم الأرض، ولم نعلم أن أمة من هذه الأمم حضرته على الطلاب لأن (موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فظيع). وقد ترجم إلى العربية منذ ثمانية عشر عاماً، وأعيد طبعه سبع مرات، وقرأه كل مثقف في بلاد العروبة، ولم نسمع أن حاثة من حوادث الانتحار اليومية قد وقعت بسببه. وماذا يكون مصير التعليم والتمثيل إذا طبقنا عليه مثل هذا المبدأ على مآسي النوابغ في كل أدب؟. على أن فرتر مثال العفة والإخلاص والإيثار والتضحية، فلا يمكن أن يعاب من جهته الأخلاقية؛ والأستاذ أحمد أمين نفسه حين ألف كتابه (الأخلاق) قد اقتبس صفحة منه وعزاها إليه
أما (رفائيل) فحبه حب عذري صوفي لا نجد له مثيلا في الكتب ولا في الطبيعة. فهل يرى الأستاذ أن الحب جريمة وإن لم يجُرُّ إلى معصية؟ إن كان ذلك رأيه فلم لم يحضر القرآن على طلاب المسلمين لأن فيه (سورة يوسف)، والتوراة على الطلاب النصارى واليهود لأن فيها (نشيد الأناشيد)؟
لا أدري كيف قال الأستاذ: (ولم نر من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا لناحيتها البلاغية، ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلبة بحق) فهل نسي صديقنا الأستاذ أحمد أمين أنه رئيس (لجنة التأليف والترجمة والنشر) وأنه هو نفسه الذي قرر طبع هذين الكتابين على نفقتها، وأنه هو نفسه الذي طلب إلى وزارة المعارف أن تشتري منهما لمكتبات مدارسها فاشترت؟
بقي الكتاب المسكين الثالث (في أصول الأدب)، وهذا الكتاب هو مجموعة مبتكرة من المحاضرات والمقالات تدور كلها حول الأدب وأصوله وقواعده. فليت شعري ماذا يريد الأستاذ بوحدة الموضوع الذي لم يجدها فيه؟ نحن لم ندع أنه قصة، ولم نقل أنه كتاب في موضوع معين. إنما هو بحوث نشرناها مفردة ثم جمعناها تحت وصفها العام كما فعل العقاد في (المطالعات)، والمنفلوطي في (النظرات)، والبشري في (المختار). ثم ما هذا المستوى الذي وضعه الأستاذ للطلاب وجعل فوقه (في أصول الأدب) وتحته (ضحى(268/70)
الإسلام)؟ وهل يصعب على الطالب الذي يفهم ضحى الإسلام لأحمد أمين، وابن الرومي للعقاد، أن يفهم (في أصول الأدب) وأكثره مقرر على طلاب السنة التوجيهية حتى لم يجد المعلمون والطلاب في العام المنصرم مرجعاً غيره في هذا المنهج؟
الحق أن أسئلة (سائل) لا تزال تطلب الجواب، وأن اضطهادنا في وزارة المعارف يرجع إلى أسباب غير هذه الأسباب. .
الزيات
الثقافة النسوية واللغة العربية
أصدر صاحب المعالي وزير المعارف القرار التالي:
بعد الإطلاع على القرار الوزاري الصادر في 14 سبتمبر سنة 1931 بإنشاء معهد تربية للبنات به قسم للتخصص في اللغة العربية. وبناء على ما تجمع لدينا من معلومات بشأن هذا القسم وأنه في حاجة إلى رفع مستواه وإلى أن تكون فيه دراسة الدين والثقافة الإسلامية اللذين يتصلان اتصالاً وثيقاً باللغة العربية عنصراً مهماً بين مواد الدراسة، ورغبة في إعداد مدرسات لا تقتصر قدرتهن على التدريس في المدارس الابتدائية، وبناء على ما عرضه علينا وكيل الوزارة - قررنا ما يأتي:
المادة الأولى - ينشأ قسم بإحدى المدارس الثانوية للبنات بالقاهرة يسمى (قسم اللغة العربية الثانوي) تكون مدة الدراسة فيه ست سنوات تدرس التلميذات به في السنوات الأربع الأولى مواد الثقافة العامة على حسب منهج التعليم الثانوي للبنات مع مزيد عناية باللغة العربية والثقافة الإسلامية، وفي السنتين الأخيرتين توجه الطالبات توجيهاً كاملا في اللغة العربية وموادها وفي الثقافة الإسلامية
المادة الثانية - تؤلف لجنة لوضع المناهج التي يستلزمها إنشاء هذا القسم
المادة الثالثة - تعد مناهج انتقالية لشعبة اللغة العربية بمعهد التربية الحالي بالسنتين الأولى والثانية تسير عليها الدراسة في بدأ العام المقبل بحيث تكون هذه الدراسة متجهة إلى الغاية التي تنشدها الوزارة من التخصص في اللغة العربية والثقافة العربية
تاريخ الأدب المقارن في دار العلوم(268/71)
رأى معالي وزير المعارف عند بحث مناهج القسم العالي لدار العلوم على أساس تنظيمها الجديد أن ضروريات الثقافة العربية لا تقتصر على دراسة الأدب العربي في كل عصوره، بل تشتمل دراسة الآداب الأجنبية الحديثة والإلمام بكيفية تدرجها في الممالك المختلفة ووجوه الاختلاف بينها وبين الأدب العربي من حيث الخيال وطرائق التصوير وروح الأسلوب وإرجاع ذلك إلى أسبابه من آثار البيئة واختلاف المواطن وقوة العقلية. وتحقيقاً لاستكمال هذه الغاية أشار معاليه على المختصين بإضافة دراسات أدبية من هذا النوع إلى مناهج الأدب بهذا المعهد، على أن تشمل فضلا عن الجانب التاريخي والدراسة المقارنة دراسة أخرى لتاريخ بعض البارزين من أدباء إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا في العصر الحديث وبعض البارزين في الممالك الأخرى التي اشتهرت بازدهار الأدب فيها
هذا وقد روعي في العمل بهذا الرأي ما لوحظ من أن القراءة الغربية لها أثر كبير في إنهاض اللغة العربية إذا ما كان القارئ ذا ثقافة عربية أصيلة وذا سيادة شخصية وطابع خاص في تقبله لمختلف الآراء والمذاهب
على أن فائدة هذا التوجيه الأدبي الجديد تكون في صورة أجلى وأوضح إذا ما راعينا أن أستاذ اللغة العربية الذي تعده وزارة المعارف للمستقبل يجب أن يكون من كافة النواحي كامل الثقافة حتى يحتفظ بهيبة الشخصية أمام تلميذه الذي يلم ولو بنزر يسير من الآداب الغربية
قرار جماعة كبار في قضية فلسطين
اجتمعت جماعة كبار العلماء بالجامع الأزهر يوم الخميس 22 جمادى الثانية سنة 1357 الموافق 18 أغسطس سنة 1938، واستعرضت حالة فلسطين وما يجري فيها من التصادم، وأسفت أشد الأسف لهذه الحالة التي هي بلا شك نتيجة للسياسة التي انتهجتها حكومة الإمبراطورية البريطانية نحو هذه البلاد وبخاصة سياسة التقسيم التي يراد فرضها على بلاد عربية إسلامية ذات ذكريات عند المسلمين لم تغب بعد عن أذهانهم، والتي من شانها تصبغ بلاداً عربية إسلامية صبغة أخرى بطريق لا مبرر له، ومن شأنها أن تؤثر في علاقات الأمم الإسلامية بحكومة الإمبراطورية البريطانية تأثيراً سيئاً(268/72)
لذلك قررت جماعة كبار العلماء ما يأتي:
1 - تحتج على استمرار هذه السياسة وعلى مشروع التقسيم على أية صفة يجري عليها التقسيم والمطالبة بأن تبقى للبلاد صفتها العربية الإسلامية وأن يحافظ على كيانها القومي
2 - تدعو جماعة كبار العلماء زعماء بلاد الإسلام إلى التكاتف واتخاذ ما يرونه مفيداُ من الطرق للمحافظة على بلاد فلسطين، وعلى إيجاد حل ينهي هذه الحالة السيئة ليسود السلام بين الأمم
3 - تدعو جماعة كبار العلماء المسلمين إلى تذكر قضية فلسطين ليلة المعراج وأن يتوجهوا إلى الله سبحانه في تلك الليلة بأن يحفظ هذه البلاد مما يراد بها، وأن يحفظ الآثار المقدسة من الأخطار القريبة والبعيدة
وقررت إبلاغ هذا إلى الجهات المختصة بواسطة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء بالنيابة
احتجاج مسلمي الهند على كتاب للمستر ولز
روت جريدة الديلي اكسبرس أن المسلمين الهنود أعضاء جمعية الشبان المسلمين في لندن اجتمعوا أمس واحتجوا على فقرة واردة في كاتب ألفه المستر هـ. ج ولز الكاتب الإنجليزي وعنوانه (مختصر تاريخ العالم). وقد تكلم خطيب بعد آخر قائلين أن ولز أهان الإسلام وطلبوا من السلطات الهندية أن تمنع دخول الكتاب إلى الهند. واحرقوا نسخة من ذلك الكتاب
ثم اتفق المجتمعون على السير بموكب منظم إلى مكتب مندوب الهند السامي إلى وزارة الهند، واقترحوا أن يمروا بموكبهم على منزل المؤلف في لندن لمطالبته بالاعتذار
وقد جاء من كلكوتا أن ألوفاً من الهنود حضروا الاجتماع الذي عقد فيها أخيراً للاحتجاج على المؤلف
وقد نشر هذا الكتاب لأول مرة في سنة 1922. ولكنه ترجم في المدة الأخيرة بطريقة ملخصة إلى اللغة الهندوستانية. وقد نشرت جريدة تصدر هناك باللغة الوطنية مقالا عنه نددت فيه به وطعنت في المستر ولز فهاجت خواطر الناس وعقدوا اجتماعاً للاحتجاج في كلكوتا. وقام الآن بعض المخلصين لإيمانهم في لندن يصنعون كما صنع إخوانهم في وطنهم(268/73)
وقد قابل ممثل إحدى الصحف الهندية الكبرى المستر ولز فقال أن انتقاداته لم تكن قليلة الاحترام للعقائد وهو عارف بما أدى الإسلام لثقافة العالم من الخدمات، وليس من العدل أن يحكم هؤلاء المسلمون على آرائه بفقرة شاردة وردت عرضاً في تلخيص كتابه
وقالت جريدة إيفنن ستاندر إن عشرة من المسلمين المتشددين يعملون الآن ليل نهار في صنع ثلاثة تماثيل من الورق الصفيق للمستر ولز يريدون إحراقها في أرض مسجد لندن. فيعقدون هناك اجتماعاً وبعد أن يصلوا يدفعون بالمستر ولز الرمزي إلى النار
تعليم الأميين في إيران
جاء من طهران أن المساعي المبذولة لتعليم الأميين في إيران قد وصلت إلى نتائج باهرة. فقد أنشأت الحكومة مدارس ليلية للكبار، وبعد سنتين منحت وزارة المعارف شهادات لخمسة وعشرين ألفا و245 شابا كانوا قبل ذلك أميين تماما.
وقد أنشئت هذه المدارس منذ ثلاثة أعوام في كل أنحاء المملكة وفي هذا العام تقدم للامتحان 24 ألفا و233 شابا أكثرهم تجار من أصحاب الحوانيت الصغيرة وباعة متجولون فمنحت الوزارة شهاداتها لخمسة عشر ألفا و722 منهم. ويرى الناس الآن إعلانا منشورا في كل مكان تعريبه: (العلم هو القوة)(268/74)
الكتب
حول نقد ديوان
هكذا أغني
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
بقلم الأديب مختار الوكيل
يقول الأديب عباس حسان خضر إن محمود حسن إسماعيل، شاعر الريف النابغة، صاحب ديوان (هكذا أغني) (يمضي متدفقاً مندفعاً عنيفاً، وفي كثير من الأحيان يتبع هذا التدفق والعنف عدم اكتراث بسلامة الذوق، واعتساف في الفكر وفي التعبير - كما نبين فيما يأتي - معتمداً في ذلك على قوة طبيعته ونشاط خياله، غير متقيد ولا محترس، فهو يعول على الهبة الفطرية أكثر مما يعول على المهارة الاكتسابية.)
ولم يتبع هذا الكلام بيانٌ دقيقٌ عن عدم اكتراث الشاعر بسلامة الذوق واعتساف الفكر والتعبير كما قال؛ وإنما مضى يقول بعد ذلك:
(يمتاز شعر هذا الديوان بشيء لعلي موفق إذْ أسميه (الروعة) وهو ذلك الذي يستغرق المشاعر ويروع العواطف ويأخذ بالذهن إلى عوالم متنائية الأطراف، ولعل مبعثه بعد المدى في الخيال، والإيغال في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض!)
ويفهم أي قارئ لهذا الكلام أن الكاتب يحاول أن يهاجم الشاعر النابغة ولكن إحساسه الباطني بشاعرية محمود إسماعيل تخونه في التعبير الذي يقصد! فالكاتب يذكر أول الأمر أن محموداً في شعره متدفق مندفعٌ عنيفٌ، ولكنه لا يكترث غالباً بسلامة الذوق الرفيع، ويعتسف في الفكر والتعبير؛ وبمعنى آخر يريد أن يقول إن محموداً شاعرٌ مطبوعٌ ملهمٌ ولكنه لا يجيد صناعة الألفاظ، وهذا الكلام في صالح محمود ولعل الكاتب لم يقصد إليه.
وقوله بعد ذلك إن الشاعر يأخذ الذهن إلى عوالم متنائية الأطراف وإنه بعيد مدى الخيال، وإنه يوغل في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض اعتراف صريح بعبقرية الشاعر؛ فما أظن أن هناك تعريفاً لشعر شاعر أجمل من هذا التعريف الذي ندَّ به قلم الكاتب الفاضل عن غير قصدٍ. أقول عن غير قصد، ومعي الدليل البيِّن على ذلك، إذ لم تمض بضعة(268/75)
سطور على هذه الإشادة الظاهرية بشاعرية محمود، حتى يفجأ الكاتب قارئه بنقدٍ لبيت رائع من قصيدة (دمعة في قلب الليل). فالكاتب يسخر من قول الشاعر النابغة في حديثه عن الدموع:
عصرت من مطارف الألم الدا ... وي بقلبي وعتقت في دمائي!
بقوله: (فجعلنا نتمثل امرأة حاسرة عن ذراعيها أمام طست الغسيل تعصر تلك المطارف والأثواب. . .)
وهذا الكلام لا يجوز أن يدلي به ناقد يفهم المعادن الشعرية فهماً كاملاً، أو يكد ذهنه في اكتشاف الخبيء من المعاني الجميلة التي ينشط خيال الشاعر الجبار في اقتناصها
وكما بينت، يتردد الكاتب في إظهار حقيقة عواطفه نحو الديوان في بعض الأحيان، فهو يعود فيطري قصيدة (ثورة الإسلام في بدر). وما كان في وسعه أن يعدو ذلك أو يقول بنقيضه؛ بيد أنه يقول عن أبيات محمود الخالدة:
وقف المغني في حماك مجلجلاً ... باللحن تخفق في الورى أصداؤه
فيه من الأقدار وهلة غيبها ... خبأنه عن لمع الحجا أطواؤه
ومن الكتائب أرزمت أسلاتها ... صخب يزمجر بالفتوح نداؤه
ومن المواكب هولها في فيلق ... نشوان في يوم الفخار لواؤه
من قصيدة (يوم التاج) التي أذاعها الشاعر في مهرجان الوادي بتتويج صاحب الجلالة المليك المحبوب: (فأي مغن هذا المجلجل الذي اجتمعت فيه وهلة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! إن هذه الصفات المروعة لا تصطلح على مغن ولو كان من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة. . .)
يا أيها الكاتب المحترم، كيف عرفت أن الشاعر قال هذه الأبيات في مغن معين؟! لم يقل محمود هذه الأبيات في عبد الوهاب ولا في عبد الحي، ولو قال في أيهما لما كان شاعراً وإنما قالها في هذا الشعب العظيم الذي شملته نشوة روحية بيوم التاج السعيد، فانطلق يغني غناء الشعوب، تجلجل ويجتمع في غنائها هولة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! كما تقول أنت حقاً!! ومحال أن تصطلح هذه الصفات على مغن من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة كما تقول. . .! فالشاعر الذي يأخذ مثله الأعلى من أية محطة(268/76)
للإذاعة، بل من أية موسيقى هزيلة ضعيفة، ليس بحقيق أن يدعى شاعراً، ولكن الشاعر الذي يبشر بمقبل باسم للموسيقى، إذ يتوجه بها إلى القوة وتصوير الحروب والكتائب، على نحو ما تأتي به موسيقى (فردي) و (بيتهوفن) و (موزار) وأضرابهم من العباقرة هو الشاعر الذي تحلم به مصر، وهو الشاعر الذي يأتي ليرقى الأحاسيس، وينمي الابتكار الخيالي، المنعدم مع الأسف في محيط الحياة المصرية قاطبة!!
ثم يهاجم الكاتب هذه الصورة الرائعة التي اغبط الشاعر عليها بحق:
الوجه ساج كصلاة الغديرْ ... بين الطيورْ!
فهو كان يحب أن تصلي الطيور لغدير وهي تحسو الماء منه، وهذا هو المعنى الذي لا يصح أن يلتفت إليه الناقد المدقق، ولكن المعنى العميق الدقيق هو أن الغدير في سجوه وهدوئه يؤدي صلاة روحية عميقة، والطيور حواليه ترشف منه ساعة صلاته وذهوله؛ فهو ينظر إلى حركة الطيور الآلية عندما ترشف الماء من الغدير على أنها صلاة. والواقع أن الصلاة لا تصدق من الظامئ المفهوم المشغول بحسو الماء من الغدير، ولكنها تصدق كل الصدق من الغدير الساجي الهادئ المعطي الباذل ماءه لطيور الظماء!
وهل يجهل الناقد أن هنالك شيئاً في الشعر اسمه (امتزاج الأحاسيس) وأن هذا الشيء كتب فيه الشعراء واستعان به الكتاب ولعل ابن الرومي هو الذي أتقن هذا النوع من الشعر. ولماذا نذهب بعيداً فالرافعي رحمة الله عليه - يقول في بعض كلامه (واقتليني يا حبيبتي قتلة معطرة!!) وعلى هذا الأساس يجب أن يعيد الكاتب النظر في هذه الأبيات حتى يخرج منها بالصورة المركزة الدقيقة التي عانها الشاعر في قصيدته (في لهيب الحرمان) و (الذهول)
واختتم هذه الكلمة العابرة راجياً أن يراجع الكاتب الأديب مدارسة الديوان فسيجد فيه فتحاً جديداً في الشعر العصري، واتجاهات رائعةً أغفلها الشعراء عندنا. سيجد حديثاً عن الريف، ومظاهر الطبيعة الحزينة والطروب، وسيجد تعبيراً عن آلام الفلاح المصري، وسيجد غزلاً مطرباً صادقاً، وعند ذلك يكتب عن شاعر الريف الجديد الذي نبغ على صغر سنه، في هذا المضمار الرائع المستقل.
وسنتبع هذه الكلمة بحديث مسهبٍ عن شعر محمود إسماعيل إذا سمحت الظروف وسمحت(268/77)
(الرسالة).
مختار الوكيل(268/78)
المسرح والسينما
القصة المسرحية
بين حقيقة الواقع وخيال المتفائلين
أعلنت إدارة (الفرقة القومية) هذا العام، كما أعلنت في الأعوام السابقة، عن مباراتها في التأليف المسرحي والترجمة والاقتباس للمسرح المصري وحددت للمتفوقين عدداً من الجوائز المالية القيمة، واهمة أن في تلك الجوائز ما يغري كبار أدبائنا وكتابنا بمعالجة القصة المسرحية
وقد جرى لنا مع الأستاذ خليل مطران مدير الفرقة حديث في صدد القصة المسرحية والروايات التي تقدم للفرقة وأثر المسابقات والمباريات في ظهور المسرحيات القوية والمؤلفين المنسبين أو الذين لم تتح لهم فرصة التعرف إلى أصحاب الفرقة وتقديم مسرحياتهم لهم. وكان من دواعي سرورنا أن اتفقت وجهة نظر كل منا مع الآخر
وخلاصة هذه الوجهة المشتركة من النظر في التأليف المسرحي هي أن القصة المسرحية الناجحة، كانت وما تزال وستظل إلى ما شاء الله غاية الفرقة القومية التي لا تكل ولا تمل في سبيل الوصول إليها، والتمتع بما يدخل على المسرح المصري من نتائجها
ولكن الطريق إلى القصة الناجحة وعر، والرحلة إليها طويلة شاقة؛ فقد لوحظ أن المؤلفين الذين يتقدمون للمباريات في التأليف المسرحي يكونون عادة واحداً من أثنين: مشتغل بالمسرح يعرف كيف (يحبك) قصته ويطبعها بطابع الفن الناجح ولكنه ركيك العبارة ضعيف الأسلوب وليست لديه القدر الكافي من الثقافة العامة. وأديب أو كاتب ليست له براعة الأول في إجادة التصور وحبك الحوادث وإن كان جزل العبارة لطيف الأسلوب غني في الثقافة. هذا بينما القصة المسرحية التي تنشدها إدارة الفرقة هي القصة القوية الموضوع، السلسة الأسلوب، المحبوكة الحوادث، الملأى بالمواقف التي تستدر العاطفة وتثير الإعجاب.
وقد يكون من أشد ما يأسف له الكاتب أن يضطر إلى التصريح بالحقيقة المؤلمة التي يعرفها كل بصير وخبير بدولة الأدب والكتابة في مصر، وهي أن الكاتب المسرحي الناجح لا وجود له بين ظهرانينا حتى الآن. . .(268/79)
وهناك جملة عوامل هي المسئولة عن هذه الحال التي يؤسف لها أشد الأسف. منها أن فترة النهضة المسرحية لم تدم أكثر من عشر سنوات، أقفلت بعدها لأغلب الفرق أبوابها، وأعلنت توقفها وإفلاسها. وأي صناعة لا يهتم زعمائها بالتدقيق والتركيز، مقضي عليها بالذبول والاندثار لا محالة. ومنها أن الضائقة المالية التي عرضت للفرقة على اختلاف ألوانها، حدت بأصحابها إلى التنكر لكبار أدبائنا وكتابنا الذين رأوا أن يساهموا في هذه الناحية الأدبية التي كانت وما تزال بكراً في بلادنا، ولا نذكر أن كاتباً كبيراً من كتابنا أثنى ذات يوم على مدير لإحدى فرقنا التمثيلية، المندثرة أو القائمة حتى الآن. . . ومنها أن نفراً من صغار النقاد جروا على الشماتة بكال رواية يقال إن صاحبها هو الأديب الكبير (فلان الفلاني) والزراية بجهوده وتأليفه بحق بغير حق، وبدافع من الفن أو من الحقد وصغار النفس. . .
والمباريات وإن كانت وسيلة من أحدث الوسائل لتشجيع البادئين والناشئين من المجتهدين، إلا أنها لا يمكن أن تؤدي النتائج المرجوة لرفعة المسرح والقصة المسرحية في أقصر زمن مستطاع. وبديهي أن الواجب إعداد المدرس قبل إيجاد التلميذ. . وإلا فعلى إي أساس يكتب البادئون قصص لزعماء الفن مشهود لها بالجودة، ومن أقلام كبار الكتاب والأدباء؟! لاشك أن كثيراً من شبابنا المثقفين عندهم استعداد كبير للظهور في ذلك الميدان الذي نكرر انه ما يزال بكراً، ولا تنقصهم إلا الإرشادات (الفنية) التي يمكن اكتسابها بالتعلم أو بتدقيق النظر في المسرحيات الناجحة.
سينمائي(268/80)
أنباء سينمائية ومسرحية
فلم الدكتور
قطع الأستاذ نيازي مصطفى شوطاً كبيراً في الفلم الجديد الذي يخرجه لحساب استديو مصر. وهو الفلم الذي يسمى (الدكتور) وأن يقوم بالدور الأول فيه الأستاذ سليمان نجيب. والفلم مأخوذ من مسرحية قديمة للأستاذ نجيب، وحبذا لو غير اسمه حتى يتفق مع الحادث الكبير في الرواية
سينما تريومف
يفكر بعض المسئولين في شركة مصر للتمثيل والسينما في الطرق التي من شأنها تحويل هذه الدار الفخمة إلى سينما لعرض البرامج العربية، وقد تعاقدت الشركة مع وكالة المتروجلدوين على احتكار عرض أفلامها في الموسم القادم، ولكن ذلك كلفها نحو (250) ج م عن كل فلم
فلم الأستاذ أحمد سالم
بدأ الأستاذ أحمد سالم تصوير المناظر الخارجية لفلمه الذي تبدأ به الشركة الجديدة عملها، ونحن ننتهز هذه الفرصة فنهنئ عالم السينما المحلية بدخول الأستاذ سالم إليها مستقلاً وعاملاً لحسابه الخاص. وقد علمنا أن موضوع الفلم متصل بالطيران وأن بعض المناظر الخارجية اشتركت فيها بعض وحدات الطيران الحربية المصرية وسنعود إلى الحديث عن الأستاذ وجهوده السينمائية في فرصة أخرى
السينما في هوليوود
- يقوم (إدوارد ربنسون) بدلاً من (بون موني) بتمثيل دور (جواريه) في رواية (عرش من الفولاذ) وهي الرواية التي تقوم بالدور الأول فيها (بت ديفيز) أمام (فردريك مارش)
- أختيرت (كلوديت كولبير) و (كاي فرنسيس) للقيام بالدورين النسائيين الأولين في رواية (إخوان وارنر) الجديدة (عندما تسدل الستار)
- يعيد (سام جولدوين) رواية (ثلاثة أسابيع) التي كان قد أخرجها أيام السينما الصامتة - للكاتبة السينمائية الشهيرة (إلينور جلن)؛ وكان بطلاها السابقان هما (إيلين برينجل) و(268/81)
(كونراد فيدت)
- أعدت شركة برامونت رواية خصوصية لإيزا ميراندا، وذلك بعد ما تقرر عدم إعطائها الدور الأول من رواية (زازا)(268/82)
العدد 269 - بتاريخ: 29 - 08 - 1938(/)
إلى صاحب المعالي وزير المعارف
أذكر يا سيدي أني كتبت إلى معاليك يوم سموت إلى منصب الوزير ورتبة الباشا كلمة صادقة صريحة في هذا الموضع من (الرسالة) قلت فيها: إذا كان غيرك قد وصل بالأدب من غير خلق، أو بالصحافة من غير أدب، أو بالسياسة من غير صحافة، فإنك لم تصل إلا بهذا الأدب الشامل الذي يشرق فيه وميض الروح، ويسيطر عليه نبل النفس؛ لذلك نعدُّ بلوغك هذه الغاية من المجد انتصاراً للأدب المجاهد، وترضية للقلم المجهود، وتمكيناً للفكر الجميل أن يؤدي رسالته في عالم أوسع وعلى طريق أسد؛ ولذلك نجعلك من بين الوزراء الصلة الطبيعية بيننا وبين أولي الأمر، فقد قطعوا أسبابنا الواصلة، وسَفِهوا حقوقنا المعلومة، واعتقدوا أننا حِليّ تزين ولا تنفع، ودُمىً توجد ولا تعيش. . .
وأذكر يا باشا أنك كتبت إلي على أثر هذه الكلمة الطيبة كتاباً رقيق العبارة كريم العاطفة صريح الوعد بأنك ستكون وليّاً للأدباء ونصيراً للأدب.
ثم أذكر أنك وأنت عميد الصحافة المعارِضة كتبت في (نزاهة الحكم)، وخطبت في (الحكم الصالح) مقالات سماوية وخطباً مثالية لا تزال فِقَرِها وحججها ترن في أذن الحكومة وتجري على لسان المعارضة
أذكر كل أولئك يا باشا وأنسى أنني طلبت الإِذن على معاليك فلن أنله، وأنني كتبت إليك كتاباً فيه بعض العتب فلم تقبله؛ ثم أنسى أنني سمعت بعد ذلك أنك لم تُرِد إنصاف (الرسالة) وقد سألتك إياه، وأنك محوت أسمى من مشروع (المجمع الأدبي) وقد كان فيه. نعم أنسى كل ذلك يا باشا لأن هذه المعاني البشرية لا تلبث أن تموت أو تضعف في خاطر رجلين: الوزير لأنه ينفذ أمر الملك، والقاضي لأنه يعلن حكم الله. وولي الأمر أو ولي القضاء متى شعر أنه مظهر الإرادة العليا أخذته حال من السمو الإلهي ترفع النفس وتُرهِفُ الضمير وتُوَثِّق الذمة.
