وهو رجل غدا الآن واسع الخبرة بالدنيا إلى حد أن يختتم قصيده قائلاً:
ومن خبر الدنيا وأدرك شرها ... تساوى لديه حربها وسلامها
وقد تأثر عند مشاهدته مدينة الاسكندرونة (حينما أذكر المشكل الدولي حول هذا المرفأ ولوائه!) وكان تأثره (صاعقة لأنه رآها هاوية في أعمق هاوية من القهقرة) أهذا (مينا حلب مدخل تجارة الزوراء وتركستان، ومخرج أنسجة ومحصولات عربستان، صايرة مرسحاً لملاعب الخراب. . حتى تكاد أن لا تعتبر سوى كمبصقة للبحر، أو مداس للدهر؟)
وامتطى (ظعن البخار، وأخذ يطوي بيد البحار، حتى عانق باع اللاذقية) ولكنه لم ينزل إليها (وخفقت به أجنحة البخار إلى مدينة طرابلس، فوجدها ظريفة وعليها أبهة العمار، وكأنها تهم إلى التقدم فتدفعها نحوس الأقدار)
ثم زار بيروت ورأى أن لا بدع في أن (جلست هذه المدينة على المرتبة الأولى ما بين مدن سوريا. وأصبحت مبزغاً لكل نور) وبعد نهاية (أجل المرسى عاود إلى المركب وطار به إلى يافا، فنزل إليها بعد تردد وخوف من مطاردة الأمواج، الدايمة الهياج) ولكنه ما عتم أن عاد آسفاً على الشجاعة التي بذلها في منازلة أحط صعاليك المدن كما يقول
بعد ذلك أخذت (تخفق له أجنحة نسر البحر إلى جانب الإسكندرية) فبلغها بعد ثمانية أيام من مغادرته حلب ورأى فيها مدينة (قايمة على ساق التجدد)، ودعاها تاج المشرق وعنوان المغرب. ووجد فيها وقود (النور الايدروجيني خاصة في الساحة المدعوة عندهم بالمنشية)
ثم (أوحت له شياطين الملل أن يرحل إلى القاهرة. فركب أجنحة عفريت البر، فطار به كالباشق - يقيناً إن الرجل شاعر غير نادم! - حتى أوقعه هذا العفريت بعد خمس ساعات على مدينة الأهرام، أعني الأثر الوحيد الذي أبقته القدمية تميمة على رأس هذه المدينة. وجعل يتفرج على مشتهرات القاهرة مدة ستة أيام، فلم يعثر على ما يستحق الذكر أو يروق الخاطر - حتى ولا النور الايدروجيني؟ - سوى خزانة التحف المصرية وجامع القلعة الذي بناه محمد علي باشا من الحجر الكهربائي - لم أعرف قبلا أن هذه ترجمة - مع السرايا المحاذية له. كما بنى سرايا شبرى ذات الحوض المرمري العظيم الذي أنشأه لكي يتنزه فيه على قارب تجدفه جوار حسان (كذا!) أما الأزبكية الشهيرة فلا عادت تنطوي سوى على بعض أشجار بلح مغروسة بين أمواج الرمال)(245/31)
أما أسواق القاهرة (فلا يوجد أقبح منها لشدة ضيقها وأوخامها، حتى أن البعض لشدة ضناكته يكاد أن يرفض مسير اثنين معاً، ولا يقبل الضوء، ولا يوجد شارع يعتبر بالنسبة إلى البقية سوى الشارع الملقب بالموزكي أو طريق الإفرنج حيثما اختار التجار الحلبيون إقامة حوانيتهم)
ووجد مع ذلك في هذا البلد (كثيراً من الأثارات والبقايا القديمة. . . وعدداً جزيلاً من الجوامع وأخصها جامع الأزهر الذي كان زاهراً بعلوم العرب وفنونهم، وقد تقوض حسب اقتضاء روح العصر بالمدرسة العالية التي جددها حضرة إسماعيل باشا قيل مصر) - لو رأى الخواجا فرنسيس هذا الجامع في أيامنا!
وعاد رحالتنا إلى الإسكندرية (يستنظر المركب الذي سيصحبه إلى أوروبا. وورد الصاحب المستنظر فقلع معه الخواجا فرنسيس في 14 تشرين الأول. وفي صباح العشرين منه انقض به باشق البحار على مدينة مرسيليا، ووجد ذاته حينئذ مرتاحاً في حضن الغرب، متخطراً تحت سماء أوروبا)؛ وبعد إقامته ثمانية أيام في هذه المدينة (المصاغة من عسجد الظرافة، والمطرزة بلؤلؤ الجمال، ركب بخار البر في طريق الحديد وأخذ جهة ليون)
وهنا يصف الرحالة الفذ شعوره في بخار البر وطريق الحديد، وحيال المناظر التي مرّ بها معترفاً (بعجزه عن الشرح، وموجز القول بأن تلك المساحات التي مرّ عليها، فلوات وجبالاً وهضاباً، كانت بستاناً واحداً ومدينة واحدة؛ وما كان يشاهد لون التراب الطبيعي سوى بين اسطوانات طريق الحديد، حيثما تكر العجلات)
ولم يزل الخواجا فرنسيس (مضطجعاً في المركبة الطايرة على أجنحة البخار، مطلاً من كواتها البلورية على نفايس هذه الطبيعة إلى أن حط به طاير النار على مدينة ليون نحو نصف الليل، حينما كانت سابحة في أنوارها العرمرمية)
وهنا تعاود رحالتنا جنة الشعر، فيهرع إلى القلم ليحبس هذه الخيالات المنثورة في بيوت منظومة، ولكنه يبدو في هذه المرة شاعراً حضرياً عصرياً، ألم يحكم بأن للشعر (علاقة ثابتة مع الموضوعات التي يراها الشاعر؟)
إلى جنة الفردوس هل أنا ساير ... ترى أم إلى دنياء أخرى مسافر
وهل أنا مع نسر السما طاير إلى ... سما أم بخار الماء بي هو طاير(245/32)
وعهدي أن الماء يضعف إن غدا ... بخاراً فكيف الآن ذا الضد صاير
ويواصل نظمه ثلاثين بيتاً يتغزل في (عفريت البر وباشق البخار) ويقارن بين راحة السفر على أجنحته وتعب الأسفار على ظهور الإِبل:
ولم يبق من ظعن سوى العجلات في ... حديد تكر الدهر وهي صوابر
أبت غير نيران اللظى علفاً لها ... وهن على خير الهشيم دواير
ولما لمع وجه الصباح، نهض من فراش النعام وطفق يطوف ليون ليتفرج على ما تشتمل عليه من المحاسن واللطايف؛ وهو يذكرنا إذ يتغنى بجمالها وكمالها وما (اجتمع لها من المقومات المدنية والأدوات التمدنية بأن أول من شرع في رفع شأنها أحد أولاد قلويس ملك الغوليين ذي الشهرة العظيمة في غاليا بإدخاله إلى هذه المملكة جملة نظامات وتجديدات لمع بها زمانه، وأهمها إدخاله الديانة المسيحية في الغوليين بعد أن أدخلته فيها امرأته بقصها عليه أخبار قسطنطين الكبير، وبإقناعها له أنه إذا سلك مسلك ذاك الملك المنتصر بالتنصر، إنما يقهر نظيره كل أعدائه)
وركب الخواجا فرنسيس نسر البحار بعد تمضية ثلاثة أيام في ليون، فطار به إلى باريس حيث وصل قرب انفلاق الصباح
ولنا أن نتوقع انفجار - أو ربما قال انفطار؟ - نفس رحالتنا في قلب باريس، وأن نترقب هبوط وحي الشعر عليه. ويظهر أن خواجتنا رجل يحسن (الإِخراج) فهو تاركنا نشتاق إلى شعره بعد أن حببنا إليه ببعض الخطرات، ليمضي في وصف نثري لباريس حتى قبيل آخر الكتاب، ثم هو مطبق علينا بقصيدة مخمسة عددت شطراتها فكانت خمسمائة شطرة والعياذ بالله. وبذلك يكون الخواجا فرنسيس قد أفرغ فينا شعره مرة واحدة
وكان المتوقع أن يترك رحالتنا للشعر مهمة التعبير عن احساساته في باريس، وأن يودعه تفكيره العالي، تاركاً للنثر وصف المتاحف والميادين. ولكن رجلنا شعره منثور ونثره منظوم كما سبق لنا القول، فبينا هو يتغنى نثراً بباريس (مركز مجد العالم، ومصب أنهار العجايب، وموقع أنوار التمدن. . . وها قد أخذت عيناه ترى ما كان يراه ذاك الذي خطفته أرواح الآلهة إلى السماء الثالثة) إذا به يصطحبنا بشعره كأنه (بيديكر) فينصح بأن نترك الدرس لنتمشى في شوارع باريس:(245/33)
يا صاحبي حتى م ترعى الوسوسة ... ها كافة الدراس عافوا المدرسة
وكل نفس قد غدت مستأنسة ... بهدنة في الدرس تطفي قبسه
وتضرم الأشواق ضمن الصدر
هيا بنا نسع إلى البولفار ... إلى مكان الشهب والأقمار
حيث نرى بدايع المعمار ... مقرونة ببدع الأفكار
حيث الغنى حيث افتقار الفقر
كفى فسر بنا إلى فندوم ... حتى نرى تمثال ذي الهجوم
يجلي على عموده المنظوم ... من سلب الحرب مع الخصوم
بطرس نابليون عالي الذكر
ها قد نظرنا أثر الشقاق ... فلننطلق لساحة الوفاق
ذات رنين الصيت في الآفاق ... ذي ساحة تسطو على الأحداق
وتسكر العقل بغير خمر
ولننعطف نحو مقام التوللري ... أعني بلاط العاهل المظفر
هناك بستان عجيب المنظر ... فكله شوارع من شجر
وفسحات زخرفت بالزهر
كلا! لست أنوي أن أسرد عليك كل هذه الخريدة العظيمة، والدرة اليتيمة. إنما أنا أقتطف من شطراتها الخمسمائة هنا وهناك لأجمع لك باقة عاطرة من شعر الخواجا فرنسيس. ثم أي بأس في هذه النزهة الباريسية الفريدة؟ الناس يرتادون باريس في (الأتوكار)، والمعلم فرنسيس يصطحبك بقصيدته الحماسية إلى كثير من أماكنها الهامة. هاهو ذا يناديك من بوقه الشعري:
فلنطلق المسعى لدار اللوفر
ها قد بلغنا الآن دار التحف ... حتى نرى عالم دنيا السلف
نرى حيوة الناس في العهد الخفي ... وهتك ستر الزمن المنصرف
كل له داب بهتك السر
جماعة الأشور والعمالق ... يبدون من ذاك الظلام الغاسق(245/34)
يجلون في الثياب والقراطق ... طبق لباس الناس في المشارق
فذاك زي الشرق منذ الفطر
كذا نرى جميع أعمال اليد ... منهم وكل الأدوات الشرد
وكل معبود لهم ومعبد ... لكنما المضحك في ذا الصدد
إلههم ثور برأس حبر
وهكذا سكان مصر السالفة ... مع آل أشور لهم محالفة
كانوا على الأرض أجل طايفة ... أجسادهم محنطات واقفة
ولا يرى هذا سوى في مصر
(له بقية)
حسين فوزي(245/35)
جمال الدين الأفغاني
للأديب محمد سلام مدكور
بمناسبة مرور إحدى وأربعين سنة على وفاته إذ توفي في يوم
9 مارس سنة 1897 ودفن بالأستانة في مقبرة (نشان طاش)
حتى شيد له مقبرة خاصة المستر (كراين) سنة 1927م
بهذا الاسم تنطق ملايين الشفاه عند ذكر نهضات الشرق وعند أي مناسبة سياسية أو ظاهرة وطنية، يذكرونه بالثناء والإعجاب، ويتناولونه بالمدح والفخار؛ يتعجبون لصبره وأناته وعمله وجهاده، وكلما تذكروه أو تكلموا في تاريخه فكأن وحياً من الشجاعة هبط عليهم، وروحاً من العزة سرت فيهم، ودبيباً من اليقظة نبههم؛ فقد كان جريئاً في الحق، قوياً في وجه العدو، رابط الجأش ثابت الجنان، في نفسه ثورة مشتعلة ولهب يتطاير، وآمال وثابة إلى المجد والرفعة
نكتب عن السيد جمال الدين، ومن الفخر أن يتحدث المرء عنه ما وسعه الحديث، وأن يطنب في سيرة شخصيته الفذة ما شاء؛ فالتحدث عن تاريخ هذا الفيلسوف الحكيم يشرح الصدر ويغمر النفس بالفرح والإعجاب؛ والإطناب في الكلام عن هذا الزعيم الكبير لا يمله إنسان
فلجمال الدين أثره البين في نهوض الشرق وتطلعه إلى الحرية، فقد ظل الشرق زمناً طويلاً خاملاً يرزح تحت نير العبودية، ويرسف في أغلال الاستعمار؛ فلما جاء السيد جمال الدين نفخ فيه روح اليقظة، وأهاب بالأمم الإسلامية أن تطرح ذلك الجمود الفكري وتلك الأوهام التي ليست من الإسلام في شيء، والتي كانت سبباً في تأخر المسلمين
فكان شأن السيد جمال الدين في الناحية الدينية مثل شأن (مارتن لوثر) في الديانات المسيحية؛ وكان شأنه في الناحية الفكرية مثل (جان جاك روسو) وغيره من فلاسفة الفكر؛ وكان شأنه في السياسة وتحرير البلاد من يد الغاصب مثل شأن (واشنطن) محرر (أمريكا) و (مازيني) محرر إيطاليا وغيرهما من رجال السياسة
وبالجملة كان لجمال في كل ناحية من نواحي الإصلاح والتجديد أثر ظاهر وفضل لا ينكر(245/36)
ولقد كان من مبادئ السيد جمال الدين: (أن الإسلام والذل لا يجتمعان في قلب واحد) ولعمري إنه لمبدأ خالد يكتب بماء الذهب في تاريخ أعظم عظماء الإسلام ويضمن له البقاء والخلود ويسمو به إلى مراتب أقرب إلى مراتب الملائكة والأنبياء
نعم إنه لآية من آيات الحق، ووحي هبط من السماء، وتأييد من الله يؤيد به عباده المصلحين، وهداية من الرحمن ونعمة يسبغها الله على من يشاء إنه عليم قدير
أي مسلم يقرأ هذا المبدأ القويم دون أن يسكب الدمع مدراراً، ودون أن تذهب نفسه حسرات على ما كان للمسلمين في غابر الأزمان من عز وسؤدد، وما هو عليه أكثرهم اليوم من الذلة والانحطاط
نعم فهو يلفظ القول ليصيب به موقع الماء من ذي الغلة، وينزل فيه بالحكمة التي هي أبعد من العنقاء وأعلى منالاً من الجوزاء إلى مستوى تستطيع أن تحله الدهماء، إن في ذلك لعبرة
تلك هي روح السيد جمال الدين، وهذا هو مبلغه من التأثير في نفوس الطالبين، وكذلك الزعامة الصادقة، والهداية الموفقة، وذلك صنع الله لعباده من المصلحين
وهذا لعمري هو الذي جمع الناس عليه وجعلهم من جميع الطبقات يهرعون إليه ومكن له في نفوس الملوك والعظماء والعامة والدهماء، فاستطاع أن يظفر بالجو الصالح لبث هدايته حيثما حل وأينما ارتحل
وأرى أن السيد جمال الدين في آرائه وحكمته، وعلو نفسه، وكرم أخلاقه ونبله زعيم إسلامي بعثه الله ليجدد للإسلام حياته التي كانت زاهرة زاخرة في عهوده الأولى، ويكون هذا أصدق شاهد على قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)
فقد كان أول المجددين في القرن التاسع عشر الحكيم القدير والمصلح العظيم، والمجاهد الكبير، والثائر الخطير السيد جمال الدين سيد النابغين، وأمير الخطابة والبيان، فيلسوف الإسلام وآية الحق القاهرة، وحجة الشرق الناهضة، وكوكب الإصلاح الذي ظهر ساطعاً في آفاق الشرق بعد أن كان في ظلام حالك
كانت حياة هذا الفيلسوف سلسلة جهاد موفق، وحلقة كفاح مثمر، حياة خصيبة ممرعة ثرية(245/37)
ممتعة لها من الآثار الحميدة والأيادي البيضاء والأعمال المجدية ما لا سبيل إلى تقديره؛ فلقد كان يجول بفكره في ميدان مترامي الأطراف من متنوع الفنون، ويتناول في مباحثه أجل الشئون مما يهم البشر، يهتك غشاء الباطل عن الحق بنظرات نافذة وتفكير صحيح
والحقيقة التي لاشك فيها أن المرء لا يكاد يقف على عمل من أعماله أو رأي من آرائه، أو يقلب صفحة من حياته حتى يشعر أنه بين يدي ذهن مستقل جبار لا يرتضي دون الحرية مطلباً، ولا يبتغي غير محاربة الاستبداد شيئاً
بقي السيد جمال مناراً وهاجاً في الحرية يهتدى به، ومرجعاً صادقاً يفزع إليه في شتى نواحي الأمور. ولا بدع فإنه يعمل لمبدأ خالد لن يغير تيار الحوادث منه مادام الإنسان إنساناً
ولست مغالياً في مدح السيد جمال، ولا أكيل له تلك العبارات جزافاً مندفعاً وراء العاطفة، إذ هناك الكثير من الكتاب الغربيين الذين لا تربطهم أية صلة بجمال الدين إلا الاعتراف بالفضل، والتقدير للنبغاء والمصلحين، فهذا (هنري روشفور) الكاتب الفرنسي الشهير يقول في كتابه (ماجريات حياتي):
(السيد جمال الدين من سلالة النبي، والمعدود هو أيضاً أنه أشبه بنبي. ثم قال: إنني شعرت نحو هذا الرجل بعاطفة الحب التي أجدها تربطني بكل داع إلى ثورة أو مقاوم لسلطة)
وهاك (رينان) الفيلسوف الكبير يقول عنه: (يخيل إلي من حرية فكره، ونبالة شيمه وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أنني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتهم من القدماء الفلاسفة، وأني أشهد ابن سينا، أو ابن رشد، أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين اللذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار)
جميل جداً أن نسمع تلك الحقيقة من فلاسفة الغرب، وأن يشهدوا بفضله وعلمه، وقوته وحكمته، وهم الذين لم يستفيدوا منه شيئاً طائلاً، وليس بجميل منا نحن الشعوب التي رضعت من ثدي علمه، واستفادت من إرشاده، وتمتعت بالحرية التي كان ينشدها أن نجهله أو نتجاهله، وألا نحتفل بذكراه ونضع الأسفار الضخمة في تاريخ حياته وتحليل نفسيته
اذكروا الرجل، واحتفلوا بيوم ذكراه فإن في ذكراه عظة وعبرة. . . اكتبوا المقالات الطوال، واقرضوا الشعر الرصين، فليس هو بالذي ينقضي عمله بموته، وإنما هو صاحب(245/38)
العمل الخالد والمجد الدائم، إنما هو رجل الأمم والجماعات
فيا أيها الشعب الإسلامي، ويا أبناء الشرق، هذا هو السيد جمال الذي ما اتخذ له وطناً ولا ولداً، فليس هو بالذي تتناساه الشعوب أو تهمل ذكراه الأمم
أما أنت أيها الشعب المصري فهذا الذي أنقذك من براثن الظلم والجبروت، وعادى من أجلك دول الاستعمار، وقضى شطراً كبيراً من حياته في المدافعة عنك ومناصرتك، ولاقى الصعاب والأهوال
أما أنتم يا رجال النهضة، ويا زعماء البلاد، ويا نواب الأمة فهذا السيد جمال الذي بعث في نفوسكم تلك الروح وعمل جهده على إيجاد الحياة النيابية في مصر
أما أنتم يا رجال الدين، ويا علماء الأزهر، لكم وحدكم يوجه العتاب. ألم يكن جمال هذا هو المحرر للأزهر من ذلك الجمود الفكري الذي كان راسخاً فيه؟ ألم يكن جمال هذا هو الذي خرج لكم في مدرسته الإمام الخالد الذكر الشيخ (محمد عبده) وكان يقول عنه عند نفيه (خرجت من الدنيا ولم أترك مؤلفاً ولا ولداً ولكن تركت لكم محمد عبده وكفى به لمصر عالماً)
أما أنت أيتها الصحافة، أما أنت يا لسان الأمة الناطق، وآيتها البينة وحجتها القوية، وميدانها الفسيح؛ أما أنت يا مشعل الوادي، ويا منار الأفكار، فهذا السيد جمال الذي أنبتك في مصر وجعل منك ذلك المصباح الوهاج، فهذا أستاذك صاحب العروة الوثقى
أما أنت أيتها الروح المقدسة الطاهرة الزكية البريئة العالية السابحة في ملكوت الله. أما أنت يا روح جمال فإليك أتقدم بالاحترام الفائق والإجلال التام، والمعذرة الصادقة عن تقصيرنا السابق، وغفلتنا الطويلة
وإني أخيراً لأفتخر بالسيد جمال الدين الأفغاني في الإسلام وأقول (حسبه من عظمة ومجد أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية، وأول شهيد في سبيل الحرية)
محمد سلام مدكور
مؤلف كتاب جمال الدين الأفغاني(245/39)
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 6 -
وقد كان هناك من لا يعذر الكميت في مدحه بني مروان بعد بني هاشم، ويصفه في ذلك بالتردد والرياء والنفاق، وكأنه لا يرى في هذه التقية التي يأخذ بها جمهور الشيعة ما يبرر العذر، ويمنع من توجيه اللوم
وإني لا أنكر أن التقية تدل على شيء من ضعف النفس، وأن التاريخ يذكر بالإعجاب والتقدير تلك المواقف الباهرة التي لم يأخذ أصحابها بالتقية، وآثروا تضحية النفس على الإذعان للخصم، ولكني أرى من الضعف ما قد يكون أجدى من القوة، ولهذا مدحت الحيلة كما مدحت الشجاعة، ومدحت المداراة كما مدحت الصراحة، وقد يكون في المداراة رجولة حرة كريمة جديرة بالعطف والرحمة، بعيدة من اللوم والمؤاخذة، وقد رثى المتنبي لمثل هذه المداراة في قوله:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى ... عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ
فيا نكد الدنيا متى أنت مُقصرٌ ... عن الحر حتى لا يكون له ضدُّ
يروحُ ويغدو كارهاً لوصاله ... وتضطرُّهُ الأيام والزمن النكدُ
وكان أبو مسلم الخراساني ممن يأخذ الكميت بهذا الإذعان لبني مروان، وقد دخل عليه المستهل بن الكميت يوماً فقال له: أبوك الذي كفر بعد إسلامه! فقال: كيف وهو الذي يقول:
بِخاتَمِكم كرهاً تجوزُ أمورهمْ ... فلم أَرَ غَصباً مثله حين يُغصبُ
فأطرق أبو مسلم مستحيياً منه
وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن المستهل بن الكميت دخل على عبد الصمد بن علي فقال له: من أنت؟ فأخبره، فقال له: لا حياك الله ولا حيا أباك، هو الذي يقول:
فالآن صِرْتُ إلى أُميّ ... ة والأمور إلى المصاير
قال: فأطرقت استحياء مما قال، وعرفت البيت، قال ثم قال لي: ارفع رأسك يا بني، فلئن(245/40)
كان قال هذا فلقد قال:
بِخاتَمِكم كرهاً تجوز أمورهُم ... فلم أر غضباً مثله حينُ يغضبُ
قال: فسلى عني بعض ما كان بي، وحادثني ساعة ثم قال: ما يعجبك من النساء يا مستهل؟ قلت
غَرَّاء تسحب من قيامٍ فَرْعَها ... جَثْلاً يزيِّنه سوادٌ أفحمُ
فكأنها فيه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم
قال: يا بني هذه لا تصاب إلا في الفردوس، وأمر له بجائزة
والظاهر أن هذه الحادثة كانت قبل حادثة المستهل مع أبي مسلم الخرساني، وأن المستهل عرف من هذه الحادثة كيف يتخلص من أبي مسلم بهذا البيت الذي ذكره له عبد الصمد بن علي
وقد عرف المستهل بعد هذا كيف يؤول هذا البيت:
اليوم صرت إلى أمي ... ة والأمور إلى المصاير
حين عيره به أبو العباس فقال: أبي إنما أراد - اليوم صرت إلى أمية والأمور إلى مصايرها أي بني هاشم
ولا يبعد أن يكون الكميت قد أراد هذا المعنى الذي ذكره ابنه المستهل، فقد كان شاعراً عالماً يعرف مرامي الكلام، ولا يقول الشعر إلا بعد التأني والتدبر، وكان يصير في ذلك إلى الغرض البعيد، ويرمي إلى الغاية الخفية، ومن هذا ما ذكره محمد ابن أنس، قال: حدثني المستهل بن الكميت قال قلت لأبي يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:
ألا يا سَلْم من تِرْبِ ... أفي أسماَء من ترب
وغمزت عليه فيها، ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم؟ فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت إن نقضها عليّ قتلوه، وإن أمسك قتلته غماً وغلبته، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي
نعم إنه يمكن أن يؤخذ على الكميت أنه لم يكن يتعصب في شعره لأهل البيت إلا لقرابتهم(245/41)
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من العصبية التي ينكرها الإسلام، وهو لا يهتم في حكم المسلمين إلا بمحاربة الظلم وإقامة دعائم العدل، ولا يهمه بعد هذا نظام الحكم الذي يحقق هذه الغاية، ولا أشخاص القائمين بهذا الحكم، فالناس سواء فيه، وكلهم صالحون له، ولا فرق فيه بين هاشمي وغير هاشمي، ولا بين عربي وعجمي
ولكن هذا لا يصح أن يؤخذ على الكميت أيضاً، لأنه لم يكن يدعو في شعره إلى أهل البيت من أجل تلك العصبية المنكورة في الإسلام، وإنما كان يدعو إليهم لأنهم كانوا أمثل الناس لحكم المسلمين في عصره، وإصلاح الفساد الذي ظهر في المسلمين بسبب حكم بني مروان الذي كان يقوم على تلك العصبية
فكان المسلمون في حاجة إلى حكم إسلامي ينظر إلى كل شعوبهم على السواء، ولا يقوم على أساس العصبية التي كان يقوم الحكم عليها عند الفرس والروم وغيرهم، وكان بنو هاشم أجدر الناس بالقيام بهذا الحكم الصالح، لأنهم كانوا ألين طباعاً من بني مروان، وأقرب منهم إلى فهم الغاية التي قام الإسلام من أجلها، والى السير بالحكم بين الناس على أنه وسيلة لا غاية
وقد حكم بنو العباس من بني هاشم بعد بني مروان فكان حكمهم أشبه بحكم الخلفاء الراشدين من حكمهم، ولم يفرقوا فيه بين عربي وعجمي، بل رفع الأعاجم فيه رؤوسهم حتى ساووا العرب وأخلصوا للإسلام إخلاصهم، وقد بذلوا في خدمة العلوم على اختلاف أنواعها ما يفتخر به المسلمون في عصرنا على غيرهم، وإذا كان لهم في حكمهم أيضا سيئات فإنها كانت قليلة بجانب حسناتهم.
ونعود بعد هذا كله إلى أمر الكميت بعد عفو هشام عنه، ورجوعه فائزاً بذلك على خالد بن عبد الله القسري، فقد فسد بعد هذا ما بينهما، وكان للكميت معه أخبار بعد قدومه إلى الكوفة بالعهد الذي كتبه هشام له، ولم يجعل فيه لخالد إمارة عليه، فكان خالد يلاينه حيناً ويقسو عليه حيناً، وكل منهما يخادع صاحبه، وينتظر السوء به. فلما أدبر أمر خالد وتحدث الناس بعزله عن العراق أظهر الكميت شماتته به، وقد مر عليه خالد يوماً فلما جاز به تمثل بهذا البيت:
أراها وإن كانت تحَبُّ كأنها ... سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ(245/42)
فسمعه خالد فرجع وقال: أم والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد، ثم أمر به فجرد فضربه مائة سوط، ثم خلى عنه ومضى
وقد كان للكميت مدائح في خالد لعلها كانت قبل أن يفسد بذلك ما بينهما، أو لعلها كانت في بعض ما يزول فيه شيء من تلك الجفوة، وقد يكون هذا من تلك التقية التي أخذ بها نفسه بعد أن عفا هشام عنه، على أن خالداً كان للشيعة خيراً ممن ولي العراق بعده، وقد روى محمد بن كناسة أن الكميت دخل على خالد القسري فأنشده قوله فيه:
لو قيل للجود من حليفُكَ ما ... إنْ إلاَّ إليك يَنتسِبُ
أنت أخوه وأنت صورتهُ ... والرأسُ منه وغيرُك الذَّنب
أحرزتَ فضل النضال في مَهلٍ ... فكلَّ يوم بكفِّك القصب
لو أن كعباً وحاتماً نُشرا ... كانا جميعاً من بعض ما تَهَب
لا تُخلفُ الوعد إن وعدت ولا ... أنت عن المعتفين تحتجب
ما دونك اليوم من نوالٍ ولا ... خلفك للراغبين منقلبُ
فأمر له بمائة ألف درهم
وكان خالد قد ولي العراق سنة خمس ومائة، وقد طالت ولايته على العراق وتمتع الناس ببعض من الأمن في ولايته، ولم يكن شديداً على الشيعة كغيره، وكان إلى هذا جواداً كثيراً العطاء، خطيباً مقدوراً من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، ولكنه كان يتهم في دينه، وكانت أمه نصرانية فبنى لها كنيسة تتعبد فيها، وقد عزل عن العراق سنة عشرين ومائة. ويقال إن سبب عزله أن امرأة أتته فقالت: أصلح الله الأمير، إني امرأة مسلمة؛ وإن عاملك فلانا المجوسي وثب علي فأكرهني على الفجور وغصبني نفسي، فقال لها: كيف وجدت قلفته؟ فكتب بذلك حسان النبطي إلى هشام فعزله وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وهو ابن عم الحجاج بن يوسف، وأمره بمحاسبته ومحاسبة عماله، فأخذ يوسف خالداً وعماله وحاسبه وعذبه، ثم قتله في أيام الوليد بن يزيد سنة ست وعشرين ومائة
وقد تكون هذه التهم من اختلاق أعداء خالد عليه، وقد يكون السبب الحقيقي أن هشاما أراد أن يأخذ العراق بالشدة بعد أن فشا فيه التشيع على عهد خالد بن عبد الله، وجاهر به(245/43)
الكميت وغيره من شيعة أهل البيت، فاختار لهم ذلك الثقفي ليأخذهم بما أخذهم به قبله الحجاج ابن عمه، فسار فيهم سيرته. وكان من ضحاياه زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه
فاضطرب الكميت بعد هذا في أمره، وقد سبق أن زيداً دعاه إلى الخروج معه فلم يجب دعوته، ولكنه ندم على هذا بعد قتله، وقال يلوم نفسه:
دعاني ابنُ الرسول فلم أُجبْه ... أَلهْفي لَهْف للقلب الفَرُوق
حِذَارَ منِيَّةٍ لابُدَّ منها ... وهل دُون المنية من طريق
وقال يهجو يوسف بن عمر:
يعِزُّ على احمدٍ بالذِي ... أصاب ابنه أمس من يسُوف
خبيث من العصبة الأخبثين ... وإن قلتُ زَانِينَ لم أقْذف
وقد كان مع هذا يظهر التقرب إلى يوسف بن عمر، ولا يبخل عليه بشيء من المدح. روي أنه دخل عليه بعد قتله زيداً فأنشده قوله فيه:
خرجتَ لهم تمشي البراحَ ولم تكن ... كمن حِصْنُهُ فيه الرِّتاجُ المضبَّبُ
وما خالدٌ يستطعم الماء فاغراً ... بعدلِكَ والداعي إلى الموت يَنعب
يعرض بخالد وقد خرج عليه الجعفرية وهو يخطب على المنبر ينادون: لبيك جعفر، لبيك جعفر، وهو لا يعلم بهم، فدهش فلم يعلم ما يقول فزعاً، فقال: أطعموني ماء، ثم خرج الناس إليهم فأخذوهم
وكان الجند القائمون على رأس يوسف يمانية فتعصبوا لخالد، ووضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت فوجئوه بها وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره! فلم يزل ينزفه الدم حتى مات، ولا يبعد عندي أن يكون هذا بتدبير يوسف ليتخلص منه، فليس من المعقول أن يجرؤ هؤلاء القوم على هذا مع ما سبق من عداوة يوسف لخالد
وقد مات الكميت سنة ست وعشرين ومائة، وكان وهو يجود بنفسه يقول: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد. وقد أوصى ابنه المستهل أن يدفنه بموضع يقال له (مكران) غير ما يدفن الناس فيه بظهر الكوفة، فكان أول من دفن فيه من بني أسد
عبد المتعال الصعيدي(245/44)
حاشية: ذكرنا أن الأعور الكلبي رمى امرأة الكميت بقصيدة
يقول فيها (أسودينا وأحمرينا) وهذه رواية الأغاني، وقد وجدنا
هذا البيت في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك:
فما وجدت نساء بني تميم ... حلائل أسودين وأحمرينا
وسنعود إلى ذكره في مناقضات الكميت مع الأعور الكلبي(245/45)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 5 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
أبرزت السياسة مواهب ابن الأحراج وأثارت ما استكن في نفسه من معاني الإنسانية الصادقة؛ وأخذت الأيام تعده ليؤدي للبشرية رسالة. . . والعبقري مهما تناول من عمل فهو إنما يفرغ عليه من نفسه فيلبسه من المعاني مالا يستطيعه أو يحلم به الرجل العادي؛ ولقد يكون العمل في ذاته متواضعاً فما هو إلا أن يمر به قبس من روحه حتى يصبح وقد استعظم واستعلى وخرج بذلك عن ذاتيته
أخذ الطوال التسعة يعملون عملهم مع أقرانهم في المجلس، وكانت تشغلهم يومئذ مسائل كثير، فالبلاد تواقة إلى الإصلاح المحلي في شتى ضروبه، ومسألة العبيد يتزايد خطرها يوماً بعد يوم. . ولكن ابراهام حيال مسألة عارضة، تلك هي الدعوة إلى نقل مقر المجلس إلى مدينة أخرى يراها أحسن موقعاً وأوسع مجالا من فنداليا؛ وهو في ذلك يعبر عن رأي الكثيرين من ناخبيه، ومازال بالمجلس حتى ظفر بعد جهد - هو ومظاهروه - بإقناعه، ومن ثم أصبح مقر مجلس المقاطعة في سبرنجفيلد. . .
دخل إبراهام سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في عدل صغير، وفي جيبه مبلغ لا يقل عن سبعة دولارات! وكاهله مازال مثقلا بما سماه الدين الأهلي. . دخل المدينة الجديدة لا يدري أين يتخذ مأواه، أو على الأقل أين يلقي رحاله لساعته. وسيظل في هذه المدينة حتى يخرج منها إلى واشنجطون العظيمة ليأخذ مقعده في البيت الأبيض!(245/46)
وكانت المدينة يومئذ آخذة في الاتساع والنمو يسكنها ألف وثمانمائة نسمة، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من الغابة إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج؛ فهي كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئاً فشيئا
قصد إبراهام إلى حانوت يملكه رجل من كنتوكي كانت له به من قبل معرفة طفيفة، وأقبل على ذلك الرجل ومتاعه على ذراعه يسأله عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، فلما أخبره الرجل بما يلزم أخذته الحيرة وقال له: (إني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل لك أن تعطيني طلبتي على أن تمهلني إلى عيد الميلاد القادم؟) ثم أردف قائلاً: (وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أدفع لك حقك فلست أعلم هل أستطيع أن أؤدي لك ذلك أبدا؟) وكان الرجل طيب القلب فما لبث أن ملكته الشفقة على ذلك الغريب الذي يبدو له من أمانته بقدر ما يبدو من فقره؛ لذلك آواه عنده وعرض عليه أن يقتسم وإياه سريره القائم في حجرة صغيرة هناك فوق الحانوت؛ وصعد إبراهام إلى الحجرة فألقى عدله. ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا. . .
كان إبراهام مزمعاً أن يتخذ من المحاماة مرتزقاً، وهو قد ترك العمل في البريد وفي تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علما؛ وكان يعيره بعض الكتب محام في المدينة يدعى ستيوارت. ورأى ستيوارت من ذكاء صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه في العمل معه؛ وقبل إبراهام ذلك مغتبطاً مسروراً يحس كأن الأيام توشك أن تبتسم له بعد تجهم وعبوس، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال
بيد أن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه. . . ذلك ما كان من غرامه الثاني إن جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غراما
الحق أن هذا الجانب من حياة لنكولن، جانب علاقته بالفتيات، أمر يدعو إلى العجب حتى ليحمله المرء على ما كابد من شذوذه أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته ولقانته. عرف لنكولن فيمن عرف من أهل نيوسالم امرأة كانت تضيفه أحياناً فتحسن ضيافته، وظل يغشى منزلها زمناً حتى أصبح كأنه من أهلها. وحدثته تلك المرأة فيما حدثته عن أخت لها غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت لأختها حين تبحث لها من الشباب عمن(245/47)
يطلب يدها. ورد إبراهام مرة فقال وهو لا يدري أمازح هو فيما يقول أم جاد: إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت، وكان قد رآها قبل ذلك بثلاثة أعوام، فلما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها. . .
وصور له خياله الخصب أن كلمة ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منها. بيد أنه في حيرة دونها كل ما سبق من حيرة! لا يحس في قلبه ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب؛ وهو مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها!
لعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شؤون المحاماة يصرفه حيناً عن وساوسه وهواجسه؛ لقد أخذ ستيوارت القضايا الكبيرة وترك لإبراهام ما خف من القضايا؛ ولكن الحوادث ساقت إليه قضية معقدة اكتسبها ونمى إلى الناس خبرها فما لبث أن أصبح في مهنته الجديدة ملحوظ المكانة
وكان دستوره في المحاماة منبعثاً من أعماق نفسه، لذلك كان قائما على توخي الحق والدفاع عنه ونصرة المظلومين والضعفاء؛ كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها، ولا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يمس الخلق من قريب أو بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه، لا يعرف اللجاج ولا المطاولة ولا يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئاً لغاية في نفسه إلا إذا كان ذلك لستر عرض أو لحفظ كرامة، على ألا يكون للمجاملة حساب في نفسه إذا انبنى عليها إساءة إلى الفضيلة أو انتقاص للعدالة
وخفت وطأة الأيام عليه حيناً، فمكانه في المحاماة - وهو يومئذ لم يعد الثامنة والعشرين - كما علمت؛ ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر بك حزب الهوجز؛ وهو إلى ذلك حبيب إلى أهل سبرنجفيلد لما كان له من يد في نقل المجلس إليها، ولما آنسوا من طلاوة حديثه وروعة قصصه وعذوبة نفسه. ولقد توثقت المودة بينه وبين الكثيرين وعلى الأخص بينه وبين سبيد صاحب الحانوت. . .
وكان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها وجماعة من حزبه في حانوت سبيد فيتحدثون ويقلبون الآراء في السياسة وقضاياها. ومن تلك الجماعة من سيكون لهم في الغد شأن في سياسة بلادهم، على أنه مهما يبلغ من شأنهم فسيظل دون ما سيكون لابراهام من شأن. وممن كانوا يختلفون إلى ذلك المنتدى رجل من الحزب الديمقراطي صغير الجرم(245/48)
يدعى دوجلاس، عرف لنكولن أيام كان المجلس في فنداليا، وقد اشتهر بلباقته وحدة ذكائه وعرف إلى جانب ذلك بالأثرة والغيرة والطمع في عليا المراتب. وكأنه كان يغار من لنكولن؛ أو لعله كان يدرك منذ ذلك التاريخ أنه إن بذ الرجال جميعاً فإنه لن يلحق بهذا الرجل. وسيكون بينهما من التنافس ما يفتح صفحات ممتعة في حياة لنكولن
ولم يكن نشاط لنكولن قاصراً على المجلس والمحكمة وحدهما بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثاً على الإعجاب جديراً بالثناء، فهو داعية إلى الثقافة، حاث على الإصلاح بما ينشر ويذيع؛ وذلك لعمري جد عجيب من رجل كان قبل ذلك ببضع سنين يقطع الأخشاب في الغابة يشتري بالمئات منها سروالا!
وحسبك منه ما ترى في تلك الخطبة التي ألقاها في ناد من أندية المدينة، وإليك بعض ما قاله: (إذا كان ثمة خطر يتهدد الولايات فمصدر ذلك الخطر من داخلها. يجب أن نعيش أبداً أمة حرة أو نقتل أنفسنا؛ إنما أشير إلى ما يتزايد من عدم مراعاة القانون في البلاد) ثم يذكر حادثاً خطيراً من حوادث الاغتيال ويعلق عيه بقوله: (تلك هي المناظر التي تتزايد يوماً بعد يوم في هذه الأرض التي اشتهرت أخيراً بحب القانون والنظام. . . وماذا عسى أن نصنع لنقف في وجه هذا؟. الجواب يسير: ليقسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو الفَلاح، ليقسم كل بما جرى من دماء في الثورة ألا يتعدى قوانين البلاد في أي جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، وكما فعل رجال عام 1776 في تعضيدهم حركة إعلان الاستقلال، كذلك ليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على الدستور والقانون؛ وليقدم كل في سبيل ذلك حياته وشرفه المقدس وما ملكت يداه. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم - كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد في المؤتمر أو من مركز في الحكومة أو من وصول إلى كرسي الرياسة؛ ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واهاً! أتظنون أن مثل هذا يملأ عين اسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد! كلا. إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من قبل. . . لقد كانت العواطف قبل عوناً لنا ولكنا لن نركن إليه اليوم ولسوف تكون في المستقبل عدواً لنا، ألا لتكن الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما يلزمنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع)(245/49)
يا ابن الغابة يا ربيب الفقر والبأساء! أنى لك هذا كله! ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة وتحمي على الحماسة وإن خفيت في الحديث الهادئ أو في القصة الوادعة!
وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يجب أن يفعله في غد؟ كلا. ما كان يدرك يومئذ أو يحس أن له في غد من عمله ما هو حري أن يملأ عين اسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد
ومما عرف عنه في السياسة موقفه فيما كان في تلك الأيام من أمر العبيد. فلقد انبعثت صيحات قوية من أولئك المتطرفين من أهل الشمال الذين أهابوا بالمؤتمر أن يعلن تحرير السود في جميع الولايات؛ وهو يومئذ مطلب جريء بل لقد كان يعد في تلك الأيام حلماً من الأحلام. وقف ابراهام من تلك الدعوة موقفاً ينطوي على الكياسة وبعد النظر، ويكشف عن ناحية أخرى من نفس هذا السياسي الناهض، تلك هي ناحية التعقل والنظر إلى حقائق الأمور دون مغالطة فيها أو تغاب عنها
كان إبراهام يمقت نظام العبيد من أعماق نفسه وهاهو ذا يجد نفسه اليوم بين أمرين: تطرف الداعين إلى القضاء على هذا النظام طفرة، وما اتخذه مجلس مقاطعته من قرارات رجعية لم يستطع هو وأنصاره تلافيها. أما عن قرارات المجلس فإنها كانت على الأرجح تعبر عن ميل أعضائه وخاصة الديمقراطيين إلى محاربة الدعوة القائمة لتحرير العبيد؛ وكان أن أعلن إبراهام هو وزميل له احتجاجاً على قرار المجلس يتضمن أنهما وإن كانا يريان مسألة العبيد قائمة على الجور وخطل السياسة إلا أنهما يعتقدان أن ما يدعو إليه المتطرفون إنما يساعد على ازدياد الخلاف بين الولايات؛ كذلك هما يعتقدان أن موقف المجلس في قراراته لا يطابق الدستور. ولقد ذاع في الناس هذا الاحتجاج فأضافوه إلى ما عرفوه عن لنكولن من حميد الخلال؛ وهاهو ذا ينتخب للمرة الثالثة وهو في التاسعة والعشرين؛ يطول باعه في المحاماة كلما تصرمت الأيام، وترسخ قدمه في السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة. وكان أكبر معارضيه ومناوئيه إذ ذاك دوجلاس وكانت له مواقف يظهر فيها على إبراهام في المجلس بلفتات ذهنه ولباقته، وسرعة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية؛ ولكن إبراهام كان المتفوق الظافر إذا كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل. وأحب الناس في المجلس وخارجه مما أحبوا من صفات لنكولن(245/50)
الخطيب تساوق عباراته ودقة ألفاظه في التعبير عما يريد؛ وأحبوا منه فوق ذلك براعته في التهكم، تلك الخلة التي كان لا يطيقها معارضوه، كما أنسوا إلى تلك الأمثال البارعة التي لم يك يفتأ يضربها للناس في جلاء وبصيرة يستعين بها على بيان ما يريد
لم تلهه السياسة وشواغلها ولا المحاماة وقضاياها، ولا الجلسات في حانوت سبيد وما كانت تثير في نفسه من لذة. . . لم يلهه ذلك كله عن نوازع قلبه وخلجات نفسه؛ وأنى له ذلك وقد كانت ماري أوين، تلك الفتاة التي ارتبط بها، تلقاه بعد أن تزور أحياناً بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد فتراه ويراها، كما كان هو يذهب إلى نيوسالم فيغشى بيت أختها. إن أمره عجب في ذلك! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أنه يحبها! تلك حال من حالات الشباب؛ أو هي حال من حالات لنكولن العجيب
كانت علاقتهما علاقة فتور يتجلى لهما في عدة مواقف، ولكنهما كانا في موقف تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا أن تنأى بجانبها عنه فتريحه. لقد كان منقبض النفس لهذه الحيرة يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما لها. نلمس ذلك في مثل قوله: (لم أجدني مرة مدة حياتي في قيد حقيقياً كان أو خيالياً أرغب في التحرر منه مثلما أرغب في التحرر من هذا القيد)
وجمع أمره فكتب إليها خطاباً رقيقاً محكماً يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها دون أن ينالها بكلمة قاسية. تكلم عن فقره وما عسى أن تجد عنده من تكون زوجة له، ثم قال (ربما كان ما قلته لي من قبيل المزاح وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه. إن كان كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكيري تفكيراً جدياً قبل أن تقطعي في الأمر؛ وسأكون عند ما قلت إذا كان ذلك ما تشائين. وإني أرى ألا تشائي ذلك فإنك لم تتعودي البأساء وربما كان الأمر أقسى مما تخالين) وكتب لها بعد ذلك لها بعد ذلك خطاباً أكثر صراحة جاء فيه: (إذا كنت تشعرين أنك مقيدة نحوي بأي رباط فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك؛ بينما أراني من جهة أخرى أميل إلى أن أمسكك عليّ إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار. تلك في الحقيقة هي المشكلة بالنسبة إلي)
تلك هي تعللات المتردد الحائر تصور لنا حالا من الحالات المستعصية على الفهم، بيد أن(245/51)
المسألة قد آلت آخر الأمر إلى الرفض وانصرفت عنه ماري أوين. وظل بعد انصرافه عنها حائراً لا يدري أيحمل ذلك على الفوز أم يحمله على الخيبة؛ على أنه يعلن في عزم مصمم أنه لن يفكر بعد في الزواج
ومن العظماء من تنطوي نفوسهم على نواحي ضعف تكافئ نواحي القوة فيها؛ ومن هؤلاء لنكولن، من نواحي ضعفه هذه الحيرة الخوارة إذا كان الأمر أمر نساء؛ فهل كان يرى في سكنه إلى زوجة قيداً يحرمه من حريته، أم هل كانت تعوزه الكفاية لهذا الغرض؟ من العسير أن نرد هذا إلى سبب واضح محدود. .
وما باله يتورط بعد ذلك في صلة جديدة؟! ينصرف عن ماري أوين ليتصل بماري تود؟ كانت هذه الفتاة تنتمي إلى درجة دونها درجته، وكانت مهذبة مثقفة، شديدة الذكاء، تدير الحديث إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلس، فتسخرهم بتوقد الذهن وقوة المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طمع وطموح، فكانت نظرتها إلى الشباب من طبيعة نظرتها إلى الحياة؛ المقدم فيهم عندها من تعرف أنه إذا نالت يده يخطو بها إلى ما تمد عينيها وخيالها من جاه ونفوذ. وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط توثبها الطائر المدل لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن. . .
وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دارها الجميلة التي تدور بها حديقة صغيرة فينانة، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى تلك الدار؛ كأنما صحت عزيمة هذا الرجل أن يأخذ على منافسه كل طريق! وأخذت الرجلين عينا ماري السريعتان النافذتان ولكنهما استقرتا على إبراهام. وكان دوجلاس خليقاً أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمعته وأناقة هندامه، ولقد كان يبتغي إليها الوسيلة، لا تفلت منه في ذلك فرصة ولا تفوته حيلة. ولكنها اتجهت إلى ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل ولم ينب في عينيها وجهه المسنون الذي يحمل من البلاهة بين يديها قدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة!
ومضت الأيام وابراهام يتزيد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس؛ ولكنه يسر إلى صديقه سبيد أنه لا يشعر نحوها من الحب بما عساه أن يفضي إلى الزواج، ويهم أن يكتب إليها ذلك،(245/52)
فيشير عليه صاحبه أن يشافهها بالأمر، فيفعل، ولكنه يعود إلى صاحبه ليخبره أن لا مناص ولا حيلة، فهو اليوم رهين أسير، ذلك أنه ما كاد ينبئ ماري بما يعتقد حتى هبت من مقعدها صارخة تقول: أصبح المخادع هو المخدوع! قال لنكولن: (ووجدت الدموع تنحدر على خدي أنا فأخذتها بين ذراعي وقبلتها)
وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على ابراهام وتتحايل على كسب قلبه؛ فلقد كانت ترى منه ما يبشر بأملها المرجو، قالت عنه بعد ذلك بسنين: (لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أن قلبه كان من الكبر بقدر ما كان ذراعه من الطول). ولكن ابراهام كانت تأخذه من الهم غاشية كلما مال الحديث إلى الزواج، وعاد إليه تردده وتلدده، وعاودته الرغبة في التخلص من ماري تود كما تخلص قبل من ماري أوين. وكان يومئذ في حال إن لم نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها. وحسبك أنه ابتعد عنها بغتة في اليوم السابق ليوم الزفاف، وهو يأمل أن يسترد احترامه لنفسه ومقدرته على الحكم، ولكنه أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس. كتب إلى صديقه سبيد: (إما أن أموت وإما أن تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنا فيه من المستحيل) وبعد ذلك بأيام كان عند الطبيب
الخفيف(245/53)
أناشيد غزلية
البستاني
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
(تشكي إلى كثير من صحابتي ومن قراء (الرسالة) الغراء بعض ما وجدوا في أناشيد جيتانجالي من شدة وصعوبة وصلابة؛ وفي الحق لقد وجدت فيها قوة السبك ومتانة الأسلوب وعمق الفكرة الفلسفية، فما استطعت أن أنحرف عما أراده المؤلف لأناشيده. وأنا أريد أن أنقل إلى العربية ترجمة صحيحة فيها الأمانة والدقة والإتقان، فجاءت كما قرأها القارئ وكما تحدث إلي عنها المتحدث. . .)
(ولقد وعدت رفاقي أن أرفه عنهم بعض ما نالهم من أناشيد جيتانجالي بأناشيد أخرى فيها رقة النسيم العليل وابتسامة الفجر الضاحك، وحلاوة الأمل الباسم. . . تلك هي أناشيد (البستاني) التي أقدمها للقراء اليوم وما بعده، وهي أناشيد غزلية كتبها طاغور بالهندية وترجمها هو إلى الإنجليزية وهي 85 نبضة من نبضات قلب شاعر سما بقلبه وعقله معاً فوق الإنسانية ليهبط عليها بوحي من نفسه الشاعرة الرقيقة)
(وهي كلها نوع من الغزل الرقيق الرفاف لم نر مثله في اللغة العربية. فها هي ذي أترجمها كلها - إن شاء الله - والله أسأل أن يوفقني. . .)
كامل
- 1 -
الخادم - أسبغي على خادمك بعض فضلك يا مليكتي!
الملكة - لقد انفض السامر وتفرق الخدم، فلماذا جئت وقد انفرط عقد الليل؟
الخادم - حين تخلو مليكتي إلى نفسها أبتغي أنا إليها الوسيلة.
لقد جئت لأسألك ما ادخرت لخادمك من عمل
الملكة - وماذا تبتغي في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
الخادم - مري فأكون بستانيّ حديقة أزهارك(245/54)
الملكة - يا للحمق!
الخادم - سأنفض عن نفسي كل عمل سوى هذا
سألقي بسيفي ورمحي معاً جانباً. لا تقذفي بي إلى غيابة قصورك النائية، ولا تدفعي بي
إلى ميدان القتال؛ ولكن مري فأكون بستاني حديقة أزهارك
الملكة - وماذا تريد أن تعمل هناك؟
الخادم - سأقوم على خدمتك في ساعات الفراغ
وأتعهد حشائش الطريق لتظل خضراء ناضرة. . . الطريق الذي تجتازين كل صباح
حيث تتناثر على قدميك أوراق الزهور التي تسير الهوينى في طريق الفناء، كأنها تحييهما في ولاء
وأرجّح بك الأرجوحة بين أغصان الدوح، حيث تجهد أشعة القمر نفسها أن تندفع خلال
أوراق الشجر لتقبل ذيل مرطك
ثم أترع مصابيحك بالزيت العطر حين توشك أن تنضب، وأنثر على موطئ قدميك
الصندل والزعفران في دقة وإتقان
الملكة - وماذا تنتظر من أجر؟
الخادم - أجري أن تأذني فأمسك بيدك البضة الناعمة التي كأنها زهرة اللوتس الناضرة،
فأزين معصمها بسوار من زهر؛ وأصبغ أخمص قدميك بعصير الزهر الأحمر، ثم أنفض عنها ما عساه أن يعلق بها من ذرات التراب
الملكة - لقد أجبت سؤالك يا خادمي، فاذهب أنت منذ الآن بستاني حديقة أزهاري
- 2 -
(آه، أيها الشاعر! إن المساء يقبل في أناة، فيدب الشيب في شعراتك)
(أفتسمع من خلال تأملاتك وأنت في خلوتك رسالة الغيب؟)
قال الشاعر: (حقاً، إنه الليل، وأنا جالس أتسمع لأن صوتاً سيرتفع - في جوف الليل -
من جانب القرية)
(وأنا أرقب القلوب الشابة وهي تتلاقى بعد تيه، فتنطلق نظرات الهوى تطلب الموسيقى
لتصدح من حواليها السكون وتتحدث حديثها)(245/55)
(من ذا يستطيع أن ينسج أغانيها على منواله إن أنا انزويت على شاطئ الحياة لا
أستشعر في نفسي سوى الموت والحياة الأخرى؟)
(لقد توارى أول نجم بزغ عند بزوغ الغروب)
(ووميض نار الموتى إلى جانب النهر الهادئ يخمد رويداً رويداً)
(وعواء أبناء آوى يرتفع من جنبات المنزل الموحش في ضوء القمر الشاحب)
(وإذا تلبث مسافر هنا قليلاً ليرقب الليل، وأطرق حيناً ليسمع همهمة الظلماء؛ فمن ذا
الذي يسكب في مسمعيه أسرار الحياة إن أنا أوصدت دونه بابي لأتحلل من قيود الإنسانية؟)
(إنها خرافة: أن يدب الشيب في شعراتي)
(إنني دائماً شاب كأصغر شباب القرية، وشيخ كأكبر كهولها)
(بعض الناس ترتسم على شفاههم ابتسامة عذبة رقيقة، والبعض يشع من نظراتهم
الخبث)
(بعض تنهمر عبراتهم في وضح النهار، والبعض يكفكفون دموعهم في هدأة الليل)
(كل أولئك في حاجة شديدة إليّ، فأنا لا أجد في عمري مُنفسحاً لأفكر في الحياة الآخرة)
(إنني أعيش مع كل أولئك، فماذا يضيرني إن دب الشيب في شعراتي)
- 3 -
عند الصباح طرحت شبكتي في البحر
ثم جذبتها من الهوة السحيقة فألفيت فيها أشياء ذات بهجة وجمال: بعض يشع كالابتسامة،
وبعض يلمع كالعبرة، وبعض يتألق كأنه خد عروس
وعند الأصيل عُدتُ إلى داري أحمل ثقل يومي؛ وعلى جانب الطريق رأيت التي أحب
جالسة في الحديقة لا تجد عملاً فهي تعبث بأوراق زهرة
فاندفعت إليها وألقيت ثقلي عند قدميها ثم وقفت بازائها صامتاً
ونظرت هي إلى أشيائي ثم قالت: (ما أعجب ما أرى! ماذا يفيد كل هذا؟)
فأطرقت ملياً والخجل يعركني عركا، ثم طاف بخاطري (أني لم أجهد نفسي في سبيل
هذا، ولم أدفع له ثمناً؛ إن كل ذلك لا يستأهل أن يكون هديتي إليها)(245/56)
فقذفت بها جميعاً - واحدة فواحدة - إلى الطريق
وحين أسفر الصبح جاء السائحون أرسالا، فالتقطوا كل ما قذفت به وحملوه إلى بلاد نائية
كامل محمود حبيب(245/57)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
353 - على هذا بنيت الدنيا
أُنشِد عمر (رضي الله عنه) قول عبدة بن الطيب
والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش: شح وإشفاق، وتأميل
فقال: ما أحسن ما قسم! على هذا بنيت الدنيا
354 - بلى، إن للعينين في الصبح راحة
في (الموشح) للمرزباني: الشعراء على أن الهموم متزايدة بالليل - متفقون، ولم يشذ عن هذا المعنى ويخالفه منهم إلا أحذقهم بالشعر. والمبتدئ بالإحسان فيه امرؤ القيس فإنه بحذقه وحسن طبعه وجودة قريحته كره أن يقول: إن الهم في حبه يخف عنه في نهاره ويزيد في ليله، فجعل الليل والنهار سواء عليه في قلقه وهمه وجزعه وغمه فقال:
ألا أيها الليل الطويل، ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فأحسن في هذا المعنى الذي ذهب إليه وإن كانت العادة غيره، والصورة لا توجبه. ثم صب الله على امرئ القيس بعده شاعراً أراه استحالة معناه في المعقول، وأن القياس لا يوجبه، والعادة غير جارية به، حتى لو كان الراد عليه من حذاق المتكلمين ما بلغ في كثير نثره ما أتى به في قليل نظمه، وهو الطرماح بن حكيم فإنه ابتدأ قصيدة فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا اصبح ... بِبَمّ وما الإصباح فيك باروح
فأتى بلفظ امرئ القيس ومعناه ثم عطف محتجاً مستدركا فقال:
بلى، إن للعينين في الصبح راحة ... لطرحهما طَرْفيهما كلَّ مطرح
فأحسن في قوله وأجمل، وأتى بحق لا يدفع، وبين عن الفرق بين ليله ونهاره
355 - أحسن منها على حيطان جيرانها
في (كتاب الصناعتين): قيل لبعضهم ما بلغ من حبك لفلانة؟
فقال: إني أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها
356 - أبو رياح(245/58)
في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي: أبو رياح تمثال فارس من نحاس بمدينة حمص على عمود حديد فوق قبة كبيرة بباب الجامع - يدور مع الريح حيث هبت، ويمينه ممدودة، وأصابعها مضمومة إلا السبابة، فإذا أشكل على أهل حمص مهب الريح عرفوا ذلك به، فإنه يدور بأضعف نسيم يصيبه ولذلك كني بأبي رياح. وقد يقال للرجل الطائش الذي لا ثبات له: (أبو رياح) تشبيهاً به، وقيل:
أفّ لقاض لنا وقاح ... أمسى بريئاً من الصلاح
كأن دنيته عليه ... غراب نوح بلا جناح
وليس في الرأس منه شيء ... يدور إلا أبو رياح. . .
357 - فليس لخوفه يبدين حرفا
قال جحظة: كنت مع ابن الرومي فرأينا (أبا رياح) على دار ابن طاهر. فقلت له: صف هذه الشرفات وأبا رياح، فقال:
ترى شرفاتها مثل العذارى ... خرجن لنزهة فقعدن صفا
عليهن الرقيب أبو الرياح ... فليس لخوفه يبدين حرفا
358 - حرمته ماءه ومرعاه
في (السلوك) للمقريزي: في سنة (664) اشتد إنكار السلطان للمنكر، وأراق الخمور، وعفّى آثار المنكرات، ومنع الخانات والخواطئ بجميع أقطار مملكته بمصر والشام. قال ابن المنير قاضي الإسكندرية لما وردت إليه المراسيم بالإسكندرية وعفي متوليها أثر المحرمات:
ليس لإبليس عندنا أربٌ ... غيرُ بلاد الأمير مأواه
حرمتَه الخمر والحشيش معاً ... حرمتَه مأواه ومرعاه
وقال أبو الحسن الجزار:
قد عُطل الكوب من حبابه ... وأخلي الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي ... على الذي فات من شبابه
359 - دعني أمش في ضوء رضاك(245/59)
في (أمالي) القالي: قال جحظة: دخل رجل على عمر بن فرج فتنصل إليه من ذنب له فرضي عنه، فلما خرج قال: يا غلام، خذ الشمعة بين يديه
فقال: دعني أمشِ في ضوء رضاك. فاستحسن ذلك وأمر له بصلة حسنة
360 - فيأخذها غيرهم فيزن فيها
في (إرشاد الأريب): جرى مع أسعد بن المهذب حديث النحويين وأن أحدهم ينفد عمره فيه ولا يتجاوزه إلى شيء من الأدب الذي يراد النحو لأجله من البلاغة وقول الشعر ومعرفة الأخبار والآثار وتصحيح اللغة وضبط الأحاديث. فقال الأسعد هؤلاء مثلهم مثل الذي يعمل الموازين وليس عنده ما يزن فيه، فيأخذها غيرهم فيزن فيها الدر النفيس والجوهر الفاخر والدنانير الحمر
قال ياقوت: وهذا عندي من حسن التمثيل(245/60)
مرأى الجمال وذكرى الجلال
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
لمناظر الطبيعة الرائعة الجلية لذة في النفوس مثل مناظر الجبال الشاهقة والهاويات العميقة والأعاصير وأثرها والبحار وأمواجها، وهي تبعث اللذة في النفس حتى في مخاوفها إذا لم تتملك مخاوف مناظرها النفس بالذعر والرعب، وقد ينقلب الحنين المقهور في النفس إلى الجمال فيصير ولوعاً بمناظر الجلال والروعة، كما أن مناظر الجلال والروعة قد تشحذ الحنين إلى الجمال وتذكر المرء به، وقد تطغى كل من العاطفتين على الأخرى ولهما أيضاً صلات أخرى غير ما ذكرنا. ومن مسرات التفكير والفنون أن يتتبع الإنسان صلات العاطفتين في نفسه وهذه القصيدة من قبيل هذا التتبع
(الناظم)
ذكرتك في البحار الزاخرات ... وفي مجرى السفين الجاريات
كأن البحر حي ذو جنان ... وموج اليم نبض النابضات
وفي ذاك الجلال بلاغ راءٍ ... وروع للنفوس الواعيات
ولكني ذكرتك يا حبيبي ... كما حن المريض إلى الحياة
كما حن الهزار إلى ربيع ... وأفنان الرياض على الأضاة
وكم غلب الجمال على جلال ... كما غلب الرقاد على التفات
ذكرتك والقبور ترد طرفي ... وتسخر من هيام بالشيات
وتخبرني بأن الحب فانٍ ... وأن العيش صنو للممات
ولكني ذكرتك يا حبيبي ... وذاك الذكر خير الذكريات
ذكرتك والسقام يبيد لبي ... ويسْلي النفس ماضٍ وآت
ويلهي النفس عن حب وشعر ... وعن سحر العيون الساحرات
ولكني ذكرتك يا حبيبي ... كذكري للسنين المقبلات
ذكرتك في الطلول الدارسات ... وآثار العصور الغابرات
أرى الأهرام كالأعلام تزهو ... على عبث الصروف المهلكات(245/61)
فأبصر من مضوا وأرى اعتزازاً ... لهم بالمصيبات الفانيات
فيضؤل عيش هذا الناس حتى ... لينسى المرء ذكر المصيبات
ولكني ذكرتك يا حبيبي ... كذكري للأمور الخالدات
عبد الرحمن شكري(245/62)
معاودة الذكرى
للشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين
سبق أن نشرنا أبياتاً غير مرتبة بعث بها إلينا الأستاذ من هذه القصيدة الرائعة، وقد أرسل إلينا حضرته بنصها كاملاً، وهاهي:
عاَوَدَ القَلْبَ حنِينُهْ ... مَنْ عَلَى الشَّوْقِ يُعينُهْ
وَيْحَ قلْبي مِنْ غرامٍ ... هَاجَ بالذِّكْرى كمينُهْ
يا لخفَّاقٍ إذا ما ... قَرَّ هَزَّتْه شُجُونُهْ
واصِلٌ مَن صَدَّ عنه ... صائن من لا يَصُونُهْ
خانَهُ الصَّبْرُ ولولا الصَّ ... دُّ ما كان يخونُهْ
يا زَماناً لم تكُنْ إلاّ ... هُنيْهاتٍ سنينُه
كنتَ رَوْضاً حالياً بالوَ ... صْلِ قد رَفَّتْ غُصونُهْ
حُلُمٌ إنْ يَمْحُهُ الدَّهْ ... رُ فَفِي الذِكرَى مَصُونُهْ
كلَّما مرَّ بقلبي ... ذِكْرُهُ جُنَّ جُنُونُهْ
لَوْ شَهِدْتِ النَّجْمَ أَرْعَا ... هُ وَتَرْعَاني عُيُوُنُهْ
أو رأيتِ الليل أشكو ... هُ وتَشْكُونِي دُجُونُهْ
ومِهادَ النوم كم يق ... سُو على جَنْبَيَّ لِينُهْ
آه لَوْ تَدْرِينَ مَا بِي ... ضَاقَ بِالْقَيْدِ سَجِينُهْ
أنتِ تدرين ولكن ... لِصِبَا الغِيدِ فُتُونُهْ
أنتِ لي كلُّ شُئُوني ... وَيْلَ مَنْ أَنْتِ شُئُونُهْ
كان لي دَمْعٌ فماَ لِي ... جَفَّ مِنْ دَمْعِي مَعِينُهْ
مَن لِصَبٍّ غَدَرَ الوَا ... فِي به حَتَّى جُفُونُهْ
كُلَّمَا مَنَّاهُ ظَنُّ ... عادَ بِاليأْسِ يِقينُهْ
سَكَنَ اللَّيْلُ فماَ لِلْ ... قلْبِ يَجْفُوهُ سُكُونُهْ
كم وَكم أَقْسَمَ أَنْ يَسْ ... لُو فما بَرَّتْ يمينُهْ
كلَّما ظَنَّ سُلُوّاً ... كذَبَتْ فيه ظُنُونُهْ(245/63)
كم فُنُونٍ في الح ... بِّ وللحُبِّ فُنُونُه
فَلْيَذُقْ ماَ شاََء مِنْهُ ... ماَ رَعَى العَهْدَ أَمِينُهْ
أيّها اللائمُ دَعْهُ ... فَلَهُ في الحبِّ دِينُهْ
أحمد الزين(245/64)
القصص
أقصوصة من تشيكوف
1 - في القرافة
للأستاذ دريني خشبة
(الريح موشكة أن تهب فتكون عاصفة، والليل موشك أن يضرب فوقنا بِجِرانه، أفلا يخلق بنا أن نعود أدراجنا إلى المدينة؟!)
هذا حق فلقد كانت الرياح تزمزم في أشجار البتولا فتملأ مخارف الوادي بأوراقها اليوابس، وكانت شآبيب البرد قد أخذت تنهل فوق رؤوسنا فتنضح ثيابنا وتلفحنا ببرد شديد؛ وانزلجت رجل أحدنا فتعلق بصليب شاحب شاخص ليتفادى السقوط في الوحل، فلما اعتدل وقف مسبوهاً أمام اللوحة الرخامية وراح يقرأ اسم صاحب المقبرة:
(ييجور جريازنوروكوف. . . مستشار ملكي وفارس)
أوه! لقد كنت أعرف هذا السيد، المغفور له، لقد كان مشغوفاً بامرأته حباً، وكان يمتثل أوامر ستانسلاف. . . ولم يقرأ في حياته شيئاً. . . وكانت معدته تهضم الحديد. . . فيا للحياة التي كانت حرية أن تمتد وأن تستطيل! لماذا مات يا ترى هذا الـ (ييجور)؟! إنه لم تكن به حاجة إلى الموت، فلماذا قضى؟! وا أسفاه عليه! إنما هي عين المنية التي لا تنفع فيها التمائم قد أرصدت له؛ فراح المسكين ضحية التجسس والفضول!!
ذاك أنه كان يسترق السمع يوماً خلال ثقب المفتاح في منزل بعض أهله، وكان من دأبه أن يتلصص عليهم دائماً، فانفتح الباب فجأة، وانفدغ الرأس الكريم، وسقط ييجور يتشحط في دمه، ثم مات على الأثر!
وصاحب هذه المقبرة!
مسكين جداً. . . لم يكن يعاف شيئاً في حياته، كما كان يعاف الشعر. . . والشعراء! فانظروا كيف سخر به الشعر الذي كان يعافه، ويشمئز منه، ويضيق به صدره! لقد جصّصوا مقبرته كلها بأبيات من الشعر هي السخف بعينه. . . مسكين يا هذا، ذق إذن. . . وتقزز ما شئت. . . إنك لأنت العزيز الكريم!(245/65)
من القادم يا ترى؟
إنه فقير آفاقي يلبس معطفاً كله مزق وأسمال! ويْ! إن له لوجهاً ناصعاً! بخٍ بخٍ أيها البائس! إنه يتأبط زجاجة من البودكا! ترى منذا الذي يشرب نخبه هنا هذا الفقير؟ ها ها!! إن الفتى يحمل نقله (مَزَّته) في جيبه حَوَايا، فهي تظل معه لتودع العالم هي الأخرى!
وترنح الرجل قليلاً، ثم سأل في صوت مبحوح محشرج:
- أين قبر موسخين الممثل يا هذا؟
وقدناه إلى قبر موسخين الذي مات منذ حولين
وسألته أنا وفي نفسي منه أشياء:
- أكاتب حكومي أنت يا صاح؟!
فقال:
- كلا! بل أنا ممثل! ماذا أصاب الناس في هذا العصر؟ ما لهم لا يفرقون بين الموظفين والممثلين؟ ولكن. . . حسن؟ لا ضير!
لقد اندثر قبر موسخين أو كاد، ولقد سطع منه ريح كريه منتن، ونمت فوقه أعشاب الفناء الشاحبة الشوكية حتى أوشكت تخفيه عن الأبصار! إنه لا يشبه القبور الجاثمة هنا. . . يا للصليب المعوج الرخيص المائل المكسو بالطحلب السادر المكتئب، الذي يبدو كأنه سيموت هو أيضاً!
لقد نقشت على اللوحة المتآكلة هذه العبارة التي ذهبت يد العفاء ببعض حروفها:
(. . . الصديق المنسي، موسخين!)
فيا للزمان!
لقد أودى بالحروف الأولى التي كانت تجعل هذه العبارة أكذوبة الأكاذيب!
قال الممثل:
(ويحك يا موسخين، وسحائب رضوان الله عليك!! ما أشقاك بهؤلاء الممثلين ورجال الصحافة، الذين اكتتبوا بنقود ليشيدوا ضريحك ونُصْبَك ثم أكلوها فيما بينهم. . .! أسحتهم الله بأكلهم هذا المال!)
ثم سجد في خشوع وعفر وجنتيه وجبينه بالثرى المندّى وقلت أسأله:(245/66)
- ماذا تعني يا صاح؟ كيف أكلوها فيما بينهم؟
فقال:
- ما أيسر هذا أيها الأخ! لقد فتحوا الاكتتاب، وأعلنوا أسماء المتبرعين في الصحف. . . ثم. . . لا ضريح ولا نصب، لأنهم أكلوا النقود فيما بينهم. . . وكان الله حسبهم. . .! وأنا بالطبع لا أقول هذا استنكاراً لصنيعهم، ولكن لتعلم ما صنعوا. . . نُخبكم أيها السادة، ونُخب الراقد هنا - موسخين - المسكين! في سبيل ذكراه الخالدة هذه الكأس!)
واحتسى كأس البودكا، والتهم حوية من حواياه، ثم قال:
- يقول الغربيون (في صحتكم) حين نقول نحن (نخبكم). . فيا لله! أي صحة في ابنة الكرم، وأي عافية في أن يصبح الفتى مجنوناً بها، عاكفاً عليها، مخبولاً مدمناً؟. . . هذا. . . وأي ذكرى خالدة نرجوها لهذا الفتى؟! إن الذكرى الخالدة معناها الألم الخالد. . . وخير من ذاك أن نبتهل إلى الله ليجعلها ذكرى. . . مؤقتة، وهما في مذهبي سيان!
- إن هذا حق لا ريب فيه! فقد عاش موسخين رجلاً ذائع الصيت طائر الذكر، ولما مات حملوا عشرين إكليلاً من أنضر الأزهار حول نعشه. . . وما كاد يوسَّد في الثرى حتى نسيه الجميع!
- ومن نسيه؟! لقد كان محبوه، والمعجبون به، في المقدمة!! ومن ظل إلى اليوم يردد ذكراه؟! أعداؤه يا سادة! أعداؤه الذين عاش طوال عمره يشنّ عليهم حربه الضروس الشعواء!!
- فأنا مثلاً. . . لن أنساه ما حييت! أبدا، أبداً. . . فأنا لم ينلني منه غير الأذى، لقد كان مولعاً بإلحاق الأضرار بي! فأنا لا أحبه، بل، أمقته!
فقلت له: وكيف كان إيذاؤه لك يا صاح؟
فتأوه من أعماقه، وانتشرت سحابة من الهم فوق وجهه الكاسف، ثم قال: (أبلغ الإيذاء أيها الصديق! لقد كان لصاً خبيثاً محتالاً، فلا عفا الله عنه!! أتصدق أنني لم أصبح ممثلاً إلا بفضل إصغائي إليه وشغفي به، وإنعام النظر إليه؟ لقد خلبني بفنه، وسحرني بلفتاته، ونفث في صدري روح الكبر والغرور والخيلاء، فنزحت عن الديار بسببه، واحتملت بلاء الغربة في سبيل ما وعدني من الغنى الضخم، والثراء الواسع. . . ولكن. . . وا حسرتاه عليّ!!(245/67)
إني لم أجن من كل مواعيده إلا الدموع والأشجان!! وإلا الجد العاثر الذي هو نصيب الممثل من الحياة!!
(لقد فقدت كل شيء!! فقدت شبابي، فقدت عِفتي، فقدت أخلاقي، فقدت استقامتي، ثم. . . فقدت الله!!
(هاأنذا يا صاح لا أملك الدانق الذي أمتع به نفسي، وأرفه به عن قلبي. . . وهاك حذائي!! يا ربي لقد خَصَفته حتى استحييت من كثرة الخصف، فهاهو عقبي نَعْل له!!
(وهاك (بنطلوني)!! لقد رفوته ورقعته، حتى لقد ذهب الأصل وبقي الرقع!!
(وهاك وجهي القبيح الشائه. . . أليس يبدو كأنما هبره كلب!!
(ثم إيماني؟! لقد انتزع اللئيم إيماني بالله، وأغراني بحرية الفكر!؟ ها. . . حرية الفكر؟! هذا الدماغ الفارغ العاجز يجب أن يكون حر التفكير؟! أسمعت؟! أليست هذه خرافة؟ اللص! لقد سلبني لبي وسرق مني عقيدتي وإسلامي لله! ثم أي جدوى عادت علي؟ ماذا كان الثمن الذي اقتضيته حينما خسرت حسن اعتقادي؟! لا شيء!
(لقد اشتد البرد أيها السادة، والريح يا رفاق ريح صر، أفلا تشربون كأساً؟! إن بالقارورة الصفراء ذات الأعنة، ما يكفينا جميعاً. . . ألا تشربون؟!
(هلم نشرب نخب هذا الجبار الثاوي هنا
(إني لا أحبه. . . بل. . . إني أمقته
(إنه ميت. . . لقد انتهى فيما كان يزعم. . . لن تقوم له قيامة بعد اليوم الملحد الكافر. . . أوه! ما لي أسبه وقد كنت أحبه؟! إنه كل شيء لي في هذه الحياة! إنه كأي جزء من جسماني عزيز عليّ! آه! لن أراه بعد اليوم!
(لقد قال الأطباء إني سأموت قريباً بسبب إدماني، ولذا أتيت إلى قبره أودعه، إذ ينبغي أن نصفح عن أعدائنا وأن نغفر لهم خطاياهم! ألسنا سائرين في دربهم الأبدي؟
وهنا بدا لنا الممثل في مسوح ملك الموت ففزعنا، وتركناه يناجي موسخين، وسرنا في طريقنا السادر الموحش مدبرين!
وطَلّنا رذاذ خفيف حلو فأنعش نفوسنا التي وجمت منذ حين
وعند المنعطف الذي يؤدي إلى المدينة حيث تنتثر الحصباء الناصعة كالدر فوق الأرض(245/68)
المرصعة بالبَرَد، لقينا جنازة مقبلة. . جنازة صغيرة متواضعة. . . أربعة أشخاص لا غير يحملون نعشاً حزيناً. . . عاطلا!
وكان الظلام قد نشر فوق الكون طيلسانه، فأخذ حاملو النعش يهرولون بحملهم وهم يتزلجون ويتخلجون، والآلة الحدباء تتأرجح فوق أكتافهم ذات اليمين وذات الشمال
(يا رفاق! ما هذه الدنيا؟ إننا لم نمكث هنا غير ساعة أو ساعتين، وهذا هو الميت الرابع!. . . هلموا بنا. . .)
دريني خشبة(245/69)
البريد الأدبي
الذكرى المئوية لمستشرق كبير
أقام مجمع العلوم والآداب في باريس احتفالاً مهيباً في يوم 26 فبراير المنصرم لمناسبة الذكرى المئوية لوفاة العلامة سيلفستر دي ساسي المستشرق المشهور بين أهل الفكر في الشرق والغرب، والذي كان سكرتيراً دائماً لهذا المجمع، وقد افتتح الاحتفال رئيس المجمع بخطاب شامل عن المستشرق العظيم قال فيه: إن سيلفستر ولد في 21 سبتمبر من سنة 1758 في أسرة فقيرة لا طائل لها من نشب أو نسب، إذ كان أبوه جان سيلفستر مسجل عقود، أما صاحب الترجمة واسمه الأصلي أنطون إيزاك فإنه لم يسافر في حياته إلا مرة واحدة، إذ ذهب إلى جنوى للبحث عن مخطوطات شرقية، وكان يقضي وقته في العاصمة متنقلاً من معهد إلى معهد، ومن مكتبة إلى مكتبة، فهذا الرجل الذي أطلع الغرب على أسرار الشرق لم يذهب قط إلى الشرق، وإنما تلقى معلوماته من المخطوطات النادرة، وتلقف الأخبار التي كان ينقلها إليه تلاميذه وأصدقاؤه
ولقد حذق سيلفستر العربية كما عالج العبرية والسريانية، ولقد انتهج في دراسة العربية نهجاً سهلاً يتفق من الوجهة المنطقية مع الأساليب الفرنسية ووضع كتاباً على هذا النهج لتدريس العربية في مدرسة اللغات الشرقية فوفق كل التوفيق. وقد كان ينشر في جريدة العلماء، والمجلة الأسيوية، وجريدة دائرة المعارف، كل مجهود في دراسة الأدب العربي وحضارة الشعوب الإسلامية، وإخراج المخطوطات النادرة، وكان في جملة ما عني به من كتب الأدب العربي (مقامات الحريري) فنشرها كلها شرحاً ومتناً، وهو أول من نشر كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع، وصدره بدراسة وافية في أصل الكتاب وتاريخه وترجمته.
ثم قال رئيس المجمع: (لقد كان سيلفستر ممثلاً لضمير الشرق الحي المنبعث بين الغربيين، وقد كانوا يعدونه بعد وفاة العلامة كونياي أكبر عالم في فرنسا ولم يأت بعده من يماثله في التفوق بالعلم إلا العلامة باستور الكبير)
دار الكتب في عهد جديد
دار الكتب المصرية في حاجة إلى إصلاح شامل ونهضة قويمة طالما نادى بها الأدباء والمفكرون في مصر، وقد لمس هذه الحاجة الماسة معالي وزير المعارف فاجتمع بمجلس(245/70)
الدار الأعلى الذي يتولى رياسته، وقد بحث في طرق الإصلاح اللازمة، فوافق المجلس على تأليف لجان كل لجنة تتولى ناحية من نواحي الإصلاح والنهوض، فلجنة لدراسة الميزانية واقترح سياسة إنشائية عامة لرفع مستوى الدار حتى تتمشى والتقدم الحديث الذي يشمل كل مرافق البلاد، ولجنة مهمتها دراسة موضوع إحياء الأدب العربي وبعث المخطوطات المطمورة النافعة الجديرة بالبعث والإحياء، ولجنة تقوم بوضع تشريع لحماية المخطوطات النادرة على نمط التشريع الخاص المعمول به في حماية الآثار المصرية، على أن تقدم هذه اللجان تقاريرها في أجل لا تتجاوز غايته ستة أسابيع
ونحن نرجو نهضة موفقة لدار الكتب على يدي معالي الوزير المصلح بهي الدين بركات باشا فتتسع خطواتها في خدمة الأدب والثقافة في مصر والشرق
محاضرة عن الدستور الإنجليزي
قام الاتحاد الإنجليزي المصري بتنظيم سلسلة من المحاضرات الدستورية، وقد ألقى المحاضرة الأولى من هذه السلسلة حضرة الأستاذ ا. الكسندر المحامي بالقاهرة في قاعة جمعية علم الحشرات الملكية، وقد كان موضوع هذه المحاضرة الدستور الإنجليزي وقد ابتدأ المحاضر القول بكلمة عن الدساتير عامة، فقال: إن الدستور أداة صالحة في أيدي الرجال المصلحين كما أنه أداة فاسدة في أيدي المفسدين، وإن الحكومات الدستورية في مصر ستمر حتماً بهذه التجارب، وستجتاز كل هذه الأطوار، كما وقع لكل حكومات الأمم الدستورية العريقة؛ ثم استطرد في الحديث عن الدستور المصري وتكلم عن العلاقة بينه وبين الدستور الإنجليزي ثم قال: إن هذا الدستور المصري الشاب قد أصبح موضع إعجاب المفكرين والمشرّعين في العصر الحديث
وقد توسع الأستاذ في الحديث عن الدستور الإنجليزي، فأبان كيف بلغ قوته العظيمة دون أن يكون دستوراً مكتوباً، ثم قال: إن موضع الإعجاب الحقيقي بالدستور الإنجليزي هو مبادئ الحكم الوطيدة التي يدعمها ذلك الدستور، ويرعاها في نزاهة وحكمة وتقدير صحيح
جوائز أدبية بمناسبة الزفاف الملكي
أقامت اللجنة الأهلية الأدبية في الأسبوع الماضي حفلاً بدار الاتحاد النسائي لتوزيع(245/71)
الجوائز على الفائزين في المباراة الأدبية التي أقامت مهرجانها بدار الأوبرا الملكية أيام الزفاف، وقد حضر الحفل كثير من وجوه الفضل والأدب، وقد وزعت الجوائز على اعتبار أن قصائد الأساتذة فوق المباراة، وقد نال الأنواط الذهبية من الطلبة الأديب عبد العظيم بدوي بدار العلوم والأديب حسن جاد بكلية اللغة العربية، والأديب محمد علي الشلق من أدباء لبنان، كما نال كثير من الطلبة أنواطاً أخرى فضية وبرنزية
حول قصة سابور وقيصر
نشرت الرسالة في عددها الماضي (رقم 244) كلمة بتوقيع قارئ ذكر فيها أنه جاء في مقالي (بين تيمور لنك وبايزيد) (المنشور في عدد 242) أن تيمورلنك وضع بايزيد بعد أسره في قفص من حديد كما فعل قيصر مع سابور ملك الفرس، وافترض (قارئ) أن في ذلك خطأ تاريخياً شاء أن يحمل نفسه مؤونة الرد عليه
وعرض الأمر على هذه الصورة بعيدة عن الحقيقة أيما بعد، فلم أقل في مقالي ما زعم (قارئ) أنني قلت به وكل ما هنالك أنني ذكرت في معرض النقل عن ابن عربشاه مؤرخ تيمور ما نصه: (وهنا تعرض أغرب صفحة في تلك المأساة الشهيرة فإن ابن عربشاه مؤرخ تيمور يقول لنا إن الفاتح التتري سجن بايزيد في قفص من الحديد كما فعل قيصر مع سابور ملك فارس) (عجائب المقدور ص139)؛ فهذه كلمات ابن عربشاه بنصها لم أشأ أن أعرض لها بإثبات أو نفي لأنها لم تكن مقصودة لذاتها؛ وهذا ما كان حرياً بكتاب الكلمة أن يذكره، ولكنه أغفل ذكره، وشاء أن ينسب القول إلي لحكمة لم أفهمها
على أني أزيد أيضاً أن ابن عربشاه لم يكن مخطئاً في إشارته، وأن (قارئاً) خلط بين واقعة تاريخية وبين أسطورة، فقصة سابور ملك الفرس مع الإمبراطور فاليريان قيصر الرومان لا الروم (وهذا تفريق تاريخي لابد منه) وانتصار سابور عليه مقربة من حصن (الرها) القديم (سنة 260م) وأسره حتى وفاته، أشهر من أن يخطئ في نقلها أو ذكرها أحد؛ وهذا ما لم يقصد ابن عربشاه أن يشير إليه، وإنما قصد الإشارة إلى أسطورة تاريخية مشهورة أخرى ينسب وقوعها إلى ما بعد ذلك بنحو أربعين عاماً، وخلاصتها أن الإمبراطور جاليريوس فاليريوس (وليس فاليريان) حينما انتصر على الفرس في جبال أرمينية (سنة 297م) أسر ملكاً أو أميراً من أمراء الفرس يدعى سابور ووضعه في جلد بقرة؛ أو على(245/72)
قول بعضهم في قفص من الحديد؛ وتنسب بعض الروايات هذه الواقعة إلى الإمبراطور مكسميان؛ بيد أنها تعتبر كلها في عرف التاريخ أسطورة لا سند لها (راجع أدوار جيون - الفصل الخامس والستين والهوامش)
وإذا كان (قارئ) ينشد الحقيقة فإنا ننشدها جميعاً بيد أنه يحسن دائماً أن توضع الحقائق موضعها وفي مناسباتها الصحيحة
محمد عبد الله عنان
تبسيط النحو والصرف
أصدر معالي وزير المعارف قراراً وزارياً بإنشاء لجنة لتبسيط النحو والصرف والبلاغة ومهد القرار لتأليفها بما يلي:
بما أن الوزارة سبق لها أن عملت على تبسيط قواعد النحو والصرف والبلاغة فيما أخرجت من الكتب، وكان لهذا العمل نتيجة مرضية
وبما أن هذه الخطوة التي خطتها الوزارة في الماضي لم تكن كافية، إذ لوحظ أن صعوبة قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تزال قائمة، وأن المعلمين والمتعلمين يبذلون جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً في تعليمها وتعلمها، ولا يصلون بعد هذا كله إلى نتائج تتفق مع ما يصرف من زمن وجهد
وبما أننا نرى تشكيل لجنة مهمتها البحث في تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة، وتتقدم باقتراحاتها في هذا الشأن مبينة مشروع التبسيط الجديد، والأسس التي تشير بوضع قواعد النحو والصرف عليها، على ألا يمس أصول اللغة العربية، ولا شكلاً من أشكال الإعراب والتصريف، وكذلك تبين اللجنة ما تراه من التغيير في طرق تدريس علوم البلاغة وتبوبيها
أما اللجنة فتؤلف من الأساتذة: عميد كلية الآداب، والأستاذ أحمد أمين الأستاذ بها، والأستاذ علي الجارم بك مفتش أول اللغة العربية، والأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم المفتش بالوزارة، والأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ المساعد بكلية الآداب، والأستاذ عبد المجيد الشافعي الأستاذ بدار العلوم(245/73)
وقد حدد القرار مدة لا تتجاوز الشهرين تعرض اللجنة بعدهما نتيجة عملها على الجمهور لتتبين الوزارة الآراء التي يبديها فيها المثقفون في مصر وغيرها من البلاد العربية
مجلة رسمية للتربية والتعليم
أصدر معالي وزير المعارف قراراً بإنشاء لجنة تضع نظاماً لإصدار مجلة في التربية والتعليم، وفيما يلي نصه بعد الديباجة:
نظراً لأن المصلحة تقتضي التعجيل في العمل على تحقيق التعاون الفكري المنظم بين المشتغلين بأمور التربية والتعليم من طريق البحث في كل ما يتصل بهما من الموضوعات وتهيئة الفرص والوسائل لكل قادر على البحث في هذه المسائل أن يظهر ما يستطيعه من جهد في هذا السبيل
وبما أننا نرى - تحقيقاً لهذا الغرض - أن تصدر وزارة المعارف مجلة تبحث في شئون التربية والتعليم وتنشر فيها آراء الخبراء والفنيين في هذه الشؤون وتمد رجال التعليم بنتائج الأبحاث الجديدة فيها، وتذاع بواسطتها مشروعات الوزارة الفنية مما يساعد على إنهاض التعليم ونشر وسائل الإصلاح في معاهده المختلفة. لذلك قرر:
المادة الأولى - تصدر وزارة المعارف العمومية مجلة للتربية والتعليم لتحقيق الأغراض المشار إليها في ديباجة القرار
المادة الثانية - تؤلف لجنة من وكيل الوزارة رئيساً، ووكيل الوزارة المساعد والسكرتير العام للوزارة والأستاذ أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب، والأستاذ إسماعيل القباني ناظر مدرسة فاروق الأول والأستاذ عبد العزيز القوصي المدرس بمعهد التربية أعضاء
وتقوم هذه اللجنة باقتراح نظام لهذه المجلة من ناحية تحريرها وماليتها وإدارتها على أن تقدم اقتراحاتها في مدة لا تتجاوز شهراً
اضطراب في نسبة بيت شعري
جاء في شواهد تلخيص المفتاح للخطيب القزويني عند الكلام على تنكير المسند إليه هذا البيت:
له حاجبٌ عن كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرفِ حاجب(245/74)
وقد نسب هذا البيت في مفتاح العلوم للسكاكي إلى ابن أبي السمط، وتبعه في هذا الخطيب القزويني في الإيضاح، وكذا تقي الدين السبكي في عروس الأفراح فقال: ومثل في الإيضاح للتعظيم والتحقير بقول ابن أبي السمط وهو مروان بن أبي حفصة، وذكر البيت، وكذلك صاحب معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص، ولكنه حينما أراد أن يذكر ترجمته على عادته في شرح هذه الشواهد قال: وابن أبي السمط اسمه. . . وقطع الكلام فلم يتمه، والظاهر أنه توقف فيه ومات قبل أن يصل إلى معرفة اسمه. وقد تبعهم العلامة الدسوقي في حاشيته على شرح السعد، ثم قال: وهو من قصيدة من الطويل، وقبل هذا البيت:
فتىً لا يبالي المدلجون بناره=إلى بابه ألاَّ تضيءَ الكواكبُ
يصمُّ عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا ذكرت في مجلس القوم غائب
وقد ذكر الأستاذ الجليل الشيخ أحمد المراغي في كتابه (علوم البلاغة) أن هذا البيت لمروان بن أبي حفصة، ولم يقل إنه لابن أبي السمط
فإذا صح أن هذا البيت لمروان ابن أبي حفصة فإنه كان يكنى أبا السمط لا ابن أبي السمط، وكذلك كان يكنى حفيده مروان الأصغر، وهو مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة فكانت كنيته أبا السمط أيضاً، وعلى هذا يكون في نسبه ذلك البيت لابن أبي السمط تحريف بزيادة لفظ ابن، وقد أردت قبل القطع بهذا الحكم أن أرجع إلى قراء مجلة الرسالة الغراء، فلعل عندهم في هذا علم ما لم أعلم
عبد المتعال الصعيدي
الآداب أم العلوم؟ أيهما سبق؟
أذاع في هذا الموضوع من محطة لندن الدكتور ل. ب. جاكس في فبراير الماضي. وهو موضوع حبذا لو ساجل فيه أدباؤنا، لأنه يستوعب مدنيتنا الحاضرة، ويعرض لدقائقها بالتفصيل. وقد قسم الدكتور جاكس العلوم فجعلها شعبتين، شعبة تتعلق بالإنسان فتتناول علم الأجناس وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء والاجتماع والدين وعلم الدول والأخلاق. . . الخ. وشعبة تتعلق بالمادة فتتناول البخار والكهرباء واللاسلكي والديناميت والريون(245/75)
(الحرير الصناعي) والأصباغ والغازات والفلك وعلم طبقات الأرض. . . الخ
ثم عرض الدكتور للعلاقة بين كل من العلوم والآداب وكيف يخلط الناس بين فروعهما فيجعلون الفلسفة والأخلاق وعلوم النفس والدين فروعاً من الآداب، وينكر ذلك العلماء فيجعلونها علماً خالصاً
ويحل الإشكال فيرمز للعلوم بفرنسيس بيكون وللآداب بمعاصره العظيم وليم شاكسبير، فأيهما سبق؟ لاشك أن شكسبير أعظم من معاصره بيكون. . . ولكن الدنيا سارت في طريق بيكون ولم تسر في طريق شكسبير. . . وهذا حق، ولكنت ماذا أصابت الدنيا من اتجاهها ذاك؟ هل أصابت الخير حين اتبعت وصية بيكون في وجوب اتخاذ التجربة في العلوم وإهمال المنطق، أم أصابت الشر المستطير بما أثمرته التجربة من هذا التقدم العلمي الباهر؟!
ومسألة أخرى، ماذا لو أن الدنيا سارت في طريق شكسبير وأهملت طريق بيكون؟ أليس طريق شاكسبير هو طريق الفضيلة؟ ألم يكن شكسبير ينشد الطوبى وأن يكون في الأرض ملائكة؟ أفليس إلا العلوم تصل بالناس إلى هذا الأفق الأعلى؟
هذا موضوع طريف حبذا لو ساجل أدباؤنا (وعلماؤنا طبعاً!) فيه
الشرقيون وتعلقهم بالدين
طاف المستر روم لاندو في ممالك الشرق الأدنى فزار مصر وفلسطين وسوريا واليونان وبلغاريا والعراق والحجاز واليمن ثم عاد إلى إنجلترا حيث أصدر كتابه الطريف (البحث عن الغد) تناول فيه الأحوال الدينية في الشرق. وقد قابل في مصر أحمد حسنين باشا حينما كان رائداً لحضرة صاحب الجلالة الملك، والأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وقد أثنى عليهما ثناء مستطاباً هما له أهل، فقد استطاعا أن يعطياه فكرة طيبة عن الإسلام والمسلمين، وعن الروحية القوية بيننا وبين الله سبحانه، وأكدا له أنه لولا الإسلام لغزت الشيوعية مصر. وقد اقتنع المستر لاندو بهذه الحقيقة، ولمس بيديه هذا السور المنيع بيننا وبين الفوضى. ومما زاده تحقيقاً أنه لمس تلك الحقيقة أيضاً في سائر الممالك الإسلامية التي زارها، حتى تركيا التي فصلت الدين عن الدولة. وقد أعجب المستر لاندو بمسلمي فلسطين وقرر أن نضالهم ضد اليهود نضال من النوع الصليبي، أي أنه للدين وللوطن(245/76)
على السواء. وقد نعى على اليهود ماديتهم المسترذلة واحتقارهم للروحيات، وانصرافهم عن معابدهم الجميلة التي أقاموها (للزينة!) في تل أبيب، وقد عاب صلفهم كذلك
وقد مدح المؤلف الرئيس أميل إده، كما أعجب بجلالة الملك ابن السعود، الذي كان يكلمه بقلبه قبل أن يكلمه بلسانه. . . وكذلك أثنى على فضيلة المفتي وعلى بطريق دمشق
وما عابه على الناس في اليونان تفشي المعتقدات الوثنية بينهم على رغم تمسكهم بالمسيحية السمحاء وإخلاصهم لها
ترجمة إنجليزية علمية للإلياذة
عني الأستاذ العلامة الجليل روبنسون سمث بترجمة الإلياذة لهوميروس ترجمة علمية دقيقة بحيث قد ذلل المصطلحات اليونانية القديمة الواردة في الأصل الإغريقي للملحمة وهي المصطلحات التي يضطر المترجمون الآخرون في كل لغة أن يغفلوها لعدم فهمهم إياها ولأنها أصبحت من العبارات البائدة التي يعجز الفيلولوجيون (علماء اللغات) عن فك رموزها. وقد وفق الأستاذ روبنسون إلى ذلك توفيقاً عجيباً، وأفرد لهذه العبارات مجلداً كبيراً ألحقه بالترجمة التي حرص على أن تشمل الأصل والترجمة الإنجليزية معاً. وهو عمل شاق يستحق من أجله أكبر الثناء وسينتفع به جميع طلاب الأدب الكلاسيكي في كل زمان ومكان، بل سيصبح جل اعتماد المشتغلين بالأدب الإغريقي على هذه الترجمة الفذة في كل ما يتعلق بهوميروس(245/77)
الكتب
الفصول والغايات
تأليف أبي العلاء المعري
ضبطه وصححه وشرحه وعلق عليه: الأستاذ محمود حسن
زناتي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
هذا كتاب أنشأه المعري، وقد وصفه ياقوت في معجم الأدباء فقال: (ومن كتبه الكتاب المعروف بالفصول والغايات، والمراد بالغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم ما خلا الألف، لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين، ولكن تجيء الهمزة وقبلها ألف مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التي يبني عليها مستوية الإعراب بل تجيء مختلفة
وفي الكتاب قواف تجيء على نسق واحد، وليست المطلقة بالغايات، ومجيئها على حرف واحد مثل أن يقال: عمامها وغلامها وغمامها، وأمرا وتمرا وما أشبه، وفيه فنون كثيرة من هذا النوع، وقيل إنه بدأ بهذا الكتاب قبل رحلته إلى بغداد، وأتمه بعد عوده إلى معرة النعمان، وهو سبعة أجزاء)
ولكن هذه الأجزاء السبعة التي ذكرها ياقوت قد استبدت بها عوادي الزمن، ومحن الأيام، فضاعت في أجواء العصور الخالية فيما ضاع من تراث المعري الحافل، بل تراث العرب أيام حملة الصليبين الأولى على الشام وسقوط المعرة في أيديهم سنة 492 هجرية، وبقي الناس لا يعرفون من الفصول والغايات إلا اسمه، وإلا هذه الكلمة التي أوردها ياقوت في وصفه، وإلا فرية افتراها كاشح، إذ زعموا أن المعري قد عارض به القرآن، وأنه سئل فيه فقال: حتى تصقله الألسنة أربعمائة سنة في المحاريب.
ولقد بقيت التهمة كما هي غير لازبة وغير مردودة، وكان عذر الأدباء في ذلك أنهم لم(245/78)
يتيسر لهم الاطلاع على هذا الكتاب
وكأن الله قد أراد أن يبرئ ساحة الرجل من هذه التهمة الشنعاء، وأن يكشف حقيقته وموقفه من جهة الدين بعد أن ظل ذلك غامضاً في القرون الغابرة، إذ عثر أحد الأدباء على الجزء الأول من هذا الكتاب في دشت اشتراه من وراق بمكة، وإذا بالكتاب عظة دينية، قد أنشأه المعري في (تمجيد الله والمواعظ)، وإذا به وعاء قد أترعه المعري بشتى العلوم من اللغة والأدب والعروض والنحو والصرف والأمثال والتاريخ والحديث والفقه والفلك وعلم النجوم، وغير ذلك مما لم يثبت جمعه ولا إيراده بالطريقة التي سلكها شيخ المعرة. ذلك أنه يملي الفقرة على تلاميذه ثم يختمها بالغاية، وهي عنده بمنزلة القافية من بيت الشعر. وقد تطول الفقرة وقد تقصر، ثم يملي التفسير في أعقاب كل فقرة، وأحسب أن إملاء التفسير كان رغبة من طلابه لتوضيح ما يخفى عليهم فهمه وإدراكه، لأنه أملى أشياء في الكتاب ولم يفسرها، وربما كان ذلك لوضوحها لدى طلابه، فإذا انتهى من التفسير وأراد العودة إلى الإملاء قال (رجع) كأنه يريد نفسه أو يريد رجع إلى الإملاء.
والكتاب كله على هذا النسق، والجزء الذي بين أيدينا منه يبتدئ من أثناء حرف الهمزة وينتهي بحرف الخاء، يقول ناشره الفاضل: (لقد بحثت عن باقي الكتاب في كل المظان فلم أجد له من أثر)
أما الذي نهض إلى إخراج هذا الأثر النافع فهو أستاذنا الفاضل الشيخ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية سابقاً، فتولى تحقيقه وضبطه وتفسير غريبه وأنفق عليه من جهده وماله وراحته مدى عام كامل حتى جلاه للناس في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير في طبع أنيق ومظهر لائق. ولاشك أن الأستاذ الفاضل قد لاقى كثيراً من العناء في عمله، وأدى في ذلك جهداً ما كان يستطيع أن يؤديه إلا تلميذ الشنقيطي اللغوي والمرصفي الأديب؛ ذلك لأن لغة المعري الأدبية لغة غامضة قد تقف المعاجم التي بين أيدينا دون إجلاء غامضها وكشف المعنى المقصود من اللفظ، وإنما يستطيع كشف ذلك من ارتاض على أساليب المعري ولغته. ولاشك أيضاً أن الأستاذ الفاضل بهذا العمل الجليل قد خدم الأدب والعربية، والحقيقة والتاريخ، إذ كشف للأدباء ناحية من نواحي المعري ظلت مطموسة في القديم والحديث، وإذ يسر لأهل الضاد الانتفاع بهذا الأثر النافع. وقد كانوا في(245/79)
لهفة شديدة إليه
وحسبنا هذا القدر اليوم إشارة إلى قدر الفصول والغايات، وإشارة إلى الجهد الذي بذله مصححه الفاضل، وحسب القارئ أن يطلع على الكتاب حتى يقدر هذا الجهد بنفسه، أما الكتاب من حيث قيمته الفنية، ووضعه الأدبي، ومن حيث هو صورة لنفسية المعري ورأيه وفكره وفلسفته فسيكون ذلك موضوع مقالات نرجو أن تتسع لها صفحات الرسالة في القريب
محمد فهمي عبد اللطيف
مكتبة خاصة بجورج برنردشو
ارتفع الأديب الأيرلندي العظيم برنردشو إلى مرتبة الخالدين وبلغ إعجاب الكثيرين به إلى حد الهوَس. ومن الأنباء الأخيرة أن الدكتور أرشيبولد هندرسون، الأديب الكبير الذي كتب أول ترجمة لشو، قد أنشأ مكتبة حافلة كل ما فيها يتعلق بشو. فمن ذلك جميع كتبه ورسائله وإذاعاته، ودراماته وقصصه، في اللغة الإنجليزية وفي جميع اللغات التي ترجمت إليها، ومنها العربية طبعاً، وكل ما كتب عن شو في جميع لغات العالم، وفي الكتب وفي الصحف، وفي المجلات، بل وفي المحاضرات. . . وكان جل حرص الدكتور هندرسون أن يجمع الطبعات الأولى لكتب شو، وإن إحداها اليوم، ولاسيما القديمة، لتساوي آلاف الجنيهات. . . وبعد أن اجتمع للدكتور من ذلك جميعاً ما يعد تحفة بحق، أهداه كله حلالاً خالصاً إلى جامعة بيل في شيكاجو. وقد تصفحنا مجلة ييل (المجلد 12 - الجزء2) فهالنا هذا الثبت الجليل عن شو الذي جمعه كله الدكتور هندرسون
هدية أخرى لجامعة ييل
وقد أهدى المستر جورج. ت. كيتنج إلى جامعة ييل هدية أخرى هي عبارة عن مكتبة حافلة تحوي كل ما كتب الأديب الخالد جوزيف كونراد من قصص ومقالات وحكايات قصيرة، سواء ما كتب منها بقلم الأديب نفسه وما ترجم من آثاره إلى اللغات الأخرى، وقد اشترى من أرمل الأديب مخلفات أدبية جليلة القيمة كبيرة يذكرون أنه دفع ثمناً لها آلافاً عديدة من الجنيهات(245/80)
فهل يفكر أدباؤنا وذوو اليسار فينا في إهداء آثار أدبائنا إلى الجامعة المصرية؟ وهل فكرت الجامعة المصرية في إنشاء متحف لما يصل إليها من هذا السبيل؟(245/81)
المسرح والسينما
مراقبة الأفلام
عرض فلم (حوادث 1938) وقد لاحظت من تفكك هذا الفلم في بعض أجزائه أن يد الرقيب قد أعملت مقصها في أكثر من موضع فاستبعدت بعض المشاهد غير اللائقة بالفلم، ونحن نحمد (مراقبة الأشرطة السينمائية) على أن يكون عملها هذا من محققات المراقبة الحاسمة، وإن كنا لا ننسى أن عين الرقيب تغفل - أو كانت تغفل - أحياناً. ونكتفي بأن نذكر دليلنا من فلمين حديثي العرض , فقد كان فيهما من المشاهد النابية ما لا نود أن يسمح بمثلها في المستقبل
وقد أصبحت مراقبة الأفلام من الأمور التي تنال من اهتمام الحكومات نصيباً يزداد يوماً بعد يوم تمشيا مع تطور السينما وخطورتها؛ فلو أن المطبعة والأستديو اشتركا في موضوع واحد لكان في مقابل كل فرد يقرأ الكتاب عدة مئات يشهدون الفلم. فإذا كانت هناك مراقبة أدبية حازمة على المؤلفات فمن الواجب أن تكون المراقبة أشد حزماً على الأفلام، وبخاصة أن الفلم صور وحديث فأثره أبقى وأوضح من الكتاب المقروء. ويقيني أنه لو كانت لدينا مثل هذه المراقبة لما انحط مستوى أكثر أفلامنا تبعاً لأسلوبها المبتذل وموضوعاتها الجوفاء
ولقد قيل إن الحكومة كانت تنتوي سن قانون لهذا الغرض، وإنها قد ألفت لجنة في أواخر العام الماضي ظلت تنعقد وتنفض وتفكر وتقترح ثم تنعقد وتنفض، والأمر الذي لم تقترب منه خطوة واحدة هو (التنفيذ)
فإذا تحققت ظنونا يوماً وقيل إنا بدأنا نعمل، فإني آمل أن تهتدي حكومتنا في تشريعها لمراقبة الأفلام على ضوء القوانين التي تسنها البلاد الراقية، وفي مقدمتها القانون الإنجليزي، لأنه قانون معتدل لا يذهب إلى الجمود ولا ينزلق إلى حد التطرف
فالرقيب الإنجليزي يجعل همه أولاً منع الأفلام التي تخدم أهواء السياسة أو الأفكار الخاصة أو المذاهب الخطرة أو التي تتعرض للأديان، وفيما عدا ذلك فإنه يعطي الأفلام إحدى صفات ثلاث:
1 - عام
2 - للراشدين(245/82)
3 - مرعب
فأفلام الصفة الأولى هي التي يجوز للأسرة جميعاً مشاهدتا. وأفلام الصفة الثانية المحظورة على الغلمان هي الأفلام الغرامية المبتذلة وأفلام العرايا والأفلام التي تنصر الجريمة والمجرمين
أما الصفة الثالثة الخاصة بالأفلام المرعبة فهي حديثة الإضافة في المراقبة الإنجليزية، وقد عني بها الرقيب حظر هذا النوع من الأفلام على الأطفال بعد أن تعدد وتنوع ووضح خطره
كما أن هناك أنواعاً أخرى من الأفلام لم يعن بها المشرع الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي؛ تلك الأفلام التي تسيء إلى الشرق عامة وإلى مصر خاصة. هذه الأفلام جديرة بأن تكون في المحل الأول من عناية الرقيب. ولقد عرضت علينا - وا أسفاه - طائفة كبيرة من هذه الأفلام نحسب أن منعها كان أفضل وأبقى على الكرامة وعلى الفائدة المرجوة من السينما
وثمة نوع آخر من الأفلام التي تظهر فيها ضروب من القسوة على الحيوانات تحت ستار الصيد أو القتال أو غير ذلك.
