سريعة التقدم وأهم إنتاجها الذهب. ويعنى المسلمون الهنود بالتجارة ويمارسون المهن الحرة
ونحن مسلمي جنوب إفريقية الهنود نشعر نحو تركيا بحب عظيم، ومرشدكم العظيم أتاتورك شخصية عظيمة يعجب بها العالم أجمع. ولقد ظهرت في جريدتنا عدة مقالات عن زعيمكم العظيم. وإنا لعظيمو الارتياح نحن المسلمين إلى ما أحرزته تركيا من أسباب التقدم. وآمل أن يحقق وطنكم لنفسه حياة رغيدة. إن هذه أول مرة وطئت فيها أرض تركيا والأثر الذي خلفته في نفسي هذه الزيارة هو إن الجميع هنا يعملون بنشاط ولا يتمرغون في حمأة الخمول كما كانت الحال في عهد السلطنة
كتابان فرنسيان عن مصر
نال المسيو جان مازويل الأستاذ بالجامعة المصرية الميدالية الفضية من الجمعية الجغرافية بباريس وجائزة ألكسندر اكمان للكتابين الذين تقدم بهما إلى (السوربون) ونال بهما لقب الدكتوراه. وهذان الكتابان يدوران حول بعض المسائل الجغرافية الطبيعية والاقتصادية المتعلقة بمصر إبان حكم والي مصر الكبير محمد علي باشا، وقد بحث المسيو مازويل في أول هذين المؤلفين عن الاكتشافات العظيمة في صحراء العرب وبلاد النوبة، وتكوين برزخ السويس وأعمال الري والصرف وقناطر الدلتا
ودرس في مؤلفه الثاني زراعة قصب السكر وأنواع السماد، كما تحدث عن السكر في مصر من الناحية الاقتصادية وأظهر الدور المهم الذي يؤديه محصوله
تصويب
كتب (أستاذ جليل) في العدد السالف من الرسالة، ينبهني إلى خطأ وقعت فيه عند الحديث عما كان بين الرافعي والعقاد حول مقالة الرافعي عن شوقي في المقتطف سنة 1932؛ والصواب ما قال الأستاذ الجليل؛ فإن مدار الحوار بين الأديبين كان حول تخطئة الرافعي لشوقي في رفع جواب الشرط من قوله:
إن رأتني تميل عني كأن لم ... يك بيني وبينها أشياء
وكان رد الرافعي على العقاد - لتقرير هذه المسألة من مسائل النحو عندما يكون فعل الشرط ماضياً، وفي هذا الرد كان ما كان من رأيه في المتأخرين من علماء النحو.(252/69)
ولقد نبهتني كلمة الأستاذ الجليل إلى شيء كنت أنسيته؛ ذلك أن تخطئة الرافعي لشوقي في الابتداء بالنكرة من قوله:
ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفّ له ... نشوانُ في جنبات الصدر عربيد
لم تكن مما كتبه للمقتطف، ولكنه نشرها في عدد يناير سنة 1933 من مجلة (ابولو) في الرد على الأستاذ علي محمد البحراوي في مقال تناول به مقاله للمقتطف عن شوقي؛ ثم كان جدال بين الرافعي وأديب من أدباء العراق حول تخطئة شوقي في هذا التعبير، وتنقل هذا الجدل حيناً بين أبولو والمقطم. . .
هذا صواب ما اشتبه علي عند رواية هذا الخبر، أشكر للأستاذ الجليل أن نبهني إلى إثباته؛ وعذري في هذا الاشتباه أن الجدال في هاتين المسألتين كان يدور حول محور واحد، هو مقالة الرافعي في المقتطف، فاختلط في ذاكرتي شيء بشيء
محمد سعيد العريان
شكر واعتذار
استدرك الصديق الدكتور ناجي على كلمتنا عن هوكسلي بعض مآخذ سماها أخطاء، وكان قليل جداً من حسن التفات الصديق يكفي لإدراك أن ما ند قلمنا فيه جاء عن طريق السهو، فقد وضعنا أليس مكان جويس في الإشارة إلى قصة أوليسيز، وقد كتبنا عن هافلوك أليس وجيمس جويس أكثر من عشرين نبذة في بابي (من هنا ومن هناك) و (البريد الأدبي) وكتبنا عن أوليسيز لجويس أكثر من مرة، ومن الأعداد التي نذكرها في ذلك (150 - 153 - 154) وذلك عقب نشر القصة. أما أن هوكسلي هو حفيد هوكسلي الكبير أو ابنه فما ذكرت هو الذي أعرفه، وقد ثار جدل في ذلك بيني وبين الصديق الكبير الأستاذ سلامة موسى فأقنعني أنه ابن هوكسلي الكبير وليس حفيده، وتشبث بذلك فأثبته في كتابه القيم (في الأدب الإنجليزي الحديث ص 93) فقد ولد هوكسلي الكبير سنة 1825 وتوفي سنة 1895، وقد نيف هوكسلي الصغير على الخامسة والأربعين ومن هنا كان اقتناعي بما ذكر الأستاذ سلامة. . . على أن ملاحظة الدكتور قد أثارت في فضولاً غريباً جعلني أكتب إلى ألدوس هوكسلي أسأله في ذلك (!!)(252/70)
أما كتاب رقصة الحياة فأكبر ظني أنها غلطة الصفاف (المحترم) الذي جعلني مرة أقتل ولز لأن حضرته أغفل سطراً بأكمله فأوقعني بغفلته في (شر أعمالي!)
ولكن يا دكتور ناجي! لي رجاء بعد ذلك. . . هل تتفضل بتسجيل ملاحظاتك الأدبية القيمة على صفحات الرسالة بالنيابة عني حتى يأذن الله بشفائي مما أصبت به وسأستشيرك فيه!
الشاكر لك
صديقك المجهول
حول كلمة (هال. ها)
سيدي الأستاذ الفاضل محرر الرسالة
قرأت في عدد الرسالة الماضي قصيدة (البعث) وقد أعجبني استيعاب الشاعر محاسن الربيع ومناحي المجال فيه كما طربت لقوة مبناها وغناها باللفظ الجميل كما يغنى الربيع بالورد الناضر والزهر الباسم. إلا أنه لفتتني فيها كلمة (هال. ها) وتعليق الشاعر الفاضل عليها أنها كلمة نداء مرحة ابتدعها الأستاذ أبو حديد وتقوم مقام كلمة - الإنجليزية، وأخشى أن هذا التعليق بعيد عن الصواب. فالكلمة الإنجليزية ليست نداء مرحاً وإنما هي تعبير يقال عند خيبة الأمل أو انكسار النفس من الحزن أو الأسف أو ما إليها
على أن ابتداع الأستاذ الفاضل أبي حديد لكلمة (هال. ها) لتقال في معرض المرح لم يبلغ من التوفيق ما يجيز استعمالها في هذا المعنى. فكلمة (هال) تقال لزجر الابل، وذلك بعيد عن المعنى الذي يقصده الشاعر
والله يحفظ السيد الجليل
محمد عبد الغني حسن
تاريخ الأمة المصرية
أثنى المسيو جابرييل هانوتو في الأكاديمية الفرنسية على الجزء الرابع من كتاب (تاريخ الأمة المصرية) وهو الذي ينشره برعاية جلالة ملك مصر
وقد خصص هذا الجزء للفتح العربي من سنة 642 ميلادية إلى الفتح العثماني في سنة(252/71)
1517 وهو من تأليف المسيو جاستون فييت مدير الآثار العربية في القاهرة(252/72)
الكتب
الإسلام في العالم
تأليف الدكتور زكي علي
مؤلف هذا الكتاب من الشبان القلائل الذين عرفوا بالانكباب على معالجة الشؤون والمشاكل الإسلامية، يعالجها طوراً بالكتابة في صحف الشرق والغرب، وآونة بالخطابة على المنابر في المجامع. ولطالما قرأ له المصريون كثيراً من المقالات القوية في الصحف العامة تنبئ عن اهتمامه القوي بهذه الناحية. والمؤلف إلى جانب اهتمامه بالناحية الإسلامية (طبيب) دقيق النظرة. ولقد ظهر أثر تفكيره العلمي الصائب في كتابه الذي أخرجه هذا الشهر وهو: والذي يعد محاولة طيبة من الدكتور زكي علي، له الجزاء الأوفى عليها
ولقد أوضح المؤلف في مقدمته الدافع على ذلك فقال: (في سنة 1931 غادرت مصر إلى أوربة لأول مرة في بعثة طبية وقد كنت موظفاً كطبيب امتياز وطبيب تخدير في مستشفى قصر العيني بالقاهرة. . . ولم أكن أتوقع أن ستلح علي رغبة عنيفة لمسائل أخرى غير الطب. . . غير أني اكتشفت أن في أوربا جهلاً مطبقاً وعدم إدراك للإسلام. ذلك الدين الذي أومن به، وألفيت أن العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي في حال من المرض الشديد تستأهل بحث أسبابها ومعالجتها) ولم يحاول المؤلف أن يأتي بآراء جديدة في سفره هذا، ولم يعمد إلى محاولة ذلك عمداً، بل لقد ذهب يعرض آراء الغربيين عرضاً دقيقاً ويستخلص من ثنايا كتاباتهم عن الإسلام ما يدحض به كل شبهة تحك في نفس أحدهم، فهو يرى أن النظام الديني والاجتماعي في الإسلام ليس بالضيق أو ما يشتم منه ريح التزمت والجمود، بل إنه في جوهره مرن، كما أنه يعمل على النهوض بالحياة الإنسانية
ويستعرض المؤلف في كتابه هذا حياة الرسول لأنه يرى أن لا بد لدراسة هذا الدين وتفهم مراميه من تفهم حياة صاحبه , وتلك هي الطريقة التي سار عليها سير أرنولد في كتابه فلقد مهد لانتشار الإسلام بفصل عن (محمد كداعية) وفائدة هذا أن يربط القارئ بين المظاهر العامة والذاتية في حياة الرجل الذي حمل عبء الرسالة وأداها صادقاً أميناً، وكان في حياته الخاصة والعامة المثال الكامل للإنسان الفاضل، والصورة الواضحة الحق للرسول والنبي المبعوث، وما كان ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد(252/73)
القوى)
ثم يعرض المؤلف للإسلام من حيث هو دين ونظام اجتماعي يربط بين الطبقات ويوحد بينهما ويتجه بمراميها إلى الغاية المنشودة من الرسالة، ولقد كتب أحد المستشرقين مرة يقول (إن حياة الشرق تتمثل في كتابين لا ثالث لهما، أما أولهما فالقرآن، وأما ثانيهما فكتاب ألف ليلة وليلة). . . كذلك يتجلى طابع الإسلام الحق وجوهره الخالص من كل زيف أو شائبة في القران وهو (كتاب اضطم على مبادئ القانون الإسلامي العام: فهو قانون لدين اجتماعي مدني تجاري حربي فقهي خلقي تشريعي سياسي؛ وهو بعد ذلك كتاب له تأثيره الدائم على أذهان المؤمنين الذي هيهات أن يتنكب بهم الطريق لو أنهم ثابروا على اقتفاء خطاه وأوامره، وليس في هذا الكتاب ما يناقض العقل) بل إنه ليشجع الاجتهاد والتخريج. ثم يعرض المؤلف للجهاد (ص 33) فيرى أنه حرب دينية دفاعية، والجهاد شرعا الحرب في سبيل الدين والذب عن حياضه، وإدخال القوم الجاحدين به في شريعته.
ويتناول الدكتور زكي نظام الحكومة والدولة في الإسلام وهو من النواحي الهامة في تاريخ هذا الدين كان له أثره البعيد في آسيا وأفريقية، فيتعرض للجزية والزكاة والخراج، وهي الأسس الاقتصادية التي تقوم عليها الحكومة في الدول الإسلامية، ويرى المؤلف أن الجزية ليست ضريبة تستؤدى من أهل الذمة كعقاب لهم بل إنها كانت نظير القيام على حفظ حقوقهم وبدلاً من قيامهم بالخدمة الحربية المفروضة على كل مسلم (ص 55)، وإن مرمى النظام الإسلامي وغايته ومجهوده أن يمد العون للنوع البشري ليوفر به أسباب الراحة الروحية، ويرقى به في سبيل الكمال والسعادة.
ومن الفصول القوية التي دبجها الدكتور زكي علي فصله عن تطور الإسلام وهو يلم فيه بما انتاب الإسلام والمسلمين من أهوال جسام في عصور التاريخ المختلفة، فلقد اشتدت عداوة المغول له فقاموا بتدمير مراكزه الكبرى في قسوة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً حتى ليكاد ينكرها من يقرأها بعد حدوثها كما يقول ابن الأثير، وإن الدارس لتاريخ المغول في الشرق والمماليك في مصر ليرى هذه الضراوة الشديدة من ضراوة التتر ومحالفتهم لدول الغرب المسيحية للقضاء على الإسلام ممثلاً في دولة المماليك، ولم يخفف من حدتهم هذه إسلامهم.(252/74)
وكذلك انتابت الإسلام أخطار جمة تعرض لها فكان ذلك الصراع العنيف بين الشرق والغرب، يدفع كلا الجانبين حماسة دينية وتعصب ملح، وهذا هو المعروف بالحروب الصليبية، فلقد امتشق فيها الغرب الحسام ضد الشرق والإسلام واتحدت شعوبه المتنافرة تحت الصليب تدفعها من الخلف حيناً روح دينية، وأحياناً كثيرة تحثها المطامع السياسية، ولكنها في كل ذلك تلبس مسوح الدين. ويرى بعض الكتاب أن هجوم التتر وتدميرهم الخلافة العباسية في بغداد إنما هو ضرورة اقتضتها حياة القوم فلقد انغمروا في بلهنية من العيش واغرقوا في اللذات ورفاهية المادة، فكان تجديد الإسلام بتدمير هذه الحضارة وإقامة أخرى مكانها وزعيم هذا الرأي الكاتب الفرنسي ومهما يكن من صواب رأيه أو خطله فإن الحقيقة الواضحة هي أن الإسلام لم يفن بعد هذا الهجوم بل تجدد وعاد قوياً
أما دراسته عن (الإسلام في الغرب) فيعرض فيها لآراء الكتاب الأوربيين أمثال رينان وولسون كاش وأرنولد وكريمر ويظهر في تضاعيف هذا الفصل ما انطوت عليه نفس الكاتب من حماسة بالغة للإسلام خرجت به أحياناً من موقف العرض إلى الدفاع، فأكرم بهذه الروح التي أملت عليه ما أملت من نقاش ودفاع كريمين، وبهذا الفصل يختم المؤلف الفاضل القسم الأول من كتابه وقد خصصه للتعريف بالإسلام ثم، يليه القسم الثاني والأخير منه وهو دراسة تحليلية للنواحي الفكرية في الإسلام ومستقبله في العالم كدين وكنظام اجتماعي وسياسي، وهو ينظر بعين الرضا والاطمئنان للحركة التجديدية في الأدبين الفارسي والتركي وما يترتب عليهما من إحياء للماضي الحافل بصور المجد والعظمة
ويختم المؤلف كتابه بدراسة قيمة عن (الإسلام في العالم) فيرى أنه لا يستطاع الفصل بين السياسة والدين فيه بل إنهما ليتعاونان معاً في ميادين الاستقلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي (ص397) ويضرب المثل على صحة هذا بالملك العظيم ابن سعود فلقد نجح في إقامة دعائم مملكته على أسس مستمدة من القران والسنة، حتى لقد أصبحت الحجاز اليوم حكومة رشيدة قوية محترمة، وفي ذلك أبلغ دليل على تعاون السياسة والدين وعدم تضاربهما، على عكس الواقع في الغرب حيث لا يستطاع - بحال من الأحوال - التوفيق بين الدولة والكنيسة.
ويتساءل المؤلف في ختام بحثه هذا: هل يمكن إيجاد التعاون والتوفيق بين الإسلام(252/75)
والغرب؟. . . ونظرته لهذه الناحية نظرة المتفائل؛ ويذهب مدللاً على رأيه هذا بحجج بعضها في حاجة إلى نقاش وإن كانت تنتهي أخيراً إلى الموافقة على رأيه.
وبعد فهذا عرض موجز لكتاب ألفه شاب مصري أوقف جهده وقلمه وتفكيره على ناحية يستأهل من أجلها شكر الشرقيين والناطقين بالضاد في كل صقع وناد بلا تفرقة بين الملل والأديان، ذلك لأن الشرق اليوم هو العالم الإسلامي
حسن حبشي(252/76)
المسرح والسينما
عصر السرعة والأعصاب المكدودة
وأثره في الإنتاج المسرحي والسينمائي
اشتهر هذا العصر بأنه (عصر السرعة) ومن علاماته المميزة - وقد تكون إحدى النتائج القريبة لهذا الوصف - توتر الأعصاب
فالبنية الإنسانية طاقة إذا أجهدت تنبهت أعصابها وأرهفت واشتدت قابليتها لكل مؤثر، ومن مجهدات الأعصاب في هذه الأيام تعدد المطالب التي لم تجعل حداً لحاجات الناس بل أطماعهم، وكثرة الأزمات في شتى نواحي الحياة، وترقب الحروب والانقلابات يوماً بعد يوم، وضعف الوارع الأدبي بفضل أخلاق الساسة ومعاملات الدول بعضها لبعض وعدم احترام التعهدات والوعود، وتهديد البطالة لك آمن أو شبه آمن، وتفشي المخدرات والأمراض، وكثرة الضوضاء، وعدم الاستقرار، وتسلط المادية. . . الخ
كل هذه الأمور أفقدت النفس مساكها والأعصاب احتمالها وظهر اثر ذلك في جميع مرافق الحياة
ففي الشارع - كثيراً ما يقابل المرء أناساً وجهاء وغير وجهاء يتحدثون إلى أنفسهم بصوت مسموع، ويضحكون من غير دافع إلى الضحك، ويشيرون بأيديهم إشارات لا تصدر إلا عن مخبول أو مذهول
وفي المرقص صدف الناس عن الرقص التصويري الشعري وافتنوا في الرقصات التوقيعية العنيفة
وفي الملعب ازدادت أحابيل المشعوذين، ومارسوا كل عمل شاذ لا يكاد يخطر على عقل سليم
وفي المعرض - تقدمت الرسوم (الكاريكاتيرية) لأنها الوسيلة الوحيدة لرسم الأفكار الخاصة التي لا تظهر في الطبيعة
وفي الموسيقى لم تفلح الآلات الوترية الهادئة في هذا الجو الصاخب المخمور حيث أفلحت آلات (الجاز) العنيفة المدوية
وفي المكتبة اختفى الكتاب الجيد بين آلاف من الكتب الفارغة التي استعصى على أصحابها(252/77)
عمق الفكرة فسبحوا على قشورها
والمسرح والسينما قد ظلا صورة حسنة لهذا العالم ينقلان أحسن ما فيه، ويقدما له المثل الصالح الممتاز
ولكن هذه النزعة المجنونة قد بدأت تؤثر فيهما وتفسد عليهما رسالتهما السامية
ازدادت في الأيام الأخيرة الأفلام من نزع:
,
, -
,
وكل هذه أفلام تدور إما حول عائلة كل أفرادها مجانين أو رجل غير مكلف أو امرأة مطلقة البدوات، أو فكرة لا يمكن أن يبتكرها غير امرئ مخدر الأعصاب مخمور
وموضع الخطر في هذا الأمر أن هذا النوع من الأفلام هو أكثرها نجاحاً اليوم
ونحن لم نشهد آخر المسرحيات في أمريكا وأوربا، ولكن المتتبع للحركة المسرحية في هذه البلاد يعرف أن هذا الخطر بدأ يدب في المسرح كذلك، وأن البيئة الأدبية بدأت تتحول نحو بعض المؤلفين الذي يستطيعون هذا النوع من الكتابة، ولم يبق هناك أي حرج في استعمال بعض الاصطلاحات التي اقتضاها هذا التجديد؛ فكلا المؤلف والناقد يقول:
, أي ملهاة جنونية، ملهاة هستيرية
وإذا تعذر علينا أن نشهد هذه المسرحيات فإننا نعرف شيئاً عنها مما يحمله البريد. وقد يسهل أحياناً تكوين الفكرة من معرفة العنوان. فمن أسماء بعض هذه المسرحيات التي لقيت نجاحاً عاصفاً في كلا أمريكا وإنجلترا في السنوات الأخيرة , وأخيراً ' ,
وتقدم القوم خطوة أخرى فافتتح بعض الأمريكيين أخيراً مسرحاً لتمثيل الروايات المسرحية التاريخية القديمة كروايات شكسبير بالملابس العصرية
أما في السينما فلا يحوجنا الدليل على صدق ما نقول. فإننا نشهد معظم الإنتاج العالمي في السينما. ويمكننا أن نعمل إحصاء طريفاً في هذا الموضوع. فشركة كولومبيا تعتبر أولى الشركات تقدماً في ابتكار أنواع الخيل، وجريجوري لاكافا، ليوماك كاري ويسلي رجلز،(252/78)
ميتشل ليش. . . أبرع المخرجين في إدارته. أما ممثلوه فكثيرون، أشهرهم كارول لومبار، أيرين دن، جين آرثر ميريام هوبكنز، بت دافيز. ثم جون باريمور، شارلز لاوتون، فردريك مارش، وليام باول، روبرت مونجمري (ويلاحظ أن النساء في المرتبة الأولى).
وهناك (فرق) من المخبولين أشهرهم الاخوة ماركس والاخوة ريتز والثلاثة المشعوذون مو، لاري، جيري.
هذا غير عشرات من الممثلين الكوميديين الذي لا يكاد يخلو فلم واحد من وجود بعضهم.
وأخيراً لا يسعنا بعد هذا الكلام الطويل إلا أن نرجو ونأمل أن ينتج المسرح والسينما أحسن ما في هذا العالم ويدعا أسوأ ما فيه
محمد علي ناصف(252/79)
العدد 253 - بتاريخ: 09 - 05 - 1938(/)
مصطفى صادق الرافعي
بمناسبة ذكراه الأولى
في مثل هذا اليوم من العام المنصرم سكن لسان وجف قلم وانقطع وحي. وفقد البيان الملهم والفكر المنير خسارة إنسانية لا يسهل العوض منها ولا العزاء عنها. والرافعي وأمثاله من عباقرة العلم والأدب والفن والمال، ثروة من ثروات الأمم لا تكتسب بالحيلة ولا بالإرث، وإنما هي نفثات من روح الله تنسم على الأنفس المختارة فتجعل طبيعتها بين النور والطين، ومنزلتها بين السماء والأرض، ورسالتها رفع الناس إلى الملائكة بالمجد، وتنزيل الملائكة على الناس بالخير. إذا جاء أجلهم عاد ذلك النور الإلهي إلى مصدره، وهو أشد ما يكون نزوعاً إليه وعلوقاً به؛ ثم لا ينبثق مرة أخرى إلا حين يأذن الله لخليقته أن تهتدي ولأرضه أن تصبح
لذلك كان أسى الأمم الداكرة الشاعرة على نوابغها أسى خالداً يستمر
في ذاكراتها، ويتجدد في ذكرياتها، ثم يتردد على عواطفها كلما صبت
إلى أمام فلم تجد الهداة، وهفت إلى فوق فلم تجد الأجنحة
على أن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش. ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعهاً من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!
كذلك عاش الرافعي ومات! وكذلك يعيش أشباهه ويموتون! وما حيلة الزهرة الفواحة إذا أنبتها القدر القاهر في فقار الأرض بين سفي الرمال ولفح السمائم؟
رحم الله الرافعي لقد كان في الكتابة طريقة وحده! وحسب الكاتب مزية ألا يكون لأسلوبه ضريع في الأدب كله. فإذا قيل لك إن الرافعي قديم الأسلوب في التفكير والتعبير فاحمل ذلك على الحسد الذي لا حيلة فيه، أو على الجهل الذي لا حكم معه. وتستطيع أن تتحدى من تشاء أن يدلك على كاتب يترسم الرافعي مواقع قلمه أو قدمه. إنما هي شنشنة من ضعاف الملكة وقاصري الأداة، يرمون من يجيد لغته بالتخلف، ومن يتعهد كلامه بالتكلف، ومن يؤثر أدبه بالمحافظة(253/1)
أسلوب الرافعي يمتاز بالسلامة والسلاسة والإيجاز والعمق. وهذه المزايا نتائج حتمية لاكتمال عدته وغزارة مادته وصفاء ذوقه وذكاء فهمه. وأشد ما يروعك منه قوة الفن وحركة الذهن. فأما قوة الفن فهي الأستاذية التي تخلق المادة، وتصنع القالب، وتضع اللفظ، وتحدد الرسوم، وتوضح الفروق، وتتصرف بمفردات اللغة تصرف المصور البارع بألوان الطيف، وتخيل إليك أن الصناعة طبع والمعانة سليقة. وأما حركة الذهن فهي حركة الغواص الدائب لا يقف عند السطح، ولا يستقر على القاع، وإنما يضرب بيديه القويتين في أغوار البحر، وقد انقطع عن شواغل الناس بالعين والأذن. على أنها حركة الروية لا حركة العبقرية؛ فمعانيه تقطر ولا تفيض، ولكنها على طول الرشح واعتصار القريحة تصبح منهلاً طامي الجوانب صافي المورد
كان يحمل الفكرة في ذهنه أياماً يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب والتنقيب والملاحظة والتأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره؛ ويكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف. فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه. وذلك عيب المروين من صاغة الكلام وراضة الحكمة، كابن المقفع والمتنبي، وبسكال وبول فاليري. ومنشأ ذلك العيب فيهم أنهم يطيلون النظر ويديمون الفكر ويعمقون البحث حتى تنقطع الصلة بين عقولهم وعقل القارئ، وتتسع المسافة بين معانيهم وألفاظ اللغة، فيكتبون وأفهامهم سابقة سبوق الروح، وأقلامهم متخلفة تخلف الجسم. ويزيد في هذا الغموض أن سعة العقل في النوابغ تستلزم ضيق اللسان. فلا ترى الفضول والثرثرة والرغوة والثغاء إلا حيث يضحل الذهن ويقصر النظر وتنزر المادة. والرافعي كان يقتصد في أسلوبه، لأنه ينفق عليه من جهده ومن ذوقه ومن فنه ما يجعله أشبه بومضات الروح ونبضات القلب ونفحات العافية. فهو يفصل اللفظ على قدر المعنى تفصيل (المودة) الفاشية اليوم؛ يقصر ولا يطول، ويضيق ولا يتسع، ولكنه على ضيقه وقصره يظهر الجسم الجميل على أتم ما يكون حسناً وأناقة
وهو بعد ذلك أسلوب جيد التقسيم سليم المنطق، إلا أنه بعيد الإشارة يستسر جماله على(253/2)
القارئ العجلان والفهم البطيء. فإذا روي فيه الناقد المتذوق انكشف له في كل كلمة سر، وطالعته في كل فقرة آية. ولعل النفس الشاعرة لا تجد فيه من أنوثة العاطفة ما تجده النفس المنطقية من فحولة الفكرة. ومرجع ذلك في الرافعي غلبة الفكر على الشعور، وسطوة الفن على الطبيعة. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(253/3)
البحث عن غد
للأستاذ عباس محمود العقاد
- 3 -
كان مستر (روم لاندو) على صواب في اهتمامه بالناحية الروحية من حياة الشرق الأدنى في العصر الحاضر؛ وقد أحسن تعليل هذا الاهتمام حين قال في مقدمة كتابه: إن الشرق الأدنى هو الذي رسم للعالم الإنساني مجراه في طريق الحضارة والتهذيب. فلو خلت الدنيا من ثلاث (قارات) كاملة لما تغيرت ثقافتها الروحية إلا قليلاً، ولكنها لو خلت من أمم البقاع المحصورة بين البحر الأبيض والبحر الأحمر والخليج الفارسي، لكانت أديانها غير هذه الأديان، وآدابها غير هذه الآداب، وثقافتها غير هذه الثقافة، ومعاني الحياة والمثل العليا فيها غير ما نعلمه من معانيها ومثلها العليا في عصرنا الحديث
قال: (نعم حدث في القرن الخامس عشر بعد كشف أمريكا وإخراج العرب من الأندلس أن المحور قد تحول نحو الأقطار الغربية، ولكن الأمر لم يحتج إلى أكثر من ثلاثمائة سنة لاتجاه (الرقاص) إلى الشرق من جديد. وجاءت حملة نابليون المصرية وما وراءها من آماله في الهند وما نجم عنها من كشف الحضارة المصرية التي طال العهد بنسيانها فأنشأت عهداً جديداً له شأنه وخطره في بلاد الشرق الأدنى)
ونحن الشرقيين يحق لنا أن نغتبط بما لبلادنا من الشأن الحاضر أو المنظور في حياة العالم الروحية، ولكننا خلقاء ألا ننظر إلى الأمور بالعين التي ينظر بها الغربيون، فإنهم يبالغون ولا ريب في استضعاف شأن الحياة الروحية كما يرونها في أنحاء أوربا وأمريكا، لأنهم سئموها وعالجوا أكاذيبها ومواطن القصور منها، فكان استضعافهم إياها داعياً إلى التحول بالرجاء إلى غيرها، وكان من جراء ذلك هذا الإقبال على مسائل الشرق الأدنى ولاسيما المسائل الروحية. وقد وجد بينهم أناس تحولوا إلى الشرق الأقصى والهند خاصة لتعليل أنفسهم بشيء من الرجاء وشيء من الثقة واليقين فهي حيرة تهديهم تارة إلى هنا وتارة إلى هناك. ولا ينبغي لنا أن نجعل هذه الحيرة مقياسنا ومعيارنا في تقويم ما لنا من قيمة، وعرفان ما لنا من وزن وأمد. ونعتقد نحن خلافاً لما يعتقده بعض الأدباء الأوربيين أن البلاد الغربية ليست من النضوب الروحي بالحال التي يتخيلونها، وليست من الركون إلى(253/4)
المادة والضرورات العملية بالموضع الذي يضعونها فيه. وينفعنا نحن الشرقيين أن نذكر ذلك لأننا محتاجون إلى بقية باقية في الغرب من زاد الروح والذهن والخيال، فإذا اعتقدنا في الغرب النضوب والإقفار فلا ربح في ذلك لنا بل فيه الخسارة والفوات لا جدال
لنا أن نعرف قيمتنا، ولكن ليس لنا أن نجهل قيمة غيرنا. ومن الحسن أن نحيط بما يكتبه الأجانب عنا لأنهم يرون ما يخفى علينا أحياناً من أحوالنا وخطواتنا لفرط الألفة وتكرار النظر بغير انقطاع، كما يعرف المسافر العائد إلى أبنائه كم طالوا وكم كبروا وهو لا يلتفتون إلى ذلك. ولكن المرجع إلينا آخر الأمر في الشعور بحقيقتنا، والنفاذ إلى سريرتنا، والمقابلة بين أمسنا وغدنا. ولا ضير في قليل من الثقة - بل قليل من الغرور - يزيد على المقدار، فإن المبالغة في الثقة خير من المبالغة في فقدها على كل حال
وصاحب كتاب (البحث عن غد) رجل يشعر بالإسلام والشرق الأدنى شعور المودة والترفق، ولا يتعصب عليهما أو يتعصب لأعدائهما. فهو من ثم غير متهم في مقاصده ونياته، وغير بعيد عن أسباب الفهم الصحيح والحكم العادل، ولكنه ينشد الحقيقة على طريقته العاجلة التي يتسع لها وقته في رحلاته الكثيرة، فهو أقرب إلى الأنباء الصحفية منه إلى المباحث العقلية والدروس العلمية أو الفلسفية. وهكذا ينبغي أن نتلقى آراءه وأحكامه، وننظر إلى أغراضه ومناحيه
قصد البحث عن حياتنا الروحية فماذا صنع؟ ذهب إلى السفارة المصرية في العاصمة الإنجليزية وتسلم منها كتب التوصية المعهودة وأسماء الأفراد المعهودين!! ولو قيل للمستر (روم لاندو) إن مصرياً أراد البحث في حياة إنجلترا الروحية فذهب إلى السفارة البريطانية ليسألها عن وجهات الفكر والروح في بلادها لابتسم وأدرك نتيجة البحث لأول وهلة، ولكنه رجل صحفي أو شبيه بالصحفيين، فهذه أقرب الوسائل إلى إنجاز عمله وجمع المادة اللازمة لتأليفه. وكذلك كان في كتبه السابقة حيثما تناول الأقطاب الروحيين المقيمين في باريس أو لندن أو نيويورك: سبيله إليهم كسبيل الصحفيين إلى المحادثات وجمع المعلومات
لو ذهب مصري إلى السفارة البريطانية يسألها عن رجال الفكر والروح والخيال من الإنجليز لما ذكرت له اسم لورنس أو اسم موجهام، ولعلها لا تذكر له حتى اسم برناردشو ومن إليه من الأدباء الذين لا يلتزمون التقاليد ولا يدخلون في السجلات الرسمية. وهي لا(253/5)
تهمل ذكرهم لأنها تجهلهم أو تستخف بأثرهم بين قرائهم، ولكنها تهملهم لأن وظيفتها توجب عليها أن تلتزم التقاليد ولا تعترف بما وراءها من وجهات الأفكار ومذاهب الضمائر
ومن المعقول أن تسأل السفارة أو وزارة الخارجية في إنجاز عمل أو الإرشاد إلى من ينجزه ويتولى تسهيله. أما الإرشاد إلى نزعات الفكر والروح، فالسفارات والوزارات لا تتولاه وإن عرفت طريقه، لأنها لا تدل على شيء إلا كان داخلاً في حدود المرسومات المحدودة، حتى لو ظهر عليه لون من الشذوذ
ولهذا لا عجب أن يتحدث الكاتب عن (قدم المادة) وما قيل عنها في الجامع الأزهر كأنه فتح جديد في تفكير المسلمين، مع أن المسلمين يعرفون مذاهب القائلين بالقدم والحدوث منذ مئات السنين. ومع أن المفكرين المعاصرين لا يحفلون بقدم المادة وحدوثها ولا يشغلهم من صفاتها شيء أهم من هذه الصفة التي تجلى عنها البحث في الإشعاع والتقريب بين المادة والقوة بهذه المثابة حتى أصبحت وكأنها معنى من المعاني وعدد من أعداد الرياضة والحساب
فلو أن (الباحث عن غد) وصل إلى الجامع الأزهر ووجد فيه البحث قائماً على اختلاف هذه الفروض في كنه المادة لجاز له هذا الدهش الذي أفرط فيه حين علم بما قيل عن قدم المادة من قول صحيح أو غير صحيح. أما الدهش لأمر تكلم فيه المسلمون قبل ألف سنة فماذا فيه من البحث عن غد؟ وماذا فيه من النزوع إلى الجديد؟
كذلك يغلو الكتاب الأوربيون على هذه الشاكلة في قياس الحركات الذهنية بما تثيره من الضجيج بين رجال الدين أو بين طلاب المعاهد الدينية. ومن ذلك مثلاً اعتقادهم أن الأستاذ علي عبد الرازق قد غير في قواعد الدين يوم قال إن الخلافة ليست من مراسم الإسلام. وما اعتقدوا هذا الاعتقاد إلا لأنهم حسبوا أن الضجة التي أثيرت حول كتابه كان مبعثها التعصب والغيرة على الدين. ولم يعرفوا الحقيقة التي يعرفها معظم المصريين، وهي أن السياسة لعبت لعبتها في هذه المعمعة من مبدئها إلى منتهاها. فلو أن الأستاذ علي عبد الرازق أعلن رأيه قبل بضع مئات من السنين يوم كان الأمراء المصريون يسعون في إضعاف الخلافة لقوبل كتابه بالترحيب والمكافأة الجزيلة. ولو أن المسألة مسألة قديم وجديد وتغيير في الأصول الدينية لكان الأولى أن يثير من الغضب يوم ذاك أضعاف ما أثاره في(253/6)
عصرنا هذا، ولكنها مسألة لها موقعها من السياسة ومن مآرب العيش عند بعض الناس فكان من جرائها ما كان
لهذا نقول إن حكم الأوربيين ولاسيما المستشرقين على شؤون مصر وشؤون الشرق العربي كافة أضعف الأحكام وأبعدها عن حساب العوامل الصحيحة والبواعث الخفية، بل ربما كانت أبعدها عن البواعث الظاهرة في كثير من الأحيان. وما كتبهم في هذه الأغراض إلا طائفة من (الكتالوجات) على طراز آخر غير الطراز التجاري أو الطراز السياسي، ولكنه مثله في الجوهر وطريقة التحضير
ونخص المستشرقين بالخطأ مع أنهم أحرى أن يقتربوا من الصواب ويرجحوا إخوانهم الأوربيين الآخرين بمعرفة اللغة والاطلاع على التاريخ، إذ الواقع أن (الاستشراق) قد نشأ قديماً في بيئة التبشير ولا تزال فيه جذوره ومراميه؛ وكل ما يعني المبشرين هو مراسم الدين وتقاليد المساجد والكنائس والعبادات. فإذا نشبت مشاجرة في مسجد أو كنيسة فذلك أدنى إلى ملاحظتهم من اختلاف مقاييس الفكر ودعائم الضمير، لأنهم هم أنفسهم يعيشون في هذه البيئة وما يحاذيها من طبقات الأدب وطبقات التفكير، فهم معرضون لأخطاء أعظم من التي يتعرض لها الأوربيون الجاهلون بلغات الشرق وتواريخه الأدبية، لأنهم ينظرون مغرضين وفي أعينهم قصر وعلى أعينهم غشاوة لا تميز الحقائق ولا تنفذ إلى ما وراء القشور
وعلى هذا يصح أن نحيط بما يكتبه الأوربيون عنا لنعرف منهم ملاحظاتهم التي تخفيها الألفة والنظر المتكرر إلى المتواتر من أحوالنا، ولا يصح أن نقوم آراءهم وأحكامهم بأكبر من هذه القيمة أو نسومها بغير هذا السوام
عباس محمود العقاد(253/7)
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
المدنيات وبيئاتها
لكل مدنية من المدنيات بيئات عديدة، ومن هذه البيئات ما هو طبيعي فطري، ومنها ما هو اكتسابي
أما الطبيعي فكالموقع الجغرافي، وطبيعة الأرض وما يحيط بها من البحار، وما يتخللها من الأنهار، وما يبرز فوقها من الجبال، وما ينبسط فيها من السهول، وما ينزل بها من المطر، وما يهب عليها من الرياح، وما ينبث في الأرض من الأشجار، وما يتخلل جوها من الرطوبة، وما يذيع فيه من حرارة أو برودة. وأما الاكتسابي فكالمعتقدات العامة والشرائع الموروثة والأديان والعادات وطبيعة الحكم وصفة الحكومة وأخلاق الطبقة الحاكمة إلى غير ذلك
أما البيئة الطبيعية فقلما تتغير؛ وإن تغيرت فإن تغيرها لا يتناول الجوهر الثابت، وإنما يتناول العرض، فازدياد هبوب الرياح أو قلة الأمطار أو تغير الطقس من جفاف إلى رطوبة؛ أو من حرارة إلى اعتدال، قد يؤثر في الأمزجة بعض الشيء؛ ولكن الأثر لا يتناول الطيع الثابت في الأنفس بما يغير من طابع مدنية أصيل في الجبلة. ذلك على العكس من البيئة المكتسبة، فإن زوال معتقد من المعتقدات، أو انهيار دين من الأديان، أو شريعة من الشرائع، أو عادة من العادات، وحلول غيرها محلها، قد يلبس مدنية من المدنيات ثوباً جديداً ويدمغها بميسم له سمات خاصة. على أن هذه السمات قد تتكيف بما يلائم وحي البيئة الطبيعية، غير أنه يكون مختلفاً عن السمات التي تتسم بها المدنية في ظل معتقدات أو أديان أو شرائع انهارت وقامت أخرى على آثارها
على هذا نستطيع أن نقضي بأن انحلال المدنيات إنما يتناول بيئاتها المكتسبة، لأن انحلال بيئاتها الطبيعية مستحيل تقريباً. أما السبب في أن تظل شعوب أزماناً طويلة في ركود بعد انحلال طور من أطوارها المدنية، فيرجع في الغالب إلى انعدام المنبهات التي تبعث في الأنفس حب المجد والعظمة وعلو الذكر والسيادة العالمية. وهذه صفات إن انحلت بانحلال وجه من وجوه المدنية فإن بعثها يكون رهن ظروف لا يمكن التكهن بها(253/8)
التفكير المستقل
(أرثر شوبنهور) فيلسوف ألماني ولد بمدينة دنتزج سنة 1788، وتوفي سنة 1860. ولقد كتب مؤلفات أشهرها وأعمقها كتابه (العالم إرادة وفكر) ولقد نال هذا الفيلسوف شهرته في مصر خاصة والشرق عامة بنظريته في القوة ونظريته في المرأة، إذ نزع إلى أفكار وتأملات ألبسته في الأذهان ثوباً من التطرف كانت له جدته وطرافته في عصر كنا فيه مقيدين بقيود تخلصنا من أكثرها في عصرنا هذا. غير أن لهذا الفيلسوف الفذ تأملات في الحياة والفكر قلما عرفنا منها شيئاً. ومن أطرف ما خص بتأملات هذا الفيلسوف من نواحي الحياة ناحية الفكر المستقل، أو التفكير المستقل الذي يكون خالصاً لك من التأثر بأفكار الغير ونظرياتهم. ونقتطف هنا لقراء الرسالة فقرات من مقاله في هذا الموضوع وهو من أمتع ما كتب شوبنهور قال:
(كما أن أغنى خزائن الكتب وأحفلها بالمؤلفات لا تكون مفيدة - إذا لم ترتب - فائدة أخرى قليلة العدد حسنة الترتيب. كذلك الحال في ما تحصل بالدرس من المعلومات، فإنها مهما غزرت وكثرت لا تفيدك إن أنت لم تصقلها بفكرك الخاص فائدة معلومات قليلة تعهدتها بالصقل والتأمل الطويل فيها. لأنك بالتأليف بين معلوماتك، ومقارنة كل الحقائق التي تقع لك مقارنة تفكير وعمق، إنما تستطيع أن تهضم المعارف التي تحصل عليها فتصبح ملكاً لك وطوع قوتك. فإن الإنسان ينبغي له أن يدرس. ولكن ما يدرسه لا يصبح ملكاً خالصاً له إلا إذا فكر فيه وأطال التأمل له)
(إن الفرق بين الأثر الذي يحدثه التفكير الذاتي، والأثر الذي تحدثه القراءة في الفكر، كبير جهد الكبر. ذلك بأن التفكير الذاتي وحده هو الذي له القدرة على أن يمد آفاق الفكر في نواح مختلفة تزيد في قوة الابتكار في الذهن حتى يتسنى له أن يختار حراً طليقاً أي طريق يسلك، وينظر في أي جهة يختار)
(إن القراءة تفرض على الذهن أفكاراً، هي بذاتها غريبة متنافرة بعيدة عن المتجه والمنحى الأصيل لفكر القارئ؛ فيكون مثلها كمثل الخاتم أن يطبع الشمع بنقوشه الخاصة. وإن لذلك على العقل من الأثر ما يعادل أثر الأشياء الخارجية على الأجسام، فيظل العقل مضطراً إلى التفكير في هذا ساعة وفي ذاك أخرى، من غير أن يكون له رغبة في الإكباب على(253/9)
التفكير في كليهما أو القدرة على استيعابهما. أما إذا مضى العقل يفكر لذاته فإنه إنما ينساق إلى التفكير في أشياء تفرضها عليه السليقة وتدعوه إليها الفطرة. وإن لي أن أقول إن كثرة القراءة تجرد العقل من مرونته. ومثلها في ذلك كمثل الثقل التارز الشديد إذا وضع على فوهة نبع فائض، فإنه يثقله ويعيق جريانه. وعندي أن أقوى الوسائل التي تصد الفكر عن الوصول إلى الأفكار المبتكرة هي أن تلجأ إلى كتاب تقرأ فيه كلما أردت أن تنفق وقتاً أو تقطع مرحلة من فراغك. وهذا هو السبب في أن كثيراً من حملة الشهادات العليا يكون عادة أقل ذكاء وأكثر بلادة مما هم إذا تركوا على الفطرة)
(كرستوفر مارلو) وكتاب فوست
هو من كبار كتاب الدرامة من الإنجليز، وهو من المتقدمين على شكسبير. ولد في سنة 1563، أو سنة 1564، ودرس في كمبردج ثم هبط لندن واستقر بها. وله كثير من المؤلفات أهمها كتاب (فوست) الذي نسج على منواله جوته الألماني. ولعل كثيراً من القراء لا يعرفون أن لهذا المؤلف الإنجليزي خطر السبق في صياغة تلك الدرامة العظمى التي خلدت اسم جوته في التاريخ، وغشت على اسم مارلو بسحابة من النسيان. وننقل هنا قطعاً مما كتب (مارلو) عسى أن ينتبه بعض الأدباء إلى دراسة ذلك الرأي الأدبي الجليل:
فوست في حجرة درسه:
فوست - والآن، أمن المحتوم أن تحل على فوست اللعنة، وألا يكون من الناحين؟ ما الذي يحملني إذن على أن أفكر في الله والسماء؟ ألا بعداً لمثل هذه التخيلات الدنية، ومرحباً باليأس، باليأس من الله، والثقة في بعل لا تتقهقر، بل تشدد يا فوست وكن قوي الإرادة. لماذا تضطرب؟ هاهو ذا شيء يرن في أذني صداه. (أقلع عن هذا السحر وارجع إلى الله ثانية)، أيرجع فوست إلى الله مرة أخرى؟ إلى الله! إنه لا يحبك. إن الله الذي ينبغي أن تخدم وتعبد، إنما هو شهوتك الذاتية، إذ فيها قد انغرس حب بعل وتأصل. وله سوف أشيد مذبحاً وكنيسة، وأقرب له دم الأطفال فائراً حاراً
يدخل ملكان: ملك الخير، وملك الشر
ملك الخير - فوست! أقلع عن هذه المهنة الساقطة.
فوست - الندم. الصلاة. التوبة. ما عندك منها؟(253/10)
ملك الخير - نعم: إنها الأسباب التي تأخذ بيدك إلى السماء.
ملك الشر - إنما الأوهام، وثمرات الجنة والمس، هي التي تخلط العقل، وتجعله أجنح إلى التصديق بها، والاعتقاد فيها
ملك الخير - فوست! فكر في السماء، وفي أشياء السماء.
ملك الشر - كلا يا فوست! بل فكر في العزة والمال.
يخرج الملكان
فوست - في المال! لم ذا؟ إن ضيعة إميدن ستصبح ملكاً لي. مال الذي سيكون في مستطاع الله أن يفعل بي إذا ما أيدني مفستوفيليس وأخذ بيدي؟ إنك ناج يا فوست. لا تكثر من شكوكك. تعال. تعال يا مفستوفيليس، وقص عليّ أخبارك السارة عن إبليس العظيم. إن الليل لم ينتصف بعد. تعال. تعال يا مفستوفيليس!
يدخل مفستوفيليس
والآن خبرني، ما الذي يقوله سيدك إبليس؟
مفستوفيليس - قال إني سأكون في خدمة يا فوست طوال حياته، على أن يشتري خدمتي له بثمن هو روحه.
فوست - إن فوست قد جازف فعلاً بهذا وبذلك
مفستوفيليس - ولكن تذكر يا فوست أنك لابد من أن تهب روحك مخلصاً، وأن تكتب بالهبة صكاً يكون مداده من دمك، فإن هذا الضمان يطلبه إبليس العظيم. أما إذا رفضت فسوف أعود إلى جهنم.
فوست - تأن يا مفستوفيليس وخبرني: أي خير يستمد سيدك من روحي؟
مفستوفيليس - يزيد بها ملكوته.
فوست - أهذا هو السبب في أن يبلونا ويمتحننا كما يفعل؟
مفستوفيليس - دعك من هذا وخبرني هل أنال روحك لأكون لك عبداً وأقف على خدمتك وأضفي عليك من العطايا أكثر مما يصل إليه خيالك؟
فوست - نعم. سأهبك إياها.
مفستوفيليس - إذن اطعن ذراعك بشجاعة، وقيد روحك واعترف بأن من حق إبليس(253/11)
العظيم أن يستحوذ عليها يوماً ما لتكون له. وهنالك ستكون عظيماً كإبليس نفسه.
فوست - (يطعن ذراعه) مفستوفيليس! حباً لك أقطع ذراعي، وبدمي الصميم أسجل أن روحي أصبح ملكاً لإبليس العظيم، للملك الأكبر المهيمن على دار الظلام المستديم. أنظر! هاهو ذا الدم الذي يقطر من ذراعي، لعل فيه كفاء لغرضي
مفستوفيليس - إنما هو لزام عليك أن تكتب به صك هبة
فوست - نعم. سأفعل. (ويكتب) غير أن دمي يتخثر سريعاً، ولا أقدر أن أكتب به أزيد مما كتبت
مفستوفيليس - سأحضر لك قبساً من نار يحلله ويجعله صالحاً (ويخرج)
فوست - أي شيء ينذر به تخثر دمي ووقوفه عن الاندفاق؟ أينذر بأنه لا يريد أن يكون مداداً لكتابة هذا الصك؟ لم لا يعود إلى الجريان والتدفق حتى أقدر على تحرير الصك به؟ (إن فوست يهبك روحه): آه. عند هذا وقف دمي. ولكن لماذا لا تعقل يا فوست؟ أليس روحك ملكاً لك؟ إذن فاكتب ثانية - (إن فوست يهبك روحه)
(يدخل مفستوفيليس حاملاً جمرات ملتهبة)
مفستوفيليس - فوست! هذه نار. تقدم وضعها على الدم
فوست - لقد أخذ الدم يصفو مرة أخرى. وإذن ينبغي لي أن أتم الأمر سريعاً (ويمضي في الكتابة)
مفستوفيليس - (مبتعداً) لم أثق من حيلة إلا أخذت بها لأنال روحه
فوست - لقد انتهى الصك، ووهب فوست روحه لإبليس العظيم. ولكن أي أثر ذاك الذي انطبع على ذراعي؟ أين أطير؟ أين أذهب؟ أإلى الله! إنه سوف يلقي بي في جهنم؟ لقد غشتني حواسي. ليس من شيء على ذراعي. ذلك ظاهر. لقد كان هنالك شيء مكتوب على ذراعي. أين أطير؟ أين أذهب؟
مفستوفيليس - سأبحث عن شيء يهدئ روحه ويرضي عقله. (يبتعد ثم يخرج)
هذه قطعة مما كتب (مارلو) الأديب الإنجليزي. ولا شك عندي أن في خياله وسياقه لشبهاً بما كتب (جوته). وأن مقابلة أدبية بين ما كتب الأديب الإنجليزي والخالد الألماني، لموضعاً للدرس ومجالاً لخلق صورة من الأدب حديثة(253/12)
إسماعيل مظهر(253/13)
باقة من الفلسفة الإسلامية
الفيلسوف ابن مسكويه وكتابه تهذيب الأخلاق وتطهير
الأعراق
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ولا ينبغي على أية حال أن نشكر له فقط محاولته إقامة نظام خلقي بعيد عن نزعات الدينيين وزهد المتصوفة، بل ينبغي كذلك أن نسجل له، في الرسم الذي وضعه، الذوق السليم والثقافة الواسعة)
(دي بوير)
نعرض اليوم بإيجاز لفيلسوف إسلامي أخرج للناس دستوراً إيجابياً أخلاقياً طريفاً قوامه المنطق الصحيح والذوق السليم، بحيث لو تبعوه في حياتهم لنالوا به السعادة الحق دنيا وأخرى. ونعني به الفيلسوف (أبو علي احمد بن محمد بن يعقوب مسكويه) صاحب (كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وهو الكتاب المعروف الذي نصح الإمام (محمد عبده) بتدريسه في الأزهر إلى جانب الإحياء للغزالي، والذي قام المرحوم (علي باشا رفاعة) بنشره وتبويبه، والذي شرع الزعيم الخالد (سعد زغلول) في اختصاره والتعليق عليه دون أن يتمه
1 - عصره
عاش ابن مسكويه في العصر العباسي الثالث أي في العصر الذي يمتاز بشدة ضعف الخلافة العباسية وبقيام دويلات لا يعترف أكثرها للخليفة بغير السلطة الاسمية. ويهمنا من هذه الدويلات الدولة البويهية (320 - 447هـ) لأن ابن مسكويه عاش ومات في كنفها. وكانت هذه الدولة مظهراً قوياً للنشاط الفارسي الذي كان يرمي إلى الانفصال عن حكم العباسيين واستعادة مجد الفرس القديم. وكان ملوكها يحبون العلم والأدب ولا يستوزرون أو يستكتبون إلا عظماء الأدباء كالمهلبي وابن العميد وابن عباد وغيرهم. وكانت مجالسهم أبداً حافلة بكبار الشعراء والعلماء والفلاسفة ومن على شاكلتهم. لذلك لا عجب أن يمتاز هذا العصر بنضج العلم، وتكوين المعاجم اللغوية، واستقرار الإنشاء على أسلوب مثالي. ولا(253/14)
عجب أن تنمو الفلسفة وتزهر، وتستقر قواعد الطبيعيات والطب، ويتسع خيال الشعراء، ويظهر الشعر الفلسفي، وينمو فن التاريخ والجغرافيا، ويظهر النقد الأدبي، وتؤلف القصص المجازية، وتنتشر المكاتب حاوية لألوف المخطوطات) أجل ولا عجب أن يظهر أمثال ابن سينا وابن مسكويه والهمذاني والخوارزمي، والمتنبي وأبي فراس والأصفهاني والقالي والثعالبي والتوحيدي والصابي والشريف الرضي والتنوخي والطبري
على أن الحالة الخلقية لذلك العصر لم تك لتساير الحالة العلمية رقياً ونجاحاً. ويلوح ذلك في ميكيافيلية السياسة وعبث الكبراء والعظماء على السواء. وما بالك بحكم قاس عنيف يصلب ويثمل ويبتر ويستمع للوشايات والدناءات، وتمتد يد بطشه وغدره إلى الوزراء والأمراء والسلاطين القريب منهم والبعيد؟ وما بالك بعظماء وكبراء يقول (الثعالبي) في أحد مجالس لهوهم: (أنهم أخذوا بفن من الانخلاع عجيب، وبطريق من الاسترسال رحيب!؟) ويقول في مجلس آخر:
فكان الذي لولا الحياء أذعته ... ولا خير في عيش الفتى إن تسترا!
وفي مجلس ثالث:
(ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره!؟)
2 - حياته
وعسير جداً أن نتلمس حياة ابن مسكويه فيما ترك من كتب أو فيما ذكر عنه الكتاب والمؤرخون. وكل ما قد استطعنا كشفه من المؤلفات والتراجم العديدة التي اطلعنا عليها هو أنه ولد حوالي عام 330هـ ومات في 9 صفر سنة 421هـ (16 فبراير سنة 1030م)، وكان مولده (بالري) في أسرة فارسية شريفة. وسرعان ما يترك والده أمه فيبقى هو راعياً لها حتى تتزوج بغير أبيه فيتركها وينزح إلى بغداد شاباً. وهناك يتصل بالوزير (المهلبي) حوالي سنة 348هـ ويدخل في خدمته ككاتم لسره، ويبقى إلى جانبه ينادمه ويسامره حتى عام 352هـ وهو عام وفاة الوزير؛ ومن ثم يعود إلى الري حيث يلتحق بخزانة الوزير العظيم (ابن العميد) وينال ثقته ومحبته وصداقته، ويبقى معه حتى عام سنة 360هـ لينتقل بعد وفاته إلى خدمة ولده الوزير (أبي الفتح). وقد بقي في خدمة هذا الشاب حتى تنكر له الدهر ودخل الوزير السجن سنة 366هـ. ثم التحق بعدئذ بخدمة الملك الظافر (عضد(253/15)
الدولة) الذي استولى على بغداد وغدر بسلطانها عز الدولة أشنع غدر، كما التحق بعده بخدمة صمصام الدولة وشرفها حتى عام 379هـ، وهو العام الذي دخل فيه في خدمة (بهاء الدولة) واختص به وعظم قدره عنده. وهكذا انتقل ابن مسكويه من خدمة وزير إلى سلطان حتى هرم وشعر بدنو الموت، فانتقل كما يقول صاحب (روضات الجنان) إلى (أصبهان) حيث مات عام 421هـ، وحيث دفن في (محلة حاضو) بقبر مشهور معروف. . .
3 - ثقافته وأخلاقياته
وقد تثقف ثقافة أدبية واسعة، ونهل من مجالس العلم ومكتباته، وعني عناية خاصة بالأخلاق فدرس حكمها عند الفرس والعرب والهنود والروم، وجمع ما راقه من هذه الحكم وأخرجه في كتاب لا يزال مخطوطاً. هذا إلى أنه قرأ ما قد خلفه أرسطو وأفلاطون وجالينوس في هذه الناحية ومحصه تمحيصاً. وكأنما دفعته تربيته العائلية السليمة، وقلبه الكبير الحي، وتجربته الأليمة في مجالس السلاطين والوزراء، إلى إنقاذ عصره والعصور التي تليه من السياسة الخرقاء والأخلاق المعتلة، فراح يقرأ في الأخلاق ويؤلف، ويخرج للناس كتباً فيها من المنطق الصحيح ما يهديهم إلى (كمالهم الإنساني)، ويأخذ بيدهم إلى طريق الفضائل والعلوم لتتم لهم السعادة التي ينشدونها عبثاً في تلك الخيرات الوهمية الخارجية، خيرات (الكون والفساد). وقد تجلت هذه النزعة فيما ترك من عهد عاهد فيه نفسه (أن يجاهدها ويتفقد أمرها ما استطاع، فيعف وتشجع ويحكم، ويقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله السرف على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، ويحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، ويستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولاً نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة. . . الخ). . أقول تجلت هذه النزعة في ذلك العهد الطريف، وتجلت كذلك في كتابه التاريخي المعروف (تجارب الأمم وعواقب الهمم) وهو الكتاب الذي فضح فيه بجرأة وصراحة الكثير من رذائل السلاطين الذين خدم أولادهم وأحفادهم كما تجلت على الخصوص في كتابه العظيم الذي نحدثك عنه الآن:
4 - كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق(253/16)
ويعتبر هذا الكتاب أهم كتبه الأخلاقية وأطرفها وأكملها ونظراً لأن ابن مسكويه كان أديباً شاعراً يحذق العربية والفارسية على السواء، فإن أسلوبه فيه يمتاز بالسلاسة والرقة والعذوبة على غير عادة الفلاسفة الإسلاميين , وقد أعجب (الطوسي) به كل الإعجاب فترجمه إلى الفارسية وقال عنه:
بنفسي كتاب حاز كل فضيلة ... وصار لتكميل البرية ضامنا
مؤلفه قد أبرز الحق خالصاً ... بتأليفه من بعد ما كان كامنا
ووسمه باسم الطهارة قاضياً ... به حق معناه ولم يك مائنا
لقد بذل المجهود لله دره ... فما كان في نصح الخلائق خائنا
والكتاب بعد هذا ست مقالات تدور كما قلنا حول الأخلاق الإيجابية للإنسان، أي الأخلاق التي تليق به من حيث هو حيوان ناطق. ولذلك نراه يفرق في المقالة الأولى بين النفس والجسد تفريقاً يثبت به روحانية الأولى وخلودها واحتياج قواها المختلفة إلى كمال خاص يتفق وما فيها من عقل مسيطر وفكر مقدس. ونراه يتناول في الثانية خلق الإنسان وقابليته للتغير والتهذيب ومدى أثر المعرفة في العمل الخلقي، ويتأدى من ذلك إلى (المنزلة الرفيعة) الجديرة بالإنسان وماذا عسى أن يعوقنا عنها. أما المقالة الثالثة فلا تتناول غير موضوع السعادة بالبسط والمناقشة والعرض. وأما المقالة الرابعة فتحدد الأعمال الخلقية وتميزها عن غيرها وتنتهي بنا إلى المقالة الخامسة التي يبسط فيها أنواع المحبة بوجه عام ومحبة الصديق على الخصوص. وأخيراً تأتي المقالة السادسة لتبين لنا طريق حفظ الصحة على النفس ومعالجتها إذا مرضت
ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نبين وجه الطرافة والجمال والأنساق في هذه المقالات البعيدة في منهجها عن منهج الدينيين - (كالبصري في كتاب أدب الدنيا والدين) -، والمعتمدة في طريقتها على الاستقراء العلمي الدقيق الذي (يكاد) ينطق بالتطور، والذي يرسل البصر في الكون كله ويحدد للإنسان ماهيته وعمله فيه!
أما مصادره في ذلك الكتاب فهي تلك الثقافة الخلقية الواسعة التي استمدها من الأمم الأربع، والتي يلوح فيها القرآن متفقاً مع أرسطو وأفلاطون وجالينوس وغيرهم من حكماء اليونان على الخصوص.(253/17)
وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة بين هذا الكتاب وبين كتاب أرسطو (إلى نيكوماخوس): وجدنا ابن مسكويه يبز المعلم الأول أحياناً في الوضوح والانسجام، ويتفوق عليه في فصول خاصة كفصل الصداقة والصديق، ويزيد على فصوله فصولاً أخرى جوهرية كفصلي (دفع الأحزان) و (حفظ الصحة على النفس السليمة)!!
لذلك ننصح القارئ العزيز بقراءة هذا الكتاب مرة ومرة ومرة، ويجعله دستوراً له في حياته كإنسان يرنو إلى السعادة الحق دنيا وأخرى) ونختتم هذا التعريف الموجز بقول ابن مسكويه لابن العميد:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
أو بقوله لعميد الملك:
فانظر إلى سير القوم الذين مضوا ... والحظ كتابتهم من باطن الكتب
تجد تفاوتهم في الفضل مختلفاً ... وإن تقاربت الأحوال في النسب
هذا كتاج على رأس يعظمه ... وذاك كالشَعر الجافي على الذنب!!
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(253/18)
التصاوير والتماثيل في الحضارة الإسلامية
التصوير في الكتب
لأستاذ جليل
التصوير في (الحضارة الإسلامية) في الحجر والكتاب - كثير. وإذا جد واستمر بحث النابشين وتنقيب المفتشين ظهرت نفائس مضمرات، وبدت بدائع مكنونات، وعرف الناس من آثار تلك المدنية المحمدية ما لم يكونوا قد عرفوه
وإن (كتاب الله) لم يذمم في آية من آياته تحسيناً ولا تجميلاً، ولم يحرم تصويراً ولا تشكيلاً. وهل الخط أو التسطير إلا تدبيج وتصوير؟ وهل الكتابة أصلها إلا صور؟ وهذه قصور المروانية والعباسية - والقوم حماة الدين وخلفاء المسلمين - فيها الأشكال والتهاويل
(من كل شيء يرى فيها تماثيل)
وقد زار مسلم عربي منذ أشهر قصر هشام بن عبد الملك الذي كشفه المنقبون في ناحية أريحاء من أعمال فلسطين في السنة الماضية فشاهد صوراً ناتئة لوجوه أناس عرب في بقايا الغرف والجدران
قلتُ يوماً لدار قوم تفانوا ... أين سكانك العزاز علينا
فأجابت: هنا أقاموا قليلاً ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا
وكان في رفاقته أحد معارفه فقال مستعجباً: ما هذا؟ خليفة مسلمين، وأمام دين، وصور وتماثيل!!
فقال المسلم العربي مفاكهاً مازحاً: لم يكن (المحرم) قد نجم ودونت كتبه في أيام هشام. . .
وجاء في تاريخ بغداد لابن الخطيب في وصف دار الخلافة: (وفيها - أي دار الشجرة في دار الخلافة - شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة، فيها ماء صاف، وللشجرة ثمانية عشر غصناً، لكل غصن منها شاخات كثيرة، عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها ذهب، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، ولك من هذه الطيور يصفر ويهدر. وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارساً على خمسة عشر فرساً قد ألبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في (الناورد) خبباً(253/19)
وتقريباً فيظن أن كل واحد إلى صاحبه قاصد، وفي الجانب الأيسر مثل ذلك)
وذكر ابن أبي الحديد في (شرح النهج) الكبير: (إنه كان على سيف عضد الدولة بن بويه وأبيه ركن الدولة صورة علي (رضي الله عنه)، وكان على سيف ألب أرسلان وابنه ملكشاه صورته)
وروى صاحب (النفح) عن بدر الدين بن الحسن الأربلي المتطبب وصف تصاوير في حمام رآه في بغداد في (دار الملك شرف الدين هرون بن أمازير الصاحب شمس الدين محمد الجويني) تدهش مبصريها، وتعجز واصفيها، وقد يجد الفتيان الشطار والمتفننون من رجال الليل ما يشبهها اليوم في بيوت في (باريس). . وربما لا يجدون. وهي الحضارة، وهو التفنن فيها. . . وهذا ما تسهل روايته من وصف الأربلي:
(وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية، وبعضها على هيئة طائر إذا خرج مها الماء صوت بأصوات طيبة. ثم أراني - يعني سائس الحمام - نحو عشر خلوات، كل خلوة أحسن من صنعة أختها. ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ففتحه، ودخل بي إلى دهليز طويل، كله مرخم بالرخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها. ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر، ومذهبة؛ وكلها متخذة من بلور مصبوغ، بعضه أصفر، وبعضه أحمر؛ فأما الأخضر فيقال: إنه حجارة تأتي من الروم، وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب؛ وتلك الصور في غاية الحسن والجمال على هيئات مختلفة في اللون وغيره. وكل محاسن الصور الجميلة مصورة في الحائط)
وهذا خبر عن مصنف مصور في العلم قد أرصن تأليفه وتصويره أيما إرصان، وكأنه آخر ما قيل في أمريكة وأوربة في توضيح الكتب بالصور. وإني لأرويه مؤيداً ومسانداً المقالة الجديدة المفيدة: (التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية) التي أطرفها الناس في (الرسالة) الغراء الأديب المتفنن الدكتور أحمد موسى، والتي زينت لي تصوير هذه السطور:(253/20)
قال ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) في سيرة رشيد الدين بن الصوري: (ولرشيد الدين ابن الصوري من الكتب كتاب الأدوية المفردة. وهذا الكتاب بدأ بعمله في أيام الملك المعظم، وجعله باسمه واستقصى فيه ذكر الأدوية المفردة، وذكر أيضاً أدوية اطلع على معرفتها ومنافعها، لم يذكرها المتقدمون. وكان يستصحب مصوراً، ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه رشيد الدين ابن الصوري إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي اختص كل مها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه، ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك أيضاَ في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يرى النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه وقت ذويه ويبسه فيصوره، فيكون الدواء الواحد يشاهده الناظر إليه في الكتاب وهو على أنحاء ما يمكن أن يراه به في الأرض، فيكون تحقيقه له أتم ومعرفته له أبين)
إن التصوير غير الشركي وغير العهري لمباح. وإن التصاوير والتماثيل إنما هي تحاسين وتزايين (قل من حرم زينة الله)، وإذا كان ذلك للهدى والتذكير والتعليم والتثقيف فقل بالوجوب
القارئ(253/21)
الرافعي بعد عام
للأستاذ محمد سعيد العريان
في صباح الاثنين 10 مايو سنة 1937 نعي المرحوم مصطفى صادق الرافعي إلى أدباء العربية، فجأة وبغير إنذار؛ فسكت القارئ وتلفت السامع، وتغشى السامرين من أهل الأدب سكون ووحشة وانقباض
وطالت فترة الصمت، والسامرون في غشيتهم لا ينطقون، إلا نظرات شاردة، وخواطر تصطرع وتموج، وذكريات تنبعث محرقة لاذعة، تذكر بما كان وتنبه إلى ما ينبغي أن يكون. . .
وهمس هامس: (يرحمه الله! لقد كان رجلاً للدين وللعربية هيهات أن تجد بديلاً منه أو ينقضي زمان من عمر التاريخ!)
ثم عاد الصمت، وعاد السكون، إلا النظرات الشاردة، والخواطر المائجة، والذكريات والأماني. . .
وهتف هاتف في جلال الصمت وفي وحشة السكون: (أن للفقيد لحقاً على اللغة، وحقاً على المسلمين، لا يجزئ فيهما أن نقول: يرحمه الله!)
وتدانت الرءوس، وتجاوبت النظرات، وانثالت الأفكار، وتزاحمت الأماني؛ ثم لم يلبث أن عاد الصمت، وعم السكون!
ثم عاد القارئ يقرأ، وأنصت السامع يسمع، وانتحى اثنان يداولان الرأي في شأن من شئون الأدب، وتماسك اثنان يفاضلان بين الجديد والقديم؛ وغامت في سماء الندى غائمة، وانعقدت على رءوس السامرين عجاجة، وضج المكان كسالف عهده، واختلطت الأصوات فما يبين صوت من صوت، واشتغل كل بما هو فيه. . .
وصاح صائح في نبرة اليائس المحزون: (ويحكم يا بني عدنان! لقد شغلتكم دنياكم عن الوفاء، وفتنتكم الحياة عن ذكر الموت! لقد كان هنا إنسان منكم، وإنه لأرفعكم صوتاً، وأبلغكم بياناً، وأبعدكم غاية ومدى؛ فهلا ذكره منك إنسان. . .)
وبرقت العيون، واختلجت الشفاه، واهتزت الرءوس، وانبعث صوت السامرين يحوقل ويسترجع في همس خافت، وقال قائلهم: (يرحمه الله! لقد كان. . .!)(253/22)
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل وفاء العربية للراحلين من أدبائها: يتهاوون من الذروة إلى بطن الوادي فرداً فرداً، وإخوانهم على الطريق ينظرون إليهم في بلادة وصمت؛ لا تشيعهم منهم قدم، ولا تتبعهم عين باكية، ولا يذكرهم منهم إنسان!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل تراث الأديب في العربية لبنيه وأهله، هو حسبهم من الطعام والشراب والثياب وتكاليف الحياة، وفيه العوض كل العوض من عائلهم الذي طواه الموت بين الصفائح والتراب
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا هو الخلود الذي ضمنته العربية لمن يموت من أدبائها وهو في ميدان الجهاد يكافح الفقر والمرض وشئون العيال، ويبذل نفسه لينشئ أدباً يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد وسعادة الأبدية ومجد التاريخ!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل ما تستطيع العربية من كلمات العزاء، وكل ما يملكه أدباء العربية من أساليب المواساة، وكل ما يقدر عليه ناطق يبين، وصديق يتحبب، وحبيب يشعر أن عليه حقاً لمن يموت من أهل البيان!
يرحمه الله! يرحمه الله!
صوت ما له صدى! وتراث ليس فيه غناء، وطعام لا يهنأ ولا يمرأ، وخلود لا يدوم إلى غد، وعزاء لا يجفف دمعة ولا يخفف لوعة ولا ينفذ إلى قلب طفل سلبه الموت أباه وسعادة دنياه!
يرحمه الله! يرحمه الله!
. . . خلوا عنكم أيها الأدباء الكبار، وأيها الشعراء العظام، وأيها الخطباء المصاقع؛ خلوا عنكم عناءها، سيرحمه الله وإن لم تقولوها؛ سيرحمه بما جاهد، وبما بذل، وبما عانى، وبما تحمل من جهد التضحية ومشقة الحرمان؛ وسيرحمه ثانية بما لقي من العقوق وكان براً، وبما لقي من الغدر وكان وفياً، وبما قوبل من إنكار الجميل وكان من أهل الجميل؛(253/23)
وسيرحمه بدموع هؤلاء اليتامى، وبأنات هؤلاء الأيامى، وبدعوات كثير من أهل الإيمان وفوا له ما وسعهم الوفاء!
مضى عام منذ مات الرافعي، فهل سأل أحد: كم خلف وكم ترك؟
سأحدثكم وإن لم تطلبوها إلي. . . . . .
أما المال فلا سبد ولا لبد، وأما الأدب فثروة للرواة ومحزنة للولد، وأما العيال. . . وا حزناً لو كان يجدي الحزن!
هذا (سامي) كبيرهم في بعثة الجامعة بأمريكا ما يزال بينه وبين الغاية خطوة؛ وهذه (سعدية) الصغيرة تلثغ في الراء وتضم شفتيها على الباء؛ وبينهما ثمانية يقوم على شئونهم (محمد) الله لهذا الشاب العائل؛ لم يكد ينعم بقرب الأهل بعد فراق سبع سنين في فرنسا لدراسة الطب، حتى كان عليه عبء الأسرة كله، فكأنما كان هو في تلك الغربة وديعة إلى أجل، وذخيرة إلى ميعاد؛ وعاجلته تبعات الحياة وما يزال في باكر الشباب!
والحكومة. .؟ خلي عنك يا وزارة الحقانية، خلي عنك يا وزارة المعارف، خلِّ عنك يا وزير المالية. . . الله أكرم!
لقد تصرم من عمر الرافعين في خدمة الحكومة ثمان وثلاثون سنة، ومات ولم يجاوز السابعة والخمسين؛ فأي مكافأة وأي جزاء؟ بضعة عشر جنيهاً في كل شهر، تأبى الحكومة إلا أن يكون لها فيها ميراث. . .
إنه الرافعي، إنه الرجل الذي كان اسمه في مقدمة الأسماء المصرية التي تؤكد زعامة مصر للأمم العربية، وترفع اسمها وتبني مجدها الممتاز، وتسن طرائقها التي يحتذيها الأدباء في العالم العربي. إنه هو. . . ولكنها هي مصر. . .!
وكتب رئيس الرافعي في وزارة الحقانية كتاباً غداة منعاه إلى وزارة المالية، يصف لها من حال الرافعي ومن خبره، ويقترح. . . يقترح أن تنزل الحكومة عن نصيبها من الميراث في (معاش) الرافعي لأولاده. . . ولكن وزير المالية يأبى. . . ولكن الله أكرم. . .!
(يرحمه الله! يرحمه الله!)
ذلك كان جواب الحكومة المصرية. . .!
لقد مضى عام، فهل تذاكر أدباء العربية فيما عليهم للرافعي؟ وهل ذكرت الأمة والحكومة(253/24)
ما عليهما من واجب الوفاء للرافعي؟
لقد تداعى الأدباء إلى ميعاد يحتفلون فيه بتأبين الرافعي، وجاء الميعاد وتخلف المدعو والداعي؛ وترادف ميعاد وميعاد وميعاد، ومضى عام، وعلى مكتب كل أديب دعوة لتأبين الرافعي، وفي ذيل كل دعوة جواب المدعو وبخطه أو بلسانه: (يرحمه الله! يرحمه الله!)
وعند دكاكين الوراقين أسئلة عن كتب الرافعي، ولكن السوق ليس فيه كتاب من كتب الرافعي؛ وقال قائل: (أعيدوا طبع الديوان، أعيدوا طبع إعجاز القرآن، أعيدوا. . أعيدوا. .)
وقال الطابع والناشر والوراق: (يرحمه الله! يرحمه الله!)
وعلى مكتب الرافعي كتب لم تطبع، وقصاصات لم ترتب، وثمرة عقل خلاق كان يجهد جهده ليضيف كل يوم إلى العربية ثروة جديدة وفكراً جديداً. وقلنا: (يا وزارة المعراف، هذه كتب إن لم تخرج للناس سبق إليها العث والفئران فيضيع على العربية كنز ما لها منه عوض!) ولكن وزارة المعارف في أحلامها الهنيئة لا تسمع ولا تجيب، إلا همساً في أمثال أنفاس النائم تردد قول الناس: (يرحمه الله! يرحمه الله!)
وفي الأمة مع ذلك أدباء، وفي الأمة كتاب وشعراء، وفي الأمة ناشئة غافلة ما تزال ترجو الخلود في الأدب. . .
وفي الأمة عقول ناضجة في أجسام مهزولة من الفقر والجوع؛ وفي الأمة رءوس ممتلئة على أناسي تضطرب كل مضطرب للبحث عن القوت
وفي الأمة. . . وفي الأمة رءوس فارغة على أجسام تكاد تتمزق شبعاً ورياً؛ وفي الأمة. . . وفي الأمة قلوب خاوية في أناسي تتمرغ بين وسائد الدمقس وحشايا الحرير. . .
وفي الأمة. . . وفي الأمة مع ذلك من يتساءل مدهوشاً: (لماذا. . . لماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتاباً ومنشئين كبعض من نقرأ لهم من أدباء الغربيين. . .)
يرحمك الله يا مصطفى. . .! بل يرحمك الله أيتها الأمة!
(شبرا)
محمد سعيد العريان(253/25)
مصطفى صادق الرافعي
بمناسبة مرور سنة على وفاته
للأستاذ فليكس فارس
سئل الرافعي ماذا يريد أن يقال عنه بعد الموت، فكتب جوابه قبل وفاته بشهرين صفحة بارزة بين خالدات آثاره: ومما جاء فيها:
(وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقوال ألسنتهم إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق ويرتفع الحسد بموت المحسود وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه.)
ثم أورد بعض الكلمات التي اعتقد أنها ستقال عنه: كمعجزة الأدب وحجة العرب ومؤيد الدين الخ. . ليستطرد قائلاً:
(أما أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشيء عندها لا يسمى شيئاً إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من المعنى اللغوي الذي تدل عليه لا تفهم منها شيئاً إلا معنى واحداً هو حركة نفس القائل وخفة ضميره، فشعور القلب الثائر هو وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت). . .
أي أخي مصطفى، إذا كنت أصبت باستجلاء نفسك وهي لم تزل أسيرة جوارحك، فإنك خدعت بإطلاقك حسن ظنك على الناس أجمعين، لأنك اتخذت تجردك مقياساً فحسبت أن خصومك سينصفونك بعد موتك كما أنصفت أنت من جادلتهم وجادلوك وأردت أن تفهمهم وما أرادوا أن يفهموك.
لقد كانت تنقطع فيك مادة العداوة بذهاب من كان عدواً، لأن عداءك كان ناشئاً عن اعتقادك بتفوق أسلوبك وروعة مذهبك، فما ناضلت حين ناضلت إلا عن سلسلة ثقافة تواصلت حلقاتها منذ نشأ الأدب العربي الصميم حتى انتهى إلى قلمك. أما هم فقد كان عداؤهم ضغينة لأنهم احبوا أنفسهم واستغرقوا في أنانيتهم، لذلك قضت عليهم طبيعة نفورهم منك بأن يغتابوك وأنت مغيب في التراب.
إن الحسد لا يرتفع بموت المحسود كما كنت ترى، لأن مادة الحسد مستمدة من صغار الحاسد فلا تزول إلا بزواله.(253/27)
إنني لأرى روحك الآن تستشف هذه الحقيقة وهي من عيوب التراب لا يتملص منها في الحياة إلا الأرواح التي لم تطمع من الدنيا إلا بما تتزوده منها للآخرة.
وإنني لأراك لا تأبه لما يقال عن بيانك وأسلوبك ولهجتك فإنها أدوار بلاغ لإلهامك، وإلهامك وحده هو ما يقوم في نفسك الآن، فأنا أشعر بأن الكلمة التي أكتبها لذكراك لن تجتاز الحد القائم بين الظاهر والخفي، إنها لكلمة تزحف زحفاً في عالم التلمس والاستقراء موجة ذاهبة في ضم الآراء المتضاربة تقذف بالأحياء إلى طلب الرقي وهم متجهون إلى القبور.
أما الكلمة المجنحة التي تبلغ روحك أيها الأخ الحبيب، الكلمة المأخوذة (من اللغة التي يتفاهم بها الحياء والأموات) فإن روحي قد هتفت بها بالصرخة الصماء وبالدمعة العمياء منذ بلغها رجوعك إلى مصدرك، ولما نزل نهتف بها كلما ارتادت أجواء الشعور والتفكير
أفما قلت إن روحك ستبحث من وراء الحجاب عن الثمرة المساوية المسماة القلب في الناس وعن كل كلمة دعاء وكلمة ترحم وكلمة خير. وإن ذلك ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة
لقد عرفت يا مصطفى، وما اقل من يعرفون هذا في الحياة، قيمة عطف الروح على الروح في هذه الدنيا وبخاصة قيمة هذا العطف يترامى على ضفاف نهر الموت مناجياً الأحباب الراحلين
إذا كان في كل عطف من حي إلى حي نشوة وقوة وأمل، فلا ريب في أن كل خفقة شوق من محب إلى ميت عزيز تحمل إليه الدعاء والترحم والخير
هنالك لا تغني نفس عن نفس شيئاً، ولكن عطف الأرواح الأسيرات على الروح المنطلقة في العالم الخفي ليس إلا مما كسبت هذه الروح من إخلاصها فحق لها أن تجزى بما سعت وبما اكتسبت
كنت أعتقد أن الرافعي كاتب له شأنه في محيطه الخاص، وأنه رجل بيان فخم، ولكنه يدور ضمن حلقة ضيقة من العلم، فكنت مسيئاً إلى نفسي بهذه الفكرة لأنني ما بنيتها إلا على مقال أو بعض مقال وقع نظري عليه منذ سنوات عديدة في لبنان
ومنذ سنتين أو أكثر شغفت بمطالعة رسالة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات لعبقرية هذا(253/28)
المفكر المجدد وحسن اختياره. وفي أحد أعداد الرسالة قرأت (رؤيا في السماء) للرافعي فكنت كلما قرأت سطراً بعد سطر احسبني اشهد أحلاماً غائرة في سريرتي تنقل أشباحها حقائق ماثلة لعياني، وما أتيت على آخر المقال حتى هتفت قائلاً: هذا هو مثال الأدب العربي الذي يمكننا أن نواحه به الآداب العالمية في نهضتنا. واندفعت أترجم (رؤيا في السماء) إلى اللغة الفرنسية ثم نشرتها مقدماً بها إلى أدباء الغرب حجة على من يدعي منهم أن الأدب العربي ليس إلا عالة على آدابهم
ومضى شهر على ظهور الترجمة في المجلة الأسبوعية الفرنسية في القاهرة، فإذا برجل مهيب الطلعة يدخل علي ويتقدم مصافحاً مقدماً نفسه (مصطفى صادق الرافعي) فبادرت إلى معانقته وبدأت أتكلم مرحباً، فإذا به يتفرس فيّ ويبدي إشارات من لم يفهم ما أقول، وكان يرافق الرافعي الأستاذ كامل محمود حبيب فأشار إلي بأن نابغتنا أصم وعلي أن أخاطبه بالقلم
ومنذ ذلك اليوم لم يحضر الرافعي مرة إلى الإسكندرية دون أن يشرفني بزيارته، وقد كان هو الساعي إلى تعريف الأستاذ الزيات والأستاذ حافظ عامر بك بي فتسنى لي أن أجتمع مراراً بثلاثة أفذاذ لكل منهم لمعان في آفاق النهضة الأخلاقية الأدبية وقد كلفوني بإجماع الرأي ترجمة كتاب زرادشت للفيلسوف الألماني نيتشه
وفي أواخر أبريل سنة 1937 جاءني مصطفى في الإسكندرية وهو يتأبط وحي القلم هدية إلي تحمل كلمة من خطه أحتفظ بها بين ذخائر من فقدت من أهلي
وأمررنا اليوم معاً نتحدث كعادتنا، أكتب فيتكلم، ومما قاله لي أن إحدى الصحف كلفته كتابة مقال عنوانه المرحوم (مصطفى الرافعي بقلم مصطفى الرافعي) على نحو ما كتب (ويلز) وأن الفكرة راقت له ولكنه يريد أن أتولى أنا كتابة هذا المقال فقبلت مشترطاً أن أكون وضميره الملكين المستنطقين إذا هو أصر على إقامتي حكماً بينه وبين الحياة، فضحك وقال: ما اخترتك لهذه المهمة إلا لعملي بأن المحبة اشد صرامة في حكمها من العداء وما كان الرافعي مخدوعاً بما أضمره نحوه من إخلاص مجرد وقد تحقق أنني قدرت روحه قبل أن أتعرف إلى شخصه
ولما حان ميعاد انصرافه شيعته وأنا أحس بغصة شعرت بمثلها في كلمة الوداع التي ألقاها(253/29)
إلي وهو يزودني بآخر نظرة لم أزل أراها أمامي كآخر شرارة من أصفى الأنوار التي شاهدتها في حياتي
وفي أول مايو سنة 1937 أخبرني صديق أن أحد أصحابه استعاد السمع وهو مصاب بالصمم بوضع صفحة من الجلاتين (وهو الجلاتين المستعمل لمردات السيارات) بين أسنانه وطيها قليلاً حتى تنحدب بين الفم والصدر فيؤثر عليها اهتزاز الصوت تأثيره على ساعة الحاكي فيصل إلى طبلة الأذن الداخلية بواسطة أعصاب الفكين
بادرت بالكتابة إلى مصطفى وبت أنتظر الجواب بذاهب الصبر فوردني منه بعد يومين الكتاب الآتي، وهو مؤرخ في 2 مايو أي قبل وفاته بأيام قليلة:
عزيزي الأستاذ فليكس فارس
سرني كتابك لأنه كتابك، وقد جربت الفائدة فإذا هي قريب مما وصفتم، غير أن الصوت يبلغ إلى الدماغ مصمتاً غير مبين كأنه لا حروف فيه، وتلك هي العلة من أولها. وسأزاول المران على هذه الطريقة، فلعل لها عاقبة إن شاء الله، ولعل فائدتها تأتي بالتدريج!
لماذا تفتر في ترجمة نيتشه فأصبحت تظهر وتختفي. . .
أما اعترافات فتى العصر فهي جيدة جداً، ولو كان مؤلفها هو المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع المترجم الشيخ فليكس فارس
رسالتك وترجمة رؤيا في السماء قرأهما الأستاذ الفرنسي فأعجب بهما، وقد سلمت الأصول للدكتور محمد ليرسلها إلى أستاذ الآداب في جامعة ليون
وحفظك الله للمخلص
مصطفى صادق الرافعي
طنطا في 2 مايو سنة 1937
مرت السنة على وفاة الرافعي وهو - بعد أن وفى قسط جهاده وانسحب من معاكس الإظلال في هذه الحياة - لم يعد إلا صورة حفرها الحب في قلوب أهله وأصحابه، وإلا كتباً ورسائل وقصائد تتداولها الأفكار في العلام العربي، فإن أنا أتناول الكلام عنه الآن فلا أواجه الصورة المحفورة منه في أعماق القلب لأن النظر إليها يخرس بياني ولا يستنطق سريرتي إلا الكلمة المجنحة الصامتة التي أناجيه بها، بل أواجه منه التراث الأدبي الفخم(253/30)
الذي أقام به لنفسه خلوداً آخر قد لا يهتم له الآن بقدر ما نهتم له نحن لأنه يشق لنا أفقاً واسعاً من آفاق الضحى في النهضة العربية الحديثة
لقد كان الرافعي في الطليعة من قادة الرأي والبيان، اختطت له فطرته العربية وثقافته العربية منهجاً لم يقتحم صعابه إلا النزر اليسير من حملة الأقلام في بلاد العرب
وقد ظهر هذا العبقري بشخصيته الفذة في حقبة من الزمن كان الأديب فيها متتلمذاً لمدرستين: إحداهما مدرسة الأدب العربي تحاول إنهاض اللغة من كبوتها وقد طالت قروناً فتحصر كل همها في تنميق العبارات وتصحيح المفردات والتملص من الأسلوب السقيم الذي طغت فيه على البيان أسجاع المتحزلقين واجتاحته الألفاظ العامية. والأخرى مدرسة الأدب الدخيل تغترف من معين الغرب أوشالاً تريقها بياناً مقلقلاً لا يمت إلى العربية الفصحى بسبب، وليس فيه من الألفاظ الصحيحة ومتانة الأسلوب ما يقوى على اقتناص روائع التفكير من بيان الأجانب
كان الرافعي في تلك الفترة يخطو خطواته الأولى بعيداً عن المدرسة الثانية متصلاً بالمدرسة الأولى بجامع اختيار الألفاظ وتنميق الأسلوب غير أنه ند عن هذه المدرسة بإرسال نظراته إلى أغوار الأدب العربي القديم غير واقف عند لامعات الأصداف الطافية على سطوحه
إن للآداب أنواعاً من الجمال لا يمكن للنفوس على اختلاف أذواقها أن تتفق على ترجيح إحداها، وليس للمتأدب المنصف، إذا هو أدرك هذه الحقيقة، أن يتعصب لذوقه فيضع في ميزانه عبقريات الأدباء بالمقابلة والترجيح
لئن سر العبقري الحقيقي أن تتناول الأقلام تحليل تفكيره وخياله وديباجته بعرضها على الفن، (بالرغم من أن الفن نفسه ليس ناموساً ولا قاعدة ولا مقياساً)، فإن هذا العبقري ليأنف أن يحشره كاتب في كفة ميزان ليضع في الكفة الأخرى عبقرياً آخر يطمح إلى الحط من قيمته وقدره
ما ضر الكاتب المتحزب لو قال إن مثله الأعلى من العبقريين يتدفق إنسانية وشعوراً دون أن ينكر هذه الصفات على أنداده بل على كل ذي قلب شاعر ورأس مفكر في هذه البلاد. . .(253/31)
والله، إنني لا أدري أية نسمة مشئومة تهب على هذا الشرق العربي مقحمة الحزبية ميدان الأدب نفسه، وما الأدب الرفيع إلا النسب الشريف والرابطة المكينة بين النفوس الحساسة الحائرة في هذه الحياة تتلمس حقيقة القلب وتتطلع إلى أنوار الفكر
أفلا يكفي الأدباء ما يعانونه من مجتمع لما يزل في بدء تكوينه وتكاد كتلته الكبرى تتبرأ من بيانهم، حتى ليقوم التحاسد بينهم فيتناكرون، وعهدنا بالأدب دولة يتساند جنودها على المرتقى ولا يستغني حامل أكبر مشعل بينهم عن أنوار اصغر المشاعل المتألقة حوله في اعتكار الظلمات
إن دولة الأدب ديمقراطية في روحها، بل اشتراكية، بل إباحية بأعمق معاني الكلمة، لأن لا حطام فيها لمالك ولا تخوم لحد شخصية تجاه شخصية أخرى، وما الفكر إلا نسمة لا نعرف لها مهباً ولا ندرك لها مستقراً
وعندي أن كل أديب ينشئ لنفسه بلاطاً لينظر إلى من حوله نظرة الأمير إلى أتباع يسيرون في ركابه، إنما هو مدع دخيل يسد على نفسه كوى الإلهام ويقيم بغروره عقبة في سبيل اعتلائه
الأدب رسالة لخير الأمة وخير المجتمع الإنساني، والأدباء متضامنون في تأدية هذه الرسالة وإن اختلفت مراتبهم، وأرقى الأدباء مرتبة من يرسل نظراته مفتشاً عن أديب يحاول الصعود ليمد إليه يده ويسدد خطاه ويصحح أخطاءه، لا من يزدري أترابه المساوين له ويحتقر المتحفزين للحاق به
إن أقطاب الأدب قادة فيالق في عالم التفكير، وشر القواد من احتقر الجنود لأن عظمته تقوم على شجاعتهم، وخلوده يبنى على كواهلهم
فإذا كان الرافعي لم يسلم في حياته الأدبية من ثورات غضب حولت عبقريته إلى النضال العنيف؛ فما كان ذلك إلا لأنه وهو يتسلق المرتقيات ويمد بساعديه إلى ما فوق لم تعثر يداه إلا على أرجل ترفس استكباراً وحسداً، فاضطر إلى تصفيح قبضتيه فولاذاً
البقية في العدد القادم
فليكس فارس(253/32)
هل ينبغي أن تزاحم المرأة الرجل؟
للآنسة زينب الرافعي
(بقية ما نشر في العدد القادم)
وأنا موقنة أيها المؤيدون أنكم يومئذ لن تسمعوا من المرأة إلا رأياً واحداً عن وظيفتها في الحياة؛ ستقول لكم كلمتها الحاسمة في هذا الموضوع حين تقول: (إنني ملكة في مملكتي الصغيرة فهيهات أن أخضع للإغراء فأنزل إلى مرتبة السوقة في الأعمال!!)
أرأيتم تلك المديرة الأجنبية التي استخدمتها تلك السيدة الرجلة لتدير بيتها، أرأيتموها هناك إلا لتطلع على عوراتنا وتكشف عن عيوبنا حتى إذا عادت إلى قومها قالت ما لا يسركم أن يقال!
لقد ذهب فلان إلى أوربا فعاد بزوجته أجنبية، ومثل فلان هذا كثير من شباب مصر، وتسأله: لماذا آثرتها على بنات العم وبنات الخال؟ فيجيب: لقد تزوجت أجنبية لأني لم أجد مصرية واحدة أهلاً لأن تكون لي زوجة!
لماذا؟ لجمالها؟ لا، إن في مصر لجميلات يزهين على جميلات العالم. لأدبها؟ لا، إن المصرية لأكثر أدباً من صاحبته، إن مقاييس الآداب تختلف باختلاف البلاد، فما رآه منها لا يمكن أن يعد أدباً عند المصري. لثقافتها؟ لا، إن الرجل المصري لا ينظر إلى ثقافة المرأة حين يهم أن يختار الزوجة. لحسبها وأهلها؟ ولا هذه أيضاً أيها السادة، فليس يبحث عن الحسب والأهل من لا يعرف خالاً لأولاده. إذن فلماذا لماذا؟
لشيء واحد أيها السادة، قد يكون له شبهة من الحق في الاحتجاج به، هو أنها سيدة بيت، وسيدات البيوت بين بنات مصر قليل.
ويلي عليكن أيتها المصريات! أين حيلتكن في مزاحمة المرأة الأجنبية التي غلبتكن على قلب أبناء العمومة وأبناء الخئولة من المصريين فاستأثرت باحترامهم من دونكن؟
أرينا أيتها الفتاة كيف تنجحين في هذه المزاحمة بادئ بدء. فإذا بلغت الغاية فانظري إلى الناحية الأخرى وطالبي بما شئت من الحقوق في مزاحمة الرجل. . .
أراني أنظر إلى موضوعي نظرة محلية، وأحصر فكري منه في محيط ضيق؛ وظني أن منافسي في الرأي لا يعنون إلا الكلام العام في المحيط الكوني العام إذ يتحدثون عن(253/34)
مزاحمة المرأة الرجل في ميدانه
معذرة: إن بيتي يحترق، أفيكون من حقي حينئذ أن أتحدث في شئون جاري وأنا أولى بنفسي وأحق بالنظر إلى شأني الخاص؟
كم يغيظني ويحرج صدري أن يسألني سائل: لماذا تؤهلين نفسك من وظائف الحياة بعد التعليم؟
ليس عندي إلا جواب واحد أيها السائلون الملحفون، هو جواب كل مصرية تعتز بجنسها وتباهي بكرامتها: (إنني أؤهل نفسي لأكون امرأة، امرأة كاملة تعلم أن الطبيعة زودتها بأسلحتها لتكون امرأة وحسب، فإذا انحرفت بي ظروف الحياة فكنت غير ذلك فلا علي، ولكنكم تسألونني عنا أريد، فهذا ما أريده وما علي أن أعمل له، وعلى الله ما سيكون!)
حدثوني عن المتعلمات اللاتي يعملن عمل الرجال: كم واحدة منهن نجحت في إنشاء بيت وتكوين أسرة؟ لديكم الإحصائيات العامة فارجعوا إليها ثم حدثوني حديثكم.
ستحاول واحدة أن تفلسف وتعلل وتزعم وتدعي، ثم تقول في النهاية: إن هؤلاء لم يخفقن في حياتهن حين أخفقن في إنشاء بيت، إنهن لم يظفرن بالأزواج ولكنهن ظفرن بما هو أغلى عند المرأة من الأزواج!.
أحقاً تقلن يا زميلاتي؟ فليكن! ولأزعم معكن أنهن حين أخفقن في إنشاء البيت ظفرن بما هو أغلى، وأغلو في الزعم فأقول إنهن ظفرن بما هو أغلى وما هو أغلى، وإن خيراً للمرأة أن تكون رجلة من أن تكون زوجة. ولكن. . ماذا يكون إذا صارت هذه هي القاعدة؟ أيتها الطبيعة، لدي للأمة أطفالاً من غير أمهات، لأن النساء يتأبين على وظيفة الأمومة، أو فاعدلي أيتها الطبيعة وقولي للرجال:
لماذا لا يلدون للأمة مادام للنساء عمل غير الأمومة. . .؟
إنني أستحي لكم أيها المؤيدون! إنني لأشفق عليكم أن تكون هذه وظيفتكم في غد!
وإني لأخاف يا زميلاتي العزيزات لو صحت هذه الدعوة أن أراكن وحدكن في الميدان وقد هرب الرجال إلى البيوت ليقوموا بعمل آخر. . .! أرأيتن لو أن الرجل آمن وأطاع وأعطاكن الحق في أن تعملن عمله في السوق، وفي الديوان، وفي الحقل، خلا لكن الميدان فليس فيه إلى جانبكن رجل واحد، أكنتن حينئذ تصررن على هذه الدعوى فتزعمن أنكن(253/35)
أقدر على عمل الرجل؟ أم تعدن معولات باكيات تشكون عسف الرجل وقسوته وجبروته؟
وهل تطيب لكن الحياة يومئذ بناحيتيها: ناحية العمل وناحية العاطفة؟
الآن لا أسمع إلا جواباً واحداً: لقد انتصرت، لا، بل قد انتصرت الطبيعة، لا، بل قد انتصرت المرأة وعزت مكاناً عند نفسها وعند الرجال.
ولكن صوتاً واحداً فرداً مازال يهمس هناك، إنني أسمع من يقول: وحين يذهب الرجال إلى الحرب فلا يبقى في المدينة إلى جانب النساء أحد إلا. . .؟ وحين تأكل الحرب الشباب فيربى النساء عدداً على الرجال؟ هذا سؤال. . .
إن في الإسلام العلاج لكل مشكلات البشرية، وهذه مشكلة أعد لها علاجها منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، يوم أعطى المرأة التي لا تجد لها زوجاً، الحق في أن تطالب أختها المتزوجة - أعني أختها في الإنسانية. . . أن تطالب أختها هذه بنصف رجلها أو ثلثه، أو ربعه، ولا تبذل نفسها في علم ما لا ينبغي أن تعمل، أعني عندما أباح تعدد الزوجات للرجل الواحد
إن تعدد الزوجات ضرورة لتعالج ضرورة، وهو نعمة على المرأة وإن عدتها أكثر النساء نقمة، وما يجعلنها نقمة إلا لأن أكثر الرجال مع الأسف لم يفهم حكمة الله فيما أباح وشرع. اسألوا المرأة التي تكسد سوقها في مثل هذه الضرورات الحربية ولا تجد من يعولها: أخير لها أن تكون بلا زوج، أو أن يكون لها نصف زوج؟ إنكم تعرفون الجواب.
ولكن مالنا نتحدث عن الضرورات، ومالنا نستشهد بفلانة وفلانة ممن زاحمن الرجال فزحمنهم، وطاولنهم فطلن عليهم. إنني لا أريد أن أعرض لذلك.
هبوا أن المرأة تقوى على عمل الرجل كالرجل، بل هبوها أقوى منه، وهبوا نساءً كثيراتٍ نجحن فيما أخفق فيه الرجال وبرزن فيما قصروا فيه، فهل هؤلاء كل النساء وكل الرجال؟ وهل هذا يعطينا الحق في أن نقول لكل امرأة: إنك تستطيعين أن تكوني رجلاً إذا أردت؟ هيهات إلا أن يستطيع كل رجل أن يكون امرأة وأماً ومديرة بيت.
هيهات! هيهات! إن المرأة هي المرأة ما في ذلك شك، وإن كل امرأة لتشعر في نفسها بأنها امرأة، حتى لو استطاعت أن تصطنع لوجهها شارباً ولحية، ولكنها مع ذلك تحاول أن تكون رجلاً، وفي هذه المحاولة نفسها البرهان كل البرهان على أنها لا تستطيع، ولقد يدفعها الغلو(253/36)
في هذه المحاولة إلى أن تبالغ في كل ما يخيل إليها أنها تقترب به من صفات الرجولة، حتى لتوشك أن تكون رجلاً أكثر من الرجل. . .!
هذه الأذرع العارية، وهذا الصدر المكشوف، وهذا الصوت الذي يجلجل في الترام وفي السيارات العامة بالأحاديث الخاصة، إن هو إلا مظهر من مظاهر المرأة التي تزعم لنفسها أنه لن تبلغ منزلة الرجل إلا أن تخلع الحياء الذي هو أخص صفات المرأة وأجمل زينتها.
ماذا أقول ولماذا أتحدث؟ أراني قد وصلت إلى موضع الإقناع في نفوسكم ولما أنته إلى ما أريد، فحسبي هذا الآن وحسبكم، وحسب كل فتاة أن تعلم أن الله خلقها أنثى وركب فيها غرائز الحب والرحمة والحنان والعطف والمواساة والترفق، هذه الصفات التي اجتمعت للفتاة، وإنها لفي كل فتاة، هذه الصفات ليست من صفات القاضي، ولا النائب، ولا الحاكم، ولا المدير، قد تكون الرحمة شيئاً جميلاً ولكن الحاكم الصارم أقرب إلى عدل السماء
كلية الآداب
زينب الرافعي(253/37)
عدو المرأة
للسيدة وداد سكاكيني
ما لأيدينا حيلة بابي العلاء، فلقد أتى على وفاته ألف سنة أو ما يزيد. لقد كانت المرأة بغيضة إلى نفسه، كريهة على سمعه، ولو استطاع أن يبيد من الدنيا كل أنثى لفعل. فوا حرباً مما في لزومياته عن بنات حواء! ما لنا حيلة به فلقد مات وخلد علينا مقابح الوصف ومطاعن الهجاء. ولعل له عذراً في امرأة أساءت إليه فعد كل النساء مسيئات، وغضب عليهن، وقد عرفه القوم فيلسوفاً متشائماً ناقماً على الحياة والناس أجمعين. ثم أتى على أدب العرب حين من الدهر استراحت فيه المرأة من أعدائها والساخرين منها حتى كان زمننا وجاء توفيق الحكيم
يقول الناس عن توفيق الحكيم إنه عدو المرأة، ويقول هو ذلك عن نفسه تياهاً مباهياً، ثم جد في قوله حتى كتب قصته (عدو المرأة) فعجبت له وقد ألقى سلاحه أمام ناتالي الراقصة البولونية، وعجبت من مذهبه في البغضاء فسألته هل أبغض أمه وأخواته وخالاته وعماته؟ وهل كان رجلاً من حمل به ثم ولده فملأ الدنيا بتوفيق الحكيم وشغل الناس بأدبه الرفيع؟
إذا أقام توفيق الحكيم على رأيه واستبد به فليعش في عالم غير عالمنا، فإن من جنسنا الشمس والأرض، ومن أنوثتنا الحياة. وليحص الأسماء في المعاجم فيجد فيها الكثير مؤنثاً كالمرأة، وليترك الزهرة لا يشمها والتفاحة لا يأكلها، وليعش وحده في كون من الرجال ممن طالت لحاهم وعرضت مناكبهم وخشنت أصواتهم وقست قلوبهم، وليترك النساء الرعابيب، والغيد الأماليد لغيره من الرجال
ولكن على رسله! ألم تلهمه المرأة رواياته الرائعة، ومقالاته البارعة؟ ألم تكن شهرزاد من النساء؟
إن من عرف باريس وفيها الغواني الحسان لا يكون عدو المرأة إلا إذا نهل منها حتى ارتوى وقاء كالمثخن الجريح يخرج من القتال وهو عدو له، ولكنه لا يظل محارباً عظيماً، فأهل الفروسية أبداً يدفعهم الشوق إلى استعادة الحرب
المرأة ريحانة من السماء عطر الله به جنات هذه الأرض وجعلها فيض الحنان وفتنة الوجود. أتماري - وأنت تنشد الحق - في سلطانها المطلق ومعانيها التي لا تحد؟ انظر(253/38)
إلى المتنبي فإن خلود شعره من وحي خولة. وتطلع نحو بيرون فقد مات في سبيل امرأة من اليونان. وتذكر وريث التاج بالأمس أدوار كيف انطلق من قيود العرش ليخضع للمرأة. وإذا كنت مسلماً فإن رسولك أحب كثيراً من النساء
لم تصيخ بسمعك إلى أعداء المرأة وغلاظ القلوب؟ ألا سامح الله المعري وشوبنهور، فلقد أورثاك الشنآن، وطبعاك على التشاؤم. إنهما يسولان لك هذه البغضاء ليعطلا قصصك من مباهج الأرواح، ومتع الحياة. إنهما يريدانك على الخمول والفتور، ولئن كنت في ريب مما أقول، فاجمع كتبك واحرقها ثم أعد صفها وطبعها، وهي خلو من ذكر المرأة، كل من فيها من الأبطال، رجال في رجال، ثم انظر ماذا يكون، إنها ستبلى ويعلوها الشحوب، وهي معلقة بأبواب الوراقين، حتى إذا يئس الباعة من عرضها على المعرضين عنها نبذوها وراءهم، وطرحوها جنبات الدروب حتى يمر بها الكانس فيلمها ويرميها في مطارح الإهمال والبلى. وستمر بك أيام أشد سواداً من الليل تهدهد كبرياءك وتخمد صيتك، فينساك بعدها الناس، وتنطفئ من الأدب العربي الحديث شعلة ساطعة، فإذا صرت إلى هذا الدمار جن جنونك، وضربت بيدك منضدة الكتب، فمادت بما عليها واندلع الحبر من دواتك على القراطيس البيض، فيثور ثائرك وتحطم قلمك وتقذف به إلى حيث لا تمسك به ما حييت
أنت يا عدو المرأة فيك طبع المرأة. يقول الفلاسفة الذين أفسدوا قلبك عليه: إذا أجابت المرأة بلا فإنما هي قائلة في سرها نعم. وإذا أبغضت فقد أحبت، وإن كثيراً من النساء كن يكرهن الرجال فهوين على أقدامهم مقبلات، وما أنت يا توفيق الحكيم إلا أشد محب للمرأة وأصدق نصير لها، تملأ أحلامك بالرواء والبهاء، وتطوف بروحك كما يطوف الجمال بفنك، ونراها تسكب في فكرك سراجاً وهاجاً يضيء عبقريتك، ويلهمك البراعة والإبداع. ومن يدري فلعل وراء آثارك العظيمة امرأة تهزك وأنت تحلم، وتوحي إليك وأنت تكتب، من عندها تفجر نبوغك، ومن أنوثتها لمع نجمك حتى شهدناه مشرقاً في آداب العرب، متألقاً في سماء هذا العصر. ومن غيرك أجدر بأن يحب المرأة ويحن إليها ويحنوا عليها؟ بل ما يليق بالكاتب المبدع أن يعيش في الأرض التي لا تعطرها المرأة وتزهو على حواشيها النضرة
ليس كل النساء كجوديت؛ ولكم بين الرجال من هو (لاندرو)؛ ولن تكون الحرب إلا ليكون(253/39)
السلم؛ فإذا شئتها عواناً مأيمة كحرب البسوس فستجدن من بيننا الكثيرات تقول كل واحدة لك: أنا عدوة الرجل
(دمشق)
وداد سكاكيني(253/40)
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
قرأت ما كتب الأستاذ سيد قطب في العددين السالفين من الرسالة، وكنت حرياً ألا أعبأ بما يكتب عن الرافعي في أوان حول وفاته، وقد تهيأ أهله وأحباؤه وأصحابه تتلفت قلوبهم لذكراه الأولى بعد أن سله الموت من بينهم اغتراراً
والأستاذ سيد قطب قد أبى له حسن أدبه، وجميل رأيه، ومروءة نفسه، ونبل قلبه، وشرف مقصده، وإشراق نقده، إلا أن ينبش ماضي الرافعي وما سلف من أمره، ليستخرج حلية يتحلى بها إذ يكتب عن خصومة بين رجلين: أما أحدهما - أنسأ الله في أجله وأمتع به - فما برح يتلطف للناس بما يستجيد من عمل يجدد به مطارف آخرته؛ وأما الآخر - رحمة الله عليه - فبين يدي ربه يتقرب إليه بعمل قد أبلى به أثواب دنياه. فلولا أن الميت لا يدفع عن نفسه في ساعة موته مثل الذي كان يدفع في أيام حياته، وأن ذكر الحي أقرب إلى الناس من ذكر الميت - لكان جديراً بنا أن ندع الأستاذ المهذب الفاضل يتكلم بالذي يهوى على ما خيلت له. فليس للأدب اليوم من الحرمة، ولا فيه من النبل، ولا عليه من الحياطة والحرص، ما يحفز أحداً للمراصدة دونه أن يمتهن أو يسترذل
هذا. . .، وقد جعل الأستاذ الفاضل يستثير دفائن الإحن والأحقاد كانت بين الرافعي والعقاد، ليتخذ منها دليله الذي يفزع إليه في أحكامه!! على الرافعي. لا بل على قلب الرافعي ونفسه وإيمانه بعمله وعقيدته فيه!! ثم لم يرض بذلك حتى نفخ فيها من روح الحياة، ما جعلها مما يكتب الأحياء عن الأحياء للإيلام والإثارة، لا للجرح والتعديل والنقد؛ وكأن الفتنة عادت جذعة بين الرافعي نفسه وبين العقاد. ولقد بدا لبعض الناس رأي فيما كتب الأستاذ المهذب، ولكنا نفيناه إذ سئلنا عنه، فنحن نعلم أن العقاد لا يرضى اليوم أن يكتب مثل هذا الذي كتب عن الرافعي. ولقد ساء ظن امرئ بالعقاد ألا تكون للموت في نفسه حرمة، حتى يكون هو يعين عليه أو يرتضيه أو يسكت عنه إلا سكوت الغضب والاستهانة
فنحن إذ نكتب في رد كلام هذا الأستاذ الفاضل سيد قطب لا نبغي أن نسدد له الرأي فيما يحب أن يرى، فما علينا ضل أو اهتدى، ولا أن نقيم مذهب الرافعي على أصله وقد ذهب(253/41)
سببه وبقي أدبه؛ ولا أن نسوء العقاد حفيظة نتوارثها له عن الرافعي أو من ذات أنفسنا، فما من شيمتنا مثل ذلك؛ كلا، بل نكتب لنميط الأذى عن حرم الموت، وكفى بالموت حقاً وجلالاً
ورحم الله الشعبي فقد كان يقول: (تعايش الناش زماناً بالدين والتقوى، ثم رفع ذلك فتعايشوا بالحياء والتذمم، ثم رفع ذلك فما يتعايش الناس اليوم إلا بالرغبة والرهبة. وأظنه سيجيء ما هو أشد من هذا) ولقد جاء وفات ما نحن فيه ظنون الشعبي. فما يتعايش الناس اليوم إلا بثلب الموتى!
وإلا فما الذي رمى في صدر الأستاذ سيد قطب بهذه الغضبة الجائحة من أجل العقاد؟ ألم يكتب الرافعي للعقاد يوم كان يملك يكتب ويقول؟ أولم يكتب العقاد للرافعي ما كتب؟ ثم نامت الثائرة ما بينهما زمناً كان حده الموت. يقول الأستاذ: إنه - هو لا العقاد - (كان مستعداً للثورة والحنق، لو تناول بعض هؤلاء - يعني الرافعي ثم مخلوفاً - أدبه! بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور. . .) أفكان كلام سعيد العريان - وهو يؤرخ أحقاداً قد سلها الموت إذ سل أسبابها - هو الذي أثار هذا الحي المستعد للثورة على ذلك الميت العاجز عن دفع الثورة؟ ثم ما الذي يحمله على أن يلبس هذه الثورة جلد النقد؟ والعجب أن يثير ما كتب (سعيد) حياً ليس شيئاً في الخصومة بين الرافعي والعقاد، وهو ليس يثير العقاد أحد طرفي الخصومة، وهو الذي يملك أن يقول لسعيد أخطأ أو صاب. . .! أشهد أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد أو شعره. فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا علم الله
وأنا أقدم بين يدي كلامي حقيقة لابد من تقريرها عن الرافعي والعقاد، وذلك أن الرافعي - رحمه الله - لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة، وأن أدبه كله ساقط ذاهب في السقوط، وأن وأن. . . مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما - لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره. ولو كان العقاد يرى الرافعي بعض رأيه الذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له. وكم من رجل كتب عن الرافعي وعن العقاد ونال منهما وأوجع! ولأنه ليس يدخل في(253/42)
حسابهما، ولا يقيمان لأمثاله وزناً، ولا يعبآن بقوله ونقده وثورته - فقد تركاه يقول فيكثر فيمل فيسكت. ولم يكن بين أحد منهما وبين مثله كالذي كان بين الرافعي والعقاد
فالرافعي والعقاد أديبان قد أحكما أصول صناعتيهما، كل في ناحيته وغرضه، وأفنيا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو في وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه، ولا يظن بأحدهما أنه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوة تعارض قوة، ورأي يصارع رأياً، وكان في كليهما طبيعة من العنف والعرام والحدة، وولع العقاد بإرسال العبارة حين يغضب على هينتها صريحة لا صنعة فيها، وأغري الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصبه لسخره وتهكمه على طريقة من الفن؛ فمن ثم ظهرت العداوة بينهما في النقد وفي أذيالها أذى كثير وغبار ملؤه القواذع والقوارص من اللفظ، وعلى جنباته صور ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة، لا يراد بها إلا ذلك. ولقد شهدت أن الذي كان يكتبه الرافعي عن العقاد لم يكن عندي مما يحملني على الحط من منزلة العقاد التي كان ينزلها في نفسي، بل أستيقن أن الذي يكتبه إنما يراد به النيل من غيظ العقاد لا من العقاد نفسه. وعلى مثل ذلك كنت أجد ما يكتبه العقاد عن الرافعي، فلم يكن نيل العقاد من الرافعي - وأنا أحبه - مما يحملني العداوة له أو يدفع بي إلى الغيظ والحنق والثورة
وخليق بنا وبآدابنا أن نطوي الآن سيئة رجلين قد تفارط أحدهما في غيب الله، وبقي الآخر تحوطه الدعوة الصالحة بطول البقاء وامتداد الأجل وسداد العمل
والكلمة الأولى من كلمتي الأستاذ سيد قطب، إنما تدور رحاها ورحى (بغضائه) للرافعي - أو كما قال - عن نفي الإنسانية عن ذلك الإنسان رحمة الله عليه، وخلوه من النفس، وفقدانه الطبع، وفقره إلى الأدب النفسي - وما إلى ذلك من لفظ قد ضل عنه معناه، وتهافت عليه حده - وأنه كان (رحمة الله عليه) ذكياً قوي الذهن، ولكنه كان مغلقاً من ناحية الطبع والأريحية، وأن أدبه كان أدب الذهن لا أدب الطبع، فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية، ولا طبيعة حية، إلى غير ذلك مما حفظه الأستاذ من شوارد اللفظ، وأوابد المعاني. . . وأسمع جعجعة ولا أرى طحناً(253/43)
وأنا كنت أتنظر بالأستاذ أن يأتي في كلمته الثانية بشيء من النقد ينسي إليه ما قدم في الأولى من سوء العبارة وشنعة اللفظ في ذكر الرافعي الميت؛ ولكن خاب الفأل، وجاءت الثانية تدل من يغفل عن الدلالة البينة، على أن هذا الأستاذ الجليل لا يزال يستملي ما يكتب من بغضائه. وهان شيئاً أن يكره الأستاذ الجليل رجلاً كالرافعي حتى يأكله السل من بغضه؛ ولكن الأمر كل الأمر حيث ذهب يزعم فيما يكتب أن هذه البغضاء التي يستملي منها هي النقد، وأن أحكامه على الرافعي إنما هي أحكام قاض قد لزم المتهم حتى أنطقه واشهد عليه لسانه، فاستوعب كلامه، واستنبط الحجة عليه من ألفاظه، واستوثق للتهمة من قوله، ثم بنى (الحيثيات) من فحوى عباراته، ثم حكم وما حكم على المتهم إلا كلامه، ولا شهد عليه إلا لسانه
فلهذا كان علينا لزاماً أن ننظر في الذي أتى من كلام الرافعي، ثم قوله في فيه، واستنباطه الدلائل منه، وتحليله نفس الرافعي من لفظه حتى جعله مستغلق الطبع مسلوب العقيدة. ثم هو فوق ذلك لا يزال يبدئ ويعيد في كلامه ذكر أصدقاء الرافعي وأصحابه ويسخر منهم ويتحداهم، ويحملهم على مركب وعر، ويضطرهم بين خطتي خسف في أحكامه على الرافعي، ويخيرهم أن يختاروا للرافعي طرفاً من طرفين يحسب أنه يلزمهم شناعة من شناعاته التي سماها أحكاماً على الرافعي. وسنتولج فيما لا نحب، لا كرامة للأستاذ الجليل أو استجابة لدعائه، بل لميط الأذى عن نفس مطمئنة لحقت بالرفيق الأعلى راضية مرضية
ولولا أن يقال هَجَا نميراً ... ولم نسمع لشاعرهم جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
محمود محمد شاكر(253/44)
أهمية الترجمة وحركاتها في التاريخ
2 - الترجمة في الإسلام
صفاتها وفهمها في أوربا
للأستاذ عبد العزيز عزت
نظرية رينان
وتتلخص آراء رينان ومدرسته في فهم التراث الإسلامي الذي بني على الترجمة في القرن التاسع الميلادي في ثلاثة أفكار يجدها القارئ في المحاضرة التي ألقاها رينان بباريس عام 1883 (29 مارس)، وعنوانها (الإسلام والعلم)، والذي أوحى إليه هذه المحاضرة هو مرور الشيخ الأفغاني بباريس في ذلك الحين. فرينان نفسه يقول في كتابه (مقالات ومحاضرات) صفحة 403 (منذ شهرين عرفت الشيخ جمال الدين بفضل مساعدنا الفاضل المسيو غانم، وقليل من الناس تركوا في نفسي أثراً كأثره. إن مناقشاتي المتعددة معه هي التي دعتني أن أحول موضوع محاضرتي عن العلم والإسلام) هذه المحاضرة رد عليها الشيخ الأفغاني بتاريخ 18 مايو سنة 1883 في جريدة الديبا وعقب على هذا الرد في اليوم التالي رينان في نفس الجريدة:
أولاً - يقول رينان ما ترجمته: (يمكن أن يقرر الإنسان بسهولة تامة التأخر الواقعي لبلاد الإسلام، وتدهور الحكومات القائمة على هذه البلاد، و (انعدام الفكر) في تلك الشعوب التي تخضع لهذا الدين فقط في ثقافتها وفي تعليمها، لأن الطفل المسلم حتى العاشرة أو الثانية عشرة من عمره يلحظ فيه نوع من الذكاء؟ وفجأة عندما ينتبه إلى تعاليم دينه، تأخذه نزعة صوفية تنتقل به إلى نوع من الإغماء العقلي كنتيجة لتلك النعرة الجنونية: إن الإسلام هو الحق والحق وحده. لهذا يشعر المسلم في أعماق نفسه بنوع من الاشمئزاز للتعلم والعلم، وكذلك لفكرة الجنس والقومية لأن الإسلام يرفع الفوارق بين الأمم)
ثانياً - يقول رينان ما ترجمته (إذا كان في الحضارة الإسلامية علماء وفلاسفة، وكانت هي أثناء عدة قرون سيدة الغرب المسيحي، وإذا وجد حتى عهد ابن رشد تراث فلسفي يسمى تراثاً عربياً (لأنه كتب بالعربية)، فكل هذا في واقع الأمر كان تراثاً يونانياً فارسياً أو(253/45)
بالأصح يونانياً، لأن العنصر الأساسي فيه أقبل من بلاد اليونان. إن الفلسفة وجدت دائماً في بلاد الإسلام ولكنها بعد عام 1200 طغت عليها الموجة الدينية وقضت عليها، وساد بعد ذلك علم (النجوم) لأنه وسيلة لتحديد أوقات العبادات)
ثالثاً: يقول رينان ما ترجمته (حركة الترجمة العجيبة التي وجدت إبان ذلك كانت كلها من وضع الفرس والنصارى، واليهود والحرانيين، والاسماعيليين، والمسلمين الذين ثاروا على دينهم، وهذه الحركة لم تلق من علماء الإسلام إلا كل اضطهاد، لأن الإسلام في واقع الأمر يعادي دائماً العلم والفلسفة، وانتهى بالقضاء عليهما. الإسلام صارم يتحكم في العبد وفي دنياه وفي أخرته، هو ذلك القيد الثقيل الذي لم تصب بمثله الإنسانية في تاريخها. . . لا يمكن أن نطلب من العلم ولا من الفلسفة احترام الإسلام، كما لا يمكن أن نطلب من المكتشفات الحديثة والعلم الحديث احترام رجال الدين عامة)
الرد على نظرية رينان
أولاً - إن ما يأخذه رينان على بلاد الإسلام من تأخر لا يمكن أن يرجع إلى الإسلام ومبادئه، لأن هذا الدين وهذه المبادئ كانت في يوم ما من أيام التاريخ وسيلة للانتشار والحضارة والتقدم أثناء ازدهار الإسلام خاصة في عهد الرشيد والمأمون وهو ما يشابه عهد شرلمان في أوروبا، وأن هذا الانتشار وهذا التقدم كان له الأثر الطيب الذي لم ينكره الأوربيون أنفسهم خصوصاً في حركة الترجمة التي قام بها علماء اليهود الأعلام في أسبانيا وآباء الكنيسة إبان القرن الثالث عشر الميلادي، وأن مرجع هذا التأخر يعزى في واقع الأمر إلى أسباب تاريخية محضة لا مذهبية هي: أن إغارة الترك والتتار والمغول، وهي أمم من (غجر) الشعوب بائسة في الفهم والحضارة، قد عاقت تقدم الإسلام ومنعت ازدهاره (اقرأ فاجيري عن الإسلام)، وبجانب هذا فإن الإسلام دين كسائر الأديان الأخرى كاليهودية والنصرانية، فما يؤخذ عليه يمكن أن يؤخذ على هذه الأديان؛ ومع ذلك فهو يمتاز عنها بأنه لا يمكن للباحث أن يعثر فيه على نص يحرم به العلم والتعلم كالذي نجده مثلاً في (الإنجيل) باب القديس بولس، البند الخامس. ثم لا تجد في الإسلام قوة تتوسط بين الله والعبد تسيطر عليه باسمه تعالى كسيطرة الكنيسة إبان القرون الوسطى. وكذلك في العهد الحديث تجد فرقاً بين أن يطلع القارئ على ما كتبه شيخ الإسلام فضيلة الأستاذ الأكبر(253/46)
محمد مصطفى المراغي عن (الإخاء في الإسلام) - وقانون الكنيسة الصادر في 5 سبتمبر سنة 1908 الذي به يحرم بيوس العاشر على أتباعه المساهمة في الحركة العلمية الحديثة، واضطهاد روح التجديد في كل شيء.
ثانياً - أما أن تكون الثقافة الإسلامية في أساسها ثقافة يونانية، فهذا ليس بعيب على الإسلام، لأن المطلع على نهضات الأمم في التاريخ يقرر أن هذه النهضات بنيت دائماً على عنصرين أولاً: عنصر الإيمان الذي هو السبيل الوحيد للتسيطر على النزعات الجامحة (لقطيع) البشر والوصول بهذا الجمع الحاشد من عباد الله إلى أنبل الغايات الدنيوية والأخروية. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الدين والثاني: هو عنصر العقل الذي هو السبيل لتهذيب ملكات السادة من الناس ومن يتصدى للرياسة وهذا عن طريق العلم، والعرب في هذا الباب آصل من الرومان والأمم الأوربية الحديثة أولاً: لأنهم خلقوا هجرة الإيمان بخلق دين (جديد) يمثل (عبقريتهم الخاصة) وطابعهم الخاص وفرضوه على الناس بالخيار، وهذا ما لم يصل إليه من تقدم ذكرهم من الشعوب. ثانياً: أنهم مهدوا لخلق هجرة العقل وهم في ذلك مثل سائر الأمم وإنما فاقوهم فقط في أن ترجماتهم كانت أكمل وكانت أصح، وعن هذه الترجمة نقلت الترجمات اليهودية والنصرانية، وعن هذه الترجمات الأخيرة خلق أرسطو من جديد في أوروبا إبان القرن الثالث عشر فكان (بدعة) وثنية في وسط سادت فيه المسيحية بنزعتها الصليبية، وهذا مهد حرب العقل الحديثة بين باكون وديكارت من ناحية، وأرسطو العربي المغترب من ناحية أخرى
ثالثاً - أما أن يأخذ رينان على حضارة الإسلام أنها حضارة بنيت على عناصر خارجية كالفرس والنصارى واليهود. . . وهلم جرا، فالتاريخ يحدثنا أن الحضارة المسيحية في القرون الوسطى بنيت أيضا على مثل ذلك، فالمذهب الرسمي للتفكير في المسيحية هو مذهب للقديس توماس (اطلع على مكتوب الكنيسة الصادر في 14 يناير سنة 1904) وهذا المذهب يتأثر بمذهب أرسطو وبني في أصله على حركة الترجمة في القرن الثالث عشر في باريس، وزعيم هذه الحركة وأستاذ القديس توماس نفسه: هو القديس ألبير الكبير وهو ألماني الأصل وساعده في أبحاثه علماء اليهود في إسبانيا لأن علم العرب انتقل إليهم في ذلك الحين، (اقرأ منك في كتابه (الفلسفة العربية واليهودية)) ولهذا عندما يهتم الكردينال(253/47)
مرسييه بإصلاح التعليم الكاثوليكي ضد حركة التجديد في القرن العشرين يقول حسب تعاليم الكنيسة بتعلم اللغة العربية حتى يقف المسيحيون في أوروبا على وصول مذهب القديس توماس (اقرأ مكتوب الكنيسة الصادر في 27 مارس سنة 1906)، ثم إن العناصر الخارجية في أي زمان وفي أي مكان هي قانون عام بين الأمم لتبادل الثقافة. فالآن الخبراء العالميون ينتقلون من وطن إلى وطن في أرقى الأمم المتحضرة، والجنود المأجورة أو المساعدة في الحروب تفعل مثل ذلك، وفي فرنسا مثلاً الآن كثير من زعماء الفكر من أصل أجنبي كالفيلسوف الخالد برغسون وكذلك مدام كربيه، العلامة المشهور ميرسن، بل إن أستاذ اللغة الفرنسية نفسها في السربون (سيبويه الفرنسي) من أصل خارجي وهو العلامة فرتينا ستروفسكي، ومع ذلك فإن أحداً من الناس لا يمكن أن يشك في أن هناك حضارة فرنسية قائمة وأن أثرها معروف في العالم
ومجمل القول أن رينان هذا رجل يؤمن قبل كل اعتبار بالمذهب الوضعي، وهو مذهب (العلم) الحديث الذي يبنى على المنهج التجريبي الرياضي في العلوم الطبيعية، ويسعى أن يجعل من علوم الإنسان الأدبية علوماً لا تقل دقة في أبحاثها عن العلوم المتقدمة. وهذا الفهم في نظر اتباع هذا المذهب يناقض في أصوله ما ساد في تاريخ البشرية من نزعات الفكر التي تتلخص في نظرهم في نزعة دينية قالت بالوثنية تارة، وبعبادة مظاهر الطبيعة تارة أخرى، وبالتأليه تارة ثالثة، ونزعة تجريدية خالصة يمثلها العهد اليوناني وهي تبنى كأساس على منطق أرسطو، والفلسفة الإسلامية تتبع هذا العهد. لهذا خرج رينان على المسيحية، ولهذا أيضاً اعتبر الترجمة في الإسلام كنقل حرفي أي الفلسفة اليونانية (مخطوطة) بحروف عربية، وهذه الترجمة ما هي إلا ترجمة مؤلفات أرسطو (بالذات)، وتعاليم هذا الفيلسوف هي (الوحيدة) التي سادت التراث الإسلامي من أوله إلى آخره، وأن هذه الفلسفة لاقت الاضطهاد من علماء الإسلام لأن هذا الدين ضد حرية الرأي والتفكير، فعداء رينان للإسلام وترجمته وفلسفته، عداء يتعلق إذاً بمذهبه العام الذي ساد في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر. لهذا لزم أن يضاف إلى ردود من عقب على كتاباته من المسلمين رد جديد ملخص يشتق من طبيعة الآراء والمعارف في القرن العشرين.
عبد العزيز عزت(253/48)
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(253/49)
من برجنا العاجي
في ورقة منفصلة بين مخلفات (بتهوفن) وجدت هذه الأسطر الدامعة: (الحب، ليس غير الحب، هو وحده الذي يستطيع أن يجعل حياتك سعيدة. آه يا إلهي، دعني أجدها أخيراً، تلك التي في مقدورها أن تدعم فضائلي، تلك التي قد سمح لي أن تكون زوجتي)
ومات بتهوفن ولم يسمح له. أترى الطبيعة عدوة الفنان، تضن عليه بما تمنحه للآخرين؟ نعم. إنها لتقسو عليه، وإنها لتغار منه أحياناً وتقول له في لغتها الصامتة البليغة:
- أنت تطلب ألي أنا أن أمنحك الحب؟ لا، إني أمنحه كل الناس إلا أنت. إني أمنحه أولئك المساكين الذين لا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً؛ أما أنت فتستطيع أنت نفسك أن تخلق (الحب). إنك مثلي عبقرية خالقة. كل عملك في هذا الوجود أن تصنع (الحب) وتمنحه الناس.
وهكذا تتخلى الطبيعة غالباً عن الفنانين العظام، وتتركهم يبحثون سدىً عن السعادة فلا يجدونها كما يجدها الآخرون ملقاة كالفاكهة الناضجة ساقطة تحت الأشجار. إنما هي شيء بعيد، كلما مدوا إليه أيديهم ابتعد عنهم وتركهم يائسين. عندئذ ينكبون طول حياتهم على كنوز نفوسهم وحدائقها اليانعة يستخرجون منها للناس فاكهة من ذهب وفضة، تقصر الطبيعة أحياناً عن تقديم مثلها. ولكن الطبيعة تنظر إلى الفنان نظرة التشفي مع بسمة السخرية
- أفهمتني الآن، وعلمت أن كلينا يعيش في الحرمان، وأن سر وجودنا أن نعطي ولا نأخذ؟
فيقول لها الفنان في نبرة ألم:
- نعم، ولكنك أنت الطبيعة. أما أنا فآدمي مسكين. إنك لا تتألمين، أما أنا فأتألم؛ إذ أرى الحياة تزول من تحت قدمي، ولم يسمح لي بحظ قليل من الهناء الذي يسخى به على الآدميين!
على الآدميين؟ ومن قال إنك منهم؟ عندما وضع على منكبيك رداء (العبقرية والخلود خلع عنك في الحال بعض خصائص الآدميين!
توفيق الحكيم(253/50)
إيضاح وتعليق
بحث في الرمزية
للأستاذ زكي طليمات
مفتش التمثيل بوزارة المعارف
نشر الأستاذ الدكتور بشر فارس تعليقاً ضافياً في المذهب الرمزي نشرته الرسالة في عددها رقم 251 جاء تكملة لبحثه القيم الذي صدر به روايته (مفرق الطريق)
والحديث في الرمزية شيء يطول، فلا تحلو مطالعته في مجلة تحرص على أن تقدم لقرائها نبعة من كل ينبوع
بيد أنه يعنيني من تعليق الأستاذ شيئان لهما اتصال وثيق بما سبق أن نشرته عن الرمزية في هذه المجلة منذ ثلاثة أسابيع. .
الأمر الأول هو ابتهاج الدكتور بشر بأن يراني أعمد إلى بعض تراكيب جرت في توطئة مسرحيته المذكورة في التعبير عن معان وألوان في الرمزية. وهاأنذا أبادر بتسجيل ما يزيد في ابتهاج الأستاذ الدكتور، بل ويبعث زهوه، فأصرح بأنني حقاً عمدت إلى اقتباس تركيبين أو ثلاثة تراكيب وجدت فيها التعبير الكامل عن خلجات وآراء كانت تجول في نفسي منذ أن كنت أدرس الرمزية في الإخراج والتمثيل في معاهد أوربا. ولا يسعني إلا أن أهنئ الأستاذ الدكتور على توفيقه في إيجاد هذه التراكيب وإطلاقها حية قوية تنبض بالمعنى البكر، وتشق طريقها بين التراكيب الفنية والأدبية لتستقر في صلب اللغة العربية
أما الأمر الثاني، فالتباس عرض للأستاذ الدكتور حينما أردت أن افرق بين طبع الدكتور فارس وطبع غيره ممن عالجوا الرمزية من قريب أو من بعيد، فأجريت في مقالي الثاني ما نصه: (فبشر فارس وتوفيق الحكيم يغترفان من مصدر واحد، الأول يكتب متثبتاً بما تلقنه. . .)
ولا يسعني أن أعلق على هذا قبل أن أبدي عجبي من ذلك الالتباس الذي خالط ذهن الدكتور؛ إذ المعنى جلي واضح العبارة، يزيده إيضاحاً ما أوردته في صلب ذلك المقال، وفي نقدي السابق لمسرحيته (مفرق الطريق) الذي نشرته الرسالة قبل بحثي في الرمزية.(253/51)
قلت: إن بشر فارس وغيره من الكتاب الشرقيين يغترفون من معين واحد؛ وإذا اغترف كاتب من معين، فمعناه أنه تلقن مبادئ وأساليب معينة. إلا أن هناك من يكتب وقد اخذ متثبتاً بما تلقنه، ومن يكتب وقد خالط ما تلقنه خيال طارئ
هذا وقد أعطيت الشيطان حقه حينما أنصفت بشر وتوفيق الحكيم بما نصه: (إلا أن لكل منهما طرائقه في التعبير عن رمزيته) فالأستاذان كاتبان مجيدان في الرمزية، ولكل منهما سحره فيما يكتب، ولا يضير الاثنين أنهما يصدران عن نبعة واحدة مادامت طرائق كل منهما تحمل طابع شخصية مستقلة
وزيادة في الإيضاح أقول إن منحى بشر فارس في الرمزية هو منحى يقوم على التأثر الدفين تمازجه الوجدانيات والفلسفة، في حين أن منحى الأستاذ توفيق الحكيم يأخذ سمت السخرية بالعواطف ليدلل على إفلاسها أو ليناقش عابثاً هازئاً بمدركات مجردة؛ وكلتا الرمزيتين لها طلاوتها، ولها فلسفتها، ولها أسلوبها في الكشف عن الغامض والمبهم والتائه في لفائف الروح
أما ما ذهب إليه الدكتور فارس من أن مسرحيته تستقر في الرمزية المستحدثة - فأمر لا يغير شيئاً من منحى مسرحيته مادامت تصعد إلى الرمزية الأولى التي شرحناها أنا والدكتور بشر. فروايات (إدمون روستان) مثلاً تعتبر من صميم الرومانسية، وهي مع ذلك من الرومانسية المستحدثة كما يقول النقاد
وما الرمزية إلا خلجة من خلجات النفس خرجت ولها طابع خاص لم يلبث أن خالطته ألوان نفسية جديدة قد تحور من مظاهرها وتبدل من أشكالها، ولكنها لا تطغي على صميمها؛ وشأنها في ذلك شأن أية عاطفة بشرية. ولو أردنا أن نحصي الألوان التي داخلت الرمزية منذ نشأتها لتعذر علينا البحث ولأعيانا الأمر ولوقفنا موقف من يريد أن يقسم الشعرة الواحدة من الرأس إلى أربعة أقسام كما يقول الفرنسيون!
يبقى بعد هذا أن أبدي سروري بأنني كنت في طليعة من نوه بمقام مسرحية (مفرق الطريق) وأنا الرجل الذي يشغله المسرح عن كل شيء عداه. ويسرني أيضا أن أرى هذه المسرحية تشغل تفكير نخبة من الأدباء أمثال أمين الريحاني وميخائيل نعيمة، وحافظ محمود، وكامل محمود حبيب، والأب العلامة الكرملي، وصديق شيبوب وغيرهم. وأعجب(253/52)
وفي مصر نخبة من الأدباء الذي يجردون أقلامهم لكل حادث أدبي، كيف أن هذه المسرحية الطريفة لم تحرك أقلامهم بالكتابة لها أو عليها، والرواية كما قلت من قبل حدث في الأدب العربي الحديث!
زكي طليمات(253/53)
جولة في معرض الفنون
بقلم نصري عطا الله سوس
يقول بول فاليري في معرض الكلام عن قصيدته (المقبرة البحرية) إنه ليس من حق الشاعر أن يفرض على قارئه معنى خاصاً لقصيدته ولا أن يفسرها له. فالشاعر قد فسر شعوره في أبياته فما معنى تفسير هذه الأبيات بعد ذلك؟ إن التفسير لا يكون إلا في حالة العجز والقصور. فلكل قارئ أن يستخلص ما يشاء إلا إذا كان ممن عناهم المتنبي بقوله: -
ومن يك ذا فم مرٍ مَرِيض ... يجد مُراً به الماء الزُّلالا
فالشاعر قيثارة تستنطقها الطبيعة ألحاناً تختلف النفوس في تلقي موحياتها وتفسير معانيها؛ والنفس الإنسانية أوسع وأرحب من أن يحدها تفسير. وما يجهله الإنسان من نفسه ومما حوله أكثر مما يعرفه معرفة اليقين. والفن رسالة توحيها النفس الباطنة أكثر مما توحيها النفس الواعية. والنفس الباطنة كثيراً ما تلغز وترمز دون أن توضح
وكان الموسيقي الكبير (رافيل) يقول: ليس هناك (فنون) بل هناك (فن)، فن واحد يبدو طوراً ألحاناً خالصة، وطوراً كلمات منظومة، وطوراً خطوطاً وألواناً، صور مختلفة تعبر فيها الروح القوية عن مشاعرها واحساساتها - ومن هنا ترى أن ما قاله بول فاليري عن الشاعر ينطبق تماماً على الفنان. ولما كنت أعتقد أن الفن تعبير قبل كل شيء، فقد ذهبت إلى معرض الصور وأنا أقول لنفسي: (انتبه. تبين أي الصور ستوجه نفسك إلى نواحي جديدة في الحياة لم تسعفك تجاربك بتمليها؟ وأي الصور ستجدد وتعمق إحساساتك بما عرفته وحبرته. .)
يتفاوت مستوى الإجادة الفنية بين العارضين تفاوتاً كبيراً؛ فإلى جانب الصور القوية الناضجة نجد صوراً تذكرنا بما كنا نلقاه في كتب المطالعة الابتدائية من صور؛ ولا ندري كيف تسربت هذه إلى المعرض. ونسبة العارضين من الطلبة كبيرة جداً. وقد راعنا فقدان الروح الفنية بينهم تماماً. والفنان كالشاعر يولد ولا يصنع. ومدارس هؤلاء تعلمهم إتقان الرسم والتعبير، ولكن التعبير عن ماذا؟؟ هذا ما نحب أن نسأل عنه فناني الجيل المقبل. . وأغلب من حادثتهم من العارضين لا يهتمون إلا بطريقتهم في رسم الصورة. وهذا قصور بارز، ولعله أكبر آفة تحل ببعض الفنانين المعروفين. فكل يريد أن يكون زعيم مدرسة(253/54)
وصاحب طريقة خاصة يعرف بها وتنسب إليه. وهذا جميل ومعقول بشرط أن يكون تلقائياً ويتطلبه مثل الفنان الأعلى ومنزعه. وأما أن يركب الفنان الشطط لا لغاية أكثر من الشهرة والاختلاف عن غيره، فهذا ما لا يرضاه الفن. فلست أدري ما الذي يدعو الأستاذ راغب عياد مثلاً إلى أن يقصر فنه على دراسة الأسواق وما شاكلها من نواحي الحياة المصرية التي سيأتي عليها الزمن بعد حين. قيل لنا إن عياداً يود أن يخلق فناً محلياً. وهذه رغبة نبيلة دون شك، ولكن الفن المحلي الذي يموت لتوه إذا نقل إلى بلد آخر، غير جدير باسم الفن. ومحلية الفن لا تتنافى مع عالميته. فالفن الإغريقي القديم له مميزات خاصة (وكذا المصري القديم والإيطالي في عهد النهضة) تمليها البيئة التي نشأ فيها، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون فناً عالمياً يدرس ويستوحي في كل مكان
ويظهر أننا نخطئ فهم كلمة (محلي) كثيراً. فالفنان عالمي الذات بطبعه وروحه؛ والفن القوي يحقق شرطين: (1) القدرة على البقاء والاستمرار (2) العالمية. ولكن عندما يعمد الفنان إلى رسم رقصات روحه وهمسات نفسه مضطر إلى أن يختار لها أشكالاً وألواناً مما حوله أي من البيئة التي يعيش فيها. وكذا (روح العصر) تدفع الفنان إلى أن يبرز ويؤكد بعض نواحي الحياة ويترك بعضها. فهو يبين لنا تفاعله مع عصره بتوجيه الأنظار إلى ما هو خافٍ، وتشنيع ما هو مستهجن، وتمجيد كل ما هو نبيل، وهكذا. ولكن عناصر الحياة هي هي في كل زمان ومكان. والبيئة والعصر عاملان لا يكتمل فن بدونهما، ولكن جوهر الفن واحد في كل زمان ومكان
وحسبنا بعد ذلك أن نذكر أهم الفنانين:
لا مراء في أن الأستاذ محمود بك سعيد أبرز العارضين وأعمقهم شاعرية وإحساساً، وفنه يفرض نفسه عليك فرضاً: فن ممتلئ قوة ودماً، ورسوم تكاد من فرط حيويتها تترك لوحاتها وتشارك الأحياء حركة وكلاماً. والفنان يشعرك أنه يحب الحياة حباً لا نهاية له، ويمجد جمالها تمجيداً تقصر عنه الكلمات وتقربه الألوان إلى النفس بعض الشيء، وألوانه القوية تقول لك إنه يعتقد أن الحياة جميلة غنية محببة عميقة لا تعرف نفسه سبيلاً إلى الارتواء والاكتفاء مهما عب من معينها. وتجتمع عند الأستاذ سعيد خواص قلما تجتمع عند غيره، أهمها التوفيق بين التعبير العاطفي القوي مع محاكاة الطبيعة. وفنه خير مثال للتعريف(253/55)
القائل بأن الفن هو الطبيعة وشعور الفنان مجتمعين
ولا أعرف أقصداً أم صدفة جاءت لوحات السيدة إيمي نمر قبالة لوحات سعيد بك، وفن السيدة الفاضلة فن قوي ولكنه نقيض فن سعيد تماماً. ألوان سعيد تدل على الحيوية والفرج؛ أما فن السيدة إيمي فهو قاتم حزين، وألوانها توحي للنفس تأمل الفيلسوف الزاهد الذي يركز بصره على الناحية القاتمة من الحياة. وأي نفس لا تهش لمنظر البحر ويطربها انعكاس الألوان والأضواء على سطحه، وتسلسل أنغامه، وجيشان أمواجه وما ترسم على وجهه الريح من رموز وأسرار، ولكن الفنانة تتغاضى عن كل هذا وترسم لك (منظر تحت سطح البحر) وماذا تعرض عليك؟ عدة هياكل عظيمة (ومنظر طبيعي) يمثل الخريف بأقفاره وسهومه ووجومه، (والأمومة) يخالط الأم فيها البؤس والشقاء وعبء الأمومة مع ما فيها من حنان، (ومكتوفة اليدين) أبلغ ما يمثل لك الحيرة والبؤس والأسى وتفاهة الحياة مجتمعة - ولوحاتها تدل على أن طاقتها الفنية عميقة جداً
وفن السيدة برسيلون نوس (مصرية) فن ناضج، ويتمثل نضوجها في اختيار الألوان بحيث تعبر عن الجو العاطفي للصورة. وأحسن ما يبدو هذا في (الكهولة) حيث يغلب اللون الأصفر الممزوج بالأحمر؛ وفي (الرجل والزجاجة) - أما (رأس صعيدي) فتمثل روح الوجه القبلي تماماً، و (رأس امرأة مصرية) تكاد تنطق روعة وشباباً. وبالجملة فهي رسامة شاعرة
وقد قال لي بعض من يعرفون الأستاذ حسين محمد بدوي إنه لا يعرض (فناً) وإنما يعرض طريقته الخاصة. وعلى كل فرسومه تدل على مقدرة فائقة، ولكن هذا ليس كل شيء، فما فائدة مقدرة لا يعرف صاحبها كيف يستخدمها. وطريقة الأستاذ لا تتفق إلا وموضوعات وحالات نفسية معينة لو تعدتها إلى غيرها تضر ولا تنفع. ولو عني الأستاذ بهذه الناحية لكان فنه أوقع وأمتع وأبدع. وفن الأستاذ نجيب أسعد يغري بالمقارنة بفن الأستاذ حبيب جورجي؛ إلا أن الأخير أرحب روحاً وأعمق نفساً. فمناظر الكنائس والأديرة التي رسمها الأستاذ جورجي يبدو فيها جلال الدين وقداسته. أما تلك التي رسمها الأستاذ اسعد ففيها تبدو الوحشة والكآبة التي تخيم على مثل هذه الأماكن. وهناك رسوم تدل على تمكن أصحابها من الرسم، ولكن تنقصهم الرحابة الفنية. وأهم هؤلاء هم الأساتذة محمد محبوب، ولبيب(253/56)
أيوب (وحسبه (العود) فهي لا عيب فيها) ونعيم جاب الله، وإن كانت رسوم الأخير تدل على فهم تام بطبيعة الألوان وذوق دقيق في اختيارها
وهناك طبقة أخرى اكتفت بأن حاكت الطبيعة محاكاة تامة، ولوحاتهم تدل على تمكن من الصنعة ودقة ملاحظة، ولكن لا أثر للفن فيها، لأن الفن شيء والمحاكاة الفوتوغرافية شيء آخر. وأبرز هؤلاء الأساتذة إدموند صوصه، وهيدايت دانش وجورج صباغ
وعدد الصور الآدمية في المعرض كبير جداً. وهذه ناحية من نواحي الفن التي يقل فيها المجيدون، لأن الغرض منها ليس نقل الملامح فقط بل نفسية الشخص ومميزاته الخلقية. ولذا فالفنان مجبر على دراسة من يتصدى لرسم صورته دراسة نفسية عميقة قبل أن يتناول ريشته. ولهذه الكثرة تفسير نفسي مقبول، وهي أن النوازع النفسية التي تدفع الفنان إلى رسم الأشخاص تختلف، وبعض هذه الدوافع تنتج فناً أصيلاً، وبعضها ينتج فناً زائفاً - مثال هذه الأخيرة حب المدح وحب السيطرة والتملك. والفنان الأصيل يحلل مشاعره قبل أن يرسم
وهناك فنان شاب هو موريس فريد، ولفنه ميزات بارزة أهمها اندماجه النفساني في جو الموضوعات التي اختارها للوحاته، وألوانه
وخطوطه تمتازان ببساطة معبرة تلائم روح المناظر الطبيعية التي تمثل سلام الطبيعة وسكونها وصفاء شمس مصر
أما في فن النحت فمن أحسن العارضين الفنان الشاب فتحي محمود علي؛ وحسبه (الأمومة)، ففيها كل العناصر التي يتألف منها الفن الناضج؛ وأديب يس يوسف وإن كان فنه فجاً بعض الشيء إلا أنه يحتوي على العوامل التي تصلح أساساً متيناً لفن قوي ممتاز، والفنان الإيطالي فيتوريو روسين
وأرجو أن يتاح لي أن أنشر في الرسالة قريباً سلسلة من المقالات أبين فيها فلسفة الفن الحديث وأصوله ومذاهب الفنانين المختلفة ومميزات كل مدرسة، وأعرض للنواحي البارزة لفن كل أمة. ورغبتي المتواضعة هي أن يتاح لدارس الفن ومحبيه الاطلاع على هذه النواحي ودرسها فقد لاحظت أنها مجهولة تماماً بين كل من تعرفت إليهم. كما أن صور أغلبية من لا أعرفهم لا تدل على عرفانهم إياها(253/57)
نصري عطا الله سوس(253/58)
بعد عام
مصطفى صادق الرافعي
للأديب أحمد فتحي
تلكَ أنغامُهُ، وهذا نشيدُهْ ... رَنَّ في مِسْمَع العُلي ترديدُهْ
أَسْعَدَ الليلَ بالأغاريد، حتى ... غمر الليلَ بالمنَى، غِرِّيدهْ!
هاكَ أعوادَهُ تمايَلُ في الرَّوْ ... ضِ، فتهفُو إلى ذَرَاها وُرودُه
كلما هَمَّ بالغِناءِ تَثنى ... مثل لَيْلاَيَ في المشارِفِ عُودُه
طائر دَفَّ في الدُّجَى بجناحَيْ ... هِ على النَّهْلِ يُسْتَسَاغ ورودهْ
كلما شارف المواردَ رَدَّتْ ... هُ شجونٌ يضجُّ منها جليدُهْ!
قَبَّلَ الطلُّ خَدَّهُ، وتَمادَى ... نحو ثغرٍ يحكي الرُّضاب بَرودُهْ
وترامى الدجى على قدميه ... والليالي كأنهن عبيدُهْ!
وهو هيمانُ ما يَرُدُّ سؤالاً ... بيض أفكارِهِ سواءٌ وسُودُهْ
إن طَوَتْ ذِكْرَهُ الليالي فمازا ... لَ عزيزاً، قديمُهُ، وجديدُهْ
إيه يا مصطفى، وقد طُوِىَ العا ... مُ، ورَفَّتْ على البرايا بُنُودُه
كيف أصبَحْت في مكانك بالخُل ... د، وَأيْنَت صلاتُهُ وسجودهْ
عيشُنَا عارياتُ ربكَ في الدُّن ... يا، وللمُتَّقينَ فيها خُلوُدُه
يعشقُ الناسُ في مباهجِهِ المجْ ... دَ ويَفْنَى طريفُهُ وتَلِيدُه
ما ترى في معاشر جحدوا الشِّع ... رَ وقد طابَ في ذَراهُهْم جُحودُهْ
إنَّ منه لحكمةً تترك الَقلْ ... بَ قعيداً يملُّ منه قُعُودُه!
فيمَ سَعْيُ الأنام والعيش نَجْمٌ ... يبهرُ العين نحسه وسُعُودُه؟
زخرفٌ كُلهَا الحياةُ احتواها ... أمَلٌ يَخْدَعُ الرجالَ شرودُه!
ما ترى العينُ غيرَ مُلكٍ من الوَهْ ... مِ تناهَتْ سهولُهُ ونجودهْ
سَرِّحِ الطرف، هل تَرَى غير خلق ... يتباكى شَقيُّهُ وسعيدُهْ؟!
كذب كلها الحياةْ، وعمرٌ ... ليس يبقَى قصيرُهُ ومديدُه!
يا فقيدَ البيان، والشعر وَحْيٌ ... مِنْ عُيونِ السماء تَهْمي قصيدهْ(253/59)
قد حفظنا عهودَهُ، لم نُضِعْهَا ... ولقد طالما أُضيعَتْ عُهُودُهْ
ظَلَّ فينا القريضُ قُدْسَ تراثٍ ... أنا بَشَّارُه، وأنتَ لبيدُهْ!
شَدَّ مَا ضلَّ فِتْيَةٌ رغبوا للتَّحْ ... ويرَ فيه، وشَاقَهُمْ تجديدُهْ
زعموا الشعر كالثياب، بعصر ... يَتَشَهَّى استحداثَها فيه غِيدهُ
قَلدُوا الغَرْبَ في نظام القوافي ... وهي عِقْدٌ ما ينبغي تَقْلِيدُهْ!
أين تلك الحصباءُ من ذلك الدرْ ... رِ صحيحاً يَتِيمهُ وفريدُهْ!؟
يا حبيبَ القران، وهو بيانٌ ... لاحَ إعجازُهُ وَعَيَّ حَسُودُهْ
لم تزلْ هاتفاً به تَتَغَنَّى ... يبعثُ السِّلمَ في النفوس نشيدُه
لك من طُهر آيه بركاتٌ ... تُجْزِلُ الأجر للتُّقَى وتزيدُهْ
إن شكوتَ الجحود في ظل دهرٍ ... قد تساوَتْ جَراؤُهُ وأُسُوده!
فَلَكَ الغاية التي وَعَدَ الله ... ويا حُسْنَ ما أعدَّتْ وعوده
جَنَّةً عَرْضُهَا السماواتُ والأرْ ... ضُ، وظلاً ما ينطوي ممدوُه
(القاهرة)
احمد فتحي(253/60)
القصص
مطالعات في (ألف ليلة وليلة)
عبد الله البري وعبد الله البحري
قصة فلسفية دينية
للدكتور حسين فوزي
إنني أراه هذا الصياد المعدم وقد عاد من صيده فارغ الجعبة ينتظره بالبيت تسعة عيال وأمهم التي وضعت في هذا اليوم بالذات مولودها العاشر. أراه في عودته واقفاً بباب الخباز وسط الزحام وكان (وقت غلاء، ولا يوجد عند الناس من المؤن إلا القليل في تلك الأيام)، يرمق الأرغفة المتراصة بنظر زائغ، ويستعبر رائحة (العيش السخن) تشتهيه نفسه. أراه ماثلاً أمامي هذا الصياد (الغلبان) خرج صباح اليوم يلقي الشبكة (على بخت المولود الجديد) فلا تصيد إلا رملاً وحصى وأعشاباً. وهو يتساءل (كيف يخلق الله هذا المولود من غير رزق) وقد حفظ من أقوال الأقدمين: (من شق الأشداق، تكفل لها بالأرزاق، فالله تعالى كريم رزاق)
وإذا بالخباز يناديه ويسأله إن كان يطلب خبزاً. ثم يلح عليه في أن يحمل منه ما يريد فهو صابر عليه حتى يأتيه الخير. ويرضى الصياد على شريطة أن يقدم شبكته رهناً، فيرفض الخباز احتجاز الشبكة التي يقوم عليها أود الصياد، ويعطيه خبزاً بعشرة أنصاف فضة، ويقدم له عشرة أنصاف فضة (ليطبخ بها طبخة). على أن يجيئه بسمكة في الغد.
وفي اليوم التالي يخفق في صيده كما أخفق في اليوم السابق، فيخجل أن يقف بباب الخباز. بل هو يعجل بخطاه أما حانوته ولكن الخباز يناديه قائلاً (يا صياد، تعال خذ عيشك ومصروفك فإنك نسيت). ودام الحال على هذا أربعين يوماً حتى سئم الصياد هذه الحياة، وود أن لم يكن المخبز في طريقه إلى البحر حتى لا يضطر إلى المرور بالخباز الكريم. ولكن زوجه تشجعه على المضي إلى البحر، وتشكر الله الذي قيض لهم هذا المحسن
ويذهب الصياد إلى البحر في اليوم الواحد والأربعين وهو يدعو الله أن يرزقه (ولو بسمكة واحدة يهديها للخباز): وإذا بالشبكة متثاقلة يسحبها في مشقة. حتى إذا هي عادت إليه ألفاها(253/61)
تحمل. . . حماراً ميتاً! وهرب من الرائحة الكريهة إلى ناحية أخرى من الشاطئ. وتثاقلت عليه الشبكة أكثر من المرة السابقة، حتى إذا ما جذبها إليه خرج منها رجل حسبه الصياد (عفريتاً ممن اعتاد سليمان أن يحبسهم في القماقم يرمي بها إلى البحر). وصاح الصياد:
- الأمان، يا عفريت سليمان!
فيجيبه الرجل:
- تعال يا صياد، لا تهرب مني فأنا آدمي مثلك. خلصني لتنال أجري.
يخلصه الصياد ويعلم من أمره أنه ليس عفريتاً من الجن. فيسأله عمن رماه في البحر، ويجيبه بأن البحر مقره ومثواه. فهو من (أولاد البحر) وقع بالشبكة صدفة، وكان بوسعه أن يقطعها ليخلص نفسه، لولا أنه (راض بما قدر الله). ويسأل الصياد أن يعتقه (ابتغاء لوجه الله). ويتفق وإياه أن يجتمعا في ذلك الموضع كل يوم، فيأتيه الصياد بفواكه البر (وعندكم منها العنب والتين والبطيخ والخوخ والرمان وغير ذلك) ويأتيه هو (بمعادن البحر من مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وغير ذلك).
ويقرآن الفاتحة، ويخلصه الصياد من الشبكة ثم يتفقان أن ينادي الصياد عليه من البر كلما أراد، قائلاً (أين أنت يا عبد الله يا بحري!) فيلبي.
- والآن ما اسمك أيها الصياد؟
- اسمي عبد الله
- أنت إذن عبد الله البري، وأنا عبد الله البحري. انتظر حتى آتي لك بهدية
ويختفي عبد الله البحري في الماء هنيهة تبدو لعبد الله البري كأنها دهر. ويتأسف على تركه هذا المخلوق يفلت من يديه، وكان في استطاعته أن يأخذه إلى المدينة يعرضه في الأسواق، ويدخل به (بيوت الأكابر)
ويعود عبد الله البحري باللؤلؤ والمرجان والزمرد والياقوت ملء اليدين. ويعتذر لأخيه عبد الله البري عن عدم تمكنه من أن يحمل اله أكثر من ذلك. ولو أن (عنده مشنة لملأها له) ويتواعدان على اللقاء في الأيام التالية
وغدا عبد الله البري رجلاً واسع الثروة بفضل صداقته لسميه البحري. وقد أخفى سره إلا عن الخباز الذي أحسن إليه في عسره. وراح يقاسمه الجواهر البحرية(253/62)
ولكن هذه الثروة المفاجئة تستثير شكوك الناس. وينتهي الأمر إلى أن يتهمه شيخ الجوهرية بسرقة حلي ابنة الملك. ويقتاده الحرس إلى القصر، فتنكر الأميرة أن هذه جواهرها. وترسل إلى والدها من يقول له بأن بعض اللآلئ أجمل من لآلئ عقدها. فيغضب الملك وينهر شيخ الجوهرية وأتباعه. فإذا اعتذر الرجل بأن (الصياد كان فقيراً فاستكثرنا عليه هذا الغنى المفاجئ) صاح الملك فيه وفيمن حوله: (أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ اخرجوا لا بارك الله فيكم)
وسأل الصياد عن قصته فسردها عليه. وهنا يطأطأ الملك الحكيم رأسه هنيهة ثم يرفعه قائلاً:
- يا رجل هذا نصيبك. ولكن المال يحتاج إلى الجاه، وأنا أسندك بجاهي
ثم يزوجه ابنته ويقيمه وزيراً له، ويحنو على أطفاله العشرة وتكون زوجة الصياد موضع تكريم الملكة (فتنعم عليها، وتجعلها وزيرة عندها)
وغداة الزواج يطل الملك من النافذة فيرى وزيره وصهره عبد الله حاملاً على رأسه (مشنة) ملأى بالفواكه فينكر عليه ذلك، ويجيبه صهره بأن لا قبل له بإخلاف ميعاد صديقه عبد الله البحري، خصوصاً في الظرف الحاضر إذ يحق له أن يتهمه بأن (إقبال الدنيا عليه، قد ألهاه عنه)
يحافظ عبد الله البري على عهد صاحبه البحري، ويواصل قسمة الجواهر بينه وبين صاحبه الخباز. ثم ينتهي إلى التحدث بشأنه مع الملك الذي يقول له (أرسل إلى صاحبك الخباز وهاته لنجعله وزير ميسرة)
وربما حسبت القصة منتهية عند هذا الحد، والواقع أن مجرد استقرار الحال قد يؤذن بختامها. فعبد الله البري يذهب كل يوم بسلة الفواكه يستبدلها بجواهر البحر. وحين تخلو البساتين من الفواكه يحمل إلى صاحبه الزبيب واللوز والبندق والجوز والتين. ويدوم الحال على هذا عاماً تتطور القصة في آخره تطوراً جديداً أسرده عليك
جلس عبد الله البري ذات يوم على شاطئ البحر يتحدث إلى صديقه عبد الله البحري فيبادره هذا قائلاً:
- يقولون يا أخي إن النبي صلى الله عليه وسلم مدفون عندكم في البر، فهل تعرف قبره؟(253/63)
- نعم، فهو في مدينة يقال لها طيبة
- وهل يزوره أهل البر؟
- نعم.
- هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة النبي الكريم. فمن زاره استوجب شفاعته. هل زرته أنت يا أخي؟
- لا، فقد كنت فقيراً لا أجد ما أنفقه في الطريق. ولم أصبح غنياً إلا منذ عرفتك. والآن وجبت علي زيارته بعد أن أحج إلى بيت الله الحرام. وما منعني عن ذلك إلا محبتي لك
- وهل تفضل محبتي على زيارة قبر رسول الله الذي يشفع لكم يوم العرض على الله؟
- إن زيارته والله مقدمة عندي على كل شيء. وأطلب منك إجازة أزوره هذا العام
- أعطيك الإجازة بزيارته. وإذا وقفت على قبره فأقرئه مني السلام. وعندي أمانة فادخل معي في البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأدخلك بيتي، وأعطيك الأمانة لتضعها على قبر الرسول
- يا أخي، أنت خلقت في الماء، ومسكنك الماء فهو لا يضرك. فهل إذا خرجت منه إلى البر يصيبك ضر؟
- نعم، يجف بدني وتهب علي نسمات البر فأموت
- كذلك أنا، خلقت في البر ومسكني البر. فإذا دخلت البحر يدخل الماء في جوفي ويخنقني فأموت
- لا تخف، فإني آتيك بدهان تدهن به جسمك فلا يضرك الماء، حتى لو قضيت فيه بقية عمرك
وعبد الله البري رجل كله إيمان واستكانة. فهو راض أن يأتيه بذلك الدهان يجربه. ويحمل عبد الله البحري (المشنة) ويغوص في البحر. ثم يعود بها ملأى (شحماً مثل شحم البقر، لونه أصفر كلون الذهب، ورائحته زكيه). ويخبر صاحبه بأنه شحم نوع من الأسماك يقال له (الدندان، أعظم أصناف السمك خلقة)
- وهو أشد أعدائنا علينا، وأكبر من أي دابة من دوابكم في البر. ولو رأى الفيل لابتلعه
- وماذا يأكل هذا المشؤوم يا أخي؟(253/64)
- يأكل من دواب البحر. أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر، القوي يأكل الضعيف؟
- يا أخي، إني أخاف إذا طوفت معك في البحر أن يصادفني هذا النوع فيأكلني
- خفف عنك، فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدم فخاف منك وهرب. فالدندان أشد ما يكون خوفاً منكم. لأن شحم ابن آدم سم قاتل له. بل ليكفي أن يسمع صياح ابن آدم فيموت هلعاً
(وتوكل عبد الله البري على الله، وخلع ملابسه ودفنها في رمال الشاطئ. ثم دهن نفسه بشحم الدندان وغاص في الماء. وفتح عينيه ومشى يميناً وشمالاً والماء لا يضايقه. وجعل ينزل إلى القرار ثم يرتفع بكل سهولة)
واندفع عبد الله البحري أمامه دليلاً له في تلك النزهة البحرية النادرة. فرأى عن يمينه وشماله جبالاً. وشاهد أصنافاً عديدة من الأسماك (البعض كبير، والبعض صغير. منها ما يشبه الجاموس، ومنها ما يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين. وكلما قرب عبد الله البري من نوع هرب هذا منه. فيسأل صاحبه:
- يا أخي، ما لي أرى كل هذه الأسماك تهرب منا؟
- مخافة منك يا أخي. فجميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم
ووصلا إلى جبل عال، فمشى عبد الله البري بجانب الجبل. وإذا بصيحة عظيمة اتجه إلى مصدرها بنظره فرأى شيئاً أسود منحدراً نحوه من الجبل، وهو (أكبر من الفيل والجمل). وسمع صديقه عبد الله البحري ينادي عليه:
- دونك وهذا الدندان، فهو متجه إلينا في طلبي ليأكلني. صح به!
وصاح عبد الله البري فزعاً وطائعاً في آن واحد. فإذا بالدندان يقع ميتاً. يتعجب عبد الله البري ويقول: (سبحان الله! لم أضربه بسيف ولا بسكين. وهاهو ذا على ضخامة جسده لا يتحمل صيحتي!)
ويدخل الصاحبان مدينة (بنات البحر)، فيهتم عبد الله البري بأمر هذه الإناث لا ذكور لها ويتساءل كيف تستطيع أن تخلف نسلاً
- إنهن منفيات في هذه المدينة بأمر ملك البحر. ولا يمكنهن الخروج من هذا المكان، أو تلتهمهن دواب البحر
- هل في البحر غير هذه المدينة؟(253/65)
- كثير
وجعل عبد الله البري (يتفرج على عجائب البحر). وقد رأى لبنات الماء (وجوهاً كالأقمار، وشعوراً كالنساء. ولهن أيد وأرجل نابتة في بطونهن، وذنب كذنب السمك امتد من مؤخرتهن). وكان هذا شأن رجال المدن البحرية
- يا أخي، إني أرى الإناث والذكور مكشوفي العورة.
- لأن أهل البحر لا قماش عندهم
- وكيف يصنعون إذا تزوجوا؟
- أهل البحر - فيما عدا المسلمين منهم - لا يتزوجون. وكل من تعجبه أنثى. . .
ومازال عبد الله البحري بصاحبه يدور به على المدائن وأهلها في أغوار البحر مدى ثمانين يوماً. فيسأله عبد الله البري
- يا أخي، هل بقيت في البحر مدائن؟
- لو كنت فرجتك ألف عام، كل يوم على ألف مدينة، وأريتك في كل مدينة ألف أعجوبة، لما أظهرتك على قيراط من مدائن البحر وعجائبه.
- يكفيني هذا، فقد سئمت أكل السمك، وأنت لا تطعمني صباحاً ومساء إلا سمكاً طرياً، لا مطبوخاً ولا مشوياً. فرجتني على مدائن كثيرة، فأين مدينتك منها؟
ويبلغان مدينة عبد الله البحري، فيقوده إلى مغارة ويقول له:
- هذا بيتي. وكل من أراد أن يكون له بيت ذهب إلى الملك وعين الموضع الذي اختاره مسكناً. فيرسل معه الملك طائفة من السمك تعرف بطائفة (النقارين)، لأن لها مناقير تفتت الجلمود
وإذ يدخلون البيت، تتقدم ابنة عبد الله البحري وتبادر أباها بالسؤال، وقد نال منها العجب أن ترى مخلوقاً لا ذنب له:
- يا أبي، ما هذا الأزعر الذي جئت به؟
- هذا صاحبي البري يا بنيتي، من كنت أجئ لك من عنده بالفاكهة البرية. تعالي سلمي عليه
وتتقدم إليه الغادة، وتسلم عليه (بلسان فصيح، وكلام بليغ) وتقدم له القرى، سمكتين(253/66)
كبيرتين (كل واحدة منهما مثل الخروف) فيأكل متبرماً بهذا السمك النيئ
وتحضر امرأة عبد الله البحري، وهي (جميلة الصورة. ومعها ولدان، كل ولد في يده فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار). وما أن رأت عبد الله البري حتى صاحت:
- أي شيء هذا الأزعر؟
وتتقدم هي وولداها، يطيلون النظر إلى مؤخرة عبد الله البري ويقولون (أي والله إنه لأزعر) ويتضاحكون طويلاً حتى يضيق ذرع عبد الله البري بهذا الضحك فيلتفت إلى صاحبه ويقول:
- يا أخي، هل جئت بي إلى هنا سخرية أولادك وزوجك؟
ويعتذر عبد الله البحري عنهم مؤكداً له أن المخلوق الذي لا ذنب له في البحر نادر. وإنه إذا وجد واحد من غير ذنب فإنهم يأخذونه للسلطان ليضحك عليه. فلا تؤاخذ هذه المرأة وهؤلاء الصغار، فعقولهم كما تعرف ناقصة)
وبينما هم في الحديث يفد عليهم عشرة أشخاص كبار شداد، ويقولون لعبد الله البحري (لقد عرف الملك بأنك جئت بأزعر من زعر البر، وهو يريد أن يراه حالاً)
ويأخذونه إلى الملك فيتلقاه ضاحكاً وهو يقول (مرحباً بالأزعر). وجعل من في حضرة الملك يتضاحكون مرددين (أي والله إنه لأزعر!)
ويقص عبد الله البحري على الملك قصة صاحبه، ثم يستأذنه في أن يعود به إلى البر (لأنه سئم أكل السمك نياً، ولا يحب أكله إلا مطبوخاً ومشوياً). ويأذن الملك له بالرحيل بعد أن يزوده بهدية عظيمة من درر البحر وجواهره
ثم يعود به عبد الله البحري إلى مغارته، ويسلمه الهدية التي يرجو أن يوصلها إلى قبر النبي، ويصطحبه عائداً إلى البر
وبينما هما في طريقهما وسط الماء، يلتفت عبد الله البري إلى جماعة من أهل البحر يغنون ويرقصون حول سماط ممدود من السمك. فيسأل عما إذا كان عرساً هذا، ويجيبه عبد الله البحري: إنما هو مأتم
- أو إذا مات عندكم ميت تفرحون له، وتغنون وتأكلون؟
- نعم. وأنتم يا أهل البر، ماذا تفعلون؟(253/67)
- نحن نحزن عليه ونبكي. وتشق النسوة جيوبهن، ويلطمن ويندبن الميت
وهنا يحملق عبد الله البحري في صاحبه البري، ويستأذنه في أن يسترد الأمانة. وعند وصولهما إلى البر يقول له:
- لقد قطعت صحبتك وودك، فلن تراني بعد اليوم
- لم هذا الكلام؟
- ألستم يا أهل البر أمانة الله؟
- نعم
- كيف يحزنكم أن يأخذ الله أمانته؟ وكيف أعطيك أمانة النبي وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به، وقد أودع الله الروح فيه أمانة. فإذا استردها تندبون وتولولون؟ كلا، ما بي حاجة إلى صحبتكم بعد اليوم يا أهل البر!
ويختفي عبد الله البحري وسط الأمواج
ويعود عبد الله البري إلى صهره الملك يقص عليه ما رأى من عجائب البحار
وقد لبث زمناً طويلاً يذهب إلى الشاطئ ينادي صاحبه عبد الله البحري فلا يلبي النداء
وتنتهي القصة بالصيغة التقليدية إذ تقول بأنه أقام والملك نسيبه وأهلهما في أسعد حال، حتى أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وماتوا جميعاً. فسبحان الحي الذي لا يموت، ذي الملك والملكوت
أما أن الموت مفرق الجماعات فليس من شك في ذلك. ولو أنه يشترك في هذا مع الحياة ذاتها، فقد تكون الحياة مفرقة الجماعات، ويمتاز الموت عنها بأن تفرقته نهائية لا مرد لها في هذه الدنيا
وأما أن الموت هادم اللذات، فهو أيضا نهاية الآلام. وصاحب أو أصحاب قصص (ألف ليلة) هم آخر من يتكلمون عن اللذات، وعن أن الموت هادمها. فإن أبطال قصصهم يلاقون الأهوال، ويعانون آلام النوى والبعاد والفقر، وغير هذا من متاعب الحياة. نعم إن القصص تنتهي في الغالب إلى خاتمة سعيدة، يحاول المؤلف أن يلقي في روعنا دوامها حتى مجيء مفرق الجماعات وهادم اللذات، إلا أن هذا أمر نشك في صحته كثير الشك
وهذه مسألة ثانوية على أية حال. والأهم لنا أن نكشف عما في قصة (عبد الله البري، وعبد(253/68)
الله البحري) من نفحة دينية عميقة، تجعل لها مقاماً خاصاً بين قصص (ألف ليلة)
فهذا رجل معدم كثير العيال تقول القصة بأنه لا يمتلك إلا شبكته، يروح بها كل يوم إلى البحر. فإن اصطاد قليلاً باعه وأنفق على أولاده بقدر ما رزقه الله. وإن اصطاد كثيراً (طبخ طبخة طيبة، واشترى فاكهة، ومازال يصرف حتى يأتي على آخر ما معه وهو قائل في نفسه: رزق غد يأتي غداً) ويوم تضع زوجته مولودها العاشر يخرج على بركة الله تعالى إلى البحر (على بخت هذا المولود الجديد) فتقول له امرأته (توكل على الله)
يمارس هذا الرجل الفقير وزوجه إذن فضيلة من الفضائل الدينية بإيمان كامل. ولكن التجربة في الولد العاشر كانت شديدة الوقر على الصياد. فقد مضى عليه أربعون يوماً لا يجد في شبكته رزقاً.
وهنا تنتقل بنا القصة إلى طبقة اجتماعية أرقى قليلاً من طبقة الصياد. وتقدم لنا مثلاً جديداً من أمثلة الطيبة والورع في صاحب المخبز الذي يتكفل بأود الصياد وأسرته أربعين يوماً دون تذمر وفي لباقة مؤثرة إذ يؤكد للصياد أنه لا يعطيه إحساناً. بل هو محاسبه يوماً على ما قدم خبز وعشرات فضة، ولكن عندما يأتيه الخير، لا قبل ذلك. ولندع القصة نفسها تتكلم، فتفصح لنا عما انطبعت عليه نفس هذا الخباز من الخير:
(ووقف الصياد ينظر ويشم رائحة العيش السخن. فصارت نفسه تشتهيه من الجوع. فنظر إليه الخباز وصاح عليه: تعال يا صياد. أتريد عيشاً؟ فسكت. فقال له: تكلم ولا تستح فالله كريم. إن لم يكن معك دراهم فأنا أعطيك، وأصبر عليك حتى يجيئك الخير)
ثم انظر إلى امرأة الصياد يشكو لها زوجها أمره مع الخباز فتقول له: الحمد لله الذي عطف قلبه عليك. هل آذاك بكلام؟ فيجيبها: كلا، وهو يقول لي دائماً، انتظر حتى يأتيك الخير. وأنا أسألك، متى يجيء الخير الذي نرتجيه؟ ويكون رد الزوجة: الله كريم. فلا يتردد الصياد في القول: صدقت. ويحمل شبكته إلى البحر في اليوم الأول بعد الأربعين.
فإذا بها تصيد حماراً ميتاً (منفوخاً ورائحته كريهة) فيقول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم يكاد إيمانه يتزعزع وهو يخاطب نفسه (قد عجزت وأنا أقول لهذه المرأة، ما بقي لي رزق في البحر، دعيني أترك هذه الصنعة. وهي تقول: الله كريم سيأتيك بالخير. فهل هذا الحمار الميت هو الخير؟)(253/69)
ويتوجه في غم شديد إلى مكان آخر مبتعداً عن رائحة الحمار ويلقي شبكته فتحمل إليه الخير كل الخير، في صورة سميه البحري يبادله فاكهة البر بجواهر البحر.
ويقيني أن صاحب القصة لم يختر اسم عبد الله اعتباطاً. وهذا الاسم يعزز ما أنا ذاهب إليه من أن القصة يحركها روح ديني، ويسري في أعطافها إيمان عميق. فلم يختص المؤلف عبد الله البري وعبد الله البحري بهذا الاسم. فهذا الملك يسأل صهره عمن يكون صديقه الخباز وما اسمه، فيجيبه الصياد (اسمه عبد الله الخباز. وأنا اسمي عبد الله البري. وصاحبي اسمه عبد الله البحري) فيقول الملك (وأنا اسمي عبد الله، وعبيد الله كلهم إخوان)
وهانحن أولاء نرى شخصاً آخر من أشخاص القصة - وليس من الطبقة الفقيرة كالصياد، ولا من الطبقة الوسطى كالخباز، بل هو ملك البلاد بالذات - مفعماً إيماناً وثقة بالله، فهو قائل لشيخ الجوهرية ومن جاءوا يتهمون الصياد بالسرقة (يا قبحاء! أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ لماذا لم تسألوه أولاً؟ ربما رزقه الله من حيث لا يحتسب. اخرجوا، لا بارك الله فيكم)
وهو القائل بعد سماعه قصة الصياد (يا رجل، هذا نصيبك ولكن المال يحتاج إلى جاه، فأنا أسندك بجاهي) ثم يزوجه الأميرة ابنته
وماذا تتوقع أن يكون اسم الأميرة بعد هذا؟ أم السعود! لو أن كاتباً رمزياً كتب قصة الإيمان لما اختار للأميرة اسماً أفضل من هذا. (أم السعود)، السعود الذي يلمع في طالع المؤمن القانت.
وتعال معي إلى القسم الثاني من القصة، ماذا نرى؟
هذا عبد الله البحري يسأل صاحبه عن قبر النبي ويقول:
(هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة هذا النبي الكريم). ثم يدعو عبد الله البري أن يغوص بصحبته في أغوار البحر ليحمله هدية إلى قبر النبي
وتتجه القصة بعد ذلك اتجاهاً فلسفياً واضحاً لمن يطالع ما وراء السطور. فهذا البحر مظهر من مظاهر الكون تتضاءل حياله الأرض التي نعرفها. وهاهو ذا (الدندان) أكبر أحيائه طرا يأكل من دواب البحر (أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر القوي يأكل الضعيف؟) حكمة الخالق يصدع بها المخلوق(253/70)
ويخشى عبد الله البري إذا نزل مع صاحبه إلى البحر (أن يصادفه هذا النوع فيأكله). وهنا يكشف صاحب القصة عن مرماه الفلسفي، إذ يؤكد لنا بأن (الدندان) يموت لساعته إذا أكل ابن آدم. وليكف أن يصيح فيه الإنسان صيحة ليموت. أي تأمل ما تميز به الإنسان الضعيف بجسمه، فهو يستطيع بعقله أن يتغلب على المخلوقات الأخرى. وهذا عبد الله البري يسبح في أمواه البحر فيرى جميع الأحياء البحرية تهرب منه. ويسأل صاحبه عن هذا فيجيبه (مخافة منك، لأن جميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم)
ويشهد بطل القصة عجائب البحار كما تخيلها المؤلف. وخياله في أغلبه شبيه بتخيلات الشعوب الفطرية التي ترى في آلهتها صوراً مما تشاهده حولها، إنساناً أو حيواناً أو جماداً، ففي هذا البحر الخيالي جبال ووهاد ومدائن. وفيه (شيء يشبه الجاموس وشيء يشبه البقر، وشيء يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين)
وخيال صاحب القصة قائم على الـ حسب ما اصطلح عليه الباحثون في نفسية الشعوب الفطرية. فهو يصور بعض الأحياء البحرية تصويراً آدمياً مع تغيير طفيف اقتضته حياتها في الماء: كالزعنفة الذنبية، وتلك الأطراف النابتة من بطونها. ولهذا التصوير أصل من الواقع. وربما سمع صاحب القصة أو رأى نوعاً من الفقم يعرف بالدوجونج لا تزال تعرض بعض نماذجه على شواطئ المحيط الهندي باعتبارها (أبناء البحر وبناته). وقد عرض علي بعض اليمانيين في عدن ذكراً أو أنثى من تلك الحيوانات اللبونة على هذا الاعتبار
وللقارئ أن يفاضل بين قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) وبين قصص (السندباد) - وربما عالجت تلخيصها على هذه الصفحات يوماً - ليرى في هذه الأخيرة خيالاً أغزر مادة وأبرع أسلوباً. وفي رأيي أن الخيال في قصص (السندباد) غاية ينتهي إليها الوصف. بينا هو في قصة (عبد الله) واسطة لغاية هي ما نحن بسبيله من المرامي الفلسفية للقصة
وأود بهذه المناسبة أن أشير إلى قصيدة (شيللر) وعنوانها (الغواص). وفيها يرسم لنا خيال الشاعر (الرومانتيكي) صورة لأعماق البحر من نوع يختلف كثيراً عما نحن بصدده في قصة (عبد الله البحري). إذ يطلق (شيللر) العنان لخياله في أسلوب جمع كافة المميزات الشعرية. بينما ينهج صاحب قصة (ألف ليلة) نهجاً واقعياً مباشراً في وصف عالم البحار.(253/71)
كأن عبد الله البحري أحد الأدلاء يشرح للسائح عبد الله البري ما تقع عليه باصرته تباعاً
وبرغم هذا الأسلوب الواقعي، يلقي علينا المؤلف درسه الديني من طرف خفي. ويظهرنا على قدرة الخالق بما يسرده علينا من وصف أنواع غريبة من المخلوقات. وإذ يبدي عبد الله البري عجبه لكثرتها، يجيبه عبد الله البحري (وأي شيء رأيت من العجائب. أما سمعت المثل القائل: عجائب البحر أكثر من عجائب البر؟). وهذه حقيقة لا مغالاة فيها، يعرفها كل من درس علم الأحياء
ويدخل الصديقان مغارة عبد الله البحري. وهنا منظر عائلي كله أنس وبهجة. تأمل كيف تتندر الأسرة بالضيف (الأزعر) وانظر إلى دخول ولدي صاحب البيت (وفي يد كل ولد فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار)
فهذه القصة اشتملت على عناصر كثيرة تجعلها في رأيي من أحسن قصص (ألف ليلة وليلة) بل ومن أفضل القصص في آداب العالم. كتبت بأسلوب واقعي يتجنب فيها الكاتب الارتفاع الشعري. وصاحب القصة مع هذا يتدرج بك من عالم الواقع حيث الصياد كثير العيال يكدح لكسب قوته وقوتهم، إلى عالم بين الواقع والخيال حين يقع عبد الله البحري في شباك عبد الله البري، إلى عالم كله خيال حين ينزل الصاحبان إلى أغوار البحر يتجولان في أرجائه دون أن يغير في أسلوبه كأن الأمر عادي، وكأن الصاحبين غادرا البصرة أو مسقط إلى بلاد السند أو زنجبار
والكاتب في هذا لا يغفل عن غرضه الفلسفي الأول: قدرة مبدع الكون، وقوة الإيمان، والخضوع لأحكامه. ومع أنه لا ينسى أن يميز الإنسان على سائر المخلوقات كما رأينا، إلا أنه يلقي عليه درساً كبيراً تختتم به القصة. ذلك حين يغضب عبد الله البحري إذ يسمع بأن الإنسان يبكي موتاه، وهم في البحر يفرحون إذا ما استرد الله أمانته، أي (الروح التي أودعها الجسد).
لا مراء إذن في أن قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) من أولها إلى آخرها تختلج بروح ديني عميق تميزت به عقائد أهل الشرق عن عقائد أهل الغرب. هو روح استكانة المخلوق للخالق، واعتباره الخضوع لأحكامه صورة مثلى للإيمان
ولسنا في حاجة أن نعرف إذا كان صاحب القصة قصد إلى ذلك أو لم يقصد. فأمامنا القصة(253/72)
بنصها في الجزء الرابع من كتاب (ألف ليلة وليلة). وقد حللنا العناصر التي تتألف منها واستخرجنا من بين سطورها ذلك الروح بلا عناء، ودون أن نجد فيها ما يناقض أو ما يضعف الاستنتاج الذي خرجنا به.
حسين فوزي(253/73)
البريد الأدبي
المغرب الأقصى كما هو اليوم
في الأسبوع الفائت ألقى ضيف مصر الكريم الأستاذ محمد المكي الناصري مدير معهد الأبحاث المغربية في تطوان محاضرة عن (المغرب الأقصى كما هو اليوم) بدأها بالكلام عن المغرب قبل دخول الإسلام إليه وقال إن هذه الكلمة كانت تطلق على الجزائر وتونس ومراكش قبل أن يفصلها الاستعمار الأوربي بعضها عن بعض فأصبحت كلمة المغرب تطلق على مراكش فقط.
ثم تكلم عن حدود البلاد ومناخها وخصب تربتها وغناها بالمعادن ومما هو كفيل بإيجاد نهضة زراعية وصناعية كبيرة لو أتيح لها ما تصبو إليه وتجاهد من أجله وهو نيل الاستقلال التام وإدارة شؤونها بنفسها. ثم تكلم عن أهل البلاد وعناصرهم الأولى قبل الإسلام وقال إن الفتح الإسلامي لما دخل هذه البلاد وحد عناصرها المختلفة
ثم ألقى المحاضر نظرة على الأسر التي تعاقبت على الحكم في المغرب. ثم تكلم عن عهد الاحتلال الحالي وأفاض في وصف مطامع المستعمرين وجشعهم وقال إن فرنسا لما دخلت البلاد أدخلت نظاماً من مقتضاه إيجاد سلطتين سلطة مغربية والأخرى فرنسية وهما سلطتان متباينتان كثيراً ما تتغلب إحداهما على الأخرى ولهذا قضي على الوحدة فتجزأ المغرب وأعطيت لفرنسا المنطقة السلطانية ولأسبانيا المنطقة الخليفية واعتبرت منطقة طنجة منطقة دولية
وتوجد بجانب كل إدارة وطنية إدارة أخرى أجنبية تهيمن عليها وتكاد تجعلها صورية، فالسلطة التشريعية في يد الأجانب، أما السلطة التنفيذية فيوجد في كل مدينة إلى جانب الحاكم الوطني حاكم يطلق عليه لقب (الباشا) وحاكم القرية يلقب (بالقائد) ويلقب الحاكم في المنطقة الخليفية (بالمراقب) وفي المنطقة السلطانية (بالحاكم) وأسهب في وصف مساوئ هذه الإدارة المزدوجة وقال إنه توجد هناك محاكم للأحوال الشخصية تصدر أحكامها وفقاً لمذهب الإمام مالك وتوجد إلى جانبها (محاكم القواد) للفصل في قضايا الجنح والسرقات وغيرها. ويوجد مجلس أعلى تستأنف إليه أحكام محاكم الجنح ومجلس شرعي تستأنف إليه أحكام المحاكم الشرعية(253/74)
ويوجد قسم كبير من الأراضي موقوف على التعليم الديني ولكن الاحتلال وضع يده عليها فحول كثيراً منها في غير الوجهة التي أوقفت عليها ما عدا المنطقة الخليفية فقد سلمت الأراضي الموقوفة فيها إلى يد الخليفة. وقال إن التعليم في البلاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام رسمي وديني ووطني؛ فالرسمي مهمته الكبرى في المنطقتين هي بث روح الاستعمار بين الأهالي، وقد استصدروا أمراً في المنطقة الخليفية بتعريب التعليم فيها ولا يزال السعي مبذولاً لتنفيذه، أما التعليم الوطني فيشمل جميع البلاد، ولكن الاستعمار أصدر أمره في أكتوبر الماضي بأن يقتصر هذا التعليم على مادة تحفيظ القرآن فقط، وأما التعليم الديني فنحن نطالب بتجديده وتنظيمه وفق النظام المتبع في الأزهر الشريف في مصر
وبعد ما تكلم المحاضر عن كثرة الأحزاب في المغرب قال إن البلاد فيها نهضة أدبية وفنية وفيها كثير من الأدباء والمثقفين الذين يعتمد عليهم في الجهاد لتخليص بلادهم من أيدي المستعمرين. وقد تألفت فيها كتلة العمل الوطني لهذا الغرض بزعامة الأمير محمد بن عبد الكريم المعتقل الآن، وهي تتأثر في عملها بمصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهما من زعماء الشرق
وهنا قويت حماسة الخطيب البليغ فاندفع كالسيل يقول إن ما ننتظره الآن من المشارقة ومن مصر خاصة باعتبارها زعيمة الشرق أن يتجهوا بأبصارهم إلى بلاد المغاربة باعتبارها أوسع رقعة في بلاد شمال أفريقية ومن أكثرها تمدناً ورقياً وأقواها جلداً على الجهاد في سبيل رفعة شأن الإسلام
فلسطين والأستاذ الأكبر شيخ الأزهر
فلسطين (فيها بيت المقدس) وفي هذا موطن (الإسراء) ومتصل (قوة الأرض) بـ (قوة السماء) (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)
إنما (القدس) منزل الوحي مغنى ... كل حبر من الأوائل عالمْ
كُنِفت بالغيوب فالأرض أسرار (م) ... مدى الدهر والسماء طلاسم
وتحلت من (البراق) بطغراء (م) ... ومن حافر البراق بخاتم
فإذا قرأت اليوم الكتاب المبين من الأستاذ الأكبر (الشيخ محمد مصطفى المراغي) إلى رئيس الوزراء في الدولة المصرية فقل: إنما هو شيخ الإسلام يغضب للدين، وإنما هو أمام(253/75)
المسلمين يرفرف - وقلبه خافق - على اخوته المؤمنين، والله تعالى يقول: (إنما المؤمنون أخوة)، فالملة ملته، والأمة أمته، والقوم في الدين اخوته. وليست هذه المائدة بأول يد لمصر على فلسطين، فشكراً ثم شكراً، ثم شكراً.