فأنا أتقدم إلى معالي الوزير بشكوى الأدب الحر وأنا مطمئن إلى عدله واثق بجميل رأيه. والأدب الحر يا باشا هو الأدب المجاهد الذي ليس له حزب يحميه ولا منصب يسنده، وشكواه أن الأدب الرسمي بغى عليه بقوة السلطان وحكم الأثرة، فشهد فيه الزور وحكم عليه بالباطل
هذه لجنة إنهاض اللغة العربية - ولا أريد أن أعرض لغيرها اليوم - تألفت بقرار منك(269/1)
فأصبحت حدودها الموقوتة أداة من أدوات السياسة العليا تنظر بعين المصلح، وتنطق بلسان الوزير، وتحكم بذمة القاضي. ولكنها يا باشا لم ترد أن تخرج عن إطارها الشخصي، فمكنت لنزعات الهوى أن تطير بين آرائها في عمل من أعمال الناس وشأن من شؤون الدولة!
لقد سلكت في اختيار الكتب التي تساعد الطلاب على اكتساب ملكية البيان طريقاً عجيباً إن ضمن فائدة الكاتب لا يضمن فائدة الطالب، وإن قضى حاجة الصداقة لا يقض حاجة اللغة
ولا أريد أن أضرب مثلاً على تجنيها غير ما نالني منها. وأدع لغيري من الذين حكمت عليهم بالإغفال أن يضربوا بقية الأمثال فإن لهم أقلاماً وألسنة
هل تصدق يا باشا أن هذه اللجنة التي ألفتَها من أربعة شيوخ من شيوخ الدين والأدب قد استطاعت أن تحمِل العقل والضمير والفن والمنفعة على أن تلعن كتابين ألفهما جوتة ولامرتين، وترجمهما الزيات، وقدم لهما طه حسين ومنصور فهمي، وطبعهما ونشرهما أحمد أمين، وقرأهما الشبان والشواب في جميع أقطار العروبة ثمانية عشر عاماً لا يرون فيهما غير الخلق النبيل والبيان المشرق والأدب المحض والإلهام المقدس؟
هل علمت يا معالي الباشا أن هذه اللجنة الأخصائية في علوم العربية قد أغفلت كتاباً في صميم الفن أُلف للكتاب والطلاب، وعالج مسائل مبتكرة في تاريخ الأدب، وأضاف قواعد جديدة إلى قواعد الكتابة، وليس في المكتبة العربية اليوم ما يحل محله؟
لقد تساءل الناس في الأندية والصحف عن سر هذه اللعنة، وسبب هذا الإغفال، فأعياهم أن يجدوا الجواب، حتى رد عليهم الأستاذ أحمد أمين عضو اللجنة بما نشرناه وعلقنا عليه في العدد السابق من الرسالة، فانقلبت الأسئلة إلى شكوك وظنون، وراب الأدباء من لجان الوزارة أن يكون هذا مبلغ الحق والعدل، في لجنة عرف أعضاؤها بالنزاهة والفضل، وعجبوا أن يمتهن المنطق رجال المنطق ويظلم الأدب حماة الأدب، وقالوا ماذا عسى يصنع الدهر بلجان الاختيار والتأليف والمسابقة؟
هذا (بلاغي) يا معالي الوزير أرفعه إليك لتحقق ما فيه بعدما قرأتَ في العددين السابقين سؤال السائل وجواب المجيب ورد المتعقب. وصاحب المعالي هيكل باشا غني عن السؤال والجواب والبينة، فإنه بملكته الأدبية يعلم الفن، وبحاسته القانونية يدرك الحق، وبسلطته(269/2)
الوزارية يملك الحكم
ومعاذ الله أن يكون لهذه الشكوى مبعث غير الحِفاظ للأدب وللكرامة. فقد سلخنا في الجهاد الأدبي ثلاثين عاماً نعمل بين الجمهور وللجمهور فما شعرنا بالحاجة إلى حماية ولا معونة. وهذه منزلة من الإيمان والصبر لا يستطيع أن يصفها لهيكل باشا الوزير، إلا هيكل باشا الأديب
أحمد حسَن الزيات(269/3)
الأصل وغيره
بقلم إبراهيم عبد القادر المازني
أراني أحد الإخوان رواية لكاتب إنجليزي معاصر اسمها (مذنبون بكرههم) وقال اقرأها. وقد اقتنيت نسخة منها، ولكني ما زلت محجما عن قراءتها وإن كان قد مضى يومان وهي على مكتبي تخايلني كلما جلست إليه. وأحسب أن في اسمها ما يصدني عنها. ولست أعني أني أكره القصص التي تتناول الخطيئات والذنوب والآثام، فقلما تخلو رواية من شيء من ذلك، بل يندر أن تخلو حياة من هذا، فإن العصمة (عليا مراتب الأنبياء) وإنما أكره ما يبدوا لي من النفاق أو المغالطة أو الجهل أو المداجاة في هذا الاسم. ولو قال إنهم أخيار أو أطهار أو طيبون بكرههم لكان أشبه بالحق. فإن رأيي أن الإنسان مطبوع على ما نسميه الشر، وليس بمفطور على ما ألفنا أن نسميه الخير وما إلى هذين من صفات قبيحة وطيبة. والذي نعده خيراً ليس أكثر من عادة أو ضرورة، ولكن الذي نقول إنه الشر أصل. وقد صدق النّواسي في قوله:
أنت يا ابن الربيع ألزمتني النس ... ك وعودتنيه، والخير عاده
وقد سألت نفسي غير مرة لو كنت، ومعي ابني - والأبناء فيما يعرف الناس ويحسون أفلاذ أكبادهم - في صحراء جرداء لا ماء فيها ولا شجر، ولم يبق معنا من الزاد إلا كسرة، ومن الماء إلا قطرة، وبرح بنا الجوع والظمأ، فماذا كنت عسى أن أصنع؟؟ أأوثره على نفسي، أم أوثر نفسي عليه؟
وآثرت الإخلاص وصدق السريرة في الجواب فقلت إن أول ما كان خليقاً أن يدور بنفسي هو أن أوثر نفسي على ابني، ولعلي حقيق إذا ثقلت وطأة الاحتمال عليّ أن أقاتله على اللقمة أو قطرة الماء. ومهما يكن من ذلك فان المحقق عندي - فيما أشعر وأعلم - هو أن الخاطر الأول يكون هكذا، أي أن تحدثني نفسي بالاستئثار دون ابني بما بقي لنا. وقد يتغلب العقل وعادة الكبح ولنظام الذي نجري عليه في حياتنا المتحضرة. فيحدث أحد أمرين مثلاً: أن يكون الباقي مما يحتمل القسمة، فاقترح اقتسامه ومن يدري؟ لعلي وأنا أكسر اللقمة الباقية أجور عليه في القسمة؛ وإذا كان الأمر لا سبيل فيه إلى مشاركة، فقد أقول لنفسي إن من قلة العقل أن أخطف الكسرة والماء فأطيل بذلك عمري ساعات، وما(269/4)
يبدو لنا أمل في نجدة قريبة، وأنا قد عشت أكثر مما عاش، وسيقضى كلانا نحبه فليس بضائري أن يبقى بعدي ساعات؛ وهب ناساً أدركونا وأنقذونا فان الباقي من عمري دون الذي مضى وانقضى، وهو على كل حال شيخوخة وتهدم، وأمراض وعلل، وأوصاب وعجز، فما حرصي على ذاك؟ ولكن هذا صغير ولا يزال أمامه شباب طويل وريف، فهو أولى بالحرص على الحياة والتعلق بها وأحق بذلك مني، وقد أكره أن يرى أثرتي وقبحها وشناعتها، وأخاف أن يعرف ذلك عني بوسيلة ما، فأناوله الماء وأجود عليه بالخبزة الناشفة، وأتظاهر بالرحمة، وأتكلف الإيثار وأقول له: إنك ابني وفلذة كبدي، فبقاؤك استمرار لحياتي وامتداد
وفي الدنيا عشاق مجانين غير قليلين وقد يهم الواحد منهم بالانتحار إذا ضنت عليه حبيبته بابتسامة أو أعرضت عنه في مجلس، أو أبت عليه قبلة وضمة. خذ هذا العاشق الولهان، المدله، المزدهف اللب، المشغوف القلب، وأجلسه إلى جانب حبيبته المعبودة في البرد القارس والمطر المنهمر، وأنظر ماذا يحدث؟ أتظن أنهما يتناجيان في تلك الساعة بحبهما؟؟ أتراه يشتهي حينئذ أن يقبلها أو يضمها، أو يبالي ابتسامها أو إعراضها، أو يحفل ما يكون من ذلك منها؟ بل سل نفسك أيخطر له الحب وهو ينتفض من البرد والمطر ويرعد؟؟ وقد يندفع بحكم العادة فيخلع سترته ويضعها على كتفي المحبوبة المعبودة، ولكنه لا يفعل ذلك إلا وهو كاره له، وساخط عليه، وناقم على الضرورة التي تدفعه إلى ذلك. ويزداد البرد مع طول الجلسة، ويعانيان منه ما لا طاقة لهما به، فلا يبقي لهما هم إلا في هذا وفيما يمكن أن يصنعا لاتقاء عواقبه، أو النجاة منه، ويذهب الحب وتذهب دواعي الانتحار، وتهبط قيمة ذلك كله إلى الصفر. فليت العشاق الذين يسلب الحب عقولهم، يكابدون شيئا من هذه المكاره ليعلموا أن في الوسع أن يقل احتفال المرء بابتسامة حبيبته، وتفتر الرغبة في ضمها وتقبيلها، بل إن في الوسع أن يحيا بغير هذه الحبيبة، ولا يفكر فيها، ودع عنك الانتحار من أجل قبلة أبتها عليه!
وهذه الشجاعة ماذا هي؟ إن الأصل في الإنسان الجبن لا الشجاعة، لأن غريزة المحافظة على الذات تقضي بذلك، ولكنه يتشجع، ويحتمل التعرض للمكاره أو المعاطب، ويلقي بنفسه في التهلكة، مرغما، فقد يكون الذي يفر منه شرا مما يرمي نفسه عليه، أو يكون في(269/5)
الجبن الهلاك فيستوي الأمران، وإذن تكون الشجاعة أولى، وأجلب لحسن السمعة وطيب الأحدوثة، ففيها حتى مع الهلاك عزاء أدبي. أو يكون الموقف من شأنه أن يورط المرء فلا يبقى مفر من الإقدام، والأمر معه. وقد يكون المرء ضعيف الخيال، أو قليل الإدراك فهو لا يحسن أن يقدر الأمور، ولا يبالغ في توهم الأخطار وتجسيدها؛ أو يكون على نقيض ذلك كبير العقل واسع الخيال، فلا يرى بأسا من الجرأة لأن فرص النجاح أو السلامة كفرص الإخفاق والتلف، أو أكثر، إلى آخر ما يمكن أن يكون باعثا للإنسان على مقاومة الحرص الطبيعي على الحياة والضن الفطري بها
ولا أعرف ما شأن غيري، ولكني أعرف نفسي على قدر ما يتيسر لي ذلك، وأعلم أني أشتهي كل ما يُشتهي في الحياة، وإذا كُنت لا أواقع كل لذة أشتهيها، أو أطلبها، أو أحلم بها، فما هذا مني عن عفة فطرية، وزهد في طباعي، فان لكل حالة من حالات الحرمان علة لا تخفي عليّ، ولا أستطيع أن أغالط نفسي فيها، وإن كنت أغالط الناس ولو سألني ربي - كما سيسألني بعد عمر طويل - لأقررت بذنوب لم أقارفها، وخطايا لم أرتكبها، وشهوات تبحث نفسي عنها، أو استعصى عليّ إرضاؤها، ولطال بي الاعتراف، والخلائق ورائي تنتظر دورها تحت الشمس المحرقة في تلك الساعة التي تذهل الأم عن ولدها، فأشفق عليهم، وأوجز وأقول إن ربي أدرى بي وأعرف بالظاهر والباطن، فلا حاجة إلى الإفاضة في الاعتراف. وإني، على الجملة، ومع تفاوت واختلاف قليلين لكما قال السمير رحمه الله:
فتراني طول عمري ... تائبا من غير عفة
فلا نجاة لنا إلا برحمة من الله ومغفرة.
إبراهيم عبد القادر المازني(269/6)
عود إلى الموضوع
الدين والأخلاق بين القديم والجديد
لأحد أساطين الأدب الحديث
- 2 -
لو أن الأستاذ الغمراوي قصر حديث الدين والأخلاق على الرافعي لكانت حجته أقوى، ولكنه وقع في خطأ منطقي إذ حسب أن جميع أدباء المذهب القديم قد راعوا حرمة العرف والتقاليد وآداب الدين وأخلاقه كما راعاها الرافعي. فكأن حجته مقسمة حسب التقسيم الذي يُستشهَدُ به في الخطأ المنطقي: هي أن الرافعي راعى حرمة أخلاق الدين، والرافعي من أدباء المذهب القديم، فنستنتج من ذلك أن المذهب القديم يراعي حرمة أخلاق الدين. وهذا الاستنتاج كاستنتاج من يقول: الفيل له خرطوم، والفيل حيوان، فكل حيوان إذاً له خرطوم. وقد ظهر هذا البرهان المنطقي في أكثر من مكان في مقالات الأستاذ الغمراوي ولا سيما في المقال الأخير. أنظر إلى قوله (فالمسألة في الأدب إذاً ليست مسألة لفظ ومعنى ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً بحتاً يتمتع صاحبه بما حرم الله وما أحل، ولا يفرق بين معروف ومنكر، ثم يصف ما لقي في ذلك من لذة وألم أو غيرهما من ألوان الشعور؛ وفريق يريد أن يحيا الحياة الفاضلة. . إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه الأدب الجديد. . . وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم. . .)
ومن الغريب أن عدد الرسالة الذي كتب فيه الأستاذ الغمراوي هذه الجملة فيه مقال للأستاذ خلاف يشير إلى كتاب يتيمة الدهر للثعالبي وإلى غيرها من كتب الأدب القديم، ونستشهد منه بالجملة الآتية: (ومنذ أن قال امرئ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في كتاب يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح)؛ منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله)(269/7)
فالأستاذ خلاف يثبت في مقاله أن الأدب الداعر بدأه أمير شعراء الجاهلية في مثل قوله (إذا ما بكى من خلفها. . . الخ) واستمر في عصور الإسلام إلى أن استفحل كل الاستفحال في عصر الأدب العباسي الثاني. فهل يعد الأستاذ الغمراوي أدباء هذه العصور الذين يعنيهم الأستاذ خلاف من أدباء الأدب الجديد أم من أدباء الأدب القديم؟ وهل قول الأستاذ الغمراوي (فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً الخ الخ) ينطبق أولاً ينطبق على أدباء الأدب القديم الذين ذكرهم الأستاذ خلاف؟ وهل ينكر الأستاذ الغمراوي أنه قلما يخلو كتاب من كتب الأدب القديمة من أشياء لا يليق بالفتيات والفتيان ولا بأي إنسان أن يقرأها، وأن الأستاذ خلاف عندما ضرب الأمثلة لم يقصد أن يذكر كل ما وجد من هذا القبيل؟ إن في كتاب يتيمة الدهر أشياء لو قرئت على الأستاذ الغمراوي لوضع إصبعه في أذنه وفر وهو يقول: مرحباً بالجديد. وما رأي الأستاذ الغمراوي في شرح السيد توفيق البكري شيخ السادة البكرية، ورجل الفضل والدين لأبيات ابن الرومي التي ذكر فيها صوت يد العجان في العجين (راجع صهاريج اللؤلؤ)؟ فهل السيد توفيق البكري من أدباء المذهب الجديد؟ وما رأيه في الشيخ شريف رجل الفضل والدين ومفتش اللغة العربية في وزارة المعارف وقد شرح أرجوزة ابن الرومي التي أولها (رب غلام وجهه لا يفضحه). وليس من موبقة إلا وفي كتب الأدب القديم وصفها والافتخار بها على شكل لم يبلغه الشبان المولعون بما يسمونه (الأدب المكشوف). ومن الغريب أن الذين ينبهون الحكومة إلى سقطات هؤلاء الشبان لا ينبهونها إلى ما في كتب الأدب القديم من مخاز لا تسمح أية دولة بنشرها. راجع في الأغاني أمثال قصة إصبع بن أبي الإصبع ومطيع ابن إياس، على ما أذكر، أو سل الأستاذ خلاف عما وجد في كتاب يتيمة الدهر حتى سماه قاموس الأدب الداعر، بل خذ أي كتاب أو ديوان، خذ مثلاً ديوان أبي تمام وراجع القصيدة التي يخاطب فيها الحسن ابن سهل في قوله:
(إن أنت لم تترك السير الحثيث الخ) ولاسيما البيت الذي أوله (سبحان) في الطبعة غير المنقحة، أو خذ ديوان البحتري وانظر كيف أفحش في المجون في حضرة أمير المؤمنين المتوكل في القصيدة التي يمدحه بها وأولها (سقاني القهوة السلسل) وانظر إلى البيت الذي أوله (وقطع) فهل هؤلاء من شعراء المذهب الجديد؟ وهل أمير المؤمنين المتوكل من أدباء(269/8)
المذهب الجديد؟ أو خذ ديوان أمير المؤمنين عبد الله ابن المعتز ففيه أيضاً مخازٍ يعجب لها الأستاذ الغمراوي. أو خذ ديوان الرجل التقي النقي العلوي صفي الدين الحلي وانظر إلى مجونه وغزله المؤنث والمذكر، أنظر مثلاً إلى سبب تضمينه الأبيات الآتية في قصيدة له والأبيات أولها (أيا جبلي نعمان بالله خليا الخ الخ)
إن أدباء المذهب القديم وأدباء المذهب الجديد في أيام شبابهم قد قرءوا كل هذه الكتب وقرءوا ما فيها مما لو رآه الأستاذ الغمراوي لطمسه. وقد تأثر كثير منهم بها إلى حد جعلهم لا ينكرون وجودها وجعلها في نظرهم أشياء طبيعية مألوفة. وأدباء المذهب الجديد قد قرءوا الكتب العربية قبل قراءتهم كتب الأدب الأوربي الذي يخشى الأستاذ الغمراوي قدوتها. فإذا كانت كتب الأدب الأوربي قد أثرت فيهم فان كتب الأدباء والشعراء التي يستنكرها الأستاذ خلاف لا بد أن تكون أبلغ أثرا في نفوس الفريقين؛ وهي أيضاً بليغة الأثر في نفوس فتيات وفتيان المدارس لأن هذه الكتب يستعيرها التلاميذ والتلميذات بمدارس البنين والبنات، فهي بمكتبات المدارس ويُحَثُّ التلاميذ والتلميذات على قراءتها. لو كان الأستاذ الغمراوي يعرف ما يكتبه الطلبة من الحواشي أحيانا على هامش هذه الكتب المستعارة لعرف مقدار أثر كتب الأدب القديم في نفوس النشء. إني أتوسم في الأستاذ الغمراوي الإنصاف، ومن أجل ذلك أعتقد لو أنه بحث هذه المسألة وفحص أثر هذه المؤلفات وأمثالها بعد أن يدرس مجونها ويهتدي إليه بهداية أهل العلم بأماكنه لا أعترف أنه إذا كان لأدبٍ ما أثر في دفع الشبان إلى المجون والإباحية في الأخلاق فهو أثر الأدب القديم، وأن هذا الأدب القديم غير مقصور الأثر على التلاميذ والتلميذات، بل إن أثره يشمل أدباء المذهب القديم العصريين وأدباء المذهب الجديد على السواء. ولا يعجب الأستاذ الغمراوي إذا قيل أن الأدب الأوربي الحديث إنما يؤدي دينا عليه للعالم العربي، فأن الأدب والشعر والفكر العربي كما كان في الحضارة العربية ولا سيما العباسية والدويلات التي أتت بعدها كان كثير الحرية إلى حد الإباحية في الخلق أحياناً؛ وقد كان هو والأدب الإغريقي القديم من العوامل التي قضت على أدب التعفف والتقشف المسيحي في القرون الوسطى.
وما يقال في الأدب القديم عن الآداب والأخلاق يقال أيضاً عن العقيدة. نفسها فلو رجع(269/9)
الأستاذ الغمراوي إلى كتب الملل والنحل العربية لوجد أن بعضها لم يترك إلحادا إلا وصفه ولا كفر إلا أطال القول في معانيه
وأقوال ملاحدة الدولة العباسية وغيرها من الدول لا تزال أمام القراء من شعر ونثر، وما ترك الأول للآخر شيئاً.
إذاً يحسن بالأستاذ الغمراوي أن يقصر قوله على الرافعي، وأن يمجده ما شاء، وأن يقدس مراعاته حرمة الآداب والأخلاق الإسلامية، أما أن يقع في خطأ الاستنتاج فهو أعظم من ذلك منزلة؛
وإذا كان الأستاذ الغمراوي يريد أن يقضي على سبب من أهم أسباب فساد الأخلاق فعليه أن يحث وزارة المعارف وإدارة المطبوعات على تشكيل لجنة لفحص الكتب العربية وطمس ما هو مفسد للأخلاق في الموجود من نسخها وتحريم طبعه في الطبعات الجديدة فان ائتمان أمثال هذه الكتب وهؤلاء الأدباء على أخلاق النشء (ومحاربة الأدب الأوربي) يكون كمن يأتمن لصاً وطنيا على بيته وأمواله وأثاثه لأنه وطني؛ وقد يكون هذا اللص الوطني أشد خطرا لأنه يؤتمن ويمهد له السبيل ويعطى له مفتاح المنزل. أو كمن يأتمن فاجرا داعرا على أبنائه لأنه كان صديق صباه وأليف أيام شبابه.
قارئ(269/10)
للتاريخ السياسي
المشكلة التشيكوسلوفاكية
للدكتور يوسف هيكل
من أهم المشاكل الدولية الحالية وأبرزها: المشكلة التشيكوسلوفاكية، فقد كادت تكون في المدة الأخيرة سبب حرب عالمية، ولا تزال موضع اهتمام ساسة الغرب ولا سيما الإنكليز والفرنسيين منهم، والذين يعملون على حل هذه المشكلة ليزيلوا شبح الحرب من أوروبا الوسطى
والمشكلة التشيكوسلوفاكية معقدة عويصة، يحتاج تفهمها إلى التعرض لتاريخ تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب العالمية، والى عرض صعوبات الحكومة التشيكوسلوفاكية قبل الحكم النازي في ألمانيا، والى إظهار تغير الحكم الهتلري لعوامل المشكلة التشيكوسلوفاكية والمفاوضات الجارية لحلها. وأخيراً إلى مرامي السياسة الألمانية
تقع جمهورية تشيكوسلوفاكيا في أوربا الوسطى، وهي محاطة بألمانيا والنمسا وهنغاريا ورومانيا وبولونيا، ومكونة من مقاطعات بوهيميا وموارافيا وسيليسيا، بلاد التاج البوهيمي قديماً، ومن قسم من هنغاريا القديمة، وعاصمتها مدينة براغ.
ويجب ألا يغيب عن الذهن أن بوهيميا كانت مدة خمس قرون، ما بين عام 1068 - 1526 مملكة مستقلة، وأن ملكين من ملوكها، وهما شارل الرابع وونسيلاس الرابع، كانا ملكين رومانيين مقدسين.
وفي أثناء حروب القرن الخامس عشر الدينية قاوم أهل البلاد بنجاح الهجمات النمساوية وحافظوا على استقلالهم. غير أن تاج بوهيميا وتاج هنغاريا وُحِّدا عام 1526على رأس الإمبراطور فرديناند الأول، من أسرة هابسبورك. ومنذ ذاك التاريخ ابتدأت حكومة النمسا تدريجياً تجعل الحكم مركزياً، وتحكم بوهيميا مباشرة. وقد تم ذلك بعد ثورة 1618، واندحار رجال التشيك أمام الجيوش النمساوية في موقعة الجبل الأبيض عام 1620. ومن حينئذ زال استقلال بوهيميا باستيلاء النمسا عليها، وأصبح السلوفاكيون تحت اضطهاد الإقطاعيين المجربين
وفي أوائل القرن التاسع عشر ابتدأت الحركة القومية التشيكية، وبرغم خيبة الأمل في(269/11)
نجاحها أثناء الثورة الفرنسية عام 1848، بقيت تناضل وتطالب بالاستقلال الإداري والسياسي على أساس الاتحاد الشخصي بإمبراطور النمسا. ولكن هذه المطالب رفضت ولم يتحقق استقلال التشيك والسلوفاك إلا في 28 أكتوبر عام 1918 بقيادة مازاريك وبنيس
وتضم الحدود التشيكوسلوفاكية الآن ما ينيف على خمسة عشر مليوناً من السكان منهم: 7. 447. 000 تشيك أي أكثر من النصف بقليل، و3. 218. 000 ألمان، و2. 809. 000 سلوفاك، و720 , 000 مجريون، و569. 000 راتينيون، و100. 000 بولونيون، و266. 000 جنسيات أخرى ويهود
ومما هو جدير بالملاحظة أن ما ينوف على الثلاثة ملايين من الألمان في تشيكوسلوفاكيا، لم يكونوا قط تحت سيادة الحكومة الألمانية، بل كانوا من الرعايا النمساويين المجربين
إن وجود هذه الأقليات المتعددة ضمن حدود الجمهورية التشيكوسلوفاكية، خلق مشكلتها، مما جعل الرئيس مازاريك يعرِّف مشكلة بلاده بأنها: (مشكلة الأقليات فيها)
وعند البحث في وضعية الأقليات الألمانية في تشيكوسلوفاكيا يجب التنبيه إلى أن الأكثرية الساحقة من هذه الأقلية تعيش متجمعة. وأهم من ذلك أن هذه الجموع الألمانية تؤلف إطاراً محكماً على طول الحدود التشيكوسلوفاكية الألمانية. ولذلك يمكن القول بأن الأقلية الألمانية في تشيكوسلوفاكيا هي أقلية حدود. فوضعية هذه الأقلية الجغرافية تحول عملياً بين تحقيق ما تطلبه من الاستقلال الذاتي.