وفي 9 أبريل الماضي أثار سير روبرت جوير في مجلس العموم البريطاني مناقشة حادة حول فلم (فرقة الإنقاذ) الذي عرض ولا يزال يعرض بمصر لإظهاره نوعاً من القسوة على الجياد في مشهد هجوم لجأ المخرج فيه إلى حيلة تكسب الفلم صفة الجد فمد أسلاكاً دقيقة تعلو قليلاً عن سطح الأرض تعثرت بها الجياد عند الهجوم فسقط بعضها جريحاً.
محمد علي ناصف(245/83)
العدد 246 - بتاريخ: 21 - 03 - 1938(/)
العام الهجري
1357
أهل هلال المحرم والعالم المسكين يكاد يفلت من قيوده ويتحلل من نظمه؛ فكأنما ارتد إلى عهوده الأولى يترصد الفرائس في ألفاف الشجر وأجواف الحفر، ويتعقب الطرائد في بطون الأودية ومخارم الجبال، ثم يشتد عليه سلطان الغرائز المهلكة فيستنشي رَوْح الحياة فلا يجده، ويلتمس ظل الأمان فلا يدركه، ويبتغي عزاء النفس فلا يناله
هذه أوربا العالمة العاملة القوية، قد استحال بنو آدم فيها إلى هياكل صناعية، تتحرك بالبنزين، وتسير بالقيادة، وتعمل بالحيلة، وتهتلك في السبق، حتى أوشكت أن تصطدم فتتحطم
أين الروح الذي كان يحييها؟ وأين النور الذي كان يهديها؟ رجعا إلى مصدرهما الإلهي في الشرق يوم تجهمت لحواريي المسيح، وتنكرت لخلائف محمد، وبنت الأخلاق على قواعد الاقتصاد، والديمقراطية على استبداد الأحزاب، والسلام على طغيان القادة. فكان من ذلك فجيعتها الأليمة في سلامها ونظامها وخلقها، لأن مطامع الاقتصاد لا يقوم عليها خلق، ونوازع الأفراد لا يثبت بها نظام، ونوازي القواد لا يدوم عليها عهد؛ حتى عصبة الأمم التي جمعت فيها أوربا ما بقي لديها من هدى الأنبياء وحكمة الفلاسفة، دفن أشلاءها هتلر في النمسا، بعدما قطع أوصالها الدتشي في الحبشة!! فحال أوربا اليوم كحال الضواري الأوابد، تتباعد بالأثرة، وتتدانى بالخديعة، وتتدافع بالقوة؛ ثم أعوزتها الأنياب والأظفار فجعلت مصانع التجار مسالح، وصهرت أجور العمال أسلحة. وأخذ الساسة والطغاة يتجاوبون بالزئير فوق المنابر، فملئوا الصدور بالرعب، وزعزعوا البيوت بالقلق، وسمموا الحياة بالهم، ونزعوا من قلوب الناس طمأنينة العيش وحرية التصرف ولذة التملك، فانقلبوا عبيداً مسخرين لهذه النظم الطاغية، لا يجدون سلاماً في الأرض، ولا يعتقدون نعيما في السماء!
أخطر ببالك أمم التمدن الحديث، فهل تجد غير صولة تناهض صولة، ودولة تبلع دولة، وأنظمة عراها تغير الإنسان فهي تحتظر، وأخرى هدي إليها الضلال فهي تنتظر؛ والشعوب بين أنصار هذه وأنصار تلك مواد تهلك في التجارب، وأموال تنفق في الأهبة،(246/1)
وأرواح تزهق في الصراع، وآمال تذهب مع الريح؟
دع هذا العالم المجهود البائس وجل جولة بالفكر في بلاد العالم الإسلامي، فهل تجد إلا السلام في المجتمع، والوئام في الأسرة، والسكينة في النفس، والرضا في العيش، والثقة في الحاكم، والأمل في الله؟ ذلك هو الفرق بين نظام يضعه الخالق ونظام يضعه المخلوق. وذلك هو الفرق بين مجتمع يعيش بالروح، ومجتمع يعيش بالآلة. وذلك هو المفهوم من دين سماه الله الإسلام، وجعل تحية أهله (السلام)، وقرن فيه الصلاة دائما بالسلام، وعرف أهله بأنهم (الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)
ذلك هو معنى الإسلام وذلك هو مبدأه. وتستطيع أنت بأيسر الفهم أن ترجع الإسلام وفروعه إلى تحقيق هذا المعنى وتطبيق ذلك المبدأ؛ فالصوم والصلاة سلام الفرد. والحج والزكاة سلام المجتمع؛ والسنن والأنظمة والآداب التي انشعبت من هذه الأصول دستور ثابت خالد يحقق لهذا الإنسان، طريد العدوان وعبد الطغيان، أحاديث أحلامه، وهواجس أمانيه، من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأنه دستور لم يوحه الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاه الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاماً بنظام، وينقذ إنساناً بإنسان
إن الإسلام بشريعته السمحة، وسياسته الحكيمة، قد أزال الفروق، وعدل المقاييس، وألف القلوب بالبر، وشفى الصدور بالتعاون، فلا يمكن أن يعيش في ظله نظام هادم ولا نحلة مفرقة. افتحوا ثغوره للنظم الحمراء التي تشيع الفزع هنا، وتثير الحرب هناك، فسترونها تفد جارفة وفود النسور الخاطفة، ثم لا تلبث أن تقع من دون ذراه المنيعة، مهيضة الجناح، ناسلة الريش، لا تقوى على زفيف ولا حفيف! وفي تركية الدليل الحاسم، فإن بينها وبين الشيوعية جواراً وصداقة وعلاقة؛ ومع ذلك لم تستطع الشيوعية - على فجورها وجرأتها - أن تقتحم على الإسلام غِيله.
إن في الإسلام من ديمقراطيته واشتراكيته وأخوته مناعة على كل شر، ومثابة لك جنس، ومودة لكل دين. فانتصاره انتصار للعقل، وانتشاره انتشار للعدل، وسيادته سيادة للسلام!
أحمد حسن الزيات(246/2)
عبرة الهجرة
للإمام المسلمين الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر
يذكرنا كر الغداة ومر العشيّ وما فيهما من نُعمى وبؤسى، وشدة ورخاء، وإقبال وإدبار - تقلب الأحوال وتبدلها في هذه الحياة. ويذكر كل أحد من الخلق بطي صحيفة من صحف الأجل، وبالخاتمة التي لا معدى عنها، وفي ذلك عبرة. (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)
ويذكرنا العام الهجري خاصة بأكبر حادث في تاريخ الإسلام له أجمل الأثر في انتصاره، وفيه أكمل عبرة:
شريف من أشراف قومه، وقومه من أشرف الأقوام؛ ورجل قوي الخلق، حلو الشمائل، فصيح اللسان، قوي البنيان، كامل الإنسانية، مهذب الطبع، رضي النفس، شجاع مؤيد بالوحي الإلهي وبقوة الحق - ينبو به وطنه ومكان مولده، فيهجر أرضاً حلت فيها تمائمه، ويفارق دياراً عرفها وعرفته، ومشاهد حلت لنفسه واتصلت بها، وأهلا وإخواناً أعزاء
رجل هذه صفاته، وتلك مكانته، يضيق لها صدر القوم، ويتنكر له الناس، ويكيدون له حتى يخرجوه! رجل هذه صفاته، يفارق دياره وأهله؛ ولو لم يكن صاحب دعوة إلى الحق والى غير ما ألفه الناس وأخذوه عن الآباء والأجداد، لكن المحبب إلى النفوس، والمرموق بالأبصار، والمفدى بالأهل والولد. لكن الحق أزعج الباطل فلم يطق صبراً، ودفع أهله إلى قتله أو إخراجه؛ (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)؛ وغطى على القلوب فأفسد على العقل ملكة التقدير (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين)
هذا موضع العبرة
وليس من غرضنا أن نلم بتاريخ الهجرة وما لابسها، فذلك معروف في السير، كذلك ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أصاب صحبه المتقين من جهد البلاء، وجهل الجهلاء،(246/4)
وكيد الكائدين، لا يغيب أكثره عن أكثر المسلمين
الأجسام الإنسانية معرضة للأمراض كسائر الكائنات الحية؛ وقد تعطل الأمراض وظائف الأعضاء أو تضعضعها. ومن الأمراض ما هو خاص ببعض البلاد أو بعض البيئات. وحال النفوس الإنسانية لا يختلف عن الجسوم: تصاب بالجهل، وبالعناد، وبالغرور، وبالحرص على لذات الدنيا من مال وثراء وجاه وعزة، وبالحقد على أصحاب النعم موروثة ومكتسبة، وبحب الانتقام والإسراف فيه، وبحب ما هو موروث عن الآباء والأجداد من مال وعقار وصفات وخلال وعقائد وتقاليد
مثل هذه النفوس المريضة لا يسهل تحولها من الشر إلى الخير، ولا يسهل قبولها الحق وهي بحاجة إلى داع قوي بصبره، قوي بحجته، فيه من المناعة الخلقية ما يقوى به على احتمال الأذى والمكروه في نفسه وذويه، وعلى احتمال ما يرمي به مما يستفز الحليم، ويستنفد صبر الكريم، ويعجب له الرجل العادي، وبعده ضعيف الطبع شذوذاً وخروجاً عن المألوف. تجمعت هذه الأمراض في قريش فاستعصى العلاج وتحير الحق، ولم يكن أمامه إلا أن يخلد إلى الذلة والاستكانة، أو يفر بنفسه من عنت الباطل إلى أن يجد السبيل ويعد العدة لمنازلته؛ فليست هذه البيئة مما ينفذ إليها ضياء الحق بالدليل والحجة، بل هي في حاجة إلى السيف يضرب الرقاب ويفلق الهام، والى أسنة الرماح تصل إلى القلوب فتشعرها بوجوب التنبه والإصغاء إلى صوت الحق. تلك أسباب الهجرة. وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة الموبوءة خوف أن يختنق الحق في مهده، ورجاء أن يجد له متنفساً في أرض حرة تحضنه، وأن يجد له قوة تعينه، حتى يحين الأجل المضروب، ولكل أجل كتاب
هاجر وتم له ما أراد، إذ فتح الله له فتحاً مبينا وأعز دينه وأعلى كلمته ونصر جنده، ودانت له تلك القبائل التي ناصبته العداء، ولم يرض إلا بعد أن رضي الحق وانتصر، وبعد أن انتصر غفر. فهو خادم الحق وأمينه، وناصره ومعينه، لا يرى أن نفسه له، ولا أن أهله له، ولا أن شيئاً في الحياة له، بل كل شيء عنده وفي مقدوره للحق وفي سبيل الحق. ولم يكن السيف في يده إلا مشرط الجراح يبتر به ما فسد من الأعضاء، ولم تكن الأسنة إلا الإبر التي يبزل بها الطبيب مكان الداء ليخرج أذاه. وليس بدعاً من الحوادث حادث الهجرة(246/5)
وما لابسه إذا عرض على مقاييس العقول واعتبر الناس بسنن الاجتماع وهديه. ولا تزال هذه السنن مستمرة في هذه الحياة؛ ولا زالت تعمل عملها وتحدث أثرها. والعاقل من يعتبر. (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم على هذه السنن، وامتاز بأكمل ما امتاز به الأنبياء وكبار الدعاة إلى الحق من اليقظة والحكمة، وتخير الأوقات والأمكنة، واختيار الأصحاب والأنصار. ولم ير الاكتفاء بالحجة والبرهان في مواضع لا تنفع فيها الحجة ولا يقنع البرهان، بل أعمل الحيلة وأدار الرأي وطلب القوة في مظانها. لذلك كانت الهجرة، وبذلك أدرك ما أراد. فظهر الإسلام وبسط ظله على أمم قوية كثيرة العدد والعُدد، وحول أولئك الأميين إلى أئمة هدى وولاة عدل وفقهاء نفس وساسة يفخر التاريخ بهم، وعلماء تروى آثارهم ويتحدث الناس بطيب أخبارهم، وأساة للإنسانية وجروحها تتفجر منهم ينابيع الرحمة ويضعون نظم الإصلاح وقواعد الاجتماع. رفعوا قدر العلم بعد أن أنكروه، وجعلوا العقل هادياً ومرشداً، والقرآن إماماً. لم يخونوا أمانات الله ورسوله فأحياهم الله حياة طيبة، وأعد لهم مكان صدق عند مليك مقتدر
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون)
محمد مصطفى المراغي(246/6)
البحث عن غدٍ
للأستاذ عباس محمود العقاد
الغربيون اليوم معنيون بالبحث في مسائل الشرق من جوانبه كافة. . من جانب السياسة، لأن نهضة شعوبه تضطرهم إلى حسبان حسابه والعدول عن خطة استغلاله والسيطرة عليه؛ ومن جانب الدين، لأنهم حائرون في شئونهم الروحية يلتمسون الهداية من مهبط الأديان، أو يقابلون بين سلطان الدين عليه وسلطان الآراء الحديثة عليهم؛ ومن جانب التجارة، لأن العلاقات التجارية بين الدول الكبرى لا تستغني عن أسواق الشرق ومنابع الثروة فيه؛ ومن جانب السياحة والرحلة واستكشاف مواقع التاريخ القديم، وكل جانب تتحول إليه عناية الباحثين في مسألة عامة
ومن الباحثين الصحفيين المشغوفين بالمسائل الروحية (روم لاندو) صاحب كتاب (الله محجة مغامراتي)، وصاحب هذا الكتاب الذي عنوانه (البحث عن غد)، وموضوعه استطلاع أحوال الشرق القريب من جانب الدين والنهضة النفسية إن صح أن نطلق عليها هذا الاسم تمييزاً لها من النهضة العلمية البحت والنهضة الصناعية الاجتماعية التي تقابل نظيرتها في الأقطار الغربية
حضر إلى مصر وتحدث فيها إلى رجالات الفكر والسياسة ولخص هذه الأحاديث في كتابه، وسنعرض لها جميعاً، ونبدأ بنقل حديثه مع رئيسي الجامعتين الأزهرية والمصرية، حيث قال بعد تمهيد طويل للحديث مع صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغي وقد زاره في بيته بحلوان:
(سألني: هل تبحث عن المسائل الدينية أو مسائل ما وراء الطبيعة؟ ولما كان الفارق بين هذه وتلك ليس بالفارق العظيم في نظري أجبته بشيء من الروغان: كلاهما؛ إلا أنني أشد عناية بما وراء الطبيعة
فقال الشيخ العلامة: قليلة المحصول، قليلة المحصول جداً
وكانت لهذه الكلمة دلالتها، لأنها تشير إلى طبيعة الإسلام العملية كما تمثلت في أكبر رعاته بين المصريين
ومع علمي بعض العلم بأساليب المناقشة الشرقية لاحظت على الأستاذ المراغي أنه يتنحى(246/7)
عن الجواب في كثير من الأحيان، وأن أسلوبه أسلوب رجال السياسة؛ وناهيك بهم إذ يكونون شرقيين مع ذلك، وعلى خبرة بالمواقف المعضلة، وحرص من التورط في التصريح، فهو في البيئة الغالبة على فقهاء الإسلام لا مراء
وعدت أقول: لقد سمعت أن الشبان عندكم يجنحون إلى نزعات (التفكير الحر) ويحاولون أن يزيدوا القرابة بين الدين والعلم. فهل صحيح ما سمعت؟
فقال الشيخ: (لا أظن الشبان المصريين أقل تديناً اليوم من أمس؛ إذ ليس في القرآن ما يعارض الحقائق العلمية، ولا تناقض بينهما في شيء
وأردت أن أخوض فيما أصرح وأجرأ مما تقدم فسألت: ألا ترى أن العنصر الروحي - أو الغيبي المتصل بما وراء الطبيعة - هو أهم العناصر في الديانات؟
قال الشيخ في سكينة ولطف: من ذا الذي يعلم كنه الله وكنه الروح؟ إن بعض أساتذتنا يتحدثون عن المادة كأنها حقيقة، وبعضهم يتحدثون عنها كأنها وهم أو فرض مفروض؛ وليس من يعلم الصواب علم اليقين، فإن القرآن لا يفصل بين القولين، ولكنه يحكم حكمه في أمور شتى كأمور الزواج والمواريث والمعاملات
فسألته: وماذا تقولون في قبول العلماء لنظرية قدم المادة؟
ولا ريب أن الأستاذ المراغي لم يكن يتوقع قط أنني علمت شيئاً عن هذه القضية، إلا أنه لم يظهر الدهشة، ولم يبد عليه إلا قليل من مفارقة السكينة التي لزمته حتى الساعة كأنها قناع لإخفاء ما وراءها من قلة الاكتراث. فقد انبعثت الحياة من خلالها وقال:
(إنك لم تقع على الخبر الصحيح في هذه القضية، فليس هناك إلا أن عالماً كتب رسالته في علم الأصول ليعبر فيها عن رأيه وما انتهى إليه اجتهاده)
فبادرت قائلاً: ألم يكن صاحب الفضيلة وأعوانه من العلماء مرجع الامتحان في هذه القضية؟
فابتسم الشيخ المراغي وهو يقول: (إن رأياً كهذا قد كان يحسب من الزندقة قبل خمسين سنة، وما كان أحد ليجسر على تقديمه في جامعة إسلامية. فما أعظم التغير في أطوار الزمان! نحن اليوم أدنى إلى الحرية والسماحة)
واستطرد الكاتب إلى أسئلة وأجوبة من هذا القبيل، انتهى منها إلى المذاهب الاجتماعية(246/8)
والشطط في الدعوات الفكرية، وسجل رأي الشيخ الأكبر أن الوقاية من جميع ذلك إنما هي الدين وتعليم الإسلام على أصوله
أما حديثه مع صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا فقد مهد له بوصف الأستاذ وملابسه الإفرنجية الأنيقة ومعيشته العصرية، ثم استهله بهذا السؤال:
(ما هي أكبر رسالة ثقافية قامت مصر بأدائها في رأيكم خلال القرون الأربعة التي خضعت فيها للحكومة التركية؟)
فأجاب وأصابعه النحيلة تعبث بحبات المسبحة العاجية: (إنما هي عمل الجامع الأزهر في جميع الكتب الفقهية)
فقلت: ألا ترون أن حصر رسالة ثقافية تؤديها الأمة في عمل واحد لا يتجاوز جمع الموضوعات الفقهية خليق أن يشير إلى شيء من ضيق النطاق؟
فرفع لطفي باشا حاجبيه هنيهة واضطرني بذلك أن أعقب على ما أسلفت مستدركا:
(إن كثيراً من الغربيين يزعمون أن تفكير العرب (تجريدي). . . فإذا كانت العبقرية القومية لا تخرج في مدى القرون الأربعة ثمرات ثقافية غير الفقه والشريعة فهذا الزعم ليس بالمخالف كل المخالفة للإنصاف فيما يلوح لأول نظرة)
فسألني: ماذا تعني بالتفكير التجريدي؟
قلت: إن التفكير الإنجليزي مثلاً واقعي مجار للحوادث، لأنه يتناول كل حادثة كما تعرض في حينها، وهو من ثم نقيض الفروض النظرية والمباحث الجدلية. أما تفكير العرب فهو رهن بالقواعد المرسومة والنظريات المعلومة؛ ويلوح عليه أنه شبيه بهندسة البناء العربية، لا يحتوي صورة من صور الحياة الماثلة في بنية الإنسان وملامح وجهه، وكل ما فيه هندسة وتناسق خطوط. . .)
قال لطفي باشا وهو يشفع كلامه بابتسامة معتذرة:
(آسف لأنني لا أستطيع مجاراتك في حكمك. فالذي يبدو لي أن الفكر العربي أشد إيغالاً في الواقعيات من الفكر الأوربي. وهذه شريعتنا الدينية التي استشهدت بها على نزعته التجريدية تتناول شؤون الحياة اليومية ولا تقتصر على مسائل اللاهوت والأخلاق كما هو الحال في الشريعة المسيحية؛ وهي تفيض بالوصايا في أمور المعيشة والزواج والميراث(246/9)
وما شاكل ذلك. وأحسب أننا أقرب إلى معرفة الحقيقة حين ندرس (مخيلة) الأمة كما تتمثل في ديانتها. فكيف ترى (المخيلة المسيحية) نتصور السماء والفردوس؟ إن سماء المسيحيين هي نعيم غير ذي أشكال، أو هي شيء لا يسعك أن تراه ولا تقع عليه العيون، بل شيء لا يسعك أن تحيط به في الخيال. أما المسلمون فكيف تراهم يتخيلون السماء؟ إنها دار حقيقة فيها اللبن والعسل والعسجد، وفيها الأزهار والأشجار والحور العين، وهي كلها حقائق ومشاهدات. . . أفليس هناك معنى ملحوظ لاتفاق المخيلة الدينية بين المسيحيين والمسلمين في (ميدان سلبي) حين يتكلمون عن الجحيم؟ ففي هذا الميدان ترسم المسيحية نفسها صورة مشهودة هي صورة النيران والنفط الغالي وعذاب الأجساد
قال الكاتب: فأحجمت عن الجهر بملاحظة سنحت لي تلك اللحظة، وفحواها أن المبالغة في تمثيل الخيال تقترن عادة بالقصور في ملكة البناء والإنشاء الواقعية، وآثرت أن أسأل:
ألا تزال الديانة قوة فعالة في الحياة المصرية؟
فأجابني الباشا: (فعالة على الأرجح في عالم الإسلام أعظم من فعلها في عالم المسيحية، لأن شرائعنا كلها قائمة على القرآن؛ ومن العسير في البلاد الإسلامية أن تفصل بين الدين والحياة اليومية)
قلت: على أنني قد أخبرت أن الشبان المصريين يهجرون عقائد آبائهم جنوحاً منهم إلى البدع الغربية
قال: أعجب لو صح ذلك. . . فلعلهم لا يغشون المساجد ولا يشهدون صلوات الجمع، ولكنهم على الجملة متدينون، وربما كان منهم أناس من الدارسين للفلاسفة الغربيين قد ألحدوا في الدين إلا أنهم شذوذ قليل
فسألته: أيعنى المصريون عناية ما بما وراء الطبيعة أو بالأسرار الخفية والسبحات الصوفية؟
قال: (ذلك نادر في (فلسفتنا الحاضرة). غير أن فلسفتنا وأدبنا لا يزالان في مفتتح الحياة؛ وينبغي ألا تنسى أن أربعة قرون من الحكم التركي قد عطلت ثقافتنا وتركتنا نحاول من جديد
فانتقلت إلى حديث الجامعة العربية وسألته: (وهل بعد انقضاء السيادة التركية أو السيادة(246/10)
الإنجليزية يهتم المصريون بالجامعة العربية؟
فرد الباشا جازماً: أما سياسياً فلا، لأن الفوارق بين الشعوب العربية المختلفة جد كبيرة؛ أما من الوجهة الثقافية فهي ممكنة، وهي على ازدياد في جوانب الشرق الأدنى؛ ولكنها ليست بالسياسة، لأن الجامعة العربية من حيث هي نزعة سياسية اختراع نَجَم في الصحافة الإنجليزية على ما أذكر، ولا يحصرني اسم صاحبه وإن كنت أرجح أنه مراسل للتيمس كان يراسلها من النمسا قبل أربعين سنة
وتنقل الحديث في بعض الموضوعات الشرقية ثم سأل الكاتب: ما ظنك في حقيقة ما يقال من أن الوطنية المصرية توصد ما بين المصريين وسائر العالم، وتجتهد في إبدال كل مصري بكل أجنبي؟ أتؤمن بإمكان هذه العزلة؟
قال الباشا: الحق أنني لا أومن بذلك؛ ولعل محدثيك قد أخطئوا التقدير، فإن الوطنية عندنا لا تجور على الثقافة. ونحن إذا اكتفينا بمن هم عندنا من الأساتذة الأجانب فسبب ذلك قلة المال. إن الأستاذ الإنجليزي يكلفنا من ثمانمائة إلى تسعمائة جنيه في العام، وليس ذلك بالميسور لنا إلا فيما ندر
وانتهى الحديث بعد تعقيب موجز في هذا الموضوع، وسنعود إلى سائر الأحاديث وإلى التعقيب عليها في مقال تال
عباس محمود العقاد(246/11)
من ذكريات الماضي
خطرات الشك في صدور الشباب
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق بك
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
قضيت صدر النهار في خمول من أثر البرد الذي نالني وكدت آوي إلى مضجعي مريضاً، ولكنني طاردت الضعف وتكلفت القوة واشتغلت ساعة مع زميل لي فرنسي، ثم اشتغلت من بعده وحدي.
وزارني بعد الظهر ثلاثة من أصدقائي المصريين فقطعنا زمناً في الحديث والسمر، وذهب عني شيء من الفتور فنهضت للخروج معهم. على أن الطقس كان ذا رطوبة وإن لم يكن كثير البرودة. وانصرف اثنان منهم وبقي ثالثهم معي فقال: إني سأحدثك بأمر عقيدتي لتعلم موطن القوة والضعف منها. أما الإيمان بالله فقد وصل عندي إلى حد الإذعان الذي لا تزلزله ريبة؛ وأما الرسل فما أراهم إلا رجالاً من صفوة أممهم وُهبوا أنفساً كبيرة، وعقولاً راجحة، فعملوا على إسعاد الناس وتقريبهم من الخير، ووضعوا لذلك قوانين هُدوا إليها كما يهتدي الحكماء إلى وضع قواعد لإصلاح المجتمع الإنساني أو إلى كشف ما خفي عن غيرهم من أسرار الكون
ولما رسخ في يقينهم أن ما وصلت عقولهم الصافية إليه هو الحق، قالوا إنه من الله وسموه وحياً؛ وكأنما قولهم هذا من باب ثقة العالم بعلمه، ولكنه لا يجعل آراءهم وما جاءوا به بنجوة من تمحيص العقول، ولا يمنحهم من الثقة فوق ما يكون لإخوانهم الحكماء المصلحين في كل زمان
سمعت قوله كله بإصغاء تام ولم أقطع عليه الطريق في حديثه ولا أظهرت له إنكارا، ولم ييئسني عدوله عما أعتقده الحق من عدوله إليه، ذلك بأنه يتكلم بروية، ويعبر عما في نفسه، ويدلي بالحجة القائمة عنده؛ ومن كان هكذا عظم الرجاء في عرفانه للحق إذا سطع له برهانه
أخذت أولاً في اختبار إيمانه بالله لأذهب به من طريق الترتيب الطبيعي فوجدته لا يخالف(246/12)
في شيء مما أثبتته الأديان لله وجعل أساساً للإيمان، ثم انتقلت به إلى أمر الآخرة فقال إنه في شك منها ولم يعطها حظها من النظر. فقلت له إن الإيمان بالحياة الثانية ينبغي أن يكون موضع بحثك قبل أن تصل إلى الرسالة؛ وبسطت له ما تهدي إليه الفطرة ويدركه بادئ النظر من وجود دار جزاء ينال فيها المحسن ثواب إحسانه، ويُسأل فيها المسيء عن إساءته. ومن أيقن بأن الله حكيم لزمه بالبداهة أن يقر بأن الناس لم يخلقوا سدى - أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون - عند ذلك قال إنه لابد لي من فضل تفكير في هذا. وهبني أذعنت له فماذا تقول في المرسلين؟ فقلت له ما عندي من أدلة الحاجة إلى الرسالة التي ينبغي أن تكون من عند الله، لأن كثيراً من تعاليم الرسل لا يستقل العقل البشري بها. وقد جاء كل رسول ببينة تؤيد دعواه أنه مرسل من عند الله. وإليك معجزة محمد عليه الصلاة والسلام وهي القرآن الكريم، فهل ترى أن بشراً يقدر على مثله؟ ونازعني في ما سقته إليه من الأدلة ونازعته، حتى سكت فسكت عنه، وتركته إلى نفسه يعرض عليها أدلة المخالف ويراجع أدلتها هي. وأرجو أن أعود إليه مرة أخرى فيكون الحق قد مهد لنفسه سبيلاً إلى قلبه. وإني وإياه لطلاب هدى.
ولوددت أن يبادر شبابنا بطلب اليقين إذا تلجلج الشك في صدورهم، فإن ذلك أحرى بأن يقتلع الشبه قبل رسوخها. وفلان. . . أمثلهم في هذا وإن كان يغلبه الشباب حيناً على الغضب لرأيه إذا شاء مجادله أن يظهر بالغلبة عليه)
هذه صورة من صور الحوار الذي كان يجري أحياناً بين شبابنا طلاب العلم في أوربا في صدر هذا القرن عندما كانت تتسرب إلى نفوسهم الغضة نزعات الشك في العقائد، وكانت نزعات الشك في العقائد يومئذ تشتعل في أوربا اشتعالا
وقد يكون في نشر هذه الصورة عبرة لشباب اليوم
ولسنا ندري كيف يفعل شباب اليوم حين تتسرب نزعات الشك إلى عقائدهم
مصطفى عبد الرازق(246/13)
سِرُ العَظَمة
للأستاذ توفيق الحكيم
ينبغي لمن أراد أن يدرك سر عظمة النبي أن يتخيل رجلاً وحيداً فقيراً تمكنت من قلبه عقيدة فنظر حوله فإذا الناس كلهم في جانب، وإذا هو بمفرده في جانب. هو وحده الذي يدين بدين جديد، بينما الدنيا كلها: أهله وعشيرته، وبلده وأمته، والفرس والروم والهند والصين وكل شعوب الأرض لا يرون ما يرى، ولا يشعرون له بوجود. هذا موقف النبي، وهذا موقف العالم: رجل عاطل من كل قوة وسلاح، إلا مضاء العزيمة وصلابة الإيمان، أمام عالم تدعمه قوة العدد والعدة، وتؤازره حرارة عقيدة قديمة شب عليها وورثها عن أسلافه، واتخذت لها في قرارة نفسه وأعماق تاريخه جذوراً ليس من السهل اقتلاعها على أول قادم. فالنبي هو ذلك القادم الذي يريد أن يقتلع تلك الجذور ويضع مكانها غرساً جديداً. والعالم القديم هو ذلك السادن القوي لتلك الشجرة العتيدة، يذود عنها وتأبى كرامته أن يفرط في ورقة منها. إنها إذن (مبارزة) بين فرد أعزل، وبين عصر بأسره يزمجر غضباً: عصر زاخر بأسلحته ورجاله، وعقائده وفقهائه، وعلمائه ومشاهيره، وتقاليده وماضيه، ومجده وتاريخه. . . هذه المبارزة الهائلة العجيبة من يستطيع أن يقدم عليها غير النبي. . . على أن المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي ورمي (القفاز) وارتفاع ذلك الصوت الضعيف على شاطئ ذلك البحر الطامي العجاج: (أن اترك أيها العالم دينك القديم واتبعني). ذلك الصوت الذي لا جواب عليه إلا سخرية طويلة وقهقهة عريضة. . . وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وإبراء الأعمى، إنما المعجزة حقيقة هي أن يخرج مثل هذا الرجل الوحيد الأعزل من هذه المعركة المخيفة ظافراً منتصراً؛ فإذا هذا العالم العتيد كله يجثو عند قدميه منكس الأسلحة، وقد انقلبت سخريته خشوعاً طويلاً، وقهقهته صلاة عميقة كيف ربح هذا الرجل الموقعة؟ ما وسائله؟ هل كانت له خطط وأساليب وقوة من شخصه مكنته من النصر؟ أو أن الله هو الذي نصره دون أن يكون لشخصية النبي دخل في الانتصار؟ عقيدتي دائماً أن شخصية النبي لها أثر كبير
وهنا معنى الاصطفاء، فالله يختار من بين البشر عظيماً له كاهل يحتمل عبء الرسالة، ويوحي إليه بالعقيدة ثم يتركه يجاهد في سبيلها. فالنبي ليس آلة تحركها يد الله في كل(246/14)
خطوة؛ إنما هو رسول عهد إليه تبليغ دين والعمل على إذاعته بين الناس بالوسائل التي يراها الرسول كفيلة ببلوغ الغاية. فالله لا يريد نشر الأديان بين البشر إلا بالوسائل البشرية. فهو لا يتدخل بقدرته العلوية فيفرض الدين فرضاً على الناس كما تفرض عليهم الزوابع والأمطار؛ ولكنه يحب دائماً أن يخلي بين (الدين) وبين (الناس) حتى يتغلغل الدين من تلقاء نفسه في نفوسهم بجمال نوره وحده؛ ولكن أعين الناس لا ترى في كل الأحيان؛ فهم يعيشون في أعماق ماضيهم كالأسماك العمياء في أغوار المحيطات. هنا تبدأ متاعب النبي؛ وهنا تبدو عظمته؛ وهنا تظهر المعجزة الحقيقية وهي إبراء الأعمى، لا أعمى واحد ولكن ملايين العميان. فهو الذي يفتح أبصارهم على نور طالما جحدوا وجوده: نور الدين الجديد الذي أتى به. وهنا ينبغي التساؤل: كيف استطاع النبي أن يُري الناس ما يَرى، وأن يقنعهم بما جاء به؟. الجواب بسيط: حياة النبي وخلقه. إن الناس لا تقتنع بالكلام وحده. إنما يؤثر فيها الفعل والمثل. إن الناس يوم أيقنوا أن محمداً لا يسعى إلى غنى ولا إلى مُلك؛ وأنه يريد أن يبقى فقيراً يشبع يوماً ويجوع أياماً، وأن كل تلك المخاطر التي يتعرض لها في كل خطوة، وأن كل ذلك الهوان الذي يناله من سفهاء القوم وأكابرهم. . . وأن كل ذلك الجهاد الذي ملأ به حياته بأكملها إنما هو في سبيل (العقيدة) التي يقول لهم عنها؛ منذ ذلك اليوم الذي اجتمع فيه كبراء أمته وعرضوا عليه ثروتهم ووعدوه أن ينصبوه عليهم ملكاً على شرط أن يتركهم على دين آبائهم، فرفض المال والمجد والسلطان، وأبى إلا شيئاً واحداً صغيراً: (أن يؤمنوا معه بفكرته)؛ عند ذاك أدرك أولئك القوم جميعاً أن الأمر جد لا هزل؛ وأنهم أمام رجل لا ككل الرجال؛ وأن الآدمي الذي لا يغريه في الحياة شيء، ولا يعيش إلا من أجل فكرة، لابد أن يكون قد أبصر في هذه الفكرة جمالاً لم يبصروه هم. (فكرة) لا تقوَّم بمتاع من أمتعة هذه الدنيا الرخيصة، و (جمال) يضحي في سبيله خير ما في الحياة. أمام هذا الرجل أخذ الناس يفكرون ملياً. وثبت لمن كان قد ارتاب في أمره أن مثله لا يمكن على الأقل أن يكون أفاقاً يعمل لمغنم. إنما هو رجل صادق مخلص، لا مطمع له من تلك المطامع التي يسعى إليها الناس في هذه الدار. عند ذاك بدأ كثير من الناس يجلسون إليه ويصغون إلى كلامه. . . فوسيلة النبي الأولى وخطوته التي نزل بها الميدان هي إقناع هذا الخضم الصاخب من الخلق أنه مجرد عن الغايات الدنيوية. وهنا كانت قوته؛(246/15)
فإن أمضى سلاح في يد رجل يريد أن يقارع البشر، هو أن يواجه البشر بيد خالية من أغراض البشر
ولكن هذا لا يكفي. فالناس قد تقتنع بأمانة النبي، وقد تستمع إلى ما يقول، ولكنها لا تستطيع أن تنبذ في يوم وليلة كل ماضيها لتؤمن بهذا الكلام الجديد. إن صدر الجماهير كصدر المحيط العميق ذي الماء الكثيف، يدفع إلى سطحه كل جسم غريب، ولا ينفذ إلى أعماقه إلا شيء ذو وزن، بعد زمن وجهد. وإن الناس لشديدة الحرص على ما تسميه كنوز تراثها وتقاليدها. فما أدراهم أن هذا الكلام الجميل الذي جاء به هذا النبي ذو الحديث الطلي ليس إلا بضاعة زائفة ووهماً خلاباً لعب بلب هذا الرجل؟ ولم لا يكون هذا الرجل الأمين المسكين فريسة مرض ومس؟ ما هو الأجدر بهم عندئذ؟ يطلبون له الطب حتى يبرأ، أو يلقون بكنوزهم ويتبعون حلمه ومسه. لقد وضعت المسألة إذن وضعاً آخر، واتخذت الحرب ميداناً جديداً. ماذا يصنع النبي؟ لابد له من أن يبدد ضباب الشك المخيم على الأذهان حتى يصل إليها نور الدين. هنا صفتان لازمتان: الصبر والمثابرة، فإن العاقبة في الحرب لمن صبر وثابر. وإن أمامه لخصماً جديداً، هو الشك الذي يقوم الآن في رؤوس الناس. فإن كان حقيقة رجلاً عظيماً فليقتل هذا الشك بمفرده. وما هو بشك رجل واحد، إنما هو شك أمة طامية. ولقد جاهد الرسول فعلاً في كل لحظة من لحظات حياته، إلى أن استطاع ذات يوم أن ينقل العقيدة التي في قلبه حارة قوية إلى قلوب الناس جميعاً. وهنا كان النصر الأخير، وتمت المعجزة. وتمكن هذا الرجل الواحد من أن يضع العالم في قبضته، ويخضعه لفكرته، ويطبعه إلى أبد الآبدين بخاتمه، ويدخل إلى صدره أشعة نور جديد.
توفيق الحكيم(246/16)
رعاية الطفولة في الإسلام
للمربية الفاضلة الأستاذة
أسماء فهمي
درج أكثر الناس في قياس مجد الأمم وحضارتها بمقاييس شتى أهمها النبوغ في الفنون والعلوم، أو ارتقاء النظم والقوانين، أو التفوق الحربي ووفرة الغنى واتساع الملك
وقلما جعلوا رقي الأمة الوجداني وتغلغل مبادئ الرحمة والإحسان فيها من أول مقاييس الرقي الهامة. ومادامت هذه الناحية لا تلقى من الدراسة والعناية ما يرجح كفتها، ويرفع قيمتها، لتكون الحجر الأساسي في بناء الحضارة، فسيظل العالم ولاشك بعيداً عن روح السلام والوئام
ولقد كان للحضارة الإسلامية أوفر الحظ من مبادئ العطف والإنسانية التي تجلت في نواح عدة من الحياة، فظهرت مثلاً في معاملة المسلمين لسكان البلاد التي خضعت لسلطانهم مما أنساهم عدة أجيال مذلة الفتح، كما ظهرت في معاملة الرقيق والمرأة، وتجلت في الرعاية العظيمة التي كان يعامل بها الأطفال. على أن تلك الناحية الخطيرة التي يجب أن تعتبر بحق المقياس الأول للرقي، لم تنل كل ما تستحقه من الاهتمام، فلم تأخذ مكانة المقاييس الأخرى بعد. وعلى ذلك فليس أنسب من أن ننتهز فرصة حلول العام الهجري الجديد لندرس ناحية من نواحي الرقي الوجداني عند المسلمين في العصور الماضية، فنتعرف اهتمامهم بشئون الأطفال، وتربيتهم للنشء، لنسبر غور مبادئ الرحمة فيهم
لم يكن الاهتمام بشئون الأطفال مقصوراً على الدين الذي حرم قتل الأبناء خشية الإملاق، وصان حقوق اليتامى وأموالهم، ووضع القوانين للحصانة، وقيد سلطة الأب على أبنائه، ورفع مكانة الأمة إذا أنجبت ولداً لسيدها فأصبحت بسبب وليدها في مأمن من البيع والشراء؛ بل أن موضوع تربية الطفل ووجوب تعهده بالرفق والعناية لاقى أكبر الاهتمام من كتاب المسلمين ومفكريهم. وإن روح الرفق لتبدو واضحة قوية في كل ما كتبوا. والواقع أن الشاعر العربي الرقيق العاطفة لم يكن هو وحده الذي عبر بوضوح عن هذه النزعة الإنسانية إذ قال:
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض(246/17)
بل إن الفيلسوف والمربي عالجا الموضوع بنفس الروح. فلقد اهتم بهذه الناحية نفر من أشهر مفكري الإسلام مثل ابن سينا والغزالي والعبدري وابن خلدون. وسنشير إلى بعض آرائهم تسجيلاً لناحية من نواحي الرقي والوجداني الذي تمتاز به الحضارة الإسلامية عما سبقها من الحضارات كالحضارتين الإغريقية والرومانية
فابن سينا يجعل أساس التربية مراعاة ميول الأطفال واستعدادهم، حتى لا يرهق الأطفال بأعمال يصعب عليهم أداؤها لأنها لا تجري مع رغباتهم. وعلى ذلك فابن سينا يحترم الميول مهما كانت متواضعة. كذلك عالج هذا الفيلسوف مشاكل التأديب بطريقة يتجلى فيها الحزم الممزوج بالرفق، فرأى أن يجنب الصبي معايب الأخلاق بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، الإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ مرة أخرى، ما كان كافياً؛ فإن احتاج للاستعانة باليد لم يحجم عنها. وليكن أول الضرب قليلاً موجعاً كما أشار به الحكماء من قبل، بعد الإرهاب وبعد إعداد الشفعاء. وهكذا لا يجعل ابن سينا القسوة والضرب أول وسيلة للتأديب، بل هو لا يلجأ إلى الضرب إلا إذا فشلت الوسائل الأخرى ولقد حدد علماء المسلمين عدد الضربات التي توقع على الطفل بثلاث، كما عينوا المواضع التي يحدث فيها الضرب حتى لا يتعرض الطفل للأذى
والغزالي الذي يعتبر حجة الإسلام، والذي كان لآرائه أكبر الأثر في تفكير المسلمين في العصور التالية، يتكلم عن الطفولة بعطف ورقة لا حد لهما. فهو يصف الطفل بأنه (أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة. . .) ومن ثم يجب على ولي أمر الطفل أن يقوم بإرشاده بأمانة وإخلاص. وهو يوجب مراعاة شعور الطفل فيقول: (إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه)، كما يرى: (ألا يؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يتغافل عنه ولا يهتك سره، ولاسيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه)؛ كما ينصح للمربي: (أن ينظر في مرض المريض وفي حال سنه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته)
والعبدري الذي عاش بمصر في القرن الثامن للهجرة يحمل حملة شعواء في كتابه (مدخل الشرع الشريف) على مؤدبي عصره، وينعى على أولياء أمور الأطفال أنهم يقسون على الصبيان فيضربونهم بعصا اللوز اليابس وبالجريد. ويصر على أن يأخذ المعلم الأطفال(246/18)
بالرفق ما أمكن. ولكن إذا اضطر المربي إلى أن يضرب الصبي على تركه الصلاة متى ما بلغ السن التي تجيز ذلك، فلا بأس أن يضربه ضرباً غير مبرح، ولا يزيد على ثلاثة أصوات شيئاً إلا في حالات نادرة جداً. وهنا يحدد عدد الأصوات بعشرة، وهو الحد الأقصى. ولا ينسى العبدري أن يذكر المربي بتفاصيل عدة لا يخرج مرماها عن مراعاة المسلمين لشعور الأطفال. فهو ينصح المؤدب مثلاً ألا يسمح للتلاميذ أن يحضروا غداءهم إلى المكتب، أو يحملوا نقوداً لشراء ما يرغبون من الطعام، حتى لا يتألم الطفل الفقير الذي لا يمكنه مجاراة الموسرين في مظاهر يسرهم. وعلى ذلك فهو يفضل أن يرجع الأطفال أجمعون إلى منازلهم للغداء
ويرى العبدري أيضاً أن يلعب الأطفال لعباً جميلاً بعد انصرافهم من المكتب حتى تذهب عنهم آثار التعب والملل، وحتى يستأنفوا دروسهم بشوق واهتمام
ولقد عقد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، ولاسيما في أصاغر الولد. وذكر أن كل من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الخبث والكذب، وفسدت معاني الإنسانية فيه. . . وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف
كذلك لم تكن رعاية الأطفال مقصورة على المفكرين والمشتغلين بالتربية، بل قام المحسنون بإنشاء المعاهد الخيرية لتعليمهم وحمايتهم. وكثير من الكتب الإسلامية تفيض بذكر الكتاتيب التي بنيت لتعليم اليتامى والمساكين وإطعامهم وكسوتهم. ولقد ساهمت المرأة المسلمة بقسط وافر في هذا الميدان، إذ يذكر المقريزي في كتابه الخطط أسماء كثير من النساء اللاتي قمن ببناء الكتاتيب وحبسن عليها الأموال والأملاك لتعليم أبناء الفقراء كتاب الله. وكثيراً ما كان يبنى الكتاب بجانب المدرسة والبيمارستان مما سهل بطبيعة الحال حصول الأطفال على العلم والعلاج
وبلغ من عناية المسلمين بأمر الأطفال أن كلف رئيس الشرطة بتفقد أحوال الكتاتيب لمنع تعليم البنات الصغار أشعار الغرام والمجون مما قد يكون له أثر السيئ في أخلاقهن، ولحماية الأطفال مما قد يصيبهم من قسوة المعلمين. وهكذا لم تقف الدولة موقفاً سلبياً في(246/19)
أمر تربية الأطفال
من كل ما تقدم يتبين لنا مقدار تغلغل مبادئ العطف والإنسانية في ناحية من أهم نواحي الحياة الإسلامية. على أن تقديرنا لمبادئ هذه الرحمة المتجلية في الاهتمام بالأطفال لا يجعلنا نغض الطرف عن أن المسلمين لم يتخذوا الوسائل الكافية لحماية الطفولة ولسد حاجاتها في النواحي المختلفة، فلم يكن لديهم مثلاً قوانين تحمي الأطفال من مزاولة بعض الأعمال التي قد تعوق نموهم، وتحدد السن التي لا ينبغي تشغيل الأطفال قبل بلوغهم إياها؛ كما لم يحددوا سناً لبدء الزواج، فكانت الفتاة تتزوج في سن مبكرة، وترهق بواجبات الأمومة والزوجية وهي لم تزل بعد طفلة. كذلك لم تتوفر المنشآت الخيرية التي تكفي لسد حاجات الفقراء وذوي العاهات. على أن ذلك النقص في وسائل العلاج لا يقلل من قيمة مبادئ العطف والإنسانية التي بني عليها الإسلام، ولا تخفي روح الإحسان التي تفيض بها الحضارة الإسلامية، والتي ظهرت في ميدان الرفق بالأطفال
وإذا كان الغرض الأول من دراسة نواحي الحضارات الغابرة هو تفهم نواحي حياتنا الراهنة والوقوف على مقدار تقدمنا أو قصورنا، فأنا لا نتمالك أن نشعر بالخزي من أنفسنا عندما نستعرض أعمال السلف ونقارنها بمجهودنا الضئيل على رغم ما لدينا من وسائل وتجارب ومعرفة. وعلى الرغم من مرور كل هاتيك السنين لم نتقدم غير خطوات قليلة في ميدان الرفق بالأطفال. فثلاثة أرباع أطفالنا إما مصابون بداء الجهل والأمية وهو أصل كل شقاء، وإما جياع حفاة عراة تموج بهم الطرقات، وإما مرضى بأدواء شتى بسبب إهمالهم وحرمانهم حتى من ماء الشرب النقي. وأخشى كثيراً أن نظهر في مؤخرة الأمم في الحضارة والرقي إذا اعتبرنا مقياس التقدم الحقيقي هو مبلغ تغلغل مبادئ العطف والإنسانية التي تقل مظاهرها لدينا لسوء الحظ
وفي ضوء هذه المآسي، ولشعورنا بما قدمنا وما أخرنا، يبدو لنا الماضي عظيماً حقاً، فنتجه إليه بإعجاب وخشوع، ونتحدث عن آثاره حيناً من الدهر نشعر بعده بشيء من راحة المعترف بالفضل المقر بالذنب
أسماء فهمي
الأستاذة بمعهد التربية. درجة شرف في التاريخ(246/20)
ودرجة الأستاذية في التربية من إنجلترا(246/21)
الهجرة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يبدو لي من مراجعة السيرة النبوية الشريفة أن الهجرة إلى المدينة لم تجيء عفواً ولا كانت من وحي الساعة، وإنما كانت خطة محكمة التدبير طال فيها التفكير بعد أن اتجه إليها الذهن اتجاهاً طبيعياً أعانت عليه الحوادث
وكان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يشير على المسلمين الذين ضاقوا ذرعاً بما كانت قريش تنزله بهم من الأذى أن يتفرقوا في الأرض، وينصح لهم أن يذهبوا إلى الحبشة ليأمنوا الفتنة عن دينهم ويرتاحوا من العذاب الغليظ الذي كانت قريش تصبه عليهم حتى يأذن الله بالفرج. وأكبر الظن أنه كان يريد أن يؤمن هؤلاء المسلمين على دينهم من ناحية، وأن يحمل قريشاً على التوجس من عاقبة هذه الهجرة الأولى إلى الحبشة عسى أن تفيء إلى الاعتدال والهوادة. ومن الثابت على كل حال أن قريشاً أزعجتها هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة فبعثت إلى النجاشي برسولين منها ومعهما الهدايا ليقنعاه برد هؤلاء المهاجرين إلى مكة، ولكني لا أظن أنه كانت لهذه الهجرة إلى الحبشة غاية أبعد من ذلك، فما كانت أكثر من معاذ إلى حين، وتدبير ألجأت إليه الحاجة لما اشتدت المحنة بالمسلمين، وتلويح لقريش بإمكان العون والمدد من هذه الناحية. على أن بعد الحبشة واختلاف أهلها ولغتها ودينها ثم الثورة التي ما لبثت أن شبت على النجاشي وكان من أسبابها إيواؤه المسلمين والعطف عليهم - كل هذا كان من شأنه أن يصرف عن الحبشة ويدعو إلى التفكير فيما هو أصلح منها
واختلف الحال في مكة أيضاً إلى حد ما بعد أن أسلم عمر ورفض الاستتار والاستخفاء، وشرع يناضل قريشاً ويدفع المسلمين إلى الصلاة في الكعبة نفسها، وأسلم رجال غير قليلين من قريش، فصارت لجاجة قريش في تعذيب المسلمين وتقتيلهم كما كانت تفعل غير مأمونة العاقبة. نعم ظلت قريش تؤذي المسلمين وتسيء إليهم، ولكن المسلمين كثروا وصار محمد يعرض نفسه على القبائل وإن كان لم يفز بطائل كبير ولا كفت قريش عن مساءاتها إليه
وقد كبر الشأن واتسعت رقعة الأمل، ولكن التفكير في أمر قريش وفي الراحة من عنتهم وفي الوسائل المؤدية إلى نشر الدين بأسرع مما ينتشر بقي واجباً ملحاً، ولاسيما بعد أن(246/22)
حوصر المسلمون في الشعب، ونقضت الصحيفة، ومات أبو طالب وخديجة، وازداد أذى قريش، وردته القبائل عما كان يدعوها إليه من الدخول في الإسلام؛ وتوالت السنون على هذا الحال، فكان من الطبيعي أن يفكر النبي عليه الصلاة والسلام في مخرج حاسم يفرج الكرب ويزيل المحنة ويفسح مجال الأمل ويوطد الأمر. وأحسب أن من الطبيعي والمعقول أن يفكر في يثرب أول ما يفكر، وأن تكون هذه أبرز ما يبرز وأول ما يخطر على البال وأسبق ما يرد على الخاطر، فقد كانت يثرب طريقه في الزمن السالف أيام كان يعمل في التجارة، ولم تكن طريقه فقط بل كانت له بها علاقة تجارة أيضاً؛ وله فيها عدا ذلك بعض ذوي القربى ونعني بهم أخوال جده من بني النجار؛ ثم أن أباه عبد الله بن عبد المطلب مدفون فيها، وقد كانت أمه في حداثته تزور هذا القبر في كل عام، وكانت تستصحب ابنها معها. وقد شاء القدر أن تمرض أمه وهي عائدة من إحدى هذه الزيارات وأن تموت وتدفن في الطريق بين مكة ويثرب. فما من شك في أن يثرب كان لها نوطة بقلبه وعلوق بنفسه فما يسعه أن ينسى طفولته ويتمه وأباه الدفين هناك وأمه الراقدة في الفلاة على طريقها
وقد كان النبي صلوات الله عليه يعرض نفسه على القادمين من يثرب كما كان يعرض نفسه على رجال القبائل الأخرى، فأسلم أولا من الأوس واحد، ثم أسلم من الخزرج نفر استجابوا لدعوته وحدثوه بما بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثها اليهود فيهم ليظفروا بهم ويتحكموا فيهم. وكان اليهود قد نجحوا في إيقاد نار الفتنة بين هاتين القبيلتين، ولكنهم نجحوا في أمر آخر لم يكونوا يقصدون إليه، فقد كان اليهود وهم أهل كتاب يذمون إلى الأوس والخزرج ما هم فيه من الوثنية والشرك ويحدثونهم دينهم عن وكتابهم، فتركوا في نفوسهم أثراً روحياً لم يكن لمثله وجود في أهل مكة. وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام هذا كله وعرف أيضاً أن الفريقين المتعادبين - الأوس والخزرج - قد فطنوا إلى ما هم فيه من الشر، وانتهوا إلى أن يجمعهم الله بعد طول العداوة، وأدرك أن دعوته خليقة أن تلقى هناك من حسن الإصغاء وطيب القبول ما لا تظفر بمثله في مكان آخر وبلد غير يثرب. وقد صدق ظنه وتفتحت القلوب في يثرب لدعوته؛ ولم يمض إلا عام واحد حتى جاءه رجال من يثرب يبايعونه البيعة التي تعرف ببيعة العقبة الأولى على ألا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يكذبوا ولا يعصوا الله. ومما يدل على قيمة هذه البيعة أن النبي(246/23)
احتاج أن ينفذ إلى يثرب من يقرئ المسلمين بها القرآن ويعلمهم ويثقفهم في الدين. وكانت هذه فاتحة ميمونة لانتشار الإسلام في يثرب على صورة جدية وفي نطاق واسع
وكان مقام المسلمين في يثرب طيباً محموداً لا أذى فيه ولا مشقة، فغير معقول ألا يفكر النبي في اتخاذ يثرب مهجراً للمسلمين الذين يعانون الأمرين في مكة، ولنفسه أيضاً إذا كان لابد من ذلك ولا معدى عن ذلك. . إن التفكير في ذلك هو تفكير يبعث عليه ويوحي به واجب الدفاع عن النفس. يدل على ذلك أن النبي في العام التالي - لما قدم مكة عشرات من مسلمي يثرب - لقيهم واقترح أو طلب أن يعقد مع مسلمي يثرب حلفاً دفاعياً لرد عدوان المشركين. وقد تم له ما أراد وعقدت بيعة العقبة الثانية وهي أول تدبير عملي في سبيل الدفاع عن النفس. وقد أزعج خبرها قريشاً جداً فاضطربت وأشفقت وذهبت تسعى لتستوثق من الخبر، فإن صحة الخبر معناها ذهاب كل أمل في التغلب على النبي. . . وقد بلغ من جزعهم من هذا الحلف وصحة تقديرهم لعواقبه المحققة أن قريشاً ائتمرت بالنبي تريد قتله ودبرت ذلك فعلا وأحكمت التدبير كما هو معروف مشهور، فأدى ذلك إلى التعجيل بهجرة النبي نفسه
وقد كانت الهجرة في سبيل الله وللدفاع عن النفس ولكنها أدت إلى أمور شتى. فقد كان النبي في مكة حسبه أن يتقي أذى قريش ويتجلد ويصبر على عنتهم واضطهادهم، فلما هاجر لم يبق لمثل هذا الصبر مسوغ، ولا بالمسلمين إليه حاجة، وقد كثروا وصارت لهم قوة من جموع الأنصار والمهاجرين معاً. ففي وسعهم أن يردوا الأذى بالأذى ويقابلوا العدوان بالعدوان. ثم إن كثرة المسلمين في يثرب جعلتهم جماعة يجب فضلا عن تثقيفهم في الدين تنظيم أمورهم والنظر في مصالحهم وإقامة علاقاتهم بغيرهم على قواعد مرضية. وقد بدأ التشريع الإسلامي بعد الهجرة، وبدأت كذلك الحروب باللسان ثم بالسلاح، وبدأ التعرض لتجارة قريش. ولا حاجة بنا إلى التفصيل فإنه تاريخ معروف؛ ويكفي أن نقول إن الهجرة أتاحت للمسلمين أن يكونوا أمة، وأن ينتظموا كما تنتظم الأمم، وأكسبتهم مركزاً تسنى لهم بفضله أن يتحكموا في مكة اقتصادياً وحربياً أيضاً؛ وقد انتهى الأمر بالفعل بفتح مكة وإعلاء كلمة الله
ويكفي للدلالة على ما كان للهجرة إلى يثرب من قيمة في التاريخ الإسلامي أنه لما أريد بعد(246/24)
ذلك تأريخ الحوادث أشار عمر ابن الخطاب رضي الله عنه باتخاذ عام الهجرة مبدأ لهذا التاريخ. والواقع أن هذه الهجرة كانت هي الباب الذي فتحه الله لنشر الدين وإعلاء شأنه والقضاء على الشرك والكفر، وجعل من العرب أمة لها في العالم مقام وفي حياته أثر. ولو أن الهجرة كانت إلى الحبشة لم أثمرت شيئاً من هذا، ولخرج الأمر على كل حال من جزيرة العرب، ولكان الأرجح ألا ينتقل العرب إلى حال أخرى. ولو أنها كانت إلى اليمن مثلاً لكان الأغلب أن تبقى مكة بمعزل عن الإسلام، ولكن المدينة كانت على طريق التجارة إلى الشام، فالذي يستولي على الأمر فيها يتسلط على مكة ويتحكم في حياتها كما حدث بالفعل
ولاشك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفكر في المدينة من زمان طويل قبل أن يقصد إليها، فقد كان كل شيء يدعو إلى ذلك: حنين قلبه ومصلحة المسلمين في الدفاع عن أنفسهم أولا ثم في التغلب على مكة والقضاء على شرك قريش. ولعل من الدلائل على طول التفكير واتجاه النفس وعلى الإيحاء أيضاً أن النبي كان أول الأمر يتجه في الصلاة إلى المدينة جاعلاً قبلته المسجد الأقصى، فلما انتهى هذا الدور جعل الكعبة قبلته في الصلاة فوجه المسلمين صوب مكة حتى استولى عليها
إبراهيم عبد القادر المازني
حاشية: لا أحب أن يفهم أحد أن اتخاذ الكعبة قبلة كان القصد
منه الإيحاء إلى المسلمين بالاتجاه إليها والرغبة في الاستيلاء
عليها، فما أريد أكثر من أن تحويل القبلة إلى الكعبة كان هذا
بعض نتائجه
(المازني)(246/25)
مجد العرب والإسلام
للأستاذ عبد الرحمن شكري
في سنة 1909 كنت في جامعة من جامعات انجلترة، وكان أحد أساتذتنا في الجامعة قد دعاني إلى وليمة أعدها إلى كما دعوته إلى مثلها؛ وكانت هذه الدعوات عادة الأساتذة والطلبة، فجلسنا إلى مائدة الطعام ولم يمنعنا من الحديث فيما هو عملنا وبحثنا وهو التاريخ كما تفعل كل طائفة، فإن الناس لا يمتنعون حتى في مباذلهم وأوقات راحتهم عن الحديث في أعمالهم اليومية. ولما كان الإنجليز أمة تجار وتكثر في إنجلترة الدكاكين فقد اشتقوا في لغتهم عبارة يعبرون بها عن هذه الظاهرة. فكلما تكلمت طائفة في أمر من أمور أعمالها اليومية قالوا إن حديثهم كان دكاناً أو عن الدكان حتى ولو كانت الطائفة من المشتغلين بالعلم وليس لهم دكان
فأخذنا في الحديث عن التاريخ والحضارات، وكان أستاذنا صاحب الدعوة قد عودنا الصراحة في القول والتفكير والبحث، فكان لا يخفي رأيه في أمور حضارتنا كما كنا لا نخفي رأينا عنه في أمور قومه وتاريخهم وحضارتهم. وكانت المناقشة لا تتعدى الوقار والأدب. فقال الأستاذ إن التاريخ يدل على أن مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الأوربية قديماً وحديثاً كانت أعظم من مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الشرقية، وقال إن هذا يدل على أن الحضارات الأوربية قديماً وحديثاً أرقى من الحضارات الشرقية، وكان الأستاذ يعرف حوادث تاريخ الشرق والغرب في القرون الوسطى لأنه كان أستاذ تاريخ تلك العصور فذكر لنا قصة رجل خرج على الرشيد فظفر به الرشيد ومثل به تمثيلاً شنيعاً، ثم ذكر قصصاً عن سلخ بعض الفاطميين أسرى من أسراهم وهم على قيد الحياة. فقلت يا أستاذ: هذا تعميم كبير، ولا يتفق مثل هذا التعميم مع العلم الذي يتقضى فروق الزمان والمكان واختلاف طبائع الناس وحكامهم وتباين آرائهم وميولهم النفسية؛ وذكرت له كيف أن سيدنا علي بن أبي طالب (رضه) عندما أصابه عبد الرحمن بن ملجم أوصى قبل موته ألا يمثلوا بقاتله. وذكرته بالتمثيل الشنيع الذي كان حظ من يحاول قتل أمير أو ملك من ملوك أوربا في تلك العصور؛ وذكرت له قصصاً من قصص عدل الخلفاء الراشدين وأخرى من قصص حلم معاوية للدلالة على اختلاف الطبائع وسموها، فذكرت فيما ذكرت(246/26)
قصة المرأة التي لم تجد قوت عيالها وكيف بكى عمر بن الخطاب (رضه) من خشية الله عندما سمع صياحها واستغاثتها، ووصفت اهتمامه وخدمته لها وهو خليفة وحاكم من كبار حكام الدنيا؛ وذكرته بتقرب الإغريق وهم منبع النور والرحمة والعلم والحضارة في أوربا إلى آلهتهم بالضحايا البشرية في عصر من أزهى عصورهم وهو عصر حربهم مع الفرس، فقد أسروا أولاداً صغاراً من بيت الأمارة في فارس فقدموهم ضحايا لآلهتهم كي تمنحهم النصر. وذكرته بالرومان وما جره ازدراؤهم للحياة البشرية من الفضائع، وقلت إن القسوة ليست مقصورة على الشرق، وليست الرحمة مقصورة على الغرب؛ وذكرته بفضائع الأشراف والأمراء في قلاعهم في العصور الوسطى وما نال اليهود وغير اليهود من أهوال؛ وذكرته بجرائم عصر إحياء العلوم وهو من العصور الأوربية الزاهرة وأساس حضاراتها الحديثة؛ وأشرت إلى محاكم التفتيش وتمثيلها بضحاياها؛ وذكرته بالفظائع الدينية والسياسية في عهد أسرتي تيودور وستوارت، وقبلها في عهد أسر بلانتاجنت ويورك ولانكستر؛ وذكرته بقسوة القانون الذي كان يشنق الطفل الصغير الجائع من أجل لقمة، وبمغالاة رجال القانون في أوربا في العصور الوسطى مغالاة أدت بهم إلى محاكمة الحيوانات العجم وشنقها أو إعدامها أو التمثيل بها بعد محاكمة طويلة تذكرنا بقول الشاعر العربي وهو يسخر من حاكم أحمق:
أقاد لنا كلباً بكلب ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وذكرته بالويل والهلاك وكانا نصيب كثير من النساء اللواتي كن يتهمن بالسحر في أوربا حتى في العصور القريبة المتحضرة. ثم ذكرته بما كانت عليه أوربا من القسوة والهمجية بينما كانت مظاهر الرحمة والنور تنبعث من أسبانيا العربية. وذكرته بما كان يرتكب في الحروب الدينية في أوربا من قسوة لا حد لها وتمثيل شنيع؛ وذكرته باستعباد الأطفال والنساء في المصانع قبل التشريع الحديث؛ وذكرته بأسبانيا وما صنعته مع العرب واليهود، وما ارتكبته في ممتلكاتها الأمريكية مع الهنود الحمر من فظائع تقشعر منها الأبدان، وما فعله المخاطرون الأوربيون في جزر المحيط الهادي من قسوة، وما فعله رجال بعض الدول الأوربية - حتى في عصرنا هذا - مع السكان الآمنين في أوقات الحروب من قسوة وتعذيب وتقتيل وتمثيل. قال الأستاذ: كل هذا لاشك فيه، ولكن كان الحكام في أوربا إذا(246/27)
فعلوا شيئاً مما ذكرت يجدون في شعوبهم من يجرؤ على نقدهم؛ أما في الشرق فلا. فذكرت له كيف كان الواعظ يدخل على الخليفة فيقرعه حتى يبكي كما فعل أحدهم مع هرون الرشيد، وذكرت كيف أن من القضاة من كان يزهد في منصب القضاء وإن أوذي من أجل رفضه. قال الأستاذ: يخيل إلي أن الحكم على حياة أمة من الأمم حكما عاماً من حيث مظاهر الرحمة أو القسوة فيها من الصعوبة بمكان، أو لعله ليس من المستطاع، لأن المؤرخين لم يكن ميزانهم للحضارات وقياسهم لها بميزان الرحمة ومظاهرها فلم يحصوها كلها، ولو فعلوا لاستطعنا أن نحكم بإحصائهم. قلت: إذاً. لا نستطيع أن نقول على التعميم إن مظاهر الرحمة في الحضارات الأوربية كانت دائما أكثر من مظاهرها في الحضارات الشرقية أو العربية الإسلامية. قال الأستاذ: ربما كان الأمر كما تقول، ولكن العرب أصلهم قوم بدو، والرحمة في كثير من الأحايين لا تصل إلى قلوب البدو، لطبيعة أرضهم الجرداء القاسية وصعوبة نيل الرزق، فأعدتهم أرضهم القاسية بقسوتها. ولعلك تذكر غارات القبائل بعضها على بعض حتى بعد الإسلام، وما كان يحدث في تلك الغارات في بعض الأحايين من قتل النساء والأطفال. ولعلك تذكر أيضاً كيف كانوا يعاملون الحجاج الذين يقصدون مكة. ومن أجل هذه الطباع فيهم دخلت الحدود في الإسلام لتكبح جماح البد، وأريد تطبيقها في بلاد طبيعة أهلها وطبيعة أرضها غير هذه الطبيعة. ومن أجل شدة الحر في بلاد العرب وإطلاق البدو أنفسهم على سجيتها دخل في الإسلام رجم الزاني ثم نقل إلى بلاد أخرى. قلت: يا أستاذ فرض على الحاكم أن يدرأ الحدود بالشبهات، وذكرت له قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي بكرة، وكيف أنه جعل يلتمس الشبهات في شهادة الشهود حتى نجي الرجل من حد الزنى، وذكرته أن التعزيز من عقوبات الإسلام، وذكرته بما يفعله الناس في أمم أوربا وأمريكا إذا قصر القانون أو استبطئوه، فإنهم يختطفون المتهم ويعاقبونه أقسى عقاب، وقد يمثلون به أشنع تمثيل؛ وقد يكون الرجل بريئاً مما نسب إليه. وذكرته بما تفعله أحدث الدول الأوربية إذا اضطرب حبل الأمن في بقعة شرقية. وقلت له إن الحدود لم تمنع انبعاث مظاهر الرحمة والنور في أسبانيا العربية بينما كانت أوربا غارقة في بحر من ظلمات الجهل والقسوة، ويشهد بذلك كثير من المؤرخين الأوربيين
والى هنا انتهى حديثي مع ذلك الأستاذ الجامعي بعد أن ذكرته بأن سوء ظن الأمة بالأمة،(246/28)
وأهل القارة بأهل قارة أخرى، هو من قبيل سوء ظن الإنسان بإنسان آخر لا يعرفه أو لا يعرف عنه إلا القليل، وهي ظاهرة في النفس الإنسانية عامة يستوي فيها العالم والجاهل والفطن والغبي والمنصف والظالم
أقول إن هذه الظاهرة هي سبب ما نراه من نكران بعض المؤرخين الأوربيين لفضل العرب على الحضارة الأوربية أو تهوينهم أمر أثر العرب في تلك الحضارة، فبعضهم لا يقرون للعرب إلا بأنهم كانوا قنطرة عبرت عليها علوم الحضارة الإغريقية الرومانية إلى الحضارة الأوربية الحديثة، وبعضهم يقول إن الحضارة الأوربية كانت نامية لا محالة حتى لو أن أوربا لم تتأثر بالحضارة العربية. ويقول إن العرب لم يكونوا كل مصادر الحضارة الأغريقية، وإن المصادر الأخرى الأوربية كانت أجدى وأنفع وألصق. ومما يؤسف له أن بعض الشرقيين قد جاروا هؤلاء في دعواهم من غير تقص ولا بحث عميق
إن الحضارة الأوربية كانت حقيقة نامية لا محالة لأسباب داخلة في تاريخها؛ ولولا استعداد الأوربيين للتأثر بالحضارة العربية ما أمكنهم قبولها؛ واستعدادهم هذا يدل على بدء نحو الحضارة فيهم؛ ولكن هذا لا ينفي أنهم تأثروا بالحضارة العربية تأثراً كبيراً. ولا تزال المعركة الكلامية قائمة بين من يمجد أثر العرب في الحضارة الأوربية ومن يقلل من أثرهم من المؤرخين. والفريق الثاني ينظر إلى العيوب ويغفل عن الحسنات، فينظر مثلا إلى إضاعة بعض علماء العرب وقتهم وجهدهم في محاولة كشف إكسير الحياة أو حجر الفلاسفة، ويغفل كشوفهم العديدة وفضلهم على العلوم الحديثة على اختلاف أنواعها، فيغفل فضلهم في نقل الورق إلى أوربا، ولولاه ما أجدى اختراع المطابع وتحسينها، ولا كانت للحضارة الحديثة مظاهرها الشاملة؛ ويغفل ما نقلوه إلى أوربا من المصنوعات والمنسوجات والمزروعات المختلفة، وما أعطوهم من مخترعات مثل الإسطرلاب وبيت الإبرة والعدسة؛ ويغفلون فضلهم على الطب والتشريح والفلك والعلوم الرياضية وأنواع الهندسة والكيمياء، كما يغفل أثرهم وقدوتهم في وسائل الري وإعداد المدن بوسائل الراحة والرفاهية والنظافة كما فعلوا في إسبانيا وغيرها. ويغفل أثرهم في العلم والتعليم وكيف انتشر التعليم والاشتغال بالعلم انتشاراً لم يكن له مثيل. وقد أقر المؤرخ دريبر في كتاب (نحو الفكر الأوربي) بهذا التعصب ضد الحضارة الإسلامية كما أقر به ماكاب في كتاب(246/29)
(مجد إسبانيا العربية). وقد ظهر أثر العرب في التحاق أبناء الأغنياء الأوربيين بمدارسهم، وكانوا يتجشمون الأسفار من أجل ذلك. وقد تعلم في مدارس العرب بعض رجال الدين المسيحي ومنهم البابا سلفستر؛ ونشر العرب مبادئ الفروسية وأخلاقها وسجاياها من شهامة ونجدة ظهرت في بدء عصر الفروسية، وكان لهم أثر في تكوين آداب اللغات الأوربية الحديثة، فظهر أثرهم في شعراء الرومانس والتروفر والتروبادور كما ظهر في آراء المصلحين الدينين وفي رحلات الكشوف
وللمؤرخ (ماكاب) رأي يتفق ورأيه الديني وهو أن الحضارة العربية في الأندلس لم يقض عليها الترف والتنعيم والضعف، وإنما قضى عليها التعصب الديني من جانب الأسبان المسيحيين بعد أن أضعفها التعصب من جانب المرابطين والموحدين وإن صدوا الأسبان عنها زمناً. ولا يقصر هذا المؤلف وصفه على الحضارة العربية في الأندلس، بل يصف الحضارات العربية في بقاع أخرى
ولم يكن العرب وحدهم بناة هذا المجد وهذه الحضارة، بل اشترك في بنائهما الأمم التي اعتنقت الإسلام وتعلمت اللغة العربية حتى صارت لغة لها
عبد الرحمن شكري(246/30)
إلى حجاج الجامعة المصرية
محمد يرجع!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
محمد يرجع ويعمل عمله من جديد في نفوس الشباب ويناديهم إليه ليربيهم في المهد الذي أنشأ فيه نفوس أبوتهم الأولى
وهم يلبون نداءه سراعاً، خفافاً وثقالا، وفي طليعتهم ملك. . . لأنهم أدركوا ببداهة الشباب وإحساسه بحاجات زمانه أنه نداء لا يمكن أن يعلو عليه لغو أو يحجبه ضجيج
وقد سارت إليه جماعات منذ سنوات تسمعه ينطق في القرن العشرين جديداً عجيباً غريباً كما كان جديداً عجيباً غريباً منذ ألف وثلثمائة
بيد أن أَدعى جماعة إلى الالتفات إليها هي هذه الجماعة الجامعية التي يحدو لها عقل (أمين) وروح (عزام) وخلق (العبادي)
لقد افتتحت الجامعة حياتها بروح تمرد وثورة على محمد. . . ولكن مَن هذا الذي يغالب محمداً ولا يُغلب، ويحتك بروحه ولا يمفطس ويجذب؟! لقد استطاع روح الحق الذي تمثل فيه أن يكب كل عنيد على ذقنه ساجداً، ويأخذه إليه طائعاً أو كارهاً. وقد عودنا تاريخ دعوته أنها تنمو حين تقاوَم، وتبدو حين تحجب
ألم يغزُ التتار دياره، ويخربوا آثاره، فغزا قلوبهم ودوخ رءوسهم؟
ألم يرد الصليبيون محوه فمحا خرافاتهم وضلالاتهم وفتح أعينهم على مبادئ الحياة الجديدة؟
ألم يعزم المستعمرون على تكبيل أهله بالقيود الأبدية فأضرم من ناره على الحديد فأساله، وأذاب أغلاله؟
ألم يحاول المخدوعون الحالمون أن يهدموه في نفوسهم ونفوس أمتهم فإذا به يعلو ويعلو فيخنق أصواتهم ويحطم معاولهم ثم يضطرهم أخيراً إلى البناء فيه؟
من معجزات الإسلام أنه عزته اليوم تبنى على أيدي أحرار الفكر الذين أعلنوا في كل مناسبة أنهم يؤمنون بحرية البحث. وكأن القدر يقول للناس: هؤلاء الذين تظنونهم سبب شكوكم قد آمَنوا فآمِنوا
ومن العجيب أيضاً أن الحج الذي هو منطقة كثير من التعبديات والرموز يكون أول(246/31)
مظاهرة روحية عملية تقوم بها الجامعة العقلية!
والأعجب أن تنبت الفكرة في الجامعة لا في الأزهر!
حادث عظيم في طريقنا إلى الحياة القويمة لا ريب!
حج مبرور من بُناة العقل إلى أرض الروح. الروح الذي لم يجدوه في الدفاتر والمخابر فراحوا يبحثون عنه في الصحراء. . . الكتاب الكبير المسطور بالرمال الخالدة والكلمات الصامتة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب مثلهم ففهم بها خبر السماء وطلاسم الوحي
لا أستاذية ولا (دكترة) ولا مخابر ومنابر، وإنما هناك هياكل خالدة عامرة أبداً بالنجوم، ومحاريب يسجد فيها الصباحَ والمساء، ومنصات تقف عليها الطبيعة صامتة متجردة لا تتشح (بالروب) ولا تهز ذقنها كما يهز العلماء لحاهم حين يلقون الدروس!
عشتم أياماً في التاريخ، على هامش الحياة، في مركز الأرض، في مهد الإنسان، في حضن الأم الوالدة، في مكان الخمائر، في البدائيات
التفتت إليكم الجبال والرمال والآثار التي تعرف محمداً وأصحاب محمد من الشباب، إذ كنتم أول فوج عجيب زارها في القرن العشرين، فعرفت أن الزمان يتمخض عن شيء
ناقلتم الخطا على مواقع أقدام رسولكم الأعظم وتلاميذه الأبطال. . . فأحاطت بكم الأرواح والأطياف لتنظر براعم الربيع الجديد وتربيها، وتعمل سحرها فيها
سيكون لكم في التاريخ الجديد ما كان لنقباء (بيعة العقبة) في التاريخ القديم، يا نقباء الجامعة. فافهموا ما يشير إليه الزمان
وقفتم في مركز الدائرة التي يقف المسلمون على محيطها بالاعتقاد في الله الواحد، وبالمساواة في الشرع الواحد، وبالأخوة في الدين الواحد، وجباه المسلمين في المشرقين والمغربين تحيط بكم من جميع الآفاق ساجدة يصعد إلى الله الأعلى كلمها الطيب وعفرها الطاهر. . . وتسافر إليكم نظراتها مخترقة الحجب والسدود حتى ترى في الغيب ما ترون في الشهادة. . .
تجردتم عن المخيط من الثياب وعن الزينة والنعومة والتطرية وخرجتم نساكا شُعثاً غبراً طالت لأظفاركم وتهدلت شعوركم، وكل منكم ناحل ضامر في استغراق روحي عميق،(246/32)
نظيف المادة طاهر الخلق. . . إنه مشهد (سينمائي) جميل تمثلون به حياة الأنبياء. . فصلوات الله عليكم!
نقل الله لكم ناس الدنيا جميعها لتسمعوا النشيد الخالد يرتلونه مجتمعين بلغة (الكتاب) لغة الأمة الأمية الخالدة. . . ولتعرفوا معنى التوحيد الذي أراد الإسلام أن يطبع الإنسانية عليه. . . ولتروا الأحلام الكبيرة التي طافت بعقول الفلاسفة، حقائق وأجساد تمشي على الأرض في (المدينة الفاضلة) الآمنة. . . أم القرى
هل يمكن أن يخرج مثل هذا أكبر فنان؟ لا فالواقع هنا أكثر من الخيال، فلا حاجة إلى الكلام أو الأصباغ. . .
رأيتم بدء النور في (غار حراء. . .)، وبدء المحنة في شعاب مكة. . . وبدء الفرج في (غار ثور)، وبدء الأمل في (بدر) وبدء البَذْل في (أُحُد). . . وبدء النصر في (الحديبية)، وبدء الوحدة في مكة
ورأيتم نهاية النبوات وخاتمة الرسالات تسكن أشباراً من الأرض القاحلة بعد أن صاحت في آفاق المشرق والمغرب والشمال والجنوب (بالكلمة العليا) التي قام عليها صلاح العالم، وبأن (الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) فيجب أن تبدأ الإنسانية عهداً جديداً
وحقيق على من رأى معالم البدء والنهاية من جهاد الرسول الأعظم أن ينقل صورها إلى كل نفس، وأن يحافظ على حياتها دائماً في قلوب الناس وأفكارهم حتى لا يطمسها جهل أو عقوق
ومسألة المسائل أمامنا وأمامكم أن نؤمن وأن نعلم وأن نعمل.
فاعملوا لذلك عمل المنقذين الذين يدركون شقاء الناس والعلاج الذي في مواريث الرسول الأعظم
ليس يغنينا علم ولا فلاسفة إذا لم يكن لنا إيمان. . . لأن العلم والفلسفة من مخلوقات الإنسان. . ولن يعبد الإنسان ما قد خلق ويسعد به. . . أما الإِيمان فهو الكنز الخفي الذي ننفق منه سراً وجهراً ولا ينفَد، فنحن به في غنى دائم لأننا منه في فيض دائم. وقد تتحطم الإنسانية بالعلم، وقد تهذي بالفلسفة وتتفرق بها شيعاً وقبائل، ولكنها تُبنى دائماً بالإيمان(246/33)
وتلتقي في قدسه ورحابه
فزاوجوا بين ثلاثة الأقانيم هذه وأخرجوا منها معنى الحياة الخالدة للإنسانية الفانية التي تأتي إلى الدنيا ولا تعرف لماذا أتت. . وتمضي إلى الأخرى وهي تحسب أن كل تاريخها في الأرض قبر من القبور. . .
أشبعوا الكفايات الإنسانية الثلاث التي أشار إليها (برتداندرسل). . أشبعوا (كفاية الاعتقاد) بالدين، (وكفاية الإثبات) بالعلم، (وكفاية التأمل) بالفلسفة حتى توجدوا النفس الكاملة
وتلك رسالة الجامعة وهي تدركها لا ريب.
(بغداد)
عبد المنعم خلاف(246/34)
ذكرى الهجرة
طريق الجهاد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قم باسم ربك للجهاد وناضلِ ... واصدع بصوت الحقِّ صوتَ الباطلِ
لا ترهبنك من قريش عصبةٌ ... ما بين لاهٍ في الضلال وغافلِ
أترك منازلهم وخلِّ ديارهم ... حُشدْاً تعجُّ بجمعها المتطاول. .
دعهم يثيرون القلوبَ سخائما ... ويؤلبون عليك كلَّ مُصاول
ويجرِّئون عليك كلَّ مُسَفَّهٍ ... دانٍ إلى الإِسفاف أرعنَ جاهلِ
هيهات ما لحقوا مَداك بطالع ... منهم ولا خَبَأوا سناك بآفل
(الشِّرك) لم تفلح لديك شراكهُ ... يوماً ولم تظفر لديك بطائل. .
يا أيها الواعي رسالةَ ربه ... اللهُ سيفك في القتال فقاتل
قَوِّم بهذا السيف ركن المنحني ... وأقم بهذا الرمح عودَ المائل
واهجم على الباغي بغير تهجم ... واحمل على العادي بغير تحامل
وأضئ سبيل المشركين ولقِّهم ... وَحيَ النبيِّ وملهمات الكامل
واطلع كما طلع الربيع مبشراً ... بالخير في البلد الجديب الماحل
وانشر على الدنيا السلام وقل لها ... طيبي بأمن في رباعك شامل
واجمع من الشمل المفرَّق أمةً ... قد أُحكمت بوشائج ووصائل
قامت إلى (كسرى) تدك بناَءه ... وتهدُّ من (إيوانه) بمعاول
ومشت (لقيصر) في علاه كأنها ... قَدَرٌ يصول بعزة وتطاول
البَرُّ سيَّال الأباطح حافلٌ ... والبحر عالي المتن حشدُ الساحل
آذاك قومك فاحتملت لأجلهم ... عَنَتَ اللجوج وسَوَْءةَ المتحامل
وصبرت والدنيا تهونُ لصابرٍ ... وحملت والبلوى تخف لحامل
يا أوسع الدنيا العريضة فكرةً ... أيضيق صدرك بالخيال الزائل؟
من كان في الله الكريم جهادُه ... لم يَعْيَ من عبء الحياة بكاهل
عاداك أهلك في الديار وأسرفوا ... واستنجد المخذول بالمتخاذل!(246/35)
نَفَسوا عليك بأنفس مشبوبة ... تغلي بنار الحقد غليَ مراجل
عادَوْك لما كنت أكمل عقدهم ... والناس أعداء المثال الكامل
اضرب بسيف الله كل منافق ... واغلب بمكر الله كل مخاتل
واصدع بأمر الله إن سبيله ... وضح المعالم مستقيم الداخل
واظهر فإن الله جارك في الوغى ... وسهامُ قوسك في الزحام النابل
لا تخش من تلك الجموع فإنها ... عند اشتباك الأمر جد قلائل. .
يا أيها الهادي بذلت على رضىً ... والنصر عاقبة الكريم الباذل
وضحتْ دلائلُ من هداك وضوَّأتْ ... (وقريشُ) سائرٌ بغير دلائل
يمشون في الجهل القديم وقيده ... وظلامه كالعاثر المتثاقل
ما ضر لو تبعوا خطاك وأخلدوا ... للسلم في الربع الأمين الآهل؟
لكنهم رجعوا إلى أجدادهم. . ... واستعصموا منهم بركن مائل. .
يا أيها المعصوم حسبك قَوْمةً ... لله ما لقي الهدى من جاهل
مالت (قريشُ) إلى الهوى وتآمرت ... وأساء جاهلها الكبير لعاقل
كان (الإله) بها صناعة ناحت ... ووليد أنملة وطُعمة آكل!
عميتْ محجاتُ البيان وأشكلت ... وتشابه الصوَّال بالمتصاول. . .
وطغى على أرض الجزيرة جارف ... كالسيل في إثر الغمام الهاطل
غطَّى على (قيس) فأغطش ليلها ... واجتاح ما أبقى الزمان (بوائل)
فوضى. . فما سعدوا برأي صالح ... فيهم ولا ظفروا بحكم عادل
جاهدت لله الكريم فلم تمل ... لهوىً ولم تنجح لرأي باطل
حتى إذا آذاك قومك لم تجد ... غير الرحيل فكنتَ أشرف راحل
يومُ بدأتَ به الحياة جديدةً ... لله واستأنفتها منْ قابل. . .
(الفتح) جاءك فيه بين أسنَّةٍ ... (والنصر) جاءك فيه تحت عوامل. .
ذكرى سنحييها لعل طريقها ... يَهدي الشبابَ إلى الطريق الحافل!
مدرسة بالمنصورة الثانوية
محمد عبد الغني حسن(246/36)
الحكومة الإسلامية الأولى
للأستاذ الشيخ علي الخفيف
مدير المساجد
دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه. فبدأ دعوته في مكة حيث نشأ، ومكث بها داعياً ثلاث عشرة سنة تبعه فيها السابقون الأولون من المؤمنين وهم قليل. فأوذوا في أنفسهم وأموالهم وفتنوا في دينهم. وحيل بين الدعوة وبين ظهورها ونشرها، كما منع الناس من أن يطرق الحق آذانهم أو تصل الذكرى إلى قلوبهم. وكان ذلك بأيدي أولي القوة والحماية، وبأعين أهل الحكم والولاية. وكان المؤمنون يومئذ فئة قليلة لا يملكون قوة ولا يستطيعون دفاعاً ولا يجدون أمناً ولا عدلاً. فلم يجدوا سبيلاً لحياتهم إلى الهجرة من ديارهم
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر إليها المؤمنون من قبله ومن بعده يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، فحلوا على الرحب والسعة بين إخوانهم وحلفائهم من الأوس والخزرج الذين آزروهم ونصروهم وأشركوهم في ديارهم وأموالهم، وعقدوا معهم أخوة كونت منهم جميعاً جماعة لها من الأسرة توادها وتراحمها وتعاطفها واجتماعها على زعيم رءوف بها حريص عليها، وفيها كل خصائص الدولة من التماسك والمنعة والخضوع لنظام واحد، والسعي إلى غاية مشتركة، والاختصاص بوطن معلوم
لقد كانت الهجرة النبوية بداية لعهد جديد افتتح به العالم طريق كماله الإنساني، وحياته المفكرة، ونظره المستقل؛ فتغيرت لذلك وجهة الأمن، وتبدل مجرى الحوادث، وبدأ التاريخ فصلاً جديداً لتطور فكري منشؤه البحث والنظر، وانقلاب اجتماعي أساسه المساواة والتعاون، وانكشاف ديني غايته تزكية النفس وتكميل الخلق. ولم يكن للهجرة ذلك الأثر إلا لأنها هيأت للمسلمين قيام دولة إسلامية قامت بنشر الدعوة وحمايتها وإيصالها إلى من كان محجوباً عنها. ثم دافعت عن كل من دان بها، فإذا الناس بهديها مهتدون، وبنورها مستضيئون، وبتهذيبها مفلحون، وبآثارها متمتعون
بدأت هذه الدولة يوم أن دخل النبي (ص) المدينة المنورة، واستقر بها زعيما الأوس والخزرج ومن هاجر إليهم من قريش ومن لازمهم من مسلمي العرب، فتألفت منهم جماعة(246/38)
متحدة جعلت المدينة مقراً لها ووطناً، واتخذت أوامر النبي (ص) ونواهيه نظاماً وحكما، فكانت منهم دولة يحكمها الرسول له فيها سلطان الحكومة كاملاً؛ فهو صاحب الولاية العامة، وهو مصدر التشريع، وله القضاء وإليه التنفيذ، يدير الشؤون ويقود الجيوش، ويجبي الأموال وينفقها في وجوهها ويوزعها على مستحقيها، ويعقد العهود ويقوم على الوفاء بها وينبذ إلى من نقضها، ويحمل الناس على الخطة المثلى ويهديهم صراطاً مستقيماً
وكانت هذه الشؤون على عهد الرسول قريبة الغور بسيطة التركيب رقيقة الحاشية قليلة العدد محدودة المكان ترجع في بساطتها ورقتها إلى ما ألفوه يومئذ من معيشة بدوية، واعتادوه من عادات فطرية، وتوارثوه من تقاليد طبيعية، إذ كان نظام الحكم مستمداً من نظمهم المألوفة عندهم المعروفة لديهم، ولن استمداده لم يتجاوز الصور والأوضاع إلى ما كانت تحويه تلك النظم الجاهلية من هضم لحقوق الضعفاء، وظلم للأبرياء، وأخذ بالشبهات، وتصديق بالخرافات، واعتماد على الترهات، بل كان خالصاً من الظلم، نقياً من الدنس، بريئاً من العيب، صالحاً لزمانه، ملائماً لأهله، كفيلاً بتحقيق مصالحهم وتوفير طمأنينتهم وسد حاجاتهم. ذلك بأن أمره كان إلى الرسول يتلقى فيه وحي ربه، ويهتدي في ترتيبه وتدبيره بهديه، ويجتهد في تكميله بحكمته ونظره، حسبما تقتضيه المصلحة والحاجة، وعلى ضوء ما يدعو إليه التطور الجديد وتهدي إليه الحوادث
من ذلك يتبين أن نظام الحكومة الإسلامية الأولى لم يكن نتيجة خالصة لتطورات حكمية سالفة، ولا أثراً لثورات ماضية، كما لم يكن فكرة أفضت إليها أزمات استعصى حلها، أو حاجات تعذر قضاؤها، أو اختلاف في طرق الحكم لم ينته إلا بانكشافها، وإنما كان هدياً نبوياً وتوفيقاً إلهياً أخذ من النظم المألوفة والتقاليد الموروثة ما لاءم الفطر وصلح على الزمن وأوصل إلى الغاية، ثم نفى منها الفاسد الخبيث مما ساير الأهواء وأورثته المطامع والشهوات، ولم يعلُ فيما ابتدعه من ترتيب ووضعه من أسس ومبادئ عن مستوى الزمن ومدارك العامة من أهله واستعدادهم الاجتماعي وبيئاتهم الحاضرة، بل راعى في تشريعه جميع ما يلابسهم ويتصل بهم من ثقافة وتربية وعادات ووطن ودين اختير لإعلاء كلمته ونشر دعوته، وكذلك راعى الزمن وسيرة الحوادث وتقلباتها، والجماعات وتطوراتها، والحاجات وتغيراتها(246/39)
لهذا جاءت أسس الحكومة الإسلامية قواعد كلية ومبادئ عامة جديدة لا يبليها الزمن، ومستقيمة لا يقومها التطور، ومثبتة لا تنال منها الحوادث، صارمة صريحة صالحة لكل أمة، ملائمة لكل زمن، قائمة في كل مكان. وهذه بعض تلك القواعد نكتفي بذكر أهمها لأن استيعابها لا يتسع له المقام ولا يناسب الحال:
1 - العدل: أمر الإسلام بإقامته وكرر الأمر به في صور شتى تارة بذكره كقوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقوله: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وتارة بالنهي عن الظلم وكراهة أهله كقوله: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة، إن الله لا يحب الظالمين)، وقوله عليه السلام: (إن الناس إذا رأوا الظلم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)
2 - المساواة: قرر الإسلام مبدأ المساواة في قوله تعالى: (إنما المؤمنون اخوة) وقوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقوله عليه السلام: (المسلمون كأسنان المشط) وقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)
3 - التآلف والوحدة: دعا الإسلام في أكثر من موضع إلى الوحدة وعدم الفرقة، فقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) وامتن بها فقال لرسوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال عليه السلام: (المسلمون يد على من سواهم)
4 - الشورى: حض الإسلام عليها فأمر بها نبيه بقوله: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)، ومدح بها المؤمنين إذ وصفهم بها فقال: (وأمرهم شورى بينهم)
5 - النصيحة: ويدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد عني بأمرها الإسلام فجعلها من الدين، قال عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. ولعن الله بني إسرائيل لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وقال لبئس ما كانوا يفعلون. وقال عليه السلام: إن الله يرضى لكم ثلاثاً ثم ذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم(246/40)
6 - التعاون: فقد أمر به الكتاب فقال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
على هذه القواعد التي تقيم الحكم على أساس متين وتكفل له تحقيق أكمل غاياته قامت حكومة الرسول (ص) في المدينة المنورة وفيما جاورها من الأماكن القريبة. ولبساطتها وقلة التفرع في شؤونها وبعدها عن التشعب وعدم سعة أرضها كان أمر تدبيرها في جميع نواحيها إليه صلى الله عليه وسلم مباشرة. وساعد في ذلك أن أصحابه كانوا لأوامره مطيعين، ولأقواله حافظين، وبأفعاله مقتدين، ينشدون العدل ويطلبون الحق، يرون سعادتهم في طاعته وترسم آثاره، وشقاءهم في مخالفته وتنكب طريقه
وكانت الولايات على عهد الرسول تكاد تنحصر في قيادة الجند وولاية الصلاة والتعليم، وولاية الصدقات والأموال، وولاية القضاء والمظالم، وولاية التشريع
فأما قيادة الجند فكانت إليه. يدعو إلى الجهاد ويعبئ الجيش ثم يقوده بنفسه، ويشرف على ترتيبه وخططه، فإذا لم يخرج معه عهد إلى بعض أصحابه في ذلك ممن عرف بالكفاية في الحروب والحذق بفنونها والبصر بمكايدها. ولم يكن له عليه السلام جيش خاص يقوم بذلك دون بقية المسلمين، بل كان جميع المسلمين جنداً محاربين لا يعفى من الخروج إلا من أقعده المرض أو الضعف أو العجز، أو لم يجد نفقة، وكان في ذلك حزنهم وعظيم كربهم، حتى أنزل الله تعالى قوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا الله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون). كذلك كان يعفى من الخروج من عهد إليه بعمل عام في المدينة أو لحقته ضرورة لا فكاك منها، على أن يكون له سهمه في الغنائم. وكانت نفقاتهم في أموالهم وأرزاقهم من مال الله الذي آتاهم أو في أموال المحسنين منهم ممن كانوا يخرجون عن بعض أموالهم لهذه الأغراض. ولم يكونوا محصورين في ديوان لعدم الحاجة إلى هذا الإحصاء لأنهم كانوا جميعاً محاربين، ولم تتخذ سجلات الجيوش إلا في عهد عمر رضي الله عنه
وأما ولاية الصلاة والتعليم فكان عليه السلام يؤمهم في المدينة ويعنى بتعليمهم دينهم(246/41)
وإرشادهم أشد عناية، لأن ذلك كان من أهم أغراض الرسالة. كان يعلمهم بنفسه، يقوم بذلك في المسجد، وفي كل مجلس يجلسه، وفي كل مقام يقومه، في الحضر والسفر، والسلم والحرب؛ وكان يحض المتعلم من أصحابه على أن يعلم الناس، ويشجع من قام بذلك بقيامه على حلقته في المسجد. وكان يستعين في ذلك بأمثل أصحابه يرسلهم إلى الجهات النائية أو القبائل التي دانت بالإسلام ليؤموهم ويرشدوهم ويعلموهم القرآن وأحكام دينهم. ومن عنايته صلى الله عليه وسلم بالتعليم أن جعل فداء المعسر من أسرى بدر إذا كان قارئاً كاتباً تعليم عشرة من غلمان المدينة
وأما ولاية الصدقات والأموال فكانت جبايتها إلى من يختارهم من أصحابه العالمين بأحكامها، يجمعونها من أهلها في بلادهم المختلفة ويحضرون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيوزعها لوقتها دون أن يدخر منها شيئاً. ولذا لم تكن لهذه الأموال على عهده خزائن لحفظها ولا سجلات لقيدها، وإنما وجد ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وذلك يرجع إلى قلة ما كان يجمع منها على عهده وحاجة المسلمين إليه وقيامهم جميعاً بالدفاع والغزو. ولم تكن موارد هذه الأموال يومئذ تتعدى الصدقات والغنائم والجزية؛ وكانت مصارفها ما بينه الكتاب الحكيم في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) وفي قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).