محمد إسعاف النشاشيبي
تقريب مناهج التعليم بين مصر والشرق العربي
أشرنا من قبل إلى الاتجاه الذي بدأ أخيراً في وزارة المعارف وهو التقريب بين المناهج التعليمية في مصر والبلدان العربية الشرقية، والاقتراح القائل بوجوب عقد مؤتمرات دورية تضم المبرزين في شئون التربية والتعليم في الحكومات المختلفة، ليتذاكروا فيما يتصل بالنهضة العلمية والتعليمية
ونضيف اليوم أن صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، قد طلب الملف الخاص بتلك الفكرة، وباحث فيها صاحب العزة وكيل الوزارة
وقد وافق معاليه على الاقتراح من حيث المبدأ، وطلب وضع تفاصيل التنفيذ، حتى يمكن البدء به في أول فرصة مناسبة
العلاقات الثقافية بين مصر والمغرب الأقصى
قدم إلى مصر الأستاذ محمد المكي الناصري مدير المعهد الخليفي للأبحاث الإسلامية في مدينة تطوان للتفاهم على إيجاد علاقات علمية وثقافية بين مصر وبلاد المغرب الأقصى وتمكينها بين البلدين الشرقيين الإسلاميين بواسطة وزارة المعارف المصرية والأزهر
ومن المشاريع التعاونية التي قدم للتفاهم عنها الاتفاق مع مشيخة الأزهر على العمل لنشر الثقافة الإسلامية في بلاده بالطرق النظامية الحديثة التي أدخلت على الأزهر. وإرسال بعثة من بعض أصحاب الفضيلة علماء الأزهر لتدريس علوم الشريعة واللغة وفق هذه الأنظمة وبصفة رسمية، والعمل لنشر ثقافة الأزهر والإسلام بصفة عامة
ومن هذه المشروعات أن يقبل الأزهر بعثة من الطلبة المغاربة الذين أتموا دراساتهم في مدارس الحكومة هناك لدراسة علوم الشريعة والتخصص فيها. وقبولهم بكلية الشريعة الأزهرية بصفة نظامية. وستوفد هذه البعثة رسمياً حكومة المغرب(253/76)
بين العقاد والرافعي
جاءتنا المقالة الثالثة من مقالات الأستاذ سيد قطب، فرأينا إرجاء نشرها إلى العدد القادم احتراماً لذكرى الرافعي. ونذكر بهذه المناسبة أننا تلقينا عشرات من المقالات في هذا الموضوع لم يراع كاتبوها الأفاضل خطة الرسالة في اجتناب فحش القول ومغسول الكلام. لذلك نستميحهم العذر إذا لم ننشر منها إلا ما نرى فيه فائدة للقراء وخدمة للأدب
حول كلمة (هال ها) أيضاً
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
بعد التحية: لاحظ الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد الأخير من الرسالة (252) على الشاعر (الخفيف) بعد كلمة (هال) عن المعنى الذي يقصده. وقال في ختام كلمته تلك إن كلمة (هال) هذه تقال لزجر الإبل. والذي أعرفه أن الكلمة التي تقال لزجر الإبل ليست (هال) ولكنها (هلا) وقد استعملها المرحوم شوقي بك في مسرحيته الخالدة (مجنون ليلى) حيث قال:
هلا هلا هيا ... اطو الفلا طيا
وقربي الحيا ... للنازح الصب
ولقد خشيت أن يكون الأستاذ الفاضل قد اشتبه عليه الحديث ولكنني اتهمت نفسي فعدت إلى كتب اللغة استلهمها الصواب فأيد القاموس والصحاح رأيي. فهل للأستاذ الفاضل أن يدلني على المرجع الذي قرر أن كلمة (هال) تستعمل لزجر الإبل أو الخيل بدلاً من (هلا) وله مني مزيد الشكر وخالص التحية
عبد المؤمن محمد النقاس
الموسيقى العربية للبارون رودولف دير لانجيه
قد نشرنا في العدد الماضي من الرسالة (252) نقداً بقلم الأستاذ بشر فارس الدكتور في الآداب من جامعة باريس في المجلد الثاني من مجموعة التأليف الموسيقية العربية المنقولة إلى اللغة الفرنسية على يد البارون رودولف دير لانجيه. وقد سألنا بعض القراء عن ناشر هذه المجموعة وعن اسمها باللغة الفرنسية. ونحن نذكرهما هنا:(253/77)
' -
,
ذكرى الرافعي في محطة الإذاعة الفلسطينية
سافر أمس إلى فلسطين الأستاذ محمد سعيد العريان، إجابة لدعوة مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس؛ ليذيع في تمام الساعة السابعة من مساء اليوم (الاثنين 9 مايو) من محطة القدس، حديثاً أدبياً عن فقيد العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي، لمناسبة تمام سنة على وفاته(253/78)
المسرح والسينما
جولات ومطالعات في المسرح والسينما
بقلم محمد علي ناصف
اللغة العربية في السينما
اقترح بعض حضرات النواب المحترمين سن قانون يقضي بوجوب استعمال اللغة العربية في مختلف الشركات والمتاجر التي تنشأ في مصر سواء كان أصحابها أجانب أم مصريين. وهذا واجب مشكور أعتقد أن إهماله هو إهمال لكرامتنا ونسيان لقوميتنا وإلغاء لأبسط قواعد استقلالنا
وليس يخفى أن مثل هذا القانون المقترح يحتاج إلى خطوات أو مهلة محدودة يتم في نهايتها تنفيذه. ولكن هناك نواحي أخرى لا يحتاج الأمر فيها لرعاية لغة البلاد واحترامها إلى مثل هذا الإمهال، كالسينما مثلاً
فالأفلام الأجنبية التي تعرض بمصر وترد إليها من عدة أمم مختلفة، تعرض هذه الأفلام بداهة بلغتها الأصلية، ولكنها تصحب بترجمة على نفس الشريط بلغة ثانية. المفهوم بداهة وعقلاً أن هذه الترجمة تكون بلغة البلاد التي تعرض فيها الأفلام. فالفلم الإنجليزي مثلاً حين يعرض بفرنسا تصحبه ترجمة فرنسية والعكس. والفلم الألماني يشهده الجمهور الإيطالي بترجمة إيطالية والعكس
ولكننا مع الأسف الشديد والعجب الأشد نختلف عن الأمم جمعاء؛ فالترجمة التي تصحب كل فلم أجنبي يعرض بمصر تكتب بإحدى لغتين إما الفرنسية وإما الإنكليزية كأنما هذه الأفلام لا تعرض للمصريين، وكأن المصريين الذين يدفعون - شعباً - إلى أصحاب هذه الدور ويتسامحون - حكومة - مع الشركات المنتجة فلا تقيدها بضرائب مرتفعة ولا بنسبة تحدد من إنتاجها ولو بحجة حماية الإنتاج المحلي كما تفعل دول كثيرة؛ وفي مقابل هذا الكرم لا تكون إلا الإساءة وإلا الإهمال
وما من أحد يستطيع أن يصف هذا الأمر إلا بأنه إساءة وإهمال. فأي عذر تتعلل به هذه الشركات أو أصحاب هذه الدور الذين ينتفخون على حسابنا ومن أيدينا؟(253/79)
إن العذر الوحيد الذي قد يقوم نصف قومة في مثل هذه الحالة هو أن تكون لغة البلد غير معروفة إلا لدى قلة لا تستأهل جهداً خاصاً، ولكن شيوع العربية على ألسنة الملايين وبين كثير من الشعوب ينفي مثل هذا العذر. ولقد رأينا بعض الأفلام القليلة النادرة المترجمة إلى العربية على نفس الشريط فكانت مؤيدة لوجهة نظرنا في هذا الموضوع وهي الوجهة التي قدرها أصحاب هذه الأفلام من حيث ضمان مصلحتهم المادية فضلاً عن مصلحتهم الأدبية في اكتساب احترامنا وودنا
هناك حقاً لوحة صغيرة من القماش توضع بأحد جانبي الشاشة لعرض ترجمة عربية ركيكة مقتضبة نسميها ترجمة على سبيل المجاز؛ وكثير من الدور لا تكلف نفسها وضع هذه اللوحة فتكتفي بانعكاس الترجمة على الحائط.
ولكن هذه الوسيلة الحقيرة لا تجدر مطلقاً بلغة البلاد لغة الدين والعرش والحكومة. هذه الوسيلة الثانوية جديرة بأية لغة أخرى يشاؤها صاحب الفلم، أما لغة البلاد ففوق مشيئته ولها المكان الأول، وإلا فنحن في غنى عنه وهو ليس في غنى عنا. ولقد اجتمعت في هذه الوسيلة كل النقائص؛ فهي تجهد بصر المتفرج باضطراره أن يتتبع الصورة والترجمة في اتجاهين بدلاً من اتجاه واحد، كما أن الترجمة كثيراً ما تتخلف عن الصورة أو تتقدمها لأن لكل منهما جهازاً خاصاً - فيضيع بذلك كثير من الفائدة على متتبع الفلم، هذا فضلاً عن نقص الترجمة وعدم الاعتناء بها
إننا لن نسكت بعد عن هذه المهزلة ونرجو ألا يسكت عنها كذلك أولو الأمر ورجال الصحافة. وكل امرئ يهمه احترام نفسه وبلاده.
الأديب والمخرج
في حديث عن شئون المسرح والسينما للأديب الإنجليزي وليام جراردي مؤلف كتاب الشهر (إبريل)
' يرى الأديب أن الوضع الصحيح لمخرج المسرحية أو الفلم أن يكون نفس المؤلف لأنه أقدر من أي إنسان آخر على اختيار الممثلين لشخصياته التي خلقها وعرف صفاتها وللمناظر التي رسمها وتمثل مشتملاتها ودقائقها وللجو الذي ابتدع فيه الحوادث. وهذا رأي له رونقه وبريقه ولكنه يفتقد الحقيقة في كثير من نواحيه.(253/80)
فالإخراج فن آخر غير فن التأليف. وهو ليس مقصوراً على اختيار الممثلين ورسم المناظر وحبكة الجو. ولكنه يشتمل على أمور كثيرة لا يستطيع اكتناهها أي فرد بينما قد يستطيع القارئ العادي أن يفهم ما كتبه وما تمثله المؤلف من كل سطر ومن كل شخصية من شخصياته، وقد لا يعوزه تصور الجو الحقيقي للحوادث وكذا تعرف الممثلين الذين يليقون بشخصيات المؤلف. وكثير من المخرجين يخلقون من أعمال المؤلف حياة أخرى هي في الواقع أقوى من الحياة التي تدب بين سطور كتابه وإن كنت لا أنكر أن كثيرين من المخرجين يمسخون بعض المؤلفات لأسباب شتى بعضها يخرج عن طاقة الإخراج
وبعض المؤلفين يخرجون مسرحياتهم أو أفلامهم بأنفسهم ولكن أكثر هؤلاء ليسوا في المرتبة الأولى بين الأدباء أو المخرجين وندر من يوفق منهم في كلتا العمليتين
محمد علي ناصف(253/81)
العدد 254 - بتاريخ: 16 - 05 - 1938(/)
مصطفى صادق الرافعي
بمناسبة ذكراه الأولى
- 2 -
كان الرافعي رحمه الله حجة في علوم اللسان، ثقةً في فنون الأدب، عليماً بأسرار اللغة، بصيراً بمواقع اللفظ، خبيراً بمواضع النقد، محيطاً بمذاهب الكلام. وقلما تتهيأ هذه الصفات لغير المطبوعين من الأدباء الذين تعاطوا مهنة التعليم فاستنزفوا أيامهم في درس القواعد وحفظ الشواهد وفقه النصوص بحكم الصنعة. فكنت إذا ذاكرته في شيء من دقائق النحو وخواص التركيب وفروق اللغات وجدته على ظهر لسانه كأنما انصرف من مراجعته لوقته. ودراسة الكاتب أو الشاعر للغته وفنه هي في رأيه ورأي الحق شرط لوجوده؛ فلا يكون النبوغ والأستاذية بدونه، ولا تجزي الطبيعة ولا المحاكاة عنه. وكان - شهد الله - فيما بينه وبين أخصائه يرفع أدب العقاد لوضوح هذه المزية في كل ضرب من ضروبه.
ولقد بلغ علم الرافعي بالعربية وآدابها حد الاجتهاد والرأي، فكان يقف في التعليل والاستنباط من ثقاتها ورواتها موقف الند؛ وقد يتعظم أحياناً فيقف منهم موقف الأستاذ. فهو في أدبه مطلق الحرية مستقل الإرادة في حدود المأثور من بيان العرب؛ ولكنه في فلسفته مقيد النظر مسير الفكر لنزوله في الرأي على حكم الدين.
على انك لا تعدو الصواب إذا قلت إن حرية أدبه أشبه بعبودية فكره، لأن مصدرهما وموردهما واحد هو القرآن. والقرآن من جهة الأدب غاية الجمال، ومن جهة الفضيلة غاية الخير، ومن جهة الفلسفة غاية الحق. لذلك كان قوله في القديم والجديد قول العربي الذي يؤمن أن لغته التي تكلم بها الله نامية بذاتها لأنها حية، ومتطورة بطبعها لأنها قوية؛ وكان قوله في المرأة والرجل قول المسلم الذي يعتقد أن دين الله حق لا يبطله قدم، وأن شرعه قانون لا يعطله شهوة. وما دام العرب أحياء فأدبهم متجدد، وما دام القرآن خالداً فدينهم قائم.
على هذين القطبين كانت تدور فلسفة الرافعي الأدبية والاجتماعية. ولعلي تساهلت إذ قلت فلسفة الرافعي، فليس للرافعي فلسفة؛ إنما هي فلسفة القرآن وأدبه قام منها مقام ابن رشد من أرسطو: يقرر ويحرر ويدافع من غير أن يكون لمنطقه حكم ولا لرأيه اعتراض.
كان الرافعي في بعض حالاته يفتن في الصورة التي يرسمها افتنان المصور الخيالي.(254/1)
يضيف إليها من المشاهد ما لا تقره الحقيقة، ويضع فيها من الألوان ما لا تعرفه الطبيعة. وقصده القاصد من ذلك أن يريك قدرة ذوقه على الملاءمة، وقوة ذهنه على التوليد، ويعطيك للشيء أو للشخص صورة إذا لم تكن كانت، فهي التي ينبغي أن تكون. فهو إذا كتب في موضوعٍ ما سمح لعاطفته أن تجر، ولهواه أن يدفع، ولفنه أن يزخرف، ثم يستخدم براعته في التدليل على صحة العاطفة ونزاهة الهوى وصدق الأداء، فيكون من امتزاج الخيال بالواقع، واشتباه الغلو بالقصد، والتباس البهرج بالصحيح صورة غامضة الدلالة، خافتة الروح، ولكنها بديعة الإطار، رائعة اللون، منمنمة الخطوط؛ وذلك أكثر ما تراه في حديث القمر والسحاب الأحمر، والمساكين، وأوراق الورد. أما إذا اتصل فنه بشعوره، وافتنانه بطبعه، ورأيه باعتقاده. فانك ترى الإشراق في اللفظ، والجلال في المعنى، والسمو في الروح، والإعجاز في الصنعة. وهنالك تجد الرافعي في جلوة الإلهام التي تشدهه هو نفسه فيقول لي ولمن يأنس إليه: إن حالا تشبه حالات الوحي تقوم به في بعض ساعات الليل حين يكتب في إعجاز القرآن أو في الدفاع عن أدبه، فلا يكون فيما ينشئ إلا وسيطاً عن قوة من وراء الغيب. وأكثر ما وقع له ذلك في كتابيه (تحت راية القرآن) و (وحي القلم). وكان من شذوذ العبقرية في الرافعي اعتداده بنفسه إلى حد الصلف، واعتقاده بالغيبيات إلى حد السذاجة. وله في ذلك حوادث وأحاديث ربما عرض لها صديقنا العريان في ترجمته له.
والرافعي بعد ذلك كله كاتب من الطراز الأول قلما يجود بمثله هذا العصر المجنون الذي يتبجح بالسرعة ويريد أن يأخذ حظه الضروري من المعرفة مختصراً في رسالة، أو معتصراً في مقالة.
هذه كلمة مجملة كتبناها عفو الخاطر وفيض الذاكرة في ناحية من نواحي أدب الرافعي، اعتمدنا فيها على خلاصه وحديثه وقراءته؛ أما دراسة الشرح والتفصيل، والنقد والتمثيل، والدعوى والدليل، فتلك لها طريقة غير هذه الطريقة، ومناسبة غير هذه المناسبة. ولعلني أرجع إلى الرافعي في عدد قريب فأعلن ما أفضى به إلي من الرأي الحق في خصميه طه والعقاد.
احمد حسن الزيات(254/2)
مات الرجل العظيم
محمد إقبال
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
في اليوم الحادي والعشرين من أبريل الماضي والساعة خمس من الصباح، في مدينة لاهور مات رجل كان على هذه الأرض عالماً روحياً يحاول أن ينشئ الناس نشأة أخرى، ويسن لهم في الحياة سنة جديدة؛ وسكن فكر جوال جمع ما شاءت له قدرته من معارف الشرق والغرب، ثم نقدها غير مستأسر لما يؤثر من مذاهب الفلاسفة، ولا مستكين لما يروى أقوال العظماء؛ ووقف قلب كبير كان يحاول أن يصوغ الأمة الإسلامية من كل ما وعي التاريخ من مآثر الأبطالوأعمال العظماء؛ وقرَّن نفس حرة لا يحدها زمان ولا مكان، ولا يأسرها ماض ولا حاضر، فهي طليقة بين الأزل والأبد، خفاقة في ملكوت الله الذي لا يحد.
مات محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الذي وهب عقله وقلبه للمسلمين وللبشر جميعاً. الرجل الذي كان يخيل إلي وأنا في نشوة من شعره أنه أعظم من أن يموت، وأكبر من أن يناله حتى هذا الفناء الجثماني.
فاضت روح الرجل الكبير المحبوب في داره بلاهور ورأسه في حجر خادمه القديم الوفي (الاهي بخش) وهو يقول: إني لا أرهب الموت. أنا مسلم أستقبل المنية راضياً مسروراً.
كنت أقرأ كلام إقبال في الحياة والموت، ورأى استهانته بالحمام، واستهزاءه بالذين يرهبونه. وما كان هذا خدعة الخيال، ولا زخرف الشعر فقد صدق إقبال دعوته في نفسه حين لقي الموت باسما راضياً.
جد المرض بإقبال منذ سنة، وكان يقترب إلى الموت وهو متقد الفكر، قوي القلب، يصوغ عقله كلماتٍ يوقظ بها النفوس النائمة، وينثر قلبه شراراً يشعل به القلوب الهامدة. وكان يعنى بنظم كتابه (آهنكَ حجاز): لحن الحجاز. وكان قلب الشاعر يهفو إلى الحجاز وقد تمنى في خاتمة كتابه (رموز بي خودى) أن يموت في الحجاز. ومما نظمه في أشهره(254/4)
الأخيرة:
آية المؤمن أن يلقى الردى ... باسم الثغر سروراً ورضا
وقد أنشد هذين البيتين قبل الموت بعشر دقائق، وهما مما أنشأه أخيراً:
نغمات مضين لي، هل تعود ... ونسيم من الحجاز سعيد؟
آذنت عيشتي بوشك رحيل ... هل لعلم الأسرار قلب جديد!
وآخر ما أنشأ من الشعر بيتان أترجمهما نثراً:
(قد أعدت جنة لأرباب الهمم، وجنة أخرى لعباد الحرم. فقل للمسلم الهندي لا تحزنن، فكذلك للمجاهدين في سبيل الله جنة).
- 2 -
كان تشييع إقبال إعراباً رائعاً عما للرجل الفذ في قلوب أهل الهند عامة ومسلميه خاصة. احتشدت عشرات الألوف تودعه بالبكاء والزفرات، وشاركت النساء بالعويل والنحيب، وتنافس الحاضرون في حمل النعش فوضع على خشبيتين طويلتين ليتسنى لكثير من المشيعين أن يشرفوا بحمل الرجل العظيم إلى مثواه الأخير. وقد بلغت الجنازة شاهي مسجد وخلفها زهاء أربعين ألفاً، فوقف الناس ساعة كاملة حتى تيسر لهم أن يصطفوا للصلاة على الفقيد الجليل، ثم نقلت الجنازة إلى حديقة متصلة بالمسجد. وهنالك الساعة عشر إلا ربعاً من المساء غربت شمس إقبال في جدتها، وطوى الجهاد الذي ملأ الدنيا في لحده، وأدرجت الحكمة والشعر والحرية التي تأبى الحدود والقيود في جننها وضع محمد إقبال في قبره.
وغشى القبر الذي تضمن روضة الشعر بضروب الزهر والريحان، ثم نثرت عليه أزهار أخرى من أقوال الخطباء والشعراء الذين أطافوا بالشاعر الخالد.
وتجاوبت أرجاء الهند بأقوال الكبراء يعربون بها عما أحسوا من لوعة، وما دهى الهند من مصيبة، بموت شاعرها الأكبر. أجتمع على هذا المسلم وغير المسلم؛ فهذا جواهر لآل نهرد يقول:
(لقد دهتني وفاة إقبال بصدمة هائلة. شرفت بلقاء إقبال ومحادثته منذ قليل؛ وكان مستلقياً على فراش المرض، ولكن كان لفكره العالي ونزعته الحرة في قلبي أثر بليغ. لقد فقدت(254/5)
الهند بفقد إقبال كوكباً لآلاء مضيئاً، ولكن شعره سيخلد في قلوب الأجيال الآتية، وذكراه العظيمة لن تموت).
وهذا الدكتور محمد عالم يقول:
(لا تستطيع أرض البنجاب أن تخرج إقبالاً ثانياً في عصور طويلة). ويضيق المجال عن الإكثار من أقوال أعلام الهند في فقيدهم.
وأرخ بعض الشعراء وفاة إقبال (سنة 1357) في قوله:
تاريخ (بور إقبال شاعر مشرق) - كان إقبال شاعر الشرق. وأرخ آخر بقوله: كنه علامة إقبال سوى بهشت برين: ذهب العلامة إقبال شطر الجنة العالية.
ترك الشاعر النابغة ابنين وبنتاً وأخاً وثلاث أخوات.
- 3 -
ولد محمد إقبال في سيال كوت سنة 1876م من عشيرة قديمة دخلت في الإسلام منذ ثلاثة قرون، وكانت تقيم في كشمير ثم اضطرتها الحوادث أن تهاجر إلى البنجاب واستقرت أسرة إقبال في سيال كوت.
وبدأ تعلمه في البلد الذي ولد به. ودرس على العالم الكبير مير حسن فأذكى في قلبه حب الآداب الشرقية. ثم انتقل إلى لاهور للدراسة العالية فكان من أساتذته السير توماس ارنولد أستاذ الفلسفة الإسلامية. وقد سمعت أرنولد يفخر بأن إقبالاً تلميذ. وفي ذلك الحين شدا إقبال الشعر، فرجا الناس فيه شاعراً خطيراً. ونال درجة أستاذ في الأدب وصار مدرس الفلسفة في إحدى الكليات.
وسنة 1905م سافر إلى أوربا فتعلم في كامبردج القانون، ثم ذهب إلى ألمانيا فدرس الفلسفة. وبعد ثلاث سنين من خروجه من وطنه رجع إليه مرجوا لأمته محبباً إليها. وعمل في المحاماة وقصده الناس لاستشارته والاستعانة به في كثير من الأمور التي كانت تهم المسلمين. وما زال نجمه يسطع، وصيته يذيع، وشعره يجوب أرجاء الهند ويستقر في كل قلب حتى اجتمعت قلوب المسلمين عليه، ورددوا أقواله في خطبهم ومقالاتهم، وتقيلوه في أعمالهم، وكأنما أذكى الشاعر العبقري في كل قلب جذوة، وملأ كل رأس فكراً، وكل نفس حرية وعظمة، حتى مات وكل يتشبه به، ويطمح إلى أن يكون من المهتدين بهديه.(254/6)
وسأعود إلى الكتابة عن فلسفته وأدبه إن شاء الله.
والله يعوض الأمم الإسلامية ويعزيها عن إقبال بالاستجابة لدعوته والسير على أثره.
عبد الوهاب عزام(254/7)
من برجنا العاجي
منذ عشرة أعوام عقدت معاهدة على جبل (أولمب) بين (أبولون) و (كوبيدون) تتعلق بي. ولا أعرف على وجه التفصيل نصوص تلك المعاهدة. فلقد كانت معاهدة سرية. ولكن يخيل إلى أن (آله الفن) أراد أن يعتبرني من (مناطق نفوذه)، فحرم على إله (الحب) أن يلقي سهما واحداً من قوسه الذهبي إلى هذه المنطقة. وقد تبين لي في مواقف كثيرة من حياتي أن إله (الحب) قد احترم حقاً هذه المعاهدة. وفي أحيان أُخرى رأيت كأن (كوبيدون) ينظر إلى (قلبي) نظرات ملؤها المطامع الاستعمارية، وأنه يتحين الفرص والظروف. وإله الفن، كما هو معلوم، ينادي دائماً بالحرية، إذ لا فن بغير حرية مكفولة في كل زمان. وإله الحب ينزع إلى السلطة والسيطرة والعنف التقييد بالسلاسل والأغلال. ولست أدري لماذا يذكرني هذا الصراع بينهما بالصراع القائم بين (إنجلترا) و (إيطاليا)؟ فإنجلترا بلد الديمقراطية والحرية، وإيطاليا رمز الدكتاتورية والسلطة المطلقة. ولقد وقع حديثاً نزاع بين الطرفين، فأغفلت المعاهدة وألقيت السهام، وأعلن الدكتاتور انه افتتح المنطقة (الحرام). فلم يعترف له منافسه بهذا الفتح. وسارت الأيام سيرها وأنا راض مطمئن اطمئنان (النجاشي) المسكين، إلى أن قرأت في البريد الأخير أن إنكلترا ستحمل العالم على الاعتراف بالفتح الإيطالي (للحبشة)، فوضعت يدي على (قلبي) وأدركت أن (الحرية) الجميلة ليست إلا حملاً ضعيفاً تنتظره دائماً أنياب الذئب، وأن (المعاهدات) ليست إلا (محطات) انتظار لساعات الوثوب.
توفيق الحكيم
صفحة من تاريخ
استيطان العرب لمصر
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان العرب في مصر جلهم من الجند المقاتلة وقت الفتح، ولم يزد عددهم على ستة عشر ألفاً في هذا الوقت. ولم تكن سياسة الخلفاء الراشدين تسمح بنزول الجند في ريف مصر(254/8)
بقصد إقطاعهم الأراضي حتى لا يصرفهم ذلك عن الجهاد. وزاد عدد الجند العرب في مصر فبلغ أربعين ألفاً في عهد معاوية بن أبي سفيان.
ولا شك أن هذا العدد أخذ يزداد بازدياد العنصر العربي في مصر، وهذا نتيجة طبيعية لما كان من لحاق نساء الأجناد وأولادهم للإقامة معهم في هذا البلد، واتخاذهم إياه وطناً جديداً، وما كان أيضاً من التزاوج والاندماج في سكان البلاد الأصليين. ولعل العرب لم يفطنوا لأمر إحلال الكتائب بعضهم محل بعض في الأقاليم الإسلامية، اللهم إلا ما كان من تناوب الأجناد الإقامة في الثغور كل ستة أشهر. وليس لدينا من المعلومات التاريخية ما يثبت أن قاعدة استبدال الكتائب في الولايات كانت معروفة عند غير العرب كالرومان والفرس. بيد أن عدم احتمال هذا الأمر أقرب إلينا من جواز احتماله لما كان يتطلبه من كثرة الأسفار.
غير أن العرب في مصر - على الرغم من زيادة عددهم كما بينا - كانوا في أوائل القرن الثاني للهجرة من القلة بحيث رأى عبيد الله بن الحبحاب عامل الخراج على مصر أن يشير على الخليفة هشام بن عبد الملك أن يأذن له في إسكان العرب من قيس في أرض الحوف الشرقي، وأكد للخليفة أن نزولهم لا يضر بسكان البلاد. وكان يقيم في هذه الكورة نفر يسير من جديلة.
نزلت قيس جهة بلبيس. وسرعان ما قارب عددهم خمسة آلاف، واخذوا يستثمرون الأرض ويتجرون في الإبل والخيل، وكانوا يحملون عليها غلات أرضهم إلى القلزم حيث تشحن إلى بلاد العرب. هذا وقد كان لقيس ضلع كبير في الفتن التي أقامها المصريون في وجه الولاة حين هموا بزيادة الخراج.
ولقد وفدت القبائل العربية على مصر تدريجياً، فجاءت قبيلة الكتنز من ربيعة في النصف الأول من القرن الثالث الهجري فأقاموا في الصعيد، واندمجوا في السكان بالمصاهرة، وكانت لهم ضلع في الثورات والفتن التي قامت بمصر وعلى الأخص في أواخر عهد الفاطميين إذ ثاروا على صلاح الدين الأيوبي بعد أن تولى الوزارة بقليل.
على أن اندماج العرب بالمصريين اندماجاً فعلياً لم يتم إلا بعد أن اسقط المعتصم العرب من الديوان، وأحل مكانهم جنداً من الأتراك، فانتشر العرب في الريف واحترفوا الزراعة وغيرها طلباً للرزق؛ وازداد اندماجهم في السكان بالمصاهرة، ومن ثم أخذ التمييز العربي(254/9)
يتلاشى شيئاً فشيئاً، وبدأ ظل الولاة من العرب يزول بإحلال الولاة من الأتراك محلهم؛ ولم يحكم مصر بعد ذلك عربي إلا إذا استثنينا عنبسة بن اسحق (238 - 242هـ) والخلفاء الفاطميين.
تم فتح مصر على أيدي جند العرب، ولم يشأ عمر أن يقطعهم أرضها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الجهاد وفتح البلاد المجاورة لمصر لتأمن مصر نفسها وليستقر بذلك سلطان العرب فيها. وقد فتح العرب في ولاية عمرو بن العاص الأولى بلاد برقة سنة إحدى وعشرين للهجرة وطرابلس في السنة التالية وغزوا إفريقية سنة 27هـ تحت قيادة عبد الله بن سعد (25 - 35 هـ) والى مصر إذ ذاك، وهزموا الروم في هذه البلاد وقتلوا ملكهم، وخربوا قاعدة ملكه وتوغلوا في بلاد إفريقيا وصالحوا أهلها، وغزوا بلاد النوبة سنة 31هـ حتى وصلوا دنقلة، وفي هذه السنة اشتبك الأسطول المصري مع أسطول الروم فأنتصر الأول في واقعة ذات الصواري، ثم عزوا طرابلس مرة أُخرى في ولاية عمرو بن العاص الثانية.
ويظهر لنا أن هذه الغزوات لم يكن القصد منها الاستعمار لهذه البلاد وإدخالها في حوزة العرب كما كانت الحال بالنسبة إلى مصر، وإنما كان قصد الخلفاء وولاتهم على مصر القيام بها لتأمين مصر من الغرب والجنوب ولذلك كان فتح بلاد المغرب.
وكان العرب يقنعون بما يصيبونه من الأسلاب والغنائم وظلوا على ذلك حتى تحولت وجهة نظر الخلفاء، فأخذوا يهتمون بأمر بلاد المغرب بوجه خاص، فأرسلوا إليها الجند للمحافظة عليها، وقلدوا ولايتها ولاة مستقلين في الحكم عن أمراء مصر أو نائبين عنهم في حكم هذه البلاد إذا جمع بين مصر والغرب لوال واحد.
وقد قام المصريون بدور هام في الغزوات البحرية في هذا العصر، فقد بني مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ) في جزيرة الروضة داراً لصناعة السفن وإصلاحها. وكان لبناء هذه الدار فوائدها في حروب مصر البحرية، فقد غزا رودس الأسطول المصري، جهزه عقبة بن نافع سنة 46هـ وتم له فتحها سنة 53هـ ولما جاء عهد سليمان بن عبد الملك (96 - 99هـ) أصبح لمصر أسطول قوي شارك أسطول الشام في غزو القسطنطينية وإن كانت هذه الغزوة قد عادت على الأسطولين المصري والشامي بالفشل.(254/10)
ولقد خاض الجند العرب غمار الفتن السياسية التي قامت في هذا العصر بين الخلفاء الأمويين والخارجين عليهم، وكذا بين بني العباس ومناوئيهم، وكان لتدخلهم أثر ظاهر في هذا الفتن.
حسن إبراهيم حسن(254/11)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 16 -
(كاد العلم أن يكون رسولا. .!)
شوقي
(إنما الصعوبة هي في إيجاد أولئك الأساتذة الأفاضل الذين
يستطيعون أن يحملوا الشعلة وان يناولوها غيرهم بجرأة
وحماس وإخلاص وإقدام.!)
(قد نبني المدارس وننفق في تشييدها وإعدادها ملايين
الجنيهات، ولكنا قد نعجز مع ذلك عن تكوين الرجل المنشود!)
(افضل النظم جدير بالفشل التام إذا لم يقم بتنفيذه من هو كفوء
له.!)
(من رسالة الدكتور جاكسون)
6 - المعلمون
رأيت في المقال السابق بعض أسباب فشل النظام في المعاهد الدراسية وتبينت أثراً لمسؤولية النظار والمدرسين في ذلك الشأن. وسترى اليوم ناحية أُخرى لها من الخطورة والطرافة في عملية التربية ما يجعلنا نهتم بها كل الاهتمام، ونصرح فيها بأشياء ما كنا لنذكرها لولا حرصنا على المصلحة العامة، ولولا أملنا في أن يقابل الجميع الحقائق - على(254/12)
مرارتها - بصدر رحب وتقدير نزيه:
1 - حقائق
قال المرحوم شوقي بك:
قم للمعلم وَفِّه ألتبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا!
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي ... يبني وينشئ أنفساً وعقولاً!
وأحسب أن معنى ذلك الشعر العذب واضح لا يحتاج إلى بيان، وصادق لا مبالغة فيه ولا تهويل! فترى هل يشعر المعلم عندنا بكل ما فيه من معنى؟ أو هل تساعده الظروف على أن يتمثل به ويحققه في حياته الخاصة والعامة؟ ذلك هو السؤال العسير الذي فكرت فيه كثيراً وتألمت من أجله طويلاً، ولست أدري متى يقف تفكيري فيه وألمي من أجله!!
إن المعلم أيها القارئ هو الطرف الأول في عملية التربية والتعليم، فإذا لم يستطع أداء عمله كما ينبغي فقل على الأمر السلام!
فترى هل يجوز أن يكون ذلك الطرف مجرد ناقل علم فحسب، ما أن يدخل الفصل حتى يتكلم ويتكلم، ويكتب بالحكك ويكتب، ثم يخرج ويدخل هكذا كل يوم ويخرج، دون أن تقوم بينه وبين الطلبة عاطفة من ود ولا وشيجة من إخاء؟؟
وترى هل يجوز أن يكون ذلك الطرف متبرما من عمله، ساخطً عليه، ثائراً على القدر الذي ابتلاه به، حاسداً لنظرائه في المهن الأُخرى حيث الراحة والجاه، والكسب الوافر والنعيم المرموق؟؟
وترى هل يجوز ألا يقبل ذلك الطرف على تلك المهنة الخطيرة إلا مضطراً لا ميل يدفعه، ولا غرام يحببه، بل هي الوظائف قد أقفلت بعد الجامعة أبوابها في وجهه، وهو (المعهد) قد فتحها ورحب به نائماً وآكلاً ودارساً دون ما أجر؟؟
وترى هل ينبغي أن يكون (بعض) هذا الطرف في المدرس الأهلية، وهي لا تقل عن مدارس الحكومة في عدد طلبتها، مجرد طالب عيش لا يفقه من أمور التربية شيئاً، ولا يدري عن طبيعة الطفل قليلا ولا كثيراً، ولا يستطيع إلا أن يرسل القول محفوظاً، فلا عقلا يكوّن، ولا شخصية يبني، ولا خلقاً يغرس، ولا نظاماً يصون؟؟
2 - أسباب:(254/13)
تلك حقائق مرة لها خطورتها الكبرى في عملية التربية كما قلنا، وهناك من الحقائق غيرها ملا يتسع المجال لذكره أو ما لا يليق به أن يذكر!!، ولما كانت التربية الصحيحة شيئاً آخر غير حشو العقول بالكتابة والقول، وتنفير القلوب بالجمود واليأس، وتشويه الشخصية بالجهل والحمق، فمن الخير أن نتلمس بعض أسباب هذه الحقائق علنا نستطيع أن نجد لها علاجاً.
أتعرف ماذا هو عمل المعلم في المدارس الثانوية على وجه الخصوص؟ أتعرف أنه دروس تُحضّر، وحصص تُدرّس، وكراسات تصحّح، ثم أعمال إدارية أو كتابية بغيضة يملأ فيها الأستاذ الكشوف بالأرقام المجموعة وغير المجموعة، ثم ينقلها إلى كشف آخر وكشوف أُخرى، ثم يبعث بها ثلاث مرات في العام إلى أولياء الأمور كما لو كان كاتباً يسجل ويجمع ويكتب كل شيء حتى العنوان؟؟
ثم أتعلم ما هو قدره في عين الدولة والمجتمع بعد كل هذا العناء الذي يبذلهُ ليل نهار، ومع خطورة وشرف المهنة التي ينسب إليها؟؟
لعلك تدري أن قدره في عين المجتمع دون رجل العدالة أو رجل الطب بكثير؟ هذا ينطق بالحق وذاك يشفي الجسم، أما هو فماذا يفعل غير إلقاء الدروس؟ وعسير عليك جداً أن تفهم الناس أن التعليم قد يغنينا عن القاضي أو الطبيب دون أن يغني كل من هذين عن الأستاذ. وعسير عليك جداً أن تدخل في الأذهان أن صاحبنا يبني وينشئ انفساً وعقولاً كما قال أمير الشعراء.
ثم لعلك تدري أن قدره في عين الدولة كان وما يزال دون قدر رجال القضاء وغير رجال القضاء؟ وأين المسكين من أولئك وهؤلاء؟ ألم يخطب يوماً أحد الزعماء ليعبر عن جماعة المعلمين بعثار الجد وسوء الفعل كما لو كانوا جماعة من العمال أو الزراع؟ أولم يرتفع صوت المعلمين مدوياً طالباً المساواة والإنصاف دون أن تستجيب له الحكومات بتلك السرعة وهذه الأريحية التي تستجيب بهما لرجال القضاء أو النيابة أو المحاماة؟ أولا ينظر المعلم اليوم إلى زميله بالأمس في الدراسة الثانوية فيجده في مجال القضاء يقفز القفزات، أو في ميدان الجيش يتناول (العلاوات)، وهو هو في فناء المدرسة تمضي عليه السنون في الدرجة الواحدة، وتتسع الهوة المالية والاجتماعية بينه وبين زميله هذين، إلى حد يخيل إليه(254/14)
أن لا عدل هناك ولا مساواة، مع أنه يبذل من الجهد، ويؤدي من الواجب، ما لا يقل قيمة وضرورة وقدراً عن أعمال هذين الندين العزيزين؟
قل ما شئت وما لم تشأ في ذنب المعلم وتقصيره، ولكنك لن تستطيع أن تقول أنه فوق البشر فلا يؤذيه الظلم ولا يميته الإغفال. . .! ثم أنت تنشد بعد ذلك للتعليم إصلاحاً! أفلا يليق بك أن تتدبر هذا الأمر بنتائجه البعيدة والقريبة قبل كل شيء وبعد كل شئ؟
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الأميرية(254/15)
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 2 -
نقل الأستاذ الأدب سيد قطب في كلمته الثانية بعض ما نقده الرافعي في قصيدة للعقاد في ديوانه بعنوان (غزل فلسفي؛ فيك من كل شئ)، وذلك حين يقول في حبيبته:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعودٍ تُؤام
فقال الأستاذ قطب: فلا يرى الرافعي في هذا البيت الفريد إلا أن يقول: (قلنا فإن (من كل موجود) البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنكليزي إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟)
ثم يعود فيقول: (إن هذا المثال هو (مصداق رأيي في أن الرافعي أديب الذهن لا أديب الطبع، وأنه تنقصه (العقيدة)! التي هي وليدة الطبع أولاً؛ فأي (طبع) سليم يتجه إلى تفسيره بيت غزلي في معرض إعجاب شاعر بحبيبته، واستغراق في شمول شخصيتها بأن (كل موجود) هو البق والقمل والنمل. . الخ) غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة)! (واستكناهٍ)! لجوهر الشخصية، و (خيال بارع) تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا عالماً كاملاً من كل موجود وموعود.
أحد أمرين:
إما أن الرافعي ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت إلى مثل هذه اللفتات الغنية بالشعور.
وإما أنه يدرك هذا الجمال، ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسهُ وأدركه.
وهو في الحالة الأولى مسلوب (الطبع) وفي الثانية مسلوب (العقيدة!) فأيهما يختار له جماعة الأصدقاء)
ثم أتم الأستاذ علينا نعمة نقده بأن قال (أن هذا المثال (يمثل تلاعب الرافعي بالصور الذهنية، واستغلاق طبعه دون تملي الإحساس الفني).(254/16)
وقد آثرنا أن ننقل في كلامنا كل هذا لا نبذله ولا نحرفه لنقطع بذلك مادة الشك في صحة النقل من كلام الأستاذ قطب، وليجتمع للقارئ فكرهُ على رأي متصل حين ينظر في أعقاب كلامنا بالتعرف أو الإنكار.
ونحن حين قرأنا قصيدة العقاد لأول مرة في مجلة المقتطف (يناير سنة 1933) زعمنا أنها قصيد مؤلفة من مادة غير مادة الشعر، وأن الغزل الفلسفي الذي فيها حديث يتهالك، والفلسفة منطق يتماسك، فهي على ذلك ليس من شعر ولا فلسفة. وهذا هو بديهة الرأي لمن يقرأ هذه القصيدة ويتدبر معانيها، ويقيسها إلى غرض صاحبها فإنه سماها أول ما سمى (غزلاً فلسفياً) ثم أتبع هذا - وفي رأسها - مما يشبه التفسير لهذا العنوان، وما يتضمن فحوى القصيدة، ويحدد جملة معانيها، وذلك قوله: (فيك من كل شئ).
ولسنا ألان بسبيل من نقد القصيدة كلها، وبيان ما أشرنا إليه قبل في أثنائها وتضاعيفها، وإنما نجتزي بالقول في البيت الذي نقده الرافعي، ثم عقب على نقده الأستاذ سيد قطب بما شاء له (طبعه) المفتوح غير المغلق، و (عقيدته) الكاملة غير المسلوبة، و (خياله البارع) غير المتخلف.
وهذا البيت بعينه:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
إنما هو تكرار لقوله في صدر القصيدة: (فيك من كل شيء) حين أراد الشاعر أن يزيده بياناً ووضوحاً، ويجلوه جلاء المرآة لتصف شخص صاحبته، أو كما قال الأستاذ القطب (لاستكناه جوهر شخصيتها!)
وقد ذهب الرافعي في نقد هذا البيت مذهب العربي حين يسمع الكلام العربي لا ينحرف بألفاظه إلى غير معانيها، ولا يتسع في معاني الألفاظ بغير دلالة ظاهرة أو مسوغ مضمر، ولا يقبض من معانيها إلا بمثل ذلك مما يجيز انقباض بعض معاني اللفظ عن سائره. وقد قال العقاد لصاحبته في الغزل الفلسفي (فيك من كل شئ) و (فيك كم كل موجود). والعرب والفلاسفة جميعاً يزعمون أن لفظ (كلٍ) إذا دخل على النكرة أوجب عموم أفرادها على سبيل الشمول دون التكرار. فكذلك أوجب الشاعر على صاحبته أن يشمل (جوهر شخصيتها) جزءاً من كل ما يمكن أن يسمى (شيئاً)، ومن كل ما يسوغ أن يسمى (موجوداً(254/17)
وموعوداً). هذا الإطلاق من (فيلسوف يتغزل) يقتضي شمول الأفراد من (كل شيء)، ومن (كل موجود). وليس يشك أحد - ممن لم يسلبهم الله (الطبع) و (العقيدة) ولم يحرمهم (الخيال البارع) - في أن ما ذكره الرافعي في كلامه - من البق إلى الملح الإنكليزي - شيء من الأشياء وموجود من الموجودات. والفيلسوف حين يتغزل أن يريد هذا بغير شك، ولكن أين تذهب بمعنى اللفظ (كلٍ) في العربية؟ وفي حدود الألفاظ التي تدور على ألسنة الفلاسفة؟ وأي دلالة توجب معنى الشمول من هذا اللفظ؟ أو أي مسوغ يجيز الحد من الإحاطة التي يقتضيها هذا الحرف في مجرى قول الشاعر (فيك من كل شيء) وفيك (من كل موجود)؟!
هذا بعض القول في فساد ألفاظ هذا البيت، وبطلان معنى الفلسفة فيه. ولا يفوتني في هذا الموضع أن أدل على موضع الضعف في فهم الأستاذ قطب لكلام الرافعي. فالرافعي يقول: (قلنا، فان من - كل موجود - البق. . . الخ)، والأستاذ الأديب البارع يقول وكأنه يشرح معنى الرافعي: (فأي طبع سليم يتجه إلى تفسير بيت غزلي. . . بأن (كل موجود) هو البق والقمل. . . الخ)؟ غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة) و (خيال بارع)، تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذا المرأة من متنوع الصفات وشتى المزايا عالماً كاملاً من كل موجود وموعود). والرافعي رحمه الله لم يقل إن (كل موجود) هو البق والقمل. . . الخ، وإنما قال إن من (كل موجود)، أي من أفراد الموجودات ما يسمى بقاً. . . الخ، فالحرف (من) في كلام الرافعي ليس هو الحرف (من) الذي في شعر العقاد حتى يجوز ما ذهب إليه الأستاذ قطب بما ساء من تعليقه.
وقد أطلت القول في تقرير نقد توحي بصحته سلامة الفطرة، وحسن الذوق، وصفاء القريحة، ويوجبه اصطلاح المنطق، وحد الكلام، وإتقان الفلسفة، ويقتضيه ما ذهب الشاعر يسرده مما هو (في صاحبته) معدداً مبيناً مفصلاً حتى انتهى إلى إجمال المعاني في هذا البيت. فقد قال لها: فيك من الشمس والبدر، ومن الربيع والشتاء، ومن غناء الطير ونوح الحمام، ومن انسياب الماء، ومن طبائع الوحش، ومن حركة الأسماك، وفيك من جوارح الطير، ومن النعام، ومن نار الحياتين، ومن الموت الزؤام، ومن نقص الدنيا، وكمال الآخرة، ومن الملائكة، ومن الشياطين، ومن الخمر، ومن القوت، ومن الماء، ومن الجوع،(254/18)
ومن الأرض، ومن السماء، ومن عمل الأيام والدهور، ومن الهندسة، ومن الفن. . . ثمَّ
(فيك منى ومن الناس ومن كل موجود وموعود تؤام)!! أفلا يدل هذا على أن الشاعر الفيلسوف كل التفصيل فرمى بالجملة في (كل شيء) من (موجود وموعود) بعد الذي تعب في بيانه وتفصيله وذكره وتعداده؟؟ وأي شيء بقى له لم يعدده من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا والعالم الكامل)! إلا هنات هينات كذا وكذا. . . وما ذكر الرافعي
هذا. . . وقد اقتصر الأستاذ على نقل بعض كلام الرافعي في نقد هذا البيت ونحن نتمه للقراء بعد ذلك:
(إن ذلك المعنى الذي بنى عليه هذا المسكين غزله الفلسفي قد مر في ذهن أعرابي لم يتعلم ولم يدرس الفلسفة، ولا قرأ الشعر الإنجليزي والفرنسي والألماني والفارسي، وليس له إلا ذوقه وسليقته وطبيعته الشعرية، فصفى المعنى تصفية جاءت كأنما تقطر من الفجر على ورق الزهر بقوله:
فلو كنت ماء كنتِ ماء غمامة ... ولو كنت درّاً كنت من درةِ بكر
ولو كنتِ لهواً كنتِ تعليل ساعةٍ ... ولو كنت نوماً كنتِ إغفاَءة الفجرِ
ولو كنت ليلاً كنت قمراَء جُنِّبَتْ ... نحوس ليالي الشهر، أو ليلةَ القدر
(ولو كنت كنت) هذا أبدع عنوان لأجمل قصيدة في فلسفة الغزل. وانظر كيف جعل الأعرابي حبيبته أصفى شيء، وأغلى شيء، وأسعد شيء، وكيف صورها شعراً للشعر نفسه. ثم قابل هذا الذوق المصفى بذوق من يجعل حبيبته من كل شيء، ومن كل موجود وموعود تؤاماً وزؤاماً وبلاء عاماً) انتهى كلام الرافعي
فإن شئت أن تعرف كيف يتناول الشعراء هذا المعنى المغسول من الشعر (فيك من كل شيء) فانظر حيث يقول جرير، وهو فيما نعلم أول من أفتتحه:
ما استوصف الناسُ (من شيء) يروقُهم ... إلا أرى أمَّ عمْر فوْقَ ما وَصَفوا
كأنها مُزْنةُ غرَّاء واضحة ... أو درة لا يوارى ضوءها الصدف
وقد أحسن جرير تحديد المعنى وتجريده من اللغو (من شيء يروقهم) وجعل في صاحبته من ألوان الجمال ما تهفو إليه نفوس الناس على اختلاف أذواقهم وتباين أنظارهم. وكأن أبا نواس نظر إلى هذا المعنى حين قال:(254/19)
لك وجه محاسن الخلق فيه ... ما ثلاثُ تدعو إليه القُلوبا
على أن جريراً قد ناقض وأحال وأفسد ما استصلح من شعره حين رجع فقال في البيت الذي يليه: (كأنها مزنة. . . أو درة) فإن هذا الحرف (كأن) للتشبيه، والتشبيه يدعى قصور المشبه عن المشبه به، وهو قد ادعى أنه يرى صاحبته فوق ما يصف الناس (من شيء) يروقهم أو يروعهم أو يفتنهم.
ثم جاء مسلم بن الوليد يعقب جرير يقول:
مثالها زهرة الدنيا مصوَّرةً ... في أحسن الناس إدباراً وإقبالاً
أستودع العينَ منها كلما برزت ... وجها من الحسن لا تُلقى بالا
فالعين ليست ترى شيئاً تسرُّ به ... حتى تُريني لما استودعت تُمثالا
ففارق مسلم جريراً حيث جعل صاحبته (زهرة الدنيا مصورة) أي محاسنها وتهاويل جمالها، وأنه يجد عندها تمثالاً لكل حسن تسر به العين.
ثم جاء أبو نواس فألبس الشعر والمعنى من توليده وحسن مأخذه ولطف عبارته فقال:
لها من الظرْف والحس ... ن زائدٌ يتجدَّدْ
فكل حُسن بديع ... من حُسنها يتولَّدْ
ثم جاء أبو تمام فقَصّر، ولم يحسن اختيار اللفظ، وأضعف روح الشعر فيه فقال:
أنظر فما عاينت في غيره ... من حَسَن فهو له كله
وتناوله البحتري، فزاد فيه معنى، ولم يجود نسجه فقال:
وأهيف مأخوذ من النفس شكله ... ترى العينُ ما تحتاجُ أجمعُ فيه
فالزيادة في قوله (مأخوذ من النفس شكله) وهي جميلة لولا شناعة قوله (مأخوذٌ)، ولو عدل فيها إلى مثل نهجه في صفة الخمر
أُفرغتْ في الزجاج من كل قلب ... فهْي محبوبة إلى كلِّ نفس
لأجاد وبذَّ من سبقه. وقد فطن ابن الرومي إلى معنى البحتري فاتخذه لنفسه وسبق حين قال:
وفيك أحسن ما تسمو النفوس له ... فأين يرغب عنك السمع والبصر
وقد قصر ابن الرومي في الشطر الأول عن المعنى الذي أراده البحتري، ولكنه جاوز(254/20)
البحتري ورمى به خلفه في مقابلة قوله (ترى العين ما تحتاجُ أجمعُ فيه) بما قال (فأين يرغبُ عنك السمعُ والبصرُ).
ثم أدار ابن الرومي هذا المعنى ونفلّه من سواه حين قال:
لا شيَء إلا وفيه أحسنهُ ... فالعينُ منه إليهُ تنتقلُ
فوائد العين منهُ طارفهٌ ... كأنما أُخرياتهُ الأُوَلُ
ولقد كانت أتعجب لبيت العقاد كيف نزل مع كل هذا الشعر، وكيف خفى عنه موضع التقييد من مثل قول جرير (من شيءٍ يروقهم)، وقول مسلم (زهرة الدنيا) و (شيئاً تُسرَّ به) وما إلى ذلك، ووجهتُه مع سائر القصيدة فلم يزل مختلاً ناقصاً معوجاً لا يستوي. وزادني عجباً قوله في نهاية الشعر (تُؤام)، ولم أجد للفظ معنى لا رأيت له وجهاً يتوجهًه مع مقاصد الغزل الفلسفي حتى وقعت لي أبيات ابن الرومي فإذا قوله (تؤام) ترجمة للفظ آخر هي لفظ (معاً) في قول ابن الرومي ينحو إلى هذه المعاني بعينها.
فالعين لا تنفكُّ من نَظَرٍ ... والقلب لا نيفكُ من وَطَرٍ
ومحاسن الأشياء فيكِ (معاً) ... فَملاَ لِتيك مَلاَلَتي بَصرِي
مُتعاتُ وجهكِ في بديهتها ... جُدُدٌ وفي أعقابِها الأخَرِ
فكأنّ وجهكِ من تجدُّدِه ... مُتنقِّلٌ للعين في صُوَرِ
وقول ابن الرومي (ومحاسن الأشياء فيك معاً) هو عمل الشعر في معنى غسيلٍ قدَّم به العقاد لقصيدة غزل فلسفي وهو قوله: (فيك من كل شيء)
ورحم الله الصولي الذي يقول:
أعرفُ مِنها شَبهاً ... في كلِّ شيء حَسِن
فقد أتى بالمعنى عامياً لطيفاً مجفوّاً غير صنيع، وهو على ذلك أرق من فيك منى ومن الناس. . .
فهذا مذهب الشعر من لدن جرير إلى يومنا هذا ولم نستقصه في غرض واحد من أغراضه، وذاك مذهب العربية في معاني ألفاظها، وسبيل الفلاسفة في تحديد معانيها، وفي ثلاثتها قصَّر بيت العقاد وفسد واستحال، معناه وتهالك منطقه. فمن أين يمكن وصف الرافعي - إذا نقد هذا البيت - بأحد أمري الأستاذ قطب: إما أن يكون ضيق الإحساس(254/21)
مغلق الطبع بحيث لا يلتفت هذه اللفتات الغنية بالشعور. . . (وأين وأنى وكيف نجدها يا أستاذ الأستاذين؟) وما أنه يدرك هذا الجمال ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسه وأدركه. . . وما ندري كيف كان يحسه الرافعي رحمه الله؟
أكان يحسه ويدركه بقوة الجوع والعطش في البيت الذي يليه
كيف بي أُعزلُ إن أغنيتني ... أنتِ، حتى عن شرابي والطعام!
وأخيراً، فقد خير الأستاذ أصدقاء الرافعي بين أن يحكموا عليه بإحدى كلمتيه أن يكون رحمه الله عليه مسلوب (الطبع) أو مسلوب (العقيدة) وقد تبين بعد الذي قلنا أن نقد الرافعي نقد (محكم) في سياق العربية، وفي جوهر الشعر ونزيد فنقول أن قارئ القصيدة (غزل فلسفي) حين يقرؤها إلى أن ينتهي إلى هذا البيت: (فيك منى ومن الناس. . .) لا يجد فيها من (الحياة) ولا من (الخيال) ولا من (غنى الشعور) ولا من (الإحساس الفني) - إلى آخر ما يتنبل به الأستاذ قطب - ما يجعل نقد هذا البيت بعينه دليلاً على ضيق الإحساس واستغلاق الشعور، والغفلة عن الجمال، وفساد الإنسانية في قلب ناقده.
وعلى هذا فقد سقط الدليل الأول من أدلة أحكامه على الرافعي وبان في ذلك ما امتاز به الرافعي من الدقة وصدق الإحساس في إدراك معاني الشعر وما فيه من غضارة ورُوقة وجمال.
محمود محمد شاكر(254/22)
بين الأديب وبين الناس
للآنسة فلك طرزي
(مهداة إلى الأستاذ توفيق الحكيم)
سيدي الفاضل صاحب الرسالة الغراء:
القطعة الأدبية التي أبعث بها اليوم إليك لتنشر على صفحات مجلتك الراقية، استوحيتها من السلسلة الأدبية الأولى التي ينشرها تباعاً الأستاذ توفيق الحكيم في الرسالة تحت عنوان (من برجنا العاجي).
وقد كتبتها يوم كنت في حلوان أنعم بجو هذه المدينة الساحرة وأنفس عن صدري بنشق أرج النسيم المعطر بعبير الزهر المتدلية عناقيده وباقاته في روضات حدائقها النضرة، فأشعر بأثر الصحة يتغلغل بين جوانب هذا الصدر قوياً حاراً يبعث فيه السرور والبهجة والنشاط. ولا غرو فان اسعد أيام حياتي الذاتية هي تلك التي قضيتها على شاطئ وحدة هذه المدينة الفاتنة تحت بواسق نخيلها وفي ظل صمتها وسكونها.
كتبتها يومئذ ثم حالت شواغلي دون نشرها فطاويتها بين أوراقي إلى أن عثرت عليها اليوم بينما كنت اقلب في هذه الأوراق، فرأيت أن أرسلها إليك لتنشرها في (رسالة) الفن العالي والأدب الصادق الحي، ولو أن نشرها سيجيء متأخراً.
لو علم الناس كيف يعيش كل أديب أو مفكر في هذا الوجود، ولو علموا نوع الحياة التي يقضيها هذا الأديب أو ذاك المفكر مرتبكا حائراً بين متناقضات تتركب منها نفسه، لكفوا عن توجيه الملام إليه، ولا اقتصروا عن نعته بمختلف النعوت والصفات التي لا تنطبق البتة على حقيقته مكتفين بالإقرار أن نفسه غير نفوسهم، وان إحساسه لأبعد غوراً وأعمق نفاذاً من إحساسهم؛ ولكن يظهر أن الحياة التي منحهم إياها القدر حين شيعهم إلى باب الوجود قائلاً لهم: اذهبوا فان لكم الحياة ولكن. . . قد غشت أبصارهم بغشاوة الجهل فلم يدركوا مغزى (لكن) هذه التي يخفى باطنها وينم على معان كثيرة فاتهم إدراكها، كما فاتهم أيضاً رؤية البسمة الساخرة التي ارتسمت على ثغرة الهازئ المتهكم ساعة شيعهم إلى باب الوجود! فما علموا أن القدر منحهم أشياء وسلبهم شيئاً هو أعظم أشياء الدنيا وأغلاها قيمة! وما دروا أن القدر حرمهم نعمة لا يبلغ قمتها العالية سوى من ذاق مرارة الألم التي يولدها(254/23)
الفكر والإحساس، ومن شعر بقلبه يهتز بين جنبيه مختلجاً حائراً بين إحساس وإحساس وبين فكرة وفكرة.
غير أن (لكن) ثابتة كما قلت يا سيدي قد نطق بها القدر أيضاً حين دفع بالأدباء والمفكرين إلى الوجود وأرفقها بصيحة ألقاها في وجوههم قائلاً: (اذهبوا فإن لكم الفكر ولكن. . .) فبلغت (لكن) هذه من شدة دويها مبلغاً جعلهم شديدي الإنصات إليها، حريصين على ألا يفوتهم سماع الصدى الهائل الذي ينبعث من انفجاره في أنفسهم، فيتفتح فيها من جراء هذا الانفجار منافذ وأبواب على العالم الغامض، لينطبع على صفحات هذه النفوس كل صورة ومشهد من صوره ومشاهده، وكل ما يحوي من حقائق مرة لاذعة، وخيالات جميلة عذاب.
ولا أخال الجماعة الذين أدركوا معنى (لكن) هذه وسيروا غورها العميق فعرفوا أن باطنها يحوي متعاً من الحياة قد سلبهم إياها الفكر والشعور ليمنحهم نعمة الشفاء ولذة الألم - قد يحسدون يوماً من الأيام بقية الناس الذين نعموا بالحياة وبكل ما تحويه الحياة وحرموا نعمة واحدة هي أسمى النعم وأرفع اللذات وأعنى بها نعمة الشعور الذي يولد التفكير الصحيح.
وإذا حملهم أحياناً فيض شعورهم لشدة ما ينتابهم من جرائه على حسد ألئك، فان هذا الحسد لا يدون إلا لحظات، ولا يطول أكثر من فترات. ذلك لأن (النوع) الرفيع العالي الذي يطبع سعادة جماعة الفكر والأدب بطابعه السحري، لا يستطيع غيرهم من الناس إدراك كنهه العميق وليس بوسعهم بلوغ قمته العليا.
وهل بإمكان البواعث التي يسعد بها الناس أن تبعث في نفس الأديب أو المفكر أية سعادة ما؟
وهل تسر هذا الأديب أو ذاك المفكر نفس المسرات التي يغتبط بها بقية الناس؟
قد تسعد الأديب ذات البواعث التي تسعد الناس، وقد تسره الأسباب التي تسرهم، غير أن ما يميزه عنهم ويجعل فروقاً بين سعادته وسعادتهم وسروره وسرورهم هو ما يمكن أن تخلفه هذه السعادة وذاك السرور في نفسه من عميق الأثر وما قد ينتج عن هذا الأثر من معان وفكر قد تحولها - أي السعادة والسرور - إلى عكسهما بعد أن يخضعهما الأديب إلى قوانين التحليل والتدقيق.
ولكم سخر أدباء من سعادة كثير من الناس وفضوا عليها شقاوتهم وحيرتهم! ولكم لام(254/24)
المفكرون ونقدوا أساليب ووسائل يستعين بها أشخاص لبلوغ أمنية السعادة المنشودة دون التفريق بين أسلوب والتدقيق بين وسيلة ووسيلة!
فإذا كان الفكر الإنساني قد حكم على كل مفكر وأديب أن يحبس نفسه في مقر ذاته العميق، وان يرسل نبرات صوته بين أرجاء السكون الذي يملأ هذا المقر، ثم لا يسمع غير صدى هذه النبرات!
وإذا كان قد قضى عليه أن يعيش في تلك العزلة الموحشة عزلة نفسه التي يحرسها (تنين) الوحدة، فعزاؤه عما فاته من متع الحياة انه يصغي في كل لحظة من لحظات عمره القصير بعدد السنين المديد بمقدار الدقائق إلى كل همسة من همسات ضميره ونفسه، وينصت إلى كل نغمة من نغمات الحياة التي لا ننفك أوتار قلبه تعزفها على قيثارة الضلوع.
فلنتغنَّ إذن بين جدران أنفسنا الشاهقة، ولنرسل ألحان هذه الأغاني موسيقى تحوي أنغام الحياة على أنواعها فتتحول عند سقوطها في القاع - قاع أنفسنا - صوتاً قوياً تنبعث منه نبرات الحياة حارة بليغة.
(دمشق)
فلك طرزي(254/25)
آراء حرة
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
كنت قد أعددت هذه الكلمة قبل أن أقرا كلمة الأستاذ سعيد العريان الأخيرة، ومقدمته لها. قلما قرأتها لم أجد أن أغير في كلمتي شيئاً. . .
وبقى أن الأستاذ يقول عما كتبت: (ومع ذلك فأن ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا). فإن كان يكفي في الحكم أن يقول الإنسان هكذا فيكون ذلك قضاء، فإننا - على طريقته - لا نتكلف أكثر من حذف أداة النفي فنقول: هو (بشيء) عندنا) وبذلك تنتهي!
وبقي أنه عرض بي في ثنايا مقاله بعد ما تخلى عن الرد وقال إنه مؤرخ. . تعريضا غير لائق. فما مثلي بمن يحتاج لمن يفهمه أدب الرافعي وليس فيه شيء لمثلي غير مفهوم، وما هو بصاحب طريقة في الفكر والفن، إنما هو صاحب طريقة في التعبير، وأنا أحد الأخصائيين في اللغة التي يعبر بها.
على أن هناك ما يضع حداً للجدل. أليس الأستاذ سعيد العريان يفهمه؟. بلى. فأنا إذن من باب أولى أفهمه.
سيد قطب
- 3 -
حين قال الأستاذ سعيد العريان عن نقد الرافعي لوحي الأربعين: انه بلغ فيه ذروته، وجمع كل فنونه، كان صادقا في قوله، وكنت مخطئا في الاعتراض عليه، كما اتضح لي الرأي في هذا الأسبوع الأخير!
وحين قلت: أن الرافعي أديب (الذهن) لا أديب (الطبع) وانه ينقصه (القلب) المهيأ للحب، وانه لا يعنيه إلا أن يصور الحقائق الوقتية الصغيرة في صورة خلابة، لم يكن هذا المعنى واضحاً محدداً في ذهني كما اتضح في هذا الأسبوع الأخير!
وحين ذكرت أن الرافعي ذكي، قوي الذهن، كنت متسامحاً جد التسامح أو مبالغاً جد المبالغة، ولم أعلم ذلك كله علم الأسبوع الأخير! وإليك البيان. . .(254/26)
حينما أمسكت بالقلم لأكتب الكلمة الأولى بهذا العنوان، كان في ذهني ونفسي صدى مطالعاتي القديمة للرافعي، وهو صدى غامض يدل على الجملة، ولا يمد الناقد بالتفصيل.
وحينما كتبت الكلمة الثانية، لم يكن بين يدي إلا نقده لوحي الأربعين، فأبديت رأيي فيه كما رأى قراء الرسالة.
ولكنني حين رحت أتلمس الأمثلة من بعض كتب الرافعي واخترت أن أبدأ (برسائل الأحزان)، اصطدمت بالرافعي من جديد، واختلف الصدى الغامض القديم، عن الصوت الواضح الجديد. (أحسست صدق الأستاذ سعيد في نعته لنقد وحي الأربعين، فإنه - على ما به - في الذروة من نتاج الرافعي كله كما قال!
وأحسّست أنني أخطأت في عدم تحديد (الذهن) الذي قلت أن الرافعي يصدر عنه في أدبه، فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خابٍ، وما هو متفتح أو مغلق. . . إلى مالا نهاية له من ألوان الأذهان:
وأحسست أنني خدعت في (قياس ذكاء) الرافعي، ومعرفة طبيعته ودرجته، حتى ردتني إلى القياس الصحيح (رسائل الأحزان)! وإنني لأحس بالغضاضة في هذا التراجع، فيعزيني عنه (الصدق) الذي أعبر عنه حين أنصت لإحساسي وأصور حقيقة رأيي.
الرافعي أديب الذهن. ولكنه الملتوي المعاظل المداخل الذي لا يستطيع أن يسلك أقرب طريق إلى ما يريد، بل يتخذ الدروب والمنحنيات، ويلتف حول نفسه، ويعصر نفسه، مرة ومرة، قبل أن يصل إلى الحقيقة الهينة الصغيرة، التي تعثر بها الأذهان المستقيمة مدى ذراع.
والرافعي يصدر في أدبه عن ذكاء، ولكنه ذكاء اللمحة والومضة، لا ذكاء الإشراق والصفاء. الذكاء الذي يخبط بجناحه هنا، ويخبط بجناحه هناك، فيهيئ للناظر انه يرفرف ويطير، والواقع انه مكب على الثرى، وما هي إلا خفقات الجناح.
والرافعي في رسائل أحزانه يتراءى كأنما يتمطى في أغلال، أو يتنزى في وثاق، يحاول أن يتلفت من هذا وتلك، وهو ينغض رأسه ويضرب بقدميه، ويضرّس أنيابه، في حركات عصبية، ليخلق اللفظة بعد اللفظة، والجملة بعد الجملة، والخاطرة بعد الخاطرة، في جهد وعناء!(254/27)
وإنك لتسأل بعد قرأتها: أهذه رسائل حب؟ أو ذكرى حب؟ وأنت خليق أن تفتقد فيها الإنسان قبل الفنان.
أسمع قصيدة صدر بها أحد كتبه ولاشك أنه معجب بها، اسمع الشعر الذي يعجب من ينقذ شعر العقاد في الحب:
من للمحب ومن يعينه؟ ... والحب أهنأه حزينهُ
أنا ما عرفت سوى قسا ... وته فقولوا كيف لينهُ
إن يقض دين ذوى الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه
قلبي هو الذهب الكر ... يم فلا يفارقه رنينهُ
قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينه
قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه
فهذا الشاعر الذي ينقد شعر العقاد في الحب، هو الذي يعجبه ما يقلد من شعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر، وشعراء أواخر العهد العباسي فنسمع رنين شعرهم في:
(إن يقض دين ذوي الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه)
يعجبه هذا الذي لا يرتفع مستواه الفني على أن يذكر (قلبه) في سوق (المجوهرات) من الذهب والألماس، معتقداً أن تلك (المعادن) أثمن من (القلوب) لأنها تقوّم بالمال الكثير في السوق.
وما عن تهكم أصدر في هذا التعبير، فهي حقيقة تعززها الأمثلة الكثيرة في (الرسائل) وسيأتي هذا في موضعه.
أما القصيدة بعد هذا فخطبة منبرية، لا تعرف أن كان صاحبها محباً حياً يثير الحب في نفسه وأعصابه دفعات الحب، وينبه خوالجه وخواطره، ويعمق إحساسه بالحياة، ويضاعف شعوره، أم إنه واعظ يدعو في جفاف وجفوة إلى (عدم الاعتداء على الأعراض) بأسلوب لا يتصل بالقلوب، كمعظم خطباء المساجد في هذه الأيام:
يا من يحب حبيبه ... ويظنه أمسى يهينه
وتعف منه ظواهر ... لكنه نجس يقينه
كالقبر غطته الزهو ... ر وتحته عفِنٌ دفينه(254/28)
ماذا يكون هواك لو ... كل الذي تهوى يكونه
دع في ظنونك موضعاً ... إن الحبيب له ظنونه
وخذ الجميل لكي تزي ... ن الحسن فيه بما يزينه
إن تنقلب لص العفا ... ف لمن تحب فمن أمينُه
الخ. . . الخ
ولعل أصدقاء الرافعي في نشوة حين يطالعهم بهذه الصورة الذهنية:
كالقبر غطته الزهو ... ر وتحته عفِنٌ دفينه
ولكن أين هذا أيها (الأحياء) في عالم الحب الحي، وإن هو إلا (اللعب على الحبل) في هذا الميدان؟
ثم ماذا؟ ثم اسمع الشاعر الذي لا يعجبه شعر العقاد في الحب:
حسناء خالقها أتم جمالها ... سألته معجزة الهوى فأنالها
لما حباها الله جل جلاله ... بالحسن منفرداً أجل جلالها
تضنى المحب كأنما أجفانها ... ألقت عليه فتورها وملالها
هيفاء قد شب النسيم قوامها ... غصناً فإِن خطر النسيم أمالها
سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها
هكذا نعود إلى شعراء الدول المتتابعة في التكلف والمعاني المطروقة التي يباع كل عشرة منها بقرش في هذه الأيام! ولا نرتفع عن (الأجفان التي تلقى على المحب فتورها وملالها)، ولا عن (النسيم الأعمى أو الأصم أو الثقيل الحس الذي يحسب المحبوبة غصناً، لعماه أو صممه أو ثقل حسه، فيميلها عند مروره!
وهكذا لا ندخل أبداً في زحمة الحياة وتياراتها، ولا نحس الحياة في خالجه أو خاطرة، ولا (نعيش) في هذا الحب عيشة الأحياء الذين يتأثرون بحسهم وأعصابهم وخوالجهم بجانب أذهانهم، أو حتى الأحياء الذين تلتفت أذهانهم وحدها إلى صور الحياة وأشكالها، ودوافعها وأمواجها ولو لم يندمجوا فيها، ويتأثروا بها!
ولكن لا، فقد كسبنا التفاته ذهنية رخيصة، لا بل التفاته عرفية أو كلامية، فأن هذه الحبيبة لما (انفردت) فكانت لها صفة (الوجدانية) في الحسن (أجل جلالها) الله (جل جلاله).(254/29)
فليلق بالهم إلى ذلك علماء (الكلام)، فما كتب إلا لهم وحتى لا تفهم أن الشاعر قديم، أقرا التجديد الذي تندق دونه الأعناق!
سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها
أفبعد (الكهرباء) وهي آخر ما كشف من قوى الطبيعة قولة لقائل من المجددين الذين ينقدهم الرافعي النقد الشديد؟
فمن يكن في شك أو ظل من شك فليقرأ، ليعرف أنها لم تكن خطرة عابرة في التجديد، وإنما هي عن تعمد وسبق إصرار.
يا نجمة أنا في أفلاكها قمر ... من جذبها لي قد أضللت أفلاكي
هناك الكهرباء، وهنا الجاذبية، أبعد هذا يكون شك أو ظل من الشك؛ لا. وألف مرة لا!
ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً وان كان فيه - لو شئنا سلوك طريقة الرافعي في النقد - مجال لعشرات الغمزات والتهكمات.
وقد قلت لك: أن الرافعي يغالي (بالمجوهرات) فأسمع:
يقول للصديق المفروض أن هذه الرسائل تكتب أليه. إنه سيقص له قصة حبه لا بالترتيب.
(فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم لك تاريخ لؤلؤة فريدة).
ولست ادري الفرق لدى الفنان (الحي) بين أن يقص تاريخ صخرة وتاريخ لؤلؤة إلا أن يكون (الثمن) هو الفارق بينهما.
أفهم أن يقول: (إن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة، أما أنا فسأقدم لك قصة حياة. أو قصة بنية حية يدخل في تأليفها ودوافعها شيء غير الزمان والمكان، هو الحس والشعور. أو تاريخ نبتة تنمو من داخلها أكثر مما تنمو في خارجها) أو أي تعبير آخر يدل على أن القائل يستشعر الحياة في أعماقها، أو ظواهرها على الأقل، ويرى (القلب) شيئاً حياً، جماله في حياته، وان لم يقوّم في سوق المجوهرات بعشر ماسة أو قطعة صغيرة من الذهب! ثم اسمع: يقول في إحدى الرسائل: (أما سمعت بذلك الأعرابي الذي قيل له: ما بلغ من حبك لفلانة؟) فقال: والله إني لأرى الشمس على حائطها أحسن منها على حيطان جيرانها. . .، قد ولله صدق وبرت يمينه) فإن في كلماته الشعرية لأثراً من (عينيه)، إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على (البلور الصافي) لا على الحجر والمدر).(254/30)
أن الأعرابي ليرتفع إلى الذروة الفنية في قولته الساذجة، ويخيِّل إليك الحياة المشرقة في (ضميره)، - لا عينيه وحدهما - وهو ينظر إلى الشمس على حائط حبيبته ويكشف عن (الخصوصية) الدقيقة التي ترى (شمس حبيبته) وكأنها خلقة خاصة بها لا يشاركها فيها سواها. . . الخ ما يتسع له التصور من ألوان الامتياز الوجداني في هذا الأعرابي.
ولكن صاحبنا لا يرى في هذا إلا أن (الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي، لا على الحجر والمدر).
فمدار الجمال إذن هو نفاسة ما تطلع عليه الشمس وثمنه في السوق، ولاشك أن البلور أغلى من الحجر والمدر!
ولعله هو أو أحداً من أصدقائه لا يستطيع أن يصدق أن الشمس على (الحجر والمدر) الرخيصين أجمل؛ أو على الأقل قد تكون في وضعٍ ما أجمل من الشمس على (البلور) الغالي الثمن، وذلك عند (الطبع) الحي، الذي يعيش في الحياة الرحبة، لا في سوق المجوهرات!
واسمع. . . في رسالة أخرى:
(ثم يجري كلامه فيها شعراً خالداً مطرداً كنهر الكوثر في رياض الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت)
أرأيت؟ الذهب والدر والياقوت!
ولا يتشكك صاحبنا في أن النهر الذي حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت أجمل من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر، ومجراه على الرمل والطين.
لا يلتفت إلى أن الأول مصنوع قد يهيج العين لحظة ثم لا تحس وراءه حياة، ولا معني أعمق من ظاهره، فتمله النفس؛ أما الثاني فهو لا يأخذ (العين) بالبريق والوهج، ولكنه يملأ (النفس) بالروعة والجمال، ويتيح لها التأمل العميق في الطبيعة، والاندماج بين الحياة الجارية في النهر والحياة الجارية في النفس، لقرب النشأة والتكوين.
لا لا. فالمهم هو البريق الذي يخلب الحس، والأهم هو (السعر) المقدر للياقوت والطين. وشتان شتان!
وبعد فقد كان في هذه الأمثلة الكفاية لتوضيح نظرتي في الرافعي والبرهان عليها، كل مثال(254/31)
يغني عن سواه. وقد تعمدت أن اختارها من اللفتات الصغيرة الخاطفة، وما يستجاد عند مدرسته، وهي أدل على طبيعة الفكر ومعدن الذهن.
ولكن لدي أمثلة في نهج آخر يؤدي إلى النتيجة نفسها، وموعدي مع قراء الرسالة ي ذلك كلمة أخرى بعد أن طال هذا المقال.
(حلوان)
سيد قطب(254/32)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 18 -
- كان فضيلة الشيخ دعاس العيسوي والد عبد الحسيب يقيم بالزمالك، أعني في بولاق.
- ما هذا الخلط يا ظمياء؟
- كنا نفهم انه يقيم بالزمالك، ثم عرفنا انه يقيم في بولاق، وقد فهمنا أن سكان بولاق يحبون أن يسموا محلتهم زمالك.
- شئ غريب!
- وما وجه الغرابة في لك؟ إن بولاق تشرف على النيل كما تشرف عليه الزمالك
- ولكن بولاق في الضفة الشرقية، والزمالك في الضفة الغربية، فبولاق شرق، والزمالك غرب، والشرق والغرب لا يلتقيان
- أيش لون؟
- هذه معان لا يفهما غير الفلاسفة يا ظمياء
- وكنت أذهب في صحبة ليلى إلى منزلي الشيخ دعاس العيسوي، وكان شيخاً يقارب الستين، ولكنه كان أعجوبة الأعاجيب في مغازلة النساء. كان يصوب بصره إلى ليلى ويقول: (يا بنت يا كهرباء) وكانت ليلى ترتاح لهذا الوصف الطريف. ولعلها كانت تود لو سمعت هذه العبارة الطريفة من عبد الحسيب، وكانت السيدة نجلاء. . .
- هل تعرفين شيئاً من تاريخ نجلاء؟
- أعرف كل شئ: كانت فتاة خفيفة الروح عرفها الشيخ دعاس وهو يصطاف في لبنان قبل الحرب بأعوام طوال، فتزوجها ونسى من أجلها زوجته وأبناءه في (شمون).
- وهي أم عبد الحسيب؟
- بالتأكيد، وعنها ورث خضرة العينين
- فهمت. هاتي بقية الحديث
- وكانت ليلى ترفض الجلوس على المائدة مع الشيخ دعاس وابنه عبد الحسيب، ثم استأنست بعد حين، فقد اطمأنت إلى شرف القلوب في ذلك البيت. وكان فضيلة الشيخ(254/33)
دعاس يتناول على المائدة دواءً كميت اللون يصلح الأمعاء. وكان هذا الدواء يحفظ في صوان خاص ويُقدَّم إليه في الغداء والعشاء. وفي ظهر يوم طرق الباب وأعلن الخادم قدوم الشيخ الزنكلوني فأسرعت ربة البيت وأخفت زجاجة الدواء. ودخل الشيخ الزنكلوني فرأيناه رجلاً عليلاً وعجبنا كيف يبخل عليه الشيخ دعاس بقطرة من الدواء الذي يصلح الأمعاء.
- عمن تلقيت دروس اللؤم يا ظمياء؟
- تلقيتها عن طبيب مصري يقيم في بغداد
- وأين عيادة هذا الطبيب؟
- هو طبيب بلا عيادة، على وزن وزير بلا وزارة
- فهمت. ويسرني أن يكون تلاميذي جميعاً أذكياء. وماذا صنع الشيخ الزنكلوني حين رأى ليلى؟
- قبّل جبينها وقال: أنت درية؟ فلما عرف أنها فتاة من العراق قبّل جبينها مرة ثانية وقال: أنا احب العراق ونسائم العراق وجميع ما يرد من وطن أبي حنيفة النعمان. اسمعي يا بنيتي، أنا من الشافعية، ولكني أستظرف الحنفية.
وهنا تدخل الشيخ دعاس فقال: ولكن أبو حنيفة كان يبيح النبيذ.
فثار الشيخ الزنكلوني وقال: هذه دسيسة مذهبية، فما أباح أبو حنيفة النبيذ، وإنما أباح العرقسوس
وتشجعت ليلى فقالت: رحم الله أبا حنيفة فقد كان يعرف أن العرقسوس يصلح الأمعاء.
وكانت أول مرة فهم فيها الشيخ دعاس أن ليلى لم تكن من الغافلات
ثم دعانا الشيخ الزنكلوني لزيارة منزله في حارة أو الغلام
- وزارته ليلى هناك؟
- وعدت ثم أخلفت، فقد رابها تظرف المشايخ
- ضيعتم فرصة ثمينة يا ظمياء. فما الشيخ الزنكلوني متظرفاً وإنما هو ظريف
- سنزوره حين نرجع إلى مصر يا مولاي
- ومتى ترجعون إلى مصر، يا ظمياء؟(254/34)
- حين تسمن الأسماك
- ومتى تسمن الأسماك؟
- حين ينضج التوت
- ومتى ينضج التوت؟
- حين تعقل ليلى وترجع إلى التلطف مع طبيبها النبيل
- إذاً لن ينضج التوت ولن تسمن الأسماك
- صبراً يا دكتور فإن الله مع الصابرين
- سأصبر يا طفلتي الغالية. . . ولكن كيف كانت ليلى مع عبد الحسيب؟
- كانت تتغطرس عليه كما تتغطرس عليك، فتتجاهل ما تملى عليه الصبابة من نظرات وأحاديث. المحبون يتغطرسون لأنهم أذلاء، ولو كانوا على شيء من العزة لاحتقروا الكبرياء. وهذا هو السبب في أن الأحباب يحرم بعضهم عطف بعض. فالحبيب يريد أن يذل له المحب، والمحب يريد أن يذل له الحبيب؛ وفي ظلمات هذا العتاد السخيف تنفصم الأواصر والصلات. وكان المسكين عبد الحسيب يسلك إلى قلب ليلى كل سبيل. كان يحتال ليظفر منها بابتسامة. كان يغرب في سرد أخبار الشيخ كراوية
- ومن الشيخ كراوية يا ظمياء؟
- أستاذ كان يدرس اللغة العربية بمدرسة المساعي المشكورة بالزقازيق.
- أنت جاهلة يا ظمياء، فمدرسة المساعي المشكورة في شبين الكوم لا في الزقازيق
- أؤكد لك أنها في الزقازيق. ولك أن تسأل ليلى فعندها الخبر اليقين
- إذا أخذت العلم عن ليلى فعلى العلم العفاء
- وكان عبد الحسيب يقف فيقلد صوت الشيخ كراوية وهو ينشد قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وكان يصوب بصره إلى ليلى حين يصل إلى عبارة (وهن أضعف خلف الله إنسانا)، وكان يرضيها أن ترى هيامه بها فتبالغ في التغطرس والازدهاء
وفي إحدى العصريات دخل عبد الحسيب غضبان فانزعج الشيخ دعاس وانزعجت السيدة(254/35)
نجلاء، فنظرت إلى وجه ليلى فرأيته يشبه دجلة في أيام نيسان
- إيش لون؟
- وأنت يا مصري نقول (إيش لون؟)
- إيش لون؟ إيش لون؟
- دجلة في نيسان تحاول من فرط الشوق والحيوية أن تلطم وجه بغداد
- وكانت ليلى تحب أن تلطم وجه عبد الحسيب؟
- كانت تهم بافتراسه لأنها كانت تنكر أن يدرك معنى البؤس وهي في دنياه
- كانت تحبه؟
- وأي حب؟ وهل في الدنيا فتاة تحبس قلبها عن فتى وافر الرجولة متين الأخلاق؟
- وما هي أسباب ذلك الغضب الذي سيطر على عبد الحسيب؟
- قال إنه تلقى محاضرة في مدرسة البوليس ألقاها الصاغ على حلمي عن (القوة المعنوية) فثار صدره وعجب كيف يعجز عن التسلح بالقوة المعنوية، وجلس على المائدة وهو في غاية من العقل، فلا نوادر ولا فكاهات، ولا الشيخ كراوية ولا عبد الله شعيب. فعرفت ليلى أن الشاب ابتدأ يحاربها بلا رحمة ولا إشفاق. آه، ثم آه!
- لا تتأوهي يا ظمياء فقد مزقت قلبي
- تحبني يا مولاي؟
- استحي يا ظمياء فأنت في حضرة طبيب
- وبعد ليال دعتنا السيدة نجلاء لسماع المغنى عبد اللطيف البنا في ملاهي المعرض فسمعناه يقول:
(سلامة القلب من حبك يا قاسي)
فتحدرت مدامع ليلى وأصابها إغماء. وكانت ليلة قضيناها في كروب وأشجان. وفي الليلة التالية صممت ليلى على أن نذهب وحدنا إلى ملاهي المعرض، فسمعنا أم كلثوم تغني
يا للي شغلت البال ... يا ليت أكون على بالك
الوجد له أحوال ... يا ليتني أعرف حالك
فأخذت ليلى تبكي بكاء لا تجود بمثله عيون الأطفال، فخشيت أن نفتضح وأخذتها في(254/36)
سيارة إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه بشارع قصر النيل، واحبسنا عن جميع الناس ثلاثة أسابيع
- ثم ماذا؟
- ثم تفضل الشيخ دعاس والسيدة نجلاء والآنسة درية بالسؤال عنا فتشجعت ليلى وسألت عن عبد الحسيب، فأبتسم الشيخ دعاس وقال: تحبينه يا ليلى؟ فقالت: ما أحبه، وإنما أشتهي أن يحدثني مرة ثانية بحكايته يوم تشيطن فأخذ زجاجة الزيت وملأ بها حابر زملائه من التلامذة الأقباط حين كان تلميذاً بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية.
وقهقة الشيخ دعاس وهو يقول: وما رأيك يا ليلى إذا كان التلامذة الأقباط اصبحوا يرحبون بوضع الزيت في محابرهم على أيدي التلامذة المسلمين؟
ولم تفهم ليلى ما يريد، فاستطرد الشيخ دعاس قائلا: نحن ائتلفنا يا بنيتي على يد الشيخ الصالح سعد زغلول، وأنا وضعت قواعد الائتلاف قبل سعد زغلول، فزوجتي نجلاء كانت مسيحية وأسلمت لتربط بين مصر ولبنان. فما رأيك لو خطبتك لعبد الحسيب؟
فاستأنست ليلى وقالت: هل قرأت يا فضيلة الشيخ أخبار عمر بن أبي ربيعة؟
فقال: ما قرأتها، لأن أخبار عمر بن أبي ربيعة لا تدرس في الأزهر الشريف.
فقالت ليلى: كان ابن أبي ربيعة يستهوي جميع النساء اللائي يشهدن موسم الحج، إلى أن فتنته امرأة عراقية، فراودها عن نفسها فاستعصمت، فخطبها لنفسه فأبت وقال: تعال إلى العراق واخطبني من أهلي. وكان ابن أبي ربيعة ماجناً فلم يتبع معشوقته إلى العراق، وحرمه المجون من التشرف بمصاهرة أهل العراق.
فإن كان عبد الحسيب صادقا في حبي فليمض إلى العراق وليخطبني من أهلي هناك.
وعرف الشيخ دعاس أن هزل الحب جد، فانصرف وهو مكروب!
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم انتظرنا أسابيع فلم يسأل عنا الشيخ دعاس ولا ابنه عبد الحسيب، فرجعنا إلى العراق ونحن نبكي سلامة لأخلاق في بلاد الفراعين
- شئ مزعج، شيء مزعج!
- لا تحزن يا مولاي ولا تبتئس، فقد وقعت أعاجيب - أفصحي يا ظمياء(254/37)
- في اليوم الثالث والعشرين من تشرين الأول سنة 1926 طرق الباب زائر غريب، فنظرنا فإذا هو الضابط عبد الحسيب بعينيه الخضراوين وقوامه الرشيق؛ وهجمت ليلى عليه فقبلت جبينه وخديه بلا تهيب ولا استحياء، ودعوناه للنزول في ضيافتنا فرفض، وقال إنه جاء لخطبة ليلى، وإنه ظفر بدبلوم مدرسة البوليس، وأنه مرشح لرياسة نقطة النعناعية، فنظرت ليلى إليه بعيني اللبؤة العادية وقالت: لن اقبل يدك أو اختبر أخلاقك!
- ثم ماذا؟
- ثم استيأس الشاب المسكين وقال: وبأي صورة أعيش في بغداد؟ فقالت ليلى: ذلك إلي
- ثم ماذا؟
- ثم تحمّلْت ليلى بأهلها ومعارفها إلى نوري باشا السعيد وكان يومئذ وكيل القائد العام، وكان برتبة زعيم فالحق الضابط عبد الحسيب بالجيش العراقي بحجة التقريب بين مصر والعراق
- شيء جميل!
- انتظر يا دكتور، فقد أفسدت ليلى كل شيء
- وماذا صنعت الحمقاء؟
- بثت من حوله العيون لترى كيف يفكر وكيف يصنع، فصح عندها انه كافر بالحب وكافر بالعروبة فأصلته نار الصدود
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم رحل المسكين إلى مصر بدون أن يستأذن رئيسه نوري باشا السعيد
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم خلت حياة ليلى من حبيبها الغالي فلم تعد تعرف طعم الحياة وحالفها الضنى والنحول
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم علم الشاب المسكين بمرض محبوبته الغالية فلاذ بأمه الرءوم فمضت إلى الأستاذ خليل مطران تستفتيه، فكان من رأيه أن ينتقم من ليلى بطريقة دولية تضج لها المشارق والمغارب، وصح عنده أن تغني السيدة نادرة هذا البيت:
يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا(254/38)
ولم يقف عند هذا الحد، بل أشار بوضع هذا الصوت في شريط (أنشودة الفؤاد).
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم تنكر أهل العراق لذلك الشريط وقاوموه غيرة على ليلى فلم يعرض في بغداد غير مرات معدودات
- ثم ماذا يا ظمياء؟
ثم لطف الله بليلى فجاء الدكتور زكي مبارك لمداوتها منتدبا من الحكومة المصرية
- وما الرأي يا ظمياء إذا عوفيت ليلى ومرض الطبيب؟
- الأمر يومئذ لله
ليلى، ليلاي
أنت تعلمين أنني تركت في سبيلك وطني وأهلي. أنت تعلمين أن صحتي اعتلت وأنني أعيش على منقوع الفواكه منذ أسابيع وأسابيع. أنت تعلمين ما أنا صائر إليه أن دام هذا الصدود. أنت تعلمين إني ضحية الواجب والعقيدة والوجدان. فما هذا التجني يا ليلى والإحساس ما خنت العروبة ولا كفرت بالحب؟
أحبك يا ليلى، احبك، فاصنعي بقلبي ومصيري ما شئت وشاء الهوى وشاء الدلال
أحبك يا ليلى في غضبك ورضاك. احبك حباً ما سبقني إليه سابق، ولن يلحقني فيه لاحق. أحبك يا ليلى واحب من أجلك جميع ما في الوجود حتى قيظ بغداد. أحبك يا ليلى ورأي وجهك مسطور الملامح والتقاسيم في كل ما تقع عليه عيناني. أحبك واحب من أجلك نعيم الحياة وبؤس الحياة؛ وما احب الحياة لنفسي يا ليلى فقد شبعت منها ورويت، وإنما احب الحياة ليبقى لك في الدنيا محب صادق يرى الضلال في هواك أشرف من الهدى، ويرى الظلام في هواك أكثر إشراقاً من بياض الصباح.
أحبك يا ليلى وأتمنى إلا تحبيني؛ فما يرضيني أن تعاني في الهوى بعض ما أعاني
أنا اكره لك يا معبودتي أن تذوقي ملوحة الدمع، وان تهيمي بعهد نجوم الليل، وان تقفي موقف الجمود أمام الأزهار والأشجار والأنهار فلا تدركين كيف يبتسم الوجود
- ظمياء!
- عيوني!(254/39)
- ظمياء!
- عيوني، دكتور زكي، عيوني!
- خذي بزمامي إلى الجحيم
- وأين الجحيم يا مولاي؟ حماك الله ونحاك!
- أين الجحيم؟ أما تعرفين؟ خذي بزمامي إلى دار ليلى علني أعرف مصيري في هوى تلك الظلوم
- في المساء؟
- في هذه اللحظة
- انتظر حتى أراها وارجع إليك، فان اصطدام العاشقين في فورة الغضب قد يحملك على أن تمن عليها أو تجرها إلى أن تمن عليك، والمن يصنع بالحب ما تصنع أنار بالحلفاء
(للحديث شجون)
زكي مبارك(254/40)
مصطفى صادق الرافعي
بمناسبة مرور سنة على وفاته
للأستاذ فليكس فارس
بقية ما نشر في العدد الماضي
لكل كاتب منهجه، ولكل مفكر تقديره. وما اذهب إليه في تحديد الرافعي هو ما تيقنته فيه قبل أن تنشأ بيننا أية علاقة شخصية، إذ رأيت فيه الأديب المطبوع المتمرد على كل مشايعة وتقليد. فهو مثال جديد للأدب العربي القديم يستلهم أجواء الشرق ويلبس تفكيره حلة من لغة الجنان لا يسع كاتباً من عباقرة سائر الأمم أن ينسج على منوالها.
الرافعي هو أحد أعلام العرب المعدودين، أحد الأئمة السائرين في الطليعة من فيالق الأدباء في عصر النهضة الجديدة. ولا يجوز لأي كاتب منصف أن يصوره للتاريخ متخلقا خطوة واحدة عن رفاق جهاده. فمن الجناية على الحق أن نقيم في وهمنا حلبة نستركض عليها عباقرتنا ونتسلى بالنظر إليهم كأنهم جياد السباق يتجهون إلى أمد واحد. فليس الأدب حلبة اختط المراهنون عليها طريقاً واحداً لتغلب فريق على فريق؛ إن الأدب إلا أجواء تتطاير فيها القرائح فراشات تستهويها أنوار وأنوار. . . ولكل نور جذبته، ولكل نور جماله، إذا هو اقتاد المنجذب إليه نحو الحق والخير. وما ادري أن بين كتابنا وشعرائنا أمواتا وأحياء من يبز مصطفى في أيمانه ووطنيته وقوميته وإشراق بيانه ومتانة أسلوبه ولطافة شعوره وعمق تفكيره.
هذه قطعة (رؤيا في السماء) إن وجدت لها مثيلاً من حيث الفن بين ما كتب اشهر الرمزيين من أبناء الغرب، فإنك لم تجد ما يشبه روعة بيانها ولا إشراق إلهامها وقد تلألأت في سطورها من الأحاديث الشريفة، ومن حكم السلف الصالح ما يدفع بك وأنت تتلوها إلى السجود كأنك تصلي بأصوات القبور المتعالية من خفايا فطرتك وأعماق روحك.
اسمع صرخة الإلهام في روح الرافعي تخرج من فم ملاك يؤنب رجلاً فضل العزوبة على الزواج ووقف في البرزخ الفاصل بين العالمين متخذاً من تنسكه وتعبده زلفى إلى الحق.
قال الملاك: (جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة، فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت(254/41)
فيها وانهزمت من ملاقاتها؛ ثم أنت تؤمل جائزة النصر على هزيمة. . عملت الفضيلة في نفسك ونشأتك، ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألف ألف ركعة ومثلها سجدات من النوافل، ولخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد).
أسمعت كيف يعتر الرافعي عن أيمانه فيدعوك إلى الأيمان؟ فاسمع ألان كيف يهيب بالشباب إلى إقامة الوطن المنشود!
(يا شباب العرب، لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر انهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق فصاروا عملاً من أعمال الخالق. غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي. وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه القوة القوة يا شباب العرب! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرة الترف والتخنث. اجعلوا رسالتكم أما أن يحيا الشرق عزيزاً وإما أن تموتوا).
أسمعت كيف يلهب الرافعي النفوس شوقاً إلى العظمة التي تكشف لك في آن واحد عظمة الحياة الدنيا ومجد الحياة الخالدة؟ فاسمع ألان كيف يصور لك الرافعي سعداً بأسطر وهو من يكاد ينوء التاريخ بإحصاء صفاته.
(أن سعداً العظيم كان رجلاً ما نظر إليه وطني إلا بعين فيها دلائل أحلامها، كأنما هو شخص فكرة لا شخص إنسان. فإذا أنت رايته كان في فكرك قبل أن يكون في نظرك، فأنت تشهده بنظرين أحدهما الذي تبصر به والآخر ذاك الذي تؤمن به. رجل الشعب الذي يحس كل مصري انه يملك فيه ملكا من المجد. وقد بلغ في بعض مواقفه مبلغ الشريعة فاستطاع أن يقول للناس: ضعوا هذا المعنى في الحياة وانزعوا هذا المعنى من الحياة).
أسمعت الرافعي في مجال العقيدة الروحية والوطنية؟ فاسمعه ألان كيف يسير غور معضلة الانتحار بقوله:
(وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو إرادة؛ وألا فالفقر والحاجة والمرض والاختلال والذل والبؤس والعجز عن الشهوة وفساد التخيل، كل ذلك موجود في الناس يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها ويا عجبا. . . إن العميان هم بالطبيعة اكثر الناس ضحكاً وابتساماً وعبثاً وسخرية، أفتريدون أن(254/42)
تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك. .)
هذه عبارة من بحث طويل في الانتحار قد لا تجد ما يضاهيه من أبحاث الغرب تحليلا وتصويراً واستنتاجاً
هذا هو الرافعي الفيلسوف، فاسمع ألان إلى قلب الرافعي يتدفق حناناً ورقة وهو يصف طفلاً ماتت أمه:
(وطغت عليه الدموع، فتناول منديله ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روح اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها. ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة، نهض يحمل رجلوته التي بدأت منذ الساعة).
(انتهت، أيها الطفل المسكين، أيامك من آلام، هذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف لغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذي مضى إذ يأتي الغد ومعك أمك. وبدأت، أيها الطفل المسكين أيامك من الزمن وسيأتي كل غد محجباً مرهوباً إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك).
وهذه عبارة من مقال (عروس تزف إلى قبرها)
(ودخلت أعودها فرأت كأنني آت من الدنيا، وتنسمت مني هواء الحياة كأنني حديقة لا شخص. ومن غير المريض المشفى على الموت يعيش بقلوب الناس لا بقلبه).
إلى أن قال:
(وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول يصبح من يحبه في مجهول آخر فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب، وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمر كامل تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت. . .)
وهذا أيضا مقطع من (لحوم البحر)
(الفتاة ترى في الرجال العريانيين أشباح أحلامها، وهذا معنى السقوط، والمرأة تسارقهم النظر تنويعا لرجلها الواحد، وهذا معنى المواخير. . .
(أين تكون النية الصالحة لفتاة أو امرأة بين رجال عريانيين؟ يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار. . .(254/43)
(والبحر يعلم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر لو درى هؤلاء وهؤلاء معرة اغتسالهم معاً في البحر لاغتسلوا من البحر، فقطرة الماء التي نجستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم وذرة الرمل النجسة في الشاطئ ستكبر حتى تصير بيتاً نجساً لأب وأم.
(يا لحوم البحر سلخك من ثيابك جزار. . .)
هذه نماذج تلمح الرافعي من خلالها لمحاً، نضمنها هذا المقال لتشهد هي له بأنه الكاتب المطبوع على سجية نفسه، والمفكر المبتكر للمعاني من حياة الشرق نفسها، لا مما صوره عباقرة الغرب من حياتهم في تأليفهم. وإذا أنت أردت أن تعرف الرافعي وتحيط بآفاق تفكيره وشعوره فانك لتجد فيما كتب ما يستطير لبك ويشغل ذهنك حولاً كاملاً. ولكن يكفيك لتخشع أمام الرافعي وتعلم في أي مقام يضعه بيانه من الأدب العالمي، أن تقلب مصنفاته ساعة فترى كان أناملك تفتح لك من كامنات نفسك ما كنت تحس به غمامًا فإذا هو الفلك الخفي يدور أمامك بكواكبه ويبهرك بأنواره. . .
إن كتابنا البارزين ممن أجادوا لغات الغرب ووعوا تواريخها لا يسعهم، إذا نحن استثنينا النذر اليسير من المجددين بينهم، أن يلبسوا تفكيرهم وشعورهم بياناً عربياً دون أن تظفر من هذا البيان صور وانطباعات تنقل إليك رواشم اصلها. فإن في أدبنا اليوم ارتشاحات فرنسية وإنكليزية وألمانية وروسية الخ. . . ولكم من قطعة أدبية لولا ثقتك بعبقرية كاتبها لحسبتها مترجمة عن اللغة الأجنبية التي يجيدها لا مستلهمة من أجواء بلاده وأدب قومه. ولكم من رواية يكفيك أن تبدل الأسماء العربية فيها بأسماء إفرنجية ليصح أن يدعى تأليفها إلى كاتب أجنبي يصوّر إخلاف الغرب ونظمه وعاداته.
إذا كان التفكير العلمي المحض مشاعاً بين الأمم ولا قبل لك بالتمييز بين اكتشاف يوفق إليه جرماني، واكتشاف آخر يظفر به لاتيني أو عربي، فليس الحال كذلك في الأدب، لأنه خطرات أفكار، وسانحات شعور، تخرج من صميم الفطرة وتتخذ حتما الصور والألوان الخاصة بلغة كل شعب وتقاليده وأخلاقه، فليس هنالك أدب عالمي كما انه ليس هنالك فن عالمي وموسيقى عالمية بما تدل عليه هذه الكلمة من الإطلاق. غير أن هنالك آدابا وفنونا وموسيقى تبلغ الذروة من الإبداع، فإذا نقلت إلى أمة غريبة عن منشئها احتفظت بالقدر الكافي من الجمال لتؤثر في نفوس الأمة الغريبة.(254/44)
إن بين آثار كتابنا في هذا الزمان قطعا فنية تتدفق روعة وجمالاً، ولكنك لا تجد إلا اليسير منها ما يمكنك أن تنقله إلى لغة أجنبية دون أن يقول لك أهلها إنهم قرءوا مثلها في مؤلفات كتابهم. . .
لكأن العناية قد أرادت بعث الأدب العربي صافياً ليجمع ما انفرط من شمل هذه الأمم التي تناهبت الأذواق العربية بيانها، فأرسلت من اختارت في مطلع نهضتنا يبعثون لغة الجنان بعد طول هجوعها، يبعثونها ملهمة من الوحي ومما أبدعه استغراق المتقدمين حين كان شعورهم تسبيحا وتفكيرهم صلاة وسجوداً. يبعثونها لا يكدر نهرها المتدفق ينبوع دخيل، ولا تشوه أساليبها عجمة، ولا يحتل إعجازها بإيجازها وإحكامها، ما لا قبل لها به من الأساليب الغريبة. لكأن العناية أرادت أن تفتح آذان الجيل الناشئ إلى أصوات الأجيال المتوارية، فاختارت لها رسلها وفي طليعتهم الرافعي، انشاته في بيئة خاصة، وقضت له بألا يجول إلا في دوائر الأدب العربي، وبلته بالصمم كيلا يسمع صوتاً إلا صوت نفسه تتجاوب أصداء العروبة فيها من جميع حقبها وأطوارها، ليصرخ صرخته المدوية كأنها هتفة بوق النشور في هذه الشعوب التي أضاعت استقلال تفكيرها، فتناهب بيانها الغريب من كل بيان حتى فقدت ثقتها بنفسها فقضت على ميزاتها وعزة حياتها.
فليكس فارس(254/45)
التاريخ في سير أبطاله
أبرا هام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 11 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
والحق أن مسالة العبيد تزداد تعقيدا كلما تقدمت الأيام؛ ولكن ابراهام لم يكن الرجل الذي يضل السبيل إذا تعقدت من حوله مسالكها. رأى بنافذ بصيرته أن السماح بانتشار العبيد وراء الحد الفاصل معناه سيادة أهل الجنوب وبقاء نظام العبيد إلى أمد بعيد؛ ورأى كذلك أن الدعوة إلى التحرير تؤدي لا محالة إذا اشتدت إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فينهار البناء، وتعصف بالوحدة القومية الأنواء. إذا فليتنظر وليحذر وليترقب ما تأتى به الأيام. . .
انصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي ما يدل على طبعه، فلقد نقض العهد وألقى بعد يومين خطاباً جديداً حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكو لن إلا أن يظل عند كلمته، فأبى أن يتكلم وقد جعل بينه وبين خصمه ميثاقاً أن يقطعا حبل الجدل.
ولقد كان لانتصار لنكو لن على دوجلاس العظيم ذلك السياسي الملحوظ المكانة اثر بعيد في حياة ابن الغابة قاطع الأخشاب بالأمس وعامل البريد، وفتى الحانوت البائس الفقير؛ ذلك انه ازداد ثقة بنفسه فاخذ يشتد طموحه ويمتد بصره؛ وازدادت كذلك ثقة الناس فيه واشتد إعجابهم به واطمئنانهم إلى مقدرته وجدارته.
ولذلك نراه يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة فيطمع أن ينتخب عضوا لمجلس الشيوخ ويأمل بذلك أن يعود إلى وشنجطون. وهل كان يرى نفسه دون دوجلاس مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره؟ ولقد انتخب أول الأمر(254/46)
عضواً في مجلس المقاطعة ولكنه ما لبث أن استقال منه واخذ يدعو لنفسه ليختار عضواً في مجلس الشيوخ للولايات. . . وكان منافسه في هذا شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه من قبل إلى مبارزة بالسيف لما كتبه لنكولن عنه في إحدى الصحف وعده هو إهانة له.
وكان الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ هم أعضاء مجلس المقاطعة، وكان المجلس يومئذ يجمع أنماطا من الرجال فرقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء، ففيهم بقايا حزب الهوجز الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون أنصار مبدأ العبيد، وفيهم المعارضون لقرار نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم حسب ما يقوم في رؤوسهم من الآراء في مسألة العبيد.
وكان يظفر أبراهام بما يتوق إليه وبما باتت زوجته تمنى النفس به لولا أن دعا الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسته؛ وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول إذ كان هذا من أصحاب دوجلاس بينما الآخر ممن يعارضون قرار نبراسكا؛ وهكذا يذوق لنكولن مرارة الفشل من جديد!
ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما كان يبلغه في الأيام السالفة، فهو اليوم مطمئن إلى نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من الصيت والنفوذ. لقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما أظهرته زوجته من غضب وحنق، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى رأى العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم. . .
ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسَّيا أن يفعل في ظروف غير هذه؛ فلقد عرف أن فشله يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذي لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير، فلقد حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب؛ ولقد أدى هذا إلى انزعاج كثير من الديمقراطيين إذ حسبوه قد مال إلى الطفرة في مشكلة العبيد، كذلك أنكر الهوجز عليه أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار العبيد، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد فذلك ما لا يقبلونه منه؛ وهكذا اخذ على الرجال ما لم يجنه فأصابه من الخذلان ما أصابه. . .(254/47)
لا جرم انه اليوم رجل سياسة اكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة العبيد قد صار لها المكان الأول من همه فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد؛ وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف شأنه في ذلك كغيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح لديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما أن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية فيضل أو يهلك دونها وبذر البقية لمن يليه. . .
على انه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه اكثر من أن يكون منهم!. . .
وتوافت له فيما توافى من أسباب العظمة تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها؛ والتي تجعل العظيم يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين؛ شيء يحسونه وإن كان أكثرهم يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم والذي يسميه بعض الناس الحماسة ويسميه بعضهم الإخلاص ويسميه آخرون الأيمان والذي هو في الحق مزيج من هذا كله لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروقه. . . ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة ولكنهم حرموا تلك الخصلة فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم؛ ومنهم من لم يعظم ذكائهم ولكن يمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس. . . ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقى كما يبقى الجوهر الحر لا تترك فيه النار من اثر إلا البرهان القاطع على انه جوهر حر لا مظهر. . .
وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهل رجلين من أبنائها درجاً في مدرج الشعب(254/48)
وبرزا من صفوف العامة وهما جورج وشنجطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم الصرح، وأما الثاني فيمسكه أن ينهار؛ وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة إذ لم تنشا عن تقليد أو تستند إلى مهرج من سلطان زائف، ويكون صرحها كالجبل الذي هو من أوتاد الأرض، لا كالبناء الذي يقوم على أسس يجوز عليها أن تجتث من وفق الأرض. . .
ومضت الأيام تسير بابن الغابة سيراً معجلاً وثيقاً ليؤدي رسالته، ولعله اشرف من حاضره على ما يعده له الغد القريب. اجل لعله أخذ يدرك أن مسألة العبيد مفضية حتما إلى خطوة واسعة يخطوها غداً فيحس بعدها أنه ترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال. أقرأ كتابه إلى صديقه سبيد تقع فيه على رأيه وتتبين كثيرا مما كان يجول في نفسه، قال: (في عام 1841 قمنا معاً برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبداً مقرنين في الحديد. ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب مستمر لي، وإني أبصر شيئاً مثله كلما لمست نهر الأهايو أو أي جهة من جهات العبيد. وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى في أني لا اهتم بالشيء الذي ينطوي على قوة تكربني والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حرباً أن تتبين إلى أي حد يقتل سواد الناس في الشمال مشاعرهم حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور وللوحدة)
في هذه الكلمة القصيرة، ينجلي لنا رأيه في مسالة العبيد فهي مبعث آلم في نفسه، ألم استقر فيها منذ القدم فما يبرحها، وهو على الرغم من هذا الألم يحرص على الوحدة وعلى الدستور وفي ذلك تلخيص دقيق لمنهاجه الذي سيأخذ به نفسه حين يهم أن يهوي بالضربة الحاسمة فهو ضنين بالوحدة أن تتزلزل كما هو حريص أن يمحو كل اثر للعبودية في البلاد. . .
لن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد في مجلس الشيوخ بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد كانت له بعد فشله جولات لها خطرها في حياته، جولات تنتهي به حتما إلى رياسة الجمهورية فلم يبق ثمة على الدرب إلا مرحلة. . .
وكثيراً ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، وهو لا(254/49)
يدري أنه ربما كان الخير في فواتها! والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر؛ والعظماء وحدهم هم الذين لا يلويهم فوات الفرص وان ابتأست لفواتها أحيانا نفوسهم، بل انهم ليحمون على الشدائد ويستعرون على الكفاح ويستشعرون اللذة في النصر، كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان.
ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون الصعاب، والذين لا يحول بينهم وبين وجهتهم خذلان مهما عظم؛ بقي في سبر نجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد الذي تستقبل البلاد مولده؛ وهل كان غيره تجتمع عليه القلوب والأهواء؟
كانت البلاد تستقبل حزباً جديداً هو الحزب الجمهوري؛ ولقد تألف هذا الحزب من عدة عناصر يجمع بينها حرصها على مقاومة انتشار العبيد حسب ما جاء في اتفاقية سوري، فكان ينتظم عدداً من الهوجز وعدداً من الديمقراطيين وجماعة من دعاة التحرير؛ وكان قيام هذا الحزب في تاريخ البلاد فاتحة فصل جديد كما كان في تاريخ لنكو لن مبدأ عهد جديد.
(يتبع)
الخفيف(254/50)
الرافعي في ذكراه الأولى
للأستاذ محمد سعيد العريان
(نص الكلمة التي أذاعها الأستاذ محمد سعيد العريان من محطة الإذاعة الفلسطينية بالقدس في مساء الاثنين 9 مايو سنة 1938 لمناسبة تمام سنة على وفاة فقيد الأدب العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي)
سيداتي، آنساتي، سادتي
سلام الله عليكم أهل هذه الأرض الطيبة. . . ومعذرة، وشكراً. . .
لكأني بكم ترهفون السمع لتسمعوا ما يمكن أن أحدثكم به عن الرافعي في ذكراه الأولى، وما أنا بمستطيع في هذه الفترة القصيرة من الزمن أن أبلغ ما أريد وتريدون من الحديث عن الرافعي
لم يكن الرافعي أديبا كبعض من نقرأ لهم من أدباء الصحافة ولكنه كان علما من أعلام الأدب، وإماما من أئمة الدين، وبرهاناً من براهين العربية تجالد به حين يعوزها البرهان.
ولقد يكون من فضول القول أن أتحدث إليكم عن أدب الرافعي، وآثاره الأدبية بين أيديكم وتحت أعينكم؛ وأنكم لتعرفون أدبه وتعرفونه بأدبه. ولكني قد صحبت الرافعي عمراً من عمري، فعرفته أكثر مما يعرفه الناس؛ فليكن حديثي الليلة عن الرافعي الذي عرفته. . .
لقد سمعت أسم الرافعي لأول مرة منذ بضع عشرة سنة، وكنت يومئذ غلاماً حدثاً، لا أكاد افهم ما يلقى إلي، سمعت به والإحساس طالب في الصفوف الأولى، فسمعت اسما له جرس ورنين، وله نشيد تتجاوب أصداؤه في جوانب نفسي، فحبب إلى من ذلك اليوم أن ألقاه. . .
وقال لي رفيقي: (وي! أتعرف من ذلك الذي آخذت عليه الطريق عامداً؟) قلت: (صه، لا يسمعك فيسؤني جوابه!) قال: (لا عليك! أن في آذنيه وقرأ فلا يسمع!)
وتبدلت في نفسي صورة بصورة، أمحى آلم ليحل في نفسي من بعده آلم آخر. . . وعرفت وقتئذ لماذا لم يرفع عينيه إليَّ ولم يرد التحية. . .
ولقيته بعد ذلك مرات كثيرة في الطريق، وفي القهوة، وفي السيما؛ وقرأت له مرات أكثر في الكتب، وفي الصحف وفي المجلات، وعرفته ولم أزل كل يوم ازداد عرفاناً به، ولكني لم اعرفه العرفان الحق إلا بعد هده الحادثة بعشر سنين. . . حين جلست إليه لأول مرة في(254/51)
دار كتبه من داره، عرفته على حقيقته وفطرة نفسه، فكأنني لم اعرفه قبل ذلك اليوم. . . وما فارقته من بعد حتى فرق بيننا الموت. يرحمه الله!
أنني لاحس حين اذكره الساعة كأنني لست وحدي، وكان روحاً حبيبة تطيف بي وترف حولي بجناحين من نور، وكان صوتا ندياً رفيع النبرات يتحدث آلي من وراء الغيب حديثاً أعرف جرسه ونغمته؛ وكان عينين تطلان عليَّ من عالم غير منظور لتأمراني آمرا وتلهماني الفكر والبيان؛ ولكنني لا آري؛ ولكنني لا اسمع؛ ولكني هنا وحدي، تتغشاني الذكرى فتخيل آلي ما ليس في دنياي. هيهات هيهات لوهم الأماني!
لقد كان هنا صوت يتجاوب صداه بين أقطار العربية. لقد كان هنا إنسان يملأ فراغاً من الزمان. لقد كان هنا قلم يصر صريراً فيه رنات المثانى، وفيه أنات الوجه، وفيه همسات الأماني، وفيه صرخات الفزع؛ فيه نشيج البكاء، وفيه موسيقى الفرح. . . خفت الصوت، ومات الإنسان، وتحطم القلم؛ ولكن قلب الشاعر ما زال حياً ينبض، لان قلب الشاعر أقوى من الفناء.
في كل يوم يموت أديب من أدباء العربية وينشا أديب؛ فأين، أين الأديب الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي؟ أين. . . أين الأديب الذي ينتدب بعد الرافعي ليقف لكل من يحاول التقحم على قدس القرآن؟ أين. . . أين الأديب الذي يقف قلمه وبيانه للدفاع عن العرب والعربية والإسلام؟ أيمانه. . أين الكاتب الألمعي الذي يصور طهر الحب، وسمو الإنسانية، والأم البشرية وأفراح الحياة، فتنبثق نورا في كل قلب، وتتفجر شعورا في كل وجدان؟ أين خليفة الرافعي الذي يقوم على سداد هذا الثغر المعطل؟ أين حامل اللواء، وأين صاحب القلم؟
لقد كان الرافعي عصراً بتمامه من عصور الأدب، وجيلاً بناسه في تاريخ العرب، وفصلاً بعنوانه في مجد الإسلام.
كانت الدنيا تموج من حوله بأناسيها وحوادثها، وتضطرب حواليه في أمانيها ونوازيها، وتصطخب في محيطه بشهواتها ونوازعها؛ وهو وحده يعيش من هذا المحيط المضطرب المائج المصطخب في دنيا وحده لا يسمع إلا همسات روحه، ولا يحس إلا خلجات قلبه، ولا ينظر إلا الهدف الذي يسعى إليه. وهيأه القدر بوسائله العجيبة لهذه الوحدة العقلية منذ صباه حين سلبه السمع، فعاش حياته بعيداً عن دنيا الناس، ومضى في طريقه كما يمضي(254/52)
عابر السبيل: لا يلقى باله إلى شيء مما حواليه أو يبلغ إلى غايته. . .
لم يكن الرافعي ليعرف شيئاً في سياسة الحكومات العربية المتعاقبة، ولكن له هدفاً عاش يسعى جاهداً لتحقيقه: هو أن يبعث الحمية الإسلامية في نفس كل مسلم، ويوقظ النخوة العربية في قلب كل عربي؛ فكان بذلك رسول العروبة والإسلام إلى كل مسلم وكل عربي؛ فلا جرم كان بذلك احب كتاب العربية إلى كل مسلم وكل عربي.
حياته الأدبية كلها تدور حول هذا المحور، ومنشآته الأدبية كلها يسعى بها إلى هذا الهدف، ومعاركه الطاحنة كلها تنشب في هذا المعترك؛ وما عادى عدواً قط من أدباء العربية إلا للدين أو اللغة أو القرآن؛ وما اتخذ صديقاً من رجال الأدب أو السياسة إلا للدين أو اللغة أو القرآن.
وليس من عجب أن تكون فلسطين هي اسبق بلاد العربية إلى تجديد ذكرى الرافعي؛ فقد كانت فلسطين هي حب بلاد العربية إلى الرافعي؛ وما أحسبه كتب شيئا يتصل بشأن خاص من الشؤون القائمة في بلد من بلاد العربية، وان له في فلسطين لمقالات يذكرها كل عربي في فلسطين!
لقد حاول كثير من مؤرخي الأدب أن يتحدثوا عن الرافعي في حياته؛ فقالوا شاعر. وقالوا كاتب. وقالوا أديب. وقالوا عالم. وقالوا مؤرخ. ولكنهم لم يقولوا الكلمة التي كان ينبغي أن تقال: لقد كان شاعراً، وكاتباً، وأديباً، وعالماً، ومؤرخاً؛ ولكنه بكل أولئك، وبغير أولئك، كان شيئاً غير الشاعر والكاتب والأديب، وغير العالم والمؤرخ؛ كان هبة الله إلى الأمة العربية المسلمة في هذا الزمان، لينبهها إلى حقائق وجودها، وليردها إلى مقوماتها، وليشخص لها شخصيتها التي تعيش باسمها ولا تعيش فيها، والتي تعتز بها ولا تعمل لها.
وكان يشعر انه وحده في الميدان والجميع ألبٌ عليه، فعاش حياته كلها يصارع ويكافح، ويقاوم ويناضل، حتى خر صريعاً وفي يداه الراية؛ لم يتركها حتى انتزعها الموت من يده!
كثر ما قال عنه أعدائه وغير أعدائه في حياته: انه حديد اللسان. انه لدود الخصام. انه لا يرعى اعتباراً مما تقوم به الصلات بين أهل الأدب، حين ينزل إلى معترك من معارك النقد. . . صدقوا، ولكن. . . أرأيت معرة على البدوي الثائر لعرضه أن يسفك الدم؟ انه هو هو؛ فمن ذلك كانت شدته وصرامته ولدده في الخصام: في سبيل القرآن، ومن اجل(254/53)
العروبة، ولكرامة الإسلام. كان ذلك عرضه الذي يحرص عليه أن ينتهك؛ فمن ثم كانت خصوماته الأدبية كلها فيها معنى الدم!
الدين، واللغة، والقران، أو العروبة والإسلام: ذلك كان مذهبه في الأخيرة، وله كان جهاده؛ حتى في الحب - وللرافعي حب مشهور - وحتى فيما أنشأ من رسائل الحب، لم يكن الرافعي يعتبر إلا مذهبه والهدف الذي يسعى إليه: للدين، وللغة، وللقران. . .
من شاء فليقرأ كتبه الثلاثة في فلسفة الجمال والحب، ليرى فيها كيف تسمو روح العاشق على شهوات البشرية حتى تتصل بخالقها الإطلاق؛ ثم ليرى العربية أسلوباً جديداً، فيه عمق الفن، ودقة التعبير، ووضوح الأداء، حتى في الترجمة عن أعمق ما تجيش به خفايا النفس الإنسانية.
ولأدب الرافعي ميزة ليست لكثير من أدباء الجيل؛ فهو أدب عليه طابع الخلود وتلك آداب إلى زوال. هذا أدبه بين أيدينا وتحت أعيننا، ما تزال تدفعنا إليه دوافع من أنفسنا في فترات متقاربة أو متباعدة، لنعيد قراءته ونتملى ما فيه من جمال وصدق وقوة. وذلك أدب الأدباء، ما يكاد القارئ ينتهي منه إلى ما يريد حتى ينساه فلا يعود إليه ولا يذكره، على ما فيه من لذة ومتاع!
لم يكن الرافعي يكتب تلك الكتابة الصحافية السوقية التي تلتمس للهو وإزجاء الفراغ؛ ولكنه كان يكتب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وينشئ أدباً يسمو بضمير الأمة، ويشرع طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد، وسعادة الأبدية، ومجد التاريخ.
الرافعي! يرحمه الله! لقد عاش في خدمة العربية سبعاً وثلاثين سنة من عمره القصير، وصل بها حاضرها الماثل بماضيها البعيد؛ فهي على حساب الزمن سبع وثلاثون، ولكنها على الحقيقة شطر من عمر الزمان، وباب من الأدب، وفصل في تاريخ الإسلام.
لقد عاش غريباً ومات غريباً؛ فكأنما كان رجلاً من التاريخ بعث في غير زمانه ليكون تاريخاً حياً ينطق بالعبرة ويجمع تجارب الأجيال، يذكّر الأمة العربية الإسلامية بماضيها المجيد؛ ثم عاد إلى التاريخ بعدما بلّغ رسالته. . . لقد خفت الصوت، ولكنه خلَّف صداه في أذن كل عربي، وفي قلب كل مسلم، يدعوه إلى الجهاد لمجد العرب، ولعز الإسلام.
(القدس)(254/54)
محمد سعيد العريان(254/55)
إلى الشباب
بين جوته وإيكرمان
للأديب نصري عطا الله سوس
جينا - الثلاثاء 18 سبتمبر سنة 1823
في صباح الأمس وقبل أن يعود جوته إلى (فيمار) حظيت مرة أخرى بسعادة الحديث معه؛ وما قاله لي هذه المرة لا يثمن بالنسبة لي؛ ويجب على جميع شعراء الشباب الألمان أن يلموا به بداء بسؤالي عما إذا كنت قد كتبت شعراً هذا الصيف، فقلت كتبت بعض القصائد ولكن كان ينقصني على العموم المؤتاة الضرورية، فقال جوته: حذار من محاولة كتابة موضوع كبير. إن هذا هو ما يضر بأكبر العقول عندنا حتى أولئك الذين يمتازون بأذهان حادة ومجهودات جدية؛ ولقد عانيت شخصياً هذه العلة. وأني لأعرف كم من أضرار أوقعت بي. وأنوار شيء لم اتركه يسقط في البئر. ولو كتبت كل ما وددت أن اكتب ما كفاني مائة مجلد. يجب أن ينال الحاضر حقوقه. فالأفكار والاحساسات التي تجول في نفس الشاعر يوما بعد يوم يجب عليه أن يعبر عنها - ولكن إذا شغلت رأسك بموضوع كبير فلن تعيش أي فكرة أُخرى بجواره. كل الأفكار ترفض وتصد، حتى لذة الحياة نفسها تفقد وقتئذ. وأي مجهود عقلي تبذل كي تنظم وتلم شعث موضوع كبير! وأي قوة وأية طمأنينة تحتاج حتى يتسنى لك التعبير عنه في سلاسة لائقة! وإذا خانك توفيق في أي جزء منه فكل مجهودك ضائع. وإذا عالجت موضوعاً كبيراً ولم تكن على معرفة تامة بكل تفاصيله فسيكون إنتاجك ضعيفاً وتستهدف للملام. فبدلاً من المكافئة والسيادة جزاء على ما بذل من مجهود وتضحية لا يحظى الشاعر إلا بالانزعاج وشلل قواه العقلية. وهاك (آرنست هاجن) ذهن رائع. . . هل قرأت كتابه (الفرد وليسنا) هناك نبذ بلغت الغاية من السمو، نبذ فخمة ولكن الكتاب لا يرضى أحدا. وأنوار مجهود وقوى أنفقها الكاتب؟ لقد أنهك نفسه؟ انه يكتب مأساة الآن) وهنا اتسم جوته وسكت برهة فقلت: (إذا لم تخن الذاكرة، فأنت قد نصحت هاجن بمعالجة الموضوعات القصيرة) فقال جوته: (حقا! لقد فعلت، ولكن هل يتبع الناس نصائحنا نحن الشيوخ؟ كل يظن انه أدرى بنفسه ومن الآخرين. وهكذا يفشل البعض فشلاً نهائياً بينما يشرد البعض الأحياء في مهامه الزلل لمدة طويلة - لقد كان الماضي زمن(254/56)
العثار. . . ماضينا نحن الشيوخ هما فائدة أبحاثنا وأغلاطنا إذا سار الشباب في الطريق نفسه من أوله مرة ثانية؟ بهذا الطريق لا يمكن أن نتقدم أبدا. لقد كابدنا أغلاطنا لأننا لم نجد طريقاً واضح لمعالم نسير فيه؛ لكن ذلك الذي يأتي أخيرا ليس في حاجة لان يبحث ويدل. بل يجب أن يتبع تعليمات الشيوخ كي يسير في طريق السوي من المبدأ. ولا يكفي مطلقا أن تخطو خطوات قد تؤدي إلى غاية يوماً ما، بل يجب أن تجعل كل خطوة غاية في حد ذاتها).
(تأمل هذه الكلمات وتبصر كيف يعمل بها. أنوار لست قلقاً عليك، ولكن نصائحي ستساعدك على إنهاء مرحلة لا تلاءم مركزك الحالي. فإذا ما عالجت الموضوعات الصغيرة، وأدب ما كتبت ما يعرضه عليك (الحاضر) يوماً بعد يوم فستستنتج جيداً. وكل يوم سيجلب لك سعادة جديدة. ابعث بما تكتبه إلى المجلات ولكن لا ترضى أبدا بكتابة ما يفرضه عليك الآخرين اتبع وحي نفسك دائماً).
(إن في الدنيا من العظمة والفن والحياة والتنوع بحيث لا يمكنك أن تفقد روائع الشعر؛ ولكن الشعر يجب أن يكون له بواعث. . . أعني أن الحقيقة يجب أن تمد الشاعر بالدوافع والمادة. أن الحادثة المعينة تصبح حادثة عالمية وشعرية. إذا ما تناولها الشاعر. كل قصائدي لها بواعث، وقد دعت أليها الحياة الحقيقية، ولها في ذلك أسس ثابتة. أنا لا أعير أي اهتمام للشعر الذي ينتزع من الهواء).
(إن أحداً لم يقول إن الحقيقة تنقصها روح الشعر، وهنا يفلت الشاعر مقدرته بتمكنه من فن تناول موضوع العادي من وجه نظر خاصة بحيث يصبح مهمّاً. الحقيقة يجب أن تمد الشاعر بالدافع إلى الموضوعات التي يود التعبير عنها. النواة ووظيفة الشاعر هي أن يخلق من هذه المواد وحدة جميلة حية. هل تعرف (فرنستيل)؟ انه يدعى شاعر الطبيعة. لقد كتب ارق ما يمكن من القصيد عن زراعة حشيشة الدينار. لقد اقترحت عليه أن يؤلف أواني على السنة أرباب المهن المختلفة، خصوصاً النساج. وإني لواثق من انه سيجيد، لأنه عاش بين هؤلاء منذ صباه. ولذا كان سيد مادته. تلك هي ميزة الموضوعات الصغيرة. كل ما عليك أن تختار ما تعرفه جيداً. ولكن هذا لا يتأتى في الموضوعات الصغيرة، في هذه الحالة لا يمكنك أن تتفادى أي جزء. وكل ما يتعلق بتوحيد مادة الموضوع وما يدخل ضمن(254/57)
عناصره يجب أن يصور بدقة. . . وفي زمن الصبا ينظر الشباب إلى الأشياء من ناحية واحدة؛ والموضوع الكبير يتطلب إمكان النظر من نواحي عدة. . . من هنا الفشل!)
وأخبرت جوته أني كنت أفكر في كتابة قصيدة طويلة عن الفصول اضمنها الكلام عن أعمال وملاهي الطبقات كلها فقال: (هذا في قلب الموضوع. قد توفق في بعض الأجزاء، ولكن قد تخفق في البعض الآخر عندما تكتب عما لم تبحثه أو تخبره جيداً، وقد تكتب عن (السماك) جيدا، ولكن قد يخونك الحظ في الكتابة عن (الصياد). وإذا أخفقت في أي جزء فالنتيجة هي الفشل مهما أجدت في بعض الأجزاء. وبدا تكون قد أنتجت إنتاجا مبتوراً. اكتب كل جزء على حدة واقتصر على ما تعرفه. ومن المؤكد انك ستنتج ما يرضي. وأحذرك خاصة من (الابتكارات) لأنه قد ترمي إلى التعبير عن فكرة خاصة عن العالم، والشباب قلما يكون من النضج بحيث يوفق في هذا. فضلا عن أن الشخصيات والآراء التي يضمنها ابتكاراته تنفصل عن عقل الشاعر وتحرمه من (الامتلاء) اللازم لكتاباته المستقبلة. وأخيراً، كم من الزمن يفقدني الابتكار والترتيب والتركيب. هذا ما لا يمدحنا أحد عليه، حتى ولو كتبتا بنجاح. ولكن في حالة ما يعطي الشاعر المادة تكون الأمور احسن واسهل. فإذا ما مد الشاعر بالشخصيات والحقائق يكون عمله أن ينفخ الروح فيها فقط، فيحتفظ بامتلائه ولا يفقد كثيراً من الزمن والمجهود. إني أنصح دائما باختيار الموضوعات التي طرقت قبلاً. فكم من (أفيجينيا) كتبت ولكن كلهن مختلفات. كل شاعر يتناول القصة حسب طريقته. عليك أن تترك التفكير في الموضوعات الكبيرة الآن. لقد آن لك أن تعيش ذلك الطور البهج من الحياة، ولأجل أن تصل إلى هذا فعالج الموضوعات الصغيرة. . .)
. . . وكنا نسير في الغرفة جيئة وذهوبا ولم يسعني إلا التسليم شاعرا بصواب كل كلمة. ومع كل خطوة كنت أحس نفسي أسعد وانشط. ويجب أن اعترف أن الخطط الكبيرة واللاتي لم يمكني أن اخلص إلى فكرة واضحة بصددها لم تكن بالعبء الهين عليّ.
إني لأشعر أن كلمات جوته زادتني حكمة سنوات، وعرفت ما في مقابلة الأستاذ الحق من التوفيق والخير.
نصري عطا الله غطاس(254/58)
رسالة الشعر
ذكرى سيد الوجود
محمد
للأستاذ أنور العطار
نَحْنُ فِي مَوْلِدِ الْمتَوَّجِ بالنُّو ... رِ وفي لَيْلةِ الرِّضا والمَغَانِمْ
حَفَلَتْ بالطُّيُوبِ فالعَالَمُ الوا ... سِعٌ حَقْلٌ مِنَ الأزَاهِيرِ فَاغِمْ
والنجُومُ المُفضَّضاتُ عُيُونٌ ... شَاخِصَاتٌ والكائِناتُ مَبَاسِمْ
كلُّ مَنْ في الوجُودِ رانٍ أخيذٌ ... ذاهبُ اللبِّ مُستَطارٌ سَاهِمْ
طفَحَ الكَوْنُ بالأذَى والضَّلاَلا ... تُ وضَجَّتْ رِحَابُهُ بالمآثمْ
فَمَنِ الحامِلُ البَشَاَئِرَ لِلأَرْ ... وَاحِ، مَنْ ذَلِكَ الحَبيبُ القَادِمْ
وَهَبَ الُبْرَء للقلوبِ الوَجِيعا ... تِ، ونَحَّى عَنِ الحَيَاةِ المَظَالِمْ
وأعَادَ الإنسَانَ رُوحاً نقيّاً ... خَالِصاً من حُقُودِهِ والسَخَاِئمْ
صَفْوَةَ الخلْقِ أيُّ نُورٍ على الأفْ ... قِ بَهيّ جَمِّ التَّلاَمِيعِ، حَائِمْ
سَطَعَتْ مِنْ سَنَاكَ هِذِي السَّموا - تُ وَرَفتْ بكَ الدُنا والعَوَالِمْ
أنْتَ نَجْوَى الأرْواحِ في كُلِّ جيلٍ ... وَشُعَاعُ الهُدَى، وَروْحُ النَّواِسمْ
تَتَنَاجى بِك القلوب الحَيارَى ... وَتَغَّني بِكَ النفوُسُ الهَوِائمْ
يا سَمَاَء الجَلاِل يا رَفْرفَ الخُل ... دِ ويا صُورةَ النَّعِم الدًّاِئمْ
لأصُوغَنَ مِنْ نَدَاكَ الأناشي ... دَ، وَأفتنُ في ضُرُوبِ الملاحمْ
كُلُ بَيْتٍ يكادُ يَقْطَرُ بالرِّف ... قِ وَيَخْضَلُ بالدُّموع السَّوَاِجمْ
يا ندَاَء المعذَّبينَ الأسرى ... وَدُعَاَء المرَوَّعاتِ النوادمْ
كلَّهُمْ راكِضُ إليكَ يُرَجّي ... كَ، وكلُّ مُوَلٌّه بِكَ هَائمْ
ظَفرُوا منكَ بالسَّماحاتِ تتْرَى ... وَغنُوا بالرِّضا الشَّهِي المناعمْ
صُغتَ للنَّاسِ شِرْعةً من علاءٍ ... وحناَنٍ وطيبةٍ ومراحِمْ
الهِدَاياتُ حانياتُ عليها ... والعِناياتُ طائفَاتُ حوائمْ(254/59)
لُذْتَ بالغَاِر تَتَّقي شِرَّة النَّا ... سِ وتنَسْى العُدْوانَ من كلِّ ناقمْ
وَحِرَاءٌ بكَ استْطَاَلَ على النَّجْ ... م وَتَاهَتْ بهِ الصُّخُورُ الجواثمْ
يَشْتَهِي الخْلدُ لو تَغَلْغَلَ فيهِ ... حُلُماً فتنَ المَسرَّاتِ ناعمْ
ضمَّ في ساَحَتيهِ نوراً من اللّ ... هِ تسَامَت بهِ العُلى والمكارمْ
وبِنفَسي عنَاكِبٌ ناسِجاتٌ ... لك ستراً يقيك من كلِّ آثمْ
سَعِدَتْ بالهدى رحاَبُ الصَّحَاَرى ... وَتلاَلتْ فيها الموَاِمي الطَّوَاسمْ
أَعْشَبَ القَفْرُ وازْدَهَى الصَّخر الصَّ ... لدُ وفاضَتْ مِنْهُ العيونُ النواجمْ
وَتَنَّدتْ هَذي الرِّمالِ العَطاشَى ... كاللآلي فرائداً وَتوائمْ
تَتَغَنى والكَوْنُ يَهِتفُ جَذْلا ... نَ فَتَهَتز في العَلاءِ الغَمَائمْ
فَهيَ حُلمْ على الليالي جَمِيلٌ ... وَهيَ نَايٌ على مَدَى الدَّهرِ ناغمْ
اسْمَع الرَّمْل يَمَلأ الأرْضَ تَسبي ... حاً بصوتٍ مُجَلجلٍ كالزَّمازِمْ
رَعَدَتْ في مداهُ تكبيرةُ اللّ ... هِ وسَاَلتْ بهِ الجيوشُ الخضاَرِمْ
قَهَرَتْ بالكَتائِبِ الغُلْبِ كِسْرَى ... وَهرَقلاً وَكلَّ مَلْكٍ ضُباَرمْ
رَفْرَفتْ رَايةٌ النَّبيِّ عَلَيْهَا ... فاسْتظَلَتْ بها النشُورُ القَشَاعِمْ
فإذا الكائناتُ تَسْبحُ بالُّنو ... رِ وَتَفْترُّ عن ثُغُورٍ بَوَاسمْ
فَعَلى الأفْقِِ منْ َسَناهَا رُسُومٌ ... وعَلى البِيدِ مِن رُؤَاها عَلائمْ
يا صِحَابي ومَعَشْري وَقبَيلي ... آن أن تَسْتفيقَ تِلكَ الصَّوارِمْ
صَدَأ الدَّهر لم يَنَلْ من ظبَاها ... فهي مَسْنوُنَةُ الشِّفارِ حَوَاسمْ
فامْنعُوها غُمودَهَا وَكرَاها ... واسْتشِيروا بها دَفينَ العَزَائمْ
لا تَنَامُوا على الإسَار وَتُغْفُوا ... فلقد مَلَّتِ القُيُود المعَاصمْ
وانفُضوا عَنْكمُ الرُّقاَدَ وَهُبُّوا ... لم تَلِنْْ هذه الحياةُ لنائمْ
يا لُحلمٍ مُلفَّقٍ قدْ أضَعْنا ... في رُؤاهُ تيجاَنَنا والعواصمْ
فَنِيتْ في دُجاهُ قافِلةُ المجْ ... دِ ومَاَتتْ فيه النفُوسُ القَوَاحمْ
يا نبيَّ الهَدى لقد ذَلَّت العُرْ ... بُ وَقيدتْ إلى الرَّدى بالشَّكائمْ
سُِلبتْ حَقَّها ودِيسَ حِماَها ... واسْتكانَتْ لِكلِّ أَرْعَنَ ظالمْ(254/60)
يا سَمَاءُ اهِبطي وَيا أَرض مِيدِي ... عَصَبَ الألأمُونَ مَجَدْ الأكارمْ
أينَ وأينَ مُلْكٌ على الدَّهْ ... ر أضَاءتْ بهِ الليالي القَوِاتمْ
زَيَّنوا مَفْرِقَ الزَّمَانِ وَتَاهَتْ ... بهِم هَذهِ النُّجُومُ اخَوَاِلمْ
يا بَقَايا السُّيوفِ، رَمْزَ الأضَاحِي ... وَشِعَارَ الفِدَا، وَسِرَّ العَظاِئمْ
أوقِدوهَا حَمْرَاَء تَلتهِمُ الأف ... قَ فَتشْوى بها اللَّظى والتَماِئمْ
وامْنحُوها دِماءكُمْ تَتَنزى ... وامهرُوهَا أرواحكُم والجَمَاجِمْ
وامْلِكُوا الأرضَ أَنتم ساَدةُ الأرْ ... ضِ، وأنتم بنو اللُّيوثِ الضَّرَاغِمْ
أنتم الأسْبَقُون في حَلْبَةِ العِزِّ ... بِكمْ تَنْجَلى الَعوادِي الغَواشِمْ
. . . كذَبَتْنَا أَحلاُمَنا والأماَنيُّ ... فيا ضيعَة الذِليل الحَاِلمْ
وخَسِرنا أمَجادَنا وعَلانا ... وذَلَنَنا كَما تَذِلُّ البَهَائمْ
واَفْقَنا نهيئ لكلِّ أَثيمٍ ... وَحِمَانا والسَّاكِنُوهُ غَنَائِمْ
يَاَ لرَبْعٍ مُهَدَمٍ مسُتبَاحٍ ... دَنَّسَتْ قُدْسَهُ نِعَالُ الأعَاجِمْ
وهو عَرْشُ الشُّموُسِ، مَهْدُا البَهالي ... لِ، وَمثَوَى المنَافِحينَ الصَّلادِمْ
قدْ ضَجَجْنا من البُكَاءِ كأنهُ ... قد سَلَبْنا الُّنوَاحَ هَذِى الَحَمائِمْ
وَلَهَوْنَا عَنِ الُعلى بِحَزَازَا ... تٍ شِدَادٍ لَهُنَّ فِعلُ الأرَاقِمْ
وأَقَمْنا على العَوِيلِ كَأَنا ... حَشرَجَاتُ تَضِيقُ عنها المآتِمْ
بغداد
أنور العطار(254/61)
فراش الربيع
للأستاذ محمود الخفيف
طِرْ من الحْقلِ إلى الرَّوْض الَمريعْ ... باحثاً عن نَشْرِهِ
أفضِ للزَّهرِ بأسرارِ الرَّبيعْ ... واسْتَرِق من عِطرِهِ
وافِهِ بيْنَ شتيتٍ وجميعْ ... واقْتبِسْ وشىَ الضُّحَى من سِحْرِه
مِلْ إلى الجدْوَل وارقُصْ حَولهُ ... غاِزِل الشَّاطئَ واشْهَدْ صُوَرَهْ
ثِبْ إلى الدَّوْح تفَيَّأ ِظَّله ... لاعِبِ الغُصْنَ وداعِب ثمرَه
مَلْعَبٌ يَصبُو لهُ ... كلُّ قَلْبٍ خَبَرَه
خُذْ جَنَاهُ كلهُ ... زَهْرَهُ أو شجَره
تَتَوافَى لَكَ أسَبابُ المَنى ... أيُّها الرُّوحُ الدَّؤوبُ الحائمُ
فهنا حيناً وحيناً هاهناً ... نازِحٌ طوْراً وطوْراً قادِمُ
أمشوقٌ هائم؟ ... أم خَلِىٌّ ناعمُ؟
أمْ شَرُودُ ... أنتَ لاهٍ سائم؟
أنتَ يا رَفَّافُ مَوصُولُ الجذلْ ... أيُّ هَمّ شَغلكْ؟
ثَمِلٌ ترْقُصُ من فَرْطِ الثَّملْ ... إذ تلقى املك
يا طليقاً ما َدرَى مَعْنَى الملَل ... أيُّ حُسنٍ رائع لم يَكُ لك؟
يا طَرُوباً لْيسَ يدرِي ما الشَّجَن ... وَيْكَ يا هَيَمانُ وَيْكَ!
رَفَّ في مَرْ آكَ مطِوىُّ الزَّمَنْ ... فحَنتْ روحي عليك
ما لِقَلْبي بين شَجْوٍ وسَكَنْ ... خافِقاً يَهْوِى إليك؟
ذكرَ الَعْيش الذي لو يُشْترَي ... اشترى الأيامَ منِهُ بالسِّنين!
فيكَ مَرْآهُ وفي دُنيا الكرى ... وادِّكارِ الَّنفْسِ حيناً بعد حِين
حينما كُنَّا صغيرين معاً ... لا نَمَلُّ الوثبَ في ظِلَّ الشَّجَرْ
ونرَى الرَّوضَ جميعاً مرتعاً ... كم تَمَلَّيْنا بهِ أبْهَى الصُّوَرْ
زهرَتي فيهِ تَبَدَّتْ أرْوَعَا ... من سَنَا الصُّبح ومنْ سِحْرِ الزَّهَرْ!
آه! كم توجعُ نفسي (حينما) ... يا خَليًّا لَيْسَ يدْرِي ما بِيَهْ(254/62)
وَيْكَ يا قَلْبي! أتهفو كلَّما ... طافَتْ الذِّكرى وتصبو ثانية؟!
كُفَّ يا قلبُ عن الشكوى فما ... ينقعُ الآلُ قُلوباً صادِيهْ
كم جَهْدنا وجَرَينا في الضُّحَى ... لا نُرَى في لهوِنا إلا لديكْ
ومللنا الرَّوضَ إلا مسْرَحَا ... نتَهاوَى فيهِ بالأيدي عليك
أنْأ ياهيمانُ عنِّي واقتربْ ... كالرؤى طافت بحُلْم الناعِسِ
هِجْتَ يا لاعِبُ نفسي لِلَّعِبْ ... ما غَنَائي من زَمَاني الدَّاِرسِ؟
ويك! إنا نلعب اليومَ كما ... قد لعِبْنا أمس في غَيْر مَلَلْ
َنْبدَأُ الشَّوْطَ ونَمْضي كلَّما ... رَفَّ يا رَفَّافُ للَّنْفسِ الأملْ
لهْوُنا الَيْومَ بِهَاتيك المنى ... تَتَراءى بينَ نَشْر وَعَدمْ
نحنُ كالأطفالِ إلا أننا ... نقتلُ اللذَّةَ فيها بالألم!
نَقرعُ السِّنَّ على ما فاتنا ... ونذوقُ الصَّلب من كأسِ النَّدمْ
رِفَّ يا لاعِبُ وارتع وانعَم ... واقضِ من عيشك في الزَّهرِ الوطرْ
اجتن الَّلذَاتِ واخترْ واغنَم ... لكَ في نورِ الضُّحَى عُمرُ الزَّهرْ
وَيحَ للإنسان ما أَجدَرهُ ... بِهُيام مِثل هذا ومِراحْ
عُمرُهُ المكدُودُ ما أقصَرَهُ ... خَفَقَاتٌ من مَساءٍ وصَبَاحْ
الخفيف(254/63)
رسالة الفن
التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية
للدكتور أحمد موسى
- 2 -
كان من حسن الحظ أن ساهمنا في العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة الرسالة بمناسبة العام الهجري بموضوع آتينا فيه على بعض ما للعرب في مختلف الفنون التصويرية لتوضيح النصوص وتصوير كتب العلم والأدب مما يجلو غوامضها للقراء والراغبين في العلم، فنشرنا بضع صور ضوئية منقولة عن بعض المخطوطات القيمة في علم تخطيط الأرض والفروسية والتوقيت والكيمياء. وقد وعدنا القراء في ختام المقال السابق باستيفاء هذا الموضوع الطريف حقه من البيان. وهانحن أولاء قد وفقنا بعد البحث إلى ثلاثة كتب مخطوطة زينها مؤلفوها بالتصاوير والأشكال الحقيقية تارة والرمزية طوراً؛ ففي كتاب (نهاية الإدراك في دراية الأفلاك) لمؤلفه قطب الدين محمد بن مسعود الشيرازي جملة صور فلكية أهمها صورة كسوف الشمس وقد جاء فيها:
(لكون القمر هو الكاسف والتوالي من المغرب إلى المشرق وهذه صورة الكسوف، الفصل الرابع في أزمان ما بين الخسوفين، أما الأول فمعرفته مبينة على معرفة حدود الخسوفات وهي مقدرة باثني عشر جزءاً من بعد القمر عن إحدى العقدتين في أي جهة كان، لأن عرضه إذا جاوز هذا الحد زاد على نصفي القطرين، لأن غاية عظم نصف قطر دائرة الظل وهو إذا كان في القمر في حضيض التدوير ست وأربعون دقيقة. وغاية عظم نصف قطر القمر ثماني عشر دقيقة، والعرض المساوي لمجموعهما وهو أربع وستون دقيقة إنما حصل على بعد اثني عشر جزءاً وكسر من العقدة أو على بعد إحدى عشرة درجة ونصف بالتقريب يكون العرض درجة فبعد تجاوز العرض عن الحد يزيد على نصفي القطرين ولا يمكن الخسوف حينئذ وبهذا الاعتبار ينقسم المائل إلى أربعة أقسام. . . الخ).
وقد زين هذا المتن بصورة القمر والشمس من أعلاه والأرض من أسلفه، ورسم دائرة كبرى كتب على محيطها الفلك الممثل ومر محيطها بمركز الشمس، وداخلها دائرتان(254/64)
متساويتان القطرين تقابل محيطاهما في مركز القمر. وكتب على محيط اليسرى منهما منطقة ممثل القمر، وعلى اتجاه مركز القمر وفي استقامة اتجاه مركز الشمس رسم الأرض مبيناً مركزها، وعلى محيط الأرض اختار موضع الناظر، كما اظهر مخروط القمر ومخروط الظل.
ويرى الناظر المتأمل أن هذه الصورة لا تختلف شيئاً عن التصوير العلمي لمقر النيرين في وقت الكسوف، فضلا عن الدقة التي اتبعها المؤلف في رسم الدوائر الست بالرغم من أن عصر المؤلف يرجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
أما الكتاب الثاني فهو في الكيمياء القديمة ويرجع تاريخ تأليفه إلى القرن الخامس عشر على الأرجح، وهو يتناول ضمناً تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. ونص الصفحة التي ننقلها هو (صفة ما نقل من صحف ووسيموس وأوتاسيا: خذ من حجر - كا - ما شئت وهو الكبريت الأحمر الذي لا يخلو منه مكان والقي من الكبريت الأبيض مثله واسحقه فأنه يذهب بصلابته والقي مثلهم زيبقاً بحذروا عملهم في النار ساعة ثم أعيد عليهم السحق والسقي إلى أن يعجبك لونه، فألقي منه على حجر (؟) سير ذهباً ابريزاً والحمد لله تعالى. . .) وتحت هذا المتن متن آخر انفصل عنه بصورة المثل ستة رجال بوجوه كاملة الاستدارة (ش2)، والى يمين هذه الرؤوس صورة لهلال والى يسارها صورة البدر، والى يمين ويسار المتن وقف رجلان امسك كل منهما بسلسلة التفت حول عنق الستة الرجال الذين وضع كل منهم يسراه على صدره. وفي نهاية الصورة رموز شملت بعض حروف إغريقية وهيروغليفية وعربية، فكانت إلى الطلاسم اقرب منها إلى الكلام المفهوم. ويرى المتأمل فيها بعض صور أشبه شيء برسم اللقب والسيف والصليب.
والصورة (ش3) منقولة عن كتاب صور الكواكب لعبد الرحمن بن عمر الطوسي ويرجع تاريخه إلى منتصف القرن السابع عشر الميلادي. وهي تمثل النسرين الواقع والطائر. وقد جاء فوق صورة النسر الأيمن ما أوله: المجرة عند القدر الخامس بينهما مقدار شبر من راس العين. . . الخ وحلّى كل نسر منهما بعدد الكواكب المشرقة في بدنه وجناحيه وذيله ومخالبه.
ويرى القارئ مما تقدم أن التصوير كان مستعملا عند العرب لتفسير ما غمض في(254/65)
المؤلفات العلمية بقصد تمام التوضيح على قدر ما سمحت به وسائلهم ولا سيما في علمي الكيمياء والفلك، فإن أدوات الرصد كانت معدمة تقريباً، ولم يكن لدى الفلكي منهم سوى قواعد الحساب على الطريقة القديمة، كما كانت الأدوات الكيميائية ووسائل الصهر غير موجودة بالصفة التي نراها الآن.
وإذا كان العرب قد اجتهدوا في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب وأخفقوا، فان نظريات الكيمياء والطبيعة الحديثة أثبتت إمكان تحويل المعادن بالصهر. ولا ننس آخر الأنباء من أن عالماً ألمانيا هو الأستاذ ميتا أمكنه تحويل الزئبق إلى ذهب بالحرارة، فكأنه بذلك سجل الأقدمية لعلماء العرب.
وفي مقالنا القادم سنتناول ناحية أُخرى من نواحي التصوير الإسلامي.
أحمد موسى(254/66)
القصص
كارنا وكونتي
للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور الهندي
للأديب شكري محمد عياد
(كان لكونتي ملكة (بنداوا) قبل زوجها ولد هو كارنا الذي اصبح في رجولته قائداً لرهط الكيراويين، ولكي تدفع عن نفسها العار هجرته عند مولده فرباه حوذي اسمه اجيرانا)
كارنا - إنني أنا كارنا، ابن الحوذي اجيراتا، أجلس هنا على ضفاف الكنج أعبد الشمس الغاربة، فمن أنت؟
كونتي - إنني أنا المرأة التي فتحت عينيك لأول مرة على هذا النور الذي تعبده
كارنا - لست افهم، ولكن عينيك تصهران قلبي، كما تقبل الشمس ثلجاً على قمة جبل، وصوتك يبعث في حنايا صدري حزناً أعمى، ثوى السر فيه بنجوة من ذكرياتي الأولى. خبريني أيتها المرأة الغريبة، أي لغز يصل مولدي بك؟
كونتي - صبراً جميلاً يا بني. سوف أجيبك حين تنسدل أجفان الظلام على عيون النهار المستطلعة. أما الآن فاعلم إنني كونتي
كارتا - كونتي! أم اريونا؟
كونتي - نعم بلا ريب، أم غريمك اريونا. ولكن لا تبغضني لذلك يا ولدي. إنني ما برحت اذكر يوم السلاح في هاستينا، حين قفزت إلى الحلقة في جرأة وأنت غلام مغمور، فكنت كشعاع الفجر بين نجوم الليل. آه! من كانت تلك المرأة التي قبلت عيناها جسدك العاري الرشيق من خلال دموع كانت تباركك وهي جالسة بين نساء القصر الملكي وراء السجوف؟ كيف؟ لقد كانت أم اريونا! حينذاك برز البرهمي أستاذ السلاح وقال: (ليس شباب وضيع النسب أن يباري اريونا) فوقفت لا تتكلم، كسحابة برق تأتلق عند الغروب بنور مكتوم. ولكن من هي المرأة التي اشتعل قلبها لعارك وغضبك وأرسل في سكون لهيب النار؟ هي أم اريونا؟
رعى الله دريوجانا الذي عرف قدرك، وتوجك ثمة ملكا على الأنجا، فكسب للكرواسي(254/67)
بطلاً. لقد ملأ الفرح قلب اجيراتا، فشق الحشد نحوك، فهرعت إليه وألقيت عند قدميه تاجك، وإذا البنداويون وأصحابهم هازئون ضاحكون. ولكن امرأة واحدة من بيت البنداوييت توهج قلبها فرحا بما في تواضعك من كبرياء البطولة - لقد كانت أيضاً أم اريونا!
كارنا - ولكن ماذا جاء بك هنا وحدك يا أم الملوك؟
كونتي - لقد جئت أسألك معروفا
كارانا - مريني، وأيما سمحت رجولتي وشرفي الشاتري فسوف القيه عند قدميك.
كونتي - لقد جئت لأخذك
كارنا - إلى أين؟
كونتي - إلى صدري الظامئ لحبك يا بني
كارنا - أيتها الأم السعيدة بخمسة ملوك أشاوس؛ كيف تجدين في قلبك متسعاً لحبي وما أنا إلا قائد وضيع النسب؟
كونتي - إن مكانك فيه قبل كل أبنائي
كارنا - ولكن بأي حق احتله؟
كونتي - بحقك الموهوب من لدن الله في حب أمك
كارنا - ها هي ذي غبشة المساء تنتشر على الأرض، والسكون يرين على الماء، وصوتك يرجع بي إلى دنيا من الطفولة تتناهى في الذكريات. فليكن هذا حلماً، أو فليكن شعاعاً من حقيقة منسية، ولكن تعالي وضعي يمناك على جبيني. إن الناس يتناقلون أن أمي هجرتني. وكم من ليلة زارتني في نومي، ولكن حين كنت أصيح بها: (ارفعي عنك القناع، أريني محياك!) كان شبحها دوماً يتلاشى. فهل زارني الليلة عين ذلك الحلم وأنا يقظان؟ انظري! هاك المصابيح تلوح عن بعد وراء النهر مضاءة في خيام ابنك؛ وعلى هذه الضفة خيام أصحابي الكيرويين كأمواج عاصفة في البحر علقها ساحر. لماذا يجيئني صوت أم غريمي اريونا برسالة من الأمومة المنسية، في رهبة هذا المرج حيث يدوي طنين معركة الغد؟ ولماذا يسكب لسانها في اسمي هذه الموسيقى فيجتذبني إليه والى اخوته؟
كونتي - أذن فلا تتريث يا بني، تعال معي!(254/68)
كارنا - اجل، سوف أجئ ولن أسألك سؤالا، فلا تساورك إذن ريبة. إن روحي تستجيب لندائك، والكفاح في سبيل النصر والذكر ونار الشنآن قد عادت أمام عيني أوهاماً وضلالات؛ كما يتلاشى هُذاءَ الليل في جلال الفجر. خبريني أنىَّ تقودينني؟
كونتي - إلى الضفة الأُخرى من النهر حيث تشتعل هذه المصابيح في شحوب الرمال المروع
كارنا - أوَسوف أجد هناك حتى الأبد أمي المفقودة؟
كونتي - آه يا بني!
كارنا - إذن فلماذا طردتني شريداً جث من أرض أجداده، صعلوكاً يرجحن في تيار من الخزيان؟ لماذا ضربت بيني وبين اريونا هوة لا تجتاز، ورددت أزكى ميول الدم إلى أنكى عواطف البغضاء؟ إنك تبقين صامتة. إن عارك يسري في الظلام البعيد ويبعث في أطرافي رعدة لا ترى. أبداً لا تذكري لي ما جعلك تسلبين ولدك حب أمه: ولكن خبريني لماذا جئت اليوم تسترجعينني إلى أطلال سماء ثللت عروشها بيديك؟
كونتي - إن لعنة تحل عليّ هي اشق من لومك. إني وإن تكنفني خمسة أبناء ليرفرف قلبي كقلب أم حرمت بنيها؛ ومن هذا الجرح الذي انشق على أول أبنائي، ولّت كل مسرات حياتي. في ذلك اليوم اللعين حين خنت أمومتي، لم تكن أنت تستطيع أن تفوه بكلمة. واليوم تضرع إليك أمك الغادرة أن تمنحها من لدنك ألفاظاً كريمة. دع غفرانك يحرق قلبها كالنار ويلهم خطيئته.
كارنا - أماه، تقبلي مني دموعي؟
كونتي - ما كان أملى من المجيء أن أعيدك إلى ذراعي، بل لأعيد إليك حقوقك. تعال وتقبل كابن ملك مكانك بين أخوتك
كارنا - إنه أحب إليّ أن أكون ابن حوذي. إني لا أتوق إلى مجد نسب أعظم من نسبه
كونتي - فليكن ذلك كما تريد. ولكن تعال واسترجع مملكتك فهي حقك!
كارنا - أتعزينني بمملكة وأنت التي استكثرت على حب أم؟ إن صلة الرحم التي اجتثت جذورها قد ماتت، ولن تستطيع أن تحيا مرة أُخرى. لي العار إن أنا ناديت أم الملوك أماً، ونبذت أمي في بيت الحوذي!(254/69)
كونتي - أنت عظيم يا بني! لكم ينمو قصاص الله من بذرة ضئيلة إلى حياة حافلة! ها هو ذا الوليد الذي نبذته أمه يعود فينبعث من ظلام الحادثات رجلاً يسحق اخوته
كارنا - أماه لا تخشي شيئاً! إني لعلى يقين من أن النصر للبنداويين، وفي هذا الليل الهادئ الساجي يمتلئ قلبي بموسيقى من المغامرة اليائسة والنهاية الغامضة. لا تسأليني أن انسل من بين أولئك الذين حقت عليهم الهزيمة؛ فليكسب البنداويون العرش إذا لم يكن من ذلك بد، ولأبعد أنا مع اليائسين والمحزونين. لقد تركتني للخزي ليلة ميلادي، عارياً غير مسمى؛ فاتركيني مرة أُخرى بغير شفقة انتظر الهزيمة والموت في هدوء!
شكري محمد عياد(254/70)
البريد الأدبي
في معرض الفنون
سيدي صاحب الرسالة
في (الرسالة) رقم 253 مقال عنوانه: (جولة في معرض الفنون) بقلم نصري عطا الله سوس. وقد كنت أعددت للرسالة مثل هذا المقال، فإذا المقال المنشور يوافق ما كنت أعددته، فرأيت إهماله. غير إني احب أن أزيد على ما جاء في مقال الأستاذ نصري عطا الله سوس النفيس أن ابرز ألواح المعرض إنما هي من صنع السيدة إيمي نمر وطريقتها التأثرية الرقيقة البعيدة عن تعقيدات (المدارس)، ثم الصديق محمود بك سعيد وان اصبح ينسج على منوال واحد من التعبير، ولكنه تعبير قوي اقرب إلى فن النحت التمثيلي منه إلى التصوير. ثم إني لأشارك الأستاذ سوس في ذهابه إلى أن أسلوب ادمون صوصة لا يعدو المحاكاة الضاربة إلى (الفوتوغرافية). وأما جورج صباغ فأسلوبه فوق هذا، لأن محاكاة الطبيعة عنده إنما يجري بين جوانبها ماء الفن، إلا أنه فن يرجع إلى الحذق والدراية لا إلى التأثر الدفين واستلهام ما وراء المنظور وتدوين اللوائح والهواجم. وذلك لان جورج صباغ - على نباهته - أو قل من اجل نباهته يندرج في سلك (الأكاديميين).
بقي أن الأستاذ سوس وعدنا أن ينشر في الرسالة (سلسلة من المقالات بين فيها فلسفة الفن الحديث وأصوله ومذاهب الفنانين المختلفة ومميزات كل مدرسة، إلى غير ذلك مما يتصل بالتصوير والنحت والرسم) لأنه (لاحظ أنها مجهولة تماما بين كل من تعرف إليه). وهذا قول حق، فان من المتعذر على ناقد الفن أن ينشئ المقالات وجمهور القراء عن أصول الفن وتاريخه متغافلون قليلا أو كثيراً. ولقد أفضت في هذا الموضوع لسنتين مضتا في صحيفة الأهرام (18مايو سنة 1936): (على هامش معرض الصور). فعسى الأستاذ سوس أن ينبري للكتابة فيما يشغل صدره وصدر المشتغلين بالفن أو بنقده.
بشر فارس
المصريون واللغة الحبشية
من مآثر الشباب المصري الذين يطلبون العلم الرفيع في جامعات أوربا ذلك السفر النفيس(254/71)
الذي نشره لشهرين مضيا الأستاذ الدكتور مراد كامل وهو ممن بعثته الجامعة المصرية لتلقي اللغات السامية في ألمانيا.
وموضوع هذا السفر (ويقع في 381ص من القطع الكبير) (تاريخ اليهود) ليوسف بن كريون المشهور بيوسفوس، وقد طبع باللغة العبرية غير مرة وباللغة العربية مرتين. وأما باللغة الحبشية فلم يطبع منه سوى صفحات معدودة، فرأى الدكتور مراد كامل أن يطبع الترجمة الحبشية لهذا الكتاب، واعتماده في ذلك على اثنتي عشرة مخطوطة أصابها في برلين وفرانكفورت أم مين ولندن وباريس وشتراسبرج. وقد عمل للكتاب مقدمة علمية غاية في الدقة وصف فيها المخطوطات وبحث في الأصل العبري والترجمة العربية له، ثم زاد على هذا جدولاً اثبت فيه ما سقط في النص العربي وهو مدون في النص الحبشي، ثم ما سقط في هذا وهو مدون في ذاك إتماماً للفائدة.
ونشر الكتاب دليل ناهض على رسوخ الدكتور مراد كامل في معرفة الحبشية والعبرية والعربية وتمكنه من فن الاستشراق وأساليب البحث العلمي وطرق معارضة الأصول ونشر المخطوطات. ثم أن هذا السفر النفيس نال به ناشره الدكتوراه في العلوم الفلسفية من جامعة توبنجن بألمانيا على يد المستشرق الكبير الأستاذ لتمن من أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي. وسيقفل الدكتور مراد كامل إلى مصر بعد اشهر معدودة ليقوم بتدريس اللغات السامية في الجامعة المصرية، وهو يطبع الآن في ألمانيا رسالة أُخرى لنيل إجازة التدريس العالي (الأجريجاسيو)، وموضوع الرسالة (الفعل الرباعي في اللغات السامية).
مستشرق يسطو على كاتب شرقي
نشر المستشرق الفرنسي الأستاذ أميل درمنجهيم في المجلة الفرنسية (عدد مارس، أبريل 1938) بحثاً عنوانه: (الحالة الحاضرة للأدب العربي) وقد نقلته جريدة (المكشوف) البيروتية إلى اللغة العربية. والحق أن هذا البحث لا يعدل المباحث القويمة التي يكتبها كبار المستشرقين أمثال كراتشكوفسكي وجبّ وماسينيون وكامفماير؛ وإنما هو عرض جاف لا ينم على اتصال بالحياة العربية، ولا على تفهم لأسرار اللغة العربية، ولا على تذوق لتأليف كتابنا المحدثين. والسبب في ذلك أن المؤلف لم ينظر في الأصول نفسها ولم يدرس حياتنا الاجتماعية عن كثب، ولكنه اعتمد على ثلاثة مباحث، فجاءت كتابته ضرباً من(254/72)
الفضول. وأما المباحث الثلاثة فالكتاب الذي ألفه كامفماير وخميري باللغة الإنكليزية سنة 1930 وعنوانه (الزعماء في الأدب العربي الحديث)، ثم المقالات التي نشرها الأستاذ جب في (صحيفة مدرسة اللغات الشرقية) حول الأدب نفسه ونقلتها جريدة السياسة إلى العربية، ثم المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الدكتور بشر فارس في معهد الدراسات الإسلامية في السوربون ثم نشرتها (مجلة الدراسات الإسلامية) لمنشئها الأستاذ ماسينيون سنة 1936 (الجزء الثالث) في باريس. ولما كانت هذه المحاضرة موقوفة على الأدب العربي الحديث جداً وتتناول موضوعات مهمة مثل الصعوبات التي يلقاها الكاتب العربي الحديث في ميادين اللغة والثقافة والاجتماع، فقد سطا عليها المؤلف بغير دراية دفينة بالموضوع، فاخذ منها كلامه على المشكلات اللغوية، ومصاعب الحياة الاجتماعية، وطرائق الكتاب في التأليف، وألوان معالجة الموضوعات وخصائص الأساليب من قديمة وحديثة، وتأثير اللغة الإفرنجية في الإنشاء العربي، وظواهر النضال القائم بين أنصار التقليد وأنصار التجديد. وكأن المؤلف شعر بأنه غلا في الأخذ فذكر صاحب المحاضرة مرة واحدة في الهامش. وذلك لأنه اقتبس عنه نصف صفحة كاملة بحروفها عند الكلام على جمود اللغويين عندنا، فلم يكن بد من الإشارة إلى الأصل. فان اتهم بعض كتابنا بالسطو على تأليف المستشرقين، فهؤلاء المستشرقون يسلطون أيديهم على تأليف بعضنا!
كتابة الهمزة
في (الهلال) الغراء - جزء مايو 38 - هذا القول لسعادة الدكتور بهي الدين بركات باشا: (أن الهمزة وطرق رسمها من المسائل المعقدة التي يبذل تلاميذ المدارس مجهوداً شاقاً في فهمها وحفظ قواعدها. ومع ذلك فكثيراً ما يقع الخطأ فيها حتى من جهات لا ينتظر أن تقع فيه. وإلا فما القول في أن وزارة المعارف تحتفل بعيد المدرسة الخديوية المئيني وتوزع على طلبتها السابقين استمارات تكتب فيها لفظ (يملؤها) خطأ، إذ ترسمها على (ألف) بدل الواو.
أقول: كتابة (يملأها) والهمزة فوق الألف مثل كتابة (يملؤها) والهمزة) فوق الواو، كلتاهما صحيحة. ومن قول ابن قتيبة في ذلك في (أدب الكتاب): (وإنما اختار الألف لان الوقوف إذا إنفرد وأبدل من الهمزة - على الألف، وكذلك يكتب منفردا، فتركه على حاله إذا(254/73)
أضيف).
وقاعدة الهمزة اسهل قاعدة في الدنيا، وتعليم معظمها الطلاب لا يقتضي اكثر من ربع ساعة. وهذه قاعدتها بالقول المسهب: دع الهمزة، وتلفظ بالكلمة تلفظا مقبولاً، ثم ضعها فوق حرف العلة إن كان.
تصويب
جاءت (من عبقرية نابغة العرب) في مقالة (أبو العلاء حرب الظالمين) في أول المقدمة لأقواله وإنما هي العنوان الثاني، وفي الشذرة (10) (ستر ضوءها)، وفي الشرح (الفداء) وهو الفراء.
بين العقاد والرافعي
قرأت ما كتبه (العضو المنتدب) الأستاذ محمود محمد شاكر فرأيت انه في الصفحتين الطويلتين اللتين كتبهما، لم يقل في الموضوع الذي اكتب فيه شيئا، إنما هو تعريض وغمز ولمز، وجمل إنشائية، وقولة مأثورة من هنا وبيت شعر من هناك على نظام موضوعات الانشاء، مما لا يتمشى وروح العصر الذي نعيش فيه. ولا أستطيع أن اخذ نفسي به.
وقد أثرت أن اذكره براس الموضوع الذي نتحدث فيه: فهو (أدب العقاد وأدب الرافعي، وما يدل عليه أدب كليهما من نفسه). ثم انتظر أن يكتب شيئاً في الموضوع، فان فعل ناقشته وإن لم يفعل فهو وشانه، وسأستمر في طريقي.
وتلك خطتي كذلك مع من كتب في العدد نفسه، يعرض بين السطور!
سيد قطب
حول كلمة (هال ها)
أشكر للأستاذ محمد عبد الغني حسن لقاءه الكريم لقصيدتي (البعث)، واعتذر من إبطائي في الرد على رأيه في كلمة (هال ها).
وبعد فأجيبه أن هذه الكلمة كما ذكرت ابتدعها الأستاذ فريد، وما دام الأمر أمر ابتداع فلا محل إذا لردها إلى اصل لغوي. وإذا صح ما ذكره الأستاذ من أن كلمة هال نداء لزجر الإبل فإنها محض مصادفة، إذ لم يدر بخلد الأستاذ فريد عند كتابة هذه الكلمة في رواية(254/74)
(ميسون الغجرية) أي أصل لغوي كما اخبرني بذلك.
وأما من حيث معنى كلمة الإنكليزية فهي أيضاً كلمة مبتدعة في تلك اللغة، فمدار معرفة معناها على استعمالها. وقد استعملها شكسبير وغيره في بدء أغانيهم التي يريدون بها التعبير عن المرح والانطلاق من القيود كما جاء في رواية ولقد رجعت إلى قوم من أهل تلك اللغة فاتفقوا على أنها لا تستعمل إلا في بدء الأغنيات. أما عن معناها بالضبط فلم اظفر منهم بتحديده، ومرجع ذلك إلى أنها كلمة سماعية مبتدعة جرت في الأغاني دون أي اشتقاق لغوي. . . هذا وللأستاذ الفاضل شكري على اهتمامه ودقته والسلام.
الخفيف
جوائز وزارة المعارف لوضع كتاب في تاريخ الأدب
المصري
من الفتح الإسلامي
رأى معالي وزير المعارف تمكيناً للدراسات المصرية وتشجيعاً للبحث الأدبي وضع مسابقة في تاريخ الأدب العربي في مصر من الفتح الإسلامي إلى الآن.
ويتلخص موضوع هذه المسابقة فيما يأتي:
(للأدب العربي في مصر طابع خاص اختلف في العصور الأولى للفتح الإسلامي عنه فيما تلا ذلك من العصور وهو يتناول إنتاج الكتاب والشعراء الذين وفدوا من البلاد العربية والإسلامية إلى مصر وأقاموا بها كما يتناول إنتاج الكتاب والشعراء المصريين الصميمين.
وقد تأثرت مصر بالطابع العربي في أدبها في حقب مختلفة، وأثرت في الأدب العربي بتفكيرها وثقافتها وبحكم البيئة المصرية في حقب مختلفة أُخرى.
والذي تطلبه وزارة المعارف وضع رسالة في نحو 600 صفحة من القطع المتوسط حرف مطبعة بولاق بنط 15 تتناول تاريخ الأدب العربي في مصر مقسما قسمين: أدب المصريين الصميمين، وأدب غير المصريين ممن قاموا بمصر واثروا فيها أو تأثروا بها، مع إظهار صلة الأدب من إنتاج هؤلاء وأولئك بالحياة العامة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وإظهار الصورة التاريخية التي يرسمها هذا الأدب المصري في عصوره(254/75)
المختلفة.
أما الجوائز المقترحة فثلاث مجموعها 500 جنيه توزع بين الفائزين حسب رأي لجنة التحكيم على أن تقدم الرسائل إلى الوزارة في ميعاد لا يتجاوز آخر يناير سنة 1939.
عصر الفيلسوف ابن مسكويه
سيدي الأستاذ الفاضل محرر الرسالة
بعد التحية: ذكر حضرة الصديق الفاضل الأستاذ محمد حسن ظاظا في العدد الماضي من الرسالة الغراء أن ابن مسكويه عاش في العصر العباسي الثالث أي في العصر الذي يمتاز بضعف الخلافة العباسية. ولعل حضرته يقصد العصر الرابع لان ابن مسكويه عاش من سنة 330 إلى سنة 421. وهذه الحقبة من العمر تقع في العصر الرابع لا الثالث.
وقد ذكر حضرته أيضاً أن هذا العصر يمتاز بتكوين المعاجم اللغوية، وهذا الكلام القليل يحتاج إلى تفصيل؛ فان علماء اللغة في هذا العصر لم يبلغوا في الكثرة والإحاطة ما بلغه علماء العصور التالية إلى القرن التاسع الهجري.
واشهر لغويي العصر الرابع ابن دريد صاحب الجمهرة، والأزهري صاحب التهذيب، والجوهري صاحب الصحاح. أما علماء العصور التالية فأشهرهم ابن سيده صاحب المحكم وقد عاش في القرن الخامس. والصاغاني صاحب مجمع البحرين، وقد عاش في القرن السابع. وابن الأثير صاحب النهاية، وابن مكرم صاحب لسان العرب وقد عاشا في القرن السابع أيضا. والفيومي صاحب المصباح وقد عاش في القرن الثامن. والفيروزبادي صاحب القاموس وقد عاش في القرن الثامن وأدرك طرفا من التاسع.
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
ما تهم معرفته كل أديب عربي
تلوت في جريدة المكشوف الأدبية كلمة تحت هذا العنوان منقولة عن حديث للأستاذ فؤاد افرام البستاني، وللأستاذ حفظه الله عندي مكانة متينة واعتقاد حسن بما يكتب ويقول، لأنه لا يقول إلا بعد تثبت، ولا يكتب إلا بعد دراسة وافرة. يعالج كل ذلك بصبر وجلد ونشاط.(254/76)
وقد وقع عندي موقع الغرابة رأى له في المستشرقين لا ادري كيف كونته له نفسه.
يقول: (وإن اذكر شيئاً من هذه المؤلفات المفيدة على ما فيها من خطأ وصواب فلابد من أن انوه بمعلومات الأب - لا منس - وهي في نظر كبار المشتغلين بالأدب العربي في ذروة الأبحاث العلمية. . .).
فالأب - لامنس - مستشرق كبير ولا سبيل إلى الشك فيه. ولكن هل كتب تاريخ العرب بالروح المجردة التي ينبغي أن يكتب بها؟ (ولا سيما في المسائل الإسلامية التي بالغ في التعصب عليها، مما جعل المؤرخين وعلى رأسهم المستشرقون يشكون في أمانته العلمية ويتهمونه بركوب متن الشطط). وهل يغني في الرجل سعة اطلاعه وقوة حجته عن الأمانة التي أفسدها؟ (وهو الذي كان يسلب العرب الفضائل والصفات الخلقية الجميلة التي اجمع المستشرقون على نسبتها إليهم، وكان في خصومته هذه يعمد في بعض الأحيان إلى السفسطة والمغالطة).
ومثل هذه المغالطات في تفهم التاريخ، أو قل في تأويله بحسب النزعات الشخصية لا يغني عنها ذكر كلمة - على ما فيها من خطأ وصواب - لأننا نفهم من الخطأ والصواب شيئاً غير هذه المغالطات المبينة على حاجات هي في نفس يعقوب. وإذا كانت هذه طريقة الأب - لامنس - في كتابة التاريخ الإسلامي، فهل يا ترى من المعقول أن تصبح آثاره في ذروة الأبحاث العلمية، والأبحاث العلمية لا يجليها عادة إلا عقل متجرد عن كل هوى، وروح طهرت نفسها من كل درن موروث.
ويتم الأستاذ المحدث كلمته: (أما ما ينقل في بعض الصحف العربية من أبحاث لغوستاف لوبون وسيديو ورينان، يهول ناقلوها بنعوت المستشرقين يلصقونها بأولئك المؤلفين، فلقد كان من الخير للاستشراق والناقلين وللصحف أن تدعها في أماكنها من زوايا المكاتب). وهذه كلمة ثانية كشفت عن السر الذي أملى الكلمة الأولى لان التاريخ الذي كتبه هؤلاء المستشرقون هو تاريخ كأنما سطره الغرب للعرب. لأن هؤلاء استطاعوا أن يتجردوا من العوامل الموروثة والتقاليد المذمومة، فكتبوا كما أوحى إليهم ضميرهم، ولم تعمهم محاسن النصرانية عن محاسن الإسلام، ولم يطمس التعصب على قلوبهم شأن من طمس عليهم. ولا أدري أكان هؤلاء ممن يسرون ما لا يعلنون، أم كانوا يخادعون فيما يسطرون؟ ولا(254/77)
أدري أية حاجة تدفعنا إلى إيثار المصادر التي تنهج نهج الطريقة الأولى في الطعن على العرب والنيل منهم واعتبار هذه الطريقة الطريقة العلمية الصحيحة؟
أرجو من الأستاذ الكريم أن يفسر الأسباب التي دعته إلى إيثار هذا الرأي إذ ليس من الحق إعطاء نتيجة من غير أسباب. وأرجو أن يفيدنا عن قيمة النصوص التاريخية التي اعتمد عليها كل من أصحاب الطريقتين وعن العوامل التي جعلته لا يزكي أصحاب الطريقة الثانية. حتى إذا كان في رأيه ما يعتقد به العقل المجرد أودعنا ما عندنا من كتبهم في زوايا المكاتب، وإن أراد أطمعناه النار!
حقاً لقد تركنا المستشرقين في حيرة من أمرهم فهم إن كتبوا بم يلائم هوانا وعزنا قلنا عنهم: إنهم يخادعون ويكذبون؛ وإذا سطروا بما يجردنا من كل فضل وعزاً رفعنا على فضلهم مناراً وأقمنا لعلمهم علماً!
أما وقد كذبوا علينا مراراً فليخطئوا مرة واحدة.
خليل هنداوي
نباتات الزينة العشبية
ظهر حديثاً في عالم المؤلفات الزراعية كتاب (نباتات الزينة العشبية) للأستاذ محمد كامل حجاج. والمؤلف هاو كبير ومحب عظيم للنباتات. وهو يكرس لها وقته وجهده وماله. وقد سلخ الشطر الأكبر من حياته في دراسة نباتات الزينة دراسة عملي مستفيضة يحدوه شغف عظيم بها وحب طبيعي لها حتى اصبح ثقة من ثقاتها القليلين في مصر.
قدم للكتاب بمقدمة وجيزة ضمنها نبذة صغيرة عن تاريخ الحدائق بمصر، وكذلك شيئاً عن المناخ والتربة وما ينجح من النباتات بمصر وما لا ينجح بها والظروف الملائمة لها، ثم عن الإكثار والأسمدة مما لا غنى عنه لمبتدئ مسترشد.
وبعد ذلك قسم النباتات إلى صيفية وشتوية وتكلم عن كل منها في ترتيب أبجدي شامل. ولم ينس في الآخر أن يخص تزيين الشرفات والموائد ببضع صفحات شائقة قيمة.
ويمتاز الكتاب بشيئين بارزين:
أولهما الإيجاز التام في الشرح والأداء إيجازاً لا يخل بمادته.(254/78)
ثانيهما: كثرة الصور الجميلة الواضحة مما يندر أن نصادف مثلها في مؤلفاتنا العربية.
فالكتاب يصح أن يكون مرجعاً سهلاً ثميناً للهاوي والمحترف. واعتقد انه سد ثغرة كبيرة كانت شاغرة في فلاحة الأزهار.
محمد بهجت
5(254/79)
العدد 255 - بتاريخ: 23 - 05 - 1938(/)
جوائز وزارة المعارف
تشجيع التأليف
الإنجاز منذ قيل إن الأمر قد استوثق للحكومة أو كاد. ورأى الأستاذ الوزير أن يبدأ سياسة الإنعاش الأدبي بالجوائز، لأنها لا تزال منذ كان الأدب أشد القوى المحركة له، وأقوى العوامل المؤثرة فيه؛ بله الإمكان والسرعة، لأن سنها لا يحتاج إلى تصديق وزير المال ولا استشارة وزير العدل. ولكن الجوائز المالية لا تبلغ الغاية من وجودها إلا إذا قامت على فكرة صالحة وسارت على طريقة مؤدية. فهل الجوائز التي يقترحها وزير المعارف بنجوة عن مرامي الظنون ودواعي الفشل؟
يقترح معالي الوزير جوائز وقتية عامة على وضع كتاب في (تاريخ الأدب العربي بمصر من الفتح الإسلامي إلى الآن)، وجوائز دائمة خاصة لتشجيع الإنتاج بين المدرسين بالمدارس الرسمية والحرة؛ والفكرة التي أوحت إلى معالي الوزير هذين الاقتراحين سليمة مستقيمة لا غبار عليها ولا جدال فيها. فإن الأدب المصري لا يزال بجانب الأدب العراقي والأدب الأندلسي مطموس الأثر مجهول التأثير مشتت المادة؛ فدراسته على الطريقة العلمية تثبيت لمعنى القومية في نفوس النشئ، وكشف لناحية خصيبة من نواحي الأدب. وإن المدرسين كما قال قرار الوزير (هم في جميع البلاد المتحضرة مصدر التجنيد العلمي والفكري والعملي في توجيه الحياة الاجتماعية إلى أحدث المبادئ وأدق الآراء العلمية والأدبية والفنية) فينبغي (حفزهم إلى البحث والتأليف في موضوعات اختصاصهم وما يتصل به، بما يؤدي إلى تقوية شخصيتهم العلمية وتكوين ذخيرة من الرسائل العلمية والأدبية تدعو إلى نشاط التفكير العام).
بقي أن ننظر في الطريقة التي تريد الوزارة أن تسلكها إلى تحقيق هذه الفكرة. فهي ترى أن تصل إلى غايتها من طريق المسابقة والتحكيم، وتنقسم في ذلك الهيئات الأدبية الرسمية التي استشارها إلى فريقين: فريق الجامعة، ورأيه اختيار لجنة من الباحثين المعروفين تضع هذا الكتاب المقترح في سنة وأربعة أشهر ثم تعطي ألف جنيه مكافأة على وضعه؛ وفريق دار العلوم وتفتيش اللغة العربية في الوزارة، ورأيه أن يترك وضع الكتاب إلى المسابقة الحرّة، فإن في ذلك حفزاً لهمم الشباب، وتوخياً لمعنى العدل، ومنعا (لاحتكار(255/1)
علمي) دلت السوابق على وقوعه بحكم العادة أو النفوذ أو المجاملة. وكلمة (الاحتكار) التي جرت على لسان دار العلوم تنم عن شيء من الحنق الدفين على اختيار اللجان الأدبية، فقد أصبحت هذه اللجان وقفاً على نفر من الأدباء لا تنظر الوزارة إلا إليهم، ولا تعتمد في أعمالها إلا عليهم. كأنهم طائفة المستوزرين لا تحل الأزمات إلا بهم، ولا تؤلف الوزارات إلا منهم. ومرجع هذا الجمود إلى العادة الآلية التي تسير عليها السياسة والإدارة في الحكومة.
وفي رأينا أن إطلاق المشروع في مسابقة أو تقييده في لجنة لا يخلو من غميزة، فإن الموضوع المقترح لا تجدي فيه المسابقة ولا تؤدي، إذ الأدباء القادرون تعودوا ألا يدخلوا المسابقات تنزيهاً لكبريائهم الفنية عن حكم الأشباه، وضنا بجهودهم المضنية على تحكيم المصادفة، واكتفاء بما أخذوا به أنفسهم من الإنتاج الذاتي المستمر. والجائزة بعد ذلك كله ضئيلة لا تغري إرادة الكاتب وإن ضمنتها قدرته. أما غير هؤلاء فسيعالجون الموضوع معالجة الدارس الناشيء، يستزيد من دراسته ومعاناته علماً وفهماً لنفسه، ولكن ما يكتبه فيه قد يكون بعيداً عن قصد الوزير وخدمة الأدب وفائدة القاريء، لما يعوزه من اللقانة الخاصة التي يكتسبها فقيه الموضوع بالمران والزمن. تلك حال المسابقة؛ أما تأليف اللجنة فقد يكون أوجه الرأيين لو جرى الأمر فيه على مقياس الكفايات لا على تمثيل الهيئات وتمييز المناصب. ومن قبل أراد صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد تأليف كتاب جامع في تاريخ إسماعيل، وكتاب ثبت في تاريخ مصر؛ فجاءه عن طريق المسابقة كتاب الأيوبي، وعن طريق الاختيار كتاب هانوتو؛ والفرق بين العملين هو الفرق بين السيرة والتاريخ، وبين الحيرة والخبرة.
ولكن أخوف الخوف - إذا غلب هذا الرأي - أن ينتهي الأمر إلى لجنة من اللجان الرسمية المحفوظة فلا نضمن التشجيع ولا الإجادة.
ولعل أجدر الوسائل بالنظر أن تنشئ الوزارة هيئة أدبية دائمة تنتج وتقترح وتراقب، ثم يوضع في يديها ست جوائز مقدارها ثلاثة آلاف جنيه، ويكون من عملها غربلة ما تخرج المطابع كل عام، ثم توزيع الجوائز على المجلين في فنون الأدب المختلفة في احتفال رسمي عام. ذلك أدنى إلى إنهاض الأدب وتجديده وتسديده. ولو أن مجمع اللغة العربية(255/2)
أَلف على غير الأسلوب الذي تؤلف به اللجان الرسمية لكان خليقاً بهذا الأمر، ولكن. . . وهيهات أن تبرأ أقوالنا وأعمالنا من لكن!!(255/3)
الإصلاح المنشئ والإصلاح الآلي
للأستاذ عباس محمود العقاد
الإصلاح اصلاحان: منشئ تسيطر به الإرادة على العوامل الخارجية، وآلي بعيد من هذه السيطرة لأنه يبدأ بالتسليم وينتهي بالتسليم، وينقاد للعوامل الخارجية في الأساس والجوهر، ولا يجترئ على مخالفتها وتعديلها إلا فيما هو عرض من الأعراض.
الإصلاح في الحالة الأولى مسألة حية أو مسألة نفسية والإصلاح في الحالة الثانية هو مسألة عدد أو مسألة تطبيق حسابي قلما تشترك فيها الإرادة الإنسانية إلا بالمقدار الضروري الذي لا يمكن منعه، لأن تجريد الأعمال الإنسانية من إرادة وشعور كل التجريد أمر لا يستطيعه الإنسان، إذ هو مستحيل
مثال ذلك فندق في مدينة يراد إصلاحه واستحداث نظام غير نظامه
فعلى قواعد (الإصلاح الآلي) كل ما يفكر فيه المصلحون أن يعرفوا أن أثاثه قديم فهو محتاج إلى التغيير، وتلك معرفة لا تفتقر إلى ابتكار عظيم
وأن يعرفوا أن عدد النازلين به يزداد فهو محتاج إلى بناء جديد فيه كذا من الجوانب وكذا من الحجرات، وتلك معرفة أرقام وتطبيق حساب
وأن يعرفوا أن الخدم مقصرون أو قليلون، ومن السهل أن يصل الإنسان إلى هذه المعرفة بغير قدرة على الإنشاء والاختراع
أما الإصلاح على قواعد الإنشاء والاختراع فهو يتناول فن البناء وموقع الفندق وموافقة الإضاءة والتهوية لأحدث الكشوف العلمية، ودراسة النفوس وما تهواه من منظر ورياضة وطعام وأساليب في الخدمة، وإقداما على سبق جميع الفنادق الأخرى في المرغبات والمحسنات، وتفكيراً في ترجيح المدينة كلها على المدن المرتادة للسياحة والتفرج والاستشفاء، لا يقتصر على انتظار السائحين والمتفرجين والمستشفين حتى يصلوا بحكم العادة إلى المدينة، فيجدوا الفندق الذي لا بد أن يجدوه
كل إصلاحنا نحن ينحصر في القواعد الآلية، ولا يجترئ على جانب الابتكار والاقتحام إلا من بعيد، وبعد فوات الأوان.