ثم إن مصانع تشيكوسلوفاكيا واقعة في شمالي بوهيميا ومورافيا وسيلسيا، في الأراضي التي يتكلم سكانها الألمانية، لذلك لا تتساهل حكومة براغ في استقلال الألمان السوديت، لأن ذلك يؤدي إلى خسران البلاد التشيكوسلوفاكية مصانعها الهامة التي هي من أعظم مواردها الاقتصادية، إن لم تكن أعظمها، وإلى استيلاء ألمانيا عليها
ومن نتائج وجود المصانع التشيكوسلوفاكية في الأقاليم المأهولة بالألمان، تأثر سكان هذه الأقاليم الصناعية بالأزمة الاقتصادية. ومن الطبيعي أن التذمر من الأزمة الاقتصادية يؤدي إلى التذمر السياسي. فأخذت الأقلية الألمانية تتهم حكومة براغ باتباع سياسة التحيز، سياسة السهر على مصلحة التشيك بإيجاد أعمال لهم، وعدم الاعتناء بالعاطلين الألمان؛ واتسع باب التذمر وتعدى الحدود الاقتصادية إلى الحدود الثقافية والإدارية فأفهمت الأقلية الألمانية(269/12)
حكومة براغ أنها لا تراعي حقوق الأقلية في التعليم واستعمال لغتها، ولا في تعيين الموظفين، بل هي تخالف في أعمالها معاهدة الأقليات المؤرخة في 10 سبتمبر 1919
وكانت نتيجة هذا التذمر نزاعاً بين الأقلية والحكومة، أدى إلى احتجاج الأقلية الألمانية على الحكومة التشيكوسلوفاكية في عصبة الأمم. وأدى هذا النزاع إلى توليد البغض الشديد بين التشيك والأقلية الألمانية
لم تبق المشكلة التشيكوسلوفاكية مشكلة محلية، أي مشكلة أقليات، حسب تعريف الرئيس مازاريك، بل أصبحت منذ استلام النازي زمام الحكم في ألمانيا مشكلة دولية بتدخل ألمانيا في سياسة تشيكوسلوفاكيا عن طريق الأقلية الألمانية. والأقلية الألمانية في تشيكوسلوفاكيا ليست حزباً واحداً بل هي أحزاب، منها من يريد الانضمام إلى ألمانيا، ومنها من يريد البقاء متحداً مع حكومة براغ. ولما تسلم الحزب النازي الحكم رضى متطرفو الألمان في تشيكوسلوفاكيا به، وأظهروا ميلهم إليه، وقاموا بحركات عدائية نحو حكومة براغ، مما أدى إلى حل الحزب الألماني القومي والحزب الاشتراكي القومي. وبعد ذلك بقليل قامت حركة جديدة بين الألمان السوديت بقيادة الهر هنلين، فعظم شأنه وقوى حزبه
وقف الهر هنلين موقفاً يخالف موقف بقية زعماء الألمان في تشيكوسلوفاكيا، إذ هم يعملون على إنالة الأقليات الألمانية حقوقها التي جاء ذكرها في معاهدة الأقليات مع بقائهم ضمن وحدة الجمهورية. أما الهر هنلين فطالب باستقلال السوديت الذاتي، وتدخل في سياسة تشيكوسلوفاكيا الخارجية. وذلك صريح من خطابه الذي ألقاه في مؤتمر كارلسباد في 23 إبريل سنة 1938 إذ قال بعد أن ذكر مطالب حزبه الثمانية: (إننا نعلن رسمياً وبصراحة أن سياستنا مستمدة من المبادئ والأفكار الاشتراكية القومية - مبادئ النازي - فان كان سياسيو التشيك يريدون الوصول إلى تفاهم دائم معنا نحن الألمان، ومع الرايخ الألماني، فعليهم أن يلبوا مطلبنا في التغيير التام لسياسة التشيك الخارجية التي قادت الحكومة حتى اليوم إلى صفوف أعداء الشعب الألماني)
أما المطالب الثمانية فتتلخص فيما يلي:
1 - المساواة التامة بين التشيك والألمان في المنزلة
2 - ضمان هذه المساواة بالاعتراف للسوديت الألمان بكيان شرعي(269/13)
3 - تحديد المناطق الألمانية ضمن نطاق تشيكوسلوفاكيا والاعتراف بهذه المناطق قانونياً
4 - منح هذه المناطق الاستقلال الذاتي التام
5 - منح الحماية القانونية لكل مواطن يقيم خارج المنطقة الخاصة بجنسيته
6 - إزالة المظالم التي نزلت بالسوديت الألمان منذ عام 1918 وتعويضهم عنها
7 - الاعتراف بالمبدأ الذي يقرر توظيف الألمان في المناطق الألمانية
8 - منح الحرية التامة لمن يرغب في الجنسية الألمانية
والهر هنلين يعمل على تنفيذ السياسة النازية الرامية إلى احتلال ألمانيا البلاد التي تتكلم أكثرية سكانها اللغة الألمانية، وإلى إلغاء المعاهدتين اللتين تربطان فرنسا وروسيا بتشيكوسلوفاكيا، واللتين تضمنان لها استقلالها. وهذه السياسة ليست سرّاً، فقد صرح الهر هتلر في خطابه بتاريخ 20 فبراير 1938 مذكراً الريشتاغ (إن ما يزيد على عشرة ملايين من الألمان يعيشون في بلدين مجاورين لحدودنا). وأضاف إلى ذلك قوله: (إن ألمانيا الحالية تسهر على مصالح الريخ الألماني الذي من مصلحته حماية هؤلاء الألمان الذين يعيشون وراء حدودنا، والذين هم غير قادرين على نيل حقهم في الحرية العامة، والشخصية، والسياسية، وفي اتباع مثلهم الأعلى). وقد أجاب الدكتور هودزا رئيس وزراء تشيكوسلوفاكيا في 4 مارس على ادعاء حماية الألمان لحكومة براغ بأنها (تعني تدخلاً في شؤون بلادنا الداخلية، وإذا كانت ملاحظات الهر هتلر تعني محاولة التدخل في شؤوننا الداخلية - تدخلا يتعارض مع مبدأ الاعتراف بسيادة الدول الأخرى - فان الحكومة التشيكوسلوفاكية تمج ذلك كثيراً، وهي لا تترك أحداً يشك في أن سكان هذه البلاد سيدافعون عن جميع عناصر استقلالهم كدولة بجميع ما لديها من قوى حينما يعتدي على هذه العناصر. . .)
وبعد أسبوع اتخذت المشكلة التشيكوسلوفاكية شكلها الخطر على سلام العالم. لأنه في 11 مارس اجتازت الجيوش الألمانية الحدود النمساوية، وفي 13 مارس أعلن ضم النمسا إلى ألمانيا، فأصبح في عشية وضحاها ثلثا عشرة الملايين الذين جاء ذكرهم في تصريح الهر هتلر في 20 فبراير مواطنين ألمانيين. عندئذ أخذ السياسيون يتساءلون عن مصير الثلث الثالث؛ هل تعامله ألمانيا كما عاملت النمسا؟ ولكن وضعية هذا الثلث الدولية ليست بسيطة(269/14)
كما كانت وضعية النمسا لأن فرنسا وروسيا لا تقفان مكتوفتي الأيدي أمام اجتياز الجيوش الألمانية تشيكوسلوفاكيا؛ وفي ذلك خطر على السلام ومن جراء ذلك تنشأ حرب عالمية
وفي الواقع لم تتردد فرنسا في إظهار موقفها إذ هي في اليوم التالي لضم النمسا إلى ألمانيا أكدت بكل صراحة وعزم، أن فرنسا تنفذ تعهداتها لتشيكوسلوفاكيا المذكورة في معاهدتي 25 يناير 1924و16 أكتوبر عام 1925؛ وفي 15 مارس أعلنت روسيا بأنها ستقوم بواجباتها نحو تشيكوسلوفاكيا التي تقتضيها معاهدة الدفاع المتبادلة المؤرخة في 16 مارس عام 1935. وفي 14 مارس رفض رئيس الوزارة البريطانية التعهد لتشيكوسلوفاكيا بمساعدتها حين التعدي عليها؛ غير أنه ذكر أن القوى البريطانية تساعد الدولة المعتدي عليها في نظر حكومة جلالته. ثم أضاف منذراً: (إنه عند ما ينظر في السلم أو الحرب لا تراعى فقط الواجبات الحقوقية. . . وإنه من المحتمل أن بلاداً أخرى بجانب البلاد التي هي داخلة في النزاع تصبح حالا فريقاً فيه. وهذا الحكم صحيح بصورة خاصة على بريطانيا العظمى وفرنسا) ومعنى ذلك أنه إذا دخلت فرنسا الحرب لإنقاذ تشيكوسلوفاكيا فان بريطانيا ستكون بجانبها
كان لهذه الإنذارات الثلاثة وقع شديد في برلين، وكان من نتائجها أن حفظ استقلال تشيكوسلوفاكيا، وفتح باب المفاوضات بين حكومة براغ والهر هلنين لحل مشكلة السوديت. وقد نصحت حكومتا لندن وباريس حكومة براغ بالتساهل مع رعاياها الألمان. وكانت حينئذ حكومة براغ آخذة في وضع نظام الأقليات، فتقدم حزب السوديت الألماني إليها في 7 يوليو (تموز) عام 1936 بمذكرة عرض عليها فيها الدخول في مفاوضات على أساس تحقيق المطالب التي جاء ذكراها في المذكرة. وكان من المتفق عليه أن يظل محتوى المذكرة مكتوماً خلال المفاوضات بين الحكومة ورؤساء الأحزاب لتسهيل سيرها. وكان مفهوماً حينئذ أن مضمون هذه المذكرة لا يختلف عن المطالب الثمانية التي أعلنها الهر هنلين في خطابه الذي ألقاه في كارلسبارد في 23 أبريل.
اجتمع الدكتور هودزا في 9 يونيو (حزيران) مع مندوبي الهر هنلين وباشروا المفاوضات. وفي 15 منه صدر بلاغ رسمي مشترك يشير إلى أن الاتفاق تم على أن تكون مذكرة السوديت ونظام حكومة بشأن الأقليات بمثابة أساس مفاوضات بين الحكومة والسوديت.(269/15)
في 19 يوليو (تموز) نشر حزب السوديت الألماني المذكرة برغم أن المفاوضات مع الحكومة كانت لا تزال في دورها الأول وأن نصوص نظام الأقليات لم يعلم بعد، وهي تحتوي على 14 طلباً رئيسياً، يستخلص منها ولا سيما من الطلبين الخامس والسادس أن الألمان السوديت يريدون تنظيم الحكومة من جديد بصورة يصبحون فيها مستقلين تمام الاستقلال في إقليم السوديت، وفي الوقت عينه يكون لهم صوت معادل لصوت التشيك في إدارة شؤون الدولة التشيكوسلوفاكية. وطلبات السوديت الألمان تعني في نظر براغ أن كل ألماني سيملك (استقلالاً ذاتياً) يعطيه حقاً باتباع مجموعة أقسمت يمين الطاعة إلى (زعيم) لا إلى الدولة، وأن مثل هذه المجموعة ستكون منظمة ومداراة حسب طريقة النازي، فالنتيجة تكون تأسيس دولة أوتقراطية ضمن دولة ديمقراطية!
فهذه النقطة تظهر البون الشاسع بين مطالب الألمان السوديت وبين ما تريد حكومة براغ منحهم من الامتيازات.
نعم إن نظام الأقليات لم يعلم مضمونه بعد بصورة رسمية، غير أننا نعلم رسمياً أنه لا يحتوي على استقلال ذاتي لأي مقاطعة مّا من مقاطعات البلاد التشيكوسلوفاكية، وأن الحكومة مستعدة لقتل كل حركة انفصالية. ذلك ما صرح به رئيس الوزارة في 7 يوليو (حزيران) ووزير الحقانية في 8 منه
وقد نشر في 27 يوليو 1938 بطريق غير رسمي أن نظام الأقليات يتضمن ثلاثة عشر قسما، تحتوي:
- على مساواة بين جميع الموظفين بدون تمييز بين العناصر التابعة لها
- وعلى حرية انتخاب الجنسية التي يريدها المرء متى بلغ الثانية عشر، على أن يكون ملماً بلغة تلك الجنسية. أما اليهود فيحق لهم انتخاب الجنسية اليهودية - دون معرفتهم اللغة العبرية
- وعلى حماية الجنسية الشخصية، بعقاب كل من يحاول تحويل جنسية آخر.
- وعلى نظام التمثيل النسبي للعناصر في الوظائف وفي الشؤون الاقتصادية، كالإعانات والأشغال العمومية
- وعلى النسبة في التعليم والاستقلال الذاتي للأقليات في التعليم والتربية(269/16)
وعلى كل حال فقد حلت المفاوضات بين حكومة براغ والسوديت الألمان الأزمة التشيكوسلوفاكية، ولكن هذا الحل ظاهري؛ فظلت هجمات الصحافة الألمانية شديدة على سياسة الحكومة التشيكوسلوفاكية. ولم يكف الرجال المسؤولون في حكومة برلين عن التصريحات العدائية الشديدة ضد حكومة براغ. وكان الموقف، ولا يزال، معقداً وخطراً على السلام، مما أدى إلى تدخل حكومة لندن تدخلاً فعلياً في المشكلة التشيكوسلوفاكية. فقررت بالاتفاق مع باريس: إيفاد اللورد رنسيمان إلى براغ ليكون محققاً ووسيطاً في مسالة الأقليات. فقبلت حكومة براغ وساطة بريطانيا، ووافق السوديت على تحكيم اللورد رنسيمان
ويستخلص من إيفاد اللورد رنسيمان إلى براغ نتيجتان قوبلتا بالارتياح وهما: (أن الوصاية التي تتولاها إنكلترا تستلزم عند الاقتضاء كفالة أو ضماناً، وأنه قد زاد الأمل في الوصول إلى اتفاق سلمي وضعف الخطر الذي كان يخشى من استخدام القوة) كما يقول مسيو بلوم رئيس وزارة فرنسا السابق، في جريدة البوبلير
ولكن هل يوفق اللورد رنسيمان في إيجاد حل ملائم لهذه المشكلة يرضي براغ من جهة، وبرلين والألمان السوديت من جهة ثانية؟
إن مهمة اللورد رنسيمان صعبة، إذ عليه التوفيق بين وجهتي نظر متعارضتين. فألمانيا ترمي إلى أبعد من إزالة المظالم عن الألمان السوديت وإعادة حقوقهم إليهم. وأقل حل تقبله ألمانيا، وبالتالي يقبله السوديت الألمان، هو استقلال السوديت الألمان استقلالاً ذاتياً، واتباع حكومة براغ سياسة خارجية لا تتضارب مع سياسة الرايخ الخارجية، وذلك بترك حكومة براغ معاهدتي الدفاع مع فرنسا والروسيا، واتباع سياسة تتمشى مع سياسة حكومة برلين، أو على الأقل اتخاذ خطة حيادية شبيهة بوضعية بولندا. واتباع إحدى هاتين الخطتين، في نظر حكومة براغ، لا يتفق مع بقاء البلاد التشيكوسلوفاكية بلاداً مستقلة. وهي تؤدي إلى انضمام الأقاليم التشيكوسلوفاكية المأهولة بالألمان إلى ألمانيا، وإلى زوال الحصن العائق من طريق ألمانيا إلى أوربا الجنوبية والشرقية، وإلى تمكين ألمانيا من استئناف السياسة التي أحبطتها الحرب العالمية عام 1918.
ربما تقبل ألمانيا الآن حلا آخر أقل ملائمة لها، ولكن ذلك الحل لا يكون في نظرها إلا(269/17)
مؤقتاً. وفي الواقع اقترحت ألمانيا عقد مؤتمر رباعي من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا لإيجاد اتفاق - مؤقت - لحل المشكلة التشيكوسلوفاكية. وفي اقتراحها هذا تريد تأجيل حل المشكلة التشيكوسلوفاكية إلى أوقات أكثر مناسبة لتحقيق سياستها، وفي الوقت عينه تحاول إقصاء الروسيا عن كل اتفاق يتم بشأن حليفتها تشيكوسلوفاكيا
وعلى كل حال ستظهر لنا الأيام القريبة نتيجة جهود اللورد رنسيمان. وسنرى ما يقترح من حل لهذه المشكلة المعقدة الخطرة على سلام أوربا
يوسف هيكل(269/18)
حواء
يقول لي الأستاذان أديب عباسي وجمعة الطوال إن مقدمة قطع حواء في الرسالة الزاهرة لا تفي حق حواء فأجيبهم:
كل معروض يدعوا له غيره إلا الشعر فانه يدعو بنفسه لنفسه
(الناظم)
فم يضحك
تلمّستُ وجهكِ بين الوجوه ... ووجه الحقيقة لا يُدركُ
فلم أدرِ أيَّ دروب الحياة ... إلى دَرْكِ غايته أسلك
هُواتُكِ ما فتئوا حائمين ... على نور وجهكِ أو يهلكوا
تراموا إليه حفاةَ العقول ... فما أدركوه ولا أوشكوا
ولو بصروا من وراء الدموع ... دموع الهوى بكِ لم يأفكوا
ولا كشفت سخريات الوجود ... لأعينهم عن فمٍ يضحك(269/19)
رمز الحقيقة
(ختام الديوان)
جهلتُ الحقيقةَ بين القصور ... وأخطأتها في ضِلال الشجر
تلمّستها في صَميم الحياة ... وفتشت عنها بطون السير
وقلّبت من صحف الكائنات ... صحائف تحمل شتى الصور
فلم أدر أيّةُ أرض تحلّ ... ولا أيُّ أفق لها مُستقَرّ
أفوق السما هي بين الملا ... ئك أم هي في الأرض بين البشر؟
وكم خضتُ في غمراتِ السكون ... وأنعمتُ في صفحتيِهِ النظر
أسائل عنها بهيم الظلام ... وأنشدها تحت ضوء القمر
فما بهر العين منها الضياء ... ولا رنَّ في السمع منها الوتر
ولما توسدتُ بين القبور ... ضريحك أدركتُ بعض الأثر
وقلتُ الحقيقة تحت التراب ... ورمز الحقيقة هذا الحجر
الحوماني(269/20)
صلاح الدين وموقعة حطين
من أمين الريحاني
إلى محمد إسعاف النشاشيبي
قرأ الأستاذ أمين الريحاني خطبة الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في (موقعة حطين) فكتب هذا الكتاب ومنه قوله:
(حيا الله الأخ الأعز، والصديق الأبر
حبر أحبار اللغة العربية، حياه الله
كبير أنصار الوحدة القومية، حياه الله
رافع أعلام النبوة الخضراء والحمراء
لإعزاز العرب
ولبلوغ الأرب
ولهدْى من اغترب - حيَّاه، حياه الله
النافخ في الصور، المنهض المحرّض المثير، حياه الله
بحر البلاغة الزاخر، وأفق المعاني الباهر، ومرج البيان الساحر، حيّاه الله
إن بيانه لإعصار فيه نار
وإنه لسماء تتلألأ بالأنوار
وإنه لبستان قلبه من النرجس وعينه من الجلّنار
وإنه لمعرض من بنات الأفكار، بنات العرب الأبكار
معرض الحب والجمال
من بنات السهول
وبنات البوادي
وبنات الجبال
بنات العروبة والاستقلال، حياه، وحياهن الله
والسلام والصلاة على كل من يردون التحية، ويسارعون فزعين مناصرين
الله أكبر، الله أكبر، والوطن الأعز الأقدر، والاستقلال الأتم الأنور.(269/21)
الله والوطن والاستقلال
الله والوطن والاستقلال
لا حياة دون الثلاثة لأمة
ولا مجال، حتى لشبح من الآمال
إن لندائك صوتاً بعيد الصدى والقرار
وإن بيانك لجدير بإكليل من الغار
وبتهليل الأحرار
وبصلوات الأبرار
وإن إيمانك وإيماننا لمن لدن الجبار، رب العلم والاقتدار
القائل بلسانك ولساني: اليوم جهاد وغداً انتصار
أمين الريحاني
وهذا قسم من تلك الخطبة وهو خاتمتها:
(محمد بن عبد الله، محمد بن عبد الله!
نحن جماعتك، نحن شيعتك، نحن منتمون إليك، منتمون إلى قرآنك، منتمون إلى دينك
هل تريد أن نبيد، هل تريد أن يبيد قرآنك، أن تبيد لغتك هل تريد أن تضيع بلادك، أن تهلك أمتك؟؟
محمد!
أدركنا، أنجدنا، خلّصنا، أنقذنا، نجِّنا، إن الأعادي تداعت من كل صوْبٍ علينا، ونحن في الدنيا جنودك، ونحن في الدنيا رجالك!!
أبا القاسم، أبا القاسم!
إن التخلي عن الأحباب يوم الضنك، يوم الضيق، يوم البؤس، يوم الكرب - ممقوت
أبا القاسم، أبا القاسم، إنا لسنا بالحريصين على الحياة، إنا لسنا بالحريصين على بقاء، إنا لسنا بالحريصين على هذه الدنيا وزينتها وزخرفها.
البقاء والفناء عندنا سواء، الحياة كالممات، والممات كالحياة. الوجود كالعدم، والعدم كالوجود
أبا القاسم، أبا القاسم! إنا إنما نبغي أن تكون في الدنيا من أجلك لأجلك، لأجل قرآنك، لأجل(269/22)
لغتك، لأجل عربيتك. ولولا أنت، لولا أنت لصحنا: حيَّ على الفناء، حيهل بالفناء، وعلى الدنيا العفاء
هاتف من وراء الغيب يقول: لا تحزنْ، لا تيأس، لا تقنط نور الدين، صلاح الدين، حطين
إنْ خذل قرآني، إن خذل ديني، إن خذل إسلاميتي، إن خذل عربيتي، متسمَّى بالخليفة في بغداد، متسمى بالخليفة في القاهرة متسمى بالخليفة في المغرب. . .
إن خذلني سلاطين مشتغلون بالملاهي، قد ألهتهم عني بنات الليل. وإن أولئك، وإن هؤلاء إلا أسماء، إن هم إلا هواء. . .
إن خذلني خاذلون (كرِهَ اللهُ انبعاثهم فثبَّطهم وقيل: اقعدوا مع القاعدين)
إن خذلني خاذلون مخذولون فعندي عندي محمديان، بكريان، عمريان، علويان: عندي بطلان، عندي سيفان من سيوف الله المدخرة ليومٍ باسلٍ ذي أيام. كل واحد بأمة، كل واحد بأمم جَّمة، كل واحد بجميع قطين الأرض
عندي بطلان يجيئان وينقذان بلادي وأمتي وديني وقرآني وعربيتي ولغتي. خذ، خذوا:
محمود بن الشهيد ويوسف بن أيوب؛ ثم اذهب واذهبوا، واشهدْ واشهدوا موقعة حطين!!!
قد أمسى الصليبيون في الهالكين (وكم أهلكنا قبلهم من قَرْنٍ، هل تُحس منهم من أحد أو تسمع لهم رِكزَا)
حِطْين، حطين، حطين!!!
لولا حطين، لولا حطين لهلك المسلمون
لولا حطين لاضمحلت لغة الضاد. يوم بَدْر، يوم اليرموك، يوم حطين
أيها الغربيون، ارجعوا إلى بلادكم مذمومين مدحورين، انقلبوا إلى دياركم خائبين مقهورين!
أيها الغربيون! علمكم نور الدين وصلاح الدين ما لم تكونوا تعلمون: علماكم المروءة والوفاء، ومكارم الأخلاق والعدل، وأن تكونوا متمدنين مهذبين. لكنكم، لكنكم تلاميذ ألفينا كم بعد قرون (أرى الله بكم) جهالاً أغماراً، غير كرام، غير متمدنين، غير مهذبين
نورَ الدين! صلاح الدين! إن القوم قد رجعوا، إن القوم قد عادوا، وأعادوها بعد قرونَ جَذَعة
اللنبي، غورو، قد أتانا ما قلتما، فتعلَّما أنها لما تنتهِ(269/23)
أيها الغربيون! هذى بلادنا، هذه الدار دارنا، زايلوا بلادنا، غادروا بلادنا. إنا لكم، ولسلطانكم، ولوجوهكم (شاهت وجوهكم، لا حياها الله وجوها) ولمدنيتكم الممّوهة الكاذبة المزورة، ولظلمكم ولجوركم، ولانتقامكم - من القالين، من المبغضين، من المنكرين، من الجاحدين، من الكافرين. . .
هذى البلاد بلادنا. اخرجوا من بلادنا! إلى بلادكم! إلى بلادكم أيها الطارئون
هناك محمد، هناك محمد. . .
(والدهرُ بالناس دوّاريٌّ). . .
والدنيا دول. . .
(وتلك الأيام. . .)
(ووراء الغيب ما وراء الغيب)(269/24)
حنظل وتفاح!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
سقيتني يا دنيا بكأسيك في يوم واحد! وكنت شاعرة حاذقة حين قدمت إلى هاتين الكأسين في وقت يكاد يكون واحداً؛ حتى امتزجت في مذاقي المرارة بالحلاوة. . . وكنت صديقة مخلصة ناصحة في معاملتي حينذاك
قدَّمت إلى كأس الحنظل حين توجهت معزياً إلى عش ذي أفراخ زغب طارت عنه صاحبته وبانيته: أمهم الحمامة الوديعة التي أتت بهم خمسة متلاحقين، ثم مضت عنهم وخلّت بينهم وبين أبيهم. . .
وجلست أنظر فيهم من الصغير إلى الكبير - وسنه ثلاث عشرة سنة - ثم أحادث أباهم الواجم الباسم الحمول. . . ثم أطير بخيالي فجأة إلى قبر الحمامة الولود. . . ثم أرجع إلى نفسي أختزن فيها قوتها من بيدر الحزن الرفيع الذي أمامي، لأن مادة نفسي في مجاعتها. . .
قال لي الفرخ الأصغر: أمي سافرت إلى بعيد، وسترجع، ومعها حلوى ولعب. . .
فقال الذي يليه: لا، أمي ماتت وبكيت عليها مع النسوان. قال هذا وهو يضحك، فطفرت الدموع إلى عين الأكبر وحَدَرت، فخرج من الحجرة ليخفي البكاء وخرج وراءه أبوه، ووقفت أخته على باب بيننا وبينها، وارتسمت علامات وجوم متدرجة على وجوه الأطفال بحسب أسنانهم وإدراكهم، وبقي الأصغر يضحك وأنا معه أضحك بدموع، وأرشف من الكأس المرة!
ماذا عسى الأب أن يقول لابنه الأكبر الباكي في مثل هذه الحالة ليصرف عنه البكاء؟ أيقول له إن أمك مسافرة وسترجع إليك بحلوى ولعب؟ لا يصدق. . . أيقول له: سلم لله لأن الموت آخر الحياة، وهو منجل يحصد العاهل والباهل. . . وما إلى ذلك من (أجرومية) التعازي؟ لا يفهم ذلك لأنه لم يبلغ مبلغ من تطفئه هذه الأفكار. . . إذاً فالأولى أن يتركه حتى يذهب عنه وجدان الحزن فتجف دموعه وحدها
وشعرت كأن روح الأم حضرت البيت في ذاكرة الأطفال إزاء هذه الأزمة النفسية فبكى قلبي، وتكلفت المبالغة في ملاعبة الأصغر حتى ألهيه عن أخيه وعن نفسي، وجلست برهة(269/25)
ثم نهضت مثقلا. . .
لو أننا نخدع في إدراك المصائب كما خدع الأصغر، أو لو أننا ندركها باردة بسيطة كما أدركها الذي يليه، أو أننا ندركها إدراك ذلك الأب الصبور الحمول العارف بقوانين الحياة، لكان في هذا نجاة من وطأتها على نفوسنا. أما أن ندركها إدراك كبير هؤلاء الأطفال من غير علة ولا تَعِلَّة وعزاء، فذلك أشد الألم، لأنه ألم المصيبة وألم الحيرة في إدراك أسبابها وعلاجها. هذه كأس حنظل. . .
وأما الأخرى فقد تناولتها من يد الدنيا في عشية ذلك اليوم نفسه في عش يبنى لفتى وفتاة. . . والمدعوون جالسون كل منهم باش يرسل نكتة أو يضحك من نكتة، وفرح الحياة يترقرق في الوجوه ترقرق الشراب في كؤوس بلورية
وكان على شفتيّ بقية من كأس الحنظل التي شربتها في الصباح فوجدت طعمها فيما قدم إلي من شراب العرس. وهنا أدركت أن دنياي شاعرة حاذقة، وأنها ابتدأت تصاحبني بصدق. وشربت كأس التفاح وأنا أجمجم بكلمات خفية كما يجمجم المجوس على الطعام. . . وكانت هذه الكلمات قصائد وصلوات تلاها في حلقي ذاك المزيج الذي ذقت فيه خلاصة صنعة الدنيا الشاعرة. . والذي تحولت قطراته إلى كلماتها الآتية:
(اشرب! اشرب! ولا تخش السكر من هذه الكأس التي مزجتها لك بيدي! فإن ما فيها من أضداد تصطرع، كفيل بأن يترك عقلك دائماً في غاية الصحو. . . اشرب ولا يحاول لسانك أن يميز بين عنصري هذا المزيج فيُبَلبَل ولا يستطيع البيان. . . اشرب وإنظرني دائماً في قرارة الكأس متجسدة عارية لعينيك. . .
اشرب واحتفظ بمذاق هذا الشراب دائماً حتى تستطيع تقدير الطعوم الأخرى. . .
اشرب وأحذر أن تحدث من يحيطون بك في مجلس العرس بما تجد في كأسك فيقولوا عنك: (هذا سكران يهذي. . .)
(طالما شربتَ من كأس الحنظل وحدها حتى سكرتَ بالألم فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .
وطالما شربت من كأس التفاح وحدها حتى سكرت من اللذة فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .(269/26)
وقد تعودتم أن تضيفوا لفظة (السكر) إلى اللذة وحدها. ألا وإن للألم سكراً لا يقل شناعة وطيشاً وهذياناً وسفهاً عن سكر اللذة!
انظروا إلى أبي العلاء المعري! إنه عندي لا يقل إثماً عن الأعمى الآخر بشار، ولا عن أبي نواس!
لقد غرق المعري في كأس الألم وغرق الآخران في كأس اللذة ففقدتهم جميعاً. . .
لقد أتى المعري بهذيان كثير جعله يخرج عن دائرة الحياة العاملة ويعيش جامداً على هامشي أنا الحركة الدائمة العنيفة المنتظمة، يرصدني من بعد في محبسيه بعينيه المغلقتين، ويلمسني في خشونة وجهه المجدور، ويذوقني في طعامه المحدود، ويستنشق أجوائي في محبسه الضيق الخانق، ويراني عدماً وفقداً لأنه أنهى حبل النسل الذي تناهى إليه آدم. . . فهذى في كثير ولم يميز بين كثير من حقائقي وأباطيلي وحلاوتي ومرارتي وأزهاري وأشواكي، وكان الحرمان المطلق جذوة شعره وباعث سكره. . .
ولقد أتى الآخران بالهذيان المعهود لكم من سكارى اللذة الآثمة، وما زالا كذلك حتى ارتعشت يداهما وعجزتا عن حمل الكأس الفاتنة
رفع أبو العلاء الكأس طافحة بماء الحنظل لا يرى لها لوناً ولا يشم رائحة وليس له نديم. وقد طال وقوف الكأس على يديه حتى ساغت في حلقه على مرارتها، وشعشعها بالظلام الدائم الساكن في عينيه. تمر به مواكب الحياة بجليلها وحقيرها وجميلها وقبيحها فيراها من سكره بآلامه، جنازة موتي وكومات أنقاض. . . برغوثها كشحاذها يستحق الإحسان والإطلاق، وفرّوجها كشبلها يستحق الإجلال والخشية، وحشراتها وبهائمها تستحق الحياة الدائمة كإنسانها. . .
أليس هذا هذياناً كهذيان أبي نؤاس حين يرفع كأسه طافحة بماء العنب مشعشعة بنطاف دجلة وسناء الضحى ونور البدر، يصطبح ويغتبق ويعبث بحرمات الحياة في شغل عن دنيا الآلام الرفيعة والأمجاد والوصاية على مقدرات الأمم حتى (تكشفت له عن عدو في ثياب صديق) كما قال هو!