وأما ولاية القضاء والمظالم فكانت إليه في المدينة المنورة وما جاورها من الأماكن، إذ لم تكن الخصومات كثيرة إلى الدرجة التي تدعو إلى الاستعانة بغيره. ولم تكن مع ذلك خصومات حقيقية، بل كان أكثرها لا يعدو أن يكون اشتباهاً في وجه الحق، فإذا بينه عليه السلام بعد الترافع إليه فما أسرعهم إلى الرضا والتنفيذ دون حاجة إلى دافع أو ملجئ. على أنه عليه الصلاة والسلام لم يستغن عن معاونة غيره في الحوادث التي تتطلب الانتقال، وفي البلاد النائية التي فتحها الله عليه كاليمن والبحرين ومكة وغيرها، فولى فيها ولاة جمع لهم بين ولاية القضاء والصلاة والصدقات والحرب، وربما فرق بينها حسبما تدعو إليه الظروف والمصالح(246/42)
وأما ولاية التشريع فكانت له وحده لأنه إنما أرسل ليشرع للناس دينهم ويهديهم إلى ربهم، ويسلك بهم طريق سعادتهم وفلاحهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، لا ينطق فيه عن هوى، وإنما يصدر فيه عن الوحي ينزل به الروح الأمين على قلبه فيقرؤه على الناس قرآناً مبيناً، أو يحدثهم به حديثاً نبوياً، أو يعلمهم إياه بفعل يأتيه أمامهم فيقتدون به؛ فإن لم يكن وحي صدر عن البحث والنظر ينتهيان إلى استنباطه الحكم المطلوب معتمداً في ذلك على ما استقر في نفسه من روح الوحي وما يراعيه من مصالح الناس. وليس لغير الرسول أن يتولاه، وليس له إلا الاجتهاد في تفهم النصوص وتطبيقها على الحوادث، وإذا صدر منه ما أقره النبي كان شرعاً بإقراره عليه السلام لا بصدوره من صاحبه؛ غير أن ما كان يليه الرسول أو يأتيه لم يكن كله دينا بل كان للدنيا منه كثير؛ وما شرعه في النوع الأول يجب اتباعه ولا يجوز فيه تغيير، وما اتبعه في النوع الثاني يصح أن يناله التغيير والتبديل تبعاً لتطور الزمن وتغير الناس واختلاف العادات، لأن الشأن فيه أن يسير مع المصلحة ويتقيد بالمنفعة، فجاز أن يتسع للبحث وأن يتقبل الخلاف. وكثيراً ما عدل الرسول عن رأيه إلى رأي أصحابه، وغير من رأيه حين اقتضت المصلحة التغيير. وقد ولى عليه السلام كثيراً من أمور الدنيا بحكم ولايته العامة فسلك فيها سياسة دعت إليها حاجات حاضرة وعادات قائمة ومصالح يومئذ مطلوبة، فإذا ما انتهت تلك الحاجات وتغيرت تلك المصالح وتطورت تلك العادات كان على المسلمين من بعده أن يغيروا فيها تبعاً لذلك؛ وقد حصل منهم ذلك فعلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في كثير من النظم
هذه هي أهم الولايات على عهد الرسول ولم تقتصر أعمال الحكومة في عهده عليها بل تجاوزتها إلى كثير من الأعمال التي دعت إليها الحاجة واقتضاها ضبط الأمور وتنظيم العمل مثل الكتابة، والمحاسبة، والترجمة، وحفظ الختم، وحفظ السر، والعسس بالليل والحراسة فيه، فكان لكل هذه الأعمال عمال من أصحابه يقومون بها تحت رقابته وإرشاده
كان عليه الصلاة والسلام المرجع في كل هذه الأعمال يقوم على تدبيرها وتصريف شؤونها بما يوحى إليه في ذلك من ربه أو بما يهديه إليه رأيه بعد بحث ونظر ومشورة يختص بها أولي الرأي والبصيرة من صحابته كحمزة بن عبد المطلب وأبي بكر وعمر وعلي وغيرهم؛ فكان عليه السلام يستشيرهم في كثير مما يعن من الأمور التي لم ينزل(246/43)
عليه فيها كتاب، وبخاصة ما كان منها متصلاً أو متعلقاً بالغزو والدفاع، فاستشار الأنصار يوم بدر في قتال المشركين، فقال له سيد الأوس سعد بن معاذ: (والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك). وأخذ برأي الحباب ابن المنذر الأنصاري حين رآه ينزل عند أدنى ماء من بدر فقال له: (أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال له عليه السلام: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال: (يا رسول الله ليس لك هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله) فقل عليه السلام: (قد أشرت بالرأي) ثم استشار أصحابه في أسرى بدر وأخذ برأي من أشار عليه بقبول الفداء فعاتبه الله في ذلك وأقره. واستشارهم في إطلاق زوج ابنته زينب ورد قلادتها التي أرسلت بها فداء إليها. واستشارهم في غزوة أُحد أيقيم بالمدينة حتى يلقى العدو على أبوابها أم يخرج إليه، وكان يرى المقام، ولكنه أخذ برأي الجمهرة منهم. واستشارهم في طريقة الدفاع عن المدينة يوم الخندق. ولو أردنا أن نعدد ما استشار فيه عليه السلام أصحابه لطال بنا القول وما أحصينا أكثره؛ وإن ذلك ليكفي في أنه عليه السلام وهو الموحي إليه المعصوم كان يعتمد في حكومته على مشورة أصحابه يبحث معهم الأمر، يحزبهم ويناقشهم فيه حتى ينتهوا فيه إلى الحق، فلا يكون لأحد بعد ذلك خلاف. وذلك ما أدبه ربه عز وجل بقوله: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله). وكان عليه السلام إلى هذا عادلا لا يميز بين أصحابه ولا يكرم عليه من بينهم قريب لقرابة أو ذو جاه لجاهه، بل أنه ليسوي بينهم وبينه فيرضى أن يقاد من نفسه. لقد تقدم إليه بعض صحابته يوماً ما بشفاعة في قطع يد امرأة مخزومية فقال عليه الصلاة والسلام: أشفاعة في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. ولقد أتاه يوماً رجل يتقاضاه ديناً فأغلظ له، فهم به بعض أصحابه، فقال عليه السلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا. وقال له أحد الأعراب وقد رآه يقسم بعض الغنائم: اعدل. فأجابه بقوله: فمن يعدل إن لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل. ومر عليه السلام بسواد بن غزية في غزوة بدر وهو خارج عن الصف فضربه بالقضيب في بطنه وقال له استقم يا سواد. فقال سواد أوجعتني يا رسول الله وقد بعثت بالحق والعدل فأقدني من نفسك. فكشف له الرسول عن بطنه وقال: استقد يا سواد. فاعتنقه سواد وقبل بطنه وقال إنما أردت أن يكون آخر العهد أن يمس(246/44)
جلدي جلدك؛ فدعا له بخير
يرى مما ذكرنا أن حكومته صلى الله عليه وسلم كانت شورية ما أمكن أن يكون للمشورة محل، لأنها كانت في كثير من الأمور تستند إلى الوحي، ولم تكن عصمة الرسول وما أعطيه من الدرجة الرفيعة ليمنعه من أن يستشير أصحابه، وذلك ليعلمهم البحث ويهديهم إلى النظر الصحيح، والى وسائل الحكم الصالح المنتج، ويشعرهم بوجودهم ويعودهم تحمل نتائج بحثهم وتفكيرهم وفي ذلك تطبيب لنفوسهم وتوفير لمرضاتهم. وقد كانت رياستها إليه وحده بحكم رسالته واختياره من ربه لإظهار دينه ونشر تعاليمه. فلما توفى كان لابد للمسلمين من أن ينظروا فيمن يخلفه في تلك الرياسة العامة، فكان أول من بادر إلى التفكير في ذلك جماعة الأنصار من الأوس والخزرج، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، ولم يكد يلتئم اجتماعهم حتى وصل نبؤه إلى أبي بكر وعمر فأسرعا إليهم، وكان بينهم نقاش وجدل فيمن هو أولى بالخلافة. أيليها أحد الأنصار أم أحد المهاجرين الأولين من قريش، أم تكون شركة بينهم من الأنصار أمير، ومن المهاجرين أمير؟
لم يكن القوم يومئذ داعين إلى عصبية ولا طامعين في تغلب وجاه، ولا نافسين بعضهم على بعض مراكزهم، ولكنهم فوجئوا بوفاة الرسول دون أن يستخلف أو يسن لهم فيه سنناً أو يشرع لهم فيه شرعاً، يستبين به وجه الحق ويتعين به الخليفة؛ فأسرعوا إلى بحث ذلك خشية الفرقة، يبتغون الحق، ويتبينون الصواب، ويستجلون المصلحة، فما إن خطبهم أبو بكر حتى ظهر لهم جميعاً الحق واندفعوا وراء عمر رضي الله عنه مبايعين أبا بكر، حتى لقد سبقه بعضهم إلى يده وإن كان أسبقهم إلى طلب بيعته. لقد اتفقوا في ذلك الاجتماع على أن يكون خليفة يخلف الرسول إمامته، وعلى أن يكون الخليفة واحداً لا متعدداً، وعلى أن يكون أبا بكر رضي الله عنه. وما ذاع ذلك حتى كان فيه رضا أولي الرأي من بقية المهاجرين والأنصار، فأقبلوا على أبي بكر بالمسجد مغتبطين مبايعين، ولم يتريث إلا بعض بني هاشم، تباطئوا ثم بعد ذلك بايعوا، ولم يكن تباطؤهم مانعاً دون تمام خلافته وأخذه في مباشرة أسبابها في سيره في حكومته على نهج الرسول
ولقد انتهى المسلمون في أمر إقامة الخليفة إلى نتائج قيمة وثمرات صالحة طيبة، أضاعها الخلف فحرموا طيباتها، ومنوا بشرور تجنبها وويلات مجافاتها، فأصابهم ما أصابهم مما هم(246/45)
فيه من الضعف والمهانة حتى أصبحوا أمماً مستعبدين أو جماعات متخاذلين
أولها - أن الخليفة نائب عن الأمة وولايته مستمدة من ولايتها، وسلطانه فرع من سلطانها، فقد اختار المسلمون أبا بكر بعد وفاة الرسول من بينهم وأقاموه خليفة عليهم ليسوموهم ويدبر أمورهم وفق كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومهتدياً في ذلك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعتضداً بمشورة أولي الرأي منهم، فهو وكيلهم في ذلك ومعقد نظامهم ورأس وحدتهم؛ وهو في هذا الأمر كما كان الرسول، غير أنه لا يأتيه الوحي ولا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ولا يمتاز فيه عن سائر أمته إلا بما قد يمتاز به أي فرد من أفرادها من سعة في العلم وزيادة في الفقه وتعمق في النظر وإجادة في الاستنباط
ثانيها - أن الخليفة لا يكون إلا واحداً حتى لا يكون تعدده مثار خلاف أو فرقة بسبب ما قد يحدث لكل من شيعة تتشيع له أو حزب ينتصر لرأيه، وحتى لا يكون في تصريف الأمور اختلاف يعوق دون الإسراع في تدبيرها وتلافي الأخطار التي قد تتعرض لها الدولة
ثالثها - أن اختيار الخليفة وانتخابه ليس إلا لمن يقدر خطر الخلافة ويزن نتائجها ويعرف ما يجب أن يتوفر في الخليفة من جدارة وأهلية وقدرة وكفاية. وهؤلاء هم أولي الرأي في الأمة المعروفون في الصدر الأول بأهل الحل والعقد؛ أما غيرهم فالشر كل الشر في إيكال ذلك إليهم، لأنهم يستمعون لكل صيحة، ويهبون مع كل ناعق، يخدعهم الرياء والسمعة، ويغريهم الطلاء والبهرج، وتطمعهم الأكاذيب ويعميهم الجاه والثراء. وأهم ما يلاحظ اليوم على المجالس النيابية من عيوب عدم كفاية أعضائها، ووجودهم إنما يرجع إلى سوء اختيارهم، وذلك بإيكاله إلى من لا يحسنه
رابعها - خضوع الأقلية في ذلك لرأي الأكثرية حتى لا يتفرق الأمر وينقطع الحبل
وهناك نتائج أخرى لا يتسع المقام لتفصيلها، ولذا نكتفي بهذا البيان عسى أن يكون فاتحة بحث جديد في تفصيل أسس الحكم الإسلامي، ومبدأ اتجاه في إقامة الحكومات الإسلامية اليوم على سنن الحكومة الإسلامية الأولى حتى يعود للمسلمين على أيدي حكوماتهم ما كان لهم أيام حكومتهم الأولى من عزة ومجد وسؤدد.
علي الخفيف(246/46)
محمد الزوج
مؤامرة في بيت الرسول
للأستاذ محمود غنيم
- 1 -
دنت الرءوس من الرءوس، وهمست الأفواه في الآذان أن رسول الله غاضب. ورسول الله غاضب حقاً، غاضب على نسائه جميعهن حتى عائشة - كم لعائشة من دالة عليه! - لقد كان يطوف بأبوابهن أصيل كل يوم، فما باله الآن في عزلة تامة لا يطرق لإحداهن باباً، ولا يكشف لها حجاباً؟
طال غضب الرسول، وطال احتجابه، فلم يعد الأمر سراً يحبس في الصدور، أو يتناجى به اثنان في همس، ولكنه تجاوز الصدور إلى الشفاه، والإسرار إلى الإعلان، والاثنين إلى الجماعة، حتى أصبح حديث الأندية في يثرب، وموضع التكهنات والتخرصات؛ والغمرة لا تنجلي، والغمام يتراكم في الأفق، واللازبة تشتد، حتى ترددت على الألسن كلمة (الطلاق) بما تحمل في طياتها من بشاعة وهول، وحتى أشيع أنه على وشك الوقوع، أو أنه وقع فعلا وقضي الأمر
ولكن أين أبو بكر وعمر؟ أين كبار المهاجرين والأنصار؟ ألا يقابلوا الرسول فيضعوا حداً لهذه التخرصات؟ كلهم تحدثه نفسه بذلك، ولكنه لا يقدم عليه. إن رسول الله ملء العيون، ملء القلوب، فلا يكلم إلا حين يبتسم؛ ولكنه عابس الوجه متغضن الأسارير، فمن هو الشجاع الذي يغامر بنفسه في هذا الميدان؟ لهم أن يخوضوا المعامع، ويقتحموا على اليهود حصونهم، ويرووا ذباب سيوفهم من دماء المشركين في بدر؛ أما أمام الرسول فهم عيون خاسئة، ورءوس منكسة، وأفئدة هواء
إيه يا نساء النبي، ويا أمهات المؤمنين، ما فعلتن برسول الله؟
- 2 -
عجباً لرسول الله! تجبى إليه الأموال من كل فج في جزيرة العرب، ويضع يده على كنوز خيبر وقريظة والنضير، وتنصهر خزائن اليهود في لظى الحروب التي شنها عليهم، ثم(246/48)
يعود إلينا صفر اليدين، طاوي البطن، ونحن نشاركه الطوى، ونقاسمه ألم الحرمان، أيرضيك هذا يا عائشة؟ وأنت يا حفصة؟ أجيبي يا سودة. وأنت يا أم سلمة مالك لا تتكلمين؟
على هذا النحو من الحديث جرت الألسنة في بيت عائشة، وقد انعقد المؤتمر من أمهات المؤمنين، وكلهن تائق إلى شيء من الترف يرجو أن يساهم فيما أفاء الله على رسوله، بعد أن حملت إليه الجزي، ووصلت إليه هدايا أرباب التيجان؛ فإذا هو يبعثر النضار ذات اليمين وذات اليسار، ثم يقنع بالعيش الظليف، والمأكل الطفيف، وينام بجانب زوجاته على بساط من أدم حشوه ليف
أوَ ليس من حق نساء النبي أن يطمحن إلى ما هو فوق هذا المستوى من المعيشة، ويتطلعن إلى لون آخر من ألوان الحياة؟ ولم لا يفعلن وفيهن بنت أبي سفيان، وأبو سفيان زعيم قريش، وفيهن بنت حي بن أخطب، وحي كبير بني النضير، وفيهن غير هاتين ممن كن يرفلن في مطارف النعيم، ويجررن أذيال الرفه في بيوت آبائهن؟ فكيف لا يتبرمن بهذا اللون من الحياة الذي يعالجنه في بيت رسول الله؟
ولقد كن يلتمسن له شيئاً من العذر لو لم يكن هذا الشظف من صنع يده، ووليد زهده، وعزوفه عن الدنيا؛ أما والأمر ليس كذلك، فما هن والصبر عليه؟
لقد اتسعت آفاق معلوماتهن عن الدنيا، وعرفن كثيراً عن قيصر في الروم، وكسرى في الفرس، والنجاشي في الحبشة، والمقوقس في مصر؛ وهن يرين أنفسهن تحت أمير تدين له جزيرة العرب بالطاعة لا يقل خطراً عن هؤلاء الأمراء
وهل المرأة إلا المرأة منذ تحدرت من أعماق التاريخ إلى أحدث عصور المدنية والنور؛ امرأة البدو، هي هي امرأة الحاضرة؛ همها الأول زينتها. هي من ناحيتها تريد أن تساعد الطبيعة التي سلحتها بالنعومة والجمال أداتي جاذبية وإغراء لحفظ النسل، كما سلحت الزهرة بطيب العرف وألوان الطيف، حتى تجتذب الطيور فتكون رسلاً تحمل حبوب التلقيح
لم يكن بدعاً إذن من نساء الرسول أن يأتمرن به على هذا النحو، حتى إذا دخل عليهن أحطن به إحاطة السوار بالمعصم، وانطلقت ألسنتهن في حماس(246/49)
ولكن سيد الرسل يعتصم بسيد الأخلاق، ويقابل الأمر بابتسامة هادئة، ثم، ثم لا يفعل شيئاً
- 3 -
ما بال رسول الله يبطئ في بيت زينب؟ ألم يأته نبأ عائشة وسائر زوجاته وهن ينتظرنه على أحر من الجمر، ويعددن له الثواني والدقائق؟
اعتاد الرسول أن يطوف ببيوت نسائه غب صلاة العصر، ولكنه اليوم يحتبس في بيت زينب زمناً طويلا، وعقارب الغيرة تنفث لعابها في نفوس عائشة وصواحبها. وهل تسلم المرأة من الغيرة وإن كانت زوجة رسول؟
انعقد المؤتمر في بيت عائشة، وطرح المسألة على بساط البحث، ثم قرر قراراً طابت به نفوس الجميع
لقد تعودت زينب أن تسقي الرسول عسلا ذات رائحة حادة، فما ضر المؤتمرات أن يتخذن من حلاوة هذا العسل أداة انتقام مرة، وسلاحاً يشهرنه في وجه الرسول؟ إيه يا حفصة! إيه يا سودة! إذا انصرف الرسول عن زينب إلى أيتنا فلتبد شيئاً من الاشمئزاز، ولتقل إني أشم ريح مغافير. ونساء الرسول يعلمن مبلغ حرصه على النظافة، وعلى طيب نكهة فيه، ويعلمن أن الطيب إحدى ثلاث حببن إليه، وأن النظافة وتطهير الجسد حجران يقوم عليها دينه الجديد، فما ضرهن أن يستغللن هذه الناحية في هذا الظرف؟
ثم يتم الرسول طوافه فإذا برائحة المغافير تدخل كل أنف، وتخرج من كل فم، فيحرمه على نفسه، ثم ينكشف له السر
ولكن سيد الرسل يعتصم بسيد الأخلاق، ويقابل الأمر بابتسامة هادئة
- 4 -
زادت العَلاَّت واحدة بميلاد الطفل إبراهيم، وارتفعت مارية الجارية المصرية إلى مصاف زوجات الرسول من الحرائر العربيات. هاهو ذا يأمر أن يقام لها بيت يتاخم بيوت نسائه، بعد أن كانت تقيم بمكان ناء، وينظر إليها نظرة القرين إلى القرين، لا نظرة السيد إلى ملك اليمين. وهاهو ذا يغدو ويروح وطفله على ذراعه يدلله ويناغيه، ويمطر جبينه بوابل من قبلات لا تستشعر لذتها إلا شفاه الآباء، ولم لا يفعل؟ أليس محمد بشراً قبل أن يكون(246/50)
رسولا؟ لقد هدف محمد للستين أو نيف عليها وليس له ابن من صلبه، ولقد تزوج بعد خديجة غير واحدة فلم تبشر إحداهن بخصب. وهاهو ذا يرى حياته تبدأ من جديد، وصفحة طفولته تنشر من جديد في شخص الطفل إبراهيم. فلم لا تقر عينه بطفل، ويرفع أمه إلى مقام الحرية من أجله، ودين محمد يمقت الرق الذي ورثه جيله عن القرون البائدة، ويتشوف إلى الحرية ويتمحل لها الأسباب؟
ولكن عقارب الغيرة تعاود دبيبها من جديد. لقد كانت كل واحدة من أمهات المؤمنين تشتهي أن تكون أم الغلام، فأبت المقادير عليهن ذلك، ومنحته جارية لا تمت إلى العرب بنسب
لا غرو أن يحدث ذلك في نفوسهن غيرة، وإن شئت فقل حفيظة على أم ذلك الغلام. ولعل تلك الحفيظة تجاوزت أم الغلام إلى الغلام نفسه. ولعلهن أسرفن في ذلك حتى هممن بأمر جلل، هممن أن يشككن الرسول في صحة نسبة الغلام إليه حتى أنه ليدخل به يوماً على عائشة، فيوجه نظرها إلى ما بينهما من شبه، فتهز كتفيها هزة النفي والإنكار، بل تصرح بذلك في مواجهة الرسول، فلا يسعه إلا أن يرميها بالغيرة، ثم ينصرف
بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد
هذه حفصة تغادر بيت بعلها إلى بيت أهلها لبعض الشؤون. وهذا رسول الله في بيت حفصة. وهذه مارية أم الغلام تدخل عليه، ثم يكون بينهما ما يكون بين المرء وزوجه، ولكن حفصة تعود في وقت كان من الخير ألا تعود فيه، فترى مشهداً مريباً، أو تعده هي مريباً، فتعاتب الرسول قائلة: (لولا هواني عليك ما فعلتها) ولكن الرسول يهدئ من روعها، ثم يعتذر، ثم يستكتمها الأمر، فتعد، ولكن متى كان للمرأة - وإن كانت زوجة رسول الله - أن تمسك لسانها عن سر إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟
أصبح الرسول فإذا سره أذيع من يوم حليمة، وإذا سائر نسائه يتحدثن به، ويعلقن عليه بما يحلو لهن
وهنا لا يعتصم سيد الرسل بسيد الأخلاق، ولا يبتسم ابتسامته الهادئة، ولكن يغضب الرجل الحليم، وتكون القطرة التي فاضت بها الكأس، والقشة التي قصمت ظهر البعير
لابد من درس قاس يقف هذا التيار، ويعيد إلى منزل الرسول صرح السعادة المنهار، ثم، ثم تكون العزلة(246/51)
ولكن، ليت شعري إلى أي حد كان تأثير هذا الدرس في نفوس أمهات المؤمنين؟
- 5 -
أرأيت ندامة الكسعى على قوسه؟ أرأيت رسول الله وقد فتر عنه الوحي ثلاث سنوات، ذهبت فيها نفسه حسرات، حتى ليكاد يردي نفسه من شاهق؟
تلك هي حال نساء الرسول مدة عزلته - شهر أو قرابته - يقرعن السن، ويعضضن البنان، وتتنصل كل منهن، وتلقي إحداهن التبعة على غيرها، وينحين باللائمة على أنفسهن. ما بالنا نحرج رسول الله؟ أيكون هذا جزاء نصير المرأة من المرأة؟
أي والله ما برزت شخصية المرأة، ولا أخلى لها مكانها في المجتمع إلا محمد؛ محمد الذي انتشل المرأة من الهوان الذي تحدر إليها من أعماق التاريخ. لقد حرم وأدها صغيرة، وجعل لها حق اختيار الزوج كبيرة، وجعل لها نصيباً من الميراث بعد أن كانت العرب لا تورث من يحمل السلاح، ويقدر على الكفاح من الرجال دون النساء، بله الأطفال
أما كانت المرأة عند الأثينيين معدودة من سقط المتاع، حتى أنها لتباع وتشترى في الأسواق؟ أما كان الإسبرطيون يبيحون لأي عدد من الرجال الاشتراك في زوجة واحدة؟ أما كانت بعض طوائف اليهود يعتدون البنت في مرتبة الخادم، ويجيزون لأبيها بيعها، ويحرمونها الميراث إلا عند فقد الذكور؟ أما كانت المرأة تعتبر عند بعض الجاهلية ميراثاُ يورث، حتى أن المرأة لتؤول ملكيتها إلى ابنها بعد وفاة زوجها؟
كان طبيعياً أن يذكرن نساء النبي ذلك كله، وأن يتحدثن مدة عزلة الرسول التي كان وقعها شديداً على أنفسهن. وكيف لا تكون كذلك وقد كان الرسول في بيته نمطاً وحده، يعامل نساءه على أسلوب لم تألفه العرب؟ هو في بيته مثال الدعة والأريحية كثير التدليل والمداعبة لنسائه، حتى ليجترئن عليه بما لا يجترئن به على آبائهن واخوتهن. قال عمر: (راجعتني امرأتي في شأن من الشؤون، فانتهرتها فقالت: عجباً لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن أراجعك في أمر وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان)
كان النبي صاحب الغزوات والملاحم ينقلب في بيته ملاكاً وديعاً، حتى أنه ليصلي فيتسلق ظهره الحسن بن علي، فيطيل سجوده، حتى يترجل الغلام من تلقاء نفسه. وكان رحيماً بنسائه، حتى أنه لفي بعض رحلاته، ببعض زوجاته، فيغذ قائد راحلتهن السير، فيقول له:(246/52)
(رفقاً أنجشة بالقوارير)
هكذا كانت معاملة النبي لنسائه، فمن لهن بالجلد على جفائه؟ ومن الذي يخرجه من عزلته، ويعيد إليهن سيرته الأولى؟ إنه عمر
- 6 -
ما كان عمر ليسعده التجلد على عزلة النبي أكثر من شهر؛ عمر الرجل الصريح، الشجاع في الحق، الذي ليس أقرب إليه من حسامه ينتضيه في كل موقف، والذي تسلل المسلمون إلى المدينة لواذاً فخرج هو جهاراً نهاراً يقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده فليتبعني)
أخذ عمر سمته إلى معتزل الرسول لا يلوي على شيء؛ حتى إذا كان منه عن كثب نادى رَباحا غلام الرسول: يا رباح استأذن لي مولاك في الدخول؛ بيد أن الغلام يدخل ثم يعود بلا إذن. فيعاود عمر الكرة، فيعود الغلام بلا إذن، فيهتاج عمر، فيقتحم المكان داخلا قائلا: يا رسول الله، إن كنت ظننت أنني جئت من أجل حفصة ابنتي، فوالذي بعثك بالحق، لولا رهبتي إياك لوجأت عنقها، ولكني أريد أن تضع حداً لتخرصات المتخرصين
ثم يلتفت عمر، فلا يرى غير قبضة من شعير، وجسد طاهر أثر فيه الحصير، فيبكي حتى تخضل لحيته، ولكن رسول الله يهش لعمر، ويهدئ من روعه، ثم يغادر المكان إلى حجرات أمهات المؤمنين، ثم يأمر بهن، فيدخلن واحدة واحدة، ويبدأ بعائشة:
إيه يا عائشة! إنه قد ألقي قول كريم (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسول والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما. . . الآيات) فأيهما تختارين؟
أيهما تختار! وهل يحتاج الأمر إلى الروية وكد الذهن؟ ما كان لعائشة أن تختار غير الله ورسوله، وما لغيرها من أمهات المؤمنين أن يخالف عائشة في الاختيار
وبذلك عاود بيت النبي صفاؤه وسكونه، وانقشعت عن أفقه تلك السحابة التي أظلته ردحاً من الزمن، وكان الدرس ناجحاً
- 7 -(246/53)
وبعد، فإنما أردت بهذا الفصل أن أعرض لحياة النبي المنزلية ولبعض المشاكل الزوجية التي كانت تعترضه، ولأسلوبه في معالجة تلك المشاكل، حتى نعرف محمداً الزوج، كما عرفناه محمداً القائد ومحمداً المشرع، وما أكثر عظمة النبي التي تحتاج إلى الدرس والتمحيص. على أن الناحية الزوجية ليست أقل خطراً إذا لاحظنا أن حياة الرسول في بيته كانت بمثابة الحجر الأساسي لكل بيت مسلم، وأن الأمة تتكون من مجموع بيوتها
ولعل القارئ لا يرتاع لتلك المؤامرات التي كانت تدير في بيت الرسول، فقد تكون هينة لينة إذا قيست بما اعتيد تدبيره في بيوت الأمراء من المؤامرات التي تنضح بالدماء
ولقد كانت حياة النبي فترة انتقال في كل ظاهرة من ظواهر الحياة العربية، وكانت المرأة حديثة العهد بالحرية. وقلما يحسن استعمال الحرية من هو حديث العهد بها، كما يحسنه الناشئ عليها الدارج في بحبوحتها
على أن توفيق النبي في إدارة شؤون بيته لم يكن دون توفيقه في حروبه؛ ولعل مما يسترعي النظر أن كثيراً من القواد البارزين الذين عرفوا كيف يديرون دفة السياسة في أممهم، قد عجزوا عن إدارة بيوتهم. ولست أحدثك عن امرأة نوح أو امرأة لوط اللتين ورد ذكرهما في التوراة والقرآن، ولكني أستطيع أن أذكر لك طائفة من أبطال التاريخ الحديث. ولعل من هؤلاء (نابليون) عاهل فرنسا و (مصطفى كمال) عاهل تركيا
ولعل حكمة الرسول في إدارة شؤون بيته تتجلى بشكل أوضح، إذا لاحظت أن سقفه كان يظل أمشاجا من الزوجات، تفصلهن عنه فوارق بعيدة المدى، كما تفصل بعضهن عن بعض أمثال تلك الفوارق، فلقد كان فيهن من تصغره بنيف وأربعين عاما، ومنهن ثيبات كن تحت أزواج قبله، وكان بينهن من اعتنقت الإسلام بعد اليهودية، ومن اعتنقته بعد المسيحية، ومن اعتنقته بعد الوثنية، وكان منهن ابنتا أصفى أصفيائه أبي بكر وعمر، وابنة أعدى أعدائه أبي سفيان، إلى غير ذلك من الفوارق التي تجعل إدارة دفة البيت أمراً عسيراً
وإني لأرجو بعد هذا ألا أكون قد تدخلت بين الرسول وزوجاته إلا بمقدار ما صورت العبرة. والحق أني أشعر في قرارة نفسي أن الموضوع وعر شائك، ولعل وعورته هي التي حببت إلي اقتحامه، وإن كنت أخشى أن يقال لي ما قالت (أم سلمة) أم المؤمنين لعمر بن الخطاب، حينما ذهب إلى بيتها ينحى عليها باللائمة في هذا الشأن فأجابته: (عجباً لك يا(246/54)
ابن الخطاب تدس أنفك في كل شيء، حتى فيما بين الرسول وزوجاته!) فكأنما صبت عليه ذَنوبا من ماء بارد، فغادر بيتها، وانصرف، يقتلع رجليه من الأرض اقتلاعاً
(كوم حمادة)
محمود غنيم(246/55)
يسر الإسلام
للأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري
لقد كان يملك كثرة الناس العجب من تمام عظمة الإسلام في هذا الصدر اليسير من الزمن وبلوغه ما بلغ في غير عنف ولا مطاولة يكافئان هذا المجد كله ولا معظمه
ولست الآن بصدد ترديد ما أثر التاريخ ولا ما دون المؤرخون في فتوح الإسلام وانتشاره السريع العجيب في قواصي الأقطار وأدانيها، وما كان لأهله في كل مكان من منعة وعزة وسلطان، فذلك شيء قد فاضت به الكتب، واحتفلت بتفصيله الأسفار الضخام؛ وبحسبي - فيما جردت له هذا الكلام القصير - أن ألفت القارئ إلى أن أمة بادية جاهلة صائلة يكون منها في هذا الزمن ما كان من العرب بفضل الإسلام. هذا فتح، وهذه سيادة، وهذا تعمير وتثمير، وهذي علوم وفنون وصناعات، وهذي حضارة لا تتعلق بأذيالها أعلى حضارات التاريخ!
لعمري ما هذا كله؟ وكيف كان؟ وكيف تأتى بهذه السرعة لدولة الإسلام؟
اللهم إن أوثق يقيني أن مرجع هذا أجمعه إلى ما في هذا الدين من يسر عظيم
الدين يسر، وبفضل هذا اليسر كان من دولة الإسلام ما كان!
ستقول: إن الإسلام ما ساد إلا لأنه حق، وأقول لك: وهل ثمة أيسر من الحق أو أعسر من الباطل؟ ومتى احتاج الحق في تجليته إلى عنف أو إلى جهد؟ إن الباطل هو الذي يحتاج إلى هذا وهذا، وقل أن يثبت له معهما قرار!
وإذا قيل إن الإسلام دين الفطرة، فمعنى هذا أنه دين اليسر، لأن ما جاء على حكم الفطرة لا عسر فيه ولا مشقة. أما ما جاء على جهة التكلف والتصنع فذلك الذي يقتضي كثيراً أو قليلاً من الجهد والعناء
الدين يسر، وإن هذا اليسر ليغمره من جميع أقطاره. أرأيت أيسر من دعوته: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وأي شيء لعمري في هذه الجملة ينشز على الفهم؛ بل أي شيء فيها يتعثر فيه الذهن وتضيق عنه مساحة أدنى التفكير؟
هذا اليسر في هذا الحق الذي ليس وراءه حق، هو الذي سلك أقطار الأرض بدعوة الإسلام، واستفتح لها قلوب الأمم والجماعات في غير علاج ولا استكراه!(246/56)
هذه الدعوة اليسيرة الواضحة لقد تغنت بنفسها عن العنف والاضطرار: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). بل لقد استغنت عن استدراج الناس بفنون الإغراء والاستهواء
وهذه تكاليف الإسلام، ما قامت فيها مشقة إلا قامت بازائها رخصة؛ ولا كان في أحدها على أحد عسر إلا ذلل بين يديه طريق العذر. وهل بعد ذلك اليسر كله يسر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه). وقال تعالى في كتابه الكريم: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) صدق الله العظيم
لم يقتض الإسلام أحداً احتمال ما لا طاقة له باحتماله، فهذه تكاليفه، من استطاع القيام بها، وإلا تخفف منها في حدود أحكام الشرع الكريم، حتى تكافئ طاقاته ويتسع لها ذرعه، ولا يتحرج بها وسعه، مقبولاً عذره، مكفولاً عند الله أجره
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى شيء حقيق بالانتباه: ذلك بأن من القواعد المسلمة أن الضرورات تبيح المحظورات، (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه) فالتفريط في غير ضرورة، والتخفف من أحكام الشرع من غير داع جدي إثم من الآثام. ومن القواعد الأصولية المقررة أن الضرورة تقدر بقدرها. ولاشك بعد هذا في أن تتبع الرخص وتلمس المعاذير إنما هو ضرب من الاحتيال للتهرب من تكاليف الدين، وهيهات لا ينطلي على الله محال!
ومن يسر هذا الدين أنه لم يقم بينك وبين ربك أية واسطة. وليس من شك في أن ما تستطيع أن تتناوله بنفسك أيسر عليك وأدنى إليك مما لا تستطيع تناوله إلا بواسطة غيرك. فإذا زلت بك القدم، وقلبك الشيطان في المنكر، أقبلت على ربك، وسألته قبول توبك، والعفو عما أسلفت من ذنبك، مطمئناً إلى (أن الله يغفر الذنوب جميعاً). ليس بك حاجة إلى من يمهد بين يديك سبيل المعذرة، ولا من يعاني لك استخراج العفو والمغفرة
وبعد، فإن من يسر هذا الدين شدة تسامحه؛ ولا يذهب عنك أن هذا التسامح إنما كان من أبلغ الأسباب في عظمته
لا يدعوك الإسلام إلى كراهة ما يصدر عن مخالفك في الدين لأنه يخالفك في الدين، بل يدعوك إلى أن تكره منه ما يُكره، وتقر منه ما يُحب ويُؤثر، فهو وأخوك المسلم في هذا بمنزلة سواء(246/57)
ولقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية، وقال تعالى في كتابه الكريم: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم)، ولا ريب في أن لهذا ولهذا دلالة كان لها أعظم الآثار في نهضة الإسلام!
لم ينفر المسلمون من مخالفيهم في الدين ولا في الجنس، ولم يحتجز بهم تعصب عن مخالطتهم والاتصال الوثيق بهم، والانتفاع بكفاياتهم والأخذ عنهم. ولم يكد يستقيم أمر الملك لهم حتى أقبلوا على علوم من سبقوهم فترجموها إلى لغتهم، وجعلوا يتروونها ويشيعون الأذهان فيها، ويطبعونها على غرار عقولهم، ويزيدون فيها ما فتق الرأي والذكاء لهم. كذلك كان شأنهم في الفنون، فقد حذقوها أتم الحذق، وبرعوا فيها أعظم البراعة، وأداروها على أذواقهم، حتى اتسق لهم منها فن خاص؛ وناهيك بالفن العربي الذي ما برحت آياته مسطورة على جبين الزمان
أرجو أن تكون قد اطمأننت بعد هذا، إلى أن اليسر في الإسلام، كان من أبلغ الأسباب في عظمة الإسلام
عبد العزيز البشري(246/58)
بين الشك واليقين
للأستاذ أحمد خاكي
تطغى على العالم اليوم موجة من الشك تكاد تخترم بقية اليقين التي يحرص عليه الفلاسفة. وقد أسرفت الجماهير في الشك حتى لقد أصبح هو القاعدة لكل تفكير، وأصبح اليقين شذوذاً لهذه القاعدة؛ وحتى ليكاد الإنسان يجزم بأننا نجتاز عصراً من عصور السفسطة التي فقدت عندها المعاني والأمثلة العليا أكثر قيمتها. وقد عانت تلك المعاني وهذه المثل العليا ما عانت لاختلاف وجهات النظر بين فريق وفريق؛ وكل فريق يذهب إلى ما يذهب إليه لأنه يرضي حاجة ملحة في نفسه، فهو يتعلق به لأنه يرى فيه إرضاء لنزعاته الجامحة سواء أكانت نبيلة أم وضيعة. وقد أدى ذلك إلى أن تضعضعت قواعد الإيمان وحل الشك في كل بيئة سياسية أو اجتماعية يتذرع به كل مفكر حتى تستوي له الغاية التي يريد. ولعلنا لن ندرك حاجة العالم اليوم إلى اليقين حتى نبحث أصول الشك، ولأننا نريد أن نقيم مثلاً أعلى يتألف قلوبنا، فينبغي أن نتعمق البحث في أصل ذلك الاضطراب الذي يصطخب به العالم
والحق أن الشك في العصر الحاضر قد أدرك ما أدرك من القوة لأنه لبس لبوساً علمية خالصة. فقد ذهب كل فريق إلى الرأي الذي يرضيه، لكنه جاهد في إرضاء تفكيره بأن اتخذ من العلم مسوغاً يضعف ويقوى. وأصبح الشك لذلك علمياً يقوم على دراسات شتى. ووجد المفكرون والسياسيون في تلك الدراسات معيناً لا ينضب من القضايا يستدلون بها على ما يعملون مهما نبا عن جادة الخلق القويم. وسنحاول في هذه العجالة أن نفصل تلك الدراسات المتشككة حتى نرى سبيلا واضحة إلى دراسة المثل الأعلى الذي نحاول أن نقيمه في مصر
والشك قد ضرب في أطواء الفكر الحديث حينما حل علم النفس محل فلسفة الأخلاق. فقد اصبح هذا العلم بعد ذلك مورداً يستمد منه كل مفكر قواعد يفسر بها الظواهر العقلية والنفسية. ولقد أقامت الفلسفة قبل ذلك ما أقامت، يؤمن الناس والعلماء بأصولها، لكنهم لم يقفوا إلا قليلا يحاجون طبيعة الإيمان. ولم يكن هؤلاء ولا أولئك يفرقون بين مراتب العقيدة ولا ألوان التفكير، ولكن حينما أبديت للعالم أصول علم النفس بما تحملته من مباحث(246/59)
التحليل النفسي، وبما تضمنته من وصف نفسية الجماعة، وبما فرقت بين العقل الواعي وبين العقل الباطن - حينما أبدى كل ذلك تطرق الشك في قيمة الفكرة، وأصبح الناس لا يرون للعقيدة نفس السلطان الذي كان لها فيما مضى، بل لقد ذهبت الكثرة من علماء النفس ووراءهم الجمهرة من سائر العلماء إلى أن الفكرة شيء والعمل شيء آخر
ويرجع الشك في قيمة الفكرة إلى أن علم النفس الحديث يرى أن الإنسان مسير أمام جملة من العوامل التي لا يحكمها العقل بل هي في الواقع مؤثرات ودوافع تدفع بالإنسان إلى أعمال أكثرها قد تحرر من سلطان التفكير القويم. وإنما يسير الإنسان عند هؤلاء الرغبة والعاطفة والمزاج قبل الفكرة والعقل والفلسفة. وقد كانت فلسفة الأخلاق تؤمن بأن لكل فكرة مسيراً تنتهجه، فهي لا تنتهي عند مجرد التفكير وإنما تمتد إلى العمل والتنفيذ. فالفكرة لها شطران من تعقل وسلوك، ولا يكون لها أثر خلقي حتى تنقلب إلى هذا السلوك. لكن علم النفس حل في تاريخ الفكر الحديث محل علم الخلاق، فباعد ما بين شطري الفكرة، وعالج الإحساس الضئيل مجرداً عن العمل، وباين ما بين العقيدة والسلوك. وقد أدى ذلك إلى ذلك التناكر الذي نشهده اليوم بين ظهرانينا.
وعلم النفس لا يستطيع أن يخلق لنا مثلا أعلى لأنه غير قادر على تثبيت قيم الأشياء. ذلك لأنه علم وصفي يسير في نطاق ضيق من التجارب التي تختلف على عقل الإنسان وحِسّه. ولأنه علم تجريبي، فقد عالج حالات شاذة أو غير شاذة من غير أن يقيم معايير يستطيع المرء أن يتخذها لنفسه غاية أو سبيلا. فحينما طغى علم النفس على فلسفة الأخلاق فَقَدَ العالم كثيراً من الغايات الفلسفية التي كان قد استقر على الإيمان بها. واستشرف قادة الفكر لحالة من الشك طافت بنفوسهم حتى أصبحوا يشكُّون في مبلغ عقائدهم هم أنفسهم.
وقد كان الفرد ضحية من ضحايا الدراسات النفسية، لأنه تضاءل ثم تضاءل أمام دراسة الجماعة حتى لم يعد له إلا المكان الأدنى. ومن العجز أن نطالب الديمقراطية بما نطالبها به من تقدير المسئولية إذا كانت قد أنكرت المدرسة الحديثة حدود الفرد هذا الإنكار. وإذن فالعبث بعينه هو أن نتهدّي بعلم النفس في سيرنا إلى المثل الأعلى؛ والعبث بعينه هو أن نحاول تأليف غاية نبيلة تتألف أصوله. فعلماء النفس يصفون حالات الجماعة ونفسية الجماهير بما يحكمها من عقلية الرعاع، وبما يشينها من العقل الباطن غير المفكر. وكان(246/60)
حقيقاً بكل ذلك أن يدفع بالعالم إلى الشك، وأن يزعزع إيمان الناس في سمو المثل الأعلى. فقد أصبح الفرد يرى نفسه غير الملوم، لأنه يتخذ من وجوده في الجماعة ذريعة للتزكية والتبرؤ.
ولم ينفرد علم النفس بين العلوم في إنتاج ذلك الجو المتشكك الذي يكاد يعصف بالفكر الحديث؛ فالتاريخ وعلم الاجتماع كلاهما يعاونه في ذلك. أما التاريخ فقد حاول المؤرخون أن يطبقوا على حوادثه مقاييسهم العلمية. ومازالوا يفصلون فصوله ويؤصلون أصوله حتى خيل إليهم أنهم قد استخلصوا من صحائفه طرقاً علمية محددة. وفي كل ذلك غبن للفرد وتحيف من مكانه، لأن التاريخ العلمي تنكرَ لفلسفة الخلق، وجافى فكرة السلوك، وازورَّ عن تقدير الفرد، وحاول أن يقيم قواعد تستمد سلطانها من الجماعة. وقل مثل ذلك عن علم الاجتماع الذي ينكر مسئولية الفرد ويلاشيها في الإرادة العامة، والذي يخلو من أصول خلقية تنشئ الفكرة وتخرج منها عملاً نافعاً طيباً ينتجه الفرد
والحق أن علم النفس والتاريخ وعلم الاجتماع كل أولئك علوم تجريبية لا خير فيها إذا حاولنا أن نقيم منها مثلاً أعلى، فهي لن تزيد إيماننا في سمو الفكرة، ولا عقيدتنا في سيطرة العقل على العمل. وكلما أمعنا في دراستها زادتنا شكاً في أصول الخلق وفي فلسفة الحياة. فهي تعالج ظواهر نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية، لكنها لا تأتي بجديد في قيم الأشياء، ولا تخلق ميزاناً عادلاً لحقائق الخلق؛ وإنما نفيد من هذه العلوم إفادة سلبية لأنها جميعاً تبسط لنا حالات النفس والاجتماع التي ينبغي أن نتجنبها؛ وهي لا تمحضنا الإيمان في فكرة من الأفكار، لأنها تبسط الشروح التي تؤيد كل فكرة. فعندنا أن الإغراق في دراسة مثل تلك العلوم هو السبب في حالة الشك العلمي التي ملكت مذاهب التفكير على كل مفكر، وهي التي وجهت كل فرد وجهة من لا يؤمن بشيء هو في نفسه حسن أو جميل نافع، حتى أصبحت الفكرة الحديثة ضرباً من ضروب السفسطة الخادعة. وذلك عندنا هو السبب في التناقض الذريع الذي خلق ذلك النضال الكاذب حول ألفاظ تكاد تخلو من المعاني، وحول معان لا يدين لها الناس بالولاء
وكما أن فلسفة الخلق قد تلاشت في علم النفس، فكذلك قد تلاشت الفلسفة السياسية في علم الاقتصاد. ذلك بأن العالم قد أعمته اقتصادياته عن المثل العليا التي أقامها الفلاسفة(246/61)
والحكماء، وأسرف في اتخاذ مبادئ الاقتصاد إنجيلاً لا يكاد يؤمن إلا به. فكما أن الفرد يرى في أصول علم النفس أن إرضاء النزعات والرغبات فيه شفاء لما يحز في النفس من ألم ممض، كذلك ترى الجماعات أن في إرضاء رغباتها ونزعاتها الاقتصادية شفاء لما تعانيه من جفوة وشقاء. والاقتصاد كما هو الآن علم المنافسة الحادة على احتكار المادة والتطاحن على الكماليات؛ وليس يخفف من حدته أي فكرة واضحة عن المعاني الأولى؛ وليس ينهنه من شدته أي قوة دافعة إلى المثل الأعلى. وقد كان الاقتصاد نفسه معيناً يستمد منه المؤرخون وعلماء النفس ما يرونه من القضايا ليتشككوا في قيم الخلق العام
تلك إذن هي الدراسات التي نفخت روح الشك في العالم الحديث، وزلزلت اليقين الذي استهدى به الفلاسفة الخلقيون والسياسيون عندما كان العالم أشد من ذلك إيماناً. وقد اضطربت قوائم السياسة والاجتماع والاقتصاد لهذه الحالة المتشككة، لأن العلماء أنكروا قوة الخلق في الفرد، وأنكروا كذلك قوة الخلق في الجماعة، فأدى ذلك إلى حالة من الاستهتار بالمثل العليا يعاني منها الغرب ما يعاني اليوم. وحينما ينادي الفلاسفة في أوربا بفكرة السلام، وحينما يعلنون للملأ سخطهم على الحرب، فليس لنا إلا أن نسخر من كل ذلك، لأننا نعلم في نفس الوقت أن قادة الفكر عندهم قد سوّغوا الحرب بآلاف من الأدلة التي استخرجوها من علم النفس والاقتصاد والتاريخ والاجتماع. وإذا سمعنا بعد ذلك عن العدل والإخاء والمساواة والمحبة فينبغي علينا ألا نؤمن بأن أوربا شديدة الإيمان بكل ذلك، لأن مذاهب عملية تناقض كل هؤلاء قد شاركت حياة نظمهم الاجتماعية والاقتصادية. وشبت معها وهي مازالت تدرج في عنفوانها مع المدنية الحديثة
والسياسة التي يؤمن بها الجمهرة من الناس قد تأثرت تلك الفلسفة العلمية التي أنتجتها دراسة تلك العلوم. وقد مشت الحضارة الغربية بيننا بما تحملته من كل ذلك، فاشتعب الناس في مصر فئات متنافر يلاحون عن مذاهب لا أصل لها في صميم الفكرة. وكانت نتيجة كل ذلك فوضى اجتماعية ضربت بجرانها في كل وجه من وجوه الحياة عندنا. ولن نستطيع أن ندرس المثل الأعلى حتى نقرر المبادئ التي ينبغي أن نلتزمها في حياتنا العقلية والسياسية والاجتماعية، وحتى نقدر الحقائق التي نعنو لها ونستهدي بها. ينبغي علينا أن نقدر قبل كل شيء أصالة الرأي والشرف والصدق في حياة الفرد. وينبغي علينا أن نقدر مبادئ الحرية(246/62)
والنظام والديمقراطية والقومية والعالمية في حياة الجماعة. يجب أن يكون ذلك الخطوة الأولى التي نخطوها لتنشئة المثل الأعلى - هل نؤمن بكل هؤلاء؟ أنؤمن ببعضها ولا نؤمن بالبعض الآخر؟ هل ينبغي أن يكون إيماننا من النوع الفلسفي الفعال أم من النوع النفسي الكاذب؟ كل ذلك يجب أن نقرره قبل أن نقيم بناءنا، فإذا استوت نفوسنا على الإيمان خلقنا فكرة لها أثر في العمل، وكونا عقيدة لها سلطان على السلوك
ولعل أول ما ينبغي أن نعني به في مثل هذا السبيل هو تنشئة الفرد. وقد أسلفنا أن تلك الدراسات المتشككة قد أنكرت ما للفرد من وزن في حياة الجماعة حتى لقد أصبح الفرد يحتمي في نتائج تلك الدراسات، فيرى نفسه غير مسئول عن الحالة السيئة التي وجد نفسه فيها. وإذا كان مثل هذا الاتجاه قد أساء إلى الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب، فإنه يفسد حياتنا العامة نحن أيضاً. وهو عندنا أفدح أثراً، لأن الفرد من نفسه مضعضع مستضعف. فنحن إذن نبدأ بتنشئة الفرد، لأن التنظيم العقلي عند الفرد أساس للنظام الاجتماعي العام. فبين عقلية الفرد وبين نظام الجماعة صلات تتوثق وتتوافق كلما أحسنت تنشئة الفرد. ولذلك فلابد لنا من أن نلقنه فلسفة يقيم بها قيماً ثابتة في حياته. فلابد لنا من أن نكمل الدراسات التجريبية التي ذكرنا بدراسة الفلسفة الخلقية. ولابد لنا من أن نقيم أسساً لخلق الفرد من تربيتنا العامة ومن معايير خلقية خاصة نكمل بها دراساتنا في التاريخ والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس
ثم علينا بعد ذلك أن نخفف كثيراً من غلوائنا في تقدير الجماعة ما لها وما عليها، لأن هذا في نظرنا قد بعث سورة الشك التي أخذت بأكظام السياسيين والمفكرين في العصر الحاضر. وإذا نحن حاولنا أن نتخذ طريقاً وسطاً بين الفرد والجماعة استطعنا أن نجد خطة مثلى تداول بين الطرفين. ولا مناص هنا أيضاً من أن نضم أصول الفلسفة السياسية إلى أصول الاقتصاد، وأن نتخذ من ذلك الائتلاف معايير نطبقها على مبادئ السياسة والخلق العام. فإذا نحن خلقنا من كل ذلك فلسفة خلقية أو سياسية عامة كان ذلك كسباً في سبيل المثل الأعلى
وبعد، فإننا إذا تصفحنا تاريخ العقائد، وإذا حاولنا أن نستخرج منها فلسفة خلقية أو سياسية، فلن نجد خيراُ من المثل العليا التي تنزل بها الإسلام. وقد بدأ الإسلام والعالم في مثل ما(246/63)
عليه الآن من التبهّم والتشكيك؛ لكنه ما لبث أن فاض نوره على العالم من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وتجسمت الفكرة الأولى في نظام خلقي للفرد ونظام خلقي للجماعة على أكمل ما يكون. فإذا نحن حاولنا دراسة المثل الأعلى فعلينا بتلك الرجعة إلى المعايير الخلقية التي قامت عليها سيادة المسلمين
وإذا قام قادة الفكر منا يوجهون حياتنا نحو قيم خاصة لحقائق الحياة، فإن الجمهرة وراء هؤلاء القادة سوف يهفون إلى القيم الصحيحة التي تنزل بها الدين. ذلك عندنا نهاية السفسطة الخبيثة التي نعانيها اليوم، وذلك تنظيم لحياتنا الاجتماعية التي زلزلتها الفوضى. والفرد عندنا في كل ذلك أساس ينبغي أن نبدأ به؛ وتربيته غاية في نفسها؛ والدين يعترف أول ما يعترف بسمو الفرد وخطره، ويجب أن نعترف نحن أيضاً بهذا السمو
ولعل الإسلام أكثر الأديان تحديداً لواجبات الفرد وحدوده؛ ولعله أشد الأديان احتفاء بخلق مثلٍ أعلى يحدو الجماعة. وفي الإسلام فلسفة خلقية واضحة ليس علينا إلا أن نجلوها، وفيه أيضاً فلسفة سياسة تعتمد على طائفة من المعاني. وإنما مال بنا عن كل تلك الأصول إيماننا بما حاول الغرب أن يقيمه من مثل عليا. ومثل الدراسات التي عالجنا تسيطر على حياة الغربيين. وإذا نحن حاولنا أن نقيم مثلا أعلى فعلينا أن نتخذ منها مُعيناً، ولكن علينا ألا نسمح لها بأن تكون أخاذة مسيطرة
والفلسفتان الخلقية والسياسية أفضل ما ندعو لهما، لكن دراستهما سوف تقتصر على القادة دون العامة، وعلى المتعلمين دون الجهلاء. ولكن الدين عندنا هو الذي يجمع بين الفلسفتين، ويوازن بين الفريقين، ويؤلف بين القلوب، ويبث في النفوس روحاً فعالة لا تستأني ولا تستريب. وهو بعد ذلك أشد ما نحتاج إليه ليقيم لنا قيماً أخرى غير التي أقامها الغرب، ومعايير أخرى غير التي فرضها علينا الغرب
أحمد خاكي(246/64)
ابن دقيق العيد
للدكتور محمد مصطفى زيادة
الأستاذ المساعد بكلية الآداب
يظفر القارئ في تاريخ المماليك بمصر بشخصية رجل لا تربطه بغالبية أهل ذلك العصر العنيف صلة دنيوية، لتنزهه عن المادة، وعزوفه عن شهوة المناصب وزخرفها، ذلك هو قاضي القضاة ابن دقيق العيد (625 - 702هـ) وهو الشيخ تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي الشافعي المالكي المصري
وكان أصل لقب (ابن دقيق العيد) الذي عُرف به في كتب التاريخ حسبما ورد في النويري أن جده وهْب بن مطيع لبس في يوم عيد ثياباً بيضاء، فرآه جماعة من أهل الريف فقال قائل منهم كأن ثيابه دقيق العيد لبياضها، فلزمه هذا اللقب، واشتهر به بيته وسلالته
تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة بالديار المصرية سنة خمس وتسعين وستمائة هجرية، والسلطان يومئذ الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري؛ وكان قبل توليته تلك الوظيفة الكبرى قد درّس بالمدرسة الناصرية بالشافعي وبدار الحديث الكاملية وغيرهما، وصنّف التصانيف في فقه المذهبين المالكي والشافعي، وفي الحديث، وأفتى الفتاوي الكثيرة التي برهنت على أنه ثبت وحجة في علم الشريعة؛ وعُرف في جميع أدوار حياته بالشدة في الحق، والسير على مقتضى أصول الدين لا يحيد عنها قيد أنملة، مهما كلفه ذلك من غضب سلطان أو أمير. وقد نقل عنه حسبما ذكر ابن العماد أنه قال: (ما تكلمتُ بكلمة ولا فعلتُ فعلاً إلا أعددت له جواباً بين يدي الله تعالى)
ظل ابن دقيق العيد متولياً لمنصب قاضي القضاة بالديار المصرية حتى وفاته سنة 702هـ وكان كثير التطلع إلى أخبار نوابه بالأعمال المصرية، يبعث إليهم بكتبه المشتملة على المواعظ والتحذيرات من عواقب الغفلة والإهمال في الأحكام. وقد نقل النويري أحد هذه الكتب التي أنفذها ابن دقيق العيد سنة 697هـ ونصه: (بسم الله الرحمن الرحيم: الفقير إلى الله محمد بن علي (يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) هذه المكاتبة إلى فلان وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصداً صالحاً ودنيا صحيحة.(246/65)
أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكرة بأمر ربك، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون؛ ويحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا فما أحد سواه مغبون، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذه هذه النصائح بحجزته عن النار، فإِني أخاف أن يتردّى فيجر من ولاّه - والعياذ بالله - معه. والمقتضى لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم على ما يجب للرب على المربوب، ولاسيما القضاة الذين يحملون عبء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهي نحيفة. والله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى مع ذلك أمناً ولا قراراً ولا راحة، وإلا رجلاً نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فَغَايُهُ مطلب الحياة والمنزلةُ في قلوب الناس وتحسين الرِّئى والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر حاله ولا ركاكة مقصده، فهذا كلام معه، فإِنك لا تُسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور. فاتق الله الذي يراك حين تقوم، واقصِرْ أملك عليه فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال حبيب العجمي، وقد قال له قائل: (ليتنا لم نخلق) فقال: (قد وقعتم فاحتالوا). وإن خفي عليك بعض هذا الخطر وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر، فتأمل كتاب النبوّة: إن القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقاً عليه: (لا تأمرنّ على اثنين، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اهـ
وقد حدث في سنة 697هـ، والسلطانُ يومئذ الملك المنصور حسام الدين لاجين، أن نائب السلطنة منكوتمر أراد أن يستخلص من ابن دقيق العيد حكماً في قضية ميراث لأحد أصحابه بغير بيّنة شرعية، فامتنع قاضي القضاة من ذلك وهو عالم بأن منكوتمر أقوى شخصية في الدولة قاطبة، وتردّدت الرسل بينهما وابن دقيق العيد لا يتحرك عن موقفه؛ فأغاظ ذلك منكوتمر وأرسل أحد الأمراء الكبار إلى قاضي القضاة لعله يفوز منه بطائل. وقد أورد المقريزي قصة هذا الحادث في تفصيل، فذكر أن منكوتمر بعث إلى ابن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخاً ولم يخلف غيره ممن يرثه، وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه، فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك. وتردّدت(246/66)
الرسل فخرج منكوتمر من ذلك وبعث إليه الأمير كُرْت الحاجب؛ فلما دخل كرت وقف بعدما سلم، فقام له القاضي نصف قومة، ورد عليه السلام وأجلسه. , اخذ كُرْت يتلطف به في إثبات أخُوَّ التاجر بشهادة منكوتمر؛ فقال له ابن دقيق العيد: (وماذا ينبني على شهادة منكوتمر؟) فقال له: (يا سيدي! ما هو عندكم عدل؟) فقال: (سبحان الله!) ثم أنشد:
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ ... ومنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِنْدُ؟
وكرر ذلك ثلاث مرات ثم قال: (والله متى لم تقم عندي بيّنة شرعية ثبتت عندي وإلاّ فلا حكمت له بشيء باسم الله) فقام كرت وهو يقول: (والله هذا هو الإسلام). وعاد إلى منكوتمر واعتذر إليه بأن: (هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء دار العدل)
فلما كان يوم الخدمة ومر القاضي على دار النيابة بالقلعة، ومنكوتمر جالس في الشباك، تسارعت الحجاب واحداً بعد آخر إلى القاضي وهم يقولون: (يا سيدي! الأمير ولدك يختار الاجتماع بك لخدمتك) فلم يلتفت إلى أحد منهم. فلما ألحوا عليه قال لهم: (قولوا له: ما وجبت طاعتك عليّ) والتفت إلى من معه من القضاة وقال: (أشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله. قولوا له يولّ غيري) وعاد إلى داره وأغلق بابه، وبعث نقباءه إلى النواب في الحكم وعقاد الأنكحة بمعنهم من الحكم وعقد الأنكحة
فلما بلغ السلطان ذلك أنكر على منكوتمر وبعث إلى القاضي يعتذر إليه ويستدعيه، فأبى واعتذر عن طلوعه. فبعث إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبود والطواشي مرشداً، فمازالا به حتى صعدا به القلعة. فقام إليه السلطان وتلقاه، وعزم عليه أن يجلس في مرتبته، فبسط منديله - وكان خرقة كتان خَلِقة - فوق الحرير قبل أن يجلس كراهة أن ينظر إليه، ولم يجلس عليه. وما برح السلطان يتلطف به حتى قبل الولاية، ثم قال له: (يا سيدي، هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، أدعُ له) وكان منكوتمر ممن حضر، فنظر إليه قاضي القضاة ساعة وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول: (منكوتمر لا يجيء منه شيء) وكرّرها ثلاث مرات وقام. فأخذ السلطان الخرقة التي وضعها على المرتبة تبرّكا بها، وتفرقها الأمراء قطعة ليدّخروها عندهم رجاء بركتها
هذا هو ابن دقيق العيد وتلك شدة مراسه في الحق
محمد مصطفى زيادة(246/67)
من صميم السيرة
الإسراء
للأستاذ أمجد الطرابلسي
رقدتْ ملَء عينها البيداءُ ... واحتوتها في سرِّها الظلماءُ
وأوى موكبُ الطيورِ إلى النَّخ ... لِ وحَنَّتْ لزُغْبِها الورقاءُ
والمها أَطبقتْ على الصَّفوِ عيني ... ها، ومالت إلى الكناِسِ الظّباءُ
سكنَ اللّيلُ، لا هتافٌ ولا عَز ... فٌ ولا آهةٌ ولا ضوضاء
ليس إلاّ النجومُ تهمسُ فرحى ... في الرَّحابِ العُلى فَتُصغي الجِواء
وسَجَتْ مكَّةٌ، فلا اللَّهوٌ لهوٌ ... في حِماها، ولا الغِناءُ غناء
أَطفأَت في الخيام كلَّ سِراج ... رَقصتْ فوقَ ثغرهِ الأَضواء
وانقضى كلُّ سامرٍ أَثملته ... بالفنونِ الرُّواةُ والشُّعراء
وتهادى النسيمُ بين الرّوابي ... كلما هبّ هدّه الإعياء
ملءُ أعطافه أريج الخزامى ... وبقايا الكؤوس، والأنداء
نامت البيد! هل رأيت سريراً ... رقدتْ فوقَ صدرهِ عَذراء؟
الطُّيوفُ الفرحى تطوف حَوالَي ... هِ كما طافَ بالقلوبِ الهناء
والمنى الضاحكاتُ تلثمُ خّدَّي ... ها فيفتُّر ثغرُها الوَضَّاءُ
يا جمالَ البيداء! ماذا ينالُ ال ... وصفُ منهُ، وما يُصيبُ الثناء؟!
كلُّها السِّحْرُ والرِّحيقُ المُصَفى ... كلُّها الشّعرُ والهوى والبَهاءُ
كلُّها المجدُ والبُطولَةُ والسُّؤْ ... دُدُ والعزُّ والنَّدى والإباء!
إيهِ يا منبعَ الصَّناديدِ يا بي ... دُ إذا رَجَّ جانبيكِ نداءُ!
يا مهبَّ الفرسانِ إن صّرَّخ المج ... دُ يناديهمُ وهُزَّ اللّواء!
نامَ يا بيدُ في سكونِكِ ندبٌ ... حَفِظتهُ وهَدْهَدَتْهُ السماء
سَهِرتْ حولَه العِنايةُ ترعا ... هُو وحامَتْ من فوقِهِ الآلاءُ
من ذُؤاباتِ هاشم كلهُ طُه ... رٌ ونبلٌ ورحمةٌ ووفاءُ
أَروعٌ أينَ من عزيمتهِ السَّي ... فُ ومن وجودِ كفّه الأنواء!(246/69)
عَرَبيٌّ تهلَّلَ الكونُ لمّا ... كرَّمتهُ النبوَّةُ الغرَّاء
شَعَّ منهُ الهدى فهاجتْ وماجتْ ... حَنَقاً - جاهليَّةٌ رَعْناء
دينُها البغيُ والتناحُرُ والثا ... راتُ والبطشُ والأذى والدّماء
فاحفظيه يا بيدُ فهو رَجاءُ ال ... كونِ وسْطَ الظلام وهو الضّياء
ما يدومُ العمى إذا أَسْفَر الحَقّ ... ولا النور والظَلام سواء!!
إيهِ يا نائماً تداعبُ جَفْني ... هِ الخيالاتُ والرُّؤى الشمّاء!
يا نَبيّاً في صدرِهِ خفقَ الكو ... نُ جميعاً، جراحُهُ والدَّواء!!
يا رسولاً ترنو لطلعته الامْ ... لاءُ حَيْرى قد عَمَّها الإِدْجاءُ!
أيُّها النائمُ انتبهْ! قد أتاكَ ال ... رُّوحُ يَحدوهُ من عُلاهُ القَضاءُ
والبُراقُ السَّعيدُ حَمْحَمَ في البا ... بِ اشتياقاً فاهتزّتِ الصّحراءُ
طِرْ عليهِ تَمْضَ القفارُ سِراعاً ... تَحتَ وَثباتِهِ ويُطْوَ الفَضاءُ
طِرْ عليهِ إنّ العَوالم نَشوى ... مُذْ أَتتْها عن سعيِكَ الأَنباءُ
والسمواتُ تستعدُّ لمسرا ... كَ وقد زغردتْ بها البُشَراء
تتغنَّى فيها الملائكُ فرحى ... وتهادى البشائِرَ الأَنبياءُ
رفرفا في سماءِ مكةَ فالري ... حُ ذَلولٌ تحتَ البراقِ رُخاءُ
وامضِيا تَمَّحِ الفَلا والمسافا ... تُ كأنَّ ابتداَءهنّ انتهاءُ
فإذا شَمِتُما على البُعدِ سَينا ... َء ولاحت كثُبانُها السَّمراءُ
فاهبطا، طَرْفَةَ العُيونِ، إليها ... يا لَربّي لِما رأَتْ سيناء!!
يومَ ناجي الكليمُ في جانبيها ... ربَّهُ، ملءُ أَصغريه الرّجاءُ
فهوى مُرْعشاً وقد هاله النّو ... رُ وأعشى عيونه الأْلاءُ
ثمّ سيرا حتّى إذا (بَيْتُ لَحْمٍ) ... دَوَّمَتْ منْ بُروجِها الأَصْداءُ
فاهبطا تُرْبَها الذَّكيَّ فمنه ... (أسفرَ الرِّفقُ والهدى والحياء)
وأتيا المسجد الذي بارك الل ... هُ حَوالَيهِ منذ كان البناء
فاسجدا فيه للّذي غمَرَ الكو ... نَ نَدَاهُ وعطفُهُ والرضاء
صلِّيا يَبْسمِ المُصَلّى ابتهاجاً ... لكما في الدُّجى ويَشْدُ الفِناء(246/70)
واعرجا صاعدَيْن سبعاً طباقاً ... لا حِجابٌ، لا دُجْيَة، لا عماء
أَلَقٌ باهرٌ، وبحرٌ من النّو ... رِ خِضَمٌّ، وَرَوْعَةٌ، وصَفاء
ليس إلا ملائِكُ تحمل الب ... شرى ورسْلٌ أَحِبَّةٌ أصفياء
اصعدا في الجمال حتَّى تجلّى ... لكما سِدْرةُ العُلى العَصماءُ
وانظرا من عَلٍ إلى هذه الأَجْ ... رامِ طُرّاً، يَجلُّ عنها الهباءُ
نظرةً تُنْظَمُ العوالمُ والآ ... بادُ فيها وتَلتقي الأَملاء
اسموا، اسموا فما أعظم الأن ... فُسَ تفَنْى من دونِها العليا!
ما أجلَّ الأرواحَ تَعلو وتَعلو ... ثم تعلو، وإن تناهى العَلاء!
ما أحبَّ الفنَاَء في النُّور إمّا ... كُرِهَ اللَّبثُ في الثرى والفَناء!
إيه مسرى النبيِّ! قد تُنكر الأنْ ... وارَ والفجرَ مقلهٌ عمياءُ
ما على جاحديك لومٌ إذا ضَلُّ ... وا، هلِ الناسُ كلُّهم أنبياء؟!
معرجَ المصطفى! إليكَ التَّحَايا ... شَعشَتها دموعُنا والدّماء
بوركتْ أرضُكِ النَّدِيَّةُ يا قد ... سُ ووشَّتْ رياضَك النَّعماء!
أنتِ أمُّ الدُّنى، ومهدُ النُّبُوَّا ... تِ ومنكِ استفاءتِ الآناء
فيكِ موسى ألقى عصاهُ ارتياحاً ... بعد أن طوّحتْ بهِ الأَرزاء
والمسيحُ العظيمُ فيكِ تجلى ... يملأُ الأرضَ من هُداه السَّناء
علَّمَ الكونَ رحمةَ العبدِ للعب ... دِ، فلا قسوةٌ ولا إيذاءُ
وغذاه الحبَّ الطَّهورَ فلا بغ ... ضٌ، ولا نَفْرَةٌ، ولا أَعداء
يا حماةَ المسيحِ في القدسِ! ما في ... دينهِ أن يعذَّبَ الضُّعفاء!
ليس فيه طردُ الهزارِ من الأي ... كِ لتَحْتَلَّ وَكْرَهُ رقطاء!
يا جيوش الصليب في القدس! ما في ... شرعِهِ أن تُقَتَّلُ الأبرياء!
ليس في شرعِهِ هوانُ المواثي ... قِ، إذا ما تواثَقَ الشُّرَفاء!
ليس فيه أن يبذلَ العَرَبُ الأَنْ ... فُسَ كي تسترِقَّها (الحلَفاء)!
يا لدمعِ المسيحِ ما كان أصفا ... هـ! ولكنَّ روحَكم كدراء!
سائلوا مهدَهُ المُطَهَّرَ هل صا ... نته إلا العُروبةُ العَرْباء؟!(246/71)
سائلوه يا ناسُ عن عُمَرَ الفا ... روقِ: (ما كانَ عدله والوفاء؟)
سائلوه عن ابنِ أَيُّوبَ لما ... عصفتْ جُنَّةٌ بكم هَوجاء
يومَ جاءتْ جُيوشُكم مثلَما انحطَّ ... تْ على المنهَلِ النُّسُور الظِّماء
تُغرِقُ المهدَ مثلَما تُغرقُ الم ... جدَ منها الدِّماء والأَشْلاء
يوم ضاقت عنها الأَباطح في الب ... رِّ وناءتْ بحمِلها الدَّأْماء
يُلهِبُ الحقدُ والعِداء مآقي ... ها، وتَنْزو في صَدْرِها الأَدْواء
وابنُ أيُّوبَ يُطفئ النَّارَ بالحِلْ ... مِ وتجري بنصرِهِ الأَنباء
ويفكُّ الملُوكَ صَفْحاً وَمَنّاً ... بعدَ أَسْرٍ يعزُّ فيهِ الفِداء
أنتمُ تَعرفونَ عدلَ صلاحِ ال ... دّينِ وسْطَ العجاجِ يا طُلقاء؟
لم يهجكم للنّار دينٌ، ولكنْ ... جَشَعُ الذّئبِ أَثملَتْهُ الدّماء
أي دينٍ يُحلُّ ذبحَ اليتامى ... أيُّ شرعٍ تُبادُ فيه النساء
الأحابيشُ دينُهم مثلكم سَمْ ... حٌ كريمٌ، لكنَّهمْ ضُعفاء
وجلودُ الغُزاةِ بيضٌ لِطافٌ ... أين منهنَّ جِلْدَةٌ سَوداء؟!
إنما العُرْبُ نعمةُ اللهِ في الأرْ ... ضِ وهْم في ظَلامِها الأضْواء
لَهُمُ العزَّ والنَّبَوَّةُ فيها ... ولَهُمْ دونَ أهلِها الكبرياء
حملوا مشعلَ الحضارةِ والكو ... نُ ظلامٌ وحيرة وعَماء
هم شموسُ وصَفْوَة خلقِ اللّ ... هـ والمُخلَصونَ والحُنَفاء
كلُّ مجدٍ لمجدِهم يخفضُ الرَّأْ ... سَ خشوعاً ولو نَمته السَّماء!!
دمتِ قُدْسَ العُلى ودام لكِ العِزُّ ... وذلَّتْ في غابكَ الدُّخَلاء
دمتِ فوقَ السُّها ودامَ لكِ العُرْ ... بُ فداءً، وطابَ هذا الفِداء!
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(246/72)
قالت هلم إلى الحديث فقلتُ لا. . .
للأستاذ أحمد الشايب
المدرس بكلية الآداب
- 1 -
قال الراوي: كانت السنة الثامنة منذ هاجر الرسول عليه السلام من مكة إلى المدينة، وكان صُلح الحُدَيبية الذي يقف الحرب بين المسلمين والمشركين سنوات عشرا يقطع عامه الثاني، ويتيح لقريش في مكة فرصة التروِّي لعلهم ينجون بكرامتهم وحياتهم من هذه الدعوة المحمدية، والنصرة الإلهية. وكان المسلمون في المدينة، مهاجرين وأنصار، يستبعدون مدى هذه الهدنة، ويعدونها نيلاً من عزتهم الدينية، وقد علموا (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُن المسجد إن شاء الله آمنين) وما كان لهم أن ينقضوا عهداً في أعناقهم أو يفكوا عقداً للرسول بإذن الله تعالى. ولكن الله قدر وقضى - لتصدق الرؤيا توّاً ويكون الفتح المبين - أن تغدر قريش؛ فقد ثار بنو بكر ابن كنانة على خُزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير يطلبونهم بدماء قديمة، وكانت قريش ترفد بني بكر بالسلاح، وتقاتل معهم خزاعة مستخفين بالليل حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم. فلما انتهوا إليه قال بنو بكر لزعيمهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهكَ! إلهكَ! فقال: كلمة عظيمة: لا إلهَ لَه اليومَ! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تُصيبون ثأركم فيه؟!
قال الراوي: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين الرسول من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعده، خرج عَمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحدُ بني كعب، حتى قدم على الرسول المدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظَهراني الناس فقال:
إن قريشاً أخلفوك الموعِدَا ... ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا
فانصر هداك الله نصراً أَعْتدا ... وادْعُ عبادَ الله يأتوا مَدَدا
فقال رسول الله: نُصرتَ يا عَمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله عَنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. ثم خرج بُدَيل بن وَرْقاء في نفر من خزاعة حتى(246/73)
قدموا على الرسول المدينة فأخبره بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة! ومضى بُدَيل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان قد بعثته قريش إلى الرسول ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقي أبو سفيان بُديل بن ورقاء قال: مِن أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى الرسول. قال سيّرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما راح بُديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء بُديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها فَفتَّهُ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بُديل محمداً
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول طوته عنه. فقال: يا بُنية، ما أدري أرغِبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش الرسول. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى الرسول فكلمه فلم يرد عليه شيئاً. ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أأنا أشفع لكم إلى الرسول؟! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهتدكم به. ثم دخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله وعندها الحسنُ بن علي يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمسُّ القوم بي رَحِماً وإني قد جئت في حاجة فاشفع لي إلى رسول الله، فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بُنيّك هذا فيُجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيّ ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني. قال: والله ما أعرف لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيدُ بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، وركب(246/74)
بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ فقص عليهم ما جرى، فقالوا: ذلك لا يغني شيئاً، قال: ما وجدت غير ذلك
- 2 -
قال الراوي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه. فدخل أبو بكر على ابنته عائشة زوجة الرسول، وهي تحرك بعض جهازه عليه السلام، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري. ثم إن الرسول أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فلما أجمع السير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بَلْتَعةَ اللخمي كتاباً إلى قريش يخبرهم أن الرسول إليهم سائر؛ ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به. ولكن الخبر قد أتى الرسول من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام فأدركا المرأة فالتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئاً. فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه فدفعته إليه، فلما أتى به الرسول دعا حاطبا، فقال: يا حاطب: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكني صانعت القوم لأهل وولد لي بين أظهرهم. فقال عمر ابن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال الرسول: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر؛ ثم مضى حتى نزل مر الظهران - في عشرة آلاف من المسلمين - وهو واد قرب مكة، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو فاعل
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون(246/75)
الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به! وكان العباس بن عبد المطلب قد لقي الرسول ببعض الطريق مهاجراً بعياله، وكان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته والرسول عنه راض. قال العباس فقلت: وا صباح قريش! والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة دون أن يأتوه فيستأمنوه، فهو هلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد من يأتي مكة فيخبرهم بمكان الرسول ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول له: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، فيقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك فداك أبي وأمي؟! قال، قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله في الناس، وا صباح قريش والله! قال: فما الحيلة؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة الرسول وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله على بغلته؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو الرسول فلاحقته إليه، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه. فقال العباس: إني قد أجرته يا رسول الله. فقال الرسول: يا عباس اذهب به إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به. قال: فلما أصبحت عدوت به إلى رسول الله فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً. فقال له العباس: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس:(246/76)
قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما ذهب لينصرف قال الرسول: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه، ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة فيقول يا عباس من هؤلاء؟ فأقول مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة. حتى مر الرسول في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فقال سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال العباس: قلت يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: النجاء إلى قومك. فلما جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. وأذاع فيهم ما جعل له الرسول فخراً، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد آمنين
- 3 -
قال الراوي: إن أسماء ابنة أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى عند مكة قال أبو قحافة - والد أبي بكر وكان كفيف البصر - لابنة له من أصغر ولده: أي بُنيَّة اظهري بي على أبي قُبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ماذا ترين يا بنية؟ قالت: أرى سواداً مجتمعاً. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يديه ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: قد، والله دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي. فانحطت به الفتاة وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته. قالت: وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، فلما دخل الرسول مكة ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده. فلما رآه الرسول قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. قال: فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره، وقال له: أسلِم فأسلَم. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلام طوق أختي! فلم يجيبه(246/77)
أحد فقال: أي أُخَيّة احتسبي طوقك. ثم فرق الرسول جيشه من ذي طوى، فدخلت فِرقُة مكة من نواحيها ونزل الرسول بأعلى مكة وضربت له هناك قبة
وكان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر، قد جمعوا أناساً بالخَنْدَمة - جبل بمكة - ليقاتلوا المسلمين. وكان حِماس بن قيس من بني بكر يُعِدُّ سلاحا قبل دخول الرسول. فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أُخدمَكِ بعضهم. ثم شهد الخندمَة مع صفوان وسهيل وعكرمة وأناس من المشركين فهزمتهم رجال خالد بن الوليد، فخرج حماس منهزماً حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي. قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمهْ ... إذْ فر صَفوانُ وفر عكِرمهْ
وأبو يزيد قائمٌ كالمؤتَمَه ... واستقبلتهم بالسيوفِ المسلمهْ
يَقطعن كلَّ ساعدٍ وجُمجمهْ ... ضرباً فلا يسمعُ إلا غمغمهْ
لهمْ نهيتٌ خلفنا وهَمهمهْ ... لم تنطِقي في اللوْم أدنى كلمهْ
لما نزل الرسول مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بِمحجَن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها. ثم وقف على باب الكعبة فقال: (لا إله إلا الله، وحدَه لا شريك له، صَدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده. ألا كلُّ مأثرة أو دم أو مال يُدعى فهو تحت قدَميَّ هاتين إلا سدنة البيت وسقاية الحاج إلا وقتيلَ الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مُغلَّظةً، مائة من الإبل. أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعظُّمَها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) ثم قال: يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء. ثم جلس رسول الله في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال الرسول: أين عثمان ابن طلحة؟ فدُعِيَ له، فقال: هاتِ مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء(246/78)
قالوا: لما دخل عليه السلام البيت يوم الفتح رأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله! جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟! (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين). ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. وكان يقول وهو يشير إليها: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً)
قال الراوي: أراد فضالة بن عمير بن الملوّح الليثي ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال الرسول: أَفضالة؟ قال: نعم فضالة. يا رسول الله قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء. كنت أذكر الله عز وجل. فضحك النبي، ثم قال: أستغفر الله! ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده من صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:
قالت: هلم إلى الحديث فقلت: لا ... يأبى عليك الله والإسلام
لو ما رأيتِ محمداً وقبيلهُ ... بالفتح يوم تُكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيِّناً ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
قلت: هذه صفحة من أمجد صحف الإسلام ديناً، وخلقاً، وسياسة، وأدباً، وحماسة، ليس لي فيها إلا تخليصها من أطواء السيرة، وعرضها بأسلوبها، لعل في الذكرى نفعاً:
وإذا فاتك التفاتٌ إلى الما ... ضي فقد غاب عنك وجهُ التأسِّي
أحمد الشايب(246/79)
عقبة بن نافع
فاتح أفريقية وقاهر الروم والبربر
للأستاذ محمود الخفيف
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النصر إن فاته النصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده ... إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
لئن كان ابن الوليد بجهاده في الله قد سمي قاهر القياصرة، ولئن كان سعد بما رابط وصابر في أرض الفرس يوم التقى الجمعان قد استحق لقب مذل الأكاسرة، فإن البطل المجاهد عقبة ابن نافع الفهري قد كسب لنفسه تحت راية الإسلام مرتبة لن تنزل به فيما أرى عن مرتبة ذينك البطلين. فهو فاتح أفريقية، أمير المغرب، قاهر البيزنطيين والبربر
حارب خالد قوماً هدهم الغرور والترف، كانوا قبل لقاء المسلمين بأسهم بينهم شديد؛ فلم يكونوا حين ساقوا جموعهم يدافعون عن عقيدة أو يذودون عن مبدأ، بل لقد كانوا يقفون في وجه عقيدة منبعثة من الصحراء، الموت في سبيلها أحب إلى أصحابها من الحياة. وكان المسلمون تحت راية خالد وأبي عبيدة يقتلون ويُقتلون وقد باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بأن لهم الجنة؛ كلمتهم كلمة أميرهم، ووجهتهم وجهة خليفة رسول الله فيهم، فلا تنازع بينهم ولا تنابذ ولا إحن ولا انقسام. . .
وكذلك كان المسلمون في القادسية كالبنيان المرصوص، لم يعرف الخلف سبيلاً إلى صفوفهم، ولا وجد الوهن طريقاً إلى قلوبهم، يسقطون عشرات ومئين ولا تسقط الراية؛ ويشترون الآخرة بالأولى في إيمان ويقين، وغاية المجاهد منهم أن يغلب أو يدفع عن نفسه الهزيمة بالموت!
أما عقبة فقد جاء دوره بعد أحقاد وأحداث فرّقت كلمة المسلمين وجعلتهم شيعاً وكادت تأتي على بنيانهم من القواعد. جاء دور عقبة في الجهاد بعدما كان في الإسلام من قتل عثمان، وبعدما كان من أمر الجمل والصفين. جاء دوره بعد أن عرف الإسلام الخوارج وغيرهم من الأحزاب، وبعد أن عرف المسلمون طريقة أخرى في الغنائم والأسلاب. . .
وكان عقبة يحارب الروم والبربر؛ وكان البربر أولي بأس وعناد. جبلوا الحرية فلا يكادون(246/80)
يعرفون ما الخضوع، طبيعة نفوسهم كطبيعة بلادهم، فيها مناعة الجبال ووعورة الجبال، وفيها صرامة البيد وبساطة البيد؛ فهم لذلك في القوة كالعرب المهاجمين يطرحون نفوسهم تحت المنايا ولا يطرحونها تحت أقدام الفاتحين
وكانت البلاد التي اثخن فيها بخيله ورجله مترامية الأطراف مجدبة المطارح إلا واحة هنا أو غيضة هناك، وبقاعاً خضراء قليلة على شواطئ البحر حول مجاري السيول والأنهار. وكانت تلك البلاد لامتداد رقعتها وبعد ما بين أولها وآخرها أقساماً لكل منها اسم يميزه! فهذا هو أفريقية، ثم هذا هو المغرب الأدنى، ثم هناك من ورائه المغرب الأقصى. . . لذلك كان عقبة وجيشه يحاربون في هذه الفيافي المترامية عدوين: البربر الغلاظ، والطبيعة القاسية!
ولد عقبة بن نافع الفهري في عهد الرسول ولم تعرف له على الأرجح صحبة، فكان لذلك من التابعين. وكان عقبة - كما سيتجلى لنا من أعماله - يمثل الخلق العربي أحسن تمثيل. كان شجاعاً مقداماً بعيد الهمة، صليب العزيمة، صريم الخلق، شديد الإيمان لا يهاب قلبه الكبير الموت في أبشع صوره. وكان في إقدامه سريعاً ولكنه كان وثيق الخطو تذكرنا وثباته وثبات خالد حين كان يقطع البيد والمفاوز، وحين ذهب فحج ثم كان بعد قليل في ساقة الجيش
بعد أن تم للعرب إعلان كلمة الله في مصر واتجهوا نحو الغرب جاءوا برقة فأذعنت لهم بعد جهاد؛ وصالحهم أهل تلك البلاد على الجزية ودانوا لهم بالطاعة، ولكن الروم حين انحسر العرب عن برقة عادوا يبنون سلطانهم هناك من جديد، وقد أذاقوا البربر صنوفاً من العذاب فلم يستمعوا لهم إلى مظلمة أو يبالوا بما عسى أن تكون عاقبة أمرهم
وكان العرب فيما هم فيه يومئذ، بعد مقتل عثمان من بغضاء وتنازع؛ ومازالوا في شقاقهم حتى تم الأمر لمعاوية فوجههم من جديد وجهتهم الأولى ضد أعدائهم
ولقد كان لعقبة في فتح البلاد أول الأمر من مصر إلى برقة جهاد، وكانت له خطوات بارعة، ولكن أفعاله كانت لحقاً في ذلك الفتح إذ لم تكن له القيادة يومئذ. ولقد بقي عقبة فيمن بقي من العرب في حامية زويلا حتى كانت سنة خمسين للهجرة فأمده معاوية بعشرة آلاف ليغزو بهم أفريقيا!
أصبحت القيادة لعقبة، وذلك ما طال انتظاره إياه، وأحس هؤلاء الآلاف العشرة روحاً قوية(246/81)
تغمرهم وتشحذ عزائمهم تحت لوائه، حتى كأن الواحد منهم بألف، فما منهم إلا محب للجهاد، مستهين بالأهوال، مرحب بالموت كقائده. وزحف بهم عقبة فما شهد الروم ولا البربر زحفاً أشد هولاً من هذا الزحف. لم تغن عنهم كثرتهم، ولم تغن عنهم عدتهم، وكانت أقواتهم في بلادهم موفورة لهم؛ ولا أقوات لهؤلاء العرب المستبسلين إلا ما يستلبون منهم من غنائم
وكانت الحرب طاحنة، وكان الجهاد مريراً، فالبربر أهل جلاد ومصابرة، وهم خبيرون ببلادهم عليمون بمسالكها؛ فكانوا إذا اشتدت عليهم وطأة محاربيهم اعتصموا بالبيد فضربوا في أرجائها، وبالكثبان فكمنوا من ورائها، حتى إذا زحف العرب وقد أخذ منهم الجهد بعد أن لم ينل منهم الخوف، وقد انطوت على السغب أحشاؤهم الضاوية، وتقرحت من الحر أكبادهم الصادية، برزوا لهم كأنما يخرجون من الأرض، ولكن ليتركوا من سلاحهم وزادهم بعد القتال شيئاً غير قليل في أيدي أعدائهم
وكان عقبة يقسو في قتال هؤلاء القوم لما خبر من طباعهم، ولما عرف من غدرهم ومكرهم، فهم إذا غلبوا على أمرهم يضعون السلاح ولكنهم لا يضعون الانتقام، فإذا واتتهم الفرصة نسوا كل عهد واستخفوا بكل ميثاق. وكانت سيوف العرب ونبالهم تفعل فعلها القوي في هؤلاء القوم كما كانت تفعل فيهم عزيمة العرب ومضاء العرب. وظل الحال كذلك وعقبة يرسل عليهم من جنده ذات اليمين وذات الشمال حتى تم له الأمر، على بعد الشقة وترامي البيد وصرامة القتال؛ فلما أشرف على موضع كان غير بعيد من موضع قرطاجنة القديمة ابتنى للعرب قاعدة جديدة
ابتنى عقبة القيروان ليقيم فيها المسلمون إذ لم يحب لهم أن يقيموا بين هؤلاء البربر. وكان موضعها بعيداً عن البحر حتى لا تطرقها مراكب الروم، وهي في البر بحيث تتوسط البلاد وتكون معقلا لصد البربر. وكان الموضع الذي اختاره أجمة عظيمة تسكنها السباع والحيات والأراقم؛ ولعل هذه الخلائق روعت، وقد أحاط جيش عقبة بالمكان، فنفرت أسراباً تحمل صغارها هاربة إلى الصحراء، وكان عقبة قد دعا الله أن ترحل؛ وأسلم من البربر كثير ممن شاهدوا هذا الرحيل؛ وهل يكونون من الوحوش والأفاعي أشد قسوة؟ واختطت المدينة وشيد بها عقبة داراً للأمارة، وبنى مسجداً، وبنى الناس بيوتاً لهم؛ واستقامت المدينة سنة(246/82)
خمس وخمسين وصارت تجاوب مآذنها مآذن الكوفة ودمشق والفسطاط، كلما أذن المؤذنون ورفعوا أصواتهم يذكرون اسم الله. . .
وهل كان لعقبة أن يقنع بما وصل إليه من فتوح وقد ضاقت البيد عن همته؟ لقد عول على مواصلة الزحف ليحمل كلمة الله، ويعلن اسم الله في مواطن جديدة؛ ولكن معاوية يجعل أمر مصر وأفريقية لمسلمة بن مخلد؛ ويستعمل مسلمة على أفريقية مولى له أبو المهاجر؛ ويقبل أبو المهاجر فلا يرعى لعقبة مقاماً فيوثقه ويسيء إليه كأن بينهما ترات! ولكن الليث في الحديد لن تنخلع عنه طبيعته، فما يزال عقبة صبوراً لا يعرف استخذاء ولا مسكنة. ويطلقه أبو المهاجر ليرحل عن تلك البلاد، فيرحل عقبة وفي نفسه حنق أي حنق، وقد تعاظمه الأمر وهو الفاتح القاهر؛ ولكن الأرض لله يورثها من يشاء، والأيام دول بين الناس. رحل عقبة برغمه وقطع بلاداً دانت من قبل لسيفه حتى جاء دمشق فعاتب معاوية عتاباً شديداً على ما كان من أمره بعد ما أبلى في الله من بلاء؛ وأراد معاوية أن يخفف عنه بعض ما به فوعده أن يرسله بعد حين إلى القيروان من جديد
وإنا لنحار فيما صنع معاوية! هل كان يخشى قوة عقبة ويشفق أن يعظم ويعظم حتى يخرج عن سلطانه؟ أم كانت تلك هي فعلة مسلمة جازت على معاوية دون أن يتدبر لها؟ الحق أنا لفي حيرة مما صنع. . .
وكانت لأبي المهاجر سياسة في أفريقية غير سياسة عقبة؛ جعل السياسة والملاينة في موضع السيف، واتصل بكبراء البربر وخفض لهم جناحه وصانعهم في أكثر الأمور. وكان يسفه آراء عقبة عندهم كما كان يسفهها عند المسلمين، وكان لا يقر له بفضل أو يترك أحداً من شيعته دون أن يلحق به أذى حتى عظم ذلك على الناس. ولكن البربر أحبوا سياسته وصانعوه مثلما صانعهم. وكان كبيرهم في ذلك رجل اعتنق الإسلام من قبل يقال له كسيلة؛ وكان كسيلة هذا به كبرة مبعثها الفظاظة والغلطة، وكان بطبعه أنوفا عيوفا لا يطيق أن يغلب على أمره.
وراح أبو المهاجر يمد الفتوح إلى المغرب وقد انحاز إليه البربر، فحارب الروم في قرطاجة ولكنه لم يقو عليهم؛ على أنه مد سلطان المسلمين قليلا إلى الغرب، ولبث في تلك البلاد بضع سنين أقرب إلى الدعة منها إلى الجهاد، وقد فترت في المسلمين حميتهم إلا(246/83)
قليلا؛ وكانوا يذكرون أيام عقبة وإقدام عقبة فتنطوي على الهم قلوبهم. وهم لا يعلمون ما تأتي به الأيام. . .
ولكن الدهر صروفه وتقلباته، فقد مات معاوية وصارت الخلافة لابنه يزيد. وفي سنة ثنتين وستين للهجرة أعيد عقبة إلى أفريقية. وجاء يسعى إليها يطوي البلاد طيا، وفي قلبه من الحماسة للجهاد مثل ما فيه من الكيد لأبي المهاجر. وهل كان يستطيع عقبة أن ينسى ما كان من أبي المهاجر، وقد كان يحز في نفسه ما صنعه به منذ أخرج من أفريقية؟ أوثقه اليوم عقبة كما أوثقه هو من قبل، وشد عقبة وثاقه، وبالغ في الكيد له فكان يحمله في غزواته مقرناً في الأصفاد!
وفرح المسلمون للقاء قائدهم، وانبعثت في قلوبهم الحمية، واجتمعوا تحت لوائه يبدءون الزحف من جديد؛ وعاد للقيروان عزها ومنعتها؛ وألقى الرعب في قلوب البربر والروم وهم كما علموا لا قبل لهم بعقبة؛ وكان عقبة يضمر الحقد لكل من كانت له صلة بأبي المهاجر، وفي طليعة هؤلاء كسيلة رأس البربر
رفع اللواء واستؤنف الزحف، وحلا الجهاد للصابرين. أنظر إلى عقبة يستخلف بالقيروان زهير بن قيس البلوي ويحضر أولاده فيقول: (إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله) ثم يوصي بما يفعل بعده ويتقدم على رأس جيشه يخوضها حروباً مستعرة متوالية. . .
الشقة بعيدة، والعدد متكاثر له في الشعاب والقلل مخابئ. رفقاً يا عقبة بالبواسل القليلين! ولكنهم على قلتهم كالسيل على قلتهم كالسيل الأتي لا يصرفهم عن وجهتهم شيء، ولا تقف من دونهم عقبة. هاهم أولاء يقربون من مدينة باغاية وفيها من الروم حشد عظيم، والبربر من ورائهم يعركونهم ويتربصون بهم الدوائر؛ ولكن العزم المصمم لا يعرف الحوائل. لقد التقى الجمعان واشتد القتال وزلزل الروم زلزالاً شديداً؛ وكثرت مغانم المسلمين وكثر عدد صرعاهم، واعتصم الروم بالمدينة فحاصرها عقبة ثم كره المقام عليها فاستأنف الزحف
رفقاً بالبواسل القليلين! بعدت الشقة وقلت القلة! ولكن عقبة لا يعرف النكوص ولا يخاف الموت وقد باع نفسه من الله؛ ميدانه بعد باغاية بلاد الزاب، وهي بلاد واسعة بها مدن وقرى. سار عقبة وجيشه حتى جاءوا مدينة أربة قصبة تلك الديار، فوقف له الروم(246/84)
وظاهرهم عليه البربر واعتصموا بالجبال، ثم التحموا بالعرب في عدة معارك آثروا بعدها الفرار من الموت، تاركين الكثير من أسلحتهم وخيلهم. . .
إلى أين يا عقبة بعدها بالكرام الصابرين؟ إلى تاهوت، ويا للهول ما كان في تاهوت! تكاثر العدد واستقتل البربر، ولكن العرب صابرون؛ أحدق الخطر بالبواسل الأنجاد، ولكن لهم في عقبة وبلاء عقبة الحصن القوي والمعتصم الأمين. وما هي إلا غمرة ما لبثت أن انجلت على وميض السيوف والتماع الأسنة، وعاد النصر إلى صفوف المجاهدين المستبسلين
والقائد الظافر بعد هذا النصر يطفر من الحماسة والجيش من ورائه يهبط الوهاد ويركب النجاد، وقد عظم بعد ما بينه وبين القيروان؛ ولكن ماله وللقيروان الآن وقد أصبحت البلاد كلها له، وعرف الإسلام سبيله إلى قلوب المهتدين من أهلها؟ سار الجيش حتى نزل على طنجة، فأحسن يوليان بطريق الروم لقاء عقبة وقدم له الهدايا واستفهمه عقبة عن الأندلس، ولكن أين السفين ليحمل الفاتحين. . .؟
وماذا بعد طنجة للغرباء الظافرين؟ نزل بهم عقبة - أو نزل اسكندر العرب كما يسميه جيبون - على بلاد السوس الأدنى ومعظم أهلها من البربر ولهم بأس شديد، إذ لم يكن لهم كغيرهم في البلاد الأخرى كبير صلة بالروم؛ وكانوا كفاراً لم يعتنقوا النصرانية؛ فما زال بهم المسلمون حتى دانوا لهم، وآمن منهم من آمن بالكتاب وهرب من نجا من السيف إلى الجبال والمهامه، ثم إلى بلاد السوس الأقصى، وهي بلاد ذات خصب يكثر عدد ساكنيها من البربر. وأين المفر من عقبة وجيش عقبة، وهل ثمة ما يمنعه أن يغزو السوس الأقصى؟
احتشدت له البربر هناك في أقصى الأرض جموعاً هائلة، وقاتلوه قتالاً شديداً تجلى فيه بأسهم وشجاعتهم، ولكن عقبة لم يزل بهم حتى فرق جموعهم وأذهب ريحهم، وأرسل الخيل من ورائهم تطاردهم في الجبال والصحراوات وقد كثر ما غنمه منهم، وأخذ يعلن فيهم دين الله. وتقدم بعد ذلك فإذا الخضم الفسيح يمتد أمام بصره! أنظر إليه وقد وقف على شاطئ المحيط برهة ثم غمز جواده فنزل به في الماء حتى جاوز الماء صدره، وشهر سيفه ورفع إلى السماء بصره، ثم استمع إليه يقول: (يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك)(246/85)
لولا البحر لمضى عقبة الفاتح مجاهداً في سبيل الله، وهل كانت به حاجة إلى هذا القول وله من غزواته ما هو أبلغ من كل كلام؟ إنها لعمري قصيدة رائعة لا يزال الدهر يرويها ولا تزال في سجل البطولة رائعة المقاطع رنانة القافية! وماذا أبلغ من تلك القلة تصل ما بين المشرق والمغرب، وتقاتل البربر والروم في بلاد مجهولة المسالك بعد ما بين قاصيها ودانيها؟ وأي بلاد هي بل وأي قوم! لم يلق المسلمون في أي موطن في مشرق الأرض مثل ما لاقوا هنا من عرك وبلاء؛ بل لم يلق غير المسلمين من الغزاة قبل بلاء هو أشد مما لقي العرب في بلاد المغرب من بلاء. كانت القبائل الموتورة تنزل من الجبال كما تنزل الكواسر فتنقض على جناحي الجيش الغازي مرة، أو تأتيه من خلفه مرة، بينما يتعرض القلب لقتال شديد من المتصدين له. ولو كان على رأسهم غير عقبة لما جاوزوا برقة إلا قليلاً
وقف البحر في وجه عقبة وما استعصى عليه غير البحر، فكان لابد من الرجوع. فأدار البواسل المجاهدون وجوههم يريدون القيروان ولم يلاقوا في أوبتهم عنتاً أول الأمر؛ حتى أمن عقبة واستخف بالأمر فأرسلهم إلى القيروان قبيلاً يتلوه قبيل
ولكن البربر قلوبهم مطوية على الحقد، كما كانت نفوسهم مفطورة على الغدر، وكان كبيرهم كسيلة يتحين الفرصة ويتهيأ للانتقام. كانت بينه وبين عقبة أشياء فهو من شيعة أبي المهاجر، أسلم في عهده وحسن إسلامه، فلما عاد عقبة استخف به وبالغ في إذائه؛ حتى لقد أمره مرة أن يسلخ الشياه مع السالخين وهو يقول هؤلاء غلماني يقومون بما تريد، ولكن عقبة يأبى إلا أن يذله. ولقد نصح له أبو المهاجر أن يحسن معاملة عقبة وقبح فعله على ما بينهما من خصومة، ولكنه أبى واستكبر استكباراً. وعاد أبو المهاجر فأشار عليه أن يوثقه ولكنه أعرض حتى عن هذا
ليت عقبة سمع ما أبدى له من نصح فرعاه واتبعه، أجل ليته تدبر ما أشار به أبو المهاجر، إذاً لنجا مما كان يدبر له.
قصد عقبة في أوبته تهوذا وفيها للروم جيش وحصن؛ لم يكن معه إلا بقية جيشه الفاتح، فاستهان الروم بالغازي وأغلظوا له القول، بل لقد وصل بهم الأمر إلى السباب وهو يدعوهم إلى الإسلام؛ فوقف ليذيقهم بأس سيفه، ولكنهم كانوا قد أخذوا للأمر عدته من قبل،(246/86)
فبينهم وبين كسيلة مؤامرة محكمة. وأقبل كسيلة في هذا الموقف الذي يطيش فيه الكمى، فأصبح عقبة بين نارين: الروم من ورائه والبربر الأشداء من أمامه؛ ولكن قلبه لم يخلق له الفزع؛ تقدم ليلقى كسيلة ففر ريثما يتكاثر حوله البربر؛ وبلغه حينئذ من أبي المهاجر أنه ينشد في وثاقه:
كفى حزَناً أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصارع من دوني تصم المناديا
سمع عقبة ذلك فغلبت عليه شيمته العربية وأطلق خصمه من وثاقه وقال له: (الحق بالمسلمين وقم على أمرهم وأنا أغتنم الشهادة)! ولكن أبا المهاجر يطمع في الشهادة كما يطمع عقبة فوقف يقاتل تحت لوائه، وكسر البطل المجاهد عقبة غمد سيفه على ركبتيه وحمل على الأعداء، واحتذى العرب حذوه وتكاثرت جموع الروم والبربر، ودارت رحى الحرب والتمعت البيض، وبرقت الأسنة، وتطاير العثير، وعلا الضجيج، وطاب الموت في سبيل الله، وانجلت الغمرة فإذا العرب جثث طريحة لم يفلت منهم إلا من أسر؛ واغتنم عقبة الشهادة، واغتنمها معه أبو المهاجر. وعرف ذلك البطل كيف يموت ميتة لا يدرك معناها إلا البسلاء
الخفيف(246/87)
قبل انبثاق الفجر
للأستاذ محمد سعيد العريان
- (أبي!)
- (سلمان!)
- (ما أريد يا أبي أن أكون بعد اليوم قطين النار!)
- (وَيْ! ما تقول يا بني؟ لقد نذرتك للنار قبل أن تخرج إلى الحياة فأنت هبة الرب إلى أبيك، وأنت وفائي للرب بما نذرت. أضلالاً بعد هدى، وكفراً بعد إيمان. . .؟)
- (إن روحي لتتمرد على هذه العبودية؛ فما أرى هذه النار المعبودة تملك لي نفعاً أو تمنعه؛ إنني أنا أوقدها وأذكيها، ولو شئت لصببت عليها ذنوباً من ماء يردها رماداً رطبا!)
- (أي بني، إنه دينك ودين آبائك. أي نازية نزت بك فتمردت على ربك؟)
- (هيهات مني ما تريد يا أبي، وبرغمي هذا العصيان! إن في السماء إلهاً يقتضيني حقه من العبادة والتقديس، وإن صوته ليهتف بي في سدفة الليل، وفي وحدة القلق، وفي ظلمة اليأس؛ فما أجد لي طاقة على الإفلات من صوت الله. . .!)
جثا الشيخ الأصبهاني بين يدي ربه مطأطئاً رأسه في ذلة وانكسار، وبسط ذراعيه إلى النار في ضراعة واسترحام يسأل الهدى لولده الذي يؤثره بالحب من دون ما يتمتع به من زينة الحياة. وراح اللهب المتراقص يعكس على وجهه المتغضن أضواء تكشف عما يعتلج في نفس الشيخ من حسرة وأسى
وعلى مقربة من مجلس الشيخ جلس فتاه الأمرد (سلمان) معتمداً رأسه بين راحتيه وسبح في أحلامه. كان ما يزال يرن في أذنيه صدى تلك الأنغام الندية التي سمعها منذ قريب في معبد المسيحية على أطراف المدينة، فشغل بها عما أرسله أبوه لقضائه من حاجته. . . وهفت نفس الفتى إلى زورة ثانية لرهبان المعبد، يستمتع فيها بما استمتع منذ ليال من عذب الأناشيد وحلو النغم، وبما يسمع من أحاديث الرهبان عن الرب الموجود في كل مكان ولا تراه العين. . .
وغدا الفتى مع الصبح على الكنيسة، يشهد مع الرهبان صلاتهم ويستمع إلى أناشيدهم. لقد عاش قطين النار في المجوسية بضع عشرة سنة لم يحس فيها بمثل هذا الجلال الروحاني(246/88)
الذي يغمره وهو يستمع إلى أناشيد النصرانية بين جدران هذا المعبد القائم على حدود الصحراء. فما فرغ الرهبان من صلاتهم حتى دلف الفتى إلى كبيرهم يسأله أن يعقد بينه وبين هذا الدين آصرة. . . وربت الراهب على كتف الفتى وهو يقول: (لله هذا الإيمان في فتى مثلك ريان لم تفتنه مباهج الحياة عن معرفة الرب الأعظم. . ما اسمك يا فتى؟)
- (سلمان الفارسي!)
- (ليباركك الله يا سلمان وليمنحك التوفيق والهدى!)
واعتنق سلمان النصرانية عن إيمان وتقى؛ ولكن الفتى لم يقنع بما أفاء الله عليه حتى يعرف أين أصل هذا الدين فيسعى إليه
وفارق الفتى أصبهان وخلف وراءه مولده ومرباه وأباً له جاه وسلطان ومال، لم يكن أحد أحب إليه من ولده. وتلفت الفتى إلى وراء، فتحدرت على خديه دمعتان وهو يقول: (وداعاً يا بلادي الحبيبة، وداعاً لا أدري متى ألقاك منه إلا أن يأذن الله. . .!) وتلاشت آخر كلماته في زفرة حزينة، ثم طأطأ رأسه ومسح دمعته وأستأنف سيره إلى دمشق، إلى حيث يعرف أصل هذا الدين. . .
والتقى سلمان وأسقف الكنيسة في دمشق، فلزمه يستمع إليه ويأخذ عنه ويصلي معه؛ ولكن سلمان لم يجد في الأسقف ما كان ينتظر أن يجد في رجل نذر نفسه لله؛ لقد كان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغب فيها، فإذا اجتمع إليه شيء منها اكتنزه لنفسه فلا يتصدق به، فإن المال عنده لأكداس، وإن المساكين لعلى الأبواب يستندون الأكف ويبيتون على الطوى؟
وضاقت نفس الفتى بما وجدت فلم يجد حيلة لنفسه مما يرهق نفسه؛ لقد فر من المجوسية إلى دين البر والرحمة والسلام، فما وجد عند أهله شيئاً من البر والرحمة والسلام؛ وعاد التمرد إلى الفتى وشغلته أشجانه فما يستبين طريق الرشاد. . .
- (أي ربي، إنك لتسمع دعائي، وإني لأراك في قلبي، ولكني لا أجد سبيلاً إليك. في بيت النار سلخت بضعة عشر عاماً من الشباب ألتمس الزلفى إليك بين البخور واللهب فما بلغت إليك؛ وفي معبد المسيحية بين الهيكل والصليب وتماثيل القديسين ركعت ألتمس الزلفى إليك فما بلغت إليك. . . تنزهت يا رب أن تأمر بعبادة النار وإنها لجمر ودخان، وتقدست يا إلهي أن تكون عبادتي لك سجوداً للتصاوير وركوعاً للصليب، وخشوعاً لتمثال العذراء،(246/89)
وحرصاً على جمع المال في القلال ليحرم منه الفقير والمسكين. . .!)
(ربي، سألتك الهدى فأنر سبيلي!)
وكانت الفتنة تعصف عصفها في كل مكان، والشهوات يتسلط سلطانها على كل نفس؛ والناس في الشرق والغرب، في فارس وقسطنطينية، وفي بغداد ودمشق، وفي الحبشة وبلاد العرب، تعيش عيش البهم: لا وازع من دين، ولا حرج من ظلم؛ فلم ينج من فتنة الشهوات إلا من عصم الله. . . والفتى (سلمان) من أشجانه في همّ ناصب، يتوزعه الشك واليقين، ويتعاوره الإيمان والكفر، ويراوح القلق بين نفسيه في وحدته واجتماعه؛ فما يجد له منجاة من أشجانه إلا الصبر والاستسلام حتى يجد لنفسه فرجاً من ضيق. . .