وقد ألقيت من يدي كتاب (على هامش السياسة) لمؤلفه صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا(255/4)
وأنا أضيف مثلاً جديداً على الأمثلة العديدة التي ترجح ما أقول
قرأت فيما قرأت من هذا الكتاب فصل التعليم الجامعي فإذا بالإصلاح المنشود ينحصر:
(أولاً) في أن يجد جميع من أتم سلسلة من حلقة هذه الدراسة المكان الذي يطلبونه في السلسلة التالية، بمعنى أنه يجب أن توجد محال كافية في المدارس الثانوية لمن ينتهي بنجاح من الدارسة الابتدائية، وأن يجد من ينتهون بنجاح من الدارسة الثانوية الأمكنة اللازمة لهم في المدارس العالية مندمجة في الجامعة أو منفصلة عنها الخ الخ.
و (ثانياً) في إيجاد التناسق المرغوب فيه بين أجزاء التعليم فلا تنشئ مدرسة ابتدائية أو ثانوية من الآن إلا بعد أن تنشئ عدداً من المدارس العالية الخ.
و (ثالثاً) يجب أن يراعى في هذا التعليم بجميع أجزائه ألا يزيد عدد الفرقة عن الحد المعقول الذي يسمح للمدارس بمراقبة سير تلاميذه، والذي يمكنه من متابعة الإشراف عليهم وتعهدهم وإدراكه مواطن الضعف والقوة في كل منهم.
و (رابعاً) ألا يزعج التلاميذ والمدرسون بنقلهم من بلاد إلى أخرى لتمضية الامتحان في حرارة الصيف المحرقة حيث يحشرون في أماكن تقام للضرورة تحت الخيام الخ.
وقس على ما تقدم سائر الإصلاحات المنشودة في نظام التعليم الجامعي وما يترقى إليه من تعليم المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية.
أي إنه إصلاح (ضابط) أو رئيس ضباط في مدرسة واحدة أو مجموع مدارس مختلفة، وليس بإصلاح سياسي يضع البرامج وينشئ العقول والنفوس.
انتقل من مشكلة التعليم الجامعي والتعليم كافة في نظر سياسي مصري إلى هذه المشكلة بعينها في أنظار الساسة الأوربيين، واجتهد أن تقيس المسافة الشاسعة التي تفرق بين النظرتين.
مشكلة التعليم في الغرب هي: هل يتعلم الشاب على أساس الحرية الفردية، أو على أساس غلبة الدولة وانغماس الفرد في الأمة أو في الهيئة الحاكمة؟ فإذا تعلم على أساس الحرية الفردية فالنتيجة تشمل كل نظام في الأمة من حقوق دستورية، وحقوق اجتماعية وطموح إلى النقد، وقدرة على المخالفة، وإيمان بالتقدم والفكر الإنساني والمناقشة العقلية.
وإذا تعلم على أساس غلبة الدولة، فالفضيلة الكبرى هي الطاعة والإذعان والإيمان بعصمة(255/5)
القادة، وأن التقدم الإنساني وهم من الأوهام، وأن القوة هي السلطان الأعلى في الزمن القديم وفي الزمن الحديث، وأن التواريخ والآداب لا ينبغي أن تفهم ولا أن تدرس إلا على هذا الاعتبار.
مشكلة التعليم في الغرب هي: هل يتعلم الشاب على دين العصبية الوطنية والغلو في تمجيد الذات وتغليب الوطن على جميع الأوطان، أو يتعلم الشاب على دين المعاونة الإنسانية والعقائد التي تمثلها عصبة الأمم ويبشر بها دعاة الوحدة العالمية
مشكلة التعليم في الغرب هي: هل يتعلم الشاب على اعتقاد أن الآداب والفنون والأديان هي ترجمان طبقة واحدة أو سلاح طبقة واحدة في حرب الطبقات، أو يتعلم الشاب على اعتقاد أن الآداب والفنون والأديان هي ثروة بني الإنسان جميعا من قديم الزمان، وستظل ثروتهم جميعاً إلى آخر الزمان.
تلك هي مشاكل التعليم الحقيقية أو هي بعض مشاكله الكثيرة في العهد الحاضر، وليست هي عدد الفصول وعدد المدارس والمدرسين وأماكن الامتحان
ومشكلة الامتحان عندهم ليست هي الخيام التي تقام أو لا تقام، وإنما هي البحث في الوسيلة الصحيحة لاختبار الملكات الذهنية والنفسية: هل هي بالسؤال والجواب، أو هي بالملاحظة الطويلة في أثناء العمل، أو هي بالاختبارات (الإيحائية غير المباشرة) التي تكشف القوى الكامنة دون سؤال صريح في ظاهر الموضوع.
وقبل أن يصلوا إلى مشكلة الامتحان تقوم مشكلة أخرى وهي مشكلة المواد التي يجري فيها الامتحان وتقسيم الدارسين على حسب تقسيم الدروس
فهل العقول الإنسانية لا تنقسم إلا إلى عقل عالم وعقل أديب! أو هناك أقسام شتى يدخل فيها العقل الفنان، والعقل الصنع، والعقل الإداري، والعقل المشارك في المداورات الاجتماعية الذي يربح بحسن الدخول بين الناس مالاً يربحه أعلم العلماء ولا أبرع الأدباء بالنجاح في ميادين العلوم والآداب؟
وهل حتم على العقول الإنسانية جميعاً أن تتذوق الرياضة والجغرافيا والكيمياء وإلا كانت ناقصة معيبة، أو هناك عوالم للتفكير والشعور وراء الرياضا والجغرافيا والكيمياء، وهناك عقول تصلح لهذه العوالم وإن كانت لا تصلح لما عهدناه من برامج الدروس(255/6)
تلك أيضاً بعض مشاكل التعليم التي تدخل في نطاق من يصلحون البرامج وينشئون الأفكار، ولكنها لا تدخل في وظيفة الضابط أو كبير الضباط.
أذكر أن إصلاح التعليم العالي عرض للبحث منذ سنتين، فكان بعض المصلحين (على الترتيب والتعقيب وخط المسطرة والبركار) يقولون إننا نبدأ بالتعليم الابتدائي حتى نعرف ما نحتاج إليه في المدارس العالية، كأنما المسألة مسألة بيت يبني الدور الأرضي منه قبل أن تبني الأدوار العليا، أو كأنما المسألة مسألة طريق لا تصل إلى الميل الثاني منه قبل أن تجتاز الميل الأول، أو كأنما هي أعمار لا تكون في الثلاثين إلا بعد أن تكون في العشرين، وهي ليست بهذه ولا هذه ولا تلك، وإنما هي مسألة غاية ترتب عليها البداية وتعرفها قبل أن تخطو خطوة واحدة في طريقك إليها؛ ومن ثم وجب أن تبدأ بالتعليم العالي ثم تعلم التلاميذ في المدارس الابتدائية وفي المدارس الثانوية ليستعدوا له وينتهوا إليه؛ ولا ضرورة على الإطلاق لانتظار السنة الأولى الابتدائية وأنت تفكر في تقرير المناهج الجامعية، وإنما هي ضرورة وهمية عند من يمشون على المسطرة ولا يخرجون على الترتيب المرسوم!
علينا أن نصلح المصلحين ونداوي أطباءنا وليس هذا بميسور أو علينا أن نكسر المسطرة القديمة ونترقب نوازع الاقتحام في الجيل الجديد وإن طاشت في بداية اقتحامها، وذلك أيسر الأمرين.
عباس محمود العقاد(255/7)
المذهب الرمزي
أهو نزعة سليمة في التفكير؟
للأستاذ عبد العزيز عزت
يعزو المذهب الرمزي اسمه الفرنسي إلى مورياس في نشرة طبعها عام 1886 وفي أحد أعداد جريدة هذا المذهب عند أوائل ظهورها، وأسمها (الرامز) - بطبيعة الحال - يجد القارئ مكتوباً فيها - بحبر!! - ما ترجمته: (الشيء الموجود ما هو إلا مظهر، مظهر خداع، لأنه يكفي أن تتغير حالتي النفسية حتى يتغير وجوده) - هكذا! - ويقول العلامة مارتينو مدير جامعة بواتييه في كتابه وعنوانه (المذهب البرناسي والرمزي) ما نصه (إننا نجد عند فرلين، وعند ملارميه، وعند رامبو وكثير من الرمزيين، أن الشيء الواقع ومثوله، حاضراً كان أم ماضياً، لا قيمة له مطلقاً.
ولكن إذا كان المذهب الرمزي يبلغ من العجز أن يتعامى وينكر وجود الأشياء الواقعة، ويجعلها إضافية إلى عوارض النفس وانفعالاتها، فماذا يستعيض بها يا ترى؟؟ يجيب مدير الجامعة السابق في نفس الكتاب صفحة 140 بقوله) إن عباقرة هذا المذهب يحلون هواجس النفس وشؤم التصور وإبهام الطلامس وضعف الإقدام، في مكان الرأي الواضح).
وعليه؛ فالمذهب الرمزي في الأدب وفي غير الأدب من فن ودين، هو نوع من الغمز واللمز في التفكير، لا يستقيم له عود ولا تمتد له ظلال. ذلك لأنه مبدأ بني على الالتواء والغموض الفكري، تنعدم فيه الصراحة، ويفسد فيه الوضوح، ويختل فيه ثبات الآراء بالمعنى الأفلاطوني. ولما كانت الصراحة والوضوح هما أساسي الحقائق الفكرية الثابتة التي بدونهما لا يستقيم للعقل منطق، ولا للشعور انسجام، كما يؤيد هذا ديكارت في كتابه المعنون (مقال عن المنهج) في إحدى قواعده الأربع العقلية؛ ولما كانت الحقيقة والفضيلة متكافئتين متعادلتين في فلسفة ديكارت، فقد أضحى هذا المذهب يتناقض وأول أصول العلم الحديث، ويتعارض وبديهيات مبادئ الأخلاق، هذا من الوجهة النفسية.
والرأي صحيح إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة تطور التفكير الإنساني، على صفحة الزمان، وتسلسل المعارف البشرية وتعاقب الملكات النفسية التي عملت على خلق التراث البشري في التاريخ. هذا التطور يؤكد لنا منطقاً لا يحيد مجراه، فلا تختل له حقبة من(255/8)
الزمن ولا (ينفك له تماسك في دورته، وقد عبر عنه أبو التفكير الإنساني الحاضر القائم في العلوم والأدب (أوجزت كنت) في كتبه المتعددة، وخاصة في كتابيه (الفلسفة الوضعية) و (التفكير الوضعي) (وهو يلخص كل فلسفته)، فهو يثبت إن الإنسانية تطورت في ثلاث حالات: الحالة الأولى وتسمى حالة (التصوف) أو (الدين) والحالة الثانية (التجريد العقلي) التي تتمثل في الحضارة اليونانية القديمة وعلى الخصوص في فلسفة ارسطو العظيم، والحالة الثالثة تسمى بالحالة (الوضعية) التي تحتل حالة العالم في زماننا هذا أي عهد التجربة الذي يقوم على ملاحظة مظاهر الطبيعة ومظاهر النفس لتحديد (علاقاتها) وصوغها في قوانين خاصة، أو لا تؤدي حتما إلى قوانين عامة بها، ولكن للإنسان أن يستغلها عملياً ويتنبأ نما سيؤدي إلية نشاطها في المستقبل القريب والبعيد
والذي يهمنا من هذه الحالات الثلاث، هي الحالة الأولى لما بينها وبين المذهب الرمزي من التشابه. فأوجزت وكونت يعرفها قائلا: أنها تمثل مظاهر الوجود، كاحساسات نتخيلها. فهي بهذا الاعتبار في مقدور تصورنا، نتوقف على إدراكنا لها بالبصيرة): أي إن الأشياء على اختلافها لا قيمة لوجودها الذاتي، ولكن بالنسبة إلى حالة النفس وأهوائها في مناسباتها المختلفة. ويقول إنها حالة النفسية تسود عند الزنوج والقبائل المتوحشة لعجزهم عن فهم المظاهر الخارجية، ولقصر إفهامهم عن إدراك المعاني النفسية المجردة؛ لهذا يستعيضون عن ذلك برموز يقدسونها لمدلولاتها، وبحركات وطقوس يرددونها في مناسبات معينة، ظناً منهم أنها تفي بما يرتسم لها من عقيدة في أذهانهم، وبعناصر الطبيعة يفرضون عليها الحياة، ثم يؤلهونها باعتبارها قطب الاتصال الروحاني بنفوسهم الحائرة!
كذلك المذهب الرمزي يمثل نوعاً من الدخول إلى النفس والتغلغل فيها، ونوعاً من الحرية الجامحة في إمكان التصوير والتعبير لمظاهرها التي لا نستقر على قرار. لهذا كان (الرامز) لا يخرج إلى الناس في وضوح العقل وانسجام المنطق، فهو أضعف من أن يرتفع إلى هذا المستوى الإنساني وكان لا يتبادل الخير وفضل المعاملة الفكرية مع بنى الإنسان في المجتمعات البشرية؛ وكان لغموض احساساته الإنسانية وتضارب نزعاته لا يقبل على تفهم أمر الوجود العالمي ماديا كان أم تاريخيا وإنما كان يمثل حالة نفسية هي أقرب إلى المريض منها من إلى شيء آخر، يسودها محض الخيال والوهم والأنانية الفردية بعينها،(255/9)
لأن العالم في كل نواحيه وفي كل مدلولاته الصحيحة، وكذلك التراث الإنساني الذي اتفق على استقامته العلماء والحكماء منذ العهود الأولى يصبح باطلا؛ ويجب أن تبتدئ الخليقة دورتها من جديد، وأن تتخذ في ذلك من (هواجس) هذا الرامز أسسها الأولى. وليس بعد ذلك من دليل على الخروج على إجماع السلف والخلف وقلب الحقائق والوجود في كل شيء؛ فالتاريخ يكذب، والمنطق يحتضر، والإجماع ينكر. . . وإنها لنزعة تذهب بالإنسانية إلى عهد تهيم فيه على وجهها في الأرض، فلا تخرج عن حد الفطرة والعراء!
وثالثاً - فان الرأي صحيح كذلك من الوجهة الاجتماعية، لأن العلم في نظر أبي الاجتماع الحديث (دركيم) هو التعاون المشترك بين العلماء. ونشوء المدارس الفكرية، التي تبغي إقامة قوانين ثابتة لمظاهر الوجود في كل شيء ترتكز على نظريات يدعمها البحث والاستقصاء. وهو أيضاً إشراك الناس في مفهوم الحقائق المكتشفة، ورفع الغموض والالتباس عن إفهامهم ليقروا في إجماع الحقائق واضحة. فالعلم إذاً مظهر من مظاهر الاجتماعي البشري مهمته خلق التماسك الفكري في عقلية الفرد عن طريق الوضوح، وخلق نفس هذا التماسك في عقلية الأفراد عن طريق ثبات الآراء والنظريات، لأنه كلما رفع الجهل والغموض والإبهام عن عقول الناس زاد (الوفاق) فيما بينهم، لاتحادهم في نفس وجهات النظر والتفكير
وأكبر دليل على صحة ما نقول هو أنه عندما ساد مذهب السوفسطائية في المجتمع اليوناني القديم الذي يرتكز على مبدأ (الشك) ومرض (الحيرة) الفكرية، لأنهم كانوا يبشرون بنظريات يصح أن يلقنوا الشبيبة نقيضها في الغد، فالعلم في نظرهم هو علم (الفرد) وعلم (المناسبات)، وعلم الفصاحة والثرثرة والرغاء، لهذا ساد الفهم (النسبي) للحقائق في ذلك الزمان، وأدى المنطق الفاسد إلى سوء الأخلاق لعجزهم عن تصور علم واحد ذي منهج واحد يوجد بين الناس ويوجه أفكارهم إلى الغايات المتحدة في الفهم، فلزم للقضاء على السوفسطائية قيام ثلاث ثورات لتنظيف المجتمع اليوناني من أدران أفكارهم: الأولى ثورة سقراط في الأخلاق، والثانية ثورة أفلاطون في الطبيعة، والثالثة ثورة أرسطو في المنطق. والمذهب الرمزي كالسفسطة ينعدم فيه الفهم الاجتماعي، لأنه يرجع الحقائق إلى محض (الفرد) أي هواجس نفس الرامز وتصوراته الملتوية وغموض احساساته التي(255/10)
تخرج عن أساليب المنطق، وتتناقض وعرف المجتمعات البشرية. لهذا كان هو مذهباً أنانياً أشد خطراً من الشيوعية بل ومن الفوضوية؛ لأن هذه المذاهب على ما بها من قبح دنيء تبغي في النهاية نوعاً من الخير للمجموع في نظامها الخاص المبتور. ويؤيدنا في رأينا هذا مدير جامعة بواتيية السابق الذكر، في كتابه صفحة 142 إذ يقول (المذهب الرمزي مذهب ثوري يركن إلية الشبان باسم التجديد لهدم النظام السياسي والاجتماعي والعقلي والفني الذي قد ورثوه عن سلفهم الصالح في بلادهم. ولهذا يجب أن يتخذ القائمون بالأمر فيها الحذر من مثل هذه النزعات الطائشة والصرخات الجامحة، التي تبغي قلب نظم المجتمعات الهادئة التي تساير التطوير العام لدورة النشاط المتزن في سائر أمم العالم)
(ويقول هذا العلامة كذلك في صفحات 209، 210، 211 من نفس الكتاب: إنه بالرغم من قيام مبادئ الحرية التامة في التعبير عن الآراء في بلد كفرنسا، وبالرغم من أن هذا البلد يعيش خاضعاً لمبادئ الثورة الفرنسية التي يدين بها نظام الحكم الجمهوري فيها، فإن المذهب الرمزي عندما ابتدأ ظهوره وأخذت (أبواقه) ترتب الدعاية والنشر له، قامت قائمة الناس في فرنسا وسموه (النزعة الجنونية) لما يتضمنه من القضاء على الروح الاجتماعية والتضامن بين أهل البلد الواحد. ولهذا أجمعت الناس في فرنسا على جموحه وشره الفتاك، وقاوموه بكل ما عندهم من قوة، وأمكنهم - كما يذكر العلامة المدير - أن يقضوا علية في عشرة أو خمسة عشر عاماً من ولادته، ودفنوه (غير مأسوف عليه)
وأقول بعد ذلك: إن مذهب (الرمزية) من أصول الكثلكة. فهي تذهب إلى نوع من التصوف يغمض كثيراً على عقول تابعيها. لهذا تعمد لتقريبه إلى إفهامهم إلى رموز خارجية محسوسة، كل منها له معنى بعيد يكفل لهم نوعاً من الترجيح في التصور. وهي في هذا تسير على الخصوص مع تعاليم القديس أوغسطين الذي كان يعتقد أن ليس هناك دين صحيح أو باطل، إلا وله ولتابعيه اتفاق محدود على رموز معينة لها مدلولات خاصة تنحصر فيها إفهامهم. وهذا ما دعا بعض الناس إلى اتهام الكاثوليكية بالوثنية، وعلى الخصوص عندما صرح رؤساؤها بأن المذهب الغالب في تعاليم الكنيسة هو مذهب القديس توماس؛ لأن هذا الحبر الكبير كان يخضع في تعاليمه إلى فلسفة أرسطو. والكل يعرف أن هذه فلسفة أرسطو هي فلسفة الصنم، لأن أساسها كأساس سائر الفلسفات القديمة. وكذلك(255/11)
فلسفة ديكارت في العهد الحديث هي علم الألهيات، وهذا العلم تنحصر أبحاثه في تحديد طبيعة العناصر الأولية التي بها يجب أن يتحقق الشكل الكامل في الهيولا العارية فيبدو ناصعاً كحقيقة وكغرض. وصحة قولنا هذا تؤيده نظرية تقسيم العلوم في هذه الفلسفات، وما كتبه على الخصوص العلامة المشهور رافينسون وهاملان عن أرسطو.
عبد العزيز عزت
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(255/12)
من برجنا العاجي
ينبغي أن نحترم أولئك الذين يحترمون الفكر. رأيت هذا لأسبوع واحداً من هؤلاء: هو طبيب فاضل، طلبني في منزلي بالتلفون مرات، ثم زارني في مكتبي مرتين دون أن يظفر بلقائي. ولم ييأس، فحضر الثالثة فوجدني، وأخبرني أنه يحتفظ بكل كتبي إلا كتاباً واحداً، بحث عنه كثيراً فلم يجده. وهو يدفع فيه الآن ابهض ثمن حتى لا تنقص مجموعته المجلدة أفخر تجليد. فلم يؤثر في نفسي أيضاً هذا الكلام، وأحلته في اختصار إلى مكتبة باعته النسخة بضعف ثمنها. وإذا بخطاب شكر واعتراف بالجميل يصل إلي من هذا الرجل في اليوم التالي شكر على ماذا؟ لست أدري. ولكني تأملت قليلا فخجلت. إن هذا الرجل يحترم الفكر في ذاته وينفق في سبيله الجهد والمال. إن هذا الرجل يشكرني وقد دفع ثمن النسخة بينما أراني قد أهديت كتبي تورطا أو حمقا إلى أناس لو يعنوا حتى بإرسال بطاقة شكر. وتذكرت أولئك الذين لا يفعلون شيئاً إلا أن ينتظروا أن نهدي إليهم كتبنا ليقرءوها متفضلين، أو لا يقرءوها مهملين. مثل هؤلاء ينبغي أن نحتقرهم مهما كانت مكانتهم. إن الفكر ما أرتفع قدره يوما إلا على أيدي رجال من طراز ذلك الطبيب الفاضل. وما صغر شأنه إلا على أيدي هذه المخلوقات التي تبذل مالها في كل شيء إلا في كتاب!
ولقد سرت عدوى هذا (التسول) الأدبي إلى الهيئات العلمية والثقافية. فقد جاءني كذلك هذا الأسبوع خطاب من دار الكتب الحكومية تطلب نسخاً من كتابي الجديد هدية أو (صدقة)! وقد علمت أم الدار لها (مال) مخصص لاقتناء الكتب. ولكن ماذا نقول في زمن هانت فيه قيمة الفكر حتى بين الهيئات العلمية الرسمية؟ إلا فليعلم الناس منذ اليوم أني سأبطل عادة (الهدايا) ابتداء من كتابي القادم، وأني لن أقدم جهدي إلا لقرائي المخلصين الذين يقدمون إلي جهدهم وعنايتهم ومالهم. أما الآخرون فلن أعترف لهم بوجود. وإني منذ اليوم لن أحترم إلا من يحترم فكري ويسعى إلي ويبذل فيه ما يستطيع
توفيق الحكيم
قاسم أمين
هل كان كردياً؟(255/13)
لأستاذ جليل
قرأت في (الرسالة) الغراء قصيدة (الأستاذ علي الجارم بك) في (ذكرى قاسم أمين) العالم الفقيه المشهور، فلما جئت إلى هذا البيت:
يا فتى الكرد، كم برزت رجالاً ... من صميم الحمى ومن أعرابه
استعجبت من القول والقائل. والأمر حقيق (والله) بالاستعجاب والاستغراب؛ فأني أعرف المعرفة البليغة أن (قاسماً) كان عربياً مصرياً، ولم يكن كردياً ولا أرمنياً، وقد ولد في مصر في القاهرة وتثقف فيها وعمل لسلطانها، فكان قاضياً يحكم بين الناس بالعدل، وكان خدين إمام المسلمين كلهم أجمعين وسيد العرب المصريين في زمانه الأستاذ الأمام (الشيخ محمد عبده) وحميم تلميذه نبي الوطنية العربية المصرية (سعد) العظيم. وكتب بالعربي كتباً، ولم يكتب بالكردي سطراً؛ ولن يضيره عند الله ولن يضع منه عند العقلاء أن القوم لم يعقلوا مقاصده فضلوا ولم يهتدوا. وذهبنا نردد صباح مساء قول أستاذ الدنيا جار الله (أستعذ بالله من الشر ما أنت راء، فإن الدنيا كل يوم إلى وراء) وأبصر بحر الإسكندرية في صيفه وفي سيفه مشاهد لم يبرح من أجلها ملتجأ مصطخب الموج مزمجراً يوشك أن يعيدها نوحية. . . وها قد أقبل الصيف وبدت هناك جنادعه. . .
وربما أراد الأستاذ الجارم أن يقول: (يا فتى أصله من الكرد) فلم ينجده الوزن الموروث هو وأخته القافية المتقفاة منذ أكثر من (1400) سنة. فهو يعني - أن أراد ذاك القول - أصل الرجل لا الرجل.
وهذا القول مفند قائله مدفَّع فالمرء بفضله وفصله، لا بزخرفه وأصله. والأمة إنما هي بلغتها وأدبها وعقيدتها ومصلحتها. وقد قال أحمد بن الحسين الهمذاني صاحب الرسائل والمقامات: (المرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد. والإنسان من حيث يثبت. لا من حيث ينبت) وقاسم قد وجد وولد في مصر، وثبت ونبت في مصر. وإنا إذا فتحنا هذا الباب وأنشأنا نقول: يا فتى الأكراد، ويا فتى الأتراك، ويا فتى الأعراب، ويا فتى الإغريق، ويا فتى الشركس، ويا فتى الألبان، ويا فتى الفرس، ويا فتى الهند، ويا فتى الصومال، ويا فتى المغرب، ويا فتى الشام، فقد تشظت الأمة (العربية المصرية) - يا أخا العرب - وهفت(255/14)
هفواً
وإذا احب الناس أن يفتشوا عناصرهم، ويفحصوا مستقصين عن جراثيمهم صاروا إلى المقالة العربية المشهورة التي لخصها أبن خلدون وأوضحها الأئمة دروين والأستاذ (أرنست هيكل) وهكلسي وبخنر وغيرهم وفصلوها تفصيلاً. وهذا تلخيص المقالة:
(أنظر إلى عالم التكوين كيف أبتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش ومالا بذر له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن أخر أفق منها مستعد الاستعداد الغريب لأن يصير أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان، وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان)
وقد سمعت العلامة الأستاذ الكبير السيد عبد العزيز الثعالبي أيده الله وقواه يقول في أحد مجالسه في الإسكندرية: (إن الناسخين حذفوا عبارة مهمة من قول ابن خلدون مستحين منها)
(والله لا يستحي من الحق) وهل في الدين والعلم حياء يا أبناء. . . يا عترة الفلحس واخوة الرباح والأمة الفرنسية - وما غيرها إلا مثلها - ملفقة مؤلفة (كما ذكر كاتب في مبحث في مجلة أسبوعية قبل الحرب المعلومة - من ثلاثة وعشرين جنساً، منها العربي. وكل واحد من القوم يقول اليوم منتفخاً: أنا فرنسي، أنا فرنسي. أنا ابن الغول وقد يكون (المقيم) في تونس ووالي الجزائر والضيزن الفرنسي في المغرب الأقصى (مراكش) المنكمشون الجادون في تثبيت دين محمد. . . وارساخ اللسان المبين. . . في الأقاليم المغربية - من قحطان. وقد يكون ظهراء (الظهير البربري) من قريش الظواهر أو من قريش البطاح فهل نقول لهم: يا سلالة عدنان، ويا فتيات قحطان. . .
وبعد فالقصيدة علوية جارمية وعربية علوية والأستاذ الجارم أديب كبير، و (عربي مصري) كريم، وما ظلم على قومه العرب المصريين؛ ولكن القافية - والقصيدة على الباء - كانت من الظالمين. . .
الإسكندرية(255/15)
* * *(255/16)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(يجب أن يكون (الربح) آخر ما يفكر فيه أصحاب المدارس الحرة!!)
(أترى تلك مدارس للتربية والتعليم. أم هي مزيج من الفوضى والاضطراب، والغش والخداع، والحشو التافه والأعداد السقيم؟؟)
7 - مثال سيئ للتعليم الحر
أشرت من قبل إلى بعض نواحي النقص في (التعليم الحر) ووعدت القراء بكشف ما أعلم من أسرار هذا التعليم فيما بعد وأنجز اليوم وعدي في حدود تجربتي الماضية القاسية التي كنت فيها ناظراً لإحدى مدارس جمعية تعمل فيما تدعي للخير وكرم الأخلاق!!
1 - وظيفة التعليم الحر
وأحسبك تدري - قبل أن أتكلم - أهمية التعليم الحر في بلد لا تستطيع معاهد حكومته أن تتسع لأكثر من نصف النشء الراغب في التربية والتعليم! بل أحسب أنك ترى معي أنه مادام الأمر كذلك فيجب ألا تقل مدارس ذلك التعليم عن مدارس الحكومة ولاسيما في الغاية النزيهة، والنظام المأمون، والكفاءة المنشودة. ولكن الأمر يا عزيزي كان ومازال على غير ما يجب أن يكون! أو قل إنه ما يزال مضطرباً في الكثير من هاتيك المدارس التي لم يؤسسها أصحبها إلا لتكون لهم تجارة رابحة قبل أن تكون للوطن حصناً وللتربية موئلا. وهاأنذا أخوض بك في مثال سيئ لهذه المدارس مؤكداً أن بعض ما به من شر موجود في غبره وغيره من مدارس العواصم والمراكز، وأنه لا يكاد يخلو من هذا الشر إلا مدارس تلك الجمعيات الخيرية المحترمة، أو مدارس أولئك الذين للعلم عندهم كرامة، وللخلق رهبة وجدارة!
2 - مثالنا السيئ
ويؤسفني كل الأسف أن أرى نفسي مضطرا - إزاء المصلحة العامة - إلى أن أصرح بهذه الحقائق القاسية التي لا تشرف هذه المدارس ولا ترضي أصحابها. وأعلم تماماً أن(255/17)
بعض هؤلاء الأصحاب والمديرين سيثور عليّ، وسيحاول عبثاً أن يدافع عن نفسه وعن مدرسته بمختلف الأعذار وشتى الادعاءات. ولكن ما حيلتي وهذا الحقائق الصارمة الصارخة تعلن عن وجودها على لسان المدرسين والطلبة وأوليا الأمور جميعاً؟؟
مثالنا السيئ هو جمعية تعمل للخير وكرم الأخلاق كما قلت، وتتخذ من بعض الشخصيات الكبيرة الساذجة أصناماً تتقدم بها للجمهور كما يغفل عن أسرارها ومخازيها. وقد رأت هذه الجمعية أن المدارس من أربح الوسائل وأشرفها مظهراً، فراحت تفتح منها ما تستطيع فتحة وتحشد فيها ما يزيد على الألف تلميذ وتلميذة!! فهل تدري من يدبر أمور هؤلاء التلاميذ؟ ومن يقوم بتعليمهم؟ وأين تذهب أموالهم؟
أما المدبر أو المدير كما يدعونه فهو رجل متعلم ولكنه عجيب الأطوار، محب للسلطة والاستبداد، سماع للأكاذيب والوشايات معتوه أو كالمعتوه، لأنه سب يوماً أمامي وأمام التلاميذ جميعاً في (طابور) الصباح أستاذ الدين ورئيس (المطبخ) سباً مقذعاً بينما كان الأستاذ المسكين واقفاً وسط التلاميذ، ولأنه أحذ هراوته مرة وجرى بها خلف خادم صغير على مرأى من بنات المدرسة وكن واقفات يتأهبن لسماع نصائحه الغالية في الفناء الكبير! ثم هو فضلاً عن ذلك مادي جشع قد احتكر لنفسه إيراد المطعم والمقصف وتنظيف الأحذية لقاء ما يقول به من إدارة بريئة وإشراف نزيه!. وقد لا يكون في ذلك إثم كبير لولا ما يقدم للتلاميذ من طعام سيئ، ولولا ما يحملهم به على هذا الطعام وذلك التنظيف من ألوان العسف والامتهان والحرمان والتعنيف مما لا أول له ولا آخر
وأما المدرسون فهم مجموعة متنافرة يطغى فيهم العنصر غير الفني على الفني، لأن فيهم راسب الكفاءة والبكالوريا أو حاملها مع فريق من سيدات ورجال التعليم الإلزامي ممن لم يجدوا عملاً في الحكومة فجاءوا إلى هذه المدارس الابتدائية الأهلية يلتمسون فيها عيشاً. ويضاف إلى أولئك وهؤلاء واحد أو اثنان من الفنيين لإدارة حركة المدرسية بهذا (الطقم) العجيب الذي لا استعداد فيه للتعاون والعمل بتلك المبادئ التي اصطلح الناس على أنها أصول للتربية الصحيحة والتعليم السليم! فماذا تريد بعد هذا وقد رأيت الرأس معتلاً والأعضاء خائرة منهوكة؟ قل ما شئت من إرهاق لهؤلاء المدرسين ومن انتدابهم ليعملوا ككتبة في شئون الجمعية الخاصة والعامة. وقل ما شئت من تضافر القوى في الجمعية على(255/18)
امتهان المدرس ذي الكرامة وإحراجه بتلفيق التهم ونصب الأشراك. وقل ما شئت من تدخل المدير العجيب في الشئون الفنية الخاصة وصبغة للنظام العام بهراوته المضحكة وبشخصيته المادية المتناقصة وبميوله النهمة الغادرة، حتى لتشعر أنك في عصابة أو مارستان. ثم قل أيضاً ما شئت من التظاهر أمام حضرات المفتشين بما ليس موجودا، ومن وضح خزانات بغير ماء في المراحيض كدليل على النظافة وتوفية الشروط!!. أما التلاميذ المساكين فما أقل ما يتناولون من الكتب والكراسات! وما أكثر ما يدفعون من الضرائب والإتاوات! وما أشد ما يتحملون من الكلمات والضربات! وما أخطأ ما يعاملون به من طرق لا تكون العقل ولا تبني الشخصية ولا تهذب الشعور!
ستعجب مما أقول، وستتخيل أنه إنما كان بالأمس البعيد ولا وجود له اليوم. وسأقول لك إني لمسته بيدي منذ عامين اثنين ولقيت منه الأمرين وخرجت ثائراً علية عندما لم أقو على العيش فيه. وإذ كانت الوزارة قد خففت كثيراً من مثل تلك الفوضى بأعمال رقابة التعليم الحر فإن العيب لم يزل جسيماً، ومجال التلاعب والعبث واسع عريض، وممارسة التربية كفن صحيح سليم لا تكاد تتحقق في هذه المدارس ألا شذ وندر
وقد تسأل بعد هذا عن تلك الأقوال الكثيرة التي تجنيها الجمعية من إعانة الوزارة ومصرفات التلاميذ؟ وسأقول لك سل العمارات الشاهقة التي يبنيها المدير أو يفاوض في شرائها وسل المدرسين المساكين الذين يتناولون الأجر الضئيل ويشاهدون التضخم الهائل الشديد. وسل تلك الأبنية الرطبة القذرة التي يحشدون فيها التلاميذ بغير حساب!!
ثم ليت الوقت يتسع لأقص عليك طريف ما يحدث في تلك الدور، أو ليته يسمح بإخبارك أن الطلبة في المدارس الثانوية الأهلية كالوحوش يرهبهم الناظر لأنه يبغي مالهم، ويخشاهم الأستاذ لأنهم لا يرهبون أحد؛ نعم ليته يتسع أو يسمع بذكر هاتيك المخازي الكثيرة التي أسمع عنها كل يوم هنا وهناك فحسبك اليوم ذلك، وإلى اللقاء حيث أحدثك عن ناحية أخرى
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(255/19)
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 3 -
ثم ماذا؟ ثم يقول الأستاذ سيد قطب في ثالث أدلته على أحكامه: (يقول العقاد في طرافة ودعابة عن حِسان شاطئ استانلي!!
ألقى لهن بقوسه ... قزح وأدبر وانصرف
فلبسْنَ من أسلابه ... شتى المطارف والطرف
فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول: فقزح لا يلقي قوسه أبداً إذ لا ينفصل منه قال في اللسان: (لا يفصل قزح من قوس). فإذا أمتنع فكيف يقال: (أدبر وانصرف). أما قزح العقاد، فلعل الخواجه قزح المالطي مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلى الذي قيلت فيه القصيدة
ثم يقول إن هذا المثال (فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخسُ من السابقة، ففي الأولى كان تلاعباً بصورة ذهنية، وهو هنا تلاعب بألفاظ لغوية!)
أولاً، فمن ذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقيا بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرف مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلب جمالهن جماله!
ألا تستحق مثل هذه الطرفة، ومثل تلك الحيوية! من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك، هل يفصل قوس عن قزح أو لا يفصل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال!!
أهذا هو النقد الذي هو (أقرب إلى المثال الصحيح)؟ وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء
ثم يعود فيقول عن هذا المثال أنه يمثل (تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تُشعه في الخيال من صور طريفة) انتهى كلام الأستاذ الجليل
ومن أعجب العجب أن يعد اعتراض الرافعي ونقده هذا البيت تلاعباً بالألفاظ اللغوية، ولا يكون هذا الشعر نفسه قد بُني على التلاعب في غير طائل، وعلى تكلف اللفظ لترميم قافية(255/21)
البيت. وأول ما نقول في هذا أننا نخالف بعض رواة العربية ثم الرافعي في أن يلزم أحد هذا الحرفين صاحبة على كل حالة وفي كل ضرب من ضروب القول
وبيان ذلك أن لأصحاب العربية في هذا الحرف (قُزَح) ثلاثة اوجه من الرأي:
الأول: أن (قزح) اسم شيطان، أو أسم ملك موكل به والثاني: أن (القزح) هي الطرائق والألوان التي في القوس، والواحدة قزحة
والثالث: أن يكون من قولهم: قزح الشيء وقحز إذا ارتفع قلت: وكأنهم أرادوا أن يجعلوه معدولا به عن (قازح)، وهو المرتفع
ففي الوجه الأول لا يضير أن ينفصل الحرفان؛ إذ كان (قوس) أسم جنس، و (قزح) أسم علم بعينه، وأضيف أحدهما إلى الأخر إضافة نسبة. فهو بمنزلة قولك (كتاب محمد). ومن هنا جائز أن يبدلوا تسمية العرب الأوائل فقالوا له:) قوس الغمام) و (قوس السحاب). ويقول أبن عباس رضي الله عنه: (لا تقولوا قوس قزح، فإن قزح من أسماء الشياطين. وقولوا (قوس الله) عز وجل. وعلى هذا يجوز قول القائل: (ألقى قُزح قوسه) بإضافة القوس إلى ضميره. على أن الشيطان، أو الملك الموكل بالقوس. قد ألقى (قوسه)
وأما الوجه الثاني والثالث فلا يجوز الفصل معهما البتة على إرادة (الاسم) الذي تعرف به هذه الطرائق المتقوسة التي تبدو في السماء. فأن الحرفين في حالتهما ينزلان منزلة الكلمة الواحدة إذ ذاك. وللقول في هذا مجال ليس هنا مكانه ولا أوانه.
ونحن نرى أن العقاد قد ذهب - وإن لم يرد ذلك - إلى الوجه الأول، وأن شعره يحمل على رأي جائز في العربية
هذا، قد ذهب الرافعي في نقد بيت العقاد إلى رأي أصحاب اللغة في امتناع الفصل بينهما، وأن الحرفين كالكلمة الواحدة على تتابعهما. وعلى ذلك لا يقال (ألقى (قُزح) قوسه) وأولى إذن أن لا يقال إن (قُزح) أدبر وأنصرف، لأنه ليس بذاته يُدل على معنى، أو يقع اسماً لشيء بعينه؛ فهو إذن لا يجوز عليه الإسناد إسناد الخير أو الفعل كالإلقاء والأدبار والانصراف: فأين التلاعب في هذا الرأي باللفظ اللغوي؟ ولو قد كان وقع في بعض كلام الرافعي فصل أحدهما عن الأخر لأمكن أن يقال إنه يتلاعب باللفظ، ولكن ذلك لم يكن. . .!(255/22)
وأما الأستاذ العقاد فقد نقد رواية قمبيز في سنة 1932، وجعل من ملاحظاته أن هذه الرواية (لم تخل من مخالفة للنحو والصرف في القواعد المنصوص عليها)، وأتى في هذا الموضع من نقده بما خطأ فيه شوقي وليس بخطأ.
يقول شوقي على لسان أحد المجان (ص 32)
ألقدحا ألقدحا ... الخمر تنفي الترحا
قصراً أرى أم فلكاً ... وشجراً أم قُزحاً
ثم علق (شوقي) في الوجه (32) نفسه فقال: (قالوا: إن قزح لا يفصل من قوس، ولكن الناظم لم ير بأساً في فصله لسهولته وكفاية دلالته) انتهى. ونحن نجيز هذا في العربية ولا ننكره
قال ذلك شوقي في التعليق، ثم جاء الأستاذ العقاد في كتابه (رواية قمبيز في الميزان) يقول ص15 (. . . ويقول (قُزَح) ولا تذكر قزح إلا مع قوس). وبين أن كلام الأستاذ العقاد ليس عربي العبارة، فإن أصحاب العربية منعوا (فصل) قزح من قوس، ولم يمنعوا (ذكر) قزح إلا مع قزح. والفرق بين اللفظين كبير. وبينٌ أيضاً أن هذا ليس نقداً فإن لم يأت بأكثر من تكرار ما ذكره شوقي في تعليقه، وكان الوجه أن يبين فساد رأي (الناظم) إذ لم يرى بأساً في الفصل للعلة التي ذكرها
ومع ذلك. . . فقد كان نقد العقاد في يونيه سنة 1933، ولم تمض ستة أشهر أي في يناير سنة 1933 حتى فصل العقاد نفسه بين (قزح) وقوس في شعره هذا!! فلعل هذا أن يكون بالتلاعب بالألفاظ اللغوية أشبه، بتصريف النقد على الهوى أمثل. وأما بيتا العقاد:
ألقى لهنّ بقوسه ... قزحٌ وأدبر وأنصرف
فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف
فقد بُنيا على ألفاظ يدفع بعضها بعضاً عن معنى يولده - من لفظ (القوس) التي هي من آلات القتال. وكان سبيل التوليد هكذا: القوس من آلات القتال، واستعيرت للطرائق في السماء مضافة إلى (قُزَح)، فيكون ماذا لو أنشأ من لفظ هذا القوس صورة للقتال بين (قُزح) وبين جميلات الشاطئ أستانلي؟ ويكون ماذا لو زعم أن الجميلات انتصرن على (قزح) صاحب القوس فألقى سلاحه ثم أدبر وأنصرف؟ ويكون ماذا لو جعل ألوان (قوس قزح)(255/23)
أسلاباً كأسلاب المحاربين في القتال ظفر بها الجميلات بعد انهزام (قزح)؟ ويكون ماذا لو زعم أنهن اتخذن هذه الألوان مطارف وطرفا يلبسنها ويتحلين بها؟ وهكذا
وهو توليد كما ترى وتوليد من لفظ واحد. ونحن لا نرى بأساً - وإن كنا لا نرتضيه - أن يأتي الشاعر بالمعاني مولدة من ألفاظ اللغة، فإن من بعض اللفظ بالعربية لما يضرم الفكر ويؤرث المعاني ويستفز الخيال إلى أعلى مراتبه. على أن هذا لا يتحقق إلا أن تستقيم الطريقة للفكرة، وبتراحب المجال للمعاني، ويسمو المدى بالخيال، على أن تصح المقابلة بين معاني اللفظ وسائر الصور التي تتولد منه.
والمقابلة في هذا الشعر فاسدة باطلة. فهي مقابلة بين (قزح) وبين الجميلات على شاطئ أستانلي، ثم بين الطرائق المقوسة ذات الألوان في السماء (القوس) وبين ما ترتديه الجميلات من مطارفهن. وكان حق المقابلة أن يكون (قزح) هذا مشتهراً بالجمال موصوفاً به، حتى إذا ما ذكر في معرض الكلام عن الحسان الجميلات تمت المقابلة بينه وبينهن. فإن لم يكن ذلك كذاك، فلا أقل من أن يكون في الشعر ما يدل على سبب (حالة الحرب) التي أنشبها الشاعر بين حسان شاطئ ستانلي، وبين العم (قزح)، ثم ما كان من علة لإلقاء سلاحه ثم انهزامه وإدباره
فأما إذ لم يكن (قزح) جميلاً، ولم يأت الشاعر بسياق جيد لهذا التوليد، فقد بطلت الأفعال التي أسندها إلى (قزح) من إلقاء قوس وإدبار وانصراف، وما أضافه إليه من الأسلاب، وصار كله لغواً لا فن فيه. وهذا الضرب خاصة من ضروب الشعر الذي يتضمن التصوير والوصف لا يأتي جيده إلا على دقة الملاحظة، وتقدير النسب بين الألفاظ والمعاني والصور. فلو أقتصر الشاعر فجعل (قزح) يهدي إلى الحسان تحاسين قوسه، فاتخذن منها (شتى المطارف والطرف) لكان أجود وأقرب إلى الإتقان. أما إعلان الحرب بينهما فليس جيد ولا براعة فيه كما رأيت
وقد أجاد أبن الرومي - ويقال أنها لسيف الدولة - إذ يقول:
وقد نشرت أيدي الجنوب (مطارفاً) ... على الجو دُكناً، والحواشي على الأرض
يطرزها (قوس السحاب) بأصفر ... على الأحمر في أخضر وسط مبيض
كأذيال خودٍ أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض(255/24)
وهو قريب جيد في الوصف
ونحن لا نذهب مع الأستاذ قطب فيما يتخير من اللفظ لوصف هذا الشعر وما فيه، بذكر (الطرافة) و (الدعابة) و (الخيال) و (الحيوية) و (معرض الجمال)، وما إلى ذلك من ألفاظ لو أقيم ضدها مكانها لقام، إذ كان لا يبين أسبابها ولا يوجه معانيها ولا يأتي كلامه في مثل ذلك إلا على طريق صاحب كتاب (الوشي المرقوم في حل المنظوم) إذ يقول: (أولا فمنذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقياً بقوسه لهؤلاء الحسان. . . . الخ)
وقد وضح الآن أن ليس في كلام الرافعي تلاعب بالألفاظ اللغوية، وأنه ليس في هذه الألفاظ (ما يجعلها تشع في الخيال صوراً طريفة)، وذلك لما ذكرنا من تخالف ألفاظها وتدافعها وبعد صورها عن جودة التوليد، إذ كانت هذه الصور مولدة من اللفظ على غير نسق متصل أو طراز جميل ثم. . أتى الأستاذ قطب بالمثال الرابع فقال: (ويسمع العقاد صيحات الاستنكار للهو الشواطئ، وما تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب بالحيوية والجمال:
عيد الشباب، ولا كلا ... م، ولا ملام، ولا خرف
فإذا الرافعي يقول: (إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه:
عيد الشباب، فلا كلا ... م، ولا ملام، (بلا قرف)!
ثم يقول بعد إن هذا المثال يغنيه الرافعي عن الحديث فيه (فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم أستغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد، وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد وقيود العرف، ولم يجد ما يقوله إلا (بلا قرف) وهو قول لا تعليق لنا عليه)
ثم يعود فيقول: إن هذا يمثل هروب الرافعي (من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف - في رأيه - بنكتة أو تهكم أو شتيمة)
وأنا لا أعجب لكلام الأستاذ سيد قطب، لأنه على طريقته في حل المنظوم، وإن أعجب فعجبي لصاحب (وحي الأربعين) كيف أرتضى أن يثبت البيت في قصيدته، وفي عقب(255/25)
هذه القطعة بالذات، وينتقل من الوصف والتأمل وإمتاع النظر، وإمداد الفكر بأسباب من الجمال، أو كما يقول الأستاذ قطب من الطرافة والدعابة والخيال والحيوية! إلى صيحة الاستنكار والتفزع بقوله: (فلا ملام ولا كلام) ثم الغضب الذي لا يتورع في قوله: (ولا خرف). إن هذا الانتقال ليس من منطق الفن ولا من نهجه وسبيله
وما أظن الرافعي أراد، ينقد البيت - لأنه ليس بسبيل مما يحسن أن ينقد، وإنما وضعه هكذا للعقاد وهو يريد ما قلناه في كلمتنا الأولى مما جرته العداوة التي اضطرمت بينهما
وبعد فقد قرأت كلمة الأستاذ الجليل المهذب سيد قطب في البريد الأدبي من العدد السالف من الرسالة، وقد أعلن فيها بعض رأيه فيما نكتب، وحكم بحكمه على ما قلناه، وحاول أن يتهكم، ووعظ وذكر. ونحن ندعه لما به عسى أن يرى يوماً غير هذا الرأي وله الشكر أحسن أو أساء
محمود محمد شاكر(255/26)
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 4 -
الآن تحدث الأستاذ شاكر - حديثاً ما - في الموضوع الذي نحن بصدده، وإن كان حديثاً (رافعياً) على الطريقة التي بينت ما فيها من استغلاق وقصور، ولكنه على أية حال شئ غير اللمز والتعريض - وإن لم يخل منهما - فالآن يستطيع الإنسان أن يلقي باله إلى هذا الذي قيل
ولما كانت لي بقية من حديث عن الرافعي، فسأجعل نقاشي مع الأستاذ شاكر، بقية لهذه البقية في كلمة أخرى
وعدت أن أعرض من أساليب الرافعي نماذج غير ما عرضت تأخذ في نهج آخر، ولكنها تصل إلى الهدف الأول، من إثبات طبيعته كما عرفها، بالنماذج والأمثلة
وأنا ماض في طريق هذا، لا يحولني عنه ما يبدو من بعض أصدقاء الرافعي من تعريض أو إثارة؛ ولن يستفزني ما يكتبون فأحيد عن نهجي الهادئ
وطريقتي في هذا الموقف أن الرافعى قد مات، وله نوع من الأدب، فسأناقش أدبه هذا، وما يدل عليه من نفسه وذهنه نقاش الناقد المطمئن لما يقول
وله أصدقاء أحياء، فسأناقشهم حسبما يكونون هم: نقاداً أو متهجمين. ولن أخلط بينه وبينهم في الحساب، فلا ذنب للرجل فيهم، ولا تبعه علية بعد موته فيما يصنعون!
تلك طريقتي. وهي ترضيني. . .!
قلت: إن الرافعي أديب الذهن، ولكنه الذهن الملتوي المعاظل المداحل. واليوم أقول هذا، وأزيد عليه: أنه (الذهن الشكلي) الذي تلهيه الأشكال والسطوح عن الكنه والأعماق، والذي لا يلمح فرقاً بين صورة وصورة، مادام ظاهرهما متشابهاً. فإن أراد أن يطبق أمراً على أمر، أخذ في قياس الزوايا والخطوط ولم يلق باله لحظة إلى ما في طبيعة كلا الأمرين من خلاف أو زيادة ونقص في بواطن الأجزاء. وإليك البيان:
(القمر) كوكب لا يشرق إشراقه ألا في الليل والظلام، و (الحبيبة) تعود الناس أن يشبهوها بالقمر و (هي) لا تشرق إشراقها إلا في إبان (الحب)(255/27)
فإذا شاء الأديب أن يعقد من هذه الأطراف تشبيهاً، وجد قمراً يشرق إذا جن (الظلام) ووجد حبيبة تشرق إذا (توهج الحب) فكان لا بد من التصرف في التشبيه
ولكن الرافعي لا يتصرف؛ فما دام القمر يجلوه الظلام، فالحب إذن (ظلام) لأنه يجلو حبيبته، وسينساها متى انقطع عهد الحب وتختفي من أفقه، كما أن القمر يخفى إذا طلع الصباح. وهكذا يقول:
يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن (الظلام) الذي يجلوك يا (قمر) ... له (صباح) متى ندركه (أخفاكا)
فأما البيت الأول فمأخوذ عن العقاد الذي لا يعجب الرافعي شعره! وأما الثاني فهو الذي يعنينا. وفيه ترى (الذهن الشكلي) الذي يستسيغ أن يجعل فترة الحب (ظلاماً) كالليل، فترة انقطاعه (نوراً) كالصباح، لا لشيء إلا لأن القمر المشبه به يشرق في الليل ويخبو بالنهار
والحب الذي هو ظلام، لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح ولكن الرافعي هكذا يقول. . .!
وليست هذه خطرة عابرة تلتمس لها الأعذار فإن لها أشباهاً في هذه (الخاصية)
يقول الرافعي عن (حبيبته) بعد عدة جمل مملوءة بقياس الأبعاد والجهات والزوايا:
(فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيه هي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله)
فدعك من مدلول هذا الكلام وقيمته من (إنسان يحب) أو (يصف الحب)؛ ودعك من أنه كلام ذهني لا ينبض بحياة، ولا يدل على خلجة في الشعور، أو نبضة في الضمير، ولا يتعدى أن (متكلماً) يصور في (الذهن) أشكالاً تقع أو لا تقع، ولكنها يمكن عقلاً أن توجد، كفروض المناطقة
دعك من كل هذا، وتعال وأنظر كيف يتصور الرجل العوالم الروحية، أو العوالم الذهنية. . . أنه يتصور لها جهات. ولا بد أن تكون هذه الجهات الأربعة كالموسومة في علم الجغرافيا بالجهات الأصلية، وأنه متى أحيط الإنسان بثلاث منها فلم تبقى له إلا واحدة وهي الجهة الرابعة!
ولا يتأتى له أن للحياة - ولا سيما في فترة الحب - ألف جهة وألف منفذ، وأنها تؤتى من(255/28)
هذه الجهات والمنافذ، ومن مسارب أخرى ومنعرجات وكُوىً ومداخل لا عداد لها. لأن الذي يتأتى له ذلك لا بد له من (نفس)، ومن (حس). أو لا بد له على الأقل من (ذهن) مشرق مرهف، لا تحده الأشكال الصماء.
على أن هناك خطأ نكشفه من باب الدعابة، (فالدائرة) ليست لها أربعة جهات كما تصور الرافعي، حتى إذا أحيط الإنسان من ثلاث لم تبقى إلا الرابعة، إنما يكون ذلك في (الأشكال) الأخرى، كالمربع والمستطيل!!
وبسبب من هذا يأخذ قوله عن الناس:
(وألبسهم على تفصيلهم قصاراً أو طوالا، كما خرجوا من شقي المقص: المجتمعين من الليل والنهار تحت مسمار الشمس)
أرأيت إلى (استيفاء (الأشكال) في التشبيهات؟ الليل والنهار كالمقص، في تفصيل الناس قصاراً وطوالا. . . لا باس! ولكنه تذكر أن للمقص المستعمل (الآن) مسماراً في وسطه فلا بد أذن من (مسمار) في المشبه؛ وهذا المسمار هو الشمس وبذلك يتم (الشكل) بالدقة بين عمل المقص، وعمل الليل والنهار، وبين تركيبه وتركيبهما مع الشمس كذلك!
ولن يخطر على بال الرافعي أن الليل والنهار وتحت الشمس من الظواهر الأزلية العميقة، وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها. أما بناء المقص فهو شكلي ووقتي؛ ليس بلازم أن يكون هكذا أبداً؛ كما أنه ليس بلازم أن يكون (التفصيل) بأداة واحدة هي المقص وهي على هذا الشكل؛ وما بين يوم وليلة تتغير الأدوات والآلات! فما تكون الشمس إذ ذاك؟
لا. لا شيء من ذلك يخطر على الذهن، ما دام الشكل مستوفي بكامل أجزائه وأوضاعه. وتلك هي العناية بتصوير الحقيقة الوقتية العارضة دون التفات إلى الحقيقة الأزلية الدائمة. وهذا ما أشرت إليه في أول المقال!
ويبدو لي أن الرافعي كان شديد الأثر في تلاميذه من ناحية (الأشكال)؛ فما هو ذا الأستاذ سعيد العريان يكتب عنه من كلمته الأخيرة بالرسالة فيقول:
(فكان يرسل عينه وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة)(255/29)
فهو قد أراد بهذا أن يستوفي جميع أشكال التنبه والاستيعاب دون أن يلاحظ الصدق والواقع وما يمكن تحققه من هذه الأشكال بالنسبة لمن يتحدث عنها. ذلك أن المرحوم مصطفي صادق الرافعي لم يكن (يمد أذنه وراء كل حديث) كما يعرف من يعرفه؛ ولم تكن هذه الحاسة من أدواته في التنبه والتأمل، فكان من (الصدق) ألا تذكر دون أن يضيره هذا أو يعيبه، إذ كان هذا مما لا يعاب. غير أن أحب استيفاء جميع الأشكال والفروض هو الذي يدفع الأستاذ سعيداً إلى هذا التفصيل
وليس ذلك بقليل الدلالة على هذه الظاهرة في مدرسة الرافعي؛ وما قصدت بإثباتها أن ألمز الرجل كما قد يفهم بعض ذوي الطبائع المنحرفة، فأخلاقي - على الأقل - لا تسمح لي باللمز، ولكني أردت إثبات الظاهرة في أحد تلاميذه، بفلته عارضة غير ملتفت إليها، وهي عميقة الدلالة على اتجاه المدرسة كلها
وقد أسلفت أنني تلقيت نبأ (حب الرافعي) بكثير من الدهشة لأن (الحب) يتطلب (قلباً) وهو ما كنت أفتقده فيه.
والآن أقول: إنني بعد أن فحصت عن هذا (القلب) في (رسائل الأحزان) لم أجد له ظلاً؛ ثم وجدت هنالك رجلا لا (يفهم) عن الحب شيئاً، ولا يدرك أثره في النفس حية ولو من باب الدراسة والملاحظة
وإليك البرهان:
ليس أدل على الجهل بطبيعة الحب من تصويره ظلاماً كما مر وهو النور المشرق الذي يفتح النفس والذهن والعين على عوالم لا عداد لها ولها شطآن. فإذا جاز أن نقول من باب الدعابة: أن التشبيه هناك كان أعز من الرافعي من الحب، وإن (الصنعة حكمت) كما يقولون! فكيف نقول في تشبيه الحب بعد ذلك بالموت حين يقول:
(ولكن هناك موتاً لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة، بل من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر. . . وهو من أسرار الإنسانية عكس ذلك (الموت) لأنه أظهر ما خفي وهو الحب)
فما معنى أن الحب (موت عكس الموت؟) وأنه لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة ولكن من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر؟ العب بالألفاظ أم (شقلبة) في الأشكال؟ وعلى أية حال فأين الحب في كل صوره وأشكاله، من الموت في كل صوره وأشكاله، حتى يسوغ لإنسان أن(255/30)
يجد وجهاً للشبهة بين هذا وذاك؟
إن الحب من صميم الحياة بكل ذراته وآثاره؛ ولن يكون موتاً أبداً لا في الخارج ولا في الضمير. وألف سفسطة في التخريج لا تفسر اقتران الحب بالموت في (ذهن) من الأذهان! ويقول:
(وما من أحد في الأرض يستقيم طبعه على الجمع بين هم الحب وهم الحياة، فإن قام بواحد زاغ من الآخر لا يبالي به، إذ هما حقيقتان متدافعتان كتياري الكهرباء، لو أمكن شيء، من المستحيل، لما أمكن أن يطردا في سلك واحد، أطرادهما في السلكين)
هذه قولة الرافعي وهي دليل لا ينقض على أنه لم (يحس) الحب في حياته، ودليل كذلك على أنه لا (يفهم) إحساس الحب في سواه، ولا يحسن تعليل ظواهره وتفسير دوافعه، ككل ذي ذهن مشرق مستقيم
هو يرى أن الذي يحب يستخف بهموم الحياة، حتى يخيل إليه أنه نسيها. فيفهم من ذلك أن هم الحب قد طردهم العيش، لأنهما متناقضان متدافعان. وذلك في (الظاهر) وفي (الشكل) الصحيح ولكن الحقيقة الباطنة أن الحب يضاعف القوى الباطنة ويفسح في الحياة ويعمق جوانبها فتخف تبعا لذلك على النفس هموم الحياة، حتى يخيل لصاحبها ذاته أنه ينساها
فليس عن تضاد بين الهمين ولا تدافع ينشأ هذا الشعور، ولكن عن فسحة في النفس، وقوة في الحس لا تضير ولا تتبرم بهموم الحياة، لأن النفس أصبحت أكبر وأرحب منها فلا تحس بها وكل شيء نسبي بين القوه والمقاومة
وهذا هو التعليل (الإنساني) والتعليل (النفسي) الذي لا يدركه أدباء الذهن الكليل. ومن هذا النحو قوله:
(فأن في كل عاشق معنى مجهولا، لا يحده علم، ولا تصفه معرفة، وهو كالمصباح المنطفئ ينتظر من يضيئه ليضئ، فلا ينقصه إلا من فيه قدحة النور، أو شرارة النار. وفي كل امرأة جميلة واحدة من هذين)
فهكذا يتصور الرافعي أن المحب عند تهيئه للحب، يكون كالمصباح المنطفئ الخامد الهامد، وقدحة النور أو شرارة النار، إنما تأتي له من (الخارج) وليست كامنة في (ضميره). وهذا التصور يتمشى مع خواء الرافعي وسطحيته(255/31)
أما الحقيقة الروحية التي يفهمها ذوو (النفوس) فهي أن الحب فيض في النفس، وامتلاء في الشعور، يحس معه الإنسان أنه بحاجة إلى صلة إنسان آخر، لكي يفيض على هذا الإنسان من القدر الفائض في نفسه ويعطيه مما يزخر به شعوره؛ فالمصباح حين التهيؤ للحب لا يكون منطفئا خامدا هامدا بل يكون موقدا مشرقا يبحث عمن يفيض عليه من نوره، ويبذل له من إشراقه ووميضه. وحقيقة أن (الجميلة) التي يصادفها إذ ذاك تزيد في إشراقه وتوهجه، ولكن كما يزيد الزيت في لألأة المصباح الموقد، لا كما تصنع الشعلة في المصباح المنطفئ
وهذا هو الحب في الحياة، أما الحب في (الذهن) وحده فقد يكون ذاك!
والرافعي في زحمة الحب، وفي فيضه وأنبساطه، لا ينسى عالم الحقد الضيق، ولا رقعة الغيظ المحدودة، فتلمس في كلماته ونبراته صوت تضريس الأسنان من الحنق، وتنزى الأعضاء من الضغن، وذلك شأن غريب
نعم غريب، فقد كان مفهوما أن يبلغ به الضغن والحقد على العقاد أن يحجم عن شراء (وحي الأربعين) كما حكى تلميذه العريان، ولكن الذي لا يفهم أن تلازمه طبيعة الحقد وهو في معرض الحب والحقد تيبس في الشعور
ومن أراد أن يعرف أهم أسباب الحقد في نظر الرافعي، وأظهر دوافعه، فليعلم أنه فوقان إنسان على إنسان في النتاج الأدبي! ولعل هذا سبب ما بينه وبين العقاد! فهو يقول عن (حبيبته)
(ولو أن الله مكنها من لغة كتابه الكريم، لغص منها في هذا الشرق العربي كل كاتب وكاتبة غصة لا تساغ ولا تتنفس)
أي لو أن هذه المرأة كانت متمكنة من دراسة اللغة العربية لما كان الأثر الذي تخلفه في نفس كل كاتب وكاتبة بلا استثناء إلا الغصة التي لا تساغ ولا تتنفس
هكذا لا تسمح طبيعة الحقد الأصلية أن تتصور أن إجادة الأديب تهيئ له معجبين بأدبه، أحباء إليه، كلا، بل لا بد من الغصة في صدورهم. وأية غصة؟ هي التي لا تساغ ولا تتنفس. . .
وهكذا كان الرافعي مع العقاد! إن فلتات اللسان، تظهر كوامن الإنسان؛ وهذه فلتة كشفت(255/32)
عن الرافعي في أعماقه، وأرتنا أهم عناصر حقده، ولكنها ليست الوحيدة فأسمعه يقول:
(نصيحتي لكل من أبغض من حب، ألا يحتفل بأن صاحبته (غاظته) وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة. إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيداً عن قلبه، فأنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه)
أرأيت!. . . إن الحبيبة بعد انقطاع الحب، لا تتعلق بنفس من كان يحبها إلا بخيطين أثنين: غيظها له، وغيظه لها! ولا شيء وراء ذلك!
أما أن تكون معلقة بالذكريات المختلفة الألوان، وبالساعات والدقائق والثواني التي ضمتهما في عمرهما، وبالآمال المحطمة في قلوبهما، وبالفجيعة الدامية في حبهما، وبالصور المتعاقبة من إقبالهما، وإدبارهما. . . ومن. ومن. مما لا يستطاع حصره بعد أن تهدأ فورة الحب في النفس، ويأخذ المحب في الاستعادة والتذكر والإحصاء والتسجيل - أما كل ذلك فلا وجود له عند الرافعي. وإنما يوجد خيطان اثنان من نسيج واحد، هو نسيج الغيظ والغل والحقد، والتيبس في الشعور!
وبعد فقد طال الحديث، ووراء هذه الأمثلة التي ضربتها، أمثلة أخرى من نوعها، وفي كل صفحة من الكتاب أمثال غيرها فلا داعي للتكرار
على أن هناك حديثاً عن (ذوق الرافعي) في التعبير وذوقه في النقد وموعدي به كلمة أخرى
(حلوان)
سيد قطب(255/33)
نزاهة النقد
للأستاذ عبد الفتاح غندور
رأينا ما كتبه الأساتذة خصوم الرافعي وأنصاره فسرنا أن نلتمس النقد وساءنا أن نجد ما لا يرضي. وما كان لمثلي أن يلج هذه المعركة ناقداً أو حكماً قبل أن تنتهي لئلا يفوتني شيء من مواقفها فأصدر عن جهل فيما أحكم وأقايس، فأقع في السنة النقاد وأقلامهم، ويالها من ورطة حامية الوطيس إذ ذاك. غير أني آثرت الإقدام إذ وجدتني مضطراً - بعد تفكير - لتقديم رأي قبل أن تنتهي هذه المعركة، ويلوح لي أنها لا تنتهي، لعلي أصل إلى بعض ما يمكن أن يصل إليه حكم عدل وناقد بريء. فأقول:
قبل كل شيء يجب أن نعرف أن كل إنسان يستطيع أن يسيء وليس كل إنسان يستطيع أن يحسن وإذن فلا يصح أن يعتبر السوء يوماً ما أداة لمفخرة أو تكأة لمكرمة، لأن الناس كلهم فيه سواء ولأنه سوء أيضاً؛ وعلينا أن نتوسع في معنى السوء - كما نتوسع في معنى الحسن - ولندرك جميع شظاياه التي تفتك وتؤذي. وإذا توسع الأديب في ذلك أدرك الخطر وتسنى له أن يطير - كما يطير في كل مجال - إلى خيالاته العذبة ليفصل على جسم هذه الحقيقة ثوباً يليق، حتى إذا ما رأى حقيقة ماثلة بثوبها الخيالي الفخم أعطي كل شيء حقه ثم أهتدي إلى أن هذا الضرب من المعاملة الخشنة لا يجدي ولا يفحم، بل يؤذي ويؤلم، ولا سيما إذا كان مصدره الأدب والأدباء والنقد والنقاد
عاش الرافعي ليكتب أدبه ثم يموت؛ وقد أراد الله للرافعي أن يكون في هذه الدنيا عجباً، وشاء أن يجعل أدبه نسخة عجيبة لم ينسج على منوالها قلم لتكون مشكلة من المشاكل التي يختلف عليها الناس فيذهبون في تأويلها مذاهب شتى وللناس مذاهب فيما يعشقون
أما الرجل فقد مات، وأما أدبه فموجود، وأما آراء الناس فيه فكثير؛ ويعجبني التقدير للجهد والاحترام للأدب والإنصاف في النقد والحسن في الخلق. وإذا تم للرأي في هذا القانون والكامل أصدر عن روية ونقد في نزاهة وسبر غور الموضوع كالطبيب الماهر الذي كيف يحتال للجراحة وتفاصيلها ليصح المريض على يديه لا ليموت. وبعد ما مات الرافعي جعلت أرقب أقوال الناس، أرهفت أذاني وأيقظت نفسي؛ وكان أن كتب الزيات وغيره مقالاتهم في هذا الشأن فجثمت لقرأتها والتأمل فيها فأجتمع لي بعض الرأي وأعقب ذلك(255/34)
فترة طويلة كان العريان فيها يكتب تاريخ الرافعي، على أنني كنت أرقب حلول مفتتح هذا العام لأقرأ مقالات الأدباء بمناسبة مرور عام على وفاته، فظفرت في الرسالة بمقالة عنوانها (بين الرافعي والعقاد) للأستاذ سيد قطب فالتهمتها التهاماً؛ ثم عدت مرة أخرى أروي تأملاتي فيها فلذ لي من الأستاذ أدبه وذكاؤه وصراحة ضميره، وتمنيت أن لو ضم إلي ذلك حسن المواجهة ولين المجابهة تجاه أخيه الأديب الذي هو شريكه في الشعور والفكرة والقلم. وأخذت أفكر في حسن هذه المواجهة وكيف يجب أن تكون؛ وقلت ما كان ضره لو قال قولاً أرق وأحسن وأدعى لحرية النزاهة: يا ليته ويا ليته. . . وأستميح الأستاذ أني كنت أخذت عليه ما كتب كما أخذت على الأستاذ محمود محمد شاكر ما أملاه في الرد أيضاً، ولكنه معذور بعض العذر لأن الجروح قصاص. ولو كتب الأستاذ شاكر رداً جميلاً أرق مما كتب فهل كان الأستاذ قطب يستمر ويزداد في غلوائه يا ترى؟ ولا أدري هل يحجني الأستاذ شاكر بأن الأستاذ قطب قد شن الغارة دفعة وغلا ثم غلا وتحدى أصدقاء الرافعي فكان لزاماً أن تحفظ كرامة الرجال وكرامة الشعور فرددنا عليه بما يلائم المقام؟
وهنا يجدر بي أن أذكر ما كان وقر في نفسي اتجاه أستاذي الكبير (الزيات) حفظه الله عند ما كتب الأستاذ قطب حديثه هذا. . . ليغفر لي سوء ظني على رغم أن لي مندوحة عن هذا الغفران بالتوبة المستورة، ولكن الأديب يلذ له إظهار ما يخفيه الناس. قلت في نفسي كان يحسن بأستاذنا أن يعتذر من نشر مقال الأستاذ قطب أو يكتب له كلمة على الأقل في هذا المعنى ويبين له فيها وجه الأحجية وحسن الاختيار في العدول عن هذه الخطة لا حباً للرافعي، ولا بغضاً للأستاذ قطب، بل تحرياً للأولى واحتياطاً لما سينجم عن ذلك كله. ولما صدر العدد 253 والعدد 254 وقرأت مقالي الأستاذ الزيات عن الرافعي أخذتني - والله - هزة الطرب ونشوة الأدب لما فيهما من الصفاء النقدي النزيه الذي لا تشوبه ثورة ولا تخالطه كدرة، حتى لكأن هذين المقالين صورة روحية للرافعي لو صبتا في قالب الحياة لكانتا هما الرافعي نفسه. ولا تؤاخذني يا صاحب الرسالة فيما رميتك من سوء الظن. وما كنت أدري أن سماءك الصافية ستغدق وابلا من الخير والجمال والحياة تعلمنا فيه - معاشر المتأدبين - كيف نرتع في رياض الأدب الجميل الذي لا تصلح له إلا ملائكة السماء أو(255/35)
ملائكة الأرض ليكون مثلا أعلى للناس دائما
ماذا يضيرني إذا قلت للمخطئ إنك مخطئ بدلا من أن أقول له إنك غبي. . . بليد. . . لا، بل يجب عليّ - وأنا أديب - أن أحتال في إفهام المخطئ خطأه من غير أن أصارحه به ما دام هناك شعور رقيق وإحساس مرهف. وما دمنا نحمل بين جوانحنا الإنسانية المتأدبة التي تحتم علينا الإحسان والرفق والمودة فلن نجد إلى غيرها سبيلاً
أرأيت ما الذي أثار الرافعي والعقاد تلك الثورة المشهورة؟ أليس رضاء النفس والشهوة والكبرياء بما حصل، أليست تلك زلة الإنسانية التي أبتلى الله بها البشر؟
آه! ما أحوجنا إلى أدب صاحب الرسالة عسى أن نلتقي جميعاً ذلك اللقاء المحبب ونضم تلك الأجنحة بعضها إلى البعض لتطير في آفاق الجمال واللذة والنور وندخل في عالمنا الحافل المليء بأعاجيب السحر وأناشيد الخلود، ذلك خير مستقر وأحسن موئلا
وأخيراً أرجو الأستاذ قطب أن يحسن بي الظن ما استطاع وألا يظن أني قصدته وحده فيما كتبته. إن ذلك عام ما خصصت به أحداً، وإنما كان الأستاذ قطب السبب في ذلك ليس غير، فله شكري وأخوتي ومحبتي هو وإخوانه الأدباء
(دمشق)
عبد الفتاح غندورة(255/36)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 19 -
طال انتظاري ولم ترجع ظمياء
وانقضى مساء وصباح، ومساء وصباح، ولم ترجع ظمياء
ومضت ثواني ودقائق وساعات وأيام وليال ولم ترجع ظمياء
وتقلبت دجلة من حال إلى أحوال ولم ترجع ظمياء
وطافت بالأشجار والأزهار والرياحين أطياف البؤس والنعيم ولم ترجع ظمياء
وطوفت بجميع المعاني، وتذوقت صنوف اللواعج، وتشوفت إلى جميع المطالع، ولم ترجع ظمياء
وتلقيت مئات الرسائل فلم تكن من بينها رسالة عطف أو اعتذار من ليلى أو ظمياء
أيكون هذا آخر العهد بليلى وظمياء؟
إني إذاً لمن الهالكين. كتب الله لوطني وأهلي جميل العزاء!
ولكن ما السبب في هذه القطيعة الباغية، وما أذكر أني أسأت أو جنيت؟
أيكون السبب تلك الكلمة الفكاهية التي داعبت بها ليلى بعد رجوعي من البصرة؟
ربما كان ذلك، فالمزاح كان ولا يزال من أشنع البليات، وما استطاع إنسان أن يجرح قلبي إلا عن طريق المزاح. والأحباب ينسون واجب الأدب فيتطاول بعضهم على البعض باسم المزاح؛ وذنبي في هذه القضية غير مغفور، لأني انقطعت لدراسة الفلسفة عدداً من السنين، وكان الظن أن أفهم أن المزاح على لطفه لا يخلو من اشواك، وقلب ليلى رقيق تؤذيه خطرات النسيم، فكيف لا يؤذيه المزاح؟
لو رجعت إلى ليلى لأحسنت الاستغفار من ذنبي، ولكن متى أرجع؟
لقد داعبتني ليلى ألف مرة فتقبلت دعاباتها بأحسن القبول، وكنت لجهلي أحسب أن ليلى سيرحب قلبها بمثل ما رحب به قلبي
فكيف أخلفت ظنوني يا منية النفس ويا روح الفؤاد؟
ما هذا؟ أنا داعبت ليلى قبل ذلك فلم تغضب، فكيف تكون الدعابة الأخيرة بداية البؤس(255/37)
ونهاية النعيم؟
إن من واجبي نحو هواي أن أدرس هذه القضية حق الدرس
وقد بدأت أفهم أن كلام الجرائد والمجلات أفسد ما بيني وبين ليلى كل الإفساد فقد مضت الشهور الطوال والجرائد تهتف باسمي في الصباح والمساء وظن الأدباء العراقيون أن الفرصة سنحت لتصفية ما بيني وبينهم من حساب، وكنت أقرأ ما أقرأ وأنا أبتسم. كنت أقول: هذه يقظة أدبية واجتماعية أردّ بها ديوني إلى العراق. كنت أقول: هذه أقلام صدئت وقد حان لها حين الصقال، فليكن أدبي هو ذلك الصقال
كنت أقول وأقول، ولكن التفكير في جوهره غير سليم
ما الذي كان يمنع من دفع مفتريات بعض الجرائد والمجلات؟
ما الذي كان يمنع؟ كنت مشغولاً بواجبات ثقال تكاد تقصم ظهري. ولكن هل تفهم ليلى أني مشغول وأن لي منهجاً يفرض ألا أخرج من بغداد إلا وفي حقائبي خمسة مجلدات؟
ينبغي أن أعترف بأن مركزي بين الأطباء لم يتزعزع بسبب الأدب وحده، وإن كانت حرفة الأدب قادرة على زعزعة العروش، وإنما وقعت النكبة وتقوضت عيادتي بشارع المدابغ وعيادتي بشارع فؤاد لعدم اكتراثي بما يكتب في الجرائد، وعدم اهتمامي بما يتقول الناس
وأصل البلية أني كنت أحسن الظن بعقول بني آدم - وهذا أعظم خطأ ارتكبته في حياتي - فقد كنت أظن أن الناس يميزون بين الحق والباطل فيما يقرءون؛ وكنت أتوهم أن أكاذيب المفترين لا تضرني، فكنت أقرأ ما يكتب عني بلا اكتراث، وأقول: هذه مفتريات ليس لها أساس، وما قام على غير أساس فمصيره التهدم والزوال
وظل الحال على ذلك بعض سنين وأنا أصم أذني عن الأقاويل والأراجيف إلى أن دخل عيادتي مساء يوم مريض له شأن في المجتمع، ويكفي أنه أستاذ في أحد المعاهد العالية، فلما فحصته وشخصت له المرض اطمأن واستراح، فدعوته لتناول فنجان قهوة بالمكتبة فتفضل بالقبول، وفي الناس أن يتفضلون بالقبول وأنت المتفضل عليهم بالمعروف
وفي أثناء الحديث فهمت أن زوجته عليلة وأنه كان يود أن أمضي لعيادتها لولا خوفه من كلام الناس. وبعد مراجعتها فهمت أن مركزه العلمي ولم يعصمه من تصديق كل ما يكتب(255/38)
في الجرائد فعرفت بعد فوات الوقت أن الاعتماد على عقول بني آدم ضرب من الخيال
إن من الجريمة أن نسكت عما يكتب عنا في أمة لا تنقد ما تقرأ، ولا تمحص ما تسمع. ومن الجريمة أن نسعى إلى الشهرة فإن الشهرة أصل كل بلاء والرجل المشهور يصدق الناس فيه كل بهتان، ولا سيما في الأمم التي تضعف فيهات الثقة بالأخلاق، ومصر التي نحبها راضين أو كارهين مبتلاة بهذه البلية، فأهلها لا يصدقون أن العبقريين والنوابغ أصحاب أخلاق، وما أزعم أني نابغ أو عبقري حتى أصبح أهلا لتلك الظنون، ولكني بالحق أو بالباطل صرت من أشهر الرجال وللشهرة عقابيل
كنت أستطيع مع كثرة الشواغل أن أدفع مفتريات بعض الجرائد والمجلات، ولكن صرفني عن ذلك إيماني بأن ليلى صديقة غالية، وأنها خليقة بالا تفتح أذنيها لما يصوبه الحاقدين ومن دسائس وأضاليل. ثم كتب الله أن أتلقى عن ليلى درساً لم أظفر بمثله وقد قضيت عشرين عاماً في الحياة الجامعية وتلقيت عن ليلى درساً عظيما جداً، وأنا أقدمه إلى قراء هذه المذكرات بالمجان وإن كنت دفعت ثمنها من دمعي ومن دمي، أنا العاشق الذي يعاني ظلام الحب وظلام الليل
استمع هذا الدرس يا قارئ هذه المذكرات استمع فما أرجو منك جزاء ولا شكوراً وإن كنت أتشهى أن تسكب على قبري دمعة يوم أموت؛ وسأموت، فلكل أجل كتاب
تعلمت عن ليلى أن الصديق في حاجة إلى حراسة، وأستطيع أن أقول أن حراسة الغنم أسهل من حراسة الأصدقاء، ولا يغفل عن حراسة صديقه إلا غافل أو جهول، وقد خلق الله لكل صديق أذنين طويلتين، وهاتان الأذنان لهما سمع دقيق، والصديق يحسبك من بعض ما يملك، فهو يسمع فيك كل قيل، كما يسمع في داره أوهام المهندسين، وكما يجتلب لأملاكه صغار المساحين، وهو يفرح لما يساق إليك من زور وبهتان، لأنه من بني آدم، وابن آدم حيوان ضعيف لم يعش بفضل القوة كما عاشت الأسود، ولم يعش بفضل الجمال كما عاشت الغزلان، وإنما عاش هذا الحيوان الضعيف بفضل المكر والدهاء
استمع هذا الدرس يا قارئ هذه المذكرات من الفيلسوف المودع، فما في دنياكم ما يشوقني يا بني آدم حتى أستطيب فيها العيش
استمع يا غافل يا جهول(255/39)
ليس في أصدقائك ما يسره أن تكون أعظم منه علماً أو جاهاً ليس فيهم والله ما يسره أن يكون إخلاصك في هواه أعظم وأروع
فالصديق - وا أسفاه - يتشهى أن يثبت لديه أنه أعظم منك في كل شيء ليتصدق عليك بالعطف والحنان
الصديق يرضيه أن يقول (أعطيت) ويؤذيه أن يقول (أخذت)
والأصدقاء يملكون في إيذائك ما لا يملك الأعداء
العدو متهم - بفتح الهاء - وتجريحه إياك يتلقاه الناس ساخرين.
أما الصديق فمؤتمن - بفتح الميم - وتجريحه إياك يتلقاه الناس بالقبول
وللأصدقاء أساليب في تجريح من يصادقون، ويا ويل من ابتلته المقادير بلئام الأصدقاء! يترفق الصديق فيقول: أنتم تعلمون أني شديد العطف على فلان لما بيننا من متين الصلات، وهو والله رجل مفضال لولا كيت وكيت!
ويتلطف الصديق فيقول: لا تثوروا على فلان فهو عبقري وللعبقريين بدوات!
وتزداد البلية بالأصدقاء حين تصبح ولك نصيب من المجد. فالصداقة توهمهم فكرة المساواة في الحظوظ والدرجات، فإن تقدمت وتخلفوا لم يكن لهم معنى ذلك عندهم أنك أخذت ما تستحق، وإنما كان معناه أنك خدعت زمانك فانخدع، وأن لك وسائل يعفون عنها لأنهم على تخلفهم شرفاء!
والصديق لا يصدق أنك تصل إلى منازل المجد بالجهاد وسهر الليل وإقذاء العينين تحت ضوء المصباح، وإنما يتخيل أنك اغتصبت المجد بالتهويل والتضليل، ولا يرى لك رأياً طريفاً أو فكرة عبقرية إلا حدثته النفس بأن يغض منها بالتصغير والتزييف.
وأخطر أعدائنا هم الأصدقاء الأعزاء الذين جاريناهم في ميادين المجد. فهؤلاء لا يتصورون أبداً أن ميادين الجهاد فيها سابق ومتخلف. ولعلهم كانوا يظنون أن من حقهم علينا أن نتخلف ليتقدموا. ولو أننا فعلنا طائعين لما ظفرنا منهم بكلمة تفصح عن حفظ الجميل، ويكون فيها معنى العزاء، وإنما نلقى منهم الصلف والاستطالة والكبرياء والعدوان
والأصدقاء يصنعون بمصايرنا ما تصنع جراثيم المرض المدفون، فهم يقتلوننا عن طريق الاغتيال وما نجد في إدانتهم شاهداً واحداً حتى نقدمهم إلى ساحة الجزاء(255/40)
وفي الدنيا السخيفة تقاليد تحمي الصديق المخادع من انتصاف الصديق الصدوق. والتفكير في محاسبة الصديق هو في ذاته بلية، لأنه يفتح الباب لأهل اللغو والفضول، ويعرضك لمآثم الشبهات ومنكرات الأراجيف
والعدو اللئيم هو في الأصل صديق حميم. . . ولكن كيف؟ كان صديقاً يجب أن تكون في خدمته كيف شاء، وحين يشاء؛ فلما التويت عليه بفضل ما لك من وجود خاص تنكّر وتغير ومضى يضع في طريقك الأشواك بلا رحمة ولا إشفاق
الصديق الحق هو الذي يعتقد أنك أفضل منه وإن كان في الواقع أفضل منك
هذا هو الصديق. ولكن أين من يعرف هذا المعنى النبيل؟
أين الصديق الذي يعرف قيمة التضحية بأهواء النفس؟
أين الصديق الذي لا يريد أن يتخذ من شهرتك لوحة إعلانات؟
أين الصديق الذي يفهم أن من حقك أن تناضل لتسود؟
أين الصديق الذي يدرك أن المودة كالصلاة يفسدها الرياء؟
أين الصديق الذي يرى عيوبه ويعمى عن عيوبك؟
بل أين الصديق الذي لا تخاف أن يتزيد عليك؟
وا أسفاه لقد انقضت أحلامي وأوهامي. كنت أرى الجمال في وجوه الناس، فأصبحت لا أراهم إلا وأنا متفزع متخوف كالذي يمس الحية في غسق الليل. كنت كالطفل يأنس بجميع الوجوه، ويتسمع لجميع الأصوات، ويتشوف إلى كل ما في الوجود، ثم أمسيت وأشهى مناي ألا يطرق بابي طارق، وأن لا تقع عيني على مخلوق
كذلك ابتدأت وكذلك انتهيت، وعند الله والحب جزائي
آه، ثم آه!!
ما هذه الخطوط التي أسود بها وجه القرطاس؟
هذه الخطوط هي نصيبي من حب ليلى ومن عبث ظمياء
وتلك نهاية من يحسب أن نهار الحب لا يعقبه ليل
تلك نهاية العاشق الغافل الذي قضى الأعوام الطوال في عبادة الجمال
ولكن ما هذا اللؤم الذي ينحدر إليه قلمي؟(255/41)
أمن أجل أيام في معاناة الصدود أكفر بالصداقة وبالحب؟
أحبك يا ليلى، احبك يا ليلاي
أحبك يا مسكينة لأني من المساكين
أحبك يا شقية لأني من الأشقياء
أحبك يا ليلى وسأنحت لك صنما من ضلوعي
أحبك يا ليلى وسأنزف دمي قطرة قطرة ثم أتخذ من حديده خاتماً أقدمه إليك يوم يحين الفراق، وما أصعب الفراق!
أحبك يا ليلى وسأرقم أسمك الجميل على خد القمر وجبين الشمس
أحبك يا ليلى وسأترحم عليك في صلواتي كما أترحم على أبي وأمي
أحبك يا ليلى وسأتعذب في سبيلك محنتي وعذابي
أحبك يا لئيمة يا غادرة يا ظلوم، وأصفح من أجلك عن أهل اللؤم والغدر والظلم والجحود
أحبك يا ليلى، أحبك، وما أتصدق عليك بالحب، فأنا أهفو إليك بلا وعي ولا إحساس. وقد حاولت مليون مرة أن أتوب من هواك فما صحت لي توبة، ولا نفعتني عظة، ولا عصمني عقل،
ولا هداني وجدان
أحبك يا روحي ويا ضناي. أحبك أصدق الحب، وأبغضك أعنف البغض، ولو رأيتك في هذه اللحظة لرويت روحي بدمك الغالي، ولكن متى أراك؟ تلك أوهام وأضاليل!
لقد نجوت من يدي يا شقية، فعليك غضبة الله ولعنة الحب!
أتريد ليلى أن أنتحر؟
هيهات ثم هيهات! فأنا طبيب ومن الحمق أن أداوي الناس وأنسى نفسي
قرأت (شريعة الحب) فقرة فقرة، وهي مسطورة على قبر الحلاج، وقد فهمت من أسرار الحروف أن الحب له دواء. ودواء الحب أن تخلق لنفسك شواغل جديدة تصرف قلبك في إطالة
التفكير فيمن تحب
وكذلك فعلت فأقبلت على شهود موسم الحفلات في بغداد وهو موسم لا يعرف قيمته إلا من(255/42)
يراه شهدت بعض الحفلات التمثيلية التي أقيمت في المدارس الثانوية، فعرفت أن التمثيل سيكون له مستقبل في بغداد. ورأيت أهل العراق يخشون ما يخشاه أهل مصر من اختلاط الجنسين، ولكن أهل مصر احترسوا بعض الاحتراس، فهم يؤلفون للمدارس روايات تمثلية تخلو من المرأة؛ وليت أهل العراق يصنعون مثل هذا الصنيع إلى أن يفصل الزمن في قضية اختلاط الجنسين، فقد رأيتهم يمثلون في المدارس روايات فيها المرأة، والمرأة في هذه الحال شاب يلبس ملابس النساء. وأنا أرجو زملائي من نظار المدارس في العراق أن يفكروا في هذه القضية، فظهور الشبان في ملابس النساء لا يقل قبحاً عن ظهور النساء في ملابس الرجال. وما أقول إن الرجل أشرف من المرأة من حيث الجنس فلكل جنس خصائص، وإنما أريد أن أقرر أن شرف الرجل في الرجولة وشرف المرأة في الأنوثة، فالمرأة تجرم حين تلبس ثوب رجل، والرجل يجرم حين يلبس ثوب المرأة. والإشارة في هذا الموضوع الدقيق تكفي للبيان
وشهدت حفلة توزيع الجوائز بكلية الحقوق. وكانت حفلة رائعة خطب فيها الدكتور محمود عزمي خطبة جيدة، ولكنه لم يراع براعة المقطع، فقد ختم الخطبة بإعلان الوفاة، وفاة أحد المتخرجين. وصح للأستاذ محمود درويش أن يقول (ما هو خوش مقطع هذا) وعند تلاوة القسم أقسم المتخرجون دفعة واحدة بلا خشوع، وكان الرأي أن يقسموا واحداً واحداً. وقد تذكرت القسم الذي أقسمته على يد الأستاذ الدكتور طه حسين يوم ظفرت بالدكتوراة الأخيرة في كلية الآداب، فقد ترددت وتهيبت، لأني كنت أخشى أن يربطني القسم وحدي، فلتذكر ذلك أحجار كلية الآداب بالجامعة المصرية، إن كان للأحجار وجدان وألقى الطالب حازم المفتي خطبة فصيحة نوه فيها بالأواصر العلمية بين مصر والعراق. وهنا أذكر أن العراق شرف مصر حين ائتمنها على كلية الحقوق، وهو شرف عظيم جداً، ومن واجب الأساتذة المصريين أن يتذكروا في كل لحظة قيمة هذه الثقة الغالية، من واجبهم أن يفهموا أن من الشرف أن يموتوا في سبيل تلاميذهم في العراق ومن حسن الحظ أن ذلك الطالب نص على أن مصر تفقهت على يد الشافعي وقد رحل إليها بعد أن تفقه بالعراق
ولو كان لي مجال بين الخطباء في ذلك اليوم لأضفت إلى هذا أن علماء مصر ظلوا مئات السنين وهم يهتفون (قال البصريون وقال الكوفيون) وحصير الأزهر يشهد، وهو في هذا(255/43)
الباب من أصدق الشاهدين
أعتقد أن العراق أدى حق الأخوة حين وثق بمصر، ولم يبق إلا أن يؤدي المصريون واجبهم في حمل الأمانة وحفظ العهد
وخطب معالي وزير المعارف خطبة وجيزة جداً أعلن فيها ارتياحه إلى تبادل العطف بين الأساتذة والطلاب، وهو معنى شريف
وبعد توزيع الجوائز وتناول الشاي غنى الأستاذ محمود توفيق مع فرقة الإذاعة أغنية طريفة. ثم غنت المطربة زكية جورج أغنية فيها أسم (ليلى) فاشرأبت أعناق الحاضرين للبحث عن مكاني، وصاح سعادة الأستاذ تحسين إبراهيم: أين الدكتور زكي مبارك؟ فتقدمت على استحياء والدمع في عيني، وشكرت المطربة، ورجوتها أن تغني: (على بلد المحبوب وديني)
فلما وصلت إلى عبارة (وعيني تبقى في عينيك) نظرت إلي وحدقت بعطف وحنان، وفهم الحاضرون الإشارة فضجت أكفهم بالتصفيق، ورأيت موقفي صار في غاية من الحرج فأنسحبت وحرمت نفسي بقية الأطايب التي وعد بها منهج الاحتفال
وبعد أسبوع حضرت حفلة توزيع الجوائز بكلية الطب فرأيت الطلاب في صف والطالبات في صف، وراعني أن يكون الطالبات جميعاً من البيض، فيا رباه كيف جعلت ليلاي بالعراق سمراء!. . . أحبك يا ليلى وأحب شعاع السمرة وهو يتموج في سرائر وجهك الجميل!
وأقسم المتخرجون اليمين واحداً واحداً. وليتهم أقسموا دفعة واحدة، كالذي وقع في كلية الحقوق، فقد قضيت نحو ألفي ثانية وأنا أسمع (وأقسم أن لا أفشي سراً لمريض) وأدرك الأستاذ مهدي كبة حيرتي وذهولي فقال: تلك عاقبة من يفشي أسرار مرضاه من الملاح
فضحتني يا ليلى، شفاك الله وعفا عني!
ولما خرجت من الحفلة مضيت إلى محطة الإذاعة، مضيت أستجدي القول المأثور:
يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
ولكن سكرتير الإذاعة في هذه المرة رجل له وجه الجاحظ ولو شئت لقلت إنه الصفواني. وقد اعتذر عن إذاعة ذلك الصوت لأنه لا يريد أن يحول أهل العراق كلهم إلى مجانين.(255/44)
كأنه يعقل!
وخرجت مع الأستاذ إبراهيم حلمي راجياً أن يكون في سمره الطريف ما يخفف حزني، فما خف حزني ولا تزحزح، ورجعت إلى البيت وأنا مكروب
وقمت قبيل الفجر مرتاعاً لطرق الباب، فتدثرت وخرجت فإذا الجار العزيز يسأل عن حالي وفي ذراعه زوجته المصرية النبيلة التي رعت غربتي أكرم رعاية. فقلت: خير! ما عندك يا سيد داود؟ فأجاب: لقد استيقظت السيدة وهي مرعوبة، لأنها سمعتك تصرخ آه! آه! يا ليل! يا ليل! وقد حسبناك مريضاً فحضرنا للاطمئنان عليك
فقلت: أنا بخير كما ترون وصوبت بصري إلى الزوج وقلت: الرفق لا يستغرب من عراقي مثلك. ونظرت إلى الزوجة وقلت: الأزهار المصرية رقيقة الأوراق
أنا كنت أقول: آه آه؟ هذا صحيح، ولكني ما كنت أقول: (يا ليل يا ليل)؛ وإنما كنت أقول (يا ليلى يا ليلى)
فضحتني يا ليلى عند جيراني وقد شفاك الله فمتى يمن عليّ بالشفاء؟
وفي ظهر ذلك اليوم العنيف مضيت لشهود حفلة الطيران، وهي حفلة سنوية يستبق إليها أهل بغداد من رجال ونساء، أقيمت الحفلة في المطار المدني ودامت ثلاث ساعات شهدت فيها الأعاجيب وعرفت أن فتيان العراق يعرفون معنى السيطرة على الهواء، وكان في المنهج صورة طريفة من التقاط الرسائل فألقيت بنفسي في ساحة المطار وقدمت رسالة إلى الله عز شأنه أدعوه أن يزيح الكرب عن أهل فلسطين، فإن شكاياتهم من الظلم كدرت جميع الناس، وآذت المنصفين من أحرار اليهود. وأشهد صادقاً أني رأيت ناساً من بني إسرائيل يتوجعون لمصير العرب في فلسطين، وفلسطين الشهيدة لا تدافع اليهود من العرب، وإنما تدافع اليهود من الأجانب الذين يدخلون عليها بلا تسليم ولا استئذان فيغرسون الحقد على سائر اليهود في الأقطار العربية. وشهدت الطيران القاصف، طيران الهجوم، فتمنيت لو ساد السلام وتحول الطيران في جميع بقاع الأرض إلى وسائل اقتصادية
وشهدت تشكيلات الأسراب فرأيت كيف تقام الخطوط الهندسية في أجواز الفضاء وفي الناس من يعجز عن إقامة الحدود الهندسية فوق القرطاس!
ورأيت الطيران الأهوج فتمنيت لو سموه طيران القلوب. فليس لأحوال القلوب ميزان!(255/45)
كانت حفلة الطيران ممتعة من كل جانب وقد خبلت عقلي فلم أتنبه إلى أن مكاني كان قريباً جداً من مكان جلالة الملك. ولو كنت تنبهت لتشرفت بمصافحته وهنأته بما وصلت إليه القوة الجوية في العراق
وبعد أيام شهدت حفلة الكشافة وهي تجل عن الوصف، وهي الشاهد على أن شبان العراق نقلوا إلى بلادهم أقوى مظاهر التمدن الحديث
وبفضل هذه الحفلة عرفت كيف أنشئ في دار المعلمين العالية فرعاً للألعاب الرياضية
كان في الحفلة كشافون وكشافات وكان من تقاليد الكشافين أن يحيوا المقصورة الملكية فيرد عليهم جلالة الملك بتحية أرق وألطف، أما الكشافات فكن يمررن على المقصورة الملكية بلا تسليم
آه ثم آه من دلال الملاح!
داويت قلبي بهذه الشواغل التي أتاحها موسم الحفلات في بغداد وحسبت أني نجوت من عقابيل الصبابة الباغية
ولكن هيهات
ثم لطف الله فحضرت ظمياء.
- إيش لونك يا دكتور؟
- بخير وعافية يا ظمياء، لولا الذي تعلمين، وإيش لون ليلى؟
- في عافية الفرس الجموح
- ومتى أراها يا ظمياء؟
- لن تراها إلا إذا استغفرت من ذنوبك؟
- وهل للأطفال ذنوب يا ظمياء؟
- إسمع يا دكتور، إن الدسائس حولك كثيرة جداً، وليلى توجه إليك تهمات تهد الجبال
- أنا متهم يا ظمياء؟ متهم في بغداد؟ وعند ليلاي؟ آمنت بالله، وكفرت بالحب!
- تشجع واحتمل الصدمات، فقد عشت دهرك من الشجعان ومن الصابرين.
- وكيف تتهمني ليلى يا ظمياء؟
- هي تتهمك، ولك أن تدافع عن نفسك إن استطعت!(255/46)
- أفصحي يا ظمياء، فقد طار صوابي
- اسمع يا دكتور، إن ليلى توجه إليك التهم الآتية، وكلها مزعج مخيف
أما التهمة الأولى فهي:
(للحديث شجون)
زكي مبارك(255/47)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 12 -
وحدث أن كان مولد الحزب الجديد في نفس العام الذي كانت تختار البلاد فيه رئيسا جديداً للولايات، فكان النشاط السياسي بذلك مضاعفاً؛ وأحس الناس جميعاً أن مسألة العبيد قد أصبحت القطب الذي يدور عليه هذا النشاط السياسي فألقوا بالهم إليها على نحو لم تسلف بمثله فترة في تاريخ البلاد
وعرف الحزب الجديد كما أسلفنا باسم الحزب الجمهوري؛ ولقد أخذ الداعون إلى إنشائه ينشرون الدعوة له في كل ولاية؛ وكان أول اجتماع أهلي لهذا الحزب عام 1856 في مدينة فيلادليفيا؛ أما عن مذهب الحزب فقد أجتمع أيضاً مرة أول الأمر على فكرة نجملها في العمل على مقاومة انتشار العبيد كما جاء في اتفاقية مسوري؛ وكان هؤلاء الأنصار في الولايات أخلاطاً من الأحزاب الأخرى تراهم وإن اتفقوا على المذهب أو كادوا، لا يزالون مختلفين في الوسيلة.
ولم تك الينوس تلك الولاية التي ينتمي لنكولن إليها بدعاً من الولايات. ولقد دعا أنصار الحزب الجديد فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر ويحددون الغاية ويسددون الوسيلة؛ وأنعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهده من رجال السياسة المبرزين؛ وأدلى إليهم بما يرى، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول عنها والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار العبيد والمحافظة على كيان الاتحاد. . .
ولكن لنكولن لا يزال من الوجهة الرسمية من رجال حزب الهوجز، فهو لم يعلن انفصاله(255/48)
عنهم بعد؛ فلما كان يومئذ في طواف قضائي وقد دعا أنصار الحزب الجديد في الينوس إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة بلومنجتن؛ ووضع صديقه هرندن أسمه في الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه؛ فجاءه البرق بموافقته وبذلك أصبح إبراهام عضواً في الحزب الجديد
واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا ماذا يرون؛ وتطلعت أنظار المؤتمرين إلى لنكولن وفي روع كل منهم أنه رجل الساعة وأنه إبن بجدتها؛ وبدأ فقال لمن حوله: (دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد إعلان الاستقلال) وهو يريد بإعلان الاستقلال ذلك الحادث التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة كأمة مستقلة في هذا العالم؛ وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم. . . وأصدر المؤتمرون قرارهم فقالوا: (أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد وفق آراء وتجارب جميع رجال السياسة المبرزين من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى للحكومة، أن المؤتمر في ظل الدستور يملك السلطة التامة ليوقف انتشار العبيد في الولايات؛ وأنه كما سيحرص على كافة الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، نعتقد أيضاً أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية كما نص عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من نقاء ودوام؛ كل أولئك يستدعي أن يكون تنفيذ السلطة بحيث يمنع انتشار العبيد في الولايات التي تعد حرة لحد الآن)
وإننا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون؛ وفي ذلك الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب ويتحرك باسمه كل لسان! ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في جميع الولايات نجدها لا تختلف كثيراً عما جاء في قرار رجال اليونس، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيراً عما يرى لنكولن، وفي ذلك دليل آخر على عبقرية الرجل وعلى أصالته. . .
ونظر إبراهام إلى المؤتمر فإذا رجاله على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي تتحقق لهم بها تلك الغاية وأذاهم باعتبار ما سلف، فئات متباينة آراؤها؛ وإنه ليخشى الخلف في الوسلية إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس صُوى الطريق وركوب الظلام وفي ذلك سوء المنقلب؛ وإنه ليتحرق شوقاً أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت على الغاية؛ إنهم إذاً لفائزون، وإن لهم بذلك لبأساً يهون كل أمر عسير،(255/49)
ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالعبيد من أهل الجنوب
وكأنما أحس المجتمعون بما أحس، وإلا فماذا دعاهم أن يهتفوا به؟ لقد تجاوبت باسمه جنبات المجتمع، فراح الرجال يتصايحون لنكولن. . . لنكولن. . . نريد أن نسمع لنكولن! وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات! لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري ماذا يقول. وسكتت الأصوات بعد جلبة، وأستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط السرور والحماسة يموج في بعض. . .
وقف الخطيب أول الأمر صامتاً كأنما أغلقت من دونه مسالك القول؛ والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره فبدت في مظهر يقصر عن وضعه معنى الجمال. وصفه أحد الحاضرين فقال: (كان في تلك اللحظة أوجه من رأت عيناي أبداً)
وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا فرق بينه ولا اختلاف، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر! وسرى إليه منهم تيار شديد من الحماسة؛ وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس؛ وكانت تشتد العاطفة حيناً فتفيض عيون، ويلتمع الدليل آونة فتصفق الأكف وتنطلق بالهتاف الحناجر، ويروق المثال وتملح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات. . والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر ويستمر لا يفتر حماسه، ولا يكل منطقه، ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. . .
ذلك ابن الغاب قاطع الأخشاب! ذلك هدية الأحراج إلى عالم المدنية؛ كأنما قد هيأته الأقدار لرسالته فبعثته من موطنه قوياً قوة الطبيعة واضحاً كالشمس لا يحجبها غيم، ولكن أودعت في نفسه سراً عميقاً تحس لديه بما تحس به إذا وقفت في مدخل الغابة
أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالاً للبس أو شك؛ وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني؛ حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فإنه ليحس في الجو ما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب(255/50)
ريحهم وتضيع أصواتهم بدداً؛ وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما يكون الوضوح
تعرض لمسألة كنساس فقال في قوة اليقين وفي جلال الحق؛ ستكون كنساس حرة؛ وأردف فذكر السامعين أن الخروج على اتفاقية مسورى والسماح بانتشار العبيد وراء الحد الفاصل مؤد حتما إلى جعل مسألة العبيد مسألة قومية عامة، ولذلك فإنه للفوز أبداً أو الهزيمة أبداً، فإنه ليشعر بتزايد قوى المتمسكين بمبدأ انتشار العبيد بينما يتراخى الداعون إلى مقاومة تياره. وكان في خطابه يبدو منه ما يبدو من رجل مقبل على موقف حاسم في تاريخ حياته، ففي نبراته رنة الإخلاص، وفي مقاطعه وابتداءاته لهجة اليقين وبينات الحرص الشديد أن يتدبر كلامه المنصتون، وعلى وجهه علامات الاهتمام حيناً وإمارات القلق حيناً ومخايل الحذر والخوف واللهفة أحياناً، وكذلك العظيم إذا تكلم كان كلامه من وجدانه ومن لبه، وكانت حركاته حركات جوانحه وخفقات قلبه
ولقد تنبأ ذلك الرجل العظيم فذكر للناس أن مسألة العبيد سوف لا تحل حتى تنتهي إلى أزمة تجتاز بفضل إرادة الأمة، فإن تلك الإرادة متى أوقظت اجتاحت الصعاب؛ وكأنه كان يرى ما سيحدث عما قريب في صورة حرب أهلية ضروس
وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بيوكانون مرشح الحزب الديمقراطي، ولقد ظهر فيها على منافسيه أحدهما مرشح الحزب الجديد، والآخر مرشح حزب آخر كان يعرف بالمحايد، ويضم عدداً كبيراً من الهوجز، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على معنى الضعف، فإن ثلث أصواته انضمت إلى الحزب الجديد كما أن هذا الحزب قد نال على حداثته عدداً من الأصوات يلي في مقداره عدد أصوات الحزب الفائز، حتى لقد أعتبر الكثيرون من المفكرين أن الفوز الحقيقي إنما هو للجمهوريين
ولقد أنضم إلى هذا الحزب الوليد كثير من أهل الثقافة وأولي الأبصار، فكان من رجاله في مجلس الشيوخ نفر من الأماثل الذين أشربت قلوبهم حب بلادهم والذين فطرت نفوسهم على العدالة وجبلت على الرحمة والإنسانية، والذين كانوا يمقتون نظام العبيد من أعماق وجدانهم إذ يرونه نظاماً لا يوائم ما ينشدونه لوطنهم من نهوض وقوة. . .
وبدرت يومئذ بوادر الطلعة الكبرى فلقد تلاحقت الأحداث وجرت الشائعات بالسوء(255/51)
وانبعثت الأحن والحزازات وتنابذ الناس وتباغوا وأصبح بأسهم بينهم شديداً؛ فما هي إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البيان. . .
وكانت أولى تلك الأحداث ما كان في مجلس الشيوخ فلقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر عرف بقوة الجنان وذلاقة اللسان وتوقذ القريحة، وهو ممن يكرهون أشد الكراهية نظام العبيد، حمل في جرأة وقوة على قرار نبرسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري. ولقد كانت لهجته لاذعة وحجه قاطعة وعباراته مقذعة؛ فلما كان ذات يوم بعدها جالساً إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون هجم عليه عضو من أهل الجنوب فضربه على أم رأسه بعصا غليضة فسقط على الأرض مغشياً عليه، فكانت الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية، فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلاً جديراً بالتوقير. وقدم له جماعة من الطلبة عصا ذات رأس من الذهب! أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته النعلة من نفوسهم وما تركته من الغيض في صدورهم فذلك ما لا ينهض لتصويره كلام
وحدث بعد ذلك حادث آخر رج البلاد من أركانها، وذلك أن أحد العبيد، رحل مع سيده إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكانت أسرة ذلك العبد معه، وكان عبداً ذكياً له حظ من التعليم أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات العبيد والولايات الحرة، فرفع أمره إلى القضاء يطلب أن يتمتع هو وأسرته بالحرية ما دامو في ولاية حرة؛ وانتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى استقرت في المحكمة العليا في وشنجطون؛ وأصدر القاضي الأعلى حكمه، فقضى بأنه ما كان لأي عبد زنجي أن يرفع قضية أمام محكمة من محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للمؤتمر ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي سلطة تخوله ان يمنع أي شخص أن يعود بعبيده من الولايات الحرة إلى ولايات العبيد. . .
ولقد هز هذا الحكم البلاد هزاً عنيفاً؛ وأستقبله أهل الجنوب طربين يطفرون من الفرح، أما أهل الشمال فكان في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى؛ ذلك أنهم رأوه يجعل اتفاق مسوري اتفاقاً غير دستوري، كما رآه يقضي على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية الحق في تقرير ما يريده في مسألة العبيد؛ وبه أصبح العبد كقطعة من الأدوات ليس له حتى في نفسه أي حق أو شبه حق وكان خطر هذا الحكم أنه صادر في تلك المسألة التي تشغل(255/52)
الأذهان من المحكمة العليا للبلاد، وأن صدوره جاء في تلك الآونة التي كان الخلاف فيها على أشده بين الناس؛ وسرعان ما انتشر بين الطبقات صغيرها وكبيرها، وانشغل به الساسة عن كل أمر سواه فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ما يحمل من المعاني! أدرك الجميع أن قد أزفت الآزفة وأقترب اليوم الذي يحتكم فيه الفريقان إلى السيف؛ وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى ولعله كان يحس ما بينه وبين نفسه أن قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولا لا ليقطع به الأخشاب كما كان يفعل من قبل بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة. . .
(يتبع)
الخفيف
-(255/53)
أسبوع في فلسطين
للأستاذ محمد سعيد العريان
لما بلغتني دعوة مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس، لأذيع حديثاً عن المرحوم الرافعي لمناسبة تمام سنة على وفاته. . . تهللت نفسي وسُريَّ عني وقلت: هذا قطر من أقطار العربية لم يزل على وفائه لكاتب العربية والإسلام. . .
ثم عادت إليّ الذكرى، فتغشاني خزي وألم حين ذكرت أن مصر العربية المسلمة لم تستطع - بعد عام - أن تقوم للرافعي ببعض حقه حتى في الدعوة إلى حفلة تأبين تذيع فضله وتذكر به. . . إلا محاولات فاشلة لا تغني ولا تقوم ببعض الوفاء!
وازدحمت في رأسي صور وخواطر، وتتابعت على عيني ذكريات وذكريات، وتدافعت إلى صدري آلام وأشجان؛ وقالت لي نفسي: بعض هذا يا صاحبي؛ وماذا كنت تنتظر أن تصنع مصر للرافعي؛ وإن بينه وبين كل أديب في مصر ثأراً لا يخفف الموت من عنفوانه وشدته!
وكأنما كانت مقالة صديقي الأستاذ سيد قطب في ذلك الوقت لتذكرني بالحقيقة التي يعيش فيها بعض أدبائنا حين يحاولون أن يجعلوا من بعض العدوات الأدبية ثأراً يتوارثه الأبناء عن الآباء، فيجعلون من دروسهم الأدبية إلى تلاميذهم ما كان بينهم وبين الموتى من العداوة والبغضاء!
. . . وهممت أن أعتذر إلى الداعي من حياء وكبرياء، خشية أن يسألني سائل هناك: ماذا فعلت مصر للرافعي ولها كانت حياته وفيها مثواه؟ فتمنعني العزة القومية أن أتهم قومي بالعقوق ونكران الجميل
ولكني جمعت عزيمتي وأقنعت نفسي بأن العلم لا وطن له، وأن البلاد العربية كلها وطن واحد لمن يستشعر في نفسه عزة المسلم ومجد العربي. وأجبت الدعوة. . .
وكنت ثالث ثلاثة من المصريين دعتهم مصلحة الإذاعة بالقدس منذ كانت لإذاعة أحاديث أدبية؛ أما السابقان فهما الدكتور هيكل باشا والأستاذ المازني.
فلسطين هي تلك البلاد المقدسة التي تربطنا بها أواصر وثيقة منذ أقدم عصور التأريخ، من أيام الفراعين، إلى صدر الإسلام، إلى عهد صلاح الدين، إلى تاريخ المماليك، إلى زمن(255/54)
محمد علي وإبراهيم الفاتح. . . إلى اليوم الذي مزقت فيه الحرب العظمى دول الإسلام، وتوزعتها أطماع السياسة الأوربية!
بيننا وبينها وحدة الدين، وآصرة اللغة، وعاطفة الجوار، وواشجة الدم والنسب من لدن عمرو بن العاص إلى عهد الفاروق. لا يفصلها عن مصر فاصل من جبل أو بحر أو حد مصنوع، إلا أن تكون القناة الملعونة في التاريخ - قناة السويس - التي كان إنشاؤها غنماً للعالم وغرماً على مصر؛ ومنها كان الرمز الأول للقطيعة بين مصر وبلاد الإسلام، حين شاعت على ألسنة المصريين تلك الخدعة المأثورة: (مصر قطعة من أوربا!) فكانت دسيسة سياسية بارعة، فرقت بين الأخوين لأب وأم حيناً من الزمان!
ركبت القطار من محطة القاهرة في منتصف الساعة السادسة من مساء السبت 7 مايو وفي وهمي أنني مسافر إلى بلد بعيد؛ فما أشرق صباح اليوم التالي حتى كنت في مدينة القدس المطهرة عاصمة فلسطين، قبل أن تبلغ الساعة التاسعة. ست عشرة ساعة بين القاهرة والقدس، في قطار يدب على رمال الصحراء دبيب السلحفاة بطيئاً وانياً ويقف في الطريق أكثر من أربع ساعات
إن المسافر من القاهرة إلى بعض الأقاليم الجنوبية من مصر نفسها لا يبلغها في ست عشرة ساعة في القطار السريع؛ وإنك مع ذلك لتسأل نفسك: كم مصريَّا رحل إلى هذه البلاد الشقيقة ليتعرف إلى أهله من أهلها؟ فلا يأتيك الجواب بما يؤكد لك معنى من معاني الإخاء والقربى بين مصر وفلسطين!
لماذا لماذا؟ لأن السياسة التي تسيطر على مصر وفلسطين لا يرضيها أن تكون بين مصر وفلسطين رابطة من الود والإخاء. وقد بلغت هذه السياسة في مصر ما لم تبلغه هناك، فنسي المصريون إخوانهم في فلسطين ولم ينسى الفلسطينيون إخوانهم على ضفاف النيل، وفي كل سنة يفد إلى مصر مئات من شباب فلسطين، وأدباء فلسطين وتجار فلسطين ليمتعوا أنفسهم برؤية إخوانهم وأهليهم في وادي النيل، ثم يعودون إلى بلادهم ينتظرون رد الجميل فلا يجدون الجميل! ست عشرة ساعة، لو أطرد الطريق وقلت محطات الانتظار ما بلغت ثماني ساعات، هي كل ما بين مصر وفلسطين.
ما أقرب وما أبعد!(255/55)
وصل بي القطار المصري إلى محطة القنطرة على القناة، في منتصف التاسعة مساء؛ وركبت من ثمة قطار فلسطين، فلم يتحرك للسير قبل منتصف الثانية عشرة. ثم مضى بنا بين كثبان الرمل في صحراء سينا إلى غايته. فلم يكن لنا مع الظلام الدامس ووحدة مناظر الصحراء، إلا أن نأوي إلى مضاجعنا - غير الوثيرة - فما استيقظت إلا في الخامسة صباحاً وقد اجتزنا الحدود المصرية ووقف القطار في (غَزَّة) أولى مدائن فلسطين. ونبهتني أصوات الباعة على رصيف المحطة؛ ففتحت النافذة لأستقبل أول شعاعة من أشعة الشمس البازغة من وراء الجبال، تداعب أجفان النائمين خلف نوافذ القطار؛ وهب النسيم ندياً معطراً بأزهار النارنج كأنه يحمل أريجاً من أنفاس أهل الجنة. وسرحت الطرف فيما أمامي؛ فإذا صفحة مشرقة تتحدث عن جمال الطبيعة وقدرة الخلاق، لم يرَ المصريون لها شبيهاً فيما رأوا من جمال الطبيعة المصرية بين الإسكندرية وأسوان.
بيوت مبعثرة على رؤوس التلال وفي سفوح الجبل، وسهول رملية فيحاء قد نبتت فيها شجيرات القمح والشعير، وحدائق خضر ناضرة قد ملأتها أشجار البرتقال والنارنج والمشمش، ونخلة قائمة هنا، وخيمة مضروبة هناك، وكروم زاحفة على الأرض، وأعشاب نامية على الصخر، وأخاديد حددتها الأمطار في خدود الجبال؛ والقطار يسير في طريق ملتوية بين منحنيات الجبال، صاعداً منحدراً، ومشرقا مغرباً؛ كأنما اتخذوا له هذا الطريق ليجلوا على المسافر كل ما يمكن أن تجتليه العين من رواء الطبيعة في فلسطين؛ فما مللت النظر إلى هذه المشاهد الفاتنة واقفا في نافذة القطار ثلاث ساعات، حتى وصلت إلى محطة اللِّدّ في الساعة الثامنة صباحاً؛ ومحطة اللِّدّ هي المحطة المركزية في فلسطين، ومنها تتفرع سكة الحديد فروعها إلى مختلف أنحاء البلاد، أو يستمر القطار سائراً في طريقه إلى دمشق. . .
وانتظرت في محطة اللد زهاء ساعة، قبل أن يتحول بي القطار في طريقه إلى القدس المطهرة؛ وفي الطريق بين اللد والقدس، صحبني شاب من أدباء فلسطين أُنسيتُ اسمه؛ فأخذ معي في حديث طويل عن السياسة وآخر أنباء الثورة ومصير فلسطين؛ وكان يتحدث إلي في حماسة وقوة وانفعال كأنه خطيب على رأس كتيبة يحمسها الجهاد؛ فوالله ما أدري أكانت شدة أسره في الحديث أم روعة المناظر من حولي أحب إلي. . .(255/56)
واقتربنا من بيت المقدس فسكت محدثي قليلاً ثم سأل: هل لي أن أتشرف بمعرفة سيدي؟ قلت: مصري قال: نعم لقد عرفت ذلك من حديثك، ولكن. . . يخيل إلي أني أعرف أكثر من ذلك عن سيدي. . . ولولا أن الجرائد تقول إن الأستاذ سعيد العريان لا يقدم إلى القدس إلا غداً، لقلت إنك هو. . . إنني أعرفه بصورته من مجلة الرسالة. . .!
وكانت أول تحية كريمة يلقاني بها أديب من شباب فلسطين، وكانت مفاجئة؛ فأحسست شيئاً من الخجل والارتباك، لم أجد معهما إلا أن أمد يدي إلى صحفة بيده مستأذناً، فدفعها إلي؛ وفيها قرأت أنني قادم إلى القدس في صباح الغد. . . وهو الموعد الذي كنت حددته من قبل لمحطة الإذاعة، ثم فكرت بالسفر قبل ميعادي بيوم. . .
إنني لم أكن أقدر - وأنا من أنا في نفسي - أنني سأجد من يعرفني في فلسطين أو يهتم لمقدمي؛ ولو أنني قد بلغت بنفسي من الغلو أقصى ما تبلغ إليه أمنية شاب مثلي، لكان ما رأيت من حسن استقبال المقدسيين وحفاوتهم فوق ما تبلغ منية المتمني ولا أزهو بنفسي فأزعم أنني أهل لبعض ما لقيت، ولكنه كرم الفلسطينيين العرب يأبى إلا أن يستعلن في كل مناسبة ولكل مجال
وفي دار شيخ أدباء العروبة الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي كان مقامي طول المدة التي قضيتها في فلسطين. لقد دخلت فلسطين وأنا خفيف الظهر فما فارقتها حتى كان عليّ من الدين لهذا الرجل الكريم ما ينوء به كاهلي؛ فشكراً له ثم شكراً ثم شكراً. . . ومعذرة إليه إن عجزت عن الوفاء!
وصحبتني طائفة كريمة من الأدباء في غدوي ورواحي، لتهيئ لي أسباب التمتع في الرحلة بين المشاهد المقدسة والبيوت الأثرية، فزرت المسجد الأقصى، وقبة الصخرة ومصلى عمر، وكنيسة القيامة، ومصعد المسيح، وبيت لحم، والمتحف الإسلامي، وكلية الروضة، والنادي المصري؛ وتمتعت برحلات عدة كان رفيقي في أكثرها الأستاذ الأديب إبراهيم طوقان وكيل القسم العربي في محطة الإذاعة. ولن أنسى ما حييت فضله وفضل الأصدقاء الكرام: الدكتور إسحاق الحسيني، والشيخ يعقوب البخاري افندي، والأستاذين داود حمدان، وعبد الحميد يس، وغيرهم من أدباء فلسطين وأهل الرأي والجميل
وإذا كان لي أن اذكر شيئاً بخصوصيته في هذه الرحلة؛ فان اليوم الذي خطبت فيه في كلية(255/57)
روضة المعارف الإسلامية بالقدس سيظل أبقى أثراً وأخلد ذكراً بين أيامي
وكلية روضة المعارف الإسلامية في القدس، هي مدرسة حرة يشرف على شئونها المجلس الإسلامي الأعلى، ولها منهج خاص يعد شباب العرب ليكونوا في مستقبل أيامهم رجال العربية والإسلام، ومدير هذه المدرسة هو الأستاذ عبد اللطيف الحسيني ورئيسها الأستاذ الجليل الشيخ محمد الصالح افندي، وتضم بضع مئات من فتيان العرب جمعتهم إلى منهل في الثقافة العربية الإسلامية أكثر ملائمة لحال البلاد في هذه الأيام. وفيها طائفة من المدرسين الأكفاء عرفت منهم الأستاذ عبد الفتاح لاشين المصري، والأستاذ عبد الرحمن الكيالي الفلسطيني، وهما من خريجي مدرسة دار العلوم في مصر
زرت الكلية صباح الاثنين 9 مايو مع الأستاذ طوقان؛ وما بد لمن يزور فلسطين من أهل العربية من زيارة هذه الكلية. . . وقضيت ساعة. . . ثم انصرفت على موعد للغداء وإلقاء محاضرة في بهو المحاضرات بالكلية عن: (المثل الأعلى للشاب المسلم) بعد ظهر الأربعاء
لا تحدثني عن شباب مصر وطلبة العلم في مصر إذا ذكر شباب فلسطين وطلبة العلم في كلية الروض. هنا شباب يحسنون الزينة ويفتنون في وسائل الأناقة والتجمل، وهناك رجال قبل سن الرجال يعرفون لأي غاية يتعلمون، ويفكرون لغدهم قبل أن يفكروا في مطالب الصبى وأماني الشباب. . .
وعرفت أول من عرفت في فلسطين، شبابها العربي المسلم في كلية الروضة. . .
(لها بقية)
محمد سعيد العريان(255/58)
رسالة مسلمي الصين
إلى مسلمي العالم
عن حقائق الحرب الصينية اليابانية القائمة
إخواننا الأعزاء المسلمين في العالم
أصدقائنا الأجلاء المحبين للسلام
السلام عليكم وعلينا وعلى جميع المظلومين والمنكوبين في العالم!
إن بلاد الصين الجمهورية تحب السلم كما أحبته وهي ملكية.
فهي تسير على نصيحة الحكماء الصينيين بعدم القتال وتقليل الجيش، وكانت تحسن معاملة البلاد المجاورة لها شاعرة بالشرف المشترك حريصة على حياة الجميع، وهذه كلها حقائق تاريخية لدى الأمم الإسلامية
إن اليابان أخت الصين الصغيرة مشتركة معها في الجنس واللغة مجاورة لها كالشفة والسن، وهي متقدمة اليوم باستنارتها من الآداب والتعاليم الصينية
هذا وأن اليابان تذكر دائماً ولا تنسى تلك الفكرة الاستعمارية القديمة فكرة الآباء والأسلاف، فبدأت تثير الحرب بينها وبين الصين منذ 300 سنة، ولكن لم تصل إلى حلمها هذا لقلة قوتها في ذلك الوقت. وقد تضاعف جهدها في هذه الأيام القريبة للسعي في إثارة الصينيين فاتكأت على قواها الحربية سائرة على طريقة غير مشروعة أخذت أراضى صينية كثيرة منذ 60 سنة وقهرت أهاليها استبدت بسكانها. على أن حكومة الصين الملكية في ذلك الوقت تساهلت وتجاوزت على ذلك الاعتداء، فاضطرب الشعب كله وهاج هائجه وأتحد وثار سنة 1911 على تلك الحكومة الملكية الاستبدادية المفرطة
ولما قامت على أنقاض الملكية حكومة صينية جمهورية سارت تلك الحكومة الجديدة في طريق البناء والعمران. وبعد القضاء على مبدأ الملكية واندحار المحافظين عليه. جاءت الحرب العظمى فانتهزت اليابان فرصة سوء الحال في الصين وكثرة مشاغل الدول فعرضت على الصين معاهدة تحوي على 21 مادة كلها ترمي إلى إخضاع البلاد اقتصادياً وأدبياً، وأجبرت الحكومة الصينية على قبولها وتوقيعها. فثار لذلك الطلبة الصينيون ونشروا دعاية وطنية وبدءوا حركة المقاومة واجتهدوا في المخالفة والكفاح فلم تنجح اليابان(255/59)
كما كانت ترجو وتتمنى
وفي سنة 1923 حدث في اليابان زلزال شديد فعاونتها الصين والصينيون بكل قواهم وعطفوا عليها وجمعوا الأموال لمساعدتها ولكنها جزت الحسنة بالسيئة فأرسلت سنة 1926 جيشًا كبيراً إلى الصين ليمنع تقدم الجيش الصيني الذي أرادت الحكومة الصينية أن تخمد به الملكيين
وأتفق أن كتب رئيس وزراء اليابان الأسبق عريضته السرية التي عرضها على إمبراطور اليابان في شأن استعمار الصين فآسيا كلها، وقال فيها:
(إن في خطة إمبراطوريتنا الثالثة أن نستعمر منشوريا ومنغوليا والصين كلها. ولكن قبل أن نستعمر الصين الداخلية يجب أن نستعمر منشوريا ومنغوليا كما أننا نستعمر آسيا بعد أن نملك الصين كلها ليعلم العالم بذلك أن آسيا الشرقية آسيانا فلا يعتدي عليها أحد)
وبهذا ترى اليابان تصرح بإرادتها في استعمار آسيا كلها
ولما كان الفيضان سنة 1931 عم اغلب البلاد الصينية وشمل اكثر من 100 مليون نسمة عطف عليها العالم أجمع وساعدها مادياً وأدبياً إلا اليابان التي لم تحرك ساكناً في تلك المساعدة ناسية حق الجوار متناسية الجميل، لم تفعل هذا فحسب بل قد اغتنمت تلك الفرصة وتلك الحالة المحزنة في الصين واحتلت مكدون عاصمة منشوريا ورفضت قرار عصبة الأمم بل وانسحبت منها كأنها تثور على العالم أجمع
وبعد ذلك حاصرت اليابان سواحل الصين وضربت شنغهاي واحتلت ولايات الصين الشمالية الأربع وكونت حكومة غير مشروعة. وهي مع ذلك تساعد على نشر المخدرات في المناطق التي احتلتها وتساعد المهربين بجنودها المسلحة وترسل الجيوش إلى الصين بدون استئذان وتطير في الجو الصيني بطائراتها فاحتجت حكومتنا على هذا التصرف السيئ غير المشروع وفاوضتها، ولكن الاحتجاج والمفاوضة لم يجديا نفعاً ولا فائدة
لم تزل اليابان تسير على خطتها الاستعمارية فبعثت رسلا إلى شمال الصين يحرضون حكام الولايات الشمالية على الانفصال عن الصين فلم ينجحوا. فغيرت خطتها البطيئة الخفية بالسريعة المكشوفة فأرسلت جيوشها فاحتلت مدينة وانبين بجوار بكين (7 يوليو سنة 1937) وقت استعراض الجيوش اليابانية قرب لوكاوشاو، ولم ينجح الصينيون في منعهم،(255/60)
فكان ذلك بدء الحرب المدمرة الطاحنة الغاشمة المخربة الحالية
والآن لا يمكن أن يصبر أحد من الصينيين على اعتداء اليابان على بلادهم، وليس ذلك من جهة الوطنية فقط بل ومن جهة الإنسانية والحق أيضاً. فالحكومة الصينية لا يمكنها السكوت على ضياع بلادها واقتطاعها جزءاً جزءاً مع حبها للسلم، لأن الصبر على ذلك يهين الحق ويعذب الإنسانية ويسم الصينيين بسمة الجبن فلابد إذن من المقاومة، وقد قال القائد العام المارشال تشانج كاي شيك: لا نترك السلم ما كان لنا أمل فيه ولا نقوم بالتضحية ما دام وقتها لم يحن. والآن قد أنقطع أمل السلم وحان وقت التضحية فبدأت تتجمع قوات الحكومة الجرارة في الدفاع عن البلاد حتى تنال الفوز الأخير ولو غرقت البلاد الواسعة العريقة في الحضارة كلها والأهالي جميعاً في الدماء
لهذا قد اتحدت الصين حكومة وشعباً في الدفاع عن البلاد ومقاومة اليابان
والمسلمون في الصين كذلك متحدون مع غيرهم في الدفاع عن الوطن لأنهم يعرفون أن حب الوطن من الإيمان وأن الجهاد في سبيل الحق والإنسانية هو الجهاد في سبيل الدين الصحيح
وقد اشترك بعضهم في الحرب تحت إمرة القواد المسلمين المشهورين، وقام غيرهم على إنقاذ المنكوبين وشؤون التمريض وغير ذلك وسعى آخرون في نشر الدعاية للصين واتحاد المسلمين في العالم ليقفوا إلى جانب المسلمين في الصين بوجه المعتدين المخالفين للإنسانية والحق والدين الصحيح
والآن لا يمكننا أن نصبر على اعتداء دولة أجنبية على وطننا ولا على إضرار المعتدي الأثيم لإخواننا المسلمين في بلادنا، فلذلك وضعنا هذا الخطاب لنبين لإخواننا المسلمين في العالم ومن احب السلام والحق ما لاقاه المسلمون وغيرهم في الصين من المحنة العظمى والحرب المشؤومة رجاء أن يحكموا بالعدل وأن يقوموا بعمل إيجابي يعاقب به المعتدي أدبياً ومادياً فيعاديه السلام العالمي ويحقق به غرض الإسلام الأسمى لأن الله يأمرنا بالتعاون على الخير والمصلحة إذ قال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (إنه لا يحب المعتدين)
نور محمد دابوسين(255/61)
ناظر مدرسة المعلمين الإسلامية بشنغهاي
ورئيس الجمعية الإسلامية الصينية
محمد إبراهيم شاه كوجين
رئيس البعثات الصينية بالأزهر الشريف بمصر
هذه هي مقدمة الكتاب الذي وضعه الحاج الإمام الأستاذ نور محمد دابوسين والحاج الأستاذ محمد إبراهيم شاه كوجين والذي ترجمه الأستاذ أبو بكر الصيني من اللغة الصينية إلى اللغة العربية وهذا الكتاب مشتمل على مقالات خطيرة مفصلة متعلقة بالحرب الصينية اليابانية القائمة الآن وأسبابها ونتائجها المتوقعة من الوجهة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وفيه فصل يبين فظائع اليابانيين في الصين منذ بدأت الحرب إلى الآن من تدمير المدارس والجامعات والمساجد والمباني الخيرية والمصالح الأدبية وقتل الطلبة والشبان والمدنيين غير المحاربين والفجور بالنساء والفتيات ونهب الأموال والحلي واستعمال الغازات السامة في الحرب وغير ذلك
وفيه فصل عن استماتة الصينيين في دفع الأعداء عن وطنهم العزيز واستشهاد المسلمين منهم في محاربة اليابانيين وهم تحت إمرة قواد مسلمين وغير مسلمين في الجنوب والشمال وعددهم يفوق المليون. وجهاد القائد المسلم المشهور في الصين الجنرال عمر باي تسون هسى ودفاعه عن الوطن بكل قواه. فإذا انتصرت الصين انتصر المسلمون فيها
وفيه فصول أخرى
هذا وقد كتب الأستاذان في آخر الكتاب رجاء المسلمين في الصين إلى المسلمين في العالم أن لا يشتروا بضائع اليابان ولا يبيعوا إليهم المعادن ولا المواد الغذائية حتى يرجع اليابانيون عن خطتهم الاستعمارية وأن يساعدوهم أدبياً ومادياً بواسطة (جمعية الهلال الأحمر) بكل ما يستطيعون
وبما أننا مسلمون فعلينا واجباتنا الدينية ومنها المعاونة على البر والتقوى لا على الإثم(255/62)
والعدوان - بذلك ننشر هذه الصيحة العالية بين المسلمين كي تجد صداها الحسن عندهم وردهم الجميل عليها
(* * *)(255/63)
رسالة الشعر
مصطفى صادق الرافعي
للأستاذ فليكس فارس
تواريتَ في الملأ الأرفعِ ... فأنتَ هُناكَ وأنتَ معي
هتكتَ عن الروحِ سترَ الترا ... بِ وسترُ ترابي لم يُقشعِ
أماطَ القضا أحدَ البرقُعي ... نِ وما زلتُ أُدرج في برقعي
ورسمُكَ قد غارَ في ناظري ... وصوتُكَ قد غارَ في مسمَعي
فأَصبحتَ أَقربَ مني إلى ... قَرارِة نفسيَ في أضْلُعي
كأنكَ من قبلُ كنتَ الخيا ... لَ فصرتَ اليقينَ بما لا أَعي
أراكَ، فيا ويحَ مَنْ لا يرى ... حبيباً تولّى ولم يرجعِ
يسائل عنه طِباقَ الثرى ... وليسَ سوى الوهمِ في المضجعِ
أراكَ طليقاً كما كنتَ في ... حياتكَ في عيشِكَ الموجعِ
وما يأسرُ الدهرُ غير الأُلي ... يضلّون في العالمِ الأَخدَعِ
فَمن عاش عبداً بدنيائه ... سيُبعثُ عبداً على الَمطلعِ
ومَنْ لم يكن ههُنا أروعاً ... فليسَ هنالك بالأروعِ
عرفتك يا مصطفى مثلما ... أراكَ وقد جُزتَ للمصرعِ
عرفتك روحاً يدور بها ... من الدهرِ جيشُ الشقا المُفزعِ
وأنتَ تحدّى صروفَ الزما ... نِ وتهزأُ في حصنكِ الأمنعِ
وكيف تصيبك في مقتلٍ ... إذا لم يَكُنْ فيكَ من مطمعِ
غنمتَ من الأرضِ أرواحها ... وعفتَ التهاويلَ للمدّعى
إذا الروحُ نالت معاني الوجو ... دِ تخلّت عن الحرفِ والمقطعِ
وعايَنَتِ الحقَ نورَ الهدى ... بكلِ مُصَلٍّ على مركعِ
فقدناك يا مصطفى جامعاً ... شتيتَ بني العُربِ في الأربُعِ
فقدناك تهدي شعوباً مضت ... إلى القفر للمنبتِ المُمرعِ
بدا الآلُ يشعلُ سعَّارها ... فقُدتَ العطاشَ إلى المنبعِ(255/64)
ورحتَ ترمِّم من صرحِهمْ ... بما انهارَ من متنهِ الأنصعِ
وغيرُك قد ضلُّ عن ردمِه ... فَرقَّع بالحجرِ الأسفعِ
وطفِلُ العروبةِ في بعثهِ ... يسيرُ ضلولاً على المهَيعِ
هديت الرضيع إلى أمه ... وغيرك أهداه للمرضع
فقدناكَ يا مصطفى صورةً ... لجيلٍ بأصلابنا مُودَعِ
لجيلٍ سيعرفُ أَنساَبهُ ... فينكرُ كلَّ دخيلٍ دَعي
إذا نازعته الدُنى روحَه ... يهبُّ بهوجائهِ الزعزعِ
يثورُ وفي قلبهِ ربُّه ... فيمشي على السيف والمدفعِ
سلامٌ على غائبٍ حاضرٍ ... تكُفكف ذكراَه من أَدمعي
إذا ما سلا الناسُ موتاهمُ ... بنسيانِ فقدهمِ المفُجعِ
سلوتُك بالذكرِ يا مصطفى ... وأنتَ بروحي فأنت معي
فليكس فارس(255/65)
لم يطب للنبوغ فيك مقام. . .
لحن حزين هزته ذكرى الأديب العربي الخالد مصطفى صادق الرافعي
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لم يَطِبْ للنُّبوغ فيكِ مُقاَمُ ... لا عَلَيْك - الْغَدَاةَ - مِنِّي سَلامُ
المنارَاتُ تَنْطفي بَيْنَ كَفَّيْكِ! ... ويَزْهو بشاطِئَيْكِ الظلاَّمُ
والصَّدَى مِن مَناقِر البُوم يَحْيا ... ويَموتُ النَّشيدُ والإِلهامُ
قد حَبَوْتِ النَّعيبَ ظِلَّكَ لكِنْ ... أَيْنَ قَرَّتْ بِشَطِّكِ الأنغْاَمُ؟
في هَجير الأيَّامِ تمضي أغاني ... كِ حَيارَى، يَؤُجُّ فيها الضِّرامُ
عَبَرَتْ مَسْبَح الجَداوُل، والنَّهْرِ، ... وغابَتْ كأنَّها أوْهامُ
تَسْكبُ السِّحْرَ مِن شِفاهٍ عَليْها ... مَصْرَعُ السِّحْر: لَهفَةً! وأُوامُ!
تَسكبُ العطْر والخمائِلُ صُفْرً ... ماتَ في الأيْكِ نَوْرُها البَسَّامُ!
تَسُكب البُرَْء مِنْ جِراح عليْها ... تُرْعِشُ العُمْرَ شَكْوَةٌ وسَقامُ!
أنتِ يا (مِصْرُ): واصفحي إِنْ تعتَّبْتُ ... وأشْجاكِ مِنْ نْشيدي الملامُ. .
. . قَدْ رَعَيْتِ الجميلَ في كُلِّ شيءِ ... غيْرَ ما أحْسنَتْ بهِ الأقلامُ!
مِنْ رَوابيكِ خفَّ للخُلْدِ رُوحٌ ... قَد نَعاهُ لعَصْرِكِ الإِسْلامُ
لبِسَتْ بعدَهُ العُروبَةُ ثَوْباً ... صِبْغُ أسْتارهِ أَسًي وقَتامُ
لم تُفِقْ مِنْ شجُونِها فيهِ (بَغْدَا ... د) ولا صابَرتْ أَساها (الشام)
وعَلَى (بلدة المِعزِّ) دُموعٌ ... خَلَّدَتْ ذِكْرَهُ بها الأهرامُ
صاحِبُ المعْجزاتِ أعْيَتْ حِجا الدُّنْ ... يا، وعَيَّتْ عَن كشْفِها الأفهَامُ
يَخْبأُ الحِكمةَ الخفيَّة في الوَحْي ... كما تَخْبأُ الشذَى الأنسامُ
ويَزُفَّ البيانَ كالسَّلسلِ المسْكوب ... تَهفو في شطهِ الأحلامُ
فإذا رَقَّ خِلتَهُ قُبَلُ الفَجْر ... على نارها يَلُّذ المنامُ
أوْ حديثَ النسيمِ للزَّهْرة السَّكرى، ... مِن الطَّلِّ كأسُها والمدامُ
أو حَفيفَ السَّنابِلِ الخُضرِ. . رَفَّت في رُباها قنابِرٌ ويمامُ
أو دُعاَء النُسَّاكِ. . أبْلَتْ صَداهْم ... في حِمَى الّلهِ سَكْرةٌ وهِيامُ(255/66)
وإذا ثارَ خِلتْهُ شُهُبَ الَّليلِ ... أطارَتْ لهيبَها الأجْرامُ
أو شُواظاً مُسَطَّراً. . . قذَفَتهُ ... مِن لَظَى العَقْل هَيجْةٌ وعُرامُ
أتْعَبَ الجاهدينَ خلفَ مَراميهِ ... بقصد مَنالهُ لا يُرامُ
أصَيدُ الفكْرِ واليراعةِ والوحيِ. . ... على كِبْرهِ يُفَلُ الحُسامُ
حَيَّرَ النقدَ أن تَروغَ المعاني ... عَنْ مُريديهِ، أوْ تَنِدَّ السِّهامُ
فانْزوَى الحاسدُون. . إلاِّ فُضولاً ... لا يُداريهِ عائبٌ شَتَّام
قد سقاُهُم مِن سِنِّه مَصْرَعَ الرو ... ح وإنْ لم تُلاِقِه الأَجْسام
فلتَقُمْ بعدَ مَوْتِهِ ثورَةُ الشَّا ... ني فقَدْ فارَقَ الوَغى الصَّمْصام
ولهُ الشَّأنُ. . عِزَّةٌ وَخُلودٌ ... ولَهم شأْنُهُمْ صدىً وكَلامُ
إِيِه يا ساقِيِ (المساكين) كأْساً ... لمْ تُسَلْسِلْ رحيقَها الأيَّامُ
قَد جَعَلْتَ الآلام وَحْيَك حتَّى ... فجَّرتْ نَبْعَها لكَ الآلامُ
ما الذيّ كانَ في سَحابَتِكَ الحمْراءِ ... إلاَّ الشُّجُونُ والأسْقام
كُنْتَ في عُزْلةٍ مع الوَحْي تَشكو ... ولِشكواكَ كادَ يْبكي الغَمام
تمسَحْ الدمْع من عُيونِ اليتامَى ... وبِبلْواكَ ينْشِجُ الأَيْتام!
صُنْتَ عهْدَ البيانِ لم تُرْخِص القَوْ ... لَ، ولا شابَ سِحْرَكَ الإعْجام
وَتفَرَّدْتَ بالصِّياغَةِ. . حتى ... قِيلَ في عالَم البيانِ: إِمامُ!
ووَهَبْتَ (الفُرْقانَ) قلْبَكَ. . حتى ... فاضَ منْ قُدْسهِ لك الإِلهام
فبعَثْتَ الإِعجازَ كالشَّمس منه ... يتَهدَّى عَلَى سَناَهُ الأنَامُ
فقْمِ اليوْمَ! وانْظُرْ الشَّرْقَ ضاعتْ ... مِنْ يَديْهِ مَواثِقٌ وذِمامُ
مزَّقَتْ قلْبَهُ الذِّئابُ من الفَتْكِ. . ... وَنامَ الرُّعاةُ والأَغْنامُ!
في (فِلَسْطينَ) لو عَلِمْتَ جِراحُ ... ما لها في يد الطُّغاةِ التئامُ
وطنُ الوَحْي، والنَّبُوّاتِ والإلْهام. . ... أوْدَى! فعاثَ فيه الطَّغَامُ
جذْوَةُ في جَوانح الشرْق تَغْلي ... فَيروعُ السَّماء مِنْها اضْطرامُ
يُذْبَحُ القوْمُ في المجازِرِ - فرْط الظَّ ... لم فيها - كأنَّهم أَنْعامُ
ويُهانُ (المسيحُ) في مَوْطِن القُدْ ... سِ، وَيشْقَى بأرْضِهِ الإِسْلام(255/67)
وحُماة البيانِ خُرْسٌ. . كأَنَّ الذَّ ... وْدَ عنْ كَعْبةِ الجدوِد حَرام!
إيه يا (مُصْطَفى) وفي القَلْبِ أشجا ... نٌ! وفي الصَّدْرِ حُرْقَةٌ وضِرام
ليْت لي سَمْعَك الذي كرَّمَ الل ... هُ صَداهُ! فماتَ فيه الكلام
كنتَ والوَحْيَ عاشِقَيْنِ فماذا ... بَعْدَ نجْوَى السماءِ يَبْغي الغرام؟
كُنْتَ والوَحْي في سُكونِ نَبِيٍ ... عادَةُ في صَلاته إِلهام
تتلقّاهُ خاشعَ الهمْسَ عفَّا ... مِثلَما رَفَّ بالغَدير حَمامُ
لا ضَجِيجٌ! ولا اصْطِخَابٌ! وَلكِنْ ... هَدْأَةُ الرُّوح قدْ جَلاها المنامُ
هكذا نَعْشكَ الطَّهورُ تَهادَى ... كالأَماني، لا ضَجَّةٌ! لا زِحام!
فاذْهَبْ اليوْمَ للخْلُودِ كما كُنْ ... تَ. . تُغادِيكَ هَدْأةٌ وسلام
لمْ يمت مَنْ طَواهُ في قلبِه الشَّرْ ... قُ! وَغَنَى بِذكْرِهِ الإِسْلام!
محمود حسن إسماعيل(255/68)
راقصة
للأستاذ محمود غنيم
هنا الغرامُ والولَهْ ... يا منظراً ما أجملَهْ
أتلك أنثى خَطَرَتْ ... أم فتنة منتقلهْ
مقبلةٌ مدبرةٌ ... مائلةٌ معتدلهْ
كأن تحتَ اخمصَي ... ها جمرةً مشتعلهْ
باسمةٌ يحسبها ... كل فتى تبسم لهْ
تدورُ حول نفسها ... كما تدورُ العجلهْ
وتنثني كأنها ... عن نفسها منذهلهْ
أبدلها خالقها ... بكلِّ عظم عضلهْ
يا حسنها إذا عَرَكَتْ ... أُنمُلَةً بأنملهْ
أنامل من فضةٍ ... ليِّنةٍ منفتلهْ
جميعُ ما في جسمها ... يُغريك أن تقبِّلهْ
كم مقلةٍ شاخصةٍ ... هَّمتْ به لتأكلهْ
والسحْر طلُّ السحر في الأ ... نوثِة المكتملهْ
من تَرْمِهِ بلحظها ... أدنت إليه اجلَهْ
كم ارتقت مسرحها ... فصيَّرَته مقْصَلهْ
دقَّتْ على مسرحها ... بساقها منفصلهْ
كأن في المسرح حَرْ ... باً هي فيها البطلهْ
زلزلةٌ قد أحدثت ... في كل قلبٍ زلزلهْ
تستر نصف جسمها ... غلالةٌ مشكّلهْ
يَشفُّ عن أعضائها ... من تحتها مفصَّلهْ
جسم كموج عيْلمٍ ... تسبح فيه الأخليهْ
تحسَبُ فيه كلَّ عض ... ووحدةً منفصلهْ
فليس بين خَصْرِها ... وبين صدرها صِلهْ(255/69)
في مرقص لا يعرف ال ... همَّ فؤادٌ نَزَلَهْ
كأنه في بقعةٍ ... عن الدنى منعزلهْ
بين الدنى وبينه ... ستائرٌ منسدلهْ
الهمّ فيه واقفٌ ... خجلانَ يُخفي خجلَهْ
دعني أضلَّ ساعةٌ؛ ... عبءُ التقى ما أثقلَهْ
ما كنتُ من أهل المُسُو ... ح والذُّقون المسبَلَهْ
كم وَرَعٍ مصطَنَعٍ ... وعفةٍ مُفْتَعَلَهْ
(كوم حماده)
محمود غنيم(255/70)
البريد الأدبي
في تاريخ آداب اللغة العربية
الأستاذ كارل بروكلمن حجة المستشرقين العليا في الآداب العربية، وأسمه معروف مستطير في الدوائر العلمية سواء في الغرب أو في الشرق العربي. وقد ظفر بتلك النباهة من طريق تآليف غاية في التدقيق العلمي والإطلاع الوافر. وعلى رأس هذه التآليف كتابه الفريد أيام برنا (سنة 1898) (تأريخ الآداب العربية) باللغة الألمانية وقد استفاد من هذا الكتاب الخصب عدد غير قليل ممن ألفوا في الموضوع عينه. وإذا نقضي على بروز الكتاب زمن رأى صاحبه أن ينشر له تكملة يورد فيها ما فاته ويستدرك ما فرط منه ويثبت ما جاء به العلم منذ سنة 1898. وقد ظهر من التكملة الجزء الأول وبعض الجزء الثاني. وستقع التكملة فيما يزيد على ألفي صفحة من القطع الكبير. ومما نذكره اليوم على سبيل الإشارة - مرجئين الكتابة إلى حين صدور التكملة كاملة - أن الأستاذ كارل بروكلمن أثبت فيما أثبت من المصادر والمراجع طائفة من المؤلفات أصحابها علماء وأدباء من لبنان والشام والعراق ومصر خاصة، منهم: حفني ناصف وجورجي زيدان وأحمد الإسكندري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد زكي (باشا) وأحمد حسن الزيات وطه حسين وسلامة موسى وزكي مبارك ومحمد فريد وجدي وبشر فارس ثم شفيق جبري وفؤاد أفرام البستاني والأب الكرملي ومعروف الرصافي.
جوائز وزارة المعارف لتشجيع التأليف بين المدرسين
أصدر صاحب المعالي الدكتور حسين هيكل باشا وزير المعارف القرار التالي:
بما أننا نرى ضرورة العمل على تشجيع الإنتاج بين المدرسين بمدارس الوزارة وبالمدارس الحرة من طريق حفزهم إلى البحث والتأليف في موضوعات اختصاصهم والموضوعات المتصلة بها بما يؤدي إلى تقوية شخصيتهم العلمية وزيادة حيوية دروسهم وتكوين ذخيرة من الرسائل العلمية والأدبية، تدعو إلى نشاط التفكير العام، إذ ينتفع بها الطلاب والجمهور المثقف على السواء، وتكون بعيدة عن التقيد بالمناهج وإن اتصلت بموضوعاتها
وبما أن المدرسين والأساتذة هم في جميع البلاد المتحضرة مصدر التجنيد العلمي والفكري(255/71)
والعملي في توجيه الحياة الاجتماعية إلى أحدث المبادئ وأدق الآراء العلمية والأدبية والفنية
بما أننا نرى من خيرنا ما يمهد لهذه الغاية، ويدفع إلى السير في طريقها رصد جوائز سنوية تمنح للمدرسين الذين يضعون رسائل في موضوعات علمية أو أدبية على أن يكون لنيل هذه الجوائز أثر في تقدير كفاية المدرس وما يستتبعه هذا التقدير من التشجيع قرر
المادة 1 - تعقد وزارة المعارف كل عام مباريات للتأليف بين المدرسين تخصص لها جوائز ثمان قيمة كل منها مائة جنيه، تمنح للمتبارين الذين ترى لجان التحكيم أن رسائلهم جديرة بالمنح ويكون تخصيص هذه الجوائز على الوجه الآتي:
جائزة للموضوعات الأدبية، وجائزة للموضوعات الإجتماعية، وجائزة للموضوعات الفلسفية، وجائزة للموضوعات الجغرافية، وجائزة للموضوعات التاريخية، وجائزة للموضوعات الطبيعية، وجائزة للموضوعات الرياضية، وجائزة للموضوعات المتصلة بالتربية وعلم النفس
المادة 2 - يشترط في الرسائل التي يتقدم بها واضعوها لنيل الجائزة أن تكون باللغة العربية وأن تكون موضوعاتها بعيدة عن التقيد بالمناهج وإن اتصلت بموضوعاتها، بعيدة عن طبيعة الكتب المدرسية، وأن تبدو فيها روح الابتكار في طريقة معالجة الموضوع على الأقل، وأن يكون لها اتصال بحياة البلاد العلمية والأدبية أو تأريخها القومي، وأن تصطبغ بالصبغة القومية في الأمثلة والتطبيق، وأن يراعى في التأليف التبسط واستيفاء البحث من جميع أطرافه والأمانة العلمية في إيراد الآراء والنظريات، وأن يتبع واضع الرسالة أسلوب البحث العلمي الحديث، وطرائق النقد الحديثة في إيراد نظرياته ومناقشتها. كما يشترط أن تكون الرسائل قد وضعت خصيصاً لهذه المباريات ولم يكن قد سبق طبعها ونشرها وألا تقل عن مائتي صفحة من القطع المتوسط
المادة 3 - تحدد لهذه المباريات في كل عام مدة غايتها ستة شهور تبتدئ في أول يونيو وتنتهي في آخر نوفمبر، يتقدم فيها المتبارون برسائلهم للوزارة غير مطبوعة.
المادة 4 - تشكل في كل عام عقب انقضاء الأجل المحدد للمباراة لجان للتحكيم، تقوم ببحث الرسائل التي تقدم في المباراة ويكون أعضائها من الأخصائيين في موضوعاتها.(255/72)
المادة 5 - يجوز للجان التحكيم ألا تمنح جائزة ما عن كل أو بعض الرسائل إذا لم تتوافر فيها الشروط المطلوبة، أو إذا لم تصل الرسالة المستوى الجدير بالجائزة
كما يجوز لهذه اللجان أن تقسم الجائزة الواحدة على اكثر من رسالة إذا تساوت قيمتها العلمية أو تقاربت
المادة 6 - تتولى وزارة المعارف نفقة طبع الرسائل التي تنال الجوائز ونشرها وتحفظ للمؤلف قسطا من أرباحها
المادة 7 - على وكيل الوزارة تنفيذ هذا القرار.
مشروع المسابقة في تاريخ الأدب العربي المصري
نشرنا في العدد الماضي خبراً عن مشروع المسابقة الذي وضعه معالي الدكتور هيكل باشا وزير المعارف في موضوع (تاريخ الأدب العربي بمصر من الفتح الإسلامي إلى الآن) وقد رأى معالي الوزير أن يستطلع آراء المشتغلين بالدراسات الأدبية في المشروع قبل إقراره. وقد تلقى ردود الأساتذة وكلها متفقه على تشجيع الفكرة واعتبارها عاملاً قوياً من عوامل التمكين للمعاني القومية والنهضة الأدبية. ويمكن تلخيص مختلف الآراء فيما يلي:
يؤيد فكرة المسابقة تفتيش اللغة العربية، وأساتذة دار العلوم، والأستاذ أمين الخولي من كلية الآداب
ويؤيد بحث الموضوع ويخالف فكرة المسابقة ويطلب اختيار لجنة من الباحثين المعروفين الدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين. وتخالف دار العلوم فكرتهما وترى أن فيها تثبيطاً لهمم الشباب وتحقيقاً لما يصح أن يسمى احتكاراً علمياً
ويطلب تفتيش اللغة العربية مد المدة إلى سنة، ويتفق معه في ذلك الأستاذ أمين الخولي؛ ويطلب الدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين جعل المدة سنة وأربعة أشهر. وترى كلية الآداب زيادة المبلغ المقرر للجوائز. ويرى تفتيش اللغة العربية وضع برنامج للمتسابقين، في حين يرى الأستاذ الخولي ترك الحرية المطلقة لهم
وستؤلف لجنة لبحث هذه الآراء برياسة وكيل الوزارة ثم تقدم تقريرها إلى معالي الوزير ويصدر القرار على أساسه.
شاعرة مصرية تفوز بجائزة الشعر الفرنسي(255/73)
وزع في الأسبوع الماضي (بيت الشعر) وهو الهيئة التي تضم شعراء فرنسا جوائزه السنوية برياسة المسيو فالمي بابيس السكرتير العام السابق للكوميدي فرانسيز
وقد منح الشعراء الفرنسيين الجوائز الثلاث المخصصة لأبناء فرنسا أما الجائزة الرابعة؛ وهي جائزة أدجاربو المخصصة للشعراء الأجانب الذين ينضمون الشعر باللغة الفرنسية وقدرها خمسة آلاف فرنك - فقد منحتها السيدة نيلي فوشيه زنانيري على كتابها الأخير (الظهر تحت السماء المحرقة)
وقد الفى المسيو فالمي بابيس كلمة قال فيها: (إن هذه الجائزة - وهي موجودة منذ عشر سنوات - تفوز بها اليوم لأول مرة شاعرة مصرية. وكان الذين نالوها قبل الآن من الشعراء البلجيكيين والسويسريين واللبنانيين والكنديين
وإننا لنغتبط اليوم بأن تنال هذه الجائزة شاعرة مصرية، هي السيدة نيلي فوشيه زنانيري، من أجل كتابها الممتع الطريف
وكانت قد تقدمت لهذه المسابقة عدة مرات وها هي الآن تجني ثمرة ثباتها ومواهبها الشعرية الصافية الفياضة بالشعور
وإننا سعداء اليوم بأن تكون جائزتنا من نصيب مصر، حيث للثقافة الفرنسية مكانة كبيرة، وحيث يقابل الكتاب والمحاضرون الفرنسيون بكثير من الحفاوة) ثم هنأ المسيو فالمي بابيس الصحافة المصرية على نموها وازدهارها في السنوات الأخيرة وأشار إلى أن المسيو روبير فوشيه صهر السيدة الفائزة ومدير مكتب (الأهرام) في باريس أنتخب من بين 250 من الصحافيين الأجانب سكرتيراً عاماً لجمعيتهم. وهكذا فإن الصحافة المصرية والشعر المصري يحتلان مكانة عالية في باريس
وأشار السكرتير العام بعد ذلك إلى أن السيدة زنانيري منحت الجائزة بإجماع الآراء، بين 46 متسابقاً أرسلوا 150 مؤلفاً
وقد أرسل (بيت الشعر) كتاباً رسمياً إلى محمود فخري باشا وزير مصر المفوض في باريس يبلغه فيه أن الجائزة منحت لشاعرة مصرية.
بين الرافعي والعقاد(255/74)
قرأت ما يدور الآن من الجدل بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد، وقد أردت أن أدلي بهذه الكلمة الصغيرة في البيت الذي يطعن فيه أنصار الرافعي من قصيدة العقاد في الغزل الفلسفي:
فِيكِ مِني ومن الناسِ ومِن ... كلَّ موجودٍ وموعودٍ توأم
فقد ذهب الرافعي رحمه الله في نقده إلى أن من كل موجود البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنجليزي، إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟
ورأيي في هذا أن العقاد يمشي في بيته مع بعض الفلاسفة الذين يرون كل شيء في الطبيعة جميلاً، ويذهبون فيها مذهب الهيام الذي يبدي كل شيء فيها حسناً، وهذا شأن كل محب مع حبيبه إذ يبلغ به الهيام فيه إلى حد لا يرى فيه نقصاً أو عيباً، بل إلى حد ان يرمي نقصه كمالاً وجمالاً:
وعَينُ الرضا عن كلِّ عيب كليلة ... ولكنَّ عين السخط تُبدي المساوِيَا
فبيت العقد من هذه الناحية منسجم مع موضوع قصيدته في الغزل الفلسفي، ولم يكن فيه محتاجاً إلى تقييد جرير في قوله:
ما استوصف الناسَ من شيءٍ يَرُوقُهمُ ... إلا أرى أمَّ عمرو فوق ما وصفوا
لأن جريراً لم يكن يتغزل على ذلك النحو الفلسفي، وإنما كان يذهب في غزله المذهب الظاهر في الشعر العربي
ولابد أن نشير بعد هذا إلى أن كل شيء في هذا الكون لا يخلو من حسن يسوغ إجراء بيت العقاد على عمومه، وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) قال العلامة الزمخشري: إنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن
عبد المتعال الصعيدي
حول الفيلسوف (مسكويه) وعصره(255/75)
سيدي الأستاذ الفاضل محرر الرسالة الغراء
بعد التحية: أشكر لكم وللأخ الفاضل الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن ما قدمتماه من استدراك جميل حرصتم فيه من جانبكم على أن تسموا الفيلسوف (بإبن مسكويه) بدلاً من (مسكويه)، وحرص حضرة الأخ الكريم على أن يجعل حياته في العصر (الرابع) لا (الثالث)، وعلى أن هذا العصر لم يكن عصر تكوين للمعاجم اللغوية بالمعنى المضبوط
فأما استدراككم بشأن الاسم فما رأيكم في أن كثيراً من المؤرخين والمترجمين القدماء والمحدثين قد ذكر الرجل مجرداً عن (الابن) فدعاه آناً (مسكويه)، وآناً (أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه)؟ وما دأبكم أن من بين من دعوه كذلك القفطي وياقوت وإبن أبي أصيبعة والوزير أبو شجاع والمستشرق مرجليوت؟ وما رأيكم في أن (التوحيدي) (معاصره) كان يدعو دائماً (بمسكويه) كما جاء في كتاب المخطوط (الإمتاع والمؤانسة) وكتابه المطبوع (المقايسات)؟ وما رأيكم في أن مخطوط (جاويدان حزو) وهو أقدم مخطوط يحمل الفيلسوف ينم على أن الرجل كان يسمى بهذا الإسم؟
وأما استدراك الأستاذ الصديق بشأن العصر فلست أذكر في الواقع المؤرخ الذي أخذت هذا الأمر عنه. وأحسب أنه قد تقيد في قوله بالقوة والضعف أكثر مما تقيد بالزمن نفسه. وها هو كتاب المفصل في تاريخ الأدب العربي يعتبر أن شعر إبن سينا وهو معاصر لمسكويه يقع في العصر العباسي الثاني لا الثالث ولا الرابع
وأما استدراكه بشأن تكوين المعاجم اللغوية فالواقع أني لم أعن بدرس هذه الناحية لأنها على هامش بحثي. ولكني على أية حال اعتمدت فيما ذكرت على مؤلف ثقة هو المرحوم جورجي زيدان القائل في كتابه: آداب اللغة العربية ج2 ص 223 أن هذا العصر يمتاز بنضج العلم وتكوين المعاجم اللغوية؛ فإذا كان الأستاذ الفاضل يرى أن علماء اللغة في هذا العصر لم يبلغوا من الكثرة والإحاطة ما بلغه علماء العصور التالية فأظن أن كلام زيدان لا يبقى مع ذلك صحيحاً.
محمد حسن ظاظا
اكتشاف آثار مدينة من قبل المسيح(255/76)
كتب إلى جريدة الدبلي تلغراف مراسلها من نيويورك يقول إن الأثريين الأمريكيين الباحثين قرب شاطئ البحر الأحمر اكتشفوا آثار مرفأ كان زاهراً هناك حوال ألف سنة إلى ثمانمائة سنة قبل المسيح
أما المدينة المكتشفة آثارها فهي ازيونجيير التي يدعوها العرب تل الخليفة. وهي واقعة عند الطرف الشمالي لخليج العقبة. ويرجع الفضل لاكتشافها إلى الدكتور جلوك مدير المعهد الأمريكي للأبحاث الشرقية في القدس.
-
-(255/77)
الكتب
عصفور من الشرق
تأليف الأستاذ توفيق الحكيم
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
هذه نفحة أخرى لصاحب أهل الكهف وشهرزاد، نفحة فيها روح توفيق الحكيم وفن توفيق الحكيم، حتى لو أن الكتاب الذي يزجيها إليك كان غفلاً من أسم مؤلفه ما استطعت أن ترده إلا إليه. . .
ولقد انتظرت هذا الكتاب منذ أن أعلن عنه، فلما تفضل مؤلفه الفاضل بإرساله إلي أقبلت عليه فتلوته، ولشد ما رغبت لو أنه طال عما هو عليه ليطول بذلك استمتاعي بتلك اللذة الساحرة التي لن يظفر بها المرء إلا في أمثال تلك القصة من الآثار الفنية العالية؛ وها أنا ذا أقدم الكتاب لقراء الرسالة لا أبتغي إلا أن أدلهم على متعة قوية أحب لهم - من فرط ما أعجبت بها - أن يشاركوني فيها
ولو كان المجال هنا مجال نقد يبسط موضوع الكتاب ويعرض لدقائق الفن فيه، لخشية أن يحملني إعجابي به على الغلو، ولكني الآن بنجوة من هذا، فقصاراى هنا الوصف المحدود؛ ذلك أن الكتاب كغيره من الآثار القيمة جدير أن يفرد له صفحات أوسع من هذا المجال الذي تتركه لي الرسالة اليوم. . .
قوة هذا الكتاب وخطره منحصران فيما يتضمنه من فكرة تستطيع أن تجملها في مسألة هي روحية: الشرق ومادية الغرب؛ أما القصة في ذاتها فبسيطة سهلة لا التواء فيها ولا جلبة ولا حركات مثيرة ولا مفاجآت قوية ولا غير هذه من ضروب الاستهواء التي نصادفها في بعض القصص؛ ولقد جاءت تلك البساطة نوعاً من الجمال في الكتاب فكان كآثار راسين سحره في عمق الفكرة ودقة الفن لا في مثيرات الحكاية
هذا محسن فتى شرقي يقيم في باريس ويعرفه الناس بأنه (عصفور من الشرق) تقع عيناه على حسناء من حسان باريس فتستأثر بلبه ويأخذ حسنها بمجامع قلبه؛ فإذا به يعيش بخياله الشرقي وروحانيته الشرقية عيشة أهل الجنة على هذه الأرض؛ وتتهيأ له سبل الاتصال(255/78)
بالفتاة ومجالستها ومصاحبتها حتى يصطدم بالواقع ويرى أنها لا تحبه وأنها تخدعه فيكون موقفه - كما صوره المؤلف - موقف آدم عند خروجه من الجنة. . .
تلك هي الحادثة، وهي كما ترى بسيطة غاية البساطة، ولكنها على بساطتها مليئة بألوان السحر والفن فوصف شعور محسن في حبه يبهج النفس ويملأها نشوة، وبراعة الحوار والمناجاة هي السحر بعينه، بله دقة الفن وحسن سبكه
على أن خطر الكتاب وقيمته - كما قدمت - في فكرته؛ ولقد استطاع قصاصنا الكبير أن يدلي بآراءه على ألسنة أشخاص صورهم أحسن تصوير وأبرعه، فهذا هو محسن وهذا هو أندريه الغربي الذي لا يعرف خيالاً ولا شعراً؛ والذي يعتبر نقيضاً لمحسن يهزأ به وبأحلامه يسوقهما المؤلف لترى فيهما روح الشرقي وروح الغربي، ثم هذا إيفانو فيتش الروسي العامل الذي يجري المؤلف على لسانه الجزء الأكبر من فلسفته، ثم هذه هي سوزان الباريسية الحسناء التي أحبها محسن إلى غير هؤلاء من الأشخاص الذين صورهم المؤلف أصدق تصوير وأجمله؛ ولو أني أردت أن أدلك على مواضع الجمال والقوة فيما جرى على ألسنتهم من آراء لدللتك على الكتاب كله، ولست - شهد الله - أغلو في ذلك ولا أسرف؛ ولم يقتصر المؤلف الفاضل في تصوير حياة الغرب على الآراء التي أجراها على ألسنة هؤلاء الأشخاص، بل لقد صور لنا عدة مناظر من الحياة ذاتها كالأسرة التي كان يعيش فيها قبل انتقاله إلى المنزل وكالمسرح وحفلات الموسيقى وغيرها فأحاط كتابه بجو بديع؛ ولم يكن - شأنه في ذلك شأن الفنان المتمكن من فنه - يعرض من الصور والمناظر إلا ما يستلزمه إبراز الفكرة الفلسفية التي تدور عليها القصة؛ أنظر إلى الولد الصغير يوحي إليه بمحاربة البوش والشيخ المسن يبدي تذمره واستيائه إذ يعرض لحال العمال وربة الأسرة تخشى أن يرحل محسن إلى جهة أخرى ولا مرتزق لهم إلا ما يدفع من أجر تر صوراً قوية أخاذة لحياة الغرب يقدمها المؤلف بين يدي فكرته في مهارة تحملك على الإعجاب. . .
ولقد كان في التعبير عن فكرته بهذه الطريقة موفقاً جهد التوفيق، فليس أوقع من الإيحاء والإشارة في تصوير المعنى الفلسفي المراد؛ تجد ذلك في الشعر وهو الصور القائمة على اللفظ وتجده في التصوير بالألوان، وتجده في الموسيقى؛ ولعمري ما يستطيع عالم من(255/79)
علماء النفس مهما اتسعت آفاق علمه أن (يصور) لك الأناني أو المخاتل أو الغيران أو الجشع أو اللئيم أو غير هؤلاء كما يستطيع أن يفعل رجل الفن، فرسم الصور الحية عمل ذلك الفنان ومنها تأخذ من المعاني ما شئت وشتان بين الصورة الحية والمعاني المجردة؛ وهل قامت عظمة شكسبير ودكنز وجوته وهوجو وراسين وأضرابهم إلا على ذلك الفن الذي يخلق من المعاني الحياة؟ وإنك لتستطيع أن ترد نجاح توفيق الحكيم ونباهة شأنه إلى هذه الموهبة الفنية أكثر مما ترده إلى أي شيء آخر
وأحب أن أشير هنا أن شخصية محسن هي كما يدرك القارئ دون عناء شخصية المؤلف نفسه تتجلى هنا كما تجلت في قصة (عودة الروح) كما أحب أن أشير على الرغم من ضيق المجال أن هذا الكتاب يقدم لنا دليلاً جديداً على أن فن توفيق الحكيم في القصة فن غير مقصور على ناحية معينة، ولقد قدم لنا في أهل الكهف وشهرزاد لونين من ألوان القصة المسرحية، ثم أرانا في عودة الروح لوناً من ألوان القصص غير المسرحية، وفي يوميات نائب في الأرياف أتى بنوع جديد يعد من القصص الإصلاحية، ثم هو في هذه القصة الأخيرة يأبى إلا أن يبتدع فهو كما ترى لا يتخصص في نوع واحد، ولكنه مع ذلك يسمو في كل نوع سمواً يشعرك في كل قصة كأنه أوقف على لونها فنه ومواهبه، ولقد يحسب بعض النقاد هذا مستحيلاً أو يعدونه نقصاً ويستشهدون على ذلك بأن كثيراً من كبار القصاصين يقتصر الواحد منهم على لون لا يحسن غيره، ولكن توفيق الحكيم يقيم الدليل القاطع على غلوهم في هذا الزعم، وماذا عسى أن يحول بينه وبين الإجادة في كل نوع والمسألة كلها مسألة قصص وهذا فن ركب في فطرته وإن له من قوة روحه وعمق فلسفته وسعة ثقافته لمعين لا ينضب؟ إننا لا يسعنا كما أسلفت في معرض آخر إلا أن نعتز بفن توفيق الحكيم كمظهر من مظاهر نهضتنا الثقافية وما أحوجنا إلى أمثاله في جميع نواحي حياتنا الأدبية والعلمية. أجل ما أحوجنا إلى أمثاله النابغين الذين يردون بالعمل الناضج الفذ على الذين يرموننا بالقصور ويمكرون علينا استعدادنا للتفوق. فليتقبل مني الأستاذ النابه هذه العجالة تجلة معجب وتحية صديق
الخفيف(255/80)
العدد 256 - بتاريخ: 30 - 05 - 1938(/)
حول اقتراح وزارة المعارف
توحيد الثقافة العامة
ونريد بالثقافة العامة القدر المشترك من المعرفة بين النشء في طوري التعليم الابتدائي والثانوي. وهذا القدر أشبه بالغرار يطبع عليه آحاد الشعب فيتحدون بالهوى ويتفقون في الطبع ويتقاربون في الرأي ويتسايرون إلى غاية واحدة تتجه إليها القوى وتصلح عليها الجماعة. وهذا المثال أو المنوال فقدته مصر والعالم منذ اقتبسنا المناهج الحديثة في التعليم، والنظم الأوربية في الحكم فكان في كل قطر من أقطار الإسلام ثقافتان مختلفتان في الخطر والأثر، إحداهما تقوم على الدين المشروع والسنة الموروثة وما يتصل بها من خصائص الجنس وتقاليد الشرق وأساطير التاريخ، والأخرى تقوم على أساس سطحي من أدب الغرب ومدنيته وعقليته ونظمه. والثقافة الأولى غالبة لصدورها على الفطرة والعقيدة والوراثة والبيئة. أما الثانية فكانت لنبوها عن الطباع تنال العقول والقلوب في أناة ورفق، وتغزو الرسوم والأوضاع في حذر وحيطة، حتى تم للغرب فتح الشرق فنشر فيه حضارته وثقافته بالإيحاء والإغراء والقوة. وهناك أخذ التنازع بين هاتين الثقافتين يفعل في الحياة فعله، فغير الوجهة وعوق السير وشعَّب الرأي وشتت الوحدة؛ فلم يكن للقائمين على سياسة التعليم بد من الطب لهذه العلة تفادياً لما ظهر من سوء أثرها في سياسة الدولة وإنهاض الأمة
وهاهي ذي وزارة المعارف تفكر أخيراً في توحيد القالب الثقافي في المدارس المدنية والمعاهد الدينية على وضع لا تزال تفاصيله مجهولة، لأن الفكرة ما برحت تتردد بين دار الوزارة وإدارة الأزهر. فإذا عرضنا لها اليوم فإنما نعرض للأساس الذي لا يتغير في التفصيل ولا في الجملة:
ليس بسبيلنا أن نبحث في أي الثقافتين أدنى إلى الإصلاح وأولى بالأخذ، فإنا نؤمن بأن لقانون التطور حكماً لا يدفع، وأن للتلاقح الاجتماعي بين الحضارات والثقافات أثراً لا ينكر في تمدن الإنسان وتقدم العالم. ولكننا نعتقد أن تغليب التعليم المدني بمنهاجه الحاضر على التعليم الديني أمر لا يغب غير الضرر؛ فإن التعليم المدني لا يزال عاجزاً يتلمس طريقه المطموس بين الاضطراب والفوضى، لا يقف عند تقليد، ولا يطمئن إلى تجربة،(256/1)
ولا يستقر على نظام. وقد أسفرت أكلافه وجهوده مدى نصف قرن عن جيل مشياً الخلق مشوش العقل ناقص الكفاية مشكل الوضع، فلا هو قارئ ولا أمي، ولا هو شرقي ولا غربي، ولا هو ديِّن ولا ملحد. وقد وسمه كلُّ عمل بالعجز، ورماه كل مشروع بالفشل، فلم يستطع إلا بث الضجر في الناس، ونشر الفساد في المجتمع، وإشاعة السخط على الحياة.
وأما التعليم الديني فكان على جموده وقصوره أهدى سبيلاً إلى الإصلاح، وأرجى منفعة للأمة، فقد دأب دهره الطويل بثقف الأفئدة، ويقوّم الألسنة، ويزود أتباعه بالأسلحة المواضي لمحاربة الرذيلة والأمية، فيرجعون إلى قومهم في المدن والقرى والضياع يتغلغلون فيها تتغلغل النيل، فيرشدون الغوي، ويعلمون الجاهل، ويؤاسون المصاب، وينشرون ظلالاً من الدين والمعرفة والمدنية على حياة الفلاح فبسعد بالسلام والوئام والبركة، بينما تجد (الأفندية) يتسكعون على أفاريز الطرق، أو يتقمعون على موائد المقاهي، ينتظرون وظيفة يعيشون عليها، أو جريمة يدخلون فيها
على أن التعليم الديني ليس صالحاً كله، والتعليم المدني ليس فاسداً كله؛ وملاك الأمر هو مزج الخير في هذا إلى بالخير في ذاك، فيكون منهما قوام صالح تتماسك عليه الأخلاق وترتقي به المدارك. وليس في التعليم الأزهري خير إلا في عناصره الأساسية الثلاثة: الدين والعربية والشرقية. فاحتفظوا بها واجعلوا ما عداها درج الرياح. اجعلوها بعد تنقيتها وتقويتها أساساً للثقافة العامة، فإن في الدين رياضة الروح، وفي العربي ثقافة الشعور، وفي الشرقية سلامة الشخصية. ولا يضيرنا إذا قام التعليم على هذه الأسس الثلاثة أن يكون ما تتعلمه أوربياً محضاً لا أثر لعلومنا فيه، ولا صلة لكتبنا به
نريد أن تبسط (المعاهد) سلطانها على التعليم في هذه الأمور الثلاثة، ثم تعلن للمدارس إذعانها فيما عدا ذلك. ولا يتحقق هذا السلطان إلا إذا كان لمادتي الدين واللغة حظ موفور من منهج المدرسة وكفاية المدرس وعناية الوزارة
فإذا سار الأمر في تعليمهما على الوجه الذي يسير عليه في المدارس الابتدائية والثانوية، اضطربت القواعد في الجامعة الأزهرية وأصابها من وهن الأساس وتصدع الجوانب ما أصاب كلية الآداب في الجامعة المصرية، فتبنى على الرمل، وتعتمد على الخواء، وتكتفي بهذه العناوين الضخمة والألقاب الفخمة والمظاهر الخداعة، ثم لا نكون قد فعلنا أكثر من(256/2)
أننا عمدنا إلى نظام مستقر يفيد بعض الفائدة، فحولناه إلى نظام مضطرب يضر كل الضرر
هذه كلمة عجلى في المشروع لا في الموضوع كتبناها توطئة لما ستنشره الرسالة متى وقفت على قرار الرأي فيه(256/3)
الماضي والحاضر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لقيت مرة صديقاً أثيراً عندي فسألني: (يا أخي أين أنت) قلت: (حيث تراني) قال: (إنا لا نجدك في أي مكان) قلت: (ذاك لأنك تبحث عني في حيث يوجد الناس عادة، وأنا لا أحب أن أكون حيث يكثر الناس ويزدحمون كالمواشي في الحظائر)
بعد هذه الفاتحة ذهبنا نتمشى واستطردنا في الطريق من حديث إلى حديث فكان مما أذكر أني قلته له أني حُرٌّ كهذا الهواء لا سلطان لأحد عليَّ غير طبيعتي - أعمل ما أشاء، وأترك ما لا أرضى، ولا أكون في أي حال إلا على هواي. وأنا حريص على هذه الحرية الشخصية وضنين بها وفي سبيلها ومن أجلها أهمل ما يعنى به الناس غيري، وأصرف نفسي عما تتعلق به النفوس مخافة أن يجني ذلك على حريتي ولو استطعت أن أبت صلتي بالعالم وأحيا بمعزل عنه لفعلت
وكان صديقي يسمعني أفشر وأمعر على هذا النحو، فيقول: (صحيح صحيح) ولم أكن أعلم في تلك الساعة أني أفشر أو أمعر ولا كان قصدي إلى شيء من ذلك، وإنما كنت أتكلم بأول ما يجري في الخاطر كما هي عادة الناس حين يتحدثون، فقلما يكلف الناس أنفسهم في المجالس عناء يستحق الذكر في التفكير فيما يقولون
وعدت إلى البيت وخلوت بنفسي وشرعت أراجعها وأحاسبها قبل النوم على عادتي فأنى أعنى في آخر كل ليلة بتدبر ما كان مني في يومي، وأكره أن أنام قبل أن أفرغ من هذا الحساب، وما دامت صفحة اليوم قد انطوت فلماذا أبقيها مفتوحة. فأنا كالتاجر أو البنك الذي يحب أن يسوي حسابه يوماً فيوماً ويصفي ما له وما عليه في آخر كل نهار
وفي ساعات هذا الحساب الليلي الذي لا يحسه أو يدري به أحد، يخيل إلي أني أخرج نفسي وأجلسها وأجلها أمامي وأقدم لها سيجارة أو أناولها فنجان قهوة وأحييها وألاطفها أولا كما يقضي بذلك الذوق والأدب بين المتمدينين، ثم أفرك كفى وأقول لها بابتسامة عريضة: (والآن تعالي نتحاسب قليلاً) فتمتعض أو على الأصح لا يبدو عليها أنها ترتاح إلى هذا الحساب الذي لا أختار له إلا وقت النعاس، ولكنها لا تبدي لي هذا النفور ولكنها تبتسم متكلفة مثلي وتقول: (ألا ترى أن الوقت متأخر قليلاً) فأقول: (أشكر لك هذا الرفق ولكنا ما(256/4)
زلنا قبل نصف الليل فلا بأس من حديث قصير) فتقول: (ولكنك تعبت في يومك. . . اشتغلت كثيراً وكددت رأسك جداً، فخير لك أن ترتاح وفي الصباح. . . قبل طلوع الشمس تكون قد استعدت نشاطك وانتعشت فنستطيع أن نتحدث كما تشاء. . . هذا فيما أعتقد خير لك) فأقول لها: (إنك يا نفسي طول عمرك رقيقة عطوف ولولا هذا لما رضيت أن أتخذك ولما طالت بيننا الصحبة إلى اليوم ولكن لماذا نرجئ إلى الغد كما يفعل التلميذ البليد) فتقول: (إن المدارس لا تعلم حكمة الحياة وليس صحيحاً أن على الإنسان أن يتقي إرجاء ما يمكن عمله وإنما الحكمة أن يرجئ إلى غد كل ما يمكن أن يرجئه مما يريد أو يجب أن يفعله اليوم، ولا سبيل إلى الراحة في الدنيا بغير ذلك وإلا صرنا كالآلات لا نستطيع أن ننعم بحياة أو أن نحس لها طعماً وأصبحنا كالذي زعموا أن زوجته فتحت له دكاناً وأقامته فيه وحده ولم يكفها هذا فجعلت تكلفه أن يعمل كل ما يخطر لها فأصبح الرجل لا يعرف رأسه من رجليه فهو أبداً رائح غاد يعمل في الدكان أو في البيت أو يجري في الطريق ليقضي حاجة مستعجلة فشكا إلى بعض إخوانه ما تجشمه زوجته من الجهد والكرب وما تحرمه من الراحة فسأله صديقه ولماذا لا تطلقها وتريح نفسك من هذا العناء كله؟ فكان رد المسكين: (وهل تركت لي وقتاً أن أطلقها فيه)
فضحكت فقالت نفسي: (إنك تضحك ولكن هذا حال من يقبل على العمل إقبالك ويعمل بما علموه في المدرسة من عدم إرجاء ما يمكن عمله)
وتظل نفسي تحاورني وتداورني على هذا النحو وبأمثال هذه السفسطة لتهرب من الحساب فيضيق صدري بها وأهم بزجرها بعنف لولا أن هذا لا يليق وأقول الحق إني أساعدها أحياناً على الهرب لأني في تلك الأحيان أشعر بأن الحساب سيكون عسيراً عليَّ أيضاً وإن الموازين ليست خفيفة عندي
وفي تلك الليلة قلت لها بلهجة رقيقة: (هل كان من الضروري جداً لسعادتك أن تجري لساني بهذا الكلام الفارغ)
فسألتني: (أي كلام فارغ) فقلت: (إني حر كالهواء وإنه لا سلطان لأحد عليَّ وإني وإني إلى آخر ما أطلقت به لساني من الهراء)
فقالت متهربة: (إن هذه لهجة في خطاب النفس لا أظنها لائقة)(256/5)
فقلت بضجر: (لا تحاوريني كما يفعل هذا الضمير المتعب)
فغمزت بعينها إن هس لئلا ينتبه الضمير الراقد فتكون ليلتنا سوداء ثم قالت بصوت مسموع: (لكن أي كلام ليس أكثره على الأقل فارغاً)
قلت: (صحيح ولكن أني حر كالهواء؟ هذا لا يطاق ولا أدري كيف أزدرده صديقي بلا اعتراض)
قالت: إما أن الصديق لم يفهم أو لم يدرك حق الإدراك وأما إنه فهم وأثر المجاملة واتقاء المصادمة أو هو كغيره يفشر ويمعر فهو يحملك جميل الصبر على فشرك لترده إليه حين يفشر هو) فكادت تفحمني ولكني كابرت وقلت: (ولكني لا أحب أن أكون فشاراً)
قالت: (لا عليك فما أراك كنت فشاراً جداً. إن كل ما قلته هو أنه لا سلطان لأحد عليك غير طبيعتك وهذا صحيح وهو يصدق في كل حالة وعلى كل إنسان)
فسكت وماذا عسى أن أقول، وخطر لي أني قد أباهي ما شئت بحريتي المزعومة في التصرف فلن أكون إلا مخادعاً لنفسي في حقائق الحياة وما دام أني مسير بطبيعتي التي تسيطر عليَّ وتوجهني فأنا لا أستطيع أن أكون إلا ما تسمح لي به هذه الطبيعة فأنا أبدا مقيد بها وفي سجن منها لا باب له ولا أمل في فكاك أو خلاص في هذه الدنيا. وقد تثور نفسي وتمور عواطفي وتفور خواطري ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعتي الخاصة وإلا في محيط هذا السجن. ومهما تكبر البحيرة وتعظم فأن لها من شطئانها حواجز ولا بد من زلزال يغير معالم الأرض لتغيير هذه الحواجز أو توسيعها أو إبعادها وعلى أنها تبقى بعد ذلك حواجز إلا إذا غارت البحيرة كلها واختفت من الدنيا
وخيل ألي وأنا أفكر في هذا أن طبيعتنا أو فطرتنا تجعلنا في حياتنا خاضعين لسلطان يد أو أيد تمتد إلينا من وراء القبور وأن الماضي هو الذي يسيطر علينا لا الحاضر وأنه ليس لنا أن نتجه في سيرنا في هذه الدنيا إلا إلى حيث تديرنا هذه الأبدي الخفية التي تمتد من ظلام الماضي
وتذكرت وأنا أدير هذا المعنى في رأسي كيف تزوجت، وأقص الخبر لأن له دلالته وعلاقته بهذا المعنى. كنت صبياً في الرابعة أو الخامسة - لا حين تزوجت من فضلكم - فزارنا خالي وامرأته ومعهما طفلة لهما من الله بها عليهما فتناولها أبي ووضعها على حجره(256/6)
وقبلها، وأخذ يداعبها ويلمس خدها الطري الصغير بإصبعه الناشف الكبير لتبتسم ثم ردها إلى أمي ونظر إلى أمي وقال: (هذه إن شاء الله لابننا)
ولم أشهد أنا هذه الجلسة فقد كنت في الكتاب ولكنهم دعوني حين صعدت إلى رؤية (عروسي) فلم أزد على النظر إليها ثم انصرفت عنها غير عابئ بها لأنها لا تستطيع أن تلاعبني ولم أكن أعرف في ذلك الوقت أن هذه التي احتقرتها هي التي ستكون زوجتي يوماً ما. ولو أن أحداً بين لي هذا يومئذ وكشف لي عن الغيب فيه لما فهمته. وقد قصت أمي علي ما دار في هذه الجلسة فيما بعد ولم يخطر لي قط أن أشك في صدقها، فقد كانت رحمها الله لا تكذب. ولا تعرف المحاورة والمداورة أو اللف إلى أغراضها. وقد مات أبي بعد سنوات قليلة ولم يعش لينعم بهذا الزواج الذي رتبه وقرره لابنه الذاهل في طفولته. ولكن ابنه - وأعني نفسي - ظل بعد أن سمع هذا الحديث وعرف رغبة أبيه يدور في نفسه أن أباه كان يشتهي أن يزوجه هذه الصغيرة بعد أن يكبرا فاتجهت نفسي مع هذا الخاطر وصرت أنظر إلى بنت خالي نظرتي إلى زوجتي المستقبلة. وكانت امرأة خالي على عادة بعض الأمهات - تبديها لي تارة وتحجبها عني تارة فأثمرت هذه المحاورة ثمرتها وتعلقت نفسي بالفتاة وصبوت إليها فلما صرت ذا عمل أكسب منه رزقي حققت رغبة أبي وهكذا سيطرت عليَّ إرادة أب مات قبل سنوات عديدة، وقولوا ما شئتم في تأويل ذلك، فلن تخرجوا به عن كونه مظهراً لتحكم الموتى في الأحياء
ومنذ بضع سنوات قليلة دعاني صديقي الأستاذ سليم بك حسن العالم الأثري المشهور إلى زيارة ما كشف عنه من الآثار القديمة عند الهرم في المنطقة التي اتخذتها الجامعة لحفائرها، وقد طاف بنا ساعات طويلة وهو يشرح ويفسر، ولكنه لم يستوقفني من كل ما رأيت سوى أثرين أو نوعين من الآثار: فأما الأول فجدران بيوت قديمة لعلها كانت سكنى لكهنة المعابد أو خدمهم، وقد وقفت مذهولاً أمام هذه الجدران فقد سكنت بيوتاً جدرانها مدهونة على هذا النحو وبهذه الألوان عينها. والذين سكنوا البيوت القديمة قبل أن ترتفع هذه العمائر الجديدة يعرفون ولا شك كيف تدهن الجدران من الداخل باللون الأبيض أو الوردي أو الأزرق، وكيف يجري خط عريض بلون آخر كالحزام للجدار وفوقه خط آخر، وتحت هذين على مسافة عشرين سنتيا أو نحو ذلك خط عريض آخر، وكيف يملأ بين(256/7)
الخطين العريضين بالرسوم أو النقوش أو يترك ما بينهما بياضاً
هذا الذوق في زخرفة الجدران ليس جديداً وإنما ذوق انحدر إلينا وورثناه من آلاف السنين وعشرات القرون. وقد طغت علينا في السنوات العشر الأخيرة موجة من الغرب، فنحن نقلده في هندسة البناء وفي طراز الزخرفة، ولكنا بدأنا نستنكر أن نظل مقلدين ونستهجن أن نفقد بذلك خصائصنا القومية وذوقنا الخاص الذي نتميز به بين الأمم. وعسير أن يتنبأ المرء بما تؤدي إليه هذه النزعة الجديدة إلى التحرر من أسر الغرب والرغبة في أن نرجع إلى ما تمليه علينا طبيعتنا ومزاجنا القومي الخاص، ولكن المهم أن هذا التقليد ليس إلا نتيجة الشعور بقوة الغرب وضعفنا حياله وتوهمنا من أجل ذلك أن كل ما درجنا عليه مظاهر للتأخر، وأن بقاء ذلك معناه بقاؤنا متأخرين فيجب إذن أن نعجل بتغييره بل بمحوه. ولكنا سنستقر على الأيام فتتغلب علينا خصائصنا أو تؤثر على الأقل فيما ننقله ونقلد به الأمم الأخرى. وما الحاجة إلى الذهاب إلى الهرم للعثور على مثل لتحكم الميت في الحي وسيطرة الماضي على الحاضر؛ هذه الأديان كلها في الدنيا جميعها أهي وليدة العصر الحاضر؟ الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والكونفشيوسية وغيرها، أحدثها يرجع إلى أكثر من خمسة عشر قرناً. ولست أصدق أن في الدنيا ملحداً بالمعنى الصحيح، ورافضاً لكل دين وكل عقيدة. كان لي صديق لا يزال يفاخر بأنه ملحد لا يؤمن بشيء، وكنت ألومه وأقول له ماذا يعني الناس منك إذا كنت تؤثر لنفسك أن تكون ملحداً. الحد ما شئت فأن هذه جنازتك كما يقول الإنجليز، ولكن أرح الناس من الأثقال عليهم بهذه الآراء التي لا يرتاحون إليها. فكان يضحك مني ويصر على حماقة المفاخرة بشدة إلحاده. ومضت سنوات والتقينا على ظهر باخرة ذاهبة إلى جنوة، واضطرب البحر عصر يوم ورمانا لجه بالزبد، وأنا ممن لا تدور رؤوسهم في البحر مهما بلغ من اصطخاب أمواجه، ولكن صاحبي الملحد أصيب بدوار شديد ألزمه سريره، فقلت أزوره لأطمئن عليه ولأرى ماذا أستطيع أن أصنع له، فدخلت عليه فألفيته ممتقع اللون جداً من طول ما جشأت نفسه ونهضت بلا انقطاع تقريباً، وكان مغمض العين ولكن شفتيه كانتا تتحركان أو تختلجان بما لا أسمع من فرط الخفوت، فملت عليه لأسمع ما هو قائل حتى كادت أذني تلمس فمه، فإذا به يذكر الله ويتوسل إليه أن ينقذه ويخفف عنه. وقد ترددت بعد ذلك، أأعيره بما سمعت منه أم أدعه(256/8)
لنفسه؟ ثم رأيت أن أتركه وشأنه وأن أدع الأيام ترده إلى اتزان الحكم واجتناب التطاول بعقله القاصر المحدود على ما لا يدرك
ولغاتنا. . . أليست شجرة أصلها في الماضي السحيق. . . وكل لغة تتحكم في عقول أبنائها وتصوغها لهم وتصبها في قوالبها، ونحن نفكر على طريقة خاصة يضطرنا إليها احتياجنا إلى التعبير وفق أحكام خاصة للغتنا الموروثة بألفاظها ونحوها وصرفها وتراكيبها وقوالبها ومجازاتها، أي أننا نفكر على نحو ما كان يفكر الأقدمون من أبناء هذه اللغة. ولا سبيل إلى ذلك ولا مهرب منه
ونظام الوقف ماذا هو. . . إنه ليس إلا نظاماً يستطيع به رجل مات أن يحكم إرادته بعد زواله وخروجه من الدنيا في أجيال متعاقبة من الأحياء. ومن كان يشك في أن الموتى يتحكمون في الأحياء فليذكر هذا الموقف. رجل له مال سيتركه ويرحل عن الدنيا وكأنما يعز عليه أن يده سترتفع وأن ماله ستتولاه أيد غير يديه فينشئ وقفاً يقضي فيه بأن يرث الذكور ولا يرث الإناث أو يرث الإناث ولا يرث الذكور، ويخرج طبقة ويدخل طبقة ويهب من يشاء ويحرم من يشاء، ويتحكم بهذه الوسيلة في إرادات ناس لم يرهم في حياته ولم يعرفهم ولم يحببهم ولم يكرههم. . . أليست هذه يداً ممتدة من وراء القبر توجه الأحياء إلى حيث تريد، وتصرفهم عما لا تريد؟ وهنا موضع التحرز من خطأ قد يسبق إلى الأوهام، فلست أحاول أن أنتقد نظام الوقف أو غيره من النظم، وإنما أنا أسوق مثالاً لسيطرة الماضي على الحاضر وخضوع إرادات الأحياء لإرادات من أدرجوا في القبور. ولعلي لو كنت ذا مال لسرني أن أنشئ وقفاً وأن أعطي وأمنع، وأنعم على هذا وأبخل على ذاك، فأن السرور بذاك التحكم طبيعي والأمم التي لا تعرف الوقف تعرف ما يشبه مثل الوصية، وليس الوقف إلا ضرباً من الوصية أو لعل العكس هو الأصح
ولا يتسع المقام لتقصي وجوه الحياة ومبلغ السيطرة الواقعة عليها من الماضي. ثم إن هذا لا ضرورة له فإني أظن الأمر واضحاً وفي وسع من شاء أن يقيس على ما ذكرت
وليس معنى هذا أن حياتنا تتغير وأن الحاضر صورة دقيقة من الماضي وأن عصراً يذهب وآخر يجيء، بلا اختلاف ولا تفاوت ولا تقدم. كلا فأن القول بهذا لا يكون إلا سخافة. ونحن نشهد التطور بأعيننا في زماننا فمن التعنت أن يحاول أحد أن ينكر أنه لا يزال(256/9)
يحدث في الدنيا. وإنما معنى ما أسلفت من الأمثلة أن الكتلة البشرية لا ترمي بزمانها إلى كل من يدعوها إلى تغيير حالها وذلك بأن تقاومه وتناهضه ما وسعتها المقاومة لأنها تجري على عادة، والحرص على العادة أسهل من الأخذ بالجديد غير المألوف، ولكنها مع ذلك تتزحزح شيئاً فشيئاً عن مألوفها ولكن ببطء شديد، أو أقل ببلادة إذا شئت. فلا يستطيع من يدعوها إلى الجديد أن يحملها على الأخذ به كلا، فأنها لا تستطيع ذلك ولا تقوى عليه، ولهذا نرى الدعاة إلى الجديد يسرفون في الطلب ونرى الجماعة البشرية تسرف في الرفض أو المقاومة وبذلك ينتهي الأمر بالوصول إلى حد وسط معقول
وقد كانت الكتل البشرية فيما مضى تنتظر أن يجيء الدعاة إلى التغيير من أبنائها، ولكنا صرنا في زمن توثقت فيه الصلات بين الأمم قاطبة وصرنا لفرط السهولة في الاتصال وسرعته كأننا أمة واحدة، فإذا قام داع جديد في إنجلترا فأن صوته يسمع في الوقت نفسه في مصر والصين، وقد لا يحدث في مصر والصين مثل الأثر الذي يحدثه في بلاده؛ والأمر في هذا يرجع إلى درجة التهذيب في كل شعب ومبلغ استعداده لتقبل الدعوات الجديدة لا إلى بطء وصول الدعوة، ومن هنا قلت حاجة الأمة إلى داع خاص من أبنائها، لأن كل داع إلى جديد في أي قطر تبلغها دعوته كما تبلغ أهله، ومن هنا أيضاً صار التطور في زماننا أسرع لأن وسائل التبليغ والإلحاح على الشعوب ضارت أسهل وأسرع وأقوى وأفعل، وحسبنا الصحف والمطابع والإذاعة اللاسلكية مما لم يكن له وجود في الماضي
رأيت منذ أيام سيدة عجوزاً من معارفنا تمشي في الطريق مع زوجها الهرم وفتاتها الناهد، وكنت أعرف هذه الأسرة شديدة الحرص على تقاليد الحجاب. ولكن الزمن جرفها بسرعة التطور الحادث فيه فخرجت الأم العجوز سافرة تنافس بنتها الحديثة في الزينة وسار معهما الأب الهرم لا ينكر شيئاً من هذا الذي كان مثله قبل عشر سنوات يدفعه إلى التفكير في القتل. فهذا مثال لسرعة التطور من جرأة السهولة التي تصل بها الموجات الجديدة من الأمم الأخرى
وأعود الآن إلى بداية الكلام فأقول إن هذه الخواطر وأمثالها أرتني أن الحرية التي أزعمني ناعماً في حياتي أكثرها وهم ومغالطة للنفس في حقائق كبيرة، والقصد على العموم أولى(256/10)
وأسلم، وإن الحياة لأسر، وكثير على الأسير أن ينادي أنه حر طليق وفي يديه الحديد وله حين يتحرك صلصلة ورنين
إبراهيم عبد القادر المازني(256/11)
لو كنت الرافعي!