بلى! إنهما وجهان للسكر في الحياة بإدمان الشراب ذي العنصر الواحد الذي يجعل المدمن ينظرني من جانب واحد)(269/27)
كذلك كانت الدنيا تحدث نفسي في مجلس بناء عش جديد بعد مجلسها في العش المنهدم. ولم أشعر بأن نفسي بلغت من الفقه والحكمة إلى حد أن تأكل التفاح بشفتين عليهما مرارة الحنظل كما شعرت بها في ذلك المجلس!
ولقد صحوت بعد ذلك من السكر المطلق بالألم كما صحوت من السكر المطلق باللذة. وسآخذ بوصية دنياي الصديقة الشاعرة لأظل دائما ًيقظان صاحياً غير مخمور بنشوة ولا لوعة.
عبد المنعم خلاف(269/28)
الطريقة العلمية
أو القواعد الأربع للبحث والتفكير
للفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت
بقلم السيد أحمد محمد عيتاني
(رينيه ديكارت أشهر من أن يعرف، فهو أبو الفلسفة الحديثة، وواضع أسسها، وباني كيانها، عاش في القرن السابع عشر، وألم بجميع فروع الفلسفة، وترك لنا مؤلفات عديدة فيها، كلها ذات قيمة فذة، لما احتوت عليه من الحقائق العلمية، والملاحظات الدقيقة، والنظريات والآراء التي أحدثت هزة عنيفة في عالم العلم والفلسفة، فغيرت مجرى بحوثهما، وحملتها على الاتجاه في اتجاه جديد كان نتيجة لها. من بين المؤلفات التي وضعها ديكارت، رسالة صغيرة، بسط لنا فيها موجز تاريخ حياته العلمية، وعرض الظروف والمناسبات التي ساعدته في الوصول إلى طريقته العلمية الخاصة، التي بنى عليها بحوثه العلمية والفلسفية، وقد أسمى هذه الرسالة (رسالة الطريقة أو القاعدة) ووضعها باللغة الفرنسية، فكانت أول مجهود فلسفي كتب بهذه اللغة، وكان في ذلك خروج على عادة الفلاسفة والعلماء الذين ألفوا أن يكتبوا أبحاثهم ويدرسوها باللغة اللاتينية، ولهذا كان أسلوب المؤلف في رسالته أسلوباً جامداً معقداً غامضاً في بعض المواضع، طويل الجمل، كثير اللف والدوران، يصعب فهمه لأول وهلة، ولكن هذا لم يضع من قيمة الرسالة، ولم يمنعها من أن تكون من أجل مؤلفات هذا الفيلسوف الكبير خطراً وأبعدها أثراً، لما اشتملت عليه من القواعد العلمية، والنظرات الصائبة. وفيما يلي فصل من فصولها، يصور لنا الظروف والمناسبات التي أحيط بها المؤلف قبيل وضعه قواعده الأربع التي صاغ فيها طريقته العلمية، واتبعها في قيادة عقله للبحث عن الحقيقة والعلم الصحيح)
(أحمد عيتاني)
كنت يومذاك في ألمانيا. وقد دعتني إليها مناسبة الحرب التي لم تكن قد انتهت فيما بعد، واتفق أني بينما كنت عائداً من حفلة تتويج الإمبراطور لألحق بالجيش، أدركني الشتاء، وأوقعني في إحدى الثكنات العسكرية، وهناك لم أجد ما ألهو به، ولم يكن لدي من حسن(269/29)
حظي ما يشغل بالي من الشئون والأعمال، فكنت أقضي سحابة نهاري، منزوياً في غرفتي، حيث وجدت المجال الكافي من الزمن لأستعرض أفكاري وأخلو بها
اختلال الأعمال المكونة من جهود كثيرة متباينة
كان في طليعة تلك الأفكار ما لاحظته من أن الأعمال المكونة من أجزاء وأقسام كثيرة، إذا اشتغلت فيها عدة أيام، أصبحت وليس فيها من الروعة والإبداع ما في أشباهها من الأعمال الأخرى التي لم تمتد إليها سوى يد واحدة:
فالبناء الذي أشرف عليه وأنجزه مهندس واحد أكثر جمالاً ونظاماً من سواء من الأبنية التي عمل فيها الكثيرون، والتي رسمت مراراً، وبني على أسسها الهرمة أبنية لم تكن معدة لها.
وكذلك المدن القديمة التي أصبحت من الزمن مدنا كبيرة، بعد أن كانت قرى وضياعاً، فهي عادة فوضى في بنائها، إذا قيست بتلك المدن الحديثة التي وضع تصميمها مهندس واحد قبل المباشرة في بنائها. ونحن لو نظرنا إلى أبنية تلك المدن القديمة لوجدنا أن فيها ما لو أخذناه على حدة لما كان يقل فناً وروعة عن أبنية المدن الحديثة، ولكن نظرة واحدة تظهر لنا ما هي عليه من النظام والوضع: فهنا بناية كبيرة، وإلى جانبها أخرى صغيرة، وكلها تتحكم بالشوارع والطرق، فتردها متعرجة: عريضة هنا، ضيقة هناك.
وكذلك الشعوب المتوحشة سابقاً، تلك الشعوب التي لم تتحضر إلا شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن؛ وبقدر ما كانت تدفعها إلى ذلك مغايرة الخصومة والنزاع للحياة فقد رأيت أن ليس بإمكانها أن تضاهي بنظامها تلك الأمم الأخرى التي عرفت الحضارة منذ أقدم العصور، فاجتمعت كلمتها وأجمعت على اتباع دستور واحد يضعه لها مشرع حكيم.
وكان في حكم الثابت لدي أن حكومة الدين الحق، هي مطلقاً وبدون منازع، خير الحكومات نظاماً، لأنها من صنع الله تعالى وحده. ولما لا نقصر كلامنا على الأمور البشرية؟ فأنا أعتقد أن مدينة إسبرطة إذا كانت قد ازدهرت قديماً فليس ازدهارها عائداً إلى أن كل قانون من قوانينها كان صالحاً في ذاته، فلقد كان في قوانينها شيء كثير مما هو غريب وغاير للحق القديم، وإنما ازدهارها عائد إلى أنها اتبعت تشريعاً واحداً، وضعه شخص واحد، كان يرمي في جملته إلى غاية واحدة.
ورأيت أيضاً أن ما تشتمل عليه الكتب والمؤلفات من علوم ونظريات، إنما تكوّن من آراء(269/30)
كثير من الأشخاص المختلفين، شيئاً فشيئاً. لذلك لم يكن - أو على الأقل تلك العلوم التي لا تملك سوى أسباب تقريبية والتي لا يقوم عليها دليل ولا برهان - أقرب إلى الحقيقة، من ذلك التفكير البسيط الذي يقوم به شخص عادي ذو عقل سليم في بعض ما يعرض له من الأشياء.
هذا وقد بدا لي أيضاً أننا وقد كنا جميعاً أطفالاً، قبل أن نكون رجالاً، وأننا مكثنا زمناً طويلاً تحت سلطان أساتذتنا وسيطرة ميولنا، وهما ضدان، كلاهما لا يمحضنا النصح ولا يهدينا سواء السبيل، فمن المستحيل تقريباً أن نكوِّن لأنفسنا أحكاماً نزيهة ثابتة، كما كان شأننا لو وسعنا استعمال تفكيرنا منذ ميلادنا دون أن نركن لقيادة سواه
صعوبة الإصلاح العام
نعم، إننا لم نر أبداً من يدمر منازل مدينة ما لمجرد الرغبة في تجديدها وتجميل طرقها وشوارعها، ولكننا نرى كثيراً من الناس يهدمون بيوتهم بأيديهم ليعيدوا بناءها ثانية، وربما وجدوا أنفسهم أحياناً مرغمين على القيام بهذا العمل، حين يشعرون أنهم في خطر، وأن بيوتهم هذه ذات أسس واهية فهي تكاد تنقض على رؤوسهم. وعلى هذا فأنا موقن بأن ليس هناك إنسان واحد يحاول إصلاح دولة ما بقلبها رأساً على عقب، أو بتدميرها وبنائها ثانية؛ كما أني موقن أن ليس هناك شخص واحد يحاول إصلاح الهيكل العلمي أو نظام تدريسه السائد في المعاهد كلها
إمكان الإصلاح الخاص
أما آرائي وأفكاري التي تسربت إلى نفسي فلا أرى أفضل من نزعها عني تماماً لأعيد غيرها، أو أعيدها نفسها ثانية، أو أعيد قسماً منها بعد أن أحكم عقلي فيها، وبهذه الوسيلة أستطيع أن أنجح في حياتي نجاحاً أعظم مما لو بنيت على أسس خاطئة، أو استندت إلى مبادئ تلقنتها أثناء صباي، واعتقدت بها دون أن أمحص حقيقتها. ولقد شعرت أن عملي هذا لا يخلو من صعوبات جمة، إلا أنها صعوبات يمكن تذليلها، وهي لا تماثل تلك الصعوبات التي يجدها المرء في إصلاح أيسر الأمور التي تمس المجتمع: فالأجسام الضخمة هذه، إذا هدمت فهي صعبة البناء، وإذا هزت فهي صعبة الإمساك، وإن سقوطها(269/31)
لابد أن يكون قاسياً
أثر العادة في الشئون العامة
هذا، ولو كانت هناك مساوئ في بعض شؤون المجتمع، وهي مساوئ لابد من وجودها، ينم عليها ما بين شؤون المجتمع وأموره من تباين وتناقض، فالعادة ولاشك قد لطفت كثيراً من حدتها، وأصلحت الشيء الكثير منها، وجعلتنا نتحاشى منها ما لم يكن في الإمكان تحاشيه بمهارتنا. أضف إلى ذلك أن احتمال هذه الأمور - على ما فيها من مساوئ - أيسر من تغييرها. وما مثل ذلك إلا مثل الطرق التي تسير بين منعطفات الجبال، فهي تصبح مع الزمن طرقاً منبسطة ملائمة للسير من كثرة ارتيادها، ويكون أيسر على المرء أن يسلكها من أن يحاول السير في خط مستقيم، متسلقاً النجاد وهابطاً الوهاد
غاية ديكارت في رسالته
لذلك لا أستطيع مطلقاً أن أفهم تلك الطائفة من الناس ذات الأمزجة الثائرة، والعقول الحائرة؛ تلك الطائفة التي لا تنفك تفكر في أن تدخل على شئون المجتمع شيئاً من التقويم والتعديل، وذلك رغماً عن أن ليس لها من المكانة والجاه ما يؤهلها لذلك. ولو أني رأيت في رسالتي هذه ما يبعث على اتهامي بهذا الضرب من الجنون لكنت جد أسف، ولأحجمت عن نشرها، لأن غايتي منها لم تتعد مطلقاً ما أريده من إصلاح آرائي الشخصية، لأبني فيما بعد على أسس هي ملك لي كلها. وإذا أخرجت إلى الناس هذا النموذج من عملي، وقد راقني بعض الشيء، فليس معنى ذلك أني أدعوهم للضرب على وتيرتي، لا! فأنا أخشى اجتراء الكثيرين على ذلك، فأن إرادة النفس على التجرد من جميع ما اكتسبه قديماً من الآراء، لا يجب أن يكون مثالاً يحتذيه كل إنسان. ذلك لأن العالم يشتمل على نوعين من العقول البشرية، وكلاهما لا يصلح له هذا العمل أو هذا المثال
فالنوع الأول هو تلك العقول التي تقدر ذاتها أكثر مما هي حقيقة، فلا تتمالك من أن تتسرع في أحكامها، ولا تجد من الصبر ما يكفي لأن تقود تفكيرها بانتظام. ومن هنا ينتج أنها إذا منحت نفسها حرية الشك فيما تلقنته من المبادئ، وحادت عن الجادة العامة، ولو مرة واحدة، لم تعد تستطيع أبداً الاهتداء إلى الطريق التي يجب أخذها للسير في طريق قويم،(269/32)
فتبقى تائهة طيلة حياتها
والنوع الآخر هو تلك العقول التي لها من التواضع وبعد النظر ما يحملها على أن ترى ذاتها أقل قدرة على تمييز الخطأ والصواب من بعض عقول أخرى، فهي ترى إمكان التتلمذ على هذه العقول، وهي ترى واجباً اتباع آرائها دون أن تكلف نفسها عناية البحث عما هو خير منها
أما أنا فلقد كنت ولاشك في عداد تلك الطائفة الأخيرة، لو لم أتتلمذ على أكثر من أستاذ واحد، ولو لم أطلع على ما بين آراء الفلاسفة من تباين وتناقض، في كل عصر وزمن، فلقد لمست منذ أيام الدراسة أن ليس هناك ما يمكن أن يتصوره العقل مما يدعو إلى الدهشة ويجل عن التصديق إلا ويكون قد أثر عن الفلاسفة وعزى إليهم
العرف والمعرفة الصحيحة
ولمست وأنا أتجول وأتنقل أن جميع أولئك الذين تتضارب أخلاقهم وعاداتهم مع أخلاقنا وعاداتنا ليسوا برابرة ولا همجاً لمجرد هذا التضارب، بل أن فيهم كثيرين ممن يعقلون مثلما نعقل أو أكثر مما نعقل. ولاحظت كم يكون الشخص الواحد ذو العقل الواحد إذا نشأ في وسط إنكليزي أو فرنسي مختلفاً عن نفسه، فيما لو نشأ في وسط صيني أو هندي. بل وجدت أن الزي الواحد من أزيائنا الذي كان يروقنا منذ عشر سنين، والذي ربما راقنا بعد عشر سنين أيضاً، قد يبدو لنا الآن غريباً مزرياً. وهكذا يتدخل العرف وتتدخل العادة لا قناعنا أيضاً أن ليس هناك معرفة أكيدة صحيحة
القواعد الأربع
إذاً فلم يكن في مقدوري اختيار شخص يبدو لي في آرائه ما يدعوني إلى إيثارها على آراء سواه، وبذا ألفيتني مرغماً على أن أقود نفسي بنفسي، ولكني عزمت على أن أسير متمهلاً كمن يسير وحده في الظلام، وأن أتفطن إلى كل شيء بحيث لو لم أتقدم إلا ببطء احترست على الأقل من الزلل. وقد أبيت المباشرة بنزع أية فكرة من الأفكار التي تسربت إلى نفسي عن غير طريق العقل قبل أن قضيت زمناً طويلاً في تهيئة خطة العمل الذي حملت نفسي عليه، والبحث عن الطريقة القويمة التي توصلني إلى كل ما يستطيعه عقلي(269/33)
كنت درست في صباي بين فروع الفلسفة شيئاً من المنطق، ودرست بين الرياضيات الجبر والتحليل الهندسي، وهي ثلاثة علوم أو فنون كان ضرورياً أن أجد فيها شيئاً مما شرعت في البحث عنه، ولكني عند فحصها وجدت أن قضايا المنطق ومعظم تعاليمه تستعمل لبيان ما يعرفه الناس لا لتعليمهم ما يجهلون، أو هي كفن لول تستعمل للتحدث دون ما تفكير فيما نجهله من الأشياء، وأنها وإن اشتملت على كثير من القواعد الصحيحة القيمة، فهي جامعة أيضاً لكثير من القواعد الزائدة أو الضارة، وهذه يصعب فصلها عن تلك كما يصعب إخراج تمثال للآلهة ديانا أو الآلهة مينرفا من قطعة من المرمر لم تقطع بعد. أما التحليل الهندسي القديم والجبر المحدث فهما لا يتناولان سوى معنويات ليس لها أية فائدة واضحة. فالتحليل الهندسي يقتصر على النظر إلى الأشكال الهندسية، ولا يجلوها إلا إجهاد الخيال إجهاداً عظيما. والجبر مستمسك بقواعد وأرقام جعلته فناً غامضاً مهوشاً يشوش العقل بدلا من أن يغذيه
كل هذا حدا بي إلى التفكير في وجوب البحث عن قاعدة تضم محاسن قواعد هذه الفنون الثلاثة وتكون بمنجى عن شوائبها؛ إلا أني رأيت أن كثرة القواعد والقوانين وتعدادها يسببان عادة مساوئها، بحيث أن الدولة ذات العدد القليل من النظم والقوانين تكون أكثر نظاماً وقوانينها أدق رعاية، ولهذا رأيت أن أكتفي بالقواعد الأربع الآتية على أن أوطد النية والعزم على ألا أخرج عنها في حياتي أبداً
1 - طريقة الوضوح
فالقاعدة الأولى هي: ألا أنظر إلى أي شيء بعين الحقيقة إلا بعد أن أدرك أنه كذلك. ومعنى هذا أني أتلافى التسرع والتنبؤ، ولا أتبنى من الآراء إلا ما تجلى لعقلي بوضوح وسرعة يحولان دون الشك فيه
2 - طريقة التحليل
والقاعدة الثانية هي: تجزئة كل مشكلة من المشاكل التي أقوم بدراستها إلى أكبر عدد من الأجزاء يمكن ويجب أن تنقسم إليه، وذلك للتمكن من حلها على أصلح وجه
3 - طريقة التدرج(269/34)
والقاعدة الثالثة هي: تسيير تفكيري بانتظام، فأبدأ بأبسط الأمور، وأسهلها فهماً وأصعد تدريجياً لمعرفة أكثرها تعقيداً مع افتراض وجود النظام أيضاً بين الأمور التي لا يتعلق بعضها ببعض
4 - طريقة الإعادة والاستقصاء
أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي: القيام بإحصاءات تامة، في كل لحظة، والقيام باعادات عامة، لأتأكد من أني لم أهمل شيئاً
أحمد محمد عيتاني
عضو بعثة جمعية المقاصد في معهد التربية(269/35)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 37 -
مقالاته للرسالة (8)
هلّ هلال المحرم، وتهيأت الرسالة لإصدار (العدد الممتاز) في ذكرى الهجرة، فكتبتْ إلى الرافعي فيمن كتبت من أسرة الرسالة، تطلب إليه أن يهيئ موضوعاً مناسباً لذكرى الهجرة، وضربت له أجلا. واستبق الرافعي الميعاد فأعدّ قصة (اليمامتان) وبعث بها إلى الرسالة قبل موعد العدد الممتاز بأكثر من أسبوع. وحسبت الرسالة أنه بعث إليها بمقاله الأسبوعي المعتاد، وأنه ما يزال يعدّ موضوعه للعدد الممتاز، فنشرت قصة اليمامتين قبل موعدها، وكتبت إليه تستنجزه المقال الثاني. وكان الرافعي متعب الأعصاب، يشكو وجعاً في أضراسه يثقل رأسه، وقد غاظه أن الرسالة فوَّتت عليه الفرصة فسبقت إلى نشر القصة التي أعدها للعدد الممتاز قبل موعدها وتركته في حيرته، ولم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فذهب إلى أوراقه القديمة يفتش بينها عن موضوع خليق بالنشر في هذه المناسبة، فوقع على مقالة (حقيقة المسلم)، وكان كتبها قبل ذلك بسنتين إجابة لدعوة جمعية الكشاف المسلم لشام، ونشرها بالأهرام في ذكرى المولد النبوي لسنة 1352هـ فبعث بها إلى الرسالة لتنشر في العدد الممتاز لسنة 1354هـ
يتحدث الرافعي في قصة اليمامتين عن الفتح الإسلامي، وأخلاق العرب، وتعريب مصر الفرعونية الرومانية، وفتنة القبط بسجايا العرب ومزايا الإسلام؛ وفيها إلى ذلك حديث عجيب عن الحب والمرأة في قصة خيالية افتعلها الرافعي ليبلغ بها ما في نفسه من معاني الحب؛ ثم جعل في خاتمتها (نشيد اليمامة) اليمامة التي تقول الرواية العربية إنها تحرَّمت في جوار عمرو ابن العاص فمنعته أن يقوض فسطاطه!
كان لهذه القصة عند الرافعي وعند قراء الرسالة عامة موقع لم تبلغه قصة سعيد بن(269/36)
المسيب. وقد افتتن بها كثير من القراء، حتى كان منها أن اهتدى إلى الإسلام أستاذ مسيحي من أساتذة التاريخ في بلاد الجزائر، فكتب إلى الرافعي رسالة يعلن فيها إليه إسلامه، ويسأله الوسيلة إلى دراسة هذا الدين والتفقه فيه. ولم أعثر بعد على هذه الرسالة بين ما خلّف الرافعي من رسائل أصدقائه إليه
ومن اعتداد الرافعي بهذه القصة وبما بلغ فيها من التوفيق، جعلها فاتحة كتابه (وحي القلم)
ولم يكفه أسبوع للاستجمام والخلاص مما يعاني من وجع الضرس وتعب الأعصاب، فاستراح أسبوعاً آخر وبعث إلى الرسالة بالجزء الثالث من (كلمة وكليمة)
ثم وقعت حادثة اهتزت لها نفس الرافعي اهتزازاً عنيفاً ونقلته من حال إلى حال. . .
جلست يوماً نتحدث من أحاديثنا، فقال: (. . . إن صديقنا الأستاذ م. لم يكتب لنا من زمان. . ليت شعري ما منعه عنا. إن بي قلقاً عليه وفي نفسي أن أراه أو أعرف من خبره!)
وفي صبيحة اليوم التالي طالعتنا الأهرام بخبر غامض: (. . أن شاباً من الأدباء، هو ابن شيخ من شيوخ الأزهر، قد حاول الانتحار بقطع شريان في يده!)
وقرأ الرافعي الخبر فاربدّ وجهه وانفعلت نفسه، وقال: (اقرأ، إنه هو. . .!)
قلت: (من تعني؟)
قال: (صديقنا الأستاذ. م، لقد غلبه شيطانه على دينه آخرة أمره. غفر الله له!)
فجزعتُ وطارت نفسي، وقلت وأكاد أغصّ بريقي: (م؟ إنك لتتوهم، وإنك مما تفكر في شأنه ليُخَيل إليك. إن لصديقنا لديناً، وإن فيه لتحرجاً وخشية؛ وما أراه في أي أحواله يقدم على هذه الجريمة!)
ولكن الرافعي لم يلتفت إلى ما أقول، وأخذ يحوقل ويسترجع ويستعيذ بالله من غلبة الهوى وفتنة الشيطان. ثم مد يده إلى مكتبه فكتب رسالة إلى م يسأل عن حاله وخبره ويرجو له العافية في دينه ودنياه؛ ثم يطلب إليه أن يصف له ما كان منه وما حمله عليه وما آل إليه أمره؛ ولم ينس مع كل أولئك ومع ما تفيض به نفسه من الحزن والألم أن يرجوه (الدقة في وصف المرحلة التي كان فيها بين الحياة الموت؛ فأنها المرحلة التي لا يحسن أن يصفها إلا من أحسّ بها. . .)
وصديقنا الأستاذ. م. أديب واسع المعرفة، له دين ومروءة، وفيه تحرج وخشية؛ وقد نشأ(269/37)
في بيت له ماض في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذَّود عن حرماته؛ وهو شاب عزب، بعيد الخيال، دقيق الحس، مرهف الأعصاب؛ وعلى أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فأنه من سعة خياله ودقة حسه وحدة أعصابه متشائم النظرة، لا تراه إلا رأيت في وجهه وعلى طرف لسانه معنى دفينا من معاني الألم؛ وما يرى نفسه في أكثر أحواله إلا غريبا في هذا العالم وبين هذا الناس؛ فان له من خياله دنيا غَير دنيا الناس، وعالماً غير هذا العالم، يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض. وكان بينه وبين الرافعي ودٌ وله في نفسه مكان؛ فكان له سره ونجواه منذ كان فتى يافعاً لم يبلغ العشرين. وكان الرافعي يعتد بصداقته ويقرّ إليه ويعجب بدينه وتقواه ويتوقع له مستقبلا مجيدا بين المجاهدين من أهل الأدب ودعاة الإسلام.
فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه في الانتحار جزع وتطير وضاقت نفسه، وناله من الهم ما لم ينله لحادثة مما لقي من دنياه. فمن أجل هذه الحادثة أنشأ الرافعي مقالات (الانتحار)
ولم يكن الرافعي يعلم من أحوال صاحبنا ما دفعه إلى هذه المحاولة الطائشة؛ فأخذ يتكهن وينتحل الأسباب ليبني عليها الحديث والقصة؛ فما جاء جواب الأستاذ (م) إلا بعد المقالة الثالثة، فأخذ من هذا الجواب مادة الجزء الرابع من هذه المقالات، وجعل الحديث في هذا الجزء على لسان (أبي محمد البصري) وهو يعني الأستاذ (م)، فهو هو وكلامه كلامه في جملته ومعناه، لم يغير منه الرافعي إلا قليلاً من قليل. فما يدل على حالة صاحبنا إلا المقالة الرابعة من هذه المقالات الست. أما ما عداها مما سبق أو لحق، فهي قصص مفتعلة من وحي هذه الحادثة في نفس الرافعي
ومقالات الرافعي في (الانتحار) هي باب من الأدب لم ينسج على منواله في العربية من قبل، فيها فنه القصصي، وفيها روح المؤمن الذي لم تفتنه دنياه عن ربه، وفيها إلى ذلك شعر وفلسفة وحكمة، وقلب رجل يعيش في حقيقة الحياة
وكان بين الرافعي والأستاذ حسن مظهر محرر اللطائف المصورة مودة. فلما تولى تحرير اللطائف كتب إلى الرافعي يرجوه أن يكتب فصلاً لقراء اللطائف عن (سحر المرأة)؛ فكتب فصلاً بديعاً يصف فيه نفسه وصاحبته (فلانة) في أول لقاء بينهما
فلما فرغ من مقالات (الانتحار) تناول هذا الفصل فزاد فيه ما زاد وبعث به إلى رسالة(269/38)
بعنوان (ورقة ورد) لأنه سار فيه على نهج كتابه المعروف (أوراق الورد) فهذا الفصل عنده هو من تمام هذا الكتاب
وكان من زملاء الرافعي في محكمة طنطا الأديب فؤاد. . . وهو شاب له ولوع بالأدب؛ وعلى أنه زوج وأب، فانه كان بأناقته ولباقته مرعى أنظار كثير من الفتيات، وكان له في الغرام جولات. . .
ثم فاء إلى نفسه بعد حين، فانصرف عن اللهو والغزل إلى شئون أسرته وولده؛ وراح ينشر بعض مغامراته الغرامية في إحدى الصحف الصغيرة التي تصدر في طنطا. . .
وقرأ الرافعي بعض ما ينشر صاحبنا، فرأى (علماً جديداً) لم يدخل إليه من باب ولم يقرأه في كتاب؛ فأرسل يستدعي صاحب هذه المقالات إليه ليفيد علماً من علمه ومن تجاربه. . .!
وجلس صاحبنا يتحدث إلى الرافعي ويقص عليه، والرافعي صاغ إليه ملذوذ بما يسمع؛ فما انتهى صاحبنا من حديثه حتى كان على موعد مع الرافعي أن يحضر له طائفة من مذكراته ورسائل صواحبه، لعله يجد فيها موضوعاً يكتبه لقراء الرسالة
فمن هذه المذكرات ومن هذه الرسائل استملى الرافعي مقالات (الطائشة) و (دموع من رسائل الطائشة) و (فلسفة الطائشة). . .
فهذه القصة حقيقية لا افتعال فيها، وليس فيها شيء من صنع الخيال؛ وما حكى الرافعي من الرسائل الطائشة هو من رسائلها نفسها كما نقلها إليه صاحبها؛ وفلسفتها هي فلسفتها كما فهمها الرافعي من رسائلها ومما كان من أمرها مع صاحبها
لقد نال الرافعي من ملامة الفتيات ما ناله بسبب هذه المقالات، وقرأها أكثر من قرأها منهن على أنها قصة من الخيال اخترعها الرافعي ليحتج بها فيما يحتجْ لمذهبه في الحب والمرأة وتجديد الأخلاق، والحقيقة فيها هي ما قدَّمت؛ وقد زاد الرافعي إيماناً بمذهبه بعد هذا الذي سمع من صاحبه وقرأ من مذكراته ومن رسائله!
ولم يكتب الرافعي قصة (الطائشة) على أنها قصة؛ إذ كان صاحبها قد كتب قصتها على طريقة من فنه، فآثر الرافعي أن يتناولها من أطرافها ليحكم بها حكمه ويتحدث عن رأيه في طائفة من فتيات العصر؛ فترك صلب القصة ليكون حديثه عن التعليق والحاشية(269/39)
وقد قرأت القصة مع الرافعي كما أنشأها كاتبها؛ فكان الرافعي يقف عند كثير من عباراتها موقفاً بين الإعجاب والدهشة؛ إذ كان مؤلفها يكتب ما في نفسه كما هو في نفسه، فكان فيها وحي عاطفته ونبض قلبه ويقظة روحه، فجاء بأدق ما في الفن وأبلغ ما في التعبير غير قاصد إلى شيء من ذلك، وما كان يبلغ شيئاً من ذلك لو أنه قصد إليه؛ إذ لم يكن هو بين أهل البيان في هذه المنزلة، ولكنه كان من أهل الحب؛ وكان هذا هو دليل (الصدق) عند الرافعي فيما كتب صاحبه وما نقل إليه من قصة صاحبته. . .