وكان ثمة أربعة من الرهبان جمعتهم على دين الرب عقيدة راسخة، وقلوب عامرة، وإيمان بالله وطيد؛ وكان لهم في كل عام مزار يجتمعون إليه أياماً ثم يذهب كل إلى واديه. كانوا من الصلاح والخير وصفاء النفس بقية من الحواريين المخلصين، عرفوا دين السلام عرفان الحق، فأقاموا على هدى المسيح خالصاً يعبدون الله لا شريك له؛ فاطمأنت نفوسهم على قلق الحياة، واستراحت قلوبهم على شغب الفتنة، فأصموا آذانهم عما ابتدع الرهبان في الدين وما زادوا ونقصوا، فبقوا على المسيحية الأولى حنفاء لله، يدعون إلى الله ما قدروا على الدعوة، أو يلزمون صوامعهم لتسبيح الديان
واستجاب الله دعاء (سلمان) فوصل بهم حبْله ليهدوه سبيل الرشاد
كانوا أربعة تفرقت بهم البلاد: فراهب في دمشق، وراهب في الموصل، وثالث في نصيبين، ورابع في عمُّورية من أرض الروم. قد تقدمت بهم السن حتى أشرفوا على الآخرة، ولكنهم جِدُّ حِراصٍ على الحياة، لأن لهم في الحياة أمنية موروثة يستشرفون إليها من بعيد
ولقي (سلمان الأصبهاني) أولهم في دمشق فلزمه، فلما صفا بينهما المورد جلس الراهب يتحدث إلى فتاه:
- (أيْ بنيّ، إنها فتنة الحياة للأحياء، ولكن صبراً صبراً يا بني؛ إن شعاعة من النور تلوح من بعيد، وإنه ليوشك أن يشرق بعدها صبح أزهر. هنا من هذه الصحراء سينبثق النور الأعظم الذي يغمر الدنيا ويشرق بالخير والسلام على البشرية كلها، إنه نبي قد أظل زمانه.(246/90)
يا ليتني فيها جذع. . .!)
وانتفض الفتى وقد غمرته موجة من السرور فهزت أعطافه فمال على الراهب وقد أمسك بكلتا يديه يهزهما في فرح ونشوة وهو يقول:
(. . . نبيّ قد أظلّ زمانه؟ من هذه البادية؟ حدثني يا أبي إن حديثك لينفذ إلى قلبي بكل مسرات الحياة:)
وابتسم الراهب وربت على ظهر الفتى وهو يقول: (صبراً، صبراً يا بنيَّ. . . إن حديث هذا النبي لمسطور في فؤادي، وإني به لمؤمن قبل مبعثه، إنها لأمنية الحياة يا بني أن أعيش حتى أراه. . .!)
ولكن الراهب الشيخ لم تمهله المنية حتى يحقق أمله، فلم يلبث أن ذهب إلى ربه!
عاد السلام والأمن إلى قلب الفتى الفارسي، وتقشعت ظلمات الشك والحيرة في نفسه، ولكن الأمل الجديد الذي بعثته في نفسه كلمات الشيخ لم تدعه له أن يستقر، فقرر رحلة ثانية من دمشق لعله يعرف جديداً من راهب الموصل عن النبي الذي أتى وقته ليرسم للإنسانية الضالة حدود سعادتها في معاني البر والرحمة والمساواة!
فتىً لدْن العود غض الإهاب، يهاجر هجرتين في سبيل الله، من أصبهان إلى دمشق، ومن دمشق إلى الموصل، وليس معه مال ولا زاد، إلا الإيمان والتقى وقلب عامر بمحبة الله؛ وقد خلف وراءه المال والأهل والسيادة، وأباً لم يكن أحد أحب إليه من ولده!
- (سيدي!)
- (ممن أنت يا فتى؟ إن في وجهك لَنَضْرةَ أبناء الدهاقين والسادة؛ ولكن عليك من وعثاء السفر مثل أبناء السبيل!)
- (سيدي!. . .)
- سمعاً يا بني!)
- (أنا رسول (فلان) إليك - يرحمه الله - أفتأذن لي أن أقيم عندك لآخذ عنك من أمور ديني. . .؟)
- (سهلاً وكرامة يا ولدي، بارك الله عليك!)
- (أبي، إن الفتنة لتعصف عصفها، وإن شهوات الناس لتبلغ بهم مبلغ الحيوان، أفترى(246/91)
للإنسانية منقذاً من ضلالتها يهديها سواء السبيل؟)
- (أراك تعرف بعض ما أعرف يا بني؛ وإنك لتستشرف إلى أمل قريب. إن نبيَّا قد أظلّ أوانه، إن لم يكن فكأن قد. . . يا ليت لي فسحة في العمر حتى أراه فأومن به! إن موجة الإصلاح ستمد مدها عما قريب من هذه الجزيرة العربية حتى تفيض على البشرية جميعها من برها خيراً ورحمة، وستغسل هذه الموجة أدران البشرية وتمسح على قلبها بالطهر القدسي حتى يمتلئ العالم سلاماً ومحبة. . .
(سيمتد بك العمر يا بني - إن شاء الله - حتى ترى هذا النبي، فلا تتلبثْ في اتباع دعوته، إنه يدعو إلى خير الدنيا وخير الآخرة. . . أتراك ستعرفه يا بني حين تلقاه إن وصفتُ لك من خبره. . .؟)
وآثر راهب الموصل جوارَ الله، وخلف الفتى الفارسيَّ وليس معه إلا ربه؛ فأزمع الرحلة ثالثة إلى نصيبين
وأقام (سلمان) عند راهب نصيبين ما شاء الله أن يقيم، لا يشغله من دنياه إلا ذكر الله، وأمل جياش يخفق به قلبه الكبير، أن يرى ذلك النبي الكريم الذي تُنميه الصحراء لينشر الخصب والرخاء في ربوع البشرية ويغسل نفوس الإنسانية من أدران الشهوات
ثم هاجر هجرته الرابعة إلى عَمُّورية بعدما فارق صاحب نصيبين إلى جوار ربه. . .
(. . . أي بنيّ، والله ما أعلم اليوم أحداً على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه بعدي، ولكنه قد أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم - عليه السلام - يخرج بأرض العرب، مهاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. . .)
وأقام سلمانُ بأرض عمورية ما شاء الله وهو يعمل لمعاشه، وإن الأمل العذب في لقاء النبي العربي ليداعبه في يقظته وفي أحلامه؛ واجتمع له مما يعمل بقرات وغنيمة، فظل يترّبص حتى مر به نفر من تجار العرب، فساومهم أن يعطيهم بقراته وغنيمته ويحملوه إلى بلاد العرب. . . وسار الركب منطلقاً إلى الصحراء يحمل سلمان إلى أرض الميعاد. . .!
يا للفتى مما احتمل في سبيل الله!
خمس رحلات بلا زاد ولا مال، وليس له من أمل في دنياه إلا ربه، وكل شأن من شئون(246/92)
الحياة يتصاغر في عينيه حتى أهله ووطنه وجاه أبيه. . .!
العثير تثيره الرياح إلى الحلقوم والخياشيم، وذرات الرمل الساخنة تلطم الوجوه بمثل أطراف الإبر، والشمس الحارة ترسل من أشعتها سهاماً من نار تشوي الوجوه والأقفاء، والماء في القرب يوشك أن يجف من حر الصحراء، والحادي يحدو البُعْران في طريق لم يذلَّل بعد للأسفار، والفتى على بعيره شارد الفكر مذهوب اللب. . .
هذه رحلته الخامسة في سبيل الله، وقد خلف الدنيا كلها وراءه لا يقيم لها وزناً ولا تخطر له على بال، لأنه مقبل على مهبط الوحي وأرض النبّوة. . . والحادي يحدو وفي نبراته حنين، وفي نغماته حزن وأسى؛ فهتف الفتى وقد هاج الحداءُ ذكرياته:
(يا لأبي الشيخ المسكين! يا لوطني الذي فارقته منذ سنوات ولا أدري متى أعود إليه. . .! ربّ، في سبيلك هجرتي وإليك وجهت وجهي، فاكتب لي الكرامة والظفر بلقاء نبيك المختار، وأسبغ رحمتك يا رب على أصبهان. إن في أصبهان أبي. . . وإن لي بأصبهان هوى الحبيب إلى الحبيب. . .!)
ومضى الركب إلى غايته، فلما بلغ وادي القرى، همس الركب بعضهم إلى بعض يتآمرون على الفتى الفارسيّ؛ فباعوه من رجل يهودي عبداً. . .!
لقد بلغوا بالفتى حيث أراد ولكنهم جعلوا غُلاًّ في رقبته، والفتى راضٍ صابر، لأنه مؤمن بقضاء الله، لأن له أملاً يريد أن يبلغ إليه فلا عليه مما يناله في سبيله. . . رحمة الله له!
وأرسل الفتى أذنه وراء كل أثنين يتهامسان، لعله يسمع نبأً عن النبي العربي. . . وبلغ في النهاية ما أراد: هذه هي الأرض الموعودة، أرض بين حَرَّتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى. إنها هي، فأين هو؟ فإنه لفي رأس عزق يعمل فيه ذات يوم لسيده بعض العمل، وسيده جالس تحته، إذ جاءه النبأ:
هذا رجل قادم يتحدث إلى سيده حديثاً ذا بال: (إن بني فلانة مجتمعون اليوم بقباء على رجل قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبي. . .!)
يا للبشرى! أيكون هو النبي الموعود؟
وسمعها الفتى فانتفض انتفاضة أوشك منها أن يسقط على سيده، فما هو إلا أن تمالك حتى نزل عن النخلة يستمع النبأ(246/93)
- (ماذا تقول يا رجل؟)
هكذا أقبل سلمان على القادم يستنبئه وإن سيده ليشهد. فما إن سمعه يسأل حتى غضب فلكمه لكمة شديدة وهو يقول:
(ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك!)
قال سلمان: (لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال!)
ثم دار على عقبه ليخفي عبرة تنحدر على خده، وإن صدره ليجيش بعواطف شتى. فلما كان المساء جمع شيئاً من طعام كان له ثم ذهب إلى محمد بقباء:
(سيدي، إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم. . .!)
وتناول النبي الكريم من يد الفتى الفارسي ما قدّم إليه، فدفعه لأصحابه لم يأخذ شيئاُ منه. وتحققت للفتى أمارة. . .
ثم انصرف الفتى فجمع شيئاً وعاد إلى رسول الله يقول:
(سيدي، إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، فهذه هدية أكرمتك بها. . .!)
فمد النبي إليها يده فأكل وأكل أصحابه معه. وتحققت أمارة. . .
وطغى شعور الفرح على سلمان حتى أنساه قيد الرق وذل الإسار، فسار خلف النبي يتبعه لينظر منه شيئاً قد بقي من إمارات النبوة. فإن النبي ليمشي إذ انحسر رداؤه عن ظهره فرأى. . .
وتحقق الوعد المأمول فما تلبّث الفتى حتى أكب على النبي الكريم يقبله ويبكي. . .
وآمن سلمان الفارسي بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانبثق الفجر الذي كان يرقب شروقه منذ سنوات وسنوات، وأضاء في قلبه النور الذي غمر البشرية كلها فحدَّد لها حدود سعادتها ورسم لها غايتها. ولم يمت سلمان حتى انتشر الصبح وأشرق على ربوع فارس وأصبهان، وانتظمتها الدولة الإسلامية فصارت جزءاً من الوطن الإسلامي الذي يعيش فيه سلمان الفارسي
ومازال النور ينتشر وينشر حتى عم أقطار الأرض. ومات محمد بن عبد الله ولكن شريعته ظلت باقية تمدُّ مدَّها ذات اليمين وذات الشمال، حتى عبرت المحيط، وجازت الجبال،(246/94)
وحطَّمت الحدود، وأزالت السدود، ورسمت حدود (الدولة الإنسانية) التي مازال المصلحون يعملون جاهدين ليبلغوا إلى تحقيقها كي يعم السلامُ الأرض وينتشر الأمن والرخاء؛ ولن يبلغوا إلى تحقيق هذه (الوحدة الإنسانية) إلا أن يعملوا على شريعة محمد. حينئذ تمَّحى الجنسيات، وتزول العصبيات، ويذهب الطغيان، ويعيش الناس إخواناً متحابين كما ينبغي أن يعيش أبناء الإنسانية
(شبرا)
محمد سعيد العريان(246/95)
البيئة الإسلامية
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
يعجبني من عادة (الرسالة) في إخراج عددها الهجري الممتاز أنها توجه قراءها في أنحاء العالم الإسلامي العربي مرة في العام على الأقل إلى موضوع هو أجل ما ينبغي أن يشغل بال المسلم: موضوع الإسلام والحياة به وله والجهاد في سبيله
والمسلمون اليوم ينقصهم مذكر مؤثر يذكرهم بدين الله وبحقه عليهم: حق العمل وحق الجهاد. والعمل هو من الجهاد أو هو أكبره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من إحدى غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) والمسلمون اليوم قد أضاعوا الجهادين، فلا هم يجاهدون العدو فيؤدوا الجهاد الأصغر، ولا هم يجاهدون النفس ويقومون بحق الله في أنفسهم وفي الناس فيؤدوا الجهاد الأكبر. وليس ينقص المسلمين العلم بما عليهم لله في أنفسهم وفي إخوانهم، فإنهم يعلمون من ذلك ما إن عملوا به لكفاهم، ولكن ينقصهم العمل بما عندهم من العلم المستفيض فيهم
والعجيب من أمرهم اليوم أنه لا يحول بينهم وبين العمل المنجي إلا صغائر الشهوة يعجزون عن مخالفتها، وحقائر المغريات يضعفون عن مقاومتها. وأعجب من هذا أن كثيرين منهم حين يطيعون المغريات يظنون بأنفسهم الحكمة ويحسبون أنهم يتابعون الصواب. وهذا شر ما في الأمر كله وأفظعه وأهوله، فإنه يدل على مبلغ بعدهم عن الدين الذي ينتسبون إليه وقربهم من الشرك الذي يبرأون منه؛ وظنهم هذا بأنفسهم يزيد في يأس اليائس منهم ويجعل عبء المتصدي لهدايتهم ثقيلاً لا يقوم به من ولي العزم إلا من يلحظه الله بتوفيق وتأييد
وعبء رد العاصي إلى الطاعة والضال إلى الهدى والمخطئ إلى الصواب عبء ثقيل على أي حال، لكن شتان بين من يقر بخطئه أو بمعصيته يود لو خرج من كل ذلك، وبين من يجادل فيما هو عليه لا يرى به بأساً إن لم يره عين الخير. فالأول ليس بينه وبين الطاعة أو الهدى أو الصواب إلا العادة، وليس أمام الداعي إلا أن يحرك فيه دواعي التغلب على العادة ويدله على الطريق حتى يتغلب بالفعل، فتنقلب العادة عوناً له بعد أن كانت عوناً عليه. أما الآخر فأصعب الصعب في أمره إقناعه بخطئه أو ضلاله، وتحريك عوامل(246/96)
الأسف والندم فيه حتى يصبح كأخيه ليس بينه وبين الاستقامة إلا أن يجاهد العادة حتى يصبح سلطانها معه بعد أن كان عليه
والصنف الأخير من المسلمين قد أخذ يكثر كثرة تضيق منها الصدور وترتاع لها القلوب، ولم يكن الحال كذلك منذ ثلاثين عاماً أو أقل. كان هذا الصنف موجوداً لكنه كان قليل العدد قليل الجرأة خافت الصوت؛ وكان ما يسمى بالرأي العام ضدهم إذ ذاك في الجملة؛ كان يدعهم وشأنهم ماداموا منزوين، لكنهم كانوا إذا حاولوا الظهور ولو باسم الإصلاح والتجديد لقوا منه عنتاً غير قليل
والرأي العام ليس وليد نفسه، ولكنه وليد بيئته. ولقد كانت البيئة في ذلك الحين لا تزال دينية الروح إسلامية النزعة إلى حد كبير؛ لكنها الآن قد تغير روحها وانعكست الآية فيها في المدن، ويوشك هذا التغير أن يتخطى المدن إلى القرى على أمواج الراديو وأفلام السينما وصفحات الصحف ولو بالتدريج. فهذه الثلاثة هي أهم مكونات البيئة اليوم، وقليل منها الآن ما لا يمكن أن يوصف بأن فيه من الإسلامية كثيراً أو قليلا
فالسينما أكثر أفلامها مصنوع في الغرب وأقلها مصنوع في الشرق. ومع أن هذا الأقل مصنوع في مصر التي تطمع أن تتزعم الأقطار الإسلامية إلى الخير والعزة والمجد، فإنه وذلك الأكثر المصنوع في الغرب سواء في مجافاته للدين ومنافاته لما يليق، بل قد يبذ الشرقي الغربي في ذلك كعادته في الإفراط والتفريط. لا يكاد الوالد الحريص يجد بين جميع ما يعرض في مصر من الأفلام ما يمكن أن يروح عن أولاده بأخذهم إليه من غير أن يعرضهم بذلك إلى تلويث الذهن وتدنيس الخاطر. بل لقد أصبحت السينما وخصوصاً ما تخرجه مصر من أفلامها خطراً حقيقياً على الأخلاق في هذا القطر وما يتأسى به من الأقطار. فلقد كانت هناك مسارح للتهتك والخلاعة منزوية في أماكنها التي كنا نحذرها ونحن صغار، فأصبحنا وليس يغني التحذير من مفاسدها شيئاً بعد أن أعطتها صناعة السينما قوة التكاثر كما تتكاثر الجراثيم فصارت تنتشر بأفلامها في المدن والقرى، تنشر عدوى الفساد الخلقي كما تنتقل الجراثيم فتنشر عدوى الأمراض
وما يقال في تأثير السينما يمكن أن يقال في مثله تأثير الراديو مع اختلاف في المقدار. فهو كالسينما من العوامل الفعالة الطارئة على البيئة الإسلامية، وهو جدير أن يغير منها إما إلى(246/97)
الخير وإما إلى الشر، ولكنه الآن إلى الشر أقرب. فإنك إذا استثنيت ما يذاع من القرآن الكريم والقليل من محاضرات الإرشاد، تجد الغالب على إذاعاته المجون والخنوثة والاستهتار. خذ بيدك أي برنامج عادي للإذاعة في أي يوم واحسب ما للهزل فيه وما للجد، تجد ما للهزل أضعاف ما للجد، وتجد أكثر هزله هزلاً غير بريء، بل بعض جده جداً غير بريء كذلك
على أن المصيبة بالراديو أعظم من المصيبة بالسينما من بعض الوجوه، فإنك تستطيع أن تتقي شر السينما خاصة نفسك بالقعود عن الذهاب بأولادك إليها، وإن كان في ذلك شيء من العنت. لكن ماذا تصنع وهذا الذي تتهرب منه بحرمان نفسك من تسلية السينما يدخل عليك وسط دارك من الراديو وأنت بين أهلك وذويك؟ إن مجون الريحاني وأضرابه وخلاعة مصابني وأضرابها تلاحق المسلم بالراديو في عقر داره. وإذا أمكن التحرز من ذلك إلى حين بإغلاق الراديو فلابد أن يأتي يوم يمل الإنسان فيه الرقابة، ويترك الراديو كالورد الخبيث مل الراعي ذود القطيع عنه. على أن المسألة ليست مسألة فرد أو أفراد يعرفون الخطر ويستطيعون توقيه بشيء من كبت الرغبة وضبط النفس، ولكن المسألة مسألة الجماهير التي لا تستطيع تمييزاً ولا امتناعا. فإذا لم يكن ما يذيع الراديو سليماً طيباً كان الراديو شراً ووبالاً على الناس ينقلهم خلسة عما ألفوا من الخير إلى ما لا يريدون أن يألفوا من الشر ومذاهبه، وينبه فيهم من نزعات السوء ما لم يكن لولا الراديو ليتنبه فيهم. والراديو الآن يخلط الصالح بالسيئ إلا أن سيئه أكثر من صالحه، وهو على أي حال كان إلى الآن عاملاً على تغيير البيئة في الأقطار الإسلامية تغييراً يبعد بها عن الإسلام
وغير الراديو والسينما من مكونات البيئة الحديثة ينحو منحاهما وإن لم يبلغ مبلغهما من القوة والذيوع. ولعل أهم هذه هي الصحف وهي مثلهما قوة هائلة تعمل في كيان البيئة، إما بتعمير وإما بتدمير. ولقد كان عهد ليس للصحف في البيئة الإسلامية من أثر، ثم جاءت الصحف وعرفها الناس لكنها في أول عهدها لم تكن تجرؤ على الخروج عن مألوف الناس من فضيلة ودين. بل لقد كانت الكلمة العليا بين الصحف إذ ذاك للإسلامية منها أيام كان المؤيد واللواء ليس لهما في ميدان الصحافة قريع. وكانا رحم الله أيامها وعوض المسلمين خيراً منهما مهما اختلف بهما يبل السياسة لا تختلف بهما سبيل الدين. فكانا لا يكادان(246/98)
يشيمان الخطر على الدين من ناحية ولو من بعيد حتى يهبا لاتقائه وتنبيه الناس إلى الاستعداد له قبل وقوعه. ثم ذهبت بهما الأيام فكأنما ذهبت بذهابهما ريح الدعوة لله والمنافحة عن الإسلام. وكثرت الصحف حتى صارت عشرات بعد آحاد، لكنها كانت حرباً على الإسلام في غالبها. كانت بين مهاجم له ومعين عليه بالسكوت أو بنشر الرد الضعيف بعد الهجوم العنيف؛ وقل بينها ما كان يهب للدفاع حيناً بعد حين. أما الثبات في الدفاع والصمود للخصم صمود المؤيد مثلا لرينان وهانوتو فلم يكن في القائمين على الصحف الإسلامية من يجشم نفسه ذلك. وكان من أثر توالي الهجوم وتلكؤ الدفاع أن دخل الخصم من حصون البيئة الإسلامية حصناً بعد حصن. فذهب الحجاب وكأنما ذهب بذهابه الحياء؛ وجاء السفور وكأنما جاء بمجيئه الفجور. وكان الفجور يكاد يكون وقفاً على الرجال فأصبحوا بعد أن فشا الرقص والاختلاط يغلبهم عليه النساء
إنا لله. لشد ما غفل عن دينهم المسلمون حتى أتوا من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون! ماذا كان عليهم لو أنهم عملوا بدينهم وأطاعوه فكفوا أنفسهم كل هذه المصايب والويلات؟ إن الرجل اليوم ليأمر ابنه فلا يسمع له، ولا يجرؤ على أن يأمر ابنته خوفاً من أن تجترئ وتجاهر بالعصيان، كأنما إقراره إياها على خطأ لا يجعلها ترتكب غيره من الأخطاء، أو كأنما مجاراته إياها فيما لا يرضي الدين سيجنبها الهوة التي لابد أن يتردى فيها كل من يعصي الدين
لقد كانت البيئة الاجتماعية يغلب عليها الشر قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام طفق يجتث منها أصول الفساد، وطفق يصلح ويهذب ويطهر حتى ذهب عنها الرجس، وشاع فيها الطهر، وعم فيها النور؛ وأصبحت من ينشأ فيها ينشأ سليماً صحيحاً قويماً كالزرع في التربة الطيبة يأتيه النور من كل مكان. ثم أراد الله الذي يعلم أن الإنسان ابن بيئته أن يديم للإنسان نعمة إصلاحها فأقام حولها وفيها الحدود حداً بعد حد كحصن اجتماعي بعد حصن يقيها تطرق الفساد. فجلد على الخمر، وجلد ورجم على الزنا، وحرم الخلوة ومنع الاختلاط إلا للضرورة، واحتاط في المنع فضرب الحجاب. وقطع يد السارق بعد أن منع الربا، وأوجب الزكاة. فكانت بيئة طاهرة زكية يزكو فيها النشء كما يزكو النبات في البلد الطيب. فلما أصلحها للناس أمرهم أن يحافظوا على صلاحها بالأمر بالمعروف والنهي عن(246/99)
المنكر وإقامة الحدود، وأنزل عليهم (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) فأحسنوا وأطاعوا ما أقام بينهم الرسول. فلما علم صلى الله عليه وسلم أنه مفارقهم عن قريب حج بهم حجة الوداع وخطبهم خطبة الوداع التي لا يكاد يحفظها الآن مسلم:
(أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا
أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .
أيها الناس! إنما المؤمنون اخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .)
هذا بعض ما عهد الرسول به إلى المسلمين في ذلك الموقف العظيم. فلما قبض صلى الله عليه وسلم أحسن المسلمون خلافته وأحسنوا السمع والطاعة لله ولرسوله وللخليفة الأول ومن بعده؛ وسار فيهم رضي الله عنه متأس بالرسول، حاملا أيهم على الحق ضارب لهم المثل بنفسه، جاعلاً طاعة الله أول الأمر وأخره (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه)
فلما قبض رضي الله عنه خلفه في المسلمين من كان يرعاهم رعي الأم ولدها، ويذودهم عن المهالك ذود الراعي غنمه (اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلعة، فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبيء؛ وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً). وكان أكبر ما يحرص عليه رضي الله عنه ألا يتطرق إلى البيئة الإسلامية خلل أو فساد وأن بقي ضعيف النفس من المسلمين شر المغريات، حتى أنه لما سمع المتمنية تتمنى نصر بن حجاج دعا به، فلما رآه نفاه من الأرض، وأمر ألا يغيب رجل في الغزو عن بيته فوق أربعة أشهر كما أمر ألا ينزل المسلمون منازل المترفين في البلاد التي يفتحونها مخافة أن يخرجوا من أخلاقهم شيئاً فشيئاً إذا اختلفت بهم البيئات(246/100)
ثم كان أن جاءت الفتن وتغير الحال ووجد الشيطان سبيلاً إلى تلك البيئة الإسلامية المصونة عن طريق الهوى. وترخص الخلفاء بعد عهد الراشدين واحتالوا على الجمع بين هواهم وبين الدين، وهيهات؛ فكان منهم من امتُدح وتمنى المادح عليه ألا يُحد في الخمر فقال ذلك حد من حدود الله لا سبيل إلى إبطاله، ولكن سأحتال لك فكتب إلى عامله على بلد الشاعر المتهتك: من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين! وظن ذلك الأحمق أنه لم يبطل حد الله حين أفتاه شيطانه بهذا وقد أبطله بالفعل أيما إبطال إذ كان الناس يمرون على ابن هرمة مطروحاً فلا يمسونه ويقولون: من يشتري ثمانين بمائة؟ ومع ذلك فقد كان ذلك الخليفة العباسي يوصف بفقه ويلحق بالعلماء
مثل هذا النوع من الحكام وهذا الضرب من الاحتيال على إبطال أحكام الله حين تخالف منهم هوى أو شهوة هو الذي أفسد البيئة الإسلامية بعد إصلاحها، ففسد بفسادها الناس، فذهبت عنهم العزة وذهب ملكهم عن أقطار استعمرها آباؤهم بالدين والحسن الطاعة لله والنزول على أمره. ولن يستقيم للناس حال حتى ترد البيئة إسلامية خالصة كما كانت (يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)
محمد أحمد الغمراوي(246/101)
التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية
للدكتور أحمد موسى
أتى على الباحثين في تاريخ الآثار والفنون الإسلامية حين من الدهر قصروا فيه جهودهم على درس ما كان بارزاً من تلك الفنون للعيان في المباني والآثار الظاهرة ذات الوجود المادي الضخم، مما شاهدوه من المساجد والمنائر والعمائر وكل ما بناه رجال التاريخ الإسلامي ليتخذ مكاناً بيناً في نظر الحاكمين والمحكومين؛ لأن الفنون الجميلة كانت ذات صفة يأبه لها الملوك والأمراء ويجيزون عليها أربابها؛ فلم يكن للفنان المسلم مجال يظهر به الفن لعامة الشعب، بل كان كل همه أن يتقدم إلى ملك عظيم بثمرة نبوغه الفني ليكافئه عليها. كما أن الملوك اتخذوا عادة تشييد البناء وما يتبعها من التزيين والتزويق والتأثيث تخليداً لأسمائهم وذكر عهودهم وما اشتهروا به من الغنى والقدرة على تسخير المواهب في تمجيد الدين تارة والمجد الدنيوي تارة أخرى
وعندما انبرى مؤرخو الفنون الإسلامية إلى تقسيمها وتبويبها وتحديدها بعد انتشار الاستشراق في أنحاء أوربا المتحضرة، وبعد أن طاف فريق كبير من علماء المشرقيات بلاد الإسلام وعادوا بدراسات متوافرة ومثل للآثار التي وقعت أبصارهم عليها ودروسها في حواضر الشرق القريبة والبعيدة - طبق فريق منهم على تلك الفنون القواعد التي اتبعها علماء الفن الأوربي في ترتيب الآثار، فجعلوا أقساماً خاصة للعمارة، وأخرى للنحت والرسم البارز والحفر، وثالثة للتصوير وغيرها لأنواع التحلية والنقش والزخرفة
وكان هؤلاء العلماء يزعمون أن الدين الإسلامي يحرم التصوير مع أنهم رأوا آثاره، ومع أن الدين لم يكن ليمنع هذا الفن إلا من ناحية واحدة خشية أن يتجه التأويل إلى عبادة الأصنام. هذا وفي الوقت الذي لا يوجد فيه نص يتنافى مع تقدير الجمال الخالص الذي كانت نفس النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم مشبعة به، بدليل ما ورد من الآيات والأحاديث والتفاسير في تمجيده
وجعل المؤرخون همهم مقصوراً على تلك الآثار؛ ثم فحصوا كثيراً من المباني الإسلامية بزخارفها وما فيها من نجارة وقيشاني وأشغال المعادن؛ كذلك ما كان على الحلي والحلل وفي الأقمشة من الخز والديباج والإستبرق من تطريز وكتابة وصور. هذا إلى جانب(246/102)
دواوين الشعر التي لم يجد المسلمون مانعاً من تحليتها بتصاوير عجيبة للنبات الذي اتخذوا منه وحدات زخرفية كالأزهار والسنابل والأشجار، والحيوان كالسباع والغزلان والظباء وطيور البر والبحر والأسماك. ولكنه لوحظ أن الفنان أمسك يده حينما وصل إلى تصوير الإنسان، لا خشية الكفر ولكن خشية الملام والفتنة. واستمر الإمساك عن تصوير الإنسان حيناً حتى ازدهر الإسلام في بغداد، فترى أحد المصورين من الفرس يزين قصر أحد الملوك المسلمين في بغداد بفصول من قصة يوسف وزليخا توضيحاً وشرحاً لديوان الشيرازي الذي جعل من تلك السورة القرآنية ملحمة شعرية أتى فيها على وصف الغرام الذي كان مستولياً على فؤاد تلك الأميرة المصرية نحو ذلك النبي العبري
إلا أن هناك جانباً من الفن الإسلامي لم يلتفت إليه كثيراً قد اهتدينا إليه، وهو ما زينت به كتب العلماء والمؤرخين والأدباء من الصور التوضيحية في الكتب. وكان أولها القرآن الكريم الذي بذلت الجهود في تزويقه وتزيينه وتحليته، وإن لم يكن بنصوصه في حاجة إلى التجميل والتزويق. ولا تزال نسخ عدة منه الزينة الكبرى والحلية المثلى لكثير من المتاحف ودور الكتب في الشرق والغرب، التي اتخذت وجوده فيها مفخرة وبهجة ودليلا على الغنى الفني والثروة الأدبية.
ولم يكن في استطاعة بعض المتزمتين من رجال التفسير أن يمنع فريقاً من الفنانين من إدخال التصوير في الكتب، بدليل ما جاء في مقامات بديع الزمان المتوفى سنة 1007م ومقامات الحريري (1054 - 1121م) التي تجلى فيها التصوير بالألوان لتمثيل مغامرات البطل المشهور أبي زيد السروجي وغيره
وشمل غيرهما من الكتب ككليلة ودمنة، وبعض أجزاء الأغاني للأصفهاني (897 - 967م) وألف ليلة وليلة، كثيراً من الصور الرائعة التي دلت إلى حد بعيد على الدقة والتذوق.
ولا يمكننا أن ننكر أن فناني الفرس كانوا أسبق إلى التصوير من سواهم؛ فقد أعطاهم الشعراء الفحول كالفردوسي المولود سنة 939م، وعمر الخيام المولود في القرن الحادي عشر، والسعدي (1184 - 1291م) وحافظ المتوفى سنة 1389م وغيرهم، موضوعات منوعة توحي إلى المصور فكرة الرسم لتوضيح النصوص. فالشاهنامة وحدها وهي تنطوي(246/103)
على جزء عظيم من تاريخ إيران، أشبه شيء بإلياذة هوميروس، وفيها من أخبار الملوك والأمراء وخدع الحروب وحيل السياسة ووصف الأقطار ومواقع البلدان وجمال التصور وفتنة الجبال والوديان ما جعل التصوير فيها أمراً محتما. وكذلك ما ورد في شعر السعدي من النوادر والقصص في بستان الورد. دع عنك رباعيات الخيام وما اقتضته من تصاوير تمثل الشاعر الفنان المحب للخمر المفتون بالجمال المسحور برشاقة التكوين الجسماني، وهو يطرق باب الحان ليوقظ رفاقه لمعاقرة أقداح الشراب قبل بزوغ ألوان الفجر، فلم يكن للمصور بد من الخضوع لذلك الإلهام الشعري الموسيقي القوي في سبيل الحب واندفاع النفس. وهذا هو الذي حدا بالمصورين إلى تصوير الإنسان في أوضاع مختلفة أهمها أوضاع الحرب والحب، ولا أجمل من تلك الصورة التي رسمت توضيحاً لقول الشاعر:
لم يخلق الرحمن أجمل منظرا ... من عاشقين على فراش واحد
لأن المصور قد أوتي من نقاوة الإلهام وطهارة الروح وسمو الخيال وتمجيد الجمال ما جعل صورته آية في العفة وجميل الظن مع اجتماع الحسن والشغف الظاهر في أعين العاشقين.
من أجل هذا كله وجب على القارئ كلما قلب بين يديه كتاباً إفرنجياً مصوراً أو مزيناً بالرسوم؛ أن يتذكر أن هذا الفن وهو توضيح النصوص بالتصاوير، إنما هو اقتباس من فن شرقي قبل كل شيء، وأن الذي فكر في تزيين دواوين الشعراء وكتب القصص والتاريخ بالصور كانوا من أهل الشرق كالهنود والفرس وبعض السوريين، في الوقت الذي لا ننكر فيه على بعض علماء اليونان أنهم وضحوا كتباً من تأليفهم برسوم تعين على فهم النصوص دون أن يكون لهذا أثر كبير في ابتكار المشارقة لفنون تحلية الكتب
وإننا لا نذكر أن هذا البحث لا يزال بكراً، لم تتجه إليه الأنظار ولم يطرقه باحث، كما أننا لا نذكر أنه كتلك الموضوعات التي سبق البحث فيها فلا تكلف كاتبها مجهوداً كبيراً، إنما نذكر أنه قد آن لنا أن نختط خطة أخرى في دراسة الآثار الإسلامية؛ فندرس الطريف الجديد
ولما كانت العلوم التطبيقية أول ما اتجه إليه نظرنا في هذا البحث، وكان أقدم الكتب المخطوطة في هذا الموضوع حسب ما عثرنا عليه، كتاب أبي زيد البلخي (نسبة إلى بلخ في جنوب أفغانستان) رأينا أن نبدأ بتعريف إحدى صوره وهي صورة العراق في زمانه،(246/104)
والتي قصد بها أن تكون خريطة لتلك البلاد، وهي الخريطة التي اصطحبها ياقوت الحموي الإغريقي الأصل (1179 - 1299م) أثناء رحلته في سوريا وفلسطين كما ذكر ذلك في كتابه إرشاد الأريب، عندما نوء بذكر كتاب البلخي، مما يدل على قيمته في عهده
وقد جعل البلخي للأنهار صورة تشبه الخطوط الغليظة المهشرة رمزاً للماء، وأحاط المدن والمعالم بدائرة تحدد القطر المقصود بالوصف، ورسم نهر دجلة وسطه فقسم البلاد إلى قسمين، وأظهر مصبه في الخليج الفارسي عند شط العرب، ورمز للمدائن بمربعات ومتوازيات أضلاع ودوائر ذات مساحات مختلفة تناسبت على ما يظهر مع قيمتها المدنية، ولا يضيره أنه جعل الخريطة بأكملها منحرفة نحو خمس وأربعين درجة عن الأفق. ومن المدن الواضحة على الخريطة بغداد والبصرة كما يتضح من النظر إليها
والخريطة الثانية مختارة من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي المولود حوالي عام 1100، وهو من أمهات الكتب في علم وصف الأرض ومن أبرزها تأليفاً وأعرقها أثراً منذ القرون الوسطى. وقد نقل إلى كثير من اللغات الأوربية لاسيما اللاتينية والإيطالية والفرنسية، وضعه الإدريسي تلبية لرغبة الملك رودريجو (روجر الثاني 1097 - 1154م) ملك صقلية ونابولي، الذي كلفه بعد دعوته إلى بلاطه وضع هذا الكتاب، وفرغ من تأليفه في منتصف القرن الثاني عشر المسيحي. والمؤلف عالم مغربي من مواليد ثغر سويتا، ذو ثقافة عربية أندلسية وذهن أوربي، وكان في مقدمة الرحالة الجغرافيين الذين جابوا الأقطار، وهو سابق على الرحالة ليفنجستون (1813 - 1873) والرحالة ستانلي (1841 - 1904) وغيرهما من الذين قرروا أنهم كانوا أول من اكتشف منابع النيل، ووضعوا هم ومن سبقهم أسماء ملوكهم وأمرائهم على البحيرات التي رسمها الإدريسي في إحدى خرائطه الفذة (ش2) لسبعة قرون قبل مولد هؤلاء المستكشفين. فبينما ترى بحيرتي فيكتوريا نيانزا (أصلها أوكاريو نيانزا) وألبرت نيانزا (أصلها موتان نزيجا) اللتين تتكونان من المياه المنحدرة من جبال القمر قد تغير اسمها في الجغرافية الحديثة، لا ترى الإدريسي يفكر في إطلاق أسماء بعض خلفاء المسلمين أو أمرائهم على تلك البحيرات التي لا يبعد أن يكون قد رآهما بعينه كما رسمها بيده، وترى نهر النيل بعد تدفقه من تلك البحيرات والتفافه في وادي السودان وعبوره القطر المصري ينصب في البحر الأبيض(246/105)
المتوسط الذي هو جزء من بحر هائل أحاط بالخريطة الشاملة لبقع بيضاء تمثل الجزائر وأشباهها.
وإذا انتقلنا إلى فنون المقاتلة التي كانت ولا تزال شاغلة لأذهان الملوك، نجد سفراً شاملا لطرقها وقواعدها، اسمه كتاب السؤال والأمنية في أعمال الفروسية لمحمد بن زين الدين العثماني، يرجع تاريخ تأليفه إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وهو مزين بتصاوير توضح فصوله. والصورة (ش3) تبين فارسين وقد امتطى كل منهما ظهر جواده وربط ذيل كل منهما بالآخر حتى لا يفترا ولا يبتعدا؛ فيتمكن كل فارس من مبارزة خصمه، ووقف الجوادان على أرض مزروعة ذات زهر، وكان المصور حريصاً على تجميل الخيل وسروجها كما تلاحظ على اللوحة
ومما يثبت نجاح المسلمين في العلوم الفلكية والميكانيكية التي بنى عليها فن التوقيت بالساعات بعد المزاول، ما نراه في الصورة الرابعة المنقولة من كتاب علم الساعات والعمل بها تأليف رضوان ابن محمد الخرساني، والتي تمثل دائرة عليها ساعات النهار الإثنتا عشرة، وساعات الليل نظيرتها في النصف الأعلى من الدائرة حيث ترى قنديلاً معلقاً بسلك رفيع. والى اليسار ثقلان معلقان بسلك آخر، أحدهما توسط ارتفاع الصورة، والآخر قريب من أسفلها، وهما متصلان بالسلك المرتكز على بكرة في الركن الأعلى الأيسر. وعند الثقل الأسفل طيراً كان المقصود منه أن ينقر بمنقاره لتحديد الوقت. أما المجاري الرفيعة التي توسطت الصورة حيث النقط البيضاء المستديرة، فهذه كانت طريقا لأثقال تمر منها في أوقات معينة، مارة بفتحة في رأس الطائر الذي ترى عند قدميه وعاء نصف مستدير لجمع هذه الأثقال
والصورة الخامسة مأخوذة من فصل من كتاب السر الروحاني في علم الكيمياء القديمة الذي يرجع تاريخ تأليفه إلى القرن السابع عشر الميلادي، وكتب فيها السويد في الطبايع في العمل الأول، وبالنظر إليها ترى رأس الغول في الركن الأعلى الأيسر، وهو عبارة عن وجه مستدير لآدمي له عينان واسعتان مستديرتان وأنف أفطس وأسنان فظيعة، والى جانبه عقاب واقف على قوس وآخر على شجرة مثمرة وهو أسود اللون، قال المؤلف: (وقد طار الناس من هذا السواد الأول، وأما الغراب الثاني فمنقاره أحمر)، وفي وسط الصورة على(246/106)
اليسار ترى رجلا قد وقف إلى فرن، ووضع على غطاء أشبه بالقاووق وأمسك بيسراه شيئاً يخيل إلينا أنه بوتقة ليصهر فيها المعادن الخسيسة بقصد تحويلها إلى ذهب، وفي الوسط غراب أسود حالك السواد، وطير مقفص على اليسار. وعند ذيله وعلى يمين الصورة تشاهد حوضاً رقد فيه إنسان بعينين مفتوحتين ورسمت أعضاؤه بكيفية لا تخرج عن طريقة رسم التوصيلات الكهربائية اليوم، وكتب إلى جانب الحوض حمام مارية حيث تسلب روح الإنسان بطريقة السالب والموجب، أما الركن الأيسر فهو مليء بصور الآلات والأدوات إلى جانب الرموز الكيميائية القديمة
ينتج مما تقدم أننا قد اهتدينا بالبحث إلى باب جديد من الفنون الإسلامية تناولناه بشيء مبسط من التسجيل العلمي، لم تشرئب أعناقنا إلى قباب المساجد، ولا إلى رؤوس المآذن، ولا إلى سقف العمائر لنجده، ولكننا وجدناه في الكتب المهملة والكنوز المتروكة، حيث نجد في البحث والتنقيب عن معالم جديدة للحضارة الإسلامية المسجلة عن طريق الفن في مؤلفات المسلمين، الشاملة لعلوم الطب والجراحة والنبات والحيوان مما لا يتسع المجال هنا لذكره وإيضاحه. فإن كتبنا اليوم لنفتتح هذا البحث فإننا نكتب ليكون استهلالاً لسلسلة بحوث تدل على عظمة الحضارة الإسلامية عن طريق التسجيل الفني، مؤملين أن يتناول المسلمون في نهضتهم مؤلفات أجدادهم بتلك الروح التي تناول بها أهل أوربا؛ فيكون لنا بعث وإحياء لا يقلان عن بعث وإحياء أوربا في عصر الرفعة أو ما يمهد السبيل إلى نظيره
أحمد موسى
الحائز على دبلوم الدراسات العليا لتاريخ الفن العام
وإجازة الدراسة الأركيولوجية الإغريقية
ودكتوراه الفلسفة من جامعة برلين(246/107)
قتيبة الباهلي
البطل الفاتح
للمستشرق الإنجليزي هـ. أ. ر. جب
الأستاذ بجامعة إكسفورد
إن انتصار الجيوش الإسلامية في آسيا الوسطى أيام عهد الوليد الأول إنما يرجع قبل كل شيء إلى التعاون التام بين عبقرية الحجاج الحكيمة ومهارة قتيبة الحربية. ولقد بولغ - من بعض النواحي - في كفاية قتيبة بن مسلم الباهلي في قيادته الجحافل، وإن كانت المصادر العربية لا تنكر الحقيقة الواضحة في أن مقدرته لا ترتكز كل الارتكاز على العبقرية. ويتجلى لنا مراراً كثيرة إلى أي مدى كان دؤوب الوالي على الاهتمام بتقدم جيوشه، وما كان يأخذ به نفسه من وضع خطة القتال، ولو أن فضل إظهارها وانتهائها بالنصر المؤزر يرجع في الحقيقة إلى قتيبة. ويظهر أن الحجاج كان كبير الثقة في قائده إلى غير حد، وكما أنه لم يكن ليتوانى عن تعنيفه ولومه وتحذيره إذا جد ما استدعى ذلك، كذلك كان لا يحجم عن إظهار تقديره لنجاح قتيبة. وسرعان ما أدرك العرب في جميع البقاع أن مقدرة الحجاج تشد من أزر قائدهم وإن استترت، فكان ذلك الإدراك مبعث كثير من هذه الهيبة التي حالت دون حدوث أي خلف في حياته
أما العامل الثاني الذي ساعد في الواقع على تلك الروح فقد كان ما قام به قتيبة خلال متابعته الفتح من توحيد جهات خراسان، وتأليفه الفرس والعرب، وقيس واليمن. ولم يكن من الهين عليه أن يستبقي حماسة جنده - التي لا يعرف التخاذل إليها سبيلاً - إزاء معارك طويلة الأجل حامية الوطيس، وهيهات أن يقصر تفسير هذا الحماس على أنه الرغبة في الغنيمة الوفيرة فحسب. وليس من البعيد أن يكون مرجع نجاح قتيبة في الغالب إلى مقدرته الإدارية أكثر من رجوعه إلى حكمة قيادته. ويظهر أنه أدرك أن استتباب سلامة ودعائم الحكومة العربية في ولاية كخراسان ينبغي أن يقوم - طوال حكمها - على تعاون الشعب الفارسي الذي يؤلف الغالبية العظمى في الإقليم: الأمر الذي لم يقم به حتى الآن أمير عربي في الشرق(246/108)
ولقد أظهرت حدة النضال الحزبي عظيم الخطورة في الاعتماد على عون العرب فحسب، وعلى الأخص في وجه حركة كتلك التي أضرم لهيبها يزيد. ومن ثم فقد اكتسب قتيبة - بعمله الإيجابي هذا - ثقة الفرس وكافأها من جانبه بالثقة أيضاً. حتى ليكاد يخيل إلينا أنه باستعماله - طول حكمه - لموظفين من الفرس وتقديمه الولاة الإيرانيين إنما كان يعدهم (العشيرة) التي كان يحتاج إليها بين العرب. وعلى الرغم من أن ذلك قد جلب عليه سخط العرب وكان عاملا قوياً في إسقاطه، إلا أنه في ذلك كان أول دافع لإثارة الشعور باسترجاع العاطفة القومية في نفوس خراسان.
كذلك كان مركز آسيا الوسطى مشجعاً للعودة إلى محاولة ضم بلاد ما وراء النهر الغنية إلى المستعمرات العربية، وإن كنا في شك غير قليل إزاء الأخبار المتعلقة بمدى اهتمام العرب بهذه الناحية. ففي سنة 682م، بينما دب الضعف الداخلي في الصين من جراء مكائد الإمبراطورة وبينما كانت يداها مصفدتين بحروبها مع التبت قام الأتراك الشماليون أو الشرقيون باستردادهم استقلالهم، ولم تفلح الإمبراطورة الجديدة مطلقاً في بسط نفوذها ثانية على الأقاليم الغربية في الخانات السابقين، غير أنها مدت حكمها - بواسطة الحملات المتواصلة - على القبائل العشر التي تنزل إيلي وتشو التي يقال إنها (قد تلاشت في أغلبها) وفي سنة 701م غزا الأتراك الشرقيون بيد أنه ليس ثمة داع للاهتمام جدياً بالقول بأن قوات الملهب قد تأثرت بهذه الغزوة، ولو أنه كثيراً ما ردد هذا القول، ولابد أن التدمير والخسارة اللذين كانت تتسم بهما هذه الغزوات بلا استثناء قد ساعدا على إضعاف موارد أمراء الرعية الذين كان لهم نصيب واهٍ في اختيار ابن الخان ليقود القبائل العشر. وعلى أية حال فإن الحرب الدائمة التي كان يثير ضرامها الأتراك الشرقيون ضد التركش من 699 إلى 711م قد حالت في الواقع بينهم وبين إرسال نجدات إجابة لاستغاثات كانت تصلهم من سجديانا بطلب العون منهم. كذلك لم يكن من المستحيل على التركش التدخل في سجديانا خلال هذا العهد نفسه
ويقصد مؤرخو العرب - بلا استثناء - بكلمة (الترك) جميع السكان المحليين الذين لا يستعبد أنه كانت فيهم إبان ذلك الوقت عناصر تركية. والواضح أن الإشارات العرضية إلى الخاقان إنما هي نعوت فخر (اللهم إلا إذا أمكن إرجاعها إلى الرؤساء المحليين وذلك(246/109)
أمر بعيد الاحتمال)؛ وإن قصة 98هـ التي اتخذتها فكرة التدخل دعامة لها إنما هي من نسج خيال باهلي بحت، وخلاصة القول أن تجربة العرب في السنوات الأخيرة ترينا أنه كان من المحال على قتيبة أن ينعم بهذا المجد الباذخ من النصر لو أن كتائب كبيرة من الترك وقفت وراء سجديانا تشد من أزرها في مقاومتها. وتقع فتوح قتيبة بطبيعة الحال في أربعة أوقات هي:
1 - سنة 86 هـ (705م) حيث استرد إقليم طخارستان الأدنى
2 - فتح بخارى من 87 - 90هـ (706 - 709م)
3 - تركيز نفوذ العرب في وادي جيمون وامتداده إلى صغد بين سنتي 91 و 93هـ (710 - 712م)
4 - الحملات على ولايات تركستان، من 94 - 96هـ (713 - 715م)
أما عن إقليم طخارستان الأدنى فقد كان الجهد قبل قتيبة منصباً على كبت كل ثورة تنشب في هذا الإقليم. وفي ربيع السنة السابعة والثمانين للهجرة (705م) التأم الجيش وسار من (مرورود) وطالقان إلى بلخ، ولقد خضعت المدينة - كما ورد في إحدى روايات الطبري - دون نضال ما. وتشير رواية أخرى إلى شبوب ثورة بين بعض السكان، وقد يمكن عد هذه الرواية وإن لم تكن في وضوح الباهلية - كسابقتها لورودها على لسان أخي قتيبة ولأنه يرمي من ورائها لإقامة دعوى باهلية على البرامكة. ولقد يكون هذا الرأي هو الأدنى إلى الصحة ما دمنا نسمع من أن بلخ قد أضحت خربة بعد أربع سنوات من ذلك
وتلا إخضاع بلخ إخضاع تيش ملك شغانيان الذي يحتمل أنه تعاون مع المفضل في الهجوم على ترمذ قبل ذلك بعام واحد. ويظهر أن الدافع له على عمله هذا إنما هو الصراع مع ملك شوهان في الأودية العليا لنهري سرخان وألينجاليا، وكان يأمل أن يستخدم ضده الجيوش العربية جزاء مساعدته إياها. وحقيقة الواقع أن المفضل قد دبر حملة ضد شومان قبل استغاثته، وكانت قد خرجت تحت إمرة قتيبة الذي كان أكثر الجميع استعداداً للنهوض بها مادامت تؤكد سلامة الوصول إلى الطريق الجنوبي للبوابة الذهبية. وبعد أن فرغ قتيبة من إخضاع ملك غِسلَشْتان الذي كان من نبعة تركية كما يذكر يوان شوانج وآب قتيبة بمفرده إلى مرو تاركا جيشه يسير تحت إمرة أخيه صالح الذي قام بعدة غزوات صغيرة(246/110)
أثناء الطريق.
وإنه لمن الواضح الجلي - على الرغم من زعم البلاذري - أن هذه الغزوات لابد أنها قد وقعت في الأقاليم المجاورة لنهر جيحون، ومع ذلك فإن في رواية الطبري نقصاً
وهكذا فإن قتيبة لما عزل (رينزك) في بادغيس قلب الثورة أمضى شهور الشتاء في مفاوضته عن طريق (سليم المشير) وهو فارسي نافذ الكلمة قد برهنت حنكته - أكثر من مرة - في تصريف أصعب المفاوضات على حاجة قتيبة القصوى إليه. وقد أغرى (نيزك) على التسليم، وسيق إلى مرو وقرت الأغماد على ألا يدخل قتيبة بادغيس بشخصه. ومع ذلك فإن الحاكم - من باب الاحتياط - قد أمر أن يصحبه (نيزك) في جميع حملاته، ومن ثم فإنه - على الأقل في هذه اللحظة - كان قد أمن من خطر اندلاع ثورة في خراسان بطريقة شريفة لكلا الجانبين؛ وقام ابن بيروز قافلاً إلى الصين ينتظر سنوح فرصة تكون أكثر مواتاة له.
أ. هـ. جب(246/111)
مظاهر الحكم في مصر الأموية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كانت لمصر في العصر الأموي بعض مظاهر عامة لا يستطاع إغفالها كظهور الروح القومية بين المصريين، وعلى الأخص بعد كتابة الدواوين بالعربية في عهد الوليد بن عبد الملك ابن مروان سنة 87هـ بعد أن كانت تكتب بالقبطية، وما انطوى عليه هذا العمل من إقصاء القبط عن كثير من مناصب الدولة، وكانوا يقومون بجباية الخراج، وإليهم تسند الوظائف الكتابية؛ مما أدى إلى إحياء روح القومية عند القبط، ودفع بهم إلى الصياح والقيام في وجه الولاة، وما كان أيضاً من اشتداد العمال في جمع الخراج وظهور روح العصبية بين القبائل العربية، وكان لهذا العصر مزاياه ومظاهر حضارته، فقد امتاز بعض ولاته بعطفهم على القبط، فسمح مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ) لهم بأن يبنوا كنيسة في الفسطاط
ولقد ولى مصر في هذا العصر رجال عرفوا بالكفاية والدراية وحسن السياسة فنشروا العدل بين الناس، وأتوا بضروب من الإصلاح تشهد بمبلغ اهتمامهم بترقية الزراعة والصناعة وفن العمارة وغيرها
ومن بين هؤلاء مسلمة بن مخلد فقد بنى بالروضة مقياساً للنيل وداراً للصناعة، ورد الروم على أعقابهم حينما نالوا البرلس، واهتم ببناء المساجد وإصلاحها، فأمر في سنة 53هـ بجامع عمرو ابن العاص فهدم وبني من جديد، وأمر في السنة نفسها بابتناء منارات المساجد كلها
ولقد وفى شروط النيابة عن الإمام فكان يقيم الصلاة بنفسه طول مدة ولايته، ونظم الآذان فكان مؤذنو الجامع العتيق يؤذنون الفجر إذا مضى نصف الليل، فإذا فرغوا من آذانهم أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، وأمر ألا يضرب بناقوس عند آذان الفجر.
وكان عبد العزيز بن مروان من أحسن الولاة الذين حكموا مصر في هذا العصر. جاء في صحبة أبيه مروان حين جاء لاسترداد هذه البلاد من عامل عبد الله بن الزبير، وبقي فيها شهرين. ولما عزم مروان على العودة إلى الشام جعل صلاة مصر وخراجها إلى ابنه عبد(246/112)
العزيز، وكان بعض المصريين في ذلك الوقت على الشنآن لمروان ولبني أمية، فخاف عبد العزيز عاقبة مقامه في هذا البلد وأفضى بذلك إلى أبيه، فرسم له هذه الخطة المثلى التي ينبغي أن يسير عليها، فيتألف قلوب المصريين على اختلافهم. وتبين له أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه، إلا إذا أسرهم عبد العزيز بجوده وإحسانه، وجذبهم إليه بالمودة ولين الجانب والبشاشة، وبين لكل زعيم أنه من خاصته، وبهذا وحده يتفانى الجميع في خدمته، ويجمع الكل على طاعته. يقول الكندي قال عبد العزيز: (يا أمير المؤمنبن، كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أمية؟) فقال له مروان: (يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكن عيناً لك على غيره وينقاد قومه إليك. وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت لك موسى ابن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض. أليس ذلك أحسن من إغلاقك بابك وخمولك في منزلك؟)
هذه هي النصيحة الذهبية التي زود بها مروان ابنه عبد العزيز عند توليته أمر مصر. ولم يفت مروان أن يزيد ابنه من النصائح في وصية أخرى ما يكفل له الراحة والطمأنينة في هذا البلد عند رحيله إلى الشام، فلقد أوصاه بتقوى الله في السر والعلانية وبالبر بالفقراء، وبتنفيذ وعده إذا ما وعد ولو حال دون ذلك شوك القتاد، وأن تكون المشورة رائده قبل الفصل في أمور الدولة، وبذلك تلهج الألسنة بالدعاء له ويأمن الفتن والقلاقل
ولقد عمل عبد العزيز بنصائح أبيه فنجحت سياسته في مصر النجاح كله، وأتى في عهده بكثير من ضروب الإصلاح فبنى مقياساً للنيل، وزاد في الجامع العتيق من ناحية الغرب، وأدخل في شماله رحبة فسيحة وأقام على خليج أمير المؤمنين قنطرة عند الحمراء القصوى بطرف الفسطاط وكتب عليها اسمه وذلك سنة 69 هـ، واتخذ حلوان داراً لإقامته بعد أن أصيب بداء الجزام على ما يخالف قول المؤرخين من أنه انتقل إليها لتفشي الوباء في الفسطاط، وأنشأ بها بركة كبيرة ساق إليها الماء من العيون القريبة من المقطم على قناطر تصل عيون الماء بالبركة. وفي حلوان غرس عبد العزيز النخيل والأشجار وبنى المساجد والعمارات الفخمة. حتى قيل إنه بذل في سبيل ذلك مليون دينار ولقد بلغ من عنايته بفن العمارة والتماثيل أن ابتنى في الفسطاط حماما لابنه ذَبّان، وأقام على باب هذا الحمام تمثالاً(246/113)
عجيباً من زجاج على شكل امرأة وأطلق عليه أبو مرة، وباسمه تسمت القيسارية التي كانت ملكا لعبد العزيز باسم قيسارية أبي مرة، وكانت تعرف في زمن ابن دقماق (المتوفى سنة 711هـ) بحمام بثينة
نعم! لقد طالت ولاية عبد العزيز على مصر فأتيح له أن يأتي بكثير من الإصلاح، واستطاعت البلاد في أيامه أن تظهر بمظهر النشاط الأدبي والمادي. ولقد بالغ الشعراء فيما أتاه هذا الوالي من أعمال البر والإحسان والكرم، فقال بعض المؤرخين إنه (كان له ألف جفنة تنصب حول داره، ومائة جفنة تحمل على العجلات ويطاف بها على قبائل مصر. وفي ذلك يقول الشاعر:
كلُّ يومٍ كأنه يومُ أضحى ... عند عبد العزيز أو يومُ فِطر
وله ألف جفنة مترعاتٍ ... كلَّ يوم تمدّها ألف قِدْرِ
هذا وبالرغم من أن خراج مصر كان إلى عبد العزيز بن مروان، فقد قيل إنه لم يترك عند وفاته من المال غير سبعة آلاف دينار عدا أملاكه في حلوان، وقيسارية أبي مرة وما خلفه من الثياب والخيل والرقيق. فلا غرو إذا أجمع الناس على محبته ورضوا عنه وعن ولايته. ورثاه الشعراء أحسن رثاء فقال سليمان ابن أبان الأنصاري:
فمن ذا الذي يبني المكارم والعُلا ... ومن ذا الذي يُهْدَى له بعدَك السِّفر
فكنتَ حليف العرف والخير والندى ... فمتْن جميعاً حين غَيَّبكَ القَبْرُ
فبعدك لا يُرْجى وليدٌ لنفعةٍ ... وبعدك لا ترجى عوان ولا بكر
تلك هي مصر في فترة من حياتها الإسلامية الزاهرة في عهد عبد العزيز بن مروان من بني أمية.
حسن إبراهيم حسن(246/114)
التصوف الإسلامي
نشأته وأصوله
للمستشرق الإنجليزي الدكتور ريولد نيكلسون
الأستاذ بجامعة كمبردج
يعد الصوفيون الحسن البصري واحداً من جماعتهم. والواقع أنه كان إلى حد بعيد يعلق أهمية عظمى على الاستقامة النفسية، ولم يكن قانعاً بالعبادات الظاهرية فحسب. ولقد قال: (مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة) بيد أنه على الرغم من أن بعض أقواله الواردة في التراجم المتأخرة تؤيد الزعم القائل بأنه كان صوفياً عميقاً، إلا أنه ليس ثمة شك في أن تصوفه - إذا جاز أن ينعت بهذا الاسم - كان من النوع الشديد الاعتدال؛ وأنه كان في حاجة قصوى إلى الحمية والهيام الذي نجدهما عند الصديقة الورعة رابعة العدوية التي تربطها به الأقاصيص
ولقد اختلف الصوفية أنفسهم في تفسير أصل اسم (الصوفي) وذهبوا في ذلك مذاهب شتى متباينة، ومن بين الاشتقاقات التي ذكرت ثلاثة تستحق عناية الباحث وهي التي تربطها بكلمة (سوفوس) اليونانية (المقابلة لـ في الإنجليزية) أو صفا أو (صوف)
أما الاشتقاقان الأولان فلا يدعمهما أي أساس لغوي ولسنا بحاجة لنقاشهما. ولو أن الاشتقاق من (صفا) مقدم لدى من يعتد به من شيوخ الصوفية، ومقبول على العموم في الشرق. والسبب في هذا الترجيح يتضح لنا من مثل هذه التعاريف كقولهم: (الصوفي من يحفظ قلبه صافياً لله) و (الصوفية الاصطفاء) وإذا فهمناها على هذا الاعتبار فقد صارت للكلمة دلالة سامية هيأتها للاختيار دون سواها
ومهما يكن الأمر فإنه يمكن إرجاعها إلى أصل ضئيل، ذلك أنه كان من مألوف عادات المتقشفين والزهاد عادة في العصور الأولى من الإسلام وهي لبس الصوف لما كانوا عليه - كما يقول ابن خلدون - من مخالفة الناس الذين يرفلون في الثياب الغالية، ولهذا فإن اسم (صوفي) الذي يدل لأول وهلة على المتقشف المرتدي الصوف صار كمدلول القاووق على الرهبان الكابوشيين؛ وطبقاً لما يذكره القشيري أصبح هذا اللفظ شائع التداول قبل نهاية(246/115)
القرن الثاني للهجرة أعني منذ عام 815م؛ مع أنه في خلال هذا الوقت أخذت حركة الزهد في الإسلام تصطبغ إلى حدٍ ما بصبغة جديدة. ولابد أن معنى صوفي - بفرض وجود الكلمة إذ ذاك - قد أصابه بعض التغيير. ويخيل إلي أن هذا اللقب الذي نحن بصدده الآن يعين نقطة انتقال من الزهد السني، وأنه - كما يقرر الجامي - قد أطلق أولاً على أبي هاشم الكوفي المتوفى قبل سنة 800م الذي أسس (خانقاه) للصوفية في الرملة بفلسطين. ومهما يكن الأمر، فإن الفارق بين الزهد والتصوف (ذلك الفارق الذي هو على وجه العموم كالتفرقة بين الحياة الطهرية وبين طريق الكشف في التصوف الغربي في القرون الوسطى) أقول إن هذا الفارق قد أخذ في الظهور قبل انصرام العهد الأموي، وسرعان ما تقدم في صدر العصر العباسي تحت تأثير الأفكار الأجنبية وعلى الأخص الفلسفة اليونانية. ولندع الكلام عن مدى تطور هذه الحركة الأخيرة للكلام عنها في فرصة أخرى وسنتناول الآن في إيجاز أصل الصوفية كما تسمى عادة، والظاهرة الأولى للدوافع الخاصة التي قامت عليها
أما فيما يتعلق بأصلها فلسنا نستطيع أكثر من نقل الملاحظات التي قدم بها ابن خلدون لفصله عن الصوفية في مقدمة كتابه التاريخي الجليل حيث يقول: (إن هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوّفة)
من هذا يتضح لنا أن التصوف - إذا لم يكن في أصله تطوراً لحركة الزهد التي كان الحسن البصري ممثلها البارز كما رأينا - قد نشأ على كل حال من هذه الحركة وتفرع عنها. ولم يكن التصوف نظاماً تأملياً كهرطقة المعتزلة، ولكنه إيمان عملي وقاعدة للحياة، فيقول الجنيد: (ما أخذنا التصوف من القيل والقال ولكن من الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات)(246/116)
وكان الصوفيون القدامى زهاداً نسّاكا، كما كانوا أيضاً أكثر من ذلك، ذلك أنهم إما طلعوا على الناس بالجوهر الروحي والرمزي الموجود في الإسلام، أو أنهم أدخلوه فيه إذا لم يكونوا قد وجدوا حينذاك. ويقول السهروردي: (التصوف غير الفقر، والتصوّف غير الزهد، والتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد مع مزيد وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفيا وإن كان زاهداً فقيرا) ثم يمضي بعد قليل في شرح الخلاف في قوله: (الفقير في فقره متمسك به متحقق بفضله، يؤثره على الغنى متطلعاً إلى ما تحقق من العوض عند الله لحديث نبوي)، فكلما لاحظ العوض الباقي أمسك عن الحاصل الفاني، وعانق الفقر والقلة، وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض، وهذا عين الاعتدال في طريق الصوفية، لأنه تطلع إلى الأعواض وترك لأجلها، والصوفي يترك الأشياء لا للأعواض الموعودة، بل للأحوال الموجودة، فإنه ابن وقته، وأيضاً ترك الفقير الحظ العاجل، واغتنام الفقر اختيار منه وإرادة، والاختيار والإرادة علة في حال الصوفي، لأن الصوفي صار قائماً في الأشياء بإرادة الله لا بإرادة نفسه، فلا يرى فضيلة في صورة فقر ولا في صورة غنى، إنما يرى الفضيلة فيما يوفقه الحق فيه ويدخله عليه)
ومفتاح التصوف نكران الذات وعدم الأثرة أو بمعنى آخر (الحب) ومع أن هذه الفكرة ليست غريبة بأكملها، إلا أنها كانت بعيدة جداً عن أن تكون معروفة للمسلمين الأتقياء الذين كانوا متأثرين تماماً بقوة الله وبطشه أكثر من رحمته وغفرانه. . وإن جل تاريخ التصوف لهو مناهضة التفرقة غير الطبيعية بين الله والإنسان، وتبعاً لذلك لا أرى ثمة ضرورة تدعونا للبحث عن أصل المذاهب الصوفية في غير الإسلام، على الرغم من أنه من الخطل ألا نذكر الأثر المسيحي الذي أثر ولابد في الحركة في طورها الأول.
أما الطابع التفكيري الذي أُشربوه شيئاً فشيئاً، والذي بد لهم على مر الزمن فقد كان بين مد وجزر وارتفاع وانخفاض طوال العصر الأموي وطيلة قرن تقريباً بعد تقلد بني العباس مقاليد الخلافة والحكم. ولا يزال الصوفيون الأوائل ينهجون منهج السنة، فَصِلَتهم بالإسلام نسبياً كصلة متصوفي الأسبان في القرون الوسطى في الكنيسة الكاثوليكية. ذلك بأنهم كانوا يعلقون كبير أهمية على بعض النواحي الخاصة في التعاليم الإسلامية ويولونها جل اهتمامهم بدرجة تجعل النواحي الأخرى تكاد تكون في حيز العدم. وهم لا ينهمكون في علم(246/117)
الكلام ولكنهم يكرسون أنفسهم لمسائل تتعلق باللاهوت العملي، وإن نكرانهم للذات وتقشفهم البالغ أقصى نهايته وتقواهم الحادة واعتزالهم. . . كل هذه الأمور جعلت خواص رسالتهم الأولية توصف بالذهول
ترجمة: ح. ح(246/118)
من شهداء الإسلام
عمار بن ياسر
للأستاذ كامل محمود حبيب
(ابشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة)
(حديث شريف)
وقف بباب دار الأرقم رجل آدم طوال أصلع أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين. . . وقف يردد بصره فيما حوله وإن الشيطان ليوسوس له يريد أن يثنيه عن عزمه، وإن قلبه لينتفض مما استولى عليه من الرعب. وكيف لا يستلبه الفزع من بعض عقله وهو في هذا البلد وحيد؛ فما من عشيرة تحميه، وما من أهل يدفعون عنه الأذى؛ وقريش من ورائه في الصولة والسلطان أشداء على صحابة محمد ورفاقه، يصبون عليهم فنوناً من القسوة والعذاب في غير رحمة ولا شفقة؟ واصطرع في رأس الرجل عاملان: هنا النبي الكريم يشرق النور الإلهي من جبينه فيسطع متألقاً يجذب إليه جماعة ممن رضي الله عنهم، وهناك قريش لا تستطيع أن تنزل عن كبريائها في هوان وذلة وهم سادة القوم وأمراؤهم فكيف يلقون السلم في ضعة؟ كلا، بل أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون
أفينكص الرجل على عقبيه ليتردى في الغواية مرة أخرى ويعكف على أصنام من حجارة لا حول لها ولا طول، أم يندفع فيلج باب دار الأرقم ليلقى محمداً. . . ثم يتلظى - بعد حين - بنار يؤج سعيرها وتنبعث من قلوب عليها أقفالها. . . قلوب قريش المغيظة المحنقة؟ وأطرق يفكر ما يطمئن إلى أمر. . .
وجذبه من أخيلته صوت أقدام تسير إليه في وناء وثبات. . . فإذا صهيب بن سنان أمامه، فاندفع يحدثه: (ما تريد يا صهيب؟) قال صهيب (بل ماذا تريد أنت يا عمار) قال: (أريد أن أدخل على محمد فأسمع كلامه) قال صهيب: (وأنا أيضاً، فوربي لقد دفعني قلبي إليه وإن خواطري لتضطرب في خيالي خشية مما ألاقي بعد) ثم انطلقا جنباً إلى جنب إلى حيث النبي فأسلما معاً، وما استطاعا أن يبرحا الدار حتى خيم الظلام على الأرض، فخرجا(246/119)
يتسللان. . .
وأشرق نور الإيمان في قلب عمار بن ياسر فما استطاع أن يكتم نزوات الفرح والغبطة في قلبه، فراح إلى أبيه (ياسر) وأمه (سمية) يحبب إليهما الإسلام فأسلما. وانطلق هو يعلن عن إسلامه في جرأة لا يرهب القوة والثائرة، ولا يخاف العذاب الأليم
وأفتتن آل حذيفة في تعذيب آل ياسر - وما آل ياسر سوى عمار وأمه وأبيه - لا يتورعون من شر. . . لقد مات ياسر في العذاب، وماتت سمية إثر طعنة من يد أبي جهل؛ وعمار يشهد فما وهن وما استكان، فأغلظوا عليه وفي قلوبهم مراجل من الغيظ يحمى عليها بنار من الصلف كلما خبت زادها الشيطان سعيراً.
وفي ذات مرة أخذوا يغطونه في الماء المرة بعد المرة فما تركوه حتى نزل عند رأيهم وقد بلغ به الجهد مبلغه، وهم يقولون له: (اللاّت والعزى إلهك من دون الله) فيقول هو: (نعم) ويقولون له: (هذا الجعل إلهك) فيقول: (نعم). وحين انفلت من بين أيديهم استشعر وبال أمره فراح يكفر عن خطيئته بعبرات الأسى والندم، ويستغفر الله أن زل لسانه، وفي قلبه حسرات وحسرات. ولقيه رسول الله (ص) وهو في أحزانه ما يستطيع أن يكفكف بعض عبراته يمسح عن عينيه وهو يقول: (ما ورائك؟) قال عمار: (شر يا رسول الله، والله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير) فقال: (وكيف تجد قلبك؟) قال: (مطمئن بالإيمان) قال (فإن عادوا فعد) فانطلق عمار وقد مسحت كلمات النبي (ص) على أحزانه
وانطلق الفوج الأول من المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وخوفاً من الهوان والفتنة، وعلى أثره الفوج الثاني وفي أكبادهم حرق أن نأوا عن وطنهم وأولادهم وعشيرتهم، وعمار صابر على أذى الكفار يتحمله في جلد وصمت على حين لا يستطيع أن يصبر عن مشرق النور والرحمة من وجه النبي (ص)، وما يزيده العذاب إلا إيماناً بمحمد (ص) ودين محمد
وهاجر عمار - فيمن هاجر - مع النبي (ص) إلى المدينة فهبطها ضحى، فما تلبث حتى أخذ يشيد للرسول مسجداً يقيم فيه الصلاة في غير حذر ولا رقبة، وفي نفسه اللذة والطرب وهو ينشد: (نحن المسلمون نبتني المساجدا) ورسول الله يردد: (المساجدا) واندفع القوم يشد بعضهم أزر بعض يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة غير عمار فهو يحمل لبنتين لبنتين،(246/120)
وراع القوم أن يجهد عمار نفسه فتنقل الحديث في همس: (إن عماراً يريد أن يقتل نفسه فهو يحملها فوق طاقتها!) وسمع النبي (ص) الحديث فراح ينفض التراب عن رأس عمار وهو يقول: (ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)
ولصق هو بالنبي ما ينأى عنه في سلم ولا حرب لأن قلبه وإيمانه لا يطاوعانه على أن يفعل. . .
ولحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى فبكاه عمار - فيمن بكى - سحاً وتسكاباً، وفي قلبه - من أثر الفراق - جرح ما يندمل إلا أن يلحق بسيده، ثم هو لم يستشعر الوهن ولا الضعف في دينه
وارتد مسيلمة وقومه حين انفرجت الثغرة بموت الرسول فاندفع إليهم عمار - فيمن اندفع - ثائراً هائجاً يهدر يريد أن يؤدب قوماُ على عصيانهم، وحين وجد في المسلمين هوادة وفتوراً ارتقى هو شرفاً عالياً ثم أخذ ينادي وقد قطعت أذنه: (إلي، إلي يا معشر المسلمين، أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟ هلموا إلي!) ثم اندفع إلى الصفوف يفرق ما اجتمع منها كأنه فتى في الثلاثين، وهو قد شارف السبعين من سني حياته
رحم الله عمر بن الخطاب فلقد كان بصيراً بأقدار الرجال حين أمر عمار بن ياسر على الكوفة وكتب إلى أهلها: (. . . أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلماً، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما. . .)
لقد تأمر عمار على الكوفة فما أخذته كبرياء المنصب، ولا روعة الإمارة؛ ثم عزله عمر فما استولى عليه اليأس، وما حمل لأمير المؤمنين في قلبه حفيظة ولا حقداً، بل قال: (والله لقد ساءتني الولاية بقدر ما ساءني العزل) واندفع على سننه لا يجد الخور ولا الفتور إلى نفسه سبيلاً
يا عجباً! يا عجباً! يتغلغل الإيمان في القلب فيحجب الإنسان عن لذاذات الحياة ومباهجها لينقله إلى لذاذات ومباهج أخر هي لذاذات قلبه ومباهج دينه؛ ثم ينزع عنه أطماع الدنيا وشهواتها فإذا سواء لديه أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده، أو يكون فقيراً لا يستطيع السبيل إلى اللقمة يقيم بها صلبه إلا بشق الأنفس(246/121)
ووقعت الفتنة الكبرى بين المسلمين، فانشقت العصا، وغدا كل حزب يزعمون أن الحق إلى جانبهم، فانضم عمار إلى عليّ وأصحابه وهو يقول: (تالله لو ضربنا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمتُ أنَّا على حق وأنهم على باطل) وراح يدفع عن الحق فما يهن ولا يستكين. وإنه في يوم صفين لعلى رأس رجال من أصحاب النبي كأنهم علم، إن تيامن تبعوه وإن تياسر تبعوه، وهو يحرضهم بقوله: (أتفرون من الجنة والجنة تحت البارقة. اليوم ألقى الأحبة: محمد وحزبه) وفي يده حربة ترعد وهو ينادي: (ألا مَنْ يبارز؟ ألا مَنْ يبارز؟)
(ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)
وشهد هذا اليوم مشهداً مروعاً من مشاهد الحرب تنفطر له الأكباد، هو قتل عمار بن ياسر! لقد رماه أبو العادية المزني بالرمح على حين غفلة منه فهو إلى الأرض. . . ثم أكب عليه آخر فاحتز رأسه في غلظة وجفاء. . . وانطلقا يختصمان لدى معاوية في رأس عمار وكل واحد منهم يقول: (أنا قتلته) علهما يصيبان أجراً. وعند معاوية عمرو بن العاص وابنه عبد الله ورجال من خاصته والمقربين إليه، فقال عبد الله: (ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: تقتله الفئة الباغية) وقال عمرو بن العاص: (والله إنهما ما يختصمان إلا في النار، ووالله لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة) فأربد وجه معاوية وهو ما يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض ما أصابها، وفي قرارة نفسه أن جيشاً من أقوياء المسلمين وأشدائهم ما يقدر على أن ينال منه بعض ما يناله حديث عمرو بن العاص وابنه إن هو شاع بين جنوده
وهناك في العراء وقف علي بن أبي طالب عليه السلام بازاء جثمان عمار بن ياسر يقول وفي قلبه الأسى والحزن على أن فقد صاحب الرسول الله وحبيبه: (إن امرءوا من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر، وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قتل، ورحم الله عماراً يوم يبعث؛ لقد رأيت عماراً وما يذكر من أصحاب رسول الله (ص) أربعة إلا كان رابعاً ولا خمسة إلا كان خامساً، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين، فهنيئاً لعمار بالجنة. . .)(246/122)
وانطوت صفحة بيضاء ناصعة من صفحات الإسلام وانقض ركن من أركان الإيمان الثابت. . . فرحم الله عماراً
كامل محمود حبيب(246/123)
ابن البناء المراكشي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
كان ابن البناء من علماء القرن الرابع عشر للميلاد، نبغ في الرياضيات والفلك وله فيهما مؤلفات قيمة ورسائل نفيسة تجعله في عداد الخالدين المقدمين في تاريخ تقدم العلم
ومن المؤسف ألا يُعطى نتاجه حقه من البحث والتنقيب، ولولا بعض كتبه التي أظهرها المستشرقون الذين يعنون بالتراث العربي لما استطعنا أن نعرف شيئاً عن مآثره في العلوم. وعلى الرغم من قلة المصادر فقد استطعنا أن نجمع بعض المعلومات عن حياته وآثاره، ورأينا أن الإخلاص للحقيقة يدعونا إلى إنصافه وعرض سيرته على الباحثين فقد يكون في هذا العرض ما يحفز البعض إلى الاهتمام بتراث ابن البناء وإزالة ما أحاط هذا التراث من غيوم الغموض والإهمال
وُلد ابن البناء في غرناطة في النصف الأخير من القرن الثالث عشر للميلاد؛ واسمه أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي وكني بابن البناء لأن أباه كان (بناء) كما اشتهر بلقب المراكشي لأنه أقام مدة في مراكش ودرّس فيها العلوم الرياضية. وقد نبغ على يديه كثيرون لمعوا في ميادين العلوم وكان أحدهم أستاذاً للمؤرخ الشهير ابن خلدون
كان ابن البناء منتجاً وكان عالماً مثمراً، فقد أخرج أكثر من سبعين كتاباً ورسالة في العدد والحساب والهندسة والجبر والفلك والتنجيم ضاع معظمها ولم يعثر العلماء الإفرنج والعرب إلا على عدد قليل منها، نقلوا بعضه إلى لغاتهم. وقد تجلى لهم منها فضل ابن البناء على بعض البحوث والنظريات في الحساب والجبر والفلك
لقد قامت شهرة ابن البناء على كتابه المعروف بـ (كتاب تلخيص أعمال الحساب) الذي يعد من أشهر مؤلفاته وأنفسها؛ وبقي هذا الكتاب معمولا به في المغرب حتى نهاية القرن السادس عشر للميلاد كما حاز على اهتمام علماء القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ويعترف سمث وسارطون بأنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب، وهو يحتوي على بحوث مختلفة تمكن ابن البناء من جعلها (على الرغم من صعوبة بعضها) قريبة التناول والمأخذ. أوضح النظريات العويصة والقواعد المستعصية إيضاحاً لم يسبق إليه فلا تجد فيها التواء ولا تعقيداً(246/124)
في هذا الكتاب بحوث مستفيضة عن الكسور وقواعد لجمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأ لحل المعادلات ذات الدرجة الأولى والأعمال الحسابية. ولولا أن الإتيان على هذه القاعدة يستدعي استعمال خطوات قد لا يجد فيها الكثيرون طرافة أو متاعاً لأتينا عليها تفصيلا. وفي هذا الكتاب أيضاً طرق لإيجاد القيم التقريبية للجذور الصماء، فلقد أعطى قيماً تقريبية للجذور التربيعية لبعض المقادير. وكانت هذه القيم موضع دهشة العلماء الرياضيين وإعجابهم
وهناك قيم أخرى تقريبية للجذور التكعيبية لمقادير جبرية أخرى، وهذه العمليات بالإضافة إلى عمليات القلصادي أبانت طرقاً لبيان الجذور الصماء بكسور متسلسلة
وكتاب التلخيص هذا كان موضع عناية علماء العرب واهتمامهم يدلنا على ذلك كثرة الشروح التي وضعوها له، فلقد وضع عبد العزيز علي بن داود الهوازي أحد تلاميذ ابن البناء شرحاً. وكذلك لأحمد بن المجدي شرح ظهر في النصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد. ولابن زكريا محمد الأشبيلي شرح موجود في مكتبة أكسفورد.
وللقلصادي شرحان أحدهما كبير والآخر صغير؛ وقد زاد على شرحه الكبير خاتمة تبحث في الأعداد التامة والزائدة والناقصة. وظهر لنا في أثناء مطالعاتنا في مقدمة ابن خلدون أن هناك شرحا لكتاب التلخيص وضعه ابن البناء اسمه كتاب رفع الحجاب، (وهو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني. وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه، وهو كتاب جدير بذلك، وإنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل. . .)
وقد رغب العالم (ووبكه) أن ينقل محتويات كتاب التلخيص إلى الفرنسية فحال موته دون ذلك. وأخيراً نقله (أريستيد مار) إلى الفرنسية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر للميلاد. ويقضي علينا الواجب العلمي أن نشير إلى أن بعض علماء الغرب أغاروا على الكتاب المذكور وادعوا لأنفسهم دون أن يذكروا المصدر الذي اعتمدوا عليه ونقلوا عنه. وكان الرياضي الفرنسي الشهير (شال) أول من أشار إلى هذا في رسالة قدمها إلى المجمع العلمي في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد(246/125)
ولابن البناء كتب ورسائل في الحساب كرسائل (مقالات في الحساب) التي تبحث في الأعداد الصحيحة الكسور والجذور والتناسب، وكتاب تنبيه الألباب، ورسالة في الجذور الصماء وجمعها وطرحها، وكذلك له رسائل خاصة بالتناسب ومسائل الإرث
ولم يقف نتاج ابن البناء عند هذا الحد، بل وضع كتابين في الجبر أحدهما يسمى كتاب الأصول والمقدمات في الجبر والمقابلة، والثاني كتاب الجبر والمقابلة
وفي الهندسة له رسالة في المساحات، أما في الفلك فله مؤلفات وأزياج عديدة، منها كتاب اليسارة في تقويم الكواكب السيارة، وكتاب تحديد القبلة، وكتاب القانون لترحيل الشمس والقمر في المنازل ومعرفة أوقات الليل والنهار، وكتاب الإسطرلاب واستعماله، وكتاب منهاج الطالب لتعديل الكواكب. ويقول ابن خلدون إن ابن البناء اعتمد في هذا الكتاب على ازياج ابن اسحق وأرصاد أخرى لفلكي كان يسكن صقلية. وقد توفق ابن البناء في هذا الكتاب إذا استطاع وضع بحوثه في قالب حبب إليه الناس في المغرب ورغبهم فيه وجعلهم يتهافتون عليه ويسيرون بموجبه في بحوثهم الفلكية وعمل الأزياج
أما في التنجيم فله مؤلفات كثيرة عُرف منها مدخل النجوم وطبائع الحروف وكتاب أحكام النجوم وكتاب في التنجيم القضائي وله كتاب اسمه (كتاب المناخ) ويقول الدكتور سارطون إن كلمة مأخوذة عن هذه الكلمة (المناخ) والله أعلم
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(246/126)
من التاريخ الإسلامي
هجرة معلم
للأستاذ علي الطنطاوي
يرى كلّ من يعبر البادية من شرقها إلى غربها (إذا هو قارب الساحل) سلسلة طويلة من الجبال تلوح له، من مسيرة أيام، زرقاء كأنها معلقة فوق الأفق، أو غارقة في السماء. ولكن هذه الجبال تضِح كلما دنا منها وتستبين، حتى إذا بلغها ألفاها بناءاً عظيماً من الصخر الأصم، إذا حاول أن يتقصى بنظره أعاليه سقط عقاله عن رأسه ولم ير شيئاً، لأن أعاليه غائب وسط السحاب المتراكم، فيقر في وهمه إنما هو جدار قائم يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويقف حياله خاشعاً خاضعاً شاعراً بالمذلة والهوان
هذه هي السلسلة الهائلة التي تخرج من الجنوب (من البحر) ثم تضطجع على الرمال بصخورها وجلاميدها، وأوديتها التي لا قرار لها، وذراها التي ليس لها عدد، وسفوحها التي يضل فيها الهدى، وثناياها التي تموت فيها الحياة، وصمتها المهول، وجلالها الخالد. . . تضطجع متمددة بهذا الجسم الأزلي الجبار، حتى تصاقب الشام وتبلغ مشارفه، فتهبط سفوحها مترفقة سهلة متتالية حتى تفنى في تلك السهول الخضراء. . .
إذا قدر لك أن تتوغل في هذه الأودية العميقة الموحشة، ثم تتسلق هذه الجبال ترتقي من ذروة إلى ذروة حتى تبلغ تلك القُنن الشامخة التي لا يعلوها شيء، رأيت فيها طورداً باذخاً قد شهق واستطال في السماء واستعرض حتى ضاعت جوانبه في هذه الجبال التي تتشعب من حوله صاعدة منحدرة في تسلسل واتساق كأنها الأمواج العظيمة في البحر الهائج الغضوب لولا أن ماءها الرمل والحصى وجلمد الصخر، وأن عمر الموج ساعة وأنها من لدات الدهر. . . كما ضاعت أعاليه في الغمام المسخر بين السماء والأرض. . .
على ظهر هذا الطود فوق قلعة من تلك القلعات الراسيات كانت ترقد القرية ببيوتها ودروبها وبساتينها متوازية مختبئة ضالة في فلوات السماء، تشرف على الأرض من فوق السحاب فلا ترى منها إلا خيال هذه الصحارى الواسعة، يبدو من بعيد موشى بالرمال الخالدة المتسعرة الملتهبة، والسراب الذي يظل أبداً لامعاً خادعاً كأنه الحياة الدنيا. . .
هذه الصخور وهذه الأودية وهذه الصحراء. . . هي عند أهل هذه القرية الوجود كله!(246/127)
في طرف من أطراف هذه القرية كان يجثم بيت صغير منفرد قائم على شفير الوادي. . . إذا أنت دخلته لم تجد فيه إلا طائفة من الأولاد يجلسون على حصير قد مات وفني وتقطعت أوصاله من قبل أن يولدوا. . . وشابا على حشية قد طعنها الزمان فنثر أحشائها. والشاب غض الاهاب، لدن العود، حديث السن، ولكن نظرة واحدة إلى عينيه تريك أنه قوي الإرادة، ماضي العزيمة، وأن له وقار شيخ في السبعين من عمره. . .
وبيد الشاب عصا طويلة يشير بها ويهزها فوق رءوس الصبية، وينال بها من أبشارهم، على حين يجيل فيهم نظرات مشتعلة يتطاير منها الشرر الأحمر، تلذع أفئدتهم كلذع العصا أجسامهم. . .
تلك هي مدرسة القرية، وهؤلاء هم تلاميذها؛ أما الأساتيذ فعقيل صاحب المدرسة، وزميله الشاب: كليب!
وكانت أمسية طلقة أراق عليها الربيع بهاءه ورواءه، فصرف كليب التلاميذ، ووقف على باب المدرسة - على عادته في كل مساء - ينظر إليهم وهم يقفزون من عتبتها، مفاريح بالنجاة من المعلم وعصاه الطويلة، وسحنته المنكفئة المقلوبة أبداً، مماريح يضحكون للحرية والجمال والانطلاق، يعدون إلى القرية عدواً. . . حتى إذا غيبتهم هذه الجدران في أطوائها، ولم يبق منهم في الرحبة أحد، وسكنت الحركة فيها وسكتت الضوضاء التي انبعثت من أفواههم الصغيرة، وحناجرهم الدقيقة الرنانة. . . زفر كليب (المعلم الشاب) زفرة أليمة اقتلعها من أعماق صدره، وألقى عصاه وولى وجهه شطر الصحارى البعيدة، يفتش فيها عن الطريق إلى أمنيته التي طالما جاشت في نفسه، وعاودته وكرت عليه، حتى أمست له فكرة لازمة وبات لا يعرف غيرها، ولا يفكر إلى فيها، ولا يعيش إلا لتحقيقها، وطالما حلم في نومه وفي يقظته أنه قد بلغ أمنيته، فتنعم بها ومرح في جناتها، ولكن الحلم يتصرم وتعود الحقيقة الواقعة بوجهها الكالح القبيح، فيرى أنه لم يصل إلى شيء
ولى وجهه شطر الصحارى، ولكنه لم ينظر إليها، وإنما جاز به خياله فيافيها المهلكة، وقفارها الواسعة، إلى تلك البلاد التي يسمع عنها ويتسقط أحاديثها، ويحمل لها في نفسه أجمل صورة تنفرج عنها مخيلة شاعر ملهم، أو مصور فنان، إلى البلاد التي يعرش فيها الياسمين، وينمو الآس، ويزهر التفاح والسفرجل، وتسيل الينابيع متحدرة من أعالي الجبال(246/128)
الشجراء. . . فوقف يحلم بالوصول إليها، ويتأمل صورتها التي صنعها خياله، وأقامها أمام عينيه، خاشعاً خشوع العابد في محرابه، مشوقاً شوق المحب المتيم إلى صاحبته، مستغرقاً استغراق الصوفي في مراقبته، والحالم في أحلامه، لا يحس مما حوله شيئا!
وظل واقفاً شاخصاً إلى الأفق، غارقاً في تأملاته، حتى لاح على الأفق من ناحية المشرق سواد خفيف، لم يلبث أن اشتد حتى شمل الصحارى النائية، ثم امتد حتى عم القفر كله، ثم تسلق السفوح حتى غمر القمم الواطية، ثم وصل إلى الذرى العالية فلفها هي والقرية في ثوبه القاتم، وأحال الكون كله كتلة من الظلام. . . عند ذلك انتبه كليب، وأفاق من ذهلته، فذهب إلى منزله خائبا يجرّ رجله جرّاً وبات أرقا مسهداً ينتظر انبلاج الفجر، ليحمل عصاه ويعود إلى صبيانه. . .
لم يكن كليب جاهلا ولا محمقا، وإنما كان أديباً أريباً فطناً ذكياً من أبلغ الناس لسانا، وأجرئهم جناناً، وكان من أحفظهم لكتاب الله، وأبصرهم بالشعر، وكان فتى بادي الفتوة، قوياً ظاهراً القوة، لا يعرف اللهو، ولا يميل إلى اللعب، ولكنه يعرف الجد في أموره كلها ويحب النظام، ويميل إلى الصدق، ويأخذ تلاميذه وأصحابه بشيء من القسوة أحياناً، واللين حيناً، وكان يجنح إلى الحزم ولو اضطره الحزم إلى كثير من الشدة والصرامة، ولم يكن يؤخذ عليه إلا هذه الأمنية التي كانت تخرج به في كثير من أيامه عن الوقار والحزم، وتدنو به أحياناً من اليأس والضعف وتعرضه على عيون الناس خفيفاً طياشاً، وهو الرزين الوقور، وتلقى الخلاف بينه وبين شريكه وزميله عقيل الذي كان أعرق منه في الصناعة، وأعلى في السن وأكثر اختباراً للحياة، وإن كان دونه في مضاء عزيمته، وقوة شخصيته، حتى لقد اضطر عقيل إلى لومه مراراً. وحاول مرة أن يسخر من هذه الحماقة التي ملأت رأسه، وأن يصرفه عنها، وأن ينتزع من نفسه الرغبة الأمارة والسلطان. . . فكان يستمع إليه ساكتاً جامداً كالصحراء. . . فتجف الكلمات على شفتي عقيل، ولا يجد ما يقوله فيصمت هو أيضاً ويعاودان العمل
وكثيراً ما كانت تطغى على كليب أحلامه فتغلب عليه وتستأثر به فينسى حاضره الواقع، ويعيش في مستقبله المأمول، فيحس كأنه في دست الملك لا على حشية المعلم، وأن أمامه الحاشية والأعوان، لا الأولاد والصبيان. فيرفع صوته آمراً ناهياً، ويستغرق في أمره(246/129)
ونهيه، ويعجب التلاميذ وتتحرك في نفوسهم طبائعهم العابثة فتستبق القهقهات إلى شفاههم ثم تجمد عليها يردها خوفهم من هذا المعلم العابس وخشيتهم إياه؛ ثم تغلبهم طبائعهم فينفجرون ضاحكين صائحين. . . فينتبه المعلم الشاب، ويزعق فيهم فيبكون ويسكتون، ويتكرر ذلك ويقصه الأولاد على آبائهم وأهليهم فيكذبونه بادي الرأي، ثم يصدقونه ثم يشيعونه في البلد، فيصبح ملء الأفواه والأسماع أن كليباً المعلم الشاب قد أصابه طائف من الجن، فيأسفون ويحزنون لما عرفوا فيه من البلاغة وما آنسوا فيه من الرجولة والحزم، ولكنهم لا يعجبون وهل يعجب الناس من معلم يجن؟ إنما يعجب الناس من المعلم إذا بقي عاقلا وهو يعاشر أبداً هؤلاء التلاميذ. . .
وفي ذات صباح غدا التلاميذ على مدرستهم فلم يجدوا معلمهم الشاب، وكان من دأبه أن يسبقهم. فانتظروه فلم يحضر، فذهبوا يطلبونه في بيته. فعلموا أنه باع بيته ليلاً وقبض ثمنه، ففتشوا عنه في كل مكان يظنون أنه يأوي إليه. فتشوا في كل زقاق من أزقة القرية، وفي كل ذروة من هذه الذرى القريبة منها، وكل صخرة من هذه الصخور القائمة من حولها. فلم يجدوا له أثراً!
ولما راح الرعاة في المساء سألوهم عنه، فقالوا: لقد رأيناه منذ الصباح ينحدر وحده، يقفز من حجر إلى حجر، فحييناه فلم يرد علينا تحيتنا لأنه كان ذاهلاً، قد تعلق بصره بالأفق النائي. . . ونظن أنه سار يومه كله، ولن تدركوه أبداً لأنكم لا تدرون أي سبيل سلك!
فاسترجع أهل القرية واستعبروا أسفاً على أن جُن هذا المعلم الشاب، وأيقنوا أنه سيموت في هذه البادية وحيداً فريداً شريداً. . .
سار كليب يومين كاملين على غير ما طريق مسلوك أو جادة واضحة، يبتغي المنازل والمنحدرات، تسلمه كل ذروة إلى التي تحتها، وكل سفح إلى الذي يليه، لا يحس تعباً ولا يخشى أذى لأن آماله قد ملأته شجاعة وصبراً؛ ثم إنه كان في أول الطريق فهو لا يزال نشيطاً قوياً، ولا يزال زاده كاملاً؛ ثم إن الحر لم يكن قد غمر هذه الجبال وهي بعد في أواسط الربيع. فلما بلغ الصحراء - والصحراء لا تعرف، إذا تسعرت شمسها وحميت رمالها، ربيعاً ولا خريفاً - ولما أوغل فيها واحتواه جوفها، ونفد ما حمل من الزاد، والتهبت شمس الضحا التهاباً، وغلى الهواء غلياناً. . . جففت هذه الشمس أحلامه الندية،(246/130)
وأحالتها بخاراً، وطيرت أمانيه من رأسه ووضعت عقله في جلده ومعدته، فواجه الحقيقة الواقعة؛ فإذا الصحراء الرحيبة الرهيبة تضيق به، وإذا هو يرى حيثما تلفت شبح الموت المروع بعظامه البادية وفكيه المرعبين وجمجمته الفارغة، يتراءى له على الأفق البعيد، يرقب أن يعانقه قبل أن يصل إليه، ويتمثل ذلك في خاطره فيشعر ببرودة هذه العظام البادية تسري في جسمه، ويتصورها ملتفة حول عنقه فيحس بالقشعريرة تمشي في أعضائه، فيغض بصره عن الأفق فيتراءى له الشبح في هذه الرمال، ويخيل لنفسه أنها ليست إلا قبراً مفتوحاً، فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف ركبتيه، فيرفع نظره عن الأرض فيتراءى له الشبح في هذه الشمس التي تسكب عليه وعلى البادية وهج جهنم، فيغمض عينيه فيتراءى له الشبح في الجوع الذي يلهب أمعاءه والعطش الذي يحرق جوفه والضلال يملأ يومه وغده. . . ثم يزول النهار ويشتد أوار الشمس، ويبلغ لسان لهيبها قرارة دماغه، فينسى الجوع والعطش ولا يبغي إلا شبراً من ظل. . . فيعدو كالمجنون هاهنا وهاهناك؛ والصحراء مبسوطة كالكف ليس فيها غار يأوي إليه، ولا صخرة يستظل بها، ولا بشر يلجأ إليهم، ولا شجرة يستذري بها؛ فينبش في الرمل بيديه وأظافره ليجد في بطن الأرض رطوبة يدس فيها أنفه ليربح رائحة الحياة، ويوالي النبش بجنون ثم يطمر رأسه في الرمل فلا يزيد على أن يدفن نفسه حيّاً في رماد حار. . . فيجفو الرمل وينطلق يعدو حتى ينقطع ويعلوه البهر ويحس بأنه سيختنق، فيقبل من ضيقه يلطم وجهه بكفيه، وينتف شعره بيديه. . . ويلعن المجد والسلطان ويلعن هذه الصحراء ويلعن نفسه حين استجاب لهذه الحماقة فخاض الصحراء وألقى بنفسه في جوفه الملتهب. . . يندم أشد الندامة، ويتمنى لو وجد إلى العودة سبيلاً، وهيهات أن يجد إلى العودة من سبيل، لأن بينه وبين القرية هذه السفوح التي لا آخر لها، وهذه الصحراء وهذه الأودية، فإذا قطعها واستطاع أن يعرف طريقه بين آلاف التلال المتشابهة وآلاف الصخور المتشاكلة لم يعرف طريق النجاة من سخرية قومه وهزء صبيانه، وهو ما لا يطيقه أبداً ولا يصبر عليه، ويرى الموت أخف منه حملاً وأحلى مذاقاً. . . وراح يذكر تلاميذه الصغار وطاعتهم إياه وحبهم له، ويذكر بغضاءهم وعصيانهم، ويذكر براءتهم وسذاجتهم، ويذكر خبثهم وشيطنتهم، ويذكر لينهم ويذكر قسوتهم؛ فإذا هو يشعر بالحب لهم، ويغمره هذا الحب(246/131)
ويكون لقلبه برداً وسلاماً، ولمعدته ريّاً وشبعاً، ولروحه حياة، وينظر بعين الحب إلى قريته، ويعرضها كلها بطرقها وبيوتها وبساتينها، وهذه المعابر التي سلكها مرات لا يحصيها عد، ويرى داره ويبصر كل حجر فيها وكل زاوية منها. . . ثم ينظر إلى هذه الصحراء المترامية من حوله فإذا بها قد ابتلعت هذا الحب وجففته، وحياة الحب حياة قصيرة المدى. . . وإذا به يحس بالألم ويشم من حوله رائحة الموت ويرى نفسه نبتة اجتثت من الأرض وقطعت جذورها، ثم ألقيت على هذه الرمال التي يشوى عليها اللحم لتجف وتعود حطبة يابسة، بعد إذ هي غصن مورق فينان، ويخيل إليه أنه فقد حياته كلها حين فقد بلده وأهله وسعادته، فيلقي نظره على هذه الجبال التي خلفها بعد يومين فإذا هي بعيدة، بعيدة جداً تبدو له من خلال السراب اللامع كأنها صورة الأمل المنير لا تكاد تظهر. . . فيسترجع نظرته اليائسة مغسولة بدموع الندم، ويوغل في جحيم الصحراء تائهاً يائساً يمشي إلى. . . الموت!
حتى إذا أطفلت الشمس، ثم ضعفت وشحب لونها، ثم أسلمت الروح، فلبس الكون كله ثوب الحداد، ثم برد الرمل واستحال إلى فراش لين جميل، ولاحت في السماء النجوم واضحة قوية. . . شعر المعلم الشاب بالراحة، فاستلقى على قفاه يتنفس الصعداء من هول هذا اليوم. . . ويتأمل النجوم. . . ويبصر امتداد الأرض والسماء من حوله، فيعجب من جمال الصحراء وبهائها، وينتشي بنسيمها الرخي الناعش، وسكونها الشامل، وجلالها المهيب، ولا يستطيع أن يتصور كيف كان هذا العالم الجميل الفتان، يموج قبل ساعات بأشباح الموت، وتهاويل العذاب!
ورجع الليل إلى الفتى المعلم حماسته ونشاطه، وأترع نفسه قوة وحياة، فرأى أمله الذي بخرته شمس الضحا قد عاد رطباً ندياً، فجلس وحيداً بين هذه المخلوقات العظيمة: النجوم والسماء، والليل والصحراء، يناجي أمانيه، ويرسم طريقه إليها. . . وكان الليل ساكناً هذا السكون العميق، الذي لا تعرفه المدن، ولا تدريه القرى، ولا يقدر عليه البحر، وإنما تعرفه الصحراء العظيمة بصمتها وضجيجها، وقسوتها ولينها، فراقه هذا السكون، وملك عليه لبه، فأصغى إليه إصغاءً شديداً، فكان يسمع فيه نشيداً سرمدياً متصلاً، له من الروعة في القلب، والأثر في النفس، ما لا يكون لهذه الموسيقى المتكلمة الهزيلة، الصاخبة الضاوية، التي(246/132)
تخرج من أفواه ضيقة، أو آلات حقيرة جامدة، وإن هي عظمت فإنما مخرجها أغصان الدوح الذي يرتل ترتيلة العاصفة، أو السحاب الذي يغني أغنية الرعد، أو البركان الذي يزأر زئير الموت. . . أما الصمت فهو نشيد الصحراء الخالد، وأغنية الوجود كله!
غير أن هذا الصمت ينقطع فجُاءَةً، ويحمل نسيم الليل الهادئ إلى أذن المعلم الشاب صدى أصوات بعيدة وعميقة، كأنها خارجة من أجواف الغيران، أو من بطون القبور. . . فلم يدر أهي من صنع الواقع، أم هي من تزوير الخيال. . . ولم يحفلها، لولا أن النسيم حملها إليه كرة أخرى، وهي أقوى وأشد وضوحاً، ثم تبين فيها حداء حلواً، فتخيل القافلة، وهي تضرب في الرمل الناعم البارد، والإبل قد راقها هذا الحداء، فمدت أعناقها وأوسعت خطوها، وهي طربة سكرى بخمرة الألحان، ولمس الفرج يأتيه من حيث تأتي القافلة، وأرهف أذنيه يتسمع هذا الصوت الذي يدنو أبداً يحمل إليه الأمل والسعادة، فإذا بالصوت يتخافت ثم يضمحل، وهو أشد ما يكون طرباً به وسروراً، ويسيطر على البادية هذا الصمت العميق، فيألم المعلم الشاب ويحس بالخيبة تحز في قلبه، ويضيق بهذا الصمت الذي كان ينعم به منذ لحظات. تنعقد السحب فتحجب عن عينيه هذه النجوم المتلألئة، أو يخيل إليه أنها حجبت عنه، فيدور ببصره فلا يرى إلا مخلوقاً واحداً هائلاً يحف به من كل مكان، فيحس بالرعب، وتثقل عليه هذه الوحدة الموحشة تحت ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة الصمت وظلمة الخيبة. . . ويهم بالتصريخ، ولكنه يقر ويسكن حين يرى هذه النجوم قد ظهرت دانية قريبة، كأنما هي قد استقرت على الأرض، على قيد ذراعين منه، تتراقص على ظهر اللجة السوداء، تحاول أن تخترق حجب الظلام بأشعتها الكابية الكليلة، ولا ينفك يحدق فيها، حتى تختلط أفكاره في رأسه، ويحس بأنه قد هوى في واد مظلم سحيق. . . ثم لا يحس بعد ذلك شيئاً، لأن النوم قد غلب عليه وهو في مكانه!