للأستاذ محمد احمد الغمراوي
كنت أقرأ بعض كتابات الرافعي رحمه الله في بعض أعداد الرسالة حركني إلى قراءتها أني وقعت على (وحي القلم) في مجلد واحد نسيه الأستاذ عزام عند الدكتور الدرديري في جمعية الشبان المسلمين، فأخذته أجيل الطرف فيه، وكان كتابي وحي القلم قد استعاره أخ لي فلم أقراه مجموعاً وإن قرأت أكثره متفرقاً في (الرسالة)
قرأت من تلك المقالات الحسان مقالة (دعابة إبليس) وقد ضحكت لبعض تصويره للمواقف ما لم أضحكه من زمن طويل، وسرني أن إبليس شغله الأوربيون يوم الأحد فترك الرافعي يكتب هذا المقال بعد أن ظل يحاوره ويداوره ويعاجزه حتى كاد يعجزه، لولا أن الأوربيين لم يتركوا له وقتاً يوم الأحد!
ورجعت إلى المنزل أردد هذا المقال في خاطري وأجد له تطبيقات وتوجيهات عندي. ومن ذا الذي لا يشاغله إبليس ويعاجزه فيما يروم وفيما يحاول؟ ومن ذا الذي لا يسخر منه إبليس إذ يخدعه المرة بعد المرة عن الشيء بعد الشيء بنفس الطريقة وبنفس النتيجة؟ ومن ذا الذي كلما خدعه إبليس مرة لم يزل يرجو ويؤمل أن تكون تلك آخر مرة ثم يقع في نفس الشرك الذي وقع فيه من قبل - وهو يعلم أنه قد وقع من قبل فيه - يستزله الشيطان بالأمل والرجاء حتى يقع؟. . . كلنا ذلك الرجل فليس فينا مثلاً من لم يخدع مرة بعد المرة عن صلاة العشاء وهو متعب لينام، أو لكي يؤديها بعد في جوف الليل فيجتمع له بذلك مع الفريضة التهجد، فينام ولا يقوم - إن نام - إلا بعد الفجر. وليس فينا من لم يخدع عن الفجر، بل عن الصبح بتسويفه القيام خمس دقائق يتذوق فيها في يقظته بقية الراحة التي كان يجدها في نومه أو ليهدأ فيها جسمه، أو ليجف فيها عرقه، فلا يستيقظ بعدها إلا عند طلوع الشمس. كلنا ذلك الرجل على اختلاف تجاربنا مع الشيطان. وللشيطان طريقته في خدع كل إنسان، لكنني لا أشك في أنه وإن اختلفت خدعه وطرائقه التي يستزل بها الناس،، لا يزال يسوي بينهم جميعاً في شيء واحد هو كره على الواحد منهم المرة بعد المرة بنفس الأسلوب وبنفس النتيجة؛ فإذا خطر لأحدهم في موقف وقفه من قبل أن هذا من الشيطان وأن الشيطان خدعه بهذا من قبل ففوت عليه غرضه، مهد له الشيطان سبيل(256/12)
الانخداع عن طريق الرجاء وأوقع في نفسه أنه إن يكن ما فاته في الماضي فأن ذلك لن يفوته هذه المرة فسيستيقظ أو سيكتب أو سيعمل عمله الذي ينوي، ولكن فقط بعد أن ينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ مما هو فيه من موقف في قصة أو في لعبة أو في حديث. فينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ ولكن غالباً مع تفويت ما كان يمني به نفسه أن يعمله بعد النوم أو الهدوء أو الراحة أو الفراغ. وهكذا دواليك. وليس أعجب في العراك بين خصمين من هذا النوع من الخدع والانخداع بين الشيطان والإنسان، فلو وزن كيد الشيطان هذا بأي ميزان غير ميزان الإنسان لشال فيه أقبح الشيل. وما كان للشيطان أن يغلب الإنسان أبداً بهذا النوع من الكيد بادي الضعف لولا أن الإنسان يعين الشيطان على نفسه بتصديقه إياه فيما قد ثبت له بالتجربة أنه يكذبه فيه. وما أظن الحديث الشريف:) لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) إلا منظوراً فيه في باطن الأمر إلى سد هذا الباب من كيد الشيطان وهو أوسع أبواب كيده. ولكن ما أبعد الإنسان من الوجهة العلمية عن صفات الأيمان!
رجعت إلى المنزل ولمقال الرافعي هذا صدًى يتردد في قلبي وذهني. وكنت أجد في نفسي إعجاباً بطريقته في التصوير وحنكته في التعبير وغوصه في التفكير. وكانت طرفة الطرف عندي في ذلك المقال الطريف خاتمته حين اشتد عجب الرافعي من ترك إبليس إياه يوم الأحد، يوم عطلة الأوربيين كأنهم لم يتركوا له وقتاً! وهي مفاجأة لم يكن يتوقعها القارئ، تدل على لطف ما للرافعي من فن. وتصورته وهو يكتب جاهداً ليفرغ من مقاله قبل أن يسترد إبليس بعض وقته الذي استغرقه الأوربيون ذلك اليوم! وإذا كنا كلنا سواء في الانخداع لإبليس فلسنا كلنا سواء والرافعيُّ في عدم الإلقاء إلى إبليس باليدين وفي التيقظ له وانتهاز الفرصة منه إن لاحت كما انتهز هو انشغال إبليس بالأوربيين يوم الأحد فكتب - رحمة الله عليه - للرسالة ذلك المقال الطريف
دخلت النزل وفي النفس ميل إلى القراءة فذهبت إلى أعداد الرسالة أتلمس ما كتب الرافعي فيها. وقبضت منها قبضة فإذا بيدي الأعداد 131 إلى 140 فقرأت مقالة (اجتلاء العيد)، وكنت وأنا أقرأه أعجب لانثيال كريم المعاني على ذلك العقل، وانحياز نبيل العواطف إلى ذلك القلب، أو بالأحرى تجدد عجبي مما جمع الله الرافعي رحمه الله من حظ في عمق الفكرة ونبل العاطفة ودقة العبارة، وعجبت لبعض من لا يقدرون الرافعي كيف لم يقرءوا(256/13)
له، أو كيف وقد قرءوا ولم يقدروا ما كتب عن الطفولة يوم العيد في مقالة (اجتلاء العيد)
ثم أخذت في قراءة المقال الثاني من مقالات المشكلة، انظر إلى استخراجه معنى الغيب من كلام المصلح المنتظر، ونابغة القرن العشرين، وإذا بصوت أسمعه رفع عيني وأرهف أذني، وأصغيت أتسمع لذلك الصوت ولآخر يجيبه، ولم يستغرق الصوتان إلا هنيهة أرخيت بعدها جفني أتأمل رنين الصوتين في نفسي فوجدتها مهتزة بمعان شعرت أني لا أحسن تصويرها لو حاولت. فقلت: قضية ولا أبا أحسن لها. لو كنت الرافعي!
وكان الصوت ينادي: (ما - ما) وكان الذي يجيبه صوت أمه هبت من منامها تقول: (نعم - حاضر) وقد رشح الصوتان إلى من خلال الجدار
كان الصوت صوت أبني المريض قد تماثل للشفاء بحمد الله ينادي أمه لبعض شأنه، فكان جوابها ذينك اللفظين تفصل بينها لحظة. وكان أحد اللفظين جواباً على النداء الذي سمعت، والثاني على الطلب الذي لم أسمع؛ وكان حس حركة في الغرفة يشير إلى بقية الجواب. وكان للنداء والجواب وقع في نفسي وشجن لا عهد لي به. ولست أدري أهي الرقة التي يجدها الوالد لطفله المريض، أم هي روح الرافعي في ما قرأت وفي ما كنت أقرأ هيأت نفسي فازداد تأثرها بذينك الصوتين حتى جاشت لهما؛ لكن الذي أدريه أني لو كنت الرافعي في ساعتي الحاضرة لأخرجت للناس من خير ما أخرج لهم رحمة الله عليه في (وحي القلم)
محمد احمد الغمراوي(256/14)
من أسبوع العروبة والإسلام بالعراق
رسول المجد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا مجد مولانا محمد! لقد فنيت في تصويرك ألفاظنا المسموعة والمقروءة، ولكن كلماتنا النفسية الهائلة بقيت كما هي مكتومة لم يقرأها الناس ولم يسموعها. . .
وهأنذا أسأل قلمي الميت الجامد التافه. . . ومدادي الأسود المظلم، أن يعينا على تصويرك أيها المجد، وتصوير فتنة النفس وسحرها بك. . .
ولكن ترى هل القصب الميت يتكلم. . . والحبر الأسود ينير؟ ترى هل تسمح الأقدار أن نكشف العلاقات الخفية بين نفوسنا وبينك على ضيقنا ورحابتك؟
هيهات. هيهات. . . فإن تلك منطقة حرام على النطق والتصوير بالكلام!
يا مجد محمد! تجسم تجسم بأشكال القرن العشرين وأثوابه. . أخرج من الكتب والتاريخ مرة أخرى. . . عُدْ عجيباً غيباً كما بدأت غريباً عجيباً. . . كن أجساداً تمشي على الأرض في أشخاص أبنائك الذين أضواهم جوعهم إليك. . . كما تمثلت في أجساد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسين وخالد وسعد والمثنى وابن عبد العزيز وعلي الرضا والرشيد وصلاح الدين وغيرهم وغيرهم من الرجال المصابيح الذين لم تر لهم الدنيا شبيهاً إلا تحت جناحك. .
يا مجد محمد! إنك مجد دنيا عاجلة فاتنة يحن أبناؤها إليها ويحبون أن يتحدثوا عنها أحاديث البطولة والجيوش والقواد والعلماء وفتوح الأقلام وفتوح السيوف. . .
كما أنك مجد دين وروح وأخرى وملكوت خفي يتصل بالنبوة والرسالة وما وراء الطبيعة. . . إنك مجد الظاهر والباطن والمعلن والخفي. . .
إنك مجد اليتيم الفقير الراعي الحي الأمي الذي وقف وحده في جوف الصحراء يقول للعالم الأرضي كله: إلى أين أيها العالم؟ إلى أين؟ أنت مصروف عن وجه الله ذي الجلال، وعن الحق الذي قامت به السموات والأرض. .!
إنكم جميعاً أيها الناس تطلبون الله. . ولكنكم جميعاً أخطأتم السبيل إليه. فليس الله حجراً ينصب ويعبد، وليس إلهاً خاصاً ببني إسرائيل يحب الدم والذهب، وليس له صاحبة ولا(256/15)
ولد، وليس كوكباً يشرق ويغرب وينطفئ يا عبدة الكواكب، وليس يرمز إليه بالنار التي توقد من الطين وشجر الطين أيها المجوس، وليس يطلب عذاب الجسد أيها الهنود، وليس القوة كل شيء في سياسة الحياة أيها الرومان، وخففوا من الفلسفة الشاردة وبلبلة الأفكار أيها اليونان. . .
فتقول له الوثنية العربية والجاهلية العريقة: يا ابن أبي كبشة. . أأنت تتكلم من في السماء؟! أألقي الذكر عليك من بيننا؟! إنك لمجنون. . . إن أنت إلا ساحر. . . إن أنت إلا مسحور. . .
وتقول له الأديان والمذاهب والفلسفات: من أنت أيها الصحراوي الأمي حتى تكون المهيمن على الأديان والمذاهب وصاحب البلاغ الأخير من السماء إلى الأرض؟ ما هي ثقافتك؟ أتعرف فلسفة سقراط وطب بقراط وحكمة أفلاطون وافلوطين. .؟
فيقول لهؤلاء جميعاً: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله)
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ. . .) (إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة. . .)
وتقول له السماء: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن). (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين) (واصبر لحكم ربك فإِنك بأعيننا)
فيمضي بطريقه المملوء بالأشواك والأوعار والمؤامرات والمكايدات حتى يظهر الله كتابه ويبسط سلطانه على مراكز الحضارات. وها أنتم أولاء تسمعون صدى ذكراه في جوف الليل. . بعد ألف وكذا من السنوات. وسيسمع الدنيا حديثه دائماً
سيداتي سادتي:
لماذا ندير حديث الذكرى المحمدية مثنى وثلاث ورباع وأكثر؟ لماذا نملأ الأجواء بضجة التهليل والتمجيد لروح محمد ومجد محمد؟
لماذا ترغم بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء وأنقرة وطهران وكابل وكل عاصمة عربية(256/16)
وإسلامية على السجود تحت أقدام مكة والمدينة؟
لماذا نثير من تراب مكة والمدينة قبضات في أجواء العالم الإسلامي حتى تكتحل به كل عين ويتوضأ منه كل وجه وتمتلئ به كل رئة؟
لماذا كل هذا؟
كل هذا لأننا نريد ونتوقع أن يرجع مولانا محمد إلى الأرض مرة ثانية في أشخاصكم أنتم أيها المسلمون، لأن الأرض حبلى مجنونة تلد كل يوم فرادى وتؤامى من الجرائم والنكبات والشناعات والقساوات وحرب الآراء والجماعات، ولن ينقذها إلا دكتاتورية رحيمة عادلة معقولة مثل دكتاتورية محمد كما يقول برناردشو الكاتب الأشهر. . . ولأننا نريد أن يؤمن المسلمون بأن المستقبل لهم لا محالة إذا ما بدءوا نهضة نفسية مبنية على تعاليم رسولهم التي تميت النزعات الآثمة الدنيئة التي تدور حول حب الحياة حباً يذهب أخص مميزات طالبي المجد. . .
ولأننا نريد أن نثبت دعائم النهضة العربية والإسلامية في النفس أولاً حتى لا تعبث بها الرياح أو يتسرب إليها السوس
وقد ضربت وضرب كثيرون على أوتار جديد في أحاديث الذكرى النبوية، ذلك لأننا نريد أن يفهم المسلمون إن الإسلام لم يكن مطلوباً ضرورياً لنا كدين نحن مقتنعون بصحته، ومكلفون التعبد به حتى نصفي نفوسنا. . . فهو على أقل تقدير أولى المبادئ التي يجب أن نعتنقها حتى نزيح عن أنفسنا وديارنا كابوس الاستعمار وضغطه الذي لا يرفعه عنا إلا مبادئ الإسلام العملية الصارمة التي أولها امتلاك كل منا نفسه ووضعه قلبه على كفه، واعتبار كل منا نفسه قوة هائلة تستطيع أن تفعل الأعاجيب في الأرض
ومتى امتلك المرء نفسه وملكها لمحمد، فلا والله أن تصل إليه قوة أرضية بسيف حديدي أو ذهبي. . . ومتى وضع كل امرئ قلبه على كفه، فليست هناك قاذفات قنابل أو مدمرات بارود تستطيع أن تدنو من ذلك القلب الصغير الذي صنعه الله من معدن سماوي لا يصل إليه كيد إلا من داخله. . .
وإلا فخبروني لماذا حتم القرآن في بعض آياته وظروفها على المسلم ألا يقر أمام عشرة من المشركين بل بجانبهم ويجالدهم حتى يقتلهم أو يقتل؟(256/17)
وخبروني: كيف حلا لأهل بدر وهم ثلاثمائة ليس معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً أن يقابلوا جيش المشركين، وهو ألف معهم عتادهم وخيلهم ورجلهم. . . ثم تنتصر الفئة القليلة وتأكل أرض بدر سبعين جسداً من يآفيخ الشرك؟
بل خبروني كيف حلا لسبعين عراقياً ومثلهم من الفلسطينيين ومثلهم من الأردنيين والسوريين أن يواجهوا جبابرة البر والبحر في ثورة فلسطين الماضية؟
وكيف استعصى على مالكة العباب والتراب والسحاب والكلاب البوليسية أيضاً أن تتعقب تلك الشراذم المفرقة على شعاب الجبال كالنسور والصقور، والتي تدير رحى ثورة ما عرف التاريخ لها مثيلاً في ضلاعة الرجال وصبرهم وإيمانهم بحقهم؟
وقد أخبرني هنا في العراق أحد كبار الصقور الذين كانوا يجاهدون في الثورة الماضية قبل تدخل ملوك العرب، أنهم كانوا يفعلون الأعاجيب. . . وأن الأقدار الإلهية كانت معهم بالتوفيق والإلهام، وأنهم لم يعفوا تفسير آيات الجهاد التي وردت في القرآن الكريم، والتي تجرد المسلمون من منطق الضعف ووسواس الحذر إلا في هذه الثورة. . . وأنهم اكتشفوا سرًّا خطيراً هو أن المسلمين يستطيعون أن يفعلوا أشياء عظيمة تثبت كيانهم وتعجل استقلالهم وتعيد إليهم مجدهم، ولكنهم يجهلون أنهم يستطيعون، أو لا يجهلون. . ولكن سادتهم وكبراءهم ورجال سياستهم وهم سبب الضعف والشلل وأصل الخوف والبلاء، وأنهم يفرطون ولا يستطيعون أن يلعبوا أدوارهم في الوقت المناسب، وأن سياستهم - إن كانت لهم سياسة - مكشوفة يقصد بها الشهرة وأنهم غافلون عن الأسباب السريعة التي تحيل النفوس الخزفية إلى نفوس حديدية، وانهم يجهلون بتاتاً روح (محمد)، أو يعرفونها ولا يستخدمونها خوفاً من الاتهام بالرجعية والتعصب. . . وأنهم فوق ذلك وأدهى من ذلك متفرقون مختلفون متناطحون كالثيران التي في المجزرة وهي لا تعلم لماذا هي في المجزرة!
أيها السادة:
إننا لسنا هازلين في نهضتنا. لقد طال رقودنا وركودنا وقد عزمنا أن تحيا أولاً جامعتنا العربية المكونة من ثمانين مليوناً هم في مركز الأرض كما تحيا أي جامعة. . . لنؤدي رسالتنا السامية في الحياة. ولن يعوقنا عائق مهما كان ملفقاً بالحديد والنار والذهب لأننا(256/18)
القوة التي اختارها الله لحمل رسالته الأخيرة وقوة الله لا تغلب (والله أعلم حيث يجعل رسالته) وقد تكهرب الجو وتكهربت نفوس المسلمين والعرب، وامتلأت الأفواء باللعنات والسخط والحقد، ودب دبيب إحساس جديد في جميع الأقطار العربية. واقسم بالقدر وقوانينه وبسنن الله التي لا تتخلف نتيجة فيها نتيجة عن مقدماتها. . . أني أحس أن الزمن يتمخض عن شيء هائل! وأن أجواف المسلمين وقلوبهم تغلي الآن لأنهم يوقدون على قلوبهم بالحديد والنار في فلسطين!
أيها المسلمون! أيها العرب! تربصوا واستعدوا واغسلوا قلوبكم بتراب محمد الذي في كل ذرة من ذراته قطرة دم مقدس من هريق في سبيل مجدكم وعزكم. ولا تهابوا شيئاً ولا تفرضوا الفروض الوهمية أيها السياسيون
يا أسبوع الذكرى. . . ذكرى مطهر الأرض من قذارة الروح وقذارة العقل وقذارة الجسم. . . طهر نفوس المسلمين، واغسلها من الأوهام والضعف والجهالات!
أيقظهم من تحذير البنج المعطر الذي خدرتهم به سحرة أوربا لأجراء عملية جراحية عظيمة في جسومهم إلا وهي إخراج قلوبهم العظيمة الموروثة من ميراث محمد، ووضع قلوب صغيرة حقيرة منخوبة كافرة في موضوعها!
ارفع عن عيونهم المناظير الملونة المكيرة للتوافه التي تريهم الهر أسداً والحبل جبلاً، والجزية حرية، والرصاص ذهباً!
ارفعها عن عيونهم حتى لا يخدعوا بالعناوين التي لا وراء منها وحتى لا يخدعوا بالتراب المزوق عن اللباب المحض والصفو الخالص؟
يا أيتها الأيام السبعة كوني صلوات سبعاً تعيد إلى المسلمين الإيمان بأن منقذهم في السياسة والأخلاق والاقتصاد والحرب والسلم لن يكون غير محمد صاحب الذكرى ورجل الدنيا!
اجعلي صباحاتك السبع إشراقاً وضياء بالأمل والعمل
احفظي كل كلمة من كلمات الخطباء والشعراء والمنشدين من الضياع.
سجليها في أعصاب سامعيها حتى تستحيل إلى أجراس دائمة الرنة والدعوة إلى استحضار صوت النبي في الضمائر آمراً: جاهدوا وادأبوا وكابدوا، صارخاً: طالبوا وغالبوا وصابروا ورابطوا.(256/19)
كونوا نظيفي المادة قديسي الروح. كونوا علماء وجنوداً وتجاراً. كونوا تجاراً. . . كونوا تجاراً. . . ولا تعبدوا الوظائف الحكومية التي يؤكل فيها الخبز بدموع الذلة وخيانة الواجب
أيها السادة:
يجب ألا يتغير المثل الأعلى الذي وضعه مولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لأنه المثل الأعلى للإنسانية. ويجب أن يفهم كل مسلم ذلك حتى يعرف قيمته ومركزه في البشرية، كما يجب على أرباب الأديان الأخرى أن يرحبوا بعودة المسلمين لدينهم، فمن الخير لأرباب الأديان أن يعود قلب المسلم كما كان في عهده الأول
وليعلموا يقيناً أن المسلم بغير دينه يكون وحشياً متعصياً مؤذياً أنانياً قذراً. . . أما بدينه فهو إنسان رحيم قائم على نفسه وعلى الناس بالحق والعدل كما أوصاه الله
وليعلم المسلم أن أول ما يبدأ به في الإصلاح: البيت. البيت
عبد النعم خلاف(256/20)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 18 -
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور والتذوق للجمال!)
(احمد أمين)
(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية، هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)
(هكسلي)
8 - خريج اليوم
أقرأت هذين القولين العظيمين فيما مرَّ عليك من قواعد وأصول؟ وهل أدركت ما يرميان إليه من معنى سام دقيق هو قوام الشخصية الكاملة التي تنشدها التربية الحديثة في الجماعة الديمقراطية؟ إن يكن أفليس من الخير أن أبحث معك عن نتائج ذلك (المجهود الهائل) الذي تبذله الدولة في التربية والتعليم، كيما نستطيع أن نقدر هذه المدارس بطرائقها، وتلك المعاهد بأساليبها؟ أليس من الخير أن تنشد جماعة (الخريجين) لندرسهم ما داموا هم غرض التربية الأول والأخير؟ ألحق أن كل نظام يغفل درس نتائجه وتقويمها وتقديرها قدرها الصحيح يعرض نفسه دائماً لآفة الرجعية والجمود والفشل والاضطراب! فترى ماذا عسانا واجدين إذا شئنا أن ندرس (خرِّيج اليوم) على ضوء هذه الأصول العامة التي قدمنا بها لذلك النقد المر البريء؟ سأحاول جهد المستطاع أن أرسم لك صورة واضحة شاملة(256/21)
ترى في خطوطها المتكسرة ظلا لما يمكن أن يكون عليه (السواد الأعظم) من مدارسنا. ولك بعد هذا أن تحكم على ذلك المجهود الهائل بما تريد، وأن تلتمس لعلاجه كل ما يمكن أن يفيد!
1 - الشخصية الكاملة
ولقد علمت فيما مضى أن التربية الصحيحة تنشد تكوين (الشخصية الكاملة) بكل ما في الكمال من معنى، وأن كمال الشخصية إنما ينحصر في (عقل) منطقي سليم التفكير مستقل الحكم رائده الحق وحده، وهي عاطفة مصقولة مهذبة تغذي الخلق القويم وتسكب على الحياة من أسرار الجمال ما يملؤها نعيماً ورغداً وفخاراً وشرفاً، وفي جسم قوي العضلات مفتول الساعد يقوم كهيكل مقدس للروح الخالدة وكأساس وطيد للعقل السليم والعاطفة المستقيمة، أجل! لقد علمت ذلك فيما مضى، فتعال إذاً يا صاح نبحث عنه في تلك الشخصيات القائمة في (الديوان) وغير الديوان علَّنا نسمع أو نرى. . .!!
2 - العقل
وقد مر بك أيضاً أن (العقل) هو ما جعل الإنسان إنساناً، وأنه يجب أن يقوم في النفس مقام السائق في العربة، حتى لا يجمح بها جوادها! وأنه يجب أن يصيب من الغذاء الصالح كل ما يشبع نهمه المطلق حتى يستطيع صاحبه أن يدعى بحق أنه يحيا حياة إنسانية رفيعة، وأن غايته الفريدة إنما هي (الحق البريء) في شئون الكون وشئون الحياة على السواء! وأن الخطأ الذي قد يتعرض له في أحكامه الخاصة والعامة يمكن أن يُجتنب بقوانين المنطق وطرق التدريس إذا حَسُنَ استعمالها؛ وأن وأن وأن مما قد لا يتسع الوقت لذكره! فأين ذلك كله أو بعضه يا عزيزي في (خريج) ذلك التعليم؟؟ أين هو العقل المسيطر؟ وأين هو العقل العاشق للعلم؟ وأين هو العقل السليم في أحكامه؟ وما لحياتنا تعج بأنواع الفوضى؟ وما لعقولنا تمتلئ بالقشور والسطحيات؟ وما لها تخطيء كل يوم فيما تكيف به الحوادث والحقائق خطأ قوامه الجهل أو الميل أو ما شئت غيرهما؟ لست أتكلم عن سواد الشعب ولكني أتكلم عن المثقفين وحملة الشهادات المتوسطة والعالية! أين فيهم ناشد الحق للحق وحده؟ وأين فيهم محب العلم للعلم فحسب؛ وما بالهم لا يقرءون بعد تخرجهم ولا(256/22)
يبحثون ولا يؤلفون؟؟ وما لك لا تجد في أيديهم - إذا وجدت - غير الأوراق التافهة من كتب ومجلات؟؟ وما لك لا تجدهم إذا بحثت عنهم في غير أوقات عملهم - إلا مكدسين في القهوات يتكلمون كثيراً في غير ما شيء، ويضحكون كثيراً على لا شيء؟! ما لهم لا ينتظمون في الجمعيات الإصلاحية المختلفة؟ وما لنواديهم تبقى خاوية على عروشها بينما هم يعمرون ما تحتها مقاهٍ وحانات؟! ثم ما لآرائهم الاجتماعية والسياسية تضطرب فهي آناً مع الحق الذي لا تعرفه! وآناً مع الحق الذي لها فيه غنم أو لذويها فيه نصيب! وآناً ثالثاً مع كل قوى التعبير جعجاع القول مموه الخطابة زائف المعنى؟! الأدب الرفيع في مصر هل له حياة عند غير أهله وعارفيه وهم أقل القليل؟ والعلم الدسم في مصر هل يجد له شارباً حتى من أولئك الذين درسوا فيه شيئاً، فلما نالوا (الشهادة) وكسبوا الوظيفة ركلوه بأرجلهم ومضوا يشبعون كل شيء غير العقول؟!
ذلك وكثير غيره واقع وملموس!! فالمتعلمون هنا يتعلمون للعيش فحسب؛ والعلم عند أكثرنا وسيله لا غاية قط، والطريقة التي (نتعاطاها) بها كانت وما زالت في بعض نواحيها رثة بالية لا تحببنا فيه ولا تحببنه فينا، ولذلك ما نلبث أن نهجره وما يلبث أن يهجرنا!. ومن هنا لا تعجب قط إذا أدركت في متعلمينا عقول العصافير، وسمعت منهم زقزقة الطير، وتبينت في أنوفهم هذا الكبرياء وذلك الغرور، ولاحظت في حياتهم هذا الإقفار الأليم من (دنيا العقل) وسلطان العلم!
لست أنكر أن في الجامعة بعض ما قد ينشر بجيل جديد! ولكني ما زلت أخشى أن تطغى الحياة القاسية على الشباب الموموق فتزيل من نفسه ذلك التعلق بالحياة العلمية كما قد أزالته حتى في الكثير من رجال البعثات أنفسهم!! ذلك أن هذا التعلق مصطنع ودخيل وحديث، ولذلك ما يلبث أن يخمد في الكثيرين فإذا هم يسيرون في التيار العام ناسين أو متناسين آمالاً باسمة وأطماعاً هائلة!! ولست أنكر أن فينا من يؤلف وينتج ويخرج من الآثار الأدبية والعلمية كل ثمين قيم؛ ولكن ألا ترى معي أن علمنا ما زال عالة على علم الغرب، وأن تأليفنا يقل فيه (الإبداع) أيما قلة، وأن الكثير من رجالنا إما (معربين) فحسب، وإما (ملخصين) لا غير، وإما (قارئين) مع (الهضم) أو (عدمه)؟ ثم ألا ترى معي أيضاً أن الدولة مقصرة في حق رجال الأدب والعلم أيما تقصير، وأنها إذا كانت لا تعمل على(256/23)
تكوينهم تكويناً سليماً، فهي ما تزال تتركهم يكافحون الحياة القاسية بسواعدهم، وينفقون زهرة عمرهم ويوجهون نشاط عقولهم وقلوبهم إلى كسب قوتهم وقوت عيالهم فحسب، وإن هي تنبهت وقصدت إلى الأخذ بيدهم، فقلْ أن يأتي ذلك منها خالصاً سليماً، لأنها إما أن تعطيهم الأجر الضئيل، وإما أن تقذف بهم في عمل بغيض لا صلة له بعلمهم أو فنهم قط، وإما أن تسيء تقدير عملهم بالقياس إلى الأعمال الأخرى، إلى حد يزهق نفوسهم ويميت حماسهم.
وها أنت ترى أن (المعلمين) في مصر هم خير رجال العقل وأجدر الناس جميعاً بالمساعدة والتشجيع، وأن النهضة العلمية إنما قامت وتقوم على كواهلهم.
فماذا فعلت الدولة لهم وماذا قدمت غير ذلك العمل المرهق الذي يحرق أعصابهم، وغير ذلك الأجر الضئيل الذي لا يقارن بأجر غيرهم من رجال الدولة العاملين!؟ وإلى لقاء حيث أحدثك عن نواحي أخرى. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(256/24)
من برجنا العاجي
ما أجمل (المكرسكوب) إذا وضع إلى جانب (الكمنجة)!! في مصر والشرق العربي قلما نجد هذا المنظر. فأن رجل العلم ذا النفس الحساسة بالجمال الفني قليل. أعرف مع ذلك واحداً هو الدكتور حسين فوزي مدير إدارة الأبحاث المائية في الإسكندرية، فهو عندي أثمن ما في الإسكندرية. ما أكاد أضع قدمي في هذه المدينة حتى أسرع إلى (معمله) أشاهد أسماكه الغريبة تلعب في أحواضها البلورية، وأراقب مخلوقاته العلمية تنبض تحت الميكروسكوب. إلى أن يحين وقت الغداء فيخلع رداء المعمل الأبيض ويقودني إلى مسكنه حيث يطعمني خير الطعام ويحمل (الكمنجة) ويعزف لي إحدى (سونات) بيتهوفن التي أحبها. على أن هناك متعة نفسية أخرى طالما انتظرتها منه وطالما أغريته بها: القلم. لكنه كان يماطلني ويهرب مني كالعصفور الذي يهرب من الشبكة؛ وأخيراً وقع وحمل القلم ونشر كتابه (سندباد عصري) يصف الجانب الإنساني من رحلته العلمية في بعثة السر جون مري إلى المحيط الهندي، بأسلوب كالبحر الذي أمامه زاخر بعناصر الحياة وأنواع الصور مع خفة روح ورشاقة تعبير.
وذهبت مع الدكتور فوزي منذ أيام أقدمه إلى وزير المعارف فأبتدره الوزير قائلاً:
- حذار من توفيق الحكيم أن يفسد عليك العلم ويغريك بالأدب!
فابتسمت أنا ابتسامة ماكرة. وأخرج صاحبي من تحت إبطه (كتابه) وقدمه دليلاً ناطقاً على أن الإفساد قد تم وأن الأغراء قد حصل!
أما أنا فسروري كذلك قد تم. فأني سوف أرى في زيارتي القادمة للإسكندرية (المكرسكوب) و (الكمنجة) و (القلم) جنباً إلى جنب: أجمل رمز لاجتماع العلم والفن والأدب في كائن آدمي واحد. وتلك إحدى معجزات الظروف التي لم تتهيأ إلا لمثل (إينشتين) اللاعب بالفكر واللاعب بالكمنجة. أما اللعب (بالقلم) فلم يغره بعد شيطان من الشياطين! فطوبى لحسين فوزي الذي اكتملت فيه الهبات الثلاث!
توفيق الحكيم(256/25)
محمد إقبال
شاعر الإسلام وفيلسوفه
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ينتسب إقبال إلى أسرة قديمة برهمية دخلت في الإسلام منذ ثلاثة قرون. وكانت تقيم في كشمير، ثم اضطرتها الحادثات أن تهاجر إلى البنجاب. وأستقر بيت إقبال في سياليكوت من إقليم البنجاب حيث ولد سنة 1876؛ وبدأ تعليمه في هذا البلد وظهرت فيه مخايل النبوغ، وكان يسبق أقرانه ويظفر بمكافآت الحكومة التي تمنحها للنابغين من التلاميذ. وفي سيالكوت درس الأدب الفارسي والعربي على مير حسن أحد الأدباء النابهين.
ثم أنتقل الشاب النجيب إلى لاهور فدخل كلية الحكومة ولقي بها السير توماس آرنولد فأخذ عنه الفلسفة. وقد سمعت الأستاذ آرنولد يفتخر بأن إقبالاً تلميذ له. وأتم إقبال دراسته متفوقاً ظافراً بالجوائز الكثيرة. ثم نصب مدرساً للفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور.
وقد شدا إقبال الشعر وهو تلميذ فانتظر الأدباء منه شاعراً عظيماً. وفي سنة 1905 سافر إلى أوربا فدرس في كمبردج ثم في ميونخ حيث نال درجة دكتور في الفلسفة. وكان في أوربا مثال الجد والمثابرة وموضع ثقة أساتذته. وقد أستخلفه أستاذه آرنولد حينما غاب عن كمبردج شهوراً. ولم ينس في أوربا أن يدافع عن الإسلام ويبين مزاياه فألقى في إنكلترا محاضرات في هذا الموضوع.
ورجع الدكتور إقبال إلى الهند سنة 1908 فأحسن قومه استقباله راجين فيه خيراً لأمته ودينه. وعمل في المحاماة واستعانه المسلمون في الكثير من شؤونهم. وما زال يزداد مكانة في السياسة والأدب حتى بلغ ما بلغ من المجد وذاع صيته في الهند وغيرها.
ولا يتسع المجال لتفصيل الكلام في تاريخه وسياحته في الهند والأفغان وفي الأندلس وأوربا وذهابه إلى مصر والقدس.
بدأ إقبال نظمه في اللغة الأوربية فنشر في الصحف وأنشد في المجامع قطعاً كثيرة جمعها بعد في ديوانه الذي سماه (بانك درا) أي (صوت الجرس).(256/26)
ففي هذا الديوان أول أشعاره، ولكنه لم يكن أول دواوينه انتشاراً. وهذه كتب إقبال على ترتيب نشرها:
1 - أسرار خوري
2 - رموز أبن خوري
3 - بانك درا
4 - بيام مشرق
5 - زيور عجم
6 - جاويد نامه
7 - مسافر
8 - ضرب كليم
9 - بال جبريل
وقد مات وهو ينظم: أهلك حجاز
ومن هذه المنظومات السبع ثلاث في اللغة الأوردية، هي: بانك درا، وضرب كليم، وبال جبريل، والأخريات في الفارسية.
وله غير ذلك مؤلفان باللغة الإنكليزية، الأول تطور ما وراء الطبيعة في فارس، والثاني: محاضرات حاول فيها أن يبني العقائد الإسلامية على فلسفة جديدة وجعل عنوانها: إصلاح الأفكار الدينية الإسلامية.
فأما منظوماته: بانك درا، وزيور عجم، وضرب كليم، فقد ضمنها قطعاً كثيرة تبين عن مناح كثيرة من فلسفته وعواطفه يتناول فيها العالم والإنسان والأخلاق، ويحاول جهده إيقاظ الشرقيين عامة والمسلمين خاصة، وتبصيرهم بطرائق الحياة وإشعال الحماسة والغيرة والإقدام فيهم.
وأما منظومتاه الصغيرتان: مسافر وبال جبريل فقد سجل في الأولى ما أثارته في نفسه زيارة أفغانستان إذ دعاه ملكها المرحوم نادرشاه هو وبعض مفكري الهند ليستشيرهم في إنشاء جامعة في كابل، وفي الثانية مشاهده في بلاد الأندلس.
وأما جاويد تامه فهي رحلة في الأفلاك، دليله فيها جلال الدين الروسي لقي بها عظماء(256/27)
المسلمين من ملوك وأدباء وعلماء، ومنهم بعض رجال العصر. كالسيد جمال الدين الأفغاني وسعيد حليم باشا ومهدي السودان وقد سماها باسم أحد أنجاله جاويد، وأراد بها بناء جيل جديد.
وأما بيام مشرق فقد جعله جواباً للشاعر الألماني الكبير جوته عن ديوان الغرب الذي أسف فيه لما أصاب المدنية الغربية وتمنى أن يمدها المشرق بعقائده وعواطفه.
وإذا عبرنا هذين الكتابين عرفنا فلسفة إقبال وآراءه ومذاهبه في الحياة وخياله وفنه في الأدب:
نشر بيام مشرق سنة 1923 وكتب على صفحته عنوانه: (ولله المشرق والمغرب) وكتب تحت أسم الكتاب (في جواب الشاعر الألماني جوته). والديوان أقسام:
الأول: لاله طور: أي شقائق الطور، وفيه 163 رباعية.
والثاني: أفكار، وفيه عناوين مختلفة مثل الوردة الأولى، تسخير الفطرة وهي محاورة بين آدم وإبليس، فصل الربيع، الحياة الخالدة، أفكار النجوم، محاورة العلم والعقل، الحكمة والشعر، قطرة ماء، العبودية.
والثالث: من باقي - أي الخمر الباقية، وهي قطع متشابهة فيها نزعة التصوف ممزوجة بفلسفة الحياة.
والرابع: نقش فرنك، وفي هذا القسم يتكلم عن عظماء الفلاسفة والشعراء في أوربا ويبين رأيه فيهم.
وهذه أمثلة من شعر إقبال في هذا الديوان بعد أن تذهب الترجمة النثرية بكثير من جمالها وروائها.
الحياة
بكى سحاب الربيع في جنح الليل فقال: هذي الحياة بكاء مستمر فتلألأ البرق الخاطف:
قد أخطأت! إنها لمحات من الضحك
ليت شعري من روى للبستان هذا الحديث فهو حوار مستمر بين الندى والورد
اليراعة(256/28)
سمعت اليراعة تقول: لست كالنملة ينال الناس شرها؛ ولست كالفراشة تصطلي بنار غيرها، أنا أشتعل بنفسي ولا أحمل لأحد مَنّا، إذا صار الليل أحلك من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق
الحقيقة
قالت العقاب بعيدة النظر للعنقاء: إن الذي تدركه عيني سراب. أجابت العنقاء: أنت ترين ذلك، ولكني أعلم أنه ماء. فنادت السمكة من لجة البحر: هنا وجود لا شك فيه، وهو في هياج واضطراب.
الحكمة والشعر
ضل أبو علي في غبار الناقة، وأمسكت يد الرومي ستر الهودج. هذا غاص حتى ظفر بالجوهر اللألاء، وذلك دار مع الغثاء على وجه الماء. الحق إن لم تكن فيه حرقة فهو حكمة، وهو شعر إذا قبس من القلب ناراً
الوحدة
ذهبت إلى البحر فقلت للموج المصطخب: أنت في سعي دائم فما خطبك؟ في جيبك آلاف اللآلئ فهل في صدرك جوهر من القلب كالذي في صدري. فأضطرب وجزر ولم يحر جواباً.
ذهبت إلى الجبل فسألت: ما هذا الجمود؟ ألا ينال سمعك صيحات وآهات المحزونين؟ إن يكن العقيق الذي في أحجارك قطرات من الدم فحدثني فإني محزون
فأنقبض وصمت ولم يحر جواباً
قطعت طريقاً بعيدة. . . وسألت القمر: يا جَّواب الآفاق! هل قُدر لك في سفرك قرار؟ العالم حديقة ياسمين من شعاع وجهك، فهل نور وجهك من قلب يتجلى؟ فرأى رقباء بين الأنجم فلم يحر جواباً
تخطيت القمر والشمس إلى حضرة الحلاق فقلت: ليس في عالمك ذرة تعرفني. العالم خلو من القلب وأنا قبضة من التراب، ولكنها كلها قلب
إن هذه المروج جميلة ولكنها ليست أهلاً لنغماتي. فتبسم ولم يحر جواباً(256/29)
نسيم الصباح
إني آنية من صفحات البحار وقمم الجبال ولكن لست أدرى من أين أهب. إني أبلغ الطائر المحزون رسالة الربيع وأنثر في داره فضة الياسمين. وأنقلب في المرْج وألتف على أغصان الشقائق فأبعث اللون والرائحة من مسامّها، وأتعلق رفيقة رفيقة بأوراق الورد والزهر حتى لا أثقل على أغصانها، وإذا رأيت شاعراً هاجته هموم العشق خلطت بنغماته نفساً بعد نفس
العشق
عندي خبر هذه الكلمة الأخاذة للقلوب والتي هي سر وليست بسرْ. أنا أنبئك من سمعها وأين سمعها! استرقها الندى من السماء فأوحاها إلى الورد، وأخذها عن الورد البلبل، ونَثتَها عن البلبل ريح الصبا
نغمة حادي الحجاز
يا ناقتي الخطّارة ... وظبيتي المعطارة
وعدتي والشارة
والمال والتجارة ... يا دولتي السيارة!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
جميلة الرواء ... مطربة الرغاء
محسودة الحسناء ... وغيرة الحوراء
بنية الصحراء!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
كم غصت في الشراب ... في وقدة اليباب
وسرت لم تهابي ... في الليل كالشهاب
والنوم عنك نابي
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
قطعة غيم غادي ... سفينة الرواد(256/30)
كالحظر في البوادي ... تمضين في سداد
فلذة قلب الحادي!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
هيامك الزمام ... وسيرك الأنغام
يتعبك المقام ... لا الجوع والأوام
والسفر المدام
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
ممسية في اليمن ... مصبحة في قرن
ترين حزن الوطن ... كالخز تحت الثفن
إبه غزال الخثن!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
بدر السماء نعسا ... خلف التلال خنسا
والصبح قد تنفسا ... مزق هذا الغلسا
والريح تزجي نفساً
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
لحني دواء السقم ... والروح ملء نغمي
يحدو الركاب كلمي ... من جارح وبلسم
هلم بنتَ الحرم!
حثي الخطى قليلاً ... منزلنا قريب
(البقية في العدد القادم)
عبد الوهاب عزام(256/31)
حول المذهب الرمزي
للأستاذ محمد فهمي
تناول الأستاذ عبد العزيز عزت المذهب الرمزي في مقاله الأخير بالعدد (255) من الرسالة (الغراء) فجاء بآراء تجعل القارئ يقف متسائلاً. . . ماذا يقصد الأستاذ عزت بهذا؟! هل يقصد الرمزية في الفلسفة أم يقصد الرمزية في الأدب والشعر؟ فأن كان يقصد الأولى فأنه لم يحدد غرضه، لأن ما ساقه من آراء العلامة مارتينو في كتابه (المذهب الرمزي والبرناس) (إننا نجد عند فولين وعند ملارميه وعند رامبو وكثير من الرمزيين أن الشيء الواقع وقبوله حاضراً كان أم ماضياً لا قيمة له مطلقاً) وليس في هذا إشارة إلى رمزية في الفلسفة. إذن فالأستاذ يقصد رمزية الأدب والشعر وهو ما يفهم من ثنايا مقاله ومن الأمثلة التي ساقها وأسماء زعماء الرمزية الذين ذكرهم. ومن العجيب أن يخلط الأستاذ في الاستشهاد والرد والتجريح هذا الخلط الذي يبعده عن خاصّية تحديد الموضوع تلك الخاصّية التي يتوخاَّها كل دارسٍ للفلسفة مثل الأستاذ الفاضل.
فالمعروف أن الفلسفة شيء والشعر والأدب شيءُ آخر. وأن المذاهب الفلسفية غير المذاهب الأدبية وان كان التفاعل متصلاً بين هذه وتلك، ولكن عن طريق الاحتكاك والتأثير لا عن طريق الاندماج؛ فلكلٍ ميدانه ومنطقته. فالفلسفة مظهر نشاط التفكير العقلي؛ وأما الآداب والشعر فمظاهر لانفعالات الحسّ وهواجس الروح.
فما شأن آراء أوجست كونت (في كتبه المتعددة عن الفلسفة الوضعية والتفكير الوضعي برمزية الأدب والشعر؟! وما شأن رأي أبي الاجتماع الحديث (دوركيم) في العلم برمزية الأدب والشعر؟! وما كانت الرمزية التي تناولها الأستاذ مذهباً من مذاهب العلوم! بل ما شأن مذاهب فلاسفة السوفسطائيين والثورات الثلاث التي أثارها على التعاقب سقراط وأفلاطون وأرسطو؟ ما شأن كل هذا بالمذهب الرمزي الذي يتحدث عنه الأستاذ في مقاله؟ حقاً لقد هدَّمت هذه الثورات الثلاث الكبيرة من آراء السوفسطائيين حتى صدَّعت مذهبهم، ولكن هل غيرت أو هدّمت فن سوفوكليس واريستوفان ويوريبيد؟ كلاَّ، لأنها كانت ثورات في الفلسفة ولم تكن ثورات في الفنون والآداب! وقد عاصر هؤلاء الأعلام في الأدب الإغريقي كلا المذهبين السوفسطائي والسقراطي فما تهدم فنهم بهذا ولا بذاك!(256/32)
وأظننا لسنا بحاجة إلى القول أن العلم شيء والأدب شيء آخر. فالعلم لا وطن له، وإن النظرية العلمية يبتكرها عالم في أي بلد من بلاد العالم، وعندما نثبت بالتجربة والبرهان تصير ميراثاً مشتركاً لكل عالم على وجه الأرض من أي مملكة هو ولأي جنسية يتبع وبأيّ دين يدين. وما هكذا الشأن في الأدب. فلكل أمة أدبها ونوازعها ومظاهر بيئتها وتراث تاريخها وديانتها وتقاليدها. فكيف يسوق الأستاذ تلك الآراء والأدلة الطويلة العريضة لرجال الفلسفة والعلم في موضوع هو من أخص خصائص الآداب والشعر!!؟
أما استشهاد الأستاذ برأي العلامة (مارتينو) (. . . فأن المذهب الرمزي عندما أبتدأ ظهوره وأخذت أبواقه ترتب الدعاية والنشر له قامت قائمة الناس في فرنسا وسموه (النزعة الجنونية) لما يتضمنه من القضاء على الروح الاجتماعية والتضامن بين أهل البلد الواحد، ولهذا أجمعت الناس في فرنسا على جموحه وشره الفتاك وقاوموه بكل ما عندهم من قوة، وأمكنهم - كما يذكر العلامة المدير - أن يقضوا عليه في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من ولادته، ودفنوه (غير مأسوف عليه).
هكذا يقول العلامة مارتينو الذي يستشهد به الأستاذ عزت. وما أظن العلامة المدير إلا ناقداً مجرحاً قاسياً، أو مفكراً قريب الشبه بطائفة المحافظين عندنا الذين يقيمون الدنيا ويقعدونها (دنياهم وحدهم طبعاً) كلما نشأ اتجاه جديد سواء في الأدب أو الشعر أو الاجتماع. وإلا كيف ساغ للعلامة الكبير أن ينساق مع رأي الناس في تسمية الرمزية (النزعة الجنونية) إذ على هذا القياس يكون من ذكرهم في كتابه (المذهب البرناسي والرمزي) من الأعلام أمثال فرلين وملارميه ورامبو وكثير من الرمزيين إلا مجانين! ولا أظن العلامة الكبير يوافق على هذا ولا الناس في فرنسا ولا القراء ولا الأستاذ عزت!
ثم ماذا يقصد من أن المذهب الرمزي قضي عليه في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من ولادته؟ هل معنى هذا أن آثار الرمزيين قضي عليها تماماً (غير مأسوف عليها) وإنها الآن في حيز الكتابات الهيروغليفية قبل اكتشاف شمبليون لحجر رشيد؟ أم أن الرمزية قد قضي عليها كمذهب قائم بذاته له أنصاره ومدرسته! إن كان الأخير فهذا أمر طبيعي وهو مآل كل مذهب قائم الآن. فالآداب والشعر تتغير بتغير المجتمع والبيئة في الأمة في عصورها المتعاقبة. وإنك لتشاهد الآن في إنجلترا أن مذهب الرومانتيكية وكان من أعلامه شكسبير(256/33)
وملتون، وفي فرنسا هوجو ولامارتين، قد أخلى الطريق لغيره من المذاهب التي خلفته شأن مذهب الرمزية وكل مذهب أتى أو قائم أو سيأتي. . .
ولكن لا ينكر أحد فضل الرومانتيكية في الأدبين الإنجليزي والفرنسي وأنها كانت من العوامل المؤثرة في نشوء المذاهب التي أعقبتها. وهكذا فعلت الرمزية إذ أثرت فيما خلفها من المذاهب.
بل إن مذهب السوفوسطائيين في الفلسفة الذي ذكره الأستاذ في مقاله كان له أكبر الفضل في نشوء الفلسفة السقراطية وتلك الآراء والتعاليم القيمة التي أبتدعها سقراط وحمل لواءها أفلاطون من بعده؛ ثم كانت أساساً لتلميذه الفذ أرسطو. ولا يخفي أن من السوفوسطائيين من كانوا يلمسون الحقيقة في بعض المواقف حيث يخطئها سقراط نفسه. (أنظر محاورة بروتا جوارس) بين سقراط وشيخ السوفسطائيين الذي سميت المحاورة باسمه.
ولعلي في هذه الكلمة قد جلوت بعض نواحي الأشكال والغموض اللذين أثارهما مقال الأستاذ عزت الأخير؛ ولعله في مقالاته الآتية يتفضل بمراعاة التحديد وعدم الخلط بين المذاهب الفلسفية وآراء الفلاسفة وبين المذاهب في الآداب والشعر.
(القاهرة)
محمد فهمي(256/34)
أسبوع في فلسطين
للأستاذ محمد سعيد العريان
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لن أتحدث عن مشاهدات في هذه البلاد رأيتها بعينيّ، فذلك شيء يستطيعه كل ذي عينين؛ وفلسطين اليوم هي فلسطين التي رآها من قبلي عشرات من الكتاب والرحالين وتحدثوا عن مشاهدها وآثارها ومعالمها؛ فهذا المسجد الأقصى، وهذه قبة الصخرة، وذاك مهد المسيح في بيت لحم، وذلك - فيما يزعمون - مصعده ومسْراه على الطور، وهذا حائط البرق، وذاك مصلَّى عمر، وتلك كنيسة القيامة. . . مشاهد كما وصف الواصفون وتحدَّث الرحَّالون وتغَّنى الشعراء؛ فليس بيّ من حاجة إلى الإعادة والتكرار. ولكني سأتحدث عن المشاهدات الأخرى. . . مشاهدات رأيتها بفكري وسمعت صداها في نفسي، وتحدث معناها إلى قلبي. . .
لقد أحسست أول ما هبطت هذه البلاد كأنما نضوت عن جسدي ثوباً كان يحتويني فأنا فيه غير من أنا: حسَّاً ومعنىً وفكرة؛ فما ألقيتُه عن جسدي حتى تواثبت نفسي منطلقةً على سجيتها في عالم غير محدود، لا تعرفه ولا تنكره، ولكنها فيه هي شيء غير ما هي كانت في هذا الثوب الذي يضم أطرافي منذ ثلاثين سنة أو يزيد. . .
أمصري أنا؟ لا؛ إن وطني لأكبر من ذاك. إن لي أهلاً هنا وأهلاً هناك. إن تراث الأجيال ليتحرك في دمي الساعة فيذكرني ما لم أكن أعرف. ما هذا. . .؟ لكأن لي في كل مكان ذكرى قريبة وما رأته عيناي قبل أن تراه عيناي. إن قوة من وراء التاريخ تربطني إلى هذا المكان، وتستوقفني عند ذاك الأثر، وتقف بي عند ذلك المنعطف، وتذكّرني بشيء في هذا الحي. إن هنا قبساً من روح أعرفها ترفّ حولي، ونفحةً من عطر أتشمَّمها تلامس روحي، وإن لي هنا لخفقة قلب، وإن لي هناك لدمعة عين، وإنني لأُلقيَّى خواطر وذكريات لم تكن من خواطري وذكرياتي؛ وإنني لأحس. . . وإنني لأشعر. . . فما أشك أن لي تاريخاً قبل تاريخي في هذا المكان، وأن لي ذكريات أبعدَ من ذكرياتي في هذا الحي، وأن الماضي الذي كان قبل أن أكون، هو إرث في دمي تحدَّر إليّ في أصلاب أسلافي ذكرياتٍ غامضة لا تكاد تبين إلا خفقات في القلب وزفرات في الفؤاد. . .!(256/35)
أيها البلد الطيب! أيتها الأرض المقدسة! لقد عرفت بك أهلي ووطني وتاريخ قومي. لست من فرعون ولا فرعون مني. كفرت بالوطنية إن لم أؤمن بأني منكِ في أهلي ووطني. . .!
يا بلاد العربية والإسلام، انشري لواءَكِ وابعثي ماضيك حتى تنتظم رايتُك كلَّ مسلم وكل عربي!
يا أهل العربية والإسلام، لستم من الوطنية في شيء حتى تؤمنوا أن وطنكم هو كل البلاد العربية والإسلام!
يا أهلي وإخواني على ضفاف النيل، لقد عققتم اخوتكم عقوقاً غير جميل حين زعمتم أن أرومتكم غير الأرومة التي أنجبت عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعبيدة بن الجراح!
يا أساتذة المدارس المصرية، لقد ظلمتم التاريخ ظلماً غير قليل حين ذهبتم تزعمون لنا منذ كنا أننا من سلالة خفرع ومينا وأمون!
ويا قومي وعشيرتي هناك، معذرة إليكم مما كان، وعهداً عليّ أن أكون، وإلى اللقاء! إلى اللقاء تحت راية الإسلام. . .!
هذا شاب من أدباء فلسطين يحدثني عن مصر، وعن أدباء مصر، وعن السياسة في مصر، وعن النشاط العلمي في مصر، حديث العارف المتتبّع، لا يفوته شيء مما يعرفه المصريون عن أنفسهم؛ بل مما لا يعرفه المصريون أنفسهم. . . فماذا يعرف المصريون عن فلسطين؟
وهذه جرائد مصر، ومجلات مصر ومطبوعات مصر، تملأ السوق في فلسطين؛ فهي في كل دار، وفي يد كل قارئ. فماذا يقرأ المصريون من جرائد فلسطين، وماذا يعرفون عن أدباء فلسطين؟
(مصر زعيمة الشرق العربي!)
هذه عبارة تسمعها بين كل أثنين يتحدثان عن مصر والأقطار العربية؛ فهل عقلها من قالها؟ وهل عَناها من تحدث بها؟. . . أما هناك فَنَعم؛ فما يقولها عربي في غير مصر إلا مؤمناً بها مستيقناً حقيقتها؛ وأما هنا فهل تسمعها إلا في معرض الزهو والعُجْب والخيلاء. . .؟
مصر زعيمة الأقطار العربية، ما في ذلك ريب ولا جدال. ولكنها زعامة الجاه والغنى والصيت البعيد. . . زعامة ليس لها تكاليف، وليس عليها واجبات، وليس من ورائها(256/36)
مشقة. . . زعامة الدعاوى الفارغة، والتشدّق الكاذب، ولغو الأحاديث. . . وإلا فهل ذكرت مصر ما عليها للأقطار العربية حين سرّها أن يقول القائلون إن مصر زعيمة الأقطار العربية؟
ومعذرة يا بلادي! إنك لأهلٌ للزعامة والجاه والسلطان ولكن. . . ولكنك لا تريدين أن تفرضي على نفسك ما تفرضه الزعامة على أهلها من مشقات وتكاليف، وهيهات هيهات أن تدوم الزعامة لزعيم لا يفرض على نفسه أن يبذل أكثر مما ينتفع. . . وفي الحياة عبر وأمثال. . .
وجلستُ في مجلس طائفة من الأدباء أستمع إلى أحاديثهم ومداولاتهم، فإذا شباب هناك يسبقون الكهول عندنا في البحث والمطالعة والاستقراء، وإذا علم وأدب واطلاع، وإذا طرائق في البحث لا يعرفها إلا الأفلون من أدباء المصريين. . . وسمعت أسماء كتب مصرية جديدة في السوق، لم يعرفها بعدُ في مصر إلا مؤلفها والصفوةُ من أصحابه، ودار جدال حول معارك أدبية في جرائد مصر لم يكن مبلغ علمي بها إلا عنوانها وكاتبها. . . وجرت مصاولات، وتداولت آراء، وتنوعت أساليب الحديث؛ وخرجتُ بالصمت عن لا ونعم، وطارت خواطري إلى مصر، وإلى مجالس الأدباء في مصر، وإلى حظ الأدب والأدباء في مصر؛ وأطرقتُ من حياء. . .
مصر زعيمة الأقطار العربية. نعم، إن فيها لكُتاباً وأدباء وشعراء، وإن فيها لجرائد وكتباً ومجلات، وإن فيها لتعليما ومدارس وجامعتين، وإن فيها لمطابعَ تخرج كل سنة مئات من الكتب في مختلف العلوم والفنون والآداب، ولكن. . . ولكن مصر ليس فيها قراء. . .
مصر!. . . إن لمصر فضلاً على العالم العربي لا ينكره جاحد، ولكنه فضل المطبعة والجريدة والكتاب لا فضل المصريين. . .
مصر. . .! هل يعلم كتابها وشعراؤها ومؤلفوها أن كتبهم ودواوينهم ومؤلفاتهم أشهر وأذْيع في الأقطار العربية منها في بلادهم؟
رجاء إليكم أيها الكتاب والشعراء والمؤلفون: لا تسموها زعيمة الشرق العربي، ولكن سموها (مطبعة) الشرق العربي!
ولا تجلسُ إلى عربيّ في فلسطين إلا سمعت له حديثاً في سياسة بلاده، ورأياً في سياسة(256/37)
بلاده، وحماسةً في الدفاع عن حق بلاده. وفي مصر (كانت) حركة وطنية، وكان لها حدّةٌ وشدّة، فما طغت في يوم من أيامها على آراء المصريين ولا فرضت سلطانها على مجالسهم بمقدار ما شغلت الحركة الفلسطينية خواطر العرب في فلسطين. وتسأل: لماذا؟ فيجيبك قائلهم: (لقد كانت ثورتكم الوطنية في مصر للاستقلال، والاستقلال عندكم ترف سياسي؛ ولكن ثورتنا الوطنية في فلسطين للحياة. إن السياسة العامة في فلسطين هي سياسة كل فرد في أهله، وفي دينه، وفي ولده، وفي حقله، وفيما يملك؛ إننا إن لم نكافح كفاح الموت في هذه الثورة الوطنية، فلن تجد منا غداً عربياً واحداً في فلسطين. . .!)
وصدق القائل؛ فما في فلسطين اليوم ثورة وطنية كبعض ما نعرف من الثورات السياسية في التاريخ، ولكنه جهاد الأحياء للحياة، كما يجاهدون للطعام والشراب، فأما ظفروا فعاشوا في بلادهم آمنين كما يعيش كل شعب في بلاده؛ وإما. . . وإما كانت فلسطين هي الأندلس الثانية: لا يُذكر فيها أسم الله ولا ينطق فيها بكلمة التوحيد. . .!
وحاولتُ أن أعرف في فلسطين من حال المرأة العربية المسلمة التي سمعت بجهادها وبسالتها فيما تنقل جرائدنا من أخبار الثورة العربية في فلسطين؛ فإذا بيني وبينها حجاب؛ فلا ترى في الطريق واحدة منهن في مثل حال أختها المصرية: تسير في الطريق شبه عارية في ثوب مهلهل إن لم يشفْ يصفْ، ولكن وجوهٌ إلا يكن عليها حجاب فأن فيها حياء. . . إلا وجوهَ الغواني من بنات صهيون ونساء المهاجرين.
ومحطة الإذاعة في فلسطين غيرها في مصر؛ فهي هناك مصلحة حكومية وهنا شركة يربطها بالحكومة عقد تجاري؛ على أن أول ما تلاحظه من الفرق بين المحطتين هو عناية محطة فلسطين بالأدب والأدباء وإغفال شأنهما في مصر؛ فلولا محاضرة أو محاضرات يذيعها كل سنة من محطة القاهرة الأساتذة طه حسين والمازني وهيكل والبشري - ليس غير - لما درى السامع من بعيد أن في مصر أدباً وأدباء. على أن أكثر ما تذيعه القاهرة من موضوعات الأدب بعيد عن مناسباته؛ فما هو إلا إعلان عن كتاب، أو تعريف بإنسان، أو حديث معاد، أو خطبة منبرية ذات مواعظ وأمثال. . . أو فكاهة رخيصة. . . وقلما يتنبه القائمون على تحضير برامج الإذاعة في محطة القاهرة، إلى مناسبة من المناسبات الأدبية العامة ليجعلوا لها موضعها من البرنامج في ميعاده، إلا أن يتقدم إلى ذلك من يتقدم(256/38)
من الأدباء وفي يده موضوعه كأنه طالب إحسان!
وأحسب ذلك يرجع إلى سببين: أولهما أن الأدب في مصر عامة ليس له سوق نافقة بحيث يغري محطة القاهرة بالحرص على إرضاء مستمعيه. والثاني أنه ليس في القائمين على شئون محطة القاهرة أديب متخصص له في الأدب معرفة وإطلاع يحملانه على أن يعّد نفسه واحداً من الأسرة الأدبية في مصر بحيث يعرف اتجاه الجماعة في الأدب فيسير مع تطوراتها على نهج سواء.
على أن الإذاعة اليوم هي وسيلة من إحدى الوسائل في نشر الثقافة وتوجيه الرأي العام؛ فما ينبغي أن يحملها انصراف جمهور المستمعين عن الأدب على إغفاله؛ فإن لها من السلطان ما تستطيع به أن تحمل مستمعيها على العناية بالأدب والأدباء لو سارت على برنامج مرسوم إلى هدف مقصود. ثم إن مصر ليست هي وحدها التي تستمع إلى محطة القاهرة، ولكن أقطاراً أخرى من أقطار العربية لها علينا من الحقوق الأدبية ما يحملنا على إرضاء مستمعيها وكلهم يرفعون الأدب أسمى مكان.
وإذ ذكرت هذا فما ينبغي أن يفوتني ذِكر الشاعر الأديب الأستاذ إبراهيم طوقان وكيل القسم العربي في محطة القدس؛ فأنه من خيرة شباب فلسطين ثقافة وأدباً وتحصيلاً، وله في الأدب آثار باقية؛ وبمثله في محطة القاهرة يمكن أن نتلافى هذا التقصير في حق الأدب والأدباء.
والمصريون في فلسطين عدد غير قليل يعيشون في أمن وسعة ولهم في القدس نادٍ جميل في حيّ عامر يتبعه مدرسة ليلية وفرقة كشافة. دعاني إلى زيارته سكرتيره الأستاذ عبد الفتاح لاشين المصري المدرس بكلية الروضة في مساء الأربعاء 11 مايو فذهب إليه مع الأصدقاء الأساتذة عبد الرحمن الكيالي، والشيخ يعقوب البخاري، وداود حمدان؛ فوجدت النادي مزيناً أبدع زينة احتفالا بالمولد النبوي، وثمة شيوخ يقرءون قصة المولد، والنادي مزدحم بالمصريين وضيوفهم من الفلسطينيين، يستمعون إلى ترتيل القارئ في خشوع وإيمان؛ واستقبلتنا فرقة الكشافة على الباب استقبالا مصرياً كريماً. ثم ودَّعَنا أعضاء النادي بعد مجلس قصير، بكثير من الحفاوة والإكرام
وكان آخر طوافي في القدس، في القنصلية المصرية. وما أنكر أنه كان علىَّ أن أجعل أوَّل(256/39)
خُطاي إليها غداة مقدمي، وقد كان ذلك في نفسي، لولا أنني كان لا بد لي من رفيق يرشدني إلى الطريق، وكان احتياجي إلى الرفيق هو الذي جعل زيارتي للقنصلية آخر طوافي؛ فمعذرة إلى الأستاذ الأديب محمد حامد بك قنصل مصر في فلسطين الذي جعل أول لقائه إيانا عتاباً كريماً كان له في نفس موقع جميل، وكانت تحية صريحة لا تكلف فيها ولا رياء
زرت القنصلية في مساء الأربعاء 11 مايو، فوافقنا الأستاذ متري بك وكيل القنصل خارجاً لبعض شأنه؛ فما رآنا حتى بدأنا بالتحية، وتقدمَنا إلى دار القنصلية، فقضينا في كرمة وقتاً ما ثم لم يلبث أن حضر القنصل، فما درى بمقدمنا حتى صعد إلى غرفته محتجاً على أن جعلتُ زيارته آخر طوافي؛ ثم عاوده كرم المصري فأرسل يدعونا إليه. . .
وكانت جلسة ممتعة، شهدتُ فيها ما لم أكن أتوقع، ولقيت ولقي أصحابي من عطف الأستاذ حامد بك وكرمه وأدبه ما أحرص على ذكرياته كأجمل ما شاهدت في فلسطين
والأستاذ حامد بك أديب واسع الاطلاع على رغم منصبه السياسي؛ وإنه لتوفيق عجيب أن يكون قنصلنا في فلسطين العربية له مثل حظ الأستاذ حامد بك من الاطلاع في الأدب وفي الثقافة العربية. ولقد عجبت - شهد الله - أن يبلغ هذا المبلغ في الأدب مصري من رجال السياسة؛ وكان آخر ما يدور في خاطري حين همت بزيارة القنصلية أن يكون لي هناك حديث في الأدب وفي شئون الأدباء كالذي دار في مجلس القنصل الأديب. . .
وأكثر من يذكر الفلسطينيون من رجالات مصر الراحلين، محمد عبده، ورشيد رضا، والرافعي، ولهم في نفوس منزلة من التقديس تضعهم في صف الخالدين من أبطال العربية والإسلام
وأحب كتاب العربية إليهم أسرة الرسالة، فهم يعرفون كتابها فرداً فرداً، ويقرءون لها ما يكتبون بشوق، وقلما تجد شاباً من شباب فلسطين لا يقرأ الرسالة ويحتفظ بمجموعاتها. وهم يعجبون أشد العجب حين يسمعون أن طائفة من شباب مصر لا يقرءون الرسالة! وأحسب لو أن أملهم تحقيق وصارت نسبة قراء الرسالة من المصريين تعدل نسبتهم في فلسطين لكان على الرسالة أن تطبع من كل عدد مائة ألف في الأسبوع. . .
وأكثر من يذكرون من الكتاب المصريين هم الأساتذة أحمد أمين، وعزام، والمازني،(256/40)
والزيات، وهيكل؛ ولولا سابقة للدكتور هيكل في الدعوة إلى الفرعونية لكان أحب الكتاب المعاصرين إلى أهل فلسطين؛ فما يغيظهم شيء فيما تكتب الصحف المصرية ما تغيظهم هذه الدعوة، وما يرونها إلا وسيلة إلى تمزيق الوحدة العربية التي يدعونها إليها ويرشحون مصر لزعامتها، وإلا سبباً إلى تقطيع الأواصر بين مصر وبلاد الإسلام
وركبت القطار عائداً من محطة اللَّد، بعد زيادة قصيرة للأخ الأديب داود حمدان، ورياضة ممتعة في سيارة الأستاذ النشاشيي بين اللد وبيت المقدس
وتحرك بي القطار عائداً إلى مصر ظهر يوم الخميس 12 مايو، فبلغت محطة القنطرة قبيل الغروب. . . ومعي من الذكريات لهذه البلاد المقدسة أثمن ما يحرص عليه إنسان. . .
أيتها الأرض الطيبة! أيها الأخوان الكرام! يا بني قومي هناك، وداعاً وداعاً إلى لقاء قريب، والسلام عليكم ورحمة الله
شبرا
محمد سعيد العريان(256/41)
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 4 -
وبعد، فقد فرغنا في الكلمات السالفة من الحديث فيما هو (بين الرافعيّ والعقاد)، ممّا جاء في كلام الأستاذ الفاضل سيد قطب. ثم رأينا الأستاذ يبدأ ضرباً من القول هو إلى رأيه في كلام الرافعي وحده، ليس يدخله ذكر العقاد إلا قليلا. وقد كان بدء حديثنا محدداً بالرافعي والعقاد معاً. فنحن نرى أن عملنا قد انتهى إلى نهايته في هذا الغرض من القول، ولذلك ليس يضيرنا الآن أن نسكت إلى حين يفرغ الأستاذ سيد قطب مِمّا يسر الله القول فيه مما يسميه نقداً
وأول ما يجب علينا أن نقوله للأستاذ الفاضل بعد الذي كتبناه أنه يسيء بنا الظنّ بلا دليل ولغير عِلّة. يتزّعم أن في حديثنا (غمزاً ولمزاً وتعريضاً به) وكذا وكذا، ونحن نكرم أنفسا وقلوبنا وضمائرنا وألسنتنا عن هذه الضرب من القول، ولو أردناه لمضينا على عادتنا من التصريح دون التلويح، ولقلنا له من القول ما هو حق لا كذب فيه. . . حق يدافع عن حقيقته بالبيان والحجة والوضوح، والأدب الذي يعفُّ عن دنيَّات المعاريض وسفاسف الأخلاق
وليعلم الأستاذ قطب أني أحببت لا أغُلو، ولا أتجاوز حد الحب الذي يصل القلب بالقلب، ويمد الروح بالروح، ويجعل النفس في فرح متصل بسببه، أو حزن آت بعلته، فهذا أخلق الحب أن يخلو من سوء العصبية، وفساد الهوى، وقبح الغرض. فلا يجدني أرفعُ الرافعي عن الخطأ، ولا أجله عن الضعف، ولا أنزهه عما هو عمل كل إنسان حيّ ناطق يأمل ويتشهى. مما يسمى بأسمائه حين يعرض ذكره. وفي كل أحد ممن خلق الله على صورة (الإنسان) ضروب من الشمائل والسجايا والأخلاق والآداب، ليس يطلع طِلعها جل جلاله، وربّ رجل صاف كنور الفجر يخبأ من ورائه مظلمة من سواد الليل
ولقد عرفنا الرافعي زمناً - طال أو قصر - فأجبناه ومنحناه من أنفسنا ومنحنا من ذات نفسه، ورضيناه أباً وأخاً وصديقاً وأستاذاً ومؤدباً، فلم نجده إلا عند حسن الظن به في كل أبوّته وإخأبه وصداقته وأستاذيته وتأديبه. ولقد مات الرافعي الكاتب الأديب وهو على(256/42)
عهدنا به إنساناً نحبه ولا ننزهه، ثم جاء الأستاذ سيد قطب بحسن أدبه يقول في الرجل غير ما عهدناه. . . يؤوّل كلامه ويأخذ منه ويدع ويتفلسف ويحلل ويزعم القدرة على التولج في طويات القلوب وغيب النفوس فيكشف أسرارها ويميط اللثام عما استودعت من خبيئاتها، ثم هو في ذلك لا يتورع ولا يحتاط، ولا يَرعى زمام الموت، ولا يوُجب حق الحيَّ
لقد كتب الأستاذ ما كتب، فقرأ كلامه من قرأ، أفيجد في هؤلاء من يقول له أصبتَ؟ ومن يقول له أحسنَتَ؟ ومن يزعم أن ليس له مندوحة عما اتخذ من اللفظ في ذكر الرافعي وصفته والحديث عنه وعن أدبه وشعره؟ أما يجدر بالأستاذ الفاضل أن يعود إلى بيته هادئ النفس مُخَلًّى من حوافز الحياة الدنيا، فيقرأ ما كتب مرة أو مرتين، ثم يرى هذا الذي ترك الدنيا بالأمس وحيداً، وخلف من ورائه صغاراً وكباراً من أبنائه وحفدته وأصحابه واللائذين به، ثم يراهم يقرءون ما يكتب عن أبيهم وجدهم وصاحبهم بالأمس، ثم يراهم والدمع يأخذهم بين الذكرى المؤلمة والألم البالغ! ولو فعل، لعرف كيف أخطأ ومن أين أساء، ولوجده لزاماً عليه أن يقدُر عاطفة الحي، إن لم يعظَّم حرمت الموت. وهذا أمر لا نطيل القول فيه ولا نكثر من لوم الأستاذ عليه، فإن مرجعه إلى طبيعته وما تضمره نفسه، وإلى تقديره لعواطف الناس
ومهما يكن من شيء، فسندعُ الأستاذ سيد قطب يقول ما يقول، ويذكر من رأيه في الرافعي ما يذكر، ويصف أدب الرجل وذهنه وقلبه ونفسه بما يوحي إليه، لا نعقب على شيء منها حتى يفرغ، وحتى يستوفي مادته، ويضع بين أيدينا كل حججه في فن الرافعي. فيوم ينتهي نبدأ نحن القول في الذي قال. . . لا نرد بذلك عليه قوله، أو نسدد له رأيه، فمالنا بذلك حاجة ولا لنا فيه مأرب، ولكنا نريد إذ ذاك أن نضع رأيه بمنزلة الرأي يقول به فئة من الناس، أو شبهة تحيك في صدر جماعة من الأدباء، فعلينا أن نبين مواضع الخطأ إذا أخطأ، ومكان الصواب إن أصاب، وذلك غاية ما نستطيع
أما ما يوعدنا به الأستاذ الفاضل، وما يسخر به ويتهكم، وما يضمر لنا من (بقايا) كلماته!! فليقل فيه ما شاء كما يشاء، وسنرده على قدره وفي طاقتنا وآدابنا، ولو اجتمع للأستاذ كل سلطان يستطيع به أن يسيء، فأساء إلينا بمثل الذي أساء به إلى الرافعي رحمة الله عليه،(256/43)
فنحن لا نزال - مع كل ذلك - نحترمه. . . إذ ليس في طاقتنا أن نفعل شيئاً إلا أن نحترمه كل الاحترام
محمود محمد شاكر(256/44)
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 5 -
يقول العقاد في قصيدة (خليج ستانلي):
هذى معارض صنعة ... لله تبهر من وصفه
حي الجمال كما بدا ... أولا فدونك والجيف!
يقول هذا وهو يقف أمام هذه (المعارض) وقفة الفنان الحي، المتذوق لكل صنوف الجمال فيها، المتنبه لومضاته وخفقاته، لا تكاد تغرب عن نظرة ولا عن حسه لفته من لفتات الجمال في هذا الخضم العاري. ثم يسمع من ناحية أخرى صيحات (الخرف) التي لا تقدر هذه المعارض، وتنحي باللاتمة على بروز هذا الجمال، فيصبح بهم: هذه معارض للجمال يتملاها الأحياء المعنيون بالحياة، فمن شاءها فليحيّ الجمال فيها، ومن أبي أن يعجب بالحياة الخافقة فليس له إلا أن يوكل نفسه بالجيف الهامدة!
ولكن (الرافعي) لا يلقى باله إلى شيء من هذه اللفتات، فيأخذ منخره بين أصابعه ويزم شفتيه، ويشيح برأسه، ويروح يتصنع التأفف والمبالغة فيه، لأن هناك رائحة لا يطيقها في كلمة (الجيف!)
طيب!. ولا بد أن صاحبنا بلغ من إرهاف الحس - ولا سيما حاسة الشم - إلى درجة شديدة، تقرب من الدائرة المرضية فاللذين يبالغون في التأفف كثيراً ما يكون الإرهاق بلغ بهم إلى حد مرض الأعصاب، وهو عذر على أية حال. ولا بد أنه متجنب في أعماله الخاصة كل ما تنبعث منه أية رائحة!
ولكن ماذا عساك قائل، إذا رأيت هذا الرجل الذي يمسك منخره بأصابعه، لأن فناناً تهكم بخصوم الجمال، فجعلهم ممن لا يحسنون إلا ملازمة الجيف، إذا رأيته هو نفسه يصف فم حبيبته مستجملاً - وألق بالك إلى هذا - بأنه (حانة)!
أي والله. . . (حانة) هي فم حبيبته (الرافعي)، حانة ينبعث من روائحها ما ينبعث، ويفوح منها ما يفوح، ويعج بين جدرانها ما يعج. وفيها (من كل شيء) كما يفهم الرافعي وتلميذه الأستاذ شاكر. (من كل شيء) على حقيقتها وبمدلوها كما أوّلاه في تعسف واستغلاق(256/45)
وما أبعد بك فهذه قولته:
(مسكرة للعاشقين كأن نهر الخمر في الجنة جعل فمها لهذا العاشق حانة)
ولعل أحداً من المتعسفين في التأويل والتخريج، حسب الأهواء والميول، يروح يقول لك: يا لله! إن نهر الخمر الذي في الجنة هو الذي جعل فمها حانة. فهي حانة من خمر الجنة لا من خمر الدنيا!
ولكن أفما كان هناك معدي عن هذا التعبير وهذا التشبيه؟ ألا يمكن أن تكون مسكرة حتى يكون فمها حانة، لا كأساً لطيفة، ولا قارورة مختومة، ولا دناً أو (برميلاً) من الخمر؟ ولا يكون حانة كاملة بما فيها من الدنان والكؤوس والشاربين والندمان، وبما فيها من عبث الشاربين وأنفاسهم وما يلي ذلك من عواقب السكر وصرعة الخمر
الذي لا يطيق أن يرمي فنان خصوم الجمال بأنهم غير أحياء وأنهم موكلون بالجيف، هو الذي يطيق أن يرمي حبيبته نفسه بأن فيها حانة بما فيها؟!
هو ذلك. لأنه لا عقيدة فيما يكتب، فهو ينقد لشفاء الحزازات ويتلمس مواضع التشنيع التي لا سقطة فيها على الحقيقة، وإن كان له هو على غرارها - مع الفارق - سقطات وسقطات!
ويقول العقاد متفكها، وفي فصل يسميه (فكاهة) ويعنون له بهذا العنوان
من رأى زُهرة الجمال فهذي ... زهرة القبح أسفرت تتحدى
طلعة الشؤم من رآها يخلها ... خلقت من وجوه سبعين قرداً!
فما يلمح الرافعي هذا القول، حتى يغرق في ضحك مصطنع طويل؛ وهو يقول وما الفرق بين أن تكون طلعة الشؤم هذه خلقت من وجه قرد، أو من سبعين أو سبعمائة؟
والمسألة هنا ليست هكذا، فوجه القردليس كل ما فيه قبيحاً، فشدة الاحتياط في (الفكاهة) جعل العقاد (طلعة الشؤم) مؤلفة من القبح المستخلص من وجوه سبعين قرداً، ليكون قبحاً خالصاً مركّزاً!!!
وهي على كل حال (فكاهة) والإغراق فيها يزيد حسن وقعها، ولا يعطل من قوتها شيئاً، وهو كل المقصود بالفكاهات.
أما الرافعي الذي يعيب ذلك فاسمه يقول جادّا لا متهكما ولا متفكها. (وأصعب ما تكون(256/46)
الإنسانية على من يعظم بحيوانيته وحسب، فتراه وكأن مائة حمار ركبت منه في حمار واحد، ولكنه حمار عظيم. . .)
أرأيت إلى حمير الرافعي المائة، وعملت ما شأنها هنا؟
إنها لمجرد المبالغة في شدة الحيوانية. والمبالغة في موضع الجد والقصد، لا في موضع الدعابة والنادرة
فلماذا يباح للرافعي في الحمير مالا يباح للعقاد في القرود؟ وهذه سبعون وتلك مائة. وهذه قرود تحمل الدعابة والخفة في اسمها وجسمها، وتلك - أعزك الله - حمير تحمل الغباء والثقلة في (صورتها ونعتها)؟
إنه التعنت، وشفاء الحزازات التي عملت سببها فيما أسلفت من حديث
وبعد فما أعني بما أوردت من كلام الرافعي هذا، فمثله لا يعد نقدا، والذي يعنى بهذه المآخذ لا يكون إلا سخيفا؛ وإنما أردت فقط أن أصور هذا العنت الذي كان الرافعي يلج فيه وهو واقع في شر منه، وأن أبين كيف يصنع الحقد ببعض الناس، وكيف ينكشف (الذوق) المتصنع عن ثقلة وغفلة
وأحسب أنني حتى الآن قد أوضحت رأيي في الرافعي بالأمثلة الكافية كما وعدت في أول مقال. وبقي أن أوضح رأي في العقاد على ذلك النحو
ولكني قبل هذا سألقي نظرة على ما كتب الأستاذ محمود محمد شاكر متقيداً في هذا بوعد أسلفته في الكلمة الفائتة، أكثر من اقتناعي بأن هناك ما يستأهل هذه النظرة
فلننظر ماذا قال؟
كنت في حاجة أن أستعير أسلوب العقاد في الرد على الرافعي وأمثاله، أواجه به الأستاذ شاكر، إذ كان الموقف لم يتغير. ولكنى لحسن الحظ أهدأ من العقاد، وطبيعتي أقل حدة وضراما فلهذا كان أسلوبي هنا غير ما يحتاج إليه الموقف!
والأمر بيني وبين الأستاذ شاكر يمكن تقسيمه وتبويبه للاختصار
فهو (أولا) راح يطعنني في (حسن أدبي، ومروءة نفسي، ونبل قلبي، وشرف مقصدي، فيما كتبت. وراح يتهمني بمجانبة (الدين والتقوى، والحياة والتذمم). وبأنه ليس ما بي (هو النقد ولا الأدب، ولا تقدير أدب العقاد وشعره، فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما(256/47)
به، وباطن قد انطوي على ظلمائه فما ينفذ في غيبه إلا علم الله)
وكل ذلك والأستاذ شاكر لا يعرفني، ولا يعرف شيئاً عن أدبي ولا نفسي أو قلبي، ولم تكن التهمة في فهم الأدب أو فهم الحياة، حتى يكون له مبرر في مجال النقاش الأدبي، وإنما هي تهمة خلقية محضة؛ وأنا إنما كان حديثي عن نفس الرافعي في أدبه فماذا كنت أصنع للأستاذ؟
أكنت أرد عليه شتائمه وأكيل له صاعاً بصاع؟ إذن فما أنا بخير الرجلين!
أكنت أنفي عن نفسي هذه التهم؟. . . لأنا إذن ظالم لنفسي فما هي مما يستحق النفي. وأنا أعرف نفسي ودافعها في الحياة - وهذا حسبي - وهناك مئات يعرفوني معرفة الحقيقة والتقدير، وهناك ألوف يعرفون بالقراءة ونقد الكلام ما يجب أن يعرف، فما بي من حاجة بعد هذا كله إلى كلام
ولقد رددت على الأستاذ سعيد العريان ما عرض بي من جهل بأدب الرافعي. ولم أرد على الأستاذ شاكر فيما عرض به من شتائم خلقية، إذ كان الأول بسبب من الموضوع الذي أتحدث فيه، وإذ كان بيني وبينه من الصلات ما يبيح لي أن أتعتب عليه بشدة. فأما الأستاذ شاكر، فلم يكن له عندي هذا ولا ذاك فتركته يقول:
على أنه ماذا يورد من حجة على انزلاقه إلى الطعون الشخصية الوبيلة؟ إنه حديثي عن الرافعي الميت في إبان ذكراه الأولى
ولقد لقيني أديب كبير بعد هذا، فقال يتفكه: إن هؤلاء الجماعة يجلسون في المأتم ويرجمون المار بالحجارة، فإذا رجمهم الناس، صاحوا وولوا، وملئوا الدنيا تسخطاً ونعياً على الأخلاق لأن الناس لا يقدرون حرمة المأتم، وهم الذين استهانوا بهذه الحرمة حينما رجموا المارة!
ولقد كان ذلك فكاهة وحقاً!
فالمسالة أن الأستاذ سعيد العريان كان يكتب عن الرافعي، حتى لقد بلغ رقم مقالاته السادس والعشرين، فما رأيت ما يدعو أن أكتب أو أعلق، فهو صديق وتلميذ يقوم بحق الوفاء، وهو على هذا مشكور مبرور؛ ولكنه بعد ذلك انحرف عن نهج المؤرخ إلى نهج الناقد، فقال عن نقد الرافعي لوحي الأربعين إنه منزه عن العيوب، وقال عن رد العقاد إنه سباب وشتائم، فكان ذلك حكماً لا تاريخاً؛ وقال عن دوافع العقاد للرد وطريقته كلاماً لا يصدق على العقاد،(256/48)
ويخطئ تفسير دوافعه في الحياة حسبما أرى، وأنا بذلك أدري
وعندئذ فقط تدخلت، لأعيد إلى الأذهان شيئاً من النقد (المنزه عن العيوب) ولأفسر دوافع العقاد وخطته في الحياة، ولأبين الفوارق الأصيلة بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي في الأدب وفي الحياة
هكذا كان تدخلي، وهو مفهوم، ولم تكن هناك حاجة للتخمين والتأويل
وهو (ثانياً) شاء أن يدافع عن الرافعي، وأن يثبت له ما نفيت عنه من الطبع والعقيدة فقال كلاماً لا احسبني قلت سواه فيما كتبت!
فهو قد قال: إنه كان للرافعي رأي في أدب العقاد غير ما أبداه وإنما الملاحاة وحب الغيظ والكيد، هي التي جعلته يقول ما قال.
وحكم على العقاد كذلك بما حكم به على الرافعي
فأما الشطر الأول فهو اعتراف يؤيد رأيي، في أن الرافعي لم يكن يصدر عن عقيدة فيما يكتب. وذلك حسبي
وأما الشطر الثاني فهو الذي أنكرته من قبل على الأستاذ سعيد، وهو الذي لا زلت أنكره؛ لأنني أعلم من حقيقة رأي العقاد في الرافعي، ما يؤكد نعته له، ورده عليه. وما كان هذا الرأي ليختلف لو لم تقع بينهما جفوة وملاحاة، إن صح أن التعبير عن الرأي كان يمكن أن يتغير، من لفظ قاس مكشوف، إلى لفظ لين ملفوف
وليس العقاد هو الذي يبدي رأياً ويبطن آخر، فهو رجل عقيدة يهمه التعبير عنها، ولولا في ذلك كل عنت وملاحاة
هذا رأيي في صاحبي، لا زلت أنافح عنه، وذلك رأيه في صاحبة وهو به اعرف!
وهو (ثالثاً) أخذ نفسه بإبطال ما أوردت من نقد لنقد الرافعي. فلننظر ماذا قال
إنه راح يتقصى ما قيل فيما يقرب من قول العقاد:
فيك منى ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
سائراً في تقصيه على النسق الحالي من كتب النقد العربي لقدامة وأبي هلال العسكري، ومن ينقلان عنهما. . . من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً، وحسبان كل شاعر متأخر أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم، وزاد فيه أو نقص، وتصرف أو ولد. . . الخ(256/49)
وليس هنا مجال انتقاد هذا المذهب في النقد، ولكني أكتفي بإثبات سوء رأيي فيه، وظني به القصور والجمود
إنما يهمني ما قال الأستاذ من أن العقاد ذكر (من كل شيء) دون أن يضع للفظ المطلق شيئاً من الحواجز والحدود التي تمنع إرادة الإطلاق والتعميم، فلم يبق إذن بد من أن يفهم الرافعي، وأن يتابعه هو في الفهم، أن (من كل شيء) تشمل ما ذكر من قاذورات وأوحال
ويبدو لي أن الحواجز والحدود المقصودة لا يمكن أن تكون إلا من نوع الحواجز التي توضع للخيول والكلاب في السباق، أو الحبال والأسلاك الشائكة التي تصدم الجسم وتخز اللمس!
ويبدو لي كذلك أن (الذوق الإنساني) الذي يمنع إرادة مثل تلك المقاذر، هو الأمر الوحيد الذي لا يحسب حسابه عند الرافعي وبعض متابعيه. وإلا فقد كان حسب الأستاذ أن يحيل حديث الرافعي في هذا إلى ثورة حقده، وحبه للمكيدة والإغاظة، فيخرج من تلك الأشواك التي ألقى فيها دون حساب!
ثم ماذا؟
ثم ذكرني بشيء كنت قد نسيت الإلمام به، بعد ما التفت خاطري إلى فساده وسوء دلالته على فهم الرافعي للأدب الحي. وذلك بقية ما كان عقب به على هذا البيت من أن أعرابياً قال وقال. . . فجعل حبيبته (أصفى شيء، وأغلى شيء، واسعد شيء)
هذا في الواقع مفرق الطريق بين الرافعيين والعقاديين؛ أو بين المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة على الإطلاق. ولا بأس من توفية الكلام فيه بعض حقه، وربما عدت إليه في كلمة منفصلة أو في ثنايا كلمات أخرى
المبالغة عند المدرسة القديمة هي مناط البلاغة، لا يستثنون من هذا إلا ما اعتبروه مغالاة، تمس العرف أو الدين، أو تناقض الحس والمشاهد. والصدق الجميل هو مناط الاستحسان عند المدرسة الحديثة
فليس يهم الشاعر المجد في هذا العصر أو في قديم الزمان، أن يجتمع في حبيبته كل ما تفرقه الأوصاف في الجميلات، ولكن يهمه أن يصور محاسنها هي، الخاصة بها، وأن يعبر عن شخصيتها ومميزاتها كما هي في نفسه(256/50)
ومن هنا يختلف في وصفه حبيبه عن حبيبته، لأنه لا يتحدث عن تمثال من الرخام، ولكن عن إنسانة حية تعيش في نفسه بمميزات خاصة. هذه المميزات قد يكون بعض العيوب فيها أعز على نفسه من بعض المحاسن، وأدعى لتعلقه بها، كالوالد لا يحب أبناءه لهدوئهم وآدابهم وحدها، وقد يكون الطفل المتعب أو الشاذ أكثر استمتاعاً بعطفه، وقد يكون حبه لهم على حسب ما بذل مع كل منهم من جهد، وما أنفق من علاج، وتلك من أسرار النفس الإنسانية
الصدق الجميل، الذي يعبر عن الحقائق النفسية، ويصور الحياة المتدافعة المتماوجة هو الذي أملى على العقاد ما كتب عن حبيبته، لأنها كانت هكذا في نفسه؛ فما يهمه أن يختار لها أجود النعوت، واحسن الأوصاف، بقدر ما يهمه تصويرها على حقيقتها في نفسه
فمن شاء أن يلتمس المبالغة الصفات المستحسنة وحدها من كل ما يتخيل فيه الجمال، فسبيله إلى ذلك شاعر آخر غير العقاد، ممن لا يحبون بقلوبهم وأعصابهم، بل بأذهانهم وأسماعهم. وهذا مفرق الطرق، والرمز الذي لا يخطئ في تميز المدرستين
ثم شاء أن يتحدث عن قصة (قزح وقوسه) على مثال ما تحدث عن (من كل شيء) فلم يشأ أن يفهم ما في الدعابة من طرافة وحيوية، لأن (قزحاً) هذا ليس (مشتهراً) بالجمال حتى تصلح المقابلة بينه وبين الجميلات
فهنا رجل يتصدى للنقد، ولكنه يتوكأ على أحكام السلف، فان وجد فيها أن قزحاً مشهور بالجمال فذاك، وإن لم يجده مشهوراً فلا يمكن أن يكون جميلاً، ولا يستطيع هو أن يرى إن كان هكذا أو كان قبيحاً، لأنه لا يستمد النقد مما يحس ويرى، ولكن يستمده مما يقرأ ويحفظ
ومثل هذا لا نطمع أن يماشي العقاد في سموقه وتفرده، ولا أن يتابع كذلك شروحنا للعقاد وطريقته، ولكني سأتحدث لمن يشاء أن يستمع
إن العقاد فنان دقيق الحسَّ في تميز الألوان والأضواء والظلال، وفي نفسه غرام بالنور يجعله يلتفت أبدا لومضاته وخفقاته (وقد وفيت شرح هذا في محاضرة لي عن وحي الأربعين عام 1934 نشرت وقتها بالجهاد، فليرجع إليها من شاء)
ومن هنا كان انتباهه لقوس قزح وألوانه وأطيافه، وكان تشبيه (مطارف الحسان وطرفهن) بهذه الألوان والأطياف، التي زاحمن قزحاً عليها حتى ظفرن بها منه، فألقى لهن بها وأدبر(256/51)
وانصرف! ومن هنا كانت الطرافة والحيوية التي حسبنا الإشارة إليها تكفي أول مرة للفت النظر والفهم، فأخطأنا التقدير
وقد فهم الأستاذ شاكر أننا نعني بتلاعب الرافعي بالألفاظ، أنه قال مرة إن قزحاً لا يفصل عن قوس ثم عاد ففصلها! وما إلى شيء من هذا قصدت، وما يمكن أن يفهم ما قلته على هذا الوجه. إنما عنيت بالتلاعب أن يترك الناقد هذه الطرفة في الحس والخيال، ويعني بتخريج الألفاظ اللغوية، غافلاً عن النكتة المقصودة من فصل (قزح) عن (قوس) أو متجاهلاً لها، وهو ما صنعه الرافعي
أما ما ذكره الأستاذ شاكر من قول شوقي ورأي العقاد فيه فالأمر فيه مختلف جداً، فشوقي في بيته لا يذكر (قوس) أي ذكر، وإنما يورد (قزحا) وحدها ويقصد بها (قوس) كما يفهم من معنى البيت:
قصراً أرى أم فلكا ... وشجراً أم قزحا؟
فكان الحق مع العقاد أن يقول: (ولا تذكر قزح إلا مع قوس) ولكنه لم يوجب في قوله هذه ألا تفصل منها كما أوجبه الرافعي خطأ. وفريق بين تحتيم ذكرهما معاً وتحتيم اتصالهما كما لا بد أن يفهم الأستاذ!
على أنه يبقى بعد ذلك كله أن كلام شوقي لم يكن يتضمن (نكته) خاصة كالتي تضمنها كلام العقاد، وتوجيه الكلام يقتضي بعض التصرف في عرف الأحياء!
هذا حديث قد أطلت فيه، ولكنه ليس موجها لأن يكون رداً على الأستاذ شاكر فيما كتب، وإلا فالمسألة أهون من هذا؛ إنما أردت به تصفية الموقف في طرق النقد. وما يجب أن يتوفر لها من فهم ودقة ويقظة. . . وحياة!
(حلوان)
سيد قطب(256/52)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدينة
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 13 -
أحس لنكولن ذلك فهو وإن يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم قد صار له في السياسة مكانة الزعماء، فلقد انتشر اسمه خارج مقاطعة الينوس وتقبله الناس بقبول حسن، فهم يضمرون لصاحبه المودة والإجلال. رشحه رجال الحزب الجمهوري في مؤتمرهم الأهلي أثناء الانتخاب لمركز نائب رئيس الولايات على غير سعى منه إلى ذلك فنال من الأصوات عشرة ومائة وهو بعيد؛ فلما جاءه نبأ ذلك تبسم ضاحكاً وقال: (حسبت أول الأمر أن هنالك رجلا آخر عظيما في مسَّاشوست يدعى لنكولن)
ولقد تألمت نفسه وانكدرت لذلك الحكم؛ تلمح ذلك فيما عقب به عليه، إذا أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما يرجى لهم غداة إعلان الاستقلال قال: (في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمراً يعتبره الناس جميعاً مقدساً كما اعتبره ينتظم الجميع؛ أما اليوم فقد هوجم وسخر منه وأوَّل وفق الأهواء، ومزق شر ممزق، حتى لو أنه أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم لما أمكن أن يتعرفوه؛ وذلك بما فعلنا من محاولتنا جعل عبودية الزنجي أمراً عاماً أبدياً. فإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعاً عليه؛ فإله المال (ممون) في أعقابه ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع نظريات العصر التي تتكاتف جميعاً في سرعة لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم يدعوا في يده أي آلة ينقب بها الجدار؛ وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبواباً ثقيلة من الحديد؛ والآن يذرونه في سجنه وعلى بابه قفل من الحديد ذو مائة مفتاح، لا يمكن فتحه إلا(256/53)
أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح؛ وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعوثين في مائة مكان مختلفة سحيقة؛ وإنهم ليفكرون فوق ذلك ليتبينوا أي اختراع في كافة نواحي العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك ليكون استحالة هربه أكثر توكيداً مما هو عليه.
وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بمثل هذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم فإنه ليراه ينطوي على كثير من المعاني وكلها على غير ما يحب لحزبه الوليد وللقضية الكبرى التي يتوقف على مآلها مصير البلاد. أليس يقضي هذا الحكم بأن المجلس التشريعي للولايات هو الذي يحدد من غير قيد ماذا تكون عليه حال الولايات من حيث مسألة العبيد؟ وإذاً فما قيمة اتفاق سوري، ثم ما نصيب هذا الحزب الجديد من القرب أو البعد من روح القانون وهو الذي يجعل اتفاق سوري القاعدة التي يصدر عنها في أعماله؟
إنها في الحق لمعضلة؛ ولكن هل كان يضيق هذا القلب الكبير بالمعضلات؟ وهل يتخاذل إيمانه لدى الصعاب وهو الذي يفل الصعاب وينهض لجسيمات الأمور؟ كلا، إنه ليحس قوة نفسه تعظم بقدر ما تعظم الشدائد. وهو كغيره من أولي العزم من الرجال لا يتذوق حلاوة النصر إلا في مرارة المقاساة. . .
وظلت الأحداث تأتي بعضها في أثر بعض، فهذه كنساس تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر، راحت تضع لها دستوراً فأخذت تختار من رجالها من يعقدون مؤتمراً لهذا الغرض، فانظر كيف يحال بين الأحرار وبين أمانيهم بالقوة المادية فيجري الانتخاب فيها على صورة تشعر النفوس البريئة بالألم اللاذع أن ترى الأغراض الوضيعة تنزل فيها بالعقلاء من البشر إلى مرتبة البهائم، ويبيت الناس وكأنما لم يكن الوجدان يوماً ناحية من نواحي نفوسهم. فهم في ضراوتهم وبهتانهم يظهرون في مظهر تخجل منه الآدمية التي تشعر بحقيقتها
ويأبى الرئيس بيوكانون إلا أن يعتمد قرار المؤتمر فيقبل الولاية في الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام العبيد كما جاء في دستورها! ولشد ما تألم لنكولن لهذا، ولكنه كان عنده ذلك الأم الذي يلد العمل ويبعث الأمل ويغري المجاهدين بالجهاد؛ ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه اليأس. . .
ووثب لمناهضة دستور كنساس رجل آخر يعد موقفه في ذلك غريباً لأول وهلة، وذلك هو(256/54)
دوجلاس عضو مجلس الشيوخ ومنافس لنكولن الشديد البأس. رأى أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة الولايات في تقرير مصائرها. ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب به الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة. ولقد بات من أمره في حيرة شديدة، فهو يخشى أن يفقد محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس؛ بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل الينواس إذا هو نسى مبدأ سيادة الولايات وسلطانها فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ وقد أوشكت مدته فيه أن تنتهي. . .
ولكنه آثر الآن أن يحرص على ثقة أهل مسوري فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم، فهذا الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج عليهم على هذه الصورة ولا يتورع أن يعارضهم في غير هوادة كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد!
ولقد هلل بعض زعماء الحزب الجديد لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يمهدون السبيل لانضمام دوجلاس إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة! وراح جريلي أحد رجال الصحافة من قادة هذا الحزب يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الأطناب والمغالاة. وكان هذا الرجل من اشهر رجال الصحافة في الشمال وكانت له عند الناس مكانته؛ كما كان لصحيفته عدد كبير من المعجبين
ولكن ابراهام قد أنكر على نفسه أن يقبل ذلك من رجال حزبه. وهنا تعود للظهور خصلة من أبرز خصاله ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على سجيتها وسيرها على نهج من فطرتها في غير تناقض أو تذبذب أو اضطراب. وما كان ابراهام يتكلف شيئاً لا يتحرك به وجدانه أو تستشعره نفسه، ومن هنا كانت خطواته بطبيعتها مسدودة إلى الغاية مفضية إليها مهما كثر ما يعترضه من الصعاب. ثم من هنا كان خطره إذا تحرك. انظر إلى قوله حين سمع بتلك الدعوة الجديدة: (لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلا. إني جمهوري من صميم الجمهوريين ولقد وقفت دائماً في طليعة الصفوف عند المعركة. والآن أراه يفاوض(256/55)
دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات، ذلك الذي كان مرة آلة أهل الجنوب والذي هو اليوم أحد معارضيهم؛ ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي. . . أنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته إذا أحببت، تقوم مقام حاجته إلى مركز جمهوري خالص، بل وتزيد على ذلك. . . ولذلك فأن إعادة انتخابه على أن يمثل قضية الحزب العامة أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين الخلص الذي ليست لهم مثل شهرته؛ ماذا تعني (نيويورك تريبيون) بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنجطون؟ هل وصلوا نهائياً إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيراً من ذي قبل بتضحيتنا هنا في النيواس؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلا؛ على أني إلى الآن لم أعلم بجمهوري هنا يرغب أن ينضم إلى دوجلاس؛ وإذا استمرت (التريبيون) ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة الآلاف من قرائها في الينواس فأن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل مجتمعاً؛ إنني لا أشكو ولكني أرغب في أن أصل إلى بينه من الأمر)
ذلك هو لنكولن اليوم؛ انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يحس فيه عدواناً على شخصه ونيلا من كرامته؛ فهو يطيق أن يكون دوجلاس خصما له ولكنه لن يطيق أن يراه مرشح حزبه في الينواس؛ نعم أنه لن يستطيع أن يحمل نفسه على الركوب معه في قارب واحد يراه يأخذ فيه مكان الربان وهو فيما يعتقد لا يرى كفايته تتقاصر عن ذلك المكان
وأرسل لنكولن بعض أصدقائه إلى الأقاليم الشرقية ليروا ما حال الحزب هناك؛ وكان من هؤلاء صديقه هرندن، وقد عاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام لدى الكثيرين من قادة الحزب بيد أنه يحمل إليه مع ذلك أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض، فأن لجريلي آراءه ولستيورد أطماعه ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله. . .
هكذا صارت السياسة شغله الشاغل، وهو لا يستطيع اليوم إلا أن يكون كذلك؛ لا لأنه يتخذ من السياسة وسيلة إلى تحقيق أغراض شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة(256/56)
تحرك نفسه وتستثير وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من قبل ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟ حاشا أن يكون ذلك من صفات أمثاله وإلا فما أضيع البشرية وما أهون أمرها.
على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد؛ فحرفته التي يكسب منها قوته لا زالت حتى اليوم هي تلك الحرفة التي مال إليها بفطرته والتي ارتفع بها إلى مستوى إنساني يحق معه لأربابها جميعاً في كل جيل أن يذكروا أسمه كعلم من أعلام المدنية، وأن يضيفوه إلى ما يعتبرونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث المفاخرة
ومن أفعاله في المحاماة يومئذ حادثة نرويها لدلالتها على ما كانت تنطوي عليه تلك النفس الكبيرة من المعاني الإنسانية، تلك النفس التي لم يتطرق إليها ما يتطرق إلى النفوس في هذا العالم الخبيث من خبائث تشوهما وأوشاب تذرى بها وهي في حال غريبة، تحار معها هل تعدها آدمية أم تعدها بهيمية؟
وقع بصره في إحدى الصحف على جريمة قتل يدعى أحد المتهمين فيها أرمسترنج، فدهش وتساءل هل يكون ذلك ابن متحديه ثم صديقه القديم عندما كان فتى يبيع في الحانوت وهو غريب في نيو سالم. ولما تبين له أنه هو كتب إلى أمه يقول: (عزيزتي مسز أرمستنج: علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهماً بالقتل؛ ويصعب على أن أصدق أنه عسى أن يرتكب ما اتهم به. إن ذلك لا يبدو ممكناً. وإني لارجوا أن يجري معه تحقيق عادل على أي حال؛ وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف طالت أيامه ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه؛ فأن هذا سوف يتيح لي الفرصة أن أرد بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويدي زوجك المأسوف عليه، حيثما لقيت تحت سقفكم مأوى كريماً بغير مال وبغير ثمن)
وتبين لابراهام براءته فعمد في دفاعه إلى طعن حجج المبطلين من الشهود. ومن ذلك أنه سأل أحدهم كيف رآه ينفذ الجريمة فأجاب إنه رأى ذلك على ضوء القمر، فطلب المحامي نتيجة، ومنها تبين للمحكمة أن ليلة القتل كانت ليلة ممتعة؛ ودار الدفاع حول تسفيه آراء الشهود حتى أصدرت المحكمة حكمها بالبراءة
(يتبع)(256/57)
الخفيف(256/58)
الأنباط وأطلال بترا الخالدة
للأستاذ خليل جمعه الطوال
- 1 -
الأنباط قوم من العرب الساميين. ويذهب المؤرخ الشهير فلافيوس يوسيفوس، إلى أن نسبهم يتصل بنبايوت بن إسماعيل، ابن هاجر، (زوج سيدنا إبراهيم)، ولكنَّ المؤرخ الكبير مومسن يخالف هذا الرأي، فقد ذكر أن الآراميين قد انشئوا قديماً من رعاياهم مستعمرة في خليج العرب لتربط طرقهم التجارية مع الجنوب. وقد نزح سكان هذه المستعمرة فيما بعد، واستوطنوا بترا الواقعة في شبه جزيرة سينا، بين خليج السويس وأيلة، وأن هؤلاء الأنباط الذين يرجح أنهم أقرب إلى الفرع الآرامي منهم إلى أبناء إسماعيل. ولكن مومسن لا يذكر إلى جانب هذا الزعم، الذي اتفق جمهور المؤرخين على تخطئته، أسباب نزوح هؤلاء القوم، وتاريخ نزوحهم، ولا أشار إلى عدد النازحين منهم، وفي ذلك كله مجالٌ للافتراض والشك. . . على أنه مهما يكن من الغموض والاختلاف في نسب الأنباط إلى نبايوت أو غيره، فان المصادر جميعها متفقة على نسبتهم إلى الفرع السَّامي، بدليل طراز معيشتهم البدوية، وعاداتهم وتقاليدهم العربية، وبدليل أنهم كانوا يتكلمون العربية، ولم يتكلموا الآرامية إلاَّ بعد احتكاكهم بالرومان. وتدل الآثار والنقوش النبطية الكثيرة التي اكتشفت في مدائن صالح على أن خط هجرتهم إلى بترا كان من الجنوب إلى الشمال، أي أنهم نزحوا من أواسط سهوب البادية واستوطنوا جنوب الأمارة الأردنية الحاضرة، وكانوا حيثما نزلوا يقيمون في مضاربهم المصنوعة من الوبر والشعر؛ دون أن يعمدوا إلى الكهوف، أو إلى إقامة الأبنية الحجرية. وإن في خروجهم من قلب البادية لأكبر دليل على ساميتهم، وعلى نسبتهم، إلى أصل عربي. أماَّ المستر هورسفيلد فيخالف هذا الزعم في مبدأ هجرتهم، ويزعم أنها كانت من الشرق لا من الجنوب
كان الأنباط في أول أمرهم يشتغلون بالقرصنة على سواحل البحار وبالسلب والنهب، ولكنهم عندما سكنوا بترا وأجلوا عنها الآدوميين، وجهوا هممهم نحو التجارة، لأنَّ بلادهم كانت معقلاً للقوافل التي كانت تسير بين أواسط آسيا ومصر، ومركزاً لتبادل المتاجر والبضائع التي كانت تمر بها من الجزيرة والهند، وأهمها التمر، والبن والأبسطة، وريش(256/59)
النعام، والعاج والبخور، والتوابل، والبهارات - بالمنسوجات والمصنوعات الخزفية، والحرير، والأدوات التي كانت ترد من سواحل فلسطين الفينيقية، ومن سوريا، ومصر، فاثروا من ذلك ثراء طائلا، واستولوا على جميع الطرق التجارية، واحتكروا النقل عليها بغير منافس مدة طويلة من الزمن، حتى كانت جواسقهم تفهق بالمال، وآبالهم تنوء بالخير والرزق، فتجردوا عن بداوتهم وبدءوا بالتحضر رويداً رويداً فزادت معنوياتهم وقويت شوكتهم وهيبتهم، حتى لقد خطب البابليون ودَّهم وتحالفوا معهم فتخوف منهم الآشوريون وسيروا إليهم 646ق. م قلة من جيوشهم فغلبت ملكهم ناطمو، وأخضعوه لسلطتهم حيناً من الزمن. ولما اعتلى أشور بانيبال العرش الأشوري، جرد جيشه ثانية وأعاد الكرة على البابليين، فالتقى بهم في عزاليا (640 - 628ق. م) وقد انضم إليهم الأنباط، فدارت بين الفريقين رحى الحرب، وكان النصر أخيراً للآشوريين عليهم، وذلك للمرة التاسعة فأسروا امرأة يوتحا وأخته وأمه، وحملوهن إلى الشام، وقطعوا على الأنباط موارد الماء جميعها، وذلك لانضمامهم إلى أعدائهم البابليين، ولأنهم أجاروا ملكهم (يوتحا)، ولما اشتد بهؤلاء العطش ولم تغنهم عن المال آبالهم العديد التي نحروها، قبضوا على يوتحا وسلموه إلى أعدائه الآشوريين، فأرسله إلى نينوى وشدوه من فكه إلى أحد أبوابها حيناً من الزمن
وفي عام 334 ق. م. اكتسح الاسكندر المقدوني سوريا وفلسطين، وكان الأنباط قد تحصنوا في بلدة غزة، فلما جاءها قاومه النبطيون مقاومة شديدة، ولكنه أخيراً تمكن من فتحها واكتساحها
وفي عام 312 ق. م. وجه ملك سوريا (أنتفونس) إلى الأنباط جيشاً لجباً مؤلفاً من ستمائة فارس وأربعة آلاف من المشاة وكان على رأسه القائد العظيم أثنيوس. فاخترق عمون ومؤاب بدون مقاومة ثم نزل بترا فجاءة واحتلتها بسهولة، ذلك لأن الأنباط كانوا يقاتلون في بعض الجهات الأخرى، ولما عاد جيش النبطيين من جهاده حمل على الجيش اليوناني حملة غماء الجبين، وهزمه هزيمة منكرة، واستأصل شأفته، حتى لم ينج من ذلك الجيش الجرار سوى خمسين فارسا
ثم جهز انتفونس جيشاً آخر مؤلفاً من أربعة آلاف فارس ومثلها من المشاة بقيادة ابنه ديمتريوس، وسيره ليثأر لأبطاله من الأنباط، ولكن النبطيين هجروا المدينة (بترا) بإبلهم(256/60)
وأرزاقهم ولجئوا إلى الصحراء، ولما دخلها ديمتريوس لو يجد فيها سوى العجزة، الذين افتدوا أنفسهم بالمال، ورجع عنهم إلى دمشق
وفي عام 286 ق. م. ارتقى عرش مصر بطليموس الثاني فأغار على بلاد الأنباط غير مرة ولم يتمكن من اكتساحها فعمد إلى محاربتهم اقتصادياً، إذ استولى على طريق تجارة الهند، فانحطت معنوياتهم، ونالتهم الأزمة، ثم دخل البطالسة حرباً جديدة ضد السلوقيين في سوريا، فاستغل النبطيون هذه الفرصة إذ استرجعوا مكانتهم الاقتصادية وبسطوا نفوذهم حتى بصرى شمالاً وفلسطين غرباً، وأخيراً عهد إليهم المصريون البطالسة بحراسة الحدود المصرية، فصار أمة ذات هيبة وشأن
أما أشهر ملوكهم بعد ناطمو فكان (أرطاس الثاني)، وفي عهد هذا الملك الذي امتد حكمه من (110 - 96) ق. م وفي عهد خلفائه: أوبيدس الأول؛ وروبال الأول؛ وأرطاس الثاني بلغت دولة الأنباط أوج رفعتها وعلائها، إذ كانت متمتعة بالاستقلال الناجز التام، كما كانت اقتصادياتها، في حالة ممتازة، وفي عهد اسكندر جانوس عمت الفوضى والانحلال الحكومة السورية البيزنطية، واشتدت كراهية السوريين للمستعمرين البيزنطيين، حتى إنهم كانوا عوناً لكل خارج عليهم أو طامع في مناوشتهم، ولذلك لم يلق الحارث فيلهلين (95 - 50 ق. م) مقاومة عنيفة. حين زحفه على الشام. بل سرعان ما سلم له السوريون مقادة أمرهم ومقاليد دولتهم، ليتخلصوا من ظل الإرهاق البيزنطي الممقوت. وقد تولى سوريا من بعد الحارث خمسة ملوك نبطيون، وهم: مالك (50 - 38 ق. م) وعبادة (30 - 7 ق. م) والحارث الثاني الملقب بفلوديموس (7ق. م - 40 ب. م.) ومالك (40 - 75 ب. م) ودابل (75 - 106)
وقد كانت مملكة الأنباط ممتدة من جنوبي أرنون إلى مدائن صالح، والجزء الجنوبي من شرقي الأردن الواقع شرقي الخط الحجازي حتى دمشق وبصرى، وجبل الدروز، وفي عام 67 ق. م. اتفق الحارث فيلهلين مع الفرس على أن يساعدوه في استرداد بلاده التي اغتصبها اسكندر جانوس، فجهز جيشاً مؤلفاً من الأنباط والفرس يبلغ (50 ألف محارب)، وسار على رأسه لحصار أرسبيلوس في قصره، ولكنه رجع من حصاره مغلوباً
وفي عام 64 ق. م بينما كان بومي مشغولا بتسكين ثورة اليهود في فلسطين، جهز جيشاً(256/61)
بقيادة ماركوس سكوروس، وسيرة لمقاتلة الأنباط، فتصادم معهم على شواطئ الأردن، فناوشهم طويلا، ولكنه لم يستطيع قط أن يخترق بلادهم ويتوغل في جنوبي شرق الأردن. وانتهت هذه المناوشات بتدخل انتباتر الكاهن اليهودي، إذ استطاع أن يقنع الملك النبطي (الحارث) بان يدفع لسكوروس القائد الروماني مبلغاً معيناً من المال فدية لبلاده. (راجع تاريخ رما ص 138 - 139 لمومسن). وتخليداً لذكرى هذا الانتصار ضرب سكورس نقداً عليه صورة الحارث يقود جملا، ويقدم إلى الرومانيين غصناً من الزيتون
وفي عام 34 ق. م أهدى أنطوني 671 جزءاً من بلاد الأنباط إلى كيلوبطرا، وهذه بدورها أهدته إلى هيرودس؛ فكبر على الأنباط أن يروا بلادهم سلعة تتهاداها الملوك، فجيش ملكهم المعروف (بمالك) عساكره، وانقض بهم على كيلوبطرا فانتصر عليها في واقعة، قرب السويس، وأغرق أساطيلها التي كانت في البحر الأحمر. ولما بلغ أنطوني خبر اندحار معشوقته، جهز جيشاً عظيماً وسيره بقيادة هيرودس ليثأرلها من الأنباط؛ وكان ذلك عام 32 ق. م فانتصر عليهم في بادئ الأمر، ثم امتد خط القتال حتى كاناثا وهناك أديل للأنباط من الرومانيين في معركة حامية الوطيس، ثم جهز هيرودس جيوشاً جديدة والتقى بالأنباط قرب مدينة عمان (عاصمة شرق الأردن الحاضرة) وفتك بهم فتكاً ذريعاً، فانسحبوا حتى تحصنوا بأم الرصاص (قرب مدينة مأدبا) تدل على ذلك النقوش والكتابات النبطية التي اكتشفت فيها والتي يرجع عهدها إلى عام 39م
ولما اعتلى عرش الأنباط الحارث الثاني المعروف بفلوديموس أخذ يخطب ودَّ الرومان الذين كان قد امتد نفوذهم إلى المملكة النبطية، فزوج ابنته من هيرودس التتراكي، ولكنها لم تلبث أن طلقته هاربه إلى أبيها في بطرا، لأنها اكتشفت علاقاته الغرامية مع هيرودياس زوج أخيه، فاستشاط الحارث غيظاً لشرف ابنته وانقض على هيرودس وهزمه
أما اليونان فقد ظلموا يهتبلون السوانح ويتحينون الفرص المناسبة ليثأروا من الأنباط لهزيمتهم عام 25 ق. م. حتى كان عهد تروجن فجهز عام 106 ب. م. جيشاً لجباً أولوس كرنيليوس، حاكم سوريا، وسيرة إليهم، فقضى هذا الجيش على تلك المملكة العظيمة التي دام عهدها التاريخي زهاء ستة قرون وأقصى آخر ملوكها وهو دابل عن العرش
(يتبع - شرق الأردن)(256/62)
خليل جمعه الطوال(256/63)
رسالة الفن
فرنتس شوبرت
للأستاذ محمد كامل حجاج
أتشرف بالتحدث اليوم إلى قراء الرسالة الأفاضل عن عبقرية نادرة ونابغة عالمي في الموسيقى وقد عرقه الشعب المصيري أكثر من غيره كبار الموسيقيين من كثرة عرض فلمه (السانفوني الناقصة) ولا يخفى عليكم أن السينما لا تتوخى الحقيقة دائما بل يتعمد الانحراف مبرراً موقفه ولو بأضعف الأسانيد المشكوك في صحتها إن كان في سردها ما يشوق النظارة أو يترك فيهم أثراً عنيفاً
ولد المترجم له في 31 يناير سنة 1797 على مقربة من فينا وعاجلته المنية في ربيعه الحادي والثلاثين أي سنة 1828 وقد ترك بعد هذه الحياة القصيرة كثيراً من مختلف أنواع التلحين إذ بلغت مؤلفاته في طبعه سنة 97 - 1885 أربعين مجلداً
ولع منذ نعومة أظفاره بالموسيقى فتلقى تعليمه الأول على ميشل هولزر وأخذ يدرس في الوقت نفسه البيانو وعدة آلات وتريه حتى أتقنها، وعهد إليه بدور الكمان الأولى في الأوركستر وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم تلقى دروس الأرموني على أورجانست البلاط الأمبراطوري وتلقى الغناء والتلحين على سالييري مؤلف أوبيرا داناييد
ولقد أحصى ما ألفه في سنة 1815 وكان في ربيعه الثامن عشر فوجد 6 مؤلفات للمسرح وقداسان وو (وهما نوعان من الموسيقى الدينية) و 12 و 8 و 10 تنويعات للبيانو و 2 من السانفوني و 4 سوناتات وأكثر من 130 من الأغاني المعروفة بالليدر فيكون المجموع 176 قطعة. وقد عال عنه بيتهوفن وهو على فراش الموت: (إن في هذا العقل لشرارة ربانية)
كان أبوه صاحب مدرسة وتزوج مرتين رزق فيهما من الأبناء والبنات ثمانية عشر. وإنه لمن الصعب أن يميز الإنسان أدوار حياة قصيرة؛ ولكننا نستطيع أن نعتبر منها تاريخين بلغ فيهما أعلى ذرى مجد وهما سنة 1819 التي ظهرت فيها قطعته المشهورة (شكوى الراعي) وسمعها الجمهور لأول مرة وحازت قبولاً عظيماً وعام 1821 إذ مثلت فيها (ملك الأون) وهي من أوبيراته الشائقة وقد غناها المغني المشهور ميكاييل فوجل، ومن هذا(256/64)
العهد ذاع صيته وملأ الآفاق. ولقد كان مثل موزار في ذكائه المشتعل في صباه المبكر، ويظهر أن القواعد الابتدائية للفن قد نقشتها الطبيعة في عقله فما كان منه إلا أن يشعر بتطلبات الظروف مثل مبادئ العقل والأخلاق
ولقد قال أستاذه هولزر: (بماذا أستطيع أن أفيده؟ إذ حينما أريد أن أعلمه شيئاً وجدته عالماً به من قبل). ولرخامة صوته وذكائه الموسيقي عين منشداً في كورس كنيسة الإمبراطور وانتظم في سلك طلبه المعهد الموسيقي الملحق بها إلى أن خرج منه سنة 1813، ثم جعله والده مساعداً له في مدرسته ولبث فيها ثلاثة أعوام ولما كثر المعجبون به أرادوا أن يعرفوه للناس فأرسلوا جانباً من الليدر التي كتبها إلى جوته ولكنه لم يرد عليهم، فلم ييأسوا وأرسلوها إلى المغني الشهير ميكاييل فوجل فدهش منها وطفق يحضرها ويغنيها
وفي سنة 1818 استدعاه الكونت استر هازي ليعلم ابنتيه فذهب إلى قصر بالمجر وقضى فيه الصيف في هناءة وسرور معجباً بتلميذتيه. إن أعظم المراجع التاريخية لم تذكر شيئاً عن غرام شوبرت بكارولين ابنة الكونت استر هازي والبعض قال: إن هذه الإشاعة مشكوك في صحتها إذ لم يؤيدها أحد وغاية الأمر إنهم استنتجوا هذه الإشاعة من عناوين بعض القطع كالوداع وغيرها
وفي نوفمبر سنة 1818 رجع إلى فينا ورفض متابعة التدريس وطرده والده، فأواه أصدقاءه وتدبرا له في شراء بيانو. فكان يستيقظ مبكراً ويبتدئ التلحين في الساعة السابعة صباحاً ويستمر إلى الأولى بعد الظهر في الخلاء أو في المدينة أو في نزهة أو في المقاهي، وكان يمضي السهرة كلها مع أصدقائه الحميمين مثل: وو وو وغيرهم. وكانت هذه الفئة من الموسيقيين والشعراء يصرفون الليل في إلقاء الشعر والغناء، ويشربون ويمرحون، وكانت كؤوس الجعة تدور طول ليلهم وفي بعض الأوقات يرقصون، وكانت حفلات الشباب هذه الأدبية يعيدها شوبرت إذ كان لها بمثابة الروح للجسد، وأطلق عليها أسم: (شوبرتياد)
وقال صديقه (كنا جميعاً أخوة أصدقاء) وكان شوبرت يحب أصدقاءه حباً جماً حتى أنه كان يسكن معهم ويشاطرهم ملابسه ونقوده. وكان يحب اجتماعات الفتيات ويرتاح لسمرهن ولكنه كان يتحاشى أن يقع في حبائل الحب أو يعكر صفوه وخياله بآلامه لأنه كان يطمح(256/65)
إلى الرقى لأعلى ذروة في الموسيقى
وفي أبريل سنة 1821 تعاون أصدقاؤه على طبع كراسة من الليدر في محل وكتب السانفوني التي من مقام وهي أعمق مؤلفاته. وقد حاول أن يقترب من بنبهوفن ولكن هيهات الوصول إليه
أصابه مرض شديد سنة 1823 فخاب رجاؤه وانقطعت آماله فقال في إحدى رسائله: (إني لأتعس وأشقى رجل في العالم، فتصور بائساً لا تعتدل صحته قط، وقد خابت آماله ولم تسبب له مسرات الحب والصداقة إلا المتاعب والآلام، ولا أدري إنساناً يفهم آلام أو سعادة مثيله. ويظن دائماً أن الواحد يتجه دائماً نحو الآخر وغاية الأمر أنهما يسيران جنباً إلى جنب، فيالعذاب من يشعر بهذه الحقيقة المرة المؤلمة
رفضوا له أوبيرتين وهما (المتأمرون) و (فيرابراس) ولكن الرحلة له التي قام بها مع المغني الشهير فوجل في النمسا العليا قد صادفت نجاحاً عظيماً
وبعد عودته كتب ليدر (الطحانة الجميلة) وفيها صورة حية ناطقة للآلام الإنسانية ولكن أوبيرا التي مثلت في 20 ديسمبر سنة 1823 وكان عليها إقبال عظيم لم تمثل إلا مرتين
ساورته الكآبة والحزن لتدهور صحته وفقره، ولسوء حظه ما كان يجد من يشتري تأليفه، ثم ذهب سنة 1824 إلى قصر الكونت استرهازي وقضى به فصلاً ثانياً وكان يبحث في مخيلته عن شيء يتعزى به وكان يتصنع السرور رغماً عن كآبته وآلامه، استمر في العمل ولم يهجر المسرح وقد ربطته عري الصداقة مع المغنية الشهيرة أناملدر هوبتمان وكانت تغني في مسرح (ملك بورسيا). ثم قام برحلة جديدة مع فوجل المغني ورجع ومعه عدة مخطوطات ثم أرسل إلى جوته كبير شعراء الألمان ثلاثاً من الليدر فلم يرد عليه وحاول أن ينال وظيفة الرئيس الثاني لكنيسة الملك فأخفق
(البقية في العدد القادم)
محمد كامل حجاج
عضو مؤتمر الموسيقى العربية(256/66)
رسالة الشعر
خواطر
دمشق
للأستاذ محمد بهجة الأثري
إلى صديقي العلامة الأستاذ محمد كرد على ذكرى احتفائه
بالإخاء وتكريمه للصداقة. . . . . .
مَنْ عّذِيِرٌ من الهوى ومُجِيرُ؟ ... فَضَحَ الشَّوْقُ ما أجَنَّ الضميرُ
أنا في قبضة اَلْجمَالِ فخوَِّدٌ ... تَسْتبيني وروضةٌ وغَديرُ
هذه (جِلِّقٌ)، تبارَكَ ربي! ... بَلَدٌ طيّب ورَبُّ غَفُورٌ
الهوى والهواءُ والجدولُ الرَّق ... رَاقُ والروضُ والسَّناَ والحورُ
حَيْثما تغتدي فروضٌ أَريِضٌ ... عَنْبِريُّ الشَّذا وماءٌ نَميرُ
وظِلالٌ ممدودةٌ وْهيٌ تَنْدَى ... وشعاعٌ يرِفُّ وهْوَ مُنيرُ
من سَنَا الشمسِ فوقَها ومن الزُّه ... ْر دنانيرُ عسجدٍ وعَبِيرٌ
يُقْتَلُ القَيْظُ في ذراها ولكنْ ... في ذَراها يحيا الهوى ويَسُورُ
جئتُ آوى من اَلحرُور إليها ... وإذا في الحشا يشبُ اَلحرُور
أنا منها ومن مَهاَها اللواتي ... يتكسَّرْنَ رقةً، مسحورُ
كلُّ بيضاء في لواحظَ سُودٍ ... رفَّ في خدَّها الدمُ المستحيرُ
في قَوَامٍ لَدْنِ المعاطفِ ريّا ... نَ وخَصْرٍ من الضَّنى يستجيرُ
وصِبا ناضر الشبابِ غذاه ... تَرَفُ العيشِ والنعيمُ الوثيرُ
وأديمٍ مُنعَّمٍ في حَبيرٍ ... يوم العينَ ماؤه والحبيرُ
لَمعَا كالسَّرابِ شفَّ فلم تَدْ ... رِ أماءٌ لألآؤه أم نورُ
تنفُثُ السحرَ في الخلِىِّ فيشجى ... وتثير الهوى بهِ فيثورُ
ولقد زانها النَّفُورُ، وحُسْنُ ال ... حُسْنِ في الغادة العَرُوُبِ النفورُ
كرَّمَ اللهُ وجهَ كلِّ نوارٍ ... صانها الطُّهْرُ والحياءُ الوَقورُ!(256/67)
ليَ من هيكلِ الجمالِ المعاني ... ولغيْرِي ألفاظُهُ والقشور!
وطَنُ العُرْبِ جَنَّةٌ و (دِمَشقٌ) ... رَفْرَف أقدسُ المَطَافِ طَهُورُ
شَرِقَتْ بالرُّؤى مَسارِحُها الخضْ ... رُ وَرَوَّى نعيمَهُنَّ السرور
رُبَّ نادٍ تَخِذْتُهُ في الروابي ... أقرأُ الحسنَ ثم وَهْوَ سُطُورُ
فعلى (الغوطَتَيْن) والشمس تبدو ... وعلى (النَّيْرَبَيْنِ) وهْيَ تغور
فإذا (جِلِّقٌ) رياضاً ودوراً ... كالمصابيح حَفَّها الديْجُورُ
عالم من زَبَرْجَدٍ طافَ بالدُّ ... رِّ وأَذْكاه بالرُّواءِ النور
ساحِرُ المجتَلى أطلَّ عليهِ ... (قاسيون) كأنه مذعورُ
يغْرَقُ الحِسُّ في سنَاهُ ويفنى ... في تهاويل سحرِهِ التفكيرُ
أنا إِن أَنْسَ لستُ أنسى لياليَّ (م) ... إِذِ البدر ضاحكٌ والثغورُ
وكأنَّ الأكوانَ في دافق النُّو ... رِ بَحُورٌ قد أغرقتْها بُحورُ!
يمرَحُ القلبُ في سناها كما يَمْ ... رَحُ في الماءِ سابحاً عُصْفورُ
قد تَفَرَّدْنَ بالصَّباحَةِ لولا ... وَجَنَاتٌ نازَعْنَها ونُحُور!
حبّذا (الشامُ): ماؤها وهواها ... وَمَسارِي أنهارها والقُصورُ
وميادين حُسْنِها وهْيَ شتَّى ... وَمَغاني اللذاتِ وهْيَ كثيرُ
جادَهَا الغَيْثُ من معاهدَ لا اللُّط ... فُ عداها ولا النعيمُ الوفيرُ
محسنات الأوقات حتى ضُحاها ... وشَّحَتْهُ بلطفهِنَّ البُكُور
وبنفسي هَدِيرُ أنهارِها السب ... عةِ دوَّامةً عليها الطيور
تتلوّى كالأَيْنِ ريعَ وتَهْتَ ... زُّ ارتعاشاً وترتمي وتمُور
وَهْيَ آناً في السهل تعدو وآناً ... في الروابي المُسَلْسَلاَتِ تُغيرُ
تَغْمُرُ (الغُوطَتيْنِ) بشراً وَزهْواً ... مثلما يغمُرُ النفوسَ الحبُورُ
وغَدَتْ فوْقَهَاَ الطيورُ تَغَنَّي ... ربما يُطرِب الطيورَ الخرِيرُ
عِشقَتْ لَحْنَهَا، وللطيرِ لَحْنٌ ... يُسْكِرُ السمعَ جَرْسُهُ المخمورُ
حَيث تغدو يلهيك منها سَمَاعٌ ... ومن الروض مونِقٌ منْضُور
عُرُسٌ قام للطبيعة فيها ... يستخِفُّ الإنسانَ وَهْوَ وَقُور(256/68)
تَهْزَجُ الطَّيْرُ والأَناسيُّ فيه ... ويمور السَّنَا ويذكو العَبِيرُ
قِفْ تمتَّعْ مما تراه قليلاً ... وقلقلٌ مما تراه كثير:
للأَنوف الشذا أريجاً، وللسَّمْ ... عِ الأغاني، وللحاظ البُدُور!
(بغداد)
محمد بهجة الأثري(256/69)
باقة غزل من شعر الصبا
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يا أيها الخاذل النائي بجفوته ... خَلَّفْتَ في العيش سحر المنظر البَهِج
خلعت حسناً على عيش كما خلعت ... شمس الغروب على الآفاق مِن وَهَجِ
فُرَصُ الحياة قليلة ... فالى م صدرك يا حبيبي
بينا جمالك يانع ... فينان كالغصن الرطيب
إذ لا جمال ولا صبا ... يصبي القلوب إلى الوجيب
والعيش خلد في الشبا ... ب فإن دنوتَ من المشيب
أحسست إقبال الردى ... كخُشُوع قلبك في المغيب
فترى الحياة قصيرة ... كتلألؤِ البرق الخَلُوبِ
وإذا الحياة كنغبة ال ... عصفور رُوِّعَ بالرقيب
متلفتاً يحسو ويخ ... شى أن يفاجأ من قريب
بينا تراه على الغدي ... ر تراه في الأفق الرحيب
خَلَّفْتَ في القلب يا معذبه ... ما خَلَّفَتْ نَغْمَةٌ من الجرْسِ
ذكراك في نفس منصت يَقِظٍ ... ذكرى غناء في الأذنِ كالهمس
كأنما القلب نحوكم أبدا ... ليْنُوفَرٌ دائرٌ مع الشمس
كنت روضي والعيش صيف وَفِيَّ ... حافل بالنعيم والآلاء
فَلَئنْ عادت الحياة شتاءً ... أنت فيها كزهرة في الشتاء
فهي محبوبةٌ وأندادها كُثْ ... رٌ ومحبوبةٌ بِقَفْرٍ عَرَاءِ
وهي أشهى إلى النفوس وأحلى ... لافتقاد الأنداد والأكفاء
أَعِرِ البدر طلعتكْ ... عَلِّمِ النجم نظرتكْ
وامنح الصيف من روا ... ئك والزهر نضرتك
وهب الطير شدو صو ... تك والفجر غرتك
وإذا ما هفا النسي ... م فعلمه خطرتك
امنح الكون نشوتك ... عَلِّمْ السحر قدرتك(256/70)
أرى الزهر غضاً يانعاً طَلهُ الندى ... مَلِيّاً بأن يشجو ظِلماَء النواظر
فأحسبه دمعاً لذكرى غرامنا ... وأنفاس أيام اللقاء الغوابر
أتذكر وعداً باللقاء بذلته ... بمجتمع الأطيار بين الأزاهر
وليلا طرقناه سميرين في الدجا ... كما جال سر الوحي بين السرائر
طرقتك يا ليل اللقاء فرقتني ... بلذات حب كالنجوم الزواهر
يا زائري أعقبت منك محاسناً ... كالزهر يترك نفحة المرتاد
أخصبت تربة أنفسٍ ظلمانة ... شامت سناك فكان خير عهاد
وأفضت شؤبوب المحاسن والنهي ... طيباً على المهجات والأكباد
يا زورة كالعيد إلا أنها ... جَلَّتْ عن الفرحات والأعياد
يا ليت أن النفس درة غائص ... أهديك من نفسي أعز عتاد
أنت عنوان لما أن ... شده في الخطرات
كل كون كان أو لم ... يك من ماضٍ وآت
فيك لي منه أمان ... ي النفوس الساميات
أنت في الدهر ابتسام ... كابتسام الزهرات
ليت لي منك ائتلافاً ... كائتلاف النغمات
قد قلتُ للحب لا تعتب على سَكَنِي ... لنبوة منه في أيامك الأخَرِ
كم لي وكم لك من يوم لنا بَهِجٍ ... بطلعة منه تحكي طلعة القمر
إِنْ يَجْفُ قلبك كالأثمار يانعةٌ ... ودون ذلك يُبْسٌ من نوى الثمر
فارجم بقلبك قلباً أنت مالكه ... فإن قلبك مثل الماس في الحجر
البدر يكسو الأشياَء حُلَّتَهُ ... وَشْىٌ من السحر حاكه القمر
فَاكْسُ بأنوارك الورى حُلَلاً ... كي لا يبين الشقاءُ والعُسُرُ
يا شمس حسن حياتنا ثمر ... ينضج في ضوء حسنك الثمر
أشعل بألحاظك الحياة فإ ... ن الصخر إمَّا رمقته دُرَرُ
عَطَّرْتَ بُرْدَ الحياة قاطبة ... فكل شيء لمسته زهر
عيناك عيناك منبت الذكَرِ ... كالزهر في قاع رائق الغُدُرِ(256/71)
فنعسة الطرف أنه أبدا ... كذاهل قد أصاخ للفِكَرِ
هل نعسة في لواحظ حُلُمٌ ... بعالم الحسن طيب الخبرِ
بعالم أنت من بشائره ... بشرى طيور الربيع بالزهَرِ
عيناك من لمحة الزواهر أم ... مقبوسة الضوء من سنا القمر
أم من غدير الحياة حَفَّ به ... من هُدْبِ جفنيك باسق الشجرِ
فيا ليت لي من صخر قلبك آلة ... فاتلو عليها نَغْمَةً أي نغمة
يئن أنين العود من شجو ضارب ... فَيُسْعِدُ قلبي في حنين وأنة
يا حسن من لي بسحر أتقيك به ... فالحسن يسحرنا والسحر يرقينا
يا حسن هل أنت ناسٍ ليلة سلفت ... طاف الغرام بها يا حسن يسقينا
كأننا نَغْمَةٌ في الليل سارية ... تهفو ولليل أذْنٌ فيه تبغينا
ورق فيه أديم البدر مؤتلقاً ... حتى كأن سناه من تصافينا
وبت ألحظكم طوراً وألحظه ... وفوق وجهك ضوء البدر يشجينا
يا حسن لا تحسبن البدر يشغلنا ... يا حسن لولاك ما ابيضَّت ليالينا
يا عين من أهوى رعاك الكرى ... فليلتي منكِ ليال طوالْ
عودي بلحظ صادق ضوءه ... يجلو دجا العيش وليل الخيال
يا طاقة أبصر منها النعيم ... في جنة الخلد وريف الظلال
عودي بلحظ أحتسي خمرة ... فالكوثر العذب شهيُّ المنال
ولا يكن برقك لي خُلَّباً ... أهكذا حَظَّى آلٌ فآلْ
ضم الملاحة والرشا ... قة واللذاذة والألم
ناجيت قلبك كي يرق (م) ... فما أحس ولا رحم
يقسو فؤادك يا صَنَمْ ... أوليس من حجر أصم
عبد الرحمن شكري(256/72)
البريد الأدبي
توحيد التعليم في المدارس المدنية والدينية
أخذ صاحب المعالي وزير المعارف يدرس برامج التعليم في المدارس المدنية والدينية، بقسمها الابتدائي والثانوي، قاصداً بذلك إلى وضع برامج يشترك فيها التعليم المدني والتعليم الديني
وقد كتب معالي الوزير إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر يستطلع رأيه في هذا الصدد، تمهيداً لانتخاب لجنة من رجال المعارف والأزهر، يعهد إليها وضع البرامج الملائمة. والغرض من تحقيق هذه الفكرة إيجاد التقارب بين عقول المتعلمين وخلق جيل جديد متفاهم، لا تشعر جماعاته بفوارق بينها، ولا تتعصب فيه كل طائفة لنفسها، وبهذا تتفادى أسباب النفرة بين الجماعات المختلفة
إلى الأستاذ فليكس فارس
جاء في العدد 166 من الرسالة الغراء في مقال الأستاذ الكبير (نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام) ما يلي:
(لا ينهض بالشرق إلا حضارة شرقية تستمد نظمها من المبادئ الأدبية العليا التي أنزلت وحياً على رسله وأنبيائه، وإلهاماً على فلاسفته وشعرائه)
وقد قامت اليوم دعوة تدحض هذه النظرية. وقد نشر في الأهرام قريباً مقال عنوانه (هل يوجد اليوم شرق؟) للأستاذ توفيق الحكيم وقد استشهد الكاتب في هذا المقال بحديث نقله من كتابه الحديث (عصفور من الشرق) يدور بين روسي ومصري
فإلى الأستاذ فليكس فارس الذي قال بأن الشرق لا ينهض إلا بحضارة شرقية أطلب أن ينفحنا برأيه ويدلنا على جواب شاف عما إذا لم يزل الشرق شرقاً والغرب غرباً؟ وهل في الإمكان تلقيح الشرق بحضارة غربية؟ وهل في الإمكان أن يلتقي الشرق مع الغرب؟ وأي الحضارتين أفضل - إن كانت هناك حضارتان شرقية وغربية - الأولى أم الثانية؟
إن قراء الأستاذ المعجبين بصدق آرائه وصواب نظرياته وصحة حججه ليرجون أن يرويهم بحديثه العذب وأدبه الفياض
عبد العزيز عبد الكريم(256/73)
عصيون جابر لا أزيونجيير
جاء في العدد الفائت من الرسالة الزاهرة في البريد الأدبي ما يأتي (إن الأثريين الأمريكيين الباحثين قرب شاطئ البحر اكتشفوا آثار مرفأ كان زاهراً هناك حوالي ألف سنة إلى ثمانمائة سنة قبل المسيح! أما المدينة المكتشفة آثارها فهي أزيونجيير التي يدعوها العرب تل الخليفة!)
وهذا كلام لا غبار عليه، والاستكشاف حق، والمدينة أثرية تضرب في أعماق الدهر بتاريخ مجيد، ولكن لفظها العبرانيّ الساميّ قد تناولته أقلام المترجمين بالتحريف والتغيير
فقد جاء في الإصحاح التاسع عدد 26 من سفر الملوك الأول من التوراة ما يأتي بالنص العبري: (فآنى عاشا همِّلخ شلموه بعصيون جابر إِشرأتْ ألوتُ علىْ شفة تِمْ سوُف بآرص أدوم) وترجمه ذلك: (وصنع الملك سليمان سفناً في عصيون جابر
التي تقع على شفة (شاطئ) بحر (سوف) بأرض أدوم فالتوراة هنا حددت موقعها، وجاء الاستكشاف مصداقاً لهذا التحديد؛ وبحر سوف الوارد ذكره في الآية هو البحر الأحمر، ومعنى هذا (الهلاك) في اللغة العبرية، ولعله يشير إلى هلاك فرعون وجنوده عندما اتبع سيدنا موسى فسمى لدى العبرانيين بهذا الحدث في التاريخ والله أعلم!
أما عصيون جابر المدينة المستكشفة، فقد ذكرت في مواضع عدة من سفر الملوك اللفظ العبراني الأصيل، وهي من أعظم الموانئ الواقعة على خليج العقبة في ذياك الزمان بأرض الآدوميين إذ كانت في أيام سليمان عليه السلام مركزاً ممتازاً لتجارة الأعواد والأطياب والذهب الوارد من أوفيرا في مملكة سبأ بالجنوب
(دار العلوم)
محمد عبد الله العمودي
تبسيط قواعد النحو وطريقة الكتابة العربية
تشتغل وزارة المعارف بجمع المقترحات والبيانات المختلفة التي تتلقاها الآن عن المشروعين الخاصين بتبسيط قواعد النحو وطريقة الكتابة العربية(256/74)
وتنوي الوزارة قبل اتخاذ قرار نهائي في هاتين المسألتين الاستئناس بآراء مجمع اللغة والمستشرقين
وينتظر أن يطول الزمن بهذين المشروعين نظراً لخطورتهما وصعوبة الوصول إلى الغاية التي تقصد إليها الوزارة
وقد يكون المشروع الأول أسهل من الثاني. ومهما يكن من أمرهما فان الاتجاه يذهب إلى تبسيط النحو في المدارس المصرية ابتداه من العالم الدراسي القادم حتى ترتفع شكاية الأساتذة من ضعف التلاميذ
جبران والرمزية
قرأت في مجلة الرسالة الغراء 251 مقالا للأستاذ بشر فارس ألمع في هامشه إلى أن الكاتب الرسام جبران خليل جبران قد سار على نهج الشاعر الإنجليزي وليم بليك في رمزيته
وإنه لمن المعروف عن جبران أنه لم يكن رمزياً بالمعنى الدقيق الذي يفهم من هذا اللفظ، بل كان أكثر ميلاً إلى الرمانتيكية منه إلى الرمزية، وكثيراً ما كان يمزح بينهما في كتاباته وعلى الأخض في كتابيه النبي ويسوع ابن الآفاق. أما في رسومه فقد كانت الرمزية غالبة فيها
والملاحظ في الشاعر (بليك) أنه كان غامضاً مسرفاً في الغموض والإبهام لدرجة يتعذر معها الفهم والغوص على المعنى الذي يريده والفكرة التي يقصد إليها، مهما أجهد القارئ عقله. فأنت إذ تقرأ ديوانيه أغاني الطهارة يبهرك ضوء قوي من الجمال، ولكن أنى لك أن تعرف سر هذا الضياء وما الذي بهرك من حسنه؛ وقصاراك أن تستشعر كثيراً من اللذة المعنوية في هذا الغموض وجماله.
وما كان جبران على هذا النهج في الغموض والإسراف فيه. وقليلاً ما نعثر على قطعة كتابية حاكى فيها الشاعر الإنجليزي الغامض. فهل للأستاذ بشر فارس - إذا تفضل - أن يفصح عما إذا كان الغموض والإبهام من مستلزمات الرمزية؟ وهل بدونهما لا تكون؟ وله وافر الشكر على غزير علمه والسلام
السيد كامل الشرقاوي(256/75)
المفتش بوزارة المالية
العيد الألفي للجامعة الأزهرية
كان مجلس الوزراء قد قرر في عهد المغفور له توفيق نسيم باشا تأليف لجنة لتنظيم المسائل الإدارية والتاريخية الخاصة بالاحتفال بالعيد الألفي للجامعة الازهرية، وهو الاحتفال الذي سيقام في سنة 1360 هجرية. وقد باشرت هذه اللجنة مهمتها بضعة أسابيع ثم أرجأت أعمالها بعد ذلك
وقد علمنا أن إدارة المعاهد الدينية تشتغل في هذه الأيام بوضع مشروع جديد لإقامة مهرجان إسلامي كبير يليق بتاريخ أقدم جامعة إسلامية، على أن يشترك العالم الإسلامي فيه
وسيعرض هذا المشرع بعد الفراغ منه على مجلس الوزراء للموافقة عليه واعتماد المبالغ الخاصة بتنفيذه
والمفهوم أن الرأي مستقر على توجيه الدعوة إلى مختلف الجامعات العلمية الأوربية التي دعت الأزهر إلى الاشتراك في حفلاتها
بين الرافعي والعقاد
في هذه الصفحة من عدد (الرسالة) الغراء رقم 255 قرأت دفاعاً كتبه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي عن بيت العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
ولست أريد أن أتناول البيت من نواحي ضعفه ليرى سيدي أن البيت يتداعى من أي ناحية أقمته، ولكني أريد أن أشير إلى آخر ما جاء في كلمته حيث قال:
(ولا بد أن نشير بعد هذا إلى أن كل شيء في هذا الكون لا يخلو من حسن يسوغ إجراء بيت العقاد على عمومه، وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) قال العلامة الزمخشري: إنه ما من شيء خلقة إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة. . .)(256/76)
وهي التفاتة جميلة حقاً لولا أن قول الزمخشري رحمه الله قد ضمَّ على تفسير لا يضل فيه رأي. ولسنا ننكر أن كل شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة، وهذا معناه الدقة في الصنع والأحكام. وإن الإنسان يدرس علوم النبات والحيوان ليرى في بعض ما خلق الله ما يحير الألباب، وهذه هي دقة الصنعة وجمال الخلق. وهذا هو مذهب الفلاسفة الذين يرون كل شيء جميلاً. . .
أما الجمال الذي يجذب القلب ويأسر الفؤاد، فأين تجده - يا سيدي - في الدودة وفي الذبابة وفي. . . وفي. . . مما تشمئز النفس ويعافه الذوق وهي في تمام التكوين وبراعة الخلقة
وإذا كان بيت العقاد هو على مذهب الفلاسفة - كما يقول الأستاذ الصعيدي - أعني على مذهب التشريح، فلعل الحبيبة كانت عالماً صغيراً فيه. . . وفيه. . . مما ذكره الأستاذ الرافعيُّ - يرحمه الله -
ولا زلت أصر على أن الشعر الفلسفي ليس شعراً إلا على مذهب ألفية ابن مالك
كامل محمود حبيب
وسام فرنسي للأستاذ توفيق الحكيم
منحت الحكومة الفرنسية الأستاذ توفيق الحكيم وسام (أوفيسيه داكاديمي). وقد أوفد المسيو دي فيتاس وزير فرنسا المفوض بمصر مسيو ليبريت لتقديم براءة هذا الوسام إلى الأستاذ الحكيم مع كتاب رقيق فيه النجاح الكبير الذي لقيته ترجمة (شهرزاذ) و (عودة الروح) لدى الجمهور الفرنسي، ونوه بتقديره الشخصي للكتاب الذي يعده من خيرة كتاب مصر البارزين، وشفع ذلك بأصدق تهنئاته
ذلك ما يلقاه أدباؤنا في غير مصر. أما في مصر فقد أرادت وزارة المعارف أن تشتري مقداراً من بعض كتب الأستاذ الحكيم جرياً على عادتها في تشجيع الأدب من هذه الطريق، فطلبت منه تسعين نسخة!! بثمن حددته لا يكاد يبلغ نفقة الطبع، فلم يسعه إلا أن يرفض شاكراً لها حسن نيتها على كل حال!
بين أبي العلاء والخيام
كتب صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام مقالاً تحليلياً فيما بين أبي العلاء وعمر الخيام من(256/77)
النظر المشترك في بعض وجوه الفكر نشرته الهلال في عددها الخاص بالمعري الذي سيصدر في أول يونيه، ولكن وقع فيه من التقديم والتأخير والتحريف ما أخل بسياقه وشوه من معانيه، فرأى الأستاذ أن يعيد نشره في عدد الرسالة القادم
مكافحة الأمية
قدم صاحب المعالي وزير المعارف إلى صاحب المقام الرفيع وزير المالية مذكرة عن مكافحة الأمية، عرض فيها للمشروعات المختلفة التي وضعها في هذا الشأن وزراء المعارف السابقون منذ عام 1917 إذ كان صاحب الدولة المغفور له عدلي يكن باشا وزيراً للمعارف إلى عام 1937
وقد ألمعت المذكرة إلى المشروع الذي وضع في العام الماضي يتطلب تنفيذه خمسة وعشرين عاماً، بينما كان مشروع عدلي باشا يتطلب عشر سنوات فقط
وبعد أن بسط معالي الوزير الأسباب الداعية إلى القضاء على الأمية، أخذ يشرح مشروعية الذي وضعه للقضاء عليها في مدى خمس سنوات، وقد قرر فيه أن يبدأ تعميم التعليم الإلزامي في المحافظات وعواصم المديريات والمراكز، فالقرى الكبرى والصغرى فالكفور والعزب
ثم طلب إلى وزارة المالية، فتح اعتماد قدره 150. 006 ج في الميزانية الجديدة. وهي النفقات اللازمة لإنشاء 400 مكتب.
وعلى أثر اعتماد هذا المال، تأخذ وزارة المعارف في فتح هذه المكاتب، للعمل فيها ابتداء من العام الدراسي المقبل.(256/78)
العدد 257 - بتاريخ: 06 - 06 - 1938(/)
سحر الصحراء
للأستاذ عباس محمود العقاد
السحر هو أن يختار الإنسان الشيء وهو مرغم على اختياره، فهو مزيج من حكم الإرادة ومن حكم القضاء
ليس بسحر أن نختار الشيء ونحن قادرون على تركه
وليس بسحر أن نرغم عليه ولا رغبة لنا فيه
إنما السحر أن ترغب في الشيء حتى نحاول أن نكف عن الرغبة فيه فنعلم يومئذ أننا غير أحرار، وأننا مسحورون أو مأخوذون
وإنما السحر أن نحسب أننا مكرهون على ذلك الشيء وأننا نضجر منه ونتململ ونفرح بالخلاص، حتى إذا أوشكنا أن نخلص منه علمنا أننا نكره الخلاص كما نكره البقاء
وحيثما وجد السحر وجدت الحيرة في أمره. فإذا فتن الرجل بالمرأة وحار الناس سائلين: والله ما ندري ما يفتنه منها فذلك هو السحر
وإذا أقدم الرجل على الخطأ وهو يعلم أنه خطأ ويعلم أنه مدفوع إليه غير مختار في الرجوع عنه، حائر فيما يدفعه إليه كما يحار من حوله في سر اندفاعه، فذلك هو السحر
وقوة السحر أنه هو قوة الإنسان وقوة القضاء مجتمعتين، متحدتين، سائرتين في طريق واحد. فإذا تنازعتا فذلك هو ابتداء الخلاص منه أو ابتداء بطلانه وانحساره، ولو كان لا ينحسر إلا بهلاك المسحور
كذلك سحر الصحراء
تسأل لماذا يسكنها أبناؤها؟ وتسأل لماذا يألفونها وهي جرداء خاوية تلهبهم قيظاً في الصيف وتجمدهم قرة في الشتاء، وتظمئهم وتجيعهم إذا امتنع الغيث وهو كثير الامتناع مجهول المواعيد مكذوب الوعود؟
والصحراء - بعد - ساحرة لأنك تسأل هذا السؤال، فلو أنك استغنيت عن سؤاله وعلمت سبب هيام البدوي بقفاره وجباله لما كان ثمة سحر ولا ساحر، ولا باطن للأمر غير ما فيه من ظاهر، بل هو شيء يجري في مجراه، ولا يلتبس عليك أصله ومغزاه
لماذا يشرب الماء ويأكل التمر ويستجيد الهواء حيث يجود، وينعم بالصيف والشتاء حيث(257/1)
تتهيأ فيهما النعمة، ويفعل ما ينبغي أن يفعل، ويسأل وهو لا ينبغي أن يسأل
لماذا؟ أتسأل لماذا؟ إن هذا لهو العجب الذي يحوجنا إلى استفسار، وليس هو هيام البدوي بالصحراء حين تكون على ما نهواه نحن ويهواه كل إنسان
عرفت الصحراء منذ الطفولة؛ واحسبني ورثت عرفانها في دماء الآباء والجدود؛ وقاربت حدودها وشارفت أعاجيبها وهي مما يظهر على حافتها في بعض الأحايين
فعند ضاحية أسوان خيام يسكنها بعض البجاة، وكان على الجانب الشرقي منها بناء مسوَّر في وسطه فضاء فسيح، وفي وسط الفضاء خيمة يأوي إليها صاحبها ولا يأوي إلى ما بني من حجارة وحجرات، ونحن نحسب أن الإنسان لا يأوي إلى الخيمة إلا لقلة البناء. فها هو ذا رجل يؤثر الخيمة والبناء في وسعه وعلى مقربة منه: هنا بدأت في العجب في أمر الصحراء ونقائض أبناء الصحراء. ثم قرأت أن للصحراء سحراً فحسبت أنني وقعت على السبب وأبطلت العجب، ولم أدر يومئذ أن كلمة (السحر) إنما هي تلخيص الأعاجيب التي لا نفقه أسبابها، وليست هي بتفسيرها ولا بالدليل على إدراكها وتعليلها، ومضيت من ثم في سؤال الصحراء عن مفتاح سرها، وفي علاج الباب الذي أنكره ابن من أبناء الصحراء حيث قال:
ما إن سمعت ولا أراني سامعاً ... أبداً بصحراء عليها باب!
وكل صحراء عليها باب، وعلى بابها مفتاح، وهذا هو المفتاح الذي بحثت عنه فاهتديت بعض الهداية، ونفذت إلى بعض الإغلاق
كل صحراء عاش فيها الرعاة فإنما كان اجدابها على التدريج بعد أزمان طوال تبدلت فيها طبيعة الأرض والجو، فندرة الأمطار بعد كثرة، ويبست المروج بعد نضرة، وقلت الأرزاق بعد وفرة، ثم أجدبت بعد ذلك إلا من قليل زرع هنا وقليل ماء هناك، وأهلها مع هذا قادرون على تعويض ما فقدوه بالإغارة على جيرانهم من سكان الحواضر وأصحاب الأنهار والمزارع، حيث تأصلت عادة المعيشة، وتمكنت طبيعة الترحل، واستقامت البنية على هذه العادات والطبائع فجاءت ضرورة الانتقال بعد استقامة الطبيعة على هذه الأحوال، وفعل سحر الوراثة فعله غير مفطون إليه ولا مقدور على منعه، فكان منه ذلك القيد الذي يربط صاحبه في مكانه برضاه وهواه، ويلوح للناظرين كأنما يربطه هنالك على(257/2)
غير رضاه ولا هواه
وتنازع أبناء الصحراء حين قلت خيراتها فغلب الأقوياء منهم ضعفاءهم على جانب الخصب والري والرخاء، وتراجع الآخرون إلى جانب القفر كارهين حتى ألفوه طائعين، فذلك مع الوراثة هو السحر الذي يمتزج فيه الإكراه بالاختيار
على أن الوراثة - أو الألفة - عقدة واحدة من عقد السحر الكثيرة في كل صحراء، ولا سيما الصحراء التي هي أوفى إلى الجدب والخلاء، فمن عقدها ما يشبه التنويم المغناطيسي، ومن عقدها ما يشبه الخمر، ومن عقدها ما يشبه الشعوذة ولعب الحواة؛ وهذه عقد قلما يجمعها سحر واحد في نسق، فإذا اجتمعت فأخلق بفعلها أن يطغي على صواب العقول
ينام الإنسان النوم المعروف بالمغناطيسي إذا أتأر نظره إلى الشيء الواحد لا يتحول الشيء عن مكانه ولا هو يتحول عنه بنظره. وتنقضي هنيهات على ذلك فيخدر الحس وتشتمل عليه حالة من حالات الغيبوبة، وتنقاد الواعية لذلك الذي نومها هذا التنويم انقياد المعبود للعابد أو المفتون للفاتن، ملكها وملأها فلا مشيئة لها معه ولا فراغ لها من وحيه وسلطانه
فماذا تصنع الصحراء بالذي يدمن النظر إليها إلا أن تنومه هذا التنويم وتشمله بمثل تلك الفتنة وتقوده بمثل ذلك القياد!
أنه لينظر إلى مائة شيء فيها فإذا هو ينظر إلى شيء واحد لتشابه المناظر وتقارب الألوان والهيئات؛ وأنه لينتقل ميلاً بعد ميل وساعة بعد ساعة وكأنه قائم في موضعه لا يتزحزح منه قيد خطوة، لأن العبرة بما يقع في الواعية لا بما تقع عليه الأقدام، وأن النائم لينام بعد هنيهات قليلة فكيف يكون الحال بمن تنقضي عليه في تلك النظرة أعوام، ومن تنقضي على آبائه وأجداده في تعاقب تلك الفتنة أجيال؟؟
تلك هي العقدة المغناطيسية في سحر الصحراء
أما عقدتها التي تشبه الخمر فما هي الخمر إن لم تكن نشوة الطلاقة وعزة الإفلات من القيود، وتوهم القدرة على كل مطلب في غير حذر من رادع ولا مبالاة بملام؟
تلك الطلاقة هي سكرة الآفاق الواسعة أو سكرة الصحراء التي لا تقوم فيها الحواجز، ولا تصطدم فيها الحدود، ولا يشعر فيها المرء بين الأرض المديدة والسماء الرفيعة بطغيان(257/3)
مخلوق أو خضوع متهور
ثم شعوذة الحواة وحسبك منها السراب!!
مضينا في السيارة من الضحى إلى الغروب ثماني ساعات بين مرسى مطروح وسيوة فلم يغب قط عن أبصارنا منظر هذا السراب بعلو ويهبط، ويبدو ويختفي، ويتراءى حتى لا شك في صدقه، ويتوارى حتى لا شك في كذبه وزوره
السراب السراب!! ما أشبه الحقيقة فيه بالكذاب، وما أولاه منا بالعجب العجاب!
لقد عدنا وعلى الأفق غاشية من سحاب رقيق فلم نر سراباً في طول الطريق
فقلنا لبعض أصحابنا في السفر: أرأيت كيف يكون النور سبيل الضلال في بعض الأحايين؟ ترجم هذا لأعداء الحديث من الشعر وقل لهم: إن الذي يتحدث عن (ضلال النور) لا يتحدث بالأحاجي والألغاز، ولا يقول إلا ما تبصره العين فكيف بالضمير وكيف بالخيال؟ وقل لهم إنهم لا يفهمون الصحراء وهم يعيشون منها بين ذكريات النوق والوهاد، وأساطير الأفراس والجياد. وقل لهم بالإيجاز أنهم لا يفهمون!
سراب الصحراء، هذه المشعوذة البارعة
وخمر الصحراء، هذه المشعشعة الصارعة
وغيبوبة الصحراء، هذه المنومة الفارعة
وعراقة الصحراء هذه القديمة في الآناء، القديمة في الآماد والأجواء، القديمة في العروق والدماء
ذلك هو سحر الصحراء!
عباس محمود العقاد(257/4)
بين الشرق والغرب
للأستاذ فليكس فارس
(إذا لم تكن لنا قدرة على خلق حضارة شرقية فلنفعل على
الأقل ما فعلت تركيا وننخرط بكل بساطة في سلك الأمم
الأوربية)
(توفيق الحكيم)
هذه كلمة جمعت خلاصة المقال الذي نشره في الأهرام تحت عنوان (هل يوجد اليوم شرق؟) كاتب مفكر له ثقافته الواسعة وعلمه العميق. وقد أعجبت بالمقال وما يعرض من الاعتبارات على المفكرين وشكرت لكاتبه صراحته ودعوته إلى الصراحة في موقف يتحتم فيه على الشرق العربي أن يختط له سبيلاً سوياً في ثقافته وحضارته
إن الأستاذ توفيق الحكيم لا يجهل أننا إذا عجزنا عن خلق الحضارة الشرقية وعن أحيائها بتعبير أصح فإن انخراطنا في سلك الأمم الأوربية لا يوصلنا إلى الهدف الذي تتجه إليه الأمة التركية ولما تصل إليه. فإن بين الفطرة التركية والفطرة العربية من الفروق ما لا يصح معه أن يتخذ العرب الترك قدوة. لذلك، لا احسبني مخطئاً إذا ذهبت إلى أن الأستاذ الحكيم لم يخير العرب بين حضارتين، إلا ليثبت لهم أن في أعماق قلوبهم شرقاً لا حياة لهم إلا بالاتجاه إليه واستجلائه وراء ظلمات الأحقاب
كنت أخذت القلم لأجول جولة بين نظريات الروسي والمصري اللذين دفعهما الأستاذ الحكيم إلى حوار خطير بين الشرق والغرب، ولكنني تذكرت أنني كنت ناظرت صديقي الدكتور إسماعيل أدهم منذ أشهر في حفلة حافلة في جمعية الشبان المسيحيين في الإسكندرية وكانت الوجهة الإيجابية من الموضوع (من الخير لمصر أن تأخذ بالحضارة الغربية) فرأيت أن آخذ من ردي على المناظر ما له صلة وثيقة بالمسألة التي أثارها مؤخراً الأستاذ الحكيم
بدأت في الرد بالتفريق بين الثقافة والعلم، فقلت إن العلم مشاع لكل الأمم ولكل الأفراد فهم يتفقون فيه على ما بينهم من اختلاف بعيد في نظريات الحياة في حين أن الثقافة مستقرة في الشعور فهي (دماغ في قلب) ولا قانون لها لأنها راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد(257/5)
كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واستعداد خاص لفهم الحياة والتمتع بها. فإذا كان العقل رائداً لبلوغ الحاجة، فليست الفطرة إلا القوة الممتعة للإنسان بتلك الحاجة بعد الظفر بها؛ وكما أن لكل فرد ثقافته التي تتجلى فطرته فيها، هكذا لكل أمة ثقافتها المستقرة في فطرتها. فلا ريب إذاً في أن سعادة الفرد والمجموع وشقاء كل منهما يتوقفان على ملاءمة الحياة أو عدم ملاءمتها لما فطرا عليه. وسواء أكان المرء مخيراً أم مسيراً في إرادته وأعماله فإنه على الحالين غير مخير في ذوقه في الحياة وفي لذته وألمه منها. فكل فرد خالفت طريقة حياته ما استقر من الحوافز في فطرته يفقد الشعور التام بتلك الحياة ويتعرض للسقوط في المعترك. وهكذا الأمم إذا خدعت نفسها وسارت في حياتها على ما يؤلم فطرتها فأنها تفقد قوت الارتقاء بذاتها فتميت شخصيتها دون أن تتدفق إلى الانبعاث في شخصية تستعيرها من سواها
وبعد أن وضعت هذا الحد بين الثقافة والعلم توجهت إلى تحليل عناصر الحضارة في الشعوب فقلت إن الخلاف الذي ينشأ بين باحثي مسألة الشرق والغرب إنما ينشأ من عدم التفريق بين المدنية الآلية الأدبية. فعندما يقوم أنصار الاتجاه إلى مدنية الغرب بدعوة عامة إلى (التفرنج) يثور عليهم أنصار الحضارة العربية مسفهين رأيهم داعين إلى مقاومة هذه الحضارة على وجه التعميم أيضاً. وهكذا يقع الفريقان في خطأ، لأن كل منهما يؤاخذ الآخر بتطرف يرتكبه هو. ولو أنهما ميزا بين الحضارة الآلية المبنية على العلم وبين الحضارة الأدبية المبنية على الفطرة التي كونتها السلالة والإقليم وتسلسل حوادث التاريخ لتوصلا إلى حل الخلاف!
بعد أن مهدت للرد على مناظري بهذه المقدمة وفصلت فيها فصلاً تاماً بين الحضارة الآلية والحضارة الذهنية، تناولت نظرياته متتالية واتجهت إلى تفنيدها. وهذه خلاصة من الرد أعرضها لبحث من يقدرون خطورة هذه المسألة بعد هذه المقدمة التي حددت فيها الثقافة ووضعت بينهما وبين العلم الوضعي ما أراه من فروق لا أخال مناظري معترضاً عليها أتناول بحثه في موضوع المناظرة سائراً على السبيل الذي أدى به إلى الاعتقاد بأفضلية الثقافة الغربية على الثقافة الشرقية العربية
وأول عبارة أراه يذهب منها إلى الاختلاف معي هي قوله:(257/6)
(إن للشرق روحه الذي يستوحيه أبناؤه نزولاً على فطرتهم، وللغرب منطقه الذي يستنير به أفراده نزولاً على وحي مشاعرهم)
فمناظري إذاً يبدأ بحصر المنطق في الغرب منكراً على مصر وسائر الأقطار العربية أساس العلم، والعلم كما سبق أن أوضحت في تحديده تجاه الثقافة، إنما هو مشاع بين كل؛ الأمم وما اخترع الغرب المنطق ولا هو أوجد التفكير العلمي لنعترف له بثقافة قوامها التفكير ينفرد بها بين ما على الأرض من شعوب
ثم يجيء مناظري بعد ذلك إلى تحديد الثقافة المصرية فيقول: إن الحياة العلمية التي يحياها المصري الآن تجري على غرار ما كان يحياه أسلافه الفراعنة
وأنا لا أرى في حياة المصريين اليوم أثراً من الحضارة الفرعونية، لا في الحياة العلمية ولا في الحياة الأدبية، كما لا أرى شيئاً من حضارة الفينيقيين في حضارة أهل سوريا ولبنان، وما تبقى من هذه الحضارات المستغرقة في القدم إلا أهرام ومعابد وأعمدة وقصور وقبور
ولكنني لا أجد بداً من الاعتراف ببقاء رواسم للفطرة القديمة في سرائر أبناء هذا العصر على ضفتي البحر الأبيض يتجلى فيها كثير من الصفات النفسية والجسمية التي اتصف بها أجدادهم الأقدمون
غير أن الثقافة التي يدور البحث عليها في هذه المناظرة إنما هي العوامل التي تتوحد في أي مجتمع، وتتماثل في سريرة كل فرد من ذلك المجتمع؛ وهذه العوامل هي التي تقوم عليها الحضارات المختلفة بين الشعوب. ولا أرى داعياً للسير إلى أبعد من هذا التحديد بعد أن رأيت مناظري الكريم يأخذ بمثله ويقف في بحثه عند الثقافة الشرقية العربية دون تناول ثقافة الشرق الأقصى، فهو إنما يقصد الثقافة السامية العربية عندما يقول بوجوب تلقيح (الذهنية) المصرية بثقافة غربية تبعث فيها النشاط وتدفع بالأمة إلى الحياة
أما السبب الذي يراه المناظر موجباً لهذا الانحراف إلى ثقافة الغرب فقائم على اعتقاده بأن الثقافة العربية ذاتية تدفع بالإنسان إلى الذهاب مع الخيال، فردية تذهب بالفرد إلى الانعزال عن المجتمع، في أنه حين يرى ثقافة الغرب أو (ذهنيته) تستجلي حقائق الحياة بالتفكير الفلسفي والبحث العلمي(257/7)
وهنا نقطة الخلاف في بحثنا
إن مناظري يقول بكل جلاء إن المدنية الغربية مستمدة من الثقافة الآرية العلمية، في حين أن الشرق العربي يتوه ذاهباً وراء خياله
إذا صحت هذه المقدمة فللمناظر ملء الحق بدعوة مصر إلى الانسلاخ عن شرقيتها وعروبتها للأخذ بالعبقرية الآرية التي يراها مبعث العلم الصحيح ومنشأ التفكير النير المصيب، ولكن الأمر ليس كذلك، وإليكم البرهان أسنده أولاً إلى حقيقة نطق بها مناظري وأغفل الاسترشاد بها؛ فهو يقول إن عصرنا عصر العلم، ولقد بدأ ذلك العصر بثورة نفر من رجال القرن السادس عشر على العقلية القديمة التي تبحث عن علل الأشياء الأولى فسيروا سنن الطبيعة وأقاموا عليها المدنية الغربية مستمدة من الذهنية الآرية
إذاً إن أصحابنا الآريين كانوا يغطون في نومهم، ولم تزل تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم فبلغ عدد هؤلاء الآلهة الثمانية آلاف في الأساطير التي يراها المناظر غنية بالرموز والفن، وما هي في نظر الشرقي العربي إلا دلالة فقر مدقع في التفكير وجموح في خيال لم يدرك شيئاً من الوحدة التي تقوم حقائق الأشياء عليها
وفي هذه الأثناء كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة وهي ممثلة بأرسطو في الاستقراء، وبأفلاطون في القياسات العقلية. وما كانت هذه العلوم في ذلك العصر إلا في طور التدرج الأولى فاستولى عليها التفكير العربي لا ليدفعها إلى الارتقاء فحسب بل ليستنبط ويعدل ويوجد. ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم العلمي لم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا بما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم؛ لذلك لا تجد في شعر العرب شيئاً من إبهام بيندار وأوريبيد وهوميروس، وهذا الأخير بقي مجهولاً حتى ترجمه البستاني في أوائل هذا القرن
فقد برز العرب من تقدمهم في علوم الآلات وتوازن السوائل ونظريات الضوء والإبصار والهندسة وعلم الهيئة فوضعوا علم الكيمياء واكتشفوا أجهزة للتقطير وأوجدوا الإسطرلاب ووضعوا جداول الأوزان النوعية والأزياج الفلكية؛ وهم واضعوا علم الجبر والأرقام. وما(257/8)
كاد ينقضي القرن الثامن الميلادي حتى كان هرون الرشيد يسير شوطاً بعيداً في مضمار الرقي ليسلم إلى المأمون سنة 813 المدينة التي أصبحت عاصمة العلم الكبرى في ذلك الزمان.
ويذكر التاريخ أن هرون الرشيد كان أرسل إلى شارلمان ساعة تدل على الزمان بحركة من الشريط المربوط فأفزعت حركتها هذا الملك حتى أمر بكسرها.
أنعيد إلى الذكر ما أحيا من العلوم الفلسفية والعملية العباسيون في آسيا والفاطميون في مصر والأمويون في أسبانيا؟
أبعد هذا يصح لقائل أن يقول أن رسالة الشرق روح وشعور فقط وأن رسالة الغرب عقل ومنطق؟
إن مناظري قد ضيق عدسة منظاره وحدق على مجال من الزمان لا يزيد على قرن ونصف قرن متطلعاً إلى الرقي العلمي في طوره الأخير، فخيل له أن الغرب قد أوجدوا وأبدع وأكمل بعقليته الآرية، ثم التفت إلى الشرق العربي وهو خارج محطماً من عبودية نيف وأربعة قرون، فحسب أن السامية العربية هي ما لمحه من عدسة منظاره.
ولقد شاء المناظر الكريم أن يقدم برهاناً على أن الحياة تقوم في العالم كله على أساس غربي ومنطق غربي فقال: أن هناك تجربة نجحت إذ كانت الدولة العثمانية تمتد حتى الدانوب وتعيش على غرار شرقي فكانت منبعثاً للفساد في العالم، فلما استقطعت عنها المجر ورومانيا والبلغار واليوغسلاف فأخذوا بمدنية الغرب تقدموا. . .
ونحن نجيب على هذا موافقين المناظر على قوله فأن الدولة العثمانية التي (عاشت على غرار شرقي) إنما كانت آرية في روحها وما تسنى لها طوال حكمها الذي سحب أذياله قروناً أن تدغم فيها العنصر العربي السامي أو تندغم فيه فارتفعت عليه ولم تتمكن من الارتفاع به بالرغم من اعتناقها دينه المبين. . .
وليت الدولة العثمانية بعد أن بنت سلطانها على السطوة عرفت أن تحتفظ به بالعمل على ترقية الشعوب المستظلة بعلمها. ليتها لم تكتف بالمظاهر معرضة عن الصفات العليا التي أنار الخلفاء الأقدمون بها وجه الأرض وأقاموا عليها أروع حضارة عرفها التاريخ؛ إذن لما كانت الشعوب التي ذكرها المناظر لتتنفس الصعداء بزوال كابوس الدولة العثمانية عنها،(257/9)
وما كان اليونان والبلغار وسواهم مرهقين متقهقرين لاتخاذهم الثقافة العربية فأنهم ما عرفوها وما عملوا بها بل كان موقفهم شبيهاً بموقف بلاد العرب تجاه دولة بينها وبين العدد الأوفر من رعاياها مهاو وأغوار. تلك حقائق لم تخف على الداهية أتاتورك فأنه عرف ما هي فطرة الشعب التركي وما هي الحالة الاجتماعية التي تتفق وما كمن في حوافزه. ويعلم المفكرون ما رمى إليه هذا المصلح لدولته من إضعاف كل عنصر لا يجاري روحها حتى أنه ناصب العداء الحروف والألفاظ العربية التي كانت اللغة التركية في عراك مستمر معها
أما ما يقوله المناظر عن أن اليابان نهضت بالمدنية الغربية بعد أن أعرضت عن منطق الحياة الشرقية، ففيه حقيقة كبرى تقوم برهاناً على خطأ نظريته. فأن اليابان لم تزل متمسكة بثقافتها كل التمسك وفي ذلك سر ارتقائها، فهي لم تأخذ من الغرب إلا الآلة والآلة فقط، وما الآلة إلا نتاج العلم العملي الوضعي الذي رافق الإنسانية منذ اكتشفت أول مكتشف شرارة النار في كهفه واتخذ في الصوان في العصر الحجري أوائل الآلات للحرث والقطع، وقد مر العلم على أدمغة جميع الشعوب على ممر الأجيال فليس للهندسة والكيمياء وعلوم الأحياء وسواها أي طابع قومي. ولو كان يصح أن تسند هذه العلوم إلى قوم دون سواهم لكان لنا أن نطالب بأن يطبع على كل آلة وجهاز اسم علم من أعلام العرب، إذ لولاهم لما كانت الحلقة الكبرى التي وصلت بين سلسلتي الماضي والحاضر، ولكانت أوربا لم تزل أوروبا القبائل الغارقة في بحر الظلمات
البقية في العدد القادم
فليكس فارس(257/10)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 19 -
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما
تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار
علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت
إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال!
(أحمد أمين)
(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية، هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)
(هكسلي)
9 - خريج اليوم
عرضت عليك في المقال السابق صورة لعقلية خريج اليوم وما فيها من ضيق ونقص وجمود والتواء. وأحب اليوم أن أعرض عليك صورة أخرى لعاطفته بنواحيها الدينية والذوقية والخلقية لتتبين أنها مشوبة كذلك بألوان كثيرة من الشذوذ والانحراف
1 - العاطفة
وأحسب أنك تعلم جدارة العاطفة في حياة الإنسان، وأنها تلي (العقل) مباشرة في الخطورة والأهمية، وأن الحياة بدونها صحراء لا ماء فيها ولا شجر؛ ولذلك نراهم يحرصون في(257/11)
الغرب على صقلها وتهذيبها وتهيئتها لأن تكون خير سند للعقل السليم والخلق القويم والذوق الجميل، وخير معين يروي ظمأ الحياة ويسمو بها فوق الأدران والشهوات، ويجعل نصيبها من الإنسانية الرفيعة موفور القدر عظيم الدرجات!. فهيا إذاً نتحسس أثر (العاطفة) في خريجينا لنرى إلى أي حد قد نجحت مدارسنا في تكوين هذه الناحية الخطيرة من نواحي التربية والتعليم
(أ) الدين
والدين كما تعلم من أقوى مظاهر العاطفة، ومن أبعدها أثراً في خلق الجماعة والفرد، ومن أعظمها قدراً في تقدم الأمم وتأخرها. ولذلك قد عنيت الحكومات بنشره وتلقينه ودراسته واهتمت بجعله جزءاً أساسيا في برامج التعليم الديني والمدني كيما يخرج النشء متمسكاً بدينه عارفاً لربه عاملاً بفضائل الكتب الدينية وأوامرها. ولكنك حين تبحث عن هذه الناحية في مدارسنا وخريجينا ترى عجباً. فالدين في المدارس المدنية ضئيل القدر سطحي النظرة، لا شأن له في نجاح التلميذ أو رسوبه، والفروض الدينية من صوم وصلاة وإحسان مهملة إلى حد بعيد مع خطورة أثرها في حياة المتخرج الحاضرة والمستقبلة،؛ ولذلك لا تعجب إذا رأيت الكثيرين من أولئك المثقفين لا يعرفون صوماً ولا صلاة ولا زكاة ولا إحساناً! ولا يدركون من دينهم إلا ألفاظاً وقشوراً، ولا يحملون له من العاطفة إلا ما لا ينفع في كثير ولا قليل. ولا تعجب كذلك إذا وجدت بين المصلين من يصلي دون أن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ودون أن تصده عن الكذب والرياء والتملق والادعاء مما تزدحم به حياة الدواوين وغير الدواوين على السواء!. ثم لا تجزع بعد هذا إذا تلمست الصبر والثقة بالله والاتكال والاحتمال في خريجينا دون أن تجد منها إلا أشباحاً متضائلة وصوراً متزايلة. وإذا تساءلت عن الزواج فسمعت من يقول لك ما ضرورته وما جدواه والأزمة شديدة والنساء كثيرات!! نعم لا تجزع يا عزيزي ولا تعجب فتلك جميعاً صدى لهذه التربية المدنية التي تغفل الدين وتهتم بالحشرات. . .!