ولما كتب المقالة الثالثة (دموع من رسائل الطائشة) خلا إلى نفسه أسبوعاً ليستجم، وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من: (كلمة وكليمة) وفيها حديث عن العقاد
وفي هذا الأسبوع كان الرافعي يجمع خواطره حول ما سمع من قصة الطائشة، فأنشأ مقاله الرابع بعنوان (فلسفة الطائشة)
ثم أملي علىَّ مقالة (كفر الذبابة) يعني بها الحكومة التركية لبعض ما ذهبت إليه في شئون الإسلام والعربية. وهي آخر ما أنشأ من الفصول على أسلوب كليلة ودمنة
وكانت مقالة (كفر الذبابة) هي آخر ما أُملي على من المقالات؛ وذلك في صيف سنة 1935. ثم تهيأ للسفر إلى مصيفه في (سيدي بشر)، وتهيأت للسفر إلى القاهرة فكانت فيها إقامتي، فلم أكن ألقاه أو يلقاني إلا ساعات كل أسبوع: فأسبوعاً أزوره في طنطا، وأسبوعاً يزورني في القاهرة. على أن الرسائل فيما بين ذلك لم تنقطع بيننا حتى يناير سنة 1937، قبل موته ببضعة أشهر. ثم تجافينا لشأن ما، فما التقينا إلا مرة واحدة قبل موته بشهرين، فكان لنا مجلس في قهوة (بول نور) بالقاهرة مع الأصدقاء: شاكر، وزكي مبارك، وكامل حبيب، وزيادة؛ ثم افترقنا بعد منتصف الليل وفي نفسي منه شيء وفي نفسه مني. . .
وفي صبيحة الغد بدأت المعركة الأخيرة بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول (وحي القلم)
. . . ومضى شهران بعد تلك الليلة لا ألقاه ولا يلقاني؛ وهو يشكوني إلى صحابتي وأشكوه؛ حتى جاءني نعيه. . . غفر الله لي!
لكأنما كانت هذه القطيعة بيننا وقد دنا أجله، لتخفف عني وقع المصاب من بعد؛ أو لتحملني - غير محمول من أحد غير واجبي - على كفارة الذنب الذي أذنبت بهذه القطيعة؛ فأبذل ما في الطاقة من الجهد الجاهد لكتابة هذا التاريخ فأقوم له بعد موته بالحق الذي عجزت(269/40)
عن وفائه في حياته. يرحمه الله!
. . . لم يمْلِ عليَّ الرافعي شيئاً بعد مقالة كفر الذبابة؛ ولكنه طلب إلي أن انسخ له صورة من مقال كان نشره في المقتطف قبل ذلك بسنوات عنوانه (سر النبوغ في الأدب)
فلما سافر إلى مصيفه بعث إلى الرسالة بمقالة (كلمات عن حافظ) لمناسبة ذكراه؛ ثم أصابته قُرحة في كفه منعته من العمل، فأخذ مقالة (سر النبوغ في الأدب) فجعل عنوانها (الأدب والأديب) ثم جعلها مقالة الأسبوع التالي. وهي مقالة من مقالات الرافعي الفريدة، تهم الباحث الذي يريد أن يدرس الرافعي صاحب (تاريخ آداب العرب)
ثم توالت مقالات الرافعي يمليها على نفسه ويكتبها بخطه؛ على أني بما كنت ألقاه وبما كان بيني وبينه من الرسائل إلى ما قبل موته بأشهر، لم يفتني أن أعرف دوافعه إلى كثير مما كتب بعد ذلك من المقالات لقراء الرسالة؛ فسأحرص - تماماً لهذا البحث - على أن أذكر ما أعرف من دوافع بعض المقالات التي أنشأها وحدها من بعد غير معتبر ترتيبها في النشر، إذ لا عماد لي فيما أكتب عنها إلا عنها إلا الذاكرة.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان(269/41)
التشريع المصري والتشريع الإسلامي
للأستاذ عباس طه
سجل العلامة الكبير المستشار عبد السلام ذهني بك في بعض المجلات العلمية بحثاً مستفيضاً ضافي الذيول والمرامي يتلخص في ضرورة تجميع الفقه الإسلامي في مختلف ما تكشفت عنه قرائح الأئمة المجتهدين ونحا نحوه الفقهاء من الأحرار الباحثين، ثم مقارنة مستفيضة بين الفقه الروماني وأثره في بضعة قرون ووفائه بحاجة المعاصرين يومئذ ونهوضه إلى مستوى سد حاجة الناس في باب المعاملات والأحوال الشخصية، ثم كيف استطاع أن يكون أثره في الخلود طويلاً ووفاؤه بحاجة الناس عاما، ثم بضرورة وضع موسوعة تتسع لآراء الباحثين من الأئمة المشترعين كما فعل في عهد جستنيان الخ
ونحن العلماءَ في الفقه الإسلامي نحمد لعزته تلك الألمعية وغيرته الفياضة على تراث المسلمين أن يذهب بدداً وأن تتحكم في أساليبه ومراميه وصياغته فئة من غير الناطقين بالضاد حتى أحالته ترثاً مهلهلاً لا يشفي علة ولا ينفع غلة. وبقى ذلك الداء العياء يتغلغل في أزهى عصور التاريخ وأغنى عهوده بالعلماء، فما انفرجت شفتان عن ضرورة تجميع هذا التراث الموروث عن أئمة الدين الذين أخرجوا إلى الإنسانية خير ما يقتدي به الناس في أمر معاشهم ومعادهم، وما يحكم حركة التعاون بين أفراد النوع الإنساني ويقيمها على أسس من الخير صالحة لا يتطرق إليها وهن ولا فساد
لكني أسائل أولئك الذين يكتبون حول هذه الموضوعات: ماذا يريدون بهذا التجميع؟ أيريدون بذلك أن تجمع أقوال الفقهاء المشترعين والأئمة المجتهدين في سفر واحد تراثاً مزيجاً من الآراء الفقهية بين رجل اجتهد وكد لينشئ له مذهباً ثم عاد فرجع عنه أو بقي ولكنه على وهن، وذلك شائع في مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة، ففي هذين المذهبين أئمة اشتغل علماء الفقه الإسلامي بالتعقيب على آرائهم الفقهية فباتت غير صالحة لاستهداء الناس بها والسير على مناهجها - وبين آخر صح اجتهاده، وقام على منارة الحق سداده، ولكنه ابتلى بفريق من المعتنقين لمذهبه اشتغلوا بتجريح غيره من المذاهب والإشادة بمذهبه دون سواه، فبقى طلاب الحقيقة في قطع من الليل البهيم يتلمسون لهم ما يكشف الحقيقة في صميمها ويرد الواقع إلى نصابه؟ أم يريدون أن يجمع الصحيح من أقوال الأئمة المجتهدين(269/42)
في موسوعة واحدة يعم نفعها وتنتشر فائدتها؟ وإذا فما قيمة هذا التجميع في نظر الواقع والتاريخ والعلم؟
لقد بذل المرحوم محمد قدري باشا مجهودا لا بأس به في تجميع شطر غير قليل من مذهب أبي حنيفة مما لم يقم به العلماء المتخصصون منذ عهد الناس بمنشأ الفقه الإسلامي فاستنبط مجهوده من كتب صيغت بأساليب رث حبلها ونقضت أشلاؤها ودق على الباحثين وجه الصواب فيها، وكان العمل يومئذ بمذهب أبي حنيفة دون سواه مما جعل قدري باشا يضع في باب الأحوال الشخصية والوقف بنوعية كتابيه على صورة مواد حتى يكون قانوناً يسهل الرجوع إليه والاستشهاد به
لكن ما أسرع أن تمخضت حيل الناس في تطبيق مواد الطلاق ومواد النفقة وافتنانهم في الهرب من تطبيق الأحكام الشرعية على مذهب أبي حنيفة عن عجز القضاة الشرعيين وعدم قدرتهم على تطبيق تلك الأحكام تلقاء ما يبديه المطلق من أفانين وحيل للفرار من طائلة العقاب، وما يبديه المحكوم عليه بالنفقة وما يبدو من حيل المحامين الشرعيين في ذلك الميدان المنبسط الذي لا يحده تقنين ولا يردع عن العبث به رادع، فجأر القضاة الشرعيون بالشكوى من فشل هذه التجربة، والأستاذ المراغي يومئذ منهم في الطليعة يشاطره قوم ذوو دراية وكفاية؛ وقد شعروا بضرورة البحث في غير مذهب أبي حنيفة من المذاهب عما يسد حاجة المتقاضين ويفسح المجال للقضاة باعتبارهم المطبقين لأحكام الشريعة والمهيمنين على تنفيذها في مواد الأحوال الشخصية نائبين في ذلك كله عن ولي الأمر في البلاد، وما يقطع الطريق على حيل المحتالين، وما يفتح عيون الباحثين على ثروة غزيرة من العلم كانت ولا تزال منهلا ينهل منه المتقاضون وغير المتقاضين، وما يقوم دليلاً في كل يوم على أن الفقه الإسلامي كفيل بمسايرة كل عصر وجيل وخليق بأن يحمل أمانة البشر في مختلف مرافقه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ فوضع قانون رقم 25 لسنة 1920 خاصاً بأحكام النفقة وبعض مسائل الأحوال الشخصية مؤلفاً من ثلاث عشر مادة، وهو يتناول معالجة الأحوال التالية.
(1) النفقة (2) العجز عنها وما يترتب على ذلك العجز من الآثار (3) حكم المفقود وما يترتب عليه قبل الخصوم من حقوق (4) حكم القاضي بالتفريق للعيب وما يترتب على(269/43)
ذلك العيب من آثار مباشرة وغير مباشرة (5) الترخيص للزوجة بطلب التفريق من القاضي حال قيام العيب في زوجها وحاجة المجتمع إليه (6) أحكام عامة متفرقة. ثم درجت المحاكم على تطبيق ذلك القانون بأمانة وتوفيق، ودرج المفتشون القضائيون في وزارة الحقانية على تتبع تطبيق هذا القانون وتبين المدى الذي وصل إليه من إصابة حاجات الجمهور وسد كفايتهم وإقناعهم بأن في ثنايا الفقه الإسلامي ما يكفل بعث الطمأنينة إلى قلوبهم وإيصال الحقوق إلى ذويها، فلم تمض فترة من الوقت غير طويلة حتى استفاضت تقارير المفتشين القضائيين بأعطر الثناء على ذلك الأثر الطيب الذي تركه قانون سنة 1920 في نفوس المتقاضين.
وهكذا تحررت عقول طلاب الإصلاح من ربقة التقيد بكل قديم واقتنعوا بأن تطور الحياة وتشعب مسالكها وما يجد فيها من أحداث وعبر من أقوى الحوافز على تلمس أفضل المناهج في باب التقاضي، وكفالة مصالح الناس وردها إلى أمثل طريق وأبلج محجة. من أجل ذلك اطرد البحث عما يساير مصالح الناس ويماشي رغائبهم، وما يدفع عن المجتمع علله وأمراضه، فشعر المصلحون مرة أخرى بضرورة حماية الأسر من تلك الأمراض الفواتك التي لم يدفعها كثير من أحكام أبي حنيفة المتعلقة بالطلاق وبالتفريق للغيبة وبدعوى النسب وسن الحضانة وما إلى ذلك، فوضع مرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خاص ببعض الأحوال الشخصية يتألف من 25 مادة، وهو يقع في تسعة أبواب: الباب الأول الطلاق (2) الشقاق بين الزوجين (3) التطليق لغيبة الزوج (4) دعوى النسب (5) النفقة والعدة (6) المهر (7) سن الحضانة (8) المفقود (9) أحكام عامة
ولا تزال الأمة في مسيس الحاجة إلى وضع قانون موضوعي، فأشير بوضع ذلك القانون. ثم تألفت لجنة تحت رياسة فضيلة شيخ الجامع الأزهر، وهي وإن سارت بخطى بطيئة إلى الآن لاعتبارات بعضها يرجع إلى المحيط الراهن، وبعضها يرجع إلى ثقل المسئولية في هذا القانون، فهي فيما نعتقد بالغة إن قريباً وإن بعيداً ما تصبوا إليه الأمة من كفالة لمرافقها وسد عوزها التشريعي في حياتها. هذا القانون الموضوعي إذا كتب له الوجود فسوف يجمع بين دفتيه تراثاً صالحاً في شتى المذاهب حتى مذاهب الأحرار من الفقهاء المشترعين الذين كانوا ولا يزالون بعيدين عن المحيط العملي، فكان العلماء في الأزهر لا(269/44)
يأخذون بآرائهم ولا يلقنونه لطلبتهم بل كانوا على النقيض من ذلك من المتبرمين بهم والزارين عليهم، وكان محذوراً على القضاة الشرعيين أن يتخذوه مدداً لآرائهم القضائية أو مصدراً لثروتهم العلمية لأنهم كانوا مأخوذين بالقضاء على أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، لكن لما تشعبت الحياة في مناحيها، واتضح بجلاء أن مذهب أولئك الأحرار المشترعين خليق بتقديره وبعثه من مرقده واتخاذه قبلة للناس في بعض أحوالهم الشخصية (والحاجة كما يقولون تفتق وجه الحيلة) لجأ طلاب الإصلاح إلى سن قانون موضوعي يحيط قدر المستطاع بمرافق الناس ويسد كفايتهم القضائية ويحرر العقول من كل تقليد لا يتفق ومصالح الجمهور. فأين نحن الآن من فكرة تجميع الفقه الإسلامي في موسوعة واحدة والأحداث كل يوم تحفزنا إلى جديد من الفن في كل شيء لنلقي بين أيدينا دروساً من العظة بالماضي، وإن ما صلح اليوم للعمل به قد لا يصلح غداً؛ وإن سلسلة التجارب لما يقع تحت المشاهدات ستظل متصلة الحلقات بالوجود اتصالاً وثيقاً؛ ثم ما لنا ولتجميع الفقه الروماني وقد كان الفقه الروماني - كما يقول بحق الباحث العلامة الدكتور عبد الحميد أبو هيف - قائماً بأسسه وقواعده على التفرقة بين الطبقات؛ أما الإسلام بقواعده وأسسه فهو قائم على الديمقراطية العادلة والمساواة الواضحة؛ وأية ديمقراطية ومساواة أعمق في الوجود أثراً وأخلد في المجتمع ذكراً من تلك التي أسس قواعدها وشيد بنايتها فاطر السموات ومدبر الكائنات وبعثها على لسان الرسول الأعظم قام من بعده خلفاء راشدون، وحسبك من بينهم عمر الفاروق هذا الذي يضرب أعلى المثل وأنبلها في المساواة وخفض الجانب واحتقار الأثرة في الواقعتين التاليتين:
مرَّ الفاروق كعادته في جوف ليلة وقد اتكأ على جانب جدار أحد المنازل فسمع امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامزجيه بالماء. فأجابت الفتاة: أما علمت يا أماه بما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت الأم: وما كان من عزمه؟ قالت الفتاة إنه أمر مناديه فنادى في الناس ألا يشاب اللبن بالماء. قالت: يا ابنتي قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فنحن في موضع لا يرانا فيه عمر ولا مناديه. قالت الفتاة: يا أماه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كان هذا الحوار الطريف يجري بين الأم وابنتها على مسمع من عمر وهو أشد ما يكون البنت إعجاباً وبالأم تبرماً. فلما تحقق من ظفر الفتاة برأيها(269/45)
وانتصار الحق على الباطل - أمر تابعه أن يعلم الباب ليسهل الاهتداء إلى موضعه. وما أن أشرقت الغزالة من خدرها حتى بعث رسوله يستقصي خبرهما ويرى هل الصبية بكر أم متزوجة؟ فلما علم أنها بكر جمع أولاده بين يديه وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى زوجة رشيدة بصيرة بأمور دينها، شديدة المراقبة لله، تحذر الآخرة وترجو رحمة ربها؟ ويميناً لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقني منكم أحد إليها. فاعتذر ولداه عبد الله وعبد الرحمن لأنهما متزوجان، فتقدم ولده عاصم الصغير وقال: هأنذا يا أبتاه لا زوجة لي، زوِّجني ممن اخترتها. ثم بني بها. فقال الناس: تزوج عاصم بن عمر أمير المؤمنين من فتاة راعية فقيرة تبيع اللبن! ولكن عمر لم يأبه لما به أرجفوا. وصدقه الله فيما نوى، فقد أنجبت للعالم الإسلامي عمر الثاني وهي الصورة المشبهة معنى وروحاً للفاروق - نعم ولدت زوج عاصم بنتاً وولدت البنت الخليفة عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب الثاني. وكذلك صدقت فراسة الفاروق في صلاح هذه الفتاة وتقواها، ولم يطش ظنه فيها حينما رفعها من سكنى الكوخ إلى رفيع القصور ورضى على نفسه أن يقال: صاهر أمير المؤمنين فتاة راعية، ولكن عمر لا يأبه لكلام الناس ولا يكترث للأنساب والألقاب فليس عنده من نسب إلا نسب الإسلام، وليس له من الجاه إلا التقوى
ولقد حفظ التاريخ لعمر حادثة مشهورة رفعت قدره وأعلت ذكره، وخلدت له المثل الأعلى في النزاهة وشرف النفس وإعلاء الحق بالتضحية بأعز ما يملك في سبيل الدين. ومن أجل إحيائه تقديس شعائره - أنه قدم ابنه فلذة كبده وأحب الناس إليه ضحية على مذبح الدين وفداه لسنة الرسول الكريم
سمع انه شرب خمراً في مصر ولم يقم عليه ابن العاص الحد على ملأ من الناس ويحلق رأسه كما يجب وكما كان مفروضاً على كل مسلم، فبعث إليه يقرعه ويأمره أن يرسل ابنه وشيكاً على قتب، ففعل عمرو. وقد وصل عبد الرحمن وهو في أشد حالات الإعياء والنصب وهو يصيح:
لقد أقيم عليّ الحد في مصر يا أبت فلا تقتلني بإقامته مرة ثانية. لكن غيرة عمر وشدته في الحق على عامة المسلمين لم تكن تعرف المداجاة في زوج أو ولد، وهو الذي كان يسوي ذاته في ميزانه بأقل الناس، فلا غرو أن يقيم الحد على ولده ثم يشاهده وهو يلفظ النفس(269/46)
الأخير، فلا يجد عند ذلك إلا أن يهنئه على طهارته من أرجاس المعصية وأن يحمله السلام إلى صاحب الأمانة التي قام بها عنه خير قيام
غير أن لي كلمة في خاتمة هذا البحث لا تزال بصدري جياشة، وهي أن التجميع للتشريع الإسلامي وفي أوسع حدوده ومراميه لا يلقي من أهل الرأي تأييدا إلا إذا أيده المسلمون أنفسهم بقوة ما يشع في صفوفهم من وحدة، وما يقوم على رباطهم من سلطان، وبقوة تلك الروحانية التي تهيمن على عقائدهم واتجاهاتهم وتصهر ما في تلك العقائد من زيغ وريب، فإذا حل ذلك اليوم وصارت فيه الغلبة للإسلام تيسر للمسلمين تجميع الفقه الإسلامي تجميعا ما بعده تجميع. وأكبر يقيني أن هذا اليوم مؤذن في القريب ببزوغ شمس سوف تنبسط على أرجاء الشرق فتنتظم أطرافه! وإذ ذاك يحل ذلك اليوم الموموق وتستكمل مصر زعيمة الشرق في الإسلام ونشر رسالته أقوى أسباب سعادتها واطمئنانها وعلو كلمتها في ظل حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول، أيد الله دولته، ورفع في الأنام رايته، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
(للبحث بقية)
عباس طه
المحامي الشرعي(269/47)
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 17 -
من أهم ما تدعوا إليه المدرسة الحديثة - وتقدم العقادَ نموذجاً له - تفتحُ النفس لألوان الأحاسيس، وانفساحها لصنوف المؤثرات، وتهيؤها لشتى الانفعالات؛ وكثرة الأوتار المرنَّة بها في العاطفة الواحدة، والعواطف المتعددة، ومطاوعتها لما تتأثر به، لا لما تحفظه وتحتذيه من القوالب المصبوبة
وكل هذا من خصائص الحياة الموفوزة، الغنية بالمذخور من المشاعر المتهيئة للتجدد والنماء، المستعدة للتفرد والامتياز
وقد كان النقد العربي - إلى أمد قصير - قد وضع للعواطف الشعرية مراسيم وقيودا، وجعل لها قوالب مصبوبة، ومن هذه العواطف (الحب)
ترى هذا في كتاب (الصناعتين) مثلا وتراه في الكتب المدرسية والمذكرات، وتلمح أثره في كتابات من يتصدون للنقد بعد اطلاعهم على الكتب القديمة وحدها
وتلمح أثر هذا التحديد في ذوق المتأدبين الذين لا يصبرون على صورة جديدة يرونها في غزل جديد أو قديم، لا تكون وفق قوالب خاصة، وعلى طراز محدد من طراز التعبير
ولقد كان هذا يدعوني إلى اتهام الطبيعة العربية والطبيعة المصرية على السواء؛ فما يصبر الطبع الموهوب على هذا الجمود في ألوان الحس والتعبير؛ وما تقف النفس عند صور محدودة معلومة إلا وقد ضاقت عما عداها، واستغلقت دون سواها. ولولا أن هناك فروضاً وأعذاراً تلتمس لقد كان سوء الظن أولى، والاتهام أوجب. ولكنا في انتظار ما يطلع به المستقبل من الأدباء والمتأدبين
والعقاد أفسح شاعر عربي نفساً في غزله، وأكثرهم أوتاراً مرنَّة. فلا عجب تزيد الأنغام في شعره على ما تستطيع الأذن المصرية - إلا نادراً - أن تسمعه وتطرب له؛ ولا عجب يجد الكثيرون صعوبة في تقبل هذه النغمات لأنها تجهد آذانهم وأذواقهم، وتحملهم استعارة طاقات نفسية لا قبل لهم بها، كما تجهد العين الضعيفة تحت المنظار القوي الذي يجمع لها من الضوء فوق احتمالها!(269/48)
ولكن من الحق كذلك ألا يبيح هؤلاء لأنفسهم مهمة الحكم، وأن يسمعوا قول من يطيقون السماع ويطربون لشتى النغمات، ويصدقوا ذوي العيون التي تحتمل المناظير القوية، فيما تبصر من رؤى وأطياف لا تراها عيونهم الكليلة!
وحين يتابع الناقد غزل العقاد في دواوينه السبعة، يعجب كيف يكون قائل هذه الأنماط كلها رجلاً واحداً لولا أن يثوب إلى خصائص العقاد العامة في هذه الأنماط على اختلافها. وتروعه هذه النفس الفسيحة التي تتلقى نماذج الحبيبات كل بما تستحقه، ثم تنفسح بعد هذا لتلقى الحالات النفسية المتتابعة مع كل حبيبة؛ وتتسع لنماذج الحب المختلفة بين الصوفية والحسية، وبين الغرارة والتجريب، وبين البساطة والتركيب، وبين الصعود والهبوط. . . وتقول في كل حب، وفي كل حالة شعراً أصيلاً كأنه - وحده - هو اتجاهها الوحيد!
ولعل من الخير قبل أن نستعرض هذه الأنماط، كما لحظناها في شعره الغزلي، أن نأتي باستعراض العقاد نفسه لصنوف الحب التي تيقظ لإحساسه بها على ضوء حب أخير حين يقول:
عرفت من الحب أشكاله ... وصاحبت بعد الجمال الجمال
فحب المصور تمثاله ... عرفت وحب الشباب الخيال
وحب القداسة لم أعده ... وحب التصوف لم يعدني
وفي كل حب ورى زنده ... سماتٌ من المؤمن الدين
وحب المزخرف والمنتقى ... وحب المجرد والعاطل
وحب الجماح وحب التقى ... وحب المجدد والناقل
وحب الثقات وحب الصحاب ... وحب الطبيعة في حسنها
وحب الرجاء وحب العذاب ... على يأس نفسي من حزنها
وحب التي علمتني الهوى ... وحب التي أنا علمتها
ومن أستمد لديها القوى ... ومن بالقوى أنا أمددتها
وحب الجياع صحاف الطعام ... وحب الظماء كؤوس الشراب
وحب الكفاح وحب السلام ... وحب الضلال وحب الصواب!
صنوف من الحب لا تلتقي ... وفيك التقى لبها المحتوى(269/49)
فلولا هدى نورها الأسبق ... لما كنت كفؤاً لهذا الهوى
وفي (سارة) يفصل بعض صنوف الحب التي يحسها القلب الإنساني فيقول:
(وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد. لكن لابد من اختلاف بين الحبين في النوع، أو في الدرجة، أو في الرجاء.
(فيكون أحد الحبين خالصاً للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقاً شاملاً للروحية والجسدية.
(أو يكون أحد الحبين مقبلا صاعداً، والحب الآخر آخذاً في الأدبار والهبوط
(أو يكون أحد الحبين مغرياً بالرجاء، والحب الآخر مشوباً باليأس والريبة)
ثم يذكر نموذجين في الحب، لنموذجين من المرأة، اجتمعا على (همام) بطل القصة، قد يفيد ذكرهما هنا لبيان رفاهة حس هذا الشاعر ودقته في الإحساس بالحب والنساء:
(لقد كانت سارة وهند على مثالين من الأنوثة متناقضين: كلتاهما أنثى حقاً لا تخرج عن نطاق جنسها، غير أنهما من التباين والتنافر بحيث لا تتمنى إحداهما أن تحل محل الثانية، وتوشك أن تزدريها)
(ماذا أقول؟ بل لعلهما من التباين والتنافر بحيث تتمنى كلتاهما قبساً من طبيعة الأخرى، لولا أنها تنكر الاعتراف بذلك بينها وبين نفسها، فتسمح للتمني أن يستحيل إلى نفور
فإذا كانت سارة قد خلقت وثنية في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، من غير حاجة إلى الدير!
تلك مشغولة بأن تحطم من القيود أكثر ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعت من قيود، ثم توشيها بطلاء الذهب، وترصعها بفرائد الجوهر
الحزن الرفيع والألم العزيز شفاعة عند هند مقبولة إذا لم تكن هي وحدها الشفاعة المقبولة. أما عند سارة فالشفاعة الأولى بل الشفاعة العليا هي النعيم والسرور
تلك يومها جمعة الآلام. وهذه يومها شم النسيم
تلك تشكو ويخيل إليك أنها ذات أرب في بقاء الشرور تستديم بها معاذير الشكوى، وهذه تشكو كما يبكي الطفل لينال نصيبا فوق نصيبه من الحلوى
تلك مولعة بمداراة نقائصها لتبدو كما تتمنى أن تكون. وهذه مولعة بكشف نقائصها لتمسح(269/50)
عنها وضر الخجل والمسبة، وتعرضها في معرض الزينة والمباهاة
(تلك لها عدة المتانة والمجاملة، وهذه لها عدة الرخاصة والبساطة)
ثم يمضي يعدد خصائص كل منهما على هذا المنوال البارع فتفهم أنه متيقظ أشد اليقظة، بكل وسائل التنبه والإدراك في طبيعته، لكل ذرة، في كل حبيبة.
والآن نتابع العقاد في غزله، ونتصفح الوجوه التي هام بها، وقال فيها، فنجد منها ستة وجوه بارزة، ونجد غيرها منزوياً متناثراً
فأما الأول فيستغرق الجزأين الأول والثاني تقريباً، وفيه تلمح العقاد شابا حدثا، في نفسه روعة وحذر وإشفاق من وهلة الجمال والحب، يكتفي أول الأمر باللمحة والنظرة، ويحوم على الجمال في ورع وتنطس، ويحسب للمجهول والغيب كل حساب، ثم يأخذ بعد حين في الاستمتاع على حذر كذلك وتلطف واستئذان.
وتجد إلى جواره حبيباً ساذجاً، عاطلاً من كل حلية نفسية أو فكرية إلا الجمال المجرد الغرير، فلا عمق ولا سيطرة ولا أطوار
وهكذا - في الغالب - حب الشباب، وإن فهم الكثيرون أنه أقرب إلى الفتك والبوهيمية والجراءة. فالشاب غالباً تمنعه القداسة، فأن لم تكن أذهلته الروعة قيده حذر المجهول الذي لم تكشفه التجارب، والعزيز الذي لم يرخصه الاستعمال
إنما يستهتر - حق الاستهتار - الكهل الذي تجعله التجارب يسخر من المقدسات والغيبيات، وتدفعه بقية القوة التي لم تنضب إلى الاستمتاع بالباقي قبل الفوات!