ويشعر المعلم الشاب بيد قوية تهزه هزاً فتقف كل شعرة في جسمه، ويفيق مذعوراً يظن أن الجن تداعبه وتوقظه، فيضغط جفنيه ضغطاً شديداً، ويستر وجهه بكفيه، ولكن هذه اليد تقبض على كفيه فتنترهما نترا، وتخالط أذنه أصوات عجيبة ولغط وضوضاء، فلا يشك في أنها أصوات الجن، ويفتح عينيه مضطراً فإذا هو مسحور، قد بلغ منه السحر أن حجب عن عينيه هذه الظلمة الثقيلة التي كان يغيب في أثنائها، وطمس أضواء القافلة الكليلة التي(246/133)
كانت تتراقص أما عينيه، وبدل كل شيء في لحظة واحدة. . . فإذا الدنيا ممتلئة إشراقاً وضياء، وإذا هو قد انتقل من الصحراء القاحلة الجرداء، إلى دنيا تمور بالأحياء، وتموج بالناس، فيبالغ في فتح عينيه، وقد كاد يجن لفرط الدهشة. . . ولا يشك أن هؤلاء الذي يرى طائفة من الجن. . . ثم يعود إليه وعيه، ويصحو من نومه، فيتلو قول الله تعالى (يراكم هو قبيله من حيث لا ترونهم)، فيعلم أن ليس هؤلاء جناً، لأن الجن لا يمكن أن يراهم بشر، ولكنه لا يزال على شكه؛ أين هو؟ وما هذا الذي يرى؟ فيقول لمن كان يوقظه:
- أسألك بالذي تحلف به، إلا ما أخبرتني أين أنا؟
- أين أنت؟ أنت في هذه البادية!
- في هذه البادية؟! وما هذا الـ. . .
- ويحك يا رجل لقد حبست القافلة
- اسقوني شربة ماء
فيمضي الرجل ليأتيه بالماء، ويحدث كليب نفسه:
- إذن، فأنا قد نمت إلى الصباح
- خذ اشرب. . .
- الحمد لله! أشكركم
- لقد حبست القافلة
- وماذا تريدون مني؟
- نريد أن نعرف من أنت. . . إنا لنظنك عيناً للعدو، فمن أين أتيت؟
- أتيت من أعالي هذه الجبال أريد الشام فضللت ونفد زادي، وصهرت دماغي شمس الأمس، فعدت أركض على غير هدى حتى انتهيت إلى هذا المكان. . . ولست عدوّاً لأحد
- وما اسمك؟
- اسمي كليب، من آل أبي عقيل. . . وأريد الشام، فهل تمنون علي فتحملوني معكم؟ هذه هي دراهمي!
ويفرغ كيسه على الرمل، فتتكوم الدراهم والدنانير، تنعكس عليها أشعة الشمس فيخطف بريقها البصر!(246/134)
- وفر عليك دراهمك، إنا لا نرزؤك شيئاً، أنت في حمى هذا السيد، فاركب جملك راشداً
ويطغى الفرح على نفس المعلم الشاب، حين يقدمون إليه هذا الجمل القوي البازل، وينسيه أن يسأل عن هذا السيد الذي أصبح في حماه، وأن يشكره. ويعلو متن الجمل ببراعة الأعرابي وخفة الشاب. . . ويسير به الجمل، وهو يقلب بصره في هذه القافلة العظيمة، فلا يستطيع أن يدرك به آخرها، أو يحيط بها، ويأخذه العجب حين يرى من حوله مدينة كاملة برجالها ونسائها وبيوتها وحاجاتها وجندها وحماتها، تنتقل تحت عين الشمس. . . ثم يشرع الحادي بأغنيته فيصغي إليها كليب حالماً مأخوذاً. . .
طوت القافلة الفلوات، تتجنب الطرق المسلوكة، وتنأى عن القرى القليلة، القائمة في الصحراء بين دمشق ويثرب، لئلا تجد فيها ما تخشاه في هذه الأيام المضطربة الحافلة بالثورات والحروب. . . وكان أصحابها دائبين ينزلون النهار إلا أقله، ويمشون أكثر الليل وجانباً من النهار، يتجنبون حر البادية، ووهج الشمس، حتى رأوا (بصرى) تلوح لهم في اليوم السادس عشر، يبسم طيفها خلال أشعة الطفل، فوثبت إليها قلوبهم، وطارت أمانيهم، وجدت القافلة المسير، دأب المسافر إذا دنا من بلد، أو شارف غاية. وكان المعلم الشاب أشدهم طرباً وفرحاً، فطفق يحدق في هذا الطيف، ويتأمل هذه الرمال، يستمتع بأحلامه البهيجة الحبيبة، فيرى الرمال إذ تمتد في اتزان عجيب، من قلب الجزيرة إلى أسوار (بصرى) يحملها هذا التيار المنبثق من قلب بلاد العرب، فيصبها في أرض الشام فتغمرها بروح الجزيرة، وتعلمها معاني الرمل، ومن معاني الرمل أن تكون الأمة مجتمعة كالرمل، كثيرة كالرمل، خالدة كالرمل، صابرة كالرمل. . .
ويغيم طيف المدينة ويظلم ثم يختفي في ثنايا الليل، ولكن المعلم الشاب لا يزال ممعناً في التحديق، قد نسي القافلة، وغفل عن الزمان، فلم يبصر اختفاء المدينة، وإنما كان يبصر أحلام الجزيرة، التي استهوته حتى استسلم إليها. ووضع في يدها قياده فساقته إلى عالم ناء لا يدرك العقل قراراته، ولا يبلغ غوره، عالم يفيض بالفتون والجمال والسحر، فظل يستمتع بفتونه وجماله أمداً طويلاً. . . ثم قادته الذكرى إلى ماضي الجزيرة، فإذا هو يراها ممحلة جدبة، قد تعرت من الخضرة، كما تعرت من الحضارة، وغاضت فيها ينابيع الماء، كما غاضت ينابيع العلم. . . ثم يرى رجلين يسيران من (أم القرى) إلى تلك (المدينة)(246/135)
النائمة بين الحرتين فينبت الزهر تحت أقدامهما، وتخضر الرمال التي يطؤونها، وتكتسي البادية من حولهما أثواب الحياة، ويرى هذا الرجل يستقر في تلك (المدينة) فيبعث من بين حريتها صيحته القوية، فيوقظ النيام، ويحيي الجماد، ويبعث في النفوس الفضائل والأمجاد، فإذا الجزيرة برملها وصخرها، وشمسها المحرقة، وجبالها الصلداء، تسير وراء محمد (أعظم إنسان، وأفضل نبي) لتحمل الحياة إلى سهول الشام والعراق. . . يا عجباً! يا عجبا. . . الصحراء القاحلة، تمنح الحياة والبساتين؟!
رأى الجزيرة تمشي وراء محمد (صلى الله عليه وسلم) لتكون موقدة المعركة الحمراء التي أكلت الظلم والرذيلة والطغيان. . . ثم تمشي مرة ثانية لتكون رمالها بذور الأزاهير والأشجار في السهول الخضراء. . . ثم تمشي مرة ثالثة لتكون قرائحها وأدمغتها مادة هذه الصحف المجيدة البيضاء، ثم. . . ثم. . . ثم بالغ رفيقه في هزه، فانتبه كليب
- أفي كل يوم إغفاءة، أو إغماءة؟ ما لك أيها الرجل؟
-. . .
- انزل، هذه أسوار بصرى!
نزلت القافلة تحت أسوار (بصرى) في موهن من الليل، فلم تبصر في بصرى إلا قطعة من الظلام الراكد، ولم تجد أثراً لذلك الطيف البرّاق الزاهي، الذي كان يتراءى لها راقصاً على أشعة الطفل. . . فهجعت مكانها تنظر الصباح
نامت القافلة يحرسها الحراس، ونام كليب نوماً عميقاً لا يطفو على وجهه حُلم، حتى أحس بأنفاس الفجر الباردة على خديه ففتح عينيه، فرأى طلائع الفجر تضطرب تلقاء المشرق في خطوط ضعيفة، كأنها أضواء المصابيح الكليلة، فراقته وتعلق بها بصره وما شيء يمتلك لب الرائي، ويأخذ عليه مشاعره مثل انبلاج الفجر في الصحراء، حين يكون سفير النور، ومهبط الآمال على هذه النفوس التي ملّت ظلام الليل، وما يعيش في الظلام من مصائب وأوهام. . . ولم يستطيع كليب أن يحمل وحده كل هذا الجمال، وأحب أن يجد صديقاً يشاركه حمل الشعور، فكان يلقي على رفيقه النائم، من غير أن يحوّل وجهه عن المشرق:
- ما أجمل هذا!(246/136)
وكان صوته هامساً خافتاً، كأنه كان يناجي نفسه، فإذا لم يجبه أحد، وطغى عليه شعوره، عاد يقول:
- ما أجمل هذا! ألا ترى؟
وكان الفجر قد انبلج، واستوى عموده، وامتدت خيوطه فإذا هي تملأ الفلاة كلها، وتحسر عن هذه المشاهد التي كانت مخبوءة وراء حجاب الليل، فإذا هي بارعة فتانة، ولم يكن صاحبنا المعلم قد رآها من قبل، فشده حين ظهرت له بغتة، كأنها لوحة فنية أزيح عنها غطاؤها، أو كنز فتح له بابه، أو متحف فيه كل جميل أخاذ أضيئت له جوانبه، فلم يدر أين كان هذا كله مخبوءاً، وحارت نفسه بين خضرة البساتين التي تحف بالبلد، أينعم النظر إليها ويذوق حلاوتها بعد هذه الأيام الطويلة التي ذاق فيها مرارة البادية، ويصغي إلى تهامس أوراقها المتلاصقة، ونجوى أفنانها المتعانقة، أم يتأمل هذه البنى العظيمة التي أودعها الفنانون من البيزنطيين أبدع ثمرة من جني قرائحهم الخصبة، ونزلوا لها عن أجمل نتاج لعبقريتهم ونبوغهم، لتكون عروس البادية، تخطر بعظمتها وجمالها، وتتهادى بزخرفها وزينتها على الرمال الخالدة. . .
وكان الفجر قد امتد إلى نفس المعلم الشاب، فأضاء له عوالمها كما أضاء هذا العالم، وحسر له عن آماله التي كانت مختفية في ظلام الأسفار، كما كانت هذه المشاهد غائبة في سواد الليل، فعاد إليها، وتمثلها قوية ظاهرة، وأحس كأن فجر حياته الماجدة قد انبثق، فختم صفحة هذا الليل الأسود الذي قضاه معلماً في أعالي الجبال، ليفتح صفحة النهار الوضاء الذي يقضيه في المدن الكبيرة أميراً عظيما، وتلهى بأحلامه عن هاتين اللوحتين اللتين حار بينهما أولاً: اللوحة التي وشاها الربيع، واللوحة التي زينها الفن، وانطلق يفكر في دمشق، ماذا تكون إذا كان هذا كله لقرية من قراها؟
بقيت القافلة في (بصرى) ريثما باعت واشترت، وقضى تجارها وطراً من الربح والكسب، ثم توجهت تلقاء دمشق، وكان المعلم الشاب يكلف ذهنه ضروباً من الكد ليمثل له صورة لدمشق تشبه ما كان يسمع عنها من الأخبار التي كانت تشيع في الأرض حتى تبلغ تلك الذرى العالية التي لا تهجع عليها قريته فتنشر فيها مكبرة منفوخة مكسوة بأنواع المبالغات، تصور له دمشق جنة كالتي وعد المتقون، لها من العظمة والجلال ما تتضاءل أمامه عظمة(246/137)
(المدائن) التي كان يتحدث بها العجائز من قومه عن العجائز، وتخيل له من جلال الخليفة وضخامة سلطانه ما يصغر معه ملك كسرى ويهون. . . ولم لا؟ وملك كسرى كله عمالة من عمالات الخليفة، وولاية من ولاياته!
كان المعلم الشاب يكد ذهنه ليتصور دمشق، ويتبين طريقه إلى النجاح فيها، وكان يحسب لطول ما عزم على السفر وتردد فيه، ولعظم ما لاقى من الأهوال والمشاق، أنه ليس بينه وبين المجد والولاية إلا أن يهبط دمشق، فإذا هو والٍ أو أمير. . .
وكانت القافلة قد علت نشزاً من الأرض فانكشفت أمامها دمشق العظيمة أقدم بلدان الأرض وأجملها، وهي في مثل حلة العروس يضحك في أعطافها الجمال تميس بثوب العرس الأبيض الشفاف الذي نسجته أكف الربيع من زهر المشمش الهفهاف تموج في خديها دماء الشباب ظاهرة في زهر الدرّاق الأحمر الفاتن، وعبق أزهارها يعطر الجو كله، الأرض والسماء والجبال والصحارى المجاورة. . . فأخذ كليب بها أخذاً ورقص لها قلبه، وفتن بها فتوناً. ومنذ الذي يرى غوطة دمشق - وهي في ثوب الربيع - ثم لا يرقص لها قلبه ولا يفتن بها فتوناً؟ ومنذا الذي يقطع عرض الفلاة حيث يعتد ظل الصخرة القائمة جنة حادرة، ويرى الحشيشة الخضراء روضة ناضرة، ويرى البئر الآسنة مورداً صافياً. . . ثم يطل على الغوطة جنة الأرض حقاً وروضة الدنيا بأشجارها المزهرة، وطيبها وعطرها، وفتونها وسحرها، ثم لا يجن بها جنوناً؟ وهل عد العرب الغوطة إحدى الروائع الأربع ' في متحف الطبيعة إلا بعد نظر وفكر؟ كان كليب سابحاً في أحلامه، وهو أشد ما يكون بها استمتاعاً حينما ارتفع هذا الغبار من ناحية الشرق عالياً عريضاً. راع القافلة فوقفت تنظر إليه مذعورة، فجفا أحلامه ووقف مع القافلة ينظر، فإذا الغبار يعلو ثم تضربه الرياح فيتفرق، ثم يعود فيجتمع. . . ويفزع رجال القافلة الكبيرة، ويظنون الظنون، ويصغي كليب إلى حديثهم فيفهم منه أنهم لا يدرون ماذا يراد بهم. ولا يعلمون ما هذا الغبار، ويوغلون في الحديث ويتشقق بينهم، فيكشف لكليب عن أشياء كثيرة لم يكن يعرفها وهو في قريته العالية. . . يعلم كليب أن الدولة في أزمة من هذه الأزمات الخطرة التي تعرفها الدول حين تعصف بها عواصف الانقسام والحرب الداخلية، وأن عبد الملك قلق مسهد لا ينام الليل إلا لماماً، فإذا هجع رأى شبح ابن الزبير ينقض عليه فقام مرتاعاً يخشى أن ينتزع منه الشام(246/138)
ومصر كما انتزع الجزيرة كلها والعراق وخراسان، وصار الحاكم المطاع في شرق البلاد وجنوبها وطالت مدته وامتد كلمته. . .
ثم تنقطع أحاديث القوم، وينظرون إلى الغبار الداني وسيوفهم في أيديهم، ومقاتلتهم أمامهم مستعدون للقتال، فينشق الغبار عن الراية الأموية التي يبعث مشهدها الطمأنينة في نفوسهم، ويخرج من تحته بضع مئات من جند الشام يخلطون القافلة الكبيرة ويكشفون أمرهم على عجل، فيعلم رجال القافلة أنهم حيال فرقة من حرس الصحراء، خرجت من دمشق منذ أسبوع لتجول في هذه الفلوات القريبة، تقيم العواصم والمخافر ثم تعود لتفسح المجال لفرقة أخرى، فتجاوزت حدها، وأمعنت في الضرب إلى الجنوب حتى دخلت في أرض ابن الزبير والتقت بهذه الفرقة الحجازية التي كسرتها وردتها على أعقابها، ولحقتها لتقضي عليها
وهز هذا الحديث القصير رجال القافلة، فاصطفوا للقاء الفرقة الحجازية التي دنا غبارها، وتلفتوا يفتشون عن الرجل الذي يقودهم إلى المعركة ويشق لهم طريق الظفر، ويلزمهم طاعته إلزاماً، ولن يكون هذا الإلزام إلا بقوة الشخصية، وبلاغة اللسان، وكبر النفس. وكانت ساعة انتظار وتردد توجهت فيها الأنظار إلى كثير من السادة، فخيبوا رجاء الناس فيهم، وأوشكت الفرقة الحجازية أن تصل. وهم على جمودهم وانتظارهم، عند ذلك تقدم كليب الذي كان يغالب نفسه ويقسرها على السكون ويمسك بركان حماسته أن ينفجر، تقدم حين عجز عن ضبط نفسه، ففتح له طريقاً وسط الفرسان، وقد رأى أمانيه أدنى إليه من أنفه، ومضى فيه مضي السهم حتى صار في رأس القوم، وهم يعجبون منه، وينتظرون أن يقودهم كل رجل في القافلة إلا هذا الشاب الذي أمضى طريقه كله صامتاً حالماً لم يتحدث بحديث، ولم ينطق بكلمة، والذي يظنونه عيياً لا يبين ولا يعرب عن نفسه. ولكن عجبهم لم يطل، فإن الفتى انطلق يخطب فيهم خطبة صارخة مجلجلة تلتهب كلماتها التهاباً، وتحرك جملها الجلاميد الصم، وتدع الجبان المخلوع القلب وهو البطل الحلاحل. وكان صوته القوي يدخل إلى حبات القلوب فتصيبها منه رجفة كما يرتجف الرجل يمسك بسلكة الكهرباء؛ وكانت إشارات يده وسمات وجهه تنطق بمعانيه قبل أن ينطق بها لسانه، فتحرك الناس وتقودهم حتى كأنهم معلقون بإصبعه. ولم ينته المعلم الشاب من خطابه حتى كان(246/139)
القوم قد خلعوا نفوسهم التي أضناها طول السفر، وأرمضها حر الصحراء، وأضعفها التردد والإحجام، ولبسوا نفوساً جديدة ماضية لا تعرف التردد، قوية لا تعرف التعب، مؤمنة بالظفر لاشك عندها فيه. ولم ينته من خطابه حتى كان الجند الحجازيون قد وصلوا. فأطلق من فيه صرخة الحرب، وأغار كالقضاء النازل ينشد أنشودة الموت والجند ومسلحة القافلة من ورائه تردد النشيد فتميد له البيد. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى آثر الحجازيون السلامة، ففروا لا يلوون على شيء. واستراحت القافلة حيناً. ثم أخذت طريقها إلى دمشق يقدمها كليب (المعلم البطل)
كانت دمشق في زلزال شديد، وكان أهلها في هيجان واضطراب، ينتظرون المعركة الفاصلة بينهم وبين ابن الزبير، لينجوا العالم الإسلامي من هذا الانقسام الذي ينكره الإسلام ويأباه أشد الإباء؛ وليعود إلى الوحدة التي جعلها أساس الحياة الدنيوية للمسلمين، كما جعل التوحيد أساس الدين. . . ولكن أهل دمشق فزعون مشفقون على الخلافة الأموية أن تنهار وتتحطم وهم بُناتها وحُماتها، يرقبون الأحداث، ويتسقطون الأخبار، ويُعدون نفوسهم للتضحية الكبرى في سبيل المبدأ القويم، والغاية الساذجة كدأب المسلمين في كل عصر وآن.
وكان (قصر الخضراء) مثوى الخلافة، وسرة الأرض، في حركة دائمة؛ فمن مجلس يجمع للشورى، إلى ألوية تعقد للدفاع. وكذلك كان قصر (مستشار الدولة روح بن زنباع) الذي أَمّه كليب المعلم الشاب صبيحة وصوله إلى دمشق، يقوده إليه زعيم الجند الذين أنقذهم كليب، وأعانهم على عدوهم، ليلقى عنده روح جزاءه.
وكان قصر روح قائماً في ظل المسجد، دانياً من باب الفراديس يجري من تحته بردى متوارياً في حمى القصر، ثم يظهر كرة أخرى، يتحدر ويهدر هديراً سائغاً عذبا، وسط جنة دانية القطوف متشابكة الأفنان، قد اتخذ فيها مجلس يقوم على سيقان من خشب الجوز المنقوش، منغمسة في بردى تغسلها أمواهه دائماً وتداعبها أمواجه الصغيرة، فتقرصها ثم ترتد عنها ضاحكة مقهقهة، وسماء هذا المجلس أغصان الأشجار قد تعاطفت وتعانقت، يزينها الياسمين بزهره الناعم العطر، وحول هذا المجلس إطار من الورد والنسرين والسَّيْسنبر والنرجس والبنفسج، فهو جنة تنعم فيها العين بهذه الأزاهير المؤتلفة الألوان،(246/140)
المختلفة الأشكال، تتمايل وتتهادى حين يمسها هذا النسيم الرخيّ، فيفوح من أعطافها هذا الشذا الطيب، الذي ينعم الأنف بريّاه، كنعيم الأذن بهذه (الاوركستر) الإلهية، التي تعزف ألحان الفطرة الجميلة الساحرة على حناجر البلابل والشحارير؛ وبردى فوق هذا كله يعزف لحنه السرمدي، وتنعكس على صفحته المتموجة ألوان الزهر، فيكون منها لوحة فنية تزري بألوان الغروب في لجةّ البحر.
والقصر طبقتان من الرخام الأبيض والأسود والمجزّع، له رواق على بابه، قائم على أساطين من المرمر قد استفرغ صنعها وتزينها عبقرية البنائين والمهندسين فبدت آية معجزة في لغة البناء تحس لدقتها وأحكامها كأنها هي حية ناطقة نَشوى بخمرة هذا الأريج العطر الذي يفوح من أشجار البرتقال والليمون المطلة بالزهر التي تنافس بعطرها الورد والياسمين، وأشجار المشمش التي تظهر بزهرها الأبيض الشفاف كأنما هي في حلّة في الثلج الحيّ المعطر، وأشجار الدرّاق التي تبدو بزهرها الأحمر كأنما هي محبّ ورّد وجنتيه الخجل، وأشجار الحور سكرى تميس بثوبها الجديد الذي خلعته عليها أيدي الربيع. . . يتوّج هذا كله منارة المسجد الشاهقة في السماء، تنشر في الدنيا كلها العطر السماوي الخالد، وتريق عليها السمو والجلال، فتتطهر الأرض من الشرك والرذائل، وتتطهر النفوس من المطامع والشهوات، وتهبُّ على الوجود نسمة من نسمات الجنة حين يخرج منها النداء: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله!)
كانت دمشق (وما تزال، وستبقى دمشق) جنة الأرض، ودرّة تاجها، وواسطة عقدها، ليس في الأرض أجمل منها ولا أحفل بكل محبوب ساحر أخاذ، مما يشمّ أو يرى أو يسمع. . . وكان قصر روح من أجمل ما في دمشق، وكان فوق الجمال جليلاً فخوراً بساكنيه، يملؤه الحجاب والجند وذوو الحاجات، فلا ينصرفون إلا وافرين غانمين شاكرين. كان محط الجمال والجلال، ولكن كليباً (المعلم البطل) لم يحفل شيئاً من هذا، ولم ينظر إليه، لأن من عادته ألا ينظر إلا أمامه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة لئلا يشغله عن غايته شاغل، أو يعوقه معوق. وكانت آماله هي غايته، فمضى إليها قُدُماً، لا يبصر إلا ظهر الجندي الذي سبقه ليدّله على الطريق في هذا العالم الصغير، حتى دخل على المستشار. .
ندع كليباً في حضرة روح بن زنباع مستشار الدولة، ونقفز قفزة واحدة إلى واسط مدينة(246/141)
الحجاج، نقطع في هذه القفزة سنوات طويلة مليئة بالأحداث الجسام، من قتل مصعب وعبد الله ابني الزبير، إلى عودة الوحدة الإسلامية على يد البطلين عبد الملك والحجاج. . . فنرى في شوارع واسط الفسيحة شيخاً أعرابياً جافياً يتلفت تلفت المشدوه الذي لم يبصر في عمره مدينة كبيرة، يتوسم في وجوه الناس بفضول ظاهر، فيفرون منه حتى زال النهار، وكلّت رجلاه من المسير فجلس في ظل دار من هذه الدور الجديدة، كئيباً حزيناً
- ما لك يا عمّ؟
-. . . . . .
- ما لك؟ أخبرني ما شأنك؟
فيرفع الأعرابي رأسه ويحدّق في وجه الرجل، حتى يطمئن إليه، ولا يرى فيه ما يريبه، فيقول له:
- أريد أن تدلني على رجل يدعى كليب بن يوسف الثقفي، من الطائف
فيضطرب الرجل، ويسأله:
- أتدري ويحك ما تقول؟ ابن يوسف الثقفي؟ أخو الحجاج؟ فلا يسمع الأعرابي هذه الكلمة حتى يسري عنه، وينطلق ضاحكاً بملء فيه، ويقول:
- بل هو والله الحجاج، كنا نسميه كليباً، قاتله الله ما أشد عقوقه. . . ألا تخبرني أين هو هذا الخبيث؟
- قبحك الله من أعرابي جاهل، أبهذا تصف الأمير؟
ويتلفت إلى كل جهة، وقلبه يكاد ينخلع من الرعب يخشى أن يسمع حديثهما أحد، ثم يقول للأعرابي هامساً:
- اخفض من صوتك. . . سألتك بالله!
- ولم ويحك؟
- ألا تعرف من هو الحجاج. . .؟ ألست من سكان هذه الأرض؟
فيعود الأعرابي إلى الضحك وقد راقه ما يسمع ويقول له: - بل أنا من سكان السماء؛ هبطت الساعة من أعالي جبال الطائف؛ أما الحجاج فأنا أعرف الناس به: معلم صبيان أحمق!(246/142)
- ويلك يا أعرابي، هو والله أمير العراقيين، وقاتل ابن الزبير، وسيف الخلافة الأموية وثبت أركانه
- إنك تهزل!
- وهل في هذا هزل؟ سل ويلك من شئت!
- كليب أمير العراقيين؟ يا ضيعة شيبتك يا عقيل!. . . ويلك يا هذا، دلني عليه. . . دلني عليه. . .
-. . . . . . . . . . . .
-. . . . . . . . . . . .
- أدن يا عقيل!
- أو قد عرفتني؟
- وهل ينكر الحجاج أصدقاء كليب؟ كيف تركت صبياننا؟
- ما أنت والصبيان؟ أنت أمير العراقيين. . . ولكن خبرني ويحك يا كليب، كيف بلغت هذا كله؟
- بلغته لأني (أردت) أن أبلغه
ولم يدرك عقيل ما شأن الإرادة هنا؛ فانطلق يضحك يحسبها نكتة، ثم سكت فجأة وقال:
- ولكنه شيء عظيم والله يا كليب! أين هذا من ذاك في الطائف؟
- وا شوقاه إلى داري في الطائف، والى أيامي مع الصبيان! لقد خلفت فيها ربيع حياتي يا عقيل، لقد خلفت فيها ربيع حياتي. . . والآن يا مرحباً، يا مرحباً برفيق الشباب. . . . . .
(بيروت)
علي الطنطاوي(246/143)
خالد بن الوليد وأمير حمص
رواية شعرية في فصل واحد
بقلم السيد محيي الدين الدرويش
(قواد العرب المسلمون مجتمعون للمداولة في حرب الرومان)
أبو عبيدة:
أرى الرومان قد حشدوا جنوداً ... يضيق السهل عنها والفضاء
كأن الليل يزحف وهو داجٍ ... ونحن على جوانبه ضياء
ولولا الصبرُ والإقدام فازت ... جيوش الشرك وانكشف الغطاء
عمرو:
صدقت (أبا عبيدة) ما ونينا ... ولم يُفْلَلْ لضرمتنا مضاء
وكنا كالصواعق غاضبات ... تميد الأرضُ منها والسماء
ولكن كان جمعهم عديدا ... فلم يوهنْ صفوفهم اللقاء
ولو أوتوا قلوباً لا تبالي ... لحاق بقومنا منهم بلاء
رأيت الجند بالعزمات يسمو ... وحقَّ له مع اليأس الشقاء
و (خالد) لِمْ تأخر؟
أبو عبيدة:
لست أدري ... سأصبر علَّ يحمله المساء
أتاني من (أبي بكر) كتابٍ ... فزال الكرب عني والعناء
يبشرني بمقدمه نصيراً ... بروحي منه ذّياك السناء
هو البطل الذي قهر الأعادي ... وليس له سوى التقوى وقاء
تعالى الله حين مضى سريعاً ... ووجه الأرض تخفيه الدماء
رأينا كيف تُنْزَعُ المعالي ... ويرفع في السماء لنا لواء
(تسمع ضجة)
ماذا؟ هتاف؟ ما لخبر؟(246/144)
عمرو:
لعل (خالداً) حضر
أبو عبيدة:
تبينوا ماذا جرى ... لم يبق لي من مصطبر
(تهليل من الدخل ونشيد من قبل القادمين)
الجنود:
جردوا البيض وسيروا للكفاح ... فمنادي الحرب بالأعراب صاح
إن نيل المجد في الدنيا متاح ... لشعوب زانها العزم الخطير
سوف يلقى (الروم) أنواع البلاء ... من كماة نافسوا الشهب علاء
نحن سر المجد بل رمز الإباء ... لا نبالي ما حيينا بعسير
أنتم الأبطال آساد العرين ... من رأى الآساد يوماً تستكين
فاشحذوا العزم ولبوا مسرعين ... لبناء المجد والعز الأثير
(خالدٌ) قائدنا يوم اللقاء ... ولنا من سيفه أقوى مضاء
زلزل الفرس فمغناهم خلاء ... ومضى في نهجه غير حسير
خالد:
سلام عليكم ليوث العرين ... ونسل الكرام من الفاتحين
أبو عبيدة:
عليك السلام زعيم النضال ... وسيف الإله على الكافرين
أطلت علينا الغياب فأمست ... تسافر نحو (العراق) العيون
علام التأخر؟
خالد:
شأنٌ عجيبٌ ... وشكٌ تغلغل فيه اليقين
أبو عبيدة:
فديتك هات الحديث العجيب ... وأدل برأيك للمسلمين
خالد:(246/145)
الله أكبر تم الفتح وارتفعت ... على (العراق) بنود النصر والظفر
خضعنا معارك يرتاع الحديد لها ... حيث المنية لا تبقي على بشر
فاهتزت الأرض لما ثار ثائرنا ... وأصبحت دولة الأوثان في سقر
رام الأعادي بنا كيداً وما علموا ... أن العروبة لا تخشى من الخطر
وعدت نحوكم بالجيش مرتقياً ... صحراء تزخر بالويلات والغير
لا ماء فيها ولا رغد يلوح بها
أبو عبيدة:
ماذا شربتم إذن؟
خالد:
كنا على حذر
أعطشت أنيقنا ثم ارتوت عَلَلاً ... وكنت أنحرها في وقدةِ السُّعُر
سريت خمس ليال ما شكا تعباً ... منا امرؤٌ
أبو عبيدة:
يا لكم من فتية صُبُر
خالد:
أصليت (بهراء) حرباً فاستكان لنا ... قوم سما مجدهم في سالف العُصُر
و (مرج راهط) قد ريعت فوارسه ... من بأسنا وكذا (بصرى) على الأثر
أبو عبيدة:
يحيا البطل سيف الله
الجميع:
يحيا يحيا يحيا يحيا
خالد:
نبئوني عن حالكم إن قلبي ... يتنزى شوقاً إلى الهيجاء
أبو عبيدة
قد قهرنا الرومان في (أجنادين) ... وأضحى (اليرموك) مثوى العناء(246/146)
داهمونا بجيشهم فغدونا ... نتراءى كالشامة البيضاء
قد قسمنا جنودنا وصمدنا ... فملأنا الوهاد بالأشلاء
خالد:
ما أراكم قد أصبتم بانقسام ... إنما الانقسام رأس البلاء
أجمعوا أمركم وكونوا بناء ... هازئاً بالعواصف الهوجاء
إنما الفوز للقوي فسيروا ... نبتن العز في ذرا الحوزاء
وامهروا المجد بالدماء تفوزا ... في جنان الخلود بالآلاء
السلاح السلاح يا قوم إني ... سوف أغدو أمير هذا اللواء
أبو عبيدة:
يحيا القائد يحيا خالد ... الجميع: يحيا يحيا يحيا يحيا
(يذهبون إلى الحرب وتنشب المعركة ثم يعود خالد بعد جلاء العدو)
خالد:
لك الحمد رب الكون تم لنا النصر ... وقام عمود الحق وانقمع الكفر
ورف على الأكوان نور (محمد) ... فأشرقت الدنيا ولاح بها الفجر
فعاد لنفسي زهوها ورجاؤها ... وقرت بي العينان وابتسم الثغر
تمنيت أن ألقى الشهادة راضياً ... ولله أمر لا يغالبه أمر
وأوردت نفسي مورداً دونه الردى ... فأخطأني وا لهفتا ذلك الأجر
عجبت من (الرومان) هانت نفوسهم ... فلم يثبتوا عند اللقاء وهم كثر
لئن هيمن الضعف المهين على امرئ ... فأجدى لهذا المرء من عيشه القبر
(دمشق) عروس الشام دانت لحكمنا ... وأرجو (بحمص) أن يطالعنا النصر
جندي:
سيدي قد أتى من الرومان ... فارس لا تملُّه العينان
يرتجي أن يراك
خالد:
أدخله حالاً ... لنرى ما يرومه من شان(246/147)
(يدخل أمير حمص)
الأمير:
أيها القائد رفقاً بِشَجٍ ... فلقد كنت نصير البائسين
إنني سيد (حمص)
خالد:
مرحباً ... بفتى (غسان) وضاح الجبين
أوضح الأمر وقل لي ما الذي ... تشتكيه كي أبيد الغاشمين
صلة تجمعنا من (يعرب) ... لم يبدد عقدها مر السنين
الأمير:
قد أتيت اليوم أشكو ملكا ... آثر البغي وراع الآمنين
قيصر الروم (هرقل)
خالد:
ويله ... سيرى في الغد عقبى الظالمين
الأمير:
قد بنى في (حمص) قصراً شامخاً ... يتعايا عن ذراه الناظرون
دوحة (الميماس) تهفو حوله ... ومياه النهر تروي الظامئين
ومضى يمعن في آثامه ... لا يبالي بانتقاد اللائمين
فاستثارت (حمص) من أعماله ... كيف ترضى (حمص) فعل الجاهلين؟
إنما (حمص) منارٌ للألى ... عزمهم في الرَّوع يأبى أن يلين
لم يكن يدري (هرقل) أننا ... لا نبالي ما حيينا بالمنون
عرب من آل (غسان) لنا ... طأطأ الناس جميعاً خاشعين
أنتم إخواننا أهلاً بكم ... وليمت في كيده ذاك اللعين
إن يُفرق بيننا الدين فقد ... وحَّد الجنس قلوب المخلصين
قد أتينا اليوم نرجو عطفكم ... وغدونا في ذَراكم لاجئين
أنتم السادة(246/148)
خالد:
لا تخشى الأذى ... قد وجدت الأهل
الأمير:
دمتم فائزين
خالد:
قد نهى الإسلام عن إيذائكم=وقضى ذلك خير المرسلين
الأمير:
سوف نُمضي معكم عهداً على ... أن تصونوا دمنا
خالد:
لنا نَمين
شيعة العرب وفاء بالذي ... وعدوا لا درَّ درُّ الناكَثين
أيُّ شأن لعهود قُطعت ... ثم أضحت تُرَّهات بعد حين!
لا تغُرَّنك قصاصات غدت ... شَركاً تنصبُ للمستضعفين!
ارجع الآن (لحمص) إنني ... قد تصبَّاني لمرآها الحنين
بشر الأقوام أنا في غد ... سوف نبدو في رباكم فاتحين
(يذهب الأمير ويدخل القواد)
أبو عبيدة:
سلام يا أمير المسلمينا ... له أرَجٌ يفوق الياسمينا
عمرو:
لقد خضعت لعزتك البرايا ... ودان لك الأعادي صاغرينا
فكنت القائد النَّدْب المرجَّى ... وكنت أمامَنا حصناَ حصينا
قائد:
وكيف نخاف للأعداء بأساً ... وسيف الله والإِسلام فينا؟
خالد:
أراكم قد بلغتم فيَّ حدّاً ... تسامى فوق وصف الواصفينا(246/149)
ألستم عدتي عند الرزايا ... ألستم في الحوادث لي يمينا
حمدت جهادكم والهول باد ... وقد جنت بوادره جنونا
وزلزلتم صروح الكفر لما ... أتيتم كالصواعق راعدينا
تفرَّدت العروبة بالمعالِي ... سلوا الأحقاب عنها والسنينا
ألم تملأ زمازمها البرايا ... وتتركْ في الزمان لها رنينا
فويلُ للألى غمزوا قناها ... لقد سلكوا سبيل الجاهلينا
إليك (أبا عبيدة) خذ كتابا ... أتاني من أمير المؤمنينا
أتانِي ناعياً
أبو عبيدة:
من ذا توارى؟
خالد:
(أبو بكر) إمام المصلحينا
هوى طودٌ من الإسلام فابكوا ... معي الأخلاق والحلم الرزينا
أبو عبيدة:
سنذكره على مَرِّ الليالي ... ونذرف بعده الدمع السخينا
وأيُّ خليفة أضحى بديلاً ... لخير الناس أخلاقاً وديناً؟
خالد:
هو الفاروق منضور السجايا ... إمام لا يرى في الحق لينا
أناط بك القيادة فاستلمها ... فإنك كنت في الدنيا أمينا
وأعلمه بأمر الفتح حالاً
أبو عبيدة:
معاذ الله أن أنسى الجهودا
أأغدو قائد الأبطال حقَّا ... و (خالد) يملأ الدنيا رعودا
وكيف أرى البنود عليَّ تهفو ... وسيف الله قد هزَّ البنودا؟
تقدم أيها البطل المفدَّى ... فقد ذللت بالعزم الحديدا(246/150)
أشر للدهر يخضع للمعالي ... وأومئ للأنام تكن عبيدا
وسر بالمسلمين إلى الثريا ... فقد كنا ولم نبرح جنودا
خالد:
(أبا عبيدة) ما حاربت مرتقباً ... طيب الثناء ولم أطمح إلى الرتب
ولا صبوت إلى الدنيا وزخرفها ... ولا سموت إلى مال ولا نشب
في ذمة الله ما قدمت من عمل ... تبقى مآثره دوماً على الحقب
عساه ينفعني إما قدمت إلى ... ربي ويعصمني من سورة الكرب
بذلت نفسي قرير العين مغتبطاً ... حتى تعالى لواء العرب في السحب
ولم أكن غير جندي أهاب به ... إلى الجهاد يقينٌ غير مضطرب
والآن سيروا إلى (حمص) فإن بها ... هان العسير وتم النصر للعرب
(حمص)
محي الدين الدرويش(246/151)
العدد 247 - بتاريخ: 28 - 03 - 1938(/)
حول الكعبة
للدكتور الحاج عبد الوهاب عزام
الليل مهودَّ وسننْان، ترى العين سكونه، ويُحس القلب سكينته؛ ونسيم السَّحر يسري رفيقاً ينفح الخليقة لا أدري أيبغي إيقاظها أم إنامتها؛ والقمر ينضح الكون بأشعته يخفق مع النسيم نوره؛ وقد أصحت السماء إلا قَزعاً في الأرجاء؛ وتبدو في سكون الليل ونور القمر قمم الجبال: غندمة وأبي قبيس وأجياد.
استغرقت الخليقة في أحلامها الجميلة، وشُغل الليل بشعره البليغ، ففيه إصاخة الشاعر للمعنى الجميل المخترع.
ولكن طرق مكة لا تنام، ولا تفتر عنها الأقدام، فأنظر في ضوء القمر، وفي ظلال الدور، زرافات متمهلة أو مسرعة، ذاكرة أو صامتة، تؤم البيت الحرام.
الليل هاجع، والخليقة نائمة، ولكن هذه القلوب الوالهة لا تهجع؛ ولكن هذه العيون الباكية لا تغمض، ولكن هذه الزفرات المردّدة لا تسكن، ولكن هذه الألسنة الذاكرة لاتفتر. قد استوى ليلها ونهارها، وعشيها وإبكارها.
هذا هو المسجد الحرام! فهل تقع العين إلا على مُصَلٍ خاشع، وطائف بالكعبة واله، وقارئ تنطق بضراعته الآيات، وداع يرسل قلبه في كلمات؟
كم قلب محزون حمل إلى هذا الجناب شكواه، وفؤاد معذب يبث في هذه الساحة نجواه! وكم آثم حط في هذا الفناء الأوزار، ليمحقها بالتوبة والاستغفار! وكم دَنِس جاء ليتطهر من هذا النهر، وكم يائس ورد يستقي الرجاء، ومحروم أقبل يستدر العطاء! وكم نفس مظلومة ترفع ظلاماتها، وأخرى ظالمة تعترف بجناياتها! وكم مكلوم جاء بجراحاته، وأرسل آهاته وأناته! وكم ثاكل يحمل قلبه كسيراً، ويسيل دمعه غزيراً. كل ضارع على هذا الباب، ضائع عند هذه السدّة، يهاب هذا العِظَم، ويرجو هذا الكرم. أكداس من الآلام والآمال، وأشتات من الهموم والأمانيّ، والشكران والشكوى، والدعاء والنجوى، والتضرع والحمد!
ووراء هؤلاء في المشرق والغرب قلوب توجهت شطر هذا البيت كما تتوجه الإبر إلى القطب، وتنزع إليه نزوع الغريب إلى ولده وداره. فكم مصلٍّ في أرجاء الأرض ولّي هذا الجناب وجهه وقلبه! وكم داع قصد هذا القصد على بعد المزار ونأى الديار! أترى(247/1)
الدعوات تهفو على الكعبة مع هذا النسيم، والصلوات تتنزل عليها في هذا الضوء، وأسراب الآمال طارت من المغرب والصين لتطوف مع الطائفين؟ أترى سوداوات القلوب اجتمعت فكانت هذا البناء، أم أناسيّ العيون تراكمت فكانت هذه البنيَّة السوداء؟
انظرُ فلا أجد في هذا البناء تمثالاً ولا صنماً ولا وثناً ولا صورة ولا نقشاً. إنما هو التوحيد في خلوصه، والعقيدة في يسرها، والإسلام في فطرته. بيت لعبادة الله يؤمه عباد الله، تجتمع حوله القلوب، وتلتقي في الدعوات! بيت من التوحيد يحسّ، وبناء من الأخوة يُلمس.
ما أروع هذا مشهداً! صلاة ودعاء، وطواف وبكاء، يسيل بها الإصباح والإمساء. من لي بالخلوة في هذا الزحام، والوحدة في هذه الكثرة، والسكون في هذا العباب، والقرار في هذا المحشر! بل من لي بأن أقف على الساحل من هذا البحر لأرى واسمع!!
صعدت إلى مصلى الشافعي فوق زمزم فإذا هو خلاء، فأشرفت على هذا الجمع أرى جموعاً متوحدة، ودعوات متجسدة، وألفاظاً تنطق بمعنى واحد، وظلالاً يمدها نور واحد. وكان للقلب مجال بين الكثرة والوحدة، والظهور والخفاء، والوجود والفناء. وليت اللحظات امتدت فاتصلت بالأزل والأبد!
وينبعث في هذا الدويّ، بل يشع بين هذه الأصوات صوت الأذان: (الله اكبر. الله أكبر)، وينتظم شعار التوحيد هذه الأصوات؛ فإذا الدعاء صمت، والحركة سكون، وإذا هذا الجمع نفس واحدة تصيخ إلى صوت واحد.
ما أجمل هذا الصوت وما أروعه! عظمة الله تغشى هذا المشهد، وكلمة التوحيد تملأ هذا المسجد. قلت لنفسي: (ليت الإنسان يستمع أبدا إلى آذان الفجر في جوار الكعبة!) قالت: (أما الأذان فهو دائم موصول لا تخلو منه ساعة من ليل أو نهار. فالأوقات في أقطار الإسلام مختلفة، فما يسكن أذان في بلد إلا ارتفع أذان في آخر ابد الدهر. تكبير دائم لمن كان له سمع، وذكر مستمر لمن كان له قلب. وأما الكعبة فأنت في جوارها كل حين إن لم تكن أسير البقاع ورهن الحجب).
هلم إلى الرحيل! طفت طواف الوداع، وأديت مع الجماعة صلاة الصبح، وقد أُعدت السيارات والرفاق ينتظرون؛ ولكن النهار لم يسفر فما يعجلني عن هذا المكان؟ هلم قد حان الرحيل وليس من الذهاب بد. ولكن الرحيل يمكن إرجاؤه لأتزود للبين نظرات، واجمع(247/2)
للفراق ذكريات. . . قد حان الرحيل ولا مناص:
خرجت امشي يقول قلبي ... للرِّجل: بالله أَنظِريني
رحم الله حافظاً الشيرازي الذي يقول:
وكيف يطيب العيش في منزل المنى ... وأجراس هذا السَّفْر للبين تقرع
عبد الوهاب عزام(247/3)
مجد العرب والإسلام
للأستاذ إسماعيل مظهر
كانت رومية قد لفظت آخر أنفاسها عندما اقتلع زعيم حربي من الهمج المتبربرة تاج الإمبراطورية الرومانية من رأس إمبراطور صبيٍْ ابيض الوجه، وضَّاح الجبين، ليضعه فوق رأسه الكث الشعر، الملبَّد الفودين.
أما الزمان فسنة 476 بعد الميلاد. وأما المسرح فدرجات فدرجات قصر رافِنَّا الرخامية.
كان الانحلال قد امتد إلى عظام رومية ينخرها منذ سنين، فأخذت مِرَّتها تضعف وقواها تتبدد شيئاً بعد شيء. أما آخر مشهد من مشاهد هذه المأساة التي مثلتها رومية على المسرح هذه الدنيا، فقد مرَّ مرور الحلم ولم يأبه له إنسان. وهنالك انسدل الستار على تلك المدينة القديمة وانطوت صفحاتها الخالدة. أما المستقبل فكان طوع يمين تلك الشعوب الفتية القوية التي انحدرت من الشمال.
خرجت تلك الشعوب من خلال المفاوز الجبلية المثلوجة، وانحدرت من هضاب الشمال الهاوية، وشقت طريقها إلى الجنوب حيث الأراضي الشامسة والحقول الخصبة. ولقد ركب بعضهم متن العباب على سفائن أشبه بالحيتان الضخام، وامتطى آخرون عجلات من ذلك الصنف الذي يستخدمه البدو إذ يرعون إنعامهم. ولقد اتخذوا في جوانب الطرق المرمرية التي أنشأها القياصرة العظام محاطَّ يضربون فيها مخايمهم، وكان البحر المتوسط مرمى أنظارهم؛ ذلك بأن رومية لم تجمع ثروتها الضخمة إلا من شطآنه
مضوا يهيمون في كل واد غاصبين مقاتلين، فنشروا الرعب والفوضى في ربوع المدائن القيصرية؛ وكانوا في جهالة؛ فساء تصرفهم، وفسدت أعمالهم؛ وقد تمضي عليهم فترة يتفرقون فيها أشتاتاً، ثم تنجدهم موجات جديدة من الهمج أمثالهم هابطة من الشمال أو من الشرق. ونُسِيَ القانون الروماني فأصبح الحق للأقوى، واحتكمت تقاليد العشيرة البدائية في الجماهير، تقاليد أولئك الذين نشَّأتهم صحراء غوبي المجدبة في جوف الصين.
وظل العالم الحاف بالبحر المتوسط خمسة قرون ميدانياً لتنقل تلك القبائل الهمجية ووحداتها الحربية. على إنهم إن ظلوا أمناء لتقاليد حياتهم البدائية، واحتفظوا بروح العشيرة، فإنهم في خلال لك الخمسمائة من السنين كانوا قد تقبلوا أثارة مما خلف العالم الروماني الإغريقي(247/4)
من صور الثقافة.
طوى رومية ظلام القرون؛ فلما طواها خيم على أوربا ظلام الجهل والهمجية. ذلك الجهل وتلك الهمجية كان طابع الشمال، فعملت رومية جاهدة في أن تصد طغيانهما عن الجنوب قروناً عديدة؛ فلما لفظت آخر أنفاسها، استباحت فوضى الشمال حضارة الجنوب.
وكانت الغابات المرطوبة على عهدها لم تتغير، والخرائب المغبرة الحزينة على سابق حالها مذ سكنها البوم وأخذت تسبح في أفنيتها وتنتقل في كرومها القديمة. ولقد ألفتها الذئاب الجارحة تعيش جماعات متعاونة على الصيد والافتراس. أما المزارع فكانت رقعاً تتخلل الأرض الحجرية، حيث القرى بأكواخها المشيدة في لبنات ملاَطها الطين وسقوفها من البوص والهشيم، تقوم هنالك في سفح قصر منيف ذي أبراج ضخام لسيد من أسياد القطائع.
أما الرعاة فكانوا ينامون في العراء، وفي الوديان المخيفة الموحشة؛ ما يؤنسهم من شيء إلا المفترس من الحيوان والجارح من الطير. ذلك لأن مفاوز الغابات كانت مآهلهم الأمينة ومرابيهم الأصيلة
وهنا وهنالك كنت تقع على ذلك التراب الأبيض السافي تتخلله قطع من الأحجار، إن نمت عن شيء فعن أن التراب والأحجار إنما هي بقايا طريق روماني براه الزمان
بين الفينة والفينة كان يمر بذلك الطريق يهودي من بني إسرائيل ومن ورائه شرذمة من الخيل؛ أو تاجر تحيط به كتيبة من حملة الحراب، وأقل ما يكون حدوثاً أن يثير غبار ذلك الطريق كتيبة لسيد من أسياد القطائع، فإذا مرت اجتمع من حولها أهل الحقول ينظرون مأخوذين من رجال تلك الكتيبة الأشداء، يؤخذون بمرأى الدروع السود المصفحة بالحديد، والملافع الكبيرة التي يغشى أطرافها الفراء.
قلّ من أهل الريف من رأى اكثر من ذلك؛ اللهم إلا أن يكونوا قد رأوا علامة الصليب الكبيرة التي تشير إلى التقاء الطرق وتفرعها في نهاية الوادي. أما ما وراء التلال فكان مجهولاً بل كان عدواً مخيفاً. ولم يكن لهم اتصال بالعالم الخارجي عن عالمهم هذا، اللهم إلا عن طريق الرهبان لابسي المسوح، أولئك الذين كانوا يجوبون الأنحاء حُفاة من دير إلى دير، أو عن طريق شاعر من مؤلفي الأغنيات، يمر عجلان إلى البهو ليتناول وجبة فاته(247/5)
أوانها.
ذلك بأن أهل أوربا في عصور الظلام عاشوا مدفونين في وديانهم التي نشأتهم ولم يروا مما ورائها شيئاً. قال حراث من أهل ذلك العصر انحدرت إلينا كلماته: (إذا تنفس الصبح خرجت تواً أقود الثيران إلى الحقل، ثم أضعها في المحراث، لأن واجبي أن أحرث كل يوم حقلاً، وإلى جانبي ولد لي أبحَّ صوته البرد والصياح. فإذا فرغت من عملي ذاك ملأت المذاود بالدريس وسقيت النَّعَم ثم أخرجت الرَّوث. يا الله! إن هذا العمل المرهق شاق، ولكني لست حراً).
وكثيراً ما كان القحط يحط عليهم. فأيام ممطرة حين البذار، أو فساد في المحصول، أو سوس ينخر القمح، أو جفاف أو حرب، كل سبب من أولئك كان كافياً وحده أن ينشر الجوع والبلاء
قيل: (كان الطباشير يطلب من الأرض ويمزج بالدقيق ليصنع خبزا. لقد اصفرت وجوههم وانحطت قواهم، حتى لقد عجزوا عن أن يجروا أنفسهم من فوق الأرض جراً. وهيئت حفر ليسحب إليها المحتفرون ويلقون في جوفها. وكانت هذه المصائب تلابسها مصائب أكبر وكوارث أعظم. فإن الذئاب وقد أنسوا على جوانب الطريق كثيراً من الجثث، ملكتهم الشجاعة وأغواهم ضعف الناس، فراحوا يهاجمون الأحياء. أما مواد الطعام فقد خص بها الأقوياء ليظلوا قادرين على العمل، لعل الحقول تزرع ولا تبور)
وقيل: (رئى رجل في سوق (تونير) حاملاً لحماً مطبوخاً ليبيعه في سوق المدينة. فلما سئل فيه ادعى أنه لحم حيوان. ولكن ذلك لم ينجه فسيق إلى السؤال، وهنالك لم ينكر جريمته فأحرق حياً. أما اللحم البشري الذي أتى به الرجل فقد دفن باسم العدل والقانون. غير أن رجلاً غيره نبش ذلك اللحم وأكل منه، فكان جزاؤه الموت إحراقاً)
وفي مثل تلك الفترات كان الطاعون من بلايا الأحياء. فإنهم كانوا يزحمون الأكواخ والدساكر، حتى إن أسراً برمتها كثيراً ما كانت تذهب فريسة ذلك المرض، فيتركها الباقون ويهجرون المنازل والربوع فزعاً من الموت وفراراً من البلاء. وكان المرضى يحملون إلى الكنائس ابتغاء الشفاء، فتنتشر العدوى في أولئك الذين أتوا ليؤدوا فريضة الصلاة عبادة خالصة لوجه الله.(247/6)
قال أردريكوس فيتالس أحد مؤرخي القساوسة: (عمَّ بلاء المرض فمضى بأهل بيوت كثيرة، كما إن الجوع قد أفنى المرض؛ فلما أن خربت النيران الأرض، خرج الأكثرون هائمين على وجوههم. فلما رأوا أن الأبْرَشيات قد طمست معالمها ودرست آثارها، فروا من الكنائس الخاوية هرباً إلى حيث لا يعلمون)
هذه صورة مما كان في أوربا الغربية، لما انفلق صبح الزمان عن غلام يتيم من أبناء قريش؛ فلما شب وترعرع، ثم تفتى وكاد يكتهل نزل عليه الوحي ليبشر بدين جديد، وليؤدي الرسالة الربانية للناس أجمعين، وكانوا من الهمجية على مثل ما رأيت في أوربا، يقتلون أولادهم خشية الإملاق ويئدون البنات ويعبدون أصناماً كثيرة تبول الثعالب برؤوسها، ويدينون بقوى سحرية، ويؤمنون بظواهر الطبيعة كآلهة. غير إنهم بالرغم من هذا صدقوا وآمنوا بما أُنزل إليهم. فإن صلابة محمد في نصرة الحق شدخت يافوخ الشرك والوثنية.
أدى محمد رسالته على خير ما تؤدى رسائل الوحي، فلما قبض كان نور الإسلام قد أنبلج فأعتنق أكثر العرب ذلك الدين القيم وأمنوا بالقرآن وآيتهما: (أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله)
وما لم يتح لنبي قريش أن يتم في حياته، أتمه من بعده خلفاؤه العظام. فإن رجال تلك الصحراء، وعلى رؤوسهم خوذات الحرب، قد امتطوا صهوات جياد قضيفة صغيرة الحجوم، أو ظهور إبلٍ عجاف، وخرجوا من فضائهم الأرحب ليغزوا ويمعنوا في الغزو، تعزيزاً للإسلام ونشراً لكلمة الله. ولقد اتقدت في جوانحهم نار الحمية فانتشروا في الأرض ومشوا في مناكبها، وتنقلوا فيها من مكان إلى مكان، بسرعة أقلقت أهل العالم القديم.
بدأت الغزوات في حكم الخلفاء الراشدين، أصحاب محمد المقربين. وفي أقل من قرن من الزمان رفعت راية الإسلام على الدنيا جميعاً من السند إلى جوف الصين، ولمعت سيوفه في مفاوز القوقاز وأغوارها، وسقطت مصر في يد العرب، وتبعها شمال أفريقيا، ثم الأندلس.
ومنذ فاتحة تلك الغزوات طغى مدها العظيم على وديان أورشليم الصخرية فاكتسحها، وأحاط الإسلام بهيكل المسيح أما طغيان الإسلام على أوربا جميعاً فلم يصده في الظاهر(247/7)
غير عقبتين: شارل مارتل في الغرب، وحصون بوزنطية في الشرق. أما السبب الحقيقي في وقوف ذلك المدَّ الإسلامي العظيم عند ذلك الحد، وهبوطه بعد أنه كاد يبلغ الذروة العليا، فيرجع إلى أن أصحاب محمد قد انقسموا أحزاباً وتفرقوا شيعاً، وأختص كل حزب منهم بجزء من الأرض المغزوة. ولو إنهم ظلوا مجمعين على كلمة الإسلام إذن لأندحر شارل مارتل، وإذن لاندكت حصون بوزنطية، وتحقق بذلك وعيد معاوية للإمبراطور الروماني إذ قال له في كتاب أرسل به إليه لما علم بعزمه على غزو الشام إبان خلافه مع علي بن أبي طالب: (لئن تمْمت على ما بلغني لأصالحنَّ صاحبي، ولأكوننَّ على رأس طلائعه إليك، ولأجعلن القسطنطينية الحمراءُ حمامة سوداء، ولأخلعنك عن عرشك خلع الإسطفليتة، ولأرسلنك في الجبال ترعى الإبل)
لو لم ينشق المسلمون لتحقق هذا: (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم)
ولقد كانت تلك الغزوات سبباً في أن يقف العرب، وهم يحملون أرقى الأديان وأمجد المدنيات، وجهاً لوجه أمام أولئك الهمج الذين ثبتوا أقدامهم في خرائب الإمبراطورية الرومانية، واعتنقوا دين عيسى فأصبحوا نصارى. وتجاورت قوات أوربا وقوات آسيا. فإن طلائع قوى النصارى كانت تلحظ عن كثب مقدمة معاقل الإسلام.
أما في الغرب، حيث شهدت الأندلس معارك أوربا والإسلام، فإن نصارى الفرنجة، وقد انتهزوا فرصة اضطرام نار الخلاف والموروث بين القبائل منذ الجاهلية، كانوا قد استردوا مفاوز (البرنيز)، ومضوا يتقدمون بتؤدة، مثبتين أقدامهم في شبه الجزيرة خطوة بعد أخرى. ذلك على الضد مما كان في الشرق. فإن المسلمين كانوا قد تقدموا نحو أوربا مخترقين آسيا الصغرى.
فيما بين هذين الطرفين: الأندلس غرباً، وآسيا الصغرى شرقاً؛ وفي وسط تلك الشقة، كان للإسلام اليد العليا: في الأرض كما في البحر. ذلك بأن العرب قد ألفوا البحر بسهولة، وشقوا عبابه مرحين. وابتنوا البوارج الفخام، فتحولوا شيئاً بعد شيء من غزاة فاتحين بحد السيف، إلى غزاة فاتحين بسلاح التجارة. ومن ثم ثبتوا أقدامهم في جزر البحر المتوسط، وبخاصة صقلية، وركبوا متن نهر (التيبر) حتى بلغوا جدران رومية.
ولم يمض غير قليل حتى أخذ العرب عن الشعوب التي غزوها مبادئ الثقافة القديمة،(247/8)
واخترقت قوافلهم تلك الصحارى الشاسعات من بلاد الهند إلى أسواق حلب والإسكندرية؛ وإزدانت قرطبة والقاهرة بالقصور الشامخة ودور العلم الفخمة، وحكم هارون الرشيد في بغداد.
وهدأت الحالة واستقرت الأمور على امتداد التخوم. ذلك بان المسلمين كانوا أحد ذكاء وأكثر معرفة وأعرق مدنية واعظم قوة من جيرانهم همج النصارى.
حوالي ذلك الزمن بدت في أوربا بوادر جديدة، فان شارلمان ملك الفرنجة وحفيد شارل مارتل قد بدأ في تنفيذ خطته. فإن متابعة الحرب والمغازي المتتالية، واستئثار رجل واحد بالحكم كان سبباً في أن تكون إمبراطورية لم يدم بقاؤها أكثر من جيل واحد، وفي أثناء ذلك اتجه شارلمان ونبلاء جيشه نحو الشرق، ونصب أعينهم مدينة بوزنطية.
أما الذين اتزنت عقولهم فقد اعتقدوا أن عمل شارلمان إنما هو بداءة النظام وفاتحة حكم القانون، ذلك بأن آخر حكومة منظمة كانوا يذكرون قيامها، إنما هي حكومة الإمبراطورية الرومانية. ولذا اعتقدوا أنه ما من حاكم يصلح للحكم إلا عاهل قيصري، يملك زمام الأمر ويجمعه في يده. ولقد صحت نظرتهم فإن موت شارلمان كان سبباً في أن تتمزق تلك الإمبراطورية وتذهب بدداً.
بذهاب الإمبراطورية التي شيدها شارلمان عادت لأوربا عصور الظلام. فتفرقت الأمم وتنازعت الشعوب، من غير أن تعرف أمة أو يفقه شعب للخلاص طريقاً. لقد اقتتلوا كما اقتتل آباؤهم، بشراهة الذئاب. وفيما هم على حالهم تلك، ممزقة وحدتهم متفرقة كلمتهم، هبطت عليهم من الشمال عشائر من الهمج هم الدانيون والنورمان ممتطين عباب الماء.
برزوا إلى مسرح الحوادث العالمية، وكأنهم برزوا من أغوار البحار المجللة بالظلام والضباب، متلهفين إلى أرض مشمسة خصبة، هي أرض الجنوب، وكانوا غر مدجنين، يلبسون جلود الثعالب وإهاب الحيتان، ومن فوقها الذهب اللامع، وفي أيديهم سيوفهم الطويلة وحرابهم المسنونة وفؤوسهم الغليظة، فخربوا ودمروا وأحرقوا. واستقروا في النهاية حذاء الشواطئ.
ظلام من فوقه ظلام، ومن فوقه ظلام. وفي ذلك الوقت تخيل إنسان من طيبي النصارى خيالاً، واعتقد بأن نهاية العالم أي القيامة ستكون سنة ألف، أي في اليوم الأخير من القرن(247/9)
العاشر الميلادي، وارتقب الناس ذلك اليوم، وأمضوا الليلة الأخيرة ساهرين، يتوقعون النفخة في الصور، ليهرعوا جميعاً إلى موقف الحساب، ولكن ذُكاء بزغت في نهاية الأفق صامتة كعادتها، منعشة كعهدها، وظهرت الأرض لابسة حليتها المعروفة، فلم يتغير بها من شيء.
ظلام في العقيدة وظلام في الفكر وظلام في الحضارة. تلك كانت حال تلك البقعة التي نعرفها باسم أوربا في أواخر القرن الحادي عشر المسيحي. فكيف كان العرب والإسلام؟
في أواسط القرن التاسع الميلادي أي في عهد الخليفة المأمون العبَّاسي، عاش محمد بن موسى الذي ألَّف في علم الجبر وعنه أخذت أوربا في أواسط القرن الرابع عشر، فإن مقالته في ذلك العلم قد ترجمت إلى اللاتينية واتخذت أساساً لتدريس الجبر في عصر النهضة العلمية في أوربا. وعقب عليه محمد بن جابر البتَّاني المتوفى سنة 929 ميلادية وهو صاحب الزيج المشهور المعروف باسم الزيج الصابي، وله عدا الزيج شروح على المجسطي وشرح مقالات بطليموس ومقالة في الفلك والجغرافية؛ ويقول فيه المؤرخ أوليري: (كان زيجه أضبط ما وجد من نوعه عند العرب، وله عدة مستكشفات رياضية وفلكية ظلت العمدة في علم الفلك عهداً طويلاً في القرون الوسطى وفي مدارس أوربا على الأخص؛ وكان يلقب بطليموس العرب لثبات قدمه في علم الفلك وتضلعه فيه)
وفي حدود سنة 828 للميلاد أمر الخليفة المأمون بقياس درجة من الهاجرة لاستقراء جرم الكرة الأرضية، وقام بهذا العمل أربعة من علماء الهيئة مدونة أسمائهم في صفحات التاريخ.
قال أبو الفدا:
(قام بتحقيق حصة الدرجة طائفة من القدماء لبطليموس صاحب المجسطي وغيره، فوجدوا حصة الدرجة الواحدة من العظيمة المتوَّهمة على الأرض ستة وثلاثين ميلاً وثلثي ميل. ثم قام بتحقيقه طائفة من الحكماء المحدثين في عهد المأمون وحضروا بأمره في برية سنجار وافترقوا فرقتين بعد أن أخذوا ارتفاع القطب محرَّراً في المكان الذي افترقوا منه. وأخذت إحدى الفرقتين تسير نحو القطب الشمالي والأخرى نحو القطب الجنوبي، وساروا على أشد ما أمكنهم من الاستقامة حتى أرتفع القطب للسائرين في الشمال وانحط للسائرين في(247/10)
الجنوب درجة واحدة. ثم اجتمعوا عند المفترق وقابلوا على ما وجدوه فكان مع إحداهما ستة وخمسون ميلاً وثلث ميل، ومع الأخرى ستة وخمسون ميلاً بلا كسر، فأخذ بالأقل)
قيل: (واشتغل الرازي بالكيمياء وأستكشف ما أسماه (زيت الزاج) وهو الحامض الكبريتيك والكحول. أستحضر الأول بإستقطار كبريتات الحديد واسمه في العربية الزاج الأخضر فلما استقطره خرج منه سائل سماه زيت الزاج. ولا تزال الطريقة التي اتبعها الرازي في استخراج ذلك الحامض متبعة في استخراجه إلى اليوم. أما الكحول فقد استحضره بإستقطار المواد نشوية وسكرية مختمرة.
وقيل: (أسس المأمون الخليفة العباسي مدرسة بغداد سنة 217هـ (832م) وسماها بيت الحكمة وعهد بها إلى عناية يحيى بن ماسويه الذي توفي سنة 857م. وكان من المؤلفين في السريانية والعربية. أما مقالته في الحميات فقد كانت العمدة في دراسة تلك الأمراض زمناً طويلاً. وقد نقلت من بعد إلى اللاتينية والعبرية.
ويعتقد المؤرخون إن أكبر الأعمال التي قام بها بيت الحكمة شأناً ترجع إلى الجهود التي بذلها تلاميذ يحيى بن ماسويه ومنهم الرجل الفذ أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي المتوفى سنة 876م فقد نقل فضلاً عما نقل من المؤلفات الطبية، جزءاً من منطق أرسطو (الأورغانون) وبعد أن درس أبو زيد في بغداد رحل إلى الإسكندرية، وعاد منها مزوداً بكل ثمار الدرس التي كانت شائعة في عهده متقناً للغة اليونانية التي استخدمها في النقل إلى السريانية والعربية.
ثم قيل: واجتمع معه في بيت الحكمة ابنه إسحاق وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي. وترجم حنين إلى العربية مقالات إقليدس وبضعة مؤلفات عن جالينوس وأبقراط وأرخميدس وايولونيوس الفرغايوسى، وهو أكبر من اشتغل بالهندسة في العالم اليوناني بعد اقليدس. ولقد ترجم أبو زيد عن غير هؤلاء كما ترجم الجمهورية، وكتاب طيماوس لأفلاطون وقاطيغورياس والموسيقا والماغتاموراليا أي الأخلاق الكبير عن أرسطوطاليس وتعليقات طيموستيوس على المقال الثلاثين من الفيزيقا. كذلك ترجم كتاب أرسطوطاليس في المعادن، وهو كتاب ظلَّ زماناً طويلاً مرجعاً من أهم المراجع في درس الكيمياء، وعن اصله اليوناني أخذ بولس الأجانيطي.(247/11)
ومما انحدر إلينا؟ أن إسحاق بن حنين قد ترجم إلى العربية - فضلاً عن الطب - كتباً من أشهر ما حوت حكمة الأقدمين؛ منها السوفسطائي لأفلاطون، والميتافيزيقا والروح (ده أينما) والكون والفساد، وإرمانوطيقا، أو باري أرمانياس أي العبارة لأرسطوطاليس؛ كما نقل تعليقات عن فرفوريوس الصوري والاسكندر الأفروديسي وأمونيوس.
وقيل: كان من عظماء المشارقة في عهد نهضتهم قسطا بن لوقا وأبو بشر متي بن يونس ويحيى ابن عدي وابن ناعمة وثابت بن قرة وجابر بن حيان والفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم.
هذه إثارة مما كان في الشرق، بل إشارة إلى بعض ما وصل إلينا من أخبارهم وما انحدر إلينا من أحوالهم بعد أن اتخذ هولاكو من كتبهم قنطرة عبر عليها أحد الرافدين.
ولك أن تقيس ما انبعث على يد العرب والإسلام من أنوار العلم والمدنية، على ما بعث أهل أوربا في ذلك العهد من ظلام على أهل الشمال.
أما في الغرب - أي في بلاد الأندلس - فقد أرسل العرب على ذلك العالم الميت المظلم الذي نعرفه الآن باسم أوربا أول شعاع من أشعة النور. وليس لنا أن نأتي من عندنا بكلام نبين به عن أثرهم في تحضير العالم الحديث بل نترك الكلام للأستاذ (درابر) في كتابه (نماء أوربا العقلي ص30 ج2) قال:
لما ثبت قدم العرب في بلاد الأندلس، بادروا إلى العمل على نشر العلم والحضارة، وقد نقلوا معهم إلى الغرب جميع المبادئ التي قامت عليها حضارتهم في أسيا. وكان أول ما التفتوا إليه نشر المعرفة وتظليلها بحمايتهم. وقد ازدهرت في عهدهم المدن وأقرب مثال لها قرطبة، فقد كانت تتألف من مائتي ألف بيت ويسكنها مليون من النسمات. ويكفي أن تعرف أن شارعها الأكبر كان يطول عشرة أميال ويضاء ليلاً للمارة بمصابيح كبيرة، وذلك مشهد من مشاهد الحضارة لم تعرفه مدينة لندن إلا بعد ذلك العهد بسبعمائة عام. وكانت طرقاتها مرصوفة بالأحجار في حين أن باريس ظلت قروناً بعد حضارة العرب في الأندلس مبركاً للمياه والأوحال التي تغوص فيها الأرجل إلى الركب في فصل الشتاء. ولم يقتصر الأمر على قرطبة، بل إن غرناطة وأشبيلية وطليطلة كانت مدناً تعد أشباهاً لقرطبة ونظائر. وكانت قصور الأمراء مثلاً من الفخامة الشرقية، بل كانت متاحف للفنون الرفيعة وعنواناً(247/12)
على حضارة عريقة، في حين أن المنازل التي سكنها أمراء ألمانيا وفرنسا وإنجلترا لم تكن تفضل حظائر الماشية في شيء، فهي بلا مداخن أو نوافذ، وكان المخرج الوحيد الذي يسلم إلى فضاء الجو كوة في أعلى السقف يتصرف منها الدخان)
ولقد وصف المؤرخون قصور أمراء الأندلس وصفاً يقصر عن إدراك حقيقته الخيال؛ فهل علمت أن قصورهم كانت مجهزة بأنابيب معدنية لتوزيع الماء على الأجنحة المختلفة، وأن الماء كان يجري دافئاً في أثناء الشتاء وبارداً مثلوجاً في أثناء الصيف، وأن جهازات التهوية الصناعية كانت في الأشياء التي اخترعها العرب في فن البناء واستخدمت لأول مرة في قصور الأندلس؟ قيل إن من المفاخر التي كان يزهى بها أصحاب القصور ما تحوي من المكتبات النادرة. ويكفي أن نعرف أن مكتبة الخليفة الحاكم رصدت كتبها في فهرس بلغت مجلداته أربعين مجلدا
كان قصر الحمراء مقر عبد الرحمن الثالث وما تزال آثاره حتى اليوم تحفة نادرة من تحف الفن العالي. كانت واجهته مقامه على 1200 عمود من الرخام جلبت من مختلف بقاع العالم المتمدين: من اليونان وإيطاليا وأفريقية؛ وكان البهو الأكبر مغشى بالذهب الخالص؛ وكان بالقصر 6300 من الحاشية والخدم، ومن حوله ثكنات بها 12. 000 من الحرَّاس لباسهم من الحرير ومعاطفهم مطرزة بالذهب.
كل هذا المجد يصغر ويتضاءل إلى جانب ما خلف ابن باجة، وابن الطفيل، وابن رشد وغيرهم من صور الفكر التي أصبحت بعد زمان النور الذي استهدى به العقل الأوربي وعنه أخذ ليؤسس نهضة أوربا الحديثة.
ثم نمنا واستيقظ الزمان، ورحنا في سبات وعجلة الدهر من حولنا تدور، حتى أصبحنا ولسان حالنا يقول مع شاعرنا حافظ:
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا ... إلاَّ بقية دمع في مآقينا
كنا قلادةَ هذا الدهر فانفرطت ... وفي يمن العلا كنَّا رياحينا
كانت منازلنا بالعز شامخة ... لا تطلع الشمس إلا في مغانينا
والشهب لو أنها كانت مسخرة ... لرجم من كان يبدو من أعادينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا ... شَزْراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا(247/13)
حتى غدونا ولا مال ولا نشب ... ولا صديق ولا خل يواسينا
هذا طرف من مجد العرب والإسلام وصورة تذكرنا أننا كنا منائر الأرض وحماة الحضارة والعلم والثقافة والمعرفة. فلنذكر هذا ولنذكره دائماً عسى أن تنفعنا الذكريات.
إسماعيل مظهر(247/14)
من برجنا العاجي
تمر بي في الحياة لحظات أود فيها لو أسأل الله أن يفك أجزائي ويعيد بنائي، (طبقاً لشروط أخرى ومواصفات جديدة) كما يقال في لغة أهل العمارة والهندسة؛ ولكن. . . سرعان ما اذكر كلمة (باسكال): (لو أن أنف كليوباترا كان أكبر قليلاً مما كان لتغير وجه التاريخ). هذا صحيح. ومن يدريني. لعل قائلاً يقول في أمري غداً: (لو أن أنفه كان أصغر قليلاً مما كان لتغير وجه الأدب العربي الحديث). ولكن الواقع الذي أوقن به أن تركيب الإنسان كتركيب العقاقير. فقليل من (السلامكي) على قليل من الشمر والينسون ينتج (مليناً) للأمعاء. كذلك حياة كحياتي مع قليل من ميولي وقليل من مطالعاتي. . . ينتج أدباً كأدبي. . . فكيف إذاً يغير الله بعض عناصر تركيبي دون أن تتغير النتيجة كل التغيير. وما الذي يحمله على ذلك، إلا رغبتي؟ ومتى كنا نخلق طبقاً لرغباتنا؟ لقد قرأت يوماً كلمة عني في إحدى الصحف قيل فيها: (إني أريد أن أعيش لفني، ولفني فقط). فابتسمت وقلت: (أنا أريد؟) كلمة أريد (تبدو ساذجة مضحكة من أفواه البشر وهم في حضرة (القدر)! ما أنا إلا تركيب كيميائي مثل ذلك الملين (لابد له) بهذه العناصر مجتمعة) أن ينتج هذا (المفعول) الذي يسمونه (الفن) أو (الأدب).
لا فرق في نظر (الطبيعة) بين (النحلة) و (الأديب). كلاهما مخلوق
يتنقل بين أزهار، لينتج عسلاً آخر النهار. ومن هذه (المادة) الحلوة
يصنع أحدهما بناء فصيلته، ويقيم الآخر بناء أمته. ولو سألت (نحلة)
عن رأيها فيما تفعل لما وجدت عندها رأياً ولا إرادة. إنما هي تفعل ما
تفعل بدافع من تركيبها (البيولوجي). كذلك (الأديب) مدفوع إلى التفكير
والإنتاج بحكم هذا التركيب. ولطالما تفجرت ثائراً: (لماذا ولمن أقتل
نفسي بهذا العمل المضني؟). فأسمع الجواب من أعماقي: (إنك لا تنتج
لشيء ولا لأحد، ولكن لأنك لا تستطيع أن تفعل غير ذلك. ما أنت إلا
نحلة تفرز الأدب شاءت أو كرهت).(247/15)
توفيق الحكيم
الهجرة المحمدية أساس الحضارة الإسلامية
للأستاذ محمد لطفي جمعة
- 1 -
دعا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام العرب فلبى دعوته الكثير، وتلكأ القليل ممن أعمتهم الأغراض والمنافع وأضلهم تنازع السلطان والسيادة. وقد أتى محمد بكتاب وآيات بينات ومبادئ كانت عقول العرب وطبائعهم مستعدة لقبولها وفهمها قبل نقدها نقداً ينتهي بالقبول والانضمام إليها. وكان نبأ ظهوره (عم يتسائلون؟ عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون!) النبأ الأعجب، مما سجل في تاريخ الإنسانية. ولم ينقض عليه جيل من الزمان حتى ثلَّ عروشاً كانت ثابتة الأركان، وحطم دولاً عالية البنيان، واكتسح ممالك وإمبراطوريات رفيعة الذرى مترامية الأطراف، ومحا معتقدات عريقة في القدم، وهدم ديانات مرت عليها الأجيال والحقب ولم تنل منها ما ناله الإسلام في عشرين سنة. ويدهش المؤرخ العصري أن يعلم أن سائر الأديان نمت وترعرت في ظل حاكم ناصر أو ملك قاهر، اعتز به الدين وتأيد حتى رسخت قوائمه وثبت سلطانه، ما عدا الإسلام. فكان الملوك والأمراء والأقوياء يقاومونه فيتغلب عليهم، ثم يحمي المنسوبين إليه فيعتزون به ويستظلون بظله ويعظمون في أكنافه، وكان أول من علا شأنه بذلك الدين العرب أنفسهم، فلم يكونوا قبله في المكان الأرفع ولا المنزلة السامية من الوجود التاريخي، فنصرهم نصراً خارقاً، حتى أصبح علمهم عالياً خافقاً، في آسيا وأفريقية وأوربا. وإن سر هذا النجاح وسببه وأساسه هو الهجرة المحمدية التي انتقل بها محمد من مكة الجامدة الآسنة الراكدة العاصية المستغرقة في الماديات المتشبثة بالسلطة الدنيوية الآخذة من الملذات والأسمار بأوفر نصيب، إلى المدينة الهادئة الهينة اللينة التقية النقية العفيفة المتعلقة بالمعاني والأرواح والمثل العليا الطاهرة.
- 2 -
يفني البرايا ويأتي الوقت مختلفاً ... ليخرج الدهر تاريخاً من الأمم(247/16)
يدل استقراء التاريخ الخاص والعام على صدق القانون السبعي، ومقتضاه أن تكون الفترة الفاصلة بين جسام الحوادث سبعمائة عام تقريباً. وقد حددت أعمار تلك الفترات تحديداً دقيقاً في كثير من كتب التاريخ كتجارب الأمم لأبن مسكويه، ومروج الذهب للمسعودي، ومقدمة ابن خلدون، وابن الأثير؛ ومن كتب الإفرنج حوليات تاسيت الروماني وتاريخ انحلال رومة لجيبون. ومن قبل هذه التواريخ العالمية أشارت التوراة والتلمود والمشناة وتفاسير الأحبار إلى هذا القانون. يقول بلاكنهيم: (إن تاريخ العالم مقسم إلى فترات قد تدوم الواحدة منها حوالي سبعة قرون، وقد تنقص أو تزيد قليلاً. فقد أسست روما قبل المسيح بسبعة قرون ودام سلطانها ونفوذها سبعمائة عام، وفي نهايتها ظهر المسيح بدين جديد ينطوي على حياة جديدة، وكان ظهوره مؤذناً بزوال تلك الدولة الرومانية العظمى التي حكمت العالم بالحديد والنار بعد أن فتحته بالقوة والحيلة. وظهر الإسلام في نهاية القرن السابع المسيحي ودامت عظمة الدول الإسلامية سبعة قرون. وفي سنة 750م نقلت الخلافة إلى بغداد بقيام دولة بني العباس، ثم هاجمها المغول وقضوا عليها وعلى حضارتها) اهـ
ولم يظهر المغول وحدهم لمناوأة الإسلام، فقد ظهر الصليبيون ونهضت أوروبا الحديثة تلك النهضة التي دامت سبعة قرون كانت نهايتها الحرب العظمى في أوائل هذا القرن. وقد بدأت نهضة الإسلام الحديثة في أوائل القرن الرابع عشر للهجرة. ومن العجيب أن تطبيق هذه النظرية السبعية أو القانون السبعي صحيح في حياة الأمم إذا أخذت كل منها على حِدَة، فقد استمرت عظمة الإغريق الحربية والبحرية وعهد الفلاسفة سبعمائة عام، ودولة الفرس عمرت سبعة قرون من أول تأسيسها لعهد كسرى، ومضى على حكم الملوك في إنجلترا سبعة قرون، وبقيت ايرلندا تحت الإنجليز مثلها. ونحن نذكر هذا القانون السبعي لا لأهمية خاصة به، وإن كان في ذاته ظاهرة تاريخية عجيبة تدل على دقة نظام الكون والعالم وخضوع حياة الأمم لمقاييس من الزمان وموازين في الأعمال، ولكن نذكره لعلاقته بظهور الإسلام ونهضته وهبوطه، ثم بداية عهد الأحياء الذي ينبئ بالتجدد والبعث في المائة الرابعة عشرة. وقد أوضح صحة هذا القانون أوزقالد شبنجلر في كتابه (انحلال الغرب) وهستن شمبرلين في (أسسالقرن التاسع عشر) وولز في كتابه (صورة العالم في المستقبل) فليرجع إليها من يشاء من القراء(247/17)
- 3 -
إذن كانت بعثة الرسول وهجرته حادثين محتمين، فكتب لهما التوفيق والنجاح على الرغم مما اكتنفهما من مظاهر الضعف. وقد أخطأ من ظن عداوة قريش للنبي وصحابته هزيلة أو وهمية، أو أن زعماء الوثنية كانوا ضعفاء النكاية، فقد كان المجتمع القرشي تام التكوين الاقتصادي والسياسي بالنسبة لحالة الحضارة المعاصرة، وذا نظم حكومية وإدارية بارعة. من ذلك أنهم جعلوا جائزة مالية لمن يطارد المهاجرين ويظفر بهما وهو ما تلجأ إليه شرطة الحكومات الغربية الحديثة. ومن الثابت أن محمداً وأبا بكر كانا منفردين لا ثالث لهما بعد أن تركا بطل الإسلام وسيفه ولسانه علي ابن أبي طالب في فراش النبي ليخدع المتآمرين بأن النبي مازال في داره ولم يغادر فراشه. وإن شجاعة علي في إيثاره وإقدامه على التضحية بنفسه لا تقل عن شجاعة أبي بكر في مصاحبته. وكان من المستطاع أن يُغتال عليّ في فراش محمد ظناً من أهل الوثنية أنه المقصود بأسيافهم وخناجرهم. ولكن حياة عليّ كانت ضرورية للإسلام فأنقذه الله وهو الفرد الراقد المستسلم لقضائه وقدره. أما محمد وأبو بكر فلم يكونا هاربين ولا مدبرين لينجوا بحياتهما من أخطار محققة محدقة، ولكنهما كانا قاصدين إلى طيبة ليفتتحا عهداً جديداً ويستهلا عصر كفاح وجهاد وجلاد وسلسلة انتصارات لم يسبق لها مثيل في تاريخ المعتقدات الدينية.
- 4 -
فطن القرشيون بما ركب في غريزتهم من الذكاء وبعد النظر وسعة الحيلة إلى أن ظهور هذا النبي قرين زوال دولتهم المدنية التي نظموها على نسق يشبه نسق المدن الإغريقية. وكان اليونان زعماء النقل البحري كما كان العرب زعماء النقل البري وحلقة الاتصال بين الشرقين الأقصى والأدنى، وإبلهم سفائن الصحراء حقيقة لا مجازاً، كما كانوا مخالطين لكل شعوب البحر الأبيض وشواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي والبحر الأحمر، ومطلعين على شؤون الأمم. فلما أدرك سادتهم وحكامهم أن دولتهم قد آذنت بزوال حصروا همهم في ملاينة النبي وإغرائه؛ فلما لم ينفع الإغراء والاستدراج لجأوا إلى التهديد والوعيد، ثم إلى المقاطعة والتضييق في شعاب مكة وغيرها، ثم التآمر والانتقام، فهاجر النبي من مكة، لأن(247/18)
الله هداه إلى أن ما بقي من عمره المبارك كاف لتعميم الدعوة ومقاومة ذلك البلد القوي الشكيمة الذي تألب نساؤه ورجاله على النكاية به، ليحتفظوا بكيانهم القومي. كان المكيون محافظين ورجعيين فلم يرقهم أن يسلموا قيادهم للأحرار والمتطرفين من حزب محمد وأبي بكر وعلي وعمر وعثمان. وقد تعجب الأجيال التالية وأنسال المستقبل وأخلافهم كيف لم يقبل عرب قريش وخصوصاً أهل مكة على العقيدة الجديدة. والسر في ذلك أن أرستقراطية مكة حرصت على مالها وسلطتها ونفوذها وقوتها، ورأت في القرآن والدعوة المحمدية ما يزعزع أركان كيانهم الاقتصادي ويهدمه وهم أصحاب رؤوس أموال وعباد للمادة، حتى إن معبودهم هُبل لم يكن يتكهن إلا بعد أن يدفع السائل لسادته سلفاً دراهم معدودة. وكان للمال وأرباح التجارة وفوائد الربا واكتناز الذهب والفضة أكبر الشأن، ولكن محمداً وأصحاب محمد جعلوا المال في الدرجة الأخيرة من الاكتراث، واتخذوه وسيلة لا غاية (وقد روى عن حاتم الأصم تلميذ شقيق البلخي أنه سار إلى المدينة فاستقبله أهلها، فقال أين قصر رسول الله حتى أصلي فيه؟ قالوا ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطيء بالأرض. قال فأين قصور أصحابه رضى الله عنهم؟ قالوا ما كان لهم قصور، إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض) وكثير من المؤرخين يغفلون العامل الاقتصادي في حياة العرب قبل الإسلام وبعده، مع أنه بجانب الثورة الاجتماعية التي أحدثها الإسلام قلب نظام المال رأساً على عقب، وحارب الرأسمالية، وحرم الربا، وقدح في البخل، وشرع الصدقة والزكاة، وحض على صلة ذوي القربى، ونظم المواريث ورتب حقوق المرأة، وألف القلوب بالبذل وبسط اليد للبعيد والقريب. وبالجملة أوجد طبقة جديدة من أوساط الناس لمقاومة عبادة المال، وحطم المثل العليا التي كان المكيون يمجدونها. ولم يكن هذا الانقلاب بالشيء القليل. والذي أغاظ أهل مكة وأحنقهم وأحرق أكبادهم أن محمداً بلغهم أن هذا التبديل ليس من عنده، ولكنه من عند الله، فهو أمر محتوم واجب التنفيذ، لأن إرادته أقوى من إرادة كل هذه الأوثان المعسكرة في الكعبة والمنتشرة في الحواضر والبوادي العربية.
- 5 -
يدهش المؤرخ من قدرة محمد على مواجهة الشدائد والاضطلاع بأعقد المشاكل، فهذه المدينة التي هاجر إليها ولم يكن يعرفها من قبل إلا بالوصف والتصور بعد زيارته الأولى(247/19)
وهو طفل في حضانة أمه، كانت تضم إلى جانب الأنصار عناصر قوية وعنيدة من اليهود والمنافقين والمعادين من المترددين وغيرهم، وهي طبقات ثلاث يستطيعون أن يتغلبوا على المهاجرين والأنصار. وكان المنافقون واليهود والمعادون من حلفاء قريش أقوياء وأغنياء، والمهاجرون والأنصار ضعفاء وفقراء، حتى اضطر محمد لوضع نظام المؤاخاة. وقد اضطر بعض المهاجرين للعمل البدني لقاء أجور من الثمر، ولكن محمداً رأى أشد الخطر في اليهود الذين جمعوا بين المال والذكاء والجمال ودين منزل سابق لدين محمد ودين سلفه الناصري، إلى حيلة واسعة، ثم خيبة أمل يعقبها حقد دفين ورغبة شديدة في الانتقام. فقد عرف اليهود في محمد النبي المنتظر، ولكن كبرياءهم أبت أن يطأطئوا رؤوسهم أمامه، لان القرآن أذاع حقيقتهم فامتدح أنبيائهم وانتقد أطماعهم وعرض بأخلاقهم. وقد أعماهم مالهم، وأضلتهم شهواتهم، وأصبحوا لا يقدرون الرجال إلا تبعاً (للرصيد) الذي يملكه أحدهم. ولم يكن محمداً عميلاً لهم إلا في الاقتراض منهم ولو برهن بعض دروعه. ولم تكن له في صناديقهم وخزائنهم ودائع ضخمة ولا هزيلة، لأن كل ما كان يصل إلى يده ينفقه في سبيل الله وفي حشد الجيوش وإعداد الحملات الموفقة؛ فما زال يمالئهم حسب أمر ربه وطاعة لوحيه، حتى حاربوه في السر والعلن، فدسوا له السم، وأعانوا عليه أعداءه، وحرضوا جيشه على الفتنة، وألفوا حزباً من (دعاة التردد والهزيمة) وهم المنافقون ومن لف لهم وتواطئوا على خذلانه؛ قلم ير بداً من ضرورة طردهم من الجزيرة وإقصائهم وقطع دابرهم، فسبق حكام ألمانيا الحديثة بألف وأربعمائة عام في الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وهي أن العنصر المعادي في الوطن يعمل على تدميره وتخريبه ويعطل حياته بعرقلة التعاون. فكانت موقعة خيبر موقعة حاسمة في تاريخ الإسلام بل في تاريخ العالم. أما النصارى فقد أوصى بهم خيراً. وكان بيت المقدس في أيدي المسلمين منذ الفتح العربي؛ وكان الخليفة عمر يرعى حرمة الأماكن المقدسة النصرانية أيما رعاية وقد سار خلفاؤه م بعده على آثاره وسننه.
قد ندهش لتسامح الإسلام مع المعتقدات الأخرى في حين أنهم لم يألوا جهداً في النيل منه. وفي الحق أن محمداً جاء بالقرآن مصدقاً للتوراة والإنجيل وقال الله عنه أنه خاتم الأنبياء والمرسلين؛ وقد أمر باحترام النصارى واليهود وسماهم أهل الكتاب تمييزاً لهم عن عبدة(247/20)
الأوثان؛ وقد اتبع المسلمون ما أمرهم به نبيهم حتى هذا العهد الأخير. وكان ضلع المسلمين في صدر الإسلام مع النصارى بالتخصيص بدليل آية (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) وقد نال اليهود ما استحقوا بعد أن خانوا أمانة الله ونكثوا بالعهود وحاربوا نبيه.
حرمت الشريعة الإسلامية الربا كما أن الشريعة المسيحية حرمته تحريماً لا يوصف، وكانت متشددة في ذلك ما استطاعت، فكانت النتيجة أن اليهود انبروا في الميدان وظلوا قروناً عديدة محتازين التجارة يجنون ثمارها، لا يشاركهم في ذلك مشارك ولا يزاحمهم مزاحم. وكانت الشريعة الإسلامية قائمة على تكريم العلم والقرآن حافل بالآيات التي تحث عليه، وكذلك الحديث، فقد جاء فيه: (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. واطلبوا العلم ولو في الصين. والحكمة ضالة المؤمن. ويوزن مداد الحكماء بدم الشهداء يوم القيامة. والعلماء ورثة الأنبياء. وما خلق الله شيئاً أفضل من العقل).
- 6 -
من أعمال نبينا عليه الصلاة والسلام تأسيس الرابطة الإسلامية التي جمعت بين قلوب المسلمين في أنحاء العالم جمعاً إنسانياً، فجعل العقيدة الروحية فوق الرابطة الجنسية، وجعل للإنسانية مثلاً أعلى بجانب حب الوطن فقال إنه من الإيمان، وحض على الإخاء وحب البشرية. وما كانت تلك الجامعة الإسلامية سوى الشعور بالوحدة العامة المثقفة مع فكرة التوحيد ووحدة الوجود. نعم كانت الجامعة الإسلامية العروة الوثقى لا انفصام لها، وقد أنشأها النبي منذ شرع يجاهد بالمدينة فالتف حوله المهاجرون والأنصار والمؤمنونمن كل طبقات المجتمع، ففيهم الرقيق أمثال بلال، والسادة الأعيان كعثمان بن عفان، والأبطال كخالد بن الوليد. وقد ولدت تلك الجامعة التي ربطت بين قلوب المسلمين في المدينة المنورة وهي التي أعانت على هزيمة المشركين بعد قتالهم وتأسيس الحضارة الإسلامية التي يفخر بها العالم.
وفي أثناء الهجرة المحمدية اعد محمد وسائل الاستيلاء على مكة، فقبل صلح الحديبية ونفذ بنوده بالدقة، ونغص حياة القرشيين بالحرب والحيلة، وقلب هزيمة أُحد انتصاراً سياسياً باهراً، واستعمل سلاح الدعاية فغزا عقولهم وقلوبهم وأخلاقهم قبل أن يغزو بلدهم، وهزم(247/21)
جنودهم، وهدم حصون نفوسهم، وحطم مثلهم العليا البالية قبل أن يهدم قلاعهم أو يحطم أصنامهم وأوثانهم طائعاً للوحي الإلهي، وتابعاً للمشورة الحسنة من صحابته حتى الأجانب منهم كسلمان الفارسي الذي وهب لقب الإمارة، كما فعل بعده ملوك أوربا إذ جعلوا بيسمارك (برنساً) أو أميراً، فقال محمد: (سلمان منا آل البيت). وكان في كل هذا إنساناً سامي الأخلاق كيَساً، مهذباً ناضج الرأي، لين العريكة سمحاً، لم يجد فيه خصومه عيباً. وهكذا اشهد له الأغيار بعد انقضاء الأجيال فقال ويلز في تاريخه العام: (كان محمداً أكثر الأنبياء نجاحاً) ولا عجب ولا غرابة فمحمد هو الإنسان الكامل.
- 7 -
كان محمد عليه الصلاة والسلام نبياً مرسلاً ومصلحاً ومشترعاً، وجاء دينه وهو الأوحد الذي انطوى على شرائع وقوانين سياسية واجتماعية اقتصادية تقوم اعوجاج الفطرية البشرية، وتؤهل الفرد للعيشة في المجتمع الإنساني عيشة راضية راقية، ومكنت لتابعيه تأسيس أعظم دولة عرفها الشرق والغرب. وقد طبقت قواه وظهرت مزاياه الصالحة في الحروب والمعاهدات والمعاملات الدولية أثناء السلم؛ ولو نفذ بنصوصه لأغنى العالم عن نزاع الرأسمالية والعمال، ولانمحت المشاكل من الوجود، لأن أحزاب الشمال في أوربا ولاسيما روسيا لا يعلقون إلا ببعض قواعده التي تقر العدل والرحمة والمساواة وضمان حرية الفرد وسعادته.
وما كان يبغض شيئاً بغضه الشرائع والقوانين الجامدة التي تقيد العقل فتقوده صاغراً أعمى. وليس القرآن إلا كتاب هدى للمؤمنين ورحمة وليس عثرة في سبيل ترقي المجتمع والآداب والشرائع والقوانين والمدارك العقلية. ونحن الآن في القرن الرابع عشر الهجري وقد بدأت فيه نهضة الإسلام حقاً كما بدأت نهضة أوروبا في القرن الرابع عشر المسيحي. ومتى وضع الإسلام في البوتقة وأخرج منه ما علق من الأباطيل الخداعة، عاد إلى أصله وهو توحيد الله تعالى والإيمان بأن محمداً هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
محمد لطفي جمعة.(247/22)
إلى الأمة الإسلامية في عامها الجديد
للأستاذ محمد عرفة
أستاذ بكلية اللغة العربية
للشعوب أخطاء كما للأفراد أخطاء، وشر هذه الأخطاء ما يقع في القواعد الاجتماعية، إذ الخطأ تكون له نتائج سيئة الأثر تتجرع الأمم غصصها ما دامت فيها هذه الأخطاء وخير ما يسديه إلى أممهم رجال الاجتماع والعلماء بروح الجماعات وطبائع الشعوب أن يصلحوا لهم هذه الأخطاء ليجنبوهم شرورها، ويصلحوهم بإصلاحها. إن لكل خطأ مهما كان أضراره، فالرجل إذا أخطأت الجادة تردى صاحبها في الحفرة أو تعثر بحجر، والمرء إذا أخطأ في تجارته منيت بالبوار، وصاحبها بالخسارة؛ وإذا أخطأ في طعامه وشرابه ولباسه فقد الصحة وعاودته الأوجاع والأسقام.
هذه أضرار تنشأ عن الأخطاء، وهي وإن كانت شديدة ولكنها لا تبلغ ضرر خطأ الجماعة في قاعدة اجتماعية، لأن الضرر يكون عاماً بقدر ما في هذه الجماعة من عموم دائم بقدر ما في الخطأ من مكث، بالغ في الشدة بقدر ما في الخطأ من انحراف عن الصواب. وإن الأمة الإسلامية لها أخطاء في القواعد الاجتماعية تجني منها الألم والحسرة. وقد رأيت أن أصلح لها خطأ من هذه الأخطاء وأجعل ذلك هدية مني إليها في مستهل هذا العام الجديد. وسأذكر هذا الأخطاء وإصلاحه بعد أن اذكر بين يديه مقدمة.
إن كل شيء في الكون يتنازع الوجود، والبقاء في هذا التنازع للأقوى، وقد كان الفرد قبل تكون الجماعات ينازع الفرد، ثم ألتمس أسباب القوة بالاجتماع، وقد أخذ الاجتماع أشكالاً عدة من الأسرة والعشيرة والبطن والقبيلة، وقد كان النزاع بين الأسرة والأسرة القبيلة والقبيلة نتيجة غلبة الأقوى تبعاً لقانون إنما العزة للكاثر؛ ثم أخذ الاجتماع شكلاً أوسع بالمدينة والمملكة فكان أهل كل مملكة يكونون وحدة مستقلة تجلب لنفسها الخير وتدفع عنها الضير، ثم جاء الدين الإسلامي فكون وحدة إسلامية لم تبلغ وحدة من العظم والتجانس ما بلغته هذه الوحدة.
عمل الإسلام على غرس المحبة والتضامن بين أجزاء هذه الوحدة فقال: لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.(247/23)
وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
وقال: ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أحب المسلم أخاه المسلم وساد على المملكة الإسلامية المحبة والسلام فتعاونوا على جلب المنافع ودفع المضار.
لقد آتت هذه الوحدة بالمعجزة الاجتماعية العظمى فقد كان العرب قبل الإسلام ينتقصون من أطرافهم، وكان من بجوار الشام عمالاً للروم، ومن بجوار الفرس عمالاً للفرس. فلما جاء الإسلام أعز الله به العرب والمسلمين، فلم تمض عشرون سنة من عمره حتى هدد هؤلاء الأقلون المملكتين المتاخمتين الفرس والروم وانتقصوهما من أطرافهما، ثم عقب ذلك أن ورث ملك الأكاسرة ومعظم ملك القياصرة.
هذه المعجزة الاجتماعية إذا بحث المرء عن سببها وجدها الوحدة الإسلامية، فقد يدل الإسلام تفرقهم اجتماعاً، وبغضهم حباً، وحربهم سلماً، وبعد أن كان بأسهم بينهم شديداً حول هذا البأس إلى الآخرين، لذلك منَّ الله على المسلمين بهذه الألفة (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبَينَّ الله لكم آياته لعلكم تهتدون).
(لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)
للغرب طمع في الشرق من قديم، وقد غالبه مرات وهو يخفق. قامت الحروب الصليبية، ونزح الغرب على الشرق وهاجمه في عدة من ثغوره وبلدانه ولكنه لم تجده هذه المحاولة وهذه المهاجمة، فعاد إلى الحيلة ورأى أنه يستطيع أن يدرك بالحيلة ما عجزت عنه القوة.
الغرب عالم واسع العلم لا يسير إلا ومصباح العلم أمامه يهديه السبيل، ويبصره مواقع أقدامه، نظر إلى الجسم الإسلامي فرأى أنه ليس يضيره أن يبتر منه عضو من أعضائه. إنما الذي يضير ويقدره عليه هو إضعاف روحه؛ وقد رأى روحه الوحدة الإسلامية فعمد إليها وسماها تعصباً دينياً ممقوتاً، وسمى التعاون الديني تعصباً إسلامياً همجياً، وأسبغ عليه ما شاء من نعوت الذم والوحشية، فدخل ذلك على الشرق - وهنا وصلنا إلى ما نريده من الخطأ الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية - فآمنت بنظرية الغرب، وسمتها تعصباً دينياً،(247/24)
وخجلت من أن توصم بالتعصب الديني، فتركت هذه الوحدة المقدسة، ونفرت من هذا التعاون الإسلامي، فلما ضعفت الروح سهل التغلب على الجسم.
كان على المسلمين أن يعلموا أنه لا مقاومة في الوجود إلا بوحدة. وقد ظهرت هذه الوحدة بمظاهر مختلفة منها الوحدة الجنسية ومنها الوحدة الوطنية، ومنها الوحدة الدينية، وإذا استمسك الغرب بالوحدة الجنسية أو الوطنية لما فيها من الإقدار على الكفاح في هذه الحياة، فعلى المسلمين أن يستمسكوا بما صبوا فيه من وحدة إسلامية ليقدروا أيضاً على الكفاح في هذه الحياة.
كان على المسلمين أن يعلموا أن التعصب الديني موجود في أمم الغرب التي تعيب المسلمين بالتعصب الديني، يظهر ذلك في أعمالهم وكثير من نواحي حياتهم، وأقرب ذلك تطوع بعض الأوربيين والأمريكيين في جيوش الأسبانيين، والفرنسيين ضد الريفيين المسلمين الذين كانوا يدافعون عن وجودهم، فلو أن التعاون الديني كان نقيصة كما يزعمون لما نهوا عنه غيرهم وأتوه هم.
كان على المسلمين أن يعلموا أن الوحدة الجنسية والوطنية في أوربا قد أتت من الفظائع ما لم تأت بمثله ولا بأقل منه الوحدة الإسلامية في الإسلام، وآية ذلك معاملة الألمان لليهود، وتلك الحروب الطاحنة تؤجج نارها العصبيات القومية أو الجنسية. ليس في الوحدة الدينية ما يمكن أن تؤخذ به إلا أنه قد يكون في الوطن الواحد أديان مختلفة؛ والوحدة الدينية ربما عادت بين هذه الوحدات، ولكن الإسلام قد احتاط لذلك، وأوصى المسلمين بهم وأوجب أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
حافظ الإسلام على أهل الذمة وذوي العهود والمواثيق من ذوي الأديان المخالفة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
على الأمم الإسلامية أن تقلع بعد اليوم عن هذا الخطأ وأن تعلم أنها وقعت فيه بعض تلك الموجات التي تغمر الأمم فتلهيها عن مصالحها، ولا يخافن أهل الذمة في بلاد المسلمين وذوو العهود مع المسلمين من إحياء الوحدة الإسلامية فأنها تقوي جيرانهم وأهل عهدهم ولا(247/25)
تصيبهم بأذى لأن الإسلام كما قدمت يوصي بأهل الذمة وبالوفاء بالعهود.
محمد عرفة(247/26)
من ثمرات الهجرة
جهاد شهيد
للأستاذ سعيد الأفغاني
كلما أظل الكون عام جديد التفت المسلمون إلى الماضي البعيد يستوحونه العبرة ويتلقون منه الدرس. وكم في صدر الإسلام من عظات، وكم فيه من دروس ينقضي الزمان وهي لا تنفد وإنها لتجود على كل ناظر فيها بما يحفز الهمة ويوقظ الوجدان ويملأ النفس حمية والقلب خشوعاَ. وما أحرى الأقطار العربية عامة أن تتأمل في تاريخها المجيد وخاصة ما حف بحادث الهجرة الكبرى من أذى واضطهاد، ظفر من بعدهما المؤمنون الصابرون، لتستشعر القوة والإقدام وهي تكافح من طغيان المحتلين وكيدهم ما ينفذ معه الصبر وتعيا الحيلة وتكل القوى. ومتى رأوا ما فعلت العقيدة والإخلاص في نفوس أسلافهم، الذين كانوا أضعف منهم اليوم وأفقر وأقل عدداً، مضوا في جهادهم مستعينين بالله، وليس بينهم وبين النصر إلا أن يفعلوا ما فعل الأولون.
سمع دعوة الإسلام فأنشرح لها صدره، وطرب قلبه، ودخل في الدين الحق فأشرب حبه والإخلاص له والاستماتة من أجله، وشمل أهل بيته ما شمله من رحمة الله فاغتبطوا ذكوراً وإناثاً بما ساق إليهم ربهم من خير.
وكان نعيمه من الدنيا أن يرى الرسول أو يجلس معه أو يستمع إليه، وهو يجد في ذلك لذة تغمر وجوده كله فيذهل عن الدنيا وما فيها من متاع ولهو ليغرق في غيبوبة روحية سامية، بحماسة جامحة تثير عاطفة الخير في كل قلب. وكان في سيرته مثلاً كاملاً للمسلم الحق الذي آمن بالله فعبده مجتهداً حق العبادة، وأحب الخلق جميعاً فمنحهم من نفسه الرحمة والخير والحب والإحسان.