أما الدين في المعاهد الدينية فأحسن حالاً وأقوم سبيلاً. ولكنك إذا شئت أن تتلمس فيه نقصاً فستجد وا أسفاه شيئاً كثيراً؛ ذلك أن خريج هذه المعاهد ما يزال مشوباً بضيق الأفق في تفكيره وتعصبه ونظرته للحياة الحديثة إلى حد هو الجمود أو ما يشبه الجمود! وما بالك(257/12)
بصديق لي منهم دعوته إلى رؤية قطعة من الأدب الحديث على مسرح الأوبرا أو مشهد من مشاهد التاريخ على الستار الفضي فكان جوابه أن في القرآن ما يغنيه عن رؤية كل ما في دور التمثيل والسينما؟؟ وما بالك بأئمة المساجد في القرى يتلون على الناس خطباً منبرية لا يهبطون فيها إلى مستوى عقلهم إلا فيما شذ وندر؟؟ وما بالك بتلك الروح روح التعصب الديني - ينفثها رجال الدين في الصدور فتقيم بين أبناء الوطن الواحد حاجزاً من الكراهية وعدم الثقة والمقت والازدراء؟ وأخيراً ما بالك بذلك الصدر الضيق لا يتسع للنقد ولا للاجتهاد، وبتلك البدع الدينية الكثيرة التي ليست من الدين في شيء، وبهذه وتلك مما تعرفه أنت وتعلم أنه يغضب الله والرسول؟؟
تلك يا عزيزي نتيجة التعليم الديني في معاهدنا قد عرضتها عليك في شيء من الجرأة والحياء فهلا ترى أنها نتيجة أليمة تحتاج إلى التعديل السريع ما دام الأمر لا يقتصر هنا على علاقة المرء بربه، بل يمتد ويمتد إلى صلة الأفراد ببعضهم وإلى رقي الدولة وانحطاطها؟؟
(ب) الأخلاق المدنية
والأخلاق مظهر قوي للعاطفة؛ فإذا هي فقدت منبعها الديني فماذا يتبقى لها غير الضمير الشخصي والاجتماعي؟؟ لنبحث إذاً في أخلاق الخريجين الموظفين منهم وغير الموظفين فسنجد كذلك عجباً. كم منهم من (يشعر بواجبه) شعوراً حقيقياً وينطلق إلى أداء هذا الواجب بإخلاص تام وهمة عالية؟؟ وكم منهم قد وضع لنفسه (مثلا أعلى) فهو يسعى لتحقيقه، ويصدر عنه في جميع أفعاله، ويتحمل الآلام في سبيل الذود عنه، ويعمل على نشره بين أهله وذويه متخذاً لنفسه في حياته رسالة شريفة يحيا من أجلها ويموت؟! الحق أناّ مصابون في هذه الناحية بأخبث الأمراض وأشنعها وأكثرها دماراً ووبالاً. وحسبك أن تنظر في قوائم الإهمال والتقصير، والتزوير والتدليس، والتلاعب والاختلاس، والأقارب والأصهار، حتى يقف شعر رأسك فزعاً ورعباً من تلك الفوضى الخلقية التي تسيطر على رجالنا وتسير بسفينتهم إلى بحر الظلمات!! ألا يختلس المختلسون آلاف الجنيهات من مال الدولة الحرام؟ ألا ينحط الخلاف السياسي إلى جرائم الإفك والزور والكذب والاحتيال؟ ألا تباع الضمائر والأقلام في سوق المال بيع الأغنام؟؟ ألا ترتفع الشكوى لأولي الشأن دون أن يسمع سامع(257/13)
ويستجيب مستجيب؟ ألا يتخذ الأجانب من بعض رجالنا سواعد لهم في الحكومة والشعب على السواء؟؟ ألا يصبح الرجل الحق أحياناً كاليتيم في مأدبة اللئام؟؟ ألا يميل ميزان العدل مراراً فإذا العدل ظلم والظلم عدل؟ أليس في المعلمين والأطباء والمحامين وغيرهم من يؤدي عمله أداء ناقصاً مشوهاً لا يعدل مطلقاً ما يتناول عليه من أجر؟ أليس في الموظفين من يكتم صوته ويطأطأ رأسه ويلوذ بالصمت الحقير إذا شعر أنه مهدد بمجرد النقل إلى بلد قريب فضلاً عن الخصم الحرمان؟؟ ثم ألا تذهب صيحات المصلين عندنا كصرخة في واد؟ ألا يعف شيوخ رجالنا عن كل جديد يأتي من ناحية الشبان؟ ألا تنمحي شخصيتنا المصرية في رجال الثقافة المدنية محواً أليماً؟ ألا نقلد الغرب في كل تافه حقير؟ ألا نترك صناعتنا المصرية تنتحر من أجل المظهر اللائق والبهرج المرذول؟؟ ألا يصمت الثائر منا ويمحو شخصيته ويندمج في التيار العام وكله يأس وعجز وأسى وقنوط؟؟
ذلك طرف من خلق كثير من الخريجين فهل تراه يرضيك؟ وإذا كان كل خريج زعيماً للشعب في دائرته فهل ترى للشعب زعماء صالحين؟؟ وحسبك اليوم ذلك وإلى اللقاء حيث أحدثك عن ناحية الذوق أيضاً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(257/14)
محمد إقبال
شاعر الإسلام وفيلسوفه
للدكتور عبد الوهاب عزام
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومن كلامه في (نقش فرنك) وهو القسم الرابع من (ييام مشرق):
جمعية الأقوام
يريد المرزوءون أن يسنوا سنة جديدة ليمحوا آية الحرب من هذا المحفل العتيق
فما عرف قبل اليوم أن جماعة من سراق الأكفان ألفوا جماعة لتقسيم القبور
نيتشه
خفق قلبه لضعف عناصر الإنسان، وخلق فكره الحكيم صورة أحكم وأمتن، فأثار بين الفرنج هياجاً بعد هياج: مجنون ولج مصانع الزجاج
إذا بغيت نغمة ففر منه، فليس في نايه إلا قصف الرعد. قد دفع مبضعه في قلب الغرب واحمرت يده من دم الصليب. هذا الذي بنى معبداً للصنم على قواعد الحرم، قد آمن قلبه وكفر دماغه
جلال الدين الرومي وهيجل
كنت ليلة أحاول أن أحل عقد الحكيم الألماني. ذلك الذي خلع فكره على الأبدي كسوة الآني، والذي أخجل العالم إذ ضاق عن سعة خياله. فلما نزلت في بحره صارت سفينة العقل طوفاناً، ثم سحرني النوم فأغمضت عيني عن الفاني والباقي، وازداد شوقي وقدة فتجلى لي وجه الشبح الإلهي: الشمس التي أضاءت آفاق الشام والروم، والذي وضع شعلته مصباح هدى في هذه الدنيا المظلمة، الذي تنمو المعاني من كلماته كما تنمو شقائق النعمان
قال لي كيف تنام. استيقظ، إنك تجري سفينة في سراب. إنك تجتاز طريق الفسق بالعقل. إنك تبحث عن الشمس بمصباح
وأما أسرار خودي ورموز بن خودي: أي أسرار الذاتية ورموز اللاذاتية (أو أسرار الأنانية(257/15)
ورموز الإيثار)، فهما المنظومتان اللتان شرح فيهما آراءه شرحاً مرتباً وجعل للبحث خطة واضحة
بين في الكتاب الأول قوة الذاتية وضرورتها في الحياة، ودعا إليها: هذه الحياة جهاد مستمر، والرجل الحي حقاً هو الذي يوقظ كل قواه، ويستخرج كل ما في فطرته، ويتأهب بمواهبه وأدواته للجهاد. السكون موت، والتقليد فناء، والحركة حياة، والاستقلال وجود. . . الخ
وبين في رموز بن خودي كيف تلتئم هذه الفردية القوية الكاملة في الجماعة، وكيف تقوى الجماعة وتضعف، وكيف تصلح وتفسد، وكيف تهتدي وتضل:
يشرح في أسرار الذاتية بعد المقدمة موضوعات منها:
أصل نظام العالم من الذاتية، وتسلسل حياة أعيان الوجود موقوف على استحكام الذاتية
حياة الذاتية من تخليق المقاصد وتوليدها
الذاتية تستحكم من العشق والمحبة
(تضعف بالسؤال
(إذا استحكمت تسخر قوى المعالم الظاهرة والخفية
ففي الذاتية من اختراع الأقوام المغلوبة ليضعفوا من طريق خفي أخلاق الأقوام الغالبة
أفلاطون الذي أثر في التصوف والآداب الإسلامية ذهب مذهب الخروفية، والاحتراز من أفكاره واجب
ثم بين أن تربية الذاتية لها ثلاث مراحل: الأولى الطاعة، والثانية ضبط النفس، والثالثة النيابة
الإلهية
في المقطوعات الثانية يتكلم في مثل هذه الموضوعات:
الأمة تظهر من اختلاط الأفراد، وكمال تربيتها من النبوة.
أركان الأمة الإسلامية - الركن الأول التوحيد - اليأس والحزن والخوف أمهات الشرور، والتوحيد يزيل هذه الأمراض الخبيثة. الركن الثاني الرسالة - المقصود من الرسالة المحمدية تأسيس الحرية والمساواة والأخوة بين بني آدم - الأمة المحمدية مؤسسة علم(257/16)
التوحيد والرسالة فليس لها حدود مكانية. الأمة المحمدية ليس لها نهاية زمانية أيضاً - حياة الأمة تحتاج إلى مركز محسوس، وهو للمسلمين البيت الحرام
خلاصة معنى الكتاب وتفسير سورة الإخلاص
وهذه أمثلة من أسرار خودي:
نهر الكنج وهملايا
قال نهر الكنج يوماً لجبل همالايا وهو يجري في سطحه! أيها المتوج بالبرد من فجر الخليقة والمنتطق بالأنهار الجارية، جعلك الله نجى السماء، ولكن حرمك التبختر في العراء، ما غناء الرقاد والرسوخ والرفعة، وقد سلبت الحياة والحركة؟ الحياة سعي دائم كالموج: وجوده حركته الدائمة. فلما سمع الجبل تعبير النهر أرسل أنفاسه بحراً من نار وقال: يا من اتخذت صفحة مرآتي وأكننت مئات من مثاله في صدري. هذا التبختر زينة الفناء! من ذهب عن نفسه فقد حرم البقاء. قد غفلت عن مقامك وفخرت بزوالك يا وليد الفلك الرفيع؛ إن خيراً منك الساحل الوضيع. قدمت نفسك قرباناً للمحيط، ونثرت روحك لقاطع الطريق. كن في بستانك ورداً ولا تذهب وراء القاطف لتنشر عبيرك. إن الحياة أن تنمو في مكانك، وأن تنشر العبير في بستانك
خلت القرون وأنا في طينتي ثابت القدم، وتحسبني إلى الغاية لم أتقدم؛ كلا قد عظمت حتى بلغت السماء، واستراحت على سفحي الجوزاء. ضل وجودك في البحر الخضم. وصارت ذروتي مسجد الأنجم. عيني بأسرار الفلك بصيرة، وأذني بطيرانه خبيرة. احترقت بنار السعي الدائم فجمعت في صدري الجواهر (في صدري حجارة، وفي الحجارة النار، وليس للماء إلى هذه النار سبيل) إن كنت قطرة فلا ترق نفسك بيدك، بل جاهد اللجة وحارب اليم لحياتك. كن جوهرا لألاء، يزيد جيد الحسناء ضياء، أو اسم بنفسك وأسرع المطار، وكن سحابا يرمي البروق ويمطر البحار، ليستجدي البحر إحسانك ويشكو ضيقه عن إنعامك ويرى نفسه أقل من موجة لديك، ويرتمي على قدميك
قصة الطائر الذي أنهكه العطش
بلغ العطش من طائر جهده فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان(257/17)
شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء، وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس فتوهم الحجر الصلب ماء سائلاً، وغره من هذا الجوهر بريقه فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته. قالت الماسة: أيها الطائر المسحور! لشد ما ضربت بمنقار الغرور! لست قطرة من الماء، ولا مشربة للظماء ليست حياتي من أصل غيري. إن محاولة التقاطي جنون وغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الظهور. إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه. خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنيناً من النغمات. ثم بصر بقطرة من الطل على فنن من الورد تتلألأ كدمعة في عين البلبل ضياؤها أفناناً في وهج الشمس وهي من خوف الشمس في رعده كوكب ولدته السماء فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء، وخدعته ألوان الأكمام والأزهار فلم يأخذ من الحياة نصيباً كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل.
ويسرع الطائر إلى فنن الورد فيلتقط قطرة الندي
أيها المبتغي نجاة من الأعداء!! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء. ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقي بحياة غير حياته؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر
فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطرة
كن ناضج الفطرة راسخاً كالجبال وتحمل بحاراً من السحاب الهطال. وجد نفسك تقوي نفسك واستحل فضة بجمود زئبقك. أظهر نغمة الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسرارها
في الكلام على الوقت
اسمع نكتة تضيء كالدر، لتعرف فرقا ما بين العبد والحر: العبد ضال في الليل والنهار، والزمان في قلب الحر ضال. العبد ينسج من الأيام كفنه ويخيط الليل والنهار على نفسه، والحر يخلع نفسه من الطين ثم ينسج على الزمان محرابه المتين. العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه لذة السبح في الهواء وصدر الحر الهمام، قفص لطائر الأيام. فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل. مقامه من الجمود واحد، وصوته بالليل والنهار راكد. والحر كل حين خلاق، يسكب نعمه مجددة في الآفاق. فطرته(257/18)
لا تحتمل التكرار، وليست طريقة خلقة البر كار. العبد سلاسل من أيامه، والقضاء والقدر ورد لسانه، وهمة الحر مثيرة على القضاء قصور يده الحادثات كما تشاء. الماضي والآتي ماثلان لديه، والآجل عاجل بين يديه. . .
نضر الله عهداً كان سيف الزمان، حليف أيدينا على الحدثان، فبذرنا الدين في أرض القلوب، ورفعنا الحجاب عن وجه الحق المحجوب. . .
وحلت عقدة الدنيا أناملنا، ونظر وجه الأرض سجودنا وشربنا الصهباء من دن الحق، ثم سرنا بنشوته بين الخلق، يا من أترعت كأسه الخمر المعتقة، وأذابت كأسه الصهباء المحرمة، وملأه الكبر والغرور، فعيرنا بالفقر والمتربة. لقد كانت كأسنا كذلك زينة المحافل، يوم كنا وصدرنا بالقلب آهل، وثار من غبار أقدامنا عصر حديد، ينجلي بكل أمل بعيد ورويت مزرعة الحق بدمائنا، وسعد عباد الحق ببلائنا، ودوى العالم بتكبيرنا، وعمرت كعبات من ترابنا. وأنزل الحق كلمة (أقرأ) فينا، ثم قسم رزقه بأيدينا. فإن يكن ذهب منا الخاتم والتاج، فلا تحقر ذلك الفقير المحتاج. إن نكن يزعمك مفسدين، وبالأفكار العتيقة مغرمين، فنحن لا نزال الأحرار أنصار التوحيد، قوامين على العالمين والله شهيد
فرغنا من غم اليوم والغد، وحالفنا الله الأحد، فنحن في قلب الحق سر مكنون، ونحن ورثة محمد وموسى وهارون. لا يزال نورنا في الشمس والقمر مصوناً، ولا يزال سحابنا بالبرق مشحوناً
إن ذات المسلم مرآة الحق. وإن وجود المسلم من آيات الحق
هذه أمثلة قليلة من شعر إقبال، ولإقبال من الآراء والفكر والخيالات ما يستعصي على الحصر. ولكن يستطيع دارس شعره أن يقول إن أدبه يتناول العالم كله، وأن فلسفته تقوم على قواعد أبينها القوة - قوة الفرد وقوة الجماعة وقوة الأخلاق - والاستقلال الذي لا يعرف التقاليد، والحرية التي لا تضيقها قيود، والجمال في الأنفس والآفاق
ومقصده الأعلى تهذيب الإنسان وخاصة المسلم، يشرح له من حقائق الحياة، ويبين له من مثل الفضيلة، ويكشف له ن أسرار الإسلام ومجد المسلمين الأولين حتى يملأه قوة وحماساً وأملاً وإقداماً، ثم يوجه في معترك الحياة إلى الغاية التي عندها شرف الدنيا والآخرة. وليس يتسع المقام لتفصيل الكلام في فلسفة هذا الرجل العظيم وأدبه. وعسى أن أوفق إلى(257/19)
الإفاضة في ذلك من بعد: (إن الذي يعرف إقبالاً يعرف مصيبة العالم الإسلامي والأدب البشري بموته)
عبد الوهاب عزام(257/20)
في اللغة
مجبر ومجبور
لأستاذ جليل
اطلعت عند أحد معارفي من الطراء اللبنانيين في هذه (البحرة) على كراسة ظهرت منذ أسابيع لفاضل كان قد جاء إلى مصر قبل الحرب الكبرى - أعادها الله جذعة - وكتب في مجلات القاهرة وجرائدها برهة، وهو الأستاذ (إدوارد مرقص) من أعضاء المجمع العلمي العربي ومن المشهورين في بر الشام. والكراسة هي في اللغة ونقد كلمات، وقد تصفحت صفحات منها، فوجدته يقول في إحداها: (يقولون إنه مجبور على كذا، والصحيح مجبر عليه أي مكره عليه، والفعل أجبر)
وإن قول القائلين: (إنه مجبور على كذا (لصحيح، والتغليط غالط، فجبر مثل أجبر، وكان أبن قتيبة قال في كتابه (أدب الكتاب): (وتجيء أفعلت مخالفة لفعلت نحو أجبرت فلاناً على الأمر وجبرت العظم) فقال البطليوسي في (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب): (قد حكى أبو إسحاق الزجاج وغيره جبرت الرجل على الأمر وأجبرته إذا أكرهته عليه، ومنه قيل للفرقة التي تقول بالإجبار: جبرية، وجبرية لا تكون إلا من جبر)
وفي (القاموس): (وجبره على الأمر كأجبره)
وفي (اللسان)، قال الأزهري: (كان الشافعي يقول: (جبر السلطان) وهو حجازي فصيح. فهما لغتان جيدتان جبرته وأجبرته)
وفي (الفائق): (فقيل: يا رسول الله، أليس الطريق يجمع التاجر وابن السبيل والمستبصر والمجبور، المجبور المجبر على الخروج يقال: جبره على الأمر وأجبره) فسوى الزمخشري بين اللفظتين ولم يقل أجبر هي أعلى وأكثر
وفي (الملل والنحل) للشهرستاني، - وهذا من مقالة الجهمية - وفيه مجبور: (إن الإنسان ليس يقدر على كل شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنما يخلق الله الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات كما يقال: أثمرت في الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، وأزهرت(257/21)
الأرض وأنبتت إلى غير ذلك)
فالمرء مجبر، مجبور كل المجبور كما تقول (الجهمية) الجبرية الخالصة. و (الأشعرية والماتريدية) جبرية متوسطة
جبران: جبر في الأرض، وجبر في السماء. فقل لي - يا أخا العرب -: هل يتحرر الإنسان بعد آلاف السنين أو بعد آلا ف من القرون فيعود يقدر أو يريد كما تقول (القدرية)
(الإسكندرية)
(* * *)(257/22)
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 5 -
(تحرقك النار أن تراها، بله أن تصلاها)
منذ تسعمائة سنة قال الخفاجي حين ذكر البلاغة:
(لم أر أقل من العارفين بهذه الصناعة، والمطبوعين على (فهمها) و (نقدها) مع كثرة من (يدعي) ذلك، ويتحلى به، وينتسب إلى أهله، ويماري أصحابه في المجالس، ويجاري أربابه في المحافل. وقد كنت (أظن) أن هذا شيء في مقصور على (زماننا) اليوم، ومعروف في (بلادنا) هذه، حتى وجدت هذا (الداء) قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله وأشكالهما حتى ذكراه في كتبهما، فعلمت أن (العادة به جارية) و (الرزية فيه قديمة). ولما ذكرته رجوت الانتفاع من هذا الكتاب، أملت وقوع الفائدة به، إذ كان (النقص) فيما أبنته شاملاً، (والجهل) به عاماً، والعارفون به قرحة الأدهم بالإضافة إلى غيرهم، والنسبة إلى سواهم)
ومع ذلك. . . فالأستاذ سيد قطب أحد (الأخصائيين!!) في اللغة التي نعبر بها
عاد الفاضل الأستاذ سيد قطب بحديثه عن الرافعي، ثم عقب عليه بالحديث عني وعما كتبت في الكلمات السالفة. وكنت عزمت أن أدعه حتى يشفي ذات صدره من الرافعي ومني؛ وكنت أجمعت الرأي على أمر، ثم هأنذا أتحلل من عزيمتي. . . ومرة أخرى أقول كما قلت في الكلمة الأولى: إني سأتولج فيما لا أحب. . . لا كرامة للأستاذ أو استجابة لدعائه بل لميط الأذى حسب. . . بل لميط الأذى حسب
ولقد علم من لم يكن يعلم أني كتبت ما سلف هادئاً لا أهاجم، إلا أن أترفق وأستأني وأتصبر على كلام ينفد معه صبر الحليم. . . وأنا وإن كنت لا أبالي بشيء مما يصف الأستاذ الكامل به كلامي فأنا لا زلت أحفظ للقراء عهدهم قبل الكتاب، فلا أدع القارئ عرضة لرجل يفهم القول الرفيع بالفهم الوضيع، ولا لرجل يسيء القول في الناس ويأبى عليهم أن يقولوا له أسأت فأجمل، ولا لرجل يرى الظل ممدوداً له - زمن القيظ - فيتجنبه إلى وقدة(257/23)
الشمس. . .
فهكذا أبى الأستاذ أن يأوي إلى مأوى يقيه، وتجرد يختال علينا، ويقتال إلى نفسه جريرة شر. وما ظني وظنك برجل يصف الرافعي بألفاظ ملفقة، وهي على ذلك بينة الدلالة على قبح الغرض، سافرة عن شنعة الإساءة، قليلة التذمم في حق الأحياء بله الأموات ممن لم تجف عن قبورهم بعد دموع أزواجهم وأطفالهم وذراريهم ومن يمتون إليهم بالحب والمودة والإخاء؟
وما ظني وظنك بإنسان قد حمل القلم ليستملي، فيتنزل عليه القول من بغضاء مربدة باغية لا تتقي سوء المقال ولا مأثور الكلام؟
وما ظني وظنك بفهم يتعالى على سلاليم من القوارص والقواذع، لا تجد لها في الذي تعرف سبباً قديماً أو علة محدثة تسوغ الأذى أو تحمل عليه؟
ما ظني وظنك بهذا الرجل الذي نترفق به ونستر (نفسه ودافعها في الحياة) بالإشارة اللطيفة، فيأبى إلا أن يترجم القول إلى غير معناه. . . إذ يسمي ما كتبت له (شتائم). . . شتائم. .! أنف في السماء. . . أأنا يدور في نفسي أن أكتب للأستاذ الفاضل ما يسمى (شتائم)؟ لأنا يا سيدي الأستاذ قطب أحسن ظناً بك من هذا. وقد قلت ما قلت من أن الناس كانوا يتعايشون بالدين والتقوى ثم رفع ذلك - كما قال الشعبي - فتعايشوا بالتذمم والحياء، ثم رفع ذلك، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، ثم رفع ذلك، وجاء زمان يتعايش الناس فيه (بثلب الموتى). . . وهو زماننا هذا. ولو قد كنت (أخصائياً!) في اللغة التي يعبر بها لما زعمت أني (رحت أتهمك بمجانية الدين والتقوى، والحياء والتذمم) فأنا لم أقصد ذلك، فهو أمر قد فرغ من الحكم فيه صاحبنا الشعبي. وما كان قصدي إلا أن الذي كتبت أنت عن الرافعي الذي مات وسكت، والعقاد الذي بقي يتكلم، بل عنهما معاً في قران واحد، هو ثلب للموتى وزلفى للأحياء. وحق لي أن أقول ذلك فقد جمعت بين الرجلين، فوضعت الميت موضعاً لا يتنزل إليه حي في الضعة، ورفعت الحي مكاناً لا يسمو إليه أحد في الرفعة، وضربت الكلام من هنا ومن هنا حتى استبان الغرض. . .
أيريد (الأخصائي!) الفاضل أن نبين له موضع الإشارة في كلامنا هذا. . .؟ إذن فليسمع
حين قرأت الكلمة الأولى من حديثه في الرسالة، لم أشك ساعة أنه يختدع القارئ عن نفسه(257/24)
يبتغي أن يفهمه أنه يريد النقد، والنقد حسب، ولا شيء غير النقد! والح في ذلك إلحاح الظنين في الإكثار مما ينفي الظنة عنه غافلاً عن أن تكلف نفي التهمة بالإلحاح يثير الشك ويقظ الريبة في نفس من أراد الله له الخير. . . ثم يشرع الأستاذ (الأخصائي في للغة التي نعبر بها) يأتي بالشواهد من كلام الرافعي في نقد (وحي الأربعين للعقاد) ليثبت صدق ما ذهب إليه من الآراء في الرافعي
كان يشك في (إنسانية) الرافعي، ويزعم أنه خواء من النفس
ثم قرأ ما كتب الأستاذ سعيد العريان فعدل حكمه قليلاً!! ولم يعد يستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه، ولكن بقي الأساس سليماً. . . فما هو؟
كان ينكر على الرافعي (الإنسانية) فأصبح ينكر عليه (الطبع)
وكان لا يجد عنده (الأدب الفني) فأصبح لا يجد عنده (الأدب النفسي)
وكان الرافعي ذكياً قوي الذهن، ولكنه مغلق من ناحية العقل والأريحية
والرافعي أديب الذهن الوضاء، والذكاء اللماع!
والرافعي مغلق القلب متفتح العقل وحدة للفتات والومضات. هذا في المقالة الأولى، ثم نزل في الرافعي في الكلمة الثانية، ثم لم يكد يرمي الثالثة حتى زعم أنه حين عاد بعد ذلك فقرأ رسائل الأحزان أحس أنه (خدع!) في - قياس - ذكاء الرافعي! ومعرفة طبيعته ودرجته! ولكنه يحس الغضاضة في هذا التراجع فيعزيه (الصدق)! الذي يعبر عنه حين ينصت لإحساسه ويصور حقيقة رأيه. . . وتأويل ذلك عنده في مقاله الثالث أنه أخطأ في عدم! تحديد (الذهن). . . فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خاب، وما هو منفتح أو مغلق، (أو كما قال). . .
لقد قال في الكلمة الأولى ما رأيت، ثم قال في الثالثة ما رأيت من تراجعه، ولقد كان هذا التراجع في الثالثة مطوياً تحت الكلمات في الأولى وفهمناه وأدركناه، وكان أخر الرأيين هو الغرض الذي يسعى إليه. وإلا فما ظن أحداً يستطيع أن يعقل (ناقداً) قد فرض على نفسه النقد - أي التتبع والاستيعاب وصدق النظر - يصف رجلاً (بالذهن الوضاء) (والذكاء اللماع) والقوة في الذهن، والتفتح في العقل، ثم لا تمضي عشرة أيام. . . فيقرأ أحد كتب هذا الرجل، فيعود يقول في صفته إن ذهنه مريض غير سليم، (خاب غير مشرق)، (مغلق(257/25)
غير متفتح)
أيريد الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) بياناً هو أوضح من هذا على سوء غرضه. .؟ الناقد رجل عدل منصف لا يزال يتتبع شوارد اللفظ، وأوابد المعاني يستنبئها أخبار أصحابها ويستنبط من قلوبها أسرار كتابها، ويكشف عنها خبيثة قائليها. .، ثم يحكم مميزاً مقدراً لا يجوز فيتجاوز الغاية، ولا يحيف فيقع دون المدى. وقد حكم هذا (الأخصائي!!) في كلمته الأولى حكمه الأول حين (استطاع أن يكون ناقداً، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان، ولكن يعلل ما يحس ويحلله)!! كما قال في بدء كلامه
أوليس يقتضي - هذا على الأقل - أن يكون قرأ كل ما طبع من كتب الرافعي دون ما تفرق من كلامه في الجرائد والمجلات على كثرتها. .؟ بلى
أوليس يقتضي هذا - على الأقل أيضا - أن يكون حين حكمه قد استرد شتات ما بقي في نفسه من آثار كلام الرافعي فيها؟ قالوا بلى
أوليس يقتضي حق النقد والحكم - على الأقل أيضاً - ألا يصف الرافعي بالذكاء اللماع، والذهن الوضاء. . . وهذا الكلام المفخم - ألا يكون ذلك من آثار ما قرأ له من شيء. .؟ قالوا بلى
إذن فكيف - في عشرة أيام يا سيدي - يستطيع كتاب واحد للرافعي هو (رسائل الأحزان) أن يقلب - هذا (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها)، وهذا الذي (استطاع!! أن يكون ناقداً) - رأساً على عقب، فلا يكتفي بسلب النعوت المفخمة (كالوضاء واللماع والمتفتح) فيترك الذهن هكذا مجرداً، بل يضع مكانها أضدادها فيجعله ذهنا (مريضاً خابياً غير لماع ولا وضاء، مغلقاً غير متفتح)
هآه. . . إني لأشك كل الشك في براءة الأستاذ مما غاظه من كلمتي الأولى مما سماه (شتائم). ولقد شهدت مرة أخرى (أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد وشعره، فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا علم الله). ولا زلت أقول له: (إنه لو عاد إلى داره مخلى من حوافز الحياة الدنيا) فقرأ ما كتب قراءة الناقد لوجد الاختلاط في لفظه بيناً، والغرض من ورائها متكشفاً. ولو شئنا أن نقول لقلنا فلم نكذب: إن كلامه لمشترك بين ضربين من(257/26)
العقل أحدهما ظاهر نعرفه ولا ننكره لأنه مما عهدناه زماناً، والآخر ظاهر أيضاً. . . نعرفه وننكره، لأنه مما استحدثه بعد الرافعي رحمة الله عليه
وأما الأديب الكبير! الذي لقي الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) فضرب لنا الأمثال (بالجماعة الذين يجلسون في المأتم ويرجمون الناس بالحجارة، فإذا رجمهم الناس صاحوا وولوا، وملئوا الدنيا تسخطاً ونعياً على الأخلاق، لأن الناس لا يقدرون حرمة المأتم، وهم الذين استهانوا بهذه الحرمة حينما رجموا المارة). فأن شاء أن يختفي في ألفاظ الأستاذ (الأخصائي!) فهو عتيق جبنه. وإن شاء أن يظهر من ورائه فسيرى كيف عرفناه من لفظه ومن أمثاله
وأيما كان. . . فالمثل فاسد من وجوهه كلها. . . فأن الأستاذ سعيد حين كتب لم يرجم أحداً، وإنما كتب تاريخاً؛ وحين قال إن رد العقاد على الرافعي سباب وشتائم، فهو لم يكن إلا كذلك، ولا يمكن أن يقال فيه إلا ذلك. . . إذ ليس فيه شيء مما يسوغ أن يعد رداً أو نقداً. . . حتى ولا على طريقة الأستاذ (الأخصائي!) في حل المنظوم ووصفه بالدعاية والطرافة والحيوية. . . وما إلى ذلك من اللفظ الذي لا يتخذه ناقد إلا بعد الإبانة عن محجته وسبيله. أو كما قال الأستاذ (الأخصائي!) في كلمته الأولى (في الناقد الذي لا يكتفي بالتذوق والاستحسان والاستهجان، ولكن يعلل! ما يحس ويحلله)
ومع ذلك فهل يرى أحد أن (حل المنظوم) في ألفاظ ملفقة مذيلة، ثم نعته بالطرافة والحيوية. . . الخ، هو التعليل والتحليل الذي يتخذه النقاد أسلوباً لهم؟
ومع ذلك أيضاً. . . فلو فرضنا أن (سعيداً) رجم المارة، والمارة ههنا هم الأستاذ العقاد وحده، فلم تطفل الأستاذ (الأخصائي) فقاذف الأستاذ العريان؟ ولم لم يدع ذلك للمرجوم نفسه. . .؟
ثم وراء ذلك كله. . تطفل (الأستاذ الأخصائي) للقذف والرجم، فلم لم يخص سعيداً وحده دون أصدقاء الرافعي وأصحابه هم الذين كتبوا السعيد ما كتب!!
وبعد فهذه كلمة كتبناها لنقرر حقيقة واحدة هي أن الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها)، كان أول حديثه عني - حين انتهى من حديث الرافعي - يضطرب ويؤخذ ويتناوح كأنه قصبة مرضوضة معلقة على عود هش قد يبس. . . أريد أن أقول بلفظ آخر إنه كان(257/27)
يضطرب لأن حججه التي يتعلق بها حجج فاسدة، وإن أصل كلامه عن الرافعي خائر يتصدع، وإن فكره في الذي كتب لم يستقر على أي شيء صحيح لا يختلف عليه
وسيرى فيما يستقبل من كلامنا أنه قد عجز كل العجز عن الإتيان بشيء يمكن أن يسمى نقداً. ولا يميل بنا إلى الرافعي. ويكفيه مما مضى في كلامنا وكلامه أن يعلم أنه نزه العقاد ورفعه أرفع درجه، وأننا لم ننزه الرافعي ولم نقل فيه بعض ما يقول هو في الشاعر الكبير صاحبه
محمود محمد شاكر(257/28)
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 6 -
جاء في حديث الأستاذ سعيد العريان عما بين العقاد والرافعي:
(أصدر العقاد ديوان (وحي الأربعين) في سنة 1933، والسياسة المصرية يومئذ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تمكن لنفسها بالحديد والنار، و (الوفد) ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنيناً، ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق، في كل مدينة وكل قرية، فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء، هو أبلغ من كتب وأشعر من نظم، حتى ليؤول أمره من بعد إلى أن ينحله الدكتور طه حسين بك الوفدي المتحمس، لقب (أمير الشعراء) تملقاً للشعب ونزولاً على هواه)
ثم قال كلاماً آخر يمت إلى هذا الكلام، ويضرب على نغمته ويرجع انتصار العقاد على الرافعي في المعركة عند غالبية القراء إلى هذه العوامل السياسية. وكان هذا وأمثاله من الأسباب الأولى التي حفزتني للكتابة في الموضوع الذي أكتب فيه، لأنها ندت عن التاريخ إلى الحكم والتعليق والترجيح
يخطئ الذين يعتقدون أن العقاد يستمد قوته من ظروف طارئة أو قوى خارجة عن ذاته، كالسياسة، والحزبية، والصحافة. . . الخ
والبراهين على ذلك شتى
فلقد قيل أن العقاد كان قوياً بأن كان (كاتب الوفد الأول) ولكن العقاد خرج على الوفد أول الخارجين في إبان قوته وسطوته، وبعد تجربة في الخروج عليه ذهب بها إلى عالم النسيان ثمانية من أعضائه يتابعهم ثلاثون من الهيئة الوفدية
وقد لقي من الكيد، ووسائل النضال، الظاهرة والخفية، البريئة والشائنة، ما لو وجه إلى هيئة كاملة لضعضعها. فماذا كانت عاقبة هذا الخروج؟
لقد بقي العقاد هو (الكاتب الجبار)، وتضعضع خصومه ووراءهم قوة العدد، وقوة الحكم، وقوة المال، وقوة الماضي الوطني، وكل قوة مأمولة في الوجود!!(257/29)
ثم قيل: إن العقاد يستمد قوته من الصحافة؛ ولكنه طوى قلمه عامين كاملين وكان ذلك بعض ما دبره له خصومه الأقوياء. فماذا كانت العاقبة؟
لقد بقي العقاد مع ذلك جهير الصوت، مسموع الرأي، وأخرج للناس في هذا الفترة ثلاثة مؤلفات: أحدها (سعد زغلول) وهو يكفي وحده لخلود كاتب عظيم، وبقي خصومه يحسبون حسابه، ويتوقون قلمه، وبقي كل فرد في القراء يرتقب عودته إلى الميدان. . . وقد عاد!
ثم لماذا يكون العقاد قوياً بالسياسة وحدها، وخصومه - ومنهم الرافعي - كانوا يلجئون إلى الدين، وهو أقوى أثراً من السياسة، وأتباعه أكثر من أتباعها، فلم لم تكن لهم الغلبة وسلاحهم أقوى وأبرز؟
الحق، أن كل هذه تعلات وأوهام، وخطأ في تقدير أسباب الغلبة، ووسائل البروز، وإغفال للقوى الذاتية الكامنة التي هي مدار كل نصر وظهور في عالم الوجود
ألف حزب سياسي، وألف صحافة، وألف مناسبة طارئة، لم تكن كفيلة بإبراز العقاد، لو لم يكن العقاد نفسه قوة من قوة الطبيعة، وطاقة من طاقة الحياة؛ ولو لم تكن في أطواء نفسه ومواهبه، بذور العظمة، وخميرة التفوق، ودوافع النهوض
إنما انتصر العقاد لأنه يكتب في السياسة بالهام من الوطنية، ثم يجنح بالوطنية إلى النزعة الإنسانية، وينفق في هذا كله من ذخيرة روحية لا تفنى
والحقيقة أن العقاد - مع هذا - مغبون أشد الغبن، في مدى شهرته، وفي نوع شهرته. مغبون لأنه في بيئة بينه وبينها عشرات الأميال من الفوارق والخطوات، وقل فيها من يتابعه في سموقه، أو يترسم خطاه على بعد المسافة. ومغبون لأنه ليس معروفاً بخير ما فيه، لأن خير إنتاجه، يتطلب قراء من نوع مفقود أو شبه مفقود
ولو فهم ذلك بعض من نفسوا عليه وحقدوا، لأراحوا بالهم بعض الشيء، أو لعلهم كانوا يزيدون عداء وحقداً. . .
ويخطئ الذين يحاولن أن يدرسوا العقاد - ولا أقول ينتقدونه - وكل محصولهم من الثقافة، كتب لغوية درسوها، وكتب أدبية فهموها من آداب اللغة العربية. فليس العقاد أديب لغة وأديب أسلوب، حتى تكفي اللغة ويكفي الأدب الخالص في فهمه، ولكن نتاج العقاد مجتمع ثقافات ودراسات قديمة وحديثة، عربية وغير عربية، مصهورة في بوتقة طبيعة ممتازة،(257/30)
ونفس رحبة، وذهن مشرق ومواهب تنتفع بالثقافة، وتعلو على حدود الثقافات!
ولقد رقيت إلى محاولة استيعاب العقاد - وأفلحت إلى مدى - على درج من دراسات شخصية جمة، ليست دراسة الأدب العربي ولا اللغة العربية إلا أولى خطواتها. دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربية - على وجه التقريب - من الآداب الإفرنجية: قصة ورواية وشعراً، ومن المباحث النفسية الحديثة: نظريات العقل الباطن والتحليل النفسي والمسلكية. . الخ ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة ومن مباحث علم الأحياء - بقدر ما استطعت - وما نشر عن دارون ونظريته ومن مباحث الضوء في الطبيعة، والتجارب الكيماوية. ومما استطعت أن أفهمه عن أنيشتين والنسبية، وعن بناء الكون وتحليل الذرة، وعلاقته بالإشعاع. . . الخ
ولا أفصل أو أتوسع في هذا، فحسبي أن أقول: إنني انتفعت بكل معرب أو مؤلف، عن النظريات العلمية والفلسفية الحديثة في شتى أنواع الثقافة، مدفوعاً في ذلك بميل طبيعي، كان يسيرني - دون إرادة - حينما أتناول صحيفة كالمقتطف مثلاً أن أبدأ بقراءة البحوث النفسية، ومباحث علم الحياة، وما قد تتضمنه عن علم وظائف الأعضاء، وعن تحطيم الذرة. . . وما أشبه ذلك قبل أن أتناول ما بها من بحث أدبي أو قصيدة!
وبكل هذه الثقافات بعد الثقافة الأدبية، وبعد استعداد نفسي انتفعت في فهم العقاد واستيعابه إلى حد ما. وسأزداد له فهماً كلما اتسع مدى ثقافتي، وفتحت جوانب نفسي، وقويت نوازع الحياة فيها
فالذين يحسبون الأدب مادة لغة أو أسلوب، ويعتمدون على نفوس ضيقة وأذهان محدودة، وثقافة من لون واحد، لا يصح لهم أن يطمعوا في دراسة العقاد، ولا يجوز منهم أن ينقدوا العقاد، لأن أدواتهم لا تزال ناقصة، أو معدومة فيما يتصدون له. بينما الرافعي أستاذهم لغة وأسلوب متى فهما لم يبق شيء وراءهما غير مفهوم، فهو سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء.
واللغة والأسلوب وحدهما لم يكونا كافيين لدراسة أي شاعر عربي عظيم، في وقت لم تكن الثقافة الإنسانية قد بلغت مبلغها الآن، والذين يراعون اللغة والأدب المحض وحدهما لا يستطيعون دراسة المتنبي ولا المعري، بل لا يستطيعون دراسة ابن الرومي وأبي نؤاس،(257/31)
لأن جداول من الفلسفة ومن الفلك والطب والتنجيم وسواها، قد صبت في ثقافاتهم؛ فكان لا بد من قسط يعادلها عند نقادهم مع الاستعداد النفسي الأصيل إذا شاءوا النقد على حقيقته
وأقرب مثل على فساد النقد الذي يتصدى له اللغويون والأسلوبيون، ما أورده الأستاذ محمود محمد شاكر عن قزح وقوسه، وناقشته فيه في العدد الماضي. فهو يأخذ على العقاد نقده لبيت شوقي:
قصراً أرى أم فلكا ... وشجراً أم قزحا
وذلك لأن العقاد قد قال بعد هذا:
ألقى لهن بقوسه ... قزح وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف
وفساد هذا المأخذ أن الأستاذ لا يفرق بين صورة لغوية وصورة ذهنية خيالية. فلفظة (قزح) في بيت شوقي، لا تزيد على أنها (لفظة) لغوية ليس وراءها صورة ذهنية متخيلة مقصودة. فالمرجع فيها إلى القاموس، والقول قول القاموس؛ أما هي عند العقاد، فتعني (حالة) خاصة مطلوبة، فيها قزح ملك الألوان، ممسكا قوسه، وهؤلاء الحسان ينازعنه عليها، فيغلبنه، فيسلم بالغلبة، ويلقي قوسه وسلاحه وينصرف فلبسن منها شتى المطارف والطرف. فالمرجع هنا للذهن والذوق لا القاموس
وقد عانى الرافعي ما عاناه شاكر، وما تعانيه المدرسة الرافعية كلها في تفسير العقاد، لأن عدتها للنقد من استعداد طبيعي وثقافة مكسوبة، شيء قليل
ولا حيلة في فهم كثير من أدب العقاد بغير الاستعداد الطبيعي، مع لون من ألوان الثقافة الإنسانية الحديثة. والأمثال على ذلك قد توضح ما سبق من إجمال. فها هي ذي قطعة من (وحي الأربعين) بعنوان: (سعادة في قمقم)
هنا قمقم سابح في الدم ... أسائلُ عنه ولم أعلم
جهلت حباياه حتى أتى ... عريف الطلاسم بالمعجم
ففيه كما قيل مسجونة ... سعادة بعض بني آدم
تجن جنونا بنور الضحى ... وتذبل في حبسها المظلم
وقد زعموا أن إطلاقها ... رهين بهمة ذاك الفم:(257/32)
بسر على شفتي فاتن ... يباح إلى شفتي مغرم
فهل أنت مطلقها منعما ... فديتك أم لست بالمنعم؟
وما أنا بالمشتهي قبلة ... ولا بالحريص على مغنم
ولكنما أنا أبكي أسى ... لتلك الشهيدة في القمقم!
فهل فهم الرافعيون شيئاً من هذه القطعة مع وضوح كل لفظة فيها وكل عبارة؟ وكيف يستطيع فهمها من لم يدرس شيئاً عن نظرية فرويد في (العقل الباطن) ويكون مع هذا على استعداد لأن يحس، بأن النوازع والرغبات المكبوتة في النفس والأشجان والبلابل والاضطرابات التي تعتريها في إبان ضرام الحب، تظل تعتلج النفس، وتقلقها وتهزها هزاً كمواد البركان المكتوم، حتى ينفس عنها، ويتاح لها التعبير، فإذا هي سعادة وهدوء وراحة
هذا ما يقوله العقاد في ثوب من الفن، وجمال من التعبير! عواطفه الثائرة، وبلابله المضطرمة، هي نفسها سعادة حبيسة إذا أتيح لها الكشف والتعبير، وكيف يكون التعبير؟ يكون بقبلة على (شفتي فاتن) تبيح السر إلى شفتي مغرم، وعندئذ تنطلق تلك الشهيدة في القمقم التي يبكي لها أسى.
فهنا النظرية العلمية، والحقيقة المدركة، والفن العالي، والدعابة القوية، والغزل الشفاف، تلتقي كلها في قطعة قصيرة، يطلب بها قبلة!
وإليك مثالا آخر في (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر)
يا جوهر الحسن لا تضعفي ... لديك بالموضع المهان
فالزهر والجوهر المصفى ... صوان في النور توأمان
أشعة النور في يدينا ... وديعة أو وديعتان
لكننا بيننا اختلفنا ... يا جوهر الحسن في الصيان
تصونها أنت من بعيد ... بالسيف والرمح والسنان
ولم تزل في يديّ كنزاً ... يصان بالعطف والحنان
ومعدن النور فيَّ حي ... وفيك معنى الحياة فان
فيا زماناً بلا حياة ... إني حياة بلا زمان
كل له من أبيه حظ ... ونحن بالحظ راضيان(257/33)
فمن أين يدرك قارئ ما في مثل هذه القطعة من جمال، قبل أن يعرف المادة الخاصة لفهمها من دراسة (الضوء) وتوزيعه وأثره في الأحياء وغير الأحياء، ونصيب الزهرة منه ونصيب اللؤلؤة، ثم يضيف إلى هذا عاطفته هو، وإحساسه بمظاهر الحياة وعطفه على الزهرة الحية التي تحفظ كنز النور بالعطف والحنان. . . الخ
وقد اخترت هاتين القطعتين، تتطلبان دراسة علمية للنفس أو للضوء، ووراءهما كثير مما يتطلب دراسات أخرى أعمق وأوسع وأرقى في مدارج المعرفة الإنسانية، فيحسن أن أنبه إلى أن هذه الدراسات ليست هي كل ما في نتاج العقاد، ولا هي خير ما فيه، فأن وراءها ذخيرة نفسية وطاقة روحية، وإشراقاً ذهنياً، وهذه المواهب هي التي تحيل تلك الثقافات فناً سائغاً، ولكنه فن صعب المرتقى؛ تبدأ درجاته بالثقافة وتنتهي بفسحة النفس، ورحابة الحس، وتوفز الشعور. وليس كل من درس تلك النظريات بقادر على فهم العقاد ما لم يكن ذا نفس وقلب وحياة!
وموعدي مع القراء كلمات أخرى، لعلني بها أوضح الفروق الأساسية بين المدرستين، فينكشف سبب الخلاف الأصيل بينهما، ومقدار أصالة كل منهما، وحقه في الحياة والاحترام.
(حلوان)
سيد قطب(257/34)
كلمة على الهامش
للأستاذ علي الطنطاوي
أنا لا أحب أن أنزل إلى ميدان المناظرة بين الأستاذين الفحلين شاكر والعريان، والأستاذ قطب؛ لأنه لا يقوم لأحدهما بله أن يعينهما عليه معين، على أن الحق لعمري يعينهما. ومع الحق بيان يجلو الحق، ولغة فخمة كأن فيها روحاً من روح الرافعي رحمه الله، ولهذا البيان قراء يبلغون مائة الألف انعقدت قلوبهم على محبة الرافعي وإجلاله، وآمن منهم من آمن بأن الرافعي رجل لم يكتب بالعربية من هو أبلغ منه بلاغة. . . فما حاجة ضعيف مثلي أن ينزل إلى الميدان؟
وفيما الخلاف؟ في (إنسانية) الرافعي!. . .
الأستاذ قطب يشك في (إنسانية الرافعي). . . أي أنه يشك في أنه إنسان، فماذا يكون إذن؟
ثم ماذا؟ ثم أنه (على رأي سيد قطب) تنقصه العقيدة! والعقيدة مشتقة من العقد، قال في اللسان: عقد قلبه على شيء لزمه. . . واعتقد كذا بقلبه أي رآه، فلابد إذن لتمام كلمة الأستاذ قطب من أن يبين الشيء الذي ينقص الرافعي رضي الله عنه اعتقاده، وألا فكلامه لا معنى له في العربية. . فهل ينقص الرافعي العقيدة في الدين، أو في الوطنية، أو ينقصه اعتقاد مذهبه في الأدب. أو ماذا؟
أو هي ألفاظ تساق ولا يدري لمساقها غاية إلا التهويل بها على القراء؟
هذه مسألة لا يصح أن يكون عليها خلاف، أو تدور عليها رحى مناظرة. . .
أما جوهر الخلاف بين أدب الرافعي وشعر العقاد، فهو الخلاف بين الأسلوب الذي يعتمد على البيان والصحة والصناعة والجمال، وبين الأسلوب الذي يستند إلى المعنى المبتكر، والصورة الجديدة، لم يظهرهما لفظ قوي، ولا أداء مستقيم. فالعقاد في شعره مبتكر مجدد، ولكني أشبه ألفاظه وهي تحمل معانيه، بصبيان ضعاف مهازيل، يحملون الصخور العظيمة فتسحقهم ويموتون تحت أثقالها. . . كما أني أجد من الأساليب ما أشبه ألفاظه ومعانيه بعمالقة ضخام، ولكنهم يحملون حفنة من الحصى
فالخلاف إذن على اللفظ والمعنى، هذه المشكلة التي تكلم فيها الجاحظ، ولم ينته القول فيها بعد. على أن في إطلاق اللفظ والمعنى تجوزاً، لأنه يستحيل أن يكون في الوجود لفظ بلا(257/35)
معنى، من يذكر كلمة السماء ولا يتصور هذه القبة الزرقاء، أو يسمع اسم الكتاب ولا يذكر هذه الصحائف المجموعة؟ كما يستحيل أن يكون بلا معنى بلا لفظ، لأن هذا المعنى يبقى خاطراً هاجساً في نفس صاحبه لم يدخل نطاق الأدب. ولكن الكلام في قطعتين أدبيتين، إحداهما تزدان بالتعبير الجميل، والأسلوب البارع ولكنها تصف شيئاً تافهاً، أو تدور على معنى سخيف، والثانية يتصور صاحبها ناحية من نواحي النفس البشرية، أو ظاهرة من ظواهر الكون، فتجيد التصور ولكنه يعجز عن التصوير، فأي هاتين أسمى مقاماً وأدنى إلى الأدب الخالص؟
هذه هي المسألة!
أما المتقدمون من نقدة الأدب العربي فأكثرهم على أن المعاني على قوارع الطرق، وإنما يتفاضل الناس بالألفاظ. وليس معنى هذا احتقار المعنى وتهوين شأنه، فإن للمعنى المقام الأول عند نقادنا، ونستطيع أن نقرأ الفصل القيم الذي عقده الإمام الجرجاني في الدلائل، ولكن معناه أن الشعور بالجمال عام، ولكن الناس يتفاضلون بالتعبير عنه؛ إذا نظر جماعة من الناس إلى مغرب الشمس في البحر، أو بزوغ البدر من وراء الجبل، أدركوا جميعاً جمال ما يرون (وإن كان كل يدرك على نسبة استعداده وهوى نفسه)، وإن وقف جماعة في موقف الوداع أحسوا جميعاً بالألم يغمر نفوسهم، ولكن هذا الإدراك وهذا الإحساس لا يسميان أدباً، وإنما الأدب هو الصيغة اللفظية التي يعبر عن هذا الإحساس؛ وعلى مقدار التوفيق في هذه الصياغة تكون قيمة القطعة الأدبية
هذا هو الحق، ولكن هذه الفئة من المجددين، أرادت حين عجزت عن الأداء المستقيم والصياغة البارعة والديباجة الصافية أن تقلل من قيمتها وتحقرها، وتسمي كل أديب يعرف للغته حقها وكل أديب آتاه الله ملكة قوية، تسميه سطحياً فارغاً. ولقد بلغ من فساد أذواق بعض هؤلاء المجددين أن قرأت مرة لواحد منهم فصلاً يقدم به لكتاب، فوقع له فيه مجاز حلو أحسست لما قرأته بمثل ما أحس به حين تطلع على من الطريق فتاة جميلة، وعجبت له من أين جاء به، ولكن عجبي قد بطل حين رأيته يتعذر منه، ويريد أن يواريه كما يواري المرء سوأته، لأنه - زعم - يكون (بهلواناً) إذا جاء بمجاز حلو، فليتصور القارئ أي شيء يكون الأدب إذا اطرح المجاز واقتصر على الحقيقة؟(257/36)
هذا سر الخلاف في رأيي. والرافعي رضى الله عنه، قد بلغ هذه الصناعة، وفي توليد المعاني، وفي نخل الألفاظ وتصفية الديباجة ما لم يبلغه كاتب عربي، فلا عجب إذا أبغضه خصوم البيان العربي
والعجب من الأستاذ سيد قطب! يأبى أن يناقش الأستاذ العريان لأنه لم يأته على أغراضه بدليل. . . ثم ينقد أبياتاً للرافعي يقطر ماء السلاسة من أعطافها، وتنطق كل كلمة فيها بألم صاحبها في حبه، وعذابه في غرامه لا، حين سمع أن للحب ليناً ووصالاً، ولكنه لم ير إلا قساوته وجفاءه، فهو يسأل المحبين كيف يكون هذا اللين، وينظر حوله فإذا قد (قضى كل ذي دين فوفى غريمه) فيأسى ويألم لنفسه أن بقيت ديونه وحدها لم توف. ثم يمد يده ينظر هل من مسعد أو من معين، ولكنه لا يريد مساعدة ولا عوناً، هو هانئ بالحب لأن الحب أهنئه حزينه، قال:
من للمحب؟ ومن يعينه؟ ... والحب أهنئه حزينه
أنا ما عرفت سوى قسا ... وته فقولوا كيف لينه
أن يقض دين ذوي الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه
فلا يجد نقداً لهذه الأبيات الثلاثة (وثالثها مأخوذ من بيت كثير المشهور، لم يتنبه لذلك سيد قطب) إلا أنها تقليد لشعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر. . .
هذا هو النقد الفني عند الأستاذ سيد قطب!
ويقول الرافعي رضى الله عنه:
قلبي هو الذهب الكريم ... فلا يفارقه رنينه
قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينه
فلا يفهم سيد قطب من هذا التشبيه البليغ إلا (أنه يذكر قلبه في سوق المجوهرات من الذهب والألماس معتقداً أن تلك المعادن أثمن من القلوب لأنها تقوم بالمال الكثير من السوق) - مع أن الأستاذ قطب يدعي في رأس مقاله بأنه أفهم لأدب الرافعي من الأستاذ العريان، فهو إذن يتعمد أن يتظاهر بأنه لم يفهم هذين البيتين لغرض في نفسه. . . ولا حيلة لنا معه في ذلك!
والأنكى من ذلك كله. . . أن ينقص هذا البيت الذي يعدل والله قصيدة، بل ديواناً من(257/37)
دواوين الغزل:
قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه
أن انتقاد هذا البيت وتشبيهه وما بعده بالخطب المنبرية الجافة تحقير للحب، وتنزيل له إلى حيث يخالف الدين والأخلاق حتماً، ودعوى ضمنية بأن المحب لا يستطيع أن يحتفظ بخلق ولا دين!
على أن للرافعي رحمه الله عيوباً ومزايا. وليس إلا الله خالياً من العيوب، والرافعي ملك للنقد، ولكن للنقد شرائط. . . أولها أن يلقي الناقد عنه هواه، ويطرح بغضاءه. فأن البغضاء تدفع إلى الظلم، والهوى يعمى ويصم!
دمشق
علي الطنطاوي(257/38)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 20 -
تأهبت ظمياء للكلام فاستوقفها لحظتين لأنظر الأشرطة السينمائية التي يعرضها الشقاء أمام خيالي. فهالني أن اشهد ألوف المناظر وفيها المفرح والمحزن والأخضر والأسود، وضجت في أذني تلك الكلمة الباغية التي قالها أحد الزملاء المصريين وقد ترامت الأخبار بما بيني وبين ليلى من خلاف، قال ذلك الزميل وهو يلتهم حساء البقلة الحمقاء:
(كان رأيي من أول يوم أن الحكومة المصرية أخطأت في اختيار زكي مبارك لمداواة ليلى المريضة في العراق وهي تعلم أنه عجز عن مداواة ليلى المريضة في الزمالك)
أنا عجزت عن مداواة ليلى المريضة في الزمالك؟
أنا ما عجزت، وإنما رأيتها لئيمة لا تحفظ الجميل فضننْتُ عليها بالطب والدواء، وأخذت أدرس ما صرت إليه في هوى ليلى. فحب هذه المرأة هو أخطر ما عرفت في حياتي من ظلام وضلال
أحبك يا ليلى أحبك؟
وإنما كان كذلك لأنه ابتدأ بالعطف، عطف الصحيح على العليل، والعطف يؤصَّل جذور الحب ويهيَّئ القلب للهيام العَصُوف
كانت ليلى تصح على يدي من يوم إلى يوم، وكان حالي معها حال اَلْجنان الذي يتعهد إحدى الشجرات بالسقي والرعاية فتنمو عواطفه بنموها من حيث لا يعرف، ثم تصبح الشجرة وهي معبودته من دون البستان
أحبك يا ليلى أحبك
ورأت ليلى شغفي فلم تفطن إليه، ولعلها كانت تراه لوناً من ترفق الأطباء فمضت تناضلني الصحيح للصحيح، ولم تدر ما نقل المشرط إلى دمي، وآه ثم آه مما ينقل المشرط، فالناس لا يفهمون كيف يعيش العليل وجسمه موبوء بالجراثيم على حين تكون جرثومة واحدة ينقلها المشرط إلى جسم الطبيب وهو صحيح كافية لتقتل الطبيب
الناس لا يفهمون هذه الظاهرة وهي عندهم من الغرائب(257/39)
ولكن تعليلها سهل. وهي أول درس تلقيته بكلية الطب في باريس
السبب يرجع إلى شعور الطبيب بخطر الجراثيم، فهو حين يشعر بانتقال العدوى إليه. ينفعل جسمه كله دفعة واحدة فيصرعه المرض
وهذا يشبه تمام الشبه ما يقع في عالم الاخلاق، فالرجل صاحب الوجدان السليم تؤذيه الهفوة الصغيرة فيقضي سائر عمره في استغفار وقد يقتله تأنيب الضمير، ولا كذلك المريض بالجسم والوجدان، فالأول يعاني العلل المهلكات ثم يموت قبل أو أن الموت، والثاني يُجرم نحو نفسه ونحو الإنسانية ثم يعيش وهو مستور الحال، لأنه يجهل خطر ما يصنع
ومن أجل هذه المعاني عشت شقياً في حياتي، فأنا تلميذ قديم من تلاميذ الغزالي، وكل شيء يجوز عندي إلا إيذاء الناس، وقد يتفق في أحيان كثيرة أن أهجم على خصومي بعنف، ولكنه عنف مصطنع، لأني لا أحشو المسدس بغير البارود، فيثور من حولهم الدخان، ثم يسلمون لأن القذيفة لم يكن فيها رصاص
ويصنع خصومي غير ما أصنع، لأني غبيَّ وهم أذكياء!
هم يحشون المسدسات بالرصاص ثم يقذفون، وكم يبقى الرميَّ على نبال؟! أولئك أعدائي، والعداوة الأثيمة تستبيح كل قبيح
ولكن ما ذنبي عند ليلى حتى تفضحني بين قومي وتضيع مستقبلي في مداواة الملاح؟
ما ذنبي عند ليلى التي هجرت في سبيلها وطني وأهلي؟
ما ذنبي عند ليلى؟ ما ذنبي عند عيونها السود وخدها الأسيل؟
ما ذنبي عند ثناياها العِذاب وصوتها الرخيم؟
أحبك يا ليلى وأستعذب في هواك كل عذاب
- ظمياء، ظمياء
- عيوني، عيوني
- هاتي التهم الثقال التي تفضلتْ بها ليلاي. انقليها بترفق ما أحب أن أموت في بغداد، فمقابرها مهجورة منسيَّة، كأنها مقابر المحبين، وليس فيها مسجد استروح بأن يصلَّي علىَّ فيه يوم أموت، فمساجدها تعرف الجمال في القباب وتجهل الجمال في المحاريب(257/40)
- أعرني أذنيك يا دكتور
- أعرتك قلبي، يا ظمياء
- أنت متهم عند ليلى بالشيوعية
- بالشيوعية؟ وكيف سكتت عني إذاً حكومة العراق، وبصرها أحدَّ من بصر ليلى ولها عيون تنقل إليها كل شيء؟
- حكومة العراق تحارب الشيوعية الاقتصادية، وأنت متهم بالشيوعية الوجدانية، وليلى تعاقب على ذلك
- وأين شواهد هذا الاتهام الفظيع؟
- ما ظلمتك ليلى، وإنما ظلمت نفسك، فأنت الذي تقول
أَصْباك ما خلفَ الستار وإنما ... خَلْفَ الستائر لؤلؤ مكنونُ
والناس في غفلاتهم لم يعلموا ... أني بكل حسانهم مفتون
- ما قلت الشعر يا ظمياء
- هو في ديوانك المطبوع
- هذا شعر دسه السفهاء
- وكيف سمحت بنشره في ديوانك؟
- ما أذكر كيف سمحت، فقد كنت عضواً في جمعية أبوللون، وأرادت الجمعية أن تصح انتسابي إلى الشعراء فلفقت باسمي طائفة من الأشعار وأخرجتها في ديوان
- ولكن ليلى تقول إن في نثرك ما يؤيد هذا المعنى
- وكيف؟
- في بعض ما نشرت في جريدة البلاغ مقال تقول فيه إن الأطلال تملأ روحك بالمعاني لأنها تعيد إلى خيالك تاريخها القديم يوم كانت ملاعب تمرح فيها الظباء
- هذا أيضاً مدسوس
- وكيف؟
- كان لي بجريدة البلاغ زميل يعطف على أدبي، هو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وكان يؤذيه أن تخلو مقالاتي من المعاني الوجدانية، فكان يضع اسمي على ما يبدع من(257/41)
صور الوجدان
- أنت تسيء الدفاع عن نفسك يا دكتور
- دليني كيف أدافع عن نفسي، يا ظمياء؟
- أما تعرف كيف تدافع عن نفسك؟ أنا ألقنك الدفاع عن نفسك. قل إنك تعشق جميع الصور وتهيم بجميع المعاني
- هاتي يدك أقبلها يا ظمياء
- أعجبك كلامي؟
- ما هذا كلاماً، إن هو إلا سحر مبين، فأنا حقاً أعشق جميع الصور وأهيم بجميع المعاني؛ وظواهر الوجود هي عندي صور شعرية تموج بألوان السحر والفتون. الدنيا يا ظمياء لوحة فنية صاغها بديع الأرض والسموات، فما فيها من حسن فهو صنع فنان، وما فيها من قبح صُنْع فنّان، فأنا أدرس المحاسن والمساوي بذوق واحد. وقد أتفلسف يا ظمياء فأزعم أن خَلْق الوجه الدميم أصعب من خلق الوجه الوسيم. وعلى أهل الدمامة أن يشكروا خالقهم فقد سوّاهم بعناية، ثم تلطف فأباحهم التقلب في بقاع الأرض، وجعل لهم في دولة القبح سلطاناً. فان لم يشكر هؤلاء القباح خالقهم فسأشكره بالنيابة عنهم، وسأتصدق عليهم بالعطف والحنان
- دكتور، أنا أحبك!
- وأنا أبغضك يا ظمياء!
- أقول لليلى إنك أحسنت الدفاع عن اتهامك بالشيوعية في الحب؟
- ما تهمني ليلى، وإنما يهمني أن أحاسب خالق ليلى
- احترس يا دكتور، فهذا كفران
- سأحاسب ربي قبل أن يحاسبني، فما قضيت شبابي في دراسة الأدب والفلسفة إلا لأعرف كيف أناقشه الحساب، وسوف تنظرين
- كفرت، يا دكتور، كفرت
- الكفر الحق هو أجمل صورة للإيمان الحق
- وكيف؟(257/42)
- ما تعرفين كيف وأنت وصيفة ليلى وخدينة الدكتور مبارك؟
- لست خدينتك
العفو! العفو! يا ظمياء
- تشتمني يا دكتور؟
- إنما أداعبك يا ظمياء، فاغفري ذنبي
- يغفر الله لك
- ويفغر الحب؟
- أسأل ليلاك
- غضبة الله ولعنة الحب على ليلاي!
- ظمياء!
- عيوني!
- تلك التهمة الأولى، فأين التهمة الثانية؟
- ليلى تتهمك بما اتهمتْ به الضابط عبد الحسيب
- وكيف اتهمت ذلك المسكين الذي سارت أخبار شقائه مسير الأمثال؟
- اتهمته بخيانة العروبة
- وهي تتهمني بخيانة العروبة وقد أَذْوَيت شبابي في خدمة لغة القرآن؟؟
- إن ليلى قرأت خطبتك في نادي المثَّنى عن العروبة المصرية وقد نشرتها جريدة البلاد
- وما الذي عابته ليلى على تلك الخطبة؟
- العيب في ذلك أنكم في مصر لا تفرقون بين العروبة وبين الإسلام
- هذا صحيح يا ظمياء
- وهذه جريمة عربية يا دكتور
- اسمعي يا ظمياء، ثم بلغي ليلى ما أقول. العروبة يا طفلتي يا طفلتي الغالية في حاجة إلى إسناد قوية من الصداقة والعطف، وإسناد العروبة لن تكون في الممالك الأوربية، وإنما ننشدها في الممالك الاسلامية؛ والسياسي الحكيم هو الذي يتعب في خلق الأصدقاء، والإمبراطورية البريطانية لن تفنها جيوش البر والبحر والهواء عن التفكير في خلق(257/43)
الأصدقاء. والإسلام قوة يتودد إليها هتلر وموسوليني، وتشقى روما ولندن وباريس وبرلين في التعرف إلى مدارج هواه، وليس في بلاد الله قوة سياسية إلا وهي تحسب ألف حساب لغضب المصحف فما ذنبي عند ليلى أعلنتُ إسلامي؟ ما ذنبي عند ليلى وأنا أخلق لقومي وقومها جيوشاً من العواطف والقلوب؟
- ولكن الإسلام غير العروبة
- تلك يا ظمياء دسيسة استعمارية، هي دسيسة حيكتْ شباكها لتقويض الإمبراطورية العثمانية. وقد تقوضت لأن الأتراك عجزت حيلتهم عن قرض خيوط تلك السياسة، فهم اليوم أمة من الأمم، وكانوا بفضل الإسلام سادة المشرقين
- احترس يا دكتور فهذه سياسة، والسياسة محرمة على الموظف
أعترف أني موظف في حكومة العراق، ولكن لا خوف. فأنا أتهيب الشر في كل أرض، إلا في العراق؛ وأعتقد أن حكومة العراق لا تصادر حرية الرأي إلا إذا صدرت عن المنافقين، وقد حماني الله من النفاق. وقد عجب ناس من أن تسكت عني حكومة العراق على كثرة ما قلبت من وجوه الآراء في الصحف والمجلات. فليفهم الدساسون أن حكومة العراق فوق ما يظنون، والله من وراء الدساسين محيط، وسوف يعلمون
- إن العراق يثق بك ويعطف عليك يا دكتور
- وفي حماية تلك الثقة وذلك العطف أقول: إن أوربا اللئيمة خلقت فكرة لتقسيم أهل الشرق إلى عرب ومسلمين، وقد أحسست هذا المعنى حين بدأت أتعلم اللغة الفارسية في باريس سنة 1927 فقد رأيت معجما فارسيا فرنسيا نشر منذ أكثر من أربعين سنة وفي مقدمته تحريض صريح على قطع الصلات بين العرب والفُرس؛ وأعتقد أن مقدمة ذلك المعجم هي السبب في ثورة الأتراك والإيرانيين على الحروف العربية
- أخطأ الأتراك وسيخطئ الإيرانيون
- وماذا صنعنا لدفع هذا الخطأ يا ظمياء؟ لقد تجشمت مشيخة الأزهر ما تجشمت وأنفقت ما أنفقتْ، لترسل بعثة من العلماء إلى الهند، فهل فكرت هذه المشيخة في إرسال بعثة إلى تركيا أو إيران؟ هل فكرت مشيخة الأزهر في إرسال رجل أو رجلين لتذكير الفرس بماضيهم في خدمة اللغة العربية؟ هل فكرت في إرسال وفد إلى الغازي مصطفى كمال(257/44)
يذكره بأن الحقد على العرب الذين خذلوا تركيا في الحرب لا يصح أن ينسيه فضل العرب الأبرار الذين نقلوا إلى تركيا بذور الإيمان بالله والرسول؟
هل قام رجل مؤمن يقول للأتراك: هبوا سيئات الحاضر لحسنات الماضي؟
هل قام رجل مؤمن يقول لأهل إيران: إن العرب إخوانكم في الله فلا تجرحوا إحساسهم بهجر الحروف العربية؟
لقد قمت بهذا الواجب وحدي فأقنعت وزيرين في العراق، وفكرتُ في الهجرة إلى إيران لأصلح ذات البين بين العرب والفرس. ولكن كيف وأنا رجل يرهقه جدول الدروس وتنهب عافيته دفاتر التلاميذ؟
لقد زار بغداد منذ أشهر صحفي إيراني ودعائي الأستاذ إبراهيم حلمي للتسليم عليه، فلم أستطيع مخاطبة بغير الفرنسية، مع أنه نشأ في وطن كان بعض أهله لا يعرفون غير العربية، ولذلك الصحفي جريدة تصدر بلغتين هما الفارسية والفرنسية، ولو كنا حفظنا العهد لكانت اللغة الثانية عربية لا فرنسية
- يظهر أنك مؤمن يا دكتور
- أنا ملحد يا ظمياء، فما يسرني أبداً أن أحشر نفسي في زمرة المسلمين الغافلين الذين يفكرون في إصلاح الوثنية الهندية ويغفلون عن هداية الثائرين على الإسلام في بلاد كانت من الدرر اللوامع في تاريخ الإسلام
- أنت مؤمن يا دكتور
- أنا كافر يا ظمياء
- أعوذ بالله!
- وأنا أعوذ بالشيطان!
- تعوذ بالشيطان؟ يظهر أنك ملحد حقاً وصدقاً
- اسمي يا ظمياء، الشيطان مخلوق شريف لأنه لا ينافق، فهو يعلن في كل وقت أنه من الضالين المضلين، ولو كشف كل إنسان عن سريرته كما كشف الشيطان عن سريرته لأصبحنا جميعاً من الملائكة لا من الشياطين
- أنت إذاً تعبد الشيطان؟(257/45)
- أنا أعبد الله وأحب الشيطان
- قف عند هذا الحد يا دكتور
- سمعت وأطعت
(للحديث شجون)
زكي مبارك(257/46)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن هدية الأحراج إلى عالم المدينة
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 14 -
وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ليدافع عن حفيد كارترايت ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عاماً وهو ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية؛ وكانت هذه التهمة أيضاً تهمة القتل؛ ولشد ما تأثر كارترايت وهو اليوم شيخ كبير حينما شاهد حرارة دفاع خصمه لنكولن عن حفيده الذي ما لبث أن برئت ساحته. . .
وأي شيء لعمري أجمل من هذا؟ ألا إنه الخلق العظيم يبهج جماله النفوس ويملك طيبة الأفئدة، إن للناس فيه لقدوة أي قدوة، وإن لهم في صاحبه لأسوة لن يتسنى لهم مثلها إلا في الأفذاذ القلقين الذين ظهروا في هذا الوجود برهاناً على أنه ثمة من صلة بين هذه الأرض وبين السماء!
وندير الحديث بعد إلى السياسة فنذكر أن المؤتمر الذي انعقد من الجمهوريين في سبرنجفيلد عام 1858 لترشيح عضو عن الولاية لمجلس الشيوخ قد اجتمعت كلمة رجاله على ترشيح لنكولن، ولقد فعلوا ذلك في غبطة وفي حماسة شديدتين
وهكذا اتفقت كلمة الجمهوريين على لنكولن يقدمونه لينافس دوجلاس رجل الديمقراطيين في الانتخاب لمجلس الشيوخ؛ فيلتقي بذلك الخصمان ويكون بينهما هذه المرة جلاد دونه كل ما سلف من جلاد؛ وينتهي الصراع بينهما فإذا دوجلاس يرى نفسه وقد ابتعد عن الهدف بقدر ما اقترب منه ابن الأحراج، ثم إذا هو يفطن إلى طعنه سوف تحول بينه وبين غايته المرجوَّة فلا يظفر بها أبداً. . .
وعرف لنكولن مبلغ ما ينطوي عليه الموقف من خطر، وأدرك أنه ملاق منه رهفاً شديداً(257/47)
وعنتاً. ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع وهو لا تظهر مواهبه على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع
وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، ولقد فطن وهو الخبير بأقدار الرجال، البصير بأمور السياسة، إلى دقة الموقف. وأدرك أن ابراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه إذ ذاك حيال قوة لا تنفع معها حيلة ولا يجد في مكر أو دهاء، قوة منشأها عقيدة صقلتها الأيام ووثقتها التجارب وأمدتها الفطرة بمثل ما تمد به التربة الصالحة الشجرة الطيبة من الغذاء الصالح؛ فليس ثمة ما يحول بينها وبين امتداد الجذور وسموق الفرع. وكأنما كانت ماري يوم فضلت لنكولن على منافسه ورضيت به زوجاً، تطلع على الغيب فترى هذا الصراع بين الرجلين ثم تصدر حكمها على هدي وبصيرة وعلى تجربة لا تدع مجالاً لوهم!
وهل كان انتخاب إبراهام لمجلس الشيوخ هو غاية ما يتمناه؟ كلا فما أهون هذا الأمر إذا قيس إلى ما كانت تجيش به نفسه من آمال لم يكن يراها وقفاً على نفسه بل كان يراها لصالح غيره؛ وهو لن يشعر لها بقيمة أو خطر إلا أن يتسع مداها حتى يشمل أمريكا كلها؛ بل إنه ليرى رضاء نفسه في أن يشقى ليسعد بنو جنسه. . .
لذلك لم يكن عجباً أن يسير كما تملي عليه مبادئه وكما يوحي إليه قلبه، لا كما يتطلبه الانتخاب من محاولات ومداورات وألاعيب وأكاذيب ومرونة وليونة وغير ذلك مما يتذرع به الكثيرون من أصحاب السياسة حين يجعلون غرضهم النجاح في المعركة فحسب. وما كان إبراهام يرى في الوصول إلى مقعد في الشيوخ إلا إحدى الوسائل لتحقيق غرضه الأسمى وذلك كما محصته الأيام هو حل معضلة العبيد مع المحافظة على كيان الاتحاد
وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان هو يعد خطاباً حاسماً يعبر به عما في نفسه، ولقد ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته، حتى استوى له موضوعه فجمعه بعضه إلى بعض ولم يفض به إلى بعض خلصائه إلا قبل إلقائه ببضع ساعات؛ ولقد أخذهم الدهش لما جاء فيه أنه لم ير رأيه منهم سوى صديقه هردون؛ ولكن لنكولن كان إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لهم (أي أصدقائي: إن هذا الشيء(257/48)
قد أجل مدة طويلة أرى فيها الكفاية؛ ولقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن أنطلق بهاتيكم العواطف، فإذا قدر لي أن يكون مصري السقوط بسبب هذا الخطاب فلأسقطن مربوطاً إلى الصدق؛ دعوني ألقى حتفي في الدفاع عما أرى أنه العدل والحق. . .)
ولما انعقد ذلك المؤتمر الجمهوري الذي كان ينتخب عضو الشيوخ قام فيهم لنكولن يلقي خطابه فقال: (حضرة الرئيس، حضرات السادة رجال المؤتمر: إذا استطعنا بادئ ذي بدء أن نعلم أين نحن وإلى أي وجهة، أمكننا أن نعرف ماذا نصنع وكيف نصنعه. إننا الآن بعد خمسة أعوام منذ تلك السياسة التي اتبعت مع وجود ذلك الوعد الوثيق الذي قصد به أن يوضع حد لذلك القلق الذي تبعثه مسألة العبيد، ولكن هذا القلق طالما أخذت تلك السياسة تفعل فعلها لم يقتصر أمره على أنه لم يوقف فحسب، بل لقد ظل يتزايد أبداً؛ وفي رأيي أنه لن ينتهي حتى يفضي بنا إلى أزمة نجتازها. إن البيت الذي ينقسم بعضه على بعض لن يقوم؛ إني أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكنها أن تدوم ونصفها عبيد والنصف الآخر أحرار، وأنا لا أبغي أن تنقسم عري الاتحاد كما لا أبغي أن ينهار البيت، ولكني أبغي ألا يستمر في انقسامه؛ ولسوف يكون كله إلى هذا الجانب أو إلى ذاك؛ فأما أن يحول خصوم العبودية دون أي انتشار لها في المستقبل ويضعوها حيث يرتاح الرأي إلى أنها وضعت في الموضع الذي يفضي بها إلى الفناء النهائي، وإما أن يدفعها أنصارها إلى الأمام بحيث تصير قانونية في كل الولايات القديم منها والجديد والشمالي والجنوبي)
ذلك هو الخطاب الذي أفضى به لنكولن إلى رجال المؤتمر في صراحة وجلاء؛ ولقد أشفق أنصاره من لهجته الحاسمة ثم من تلك العبارة التي اقتبسها من الإنجيل وخافوا أن يحملها خصومه على غير محملها فيظنون وهو يريد بالبيت المنقسم على نفسه الولايات الأمريكية أنه يشير إلى قطع العقدة لا حلها وأن سبيله إلى ذلك الحرب. . .
وكان دوجلاس قد نزل بشيكاغو يدعو إلى انتخابه للشيوخ، فوجد في خطاب خصمه ومنافسه، لنكولن، فرصة يغتنمها فاتهمه أنه من دعاة التحرير بالقوة وأخذ يحذر الناس من انتخابه واغتاظ لنكولن لتلك التهمة النكراء، ولكنه لم يستكثرها على دوجلاس، وإنه لواثق أن الأيام ستقذف بحقه على باطل خصمه فيدفعه فإذا هو زاهق
وما كان إبراهام ممن يقرون الثورة مهما بلغ من مقته لنظام العبيد، ولسوف يبقى دستوره(257/49)
هو حل تلك المسألة بما يتفق مع الصالح العام على أن يكون ذلك في كنف الاتحاد وتحت رايته التي لا يرضى إلا أن تظل خافقة عالية تجمع على محبتها وإكبارها أبناء الوطن كله
وعول دوجلاس أن يخوض المعركة على أساس خصومته لبيوكالون في مسألة دستور كنساس، لا على أساس مخاصمته لنكولن أو مخالفته فيما جاء في خطابه الجديد من أراء كأنه يستعظم أن يكون ذلك الرجل الذي ما زال شأنه منحصراً في ولايته نداً له؛ وإن كان دوجلاس ليحس بينه وبين نفسه مبلغ ما تتطوى عليه نفس الرجل من عظمة ومبلغ ما يحمله قلبه من إيمان
ولقد شاع خطابه في الناس وتناقلته الصحف في طول البلاد وعرضها، فكان ذلك أبلغ رد على ترفع دوجلاس وذهابه بنفسه؛ وأحس إبراهام مبلغ ما أحدثه الخطاب من أثر في البلاد، لتبين ذلك في قوله: (إذا كان لي أن أمر بالقلم على صفحات تاريخي، وأمحو حياتي كلها عن الأنظار؛ وقد ترك لي أن أختار شيئاً استثنيه من هذا المحو فإني أختار هذا الخطاب فأدعه للعالم لم تذهب معالمه
وليس في قوله هذا شيء من المغالاة، فان خطابه كان أكبر حافز لأول الرأي أن يقفوا من مسألة العبيد موقف الذي يريد أن يصل إلى غاية، فلا تهاون ولا تلكؤ بعد اليوم، وإلا تفاقم الخطب واستعصي الحل، ودخلت البلاد في طور من الفوضى الجامحة فيأتي على الأخضر واليابس؛ كما أن هذا الخطاب كان أهم حادث في تاريخ حياته فبعده صار للسياسة كل همه، وبه قدر له أن يصير في السياسة من رجال أمريكا كلها لا من رجال الينواس فحسب. . .
ولقد خطب لنكولن بعدها في شيكاغو يرد على ما اتهمه به دوجلاس؛ فأعلن أن الوثيقة الكبرى التي يجب أن يتقيد بها الأمريكيون ويسيروا على نهجها هي وثيقة إعلان الاستقلال وأنه يجب أن ينظر إلى مسألة العبيد نظرة إنسانية، وأن يراعي اتفاق مسوري فيما يشجر بين الفريقين من خلاف
وتكلم دوجلاس بعد ذلك في بلومنجتن ثم في سبر نجفيلد، ورد لنكولن عليه في المرتين، حتى بدا له فخطا خطوة لم يسبقه إلى مثلها رجل من قبله في التاريخ السياسي للبلاد، وذلك أنه أرسل إلى دوجلاس رسولاً يعلن إليه أنه يتحداه أن يلتقي رأياه في مبارزة خطابية(257/50)
يستمع فيها الناس إليهما ويحكموا بينهما حسبما يرون من كلامهما. . .
ولقد ضاق دوجلاس بهذا التحدي وهو الذي يعرف أصالة صاحبة وشدة إيمانه ذلك الإيمان الذي رسخ حتى ما يحتال عليه بحيلة أو تزعزعه مطاولة أو يفل منه جاه أو إغراء، والذي جعل كل وسيلة من وسائل المغالبة بحيث تكون منه كالموج من الصخر لا يلطمه إلا لينحسر عنه ولم يبق فيه من قوة الموج بشيء وأبي على دوجلاس كبرياءه وغلواؤه أن يتخاذل فيتخلف عن هذا النزال فقبله على كره منه قال: (سوف تصبح يداي مليئة؛ إنه رجل حزبه ذو البأس؛ ملؤه الذكاء والحقائق والتواريخ. . . وهو أمين بقدر ما هو أريب حذر، وإذا قدر لي أن أظهر عليه فسوف يكون انتصاري بشق النفس) وقال في موضع آخر (أني لا أحس - بيني وبينك - إني أرغب في الذهاب إلى هذا الجدال؛ إن البلاد كلها تعرفني ولقد سبق أن قدرتني وعرفت قدري؛ وأن لنكولن بالنسبة لي ليعد غير معروف، فإذا أتيح له أن ينتصر عليّ في هذا الجدل - وإني لأود أن أذكر أنه أقدر رجل في الحزب الجمهوري - فانه يكسب كل شيء بينما أخسر أنا كل شيء؛ أما إذا قدر لي الفوز فإني لن أغتم إلا قليلا؛ إني لا أحب أن أذهب في تلك المجادلة معه. . .)
ولكنه على الرغم منة ذلك لم يستطيع إلا أن يجيبه إلى ما طلب؛ وحددت سبع مدن يلتقي فيها الرجلان فيتناظران والناس من حولهما يشهدون ما يكون بينهما. وفرح لنكولن وقد أتيحت له أعظم فرصة ليعبر عما في نفسه؛ وأي فرصة هي؟ ألم يك دوجلاس في الناس أكثرهم استفزازاً له وادعاهم أن يبرز له ما استكن من مواهبه؟ ثم أليست هذه المجادلة كفيلة أن تجمع إلى أنصاره ومحبيه أنصار دوجلاس ومحبيه فيكون الكلام في حشد قلما يتسنى أن يلتقي على هذه الصورة؟ فإذا قدر له أن يكسب هذه القلوب أو أن يصل إلى إقناع هذه العقول فأي فوز هو وأي فخر؟
(يتبع)
الخفيف(257/51)
الأنباط وأطلال بترا الخالدة
للأستاذ خليل جمعه الطوال
- 2 -
ديانة الأنباط
لقد كان للأنباط ديانة مستقلة، لها آلهتها العديدون، وطقوسها الخاصة. وتدل النقوش والكتابات النبطية المكتشفة على الهياكل والآثار العديدة في بترا على أن الأنباط كانوا يعبدون الحية وبعض الأجرام السماوية. ففي طريق النبي هارون (الواقع بجوار بترا) لا يزال أثر الحية قائماً حتى اليوم بشكلها المخيف ورأسها المتفرع، وفي كثير من المعابد والمقابر، كأم الصناديق والصياغ وقبر الحديقة - وهي من آثار بترا الرائعة - رسوم عدة للثعابين والنجوم وما إليها. وقد وجد على بعض المعابد النبطية، في حوران، تماثيل وأسماء لآلهة كثيرة، كأموس، وأثى، وبعلمين، وفقرة وثيندارتيس اليوناني، وآلييت. أما أشهر هذه الآلهة فهو الإله (ديشوره) إله الشمس، وواهب السرور والخصب؛ وهو عبارة عن حجر أسود طوله أربعة أقدام ومقعده قدمان، ولا يزال موجوداً حتى الآن في مزار النبي هارون؛ والبدو هناك يحيطونه بكثير من التقديس والإكرام، ويعتقدون فيه القوة على شفاء بعض الأسقام. ويقدر المستر جون وايتنج ثمن البخور الذي كان يحرق في بترا في المراسيم الدينية بعشرة آلاف جنيه فلسطيني، وهي قيمة وإن كان في تصديقها مجال كبير للافتراض والشك، إلا أنها تدل على مقدار تغلغل الروح الدينية بين الأنباط. وذكر المستر ج. أدم سمث في مؤلفه الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة ص628: أنه قد بلغ من قيمة هذا الإله (ديشوره) أن أقيم له نصبان أحدهما في روما والآخر في بوتيولي
سيادة بترا التجارية
تقع بترا بحكم موقعها الجغرافي في نقطة تجارية عظيمة، وقد كانت حتى منتصف القرن الأول للميلاد نقطة التوريد والتصدير لمختلف البضائع الشرقية، ومركزاً لتبادل المتاجر المختلفة التي كانت تمر بها سائرة بين الجزء الجنوبي لجزيرة العرب، والهند، ومصر، وتدمر، وفلسطين. ولما قدم إليها الأنباط وسكنوها سعوا إلى تحسينها وترقيتها، فبنوا فيها(257/52)
القلاع والأبراج والمعابد والأسواق، والمدارج الرائعة، التي لا تزال قائمة حتى اليوم دليلاً على غابر مجدها، وسالف عزها؛ وقد ساعدهم على ذلك ميلهم الفطري لنقل المتاجر على قوافلهم، وقلة المنافسين لهم، وتفرع طرق تجارية عظيمة بين عاصمتهم وبين سائر الأقطار الأخرى، فقد ذكر (موزل) في كتابه الصحراء العربية ص 515: أنه كان يوجد طريق معبد بين تدمر وبطرا، وأخرى بين بطرا وغزة إلا أن اشتطاط الأنباط في الأجور الغالية التي كانوا يتقاضونها على النقل، وكثرة المصارفات التي كانوا يرهقون بها المتاجر التي ينقلونها، قد حدث بالناس إلى التفتيش عن طريق آخر لحمل البضائع الهندية، فقامت بذلك تدمر وازدهرت حيناً من الزمن حتى عام 273م. على حين تقهقرت حالة بترا التجارية الاقتصادية تقهقراً عظيماً. وفي عام 45م اهتدى هبالوس إلى طريقة الاستفادة من فعل الرياح الموسمية في تسيير السفن، فقل بذلك شأن الطرق البرية عامة، وطريق بترا خاصة، وقد كان ذلك نهاية لعصر بترا الذهبي
أسماء بترا التاريخية
يغلب على الظن أن أول من دعا بترا بهذا الاسم هم الرومان، وذلك لأنها منحوتة في الصخر الأصم، ومعناه باللغة العربية (المدينة الحجرية). وذكرتها التوراة في سفر الملوك الإصحاح الرابع عشر، والعدد السابع باسم (سالع) وفي اللغة العبرية باسم (سلاع) كما ذكرت أيضاً أن أمصيَّا ملك يهوذا قد هجم على الآدوميين في وادي الملح وذبح منهم عشرة آلاف رجل وأنه زحف على سالع (بترا) واحتلها ودعاها (يوقتئيل). وذكر المؤرخ جورجي زيدان في كتابه (تاريخ العرب قبل الإسلام) نقلاً عن المقدسي والمقريزي: أن من أسمائها المشهورة عند العرب (الرقيم). وقد جاء ذكرها أيضاً في القرآن الشريف في سورة الكهف. وذكر المستر باري في كتابه (التاريخ الروماني المدرسي) ص497: أن الإمبراطور هادريان قد زار بترا عام 129م، وأنها دعيت بهذا السم تخليداً لذكراه، كما ذكر أيضاً أنه أمر بسك نقود جديدة باسم بترا الجديد، وقد نقش عليها (هادريان متروبولس)
موقعها وأطلالها:
تقع بترا في الشمال الغربي من معان، وعلى بعد 260كم من عمان عاصمة الأمارة(257/53)
الأردنية، وهي طريق صالحة لسير السيارات في حين الجفاف وانقطاع الأمطار الغريزة حتى قرية وادي موسى التي تبعد عن بترا مسافة كيلو مترين ونصف كيلو متر؛ وهي قرية صغيرة يعتني أهلها بتربية الدواجن ولا سيما الخيل والبغال والحمير، التي يستفيدون منها في موسم السياح، وفيها نبع ماء غزير يستقي منه أهلها ويستفيدون منه في زراعة بعض الخضر والحبوب. ويعتقد البدو الضاربون هناك أن النبي موسى قد مر بهذه القرية أبان خروجه من مصر يقود أثنى عشر سبطاً من أسباط بني إسرائيل؛ وإذ كان العطش قد اشتد بهم فقد أمر بنحر ما معهم من الإبل والنوق، وبفري اكراشها وشرب ما في داخلها من الماء، ولكن ذلك لم ينفع غلتهم، فكثر تذمرهم عليه، وعلا لغطهم، فركع وصلى لله، ثم انتصب وضرب بعصاه صخراً أصم كان إلى جانبه فتفجر منه ماء عذب زلال، ودعي ذلك المكان بعين موسى. والبدو عامة يقدسون هذه العين، ويعتقدون أن روح النبي موسى تقطن بجوارها وتحوم حولها دائماً وأبداً، ولذلك أقاموا عليها قبوا صغيراً يلجئون إليه كلما انتابتهم آفة، أو حز بهم مكروه، لاعتقادهم أن روح النبي القاطنة حوله تشفيهم من أسقامهم، وتسهل عليهم مشكلاتهم ومعضلاتهم. وكثيراً ما يحرقون داخل هذا القبو مقادير عظيمة من البخور، وعرق الند الزكي الأرج، ويضيئونه بمصابيح فخارية، وبزيت الزيتون الطيب النقي، وذلك إجلالاً لروح النبي كليم الله. وقد حدثني بعضهم أنه في كل عام ينحر في هذا المكان ذبيحة أو أكثر، ضحية عن موتاه، وتقرباً إلى النبي في يوم تقوم فيه القيامة وينتصب الميزان. وتبعد هذه العين عن القرية مسافة ميل ونصف تقريباً. وتحيط بوادي موسى الحقول النضرة، والحدائق الجميلة، من جميع جهاتها. ومما يزيد في جمالها الأخاذ انبساط أطلال بترا أمامها، تلك الأطلال الجميلة التي كأنما فرغ من زخرفتها الدهان بالأمس. وأي منظر أبدع وأجمل، واكثر رونقاً وبهاءً من أن يستقبل الإنسان منظر هذه الطلول المبثوتة المنضدة أمام وادي موسى في اتساق غريب وبديع تحار فيه العقول! هناك تقع الغزالة بأشعتها الذهبية أول ما تقع على أجمل وأبدع هيكل طبيعي، ظل قائماً ومحافظاً على استوائه طيلة هذه الأحقاب التي لم تستطيع قط أن تنال منه شيئاً. قمم مشمخرة في الفضاء تنعكس عليها أشعة الشمس صباح مساء، فترتد في شكل قوس قزح بل وأبدع منه، ومن فوقها قبة السماء الصافية الزرقة، وقد انبسطت تحتها حلة سندسية جميلة من الأعشاب(257/54)
الخضراء تنساب خلالها شعبة من الماء الضحل، فتظهر فوقها كالحسام الصقيل فوق بساط بديع الوشى والحياكة تجثم فوقه أسراب الطيور البديعة الألوان، المختلفة الحجوم، الساحرة التغريد. إن منظر بترا من وادي موسى لمن المرئيات الجميلة التي تتوثب لها أحاسيس الحيوان الأعجم الهامد الشعور، فكيف بفعلها في الإنسان ذي الخيال المتوثب، والإحساس المتيقظ، والشعور المرهف؟ وإن زورة هذه الأطلال الخالدة لأسنى ذخيرة يقدمها الشاعر إلى خياله، والأديب إلى أدبه، والرسام إلى فنه، والعالم إلى سجله ومذكراته
يخرج السائح من وادي موسى ممتطيا فرساً يقودها دليل بدوي ماهر في حفظ الأسماء والمسميات، ذكي يفهم من الإشارة الموجزة؛ فيشاهد بعد مسير نصف ساعة قبور (بيلون العظيمة) وهي في طليعة الآثار، وتتركب من حجر عديدة تزينها الأعمدة الجميلة المحفورة في الصخر الرملي الجميل، والمسلات (المصرية الهندسة) الضخمة المدهشة، تقوم بينها طائفة من التماثيل الفنية التي ما تزال على روعتها وجمالها كأنما هي من عمل اليوم؛ لم نشهد من الزمان احداثاً، ولا من الأيام عبثاً ودولاً. ومما هو جدير بالذكر والمشاهدة عند زيارة هذه القبور مشاهدة صورة الحية الجميلة الرائعة التي تبلغ ثلاثة عشر متراً طولاً، والتي يتفرع من عنقها سبعة رؤوس فاغرة الأشداق حتى لكأنما قد رتبت لازدراد فريسة سائغة. وصورة أخرى تمثل جواداً، وقد شدّ عليه سرجه وقرط لجامه، وامتطى صهوته فارس لم تبق الأيام من هيكله الرمليِ سوى بعض أطراف رأسه المهشم وأصابع قدمه المبتورة
السيق
ويبعد عن قبور بيلون مسافة 150 متراً تقريباً، وهو نفق يخترق جبلين رمليين عظيمين، كثير المنعطفات والتعاريج، يبلغ أقصى اتساعه أحد عشر متراً، وقد يضيق في بعض الأماكن حتى لا يكاد يتجاوز الأربعة أمتار، وبالرغم من وعورة هذا النفق فإن خيول وادي موسى لاعتيادها عليه تسير فيه بكل سهولة. يبلع طوله ميلاً وبعض الميل؛ والراجح أنه كان مرصوفاً بالبلاط الرملي الجميل الذي لا يزال مطموراً تحت كثبان الرمال ورواسب المياه المتدفقة، التي كانت تخترقه مارة من وادي موسى، حتى تصب في وادي العربة. وحوالي عام 50 ق. م. عندما بنى الرومانيون معبد إيزيس في نهاية السيق (أنظر شكل1)(257/55)
حولوا عنه مجرى الماء إلى أقنية فخارية رميلة تمتد على جانبي السيق، على طول كل من الجبلين العظيمين القائم بينهما، وتوصل هاتان القناتان جبل خيتة بجبل الرملة، وتوجد على امتداد كل منهما آثار جدران ضخمة متداعية، كانت تقوم مقام السدود عند اشتداد تدفق الماء، وعند حدوث الفيضان. ويبلغ علو كل من هذين الجبلين اللذين يخترقها السيق نحو مائة متر تقريباً، وينبت في وسطهما في بعض الجهات شجيرات صغيرة من الدقلي والتين البري العاقر، ومما لاشك فيه أنهما كانا مزينين بطائفة من التماثيل البديعة التي تدل عليها مواضعها المحفورة، والتي عبثت بها الأيام فيما عبثت من آثار بترا الرائعة. وقد كان مدخل السيق سابقاً مزيناً بالأقواس الرميلة الجميلة التي تشبه شكل قوس قزح، وبالمحاريب الشاهقة الجميلة التي لا تزال آثارها الرائعة تنطق بسالف عظمتها وغابر مجدها بدليل ما اكتشف عليها من النقوش النبطية الكثيرة. . .
(يتبع)
خليل جمعه الطوال(257/56)
رسالة الفن
فرنتس شوبرت
للأستاذ محمد كامل حجاج
بقية ما نشر في العدد الماضي
وقد أثر فيه موت بيتهوفن تأثيراً عميقاً، وما فتئ يظهر عليه البشر والحنان، هذا الوقت ظهرت قطعة المرنجلة والأوقات الموسيقية ولكنه كانت تزيد حالته سوءاً وبؤساً من يوم لآخر، فكان يشرب لينسى همومه؛ ثم كتب الأربعة عشر لحناً التي يقال أنهم وجدوها في أوراق بيتهوفن، وقد جمعت باسم (غناء البجع) أي الغناء الأخير، إذ يقولون أن هذا الطير يغني قبل موته. وفي 26 مارس سنة 1828 أقام حفلة موسيقية من مؤلفاته لأول مرة، فكان الإقبال عظيماً جداً والدخل وافراً. ولكن صحته كانت تتدهور من وقت لآخر حتى لزم الفراش في 11 نوفمبر ثم فاضت روحه المتألمة في التاسع عشر منه سنة 1828 وأصدقاؤه يحفون به، ودفن بجانب بيتهوفن. وفي سنة 1888 نقل الاثنان إلى المقبرة المركزية بفينا بجانب موزار وجلوك
وكانت هيئة شوبرت كألماني شريف ثقيل الحركة قليلاً، وكان ساذجاً مثل هيدن يلهو بأتفه الأشياء. له ولع شديد باجتماعات الأصدقاء التي تدار فيها كؤوس الجعة بكميات وافرة. يضع على عينيه نظارة. شعره جعد، كبير الوجه، غليظ الشفتين، ربعه، كبير البطن. وكان متأجج الشاعرية نابغاً مبدعاً نقي القلب ملك الأغاني كما عبرت عنه مدام ويظهر أن الحب لم يعبث بفؤاده إلا قليلاً جداً. ومن صفاته المميزة أنه كان ذا طبيعة سليمة كريمة مرهفة الحس لا تكتم في باطنها شيئاً. وقد قالت أخته كاتي: (كان طيب القلب جداً يأنف من الحسد، وكان لا يكتم سروره وطربه عند سماع الموسيقى الراقية، ويمسك بيديه رأسه ليتفرغ للإصغاء. وكان إعجابه بموزار وبتهوفن لا حد له. وقد جرى ذكر بيتهوفن على لسانه وهو يلفظ النفس الأخير، وهذا ما أولوه من أنه أراد أن يدفن بجانبه
كان شوبرت شاعر النفس، وقد قال عنه ليزث: (أنه أكبر شعراء الموسيقى على الإطلاق) وكان أشهى مجتمع له هذا النادي الأخوي الصغير المؤثث بأفقر الأثاث؛ وكان يرتجل فيه(257/57)
ألحانه الخالدة. وكانوا يسمون هذه الجلسات الرائعة (شوبرتياد) وكان النبوغ فيها ينير الشباب والصداقة. وقد قال ماير هوفر (إنني لا أنسى أبداً الساعات الهنيئة التي قضيناها في هذا المسكن الحقير ولم يكن عندنا غير بيانو رديء ومكتبة فقيرة وأثاث حقير ونور ضئيل؛ وفضلاً عن ذلك فإني قضيت هناك أسعد أوقات حياتي): وجاء في خطاب لصديقه الحميم شوبر أرسله إليه في 2 نوفمبر سنة 1821: (وددت لو كنت معنا لتنظر كيف تولد هذه الألحان الشجية وهي تموج بالفكر. وغرفتنا في كانت محبوبة جداً، وبها سريران وصفه ومدفأ حار وبيانو؛ وكنا نأتي بالجعة ليلا وندخن ونتسامر فيما مر في النهار ونطالع؛ وحينما تحضر صوفي ونيفل نشرع في الغناء
كانت هذه الاجتماعات الفقيرة البريئة التي تجمع أصدقاء شوبرت وهم يمرحون ويتسامرون ويغنون مؤلفاته التي كان يرتجلها تعد من اسعد أوقاته وأعظم عزاء لبؤسه وشقائه وسط قومه الذين لا يفهمون موسيقاه الساحرة ولا يقدرونها
إننا نستطيع أن ميز في مؤلفات شوبرت عدة مجموعات غنية قيمة غير متساوية في القوة
أولاً: موسيقى البيانو - ثانياً: التربو والكواتوور والكنتيت، ثالثاً: السانفوني - رابعاً: المؤلفات المسرحية.
خامساً: أغاني لليدر. سادساً: الموسيقى الدينية.
إن موسيقاه للبيانو لجديرة بأن توضع في صف واحد مع شومان وشوبان وستيفن هيلير وهي تشمل السوناتات والفانتيزي وأي المرتجلة. وقد كتب عشر سوناتات أشهرها الست الأخيرة. ولا نزعم أنه جدد في الشكل شيئاً ولكنه بث فيها صفاته العادية من الحنان واسترساله في التأملات والخيالات الرقيقة العاطفية؛ وأهم ما كتب في السونات الخامسة. وهي من مقام لامينور. وأما القطع المسماة فهي تستحق ما نالته من الشهرة والذيوع، وفيها من المهارة الفنية السهلة مالا يوجد عند من سبقوه من كتاب قطع البيانو. ولكن بعض مواضيع منها يؤخذ عليها أنها عادية، وهذا يرجع إلى سرعة الكتابة والتلحين؛ ولكن بعض هذه الهنات لا تحجب فتنتها الساحرة. إن نظرنا إليها وجدناها كالماء الصافي العميق نشاهد في قراره كل الخصال الشريفة المحبوبة التي تختلج في روح شوبرت وهذا النوع يتفاوت في الأهمية والقيمة(257/58)
أما موسيقاه الخاصة بالآلات الوترية فانه أظهر في بعضها نبوغاً مدهشاً، ولو طال أجله لارتفع إلى ذروة الفن كبيتهوفن. وقد ابتدأ بكتب الكواتوور وهو في الرابعة عشرة وله منها عشرون؛ وكتب كثيراً من الثريو والكنتيت يعد بعضها من خير ما جادت به القرائح الجبارة، ولاسيما ما كتبه منها سنة 1824 وسنة 1826 وهما الكواتوور والذي من مقام سي مينور
ولقد ترك لنا شوبرت ثمانية سانفونيات الأولى كتبها وهو في السادسة عشرة وأهمها اثنتان التي من مقام أي دو سنة 1828 أو السنة التي مات فيها وقد هجرت في أول الأمر لصعوبة توقيعها ثم عثر عليها شومان في أوراق فردينان شوبرت وكان من المعجبين به. وقد أغدق عليها شومان من أنواع التقريظ ما شاءت له حماسته وقال أنها تكاد توضع في صف سانفوني بيتهوفن
الموسيقى المسرحية
كتب شوبرت ثمانية عشر مؤلفا للمسرح منها اثنان مفقودان، وواحد لم يتم، وأربعة منها أوبريت، واثنان موسيقى للمسرح وفيها كورس وفاتحات وانتراكت وميلودرام ورقص ويبقى بعد ذلك خمس أوبرات بالمعنى الصحيح، أهمها سنة 1822 وفيرا براس سنة 1823 وكل مهما ذات ثلاثة فصول. يتساءل الناس لمَ لمْ ينجح شيء من مؤلفات شوبرت المسرحية؟ لأنه لم يوهب الذوق المسرحي، وقد دهش منه ليزت إذ قال: (إن الذوق الأدبي الذي برهن عليه منذ صغره في اختياره لمتون الليدر قد فارقه وخانه في متون الأوبرات إذ كان يظهر له الغث والسخيف قيما حسنا، وكان يكتب له متون أوبيراته أصدقاؤه الذين لم يضربوا بسهم وافر في البيان ولهذه الاعتبارات لم تعش موسيقاه المسرحية
لقد نبغ شوبرت في موسيقى الغناء حتى صاغها بمعنى عميق من التعبير الصوتي؛ وقد كتب نحو خمسين نشيداً (كور) لأصوات الرجال وعشرين لأصوات مختلفة، ولكنه قبل كل شيء صاحب الصولجان في الليدر التي سبكها في نحو مائة شكل من التعبير إذ تناول جميع أنواع الشعر فلحنها على جميع أنواع الأوزان إذ عالج كل ما وقع في يده من الشعر الوجداني والقصص والدرام؛ ورغماً من مرونة عبقريته وسهولتها كان يسود على موسيقاه تعبيره الشخصي إذ كان الرجل الحساس في القرن الثامن عشر(257/59)
إن ليدر شوبرت تمثل كل صفات الإبداع والابتكار التي أوجدتها الطبيعة فلا تجد فيها شيئاً مصطنعاً لأنها ليست نتيجة الثقافة، ولم تتفتح في حدائق المدنية بل تفجرت كالسيل في محراب عميق بطبيعة لم تنتهك حرمتها؛ وترى موج الألحان يسيل منها كمنبع لا ينضب ماؤه. تتسرب موسيقاه إلى أعماق النفس فتهيمن عليها ويشعر الإنسان حينما ينصت إليها بتأثير لا يستطيع أن يثبت أمامه كما نفتتن بصباح جميل عليل النسيم من أيام الربيع وقد كسا الطبيعة بأبهى حلله وعطر الأرجاء بعبقه الشذي. وقد تناول في تلحينه ليدر جوت وشيليروهين وولتر سكوت وأوسيان وغيرهم من الشعراء
الموسيقى الدينية
يذكر الناس أن شوبرت عرفنا بحالته النفسية في خطابه الذي كتبه في يوليه سنة 1825 عندما لحن نشيد العذراء إذ قال: (لا يمكنني أن أتناول موضوعاً دينياً ما لم أشعر بالتقوى حينما تتملكني. ولم يكفه أنه أقتعد أرفع مكانة في الليدر والسانفوني وموسيقى الغرف بل أراد أن يثبت للجمهور مكانة لا تقل عنها رفعة في الموسيقى الدينية
وخلاصة القول أن شوبرت يعد من أكبر الشخصيات التي يشار إليها بالبنان في عالم الموسيقى. وقد اختطفته المنية وهو في نضرة شبابه أي في الواحدة والثلاثين؛ ولو عاش لجلس مع كبار النوابغ في صف واحد. وكأنه أحس بقصر عمره فطفق يسرع في إنتاجه بشكل أدهش الناس كما فصلنا ذلك في موضعه. وكان يتعزى في بؤسه وسوء حظه وسقمه بأصدقاء حميمين يحيون معه هذه الحفلات الفنية البريئة حتى ينسوه آلامه. وهناك كان يرتجل الليدر الشجية. تلقى دروسه الأولى بشكل ناقص لا يثمر ولكنه كان معلم نفسه. وكان أستاذه هولزر يبتدئ له بالقاعدة فيسبقه بتعريفها بإلهامه وذكائه فكان يقول له: (إنني لا أستطيع أن أفيدك شيئاً!) وقد وهب شاعرية موسيقية لم يوهبها غيره تفيض على تلحينه فتكسبه أرق العواطف وابلغ التعبيرات وأدق الأوصاف، هذا بخلاف رنة الحزن الحلوة التي تسود تلحينه وتصل إلى سويداء القلوب
كان طيب مرهف الحس محباً للخير لا يحسد غيره من كبار الموسيقيين بل كان يعجب بهم ويغبطهم؛ وكان محبوباً لدى الشعب قبل الأخوان. كانت موسيقاه في تقدم مطرد نحو الرقي والكمال بدليل أن مؤلفاته في سنيه الأخيرة كانت من أرقى ما كتب؛ ولو طال عمره قليلاً(257/60)
لأتى بالمعجزات والمدهشات
محمد كامل حجاج(257/61)
رسالة الشعر
حين أطرقت ملهمتي
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(لفها صمت عميق في مساء يوم من أيام اللقاء فبدت في هالة
من الجمال الحزين. . . أشبه ما تكون بأغنية سماوية على
شفة ملاك نائم!!)
أطرقَت كالخيال في خاطري السَّا ... جِى، وكالنَّبْع في الظلال الحزينَه
تتملى في صمتها، ذات جَفْن ... شاعرٍ في الدُّجى يُقاسي شُجونه
أطرقت! يا لكُرْبة النَّاي! من يُذْ ... كي هواهُ؟ ومن يُناغي لحونهْ
مَنْ يواسيه إِنْ طَغَتْ ثورة القل ... بِ فهاجت لها الهمومُ الدَّفينَةْ
من لهُ؟ آهِ! مَنْ لأنغاِمهِ السُّو ... دِ إذا شَّبتِ الليَّالي أَنينَهْ؟
كم شدا في ظلالها نعِيمَ اللَّحْ ... ن، وألقى على يديْها رنينهْ!
ناغماً بالهوى كَقُمْريِة الفَجْ ... ر، طَرُوَباً كالنَّحْلة المفْتُونةْ
مالهُ عادها فصدَّت أَمانيِه ... وظَلَّتْ في الصمْتِ وَلْهى حزينه؟
أطرقتْ في الظلام كالأبد الوسْ ... نانِ ما فَرَّت الدياجي سِنينَهْ
صَمْتهُ الغَيْب غلتفه يدُ الل ... هِ، وأخفت عن العقول كمينَهْ
مِثْلَ رَيْحانة الماء جفاها ... نَسَمٌ منه، فاستطابَتْ سكونه
يعبقُ المرجُ في الدجى من شَذاها ... وَهْيَ وَسْنَى بين الروابي سجينه!
إِيهِ مَنْ تُلْهم الأغاريد، تَنْدي ... مِن صفاء. . ياُ بؤس مَن تلهمينه!
ظِمئَ النَّايُ للتغَّنيَّ. . فهاتي ال ... كأس، وارْوِي لياَعَهُ وحنينهَ
أَنْتِ في الصمت آيةٌ فجَّر الل ... هـ عليها من الجلال مَعينه
فاْصمتي! أوْ فعاوِدي الصبَّ بالسَّحْ ... رِ! وناغِي هُيامَهُ وَفتونهْ
بَيْتُ شِعرٍ على جبينك غافٍ ... أَيقظ الصمت سرَّهُ وفنونهْ
وفؤادي الذي تكشَّفَ نجْوا ... هُ، وذَرَّى على الخيال دفينه. .(257/62)
وعلى الأعْيُن السَّواجي صلاةٌ ... أنا منها في خشعةٍ وسكينهَ
ما لنُسَّاكها وجودٌ! ولكن ... عابدُ الحسن - وَحْده - تعرفينه
وعلى الصدَّرْ هزَّةٌ جاوَبتْها ... ضجةٌ في مشاعري مجنونه
خِلْتُ منها وزَفرةُ الصمت تغلي ... نارَ زق من الأسى تنفخينه
وعلى الثَّغْرِ جدولٌ من أغان ... آه لوْ في جوانحي تَسْكبينهْ!
نشرَتْ مهُجتي القِلاع على شَطَّ ... يهِ - شوقاً - فَرَحْمتا للسفينةْ!
لم تجدْ مَرفأً لديهِ سوَى الصَّمْ ... تِ، وشَطٍّ مغُيَّبٍ ترقُبينهْ!
وظلالٍ وراَء كونٍ بعيدٍ ... فجَّر الصَّمْت في رباها عُيونهْ!
طيْرُها نام في رُفاتِ الأغاني ... بعدما أسْكرَ التغَّنَّي غُصونهْ!
فَلأَئٍ من الضَّفافِ سيمضي ... سابحٌ في هواكِ لا ترحَمِينهْ!
قد هَجَرْتِ الخيالَ والشَّعْرَ والصَّم ... ت. . . وخلَّفْتِ ناره وجُنونهْ
واَّمحي كونُكِ المجسَّمُ. . . إلا ... قَبسٌ من صَبابةٍ تُشْعِلِينهْ
رُحْتِ تُذكينهُ من النظر السَّا ... هي وفي مَعْبَدَ الهوى تُضْر مينهْ!
رَحْمَةً بالحبيب يا هاَلة الوحْ ... ي! وزُفَّي ضيِاكِ يُسْني عُيونهْ
وابسمي! أو تكلَّمي! لا. . وإن شِئ ... تِ فَلحْظاً على دَمي تَنْشُرِينهْ
يُنْشَرُ السَّحْرُ والهوى والأماني ... فوْق دُنْيا بخاطِري مَحْزونهْ
أو فَصَمْتاَ. . . ورَفْرِفي حَوْل رُوحي ... واسْكُبي الوْحيَ في ظِلال السكينةْ
أنْتِ نَّسيتنِي هدوئي في (الكُو ... خِ) وأفْنَيْتِ لَيَ ضَجيج المدينةْ
وجعلتِ الأكْوَانَ لْحَناً ... ليتَ - يا لوْعةَ المُنَى - تعزِفينهْ
وترِى ماتَ في يدَيَّ حنيناً ... وغليلُ الهْيُاَمِ أبَلَى مُتونهْ
فاْبعثيهِ من البلَى يتغنَّى ... مثلما كنتِ دائماً تَسْمَعِينهْ
لَفْظَةُ منكِ فِتنهٌ وحياةٌ ... تتهادَى بهاَ الأغاني السجِينهْ
أنْتِ يا سُلْوَتي على نكَدِ الدني ... اوصَفْوِي على اللَّيالي الْحزِينهْ
شابَ عمري وَلاَتَ. . والرُّوح أضَحتْ ... مِنْ أساها يتيمةً مسكينهْ
والرُّزايا أقَمْنَ عُرْساً لحظَّي ... لا تمنَّيْتُ مرَّةً تشهدينه!(257/63)
أَتَعايا بشقْوتي! والمزامِي ... ر بكفَّي شَقِيَّةٌ مَوْهونه
يتَسلَّى بنا الوُجودُ. . . ولكنْ ... سُلْوَةُ الذَّئبِ بالشَّياهِ السمينه. .
وَنغُنَّيهِ مُلْهَمين حيارَى ... بْينَ رِجْسٍ، وغفلةٍ، وضغينه
فاعذُرينيِ إذا ألحت بِيَ النَّجْ ... وَى لصوتٍ مقدَّسٍ تكتُمينه
فأنا ظامِئٌ. . . وصَوتُكِ للرُّو ... ح عَبيرٌ تذيعُهُ (ياسَمِينه)
محمود حسن إسماعيل(257/64)
مداعبة صديق
للأستاذ محمود غنيم
تعزيه موجهة إلى صديقنا الشاعر (. . .) عن سبعه جنيهات
احتال عليه دجال فسلبه إياها أحوج ما يكون إليها
هوَّن عليك وجفَّفْ دمعك الغالي ... لا يجمعُ اللهُ بين الشَّعر والمالِ
إناَّ لفي زمن فَقْدُ النقود به ... يُدمي العيون كَفقيد الصحب والآلِ
أَدَّ التعازي في مال وفي ولد ... لا فرق ما بين أموالٍ وأنجالِ
مِنْ أين أصبحت ذا مال فَتُسْلَبَهُ ... يا أشبه الناس بي في رقَّةِ الحالِ؟
فيالها سبعةً من حبيبك انطلقت ... وأنت أحوجُ مخلوقٍ لمثقالِ
فريسةٌ من فم السنور قد نُزِعَتْ ... شَتَّانَ ما بين سِنَّوْرٍ ورئبالِ
عوَّذْ نقودك واعقِد حولها عُقَداً ... وثيقةً تتحدى كلَّ حلاَّلِ
قالوا خلت يدُهُ من كل ما ملكت ... فقلت بل رأسُه من عقله خالِ
لم يَبْقَ عندك ما تخشى عليه فَنمْ ... كما أنامُ قريراً ناعمَ البالِ
نفسي فداؤُك ليت اللصَّ صادفني ... قد يغلبُ اللَّصَّ بالإفلاس أمثالي
يا ليت شعرِيَ ماذا أنت صانعُهُ؟ ... أتزمعُ الصومَ حتى شهرِك التالي؟
عش من قريضك في ريٍَّ وفي شبع ... إن كان ينتفعُ الظمآنُ بالآلِ
أقسمت ما سلبت تلك النقودَ يدٌ ... بل وَدَّعَتْ هرباً من جيبك البالي
الذئب لا يشتهي لحمَ ابنِ جلدته ... فكيف غرَّرَ دَجَّالٌ بدجالِ؟
(كوم حمادة)
محمود غنيم(257/65)
البريد الأدبي
مجمع أدبي مصري
منذ دخل صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا عضواً في هذه الوزارة وهو يفكر مجداً في إنهاض الأدب وتوجيه الثقافة إلى الوجهة المنتجة. وقد طالع بهذا العزم فريقاً من أصدقائه الأدباء فيحثوا معه الأمر ورسموا له مشروعاً. فلما ولي الأمر في وزارة المعارف عقد النية على دراسة هذا المشروع فأصدر القرار التالي بعد الديباجة
بما أنه قد لوحظ أن الحركة الأدبية في مصر وأن كانت قد نشطت وأصبح لها أثر ظاهر في تثقيف الجمهور وتوجيهه، إلا أنها لا تزال يعوزها التنظيم الذي يكفل لها اطراد التقدم وحسن التوجيه. وبما أنه قد نبتت فكرة الدعوة إلى إنشاء مجمع أدبي مصري يقصد به على الأخص إلى تنظيم الحياة الأدبية في مصر وإيجاد صلة منظمة تربط الأدب والأدباء بالجهود التي تبذلها وزارة المعارف في تنشيط هذه الناحية وتعاون على تنمية الثروة الأدبية في البلاد - على غرار ما هو متبع في البلاد ذات النهضات الأدبية الكبيرة. وبما أننا نرى تكوين لجنة تقوم بدراسة هذا المشروع والتقدم باقتراحاتها في نوع الوسائل الكفيلة بتحقيق الأغراض المتقدمة
لذلك قرر:
مادة وحيدة - تؤلف لجنة برياستنا وعضوية: - حضرة صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك والدكتور طه حسين بك والأساتذة أحمد أمين وخليل مطران وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وتوفيق الحكيم: لبحث وسائل تنظيم الحركة الأدبية في مصر
الأدب العربي في مصر منذ الفتح الإسلامي
أصدر وزير المعارف القرار التالي. وهذا نصه بعد بالديباجة. بما أن للأدب العربي في مصر طابعاً خاصاً اختلف في العصور الأولى للفتح الإسلامي عنه فيما تلا ذلك من العصور ويتناول هذا الأدب إنتاج الكتاب والشعراء الذين وفدوا من البلاد العربية والإسلامية إلى مصر وأقاموا بها كما يتناول إنتاج الكتاب والشعراء المصريين
وبما أننا نرى ضرورة العناية بدراسة هذا الأدب في مختلف عصوره، وعلى الأخص(257/66)
تاريخه وصلته بالحياة العامة المصرية - اجتماعية وسياسية واقتصادية - وإظهار الصورة التاريخية التي يرسمها هذا الأدب المصري في عصوره المختلفة
ولما كانت دراسة هذا الموضوع تتطلب الاستعانة برأي طائفة من المشتغلين بالأدب العربي في مصر لتعرف الوسائل التي تؤدي إلى حفز الهمم لإبراز هذه الناحية قرر:
مادة وحيدة - تشكل لهذا الغرض لجنة برياستنا وعضوية: حضرة صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك ووكيل وزارة المعارف العمومية. والدكتور طه حسين بك. والأستاذ أحمد أمين. والأستاذ علي الجارم بك. وأستاذ الأدب العربي بدرا العلوم
وسائل مكافحة الأمية بين طبقات الشعب
أصدر وزير المعارف قراراً بإنشاء لجنة لبحث وسائل مكافحة الأمية، بين طبقات الشعب، سواء منهم من كان في سن الإلزام أو من تجاوزه. وهذا هو القرار:
بعد الإطلاع على التقرير المقدم من اللجنة التي عهد إليها بحث مشروع مكافحة الأمية
وبما أن جهد وزارة المعارف في مكافحة الأمية بنشر المكاتب العامة يقتصر أثره على الأطفال الذين في سن الإلزام، ومن نتيجة الاقتصار عليهم أن تبقي أغلبية الشعب الساحقة غارقة في غمار الأمية
وبما أننا نرى ضرورة اتخاذ الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأمية لتهيأ لسواد الشعب المصري وسائل الاستنارة واكتساب قسط من الثقافة يرفع من مستواه ويصله بالحياة الصالحة الجديرة بالشعوب الناهضة
وبما أننا نرى تشكيل لجنة تعني بدراسة هذا الموضوع من جميع نواحيه وتتقدم باقتراحاتها لتحقيق الغرض المتقدم
لذلك قرر:
مادة وحيدة - تشكل لهذا الغرض لجنة برياستنا وعضوية: وكيل وزارة المعارف، الوكيل المساعد لوزارة المعارف، مراقب التعليم الأولى، محمد فهيم بك، إبراهيم تكلا بك، الأستاذ محمد مظهر
مشروع أعداد المعلمين لمدارس التعليم غير الأولية(257/67)
بين المشروعات التي اشتغلت بها وزارة المعارف، مشروع إعداد المعلمين للمعاهد غير الأولية. وقد اتخذت الوزارة القرار التالي في صدد هذا:
بعد الاطلاع على الاقتراحات المقدمة من اللجنتين اللتين شكلتا لبحث موضوع إصلاح دار العلوم ومعهد التربية للبنين
وبعد الاطلاع على التقرير المقدم من وكيل الوزارة المتضمن رأيه في وسائل إعداد المعلمين للمعاهد غير الأولية
وبما أننا نرى وجوب العناية القصوى بحسن إعداد المعلم وذلك بوضع الأساس الصحيح الذي يقوم عليه كل إصلاح في وسائل التربية والتدريس
وبما أننا نرى - لتحقيق هذه الغاية - تشكيل لجنة تقوم بدراسة هذه المشروعات والاقتراحات وتتقدم برأيها في خير الوسائل لحسن إعداد المعلم وإصلاح المعاهد التي تقوم بهذا الإعداد
لذلك قرر:
مادة وحيدة: تشكل لهذا الغرض لجنة برياستنا وعضوية وكيل وزارة المعارف. الوكيل المساعد لوزارة المعارف. مراقبي التعليم الابتدائي والثانوي وتعليم البنات والتعليم الحر بالوزارة. عميد كلية الآداب. عميد كلية العلوم. ناظر دار العلوم ناظر معهد التربية للبنين
حول الرمزية
يسألني الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي (الرسالة 256) (هل الغموض والإبهام من مستلزمات الرمزية وهل بدونهما لا تكون؟)
فالرمزية - حسبما بينت في الرسالة رقم 251 - على ألوان. فإن كانت الرمزية ناهضة على ما وراء الحس أو الطبيعة غلب الغموض بل قل الاستغلاق عليها (عند مالارميه وفاليرى وكلوديل مثلاً)، وإن كانت ناهضة على التأثر والإيقاع والتخيل المنسرح قلَّ النموض فيها (عند فرلين ودي رينييه مثلاً). وأما الرمزية الناهضة على الدفائن والخواطر والواردات من حيث القابلية والإيهام والتلويح والتمثيل من حيث الأداء فإنما ينبسط على نواحيها ظل لطيف. ولتجدن بيان هذا في (التوطثة) التي صنعتها لمسرحيتي (مفرق(257/68)
الطريق)
وأما قصة جيران و (وليم بليك) فإني لا أزال عند رأيي (ارجع إلى الرسالة 251). ومما يعزز هذا الرأي قول (رودان) النحات في جيران، وتصيبه في المقدمة التي عملتها فنانة أمريكية (لا يحضرني أسمها الآن) لمؤلف لجبران يضم عشرين صورة وعنوانه: (وهو مطبوع في الولايات المتحدة)
وبعد، فهذه الرمزية تشق طريقها في الأدب العربي، إذ تطَّرد الكتابة فيها (ولا سيما في الرسالة). إلا أن بعض ما كتب لا يمحصه نقد ولا يمدّه اطلاع، وليس بالقارئ اللبيب حاجة إلى التنبيه
بشر فارس
بين الرافعي والعقاد
جاء في مقال الأستاذ سيد قطب المنشور في عدد (الرسالة) الغراء رقم 256 ما يأتي:
(. . . إنه راح يتقصى ما قيل فيما يقرب من قول العقاد: فيك مني ومن. . . سائراً في تقصيه على النسق الخالي من كتب النقد العربي لقدامة وأبي هلال العسكري ومن ينقلان عنهما (كذا). . . من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً وحسبان كل شاعر متأخراً أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم وزاد فيه أو نقص، وتصرف أو ولد. . . الخ)
وأنا لا أريد أن أخوض غمار المعركة وقد أرادني الأستاذ الزيات على الصمت حيناً، غير أنه يؤسفني أن أجد فينا من يحاول أن يحط من قدر القدماء ومن أجدادنا وأن ينظر إلى تراثهم الغالي نظرة احتقار وهو ما يزال في أول الطريق. . . ثم إني أريد أن أنصف الأدب والتاريخ؛ فالذي يقرأ هذه الفقرة من كلام الأستاذ قطب يخيل إليه أن قدامة بن جعفر كان يعرض للبيت من الشعر (فيتتبع المعنى تتبعاً زمنيًّا) وأنا قرأت كتابي نقد الشعر ونقد النثر لقدامة فما وقعت عيني على شيء من هذا، بل هو نقد وتحليل يستطيع الأستاذ قطب أن يرى رأي الذين يفهمون الأدب لو قرأ في المقدمة التي كتبها الدكتور طه حسين لكتاب نقد النثر الفقرة الأولى ص 17 والفقرة الأولى من ص18 من طبعة دار الكتب المصرية، ثم لو قرأ في التحقيق الذي كتبه الأستاذ عبد الحميد العبادي الفقرة الأولى ص 35 والفقرة(257/69)
الثانية ص 36 من نفس الطبعة. . . وإني أرجو الأستاذ قطب أن يمعن في قراءة كتابيّ النقد لقدامه لعله يرى خطأ هذا الرأي، فهو في كتابيه لم يكتب حرفاً في الطرقة التي أشار هو إليها والتي لزمها القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه، وهي طريقة لا تخلو من فائدة جليلة. . .
أما أبو هلال العسكري فلقد قرأت له كتاب الصناعتين، وكتاب ديوان المعاني، وكتاب محاسن النثر والنظم فما عثرت على شيء مما قال الأستاذ قطب
ولست الآن بسبيل أن أعرض لكل كتاب فأكشف عن الغرض الذي رمى إليه المؤلف وعن طريقة الكتابة وأبواب الكتاب، ولكني أريد أن أطلب إلى الأستاذ قطب أن ينبئني عن تفسير قوله (ومن ينقلان عنهما) ثم عن مواضع النقل البارزة في الكتب السابقة
فهل لي أن أسمع منه كلمة هادئة في هذا الموضوع دون أن يتحدث عن القديم والجديد، فهذا باب آخر. . .
كامل محمود حبيب
تجميل وزارة المعارف وتشجيع رجال الفن
رأت وزارة المعارف أن في مصر طائفة كبيرة من رجال الفن الذين يبتدعون مختلف اللوحات الفنية الرائعة والتماثيل المنحوتة الجميلة، ثم لا يجدون الإقبال عليها مما يجعلهم في حالة يستحقون من أجلها المعاونة حتى يمكنهم النهوض بفنهم
وقد اعتزمت الوزارة إزاء هذا تجميل مكاتب كبار الموظفين بوضع اللوحات الفنية لرجال الفن المصريين كما اعتزمت تجميل حديقتها بوضع التماثيل فيها
وتأمل الوزارة أن تحذو الوزارات والمصالح الأخرى، والأسر الكريمة الراقية حذوها في اقتناء تلك الآثار الفنية الرائعة التي يضيق عنها متحف الفن، رغبة في تربية ملكة الذوق السليم في النشء من ناحية، وفي تشجيع رجال الفن من المصريين على المضي في ابتداعهم وإنتاجهم من ناحية أخرى
منحة المجلس البريطاني لخمسة من طلبة الآداب
تلقت الجامعة المصرية، كتاباً من المجلس البريطاني، ذكر فيه أنه يمنح خمسمائة جنيه(257/70)
لخمسة من طلاب قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، تقسم بينهم بالمساواة فتتاح لهم بفضل هذه المعاونة المادية زيارة إنجلترا لتوثيق عرى الصداقة وتمكين الأواصر العلمية بين مصر وإنجلترا
وقد أعد لهم المجلس مقراً صيفياً في أكسفورد لهذه الغاية، وقد عرض هذا الكتاب على مجلس الكلية، فتقبله شاكراً، وسيعرض على مجلس الجامعة في اجتماعه يوم الثلاثاء القادم، ثم تختار كلية الآداب الطلاب الذين يسافرون في هذه البعثة الثقافية
بين الرافعي والعقاد
قرأت ما كتبه الأستاذ كامل محمود حبيب فيما رأيته من صيحة قول العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
لأن كل شيء في الكون لا يخلو من حسن يسوغ إجراء بيت العقاد على عمومه، فلم يسعه إلا أن يعترف بعموم هذا الحسن ولكنه فسره بمعنى الدقة في الصنع وجمال الخلق
وهو يرى أن هناك جمالين: أحدهما جمال بهذا المعنى الذي ذكره من دقة الصنع وجمال الخلق. وثانيهما جمال لم يستطع تفسيره، بل قال إنه الجمال الذي يجذب القلب، ويأسر الفؤاد، ولا يمكن أن يجده الإنسان في الدودة وفي الدبابة وغيرها مما تشمئز منه النفس، ويعافه الذوق
وإني لأقول للأستاذ الفاضل إنه لا جمال في الدنيا إلا بمعنى دقة الصنع، وجمال الخلق، وهو عام في كل ما خلق الله تعالى، وإن كان لكل نوع من ذلك جماله الذي قد يكون قبحاً في غيره
ولا شيء بعد هذا في أن يقول العقاد إن معشوقته فيها من كل شيء من هذا الكون الجميل، وهذا كما يقول إن زيداً فيه جزء من كل حيوان فيصح لك هذا القول، لأن الحيوانية العامة جزء من زيد، وهي جزء من كل حيوان
بل يجب أن نقبل هذا من العقاد كما نقبل منهم تشبيه الوجه الحسن بالبدر، مع أنك إذا ذهبت تستقصي في البدر ما تستقصيه في بيت العقاد يضيع منك هذا التشبيه الجميل، ويكون لك في البدر من الجبال والكهوف وما إلى ذلك ما في بيت العقاد من الدود والذباب ونحوها(257/71)
على أن الأمر لا يقف في بيت العقاد عند الصورة الحسية من معشوقته، بل يتناول مع هذا صورتها النفسية، فهي حلوه ومرة، وهي نعمة وبلاء، وهي سعادة وشقاء، وهي في مرارتها أشد من الصاب، وإن شئت قلت من الملح الإنجليزي الذي تهكم به الرافعي رحمه الله، وهي في هذا حلوة وجميلة أيضاً، ومثلها في هذا مثل ذلك الممدوح الذي قال فيه بعض الشعراء:
هو عسل إذا ياسرته ... وإن عاسرته فهو صاب
ولست بعد هذا في حاجة إلى إعادة الكلام في بيت الأستاذ العقاد، وليس عندي من التعصب له أو للرافعي ما يدعوني إلى إطالة هذا الجدال
عبد المتعال الصعيدي
وفاة عالم بريطاني
فقدَ قسم العاديات المصرية والآشورية في المتحف البريطاني، عالما الآثار المصرية من العلماء الحديثين الذين كان يرجى لهم مستقبل عظيم، بوفاة المستر الان وين شورتر قضى نحبه بذات الرئة وهو في الثانية والثلاثين من عمره
وقد التحق المستر شورتر بالمتحف البريطاني في سنة 1929 فوجه أكثر عنايته منذ ذلك الوقت، إلى دراسة النصوص الدينية المصرية وقد وضع بضعة مؤلفات عن الحياة الدينية عند قدماء المصريين أنجز أخيراً الجزء الأول من (كتالوج) أوراق البردي المصري وفي عامي 1928 و 1929 اشترك في بعثة جمعية الاستكشافات بمصر(257/72)
الكتب
كيفما اتفق
كتاب بالإنجليزية للدكتور أحمد زكي أبو شادي
للأديب نصري عطا الله سوس
الدكتور أبو شادي شخصية فريدة كل ما فيها معجب محبب، وهو مثال باهر للكاتب الذي يحيا حياة عامرة بمختلف أنواع النشاط الناهض. وحسب الطبيب الشاعر أنه إحدى الشخصيات القلائل التي تعددت نواحي أذهانها دون أن تطغى ناحية على أخرى. وهو مثل حي بليغ لاستحالة العداوة بين الفلسفة والدين والعلم والشعر. وإن الخلاف بين نوعين من أنواع المعرفة لا يجد له مكاناً إلا في الذهن الكليل الذي لا يمكنه أن يفهم إلا جزءا من كل، والذي توفرت له بعض المؤهلات ولم يتوفر له البعض الآخر؛ ولكن العقل الكبير يدرك بالبديهة قبل أن يثبت بالبرهان (إذا فرض إمكان الإثبات عن طريق العلم) أن العالم وحدة لا تتجزأ وأنه من المستحيل أن يناقض بعض أجزائها البعض الآخر
ويعجبني في الدكتور أبي شادي أنه كائن حي قائم بذاته يتفجر إيمانه بالحياة وربها وما بعدها من أعماق ذاته ولا يتقبل تعاليم السلف مغمض العينين. والاستقلال الذاتي صفة نادرة؛ ولكن الحياة بدونها تصبح باهتة رثة عديمة الطعم عديمة القيمة. وقد اتجه الدكتور إلى التأليف بالإنجليزية وبين يدي الطبعة الثانية لكتابه (كيفما اتفق) وقد تناول بالبحث في كتابه هذا أهم المشاكل العالمية مثل تحسين النسل، العوامل التي يجب أن تتوفر في الشخص المتمدين، العبقرية، الديمقراطية والحكم المطلق، الدين، المساواة بين الجنسين، الاقتصاد، التعاون، والأخلاق، ويجب على كل شخص يحس بوجوده أن يدرس هذه الموضوعات ويكوَّن له رأياً خاصاً فيها؛ وغرض الكاتب هو خير الفرد وسعادة المجموع. غير أني أختلف معه في بعض ما يقترحه من وسائل وغايات
تطغى شخصية العالِم في هذا الكتاب على ما عداها. وأي عالم؟ ذلك الذي لا يؤمن إلا بالعقل وحده والمنطق والمقاييس المضبوطة - وعهدي بأبي شادي شاعراً كبيراً ولكن شخصية الشاعر اختفت تماماً من هذا الكتاب، وفي هذا خسارة لا كسب. وقد تطرف(257/73)
الكاتب في بعض آرائه تطرفاً عنيفاً وهاجم بعض النواحي التي لا يسهل مناقشتها في مصر وإن كانت هذه النواحي أكثر الأشياء افتقاراً إلى البحث والتمحيص. ولا شك في أن كل مثقف يؤمن بما قاله المؤلف عن (الأساطير) وأن اعتناق الجماهير إياها مصدر الكثير من الضرر، ولكنه لن يجد من يؤمن بالعلم وحده. العلم الذي يتخذ المقاييس والرياضيات أساساً له - ومن العسف أن نهاجم عقائد الشخص العادي ونحاول تشكيكه فيها مهما كان فيها من خلط وزيف قبل أن نمده بما يشغل مكان هذه العقائد - والعلم لن يقوم مقام العقيدة، وكل حضارة لا تستند إلى إيمان قوي لا يمكنها أن تثبت لا لإرهاصات الزمن - ولا شك في أن العلم ركن قوي من أركان الحضارة ولكنه لا يمد الإنسان بالإيمان الذي يريح القلب ويطمئن الضمير، ولكن الإيمان ينبع من أعماق النفس ولا حيلة للمنطق معه! وستمر دهور ودهور قبل أن يترجم الإنسان العادي النور وتغريد الطيور وجمال الزهور إلى معان إلهيه. ومن هنا صعوبة مهاجمة (الأساطير) في الوقت الحاضر - وعندي أن كل إصلاح لا يبتدئ بالفرد مصيره الفشل المحتوم - فيجب على المصلحين أن ينموا شعور الفرد بإنسانيته وأن يستخدموا العلم في تحريره من ربقة المادة، وأن يفتحوا أمامه سبيل تهذيب الضمير بواسطة الآداب والفنون حتى يتفجر إيمانه بالقوة الخالقة من أعماق ذاته المحرَّرة. وعندئذ يمكنه أن يُنزل الأساطير مكانتها الحقيقية؛ ومتى وصل إلى هذا المستوى وشعر بكرامته الإنسانية فسيشعر بواجبه شعوره بحقه وسيفهم معنى الحياة الإنسانية الحقة، ويخصص نفسه لخدمة مثلها العليا، ولن يؤمن بالدكتاتورية أو يسمح بها. أما الإيمان بالعلم وحده فمظهر من مظاهر الصلف والاغترار الذهني
وأعتقد أن العالم الذي حوى صدره علم الأوائل والأواخر، والذي يقول (إن الحياة على هذه الأرض محض صدفة) أو يبلغ به التبجح إلى أن يقول: (إن الله عالم رياضي) إنسان بائس مسكين، والشخص العادي الضعيف الذي يرى أن مظاهر القدرة الالهيه مبثوثة في كل شيء اسعد منه بمراحل. والظاهر أن المؤلف تأثر بكتابات الذهنيين ونظريات برتراند رسل عن وحدة الروح والجسم وهلاكهما معاً. وحسبي أن أذكر مثلا من هذه النظريات يرينا خلل وضلال القياس الذهني:
يقول رسل إن حالة (الإشراق والصفاء) والمعاني اللطيفة التي تترقرق في قلب الإنسان(257/74)
أثناءها تشبه حالة السكر وما يخالج النفس أثناءها من نزوات، لأن السكر حالة شاذة تقع بواسطة مؤثر خارجي هو الخمر؛ وكذا حالة الإشراق أيضاً لأنها تقع بواسطة مؤثر خارجي هو الصوم! وهذا هو ما يؤدي إليه الإيمان بالعلم وحده
ولا شك أن هذا الكتاب خطوة حسنة في سبيل توطيد العلاقات الثقافية بين مصر وبريطانيا؛ غير أن القارئ الغربي لن يجد في هذا الكتاب جديداً ولا يمكنه أن يتبين أن المؤلف رجل شرقي، لأن (الشخصية) بمعناها الأدبي معدومة الأثر في الكتاب. وقد عالج المؤلف موضوعات معروفة مطروقة في الغرب ولا فضل له فيها إلا الجمع والترتيب والاختيار؛ ثم عرض لبعض المظاهر الاجتماعية في مصر. ولعله ينحو في كتاباته المستقبلة نحواً جديداً بحيث تبدو فيها خصائص الروح الشرقية الحرة، وهذا ميدان واسع تعود الكتابة فيه بالفائدة على الشرق والغرب، لأن مظاهر العلم والفن والأدب في أوربا الحديثة متأثرة بما ترزح تحته هذه القارة من أنواع المحن والبلاء، ولا يمكن للشخص الغربي المنشَّأ في حلقة هذه الظروف أن ينظر إليها نظرة أصيلة فاحصة ولكن الرجل الشرقي الذي لم يتأثر بهذه الظروف يمكنه أن ينظر إلى هذه الأحوال نظرة أقرب إلى الحق والصدق، ويجب على الكاتب الشرقي أن يهْدي إلى الغرب مما عندنا لا مما يستعيره منه
بقي أن نقول إن الشرق مفتقر إلى مثل هذا الكتاب أكثر من افتقار الغرب إليه، ويقول المؤلف في مقدمته أنه يعني بكتابه القارئ العادي (الغربي طبعاً) ثم يعود فيقول إنه لا يعني بكتبه عموماً إلا الخاصة، وإنه لا يتهم بسواد القراء في الشرق؛ ولما كانت خاصتهم تعرف الإنكليزية فلا ضير عليه في الكتابة بها؛ ولكن المؤلف يدعو إلى التعاون العالمي، وهذا لن يكون إلا إذا ارتفع القارئ الشرقي العادي إلى مستوى القارئ الغربي العادي ولعلنا نرى الكتاب مترجماً إلى العربية بعد تعديل يلائم الشرق
نصري عطا الله سوس(257/75)
بونا انطون
الآنسة وداد سكاكيني
لما قرأت رواية (بونا انطون) للأستاذ كرم ملحم كرم لمست بخاطري
رواية نوتردام دو باري لشاعر الفرنسيس فيكتور هوجو، وخفق أمام
عيني مسرح الراهب كلود فرولو وقد ملأها الهواء فانتفخت حتى بدت
وراء ظهره كالقربة؛ تمثلته بالخيال يصعد عجلان سلالم الكنيسة، لا
حقاً بالرقصة الحسناء (ازميرالدا) ملحاً عليها بأن تحبه فيجثوا أمامها
ضارعاً لهيفاً، كما يجثو أمام المذبح في المعبد، ويناشدها الغرام الأثيم
ثم يقول لها: تخيري أحد أمرين: إما شهوتي العاتية وإما الموت
الزؤام، فاختارت الثاني فطوح بها هذا السفاح في مهاوي الردى وقد
اتهمها بالقتل، وما قتلت إلا يده الجانية وغيرته الطاغية فهو الذي طعن
حبيبها الأمير فوبوس من خلفه إذ كان إلى جنبها يناجيها في ليلة هادئة
مقمرة
ذكرت هذا كله حين قرأت رواية (بونا انطون) لنابغة القصة العربية في لبنان كرم ملحم كرم وقلت: بأبي الحق وأمي إن جاء من أهله! لقد كتب الأستاذ كرم روايته عن كاهن خبيث فصور لنا حياته الخفية التي لا يراها الناس، وعبر عن نزواته الصارخة واحتياله الوضيع بأسلوب رشيق أخاذ. لقد كان هذا الأب يغدو كل صباح إلى سيدة مهذبة فاضلة فيباركها ولا يكاد يقترب المساء حتى يهب في ديره إلى ارتداء قلنسوته ومسوحه فيمسح بيده طيباً، وينطلق إلى بيت السيدة التي سبته وسامتها وخلبته براعتها، فأصبح لها عاشقاً وامقاً، فيبارك عليها مرة وأخرى ويرمقها خلسة بعد خلسة بلحاظ لاهبة ذاهلة
كان هذا الكاهن يتابع زوراته واعظاً باسم الدين، ذئباً في صورة إنسان، حتى كشفت المرأة الذكية عن نيته وطويته، فإذا هو يحمل لها في قلبه حباً أقوى من حب روميو، ويكظم في(257/76)
نفسه شهوة لها أشد من شهوة كازانوفا؛ ولكن ماذا تفعل به وهي من المحصنات ولها زوج كريم؟ فصدته عن السوء، وكفته عما أخذ بأطرافه من مراودة عن نفسها، فلم يستعصم، وما يئس. وحين لم تستطع على جماحه كبحاً، أمرت الخادم أن لا تفتح الباب للكاهن. فلما أحس مقتها ونفوها، فار الدم في عروقه من الغيض وثارت في صدره وساوس الحقد والثأر، فآلى على نفسه أن يهدر سعادة المرأة الشريفة ويذيقها العذاب الأليم، فنصب لزوجها شراك الشر وشباك الضلال، بتسخير امرأة خليعة ما جنة تغريه بالمعصية وتغويه بالفجور، وقد ترضاها الكاهن بشفاعة وغفرانه فأذعنت له وصرفت الزوج عن امرأته وبيته، ثم عاود الكاهن زوراته لعل المحبوبة الأنوف تخفف من غلوائها وتفئ إلى حبه، فتبرمت به وهدمت بعفافها زهادته الكاذبة وتبتله الموهوم
هذا طرف من سياق الرواية الطريفة (بونا انطون) وهي رواية حافلة بالتحليل العميق والوصف الدقيق، وقد فاضت بالحياة الصاخبة ونضحت بالصراحة العارية. كل سطر فيها كالعرق النابض، وكل قارئ لها كالطبيب الحاذق يستطيع أن يعرف حالة عرق فيصف دواء الأخلاق المريضة
لما نشر الأستاذ كرم ملحم كرم روايته في بيروت قامت عليه قيامة رجل من رجال الكنيسة فأقام الدعوى على الأديب القصصي، وادعى فيها أنه هو المقصود بالأب انطون، واخذ يؤلب الحكام عليه ويسخر بعض الموتورين لذمة وتسفيه روايته واستهجان ما فيها، فذكرني مرة ثانية بما كان من أمر القصصيين الغربيين وكيف أقام عليهم الدعاوى أناس ظنوا أنهم هم المقصودون في القصص، ثم خرج كتابها أبرياء، ونفضوا عن أكتافهم غبار الأعداء، فطاح به الريح وأذراه في هبوبه وذاب رغاؤهم وزبدهم، وبقي القصاص وضاح الجبين مرهف القلم رفيع الهدف، لأنه هو الذي ينفع الناس، وهكذا خرج الأستاذ كرم ظافراً مغبراً في وجوه حساده وأعدائه، وبقيت روايته حية خالدة
إن القصة العربية آخذة في السمو والإشراق، ولا يمضي عليها ردح من الزمن حتى تسابق القصة الغربية وتماثلها قيمة ومقاماً؛ فالأقلام تمارسها بقوة ورغبة، والقراء يتقبلونها بشوق ولذة. ولا بدع إذا نهضت القصة والرواية في لبنان فان الأستاذ كرماً مهد السبيل لهذا الفن العريق فيه عهداً جديداً. وها إن المطبعة العربية في لبنان تزجي إلينا القصة أثر القصة،(257/77)
والرواية تلو الرواية، وقلم الأستاذ كرم لا ينقطع عن قرطاسه فما تقع عيناه على أحداث الحياة في لبنان وما جاوره من بلاد العرب حتى يستوحي جوها ويستنطق بيئتها، فيسبر غورها، ويبادر إلى تصويرها بما فيها من قلق واضطراب ونقص وإخفاق. وإن له من ثقافته الأدبية وتضلعه من اللغة العربية وفطرته في القصة معيناً لا ينضب. ومصداق القول قصصه العديدة الرائعة ورواياته، وآخرها (بونا انطون) التي كتبها على ضوء الفن والواقع والجرأة وخلع عليها أسلوبه الحر الصقيل، فنزهها عن مزالق اللهجة الصحافية والكلام الدخيل.
وداد سكاكيني(257/78)
العدد 258 - بتاريخ: 13 - 06 - 1938(/)
من ذكريات الريف
ليالي الحصاد. . .
يا حبِّةِ الأَمْح زيدي ... وأملي المخازن علِينا
إنت دَهبْ مَلوِ إيدي ... لُولاكْ مَرُحْنا وجينا
يا شمعة العز إيدي ... واجلي بنوركْ عِنينا
داعيدْ حبايْبي وعيدي ... يا رب عودُهْ عَلِينا
بهذه الأغنية الرقيقة كان صوت أمينة الوتري الرخيم يموج لذيذاً في مسمع الليل المقمر الساجي؛ وكان أترابها يرجعن عليها اللحن ومناجلهن في أيديهن تجز سيقان القمح فتسمع لها في خلال النغم خشخشة آلة موسيقية غريبة!
كان ذلك في ليلة بين أواخر مايو وأوائل يونية، والزرع قد استحصد وتهالك بعضه على بعض من الذبول واليبس، فلم يعد يقوى على حمل سنبله. وكان الحاصدون والحاصدات قد خرجوا عشاء إلى الحقول الذهبية، في أيديهم المناجل، وعلى أكتافهم الأردية، وهم يوقعون على طرق الربيع العشيبة أهازيج الجذل والأمل، فباتت القرية هامدة كأنما ضرب على آذانها الموت فلا تسمع سامراً على مصطبة ولا نابحاً على تل. فأخذني منها ما يأخذ السائر الوحد من الغابة اللفة أو المقبرة الفسيحة. فخرجت أنشد الفرجة والأنس في حقل من حقولنا القريبة، وكنت أعلم أن في حصاده جوقة من الأوانس الحسان الوجه والصوت. فلما غمرني ليل الحقول، وملكني سلطان الطبيعة، أحسست في نفسي دنيا جديدة لم أحسها من قبل في نهار الناس ولا في ليل القرية! فقد كان القمر حينئذ في الفخت يرسل أضواءه اللينة الرخية، هادئة كإشعاع الحلم، شاحبة كإسفار الأمل، فيلون الغيطان والغدران والطرق بلون الفضة الكابية؛ ونسيم آذار الندي العبهري ينفح بطراءة الفردوس الإنسان والحيوان والشجر، فينتعش الهامد ويتنفس المكروب وتتندى الحصائد؛ فتسمع الجنادب تصر في هشيم البرسيم، والضفادع تنق على حفافي الترع، والسواقي تنوح على رءوس الزروع، والحاصدات يغنين في مزارع القمح، وطيور المساء تبغم على أعالي الدوح، وكلاب الحراسة تنبح على أطراف البيادر، فيكون من كل أولئك إيقاع موسيقي عجيب يبعث الروعة في النفس، ويلقي الشعر على الخاطر!(258/1)
على أن هذه الأصوات المتجاوبة على نشوزها لم تكن هي مبعث السحر الذي غلب على مشاعري؛ إنما كان مبعثه ذلك السجو العميق السحيق الذي ضرب على حياة الليل فهيمن على كل حس وسيطر على كل حركة فما نسمع الأصداء في جوف هذا السكون، إلا كما ترى الأنداء في رمال المفازة
كنت أمشي بين هذه الظواهر الليلية وئيد الخطو رزين الخيال مرهف الحساسة، لا أجد في طبعي ما كنت أجد في النهار من مرح الصبى وخفة الحداثة، فكأنما يضع الليل من ثقله على الجسد والفكر والشعور فيتغلب على المرء الهدوء والبطء. ذلك إلى أن الجو الاجتماعي في القرى ليالي الحصاد، يختلف عنه فيها أيام الجني. ففي حصاد القمح يأخذ القرويين حال من التدين الذاكر الشاكر، لأنهم يتقبلون فضل الله في هذه الحبة المقدسة ليحفظوا بها البدن، ويمسكوا عليها الروح؛ فهي عندهم مرادفة للحياة، يسمون خبزها (العيش) و (النعمة)، ويتحرون في كسبها الحل والحرمة، ويذكرونها فيذكرون الرزق والصدقة والزكاة والبركة
أما في جني القطن فيدركهم مس من الطمع والغرور فيحبون الدنيا ويعشقون المال ويرغبون في اللهو ويذكرونه فيذكرون الربا والثراء والرواج والزواج والهم
كنت لدى ساقية الغيط الراقدة في كلةٍ من أغصان الصفصاف المرسلة حين ارتفع صوت أمينة الحنون بالأغنية التي ذكرت بعضها في مطلع هذا الفصل. وكان الحصدة من رجال ونساء يزحفون إلى القمح بمناجلهم صفاً فيتركونه ورائهم أضغاثاً من الحصيد منظومة الأسافل والسنابل، ثم يعودون الحين بعد الحين فيركمونها حزماً غليظة ويدعونها تنتظر النقل على الجمال إلى البيدر
وأجمل ما في ليالي الحصاد منظر الحقول المنبسطة على مدى الطرف وقد ضربت في صفرتها أضواء القمر فابيضت ابيضاض المصريات الحسان؛ ومجالس الشباب والشواب على حصائد القمح الوثيرة يديرون بينهم سقاط لحديث الفكه، ويتبادلون في احتشام كنايات الغزل الحي؛ وغناء الفتيات وزمر الفتية يتواردان على سمعك من قريب ومن بعيد، فيفعلان في نفسك ما لا يفعله الموسيقار الحاذق؛ ثم نوم هؤلاء وهؤلاء في الهزيع الأخير على فرش من الحصيد تكلاهم عين العفاف وتتمثل في أحلامهم صور الفضيلة. فإذا ما(258/2)
تنفس الصبح على وجوههم المطلولة هبوا إلى القناة يتوضئون ويصلون، ثم يعودون إلى مناجلهم على أنشط ما يكون الفتى، وأرضى ما يكون المؤمن
أبداً لا أنسى أنني قضيت معهم تلك الليلة، ثم نمت هذه النومة، وقمت هذه القومة، وأسفر على ذلك الصباح الضاحك المنضور فأبصرت مسالك القرية تسيل بحاملات الفطور للحصاد، وسائقات الماشية للمرعى، ولاقطات السنبل من بنات الفقر، فكان لي من جمال تلك العشية وضحاها، لذة لا أزال أنعم بذكراها، وأتمناها!
احمد حسن الزيات(258/3)
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
شذوذ
تاريخ الصراع الأدبي في مصر، وتاريخ الصراع السياسي، يتلخصان في معارك تقوم بين أشخاص، ولقد أدركت هذه الظاهرة النقد أيضاً. فتاريخ النقد في مصر عبارة عن موازنة بين كاتبين أو شاعرين يحاول الناقد أن يعلي أحدهما على الآخر. أما مذاهب الأدب ومذاهب السياسة ومذاهب النقد. فهذه لا قيمة لها في نظر الأديب ولا في العرف السياسي ولا في تقدير الناقد وعامة ذا شذوذ، بل خروج على طبيعة الأشياء
أفهم أن يقوم الصراع الأدبي بين مذهبين يمثلهما كتاب أو شعراء يعتنقون في الأدب مذهباً محدود المرامي بين الغايات. وأفهم أن يقوم الصراع السياسي بين أحزاب تقتتل على مبادئ عامة تتعلق في أكثر الأمر بالخير المنشود للعدد الأكبر من الناس. وأفهم أن يقوم النقد على فكرة منطقية يقتنع الناقد بصلاحيتها وحقها في البقاء، فيمضي في نقد الكاتب أو الشاعر انتصاراً لتلك الفكرة. وأفهم فوق هذا كله أن يقتتل كاتبان ولكن انتصاراً لمذهبين يعتنق كل كاتب مذهباً منهما، والغلبة للأصلح من المذهبين. أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول شيء لمذهب بين في الأدب يعتنقه الكاتب المنتصر له
وما أبرئ نفسي؛ فأن عدم قدرتي على فهم هذه الأشياء قوة لم أشهدها في نفسي إلا منذ عهد قريب، وما بعثها إلا ذلك الصراع الذي قام على صفحات (الرسالة) بين أنصار صديقي الأستاذ العقاد، وصديقي المرحوم الأستاذ الرافعي، صديقان مات أحدهما وأدعو الله أن يمد في عمر الآخر. سكت أحدهما وطواه الزمن، وصمت الآخر على ما كان بينه وبين الأديب الراحل تجلة للموت وتحية لذكرى أديب جاهد في سبيل الأدب، ودفعاً لحزازات ما أجدر الموت أن يكون ماحياً لآثارها وذكرياتها
لقد صمت صاحب الحق الأول؛ وما كان ليتكلم وقد خلا الميدان من مناظره، وهو يعلم أن الكلام في مثل هذا الظرف جريمة في شرعة الأدب، بل خطيئة من المنكرات(258/4)
صمت صاحب الحق وتكلم غيره احتساباً، وحاشا أن أقول هنا لوجه الله، لأن الله لا يأمر بأن تنبش الحزازات وتحتفر الضغائن ويكشف عن السيئات دون الحسنات. أم نقول قولة أنطوني على جثة قيصر: (إن الشر الذي يعمله الناس يعيش من بعدهم، أما الخير فيدفن مع عظامهم؟!)
ولست أدري أي وصف توصف به هذه القضية لو تقدم بها خصم ثالث إلى مجلس حسبي ينصب لمحاكمة الأدباء؟
لتغير التاريخ
قرأت، كما قرأ غيري، قول بعض المؤرخين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ). وهو قول ظاهره خلاب جميل؛ قول سمته الحق، ولكني لم أرى حقاً يراد به باطل أكبر من هذا الحق
قيل مثلاٌ: لو أن أنف (إقليو فطرا) كان أقصر قليلاً مما شاءت الطبيعة لتغير التاريخ. ولماذا؟ لأنها كانت بأنفها (الأقصر قليلا) تستطيع أن تغوي (أوكتافيانوس) كما أغوت (أنطونيوس) من قبله. وإن نظرة أولية في هذا الكلام تدلنا على أن ما فيه من الحق إنما هو بمثانة البرق الخلب، يبهر النظر ويأخذ باللب، ثم لا يترك في نفسك من الأثر إلا أثر اللمحة العابرة تستذكرها، ولكنك قلما تفكر فيها قليلاً. فمن ذا الذي أعلمنا أن أوكتافيانوس، قائد الرومان العظيم، وأول أباطرتهم العظام، كان يستغويه أنف دقيق ولا يستغويه أنف طويل؟ وعلى أية قاعدة نحكم بأن ذلك القائد كان على استعداد لأن يغوى، دق أنف الملكة المصرية أو كبر؟ أما الحق فأن أنف (إقليو فطرا) قد ظلم
وقيل أيضاً: لو لم يظهر نابليون لتغير التاريخ. وجملة ما في هذا القول من الحق في معتقدي أن التاريخ ما كان ليتغير إلا بأن يحذف منه اسم نابليون ليحل محله قائد آخر يفعل من الأشياء ويحدث من الأحداث ما قد أدت إليه أعمال نابليون بالذات، وما يصح عن نابليون يصح عن هينيبال وعن الاسكندر الأكبر وعن غيرهم من العظماء الذين نقول اعتباطاً إنهم غيروا التاريخ
لو صح قول القائلين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ) لبدت الإنسانية في صورة عجماوات تضرب في فيافٍ وقفار، وتخبط في ظلمات مدلهمة خبط عشواء، تقبض على زمامها شهوات الأفراد وتقودها نزواتهم وانفعالاتهم، وتصرف أمورها أخيلة قلة من الناس في(258/5)
مقدرتهم أن يخلقوا التاريخ ويبتكروا المستقبل ابتكاراً من غير أن يتقدم ذلك الابتكار أية مقدمات تسوق إليه، على العكس من كل تناسب في نظام التطور الاجتماعي، وعلى الضد من المنطق المدرك من نظام الطبيعة
أما إذا أردنا أن نثبت هذا المذهب فينبغي لنا أن نحلل مثلاً أو مثلين مما ذكرنا. أما مثل (إقليو فطرا) والقائد الروماني، فأن حوادث التاريخ ذاتها تدل على أن الحنق كان قد ملأ قلب أوكتافيانوس تلقاء ملكة مصر وزوجها أنطونيوس حتى ليتعذر معه أن يجد جمال إقليو فطرا أو فتنتها طريقاً إلى قلبه
كان أنطونيوس وأوكتافيانوس صديقين اقتسما القوة والبطش في رومية، وقضى أنطونيوس على قتلة قيصر في سلسلة من المواقع المشهورة، ثم نزا الشيطان بينهما ففرقت بينهما المكائد والدسائس، ثم تصافيا وتزوج أنطونيوس من شقيقة أوكتافيانوس توثيقاً لصداقتهما، ثم سافر إلى الشرق فالتقى بالملكة المصرية وتزوج منها وهجر رومية ومن فيها، ثم استبان الرومان أن ملكة مصر تحاول من طريق عشيقها الروماني أن تذل رومية وأن تصبح ملكة الدنيا، فقام الصراع بين مصر ورومية وانتهى بمصرع العاشقين. فهل هذه مقدمات يمكن أن تؤدي إلى غير ما حكم به منطق الواقع؟ وهل كان من المستطاع أن يغير أنف الملكة المصرية من مجرى هذا التاريخ شيئاً، قصر أم طال؟
وكذلك الحال في نابليون. فإن الثورة الفرنسية وما طل فيها من الدماء وما أحدثت من تخريب وما ذاع فيها من الخيالات وشاع من الأوهام، وتفكك بلاد ألمانيا وضغط إيطاليا وانحلال أسبانيا، وتيقظ الروح الحربي في فرنسا لما أن هاجمها أعداؤها ومرجل الثورة يغلي في بطنها؛ جماع هذا كان من شأنه أن يبعث (نابليوناً) لو لم يكن بونابرت لكان غيره، ولأحدث من الأحداث ما كان من الطبيعي أن يؤدي إلى نفس النتائج التاريخية التي أدت إليها أعمال نابليون هذا بالذات
وإن شئت فقل إن هذا كان شأن الاسكندر الأكبر. فأن الصراع بين بلاد فارس وبلاد الإغريق في آسيا الصغرى وفي إغريقية الأوربية بالذات من طريق البحر كان صراعاً مأثوراً بين الأمتين قبل عصر الاسكندر. وكذلك كانت السياسة التي اتبعها الملك فيلبس والده، فقد كانت سياسة حربية رمى بها إلى توحيد كل العالم الهليني تحت لواء مقدونيا،(258/6)
فجيش الجيوش ونشأ القواد وأحيا روح البطولة في رجاله، وهم بطبعهم من سلالة جبلية فيهم شيمة القبيلة وطابع العنصرية. ولما مات فيلبس ورث عنه الاسكندر فيما ورث جيشاً منظماً كان قد أعده للزحف على الشرق عشية مقتله. ولو أردنا أن نعدد الوقائع الكبرى في تاريخ الاسكندر لما عدونا الثلاث عداً. هي: موقعة غرانيقوس وموقعة إسوس وموقعة أربل. أما ما بقي بعد ذلك فليست مواقع كبرى، وما عدا ذلك من حياة الاسكندر فحصار لبعض المدن ومخاطرات هي إلى الجنون أقرب منها إلى العقل. فهل جميع هذه المقدمات المادية الثابتة، والتي يزيدها ثباتاً تقلقل الإمبراطورية الفارسية في عصر دارا الثالث واستخدامه لمرتزقة من الأغارقة عملوا في جيشه جنوداً وقواداً، كانت تمحي وتزول لو لم يظهر هذا الاسكندر؟ إني أعتقد أن الاسكندر لو لم يظهر لظهر غيره ففعل فعله، وبقي غدير التاريخ متدفقاً في نفس الاتجاه وإلى الغايات التي رسمتها جميع هذه المقدمات التي ذكرنا
إن الإنسانية ولا شك تقودها يد خفية، ما الاسكندر وهينبال وأوكتافيانوس إلا ألاعيبها، وما هم إلا الكرات التي يضربها الصولجان إلى الأهداف المرسومة، ما هم إلا اللحن الذي يسجله القدر على صفحات التاريخ.
فلسفة وفلسفة
الصورة التي تلابس الفلسفة لا تحبكها الطبائع الخاصة لكل جيل من أجيال البشر ولا طبيعة البقعة التي يحتلها ذلك الجيل من كرة الأرض لا غير، بل إن للنظامات المدنية وأثر المعاهد في حياة الحكومات والأفراد أثراً فيها كبيراً. أما إذا أردنا أن نجلو عن هذه القضية فينبغي لنا أن نمضي في مقارنة نسوقها في الفارق بين أمتين كبيرتين من أمم العصر الحاضر، امتازتا بضربين من الفلسفتين لكل منهما طابع مستمد من خصائصهما الأصيلة، هما إنجلترا وألمانيا
إن نظرة دقيقة لتثبت لنا أن فلاسفة الألمان يشغلون في عالم الآداب الإنسانية مكاناً غير المكان الذي يشغله الإنجليز. وأول شيء يستلفت النظر أن النبع الذي يفيض بالفلسفة في إنجلترا، بصرف النظر عن بعض الشواذ، لم يكن الجامعات الإنجليزية، ولا الرجال الذين اشتغلوا بمهنة التلقين فيها. هذا على العكس مما هو في ألمانيا، فإن كنز الفلسفة ومشعل(258/7)
الحكمة كان على الدوام في أيدي أساتذة الجامعات
ونظرة أخرى. فأنه لا شك مثلاً في أن إسرافاً كبيراً يحل بالجهود العقلية، وانحرافاً عظيماً يعتور البحوث الفلسفية إذا لم يهيمن على أمثال هذه الأشياء النظام المدرسي والروح الأقاديمي. ولكن في التحرر من هذا النظام وذلك الروح لقيماً أخرى لها من الشأن ما يعوض على الآداب ما تفقد بالتحرر من الروح الأقاديمي الصرف. فأن الباحث الذي يتعلم بنفسه ويشعر بكرامة العصامية العلمية التي يحوزها بجهده الذاتي لهو بذاته من تدعوه (المفكر المستقل) المتحرر من آثار تلك الظاهرة التي تدعى الائتمارية، ومعناها الأقرب الاتفاق بين فئات من المفكرين على الترويج لمذهب بعينه أو فكرة بذاتها أو نزعة ما. فأن المفكر المستقل، وتلك أولى مميزاته، إنما يكب على درس مشكلات الفكر والحياة، لا لأن من الواجب عليه أن يقول شيئاً فيها، كما يحتم النظام على أصحاب الوظائف، بل لأن تأملاته أدت به إلى إدراك معضلات حقيقية، فهو يعمل على حل مغلقها وفك طلسماتها.
وفي الفلسفة الألمانية ظاهرة أخرى. فقد تقيدت تلك الفلسفة خلال عدة قرون متتالية بتقاليد خاصة وانتزعت اصطلاحات بعينها واستعمالات بذاتها، تنزل من الفكر منزلة تسمو على عقول الأوساط من المتعلمين، وتقيد عقول الخاصة بنظام يجعل الخروج على مقرراتها من أصعب الأشياء. وعلى الجملة تمتاز الفلسفة الألمانية بأحكام الفكرة وأسلوب التفكير، مشفوعة بقوة ممتازة في التحليل المنطقي ولكن هذه المميزات لها ما ينتقصها. فقد قيل، وقيل بحق، إن الفلسفة في ألمانيا يكتبها الأساتذة، إما لأساتذة، وإما لفئة يحاول أفرادها أن يصبحوا أساتذة. وكاتب الفلسفة الألماني من أجل أن ينال الحظوة عند الخبراء بالفلسفة أمثاله، يبتعد عن الاتصال بجمهور القراء، فلا يكون لما يكتب أثراً في الحياة العامة ولا في تكييف الذوق العام للأمة
هنالك مظهر آخر. فإن الفلسفة الألمانية لشدة ارتباطها بالنظام القائم في بيئتها، التصقت أيما التصاق باللاهوت، وتلونت في غالب الأمر باللون الذي يوائم ذوق الدولاب الحكومي. لقد اتخذت الفلسفة الألمانية وسيلة لصب النشء في قوالب خاصة ترضاها الحكومة. لهذا اتصفت تلك الفلسفة بشيء من الجمود ولبست ثوباً حكومياً شل اتجاهاتها الطبيعة، على الرغم من أنها كانت الأثر الفعال ترقية الأهلية الحكومية فجعلتها تتجه نحو المثل العليا(258/8)
أما الفلسفة في إنجلترا، وهي كذلك في فرنسا، فقد كانت اللسان الناطق بالمعارضة لكل المعتقدات الرسمية للدولة، ومنابذة صور الفلسفة القديمة التي اتخذت معاقلها الحصينة في حدود المؤسسات الكنسية. ولفظة فيلسوف في إنجلترا وفرنسا، قد اقترنت دائماً بمعنى حرية الفكر والتحرر من قيود المأثور، بل فهم منها معنى الإلحاد ومعاندة كل ما تقرر في الأذهان من العقائد والآراء. وعلى الرغم من مختلف الصور التي لابست الفلسفة الإنجليزية منذ عصر هوبز إلى بنتام، ومن لوك إلى هيوم، فأن الغرض الذي رمت إليه لم يتغير، ولم يخرج يوماً على حرية الفكر وهي مصدر الابتداع والابتكار
ونحن إذ نرى أن الفلسفة الألمانية قد التزمت مصطلحات بعينها واتخذت لنفسها لهجة بذاتها. إذا بنا نجد أن الفلسفة الإنجليزية قد كتبت باللغة الدارجة في الأدب. وعلى الضد من هذا تجد الأولى، فإنك لا شك واقع في فلسفة (كنت) وفي كتابات الكثيرين ممن عقبوا عليه، على عبارات هي عند أهل لغتهم أنفسهم كتاب مغلق بسبعة أقفال
لقد اعتقد بعض النقاد، ولعلهم اعتقدوا بحق، أن هؤلاء الفلاسفة قد اكتفوا في كتابة الفلسفة بأن يفهم بعضهم بعضاً، غير آبهين بأن يفهمهم غيرهم. لقد هام فلاسفة الألمان بالغموض حتى لقد نعتهم أهل بلادهم أنفسهم بأن فلسفتهم تعميه مقصود
في سبيل العلم
في سبيل العلم ما احتمل غليليو، فقد قال إن الأرض التي تدور حول الشمس، على الضد من العقيدة اللاهوتية التي اعتنقتها الكنيسة الرومانية. لما هم رؤساء الكنيسة باتهام غليليو
كان مؤلفه قد ذاع في أنحاء أوربا، فزاد ذلك غضبهم عليه وتبرمهم به. وكان على رأس الكنيسة (إريان الثامن). ولم يكن بابا لا غير، بل كان أميراً من بيت (بربريني) فأخذته العزة بالإثم وأمر بأن يمنح غليليو وكتابه هبة منه لمحكمة التفتيش
وعبثاً حاول (كاستللي) البنديكتي أن يقنع رجال الكنيسة بأن غليليو يحترم الكنيسة ولا يهزأ بمبادئها، بل سدى ضاعت كل جهوده في سبيل أن يثبت لرجال الدين إذ ذاك (انه ما من شيء يمكن عمله، من شأنه أن يمنع الأرض من الدوران).
ولكنه طرد ونفي مغضوباً عليه مقصياً به عن الكنيسة، وقسر غليليو على أن يقف أمام تلك المحكمة الرهيبة واحداً فرداً بلا مدافع أو نصير. وهنالك عذب مراراً حتى اضطر إلى أن(258/9)
يعلن جاثياً على ركبتيه الاعتراف الآتي:
(أنا غليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل ألعن وأحتقر، خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور)
إنه ولا شك قد غلب على أمره، لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث بعلمه المضحي بعقله ويقينه ومن أجل أن يتم انتصار الكنيسة عليه، وأن يودي بكل ما بقي له من شرف النفس، اضطر برغم منه أن يقسم بأن يفضي إلى محكمة التفتيش بأمر كل رجل من رجال العلم، يقول بهرطقة القول بدوران الأرض
ولقد أثار قسم غليليو هذا عجب الكثير من أهل زمانه ومن المؤرخين، حتى أن ذلك كان سبباً في أن ينكر عليه بعض أبناء عصر نعت (الشهيد). غير أن هؤلاء لم يقدروا ظروف الرجل قدرها. فلقد كان شيخاً كبيراً عمّر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وحطمته آمال الدنيا ومخاوفها، وهدمته متاعبها وواجباتها. وكم سعى متلهفاً من (فلورنسا) إلى (رومية) مكباً على وجهه ونصب عينيه تهديدات البابا، بأنه إذا تأخر عن القدوم (أخذ في الأغلال). وكان فوق ذلك مريض الجسم منهوك العقل، سلم إلى أعدائه بيد الذين كان من الواجب أن يحموه. ولم يكد يبلغ (رومية) حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألواناً. ولقد كان يعرف جيداً ما هي محكمة التفتيش. وكان يلوح له شبح (جيوردانو - برونو) بين اللهيب ماثلاً أمامه، كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدينة ومن أجل (هرطقة) العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة (إسبالاترو) وسلم إلى محكمة التفتيش متهماً بهرطقة العلم، وبقي بين براثنها إلى أن مات في غيابات السجن، وإن جثته أحرقت بعد الموت مع ما كتب بمرأى من (المؤمنين)
ولقد استمر اضطهاد (غليليو) كل أيام حياته، بل بعد مماته. لقد بقى في المنفى بعيداً عن أسرته، بعيداً عن أصدقائه، مقصياً عن صناعته النبيلة؛ وقسر على أن يظل خاضعاً لعهده بألا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه، وهو بعد يعاني أشد آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقسى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالباً أن يمنح من الحرية بعض الشيء، كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن، الجواب على(258/10)
ملتمسه الصغير. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الكنسية بأنه أصبح أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، منح بعض الحرية، ولكن بحدود جعلت تلك الحرية استعباداً
ولقد أجبر على أن يواجه هجمات أعدائه على ذاته وعلى نظريته هجمات الازدراء والسخرية والتضليل، من غير أن ينبس ببنت شفة أو يحرك بالرد لساناً. ورأى الذين محضوه الصداقة والحب والاحترام، ينزل بهم العقاب الصارم والظلم الفادح. فنفي (كاستللي). ورأى (ريكاردي) رئيس البلاط المقدس و (شيامبولي) سكرتير البابا يبعدهما (إريان الثامن) عن وظيفتيهما محقرين، ورأى عضو محكمة التفتيش في (فلورنسا) يوبخ أقذع توبيخ لأنه أمر بطبع كتابه. وعاش ليرى الحقائق التي استكشفها تكتسح من الكليات الكنسية ومن كل جامعات أوربا، بل ليرى عضو محكمة التفتيش يأمر بأن يستبدل كل نعت طيب يردد به ذكره في أي كتاب يراد طبعه، بأخبث النعوت وأحط الذكريات
ومات غليليو. فطلب إلى رجال الكنيسة أن يدفن في مقابر أسرته في (سانتا كروتشي) فأبوا. وأراد أصدقاؤه أن يقيموا فوق قبره أثراً تذكارياً فلم يسمح لهم. وقال البابا (إريان الثامن) (لنيكوليني) وهو السفير الذي كلف بأن يعرض بعض المطالب الخاصة بغليليو الميت عليه ما يأتي:
(إنه لأسوأ مثل يعطى للناس أن نسمح بتكريم رجل وقف من قبل أمام محكمة التفتيش الرومانية لأنه روج فكرة مثل فكرته المملوءة بالخطأ والكفران. ولم يقصرها على نفسه بل أقنع بها غيره، فأحدث بذلك أعظم فضيحة عانت أمرها النصرانية)
ونفذت إرادة البابا ورجال محكمة التفتيش، فدفن غليليو من غير تكريم بعيداً عن أسرته، ومن غير تأدية أي واجب ديني ومن غير أن يقام على قبره نصب أو تاريخ يشير إلى العظمة المخبوءة في ذلك الرمس الذي ضم رفاته
ومضى على ذلك أربعون عاماً جرؤ بعدها (بيروزي) أن ينقش على قبره تاريخاً يشير إلى حيث دفنت تلك العظام النبيلة. وبعد مائة سنة استطاع (نيللي) أن ينقل رفاته إلى مسقط رأسه ليضعها في مكان لائق بها، وأقام عليها نصباً. وكانت النار ما تزال مستعرة والعداء مستحكما، فقد طلب إلى رجال محكمة التفتيش أن يحولوا دون هذا التكريم (لرجل اتهم(258/11)
بمثل ما اتهم به غليليو من السيئات والخطيئات) ولهذا رفضت السلطات الكنسية أن يكتب على قبره الجديد أي تذكار ما لم يعرض نصه على هيئتهم المختصة بمراقبة المطبوعات
فياله من علم ويالها من حياة!!
إسماعيل مظهر(258/12)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 20 -
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال!)
(أحمد أمين)
(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية؛ هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)
(هكسلي)
10 - خريج اليوم
(تابع ما قبله)
عرضت عليك في المقالين السابقين صورتين لخريج اليوم واحدة لعقله وأخرى لخلقه. وسأعرض عليك في هذا المقال صورتين أخريين إحداهما لذوقه والأخرى لجسمه:
1 - الناحية الذوقية
وأحسبك لا تشك في جدارة هذه الناحية في حياة المثقفين وغير المثقفين على السواء، كما أحسبك ترى معي أن (الحياة الرفيعة) محتاجة إلى (فن) دقيق عظيم قوامه الذوق السليم والعاطفة المصقولة، والشعور الحي، والعقل المتزن جميعاً. فترى هل يعرف خريجونا هذا (الفن) في حياتهم الخاصة والعامة، كما يعرفها الإنجليز والألمان والفرنسيون على(258/13)
الخصوص؟؟ الحق أن دراستي الاجتماعية في مختلف البيئات الأوربية قد كشفت لي عن فقر مدقع وفوضى أليمة يسيطران معاً على حياة المثقفين عندنا ويملآنها بشتى صنوف العبث والإسفاف والجهل والاضطراب؛ وهاك بعض ما يثبت ما أقول:
الوقت والفراغ والذوق
والوقت كما تعرف سيف قاطع؛ فهل ترى الخريجين يستغلون كل ساعاته ودقائقه فيما يعود عليهم بالخير؟؟ ألا كم من ساعات وأيام وأسابيع تمر عليهم دون أن يخرجوا منها بشيء!! وألا كم من لحظات تسألهم عما يفعلون فيها فيجيبونك بأنهم إنما (يمضون الوقت) فحسب، ومعنى هذا أن الوقت عند خريجينا لا قيمة له ولا خطر، وأنهم لا يحرصون بعد إذ ينالوا درجاتهم العلمية على حسن الاستفادة منه في كثير ولا قليل، فأن هم قصدوا بعد ذلك إلى الترويح عن نفوسهم أثناء فراغهم من عملهم اليومي فقلما يأتي ذلك الترويح على ما ينبغي أن يكون! ذلك أنهم قليلاً ما يغشون الحدائق العامة أو يزورون المعارض الفنية والمتاحف العلمية، أو يطرقون المواقع الهادئة الخالية من الحركة والضجيج، ونادراً ما يمارسون الرسم أو التصوير أو القراءة الأدبية أو الأشغال اليدوية الفنية وشبه الفنية؛ وأغلب ما عساك واحدهم فيه بعد هذا هو المقاهي حيث يتحدثون حديثاً تافهاً أو يهذرون هذراً فجاً. أو المسارح الخليعة حيث يصفقون للرقص المبتذل، ويضحكون على النكات السمجة، ويعجبون بالفن الذي هو والتهريج سواء، أو دور السينما حيث يشهدون ما تزدحم به الحياة الغربية من حب غير مشروع ومن استهتار أليم يغذي خلق الفتيات والفتيان عندنا بأسوأ الدروس! أليس كذلك؟ حدائقنا الجميلة العامة من يملؤها وينعم بها كل يوم وكل أسبوع غير الأجانب؟ وتمثيلنا الفني الراقي ألم يكد ينتحر تحت ضغط المسارح المبتذلة والأفلام الكثيرة ذات المعنى السطحي والعرض الخلاب؟ ومعارضنا الفنية الراقية من يزورها ويطيل الوقوف فيها ويشجع ذويها بالشراء والإعجاب غير أقل القليل من المثقفين؟ ومحاضراتنا العلمية أو الفنية من يتردد عليها ويستفيد منها غير جمهور (الطلبة) على وجه الخصوص؟ والاطلاع الأدبي الفني هل تجد له أثراً عند غير رجال الأدب كالمحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم من أولئك المعتزين بثقافتهم ومهنتهم اعتزازاً لا يرون معه أن للأدب أو الفن فضل في الحياة أو نفع؟ ومجالسنا الخاصة ألا يدور فيها الحديث التافه والنكات(258/14)
المبتذلة، وألا يعلو فيها صوت المتحدثين أحياناً على صوت الغناء المنبعث من آلة الراديو حتى ليتعذر عليك أن تطرب للموسيقى والإنشاد وتغني فيهما تماماً وأنت في وسطها؟ ثم ومنازلنا؟ أفي كل منها مكتبة كما في المنازل الأوربية؟ وأتزين حجراتها تلك الصور البديعة التي لا يكاد يخلو منها منزل غربي؟ وأخيراً أترى طريقة نقاشنا وأسلوب معاملاتنا يتفق وأصول الذوق السليم والحس الرقيق والشعور الحي؟ أترى نرسل اللفظ بقدر وحساب ونعامل الزوجة والولد والخادم والقريب والبعيد بما ينبغي أن تكون عليه المعاملة المثلى، فنعطي لكل حقه، ونرعى لكل عهده، ونحفظ فيما بين هذا وذاك قدرنا في عين الجميع؟
يقول الإنجليز إن (الرجل الدمث) الأخلاق هو ذلك الذي يعطف على الخجول، ويرحم السخيف، ويرعى الجميع فلا يثير ما يجرح الشعور ولا يعلو لصوته في المناقشات، ذلك الذي لا يفخر بما يعمل ويبدو في إعطائه كما لو كان هو الآخذ، ذلك الذي لا يستمع للوشايات ويفسر كل شيء من ناحيته المشرقة!)
فترى أين هو ذلك الرجل فينا؟
ستقول أنك تطلب من التربية كل شيء وترهقها من أمرها عسراً؟. وسأقول وما جدواها إذا هي اكتفت بحشو العقول وتركت الذوق فجاء غير مصقول؟ وهل نعيش في حياتنا بالعقل فحسب؟ ألا إن جانب العواطف والشعور أقوى في الحياة من جانب العقل، فإذا هي تركت هذا الجانب وأهملته فلن يكون تقصيرها إلا فادحاً شنيعاً! إذ ما عسى أن تكون الحياة بغير عاطفة مهذبة وذوق سليم حي؟ وإلى أين نلجأ في صحراء (العقل) إذا لم نلجأ إلى واحة (الشعور)؟ وكيف نوفق في معاملة الناس وفي حفظ قدرنا بينهم إذا لم يكن لنا ذوق سليم وشعور حي؟
2 - الناحية الجسمية
أما هذه الناحية فأحسب الكلام فيها يسيراً!. الرياضة عندنا غير محبوبة عند الأكثرية الساحقة، والأقلية التي تمارسها في المدارس تسيء أحياناً استعمالها وقلما تستمر فيها إذا شغلتها الحياة وتقدم بها الزمن. ولذلك لا تعجب إذا رأيت أجسام الخريجين عندنا غير رياضية، وإذا وجدت من الخريجين تقصيراً هائلاً في أوليات الرياضة البدنية اليومية وفي كل ما يقي الجسم غائلة الأمراض ويحفظ عليه مناعته الطبيعية! وها أنت ترى أن الطلبة(258/15)
موبوءين بالعادات السرية، وأن الخريجين مسرفين في النواحي الشهوية عزاباً كانوا أو متزوجين! وها أنت ترى أن طلبة المعاهد الدينية محرومين أو شبه محرومين من التربية الرياضية إلى حد عجيب كأن الدين لا يقر الرياضة ولا يعرفها! وأن المدارس الأهلية كثيرة التقصير في هذه الناحية إلى حد شديد! ثم ها أنت ترى أن قليلاً منا من يدقق في اختيار الغذاء اللازم لجسده، ومن يعنى بتعرف حالته البدنية كل عام حتى يعد العدة لاتقاء الخطر، وأن أقل القليل من ينامون مبكرين ويستيقظون مبكرين ولا يأكلون حتى يجوعوا فإذا أكلوا لم يشبعوا. . .! ثم هاأنت ترى الكهولة والشيخوخة يزحفان على شبابنا بسرعة عجيبة، وأن الكثير من خريجينا يتناول الخمر إلى جانب التدخين في سهولة ويسر. . .!
فهل ترى بعد هذا أن مدارسنا قد نجحت في تكوين (الشخصية الكاملة) المنشودة، ذات العقل المنطقي المستقل، والعاطفة النبيلة المشبوبة، والجسم السليم القوي؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(258/16)
بين الشرق والغرب
للأستاذ فليكس فارس
تتمة ما نشر في العدد الماضي
يقول المناظر الكريم إنه كان يتمنى لو اتسع المجال لديه ليشرح لكم الثقافة الغربية والذهنية الآرية. فهو لم يزل يأخذ بالنظرية التي جاء الاستقراء العلمي واضحاً جداً لتبجح الآريين بها
وما تلك النظرية إلا توهم اتخذ به نحو جينو وأشياعه إذ قالوا بتفوق السلالة الآرية على سائر سلالات الأرض لتفردهم بشكل خاص في جماجمهم، وبنوع خاص في شعرهم، وبلون فارق في جلودهم، فادعوا أن هذا الشكل دون سواه من بني الإنسان يملك صفاء الذهن وقوة الاختراع والعبقرية بأنواعها. غير أن الاستقراء قد اضطر دهاقنة علماء - الأحياء - إلى الاعتراف بفساد هذه النظرية بعد أم رأوا أن الجماجم التي ينطح بها الآريون السحاب إنما يحمل مثلها تماماً أقزام أفريقيا الوسطى، وأن شعورهم وجلودهم وسائر مميزاتهم الجسدية يتمتع بها كثير من القبائل والشعوب المنتشرة على وجه الأرض. . .
ثم يقول المناظر لنا أننا إذا ما أخذنا بما اكتشفه الغرب من علم يمكننا التحكم بمقدراتنا فأننا نستطيع أن نغير عقليتنا لنقتبس طرائف الغرب التي توصلنا إلى خير النتائج
ولماذا يجب أن تعمل الشعوب العربية على تغيير عقليتها وإنكار فطرتها وحوافزها التي تكونت من أعظم حوادث التاريخ طوال ألوف السنين ما دامت هذه العقلية نفسها قد أنارت الدنيا بعلومها وآدابها واكتسحت الغرب كله بروحانيتها وشرائعها؟
ولقد أورد المناظر استفهاماً إنكارياً بقوله ومتى أصلحت روحانية الشرق النفوس ما دام العالم هو هو لم يتغير بشروره؟
ونحن نقول له إن روحانية الشرق هي التي أسقطت ألوف الآلهة في الغرب عن عروشها، وأن الشعوب الآرية بدون استثناء أي عنصر منها إنما اهتدت إلى الحق والجمال في منشأ حضاراتها بتفكير الشرق ووحيه وإلهامه
فإذا نحن رجعنا بالذكر إلى حضارة أوربا الوثنية التي بنيت على خرافات الأساطير لا(258/17)
يسعنا بعد ذلك أن ننكر الواقع ونقول بأن الإنسان كان سيهتدي دون أن يهدي
أما ما قاله الدكتور بانزوفيل للمناظر مصرحاً له (بأنهم سيصلحون بالعلم من البشر ما عجزت الأديان عن إصلاحه منذ ألوف السنين) فقول يطرح على بساط البحث مسألة خطيرة لا نرى بداً من إلقاء نور المنطق السامي عليها.
إن العقلية الآرية المعززة بالعلم والثقافة العالية ستقطع دابر الأجرام بوسيلة علمية هي تعقيم المجرمين.
وأنا أحد أبناء هذه الأمة العربية التي يدعى الآريون قصورها في ميدان التفكير، أنا على ما أنا عليه من ضيق الاطلاع وفي قومي من رجال العلم من لا يشق لهم غبار، أستنير بعقليتي السامية وبأيماني في العربي المكين فأقول لعلماء الغرب لقد ضللتم
وأقول بخاصة إلى الدكتور بانزوفيل إنه مغرور بعلمه وإنه لا يداوي من العلة إلا أعراضها
إن الغرب يرى تكاثر عدد المجانين والبلهاء والمجرمين في شعوبه فلا يبحث عن منشأ العلة ليداويها بل يعمد إلى تعقيم ضحايا مدينته وثقافته ظناً منه أن هناك بعضاً من الأسر المصابة بداء وراثي وإنه إذا قضي على تناسلها خنقت العلة في منشأها!
ويل لهم! إنهم إذا استمروا على هذه المعالجة فأنهم سيعقمون ثم يستأنفون التعقيم إلى أن يقضوا على النسل بحجة تحسينه
إن للأجرام وللجنون وللبله جراثيم لم تتولد أصلاً من الأرحام.
ليفتشوا على هذا الجراثيم فأنني أراها بعين الخيال الشرقي والإلهام العربي مكبرة كالثعابين تتململ في المراقص وفي الحانات وفي المواخير التي أراها تكتسح هذه المعامل التي فتحت فيها الآلات أسواق النخاسة الفاتلة، أراها في كل مكان لا تسود عقليته الرحمة الموحاة من السماء، بل أراها حتى على فراش الزواج الذي أصبح تجارة وشركة بين أنانيتين.