واسمع العقاد في ورع وإشفاق ينادي حبيبه:
وقف عليك تحيتي وعظاتي ... وعلى صباك نصائحي وعظاتي
أُوتيت من حسن الشمائل نعمة ... والحسن في الدنيا من الآفات
هو جوهر يجني عليك وميضه ... عدوان سراق وحقد عفاة
فأحذر فان مع الجمال لغرة ... وأراك تأمن جانب الغفلات
واحرس جمالك فالجمال وديعة ... (لله) ترعاها إلى ميقات
واحمل شبابك للمشيب مبرءاً ... مما يكدر ناصع الصفحات
وهكذا إلى نهاية هذه التسبيحة أو التعويذة القانتة!(269/51)
ثم تسمعه بعد هذا كالطيف الهامس في حذر وتقاة:
إنا لمن معشر حب الجمال لهم ... حب لمن كان في الدنيا ومن كانوا
ليأمن الطير. إنا لا نكيد له ... ولا يخف مكرنا وحش وعقبان
الخ
ثم تنظره وقد انجلت هذه الروعة قليلا عن بدء الحسية والاستمتاع ليلة الوداع:
ويا ليلتي لما أنست بقربه ... وقد ملأ البدر المنير الأعاليا
تطلّع لا يثني عن البدر طرفه ... فقلت: حياء ما أرى أم تغاضيا
فقبلت كفيه وقبلت ثغره ... وقبلت خديه وما زلت صاديا
كأنا نذود البين بالقرب بيننا ... فنشتد من خوف الفراق تدانيا
كأن فؤادي طائر عاد إلفه ... إليه فأمسى أخر الليل شاديا
إذا ما تضاممنا ليسكن خفقه ... تنزى فيزداد الخفوق تواليا
أوشج في كلتا يديه رواجبى ... وشيجاً يظل الدهر أخضر ناميا
وتلمس كفي شعره فكأنني ... أعارض سلسالا من الماء صافيا
وأشكوه ما يجني فينفر غاضبا ... وأعطفه نحوي فيعطف راضيا
ثم تتدرج من هذا إلى متاع صريح، ولكنه خفيف سريع:
أتعلم أم أنت لا تعلم ... بأني عاشقك المغرم
أتقسم أنك لا تكتم ... بلى أنت تكتم أمراً ظهر
ولا تنس في عين شمس لنا ... ليالي موقرة بالجنى
ترف عليها طيور المنى ... مغردة في ضياء السحر
فكم بت أُسهر تلك الجفون ... وأُذبلها بالطلى والمجون
فباتت كما يعشق العاشقون ... مضاعفة السحر تسبي الفكر
أجل فليكن! ولكن شاعرنا لا يزال شاباً يستكثر الليالي المختلسة فيشيد بذكرها، ويفصلها تفصيلا، ويكاد في (واقعيته) يحدثنا عن صور الخيال!
وينتهي الحب الأول أو يزحمه الثاني ويعفى على آثاره. والناقد يطالع في هذا حبيباً قريباً في خصائصه من الحبيب الأول، يمتاز عنه بأنه شره للمعجبين بجماله، يريدهم حشداً لا(269/52)
فرداً. ولكنه يرى شاعرنا وقد نفض عن كاهله كثيراً من صوفية الشباب وحذره وتوجسه، غير أنه لا يزال يستمتع في دائرة محدودة، وبذخائر معدودة عند حبيبه:
يا أشره الناس حسنا ... إلى عبيد وصحب
وأنعم الناس بالا ... بناظر مشرئب
يا ليت لي ألف قلب ... تغنيك عن كل قلب
وليت لي ألف عين ... تراك من كل صوب
وليت لي ألف وسم ... وليت لي ألف عيب
لعل حسنك يغَني ... عن ناظر أو محب
ولا تبيت معنىَّ ... بمن تروع وتسبي
ثم ينجلي الأمر عن حبيب مواف ومحب متفتح، قد أخذ بعد المتعة والاكتفاء في ترف الطلاقة والفلسفة:
إيهاً أبا الأنهار فوقك شادن ... يشفي الغليل وأنت لست بشاف
فرعون لم يحمل عليك نظيره ... والبحر لم يحرزه في الأصداف
أوفى علينا من سماء جماله ... فاحلم بطلعته وماؤك غاف
واحفظ لديك وديعة من صفونا ... مأنوسة الذكرات والأطياف
سيطول أيام الصدود سؤالنا ... لك عن مواقع هذه الألطاف
ونود لو تغنى الودادة آسفا ... رجعى الزمان ولا رجوع لعاف
إلى أن يقول في يقظة طريفة وتأمل واع:
إني سعدت بقدر ما استرجعت لي ... يا نيل من حقب ومن أسلاف
دهر قد انبسطت عليه ساعة ... فاستأنفته أحسن استئناف
وصلت حديث زماننا بقديمه ... وصل الصحيفة نائي الأطراف
وبدت لنا صور العصور كأنها ... رسم على صفحات مائك غاف
ومناظر القمراء أشبه بالذي ... أحييت من ذِكرٍ مضين ضعاف
فالذكر والنظر العيان كلاهما ... حلم بها متشابه الأفواف
وتتبين في نهاية هذا الحب نضوج الشاعر، وانتباهه إلى خطرات الأيام والصروف(269/53)
والأقدار على ضوء حبه، وتأمله في الكون والطبيعة وإجراء ذلك كله في غزله:
أيها المعطى غدا عن سعة ... أعط إذا أنت مليء بالعطاء
إنما اليوم لدينا كغد ... وغد يا صاحبي اليوم هباء
آه لو يبقى على الدهر الصبا ... آه لو يرأف بالحب الفناء
فرصة فيها جمال وصبا ... ثم تمضي فإذا الكل سواء
وإذا المعشوق في العين كمن ... تتخطاه عيون الرقباء
كاختلاف اللون في الصبح لنا ... وتساوي بعدُ قبح ورواء
نحن في صبح وقد لا نلتقي ... ليت الليل ابتداء وانتهاء
ثم قطعة بعنوان: (ودع جمالك) اقتطفت بعضها عند الحديث على خاصة اليقظة والوعي الفني، واقتطف في هذا المجال بعضاً آخر، وإن كان يخيل لي أن المقصود بها هو الحبيب الأول ولكنها أقرب شبهاً بما قيل في فترة الحب الثاني، لما فيها من تأمل وعمق في الإحساس:
أمودعاً حسن الأحبة إنني ... ودعت قلب الهائم المغرور
ميتان في جدث نزورهما معاً ... وا وحشتا من زائر ومزور
يهنيك أنك لا تزال مقيدي ... بك حين لا شوق إليك مثيري
لم أبك وجهك إذ بكيت وإنما ... أرثي خرائب عالم مدثور
فاعجب لمن يبكى فجيعة سرمد ... بدموع مبتور الحياة حسير
وهي إحدى القصائد الطريفة التي تتجلى فيها (خصوصية) العقاد
ومتى بلغنا الجزء الرابع من الديوان التقينا هناك بشخصيتين أقرب ما تكونان إلى شخصيتي (سارة وهند) اللتين أسلفنا عنهما الحديث، وعلة ذلك مفهومة، وقد أوضحتها عند الحديث على (سارة) والتقينا بالشاعر في قمة النضوج النفسي والفني، وقد وضحت أمامه المعالم، وانتهت به التجارب إلى فلسفة كاملة في المرأة والحب والحياة، واكتملت به جميع القوى اللازمة للإحساس والتعبير، وعرف غاية الطبيعة من الحب، وغاية كلا الجنسين، فلم يبق أمامه إلا أن يعتصر من كل حب رحيقه، ويرتشف من كل كأس ثمالتها في طلاقة وبراعة وصراحة(269/54)
فأما إحدى الشخصيتين فيطلع عليك وجهها من خلال قوله:
أريد التي ألقى سلاحي وجنتي ... إليها وألقاها من البأس أعزلا
وأطرح أعباء الجهاد وهمه ... لدى قدميها مغمض العين مرسلا
وأنت إذا أقبلت أقلبت جحفلا ... وجرت أسيافاً وشيدت معقلا
فان تهزميني فاهزمي عن بصيرة ... مريدا لأسباب الهزيمة مقبلا
ويطلع عليك وجهه معها من خلال قوله:
أيها الداعي إلى الله لنا ... ما ترى في دعوة منك إليك؟
- أنت لو تعلم دائي - في غنى ... عن نداء الغيب والطب لديك
تسأل الله شفائي ولقد ... جعل الله شفائي في يديك
وترجىَّ نظرة لي من علٍ ... ورجائي كله في ناظريك
فادع لي نفسك أو لا فادع لي ... رحمة الرحمن من وجدي عليك
إن قضاها الله أو لم يقضها ... حسبنا خطرتها في شفتيك
يفضل الصحة عندي أنني ... بعض ما تطوي عليه جانبيك
وهي كما ترى متحفظة متصونة، وهو محترس يقظ يلمح ولا يصرح أو هما كما قال العقاد:
(كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق)
وأما الشخصية الأخرى فتطل عليك من قوله:
ماذا من الدنيا لعمري أريد ... أنت هي الدنيا فهل من مزيد؟
فيك لنا نور ونار معاً ... وأنجم زهر وأفق بعيد
وفيك روض مسفر عاطر ... وجوهر حر ودر نضيد
ونشوة الخمر إذا قوبلت ... بنشوة منك متاع زهيد
والفن إن لم تك نجواه من ... نجواك لغوٌ باطلٌ لا يفيد
وكل ما في الكون من روعة ... لها نظير فيك حي جديد
بل أنت دنيا غير هذى الدنى ... وكل حب فيك كون وليد(269/55)
للمرء دنياوان: مطروقة ... فوضى وأخرى هو فيها فريد
وهذه، لا تلك، ما يشتهي ... وهي له الموئل وهي الوجود
وتتبين وجهه معها في قوله:
قبلات كل يوم وعناق ... ووداع كل يوم ولقاء
واشتياق كلما حان الفراق ... وعهود كلما جن المساء
وعتاب كل يوم وخصام ... جائر الحكم كثير العلل
نرتمي فيه بأهوال جسام ... بين سخريِّ المنى والقبل
وعلى توقيع أنغام الرجاء ... نبعث القلبين حباً وخصاما
عبث الطفلين في مهد الصفاء ... كلما راعتهما الضجة ناما
وحياة بين روض وغدير ... وحياة بين ألفاف كتاب
هذه أو تلك يحويها العبير ... ويروى سرحها ماء الشباب
لا ظلام الليل يثنيك ولا ... لفحة القيظ ولا اليوم المطير
في دلال منك موفور الحلي ... وكلال منك كالظبي البهير
وهي كما ترى أنثى ناضجة بوهيمية، وهو رجل فنان متفتح قد بلغ من المتعة إلى النزف فانتشى؛ فانطلق يتفلسف فقال:
وابل من قبل تمطرها ... من سماء الحب أخلاف غزار
جزلة المسِّ شهي لمسها ... حلوة المزجين من ماء ونار
سقيها محض ولاء خالص ... لم يكدره من الدنيا اعتكار
وكذا الإخلاص حر مطلق ... كصفات الله ما فيها اضطرار
روَّ من الدهر واضحك ساخرا ... إن طغى الدهر بأيديه القصار
هاهنا لا العيش محسوس الحظا ... لا ولا الوقت بمحدود المطار
الخ. . .
فإذا اجتاز الناقد الأجزاء الأربعة الأولى من الديوان إلى (وحي الأربعين) و (هدية الكروان) و (عابر سبيل) لم تبعد به النقلة كثيراً عن جو الجزء الرابع، ولكنه يجد انطلاقاً إلى مدى أوسع في التوحيد بين الأرض والسماء، أو بين المادة والروح في غزل العقاد،(269/56)
كما يجد الهدوء الرتيب، لا تخالجه اللهفة إلا قليلا، وهي بعد شوق إلى المتاع الطليق، أكثر منها حرقة إلى إرواء الضرورة المقيدة، أو هي طلاقة فيها سخرية المجرب الذي سلك الطريق مرة ومرة، فانجلت في نفسه الروعة وانكشف المجهول، ولم يعد أمامه إلا تأمل المشاهد وتسجيل الشواهد، والموازنة بين ما مضى وما هو آت في رحلته الحاضرة. والذي علم قيمة العرف والتقاليد ومبلغ إخلاص الناس لها أو تفلتهم منها، فلم يعد يحسب لمن في (الخارج) حسابا، وإنما همه أن يعيش في عالم من صنعه هو، يضع تقاليده وحدوده
ولهذا يلوح الشاعر في الأجزاء الأخيرة منطلقا من القيود في الإحساس والتعبير انطلاقا لا تجده في شعر شبابه، وهذا أثر التجربة وحكم السن والممارسة.
ومع العقاد وجهان أصيلان في هذه الدواوين الثلاثة، وعدة وجوه عارضة:
فأحد الوجهين هو الذي يقول فيه قصيدة (غزل فلسفي) والذي فيه (من كل شيء) في الأرض والسماء، وفي الماضي والمستقبل و (من كل موجود وموعود توأم). . . الخ
ولعل هذه القصيدة أدل القصائد على هذا الوجه الذي يشُع في نفس الشاعر كل معاني الوجود، لأن الشاعر - حينئذ - مستعد لتلقي كل أطياف الوجود، متفتح لكل معنى من معانيه
والوجه الثاني هو الذي يقول فيه:
بعد سبع من السنين وعشر ... عرف الناس فضل ذا الميلاد
عرفوا أي نعمة زارت الأر ... ض بأضعاف حسنها المرتاد
عرفوه لما رأوا بينهم شم ... ساً مع الشمس أشرقت في البلاد
عجبوا كيف فاتهم يوم وافى ... فرعوا عهده بذكر معاد
ذاك ميلادك السعيد هنيئاً ... للذي فاز فيه بالإسعاد
ويقول فيه معظم غزليات (هدية الكروان)
والخطوط التي تفرق بين هذين الوجهين صعبة التمييز لولا أن الثاني أكثر بشاشة وطراءة، والأول أشد حيوية وتأثيراً
وعلى العموم فالشاعر يبدو في هذه الفترة واثقاً من نفسه وزمنه، يترشف كأس الحب في نشوة ولذة وتأمل وتمهل، وفي بشاشة ودعابة واطمئنان(269/57)
ولولا أن المقال قد تضخم وطال لأكثرت من الأمثال، فهذه هي فسحة النفس التي عنينا، والتي امتاز بها العقاد كل الامتياز
(حلوان)
سيد قطب(269/58)
إلى وزارة المعارف
كلمة حق في كتب
على أثر ما نشرناه في العدد الماضي من جواب الأستاذ أحمد أمين وتعليقنا عليه جاءتنا طائفة من المقالات والرسائل في هذا الموضوع لم نر من المفيد أن نشغل بها صفحات الرسالة فاقتصرنا منها على هذه الكلمة شاكرين لكتابها الأفاضل غيرتهم على الأدب ودفاعهم عن الحق
(المحرر)
كنا في مجلس ضم لفيفاً من الطلبة ورجال التعليم، والكل في مقتبل العمر وعنفوان الشباب، فمنهم من اجتاز مرحلة ثانوية في دراسته، ومنهم من اجتاز مراحل في تعليمه الجامعي. والحديث ذو شجون، (وللراسلة) حظها من الحديث، ولما ينشر فيها نصيبه من التعليق والمناقشة؛ وما يكاد الجمع يندفع حتى ترى القوم يتواعدون في أن للحديث صلة، وإلى الملتقى في أعداد الرسالة المقبلة
جئت بهذه الكلمة لأقول إن السبب (الذي من أجله صرف النظر عن تقرير بعض الكتب للمطالعة في مدارس المعارف المصرية) كان محل نقاش طويل في هذه الساعة القصيرة
ونحن نعيذ أنفسنا من الغرور يذهب بنا إلى الحطِّ من كفاية اللجنة التي عهد إليها اختيار كتب المطالعة. لكننا لم نر بأساً في أن نبعث برأي لفيف من الطلبة والأساتذة لا نعتقد أنهم ارتأوه أو اعتقدوه تزلفاً للزيات. فالصلة التي تصلهم بالأستاذ الزيات هي عين الصلة التي تصلهم بالأستاذ أحمد أمين، وهي صلة الأدب والذوق المشترك، هذه الصلة التي تدفع كل واحد إلى إبداء رأي هو صدى صادق للكيفية التي أدرك بها الإنتاج الأدبي لأي كاتب أو شاعر أو صاحب فَنٌ
ومن الطبيعي أن نتحسس ذلك الضعف الأخلاقي لو كان في كتابين عالميين قُدَّر لهما من سعة الانتشار ما لم يقدر لغيرهما من الكتب. لقد كان الأستاذ الزيات أميناً في نقل هذين الكتابين إلى اللغة العربية، أتراه حور من مضمونهما بحيث ترى الفضيلة في (رفائيل) جريمة، والعاطفة في (آلام فرتر) ضعفاً أخلاقياً؟
لست أدفع عن المترجم تهمة هو أبعد الناس عنها فقد كان أميناً في ترجمته، ولكنني أدفعها(269/59)
عن مؤلفي هذين الكتابين وهما على ما يعلم الناس من أعلام فلاسفة الغرب وفحول شعرائهم. ونحن لا نرى حاجة إلى أن نلجأ للعبارة نصوغها دفاعاً عنهما فالكتابان بين أيدينا ووقائعهما في ذاكرة الكثيرين منا، ولم تستطع أن تلمح الأثر الذي من أجله صرف النظر عن هذه الكتب
كنا وكان غيرنا في سنِّ الصبا يوم صدر (رفائيل)، وأذكر جيداً أن هذا الكتاب ما كان يبقى في يد القارئ أكثر من يومين اثنين لقلة النسخ وكثرة الطلاب المتلهفين على قراءته.
ولو لم يكن رفائيل كتابا فيه عاطفة نبيلة وشعور حي لكفى أن يكون في لغتنا قطعة فنية. وأشهد أن لأسلوب الترجمة الفنية التي ظهر بها هذا الكتاب هذا أكبر الفضل في تحسين أسلوبنا الإنشائي يوم كنا نجيل البصر في الكتب على الرفوف فلا نرى غير ركام من ألفاظ وعبارات يمجها الذوق ولا يلازمها الحسن أو شبهه.
وإلى القارئ آلام فرتر! فهل كان (جوت) الفيلسوف مخادعاً يوم قدَّم كتابه إلى العالم وقال في مقدمته (إنك لن تستطيع وأنت تقرأه أن تحبس نفسك عن الإعجاب بفكره وقوة حسِّه، ولا قلبك عن الولوع بخلقه وشرف نفسه، ولا عينك عن البكاء لمثار جده وبؤسه!)
اللهم إنا لم نجد في الكتاب غير ما قدم المؤلف به كتابه، ففيه الشرف الصميم وفيه الخلق الكريم وفيه الإخلاص والإيثار والصبر والجلد.
وما أرى أن الدكتور طه حسين كان مدفوعاً للثناء يوم قال في مقدمة الكتاب (لقد وفق صديقنا الزيات حين نقل إلى اللغة العربية آلام فرتر للشاعر الفيلسوف (جوت). وفق إلى حسن الاختيار فما كان لشعب يُجل نفسه ويريد أن يعد بين الأمم الحية أن يجهل شاعراً فيلسوفاً كجوت قد أثر نبوغه الفني والفلسفي في الحياة العلمية والنفسية للعالم الحديث أشد تأثير. وما كان لهذا الشعب أن يجهل كتاباً كآلام فرتر قد عرفه الناس جميعاً في أوربا فأحبوه وكلفوا به، حتى أنك لا ترى فتى ولا فتاة في السادسة عشر من العمر إلا قرأه وقرأه وحاول أن يتفهم معانيه ويتأسى بما فيه).
لا نظن الدكتور طه حسين منع هذا الكتاب عن أولاده أو نصح لهم بالحيطة في قراءته ولا نشك في أن رجال المعارف بلا استثناء يزينون مكتباتهم بهذا الكتاب العبقري الخالد ويسرهم أن يروه في أيديهم بنيهم وبناتهم(269/60)
بقيت مسألة هي مدار البحث ويجب ألا تعتبر كلمتي فيها فضولاً. فأن لمصر مكانتها في العالم العربي، ولثقافتها المكان المرموق في نظر طلاب العلم والأدب. فالكتاب الذي يرى أئمة الأدب في مصر أنه صالح للتداول يصبح هذا الرأي كورقة النقد تصرف في أي مكان. فهل من الحق أن كتاب (رفائيل) وكتاب (آلام فرتر) لهما أثرهما في الأخلاق من (ناحية عكسية؟). الطالب يجيبك: لا، والأستاذ لا يمنع أن يكون هذان الكتابان في صدر مكتبه وبين أهله وأولاده
أذكر أن (فرانس بيكون) قال في الكتب: (إن من الكتب ما يذاق، ومنها ما يبلع ويزدرد، ومنها ما يمضغ ويهضم ويتمثل) فكم في مكاتبنا من تلك الكتب التي تذاق وتبلع وتمضغ على درجاتها؛ اللهم إني إذا أجهدت نفسي وبحثت مع غيري عن الكتب التي تضمنتها مكاتب الكثيرين من طلاب المعاهد في العالم العربي لم أعد إلا وفي قلبي طعنة الأسى والأسف لهذه المختارات والمنتخبات يعودون إليها بين الحين والحين
إذا كان رفائيل وفرتر مفسدين للأخلاق فماذا يقال في آلاف الكتب البوليسية والروايات الخليعة والمجلات الساقطة التي تغص بها مئات المكاتب في القاهرة والقدس وبيروت ودمشق وبغداد؟ إذا كان في هذه الكتب انتحار فلماذا لا نمنع الصحف عن أعين الطلاب وفيها عشرات الحوادث من هذا النوع في كل يوم؟
لو لم تقرر اللجان كتاباً من الكتب واكتفت وذلك بأن تفرض رقابة على وسائل الإنتاج الثقافية لكان ذلك خيراً. أما أن تترك الأدب الرخو الخليع المكشوف يطغى على أكبر جزء من تفكير الشباب ثم تمنع أو لا تحبذ تقرير كتابين هما درة الكتب لأعلام الكتاب فهذا ما تؤاخذ عليه
(فلسطين)
علي كمال(269/61)
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
- 3 -
وليس لأوقات الدراسة ضابط معين بل النهار كله من طلوع الفجر إلى المغرب وقت صالح للتدريس وتزاد عليه الحصة الواقعة بين العشاءين أيضاً. والدرس قد يمتد إلى الساعتين والثلاث بحسب قوة الأستاذ. وتدرس العلوم العقلية والنقلية في الصباح والمساء على السواء، إلا أن الغالب تخصيص الحصة التي بين العشاءين بالدروس الدينية والتهذيبية والوعظية من التفسير والحديث والفقه لحضور العامة لها إذ يكون الوقت وقت فراغ وانصراف عن الشغل. وكذا يقال في الدرس الأول الذي يكون عقب صلاة الصبح. وأيام العطلة هي في الغالب الأخمسة والجمع وأسابيع الأعياد وأيام المواسم. على أن منهم من يغتنم فرصة هذه الأيام فيقرأ فيها فنوناً متنوعة في كتب صغيرة مما يتهيأ ختمه في مدة قريبة
ومواد الدراسة لا تنضبط بعدد ولا تستقر على حال. على أن الدروس الدينية واللغوية لم تنقطع من الجامعة في وقت من الأوقات ودائماً تكون لها الأغلبية، في حين أن العلوم العقلية منها ما لا ينهض إلا بمناصرة السلطة التي يكون هواها مع هذا العلم أو ذاك كما حصل على عهد الموحدين من إحياء علو الفلسفة والأخذ بضبع أهلها لِما كان من ميل يوسف بن عبد المؤمن (مأمون المغرب) لها وشغفه بها. ومنها ما كان يروج وينفق إذا وجد من يحسن القيام عليه والدعوة إليه من أهله المتحققين به المتفرغين له كالنهضة العظيمة التي كانت لعلوم الرياضة على عهد المرينيين، والتي أوجدها أفراد من العلماء كانوا في عهدهم منقطعي القرين في تلك العلوم
ثم الطلبة قسمان: (1) أهليون ونعني بهم أبناء فاس، وما زال أهل فاس من أحرص الناس على طلب العلوم الدينية في القرويين (2) وآفاقيون ومنهم الواردون على فاس من مختلف المدن والقرى في المغرب بل والجزائر والصحراء، وعددهم يتراوح بين (500) و (700) طالب. ومحل سكناهم المدارس التي سبق الكلام على بعضها، ويتناولون من الأوقاف بصفة مؤونة رغيفاً واحداً في اليوم. ولبعضهم جرايات وقفية لا بأس بها يأخذونها(269/62)
مقابل بعض الأعمال التي يقومون بها في المساجد الأخرى والقرويين نفسها
وكان للطلبة قبل هذا الابَّان صولة كبيرة بحيث أن السلطة لم تكن تتدخل في شؤونهم وإنما يرجعون في فصل خصوماتهم إلى مقدميهم وإلى الأساتذة. ومما يدل على مزيد الاعتبار الذي كان لهم سواء عند الشعب أو الحكومة، تلك النزهة الربيعية التي كانوا يقيمونها كل سنة على ضفاف وادي الجواهر خارج فاس ويشارك فيها جميع طبقات الشعب والحكومة نفسها فيرسل السلطان ممثله، ويهدي السلطان إلى الطلبة هدية جميلة في مهرجان حافل، بينما يقدم الطلبة على لسان سلطانهم طلبات مهمة إلى السلطان، وقد يكون فيها العفو عن مجرم أو الرضا عن قبيل ما، أو تحريرهم من مغرم ونحوه إلى غير ذلك، فتنفذ الطلبات بسرعة ويرجع الطلبة مفعمين بالسرور والزهو والحبور. وهذه النزهة لا زالت تقام حتى اليوم لكن لم يبق لها الاعتبار السابق.
وإذا نظرنا إلى تاريخ العلوم في القرويين نجد أنها اجتازت بثلاث مراحل مهمة:
الأولى: عند قيام الدعوة الموحدية في منتصف القرن السادس حيث انتصر مذهب الأشعرية في الاعتقاد على مذهب السلف الذي كان عليه أهل المغرب منذ البدء، فدخل علم الكلام على طريقة الأشعري بما يستلزمه من نظريات الفلسفة ومقدماتها إلى القرويين وتوطد أمره فيها منذ ذلك العهد إلى يوم الناس هذا
والثانية: عندما أعلن يعقوب المنصور ثالث خلفاء الموحدين الحرب على علم الفروع وعمل على نشر السنة بالترغيب والترهيب وأحرق كتب الفقه من المدونة والتهذيب والواضحة وغيرها، فانصرف الناس إلى علوم الحديث والتفسير وإحياء ما اندثر من أصولهما وكان ذلك فاتحة عهد جديد في الدراسات الإسلامية بالقرويين
والثالثة: عندما أصدر السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي منشوره الإصلاحي الهام إلى الشيخ التاودي بن سودة، وكان رأى ما آلت إليه الحركة العلمية في القرويين من الفتور والاضمحلال فساءه ذلك المآل وعمل على بعثها وتجديدها بما أثر في حياتها المستقبلية بعد ذلك تأثيراً بليغاً
هذا مجمل نظام القرويين والحالة العامة التي كانت عليها إلى انقضاء الثلث الأول من القرن الرابع عشر الحاضر. وبعد ذلك في عام 1232هـ ـ دخلت الكلية في طور الإصلاح(269/63)
والتنظيم الحديث إذ اصدر السلطان مولاي يوسف رحمه الله أمره بتأسيس مجلس للنظر في شؤون القرويين ووضع برنامج للدراسة فيها، فتألف المجلس ووضع البرنامج، وكان من أهم ما اشتمل عليه مما يُعدُّ حدثاً جديداً في تاريخ الكلية، تقسيم منهاج الدراسة إلى ثلاثة أقسام: ابتدائي وثانوي ونهائي، وتقرير نظام المراقبة والامتحانات؛ ولكن تنفيذ هذا البرنامج كان من العسير لمخالفته لمألوف الناس الذين يقفون كثيراً مع العادات. وجاءت مشاركة بعض الشخصيات الغربية في وضعه ضغثاً على إبالة، فاستراب الناس به حتى من كان يحب الإصلاح ويميل إلى التجديد. وهكذا بقى ما كان على ما كان. وحدث أن السلطة كانت تستخدم بعض الشخصيات البارزة من العلماء في مختلف المصالح، والبعض الآخر كان ينتثر عقده بالموت، فلم يشعر الناس إلا وجامع القرويين يكاد ينعق فيه البوم والغراب لخلوه من أهل الكفاية والجد الذين كانوا يعمرونه بالدروس النافعة الدائمة ولا يبغون على ذلك ثواباً ولا أجراً. فغلقت الأفكار وساءت الظنون وكثرت المساعي التي ترمى إلى الإصلاح العملي والتنظيم الجدي، فما كان إلا أن اصدر الأمر الملكي المحمدي الكريم بذلك ونفذ في محرم فاتح عام 1250 ولا يزال العمل عليه إلى الآن
ينص هذا الأمر على تقسيم منهاج الدراسة إلى ثلاثة أقسام كالسابق ويزيد عليه بجعل القسم النهائي على نوعين: ديني وأدبي.