ولقد رقق من نفسه ما كان بلغه من سيرة الرسول في مكة، وما تحمل هو وأصحابه من أذى المشركين واضطهادهم في سبيل الله، حين دعاهم إلى الخير فصدوا عنه مستكبرين، وعرض عليهم الإسلام فأسمعوه في دينه وإله ما يكره، ثم زادت وقاحتهم فرجموه وشتموه وأخرجوه وأجاعوه؛ وهو مع أصحابه الأخيار صابر ساكت يدعو لهم وينتظر فرج ربه
وكان أنس بن النضر على عقيدة في الله راسخة وإيمان صليب، ملك عليه الإسلام لبه(247/27)
وتمكن حب الله وحب رسوله من قلبه، وهو مع كونه من خيار الأنصار قولاً وعملاً ومع فرط محبة النبي له، شديد الحسرة على أنه لم يكن ممن أوذي في الله بمكة، وأنه فاته بذلك شرف عظيم استأثر به المهاجرون الأولون؛ ولم يكن يعزيه إلا أنه يتلبث حتى تكون فرصة سعيدة يخرج فيها عن حق الله في ماله وأهله ودمه
وكانت النفرة الأولى إلى بدر، حيث تصاول الخير والشر كفاحاً، وحيث وقف المؤمنون صفاً واحداً سلاحهم التقوى وإيمان بالله لا يتزعزع، واثقين بأنه لا بد ناصرهم مع قلتهم وضعفهم على الشرك وأهله الذين خرجوا بطرين مستطيلين، عادين على الله وعلى رسوله والمسلمين. ولقد صدق المسلمون يومئذ الحملة وأخلصوا النية، وأرخصوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم فنصرهم الله النصر المؤزر، ورجعوا إلى المدينة مغتبطين بما أذل الله من الباطل ورفع من الحق، وما مكّن لهم من صناديد قريش حتى أوسعوهم قتلاً وأسراً.
وكان صاحبنا أنس قد عاقته العوائق عن شهود بدر، فلما بلغه ما كان ثمة من جهاد واستماتة، وما حل بالقوم من رحمة الله ورضوانه، حزن حزناً ما حزنه أحد قط، وكلما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما خص الله به أهل بدر من الفضل والخير، تقطع قلبه حسرات على ما أخطئه من فرصة كان يترقبها بفارغ الصبر منذ عرف الإسلام، لذلك أراد أن يأخذ على نفسه عهداً يشهد عليه الله والنبي والمسلمين، حتى لا يصيبه في المستقبل ما أصابه في الماضي؛ فهرع إلى رسول الله مُنصرفَه من بدر وإن سيماءه لتفصح عن ندم شديد وعزيمة صادقة وحماسة متأججة، عرف ذلك في وجهه كل من رآه، فلما وقف على النبي في أصحابه قال له:
(يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت به المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينّ ما أصنع).
لبث أنس ينتظر الفرص حتى بلغ أهل المدينة ما جمع لهم أبو سفيان من الخيل والرجلْ، وما طابت به نفوس المشركين من ربحهم في العير لينفق على حرب النبي وأصحابه، وكان ذلك خمسين ألف دينار. وما كانت قريش ولا حلفاؤها لتسمح بهذا وهم التجار الحراص على المال، لولا ما ملأ صدورهم من الغيظ والحنق والكره للمسلمين على ما فعلوا بهم يوم بدر.(247/28)
شاور الرسول أصحابه فيما يصنع فكان الرأي أن يتحصنوا بالمدينة، حتى إذا أتوهم قاتلوهم عنها. وكان من قول عبد الله بن أبي: (يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم. فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا).
وأنى لهم أن يجمعوا على هذا الرأي وفيهم من يتلهف شوقاً إلى حرب المشركين (فقد كان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر لما سمعوا النبي يخبر بفضل من شهدها وعظيم ثوابه، فودوا غزوة ينالون بها مثل ما ناله البدريون وإن استشهدوا)؛ فلم يعجبهم ما قال المجربون من الرأي الهادئ الخمير، وتغلبت عواطفهم الجياشة، واشتد بهم الظمأ إلى الشهادة حتى قالت طائفة منهم:
(إنا نخشى أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبناً عن لقائهم فيكون هذا جراءة منهم علينا).
وقال حمزة: (والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة).
وقال النعمان بن مالك: (يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها) الخ.
ووافق هؤلاء مشيخة من المهاجرين والأنصار فكانت غزوة أحد، وكان أول الناس إسراعاً إليها وأشدهم فرحاً بها أنس وأخته، وخرج إليها الكثير من الأحداث والنساء، فأبلوا فيها البلاء المحمود، دفاعاً عن دينهم وذياداً عن نبيهم وشوقاً إلى ما عند الله.
شب القتال؛ وكان المشركون ثلاثة أمثال المسلمين أو يزيدون، ونصر الله المسلمين أول الأمر، حتى إذا ترك الرماة مواقفهم التي أمرهم الرسول بلزومها كان ما هو معلوم للجميع، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً وكثر فيهم القتل وانهزم فريق وثبت فريق وأشيع أن رسول الله قد قتل وأسقط في أيديهم. هنالك كان الامتحان الأعظم للبطولة والإخلاص فمحص الله للشهادة الأخيار، وذاد القرومُ البواسل عن الرسول ذياد المستميت، وعمد النساء إلى السلاح يأخذنه من المنهزمين فقاتلن به حتى كانت ضروب الشجاعة والبسالة التي أتاها النساء فقط، صفحة مجيدة تتقطع دون الظفر بها رقاب الفحول المذاويد الأبطال؛ وكان من ثبت(247/29)
من الصحابة نفراً ضئيلاً وقع عليهم نعي الرسول وقوع الصاعقة فحاروا في أمرهم بعد أن ترك أكثرهم القتال ووهنت نفوسهم وألقوا بأيديهم؛ إذ ذاك، يدركهم الله بهذا البطل المجاهد المغوار، أنس ابن النضر يسألهم فيم جلوسهم والحرب قائمة؟ فيقولون: قتل رسول الله! فيزداد حمية واستبسالاً ويهتز من فرعه إلى قدمه وتتجسد فيه معاني الجهاد السامية فتتألق عيناه ويلتمع وجهه ويكاد دمه ينفر من عروقه وترتسم عليه سمات الصلابة والعزيمة والاندفاع ويفتر ثغره عن هذه الكلمات الملهمات تذكرهم بالواجب الذي ذهلوا عنه، وتحفزهم إلى الشهادة، وتدفع أجبن الناس إلى اقتحام الغمرات.
(فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه، أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء) ثم قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين) انقضت على سامعيه لحظة كانوا منها في مثل لجج النور من كلماته، فألهبهم ودفعهم إلى الموت دفعاً؛ ثم انطلق نحو جموع المشركين فلقي في طريقه سعد بن معاذ فقال له: (يا سعد؛ الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد) ورمى بنفسه وسط الجموع الحانقة الظافرة، ضارباً وطاعناً، فأشرعت إليه الرماح وأصلتت عليه السيوف وسالت منه الدماء على جوانبه، وهو لا يحس لتلك وخزاً ولا يشعر لهذه بألم، ولا ينفك منقضاً على الأعداء مقتحماً صفوفهم، يوسعهم تقتيلاً وإثخاناً، غير آبه للرماح تتناوشه، ولا للسهام تنفذ فيه، ولا للسيوف تقطّع منه، وإنه مع هذا كله لا يرى انه بذل في الله طائلاً، وكلما ازداد الدم منه انصباباً زاد على أعدائه كراً وإقداماً حتى أكرم الله هذه الروح الزكية فسالت على قِصَد القنا وظُبي السيوف فأستأثر سبحانه بها، وأنالها ما تمنت من الشهادة لتنعم بلقائه وجواره في عليين.
ولقد أحمى بكلماته تلك أنوف المهاجرين والأنصار، فمشوا على أثره وكروا ثانية على العدو، واجتهدوا في القتال؛ إلا أن أحداً ما بلغ مبلغ أنس رحمه الله ورضي عنه، حتى إن سعد ابن معاذ - على ما أبلى في العدو يومئذ - ليحدث عنه بعد الحرب فيقول: (ما استطعت يا رسول الله ما صنع).
انقضت المعركة حافلة بضروب البطولة، وطفق المسلمون يتحرون قتلاهم لمواراتهم التراب؛ وإنهم لفي شأنهم إذ وقفوا على جثة لم يعرفوا صاحبها لأن السيوف والرماح لم(247/30)
تبقعلى شيء من ملامحه قط. يا للهول ويا للبسالة! بضع وثمانون بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، يتلقاها رجل واحد فقط، ثم هو بعد ذلك لم يشف صدور أعدائه الحنقين عليه لما ملاء قلوبهم حرداً وغيظا من كثرة ما فعلّ فيهم، لم يُبرد أكبادهم كلُّ ما نالوا منه ولم يُذهب غيظ قلوبهم قتله، بل شوهوا الجثة ومثلوا بها، لقد بلغ من المسلمين هذا المنظر أمداً بعيداً ونفضهم نفضاً من شدة التأثر، وعظمت رغبتهم في معرفة صاحب الجثة، ولبثوا مدة لا يهتدون إليه، حتى تقدمت امرأة جاهدة تحدَّرت منها العبرات الحرار، وهي تحدق في أنامل الشهيد ثم قالت: (هو أخي أنس بن النضر، عرفته ببنانه!).
رجع المجاهدون الأبرار، الذين اصطفاهم الله رسلاً إلى الإنسانية المعذبة يفيضون فيها الرحمة، ويشيعون العدل والإحسان، رجعوا إلى المدينة يحفهم رضوان الله وتتنزل عليهم رحمته؛ وقد خلفوا في أحد سبعين بطلاً استماتوا بإخلاص ليجعلوا كلمة الله هي العليا، فنعمت أرواحهم بالشهادة. ولئن كان من بقى منهم على قيد الحياة قد أبلى البلاء الحسن وبذل طاقته ومجهوده. فإن الحسرة لتذيب كبده على أنه لم يحظ بما حظي به إخوانه من شرف الشهادة، ولم يخفف من حسرتهم إلا أملهم في أن يكرمهم الله بها فيما ينتظرهم من معارك.
لكن الله سبحانه رضي عن هؤلاء وأولئك، وأنزل فيهم قرآناً ما يزال الناس يتلونه والعبرات تجري غزاراً من مآقيهم، وما زال هذا الصوت الإلهي المقدس يهيب بالمسلمين والمستضعفين مدوياً في الآفاق:
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيقتُلوَن ويُقْتَلونْ، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
ونحمد الله على أن هذا الفيض المقدس من شرف الدفاع، ما زالت إمداده متصلة باستمرار، وما زال الشهداء يتوافدون على ميادين الجهاد؛ وما برحت هذه الطائفة المختارة من المسلمين تتكالب عليه الأعداء من كل جانب، وما انفكت عرضة لتألبهم وهمجيتهم وضراوتهم والله يمتحن الخلف بما امتحن به السلف، ويخص من شاء منهم بكرامته. ففي كل بلد إسلامي ميدان جهاد وشهداء دفاع، وفي كل بقعة عربية عدد مستبيح وقافلة تستشهد(247/31)
ولن نزال إلى قيام الساعة نستشهد، ولن نزال إلى قيام الساعة نتأسى بتلك العصبة الطاهرة من شهداء أُحد ومجاهديها، ولا تفتأ منا طوائف تتري على آثار من سلف من أولينا كلما خلت مواضع في الصف احتلها فوج؛ ولم ينس الناس بعد تلك الأرواح البريئة التي صعدت إلى بارئها في العراق وسوريا وفلسطين ومصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، وهي تكافح أحفاد الصليبيين من بريطان وفرنسيس وطليان وإن هذه القوافل لتستمر في تلبية نداء ربها بتهافتها على الشهادة، كلما ردَّدَت المحاريب ما أنزل الله في أبطال أُحد:
(من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
فيا أيها الشهداء المخلصون الأبرار من لدن أُحد وبدر إلى معارك فلسطين وساحات المغرب الأقصى اليوم!
ويا أيتها الحلقة النورانية التي انتظم فيها أنس بن النضر وعبد الرحمن الغافقي. . . حتى عمر المختار وعز الدين القسام وفرحان السعدي ومن يخلف هؤلاء وأولئك في مشارق الأرض ومغاربها!
هنيئاً لكم الكرامة في دار الخلد، فقد غضبتم للحق وحميتم الحرمة وحفظتم البيضة، وجردتم سيوفكم تذودون لصوص الأعراض والأموال والأديان من ذئاب البشر الجائعة الضارية، وتدافعون عن الشرف والنبل والخير والمثل السامية، حتى أسلمتم أرواحكم وقدمتم على ربكم بدمائكم تشكون وحشية الطامعين وفظائع المحتلين.
يا أيها الشهداءُ المجاهدون: لا حرم الله دنيانا من أمثالكم فأنتم منار الهدى ومصابيح الظلام. وعليكم رحمة الله ورضوانه.
دمشق.
سعيد الأفغاني(247/32)
محمد في أطوار حياته
دراسة تحليلية
للأستاذ عَبد المَتعال الصعيدي
(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم
عمراً من قبله أفلا تعقلون)
(سورة يونس - 16)
بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معجزته الكبرى هذا القرآن الكريم بفصاحته الباهرة وما جاء به من تشريع قويم في أصول الدين وفروعه، على أنه كان مع هذا يلجأ إلى العقل فيستعين به في تأييد رسالته، وإلى العلم فيستخدمه في إثبات نبوته، وإلى هذا تشير تلك الآية الكريمة من سورة يونس (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون).
فهو يقيم في هذه الآية دليلاً على صحة نبوته يستند إلى دراسة تاريخه قبل النبوة وبعدها، وإلى دراسة نفسه في هذين الحالين، والدراسة الأولى فرع من علم التاريخ، والدراسة الثانية فرع من علم النفس، وسنقوم الآن بهاتين الدراستين، ونتتبع فيهما أطوار حياته صلى الله عليه وسلم.
الطور الأول: ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً عائلاً، لم يرث من والده شيئاً، لأن أباه مات قبل جده عبد المطلب وهو شاب لا يكاد يجاوز حد العشرين، فلم يرث شيئاً من مال أبيه، ولم يتمكن من أن يجمع شيئاً لأبنه. بل مات بعد شهرين من حمله، ثم لم تلبث أمه أن ماتت بعد موت أبيه، فكفله جده عبد المطلب، ثم كفله بعد وفاة جده عمه أبو طالب.
وكانت قريش تعيش في مكة عيشة متحضرة تعتمد على العمل والكسب، ولا تعرف ما تستنه البادية العربية في معيشتها من الغزو والنهب، فنشأ محمد صلى الله عليه وسلم على غريزة قومه، محباً للعمل، راغباً في الكسب الحلال، وهو الذي قال بعد هذا في رسالته: أطيب الحلال أن يأكل الرجل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده
فلما بلغ مبلغاً يمكنه معه أن يعمل عملاً أخذ يرعى الغنم مع أخوته من الرضاع في البادية،(247/33)
ثم مضى في هذا العمل بعد أن رجع إلى مكة، فكان يرعى الغنم لأهلها على قراريط يأخذها منهم، كما روى هذا الإمام البخاري في صحيحه.
وكان في هذا الطور يميل إلى شيء من اللهو البريء، وتدركه عناية الله فيه كما تدرك كل شاب موفق، وقد حكى عن نفسه في ذلك بعد رسالته فقال: لما نشأت بُغَضت إليَّ الأوثان وبُغِضَ إليَّ الشعر، ولم أهمُّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كلُ ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته، قلتُ ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمرَ كما يَسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدُفوف والمزامير لعُرْس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ولم أقض شيئاً، ثم عراني مرّة أخرى مثلً ذلك.
الطور الثاني: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر سنة أخذ يعمل في التجارة مع عمه أبي طالب، فسافر معه إلى الشام للتجارة وهو في هذه السن، ولما حذق التجارة انفرد بنفسه عنه. وكان في مكة سيدة تاجرة ذات شرف ومال تدعى خديجة بنت خويلد من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، وكانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فسمعت عنه من الأمانة والصدق ما رغبها في أن تستأجره للتجارة في مالها، وكانت سنه في ذلك الوقت خمساً وعشرين سنة، فاستأجرته ليخرج في مالها إلى الشام للتجارة، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر إلى الشام مع غلامها ميسرة، فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً، فسرت به تلك السيدة الكريمة، وكان زوجها قد توفي ولم تتزوج بعده فأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت سنها نحو الأربعين، فقام مع أعمامه حتى دخل على عمها عمر بن أسد فخطبها له منه عمه أبو طالب، فزوجها عمها له، وصارت بهذا زوجه خمساً وعشرين سنة، وكان يعمل في مالها ويأكل من نتيجة عمله، على إنها ما كانت تضن عليه بشيء منه.
الطور الثالث: وكان في نفسه صلى الله عليه وسلم ميل إلى عبادة ربه، وإلى العزلة عن ذلك المجتمع الموبوء برذائل الجاهلية، فلما رزقه الله بتلك الزوجة الكريمة، وصار له مال يساعده على قضاء حاجة نفسه من عبادة ربه، كان يقصد كل سنة في شهر رمضان إلى(247/34)
غار حِرَاءَ، فينقطع فيه للعبادة، وكانت قريش تفعل ذلك في جاهليتها، ولم يبتدع منه صلى الله عليه وسلم شيئاً جديداً لم يكن يفعله أحد من قومه.
وكان يخلو بهذا الغار فيتعبد فه الليالي ذوات العدد، فتارة عشراً، وتارة أكثر إلى شهر، ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى زوجه فيتزود لمثلها.
وهذا الطور آخر أطواره قبل النبوة، فإذا أردنا أن نستخلص منها شيئاً من خصائصه صلى الله عليه وسلم فيها وجدناه رجل عمل يعتمد على نفسه، ويأخذ في ذلك بما اشتهر به قومه من الحذق في التجارة، والرحلة فيها إلى الأقطار القريبة والنائية، لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يهتمون بغيرها مما كان يهتم به غيرهم من العرب، حتى عيرهم بهذا بعض شعرائهم فقال:
ألهي قُصيًّا عن المجد الأساطيرُ ... ورشوةٌ مثل ما ترشى السفاسيرُ
وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له ... وقولها رحلت عيرٌ أتتْ عيرُ
وكان في هذه الحياة العملية من أحسن قومه خلقاً، واصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان من أفضلهم مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، فأحبوه وركنوا إليه ولقبوه الأمين حتى غلب على اسمه هذا اللقب.
وكان على علمه بفساد ما عليه قومه من عبادة الأصنام وما إليها يكتفي من هذا بالعزلة التي أخذ نفسه بها، ويأخذ بما يأخذ به بعض الناس من الاهتمام بإصلاح نفسه وعدم الاهتمام بإصلاح غيره، وكأنه كان يضن بذلك الحب الذي يحبوه قومه به أن يفسده بتخطئتهم، وتسفيه ما ألفوه من عبادة أصنامهم، فمضى لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يعني بشيء من أمر غيره، اللهم إلا بعض الأعمال الصالحة التي كان يقوم قومه بها، فكان يشاركهم فيها ويقوم بنصيبه منها، كما حصل منه في حلف الفضول بدار عبد الله بن جُدْعان التَّيمي، وكان المتحالفون فيه بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزّى، وبني زهرة ابن كلاب، وبني تيم بن مرَّة؛ تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم من سائر الناس ألا قاموا معه حتى ترد إليه مظلمته، فحضر محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مع أعمامه وقال فيه بعد رسالته: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار(247/35)
عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمُرَ النَّعَم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)
ولم يعن صلى الله عليه وسلم في هذه الأطوار بشيء من الفصاحة والبلاغة، ولم يحاول أن يكون بين قومه خطيباً أو شاعراً، بل يكره الشعر كرهه لعبادة الأصنام، مع أن الجزيرة العربية كانت تعج في ذلك الوقت بالشعراء والخطباء، ولكن قريشاً كانت لا تعني بشيء من ذلك، وإنما كانت تعني بالمال والتجارة عناية أبناء عمومتهم من اليهود، حتى كان حظها من الشعر دون حظ غيرها من القبائل، وإن كانت لغتها أفصح اللغات العربية، وإن كانت مواسم الأدب وأسواقها لا تقوم إلا في بلادها.
وقد قضى محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأطوار أربعين سنة من عمره، قضاها على ما وصفناه في حياة هادئة، وعيشة مطمئنة، لا تحدثه نفسه فيها بشيء مما حصل منه بعدها، ولا تطمح في أميتها وقناعتها إلى أكثر مما وصلت إليه فيها.
الطور الرابع: وقد بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة فإذا به ينتقل فجأة من تلك الحياة الهادئة إلى حياة عنيفة يشتد فيها الخصام بينه وبين قومه، وينقلب ما كان فيه من عدم المبالاة بأمرهم حرصاً على مودتهم إلى اندفاع شديد نحو الاهتمام بأمرهم، وإن أدى هذا إلى انقطاع تلك المودة التي كان يحرص عليها، وكان في أهنأ ما يكون من العيشة بها بينهم؛ وإذا به وهو ذلك الأمي الذي لم يجلس إلى معلم، ولم يشتغل في تلك الأربعين سنة إلا بما ذكرناه من التجارة ورعي الغنم، ينقلب إلى خطيب لا يدانيه خطيب في فصاحته، وعالم لا يدانيه عالم في علمه، وبيده كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يدعو به الناس أجمعين، ويهديهم إلى دين الله الصحيح، وترك ما دخله من التغيير والتبديل والتحريف، ويجلب على نفسه بهذا عداء الوثنية وزعمائها من قومه، وعداء المجوسية وزعمائها من الفرس وأكاسرتها، وعداء النصرانية وزعمائها من الروم وقياصرتها، وعداء اليهودية وزعمائها من اليهود وأحبارها.
فما هذا كله؟ وما هذا الذي جعل من محمد الأمين بين قومه عدوهم اللدود وخصمهم العنيد؟ لقد اختلفوا عند بناء الكعبة وهو ابن خمس وثلاثين سنة في الحجر الأسود أيهم يرجعه إلى موضعه من الكعبة، ثم اتفقوا على أن يحكموا بينهم أول داخل إليهم، فلما دخل إليهم قالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فبسط رداءه ووضع الحجر عليه، وقال: لتأخذ كل قبيلة(247/36)
بناحية من الثوب، وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه، فأخذه ووضعه فيه.
فما هذا الذي جعله بعد هذا يعرض نفسه لأن يتهموه بكل شنيعة من القول؟ فيقولوا عنه مرة إنه ساح، ومرة إنه شاعر، ومرة إنه كاهن، ومرة إنه مجنون.
إنه لم يفعل هذا من نفسه، ولو أنه خلى ونفسه لمضى في تلك الحياة الهادئة إلى نهاية أمره، وإنما كان يعمل في هذه الحياة الجديدة بأمر طرأ عليه، وغير من نفسه ما شبت عليه في تلك الأربعين السنة.
فبينما هو في غار حراء قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة، ثم قال له أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، لأنه كان أُمياً كما سبق، فأخذه فغَطّهُ بالنمَطِ الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الَجهْد، ثم أرسله، فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه ثانية ثم أرسله فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال: (أقرأْ باسم ربكَ الذي خلقَ، خلقَ الإنسان من علقٍ، أقرأْ وربكَ الأكرمُ، الذي علمَ بالقلَم، علمَ الإنسانَ ما لمْ يعلمْ).
فرجع بها صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده مما ألم به من الروع، فدخل على خديجة زوجه فقال: زمّلوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه روعه، فأخبرها الخبر، وقال لها: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرَّحِم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره خبر ما رأى، فقال له: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ثم قال: يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
وقد حقق الله نبوءة ورقة بهذه الهجرة التي نحيي ذكراها كل سنة.
وهذا هو حكم التاريخ وعلم النفس في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يا إلهي بعض جهادي في نصر دينك أشكو إليك ما ألقاه بسببه من أذى، وهو لذتي في هذه الدنيا إذا(247/37)
التذ قوم بمتاعها، وأنت حسبي ونعم الوكيل.
عبد المتعال الصعيدي(247/38)
دراسات أدبية
مقتل الحسين وأثره في الأدب العربي
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
هذا المحرم قد وافتك صارخة ... مما استحلوا به أيامُه الحرم
يملأن سمعك من أصوات ناعية ... في مسمع الدهر من إعوالها صمم
تنعى إليك دماءً غاب ناصرها ... حتى أريقت ولم يرفع لكم علم
جاء المحرم فالمساجد العراقية مجللة بالسواد، والوجوه تعلوها الكآبة، هنا وهناك عويل ونواح يكربان القلب. الصدور موجعة بضرب الأيدي، والمتون مكلومة باللدم بالسلاسل النحاسية، والنفوس فزعة جزعة قد تملكها الهلع إذ خلبتها الألسن الذلقة التي لم تدع أسلوباً لتهويل فاجعة كربلاء إلا ركبت سبيله الأوعر والأشد إيلاماً والأنكى لذعة ولوعة. مواكب تجلببت السرابيل المضاعفة من الحزن خنقها الأسى فلا تأسى، ورؤوس تشج بحد السيوف، ودماء تراق على مذبح فاجعة كربلاء، فما قيمة العبرات والزفرات والدموع المنصبة على أقدام هذه المأساة المؤلمة التي لم يع التاريخ أفجع منها ولا أكثر جلبة من تبعاتها. ففي إيران والعراق والهند وسورية والحجاز وهنا وهناك مآتم ومناحات تعقد لتكسب العبرات وتنفث الزفرات، فكأن نفس الشرقي الحالمة بالأشباح والرؤى، المفعمة بالطموح وأحلام الغيب، المتبرمة بالحياة وأحكامها التي ترزح بأعبائها - وجدت في هذه المأساة مجالاً واسعاً لإعلان عويلها والتنفيس عن كربها.
وإن شيعة العلويين التي لم تهيمن على مقدرات البلاد ولم تسيطر على أزمة الحكم وتقبض على السلطة الزمنية إلا قليلاً، بقيت طوال الدهر ناقمة ساخطة على الدهر الهازل، ساخرة من أقداره المملوءة بالمهازل، فشاعرها (السيد جعفر الحلي صاحب ديوان سحر بابل وسجع البلابل) يقول:
وجه الصباح عليّ ليل مظلم ... وربيع أيامي علي محرم
بي قرحة لو أنها بيلملم ... نسفت جوانبه وساخ يلملم
ما خلت أن الدهر من عاداته ... تروي الكلاب به ويظما الضيغم
ويقدم الأموي وهو مؤخر ... ويؤخر العلوي وهو مقدم(247/39)
مثل ابن فاطمة يبيت مشرداً ... ويزيد في لذاته متنعم
ويضيق الدنيا على ابن محمد ... حتى تقاذفه الفضاء الأعظم
خرج الحسين من المدينة خائفاً ... كخروج موسى خائفاً يتكتم
وقد صبغ المحرم أدب الشيعة بصبغة سوداء قاتمة بالكآبة، حمراء ملطخة بدم الشهداء، كالحة تعلوها شارات التكدر والانزعاج من الوضع الراهن الواقعي، وهذا الأدب الباكي تسوده الأحلام بفردوس مفقود أسسه العدالة، يرجع فيه حق الحكم إلى أهله وذويه الشرعيين، لذلك فهو أبداً يندب (صاحب الزمان) الذي غاب عن الأنظار ليعود فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت جوراً وعسفاً. وسوف يعم في عهده الأمان ويسود السلام المجتمع حتى ترعى الشاة مع الذئب، فاسمع السيد حيدر الحلي يندب الإمام الغائب:
مات التصبر في انتظا ... رك أيها المحيي الشريعة
بك تستغيث وقلبها ... لك عن جوى يشكو صدوعه
ماذا يهيجك إن صبر ... ت لوقعة الطعن الفجيعه
حيث الحسين بكربلا ... خيل العدى طحنت ضلوعه
والشيعة تعتقد أن حكم اليوم مضرج بدماء الأبرياء، ملطخ ببقع سوداء من قضاء الجور والشبهات. وفي الحق أن الأدب الشيعي خير مثال لأدب التشاؤم الساخط على الحياة الحالم بالمثل الأعلى. ولا أريد أن أصدر حكماً عاماً شاملاً على أدباء الشيعة وأكسوهم بهذه الصبغة الحالكة، فمن قرأ غزليات السيد محمد السعيد الحبوبي الشاعر النجفي (طبع ديوانه في بيروت) وأسام سرح الطرف بين موشحاته الرقيقة وروضياته وخمرياته وجدها ضاحكة متهللة طروباً، ومن خير ما يمثل الحياة المرحة البهيجة (وعسانا أن نتحدث إلى قراء الرسالة الكرام عن أدب هذا الشاعر العبقري). إنما أعني هذا القبيل الذي أترع أدبه بالعويل والنياحة. وعلى رأس هذا الرعيل السيد حيدر الحلي، وهاشم الكعبي، وصالح الكواز، وصالح القزويني العلوي، وإبراهيم الطباطبائي، وجعفر الحلي، ورضا الهندي، وكاظم الأزري، وعبد المطلب الحلي، وعبد الحسين الأعسم، وهؤلاء شعراء مطبوعون لهم دواوين مفعمة بالأدب المشبع قوة وحيوية؛ وقد أقاموا على شواطئ الفرات في غضون عصر النهضة دولة للشعر يدعمها خصب القرائح ورصانة الأساليب ومتانة السبك ودقة(247/40)
المعنى وسمو الخيال. وإنه لمن العقوق أن تتغافل عن دراسة أدبهم الأقلام العربية النزيهة بمصر، وإنك إذا تصفحت ما خلفوه من شعر محكم الأثر، قوي البيان، فخم التعابير، جزل الألفاظ، وجدته طافحاً بالتهريج والتنديد بالأمويين وما استباحوه من الدماء المحرمة في كربلاء، وما انتهكوه من حرمة ذرية الرسول، فترى المحرم قد صبغ أدبهم بصبغة خاصة لا تجد نظيرها في كثير من الآداب العالمية، وقد مزجوا بشعرهم الوجداني قصصاً ووقائع تاريخية فاستحدثوا لوناً يختلف عما ألفناه في أقسام الأدب العربي من قبل. وقد قرأت للأستاذ الزيات في كتابه (في أصول الأدب) كلمته الآتية، قال عند استعراضه العوامل المؤثرة في الأدب: (وتأثير الأديان في الأدب أمر ثابت بأدلة الطبع والسمع فإنها تخلق موضوعات جديدة لمصنفات جديدة، وتؤثر في الأخلاق والعواطف تأثيراً يتردد صداه في مناحي الأدب. . . فأن في كل دين من الأديان السماوية قسماً وجدانياً اجتهادياً يختلف أبناؤه في فهمه اختلافهم في الطبائع والمنازع والغاية، فأشعار الخوارج مثلاً تنضح بالدماء وتطفح بالحماسة لتعصبهم وتصلبهم وجعلهم غاية الإِسلام جهاد مخالفيهم في الرأي، وأشعار الشيعة تفيض بإجلال زوج البتول وصهر الرسول وتمجيد ذكرى بنيه وتمثيل آلامهم ورثاء من قتل من أعلامهم).
وما لوَّح إليه الأستاذ الزيات حقيقة راهنة تعضدها قواعد علم النفس وأصول التربية الحديثة وقواميس الاجتماع ويدعمها الوجدان بأنصع برهان؛ فهاهي ذي المجاميع المشحونة بالقصائد العصماء التي تتفجر حزناً لمقتل سيدنا الحسين عليه السلام، ومن أحدثها (لواعج الأشجان) تأليف العلامة السيد محسن العاملي، و (مثير الأحزان) وحسبك بأسمائها معرفاً بما انطوت عليه صدورها من مآسٍ.
هذا عدا الدواوين المسودة بنعي شهداء هذه الواقعة، وقد كان حامل لواء هذه السرايا هو الشريف الرضي (موضوع دراسة الدكتور زكي المبارك ضيف العراق الكريم فقد أخذ اليوم في تحليل أدبه الخالد فكانت أبحاثاً ممتعة أصبحت محور الحديث والمناقشة في الأوساط الأدبية هنا)، وقد كان الشريف الرضي مفجوعاً كليم الفؤاد فتجد شعره في رثاء الحسين طافحاً بالأنين والحنين، قال في قصيدة مقصورة:
وضيوف لفلاةٍ قفرة ... نزلوا فيها على غير قرى(247/41)
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا ... بحِدا السيف على ورد الردى
ووجوه كالمصابيح فمن ... قمر غاب ونجم قد هوى
غيرتهن الليالي وغدا ... جائرَ الحكم عليهن البِلى
يا رسول الله لو عاينتهم ... وهم ما بين قتالٍ وسِبا
من رميض يمنع الظل ومن ... عاطش يُسقي أنابيب القنا
ومَسوقٍ عاثر يسعى به ... خلف محمول على غيروطا
جزَرُوا جزر الأضاحي نسله ... ثم ساقوا أهله سوق الإما
وا قتيلاً قوّض الدهر به ... عُمُد الدين وأعلام الهدى
غسلوه بدم الطعن وما ... كّفنوه غير بوغاء الثرى
وشاعر علوي آخر لا يقل في جودة شعره وروعة شوارده عن أبي الطيب المتنبي، ولربما يجوزه في حماسة الملتهب وطموحه المتوثب المتحفز للانتقام في المستقبل الغامض، ذلك هو السيد حيدر الحلي ولد عام 1246 وتوفي سنة 1304، وبلده الحلة مدينة كبيرة تقع على أحدد فروع نهر الفرات قرب موقع بابل التاريخية، وقد نبغ فيها عدد غفير من الشعراء النابغين. وإن شاعرْنا هذا يمتاز بفخامة التعابير وروعة الأحلام ودقة الوصف والتصوير والمقدرة على التهويل وإلباس الحوادث جلباب الضخامة والجسامة ونحت هياكل الأشباح والأخيلة من مادة الواقع ولكن بتكبير وتعظيم، وله براعة ممتازة في استنهاض الراقد وتحذير الغافل عن الخطر الداهم ولو كان موهوماً، وقد عاش مفجوعاً بواقعة كربلاء التي تركت في نفسه أثراً عميقاً فظهر هذا الانفعال النفساني جلياً في مراثيه. فأسمعه ينوح على شهيد الإباء، وديوانه كما سلف نواح وتهديد وزمجرة ووعيد:
وادعت حولي الشجا ذات طوق ... مات منها على النياح الهجوع
شاطرتني بزعمها الداء حزناً ... حين أنّت وقلبي المفجوع
يا طروب العشيّ خلفك عني ... لم يهجني صبابة وولوع
لم يرعني نوى الخليط ولكن ... من جوف الطف راعني ما يروع
أي يوم بشفرة البغي فيه ... عاد أنف الإسلام وهو جديع
أينما طارت النفوس شعاعاً ... فلطير الردى عليه وقوع(247/42)
قد تواصت بالصبر فيه رجال ... في حشا الموت من لقاها صدوع
سكنت منهم النفوس جسوماً ... هي بأساً حفائظ ودروع
وقوله يعرض بالهاشميين وتثاقلهم عن نصرته:
لتل لوي الجيد ناكسة الطرف ... فهاشمها في الطرف مهشومة الأنف
ويا مضر الحمراء لا تنشري اللوا ... فإن لواكِ اليوم أجدر باللف
ألستم إذا عن ساقها الحرب شمَّرت ... وعن نابها قد قلصت شفة الحتف
سحبتم إليها ذيل كل مفاضة ... ترد الظبا باللثم والسمر بالقصف
فكيف رضيتم من حرارة وترها ... بماء الطلى منكم ظبا القوم تستشفي
ثم يتجه إلى الإمام علي بن أبي طالب ويخاطبه مخاطبة الأحياء على الأساليب الشعرية المتبعة
أبا حسن أبناؤك اليوم حلّقت ... بقادمة الأسياف عن خطة الخسف
لقد حشدت حشد العطاش على الردى ... عطاش وما بلّت حشاً بسوي اللهف
فتلك على الرمضاء صرعى جسومهم ... ونسوتهم هاتيك أسرى على العجف
وهل زحف هذا اليوم أبقى لحيهم ... عميد وغى يستنهض الحي للزحف
وله من أخرى:
عثر الدهر ويرجو أن يقالا ... تربت كفك من راج محالا
لا أقالتني المقادير إذا ... كنت ممن لك يا دهر أقالا
وتسمع هنا لكبرياء نفس الشاعر قعقعة وجلجلة، وأي تعاظم يطاول بالمرء الدهر ويجعله عرضة لسخط الشاعر وغضبه بحيث يوقف موقف الذل والاستكانة حتى يطلب إقالته من عثرته
أزلال العفو تبغي وعلى ... أهل حوض الله حرمت الزلالا
المطاعين إذا شبت وغى ... والمطاعيم إذا هبت شمالا
إن دعوا خفوا إلى داعي الوغى ... وإذا النادي احتبى كانوا ثقالا
وقفوا والموت في قارعة ... لو بها أُرسى ثهلان لزالا
وقوله حرمت الزلال يلوح إلى قتل الحسين وأصحابه عطاشاً وذلك من مآسي الواقعة التي(247/43)
أخذت مجالا لمناحة الشعراء.
وقوله من أخرى:
وخائضين غمار الموت طافحة ... أمواجها البيض بالهامات تلتطم
مشوا إلى الحرب مشي الضاريات لها ... فصارعوا الموت فيها والقنا أجم
ولا غضاضة يوم الطف إن قتلوا ... صبراً بهيجاء لم تثبت لها قدم
فالحرب تعلم إن ماتوا بها فلقد ... ماتت بها منهم الأسياف لا الهمم
أبكيهم لعوادي الخيل إن ركبت ... رؤوسها لم يكفكف عزمها اللجم
وللسيوف إذا الموت الزؤام غدا ... في حدها هو والأرواح يختصم
تنعى إليك دماء غاب ناصرها ... حتى أريقت ولم يرفع لكم علم
مسفوحة لم تجب عند استغاثتها ... إلا بأدمع ثكلى شفها الألم
حنت وبين يديها فتية شربت ... من نحرها نصب عينيها الظبا الخذم
موسدين على الرمضاء تنظرهم ... حرى القلوب على ورد الردى ازدحموا
سقياً لثاوين لن تبلل مضاجعهم ... إلا الدماء وإلا الأدمع السجم
أفناهم صبرهم تحت الظبا كرماً ... حتى مضوا ورداهم ملؤه كرم
وقد افتتح هذه القصيدة بحماسة تذكر بفخر المتنبي وتهديده ووعده ووعيده قال:
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم ... فلا سعت بي في طرق العلى قدم
لا بد أن أتداوى بالقنا فلقد ... صبرت حتى فؤادي كله ألم
عندي من العزم سر لا أبوح به ... حتى تبوح به الهندية الخذم
لا أرضعت لي العلا ابنا صفو درتها ... إن هكذا ظل رمحي وهو منفطم
ولربما أكثرنا من الاستشهاد بالمقطوعات الرثائية التي هي من هذا الفرع الغض النضير بشعريته وإهابه الجهم الكالح بمؤداه الباكي بمغزاه ومعناه، ونظن أن في هذا النوع طرافة وجدّة عند قراء (الرسالة) الكرام.
وبعد فإنك واجد هذه الوقعة قد أثرت أثرها في الأدب وأنشأت جانباً خاصاً له مميزاته ومزاياه تربطه صلة قوية العرى محكمة الحلقات، وليس هذا القسم من الشعر ثمرة الأيام الأخيرة، كلا فإنه يمتد إلى عهد دعبل الخزاعي وتائيته التي مطلعها:(247/44)
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
والحسن بن الضحاك الذي يقول:
ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النبيَّ استحلتِ
وجعفر بن عفان الشاعر العباسي الذي يقول من قصيدة:
لبيك على الإسلام من كان باكياً ... فقد ضيعت أحكامه واستحلت
غداة حسين للرماح درية ... وقد نهلت منه السيوف وعلت
وغودر في الصحراء لحماً مبدداً ... عليه عتاق الطير باتت وظلت
وسليمان بن قتة العدوى مولى بن تميم وذلك حين مرَّ بكربلا بعد قتل الحسين بثلاث، فنظر إلى مصارعهم واتكأ على فرس له عربية وأنشأ يقول، وقيل إنها لأبي الرجح الخزاعي، وقال ابن الأثير إنها للتميمي تيم مرة قال وكان منقطعاً لبني هاشم:
مررت على أبيات آل محمد ... فلم أرها أمثالها يوم حلتِ
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة ... لفقد حسين والبلاد اقشعرت
وكانوا غياثا ثم أضحوا رزية ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وإن قتيل الطف من آل هاشم ... أذل رقاب المسلمين فذلت
وقد أعولت تبكي السماء لفقده ... وأنجمنا ناحت عليه وصلت
وعقبة بن عمرو العبسي وهو أول من رثى الحسين فيما حكاه سبط ابن الجوزي عن السدي:
مررت على قبر الحسين بكربلا ... فغاض عليه من دموعي غزيرها
وما زلت أبكيه وارثيه لشجوه ... ويسعد عيني دمعها وزفيرها
وآخر من عبد القيس قتل أخوه مع الحسين:
يا فرو قومي فاندبي ... خير البرية في القبور
ذاك الحسين مع التأوه ... والتفجع والزفير
والفضل بن عباس:
أعيني إن لا تبكيا لمصيبتي ... فكل عيون الناس عني أصبر
وبديع الزمان الهمذاني:(247/45)
يا لمة ضرب الزما - ن على معرسها خيامه
لله درك من خُزا - مي رمضة عادت ثغامه
لرزية قامت بها ... للدين أشراط القيامه
لمضرج بدم النبوة ... ضارب بيد الأمامه
متقسم بظبا السيوف ... مجرع فيها حمامه
والسيد الحميري:
أمرر على جدث الحس ... ين وقل لأعظمه الزكية
يا أعظما لا زلت من ... وطفاء ساكبة روية
وبعد فهذه الصفحات من أدبنا القومي طوى معارك المفرقة بين أمة الضاد التي أثارت دخان هذا الشعر - ما دهمنا من خطر الغرب، فنحن ندرسها للتاريخ لا أكثر، فقد دثر الهاشميون والأمويون وقبرت معهم منازعاتهم حول الملك.
العراق - النجف الأشرف
ضياء الدين الدخيلي(247/46)
مقالة تذكارية
ابن سينا
بمناسبة انقضاء تسعمائة سنة على وفاته
للدكتور زكي علي
في سنة 1932 خطر لكاتب هذه السطور بينما كان يقوم ببعض الأبحاث في معهد تاريخ الطب بفينا أن يُحيي ذكرى طبيب الإسلام الأشهر (ابن سينا) في الوقت المناسب بنشر بعض الرسائل العلمية عن حياته في المجلات الطبية وغيرها.
وجرى وقتئذ بيني وبين الأستاذ ماكس نويبرجر - وهو من أشهر علماء تاريخ الطب اليوم - حديث في هذا الشأن لفت نظري في سياقه إلى رسالة لأحد الأطباء من الأتراك الكماليين حاول فيها أن ينسب ابن سينا إلى العنصر التركي تمشياً مع نعرة الجنس التي تغلغلت في تركيا الكمالية وشوّهت في كثير من الأحيان وجه الحقائق التاريخية تبريراً لغاية قومية.
وقد نشرت (الرسالة) في أحد أعدادها في الصيف الماضي نبأ مؤداه أن جامعة استنبول احتفلت بإحياء ذكرى (ابن سينا) أنبغ طبيب في الإسلام. ولما كان ابن سينا فارسي الأصل فقد أراد الكماليون بعملهم هذا تجريده من فارسيته وإقامة الدعوى الباطلة على انه ينتمي إلى الجنس التركي، وبذلك تكون عبقريته النادرة من مفاخر القومية التركية؛ وفي هذا افتيات على التاريخ والعلم لا تبرره العصبية الجنسية.
يلقب ابن سينا في الشرق (بالشيخ الرئيس) وفي الغرب (بأمير الأطباء) حيث عرفته أوروبا باسم واسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، وقد اجمع المؤرخون على اعتبار شخصيته إحدى الظواهر الفكرية العجيبة التي سجلها تاريخ الطب والفلسفة كما أنه من اعظم العلماء الذين أنجبهم الشرق إذ جمع في نفسه شخصية الطبيب والفيلسوف والشاعر والفلكي والسياسي والعالم بطبقات الأرض، وبلغ بذلك ذروة النبوغ وقمة الشهرة بين علماء الإسلام شرقاً وغرباً؛ وحسبك ما ذكره عنه الطبيب المؤرخ الأمريكي كامستون إذ قال: (يعتبر ابن سينا معجزة من معجزات العقل الراجح ويجوز أنه لم يسبقه ولم يظهر بعده من العلماء من يدانيه في حدة الذكاء وسرعة نبوغ العقل بالنسبة(247/47)
للعمر مع عزم ونشاط لا يعرف الملل وهمة شاسعة الحدود).
ولد ابن سينا بقرية تسمى (أفشنة) بالقرب من (حرميثن) من أعمال بخارى وذلك سنة 980م (370هـ) وكان أبوه من بلخ ثم انتقل إلى مملكة بخارى في زمن نوح بن منصور من الدولة السامانية وكانت يومئذ غاصة بالعلماء فوجهه أبوه إلى من حفَّظَه القرآن وعلوم الأدب.
وظهرت بوادر نبوغ ابن سينا وعبقريته منذ الطفولة فما بلغ العاشرة من عمره حتى حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ودرس النحو والأدب والفقه، ثم تعمق الفتى في دراسة شتى العلوم بحماسة وجد بالغين، فأتى على منطق أرسطو وفلسفته وأكب على تحصيل الهندسة والطبيعة والفلك فأتقن ذلك كله ولم يتجاوز السادسة عشرة. وكان من نعومة أظافره يحس من نفسه ميلاً خاصاً إلى دراسة الطب فأقبل على تعلمه بسرعة غريبة إذ أكمل معارفه فيه واشتهر أمره كطبيب بارع ونطاسي ماهر بعد أن جاوز عمره الثامنة عشرة بقليل. وصادف إذ ذاك أن مرض السلطان نوح بن منصور حاكم بخارى لذلك العهد ورأى أطباؤه أن يستشيروا ابن سينا في أمر معالجته، فأستدعى صاحب الترجمة فأشار بعلاج حاسم كان فيه شفاء السلطان فأحسن مكافأته وسمح له بالإطلاع على نفائس مكتبته الخاصة التي حوت كثيراً من الكتب العلمية النادرة فوعى ابن سينا زبدة ما فيها وعكف على الدرس والبحث سنوات ما كان يذوق فيها طعم النوم إلا غراراً، ومما قاله عن نفسه: (لازمت العلم وكنت كلما أحار في مسألة ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المنغلق منه ويتيسر المتعسر. وكنت أشتغل ليلاً في داري بالكتابة والقراءة فإن غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي ثم أرجع إلى القراءة، فإن غلبني النوم حلمت بالمسائل التي كنت أعالج حلها حتى إن كثيراً منها اتضح لي بالمنام).
وأخذ ابن سينا في التأليف وهو في الحادية والعشرين من عمره فصنف موسوعة علمية ضمنها كثيراً من العلوم الطبيعية وكتب في الفلسفة وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) عدة رسائل.
وفي غضون تلك المدة صار ابن سينا مضرب الأمثال في البراعة الطبية وذاع صيته لما(247/48)
أوتيه من النجاح في علاج المرضى الذين كانوا يفدون إليه من فجاج الأرض، وله في ذلك كثير من النوادر العجيبة التي تناقلها الرواة والمؤلفون.
ثم لما بلغ صاحب الترجمة الثانية والعشرين من عمره نكب بوفاة والده فانتابته بعد ذلك الشدائد، وزاد في محنته وأهواله أن اضمحلت الدولة السامانية وكانوا حماته الذين تعهدوه بالرعاية والتشجيع، فخرج من مملكة بخارى قاصداً (كركانج) عاصمة (خوارزم) التي كان يحكمها الأمير علي بن مأمون، غير أن الضيق لازمه فتنقل في البلاد شريداً ثم ألقى عصا الترحال في (جرجان) حيث كان يقصد أميرها (قابوس) الذي اشتهر بتأييده للعلماء فصادف وصوله سقوط قابوس عن عرشه وحبسه في بعض القلاع وما لبث أن مات، فتألم ابن سينا لذلك ألماً شديداً وأنشأ قصيدة قال فيها:
لما عظمت فليس مصرٌ واسعي ... لما غلا ثمني عدمتُ المشترى
ثم هام على وجهه في الآفاق إلى أن وصل أخيراً إلى (حمدان) ودخل في خدمة أميرها شمس الدولة وعالجه علاجاً ناجحاً إذ كان يشكو من مرضاً شديداً بالمعدة، فأحسن الأمير صلته وقلده الوزارة ولم تمنعه أعمال الدولة ومهام المنصب عن مواصلة نشاطه الطبي وأبحاثه العلمية، فألف في ذلك الوقت الجزء الأول من كتابه الأشهر (القانون في الطب)، وكان يقضي النهار في مباشرة شئون الدولة ويحي الليل بالمحاضرة والتدريس وإملاء المذكرات على تلاميذه، فإذا انتهى من محاضرته استبقى مستمعيه وهيئ مجلس الغناء والأُنس والموسيقى ترويحاً للنفوس من عناء الدرس.
على أن هذه الحياة الحافلة بالعلم والعمل والنشاط ما لبثت أن عصفت بها رياح الفتن السياسية ودَّس أعداء صاحب الترجمة له واتهم بأن له صلة سياسية وثيقة بأمير أصفهان وسجِن في أحد القلاع وهناك لازم التأليف. ثم إنه أفلح أخيراً في الفرار من سجنه بعد أن تنكر في زي الصوفية وقصد أصفهان حيث استقبله أميرها بكل أنواع الحفاوة والإكرام وصار موضع إكبار الجميع وصحب السلطان في كثير من غزواته إذ كان طبيبه الخاص ووزيراً للدولة وعكف على إنجاز مؤلفاته العديدة في مختلف العلوم وفي مقدمتها كتابه (القانون في الطب) الذي أذاع اسمه وخلّد شهرته في الشرق والغرب مدى ستة قرون، ودوّن كتبه في الفلسفة والفلك وعلم النفس وفقه اللغة والعلوم الطبيعية والكيماوية وغيرها،(247/49)
ولم ينقطع برغم هذا كله عن ممارسة مهنة الطب التي فاق فيها كل معاصريه وأوصله نبوغه فيها إلى مكانة ليس وراءها غاية.
وقد أنهكت الجهود الجبارة والعمل الشديد المتواصل قواه فمات ولم يتجاوز عمره السابعة والخمسين سنة 1037م.
ويمتاز ابن سينا بغزارة مادته الأصلية في التأليف، وتنوع العلوم والفنون التي ترك فيها آثاراً قيمة، وضخامة كثيرة من كتبه النفيسة التي كانت بمثابة دوائر معارف شاملة.
ولا جدال في أن كتابه (القانون في الطب) - وهو أهم مؤلفاته، وأضخمها إذ يحتوي على نحو مليون كلمة - الفضل الأكبر في ذيوع تعاليم ابن سينا وآرائه الطبية في كل الأقطار، ثم في بقاء تأثيره نافذاً متسلطاً على مصير الطب في الشرق والغرب مدى عدة قرون. وقد نوه الطبيب المؤرخ الإيطالي كاستليوني في كتابه (تاريخ الطب) المطبوع سنة 1931 بأن تميز (قانون ابن سينا) على كل ما سواه من كتب الطب في العصور الوسطى راجع إلى دقة ابن سينا في الشرح والتحليل بطريقة تهذيبية تعليمية بارعة، وإلى إتقان تبويبه وتقسيمه وترتيب المواضيع الطبية التي عالجها بحيث كفى الأطباء في ذلك العصر مؤونة البحث فيما عداه).
وقد دون ابن سينا في (قانونه) كل علوم الطب إلى زمنه، ونقحها وزاد عليها آراءه وملاحظاته ومشاهداته الإكلينيكية، ويقع في خمسة كتب أساسية. وبقي هذا الكتاب يدرس في جامعات أوربا زهاء ستة قرون، واستمر المرجع الأساسي في تدريس الطب بجامعتي مونبلييه ولوفان حتى ختام القرن السابع عشر.
وترجم (القانون) إلى اللاتينية في طليطلة في القرن الثاني عشر نقله جيراردي كريمونا ثم ظهرت له بعد ذلك طبعات لاتينية أخرى تعد بالعشرات. ونشرت منه طبعة عربية في روما سنة 1593، وفي بولاق بمصر سنة 1877، وظهرت له في أوربا عدة شروح، كما ترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وغيرها من لغات أوربا، وترجم أيضاً إلى التركية والفارسية.
وقد أحصى العلامة الألماني وستنفلد من مؤلفات ابن سينا مائة وخمسة في علوم الطب والفلسفة والدين والفلك واللغة والأدب والموسيقى والهندسة والمنطق والعلوم الطبيعية(247/50)
وغيرها، ونكتفي هنا بذكر أسماء بعضها: فمن كتبه التي نقلت إلى اللاتينية وغيرها من لغات أوربا، بعد (القانون) كتاب (قلب الإنسان) و (الأرجوزة في الطب) و (الشراب) و (مختصر الحيوان) و (الحجر الفلسفي) و (السماء والعالم) و (النفس) و (ما بعد الطبيعة) و (الطبيعيات) و (الكيمياء) و (المنطق) و (الحدود) و (التعريفات) و (الفلسفة الأولى).
ثم كتاب (الشفاء) في الفلسفة وترجم إلى اللاتينية بعنوان ولا يزال الأصل العربي موجوداً. وله في الفلسفة أيضاً كتاب (النجاة) و (الإشارات) ورسائل في الإنصاف والمسائل العشرين، والمباحثات، والجوهر الذي لا يتحرك، وتقسيم العلوم الفلسفية، وحد الجسم، وشرح كتاب النفس لأرسطو وما بعد الطبيعة، وكل هذه لا تزال باقية.
ومن كتبه في الفقه والتوحيد الإلهيات والجمانة الإلهية ثم له القصيدة العينية الشهيرة في النفس التي مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
وفيها يقول:
إن كان أرسلها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضرة لازب ... لتكون سامعة بما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق للحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وفي المنطق كتاب الإشارة وكتاب المشرقيين ورسالة العروس؛ وله في العلوم الطبيعية والرياضية والآداب والسياسة والفقه والموسيقى واللغة العربية وعلومها مؤلفات كثيرة بعضها موجود في مكاتب أوروبا وبعضها مفقود.
وقد ترك ابن سينا وصفاً علمياً صحيحاً لتكوين الجبال، ذكره درابر ووثنجتون، واعتبره جاريسون الأمريكي مبرراً لتسمية ابن سينا (أبا علم طبقات الأرض) (الجيولوجي).
ويضيق بنا المقام هنا عن ذكر آراء ابن سينا الفلسفية ولهذا نقتصر على إيراد المهم من مشاهداته واكتشافاته الطبية.
امتاز ابن سينا على أبقراط وأرسطو وجالينوس بدقته في مناقشة الحالات المرضية(247/51)
ومهارته في فن تشخيص الأمراض ومبحث أسباب المرض وهو أول من وصف مرض الالتهاب السحائي (السرسام الحار) وصفاً صحيحاً وميزه عن الأمراض الحادة المصحوبة بالهذيان، وكان ذلك يلتبس على أطباء اليونان؛ كما أنه أتقن وصف سير هذا المرض والإنذار فيه. ومما يدل على دقة ملاحظاته الإكلينيكية ذكره أن التهاب البلورا (ذات الجنب) والتهاب الرئة (ذات الرئة) قد تنتج عنهما أعراض سرسامية بهيئة مضاعفات، وأن التهاب السحايا في تلك الحالات يعتبر نذيراً سيئاً إذ تعقبه الوفاة عادة.
وأجاد ابن سينا أيضاً في شرح أمراض الجهاز التنفسي، وقال بضرورة التمييز عن تشخيص ذات الجنب بين التهاب البلورا الحقيقي، وبين الالتهاب البسيط للعضلات بين الضلوع وبين التهاب المنصف الصدري (الحْيزوم) وخراج السطح الأعلى للكبد.
وأتقن ابن سينا وصف الأمراض العصبية، وبوجه خاص الأشكال المختلفة للشلل وللفالج النصفي ولشلل الوجه (اللقْوة) واهتدى إلى التمييز بين نوعي اللقْوة: المركزي والموضعي وشرح بإسهاب التشخيص التمييزي بينهما.
ومما أشار إليه ابن سينا أن المخ والعظام خلافاً لرأي القدماء قد تكون مقراً للأورام.
وكان يعالج تشوهات السلسلة الفقرية بالرد العنيف وهي طريقة أعاد إدخالها في العلاج الجراح الفرنسي كالو سنة 1896. ولابن سينا طريقة شائقة طريفة في وصف الأمراض العقلية، وله الفضل في ابتكار كثير من طرق العلاج النفساني.
وكان جالينوس يقول بأن السكتة (ضربة الدم أو النقطة) يندر أن تكون مسببة عن البليثورا وهذا خطأ، فخالفه ابن سينا وقال بالعكس، مستنداً إلى مشاهدته الإكلينيكية، بأن البليثورا من أكثر الأسباب المهيئة لحدوث السكتة.
ومما ذكره ابن سينا ولم يسبقه إليه أحد أن الحصبة أكثر ما تكون عدواها في الربيع والخريف وأنها أكثر وقوعاً في هذين الفصلين، كما ذكر أن الأطفال يصابون بها أكثر من البالغين.
ودرس ابن سينا بدقة أمراض الكبد وطريقة فحصه ووصف بمهارة أعراض اليرقان بأنواعه بما يتفق والأوصاف الحديثة؛ وشرح عند الكلام على أمراض المعدة، أعراض ضيق البّواب والقرحة المعدية وأفاض في شرح أضرار إدمان الكحول على الكبد، وعلّل(247/52)
السبب الفيزيولوجي لتلافيف الأمعاء. وتكلم ابن سينا طويلاً عن استطالة عنق الرحم وعن أورام الرحم وسقوطه وصلابته وعن خطر سرطان عنق الرحم.
ووصف طريقة لعلاج البواسير بالشق، وأشار عند الكلام على الذُبَيلة (تجمع الصديد في جوف البلورا أو الإمبييما) بعلاجها بالشق عليها لتفريغ الصديد، وذكر طريقة رد خلع الكتف بالضغط المباشر. وأما في علم الديدان فهو أول من وصف الدودة المعروفة باسم الفرْتيت أو العِرقْ المديني
ثم إن أوصاف ابن سينا في التشريح أكمل في بعض الأحيان من أوصاف جالينوس. وذكر بُورْتال أن ابن سينا كان ذا معرفة تامة بتشريح القزحية وإنسان العين والقناة الدمعية وأنه أول من اكتشف إندغام عضلات العين.
وقد أدخل ابن سينا في مادة الأدوية عدداً كبيراً من العقاقير الطبية التي لم تكن مستعملة من قبل.
(جنيف)
زكي علي(247/53)
العداء والفناء
للأستاذ عبد الحمن شكري
عفا الجاني وقد بلغ التشفي ... وبعض العفو من فرح الشَّمات
(للناظم)
قد يُعَزِّيك شامت يتشفى ... باجتلاء الآلام لا بالعزاء
(للناظم)
مقدمة القصيدة:
إن العفو لا يكون من المظلوم المجني عليه وحده بل قد يكون أيضاً من الجاني الظالم إذا أقنع نفسه أنه المظلوم، أو إذا أقنع الناس كي ينال عطفهم ومساعدتهم له في ظلمه وشره. وكثيراً ما يساعد الناس الشرير في شره اعتقاداً منهم أنه هو المظلوم أو. لأن مساعدته في الشر ضد المظلوم فرصة لإراحة ميل الكثير من الناس لالتذاذ القسوة كما هو الحال في مرض السادزم عند إطلاق هذا المصطلح عليه في المعنى الأعم؛ وهذا النوع من العفو الذي يجود الظالم إنما هو من فرحة الشماتة، وهذا الشعور يشبه شعور الشامت الذي يعزي المصاب ويخفي فرح الشامت ويظهر الأسف، وهو إنما يعزي كي يرى آلام المصاب أثناء التعزية. وهذه القصيدة تصف النفس الإنسانية بين عواطف الخير والشر، وقد تجتمع الأضداد منها في نفس واحدة من غفران وشمات، ومن حقد الحياة وصفح الممات، كما تصف عبث شقاء الحروب بين الأمم التي يتحالف بعدها الخصوم ويتعادى الأصدقاء
القصيدة:
إذا ما دنا الموت من هالك ... وأيقن أَلا يطول البقاءْ
وقد زال ما كان مِنْ نشوة ... ومن شِرَّةٍ نال عنها العَزاء
ولاح له عيشه ماثلا ... وقد بُزَّ عما جناه الرياء
وأُفْهِمَ ما كان من حرصه ... وأبصر ما قد طواه الخفاء
يُرَى آسفاً أَنْ عدا أو جنى ... وأَنْ كان منه الأذى والعداء
وليس يُرَى آسفاً لاغتفار ... دعاه قديماً فَلَبَّى الدعاء(247/54)
فليس على صفحه آسفاً ... ولكنْ على النَّيْلِ ممن أساء
أيأسف أَنْ ضاع ثأر سُدًى ... ومُتِّعَ خصم له بالبقاء
عدوان عاشا على إحنة ... وباعا السماحة بيع الإِماء
أباحا النَِّفاقَ وكيد اللئام ... لنيل الحطام وكسب الهباء
إذا ما دنا الموت من واحد ... أيشمت خصم له بالفناء
أيفرح مثل الجبان استراح ... وبُشِّرَ بالأَمن بعد العداء
أيطعنه طعن نذل خصيما ... صريع التراب مُراق الدماء
ومرأى الحِمام كمرأى السَّقَام ... يُذِلُّ العُتُلَّ ويُخْزِي الجفاء
هو الموت يَشْفِي قلوب العدى ... ويختم بالصلح حرب البقاء
وقد يُطْلَبُ الصلح من فرحة ... تعير الشماتة ثوب السخاء
وكم من عداء غدا أُلْفَةً ... فيا عبثا إذ تراق الدماء
كم احتربت أمم ثم عادت ... كأَنْ لم تذق في الحروب الشقاء
ألم تسمع الأرض نوح الجريح ... يُوَدِّع حتى جنون الرجاء
أما اختلطت بالصديد الدماء ... أما أفعم الموت نَتْنَ الهواء
وكم عُنُقٍ لقتيل، به ... عضاضُ عدو صريع العداء
عضاضٌ يحاول خلد الضغائ ... ن في جسد خَلْقُهُ للفناء
فيا عبثاً لجهود الأنام ... سيمضي الرخاء ويمضي العناء
ويُصْبِحُ من كان خصماً لدودا ... عزيزاً ويُبْغَضُ إِلْفُ المساء
عبد الرحمن شكري(247/55)
القصص
مقهى صورات
للفيلسوف الروسي تولستوي
كان في بلدة صورات من أعمال الهند مقهى يجتمع فيه المسافرون من جميع أطراف العالم فيتحاورون ويتسامرون.
وفي يوم من الأيام هبط إلى هذا المقهى عالم روحاني فارسي أفنى حياته في درس اللاهوت وفي التأليف فيه. ومن كثرة ما فكر وقرأ وكتب وناقش اختلط عليه الأمر وأصبح لا يعتقد حتى بوجود إله. فلما سمع الشاه بذلك نفاه عن بلاد فارس.
وكان لهذا الرجل عبد أفريقي لا يفارقه لحظة، فلما دخل سيده المقهى جلس هو على صخرة بجانب الباب تحت أشعة الشمس يطرد عنه الذباب. فلما استوى الفارسي على أحد المقاعد طلب من النادل كوباً من الأفيون. ولم يكد يفرغ من شربه حتى أخذ الأفيون يعمل عمله في رأسه، فقال يخاطب عبده من الباب وقد كان مفتوحاً:
(قل لي أيها العبد البائس هل تعتقد بوجود إله؟)
فأجاب العبد: (طبعاً). وفي لمح البصر أخرج من منطقته تمثالاً صغيراً من الخشب وقال: هاهو ذا. ذلك الإله الذي حماني وحرسني من يوم ولدت. وكل واحد من بلدنا يعبد الشجرة التي منها صنع هذا الإله.
دهش كل من كان في المقهى لهذه المحاورة الشاذة بين الفارسي وعبده. وما أتم العبد كلامه حتى انبرى له واحد وكان من أتباع برهمة إله الهنود وقال: (أيها الغبي الحقير! أتعتقد أن في الإمكان أن يحمل الله في منطقة رجل؟ لا يوجد غير إله واحد هو برهمة، إنه أعظم من جميع العالم، لأنه خلقه. برهمة هو وحده الإله العظيم، ولأجله شيدت المعابد على ضفاف الكانج وفيها يعبد البراهمة كهنته الحقيقيون الذين هم وحدهم يعرفون الإله الحقيقي دون سواهم. لقد مضي عشرون ألف سنة على ظهوره، وبالرغم من الفتن والثورات المتوالية ظل هؤلاء الكهنة قابضين على ناصية الأمور، وما ذلك إلا لأن برهمة قد حرسهم وحماهم طول هذه السنين).
قال ذلك البرهمي وهو يعتقد إنه أقنعهم جميعاً، إلا أن صيرفياً يهودياً كان حاضراً فأجابه(247/56)
قائلاً: (كلا، ثم كلا. إن معبد الإله الحقيقي ليس في الهند، والإله الحقيقي ليس إله البراهمة، وإنما هو إله إبراهيم واسحق ويعقوب، ولا يحمي أحداً غير شعبه المختار. . . بني إسرائيل. إن شعبنا هو شعبه الذي يحبه، وما تشردنا في أنحاء العالم إلا لأنه يريد تجربتنا. ولقد وعد بجمع شتات شعبه في أورشليم، وعندئذ - في معبد أورشليم، أعجوبة العالم القديم بعد رده إلى سالف عزه ورونقه - سوف يحكم الإسرائيليون جميع الأمم).
وهنا أجهش اليهودي بالبكاء، وأراد أن يستمر في الكلام إلا أن مبشراً إيطالياً قاطعه قائلاً: (إن هذا الذي تقوله ليس حقاً، لأنك تنسب الظلم إلى الله جل جلاله. وإنه لمن المستحيل أن يحب الله شعبك أكثر من بقية الشعوب. إن كان حقّاً ما يقال من أن الله في القديم قد فضل الإسرائيليين واصطفاهم على باقي العالمين، فإنه قد مضى ألف وتسعمائة سنة على خروجهم عليه وإغضابهم إياه، مما أدى إلى هلاكهم وتشريدهم في بقاع الأرض حتى لا ينتشر مذهبهم. ولقد اضمحل إلا من بعض أنفاس تصعد هنا وهناك. إن الله سبحانه وتعالى لا يفضل أحداً على أحد، ولكنه يدعو هؤلاء الذين يبغون الخلاص إلى أحضان كنيسة روما الكاثوليكية، ولا خلاص لمن كان خارج حدودها).
فألتفت قسيس بروتستانتي - اتفق إن كان حاضراً - إلى المبشر الإيطالي بوجه ممتقع وأخذ يقول له:
(كيف جاز لك أن تقول أن لا خلاص إلا لمن كان تابعاً لمذهبكم؟ لا يخلص إلا هؤلاء الذين يخدمون الله من صميم قلوبهم كما جاء في الإنجيل وكما أشار به المسيح).
عندئذ التفت إلى هذين المسيحيين، تركي من موظفي الكمارك في صورات، وقد كان جالساً في المقهى يدخن في (غليون)، وقال لهما بلهجة المسيطر:
(اعتقادكم في الديانة المسيحية باطل. لقد حل محلها قبل ألف ومائتي سنة دين صحيح هو دين محمد (ص). ليس لك إلا أن تجيل بصرك في أرجاء العالم لترى انتشار هذا الدين الصحيح في أوربا وآسيا، حتى في بلاد الصين المستنيرة. لقد قلتما أنتما إن الله غضب على اليهود وازدراهم. وذكرتما على سبيل المثال حالة اليهود الآن وما يقاسونه من ذلة ومسكنة، فما أحرى بكما أن تعترفا بصحة دين محمد لأنه هو الوحيد الظافر المنتشر طولاً وعرضاً. لا ينجو سوى تابعي محمد (ص) خاتم أنبياء الله).(247/57)
وهنا أراد الفارسي، وهو من أتباع الرسول العربي (ص) أن يتكلم؛ إلا أن جدالاً عنيفاً شجر بين جميع الأجانب الموجودين المنتمين إلى مذاهب شتى، فقد كان بينهم مسيحيون من الحبشة، ولاميون من تيبت، واسماعيليون ومجوس؛ وكان جدالهم في الله وكيف يجب أن يعبد؛ وكل يؤكد أن الله الحقيقي لم يعرف ولم يعبد إلا في بلده.
لم يبق واحد في المقهى لم يشترك في هذا الجدال والصياح إلا صينياً من أتباع كونفوشيوس. كان جالساً يرشف الشاي ويستمع إلى المتكلمين دون أن ينبس ببنت شفة. فلما رآه التركي جالساً على هذه الحالة تقدم إليه محاولاً اجتذابه إلى رأيه بهذه الكلمات: (أنت لم تنطق أيها الصيني العزيز حتى الآن بكلمة، ولم يكدر صفوك كل هذا الصخب، ولكنك إن تكلمت ففي وسعك أن تؤيد ما أقول. لقد حكى لي بعض التجار الصينيين الذين يطلبون مني المعونة، أنكم معشر الصينيين تعتقدون على كثرة ما عندكم من الأديان والمذاهب أن الديانة الإسلامية هي أفضل الديانات وأنكم تعتنقونها عن طيبة خاطر. أيّد إذن كلماتي وأبن لنا رأيك في الله الحقيقي ونبيه).
فهتف القوم صائحين: (حسن، حسن) ثم التفتوا إلى الصيني وقالوا (أسمعنا رأيك في هذا الموضوع).
فاغمض الصيني عينيه وأخذ يفكر ثم فتحهما ثانية وأخرج يديه من كمي ردائه العريضين وطواهما على صدره وأخذ يتكلم بصوت هادئ رزين:
سادتي: يظهر لي أن الذي يحول دون اتفاق الناس في قضايا الدين يرجع خاصة إلى الزهو الفارغ. فإن تفضلتم فأصغيتم إلي فسأقص عليكم قصة توضح لكم ما غمض من هذه المشكلة:
تركت الصين قاصداً هذه البلاد على ظهر باخرة إنكليزية طافت حول العالم. وقد رست هذه بنا الباخرة على الساحل الشرقي من جزيرة صومترا لنفاد الماء. وكنا جماعة من مختلف الأجناس، وكان الوقت ظهراً، فنزلنا إلى البر وجلسنا تحت شجرة من شجر جوز الهند على شاطئ قريب من القرية. ولما جلسنا تقدم نحونا رجل أعمى علمنا بعدئذٍ انه فقد بصره من كثرة ما حدق في الشمس محاولاً سبر أسرارها ومعرفة كنهها. سعى كثيراً للوصول إلى مبتغاه وأطال التحديق في الشمس دون أن يدركه إعياء حتى احرق وهج(247/58)
الشمس عينيه فاصبح أعمى. وبعدما فقد بصره صار يكلم نفسه: (نور الشمس ليس سائلا، إذ لو كان كذلك لكان في الإمكان صبه من آنية في أخرى وتحريكه كما يحرك الهواء الماء؛ ولا هو نار، إذ لو كان ناراً لأطفئه الماء، ثم هو ليس روحاً لأنه منظور، ولا هو مادة لان المادة تنقل، وبما أن نور الشمس ليس سائلا ولا نارا ولا روحاً ولا مادة فهو إذن لا شيء).
على هذه الطريقة كان يحاور. وبنتيجة تحديقه المستمر في الشمس وكثرة التفكير فيها كما أسلفنا فقد بصره وعقله وأصبح لا يعتقد بوجود الشمس.
وكان لهذا الأعمى عبد يقوده، فلما اقتربا منا أجلس العبد صاحبه تحت شجرة وارفة، ثم التقط جوزة من الأرض وأخذ يصنع منها سراجاً: أبتدأ أولا بتقشير الجوزة، ثم أخذ ليفة فبرمها ثم عصر دهناً من الجوزة في القشرة، ثم نقع الفتيلة فيها فاصبح له من ذلك سراج يضيء له الظلام.
وهنا تنهد الأعمى وقال لعبده: (ألم أكن على حق حين قلت لك يا عبد أن لا وجود للشمس؟ ألا ترى هذا الظلام الدامس؟ ومع ذلك يقول الناس بوجود الشمس! إذا كان صحيحاً ما يقولون، فما هي؟)
قال العبد: (لا أعرف ما هي الشمس. تلك ليست مصلحتي، ولكني أعرف ما هو النور ها قد صنعت نوراً أستطيع به أن أخدمك وأن أجد كل ما أطلبه في الكوخ).
وهنا التقط العبد قشرة الجوز قائلاً: (هذه شمسي) وكان رجلاً اعرج جالساً وإلى جانبه عكازه ينصت إلى هذا الحوار الشائق، وما كاد يلفظ العبد كلمته الأخيرة حتى أغرق في الضحك وقال يخاطب الأعمى:
يظهر انك ولدت أعمى! ولما كنت لا تعرف ما هي الشمس فسأقول لك ما هي. الشمس كتلة من نار تخرج من البحر كل صباح، وترتفع ثم تهبط كل مساء، وتتوارى بين جبال جزيرتنا. لقد رأى الناس جميعاً هذا، ولو كنت بصيراً لرأيتها أنت أيضاً.
ثم أعقبه سماك كان يستمع إلى الحديث موجهاً الكلام إلى الأعرج:
(يظهر لي أنك لم تر ما وراء جزيرتك. ولو طفت كما طفت أنا في زوق الصيد لعلمت أن الشمس لا تغيب في جبال جزيرتنا، ولكنها كما تشرق من البحر كل صباح، تغيب في البحر كل مساء. إن هذا الذي أقوله لك صحيح لا شك فيه لأني أشاهده بعيني كل يوم).(247/59)
وهنا قاطعه هندي كان من جماعتنا قائلاً: لشدَّ ما يدهشني أن أسمع هذا الهراء من رجل عاقل مثلك! كيف يجوز لكتلة نار أن تهبط في الماء ولا تنطفئ؟ الشمس ليست كتلة نار أبداً بل هي إله يدعى (ديفا) وهو ما ينفك يركب عجلة يدور بها حول جبل فيدو الذهبي فتهجم عليه في بعض الأحيان الحيتان المشئومتان (راكو وكيتو) وتبتلعانه؛ وعند ذلك تصبح الأرض في ظلام. إلا أن كهنتنا لا ينفكون يصلون ويضرعون لذلك الإله حتى يطلق سراحه. لا يظن أن الشمس تضيء بلدته وحدها إلا من كان غبياً مثلك لم يبرح جزيرته قط).
فقاطعه ربان سفينة مصرية وقال له: (أنت أيضاً مخطئ، ليست الشمس إلهاً ولا هي تدور حول الهند ولا حول جبلها الذهبي فحسب) لقد طوفت كثيراً في البحر الأسود وعلى طول سواحل جزيرة العرب، ورأيت أيضاً مدغشقر وجزائر الفلبين، وفي كل هذه الأماكن تبزغ فيها الشمس، مما يدل على أن الشمس لا تضيء الهند وحدها ولكن تضيء الأرض كلها؛ ولا هي تدور حول جبل واحد وإنما تشرق في الشرق الأقصى وراء جزر اليابان، ثم تغرب بعيداً. . . بعيداً في الغرب وراء الجزيرة البريطانية. ولهذا السبب يسمي اليابانيون بلدتهم (نيبون) ومعناه (مولد الشمس). أعرف هذا جيداً لأني رأيت كثيراً، وسمعت اكثر من جدي الذي ركب البحار كلها).
وكان يريد المصري أن يستمر في حديثه لو لم يقاطعه بحار إنكليزي كان في سفينتنا قائلاً:
(لا يعرف أحد عن حركات الشمس قدر ما يعرفه الناس في إنكلترا. ليس للشمس مشرق ولا مغرب، وإنما هي تدور دائماً حول الأرض. إن هذا الذي أقوله لا شك فيه. ألم ننته الآن من طوافنا حول العالم ومع ذلك لم نصطدم بالشمس؟ أينما حللنا وجدنا الشمس تطلع صباحاً وتغيب مساء كشأنها هنا!.
وأخذ الإنكليزي عصاً وراح يرسم دوائر على الرمل ليرينا حركات الشمس وكيف تدور حول الأرض، إلا أنه لم يستطع شرحها بوضوح فقال مشيراً إلى ربان السفينة: اترك شرحها إلى هذا الرجل فهو أعلم بذلك مني)
وكان ربان الفينة رجلا ذكياً يصغي إلى الحديث بسكون دون أن ينبس بكلمة، فلما طلب منه الكلام اتجهت الأنظار إليه وبدأ يقول:(247/60)
(أنتم تحاولون التضليل وما تضلون سوى أنفسكم. إن الشمس لا تدور حول الأرض، بل الأرض هي التي تدور حول الشمس مرة في كل سنة، وتدور حول نفسها مرة في كل أربع وعشرين ساعة. فيتضح من هذا أن لا فرق بين اليابان وجزر الفلبين وسومطرا وأفريقيا وأمريكا وأوربا وغيرها، فإن نصيب الجميع من أشعة الشمس واحد. فالشمس إذاً لا ترسل نورها على جبل واحد ولا جزيرة واحدة ولا بحر واحد حتى ولا على أرض واحدة، وإنما تستضيء بنورها جميع الكواكب أيضاً. فلو نظرتم في السموات عوضاً عن نظركم إلى الأرض لأدركتم كل هذا ولما زعمتم بعد ذلك بأن الشمس تضيء لكم أو لمدينتكم فقط).
هكذا تكلم الربّان الحكيم، وإذا تكلم فإنما يتكلم عن خبرة واسعة من كثرة ما ساح في البحار ومن طول ما حدّق في السموات.
هذا الذي قيل في الشمس يقال أيضاً في الدين. إن السبب الذي يحول دون اتفاق الناس في مسألة الدين إنما هو التفاخر وما يسببه من شحناء. كل رجل يريد إلهاً له، أو على الأقل إلهاً خاصاً لأمته، وكل أمة تريد أن تحصر في معبدها الله الذي لا يسعه العالم.
وما هذه المعابد بالنسبة إلى العالم الذي خلقه الله ليجعل فيه الناس أمة واحدة وديانة واحدة ألا وهي الإنسانية؟
لقد شيدت المعابد الإنسانية على غرار هذا المعبد الذي شيده الله للناس، كل معبد له أحواضه وأقبيته وصوره ونحوته ونقوشه وكتبه ومذابحه ومحاريبه وكهنته. ولكن أيوجد معبد له حوض كحوض الأقيانوس أو قبو كقبو السموات؟ وأين تلك المصابيح الباهتة التي تضيء المعابد الإنسانية من الشمس والقمر والنجوم؟ أو تلك الصور الجامدة من رجال أحياء تغمر قلوبهم بالحب؟
وهل يوجد وصف في أي سفر من الأسفار عن كمال الله وحسنه أروع وأبسط من هذه النعم التي أسبغها الله على عباده لخيرهم وسعادتهم؟ وهل من تضحيات أسمى وأرفع من هذه التي يقدمها الرجال والنساء على مذبح الحب؟ ثم ما هذه المذابح المنصوبة في الكنائس إذ قيست بقلب رجل كريم يطفح حباً وحناناً وقد رضى الله به مذبحاً لتقديم القرابين له.
كلما سما الإنسان في فهم الله ازداد به علماً، وكلما ازداد به علماً اقترب منه، وذلك باحتذائه إياه في إحسانه وعطفه وحبه.(247/61)
ليكف إذن ذلك الذي يرى نور الشمس يغمر العالم عن احتقار ذلك الرجل الخرافي الذي يرى في معبوده قبساً من هذا النور. ليكف حتى عن ازدراء الكافر، لأنه أعمى ولا يرى الشمس البتة).
هكذا تكلم الصيني تابع كونفوشيوس، فصمت كل من كان في المقهى ولم يعد أحد يدعي أن ديانته هي الفضلى.
يوسف روشا(247/62)
البريد الأدبي
توحيد برامج التعليم في الشرق
علمنا أن الأستاذ الجليل محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف يفكر في عقد مؤتمر عربي شرقي في القاهرة لدراسة الحالة العلمية والثقافية في البلاد الشرقية لمعالجة مشاكل التعليم معالجة تقوم على أساس صالح، وتستند إلى هدى القواعد التي تقررت في التربية الحديثة بما يلائم روح الشرق ويتمشى مع شخصيته. ولعل الباعث لهذه الفكرة ما لقيه المؤتمر الطبي العربي الذي عقد أخيراً في بغداد من النجاح وما ترتب عليه من النتائج الطيبة التي قوّت الروابط وأحكمت الأواصر.
وتتجه الفكرة لعقد هذا المؤتمر على أن تقوم هيئات المعلمين في مصر بتوجيه الدعوة إلى مثيلاتها في أنحاء الأقطار الشرقية، على أن تقوم الحكومة المصرية برعاية المؤتمر من الناحية المادية، وبكل ما يتصل بتكاليف المؤتمر. وقد علمنا كذلك أن بعض الهيئات المشتغلة بشؤون التعليم مهتمة جد الاهتمام بإخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود في وقت قريب، ولا شك أن انعقاد هذا المؤتمر سيكون له شأن كبير في التقريب بين الأمم الشرقية، وأن اتحاد برامج التعليم فيها سيكون أكبر عامل في إيجاد الوحدة العربية التي تتلهف عليها النفوس منذ أزمان.
المؤتمر الدولي للجذام
انعقد في يوم 21 مارس في مدينة القاهرة المؤتمر الدولي للجذام، وهو المؤتمر الذي نظمته الحكومة المصرية بالاشتراك مع الجمعية الدولية للجذام، فكان أول مؤتمر من نوعه وفي أهميته وخصوصاً أن مرض الجذام مرض خبيث لم يكتشف للآن المصل الواقي من شره، وكل وسائل العلاج المعمول بها الآن إنما هي عزل المرض وهي في الواقع طريقة للوقاية لا للعلاج، فمن صالح الإنسانية ومن البر بها أن يجتمع أعلام الطب من كل دولة للبحث في شأن هذا المرض العضال.
ولقد تفضل جلالة الملك فافتتح الجلسة الأولى للمؤتمر، وقد رفعت بهذه المناسبة أعلام الدول التي اشتركت فيه على دار الأوبرا الملكية، ويبلغ عدد تلك الدول 55 دولة ويبلغ عدد الأعضاء الذين اشتركوا فيه حوالي ثلاثمائة. وقد أقام معالي وزير المعارف حفلة(247/63)
تعارف بين الأعضاء بفندق الكونتننتال، ثم أقام الوفد الفرنسي حفلة أخرى ألقى فيها (عمدة باريس) خطبة نوه فيها بأهمية عقد الاجتماعات العلمية الدولية لخير الإنسانية عامة وخصوصاً لبحث الأمراض المستعصية مثل الجذام، وأشاد بفضل مصر في كرمها ودعوتها، ثم وجه الدعوة للمؤتمرين بالنيابة عن الحكومة الفرنسية وعن بلدية باريس أن يكون الاجتماع الثاني للمؤتمر في مدينة باريس أملا أن تجاب الدعوة.
وقد شكر له الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك سكرتير عام المؤتمر تلك الدعوة ووعد بعرضها على لجنة تنظيم المؤتمر المصرية
القرآن في نظر الغربيين
ألقى الدكتور خالد شلدريك محاضرته الثالثة بقاعة المحاضرات بدار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهرة في موضوع (القرآن الكريم في نظر الغربيين)، وقد بدأ محاضرته بالكلام عن الأناجيل والكتب السماوية المنزلة، ثم تكلم عن الحروب الصليبية وتأثيرها في نهضة الغرب وإيقاظ الشعوب الأوربية، فإن الصليبيين نقلوا من فلسطين المدنية والثقافة وكثيراً من المعارف والمظاهر التي لم تكن تعرفها أوربا في ذلك العهد، حتى لقد كانت تغط في نوم عميق من الجهل، وترسف في قيود التعصب الممقوت والتدهور الأخلاقي. ثم أنتقل الأستاذ المحاضر إلى الكلام عن ضعف الدعاية الإسلامية في أوربا، وعدم وجود تراجم صحيحة للقرآن غير ترجمة (بكتول) الذي اعتنق الديانة الإسلامية عام 1909، وقد أطلق على كتابه أسم (ترجمة معاني القرآن)، ولكن من المتعذر على كل أوربي اقتناء نسخة من هذه الترجمة لفداحة قيمتها، ثم ألمع إلى استعداد الأوربيين والأمريكيين لدرس تعاليم الدين الحنيف إذا ما وجدوا إلى ذلك سبيل.
ثم ختم محاضرته بالإشارة إلى إيجاد جبهة دينية منيعة لصد التيارات الشيوعية والاشتراكية وغيرها من المذاهب الاجتماعية الجديدة التي تخالف الأديان السماوية، وتهدد المبادئ الصالحة، والأخلاق والعقائد. وبهذه المناسبة نقول: إن القائمين بالأمر في مصر قد عادوا يهتمون بمسألة ترجمة معاني القرآن، وهم يرون إدخال عناصر جديدة مهمة في اللجنة التي كانت قد تألفت لذلك من قبل.
اللغة الإيرانية والحروف اللاتينية(247/64)
تريد الدولة الإيرانية أن تصنع بلغتها صنيع تركيا الجديدة، فهي تعمل على أن تخلص معجمها من الألفاظ المستعارة والدخيلة وأن تكتبها بحروف لاتينية كما فعلت الحكومة التركية منذ سنوات. وقد عقد في 18 الجاري مؤتمر لغوي برياسة جلالة الشاه، وجرى البحث حول تنقية اللغة الإيرانية من الألفاظ الأجنبية، وقد استعان المؤتمر ببعض المعمرين على انتقاء ألفاظ إيرانية قديمة لتستعمل مكان الكلمات الأجنبية؛ ولكن لما طرحت على بساط البحث قضية استبدال الحروف اللاتينية بالحروف الإيرانية الفارسية، لاقت معارضة قوية بحجة أن هذا التغيير يفقد اللغة الإيرانية قيمة مؤلفات أثرية واجتماعية لا يمكن نقلها إلى الإيرانية بحروف لاتينية؛ ولذلك تأجل البحث في هذه المسألة إلى وقت آخر حتى يتم النظر في هذا الاعتراض القائم
ترجمة القرآن في ألبانيا
اتجهت الأفكار في بولونيا إلى تعريب القرآن ونقله إلى لغة البلاد وهي اللغة الأرناؤوطية، وقد جاء في البريد الأخير أن الحكومة هناك دعت رؤساء الدين إلى اجتماع عام في دار الحكومة حضره جلالة الملك أحمد زوغو، وقد تناول البحث ترجمة القرآن، ولعل من المعلوم أن اللغة الأرناؤوطية تكتب بحروف لاتينية من قبل الحرب العالمية، وليست مسألة ترجمة القرآن إلا مظهراً من مظاهر نهضة شاملة في النواحي الإسلامية تقوم بها الحكومة في تلك البلاد.
الكشف عن مسجد الحجاج
كانت دار الآثار في بغداد قد قررت في السنة الماضية أن تأخذ على عاتقها القيام بأعمال التنقيب في أطلال (واسط)
وقد جاء في البريد الأخير من بغداد أن التنقيبات التي أجريت كشفت عن مسجد صغير ومسجد كبير ومقبرة وضريح وحصن وسوق، وقد عرضت الآثار التي استخرجت من الآثار المذكورة في غرفتين من غرف دار الآثار العربية
ولم تترك هذه التنقيبات مجالاً للشك في أن المسجد الذي كان قد اكتشف في السنة الماضية هو المسجد الذي شيده الحجاج بن يوسف الثقفي عند تأسيس المدينة، وقد أسفرت أعمال(247/65)
الحفر عن وجود ثمانية صفوف من الأعمدة الحجرية الضخمة، ويبلغ قطر كل منها تسعين سنتيمتراً، والقسم الأعظم منها منحوت ومزخرف بأشكال بديعة. وقد أدى اكتشاف مسجد الحجاج بهذه الصورة إلى تعيين موقع قصر الإمارة، وتتوقع دار الآثار أن التنقيبات التي ستجري خلال هذا الموسم وفي المواسم القادمة ستسفر عن نتائج علمية مهمة تتصل بتاريخ القرن الأول للهجرة.
تذكارات مدام كوري
أذاعت الآنسة إيف كوري من لندن عن والدتها مدام كوري مكتشفة الراديوم، فذكرت كيف كان والداها يدينان بالعلم ويخلصان له، ويعرضان حياتهما للخطر الشديد في سبيل استكناه أسراره؛ فلما اكتشف اثنان من العلماء الألمان عنصر الراديوم سنة 1900 ظل اكتشافهما بدون قيمة حتى أجرى آل كوري تجاربهما في جسميهما فوجداه يحرق ويحترق. ولم يقف فقر آل كوري في سبيل النجاح المنشود، بل كانا يجريان تجاربهما في بيت خرب (غير مبلط) ذي شبابيك مهشمة (بدون زجاج) وكانت لهما طفلة غير إيف، كانت صرخاتها تشحذ فيهما همة العلماء الراسخين في العلم، وقد حدث أن منحت إحدى الجمعيات آل كوري ميدالية علمية ذهبية، فسخر بها الوالد العالم، ودفع بها إلى الطفلة تلعب بها، وهو ينظرإلى جدران غرفته وشبابيكها ويتنهد من أعماقه، ولولا أن أسعفه الحظ فنال جائزة نوبل للعلوم مرة ونالتها زوجته مرة أخرى، لما عرف العالم قيمة الراديوم إلى اليوم.
الإذاعة المصرية
أخذت محطة الإذاعة المصرية تنشط من سباتها قليلاً، وأخذت تعني بنواحي الجد من الحياة، لكنها لم تنتبه بعد إلى أنها أداة هامة من أدوات تربية الذوق المصري من جهة وأداة هامة من أدوات الإعلان عن مصر من جهة أخرى - فهي ما تزال تذيع الاسطوانات الرقيعة وما تزال تحجم عن معاملة المغنين الذين هم من الطبقة الأولى كما يقولون.
والمزعج أنه قد تقرر أن يكون لمصر موجة خاصة قوية (100 كيلو) يمكن بها أن تسمع مصر في اليابان وأمريكا، فماذا تذيع مصر على هذه الموجة وزعماء الأدب والفكر لا يزالون بعيدين عن هذه المحطة؟ ويجمل أن ننبه محطتنا إلى إذاعاتها من قاعة يورت، وما(247/66)
تجره هذه الإذاعات من أوخم العواقب على سمعة الأخلاق في مصر، فإنه يقصد إلى هذه القاعة أناس من المهرجين الصاخبين، وهم يذهبون إليها ثملين عادةً، فإذا أخذتهم النشوة خرجت من أفواههم عبارات وأصوات نحسبها لا تشرف مصر في آفاق العالم. . . فلتفهم محطة الإذاعة هذا.
ولقد نشرت الإذاعة البريطانية تقريرها عن سنة 1937، فإذا دخلها 3. 356. 074 جنيهاً، أفيدري القارئ كم من هذه الملايين خصص (للبروجرام فقط) إنه 51 ? من مجموع الدخل أي 1. 729. 615 جنيهاً، والجمهور مع ذاك يطلب المزيد!
هل قتل جوركي؟
حوكم في روسيا في الأيام الأخيرة طائفة من كبار الأطباء الذين كانت تستعملهم الحكومة في طبها القضائي. وقد صدر الحكم بإعدامهم رمياً بالرصاص. والتهمة التي وجهت إليهم هي أنهم قتلوا أو تسببوا في قتل جوركي العظيم (أديب الصعاليك) الذي توفى منذ عامين والذي كان أعظم رجل يعيش في روسيا إن لم يكن في العالم أجمع، كما تسببوا في قتل ولده وقتل كثيرين من عظماء روسيا. وقد ذكرنا في هذا الباب كيف استعبدت الحكومة المخرج الكبير ماير هولد حين أحست أن هواه ليس في صفها فيما ينتجه للمسرح السوفيتي - وهذا دليل على أنه المتهم الأصلي في هذه المحاكمات الأخيرة لم يؤخذ بجرمه، لأنه الحكومة نفسها. وفي الحق لقد كنا دائماً ندهش لموقف جوركي من الطاغية ستالين ومن الثورة البلشفية نفسها، وكنا نجزم أنه موقف منافق لا ينطوي إلا على التسليم الذي يشبه تسليم العجائز، ولا يبعد أن يكون ستالين قد عرف ذلك من سيد أدباء الروس فدبر له هذه القتلة الشنيعة بأيدي أولئك الأطباء المساكين.
مصر والثقافة العربية في اليمن
أوفدت الجامعة المصرية منذ عامين بعثة من أعضاء هيئة التدريس بكليتي العلوم والآداب إلى اليمن، وقد انتهت من دراسة طائفة كبيرة من المسائل التي وقفت عليها في بلاد اليمن دراسة علمية بحتة، ولا تزال بعض تلك المسائل قيد البحث والدراسة
وقد أعدت البعثة تقريراً أولياً عن الأعمال التي قامت بها في بلاد اليمن، والأبحاث التي(247/67)
وفقت إليها وقامت بها على الهضاب المرتفعة وداخل وديان حضرموت.
أما فيما يتصل بالثقافة العربية في تلك البلاد، فإن عضو كلية الآداب يضع تقريراً في هذا الشأن، ومما قال فيه: أن العراق اكثر عناية بإذاعة الثقافة العربية في تلك البلاد، وإن المستقبل لها في اليمن، على أن في إمكان مصر أن تنشئ العلاقات بينهما وبين اليمن بتقوية المحطة الإذاعة اللاسلكية المصرية، ووضع برنامج تعني فيه الحكومة بأمر الثقافة التي تلائم اليمنيين؛ وفي إمكان مصر كذلك أن توفد البعثات العلمية إلى تلك البلاد، وأن تعد برنامجاً لمحاضرات تلقى في مصر عن اليمن يتناول فيها المحاضرون حال تلك البلاد من مختلف الوجوه.
ومما يجمل ذكره أن بعثة من مختلف المعاهد الإنجليزية قد زارت اليمن، وقامت بعدة أبحاث ودراسات وأن النتائج التي انتهت إليها هذه البعثة تتفق تماماً والنتائج التي انتهت إليها بعثة الجامعة المصرية التي أذيعت منذ حين في الأوساط العالمية العلمية والأدبية
محاضرات في النبات المصري القديم
تقيم في مصر الآن السيدة فيفي لورنت تكهولم، إحدى الأجنبيات المشتغلات بالنباتات المصرية القديمة والحديثة. وهي زوج المرحوم العلامة جنار تكهولم أستاذ علم النبات بكلية العلوم الأسبق بالجامعة المصرية، ومؤسس هذا العلم فيها سنة 1925.
وقد دعت الجامعة هذه السيدة لإلقاء محاضرات في هذا العلم على طلاب السنتين الثالثة والرابعة بكلية العلوم
وكان زوجها قد حضر إلى مصر بعد أن رشحته جامعة سويدية لكرسي النبات في الجامعة المصرية، وبعد وفاته ظلت زوجه تقوم بأبحاثها في هذا الموضوع، وقد زارت مختلف الممالك الأوربية استزادة في هذا الباب، ووفقت لطائفة من المجموعات النباتية النادرة التي تعد ذات قيمة فنية كبيرة في الأوساط العلمية
وقد أعدت طائفة من البحوث في هذا الموضوع واعتزمت تضمينها عدة مؤلفات، فرأت الجامعة إزاء القيمة العلمية التي تعود على مصر سواء في الدراسات الجامعية أم في الدعاية في الخارج، أن تطبع هذه الكتب على نفقتها.
وقد هيأت المؤلفة، مجلدها الأول، ويقع في حوالي 600 صفحة، على أن توالي هذا العمل(247/68)
العظيم.
موسوعة ثقافية عند الهند
صدرت بالإنجليزية موسوعة ثقافية عن الهند اشترك في تأليفها كبار الأدباء الهنود وفلاسفتهم وعلماؤهم وكهنتهم وموسيقيوهم، وساعدهم على ذلك أدباء وعلماء عالميون. فمن الهنود الشاعر الكبير رابندرانات طاغور، والفيلسوف راضا كرشنان، والموسيقي ديليب روي. ومن الأجانب رومان رولان، والسيرجون مارشال. . . الخ. وقد تناولت الموسوعة ديانات الهند وكتبها المقدسة وتاريخها القديم والحديث وعلومها وآدابها وفنونها، وقد خصت كاهنها الأكبر (راما كرشنا) بجزء عظيم من مجلداتها الثلاثة، وقد أثار صدور هذه الموسوعة الحافلة البحث القديم المتعلق بمنشأ الحضارة على وجه الأرض، أهو العراق كما برهن على ذلك الأستاذ الأثري ليوناردولي الذي اكتشف آثار أور، والذي أيده في هذا الرأي الدكتور محمد عوض محمد، أم كان منشأ هذه الحضارة في مصر كما برهن على ذلك أكثر علماء الآثار وفي مقدمتهم المرحوم الدكتور أليوت سميث الأستاذ بمدرسة الطب المصرية (قبل ثلاثين سنة)، أم أن تلك الحضارة قد نشأت في الهند في مقاطعة البنجاب وحوض نهر السند كما يقول بذلك أحد محرري الموسوعة الهندية وهو السيرجون مارشال؟
والعجيب في ذلك الحوار أن كلا من محبذي إحدى هذه النظريات يستند في صحة ما ذهب إليه إلى تقدير السنين العددي لعمر الحضارة التي نشأت في إحدى هذه الجهات، والجميع لا يرجعون بها إلى أكثر من ستة آلاف سنة. فهل فاتهم أنه قد اكتشف في البداري (المدينة المصرية ذات التاريخ المعروف) مجموعة أثرية من أدوات الإنسان الأول يرجع تاريخها إلى ما قبل 12. 000 سنة؟
نسبة بيت شعري
فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي:
اطلعت على كلمتك في بريد الرسالة الغراء عدد (245) تسائل فيها قراء الرسالة عن نسبة البيت:
له حاجب عن كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب(247/69)
فأعجبني منك تلك الدقة الأدبية. والبيت كما يقول أبو هلال العسكري في كتابه ديوان المعاني (ج 1 ص 23) لأبي الطمحان مولى ابن أبي السمط. قال أبو هلال: وقول أبي الطمحان مولى ابن أبي السمط:
فتى لا يبالي المدلجون بنوره ... إلى ما به ألاَّ تضيء الكواكب
له حاجب عن كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب
والحق ما يقوله أبو هلال فقد عرف مروان بن أبي حفصة وروى له في ديوانه ولقبه بأبي السمط (ج 1 ص 65) فلو كانت الأبيات له لما خفي عليه، وقد اتفق مع الرواة في رواية البيتين معاً، وأبو هلال أحق بالقبول من كتاب البلاغة في هذا المقام. أما أبو الطمحان فهو حنظلة بن الشرقي القيني أدرك الإسلام ومات قبل الهجرة: ذكره أبو تمام في حماسته وابن حجر في الإصابة وضبطه القاموس.
عبد الحسيب طه
تطور يتطور تطوراً
الألفاظ العربي قسمان: قسم نبت في (الجزيرة) في الجاهلية وقسم نشأ فيها وفي غيرها من البلاد الإسلامية في وقت (الحضارة العربية). وكتب اللغة المعروفة بالمعجمات حرصت على تقييد القسم الأول. والقسم الثاني (أي جلّ الكلمات العربية) إنما هو في مؤلفات العلم والأدب والمصنفات الخاصة، وهو ينتظر معجماً عاماً شاملاً ينتظمه - وهمة العرب تلك الهمة - يوم القيامة إن شاء الله تعالى. . .
ومن هذا القسم لفظة (التطور) وقد حسب الأستاذ أسعد خليل داغر صاحب (تذكرة الكاتب) وفاضل معروف من مراسلي (الرسالة) في (دار السلام) في هذه الأيام - أنها عصرية جردَيّة، فغلّطاها.
قال الأول: (ويبنون فعلاً من الطور بمعنى الحال على تفعّل فيقولون تطورت الأمور وهم في غنى عن مخالفة المنقول والمسموع بما في اللغة من الأفعال التي تفيد هذا المعنى).
وقال الثاني: (ورأيته يمر على كلمة تطور في دفاتر التلاميذ فلا يصححها، فحاسبته أشد الحساب، فقال: إن الله يقول في كتابه العزيز: (وخلقناكم أطواراً) فقلت: نعم إن الله خلقنا(247/70)
أطواراً ومن أجل ذلك لا يصح أن نتطور يا أستاذ).
وهذه اللفظة - التي غلط هذان الفاضلان في تغليطها - عربية كّيسة حضرية من (بنات الحضارة) وشيخة مسنة عمرها ألف سنة
قال السبكي في (طبقاته الكبرى): (من كرامات هذه الأمة التطور بأطوار مختلفة وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال)
وقال ابن خلدون في كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر): وتطوروا - يعني العرب - بطور الحضارة والترف في الأحوال)
وقال أبو البقاء في (كلياته): (وإيجاد شيء لا عن شيء محال بل لا بد من سنخ للمعلول قابل لأن يتطور بأطوار مختلفة)
وقال الشوكاني في (البدر الطالع) في سيرة أبي الفضل المجدالي: (ثم رحل نحو المملكة المصرية وتطور على أنحاء مختلفة)
فوجب - وهذه أقوال القوم - أن يقبل الأديب العربي (التطور) غير متوقف ولا متلوّم
(* * *)
الوصل والفصل
قال أحد الفضلاء في الجزء (245) من (الرسالة الغراء): (طابت السهرة وطابت ثم طابت) والقائل من الأساتذة الأدباء فكيف عطف (طابت) الثانية على (طابت) الأولى وبين الجملتين كمال الاتصال وهو ظاهر مثل الشمس في اليوم غير المغيم فكيف هذا العطف والاتصال الكامل؟!
ومن أمثلة الفصل عند كمال الاتصال في كلام الله: (أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون) (فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا)
وقد قالوا فيما نحن في لخطر شأنه، وعظم قدره: (قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: (معرفة الوصل من الفصل) وهذا القول في (العقد). وفي (دلائل الإعجاز): (العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها قد بلغ من قوة الأمر أن جعلوه حداً للبلاغة؛ ذلك لغموضه ودقة مسلكه، وإنه لا يكمل للإحراز الفضيلة فيه أحد(247/71)
إلا كمل لسائر معاني البلاغة. وأعلم أنه إنما يعرض الإشكال في (الواو) دون غيرها من حروف العطف).
وعبد القاهر في طبّ الكلام حذام
فالأديب الأريب لا يصل ما يجب فصله، ولا يقطع (من) يجب وصلها أو وصله. . .
(الإسكندرية)
(* * *)
تصحيح
في النقلة (356): (كأن دنيته عليه) وهي: كأن دنية عليه. وفي النقلة (358): (حرمته مأواة ومرعاه) وهي: حرمته ماءه ومرعاه.(247/72)
الكتب
نوابغ الشباب
للأستاذ قاسم جودة
يشتمل هذا الكتاب على عشرة تراجم من سير الأبطال والعباقرة (الذين كان الشباب صفة بارزة تقترن بما قدموا من خير أو بذلوا من جهد، أو بلغوا من نجاح، أو أبدوا من وطنية وشجاعة، أو كسبوا لأنفسهم من فخر التضحية، وشرف الجهاد) وقد أحسن المؤلف الفاضل إذ حرص على أن يكون هؤلاء النوابغ (من آفاق متباعدة، وأجناس مختلفة، وأزمان متباينة، ففيهم رجل السياسة، ورجل الحرب، ورجل الموسيقى ورجل الشعر، وفيهم العربي والمصري والإنجليزي والفرنسي واليوناني، وقد تفاوت بينهم الزمن من عهد الحضارة الإغريقية القديمة، إلى عهد الحضارة الآلية في القرن العشرين)
فأنت في استجلاء هذا الكتاب تستجلي ألواناً من الرغبات والأهواء في نفس الشباب العبقري، وتتبين وجوهاً واتجاهات تتباعد في أشكالها بعوامل الزمان والمكان، وتقف على عبقريات فنية تتوزع في نواحٍ مختلفة من نواحي الحياة، ثم أنت بعد هذا كله إزاء صورة دقيقة رائعة كلها الفن والإتقان. وناهيك بصور تتجلى فيها شخصيات الإسكندر المقدوني الفاتح العظيم، وطرفة بن العبد الشاعر القتيل، وموتسارت طفل المعجزات، وتوماس تشانرتون شهيد الأنفة وصريع الفاقة، ووليم بت السياسي العنيف، ومصطفى كامل فخر الشباب المصري في الوطنية وكيتس شاعر الحق والجمال، وجان دارك رمز الإيمان والتضحية وأندريه شنييه نصير الحرية والدستور، وجينمر فارس الهواء الأعظم.