ليعقموا ما شاءوا من المجانين والمجرمين، فإن هذه الحضارة التي أقامت العجل الذهبي لها إلهاً ستقذف للدكتور بانزويل وإخوانه بألوف من الزبائن لا ينتهي عددهم حتى ترجع مدنية الغرب إلى عقلية الشرق وثقافته
أما فرويد فنظريته صحيحة في هذه الأمراض النفسية التي تفتك فتكاً ذريعاً في أبناء المدنية(258/18)
الغربية، وما كانت مثل هذه الأمراض لتعيب أبناء بلادنا في العصور الماضية إلا في القليل النادر لأن الذهنية الشرقية لم تحارب الغريزة الجنسية بل اعتبرتها جزءاً من إيمانها. وما التبتل إلا بدعة طرأت على تعاليم عيسى فاحتضنها الغرب وجعلها على ما هي والشرق منها براء، وهذه شريعة النبي الكريم قد أتت بما لا حاجة لنا معه بمنظار الذهنية الغربية الذي كشف للعالم كما يقول المناظر إن الحياة الجنسية نور الحياة. وإنني لواثق من أن مثل هذه الأمراض النفسية التي تنشأ من كبت الغرائز لا يمكنها أن تصيب مؤمناً عربياً يعمل بشريعته لأن الدين دين الفطرة قد أنزل لتنظيم قوى الحياة لا لقتلها
وأخيراً أراد المناظر الكريم أن يثبت لنا أن الموسيقى الغربية خير من موسيقى الشرق وحجته العلمية في ذلك أن الغناء العربي إنما هو هتاف بصوت واحد في حين أن الغناء الإفرنجي غني بما فيه من طباق بين عدة أصوات
ونحن إذا ما صرفنا النظر عن الغرائز المستقرة في العقل
الباطني والتي يصدر عنها الفني الخاص بكل أمة وبحثنا
الموسيقى من وجهة علمية استقرائية نجد أن الموسيقى العربية
أصدق تعبيراً للطبيعة وأدق تصويراً للمشاعر بعديد نغماتها
في الصوت المنفرد فأن الموسيقى العربية تمثل في نغماتها
السبع الأساسية ألوان الطيف يتفرع منها ما يزيد على السبعين
نغمة تخضع مرنة ناعمة للعاطفة فتظهر خفاياها كصورة
اختطفت عن الأصل جميع أنوارها وأظلالها. أما العروسان
الغربية التي تسجن الصوت في مقام ونصف مقام أعلى
وأدنى، ولا تستوعب ربع الصوت وتمنه بل و116 منه
تتناوله الموسيقى العربية إنما هي أشبه بالفرشاة الخشنة في يد(258/19)
رسام لا يمكنه أن يصور من المرئيات غير خطوطها الأولية.
إن الموسيقى الغربية رست على الطباق أو المطاوعة فكان لا بد لها من كبت النبرات الدقيقة المتمردة على الطباق ومن الاكتفاء بنغمات معدودات هي محل ثروتها. أما الموسيقى العربية فأنها هتاف عميق من النفس منفردة تجاه الوحدة المتجلية في مسلهمات الشرق ديناً وفناً. فهي وإن نقصها الطباق لعدم ملاءمته لحريتها ودقة نبراتها لا تزال حتى في دور انحطاطها اليوم، أغنى بأوزانها ونغماتها من الموسيقى الغربية الفنية بالصخب والفقيرة بالتنوع المنفرد!
إما أن تكون موسيقى الطبيعة أشبه بالموسيقى الغربية كما يقول المناظر فذلك ما لا نوافقه عليه ولبس في الطبيعة أجواق تتوافق على الهتاف بنشيد يطربك فأنك إذا ما أصغيت إلى بلبل واستسلمت نبراته المتناسقة الصافية وهو منفرد يذهب إنشاده إلى أغوار مشاعرك فتشاركه بما يلهمه النشر من شعر حنينه كلمات وتلاعبه معاني لا يدركها إلا المستغرق المطل على وحدة الوجود. ولكنك إذا وضعت عشرين بلبلاً أو عشرين مداحاً من أنواع الأطيار وأطلقوا جميعهم أصواتهم فعندئذ ندرك أن الطباق ليس من روح الطبيعة بل هو من أوضاع فناني الغرب الذين لم يهتدوا إلى الوحدة المليئة بالتنوع فاخترعوا لهم موسيقى مبنية على المطاوعة ليسدوا مجاعة إنشادهم المركب الفقير
وما أطول ما أقوله عن جهل للموسيقى الغربية فأنني قد ألفتها منذ كنت طفلاً وقد ألقت أناملي طويلاً استنطاق أوتار عودي العربي فأنا أفهم الأنغام التي قسمها الفارابي كما أفهم موسيقى موزار وبيتهوفن بل وموسيقى باغ أيضاً. ويمكنني أن أؤكد لكم أن الفن الغربي على ما بذل فيه من جهود لا يرتكز على أساس من الموسيقى الطبيعية التي تتجلى بكل روعتها في الإنشاد العربي المنفرد. ولو أن رجال الفن عندنا أدركوا هذه الحقيقة وانصرفوا إلى شرقية موسيقانا على أساسها دون أن يستهويهم ما يتوهمونه رائعاً في الموسيقى الغربية لكانوا ينتزعون من الطبيعة أروع موسيقاها ولكن أكثرهم كمن لديه ثروة يطبق خزانته عليها ليذهب مستجدياً من الغريب كسرات تتخمه ولا تسد جوعه
لعلني بعد هذا البيان الموجز تمكنت من إقناع مناظري الكريم(258/20)
أولاً: إن العرب عندما رقوا العلوم ونشروها وأوجدوا أهمها، إنما عملوا بعقليتهم الشرقية العربية. وإننا لسنا بحاجة لتقليد الغربيين في أسلوب تفكيرهم لنجاريهم في مضمار العلوم.
ومن العرب اليوم في أوربا وأميركا ومصر وسائر الأقطار العربية علماء في كل فن يفتخر العالم بأسره غربه وشرقه بسعة اطلاعهم وعبقريتهم وما بلغ هؤلاء الأعلام مقامهم إلا بعقليتهم العربية
ثانياً: إن العلوم الوضعية مشاع بين البشر جميعهم فليس على الأرض سلالة خصها الله بالعلن دون سواها
ثالثاً: إن لكل شعب، فطرته وهي ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، وإن كل أمة تستبدل ثقافة غريبة بثقافتها إنما تؤلم فطرتها وتميت شخصيتها
رابعاً: إن الأخذ بالعلم عن أي شعب لا يستلزم مطلقاٌ اقتباس طرق حياته في الأسرة والمجتمع وتقليد ذوقه وسكناته وحركاته فأن العرب عندما احتضنوا العلوم الاستقرائية عن اليونان لم يأخذوا الفطرة اليونانية ولا ذوقها ولا معتقداتها كما أن أوربا عندما تلقت هذه العلوم عن العرب لم تتعرب بل بقي فيها كل شعب محتفظاً بثقافته. هذا فضلاً عن أن في الغرب ثقافات قد يراها من يحدجها من بعيد على شيء من التقارب غير أن من يدرسها عن كثب ليدهشه ما بينها من فروق تتناول صميم الذوق والعقيدة والشعور، فأي هذه الثقافات يشار على الشرق بأن يتبع وهل يظن المناظر الكريم أن تجربة التقليد شيء جديد لم يتضح لنا زيغه بعد. أفلا نرى في كل بلد من هذا الشرق العربي عدداً من المتفرنسين والمتألمنين والمتأكلزين والمتروسين الخ خرجوا عن الثقافة العربية وامتنع عليهم أن يتصفوا بالثقافات التي استهوتهم فأصبحوا لا للغرب يعرفهم ولا للشرق يعترف بانتمائهم إليه.
وهنالك ظاهرة غريبة نشأت من هذا التقليد وهي النعرة التي استحكمت بين هؤلاء المقلدين وهم أبناء البلد الواحد؛ فأنك لن تجد متفرنساً يمكنه الاتفاق مع متألمن أو سواه من المستغربين
كل إنسان يجبن أمام الحوادث في حياته فيلين لها حوافزه وفطرته إنما هو شخصية تائهة فقدت ذاتها، إنما هو الشبح الباكي، والحي المستجبي؛ ولقد تلمع إحداق مثل هذا الإنسان(258/21)
بالظفر والمجد، ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه، ونحن كأمة لا قبل لنا بأن نتحكم في هذا الناموس الثابت لأن فطرتنا مقدورة علينا كامنة فينا؛ كل أمة تحيا على غير ما تسوقها فطرتها إليها فهي أمة باكية بدموع صامتة، هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها ولا سعادة لها فيها
إن شعوب الشرق العربي مسؤولة أمام تاريخها بالمحافظة على ثقافتها وإحيائها والأخذ بما وضع لها وحي أنبيائها وإلهام عباقرتها لتجديد حضارتها، وإن كانت مدنية الغرب الحديثة؛ ترى الارتقاء يقوم على العلم وحده، على الاستقراء دون الاستلهام فأن للشرق العربي المستحفز للوثوب دستوراً يتضمن الحكمة علمته وفي العمل بها العظمة الحقيقية لكل إنسان ولكل شعب وهي:
أعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك لا تموت أبداً
فليكس فارس(258/22)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 29 -
(مضى الأستاذ سيد قطب فيما سماه الموازنة بين الرافعي والعقاد على نهجه وطريقته؛ وقد آثرت الصمت رعاية لما بيني وبينه من صلات الود، وأغضيت في سبيل ذلك عن أشياء تنالني من قريب أو من بعيد. . .
(ولقد كان حرصي منذ بدأت هذا التاريخ أن أكون مؤرخاً وحسب، مجرداً من هوي الصاحب وميل الصديق؛ فما كان من حسنات الرافعي أو عيوبه فقد رويته على ما رأيته، إذ كان حق الأدب على أكثر من حقه. فلما كانت أولى مقالات الأستاذ قطب، هممت أن أقول شيئاً فخشيت. . .
وخشيت أن يكون لي في الدفاع حماسة توقظ هواي وحبي للرافعي فتغلبني عاطفتي على روح التجرد الذي أحرص عليه حتى أفرغ من هذا التاريخ. . . وكفاني الأستاذ شاكر هذه المئونة حين انتدب لتزييف هذا النقد
(ولكن الأستاذ قطب استمر مسرفا في التجني، ومضى يقول. . . ويقول. . . ويتهمني في النهاية بأنني انحرفت عن منهج المؤرخ، وكنت عنده شبيها بمن يجلس في المأتم ويرمي الناس بالحجارة. . . وعفا الله عنه. . .!
(فأن كان هذا هو كل عذر الأستاذ قطب من تمزيق أكفان الموتى بأظفاره فقد بلغ وأبلغ، وسيذكر عذره هذا غداً فيما يؤثر من لطيف الأعذار، ولكنه لن يبلغ من القوة أن يمحو التاريخ الذي كان، وإن ساءه وأحفظه أن ينسب هذا التاريخ إلى صاحبه الذي يحاول أن يدفع عنه أو يدفع به. . .)
(العريان)
عود على بدء(258/23)
لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى وعاطفة فحسب؛ بل كانت إلى ذلك فناً وأسلوباً وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يطوى تاريخه بين دفتين، هو فكر وبيان، ما بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدباً يستحق الخلود. ذلك كان رأي الرافعي ومذهبه؛ فمن ذلك لم يكن يعتبر المقالة وقد انتظمت في خاطره معنى وفكرة، مقالةً تستحق أن تكتب وتنشر إلا أن يهيئ لها الثوب الأنيق الذي تظهر به لقرائها؛ وهذه هي المرحلة الأخيرة
وأول ما يعنيه في ذلك هو بدء الموضوع وخاتمته؛ لست أعني العبارة التي يبدأ بها والتي يختم، ولكني أعني طريقة البدء والختام في الموضوع. شأنه في ذلك شأن القاص: تجتمع له أسباب القصة بمقدماتها وحوادثها وما آلت إليه، مرتبة ترتيب الحادثة بما بدأت وبما انتهت؛ حتى إذا أراد أن يحكيها لمن يسمع أو يكتبها لمن يقرأ، قدم وأخر، وأظهر وأخفى، وبدأ القصة بما لم تبدأ، ليعقد (العقدة) ويرصد للحل والنفس مستشرفة إليه متطلعة إلى خاتمته. . . وكذلك كان الرافعي يفعل في مقالاته
. . . فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية، آن أوان الأداء فأخذ له أهبته، فيطوي وريقاته ساعة، ليرجع إلى كتاب أي كتاب من كتب العربية يقرأ منه صفحات كما تتفق، لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتاً ما قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب، كتابات الجاحظ وأبن المقفع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج
وسألته في ذلك فقال: (نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية، ما يتحدث به الناس وما ينشئ كتاب الصحف في ذلك سواء، واللسان العربي هنا في هذه الكتب. إنها هي البادية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان، بعد ما فسد لسان الحضر والبادية. . .)
على أنه كان لا يفيد من هذه القراءة اليسيرة قبيل الكتابة إلا الجو البياني فقط. أما حروف اللغة، وأما أساليب اللغة فلم تكن تعنيه في شيء؛ فيقرأ عجلان غير متلبث كما يطالع صحيفة يومية، حتى يفرغ من الفصل الذي بدأ؛ ثم يطوي الكتاب ويستعد للإملاء
وإذا كان كثير من الكتاب تزعجهم الحركة والضوضاء وتعوقهم عن الاستمرار في الكتابة، فأن الرافعي كان - على ما في أذنيه - يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده. . . كان مكتبه إلى جانب باب الشرفة، وكان له نضد صغير إلى جانب مكتبه حيث أجلس ليملي(258/24)
علي؛ فكان يلذني أحياناً والجو حار أن أفتح باب الشرفة لأتروح، فلا تكاد تهب نسمة بجانبه حتى يكف. وعرفت عادته هذه فكنت أغلق الشرفة والنافذة معاً، لأصلي حر الغرفة أربع ساعات أو يزيد حتى يفرغ من إملائه. وكان يؤذيني من ذلك أنني كثير التدخين؛ والحر والمجهود العصبي يزيدان الرغبة فيه، فلا يمضي ساعتان منذ بدأنا حتى يفسد جو الغرفة، فأفتح الشرفة برهة لتجديد الهواء نتبادل فيها الحديث ثم أعود فأغلقها ليملي علي. . . على أنه في غير وقت الكتابة كان يحب أن يقضي في الهواء الطلق أكثر وقته، حتى في برد الشتاء القارس؛ فكان إذا فرغ من إملائه خرج إلى الشرفة البحرية يفتح صدره للهواء يعبه عبا كما يقبل الشارب الحران على الماء في يوم قائظ. . .
ولم أكن أقاطعه حين يملي علي مقاطعة ما، إلا حين أشعر أنه يهم بالانتقال في الموضوع من فصل إلى فصل، فألقي إليه ما أريد أن أقوله مكتوباً في ورقة، لأحاوره في عبارة أو لأستوضحه معنى. . . ثم يعود إلى إملائه وأنا أكتب صامتاً وهو لا يرفع عينيه إلي. . . كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب. ولقد كان يخيل إلي أحياناً وأنا صامت في مجلسي والقلم يجري في يدي على الصحيفة وأذني مرهفة للسمع - كأنه في شبه غيبوبة يتحدث إلى نفسه والمجلس خال إلا منه، فما أنا فيه بشيء إلا إدراكاً غير مجسد. وأحياناً أخرى كانت تتسع روحه وتنبسط حتى تشملني، فما اكتب كلاماً يمليه علي، ولكن تمليه نفسي على نفسي وإن صوته ليرن في أذني بما سبق إليه خاطري.
ولم يكن يملي مسترسلا، ولم يكن يملي وانياً متمهلا، ولم يكن في كل أحواله سواء؛ فحينا يطاوعه القول، وحيناً يتأبى عليه فيسكت وهو يدق على المكتب بحديدة في يده ويغمغم بصوت لا يبين؛ فإذا طال عليه الأرتاج تناول كتاباً أي كتاب على مكتبه، فيفتحه فيقرأ كلمة أو سطراً أو جملة؛ ثم يطوي الكتاب ويعود إلى الإملاء. ولقد يراه من يراه في هذا الوقت فيحسبه يملي مما يقرأ وما به ذاك، ولكنها كانت لازمة من لوازمه تعودها حين يرتج عليه وتعود أن يجد فيها مفتاح القول. . .
ولقد أرتج عليه مرة فطال به الصمت، فمد يده إلى كتاب على مكتبه وهو يقول ضاحكاً: يا أخي، لقد تعودتها وما أجد لها علة، وتعودت بها أن أجد ما أريد عن أول كلمة أقرئها ولو(258/25)
كان الكتاب معجماً لغويا. . .) وكان الكتاب الذي مد إليه يده هو (القاموس المحيط)، قلت: (إن في بعض الأشياء مثل المفاتيح العصبية. . .) قال: (صه، هذه هي الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية. . .) ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء
وكانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعاً من نفسه فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنيناً وموسيقى. وكان له ذوق خاص في اختيار كلماته يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشآته، ولكني كنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة وهو يملي علي. هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن ويعرف سر إعجازه في كل آية وكل كلمة من آية وكل حرف من كلمة. وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله تعالى: (ولقد راودته التي هو في بيتها عن نفسه. . .) ليرى نموذجاً من هذا الذوق الفني العجيب في فهم اللفظ ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء. وكان إلمامه بمتن اللغة، وإحاطته بأساليب العربية، ومعرفته بالفروق اللغوية في مترادف الكلام - معينة له عوناً كبيراً من البلوغ بعبارته هذا المبلغ من البيان الرفيع. احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه، فأرتج عليه، فأخذ يغمغم برهة وأنا منصت إليه؛ فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته باباً من كتاب المخصص لابن سيده ثم دعا بالكتاب فأخرجته إليه؛ فما هو إلا أن فتحه حتى وقع على مراده، فطوى الكتاب وعاد إلى إملائه. . . وهو على صحة عبارته وسلامتها قلما كان يلجأ إلى معجم من المعاجم ليبحث عن كلمة أو معنى كلمة. ومع حرصه على أن يكون قوي العبارة عربي الديباجة قلما كان يستعمل عبارة من عبارات الأولين. وكم أجد على العربية من أساليبه ومعانيه. وكان له في إنشاء (الكناية) إحساس دقيق. وأحسب لو أن واحداً من أهل البيان أراد أن يتتبع ما أجد الرافعي على العربية من أساليب القول، لأخرج قاموساً من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين؛ إذ كان مذهب الرافعي في الكتابة هو أن يعطي العربية أكبر قسط من المعاني ويضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وقد بلغ ما أراد. إنني لم أعرف كاتباً غير الرافعي يجهد جهده في الكتابة أو يحمل من همها ما يحمل؛ وما أعرفه حاول مرة واحدة أن يسخر من(258/26)
قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغاً من صحيفته يراد أن يمتلئ. على أنه أحياناً كانت تدعوه دواع إلى كتابة لم يتهيأ لموضوعها أو يفرغ لها باله، فيمليها على عجل بلا إعداد ولا توليد، ولكنك مع ذلك تجد عليها طابع الرافعي وشخصيته، فتعرف كاتبها وإن لم يذيلها باسمه. والعجيب أن هذا النوع من المقالات التي كان الرافعي يكتبها بلا إعداد ولا احتفال كان أحب إلى كثير من القراء، وكان الرافعي يرتفع به عن منزلته درجات عند طائفة من القراء. . .
والشاي أو القهوة هما كل المنبهات العصبية التي يطلبها الرافعي عندما يكتب، وفنجانة أو اثنتان هما حسبه في هذا المجلس الطويل. وعلى أنه في أخريات أيامه قد ولع بتدخين الكركرة (الشيشة) فأنه لم يكن يدخن إلا دخينة (سيجارة) أو دخينتين في مجلس الكتابة؛ فكان يشتري العلبة فتظل في درج مكتبه شهراً إذا لم يزره في مكتبه شهراً إذا لم يزره في مكتبه زائر. . .
. . . فإذا فرغ الرافعي من إملاء مقاله، تناوله مني فطواه قبل أن يقرأه، ثم يودعه درج مكتبه إلى الصباح ويخرج إلى الشرفة يشم نسيم المساء. . . ثم يأوي إلى فراشه. . .
وأول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى المقال الذي أملاه علي في الليل فيقرأه ويصححه. . . ثم يسعى به ساعيه إلى حيث ينشر. . . ويفرغ يوماً لنفسه قبل أن يهيئ فكرة لموضوع جديد. . .
مقالة. . . هي عمل الفكر، وكد الذهن، وجهد الأعصاب وحديث النفس في أسبوع كامل؛ ولكنها مقالة. . . ومع ذلك فقد أنشأ كتاب (رسائل الأحزان) في بضعة وعشرين يوماً، وكتب (حديث القمر) في أربعين، وكتب (السحاب الأحمر) في شهرين. . . وقال قائل من خصومه: (إنه يقاسي في هذه (الكتابة) ما تقاسي الأم من آلام الوضع. . .!) وقال الرافعي يجيبه: (أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها. . . وعلى نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله!)
(شبرا)
محمد سعيد العريان(258/27)
صحيفة أدب وأخلاق
عطفة القاياتي
للأستاذ حسن القاياتي
عطفة القاياتي فيما نتشهى ونتوسل، و (وعطفة الآلايلي) فيما تسمى ولا نحب، تلك عطفتنا العتيدة، قائمة حيث يحتضنها (باب زويلة) عند ملتقاه بالسكرية، فهي على يسرى المقبل من حي الحسين بن علي، الذاهب إلى (باب زويلة)
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجاً عن يميني
تلك (عطفة الألايلي) في بهرتها دارنا القديمة الصغيرة (دار القاياتي): مسلك ضنك ملتو كمجرى النفس وجحر الأفعى؛ أشد من عرين الليث ظلمة ورهبة، وأضيق مسلكاً من لهاة الليث
يتصدر العطفة ربع قديم عادي البنية، ترحل عنه أهلوه من قدمه وخلوقته فهو خلاء قفر قام حرباً على المجتازين خشية التزلزل والتهادي.
أجل أيها الربع الذي خف آهله ... لقد بلغت فيك النوى ما تحاوله
ربع معطل خلاء، عطل من الغيد والصباحة، لا يطل اليوم من شرفاته ولا نوافذه الحسن، ولا تشرف كعهدها ربات الدل.
فنوافذه الخالية الساجية كالعيون الثاكلة المفجعة لا يشرف منها الحب ولا تطلع الفتنة
يناوح هذا الربع المعطل بيت واهن متهالك، طالما تهدم وابتنى، وابتنى فتهدم، أحوالاً وأفانين حتى انتسخ البيت الأصيل وأعيد خلقاً آخر بالترقيع، فهو البيت وليس هو البيت كما قيل في طيلسان ابن حرب:
بقى الرفو وانقضى الطيلسان، ... لكثرة عرضه على الرفو والرفاء
يسلم عطفتنا هذا الربع إلى ربع ثان يسايره أعرق منه في البلى والخلوقة يملك حيزها الأكبر؛ شهدت بالأمس قطانه من الطبقة الدنيا المبتئسة يترحلون عنه خشية التداعي ويتناشدون بكاء على العطفة أو بكاء على الربع وعطفه
ما ربع ميَّة معموراً يطيف به ... غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب
ثم تتسلسل يمنة ويسرة ومنازل العطفة بعد هذين الربعين بيتاً بيتاً فتشاكل هي كما تشاكل(258/29)
أهلوها وهناً وضعة. وناهيك ساكنو الربوع حتى تشافه بيتنا الصغير فإذا هو معها كما قيل للعبادي: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا. تشابهت هذه البيوت في الرثاثة والزراية حتى لتحسبها من التشابه بيتاً واحداً مردد الصورة، أو تحسب كل بيت منها إيطاء مع جاره وصاحبه، وليس في الحارة كلها بيت للقصيد.
وعلى هذا الذي نصف تمضي فتتصل الطليعة الأولى من حارتنا حتى تفضي إلى منزل قائم تبلغك هذه الكلمة حديثاً عنه: منزل يتصدر كأنما تختتم به العطفة أو تسد، ولكنها تستمر فتطرد بعده؛ بيد أنها تتشعب إلى شعبتين، تأخذ إحداهما ذات اليمين والثانية ذات الشمال كما تبسط ذراعيك للعناق!
تبارك الله ما أشرف وأنبل! ما شهدنا كهذه العطفة عطفة زهراء سامية ولا قطان عطفة جلهم بل كلهم من الطبقة الدنيا المتواضعة الوادعة، (إسكاف) إلى جانب (كناس) و (نجار) لدى (أديب)، وما إلى هؤلاء. أجل، لقد تنجب الحارات ولا كمن أنجبت حارتنا من (عزام) الإسكاف و (موسى) الزبال و (كريمة) النجار و (السيد) الشاعر
وما شر الثلاثة أمَّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
تلك حلية السكان في عطفتنا. ألست تشهدهم أيها القارئ ملء النفس، فكيف ظنك بزميلك الشاعر الفحل وقد خرج على هذا الملأ في وجاهته وزينته؟ أليس يزدهيك منه أنه أظهر أهل الحي نبلاً وأبينهم وجاهة؟
لم أر شيئاً حسناً ... منذ دخلت اليمنا
فيا شقاء بلدة ... أجمل من فيها أنا
ليس هذا وحده مما يشق على النفس والبصر فقد انتحى قاصية من العطفة حمام عتيق ومستوقد حمام سالت عليهما (الصحة) عجلات ومركبات تحمل القمامة ذهابا وجيئة، حتى إذا التقت مركب في مسالكها بمركب غصت بهما حلاقم العطفة وسد متنفس الطريق فقل في حبسة بل غصة صادعة كغصة الماء لا يسيغها الماء!
لو بغير الماء حلقي شرِق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
إذا راح سدنة حمامنا أو اغتدوا عليه يحملون قدور (الفول المدمس) المنتفخة السوداء فقل في أشباه الحلاليف تحمل الحلاليف!!(258/30)
أنا أبن الذي لا ننْزل الدهرَ قدرُه ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
على أننا وإن تناولنا قدور (الفول المدمس) بهذه الدعابة فما نتغمد لها فضيلة ولا نغض من قدر، تلك أسوة البائسين بالسراة ومائدة المفلوكين معاً والمالكين، على حالة من المدنية شحيحة مناعة ليس لنا فيها طعام ابن جدعان ولا جفنة آل المحلق
نفى الذل عن آل المحلق جفنة ... كجابيةِ السَّيْح العراقي تَفهَقُ
لقد رمتنا هذه الحضارة والمدنية بمأدبات ومطاعم باخلة جل ما تتسمح به قدور وصحاف قدرتها الصناعة تقديراً فهي دقيقة زهراء كالدراهم والدنانير، غالية كأنما تطبخ فيها الدراهم والدنانير:
رأيت قدور الناس سوداً من الصّلَي ... وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها ... أمامهم الحوليُّ من ولد الذر
يعصف بنا مستوقد الحمام عصفته ويهب إعصاره، فحسبك أن تتعرف أن الله إنما أجرى الهواء طلقاً ليشتمه الناس غيرنا نسيما عليلا وحياة ولا نتجرعه نحن إلا حرقة أو غلة، فهو زفرة حرى أو تنهد. طالما أظلتنا غاشية كثيفة هوجاء من دخان هذا المستوقد بل جبل النار يظلم لها يومنا الطلق الأضحيان حتى ليخيل إلينا أن يومنا قد رغب عن لونه الأبيض الوضاح، أو كأنما صيغت لنا خاصة شمس سوداء تقد من أديم الليل!!
أما وقع العجلات من مركبات (الصحة) زائرات المستوقد لا في الفينات والفترات بل في اليوم الأطول والليل الأليل فإنما يكون على أشده إذا تحين الأديب لخواطره الشعرية ساعة من فترة الأحياء وهدأة الحياة!!
يميناً لقد عشت هذا الزمن الحفيل لا أتفهم كلمة المعري في شعر (ابن هانئ الأندلسي) حيث يقول: (ما أشبه شعر ابن هانئ إلا برحى تطحن القرون) حتى إذا رصفت عطفتنا بالحجر وتخطرت عليها مركبات الصحة، أيقنت إنما نحن في مطحن للقرون
هذا بعد أن رصفت العطفة بالحجر، أما قبل ذلك فقد كانت تستهل علينا السماء في الشتوة شآبيب كأنما تخرقت بها السماء حتى تتوحل الأرض فأكثر مشية السكان إذ ذاك مشية المقيد في الوحل(258/31)
عليَّ وإلا ما بكاءُ الغمائم ... وفىَّ وإلا فيم نوحَ الحمائم؟
حمام السكرية وناهيك: حمام صحب الزمن حتى تحدث به التاريخ وظل ماثلا حتى زرناه، أنقسم بنصفين فهو حمامان، قسم للجنس النشيط له باب من السكرية، وقسم للجنس اللطيف الدخلة إليه من عطفتنا؛ بيد أن شطره الجميل قد عطل عندنا من العمل فعطل الحي من الحسن
كانت تبتكر إلى حمام السكرية هذا أسراب من الغيد الفواتن بل زهرات الصباحة من كل رشيقة القد نفاثة العينين بالسحر، فيلتقي لأجلهن عنده فصائل من عبدة الحسن رواد الغزل قوامها شباب من الطبقة الدنيا، فما شاء الحسن، لا، بل ما شاء الفحش من كلمة غزل حارة أو قالة عوراء تنظر إلي نظرة خائنة أو تجميشة باليد، ثم ما شاء الشغب والفتنة من تهاتر وإلحاد في الحسن. فكم صريع هناك في معترك الغزل والجدل بأعين الفتيات الساحرات وأيدي (الفتوات)
فتية تلك للشغب والشر خليقة بهذه الكلمة الفكهة من زميلنا الأستاذ علي شوقي قال:
(وملطعين) على الطريق تراهم ... يتحرشون برائح أو غادي
فئة تقول لها إذا حييتها: ... يا معشر السفهاء والأوغاد
إن للغزل في مصر كلها مغاني ومواقف غراء مشهورة، منها حمام السكرية. فأن عد العرب من مغاني صبابتهم ومآلف غزلهم بانة الوعساء والرقمتين، عددنا المحملين وبين النهدين، أو تذاكروا (نجدا) (وسفح زرود)، فخرنا (بالمحمدي) و (أبي السعود)،
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
لم يكن للعطفة فيما سلف عهد بالنور فكانت الحوذية والمكارون يربطون حميرهم ومركباتهم في جنبتيها، فإذا أقبل الداخل إلى أهله في الظلمة لم يرعه إلا صدمة من مركبة مسندة أو رمحة من حمار مرتبط
أنا أعمي وصاحب القوم أعمى ... فدعونا في ظلمة نتصادم
فإذا هو دامي الجبين، دامي الفؤاد من شجى ولوعة(258/32)
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
زَيّن لنا هذا بل زين لنا حسن الجِدَّ ولا نكذب الله، أن نكتب إلى ولاة الأمر في طلب النور، ونمى إلينا حديث ذلك الكاتب الكبير الذي طلب إليه أن يكتب رسالة إلي وليّ أمر في طلب النور للمساجد فارتج عليه ولم يدر كيف يكتب، فبينما هو نائم جاءه إبليس فقال له أكتب: إن في النور أنساً للسابلة ونفياً للريب والوحشة عن بيوت الله. فبدا لنا أن نساجل هذا الكاتب ونساير أسلوبه هذا في استجداء النور لعطفتنا وبيوتنا لا لبيت الله، وهممنا بأن أكتب هذه الكلمة على طرازه الإبليسي؛ بيد أنني قَنَيْت الحياء فلم أكتب وليتني كتبت:
أيتها الوزارة الأريحية:
نحن أهل (عطفة الألايلي) في ظلمة مطبقة، المشتكي إلى الله منها ثم إليك، فهل أنت متسمحة فمحسنة إلينا بخطرة من النور ولمحة من الضوء فان في النور تنويهاً بمواقف الغزل عندنا والصبابة، وأنساً لمآلف الصبوة، وهداية لمواقع القبلات والنظرات فلا يجمل أن يسلم الجمال ومناغاته إلى الظلمة وحيرة الموقف وإلى مثل كلمة الشاعر:
وبان بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم
على أن في النور عدا هاتيك الخلال النذير، من رمح الحمير، والنجاة من المركبات.
فلما استجابت الوزارة لهذه الضراعة والتخشع بعد أن كتبنا إليها - ولكن في غير هذه اللغة - استجابت لنا بمصباحين ضئيلين فاتري اللمح باهتي اللون كان العهد بالنور قبلهما أن تتحلل الظلمة تحته، ولكنه نور افتر من (بارق ذاك الثغر) يتحلل تحت الظلمة
أما صرعى الكلاب والهررة الأليفة المفدَّاة وما إليها من الفيران وبنات عرس فما تطوي لها جثة من جنبات العطفة وأقطارها ولا تكتم رائحة وإنما تحشر في بطون الهوام والطير وتصعد معها أرواح الساكنين من صرعى الجراثيم والعلل
ستقبرني الطير كيلا أكون ... سواءً وأمواتهم في الرجم
ليست صناديق القمامة التي ترصدها الوزارة في الطرقات والميادين إلا صورة كاذبة مختالة للنظافة كأنما تدفع بها عن العاصمة معرة النقص من القادرين أو تكف أو بها لذعة العيون والَحدَق على فرط القذر والدمامة، كما تعلق تميمة القروية البلهاء الغريرة على محيّا وليدتها الدميمة خيفة العين(258/33)
ليس لدينا شيء معجب بحمد الله بل كل ما تباشره العين مما يشق على النفس والبصر، سوي مدرسة أولية وسبيل أثري تحت المدرسة يتصدران العطفة. أما المدرسة فتحمل إلينا من ذكر العلم والتربية ما يندى على الكبد الحرَّى برداً وروحا؛ وأما السبيل فان يكن عطل آنفاً حتى ما يبض بقطرة ماء في طاعة المدنية والوقاية فهو يذكرنا بإحسان أسلافنا الأولين وبرَّهم كالمحيا الفاتن شيَّع عهد الصبا والفتنة وغيض منه ماء الحسن ربما أذكرك بتقاسيمه أيام كان يشرق بماء الحسن والفتنة
تبتكر الشمس فيبتكر معها قطعان من الباعة والصناع من صائح بالبامية والقلقاس، إلى مبيض النحاس، فينعقون بسلعهم المتعارفة تناهق الحمر فيمنعون القائلة الشهية يومهم الأطول، حتى إذا تمشت الشمس إلى المغيب، خلفتهم فصائل أخرى من الطراز الساخر تدق الدفوف، وتضرب بالكفوف، ثم تتغنى بكل ما تتغنى به الإذاعة العامة، فهم إذاعة متنقلة ليس يدري المستمع إليهم: أباعة هم يتغنون، أم مغنون يبيعون؟!
طال ليلي وبتْ كالمجنون ... واعترتني الهموم بالماطرون
هذا بعض ما نلقي في عطفتنا وفي دارنا، إلى أطفال من نشء الغوغاء والسوقيين، لهم عدة التراب كثرة، في خسة التراب، مباءة أمراض، ومسيل أقذار، وخريجو شغب وقحة، ونبت تشرد وجهل، كأنما عوض أهلوهم بكثرتهم ما افتقدوا من عزة العلم والجلال
يا فراخ المزابل ... ونتاج الأراذل
اسمعوا لا سمعتمو ... غير زور وباطل
نشء من الغوغاء لهم على ضؤولة الجراثيم فتك الجراثيم، تفتك بالعلات ويفتكون بالعلات والجهالات
أليست هذه الطفولة العابثة اللاهية هي الطفولة العاطلة المتشردة حذرك النعل بالنعل؟ وإذا كان يجمل بالدولة أن تحمل نشء الأمة على العلم والثقافة بسيف الإكراه القانوني فليس بمستنكر عليها أن تحمل هذا النشء على حذق الصناعات والفنون بالإكراه القانوني، ولئن كان العلم سبيل العيش والحياة، فإن الصناعات والعمل عيش وحياة
(البقية في العدد القادم)
حسن القاياتي(258/34)
بين العقاد والرافعي
العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 7 -
عاد الأستاذ شاكر إلى خلته التي تركناه لها، وتركناه من أجلها، وما أحسبه ولا الأدب بمفيدين من هذه الخلة شيئا، ما احسبني ولا رأيي بخاسرين بها كذلك. فليقل إذن، ما دام القول هكذا يريحه - وإنا لنبغي له الراحة إن شاء الله - ولسواه!
أما أنا فعلى منهاجي في تقسيم الموضوع سأسير، فان أتى الأستاذ بشيء، غير ما يحلو له أن يفرط علينا به، فسأجعل ختام حديثي عن العقاد نقاشا له فيه، كما صنعت في ختام حديثي عن الرافعي، وهذا آخر ما نستطيع أن نكرم الأستاذ به
وأما الأستاذ (الطنطاوي) فأنا أكرم (دمشق) وجيرتها أن أكسب خصومته إذا أنا شئت الجد في وصف كلمته، ووضعتها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي، في مدارج الآداب والآراء. ولعني بصمتي عنها أكون قد شئت له أفضل مما شاء لنفسه. وليسأل في ذلك (المتقدمين من نقدة الأدب) الذين يقف عند آرائهم
سيد قطب
من الناس من يقف عند ظواهر الأشياء والآراء، كما يقف الميزان من الموزونات، لا يميز بين أنواعها، ولكن يميز بين كثافاتها. وهؤلاء هم (الشكليون) في إحساسهم وأحكامهم، وهم والميزان الميت الجامد سواء
وفي مثل هؤلاء يقول العقاد، مصدراً عن (طبع قوى يخلق المبادئ الخلقية، ويختار ما يناسبه، ويرفض مالا يرتاح إليه، ولو تواضع الناس عليه) كما قلت في أول كلمة:
إنا نريد إذا ما الظلم حاق بنا ... عدلَ الأناسيَّ لا عدلَ الموازين
عدلُ الموازين ظلم حين تنصبها ... على المساواة بين الحرّ والدون
ما فرَّقت كفة الميزان أو عدلتْ ... بين الحليَّ وأحجار الطواحين
هؤلاء العادلون - على طريقة الموازين - يقولون: إن للعقاد مدرسة، وللرافعي مدرسة؛(258/36)
ولكل من المدرستين تلاميذ وأنصار، فمن الغلو إذن أن ينكر أنصار إحدى المدرستين طريقة الأخرى، وأن يقسوا في نقدها والزراية عليها
ومن هؤلاء من يقول عنا: (ويكفيه مما مضى في كلامنا وكلامه أن يعلم أنه نزه العقاد ورفعه أرفع درجة، وأننا لم ننزه الرافعي ولم نقل فيه بعض ما يقول هو في الشاعر الكبير صاحبه) يقول هذا وهو يحسب أنه نصب ميزان العدالة الحساس في تورع وتنطس وإحكام
المسألة أيها الناس، ليست هي الاعتقاد في أمر من الأمور، ولكنها قيمة هذا الاعتقاد وحظه من البصيرة، وحقه من الاحترام والبقاء. والمسألة ليست مسألة طريقة خاصة في الأدب أو الرأي - أيا كانت قيمتها - ولكنها حقيقة هذه الطريقة وصلاحيتها للحياة والدوام
فلتكن للرافعيين مدرسة في الأدب، ولتكن عقيدتهم فيها ما تكون، فيبقى بعد ذلك أنني حين أنكرتها عليهم، لم أكتف بإشارات الصم البكم في القبول أو الإنكار، ولكني نقدت ما فيها نقص الحيوية، واستغلاق الطبع، وأتيت على هذا بالأمثلة التي تثبت موت هذه الطريقة، وعجزها عن مسايرة الحياة. وهذا هو مناط الحكم، وهذا هو (عدل الأناسي) الذي يحسب حساباً للكيف والنوع، لا عدل الموازين الذي لا يحفل بغير الكم والوزن
أما قوله أحدهم إنني رفعت صاحبي، ولم يقل هو في صاحبه بعض ما قلت، فلكأننا في معرض مفاخرة على طريقة القدماء، لا يهم فيها الواقع والصدق، إنما يهم فيها الفخر و (النخع)؛ وكأنما الحكاية كلام يقال، ثم لا ينظر ما وراءه من دليل
أنا يا سيدي أقول ما أقول، وأشفعه بالمثال والدليل، فان كان لك قول فلتناقش هذه الأمثلة والأدلة، أو لتأت بغيرها مما يدل على نقيضها. فأما التظاهر بالتورع والتنطس! فقد يدل على غير العدالة النفسية التي لا تحفل الظواهر والشكليات، متى قام لها من حقيقة الموضوع ما يدعمها ويقنع بها
ولعل الذين يعدلون - عدل الموازين - يقنعون بهذا، ويفهمون أن المسألة ليست طريقة وطريقة، ولا رأياً وراياً، وإنما هي قيمة هذا الرأي وتلك الطريقة
ومن الناس من هم عوام في تقديراتهم الاجتماعية، لا تبلغ قداسة الرأي عندهم، ولا دفعة اليقين بأمر من الأمور، أن يتغلبوا بهما على ما تواضع العوام عليه من رسميات وشكليات، والموت عند هؤلاء يكفي لأن تطبق فمك عن كل حق، وأن تضم شفتيك عن كل رأي، ولو(258/37)
وجدت مناسباته ودواعيه
وفي هؤلاء يقول العقاد متعالياً على القيود الاجتماعية العامية:
أرى في جلال الموت إن كان صادقاً ... جلالة حق لا جلالة باطل
فلا تجعلن الموت حجة كاذب ... لمدحة مذموم ورفعة سافل
ومع تعديل في كلمتي (مذموم وسافل) تنطبق الحالة على ما نحن فيه اليوم من حديث عن الرافعي ونقده وأدبه. فما دام الرافعي قد مات، فيجب حينئذ أن يقول أنصاره عنه ما يقولون فلا نتعرض لتزييف مدائحهم فيه؛ ثم لا يكتفون بهذا بل يقولون عن خصومه ما يقولون فلا نتعرض كذلك لشيء مما يقولون! أليس الرافعي قد مات؟ فلئن كان الموت هكذا فليبطلن إذن عمل التاريخ، وعمل النقد، ولتتحطم مقاييس الرأي ومعايير الأدب، وليكونن الموت (امتيازاً) من الامتيازات التي يلوذ بها كل مخطئ وكل متخلف!
والحمد لله أن بنا من الشجاعة ما نواجه به عامية العوام في هذه الاعتقادات، ونصدر به الرأي خالصاً من كل تنطس مصطنع، وتكلف ذميم
ومن الناس من لا رأي له فيما يحس ويرى، أو لا عقيدة له في رأي أو اتجاه، أو لا حماسة له في عقيدة، فهو من هذا يحسب الناس سواه كذلك، ولا يستطيع أن يلمح في عمل من أعمالهم دفعة اليقين، وحماسة الاعتقاد، ولا يفهم إلا أنخلفهم آخرين يدفعونهم ويزجونهم. ذلك أنه ناضب العقيدة، فاتر الحماسة، فقير العاطفة، لا يفهم ما لم يكابد، ولا يتخيل ما لم يحس
وليس عندي لهؤلاء ما أقوله، لأنهم منطقون مع نفوسهم، ومع طبيعة مدرستهم.
ولكني أقول لمن يستطيعون أن يفهموا شيئاً عن دوافع النفوس الإنسانية: إنه لم يكن من الحتم أن انتظر تأذى العقاد مما كتب الأستاذ سعيد لأشعر أنا بالتأذي؛ وأن العقاد ليس صاحب القضية وحده فيما يكتب عن أدبه وردوده، ونقد سواه له، وإنما صاحب القضية هو كل ذي رأي فيها، وكل صاحب عقيدة في الرافعي أو العقاد، وتلك فسحة في (النفس) لا نطمع أن تدركها المدرسة الرافعية. فبحسبها الفسحة في تنميق العبارات وتبخر الكلمات، وتثني الأساليب!
ثم نأخذ في الحديث عن العقاد تكملة لحديث البارحة، وتدليلاً على ما أوردنا من نظريات(258/38)
مجملة، فيما يصب في نفس العقاد من ثقافات عالمية، وما ينضح به أدبه من هذه الثقافات، وما تخلقه طبيعته خلقاً من اتجاهات، تبدو فيها آثار الثقافة البصيرة، مما يحتم على دراسة - بله ناقده - الإلمام بالمعارف الإنسانية العامة، فوق فسحة في الضمير، وتوفز في الشعور. . يقول العقاد
بك خف الجناح يأيها الطي ... ر وما كنت بالجناح تخف
لطف روح أعار جنبيك ريشا ... فمن الروح من الريش لطف
فتحس هنا لطف الإحساس، ونفوذ البصيرة، ورفرفة الروح الفنية، وهي تتبع القوى الحية الكامنة في روح الطائر، وترى رفرفتها من الداخل، وتحس خفتها ورشاقتها في ماهيتها الأولى، حتى لتعير جانبيه ريشا
وهذه هي ميزة الفنان الحيّ في الشعور بالحياة الباطنة لا بمظاهرها الخارجية وحدها، وفي الالتفات إلى خلجاتها في الضمير، لا في السطوح بمفردها
ولكنك خليق أن تجد بجانب هذه النظرة مصداقها من الروح العلمية، فعلم وظائف الأعضاء يقول: إن الوظيفة تخلق العضو. فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح
وقد لا يكون الفنان الصادق في حاجة للعلم بهذه النظرية ليقول هذا القول. ولكن المفسر والناقد في حاجة ماسة إليها، ليدركا جمال الخاطرة كاملا، ويستوثقا من صدق الفطرة واضحاً، ولكي لا يخطر لهما أن ينظر إلى الأشكال الخارجية وحدها فيريا الطائر يطير بالجناح، فهذا إذن سبب الطيران!
ودراسة الأحياء هي (العلم) الذي يلذ لذادة (الفن) فالشاعر العظيم لا بد له من قسط منه، لأنه أصيل في طبعه، إذ كانت (الحياة) أجمل ما يلفت نظره وحسه، ويخالج وجدانه وضميره. وأنت واجد في شعر العقاد لفتات شتى إلى دراسة الأحياء علما وفنا. وديوان (هدية الكروان) أحفل دواوينه بهذه الناحية في دراسة الطيور والتطلع إلى الحياة النابضة في ضمائرها وكيانها، وإلى عوامل التفاؤل والاستبشار في عيشها وتصرفانها، مع مزج ذلك بالنظريات الفلسفية منقولة إلى الصورة الفنية. وفي (وحي الأربعين) لفتات كذلك إلى الغرائز والطباع في الأحياء عامة في فصل (تأملات في الحياة) وقد فصلت رأيي فيها في محاضرتي عنه سنة 1934. وكذلك قد حوى (عابر سبيل) كثيراً من هذا.(258/39)
يقف أمام (الجيبون) في حديقة الحيوان، فتنثال على نفسه الخواطر، وتلمح فيها نظريات علم النفس الحديث، إلى جانب الفلسفة الصوفية، ومزاجهما الإحساس بالحياة النابضة في ضمير هذا (الجيبون)، والآمال المترائية في خياله، والأشواق الفائزة في أحلامه، وهو يقفز ويرقص: وبجانب هذا كله أثر الدراسة لدوران ونظريته:
أيهذا الجيبون أنعم سلاما ... يا أبا العبقري والبهلوان
كيف يرضى لك البنون مقاما ... مزريا في حديقة الحيوان!
ألعب الآن وانتظر بعد حقبا ... ترق في (سلم الرقى) وتعل
كيف لم تصعد السلالم وثبا ... أيها الصاعد الذي لا يمل
يا عميد الفنون صبراً ومهلا ... وارض حظ الهتاف والتهليل
مرحباً مرحباً وأهلا وسهلا ... والهدايا ما بين لب وفول!
انتظر يا صديقي شيئاً فشيئاً ... تطبخ القوت كله بيديكا
غير أني أخال ما كان نيئاً ... منه أجدى في الحالتين عليكا
انتظر يا صديق مليون عام ... أو ملايين لست والله أدري
إن تدانيت بعدها من مقامي ... فقصارى المطاف أن لست تدري!
واصطبر إن عناك نثر ونظم ... سوف تتلو نثراً وتنظم شعراً
وغدا يطفر الخيال ويسمو ... والذراعان لا تطيقان طفراً
وإذا ما درست أوزان رقص ... بعد لأى فالرقص فيك انطباع
هل تنال الكمال من بعد نقص ... إن أقلتك فكرة لا ذراع
انتظر سوف تفهم الشيء باسم ... بعد رسم وغابر بعد حال
فإذا ما طلبت باطن فهم ... يا صديقي طلبت أي محال
ولا تقف الإشارة إلى نظرية النشوء والارتقاء في هذه القطعة - بجانب الإحساس الفني فيها - عند ظاهرها الذي يعلمه كل من سمع بها؛ فالمقاطع من الرابع إلى الثامن تدل على فهم تام لها وهي تشير إلى أن الطبيعة لا تسرف في المواهب، فهي حين تمنح موهبة تسلب ما كان يقوم مقامها. فهذا الجيبون حينما يطفر خياله في المستقبل فالذراعان لا تطيقان طفراً، وحينما تقله الفكرة ستخذله الذراع. ثم هناك بيان لمدارج الرقى بين الإنسان(258/40)
والحيوان، فهذا يفهم الشيء برسمه، وذلك يفهمه باسمه، وهذا يتذكر الحاضر وحده، بينما ذلك يتذكر الغابر ويستعيده، ثم فيها الإقرار بالعجز الإنساني أمام الغيب المجهول، والسخرية بالمعرفة الإنسانية القاصرة، فقصارى الجيبون حين يصل إلى مرتبة الإنسان أن يعرف الأشياء بالأسماء ويتذكر ما فات وأن تقله الفكرة لا الذراع ويطفر خياله ويسمو
فإذا ما طلبت باطن فهم ... يا صديقي طلبت أي محال!
أو:
إن تدانيت بعدها من مقامي ... فقصارى المطاف أن لست تدري!
وهناك الإيمان بالغريزة والإعجاب بطابعها الخالص:
وإذا ما درست أوزان رقص ... بعد لأي، فالرقص فيك انطباع!
والنيء أجدى من المطبوخ في حالتي هذا الجيوب الصديق. وهناك بعد هذا كله ذلك التعاطف بين الحي والحي، والشعور بالآصرة التي تربطهما، واستعراض الآمال والأشواق في أبي العبقري والبهلوان!
وللقصيدة بقية تنحو هذه المناحي
وهذه قطعة واحدة من شعر العقاد، تزدحم بكل هذه الدراسات واللفتات، وذلك بعض ما عنيناه برحابة نفسه، وتوفر شعوره، وصدق فطرته؛ وذلك مالا يعني المدرسة الرافعية، لأنها مشغولة عن مثله بمآرب أخرى في تطريز الأساليب وتوشية التعبير واستعارة الحكم والأقوال المأثورة
ولعل في هذا رداً على (المتقدمين من نقد الأدب) الذين يرون المعاني ملقاة على قارعة الطريق. . .! وقد تكون كذلك ولكن ليس كل من يمر بالطريق مفتوح العينين ليراها ويدرك ما فيها من جمال وتعبير عن حقيقة ثمينة؛ حتى لا يكون أمامه بعد هذا إلا أن ينصرف لتجويد الأسلوب. وهاهو ذا (الجيبون) في حديقة الحيوان يمر عليه الرائح والغادي، ويراه الرافعيون كلما زاروا الحدائق. ولكن العقاد وحده هو الذي يقف أمامه ملتفتاً هذه اللفتات، لأن في نفسه ذخيرة ينفق منها، وحياة يفيضها على ما يراه؛ وتلك ميزته عمن عداه
(حلوان)(258/41)
سيد قطب(258/42)
كلمة أخرى على الهامش
أهذا نقد؟ أهذا كلام؟
للأستاذ علي الطنطاوي
أنا رجل له عمله الذي يملأ يومه، ونهجه الذي يدير حياته، وليس من عمله ولا في منهجه الدخول في هذه المناظرة التي يقوم سوقها بين الأستاذ الكاتب الفحل محمود شاكر، وبين الأستاذ سيد قطب. وأنا رجل عرف شاكراً وعرف الرافعي العظيم رحمه الله، وغدا لطول ما قرأ لهما ووثق بهما يقبل كل ما جاءا به. ولكني لم أعرف الأستاذ قطب قبل اليوم ولم أعلم له وجوداً، فهو عندي كاتب جديد أرى اسمه للوهلة الأولى فلا أضعه في منزلة من نفسي، ولا أجدني من قرائه، ولا أعلم لآرائه من القيمة والخطر ما يدفعني إلى مناقشتها. فلا شأن لي في هذه المناظرة، وليس عليّ خوض غمارها، ولكن ما قرأته للسيد قطب في هذا العدد الأخير (255) حفزني إلى سوق هذه الكلمة أسأل فيها: أهذا نقد؟ أهذا كلام؟
لقد تعلمت (وعلمت تلاميذي) أن النقد يستند إلى دعامتين: دعامة من اللغة وعلومها - نحوها وصرفها وبيانها - يعرف بها خطأ الكلام من صوابه، ودعامة من الذوق يعرف بها جماله من قبحه. أي إن النقد (علم) حين يدور على الخطأ والصواب، و (فنّ) حين يبحث عن الجمال. أما (فنَّ النقد) فلا يمكن الجدال فيه لأن أداته الذوق، والذوق شيء شخصي ومداره على الجمال، والجمال لا يتبع قاعدة، ولا يعرف له مقياس. فإذا قال سيد قطب: إن هذا البيت من أبيات الرافعي قبيح، كان معنى قوله أن هذا البيت لا يوافق المثل الأعلى الذي أتصوره أنا في الشعر. وإذن يحق لغيره أن يقول له: بل هو جميل عندي. (أما علم النقد) الذي يستند إلى علوم اللغة فالجدال فيه ممكن بل واجب، والحق فيه معروف ظاهر، لأن لهذه العلوم قواعد وأسساً، فما قام عليها فهو صواب، وما حاد عنها فهو خطأ. . .
فلننظر بعد هذا في نقد الأستاذ قطب بيت الرافعي رضي الله عنه:
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر ... له صباح متى تدركه أخفاكا
حين يقول: (والحب الذي هو ظلام لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح، ولكن الرافعي هكذا يقول). . .
فهل في الدنيا قارئ يفهم أساليب العرب يذهب إلى أن المراد من هذا البيت تقرير أن(258/43)
الحب ظلام؟ وهل يدل هذا على فهم صاحبه ووقوفه على علم البيان العربي وسنن العرب في كلامها؟ إن صغار الطلبة يعرفون من دروس البلاغة أن هذا (تمثيل) يراد منه تشبيه صورة كاملة بصورة كاملة ووضع إحداهما مكان الأخرى على الأسلوب المجازي المعروف؛ ولا يمكن أن ينفك جزء من أجزاء هذه الصورة عن جزء. ومعنى هذا البيت: أن الحب الذي يجعلك مثل القمر، ملء ناظري وملء الدنيا، لا بد أن تكون له نهاية، شأن كل حب في الدنيا، كالليل يبدو فيه القمر مجلواً وضاء، ولكن الصباح الذي لا بد منه يخفى هذا القمر ويمحوه
وفي الكتاب المدرسي المقرر في مصر لطلاب السنة الرابعة الثانوية ما يكفي العلم به لتجنب الوقوع في هذا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ سيد قطب. ومن أمثلته أن تقول لمن يقصر في عمله ويرقب (العلاوة): إنك لا تجني من الشوك العنب. فهل يصح لرجل أن يسخر مثلما سخر، وأن يقول هذا خطأ لأن العلاوة ليست عنباً؟ ولا دخل للعنب في هذه المسألة. . . أو تقول لتلميذ قصر في الاجتهاد: الصيف ضيعت اللبن. فهل يجوز لناقد من طراز سيد قطب أن يقول له: هذا خطأ لأن الدراسة تكون في الشتاء لا في الصيف، وأنه ليس في مقرر الصف لبن؟
أهذا نقد؟ أهذا كلام؟
ومثله انتقاد سيد قطب تشبيه الرافعي رضي الله عنه الليل والنهار بشقي المقص (المجتمعين تحت مسمار الشمس)، ورده عليه بأن (الرافعي على باله أن الليل والنهار من الظواهر الأزلية العميقة. وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها) وإنهما ليسا شقي مقص
برافو سيد قطب! لقد كشفت أميركا؟
وما قولك بتشبيه شوقي الشفتين بشقي مقص من عقيق. ألم يخطر على باله إن الشفتين ليستا شقي مقص وإنما هما شفتان؟ والمجاز كله؟ ألم يخطر على بال أصحابه أن له حقيقة قد صرفوه عنها ببراعتهم وحدة أذهانهم؟ أنهدم المجاز كله يا سيد قطب؟
أهذا نقد؟ أهدأ كلام؟
إن الذي يجب الآن على الأستاذ شاكر وجوباً لا هوادة فيه، هو ألا يخط في هذه المناظرة(258/44)
حرفاً بعد اليوم. كلا. ما هذه مناظرة، ولا هذا مناظر! ولا أدب الرافعي بيت من الورق لينهار من نفخة؛ إن أدبه قصر من الصخر، سيبقى بقاء الدهر!
(دمشق)
علي الطنطاوي(258/45)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
بقية المقال العشرين
- ظمياء
- عيوني
- أترينني أحسنت الدفاع عن نفسي؟
- بعض الإحسان
- وأنا مكتف بذلك، فما هي التهمة الثالثة؟
- ليلى تتهمك بالخداع
- وكيف؟
- لا تدري كيف وأنت أعظم مخادع؟
- آمنت بالله وكفرت بالحب، أفصحي يا بلهاء
- اسمي ظمياء
- أفصحي يا ظمياء
- رأتك ليلى تقول في كتاب (الموازنة بين الشعراء) أن الدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان، ثم شرحت رأيك فقلت أن العاشق يخدر محبوبته بالدمع كما يخدر الثعبان فريسته بالسم. وتقول ليلى إن هذا هو السبب في ألا تخلو قصيدة من قصائدك أو رسالة من رسائلك أو كلمة من كلماتك من ذكر الدموع. ولك كتابه اسمه (مدامع العشاق) وأنت في كل يوم تقول: (أكتب والدمع في عيني) أو تقول: (ودعت أحبابي بقلب خافق، ودمع دافق) أو تقول (غسلوني بدموعي يوم أموت) أو تقول: (أن ملوحة الدمع أشهى مذاقاً من الشهد) ولك من أمثال هذه التعابير عشرات أو مئات أو ألوف، فأنت بشهادتك على نفسك مخادع عظيم
- ظمياء، هذا دمعي، فكيف ترين؟
- هو السم في ناب الثعبان، وسنخلع أنيابك فلا تقول انك ثقبت لؤلؤة في بغداد
- أنت جاهلة يا ظمياء، وليلى أجهل، فما تعرف ولا تعرفين أن عرض بغداد هو عرضي، وأن عرائس بغداد هن أخواتي وبناتي. لا تعرف ليلى ولا تعرفين أن كل مكان في بغداد(258/46)
هو عندي محراب، وحيثما توجهت فثم وجه التاريخ، وأهل العراق هم في أنفسنا حماة الأدب في العصر القديم وأنصار الأدب في العصر الحديث
والمصريّ في العراق يرى وجه مصر في كل مكان: يراه في المدارس والمعاهد والمكاتب والملاهي والملاعب والأغاني والأناشيد، وجرائد مصر ومجلات مصر تقرأ في بلادكم وكأنها عراقية لا مصرية، فثقي يا ظمياء بوفائي وثقي بأدبي فسأحفظ ما طوقتم به عنقي من جميل
وقد نظرت فرأيت صحبة العراق كانت خيراً لكل من تشرف بها من أهل مصر؛ وما عاش مصري سنة واحدة في العراق إلا أصبح وفي دمه ذخيرة من النار والحديد؛ وما رآكم مصري واستطاع أن يذكركم بسوء في سر أو علانية
فماذا تريد ليلى أن تصنع معي يا ظمياء؟
ماذا تريد ليلى؟ ماذا تريد؟
إذا كان دمعي شاهداً على خداعي، فأين أجد الشاهد على وفائي؟
إن النساك يتقربون إلى أربابهم بالمدامع، فكيف لا يتقرب العشاق إلي أحبابهم بالمدامع؟
أواه من مصيري في هوى ليلاي!
سأرجع إلى وطني وأهلي مصدوع القلب مفطور الفؤاد وستعيش ليلى بعافية، وستنسى طبيبها الوفيّ الأمين
وكذلك كان حالي في كل أرض. كنت أغرس العافية في الأرواح والقلوب، وما عرفني إنسان إلا تحوَّل من غيّ إلى رشد، أو من هدى إلى ضلال. كنت أذيع الشرك في قلوب الموحدين، وأذيع التوحيد في صدور المشركين، كنت مَلَكا، وكنت شيطاناً، ثم أصبحت وأنا مجرد من سماحة الملائكة وسفاهة الشياطين
أدبتني ليلى، وبلائي في ذلك التأديب. أحبك يا ليلى وأهواك
- وتحبني أيضاً يا دكتور؟
- وأحبك أيضاً يا ظمياء، وأحب كل مخلوق في العراق حتى القيظ والزوابع والأعاصير. أحب البلد الطيب الذي أرهف قلمي، وصقل وجداني، واستطعت بفضل الله وبفضله أن أقنع أهلي في مصر بأن لي قلباً يعرف معاني الشوق والوفاء(258/47)
- دكتور
- ظمياء
- لقد أحسنت الدفاع عن نفسك في هذه التهم الثلاث، ولكن هناك تهمة رابعة لن تستطيع لها دفعاً، لأنها في خلقتك والخلقة لا تغيير لها ولا تبديل
- فهمت، فهمت. إن الجرائد المصرية تصورني دميم الوجه ولا ينبغي يا ظمياء تصديق كل ما تنشر الجرائد
- لا، لا، إن ليلى تراك أجمل مخلوق، ولكنها تقول إنك أخضر العينين، وهنا وجه الخطر، فالعيون الخُضر تهتاج الثعابين، وما رأى ثعبان إنساناً أخضر العينين إلا أغتاظ وأهتاج واستعد للقتال
- ومن أجل هذا تثور عليّ هذه الرقطاء؟؟ اسمعي أيتها الطفلة. اسمعي. اسمعي. إني ورثت خضرة العينين عن أمي، سقي قبرها الغيث، وأمي ورثت خضرة العينين عن جدتي، وكانت تركية الأصل، فعمن ورثت ليلى سواد عينيها؟ اسمعي يا ظمياء، لقد أطلقت التودد إلى أهل العراق، وسأصارحهم اليوم بحقيقة لم يتنبه إليها أحد سواي. ليس في العراق كله طرف كحيل إلا وهو مسروق من عيون الظباء، وجيرتكم للصحراء هي التي مكنتكم من هذا الانتهاب الفظيع، ولكن هذه السرقة لن تطول، فسيأتي يوم قريب أو بعيد يشتد فيه ساعد (عصبة الأمم) المقيمة في جنيف ثم تحول بينكم وبين انتهاب السواد من عيون الظباء
اخرجي يا ظمياء، ولا ترجعي إليّ بعد اليوم، فهذ آخر العهد
خرجت ظمياء محزونة وهي تعتقد أن ليلى جانية وأن العراق كله قد وقع سرقة دولية حين انتهب السواد من عيون الظباء
وبقيت أنا في كروبي وأشجاني، فأنا في سريرة نفسي أعتقد أن الظباء هي التي سرقت سواد العيون من أهل العراق، وقد عاش العراق كريما في جميع عهود التاريخ، فمن حنين غوانيه عرف الحمام كيف يسجع، ومن صيال أبطاله عرف الدهر كيف يصول
ولكن كيف أصحح خطأي فأسترد ليلى واسترجع ظمياء؟
كيف؟ كيف؟(258/48)
إن ليلى لن ترجع بسهولة لأنها عراقية، والعراق مفطور على العناد
أحبك يا ليلى، أحبك يا روحي، واشتهي أن أخاصرك مرة ثانية ضوء القمر وفي سكون الليل. أحب أن أسامرك مرة ثانية تحت النجوم في مطلع حزيران قبل أن أرجع إلى مصر وطن الجفاء والعقوق
أحبك يا ليلى وأحب ذلك الطبع المتقلب الذي لا يستقر على حال أحب أن أنشدك مرة ثانية قول الشاعر احمد رامي:
يا من أخذت فؤادي ... أخذ العدو الحبيب
قلبي لديك فقل لي ... ما حاله في القلوب
أحب أن أصرخ مرة ثانية، أحب أن أصرخ صرخة الوجد في رحاب الكاظمية.
أحب أن أفتق بصراخي قلبك الأغلف وأذنك الصماء
أحب وأحب، ولكن أين السبيل إلى قلبك الظلوم!
طال شقائي بهجر ليلى، فماذا أصنع؟
إن بغداد تحقد عليّ ويسرها أن يطول في حب ليلى عذابي فأين شفعائي إلى ليلاي؟ أين لا أين؟
الحمد لله والحب! هذا خاطر لطيف قد ينفع بعض النفع، إن ليلى لها في الموصل بنات خالات، وبنات الخالات يقدرن على ما يعجز عنه أبناء الأعمام والأخوال، فلأمض إلى الموصل لأشكو إلى ظبياته جروحي وآلامي
إلى الموصل، إلى الموصل
إلى الموصل الجميل أمتطي قطار الصباح بين اليأس والرجاء
- 21 -
طال بلائي بغضب ليلاي، وتهدم ما كنا رفعنا من صروح الأماني، وأمسى الحزن يصهر قلبي كلما تمثلت أطياف تلك الصروح
وطال حنيني إلى كلمة كانت تقولها ليلى في لحظات الصفاء، وهي كلمة (تعال) فكنت أهوى إلى صدرها كما يهوى الطفل إلى صدر أمه الرءوم، وما كان أدبي يسمح بأن أقترح شيئاً على ليلاي وإنما كنت أنتظر عطفها في صمت كما ينتظر العشب جود السحاب(258/49)
وكنت خدعتها فزعمت أن تقاليد الأدب في فرنسا تقضي بأن يقبل الرجل يد المرأة، وقد انخدعت فكنت أقبل يديها في كل لقاء؛ ولكني مع ذلك حفظت وقاري فلم أكن أقبل يديها في السهرة الطويلة أكثر من سبعين مرة
وقد حملني الطيش في إحدى الليالي على أن أقترح تقبيل خديها فرفضت
وعند ذلك أنشدت:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
والذي أجللت خدي ... هـ فقبلت يديه
أنا ضيف وجزاء الضي ... ف إحسان إليه
فقالت بعد تمنع: أقبلك أنا
فقلت: وما الفرق يا روحي؟
فقالت: القبلة منك حب، والقبلة مني عطف
فقلت: أقبلك قبلة عطف.
فقالت: ابحث عمن يصدق دعواك يا فاجر!
ورضيت بالقليل فقبلتني ليلى قبلة كادت تشوي جبيني.
تلك قبلة العطف فكيف تكون قبلة الحب؟
اشهد أن الله قدر ولطف!
ذلك نعيم ضاع، وما أدري كيف ضاع، فما كانت هفوتي خليقة بأن تصيرني إلى ما صرت إليه من الحرمان، ولكني متى طاب زماني حتى تطيب ليلاي؟
آه من كيد الزمان! وآه من غدر الملاح!
شاع في بغداد أني ذاهب إلى الموصل لأستشفع بالحور العين من قريبات ليلى، فللشقية هناك بنات خالات. وسمع بذلك أخ صادق فقال: خير لك أن تسافر إلى النجف، فهو أقرب من الموصل، وملاح النجف أرق وأظرف، وهن يعطفن على بلواك، وهذا اليوم أصلح الأيام
وسألت عن السبب فعرفت أن أهل النجف يحتفلون بميلاد الرسول في السابع عشر من ربيع الأول، وفي المولد النبوي تزدحم ساحات الحرم الحيدري بالعرائس فأختار من(258/50)
الشفيعات ما أشاء. . .
وما هي إلا لحظات حتى عبرت الجسر إلى الكرخ، الكرخ الذي كان فيه قمرا بن زريق، والذي سامرت في رحابه قمراً غادراً لا يحفظ العهد، ستفيض مدامعه بالدم يوم يتلفت فلا يراني. وهل كنت إلا طيفاً زار في السَّحَر بساتين الكرخ وبغداد؟
ومن الكرخ ركبت سيارة إلى كربلاء
وفي الطريق مررت على الإسكندرية وكنت مررت عليها في طريقي إلى الحِلة منذ أشهر، ورجَّحت أنها البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان؛ ولكني في هذه المرة حاولت أن أعرف مكانها من الماء لأن عيسى بن هشام جعلها من الثغور الأموية، فاهتديت إلى أصلها بعض الاهتداء، وقد أصل إلى جوهر الحقيقة بعد حين
لم أقض في كربلاء غير لحظات، وهي مدينة تحيط بها الخضرة من جميع النواحي، وفيها قتل الحسين كما هو معروف، وللحسين فيها ضريح لم أزره ولكني شهدت قبته العالية، وهي مكسوة بالذهب الوهاج، وفي كربلاء ضريح آخر للعباس أخي الحسين، وهذان الضريحان يفيضان النور على كربلاء، وقتل الحسين كان نعمة على هذه المدينة؛ فقد أصبحت بفضل مرقده من مواسم القلوب
ومن كربلاء أخذت سيارة إلى النجف فأسلمتني إلى صحراء رأيت فيها الضب أول مرة، فتذكرت ما صنع الشعوبية حين وصموا العرب بأكل الضباب واليرابيع، والشعوبية كانوا جماعة من الأدباء لا يعرفون العواقب، وقد زعزعوا ما كان بين العرب والفرس من متين الصلات وسيلقون جزاءهم يوم يقوم الحساب
وأخذت تلك الصحراء تصنع بخيالي ما صنعت البادية بين دمشق وبغداد فكان فيها ألوان من خداع السراب. وبعد ساعة رأيت في الأفق ذهباً يتوهج، فحدقت فيه النظر لحظات ولحظات فرأيته يزداد إشراقاً إلى إشراق. فصح عندي أنه ذهب القبة العالية، قبة ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعطر مثواه
ثم عبرت إلى النجف وادي السلام وهو مقابر طوال عراض عرفت ملايين الناس من سائر الأجناس
وأهل النجف يعتقدون أن من يدفن في وادي السلام لا يسأل في البرزخ، وهو اعتقاد(258/51)
لطيف، فمن عزاء الإنسانية أن تعتقد أن لها معتصماً من الحساب ولو إلى حين
(للحديث شجون)
زكي مبارك(258/52)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 15 -
واتخذ دوجلاس للأمر عدته، لم يدع وسيلة أو يغفل عن حيلة، أما ابراهام فلم تكن به حاجة إلى ما يحتال به من أساليب التأثير المتكلفة الخادعة، فما هو إلا أن ينصت له الجمع حتى يبتعث اليقين ما قر في نفسه فيحرك به لسانه فإذا هو كالنهر الحادر يفهق بما لا يفتأ يواتيه به المنبع، ويجيش بهذا الفيض ويهدر، ويتدفق لا يصده عن وجهه شيء. . .
وكان لدوجلاس من بعد الصيت ما جعل اسمه ملء الأسماع في طول البلاد وعرضها؛ وكان في رأي الأمريكيين أقدر رجال حزبه وأكثرهم فطنة وأطولهم في السياسة باعاً وأقواهم بمصاعبها اضطلاعاً، بل لقد كان عند الكثيرين من ذوي الرأي أعظم رجال أمريكا كفاية وأعلاهم كعباً وأعزهم مكانة، وكان يلقب (بالمارد الصغير) أن كان له على صغر جرمه وقصر قامته قوة المارد وسلطان المارد ودهاء المارد، وكانت له حيوية غريبة تنقطع دونها حيوية الرجال، وتتقاصر عنها هممهم. والحق لقد كان دوجلاس يومئذ أنبه الناس شأناً وأعزهم نفراً وهو من عهد قريب لم يكن يسمع به أحد خارج الينواس
لذلك كان للناس عجباً أن يطاوله ابراهام وأن يدعوه إلى نزال. وأخذ من لم يكن يعرفه منهم هذا الفعل من جانبه على أنه ضرب من الغرور أو نوع من الغفلة، ولو أنهم عرفوا دخيلة صاحبهم الذي افتتنوا به وتبينوا ما هجس في نفسه من الخواطر إزاء هذا التحدي الجريء لأيقنوا أن جبروت ماردهم وأساليبه ما كانت لتغني عنه شيئاً من هذا العملاق الذي درج من الغاية ليقف أمامه كأنه السنديانة!(258/53)
وكانت أَتارَا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع؛ وقد جاءها الناس ليشهدوا ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد أَتَّفِق أن يكون الكلام أول الأمر لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يعطي من بعده ابراهام ساعة ونصف ساعة؛ ويختتم دوجلاس هذا الدور بعده بحديث يستغرق نصف ساعة
وكان دوجلاس في انتقاله بين المدن في ألينواس يتخذ مركبة فخمة يجرها ستة من كرائم الخيل، وحوله ثلة من الفرسان يتزيد بهم من الهيبة والأبهة؛ وكان إذا دخل مدينة من المدن يقف في مركبته وقد تكلف أكثر ما يطيق من الصرامة فما يكاد يلمحه الناس ويقبلون عليه مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة فيحيي الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت لهذا ويهش لذلك كأنه ملك يتدلى من عليائه ليطلع على شعبه، وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف وخفض الجناح، وبين الاحتشام والتبذل يحيى وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل
أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم؛ وكثيراً ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في قطار أو في مركبة عامة مزدحمة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم حين كان يدير الحانوت أو حين كان يوزع البريد يتبسط لهم في القول ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله لمتاعاً ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه
والتقى الرجلان في أتاوا؛ واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع؛ وحانت ساعة الكلام، فوثب المارد الصغير إلى موضع مرتفع أطل منه على الناس فتمزقت بالتصفيق أكف أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك، وهنا، حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام. . .
وكان يومئذ في الخامسة والأربعين، بادي الفتوة مرموق الشباب يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة وجنتاه؛ وكان في موقفه بارز الصدر قوي الكتفين تتجه نظرات الإكبار إلى رأسه الضخم فما تلبث أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين فترتد حاسرة كأنما غشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته(258/54)
كأنما كانت تقع الأبصار منه على ممثل قدير عرف سبيله إلى قلوب محبيه فهو يحرص ألا ينحرف قيد شعرة عما يشيع في نفوسهم السحر من مظهره. . .
وتكلم دوجلاس فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في إحكامها وتسديد خطاها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة العبيد بالقوة، ثم يحمل على بقية رجال الحزب الجمهوري فيرميهم بالتذبذب. . . وراح يخطو في سبيل ذلك خطوات؛ فيتحمس ويعلو بصوته ويكثر من الإشارات، ولكنه كان يسمو بعباراته أحياناً فلا ترقى إليها إفهام الكثيرين؛ على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك، فحسبهم أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس السياسي الأشهر ورجل الثورة العزيز الجانب! وإن في كثير من النفوس البشرية لما يميل بها من غرائزها إلى الخضوع للسلطان والانقياد لكل ما يشير به ولو كان مما هو جدير أن يقابل بالعصيان
وجاء دور ابراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت إليه الأنظار وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه! ونظر الناس إلى شعره الأشعث وإلى ملابسه المتهدلة وخاصة إلى سرواله الذي يقصر عن ساقيه فيكشف عن جزء منهما، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة فبدت أكثر حقارة مما هي عليه! وكانت تستقر الألحاظ برهة على محياه وقد ازدادت مسحة الهم فيه وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار. . ولكن الناس على الرغم من ذلك يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا ويشعرون نحوه بالحب!
ويبدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة؛ ثم ما هي إلا برهة حتى تنطلق تعسه على سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان الواسعتان المتسائلتان تنفثان بسحرهما إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها لفظ الجمال. وتتفتح مسالك صوته فينطلق رائقاً له رنين يتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان يعلو صوته إذا تحمس فيدوي في أرجاء المكان
وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي في صفائه كدرة على تدفقه وجيشانه!(258/55)
والناس مفتونون وإن هم لم يفطنوا على وجه التحديد إلى سر فتنتهم، فهم مأخوذون بما يسمعون عن أن يفكروا أو يحللوا؛ وإنهم لفي سكرة أشبه بما يجدون أنفسهم فيه عند إصغائهم إلى لحن من تلك الألحان التي تسحر الأنفس وتملك الألباب
تدافعت إلى ذهنه الألفاظ وتزاحمت عليه المعاني وقد أسفرت عن وجوهها ومشت إلى غايتها في غير تحرج أو التواء؛ ولقد برزت في ذلك اليوم مواهبه على أتمها فكان له ما شاء من سهولة اللفظ من بلاغته ودقة المنطق مع سلامته؛ هذا إلى يقين ينفث في قوله الحرارة؛ وتمكن يذيع فيه الروعة؛ وأمثلة يسوقها من الحياة العادية فتستقر في قلوب سامعيه ومعظمهم من عامة الناس ومن وراء ذلك العبقرية التي تستعصي على التحليل وتسمو على التأويل. . .
ونزل لنكولن وله في قلوب السامعين من أنصاره وخصومه مكانة غير ما كان له قبل من مكانته، فلقد استطاع أن يقنعهم، كما استطاع أن يشعرهم بما هو أقوى من الاقتناع وأبعد أثراً ألا وهو الإعجاب؛ وإنهم ليتهامسون بعضهم إلى بعض قائلين: ليت لسادتنا وكبرائنا قلوباً مثل قلب ذلك الرجل. . . مثل قلب أيب الأمين. . .
وتكلم دوجلاس بعد ذلك مسافة نصف ساعة أعلن بعدها أن الاجتماع الثاني سوف يكون في فريبورت
ولقد ارتكب دوجلاس من الخطأ في هذا الاجتماع الأول ما عد عليه أنه أفحش أخطائه في ذلك الجدال؛ وذلك أنه أبرز مكتوباً موقعاً عليه باسم لنكولن يفهم منه أن إبراهام من زعماء المتطرفين؛ ولكن سرعان ما أقام إبراهام في دوره الدليل على أنه زائف وأنه مما جاء فيه براء. وكانت لطمة قوية استخذى لها دوجلاس في سامي منزلته، وفقد بعدها ثقة الكثيرين. . .
وحل موعد الاجتماع الثاني فتسابق الناس إليه أفواجاً وقد اشتهر أمر ذلك الصراع إذ لم تبق صحيفة إلا وقد أسهبت في الحديث عنه؛ وفي هذا الاجتماع طعن لنكولن خصمه تلك الطعنة التي سلفت الإشارة إليها؛ فلقد أعد له سؤالا يلقيه عليه: أإذا أرادت ولاية أن تلغي نظام العبيد فيها فهل هي مستطيعة أن تفعل ذلك دون أي حرج؟ ولقد أنكر عليه أنصاره هذا السؤال إذ لم يفهموا الغرض الذي يرمي إليه منه، وهو يعلم أن دوجلاس سيجيبه: بلى(258/56)
تستطيع الولاية ذلك. فقال لهم ولكنه بذلك يفقد عطف أنصار مبدأ التمسك بالعبيد من أهل الجنوب فلا يمنحونه أصواتهم إذا هو تطلع للرياسة؛ ولن يضير لنكولن أن يظفر دوجلاس اليوم بمقعد في مجلس الشيوخ
ووجه لنكولن السؤال إلى دوجلاس فأجاب بقوله (نعم تستطيع الولاية أن تفعل ذلك في غير حرج)؛ وفرح لنكولن بتلك الإجابة التي يعلم أنها ستنفر أهل الجنوب منه. ولقد أيدت الأيام رأيه وبرهنت على بعد نظره. ومما قاله لنكولن في ذلك (إن دوجلاس ليتبعه عدد كبير من العميان، وإني أريد أن أجعل بعض هؤلاء يبصرون)
وفي الاجتماعين الثالث والرابع لم يأت كلاهما بشيء جديد؛ وإنما اجتهد لنكولن أن يدفع عن نفسه ما رماه به خصمه من الاتهامات؛ وخرج لنكولن من هذين الاجتماعين وقد أضاف إلى أنصاره أنصاراً جديدين. . .
وفي الخامس من هاتيك الاجتماعات اتخذ لنكولن خطة الهجوم، بعد أن أخذ ينشر خصمه ويطويه في الاجتماعين الماضيين حتى دوَّخه، وكان هجومه تلك المرة شديداً، ضاق به دوجلاس وانخلع عنه مكره؛ عاب عليه إبراهام أنه لا يحفل بالاعتبار الخلقي من مسألة العبيد، مع أن هذا الاعتبار بعد الخروج على اتفاق مسوري، هو السبيل الوحيد الذي يعوَّلُ عليه في منع انتشار العبيد؛ وعلى ذلك يكون دوجلاس داعية إلى أن تصبح مسألة العبيد مسألة قومية عامة لا تحرج منها ولا تأثم فيها. . .
وأحس دوجلاس مهارة الرمية وقوة الإصابة فراح يرد على رمية برمية، وعاد فاتهم لنكولن والحزب الجمهوري أنهم من دعاة الثورة وأنهم يدفعون البلاد إلى الدمار. . .
ولكن لنكولن جعل الاجتماع السادس لتحديد مذهب الحزب الجمهوري فقال في جلاء: إن الجمهوريين هم أولئك الذين يعتبرون نظام العبيد خطأ من النواحي الخلقية والاجتماعية والسياسية؛ ولكنهم يتمسكون بدستور الاتحاد ويسيرون في تحقيق أغراضهم على نهجه؛ أما الذين لا يرون عيباً في نظام العبيد فهم الديمقراطيون؛ وهم ليسوا من الجمهوريين في شيء. . . لذلك ليس من الجمهوريين من لا يعبئون بالدستور في موقفهم من نظام العبيد مهما بلغ من مقتهم لذلك النظام. . .
وحار دوجلاس ماذا يفعل أمام تلك القوة وأمام ذلك الوضوح الذي لا يدع مجالا لمستريب(258/57)
فأخذ يداجي ويعبث وقد تثعلب بعد ما سبق أن استأسد
وضيق لنكولن عليه الخناق فطلب إليه أن يجيب على هذا السؤال البسيط في غير مداجاة (أيعتبر نظام العبيد صواباً أم خطأ)؟ وازدادت حيرة المارد الصغير وأحس أنه على جبروته يتلوى في قبضة ذلك العملاق وكأنه أمامه جذع من تلك الجذوع التي ما كانت تقوى على فأسه مهما بلغ من متانتها يوم كان يضرب بفأسه في الغابة قبل أن يعرف كيف يضرب بقلمه أو بلسانه
وعجب الناس لهذا الرجل الذي لا يرى نظيره في الرجال، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا دهى المارد الصغير؟ وكيف تسنى لابن سبرنجفيلد المتواضع الذي لم يعرف سلطاناً ولا جاهاً أن يأخذ الطريق هكذا على ابن وشنجطون الجبار المدل بماله ومنعته ونفوذه؟
ولكن هاجساً يهجس في ضمائرهم أن للحق سلطاناً دونه كل سلطان، وعزة يستخذى أمامها كل اعتزاز، ومنعة ترتد عنها كل مطاولة؛ وأن الباطل مهما تنمر واستعدى على الحق من أساليب بهتانه وألاعيب مكره، لا يكون منه إلا كما يكون الليل من وجه الصباح. . .
وأدرك الناس أن خير خادم للناس من يدرج من بينهم فيحس إحساسهم، ولا يزال مهما بلغ من سمو منزلته واتساع ثقافته، قادراً أن يشاركهم عواطفهم وألا يضيق بأحلامهم وإن صغرت حتى يتلمس فيها السبيل إلى هديهم وشفاء أنفسهم؛ وأي هذين الرجلين ينطبق ذلك عليه؟ أهو دوجلاس الذي أثرى بغتة بحيلة لم تتطلب منه إلا أن يشتري قطعاً من الأرض بأبخس الأثمان ثم يعمل بنفوذه على أن تتخذ سكة الحديد فيها مجراها فيبيعها بما تمتلئ به خزانته؟ والذي باعد بينه وبين الناس وتكلف مظهراً أرستقراطياً تطرب له نفسه ولا ترتاح إلا له؟ أم هو لنكولن الذي ما برح يأكل من كده والذي ظل في الناس على رجاحة عقله وعلو همته أحد الناس، والذي لا يطيب له العيش إلا إذا استشعرت نفسه آمال الناس وآلامهم، ولا يحلو له السمر إلا حيث يجلس في قوم ارتفعت بينهم وبينه الكلفة وازدادت الألفة مهما يكن من الفوارق العلمية أو الفوارق المدنية؟. . .
تحدث ابراهام مرة يصف دوجلاس فقال: لقد سوته الطبيعة بحيث أن ضربه السوط إذا نزلت على ظهره هو تؤلمه وتؤذيه، بينما هي لا تؤلم ولا تؤذي إذا نزلت على ظهر أي(258/58)
شخص سواه)؛ وما كان ابراهام مسرفاً في قوله؛ وما نحن بمسرفين إذا قلنا إن إبراهام قد سوته الطبيعة بحيث يحس ضربة السوط على ظهره هو إذا نزلت على ظهر أحد سواه من الناس. . .
(يتبع)
الخفيف(258/59)
الأنباط وأطلال بترا الخالدة
للأستاذ خليل جمعه الطوال
- 3 -
معبد ايزيس
وينتهي السبق أمام معبد عظيم هو في الحقيقة أجمل وأخلد ما في الشرق الأدنى من الآثار النبطية الرومانية الرائعة. وقد حفر - معبد إيزيس - قبيل الفتح الروماني (بقرن ونصف القرن تقريباً) أي بين عام 50 ق. م. و 50 ب. م. وقد كانت بترا إبان ذلك في أوج عظمتها. يبلغ علو هذا المعبد (26) متراً ويتركب من طبقتين (انظر الصورة شكل 2) أما الطبقة السفلى فتتألف من ستة أعمدة رملية ضخمة متوجة بالتيجان الإغريقية الشكل، ومن فوقها جميعاً قوس روماني مثلث غاية في الرونق، والزخرفة، ويقوم المعبد في وسط هذه الأعمدة الهائلة وهو بهو واسع كان يجتمع فيه المتعبدون لإقامة شعائرهم الدينية وإحراق البخور في المجامر الحجرية المحفورة على جدرانه الأربعة، وإلى جانبه غرفتان كبيرتان، وهما للتعبد في الأيام العادية
أما الطبقة العليا فتتألف من ثلاثة هياكل رائعة، تقوم بين أعمدة رملية بديعة، متوجة بالأقواس الرمانية المثلثة، ويدعي الهيكل الأوسط بمزار إيزيس، ولا يزال تمثال إيزيس قائماً في وسطه برونقه وبهائه، وتتوج هذا الهيكل قبة مخروطية الشكل يبلغ علوها ثلاثة أمتار، ويسميها البدو قبة فرعون، أو خزنة فرعون، وهم يعتقدون أن فرعون قد وضع تحتها كنزاً ثميناً، ولذلك فقد شوهوا جمالها بما أطلقوه عليها من الرصاص طمعاً في الحصول على هذا الكنز الموهوم، بهدمها وتحطيمها. ويشتمل القسم العلوي أيضاً على تمثالين آخرين يحيطان بتمثال إيزيس من اليمين والشمال. ومما يدعو إلى الدهشة حقاً محافظة هذا المعبد بتماثيله وأعمدته على رونقه وبهائه طيلة هذه الأحقاب بالرغم من تعرضه لعوامل الطبيعة الهدامة، ولعبث البدو السذج
الملهى الكبير
ويقع في الجهة الغربية من معبد إيزيس - أو الخزنة - وعلى مسافة قصيرة منه، وهو(258/60)
مدرج كبير يحتوي على (34) صفاً مستديراً، ويتسع لنحو ثلاثة آلاف متفرج. وقد حفر في الصخر الرملي الملون حفراً متقناً في المدة التي تقع بين 40ق. م. و 40ب. م. وهو من الآثار الرمانية العديدة. ويقال إن هذا المدرج كان كسوق عكاظ لا يؤمونه إلا في المواسم الخاصة به
أم الصناديق
تقع في الجهة المقابلة (للملهى الكبير) وهي قبور هائلة الحجم محفورة في جبل رملي كبير على شكل مساكن تتألف من ثلاث طبقات (أنظر شكل 3) عالية تتمثل فيها جميع تطورات الفن البيزنطي العربي، وذلك باختلاف أعمدتها، ونسق ترتيبها، وطريقة حفرها، إذ فيها البسيط الهين، والعظيم الرائع، ويتصل بعضها ببعض بمدارج صغيرة متعددة، وإلى الجهة الشمالية من أمَّ الصناديق مدرج صغير آخر كان يجتمع فيه الناس عند حدوث وفاة أو جنازة. وفي أم الصناديق نقوش ورسوم كثيرة يمثل أحدها فتاة مستلقية على سريرها
قبر التماثيل
وهو بناية هائلة، يبلغ علوها تسعة عشر متراً، تحيط بها أربع أعمدة كبيرة، وفي واجهتها بين الأعمدة ثلاثة تماثيل كبيرة ويقال إن هذا الهيكل الفخم، (وأم التركمانية) التي تقع في طريق الدير هما من القبور الخاصة بالعائلات الملكية والأرستقراطية. ويؤيد هذا النقوش النبطية الكثيرة المحفورة على عتبة التركمانية حفراً بارزاً. (شكل 4). ومن القبور العظيمة: (قبور السريان، وأم الصياغ، والسرايا، والمدحلة) وسنأتي على وصفها جميعها في مقال آخر
قصر فرعون (قصر البنت)
ويقع في وسط الساحة الرومانية العامة (الندوة) ويمتاز عن غيره من الآثار بأنه مبني من الحجارة الكبيرة وليس محفوراً في الصخور كغيره، يبلغ علوه 20 متراً. وقد تداعت أكثر جدارنه؛ ويوجد في وسطه أريكة حجرية، ومقاعد صغيرة كثيرة، وله مدخل كبير واسع تحيط به بعض شجيرات من العرعر. ويقابل هذا القصر مسلتان طويلتان: الأولى على بعد 30 متراً منه، وتعرف بمسلة فرعون، وهي تتألف من تسعة أعمدة، طول العمود الواحد(258/61)
نحو ثلاثة أمتار تقريباً. والثانية على بعد كيلو متر واحد من الأولى، وهي أطول منها وأضخم، وتدعى (مسلة النصارى). والراجح أن هذه التسمية قد أطلقت عليها خلال عام 460ب. م. في زمن أحد مطارنة اليونان، كما تدل على ذلك الكتابات والنقوش التي عليها (شكل5)
السيق البارد
وهو محطة صغيرة للقوافل النبطية التي تروح وتغدو من الشمال، تقع بين جبل البيداء وثغره، وقد عثر الدكتور نيلسون في هذا السيق على مخطوطات مجرية ذات قيمة فنية في تاريخ الديانة النبطية، إلا أنها - مع الأسف - قد نقلت إلى أوربا فيما نقل من آثار شرق الأردن الثمينة
المذبح الكبير
وهو من أماكن العبادة الرئيسية يقوم على جبل يبلغ علوه 150 متراً، ويصعد إليه بمدرج طويل يزيد على 250 درجة. وهو عبارة عن حضيض محفور في قمة الجبل المنبسطة، عمقه قدم واحد، وطوله ثمانية أمتار، وعرضه ستة أمتار، وتقوم في وسطه حجرة ناشزة كانت هيكلاً للإله (ديشورة)، ويقع المذبح في الجهة الجنوبية من هذا الحضيض، وهو مستدير الشكل، وفي وسطه جرن صغير يتجمع فيه دم الذبيحة ويسيل في قناة صغيرة ضيقة حتى الهيكل. وقد كان الناس يجتمعون على قمة هذا المذبح مرة في كل عام، يقدمون قرابينهم وضحاياهم للآله ديشورة ويتلون أمامه صلواتهم وأدعيتهم الكثيرة، وذلك في طقوس وترتيبات عبادية خاصة
معبد الدير
ويقع في أقصى الآثار من الجهة الشمالية، وهو أعظم أطلال بترا روعة وبهاءً، ودقة وجمالا، وضخامة وعلواً حفر خلال القرن الواقع بين 50ق. م. و 50ب. م. ويبلغ علوه (40) مترا، وعرضه (50) متراً. وهو يتألف من ثلاثة أقسام هي: البهو، والهياكل، والقبة، (انظر شكل 7)، أما البهو فيقع في القسم السفلي منه، طوله (10) أمتار، وعرضه (12) متراً، وارتفاعه (14) متراً، وتزين وجهته الأمامية ثمانية أعمدة إغريقية التيجان، ضخمة(258/62)
الشكل، يربط بعضها ببعض أقواس جميلة، تقوم بينها طائفة من التماثيل المشوهة، وفوق البهو (الكنيسة) الهياكل الثلاثة وهي تشبه هياكل معبد إيزيس إلاَّ أنها أكبر منها حجماً أما القبة فتتوج الهيكل الأوسط منها، وهي تتألف من قسمين يبلغ علوها معاً تسعة أمتار، ومحراب يناهز هذا العلوَّ أيضاً. وتتسع مساحة القسم الأسفل من القبة لنحو (50) رجلا أو أكثر. وهي ما تزال مشمخرة في الفضاء، ساخرة من عبث الأقدار وكر الحوادث الكبار.
أساطير طريفة
يسكن بترا فريق - عشيرة - من البدو، وقد سلمت إليهم يد الدهر والأقدار أطلال حضارة عريقة، لا عهد لهم بمرئياتها، ولا طاقة لهم على تقليدها؛ فاختلفوا في تعليل تلك القوة الخفية التي شيدت ذلك البنيان العظيم الذي يعجزون عن تقليده، واختلفوا أيضاً في تعليل مصدر تلك القوة الهائلة، فذهبوا لذلك يحيكون حولها مختلف القصص والأساطير، بالشكل الذي يمليه عليهم خيالهم وتصورهم، وبالكيفية التي توائم أذواقهم ومشاربهم فقالوا في موضوع المسلتين:
(لقد كان لفرعون زوجتان، وقد خرجتا ذات يوم بطفليهما إلى الجبل المقابل للملهى، وحدث أن استهانتا بنعمة الله الكبرى على الإنسان، إذ أنهما مسحتا غائط ولديهما بكسرة من الخبز، فعاقبهما الله بأن حولهما إلى مسلتين حجريتين.
أسطورة قصر فرعون
حدثني أحدهم، وقال: (كان لفرعون بنت بلغت سن الزواج، وقد حظر عليها والدها الخروج من القصر؛ وفي ذات يوم أجمعت أمرها على أن تتزوج من الشخص الذي يستطيع أن يجر إلى قصرها ماء أحد الينابيع. فقام لهذه الغاية شخصان، وتمكن كل منهما من جر ماء أحد الينابيع إلى قصرها في وقت واحد ويوم واحد، فسألت الأول: كيف تمكنت من جر الماء إلى قصري في مثل هذه المدة القصيرة؟ فأجاب: بقوتي وبقوة بطانتي وعشيرتي؛ ثم سألت الثاني. فأجاب: بعون الله الذي عضدني وعضد رجالي وجمالي؛ فسرت من جوابه، ودهشت لثقته بعون الله، وتزوجته. وفيما هي تفكر لتجمع عزيمتها على الزواج من أحدهما سقط جناح فراشة في قناة الرجل الأول، فتعطل الماء فيها عن الجريان،(258/63)
ولم يستطع أحد أن يرجع الماء إلى مجراه، فتيقنت الأميرة أن الله قد قدر هذه الأعجوبة لتكون برهاناً لها على حسن اختيارها للرجل الثاني)
تلكم هي آثارنا، وذلكم هو تاريخنا، تشهد بعظمته هذه الأطلال الخالدة التي شدناها، وليس عاراً على من أهدى إلى المدنية هذه الثروة الكبرى، وأسدى إلى الإنسانية مثل هذه الخدمات الجلى ليس عاراً عليه أن يستريح ريثما يستجم يسترجع نشاطه، فيعيدها كرة عربية، وصرخة عالية تعيد إلى هذه الأطلال نطقها وماضيها
(شرق الأردن)
خليل جمعه الطوال(258/64)
رسالة الشعر
من مشاهد المسرح
قلب راقصة
للأستاذ إبراهيم العريض
في مَسرحٍ للغَرب حي ... ثُ الشمسُ تشرِقُ في الليالي
ورِواقُه كالموجِ يزْ ... خرُ بالنساءِ وبالرجال
يتضاحكونَ. . . فلا ترى ... إلا الكواكب في اشتعال
والبنتُ يجذبُها فتا ... ها فهْي تخْطر في اختيال
طوراً هُنا، طَوراً هُنا ... كَ، لكل رُكن فيه خال
والكلُ منهم مُشرِقُ ال ... وَجنَات محْبُوبُ المثال
وقَفَ الفتى الشرْقِيُّ لَ ... كنْ قلبُه في غَيْرِ حال
تحتَ الشُعاع يرى الجُسو ... مَ كأَنْها بعض الظلال
ويكادُ يفصح طرفُه ... عمَّا يكِنُّ من السؤال
(يا عَينُ حسبك ها هُنا ... ما تَنْشُدين من الكمال
تلك الحقيقةُ بينَهم ... تنْسابُ في حُلل الجمال
هل ترقُبين بأن يُزا ... حَ الستْرُ إلا عن خَيالي)
ومضى يُحدْثُ نفسهُ ... لا يستقرُّ بهِ مكانُ
ويرى بناظرهِ مفا ... تنَ ظلَّ ينكرُها الجنان
(ما هذه إلا السما ... ءُ وتلكَ أنجُمُها - الحِسان
في كل ركْنِ كوكَبٌ ... وبكل زاوية قِران)
حتى إذا أزِفَ الدخُو ... لُ وطال للجرَسِ الأذان
وتَهلّلَ البَهْوُ العظي ... مُ بسرٍّ ما همس البِيانُ
فكأَنّ للأَنغام أشْ ... باحاً لها في الرقْصِ شان
هي والصدى أبداً كنا ... رٍ يستقلُّ لها دُخان(258/65)
دخلوا جميعاً صامتي ... نَ. . . كأَنَ صمتَهُم بيان
فمشى يُوازنُ خَطْوَهُ ... ويميسُ من طرَفَيهِ بان
حتى تخيل أنَّهُ ... ملَكٌ وتلك هِيَ الجِنان
وثوى على كُرسِيّهِ ... بُهْراً وليس له لسان
وانجابَ ذاك السترُ عن ... غَيْداَء ترفُلُ في صِباها
تمشى وئيداً والحرِي ... رُ يشِفُّ عن أدنى خُطاها
ملمُومةً كالوردةِ ال ... بيضاء في ورَقٍ حواها
حتى إذا وَقفتْ إزاَء ال ... خَلقِ يبْهرُهم سناها
نشرَتْ مُلاَءتَها الرقيْ ... قَةَ من حواشِيْها يداها
ومضت تُلَوِّحُ باليَدَيْ ... نِ كأنها ترعى انتباها
وتدُورُ دَوْرتها فين ... عكِسُ الضِّياءُ على حُلاها
كم بالغَتْ في الميْلِ حت ... ى كادَ أن يُطْوى قَفاها
ثمّ استوتْ فَوْقَ الأصا ... بعِ كالحشائش في رُباها
يهتزُّ منها كلُّ عُضْ ... وٍ نِعمةً حتى حشاها
وتهمُّ طوراً أن يُوَا ... زِيَ موْضِعُ الإبهَامِ فاها
فترى تَفتُّحَ جِسْمِها ... كالأقْحُوانِة في نداها
كانت تمثِّلُ فِتْنَةً ... وتثيرُ في الجمهورِ أُخرى
وكأنَّ بينَ ضُلوعِهم ... قلباً أبى أن يستقِرّا
يشتَدُّ في الخفقَانِ عن ... دَ دُنوِّها حتى تمُرّا
لا، بل يُتابعُ مَوْطِئَ ال ... خطُوَاتِ بالأنغامِ تترى
فإذا نأت أضحى بأعْ ... يُنِهم يجاهِدُ مُستمرا
حتى يُشاهِدَ من شبا ... بِيكِ النواظِرِ ما تتحرى
وكأنها أَلِفَتْ بهذا ال ... حالِ منهم فهْيَ سَكرى
تُغرى الشبِيبةَ بالفُتو ... نِ ولا تُبالي حينَ تُغرى
وتظلُّ تلعَبُ بالمُلاَ ... َءةِ حَوْلها طيًّا ونشرا(258/66)
حتى إذا عطفَتْ قُبَا ... لةَ ذلك الشرْقِيِّ صدرا
ألْقَى عليها نظْرَةً ... كالطِّفْلِ بل كانت أبَرّا
فتحِسُّ مُهْجَتُها لأوَّ ... لِ وَهْلَةٍ بالحبِّ. . . سِرا
بقِيَتْ لقًى مثلَ الفرا ... شَةِ في تهافُتِها السريعِ
والناسُ تحسَبُ أنها ... بُهِرَتْ من الرَّقْصِ البديع
لما رَأَوْها لا تُح ... رِّكُ ساكناً غيرَ الضُّلوع
وعلى سِمَاطِ الصدْرِ فا ... كِهتانِ مِلء يدِ الخليع
حتى إذا أبدَتْ فُتو ... راً كالذي إثْر الهجوع
وتمايلت طرباً وهمَّتْ ... في غِناها بالشروع
ساد السكونُ على الجمو ... ع كأَنهم صُوَرُ الخشوع
غنَّتْ غِناَء الأمِّ أوّ ... لَ ما تُهوِّدُ للرضيع
فتبُثُّ ما في قلبها ... من صورةِ الأمَل الرفيع
أرأيْتَ نورَ الشمس صُب ... حاً كيف يؤذِنُ بالطلوع
ومضت تُرجِّعُ باللُحُو ... نِ كأَنها طيْرُ الربيع
ظلَّتْ لها الآذانُ تَشْ ... رقُ كالنواظر بالدموع
ما أوشكَتْ أن تنْتهي ... من نبْرَةٍ يحلُو صداها
إذ رنَّ بالتصفيق ذا ... ك البَهْوُ تصفيقاً تناهى
فتلفَّتتْ مُحمرَّةَ ال ... خدَّيْنِ من خجلٍ عراها
مضمومة الكفَّيْنِ فوق ال ... صدرِ - خائرةً قُواها
مُفترَّةَ الشفَتيْنِ عن ... برَدٍ جلا للثْم فاها
فكأَنما معنى الأنُو ... ثَةِ قد تجسَّم في رُواها
والكل يهتِفُ أن تُعا ... وِدَ فنَّها ويقول: واها
وتساقطتْ باقاتُ زهْ ... رٍ حوْلها خَضِلٌ جَناها
فتناولتْ زهَراً ولمَّ ... اقرَّبتْهُ إلى لماها
ألْقَتْ بِهِ صَوْبَ الجمو ... عِ لمنْ تعلَّقهُ هواها(258/67)
وإذا بزهرتها يفو ... زُ بها. . . أتدري منْ فتاها؟
هُوَ ذلك الشرقِيُّ في ... أحضانه عبقَتْ شَذاها
ثمَّ استقَلَّ بها السِّتا ... رُ. . . كأنه قبْرٌ حواها
وتألَّقَتْ في البَهْوِ أنْ ... وارُ المشاعِلِ في قناها
وتحدَّث الجمهورُ عن ... ها ساعةً حتَّى سَلاها
وانفَضَّ ذاك الجمعُ. . . لا ... عادت تراهُ ولا يراها
البحرين في 21 مارس سنة 1938
إبراهيم العريض(258/68)
البريد الأدبي
المصريون واللغة النوبية
في الرسالة رقم 254 أخبرنا القراء أن عالماً مصرياً - لا يزال شاباً - هو الأستاذ مراد كمال الدكتور في الفلسفة واللغات السامية من جامعات ألمانية نشر (تاريخ اليهود) لابن كريون باللغة الحبشية
واليوم نشر الدكتور مراد كامل رسالة نفيسة على صغر حجمها في (مجلة الجمعية الألمانية للاستشراق) الصادرة في مدينة ليبتسش من مدن ألمانية (المجلد 91، الجزء الثالث) وموضوع الرسالة (تأثير اللغة العربية في اللغة النوبية) وهي باللغة الألمانية
ويستهل الدكتور كامل بحثه بقوله: (إن عدد الألفاظ العربية التي في اللغة النوبية موضع دهش عظيم، ولا يوازن هذا العدد إلا بعدد الألفاظ العربية التي في اللغة التركية، ذلك أن القسم العربي في اللسان النوبي كبير أيُّ كبر، حتى أن النوبي لا يستطيع أن يؤلف بعض جمل من دون أن يستعمل عدة ألفاظ عربية)
ويرد المؤلف هذا التأثير إلى الصلات التي بين بلاد النوبة ومصر: إما من طريق التجارة الجارية بين هذه البلاد ومدينتي أسوان وقنا، وإما من طريق النوب الراحلين إلى القاهرة خاصة ليعملوا فيها (سفرجية) و (بوابين)، وإما من طريق النوب الذين يطلبون العلم في الأزهر وما أشبهه من المعاهد الدينية حتى إذا رجع القوم إلى بلادهم جلبوا إليها معهم جانباً من اللغة العربية
وبعد هذا التقرير الصحيح يأخذ المؤلف في ثبت الألفاظ العربية التي تطرد في اللغة النوبية مع تبيين التحريف واللحن المتطرقين إليها، ومع إثارة الجدال حول ما يذهب إليه غيره من المستشرقين في الباب نفسه
(ب)
مشروع إنشاء المجمع الأدبي
اجتمعت في وزارة المعارف لجنة تنظيم الحركة الأدبية برياسة معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، وبحثت أولاً في مهمة المجمع وفي الوضع القانوني له، ثم درست مسألة(258/69)
استقلاله بنفسه أو تبعيته لهيئة أخرى، وقد أتجه الرأي في هذه الناحية إلى الأخذ بالوضع الأول
وبعد أن وضع مشروع القانون بتأليف المجمع قرئ على حضرات الأعضاء فأقروا صيغته الأساسية ثم فوضوا إلى معالي الرئيس بحث هذا الموضوع قبل إقرار الوضع النهائي بتأليف المجمع
وقد تضمن هذا المشروع إدراج 5000 جنيه ميزانية سنوية للجنة، منها 1500 جنيه مكافآت للأعضاء بحسبان 150 جنيهاً لكل عضو، و1500 جنيه لخمس جوائز سنوية تمنح إحداها لأحسن قصة تختارها اللجنة، والثانية لأحسن كتاب في الأدب، والثالثة لأحسن كتاب في الشعر، والرابعة لأحسن كتاب في الأدب التمثيلي، والخامسة لخير كتاب أدبي يظهر كل عام في العالم العربي و1200 جنيه لإصدار مجلة و800 جنيه مصروفات أخرى
تاريخ الأدب العربي في مصر الإسلامية
اجتمعت بوزارة المعارف لجنة تاريخ الأدب العربي في مصر الإسلامية التي ذكرنا خبر تأليفها في عدد مضى، برياسة صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف
وقد بدأ معالي الوزير هذا الاجتماع فتحدث عن ضرورة الإلمام بتاريخ الأدب العربي في مصر، وأبان أن هذا واجب وطني كما أنه واجب علمي، وأنه يعتبر بمثابة الحجر الأساسي في بناء القومية المصرية. وبعد بحث الموضوع من مختلف نواحيه تقرر ما يأتي:
أولاً - تأليف لجنة من كبار الباحثين تتولى إعداد فهرس واف بالمراجع التي يركن إليها الباحثون، على أن تبادر بالقيام بعملها لتحقيق الغاية المقصودة من تأليفها.
ثانياً - تنظيم دراسة للأدب العربي في مصر بكلية الآداب بالجامعة المصرية تبدأ بمعالجة العصور الأولى من تاريخ هذا الأدب ثم نتدرج إلى ما يعقبها حتى يمكن في النهاية من كل هذه الدراسات تأليف مجموعة من الكتب تكون موسوعة تامة في تاريخ الأدب العربي المصري
ثالثاً - إثارة همم الشبان المصريين وتوجيه عنايتهم إلى بحث هذا الأدب بوضع جوائز(258/70)
سنوية قيمتها 500 جنيه توزع على ثلاثة حسب تقدير لجنة التحكيم
وسيصدر في خلال هذا الأسبوع القرار الخاص بدعوة المتسابقين إلى الاشتراك في المسابقة، وقد أتصل بنا أن الوزارة ستشترط في هذه الدعوة أن تكون الإجابة على هذه المسابقة في شكل رسالة جامعية يتوفر فيها التجديد والابتكار
وبهذه المناسبة نذكر أن هذه المسابقة ستكون سنوية في هذا الموضوع إلى أن يتم بعد سنوات وجود مجموعة كبيرة ثمينة من المؤلفات المصرية في هذا البحث الأدبي القومي
شارل موراس في الأكاديمية الفرنسوية
من أنباء باريس أن المسيو شارل موراس انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسوية في الدور الأول بأكثرية 20 صوتاً ضد 12 صوتاً للمسيو فرنان جريج وقد أمتنع أربعة أعضاء عن الاقتراع
والأستاذ موراس في السبعين من عمره وهو من كبار رجال الفكر والأدب في فرنسا بل في العالم، وهو يدير سياسة جريدة (الأكسيون فرانسيز) لسان حال الحزب الملكي مع زميله ليون دوديه منذ ثلاثين سنة وله فيها تلك المقالات السياسية اللاذعة
ولشارل موراس مؤلفات عدة منها: (طريق الجنة) - (ثلاثة أفكار سياسية) (شاتوبريان) - (ميشيلين) - (المستقبل والذكاء) - (تحقيق عن الملكية) - (الموسيقى الداخلية) - (كييل وطنجة) - (رحلة أثينا) - (من ديموس إلى قيصر) وغيرها
وقد أنشأ شارل موراس جماعة أصدقاء (الأكسيون فرانسيز) أي (العمل الفرنسوي) سنة 1899، وهي جماعة أنصار إعادة الملكية إلى فرنسا. وهو صاحب حركة فكرية جديدة تقوم على أن الفكر الإنساني لا يستطيع أن يدرك الأشياء المطلقة. وقد رأت الكنيسة الكاثوليكية من انتشار هذه الحركة ما حملها على توقيع عقوبة الحرمان على صاحبها. وقد اقتبس كثيرون من رجال الدول مبادئ موراس السياسية ولا سيما السنيور سالازار دكتاتور البرتغال الذي يجاهد بذلك فخوراً
الدكتور عبد الوهاب عزام في محطة الإذاعة الفلسطينية
دعت محطة الإذاعة الفلسطينية صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام إلى إلقاء محاضرة عن(258/71)
شاعر الإسلام المغفور له محمد إقبال الهندي في مساء اليوم الخامس عشر من شهر يونيه، وقد لبى الأستاذ الدعوة وينتظر أن يغادر القاهرة إلى القدس في مساء الغد
مؤتمر الجامعات
اشتركت الجامعة المصرية في مؤتمر الجامعات الذي سيعقد هذا العام ما بين 6 و 10 يوليو سنة 1938 في سويسرا والغرض من هذا المؤتمر تقريب وجهات النظر بين الجامعات المختلفة في العالم وتوثيق روابط الاتحاد والألفة بين الجامعيين في الأقطار المختلفة، والبحث في الحالات الاجتماعية والصحية والفكرية
ولقد انتدبت الجامعة المصرية لتمثيلها في هذا المؤتمر حضرات الدكتور إبراهيم رفعت ومصطفى السعدني وإبراهيم عبده والدكتور علي طراف والدكتور محجوب ثابت. وسيعالج المندوبون المصريون الروح الجامعية في مصر منذ إنشاء الأزهر إلى اليوم من نواحيها المختلفة
جبران والرمزية
قرأت رد الدكتور بشر فارس على ما وجهت إليه من أسئلة عن الغموض في الرمزية، وإنني أشكره على شرحه الموجز لهذه النقطة. إلا أنني أعود فأقرر أن جبران لم يسر على نهج الشاعر الإنجليزي وليم بليك في غموض أشعاره واستغلاق معانيها على القارئ مهما أجهد عقله في فهمها؛ وهذه كتب جبران كلها - وتبلغ قرابة العشرين - يستطيع كل مثقف أن يفهم ما ترمي إليه وما تهدف له وإن كانت ذات رمزية! أو روماتيكية، أو كليهما معاً
وإذا كان الدكتور ينسب طريقة جبران في الرمزية إلى الشاعر الإنجليزي بليك فما أولاه أيضاً أن ينسب كتاب (النبي) الرمزي والرومانتيكي معاً إلى كتاب الفيلسوف الألماني نيتشة (هكذا قال زرادشت!). أما استشهاده بما قال النحات رودان وبما كتبته عنه فنانة أمريكية في مقدمته لكتاب لها (يضم عشرين صورة) فهو مما يؤيد رأينا: في أن رسوم جبران فقط كانت تغلب فيها الرمزية على ما عداها
وأما قوله أن الرمزية تشق الآن طريقاً في الأدب العربي. . . (المستحدث). . . فهذا صحيح ولا يتفق مع قوله أن الرمزية في مصر لم تفهم بعد حق الفهم في طرائقها(258/72)
وتعبيراتها ووسائلها فكان نتيجة لذلك ما يشكو منه الدكتور من كتابات مضطربة ترمي إلى غير هدف وتسير في غير طريق؛ ولكن الواجب على زعيمي الرمزية في مصر: الدكتور بشر والأستاذ الحكيم أن يضعا عنها كتباً مطولة تكشف عن مناهجها وما يحيط بها وما يندمج فيها من مؤثرات وما تؤثر هي به في الأدب وما تزيده تقدماً وشمولاً وإحاطة. . . لا توطئات مركزة دسمة إن هي أفادت فئة من الأدباء المطلعين على الثقافات الأجنبية إطلاعاً واسعاً فهي لا تكفي مطلقاً ذوي الثقافات المتوسطة من الأدباء، بله عامة القراء
والرمزية - بعد - في الأدب العربي المستحدث في أول الطريق، فالحديث ذو شجون ولازم على من يشقون ويوسعون الطريق لها فيه أن يطيلوا الكلام والإبانة عنها للسالكين!
وما أحرى الدكتور بشر في هذا المقام - إذا تفضل - أن يوالي مجلة الرسالة الغراء بمقالاته الثمينة عن الرمزية يوضح طرائقها ويترجم لزعمائها وقادتها ومدارسها منذ نشأتها إلى الآن توطئة لتأليف رسالة عنها بقلمه الفذ
وإنا لنشكر الدكتور بشر كل الشكر على علمه الغزير، وله منا سلام واحترام وحب
السيد كامل الشرقاوي
صاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران والعلم
كتب إلينا أحد الفضلاء من طهران يقول:
في الرابع عشر من الشهر الماضي زار سمو ولي العهد في إيران كلية العلوم العقلية والنقلية من كليات جامعة طهران زيارة رسمية يصحب سموه كبار رجال الحكومة
وكان معالي رئيس الوزراء (محمود جم) وفخامة وزير المعارف (حكمت) وسعادة رئيس الكلية (السيد نصر الله تقوى) والعلماء الأساتذة واقفين في باب الكلية في انتظار سموه
وفي الساعة التاسعة مساء وصل موكب سموه إلى باب الكلية فاستراح قليلاً في غرفة خاصة ثم شرف بعد ذلك الخطابة وفيه كبار أساتذة الكلية وعدة من كبار أساتذة سائر الكليات الخمس الأخرى وعدة من ممثلي الصحف فشرف سموه الحاضرين بالتحية
وقام بين يديه الأستاذ (فروز انفر) معاون الكلية فعرض خلاصة ما قامت به الكلية من الأعمال العلمية فلما فرغ شرف سموه الأساتذة بخطاب حكيم قال فيه: (إن العناية من جلالة(258/73)
الشاه كبيرة بهذه الكلية والأمل وطيد أن تعيد إيران مقامها الرفيع في العلم وأن تهيئ بهذا المعهد العلمي للعالم أساتذة كأسلافهم من أعلام الفرس المشهورين لتكون أفكارهم وآرائهم خير هاد للأمم
ومن المزايا التي ميزت طلبة هذه الكلية عن طلبة العلوم في العصور السالفة شدة الاهتمام بتربيتهم الجسمية بالرياضة البدنية في جنب تربيتهم النفسية والعقلية
وأن الفرق بين هذا اليوم والأيام السالفة هو أن فضل كل شخص وشرفه من هؤلاء قائمان بمزاياه الروحية من الخلق الحميد والعلم والأدب لا بالكساء الخاص والذهب
وليعلم الطلبة قبل كل شيء أن واجبهم الأول هو محاربة الأوهام والخرافات التي طالما أوهنت قوى هذه الأمة الروحية
من الحسن الجميل أن برنامج هذه الكلية شامل لجميع العلوم من الحكمة والأدب والتشريع والعلوم الرياضية
ويسرني أن أرى السادة الأساتذة باذلين جهودهم في تنوير أفكار الطلبة وصقل عقولهم وتربية نفوسهم ليهيئوا للمستقبل رجالاً يصبحون مصابيح للشعب الفارسي المجيد. ويجب على الأساتذة أن يجدوا غاية الجد حسب طاقاتهم في تعريف هذا المعهد العلمي للشرق كافة، وأن يظهروا للعالم حقائق المعارف الإسلامية السامية التي طالما استترت وراء ستار الأوهام، ونطلب منهم أن يفصلوا لب الروحانية الحقة الإسلامية عن القشور الفاسدة بوسائل العقل والمنطق، وأن يهيئوا كل ذريعة للرقي العقلي والاجتماعي، ويكونوا قدوة صالحة للأمة وسعيهم مشكور إن شاء الله تعالى من جلالة الملك بقدر سعيهم
إنا نفخر كل الفخر بأن ديننا الشريف وهو الإسلام لا مثيل له بين الأديان السماوية، وحقائقه المضيئة وأصوله السامية توافق الرقي الاجتماعي، وهو دين التوحيد ودين العقل، فيجب على السادة الأساتذة أن يكونوا مبلغي هذا الدين الحنيف، وأن يكونوا أعلاماً يهتدي بهم، وأن يبثوا روحاً صالحة جديدة في الطلبة)
ثم زار بع ذلك سموه خزانة كتب الكلية وبها كثير من النسخ النادرة النفيسة والمخطوطات الأثرية بخط (ياقوت) و (أتيرك) وآلات فلكية واسطرلاب أثري نفيس ونسخة خطية من (ديوان) نظامي الشاعر الشهير، وهي نسخة أرسلتها الحكومة الفارسية إلى معرض لننكراد(258/74)
وكانت موضع إعجاب الزائرين، وهي تحتوي على صور بديعة من صنع أشهر المصورين في الصين والهند
من برجنا العاجي
اشتد الحر في البرج العاجي فلم يطب لراهبه المقام فيه. فأزمع السفر لتمضية الصيف في جبال الألب. وهو يودع قراءه إلى لقاء قريب.
فرية أدبية
جاءنا من روما هذا الكتاب من الأستاذ صاحب الإمضاء ننشره بنصه:
حضرة الفاضل الدكتور أمين حسونه
سيدي الدكتور! أحييكم أطيب التحية. وبعد فاليوم أطلعني مدير الإذاعة العربية بروما على خطاب منكم أدهشني بغرابته، فقد زعمتم في هذا الكتاب أن أحاديثي التي ألقيتها عن الأدباء الإيطاليين قد اختلست كلها من سلسلة مقالات لكم كنتم واليتم نشرها في (الرسالة) الغراء. على أن الحق يا سيدي أن مطالعة مقالاتكم التي لا أرتاب في أنها كانت ممتعة قيمة ومنتجة خصبة، حظ قد فاتني. ولست أدري هل يؤلمكم أن أقول في صراحة وصدق أني ما قرأت لكم حتى اليوم كلمة واحدة في هذا المنحى من مناحي الأدب أو في غيره. ولكني على أية حال لا أقصد إلى إيلامكم، وإنما أقصد إلى دفع تهمة جاءتني (من الهواء)
بيد أني لا أعلم في الحق مما أبري نفسي؛ فقد جاء كتابكم الكريم خلواً من الإشارة الواحدة إلى الموضع الواحد من مواضع الشبه أو الشبهة. وكان خيراً لو دللتم على هذه المواضع ولو في إجمال وإيجاز، فأني أريد تقويض اتهامكم فلا أجد (أركانه) كما يقول أصحاب الفقه
إن الطعن على الناس جزافاً وبلا تعمق للحقائق زلل أخلق بالرجل الأريب ألا يتورط فيه. وإذن فلعلكم أن تراجعوا النفس فيما زعمتموه، أو لعلكم تشيرون كما قدمت إلى مغمز في أحاديثي كلها أو بعضها في غير إبهام ولا غموض. ولكي أبسط لكم الأمر أقول إني تناولت في أحاديثي السالفة دانتي وبيراندلو ودانتزيو وبوكاشيو وبترارك وميكافلي وأريوسطو، وتناولت في حديث واحد أعلام (الحركة الإبداعية) فأي هذه الأحاديث يا سيدي تتهمونه أكثر من غيره؟ وأيها تحبون أن أبعث إليكم بنصه لتظهروا الناس على ما فيه من إنتهاب(258/75)
لحقوقكم في التأليف بل لتحاكموني فيه إلى القضاء أيضاً إن كنتم صادقين في اتهامكم وإن كنتم لا تبغون حقاً سوى الإنصاف؟
إني لأعجل عليكم في الجواب حتى لا يطول بكم السخط عليّ والإشفاق على حقكم حيث لا موجب لسخط ولا إشفاق. وإني لأرجو مخلصاً أن تتقبلوا مني أوفى التبجيل
(روما)
محمد أمين
(الرسالة)
لا تعرف أحداً بهذا الاسم كتب في هذا الموضوع في الرسالة إلا (محمد أمين حسونه) وهو بالطبع غير (دكتور). فإذا صح أنه هو الذي كتب ما كتب إلى مدير الإذاعة العربية بروما كان ذلك عجيبة من عجائب الأخلاق. فأنه لم يكتب في الرسالة إلا شيئا عن بيراندللو. وهذا الذي كتبه عن هذا الشاعر لا يصح عقلا أن يكون مصدراً لمحاضرات تناولت سبعة من نوابغ الأدب الإيطالي ذكرهم الكاتب في كتابه!!
لجنة المجلة في مجمع اللغة العربية الملكي
كان مما قرره مجمع اللغة العربية الملكي أن يخصص في مجلته قسم بنشر البحوث والمقالات التي تلائم أغراضه مما تجري به أقلام الباحثين والكتاب حرصاً على التعاون العلمي الذي يجب أن يكون بين أعضاء المجمع وغيرهم من أهل العلم والأدب، والحريصين على خدمة اللغة العربية وإعلاء كلمتها
ولجنة المجلة تتشرف بدعوة الذين يقدرون ذلك التعاون العلمي قدره إلى إرسال مقالاتهم باسم رئيس لجنة المجلة بدار المجمع بشارع قصر العيني رقم 110 بالقاهرة
ولما كان الغرض الأسمى خدمة اللغة العربية والمحافظة على سلامتها، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون، مسايرة لها في تقدمها، ملائمة لحاجات الحياة في العصر الحاضر، بجانبه لما طرأ عليها من الفساد في الألفاظ والتراكيب كان المأمول من حضرات الكاتبين أن يراعوا في بحوثهم اللغوية هذه الأغراض السامية مع إيثار الطرافة والإيجاز المفيد
هذا وإن للنشر في المجلة مكافآت مالية معينة بحسب الصفحات للمقالات التي تقر لجنة(258/76)
المجلة صلاحيتها للنشر
ومن شاء زيادة البيان فليتفضل بمكاتبة رئيس اللجنة بالعنوان السالف الذكر(258/77)
الكتب
على هامش السياسة
تأليف الدكتور حافظ عفيفي باشا
للأستاذ محمد سعيد العريان
على هامش السياسة، هكذا يسميه سعادة مؤلفه الكبير، تواضعاً وعزوفاً عن التعاظم بالألقاب والأسامي، تسمية متواضعة إن دلت على شيء في موضعها فإنما تدل على خلق المؤلف وطبعه، لكنها لا تدل على الموضوع الهام الذي يتناوله الكتاب. ولقد كان أقرب دلالة على موضوعه أن يسميه (في صميم السياسة) فليست السياسة هي هذا التطاحن الحزبي الذي نشهده في اجتماعات الأحزاب السياسية، والتراشق بالتهم والسباب الذي نقرؤه في مختلف الصحف الحزبية؛ وليست السياسة هي هذه المظاهرات التي تعج بها الشوارع وتضج بالهتاف لفلان وفلان من رجال الحكم والسياسة. إنما السياسة حكمة وتدبير ونظر بعيد، وتفكير فيما يعود على الأمة أفراداً وجماعات بالخير. . .
إن لكل أمة هدفاً تسعى إليه، ولكن هذه الأهداف جميعها تلتقي في كل أمة عند معنى واحد، هو التقدم بالأمة والسمو بها إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، والرقي بالشعب إلى المستوى اللائق به في العلم والثقافة، وفي الصحة العامة، وفي شئون الاقتصاد. . .
ولقد مضى على المصريين فترة غير قليلة وهم يجاهدون إلى غاية من غايات الشعوب الحرة، هي الظفر بالاستقلال. وقد طالت هذه الفترة والمصريون في جهادهم، وتنوعت أساليب الكفاح والمقاومة، حتى نسي المصريون ما وراء هذه الغاية، إذ كان جهادهم للاستقلال وحده، وطالت بهم الشقة حتى أوشك كثير منهم أن يوقنوا - سلباً أو إيجاباً - إن الاستقلال في ذاته غاية، فلما أذن الله أن تصل الأمة إلى هذه الغاية بعد طول جهاد، أحس الشعب بشيء من القلق السياسي، وتوزعت خواطرَ الناس شئونٌ وشجون؛ أما طائفة فقالت - وهي الأكثرية من الشعب -: وماذا أفدنا من الاستقلال؟ وماذا حصلنا بعد هذا الجهاد الذي أريقت فيه الدماء، وبذلت فيه الضحايا، وتحملنا فيه ما تحملنا من العنف والمشقة؟. . . وأوشكت هذه الطائفة أن تكفر بعد إيمان، وتعتقد أن ما بذلت في ساحة الجهاد منذ سنين(258/78)
وسنين لم يكن إلا عبثاً وجهداً بغير ثمرة. . .
وأما طائفة - وهم المؤمنون بحق هذه الأمة في الحياة - فقد بعدت مرامي همتهم، وانبسطت رقعة الأمل أمامهم، فقالوا لأنفسهم: ها نحن أولاء قد اجتزنا الدرب الشائك، ووقفنا على أول الطريق الذي يصل إلى المجد ويبلغ بنا مراقي السعادة. . . وأعدت أهبتها للجهاد إلى هدف جديد. . . فلم يكن ينقصها إلا الرائد الجريء الذي تترسم خطاه في هذا الطريق. وكان هذا الرائد هو مؤلف كتاب (على هامش السياسة)
على هامش السياسة كتاب تناول به مؤلفه أهم مسائلنا القومية في الوقت الحاضر، بأسلوب العالم الهادئ المتزن الفكر، فوصفها وصفاً صادقاً ليس فيه مبالغة ولا إغراق، ثم بين أسبابها وعللها ووسائل علاجها على ما هداه البحث. وتتلخص هذه المسائل في أربعة أبواب: الصحة العامة، والتعليم، ومسائلنا المالية، وسياستنا الاقتصادية
وقد تناول هذه الأبواب الأربعة فقسم كل واحد منها إلى فصول، تقسيما منطقياً واضح الأداء، بحيث لا يكاد يفرغ قارئه من قراءته حتى يكون قد ألّم بموضوعه إلماماً لا يدعه في حاجة إلى سؤال؛ كأنما يتحدث عن كل طائفة وفي كل مسألة واحدٌ من أهلها، فلا تفوته صغيرة أو كبيرة من مشاكلها وأمانيها
وإذا نحن قررنا أن هذه الأبواب الأربعة مما لا تتأتى دراستها مجتمعة على هذا الأسلوب لشخص واحد إلا إذا قُدِّر له أن يكون متخصصاً - عرفنا مقدار الجهد الذي بذله المؤلف حتى انتهى بمؤلفه إلى هذه الغاية من الكمال. وحمدنا له ما بذله من جهد وتضحية. وما ليّ طاقة في هذا الحيز الضيق من الكلام أن أتحدث عن كل واحدة من هذه المسائل بذاتها؛ إذ كان ذلك مما تضيق به صفحات الرسالة؛ وإذ كانت كل مسألة من هذه المسائل في حاجة إلى عناية في العرض والتعليق لا تجزي فيها سطور
وإننا لنغمط هذا الكتاب حقه بأن نسميه كتاباً؛ فما هو إلا مصر الحديثة كلها في مشاكلها وأمانيها؛ وما ينبغي أن نقرأه على أنه كتاب فيه ما في الكتب من رأي صاحبه مما قد يلذ أو يفيد؛ ولكنه مجموع المسائل التي تشغل أفكار الطبقة المثقفة من المصريين عامة. ولسنا نغلو في تقدير هذا الكتاب إذا قلنا أنه ينبغي على القائمين بشئون الحكم في مصر جميعاً أن يقرءوه ليعرفوا كثيراً مما فاتهم إلى اليوم أن يعرفوه من واجبات الحاكم المصلح. على أنه(258/79)
في جملته - على وفائه بما وُضع له - ليس إلا تنبيهاً إلى الكتَّاب ورجال الفكر جميعاً أن يتناولوا مسائلة بحثاً وتمحيصاً ودراسة؛ فذلك هو الوقت الذي ينبغي أن ترسم مصر فيه لنفسه دستوراً قوميّاً تسير على نهجه إلى الغاية المأمولة في السعادة والمجد، وهذا الكتاب هو فاتحة البحث المنتج في هذا الموضوع. . .
ذلك عرض موجز لموضوع هذا الكتاب القيم، لا يُعرِّف به كل التعريف ولكنه يدل عليه بعض الدلالة. وإنه لعجيب في بلادنا أيُّ عجيب أن يكون من رجال الحكم والسياسة في مصر من يرصد وقته لمثل هذا البحث والدرس والاستقصاء في شئون لا تعود عليه في خاصة نفسه بالفائدة العاجلة؛ وإن أعجب منه أن يكون من هؤلاء الزعماء السياسيين عالم أو مؤلف أو أديب له فكر وبيان ومعرفة؛ وأعجب من هذين أن يكون بحثه ودرسه واستقصاؤه في شئون الطبقات الدنيا من الشعب بحيث يقف درسه على ما يهم سواد الناس ويكشف عن آلامهم وأماني أنفسهم. . .
ولكن هذه العجائب الثلاثة قد اجتمعت لسعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا في مؤلفه القيم (على هامش السياسة)
ليس هذا فقط هو شأن هذا الكتاب، ولكن فيه شئوناً أخرى تستحق الملاحظة والتعقيب؛ فقد تعودنا وتعود الناس جميعاً ألا يروا ما تقع عليه أعينهم مرات متكررة في كل زمان ومكان؛ إذ كان الألف والعادة في المشاهدة مما يحملان على الغفلة والتعامي؛ فلن تجد كثيراً من الناس يعنون بالبحث والتدقيق في شأن ألفوه إلْف العادة ورأوه بأعينهم عشرات المرات حتى صاروا يمرون به فلا يحسون وجوده، ولكن الشيء الذي يسترعي الملاحظة ويبعث على التحري والتدقيق وتكرار النظر، هو الشيء الغريب الذي تشاهده العين أول مشاهدة. . . فنحن مثلا نعرف فلاحينا وأحوالهم ومعايشهم، وما منا إلا من عرف قليلا أو كثيرا عن القرية المصرية وشئون أهلها، ولكن قليلا منا من فكر في شئون هؤلاء الفلاحين أو نظر إليهم نظر الإنسان إلى أهله: يتعرف آلامهم ويفكر في سعادتهم. . . ومثل هذا الشأن شئون كثيرة في حياتنا، تسترعي اهتمام الأجانب والغرباء الذين يحلّون بيننا ضيوفاً كل عام ولا تثير أقل انتباه فينا، إذ كان هذا مما ألفنا أن نراه أو نسمع به، حتى أورثنا هذا الإلف بلادة في الملاحظة، فنمر به عمياناً أو كالعميان. . .(258/80)
لذلك كان من عجائب هذا الكتاب أن نرى واحداً منا يحشد كل هذه المسائل في كتابه ويتناولها بالبحث والتدقيق والملاحظة على هذا النحو البديع الذي تناولها به الدكتور حافظ عفيفي باشا في كتابه. . .
والحقيقة أن قارئ هذا الكتاب ليجد فيه أشياء كثيرة تدعوه إلى العجب والإعجاب، وأشياء أخرى جديرة بأن تحمله على الفكر وإنعام النظر إلى مدى بعيد. . .
ومن يدري؟ فقد يكون مما يتحدث به التاريخ غداً حين يذكر هذه الفترة في الحياة المصرية، أن كتاباً ألفه الدكتور حافظ عفيفي باشا، كان هو الإرهاص الأول لنهضة الإصلاح في مصر المستقلة؛ ورب كتاب ألفه مؤلفه لغير التاريخ فكان هو نفسه فصلا من فصول التاريخ. . .
محمد سعيد العريان(258/81)
العدد 259 - بتاريخ: 20 - 06 - 1938(/)
بين العرب والفرس
بمناسبة المصاهرة الملكية
من دلائل التوفيق وبشائر النُّجح في توثيق ما أوهن الدهر من أواصر الأخوة بين دول الشرق الإسلامي، أصهار العرش الإيراني العريق إلى العرش المصري المؤثّل. فإن الغفوة الثقيلة الطويلة التي غفاها الشرق في ظلال الضراعة والجهالة والخمول، قطعت الأسباب بين حاضره وماضيه، ومزقت الأوصال بين قاصيه ودانيه، فأصبح فلولاً لجيش باد، وطلولاً لمجد تقوض. فلما أذن الله لليل الشرق أن يُصبح، أيقظ العرب والترك والفرس، وهم الأمم الثلاث اللاتي سطعت بهن شمسه، وازدهر بمجدهن أمسه، وانتشر بفضلهن نوره، فانتعش ما ذوى من رجائه، وتجدد ما خوي من بنائه، وهبت العبقريات الساميَّة والآرية والطورانية تتفتح مرة أخرى في ربيع الإسلام الدائم. وحضارة الإسلام، وإن شئت فقل حضارة الدنيا، كانت نتاجاً لازدواج الوحي العربي بالخيال الفارسي، نشأ منه هذا الأدب الإنساني الذي حلل نوازع النفس، وهذا الفن العالمي الذي صور مدارك الحسَّ، وهذا التصوف الفلسفي الذي ترجم غوامض الروح، وذلك النظام الاجتماعي الذي جعل الحياة فناً وتمدين الناس طريقة
نعم كان لابد للفرس من العرب ليبصروا نور الحق، ويدركوا سمو النفس، ويعرفوا كلمة الله؛ وكان لا بد للعرب من الفرس ليعرفوا الدنيا، ويذوقوا النعيم، ويتعلموا الملك. فلما جمع الله الشعبين العظيمين بالإسلام، وربط بينهما بالضرورة، نزت في رأسيهما عصبية الدم النبيل وعزة النفس الحرة، فأدلَّ العرب بالدين والفتح والعروبة، وتبجح الفرس بالسلطان التليد والتاريخ المجيد والحضارة الرفيعة، فكان بين الأمتين ازورار طبيعي إذا اشتد كان عداوة، وإذا خف كان مصانعة.
والشخصية العربية الغلابة التي استطاعت أن تذيب في جنسها كل جنس، وتبيد بلغتها كل لغة، لم تستطيع أن تعرّب الفرس ولا أن تقهر الفارسية. فبقي استقلال إيران في القومية والطبيعة واللغة، وزال أو كاد في السياسة والعقلية والأدب. ثم تَنَزَّكت الخلافة فتترك هوى العرب؛ وأرَّث العثمانيون النار الخابية بين الشعبين بالخلاف المذهبي، فانفرجت الحال وتنكر الأمر، حتى قامت القيامة الصغرى في الحرب العالمية الكبرى، ووقف الشرق(259/1)
العزيز حيال الغرب المقتدر، يحاوله في وجوده، ويصاوله على استقلاله، فتخفف الترك من تكاليف الماضي المشترك، وفروا بأنفسهم آوين إلى الأجواء الغربية، تاركين للعرب والفرس إنهاض الشرق الإسلامي اليوم، كما أنهضوه من دونهم بالأمس، فلم يكن للشقيقتين العريقتين بد من التكاتف على حمل هذه الأمانة العظيمة
إن الروابط الدينية والثقافية والتاريخية والاجتماعية التي تربط الفرس بالعرب لا يقوى على فصمها الدهر، لأنها جزء من وجودهما العقلي والروحي لا سلطان لنعرة الجنس عليه، ولا حيلة لأهواء السياسة فيه. وسيكون هُّم القيادة في الشعبين إحكام هذه الروابط بالتآلف والتحالف والمودة لأن، وَحْدة الغرب تقتضي ضم الشتات بإزائها، ونهضة الشرق تتطلب التكاتف على حمل أعبائها
إن مصاهرة إيران لمصر حادث جليل المغزى سيكون له في سياسة الشرق الأدنى عظيم الأثر. وبحَسْبك أن تعلم أن طهران كادت تنهج سبيل أنقرة في مجافاة الإسلام ومجانبة العرب، فاتصالها بالقاهرة المحافظة على عقيدتها وشرقيتها وتقاليدها يفصلها عن القافلة الشاردة، ويمُسكها على سَنَنِها الموروث، فتتطور ولا تتغير، وتتقدم ولا تحيد. فإذا نظرتَ إلى ما وراء ذلك رأيت هذه العلاقة الملكية الكريمة سفير وئام وسلام بين دولتين تجاورتا خمسة عشر قرناً ولا تزالان تطويان الصدور على حزازات الماضي. وستكون فاتحة الخير أن ينعقد في حاضرة النيل مجلس إسلامي عام ينتظم أقطاب الدين والعلم في أقطار الإسلام ليديروا الرأي فيه على ما أصاب المسلمين من صَدَعات الشيَع وضلالات البدع واختلافات المذاهب. ومن اليقين الجازم أن الدين - وهو دستور الأمة الإسلامية - إذا خلص من شوائب الجهل والغرض ضمن لأهله وحدة الرأي ووحدة الهوى ووحدة الغاية
ذلك إلهام الله في سياسة الفاروق المعظم. فهو يدبر الأمر ويمضيه على توجيه من فطرته ودليل من قلبه. وكأنما اصطفاه الله اصطفاءً لهذه الساعة المشهودة من حياة الشرق، فزوده بالقول الثابت والرأي الثاقب والسداد المرتَجَل والتوفيق الملهَم. فهو يولي وجهه شطر النور الأزلي الأبدي الذي ينبثق في مثل هذه الفترات المرَيجة فيبدد ظلام الحيرة، ويجمع شتات الوحدة، ويسدد الخطى الضالة في الطريق الأمينة
إن دلائل الحال تعلن أن عهد الفاروق الموموق سيكون عهد الوحدة العربية، والجامعة(259/2)
الإسلامية، والعصبة الشرقية؛ فهل آن لنصف الكرة الأول أن يهب من سباته. ويبرهن بيقظته على استمرار حياته؟
أحمد حسن الزيات(259/3)
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
الشعر والمادة
إن بين كثير من الأمور النفسية والعاطفية، وبين كثير من الماديات تقابلاً، حتى يخيل إليك أن الأشياء النفسية والعاطفية كأنها ماديات تحولت أشياء معنوية، أو كأن الماديات أشياء معنوية استحالت جمادات
من ذلك أن بين الشعر والمادة تطابقاً من حيث أن لكل منهما (ماهية) لم يتوصل العلماء إلى معرفتها في المادة، ولم يتوصل الأدباء والنقاد إلى معرفتها في الشعر. فإذا قيل مثلاً إن الأشياء الظاهرة في المادة إنما هي أعراض ينبغي أن يحملها جوهر فيه تكمن الماهية، فكذلك يستطاع أن يقال في الشعر إن كل الصفات التي يقول الأدباء والنقاد إن من الواجب أن تتوفر في الشعر حتى يحكم عليه بأنه جيد، إنما هي أعراض يحملها جوهر فيه تكمن ماهية الشعر
فإذا كان اللون والحجم والوزن والطول والعرض والثقل وما إلى ذلك جميعها أعراض ينبغي لكي تظهر لحواسنا أن تكون محمولة في جوهر ذي ماهية خاصة؛ وإذا كان الوزن والقافية واللفظ والصناعة والمعنى والخيال وما إلى ذلك جميعها أعراض يحملها جوهر، ما تلك إلا تعبيرات عنه ودلالات عليه، إذن فأين المادة وأين الشعر؟
أليس في مثل هذا التقابل بين الماديات والعاطفيات النفسية، مواضع للتأمل ومواطن للاستبصار؟
شاعرية الألفاظ
ما أقوى العلاقة القائمة بين الشعر وبين الحالات النفسية! وعندي أن التأثر النفسي بالشعر أقوى الأسباب التي تدعونا إلى نقد الشعر. ذلك بأن المعايير النقدية التي يخضع الشعر لسلطانها، على اختلافها وتباينها، تتضاءل جميعاً إذا قيست بالمعيار النفسي. على أن للمعيار النفسي في نقد الشعر عوامل كثيرة، منها الموسيقى المستمدة من القافية والروى، ومنها قوة الخيال، ومنها الاتجاه الذي يتوجه فيه الشعر إلى غير ذلك، وجميعها عوامل(259/4)
تؤثر في المعيار النفسي في نقد الشعر. غير أن أقوى هذه العوامل تأثيراً معيار النقد النفسي للشعر، إنما ينحصر في شاعرية الألفاظ
فقد نسمع من كثير من النقاد أن هذا الشاعر بارد الأنفاس، وأن ذاك ماهر في اختيار الألفاظ، من غير أن نحدد المعنى المقصود من أمثال تلك العبارتين تحديداً يرضاه المنطق وتقره طبيعة العقل، إذ هي ترمي دائماً إلى تحديد معنى لكل لفظ مفرد، وإلى تحديد معنى لكل عبارة تكونت من ألفاظ. فإذا أردنا أن نجدد ما يقصد من عبارات تجري بها في العادة أقلام النقاد والكتاب، وجب أن نرجع بها إلى أصولها النفسية، حتى نستطيع أن نفسرها تفسيراً منطقياً يقبله العقل وتقره ما فينا من طبيعة الميل إلى تحديد كل المعاني التي نتخذ الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التعبير عنها
والواقع إننا نقول إن شاعراً بارد الأنفاس، وإن آخر غير ماهر في اختيار الألفاظ، إنما نعبر بهذا عن حقائق نفسية، تنزل من أنفسنا منزلة ابعد الأشياء الدساساً في أغوار الفطرة. فقد نعلم أن من الحقائق النفسية ما دعاه النفسيون: (تداعي الأفكار). فان اللفظ الجميل المعني يدعو إلى الفكر دائماً كل المعاني الجميلة التي تلابسه أو تقاربه، ولفظاً قبيحاً أو محزناً يدعو إلى الفكر كل المعاني التي تدانيه أو تمت إليه بسبب من الأسباب. مثل ذلك إذا قلت: (الشاطئ المخضوضر) دعت هذه العبارة إلى ذهنك كل المعاني الجميلة التي تلابسها. فالنهر المنساب والماء الصافي والظل الوارف وصوادح الطير والرضا النفسي والأخذة الروحية، كل هذه المعاني تواتيك غير مختار لمجرد أن العبارة الأولى قد حملها وعيك فدعا معها جميع المعاني التي ترتبط بها وجميع الملايسات المرحة الجميلة التي تلازم الشاطئ المخضوضر. وإذا قلت القبر الصامت - أو - (الصحراء المجدبة) دعت هذه العبارة إلى وعيك جميع المعاني المحزنة التي تلابس القبر والصحراء المحزونة الصَّماء.
هذه الحقيقة النفسية لها في نقد الشعر أعظم الأثر. فان لفظاً جميل المعنى حسن الملابسات يدعو إلى الذهن شتى المعاني الأخاذة الجذابة، إن ورد في سياق الشعر أحدث في النفس شعوراً بالرضى والجمال وزاد إلى موسيقى الشعر القائمة على جمال الوزن والقافية، موسيقى نفسية تزيد الشعر تأثيراً في النفس، وتفتق الخيال، فيشرف الوعي من خلال ذلك(259/5)
اللفظ على آفاق من الجمال اللامتناهي تزيد من قيمة الشعر بقدر ما يكون لألفاظه من أثرِ في استدعاء ألوان الجمال أو التأمل أو العِطة أو الحكمة إلى غير ذلك. وعكس هذا تماماً ما يحدثه لفظ رديء الملابسات فاسد المعنى. وهذا ولا شك ما يقصد النقاد إذ يقولون بأن الألفاظ شاعرية. على أن شاعرية الألفاظ إنما يحددها دائماً استعمال اللفظ في حيث ينبغي أن يستعمل فيكون مطابقاً دائماً لمقتضى الحال.
الشرق والثورة
حدثني صديق ممن تجمعني به ذكريات عزيزة ذكريات الثورة المصرية، عندما كانت أنفاساً حارة كاللهب المضطرم، وكانت أرواحنا مشبوبة كاللظى المتأجج. لهيب الشباب ولظى الفتوة. لم يكن عهد الكهولة قد أصاب شيئاً من تأملنا أو حفزنا بعد إلى اللجوء إلى قواعد المرجحات العقلية التي هي عندنا اليوم أشبه شيء بقانون المرجحات الرياضية، فما أن نرضيها وأما أن نعتقد أننا على غير صواب، وإننا إلى الشطط أقرب. حدثني ذلك الصديق عن الشباب وعن أيام الجهاد المستمر والسعي المتجدد في سبيل إذكاء روح الثورة في نفس الجماهير، وذكرني بما كان لنا من مواقف نعجب الآن كيف خرجنا منها وفينا نفس يردد أو عرق ينبض. كيف لم يحصدنا الرصاص. وكيف لم تسل نفسنا على شفرات السيوف؟ كيف هزأنا بالموت غير مقدرين أن الموت كان أقرب إلينا من حبل الوريد أشهراً طوالاً بل أعواماً، وكيف خلصنا من جميع هذا بأرواحنا سليمة وجسومنا لم يصبها كلمٌ واحد!
قلت له في خلال الحديث ما أشهى تلك الأيام! فان للمخاطرة بالروح لجمالاً لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يفوز بالسلامة. ذلك جمال أشبهه بجمال الفقر الذي لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يلوذ بالغنى. ولعل الأمر على عكس ما يخيل إلينا؛ ولعل الواقع أن المخاطرة والنقد ليس فيهما من جمال، وأن ما نستشعر من جمال فهما بعد الفرار من آصارهما قد يكون جمال الذكريات الماضيات إذ تحيي في النفس جزءاً من ماضيها، وتطبعها بطابع كاد يبلى على الأيام. قلت لصديقي من لنا يمثل تلك الأيام؟
قال الصديق: نعم نحن في احتياج إلى ثورة. إلى ثورة طاحنة تمضي بكل ما يقف في طريقها، وتأتي على كل ما يقاومها؛ ثورة شيطانية لا عقل فيها؛ ثورة مبرأة من الرشاد(259/6)
والحب والنهي. ثورة طائشة مجتاحة تأكل الحرث والنسل؛ ولكنها ثورة لا تنال من الجسوم ولا من الحطام؛ ثورة لا شأن لها بنظام قائم ولا بحكومة ولا بجيش ولا بأسطول؛ ثورة منزهة عن السيف والمدفع، وعن المدية والخنجر؛ ثورة لا يقوم بها جمهور من الناس ولا جماعات منهم؛ بل ثورة فردية يشنها كل فرد منا على نفسه؛ ثورة نفسية يتسلح فيها كل فرد منا بالإرادة ويروح يهدم من أخلاقه ومن ميوله ومن نزعاته التي كونها فينا تاريخنا القديم؛ ثورة تقتل فيها الإرادة حبنا للسلامة وتواكلنا على الأقدار وصمتنا عن الحق والحق مهضوم مأكول، كأنما قد أصبحنا جميعاً شياطين خرساً، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ثورة تحطم مُثُلُنا الأخلاقية القديمة، لتتبدل بها مُثلاً عليا من تلك المثل التي قادت أوائلنا بجيوشهم ومدنيتهم وعلومهم من شاطئ بحر الظلمات إلى جوف الصين
وكان صديق يتكلم متهدَّج الصوت منفعل النفس ثائر الوجدان. فلما فرغ من حديثه، شملنا صمت عميق ظل يسود مجلسنا حتى افترقنا لم يجر لساننا بكلمة واحدة
الطغرائي الشاعر
هو من أفذاذ الشعراء، ومن أهل البيان الذين يشار إليهم بالبنان. أنكره أهل زمانه على القاعدة السائدة في هذه الدنيا. وليس في ذلك عجب؛ ذلك بأن نكران الأفذاذ في زمانهم سنة أهل الشرق منذ أقدم عصورهم. وهذا الطغرائي على جلالة قدره يقول:
مالي وللحاسدين؟ لا برحت ... تذُوب أكبادهم وتنفطر
يغتابني عند غيبتي نفرٌ ... جباههم إن حضرت تنعفرُ
ألسنة في إساءتي ذُلقٌ ... يقتادها من مهابتي حصر
أنام عنهم ملء الجفون إذا ... أثارهم في المضاجع إلاَبر
يكفيهم ما بهم إذا نظروا ... إلىَّ ملَء العيون لا نظروا
تغيظهم رتبتي ويكمدهم ... جاهي فصقوى عليهم كدَر
فنعمة الله وهي سابغة ... عندي من الحاسدين تنتصر
يعجبني أنهم إذا كثروا ... قَلُّوا غناءً وإن هم كثروا
وليس من عجب في أن يحقد جماعة على الطغرائي في زمانه، وليس من عجب في أن يقول فيهم الطغرائي هذه الأبيات وأكثر منها مما يتضمن ديوانه. ولكن العجب في أن يُهمل(259/7)
الطغرائي في زماننا فلا يتناوله كاتب ينقد ولا يذكره أديب يبحث، كأن هذا الشاعر العظيم من مطويات الأدب، تلك التي تطوي فلا تنشر، وتنسى فلا تذكر. ذلك في حين أن المتأمل في شعر هذا الرجل الفذ يدرك فيه سراً قلما تقع عليه في غيره من الشعراء: لا في شعراء عصره ولا في الشعراء الذين تقدموه، ولا في الشعراء الذين تلوه. وعندي أن هذا السر لا يشاركه فيه إلا شاعر واحد هو أبو العلاء المعري. أما ذلك السر فهو الجمع بين قوة الشاعرية ودقة الإحساس وصادق الوجدان وبين هدوء الطبع. أما إن ذلك سر من أسرار العظمة في الطغرائي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه سر عظمته، فذلك بأن الشعر عاطفة وخيال وحركة نفسية جياشة دافقة سيالة، فإذا حكم هذه الصفات هدوء نفس طبيعي، صفا الشعر ورق وأتساب انسياب الجدول المترقرق الهادئ، ولكنه في ترقرقه وهدوئه حادُّ كالسيف قاطع كالفأس الباترة المحدودة
وأبو العلاء المعري إن شارك الطغرائي هذا السر، فلا شك في أنه في نفسية الطغرائي أرس وأذهب في الوجدان. فان أبا العلاء شاعر حكيم بطبعه متشائم بفطرته. حمل على المرأة وطغي على الإنسانية، حتى لقد أراد أن يهدم كل قائم من غير أن يعرف كيف يقيم غيره، وأن يدرك كل أساس عملي في الحياة من غير أن يرسم للحياة طريقاً جديداً. ذلك على العكس من الطغرائي فانه عاش مع المرأة واندفع في غمرات الحياة وشرب من أفاويقها حلوة ومرة، فكان من صميم أهل الدنيا. فإذا لازم أبا العلاء شيء من هدوء الطبع ظهر أثره في شعره فذلك طبيعي بمقتضى النشأة والاتجاه الفكري. أما أن يلازم الطغرائي ذلك الهدوء وتحكمه تلك الطمأنينة، وهو بعد مغمور في الحياة محب لها هائم بمباهجها لَمَّاحٌ لما فيها من مغريات ومفاتن، فذلك سر من العظمة لا تألفه في الشعراء
ولقد يظهر أثر هذا السر في مرئياته، وهي أبعد الأشياء عن أن يلزم فيها شاعر هدوء نفسه وطبعه فلا يغلب عليه خيال جماح إلى غايات من الشعر يسبح من خلالها الشاعر في عالم الخيال البعيد المعلق بآفاق الوهم القصية. وله في الرثاء مقطوعة رثى بها عزيزة عليه، تلمح من خلالها مقدار ما لاقى في فراقها من لوعة عميقة الأثر بالغة الخطر، ولكنك تلمح فيها أيضاً ذلك الهدوء النفسي الذي يبلغ من قرارة نفسك مبلغاً لا تبلغه ثورة الشعر:
ولم أنسها والموت يقبض كفها ... ويبسطها والعين ترنو وتطرق(259/8)
وفد دمعت أجفانها فوق خدها ... جني نرجس فيه الندى يترقرق
وحلَّ من المقدور ما كنت أتَّقى ... وُحمَّ من المحذور ما كنت أفرق
وقيل فراق لا تلاقي بعده ... ولا زاد إلا حسرة وتحرق
فلو أن نفساً قبل محتوم يومها ... قضت حسرات كانت الروح تزهق
هلال ثوي من قبل أن تم نوره ... وغصن ذوى فينانه وهو مورق
فواعجبا أَنَّي أحم اجتماعنا ... ويا حسرتي من أين حلَّ التفرق
أحنُّ إليها إن ترَاَخي مزارها ... وأبكي عليها إن تداني وأشهق
وأبلس حتى ما أبين كأنما ... تدور بي الأرض الفضاء وأصعق
وألصقها طوراً بصدري فأشتفي ... وأمسحها حيناً بكفي فتعبق
وما زرتها إلا توهمت أنها ... بثوبي من وجدي بها تتعلق
وأحسبها والحجب بيني وبينها ... تعي من وراء الترب قولي فتنطق
وأشعر قلبي اليأس عنها تصبرا ... فيرجع مرتاباً به لا يصدق
هذا شعر صادق الدلالة على الحقائق التي أحاطت بالشاعر وعلى الاحساسات التي اختلجت بها نفسه. قد تكون فيه لمحات من شعر الرثاء في شعر غيره من الشعراء؛ ولكن فيه إلى جانب هذا سر جديد عليك. ذلك ما تدرك من هدوء هذه النفس الثائرة كأنما ترى أرضاً انبسطت ونما فوقها العشب وغشتها الأزاهير، وأنت تسمع من تحتها دوي البراكين وهمهمة الزلازل تغلي في باطنها
ولقد حاولت أن أطلق على هذه الظاهرة العجيبة في شعر الطغرائي اسماً أميزها به، فلم أجد اسماً أطلقه عليها أجدر بها من أن ندعوها (الواقعية الشعرية) فإنها والحق يقال أقرب الأشياء فهماً مما ندعوه (الواقعية في الفلسفة) على أن المقارنة بين واقعية الشعر وواقعية الفلسفة يحتاج إلى فراغ ليس هذا مكانه، أما إذا أردت أن تقف على طرف مما ذكرت فاقرأ له المقطوعة الآتية:
أقول لنِضْوي وهو من شجني خلو ... حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو
تعالي أقاسمك الهموم لتعلمي ... بأنك مما تشتكي كبدي خلو
تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي ... وما يستوي الريف العراقي والبدو(259/9)
هناك نسيم الريح مثلك لاغبٌ ... ومثلي ماء المزن مورده صَفْو
ومحجوبة لو هبت الريح أرفلت ... إليها الغياري بالعوالي ولم يلْووا
صبوت إليها وهي ممنوعة الحمى ... فحتىَّ مَ أصبو نحو من لالهُ نحو
هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النَّوَى ... وشجو قديم ليس يشبهه شجو
فأسر ولا فك، ووجد ولا أُسىً ... وسقم ولا برء، وسكر ولا صحو
عناء معنى وهو عندي راحة ... وسم زعاف طعمه في فمي حلو
ولولا الهوى ما شاقني لمح بارق ... ولا هدني شجو ولا هزني شدو
إن في هذا الشعر لثورة يخيم عليها هدوء نفسي قلما تأنسه في شاعر غيره. وعندي أن هذه الصفة لم تتجلَّ في شعر الطغرائي بقدر ما تجلت في لاميته المعروفة، وإن لنا لعودة إليها تحلل فيها هذا الشاعر الكبير على ضوء هذه الحقيقة الملموسة في شعره. ولقد يحفزنا إلى درس الطغرائي أنه شاعر فسيح الجوانب مديد الغايات وفي شعره تعلق بأسباب الأدب العالي، وما أحوجنا إلى هذه الأسباب
إسماعيل مظهر(259/10)
حواء
ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ
الحوماني تحت الطبع، تحمل الرسالة منه إلى قرائها عدة
نماذج قبل صدوره
رَبَّ حواء!
ربَّ حواَء! حين صوّرتَ حوّا ... َءكَ هل كان قبلها تصويرُ؟؟
والشعورَ اللاتي نشرتَ عليها ... هل طوى الليلَ قبلهن شعور؟؟
والعيون اللاتي شققتَ لها هل ... كان من قبلها عيونٌ حورُ؟؟
أَوَهل بعدها يشع على الأح ... داقِ من عالَم الملائك نورُ؟؟
وتُرينا كثغرها وكعيني ... ها السموات أعينٌ وثغورُ؟؟
كُبرت أن تكون قبلاً وبعداً ... والذي خصها بذاك كبيرُ؟
هي بيت القصيد من شعرَك المن ... ظوم والكونُ شعرك المنثور(259/11)
أنبئيني
أَنبئيني عما يجول بعيني ... كِ وما لا يجول من أسرار
// لا بعيني الملأى من النور أشرف ... تُ على كنهها ولا أفكاري
كلما ضجَّتِ الحقيقة في إذ ... نيَّ أخلدتُ للخيال الساري
وتسنمتُ ذِرْوة الأُفق الأع ... لى إلى كل كوكب سيَّار
فأَرتني عينايَ أَنك في آ ... فاقها بعض هذه الأقمار
وعلى الأرض بعض هذى التماثي ... لِ من الناس أو من الأحجار
وأَرتني عيناكِ أنيَ والكو ... نَ غريقانِ منكِ في تيّار
الحوماني(259/12)
قصة الكلمة المترجمة
(القتل أنفى للقتل)
لأستاذ جليل
تلاقت عبقرية الأستاذ (الرافعي) - رحمه اله - في الأدب وعبقرية الأستاذ (العريان) في الوفاء؛ وأوحت الأولى إلى الثانية (وحيها) فكانت (حياة الرافعي)، أو هذه (المقالات الرافعية) في (الرسالة الغراء) وقد رآها الناس في هذا العام نجوماً، وسيجتلونه بعد حين بدراً بل شمساً ذات أضواء في كتاب. ولم تجتزئ هذه (المقالات) بخيرها العميم وفضلها العظيم - وإنهما لمحسبان - بل جلب الخير خيراً، وساق الفضل فضلاً؛ فقال الأستاذ محمود محمد شاكر (مقالة)، وجادل الأستاذ سيد قطب (جداله)، ولو لم يكن الرافعيُّ قطب أقطاب ما حدَّث عنه قطب. . . وما هذه الأحاديث التي أنصها اليوم في الرسالة
وُنصَّ الحديثَ إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصَّهِ
إلا من إحسان تلك المقالات التي أفضل بها إلى العربية فتى الفتيان وسيد الشبان الأستاذ محمد سعيد العريان
أشار الأستاذ محمد سعيد في (المقالة السابعة والعشرين) من مقالاته الرشيقة الأنيقة الرافعية إلى حكاية الكلمة الفارسية (القتل أنفى للقتل) وإني لأظن أن كثيرين من الأدباء والباحثين يودون أن يعرفوا تلك القصة بكمالها، فهأنذا أحكيها، وسأروي طائفة من الأقوال في الكلمة الفارسية، وقد تقتضي الحال زيادة في هذا القصص للإفادة والتبيين و (الحديث ذو شجون) فأمليها
كتب صاحب (العثرات في اللغة والأدب) في الرابعة والرابعين من (عثراته) في جريدة (كوكب الشرق الغراء) في (7 رجب 1352) كلمة عنوانها (موازنة) قال فيها: (قالت العرب قديماً في معنى القصاص وأنه جُنَّة من العدوان: (القتل أنفى للقتل)، ثم أقبل القرآن الكريم على آثار العرب فقال: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وقالت: (موازنة العثرات): (هي - أي عبارة القتل - كلمة عربية جاهلية) ثم سطرت شيئاً، محصوله أن الكلمة الفارسية قد فاتت الآية القرآنية
والمقايسة بين الشيئين قد اختلف أيَّما اختلاف قدْرَاهما وتفاوتن كل التفاوت حالتاهما -(259/13)
تذكرنا بهذه الأملوحة في (عيون الأخبار) لابن قتيبة: (نافر رجل من جَرم رجلاً من الأنصار إلى رجل من قريش، فقال القرشي للجرمي: أبالجاهلية تفاخره أم بالإسلام؟
قال: بالإسلام
قال: كيف تفاخر وهم آووا رسول الله ونصروه حتى أظهر الله الإسلام؟!
قال الجرمي: فكيف تكون قلة الحياء. . .؟)
أفظعت (موازنة العثرات) وارتقت المرتقبون البيان الحق والقول الفصل في ذاك الهزل، فظهرت في جريدة (كوكب الشرق 12 رجب 1352) كلمة عنوانها (قالته الفارسية، وتنكره العربية، القتل أنفى للقتل) أعلن فيها أن هذه المقولة ليست جاهلية ولا عربية ولا مولدة، وأنها مترجمة. ومما قالته الكلمة: (أُجل العربية المحكمة المبينة أن تقول هذا القول: (القتل أنفى للقتل) إنها لا تعرفه، إنها تنكره، ولو قالته - وهو يبدو حكمة ومثلاً - لروته رواتها، فلا الميداني صاحب (مجمع الأمثال) عرفه، وقد جمع في كتابه أكثر من ستة آلاف مثل، ولا ابن عبد ربه سمع به، ولو نمى في (الجزيرة) لانتظمته (جوهرة أمثاله) ولا أبو بكر البلاقلاني اشتمل عليه كتابه (إعجاز القرآن) ولا عبد القاهر أشار إليه في (دلائل الإعجاز) ولا (كشاف جار الله) وجدناه فيه. ودع كلام الذائدين عن (الكتاب) في إيراده معزوّاً إلى العرب وما سطروا. إنه قول ما قالته العربية ولا مولدوها، وإنما هو كلام فارسي نقله الناقل - وربما أخطأت الترجمة - ورائحتها فيه تكاد تفوح. ولو قالته العربية ما قالت: (القتل أنفى للقتل) وهي تريد أن القتل يزيل القتل، أو يستأصله أو يفنيه، ونفى القتل لا يبيده، ونفى المجرم القاتل لا يريح الناس منه. . . ومادة (ن. ف. ى) كاشفة ما يلتبس)
وقالت الكلمة: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب - قول عربي، قول قرآني لا يستقل بوصفه - إذا احتيج إلى وصفه - إلا بلاغة النبي، بل هو يصف نفسه، ويعلن فضله، وينادي إعجازه على إعجازه و (القتل أنفى للقتل) قول فارسي، نقله مترجم عربي، وفيه ضعف. معناه كريم، ولفظه لئيم، قاله (أردشير) الملك. قال الإمام الثعالبي في (الإيجاز والإعجاز): من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز - فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام، فمن ذلك قوله (عز اسمه): ولكم في القصاص حياة. ويحكى عن أردشير الملك ما ترجمه بعض(259/14)
البلغاء أنه قال: (القتل أنفى للقتل) ففي كلام الله تعالى كل ما في كلام أردشير وزيادة معان حسنة، منها إبانة العدل بذكر القصاص، والإفصاح عن الغرض المطلوب فيه من الحياة، والحثَّ بالرغبة والرهبة على تنفيذ حكم الله والجمع بين القصاص والحياة، والبعد من التكرير الذي يشق على النفس فان في قوله القتل أنفى للقتل تكريراً، غيرهُ أبلغ منه)
وأشارت (الكلمة) في (الكوكب) إلى إيجاز الآية الكريمة وإعجازها، وروت قولاً لصاحب (دلائل الإعجاز) في (الموازنة بين بعض الآي وبين ما يقوله الناس في معناها) ونقلت كلام (الكشاف) في تلك الآية المعجزة
ثم ظهر مقال بليغ فائق للأستاذ الرافعي (رحمة الله) في جريدة البلاغ (15) رجب سنة 1352 عنوانه (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة) قال فيه: (لقد تنبأ القاضي الباقلاني قبل مئات السنين بمقالة الكوكب هذى فأسلفها الرد بقوله: فان اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد فصاحة القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته - فما عليك منه، إنما يخبر عن نفسه ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله)
وقال الأستاذ الرافعي (رحمه الله): أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم وأخذت من الآية، والتوليد فيها بيَّن، وأثر الصنعة ظاهر عليها، فعلى الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهلية)
ثم أوضح (رحمه الله) وهن الكلمة الفارسية أيما إيضاح، ثم أبان ببيانه العالي فضائل الآية الكريمة ومما قاله:
(ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شراً من قتل المقتول، لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة على حين أن أخذ القاتل بقتله ليس فيه إلا نية قتله، فعبَّرت الآية باللغة التي تلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة)
(إن لفظ (حياة) هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير (بنفي القتل) لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي ترك الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئاً من المعاني السامية وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج، وتعبير الكلمة العربية عن الحياة (بنفي القتل) تعبير غليظ(259/15)
عامي)
(جعلُ نتيجة القتل حياة من أعجب ما في الشعر، يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالا بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة)
(فإذا تأملت ما تقدم وأنعمت فيه تحققت أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله (يا أولي الألباب) فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه إذ هو موجه للعرب في ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب، ولكنه في حقيقته موجه لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع هم هؤلاء الذين يرون إجرام المجرم شذوذاً في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة إلى ما يجري هذا المجرى، فمن ثم يرون أن لا عقاب على جريمة لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى، وهذه فلسفة تحتملها الأدمغة والكتب، وهي تحول القلب إلى مصلحة الفرد، وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم كأن يقرر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي من قبل ذلك باللب والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا)
(وانتهت الآية بقوله تعالى: (لعلكم تتقون) وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن يا أولي الألباب، أنه برهان الحياة في حكمة القصاص نسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبة خلافه، فاجعلوا وجهتكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد)
هذا بعض ما قاله فقيد العربية الأستاذ الرافعي (رحمه الله وكافأه) ولما اطلع الأستاذ النشاشيبي على هذا المقال البليغ في (البلاغ) بعث إلى هذه الجريدة بكلمة عنوانها: (إنها مترجمة) نشرتها في 19 من رجب 1352 بعد مقدمة منها، ومما جاء في تلك الكلمة: (قال الأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في رده في (البلاغ) على كاتب في (الكوكب): (إن القتل أنفي للقتل مولدة وأنها مأخوذة من آية) ومعاذ الله أن تكون مولدة، وأن تكون قد أخذت من آية، ولو كان ذلك لوجدنا عليها مسحة - وإن قلّت - من الجمال القرآني وهاهي ذي، كما يراها رائيها، لا تكلف أحداً في البشاعة وصفها فهي ليست بعربية ولا بمولدة، ولم تبصر في يومٍ ضياء القرآن، بل هي مترجمة، وربما أخطأ الناقل في(259/16)
الترجمة)
(للقصة بقية)
* * *(259/17)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 21 -
(يجب أن تكون المدرسة صورة مصغرة للمجتمع المنشود)
(* * *)
(الديمقراطية هي النظام الذي يمكن الجميع من تحقيق أقصى
مجهوداتهم)
(باستور)
(يجب أن تكون أعمال الفرد في الجماعة الديمقراطية شائقة
جذابة)
(وولف)
11 - سبيل الإصلاح
واليوم ماذا أقول؟ لقد عرضت عليك فيما مضى صورة واضحة لشخصية خريج معاهدنا بما فيها من عقل وعاطفة وجسم، وبينت لك أن هذه الشخصية لا تتفق وروح التربية الحديثة في أقل القليل، ولا تصلح لأن تحقق آمال الوطن في صون الاستقلال وتزعم الشرق وإحياء المجد القديم! فلم يبق اليوم إلا أن أسير معك إلى طريق الإصلاح علنا نصيب هنالك شيئا:
1 - مجلس أعلى للتربية والتعليم
وكثيراً ما تناولت الصحف أمر هذا المجلس بالحديث، ولكن قليلاً ما عنيت الحكومة به وأخرجته إلى حيز الوجود! وأنت لا تكاد تجد دولة راقية بغير هذا المجلس الخطير، ولا(259/18)
تستطيع أن تتصور اتزاناً واستقراراً في ناحية البرامج المدرسية إلا إذا كان مصدر هذه البرامج لجنة فنية راقية ثابتة تمثل جميع الهيئات المتصلة بنواحي التعليم كالمدرسين والنظار، وعمداء الكليات ورؤساء النقابات، ورجال الأعمال وزعماء الأحزاب والأديان؛ فإذا ما أوجدنا مثل هذا المجلس أمكننا أن نوفق بين تجارب المدرسين والنظار ورؤساء الأعمال، وبين الخطط الدراسية والمناهج التعليمية وحاجات البلاد، وبذلك تكون لدينا غاية معلومة لها فلسفتها الخاصة، وخطة مرسومة توصل إلى هذه الغاية، واستقرار دائم يساعد على إحكام التجارب ويغذي مختلف النواحي بما يحقق نجاحها المنشود! أما الاقتصار على عدة لجان تمحو اليوم ما قررته بالأمس، وتسير بالسياسة العامة للتربية على غير هدى من التجارب الكافية أو الغايات الاجتماعية والاقتصادية والفنية المختلفة، فذلك كما ترى فصل بين المدارس والمجتمع، وإغفال لأسس وطيدة لا سبيل إلى النجاح والاستقرار بدونها
فترى هل يعمل معالي الوزير الحالي على تكوين هذا المجلس بعد أن توانى في تكوينه الوزراء السابقون؟ أملنا في معاليه كبير!
2 - قضية المعلمين
وأحسب أن أول ما يجب أن ينظر فيه هذا المجلس هو قضية المعلمين. وذلك أنك قد علمت فيما مضى أنهم اليد العاملة في تكوين النشء الموموقين، وأن عدم التدقيق في اختيارهم، وعدم إنصافهم في أجورهم وترقياتهم وأعمالهم، كل ذلك قد جعلهم متذمرين من مهنتهم، ناقمين على القدر الذي ابتلاهم بها، مؤدين لها أداء ناقصاً مشوهاً لا يكاد يتفق في الكثير من الأحيان مع تلك الأصول النظرية العامة التي درسوها في مدارس المعلمين ومعاهد التربية! لذلك يجب أن تعمل الدولة على مساواتهم بطوائف القضاة والأطباء والمهندسين؛ ويجب أن تقلل جهد المستطاع من عملهم الشاق العسير؛ ويجب أن تحذف من حياتهم تلك الأعمال الكتابية الآلية التي تمطرهم بها إدارة المدرسة مراراً أثناء العام الواحد!، ويجب أن تشركهم إشراكا فعلياً في وضع المناهج واختيار الكتب، ويجب أخيراً أن تصغي لاقتراحاتهم كما تصغي لرجال الطب أو القانون!
أما المعلمون فيجب أن يتحدوا وينظموا أنفسهم تنظيماً يعلي من شأنهم الأدبي والمادي ويرفع من قدر مهنتهم في عين الحكومة والشعب، كما يجب أن يحرصوا دائماً على التحلي(259/19)
بتلك (الشخصية الفنية) التي تنشدها الحياة الحديثة منهم كمثقفين بوجه عام وكمربين على وجه الخصوص!
3 - مكافحة الأمية وتعميم التعليم الإلزامي
ويلي ذلك في الخطورة أو يعادله مكافحة الأمية وتعميم التعليم الإلزامي ومادمنا ننشد نهضة حقيقية قوامها الحياة الديمقراطية الصحيحة. ذلك أنه لا سبيل مطلقاً إلى الرقي المنشود إلا إذا تبدد ظلام الجهل وغدا الشعب مستنير العقل قوي الخلق مفتحة أمام ذكائه أبواب النشاط دون ما فارق بين غنى وفقير!، وإذا كانت الحكومة قد بدأت تفكر جدياً في مكافحة الأمية فإن التعلم الإلزامي ما يزال في حاجة قصوى إلى الدعاية والمرونة والتعديل والإصلاح على النحو الذي بسطناه من قبل عندما كنا نوجز آراء الدكتور جاكسون في الموضوع
4 - التعليم الحر
ولما كان التعليم الحر يقوم بنفس الوظيفة التي تقوم بها مدارس الحكومة فان العناية به، والتدقيق في الإشراف على رجاله، والإمساك عن صرف الإعانات للذين يستطيعون أن يستغنوا عنها تماماً بمصروفات التلاميذ، أو للذين لا يستحقون منها شيئاً لأنهم محتالون أو شبه محتالين! ثم الحرص على تسليحه بالمدرس الفني الكفء عن طريق إعداد أكبر عدد من المدرسين في معهد التربية بأقصى ما يمكن من سرعة، كل ذلك يجب أن تحققه الحكومة في القريب العاجل حتى لا يكون هناك وجود لمدارس تسيطر عليها الفوضى ويشيع فيها الحشو التافه والإعداد السقيم!
5 - توحيد الثقافة:
ولما كان تباعد العقليات في أبناء الأمة الواحدة يقسم الشعب إلى قسمين ويعرقل بذلك عملية الإصلاح والتجديد، فالواجب هو المبادرة بتوحيد الثقافة على قدر المستطاع كيما يكون التفكير متحدا والقلب مشتركا والتقدم متجانسا لا تخَلف فيه! على أنه يجب أن نحرص في ذلك التوحيد على طابعنا المصري دون أن نتعسف في الجري وراء كل جديد أو في التمسك بكل قديم!!
6 - خطة الدراسة:(259/20)
أما خطة الدراسة ذاتها فيجب أن تتغير وتتطور حسبما تتطلب النتائج الباهرة التي تمخضت عنها طرق التربية الحديثة كطريقة (المشروعات) أو طريقة (دالتن)؛ وقوام الطريقة الأولى هو جعل الدراسة علمية تجريبية ترتبط فيها المواد ارتباطا معقولا، ويقوم الطلبة بدراستها كما لو كانوا يتعاونون معا في دراسة مشروع ما تحت إرشاد مرب حكيم؛ وقوام الطريقة الثانية هو الاعتراف (بفردية) الناشئ وتعويده على الدراسة الشخصية، وفتح المجال أمام ملكاته وقواه كيما يصير في طريقه الخاص مستنيرا بإرشاد صديق قدير هو الأستاذ العزيز!! هذا إلى أنه ينبغي كذلك أن نحرص على دراسة ميول الطلبة وعلى توجيههم توجيهاً سليماً بفحص ذكائهم، وكشف استعداداتهم، وإسداء مختلف النصح لهم ولذويهم كيما يدرسوا وينبغوا ويوفقوا في حياتهم الخاصة والعامة توفيقا سعيداً؛ أما حشد الطلبة في الفصول دون التفريق بين ذكيهم وغبيهم، وضبهم جميعاً في قالب واحد تنمحي فيه شخصياتهم، وتيسير العلم لهم وحشوه في أدمغتهم على نحو يشل فكرهم ويميت حماسهم وشعورهم، ثم جعل نظام المدرسة بعد هذا آليا لا وجود فيه للواجب والمسئولية والديمقراطية، فذلك كما تري أسوأ ما يمكن أن يتصور في هذه الأيام التي تقدمت فيها بحوث التربية وعلم النفس تقدما عظيما، والتي يدوي صوت رجال التربية والاجتماع بضرورة جعل المدرسة صورة مصغرة للمجتمع البشري في تطوره وتجدده وعلاقات أفراده بعضهم ببعض وبالدولة!
7 - مراعاة حاجات البلاد:
وينبغي بعد هذا أن نعمل مراعاة على مراعاة حاجة البلاد من الخريجين في مختلف نواحي النشاط المختلفة حتى لا نقع فيما نحن فيه الآن من أزمة المتعلمين العاطلين. وذلك بتحديد عدد المقبولين في المدارس الفنية المختلفة حسبما تتطلب الحاجة المستنيرة بحقائق الإحصاء الماضي والحاضر، وحسبما تدل دراسة ميول المتقدمين الحقيقية واستعداداتهم. أما ترك الأمر فوضى وقبول الطلبة في كليات الطب والعلوم والزراعة والتجارة تبعاً لارتفاع (مجموعهم) أو انخفاضه فذلك كما ترى السبب في قلة التبريز عندنا وكثرة العاطلين.(259/21)
8 - الامتحانات
ويتبقى أيضاً أن نغير نظام الامتحان عندنا تغيراً شديداً لأنه بصورته الحالية لا يدل على كفاية الطالب العقلية فضلاً عن الخلقية والذوقية، ولا يفعل أكثر من تحويل نظام الدراسة إلى عملية (حشو) هائلة لا نظام فيها ولا هضم! وحسبك أن ترجع لأقوال العلماء الكثيرين في ذلك الموضوع لترضى بما أقول، وحسبك أن تقرأ اقتراحاتهم بشأن هذا التغيير لتعتقد أنه ينبغي لنا أن نهدمه هدماً!
9 - تشجيع الخريجين
ثم لا نستطيع أن نختم القول دون الإشارة إلى وجوب تشجيع الخريجين على الحياة العلمية والعملية بتقديم الأعمال التي تساعدهم على تلك الحياة كما قد بسطت ذلك بإسهاب من قبل
10 - التربية الخلقية والدينية
كما لا نستطيع أن نختمه دون التنبيه على وجوب جعل التربية الخلقية والدينية أساسية ولا سيما في مرحلتي التعلم الابتدائي والثانوي. وسبيل ذلك هو إدخال الدين في الدراسة إلى جانب الأخلاق وجعل التقدير الخلقي جوهرياً في النجاح أو الرسوب لا مجرد شكليات وقشور!
11 - التاريخ والجغرافيا
وأخيراً ينبغي أن نعني في الثقافة العامة بجعل تاريخ مصر وجغرافيته محوراً لتاريخ العالم وجغرافيته. كما ينبغي أن نعني بإبراز أجمل عصورنا إبرازاً تاماً، وبتكوين العاطفة الوطنية المتأججة في قلوب النشء كيما نجد (رجالاً) يعيشون من أجل الوطن وفي سبيله يموتون!!
وبعد فتلك نظرة عاجلة في فلسفة التربية النظرية والعملية قد طبقتها على تربيتنا تطبيقاً سريعاً حال وقتي الضيق دون توفية حقه من البحث والتفصيل، فلعي قد وُفقت ولو إلى حد التنبيه فحسب! ولعلك قد استطعت أن تلحظ مجمل نزعتي العامة من هذا المقال ومن المقالات الكثيرة التي سبقته، ثم لعلك قد سئمت هذه الدائرة وتريد مني دائرة أخرى، فإلى اللقاء إذا حيث أحدثك عن شيء آخر، ولك و (للرسالة الغراء) وافر الشكر وعاطر التحية(259/22)
محمد حسن ظاظا(259/23)
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
- 1 -
(إن العقلية الغربية هي العقلية التي تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا. ونحن نتبع وحي هذه العقلية بحكم أننا وجدنا في هذه الحياة الدنيا. أما العقلية الشرقية فتلائم الحياة الباقية، فإذا انتقلنا إلى الأخر فهنالك نتبع وحي هذه العقلية)
هابل آدم
قرأت ما كتبه صديقي الأديب النابغة فليكس فارس في عدد الرسالة السالف في موضوع الشرق والغرب؛ وكان حرَّيا بي ألا أرد على ما يكتبه صديقي ومناظري من ردَّ لآرائي التي سبق أن أدليت بها في مناظرتي معه منذ عام أو أكثر من على منبر جمعية الشبان المسيحية بالإسكندرية والتي نشرتها في وقتها (المجلة الجديدة)، لأني أعتقد أني في حينها أعقبت عليها بما رأيت فيه الكفاية لإثبات وجهة نظري في الموضوع. ولكن مناظري وقد أخذ من ردَّه على مل رآه اليوم ذا صلة وثيقة بذلك الحديث الذي أجراه الأستاذ الكبير توفيق الحكيم على لسان الروسي والمصري حول الشرق والغرب في روايته (عصفور من الشرق) التي صدرت خلال الشهر الماضي. ولقد أثار الأستاذ فليكس فارس في مقاله مسائل أعتقد أني بينت زعمها ومجانبتها لحقائق الأمور في تعقيبي عليه، لهذا عمدت بدوري إلى تعقيبي على رد مناظري الأستاذ فارس لآخذ منه ما يدفع آراءه التي يؤيد بها اليوم إيمانه بتفوق ثقافة الشرق
لكل شعب في العالم تراثه التقليدي الذي خرج به من ماضيه، والذي يحف به في حاضره، والذي يكمن فيه مقدمات مستقبله - تلك التي نطلق عليها اصطلاح (روح الأمة) - وهو الذي يربط ماضي جماعة من الجماعات بحاضرها ويمضي بها إلى مستقبلها. ومصر لم تخرج عن كونها مجتمعاً استوحى روح الشرق عصوراً متطاولة وخرج ككل أمة بثقافة تقليدية كونها على مدى تاريخه الطويل. وإن وقف مجتمع مصر اليوم من سير الزمن يطل على حاضر افتقدت فيه عناصر الحيوية في ثقافته التقليدية، تلك الثقافة التي كوَّنتها مصر بما ورثته عن أسلافها الفراعنة في أصول الفن الفرعوني القديم ومظاهر الحياة المعاشية(259/24)
التي ترتكز عليها حياتها الاجتماعية. ويكفينا للتثبت من هذه الحقيقة أن نلقي نظرة على الملايين العديدة التي تنزل ريف مصر والتي تنتشر على ضفتي النيل من الشلال حتى البحر الأبيض المتوسط، في حياتها المعاشية التي يرتكز عليها المجتمع المصري، وأن نرجع ببصرنا إلى الماضي بعدئذ مستمدين من النقوش التي قرأت على الآثار والهياكل والتي انبثت على جنبات الوادي في مصر، ومن الكتابات التي خطت على أوراق البردي والتي صورت حياة المصريين في العهد الفرعوني، لنخرج بصورة تمثل وحدة الحياة المعاشية في مصر من عهد الفراعنة إلى يومنا هذا. وذلك راجع إلى أن الحياة المعاشية صورة من احتياجات البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ والبيئة واحتياجاتها لا تزال على وتيرتها الأولى في ريف مصر حيث ينزل معظم أبناء مصر. خذ إلى جانب ذلك منطق التفكير وأسلوب الصياغة، وأعني بذلك اللغة من حيث هي صوغ المعاني، والدين، مما اكتسبته مصر من العرب فكان ركناً من أركان الثقافة التقليدية لمصر. ولقد اختلطت هاتان الثقافتان، الفرعونية من جانب والعربية من جانب، فكان من ذلك مزيج. ذلك ما نعبر عنه بالثقافة التقليدية لمصر منذ أيام الفتح العربي
أما ما أثاره مناظري الأديب فليكس فارس من اعتراض على قولي إن الحياة المعاشية التي يحياها المصري الآن تجري على غرار ما كان يحياه أسلافه الفراعنة بقوله وأنا لا أرى في حياة المصريين اليوم أثراً من الحضارة الفرعونية لا في الحياة العملية ويعني بذلك المعاشية ولا في الحياة الأدبية، فإنني لا أجد صعوبة في دفع اعتراضه فأقول وأنا أرى في حياة المصريين اليوم أثراً من الحضارة الفرعونية في حياة الشعب المعاشية!!
وأظن أن إثارة الاعتراضات ودفع الاعتراضات لا يقوم على مجرد القول بأني أرى أو لا أرى، إنما تقوم على البحث والتحليل والنقد المستقصي. فإذا قلت إني لا أرى بي حاجة لدفع اعتراض مناظري، فذلك واضح لأنه لن يأت بأكثر من قوله إني لا أرى!
ومع ذلك أحب أن ألفت نظر مناظري إلى أصول الري عند الفلاح المصري ونظام معيشته ومسكنه الريفي وجلبابه الأزرق وعاداته وتواكله وانصرافه عن كل شيء لقطعة الأرض التي يزرعها، الشيء الذي لم يتغير في مصر منذ سبعة آلاف سنة مما يتضح للباحث من ابسط مقارنة بين فلاح اليوم في مصر الحديثة وفلاح الأمس البعيد في مصر الفرعونية،(259/25)
الشيء الذي يثبت أن الثقافة التقليدية تقوم على أساس من الفرعونية من ناحيتها المعاشية؛ وإذ قلت الفرعونية فإنما أعني أن وحدة الحياة المعاشية تتماشى في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني.
إذا صحّ هذا، فكأن الثقافة التقليدية لمصر من ناحيتها المعاشية فرعونية، أما من ناحيتها العقلية فهي فرعونية تكيفت تبعاً لها الثقافة العربية تكيفاً يتلاءم وما تحتاج إليه الثقافة الفرعونية في عهد الحكم الروماني من ملابسات لتجاري فن الحياة في ذلك العصر. ومن هنا قامت أو قل استمدت اللغة العربية في مصر قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر، فكانت اللغة العامية في مصر، وهي في الحقيقة الفرعونية الآخذة بأسباب التعرّب، ثم كان الدين الإسلامي ومنطق التفكير مما يتكافأ الطبيعة المصرية الفرعونية، وهذا ما يثبته دخول الكثير من عادات وتقاليد المصريين في تضاعيف العقيدة الدينية. يقول الدكتور سليم حسن بك عالم الآثار المعروف:
(إن كل ما كان يحرزه المصري القديم من عادات وفن ودين إلى عصر الفتح الإسلامي قد سلمه برمته إلى مصر الإسلامية، اللهم إلاّ اللغة والدين - على أن الأولى بقيت على قيد الحياة وأثرت في اللغة العربية في مصر إلى أن اندثرت في القرن السابع عشر وأقصد بذلك اللغة القبطية. أما الدين المصري القديم فقد ظهر عله الدين المسيحي ثم الإسلامي لفظا وشكلاً. والواقع أن معظم الطقوس الدينية في مصر الحديثة ترجع في أصلها إلى مصر القديمة وهي تعد في الدين الإسلامي بدعاً) وأنت ترى أن الأخصائيين في مصر الفرعونية يحكمون لنا في قضيتنا أن ثقافة مصر العقلية التقليدية فرعونية الأصل تكيفت تبعاً للثقافة التقليدية العربية تكيفاً يتلاءم وما تحتاج إليه الثقافة الفرعونية من ملابسات لتجاري فن الحياة في عصر الفتح الإسلامي
وهذه الثقافة التقليدية التي تتماثل صورها في سريرة كل مصري هي قرارة الذهنية المصرية. ولا يمكن أن تتقطع أوصال هذه العقلية من حيث هي تنزل عند حكم فطرة الشعب ما لم يهتز لذلك المجتمع المصري هزَّا عنيفاً ويدلف إلى حياة جديدة تتقطع معها أحكام البيئة والمحيط التي احتضنت ثقافة مصر التقليدية نتيجة لتكافئها معها. وما دامت لم تفز مصر بثقافة جديدة تهز المجتمع المصري في صميمه، فليس هنالك سبيل لتقطع ثقافة(259/26)
مصر التقليدية.