ويحصر مدة الدراسة في (12) سنة منها ثلاثة للابتدائي وستة للثانوي وثلاثة للنهائي. وفضلاً عن تقريره لجميع العلوم الشرعية وآلاتها التي كانت تدرس في الكلية من قبل - فإنه أضاف إليها علوماً جديدة كالتاريخ والجغرافية والهندسة وجعل عدد الأساتذة النظاميين (مبدئياً) 32 وعين لهم أجوراً لا بأس بها، وحدد مدد العطلة، وضبط أمر امتحانات النقل والتخريج، وبين نتائج النجاح وما يخوله نيل الشهادة في كل من الأقسام الثلاثة
(يتبع - طنجة)
عبد الله كنون الحسني(269/64)
بين الفكاهة والجد
تحية كلب
إلى الكلب البوليسي (هول)
للأستاذ محمود غنيم
كلبٌ ينمُّ على الجناهْ ... تمشي العدالة في خُطاهْ
إن قال أرهفت النيا ... بةُ سمعها وصغى القُضَاه
كم أَفْلَتَ الجاني فشمَّ ... ر ساعديه واقتفاه
لم يُعْي أَهلَ البحث س ... رٌّ غامضٌ إلا جلاه
يستخرج السرَّ الدفي ... نَ كأنه بعضُ الْحُواه
وكأنما هو إذ ترا ... هُ مشعوذٌ يتلو رُقاه
عَيُّ اللسان وإنما ... في أنفه جُمعت قواه
هو لا يحيد عن الصوا ... ب ولا يُحاَبي من رشاه
لا يعرف القربى ولو ... كان الذي يجني أخاه
هيهات لا إشكالَ في ... ما يَدَّعيه ولا اشتباه
كم ناطقٍ تبع الهوى ... فلوى بغير الحق فاه
ضَلَّ ابنُ آدمَ نهجَهُ ... حتى رأى كلباً هداه
ما أَضعفَ الإِنسانَ مَقْ ... دِرَة وأكثرَ ما ادَّعاه
قد بات يرعى الأمْنَ (هُو ... لُ) وغيرُه يرعى الشياه
كلبٌ عصامِيٌّ بَنَتْ ... أركانَ دولته يداه
يا رُبَّ مفتخرٍ عَلي ... كَ ببيت مجدٍ ما بناه
كلبٌ وضيعُ الأصل لا ... ليثٌ ولا ليثٌ نماه
استقبلوه مُصَفِّقي ... نَ كأنه بعضُ الغُزَاه
كم وَدَّ شبلُ شرًى بجَدْ ... ع الأنف لو أضحى أباه
خافته دون الله أف ... ئدة الجبابرة الطغاه(269/65)
يخشاه من لا أُذنَ تس ... معه ولا عينٌ تراه
عجباً يخاف الكلبَ قو ... مٌ لا يخافون الإِله!
شيخَ الكلاب أَخَفْتَ ذئ ... بَ الأنس لا ذِئبَ الفلاه
لهجَتْ بذكرك أَلْسُنٌ ... وروت حوادثك الرُواه
وَسلبْتَ كلبَ الكهف ما ... بيديهِ من عزٍّ وجاه
لم تَقْضِ في النوم الحيا ... ةَ كما قضى فيه الحياه
لكن سهرتَ على السلا ... م وبات ينعَمُ في كراه
صاد الكلابُ فكان صي ... دُهم الحمامَة والقطاه
وأنفت من صيد البُزَا ... ة فصدت صيَّادَ البُزَاه
إن طوقوك فطالما ... طوَّقْتَ أَعْناَقَ العُتاَه
أو سلسلوك فطالما ... سَلْسَلْتَ أَقدامَ العصاه
يا أيها الواشي رَعا ... كَ اللهُ من بين الوشاه
يا رُبَّ مَظْلومٍ له ... كُتِبَتْ على يدك النجاه
بإِشارة منك الحيا ... ة لمن تشاء أو الوفاه
للأمن شُرْطيٌّ علي ... هِ ساهرٌ يحمي حماه
لا يستقلُّ بمكتبٍ ... بين اليراعة والدواه
قبض المرتَّبَ غيرُهُ ... والخبزُ في الدنيا كفاه
ما زان مِعْصَمَهُ شري ... طٌ أو تألَّقَ مِنْكباه
أَدَّى لوجه الله وا ... جِبَهُ بحزمٍ وانتباه
متواضعٌ بين الجنو ... دِ يلينُ إذ يقسو القساه
يا رُبَّ جنديِّ بدا ... لك بيدقاً في ثوب شاه
يمشي فيغضبُ حين لا ... تعنو لطلعته الجباه
قالوا أَتُطْرِي الكلْبَ قل ... تُ لهم ومن أُطرِي سواه؟
يرعى الودادَ وما رأي ... تُ من الأنام فتًى رعاه
لا أبتغي صلة الأنا ... م فكلُّهم مثلي عُفاه(269/66)
كم لَذَّ طعمُ وعودهم ... عند المرور من الشفاه
فتبخرت تلك الوعو ... دُ كما تبخرتِ المياه
الصُّلْبُ بين الناس إنْ ... أنت استندت إليه وَاه
والليثُ فيهم ساعةَ ال ... جُلَّى يفرُّ فِرَار شاه
لا يؤمَنُونَ عَلَى الأذى ... والكلْبُ مأمُونٌ أَذَاه
سألوا الكلابَ الحقَّ إذْ ... وَجدُوه بينَ الناسِ تاه
محمود غنيم(269/67)
الغد المشؤوم!!
(إليك. . . وقد وعدتني بلقاء الغد فما عدت! ولا عاد!!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
وَقُلْتِ: (غَداً تَبْرَا جِرَاحُكَ) فانْطَوَتْ ... عَلَى نارِها تَحْتَ الدُّجى تَتَضَرَّم
تُغَمْغِمُ باسم الفَجْرِ، عَلَّ صباَحَهُ ... بِفَرْحَتِهاَ فَوق الرُّبَى يَتَبَسَّمُ
وَعَادَتْ كما كانَتْ جِرَاحاً حزينَةً ... تَكادُ عَلَيْها خَيْبَةُ الرُّوحِ تَلْطِمُ!
وَقُلْتِ: (غَداً ليْلاَتُكَ السُّودُ تَنْجَلِي ... ويَهْجُرُ دُنْياَناَ الْعَذابُ الْمُخَيِّمُ!)
فَقَيّدْتُ أَجْفاَني عن النَّوْمِ عَلَّهاَ ... إذا مَات لْيلِي في ضُحَى الْحُبِّ تَنْعَمُ
فَعاَدَتْ كما كانَتْ وَجُنَّ ظَلاَمُهاَ ... فَذَابَ به طَيْفُ الضِّياَءِ الْمُهَوِّمُ!
وَقُلْتِ: (غَداً يا شاَعِري تَلْمَحُ الُمُنَى ... عَلَى رُوحِكِ الشَّاكي الْحَزينِ تحَوِّمُ!)
فَعَلّلتُ ساَعَاتي! وَقُلْتُ: لَعَلّما ... هَوَاكِ غَداً يا نَفْسُ يَحْنُو وَيَرْحَمُ
وجاَء غَدِي الْمشْؤُومُ خَيْباَنَ بَعْدَ مَا ... قَضَى اللّيْلَ - مَفْطُورَ الرَّجَاءِ - الْمُتَيَّمُ!
وَقُلْتِ: غَداً صَحْراءُ عُمْرِكَ جَنَّةٌ ... وَصَفْوٌ لِدُنْياَناَ، وَلهوٌ وَأَنعُمُ
وَتَسْبِيحُ أَحْلاَمٍ، وآفاقُ نَشْوَةٍ ... وَدُنْياَ أَغانٍ لِلهَوَى تَتَرَنَّم! ُ
وَجاَء غَدِي قَفْراً مَحِيلاً سُكُونُهُ ... مَناَحاتُ جِنٍّ في الكُهُوفِ تُدَمْدِمُ!
وَقُلْتِ: دُخانُ الْيَأْسِ وَلى وَفي غَدٍ ... سَيَسْعَدُ هذا الْيَائسُ الْمُتَجَهِّمُ!
وَجاء غَديِ لا كانَ جاَء وَلا انْتَهَى ... إليِّ بهِ دَهْرِي اْلأَثيمُ المُذَمَّمُ!
فَسِرْتُ وَأَيَّامِي خَرابٌ! وَظُلَمةٌ! ... وَعَيْشِي مَلاَلٌ كلُّهُ وَتَبَرُّمُ!
عَلَى شَبَحِي الْمَهْدُودِ فَوْضَى! وَضَجَّةٌ ... وَيْأْسٌ! وَفي قلْبِي مِنَ الْحُزنِ مَأتَمُ!
وَفي نَفَسِي لوْ ينْشَقُ الْمَوْتُ رِيحَهُ ... زَوَافِرُ تَبْلَى مِنْ لظاَهاَ جَهَنَمُ
فَياَ غادَتي أَقْسَمْتُ بالْحُبِّ بالْمُنَى ... بِنُورِكِ بالْفَنِّ الذي رَاحَ يُلْهِمُ
لَقَرَّبْتِ لي يَوْمَ اللِّقاَءِ! وَعُدْتني ... لِيَهْدَأَ مَفْجُوعُ اْلأَمانِيِّ مُسْقَمُ
وَأَسْعَد قَبْلَ الموْتِ لوْ شئْتِ لَحْظَةً ... أُزَوَّدُ مِنْهاَ لِلْخُلُودِ وَأَغْنَمُ
وَإِنْ شِئْتِ نِسْياَني. . فَياَ ضَيْعَةَ الهوَى! ... وضَيْعَةَ أَحْلاَمِي التي كُنْتُ أَحلمُ!
وَياَ ضَيْعَتَي في الْعاَشقِينَ! كأنَّني ... مِنَ الْيَأْسِ لُغْزٌ في فَم الْحُب مُبْهَمُ!(269/68)
دعوة إلى المرح
للأستاذ فريد عين شوكة
ودِّعْ الَهمَّ وَالشَّجَنْ ... فالجوَى يُفْسِدُ الزَّمنْ
وَاغْتَنِم ساعةَ الرِّضى ... فالرضى راحة البدن
عِشْ بدنياك كالطيور ... مَرِحَ النفس منشدا
لا تَدَعْ عمرك القصير ... يتقضى في البكا سُدَى
سوف تبكي وتنتحبْ ... والورى عنك في شُغُلْ
وإذا دمعك أنسكب ... ضحكت حولك المُقَلْ
هل ترى شاكياً شكا ... فشكا واحدٌ مَعَهْ؟
أو ترى باكياً بكى ... كفكف الناس مدمعه؟
طِبعَ المرْءُ مَالَهُ ... غير إشباع رغْبَتِهْ
وإذا الخطبُ غالَهُ ... راحَ يشكو لِصُحْبَتِهْ
يا مشُوقاً لما مَضَى ... هل يوافيك ما اندثَرْ؟
ما مضى فات وانْقَضَى ... وَغَدٌ مَعْقِدُ النظر
فاشْحَذِ العزمَ لِلْغَدِ ... إنه مَوْئِلُ الْمُنَى
وادفع اليأسَ باليدِ ... تجد الصعب هَيِّناً
إنما اليأس في الحياه ... مِعْوَلٌ يَحْطِمَ الْقُوَى
وإذا لامَسَتْ يدَاه ... صَرْح مجدٍ بها هَوَى
فريد عين شوكة(269/70)
البَريدُ الأدَبّي
إلى الأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فلقد قرأت بإعجاب ما نشرتموه في الرسالة جواباً على الأسئلة الأشفودرية، وأفدت منه علماً كثيراً أشكركم عليه وأسأل الله أن يجزيكم عنه خير الجزاء. ولكني وقفت عند قولكم (أن الطرق الصوفية تجانية وغيرها إنما أحدثت في الإسلام لجمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة الغراء إقامة كاملة، إلى أخر ما قلتم)، وخشيت أن يفهم بعض القارئين من هذه الجملة أن جمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة لا يكون إلا بهذه الطرق، فتكون الشريعة إذن ناقصة تحتاج إلى متمم، مع أنكم لا تريدون هذا، ولا تشكون في أن الشريعة جاءت كاملة مكملة، لا تحتاج إلى أدنى زيادة، وأنها تكفل للمسلم كل خير ينبغي له في دنياه وآخرته. وإذا كان ذلك كذلك فماذا يبقى لهذه الطرق من عمل؟ وهل تخلو من أحد شيئين: إما أن تكون زيادة على الإسلام فهي مردودة، وإما أن تكون الإسلام نفسه فلا يبقى فرق بين مسلم شاذلي أو نقشبندي، ومسلم ليس له طريقة من هذه الطرق، وتكون الطرق على هذا الغرض تحصيل حاصل وهو باطل. وليت شعري ما القصد من هذه الطرق؟ إن كانت للذكر المرتب ففي كتاب الأذكار للنووي من الأذكار المأثورة ما يملأ يوم المسلم وليلته، وهي أفضل قطعاً من الأذكار التي وضع صيغها شيوخ الطرق؛ وإن كان القصد تهذيب السريرة وتنقية القلوب فليس وراء الكتاب والسنة ما يهذب سريرة وينقي قلباً؟ فهل القصد إذن تفريق جماعة المسلمين؟
هذا كله إذا خلت الطرق من كل ما يخالف أصل الدين، أما إن وقع فيها الخلاف كما هو الشأن في كثير من الطرق فهي مردودة بالاتفاق
بقي يا سيدي عدكم (الوهابية) من الطرق الصوفية، مع أن الوهابية حركة سلفية يراد منها ترك كل مبتدع في الدين ومنه هذه الطرق، والرجوع إلى الكتاب والسنة. ثم إنه ليس في الدنيا مذهب أو طريقة تدعى (الوهابية)، ولا يعرف هذه الكلمة أهل نجد أنفسهم، ولا كان ابن عبد الوهاب صاحب مذهب وإنما هو مصلح منبه، وأهل نجد حنابلة على مذهب الإمام أحمد ناصر السنة
هذا ولكم يا سيدي الشكر الأجزل والسلام عليكم ورحمة الله(269/71)
(دمشق)
علي الطنطاوي
مكتبة دار الآثار في بغداد
روت (الأخبار) البغدادية ما يأتي:
ذكرنا في أعدادنا السابقة لمعا عن مكتبة دار الآثار في العاصمة وما تحويه هذه الخزانة العلمية من أسفار وكتب يفتقر إليها الكثير من مكتبات الأمم الراقية في هذا الباب، ونوهنا بالجهود الكثيرة التي يبذلها سعادة الأستاذ الكبير ساطع الحصري مدير دار الآثار القديمة في سبيل جعل مكتبة العراق الأثرية في طليعة مكتبات الآثار في العالم بما تضمه في رفوفها وخزاناتها من المؤلفات القيمة في العاديات والآثار القديمة من جميع النواحي
ونذكر اليوم طائفة كبيرة من هذه الكتب الثمينة أضيفت إلى المكتبة الأثرية العراقية، وكيفية ذلك أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية معهد باسم معهد الأبحاث الأمريكية الشرقية غايته التعاون مع البلاد الشرقية من الناحية الأثرية. كان بعض العلماء الأثريين الأمريكيين قد أوصوا بمكتباتهم لهذا المعهد على أن يبعث بها إلى بغداد عاصمة العراق عند قيام دار الآثار فيها بتأسيس معهد للآثار. وقد مر زمن طويل على ذلك دون أن تقدم هذه الكتب إلى دار الآثار العراقية تنفيذاً لرغبة الموصين بها، وعليه فقد سعى الأستاذ الحصري في جلب هذه الكتب والاستفادة منها هنا. وأخيراً وبعد جهود كثيرة نجح الأستاذ الحصري في مسعاه إذ قد وصلت هذه الكتب القيمة التي يبلغ عددها بضعة آلاف إلى مديرية الآثار العراقية وخصصت لها غرفة واسعة نظمت فيها الخزانات وصنفت عليها الكتب بترتيب يسهل على المطالعين الاستفادة منها
عقد مؤتمر عام للدفاع عن مصالح الإسلام
وزع مكتب الأنباء الألماني هذه البرقية من دمشق:
اجتمع هنا أقطاب علماء الإسلام وقرروا دعوة جميع رؤساء الدين المسلمين إلى مؤتمر إسلامي عام. وسيبحث هذا المؤتمر طرق الدفاع عن مصالح الإسلام، ورجا المجتمعون من فضيلة شيخ الجامع الأزهر في القاهرة أن يشترك في هذه المؤتمر(269/72)
اللغة العربية في الكلية الطبية العراقية
كانت وزارة المعارف قد اقترحت على الجهات المختصة أن يلزم خريجو المدارس الثانوية في الدخول سنة واحدة إلى الكلية الطبية العراقية بغية تقوية ثقافتهم باللغة الإنكليزية. وقد عرض هذا الاقتراح على سعادة الدكتور السيد هاشم الوتري عميد الكلية فعارضه نظراً لاعتزامه تغيير لغة الدراسة في الكلية المذكورة وجعلها باللغة العربية أسوة بالكلية الطبية في دمشق التي لا يدرس طلابها العلوم إلا باللغة العربية
وقد رفع العميد إلى الجهات المختصة مقترحات بهذا الصدد. ولا ريب أن هذا العزم لو تحقق سيكون للكلية الطبية العربية شأن كبير الأثر في خدمة الطب في هذه البلاد نظراً لما في ذلك من بعث للمصطلحات الطبية التي كان يستعملها أطباء العرب الأقدمون
إلى الأستاذ الكبير العقاد
بمناسبة البحث القيم الذي تعالجونه على صفحات الرسالة الغراء، أرجو التبسط والإفاضة فيما يأتي:
2) هل تؤمنون بمقاييس الجمال التي تعتمد أول ما تعتمد على الأرقام؟
2) أيتوقف تذوْق الجمال على مقدار التحْضر والتثقف، أم هو فن كالشعر. . . يتوقف على الإلهام والمواهب الطبيعية؟
3) وعلى ذلك. هل يعجز أمرؤ القيس وهو ذلك الفنان البارع، ذو الخيال الوثاب الذي استطاع أن يتذوق جمال الطبيعة، ويترجم عنها في قصائده عن (رسم مثال للأنوثة موافق لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة لتخلف الأوان. . .)
4) وهل لتخلف الأوان دخل في تقدير الجمال؟ وإذا كان كذلك، فما بالنا نرى تمثال (فينوس) مع تخلف أوانه رمزاً ومقياساً لمعاهد الجمال في العصر الحديث؟
(القنايات)
عبد المنعم شلبي
صناعة السيللوز من دوالي العنب(269/73)
وصل المهندس الكيميائي فالانيي بعد تجارب عدة إلى اكتشاف طريقة لاستخراج السيللوز من دوالي العنب المستعملة في إنتاج الورق والحرير الصناعي، وهذا الاكتشاف يساعد مساعدة كبرى على الوصول إلى الاستقلال الاقتصادي بينما يسمح بتشغيل الأيدي العاملة القروية والصناعية
تضامن وتواثق
قال الأستاذ الجارم بك في بعض محاضراته عن الأخطاء الشائعة في اللغة العربية التي ألقاها بواسطة الإذاعة اللاسلكية إن كلمة (تضامن) فشت فشوا عظيما في هذا العصر وليست موجودة في لغة العرب ثم استبدل بها كلمة (تواثق) واستشهد بقول كعب بن زهير: (ليوفوا بما كانوا عليه تواثقوا) ولكن كلمة تواثق لا تحل محل كلمة تضامن خصوصاً في هذا العصر لما حملها القضاء من معنى مختلف جداً عن (تضامن) لأننا إذا قلنا تواثق سعيد مع حليم على تنفيذ هذا العمل أردنا بأنهما تعاهدا فيما بينهما والتزم كلاهما بتنفيذ شروطه التي تخصه؛ وأما إذا قلنا يقر سعيد بأنه ضامن متضامن مع حليم في دفع هذا المبلغ أردنا بأنهما سيلزمان بدفع المبلغ معاً أو سيدفعه حليم وحده إذا لم يتوقف
فإذاً كلمة التوافق تفيد القيام بتنفيذ الالتزامات وكلمة التضامن تفيد كفالة شخص ما في دفع ما عليه أو الدفع معه أو الدفع محله.
فالفرق إذاً بعيد بين الكلمتين ولن تغني إحداهما عن الأخرى شيئا.
ولن نستطيع أن ننبذ اليوم كلمة التضامن بعدما أصبح لها من معنى خطير في القضاء. وليس يضير العربية إذا لم تكن هذه الكلمة موجودة في كتبها ومعاجمها وأوجدناها نحن للفائدة الضرورية على القياس الصحيح. وقد ذكر الأستاذ في المحاضرات التالية ألفاظاً أجراها على القياس ولم تكن موجودة في العربية ككلمة (عبّ) في قصيدة المتنبي البائية الخ. . .
فهل من كلمة عربية صحيحة تفيد المعنى المطلوب وتغني عن تضامن؟
ن. م. ب(269/74)
الكُتُب
الظاهر بيبرس وحضارة مصر في عهده
تأليف الأستاذ جمال الدين سرور
للأديب حسن حبشي
ترى إلى أي مدى بلغ اهتمامنا بتاريخنا القومي. . .؟ خطر ببالي هذا السؤال وأنا أتصفح هذا الكتاب الذي حاول فيه مؤلفه الشاب أن يرسم صورة لعصر في تاريخ مصر له قيمته من الناحيتين القومية والدينية. ومما يسترعي انتباه المتتبعين للدراسات العالية هو انصراف أكثر الباحثين إلى نواح خاصة من التاريخ والأدب انصرافاً كلياً، على حين أن هناك نواحي في كلا هذين الفرعين لما تزل بكراً، ومن ثم كان اهتمام الأستاذ جمال الدين سرور بتناول هذه الناحية أمراً يشكر عليه، فلقد خصص من حياته الجامعية عامين لدراسة عصر الظاهر بيبرس، فخرج بهذا الكتاب القيم الذي منحته كلية الآداب من أجله درجة (أستاذ في الآداب)
أن كلا من الظاهر بيبرس وعصره موضوع جديد يتطلب من الباحث الرجوع إلى الكثير من المخطوطات، ومرجع ذلك قلة من يعنيهم تناول تاريخ مصر بعد القرن التاسع الهجري تقريباً، بل وقبل ذلك بكثير، حتى ليخيل إلى الكثيرين أن مصر كانت تعيش طوال هذه الفترة على هامش الحوادث السياسية في العالم الإسلامي، على حين يتراءى العكس لمن يتعمق بعض الشيء في دراسة ظواهر هذا العصر. . . لقد كان العصر الطولوني في مصر، فهل كان في تاريخ أمة من أمم الشرق حينئذ ما يبزه من الناحية الاجتماعية أو السياسية؟ لقد آثرنا هذا العصر بالذات لدلالته على حيوية مصر في زمن كانت الدولة العباسية لا تزال فيه على جانب شديد من البطش والقوة. وتوالت على مصر بعد ذلك عهود لدول مختلفة كان موقف مصر في أثنائها كلها في صلتها بالخلافة العباسية موقف الند للند، لا التابع للمتبوع
ومن العصور الطريفة في تاريخ مصر عصر الأيوبيين ثم المماليك، لما امتازت به هذه الفترة في الشرق والغرب بأنها كانت عصر تلاحم ديني تعدى حدود الجدل إلى امتشاق(269/75)
الحسام فكانت الحروب الصليبية التي ظلت زمناً طويلاً أهرق فيه من الدماء ما يدعونا لتسميتها بالمجازر البشرية
وفي أوائل عهد الدولة المملوكية كانت الخلافة العباسية مشرفة على الدمار، فلقد ظهر المغول في فارس، وتقدموا شطر أطراف الدولة ينتقصون منها شيئاً فشيئاً فدمروا مملكة خوارزم شاه وحملوا الدمار والهلاك، وكانوا يضمرون من الشر للإسلام ما تنبئ عنه مخالفاتهم الكثيرة مع البابوات وملوك أوربا لهدم الحنيفة السمحاء. وتم للمغول بعض ما أرادوه، فأزالوا الخلافة من بغداد ثم تحولوا شطر مصر، وكانت - كما هي اليوم - معقل الإسلام، فأخذت حملاتهم تنقض على أطرافها من جهة الشام، ولكن قيض الله للإسلام إذ ذاك هذه الدولة الفتية المملوكية فوجد رجالها في محاربة التتر ما يتفق وما نشأوا عليه من الفروسية. والعجيب في أمر هذه الدولة الناشئة أنها استطاعت أن تصد عادية قوم وطئوا أرض أوربة وأشرفوا على سهول المجر، وقضوا على الدولة الخوارزمية والخلافة في بغداد
وكان من رجال المماليك الظاهر بيبرس، فوجه جهوده بعد أخذه مقاليد الحكم بعد قطز إلى صد التتر فهزمهم عند البيرة كما هزمهم من قبل عند عين جالوت. والواقع أن ما بذله بيبرس من صدهم ونجاحه في هزيمتهم قد مكن لهيبة مصر في العالم الغربي حيث كانت الدول المسيحية تترقب الفرصة للانقضاض على مصر التي اضطلعت بأعباء السياسة ومواجهة العالم الغربي. كذلك خافه أمراء البيت الأيوبي لهزيمته قوماً كان يظن أن لن يستطيع أحد ما خضد شوكتهم. كذلك قضى على طائفة الحشيشيبن في بلاد الشام، وكانوا شوكة تقض مضجع ملوك المسلمين وتهدد الإسلام. ولقد عرض الأستاذ جمال الدين سرور لهذه النواحي في شيء من الإسهاب والتفصيل، وأن لم يكن ذلك بالكثير من أجل تاريخ حياة رجل أمد الإسلام بقوة، بعد أن كان مهدداً بالزوال أو الضعف الذي لم تكن ترجى بعده قوة له
كذلك تناول المؤلف الحضارة المصرية في عهده، فجاء بصورة مشرقة النواحي، تختلج الحياة بين سطورها، وتلتمع الفكرة الرشيدة والغاية النبيلة في النتائج التي جاءت بها هذه الحضارة من الاهتمام بالجيش والبحرية والرخاء المادي. ولو أنني حاولت في هذا المقال(269/76)
أن أحلل ما تناوله الأستاذ سرور من أوجه الحضارة المادية والأدبية لضاق النطاق، وإن كان فصله عن الحياة العلمية والأدبية (185 - 164) فيه شيء من الجدة والرونق، ولكن حسب القارئ أن يطالع بنفسه عرضه الوافي الممتع لضروب هذه الحضارة المختلفة، حتى يقف بنفسه على مدى الجهد الذي بذله المؤلف في هذا السبيل. غير أني آخذ على الصديق سرور عدم دراسته للحياة الشعبية، فذلك بحث لا يخلو من طرافة وجدة، وما كان أولاه أن يخصص من أجل هذه الناحية فصلاً، فما أسمى النواحي التي تناولها إلا (بالحياة العليا)
وبعد فان مؤلف هذا الكتاب جدير بأن يتابع دراسته في هذه الناحية العظيمة المجهولة
حسن حبشي(269/77)
محاضرات إسلامية
تأليف الأستاذ عبد الرحمن الجديلي
بقلم الأستاذ إسماعيل السعداوي
ألقى الأديب المعروف، الأستاذ عبد الرحمن الجديلي، السكرتير للمرحوم سعد باشا، على العالم العربي، من مذياع مصر، هذه المحاضرات التي طبعت جماعة الوعظ والدعوة الإسلامية الجزء الأول منها، وضمنته عشرين محاضرة
والأستاذ الجديلي، ربيب ثورة مصر الأدبية والسياسية. ضمه قائدها العظيم سعد إلى خاصته، وألقى إليه بأسراره وتدوين أفكاره، لما رأى أن تياره الأدبي والفكري، يتفق وما يشتهى في المثل القومي للشباب المصري الجديد
ومكث في معهد سعد ما مكث، أبصر ما يكون شاب بطريق الحياة لقومه، والسعادة لوطنه. وكثيراً ما كانت تدفعه روحه القوية للعمل في الميدان الأدبي، فيظهر لأدبه طابع خاص، تبدو على جوانبه ثورة الشباب الدائب، في ثروة الأدب الشاب الذي يمد المشاعر والأفكار بما يعوزها من تصور وتصوير
ثم هو - قبل ذلك - قد نشأ نشأة دينية، بين مدارج الأزهر الشريف، ومعارج القضاء الشرعي، حين أزهر نبت الأستاذ المجدد الشيخ محمد عبده. فتضافر المعهدان - الأزهر والقضاء الشرعي - على تموينه، وتكاتفت الثورتان - ثورة الإمام وثورة سعد - على تكوينه، فجاء وكأنما دعت إلى وجوده ضرورة من دين، ونزعة من أدب، وحاجة من قصص، وداع من ثقافة عالية سامية.
سمعناه من المذياع، ورأيناه بين صفحات الكتاب، وسمعنا عنه شيئا ما، فكان - في ذلك كله - سبيكة واحدة، ميزتها الأحداث الحارة بالصقل واللمعان.