ولقد نهض المؤلف بموضوع كتابه خير نهوض وأكمله، فإنه شاب يتوثب للمستقبل، ويتحفز للغد، ولا شك أن الشباب خير من يفهم الشباب ويقدره حق قدره، ثم هو أديب واسع الثقافة، شامل المعرفة، تتصل دراسته واطلاعه بكثير من الثقافات الأوربية الحية، ومن ثم أمكنه أن يوفي القول عن شخصيات كتابه وهم - كما قال - من آفاق متباعدة، وأجناس مختلفة، وأزمان متباينة؛ وإذا كانت التراجم بطبيعتها - كما قال كارليل - أكمل الموضوعات نفعاً، وأعمها لذة ومتعة للنفوس، فإن لهذا الكتاب ميزة ظاهرة يتميز بها في نهجه وأسلوبه وتراجمه، إذ جمع مؤلفه الفاضل (بين البحث التحليلي العميق، وبين الجانب(247/73)
القصصي الطريف، فليست فصول الكتاب بالتحليل العلمي الجاف، ولا بالقصص التاريخي البحت، ولكنها تجمع بين الفضيلتين، ففيها نصيب للباحث المدقق الذي يطلب الحقيقة التاريخية في مصادرها الثابتة، وفيها حظ آخر للقارئ السطحي الذي ينشد المتعة الخفيفة وتزجية الفراغ) ومن هذه الناحية كان الكتاب رغبة كل قارئ، وقد أحسنت دار الهلال في اختياره هدية لقرائها الكرام.(247/74)
السير
للأستاذ محمد سعيد لطفي
نقرأ في هذا الكتاب نخبة طيبة من المحاضرات التي أذاعها الأستاذ الفاضل محمد سعيد لطفي من دار الإذاعة المصرية على جمهور المستمعين، وهي محاضرات تدور على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير بعض أصحابه وقرابته، ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين ورجال بني أمية وبني العباس حتى نهاية الخليفة الأمين، وما كان بينه وبين أخيه المأمون من حروب على الملك، وتطاحن على السلطان.
ولقد عنى الأستاذ الفاضل وهو يتحدث عن سير هؤلاء الأشخاص بالكشف عن مواهبهم الشخصية، ونزعاتهم الذاتية، وخصائصهم التي تميزوا بها في حكمهم وسياستهم، وما قاموا به من الأعمال الجليلة، والأحداث الحافلة، فجاء كتابه من وراء هذا صفحة مشرقة رائعة من التاريخ العربي، تكشف عن كثير من النواحي القوية فيه، وتعطي القارئ فكرة شاملة عن هذا التاريخ الحافل بالجلائل والأحداث
أما أسلوب الكتاب فأسلوب عربي سليم، جزل متدفق، تطل من شخصية الأستاذ سعيد لطفي، وتظهر فيه روحه ومشربه، وهي روح تفيض بالدين واليقين، وتمجد القومية العربية. ولقد أعجبني الأستاذ إذ راعى في مسلكه أقدار المخاطبين؛ فتنكب التعسف والأثقال، وابتعد عن الحشو في الرواية التاريخية على نحو ما هو شائع في المصادر القديمة، بل نهج نهجاً قصصياً سائغاً يصفه هو لك إذ يقول: (رويت التاريخ كما نتحدث ساعات التسلية، فلم أرهق المستمعين، ولم أذكر اسماً إلا لضرورة، ولا بلداً إلا لحادث جلل، ونزهت من تناولت سيرهم جميعاً عما لهج به الحاسدون، وأدخله عليهم الأعداء والموتورون).
وقد أحسن المؤلف الفاضل إذ عنى بإيراد كثير من الخطب والأشعار والرسائل والوصايا التي تعتبر من وثائق التاريخ العربي، ثم في الوقت نفسه تعتبر من النصوص الأدبية الرائعة، ومن ثم لم يكن الكتاب كتاب تاريخ وسير فحسب! بل كتاب أدب وتاريخ، ينفع الأديب كما يفيد المؤرخ، ولا شك أن في الكتاب هفوات ولكنها طفيفة، ولعل الوقت ينفسح لنا فيما بعد فنتناول الكتاب بفصل شامل على صفحات الرسالة.(247/75)
محمد فهمي عبد اللطيف(247/76)
العدد 248 - بتاريخ: 04 - 04 - 1938(/)
محنة شهر!!
ذلك الشهر كان مارس! ومارس في أساطير الأولين أله الحرب! ابتليت فيه مصر الوديعة بسطوة الهوى على الرأي، وعدوان الشهوة على الخلق، فجاءها بالخلاف وذهب بالأمن، وابتدأ بالصراع وانتهى إلى الفجيعة. فليت شعري ماذا جنى الزاعمون على الناس من بلايا الناس؟
كانت مصر طوال هذا الشهر كالبركان الجهنمي الثائر، يغلي بالحميم ويرمي بالحمم ويطغى بصهيره الخانق على المغاني والربوع فيهلك الأموال ويزهق الأنفس، ثم يكون ظلاماً في الأرض، وقتاماً في الجو، ونتناً في الهواء، ومواتاً في الطبيعة
وكانت الأمة المسكينة تنفق على معارك الانتخاب الدائرة بين الأحزاب اكرم ما تملك من المال والدم والخلق، وهي لا تدري لهذه الضحايا الغالية التي لا ثواب عليها ولا عوض منها، حكمة ظاهرة ولا ضرورة ملجئة
وكان المرشحون المتنافسون يتعاقبون على الدوائر الانتخابية تعاقب السنين المواحق، فلايتركون وراءهم إلا أُسَراً تتفرق، ووشائج تتمزق، وضمائر تشترى، وذمما تسرق، وعصبية تثور، وأحقاداً تبعث، وأموالا تهلك، ودماء تسفك، وأعمالاً تبور.
فتعالوا نناشدكم الله يا نوابنا وأحزابنا وزعماء الرأي فينا. هل تشعرون بثقل هذه الأوزار التي حملتموها في سبيل التكالب على النيابة والتسابق إلى الحكم؟
ألا تريدون أن تنسوا أن العضوية في مجلس النواب أو في أندية الأحزاب ليست إلا وصفاً يتمم العنوان، ومنصباً يلازم الغنى، ووسيلة تعين على العيش، وطريقة تؤدي إلى الجاه؟
ألا تحبون أن تذكروا أن النيابة عن الأمة معناها حلول أمة في فرد، واستيعاب فرد لامة؛ فهواها غالب على هواه، ورضاها مقدم على رضاه، ورأيها مستبد برأيه، وصوتها مجلجل في صوته، وهمها شاغل لفراغ باله؛ فإذا مثل النائب في المجلس دور الكمبرس، أو وقف في المناقشة موقف الإِمِّعة، كانت نيابته بعد انتخابه مصاباً بعد مصاب، وويلاً بعد عذاب وكفرا بعد خطيئة؟
ألا تودون أن تفهموا أن البرلمان بالأمس كان حسبه أن يكون مظهراً من مظاهر الاستقلال، وعنواناً من عناوين الدولة، وأن العضو فيه كان حسبه أن يشارك في أبهته، ويشرب أكواب الليمون في ردهته، ويفتح مغاليق الأمور بقوته؛ أما اليوم فهو تعبئة لكفايات(248/1)
الشعب، وتجميع لرغبات الأمة، وتهيئة لقواها العاطلة وأسلحتها الكليلة أن تضمن لنا حق الحياة والكرامة، وللوطن حق العزة والسلامة؟
الأسود الروابض على الوادي تتحلب أفواهها شرهاً إلى افتراسه، والنسور الحوائم على حواشي الوطن تترقب الفرصلانتهاسه، وطاغية روما الطموح ينذر الناس أنه يرصد الاهوب في البر والبحر والسماء لحرب جديدة. فهل يشق عليكم أن تدركوا أن للنائب في هذا الوقت العصيب عملاً غير الحفلات والوساطات والغنيمة، وأنه إذا دخل المجلس من غير مبدأ، وجرى فيه إلى غير غاية واستغل حقوقه من غير عمل، كان داخلاً في غير أهله، ونازلاً في غير ملجئه؟
أحزابنا متعددة كتعدد الأحزاب الأوربية في البرلمانات الديمقراطية العظيمة، ولها بمقتضى هذا التعدد أندية وصحف واتباع؛ ولكنها تختلف عن أحزاب الأمم بأن ليس لها خطة في الإصلاح مرسومة، ولا غاية في السياسة معلومة؛ فهي إلى اليوم تتميز بالأسماء لا بالبرامج، وتتقارع بالمقالات لا بالخطط، وتتنافس في بلوغ الحكومة لا في خدمة الأمة
من اجل ذلك كان مرشحوا الأحزاب لا يجدون ما يقولون في خطبهم الانتخابية غير الجمل الجوف، والوعود المبهمة، والتهم الجريئة والدعاوى العريضة والعيوب الخاصة، حتى تركوا البلاد من صعيدها إلى ريفها ضجة من البذاء، وغمة من البلاء، ومزقاً من الأعراض والخلق
على أننا نرجو أن تكون هذه المحنة آخر المحن، وان تموت في سبيل الوطن الحزازات والإحن، وأن تنكشف حماية الحيرة من عيون الأمة فتبصر وجه الرأي الذي تستقيم به الحال، ويستقر عليه الأمر؛ فقد عودنا شهر مارس أن يكون حميد الأثر في الحياة المصرية. ففي مارس من عام 1919 استيقظ أبو الهول، وشبت ثورة النهضة، وتنافس في الجهاد النساء والرجال، وتعانق على الوداد الصليب والهلال، وتسابق إلى الاستشهاد الشيوخ والأطفال، وسالت انفس الشباب ضحايا على مذبح الحرية!
وفي شهر مارس من عام 1922 ألغيت الحماية، وأعلن الاستقلال، وصدر الدستور!
وفي شهر مارس من كل عام تتجدد الحياة، وتهتز الأرض، ويورق الشجر السليب، ويمرع الوادي الجديب، وينشد الربيع الباكر أناشيد الجمال والحب والأمل!(248/2)
احمد حسن الزيات(248/3)
داء الشعور بالحقارة أيضاً
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قرأ أديب مقالة داء الشعور بالحقارة فقال إن الصفات التي ذكرتها صفات شائعة في النفس الإنسانية. وكأنه بهذا القول يريد أن ينكر أن في النفس ما يصح أن يسمي داء الشعور بالحقارة فذكرت الأديب بأن صفات الخير والشر كلها موجودة في كل نفس، فلكل نفس منها نصيب قل أو كثر، ولكن هذه الحقيقة لا تمنع من تفاوت النفس تفاوتاً عظيماً حسب نصيبها من صفات الخير أو الشر. ولا نريد أن ننكر أن جرثومة الحقارة تلفي حتى في النفوس العظيمة؛ هذا أمر نريد أن نثبته وإلا ما استطاع القارئ أن يعترف بما ذكرناه في مقالتا من أن داء الشعور بالحقارة قد يصير وباء في بعض البيئات، وأن له عدوى كعدوى الأمراض الجثمانية؛ فلولا هذه الجرثومة التي تشترك فيها النفوس قاطبة ما استطاعت نفس أن تؤثر في نفس أخرى وأن تحملها على محاكاتها في الأفعال أو الأقوال الناشئة من شعورها بالحقارة
إن صفات الخير أو الشر شائعة في النفوس الإنسانية؛ وهذا سبب العدوى وسبب المحاكاة. ولكن شيوع صفة من الصفات في النفوس لا يجعلها مرضاً مزمناً، وإنما تصير تلك الصفة مرضاً إذا غلبت على النفس وصارت محور أعمالها وأقوالها وطغت على كل صفة أخرى أو حاولت هذا الطغيان وتملكت المشاعر. وفي هذه الحالة يكون الداء النفسي في اشد حالاته، ولكن له حالات أخف وأهون
وقد ذكرنا أن ذيوع داء الشعور بالحقارة يكون أعظم في الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، غلبة تشعرها الذلة والمسكنة سواء أكان الغالب قاهراً أتاها من الخارج أو حاكماً من أبنائها. وتظهر أعراض هذا الداء إذا قَلت تلك الغلبة أو زالت أسبابها وزادت الحرية، فتبرز وتعظم صفات القلق والألم والحقد والحسد خشية أن يفطن أحد إلى ما يشعر به صاحب داء الشعور بالحقارة في سريرة نفسه. وقد يكون شعوراً غامضاً لا يتبينه تماماً فيتعاظم تعاظماً لا اطمئنان فيه، لأنه تساوره الأحقاد والحسد فيتم تعاظمه عما يبطنه من الشعور وما يعالجه من داء الحقارة. وفي بعض النفوس يظهر الداء بمظهر التواضع وتحقير النفس تحقيراً يخالطه الحقد والحسد والقلق، فتنم هذه الصفات أيضاً عما(248/4)
يعالجه المرء في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة. وقد يعالج هذا الشعور وهو لا يدركه ولا يفطن له تماماً، وقد يدعي المتواضع المصاب بداء الحقارة أنه أكرم خلقاً من المتعاظم بهذا الداء. ولم نقل أن داء الشعور بالحقارة لا يظهر إلا في تلك الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، وإنما قلنا إن ذيوعه فيها أكثر، وصفاته ومظاهره أكثر تنوعاً وتعدداً، وأعراضه أشد: من حب للظهور ومن دس وكيد وحقد وحسد. ولم نقل إن الكيد والحقد والحسد والتنافر ليس لها إلا هذا السبب وإلا هذا المصدر، فلها أيضاً أسباب اخرى، ولكن إذا ظهرت الصلة بينها وبين داء الشعور بالحقارة في مثل تلك الأمة أو البيئة الموصوفة كان هذا الداء هو سببها، وحتى في حالات الأفراد المصابين بهذا الداء في بيئة سليمة منه قد تظهر صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة ظهوراً ليس مثله ظهور. أما في البيئات الموبوءة فليست الصعوبة في معرفة صلات هذه الصفات والمظاهر بالداء، وإنما الصعوبة في حصرها وعدها ولم شعثها وتشعبها تشعباً عظيماً؛ وهذا التشعب والتفرع قد يبعدها عن اصلها لكثرة الفروع وفروع الفروع حتى يخيل للرائي أن لها أسباباً أخرى غير داء الشعور بالحقارة الذي هو منبتها وجذرها وجزعها في تلك البيئة، فتتكاثر صفاتها أمام الباحث تكاثر الظباء على خراش. على أن العقل لا يجد صعوبة في أن يفهم منشأ هذا الداء التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة تشعرها الذلة والمسكنة، ثم جاءت الحرية. ومن لوازمها أن يخفى الحر ما يشعر به من صفات متوارثة أو غير متوارثة، وهذه الرغبة في إخفاء ما في نفسه من داء الشعور بالحقارة قد تصير داء يتلمس كل وسيلة شريفة أو دنيئة، وقد يشرف بصاحبه على الجنون أو يبلغه، وقد يدفع إلى الجرم. وفي اعتقادي أن مباهاة التعس للتعس من فقراء الفلاحين مباهاة ربما دعت إلى الجرم الإثم من اجل سبب تافه إنما تنشأ من هذا الداء ومن هذه المؤثرات الاجتماعية القديمة الحديثة. وكذلك حب الظهور الذي قد يؤدي بالأملاك ويؤدي إلى خراب الأسر إنما هو داء الشعور بالحقارة الخفي يبرز في شكل تعاظم مصحوب بالقلق والحقد والحسد. وهذه المظاهر تشاهد أيضاً في نفوس بعض الموظفين والطلبة وسكان المدن الكبيرة. ولابد أن نقول مرة ثانية إن صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة في بيئة اعتورها ذل ثم حرية بعد ذل طويل، صلات ظاهرة لا تنكر، وإن تلك الصفات ليست في شكلها الذي تشترك فيه النفوس(248/5)
البشرية عامة بل زادت واشتدت حتى صارت داء، وإنه لا يرجى رقي ولا تصلح تربية ولا يصلح تعليم ولا ترجى ثمراته كلها إلا إذا عولج داء الشعور بالحقارة وأعراضه
وكانت الحرية الكاشفة عن هذه الصفات الكامنة أشبه الأشياء في فعلها بالخمر التي تظهر الصفات الكامنة؛ فإذا كانت في طبع المرء شراسة أظهرتها الخمر إذا سكر، وإذا كان في طبعه إسراف زادته الخمر إسرافاً حتى يكاد السكران يخلع كل ثيابه ويتصدق بها على الناس؛ وإذا كان في طبعه ميل إلى الإجرام دفعته الخمر إلى ارتكاب الكبائر
وليس بين القراء من لم يشاهد مريضاً بداء الشعور بالحقارة، ولكن ذيوع هذا الداء في بيئة يجعله مألوفاً ألفة تفقده الغرابة، فلا يشعر به الإنسان في تلك البيئة إلا إذا بحث عنه وتعمد الفطنة له
وكلما كان المصاب بداء الشعور بالحقارة مفلساً من العلم أو الذكاء كانت لجاجته في جداله وحديثه اعظم، وكان غضبه إذا خولف أشد، وكان ادعاؤه العلم بكل شيء أوفى وأتم ادعاء، وكان حقده على من يخالف رأيه ابعد أثراً وأطول عمرا واعمق مقرا من نفسه، حتى ليكاد يأتي ربه يوم القيامة وأوضح أثر في نفسه حقده على من خالفه في رأيه في الحياة الدنيا. والويل لك إذا عاشرت من اشتد به داء الشعور بالحقارة، فإنك إذا عاونته حقد عليك من اجل فضلك عليه الذي يهيج شعوره بدائه، وإذا لم تعاونه حقد عليك أيضاً من اجل حاجته إليك التي تهيج شعوره بدائه. وكلما كان المصاب بداء الشعور بالحقارة مفلساً من المال ادعى الثروة، وقد يبلغ به داء الشعور بالحقارة منزلة يضن فيها بما معه من المال على عياله كي يظهر في المجالس والنوادي وبين الغرباء، بمظاهر الأريحية والسخاء والثروة. وهو يتلطف، وقد يتذلل لمن يريد أن يقنعه أن صفات الأريحية والسخاء من صفاته وإن لم يكن من طبعه إلا الشراسة والحقد. وهو يحقد على كل من لا يمكنه من الظهور بمظهر التعاظم والأريحية ومن لا يهيئ له السبيل إلى ذلك، وعلى من لا يضحي بكل شيء في سبيل تهيئة وسائل الظهور له، وعبثاً تحاول أن تظفر لدى من اشتد به هذا الداء بوفاء أو ود، وعبثاً تحاول أن تفهمه حقيقة الأمر، فإنه يخادع نفسه حتى يعتقد أنك تحسده على ماله من مظاهر العظمة أو الأريحية أو الذكاء النادر أو على منزلته في قلوب الناس. وفي البيئة التي يذيع فيها داء الشعور بالحقارة يعتقد كل إنسان أنه عظيم الشأن، أو يحاول أن يعتقد(248/6)
هذا المعتقد وأن يحمل الناس على اعتقاده، ويرى أن اكبر جريمة في العالم هي أن يجيد إنسان أو أن يظن أن إنساناً أجاد (وان لم يكن قد أجاد) في عمل أو قول أو جهد أو رأي أو صنع، سواء أكانت الأعمال والأقوال مما يرجى فيه الخير للجميع أو مما فيه خير خاص، وسواء أكان فيها نفع للمريض بداء الشعور بالحقارة أو لم يكن فيها نفع، وهذا الحقد الذي يشعر به هؤلاء قد يخفى نفسه ويظهر بمظهر العبث؛ وقد لا يخفى نفسه. وقد يدعي الغيرة على الخير والفضل، وقد لا يدعي، وهو دائماً كالحيوان في الغابة متحفز للوثوب والظهور إذا أتيحت الفرص، فإذا لم تتح الفرص لم يثب. وكثيراً ما تراه في اوجه أصحابه عبوساً خاصاً ينم عن جنون الحقد، وفي مثل هذه البيئة لا يعد المريض بداء الشعور بالحقارة المشقة مشقة إذا كانت من أجل إحباط عمل زميل أو غير زميل، كأنما تلك البيئة رقعة الشطرنج بين يدي لاعبين ماهرين لا يبقى كل منهما ولا يذر.
ولعل السبب في أن الإنسان في تلك البيئة التي اعتورها ذل طويل ثم حرية لا هم له إلا منع غيره من الظهور (وكلما كان الظهور بالإجادة في صنع أو قول كان الخوف منه أعظم) أقول لعل السبب هو الرجوع بالسريرة وبالنفس إلى عهود ذلك الذل الطويل وطغيان الذين ظهروا في تلك العهود طغياناً سبب ذلك الذل الطويل وسبب داء الشعور بالحقارة؛ وربما ظهر الظاهرون في تلك العهود بقدرة أو إجادة فأصبح المرضى بداء الشعور بالحقارة، حتى بعد تلك العهود القديمة البائدة، يكرهون كل ظهور بقدرة أو إجادة لأن فيه مذلة لأنفسهم
وهؤلاء الناس قد يتعاونون في إظهار من برز بقدرة أو إجادة ولكنهم قلما يفعلون ذلك ألا إذا كانوا يرجون في إظهاره إظهاراً لأنفسهم وإبرازاً لها واكتساباً لأنفسهم شيئاً من الشهرة بالإجادة التي لصاحبهم، أو إذا كانوا يرجون منه أن يعاونهم بقدرته على الظهور وإشباع نهمتهم منه
ويبدو داء الشعور بالحقارة أيضاً بين طائفة الخدم والحشم والرعاع فيحسبون انهم يخفون ما يشعرون به من ضعة منزلتهم الاجتماعية بمحاكاة من هم ارفع منهم منزلة في اللباس أو في فتل الشارب أو في التنحنح أو في الفكاهة أو في التعالي والتعاظم على أصحاب الحاجات وكل من يريد مقابلة مخدوميهم. وإذا كان المخدوم أيضاً مصاباً بداء الشعور(248/7)
بالحقارة ويخفيه بالسفاهة حرت وصرت لا تدري أياخذ الخادم من أخلاق مخدومه أم يأخذ المخدوم من أخلاق خادمه. وكثيراً ما يتخذ كل منهما الآخر نصيراً في خصوماته التي يخلقها من اجل شعوره بالحقارة. والفلاح الذي يغري المجرمين والأشرار بمن لا يحييه وهو جالس على المصطبة ولا يتزلف إليه مثل الموظف الصغير المنزلة أو كبيرها الذي يغري الأشرار ممن لا يتزلف إليه
وهذه الطوائف كلها تجني على الصغار بتأثير قدوتها فيهم. وكثيراً ما يكون سبب إساءة التلميذ أدبه رغبته في حب الظهور الناشئة من هذا الداء. وحب الظهور صفة عامة في النفوس كما قلنا، ولكنها في البيئات المريضة بداء الشعور بالحقارة تتخذ شكلاً وضيعاً خاصاً وهي تكون مصحوبة بالصفات النفسية الوضيعة التي ذكرناها. ومما يدل على أن داء الشعور بالحقارة ينشأ بسبب عصور الغلبة التي تشعر بالذلة والمسكنة أن صفاته تكثر وتشيع بين العبيد وأبناء الأرقاء، أو من كان أجدادهم أرقاء في العصور الغابرة وبين أبناء الشعوب التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة خلقت التواء في الخلق ولؤماً. ولعل هذا الأمر يفسر ما نقرأ في محاكمات قضايا الروسيا من أعمال أبالسة أدنياء كانوا أرقاء أو مغلوبين على أمرهم عصوراً طويلة، فلما نالوا الحرية أظهرت ما كمن في نفوسهم، وهذا سواء أكانت هذه الأعمال قد فعلها من نسبت إليهم أم انهم حملوا على الاعتراف بها كدباً بوسائل جهنمية، ولا ينفي هذا الاستنتاج أن السياسة الدولية وعمالها السريين قد يستبيحون كل جريمة ضرورية وغير ضرورية في تنفيذ أغراض السياسة السرية وملحقات تلك الأغراض.
ومن التلاميذ الصغار من يصاحب أهل الفساد أو المصابين بداء الشعور بالحقارة، فيريد أن يخفي التلميذ شعوره بالنقص أو الفساد الذي لحقه بإساءة أدبه. وكثيراً ما يحاكي الصغار هذه الطوائف حتى من كان منها من الرعاع فيحاكونهم في مشيتهم وإشاراتهم وأقوالهم، ويحسبون أن تلك المحاكاة تكسبهم رجولة وبطولة من غير أن يشعروا أن الرعاع أو منهم اكبر منهم منزلة واعظم علماً من المصابين بداء الشعور بالحقارة يصدرون ويردون في أقوالهم وأعمالهم إشاراتهم وحركاتهم وهم مسيرون لا مخيرون، وانهم في كل هذه الأحوال طوع شعورهم بالحقارة وطوع الرغبة في ستر ذلك الشعور فكأنهم لعب خيال الظل يحركها(248/8)
المحرك من وراء ستار
عبد الرحمن شكري(248/9)
صفات النساء النفسية
بين سذاجة الطفولة وعبقرية الفكر
للدكتور جميل صليبا
كثيراً ما بحث الأدباء في النساء وصفاتهن وما يحمد ويذم من أخلاقهن، فوصفوا المرأة الصالحة والزوجة الموافقة، كما أفاضوا في ذكر صفة المرأة السوء وشرها. فاحسن النساء عندهم من كانت شريفة في قومها، كاملة في عقلها، فصيحة اللسان صادقة محبة لزوجها، حافظة لسرها؛ وشرهن من كان كلامها وعيداً وصوتها شديداً، تدفن الحسنات وتفشي السيئات، صخوب غضوب ضيقة الباء. إلا أن هذه الصفات التي ذكروها لم تبن على استقراء علمي ولا تحليل نفسي. فما هي صفات النساء وما هي أنواعهن عند العلماء؟
بينما كنت ذات مرة القي درساً في علم النفس على تلاميذ لم يتجاوزوا الثامنة عشر من سنهم قال لي أحدهم بعد أن ذكرت صفات الحوادث النفسية: هل تنطبق هذه الصفات على المرأة، أم في الأرواح تذكير وتأنيث؟ إن هذا السؤال - بالرغم من سذاجته - يتضمن شبه فلسفية عميقة. فهل تشعر المرأة كما يشعر الرجل؟ وهل تفكر كما يفكر أو تريد كما يريد؟ وهل تختلف مشاعرها عن مشاعر الرجل كما يختلف جسمها عن جسمه؟
قال بعضهم: إن الفرق بين المرأة والرجل في الحس والفكر والإرادة عظيم جداً، وإن المرأة كانت في الجماعات الابتدائية للرجل لا فرق بينهما وبين العبد، حتى لقد ذكر أن أحد المجامع المقدسة في القرون الوسطى تناقش في هذا السؤال: هل للمرأة نفس أم ينفرد الرجل وحده بهذه الصفة الإلهية؟ وقد ساقهم إلى هذه المناقشة ما جاء في التوراة عن خلق المرأة من ضلع من أضلاع الرجل، وقول آدم: هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي، وعدم قوله إنها ذات نفس شبيه بنفسه.
وزعم آخرون أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في الحس والعقل والإرادة، وأن الفرق بين الرجال أنفسهم اكثر من الفرق بينهم وبين النساء. فمما قاله أفلاطون: لا فرق بين الرجال والنساء. يجب أن يكون عدد النساء في جيش الجمهورية مساوياً لعدد الرجال. ويجب عليهن أن يتعلمن استعمال السلاح وركوب الخيل. وينبغي لهن أن ينزعن ثيابهن لممارسة الرياضة البدنية وألا يخجلن من ذلك كله لأن احسن ثوب يصون المرأة هو ثوب الفضيلة.(248/10)
ومما قاله كوندورسه: يجب أن يكون التعليم واحداً بالنسبة إلى الجنسين لأن المرأة مساوية للرجل. ومما قالته مدام (نكردوسوسور): إن البنات لا يختلفن عن الصبيان أبداً قبل العاشرة من السن
فالباحث عن حقيقة المرأة أما أن يكون مثل بوسوية الهازئ بزينة النساء وزهوهن فيقول لهن: لا تنسين يا سيداتي إنكن خلقتن من ضلع زائد من أضلاع أدم؛ وأما أن يكوم مثل أفلاطون الخيالي فيتصور مدينة فاضلة قائمة على سواعد الرجال والنساء معاً. وهذه المباحث الأولية لا تكشف الغطاء عن حقيقة المرأة، بل هي على مثال ما ذكره سائر الأدباء أقوال خطابية لا توضح الأمر بل تزيده ظلاماً، حتى لقد قال (ريدرو) في ذلك: (إذا كتبت عن المرأة فاغمس ريشتك في قوس قزح ثم رش على أوراقك غبار أجنحة الفراشة، لان المرأة هو موجود الهي)
فلنرجع إلى علم النفس ولنسأل ما هي حقيقة المرأة ولندرس أحوالها النفسية على ضوء العلم الحديث.
إن تحليل صفات النساء يكشف لنا عن أنواع مختلفة، ويمكننا إرجاع هذه الأنواع إلى أربعة:
1 - المرأة الطفل
2 - المرأة الحساسة
3 - المرأة الحساسة الذكية
4 - المرأة المفكرة
ولنبحث في كل من هذه الأنواع على حدة:
1 - المرأة الطفل: إن هذا النوع من النساء مشتت الفكر والقلب معاً؛ فلا هو منظم الحكم، ولا هو ثابت الحس، بل يتبدل من صورة إلى أخرى بحسب الأهواء والعواطف. وقد وصفه (ديكنس) في روايته دوريت الصغيرة وبين العلماء أن له نوعين: المرضي والطبيعي. فالمرضي يعرف بشدة قبوله للتلقين، والطبيعي يشتمل على النساء الخفيفات العقل الكثيرات الزهو اللواتي يتنقلن كالطير من فنن إلى آخر؛ أو يشتمل على النساء الواسعات الخيال الكثيرات القلق والعظيمات الأمل؛ فإذا تكلمن مزجن الحقيقة بالخيال(248/11)
أسرعن في التعبير عن أفكارهن أو تقدمت الألفاظ عندهن على الفكر. وقد يملن إلى الاطلاع ويرغبن في الكشف عن خوافي الأمور، إلا أن ميلهن هذا بعيد جداً عن محبةالعلم، فهن يرغبن في المعرفة لا للمعرفة نفسها بل لحاجة في نفوسهن تدفعهن إلى الحديث. وإذا رغبن في شيء مجرداً عن المنفعة المباشرة رضين بالقليل منه واكتفين باليسير. قلت لطفل مرة: إذا أعطيتك ثلاث برتقالات وأخذت منها واحدة فكم يبقى معك منها؟ فقال على الفور: كيف تقول لي انك أعطيتني ثلاث برتقالات وأنت حتى الآن لم تعطني شيئاً؟ فالمرأة الطفل لا تختلف عن هذا الطفل في طلب العلم. إنها تفضل المحسوس على المجرد، والقريب النفع على البعيد القصد. فهي إذا مثل هذا الطفل الذي لا يعرف الحساب إلا إذا تذوق حلاوة البرتقالة
2 - المرأة الحساسة: يختلف هذا النوع عن الأول بشدة العاطفة وعمق الشعور وتغلب القلب على العقل. إن المرأة الحساسة لا تقيس الأشياء إلا بمقياس العاطفة ولا تزنها إلا بميزان الهوى. فكل ما وافق هوى من نفسها صحيح، وكل ما أعرضت عنه فاسد. لقد جاء في بعض روايات (جورج ساند) شيء من صفات هذه المرأة. إنها تنسى هواها القديم عند وقوعها في الهوى الجديد، ولا تهتم بوقوعها في التناقض وانتقالها من ضد إلى آخر. نعم إن الرجل نفسه خاضع لمنطق العواطف ولكنه يحاول في كل حال من أحواله أن يبرر عواطفه ويجعل هواه معقولاً. مثال ذلك: أن (ألسست) يقول عن نفسه انه لا يحب سيليمين إلا ليرجع إليها الفضيلة المفقودة، فهو إذا يجد لهواه سبباً معقولا. أما المرأة فلا تهتم بهذه الوسواس ولا تميل إلى سفسطة التشكك، بل تعلن الأمر كما هو؛ فإذا كرهت رجلاً كان قلبها وحده مبرراً لها في كرهها، وإذا أحبت شخصاً لن تبحث عن الأسباب الباعثة على تعلقها به، بل تصغي إلى نداء قلبها من غير أن تجد حاجة لتحكيم العقل. إن هذا النوع من النساء شبيه بالنوع الأول في خوفه من التجريد، وعدم ميله إلى الحق. إن فكرة العدالة مفقودة عند هذين النوعين، والنساء على الأغلب لا يملن إلى العدالة المجردة، بل يفضلن عليها عدالة القلب. من ذا الذي يستطيع أن يقنع الوالدة أن ابنها لا يستحق النجاح في الفحص؟ العدالة ضيقة النطاق، وقلب المرأة أوسع من أن يتقيد بهذه الحدود الضيقة. قد تكون العواطف للعقل نوراً وللإرادة قوة، وقد يبعث الهوى على التضحية(248/12)
الخالصة فيذهب إلى ما وراء العدالة ويكشف الحجاب عن ذخائر القلب فينشرها ويذيعها ولكنه كثيراً ما يشوش أحكام العقل فيملأها ظلاماً.
3 - المرأة الحساسة الذكية: وقد تكون العاطفة مصحوبة بقوة من الذكاء خفية لا تخلو من الدقة وحدس الحياة، فتربط المرأة عواطفها بأفكارها وتريد أن تتغلب بها على مشاكل الحياة. إن هذا النوع من النساء قوي الملاحظة والانتباه والذاكرة، واسع الخيال شديد الحس، إلا أن قوة الحكم عنده مشوبة بدخان العاطفة وسائق الغريزة. لذلك تجده قوي الشعور بالمنفعة كثير الميل إلى العمل. كالزوجة التي تشعر بالرابط الاجتماعي وتقدره حق قدره وتبدل بعواطفها العفوية بالفكرة الاجتماعية أو الخلقية أو الدينية؛ وكالوالدة التي تدرك نظام الحياة فتتصور مثلا أعلى له ثم تهيئ أولادها للفوز في هذا النظام الجديد؛ فهي تشعر بمشاكل الحياة وتريد أن تتغلب عليها بقوة الذكاء والإرادة. فكم شاب لم يتطلع إلى المعالي إلا بتأثير والدته! وكم رجل لم يقدم على المغامرات السياسية أو المالية إلا بدافع من زوجته! وكثيراً ما تكون المرأة هي القوة المحركة والدماغ المفكر والعقل المدبر، ويكون الرجل هو الإله المتحركة والواسطة المبلغة.
4 - المرأة المفكرة: إن هذا النوع الأخير اقرب إلى الاهتمام بالمباحث العلمية من الأنواع السابقة فهو محب للاطلاع ميال إلى المعرفة؛ إلا أنه كثيراً ما يضطرب أمام إشراق الفكر ويعجز جسمه اللطيف عن تحمل أعباء البحث. والسبب في ذلك أن النساء عشن حقباً طويلة تحت وصاية الرجال بعيدات عن الحرية والحياة، فلا غرو إذا ترددن في البحث وشعرن بالقلق في فضاء الفكر. وبالرغم من ذلك فان البنات اكثر اتباعاً للنظام من الصبيان. وقلما تجد فتاة تفضل الكسل عن الاجتهاد، بل إن اكثر البنات يصغين إلى أساتذتهن ويكتبن الامالي، ويحفظن دروسهن؛ إلا أنهن لا يزلن حتى الآن اقل جرأة فكرية من الصبيان، لأنهن يعتمدن على الذاكرة اكثر مما يعتمدن على قوة الحكم. وقد تبين لعلماء العصر أن استعداد المرأة للرياضيات قوي جداً وأن في وسعها أن تتعود التفكير المجرد، إلا أنها لا تزال قليلة الثقة بنفسها فلا تبحث إلا في الأشياء العملية النافعة أو في الأمور المحددة. ومع أن مدام بير كوري قد توصلت في العلوم التجريبية إلى درجة عالية فأن تلميذات فرع العلوم في الجامعات اقل ثقة بنفوسهن من التلاميذ، لان التجريب العلمي(248/13)
يحتاج إلى جرأة وتنظيم، وهذان الأمران لا يزالان حتى الآن بعيدين المرأة.
ومما يؤيد هذا أيضاً أن النساء اللواتي اشتهرن بالفلسفة (كهيباتيا) وغيرها لم يبدعن مذاهب جديدة بل اتبعن المذاهب القديمة وحللنها وهذبنها. فالمرأة اقرب إلى الاتباع منها إلى الإبداع. وهي لا تقبل الحقائق المؤقتة، بل تريد أن يكون كل شيء نهائيا فتسبغ على الحقائق العلمية حلة دينية وتقلب النسبي إلى مطلق. إن تلاميذ الفلسفة يفضلون الكليات الفلسفية على الجزئيات، فيضخمون الفكر البسيطة ويعممونها حتى تشمل الكون كله. أما تلميذات الفلسفة فيملن إلى الجزئيات ويرغبن في التحليل دون التركيب: فعقل المرأة عقل تحليلي، أما عقل الرجل فعقل تركيبي. نعم إن المرأة واسعة الخيال ومن صفات الخيال الواسع أن ينشئ ويبدع، إلا أن خيال المرأة يصلح لتبديل صور الأشياء وتغيير حقائقها لا لإنتاج الفرضيات المنظمة وإصلاح الواقع بها.
تلك هي أنواع النساء من الوجهة النفسية. فالمرأة الحساسة تصلح للشعر والموسيقى والتصوير والتمثيل، والمرأة الحساسة الذكية تصلح للحياة العملية من تجارة وإدارة، والمرأة المفكرة تصلح للعلم والفلسفة. وقد تمتزج هذه الصفات فتجتمع في امرأة واحدة فيكون منها نوع معتدل صالح للقيام بجميع الأعمال.
وقد أخذت صفات المرأة تتبدل في الهيئة الاجتماعية الحديثة لأنها قد شاركت الرجل في جميع الأعمال من تجارة وصناعة وإدارة واقتصاد وسياسة، فساقها التطور إلى استبدال كثير من صفاتها القديمة بصفات جديدة، فاستبدلت بالحياء الجرأة وبالخشية الاقدام، وبالسكون الحركة، وبالسذاجة الحيلة، وبالعبودية الحرية، وبالعاطفة العقل. واعتقد أن هذه الصفات الجديدة لا تفسد جمال المرأة بل تزيد سحرها قوة، لان العلم لا يجفف القلب بل يبدد ظلمات الغريزة، وينير طرائق العقل، ويكشف عن جمال الأشياء ويولد في المرأة صفات نفسية مشابهة لصفات الرجل في تفكيره وانفعاله وفعله؛ ويقلب حياة المرأة الاتباعية إلى حياة مفعمة بالحرية والإبداع. وما ادري لعل التطور يكشف لنا في المستقبل عن نوع جديد اكمل من هذه الأنواع الأربعة تتحد فيه العاطفة بالفكر والإرادة بالعقل. إن الأحلام ليست اقل تأثيراً في التطور من اشتباك الأسباب الحقيقية واختلافها.
جميل صليبا(248/14)
رئيس التعليم الثانوي بدمشق(248/15)
من برجنا العاجي
رأيت في نومي البارحة رؤيا أفزعتني: رأيت أني تزوجت. ولم تبين الرؤيا كيف تم ذلك، ولكن وجدت نفسي على فرش وثيرة من الدمقس الأزرق في حجرة جميلة ذات سجف من حرير متألق متماوج الألوان كرقبة اليمامة. وسمعت حولي من يقول:
- هذا جهازها
- جهاز من؟
- عروسك
- ومن الذي زوجني؟ وممن العروس؟
- من بيت حسب ونسب. ذات جمال ومال وحلاوة لسان. وهي فرصة كان لا بد من انتهازها. وقد علت بك السن وكاد يفوت أوان الزواج
- ومن انتهز لي هذه الفرصة؟
- أولاد الحلال، من قرائك المعجبين الذين يهتمون لأمرك
- شيء لطيف. وهؤلاء القراء المعجبون الذين زوجوني، كيف فعلوا ذلك؟ وأين وجدوا لي هذه العروس. .؟
- لا شأن لك بكل هذه التفاصيل. ولا تشغل بالك إلا بما أنت فيه من نعيم مقيم
- والعروس؟ أسبق لي رؤيتها؟
- لا. ستراها الليلة
- عجباً! وكيف يزوجوني ممن لم أرها ونحن في القرن العشرين؟ آه أيها الناس! إن هذا جاوز الحدود. . .
- هي أيضاً لم ترك
- أقرأت كتبي؟
- لو كانت قرأت كتبك لما تزوجتك
- وكيف إذن أقنعوها؟
- قالوا لها عنك كل شيء إلا الأدب والتأليف. فقد وجدوا من الحكمة وأصالة الرأي كتمان ذلك عنها إلى أن يتم العقد ويتعذر النقص
وفتحت عيني في الصباح وأنا أقول: (اللهم أحمدك على استيقاظي قبل تمام العقد، وقبل(248/16)
مواجهة الفتاة بذلك العيب الذي لا يغتفر! نعم إن المرأة لن تتغير. إن شئون الفكر عندها شيء مخيف، وكم من شعراء وأدباء أخفوا على نسائهم كنوز عقولهم ولم يظهروا لهن إلا كما يردنهم: رجالاً مبتذلين كبقية الرجال!)
توفيق الحكيم(248/17)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 14 -
نحن في اليوم الرابع من أيام المؤتمر الطبي العربي الذي بث الابتهاج والانشراح في أرجاء بغداد، وأنا امضي إلى مدرج كلية الطب لألقي محاضرتي عن المصطلحات الطبية فأجد اسمي فوق اللوحة آخر الأسماء؛ وأتلفت فأرى فتاة من قريبات ليلى جاءت لتسمع محاضرتي فأحقد على منظم المنهج، لأن هذه الفتاة قد تضجر فتنصرف قبل أن تسمع صوتي، فأنتهز أقرب فرصة وأدخل في مناقشة حامية مع الدكتور فؤاد غصن؛ وينهزم الدكتور فؤاد غصن، فتصفق تلك الفتاة. وما اسعد الخطيب الذي تصفق له فتاة بغدادية ساجية الطرف مصقولة الجبين!
رباه! متى يعقد المؤتمر الطبي مرة ثانية ولو في الصين؟!
ويقوم سعادة الأستاذ علي الجارم بك فيلقي محاضرته في صوت مطلول كأنداء الصباح
ثم يقوم فضيلة الشيخ السكندري فيلقي محاضرة نفيسة جدا تضج لها الأرض وتطرب السماء، ويصيح الدكتور القيسي: تحيا مصر! تحيا مصر!
واقبل عليه اشكره على التحية التي وجهها إلى مصر فيقول: كنت اضن الذكاء المصري خرافة أذاعها المصريون. واليوم رأيت وتحققت أن المصريين أذكياء وعلماء، وقد تبددت الصورة المشوهة التي ارتسمت في ذهني بسبب الجموح الذي شهدته فيمن عرفت من الطلبة المصريين في باريس
وأعتذر عن جموح شبابنا فأقول: لا تلم شبابنا على المرح والطرب، فنحن شعب طال عهده بالهموم والأرزاء فهو يروح عن نفسه بتكلف السرور والارتياح. أما سمعت قول شاعركم الزهاوي في مخاطبة أم كلثوم:
يا أم كلثوم إنّا أمةُ رزحتْ ... تحت المصائب أحقاباً فسلٌينا
ويجئ دوري في الخطابة فأعتلي المنبر في زهو وخيلاء. ثم يروعني أن أرى الناس ينصرفون، فأذكر أن الموعد حان للغداء في مضارب بني تميم، وأن المستمعين الكرام يفهمون جيداً أن الغرق في المرق أشهى وأطيب من بلاغة سحبان!(248/18)
ويرى سعادة الدكتور عبد الواحد الوكيل بك أني متألم متوجع فيهمس في أذني أن المدرج لم تبق فيه فتاة واحدة. فأسأل: وكيف؟ فيجيب بأن وعورة البحث الذي ألقاه الشيخ السكندري أملتْ جميع الفتيات فانصرفن عابسات. ويسرني ألا تشهد فتاه هزيمتي فأقول: إلى الغد، إلى الغد، يا حضرات الزملاء!
وقبل أن أدخل في تفاصيل ما سأراه، أذكر أني زرت ليلى شفاها الله في مساء ذلك اليوم فحدثتني أن خطبة الشيخ السكندري ملأت مسامع أهل بغداد، ولكنها أنكرت أن يتحذلق الشيخ السكندري فيقول:
إن الأوكسجين مثنى أوكسيج، وإنه يرفع بالألف وينصب ويجر بالياء
فأصرخ في وجه ليلى: هذا كذب، هذا افتراء!
ثم أعرف بعد ذلك أن هذه دعابة ثقيلة أذاعها مصري خبيث يقيم في بغداد
ولم انجح في إقناع ليلى بأن هذا افتراء على الشيخ السكندري إلا بعد أن هددتها بالغرق في دجلة، وليلى تحبني يا بني أدم، فلا تستغربوا أن يهولها هذا التهديد.
ثم أخرج للبحث عن سيارة تنقلني إلى مضارب بني تميم، فلا أجد غير سيارة بالأجرة، فأتردد، لأني لم أدخر درهماً واحداً في بغداد، فقد أنفقت مالي على المطابع، وعند الله جزائي
واهم بالزهد في الوليمية التميمية فأسمع صوتاً يقول: سيارتي في خدمتك يا دكتور زكي. فأنظر فإذا طبيب لا اعرف اسمه، ولو عرفته لشرفت به هذه المذكرات، فأقول: ولكن معي صديقان فضيلة الشيخ السكندري والأستاذ عبد المنعم خلاف. فيقول: سيارتي في خدمتكم جميعاً يا مولاي
وقبل أن أدخل في التفاصيل أذكر أني أعطف على عبد المنعم خلاف لسببين: أما السبب الأول فلا اذكره، وهو يعرف ما اعني. وأما السبب الثاني فهو أن الشقي يشغل نفسه منذ أشهر طوال بالبحث عن مصدر الوحي: الوحي الهائل الخطير الذي جعل الدكتور زكي مبارك يكتب ثلاث مقالات في كل يوم بالرغم من اشتغاله بالتدريس والتأليف. وسيموت الشقي قبل أن يعرف مصدر الوحي. وسيموت قبله مصريون آخرون يهمهم أن يعرفوا كيف استطاع الدكتور زكي مبارك أن يكون أصدق من استرقتْ بغداد.(248/19)
ونمضي في السيارة على غير هدى في صحبة الطبيب النبيل الذي ينقلنا إلى مضارب بني تميم؛ ثم نتلفت فجأة فنرى نحو عشرين سيارة تتعقبنا فنعرف أننا ضللنا مع أننا في رحاب عقرقوف الذي خلد اسمه أبو نؤاس في رحلته إلى مصر، مصر التي فيها الزمالك ومصر الجديدة وحلوان، والتي تسدل ستائرها على الجدائل المعطرة التي تشعثت بعد رحيلي إلى العراق
رباه! إنك تعلم أن الظلام في مصر الجديدة أندى وأطيب من النور الوهاج، فمتى ترجعني إليه!
ونصل إلى مضارب بني تميم فنرى أفواجاً من الفرسان ينتظروننا على طول الطريق وهم يحيوننا بأناشيد كلها رفق وحنان. وفي زحمة الاحتفال يجئ طبيب نبيل فيدعوني للتسليم على سيدتين كريمتين، لا اذكر اسمهما تأدباً، ولو شئت لقلت انهما من النفحات الربانية، وقد رحلت الأولى إلى القاهرة وبقيت الثانية في بغداد. فإليهما أقدم تحيتي وثنائي، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف. ويمد السماط، أو السماطان، أو الأسمطة، كما يشاء كرم الشيخ حسن سهيل ثم يشيع بين الجمهور أن رجلاً غرق في المرق، فيصيح الطفل الجميل الذي اسمه عمر: بابا، بابا، أحب أن اطمئن على الدكتور زكي مبارك. فيقول سعادة وزير مصر المفوض في العراق: اطمئن يا بني، فان الدكتور مبارك من كبار السابحين!
ويقف عميد بني تميم ليخطب فيشتد التصفيق؛ ويقف الشيخ السكندري ليخطب فيشتد الهتاف؛ ثم يقول صديق كريم بصوت جهوري: الدكتور زكي مبارك يلقي كلمة العراق، فيتلفت وزير المعارف قائلا: ماذا؟ ماذا؟ فيجيب الصديق الكريم: الدكتور زكي مبارك يخطب باسم العراق: فيقول معالي الوزير: نعم، نعم، من حق الدكتور زكي مبارك أن يخطب باسم العراق وألقى خطبة رنانة أشكر فيها إخواني المصريين وأقول إن حياتي طابت في العراق وإنني لا أحب الرجوع إلى مصر، فأرى دموع الشيخ السكندري تنحدر واسمعه يقول: وهل نسيت سنتريس؟!
فأقول بصوت صاخب: ونسيت سنتريس! ومن واجبي أن أسجل في هذه المذكرات أني لم أر في حياتي أياماً أطيب من أيام العراق. وسأظل من أنصار العراق فيما بقي من حياتي.(248/20)
حيا الله العراق، ونصر الله العراق!
أما بعد فنحن في منتصف الساعة التاسعة من مساء 12 فبراير سنة 1938 وهو مساء لم تشهد مثله بغداد منذ أجيال. وهذه سهرة في بهو أمانة العاصمة أقامها الطبيب الشاب الدكتور شوكت الزهاوي. وهذا الدكتور زكي مبارك الملحد الفاجر فيما يزعمون، يتلفت عن صاحبة العينين فلا يرى صاحبة العينين. ولكنه يرى الطبيب النبيل الذي سيقبل من اجله ثرى بغداد يوم يفارق بغداد، فيستشير صديقه فيما يأتي وما يدع، فيعرف أن السهرة تنقسم إلى قسمين: قسم عربي وقسم إفرنجي، فأقول: النبي عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي.
وأمضي إلى القسم العربي فأجد الوزراء جميعاً وعلى رأسهم فخامة الرئيس. واخرج عن وقاري فأمضى إلى رئيس الوزراء وأقول: سيدي، أتسمح بان أسجل في مذكراتي أن إيثارك الجلوس في المرقص العربي وفي ذاته تزكية نبيلة للثقافة الذوقية في حياه العروبة؟ فيبتسم ابتسامة القبول
وأعود إلى مكاني واجعل مكاني كله المرقص، وما هو في الحقيقة بمرقص، ولكنه مغنى كما يعبر المصريون. وانظر فإذا فتاة مليحة جداً تجلس بين القيان وعليها سيما الذل، فيزعجني أن تعجز عيونها الساحرة عن الاستبداد بألباب الناس، فأنظر إليها بترفق وارفع الكأس، فتنظر بحنان وترفع الكأس، ولا يكفيني ذلك، بل اصنع الصنيع نفسه مع سائر الفتيان؛ ويتقدم رجل لم تذهب الكأس بوقاره فيقول: يا دكتور مبارك، إن مكانك قريب جداً من فخامة رئيس الوزراء ولعله يتأذى مع مداعبة الفتيان، وأنا أرى أن ما تصنع لا يليق بمقامك
فقلت في عبارة صريحة: إنما اصنع هو الذي يليق بمقامي فتلعثم الرجل وقال: لطفاً ياسيدي، لطفاً! ولكن هل أتستطيع أن اعرف جوهر رأيك في هذه القضية؟
فقلت وأنا أجد كل الجد: لست يا سيدي بفاجر ولا أثيم وإنما أنا رجل مؤمن، ومن واجب المؤمن أن يتوجع لألام المنكوبين، وهؤلاء المغنيات والراقصات يعانين ابشع نكبة قاستها الإنسانية، فهن مسؤولات عن الوصول إلى قلوب الناس. يا ويل من يحكم عليه الزمن بأن يكون من صنعته أن يرضي الناس؛ والناس يا سيدي يغلب عليهم اللوم فلا يقابلون من(248/21)
يخطب رضاهم بغير الجحود، فهل يسوؤك وأنت عراقي كريم أن أكون من الكرماء؟ هل يسؤوك أن أُدخل السرور على قلب فتاة بائسة قضى عليها الزمن الجائر بأن تطلب رضاي ورضاك؟
فهدأ الرجل قليلا ثم قال: وما رأيك في هذا؟
فقلت: وما هذا؟
فقال: أما رأيت الراقصة ترفع الثوب عن فخذيها في وقاحة وسفاهة؟
فقلت: نعم رأيت، ثم رأيت؛ ولكن من الملوم؟ أن الراقصات يعرفن أن فينا الغوي والسفيه والمجرم، فهن يتقربن إلينا بتزين الرجس والدعارة والفحش. ولو كنّ يعرفن أننا جميعاً نغار على الكرامة لما جاز لإحداهن أن تكشف عن قدم أو ساق ويقوم المغني المطرب محمد القبانجي فينشد:
أأحبابنا قد فرق الدهر بيننا
فأصيح: قد جمع الدهر بيننا
فيعرف أنه لم يراع المقام ثم تكون أغانيه بعد ذلك ضرباً من الارتجال
وانتقل من مكاني لأرى كيف تموج الدنيا في المرقص الإفرنجي فأعثر على الراقصة التي كنت أداعبها بالكأس منذ لحظات، واحييها فلا ترد التحية، كأنها ظنت أنني كنت في مداعبتها من الماجنين
أنني أفهم حالك أيتها الصبية المسكينة، ويسرني أن أراك تتمنعين فالناس كلهم وحوش. ولا استثني نفسي فلتحذري وليحذر أمثالك من حسن الظن بالناس
طوفت بالمرقص الإفرنجي لحظات لأرى صاحبة العينين، ولم أجدها فأين ذهبت؟ أين ذهبت؟ دلوني فقد عيل صبري. وفوق أي مخدة نام ذلك الخد الأسيل؟ يرحمك الحب يا قلبي!
تحيا إنجلترا!!
كذلك قلتُ، فدهش السامرون
تحيا بريطانيا!!
كذلك قلتُ، فتعجب السامرون(248/22)
تحيا بريطانيا العظمى!!
كذلك قلتُ، فضج السامرون
وماليَ من ذنبٍ إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
نعم فاسلمي ثم اسلمي ثمة اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تَكلمي
لقد كنت من أعضاء الحزب الوطني، وكنت من أوفى الناس لمبادئ مصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش. وكنت أذيع مبادئ الحزب الوطني بلباقة في الجرائد الوفدية، وكان الوفديون يعرفون صدقي وإخلاصي ونزاهتي فيتسامحون ويدعونني أذيع في جرائدهم ما أشاء. ولما أمضيت معاهدة التحالف بين إنجلترا وبين مصر قررت أن أولف كتاباً أدعو فيه المصريين إلى أن يتذكروا دائما أن إنجلترا كانت غزت مصر ورزأتها بالاحتلال.
فما الذي جد في أفق السياسة حتى أهتف بحياة إنجلترا في بغداد؟
ما الذي جد حتى يتغير زكي مبارك الذي أضاع نفسه في مصر بفضل حرصه على مبادئه الوطنية وانعزاله عن الأحزاب التي تملك مصاير الأمور في أكثر الشؤون؟
فقد كنت ألمح من بعد فتاة تسارقني النظر بعينين زرقاوين، وكنت لا املك الانتقال إليها ولا تملك الانتقال إلي؛ وكان جاري رجلاً ظريفاً كسائر البغدادين، فترك مقعده عمداً لأستطيع دعوة الفتاة إلى جواري. ولم تنتظر الفتاة الدعوة، فما هي إلا لمحة طرف حتى كان وجهها إلى وجهي، وكلمتني بالإنجليزية فلم أفهم، فاستوضحتها بالفرنسية فلم تفهم، فقالت بلسان عربي ملحون ما معناه: أرجوك أن تطلب من سليمة باشا أن تغني:
على بلد المحبوب وديني
ودار الصوت على الحاضرين ويدها في يدي، وعينها في عيني؛ وتلطف الكرام الكاتبون فلم يسجلوا غير الجميل
وبعد لحظات همت الفتاة بالانصراف، فجذبتُ يدها أقبلها فسمحت بعد تمنع واستحياء
ولم يكُ غير موقفنا فطارتْ ... بكل قبيلةٍ منا نَواها
فواهاً كيف تجمعنا الليالي ... وآهاً من تفرقنا وآها
ثم يجئ اليوم الخامس فألقي محاضرتي في كلية الطب، وأُعربد على الدكتور عبد الواحد(248/23)
الوكيل وعلى الأطباء المصريين، وأزعم أن أساتذة الطب في مصر من أكسل الناس، ولولا ذلك لنقلوا علوم الطب إلى اللغة العربية. ويصفق الحاضرون، ويقبل الجارم لتهنئتي فأقول: أنا تلميذك. فيقول: لقد بذذت أساتذتك.
ويجئ المساء فأذهب إلى الحفلة التي تقيمها الجمعية الطبية المصرية فأراها وا أسفاه حفلة مصرية حقاً وصدقاً، فلا شراب ولا رقص ولا غناء، فأقول في نفسي فضحتمونا يا ناس!
ولكن الدكتور عبد الواحد الوكيل ينقذ الموقف فيلقي خطبة يقول فيها إن الجمعية الطبية المصرية عرفت أنها تعجز عن إقامة حفلة كالتي أقامها معالي أمين العاصمة، أو حفلة كالتي أقامها سعادة رئيس الجمعية الطبية العراقية، فقررت أن تقيم حفلة ترقص فيها الخطب ويغني فيها البيان
الله أكبر! الله أكبر!
وكذلك قضينا ثلاث ساعات في سماع الخطب والقصائد، ثلاث ساعات قضيتها في كرب، لولا الخطبة الظريفة التي ألقاها سعادة العشماوي بك، ولولا الوجه الأصبح الذي كنت أتعزى بالنظر إليه
ويجئ اليوم السادس وهو رحلة إلى السدة الهندية وأطلال بابل وأصل إلى القطار في آخر ثانية، فقد كنت في شواغل غرامية عاقتني عن مراعاة الموعد؛ ولكن حظي كان سعيداً، ولا أذكر كيف، فقد تتأذى بذلك بعض الوجوه الصباح. ويمر القطار على قرية اسمها الإسكندرية فأقول: لعل هذه هي البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري الذي يروي عنه عيسى ابن هشام في مقامات بديع الزمان؛ وأملأ عيني من نخيلها وأكواخها لأكتب عنها كلمة في الطبعة الثانية من كتاب (النثر الفني)
ثم يقذفنا القطار إلى السدة الهندية، وليتنا غرقنا هناك! والسدة الهندية قنطرة ظريفة على الفرات؛ وللفرات فيها هدير جذاب يذكر بهدير النيل على الرياح المنوفي بالقناطر الخيرية. وقد وقفت على السدة الهندية لحظات ظفرت فيها بموعد سأنعم به يوم أعود إلى وطني، إن كان لي إلى ارض الوطن معاد
لا تحزن يا قلبي، فليست هذه أول غربة، فقد كنت غربياً في كل أرض حتى في سنتريس!
لا تحزن يا قلبي، فأقرب الناس إلى الله هم الغرباء، لأن الغريب يؤدي امتحاناً في كل(248/24)
لحظة، وتدرسه العيون في كل مكان، ويؤدي حساباً إلى كل مخلوق، ويعجز عن إصلاح ما يفسد المفترون
لا تحزن يا قلبي، فكل غيم يتلوه صحو، وكل ليل يعقبه صباح.
لا تحزن يا قلبي، فأنا بجانبك أرعاك وأواسيك، وسأكفنك بدموعي إن قضى الله أن تموت غريباً بين القلوب
لا تحزن يا قلبي، لا تحزن يا قلبي!
ما هذا؟ ما هذا؟
أتريد أن تفر من قفص الضلوع؟
والى أين؟ حدثني إلى أين؟ إلى أين يا جاهل؟ فأنت تجمح إلى قلوب عرفت من بعدك كيف يحلو اللهو، وكيف تقرع الكأس بالكأس، وكيف تطيب الأسمار والأحاديث. إلى أين؟ حدثني إلى أين؟ وهل لك وطن أيها القلب؟
حدثني أين وطنك فقد نسيت! أيكون وطنك بين تلك القلوب الغوادر التي تضن عليك بخطاب تكاليفه عشرة فلوس؟ أيكون وطنك عند تلك الإنسانة الغادرة التي قطعت حبل الود لأني دعوتها لزيارتك متنكرة في بغداد؟
أين وطنك يا قلبي؟ أحب أن أعرف أين وطنك لأمضي معك إليه. أهو مصر؟ كذبت، ثم كذبت، فلو عرفتك مصر حق معرفتك لكان لك اليوم مكان مرموق، ولكنك في مصر منبوذ مجهول
قلبي! قلبي! رحمه الله عليك، فقد سعد ناس بالرفق المزيف، وشقيت أنت بالرفق الصحيح
وقد وصل ناس لأنهم كذبوا، وتخلفت أنت لأنك صدقت.
ونَعمَ ناسُ لأنهم خانوا، وشقيت أنت لأنك وفيت
وتقدم ناس لأنهم هزلوا، وتأخرت أنت لأنك جَدَدْت. وانتفع ناس لأنهم غدروا، وخسرت أنت لأنك وفيت
قلبي! قلبي! أحسن الله إليك!
أنظر يا جاحد! فها نحن أولاء في رحاب أسد بابل؛ وهذه صاحبة العينين. نعم هذه صاحبة العينين أما ترى يا قلبي؟ أما ترى يا جاهل أن صاحبة العينين تُنحّي زوجها بعنف لتظهر(248/25)
في الصورة بجانبك؟ اعترف يا جاهل بأن الله رعاك حين كتب أن تظهر في صورة عالمية في رحاب أسد بابل وفي جوار صاحبة العينين. اعترف يا جاهل بأنك كنت في إحدى لحظاتك أسعد القلوب
مولاتي صاحبة العينين:
أعترف بأني آذيتك بعض الإيذاء، أو كل الإيذاء؛ ولكن الشاعر مغفور الذنوب، لو تعلمين؛ وقد قرأ الناس مذكراتي في مجلة الرسالة فعرفوا من أنت. فهل أطمع يوماً في أن تعرفي من أنا؟ وهل يعرف زوجك المفاضل أنني شاعر لا يهمه غير أنس الروح بالروح؟
المهم عندي يا مولاتي أن يعرف أبناء العروبة أن الجمال غير مقصور على من أنجبت لندن وباريس وبرلين، وأن في بغداد ودمشق وبيروت ومكة والمدينة وصنعاء والقاهرة والإسكندرية والمنصورة ودمياط وتونس ومراكش والمقدس وما شاء الهوى من الحواضر العربية أروحاً فيها جمال وصفاء
مولاتي صاحبة العينين:
لست بالرجل الفاجر، كما يزعم المرجفون، وإنما أنا رجل شاعر يؤمن بأن من الوطنية أن يحبب العرب في بلادهم بالإشادة بما فيها من صباحة وملاحة وأخلاق
فهل أستطيع أن أمر على بلدكم الجميل في طريقي إلى مصر، مصر التي فيها الزمالك وحلوان؟ مصر التي فيها شارع فؤاد، والتي فيها الزيات ومحمد الهراوي ومحمد عبد الوهاب ومدحت عاصم والمخلوق السخيف الذي اسمه عبد الله حبيب؟ مصر التي فيها أحمد فريد رفاعي وطه حسين وإبراهيم مصطفى وأمين الخولي وعبد الحميد العبادي واحمد أمين؟ مصر التي فيها المكتبة التجارية والجامعة المصرية؟ مصر التي فيها هوى القلب وشفاء الفؤاد؟
مولاتي صاحبة العينين:
أنا أشرف من العصابة التي حرستك مني، فاسمحي لي بتقبيل قدميك قبل أن أموت، ولكن. . . ولكن. . . .
ولكن أينسيني حديث العينين وصاحبة العينين ما شهدت يوم زيارة القوة الجوية العراقية؟
إن تلك الزيارة تمثل روح العصر أصدق تمثيل، فقد كان المفروض أن يحلق في الجو(248/26)
بعض أعضاء المؤتمر الطبي، وكان المظنون ألا تظهر هذه الرغبة إلا عند عدد قليل من الأعضاء
ثم ظهر أن الناس كلهم يريدون امتطاء الطيارات حتى خشينا ألا يمر ذلك اليوم بسلام
وما كان يهمني أن أشترك في هذه النزهة فقد عرفت أمثالها من قبل وسجلتها في كتاب ذكريات باريس، ولكني رجوت أن يكون هذا الزحام فرصة أداعب فيها فتاة أو فتاتين أو ثلاث فتيات، ثم هالني ألا أرى غير جماعات من (الخناشير) كلهم شعثُ غبرٌ كأنهم قدموا من البيداء، ومزاحمة هؤلاء ضرب من الضياع
ومع ذلك صممت على الاشتراك في هذه النزهة، ولكني لم افلح، فما كانت طيارة تنزل حتى يهجم عليها الناس كالوحوش ورجعت أتعثر في أذيال الخيبة فما كدت اصل إلى باب المطار حتى سمعت رجلاً يقول:
- أتريد أن تطير يا دكتور؟
- نعم، يا سيدي احب أن أطير!
فدعاني إلى سيارته فركبت ومضينا إلى ناحية قصية فطلب طيارة وقال: (هذه في خدمتك فأدع إلى مصاحبتك من تشاء) فنظرت فإذا سيدة (تائهة) فأخذتها معي وطرت
وعند النزول رأيت السيارة وصاحبها في انتظاري فركبت معه إلى المقصف وأجلسني مع جماعة من الضباط، ثم قال بعد تناول الشاي والحلوى والفاكهة: (خذ حريتك يا دكتور وطوِّف حيث شئت)
فلما تركته كان أكبر همي أن أعرف من هو، فسألت فعرفت أنه سعادة أمير اللواء حسين فوزي باشا رئيس أركان الجيش ومع هذا يعجب ناس حين يرونني أطيل القول في الثناء على العراق وأهل العراق
انتهت أيام المؤتمر، سقاها الغيث، ولكن جد ما لم يكن في الحسبان، فقد أذاع رئيس الجمعية الطبية العراقية أن البصرة هي المدينة التي ولدت فيها ليلى المريضة في العراق. وكنت خليقاً بأن أعرف ذلك من قبل، ولكن ليلى لم تحدثني عن وطنها الأول، ولم أسال عنه ظمياء، فرأيت الفرصة سانحة لأن أمضى مع أعضاء المؤتمر لرؤية الثرى المندى بالعطر والريحان، الثرى الطاهر الذي عرف النعيم يوم كان يتخطر فوقه ذلك القد الرشيق(248/27)
إلى وطنك يا ليلاي، إلى البصرة، إلى النخيل، إلى شط العرب الذي تحترب في سبيله أمم وشعوب، إلى وطن الجاحظ، إلى وطن المبرد، إلى وطن مولاي الحسن البصري امتطي القطار في ظلام الليل
(للحديث شجون)
زكي مبارك(248/28)
قضية اللغة العربية
للأستاذ احمد خاكي
1 - التقدم واللغة:
يذهب الجمهرة من المربين في العصر الحديث إلى أن الغاية من التربية ينبغي أن ترمي إلى تدريب الطفل على أكثر أنواع المهارة التي تتطلبها حياته الحاضرة والمستقبلة، والتي تقتضيها الحضارة وطلب الرزق. بل لقد آمن الكثير منهم بأن الحضارة في نفسها تقوم على المهارة فحسب، وأن العصر الحالي يمتاز فيما يمتاز به بتلك الوجهة الآلية التي تلزمنا بها حاجات الحياة، وأن التقدم رهين بما تحسنه الجماعة من أنواع المهارة، وأننا لن نبلغ المثل الأعلى الذي يحدونا إلى التقدم حتى نتقن أكبر عدد منها
ويذهب أصحاب اللغات إلى هذا الرأي فيما يتصل بتعليمها. فقد أمن هؤلاء على كل ذلك وزادوا عليه أن تعليم اللغات هو في نفسه ضرب من ضروب المهارة التي يجب أن يكسبها المتعلم حتى يوفق بين نفسه وبين البيئة التي يعيش فيها. بل هو لا بد مرغم على كسبها إذا هو تطلع إلى لون من ألوان الحياة أزهى من ذلك الذي اعتاده آباؤه وأجداده. فاللغة عند هؤلاء شبيهة بالمشي أو الجري أو تناول الطعام أو إحسان الرماية أو الطيران. فهي لا محيص للناشئ من أن يتلقنها في بيئته، بل هو مجبول على تلقنها ما دام يرى أن حياته تقوم على الاجتماع بسائر الأفراد، وان اتصاله الفكري مع من حوله لا يستقيم إلا إذا تلقن لغتهم كتابة وقراءة وحديثاً. واللغة فوق ذلك مهارة سامية جديرة بالإحسان ولأنها تتحمل في اطوائها تراث المدنيات التي تحدرت إلينا، ولأنها - إذا كانت أجنبية - مفتاح لمدنيات أخرى تغلغلت في تاريخ البشرية نفسه واللغة بعد ذلك دليل على التقدم الفكري لأنها الوسيط الذي تتجسد فيه الأفكار والآراء. وليست اللغة من ذلك الوجه إلا رموزاً أطلقت على المعاني التي تتدفع في نفس الإنسان. وهي التي تسيطر على موارد تلك المعاني ومصادرها. فكل كسب لتلك المهارة التي نسميها (اللغة) إنما هو تحديد لغذائنا الفكري. وكل تحديد لتفكيرنا إنما هو فتح جديد للمنطق والفلسفة بل فتح لسائر العلوم
فإذا كانت اللغة تفيض بالمفردات التي تصف كل فكرة دقيقة من تلك الأفكار، وإذا كانت ألفاظها قد تطورت مع الحضارة حتى كان كفيلة بأن تصف المعاني التي تنثال في خواطر(248/29)
المتحضرين، كان ذلك دليلاً على كفايتها في مسايرة التقدم العقلي. وليست قضية اللغة عندنا قضية ألفاظ فحسب، ولا هي قضية تراكيب، إنما القضية عندنا في كفاية تلك الألفاظ وهذه التراكيب. فهل استطاعت هذه أن تساير الحضارة الحديثة؟ وهل استطاعت أن تنقل معانيها إلينا؟ ذلك ما نشك فيه ونحن نشك في شيء آخر غير ذلك. انه لا يمكن لغة أن تساير الحضارة أو الثقافة إلا إذا كانت مرنة تتسع لكل معنى حديث. وتلك المرونة التي تظهر بجلاء في لغة كالإنجليزية قد فقدت مكانها في لغة كالعربية. وهي قد فقدت مكانها في لغات أخرى قبل لغتنا ألانها قعدت عن أن تماشي الحضارة في تقدمها. وأخص ما تمتاز به الإنجليزية هو ذلك الاستيعاب الذي يظهر في كل وجه من وجوهها؛ فهي قد استوعبت ألفاظاً من كل قطر حلت فيه فئة من الإنجليز. وألفاظها تواتي المتحدث بها في كل موضوع يطرق، لكننا نتشكك كثيراً فيما إذا كانت العربية والإنجليزية سواء. فالعربية غير مرنة؛ وهي لغة تقليدية تتولى عن الألفاظ الدخيلة؛ وقد بدأت تساير الحضارة الحديثة منذ وقت قليل لما يكف لتغذيتها بألفاظ تطلق على المعاني التي تجدد في كل ساعة من ساعات الحضارة
لم يكن لنا أن نذكر كل ذلك لولا أننا نؤمن بأن في اللغة استعدادًا لقبول كثير من الإصلاح. ولعل افعل إصلاح اللغة أن نبدأ بتفهم طرق التدريس التي من شأنها أن تجعل اللغة لغة أفكار ومعان قبل أن تكون لغة ألفاظ ومفردات، وتفهم طرق التربية التي تكسبها مرونة اللغات الأخرى. ويستطيع المعلمون أن يتغلبوا على تلك العقبات التي يلقونها إذا هم وجدوا أمة من أهل الرأي تجاهد معهم في هذا السبيل. على أننا سوف نكتفي في مقالنا هذا بذكر وجه آخر من علاقة اللغات، ثم بتحديد أغراضنا من دراستها. وسوف نعالج في مقال آخر الوسائل التي نراها
2 - وحدة اللغة:
وفي كل الذي أسلفنا اكثر من دليل على أن عنايتنا بالغة ينبغي أن تحل عندنا المكانة الأولى بين مختلف المواد التي نعلمها. فهي حقيقة بالتقدير إذا تحدثنا عن أي مثل أعلى عالمي؛ وفي دراستها توحيد للمعنى السامي الذي ما زال يلعب بخيال الإنسانية، والتقدم الفكري رهين بالتقدم اللغوي، ولان اللغة أساس صالح لتلك المواد، ولأنها تتحكم في تلقينها(248/30)
وفي تلقنها، فإنا نرى أن إصلاح التعليم في مصر رهين بإصلاح أساليبنا في تعليم اللغة العربية وفي تغير وجهتنا فيما يختص بالأغراض التي نرمي إليها بل اللغة العربية متصلة وثيق الاتصال باللغات الأجنبية التي نعلمها اتصالها بتعليم المواد الأخرى. وإذا نحن نظرنا إلى تلك المواد نظرتنا إلى مجموعات متوافقة من الأفكار والمعاني استطعنا أن نرى كيف تحدد اللغة تفكيرنا، وكيف تواتينا المقدرة على تفهم تلك المواد إذا كانت اللغة مهارة مكسوبة أحسناها. فاللغة في مفرداتها وصيغها تكون وحدة عامة متصلة الحلقات مشتبكة الاطراف، وهي في نفسها نتيجة لنماء العقل ونشاط التفكير. وليست مفردات اللغة كما قدمنا إلا رموزاً للأفكار التي يلتف بعضها حول بعض في حياة الإنسان العقلية، والتي تتألف حولها كثير من شعاب الدواعي. وحين يدرج الناشئ في السنين الأولى من طفولته يكسب كثيراً من تلك الأفكار التي يحاول أن يعبر عنها، فما تزال حائرة تتردد في نفسه حتى تستقر في تلك الرموز التي تواضع عليها الناس، وتصبح بعد ذلك مادة للحديث والتفكير والكتابة، وتصبح سبيلا إلى تفهم التاريخ والجغرافية والطبيعة وغير ذلك
ولعل الطفل في حياته اللغوية يمثل الإنسان الأول في كسب اللغة واصطناع ألفاظها، فهو يتدرج في تعلمها من المحسوسات إلى المعقولات، وهو يحسن كل الإحسان أسماء المرئيات، لكنه يعاني غير قليل من الجهد في تفهم المعاني. وقد مر الإنسان الأول في مثل عصر الطفولة حينما كان العالم نفسه طفلاً، وحين دفعته الحاجة إلى أن يتعلم الأسماء كلها. وتعقدت اللغة في أطوار الإنسانية حتى انحدرت إلينا وهي على ما هي عليه من التعمق والإغراق؛ وحتى أصبحت دراستها تقتضي نصيباً كبيراً من الحس المرهف والتفطن الدقيق
فلغة الإنسان إذن وحدة في ذاتها تتألف من شتات من الجزيئات، ولغته الأصلية هي التي صاحبت تكوينه العقلي. منها يستمد أفكاره ومنها يكون صوره العقلية، بل هي التي توحي إليه ما توحيه الكلمات من حب وبغض وسرور وحزن. ففي ألفاظها كل المعاني التي تجيش بصدره، وفي أعطافها ما يحرك قلبه ويهز فؤاده
ولان اللغة وحدة في ذاتها تجد بين لغة الإنسان الأصيلة وبين لغته الدخيلة أو الأجنبية كثيراً من الوشائج والأسباب، فلا يستطيع متحدث أن يعالج الكلام عن الثانية إلا إذا بدأ(248/31)
بالأولى، ولا يستطيع متعلم أن يقرب لغة أجنبية حتى يتخذ الأصيلة عوناً على تفهمها. فاللغة الأصيلة هي سجل الذي تتنظر فيه مراحل تفكيره، وهي المرآة التي تنعكس عليها حياته العقلية والحسية في وقت معاً
من اجل ذلك كانت اللغة الدخيلة عالة في أفكارها ومعانيها على اللغة الأصيلة، وكان حرياً بها أن تكون كذلك عند الناشئين؛ فالحق أن الأفكار والمعاني لا تعرف ألفاظاً تحدها في موضع ضيق تتقيد به؛ ولأن اللغة الأصيلة نتيجة لتفكير الإنسان، ولأنها ثمرة لتقدمه العقلي كانت خليقة أن تكون أساساً لتعليم اللغة الأجنبية كما كانت الأساس في الدراسات الأخرى، وخليقة أن تمتاز بالجلاء والوضوح، وان يعني بها المربون أول شيء لأنها تتدخل في تعلم اللغات الأخرى وفي إحسان العلوم، بل في نمو الإنسان وتفكيره
ولقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من الذين بحثوا دراسة اللغة وأخرجوه للناس كما لو كان كشفاً من كشوف العلم الحديث، وكانت الجمهرة من علماء التربية يرون منذ بضع سنين أن اللغات منفصلة، وان الإنجليزية مثلا لا تستقيم إلا إذا حسبنا تفكير الناشئ عن العربية في دروس الإنجليزية. وقد كان يشوب ذلك كثير من الخطأ، فلم يكن يعترف عقل المتعلم بتلك الحدود المفروضة التي ضربت عليه، وقد كان يخترق تلك الحدود، وكانت اللغة العربية تلتقي بالإنجليزية في تفكير الطفل مهما حاولنا المباعدة بينهما. وقام في السنين الأخيرة علماء مثل الدكتور (وست) صاحب الطريقة المشهورة يعترفون بتلك الصلة ويستعينون بها في تعليم الإنجليزية. وحدث على اثر ذلك انقلاب سريع في أساليب التعليم عندنا، وغدا للعربية وزن في تعليم الإنجليزية في الست السنوات الدراسية الأولى
وعندنا أن موطن الإصلاح الأول هو اللغة العربية. وإصلاح مثل ذلك لن يتناول طرائق التعليم، ولا أساليب الدراسة فحسب بل لا بد له أن يتأصل في مادة التفكير التي يتغذى بها التلاميذ. إصلاح مثل هذا سوف تتأثر به الجغرافية والتاريخ والكيمياء والفلسفة والمنطق، وكذلك سوف تستقيم به طرق التدريس التي نجاهد في إدخالها على اللغة الإنجليزية. ولعلنا لا نغلو كثيراً إذا قلنا انه أساس كل إصلاح آخر
3 - الأغراض من تعليم اللغات:
ولأن يكون كلامنا محدداً، ولئلا نخلط بين اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة، نرى أن نعالج(248/32)
الغرض الذي ينبغي أن نلتزمه في تعلم اللغة العربية والغرض الذي ينبغي أن نلتزمه في تعلم اللغة الإنجليزية فإذا كان بين اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة مثل تلك الصلات الفكرية، فإن بين الاثنتين فروقاً تحدد السبل التي نتخذها في تعليم كل منهما. فللغة كما قدمنا آثار تختلف على حياة الإنسان لها أثر عقلي عميق يكاد يحكم نمو إدراكه وتطور تفكيره. ولها بعد ذلك أثر حسي يتصل اتصالاً وثيقاً بفكرة الجمال التي يكسبها من الشعر والأدب. ثم إن لها أثراً عملياً أو نفعياً يغير منه في حياته كأي مهارة أخرى. وهذه الأنواع الثلاثة من الآثار هي التي تختلف على متعلم اللغة إذا أحسنت تنشئته على الأصول النفسية التي جهد في استنتاجها الذين أوتوا العلم من المعلمين والمربين.
ونحن في حديثنا عن اللغات يجب أن نفرق بين هذه الآثار وارتباطها باللغة العربية أو باللغة الأجنبية. أما اللغة العربية فإنه يتمثل فيها كل الآثار التي ذكرنا. لها أثر عقلي يصاحب الإنسان عند النشأة الأولى ويلازمه في كل طور من أطوار حياته، ولها كذلك اثر حسي يمحضه الشعور بالجمال ويفيض عليه كثيراً من ألوان السرور، ولها اثر ثالث عملي لأنهما وسيلة الكتابة والحديث بين الأفراد والجماعات. أما أثر اللغة الأجنبية عندنا فهو نفعي أو قل عملي. حقاً قد يكون لها أثر عقلي إذ تتدخل في تربية الإنسان ونمائه، وقد يكون لها أثر حسي إذا أحسن تعلمها. ولكن وجهها النفعي أوضح وجوهها، وإنما يتعلم المرء اللغة الأجنبية لتكون صلة بينه وبين فروع المعرفة التي اتسعت لها، وحسبه أن يحسن قراءتها. ولعلها تصبح مادة زاخرة توحي إليه العواطف، وربما أصبح بينها وبين تفكيره صلات ولكنها على الحالين لن تدرك ما تبلغه لغته الأولى التي درج عليها والتي كانت أقرب إلى عقله وقلبه ووجدانه.
فاللغة الأصيلة واللغة الدخيلة تختلفان في تقديرنا اختلافاً شاسعاً. الأولى صاحبة الأثر العقلي الذي يدفع بتفكير المتعلم إلى نواحي التقدم، والثانية تستمد وجودها كأداة للتفكير من اللغة الأولى. واللغة الأصيلة ذخيرة تتجلى فيها آيات الجمال بما في تراثها من أدب وحكمة، وتنبلج فيها بدائع الشعر بما تتحمله من وحي والهام. أما الثانية فلن تبلغ هذا الأثر إلا إذا أحسنها المتعلم كل الإحسان؛ وليس يبلغ ذلك إلا الخاصة الذين لا يقعون للمعلم في حسبان. وهي عند كافة المتعلمين بعيدة عن نطاق الجمال والإلهام غير قريبة من مواطن(248/33)
التفكير الدقيق أو جادة التفطن والتفصيل. واللغة الأصيلة واللغة الدخيلة بعد كل ذلك جديرتان أن نحسنهما قراءة ومطالعة، لأن إحسان قراءة الأولى واجب حتم، ولأن قراءة الثانية هو سبيل الاتصال بحضارة أصحابها.
وفيما أسلفنا من حديث عن آثار اللغات مواضع نتعرف منها الغاية من تعلم اللغات كل منها على حدة، فالمطالعة أو قل القراءة المستوعبة هي الغاية من تعلم اللغة الأجنبية، لأن إتقانها هو السبيل إلى فهم ما يكتب فيها، ولأننا في تعليمنا اللغة الأجنبية نرمي إلى أن نفتح للمتعلم أبواب تلك اللغة حتى يتصل بثقافتها. نحن نتعلم اللغة الإنجليزية لنقرأ مؤلفاتها، ونحن نحسن الفرنسية لكي نلم بحضارة الفرنسيين؛ وليست الفرنسية ولا الإنجليزية إحداهما ولا كلتاهما بضرورة لازمة لحياتنا العقلية أو لتربيتنا النفسية؛ وإذن فيجب أن تدور جهودنا في تعليم إحدى هاتين اللغتين حول تلك الغاية المثلى: يجب أن تدور حول المطالعة لأنها الغاية النفعية التي تحدثنا عنها. وليست الكتابة ولا الخطابة ولا تذوق الأدب بما فيه من قصص وتمثيل من شأننا في تعليم الإنجليزية، فإذا جاء كل هؤلاء فإنما يأتي بعد المطالعة لا قبلها
أما اللغة الأصيلة - وهي العربية عندنا - فينبغي أن تكون الغاية من تعليمها فوق ما ذكرت. إن القراءة جزء من الغاية التي ننشدها إذ نعلمها. نحن نعلم العربية لنخرج مفكرين يحسنون تصور الكلام ويجيدون التعبير عما في نفوسهم. بل يجب أن نعلمها حتى يتذوقوا التراث الأدبي الذي تزخر به اللغة نفسها. وأذن فدراسة العربية ينبغي أن تكون تدريباً فكرياً وتدريباً نفسياً وتدريباً عملياً أيضاً، وتتشعب هذه الأغراض وتتعقد ويكون من مظاهرها الكتابة والقراءة والخطابة. ولكل من هذه الغايات أصول تمتد إلى أعماق الفكر وتتصل بأطوار النفس
أما الأغراض التي نرمي إليها اليوم فهي قاصرة لأنها تقف عن أن تدرك كل تلك الغايات.
إن تعليم العربية عندنا يقتصر على تلقين ألفاظ غير محددة وهو يخلو من الرياضة الجمالية التي ينبغي أن نرمي إليها. أما وجهتها النفعية فهي لا تعلو إلى أن تكافئ حاجات كل يوم فضلاً عن حاجات النفس العميقة. ولا يستطيع معلم أن يقول أنه يتجه اتجاهاً فكرياً في تعليم الألفاظ ولا إنه يصطنع الدقة في تلقينها إلا قليلاً(248/34)
أغراضنا إذن من تعليم العربية كما نعلمها الآن غير واضحة. وهي في الحق شعبة من اتجاه الكتاب والمفكرين عندنا عامة. ولكننا نلخص الأغراض التي يجب أن تحل عندنا في التدريب العقلي أولاً وفي الرياضة الجمالية الحسية ثانياً وفي الانتفاع بها ثالثاً
احمد خاكي(248/35)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 13 -
(إن مصر لتدين لعظمائها الفلاحين بأكثر مما تدين لغيرهم!)
(جاكسون)
(ولابد من أن يطلب غداً أولئك الذين يخلقون ثروة الأمة شيئاً أكثر من الكلمات!)
(جاكسون)
(قد تستطيع أن تسوق الجواد إلى النهر؛ ولكنك لا تستطيع أن تجعله يشرب منه)
(مثل سائر)
3 - التعليم الإلزامي والديمقراطية
رأيت في المقال الماضي انقسام عقلية المثقفين القلائل في الأمة إلى معسكرين متباعدين، وتبينت ما في ذلك الانقسام من ضعف يؤثر في وحدة الأمة ويعرقل نهضتها، وسترى اليوم ناحية أخرى هامة وخطيرة هي ناحية التعليم الإلزامي. . .
1 - كلمة الديمقراطية
وأحسب أنك تدري تماماً كلمة الديمقراطية في ذلك المجال بعد كل ما قدمنا من قول! بل وأحسب أنك تذكر يقيناً عبارة الرئيس (وشنطن) في المقال الماضي، وما فيها من مبدأ عظيم يجعل مقياس نجاح الحكومة منحصراً في دائرة زيادة خير أولئك الذين لا تكاد توجد عندهم ضرورات الحياة الأولية فحسب، لا أولئك الذين عندهم الكثير وأكثر من الكثير!! وإذا فلن تعجب إذا عرفت أن الديمقراطية تطالب هنا بمساواة (الجميع) في فرصة إظهار الكفايات، وتنظر للتربية كوسيلة جوهرية تقوم للشعب مقام الصلاحية للبقاء عند الحيوان، وترتقي به من مستوى العجماوات إلى مستوى الإنسان، وتسد ما بينه وبين الطبقات الراقية من هوة سحيقة مليئة بالبؤس والشقاء، والفوضى والاضطراب؛ وتؤهله أخيراً لأن يحقق معنى الديمقراطية بمطالبها الاجتماعية والسياسية على أصح وجه تنشده هذه الحياة!(248/36)
2 - التعليم الحاضر
فترى هل حقق التعليم الإلزامي المصري الحاضر مطالب الديمقراطية الصحيحة أو نهج على الأقل نهجاً قويماً نحو تحقيقها؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن نسأله، والذي ينبغي أن نستمع فيه لإجابة النظار والمدرسين والفلاحين قبل أن نستمع لإجابة النواحي الأخرى، والذي يجب أن نستوحي في فحصه مبادئ الديمقراطية أكثر مما نستوحيها في غيره، فترى ماذا عسى أن يكون الجواب؟
أحسب الأمر واضحاً لا يحتاج إلى جلاء، فأكثر من خمسة وثمانين في المائة من سكان هذا البلد أميون بكل ما في الأمية من معنى الفقر الأدبي المروع، وميزانية التعليم الإلزامي ضئيلة إذا قيست بميزانية بعض النواحي الأخرى التي تقل عنها في الضرورة والخطورة؛ هذا إلى أننا كثيراً ما نبعثر ألوف الجنيهات في الكماليات التافهة غير ناظرين إلى حاجة مثل هذا التعليم إليها، ومع ذلك فتعلمنا الإلزامي الحاضر ما يزال مشوباً بألوان من النقص يسيرة وعسيرة، وحسبك أن تعلم أولا أن (مبدأ المساواة في فرصة إظهار الكفايات) مهدوم حياله من أساسه لأن المتخرج منه لا يستطيع قط أن يطرق باب التعليم الابتدائي وما بعده من فني أو ثانوي أو جامعي إلا فيما شذ وندر، وبذلك أصبح الذكاء الشعبي محروماً من الدخول في حومة الثقافة الراقية الواسعة والتلذذ بما فيها من نعيم، وخدمة الوطن عن طريقها خدمة نافعة! ثم حسبك أن تعلم أن أحد نظار مدارس هذا التعليم قد كتب إلي مقرراً أشياء كثيرة خطيرة، أهمها قلة مرتبات المدرسين بالقياس إلى عملهم المرهق الذي كثيراً ما يقفز إلى 48 حصة في الأسبوع!! وكثرة أعمال الناظر (أو رئيس المكتب) الإدارية إلى جانب أعماله كمدرس مما يحول بينه وبين القيام بواجبه على النحو المنشود، وسوء أماكن الدراسة وقذارتها وعدم وجود الأفنية والمظلات، وتعسف حضرات المفتشين أحياناً وأخذهم المدرس باللوم أمام التلاميذ!! وجمع الكتب من الأولاد في آخر الدرس، وعدم اتفاق بعض هذه الكتب ومادة المنهج المرسوم!! ثم خروج المتخرج منها أخيراً دون أن يحذق ابسط تعاليمها وهي القراءة والكتابة، نظراً لحشو المنهج بالمعلومات غير اللازمة من ناحية، ولعدم استطاعة المدرسين البؤساء التعساء القيام بمهنتهم كما ينبغي من ناحية أخرى. . .!!
هذا وقد بحث الأستاذ (جاكسون) تلك الناحية في رسالته الآنفة فراح يقول: كيف يكون(248/37)
التعليم مجدياً وهو إلزامي بكل ما في الإلزام من معنى؟ إن التعليم الحق هو ما أتى من (الداخل) فحسب، وكل تعليم لم يأت من هذه الناحية لا يكون أكثر من طلاء خارجي كله تشدق بالألفاظ وغرور وكبرياء لا يجديان فتيلا. ولذلك ما يلبث أن يسقط غير تارك وراءه إلا المكر والإجرام إذا لم يحل محله غرس خلقي متين، وإذاً فكان الأفضل أن يترك القروي في مثل هذه الحال ليتعلم من الرياح والنجوم والذوق العام، وأن يبقى أمياً بريئاً ساذجاً لا يعرف كيف يعلو على أهله ويحتقر الفأس والأرض، ولا كيف ينزح إلى المدينة ليعيش عيشة أرقى وأنظف!!
لذلك كله لم يستسغ الآباء بعد هذا التعليم ولم يشعروا شعوراً كافياً بالحاجة القصوى إليه، ويساعدهم على ذلك ضعف الدعاية اللازمة، وعدم جاذبية المدرسة، واشتراك الناظر والمدرسين في صب هذا (الإلزام) على رؤوسهم ورؤوس أولادهم
3 - العلاج
وينحصر العلاج الناجع الذي يراه الدكتور (جاكسون) لتدارك هذا الموقف في ناحيتين. الأولى تغيير المنهج بحيث يلائم حاجات البيئة ولا يبدو كأنه مفروض من سلطة متعسفة؛ ويتأتى ذلك باشتماله على دراسة عملية للتربة أو الدورة الزراعية، وأنواع الأسمدة، وحياة الحشرات والنباتات والزهور، والقيم الغذائية للمواد المختلفة، وأصول صحة المنزل في الدائرة القروية الممكنة؛ كل ذلك إلى جانب القراءة والكتابة والمعلومات الأخرى التي تقرب بينه وبين الطبقات الأرقى وتحببه في العمل والعاملين، وتسد الهوة بينه وبين أبناء الأثرياء المنعمين!
أما الناحية الثانية: فتتلخص في دعاية واسعة النطاق غايتها تحبيب الشعب في ذلك التعليم بكل الوسائل حتى لا يكون هناك إلزام بالمعنى المكروه. ويحسن أن تكون هذه الدعاية عن طريق زعماء الشعب أنفسهم ونوابه وكل من يجلهم ويقدر كلمتهم، آناً بالحضور الشخصي وآناً بالإذاعة، كما يحسن أن يشترك في هذه الدعاية أغنياء القرى وذوو النفوذ بها، وأن تصطحب الدعوة فكرة دينية أو وطنية، وأن يقضي فيها نهائياً على القول القائل بأن معنى التعليم هو إلقاء الفأس وإمساك القلم؛ وبهذا وبغيره يصبح التعليم ضرورة لدى الفلاح، فيسعى إليه بنفسه، ويعتبره فريضة دينية أو وطنية!(248/38)
4 - الحاجة إلى مدارس جديدة
على أن الإصلاح لا ينبغي أن يقف عند هذا الحد. إذ يجب أن يختلف تعليم القرية تماماً تبعاً لاختلاف بيئتها، ويجب أن يكون المحور الأساسي فيه هو ربط عمل المدرسة بعمل الحقل، ويجب أن تتجدد المدرسة ذاتها في نظامها العام والخاص تجدداً يزيل طابعها القديم في نفوس الفلاحين. يجب أن يكون البناء جذاباً ويجب أن تزداد الثقافة الفنية للمدرسين على نحو خاص يمكنهم من النجاح التام في أداء مهمتهم العظيمة الخطيرة ويجب أن يكون بالمدرسة استعداد تام للخدمة الطبية، وأن يكون التعليم الديني بها على وجه منتج ومفيد لا مجرد آيات تقرأ وتحفظ فحسب؛ هذا إلى وجوب نزول المدرسين بها إلى العمل مع التلاميذ حتى يضربوا لهم المثل الصالح في حب العمل وتقديره، والى وجوب تزويد كل ولد أو بنت بكتب الحفظ كالدين والأدب والعلم، على أن يكون بالمدرسة ذاتها مكتبة عامة للتلاميذ والأهالي والخريجين جميعاً. . .
ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى ماذا يمنع أن تكون المدرسة مركزاً لتعليم الآباء والأمهات تعليماً خاصاً، ولإدخال السرور والابتهاج على أهالي القرية بما تقيمه في الآن بعد الآخر من مباريات طريفة؟ وماذا يحول بين رجالها وبين جمع الحكم والأغاني والذكريات والأشغال المحلية بين جدرانها حتى يخرج التلميذ عارفاً بحياة بيئته وبتاريخها وبشتى نواحي النشاط فيها؟ إننا بهذه الطريقة نجعل المدرسة خير صديق للقرية، ونجعل الحياة في القرية ذاتها محبوبة لا تدعو إلى تفضيل حياة المدينة عليها
قد يقول قائل إن هذا مشروع ضخم وفي القطر حوالي ثلاثة آلاف وأربعمائة قرية! وهو بالفعل كذلك ولكنه بعد ضرورة ملحة في القرن العشرين! قرن المدينة والنور! وإذا فلتضغط الحكومة مصروفاتها الكمالية ضغطاً، فإنها إن فعلت استطاعت - مع الخطة الحكيمة - أن تنفذ هذا المشروع في بضع سنين!
5 - تعليم البالغين في السويد وإنجلترا
أما تعليم البالغين فيتطلب مجهوداً آخر. وهاهي السويد قد أسست حوالي 54 مدرسة لإشغال فراغهم بدراسة اللغة والاقتصاد المنزلي والرياضة والموسيقى وأشغال الإبرة(248/39)
والخشب والمعادن. وهاهي إنجلترا تبعث بمحاضر كفؤ ليحاضر طلبة أمثال هذه المدارس بها في شئون عامة كالطفولة والتمريض، وآداب اللياقة ونحوها، وكثيراً ما يستعان هناك بالراديو في نشر الثقافة القروية الملائمة
فنرى ماذا يمنع مصر من الأخذ بمثل هذا النظام؟ وكيف السبيل إلى الاستفادة من مشروع (المجموعات القروية) مثلا إذا لم توجد أولا العقول المتهيئة للاستفادة والفهم؟
خاتمة
يجب إذاً أن نتيح للفلاح حياة أرقى، وألا نتخذ من عدم شكواه وسيلة إلى إهماله. أن النور سيطرق بابه عاجلا أو آجلا، وسوف لا يرضى حينئذ بحظه الراهن قط. بل هو على النقيض سيطالب بحياة اكثر تنوعاً، وبعمل اقل ارهاقاً، وبفرصة لكفاح أبنائه اكثر اتساعاً. نعم لا بد من يطلب غداً أولئك الذين يخلقون ثروة الأمة شيئاً اكثر من الكلمات!.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية الأميرية(248/40)
رسالة الأديب إلى الحياة العربية
للكاتبة النابغة الآنسة (مي)
(نبشر أصدقاء (مي) وعشاق أدبها بانكشاف الغمة عن صحتها وحريتها؛ فقد استطاعت أن تلقي هذه المحاضرة القيمة في 22 من شهر مارس في العروة الوثقى بالجامعة الأمريكية على حفل حاشد من أعيان الفضل والأدب فكانت أقطع الحجج على ما أرجف به المرجفون من أصحاب الهوى والطمع. وإنا ليسرنا أن ننقل إلى قراء الرسالة هذه المحاضرة عن جريدة المكشوف اللبنانية ليروا أن (مي) لا تزال على عهدهم بها تشع بالنور، وتنفح بالعطر، وتنبض بالحياة)
سلاماً يا وست هول، يا موطن الفكر والرأي والحياة المنظمة في كرامة وحرية! كم من مرة جلست بالخيال بين جدرانك أتبادل والجمع الحاشد قوة الحيوية، وآخذ قسطي مما يعج في فضائك من فائدة علمية واجتماعية! كم من مرة عدت بالذكرى إليك وأصغي بخشوع إلى رسالات الفضل والعلم والتهذيب يتلوها هنا العلماء والمفكرون والمصلحون!
سلاماً أيتها (العروة الوثقى)، الساهرة على وظيفتك في تنوير الأفهام، الحريصة على غايتك في أحكام الرابطة العلمية والأدبية بين أقطار الشرق العربي! كم من صيحة أرسلها أقطابك وأتباعك وأنصارك من على هذا المنبر المضياف، فمضت كالطير تسبح في القريب والبعيد من الأجواء حاملة رسالة العلم الصادق والبحث الرصين والخير العميم، فكونت في أوساط قضية مواطن للفكر والرأي والحياة المنظمة في كرامة وحرية!
ولئن أنا شكرت لك تشريفي بدعوتك واقتراح الموضوع، فإني كذلك شاكرة لأنك أفسحت لي مكاناً كريماً بين كرام ضيوفك، عاملة بيدك القوية الوفية على أحكام الرابطة بيني وبين قومي؛ وأشكر لكم أيها السادة والسيدات تفضلكم بالحضور.
إن اسم (العروة الوثقى) يلهم الفرد أنه ينقلب أمة عندما يخاطب الأمة
وما أجمله موعداً موعدنا الليلة! فنحن في مطلع الربيع، إذ باشرت الأرض إخراج زينتها وعرض مباهجها، ونشرت السماء كواكبها وشموسها وأقمارها وضاءة في رحيب الأفلاك، وسرت الحياة نامية في فتى الغصون، واهتزت الأرواح مترنحة لاستيعاب جديد النفحات. كذلك الشعوب العربية استيقضت من شتاء حالك الظلام طويل الأمد، وانبرت تستقبل(248/41)
الفصل الجديد من حياتها، متعهدة براعم الأمل والمجد في نهضتها، ساعية إلى ازدهار ثقافتها ازدهاراً عامراً بهيجاً
الربيع يزف إلى الأرض رسالته، ووست هول اليوم كما في الأمس وفي الغد، يؤدي إلى المجتمع رسالته، و (العروة الوثقى) تواصل العالم العربي برسالتها، فماذا ترى تكون رسالة الأديب إلى الحياة العربية؟
أيها السادة والسيدات:
إذا نحن تنحينا في بحثنا عن الرسالة المثلى، رسالة الأنبياء، وجدنا أن الرسالة في معناها الضيق هي الصفحة التي يكتب فيها الكلام المرسل؛ بيد أن معنى الرسالة أرحب من ذلك وأشمل، إذ لكل فرد، وكل كائن، وكل شئ، رسالته في معرض الوجود: فالشمس تؤدي رسالتها نوراً وحياة والزهرة تؤدي رسالتها عطراً ووسامة، والجبال والوهاد تؤدي رسالتها تبياناً لطبقات الأرض وتنوع الخليقة، والمروج والسهول تؤدي رسالتها خصباً وغذاء، والسبل تؤدي رسالة الحركة والانتقال، والانتقال يؤدي رسالة الأخذ والعطاء والتعاون المتبادل بين الأحياء
ولكل جمهرة من الناس في كل بقعة من بقاع الأرض شؤون عدة، إذا ما عولجت واستثمرت ونظمت وحسن التصرف فيها، أصبحت تلك الجمهرة شعباً فأمة، وصارت تلك البقعة بلداً فدولة، وفي كل بلد صناعة، وتجارة، وعمارة، وميكانيكا، وإدارة، وقوانين
ولكل أمة عادات وتقاليد وتاريخ وتربية وحكمة وثقافة وآداب وفنون. الشؤون المحسوسة، على تعددها وعلى ما بينها من فروق، متشابهة واحدة في كل قطر؛ وأخص خصائص الوحدة والتشابه نجده في التقدم العلمي والميكانيكي، وفي الحضارة الآلية السائدة في كل مكان
ترى ما هو الفرق بين مخاطب بالتلفون، ومخاطب بالتلفون؟ بين مستمع إلى إذاعة راديو، ومستمع إلى إذاعة راديو؟ وبين راكب دراجة أو سيارة أو طيارة، وراكب دراجة أو سيارة أو طيارة؟ ليس من فرق بينهما من حيث الخدمة التي تؤديها الآلة. أجل، ثمة فرق في الغرض الذي نستخدم له الآلة؛ وهذا ليس موضوع البحث؛ إنما الفرق كل الفرق في الشخصية التي تستعمل الآلة؛ والشخصية لا تتكون إلا من العوامل الأدبية: التاريخ،(248/42)
الاختبار، الذكرى، اللغة، الفن، الأدب.
الأدب إذن من أهم المقومات للشخصية؛ وربما كان الأصح أن أقول انه حجر الزاوية في تكوين الذاتية الفردية والذاتية القومية بالتبع. والفرق بين الشخصية والذاتية فيما أظن هو أن الشخصية تتكون مما يحيط بنا ويتقلب علينا من شؤون وأحوال، في حين أن الذاتية هي ما نظل عليه دائماً في صميمنا في جميع الشؤون وفي جميع الأحوال. فما أبعدنا بهذا التعريف عن التعريف الشائع أن الأدب هو المستظرف من الشعر والنثر، وأنه صناعة لفظية حذقت حيلة النكتة والتورية، واستسيغت منها البلاغة والحلاوة في وصف مجالس الانس، وتصوير جمال النساء، وشرح لواعج الحب والغرام. كل هذا من الأدب بلا ريب، وله أهميته، وهو ذو إغراء؛ ولكنه وجه فقط من الوجوه العديدة في الأدب. ولئن اقتصر كل من العلوم والمعارف على نفسه دون غيره تقريبا، فميزة الأدب في أنه يحتضن الكثير من المعارف والعلوم، وله أن يتغذى بها جميعاً ليعالجها على طريقته الخاصة، فلا يكون بعد إلا أدباً.
ولكم كانت المنتجات الأدبية والصور الخيالية سابقة للبحث العلمي ومعينته على الخروج من حيز القياس والافتراض إلى حيز التطبيق العملي والاختراع! أليس أن شاعرية الشعراء طارت إلى أجواز الفضاء قروناً طوالاً قبل اختراع الطيارات؟ وفيالق العشاق (والعشاق شعراء وأدباء دواماً)، ألم تناج أرواح الأحباب برغم شاسع الأبعاد قبل أن يصبح الراديو أداة من أدوات المنزل؟ ومن ذا الذي يقرأ ولو كتاباً واحداً من كتب الأديب الفرنسي جول فرن الذي وصف الانطلاق من الأرض إلى القمر وصفاً علمياً قبل أن يقوم علماء الستراتوسفير برحلاتهم الجوية، وحدث عن سلك أعماق البحار في سفن ذات أجهزة ميكانيكية دقيقة قبل أن تحتوي أساطيل الدول على غواصات ترقب ما يجري في قلب اليم وعلى صفحة الماء؟ من ذا الذي لا يذكر الكاتب الإنكليزي المعاصر ولز، ومؤلفاته ذات الصبغة العلمية المتنبئة بمستقبل حياة ميكانيكية صرفة تترتب عليها حياة اجتماعية متوافقة؟ لست من أشياع ولز، ولكني أشير إلى نظرياته شاهداً على رحاب الميدان للأدب
وإذا نحن عدنا إلى الكتب الدينية الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن، وجدناها متفقة على جعل الفردوس الأرضي في شرقنا الأدنى. فكان لنا أن نقول إن مجد الآداب كمجد النبوات(248/43)
وكمجد الحضارات اشرق من بلادنا، وكانت اللغات السامية أول أداة للإفصاح عنه.