إذن فلنصرف الكلام عن ذلك ولنبحث في هل هنالك من سبيل لتلقيح الثقافة التقليدية لمصر بعناصر أجنبية تبعث فيها النشاط وتدفعها لآفاق جديدة تتفق وحالات هذا العصر. وإذن يكون موضوع الخلاف الأساسي بيني وبين مناظري: هل من الخير لمصر أن تلقح ثقافتها التقليدية بعناصر من الثقافة الغربية لتساير مجرى الحياة، أم تمضي في أخذها عن الثقافة الشرقية؟
هذا هو موضوع الخلاف بين الشرق والغرب بالنسبة لمصر، وإذا قلت مصر، فإنما أعني مصر وحدها، لأن لمصر ثقافتها التقليدية التي تباين ثقافة السوريين التقليدية أو ثقافة اللبنانيين التقليدية، وما ينجح لمصر قد لا ينجح لغيرها
أما وقد وصلنا من البحث إلى هذا الحدّ، فلننظر قليلا في بحث معنى الثقافة، لأني أتبين خلافاً خطيراً بيني وبين مناظري في مفهوم الثقافة والعلم
وإني لأشعر قبل أن أدلف إلى أغوار البحث بخطورة ما سأدلي به، ذلك لأني أجد التفرقة بين العلم الوضعي والثقافة اعتبارياً. وإن كانت صيغة العلم موضوعية وصيغة الثقافة تتسم بطباع الذاتية. ذلك لأنه لا يمكن في عالمنا الحاضر التفرقة بين الثقافة والعلم، لأن الأولى نتيجة للثاني، وليس ذلك نتيجة لاغترار ذهني، وإنما نتيجة للنظر في مجتمعنا الراهن حيث يَسُود العلم الوضعي كل شيء، وينزل المنطق العلمي البحت أساساً لكل شيء. فان الحضارة الراهنة. . . الآلية بصورها المادية نتيجة لاستخدام المنطق العلمي في استغلال الطبيعة لصالح الإنسان، وكانت نتيجة استخدام المنطق العلمي أن نشأت حضارة تغلبها النزعة المادية تنزل منها ثقافتنا العصرية منزلة التاج، ولا يمكن لمجتمع أن يأخذ من العلم الوضعي نتائجه فيستخدمها دون أن يأخذ منطقه الذي يؤدي إلى هذه النتائج إلا ويكون عالة على الإنسانية. وارفع مثال ذلك اليابان التي ضربت بها مثلاً على أن أمة من الأمم لا تأخذ بالثقافة الغربية إلا وتنهض، فان اليابان ما نهضت إلا بأخذ الآلة والآلة فقط، ولذلك كان نهوضها آلياً لأنها لم تأخذ منطق التفكير الأوربي نتيجة لاحتفاظها بشرقيتها ومنطق تفكيرها التقليدي. وهذه حقيقة كبرى كما يقول مناظري، ولكن تقوم برهاناً على صحة كلامي، فاليابان اليوم عائشة عالة على أوربا وعلم أوربا، لأنها لم تأخذ علم أوربا ومنطق(259/27)
تفكير أوربا، فكان نجاحها وقفاً على الآلة التي استعبدت أهلها فعاشوا ثمانين مليوناً من البشر في مرتبة أحط من السوائم والحيوانات إذ لم يرتفعوا إلى مرتبة الشعور بالحياة الإنسانية وكرامتها والنضال من أجلها كما هو الحال في أوربا حيث يعمل العامل للتحرير من استعباد الآلة
أظن أني خرجت عن الموضوع
إن ثقافة اليوم من حيث أنها تتبع العلم لا يمكن تخليصها من آثار العلم، والثقافة الأدبية يغزوها اليوم العلم بمنهجه الصارم ومنطقه، فمن الخطأ أن نفرق بين الثقافة من حيث أنها نتيجة معاشية وأسلوب في الحياة وبين العلم ومنطقه وهي أداة اليوم للعيش والحياة
إن الفرق بين الشرق والغرب ينحصر في هذا وحده: الغرب يقيم الحياة على أساس إنساني ويترك للعلم أن ينظم الصلات الإنسانية بين البشر؛ والشرق يقيم الحياة على أساس غيبي ويترك للغيبيات تنظيم الصلات بين البشر. الغرب يقيم حياته على أساس من التفكير في إيجاد التكافؤ بين حاجاته ومحيطه مستخدماً في ذلك العلم؛ والشرق يقيم حياته على أساس من التواكل. ولهذا لما أخذت اليابان الآلة لم تعمل على إيجاد التكافؤ بين الحياة الجديدة التي دلف إليها اليابانيون وبين حاجات هذه الحياة الجديدة، لأن التواكل هنالك يقوم مقام العمل والتفكير، فكانت نتيجة ذلك أن استعبدت الآلة أهل اليابان
لا أرغب في التوسع أكثر من هذا في هذا الموضوع الآن
في ضوء ما قدمت يفهم معنى عبارتي: (للشرق روحه الذي يستوحيه أبناؤه نزولاً على فطرتهم، وللغرب منطقه الذي يستنير به أفراده نزولاً على وحي مشاعرهم)، تلك العبارة التي جعلت مناظري يستغرب مقالي لأن فيه حصراً للمنطق في الغرب. وفي الواقع ما هو حصر للمنطق فيهم، ولكن شاء الشرقيون أن يحصروه فيهم متبعة لدعوات خطيرة مثل التي يقوم بها اليوم الأستاذ فليكس فارس!
المنطق مشاع بين الأمم، ولكن يجب أن تمرن الأمم عليه قبل أن تصبح متغلغلة في تفكيرها، إذ ليس المنطق أسلوباً في التفكير يتبع وأقيسة يجري عليها، إنما هي قبل هذا كله ميل عقلي واتجاه ذهني يمكن أن يكتسب
أما قول مناظري (وما اخترع الغرب المنطق ولا هو أوجد التفكير العلمي) فذلك مجانب(259/28)
للحقائق المعروفة في التاريخ من أن الإغريق هم أول من عرفوا المنطق وأوجدوا التفكير العلمي وعنهم أخذ العالم المنطق. ولا أظن أن هذا موضع نقاش، وإنما يظهر أن الروح الشعرية تغلب مناظري فتجعله يتناسى كل حقائق العالم!
أقف عند هذا الحد في هذا المقال في دفع اعتراضات مناظري الأستاذ فليكس فارس، ولنا في المقال الثاني عودة لموضوع الثقافة والعلم وثقافة العرب وثقافة الغرب
وأنتهز هذه الفرصة لأدعو أنصار الثقافة الغربية للكتابة في موضوع الأخذ بثقافة الغرب لهذا الشرق النائم، وفي مقدمة هؤلاء أدعو صديقي الدكتور حسين فوزي صاحب (سندباد عصري) أن يبدي آراءه بصراحة في الموضوع، ولعل في هذا النقاش يكون الحد الفاصل بين القول بالشرق والغرب!
إسماعيل أحمد أدهم(259/29)
صحيفة أدب وأخلاق
عطفة القاياتي
للأستاذ حسن القاياتي
بقية ما نشر في العدد الماضي
إنا ليملكنا الزهو باطلا بالكمالي البحت من ابتناء الضخم وإصلاح الطرقات ولا نعمل على الحاجى الحتم من ابتناء النشء وإصلاح العقول، ولولا النبل في بناة الأهرام لما فخرنا بالأهرام
يبني الرجالَ وغيره يبني القرى ... شتان بين قرى وبين رجال
ما أبين الرياء الخلقي والاجتماعي فينا! هذه حالنا من القذر الجسماني والمنزلي والشعبي لا ما تسمع أيها القارئ، بل ما تشهد وما تلمس لا ما تحدث. وقد حدثني ناظر أولي أن طبيب مدرسته رأى إحدى النافذات في المدرسة بدون أسلاكها الدقيقة فغضب لصحة التلاميذ غضبة كادت تعطل الدراسة لولا توسل صاحب المدرسة إليه واستخذاؤه
إنا لأمة لا قوام لأمرنا ولا اعتدال، فينا ينبت نشؤُنا على المذابل وشواطئ المستنقعات، ولا يقنعنا الصلف أن يدرس هذا النشء إلا في الروضات والجنات!
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدد دون العالمين أو القبر
أما وقد أجرت كلمتنا حديث الحمامات القديمة فطالما عرفتنا وعرفناها كما عرف العصريون حماماتهم وعرفتهم. دخلنا نحن حماماتنا قديماً وآنفاً ودخل العصريون حماماتهم، وتجردنا لها داخلين وتجردوا داخلين إليها وخارجين، ودخلناها جنساً واحداً ودخلوها ومعهم الجنس اللطيف، فان تصعَّد في حمامنا نَفَس أو ندِىَ جبين فإنما يتصعد النفس أو يندي الجبين في الحمامات العصرية من بعض ما تجد أصحابنا من حرقة على الحسن المتجرد السليب أو غضاضة على الحسن
ما أفتن الحمامات في مصر، أندية ترفيه، ومجالي نعمة وغضارة! بل مبتعث حكمة آونة وعظة، يقبل عليها شيع متباينة من الناس حتى إذا نكَّرهم في صورهم التجرد من الثياب وهي مظهر الجلال الزائف، نكرهم في نفسياتهم وطبقاتهم فلا يستبين للناظر المتوسم فيهم(259/30)
أيهم السيد السريّ، وأيهم السوقي الزرى، ومن العالم الخطير والعامي الفَدْمٍ؟ فربما شهد رجلاً عليه مسحة من طراوة العيش وبضاضة المتجرَّد، وشهد آخر تعلوه طبقة من التقشف والشحوب وفقد التطرية والنضرة، فأقبل يحسب ذاك سيداً ضخماً من رجالات الشعب ويعتبر هذا رجلا من عرض الجماهير أي رجل هذا، حتى إذا أفضت بهم خاتمة المطاف إلى ملابسهم ورجع كل مستحم إلى ثيابه وحليته فشد ما يهول هذا المتوسم بل يملأ فمه ابتسامة من أمر صاحبيه أن أمثلهما في حكم نظره وتوسمه حوذي أو سائس بغل أو قرد، وأن ثانيهما الزَّرى عنده سيد نبيل من تقتدي بهم الأمم وتحاضر الملوك
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
أكبر اليقين لا الظن أن الله ينظر إلى خلقه كنظرتك إليهم في حمامهم مجردين من كل عظمتهم المصنوعة الساحرة، أنبلهم عنده أنبلهم نفساً لا ثوباً
أجل. إن الحمامات هذه خليقة بأن تُجدَّ لنا هذه الحكمة والعظمة:
إذا أنت وزنت الرجال وقدرتهم فانظر إليهم مجردين من كل مظاهرهم الخداعة كما تنظرهم في حمامهم، ثم ليكن قضاؤك على الألباب لا الثياب
ناهيك من الحمام بيت فخم أنيق يقطر بنضرة ورفاهية كما يقطر بماء وحرارة، ويتنفس بدفء وفتور ساحر معجب كأنه فتور الجفون كله حسن وطلاوة وتنهدات كتنهدات الصبابة بيد أنها برد وغبطة، ذلك إلى ما في سجيته من إرسال النفوس على السجية والتحلل ساعة من قيود الكلفة والتعمل الاجتماعي وخلع شيء من التوقر القائل في خلع الأثواب إلى ما فيه من سويّة في المكانة وأسوة بين الطبقات
بيد أن حمامنا القديم ربما تكشف عن هنات شائنة لو تجرد منها لكان نعيماً دنيوياً. وأناشدك الله أيها القارئ ماذا أنت قائل إلاَّ الشر في ذلك البخور الكريمة البغيض الذي يحرقونه أو يطلقونه كما يقولون ليطير الأرواح الخبيثة وقد شهد الله أنه من بغضه وكراهيته خليق بأن يطير الأرواح الطيبة قبل الخبيثة
ليس يَقَرُّ بعيني عصري متأنق صقلته الحاضرة أن يشهد في جنبات الحمام هذه الصراصر والحشرات سباحة حواليه تقذي بها عينه، ولا يطيب قلب هذا المتحضر أن يتولى نظافته(259/31)
وصقله شيخ متوقر أشمط اللحية فيمتهن جلال هذه السن أو يذكر به جده الأعلى فيغضي على استحياء
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
حدثني أزهري عصري النزعة حلو الفكاهة حار النادرة قال: دخلت الحمام فاستدعيت الخادم (صاحب الكيس) فأقبل عليّ شيخ أشيب دالف يحبو إلى التسعين ذكرت به جدي الأعلى، فلما دنا مني ليأخذ في مهنته جعلت أقطع النظر بينه وبين صورة في نفسي لأستاذي العالم في الأزهر أستاذ البلاغة، فإن عليه مسحة منه أبْيَنُها هذه اللحية المسترخية؛ ثم تقبلت خدمته على تكرُّه ومضض، وقد رمت رأسي بالإطراف وكسر الجفون ذكرى جدي الأعلى وتشابه شيخي الأكبر. قال محدثي الرقيق: لم أكد أتعرف حاجة للحمامات بخدمة هؤلاء الشيوخ الفانين خاصة وهذه اللحى المسترسلة حتى ابتدرت نظرة إلى ساحة الحمام فإذا الصراصر تمرح فيها فقلت: لقد علمت الآن: هذه المكانس لهذه الحشرات
ولحية يحملها مائق ... مثل الشراعين إذا أشرعا
لو غاص في البحر بها غوصة ... صاد بها حيتانه أجمعا
حُبَّبَ إلى راقصة فنانة بعيدة مسرى الصيت من معبودات الجماهير كما يقولون أن تزور حمامنا هذا فكان لها ما تشهَّت من تلك الزورة، فلما قضت منه كل حاجة خرجت إلى الطريق، وكان قد تسمع إلى خبر زورتها هذه فصائل من ولدان الحارة ونشئها الصغار يحبوا أكبرهم إلى العاشرة، فلم تكد الفنانة تبدو خارجة من الحمام حتى تلقوها بالتحية فاصطفوا فريقين، قطعة هنا وقطعة هناك، وقد احتملوا بأيديهم الشموع موقدة تزهر نهاراً يحتفلون للزائرة المفداة، وأقبلت هي بسامة الثغر مزهوة تخطر كخطراتها على المسرح بين صفي نور وإجلال
ولقد تقضي زمن بعيد من لدن هذه الذكرى وما يتقضى العجب منها، أتساءل: هل استخف الصبية لتحية هذه الفنانة نباهتها، إذن فليس العجب أن تسحرهم النباهة وقد سحرت آباءهم من قبل، إن النباهة لسحَّارة، وإن كانوا إنما احتفلوا لحسن في الراقصة وفن، فما أبدع أن ترف حتى القلوب الطفلة على الحسن والفن
ومشبه بالغصن قلبي ... لا يزال عليه طائر(259/32)
إن الحمامات قطعة من التاريخ القديم، إن تعهدها العصر بالتطرية والصقل كانت قطعة من النعيم:
وحمام دخلناه لأمر ... حكى صَقَراً وفيه المجرمونا
فيصطرخون فيه أخرجونا ... فان عدنا فإنا ظالمونا
هذا عهد للعطفة، ولقد تصرَّم قبله عهد كانت تشهد فيه حياة شيخ معهم من كُشَّاف الغيب طلائع المستقبل، شرَّق اسمه وغرَّب؛ وجاء الثناء على حذقة بالغيب من كل لغة ومنطق، يفضي إليه الناس كافة من شرقي وغربي، سيان في قصده حملة العمائم وحملة القبعات، أهل فينا عنده وباريس، كأهل أدفينا وسنتريس
كنا نشهد الباريسية المتحضرة الجامعية إلى جانب القروية المصرية داخلتين إلى الشيخ تستقرئانه رسالة المغيَّب فنقول: آمنا بالله! ما أشبه الناس بالناس! وما أقرب العلم من الجهل إذا تبرأ من العقل!
كان (السيد رمضان) صاحب ذلك البيت المتصدر نضر الله مثواه طليعة وعيناً على الغيوب والخفيات قلما تشهد في فصيلة الشيوخ والمعممين شيخاً مثله حلاوة شمائل ورقة هندام، ذلك إلى أنه كان قراره مزايا وملتقى خلال حسنه قلما تتهيأ لسيد غيره إلا بتوفيق من الله
كان السيد رمضان يحمل نفسا طروبا مرحة وأذنا موسيقية، صَناَع اللسان صَناَع اليد بالبيان العربي الساحر والتغني ونقر الأعواد والموسيقيات، كما هو صناع اللب بتكشيف المحجبات والخفايا، إذا جس أوتاره لمس بها القلوب، كما يلمس بأسراره الغيوب
فلما عبثن بأوتارهن ... قبيل التبلج أيقظنني
دعون هناك بأعوادهن ... فأصلحنهن وأفسدنني
شدَّ ما حفلت دار هذا المتجسس على الغيب في (ليالي حضراته) حتى فاضت بجمهرة ضخمة من العلية والسوقيين معا، وأمتها لأجلهم صفوة شائقة من نابغة المطربين في الشق كله. ناهيك منها (يوسف) و (عبده) و (عثمان) و (صالح العربي) وأين عهد صالح؟؟؟ فمن دون هؤلاء من المطربين إذ ليس فوقهم احد، ثم اختلف إليها معهم أسراب فاتنة من نبات الكناس وأسرى الحجال من كل مخبأة لعوب ميالة القد سحارة الطرف(259/33)
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... صِ ميزت من لؤلؤ مكنون
حشدت هذه الغانيات هناك حتى غصت بها نوافذ بيت الشيخ وشرفاته، وأقبل الذاكرون ومعهم المنشدون فذكروا كل شيء إلا الله ولم ينسوا النوافذ والشرفات
وكن متى أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرقعن الكُوى بالمحاجر
هنالك كل ما خيل إليك من غمزات الجفون وعمل الفتون.
بينا القوم على ذلك تكلمت الأوتار وتصعدت آهات المطربين الفتانة وتصعدت معها (أنفاس محترقة) من الحشيشة المباحة لذلك العهد فلم ينصرف القوم إلا بقلوب محترقة:
قالت حكمة عتيدة:
(لو أمكن الغيب من نفسه لاستبدل باسمه) أجل: لو أن الغيوب مما يستشف أو يقرأ لما استحقت أن تسمي غيوبا وإنما هي إذن شهود
لقد صبَّ الله على هذا الشيخ المتأنق في مشافهة المغَيّب قرويا حقيرا من صفوف النعال فطرَّى الطابع فطرى الروح واللُّب، فأخذ يقبل به في الخدعة ويدبر، فلم يعتصم ولا شافهه غيبه بدخيلة أمره مع هذا المتحُّيل عليه حتى استنزله هانئا قرير العين عن ثلاثمائة دينار مصري كاملة زعم أنه مشترٍ له بها عقارا في الريف إذا هو رجع إلى أهله، فذهب بها طليقا مُرفَّهاً إلى اليوم ولم يشتر لعلاّمة الغيب إلا العار والسوءة: فهل ترشد الأمة المخدوعة؟
إن العلم والعقل ينصرهما الدين لم ينيرا سبيلاً إلى الغيب فما أجدر الحاكمين بأن ينزلوا بالشعوذة فتكة صارعة تغسل معرة الاجتماع وتثلج صدر العلم والعقل
هذه التي نصف، عطفتنا (عطفة الألايلى) فيما تُسمي و (عطفة القاياتي) فيما نريد، ضنكة مظلمة نأوي إليها مشتهاة فاتنة للألّف كما يأوي النحل إلى بيته وخلاياه، ورُبّ مملول لا يستطاع فراقه
ولي وطن آليت ألاّ أبيعه ... وألاّ أرى غيري له الدهر مالكاً
وحبب أوطان الرجل إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو ... عهود الهوى فيها فحنوا لذلكا
شيئان من هذه الحارة مكروهان عندنا جدُّ بغيضين، ولا كتمان للحق، أول الشيئين الحارة(259/34)
نفسها، والثاني اسمها. أما الحارة فلسنا نملك تبديلاً لخلق الله فيها، وأما الاسم فهو لأسرة تركية عريقة كانت تقطن فيها ترحلت عنها قديماً فما يمتضغ اسمها أحد اليوم ولا يختلج به صدرٌ ولا فمٌ حتى لتحسب كلمة (الألايلي) هذه اللغز الذي لا يحل
من أجل ذلك مشى الحي إلى ولاة الأمر بمقترح شهي لديهم أن يأذنوا في تسمية (عطفة الألايلي)، (عطفة القاياتي) أنساً بجيرانهم المعاصرين لهم واستئناساً بأن ذكر بيت القاياتي قد صاحب التاريخ في مصر فترة وامتضغ اسمه من قبل أيام كان جدهم الأعلى (شمس الدين القاياتي) قاضي القضاة بمصر ينزل في هذه الأحياء في سنة خمسة وثمانين وسبعمائة هجرية
مشي الحي بهذا المقترح المرجوّ إلى من يملك الأمر فلم يؤذون له أن يسمع ولا حظي عنده، والحاكم الله
إن كان ولاة الأمر قد اصطفوا (عطفة الألايلي) لأنهم يُغْلون بقدرها ويحتجزونها لتوسم (بعطفة الحرّية) أو (عطفة الاستقلال) ليوسم بها عهد الاستقلال والحرية فهنيئاً لنا بالحرية والاستقلال ويا برد هذا على الكبد، وإن لم يكن بهم إلا الضن علينا وحده فليعلموا أن سنة من يكتبون إلينا ويتحدثون عنا قد مضت بأن يكتبوا إلينا (عطفة القاياتي) ويقولوها، وألسنة الخلق أقلام الحق، فلن يكون إلا ما نريد، ولن يكون الاسم الذي يحمله صدر العطفة وهو (عطفة الألايلي) إلاّ كذبا رسمياً كالدم على قميص يوسف، ولن تكون عطفتنا إلا (عطفة القاياتي)
حسن القاياتي(259/35)
بين الرافعي والعقاد
العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 8 -
لم يعجب الأستاذ (إسماعيل مظهر) ما نكتبه تحت هذا العنوان. ونحن ناسف أن لم ننل إعجابه أو رضاءه؛ ولكن يعزينا عن هذا الفقدان أنه يعجبنا نحن ويرضينا - مع الأسف كذلك!
يقول الأستاذ:
(أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره، احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول الشيء لمذهب بين في الأدب، يعتنقه الكاتب المنتصر له)
هكذا يقول الأستاذ، أما نحن فنقول:
(إن الذي لا نفهمه، ولا نستطيع أن نفهمه يوماً من الأيام فأن يكون رجل كالأستاذ إسماعيل مظهر، أو أقل منه درجات، يقرأ ما كتبناه، ثم لا يتبين منه أننا ننقد مذهباً معيناً في الأدب ونعتنق مذهباً بيَّناً منه كذلك، وأن الكاتب الذي ننتصر له، يمثل مذهباً بيَّناً يدعوا إليه منذ خمس وعشرين سنة، وما يزال يشرحه ويقرره، ويعود إليه في نثره وشعره كله، وأننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، واشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)
ويتحدث الأستاذ عن الشذوذ في نصرة كاتب على كاتب، فإن شاء أن يعرف الشذوذ حقاً، فنحن محدثوه عنه:
إنه يا سيدي في تقديم هذه السوأة الأدبية الخلقية الإنسانية المسماة (على السفود)، في تقديمها ذاته، وفي طريقة تقديمها، وفي نشرها، دون تأذ ولا تأثم، ولا خشية على آداب الحديث في الأمة، ولا آداب الطريق (ودعك من آداب النقد) ودون رحمة بأسماع الناس وأبصارهم وآنافهم!(259/36)
وإذا شاء الأستاذ أن يعرف نوع هذا الشذوذ، فليعلم أن هذه السوأة التي كشف عنها من قدَّمها للناس، لم يستطيع أشد تلاميذ الرافعي إخلاصاً له أن يبلعها، ولقد حاول أن ينحيها - في خفة - عن أعين النظارة، وهو يزن حسنات الرافعي، ويزعم وزن سيئاته، حتى لا تهبط هذه السوأة بالكفة إلى الحضيض لو هي لامست الميزان. وكان هذا عدالة منه من هذه (العدالات) الفريدة التي يتشح بعض الناس بوشاحها
فالأستاذ سعيد العريان يقول: (من قرأ (على السفود) فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان ينزله من نفسه. . . الخ)
وإذا قال الأستاذ سعيد مثل هذا، وهو يدغم الكلام، ويدحرجه ليبعد بهذه السوأة عن الأنظار، فالذين لم يصابوا بعد بداء العدالة التاريخية يستطيعون أن يعرفوا مقدار شنعتها
ولولا أنني أكرم أسماع القراء وآدابهم وإنسانيتهم من التدهور أو التأذي والتأفف، لنقلت لهم شيئاً من (على السفود) الذي لا يعتبر تقديمه ونشره وترويجه شذوذا، ولا مناصرة لأديب على أديب، ولا تدخلاً في الشخصيات، وإنما يعتبر نصرة لمذهب بيّن على مذهب بيّن في الآداب والآراء!
أما قصة الموت والموتى، فقد أسلفت الحديث عنها في الكلمة الفائتة، وبهذه المناسبة أقول للزميل الودود الأستاذ سعيد: إن زميله سيد قطب ليس هو الذي يمزق الأكفان بالأظفار، والذي يمزق بظفره، مخلوق آخر، أكرم آدابي وآداب الناس أن أقول: إن الأستاذ أو أحد زملائه من فصيلته! خشية أن نتدهور خطوة أو خطوتين بعدها فيصبح من النقاش (الأدبي) المعترف به، أن يقول الواحد للآخر: (يا ابن الـ. . .) ويكون هذا من أساليب النقاد!
بقي الرجل (الذي له عمل يملأ يومه ونهج يدبر حياته). وقد أكرمته وأكرمت (دمشق عن مناقشة قوله فأبى، وما زلت على رأيي الأول.
ولكني أرى من حق سوريا الشقيقة عليّ، وأنا ممن يحفلون بالدعوة إلى الرابطة الشرقية، أن أنفي عن (دمشق) وأهلها، ما قد يتبادر إلى نفوس المصريين من تقدير لها ولأهلها على أساس كلمات الأستاذ.
فليس كل من في (دمشق) يجهل الأدب والأدباء في مصر، ولا يطلع على كل الصحف الراقية هنا، حتى يكون ممن لم يروا (سيد قطب) إلا للوهلة الأولى. ولعل للأستاذ عذرا من(259/37)
(عمله الذي يمل يومه ونهجه الذي يدير حياته)
وليس كل من في (دمشق) يقرأ لكاتب معين (فيقبل كل ما جاد به) هكذا بدون تروً ولا تفكير ولا رأى خاص. ولا يقرأ لكاتب معين، فإذا ما قرأه (لم يعلم لآرائه من القيمة والخطر ما يدفعه إلى مناقشتها) مع أنها بين يديه، وتحت سمعة وبصره
وأنا أعرف من معارفي وأصدقائي السوريين، من لهم فكرة ورأي ومن لهم شخصية مستقلة، فليطمئن المصريون على عقيدتهم في جيرتهم!
وليس أدل من صواب رأي بادئ ذي بدء في ترك مناقشة هذا الأستاذ من ظنه أنه متى جاء لي ببيت لشوقي على مثال تشبيه الرافعي الذي انتقدته، فقد انتهى القول، وبطل الجدال!
لا. يا أخانا. يقول ألف رافعي، وألف شوقي، وبقي بعد ذلك مجال للنقد والتعليق والكلام. . .!
وقد فهمت من كلامه أن (عمله) الذي يملأ يومه، ونهجه الذي يدير حياته، والذي يمنعه - وهو معذور - من متابعة خطوات الأدب والأدباء في مصر، وربما في دمشق، هو التدريس بالمدارس
فأنا - في إخلاص - أقول لحضرته إنه يؤدي مهمة جليلة يجدر به الاقتصار عليها، فليس من الضروري أن يكون كل إنسان أدبياً وناقداً، والمدرس عاطلاً ولا فارغاً ولا صاحب مهمة نافلة يتركها لسواها
فأما إذا لم يسمع هذه النصيحة، وأصر على الاشتغال بالأدب فله ذاك ما دام القانون لا ينص على شروط معينة فيمن يشتغلون بالآداب. . .!
وبعد فقد هممت أن أعاهد القراء على ألا أشغلهم بالالتفات إلى هذا الناس، بعد ما أصبحت يائساً أشد من فهمهم لما أقول، أو استعدادهم لمتابعة المدرسة العقادية في خطواتها. لولا أنني أعتقد أن للرسالة قراء آخرين غير الرافعيين، فلهؤلاء القراء أكتب؛ ولولا أنني أضطر تأدباً أن أرد على يوجه إليَّ الخطاب مهما كان شأن ما يقول
ولكن هذه في الحق خطة متعبة، وتأدب يكلف جهداً ومشقة؛ وأغلب الظن أنني سأعدل عنه، وسأسرع في استعراض البرنامج الذي وضعته للبحث منذ المقال الأول، وقصدي منه(259/38)
إبراز صورتين متقابلتين للمدرسة العقادية والمدرسة الرافعية، في فهم الأدب وفهم الحياة
ولولا أنني اعتدت أن أضع الخطة وأنفذها، دون اعتداد بما يجد في الطريق، لآثرت الوقوف عند هذا الحد، فقد فهم من لديه استعداد للفهم، وبقي ناس لا حيلة في تبديل طبائعهم وخلق نفوسهم وأذواقهم من جديد
والآن إلى تتمة الحديث:
يعني العقاد - إمام المدرسة الحديثة - بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهبية، ويعني بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة
ولا يعني هذا أن الأسلوب الفخم والتعبير الجيد بعيدان عن شعر العقاد. ولهذا مبحث خاص، سأفرد له كلمة، ربما كانت الأخيرة
يؤم المسجد يوم الجمعة للصلاة حشد حاشد، كلهم مصل، وكلهم خارج من المسجد بعد الصلاة، ويمر هذا المنظر على الشعراء والأدباء في مصر وغير مصر، ويتكرر الأسبوع تلو الأسبوع. ولكن العقاد وحده هو الذي يلتفت التفات الفنان المثقف ثقافة نفسية واجتماعية، إلى ما يجول في خواطر هؤلاء المصلين، وما تهتف به نوازعهم فتكتمه عقولهم الواعية، وما يسرب في ضمائر أو يغشاها. ذلك أنه يروي فيتخيل، ويلاحظ فينفذ، ويحس فيحلل؛ ثم هو بعد هذا وذاك يمثل ويجسم خفايا النفوس الإنسانية، ويعرض نماذجها المختلفة في معرضه الفني الحافل بصورة النفوس
بعد صلاة الجمعة
على الوجوه سيمة القلوب ... فانظر إلى المسجد من قريب
وقف لديه وقفة اللبيب ... في ظهر يوم الجمعة المحبوب
إنك في حشد هنا عجيب
هذا الذي يمشي. ألا تراه ... كأنما قد حملت يداه
سفتجة صاحبها الإله؟ ... ذاك هو الدين. وقد وفاه
فليس للدائن بالمطلوب!(259/39)
وذلك المبتسم الرصين ... كأنه بسره ضنين
أصغَى إليه سامع أمين ... فهو إذا صلى كمن يكون
في خلوة النجوى مع الحبيب!
وانظر إلى صاحبنا المختال ... في حلة ضافية الأذيال
أكان في حضرة ذي الجلال ... أم كان في عرض أو احتفال
يزهى على المحروم والسليب!
وكم مصل خافت الدعاء ... كأنما نصّ إلى السماء
رسالةً في عالم الخفاء ... فلا يني يبدو لعين الرائي
كالمترجي أوبة المكتوب!
ورب شيخ من ذوي الخلاق ... فرحان بالجمع وبالتلاقي
كأنه التلميذ في انطلاق ... بين تلاميذ له رفاق
عادوا إليه عودة الغريب
هذه هي الصورة الباطنة لتلك السحن الظاهرة، وليس فيها مالا نعرفه الآن، في مشاهد الصلاة، بعد أن أشار إليها العقاد. وهذه ميزة الشاعر ذي (النفس) الذي يلمح ما في النفوس، فيطلعنا على ما كان بين أيدينا غائباً عنا من صور الحياة وأنماطها، لأنه يجلوه في مرآة نفسه الخاصة
ثم يمضي بعد هذا الاستعراض، يطرق الفلسفة العامة، في دعابة وفسحة في النفس، تتلقى هؤلاء الأحياء المختلفي المطامع والأهواء تلقي الوالد العطوف لأبنائه، وهم يختلفون منازع واتجاهات، وهو يبسم ابتسامة التهكم الرفيق
تجمعوا في بيته تعالى ... وافترقوا في جمعهم أحوالا
وهل نسوا في أرضه النزالا ... فيحتويهم بيته أمثالا
على اختلاف السمت والنصيب!
لعلهم صلوا له ارتجالا ... فاختلفوا ما بينهم سؤالا
فلو أجاب السائلين حالا ... صب على رءوسهم وبالا
وألحق المخطئ بالمصيب(259/40)
هذه قطعة واحدة من (عابر سبيل) يبعثها مشهد مألوف للجميع. وهو (على قارعة الطريق) ولكن المارة لا بد لهم من عين وذهن ونفس لتراه ثم تدركه، ثم تتغلغل فيه. وأنت خليق أن تجد عند العقاد كثيراً من هذا النوع ولا سيما في (عابر سبيل)
وللعقاد عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس منشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، و (طبع) أصيل، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر. ومن هذا النحو قوله عن (عدل الموازين) و (جلال الموت) وقد استعرضتهما آنفاً ومنه:
من ساء بالناس ظناً دون ما ألم ... أحق عندي بسوء الظن والتهم
أسيء ظنونك لكي مكرها أبدا ... كمن يظن ببعض الآل والحرم
هذه قوله رجل (إنساني) تزخر نفسه بالعطف وتفيض بالثقة، فينكر فلسفة سوء الظن ارتجالاً وتطوعاً، فسوء الظن عنده بالإنسانية أمر مكروه لا يقدم عليه الإنسان وله منفذ إلى رجاء فيها، كمن يظن ببعض الآل والحرم، بعد ألا يجد بداً يجد بداً من الظنون، وبعد أن ينفد معين الثقة والتعاطف والتنزيه الفطري للآل والحرم. . . ويقول:
إذا ما تبينت العبوسة في امرئ ... فلا تلحَهُ واسأل سؤال حكيم
أجل سلة قبل اللوم فيم انقباُضه ... وفيم رمى الدنيا بطرفِ كظيم
لعل طلابَ الخير سرُّ انقباضه ... وعلة حزن في الفؤاد مقيم
فما تحمد العينان كل بشاشة ... ولا كل وجه عابس بذميم
قطوب كريم خاب في الناس سعيه ... أحب من البشري بفوز لئيم
وهذه قوله رجل، معنَّيٍ بالغايات النفسية، لا بالمظاهر البادية على الوجوه ورجل يعدل (عدل الأناسي لا عدل الموازين) في الحكم على قيمة العبوسة والبشاشة في الجبين. ورجل عطوف يتقصى أسرار النفوس ويقدر أحوالها، ويوسع صدره لبدواتها ولا يتسرع في سوء الظن بها، وبذلك ينفذ وصيته السالفة.
ويقول:
لا تقل: فاجر وبرٌّ. ولكن ... قل: هو الصديق والمراء صنوف(259/41)
رُبَّ حق فيه نفيس ومرذو ... ل، وميْن يرجى وميْن يخيف
إنما الفاضل الذي فضله في الخي ... ر والشر فاضل وشريف
وهذه أبيات لا تكتفي بتصحيح مبدأ في الأخلاق، بل هي تخلق مبدأ. ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نشرح هذا المذهب ونناقشه، ونوازنه بمذاهب الأخلاق، وتعريف الحسن والقبيح، وبيان أسباب هذا الحكم، الخ، فنكتفي بشرحها في اختصار:
ليست عناوين الأخلاق المتواضع عليها هي الحكم الفصل في تقدير قيمة هذه الأخلاق، فالصدق مثلا لا يعني أن كل ما ينطوي تحته، فاضل وشريف، والكذب لا يعني أن كل ما ينطوي تحته مرذول وخسيس، ومثلهما بقية عناوين الفضائل المتعارفة. إنما مناط الحكم على الصدق وعلى الكذب، أمر آخر غير عنوانهما. ففي الصدق ما هو شريف ومرذول، وفي الكذب كذلك ما يكون هذا أو ذاك؛ وفي سواهما مثلهما
وكم من كذبه عظيمة ألقاها مصلح، أوفاه بها بطل، أو زخرفها فنان، هي اشرف وأعظم، من (صِدقة) حقيرة، ألقاها جاسوس، أوفاه بها مجرم، أو طرحها مطموس لا يبغي بها قصداً
وكم من (بوهيمية) عاش في ظلها فنان تمده بالخصوبة والإلهام، هي أشرف من استقامة عاش في ظلها جلف يقنع بها عن ضعف، أو انطماس بصيرة، أو فتور حيوية
وعلى أية حال فتلك نظرية تمر هكذا في ثلاثة أبيات، بين الركود العقلي والنفس في مصر، ولو وجدت حياة زاخرة لكانت موضوع جدل ومناقشة، ومثار انقلاب في مبادئ الأخلاق. ولكننا في مصر حيث الركود والاستهتار
والذي يهمنا منها الآن، هو دلالتها على طبيعة العقاد، التي لا تحفل الظواهر والأشكال، إنما يهمها تقدير العامل النفسي الباطن في الأعمال والأقوال
ومثل هذه الخطوات هي الخطوات التي يسميها بعض ذوي النفوس الضيقة، والأحاسيس الضامرة، فلسفة لا شعراً. ويعنون أنها صور عقلية عمل فيها الفكر وحده وقد اتضح من شرحنا لها، أنها تقوم على العامل (النفسي) أول ما تقوم، وأن الطبع الحي البصير هو الذي يوحي بها
وكل ما ينقض هذه الخطرات لتكون من العاطفة في الصميم، أن صاحبها لا يضع لها لافتة (يافطة) مكتوب عليها: (هنا شعر عاطفي)!(259/42)
أما أصحاب النفوس، فيحسون ويقدمون: أي نفس تلك التي تلتفت مثل هذه اللفتات، واي عاطفة عميقة في ثنايا هذه الأبيات
(حلوان)
سيد قطب(259/43)
بين الرافعي والعقاد
في منطق التحليل
للأستاذ عبد الجليل محمد المحجوب
يريد الأستاذ (سيد قطب) أن يثير معركة تكون فاتحة لإظهار أدبه (النفسي)، وترويجاً له بين الشباب الحديثين. ولا يمنعه الحذر أن يعلن هاته الظاهر خشية الاستخفاف وضياع الأمل. وهو - كما يبدو من تحليل مقاله - رجل خضوع لنفسه، سهل الانقياد لعصبية القديمة؛ تؤثر فيه العلاقات الشخصية أكثر من علاقات الحقيقة بالعقل، والإيمان بالقلب؛ وبشريته العظامية تقوده للتقرب مما يدفعه إليه شعوره، وعاطفته المتمردة. ويقول إن له أدباً وشعراً، وملكه نقد وقادة تجعله يثور على كل من يتطاول إليه، أو يحاول أن يمس عبقريته بخطأ شائن، كما ثار العقاد على الرافعي ومخلوف إجابة لعلوّ النفس، وحفظاً لها من النزول إلى عقلية السوقة. ويعيب على الناقدين - دون نفسه - جهلهم بطبيعة الكاتب، وقساوتهم في الحكم قبل اتصالهم به واكتناه بواعثه!
ثم يذكر أنه كان (يكره نفسه على مطالعة الرافعي) لأنه عندما قرأ (حديث القمر) أحس بالبغضاء له! ويكذَّب الأستاذ سعيداً في تسمية ما كتبه العقاد في رده شتماً وسباً للرافعي. وفي تسمية ما كتبه عن (مخلوف) سباباً وشتائم) ويقول بعدئذ - في غير تحفظ - (إذا كتب (يعني العقاد) عن (مخلوف) يتهكم به، ويشنع بسوء فهمه للأدب، فمبعث ذلك عظم الفرق بين طاقة العقاد وطاقة مخلوف، والحنق على أن يكون مثل هذا ناقداً لمثل ذاك. . .
(والحق أن هذا مما تضيق به الصدور الخ. . .)
وحديث مثل هذا يفسر، بكل صدق، بأن حضرة الأستاذ سيد ليس له مبدأ في الجدال وأنه يتلاعب بالحقيقة، فطوراً ينفيها ويكفر بها، وطوراً يتوب ويتعذر!
وفي فقرة أخرى يأخذ على الأستاذ سعيد (تعرضه) بلقب (أمير الشعراء) الذي ينحله الدكتور طه حسين للعقاد (تملقاً) للشعب ونزولاً على هواه، ويرى أن هذا (اللقب) دون منزلة العقاد لأن (المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء)
وهذا - لو كان للأستاذ شيء من المنطق - يحط من منزله العقاد إلى حدّ هائل، إذ كيف(259/44)
وهو هو في علوه ورفعته لم ترض بإمارته سوقة؟!!
كما أنه يحمل على الأستاذ سعيد أيضاً فيما كتبه عن العقاد لأنه (يجهل طبيعة العقاد ودوافعه في الحياة وعوامل الكتابة في نفسه) ويلتمس له العذر في ذلك لأنه (لم يختلط بالعقاد أولاً. ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فيفهمه ثانياً) ويسمح هو لنفسه أن يكتب عن الرافعي ما يشاء وهو كما يعترف لا يعلم عن حياته شيئاً ولا يشعر في قراءته له غير الكراهية والنفور!. .
وأعجب من هذا أنه كان (ينكر) أن تكون للرافعي (إنسانية) و (نفس) ولكنه لما رأى الأستاذ سعيد يتحدث عن (حبه) و (عاطفته)، وحين استطاع أن يكون ناقداً أصبح ينكر عليه (الطبع) بدل (الإنسانية) ويريد منه (الأدب النفسي) بدل (الأدب الفني). وفي هذا تناقض وسقم في الإدراك. تناقض لأن في (الأدب النفسي): الأدب الفني، وفي أدب الذهن: (أدب الطبع). وليس من يشك في أن الفن صورة لشعور النفس، والطبع صورة لذهن الإنسان.
ولعل حضرة الأستاذ سيد يذكر تجربة العالم الذي أعلن هذه الحقيقة بكيفية مضحكة: فاستدعي خمسة وعشرين رساماً، ورجا من كل واحد أن يصور له حماراً. وبعد الانتهاء لم يجد صورتين متماثلتين تماماً: فكل واحد صوره كما أوحاه إليه شعوره النفساني، فهذا رسمه أبله. وذاك رسمه صبوراً. والآخر رسمه وديعاً. الخ. وكانت البراعة الفنية مترجمة عن خطرات النفس، واحساساتها. ثم استدعى خمسة وعشرين كاتباً ورجا منهم أن يكتبوا عن الحمار أيضاً فكانت النتيجة كالأولى. وساعتئذ قرر أن الفن صورة لإحساس النفس، وهما متلازمان تلازم العرض للجوهر. فما دام للإنسان (فن) فلا بد أن تكون له (نفس)
وأما (الطيع) فهو خاصة من خصائص الذهن، لأن الطبيعة أول ما تنشأ عن العقل، وفي أرضه تنبت وتمد عروقها، وللعالم النفساني مائة وخمس وعشرون تجربة تؤيد هذا الاكتشاف، منها: أنه وضع شيئاً من الحلوى في مكان مرتفع، وجاء بطفل صغير، وأغراه ليتناولها، فجعل الطفل تارة يمد يديه، وطوراً يقفز وأخرى ينظر إليها في صمت وسكون. ثم اهتدى إلى كرسي كان إلى جانبه، وتمكن منها. فصار كل يوم يضع قطعة أخرى من الحلوى، والطفل يتناولها بالوسيلة المتقدمة بدون أدنى تفكير. ثم كان ذاك مرة كل أسبوع،(259/45)
ثم كل أسبوعين، ثم كل شهر. حتى كبر الطفل وأصبح يستطيع أن يتناول قطعة الحلوى بدون مساعد. ولكنه ظل على طبيعته المعتادة يستعين بالكرسي.
وبعد حين أقصى عنه الكرسي. . فضحك الطفل ومد يده وتناولها. واستمرَّ على وضع قطع أخرى، في أمكنة مختلفة، واستمرَّ الطفل على تناولها بيده. ثم أبعدها عنه حتى صار لا يستطيع أن يمسها بيده. وحينئذ فكر الطفل وأوحي إليه ذهنه أن يستعين بها. . . وهكذا بقي خمسين شهراً يكرر التجربة نفسها. وفي المرة الأخيرة أحضر جمعاً من علماء النفس والتربية وعلق قطعة من الحلوى في سلك مرتفع بحيث لا يقدر الطفل أن يتناولها. . . وعندما أمره بأخذها، شرع يستعمل جميع الوسائل التي اعتادها قبلاً دون تفكير في إفادتها. وبعد لأي وقف قليلاً صامتاً، ثم طفق يبكي ويلتفت إلى الحاضرين. . . وعندئذ قام وشرح أمره، وصرح في النهاية بأن جميع الطبائع والعادات كالمشي، والبكاء، والضحك وما شاكلها منبعثة عن العقل. وعلى هذا فطبيعة الأديب مستمدة من الفكر ومسيرة بأوامره. كما يتعين أن يكون (أدب الطبع) جزءاً من (أدب الذهن)
وإني لأنصح لحضرة الأستاذ سيد قطب أن يرجع لمؤلف وإلى غيره من كتب البسيكلوجيا التطبيقية فإنه لواجد فيها ما يبطل زعمه، ويعود به إلى حظيرة الحق والسكون
وبعد، فهذه نظرة قصيرة أحببت أن أشعر بها حضرة الأستاذ بأنه - نظراً لكتابته وما حشاه فيها من (الأفكار) المضطربة ما يزال بعيداً عن النقد والحكم البريء، عساه أن يجنح إلى السلم، ويعدل آراءه على ضوء المنطق، ويقين الملاحظة
وإن لي رأياً في أدب العقاد، وأدب الرافعي، كونته من مطالعتي لهما. سأعلنه متى قضت الظروف
(تونس)
عبد الجليل محمد المحجوب(259/46)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
(بقية المقال الحادي والعشرين)
وفي وادي السلام يقول الأستاذ علي الشرقي:
ثلاثون جيلاً قد ثوتْ في قرارةٍ ... تزاحم في عُرب وفُرس وأكراد
ففي الخمسة الأشبار دُكَّتْ مدائنٌ ... وقد طُوِيتْ في حُفرة ألف بغداد
عبرت على الوادي وسَفَّتْ عجاجةٌ ... فكم من بلاد في الغبار وكم ناد!
وأبقيت لم أنفض عن الرأس تربهُ ... لأرفع تكريماً على الرأس أجدادي
وكذلك كان الدخول إلى النجف من باب السلام، أي الموت!
وبحثت عن فندق فكان فندق السلام فتشاءمت، ثم أسلمت نفسي إليه، لعلمي بأني صائرٌ لا محالة إلى السلام، أي إلى الموت!
ثم رأيت فندق السلام بالنجف شبيهاً بأخيه فندق السلام في حيّ سيدنا الحسين بالقاهرة. رأيت الناس ينامون زرافات في حجرة واحدة، فأخذت أمتعتي وانصرفت، وذهبت إلى فندق ثان فرأيته أعجب من الأول، فمضيت إلى ثالث فرأيته أغرب من أخويه، وانتهى بي المطاف إلى غرفة حقيرة في فندق حقير هو أعظم الفنادق بالنجف
ولعل الفنادق كانت كذلك لقربها من وادي السلام، فهي تروض المرء على قبول الدفن مع من يعرف ومن لا يعرف، وتقرَّب إلى ذهنه صورة المساواة في دنيا الأموات
كان غبار السفر الذي دام أكثر من أربع ساعات آذاني، وكنت أحب أن أصلح من شأني في الفندق لأستعد لمقابلة البهاليل من آل ليلى، فلم أجد في الفندق ما يسعف، ولكن لا بأس فسيعلم النجفيون بعد ساعات أني نزلت في فندف فيغضبون ويقولون (هذه فضيحة) وينقلون أمتعتي إلى منزل أحد الأصدقاء
وعندئذ أتذكر أن النزول في الفندق كان عند أهل العراق علامة من علائم المسكنة، يشهد بذلك قول الشاعر القديم
يا أيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
آكل من خبزي ومن كِسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي(259/47)
ويشهد بذلك قول شاعر حديث هو الرصافي:
سكنت الخان في بلدي كأني ... أخو سفر تَقَاذُفهُ الدروبُ
وأصرخ في وجه النجفيين قائلاً: إن المدينة التي تخلو من فندق نظيف لا تسمى مدينة، والذين عاشوا في أوربا كما عشتُ لا يستطيعون النزول في منازل الأصدقاء، والفندق النظيف هو المأوى الطيب للضيف، والحكومة المصرية لا تنزل ضيوفها في غير الفنادق، لأنها تعرف قيمة الفنادق، وكذلك تصنع حكومة العراق حين تستقبل ضيوفها في بغداد
فيا أهل النجف، تذكروا أن مدينتكم في حاجة إلى فندق نظيف، وتذكروا أن مثل ذلك الفندق ينقل مدينتكم من حال إلى أحوال
خرجت من الفندق أتلفت ذات اليمين وذات الشمال لأرى شبيهات ليلى، شفا الله ليلى وشفاني، ومنحني وإياها العزاء يوم الفراق، إن كان لنا سبيلٌ إلى التلاقي قبل الفراق
وساقتني قدماي، بل هداني قلبي إلى الحرم الحيدري
وقفت بصحن الحرم كالأرقم، والحمد لله على نعمة العافية، وليته يتفضل بحفظ هذه العافية ولو عشر سنين لأداوي جميع المرضى من الملاح
وقلت في نفسي: أنا تلميذ الشريف الرضي الذي يقول:
لو أنها بفناء البيت سانحةٌ ... لصِدتُها وابتدعت الصيد في الحرم
فإذا كان الشريف استباح الصيد في الحرم النبوي فأنا أستبيحه في الحرم الحيدري
ودرت حول الضريح مرتين، ثم وقع البصر على فتاة ساجية الطَّرف مشرقة الجبين فخفق القلب
ثم وقفت
أصاول عينيها بعيني والهوى ... يشيع الحميا في فؤادي وأعضائي
وظنت الفتاة أنها أقدر مني على الفتون، فحاولت قتلي، ثم لطف الهوى فصرعتها، فجمعت ما تبدد من قواها، وفرت فرار الغزال المطعون
وعَدَوتُ لاقتناصها فلم أفلح. وكيف يعدو النشوان وهو كالمقيد في الشوك!
من أي سحر صيغت تلك العيون؟
وإلى أية غاية تسير تلك العيون؟(259/48)
ولأية حكمة خلقت المقادير تلك العيون؟
لقد أفلح الدساس الظريف الذي نقلني إلى النجف، وهو على ظرفه لئيم خبيث
وبالنجف الحاريّ إن زرت أهله ... مهاً مهملات ما عليهن سائس
خرجن بحب اللهو في غير ريبة ... عفائف باغي اللهو منهن آيس
ثم طفت بالحرم مرة ثانية فوجدت ناساً يقرءون أدعيات وصلوات وحولهم نساء يبكين ورجال يبكون، فوقفت أسمع وأبكي، وهل في الدنيا بلاء مثل بلائي؟ أنا العاشق المهجور الذي غدرت به ليلاه. ولو كانت ليلى واحدة لصبرت، ولكنهن ليليات!
فيا بديع الملاحات ويا فاطر السموات، كيف ترى حالي!
ويا خالق النخيل والأعناب، كيف سكبت الصهباء في روحي؟ ويا مجري الدمع في الشؤون، كيف علمتني وعلمت الحمائم النُّواح
وما الذي أعددت لتكريمي يوم ألقاك وقد سبَّحت بحمدك فوق أفنان الجمال!
وما عندك لسلامتي من الناس، وقد خاصمت فيك جميع الناس!
وطفت بصحن الحرم مرة ثالثة فوجدت ضريح الحبوبي الذي يقول:
اسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا
وإذا جُدت بها من شفتيك ... فاسقنيها وخذ الأولى لكا
أو فحسبي خمرةٌ من ناظريك ... أذهبت نسكي وأضحت منسكا
وانهب الوقت ودَعْ ما سلفا ... واغتنم صفوك قبل الرَّنق
إن صفا العيش فما كان صفا ... أو تلاقينا فقد لا نلتقي
وعند ذلك الضريح طال بكائي، فهذا شاعر قضى حياته في التغني بالجمال، ثم رآه النجفيون صوفياً فدفنوه بجوار أمير المؤمنين، وأنا أفنيت شبابي في التغني بالجمال ولم أجد غير العقوق!
فمتى يعرف قومي أني صوفيٌّ يؤمن بوحدة الوجود؟
ومتى يعرف قومي أني أصدق تلاميذ ابن الفارض في هذا الزمان؟
اللهم لطفك ورحمتك، فقد طال بلائي بالناس!
يئستُ من الصيد في الحرم الحيدري بعد فرار تلك الغزالة، وبدأتُ أعتب على سيدنا علي(259/49)
بن أبي طالب، فمثلي لا يُكرَم في رحابه بالماش والُجلاَّش، وإنما يكرم مثلي بالهيام في أودية الفتون، وما كنت في حياتي من الفاسقين، وإنما كنت مؤمناً يتقرب إلى ربه بعبادة الجمال
وفي حومة هذا العَتْب تذكرت أن لي في النجف صديقاً من تلاميذ الأستاذ محمد هاشم عطية هو السيد محمد تقي آل الشيخ راضي، فقلت أذهب إليه عساه يجد السبيل إلى الظبية التي نفرت مني، ولكني ما كدت أصل إلى منزله بعد طول البحث حتى وجدته في ارتياع، فقد علم أن الشرطة في النجف تبحث عني، لأني في ظنهم وردت النجف لمطاردة الظباء، وقد رأى بفطرته السليمة أن ينفي الشبهة فدعا علماء النجف للتسليم على العالم العلامة الدكتور زكي مبارك!
وما هي إلا لحظة حتى كانت الدار تموج بالغرّ البهاليل من أقطاب النجف
وجلست بين القوم جلسة العالم الحق، وما يصعب عليّ أن أمثل هذا الدور الفظيع، فانتقدت صاحب مجلة الحضارة لأنه يدعو إلى تعديل المذاهب القديمة في التعليم، وقلت أن مذاهب التعليم في النجف كمذاهب التعليم في الأزهر لا ينبغي أن تزول
وعجب القوم من أن يصدر هذا القول عن رجل متخرج في السوربون
ولكني في الواقع لم أكن مرائياً، فقد صح عندي أن الأساليب الأزهرية والنجفية أساليب تنفع أجزل النفع في رياضة العقل، يضاف إلى ذلك أن الأزهر هو الذي حفظ اللغة العربية في عهد المماليك، وأن النجف هو الذي حفظ اللغة العربية في عهد الأتراك، ورعاية العهد توجب الإبقاء على تلك الأساليب التي استطاعت أن ترسل النور الوهاج في دياجير الظلمات
وبعد طول الحوار فهمت أن في النجف ثورة فكرية تشبه الثورة التي وقعت في الأزهر منذ أكثر من ربع قرن، وعرفت أن طلبة العلم في النجف يريدون أن يغيروا حالهم ليسايروا مناهج التعليم في العصر الحديث
وقد تأكد ذلك المعنى حين قال الأستاذ الصوري: ما رأيك يا دكتور في أن أخلع عمامتي؟ فقلت: أنا أبغض المعممين الذين يخلعون عماماتهم! فقال: هل تعرف ما قلتُ في العمامة؟ لقد قلت: إنها منعت رزقي وفِسقي(259/50)
فابتسمت وقلت: وكيف تعيش يا مسكين بلا رزق، وبلا فسق؟!
وتقدم الأستاذ البلاغي صاحب مجلة الاعتدال فقص أحاديث يشيب لها الوليد، ومنها عرفت أن طلبة العلم في النجف يعيشون في بؤس. وقد طفر الدمع من عيني حين سمعت أن عالما نجفياً أشرت إليه في كتاب (عبقرية الشريف الرضي) جلس في صحن الحرم الحيدري يبيع كتبه ليسدَّ ما عليه من ديون، لم يجنيها لهوٌ ولاُ مجون، وإنما جناها الخبز والماء
وكان هذا العالم المحقق لقيني في الكاظمية منذ أشهر، لقيني لقاء المساكين؛ ولما لقيني في النجف تبسم وقال: كنت في الكاظمية غريباً، وأنا اليوم في بلدي، وأنا حاضر لخدمتك
وكنتُ أحب أن أقبل دعوته الكريمة، ولكني وا أسفاه كنت عرفت ترجمة حالة منذ لحظات ففررت من كرمه بترفق وتلطف
لا تحزن أيها الزميل؛ فسيكون لي ولك مكانٌ بين الصابرين
لا تحزن، فالدنيا أحقر من أن يبكي على نعيمها أحرار الرجال
لقد سمعت أنك بعت دارك بثمن بخس لتسدد ديونك. فهل علمت أن لك عقبى الدار يوم يجزى الله الصابرين؟
ثم مضيت فطوَّفت بالنجف وحولي جيش من أهل العلم والأدب والبيان، وفي أحد المنعطفات وقع البصر على طفلة من قريبات ليلى، فمددت يدي امسح خدها الأسيل فصرخت، وتضاحك الرفاق، ولكني سأرجع بإذن الله إلى النجف لأعرف أهل تلك الطفلة وأخطبها لأحد أبنائي، وبيت أهلها يقع في دربونة متصلة بدربونتين إحداهما توصَّل إلى الرابطة الأدبية، والثانية توصَّل إلى الحرم الحيدري، ولذلك البيت روشن عليه بَرَّادة، وبداخله بئرٌ وسرداب، وفوق الروشن حمامتان تسجعان، وفوق عتبات ذلك البيت تتحدر مدامع العشاق
يا شبيهة ليلى في حسنها ودلالها ولؤمها وغدرها! ترفقي بقلبي فقد تركته في الدَّربونة لتدوسه في كل صباح أقدامك الرقاق
يا شبيهة (كريمة) الغالية التي تداعت أباها في الأحلام تذكَّري أن طيفاً زارك في النجف ولن يعود. يا أخت (زينب)، تذكري أن الرجل الذي مدَّ يمينه ليمسح خدك الأسيل لم يكن فاجراً، وإنما هو مجاهد ترك وطنه وأهله في سبيل العقيدة والوجدان(259/51)
إليك دمعي يا حلوة يا جميلة، وهو دمعٌ تمردَّ على الخطوب، ثم أذلَّته عيون الملاح. أحبك أيتها الطفلة الوسيمة وأشتهي أن أسمع صراخك مرة ثانية، فما كان وحق الحب ألا صراخ الدلال
واستيقظت في اليوم التالي مبكراً لأرى الكوفة، ولأقف بأطلالها كما وقف أستاذي ماسينيون، وكان أكبر همي أن أرى مسجد الكوفة الذي طُعن فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والذي فار في زاويته التنور لعهد نوح عليه السلام، والذي صلى فيه ألف نبيَّ وألف وصيَّ، والذي فيه عصا موسى، والذي هلك فيه يغوث ويعوق، والذي يحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب، وفي وسطه روضة من رياض الجنة كذلك تقول الأساطير
وما كانت في عيني وقلبي أساطير، وإن كنتُ تلميذ منصور فهمي وطه حسين
لقد شهدت بعيني كيفُ طُعنَ علي بن أبي طالب ورأيت دمه رأى العيان
ورأيت المكان الذي خطب فيه الحجاج خطبته المشهورة، الحجاج الهائل الذي أصلح العراق، وافسد العراق
ورأيت قبر مسلم بن عقيل رسول الحسين، ورأيت كيف يبكي الناس على قبره وكأنما قتل بالأمس، فتذكرت أن العراق يحوي ثروة عظيمة جدَّاً من الحماسة الوجدانية، وتذكرت أن العراق تغلب عليه سرعة الانفعال، فهو يقتل المصلح بلا ترفق، ثم يجعل البكاء عليه شريعة من الشرائع
تذكرت أن العراق كالقوة الكهربائية التي تحيى وتميت، وهو ينتظر رجلا في طغيان الفرات وسماحة النيل
إن العراق من قُوى العروبة والإسلام، ولكن أين من يعرف؟
لقد هداني العراق وأضلني، وكان على الدهر مصدر هداية وضلال
ثم مضيت أتلمس آثار الحيرة البيضاء، مضيت أتلمس آثار الخورنق، فلم أعرف ولم يعرف رفاقي أين الخورنق
وكان هيامي بأطلال الحيرة موسماً من مواسم الشعر والخيال،
وفي ذلك الهيام عرفت شيئاً من مدينة العرب في الجاهلية(259/52)
ولو كان لي شيء من الأمر في حكومة العراق لأجريت نهر السدير من جديد لأنقش في وجه الزمن ذكريات النعمان
مضينا إلى أطلال الخورنق مع سائق جهول فقادنا إلى مكان موحش، فقال الرفاق: ليس هذا مكان الخورنق. فقال السائق: أنتم تبحثون عن أحجار، وههنا أحجار!
صدقت أيها الجهول، فنحن نبحث عن أحجار، ولكننا نبحث عن أحجار نواطق!
عندئذ تذكرت فراعين مصر، فقد كانوا يدركون أن الزمن لئيم غدار، وأن التاريخ كلام في كلام، فبنوا أهرامهم وقصورهم بأساليب يعجز عن فهمها الزمان
وقد تقوضت آثار الملوك في المشرقين والمغربين وعجز الدهر الغادر عن هدم آثار الفراعين
ما أشقاك في دنياك وأخراك أيها النعمان! أنت قتلت سِنِمَّار ليبقى سر الخورنق، فهل بقي الخورنق؟
ليتك استعنت الجندي المجهول في وادي النيل، ليتك بنيت هرماً يعجز اللئام عن نقل أحجاره ليبنوا بيوتهم الخاوية
أيها النعمان، سلام عليك من شاعر مصري يبكي لمصيرك في التاريخ!
أيها النعمان، أيها الملك العربي العظيم، أين الخورنق وأين السدير. . .؟
اعترف أيها الملك بعظمة الشعر والشعراء، فنحن الذين حفظنا مكانك في التاريخ، ولولا الشعراء لطمس الزمن مكانك في التاريخ
وفدت على أطلال قصرك وأنا جائع ظمآن فما تزودت غير الأسى والأنين
وفدت على أطلال أنكرتها العين، وعرفها القلب
وفدت على أطلال لم يعرفها جيرانك من أهل النجف، وعرفها شاعر مصري مظلوم ينكره أهله، كما أنكرك أهلك
فيا زميلي في البؤس والشقاء، سلام عليك
ثم مضينا نمتع النظر بطغيان الفرات، وأين طغيان الفرات من طغيان قلبي!
هذه الكوفة الاسلامية، وتلك الحيرة الجاهلية، وأولئك الغافلون من العرب والمسلمين. فيا رب الأرباب أنقذ عبدك المسكين من ظلم الجحود والعقوق(259/53)
ورجعت إلى النجف أسأل عن أخوات ليلى، ولكن كيف؟ إن النجف كله يطارد العاشق المسكين الذي ضيع مستقبله في سبيل هواه
ويصمم النجفيون على إقامة حفلة تكريم للدكتور زكي مبارك فأرفض، لأن تلك الحفلة كانت توجب أن أتخلف عن دروسي في دار المعلمين العالية، وتخلفي عن دروسي أمر مستحيل. وكذلك أقهر علماء النجف وأمتطي السيارة إلى بغداد
رجعت في زي المساكين لأني لم أجد الشفيع إلى ليلاي
رجعت ذليلاً مقهوراً، فماذا أصنع؟
آه من حبي وغرامي وبلواي!
لقد هجرتني ليلي وصدفت عني ظمياء
فلأذهب إلى الموصل لأستشفع بقريبات ليلى هناك
إلى الموصل الذي رقدت في ثراه عظام أبي تمام أمتطي قطار المساء. . .
(للحديث شجون)
زكي مبارك(259/54)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 16 -
وما كان إبراهام كما أسلفنا يطمع من وراء هذا النزال أن ينال لنفسه شيئاً؛ وهل عُرفتْ في خلقه غميزة منذ كان يقطع الأخشاب ليشتري بالمئات منه سروالاً؟ أو ليست كراهته لنظام العبيد ترجع إلى صدر شبابه؟ أو لم يتنز بالألم قلبه يوم سافر إلى نيو أورليانز في تجارة لأحد الناس ورأى هنالك أسواق الرقيق ووقعت عيناه فيما وقعتا على تلك الفتاة التي عرضت نصف عارية على الأنظار كأنها مهرة كريمة؟
منذ ذلك اليوم وهو يسير إلى غاية، شعر بذلك أو لم يشعر به؛ فلقد استقر في نفسه مالا تقعد معه عن العمل أو تنصرف عن الغاية، فكانت ثمة عزيمة تهون أمامها جسيمات الأمور، وكانت ثمة رسالة يحلو في سبيلها الجهاد ويطيب الاستشهاد؛ ومرد ذلك كله إلى قلب إنساني كبير ونفس مطمئنة صابرة، وبصيرة، كأنما تشرف من حاضرها على المستقبل فلا تقف من دونها حجب الغيب. . .
إنه اليوم كما أراد حزبه ينافس دوجلاس على مقعد في مجلس الشيوخ فهل كان ذلك قصارى همه؟ كلا. وما كان بعض همه أن يرقى إلى كرسي الرياسة ذاته؛ وإنما كان همه أن تتحقق مبادئه ولو بدل في سبيلها نفسه؛ ولن يكون مقعد الشيوخ أو كرسي الرياسة عنده أمراً ذا بال إلا أن يكون وسيلة إلى السير بمبادئه إلى حيث يعتنقها الناس؛ وإلا فما الجاه والثراء والحكم عنده إلا من صغيرات الأمور؛ وهو إنما ينفر من كل أولئك بطبعه الذي يعزف عن الزهو، ويتخوف دواعي البطر. . .(259/55)
وإن أمثال ابن الأحراج هذا في تاريخ البشرية لقليلون، ولكنهم هم الذين رسموا لها طريقها، وولوها قبلتها التي ارتضوها لها وأشاروا بأيديهم إليها، وما كان أتعس البشرية لو أنها افتقدت هؤلاء الذين يتمثل بهم ضميرهم أناساً يمشون على الأرض
قال إبراهام ذات يوم من أيام ذلك النزال (لست أدعي أنها السادة أني غير أناني، ولن أتظاهر بأني لا أحب أن أذهب إلى مجلس الشيوخ، كلا لن آتي هذا الادعاء المنافق، ولكني أقول لكم إنه في هذا الجدال الصارم، ليس يعنيكم ولا يعني عامة الناس من هذه الأمة ما إذا كان القاضي دوجلاس أو ما إذا كنت أنا بحيث تستمعون عنا بعد هذه الليلة أو لا تستمعون. وبما كان هذا أمراً تافهاً بالنسبة لكلينا، ولكنه إذا اعتبر من حيث علاقته بتلك المسألة العظيمة التي ربما كان يتوقف عليها مصير هذا الشعب فانه يكون في حكم العدم)
هذا هو ابراهام رجل المبدأ لا يعنيه أن يظفر أو أن ينهزم، وإنما تعنيه تلك المسألة العظيمة؛ ولن يهدأ له بال حتى تحل أو تسير في سبيلها إلى الحل
وأنى لدوجلاس أن يقف في وجه تلك القوة العاتية؟ أنى له أن ينال من ذلك الذي يتكلم فيخيل إلى سامعيه كان الأخلاق نفسها تقول كلمتها. حاول دوجلاس أن يعبر مرة عن عدم المبالاة من جانبه في مسألة العبيد فانبرى له ابراهام قائلاً: (إنني أبغض مثل هذا المظهر، مظهر عدم المبالاة. . . إن من شأنه أن يضعف حاسة العدالة في دولتنا، وإنه ليعطي أعداء النظام الدستوري السلمي شبه حق أن ينظروا إلينا كأننا منافقون، كما أنه في نفس الوقت يمد أنصار الحرية الحقيقيين بسبب وجيه لتشككهم في إخلاصنا). . . وقال في معرض آخر:
(إنكم باعتيادكم أن تطئوا حقوق غيركم إنما تفقدون بذلك حقيقة استقلالكم أنتم، وتصبحون طعمة لكل طاغية يخرج من بينكم. دعوني أخبركم أن مثل هذا إنما يعده لكم منطق التاريخ، إذا جاءت أدوار الانتخاب الآتية بحيث تجعل الحكم في قضية دردسكت التالية وغيره من الأحكام أمراً يقبله الناس. إنكم تستطيعون أن تخدعوا كافة الناس ردحاً من الوقت وبعض الناس طول الوقت، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخدعوا جميع الناس طيلة الأبد)
بمثل هذا المنطق السائغ، وبمثل هذه العبارات السهلة الأخاذة كان ابراهام يأخذ الطريق(259/56)
على دوجلاس في غير مشقة؛ وكان الناس كأنهم يلمسون الصدق في هذه العبارات وأمثالها؛ وهم واثقون من نزاهة غرضه وشرف مقصده. . .
ويريد ابراهام أن يصور موقف كل من الولايات القديمة والولايات الجديدة من نظام العبيد، فيصل إلى غايته في وضوح ويسر بعبارته الآتية التي أعجب بها السامعون، قال: (إذا أنا أبصرت ثعبانا قاتلا يزحف في طريق فأن أي رجل يقول بأن لي أن اعمد إلى أقرب عصا فأقتله؛ ولكني إذا وجدت هذا الثعبان في السرير بين أطفالي فان المسألة تتخذ وضعاً آخر فأني ربما آذيت أطفالي أكثر مما أوذي الثعبان وربما عضني ذلك الثعبان. وتختلف المسألة أكثر من ذلك إذا أنا وجدت ذلك الثعبان في سرير أطفال جاري وكنت على اتفاق وثيق مع ذلك الجار ألا أتدخل في شؤون أطفاله مهما يكن من الأمر. . . ولكن إذا كان هناك سرير قد صنع حديثاً وأُزْمِعَ حمل الأطفال إليه واقترح أن يحمل إليه عدد من الثعابين توضع مع الأطفال، فليس في الناس من يرى أن هناك اختلافا في أي الطرق أسلك)
ولقد عرفنا فيما سلف من خلال ابراهام قدرته على التهكم، ورأينا كيف يرشق خصومه في ساحة القضاء بتهكماته حتى يزلزل أقدامهم، كل ذلك في عذوبة روح وترفع عن الإساءة وحذر شديد أن يخرج إحساس أحد؛ وها هو ذا اليوم في مناظرته دوجلاس يعمد إلى ذلك السلاح في مهارة يضيق عنها ذكاء خصمه وتتخلف دونها بديهيته، ويذهل عندها مكره. استمع إليه كيف يسفه وسائله ويزيف آراءه، وقد رأى منه أنه غيَّر رأيه وأنكر رأياً سالفاً له (أقول إنك خلعت قبعتك، وإنك تثبت أني كاذب بوضعها على رأسك من جديد؛ وهذا هو كل مالك من قوة في هذا الجدال) ثم انظر إليه كيف يحمل الناس على الضحك بأن يستخرج من إحدى عبارات دوجلاس ما يشبه القانون الرياضي، قال دوجلاس: (إذا كان النضال بين رجل من البيض وبين زنجي فأني أقف إلى جانب الأبيض، أما إذا كان بين زنجي وتمساح فإني مع الزنجي) فأجاب ابراهام بقوله (يستنتج من ذلك أن الرجل الأبيض من الزنجي كالزنجي من التمساح، وعلى ذلك فبقدر ما يكون من الحق في معاملة الزنجي للتمساح يكون منه في معاملة الرجل الأبيض للزنجي)
ولم يدع إبراهام قولاً مما ساقه دوجلاس مساق المبادئ إلا حمل عليه وكشف عما فيه من بهرج، ومن ذلك ما أعلنه دوجلاس في مسألة نبراسكا وأبى إلا أن يسميه مبدأ سيادة(259/57)
الشعب؛ قال إبراهام: (مبدأ سيادة الشعب معناه حق الشعب أن يتولى حكم نفسه، فهل اخترع ذلك القاضي دوجلاس؟ كلا؛ فلقد اتخذت فكرة سيادة الشعب طريقها قبل أن يولد صاحب مشروع نبراسكا بعصور، بل قبل أن يطأ كولمبس بقدميه أرض هذه القارة. . . فإذا لم يكن القاضي دوجلاس هو مخترع ذلك المبدأ فدعنا نتتبع الأمر لنتبين ماذا اخترع. أهو حق المهاجرين إلى كنساس ونبراسكا في أن يحكموا أنفسهم وعدداً من الزنوج معهم إذا أرادوا ذلك؟ يظهر في وضوح أن ذلك لم يكن من اختراعه، لأن الجنرال كاس قد أعلن ذلك قبل أن يفكر دوجلاس في مثله بست سنوات. . . وإذاً فماذا اخترع المارد الصغير؟ لم يخطر على بال الجنرال كاس أن يسمى اكتشافه بذلك الاسم القديم ألا وهو سيادة الشعب. أجل لقد استحى أن يقول إن حق الناس أن يحكموا الزنوج هو حق الناس أن يحكموا أنفسهم. وهنا أضع تحت أنظاركم اكتشاف القاضي دوجلاس بكل ما فيه؛ لقد اكتشف أن تربية العبيد والإكثار منهم في نبراسكا هو سيادة الشعب)
رأى دوجلاس يعمد إلى المداجاة، ويجهد أن يلبس الحق بالباطل فشبهه بنوع خاص من السمك من خصائصه أن يفرز مادة سوداء كالمداد يضل بها الصيادين، فهو لا يفتأ يرسل من العبارات الجوفاء ما يرمي به إلى التعمية وطمس الحقائق. . . والناس يضحكون مما يقول ابراهام معجبين به مستزيدين منه. . .
ولقد رأى أبراهام في ذلك الصراع فرصة قلما تتاح له مثلها فعول ألا يدع في مسالة العبيد شيئاً غامضاً، وأخذ يقلبها على وجوهها في سهولة تستهوي الألباب، تلمس ذلك في مثل قوله عن المتمسكين بمبدأ العبيد، قال: (إن مبدأ الاستعباد عندهم يظهر لي كما يأتي: ليست العبودية صواباً من جميع الوجوه، وليست كذلك خطأ من جميع الوجوه، وإن من الخير لبعض الناس أن يكونوا عبيداً، وأنهم في هذه الحال يكونون خاضعين لإرادة الله. . . حّقاً ما كان لنا أن نعارض مشيئة الله، ولكن لا تزال هناك صعوبة في تطبيقها على بعض الحالات الخاصة، فمثلاً لنفرض أن هناك شخصاً اسمه الدكتور روس الموقر يملك عبداً اسمه سامبو فأنا نتساءل هل مشيئة الله أن يظل سامبو عبداً أم هي أن يطلق صراحه؟ وإنا لن نظفر من الله بإجابة مسرعة عن هذا السؤال، ولن نجد في كتابه الإنجيل جواباً لذلك، أو لا نجد في الغالب إلا ما هو من شأنه أن يثير الجدل حول معناه. . . ولا يفكر أحد أن(259/58)
يسأل ما رأي سامبو في ذلك. وعلى ذلك يترك الأمر في النهاية للدكتور روس ليفصل فيه؛ وبينما هو يفكر في الأمر تراه يجلس في الظل وعلى يده قفازه يقتات بالخبز الذي يكسبه سامبو تحت الشمس المحرقة، فإذا هو قرر أن مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبداً فانه بذلك يحتفظ بموضعه المريح؛ أما إذا قرر أن مشيئة الله هي أن يصير سامبو حراً فان عليه أن يخرج من الظل وينزع قفازه ويكدح من أجل خبزه؛ فهل يفصل الدكتور روس في الأمر بما تقضي به النزاهة التامة التي لابد منها في كل فصل حق؟)
وانتهى ذلك الصراع الذي اشتهر أمره، فكان نصيب الجمهوريين من المؤيدين مائة وخمسة وعشرين ألفاً؛ ونصيب الديمقراطيين دون ذلك بأربعة آلاف؛ ولكن مجلس الولاية التشريعي هو الذي كان يختار عضو مجلس الشيوخ، وكان بهذا المجلس أربعة وخمسون عضواً من الديمقراطيين وستة وأربعون من الجمهوريين؛ ولذلك فاز دوجلاس فصار عضو مجلس الشيوخ! ولقد عد انتصاره في نظر بعض المؤرخين بعد هذا الصراع أعظم انتصار شخصي في تاريخ أمريكا السياسي. . .
وهكذا يفشل ابراهام مرة أخرى في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ، ويخطئ دوجلاس دونه بذلك المقعد؛ ولكن ابراهام على عادته لا يعبأ بهذا الفشل، بل إنه ليستشعر الراحة بينه وبين نفسه أن استطاع أن يسمع تلك الآلاف صوته؛ وإنه ليحس أن مبادئه قد أخذت سبيلها إلى قلوب الكثيرين منهم على صورة طالما مني نفسه بها، وأي شيء هو أحب إليه من ذلك؟
لقد أصبح اسمه على كل لسان، وصار يعتبر من رجال أمريكا المعدودين، وأضاف الناس في الشمال إلى ألقابه لقباً جديداً فقالوا لنكولن (قاتل المارد)، وطنطنت باسمه الصحف؛ ومن ذلك ما قالته نيويورك ايفننج بوست، (لم يصل رجل في هذا الجيل إلى الشهرة في قومه بمثل تلك السرعة التي وصل بها لنكولن في هذا الانتخاب)؛ وكتب إليه رجل غريب عنه يقول: (إن مثلك اليوم كمثل بيرون الذي أفاق ذات يوم من نومه ليجد نفسه ذائع الصيت؛ إن الناس يستنبئون عنك بعضهم بعضاً، لقد قفزت دفعة واحدة من محام له الصدارة في الينواس إلى الشهرة القومية)
أما هو فقد وصف شعوره يؤمئذ بقوله: (مثلي مثل الصبي الذي اصطدم إصبع قدمه بشيء(259/59)
آلمه، فكان الألم أشد من أن يصحبه ضحك وكان الصبي أكبر من أن يبكي). . .
ولاقى إبراهام عنتاً من بعض خصومه في تبرسبرج، فلقد أرادوا إيذاءه فتصايحوا ضده، وأسمعوه من البذاء ما أعرض عنه إعراض المؤمنين الصابرين. . . ولكنه في أتاوا استقبل استقبال الفاتحين فحمله شباب المدينة على أعناقهم والألوف تهتف به؛ وهو ضائق بهذا يقبله على رغمه ولو أنه استطاع أن يفلت منه لفعل ذلك مسرعاً ولكنه لا حيلة له فيه؛ وما كان أشبهه ساعتئذ بالخليفة الثاني عمر حين صاح بقومه أن كاد يقتله الزهو!
أجل؛ لقد تبرم لنكولن بهذا الزهو، فما كان من شيمته أن يزهى، ولا كان من خلقه أن يترفع أو أن يطغى؛ بل كان لا يتزايد حظه من الصيت إلا تواضع، ولا يعظم نصيبه من النفوذ إلا خفض جناحه وألان جانبه للناس جميعاً، أولياؤه وخصومه في الرأي في ذلك سواء. . .
وعاد إبراهام إلى سبرنجفيلد بعد أن قضى في ذلك النزال أكثر من شهرين؛ عاد إلى زوجه وأولاده فلقيته ماري راضية عنه على الرغم من إخفاقه في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ. أو ليست ترى الصحف كلها تذكر زوجها وترى أكثر صحف الشمال تطنب في مدحه وتعده بطلاً من أبطال قومه؟ أو ليست هذه هي النغمة التي يحلو لها سماعها؟ وأي شيء أحلى في قلبها وقعاً من أن ترى نفسها زوج رجل عظيم يعترف الناس بعظمته. . .
وأقبل على المحاماة من جديد فلقد أنفق في هذا الصراع من المال ما أرهقه من أمره عسراً؛ هذا إلى أنه بانقطاعه طيلة تلك الأيام عن مهنته لم يكسب من المال شيئاً؛ وهكذا يعود ابن الغابة إلى كدحه ليقيم أوده وأود أسرته بينما يذهب دوجلاس الثري يرفل في النعمة إلى وشنجطون ويجرر ذيل الخيلاء السابغ الضافي
(يتبع)
الخفيف(259/60)
حديث الرمزية
للدكتور بشر فارس
حديث يأبى أن ينقطع سلكه، إلا أنه منزَّه عن الفضول واللغو لطرافته ثم لتنوع مستطرداته. ووراء الأمر ظاهرتان: الأولى انجذاب نخبة من الأدباء والقراء إلى الجديد كأنهم يفطنون أن أعواد بعض أساليب الإنشاء القائمة الآن قد شظفت أي شظفٍ حتى إنها أمست تعجز عن حمل الثمر؛ أو كأنهم يلمحون في المذهب الرمزي بما قرءوا عنه - قلّ أو كثر - أداة فيها ما فيها من المتانة والاستقامة، وإن بدت ضرباً من ضروب الإفلات من قيود المنطق (الجليل) صاحب السلطان الأعلى في التأليف والتفكير. وأما الظاهرة الثانية فاستعداد القراء لتفهُّم مذهب لا يكاد يتصل بما ألفوه من الأدب العربي الحديث، فكلنا نشأ على قراءة التهزُّل الموضوعي عند المويلحي، والتصنع اللفظي عند البكري، والابتداعية حسب ترجمة الأستاذ الزيات) المفرطة حتى الإزعاج عند المنفلوطي. ثم قامت بعد ذلك طرائق، فكانت الطريقة التحليلية الواقعية في مصر، والطريقة التخُّيلية في المهجر
والظاهرتان دلالة على ارتجاج الذهنية الاتباعية، وشهادة لارتقاء شأن الاستحداث المطَّرِد في الأدب. فأبْشِرْ بهما!
يقول الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي في الرسالة (رقم 258 - البريد الأدبي) (والرمزية - بعد - في الأدب العربي (المستحدث) في أول الطريق، فالحديث ذو شجون ولازم على من يشقّون ويوسَّعون الطريق لها فيه أن يطيلوا الكلام والإبانة عنها للسالكين. وما أحرى الدكتور بشر في هذا المقام. . . أن يوالي مجلة الرسالة الغراء بمقالاته. . . عن الرمزية يوضح طرائقها ويترجم لزعمائها وقادتها ومدارسها منذ نشأتها إلى الآن توطئة لتأليف رسالة عنها بقلمه. . .)
إني أشكر للأديب الفاضل رقة كلامه وحسن ظنه بي. غير أني أرى غير رأيه. فالذي عندي أن المنشئ المنصرف إلى الاستحداث في التأليف يخرج ما يخرج ثم يقبل النقاد ينظرون فيه، ويُطلعون القراء على خصائصه، ويدنون لهم طريقته إن هي بعدت عما خبروه، ويسوقون لهم قصتها، ثم يبرزون لهم انحراف المنشئ من هنا وهناك عن تلك الطريقة إن هو قدر على أن يدسَّ فيما يكتب ما يشف عن شخصيته. هذا وإن ظفر إنشاؤه(259/61)
بالقبول وجدرت العناية بطريقته، قام العلماء بتاريخ الأدب والمنقطعون للبحث في فنونه وأساليبه يؤلفون المقالات والرسائل، فيدفعون إلى القراء ما غاب عنهم، ويبذلون لهم ما أَشكل عليهم
والذي جرى للرمزية أني ألَّفت مسرحية على طريقتها مع شيء من الاستقلال بما نفسي إليه ترفّ وقلمي له ينساق. ثم جاء النقاد فأحست فئة منهم بغرابة الطريقة عن أذهان قراء العربية؛ فاستهل الأستاذ صديق شيبوب النقد بالكتابة في الرمزية (جريدة البصير)، وأردف الأستاذ الفنان زكي طليمات النقد ببحث لطيف فيها قائم برأسه (مجلة الرسالة)، ونشر الأستاذ أبو شهلا التوطئة التي عملتها للمسرحية ذهاباً منه أنها وافية (مجلة الجمهور البيروتية)، ونوّه بشأن هذه التوطئة الأستاذ الأب الكرملي والأستاذ الصيرفي (في المقتطف) والدكتور زكي حسن (في الأهرام) والأستاذ كامل محمود حبيب (في المقطم) والأستاذ ادجارجلاد في ? ثم نبه الأستاذ نجيب شاهين إلى اتصال الرمزية بالتصرف وخروجها عن الوضوح التام (في المقطم)
ثم فزّ أحد من المتخرجين في كلية الأدب للجامعة المصرية ومن طلبة العلم في (جامعات فرنسا)، وإذا هو يؤلف مقالة عجيبة قد بين مبلغ اضطرابها الأستاذ محمد فهمي في مجلة الرسالة (رقم 256)
والرأي إذن أن للمنشي عملاً وللناقد عملاً وللعالم ثالثاً؛ غير أن المنشئ ربما حق عليه أن يؤلف المقالة أو الرسالة في الكتاب الذي يخرجه دفاعاً عنه أو توضيحاً له، وذلك ما أقدمت عليه في مجلة الرسالة يوم آنست من جانب النقاد ميلا إلى إدراج الرمزية المستحدثة التي في (مفرق الطريق) في الرمزية الأولى إدراجاً لا استدرك فيه، فشرحت يؤمئذ خاصية الرمزية التي في مسرحيتي وميزتها في تفاصيلها من الرمزية الأولى
يريد الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي أن يؤلف المنشئ (كتباً مطولة عن الرمزية تكشف عن مناهجها وما يحيط بها لا توطئات مركزة دسمة إن هي أفادت فئة من الأدباء المطلعين على الثقافة الأجنبية اطلاعاً واسعاً فهي لا تكفي مطلقاً ذوي الثقافات المتوسطة من الأدباء، بل عامة القراء)
إن الأديب الفاضل يومئ ههنا إلى (التوطئة) التي صنعتها بياناً للمسرحية، وقوله فيها حق!(259/62)
فأني أردت أن تكون التوطئة كما يصفها الأديب الفاضل، وإني لفرح بالنجاح إذ كنت أعلل النفس بأن أؤلف توطئه طريفة تدخل في جانب الأدب (المركز الدسم) لا توطئة مقصورة على عرض المذهب الرمزي (من الخارج) كما تقول الفلاسفة، بأن أسود تاريخها وألم تفاريقها في أسلوب موضوعي بصيح: (إن هذه التوطئة ملفوظة من الكتب فما هي بثمرة تأمل وروية واجتهاد)
إنما المأمول في المنشئ أن يدفع للقارئ غذاء روحانيا لا مواد كتب وكلما (دسم) الغذاء و (تركز) جعل المنشئ القارئ يشاطره فنه. وتلك غاية الإنشاء العالي الناهض على الروّية والتأثر الدفين
فأبعد - إذن - بأدب الاطلاع وأدب التسلية! ّ
(الإسكندرية)
بشر فارس(259/63)
رسالة الشعر
الشعاع المقيد!!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(إلى هالة الوطنية التي تتفجر أنوارها من تمثال رسول الجهاد
الأول مصطفى كامل. . . وهو يرسف في قيوده بين ظلام
النسيان والجحود)
خُذْ أماناً منَ الشعاع المُقَيَّدْ ... فهْوَ في القَيْدِ جَمْرةٌ تَتوقَّدْ
مِلْءُ ذَرَّاتهِ أناشيدُ مَجْدٍ ... بصداها مُحَرِّرُ النيل أنشَدْ
ذَرَّةٌ ترْعِبُ الحديدَ عَلَى الصَّمْ ... تِ! وَأُخْرَى في الهوْل تُرْغى وَتُزْبِدُ
غلَّلَتْهُ باْلأَمْسِ كَفٌّ ضَلولٌ ... تَنْصُرُ البَغْيَ بالْحُسام المجرَّدْ
شَدَّ طُغيانَها عتيٌّ منَ الغَرْ ... بِ، على النِّيلِ كم طغى وَتمرَّدْ!
ملَّكتْهُ - والملك لله! - دُنْيا ... ظِلها عاجلُ الْفناءِ مُبدَّد
فَمضى في مسابحِ الشَّرْق كاْلاقْ ... دار يُشْقى كما يَشاء ويُسْعِدْ!
كم عَدا فاتِكاً! وأحكَمَ أَغْلاَ ... لاً الرِّقابُ في الشَّرْق تَشْهَدْ!
في (فِلَسْطين) ظُلْمُه أَقلق الدُّنْ ... ياَ وما هَزَّهُ الصُّراخُ المرَدَّدْ
وعَلَى (مصرَ) كم أَذَلَّ! وأَرْدَى! ... وتمَطَّى على النُّجوم وَهَدَّدْ!
عَبقريٌّ في الختْلِ يُدْمي وَيرْتَ ... د على الجرْح باكياً يتوجَّدْ
كم سَقَى النَّيلَ مِن ضراوَتِه الهوْ ... نَ وعيشاً من المذَلَّةِ أنكَدْ!
وتمادَى. . . فكُنْتَ يا (مُصْطفى) الهوْ ... لَ على هوْلهِ تَثورُ وَترعِدْ
في غباَء السّنين، والنيل مُغفٍ ... وبَنُوه من سكرَة الضَّيم هُجَّدْ
قُمت كالْعاصف المجلْجِل تَجتا ... حُ فلا تنْثَنْي ولا تتردَّدْ
تُلْبِسُ القيْدَ مِن جناَنكَ قَيْداً ... حَزُّهُ في الحديدِ نَقشٌ مُخَلَّدْ
هَتفاتٌ بِحُبِّ (مصر) وَموتٌ ... في هَواهاَ! ونَشوَةٌ! وَتَعَبُّدْ
وَصلاةٌ بمجدِها. . كُنتَ فيها الْ ... عابِدَ الصَّبَّ، والشواطئُ معبَدْ(259/64)
وَذيادٌ عن حُرمةِ الوطن الشَّا ... كي بعزم (كَنيلهِ) ليس ينفَدْ
وَدِفاعٌ عن الحِمى كُنتَ فيهِ ... ما لِغير الحمى تَرومُ وتقصِدْ
فارسٌ في قَتَامَةِ النَّيل تمضى ... بشِهاب منَ السَّماءِ مُؤَيَّدْ
مِشْعَلٌ في يدَيْكَ شَرَّدَ بالأضْ ... واءِ جُنحاً على الشَّواطئِ أربَدْ
كُنتَ تَسرى به فُتنهضُ فاني ... نَ علَيهم شيْخُوخَةُ اليأْس تُقِعدْ
بضِياءٍ منَ الهدَى أنعشَ الشَّرْ ... قَ وطَرفُ الزَّمانِ في (مصر) أرمَدْ
وَبَيانٍ كأنه لهبُ (البُرْ ... كانِ) تَختارُ جَمرَه وتُنَضِّدْ
كلَّ لَفظٍ منَ الصراحةِ سهمٌ ... في حَشا الغاصبين ماضٍ مُسَدَّدْ
هاَتِ لي مِن صَداهُ نَبراً لَعلِّى ... أنْفثُ النَّارَ من صَداىَ المغرِّدْ
هاتِه فالجحود وَارَاه في سجْ ... ن على شاطئِ الليالي مُشَرَّدْ
في زوايا النِّسْيان قَبرٌ. . . وَذِكرٌ. . . ... ورَخاٌ في الصَّمْت لهفاَن مُكْمَدْ
كاد يَنضو الأستارَ عنه وينعى ... أَنا رَمزُ الفَخار يا (نِيلُ) فاشهَدْ!
أنا عَلَّمتُكَ الْوُثوبَ على القَيْ ... د! وعَلمْتني الأسى والتنَهُّدْ!
ما الذي في الضِّفاف نَسَّاكَ رُوحاً ... ذَاقَ من أجْلكَ الرَّدَى واسْتشهدْ؟
أشيُوخ على الكَراسيِّ هاَجُوا ... وَهْيَ منْ بَغْيهم تميدُ وَتُرْعَدْ!؟
أَمْ شباَبٌ على تُرابِكَ يمشى ... حَول ساقَيِهِ كالأسِير المصَّفَّد؟
خانعٌ في حِماك. . . ينتظرُ البَعْ ... ث ليمضى إلى الإمام وَينهَدْ
عَلَّموهُ. . الأرزاقُ في (مصر) رَهْنٌ ... بِرَجاءٍ! وذِلةٍ! وتَودُّد!
كيف يُلقى بعَزمه تحت نَعلَي ... هـ وفي الذلِّ يستنيمُ ويَرقُد!!
ما الذي في الضفاف نسَّاك يا (نيل) ... هَوى ذَلِك الشعاع المقَيَّد؟
فَمنحت التِّمثال شِبراً، عَليه ... تائهُ الدود في الْبِلَى يتمرَّد!
وَحرَمتَ الجهاد فجراً من النُّو ... ر، يُهَدِّي إلى عُلاكَ وَيُرشِد؟!
محمد حسن إسماعيل(259/65)
صوفية الفن
للأستاذ زكي المحاسني
ما لعينيك تسموان إلي الج ... وكطير لم يلق في الجو حدّا
وتبيت الدجى كأنك شبْح ... خافق في ظلامه ليس يَهدا
شُدِهَ الناس من لَغَاك فظن ... وك سليباً في جاحم تتردى
ورآك الحبيب تدلف سه ... وان فبكَّى وراح يلطم خدا
أنظرُ الغيبَ في مداه فلا تم ... لك عيني عن وجهه الحلوِ ردا
أسمعُ اللحن خلفه فأراني ... هالكاً من صدايَ أبصرت وِردا
وإذا لفّني الظلام ترنَّحْ ... تُ على عِطْفِه وقد نمت سُهدا
إن يقولوا إني جننت يصيبوا ... فأنا قد فقدت بالعقل رشدا
والجميل الذي تحسر لوكا ... ن حبيباً لصار لي اليوم ندا
أنا روحٌ خرجتُ منِّي إلى الأف ... قِ البعيد البعيدِ قد عفت قِدا
طفت فوق الربى على الزهر أحنو ... وتَخِذْت الغمائم البيض مهدا
وهفا بي إلى الجمال خيال ... فتراءى فماً وعيناً ونهدا
والصباح الندىُّ عطر أنفا ... سي وكانت لي العشيات أندى
أيها الفن ما تقربت من عل ... ياك إلا وازددت بالقرب بعدا
أنا أهواك في السماء وفي الأر ... ض وأسعى إليك ما اسطعت جهدا
زكي المحاسني(259/66)
البريد الأدبي
مجلس إسلامي أعلى بمصر
يهتم العالم الإسلامي في سورية والعراق وإيران والهند بالكتب التي أرسلها صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر إلى رجال الدين في الأقطار الإسلامية يواضعهم الرأي فيها على إنشاء مجلس إسلامي أعلى بمصر لينظر في إزالة ما أحدثته العصبيات والأهواء والبدع من الفروق بين أبناء الملة الواحدة ليعود المسلمون إخواناً في الهوى والرأي والعقيدة. وقد علمنا أن أهم أغراض المشروع هي:
(1) تقوية روابط الإخاء بين المسلمين في جميع أنحاء العالم
(2) إيجاد التعاون بين الهيئات التعليمية في البلدان الإسلامية على نشر الثقافة على وجه العموم والثقافة الإسلامية على وجه الخصوص
(3) تبسيط الكتب الدينية ليتسنى لعامة المسلمين فهم دينهم على الوجه الصحيح
(4) تقريب وجهات النظر بين الطوائف الإسلامية حتى يشعروا بالأخوة الإسلامية التي تساعد على التناصر والتضافر والوحدة
والمفهوم أن سيتألف هذا المجلس من علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية على اختلاف مذاهبهم ثم ينعقد بالقاهرة في وقت معين من السنة فتعرض عليه المسائل والمشاكل والمقترحات فيضع فيها الرأي الموفق
بين مصر والمغرب
قدم القاهرة منذ أسابيع الأستاذ محمد المكي الناصري مدير معهد الأبحاث المغربية في تطوان حاملاً من سمو مولاي الحسن خليفة المنطقة المغربية المشمولة بالحماية الإسبانية إلى رجال الحكومة المصرية وإلى قادة الفكر بمصر - هذا الكتاب الذي يحدد الغرض من مقدمه، ونصه:
من سمو خليفة جلالة سلطان المملكة المغربية أعزه الله وأيد أمره (الحسن بن المهدي بن إسماعيل بن محمد):
يعلم من هذا الكتاب الرفيع قدراً ومقاماً أننا أرسلنا حامله خديمنا الأرضي مدير معهدنا الخليفي بالعاصمة التطوانية الأستاذ الدراكة الألمعي الفقيه السيد محمد المكي الناصري(259/67)
مبعوثاً خاصَّاً من سمونا المعظم إلى مصر القاهرة رغبة منا في أن يقوم هنالك بتأسيس مثوى خاص لبعثاتنا العلمية التي عزمنا على إرسالها إلى القطر المصري الشقيق، وأن يضع الحجر الأساسي لمكتب ثقافي صرف ملحق بمعهدنا الخليفي نفسه لترتكز فيه العلاقات الثقافية التي تربط بين الغرب الجديد ومصر الحرة الناهضة، الحاملة للواء الزعامة في العالم العربي؛ وبالإجمال أرسلناه ليتخذ كل الوسائط المناسبة التي تجعل نخبة مواطنينا المغاربة على اتصال تام بالنهضة العلمية الكبرى التي أمد الله بها وادي النيل المحبوب، وليفسح المجال لمعهدنا الخليفي حتى يبلغ في ميدان المعرفة أقصى ما يمكنه من كمال. فالرجاء من رجال الحكومة المصرية الموقرة، ومن قادة الفكر المصري العباقرة، أن يساعدوا مبعوثنا الخاص حامل هذا الكتاب السامي على مهمته الثقافية المجردة، وأن يتفضلوا فيقابلوه بما هو أهله من العطف والتأييد والتقدير. أبقاهم الله تعالى لخير العروبة ومجد الاسلام، وحفظهم الله زخراً للكنانة حتى يحرسوها على الدوام، والسلام
تطوان في 28 محرم عام 1357
وقد قدم الأستاذ المكي هذا الخطاب الملكي إلى صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا وزير المعارف فصرح له بما يأتي:
(إن مصاير الأمم التي تتكلم اللغة العربية متحدة تمام الاتحاد من الوجهة الروحية، ولذا فأنا نغتبط كل الاغتباط بربط العلاقات الثقافية مع جميع البلاد الشقيقة، وليس هذا الاتجاه اتجاه حزب من الأحزاب، بل هو اتجاه جميع الحكومات المتعاقبة في مصر فهو اتجاه ثابت دائم. ونحن مستعدون كل الاستعداد لمساعدة المغرب الأقصى في جميع ما يطلب من الناحية الثقافية سواء بإرسال المدرسين المصريين إلى مراكش أو بقبول البعثات المغربية في مصر. وإني لأغتبط بالموافقة على مطالبكم التي قدمتموها للوزارة، وكونوا مطمئنين إلى أن مصر ستقوم بأكثر مما تنتظرون منها)
وقد تم الاتفاق بينه وبين وزارة المعارف على إيفاد بعثة مغربية إلى مصر لا يقل عدد طلابها عن العشرين للدخول في المدارس والمعاهد المصرية، وإيفاد بعثة من الأساتذة المصريين تنتدبهم الوزارة للتدريس في المدارس المغربية. وسينفذ هذان المشروعان اعتباراً من بدء السنة الدراسية الجديدة(259/68)
معهد للثقافة الإسلامية في اليابان
تقدمت الثقافة الإسلامية في حكومة اليابان خطوة أخرى فتألف فيها معهد رسمي للثقافة الإسلامية. والغرض منه تعريف البلاد الإسلامية والشرقية أحوال تلك البلاد وعاداتها وطبائع سكانها وتنمية الروابط الثقافية والأدبية بين اليابان والبلاد الإسلامية كافة
وقد تلقينا العدد الأول من مجلة يصدرها هذا المعهد باللغة العربية جاء في مقدمته عن أغراض المعهد والمجلة ودعوتهما للبلاد الإسلامية ما يأتي:
(إن الأمم الإسلامية التي اكتسبت فضائلها النفسية من محاسن الدين الإسلامي الحنيف لابد لها أن تطرب لهذا الصوت الذي يناديها من أقاصي الشرق طالباً منها المعونة والتأييد لتحقيق غرض مشترك سام يجلب الخير والبركات لا على اليابان والشعوب الإسلامية فحسب، بل على العالم الإنساني بأسره
إن أملنا بشعور هذا العالم السامي الحي وطيد بأنه سيتقدم نحونا بنفس الشوق الذي نتقدم نحن إليه للعمل جنباً لجنب في إنشاء عالم جديد يسوده السلام ويغمره الخير في آسيا يعيش الجميع في ظلاله بصفاء ووئام ويتمتع الكل بالراحة والنعيم المنشود والرخاء إن هذه المجلة ستعني عناية خاصة في أن تجعل نفسها همزة الوصل بين اليابان والإسلام وشعوبه ليعرف كل منهم الروابط الثقافية والودية ليتم التفاهم على أساس صحيح. وفي ذلك الخير للجميع والله ولي التوفيق)
التعاون العلمي بين مصر والأقطار الشرقية
تألفت في دمشق هيئة أطلق عليها اسم (المكتب العربي القومي)، ومن أغراضه توطيد صلات العلم والثقافة بين البلاد العربية المختلفة
وقد طلب هذا المكتب إلى وزارة المعارف إمداده بما يصدر عن الجهات الرسمية العلمية والثقافية من مؤلفات وكتب وقوانين إلى غير ذلك لضمها إلى مكتبه
وقد كتبت وزارة المعارف إلى وزارة المالية تطلب إليها رأيها في هذا الطلب، ذاكرة في هذا الصدد أن ما يطلبه المكتب المشار إليه لا يكلف الحكومة شيئاً يذكر
رحلة علمية لدرس طرق القوافل(259/69)
من أنباء لندن أنه وصل إلى ميناء سوثمبتون المستر سمبتش والمستر مور من الأمريكيان ثم سافرا إلى الإسكندرية بالطائرة (كابيلا). وسيقومان برحلة تستغرق ثلاثة أشهر من النيل إلى دجلة والفرات يتفقدان في خلالها طرق القوافل القديمة ويقارنان بينها وبين طرق النقل الحديثة التي تستعمل اليوم
سفر بعثة علمية ألمانية من كوبنهاجن إلى جرينلند
من أخبار برلين أن بعثة علمية ألمانية سافرت أخيراً على الباخرة (جرترودراسك) من كوبنهاجن إلى جرينلند للقيام بمباحث جغرافية وجيولوجية ونباتية وحيوانية وقد وردت منها البرقية الآتية: (لا يوجد الآن جليد على سواحل جرينلند الشمالية. وقد نزلنا إلى البر بكل راحة والطوالع حسنة للقيام بأعمال مثمرة والجميع في خير حال)
الاستكشافات القطبية
تلقت وزارة الخارجية دعوة موجهة للحكومة المصرية، للاشتراك في مؤتمر دولي خاص بالاستكشافات القطبية سيعقد في مدينة برجن عاصمة النرويج في 15 مايو إلى 22 سبتمبر سنة 1940
وقد أحالت وزارة الخارجية تلك الدعوة إلى الوزارات المختصة للوقوف على رأيها في هذا الشأن، وستعرض أيضاً على لجنة المؤتمرات والمعارض في اجتماعها القادم
العالم العربي كما تصوره جريدة إنجليزية
نشرت جريدة إيكونومست مقالا رئيساً بحثت فيه أحوال العالم العربي وأشارت إلى الاقتراح القائل بوجوب عزل فلسطين عن جوارها بسياج من الأسلاك. لكنها أوضحت أن فلسطين غير قابلة للعزل على الإطلاق، لأنها محاطة من كل جانب بالعالم العربي، وما من حاجز مادي يستطيع أن يمنع مليون عربي مقيمين فيها من الشعور والتفكير والعمل بالاتفاق مع أربعين إلى خمسين مليون عربي يعيشون في مناطق واسعة من الأرض الداخلية
ثم قالت إن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في ذلك الفضاء الواسع، بل هي أم اللغات الشائعة بين الأهالي الحاليين في آسيا الجنوبية الغربية وأفريقيا الشمالية ما خلا بضع(259/70)
جزائر غريبة اللسان باق بعضها من الأزمنة السابقة لعهد العرب
فما هي الآمال القائمة اليوم في بعض الصدور؟ هل النزلاء الأوربيون الذين حلوا أخيراً في مملكة العرب القديمة سيزيدون عدداً حتى يملئوا الأرض التي كانت إلى الآن عربية؟ وهل يدفعون سكانها العرب أنفسهم على تخلية المدن والقرى والرجوع القهقري إلى الصحراء الجرداء القاحلة؟
لا شك أن في الدنيا بعض الصهيونيين يحملون في أن يجعلوا اللسان العبراني لسان الشرق من حيفا إلى تل أبيب على الطرف الغربي من الصحراء السورية، كما يوجد أيضاً بعض الفرنسيين الذين يحلمون مثل هذا الحلم ويرجون نقل لغتهم الفرنسوية من وهران والجزائر إلى الطرف الشمالي من الصحراء الأفريقية وتحويل من هنالك من البرابرة الذين لم يصيروا عرباً حتى الآن إلى فرنسيين
فهل هذه الأحلام الأوربية بالتوسع العظيم على نفقة العرب تخيلات وهمية أم سياسة عملية؟
إن الرد على هذا السؤال يتوقف على كيفية تأثر العرب بهذا الاندفاع الأوربي. أن اشتراك اللغة وحدها لا يترتب عليه اشتراك في الشعور الاجتماعي ولا اشتراك في الغايات ولا في الأماني. وقد كان العرب حتى الآن متباعدين. ويستدل على عدم تضامنهم باختلاف الألوان الكثيرة على خريطتهم الجغرافية
فان في العالم العربي اليوم أربع دول: السعودية واليمن والعراق ومصر، مستقلة استقلالاً تاماً، وثلاثا على مقربة من الاستقلال وهي سوريا ولبنان وشرق الأردن، واثنتين ممنوعتين من الاستقلال مكرهتين على قبول نظام الحماية الفرنسوية وهما: تونس والمغرب الأقصى، وثلاثا محكومات فعلا بصفة مستعمرات مع أنهن في الواقع ذوات أحكام مختلفة. ففلسطين تحت الانتداب البريطاني، والسودان تحت السلطتين الإنجليزية والمصرية، ولوبيا تحت السلطة الإيطالية. وأخيراً الجزائر فان فيها ثلاث مقاطعات معدودة فرنسية كأراضي فرنسا الأصلية.
(وهكذا نرى العالم العربي في حالته الحاضرة لا يختلف عن أيام الصليبيين. بل إن الخريطة الحاضرة تشبه خريطة تلك الأيام إلى درجة مدهشة(259/71)
ففي تلك الأيام كانت فلسطين وتونس كما هما اليوم النقطتين العربيتين اللتين رسخت فيهما قدم الغزاة الأوربيين، وكانتا كما هما اليوم نقطتي الخطر المميت. ومنهما انبعث قبلاً كما ينبعث اليوم النداء العام إلى تعاون العرب الذي كان محسوباً مستحيلاً وقتئذ كما هو محسوب الآن.
أن النورمان أخرجوا من تونس بقوة منقذين أقبلوا لنجدتها عليهم من المغرب الأقصى. وصلاح الدين الأيوبي استطاع وقف الحملة الصليبية الثالثة بقوات متحدة تحت سيطرته من سوريا والعراق ومصر.
فهل ترى التاريخ يعيد نفسه؟ - إن الأدلة التي تشير إلى ذلك عديدة.
نداءات الباعة في القاهرة
في العدد الأخير من مجلة مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن بحث قيم طريف عن نداءات الباعة في شوارع القاهرة تحت عنوان ' وهو ما يسمعه الجالس على المقاهي أو الجائل خلال شوارع القاهرة ودروبها وأزقتها من مختلف النداءات التي يحاول الباعة أن يجتذبوا الجمهور بها إلى بضائعهم، والتي يبذلون غاية جهدهم في تنميقها حتى تكون مشوّقة، وهذا البحث جديد في بابه لم يلتفت إليه أو يُعْنَ به أحد قبل كاتبه مستر فهذا المقال الطريف بما حوى من مختلف النداءات التي تقرب من مائتي نداء تصور جانباً من الحياة النفسية في القاهرة للباعة المتجوَّلين، ويطلَّ القارئ منها على أساليب العيش في مصر، إذ أنها تمثل صميم الحياة الاجتماعية، ويذكرنا هذا البحث بكتيب صغير الحجم ألفه أحد الأمريكيين منذ أمد غير بعيد وقدمه رسالة لجامعة كاليفورنيا بأمريكا تناول فيه الأمثال الدارجة عند أهل الشام وترجمها إلى الإنجليزية وعلق عليها، فمنحته الجامعة لقب دكتور في الآداب
وعلى ذكر مجلة اللغات الشرقية نقول إن هذه المجلة إحدى نشرات جماعة المستشرقين القيمة التي تعني بالدراسات الشرقية على وجه العموم، فتلتقي على صفحاتها أقلام أعلامهم، متناولة شتى جوانب الحياة الشرقية والتفكير الشرقي ممثلين في آدابه ودياناته وحركاته الاجتماعية، ولقد ظل الأستاذ سير دينسون روس أستاذ اللغة العربية بجامعة منشستر محرر هذه المجلة منذ نشأتها حتى العام الماضي، ثم تولاها من بعده الأستاذ تيرنر وهو من(259/72)
أفذاذ المستشرقين الإنجليز(259/73)
الكتُب
التجديد في الشعر
أرجوحة القمر
للشاعر اللبناني صلاح لبكي
للأستاذ فليكس فارس
لا أحب هؤلاء المدعين التجديد في الإنشاء المرسل والشعر المرسل الذين يحسبون أنهم يجيئون بالعجب العجاب إذا هم قلبوا أوضاع اللغة وتصرفوا بلهجاتها وروعة اتساقها، فكأن تفكيرهم وشعورهم لا يقويان على الظهور إلا إذا خلقوا لنا لغة جديدة تقوى على اقتناص شوارد الخيال وجامحات التفكير فيهم؛ وكأن البيان العربي الذي اتسع لأقدس وحي وأروع إلهام، قد فقد روحه وأنحطم جناحاه في هذه الأيام
لا ريب في أن لشاعر الحضارة ما لم يكن لشاعر البداوة من الانطباعات الذهنية والتأثر؛ ومن وقف عند القديم في مجال التصور والانفعال كان مقلداً يجره البيان إلى المعنى إذ لا يملك تحكيم معناه ببيانه
نحن اليوم في مرحلة يتنازع فيها إلهام الشاعر قوتان: قوة تفكيره وشعوره في بيئة تختلف عن البيئة التي ألهمت الشعراء الأقدمين، وقوة الأسلوب العربي الذي لا يسلس قيادة إلا لمن اهتدى إلى مواضع المرونة في قوته
إن من الشعراء الذين وقفوا إلى حد بعيد في إلهامهم وبيانهم الأستاذ صلاح لبكي وهو ابن المرحوم نعوم لبكي صاحب جريدة المناظر (جدة صحف المهجر) الذي قضى حياته محلقاً في أجواء السياسة والأدب فما جاراه إلا العدد القليل في أوائل النهضة بلاغة وجراءة وإخلاصاً. وقد طوى جناحيه في أواخر أيامه على صخرة جرداء كانت كرسياً لأول رئيس للمجلس النيابي في لبنان
والأستاذ صلاح محام لامع قدير لم ينضب القانون معين شاعريته، فالشاعرية الأصيلة كدوحة السنديان تنشب أصولها في كل تربة ونتغذى حتى من الصخور
وقد نشر مؤخراً في ديوان صغير بعض مقطوعات تعد بحق من نماذج التطور الذي لم(259/74)
يضل سبيله في الشعر العربي فاسمعه يقول في مقدمته:
ورب شعر نام عنه القضا ... مر بجيل بعد أجيال
يحمل منى زفرة مرة ... مرثاة أحلامي وآمالي
ردده عني فتى لم تدع ... منه الرزايا غير أسمال
مستأنساً بي جاهلا من أنا ... إني أخو الباكين أمثالي
وإذا ما وصلت إلي مقطوعة العاصفة فاقرأها كلها فهي ستة أبيات تقرأ فيها قصيدة طويلة
اسمعي الإِعصار يدوي في الجبال ... اسمعي للغاب أناتٍ طوال
اسمعي كم طائر تحت الظلام ... تائه بلله القطر السجام
يتوخى مأمنا حتى الصباح ... من تُرى ينجيه من كف الرياح
افتحي الكوة في وجه السما ... وانظريها لبست ثوب الشقاء
وتوارت رهبة خلف الغيوم ... بعد أن أطفأت الريح النجوم
أغلقي الكوة في وجه الرياح ... للصباح
خبئي رأسك في صدري ونامي ... يا غرامي
وعندما تستوقفك قصيدة تشويق بمقدمتها الصوفية فاتلُ منها بصوت مرتفع هذه الأبيات لتشرك أذنك بما يتمتع به تفكيرك وشعورك من روعتها وسلاستها
رب يوم تمشين فيه إلى مغْ ... رِب عمر الحياة دون رجاء
يلفح الريح في طريقك والقر ... ويرسو عليك هم الشتاء
وتصيرين والضحى كبقايا ... علم رث تحت ستر الخفاء
نسجوه لكل مجد فلم يخْ ... فق بجو ولم يصن بدماء
وتبيتين دون ذكرى غرام ... كان دفء الصبا عجوز شقاء
فتعالي إني فرشت لك الحب ... وعطرت بالحنان هوائي
نتساقى الهوى ونذخر للتذ ... كار نوراً لساعة الإمساء
حينما لا نعود نسكر بالحب ... ويمسى التذكار كل المزاء
فليكس فارس(259/75)
الحروب الصليبية
في نهاية العصور الوسطى
تأليف الدكتور عزيز سوريال
الدكتور عزيز سوريال عطية أحد القلائل - بين المؤرخين العالميين - الذين كرسوا جهودهم لدراسة الحروب الصليبية في عهدها الأخير، ولإيضاح الصراع الهائل الذي كان بين الشرق والغرب إبان العصور الوسطى، والذي كانت تذكي حماسته عوامل مختلفة بعضها ماديّ وبعضها روحي. ولقد أصدر منذ بضعة أعوام كتابه عن (حرب نيقوبوليس الصليبية) فلقي من تحبيذ الهيئات العلمية والجامعات الأوربية ما دفع مؤلفه للسير في هذا السبيل الشائك برغم ما يعترض سبيل الباحث من عقبات كأداء تكاد تصرفه عن متابعة البحث في تلك الناحية.
واليوم يفاجئ المؤلف المصري باحثي التاريخ بكتاب آخر يضعه في مصاف أقطاب مؤرخي هذه الناحية الصعبة الولوج، إذ أصدر في الشهر الغابر كتابه الثاني الضخم (الحروب الصليبية في نهاية العصور الوسطى) في قرابة 620 صفحة من القطع الكبير، أصدرته مطبعة ماتيوين في إنجلترا في طبعة أنيقة، ولقد شمل الكتاب من اللوحات الفنية الملونة وغير الملونة عدداً لا يستهان به، وقد نقلت هاتيك اللوحات من المخطوطات الأصلية الموجودة في المتحف البريطاني ومكتبة الفاتيكان بروما وليدن وغيرها من مكاتب أوربا، ولا مشاحة في أن هذه اللوحات تعين القارئ على تفهم كثير مما يلقاه في ثنايا هذا السفر الضخم، كما أضاف المؤلف لكتابه خرائط عدة منقولة عن مخطوطات الرحالة التركي بيرى رئيس، الموجودة في مكاتب برلين ودرسدن، ولا شك في أن الدكتور عطية قد ذلل للقارئ السبيل بما قدمه له من خرائط رسمها بنفسه حتى يتفهم المرء من غير عسر مضمون أبحاث هذا الكتاب
وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام كبيرة، استعرض المؤلف في أولها تاريخ الشرق والغرب من حيث الحروب الصليبية وعلاقتها بالتاريخ العام في تلك الفترة، وشمل ثانيها تحليلاً للأصول الأوربية في الدعاية لهذه الحروب ومشروعاتها المختلفة، وألم المؤلف في ثالثها بموقف الشرق بما في ذلك أمم التتر والطوائف المسيحية الشرقية إزاء الحروب الصليبية؛(259/76)
أما الأخير فيفصل تاريخ الحملات الصليبية نفسها واحدة فواحدة. كل هذه المباحث في عشرين فصلاً، أضاف إليها الدكتور ع. س. عطية خمسة ملاحق منها ما هو منقول عن مخطوطات لاتينية لم تنشر بعد، ورأت النور لأول مرة على صفحات الكتاب، ومنها ما هو تحليل لما اكتشفه المؤلف من رسائل سلاطين المماليك في ذلك العهد النائي لملوك أرغونة، وينتهي الكتاب بفهرس للمراجع الخطية والمطبوعة من عربية وتركية ولاتينية وفرنسية وإنجليزية وإيطالية وألمانية. الخ
ولقد جاء في تقدمة الناشرين: (إن مؤلف هذا الكتاب الهام - الذي برهن على مقدرته في تناول البحث بمجلده السابق عن حرب نيقوبوليس - يستعرض اليوم في كتابه الحاضر ذلك التاريخ الذي تعتبر نيقوبوليس آخر فصل فيه، ونحن نعتقد أن المشاق التي تجشمها في هذا الصدد قد أسفرت عن عمل ذي قيمة علمية عظمى، ولقد واصل المؤلف سلسلة دراساته لهذه الغاية في المخطوطات) العربية بقارتي أوربة وأفريقية، وهو إلى جانب إجادته لأحدث طرق البحث العلمي في أوربة، فإنه يتكلم الإنجليزية كلغته الأصلية، ومن ثم كان نتيجة بحوثه سفراً علمياً دقيقاً، وهو بالإضافة إلى كل هذا صورة حية للكفاح بين الشرف والغرب في القرن الرابع عشر، وتصوير لحال العالمين الإسلامي والمسيحي في ذلك العهد السحيق. ومن ثم لم تكن ثمة مندوحة عن هذا الكتاب للمؤرخ والسياسي ولكل مشتغل بدرس الشؤون العالمية وتفهم أصول الصراع الحاضر في شرق البحر الأبيض المتوسط) هذه هي كلمة الناشرين، أما نظرية المؤلف فتتلخص في أن الحروب الصليبية لم تنته بسقوط عكا - وهي آخر حصن للصليبيين - في يد المسلمين عام 1291، وإنما بقيت هذه الحركة قوية حتى سنة 1396، يدل على ذلك الاهتمام الشامل في أوربا بأمر غزوة بيت المقدس والحروب التي قامت بها الدول ضد المسلمين في مصر وشمال إفريقية وسوريا وتركيا، فكأن المؤلف بذلك ينفي الفكرة التي شاعت بين المؤرخين في هذه الناحية حتى وقتنا هذا، وهو بذلك يضع أساساً جديداً لاستعراض تلك الدراسة. ومن رأيه أيضاً أن نتيجة هذه الحركة قيام الإمبراطورية المصرية بالقضاء على ملك المسيحيين بالبحر الأبيض المتوسط وتوغل الأتراك في أوربا نفسها
والمؤلف المصري جدير بما أحلته إياه جامعات أوربة وتسابقها في الاحتفاء به، وهو بعد(259/77)
كل شيء فخر لمصر في عالم البحث والتحليل
ح. ح(259/78)
عصفور من الشرق
تأليف الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ علي الطنطاوي
الأستاذ توفيق الحكيم أكبر أدبائنا القصصيين. لا يكاد ينازع في ذلك أحد، ومن أكثر الأدباء إنتاجاً وأخصبهم قريحة. عالج أنواعاً من القصة فوفق فيها وأني بالمعجب المطرب، ومن ذلك قصته الأخيرة (عصفور من الشرق) التي فرغت من قراءتها الآن، فأحسست كأني كنت في جنة سحرية، ثم هبطت إلى الأرض، وتمنيت لو طال نفس الأستاذ فيها حتى ما تنتهي. وأكبر ما أعجبني فيها هذه النظرة إلى الغرب وماديته، وهذه القولة الجريئة في بيان حقيقة الغرب وتخلفه في ميدان الروح، على سبقه في مجال المادة، تلك التي لو قالها غير الأستاذ توفيق الحكيم لا تهمه هؤلاء المفتونون بالغرب من شباننا بالجمود والرجعية وما إلى ذلك من الألفاظ التي حفظوها حفظ الببغاوات، وما فتئوا يرددونها ترديد الحاكي، فلما قالها الأستاذ الحكيم وهو الذي يعترفون بأدبه، ويقرون بسمو منزلته، ويتمثلون بأقواله، سكتوا ولكن على مضض. وهذه ميزة كبيرة للقصة ترتفع فيها إلى صف القصص العالمية التي لم تنشأ لمجرد اللهو، ولإمتاع القارئ بالجمال الفني، وإنما جمعت إلى الجمال الفني نظرة تحليلية إصلاحية عميقة؛ غير أني أخذت على القصة أشياء، منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يمس الدين، ومنها ما يعود إلى اللغة. أسأل عنها الأستاذ الكبير، ليوضح منها ما خفي، ويفتح ما استغلق
أولها: إن القصة تكاد تكون مؤلفة من حلقات ثلاث لا صلة بينها إلا صلة محسن الذي يمر فيها جميعاً، أندره وأمه العجوز وزوجها الهرم، ودارهم التي وصفها المؤلف وبيّن أنه لا مورد لشيخي الدار إلا ما يأتي من محسن، وبدا للقارئ أن بين محسن وأهل الدار أكثر مما يكون بين مستأجر وبين أصحاب المنزل. فلما انتقل محسن إلى المنزل، انقطع الحديث عن والدي أندريه وعن منزلهما، على حين أن القارئ يتشوق للعودة إلى حديثهما، وما كان من أمرهما بعد انتقال محسن
والحلقة الثانية: سوزي التي أحبها محسن وشغف بها ثم انتهت العلاقة بينهما على هذا الشكل، ولم يرجع لها في القصة ذكر، مع أن القارئ يحب أن يسمع شيئاً عنها ويعجب من(259/79)
محسن هذا الذي كان مستهاماً عاشقاً، لا يفكر إلا في هذه التي يحبها، كيف ينساها أبداً ولا يجري اسمها على لسانه ولا تمر صورتها في جنانه، ولا يبقى لها أثر في نفسه؟ ما هكذا عهدنا المحبين يغفلون، فأي حب هذا؟
والحلقة الثالثة: إيفان الذي أنطقه المؤلف بأصح الآراء وأثمنها في حضارة الغرب ومذاهبه الفكرية، وهي حلقة منفردة عن الحلقتين، ولكنها حلقة مفرغة، ليس فيها نقص ولا خرم
أما ما يتصل بالدين، فهو أن الأستاذ ينظر إلى السيدة زينب نظر المسيحيين إلى القديسين والشفعاء، فيسميها حامية، وينسب إليها الضر والنفع، ويطلب منها ويتوسل إليها؛ وهذا كله مخالف لروح التوحيد الذي جاء به الإسلام، فليس في الإسلام حماة ولا وسطاه بين الله وعباده، ولا ينفع ولا يضر إلا الله، وإذا كان الله يقول لرسوله الأعظم: (ليس لك من الأمر شيء) وإذا كان النبي يقول لابنته فاطمة: (يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً) فماذا تصنع السيدة زينب للأستاذ الحكيم؟ وكيف تحميه من الله الذي لا يشفع عنده واحد إلا بإذنه، فهل أذن لها الله بحماية الناس، أم إن من الناس قوماً (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)؟
أما ما يعود إلى اللغة، فشيء يعرفه الناس من لغة الأستاذ، لا حاجة إلى بيانه
هذا وإني أهتبل هذه الفرصة لأرفع إلى الأستاذ الكبير تحياتي وإكباري
علي الطنطاوي(259/80)
العدد 260 - بتاريخ: 27 - 06 - 1938(/)
المعرفة سيادة
للأستاذ عباس محمود العقاد
المسافة بين منشية الإسكندرية ومحطة الرمل قصيرة، ولكنها على قصرها تريك من أي طريق سلكتها عظم المسافة بين الأمم التي تسود والأمم التي تساد
عشرون أو ثلاثون مكتبة في هذه الطريق بين فرنسية وإنجليزية وإيطالية ويونانية، وفيها من الكتب الأدبي والقصصي والفلسفي والعلمي وكل ما يبحث فيه الباحثون ويصنف فيه المصنفون
والبلاد عربية، فأين هي المكتبة العربية بين جميع هذه المكتبات؟
لا ترى هناك مكتبة واحد؛ وإن رأيت بعض الكتب العربية فقد تراها معروضة في إحدى الوجهات الإفرنجية فرعاً من الفروع الصغيرة، لا أصلا من الأصول الكبيرة التي تتشعب عليها الفروع
لم هذا؟
ألأن السكندرية مدينة تجارية كما يقولون فلا شغل فيها للمصريين غير التجارة والسوق، وغير البضاعة والأسعار؟
إن كانت التجارة صارفاً عن الثقافة فالأجانب في الإسكندرية تجار أو عاملون في التجارة، ولعلهم هم القابضون على أزمة السوق وهم الظافرون منها بحصة الأسد، وما من أجنبي في الإسكندرية إلا وهو طالب مال ومشتغل بحرفة من حرف الاتجار والصناعة. فلم كثرت الكتب الإفرنجية وقلت الكتب العربية في المدينة؟؟
أم هي كثرة الصحف والمجلات كما يقولون قد صرفت المصريين عن دراسة الكتب إلى لهو القراءة وتزجية الفراغ؟
ليس هذا أيضاً بصالح لمعذرة ولا لتفسير، فأن الصحف والمجلات الأجنبية التي تظهر في القاهرة والإسكندرية، أو ترد إليها من لندن وباريس وروما أكبر عدداً وأوسع انتشاراً من صحفنا ومجلاتنا العربية، وهي مع هذا لا تصرف القراء عن مطالعة الآداب ومتابعة العلوم والأخذ بالنصيب المطلوب من الثقافات والفنون.
لا هذا ولا (الأمية) سبب معقول لشيوع الكتب الإفرنجية وندور الكتب العربية في عاصمة(260/1)
القطر الثانية، أو في عاصمة الثقافة الشرقية على عهد من عهود مصر الغابرة، فان العارفين بالقراءة من المصريين في الإسكندرية لا يقلون عدداً عن العارفين بالقراءة فيها من النزلاء والغرباء، وإن كان فرق بينهما في العدد فليس هو الفرق الذي يكون بين صفر وثلاثين
إنما الفرق الصحيح هو فرق بين أمم تسود وأمم تساد
أو هو فرق بين من يطلبون المعرفة شوقاً واستطلاعاً، ومن يطلبونها تكليفاً واتباعاً، لأن التكليف فرض على المسودين حتى حين يعرفون
بل هو فرق بين النفس التي يبقى فيها جانب يطلب الغذاء بعد أن تشبع المعدة بالخبز والماء، وبين النفس التي يشبع منها كل جانب حين تمتلئ الأحشاء بالطعام والشراب
وذلك هو الفرق الصحيح لا مراء
وفي الطريق من مصر إلى الإسكندرية على جانب الصحراء أديرة قديمة نعلم عنها من كتب الأجانب ما لسنا نعلم من الكتب العربية جمعاء.
ذهبت إلى الإسكندرية ومعي كتاب ضخم بالإنجليزية عن هذه الأديرة يقع في نيف وخمسمائة صفحة كبيرة بين كتابة ونقوش
لمن كتبه الكاتب؟
وماذا يعني القراء مما كتب؟
كتبه للمعرفة، ويقرأه القراء للمعرفة؛ وليس من سبب غير المعرفة يساوي الجهد المبذول فيه والثمن المقدور له والوقت الذي انقضى في تحضيره وتأليفه وضبط نقوشه ورموزه وتواريخه
أما هذا السبب فلعله آخر الأسباب التي تدفع الجمهرة عندنا إلى فتح كتاب، فضلاً عن تأليف كتاب
من يطلب المعرفة لفائدة يحصرها في المأكل والملبس والمسكن وما هو في حكم الطعام واللباس والبيوت، فإنما هو مسوق إلى ما يطلب، وإنما هو عبد في جهله وعبد في معرفته على السواء
ومن يطلب المعرفة لأنها المعرفة، فذلك هو السيد وتلك هي السيادة؛ وحسبه أنه هو يريد(260/2)
أن يعرف ثم تأتى الفائدة في الطريق، وليس؛ يراد على معرفة شيء كما يراد على جهله، لأنه مسوق بسلطان الضرورة القاهرة إلى ما يريد
ولست أعني بسيادة العارف أن المعرفة سلاح في يديه يصل به إلى السيادة كما يصل المرء إلى السلطان بالسيف والمال والحيلة
كلا. فلو كان كل في ما المعرفة من سيادة أنها كالسلاح في هذا المطلب لكانت أداة تؤدي إلى غيرها ولم تكن غاية تتأدى إليها المقاصد وتنتهي إليها اللبانات.
ولكنما عنيت أن طلب المعرفة للمعرفة هو هو السيادة، وهو هو العلامة على أن الإنسان (سيد)، يفهم ما يفهمه لأنه طبيعة فيه ووظيفة من وظائف عقله وتكوينه، لا لأنه مغرى به إغراء الطمع، ولا لأنه مسوق إليه سوق الإجبار والإكراه
لم تعرف النفس؟
ألا تسأل: لم تنظر العين؟ ولم تسمع الأذن! ولم يشم الأنف؟ ولم تدرك الحواس؟
إن العين لا تنظر لسبب غير أنها حاسة فيها قوة النظر، والأذن لا تسمع لسبب غير أنها حاسة فيها قوة السماع، وكذلك الأنف وكذلك كل حاسة في الإنسان أو الحيوان. فما بالنا نبتغي سبباً للعقل أو للبصيرة حين يدركان ويعرفان؟ لماذا تنظر العين لغير علة ولا مطمع ولا فائدة، ثم نأبى على العقل أن يدرك ما يدرك إلا للعلل والمطامع والفوائد، وإلا لهذه العلل والمطامع والفوائد التي نحصرها في أضيق الحدود وأقرب الحاجات.
لأحرى بنا أن نسأل: لماذا يحجم العقل عن المعرفة، وأن نسأل لماذا تحجم العين عن النظرة، وأن نسأل لماذا تعجز الحواس عن الإدراك
عندئذ نفهم الجواب ولا يطول بنا العناء في فهمه، فذاك أن الحواس عاجزة مكفوفة، وأن العين عمياء، وأن العقل معدوم أو ضعيف.
أما أن نسأل لماذا يعنى العقل بالمعرفة فذاك هو اللغو والفضول، وذاك هو السؤال الذي يشبه سؤالنا: ما بال العين تقع على ما تراه ولا تنحرف عنه ولا تأبى النظر إليه
حسب الشيء أنه يرى ليكون ذلك حقاً له في رؤية العيون
وحسب الشيء أنه يعرف ليكون ذلك حقاً له في معرفة البصائر والعقول
فأن جعلنا للمعرفة ثمناً من الحطام أو ثمناً مما يشبه الحطام فهي أذن معرفة اضطراراً أو(260/3)
معرفة عبيد وأتباع؛ وهي إذن شيء وطبيعة السيادة شيء، ولو نجح صاحبها في السيطرة على الآخرين كما ينجح الجبان في يده المدفع وخصمه أعزل من السلاح
قال الأستاذ طمسون عن آراء أرسطو في علم الأحياء ما معناه: إن الفضل كل الفضل للفيلسوف الإغريقي العظيم أنه شعر بالحاجة إلى مراقبة الحشرات والأسماك في الخلجات، وفهم أن تقييد حركتها وتسجيل ولادتها ونموها معرفة تحسن بالحكيم؛ وليس الفضل أنه أتى بآراء في علم الأحياء يعول عليها الناس في العصر الحديث
ولو أن الفيلسوف الإغريقي لم يشغل عقله في زمانه إلا بما يفيد لتوه وساعته لما وصلنا إلى علم أحياء يفيدنا اليوم، أو لا يفيد
ليست الآفة عندنا أننا مشغولون بالتجارة عن القراءة، فالأوربيون أعظم منا اشتغالا بالتجارة واجتناء لخيراتها
وليست الآفة أن الصحف اللاهية تصرفنا عن كتب العلم والأدب والدراسة، فان الصحف اللاهية سبقتنا في أوربا ويسبقنا بها الأجانب في بلادنا المصرية
ولكنما الآفة أن التجارة تجارتان: تجارة أحرار فهم مسيطرون عليها، وتجارة اتباع فهي مسيطرة عليهم، وأننا إذا طلبنا المال أو المعرفة طلبناهما مسوقين ولم نطلبهما طلب السادة الذين يملكون من أنفسهم بقية يشغلونها بما يحبون
عباس محمود العقاد(260/4)
تأملات في الأدب والحياة
للأستاذ إسماعيل مظهر
أديب طبعة ثانية
عرضت في كلمة سابقة إلى تلك المعركة القائمة على صفحات الرسالة بين الأدباء حول أدب الأستاذ العقاد وأدب الأستاذ الرافعي رحمه الله؛ وسقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأي واتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد. ولكن هذا كله لم يرض الأديب سيد قطب فراح يتهكم ويسخر لا ليقول شيئاً جديداً ولا ليحاسب نفسه حساب الرجل القادر على كبح عواطفه ليجعل لعقله بعض القدرة على وزن الموقف بميزان لا يميل مع الهوى ولا ينساق مع الانفعال.
غير أن انفعال الأديب سيد قطب فيما كتب لم يكن ليجعل لعقله محلاً من الأثر في صوغ المعاني التي أرادها، فأخذ يرمي الجمل والكلم ذات اليمين وذات الشمال وعن أمام وعن خلف، شأن الثائر لا شأن الناقد؛ ثم خانته ثورته وخذله انفعاله، فاستيقظ عقله الباطن استيقاظة طفيفة، فرجع إلى قوله: (أنا)، كأنما طبيعته لم تقو على احتمال تلك الثورة ولم تستطع مقاومة ذلك الانفعال، فتبدت في ثوب ذي ألوان - ألقى إليه به قزح وأدبر وانصرف - كان أبين لون فيه ذلك اللون الذي تتخيله من قوله:
(وإننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب (أي الأستاذ العقاد) لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)
إذن فالأديب سيد قطب أشد الناس فهماً لأدب الأستاذ العقاد، وليس ذلك فقط فهو أيضاً أشد الناس اقتناعاً بطريقته؛ وليس هذا ولا ذاك فقط، بل هو فوق هذا وفوق ذاك أقدر الناس على النسج على منوال الأستاذ العقاد. وإذن يكون الأديب سيد قطب، أديب طبعة ثانية؛ فهو باعترافه أديب، غير أنه عبارة عن نسخة من أديب آخر؛ أديب شخصية صورة من شخصية أديب آخر، وأدبه لوحة من أدب شخص آخر؛ أديب أسلوبه كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر؛ أديب نفسيته وطبعه وذاتيته كالصورة الموهومة التي تلتقطها المصورة الضوئية وتطبعها على الرق المعروف، ولكنها صورة وهمية(260/5)
هذه الصورة الوهمية، قد أفرغ عليها الأديب سيد قطب صفات وحلاها بفضائل، لا أنكر أنه نسبها إلى الأستاذ العقاد، كما لا أنكر أنه إنما نسبها إلى الأستاذ العقاد، لتكون نسبتها إليه منصرفة بالتبعية إلى (الطبعة الثانية) من الأستاذ العقاد؛ وتلك الطبعة هي الأديب سيد قطب
أما هذه الصفات وتلك الفضائل، فلا أنكر أنها قد فخمت وحليت، حتى إذا لابست أدب الأستاذ العقاد، لابست بالتبعية (طبعة ثانية) سيد قطب. يقول الأديب سيد قطب في مقاله الأخير:
(يعنى العقاد (والأديب سيد قطب باعتباره طبعة ثانية) إمام المدرسة الحديثة (والأديب سيد قطب باعتباره إمام المدرسة الحديثة طبعة ثانية) بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهنية، ويعنى بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة)
ثم يقول:
(وللعقاد (والأديب سيد قطب باعتباره طبعة ثانية) عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس) ومنشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، وطبع (أصيل)، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر) - ومن عندنا - تعبيرات الاختلاجات المستقوية على النفسانيات في كلمن سعفص قرشت هذا الكلام المغلق بسبعة أبواب كما يقولون، وأشباهه في كلام الأديب سيد قطب كثير وكثير جداً وجداً كثير، هو الذي يحاول أن يجلو به أستاذاً كالعقاد في مجال الكلام عن مذهبه، فإذا به يطمس المعاني ويرسل التعميمات التي لا حدود لها
لتكون حدوداً لمذهب أدبي. غير أن لهذا الأمر حقيقة خفية؛ حقيقة تختفي وراء هذه الضربات القاسية المصمة التي يخرج من هذه الطبلة التي يضرب عليها الأديب سيد قطب. أما هذه الحقيقة فهي أن الأديب قطب لا يتكلم عن الأستاذ العقاد، وإنما يحاول أن يتكلم عن نفسه متخذاً من الأستاذ العقاد دريئة يحتمي بها. كيف لا والأديب سيد قطب (من(260/6)
أخلص تلاميذ هذا الكاتب لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)؟ أما أن الأديب سيد قطب (أشد الناس فهماً لطريقة الأستاذ العقاد واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها) فأمر جدلي، ودعوى من السهل أن يدعيها أي إنسان؛ والدعوى شيء وإثباتها شيء آخر. وأما أنه يتكلم عن الأستاذ العقاد ليتكلم عن نفسه؛ وأما أنه لم يمدح الأستاذ العقاد ألا ليمدح نفسه، وليقول صراحة أنه خليفة العقاد في طريقته وإنه، أشد الناس فهماً لها واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها، فدعوى نقولها ونثبتها بكلام ذلك الأديب نفسه.
وحيث أن الأديب سيد قطب أثار النقع متخذاً من خصومة أدبية قديمة بين أديبين ذريعة للكلام في أشياء بعيدة عن مذهبيهما
وحيث أنه نصر الأستاذ العقاد على الأستاذ الرافعي رحمه الله في حماسة متقدة دلت على أنه يحاول من ورائها كسباً أدبياً
وحيث أنه قضى بأن الأستاذ العقاد صاحب مذهب، وأن مناظره لا مذهب له من غير أن يقيم الحجة على ذلك
وحيث أنه أتضح أن السبب في ذلك إنما يرجع إلى غرض خفي هو أن يدعي لنفسه أنه أشد الناس فهماً لطريقة الأستاذ العقاد واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها
وحيث أن المنطق يسلم بأنه لم يقصد من وراء ما كتب كله إلا بلوغ هذه الغاية الشخصية، وهو أن يكون خليفة الأستاذ العقاد، محاولاً أن يستل مجد أديب خدم الأدب ربع قرن ليدعيه لنفسه ببضع مقالات
لهذا كله يكون الأديب سيد قطب (طبعة ثانية) ولكنها طبعة مزورة من الأستاذ العقاد
هذا الاستقراء صحيح تحت مسئوليتي ولا أتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية. فإن الحقائق التي نمت عنها كلمات الأديب تجعل كل نقاش في الموضوع فاقد القيمة، ما دام أن (أنا) هي المحور الذي تدور من حوله تلك البحوث
عن فولتير
(1) من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وما هو عملك؟ وما الذي سوف يحل بك؟ عامة ذي أسئلة ينبغي أن يفكر فيها كل مخلوق في هذا الوجود؛ ولكن لم يجب عنها كائن ما. أتساءل عن النباتات بأي سر تنمو، وكيف أن الأرض الواحدة تؤتي بالثمر المتباين المختلف؟ إن هذه(260/7)
الكائنات غير الحساسة - مع إيماني بأنها زودت بسر إلهي - تتركني أمامها شاعراً بالجهل العميق، سابحاً في فروضي العميقة. إني أقف حائراً أمام هذه القطعان الغفيرة من الحيوانات، فكلها ذات قدرة على الحركة والانتقال، وفيها من الاحساسات ما أجد مثله في نفسي، ولها انفعالات تمتد إلى حيث تكون الأفكار والذكريات. ومع هذا فانهم بأنفسهم أجهل مني بنفسي. فلأي شيء وجدوا؟ وإلى أي شيء سوف ينقلبون؟ لقد أظن أن السيارات وتلك الشموس العظيمة التي تملأ رحاب الفضاء يأهل بها مخلوقات مفكرة واعية، ولكن دونها حاجز أبدي يفصلني عنها، فأن واحداً من سكان تلك الكرات العظام، لم يستطع الاتصال بعالمنا
قال رئيس الدير، متجلياً في الطبيعة، للفارس: إن النجوم قد صنعت من أجل الأرض، وإن الأرض والحيوانات صنعت من أجل الإنسان. ولكن هذه الكرة الأرضية الصغيرة إذ تدور مع بقية السيارات من حول الشمس؛ وإن هذه الحركة المنتظمة المنتسقة التي تسيرها الأجرام السماوية إذ ربما تستمر ولو لم يكن ناس؛ وإذ كان في سيارنا الصغير من الحيوانات عدد اعظم من عدد أبناء آدم؛ فقد أتصور أن رئيس الدير قد شمله حب الذات وعمه الغرام بالنفس، فخيل إليه أن كل شيء قد صنع من أجله. وإني لأرى أن الإنسان عرضة لأن يلتهمه أي حيوان إذا لم يتقها بالسلاح، وإن كل الحيوانات تأكله بعد أن يموت. من أجل هذا داخلني الشك في أن رئيس الدير والفارس هما سيدا الطبيعة. وباعتباري كائناً هو يحكم وجوده عبد لكل شيء يحيط به، لا سيداً آمراً مطاعاً؛ كائنا مكبلاً حيث ذهب وكان؛ كائناً تحيط به اللانهايات، أبدأ بحثي عن طبيعة نفسي.
2 - ضعفنا
إني حيوان ضعيف؛ ولدت بلا قوة وبلا معرفة وبلا غريزة. كنت عديم القدرة حتى على الزحف إلى ثدي أمي، على الضد من كل ذوات الأربع. استوعبت قليلاً من الفكرات، وحزت قليلاً من القوة عندما أخذت أعضائي تبرز وتتكون. ومضت القوة تزيد في، حتى إذا بلغت حداً اكتملت فيه، أخذت من ثم في التناقص. وتلك القوة التي مكنتني من إدراك الفكرات أخذت بدورها تزيد وتستفحل حتى بلغت حدها الأقصى، ثم أخذت تتخاذل بعد ذلك، حتى لأشعر بأنها تفني شيئاً فشيئاً(260/8)
ما هي تلك القوة الآلية التي تزيد من قدرة أعضائي في حدود هذا الهيكل الجسمي؟ إني لأجهلها. وأولئك الذين قضوا أعمارهم في الفحص عنها، ليسوا أكثر مني معرفة بها.
وما هي تلك القوة الأخرى التي تحمل الصور إلى ذهني، ثم تخزنها في ذاكرتي؟ أما أولئك الذين أجروا بالمال لكي يعرفوا شيئاً، فقد ذهبت كدودهم أدراج الرياح. ونحن وهم في الجهل سواء بالمبادئ الأولية التي تقوم عليها طفولتنا
3 - كيف أفكر
هل علمتني تلك الكتب التي حبرت في خلال الألفين الفارطين من السنين شيئاً؟ قد تشب في نفوسنا بعض الأحيان رغبة في أن نعرف كيف نفكر، وقلما تقوم في أنفسنا رغبة في أن نعرف كيف نهضم أو كيف نمشي. لقد تساءلت ما هو عقلي؟ والحق أنه سؤال كثيراً ما اربكني
لقد حاولت أن أكشف بقوة عقلي ما إذا كانت المصادر التي تجعلني أهضم وأمشي، هي بنفسها المصادر التي تجعلني أتقبل الفكرات. ولم أستطع أن أدرك كيف وإلى أين تذهب تلك الفكرات عندما يعضني الجوع بنابه السام، وكيف تعود وتتجدد بعد أن أسد نهمة الجوع بالأكل
استبنت فارقاً كبيراً شاسعاً بين الفكر والاغتذاء، بغيره لا أستطيع التفكير، حتى لقد اعتقدت أن في كياني مادة تفكر وأخرى تهضم. ومع هذا وبالرغم من أني رضت نفسي دائماً على الاعتقاد بأن في وجودي شيئين، فإني من الوجهة المادية أشعر شعوراً صادقاً بأنني شيء واحد. على أن هذا التناقض يؤلمني ويؤذيني
سألت بعضهم، وكانوا من أولئك الذين يفلحون الأرض، أمنا العظمى، عما إذا كان كل منهم شيئين، وعما إذا كانوا قد استكشفوا بفلسفتهم الخاصة أن فيهم جوهراً خالداً باقياً، ومع ذلك فهو مؤلف من لا شيء ولا امتداد له، وأنه يؤثر في أعصابهم من غير أن يلمسها، وإن هذا الجوهر قد حل فيهم بعد أن حملت فيهم أمهاتهم بستة أسابيع؟ فظنوا أني أهزل، ومضوا يفلحون الأرض مبتسمين من غير أن يحيروا جواباً
4 - أمن الضروري أن أعرف(260/9)
لما أن وجدت أن عدداً عظيما من الناس ليس لهم أية فكرة في تلك المشكلات التي تساورني، وهم مع ذلك لا تختلجهم الشكوك فيما يتلقى في المدارس أو في الوجود عامة أو في المادة أو في الروح إلى غير ذلك؛ ورأيت أنهم يهزءون من رغبتي التي تدفعني إلى معرفة هذه الأشياء واستيعابها، شرعت الريبة تداخلني في ضرورة معرفتها؛ وتخيلت أن الطبيعة قد أعطت لكل مخلوق نصيباً هو حقه الطبيعي غير زائد ولا منقوص، وإذن تكون تلك الأشياء التي لا نستطيع أن نعرفها، ليست من نصيبنا، ولكن بالرغم من هذا اليأس، فأني لا أقدر على أن أجرد نفسي من الرغبة في أن أتعلم، فان حب الاستطلاع نزعة سوف تظل غير مكفية في نفسي.
5 - أرسطو طاليس وديكارت وغسندي
بدأ أرسطو طاليس كلامه بالقول بأن الشك نبع المعرفة، وتابعه ديكارت فانتقل بهذه النزعة خطوة أخرى حتى لقد علمني كلاهما بألا أعتقد في شيء يقولانه. وديكارت هذا على الأخص بعد أن ادعى أنه يشك، مضى يتكلم بأسلوب تقريري حاسم في أشياء لا يفهمها. يقول أنه موقن بالحقائق، بينما تجده على خطأ كبير في طبعياته. لقد بنى ديكارت عوالم وهمية، فان حلقاته الزوبعية وعناصره الثلاثة، أمور تثير الضحك، حتى لقد أشك فيما قال في النفس، إذا قست علمه بها على علمه بالأجسام
هو يعتقد، أو بالحري يظن أنه يعتقد، أننا نولد مزودين بفكرات غيبية، فهل يحق لي أن أقول بناءً على هذا أن هوميروس قد ولد مزوداً بالإلياذة، وأنها كانت كامنة في تضاعيف ذهنه. مما لاشك فيه أن هوميروس قد ولد وذهنه مهيأ لأن يستوعب فيما بعد فكرات شعرية، بعضها جميل، وبعضها متضارب، وفي بعض الأحيان مصبوغة بالمغالاة، وفي النهاية استطاع أن يؤلف الإلياذة، إننا إنما نولد في هذه الدنيا وفينا البذرة التي تتمخض عما سوف نكون، ولكن الحقيقة أننا نولد وليس فينا من الفكريات الفطرية أكثر مما كان عند روفائيل وميكال انجلو من أقلام وألوان عند مولدهما
يحاول ديكارت أن يوحد بين خيالاته تلك، بأن يفرض بأن الناس يفكرون دائماً. من هنا أستطيع أن أفرض أيضاً أن الطيور تطير على وجه الدوام، وأن الكلاب تجري فلا تقف،(260/10)
لأن في الطيور القدرة على الطير، وفي الكلاب القدرة على الجري.
إننا لا نحتاج، لكي نقتنع، بما يتناقض هذه الأقوال، إلا لفتة إلى تجاريبنا، وأخرى إلى الطبيعة البشرية، فليس في الإنسانية برمتها واحد بلغ منه الجنون مبلغ أن يعتقد أنه مضى يفكر كل حياته ليلا ونهاراً بغير انقطاع، من يوم أن كان جنيناً حتى مرضه الأخير؛ أما الملجأ الذي يلجأ إليه الذين يدافعون عن تلك الأقصوصة، فقولهم إننا نفكر على الولاء، وبغير انقطاع، من غير أن تدرك أننا نفكر، ومن هنا يمكن أن نقول إننا قد نشرب ونأكل ونركب الخيل من غير أن تدرك أننا فعلنا ذلك؛ وإذا كنت عاجزاً عن أن تدرك أنك تحوز فكرات، فكيف تعتقد أو توقن بأن فيك منها شيء؟ لقد سخر غسندي من هذا المذهب المتطرف، جهد ما يستحق أن يسخر منه. ولكن أتعلم ماذا كانت النتيجة؟ كانت أن ديكارت وغسندي قد رميا بأنهما من الملاحدة المنكرين لله.
إسماعيل مظهر(260/11)
قصة الكلمة المترجمة
(القتل أنفى للقتل)
لأستاذ جليل
- 2 -
قرأ الأستاذ الرافعي (رحمه الله) كلمة الأستاذ النشاشيبي فأرسل إلى الجريدة بمقالة عنوانها (ليست مترجمة) - البلاغ 20 رجب 1352 - قال فيها:
(قال الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي في كلمة للبلاغ إن عبارة (القتل أنفى للقتل) ليست بعربية ولا مولدة بل هي مترجمة. ولكن هذه الكلمة لم يشر إلى أصلها غير (الثعالبي) وهو مع ذلك لم يقطع فيها برأي، بل أشار إلى ترجمتها في صيغة من صيغ التمريض المعروفة عند الرواة فقال: (يحكى فيما ترجم عن أردشير) و (يحكى) هذه ليست نصاً في باب الرواية، ولو كانت العبارة مترجمة لتناقلتها الأئمة معزوة إلى قائلها أو لغتها التي قيلت فيها. ولقد ذكرها العسكري في كتابه (الصناعتين) على أنها (من قولهم) أي العرب أو المولدين ونقلها الرازي في تفسيره فقال: إن للعرب في هذا المعنى كلمات منها (قتل البعض إحياء للجميع) وأحسنها (القتل أنفى للقتل) وكذلك جاء بها أبن الأثير، ولم يعزها. وكل ذلك صريح في أن خبر الترجمة ما أنفرد به إلا الثعالبي، ولا يقوم الدليل على ترجمتها إلا بظهور أصلها الفارسي! فان كان علم ذلك عند أحد فليتفضل به مشكوراً مأجوراً)
قلت: هذه أقوال الذين أشار إليهم الأستاذ الرافعي (رحمه الله) أرويها وغيرها بعدها فوائد يرغب الأدباء في علمها:
قال أبو هلال العسكري في (كتاب الصناعتين): (والإيجاز القصر والحذف، فالقصر تقليل الألفاظ وتكثير المعاني وهو قول الله عز وجل: - ولكم في القصاص حياة - ويتبين فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب في معناه وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل) فصار قول القرآن فوق هذا القول لزيادته عليه في الفائدة) ثم بين هذه الزيادة
وقال الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب): (اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز(260/12)
مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، وقول آخرين (أكثروا القتل ليقل القتل)؛ وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: (القتل أنفى للقتل)؛ ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه) وهي ستة وقد ذكرها، منها: (أن قول القائل: القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله (القصاص حياة) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد. إن القتل ظلماً - قتلٌ، مع أنه لا يكون نافياً للقتل. إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب)
قلت: نسبة الرازي قولهم (قتل البعض إحياء للجميع) إلى العرب باطلة مثل نسبة عبارة القتل إليهم، فقد أطبق الأئمة المحققون على أن العربية الأولى، عربية (الجزيرة) لم تقل في وقت: (الكل والبعض). قال الجوهري في (تاج اللغة وصحاح العربية): (وكل وبعض معرفتان، ولم يجيء عن العرب بالألف واللام، وهو جائر لأن فيهما معنى الإضافة أضفت أو لم تضف) ونقل قول (الصحاح) صاحب (المختار)
وقال أبن منظور في (اللسان): (وقال أبو حائم: قلت للأصمعي: رأيت في كتاب ابن المقفع: (العلم كثير، ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل) فأنكره أشد الإنكار، وقال الألف واللام لا يدخلان في بعض وكل لأنهما معرفة بغير ألف ولام. قال أبو حاتم: ولا تقول العرب الكل والبعض وقد أستعمله الناس حتى سيبويه والأخفش في كتبهما لقلة علمهما بهذا النحو فاجتنب ذلك فانه ليس من كلام العرب)
وفي (القاموس): (بعض لا تدخله اللام خلافاً لابن دُرُستُويَه)
وفي (شرح القاموس): (قال أبن سيدة: وفيه مسامحة، وهو في الحقيقة غير جائز. وفي العباب: وقد خالف أبن درستويه الناس قاطبة في عصره. وقال الناقدي:
فتى درستوي إلى خفض ... أخطأ في كل وفي بعض
دماغُه عفَّنه نومُه ... فصار محتاجاً إلى نفض
وقال أبن أبي الحديد في شرح النهج: (وقد استعملت في كثير فيما يتعلق بكلام المتكلمين والحكماء خاصة ألفاظ القوم مع علمي بأن العربية لا تجيزها نحو قولهم الكل والبعض(260/13)
والصفات الذاتية والجسمانيات ونحو ذلك مما لا يخفى على من له أدنى أنس بالأدب، ولكنا استهجنا تبديل ألفاظهم فمن كلم قوماً كلمهم باصطلاحهم)
وقد روى أبو العلاء هذا البيت في (رسالة الغفران) لسُحيم:
رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكل معمداً
لكنه قاله في (الرسالة) قبل ذلك: (وكذلك قوله: الكل (أي قول ابن القارح) إدخاله الألف واللام مكروه، وكان أبو علي يجيزه ويدعي إجازته على سيبويه، فأما الكلام القديم فيفتقد فيه الكل والبعض)
وفي (المصباح): (قال الأزهري وأجاز النحويون إدخال الألف واللام على بعض وكل) وتجويز نحوي لا يثبت عربية قول بل يجيز أن يقوله المولد وإن لم يرد
فقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع) مولد محدث، وقد روى الجاحظ في كتاب الحيوان هذا القول: (وقد قالوا: بعض القتل إحياء وبعض العفو إغراء، كما أن بعض المنع إعطاء. وهو كلام حسن من حكم المولدين المنشئين
وقال أبن الأثير في (المثل السائر): وهو - أي الإيجاز بالقصر - أعلى طبقات الإيجاز مكاناً، وأعوزه إمكاناً، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذاً نادراً. فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم (ولكم في القصاص حياة) فان قوله تعالى (القصاص حياة) لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة. ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: (القتل أنفى للقتل) فان من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه) ثم ذكرها ثم قال: (وقد صاغ أبو تمام هذا المعنى الوارد عن العرب في بعض بيت من شعره فقال:
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدم المغبر يحرسه الدم
فقوله: إن الدم المغبر يحرسه الدم أحسن مما ورد عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل)
وممن مشى وراء غيره في نسبة العبارة الفارسية إلى العرب يحيى بن حمزة صاحب (الطراز) فقد قال: (ومن هذا قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) فانظر إلى اللفظة الجميلة كم يندرج تحتها من المعاني التي لا يمكن حصرها، ولا ينتهي أحد إلى ضبطها، فأين هذا مما أثر عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل وقد تميزت الآية عنه بوجوه(260/14)
ثلاثة) ثم ذكرها
ومنهم الأسيوطي فقد قال في (الإتقان): وقد فضلت (يعني الآية الكريمة) على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) بعشرين وجهاً أو أكثر، وقد أشار أبن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك) ثم ذكر العشرين وجهاً
وصاحب (المفتاح) قال: (والعلم في الإيجاز قوله (علت كلمته) - في القصاص حياة - وإصابته المحز بفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى وذلك قولهم: القتل أنفى للقتل)
ونقا القزويني في (التلخيص والإيضاح) كلام المفتاح فقال: (عندهم)
وقد ذكر ابن القطقطي في كتابه (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) قول الله وتلك العبارة قال: (قال الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) وقيل: القتل أنفى للقتل) وروى بعد ذلك هذا البيت غير منسوب إلى أحد:
بسفك الدما بجارتي تحقن الدما ... وبالقتل تنجو كل نفس من القتل
وهو أفصح من الكلمة الفارسية وأبين وأجود، وهو محدث.
وأضبط الروايات في نسب تلك العبارة رواية (غرر أخبار الفرس وسيرهم) للثعالبي. قال في الصفحة 483: (فصول من كلام أردشير في كل فن: القتل أنفى للقتل الخ)
و (غرر أخبار الفرس وسيرهم) كتاب جليل ترجمه كله أجمع إلى الفرنسية هـ. زتنبرج. وقد قال في ترجمة عبارة أردشير:
ونشرت البلاغ (20 رجب 1352) بعد مقالة الأستاذ الرافعي (رحمه الله) كلمة للشيخ عبد العزيز الأزهري، عنوانها: (هي عربية) ومما قال فيها:
(نشرتم أمس في صحيفتكم أن جملة (القتل أنفى للقتل) يراها الأستاذ النشاشيبي مترجمة فهي ليست عربية ولا مولدة في رأيه. والذي أراه أنها عربية لما يأتي: أولاً - لأنها وردت بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري.
ثانياً - لأنها مما يوافق طباع العرب قبل غيرهم موافقة تامة فليسوا بحاجة إلى من(260/15)
يقرضهم أمثال هذه المعاني التي طفحت بها سيرهم وأملتها الدماء المهراقة بين لابتي الجزيرة العربية. فهي عربية لا مولدة ولا مترجمة، وقد يكون المترجم كلمة أخرى تشبهها هي: الاستعداد للحرب يمنع الحرب! فهذه معقول أن تكون مترجمة وخاصة في العصور الحديثة! لا بالعصور القديمة أو الوسطى التي كانت تضطرم نيران الحروب فيها لأوهى الأسباب)
قلت: قال الشيخ عبد العزيز الأزهري: (بين ثنايا عهد القضاء) والثنايا جمع الثنية. وقال (الصحاح): (والثنية واحدة الثنايا من السن، والثنية طريق العقبة). وقال اللسان: (كل عقبة مسلوكة ثنية وجمعها ثنايا. الثنية من الأضراس أول الفم، وثنايا الإنسان في فمه - الأربع في مقدم فيه، والثني من الإبل الذي يلقي ثنيتة، وذلك في السادسة، ومن الغنم الداخل في السنة الثالثة تيساً كان أو كبشاً)
فلا ريب أن الشيخ يريد أن يقول: (في أثناء عهد القضاء) و (الثني واحد أثناء الشيء أي تضاعيفه. تقول: أنفذت كذا في ثني كتابي) كما قال (الصحاح)، وفي (الأساس): (ومن المجاز في أضعاف الكتاب: في أثنائه وأوساطه)
وقال الشيخ عبد العزيز: (بين لابتي الجزيرة العربية)، والجزيرة العربية ليست بين لا بتين وإن كانت فيها لوب كثيرة. وتخومها في البر والبحر معلومة. والتي بين لابتين هي المدينة، يثرب، مُهاجَر سيدنا ومولانا رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه). وفي الحديث: (إنه حرم ما بين لابتيه المدينة) وهما حرتان يكتنفانها. قال صاحب (النهاية): (اللابة الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب مثل قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو. والمدينة ما بين حرتين عظيمتين)
(للقصة بقية)
(* * *)(260/16)
جورجياس
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 1 -
(تنزل (جورجياس) من آثار أفلاطون منزلة الشرف لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس - أفلاطون)
نبدأ اليوم فنقدم لقراء الرسالة الغراء ترجمة (محاورة جورجياس لأفلاطون) وهي من أجمل وأكمل محاورات الفيلسوف الخالدة إن لم تكن أجملها وأكملها جميعاً كما يقول الأستاذ (رينوفيير)؛ ولقد شئنا أن نختار هذه المحاورة على وجه خاص لأننا وجدنا فيها الكثير الجم من تلك المبادئ الخالدة التي هي جديرة تماماً بإنقاذ العالم من بحر المادية الصاخب الذي يغرق فيه اليوم، ومن تلك الفوضى الاجتماعية والسياسية والفكرية التي يعاني منها أشد العناء وينتحر على مذبحها انتحاراً أليماً!! ولما كان الكثير من القراء لا يعرف شيئاً عن هذه المحاورة فقد قصرنا هذا المقال على التعريف بها
مقدمة
ولد أفلاطون حوالي عام 427 ق. م في أسرة أرستقراطية عريقة. وشغف أثناء حداثته بالشعر، ثم ما لبث أن تركه بعد أن عرف أستاذه سقراط وأعجب به وبحواره العذب الطريف؛ وقد شهد في عصره عهد فوضى الحكومات الأرستقراطية والديمقراطية، كما(260/17)
رأى الكثير من أحوال أولئك السفسطائيين الذي كانوا ينادون بأن الفرد مقياس كل شيء! وبأن الحواس أساس المعرفة! وبأن حقائق الأشياء لا يمكن أن تعرف معرفة يقينية! بل والذين كانوا يعلمون أبناء الأثرياء الفصاحة والبيان ليجعلوا منهم خطباء قادرين على إقناع الناس واستهوائهم آناً بالباطل وآناً بالحق، كيما يفوزوا بمناصب الدولة وببعد الصيت وكيما يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم ويبرروا سلوكهم إزاء هجمات الخصوم والمنافسين، وأمام القضاة والجماهير!
شهد أفلاطون ذلك كله وسمع بإذنيه قول القائلين بأن القوة حق!، ورأى بعينيه كيف زج (الشعب) بأستاذه العظيم سقراط في السجن وكيف راح يستمع إلى تمويه (أصحاب الدعوى) ويصم أذنيه عن صرخة الحق التي كان يجلجل بها صوت ذلك الأستاذ المظلوم!. فكان لنا منه تلك المحاورات الكثيرة التي جعل بطلها سقراط، والتي تناول فيها أولئك السفسطائيين بالسخرية والتصوير، والتي دعا فيها إلى تلك المبادئ التي كانت ولم تزل ولن تزال نوراً تهتدي الإنسانية بضوئه الساطع في مجال العلم والفن، والسياسة والاجتماع، والآداب والأخلاق على السواء
أما (جورجياس) فكان من أئمة السفسطائيين ومن أشهر خطبائهم ومعلميهم. ولد سنة 485 ق. م. وزار أثينا حوالي سنة 424 ق. م. وكان يدعي أن في استطاعته أن يجيب على كل سؤال!، وكان يقول إنه ليس من الضروري أن تعلم شيئاً عن الموضوع لتجيب عن الأسئلة التي توجه إليك بشأنه!؛ ولقد حاول بعد هذا أن يثبت في كتابه (اللاوجود) أنه لا يوجد شيء!، وإذا وجد فلا سبيل إلى معرفته!، وإذا أمكن أن يعرف فلا سبيل إلى إيصاله للغير!!
لذلك نرى أفلاطون يكتب عنه محاورة خاصة هي المحاورة التي نبدأ بتقديمها اليوم للقراء الأعزاء. وقد نقلت هذه المحاورة إلى جميع اللغات الهامة كسائر محاورات أفلاطون. والترجمة التي سنعتمد عليها هنا هي الترجمة الفرنسية للدكتور (بول لمير أستاذ الفلسفة المعروف. ولكنا نرجو على أية حال أن تصلنا قريباً ترجمة أخرى من باريس كيما نقارن الترجمتين ونخرج منهما بالنص المضبوط
وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة للأستاذ (بول) ما يلي:
موضوع المحاورة(260/18)
(يصعب جداً تحديد الوقت الذي تحدث فيه سقراط مع السفسطائي، وربما كان ذلك أثناء زيارة جورجياس لأثينا. وتعتبر هذه المحاورة من المحاورات التي ألفها أفلاطون في شبابه. وهي تبدأ بوصول كل من سقراط وشيرون متأخراً، وكانا يريدان سماع محاضرة لجورجياس
ومن ثم يريد سقراط أن يعرف من المحاضر مفتاح فنه وطبيعة تعاليمه، فيطلب منه المناقشة. أما موضوع المحاورة فهو فن البيان ويريد أفلاطون أنه فن إقناع الناس بالحق والعدل لا بالباطل والظلم، كما يرى أن وسائله في الإقناع كثيرة، إذ أنه أما أن يضع الظواهر مكان الحقائق ويشير إلى الحواس والخيال والشهوات ثم العقل، وإما أن يشير إلى العقل ولكن بالمنطق السفسطائي الزائف كيما يخدعه. وبهذا يقتنع الشعب الوادع الجاهل، المخدوع دائماً بأولئك (الاستغلاليين) الذين يتملقونه!؛ والبيان بهاتين الوسيلتين دنيء حقير لا يعدو (فن الطبخ) في كثير! ولا يخرج على أن يكون خطاباً زائفاً منصباً على اللذائذ والشهوات فحسب؛ أما البيان الرفيع الصحيح فهو الذي يعني فقط بنصرة الحق والعدل؛ وتلك هي الناحية الإيجابية في المحاورة، ذلك أن الخطيب الحق عند أفلاطون، هو ذلك الصادق العادل الذي يستعين بالفلسفة في دراسة العدالة ونشرها، والذي يدعو لأن نكون أخيارا في السر والعلن، ولأن نكون عادلين دون أن نطمع في الجزاء!
(ولم يكن أشجع بعد هذا ولا أجرأ من أن يعلن أفلاطون في وقت اختفت فيه فكرة الواجب وانتهكت حرمة النظم والقوانين بالبلاد اليونانية، أن الأخلاق الفاضلة تحيا دائماً وتسود لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!، بل لم يكن أعظم ولا أجمل من أن تشيع هذه اللهجة السامية في جمهور متكبر اعتاد السياسيون أن يتملقوه، وامتلأ إيماناً (بحقه الأعلى) في شئون الدولة الصغيرة والكبيرة بغير استثناء!)
تحليل المحاورة:
أما الأستاذ (رينوفيير فقد حلل المحاورة تحليلا بديعا في كتابه , , ولذلك قد آثرنا أن نقدم هذا التحليل للقراء كيما نعدهم للترجمة أتم إعداد:
يقول (الظلم أفدح الشرور، وارتكابه أفدح من احتماله! وذلك هو الموضوع الذي يدعمه(260/19)
سقراط ويدافع عنه أمام ثلاثة من السفسطائيين!، أحدهم جورجياس أستاذ البيان، وكان يدعي أنه يعلم الناس العدالة وأنه يعرفها حق المعرفة، ولكنه كان يقول أن البيان يعلمنا كيف نقنع الناس بالعدل والظلم، وكيف ندهشهم ونذهلهم ونظللهم ونحكمهم!؛ ولذلك يريه سقراط أنه يجهل العدل. فيتقدم إليه متحدث آخر بحماس، ويقول له انه يعترف بأنه لا يعلم الناس العدالة وإنما يعلمهم فن القوة والسعادة، وإنه يعتبر ظالماً جباراً (كأرشليوس) (الذي قتل أخاه وعمه وأبن عمه ليصل إلى العرش) - أسعد الناس. . . فما يلبث سقراط أن يقرر أن الظلم شر، وأن العقاب بسببه خير، وأن أسوأ النفوس وأشقاها هي تلك التي تكون غارقة في بحر الظلم وتأبى مع ذلك أن ينقذها منقذ يبعدها عن العقاب!، وهنا يشك السفسطائي الثالث في أن سقراط يعني حقاً ما يقول و. . .، ثم يعلن أن الأفضل لنا هو أن نكون ذلك (الهرقل) الذي تصبح إرادته قانونا!، وان الضعفاء هم الذين يسنون القوانين ويسمونها عدلاً!. . .، وأن العدل في الطبيعة هو حق (الأقوى والأحسن) فيسائله سقراط: إذا كان الأمر كذلك فهل تصبح إرادة (الجماعة) عدلا مادامت هي الأقوى؟)
وهكذا يأخذ سقراط في إحراج المتحدثين الثلاثة وفي تضييق الخناق عليهم حتى يفسد عليهم حججهم، ويعلن (أننا نستطيع أن نستمد من العقل كل ما هو مشروع بالنسبة للجماعة والفرد، وأن الشخص العفيف يكون عادلاً وطيباً وشجاعاً، وأن غير العفيف يكون شقياً لا صديق له من الله والناس، لأنه خارج عن نطاق ذلك الكون الذي قد ربط الحب بين أرضه وسمائه وآلهته وأناسه بصلات وثيقة اقتضاها نظامه العام؛ فالظلم إذن أفدح الشرور لمن يرتكبه، ولن يكون سقراط العادل شقياً في يوم من الأيام، لن ُيسرق أو يجلد أو يباع بيع الرقيق، ولكن الذي يشقى ويذل هو الذي يسرقه أو يجلده أو يبيعه بيع الرقيق!. . .
(لهذا يجب أن نحفظ أنفسنا من ذلك الشر. . . وأن نكسب الفضيلة بكل ثمن، وأن نبحث عن فن يساعدنا على ذلك الاكتساب ونمضي حياتنا في دراسته. . . الخ)
وتنتهي المحاورة بخرافة كما تنتهي أغلب محاورات أفلاطون. وهو يصور لنا في هذه الخرافة ما تلقاه النفوس الظالمة الشريرة من عذاب الجحيم!
فإلى اللقاء حيث أقدم لك أشخاص المحاورة وأبدأ الترجمة بعد إذ قدمت لها بتلك المقدمة
(يتبع)(260/20)
محمد حسن ظاظا(260/21)
حول أصل قاسم أمين
للأستاذ محمد حسن البرازي
قرأت في العدد رقم 255 من الرسالة الغراء مقالة الأستاذ الجليل الذي أجهل أسمه - فهو لا يوقع أسمه - وأقر بفضله وأعجب بأدبه وسعة معارفه ودقة ملاحظاته. وعنوانها (قاسم أمين، هل كان كردياً؟) وكنت أطلعت قبل ذلك على قصيدة الأستاذ الجارم بك
أما بيت القصيدة الذي يشير إلى أصل قاسم أمين الكردي:
يا فتى الكرد، كم بززت رجالاً ... من صميم الحمى ومن أعرابه
فقد كنت، شأن الأستاذ الجليل، استعجبت منه ومن قائله؛ ولكن عجبي قد يختلف عن عجب الأستاذ بعض الاختلاف.
تعجبت من هذا القول، بل استنكرته، لأن فيه استخفافاً بقوم من الأقوام، فكأن الأستاذ الجارم سامحه الله يقول في بيته:
(على الرغم من أنك كردي، أيها القاسم الأمين، فقد فقت العرب، وعلى الرغم من أنك غريب فقد سبقت أهل البلاد).
إنني لا أدري إذا كان قاسم أمين كردي الأصل حقاً أم عربياً. ولكني أستفظع أن ينقص أصله لأنه كردي. فالكرد ليسوا من حيث المواهب والمؤهلات دون غيرهم من الشعوب. ولئن كنت أسلم مع الأستاذ الجليل ويسلم كل رجل يدين بالديمقراطية ويخضع لسلطان العقل والعلم، بأن (المرء بفضله لا بأصله) وأن (الإنسان - كما قال بديع الزمان - من حيث يوجد لا من حيث يولد). بيد أني لا أرى مجالاً لهذا الاستشهاد بصدد أصل قاسم أمين، لأنه ليس يزري بقاسم أمين أن يكون كردياً لا من حيث العلم والفضل، بل من حيث المنبت والأصل.
فهل طيب الأرومة وكرم العنصر وقف على قوم دون قوم وعرق دون عرق؟
إنني كما ينتقد الأستاذ الجليل من يقول من أبناء فرنسا مباهياً (أنا فرنسي، أنا ابن الغول) آخذ أيضاً على كل من يقول من المتكلمين بالعربية: (أنا عربي أنا من نسل قحطان أو عدنان) بمعرض المفاخرة على غيره من أبناء العربية المستعربين، أكراداً كانوا بالنسب، أم شراكسة، ألباناً أم صقليين.(260/22)
إنها العصبية تسربت إلى الأستاذ الجارم في بيته (يا فتى الكرد) والعصبية نزعة قديمة بعثت حديثاً في بعض البلاد، كافحتها في القديم الأديان السماوية العالمية كالإسلام، والنصرانية، وتحاربها الآن جميع المذاهب التي ترمي إلى التقريب بين بني الإنسان وإحلال الوئام والسلام محل البغضاء والخصام
لقد كانت العصبية في الجاهلية مبدأ سائداً تقوم عليه الحياة الاجتماعية والسياسية فقد كانت الوحدة القبلية قبل الإسلام شبيهة بالرابطة تجمع بين أفراد الدولة الواحدة في عهدنا هذا. وقد بعثت العصبية من جديد في عهد بني أمية، بالرغم من مخالفتها روح الإسلام لغاية سياسية، خلاصتها دعم العرش الأموي ومقاومة خصوم الأمويين من آل البيت الذين كان أكثر دعاتهم وأقوى أنصارهم من غير العرب وجلهم من الفرس والأكراد.
اضمحلت العصبية بعد بني أمية. ولم يعد لها أثر يذكر إلا في الأدب العربي. وخاصة في الشعر لأسباب لا محل لتفصيلها الآن أجلها تقليد الأوائل ولا سيما الجاهليين
ولئن قامت في بعض البلاد الأوربية نزعات ومذاهب تشبه العصبية العربية كالقومية. في ألمانيا فهي تبرر عند أربابها على الأقل بأسباب حيوية لا نظير لها في البلاد العربية - ما خلا فلسطين التي نزلت بها من الصهيونية نازلة خاصة - فقد يكون للألمان بعض العذر بأن يتسلحوا بالقومية لمناوأة اليهود. لأن اليهود يتظاهرون في كل بلد يقيمون فيه بأنهم من صميم أهله في حين أنهم رغم السنين والقرون تمر عليهم، ورغم ما يفيدون من البلاد التي تلقتهم وآباءهم قبلهم من حقوق سياسية ومدنية يظلون يهوداً قومياً وعاطفياً تجمعهم جامعة قومية يهودية، ويبقون أمة داخل أمة. على أن العصبية أو القومية - أنى كانت وفي أي زمن وجدت - إذ تتخذ شكل رجحان عرق على عرق وجنس على جنس، ممقوتة ظالمة، خاطئة تنقضها الفكرة الحرة ويفندها العلم وتستنكرها المثل العليا الإنسانية.
لقد قام الإسلام الذي يدين به أكثر العرب على أساس غير قومي، فدين الإسلام كما قلنا فيما تقدم عالمي لا قومي، ومحمد (ص) لم يرسل للعرب وحدهم بل أرسل للبشر عامة، ولا فضل في نظر صاحب الرسالة (لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى). ولكم نهى النبي (ص) عن العصبية بالتصريح، فقال (ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية).(260/23)
فاستحقار الأقوام غير العربية بالنسبة للعرب لا يقره إذن الإسلام الذي رفع من شأن العرب وأكسبهم مجدهم الخالد.
وفي نظر علماء الاجتماع والمتشرعين ما خلا الألمان لا تقوم الأمة على العرق والجنس، بل عن ما يكون الأمة حقاً الآن بعد أن ضعفت الرابطة الدينية، ولم يعد الدين العنصر المؤلف للأمم، هو الرضاء والرغبة في العيش عيشة مشتركة في الحاضر، مضافة إلى ذكريات ماضية مشتركة، وآمال مستقبلة واحدة (نظرية رنان) إذن فلا الإسلام يقر مبدأ القومية وتفوق قوم على قوم أو جنس على جنس، ولا العلم الحديث والمثل العليا الإنسانية تؤيد هذا المبدأ وهذه النظرية
ولئن كنا نستنكر ادعاء فئة من الغربيين تفوق العرق الآري - والكرد آريون - على العرق السامي، فأننا نأنف أيضاً من الاعتقاد يرجحان السامي على الآري. فاستحقار الأقوام غير العربية بالنسبة للعرب لا يقره الإسلام الذي رفع من قدر العرب وأكسبهم مجدهم الخالد، ولا يقبله العلم، ولا يرضى عنه الشعور الإنساني. بل أن فكرة الوحدة العربية التي تعلق عليها الأمم العربية آمالها لتحرر وتقوي وتستعيد مجدها الغابر، لا يمكن أن تتخذ العصبية أو القومية لها سلماً. وليس من العقل والحكمة في شيء أن يلهج بصددها بفكرة الجنس والعرق لأن الأقوام الآهلة بها البلاد الناطقة بالضاد مؤلفة من شتيت من الأجناس والأعراق. فالرابطة التي توحد بين أفراد كل أمة من هذه الأمم العربية ليست العصبية أو القومية، والجامعة التي تقرب بين الدول والأقطار العربية لا يمكن أن تكون آصرة جنسية، بل أنها رابطة سياسية عاطفية، قائمة على الإرادة والشعور والمصلحة
أردت من عرض هذه الفكرة أو التذكير بها - لأنها ليست مجهولة - أن أؤيد ما جاء به الأستاذ الجليل من تفنيد التفريق بين أفراد الأمة الواحدة بحسب أصولهم، وأبين الخطأ في النظر - لقاسم أمين إذا عد كردياً - ولكل من يحسب غير عربي من أشباهه كرجل خامل بنسبه وإن كان نابهاً بحسبه.
فليس يضر القاسم الأمين رحمه الله أو غيره من رجال الأمم العربية أن يكون أصله كردياً، بعد أن كان أمثال صلاح الدين بطل الشرق والإسلام والعرب، وكثير ممن تلاه من الملوك الأيوبيين ذوي الفضل العميم على مصر والشام أكراداً؛ بل له الفخر كل الفخر إذا جاز(260/24)
لإنسان أن يفخر بأصله بجانب فضله أن يمت بالنسب إلى قوم أخرجوا أمثال هؤلاء الرجال وأشباه أولئك الأبطال الذين ما زال تاريخ العرب والإسلام والإنسانية يباهي بعظمتهم وعبقريتهم.
هذا وإني على يقين من أن الأستاذ العالم الجارم لم يقل البيت الذي حملنا على كتابة هذه الكلمة عن عصبيته، أو إيمان بمذهب (القومية) بل اعتقادي أنه نظم هذا البيت من قصيدته تأثراً من نغمة طالما سمعها في شعر العرب، وتلذذاً من حيث لا يشعر بالطباق بين العجم (أو الكرد) والأعراب. وقصيدة شاعرنا اللغوي النحوي في جلالة الملك فاروق سليل الأسرة العلوية الألبانية الأصل التي حبت مصر مجداً طريفاً يضاف إلى مجدها التالد، دليل على أن العرب العاربة والعرب المستعربة في نظره سواء.
دمشق
محمد محسن البرازي
دكتور في الحقوق وأستاذ في الجامعة السورية(260/25)
يبن الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
تتمة
كان ذلك منذ أشهر وكنت أحاضر جمهوراً من الأدباء بكلية الليسيه بالإسكندرية، وكان موضوع المحاضرة (الحياة الإنسانية بين قضاء وقدر الشرق ومذاهب الغرب في حرية الإرادة). وقد جاء في محاضرتي كلام جيد عن الفروق بين أهل الشرق وبين أهل الغرب، لهذا رجعت وأنا أجول جولتي في كلام مناظري الفاضل إليها آخذ منها لردي على المناظر ما أراه ذا صلة وثيقة بالمسألة التي أثارها في العلم والثقافة.
قلت في محاضرتي ما نصه:
(هنالك فرق أساسي في منطق التفكير بين الشرقي والغربي، وهذا الفرق ينحصر في أن الشرقي يبدأ بحثه من الوحدة المتجلية حوله فينتهي للخالق ومنه للطبيعة. بعكس الغربي الذي يبدأ بحثه من التغاير الذي يكتنفه فينتهي للطبيعة ومنها للخالق)
هذا الفرق المشهود في أن الشرقي يبدأ من عالم الغيب لينتهي للعالم المنظور، بعكس الغربي الذي يبدأ من عالم المنظور لينتهي لعالم الغيب - كان سبباً لظهور اللاهوت عند الشرقيين والفلسفة عند الغربيين.
وهذا التباين في منزع التفكير ذهب بالعقل الشرقي إلى الاعتقاد بأن العالم حادث كما انتهى إلى أنه قديم عند الغربيين، ذلك أن الشرقي بدأ بحثه من الخالق فانتهى كما انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وأن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكل ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وما سيكون، بينما البحث عن التغاير المشهود في الكون يدفع بالأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر، وهذا كله ينتهي بالإنسان كما انتهى بمفكري الغرب إلى أن لكل حادثة سبباً في الكون، وأن للعالم وحدته وانسجامه، وأنه خاضع لنواميس وسنن ثابتة لا تتغير لا في الزمان ولا في المكان، فإذا انتهى إلى الله قيده بهذه السنن والنواميس، وتصبح بذلك إرادة الله مقيدة بنظام هذا الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار.
والإنسان من حيث هو كائن في العلم المنظور، فهو في نظر الشرقي خاضع لإرادة عليا،(260/26)
هي إرادة الخلق الحرة، هو الذي يقضي فيكون ويقدر فيحدث. وهذه فكرة القضاء والقدر عند الشرقيين، فإذا قضى الله أمراً فلا مرد لقضائه، وإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. غير أن الإرادة الإلهية لا تتعلق بالأمر الذي قضي بوقوعه إلا إذا تعلقت به إرادة الإنسان المخلوق الذي وهبه الخالق حرية الإرادة، في أن تتعلق بالأشياء فكأن للإنسان اختياراً، غير أنه عند النظر مقيد بالعلم الإلهي الأزلي وبتعلق الإرادة الإلهية لترجح.
أما في نظر الغربي فالإنسان وإن كان يتبع في تصرفاته وسلوكه نواميس الحياة ويخضع لها، فإن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجوده والعمل على إيجاد الملاءمة بين حاجات الإنسان في الحياة ومطالبه في الوجود، وبين المقدر له عن طريق تغييره يتكافأ وصالحه.
وخلاصة القول أن قي الشرق استسلاماً محضا للغيب، والغرب نضالا محضا مع قوى الغيب، وبين منطق الغرب وروح الشرق تسير البشرية في قافلة الحياة.
هذا الكلام الذي لخصت فيه في ختام محاضرتي كل ما قلته في ذلك المساء، أجده بليغاً في الرد على مزاعم مناظري الفاضل.
وخشية أن يقف بعض الناس عند ظاهر هذا القول فلا ينزلون إلى أغواره القصية، أحب أن ألفت أنظارهم إلى أشياء.
1 - إن ما نعنيه باصطلاح الشرق والغرب لا يقوم على أساس من تقسيم العالم إلى شرق وغرب في تقويم البلدان، وإنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق، على اعتبار أن هذا الطابع عام للغرب وذلك المنزع عام للشرق. غير أن هذا لا يمنع أن نجد مجتمعاً غربياً ينزع منزع الذهن الشرقي في قلب أوروبا في زمن من أزمنة التاريخ نتيجة لغلبة الطابع الشرقي لأسباب خارجة وطارئة على المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، فمثلاً يمكننا أن نقول إن طابع التفكير في القرون الوسطى في أوروبا كان شرقياً في العموم لغلبة المنزع الشرقي على الطابع الغربي نتيجة لبلوغ المنزع الشرقي شغاف أوربا وغزوها الغرب مع الدين المسيحي.
2 - إن هذا المنزع الثقافي والطابع الذهني لكل من الشرق والغرب إذا اعتبرناه. من الخصائص الأولية لشعوب الشرق والغرب، فذلك لا يرجع لعوامل بيولوجية أو(260/27)
انتروبولوجية كما حاول أن يثبتها بعض مفكري القرن التاسع عشر، إنما هي ترجع لأسباب طارئة على المحيط الطبيعي والبيئة الاجتماعية فلهذا لا يرد علينا بما كتبه المناظر في الرد على غوبنيو.
3 - إن الفلسفة الإسلامية التي ظهرت على يد الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من أعلام الفلسفة الإسلامية ليست شرقية الروح لأنها وليدة الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني. ويمكنك بكل سهولة أن تنزل بخطوط فلسفة فلاسفة الإسلام لأصولها عن أفلاطون وأرسطو وفلاسفة الإسكندرية من الأفلوطنيين، فمن هنا لا يعترض علينا بأن هنالك من الفلاسفة الشرقيين من علقوا إرادة الخالق بسنن الوجود وقوانين الكون. كذلك لا يعترض علينا بالجانب العلمي من الثقافة السلامية لأنها نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني.
هذه أوليات ألفت إليها الأنظار حتى أكفي نفسي مقدماً الرد على ما سيثار حولها من رد وجدال.
قد يكون من الأهمية في مكان أن أستطرد قليلاً هنا وأنقل بعض فقرات من الأستاذ الحكيم استشهد بها على صحة ما أرى من الفرق بين منزع الفكر الغربي وطابع الذهن الشرقي.
يقول الأستاذ توفيق الحكيم:
(إن الشرق قد حل معضلة وجود أغنياء وفقراء وسعداء وتعساء على هذه الأرض في يوم ما، هذا لا ريب فيه. إن أنبياء الشرق قد فهموا أن المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض وأنه ليس في مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء فأدخلوا في القسمة مملكة السماء، وجعلوا أساس التوزيع بين الناس الأرض والسماء معاً، فمن حرم الحظ في جنة الدنيا فحقه محفوظ في جنة السماء. هذا جميل. ولو استمرت هذه المبادئ وبقيت هذه العقائد حتى اليوم لما إلى العالم كله في هذه الأتون المضطرم).
إن مذاهب الغرب حينما نزلت الميدان تحاول إصلاح الحياة ألقت قنبلة المادية والبغضاء واللهفة والعجلة بين الناس. لقد أفهمت الناس أنه ليس هنالك غير الأرض، يوم أخرجت السماء من الحساب، ذلك أن علم الاقتصاد الحديث لا يعرف السماء. أما أنبياء الشرق فقد القوا زهرة الصبر والأمل في النفوس يوم قالوا للناس لا تتهالكوا على الأرض، ليست الأرض كل شيء. إن هنالك شيئاً آخر غير الأرض يدخل في التوزيع)(260/28)
وليس من شأني هنا أن أرد على الأستاذ الحكيم آراءه وأقول له بأننا ما دمنا في الحياة فيجب أن نعمل من أجلها ومن أجلها وحدها. . . اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وإننا إذا لم نحل مشاكلنا على هذه الأرض فلن نحلها في وقت من الأوقات ولن تحل!
ليس هذا ما يعنيني؛ أما الذي يعنيني من هذا الكلام أن أستوضح الفرق وأستبينه بين منطق الغرب ألا ثباتي وروح الشرق الغيبي بملاحظة أن المنطق العربي ينظر للحياة الإنسانية كما هي، وعن طريق العقل وحده يحاول معرفة حقيقته وتنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري. بعكس الذهن الشرقي الذي يدخل عنصراً غيبياً في الحياة الإنسانية، وعن طريق هذا العنصر الغيبي يحاول تفسير الحياة وتنظيم الصلات الإنسانية وإقامة العلاقات بين أفراد الهيئة الإنسانية.
ولنا أن نخلص من هذا كله بأن الثقافة الغربية إنسانية وإنها انتمت إلى المرحلة الأخيرة من مراحل التفكير الإنساني الذي كشف عنه أوغست كونت، بعكس الثقافة الشرقية التي وقفت عند حدود المرحلة الثانية حيث يمتزج فيها العالم المنظور بعالم ما وراء المنظور.
وإذن من الخطأ التفريق بين مفهوم الثقافة ومفهوم العلم الوضعي باعتبار أن الثاني عام والأولى خاصة كما يريد أن يثبت مناظري الفاضل، والصحيح أن يقال إن العلم الوضعي رغم أنه عام يقوم بمنهجه الثقافي، وإن العلم يتلون (بروح الأمة) وهذا ما نلمسه نحن المشتغلين بمسائل العلم من قيام مدارس علمية في أمم متباينة الروح فتخرج متباينة المذاهب والطرائق والاتجاهات؛ ولا أدل على ذلك مما نراه من مدارس في العلم، كل تحمل اسم أمة بعينها. مثال ذلك المدرسة الألمانية والمدرسة الفرنسية في الرياضيات والطبيعيات وبقية فروع العلم مما يعرفه كل من درس العلم في أوربا في جامعاتها الكبرى.
إذا صح ما ذكرته كله ولا أخاله إلا صحيحاً - فمن العجيب أن يناقشنا الأستاذ فليكس فارس الرأي فيما قلناه من كون الثقافة الشرقية ذاتية بكلام يلقيه على عواهنه دون أن ينظر إلى ما قدمناه من أدلة استفاضت بها كلمتنا التي أدلينا بها في مناظرتنا معه والتي شغلت أكثر من ثلاث صفحات من النص الذي نشرته (المجلة الجديدة). ومع ذلك أحب أن أنظر في كلام مناظري الفاضل، وأول شيء ألمسه أنه يعترف ضمناً بما نقول حيث كتب يقول:
(ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم(260/29)
العلمي لم تستهويهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا ما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم لذلك لا تجد في شعر العرب شيئاً من إبهام بيندار وأورببيد وهوميروس)
وأنت ترى مناظرنا يعترف بأن العرب لم يتقبلوا تراث اليونان الأدبي، لوجود مهاو سحيقة بينهم وبين ثقافة اليونان التقليدية التي احتضنها روح اليونان، وهذا ما نقوله ونشرحه بأن ثقافة العرب ذاتية وأن الثقافة موضوعية عند اليونان. ولهذا لن تجد في الأدب العربي شعراً قصصياً ولا شعراً تمثيلياً ولا شعراً تصويرياً لأن القصص والتمثيل والتصوير يستلزم الانسحاب من آفاق الذات إلى رحاب الموضوعية، وليس هذا في مكنة الذهنية العربية كما شرحنا ذلك في توطئة كتابنا (الزهاوي الشاعر) الذي صدر منذ عام وفي دراستنا الإنجليزية لشعر الدكتور أبو شادي.