وقد نسج محاضراته من رفيع الأدب، وعالي المثل، وقويم النظريات، وروح الإسلام. وجعلها في ثوب قصصي شائق. يغري الآذان بالإنصات، والنفوس بالإعجاب
وأكثر ما يغري بها - تعرضها لما بين السلف والخلف من خلاف على الذوق، والخلق، وفهم الحياة، ومعنى استخدامها الإنسان، واستخدام الإنسان إياها. فهي تحكم الحكم الفصل الذي لا يدع ضغينة ولا حفيظة بين الجميع، وتستخدم المنطق والواقع في استدلالها، وتدعو(269/78)
إليه حتى تهتز لدعوتها الأفكار والألباب فإذا هي إيمان ويقين.
فإذا دعونا إلى تأثره في الخطي، وتتبعه في الإنتاج الديني الأدبي، فلأنه - حقاً - جدير بذلك، وبما هو فوق ذلك
إسماعيل السعداوي(269/79)
المسرَح والسِّينما
السينما المحلية
أجنحة الصحراء
أول أفلام الأستاذ أحمد سالم
نشطت حركة السينما المحلية في السنوات الثلاث الأخيرة نشاطاً يدعو إلى السرور والاغتباط. ولا ريب في أن السينما المحلية ربحت ربحاً كبيراً ببقاء الأستاذ أحمد سالم في ميدانها بعد استقالته من أستوديو مصر. فهو شاب مقدام وطموح، تواق إلى العمل
دخل الأستاذ أحمد سالم الميدان السينمائي مزوداً بكل ما ينبغي أن يتزود به مخرج ومنتج سينمائي، ولا نزاع في أن الأفلام التي أخرجها أستوديو مصر في العامين الأخيرين قد أكسبه الإشراف عليها خبرة ومراناً عملياً تاماً. ومادمنا في معرض الحديث عن الأستاذ سالم فلنقل إن (أفلام الطيران الحربي وحياة الطيارين) هي (مودة) الموسم القادم في أمريكا وأوروبا، وأول فيلم يفتتح به سالم حياته كمخرج ومنتج مستقل هو: (أجنحة) الصحراء. والفلم كله (طيران) وبطله ضابط طيار. . . وفي هذا الاختيار ما يدل على تتبعه لآخر (المودات) في عالم السينما!
والقصة من تأليفه، وموضوعها - كما قدمنا - جديد مبتكر، وخلاصته أن ابناً لأحد كبار الذوات في مصر خطب ابنة عمه وهو طالب طيران في الكلية الحربية. ولما تخرج ضابطاً عين في (مرسى مطروح)، وبعد مدة قضاها هناك عاد إلى القاهرة بطائرته وفيها التقى بعمه وطلب إليه الإسراع بتأثيث المنزل الجديد حتى يستطيع حمل الأثاث إلى مقر وظيفته وحتى يستطيع إجراء حفلة الزفاف قبل انتهاء الإجازة. وفي ذات يوم يكون (الضابط) جالساً في المطار هو وخطيبته فتهبط في المطار طائرة أخرى يملكها ابن أحد الأغنياء الذين لا عمل لهم إلا قضاء الوقت في النزهات والرحلات على متن الهواء. . . وتصاب الطائرة بعطب أثناء نزولها فيخف (الضابط) إلى نجدتها، وبعد أن يتم له ذلك يحدث بينه هو وخطيبته، وبين ركاب الطائرة، تعارف قوي. . .
ومن بين ركاب الطائرة (صديقة) لذلك الشاب الوارث، من بنات الهوى، ترى الضابط(269/80)
ومعه خطيبته، فتشعل بقلبها نيران غيرة عمياء، وتنوي على الفور إفساد ما بينهما واقتناص ذلك الضابط الوجيه لنفسها. . . فتنتهز فرصة غياب (الخطيبة) وتظل تغري الضابط حتى تستميله إليها وتعده بالنزوح معه إلى مرسى مطروح إذا هو تزوجها. . وتعود الخطيبة فيقول لها الضابط إنه قد رأى عدم إتمام الزواج بعد تفكير كثير، وتحار الخطيبة بادئ الأمر ولكنها تعود فتغلب عليها عاطفة (الحبيبة) المخلصة فتضحي بسعادتها وتزور على نفسها رأياً ليس لها، وتعود إلى أبيها فتقول له إنها قررت بعد تفكير عدم إتمام الزواج. . . ويلح عليها والدها في معرفة السبب فتقول له إنها رأت أخيراً أنها لا تحبه. . . وأنها تشعر بأنها لن تكون سعيدة معه. وتذهب بنت الهوى مع الطيار في طائرته إلى مرسى مطروح ولكن عيشة تلك الجهات الحربية الصحراوية لا تروقها، ولا تمضي بها شهور حتى تكون قد شعرت بأنها سجينة، وساعد على نمو هذا الشعور في نفسها أن زوجها كان كثير المهام الرسمية فلم يكن يجد عنده الوقت الكافي لمرافقتها في نزهتها
وبمناسبة أحد الأعياد الإفرنجية تقضي العادة أن تقام حفلة راقصة في (استراحة) المدينة. فانتهزها الطيار فرصة وأسر في نفسه أن يصطحب زوجته معه في تلك الليلة إلى المرقص، لتبهج نفسها، ولترقص، وليغشى بصرها بصيص من نور الحياة الأوربية التي حرمتها مرة واحدة. وإنه لكذلك إذا بإشارة مستعجلة يتسلمها الضابط وكان قد اختير رئيس فرقة لمهارته وذكائه، يأمره القائد العام بالذهاب إلى جهة بعيدة بأقصى سرعة مستطاعة. وإذ كان الضابط لا يعرف نفسه وزوجه قبل أن يعرف واجبه، أسرع إلى طائرته بعد ما أفضى إلى زوجته بجلية الأمر، وانطلق على بركة الله وفي سبيل الواجب. . .
في نفس تلك السويعات يصل إلى مرسى مطروح ابن الذوات الذي كان الضابط قد أنقذه، وكان طبيعياً أن يفكر - أول ما يفكر - في زيارة منزل الضابط الذي أنقذه والذي توشجت بينه وبينه عرى صداقة وثيقة، ويذهب إلى المنزل فلا يجد الضابط ويجد زوجته، فلا تكاد تراه ولا يكاد يدعوها للذهاب معه إلى الليلة الراقصة، ويفهمها أنه جاء من مصر إلى مرسي مطروح ليرقص في هذه الليلة حتى تستجيب لدعوته، وترافقه إلى الاستراحة حيث البهجة والرقص. ومعلوم أن صداقتها القديمة له لابد أن يكون لها أثرها في موقفهما الشيطاني اللعين(269/81)
وترقص الزوجة، وتمعن في الرقص، وتشرب وتسرف في الشراب، وتمجن وتذهب في المجون إلى آخر الشوط. ويرى ذلك (القومندان) رئيس زوجها الذي يعرف فيه الشرف والاستقامة، فتثور ثائرته ويغار على شرف مرؤوسه، ولكنه لا يجرؤ على أن يفعل شيئاً آنذاك في العلن وعلى ملأ من الناس، ويرى زملاء الطيار ما انزلقت إليه زوجة زميلهم، فيسخطون ويتذمرون. حتى إذا انتهت الليلة عادت الزوجة إلى منزلها بعد أن اتفقت مع (صديقها القديم) على الهرب. . . ويلحق (القومندان) بها ويؤنبها على سلوكها ويفهمها كل ما صدر عنها مما لا يصدر عادة عن الحرائر الكريمات، ولكنها تهزأ بتأنيبه ولا تسمع لقوله فيخرج وقد صمم على الإفضاء إلى زوجها بكل شيء. . .
ولا يكاد (القومندان) يوليها ظهره حتى تجمع ملابسها في حقيبة وتسرع فتلحق بصديقها وتتحرك بهما الطائرة في طريقهما إلى مصر. . . ولكن الطائرة لا تصل إلى مصر إذ يصيبها حادث فتفقد توازنها وتهوى براكبيها في جهة غير صالحة لنزول الطائرات
وكانت إدارة مطار القاهرة تنتظر وصول الطائرة، فلما لم تحضر في الموعد أبلغت الأمر إلى جهات الاختصاص، وجرى البحث عنها دون جدوى، ويقر رأي الجميع على أنه ليس لإنقاذ هذه الطائرة والبحث عنها إلا ضابطنا البطل. . . ولكنه يرفض أن يقوم للمرة الثانية بإنقاذ اثنين خاناه وعبثا بشرفه. . . وأخيراً يصله خطاب من ابنة عمه وخطيبته السابقة - بعد أن تكون قد عرفت كل شيء من الصحف - تعرض عليه حبها من جديد وتطلب إليه أن يقوم بإنقاذ الطائرة المفقودة. . . ويفعل الطيار ذلك، وفي عودته يصاب بحادث من فرط ألمه، بعد أن تكون زوجته قد اعترفت له بأنها هربت ولكنها لم تعبث بشرفه قط، وإن هربها إنما هو لسبب أنها تعيش معه عيشة لم تخلق لها. . . ولا يصحو في المستشفى إلا وابنه عمه إلى جوار رأسه ويستيقظ وزوجته القادمة تداعب شعره وتقبله قبلة الحب والتضحية(269/82)
أخبار سينمائية ومسرحية
فيلم أم كلثوم الجديد
عرض الأستاذ رامي على الآنسة أم كلثوم مسودة روايتها السينمائية القادمة مع ألحان هذه الرواية، وقد فهمنا أن الآنسة قبلت الرواية وبدأت مراجعتها هي و (مجلس مستشاريها الفني) لإدخال التعديلات اللازمة عليها في الحوادث وبعض عبارات الأغاني لا في الرواية طبعاً!
عودة عبد الوهاب
يعود الأستاذ محمد عبد الوهاب إلى مصر في الأسبوع الأول من الشهر القادم ويبدأ العمل مباشرة في فيلمه الجديد الذي وضع قصته الأستاذ محمود بك تيمور، والسيناريو الأستاذ محمد كريم. والذي علمناه حتى الآن أن الرواية من نوع جديد، وسيفاجأ الجمهور بابتكارات جديدة في الإخراج واختيار ممثلي الأدوار المختلفة
عودة فالنتينو
بمناسبة الذكرى السنوية للنجم الشهير ردولف فالنتينو، عرضت بعض دور السينما في أوربا وأمريكا بعض رواياته الصامتة. وقد دل الإقبال الهائل الذي صادفته هذه الأفلام - رغم مرور خمسة عشر عاماً على عملها - على أن الفقيد فالنتينو لم يفقد شيئاً من مكانته في قلوب العذارى على الأقل
بول موني وهتلر
يقرأ (بول موني) مسرحية الكاتب الشهير (أرنست توللر) عن (هتلر) تمهيداً لقيامه بتمثيلها على المسرح وإذا عزم على تمثيلها فشركة إخوان وارنر هي التي تتولى الاتفاق على إخراجها
عودة شيهان إلى المتروجولدوين
عاد المخرج المعروف (وينفيلد شيهان) إلى العمل كمخرج في استيديوات المتروجولدوين ماير وذلك أثر استقالته من رئاسة الإخراج في شركة فوكس. وقد بدأ إخراج فيلم تدور(269/83)
حوادثه في أحد ميادين سباق الخيل(269/84)
العدد 270 - بتاريخ: 05 - 09 - 1938(/)
حاشية على التفريع
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا كان الجسم الجميل هو الجسم الذي به فضول، فما هو الفضول الذي يعيب الأجسام؟
الفضول في تعريف عاجل هو الزيادة عن الحاجة. ونعود فنسأل: ما هي الحاجة؟. أن الجسم قد يحتاج إلى الصحة، وقد يحتاج إلى الحركة، وقد يحتاج إلى الظهور، وقد يحتاج إلى الخفاء، فكيف نعرف الحاجة التي يتعلق بها الفضول ثم يتعلق بها النظر إلى الجمال؟
نقول في تعريف عاجل أيضاً: أن الحاجة إلى إنجاز (الوظيفة الحية) في تكوين الأحياء
فالزرافة لها عنق طويل لا نستقبحه إذا رأينا هذا الحيوان، ولكنا لو رأينا عنق الزرافة على جسم حصان لقلنا أنه حصان قبيح مشوه مختل التكوين؛ والتشويه والجمال ضدان لا يجتمعان
يسأل سائل فيقول: إذن يرجع الجمال إلى المنفعة؟ إذن نستطيع أن نقول إن العضو الجميل هو العضو النافع على وجه من الوجوه؟
ونسرع فنقول: لا. أن الجسم النافع ليس هو الجسم الجميل في جميع الأحوال، بدليل أن هناك حيواناً أجمل من حيوان، فلماذا يكون الحصان مثلاً أجمل من الزرافة أو تكون الهرة مثلا أجمل من الفار إذا كان المرجع في نظر الجمال إلى منفعة الأعضاء؟
كل عضو في حيوان فهو نافع لذلك الحيوان، وعنق الزرافة نافع لها لأنها حيوان يعيش في الغابة ويختار من لطائف الشجر كل ما ارتفع في الأغصان. ولكن لماذا كان عنق الحصان أجمل من عنق الزرافة؟ ولماذا كان الحصان في جملته أجمل من الزرافة في جملتها، وكانت حركة الحصان أجمل من حركة الزرافة في السرعة أو المهل؟
ذلك أن مرجع الأمر في نظر الجمال إلى شيء غير المنفعة للحيوان أو لمن يستخدم ذلك الحيوان
مرجع الأمر إلى الحرية كما بينا في مقالات كثيرة سبقنا بنشرها قبل سنوات
فكلما كان الجسم أقل ضرورة وأكثر حرية كان أقرب بذلك إلى الجمال؛ وعنق الزرافة يفيدها بالغابة، وليس هذا هو الشأن في عنق الحصان فأنه لا يفيده بمكان. فهو من ثم أجمل من الزرافة في هذا الاعتبار(270/1)
وإنما نرجع إلى (الوظيفة الحية) لنعلم أن الطول أو القصر في جزء من أجزاء الحيوان ليس بطول تشويه ولا بقصر تشويه، لأن التشويه الجمال لا يتفقان
فأنت إذا رأيت عنقا طويلا على كتفي زرافة لم تحسب أنها زرافة شائهة أو زرافة ممسوخة؛ ولم يمنعك إذن مانع التشويه أن تحسبها (زرافة جميلة)
أما إذا رأيت هذا العنق كما هو على كتفي غزال، فانك معتقد فيه المسخ والتشويه على البديهة، ومعتقد من ثم أنه لن يكون على شيء من الجمال، بل هو نقيض الجمال
على هذا المعنى كان جسم الرجل أجمل من جسم المرأة، وإن صعب فهم هذا على بعض الأذواق التي تنساق بالغريزة، دون النظر إلى جمال المعاني وجمال الأوضاع
فمن رأى جسم المرأة رأى لأول وهلة أنه جسم ملحوظ فيه ضرورات كثيرة، وأنه منظور فيه إلى مخلوق آخر غير صاحبة الجسم التي لا تحتاج إلى ذلك التركيب، وهذا المخلوق الآخر هو أما الجنين الذي تحمله في أحشائها، وإما الرجل الذي ينظر إليها نظرة الاستحسان
فإذا قلنا إن العضو الجميل هو عضو يحمل نفسه ويخيل إليك أنه غير محمول على سواه فالمرأة كلها محمولة على تركيب حيوان آخر منعزل عنها، ولا بد أن يجوز على ما في تركيبها هي من معاني الجمال العليا
فيلاحظ في أغلب أجسام النساء طول الجذع واتساع المسافة بين الحرقفتين، وإنما يوجب ذلك أنها في حاجة إلى مكان الجنين ومكان خروجه بعد تمام حمله، وقل ذلك في النهدين والثديين، أو قل شبيهاً بذلك في ضيق الكتفين، فان قصر الكتف وضعفها لا يضيرانها في إنجاز وظائفها، فهي على هذا المعنى تنجز وظيفتها بزيادة في مواضع ونقص في مواضع أخرى منظور فيها جميعا إلى تركيب خارج عن تركيبها؛ ولن يبلغ الجسم حد الجمال الأقصى ما دام جماله معلقاً على شيء غيره؛ وما دام ذلك الشيء أولى بالملاحظة والتقديم في بعض الأحوال
لهذا يصعب التوفيق بين ضرورات الوظائف الحية وبين معاني الجمال المطلق في جسم المرأة
فالمرأة التي يقصر جذعها ويضيق حوضها هي جسم جميل؛ ولكنها قد تجور بجمالها على(270/2)
أمومتها
والتوفيق بين الأمرين من أندر الأمور، في حين أن جسم الرجل لا يحتاج إلى صعوبة في التوفيق بين إنجاز شرائط الأبوة فيه وإنجاز شرائط الجمال
ومع ندرة التوفيق بين الشرطين في المرأة، لا غنى عن التجوز والتسهل في كثير من الأحوال، فأقصر النساء جذعاً وأضيقهن حوضاً وأكملهن أكتافاً لا يحمد منها أن تلوح كالرجل في تركيب هذه الأعضاء؛ ولا بد من التجوز والتسهل في بعض الزيادة على الردفين وبعض النقص على الكتفين، وإلا كان ضمور الردفين ضموراً تاماً علامة تشويه لا علامة جمال، إذ كان الأصل في المرأة أن لها وظيفة الحمل والولادة، فإذا تجردت من هذه الوظيفة فهي مشوهة، وإذا احتفظت بها فمن مرض؛ ولا شك أن تكون عظام الردفين غير مكسوة باللحم الذي لا بد منه لكل جسم صحيح سليم
وعلى هذا تكون المرأة جميلة ولا تكون قنطاراً واحداً لا زيادة عليه
تكون جميلة إذا قل فيها الفضول ولو زاد الوزن غاية ما يقدر له المزيد
وتكون مع ذلك (امرأة جميلة) وليست جميلة بمعاني الجمال على إطلاقها؛ وهي كما أسلفنا القرب من الحرية والبعد من الضرورة؛ وأن يكون الجسم معلقاً على نفسه غير معلق شروط في خارجه، سواء صعب أو سهلت في التحصيل
ولا بد من التجوز والتسهل على هذا الاعتبار في حدود ما قدمناه
ويلحق بتفصيل ما قدمنا الجواب عن سؤال وجهه إلينا الأديب (عبد المنعم شلبي) يقول فيه:
(هل يعجز امرئ القيس وهو ذلك الفنان البارع ذو الخيال الوثاب الذي استطاع أن يتذوق جمال الطبيعة ويترجم عنها في قصائد عن رسم مثال للأنوثة موافق لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة لتخلف الأوان؟ وهل لتخلف الأوان دخل في تقدير الجمال؟ وإذا كان كذلك فمالنا نرى تمثال فينوس مع تخلف أوانه رمزاً ومقياساً لمعاهد الجمال في العصر الحديث؟)
والجواب أن أحيل الأديب صاحب السؤال إلى ما أسلفت عن سبب قصور امرئ القيس في تعريف مقاييس الجمال، فأنني لم أقل أنه يقصر في هذا الباب لتخلف الأوان ثم سكت على ذلك؛ بل قلت أنه يقصر فيه (لتخلف الأوان وندرة الأسباب)(270/3)
ومن الأسباب ولا جدال أن الأعراب في البادية لم يصنعوا التماثيل كما صنعها اليونان الأقدمون أصحاب فينوس، ولم يشغلوا عقولهم وأذواقهم وأخيلتهم بمطالب هذه الفنون، وما تستتبعه من دراسة للأجسام ونظر في تمثيل الأعضاء
وليذكر الأديب صاحب السؤال أن الله عز وجل وعلا لم يغضب على المحدثين جميعا لأنهم محدثون، بل خلق فيهم أناسا وهبهم (الفن والخيال والبراعة وأتاح لهم يتذوقوا جمال الطبيعة). . فإذا تساوى ما بينهم وبين امرئ القيس في هذه الناحية فهناك زيادة العصر الحديث بل زياداته التي يضيق بها الحصر في مذاهب الفنون والأذواق والعلوم والأرقام
عباس محمود العقاد(270/4)
عود ثان
الدين والأخلاق بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
ليسمح الأستاذ النمراوي أن نؤكد له أن حرية القول في الأدب الأوربي ولا سيما الحديث منه ما كانت لتؤثر في أدباء اللغة العربية بمقدار ما أثرت، وما كانت تحتذي بمقدار ما احتذيت، لولا أن أدباء اللغة العربية تأثروا قبل اطلاعهم على الأدب الأوربي بحرية القول في الأدب العربي، ولا سيما العباسي وما يليه؛ فالشاب الذي يُحثُّ على قراءة دواوين العرب وكتب الأدب ويستوعبها لا بد أن يحتذيها في صراحتها. ألا ترى أن السيد توفيق البكري والشيخ شريف رأيا أن الأبيات التي أشرنا إليها في المقالات الماضية أشياء غير مستنكر شرحها وطبعها؟ فإذا كان شيوخ الدين والتربية يتأثرون هذا الأدب اللغوي المكشوف تأثراً لا يشعرون به، ويجعله مألوفاً أُلفة تمنع الاستنكار، فكيف لا يتأثره الشبان الذين لم تكن لهم سابقة الاشتعال بأمور الدين أو التربية، وربما أطلعوا عليه وهم في سن المراهقة كما يفعل الفتيان والفتيات الذين يستعيرون كتب هذا الأدب من مكتبات مدارسهم. والقارئ المسن يستطيع أن يتذكر فورة شبابه أيام المراهقة، ويستطيع أن يحكم كيف تؤثر قصائد ابن الرومي التي شرحها البكري والشيخ شريف في شهوة المراهق، وكيف تؤثر الدواوين والكتب القديمة المشحونة بأمثال تلك القصائد. وانظر كيف يتغير نظر الشاب المراهق إلى اللائق وغير اللائق مما ينبغي أولا ينبغي الاطلاع عليه عندما يرى أن شيوخ الدين والتربية يعنون بشرح هذه الفحش ويطبعونه له، وعندما يرى أن المدارس تحثه على قراءة الكتب التي طبع فيها وتؤنبه إذا لم يقرأها. ومعاذا الله أن نقول إن البكري أو الشيخ شريف أرادا بالشبان والفتيات شراً، إنهما فعلا ما فعلا على قاعدة أن لا حياء في اللغة وأدب اللغة، وأن الفن يراد للفن لا لما به من الفحش، كمن يستجيد مثلا صنعة أبي نواس البيانية في مجونه لا بسبب حبه للمجون بل لحبه للبيان والبديع. ولكن هل تلوم الشبان إذا تأثروا بهذا الأدب اللغوي المخالف للعرف والتقاليد والآداب والأخلاق الإسلامية وسن المراهقة له حوافز ودوافع؟
وإذا قرأ الشاب بعد ذلك بعض مجون شاعر أوربي كمجون هنري هيني الألماني (وهو كلا(270/5)
مجون إذا قيس بما في كتب العرب) ألا يرى أن العالم كله الشرقي والغربي يبجل هذا الأدب اللغوي ويعنى بشرحه وطبعه، وأنه إذاً لا ضير عليه من احتذائه؟ وإذا قرأ بعد ذلك قصة عشيق الليدي شاترلي وجد مجوناً كمجون الفحش العربي ولو أنه كتب بطريقة تحليلية علمية أرقى بعض الرقي من فحش ماجِني الدولة العباسية. ألا يرى القارئ أن تأثر الشباب بالأدب العربي مثل شعر بشار بن برد والحسن بن هاني وغيرهما يسهل قبوله للأدب الأوربي الذي يشكو منه الأستاذ النمراوي؟
لكن الأستاذ تجاهل تاريخ الأدب العربي القديم والحديث لكي يستطيع أن يبرهن على أن الأدب القديم غير مخالف للفضائل والآداب والأخلاق، وأن الأدب الجديد أو أدب المذهب الجديد مخالف للشهوات ومخالف للفضائل. والحقيقة أن هذا التقسيم غير حقيقي وغير منطقي، فأدب المذهب القديم به ما يراعي الفضائل والأخلاق وبه ما لا يراعيها، وأدب المذهب الجديد أيضاً به ما يراعي الفضائل وبه ما لا يراعيها سواء بسواء. فكان الأحجى بالأستاذ أن يقسم الأدب إلى مذهب قديم ومذهب جديد، بل إلى أدب فاضل وأدب إباحي في الأخلاق، ثم ينتقد الأقوال لا الأدباء جملة، لأن كل أديب أو شاعر قد يكون له ما يضعه الأستاذ في القسم الأول، وقد يكون له ما يضعه في القسم الثاني. أو لو أراد قصر مقاله على الرافعي لاستطاع أن يقول إن كل أدبه من أدب الفضائل من غير أن يتجاهل تاريخ أدب اللغة كله، ومن غير أن يحكم حكمين كل منهما جائر لما فيهما من التعميم الذي يخالف طبيعة العلماء أمثال الأستاذ، فان العلماء الباحثين ولا سيما علماء الكيمياء والطبيعة يتحرجون من إصدار أحكام عامة بسبب شواهد خاصة معدودة، فلا يقولون إن أدب المذهب القديم هو أدب الفضائل، وإن أدب المذهب الجديد هو أدب الرذائل على وجه التعميم
لكن الأستاذ النمراوي عالم، فلا بد أن فطنته وبحثه قد أوصلاه إلى حقيقة أراد أن يفسرها فبالغ في تفسيرها وأشتط وأصدر هذه الأحكام العامة. ومن أجل أن نتتبع تفكير الأستاذ ينبغي أن ننظر إلى الفرق الحقيقي في أدب المذهب القديم وأدب المذهب الجديد من حيث الروح. إن الأدب القديم وصل في عهده الأخير إلى أدب احتذاء لا أدب اجتهاد، ونعني بالاجتهاد الاصطلاح الفقهي لا المعنى اللغوي، فأن نصيبه من الاجتهاد كبير إذا أريد(270/6)
المعنى اللغوي للاجتهاد. وهذا هو الفرق الحقيقي بين اجتهاد أدباء المذهب القديم واجتهاد أدباء المذهب الجديد؛ فالمذهب الجديد يريد بحث النفس وعواطفها وشرائعها وسننها، لا قصر البحث على شهواتها، ولا رغبة في إطلاق هذه الشهوات من عقالها كما يقول الأستاذ. فبحث النفس يقتضي بحث جانب الإيمان منها كما يقتضي بحث جانب الشك؛ ولكنه الشك الذي يبعثه الإيمان، وهو الشك الذي يبحث عن أمل للإنسانية في هذه الحياة وبعد هذه الحياة، والذي يحاول أن يداوي شرور الحياة ما استطاع الإنسان ذلك. وهذا الشك لا يستقيم لمن كان قلبه غير عامر بالايمان؛ والشاعر لا يكون شاعرا إلا بمثل هذا الإيمان الملِحْ العنيف الذي يريد أن يزكي نفسه. وهذا أول أسباب سوء الظن بهذا المذهب. وثانيها أن الاجتهاد شبه الفقهي في تفسير الحياة وعوامل النفس قد يشط أحيانا. وقد أقفل باب الاجتهاد في الفقه النفسي والفكري لم يقفله المذهب الجديد. فخصائص المذهب الجديد الروحية هذه أي الرغبة في بحث جوانب النفس والحياة واستئناف اجتهاد الفقه الفكري والروحي هي خصائص يشط معها الأديب في بعض الأحايين، ويكون شططه في عهد الصبا أكثر، إذ تكون خبرته قليلة واندفاعه عظيماً. ثم أن بعض الأدباء قد تشط بهم هذه الخصائص دائما شططا بعيداً؛ ومن أجل ذلك ليس من الحق أن نسلك جميع الأدباء في نظام واحد. ألا ترى أن الأدب الأوربي الحديث يشمل نزعات مختلفة كل الاختلاف منها ما يحدث صلة بينه، وبين الأدب الأوربي في العصور السابقة، ومنها ما ينأى به عنها؟ فحكم الأستاذ النمراوي على المذهب الجديد كمن يحكم حكماً عاماً واحداً على الأدب الأوربي الحديث على اختلاف نزعاته الذي يشبه اختلاف نزعات الأدب المصري الجديد من أجل أن أساس تلك النزعات واحد وهو بحث التجارب النفسية والفكرية؛ فمن الأدباء من يبحثها على طريقه المعري، ومنهم من يبحثها على طريقة شكسبير، ومنهم من يبحثها على طريقة أدباء الرمزية. . . الخ. وكما أنه ليس من الحق أن يحكم الأستاذ حكماً عامّاً على أدباء المذهب القديم (وبينهم تفاوت في الروح)، ولا من الحق أن يحكم حكماً عاماً على أدباء الأدب الجديد، فليس من الحق أن يحكم حكماً عاماً على الشاعر أو الأديب الواحد، فإن الشاعر نفس وللنفس مظاهر مختلفة تقتضي تفصيل الحكم عليها ما دام لا يحكم على قول أو عمل واحد، أو عليها في حالة أو زمن خاص وليس من الحق أيضاً أن يُغْفِل الأستاذ أثر(270/7)