يتساءل مناظري بعد ذلك أين كانت العقلية الغربية قبل عصر النهضة - الرينسانس - أيام كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة، ويسبقنا بالجواب فيقول: إنهم كانوا يغطون في نومهم، ولم تزل تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم، فبلغ عدد هؤلاء الآلهة ثمانية آلاف في الأساطير. وأقول أنا رداً عليه: إنه لو قلب وجوه النظر في ما أدليت به في مناظرتي ما يجده منشوراً بالمجلة الجديدة، فانه ليجد الجواب موجوداً على ما أراده، وإذا أراد أن ننقل له الكلام بحرفه نقلناه.
قلناه هناك ما نصه:
(قامت المدنية الرومانية على تراث الإغريق، غير أن المسيحية سرعان ما غزت روما وهبت عليها حاملة معها نزعات المنطق الأسيوي والروح الشرقية، إلا أن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وامتصتها ومثلتها، وكان في هذا الابتلاع والامتصاص والتمثيل بعض الخلاص لمنطق الغرب من روح النسك الأسيوية، ولو لم تكن المسيحية ديانة روحية صرفة قابلة للكثير من التفاسير مرنة بطبيعتها غير حاملة في طياتها منطق حياة اجتماعية معينة ونظم وشرائع مخصوصة لقام النضال بين منطق الغرب وأصول مجتمعه وبين روح الشرق وشرائعه التي هبت بها على أوربا. . . ولقد نضب معين مدينة روما(260/30)
لعوامل داخلية فهاجمها البربر من الجرمان والصقلب والسلاف والهون، وسقطت إمبراطورية الرومان على ضفاف التبر. . . فكانت عصور ظلام في أوربا؛ غير أن الشعوب البربرية التي ورثت إمبراطورية الرومان احتفظت بالكثير من نظم الرومان الإدارية وعاداتهم، ولم يعد ما أحدثه البرابرة في أوربا سوى القضاء على التجارة الواسعة النطاق وعلى الإدارة العامة، وبذلك قامت بيوتات تجارية صغيرة تستطيع كفاية أهلها بمنتجاتها، فكان ذلك مقدمة للعهد الإقطاعي. وهكذا قدر لهؤلاء البرابرة أن يركزوا الحياة الاقتصادية في العمل الصغير، وبذلك وضعوا النواة لعهد الإنتاج الصناعي.
ثم طغت موجة العرب على الغرب. . . غير أن الغربيين نجحوا في وقف الموجة العربية عندما تفاقم أمرها. . . وكان نجاح شارل مارتل على العرب على نهر اللوار كنجاح الإغريق على الفرس سبباً في إنقاذ العقلية الغربية من طغيان روح النسك الأسيوية. . . في ذلك الوقت كانت العقلية الغربية رازحة تحت كاهل اللاهوت الكنسي الذي قام بروما رقيباً على النفوس والعقول محملاً بكل سيئات روح التنسك الأسيوية. . . غير أن العقلية الجرمانية لم تر في رقابة روما وتسلط البابا إلا روحاً أسيوية بعيدة عن طبيعة الذهن الغربي، فعملت كل الجهد في تقطيع أوصالها، وبدأ عهد الإصلاح بالصراع بين الذهنية الجرمانية الخالصة ممثلة العقلية الأوربية وبين العقلية الباباوية التي تحمل في طياتها شيئاً من روح النسك الأسيوية. . . في ذلك الوقت شق لوثر طريقه وكان عصر الإصلاح الديني وعهد الإحياء الفكري)
ومن هنا أرى عن حق أن مناظري الفاضل لم ينظر نظرة عميقة لكلامي وما أتى به لا يعد نقاشاً لما قلته لهذا أستحسن أن ينظر في كلامي وهو منشور بالمجلة الجديدة، ثم ينظر في كلامه المنشور بعددي الرسالة وردي عليه قبل أن يكتب رده فذلك أجدى لحسم نقط الخلاف في الموضوع.
ويبقى بعد ذلك كلمة أو كلمتان في موضوع الموسيقى الذي أثاره المناظر ولم أجد له أصلاً فيما قلت، ومع ذلك فأنا عند ظن المناظر أنتدب له الدكتور حسين فوزي وهو أخصائي في فن الموسيقى وله من العلم الواسع في هذا الموضوع ما يمكنه من بيان نواحي الزيف في آراء المناظر، وهو على ذلك قدير(260/31)
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم(260/32)
بين العقاد والرافعي
الرافعي ومظهر و (على السفود)
للأستاذ سيد قطب
- 9 -
أجملت الحديث في الكلمة الماضية عن طابع وناشر ومروج (على السفود) الذي يعيب (الشذوذ في نصرة أديب على أديب) ليعرف الناس من أين تصدر الآراء، وكيف تصدر؛ وكم من الأعاجيب يكمن في تقلب هذه الآراء وطريقة عرضها، كلما دعا الغرض إلى عرض جديد
وأغلب الناس ممن يقرؤون الرسالة قد يكونون من غير المطلعين على هذا الكتاب، الذي قدمت له (العصور) وطبعته ونشرته. وليس من المستطاع نقل عبارات منه اليوم إليهم في الرسالة، مما يصور شناعة التعبير، ويكشف مقدار التبعة في النشر، لأن (الذوق. والأدب. والخلق) لا تسمح باستعراض تلك الأساليب ولكني سأتلطف لقراء الرسالة في نقل بعض فصوله (البريئة) مع تقديم العذر، في شنعة هذه البراءة!
وسيعرف الناس كيف يكون الإنسان، سيئ الفهم، قاصر الإطلاع، ثم يناقش العلماء النيري البصيرة المطلعين؛ ولا يكلف نفسه الإطلاع على أصل المسائل التي يناقش فيها، ويجد من الجرأة في نفسه أن يقول: إنه لم يطلع على هذا الموضوع، ولكنه يجزم بأنه كيت وكيت. أما الذي أطلع فهو جاهل و. . . و. . . الخ.
لشوبنهور رأي في الجمال يلخصه العقاد، في أن هذا الفيلسوف يقسم الدنيا إلى (فكرة) و (إرادة) ويقول: أن الدنيا في (الفكرة) هي الدنيا المكنونة قبل أن تظهر في حيز الأسباب والقوانين، وعلاقات الأشياء بعضها ببعض. وإن (الإرادة) هي هذه الدنيا التي نكابد أوصابها وقوانينها، ولا نذوق السرور فيها إلا لسبب من الأسباب التي تدور عليها أغراضنا وشهواتنا؛ ولما كان سرورنا (بالجمال) سروراً بلا سبب ولا منفعة فهو من قبيل الفكرة المجردة ننظر إليها كما هي في عالمها المنزه عن الأسباب والعلاقات)
ثم يقول العقاد ما ملخصه: إن رأيه هو أن (الجمال) هو (الحرية) وأنه يلتقي في رأيه هذا(260/33)
مع رأي شوبنهور في نقطة ويختلف معه عند أخرى. فهما يلتقيان حين يقول شوبنهور: إن الفكرة لابد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لابد أن تكون (مطلقة) من أسر الأسباب والضرورات؛ ويختلفان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم (الإرادة المسببة) إلى عالم (الفكرة المجردة).
ثم يرجح رأيه على رأي شوبنهور بأن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا، ولو كان المعول على إدراك (الفكرة) وحدها في تقدير الجمال، لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد السواء.
ثم يوضح هذا بأن الشجرة كفكرة تستوي مع الإنسان كفكرة كذلك، ولكن جمال الأولى أقل من جمال الثاني - مع تساويهما لو أخذنا برأي شوبنهور - وذلك لأن الثاني أكثر حرية و (الحرية هي المعنى الجميل في الفكرة أو هي التي تهب الفكرة ما فيها من جمال)
وهذا - كما ترى - كلام واضح وهو كذلك دقيق. ولكن الرافعي لا يفهمه. وهو في عدم الفهم على درجات: بعضها يتعلق بالقصور النفسي عن تصور حالة من الحالات النفسية، وهو ما نعذره فيه، ولا نطلبه بفهمه. وبعضها يتعلق بالقصور في فهم الأسلوب والكلمات وهو ما لا ندري كيف نسميه.
والنوع الأول يبدو في تعليقه بالهوامش على إن السرور بالجمال سرور بلا سبب ولا منفعة، فهو يقول: (وهل في الدنيا من يسر من الجمال (بلا سبب)
ونحن نقول له: نعم يا سيدي في الدنيا من يسر من الجمال بلا سبب، لأن بداهته وفطرته تتصل مباشرة بالجمال في (عالم الفكرة) كما يشرحه شوبنهور فيحس بالسرور. وفي هذا العالم لا توجد (أسباب) فهذه إنما تتعلق (بعالم الإرادة) أي العالم الموجود في الخارج. وهي على كل حال مسألة تتطلب (نفساً) فلا على الرافعي منها.
وهو يعلق على شرح العقاد (للفكرة) في رأي الفيلسوف الألماني بأنها بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لابد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات. فيقول: (ففكرة من تكون هذه الفكرة البعيدة عن عالم الأسباب والضرورات؟ وكيف تسمى فكرة؟)
وهذا القول غريب من رجل يدعى أنه يفهم الثقافة الإسلامية ويدافع عن علوم الإسلام.(260/34)
وفي الفلسفة الإسلامية كثير من هذه المباحث، وقد ورد فيها ذكر (الهيولي) و (الصورة) وهي تقابل مع تعديل (الفكرة) و (الإرادة). وفي مباحث (علم الكلام) كثير من مثل هذه التعبيرات عند الكلام على صفتي (القدرة. والإرادة) فمن العجب ألا يفهم إذن أن (الفكرة) بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات. وهي على ضوء الفلسفة - ونمثل بها وحدها لما يدعيه الرافعي عنها - تمثل فكرة الخالق التي لا تتعلق بالأسباب والضرورات، لأنه منزه عن الضرورات وهي في كلام شوبنهور تمثل فكرة القوة الخالقة - أياً كان اسمها - فدارس الفلسفة الإسلامية لا يعسر عليه فهمها، ولا يسأل هكذا: (ففكرة من تكون؟)
وهذا أيضاً مسألة (ذهنية) تتطلب ذهناً مشرقاً. فلا على الرافعي منها كذلك!
إنما الطامة الكبرى أن يخطئ في فهم الكلمات المفردة. وهنا فليأخذ القراء حذرهم، فإنني سأنقل لهم بعض كلام الرافعي بنصه في هذا الموضوع - مع ما يتضمنه من شتائم (بريئة) إذا قيست إلى سواها، ونحن نكتبه بنصه وبعلامات ترقيمه:
إنه يقول:
(بيد أن العقاد يقول بعد ذلك: (أين نتفق في هذا الرأي وأين نفترق؟ (ما شاء الله أين يتفق العقاد وشوبنهور وأين يفترقان) وأين يتساوى القول بأن الجمال فكرة، والقول بأن الجمال حرية؟ يتساويان حين نذكر أن الفكرة في رأي شوبنهور لا بد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات. ومن ثم لا بد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات).
(ثم أين يتعارضان. (المراحيضي! وشوبنهور)؟ يقول العقاد: يتعارضان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم الإرادة المسببة إلى عالم الفكرة المجردة).
(وما الذي يرجح رأي فيلسوفنا! المراحيضي! بأن الجمال هو الحرية، على رأي شوبنهور بأن الجمال فكرة؟ يقول العقاد:
(يرجحه أن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا؛ ولو كان المعول على إدراك الفكرة وحدها في تقدير الجمال لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد سواء).
(ونوضح ذلك فنقول: لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة فقط، لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة (افهموا يا ناس) ولصح لنا أن نزعم أن الناس أجمل من(260/35)
الأشجار (برافو مراحيضي) ولكننا نعلم أن فكرة الإنسان غير فكرة الشجرة (تمام تمام!!!) وأن الفكرتين تتفاضلان في تقرير الجمال (صحيح لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها!) ولا بد أن يكون تفاضلها بمزية أخرى فما هي تلك المزية؟
(قال المراحيضي. هي الحرية: فالإنسان أوفر من الشجرة نصيباً من الحرية (برافو. برافو!) ولذلك هو أجمل منها
(يا سلام يا سلام على هذا المنطق. في رأي من هو أجمل منها؟ في رأي الجبل بالطبع لأنه لا بد من حكم بينهما يحكم أيها أجمل. وإلا فما الذي يمنع الشجرة أن تحكم لنفسها كما حكم الإنسان لنفسه؟)
والتعليقات التي بين أقواس كبيرة هي كلام الرافعي. وهي كلها قد نشأت من عدم فهمه للفظة واحدة في جملة العقاد:
(لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة فقط، لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة) فالعقاد يريد بقوله (فكرة الإنسان) الفكرة التي صورت إنسانا. وبقوله (فكرة الشجرة) الفكرة التي صورت شجرة. فيفهم صاحبنا (فكرة الإنسان) بأن الإنسان يفكر، و (فكرة الشجرة) بأن الشجرة لها فكرة في رأسها! ولما كانت الأشجار لا تفكر، فقد راح يقول: (افهموا يا ناس) وراح يقول: (صحيح لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها). وراح يقول: (في رأي من هو أفضل منها؟ في رأي الجبل بالطبع) لأن الجبل كذلك يفكر وله فكرة!
والمسألة هنا مسألة قصو في فهم ألفاظ ثم تعالم بعد ذلك وتهكم حيث يجب الخجل والانزواء
ثم ماذا؟ ثم أخذ يجمل هو رأي شوبنهور (الذي لم يطلع عليه باعترافه في هامش الكتاب حين يقول: (نحن لا نثق أن ترجمة العقاد عن شوبنهور هي نص معاني شوبنهور. . . إنما نذهب إلى (ما نظنه) الأصل في غرض الفيلسوف)!
فماذا قال؟
(فان محصل كلام هذا الفيلسوف أن ما تراه بسبب من إرادتك وغرضك وشهواتك فجماله فيك أنت لا فيه، لأنه في هذه الحالة صورة الاستجابة إلى ما فيك، فلو لم يكن معك أنت(260/36)
هذا الغرض لم يكن معه هو ما خيل لك من الجمال، فهو على الحقيقة (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه) (لاحظ هذا) إنما أنت صبغته وأنت أوقعته ذلك الموقع من نفسك فالنتيجة من ذلك أن الأشياء تحزننا (أي لا نراها جميلة) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة، وأنها تفرحنا كلما ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة.
(وهذا الرأي هو الرأي الصحيح في معنى الجمال وبه يوؤل اختلاف الناس في تقدير جمال الأشياء، لأن الجمال في أهوائهم وأذواقهم ومعاني نظرهم)
وإن الإنسان ليفغر فاه عجباً من هذا التلخيص الرافعي لنظرية شوبنهور بل هذا المسخ الذي يمسخه للفيلسوف المسكين. ويحار في السؤال من أين وكيف يلتقي هذا الملخص بأصل الرأي، وما بينهما شبه ولا اقتراب في أي لمحة من اللمحات
ثم هذا الخلط بين الرأي الذي جاء به الرافعي وبين رأي شوبنهور، ونسبة كلام إلى الرجل هو يقول ضده تماماً. الفيلسوف يقول: إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة. فيقول الرافعي عنه: إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة. وهو عكس قول شوبنهور. ثم يعود فيقول:
(وأنها تفرحنا كلما ابتعت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة) وهو عكس كلام الرافعي الأول!! فأيهما يريد؟ أغيثونا بالله يا أصحاب الفهم وقولوا لنا: متى تفرحنا الأشياء ومتى تحزننا؟ وأي القولين ينسبه الرافعي لشوبنهور وأيهما ينفيه عنه؟
ولا يقنع الرافعي بهذا ولكن اسمعه يقول: (على مثل تلك الطريقة من الغباوة. وسوء الفهم وقبح الاجتراء والغرور والحماقة، تجد كل ما يولده العقاد، أو أكثره، ثم يزين له لؤم نفسه وعمى بصيرته أنه هو وحده الذي يهدي إلى سرائر الأشياء ويلهم حقائق المعاني. . . الخ)
ولو أننا نسمو بآدابنا وآداب المجتمع، لرددنا هذه الكلمات إلى من يستحقها - بعد هذا البيان - من الرجلين!
وبعد فقد نشر صاحب (العصور) هذا الكلام في مجلته، ثم جمعه وطبعه وقدم له معجباً مستحسناً. فهل كان يا ترى يعلم هذا الخطأ في الفهم وذلك التخليط، أم لم يكن يعلم؟ وأن كانت الأولى فكيف لم ينبه صاحبه إليه؟ وإن كانت الثانية، فكيف يتفق هذا مع علمه(260/37)
واطلاعه؟
ثم ألم يجد جملة نابية، ولا لفظة خسيسة، في هذا النقد؟ بل ألم يجد فيه (شذوذا) ولم يلمح أن ليس وراءه انتصار لمذهب بين في الأدب، وإنما وراءه ارواء حفيظة شخصية بحتة؟
أفتونا أيها المنصفون، المتعالون عن الشخصيات!
(حلوان)
سيد قطب(260/38)
كلمة ثالثة على الهامش
للأستاذ علي الطنطاوي
لقد أكرم الأستاذ قطب دمشق وجيرتها. . . وصمت عن تقويم كلمتي (ووضعها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي في مدارج الآداب والآراء، وشاء لي بهذا الصمت أفضل مما شئت لنفسي) فلم يسعني إلا أن أشكر له ما تفضل به علي وعلى دمشق التي لن تنسى له هذا الفضل. . . ولكن متى سألت سيد قطب تقويم كلمتي ومتى طلبت إليه رأيه فيها؟ وهل بقى علي أن أصدر عن رأي سيد قطب فيما أكتب؟ لا يا سيدي، ما هكذا يكون النقد ولا هكذا تكون المناقشة. إني سقت رأياً إن كان خطأ عدت إلى الصواب الذي تكشفه لي فيه، وإن كان صواباً وجب أن تعود أنت إليه فبين خطأه من صوابه، وعد عن هذا الأسلوب أسلوب التعريض والسخرية، واعلم أني إن حططت عليك ساخراً ومعرضاً لم أدعك حتى تلتصق بالأرض، وأنا من أقدر الناس على ذلك، ولكن ذلك شيء يأباه الخلق الكريم، وتأباه (الرسالة) ولقد كانت لي في هذا الميدان جولات، صرعت فيها كثيراً من الكتاب المدعين المستكبرين، ثم أقلعت عنها واستغفرت الله، وأرجو ألا يضطرني أحد إلى مثلها. ثم إن العهد بك تنكر من الأستاذ شاكر هذا الأسلوب فما لك لا تنكر على أحد شيئاًُ إلا عدت فانغمست فيه إلى إذنيك؟
لقد أنكرت علي أن ذكرت المتقدمين من نقدة الأدب، ومازالت تبدأ في السخرية وتعيد، كأن ذكر هؤلاء المتقدمين جريمة في شريعة التجديد. . . وهاأنت ذا في مقالك الأخير (العدد 258) تقر بصحة مذهبهم في اللفظ والمعنى وتثبته بقولك في آخر مقالك: (قد تكون المعاني كذلك) - أي ملقاة على قوارع الطرق - وها أنت ذا تتبعه بفعلك: كانوا يأخذون البيت والبيتين فيتكلمون فيهما، وأنت تفعل فعلهم، تأخذ إذا تكلمت عن الرافعي بيتاً من الشرق وبيتاً من الغرب تتوهم أن فيه ضعفاً فتتخذه معولاً لهدمه، ثم تأخذ للعقاد ما تظن أن فيه قوة وجمالا، فتجعل منه وسيلة إلى مدحه، فكأنك لم تسمع بنقد حديث، ولم تدر به. . . وإلا فأين شروط النقد، وأين التجرد عن الهوى، وأين (الموضوعية) في البحث، وأين الدراسة العامة التي تكشف عن أدب الأديب من كافة نواحيه؟ أليس كلامك عن الرجلين هو المدح لهذا والهجاء لذلك؟ بل إني لأظنك والله لا تريد بالعقاد إلا شراً حين تختار له ما(260/39)
اخترت
إنا والله نجل العقاد، ونعرف له منزلته، ونعده في الأكابر من كتابنا، ولكن قوله:
أيها الجيبون انعم سلاماً ... يا أخا العبقري والبهلوان
هذا الشعر يشين طالباً ذكياً لو نسب إليه فكيف بالعقاد العظيم؟
دع الابتداء بـ (أيهذا) وما في هذا الابتداء من ثقل واستكراه، ودع الجيبون التي لو حلف متزوج بالطلاق على أنها لا تدخل شعراً لما أحسبه يحنث. وانظر في (أنعم سلاما) قالت العرب عم صباحاً، جاء في اللسان: (وأنعم الله صباحك من النعومة، وقولهم عم صباحاً كلمة تحية كأنه محذوف من نعم ينعم (بالكسر) كما تقول: كل من أكل يأكل فحذف منه النون والألف استخفافاً) فالنعومة في قول العرب مسندة إلى الصباح الذي هو زمان فإذا نعم صباح المخاطب كان سعيداً مسروراً فما معنى إسناد النعومة إلى السلام، هل المعنى أنه يطلب من هذا الجيبون أن يسلم سلاماً ناعماً؟ وماذا يعني بذلك؟
وانظر في قوله (يا أخا العبقرية والبهلوان)، ودع كلمة (البهلوان) وما فيها من صحة وجمال! وانظر إلى اقترانها بالعبقري تدرك مبلغ ما فيها من الغرابة والثقل على السمع وما فيها من غموض المعنى، حتى أن القارئ لا يفهمها إلا إذا قرأ كتاب دارون. . . مع أن الشعر يجب أن يفهمه كل من كان ذا شعور مرهف، وكان واقفاً على لغة هذا الشعر، فإذا جاوز الأمر هذين الشرطين صار علماً منظوماً! لا فرق بينه وبين ألفية أبن مالك مطلقاً.
والبنون في قوله (كيف يرضى لك البنون مقاماً مزرياً) من هم هؤلاء البنون؟ إن الإقرار حجة قاصرة، وإنا لنسأل الله السلامة من خذلانه! إن هذه النظرية لم تثبت عند أصحاب العلم ولم تصبح بعد حقيقة علمية، أفكلما ظهرت نظرية في الفلك أو الطبيعة، فنظمها أديب، كان بنظمها شاعراً كبيراً؟ فلم لا ينظم الدكتور ناجي إذن في الطب، والمهندس في الهندسة، وأبو شادي في البكترلوجيا، وعوض في الجغرافيا؟ وأي فرق بالله بين نظرية دارون ونظريات غيره من العلماء؟
وتأمل قوله:
(يا عميد الفنون صبراً ومهلا) واترك مهلا التي لم تجئ إلا للقافية. وفكر في هذه الفنون التي صار عميدها قرداً في حديقة الحيوانات ثم انتقل إلى قوله:(260/40)
مرحباً مرحباًُ وأهلا وسهلا ... والهدايا ما بين لب وفول
ألا تذكر بشاراً وربابة ربة البيت. . . أفيعقل أن يتصدر سيد قطب للنقد والكلام في مثل الرافعي أبلغ من كتب في العربية ثم يختار مثل هذا الشعر إلا أن يكون عدواً للعقاد يريد أن يذمه بما يشبه في ظاهره المدح؟ أو أن نكون قد فقدنا عقولنا فلم نعد نميز بين الحسن والقبيح، ولم نعد نعرف أقدار الكلام. . .
وبعد فأني أسأل الأستاذ البليغ صاحب الرسالة هذا السؤال الذي يتردد على فم كل قارئ للرسالة في دمشق؛ وأرجو أن يتفضل بالجواب: لماذا تنشر الرسالة هذه المقالات للأستاذ قطب؟ أللحقيقة، والحقيقة لا ظل لها في هذه المقالات؟ أم من أجل الأستاذ العقاد وفيها من الإيذاء للعقاد مثل ما فيها من المس بالرافعي؟ أم بغضاً بالرافعي والأستاذ صاحب الرسالة صديقه حميم، وهو شريكه في التلبس بجريمة البلاغة والحرص على البيان المشرق الذي يسوء هؤلاء المجددين؟ أم لماذا؟
أننا لم نفد من هذه المقالات إلا فائدة واحدة، هي أننا عرفنا أن الجديد إن كان كما يصوره سيد قطب فهو أهون شيء وأبعده عن الحق، وإنا راضون بقديمنا، مطمئنون إلى (رجعيتنا. . .) عرفنا هذا، أفلا يعفينا الأستاذ قطب من هذه المقالات؟ ألا يتفضل فيعلم أن قراء الرسالة قد غدوا بفضل الرافعي والزيات وسائر من كتب فيها من البلغاء لا يعدلون ببلاغة القول وصفاء الديباجة شيئاً وأن كل سعي لتكفيرهم بالبلاغة (والتبشير) فيهم بهذا الجديد سعي ضائع!
فهل الغاية إذن ملء صفحات الرسالة بمقالات الأستاذ سيد قطب؟
دمشق
علي الطنطاوي
(الرسالة) والرسالة تجيب صديقها الأستاذ الطنطاوي بان من
مبادئها أن تكون صورة صادقة لأدب العصر فلا تسجل مذهباً
دون مذهب، ولا تتوخى أسلوباً دون أسلوب. ومعارك النقد(260/41)
ظاهرة مألوفة في عصور الأدب عفت الرسالة عنها حيناً، ثم
رأت من أخير أن تسجل هذه المعركة؛ لأن أدب الرافعي
وأدب العقاد يمثلان وجهتي الثقافة في أقطار العروبة؛ فالقول
فيهما - إذا حسن - يعين المتأدب على الوجهة التي يوليها،
وينعش الأدب من الخمود الذي هو فيه. ومن حسن القول أن
يتكلم الناظر في الأدب بلسان الأدب، وأن يعتقد أن أدب
الرجل شيء آخر غير شخصه، فلا ينبغي أن يدخل الناقد في
حسابه الحياة والموت، ولا الصداقة والعداوة
أما رأي الرسالة في الكاتبين العظيمين فقد سجلت في افتتاحياتها. فهي لا تحمل من تبعات ما تنشر غير ذلك الذي رأت(260/42)
بين العقاد والرافعي
كلمة على الهامش أيضاً
للسيد عبد الوهاب الأمين
أوقفتني كلمة الأستاذ علي الطنطاوي في التعقيب على المناقشة الأدبية الرفيعة بين الأستاذ سيد قطب والأستاذ محمود محمد شاكر حول منزلة العقاد والرافعي في الأدب الحديث، ولولا أني كنت أخشى أن أفسد هذا الحوار وهو في عنفوانه بين الأستاذين لما ترددت في أن أقول كلمة، ولكني احتبستها حتى قرأت تعليق الأستاذ علي الطنطاوي فرأيت أن موقفي المتزمت قد تحلل من قيوده
شاء الأستاذ علي الطنطاوي أن ينتصر للأستاذ شاكر وأن يكتسب له النصر، فلم يتوقعه، بل أكده لزميله، وليس في ذلك بأس كبير، فقد يكون الأستاذ شاكر عبر عن خوالجه تعبيراً محكماً فخيل إليه أن ذلك هو فصل الخطاب. والحق أن الأمر لم ينته، وأن بوادر الحال تدل على قوة مستجدة في كلام الأستاذ شاكر تنبئ بأن شدة المعركة لم تأت بعد، ولكن الأستاذ علي الطنطاوي يريد أن يظهر الأمر للقارئ كأنه انتهى
ثم ماذا؟
يأتي الأستاذ الطنطاوي مدافعاً عن (إنسانية) الرافعي فلا يجد ما يقول سوي أن الرافعي صاحب عقيدة، وأن العقيدة (مشتقة من العقد، قال في اللسان. . .) كأن الرجوع إلى اللسان مشكلة لا يتوصل إلى حلها إلا أمثال الأستاذ الطنطاوي، ولست أدري هل قرأ حضرته - على الأقل - كتاب (الآراء والمعتقدات) لكستان لوبوب وهو كتاب ترجم منذ سنين ليعلم أن خلافاً في أمور العقائد لا يحله الرجوع إلى اللسان، ولو كانت الخلافات على العقائد تحل بالرجوع إلى القواميس لما قامت الحرب الأسبانية مثلاً!
ثم ماذا؟
ثم يأتي كلامه في الخلاف بين أدب الرافعي وشعر العقاد (فهو الخلاف بين الأسلوب الذي يعتمد على البيان والصحة والصناعة والجمال، وبين الأسلوب الذي يستند إلى المعنى المبتكر والصورة الجديدة، لم يظهرهما لفظ قوي، ولا أداء مستقيم) فالأمر كله في نظر الأستاذ الطنطاوي إنما هو أمر اللفظ القوي والأداء المستقيم. أما أننا نعيش في عصر(260/43)
الحديد والنار، العصر الذي يتطلب من أدبائنا أن يكونوا طليعتنا في إدراك الوضع الحاضر والاستعداد له وتلقف الفلسفات التي تنطوي عليها حضارة هذا العصر ومدنيته، فنتطلب من شاعرنا وأديبنا أن يكون شخصاً ذا رأي وعقيدة، فهذا أمر إن جاء في حساب الأستاذ فإنما يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة. . . وهو إذا أراد أن يقول كلمته في أمر اللفظ والمعنى فإنه يعود تواً إلى الجاحظ والجرجاني ولا يزيد عليهما. . . أما الأعصر التي مرت على البشرية بعدهما فلا حساب لها عند الأستاذ. . . (أما المتقدمون من نقدة الأدب العربي فأكثرهم على أن المعاني على قوارع الطرق (!. .) وإنما يتفاضل الناس بالألفاظ). ولسنا ندري على قارعة أي طريق وجد المعري معانيه في لزومياته ورسائله، أو المتنبي في شعره الخالد!
ويعود حضرته فيؤكد ويقول (وإنما الأدب هو الصيغة اللفظية التي يعبر بها عن هذا الإحساس، وعلى مقدار التوفيق في هذه الصياغة تكون قيمة القطعة الأدبية) فالأمر كله على الثوب ورحم الله حجا وثوبه في مأدبته المشهورة!
ولو كان نقد الأستاذ موجهاً إلى أحد أدباء العربية غير العقاد لجاز أن يوجه بعض التوجيه، ولكن العقاد أديب لم يتهاون مطلقاً في أمر اللفظ القوي والأداء المستقيم) وهو يتحرى ذلك فيما يكتب وينقد. وقد اضطر في نقد له لجبران أن ينزل به لأنه كان في نظره ليس بالمتين في اللغة والأداء. وبيان العقاد في العربية أنصع بيان وأقومه، ويشهد بذلك كل (بياني) ولو شئت لأتيت بالأمثلة، ولكنها لن تغني سادتنا (اللفظيين) لأن الفن فيها لا يستكنه بالرجوع إلى اللسان أو القاموس المحيط! فاللفظ هو كل شيء في أدب إخواننا أصحاب الرافعي. ولست أعلم ما رأي الأستاذ الطنطاوي في كتاب (ألف ليلة وليلة)، هل مرجع الأهمية فيه الصيغة اللفظية أم سمو الخيال؟ وهل يرى الأستاذ أن قصيدة (ترجمة شيطان) للأستاذ العقاد هي (أشبه بالعمالقة الضخام، ولكنهم يحملون حفنة من الحصى) أم أنها ملحمة لا مثيل لها في العربية؟
ولنأت الأستاذ الطنطاوي إلى آخر حديثه فنسمعه يقول عن نقد هذا البيت!
قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه
(أن انتقاد هذا البيت وتشبيهه بالخطب المنبرية الجافة تحقير للحب، وتنزيل له إلى حيث(260/44)
يخالف الدين والأخلاق حتماً. ودعوى ضمنية بأن المحب لا يستطيع أن يحتفظ بخلق ولا دين!)
هذا آخر سهم في الكنانة!
فان لم ينفع كل ما قيل فهناك الدين، وما أسهل ما ينقلب الأمر إليه فيكون العقاد وتلامذته كفرة جاحدين! وكذلك كأن الرافعي رحمه الله يقول عن كل ما يقع تحت مبضعه في النقد؛ فطه حسين والعقاد وسلامة موسى وسواهم كفرة؛ وإذا أراد العقاد أن يجادله في مفهوم إعجاز القرآن بلغة هادئة كلها منطق وحجج، فذلك لا يؤدي إلا إلى اتهامه في عقيدته الدينية. ولست أفهم كيف يرى إخواننا المعجبون بأدب الرافعي في النقد كالأستاذ شاكر والعريان والطنطاوي أن نقد العقاد للرافعي ما هو إلا (شتائم)، وماذا كانوا يقولون عنه لو أنه كتب في ثلب الرافعي رحمه الله كتاباً ككتاب (على السفود) وأقل ما فيه: وغد، ونذل، وزنيم؛ ولم يفعل العقاد عشر معشارها في نقد الرافعي؟ أكانت تبقى للعقاد حرمة عندهم؟ أم كانوا يسقطون منه فضيلة القول الجميل كما يريدون أن يسقطوا منه كل فضيلة؟
إن الأستاذ علي الطنطاوي لا يتجنى على العقاد وسيد قطب فحسب، بل هو يبتني سابقة غير محمودة في النقد، فليس من المروءة تأليب الطبقة المحافظة على كل أديب مجدد، وليس الدين مدار البحث في أدب الرافعي وشعر العقاد، بل هو موضوع قائم بذاته متى جاء البحث إليه جاز أن يقول فيه الناقدون مقالتهم، أما ونحن الآن في عصر لم نتخلص فيه بعد من عصبية جاهلية قائمة عند الأغلبية فان من الجناية التي لا جناية بعدها أن يدور الأستاذ الطنطاوي ويحوم حتى يأتي بالأمر إلى الدين! فيتهم الأستاذ سيد قطب من طريق غير مباشر بعدم الرعاية للخلق الديني.
وبعد فإن الحديث حول الرافعي والعقاد الآن حديث ذو دلالة في الأدب العربي المعاصر، ودلالته هذه في أنه يمثل عصرين يتطاحنان، ولا ريب عندنا في الغلبة لأحدهما. . . فالعصر الذي يمثله المرحوم الرافعي وإخواننا المنافحون عنه عصر يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو في حالة احتضاره يصحو صحوة الموت ليهدأ بعدها الهدوء النهائي، والعصر الذي يمثله العقاد وزملاؤه عصر الحاضر والمستقبل، عصر الأدب المنتج الخلاق، لا عصر التقليد والاجترار، عصر هضم الحضارة الغربية وتمثلها، لا عصر ازدرائها والابتعاد(260/45)
عنها؛ وهو بذلك العصر الذي سيعيش حتماً.
وما دمنا في الحديث عن العقاد فإن له كلمة تدخل في حديثنا هذا، فقد لقيه أديب مشهور في أثناء نقده لشوقي بهذا البيت:
شوقي تولاه عباس فأظهره ... واليوم يخمله في الناس عباس
فقال له: (بل إنه عصر يخمل عصراً، ولا غية وهم تخفتها صيحة حق) فالأمر في الخلاف بيننا وبين إخواننا المعجبين بأدب الرافعي كل هذا الإعجاب لا يقتصر على شخص العقاد أو الرافعي بل هو يمثل هذين العصريين المتطاحنين.
بغداد
عبد الوهاب الأمين(260/46)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 22 -
ليت ليلى تعرف بعض ما ألاقي في ليالي الصد من أهوال!
ليت ليلى تعرف كيف ندمت على التعرف إلى وجهها الجميل!
ليت ليلى تعرف كيف هدت عزمي وقوضت بنياني!
ليتها تعرف أن هواها أورث جسمي وقلبي أسقاماً وعقابيل ستكدر ما بقي من حياتي!
وليتني أعتبر بما صرت إليه فأتقي الله في نفسي وأتصون عن الهوى والفتون!
ما أشد حزني على ما ضيعت من شبابي في التغزل بالعيون السود!
ما أشد ندمي على الغفلة التي خضت أوحالها يوم وثقت بعهود الملاح. . .!
سيطول بكائي على العافية التي بددتها تبديد المسرفين على أنفسهم وأنا أتنقل من أرض إلى أرض في سبيل الجمال
سأكتوي بنار الحقد على الدنيا وعلى الناس كلما تفكرت فيما ردني الحب إليه من ظلمات.
لم يبقى لي رجاء في غير الله.
ومن سوء البخت ألا أعرف الأيمان إلا في أيام الضر والبؤس!
إليك أرجع يا ربي، أرجع مقهورا ًمدحوراً بعد طول الهيام بأودية الضلال
إليك أرجع، ولا فضل لي في هذا الرجوع، فقد انهد كياني، وانشقت مرارتي، وصار من الموجع أن أحمل إلى فمي كوباً من الماء
إليك أرجع، فامنحني من العافية ما أنقل به صور ذنوبي إلى ألواح خيالي، عساني أعرف كيف أستغفر وأنيب
لم أجد في النجف شفيعاً إلى ليلاى، فقلت أذهب إلى الموصل وتلك نهاية المطاف في البحث عن الشفعاء
وعقدت العزم على السفر بالقطار الذي يقوم من بغداد في الساعة التاسعة مساء
ولكن صديقاً موصليا طرق بابي في الساعة السادسة وعرف نيتي في الذهاب إلى الموصل، فنهاني، ولما استوضحت السبب قال:(260/47)
إن أهل الموصل يحقدون عليك؛ فانزعجت وقلت: كيف؟ فأجاب:
أنت أطلت التشبيب بالعيون السود فغنمت عطف أهل البصرة وأهل بغداد، وخسرت مودة أهل الموصل، لأن عيونهم شهل لا سود. . .
فقلت: أتغزل بالعيون الشهل وأتناسى العيون السود
فقال: كان ذلك قبل اليوم
وتركني وانصرف
وكذلك قضيت نحو ثلاث ساعات في كرب وبلاء
أشهد أن ذلك الصديق طيب القلب، فما تعمد يوم إيذائي، ولكنه سيئ التصرف، فهو يزورني من حين إلى حين ليكدر صفائي، وهو يجد لذة في تنغيص من يعرف، ويشعر بارتياح حين يستطيع إلقاء صديقه في أتون العذاب
وقد وصل في إيذائي إلى ما يريد وخرج وهو جذلان
وفي غمرة هذا الحزن المظلم دخل موصلي آخر، موصلي كريم كاد أهله ينسونني أهلي، موصلي صيغ قلبه من العطف والحنان، فشاع الأنس في روحي حين اغتبقت بروحه الرفيق
وما هي إلا لحظات حتى كنت في القطار وهو يحملني التحية إلى أقربائه بالموصل الجميل
وفي القطار رأيت رجلا بيده مجلة تسمى (الأندلس الجديدة) وهي فيما أتذكر تصدر في البرازيل، وفيها رأيت مقالة في تجريح صديقي العزيز الدكتور زكي مبارك، فابتسمت وقلت: جرحوه كيف شئتم فستطيب الدنيا يوم يصل إلى فؤاده ليلاه!
وكان رأسي قد أثقله النعاس فلم أعرف شيئاً من معالم الطريق
وصلت إلى كركوك بعد عشر ساعات في القطار، وكركوك هي (شهرزور) في كلام القدماء، وفيها تشهد العين لأول نظرة مشاعيل اللهب، لهب النفط، فيدرك العقل أن هذا اللهب هو الذي يجذب الفراش، الفراش البغيض الذي يفد من وراء البحار ليسيطر على ذخائر تلك الأرض، وبعض البلاد تؤذي أهلها بفضل ما فيها من ذخائر وكنوز، والجمال يجني على أهله في أكثر الأحيان
ومضيت فسألت عن رئيس البلدية وهو الشيخ حبيب الطالباني فعرفني بأقربائه ودعاني(260/48)
للتنزه في حديقته الغناء، وهناك جرى الحديث عن اللغة العربية فعرفت أن أهل كركوك بعضهم من الأكراد وبعضهم من التركمان وأنهم يتكلمون الكردية والتركية بأسهل مما يتكلمون العربية
وبعد لحظات رجع أبناؤه من المدرسة فدعاهم للتسليم علي، فوقفوا صفاً في أدب واستحياء، فسألتهم أن ينشدوا شيئاً مما يحفظون فأسمعوني نشيداً عربياً بديعاً دلني على أن أطفال تلك الناحية سيكونون بأذن الله من سواعد العروبة بعد حين
وكذلك عرفت أن الحكومة العراقية تستطيع بسهولة أن تؤلف بين عناصر العراق، وأن تجعل منه شعباً موحد اللغة والتقاليد في زمن قليل. ويؤيد ذلك أن العروبة هي في الواقع فكرة لا جنس، والكردي يتحول بعواطفه إلى العروبة بلا عناء
ومنظر كركوك جميل ولكن أهلها يشكون قلة المياه، وفيها اليوم نحو أربعين ألفاً من السكان، ودورها تبلغ ثمانية آلاف، وبها حديقة للشعب، ومكتبة، ولها ضواح صالحة لأن تكون من مرابع الابتهاج لو وجدت من يصلها بأصول التمدن الحديث.
وفي شهر زور - وهي كركوك - يقول أحد الشعراء:
وعدتِ بأن تزوري بعد شهر ... فزُوري قد تقضَّى الشهر زُورى
وموعد بيننا نهر المعَّلى ... إلى البلد المسمى شهر زُور
فأشهُر صدك المحتوم حقٌ ... ولكن شهر وصلك شهر زُور
خطرت ببالي هذه الأبيات وأنا أطوف بكركوك فحزنت، فذلك شاعر كان يشك في صدق ليلاه، كما أشك في صدق ليلاي. ورأيت أن أبحث عن قريبات ليلى هناك، ثم خشيت أن يصعب التفاهم باللغة العربية فمضيت إلى أربيل بلد المبارك بن حمد بن المبارك الذي يقول:
تذكَّرنيك الريح مرَّت عليلةً ... على الروض مطلولاً وقد وضح الفجرُ
وما بعدت دارٌ ولا شط منزلٌ ... إذا نحن أدنتنا الأمانيُّ والذِّكرُ
وصلت أربيل في وقت القيظ فلم أجد من النشاط ما أصعد به لرؤية القلعة التي تحدثت عنها كتب التواريخ، وإنما اكتفيت بزيارة المسجد وشهود بعض الأسواق. وراعني أن تقوم أكثر المنازل على ربوة عالية تستدرج شياطين الشعر والخيال(260/49)
وفكرت في تلقف بعض المعلومات عن أربيل فلم أجد من يسعفني بما أريد، حتى الشرطي حارس الميدان لم يعرف شيئاً عن عدد السكان في أربيل ولم يستطع أن يرشدني إلى بعض المدارس، وهذا لا يمنع أن يكون في أربيل أدباء نرى آثار أقلامهم في بعض المجلات المصرية من حين إلى حين
ثم اتجهت نحو الموصل فراعني أن أرى حقول الحنطة على جانبي الطريق، وهي تشهد بما في تلك البقاع من خيرات، وراعني أن أرى السيارة تنتقل من نجاد إلى وهاد، ومن وهاد إلى نجاد كأننا في جبل لبنان
الله أكبر ولله الحمد!
هذا مسجد النبي يونس، وهو فوق هضبة عالية، وكأنه نوتردام دي لاجارد التي تروع من يدخل إلى مرسيليا أول مرة.
وعند الجسر يستوقفني الشرطي ليسأل عن أسمي فأقول: زكي مبارك. فيسأل: الدكتور؟ فأقول: نعم! فيبتسم ويقول: عرفت أخبارك، ولكن حدثني عند من تنزل؟ فأقول: عند آل ليلى! فيقول: وهذا وجه الإشكال!
وسأعرف بعد أيام لماذا يهتم الشرطة بمعرفة أسماء من يدخلون كركوك وأربيل والموصل
ألقيت أمتعتي في الفندق وخرجت أدبر الوسائل للبحث عن قريبات ليلى. واتفق أن جلست لأشرب كوباً من الشاي في إحدى القهوات ففاجأني الأستاذ محمد بهجة الأثري وهو يقول: أتراك تفلت من يدي يا دكتور؟ من جاء بك إلى الموصل؟ أذو نسب أم أنت بالحي عارف؟ ونقلني إلى المدرسة الثانوية للتسليم على الأستاذ بهجة النقيب، وهنالك طالعتنا مجلة الرسالة فقرأنا فقرأت من حديث ليلى المريضة في العراق، وحددنا موعداً للتلاقي بنادي الجزيرة في المساء
ولم تمضي ساعات حتى تسامع أهل الموصل بقدومي على غير ميعاد، فأقبلوا متفضلين للتسليم على الرجل الذي أحب العراق وأحبه العراق
تحدث أحدهم فقال: هل رأيت المنارة الحدباء؟
فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد خمسين درجة دار رأسه فنزل(260/50)
فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!
وانتقلت إلى مجلس آخر فابتدرني أحد الأدباء بهذا السؤال: هل رأيت المنارة الحدباء؟ فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد أربعين درجة دار رأسه فنزل
فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!
وفي مجلس ثالث تحث رجل فقال: هل رأيت المنارة الحدباء؟ فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد ثلاثين درجة دار رأسه فنزل
فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!
ثم صممت على صعود هذه المنارة ولو كان في ذلك حتفي، لأنقذ سمعة الجامعة المصرية، على حجراتها وغرفاتها ومدرجاتها أزكى التحيات!
سميت هذه المنارة حدباء لغلطة هندسية أورثتها الاحديداب ومن أجلها سميت مدينة الموصل (الحدباء) على طريق المجاز المرسل، وباسم الحدباء سمي نوع من الخمر يستقطره الموصلين، وكذلك انتقل الاسم من المنارة إلى المدينة إلى الشراب!
والمنارة الحدباء هي أعظم منارة في أقطار العراق، ودرجاتها فيما سمعت مائة وثلاث وتسعون درجة، وهي منارة الجامع الكبير.
ابتدأت فزرت الجامع، وهو قديم يرجع تاريخه فيما قيل إلى ثمانمائة سنة، ولمحرابه قبة عالية، وإقامة القباب فوق المحاريب طراز معروف في العراق
وبذلك الجامع مقصورة خاصة بالنساء، ولا تقام فيه الصلوات لهذا العهد إلا في الجمع والأعياد
وفي أثناء الطواف سمعت هديلاً يسجع بحنين فاجع يذيب لفائف القلوب، وسجع الحمام مألوف في العراق وقد تحدث عنه مئات الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان حماماً موصلياً يعيش في البلد الذي نسب إليه أبو إسحاق
وقد نظرت فرأيت الهديل يسجع وبجانبه ليلاه، فما الذي كان يصنع لو غابت عنه ليلاه! ليتني في مثل حالك، أيها الهديل البكاء!
ثم توكلت على الله وصعدت المنارة بصحبة جماعة من الرفاق يحملون المصابيح، وآذاني(260/51)
أن أجد درجات المنارة مهتمة، وأن أعرف أن الصعود فوق الدرجات أمر صعب، ولو أنني حاولت ذلك وأنا في سن أصغر أبنائي لكان الخطب سهلاً، ولكنني اليوم عالم علامة، والعلماء العلامون يصعب عليهم السير في الطريق فكيف يصعدون المنارة الحدباء؟!
وبعد أن صعدت نحو سبعين درجة شعرت بالتعب، فقلت: أنزل!
وهل يعيبني أن أعجز عن صعود منارة عجز عن صعودها الدكتور عزام؟
وشجعني على النزول أن الدكتور عزام صديق عزيز والتعالي عليه ينافي الذوق، وهو بالتأكيد سينشرح صدره حين يعرف أنني عجزت عن صعود المنارة والضعفاء يعطف بعضهم على بعض!
وبعد أن نزلت درجتين مر بالبال خاطر مزعج: وهو أن ليلى قد تسمع بهذه القصة فتعرف أن طبيبها أصبح من الأشياخ
وكذلك انطلقت لصعود المنارة بعزائم الشياطين.
وقفت فوق المنارة ونظرت إلى الأرض فعرفت خطر ما أُصيبت به من احديداب فالذي ينظر إلى الأرض من فوق تلك المنارة يتوهم أنها ستسقط به، ولكن هذا الوهم لا يجوز على رجل مثلي!
ذلك كان من أمر الصعود، ولكن كيف النزول؟
إن النزول بدا لي أمراً خطيراً جدا ومن كان في ريب من ذلك فليجرب، وقد خشيت أن تزل قدمي فأسقط، لأن درج تلك المنارة أصبح خيالا في خيال
واقترح السيد محسن جومرد أن أضع يدي على كتفه فرفضت لأن الاعتماد على الغير عند الشدائد هو بداية الانخذال.
نزلت من المغارة بلا مساعد ولا معين، فصح أن عافيتي لا تزال باقية، وتطلعت إلى الهيام بأرجاء الموصل لأرى ما فيها من بقايا السحر والفتون، ولأبحث عن الشفيعات إلى ليلاي.
وبدأت فزرت قبر أبي تمام، وكنت كتبت كلمة عن إصلاح قبره في جريدة الأفكار منذ ثمانية عشر عاماً، وكان من رأي أن تأليف كتاب جيد عن شاعرية أبي تمام أفضل من العناية بإصلاح قبره، فمتى أشرع في تأليف هذا الكتاب؟
كنت مبلبل الخواطر فلم أقرأ الفاتحة على قبر أبي تمام، وإنما قرأت على قبر أبي تمام قول(260/52)
أبي تمام:
أحبَابَهُ لِمَ تفعلون بقلبهِ ... ما ليس يفعله به أعداؤهُ
وهاج حقدي على ليلاي فوقفت شارد اللب لا أعرف ما أصنع ثم تلفت فرأيت جنيات الشط، شط دجلة، فسألت رفيقي:
ما بال هؤلاء الملاح يلقين الشط بلا احتشام؟
فأجاب:
(للحديث شجون)
زكي مبارك(260/53)
حواء
ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ الحوماني تحت الطبع، تحمل الرسالة منه إلى قرائها عدة نماذج قبل صدوره
في ليلة عرس
اسألي الروضةَ هل كا ... ن بها إلاكِ غرسي
وهل العطر الذي يع ... بقُ منها غير نفسي؟
زهرها الذابل يا ميُّ ... غديِ والغضُّ أمسى
وعلى المخضرِّ من أو ... راقها سطرت يأسي
فبدت منه على وج ... هـ السما صبغة وَرْسِ
وهوى كالزَهَرِ المن ... ثور في ليلة عرس
وتوارى لم يَرُق عي ... ناً ولم يعلق بحسّ
هو مثلي تعبق ال ... فاق منه وهو منَسي(260/54)
فراش يتبارى
ما تَمُرِّينَ بآما_ليَ في الروض حياري
يترامين على الزه ... ر كبار وصغارا
ويساجلن دوالَيْ ... كِ على الدوح الهزارا
ويعانقن متى شئ ... ن شقيقاً وبَهارا
وإذا البسها من ... لونه الزهرُ إزارا
وسقاها من سَقيط ... الطل شهداً وعَقارا
فبدت ألوانها الزُّه ... ر لجيناً ونضارا
ومضت تختال من غص ... ن إلى غصن سكاري
تتبدي فوقه طو ... راً وطوراً تتواري
خِلْتهِا في اُفُق الر ... ض فَراشاً يتبارى
الحوماني(260/55)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 17 -
عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحاً شديداً، ويأخذ قسطه من النصب مع صديقه هرندن؛ وكان قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، فهو بذلك يخرج من جهد إلى جهد؛ والناس يعجبون من تلك القوة البدنية التي ما زال يتمتع بها قاطع الأخشاب في الغابة بالأمس وهو اليوم قد ناهز الخمسين أو كاد.
وإن به بعد عودته هذه لحاجة شديدة إلى المال فهو اليوم ذو عسرة؛ وإنه لن يطلب المال ليستعين به في الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على شاكلته من الناس، بل لينفق منه فيما باتت تطلبه السياسة من أوجه الأنفاق؛ وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب، فلقد خطا في السياسة خطوة لن يكون بعدها نكوص
ولم يجعل إبراهام للمحاماة كل همه كما كان يفعل من قبل حينما كان يمني بالفشل في السياسة؛ فأن للسياسة اليوم نصيباً كبيراً من وقته ومن جهده؛ فهو يقرأ الصحف قراءة تمعن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة العبيد، ولينظر في الأمر ليتعرف كيف يتطور وغلى أين يتجه البلاد فيه؛ وهو يدعم بنيان حزبه في ألينواس ويعدله ما استطاع من قوة يعتد بها في غد
ونظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، وهو يحس هذا فلا يزداد إلا دعة وليناً؛ فيدل بذلك على أن عظمته عظمة حقيقية تبدو للناس في أبسط مظهر لها فتكون بذلك في أبهى مظاهرها. . .(260/56)
والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وبهاء منظره ولن يخرج الذهب عن صفته إذا وجد غفلاً من الزخرف؛ والنحاس مهما أدخل عليه من النقش والزينة لن يكون إلا نحاسا؛ ً والعظمة الحق هي التي تخلق الرجال وتبنيهم، وليست هي تلك التي يختلقها الرجال فيكون الواحد منهم بما يتصنع ويتكلف كالذي يحظر في حلة رائعة وهو لا خلق له؛ فلا تخفى الحلة سمته، ولا يكون منها إلا أنها تظهره أقبح منظراً وأحقر أمراً؛ فهو إنما ينبه الناس بما ينتحل ويدعى لنفسه من أوجه الكمال إلى حقيقته فيرون أنه ليس بالكبير ولكنه يتكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن كان ليخيل إليه أنه جوهر. . .
ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه على ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه عقولهم وقلوبهم ما وجدت فيه شذوذاً ولا نقصاً؛ بل إنك لتراه حقيقاً أن يسير الناس كما يرمم، كأنه في أعماله كوكب في هذا الفلك الدائر يتحرك وفق نظام محدود فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.
وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع الناس بينهم وبينه الكلفة، فهو يصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدراً؛ وهو على كثرة بره بهم لا يبتغي على معروف جزاء وكان إذا غشى مجلساً لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى إلا أن يجلس حيثما اتفق له؛ وإنه ليستحي أن يناديه الناس باسمه مجرداً عن كل لقب يراد به التعظيم وهو عندهم أيب الأمين أو أيب العجوز أو هما معاً، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر الغناء لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع. . .
وحسبك دليلاً على جمال نفسه وطيب عنصره أنه طلب إليه يومئذ أن يكتب كلمة فيها ملخص حياته لتكون مرشداً إلى ترجمة توضع له فلم يشر إلى أنه نشأ في الغابة من أبوين فقيرين، وأنه عمل منذ صغره على كسب قوته فساعد أباه تارة واشتغل أجيراً تارة، وأنه تعلم القراءة والكتابة دون مساعدة تذكر من جانب غيره، وأنه ذهب إلى نيوأر ليانز في تجارة لأحد الناس وأنه أشتغل بعدها صبياً في حانوت، وأنه عمل في تخطيط الأرض وفي توزيع البريد، وأنه عالج المحاماة حتى حذقها، وأنه اختير عضواً في مجلس الولاية. . . كل أولئك دون أن ترى في كلمته هذه العبارة تشعر بفخر أو تنم على الزهو، حتى أنه ما(260/57)
استطاع أن يشير بكلمة إلى ما أصاب من نجاح في السياسة، وهو إن فعل لم يك يعدو الحقيقة في شيء. . .
رجع إبراهام إلى سبرنجفيلد ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن الكبيرة وخاصة في الشمال؛ والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد تذكر مسألة العبيد إلا مقرونة باسمه؛ ثم أن مسألة العبيد تذكر اليوم معها مسألة أخرى هي مسألة الوحدة، فقد أخذت تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال؛ وكان خصوم ابراهام يجتهدون أن يرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري السبب في هذا الانفصال إذا تم، وكانوا يسمونه الجمهوري الأسود حنقاً عليه وكيداً له. . .
وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن إجابة هذه الدعوات قائلاً: إنه إن ترك عمله في المحاماة مدة كما فعل من قبل فسوف يعدم قوته؛ ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه والطعن عليه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام؛ وإذاً فإلى مجادلتهم من جديد ما من ذلك من بد. . .
وكانت ماري على ما به من خصاصة تطلب منه الكثير من المال لتظهر به في المظهر الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ وهي في الوقت نفسه لا تنفك تستعجله في السياسة وتحرص ألا يتهاون في أمر من أمورها
ولقد عظمت ثقته بنفسه؛ ولكن تواضعه يغلب عليه فيرى نفسه بين عاملين يتنازعانه، فبينما هو يفطن إلى قوته ويحس أن منطق الحوادث يسير به إلى حيث يصبح رجل الساعة، إذا به - وكأنه يخشى الخيلاء - ينظر إلى نفسه نظرة لولا ما عرف عنه من الصدق والصراحة لأخذت على أنها نوع من المكر يلجأ إليه لغاية في نفسه. فهو يسر إلى صديق له أثناء منازلته دوجلاس أن امرأته تتوقع أن سيصبح رئيس الاتحاد، ثم يقول لهذا الصديق وهو يضحك ملء نفسه ويداه تعتقلان ركبتيه وهو مستلق على ظهره: (صور لنفسك يا صاحبي كيف يصير أبله مثلي رئيسا)
يا الله لهذا الرجل! ولكن المبدأ عنده كما أسلفنا فوق كل اعتبار آخر، وما الرياسة عنده إلا غرور ما لم تكن وسيلة إلى تحقيق ما استقر في نفسه، لذلك كان يجهد ويدأب كلما خاف(260/58)
على مبادئه أن تعصف بها الأهواء والمغالطات، ولم يخطر بباله يوماً ما أن يخطو خطوة واحدة من أجل غرض شخصي
وكان لا يزال يرى في دوجلاس أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من المكر الشديد والمقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية وهو لا يراعي في الحق إلاً ولا ذمة
وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان من جدال فحمل في أهايو على الحزب الجمهوري وقذفه بما شاء من اتهامات. فذهب لنكولن وخطب الناس في كولمبس وسنسناتي، وفي هذه المدينة أعلن سياسته في صراحة وجلاء، قال: (إني أعلن أول الأمر لأهل كنتولي أني كما يقولون - ولكن كما أفهم أنا - جمهوري أسود؛ إني أعتقد أن نظام العبيد خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات المتحدة!
ولم يقتصر كلامه على نظام العبيد بل تكلم في شؤون أخرى كانت تهم الناس، منها راس المال ونظام العمل، ولقد أطرب في ذلك السامعين وملك مشاعرهم؛ ولما رأى إقبالهم على هذا الحديث أعاده في سوق جمعية زراعية في حفل أقامته بعد ذلك بأسبوعين فقال أنه يرى رأس المال مديناً في وجوده للعمل، فللعمل لذلك أهم وأعلى منزلة، وإن خير عمل هو ما يقوم به الفرد الحر الذكي المستقل الذي يعد ذخر البلاد وعتادها. . .
وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه إذ وقع في البلاد حادث جديد زاد هياجها وكان مثله مثل الزيت يلقى به على النار وذلك هو حادث جون برون، فإن هذا الرجل على كبر سنه قد أعلن الثورة لتحرير العبيد، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة لنصرة قضيتهم في كنساس، وقد عول اليوم أن يذكي نار الثورة في البلاد إذ لم يطق صبراً على بقاء هذا النظام البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به ليقتلوه هو. . .
خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج؛ وكان قلبه يفيض حماسة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت، ألا وهي حق كل زنجي أن يثور على مالكه، فليس أمام هؤلاء الزنوج غير القوة؛ ولكن جون برون لم يكد يخطو الخطوة الأولى ويستولي على مركز يجعله قاعدة لحركته حتى غلب على أمره فحوكم(260/59)
وأعدم. . . ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس هادئة. ولما حانت منيته استنزل لعنة الله على الظالمين أعداء الحرية. . .
واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلاً عند دعاة التحرير في الشمال؛ وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته ويجعلونه رمزاً لأحرار الشمائل ومثالاً يجب أن يحتذيه كل من كان له قلب يخفق بحب الحرية. . . ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله. . .
وأدرك لنكولن خطر التهم، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما رمى المارد الصغير ورطة؛ ولكن صوت الحق لا يضيع في ضجيج الباطل؛ فهذا لنكولن يتلقى دعوة من جماعة في نيويورك فيلبي مسرعاً ويلقي خطاباً من أبدع وأروع ما وانته به عبقريته وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله
احتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر. . . واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن، هذا الذي كان يشتغل نجاراً أول ما نشأ فاستطاع أن يرقى حتى يقف من دوجلاس الشهير موقف الند من نده وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة. . .
ولقد ارتاع فؤاده عند ما بلغ مكان الاجتماع وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية؛ ولما نهض للخطابة شاهد بعض الناس علامات الحيرة عليه، فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بملابسه المتهدلة العتيقة التفصيل والحياكة والتي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف
وتطلع عامة الناس إليه في دهشة، وتقسمت ألحاظهم بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الأبطال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وشدته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة. . .(260/60)
وكان صوته في أول الأمر خافتاً، ولكنه أخذ يعلو حتى ملأ الأسماع. وصفه أحد الحاضرين فقال: (أخذ وجهه يضئ بما في باطنه من نيران. . . وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى حد كبير مثل سهولة الإنجيل البالغة. . . وكان يسود المكان صمت عميق بينما هو يتكلم حتى لقد كان إذا سكت يسمع هسيس الغاز منبعثاً من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة من الاستحسان)
ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية قاطبة. قال عنه جريلي - وهو الذي رأيناه قبل ذلك بعامين يدعو إلى أن ينضم دوجلاس إلى الحزب الجمهوري ففقد بذلك مودته -: (ما من رجل استطاع أن يبلغ لأول مرة بخطابه إلى مثل هذا الأثر الذي بلغ إليه لنكولن أمام جمهور المستمعين في نيويورك)
عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري بما لا يدع مجالاً من بعد لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون ومما ذكره في ذلك قوله: (لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ نظام العبيد فان ذلك لا يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة)
وأقبل عليه الناس كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم يهنئونه بما ظفر به من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم وولاءهم وإعجابهم بمبادئه. ولقد طار صيته بهذا الخطاب عل نحو لم يرى مثله من قبل، وأخذ الناس يحسون أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء. ولقد رأى الصحف وهو في طريقه إلى سبرنجفيلد تتحدث عن ترشيحه للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في نهاية هذا العام. . .
(يتبع)
الخفيف(260/61)
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
بول فاليري
للأستاذ خليل هنداوي
يمكن القول إن شعر (بول فاليري) لا ينحدر من ينبوع واحد. فهو طوراً رفيق البرناسيين، وطوراً رفيق الرمزيين ولا سيما (ستيفان مالارمي) يغشاه عطف ناعم، وتكتنفه أحلام وتأملات ورموز. وشعر (فاليري) الطافح بالإبهام يبقى محافظاً على إيقاعه الموسيقي ولمعان صوره. وهنا سر عظمة الشاعر! وقد جرب (فاليري) أن يودع شعره (إلهامات) تجدد لغة العاطفة. وهذه الإلهامات قد أغنت عن كل الحريات، من الشعر الرمزي إلى البرناسي فالوجداني. ويرى فاليري أن هذه الحريات لم تنقذ الشعر ولم تعتقه من قيوده، إذ الشعر لا يمكن أن يولد إلا من حالة قهر أو من شدة، من صراع ومن ظفر. وقد يمتزج سهله مع النثر. ومقاطيع المقبرة البحرية - إذاً - قد بنيت وتحدرت كالشعر المدرسي، وفيها وفي حركتها قدرة - لو أنها دقت وانجلت - على أن تحمل الفكرة بوثبة لا تقهر، حتى في الموطن الذي لا تفهم فيه الفكرة، لأنه شعر حمل على الإبهام. وفاليري يعمل ضد المدرسة الرمزية والوجدانية بإعطائه - الشعر - خاصة الترنم لا بالأهواء وإثارة المشاعر ولكن بالأفكار! فالعاطفة يجب أن تقاد بالعقل. ويجب أن يكون محكوماً بصورة منظورة. على أن هذه الفكرة هي مولدة الشعر المدرسي. ولكن الشعر المدرسي لا يقيس من العقل إلا فكرة كبيرة واضحة. والعاطفة - وهي الشعر الصافي - إنما يجب أن تعبر عن العقل الصافي. وهذا العقل الصافي لا يربطه شيء بمنطق نصائحنا، ولا بأي مظهر من المظاهر الواضحة لحياتنا العملية. فهناك - في منطقة منعزلة بعيدة عن أنظمة هذه الحياة أو سطحيات اللغة العامة، هنالك عالم (للأفكار الصافية). فإذا ما استطعنا أن نستنقذ أنفسنا من هذه العبوديات في المظاهر بما أُوتينا من جهد ندخل حالاً عالم الشعر. . . الشعر الذي اكتشفه أفلاطون ووجده مصوغاً من النور ومن هذا الخلود الحي للرؤى العقلية. في هذا العالم لا يفكر بمنطق كما يفكر نثرنا وشعرنا. وإنما هذه الرؤى العقلية تترابط، أو تنحدر بحسب الإيقاع الضروري لها، كالزهرة ثم الثمرة تنشأن من الغرسة، لا كالقدوم يطرق المسمار. القصائد يجب ألا تفهم بالنظر في بنائها الظاهر كأنه مشهد نحن غرباء عنه،(260/62)
ولكن يجب أن تفهم بالتأمل في باطنها، بجهد يجعلنا نحس أننا قادرون على خلقها في أنفسنا!
الشعر خلق لا تأثير ولا حالات إحساس - كما هو عند الرمزيين - ولكنه قوة إحساس عقلي.
إن شعر (فاليري) هو أكثر تعلقاً من شعر (مالارمي) بالعاطفة التي تنحدر إلى ما وراء الطبيعة. هو جهد يضعنا في اتصال - لا بأهواء إنسان ولا بهذا العدم الذي هو إنسان ولكنه يصلنا بنفس الوجود المنظور كلعبة دقيقة من الأفكار السامية. وإن من الصعب التكهن عن مستقبل هذا النزوع المبتدع. فقد يمكن أن يتلاشى غداً ولا يبقى منه شيء. ولكن من المحتم الإيمان بعبقرية فاليري الشعبية. . . ولا ينكرها عليه من لا يرون في هذا النزوع إلا هزيمة متكبرة، وإلا مقاطيع يتلقنها صاحبها من العمل المبهم وقبسات الجمال الخالد، ولا يمكن جحود تأثير الشاعر الراهن، ولكنه ما هو إلا شعر فئة مصطفاة ضئيلة العدد، ولكن الذين يتلون سببنوزا وهيجل قليلون ولم يغض هذا من عظمتهما وعبقريتهما.
المذاهب الأدبية المضادة للمذهب المدرسي
لقد رأيت أن شعر (مالاري وبول فاليري) ومن حذا حذوهما كان كله نزوعاً حاداً للانفصال عن تقاليد العقل والفن، ومنها التقاليد التي تبدو لنا أنها متعلقة بطبيعة عقلنا ومعانينا. هنالك مدارس ترى أن هذه التقاليد ليست إلا اصطلاحات بل أبسط اصطلاحات وأكثرها سطحية.
الموسيقى يجب ألا تكون إلا لذة الألحان، فكل الموسيقيين إذا وضعوا فيها أفكاراً وعواطف هي شكل مسهب لأفكارنا؛ والدهان يجب أن يكون اللذة الوحيدة للأشكال والألوان، فكل الدهانين إذاً وضعوا فيه مواضيع، منها موضوع زهرة أو مرجل والزهرة تلقن فكرة زهرة، والمرجل فكرة مرجل! أما الفن فيجب أن يكون محضاً أو صافياً، أي تنظيم ألحان وألوان وأشكال. يكفي لنفسه ويبدع لنفسه شرائعه الخاصة دون أن ينشأ أي سأم من تشابهه مع الحقيقة العلمية. وهكذا نشأ فن محض في أنواع الفن، ومنه الأدب الذي نشأت فيه مقاطيع وروايات يظهر أن هدفها ليس إلا إذهال نفس القارئ أو الناظر. وما شعر مالارمي أو فاليري إلا مشاهد ذات لون خاص، طليقة من كل تقاليد العقل والفن، ومنها التقاليد القائمة على عقلنا وحواسنا. ونشأ بين الروائيين (برست) صاحب كتاب (وراء الزمن(260/63)
الغابر) وهو الروائي الذي ما عاش إلا ليلاحظ نفسه أو يلاحظ غيره. وقد ذهل عن حياته ومطامعه وانجذب بتفهم نفسه وتفهم غيره. ولقد كان ملاحظاً محللاً تطغى فيه صفة التحليل على صفة الإبداع، ولم يكن ميالاً إلى النظر العقلي أو النظرية الخفية، ليس هنالك في تحليله مواضيع فوق الوضع، ولا منحدرات في ظلمات اللاوعي. . . وأن كان تحليله النفسي تحليلاً ظاهراً دقيقاً. وهو في كل مظهر له يبدو أنه ينطلق عن الأسرار المجهولة في النفس، وجل عمله يميل به إلى إظهار هذه الأسرار المتحركة وتوضيح المنطق الذي يقود حياته وحياة الآخرين. وهي ليست بأسرار خفية أو غير قابلة للتحليل؛ إننا نخفيها عن أنفسنا، و (بروست) يعمل على إظهارها من خفاياها. وقصصه إنما تخرج كحياة نفسه أو كالحياة. وهو لا ينتخب له طريقة معينة في القصة، فقد تأتي قصصه اعترافية، وهو فيها البطل. وقصصه مما لا يمكن تقليدها لما فيها من قوة وتحليق!
خليل هنداوي(260/64)
رسالة الشعر
هكذا قالت بغي. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
وَاسِ يَا دَهْرُ! وكَفكِفْ من صُرُوفيِ ... وَأَعِنِّي!
طالَ بالْعَارِ عَلَى الدُّنْيا وُقُوفيِ ... لاَ تَلُمْنيِ!
وَخَبَتْ من خزْيِهَا تَحْتَ شُفُوفيِ ... نارُ حُزْني! ِ
ما الذي في زَلَّةِ الجسم الضَّعيف ... كان مني؟
بِعْتُ عِرْضي - يا إلهي - بِرَغيفِ ... فَاعْفُ عني!. . .
قيلَ: إِنَّ الرِّقَّ قد ذَابتْ قُيُودُه ... وَتَصَرَّم!
كذبوا. . . هذا على جسمي حديدهُ ... يتضرَّمْ!
كلما هلَّتْ على رجْسيِ وُفُودُه ... تتنعم!
غَاصَ بِي في الشَّهْوَةِ الدُّنْيَا عَبِيدُهْ. . . ... رَبِّ فارْحَمْ!
وَأَنا. . . كالعودِ يُشْجيهم نشيدُه ... وَهْوَ مُلْجَمْ!. . .
ساقَني الْقُوتُ وَساقَتْكم إليّْ ... شهواتُ!
جذَبتْكم للهوى من شفتيّْ ... جمراتُ
أَزهرتْ حُمْرتَهَا من رِئتيّْ ... زفراتُ!
هي في شرعِكُمُ الجاني عليّ ... صبوات
وَهْي لحنُ الزَّادِ غَنَّتْهُ لديّ ... قُبُلاتُ!
في سبيلِ العَيْش يا شَرْعَ التُّرابِ ... ما أُكابدْ!
حَرَّمَ اللهُ. . . وَحَلَّلْتُمْ. . . شَبَابي ... لِلْمفَاسِدْ!
وَارْتَجَلْتُمْ شِرْعَةً سَوَّتْ خَرَابي ... بالمعَابِدْ. . .
في زَحامِ اٌلإِثْمِ لا يَطْرُدُ بابي ... أيَّ قاصِدْ!
لا. . . وَلا يُغْضي حَيَاءً من عَذَابي ... طَرْفُ زَاهِدْ. . .
أيُّ شَرْعٍ قالَ: في الْقَيْدِ اسْلُكُوهَا. . ... لِلفجُور؟
وَإِلى سِجْنِ الْمَواخيرِ ابْعثُوهَا. . . ... لاَ الْخُدورِ!. . .(260/65)
أَلأَنِّي كُنْتُ أُنْثَي خَدَعُوهَا ... بالسُّفورِ؟
حِينما الْعِفة هَاجتْ. . . أَغْرَقوهَا ... في الُخمورِ. . .
لَيْتَهُم - لما أفَاقَتْ - شَيَّعُوهَا ... لِلقُبُورِ!!
أَنا رَيَحْاَنَةُ عَارٍ قد رَوَاهاَ ... إِثْمُ أَرْضي!
بَعْدَ ما لَوَّثَ جاَنيهاَ شَذَاهَا ... راح يُغْضي. . .
نَجْمَةٌ كمْ أسْكَرَ الكون سَناَهاَ ... ماَتَ وَمْضي
هكَذَا الدُّنياَ على الدُّنياَ هَوَاهاَ ... رَاحَ يَقْضي:
حُرَّةٌ باللقْمَةِ الْعفْراءِ - وَاهاَ! =بِعْتُ عِرْضي!!
(المجمع اللغوي الملكي بمصر)
محمود حسن إسماعيل(260/66)
من وحي الصحراء
للأديب أحمد فتحي
ظَمِئْتُ، عَلَى قُرْبيِ، مِنَ النَّهْل وَالعَلِّ ... فَهَلْ عَافَ عَذْبَ الْوِرْدِ ظَمآنُ مِن قَبْليِ؟!
وَضِقْتُ بلَيْلى، ساهداً، وَلَوَ اُنَّنيِ ... تَعَزَّيْتُ لم أَشْكُ التَّشَهُّد في ليلى!
وغشَّتْ حَياتي وَحْشَةٌ ليسَ يَنْتَهِي ... مَداها، وَدُوني سائرُ الصَّحْبِ وَالأَهْلِ
وأَقْبَلْتُ، أَشْكُو للصَّحَارَى لواعِجِي ... وآنَسُ بالإخْلادِ في كَنَفِ السَّهْلِ
وقلتُ أَجئُ البيدَ ملَء سكونها ... وأسْمَعُ هَمْسَ الريح في أُذن الرمْل
تُقَبِّلُهاَ طَوْراً، وطوراً تُرِيدها ... تُنَقِّلُ كالحسناءِ رِجْلاً إلى رجل
وأُبْصِرُ بالشمس التي مَلَّتِ النَّوَى ... إلى الغَرْبِ تمشي مِشْيَةَ الواهِنِ الكَهْلِ
أراها، حريقاً أَضْرَمَ اللهُ نارهُ ... لتأكلَ آجالَ السنينَ عَلَى مهل!
أُحِسُّ لظاها في ضلُوعي وتَنثَنيِ ... ويبقى الَّلظى يُغْرِي مَآقيَّ بِالْهَمْل
نَجِيَّةَ رُوحِي لا عَدِمْتِ عواذلا! ... فماذا يكونُ الحبُّ، إن يَخْلُ من عَذْلِ؟
وهل كان يُغْرِي الشاربين بِرَاحِهِمْ ... سِوَي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الرَّاح في حِلِّ؟!
وما أنا والعُذَّالُ، يمضي حديثُهُمْ ... وَيبقَي حديث الحبِّ في قولِهِ الفصل؟!
أَصِيخِي إليَّ السَّمْعَ، لا تَتَعَجَّليِ ... بناتِ خيالي بل دعيها على رِسْلِ!
ولا تحسبي نجوايَ من عَبَثِ الهوَى ... وَلَغْوٍ حديثِ الشِّعْرِ، في الجدِّ والهزْلِ
فَرَرْتُ من الدنيا ومِنْكِ تَشَوُّقاً ... إليكِ ولِلدنيا فيا للهوى النُّبلِ
أُطهِّرُ نفسي بالبِعاَدِ، لَعَلَّهُ ... يُعَلِّمُني صَبْري على الهَجْرِ وَالدّلِّ
وما الحبُّ إلاًّ لهفةٌ، وَتَصَبُّرٌ ... وَطُغْياَنُ تَبْرِيح على عاشق مِثْلِي
سَمَوْتُ بأفكاري إليكِ ولم أزَلْ ... نَجِيَّكِِ في أحلام يقظانَ بالوَصْلِ
وأَسْرَى خَيالي طائفاً بكِ باسماً ... كما تَبْسِمُ الأزهار في الفجر للطَّلِّ
وظلَّ يُنادِي لطْفَ حُلْمِكِ في الكرى ... إلى سابقاتِ العَهْدِ، بالوصل والشَّمْلِ
فهل لَقَيِ البَرَّ السَّمِيعَ نِدَاؤُهُ ... تُرَى، أم يعودُ الطيفُ بالمنْعِ والخَذْلِ؟!
نَجِيَّةَ رُوحي قد رَمَتْ بي يد النَّوَى ... بخيلا من البَيْدَاء يجزل في البخل
تَلَفَّتُّ حَوْلِي، لم أَجِدْ لِيَ مُؤْنساً ... وقد كان كلُّ الأثس لو شِئْتُ مِنْ حَوْلي(260/67)
وأَصْغَيْتُ للصحراء يَنْشُدُ مِسْمعي ... حديثاً، ومَنْ لي بالحديث بِهاَ، مَنْ لي؟!
هُناَ الصَّمْتُ حَرَّانُ الجوانِحِ مثْلَما ... يُصَعِّدُ صَبٌّ زَفْرة الشوق لِلْوَصل
هنا مَلْعَبُ الذِّكرى وميدانُها الذي ... تَشَعَّبَ بالعُشَّاقِ، سُبْلاً إلَى سُبْلِ
ومَسْرَح أفكار تساءل عن هَوًى ... بعيدِ المرامي لا قريب ولا سَهْلِ
وَمهْبِطُ إيحاءٍ ومَذْرَفُ أَدْمُع ... تحيَّرْنَ بين الكْبِرِ في العَيْنِ والذلِّ
وَمَعْبَدُ حُسْن قَدْ تحكَّمَ في الورى ... قضاءً جَرَي بالظلم حيناً وبالعدل
وَرَوْضٌ مِنَ الأوهام لاذَتْ بِظِلِّهِ ... قوافِلُ في الرَّمْضاءِ، تُحْدَى إلى الظِّلِّ
ودُنيا من الحِرْمَان ضجَّ ضَجِيجُها ... تَصَايَحُ بالزَّمرِ الطَّرُوبِ وَبالطَّبْلِ!!
نَجَيَّةَ رُوحي يا مُناها وسُؤْلهاَ ... هنيئاً لرُوحي بالأَماني والسُّؤْلِ
تَرَيْنَ شبابي ملء عَيْنَيْكِ ناضراً ... يُغنِّي كما تشدو الطيور على النَّهل
أَعِنْدَكِ أنَّ القلب طفل وإنَّنيِ ... أَخَافُ تَباَريح الغرام على طِفْلي؟
تَبَدَّى له النيرانُ ورداً وإنَّهُ ... من الخوف والنيران بالوَردِ في شُغْل
فلا تَفْجَعِيِه في الأماني وحُسْنِهاَ ... ولا تُركِبيهِ مَركَبَ الشَّطَطِ الهَوْل
خُذِيه حَناناً في يديك ورحمةً ... ولا تُغْلظِيِ يوماً لطفلكِ في قَوْل
وغَنِّي لَهُ الألحان فَرْحَى رقيقَةً ... فَعَلِّي أن أحْظَى بأصَدائِهاَ عَلِّي
وَرَاعيه كالأُمِّ الرَّؤُوم تَلَطفاً ... فَوَيْلىِ إذا ما اليُتْمُ رَوَّعَهُ وَيليِ
ولا تُشْبِهِي الصحراء في جَدْبِ قَلْبِهاَ ... إذا جَاَءها الظَّمآنُ للنَّهْلِ والعَلِّ!!
(القاهرة)
أحمد فتحي
مدرس بالتعليم الفني والصناعي(260/68)
البريد الأدبي
توحيد الثقافة بين الشعوب الشرقية
تلقت وزارة الخارجية من وزير مصر المفوض ببغداد تقريراً عن زيارة صاحب العزة محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف للعراق في أثناء عطلة العيد الأضحى الماضي، وعما نجم عنها من تفاهم مع رجال وزارة المعارف العراقية على الدعوة إلى مؤتمرات ثقافية، تعقد كل عام لتوحيد الثقافة بين الشعوب الشرقية.
وقد رفع صاحب العزة العشماوي بك وكيل المعارف إلى معالي الدكتور حسين هيكل باشا مذكرة يقترح فيها تشكيل لجنة لدراسة هذا الموضوع وقد جاء في هذه المذكرة ما يأتي:
(عند وجودي في العراق جرى الحديث مع كبار رجال التعليم في موضوع توحيد المناهج والخطط في البلاد الشرقية، بقصد توثيق الروابط الثقافية بينهما وانتفاع البلاد الشرقية بموارد بعضها العلمية، وإن مثل هذه الفكرة تؤدي إلى التفكير في بحث تمهيدي للدعوة لمؤتمر يدرس شؤون التعليم بين أمم الشرق ووسائل التربية والسياسة العامة في نشر الثقافة، ويواجه بعض المشاكل التي تعرض لهذه الأمم وتكاد تكون متشابهة.
وقد أثار هذا التفكير في العراق وسورية اتجاه هذين البلدين للاستعانة بموارد مصر الثقافية، وسعيها لأن تقتفي أثرها في نهضتها العلمية وتترسم خطاها.
وقد كان عقد المؤتمر الطبي في بغداد من المناسبات التي أثارت هذا البحث، وشجع نجاح المؤتمر على زيادة العناية بهذه الفكرة. ولما تشرفت بمقابلة صاحب الجلالة الملك غازي الأول، أثار سعادة وزير مصر المفوض هذه الفكرة فلقيت من جلالته كل تشجيع.
وإنني أرى أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة تمهيدية لتحقيق هذا الغرض وذلك بأن يعهد إلى لجنة من كبار رجال التعليم في الوزارة والجامعة بحث الفكرة من جميع نواحيها وتوحيد الموضوعات التي ينبغي العناية ببحثها، حتى إذا أقرت هذه الفكرة بدأت مصر في الاتصال بالبلاد الشرقية لمواصلة تنفيذها في الوقت المناسب).
فلما عرض هذا الموضوع على معالي الدكتور حسين هيكل باشا رأى أن تحقيق هذه الفكرة يتمشى مع السياسة التي يعنى باتباعها في هذه الأيام والتي ترمي إلى الروابط الثقافية بين ممالك الشرق المختلفة ولهذا أصدر معاليه قراراً بتشكيل لجنة لبحث الموضوع وفيما يلي(260/69)
نص القرار بعد الديباجة:
المادة الأولى - تشكيل لجنة تمهيدية لبحث هذا الاقتراح على الوجه الآتي:
وكيل الوزارة رئيساً، والوكيل المساعد وعمداء الكليات ومحمد فهيم بك والدكتور عبد السلام الكرداني بك والأستاذ نجيب حتاتة أعضاء.
على أن يكون محمد فهيم بك سكرتيراً عاماً لهذه اللجنة.
المادة الثانية - تكون مهمة هذه اللجنة بحث الفكرة من جميع نواحيها، وتحديد الموضوعات التي يتعين العناية ببحثها حتى إذا أخذ بهذه الفكرة بدأت مصر في الاتصال بالبلاد الشرقية لمواجهة تنفيذها في الوقت المناسب
فلما وقف حضرات أعضاء البعثة الإيرانية السامية على هذا المشروع أبدوا رغبتهم إلى وزارة المعارف أن توافي وزارة المعارف الإيرانية بجميع القوانين واللوائح والإحصاءات المختلفة عن الشئون التعليمية التي تضطلع بها وزارة المعارف والجامعتان المصرية والأزهرية، وذلك لتكون تحت نظرها أثناء البحث في المشروع الذي يرمي إلى التعاون العلمي والثقافي بين البلاد العربية ومصر.
وقد تقدم حضراتهم إلى سعادة وكيل المعارف بالمقترحات التالية التي تنمي تلك الروح بين مصر وإيران.
أولاً - عقد اجتماعات دورية في أوقات متباينة بين القاهرة وطهران تنتظم أساتذة الجامعات المصرية والإيرانية دينية ومدنية.
ثانياً - تبادل الأبحاث الخاصة بالكشف الأثري الذي يتم في كل من البلدين.
ثالثاً - توطيد صلات العلم بين جماعات العلماء المشتغلين بالآثار والتاريخ والأدب في مصر وإيران
رابعاً - تبادل المطبوعات التي تصدر في كل من المملكتين.
في مؤتمر المستشرقين.
يعقد مؤتمر المستشرقين الدولي ببروكسل من اليوم الخامس إلى اليوم العاشر من شهر سبتمبر المقبل، ويمثل مصر فيه عميد كلية الآداب رئيساً، والأساتذة أحمد أمين أستاذ تاريخ الآداب العربية في الكلية، والدكتور عبد الوهاب العزام الأستاذ المساعد للغتين الفارسية(260/70)
والتركية في هذه الكلية، والدكتور سامي جبرة أستاذ تاريخ مصر القديمة، ومسيو جاستون فييت مدير دار الآثار العربية والحفريات أعضاء.
وسيتقدم الدكتور طه حسين بك إلى المؤتمر ببحث عن تبسيط النحو، والأستاذ أحمد أمين ببحث عن امتزاج الثقافات في البيئة المصرية، وسيمثل الدكتور عبد الوهاب عزام الثقافة الفارسية، والدكتور سامي جبرة ناحية الآثار الفرعونية، ومسيو فييت ناحية الآثار الإسلامية
زيارة عضوين من البعثة الإيرانية السامية لمجمع اللغة
الملكي.
زار حضرتا صاحبي السعادة الدكتور قاسم غني والدكتور مؤدب نفيسي من أعضاء البعثة الإيرانية دار المجمع الملكي للغة العربية يرافقهما معالي الدكتور هيكل باشا وزير المعارف.
وكان في استقبالهما صاحب السعادة توفيق رفعت باشا رئيس المجمع، والأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري مراقب المجمع، والدكتور فارس نمر باشا، والدكتور منصور فهمي بك، وعلي الجارم بك، وأحمد العوامري بك، والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ محمد الخضر حسين، من أعضاء المجمع. فزارا معهم غرفة معجم الدكتور فيشر اللغوي التاريخي وكان يشرح ما فيها لسعادتهما الدكتور منصور فهمي، ثم زارا غرفة فيشات معجم الدكتور فيشر وهي تحتوي على معظم الألفاظ العربية، وطافا بعد ذلك بغرف المكتبة واطلعا على كتب تاريخية قديمة وأخرى خطية مما يعني به المجمع لحصر كلمات اللغة
وأعرب معالي الوزير عن رغبة المجمع في ربط الثقافة الإيرانية بالثقافة المصرية وأنه يسر المجمع المصري أن يعين فيه أربعة أعضاء إيرانيون مراسلون وطلب إلى سعادة الدكتور قاسم غني أن يقدم الأسماء التي يقع عليها الاختيار إلى المجمع لتتولى إدارته اتخاذ الإجراءات السريعة لتعيين حضراتهم فقدم سعادته كشفاً فيه أربعة أسماء فتسلمه الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري.
واتفق كذلك على تعيين أربعة أعضاء مصريين مراسلين للمجمع الإيراني.(260/71)
متحف التعليم الفني
يفتتح - بعد أيام - معالي الدكتور حسين هيكل باشا وزير المعارف القسم الأول لمتحف التعليم الفني المقام بسراي المعارف بأرض المعارض بالجزيرة، وهو المتحف الذي وضعت نواته الوزارة في العام الماضي عندما احتفلت بعيدها المئوي.
ويشمل هذا القسم ثلاثين مجموعة، يحتوي كل منها نماذج بالحجم الطبيعي. ومن أبدع تلك المجموعات مدرسة نموذجية كاملة في الهواء الطلق، وكذلك حجرة مذاكرة لطالب من الأرياف يتلقى علومه في معاهد التعليم بالقاهرة.
وإلى جانب هذا طائفة كبيرة من النماذج المصغرة المجسمة، والتماثيل والصور المصبوبة صباً في غاية الإتقان، والرسوم البيانية التي أعدت على أحدث الأساليب، والطرائق الفنية التي تمثل اطراد النهضة التعليمية في مصر في العصور المختلفة.
إلى الدكتور عبد الوهاب عزام
قرأنا مقالكم الرائع المنشور في العدد (256) من الرسالة الزهراء عن فقيد الشعر والشرق محمد إقبال، وعند ذكركم مؤلفاته رحمه الله، لم تذكروا سفرين جليلين له نظمهما قبل كتابه الأخير (أهلك حجاز)، أحدهما باللغة الأردية أطلق عليه (صور إسرافيل)؛ والثاني باللغة الفارسية سماه (بس جيه بايد دكرداي أقوام شرق) أي (وماذا يجب أن نعمل أيتها الأمم الشرقية). وقد وضعه متأثراً بالحرب الإيطالية الحبشية الأخيرة واندحار الأحباش كما هو معلوم
هذا ما أردت ملاحظته على مقال الأستاذ الكريم، راجياً الالتفات إليه، داعياً الله أن يفسح له المجال، حتى يحدثنا عن شعر إقبال وفلسفة إقبال، إنه سميع مجيب.
(بغداد - الكرخ)
محمود العيطة
الكلمة الأخيرة إلى الأستاذ سيد قطب
أكتب هذه الكلمة جواباً عما تفضل به الأستاذ الناقد الأديب. . . سيد قطب في الرسالة(260/72)
(259) ثم لن أعود إلى الموضوع لأن الكلام فيه مع الأستاذ عبث. . .
تضمن جواب سيد قطب أموراً ثلاثة:
أولها: أنه جعل جهلي بحضرته (جهلاً بالأدب والأدباء في مصر)، وطمأن المصريين بأنه ليس كل شامي مثل (علي الطنطاوي) في هذا الجهل. . . ومعنى هذا أن (سيد قطب) هو (الأدب والأدباء في مصر) من عرفه فقد عرف ذلك ومن جهله فقد جهله، وهذا من الادعاء وعوج الفهم بمكان؛ وأنا بحمد الله أعرف أدباء مصر شعراءهم وكتابهم: أعرف شوقي وحافظ رحمهما الله والجارم ومحرم ورامي والهراوي، وأعرف الرافعي رحمة الله عليه والعقاد والمازني وهيكل والزيات وطه والبشري وأحمد أمين وكثيرين لأجدى من عد أسمائهم؛ وقرأت لهم (كل) ما كتبوه ولكني لم أتشرف بمعرفة سيد قطب؛ فهل يمحو جهلي به علمي بكل أولئك؟
وثانيها أنه لم يأخذ من كلامي أو لم يفهم منه إلا أني استدللت على صحة تشبيه الرافعي بأن لشوقي مثله، مع أن كلامي بين أيدي القراء، وأن الذي قلته هو أن الأستاذ سيد قطب لم يستكمل أدوات النقد، ولم يرع المعروف من قواعد البلاغة، وأنه أشتغل عنهما بما يبدأ فيه ويعيد من الدعاوى العريضة في العلم والفن والتجديد، فلماذا ترك ذلك كله من كلامي وأخذ مثالاً عارضاً جئت به، وعلماؤنا يقولون: (ليس من دأب المحصل المناقشة في المثال)
وثالثهما أن الأستاذ ينصحني بالاقتصار على التدريس وترك الأدب، ويخرجني من زمرة الأدباء، وهذا كلام لا أحب أن أجيب عليه، ولا أعود إلى البحث مع من يقوله، لأنه لا يقوله إلا جاهل بأصول النقد بعيد عن المنطق، لأن النقد لا يجيز شتم الخصم والكلام على شخصه، وإنما يدعو إلى مناقشة الرأي الذي رآه، والمنطق يقضي عليه أن ينظر في كلامي ويرد عليه أو يدع، ويذكره المنطق (لو كان من أهله) بأن إقرار التحكيم والاعتراف بكفاية القاضي وسلطانه، مقدم على إصدار الأحكام. فمنذا الذي نصب هذا المحترم قاضياً بين الأدباء وحاكماً فيهم؟
وآخر ما أقوله للأستاذ سيد قطب تحية و. . . (سلاماً)!
علي الطنطاوي(260/73)
إلى الأستاذ سيد قطب
عاب سيد قطب على الأستاذ شاكر أن نقده مملوء بالغمز واللمز والتعريض، وعاب عليه أيضاً أنه لا ينفذ إلى صميم الموضوع عند ما يناقش. وكنا ننتظر من سيد قطب أن يرد على الكلمة التي كتبها الأستاذ الطنطاوي في عدد مضى، فيناقشها مناقشة هادئة تدل على أنه ناقد منصف ومناظر نزيه. . . أو يتجاهلها فلا يذكر شيئاً. وإذا به يتصف بالخلة التي عابها على الأستاذ شاكر فيعرض بالأستاذ الطنطاوي تعريضا، ً ويكرم دمشق أن يكسب خصومته إذا وضعها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي. فما ندري أحسب سيد قطب أن كلمة الأستاذ الطنطاوي وظيفة إنشاء. . . أريد منه أن يتفضل فيدلي برأيه فيها ويضعها حيث ينبغي وضعها من مدارج الآداب. . .؟ وكأن دمشق قد فرغت من مشكلاتها ومصائبها، وانتهت من قضية (المعاهدة) و (اسكندرونة) ولم يبق لها إلا أن تتفرغ لسيد قطب! فنحن نريد أن يطمئن الأستاذ قطب وألا يجزع، وأن يتنازل فيناقش الأستاذ الطنطاوي مناقشة هادئة منصفة أو يقبل ما جاء به. . . ولن تغلق أسواق دمشق احتجاجاً بعد ذلك؟. . .! ثم لن ترسل البرقيات إلى عصبة الأمم. . .! فهل يكفي سيد قطب هذا التطمين؟ إذن:
فقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فان وجدت لساناً قائلاً فقل
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
نداء الباعة
قرأت في العدد الماضي في البريد الأدبي كلمة حول هذا الموضوع، قال مسطرها: إن كاتباً إنجليزياً نشر بحثاً ضافياً في هذا الموضوع في صحيفة إنجليزية، وقد عنى فيه بالجانب النفسي عناية فائقة. ثم أثنى كاتب الرسالة على الباحث الإنجليزي وأعجب بطرافة موضوعه.
وأود - حفظاً لحق أدبي - أن أقول: إنني سبقت الكاتب الإنجليزي إلى معالجة هذا(260/74)
الموضوع، ولكني عالجته شعراً في قصيدة تزيد أبيتها على الثلاثين، بداءتها قولي:
نَطَقْتمْ مقاطعَ لم أدْرِها ... ولم تكشف النفسُ عن سرِّها
وصُغْتمْ نفوسكم هتفةً ... تبينتكم من صدَي جَأُرِها!
ولا أريد أن أثبت تمام القصيدة في تلك الكلمة القصيرة، وسوف أنشرها - إن شاء الله - في ديواني عند طبعه.
(الإسكندرية - الشاطئ)
العوضي الوكيل
بين مذهبين
جاءتنا كلمة بهذا العنوان من الأستاذ محمد سعيد العريان، يرد بها على شيء تناوله به الأستاذ سيد قطب في عدد الرسالة الماضي، ولكنا لم نتمكن من نشرها لوصولها بعد إعداد هذا العدد وترتيب موضوعاته، فموعدنا بنشرها العدد القادم.
تصويب
في (قصة الكلمة المترجمة): (في الرابعة والرابعين) وهي (في الأربعة والأربعين) و (تذكرنا بهذه الأملوحة) وهي (بهذه الأملوحة) و (أبو بكر البلاقلاني) وهي (الباقلاني) و (نفي القتل لا يبيده) وهي (القاتل) وفي الشرح: (وإن كنت في الصنيعة) وهي (الصنعة).
مزالق الأدب
القصة الأدبية دعامة قوية يعتمد عليها الأدب الحي ويرتفع بناؤه الشامخ الوطيد، وهي لون جميل من ألوان الحياة الفكرية ومظهر خلاب من مظاهر الثقافة والتهذيب. . .
وإن أدب القصة يحتل اليوم المكانة الأولى والمنزلة السامية بين الآداب الأخرى، كما أن القارئ المصري ينظر الآن في القصة لا (للتسلية) فحسب بل ليجد فيها المتعة الأدبية والغذاء الروحي والحكمة الموفقة والموعظة الحسنة.
وقد حمدنا لبعض كتابنا عنايتهم بذلك الضرب من الأدب، وبذل الجهود السامية في سبيل نصرته وتقوية أركانه، ووضع ما يكفل له الحياة والنمو!(260/75)
بيد أن هناك كتاباً قد وجدوا في ترجمة القصة (البوليسية) سوقاً نافعة وربحاً وفيراً، فحبسوا جهودهم عليها. وقد انزلق بعض كتاب هذه القصة فذكروا في قصصهم ما يعبد طريق الشر والفساد، ويبعث في نفس القارئ - الشاب - العوامل المختلفة المتباينة، وقد تؤدي هذه العوامل إلى الوقوع في مهاوي الجريمة. وحسبك أن ترجع إلى تلك القصص لترى فيها فساد الرأي، وعدم التوفيق إلى فكرة صالحة، تشاهد المجرم وقد صوره القاص في صورة البطل الفذ، وقدمه إليك في مهارة وعبقرية، بعد أن وضع على رأسه إكليل الغار.
لا جدال في أن ذلك الأدب الرخيص لا يؤدي إلى الغاية المنشودة ولا يحقق الرجاء المنتظر، بل ينزلق بالقارئ إلى مكان سحيق لا نرجوه له. . .
وبعد. فنحن في صدر طفرة جديدة وعهد جديد، فيجب علينا أن نتخير نوع الغذاء الروحي لأبنائنا، حتى يتسنى لنا أن نجعل منهم جيلاً جديداً له من نبل أخلاقه وحسن صفاته ما يحمله على النهوض والتقدم.
(بني مزار)
الطهناوي(260/76)
الكتب
سندباد عصري
تأليف الدكتور حسين فوزي
للأستاذ محمد سعيد العريان
في صيف سنة 1933 خرج الدكتور حسين فوزي مدير معهد الأبحاث المائية في بعثة من رجال العلم الأوربيين للاستكشاف ودراسة الأحياء المائية في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ وقضت البعثة في تجوالها تسعة أشهر ثم عادت، وكان من نتائج هذه الرحلة كتاب سندباد عصري. . .
ولكن كتاب (سندباد عصري) لا يتحدث عن هذه الرحلة حديثاً علمياً؛ إذ كان مؤلفه قد لخص أبحاثه العلمية ونتائجها في تقرير قرره من قبل؛ ثم أنشأ هذا الكتاب من بعد، ليقص به قصة هذه الرحلة كما هي في شعوره وفكره ووجدانه، بعيدة عن العلم ونظرياته وأبحاثه ونتائجه. على أنها ليست قصة بمعنى القصة تبدأ بدأها وتنتهي إلى نهايتها؛ ولكنها خواطر وصور ومشاهدات مما أجتمع للمؤلف في رحلته: مما وقع عليه نظره، أو انفعلت به نفسه، أو انطبع في وجدانه، أو بعث في نفسه معنى من معاني الفن أو الشعر أو الجمال. فصول مفرقة هي خفقات قلبه، ونبضات روحه، وخلجات نفسه، وصورة من إحساسه وعواطفه في هذه الرحلة منذ بدأت إلى أن انتهت
وقد قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة وأربعة أبواب: الباب الأول عبث وفكاهة، والثاني صور ومشاهدات، والثالث جد ودراسة ورأي، والرابع عواطف ومشاعر وخيال وفن؛ وتحت كل باب من هذه الأبواب فصول عدة، يتحدث كل فصل منها عن موضوع بذاته، ليس بينه وبين سابقه أو لاحقه صلة، إلا الصلة التي جمعت بين كل هذه المشاهد تحت عيني كاتب فنان له روح وعاطفة وفي نفسه شعر وفن.
على أن ما يحكيه المؤلف أو يتحدث عنه في هذه الفصول ليس هو مشاهداتٍ صامتة كبعض ما يصف الرحالون والرواد، ولكنها حكاية نفس رأت فتأثرت فألقت ظلالها وألوانها وعواطفها على ما رأته؛ فما يصف المؤلف مشاهداته، ولكنه يصف نفسه في مشاهداته؛(260/77)
ومن ثمة فإن قارئ هذا الكتاب لن يعرف منه أول ما يعرف إلا نفس كاتبه قبل أن يعرف ما كتب عنه؛ وهو بذلك كتاب له ميزته، لأن فيه (صدق) الرواية؛ وله خطر، هـ لأن فيه القدرة على خداع القارئ ليقوده إلى الإيمان بالرأي الذي لم يكن يؤمن به لو لم يتوق بالحذر واليقظة والانتباه. . .
وأول ما تعرف من رأي مؤلف الكتاب ومن نفسه هو قوله الذي يصدر به الكتاب:
(درجت على حب الغرب والإعجاب بحضارة الغرب؛ وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا، فتمكنت أواصر حبي، وتقوت دعائم إعجابي؛ فلما ذهبت إلى الشرق، عدت إلى بلادي وقد استحال والإعجاب إيماناً بكل ما هو غربي. . .!)
هذه الكلمة، وفيها صراحة الرأي على ما يمكن أن يلقي هذا الرأي من شدة المقاومة، هي نهج المؤلف ورائده ورفيقه طوال مدة الرحلة؛ وهي نفسه الصريحة التي تتراءى للقارئ في كل صفحة من كل موضوع في كل فصل مما أنشأ المؤلف من فصول هذا الكتاب. وإنني - على يقيني بأن هذا الرأي لن يجد له نصيراً عند كثير من القراء، وبأن حظه من الاستنكار سيكون اكثر من حظه من الرضا - أكاد أوقن بأن كثيراً من القراء سيخرجون من قراءة هذا الكتاب أكثر إعجاباً بالكتاب ومؤلفه على ما بينهم وبينه من اختلاف في الرأي والمذهب والعقيدة، وأشد استمساكاً برأيهم ومذهبهم وعقيدتهم فيما بين الشرق والغرب. . .
وإنني لأبيح لنفسي وقد قرأت هذا الكتاب وحللت صداه في نفسي - أن أتقحم على قدس هذا الرأي في نفس الدكتور حسين فوزي، فأزعم أنه مؤمن بالشرق وما فيه إيمان الرأي والعقيدة والدم المورث؛ وما هذا الرأي الذي يجهر به إلا صدى معكوس لبعض هذا الإيمان، أنشأه في نفسه إحساس قوي بمحبة هذا الشرق، ورغبة غالبة في إنهاضه، وأسف بالغ لما صار إليه؛ ثم ثورة فائرة في أعماقه على أكثر ما يرى ويحس من عادات الشرقيين وتقاليدهم؛ فلما هم أن يصيح صيحته قائلاً: (يا بني قومي، ليست هذه روحانية الشرق وليست هذه مفاخرة. . .) عقه البيان فلم يجد إلا هذه العبارة التي صدر بها كتابه يترجم عن ذات نفسه في لغة من لغة الغرب الذي تعلم فيه فتكلم بلسانه. . .
على أن هذا الشرق الذي رآه الدكتور حسين فوزي بعينيه ليس هو الشرق الذي ندعو إلى(260/78)
إحياء مجده وتجديد حضارته. إن للشرق حضارة أخرى لا تجتليها العين ولا تدركها المشاهدة فقد درست معالم هذه الحضارة فلم يبق منها فيما تراه العين إلا أرض وناس، وتاريخ يتحدث عن ماضي يخزى من ذكر حاضره. وليس الشرق هو هذا الهند الغارق في العبودية والأسر والهوان، ولا هذه الجزر المبعثرة بين شواطئ المحيط الهندي والبحر الأحمر؛ ولكن الشرق معنى عام إن لم يبد اليوم لعينيه فيما شاهد من نؤى وآثار وحجارة مركومة، فان حرياً أن يشرق في نفسه معناه إن حاول أن ينفذ بعينيه إلى ما وراء ما يرى من آثار وحجارة وناس. . .
على أنني في هذا الموضوع لست أريد الحديث عن شرق وغرب، فما هو إلا معنى يستتبع معنى، وإنما أردت أن أعرض هذا المؤلف الجديد بما فيه من رأي صاحبه وفكره، واحسبني قد بلغت في ذلك مبلغاً ما.
ولا يفوتني قبل أن أفرغ من هذا الحديث أن أنوه بالروح الأدبي الذي ألهم مثل الدكتور فوزي أن يؤلف هذه الفصول الشائقة في مثل هذه الرحلة العلمية، على أن هذا الموضوع كان حقيقاً بأن يكون أقرب إلى الكمال وأكثر جدوى وفائدة لو أن مؤلفه (العالم) لم يضن بعلمه على قرائه فيما أنشأ من فصول هذا الكتاب. ولعله حسب ذلك مما لا يهم القراء، على أنه كان عندي وسيلة يكمل بها فما أجمل أن يكون بين علمائنا الأجلاء أديب مثل الأستاذ فوزي في دقة الملاحظة وصراحة الخلق وفكاهة الواقع وخفة الروح وسهولة الكتابة، ليقدم لقراء العربية شيئاً من (الأدب العلمي) أو (العلم الأدبي) فان العربية في حاجة إلى هذا اللون الجديد من أدب الإنشاء الذي لا يقدر على مثله إلا مثل الدكتور حسين فوزي في علمه وأدبه.
وما أريد أن أتحدث عن هذا الكتاب في أسلوبه ولغته؛ إذ لم يكن مما يعني الدكتور فوزي أن أتكلم في هذا الكتاب عن أسلوبه ولغته؛ وإذا لم يكن من حقنا أن نتحدث عن مثل هذا الكتاب في أسلوبه ولغته، لذلك نغض النظر عما فيه من هذا الباب، راجين أن يكون لنا حديث آخر عن كتاب آخر أو كتب أخرى يخرجها الدكتور حسين فوزي لقراء العربية؛ فانه لمما يؤسف قراء العربية أن يكون فيها مثل الدكتور حسين فوزي من الأدباء المجهولين لأنهم لا يخرجون ثمرات عقولهم إلى القراء. . .(260/79)
محمد سعيد العريان(260/80)
العدد 261 - بتاريخ: 04 - 07 - 1938(/)
بين مصر والعراق
تجري أحكام القدر على أسباب خافية من حكمة الله لا يؤثر في منطقها مقتضيات السياسة، ولا مناسبات الظروف ولا مجاملات الصداقة. ولو كان لهوى النفوس ومشيئة العقول أثر في تدبير الأحداث وتغيير الأقضية لما اخْتُبل في ذلك الوقت هذا الطالب العراقي المسكين فأراق على ثرى دار الحقوق البغدادية نَفْس الدكتور سيف، ودم الدكتور عزمي، وهما يجاهدان غريبين في سبيل العلم، ويؤديان مخلصين للعراق فروض المودة. وأقول في (ذلك الوقت) لأن وقوع هذا القدر المروِّع في هذه الساعة التي تنعقد فيها أَوَاخي المصاهرة بين مصر وإيران أتاح لبعض النفوس الجاهلة أو المريضة أن توازن بين ما يفعل إخوان النسب وبين ما يعمل إخوان العقيدة. ومثل هذا الحادث المشئوم يقع في كل قوم وفي كل يوم، فلا تضطرم له القلوب، ولا تضطرب به الألسنة، ولا تهن منه العلائق، ولكن وقوعه ظلماً على الغريب النافع، من القريب المنتفع، أعطاه معنى التضحية وجعل له تأثير الشهادة. وابن الوطن إذا قتل في وطنه كان مصابه مصاب أسرته، وإذا قتل في وطن غيره كان مصابه مصاب أمته أضف إلى هذه الملابسات شائعات مكذوبة وتعليقات مشوبة استطار بها السماع فدلَّست على الناس وجوه الحكم، وآذت أصدقاء العراق وعارفيه فهبوا يصححون الخطأ في المجالس، ويعلنون الصواب في الصحف، رعاية لأسباب الإخاء، وإدامةً لتعاون الفكر، وضناً بأخلاق هذا الشعب النبيل على الأفواه القارضة.
شهد الله أني قضيت بالعراق ثلاثة أعوام لم ينلني فيها كلمة تؤذي ولا فَعلة تسوء؛ إنما كنت أتقلب في بغداد كما يتقلب الطفل على أحناء الصدر الحنون، لا أحس غربة، ولا أستشعر وحشة، ولا أجد في العيون ولا على الشفاه إلا العطف عليّ والإعجاب بمصر.
وربما وجد المصري في غير مصر تناكرا بين وجه ووجه، وتدابراً بين عاطفة وعاطفة، إلا في العراق، فإنه يجد وجهه في الوجوه وهواه في الأهواء؛ ويحس أن الأدب الذي درس، والتاريخ الذي قرأ، يتمثلان لباصرته وذاكرته في كل شخص وفي كل شيء؛ ويرى أن هؤلاء الناس الذين خُلقوا كما خُلق من النهر ذي الغرين الخصب، وعاشوا كما عاش على الأرض ذات الطلَّع والحب، لا يختلفون عنه في سَحنةٍ ولا خلق؛ والعراقيون من جهتهم يؤيدون حسبانه ووجدانه بالطلعة الأنيسة، والمروءة الجزْلة، والكرم المحض.
كانت مصر إذا ذكرها في المجلس ذاكر نزعت إليها قلوب القوم كما تنزع الأسْرة إلى(261/1)
عَصَبتها النازحين إلى بلاد الذهب والأدب والجمال. وكان المصريين في بغداد على قلتهم منزلة ملحوظة بين الجاليات الأخرى لا تحوم حولها شبهة الارتزاق ولا سُبَّة التشرد، لأن العراقي وإن كان ضنيناً بخيره على الأجنبي الواغل، يعرف عن المصري ما يعرفه كل الناس من عزوفه عن النقلة من قرية إلى قرية، فكيف بالرحلة من وطن إلى وطن؟
وهذا الذي رأيته بعيني لا أزال أسمعه بأذني من الأساتذة المصريين الذين لا يزالون يسفرون بين الشعبين الشقيقين بالثقافة والمودة. فالأحاديث التي تندس اليوم إلى الأندية اندساس الفتنة لا ترجع إلى حق ولا تذهب إلى منفعة. وهذا الحادث على فظاعته ظاهرة من ظواهر المجتمع، يحدث في الأمم المدنية كما يحدث في الشعوب الهمجية؛ ويقع من القريب على القريب، كما يقع من المواطن على المواطن؛ وحقد النفس على النفس من طبائع الإنسان، وضلال العقل ووهن الأعصاب من آفات الحي، وما يستطيع غير الله أن يعلم خوافي الصدور وخوائن العين.
فماذا كانت تعمل حكومة العراق وأمة العراق لتدرأ ذلك العدوان الفردي المحتوم وقد تهيأت أسبابه خفية في نفس مضطربة وأعصاب موهونة ويأس مضل؟ إن الذين قَالوا إنما كان هناك وعيد كُتب، وتهديد قيل، لم يثبتوا أن الصديق الجليل عزمي قد عاج بهذا الوعيد، أو أخبر الحكومة بهذا التهديد. وإذن لا يبقى إلا نزق الشباب الذي لا طِبَّ له، وقدر الله الذب لا حيلة فيه.
إن العلاقة بين مصر والعراق طبيعية لم يفتعلها طمع الاقتصاد ولا طموح السياسة؛ إنما هي علاقة الدم واللغة والأدب والتاريخ والمجد والعقيدة؛ فإذا طاشت يد هناك، أو هفا لسان هنا، فلا ينبغي أن يقع ذلك من البلدين الأخوين إلا موقع العبث الضروري الذي لا تكون الحياة دنيا إلا لوقوعه فيها، ولا يكون الإنسان بشراً إلا لوقوعه منه.
هذه كلمة كنا نود ألا نقولها، فإن الحاجة إلى تقرير الود بين الصديقين مظنة لوقوع الشك فيه، ولكن قعائد البيوت وأحلاس المقاهي لا يحبون أن يزجُّوا فراغهم الثقيل إلا بزخرفة الأحاديث على حساب الحق، فلم يكن لنا ولهم بد من هذه الهمسة!
أحمد حسَن الزيات(261/2)
الكبريت
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(أشعل لي سيجارة)
وكنا نسير بسرعة، فيداي لا ترتفعان عن عجلة القيادة مخافة أن يؤدي أضأل انحراف في التوجيه إلى اصطدام بشيء. ثم إن فمها حلو، وشفتيها رقيقتان، وليس عليهما شيء من الأحمر، ولست أحب السيجارة المبتلة، ولكني قلت لنفسي إن رضابها لا بد أن يكون عذباً.
وكانت السجاير بيني وبينها على المقعد، فتناولتها، ثم جعلت تتلفت وتتحسس باحثة عن الكبريت فقلت:
(هو في جيبي -)
فدست يدها في الجيب، ثم ضحكت
قلت: (ماذا؟ أشركينا. . .)
قالت: (ثلاث علب كبريت. . .!؟ ما هذا؟)
فصحت، والتفت إليها برغمي، وأحسست وأنا أفعل ذلك أن يدي ترعش.
(بس؟)
قالت مستغربة: (بس؟ هل تريد أن تجتر بالكبريت؟)
قلت: (هذه سرقة. . . لا بد أني سُرقت. . . كان في هذا الجيب خمس علب، فأين ذهبت الاثنتان؟ هه؟ طارتا؟ لا يمكن! احترقتا؟ مستحيل! واضح جداً أنهما سُرقتا. . . فمن هو السارق يا ترى؟ هذه هي المسألة التي تتطلب الحل السريع. . . أهو أنت؟ من يدري؟)
قالت: (والله ما أخذت شيئاً، ولا كنت أعرف أن جيبك هذا فيه كبريت. . . بل لم أكن أدرك أن هنا جيباً. . . ثم ماذا أصنع بالكبريت وأنا لا أدخن عادة؟)
وكان في صوتها الفضي اللين من الجزع ما أضحكني فقلت:
(لا عليك يا فتاتي. . . كوني سارقة أو لا تكوني. . . فأنت على الحالين. . . ماذا؟ هه؟ قولي أنت. . .)
فابتسمتْ - أحسست أنها تبتسم، فقد كنت معنياً بالطريق الغاص بالناس والسيارات والغنم والحمير، والجمال. . . ولا سيما الجمال فإنها شر ما أخاف، فإن لها لفزعاً غريباً من(261/3)
السيارات.
وصمتنا قليلاً، ثم فركت جبينها الصابح ببنانها وقالت كأنما تذكرت شيئاً:
(قلت إنه كان في هذا الجيب خنس علب، فهل تعني أن في جيوبك الأخرى كبريتاً؟)
قلت (لم يخب ضني فيك يا فتاتي. . . ذكية والله!)
وكنا قد بلغنا أول شبرا، فاستوقفني وزعمت أنها تريد أن تشرب، فوقفت، ونظرت إليها - حدقت في وجهها - متفرساً ثم قلت:
(علي بابا يا حميدة؟) وتناولت ذقني بيدي
قالت: (ماذا تعني؟)
قلت: (هل تريدين أن تشربي، أو تريدين أن تريْ ما في جيوبي من الكبريت؟ أنا أريحك، وأرضي فضولك. . خذي!)
وأخرجت من كل جيب بضع علب من الكبريت، وألقيت ذلك كله على المقعد بيننا فصار كوماً صغيراً
فقالت: (إحدى عشرة علبة! مدهش! ما حاجتك إلى كل هذا؟ لماذا تحشو به جيوبك، وفي واحدة منه الكفاية؟
قلت: (هذه أسئلة ليس لها عندي جواب. وما أضن بالجواب لو أني كنت أعرفه، وأحسب هذا مظهراً لبعض ما يخفي على المرء من نفسه، فما أبالي أن أخرج وليس معي فلوس، وليس يكربني أن أكون في مكان منقطع وليس معي سجاير، فإني أستطيع احتمال هذا الحرمان، ولكن لا أطيق أن أمشي إلا إذا كانت جيوبي مفعمة بالكبريت، وأشعر أن رأسي يدور، وأني كالضائع التائه إذا نقص الكبريت الذي معي عن حد الكفاية في رأيي وإحساسي. . . وحدُّها عندي أن تكون جيوبي ملأى. . . وأن أتحسس هذه الجيوب من الخارج فأشعر بالرضى والارتياح. . .
لا أدري لماذا ولكني هكذا. . . والآن أما زالت بك الحاجة إلى الماء تطفئين به ضمأك؟)
فضحكت وقالت (أهذا مظهر لشذوذ العبقرية؟)
قلت (لا تتهكمي. . . إن لكل منا ولعاً بشيء، وحرصاً على شيء. . . وفي وسعك أن تقولي إن لكل منا موضع ضعف، وأحسب أن مواضع الضعف عندي كثيرة، ولكن هذا من(261/4)
أبرزها، وإن كان أخفاها على الناس، فإن من حسن الحظ أن الناس لا يبلغ من فضولهم في العادة أن يتحسس بعضهم جيوب بعض، وأظنهم يرون انتفاخ جيوبي فيظنون ما فيها ورقاً ولا يستغربون)
قالت (ولكني لا أفهم. . .)
قلت (ولا أنا. . ولا أعلم حتى متى بدأت هذه العادة. . . لقد اعتدت أشياء كثيرة أستطيع تعليلها. مثلاً في وسعي أن أكتب والمدافع حولي تطلق قذائفها، فلا أكاد أسمعها، والمحقق على كل حال، أني لا أتأثر بها، ولا أشغل عما أنا فيه. . . اعتدت ذلك لأن الضرورة قضت به وألزمتنيه. - ضرورة العمل في الصحف اليومية التي يتخذ الزوار من مكاتبها مقهى أو مصطبة أو ناديا. . . وأنا أستحي أن أحجب نفسي أو أرد زائرا، فلم يبق لي مفر من اعتياد العمل في هذا البيمارستان. . . ولكن الكبريت مسألة أخرى. . . لا أذكر متى بدأت احتفظ به وأحرص عليه. . . وأنت تسخرين وتقولين إن هذا مظهر لشذوذ العبقرية أو جنونها. . لا يا سيدتي. . . لا عبقرية ولا يحزنون. إنما هو عندي مظهر لنزعة نفسية خفية كان من الممكن - لو أتيحت لها فرصة. . أن تظهر في صورة أخرى، ولكن ما هي هذه النزعة؟؟ هذا ما لا أعرف. . . ولكن أتعبني كثرة الغوص في أعماق نفسي على الأصل في هذا الحرص على الكبريت، فنفضت يدي يائساً، وأسلمت أمري إلى الله، وللمتهكمين والمتهكمات من أمثال حضرتك. . . .)
فضحكت، فقلت (والآن هل نمضي؟)
وعدت بها إلى بيتها، وقلت لأمها وأنا أسلم عليها (قد رددت الأمانة فاستودعك الله)
فتعلقت بي حميدة وقالت: (حتى تسمع ماما حكاية الكبريت) وسمعت (ماما) حكاية الكبريت، واستغربت - كما كان لا بد أن تفعل - وأسدت إلي نصحاً كثيرا، لا شك أنه نفيس، وأكدت لي أنها تخشى علي الاحتراق، وأيدتها حميدة فزعمت أني كالبركان الذي لا يؤمن انفجاره في أية لحظة، وكانت النتيجة التي لا معدى عنها أن حميدة وماما أخلتا لي جيوبي من الكبريت. . .
وانحدرت إلى الشارع، وأنا أحس أني كما قال القائل (خالي الوفاض، بادي الأنفاض) وكان من المستحيل أن أعود إلى بيتي هكذا، وماذا عسى زوجتي تقول حين ترى أن جيوبي(261/5)
فرغت من الكبريت؟؟ إنها تكون حكاية لا آخر لها، لهذا لم يسعني إلا أن أعرج على دكان وأشتري مقدارا كافيا من رضى النفس وراحة البال. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني(261/6)
التعليم الإلزامي في مصر
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
مدير دار الآثار العراقية
قرأت في مجلة مصرية مقالة لأحد الأساتذة، يقول فيها: (إن تقارير مفتشي التعليم ومراقبيه) أظهرت في السنين الأخيرة شيئاً جديداً لم يكن ملحوظاً من قبل، وهو أن الأولاد الذين يمارسون الزراعة في الحقل أو الصناعة في المعمل أو التجارة في السوق من متخرجي المدارس الإلزامية، لا تكاد تمضي عليهم أربع سنوات أو خمس، حتى ينسوا القراءة والكتابة، وتمحى من ذاكرتهم البقية الباقية من الحروف الأبجدية، فيعودون بذلك إلى الأمية مرة أخرى. . .)
إنني لم أطلع على نصوص التقارير التي يشير إليها صاحب المقال، فلا أعرف تفاصيل ما لاحظه المفتشون في هذا الباب. ومع ذلك لم أجد في هذه النتيجة شيئاً يستوجب الاستغراب، نظراً إلى ما أعرفه عن الظروف المحيطة بالتعليم الإلزامي في مصر من جهة، وعن التجارب التي مرت على الأمم الغربية في هذه القضية من جهة أخرى. . .
إنني لا أشارك المحرر في الأسباب التي يعزو إليها هذه النتيجة، كما لا أوافقه على الوسائل التي يقترحها لمعالجة القضية. ومع هذا لا أرى لزوماً لمناقشة الآراء الواردة في المقال المشار إليه، بل أفضل أن أبحث عن القضية من (أساسها)، بقطع النظر عن آراء المحرر فيها.
- 1 -
يظن الكثيرون أن (تعليم القراءة من الأمور البسيطة) التي يستطيع أن يقوم بها كل من (يعرف القراءة والكتابة) وبالأحرى كل من يعلم شيئاً من (مبادئ أصول التدريس). في حين أن هذا التعليم من الأعمال الدقيقة المحفوفة بالمزالق الكثيرة التي لا يمكن تجنبها إلا بيقظة متواصلة وتمرين خاص. .
لأن (تعليم القراءة) لا يعني (تعويد الطالب على قراءة بعض الكتب المعينة)، بل يعني (إكساب الطالب المقدرة على قراءة أي كتاب كان).(261/7)
ومع هذا، فكثيراً ما نجد أن المعلمين لا يقدرون خطورة هذا المبدأ حق التقدير؛ فيوجهون جهودهم إلى تعليم القراءة من الكتب المدرسية المخصصة لهذا الغرض، دون أن يمرنوا الطلاب على القراءة السريعة بوجه عام.
في حين أن الطلاب كثيراً ما يتعلمون قراءة تلك الكتب على طريقة الاستظهار، دون أن يجهدوا أنظارهم وأذهانهم في تتبع الكلمات المطبوعة في سطورها. وكثيراً ما ينخدع المعلمون بسرعة هذه القراءة، فلا ينتبهون إلى أن الطالب قد قرأ معظم ما قرأه عن ظهر الغيب، دون ملاحظة الكتاب. وهذه الحالة تتفشى بوجه خاص، عندما يكون الصف مزدحماً بالطلاب، وعند ما يتمشى المعلم في تدريسه على طريقة ميكانيكية، لا نصيب فيها لليقظة والاهتمام. يقرأ المعلم العبارة بنفسه بصوت جهوري، ثم يطلب قراءتها من أحد الطلاب، ثم من ثان، فثالث، فرابع؛ ويكرر هذه العملية عشرات المرات. . وكثيراً ما تنصرف أنظار القسم الأعظم من سائر الطلاب - خلال هذه القراءة والتكرار - عن أسطر الكتاب إلى أشياء أخرى؛ غير أن آذانهم تبقى مستهدفة لتأثير الألفاظ التي يلفظها المعلم ويكررها سائر الطلاب، بطبيعة الحال. وإذا ما تكررت قراءة العبارات عدة مرات، يكون هؤلاء الطلاب قد حفظوا الشيء الكثير منها عن طريق السمع؛ وإذا ما جاء دورهم في القراءة، أخذوا يقرءونها (قراءة ظاهرية) تكون حصة النظر فيها محدودة جداً، ويكون العامل الأصلي في سرعتها هو الحافظة السمعية وحدها. .
ولذلك كثيراً ما نرى بعض الطلاب (يقرءون دون أن ينظروا)؛ وإذا ما طلب إليهم أن يبدءوا القراءة من محل غير المحل المعتاد، يضطرون إلى التهجي، فيقرءون بتلعثم وتردد وبطء؛ غير أنهم إذا ما تمكنوا من قراءة الكلمة الأولى بعد هذا الجهد، فتذكروا الكلمة التي تليها، أخذوا يستعينون بذاكرتهم السمعية، فصاروا يقرءون ما بعدها بسرعة واسترسال. . . . وكثيراً ما لا ينتبه المعلمون إلى (حقيقة الأمر) في هذه القراءة الظاهرية وينخدعون بهذه السرعة، ويظنون أنهم نجحوا في تعليم القراءة. . شاهدت هذه الحالة في عدد غير قليل من المدارس في دروس مئات من المعلمين، وما أعرفه عن مدارس التعليم الإلزامي في مصر يخولني حق الجزم بأن هذه الحالة ليست من الأمور النادرة هناك أيضاً. . . .
وعندما تكون طريقة تدريس القراءة مشوبة بهذه الصورة بنواقص وشوائب كثيرة، فلا(261/8)
حاجة للبيان بأن عدداً غير قليل من الطلاب عندما ينتهون من الدراسة الإلزامية، لا يكونون قد تعلموا القراءة بكل معنى الكلمة، بل يكونون قد تعلموا قراءة بعض الكتب قراءة ميكانيكية، لم تخرج من دور التهجي والتردد إلا بإعانة الذاكرة السمعية. . . فهل من مجال للاستغراب إذا ما فقد هؤلاء خلال بضع سنوات ما كانوا قد اكتسبوه من المقدرة السطحية في القراءة الميكانيكية فعادوا إلى الأمية بصورة تدريجية؟
فإذا أردنا أن ننجو من هذه المزلقة الأليمة، يجب علينا أن نهتم بإصلاح طرق تعليم القراءة، ونسعى إلى حمل الطلاب على قراءة كتب متنوعة، فنتجنب كل ما من شأنه أن يجعل القراءة ميكانيكية وظاهرية
- 2 -
مع هذا يجب عليّ أن أصرح بأن كل ذلك أيضاً لا يضمن معالجة المشكلة التي نبحث عنها معالجة قطعية.
لأن (مقدرة القراءة) في حد ذاتها ليست من الأمور التي ترسخ في النفس بمجرد اكتسابها، بل هي من القابليات التي لا تعيش وتنمو إلا بالعمل والتكرار والمران. . إنها من القابليات التي تضعف وتتلاشى شيئاً فشيئاً عندما تبقى (عاطلة) ولا تجد مجالاً للعمل بصورة متصلة. . .
افرضوا أن طالباً مجتهداً ونبيهاً، قد تعلم القراءة بصورة جيدة، فأصبح قادراً على قراءة الكتب بصورة مرضية. . ثم تصوروا أن هذا الطالب ترك القراءة بعد خروجه من المدرسة؛ فقد مضى عليه عدة سنوات دون أن يقرأ شيئاً، ودون أن يجد في بيئته دافعاً يدفعه إلى استعمال قابلية القراءة التي كان اكتسبها قبلاً. لا شك في أن القابلية المبحوث عنها سوف لا تحافظ على قوتها مدة طويلة من الزمن، بل ستكون عرضة للضعف بصورة تدريجية. . . وسيزداد هذا الضعف على ممر السنين فيعود صاحبها إلى دور القراءة (بالتهجي) كالمبتدئين؛ وإذا استمر الحال على هذا المنوال مدة أخرى، فسيفقد قابلية القراءة التي كان اكتسبها في المدرسة، وسيعود إلى الأمية مرة أخرى.
وهذا هو ما يحدث في الحياة الاعتيادية. في كثير من الأحيان ينتهي الطفل من التعليم الإلزامي فيترك المدرسة ويذهب إلى الحقل أو المعمل، للاشتغال مع والديه. . . ولا يجد(261/9)
هناك فرصة لتغذية القابلية التي كان قد اكتسبها، ولا يشعر بدافع يدفعه إلى قراءة شيء يحرك ويجدد تلك القابلية، فينسى في حياته الجديدة، بصورة تدريجية كل ما كان اكتسبه في حياته المدرسية. . .
إن القول بأن (التعليم في الصغر كالنقش في الحجر) بصورة مطلقة، لا يتفق مع الحقائق الراهنة: فإن الدماغ ليس نوع من الأحجار الجامدة التي تحافظ على كل ما ينقش فيها؛ والقابليات التي يكتسبها الدماغ لا تشبه النقوش التي تحفر على الحجر بوجه من الوجوه؛ ولا سيما دماغ الطفل، فإنه يمتاز بمرونة كبيرة، يكتسب بسرعة، غير أنه قد يفقد أيضاً بسرعة
هذه حقيقة هامة يجب أن نضعها نصب أعيننا عندما نفكر في أمر التعليم الإلزامي ومكافحة الأمية: يجب علينا أن نهتم بتغذية قابلية القراءة وتقويتها - بعد المدرسة - بقدر ما نهتم بتوليدها وتنميتها في المدرسة. . . يجب علينا أن نتوسل بشتى الوسائل التي تدفع إلى القراءة - بعد الانتهاء من الدراسة الإلزامية - خلال مزاولة أعمال الحياة الاعتيادية. . .
وإلا، فيجب علينا ألا نستغرب إذا ما وجدنا (قابلية القراءة) التي بذلنا كل تلك الجهود في سبيلها قد أخذت تندثر وتتلاشى شيئاً فشيئاً. . . و (الأمية) التي قضينا كل تلك الأوقات في سبيل مكافحتها داخل المدرسة وفي سن الطفولة، عادت إلى الحكم بعد مدة، فاستولت على النفوس تدريجياً في ساحة الحياة، وفي سن الرشد والشباب. . .
- 3 -
إن تجارب الأمم الغربية - المسطورة في تواريخ معارفها - تؤيد الملاحظات النظرية التي سردناها آنفاً؛ فإن رجال معارف تلك الأمم أيضاً كانوا قد اصطدموا بالمشكلة التي بحثنا عنها، في بدء انكبابهم على تعميم التعليم ومكافحة الأمية؛ وهم أيضاً كانوا قد لاحظوا - عندئذ - أن معظم الطلاب الذين يتخرجون من المدارس الابتدائية ويدخلون معترك الحياة، ينسون بصورة تدريجية الكثير مما كانوا تعلموه في المدرسة خلال سني التعليم الإلزامي. وكثيراً ما يصل بهم الأمر إلى درجة (نسيان الأبجدية) والعودة إلى الأمية
إن هذه النتيجة مَثَلت للعيان، على وجه أخص، عندما أخذوا يفحصون معلومات الراشدين الذين يبلغون السن العسكرية فيدخلون الثكنات. . . فقد وجدوا بين هؤلاء الجنود عدداً غير(261/10)
قليل من الذين لا يستطيعون أن يقرءوا شيئاً بالرغم من أنهم تعلموا القراءة والكتابة - في طفولتهم - في المدارس التي داوموا فيها.
ولذلك أخذوا يبذلون الجهود الكبيرة لمعالجة هذه المشكلة، ويتوسلون بوسائل شتى لتوقي هذه النتيجة
وكان من جملة الوسائل التي توسلوا بها إحداث دروس ومدارس تجمع الراشدين أيام الأحد، أو أحد ليالي الأسبوع طول السنة، أو خلال بعض الأشهر منها بقصد (تكرار) و (ترسيخ) المعلومات التي كانوا اكتسبوها خلال دراستهم الابتدائية. . .
إن الألمان الذين كانوا أسبق أمم الغرب إلى تطبيق نظام التعليم الإلزامي، أحدثوا مثل هذه الدروس منذ القرن الثامن عشر، وجعلوا المواظبة عليها من الأمور المحتمة على كل فرد، منذ انتهائه من الدراسة الابتدائية حتى دخوله الخدمة العسكرية. . .
إن كثيراً من الأمم الغربية حذت حذو الألمان في هذا الباب، في القرن التاسع عشر، وأحدثت مثل هذه الدروس والمدارس، تحت أشكال وأسماء مختلفة. . .
في الواقع أن الحاجة إلى التوسل بمثل هذه الوسائل قد زالت من الغرب، نظراً إلى انتشار القراءة والكتابة بين جميع الطبقات، وازدياد حاجة الناس إليها في كل البيئات وفي جميع نواحي الحياة، وانتشار الكتب التي تلذ الناس وتفيدهم مع ازدياد المكتبات التي أصبحت في متناول أيديهم. . . فإن كل ذلك لم يدع - في البلاد الغربية - حاجة إلى لإدامة الدروس والمدارس التي كانت تستهدف (التكرار) و (الترسيخ). . . ولذلك حدث تطور عظيم في أهداف الدروس والمدارس الخاصة بالراشدين. غير أن الأهداف الحالية والتطورات الأخيرة يجب ألا تنسينا الغرض الأصلي الذي كان استوجب إحداث مثل هذه الدروس والمدارس. ويجب أن نلاحظ على الدوام أن تلك الدروس والمدارس لعبت دوراً هاماً في ضمان نجاح التعليم الإلزامي، ومكافحة الأمية في عهودها الأولى
إنني أعتقد أن الملاحظات الآنفة الذكر تكفي لإظهار أنواع الواجبات التي تترتب على وزارات المعارف التي تهتم بأمر التعليم الإلزامي ومكافحة الأمية:
يجب عليها أن تسعى لتحسن طرق تدريس القراءة، وتدريب المعلمين للقيام بأعباء هذا التدريس(261/11)
كما يجب عليها أن تتخذ التدابير اللازمة لإيجاد سلسلة كتب ونشرات ملائمة لحاجات الناس وميولهم، على اختلاف مهنهم وبيئاتهم. . .
ويجب عليها أن تتوسل بوسائل متنوعة لنشر تلك الكتب بين الناس، لتسهل تغذية رغبة المطالعة في نفوسهم. . . .
وأخيراً يجب عليها أن تتوسل ببعض الوسائل التي تضمن اجتماع الشبان في المدرسة من حين إلى حين - بعد انتهائهم من سني التعليم الإلزامي - لإدامة علاقتهم بالدرس والمطالعة بصورة منتظمة. . .
وإذا لم تفعل ذلك يجب أن تعلم جيداً أن الجهود التي تبذلها والنفقات التي تنفقها في سبيل نشر التعليم في الأرياف وبين جميع طبقات الناس، لا تثمر الثمرة الكافية، ولا يبعد أن يذهب معظمها هباء منثورا. . .
أنتهز هذه الفرصة لألفت أنظار وزارات المعارف في البلاد العربية - ولا سيما في مصر - إلى هذه الواجبات التي تترتب عليها لإتمام مهمتها في نشر التعليم ومكافحة الأمية بصورة فعلية
قلت: لا سيما في مصر. . . لأنها المملكة العربية الوحيدة التي استطاعت أن تسن قانوناً للتعليم الإلزامي، وأن تضع خطة عملية لتنفيذ أحكام ذلك القانون، وتحقيق نشر التعليم بين جميع طبقات الناس وفي جميع أنحاء البلاد. . . . فعليها - قبل غيرها - يترتب واجب الإسراع في اتخاذ التدابير التي سردناها آنفاً. . .
(بغداد)
ساطع الحصري(261/12)
قصة الكلمة المترجمة
(القتل أنفى للقتل)
لأستاذ جليل
تتمة
انتشرت كلمة الشيخ عبد العزيز الأزهري (البلاغ 20 رجب 1352) فكتب الرافعي (رحمه الله) مقالة عنوانها (ليست الجاهلية) - البلاغ 22 رجب 1352 - قال فيها.
(أثبت الأستاذ عبد العزيز الأزهري فيما نشره في البلاغ أن هذه الكلمة عربية واحتج لذلك بحجج أقواها: زعمه (أنها وردت بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري) ولا ندري أين وجد الكاتب كلمة (القتل) فضلا عن (القتل أنفى للقتل) في ذلك العهد المشهور المحفوظ، وقد رواه الجاحظ في البيان والتبيين، وجاء به المبرد في الكامل ونقله ابن قتيبة في عيون الأخبار، وأورده ابن عبد ربه في العقد الفريد، وساقه القاضي الباقلاني في الاعجاز، وفي كل هذه الروايات لم تأت الكلمة في قول عمر، بل لا محل لها في سياقه، وإنما جاء قوله (فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء. فإن ذلك أنفى للشك) أما سائر حجج الكاتب فلا وزن لها في باب الرواية التاريخية وقد أصبح عاليها سافلها كما رأيت)
قلت: كتاب أحمد ابن عبد ربه اسمه (العقد) والفريد زيادة نسخ ومطبعة. قال ابن خلكان: (وصنف كتابه العقد وهو من الكتب الممتعة) وقال الفتح ابن خاقان: (وله التأليف المشهور الذي سماه بالعقد) والكتب التي سميت العقد الفريد هي (العقد الفريد في أحكام التقليد، العقد الفريد في أنساب بني اسيد، العقد الفريد في علم التجويد، العقد الفريد في علم التوحيد، العقد الفريد، للملك السعيد)
وقلت: جاء (القضاء) في البيان والتبيين، والعقد، وعيون الأخبار. ووردت (القضية) في الكامل، وإعجاز القرآن. وجاءت (استحللت) في هذين الكتابين. والقضاء والقضية مصدران، والاسم القضية فقط؛ و (القضية العصرية) لا تعرفها العربية. والعبارة في العهد أو الرسالة (فإن ذلك أنفى للشك) قول عربي متناسب، و (النفي) نازل فيه منزله. ورسالة(261/13)
الفاروق إلى أبي موسى مشهورة، وقد رواها رواة وعزوها إليه. وذكر الجاحظ في البيان والتبيين كتابا من عمر إلى الأشعري (رضي الله عنهما) فيه تعليم وإرشاد وتذكير، والله اعلم.
وقال الأستاذ الرافعي (رحمه الله).
(والذي آنا واثق منه أن الكلمة لم تعرف في العربية إلا في أواخر القرن الثالث من الهجرة. وهذا الإمام الجاحظ يقول في موضع من كتابه (البيان والتبيين) في شرح قول علي كرم الله وجهه: (بقية السيف أنمى عددا وأكثر ولدا) ما نصه: (ووجد الناس ذلك بالعيان الذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذرء وكرم النجل. قال الله تبارك وتعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب) وقال بعض الحكماء: قتل البعض حياة للجميع. ولم يزد الجاحظ على هذا. ولو كانت الكلمة معروفة يومئذ لما فاتته كما هو صنيعه في كتبه، وهذه العبارة الأخيرة (قتل البعض. . .) هي التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب. . . فلا عبرة في هذا الباب بكلام المفسرين ولا المتأخرين من علماء البلاغة، وإنما الشأن للتحقيق التاريخي)
قلت: في النسخة المطبوعة: (قتل البعض أحياءٌ للجميع) ولم تجيء هذه العبارة والآية الكريمة قبلها قول علي (رضي الله عنه) - أن قصد أنهما جاءتا شرحا له، فالمقاصد مختلفة. وإيراد الجاحظ الآية والعبارة هو كعادته في إملاء ما يمليه في كتابه، وقد وردت قبل جملة وكلمةٍ للمهلب في معناها أقوالٌ متنوعة، وتلت الآية والعبارة مقطوعةٌ لهما الرقاشي، ثم تبع الشعر قولٌ لخارجية يشاكل الجملة العلوية، ثم خبر وشعر، ثم أحاديث متنوعة. وإن حسب الجاحظ أن الآية والعبارة تحكيان (بقية السيف. . .) فقد أخطأ حِسبانه
ثم روى الأستاذ الرافعي (رحمه الله) قولاً للجاحظ في (حجج النبوة) في القوم الذين كانوا يولدون الأخبار ويطعنون بها على (الكتاب) ثم قال: (وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن تلك الكلمة مترجمة عن الفارسية بظهور أصلها في تلك اللغة! ورجوعه إلى ما قبل الإسلام فهي ولا ريب مما وضع على طريقة ابن الراوندي الذي كان في منتصف القرن الثالث)
قلت: الكلمة لم تظهر في مصنفات نعرفها في القرن الثاني أو الثالث فينسبها إلى أحد من العرب أو غيرهم ناسب أو يقصد بها مقصد ابن الراوندي وتلك الشرذمة شرْير. وما هي(261/14)
إلا قول من جنس الأقوال الفارسية والإغريقية التي ترجمها النقلة وروى مثل الثعالبي وابن هند وطائفة منها.
ظهرت مقالة الأستاذ الرافعي (رحمه الله) فنشر البلاغ (25 رجب 1352) كلمة للشيخ عبد العزيز الأزهري عنوانها (القتل أنفى للقتل) قال فيها: (لأول مرة في حياتي الأدبية أقرأ للأستاذ البحاثة مصطفى الرافعي كلاماً يخترمه التناقض، وينسف آخره أوله. إن الأستاذ محق في أن نسبة الجملة الماضية إلى وثيقة القضاء التي بعث بها سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري ليست حقيقية، ومما لا شك فيه أن الذي أوقع في حسبانها منها مشابهتها لعجز الجملة الآتية في الرسالة: (فانه أنفى للشك) وقليلون هم أولئك الذين يشبهون الأستاذ في قوة الذاكرة، ووفرة كتب المراجعة، وانفساح الوقت. و (ظروفي) المدرسية وأكداس الكراسات التي تنوء بالعصبة أولى القوة (أرغمتني) على أن لا أتصفح الجرائد إلى إلماماً مثل حَسْو الطير ماء الثماد، ففي اللحظة التي كنت أنتجع فيها الراحة وقع نظري على كلمة الأستاذ النشاشيبي وفيها يرى أن الجملة مترجمة لا جاهلية ولا مولدة، فكان ردي عليها أنها عربية، وبرهنت على ذلك بعدة أدلة، لهذا غشيتني الدهشة عندما حكم الأستاذ بأن الأدلة التي ذكرت أصبح عاليها سافلها لنقض بعضها، فهل عدم العثور عليها في عهد القضاء (يترتب عليه) ثم ذكرت ما يثبت عنده جاهلية تلك الكلمة مفصلا
1 - عدم الحاجة إلى اقتراض هذه المعاني
2 - خشونة الجملة
3 - عنجهيتها البدوية
4 - رنين لفظة القتل في المسامع
5 - حالة العرب قبل البعثة أسالت على شباة ألسنتهم (يعني حكماءهم) أمثال هذه المعاني ثم قال: (ومما أعجزني فهمه ادعاء بحاثتنا الكبير أن الكلمة لم تعرف إلا في أواخر القرن الثالث الهجري) ثم قال: (الحق الذي لا مرية فيه أن القتل أنفى للقتل كلمة عربية لحماً ودماً وعصباً، وأن قلم الأستاذ خانه في هذه المرة فكان من نتائج شطحاته! أن (انزلق) به إلى هذا الحكم. فليتقبل مني الأستاذ الأديب هذا الرأي وليثق أنه لم يؤثر في منزلته في نفوسنا هذا الشطط! إلا بمقدار ما تنداح دائرة)(261/15)
قلت: وجدت كلام الشيخ في الأستاذ الرافعي (رحمه الله) طرفة فرويته، والله يشهد أني ما قصدت بروايته تنقص قائله
ثم نشر البلاغ في اليوم الثاني (26 رجب 1352) كلمة عنوانها (ليست جاهلية ولا مترجمة!) للفاضل (أمين الحافظ شرف بنيابة طنطا) قال فيها: (عاد الأستاذ الأزهري إلى دعواه أن كلمة (القتل أنفى للقتل) جاهلية، ولم يضف إلى براهينه الأولى شيئاً يعتمد عليه في تأييد هذه الدعوى رغم اعترافه بأنها لم ترد في عهد القضاء من عمر إلى أبي موسى كما وهم أولا ونبهه إلى وهمه الأستاذ الرافعي، وكل ما جاء به ليبرهن على جاهليتها بعض استنتاجات فرضية لا تقوم عليها دعوى. أما وقد بّين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أن تلك الكلمة لم تعرف قبل القرن الثالث الهجري ولم يروها أحد إلى ذلك العهد على كثرة ما روى عن الجاهليين فلا محل للقول بأن هناك أدلة عقلية أو منطقية، فهي ليست جاهلية ولا مترجمة! إلا أن تؤيدها الرواية الصحيحة أو يعرف أصلها الأعجمي!)
قلت: قول السيد أمين (رغم اعترافه) عربيته: مع اعترافه أو على اعترافه) والمعروف الاعتراف بالذنب، يقال: اعترف بذنبه وفي (الكتاب): (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) وفي حديث عمر: (اطردوا المعترفين هم الذين يقرون على أنفسهم بما يجب عليهم فيه الحد والتعزيز، كأنه كره لهم ذلك، وأحب أن يشتروه على أنفسهم) كما ذكرت (النهاية) و (استنتاجات) في كلمة (الأمين) غريبة في العربيات.
ثم ظهرت في البلاغ (غرة شعبان 1352) كلمة عنوانها (أسئلة القتل أنفى للقتل) للأستاذ (أزهري، المنصورة) قال فيها: (الظاهرة أن الشيخ عبد العزيز الأزهري يريد أن تكون (القتل أنفى للقتل) جاهلية، فأن يتشبث برأيه ولا يرجع عنه يُطالبْ بجواب هذه الأسئلة:
المجمع عليه أن اللغة العربية هي لغة الرصانة والأحكام فلن تضع كلمة إلا موضعها، فهل يجوز أن تستعمل العربية (النفي) في تلك الجملة؟ وما معنى (القتل أنفى للقتل)؟ وهل توضح ألفاظ الجملة معناها؟ وما معنى (النفي) في اللغة؟ وهل استعملت مادة (ن ف ي) واللغة لغة والعرب عرب، في مثل هذا المقصد؟
فإذا أقام الشيخ عبد العزيز دهراً طويلاً يبحث فلا يجد للنفي في العربية مثل هذا الاستعمال، فهل تبقى (القتل أنفى للقتل) جاهلية أو عربية؟(261/16)
قلت: النفي: التنحي، التنحية، الطرد الإبعاد عن البلد، التساقط: تساقط الشعر، التغريب الذي جاء في الحديث، الجحد (ومنه نفى الأب والابن يقال: ابن نَفيّ إذا نفاه أبوه) كما في التاج، الرد (نفيت الشيء إذا رددته، وكل ما رددته فقد نفيته)
ولو استُبدل (القتل) بـ (النفي) في العبارة الفارسية فقيل: القتل أقتل للقتل لصح اللفظ، ولكن تدهى الأذن والدماغ والعصب والجسم حينئذ داهية، وتجيء ثلاث (قافات خشنة كل قاف كجبل قاف) كما قال أحمد بن الحسين الهمذاني وتخالف العبارة قول المتنبي:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس، كلهن قلاقل
قال الكعبري في (شرح التبيان): (عاب الصاحب إسماعيل ابن عباد أبا الطيب بهذا البيت وقال: (ماله - قلقل الله أحشاءه - وهذه القافات الباردة) قال أبو نصر بن المرزبان: ثلاثة من الشعراء رؤساء، شَلْشلَ أحدهم، وسلسل الثاني، وقلقل الثالث. فالذي شلشل الأعشى والذي سلسل مسلم وأما الذي قلقل فالمتنبي. قال الثعالبي: فقال لي أبو نصر: فبلبل أنت. قلت له: أخشى أن أكون رابع الشعراء. . . ثم قلت بعد مدة:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فأنف البلابل باحتساء بلابل
كان الخطأ مطبعي في الكلمة السابقة (أسئلة) فنشر الأستاذ (أزهري المنصورة) كلمة عنوانها (التطبيع) - البلاغ 8 شعبان - قال فيها: (بعثت إلى (البلاغ) والقوم يقتلون فيه (القتل أنفى للقتل) بحثاً - وقد قتلت، وقد رمست، وللأقوال كما للقائلين آجال - بكلمة فيها أسئلة، ولما جاءت إلىّ الجريدة وجدت وذكر الكاتب الخطأ المطبعي (لا الأخطاء كما يقول بعض الأدباء) ثم قال: فعجبت وما عجبت، وقلت هي المطبعة، وهي السرعة في العصر البراقيّ. وقد أردت أن أسمي مثل هذا فقلت: لما كانت الصحيفة والصحف والصحائف والقلم الكاتب قالوا: (التصحيف) فهل لنا - واليوم يوم المطبعة - أن نقول (التطبيع) وقل من يستعمل هذه اللفظة في هذا الزمان للمعنيين القديمين. والصحيفة الخطأ في الصحيفة مولدة، والتطبيع (الخطأ المطبعي) عصرية بنت العصر وفي بنات العصر كريمات)
ثم ظهرت في البلاغ 16 شهر رمضان 1352 كلمة عنوانها (القتل أنفى للقتل مولدة لا جاهلية) للأستاذ محمود محمد شاكر قال: (كانت هذه الكلمة سبباً في لجاج بعض الكتاب حين قال الأستاذ مصطفى الرافعي في مقاله الذي نشر في بلاغ السبت (15 رجب 1352(261/17)
- 4 نوفمبر سنة 1933) بعنوان كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة): (أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم، وأخذت من الآية، والتوليد فيها بيّن، وأثر الصنعة ظاهر عليها) وقد قال بعض الكتاب بترجمتها عن اللغات وقد بحثت طويلاً عن أصلها وكنت أود أن أسوق الأدلة كلها على نفيها عن عرب الجاهلية، ولكن لا يتسع وقتي الآن لذلك، ثم وجدت أخيراً النص القاطع على أنها ليست من كلام الجاهلية في كتاب الإيجار والإعجاز لأبي منصور الثعالبي المطبوع بمطبعة الجوائب سنة 1301 مع رسائل أخرى (ثم نقل كلام الإمام الثعالبي وفيه (ويحكي عن أردشير الملك ما ترجمه بعض البلغاء أنه قال: القتل أنفى للقتل) وقد رُوِي النصُّ كله من قبل في كلمة الكوكب ثم قال الأستاذ محمود: (وهذا نص يؤيد ما ذهب إليه الرافعي ولا موضع للجدل بعده)
فنشر الأستاذ (أزهري المنصورة) بعد هذا القول كلمة عنوانها (الكلمة المترجمة، الأقوال الفارسية في العربية) - البلاغ 19 شهر رمضان 1352 - ومما قاله: (هذا النص بنفسه قد أورده الأستاذ النشاشيني في جريدة (كوكب الشرق في (12) رجب 1352 وكان قول الثعالبي من جملة الأدلة على أن تلك الكلمة مترجمة، ويظهر أن الأستاذ محمودا لم يقرأ المكتوب في الكوكب إذ لو رآه ما كان أتعب النفس في نقل ذلك النص. وكان قول الأستاذ الرافعي في تلك الكلمة المترجمة في (15) رجب 352 وقد طلب الأستاذ الأصل الفارسي، والظفر بالمطلوب في هذا الوقت مستحيل. ولولا ذلك لسألنا العالم الهمام الدكتور عبد الوهاب عزام الأستاذ في الجامعة المصرية أن يهدينا إلى مظنته.
الأقوال المنقولة عن الفارسية بعضها عزي إلى أهله فعرفناه، وبعضها جهل أصله فلم يدر أعربي هو أم فارسي. فهل للنابغة العالم بلغة العرب والأعاجم الدكتور عبد الوهاب عزام أن يطرف الناس بحثاً مستفاضا فيه عن الأقوال الفارسية في العربية.
آباء عزام كان (قِرَي الأضياف سّجيتهم، ونحر العشار دأبهم وهجيراهم) وقد جمع الأبناء بين القرَيَيْن: قري الضيفان بالجفان وقرى العقول والأذهان بالعلم والعرفان).
وفي (البلاغ 8 شوال 1352) ظهر قول عنوانه: (الكلمة المترجمة، الأقوال الفارسية في العربية) للدكتور عبد الوهاب عزام. وهذا هو القول: (نشر فاضل (أزهري) كلمة في البلاغ تحت العنوان المصدرة به هذه الأسطر، تناول فيه الكلام عن الأقوال الفارسية(261/18)
المنقولة إلى العربية، وطلب مني أن أكتب ما أعرف في الموضوع، وأحسن الظن بي وبآبائي، فأثنى علينا بما شاء له خلقه الكريم وأدبه الرفيع.
وإني ليؤسفني أن فاتتني هذه الكلمة فلم أطلع عليها حتى تفضل أديب العرب الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي فأرسل إلي من فلسطين قطعة من البلاغ تتضمن كلمة الأديب (أزهري).
فالآن أبادر إلى شكر أستاذنا النشاشيبي والاعتذار إلى أديبنا (أزهري) وشكره، راجياً أن أشرّف بإجابة دعوته إلى الكتابة في هذا الموضوع حين يتيسر لي ما تصديت لمعرفته وجمعه من الكلمات في هذا الصدد)
قرأ الأستاذ (أزهري المنصورة) قول الدكتور عبد الوهاب عزام فنشر كلمة عنوانها (موهبة الله واهبها، الدكتور عبد الوهاب عزام) - البلاغ 19 شوال 1352 - قال فيها: (قال المحبي في (خلاصة الأثر): تعلم العلامة البوريني اللغة الفارسية حتى صار يتكلم بها كأنه أعجمي، وفي ذلك يقول:
تعلمت لفظ الأعجميْ وإنني ... من العرب العرباء لا أتكتم
وما كان قصدي غير صون حديثكم ... إذا صرت من شوقي به أترنم
وإن كنت بين المعجمين فمعرب ... وإن كنت بين المعربين فمعجم
فأغدوا بأشواقي إليكم مترجماً ... وسركم في خاطري ليس يعلم
وقد تعلم العلامة الأستاذ الكبير (عبد الوهاب عزام) اللغة الفارسية والتركية وغيرهما من لغات الأعاجم وحذقها، كما نبغ في العربية وأدبها ليستفيد نشء العرب - قل وشبانهم وشيبهم - من بحثه وتحقيقه، وتفتيشه وأدب درسه استفادتهم من سيرته وخلقه وأدب نفسه، وليهدي في المشكلات من يستهديه، وليظهر للناس ذلك الكنز العظيم الذي أثرت به العربية. والكنز المعنى هو (الشاهنامه). قال ضياء الدين بن الأثير: (كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس؛ وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أن ليس في لغتهم أفصح منه)
إن الذي عند الدكتور عبد الوهاب عزام - قلت أو الدكتور موهوب عزام - هو موهبة، الله واهبها، والله (الوهاب) وهو في الفضل والعلم من أولى (العزم))
قلت: انتهت القصة(261/19)
(الإسكندرية)
(* * *)(261/20)
حواء
ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ
الحوماني تحت الطبع، تحمل الرسالة منه إلى قرائها عدة
نماذج قبل صدوره.
اباعثتي
تَلَفتُّ أسأل ماضيَّ عما ... وعيتُ فألفيتُه لا يعي
وأيقَنتُ أنَّ ربيع الشباب ... تولىَّ ولم يكُ قلبي معي
كأنَّ أناشيده قبلما ... خلقتُكِ لم تجرِفي مسمعي
ولا فتّق الصبح أكمامها ... عن الحب ريانَ من أدمعي
أباعثتي قِبَلَ الأربعين ... جديدَ الصِبا قلقَ المضجع
مشت بيَ أيامُكِ القهقري ... من الأربعين إلى الأربع
فأبصرتُ والشمس عند المغ ... يب، تباشيرَهاِ قبَلَ المطلع
وأنضرَ فوديَّ من ناضريكِ ... شبابٌ تدفقّ في أضلعي
رأيتك. . .
يراكِ بعينيه مَن لا يرا ... كِ في ظلمة اليأس فجرَ الأمل
يراكِ بنفسجة في الحضيض ... وزنبقة في سماء الجبل
يراكِ ندي في جيوب النسيم ... وبدراً تنقّل حتى اكتمل
فيا زهرة في رياض الربيع ... وبدراً تكبّد قلب الحمل
حنانيك والزهر يجني عليه ... ضحى الصيف والبدر يغشى الطفَل
رأيتكِ والعينُ لمّا تَسَعْ ... كِ أُحجيَّة في ضمير الأزل
رأيتُكِ، والعينُ ملء الفؤا ... دِ، ملء النهى عُقَداً لا تُحل
رأيتُكِ أنشودةَ العبقري ... وأضحّية في فؤاد البطل
رأيتكِ بين يديْ ناظريَّ ... فما أتلقّاه غضّ القُبَل(261/21)
فماً وشَّعتْ بسماتُ الخلود ... حواشيه باللثم حتى اشتعل
الحوماني(261/22)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 2 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف لأنها أجمل محاوراته وأكملها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة)
(روبنوفيير)
الأشخاص والمحاورة
بينت لك في المقال السابق أهمية هذه المحاورة وموضوعها. وأقدم إليك اليوم أشخاصها، ثم أبدأ في ترجمتها وفي التعليق على ما يحتاج منها إلى تعليق:
1 - الأشخاص
أولهم: (سقراط) بطل المحاورة كما قلنا. وسنرى أفلاطون متقمصاً إياه ومعلناً تلك الأفكار السامية المتعلقة بطبيعة (البيان) و (الأخلاق). وسنرمز له في الهامش بالحرف (ط)
وثانيهم: (جورجياس) وهو السفسطائي ومعلم البيان الذي يتخذ منه سقراط محوراً يدور حوله ويمطره وابلا من أسئلته البارعة ليثبت له أن فلسفته قائمة على المغالطة والجهل والغرور والكبرياء، وسنرمز له بالحرف (ج)
وثالثهم: (شيروفون) وهو صديق (سقراط) وتلميذه. وسنرمز له بالحرف (ش)
ورابعهم: (بولوس) وهو تلميذ (جورجياس) وصفيه، وسنرى أن (جورجياس) يتخذ منه محامياً يذود عن أفكاره أمام هجمات سقراط. وسنرمز له بالحرف (ب)
وخامسهم: (كالكليس) وهو من أهل (أثينا). ويتخذ أفلاطون منه ومن تلميذي سقراط وجورجياس الأنفين همزة وصل لإحكام الحوار. وسنرمز له بالحرف (ك)
2 - المحاورة
وتبدأ المحاورة في منزل (كاليكليس) حيث يصل (سقراط) متأخراً وكان يريد أن يستمع(261/23)
إلى حديث جورجياس السفسطائي فيقابله صاحب المنزل بقوله:
ك - أو هكذا تجيء (بعد المعركة) كما يقولون يا سقراط!؟
ط - وهل تأخرنا كثيراً عن (العيد) كما يقال؟
ك - نعم. نعم ولقد جئتم بعد عيد كامل البهجة والظرف!.
إذ الحق أن (جورجياس) كان يسمعنا منذ لحظة أشياء جميلة لا حصر لها!
ط - إن شيروفون - الموجود بيننا الآن - هو المسئول عن ذلك التأخير يا كاليكليس لأنه أرغمنا على الوقوف في الطريق
ش - ليس من ضير يا سقراط لأني سأصلح الأمر على أية حال. إن جورجياس صديقي، ولذلك سيكرر الآن إذا ما أردت نفس ما قد قال، أو هو سيرجئ الحديث إلى فرصة أخرى إذا فضلت
ك - ماذا يا شيروفون؟ أو بسقراط فضول لأن يسمع جورجياس؟
ش - لقد جئنا نقصد ذلك
ك - حسن! هيا معي إذاً فهو يقيم هنا. وسيبسط لكم الموضوع
ط - شكراً يا كاليكليس. ولكن أتراه يقبل التحدث معنا؟ إني لا أريد أن أعرف منه معرفة تامة خواص الفن الذي يمتهنه، وماذا يعد به وماذا يعلمه للناس، أما ما عدا ذلك فسوف يحدثنا عنه كما تقول في فرصة أخرى
ك - ليس أجدى من أن تسأله هو نفسه يا سقراط لأن هذه الناحية ليست بالدقة إلا جزءاً من الشرح الذي سيقدمه
- ليس أجمل من هذا. فعليك إذاً أن تسأله يا شيروفون!
ش - وماذا أطلب منه؟
ط - أي شيء هو!
ش - ماذا تريد أن تقول؟
ط - ألا تفهمني؟ إذا كانت مهنته - مثلاً - صناعة الأحذية فسيجيبك بأنه صانع أحذية!
ش - لقد فهمت وسأسأله قائلا: أخبرني يا جورجياس! أصحيح ما يقول كاليكليس من أنك تعد نفسك للإجابة على كل الأسئلة التي يستطيع أن يقدمها لك الإنسان؟(261/24)
(يتقدم جورجياس)
ج - نعم يا شيروفون، فهو نفس ما قد أعلنت منذ لحظة وأضيف إليه الآن أنني لم أتلق من أحد منذ سنين كثيرة سؤالاً واحداً يعتبر جديداً على مثلي!
ش - وإذا فيجب أن تكون إجابتك يا جورجياس متناهية السهولة والسرعة!
ج - ليس عليك يا شيروفون إلا أن تجرب!
ب - نعم. ولكن سلني أنا إذا أردت يا شيروفون لأنه يبدو لي أن جورجياس خائر القوى بعد إذ تحدث في أشياء كثيرة.
ش - ماذا يا بولس؟ أتملق نفسك بادعائك أنك تستطيع أن تجيب بأحسن مما يجيب جورجياس؟
ب - وماذا يهمك إذا كنت سأجيبك إجابة تكفيك؟
ش - طبعا هذا لا يهم فأجب ما دمت تريد!
ب - سل
ش - ذلك ما سأفعل. إذا كان جورجياس ماهراً في نفس الفن الذي يحذقه أخوه هيروديكوس فأي الأسماء يصلح لأن نطلقه عليه إطلاقاً صحيحاً؟ أليس هو نفس الاسم الذي نطلقه على هيروديكوس؟
ب - من غير شك!
ش - وإذا أنكون محقين إذ أسميناه طبيباً؟
ب - بلا ريب.
ش - وإذا كان منهمكاً في نفس الفن الذي يشتغل به ايستوفون بن أجلاوفون أوفى فن أخيه فأي الأسماء نطلقها عليه؟
ب - واضح أنه اسم (المصور).
ش - حسن. ولكن في أي فن قد صار جورجياس عالماً، وأي اسم يصلح له فنطلقه عليه؟
ب - للناس يا شيروفون فنون كثيرة، والإنسان مدين في كشفها للتجربة لأن التجارب هي التي تجعل حياتنا متمشية مع قواعد الفن، بينما عدمها يجعلها تسير مع الصدفة العمياء. والناس يختلفون فيما بينهم، فالبعض ينهمك في ذلك الفن، والبعض ينهمك في فن آخر،(261/25)
ولكن أفضل الفنون هي ما كانت نصيب أفضل الناس كجورجياس لأن الفن الذي يشتغل به أفضل الفنون جميعاً!!
ط - يلوح لي حقا يا بولوس أن جورجياس قد مهر جداً في الخطابة لأنه لا يواصل الحديث الذي وجهه إلى شيروفون!!
ج - وكيف هذا يا سقراط؟
ط - يبدو لي أنه لا يجيب عما يسأله الناس!
ج - سله بنفسك، إذ لتجدنه مستعداً!
ط - إذا كان يسرك أن تجيب، فإني أسألك بسرور أعظم إذ يلوح لي أن ما يقوله بولوس يدل على أنه قد حذق فن (البلاغة) أكثر من حذقه فن المناقشة والإقناع!
ب - وماذا يحملك على هذا القول يا سقراط؟
ط - ذلك لأنك - وقد سألك شيروفون عن الفن الذي مهر فيه جورجياس - رحت تمدح هذا الفن دون أن تخبرنا عن ماهيته كأن هناك من يحتقره ويحط من شأنه!!
ب - ألم أقل إنه أفضل الفنون جميعاً؟
ط - ليكن كما تريد! ولكن أحداً لم يسألك عن صفة هذا الفن وكيفيته. لقد سألناك فقط عن ماهيته، وعن أي اسم يجب أن نطلقه على جورجياس، ولقد دَلَّك شيروفون على الطريق بالأمثلة، فأجبته في المبدأ إجابة حسنة قليلة الكلمات
فقل لنا كذلك: أي الفنون يمارس جورجياس؟ وأي الأسماء يصلح له؟؟ أو - بالأحرى - قل لنا أنت يا جورجياس: أي الأسماء يجب أن نسميك به؟ وبأي الفنون تشتغل؟
ج - بالبيان يا سقراط!
ط - إذاً يجب أن نسميك معلم البيان؟
ج - نعم، ومن المعلمين المجيدين يا سقراط، إذا ما شئت أن تسميني بما أفخر به على حد تعبير هوميروس!
ط - ليكن ما تريد!
ج - حسن - سمني إذاً هكذا!
ط - أتقول إنك قادر على تعليم هذا الفن للغير؟(261/26)
ج - هذا ما أمتهنه هنا وفي كل مكان!
ط - وهل تريد يا جورجياس أن تستمر آناً مسئولاً وآناً مجيباً كما نفعل الآن، مرجئاً هذه الخطب الطويلة - كتلك التي بدأ بولوس بإحداها - إلى وقت آخر؟ إن يكن فخذ فيما وعدتنا به، واجعل إجابتك على كل سؤال قصيرة
ج - هناك يا سقراط من الإجابات ما يحتاج بالضرورة إلى سعة وبسط، ولكني سأحاول مع ذلك أن لأجيب بكل اختصار لأن من بين الأشياء التي تعجبني من نفسي انه لا يوجد من ينطق بنفس الإجابة في أقل تعبير كما أفعل
ط - هذا ما يجب هنا يا جورجياس. فأرني إذا ذلك الاختصار الفريد ولتترك الأقوال المطولة إلى فرصة أخرى
ج - سأسرك. وسترى أنك لم تسمع شخصاً يشرح باخصر من قولي؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا(261/27)
بين مذهبين
للأستاذ محمد سعيد العريان
(لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات. وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أولَ ما يتناول؛ فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال؛ وإنما هو تاريخ إنسانٍ له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به؛ فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسيء، فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت، ولا به رضيت؛ ولكنها أمانة أحملها كارهاً، واضطلع بعبئها مضطراً، لأؤديها إلى أهلها كما تأدَّت إليّ. وإني لأعلم أني بما أكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع؛ ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد، ولا عليّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان؛ فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطة كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض عليّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلاً إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى الهوى يسعى إليه - إن كان أحد يريد ذلك فلْيمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمتْ؛ فلتفترق بنا الطريق أو تلتقِ على سواء، فليس هذا أو ذاك بما نعي من المضيّ في سبيلي ومن الله التوفيق!
(وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي، ومعركة جديدة من معاركه؛ وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناء ثم مسحت على قلبيهما الأيام فتصافيا، فانه ليذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر، والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس؛ فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوة في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخاً لا تجتازه الأرواح إلى أخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية. فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته؛ فما تخلص ضوضاء الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم. . . هنا رجل من الأحياء وهناك رجل في التاريخ، وشتان ما هنا وهناك؛(261/28)
فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماض بعيد. والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان؛ فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضي البغضاء. . وهذا عذيري فيما أذكر من الحديث. . .)
. . . ذلك قول قلته منذ بضعة أشهر وقدمتُ به للحديث عما كان بين الرافعي والعقاد؛ وكأنما ألقيَ إليَّ من وراء الغيب أن كاتباً مثل الأستاذ سيد قطب سيحشر نفسه فيما لا يعنيه وما لا يصلح له، وما لا يُحسن أن يقول فيه، ليحاول أن يجعل التاريخ غير ما كان، مظاهرة لصديق، أو انتصاراً بالباطل. . .
ولقد كنت أكرم (صديقي) أن يكون هو الذي يحاول هذا العبث إسرافاً في حسن الظن بفهمه وأدبه وسمو نفسه، ثم كان ما لم أكن أتوقع. . .
وإني لأشعر الساعة - وقد خرجت من الصمت الذي فرضته على نفسي شهرين رعاية لحق الصديق وإبقاء عليه - بشيء من الألم يخزني في صدري ويجعل القلم يضطرب بين أناملي؛ فما سهلٌ على مثلي أن ينسلخ عن ماضيه وينكر صاحبه ليقول على ملأ من الناس: (يا هذا، لستُ منك ولست مني. . .!) ولكن سيد قطب قد قالها فما بدٌ لقائل أن يقول. . .
لقد كان بين الرافعي والعقاد عداوة وشحناء سارت مسير المثل بين أدباء الجيل، فهل كان من الحتم تبعاً لذلك أن يكون سعيد العريان وسيد قطب عدوين، لأن أولهما يؤرخ للرافعي والثاني يجري في غبار العقاد. . .؟
ولكن سيد قطب يرشح نفسه ليكون في غد شيئاً له في الأدب خطر ومقدار، وما يرى نفسه بالغاً هذه المنزلة إلا أن يجري على نهج صاحبه ويتأثر خطاه؛ فكان أول سعيه إلى غايته أنه احتقب كنانته وخرج إلى الطريق يرمي الناس باليمين والشمال لا يعنيه أين يصيب ولا من يصيب ولو كان أحرص الناس عليه وأرفأهم به. . .! وكان إلى سعيد العريان أول ما راش من سهامه يا صديقي الذي كان. . لقد أخطأت الهدف المؤمَّل. . .!
ما بي في هذا المقال أن أتحدث عن الرافعي ولا عن العقاد، ولكنّ مذهبين سماهما سيد قطب أريد أن أضرب لهما مثلين: أما أحدهما فقول سعيد العريان يعتب على صاحبه: (. . فإن كان هذا هو كل عذر الأستاذ سيد قطب من تمزيق أكفان الموتى بأظفاره فقد بَلغَ وأَبلغ. . .)(261/29)
وأما ثانيهما فهو قول الأستاذ قطب نفسه يرّد على عتاب صاحبه: (. . . إن سيد قطب ليس هو الذي يمزق الكفان بالأظفار، والذي يمزّق بظفره (مخلوق آخر)، أكرم آدابي وآداب الناس أن أقول: إن الأستاذ (العريان) أو أحد زملائه من (فصيلته)! خشية أن نتدهور خطوة أو خطوتين بعده فيصبح من النقاش الأدبي المعترف به أن يقول الواحد للآخر:
(يا ابن الـ. . .) ويكون هذا من أساليب النقاد!)
تُرَى هل عرف القراء فرق ما بين المذهبين؟
نعم، ولكن لا بأس من زيادة البيان والايضاح، فقد يكون في القراء طائفة من أمثال الأستاذ سيد قطب، لا يقنعون بغير ما هو صريح الدلالة في موضعه وإن كانوا مثله (أخصائيين) في اللغة وفي أساليب البيان. . .
لقد ظل المرحوم الرافعي دائباً في تجديد الآداب العربية سبعاً وثلاثين سنة، يتردد أسمه في المحافل والنوادي ومجامع الأدب، فليس بين قراء العربية أحد لا يعرفه، وسيد قطب واحد من قرائها الأخصائيين في اللغة كما يعرف القراء، ولكنه مع ذلك لم يشرع قلمه ليجرَّد الرافعي من (النفس) ومن (الإنسانية) ومن (العقيدة) وليزيِّف أدبه ويكشف عيبه إلا حين غيَّبه التراب وآن أوان ذكراه. فهل يكون ذلك شيئاً غير تمزيق أكفان الموتى بأظفار. . .؟
ليس الأستاذ سيد قطب - ولا شك - كلباً، ولا ذئباً، ولا ثعلباً، ولا شيئاً من ذوات الظفر والناب؛ ولكنه مع ذلك - عندنا - يمزق أكفان الموتى بأظفار. . .
هذه هي عربيتنا نحن أنصار المذهب القديم، فبأيّ عربية فهمها الأديب الناقد المجدّد الأخصائي في اللغة وفي أساليب البيان الأستاذ سيد قطب؟. . . لقد فهم أننا نجرّده من إنسانيته وأننا نعني أنه. . . أنه. . . أنه ذو ظفر وناب. . .!
وأساء الظن بآدابنا وبنفسه. . . ورّد شتيمة بشتيمة، وزاد في الرّد عبارة يريد أن يجعلها من أساليب النقّاد. . . .
وعفا الله عنه؛ فما يملك أحدٌ يناله سيد قطب بالإساءة إلا أن يعفو عنه. . .!
. . . معذرة!
لقد فاتني أن أنوه بفضيلة من فضائل سيد قطب تتصل بهذين المَثَلين، وإنها لبسبيل من(261/30)
مذهبه في أدب (النفس) وأدب (الطبع)، وإنها لتكتشف عن أسلوب من أسلوبه. . . إن سيد قطب لم يشتم، ولم يقل شيئاً يستحق العفو أو المؤاخذة. إنه يقول فيما يرد: (. . . إنني أُكرم آدابي وآداب الناس أن أقول. . .) أتراه قال شيئاً؟ لا، إنه ليُكرم آدابه وآداب الناس أن يقول؟ فمِن التجِّني عليه أن تزعم أنه قال. . . أيعرف سيد قطب شبيهاً بهذا الأسلوب فيما يتحدث الناس؟. . . أما أنا فأعرف: أعرف (مجدّدين) غيره من الصعاليك والسوقة يهمّ أحدهم أن يشتم خصمه فيقول له ما ترجمته في مثل لغة الأستاذ قطب: (إنني أكرم آدابي أن أقول. . .) ويكون بذلك عند العصبة المتجمهرين حولهما مؤدباً كريماً عفيف اللسان لأنه لم يقل شيئاً، ويكون بذلك مجدداً في أسلوب الشتم وإن لم يعترف سيد قطب بأن مثله من المدرسة الجديدة. . .
. . . ويبقى بعد ذلك قول الله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟) فيكون معناه على هذا القياس في مذهب الأستاذ قطب: (من منكم تهفو نفسه إلى أكلة شهية فيها مسلوق وقديد ومشويّ من لحم بني آدم؟) ويكون جواب هذا الاستفهام صوت (إنسان) يقول: (أنا. . .!) فيمسخه الله كلباً أو ذئباً أو ثعلباً أو شيئاً من ذوات الظفر والناب. . .
أليس هذا هو مدلول هذا الاستفهام عند من لا يؤمن بالكناية والاستعارة والمجاز في أساليب البيان والله أعلم بمراده. .!
أراني أطلت في شرح هذا المثال قبل أن اخلص إلى ما أريد، وما تثبت القاعدة بمثال واحد؛ فهذا مثال آخر: يقول سعيد العريان في وصف المرحوم الرافعي حين يهم أن يجمع خواطره لموضوعه قبل أن يكتبه: (. . فكان يرسل عينيه وراء كل منظر، ويمد أنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويُلقي باله إلى كل محاورة. . .)
فيقول سيد قطب: (. . . إن المرحوم الرافعي لم يكن يمد أذنه وراء كل حديث كما يعرف من يعرفه؛ ولم تكن هذه الحاسة من أدواته في التنبه والتأمل، فكان من (الصدق) ألا تذكر دون أن يضيره هذا أو يعيبه، إذ كان هذا مما لا يعاب. .)
فالأستاذ الأديب الناقد سيد قطب الأخصائي في اللغة، لا يفهم من كلمة (يمد أذنه وراء كل حديث) إلا معنى السماع بالأذن؛ وإذا كان الرافعي معطَّل الأذن لا يسمع فان هذا التعبير ليس من الصدق في الرواية. وذلك هو المذهب الجديد. . .(261/31)
ويبقى بعد ذك قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) فتكون دلالته عنده على معنى من معنيين: أن لله يداً، أو أن ذلك ليس من (الصدق) في تعبير القرآن. . . وأستغفر الله العظيم. .!
وقال لي قائل من صحابتي: (إنك لتتعسف في هذا التفسير وفي تطبيقه على المذهب (الجديد)؛ وإنك (لمعذور في هذا الجهل لأنك لم تختلط بالعقاد أولاً، ولأن نفسك لم تتفتح لأدب العقاد فتفهمه ثانياً. . .!) إن سيد قطب ليس من الجهل بحيث لا يفهم: (يمد أذنه وراء كل حديث) على وجهها؛ ولكنه يعيب عليك في التعبير أن تُعنَى بما سماه (استيفاء الأشكال) وتغض النظر في سبيل ذلك عن (الصدق) في العبارة. . .)
قلت لصاحبي: (لست أفهم ما يعنيه بقوله (استيفاء الأشكال) فما يكون الاصطلاح الجديد؟)
قال: (وأنت معذور في هذا أيضاً، لأنك لا تستطيع أن (تماشي الأستاذ قطب في سموقه) الفكري وفي مبتكراته العلمية التي اثمرتها دراساته الشاملة لكل ما نُقل إلى العربية من الآداب الإفرنجية ومن المباحث النفسية الحديثة ونظريات العقل الباطن والتحليل النفسي والمسلكية، ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة ومن مباحث علم الحياء ونظرية دارون ومباحث الضوء وتجارب الكيمياء ونظرية آينشتين والنسبية وتحطيم الذرة ووظائف الأعضاء وو وو)
قلت: (حسبك! إنما أريد أن أعرف معنى (استيفاء الأشكال) وما يقصد بها!)
قال: (ألا تعرف في (البديع) شيئاً يسمونه. . .؟)
قلت: (يسمونه ماذا؟)
قال: (أنظرني حتى أسأل سيد قطب فقد نسيت. . .!)
وحسب سيد قطب أنه جاء بجديد حين جاء بما سماه (استيفاء الأشكال)، ونسي ما سماه علماء البديع منذ كان ابن المعتز؛ ثم نسي ثانية فسماه عيباً لأنه سمع العقاد مرة يعيب شاعراً بالتزام محسَّنات البديع. .
ولكنه مع ذلك (أخصائي) في اللغة التي نعبر بها. . .!
أما بعد فهذا شيء من أشياء تفرق بين مذهبين سماهما الأستاذ قطب؛ وما كان لي أن أعنى بالحديث عنهما إلا لأنبهه إلى وجوب (استيفاء الوسائل) قبل أن ينتدب للنقد؛ وما كان لي(261/32)
أن أعنى بتنبيهه إلى ذلك لولا علمي بأن ذلك يفيده ويجدي عليه، ويعينه على فهم ما يكتب أهل الأدب فلا يتورَّط فيما تورط من الحديث عن فصائل ذات الظفر والناب فيسيء إلى نفسه وإلى صحابته!
وليس يغنيه عن استيفاء هذه الوسائل أن يدعي ويستطيل ويبالغ في الإعجاب بنفسه ليكون أديباً وناقداً له مكان ملحوظ ومنزل مرموق
وإني على ما سائني من صديقي لأرجو أن يقبل نصحي خالصاً لله فيكف عما هو فيه؛ فلقد كشف بهذا الذي يكتب عن أشياء في نفسه لم يكن يعرفها إلا الخاصة من أصحابه. ولقد جلا على القراء كل ما يستطيع أن يجلو من ألفاظ (الطرافة والحيوية، والسموق، ولفتات الذهن، والاستغراق) مما يجعل وراء كل بيت فارغ يحاول أن ينثره من شعر العقاد ليثبت له ما ليس فيه؛ وقد نثر كل ما في كنانته من ألفاظ (الجمود، والاستغلاق، وضيق الفهم) مما يحاول أن يرمي به كل من يعرض له من مناظريه.
فإن سمع أراحنا وأراح نفسه، وإلا فقد علمتُ وعلم القراء ما يدفعه إلى هذه المحاولات؛ فما بي حاجة بعدُ إلى مناقشته والرد عليه؛ ولقد أكرمته من قبل فسكتّ عنه حفاظاً عليه وحرصاً على مودته، وإني لأكرمه وأكرم نفسي من بعدُ بالسكوت عنه حتى يفرغ؛ لعل في ذلك شفاء أو وفاء أو قضاء لحاجة نفسه
والسلام عليه
(شبرا)
محمد سعيد العريان(261/33)
بين العقاد والرافعي
1 - صرخة مفزوع
2 - ابن الرومي حياته من شعره
للأستاذ سيد قطب
- 10 -
نحن نعتذر لأخينا صاحب (العصور) وناشر (على السفود) ونحس في أنفسنا استعداداً للعطف على صرخته في العدد الماضي من الرسالة!
نحن نعتذر فالظاهر أن الضربة التي ووجه بها كانت اعجل مما ينتظر وآلم مما يحتمل، لأنها خلعت عنه لحية الوقار المستعار وشعار العدالة المصطنع، وقد شاء أن يلوح بهما في عام 1938 فبدا للناس على حقيقته يحلل المر عاماً ويحرمه عاماً، ويدور في التحليل والتحريم حول الأشخاص في الوقت الذي يعيب فيه نصرة الأشخاص!
هذه هي المسألة يا صاحب العصور ونحن نعذرك في المهاترة التي أجبتنا بها، ونعذر أنفسنا إذا وقفنا لحظة على أول درجات السلم في هذه المهاترة، لنرتفع بعدها إلى مستوانا، ونأخذ في القضية الأولى التي تهم القراء
ونحن حين نعتذر إليك عن توجيه تلك الضربة، نعتذر لأنفسنا عن احترامنا لك إلى هذا الحد الذي أوجب البطر، ولو استطعنا من أول الأمر أن نهبط إلى المستوى الذي هبطت إليه في كلمتك الأخيرة لتغير وجه المسألة!
أنت يا سيدي - أولاً - لا تفهم الكلام، ومن هنا كان تفسيرك للجملة التي أقول فيها:
(وأننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها). ففهمت منها أن الذي يقول ذلك يكون (طبعة ثانية) للعقاد
وهنا كلام نقوله للناس، وكلام نقوله لك:
فأما كلمتنا لمن يفهمون فان الخلاص لطريقة في الأدب والاقتناع بمذهب خاص، والنسج على منوال مدرسة معينة، لا يعني تقليد شخص معين فقد ينشأ إمام وينشئ له مدرسة، ويكون لهذه المدرسة تلاميذ، ثم يكون لكل تلميذ من هؤلاء طابعه الشخصي ومميزاته(261/34)
الذاتية، ولا سيما إذا كانت هذه المدرسة هي مدرسة العقاد التي تقوم في أساسها على الدعوة إلى أدب (الشخصية) وتنكر التقليد وتشتط في إنكاره. فمن يخلص لطريقة هذه المدرسة، فإنما يخلص للاستقلال و (الخصوص) والتفلت من القيود والتقليد
وأما كلمتنا لك، فنحن نسلم أننا (طبعة ثانية) من العقاد، فماذا تكون أنت؟. إننا نقول لك: كن أنت - إن استطعت - طبعة ثانية من العقاد أو أي فنان سواه، أو كن - على حد تعبيرك المؤدب - الطبعة التي تتركها في الرمل قدم العقاد تكن خيراً مما أنت الآن عشرات المرات!
وأنت يا سيدي - ثانياً - لا تحترم نفسك. فلقد كنت تقول يوم نشرت كتاب (على السفود) إنك تريد به (مثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة في عهدها البائد). فكانت مسألة نصرة الأشخاص يوم ذاك - على ما تدعي - بعيدة عن غرضك، بل كنت ممن يقاومونها وينشرون هذه الكتب (الساقطة) لدفعها
ثم هاأنت ذا الآن تقول إنك كنت وقتها تناصر شخصاً وأنك تبت مما عملت: (سقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأى أو اتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد) وتعني بهذا أنك - إذن - ممن كانوا يناصرون الأشخاص على الأشخاص، بينما كنت يومها تبرأ من ذلك.
قلها يا مولانا كلمة صريحة أنت وأمثالك ممن لا يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية لمواجهة من يريدون مواجهته، فيلفون ويدورون، ويتخذون طرائق المرأة في الدفاع والهجوم. قل: أنه ما دامت الشتائم توجه إلى العقاد فهي حينئذ نصرة مذهب على مذهب؛ أما حين تكون مدافعةٌ وردٌّ لهذه الشتائم، فهي - إذن - نصرة أشخاص على أشخاص!
وقل يا مولانا: إنك تحقد على العقاد حقدا دفينا لا سبب له - إذ ليس بينكما منافسة على أدب ولا موهبة فنية - وأنك لهذا ترحب بشتائم الرافعي له وتطبعها وتروج لها وتسميها علوا عن الشخصيات. وأما حين يقوم (أديب) مثل (سيد قطب) ليكشف عن شنعة هذه الشتائم، وليشرح بعض نواحي أدب العقاد بالقدر الذي تتسع له مجلة، فانك تتألم وتثور حفيظتك فتسمي هذا الشرح وذلك الرد مناصرة للشخصيات؟(261/35)
قلها يا مولانا واسترح. أراحك الله
قلها ولا تخش (صديقك) العقاد كما عبرت عن العلاقة بينكما قبل العدد الأخير، وأنت تتخاذل وتتضاءل وتدخل بعضك في بعضك، وتدعي صداقة الرجل الذي ثلبته وشتمته، ومهدت لشتمه بأحقر الوسائل.
قلها. ورزقك على الله!!!
أما سيد قطب. فسمه أديبا. سمه باسمه مجردا. فسيظل هو هو الذي أسقط عنك لحيتك المستعارة، وأثارك كل هذه الثورة وكشف للناس عن خبيئة نفسك، وحقيقة آرائك، ثم ها هو ذا الآن يمتحن رجولتك التي لا تثبت على رأي، ولا تواجه الخصوم و (الأصدقاء) بما يقابل به الرجال الرجال. أما أنك لم تفهم ما كتبت، فأبن الرومي يقول في هذا كلاماً أحيلك عليه إن كانت لك دراية به!
وقل بعد هذا ما تشاء، فلن اهبط مرة اخرى، ولن اجرف (الرسالة) ولا قراءها إلى حيث تابعناك قليلا في لغة الكلام
أما كلمتي اليوم عن العقاد، فعن كتابه (ابن الرومي. حياته من شعره) وإنما اخترت هذا الكتاب بالذات لأمور:
الأول: ما يدعيه خصوم العقاد من أن الصحافة تساعده، وتشهر مؤلفاته ولا تقبل نقالات النقد التي يكتبها نقاده.
والثاني: أن هذا الكتاب مظهر من مظاهر عبقرية العقاد الفنان والناقد. والبصير بالطبائع والفنون
والثالث: أن فيه تصحيحاً لكثير من النظرات الفنية وشرحاً لكثير مما نتحدث عن من (أدب الطبع)
فماذا كتب في الصحف عن هذا الكتاب الفريد؟
إنها بضع كلمات بين ثناء كالإعلان، أو نقد كالشتائم. وهي في مجموعها لا تساوي ما يكتب عن مؤلف صغير لأديب ناشئ
والحقيقة أن ذلك نصيب كتب العقاد كلها من الصحف، فإذا استثنينا (وحي الأربعين) والمعركة التي دارت حوله وجدنا ما يشبه التعمد في إدارات الصحف للسكوت عن كتب(261/36)
العقاد.
وقد طالما سمعت أصدقاءه يشكون لأن مقالاتهم عنه دفنت في مكاتب رؤساء التحرير!
وتلك ضريبة العظمة التي يسددها العقاد!
وإنه لمن المفزع أن يعقد الإنسان موازنة بين كتاب ابن الرومي وصداه بقوله حتى ليحس إنما ألقى به في موماة تائهة لا حياة فيها ولا إحساس. لا تستطيع إلا العبقرية دون سواها من المواهب الإنسانية أن تخرج هذا المؤلف على هذا النحو.
ولكي نعرف معنى هذا المقال يجب أن نستعرض (ابن الرومي) قبل هذا الكتاب وبعده، ثم نستعرض فهم الأدب والحياة، وفهم الفنون والطبائع قبل صدوره وبعده
فماذا كان ابن الرومي قبل كتاب العقاد عنه؟
إنه كان بضعة أخبار متناثرة في ثنايا بعض كتب الأدب والتاريخ القديمة أغلبها عن طيرته وتشاؤمه، وأقلها عن حياته ومعاشه. بضعة أخبار ضئيلة هب كما قال عنها الكاتب العظيم: (ومثلنا في ذلك كمثل المنقبين في المحفورات، إذ يعترون ببعض العظام المهمشة من جسم مدثور فهم يقيسون المفقود على الموجود، ويصنون بما وجدوه على الضياع، ولو لم يكن به قوام)
وماذا صار بعد كتاب العقاد؟
إنه صار إنساناً حياً، نراه ونأنس به، وندرك خفايا ضميره وخوالج نفسه، ونعرف حركاته وسكناته، ومن ورائها أسبابها وبواعثها، ولم تعد تخفى علينا ملامحه بين الملامح الكثيرة
وليس هذا بالشيء القليل، ولا بالميسور لكل كاتب. ولكنه ليس الكسب الوحيد الذي تخرج به، فقد عرفنا شكل خلقته بمحاسنها وعيوبها، وعرفنا أخباره وسيرته في لبابها، وعشنا معه في داره، ورافقناه في غدواته وروحاته، وعلمنا أسفاره ورحلاته، وشاهدنا ما حدث له من خير وشر، وما لاقاه من نعيم وجحيم
ولم نعرف هذا وذاك وحدهما، فقد تصورنا في لمحات سريعة صورة العصر الذي كان يعيش فيه، بل عشنا في صميم هذا العصر بضع ساعات، ولقينا شخصيات هذا المجتمع، وفهمنا طباعهم الغالبة، وسيماهم الظاهرة والباطنة، وكدنا نكابد ما كانوا يكابدون من تقلب الصروف، وألاعيب السياسة، وأعاصير الانقلابات، وتيارات الدسائس. . إلى آخر ما(261/37)