التوراة مليئة باللهجة الأدبية. والتوراة كتبت أولا باللغة العبرية. والإنجيل ملئ باللهجة الأدبية؛ والسيد المسيح تكلم بالآرامية والسريانية والعبرية، قبل أن يكتب الإنجيل باليونانية واللاتينية لينقل بعدئذ إلى مختلف اللغات. والقرآن ملئ باللهجة الأدبية؛ والقرآن هو الكتاب العربي المبين والمستودع الخالد لهذه اللغة التي لا تموت مهما توالت عليها القرون وتناهبتها تصاريف الحدثان
ترون من كل هذا معشر الشرقيين عريقون في الأدب، وإن أدياننا عمدت إلى اللهجة الأدبية لتكون أسرع اتصالاً بالنفوس وأبرع استيلاء على المشاعر. ولئن أجمع نفر من علماء اللغات في الغرب على أن اللغات السامية حماسية، غنائية، بيانية، خطابية، أكثر منها اختصاصية علمية ميكانيكية، فنحن نعتز بذلك. لأن اللغة الأدبية هي لغة النفس، لغة الجوهر، لغة البقاء. واللغة المحتوية على الجوهر لا تضيق دون العرض والطارئ والإضافي. وليس لنا إلا أن نتابع الجهود التي باشرناها أفراداً وجماعات علمية - ناهجين نهج أسلافنا الذين نسخوا وترجموا ونحتوا واشتقوا وعربوا - لنجعل أداة اللغة كافية وافية في تأدية كل مستحدث من المعاني والمسميات والاختراعات العصرية. ولنا من اتساع اللغة ومرونتها ما يمكننا من صوغ المفردات وسبك القوالب على طريقة ترضي من الناحية الواحدة مولانا سيبويه، وترضي الواقع والذوق من الناحية الأخرى، فلا يكون اسم الراديو مثلاً: الطمطمان، ولا يكون التلفون: أرريزاً
ومعلوم أن الأدب كاللغة، حليف التقهقر والتطور في الشعوب التي تعالجه. وآدابنا في تاريخها الطويل أصدق شاهد على صحة هذه النظرية لأنها ازدهرت ثم لازمها الجمود وفقاً لارتفاع الدول العربية وهبوطها. وصدق تلك النظرية أظهر ما يكون في عصرنا الحاضر.
نظرة إلى البلدان العربية، فماذا نرى؟ بعد هجعة ثلاثة قرون أو تزيد استيقضت الشعوب العربية، وحركات اليقظة لا تكون منتظمة في بادئ الأمر، وإرادة المستيقظ لا تكون مستقرة ثابته، وبصيرته تظل وقتاً ما غائمة غير صافية ولا نافذة. المستيقظ يلبث حيناً حائراً بين خيالات الليل وحقائق النهار، ولكن كم في خيالات الليل من حقيقة، وكم في حقائق النهار من خيال شعوبنا على همتها وتحفزها ما زالت قلقة مضطربة، وأدبنا على(248/44)
وفرة جهوده وغزارة مادته ما فتئ مضعضعاً، غير واثق من نفسه، غير مستقر. فما هي حاجتنا اليوم من الناحية الأدبية؟
إذا كان الأدب صورة للشخصية العامة من خلال الشخصية الفردية الخاصة بحسناتها وسيئاتها، بحوافزها ومعلوماتها، بنورها وظلامها، بتقاليدها وأوهامها، بخوالجها وممكناتها، بيأسها ورجائها - إذا صح ذلك، وهو صحيح - فنحن نحتاج اليوم إلى صوت الأديب والى رسالة الأديب.
المعترضون يقولون: ولكن الأقطار العربية متعددة ولكل قطر حياته الخاصة ولهجته الخاصة. أفيكون إذن لكل قطر أدبه الخاص؟
كيف لا؟ وهل غير ذلك في الامكان؟ أو ليس هذا هو شأن سائر الآداب؟ أو تتكون الثروة الأدبية واسعة في اللغة الواحدة إلا بتعداد الآداب المحلية وتنوعها؟ أو ليس لكل من أمريكا، مثلا، وإنكلترا واسكوتلاندا وإيرلندا، أدب خاص مجموعها يكون آداب اللغة الإنكليزية عموماً؟ وفي كل هاتيك الأقطار الغربية لهجة محلية هي اللغة الإنكليزية، والشعب يتخاطب بلهجته وباللغة الإنكليزية، ويكتب بهذه اللغة وبتلك اللهجة على السواء. فعلام نحن نشكو مما يراه الآخرون شيئاً جد عادي؟ ومن المشاكل والمصالح والآلام والآمال ما هو مشترك بين جميع البلاد العربية. فرب زفرة حزن أو صيحة استبسال وجدت صداها متردداً في ملايين القلوب العربية ورب رسالة أدبية انطلقت من قطر واحد، فاجتاحت عديد الأقطار العربية المتناثرة من شواطئ الاطلانطيقي إلى خليج العجم أجل، نحن في حاجة إلى أقلام تخاطبنا باللغة العربية ببيان جميل يصور شخصية الأديب، ويشرح حالة الأمم، وينشر أمامنا صحيفة الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فالماضي ينبثق انبثاق الينبوع فيخصب النفوس. وكما يكتنه الأديب ذخائر الماضي فكذلك هو يطلع على شؤون الحاضر، متصلا بكبار الحوادث التي تهز قومه في النقمة وفي النعمة، في السخط وفي الرضى، وإذ يرى الحوادث داخلة في دور الغليان، والشعوب فوارة صاخبة كالحمم في فوهة البركان، وإذ يشهد الظلم والعذاب والمرض والنفاق فيبحث عن الإنصاف والصحة والصدق والانشراح - عندئذ تتم في داخله عملية عجيبة، ولا العمليات الكيميائية. يخيل إليه أن موسيقى شائعة رائعة تنطلق من الأزمنة والحوادث والشعوب موحية إليه سر الفن الجميل(248/45)
فينقل إلينا منها ماينقل، جاعلا لكل شئ أهمية خاصة تهز منا المشاعر، وتستثير الحماسة، وتكيف الآراء. ومن معالجة الأديب للأزمنة والحوادث والشعوب ينبعث لنا الهزيج الفتان فيلفتنا إلى أن طبيعتنا رحاباً لم نكتشفها وإن في أرواحنا ممكنات توسع أمامنا أفق الحياة.
وإذ يحدثنا الأديب عن النظريات والمذاهب والشخصيات نتحزب مختارين لها أو عليها، فننكر نظرية ونؤيد نظرية، نمقت شخصية ونحب أخرى محاولين الاندماج فيها، ندحر مذهباً وننتصر لغيره تائقين إلى نشره في الملأ مع رفاق نوليهم الثقة. كذلك الأديب يجوز بنا بحر الحياة المكفهر كسفينة استغنت عن الشراع والقلوع وعن الرياح المؤاتية، لأن له من نفسه القوة التي تسوقه إلى الأمام. وليس من اختبار يمر به إلا تأثرت به كتاباته، فلا نفتأ نتطلع إلى كل ما يحدث له متسائلين عن سر قوته في المناعة، وعن سر قدرته في الإبداع، ذلك السر الدفين، ذلك الجوهر المكنون المعرض عن كل تأويل وتفسير، السباق إلى أجواء من التفكير والإحساس والتكوين، لا نأبه لوجودها إلا بعد أن يجول جولته فيها
وسرعان ما يتصل الحاضر بالمستقبل في فن الأديب: جيل جديد يتخرج على أثاره وعلى مؤثراته، فيشب حاملاً معه الفكرة التي تنيل الحياة قيمة في تذوق الجمال الحسي والأدبي، وفي ممارسة الجمال تأملاً وسعياً وجهاداً، رافعاً بيده مشعل الحب العتيد للوطن، وللرجاء وللتقدم، وللشهامة وللبطولة، ولإرضاء غريزة الحرية!
رسالة الأديب تعلمنا أن لكل قطر من الأقطار العربية حضارة غابرة حلت محلها الحضارة العربية ناسخة عنها وعن غيرها لتسبكها في قالبها وتدمغها بطابعها الخاص. رسالة الأديب تعلمنا أن الغرب الحاذق عرف كيف يقتبس عن حضارتنا يوم كانت حضارته وثقافته وشيكة. ولكن ما أغزر ما استفاد وما أخصب ما انتج، وما أبدع ما ابتكر! وأن الحضارة العربية كانت الصلة المتينة بين الغرب الجديد وحضارة اللاتين والأغارقة. وهاهو ذا الغرب يرد إلينا الآن دينه كشعاع من الشكر بما ينشره بيننا من ثقافة، فعلينا أن نأخذ عنه بمثل المهارة التي أخذ بها عنا!
رسالة الأديب تعلمنا أن الحضارة الميكانيكية أدوات نستعبدها ونستخدمها، لا أدوات تستخدمنا وتستعبدنا. وأنه لا يكفي أن يضغط أمرؤ على الزر الكهربائي فينال سحري النتائج، وأن يمتطي سيارة أو طيارة فيطوى شاسع الابعاد، وأن يرقص رقصة ويصغي(248/46)
إلى إذاعة ويتعمل التأنق والحذلقة متكلما بخليط من لغتين أو ثلاث - لا يكفي كل ذلك ليكون شخصية ممتازة ترهب هيبتها الأكوان
رسالة الأديب تعلمنا أن الحضارة الآلية التي ألفناها ولم يكن يحلم بها أجدادنا تجعلنا اليوم أشد احتياجاً منا في الماضي إلى ثقافة أدبية تدعم الحضارة الآلية وتكون لها ركناً ركيناً. وإن هذه الحضارة الآلية المنتقلة بسرعة من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل، ننعم بها - ونشقى! - دون أن يكون لنا يد فيها. أما الثقافة الأدبية فيجب أن يحصلها كل فرد يوماً فيوماً، وساعة فساعة، مدى الحياة
رسالة الأديب تعلمنا أن للعالم العربي على تعدد أقطاره وحدة واحدة تشغل مكانا فسيحاً في القارتين الآسيوية والأفريقية. ويستطيع أن يقول هذا القول علماء الجغرافيا وعلماء التاريخ وغيرهم. ولكن للأديب فناً مغرياً ينيلنا الثقافة والفائدة، بينا نحن نرتع في بحبوحة من اللذة والمتعة في جو ممغنط أخاذ هو في الواقع جو الحياة
رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات بأنها ولدت قبل لغات قديمة اندثرت منذ قرون، وما زالت العربية تفيض حياة، مجارية حتى أحدث اللغات بالقوة والمرونة والجزالة والرشاقة. كل أمة تسعى الآن إلى نشر لغتها بين الأمم الأخرى، باذلة في سبيل ذلك المال والإغراء والدعاية والجهود. أما نحن فانتشار لغتنا شئ واقع، وميزتها هذه تربط بين الأقوام العربية برباط قوي جاعلة الفرد الواحد منا ملايين
رسالة الأديب تعلمنا كيف نخلق حضارة أدبية، إذ بها لا بغيرها تقاس مواهبنا، ويسبر غور طبيعتها، وهي التي تثبت وجودنا، وتنطلق بلساننا مترجمة عن مبلغ الإنسانية فينا
رسالة الأديب تعلمنا حب العزلة والسكون، وترجعنا عن الفخفخة وهوس الظهور، فنعتكف على أنفسنا نعالج ممكناتها للظفر بمحمود النتائج. فالسنبلة المتمايلة على صفحة المروج، حاملة بشائر الحياة، لا تولد حبتها ولا تنضج إلا في أحشاء الأرض، في جو الوحدة والهدوء والكتمان
رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. كل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث، وأعظم فوائد الإنسانية نجمت عن عصور العذاب والخطر. الخطر مرهف، ولا يعرف شأن ذي الشأن إلا يوم الكريهة. والعاصفة لا تقتلع إلا ضعيف(248/47)
الأغراس؛ أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير تلح عليها وتهزها هزاً عنيفاً فلا تزيدها إلا قوة ومناعة
رسالة الأديب تردنا عن عديد الشخصيات القومية التي تجذبنا من كل صوب لتركزنا في شخصياتنا القومية الأبية
رسالة الأديب تعلمنا كيف نفهم كل شئ ونستفيد من كل شئ، باحثين عن الصواب والكمال خلال كل نقص وكل زلل، نازعين إلى الجمال الحسي والأدبي حيال كل دمامة خَلقية وخُلقية مساجلين النفوس والعناصر، مناجين المنظور وغير المنظور، لنجعل من حياة متناثرة متداعية، حياةً متناسقة متماسكة
أي شئ لا تعلمنا رسالة الأديب؟
أنها قوة تستفز قوتنا، وموهبة تحفز مواهبنا، وصرامة تردنا عن الحقارة، وبسالة تدفعنا إلى البسالة، وعذوبة تؤاسي أحزاننا، وأغرودة تطرب أشجاننا؛ وهي عالم مستقل متماسك يسوقنا إلى تكوين عالمنا المتآلف المستقل!
نحتاج إلى الأديب يأخذ منا ويعطينا، فيرسل صوته أريباً رصيناً مسيطراً أخاذاً حضاناً!
ونحتاج إلى رسالة الأديب قويمة غنية عنيدة ملهمة لتوقف قوميتنا في مكانها المشروع في معرض القوميات بميدان العمران العظيم!
(مي)(248/48)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الاحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 6 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من سيرة هذا العصامي العظيم
وما حيلة الطب في توازٍ توبق الروح، وهواجس تعمي القلب؛ وإن بدت آثار هذه وتلك في نواحي البدن عجز الطبيب، ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطيع الطبيب أن يفعل، وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه
باع سبيد حانوته وعول على الرحيل إلى كنتوكي فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك عله يشفى مما به في تلك الاحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد ان ينزع نفسه وجسمه من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه بعد أن كان منتجع آماله ومهوى خواطره، ورحل ابراهام مع صديقه وقد اخترم الهم جسده فزاده نحولاً على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من الحياة. . .!
ولبث في كنتوكي أياماً، لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئاً قليلاً، وصاحبه لا يفتأ يسري عنه وينصح له، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه ويظهره على هواجس نفسه، ويذكر له والألم يبرح به فعلته التي فعل وكان فيها غير كريم، بل وكان من الضالين. . . بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، فقد طاف به على حين غفلة طائف من الحب ملك عليه قلبه وعقله!
وأنقلب الأمر فغدا لنكولن هو الناصح، فراح يجهد أن يهدي صاحبه حينما وسوست إليه نفسه معاني كتلك التي كانت تجول في خاطره هو: معاني الحيرة والتردد والشك. فلقد اصبح سبيد يحار في أمر حبه كما اصبح ينتابه الخور كلما اتجه فكره إلى الزواج شأنه في ذلك شأن ناصحه. وكان فيما يسديه ابراهام من نصح لصاحبه مسلاة له أو شاغل يشغله(248/49)
عن وجده؛ على انه وهو في كنتوكي كتب رسالة في الانتحار ترينا أن الغمة أو اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ لذلك مثلا قوله: (إني لم اصنع في الحياة شيئاً يذكر أي إنسان أني عشت. ومع هذا فأن ما أعيش من اجله هو أن اربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيع فيه لمن حولي من الناس جدوى)
ولما عاد إلى سبرنجفيلد ظلت كتبه مدة اكثر من عام تترى على صاحبه، وفيها من حسن النصيحة وقوة الإقناع ورقة العاطفة ما يكشف لنا عن حقيقة نفسه ويصور نزعات وجدانه. كان يعزو ما بات صاحبه يشكو منه إلى اعتلال أعصابه والى ما تحدثه الوحشة والبعد عن الخلان وأحاديثهم في مجالس لهوهم من انقباض وضيق، والى ما تركته الوراثة في طبعه من شدة التأثر وقوة الانفعال؛ وكان يكتب ذلك في جلاء وقوة حجة هما من أبرز صفاته. وكان عجباً أن نرى مثل ذلك من لنكولن، فترى فيه العالم النفساني، والشاعر الرقيق العاطفة، وهو الذي علم نفسه بنفسه. . .!
وتزوج سبيد بعد ذلك وبقى لنكولن حيث هو، موقفه من ماري عين موقفه عقب ذلك الفرار الشائن؛ فعاد إليه بذلك ما شغلته قصة صاحبه زمناً من هموم نفسه! واصبح فإذا ضائق بوساوسه. وزاده تبرما بحاله وإنكاراً لشأنه ما كان يسمعه من صاحبه عن سعادته الجديدة بين يدي زوجه. . . لذلك لم يكن عجيباً أن يلتمس السكينة من جديد عند فتاه ناهد كان قد عرفها قبل أن يعرف ماري. بيد أنه كان يتجه بينه وبين نفسه إلى ماري، فهو لا يستطيع أن يبتعد بخياله عنها. قال في كتاب من كتبه: (يخيل إلي أنه ينبغي أن أكون جد سعيد لولا تلك الفكرة الملازمة لي، ألا وهي أن هناك شخصاً غير سعيد عملت أنا على أن يكون كذلك. أن تلك الفكرة ما تزال تريق روحي؛ ولا معدي لي عن أن ألوم نفسي حتى على مجرد الأمل في السعادة في حين أنها على ما هي عليه)
وكان لنكولن يحدث نفسه أنها لا تزال على الرغم مما حدث بحيث يتأنى لهما أن يتصلا أنهما أرادا ذلك. وكانت هي من جانبها تحس أن ما كان منه من هجران وقطيعة قبيل ما استعدا له من زفاف قبل ذلك بعام ونصف عام لم يصل على شناعته إلى مثل الصدمة القاضية. . .
ودبر رجل من صحابتهما وزوجه أن يدعواهما إلى مأدبة على جهل كل منهما بدعوة(248/50)
الآخر. وتم ذلك فالتقيا وتضاحكوا جميعاً بعد أن ذهبت عن ابراهام وصاحبته ربكة المفاجأة. وكان ذلك اللقاء والخطوة الأولى نحو التئام الصدع واجتماع الشمل؛ إذ اصبح لنكولن يرى حقاً عليه أن يصلح ما افسد وأن يضع حداً لما هو فيه من ضيق وشقاء
وحدث بعد ذلك أمر غريب في ذاته، على قدر غير قليل من الأهمية من حيث نتيجته: ذلك أن إبراهام، وهو الرجل الذي ملك القلوب بدماثته ورقة حاشيته، قد دخل غير متردد ولا هياب في مبارزة تدور على السيف! وكان لتلك المبارزة سبب يدهش له الإنسان أن كان مبعثه شخص مثل لنكولن! فلقد نشر ابراهام في إحدى الصحف كتاباً على لسان أرملة وجهته إلى أحد رجال السياسة تسفه فيه آراءه التي أذاعها، وكان التهكم لاذعاً والنقد قاطعاً، فأثار الكتاب فضول الناس كما أثار ضحكهم وإعجابهم؛ ووردت على الصحيفة ردود قوامها المجانة والمعابثة وكلها غفلاء من أسماء أصحابها. . . وكان لماري في هذه الردود نصيب. وثارت ثائرة ذلك السياسي وراح في المدينة يتهدد ويتوعد! وجاء صاحب الصحيفة فعنفه وتهدده بالانتقام إلا أن يعرف صاحب هذه المجانة. وعرض صاحب الصحيفة الأمر على لنكولن فقال له في غير وناء ولا استخذاء: إنه يأخذ الأمر على عاتقه، وإنه لذلك في حل من أن يذيع أسمه. وتم ذلك فكانت المبارزة. . . فلقد تحداه ذلك الساسي أن ينازله، وشاع أمر ذلك في الناس فاحتشدوا ليشهدوا ما يكون بينهما. . .
وكان لإبراهام من طوله وفتوته وقوة ساعديه ما يضمن له الفوز على منازله القصير؛ فتناول سيفاً طويلاً ولم يزد - والناس يتطلعون - على أن ضرب به غصناً فوق رأسه فألقى به بعيداً. ثم جلس وفي عينيه أنه يريد أن يلقي إليهم حديثاً وراح يحكي ويستجمع الأمثال. . .! وتداخل الناس وسووا ما كان بين المتخاصمين، وأنقلب الجد الصارم إلى فكاهة عابثة
بيد أن للحادث نصيبه من الأهمية؛ فلقد ترك في حياة لنكولن صفحة ظل يندى لها جبينه أبداً، كما حق لماري أن تتحدث
إلى الناس أن إبراهام ما فعل هذا إلا دفعاً عنها وحفاظاً أن ينالها شيء من غضب ذلك السياسي. وطاب إبراهام بذلك نفساً. وقربت الأيام بينهما حتى باتا من جديد يأخذان الأهبة للزواج. وما هي إلا أيام حتى ربطهما ذلك الرباط المقدس وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين(248/51)
واستنشى ابراهام نسيم الراحة أن أخذت تتزايل هواجسه ويتضاءل هوانه على نفسه، وأخذت تعود إليه ثقته بتلك النفس سيرتها الأولى، وأن كان الذين شهدوا العروسين حين عُقدَ قرانهما رأوا لنكولن وعلى وجه سحابة من الكآبة والوجوم كانت تتقشع حيناً على ما يتكلف من بشاشة ثم تعود فتنعقد!
وأقام لنكولن أول الأمر وعروسه الطموح المستعظمة في حجرتين صغيرتين في نزل كانا يدفعان أجراً لهما أربع دولارات كل أسبوع. وعظم ذلك على ماري فشكت إلى زوجها ولم يمض على زواجهما غير قليل، وهو يلقي إليها المعاذير مشيراً إلى ضيق رزقه والى ما لا يزال يقتضيه الوفاء من ديونه. . . وبسط الله له رزقه بعض البسط، فأنتقل الزوجان إلى بيت صغير استطاعا أن يدفعا في غير عسر أجر إقامتهما فيه
وأخذت ماري في بيتها الجديد تدبر شؤونه وترعى امره، وقد اتخذت لنفسها سلطة ربة البيت لا تتنازل عنها فيما عظم أو هان من الأمور، حتى لقد كانت تأخذ زوجها بألوان من الشدة والعنف حينما كانت تدعوه إلى كيت وتصرفه عن كيت، ورائدها في ذلك النظام كأدق ما يكون النظام. وكان يصل بها الغضب أحياناً إلى هياج شديد، وذلك حين كانت ترى من بعلها أن يأبى إلا أن يرسل نفسه عن سجيتها، فكثيراً ما لا يعبأ بما صالح الناس عليه أذواقهم من أوضاع وتقاليد يلزمونها وهم جلوس إلى مائدة الطعام، أو وهم سامرون في الثوى. وهل كان يستطيع ابن الاحراج أن يتكلف ما لم يجر في طبعه؟ ولكن امرأته لا تفتأ توجهه إلى العناية بهندامه وتحثه على النظام وانه ذلك خليق به وله في الناس مكانته؛ وهي تريده على أن يحمل الأمر على الجد وهو يجاريها ليخفف من حدتها ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يغير من طبعه. وكان إذا اشتد بها الغضب يلاطفها ويضاحكها ليصرف عنها غيظها، فإن عجز عن ذلك خرج من المنزل فمشى ساعة أو بعض ساعة. . . وحق لزوجه أحياناً أن تغضب منه؛ فهو سخي اليد وأن كانت به خصاصة، وهي لا تريد أن تبسط يدها إلا بقدر ما تستطيع. وهو يلقي الناس في البيت في هيئة تنم على عدم المبالاة، فثيابه متهدلة وشعره أشعث، وعباراته ساذجة، وهو يستلقي على ظهره أحياناً ويتمدد على الأرض وفي يده كتاب لا يصرف وجه عنه؛ ويتدخل أحياناً فيما ليس من أمره فيحلب البقر في الحديقة، ويحمل اللبن في وعائه بين يديه ويهرول به إلى الدار على أعين السابلة(248/52)
والجيران!
ولكن زوجه على الرغم من ذلك تحبه وتكبره، وتنتظر ما يخبئه له الغد من جاه وسلطان كأنها تعلم الغيب أو كأنها ترى ما لا يراه الناس. وكتب لنكولن إلى صديقه سبيد ينبئه أنه رضي النفس قرير العين، ويعتذر له من عدم زيارته إياه بفقره وشواغله، ثم يبشره أن قد صار لهما غلام. . .
ذلك ما كان من أمر لنكولن فيما هو متصل بحياته الشخصية؛ بيد أن زواجه من تلك المرأة كان حادثاً عظيم الأهمية في حياته؛ فلقد مر بك من صفاتها أنها امرأة ذات طمع وطموح. وأنها كانت ترى بما يشبه اللقانة الطريق المؤدية إلى عليا المراتب، وما كانت تقنع بما هو دون مرتبة الرياسة! لذلك كانت خير معين حين تقدمت خطواته في ميدان السياسة. وكثيراً ما كانت ترده إلى الطريق السوي إن هو أوشك أن يتنكبها. ويتجلى ذلك في عدة مواقف سيأتي حديثها بعد حين. . . نرجع بالحديث بعد ذلك إلى حياته العامة في السياسة والمحاماة. أما في السياسة فقد ظل ينتخب نائباً عن سنجمون، كلما تجدد الانتخاب، حتى لقد ظفر بثقة الناس أربع مرات متوالية. وأما في المحاماة فقد تركه شريكه ستيوارت إلى وشنطن حيث اتخذ مقعده في المجلس العام للولايات؛ فعمل مع شريك آخر قبل زواجه من ماري بثلاث سنوات؛ وكان هذا الشريك يدعى لوجان، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في المدينة، وكان له من صفات النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة ومطالبها ما كان يعوز صاحبه لنكولن. وكانت له في العمل الرياسة. ورضى لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة إذ لم يكن منه بد؛ وأخذ يتعلم عنه ويكتسب بمصاحبته المرانة والخبرة؛ وهو قانع بنصيبه من الأجر، وأن كان يرى من زميله أنه لا يعدل في ذلك وأن كان لا يميل كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرارهما معاً لولا أن فرقت بينهما ريح السياسة إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف الحزب الآخر. . .
ولما قضي الأمر بينه وبين لوجان، دخل له زميلاً آخر. وكان هذا الزميل شاباً دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه هرندن. وكان هرندن هذا من أشد الناس إعجاباً بأبراهام ومن أعظمهم محبة له وإكباراً، فتوثقت عرى الصداقة. وكانت لإبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء،(248/53)
كما كان كزميله في مذهبه السياسي ومن الداعين إلى القضاء على العبيد. . .
وعرف ابراهام في المحاماة بما لم يعرف به أحد قبله في المدينة؛ فهو بسيط في كل شئ، يجعل الأمر أمر ذمة وإخلاص قبل أن يكون أمر قانون ومغالبة؛ وينظر في تنازع الناس نظرات يوحي بها قلبه قبل أن يرسمها عقله. يرد كل شئ إلى طبيعته إذ كان يقيس الأمور بما كان يدور في نفسه، ولا يتردد أن يفصل بين المتنازعين بما لو فكر فيه غيره لعده من ضروب الخيال والوهن. . . ولكن لنكولن كان له من إنسانيته خير سند، ومن حسن طويته خيرها
جاءه ذات مرة رجل يطلب إليه أن يدافع عنه ليرد له مبلغاً من المال عند خصم له؛ فلما سمع لنكولن قضيته قال: (أني أستطيع أن اربح قضيتك وأعيد إليك تلك الدولارات الستمائة، ولكني أن فعلت ذلك جلبت الشقاء إلى أسرة أمينة، ولن أستطيع أن أتبين سبيلي إلى ذلك. لذلك أحس فيّ الميل إلى أن أنصرف عن قضيتك وأجرك. على أني أبثك نصيحة لا أسألك عليها أجراً: اذهب إلى بيتك ففكر في طريقة نزيهة تكسب بها ستمائة دولار). . . بذلك وبأمثاله اتخذ ايب الأمين سبيله إلى قلوب الناس، فما منهم إلا مكبره ومحبه. وكان الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم، وكلا الخصمين يعلن أنه راض بما يقول سلفاً؛ وسرعان ما كان يحسم النزاع بينهم كأنهم منه حيال قاض لا محام! وهو لا يسألهم أجراً على ذلك، وحسبه من الأجر منزلته في قلوبهم. . .
وكان يرفع الكلفة بينه وبين الناس كأنه أحدهم مهما كانت درجتهم؛ وكذلك كان يفعل مع صاحبه هريدن، فهو لا يستحي أن يسأله ويستفهمه أن أشكل عليه أمر أو التوت عليه فكرة كأنه تابعه! فإذا ساق إليه الله رزقاً عده وقسمه نصفين ونادى صاحبه: (هذا نصفك)؛ كل ذلك دون أن يكتب شيئاً أو يطلب من صاحبه كتابة، فما كانت بهما حاجة إلى ذلك وكلاهما يبذل من الإخلاص والود بقدر ما يبذل صديقه
وكان صديقه يراه الناس في المحكمة يدس أوراقه في جيبه حتى لينبعج وينتفخ، ويرونه يدسها في قبعته كأنه يجعل منها قبعة وحقيبة. كان لا يعني في شيء بمظهر وإن حرص كل الحرص في كل شيء على الجوهر. . . وكان في عمله كما كان في منزله، يأبى إلا أن يرسل النفس على سجيتها؛ وسيظل كذلك حتى تتحقق له كبرى الرياسات. . ولله ما كان(248/54)
اعظم تلك البساطة منه في كل شيء! وهل ثمة بين المتكلف المتصنع وبين الصعلوك من كبير فرق؟ إن أمرهما واحد فيما أرى وإن بلغ من تمويه أولهما ما يكفي لأن يحجب عن الأعين حقيقته. . .
(يتبع)
الخفيف(248/55)
حلبي يزور باريس
في سنة 1867
للدكتور حسين فوزي
تتمة ما نشر في العدد 245
وينتقل بنا الخواجا فرنسيس من أشور لمصر ليونان لروما، فيقول في فلاسفة الإغريق:
فذاك أرسطو وذا إقليدس ... ذو منطق هذا وذا مهندس
وهو ذا سقراط ذاك الأنفس ... من كان للآداب دوماً يغرس
ثم يكون من سوء حظ ديوجنيس أن يجئ في الشطرة الخامسة، فتسلبه القافية الرائية مصباحه، ولا يبقى له من فلسفته الكاتبة إلا أن يكون:
وذا ديوجنيس ذو التعرّي!
ورحالتنا رجل حساس بجمال فن التصوير، فهو يأمرنا:
أن نعرج نحو مكان الصور ... حتى نرى أجمل صنع البشر
حيث عينه الفنانة لا تخفي عليها خافية:
فهاك كل بطل مبارز ... يلوح في أعضائه البوارز
وكل خود ذات طرف غامز ... وأجفن عن الهوى روامز
وطلعة تخسف وجه البدر
لا شك أنك تعبت من التجوال - أو من الشعر! - والخواجا فرنسيس يشعر بذلك تواً، فهو يلاحقك بشعره الفلسفي إذ يقول:
تبا لنفس حظها يصرعها ... وكل ما يلزها (كذا!) يلذعها
آفتها تضجر يتبعها ... فأينما سارت أتى يصفعها
وربما يلحقها للقبر
أظن أننا لن ننتهي بسلام من خمسمائية المعلم فرنسيس، وقد تكفي الإشارة إلى أنه ينتقل بك فيها من حديقة (اللوكسمبور) إلى متحف (كلسوني) ومن دار البلدية إلى (بولفار ميخائيل إلى لقا ينبوعه الجميل). ولا ينسى أن يعرج بك على حديقة النبات ومتحف(248/56)
التاريخ الطبيعي حيث يدور شعراً في أقسامه من الجيولوجيا، إلى المعادن، إلى النبات، إلى الحيوان. ثم هو يأخذ بيدك إلى متحف (الفنون والصناعات)، وينتهي بك إلى باريس في الليل حيث يرى (الكل يمشون بها أزواجاً - ويدخلون في الصفا أزواجاً)
والآن وقد اجتزنا محنة شعر الخواجا فرنسيس، يمكننا أن نتمتع دون وجل ببقية نثره. فنعود إليه في أول وصوله إلى باريس عند (انفلاق الصباح) تلك المدينة ذات الشوارع (رحبة العرض، مستقيمة الطول، حسنة التمهيد والتخطيط. . . جامعة لكل شروط النظافة والإتقان. فلا يقوم هناك للجيف الطاعونية انبعاث، ولا للأقزاز (كذا) الوبائية حشر) - لا شك أن صورة عمران العثمانيون لسوريا ماثلة لعين الحلبي المسكين وهو يكتب هذه الفقرة!
ودخل رحالتنا إلى مسارح باريس التمثيلية منها والغنائية، فوجد الفرنسيين فيها (جامعين إلى دست واحد ما تفرقت قطعه في رقاع السنين. وهكذا يحلون هذه الاستحضارات (ليفكرن صاحبنا بالمندل) والاستظهارات بقلايد الآداب، وفصاحة اللغة ويرخمونها بآلات الطرب وحسن الصوت، بحيث أن المشاهد لا يعود يدري بأي حاسة يستقبل وقوع الطرب (بحاسة الشم غالباً!) أبعينه أم بأذنه. فيرحل حاملا في دماغه نهاراً من الأدوار الأدبية، وفي أعينه انبهاراً من الأضواء الطبيعية، وفي قلبه أنهاراً من ينابيع الطرب والحبور)
ولا شك أن ضوضاء باريس في 1867 كانت شديدة على آذان هذا الحلبي - ليت شعري ماذا يقول لو عاد إلى باريس سنة 1938! - (حينما تكون الأعين راتعة في تلك الآفاق الزاهرة، تكون الآذان عرضة لالتطام تموجات الضوضاء الباريسية، واصطدام تلك الرجات التي تبتلع لعلعات الرعود، وتهتضم طلقات الصواعق. فهناك ألوف المركبات مندفعة على الدوام اندفاع الأمواج إزاء مهب العواصف، وألوف صنوف العربات منسحبة وراء خيولها الجامحة (تصور ألوف الخيول الجامحة وسط المدينة العامرة!) انسحاب السحاب بأزمة الرياح)
وعن العمل والعمال والنشاط البادي في كل مظاهر الحياة: (وهناك لا يفتر صياح ربوات أعمال الأيدي مطلوقاً من أفواه الآلات والأجهزة، ولا تكف ألوف المعامل البخارية صافرة بأبواقها النارية لتدعو فرسان العقول - لاحظ اللغة التصويرية! - إلى مواصلة النزال في(248/57)
حومة الإبداع والاختراع، تسديداً لواجبات القرايح، وتشييداً لنظام الجماعة. وهناك الجميع يجرون إلى الامام، الجميع يحركون، الجميع يتسارعون، الجميع يشتغلون، الجميع متعاضدون سوية، منضمون إلى قوة واحدة، للركض إلى اقتحام كل المصاعب، والوصول إلى قمة الكمال والجمال. . . فكم سرور واندهاش للأعين إذا، عندما ترى هذه الأمة الفرنساوية تتموج على بعضها كقصعة واحدة، بدون نزاع في جزئياتها، ولا انقسام في كلياتها، سابحة في بحور الأمن والسلام، بدون خوف من واثب أجنبي أو حسود غادر) ونسى الخواجا فرنسيس سياسياً في برلين اسمه بسمارك يتربص بفرنسا؛ ويرسل (أولان) بروسيا يقتحمون باريس بعد أربع سنوات من كلاعه عن (الواثب الأجنبي، والحسود الغادر)، ويعقدون تاج الإمبراطورية الألمانية على رأس غليوم الأول في قصر فرساي. لذا واصل رحالتنا كلامه عن (عدم خوف الأمة الفرنساوية من وحش مفترس، أو جبار مختلس - بالذات! - رافلة بأذيال الحرية الكاملة) - في عهد الإمبراطور نابليون الثالث تلك الحرية الكاملة!
أما عن أنوار باريس - ويقينا باريس كانت جديرة باسم (مدينة النور) حتى في ذلك الوقت - فالخواجا يحدثنا عن (الأنوار الغازية المندفعة من أفواه ربوات أنابيبها تحت أشكال ألسن نارية تدعو باردي الروح إلى الدخول في كرة التمدن المتوقدة بلهيب الحكمة والآداب)
ورحالتنا الحلبي مدرك تمام الإدراك أن (كل هذا العجيب والكمال الغريب الذي رقت إليه هذه المدينة المعظمة) إنما هو نتيجة ارتقاء (العقل عندهم في طريق التقدم والنجاح، ولم يصعد العقل إلى القمة العالية إلا بدرج المدارس التي لا يفتر تشييدها، ولا يكف نظامها. فيوجد عندهم لكل قسم من العلوم مدرسة تحيط به وتجمع شمله جمعاً لا يقبل التفريق)
ثم هم (أقاموا في كل جانب من المدينة مكتبة عظيمة، معدة لقبول الجمهور مطلقاً. فيدخلون الناس إليها أفواجاً، ويقرءون ما يريدون، وينسخون ما يشتهون بكل راحة وهدوء بال. . .
ولما كان يوجد جانب كبير من العلوم يستلزم كونه عملياً وعيانياً بعد كونه نظرياً، فقد شادوا لذلك محلات مخصوصة يسمونها بالموزيوم، وأشحنوها من كل المواد الضرورية لدراسة موضوعها) وقد وجدها الخواجا فرنسيس مقسمة إلى ما يشتمل على (الاستحضارات التاريخية جيلاً فجيلاً، وأمة فأمة، إن يكن بالنظر إلى أعمال الأيدي، أو(248/58)
إلى الأديان والعقايد، أو إلى العادات. . وما يشتمل على المواد التي يتألف منها جسم الأرض وما يشتمل منها على الأجسام المشرحة مع كل أعضائها وأجهزتها حيث يتأمل الإنسان كل نواميس نموه منذ كونه دودة وليس بإنسان، إلى كونه إنسانا عظيما. . . وما يشتمل على العالم النباتي بكل طوايفه. . . أو العالم الحيواني بكل أجناسه وأنواعه. . . حتى يدرك نظام حيوة كل نوع وفرد، فيعلم أخيراً أن الحيوان كلما انتصب هيكله ارتفع نوعه. حتى إذا ما وقع رأسه عموداً على محور سلسلته كان إنساناً)
وقد رأى أن (هجوم الناس على العلوم والمعارف يشبه انحدارا الغدران من أعالي الجبال. فترى الأباء يسرعون إلى وضع أولادهم في المكاتب حالا بعد فطامهم (أي والله!).)
ومن أدق ما لاحظه المعلم فرنسيس اهتمام الفرنسيين بدراسة لغتهم، إذ يجب (أن يعلم كل منهم قواعد لغته وفهم أصولها. والذي يجهل ذلك يعتبر عندهم كالحيوان العديم النطق، لعدم معرفته صحة النطق. . . وكلما ازداد الشخص معرفة وتعميقاً بلغته، ازداد اعتباراً وكرامة وارتقاء، إلى أن يجعلوه قاضياً في محكمة اللغة أقرأ: '
وكيف يرى الخواجا فرنسيس الحلبي كل ذلك ولا يفكر في ضعة الشرق وانحطاطه، أو لا يقارن بين ما ينال العالم في فرنسا وبينما يصيب من له في الشرق (هوس في العلم، فيعيش مقطوع الخرج، وربما يحتقر ويهان. ولا يحصل على شيء من الجوايز سوى قول الناس عنه: هذا نحوي بارد، أو شاعر مشعر، أو بعرفينو، أو فلفوس. وإذا كان يروي شيئاً من التاريخ يقول عنه: هذا حكاكاتي). وخواجتنا العلامة لا يدعك تتساءل عن أصل هذه الكلمات، فهو يفتح قوساً ليقول لك بأنه (يوجد كثيرون يقبلون شاعر إلى مشعر، وعارف إلى بعرفينو، وفيلسوف إلى فلفوس، وحكاياتي (كذا!) إلى حكاكاتي!)
ولقد لاحظ رحالتنا والألم يحز في فؤاده أن مركز الطلبة غير محترم في باريس. وتفسير ذلك عنده (أنه ما لم يحصل الدارس أولا على شهادة مدرسية، فأنه لا يمكنه الحصول على ثمرة دراسته وجايزة أتعابه. كما أنه بدون رنين هذه الشهادة لا يسمع أحد به، فلا يوجد له اعتبار، وربما كان ساقطاً من أعين الناس لكونه دارساً. سيما إذا كان يدرس الطب أو الشريعة). وسترى أن طلبة الطب والحقوق في عصرنا إنما يحتفظون بسمعة قدمائهم السيئة. واليك تفسير الخواجا فرنسيس، وهو ينطبق في بعضه على العصر الحاضر:(248/59)
(وما ذاك إلا لأن صيت درسة (طلبة) هاتين الصنعتين لا يوجد عندهم اقبح منه. ولا جرم في شيوع هذا الصيت الردى لأنه يوجد حقيقة قسم كبير من هؤلاء الدارسين مطلوق العنان إلى ارتكاب الكباير والجرايم، عوض الانكباب على الدراسة والمطالعة. فترى جماعة هذا القسم تايهين في عالم الشهوات، وضاربين في أودية المعاصي. فهم يطوون النهار ويحيون الليل ما بين الدساكر والخمارات ومحلات الانهماك على الفساد. . . فتراهم هناك مفصومي العرى، محلولي الثياب، مشوشي الشعر. وبرانيطهم مقلوبة إلى الوراء كأنها مجفلة من إماراتهم)
وكان من سوء حظ المعلم فرنسيس أن يشهد جامعياً في داخل قاعة المحاضرات: (وقد شهدت شيئاً من ذلك ضد أعظم معلمي النباتات عندهم. وهو أنني دخلت إلى القاعة المعدة للخطابات، حينما كان المعلم مزمعاً أن يفتح كلامه على النباتات. فرأيت المحفل مضاعف الاحتفال. أي أنني وجدت عدداً وافراً من الدارسين الذين لم أصادفهم قط في محلات الدراسة. فحالما دخل المعلم لابساً ثيابه الرسمية، وصعد على منبر الخطابة، أخذ هؤلاء الدارسون يصيحون ضده، ويصفرون ويزمرون ويدبديون بأرجلهم حتى لم يتركوا له سبيلا للفظ كلمة. وكلما رأوا شفتيه تتحرك أو تهم على الحركة أزادوا الضوضاء والصراخات. وفي أثناء ذلك دخل رئيس المدرسة نفسه ليرجوهم أن يستمعوا لهذا المعلم. فما نجم عن دخوله سوى تضاعف مربع الحركة، ولم يلبثوا أن هبط الخطيب من منبره فانفض المجلس).
لا حاجة إلى وصف الخواجا فرنسيس بأنه رجل ساذج فقد (عرته حينئذ جمودة البهتة وصار مهوى لتيار الاقشعرار، وكان قلبه يقابل ارتجاف المحل بارتجاف الرعدة). ولدى خروجه سأل البعض عن (سبب اندفاع هذا البركان البليغ، فقيل له إن هؤلاء الدرسة يمقتون كل معلم يدقق مسايل الامتحان لكونهم لا يدرسون إلا نادراً وقليلاً. ولذلك يريدون عزل هذا المعلم أو تنكيس أعلامه لشدة تدقيقه عليهم في الامتحان النباتي بحيث لا يمكنهم احتمال ذلك لضعف دراستهم). ويغلب على ظني أن السبب في هذا الـ كان سياسياً. وأقرب الحوادث من نوعه إلى أذهاننا مظاهرة طلبة الحقوق ضد البرفسور جيز أيام كان يدافع عن قضية النجاشى في عصبة الأمم. نعم إن قسوة الأستاذ في الامتحان ربما ساعدت(248/60)
على تظاهر الطلبة، ولكنها لا يمكن أن تكون سبباً بعينها. وما رآه الخواجا فرنسيس يرجع في ظني إلى الشعور الجمهوري الذي كان ينفجر من آن لآخر بعد قلب الجمهورية الثانية وتنصيب البرنس نابليون إمبراطوراً باسم نابليون الثالث
وواضح أن الخواجا فرنسيس رجل قليل التسامح. فهو الدارس - برغم الثلاثين وبلغها - يجاري الرأي العام في الزاوية بالدرسة حتى لينتقد لباسهم. ولا شك أن هذا الحلبي لابس القنباز كان آخر الناس أهلية للحكم على لباس الطلبة في باريس؛ وهذا الشرقي كان آخر من يحق له أن يحجر على حرية الطالب الباريسي؛ ومع ذلك يقول: (والنظر الساذج إلى أولئك الدارسين يوشي بقبح سلوكهم، لأن ملابسهم تعبر عن منافسهم، فهم يلبسون بنطلونات هكذا ضيقة حتى يكاد تتمزق بين أفخاذهم، وسترات هكذا قصيرة حتى لا تخفي شيئاً من الإليتين إلا قليلاً، وشعورهم طويلة منفوشة، وبرانيطهم عريضة كثيرة الانفراج هضيمة الكشح. وكلما كانت البرنيطة تامة في هذا الشكل كان صاحبها أكثر تقدما في ذلك الضرب، حتى تخال البعض من هذه البرانيط نظير غمامة سوداء على رأس حاملها، فمتى لاح هكذا شخص قال الناس: هو ذا الدارس!) فالمعلم فرنسيس يأسف على وجود (هكذا سرب بين دُرس الطب والشريعة أوجب سقوط الجميع من أعين العامة مدة الدراسة مع أن جماعة القسم الأكبر - والذي عليه المعول - لا يسلكون تلك الطريق، بل يسيرون في سبيل مضاد على الخط المستقيم، وعوض أن يطفئوا بمياه الشباب لهبات الشهوات إنما يستقطرونها بأنابيق أدمغتهم المضطرمة بنار الاجتهاد والحمية)
ويستطرق رحالتنا من كلام عن الدرسة المجتهدين إلى ختام وصفه النثري لباريس حيث له حديث طويل عن (بحار التمدن المتدفقة من محابر رجالها، وانهار الأدب جارية من ينابيع أفكارهم) وعن (ممالك الأباطيل والأضاليل، وعروش الحقائق والهدى). ثم يتحدث في لغة سامية عن الفكر (وقوته التي تغلب جميع القوات، ولا تعرف راداً إذا جمحت، ولا صادماً إذا اندفعت). ويضرب لهذه القوة أمثلة أجاد اختيارها حقاً، فهو يقول: (أي قوة أوقفت حركة الأرض بعد ما أدارها غاليلي (جاليلو) على محورها، ودفعها تكر على محيط دايرة البروج. وأي قوة هدمت بناية الإصلاح بعد ما أشادها فكرهوس , وأي قوة أوقعت دوران الدم في أوعيته بعد ما أجراه فكر هارفي مع أن ذلك حبس وذاك حرق (جان هوس(248/61)
احرق على ما أذكر) وذا اضطهد)
(ولما عرف بنو المغرب كونهم محملين بقوة الفكر، أخذوا يهذبونها ويثقفونها، ويستظهرون نتائجها بدون التفات إلى تهديدات المغرضين، أو معارضات المبغضين). وبذلك (بلغوا هذا المبلغ العظيم من الفلاح والنجاح، وتركوا بقية العالم يتقهقر وراءهم، ويتساقط تحت أحمال كبرائه، وأثقال ثقلائه، فاقد التفكير وعديم النطق)
وهذه الإشارة المستترة إلى (تساقط الشرق تحت أحمال كبرائه وأثقال ثقلائه، فاقد الفكر وعديم النطق) تشترى كل كبوات الأسلوب عند الخواجا فرنسيس، فهو رجل سليم التفكير جدير بالتهنئة على كتابه الساذج، ولو أن هذه التهنئة (تشيح بوجهها) أمام شعره، وإذا كان نثره (يصدمنا) بصوره العنيفة المزدحمة، فإن خلوه من التسجيع الذي كان ضرورة من ضرورات الكتابة في عصره، يشهد للخواجا فرنسيس بروح استقلالية مشكورة، كنا نود أن نراها تعمل على إقصائه نهائياً عن الشعر بعد أن عصمته من السجع
ويختتم الرحالة كتابه بفصل إضافي عن معرض باريس العام في سنة 1867. ولكن هذا الفصل لا يمكن أن يزيد معرفتنا بالخواجا فرنسيس. . . حتى ولا بذلك المعرض
حسين فوزي(248/62)
ربيع!
للأديب صلاح الأسير
حَلِمَ الوردُ بالصباحِ، وجُنَّ ال ... غصنُ شوقاً لزقزقاتِ الطيورِ
وارتمى العصفُ حائراً يتلوّى ... في دروبٍ محفوفةٍ بالعطورِ
يرقبُ القاصِفَ السخيَّ من الرعدِ ... ترامى على يدِ الزمهريرِ
ورُؤى النورِ هوَّمتْ في الروابي ... تحملُ الفجرَ في الفم المقرور
أتعبتها الرياحُ، أتعبها البر ... دُ فلاحتْ مزرورقاتِ الثغور
فإذا الغابُ قطعةٌ من سوادٍ ... وإذا الأفقُ مكفهرُّ الستورِ
وإذا الناسُ تائهون حيارى ... رهبوا غمرة الظلام الضرير
وإذا النهرُ صاخبٌ يدفعُ الصخ ... رَ، ويرمي بنفسه في الصخور
وتراءى الربيعُ، في الرونقِِ الضا ... حي سخيَّ الأجواءِ رحبَ المرادِ
يزرعُ الدفء في الفضاء ويهفو ... خاضباً بالطيوبِ وجهَ الوهادِ
ويريقُ الهناَء ملَء مرادِ ال ... أرضِ خصباً وملء ظنَّ العبادِ
فترى الدوحَ واثباً في الأعالي ... أخضرَ الزهو ضاحكَ الميلادِ
يحضنُ الطائرَ الذي ضاق ذرعاً ... ببروقِ الشتاءِ والأرعادِ
ويطيبُ الهواء في موكبِ الصحوِ ... ويسري العبيرُ في كلَّ وادِ
فترى الغابَ نضرةً والورودَ ال ... حمرَ عرساً يغصَّ بالأورادِ
وإذا الكونُ حالم النعم الخض ... ر تعالت صلاته في النجادِ
يا بنات الربيع غنينَ أحلا ... مي وغنينَ بالهوى والهناءِ
واستبقنَ الشعاعَ في الروضِ والثم ... نَ خفافاً بواكرَ الأنداءِ
ما تريْنَ الفراشَ يرقصُ في الز ... هرِ خفوق الجناح غضَّ الرواءِ
واثباً يلتقي المنى تتهادى ... دون أجوائه الرحابِ النوائي
والنسيمُ الندىُّ ينفحُ بالطي ... ب وجوه العرائس الزهراءِ
يا بنات الربيع رفرفن في الجوِّ ... وداعبنَ رفرفاتِ الهواءِ
والتقين الربى تضيعُ بها الع ... ينُ نداءً لغفوةٍ خضراءِ(248/63)
فكرةٌ أنتِ حارَ في فهمها الكو ... نُ وأعيا بها رحيبُ الفضاءِ
ياربيعي تنامُ أنتَ وفي الكو ... ن ربيع يموج حلوَ البرودِ
وعذارى الربيع في القرية الول ... هى يغنين خافقاتِ النهودِ
يا ربيعي أفقْ ودعْ لي صباحي ... تائهاً في رحابه والنجودِ
حالم ألتقيكَ في ولهِ الحي ... رةِ رؤيا على الربيع الجديدِ
أنتَ منى هوايَ أنت أغانيَّ ... حلمٌ رأيتُ قبلَ وجوديِ
أنتَ طيفُ الإله في عالمي البك ... ر وأسطورة الزمان البعيدِ
قمْ بنا نحضنُ الربيع وأغدو ... في ربيعين، يافعٍ ووليدِ
وأنا أبنُ الربيع إلفُ الضياءِ الس ... مح وابنُ الجمالِ، تربُ الخلودِ
(بيروت)
صلاح الأسير(248/64)
إلى. . .
للأستاذ إبراهيم العريض
تعالَيْ فأن الليلَ يبسطُ ظله ... لكي يتمّلى ناشئُ الزهرِ حِلَّه
وإن فؤادي برعُم في يدِ الصِبا ... سأعدمُ نشراً منه إن لم أطله
وثَمّة سرٌّ كامنٌ فيه كالشذا ... ولم أتنشَّقْ منه إلا أقله
طوى باكياً كالزهرِ أوّلَ صفحةٍ ... من العمرِ حتّى يضحكَ العمرَ كله
ولحنٍ كترجيع الرباب إذا انثنى ... عليه بخمس مُطربٌ فاستهله
يوقِّعه قلبي على وترِ الهوى ... تباعاً. . . فأقضي ليلتي أتوله
ولا من نجيٍّ إذ أحاول بثَّه ... كأَحسنِ ما بثَّ المحبُّ هوىً له
سوى شبَحٍ أن يطرفِ العين لمحه ... أيُنكِرُ دمعي في الضلوعِ محله
إبراهيم العريض(248/65)
القصص
شارلس لام يروي عن شاكسبير
قصة الشتاء
للأستاذ دريني خشبة
أحب ليونْتس ملك صقلية زوجه الحسناء الفاضلة هرميون حباً يقرب من العبادة
وكان صديقه بوليكسينز ملك بوهيميا أحب الناس إليه بعد هرميون، لأنه رفيق الصبا وخِدن الشباب وزميل المدرسة. . . فلما فصلت الأيام بينهما لارتقائهما أريكة الملك، ظلا يسقيان فروض الصداقة، ويرعيان عهود المودة، ويتبادلان الهدايا والتذكارات والُّهي
ثم دعا ليونتس صديقه لزيارته، وألح في دعوته، فأقبل بوليكسينز ليحل ضيفاً على البلاط الصقلي، ولقيه الملك لقاء المشوق المستهام، وقدمه إلى زوجه هرميون أعز صديق بل أعز شقيق
وأخذا يتنادران في النهار ويسمران في الليل، ويقص أحدهما على الآخر ذكرياته، ويستعيدان ملح الطفولة ورقائقها، ويستعرضان صور الشباب الوارف الفينان، وهرميون أثناء ذلك تصغي إليهما وتقبل على حديثهما وتسرّ به، وكان زوجها يوصيها خيراً بضيفه فكانت تحتفي به، وتبتكر الأساليب لإدخال السرور على نفسه
وأستأذن ملك بوهيميا صديقه في الأوبة، فأبى ملك صقلية إلا أن يتلبث. . . فألح ملك بوهيميا وأبى إلا أن يعود. . . وهنا سأل ليونتس زوجه هرميون أن تطلب إلى بوليكسينز أن يبقى. . . فلما فعلت لبى ملك بوهيميا، ونزل عند رجائها، وأجل سفره إلى موعد آخر
وا أسفاه!!
لقد نفثت ثعابين الغيرة سمومها في قلب الملك، واحتلكت الحياة في عينيه، ولم يفتأ يسائل نفسه لِمَ قَبِل ملك بوهيميا رجاء هرميون بمجرد أن كلمته، مع أنه لم يقبل رجاءه هو؟!
(إن في الأمر شيئاً، وان وراء الأكمة ما وراءها. . هذا لا ريب فيه! لقد زاد عطف هرميون على هذا الضيف الثقيل، حتى شككت في أن يكون العطف حباً. . . وهذه النظرات التي كانا يتخالسانها في حضرتي. . . وهذه الضحكات الفضية التي كانت(248/66)
هرميون تسقسق بها في هواء المكان الذي كان يجمعنا وبوليكسينز. . .!)
وعلى هذا النحو راح الملك يجتر شكوكه ويوسع آفاقها ويلقي في نارها وقود الظن حتى أنضجت فؤاده، وحتى غدا بسببها وحشاً مغيظاً محنقاً، ينظر إلى هرميون الجميلة المفتان الحصان الطهور، نظرته إلى المرأة الفاسقة المسافحة الهلوك وينظر إلى صديقه العف الحبيب، كما ينظر إلى عدوه الفاجر اللدود
وأرسل الملك إلى أحد رجالات بلاطه - السيد كاميللو - فبث إليه خبيئة صدره، وأمره أن يدس السم لملك بوهيميا في طعامه
وشاءت العناية ألا يمتثل كاميللو أمر مولاه، وشاءت كذلك أن يلقي كاميللو بالسر كله إلى ملك بوهيميا، وأن يحذره مغبة البقاء في ضيافة ليونتس؛ فيدبران الأمر معاً، ويفران في جنح الظلام إلى بوهيميا
ويثور ثائر الملك لهذا الفرار، ويكبر في روعه فيكون برهاناً جديداً لما دار في خلده من شكوك وريب، فيذهب من فوره إلى مخدع الملكة، حيث جلست تصغي إلى قصة ظريفة يلقيها عليها ابنها مارميللوس. . . الطفل اليافع الجميل. . .
وكان الملك مقطب الجبين عابس الوجه، يضطرب في قلبه بركان من الغضب، وتتدفق في أعصابه سيول من الححم، فتقدم كالوحش المجروح فأنتزع مارميللوس، وأسلمه لمن يُعنى به. . . ثم أمر فسيقت الملكة إلى غيابة السجن
وأرسل الملك سيدين من رجاله - كليومين وديون - إلى دلفوس ليستوحيا له كهنة أبوللو في أمر زوجته، وفي حقيقة ما اتهمها به. . . هل صحيح أنها خانته مع صديقه، أم هي براء من هذه الجريمة الشنعاء؟
في تلك اللجة من الدموع، وفي هذا الليل الزاخر من الأحزان، وضعت هرميون في سجنها السحيق أنثى. . . كانت سلوى باكية لأمها المشجونة؟
وهكذا ضم السجن ضحية أخرى. . . مولودة شقية لا ذنب لها ولا جريرة ولا إثم. . . أرسلتها المقادير إلى هذه الدنيا المعوجة القاسية لتكون حياتها مأساة!
وكان للملكة صديقة من نساء سادة البلاط تحبها وتخلص لها الود، تدعى ليدي بولينا، زوجة انتيجونوس الصقلي(248/67)
فلما علمت بما أجاء الملكة في سجنها من المخاض، وما تلا المخاض من وضع، ترقرقت دموع الألم في أغوار قلبها من اجل مولاتها، وانطلقت إلى السجن خفية، فقالت لليدي اميليا؛ السيدة الطيبة القلب المنوط بها السهر على الملكة: (أحسبك ياعزيزتي الليدي تشركينني في الألم لما أصاب الملكة!) فلم يكن إلا أن تفجرت الدموع من عيني اميليا جواباً على ما قالت بولينا. . فقالت لها وقد سرها ما رأت من بكائها: (إذن تذكرين لها أنني هنا. . . وأنني مستعدة لان اذهب بالطفلة إلى الملك فأدافع عن هرميون، والقي إليه بابنته عسى إن هو رآها أن ترقق ما قسى من قلبه، وتنير ما تدجى من نفسه، وتظهر له ما خفي عليه من برهان ربه) فأجهشت أميليا، ودعت للسيدة، وشكرت لها مجازفتها، ثم ذكرت أن الملكة كانت تفكر في مثل هذا
ودفعت الملكة بطفلتها إلى بولينا فذهبت بها إلى الملك رغم ما حذرها به زوجها من مغبة الإقدام على هذا الجنون، خشية أن يبطش بها؛ فلما مثلت بين يديه كشفت عن المولودة البائسة فصاحت وأعولت، ثم وضعتها عند قدميه، وانطلقت تدفع عن صديقتها الملكة ما رماها به من الفحش، وطلبت إليه أن يرحم الطفلة بالعطف على أمها. . . وكانت تتدفق في دفاعها كالسيل، وترق في استعطافها كالنسيم، ساكبة أثناء هذا وذاك دموعها تنثرها على كلماتها، وتنضج بها عباراتها، عسى أن يلين فؤاد الملك
ولكن الملك وا سفاه لم يزدد إلا عتوا ولم يزده ما صنعت بولينا إلا استكبارا، فأمر زوجها أن يذهب بها من بلاطه وان يتركاه إلى شيطانه.
ثم دعا الملك إليه انتيجونوس - وهو زوج بولينا - فأمر أن يحمل الطفلة إلى البحر وان يقلع بها ليتركها عند أول شاطئ وديعة مظلومة بين أيدي القضاء والقدر
وأتمر الرجل الغبي بأمر الملك، فحمل المولودة في يديه الجبارتين وألقاها على صدره الصخري، ومضى بها إلى. . . البحر!
وهكذا فصل الملك بينه وبين قطعة فؤاده في ثورة الغضب الجامح، غير منتظر عودة رسوليه بنبوءة أبوللو من دلفوس
ولم يكن بحسبه هذا، بل أمر بقضاة المملكة وذوي الرأي فيها فاجتمعوا في حشد عظيم لمحاكمة الملكة. . لمحاكمة هرميون. . بأعين الرعية، وعلى ملأ من الجمهور(248/68)
ولغطت ألسن السوء بما اتهم به الملك زوجته، وراجت، شائعات الضلالة، واهرع الناس من كل فج ليشهدوا مليكتهم التقية النقية تقف موقف الاتهام الوضيع، والشك المزري، ثم لتسمع بعد هذا الحكم الذي لا تدري هل يكون عليها أم لها
وصمت الناس حتى لكأن على رؤوسهم الطير
وجلس القضاة فوق المنصة الكبرى وليس في خد أحدهم قطرة من دم
وصدئ البريق في عيونهم فانبعث منها ظلمات من ورائها ظلمات!
وفغر الناس أفواههم حين شاهدوا الملكة المظلومة تبكي، وهي برغم بكائها جميلة فينانة ريانه رائعة. . . لأنها بريئة
وحضر الملك فلم يتحرك أحد للقائه. . . وجلس فوق عرشه الصلف، وأخذت نظراته تزيغ هنا ثم تشرد هناك. . . كنظرات الذئب قد فجأه ضبع!!
وحينما دق كبير القضاة بيده على المنضدة مؤذناً ببدء المحاكمة، شهد الناس سيدين من خيرة ساداتهم يشقان الجموع المحتشدة، ويذهبان إلى هيئة المحاكمة صعدا، ثم يتجهان ناحية الملك
أوه!! إنهما كليومين وديون قد عادا من دلفى!
ترى ماذا في هذا الظرف الكبير المختوم بخاتم كاهن أبوللو الأكبر؟!
قال الملك: (افتح يا كليومين بإذني، واتل على الناس نبوءة دلفى!!
وفض كليومين الظرف الكبير، ونشر الصحيفة البردية، وراح يتلو:
(بريئة هرميون)
(لا وزر على بوليكسينز)
(كاميللو من الرعايا المخلصين)
(ليونتس ظالم غيران)
(سيعيش الملك بلا وارث إن لم تعد طفلته المفقودة!!)
وتبسم الملك مستهزئاً، وظن ظان النبوءة رجس من عمل هرميون وتلفيق أصدقائها، ثم أمر القاضي الأكبر أن يأخذ في المحاكمة ليتبين الرشد من الغي
وحينما دق القاضي بيده مؤذنا بدء المحاكمة، إذا رجل طويل يقدم حتى يقف تلقاء الملك(248/69)
وهو يلهث، فيقول
- مولاي! الأمير يا مولاي! ماميللوس!
- ما له يا رجل؟
- ما. . . ما. . . ت!!
- مات؟ ولمه؟
- حزناً على أمه الملكة يا مولاي! لقد هاله أن تقف هذا الموقف لتفضح ظلماً في شرفها وعرضها. . . آه يا حبيبي الأمير. . . آه يا اعز الناس علي!!)
وزاغت الأبصار كلها. . . واستخرط الناس في البكاء. . . ووجم القضاة فلم ينبسوا بكلمة
أما الملكة، أما هرميون المسكينة، فقد ذاب قلبها، ووهى جلدها، ولم تطق أن تسمع أن ولدها الوحيد الحبيب قد لفظ نفسه الأخير وجداً عليها، ورثاء لها، فنظرت إلى الدنيا كأنها تسوخ تحت قدميها، والى السماء كأنها تطوى من فوقها، والى الناس كأنهم عيون ودموع وقلوب كسيرة مفجعة. . . فخرت مغشياً عليها
وانتفض قلب الملك!
وتفجرت في أغواره شآبيب الرحمة، وانسرقت عبرة من عينه تغلي كالمهل لتكفر عن خطيئته. . . فأشار إلى بولينا ومن معها من وصيفات الملكة، فحملنها، وأوصاهن بها خيراً
واخذ الجمع الحاشد يتمزق أباديد
ولم يمض غير قليل حتى عادت بولينا وفي وجهها سحابة حزينة باكية، وفي جسمها رجفة عظيمة، وفي عينيها دموع سخينة حرار. . . وفي فمها نعي هرميون!!
ماتت هرميون إذن، وخلفت هذه الدنيا السمجة المملوءة بالرذيلة وراءها. . . خلفتها للملك المغيار المسكين الذي لم تنفعه أن تتحرك الشفقة في فؤاده حينما سمع بموت وليه ما ميللوس، ولم ينتفع كذلك أن يؤمن ببراءة هرميون بعد إذ رماها بأم الموبقات
وذكر ليونتس طفلته التي نفاها وراء البحر مما جلبت عليه مظنة السوء في أمها من خبال، فصار شجوه شجوين، واعتلج فؤاده بهمين، وود لو يعطي عرشه وملكه لمن يرد إليه المولودة التي لا يعرف لها اسماً ولا يكاد يذكر لها رسماً
ولكن هيهات! فهاهي ذي السنين تمر، والأيام تكر والملك المسكين يتلظى بنار الشجو(248/70)
والشجن، ويغص بآلام الأسى والحزن فهو من عيشه في سجن، ومن قصره في قبر، ومن ضميره في عناء، ومن ذكرياته في بلاء، ومن رعيته في شهود عليه بما قدمت يداه!!
أما انتيجونوس الذي ذهب بالطفلة وراء البحر، فقد اقلع في سفينة دفعتها الرياح، وما زالت تدفعها، حتى أرست على شاطئ بوهيميا! حيث يحكم الملك بوليكسينز بأمره. . . وهنا. . . نزل الرسول الشقي بالأميرة الصغيرة إلى البر وما كاد يصعد في حدوره حتى لمح غابة قريبة فجعل يدلف نحوها، وفي ذراعيه الوديعة المسكينة تبكي وتصيح من الجوع. . . أو. . . من هذا الصدر البارد الذي لم يعرف حنان الام، ولم يجش فيه لبنها ومحبتها!
وتحت دوحة باسقة وارفة الظلال وضع انتيجونوس الأميرة الصقلية، وعاد أدراجه إلى البحر. . . لكنه لم يبلغه. . . وكيف يبلغه وهذا الدب المنتقم قد ترصده، حتى إذا بعد عن الطفلة انقض عليه، واعمل فيه أنيابه ومخالبه، وطهر ظهر الأرض من روحه المظلمة الظالمة التي لا تعرف الحنان!
وذهب الدب بعد إذ اغتذى وشبع
وبرز من الغابة رجل راع مجدود طيب القلب كان مختبئاً ثمة من الدب؛ وكان بكاء الطفلة يحز في صدره ويذيبه وجداً عليها. . .
وأحتملها في يديه الرحيمتين، وراح ينظر في وجهها الصغير ويتعجب، وينظر إلى لفائف الحرير الجميل والدمقس المفتل ويطرب. . . ثم جلس ليصلح من شأنها ما علمته الأبوة الساذجة فاكتشف كنزا من در وياقوت وجوهر، وورقة كانت هرميون قد شبكتها في صدر ثوبها بدبوس وكتبت عليها. . . برديتا. . . وكليمات أخريات عرف منهن الراعي أن اسم لقيته برديتا وأنها من نسل الملوك الصيد
وخفق قلب الرجل واشتد وجيبه وابتسم للدنيا وابتسمت الدنيا له، وطبع قبلة على جبين الطفلة فسكنت. . . وهرول بها إلى كوخه. . . وهناك. . .
(لها بقية)
دريني خشبة(248/71)
البريد الأدبي
محاضر ألماني في القاهرة
دعت كلية الآداب بالجامعة الأستاذ الدكتور أدولف جروهمان لإلقاء بعض محاضرات عن (الإدارة العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة) والمحاضر من أعلام الاستشراق في ألمانيا، وأستاذ الثقافة الإسلامية واللغات السامية بجامعة براغ بتشكوسلوفاكيا، وهو يعنى بناحية دقيقة في التاريخ الإسلامي وهي دراسة أوراق البردي العربية، وعلى الرغم مما يكتنف هذه الناحية من البحث من الصعوبات الجمة فقد ذلها ببحوثه التي نشرها في مؤلفاته وفي المجلات الكبرى التي تعنى بالدراسات الشرقية. ومن ثم عهدت إليه الحكومة المصرية بدراسة أوراق البردي العربية المحفوظة في دار الكتب في القاهرة وهو ينوي إصدارها في سبعة مجلدات مع التعليق عليها، نشر منها حتى الآن ثلاثة باللغة الإنجليزية مع مقارنتها بأوراق البردي اليونانية المتعلقة بهذه الناحية الجديرة بالبحث في تاريخ مصر الإسلامية وقد ترجم الجزءين الأولين منها الدكتور حسن إبراهيم أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب.
وقد تناول الدكتور جروهمان في محاضرته الأولى كُوَرَ مصر كما كانت إبان مجيء العرب معتمداً في ذلك على ما جاء في المصادر اليونانية والسريانية وما عثر عليه في أوراق البردي العربية الموجودة في مصر وفي دور الكتب الأوربية ومكاتبها الكبرى كالمتحف البريطاني ومكتبة بودليان وأكسفورد وسُنْ وليبزج وغيرها
ومصر كما صورها الدكتور جروهمان في هذه المحاضرة تختلف عن مصر الحالية تمام الاختلاف في كورها وبلدانها، وتختلف عن مصر القديمة التي وصفها ستانلي ليبدبول في كتابه (سيرة القاهرة)
وألم الدكتور أدولف في المحاضرة الثانية بالجزية عند العرب وهو يسوق رأياً ظريفاً في الصلة بين كلمة (جزية) و (كسية) ويتناول فيها نظام الضرائب والحركة المالية في مصر في عهد عمرو ابن العاص ومن خلفه وفي العصر الأموي
والمحاضر الدكتور جروهمان واسع الاطلاع في الثقافات العربية والأوروبية الحديثة منها والقديمة، وقد ذلل له بحثه الشائك نظرُه في كثير من المصادر الجمة في مختلف اللغات(248/72)
الخاصة بهذه الناحية
ميزانية التعليم في إنجلترا لسنة 38 - 39
قدرت ميزانية التعليم في إنجلترا للعام الدراسي 38 - 39 بهذا الرقم العجيب: (51. 002. 330) أي بما يزيد على مجموع ميزانية الحكومة المصرية كلها بأحد عشر مليوناً من الجنيهات. . وبما يزيد على ميزانية التعليم في إنجلترا للعام المنصرم (37 - 38) بمبلغ 2. 161. 413 من الجنيهات؛ وهاك بعض الأرقام العجيبة في توزيع هذه الملايين الضخمة من الجنيهات
35. 513. 000للتعليم الأولي
11. 680. 000للتعليم العالي
7. 887. 000 لمعاشات المدرسين
514. 650للرياضة البدنية والرحلات
ولم يسبق أن أرصدت إنجلترا مبلغاً كهذا للتعليم إلا في سنة 1921 - 22 وبزيادة 12. 335 جنيهاً على المبلغ الحالي
مجلة لكلية الآداب
لا تكاد توجد جامعة في أوروبا أو أمريكا إلا ولجميع كلياتها مجلات راقية تمثل الحياة الجامعية وتحدد مدى النشاط الجامعي وتسجله؛ والجامعة الأمريكية المصرية تصدر مجلة التربية الحديثة مقتدية في ذلك بجامعات أوروبا، ولسنا ندري ماذا يمنع كلية الآداب المصرية من إصدار صحيفة دورية وهي بهذا العمل أولى دور العلم في مصر؛ وهذه صحيفة دار العلوم تصدر حافلةً بالبحوث القيمة وتتبارى فيها أقلام المجدين
أما كلية اللغة العربية فقد علمنا إنها جادة في إصدار صحيفة باسمها. . . ولا غرو، ففيها وفي دار العلوم تحيا العربية وتتجدد
ضرائب الأطيان في مصر الرومانية
لعل كثيرين من القراء يحسبون أن بدعة تعداد الأمم هي سنة مستحدثة لم تعرفها إلا الشعوب الحديثة. لا. ليس الأمر كذلك. فقد ثبت أن قدماء المصريين كانوا أول من وضع(248/73)
نظام التعداد، وكانوا يجرونه كل أربع عشرة سنة. ولم يكونوا يقتصرون على تعداد الأنفس فقط، بل كانوا يحصون كل شئ في الوطن المصري: الناس والحيوان والمنازل والحدائق ودور الصناعة والمدارس والعاهات. . . الخ، وكانوا يتخذون من هذا التعداد ميزاناً لفرض الضرائب التي كانت في الغالب قاصرة على الأرض وتجارة الوارد. وكانت ضرائب الأطيان في مصر القديمة مضبوطة عادلة، لكنها لم تبلغ الدقة المتناهية إلا في زمن البطالسة - فلما غزا الرومان مصر اعتمدوا في ربط الأموال على الأرض على النظام البطليموسي، وبهرهم هذا النظام فاستعملوه في إيطاليا وطبقوه في كل مستعمراتهم، مستعينين في ذلك بموظفين من المصريين. وقد تنبه العلماء العصريون إلى هذا الموضوع فألفوا فيه كتباً جيدة وأول هذه الكتب ألفه الأستاذ ولكن سنه 1899، وفي سنة 1936 خصص له الأستاذ جونس هوبكنز مجلداً من كتابه (التخطيط الاقتصادي في رومة القديمة). وقد صدر هذا الشهر كتاب (الضرائب في مصر - من عهد أغسطس إلى عهد ديوقليانوس) لمؤلفه العلامة شرمان لي روي ولاس. والكتاب يتناول غير هذا عصراً من أسود العصور التي رزحت تحتها مصر والتي تعتبر فيها بقرة حلوباً للدولة المستعمرة أو كما كان يتبجح الرومان فيقولون (القمح في مصر!)
فتاة إنكليزية تكتب عن مصر
تناولنا في عدد مضى كتاب المستر روم لاندو (البحث عن الغد) الذي تناول فيه مؤلفه أثر التدين في الشرق الأدنى، وبخاصة في مصر والأقطار العربية، والذي نقل منه الأستاذ العقاد صوراً سريعة لقراء الرسالة في عددها الهجري. . . وقد كنا نقرأ عنه فصلاً في إحدى المجلات الإنجليزية فراقنا من المحرر أن يستدرك على المؤلف أنه لم يندمج في الشعوب التي زارها، بل قصر مقابلاته على الفئة الراقية، أو أعلام المثقفين، الذين يهمهم بالطبع أن يعطوا لمحدثهم صورة جميلة عن بلادهم قد لا تكون صادقة. وأشارت المجلة بهذه المناسبة إلى كتاب طريف عن الفتاة المصرية يسد النقص الكبير الذي أخذته على كتاب المستر روم لاندو. والكتاب للمؤلفة الاجتماعية النابغة باربارا أتت إلى مصر لتشهد حفلات زفاف حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، والتي لم تنزل في فنادق القاهرة الفخمة كما يفعل سائر السياح، بل نزلت ضيفة على عائلة من الفلاحين في بيت ريفي(248/74)
مطل على النيل فكانت تتغلغل منه في صميم الحياة المصرية التي تمثلها غالبية من المصريين الفلاحين. ثم ذهبت المؤلفة من ذلك البيت في رحلة طويلة إلى. . . الخرطوم! فاختلطت ببنات جنسها في جميع المدن والقرى المصرية، ووصفت طبائعهن وأفراحهن وأحزانهن، وتكلمت طويلا عن الفوكلور المصري وترجمت منه كثيراً من النكات والأغاني والمواويل وأغاني الزار وأناشيد الذكر وأغاني الكنائس البروتستنتية. . .
ولم تهمل المؤلفة نهضة الفتاة المصرية المتعلمة، بل تناولتها في إسهاب وإطناب وإعجاب
تيسير قواعد النحو وإشراك البلاد العربية فيه
اقترحت إحدى الدوائر المختصة بدراسات اللغة العربية في وزارة المعارف على الوزارة أن تعنى منذ الان، وقبل أن تمضي اللجنة التي تألفت لتيسير قواعد النحو والصرف وغيرها من علوم اللغة في عملها، بإشراك الأقطار العربية في أعمال تلك اللجنة منذ بدايتها
وبررت هذا المقترح بأن مسألة القواعد مسألة لا تتعلق بالمصريين وحدهم، وإنما هي مسالة جميع الأقطار العربية والمشتغلين بلغة العرب في متباين أنحاء العالم؛ وإذا أقدمت الوزارة على استدعاء أئمة اللغة، وذلك بتوجيه الدعوة الرسمية إلى وزارات المعارف في الأقطار التي يعنيها الاقتراح، فان الوزارة تكون قد وفرت على نفسها عناء عرض المقترحات التي تقرها لجنة التيسير على الناطقين بالضاد في المستقبل، وحتى إذا ما تم عرض القرارات يكون المشتغلون بمثل تلك الشؤون على بينة من الأبحاث والدراسات، وبهذا يتم تنفيذ ما يقترح في اقرب فرصة
وينتظر أن يكون هذا الاقتراح موضع النظر والدراسة حتى إذا وافقت الوزارة عليه وجهت الدعوة إلى الحكومات العربية بندب الذين يقع عليهم الاختيار لتمثيلها في اللجنة المشار إليها
حصة مصر!
من أمتع الكتب التي أخرجتها المطابع الإنجليزية في الأسبوع الفارط كتابان، أحدهما عن اليابان وعنوانه: (إلى أين أنت ذاهب: إلى اليابان؟) للكاتب اللبق وللاردبرس والآخر عن الولايات المتحدة واسمه (نهضة أمريكا نحو القوة) أو تاريخ حديث لأمريكا: للكاتب(248/75)
المحقق و. ا. وودوارد. والكتابان متشابهان من حيث الموضوع، وكل منهما يبشر بالوطنية الإنجليزية بين الإنجليز مع ضرب المثل من الخارج كما يعبرون. ومن أروع ما قرأناه في الكتاب الأول ما ذكره المؤلف عن طرائق وزارة المعارف اليابانية في بث روح الوطنية في نفوس النشء. واحسن ما ذكره في هذا الباب هو أن هذه الوزارة حتمت أن يكون في صلب جداول توزيع الحصص في المدارس اليابانية حصتان يطلق على كل منهما (حصة اليابان!) كما نقول حصة الحساب وحصة اللغة وحصة التاريخ. . . الخ. وفي هذه الحصة يتناول المدرس أحاديث حرة عن الوطن الياباني وعن روح التضحية وعن الإمبراطور وعن أعداء اليابان وعن الجيش وعن الأسطول والطيران. وقد لوحظ أن هاتين الحصتين صارتا احب الحصص إلى نفوس الطلاب لما يتناوله المعلمون من هذه الأحاديث الحرة، ولأن امتحاناً لا يعقد فيما يلقنه التلاميذ فيهما
فما قول رجال التربية عندنا في إدخال هذا النظام في المدارس المصرية فتكون في جداول توزيع الحصص (حصة لمصر؟)
الوعظ السلبي في المساجد المصرية
ما تزال طائفة كبيرة من خطباء المنابر في المساجد المصرية تخطب المصلين خطباً سلبية عقيمة تضيق بها نفوس المصلين، واقبح شيء في هؤلاء الخطباء انهم لا ينون يسبون المصلين الذين يخطبونهم سباً قد يصرف المتمردين منهم عن غشيان المساجد بسبب هؤلاء الخطباء الذين يتهمون المصلين بالزنا ومعاقرة الخمر وسوء الفهم وقلة الصلاة. . . الخ، ويبدو أن شيئاً من التبعة في هذا، إن لم يكن أكثرها، واقع على عواتق هذه الفئة المستنيرة المثقفة من وعاظ الأزهر العلماء. . . ذلك انهم لا يعنون بالاتصال بهؤلاء الخطباء أو جمعهم في صعيد واحد وتلقينهم مبادئ الوعظ الحديث وأساليب الخطابة وطرق الإلقاء، ثم معاونتهم في تحضير خطبهم ليلحظوا أن يتفوق الجانب الإيجابي فيها على الجانب السلبي. وحبذا لو تعاون الأزهر ووزارة الأوقاف فيعملا على تجديد عقلية هؤلاء الخطباء
الحسين بن علي
مقالة الأديب الشيخ ضياء الدين الدخيلي: (مقتل الحسين وأثره في الأدب العربي) في(248/76)
(الرسالة الغراء) - ذكرتني ببيتين من قصيدة لزيد الموصلي النحوي المعروف بـ (مَرْزَ كَّه) في أبي الضيم (الحسين بن علي) - رضى الله عنهما - فرأيت روايتهما في (الرسالة):
فلولا بكاء المزن حزناً لفقده ... لما جاءنا بعد (الحسين) غمامُ
ولو لم يشق الليل جلبابه أسىً ... لما إنجاب من بعد (الحسين) ظلام
(الإسكندرية)
مستشرق فرنسي كبير يحاضر بالجامعة المصرية
يلقي العلامة المستشرق الأستاذ ليفي بروفنسال أستاذ (تاريخ الغرب الإسلامي) بجامعة الجزائر والسوربون ونزيل مصر الآن محاضراته عن (الحضارة الإسلامية في أسبانيا) تحت رعاية كلية الآداب
والأستاذ بروفنسال متخصص في تاريخ المغرب والأندلس وله في ذلك عدة مؤلفات وبحوث قيمة نذكر منها (تاريخ أسبانيا في القرن العاشر) و (النقوش العربية في إسبانيا) وهما بالفرنسية و (فهرس المجموعة العربية بمكتبة الاسكوريال) كذلك وفق الأستاذ بروفنسال إلى إصدار طبعة جديدة لتاريخ دوزي الشهير عن الأندلس وإصدار الجزء الثالث من تاريخ البيان المغرب لابن عذارى، وهو الآن يعنى بنشر مؤلف أندلسي نفيس برعاية الجامعة المصرية هو (كتاب الذخيرة) لابن بسام عن نسخة كاملة وفق إلى اكتشافها
وسيبقى الأستاذ بمصر بضعة أسابيع أخرى إجابة لدعوة الجامعة المصرية
المجلس الدولي للاتحادات العلمية
طلب المجلس الدولي للاتحادات العلمية في لاهاي إلى الحكومة المصرية أن تتخذ التدابير لكي تكون الهيئات العلمية في مصر على اتصال به، تأييداً للروابط العلمية والثقافية، ورغبة في تبادل الآراء والنظريات
وقد أحيل هذا الطلب إلى وزارة المالية، فوقع اختيارها على الدكتور حسن صادق بك المدير العام لمصلحة المناجم والمساحة ليكون رابطة الاتصال العلمية بين مصر وهيئة هذا المجلس الدولي(248/77)
ومما يذكر أن هذه الهيئة تبحث في العلوم المختلفة كالفلك وطبقات الأرض والجغرافيا وغيرها
خطأ في نسبة شاهد نثري
ذكروا من شواهد الأسلوب الحكيم قول القبعثري للحجاج (مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب) وقد قال له الحجاج متوعداً (لأحملنك على الأدهم) يريد به القيد لا الفرس الأدهم، وأول من نسب هذا إلى القبعثري الخطيب القزويني في كتابيه (تلخيص المفتاح، والإيضاح) وتبعه في ذلك أصحاب الشروح والحواشي، وذكروا أن القبعثري كان من رؤساء العرب وفصحائهم، ومن جملة الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه
والحقيقة أن هذه النسبة خطأ، وان هذه المحاورة كانت بين الحجاج والغضبان بن القبعثري الشيباني، لا القبعثري نفسه، وقد ذكر هذا أبو العباس احمد بن عبد المؤمن الشريشي في شرح مقامات الحريري (127 ج2) وذكره الجاحظ في البيان والتبيين (200 ج1)
والحقيقة أيضاً أن الغضبان بن القبعثري لم يكن من الخوارج المعروفين، وإنما كانت تهمته عند الحجاج انه أرسله إلى عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث ليأتيه بخبره حينما بلغه خروجه عليه، وقد كان مع عبد الرحمن سعيد بن جبير والشعبي وغيرهما ممن لم يكن من أولئك الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي وغيره، فلما وصل عبد الرحمن قال له: ما وراءك يا غضبان؟ قال: شر طويل، تغد الحجاج قبل أن يتعشاك، ثم انصرف إلى الحجاج وكانت مقالته قد وصلته من جواسيسه قبل أن يصل إليه، فأمر به فوضع القيد في رجليه ثم سجنه
عبد المتعال الصعيدي
تصويب
وقع في قصة (هجرة معلم) للأستاذ علي الطنطاوي في العدد الممتاز أخطاء مطبعية غيرت المعنى هذا صوابها:
الصفحة العمود السطر(248/78)
510229فيكون (صوابها) فيبلسون
5141 7 الصلداء (صوابها) الصلدة
515123بأشجارها المزهرة، وطيبها وعطرها (سقطت منها جملة
هذا صوابها): بأشجارها المزهرة المتعانقة، وأدواحها
الباسقة، وعيونها الدافقة، وأنهارها الرائقة، وورودها
وزهرها، وعنبها وخمرها، وطيبها وعطرها، وفتونها
وسحرها
516125الغاية الساذجة (صوابها) الغاية السامية
517226أين هذا من ذاك (صوابها) أين هذا من دارك(248/79)
المسرح والسينما
الفرقة القومية
برنامجها ورواية طيف الشباب
عادت الفرقة القومية إلى إتمام موسمها الثالث وقد افتتحته بتمثيل رواية (طيف الشباب) لمؤلفها الأديب الذائع الصيت مارسيل بانيول ترجمة الأستاذ احمد بدر خان
أرجئ الكلام عن موضوع هذه الرواية، لان ظاهرة غريبة ظهرت في الفرقة حملتني على الوقوف حيالها موقف الواجم المبهوت. وبيان الاستغراب في هذه الظاهرة أن الفرقة بشرتنا بأنها ستتحفنا بتمثيل اثنتي عشرة رواية في الفترة الباقية من الموسم وهي لا تزيد على الشهر الواحد إلا بضعة أيام فقط، وان أربعا من هذه الروايات وضعت وترجمت حديثاً، والثماني الروايات الباقية مثلت من قبل
للإدارة الفنية في الفرقة القومية الحرية في استعادة تمثيل الروايات الناجحة، ولكن ما بالك بالروايات الموضوعة التي سيعاد تمثيلها وهي التي بلغت من تفاهة المعنى وسخف المبنى، وهزال الفن مبلغاً حفز جميع النقاد المسرحيين بدون استثناء إلى إبداء استهجانهم لها وعدوا قبول الفرقة إياها لا يتفق وتقدير فن التمثيل، ولا يحقق الغرض الثقافي الذي رمت إليه وزارة المعارف من إنشاء الفرقة؟
ما هو السر يا ترى في عودة الفرقة إلى احتضان هذه الروايات وإحيائها من جديد؟ بل هو الباعث على جمع رمم روايتي (اليتيمة، وبناتنا سنة 1937) وكان الواجب أن تبقى مدفونة في الرماد؟ أهو تحدي للنقاد وإهمال آرائهم ودراساتهم أم الاستهتار بالغاية الثقافية التي أسست الفرقة من اجلها؟
نحاول أن نجل الفرقة عن هذا التدهور، ونؤثر لها السلامة على التورط في الغمرات، ولكن الواقع صارخ لا سبيل إلى السكوت عنه
ليس الطريق إلى معرفة نجاح الرواية أو فشلها هي القروش التي يجمعها بائع التذاكر، أو حشر ردهة الأوبرا ومقاصيرها بمعارف هذا الممثل أو أصدقاء ذاك الموظف، ولا بالمقالات المأجورة التي تنشر كالإعلانات
لا، ليس السبيل إلى ذلك إلا بالاستماع إلى أقوال الناقدين والأخذ بالرأي الناضج(248/80)
كنت أوثر الكلام عن رواية (طيف الشباب) لسببين: الأول أن المترجم متشبع بروح المؤلف، لم يجنح عن البساطة في الكلام الذي يعرب به عن الغاية من الفكرة الاساسية، ولم يطمس معالمها بالألفاظ المتقعرة النابية التي يتوسل بها فقراء الذهن عشاق التزمت
والسبب الثاني أن المترجم فنان سينمائي، يحسن الاختيار ويقدر ما هو صالح ونافع تقدير فنان خبير، يصطفى بعقل وتدبر الرواية التي تجمع بين المعنى والمبنى، والفكر والصيغة
كان يطيب لي أن أهيب بالفرقة أن توكل اختيار الروايات الغربية إلى أمثال الأستاذ احمد بدر خان وتترجم بسلاسة وبساطة كما ترجمها هو، وان أقول لها أشياء أخرى عن الروايات الموضوعة التي تتخبط فيها تخبط الضال في غابة كثيفة بليل مدلهم الظلام
ولكن مالي انصح الفرقة واهديها، ما فائدة الكلام في إدارتها ورجال لجانها، في ممثليها وممثلاتها؟ لم العناء في ذلك؟ بل ما الفائدة منه ما دامت تعمل وفق البداوات والنزوات؟ ولم لا أقول لها أنت خير الفرق التي ماتت وافضل الفرق السائرة في طريق الموت؟
حبيب الزحلاوي
كيف تكتب قصة الفلم؟
بقلم محمد علي ناصف
قصة الفلم: تعتبر قصة الفلم أهم النواحي الفنية فيه؛ فان من الميسور الآن أن تجد لأي فلم المخرج الذي يموله، والمدير الذي يتفهم ادارته، والممثل الذي يحسن تمثيله، ولكن ليس من السهل أن توفق إلى السيناريو الجيد الذي يبنى عليه عمل كل هؤلاء؛ ويقولون إن القصة الضعيفة تقتل النجم الكبير ومثل هذا القول لم يكن على هذه الدرجة في بدء صناعة السينما حيث كان الممثل هو أول وآخر من يحفل به؛ ولكن أهمية الكاتب أصبحت ملموسة بعد أن صار الفلم ناطقاً؛ وبعد أن ارتقت السينما وأخذت اتجاها أدبياً رفيعاً يظهر أثره يوماً بعد يوم
فمن نتائج الفلم الناطق انه أشرك الأذن مع العين في تذوق فائدة السينما؛ والإذن - علمياً - اشد انتقاداً من العين، لأنه من الجائز ألا تلمح عينك قبح وجه يخفيه طلاء متقن جميل، ولكنك لن تستطيع أن تحمل أذنك على الإعجاب بقول قبيح تستمعه في مناسبة جميلة(248/81)
وقد اصبح الحوار في الأفلام بعد تثقيفها من الخطورة بمكان لأنه يساعد الصورة على التعبير، وقد يكون في كثير من الأحيان أهم من نقس الصورة؛ ولقد شاهدنا فلم (روميو وجوليت) فكان إخراجه قوياً وتمثيله رائعاً وتصويره جميلاً، ولكن كان أهم ما بالفلم حكم شكسبير التي انطق بها أشخاص روايته الخالدة
كاتب الفلم: يخطئ من يحسب أن كل من له دراية بكتابة الرواية أو المسرحية أو كل من له اسم كبير في عالم الأدب يمكن الاستفادة منه في كتابة قصة الفلم؛ وقد وقع في هذا الخطأ كثير من المشتغلين بالأفلام في بدء عهودها فتعاقد هؤلاء مع موريس مترلنك، ارنولد بنيت، سير جلبرت باركر، سومرست موغام، الينور جلين، كدنان دويل وغيرهم؛ ولكن واحداً من هذه العقود لم يجدد مرة أخرى؛ وقد أصبحت حقيقة ملموسة أن اشهر كتاب القصة السينمائية ليسوا من الأسماء المعروفة في عالم الأدب إلا أن تكون الشهرة الأدبية قد جاءت ملحقة بالشهرة السينمائية
ولقد اقتنع جميع الكتاب المعاصرين الذين تخرج مؤلفاتهم في السينما بان كتابة الأفلام شئ يختلف عن كتابة الكتب فسلم أكثرهم مؤلفاتهم إلى أيدي كتاب الاستديو من غير قيد ولا شرط
محمد علي ناصف(248/82)
العدد 249 - بتاريخ: 11 - 04 - 1938(/)
كلمة في أوانها
ليس من دأبنا أن نعرض للسياسة إلا من حيث اتصالها بالخلق أو
الأدب. والخلق والأدب موضوع السياسة العليا التي لا تتحزب ولا
تتعصب ولا تعرف تخوم المكان ولا حدود الزمن! ولكن بينهما وبين
السياسة الدنيا تفاعلاً وتبادلاً لا يفتران! فهي تؤثر فيهما وهما يؤثران
فيها؛ وهي تغير منهما وهما يغيران منها. والخلق بخاصة مساك الأمة
وملاك الأمر. ولم تؤت النهضات القومية في الشرق إلا من جهة
فساده. ذلك لأن الحال في الأمة العائدة أو الناشئة التي يخرج أهلها
وحداناً من ظلام الجهل والغفلة، أن يسعى المرء فيها ليغنى، ويغنى
ليتزعم، ويتزعم ليحكم، ويحكم ليستبد، ليطغى، ويطغى ليتأله، سلسلة
من الغرائز الجافية الرذيلة حلقاتها الشهوة والطمع والغلبة والأثرة
والجموح والبغي، يصل بينها جميعاً أنانية غالبة وفردية أصيلة. فالأهل
والأصحاب والأحزاب إنما يتعاملون بغير الحق ويتجادلون بغير
المنطق، ابتغاء الفوز من وراء الباطل، والغلبة من طريق القوة؛ لأن
(الأنا) لا يعرف (الغير)، والذات لا تدرك المعنى، إلا إذا أضاء العلم
ما حولهما فظهرت الأشخاص، وبانت الفروق، ووضحت الحقوق،
وتميزت المعالم. وحينئذ يقول كل امرئ لنفسه أول مرة: إن في العالم
ناساً غيري، وإن لهم حقاً كحقي. ومتى شعر المرء بالناس، وفطن إلى
وجود الحق، تولدت فيه معاني الإنسانية والديمقراطية والحرية والعدل،
فيصبح خالصاً للجماعة إذا سعى، وللوطن إذا تزعم، وللدولة إذا حكم.
نحن إلى اليوم لم نخرج عن ذواتنا في العمل والسياسة والحكومة. نقيس كل شيء بمقياس(249/1)
الفائدة الخاصة، ونحمل كل أمر على محمل الهوى الفرد، ونغلب إرادتنا على إرادة الأمة في الحق المشاع، حتى أقتنع المستريب بأننا تعلمنا الكلام ولم نتعلم العمل، وحذقنا فنون الدعاية ولم نحذق أصول الحكم، وحفظنا مصطلحات الدستور ونسينا مبادئ الشورى.
كان ذلك محمولاً والجهل غاش على العيون رائن على الأفئدة؛ أما الآن فقد تنبه الغفلان وتذكر الناسي. تنبه الغفلان إلى أن من استطاع أن يرفع المظلوم يسهل عليه أن يخفض الظالم؛ وتذكر الناسي أن له دستوراً يجعل مصدر السلطات في فم المحكوم لا في يد الحاكم. فمن ذا الذي يوسوس إليه شيطانه أن يرفع في وجه الأسود وأشبال الأسود عصا القطيع؟ ومن ذا الذي يسول له طغيانه أن يرتفع على كواهل الشعب ليقول: أنا سيد الجميع!
لقد كان لبعضكم يا زعماء الساعة أخطاء على الأمة في بعض الأمور ملكت عليها الصبر ولم تملك لها المغفرة. وقد أتاح لكم القدر العجيب هذه الفرصة لتصححوا بصواب اليوم خطأ الأمس، وتبددوا بيقين الحاضر ظنون المستقبل. فهل تدعونها تمر كما يمر أريج الطيب بالرجل الأخشم؟ إن بعضكم بلغ ساحل الحياة، وبعضكم جاوز حد الثروة، وكلكم تفرع ذروة الجاه، فماذا يخزلكم عن ابتناء المجد المؤثل وابتغاء الذكر الخالد؟
نريد أن يكون الزعيم لجنسه لا لنفسه، ولشعبه دون حزبه، ولغده قبل يومه، حتى يتذوق هذا الشعب المجهود لذة الأخوة في ظل الوطن، وعزة الحرية في كنف الدستور، وجمال المساواة في حمى الحكم الصالح.
نريد أن تلغوا سياسة الخطب، وتقصروا ألسنة الوعود، وتخفتوا ضجيج المظاهر، وتكفوا عن كرامة الناس صلف المنصب وزهو السلطان وبطر الجاه؛ فإن المصري أكره الناس للزعيم المغرور والوزير المتغطرس والنائب الأثر.
نريد أن تفتحوا لمصر عهداً جديداً من الهدوء والاستقرار، تدخلونه في ثياب الإحرام صدوركم نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسكم بريئة من شهوات العصبية، وميولكم نزيهة عن خسيس المطامع، فتصرفون القوى إلى الإنتاج، وتوجهون الجهود إلى الهدف، وترصدون ملكات الأمة وكفاياتها لطرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها، لتعيش كما تعيش الأمم الحية صحيحة الجسم سليمة الروح متماسكة الوحدة.(249/2)
إن الوزارة متسقة الأعضاء متحدة الهوى، وإن المعارضة نزيهة الأغراض مريرة القوى، وإن الأحزاب متقاربة الميول مستقلة الرأي، وإن الأمة يقظة الفؤاد كلوءة العين، وإن العرش من وراء كل أولئك محيط، يقوم الصعر، ويسدد الخطى، ويرقب الأمور، ويجمع الهوى الشتيت. فهل آن لنا أن نحيا حياة العاملين الأعزة في وطن صريح الاستقلال قوى الشوكة، لا سلطان لقوة خارجية عليه، ولا سيادة للغة أجنبية فيه، ولا استبداد لشركة أوربية به. وهل آن لنا أن نتمتع بحرية مهذبة الأطراف مأمونة السفه، ينعم الفرد فيها بنفسه، ويأمن بها على رأيه، في مجتمع راقي الطبقات مثقف النواحي، يؤلف نافره الخلق، ويرفه حياته الحب، ويؤويه إلى كنفه إله وعلم وملك؟
أحمد حسن الزيات(249/3)
مع فتاة
حديث غير مفيد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
دق التليفون قبيل الظهر، ودعيت إليه، فسمعت صوتاً كدت أنساه من طول العهد به يسألني: (هل تستطيع أن تهبني من وقتك الثمين دقائق؟ إن بي حاجة إليك فلا تخيب أملي فيك).
فشوقني ذلك إلى لقائها، وإن كانت قد جفتني ونبت بي بلا موجب أعرفه، فذهبت إليها، وقلت وأنا أحدق في وجهها متفرساً:
(والآن ما الذي زوى بين هاتين العينين الجميلتين مذ كنت هنا آخر مرة؟)
قالت وهي تبشم وتمد إلى يديها بصندوق السجاير:
(خمن وأراهن لن تقع على الصواب!)
قلت وأنا أشعل السيجارة على مهل:
(أهو شيء عجيب جداً إلى هذا الحد؟)
قالت: (نعم وجديد أيضاً)
وكانت مقطبة على الرغم من ابتسامها، ولكن وجهها كان كأنه في هالة. فقلت: (إن هذا الذي أطالعه في محياك الوضيء لا يكون إلا من شيء واحد. فمن هو؟ لا تطيلي عذابي)
قالت وهي تتنهد: (إنك لا تعرفه. . . شاب أصغر مني. . . قد يكون هذا جنوناً مني. . ولكنه هو أيضاً مجنون. . بالآثار. .)
قلت: (إن في الدنيا ضروباً شتى من الجنون، فلا تخشى أن أنكر عليك أو عليه شيئاً، ولكن الذي لا أستطيع أن أفهمه هو أن تضيعي وقتك معي وحقك أن تكوني معه)
قالت: (هذا ما أردت أن أتحدث معك فيه. . إن له صديقاً حميماً من علماء الآثار. . لا يفترقان. . . ولا كلام لهما إلا في هذه الآثار. . . وأنا أزعم أني لا أبالي. . . ولكنه يبدو لي أن هذا الحال غير طبيعي)
قلت: (غيري؟؟)
قالت: (نعم، إلى حد ما، وإنها لسخافة، ولكن هذا هو الواقع، ولا حيلة لي أراها)(249/4)
قلت: (الحكمة القديمة تقول إن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده؛ أما الحكمة الجديدة فتقول إنه لا يحيا بالحب وحده)
قالت: (اعرف هذا ولكن. . .)
فقاطعتها وقلت: (ولكن يا فتاتي الغيرى يجب أن تعلمي أن للصداقة - كما للحب - مطالبها ومقتضياتها؛ ومن الجلي أن هذه الصداقة تنيله ما لا يسعك أنت أن تنيليه. وإذا كان لي رجاء، فهو ألا تحاولي أن تستحوذي على هذا الشاب، فإن من الخطأ الذي تقع فيه المرأة كثيراً أن تحاول أن تبلع الرجل. . ومن يدري. . لعل المرأة كانت أسبق من الرجل إلي أكل اللحم البشري، وعسى أن تكون هي التي علمته ذلك. . ولكنا ارتقينا يا فتاتي الجميلة. . خرجنا من عصور الاستيحاش. . . ثم أسمعي. . . لا تصدقي أن من الممكن إدماج حياة في حياة، وأن اثنين يمكن أن يكونا واحداً. . . تذكري ما تعلمت من علم الحساب. . . وخير من هذا، وأجلب للراحة أن توطن المرأة نفسها على أن للرجل حياته المستقلة. . . فان محاولتها الاستحواذ على الرجل تؤدي إلى جعل الحب آفة، والعكس أولى بأن يكون)
فقالت بلهجة مبطنة بالمرارة: (إن من الطبيعي ولا شك أن يكره الإنسان المشاركة)
قلت: (الرغبة في الاستحواذ مرة أخرى. . . ولكن هل أنت مشاركة فيه؟ هل في وسعك أن تغنيه عن صديقه وأن تحلي محله، وتشبعي الجوع الذي يحسه من هذه الناحية؟ لا أظن فاقنعي بنصيبك منه، ودعي له البقية التي لا يكون في مقدورك أن تسدى الفراغ فيها. . . إن من العسير أن تصبيه في القالب الذي يروقك. . . صعب جداً أن تغيري الناس. . . كل ما يمكن أن تنجحي فيه هو أن تسيئي إليه وتنفريه. . . فما دام يشعر بالحاجة إلى صديقه هذا فدعيه له، ولا تطمعي أن تسلبيه منه الآن. . . إنك جديدة عليه فاتركي الوقت الكافي للتكيف. . ومن يدري. . إنه لا يجد فيك الآن كل ما تصبو إليه نفسه. . . قد يستغني بك عن الدنيا قاطبة فيما بعد. . . بعد أن تتكشف له نواحي نفسك شيئاً فشيئاً. . . ولكن من يدري أيضاً. . . قد يتبين انك أنت أيضاً لا تجدين عنده كل ما تطلبين من الحياة. . . قد تجدين مثلاً مجرد مثل. . . أنك لا تستغنين عني، وأن بك حاجة ولو قليلة إلى صداقتي الفارغة. على كل حال، لقد احتجت اليوم إلي، ولو أنه كان حسبك من كل ناحية لما دعوتني إليك)(249/5)
وتناولت فنجان القهوة، ورشفت منه رشفة ثم أعدته وقلت: (ويا سميحة، كلمة أخرى. . . إن من الخطر أن تتزوج المرأة رجلاً اصغر منها. . . واسمحي لي بأن أكون فظاً فان صداقتنا تعطيني هذا الحق، وأنت أعز علي من أن أهمل فتح عينيك على الحقائق. نعم، خطر كبير هذا، فان المرأة تفقد جمالها بأسرع مما تفتر عواطف الرجل وتضعف قواه)
قالت: (يكفي، فإني لا أجهل هذا)
قلت: (حسن. . . . إذن تعالي نتمشى)
ولكنها في الطريق لم تكن خيراً منها في البيت، كانت قلقة مضطربة على الرغم من تكلفها الابتسام، وحرصها على التظاهر بأن لا شيء يثقل عليها أو يكربها، فاضطررت أن أقول لها: (إن من واجب المرأة حين تحب رجلاً أن تحرص على إسعاده، كما تطلب أن يحرص هو على إسعادها، والرجل على كل حال لا يستطيع أن يفهم لماذا يكون هو المعطي والواهب والمضحي دائماً؟)
قالت: (إن كثيرين من الرجال يفعلون ذلك ولا يتململون)
قلت: (ندع انهم ليسوا رجالاً بخير معاني اللفظ، وندع أن فتاة مثلك لا يرضيها واحد من هؤلاء الرجال المهازيل، ويكفي أن أنبهك إلى أن هؤلاء الذين تذكرينني بأمرهم ساخطون ناقمون في قلوبهم، وانهم يحسون بأن عيشتهم سوداء، ولا يشعرون برضى حقيقي، وإن كانوا لضعفهم لا يجرءون أن يظهروا لنسائهم ما خفي من أمرهم عليهن، ولو أتيحت لواحد منهم فرصة التمرد لتمرد وجازف. . . وهذا يحدث كثيراً. . . ومجازفة الضعيف الخائف أفظع من مجازفة القوي المطمئن الواثق بنفسه. . . فلا تنسي هذا. . .)
قالت: (لماذا تتكلم هكذا. . . إني لا أحاول أن أتحكم فيه أو أسيطر عليه)
قلت: (قد يكون هذا صحيحاً، ولكنك تحاولين أن تمنعيه أن يرضى نفسه من ناحية لا تستطيعين أنت أن ترضيه منها. . . تحاولين أن تخطفيه من أصدقائه الذين يحس ويعرف أن به حاجة إليهم. . . إن الرجل ليس كالمرأة، وهو لا يفهم الحب كفهمها له، والحب ليس كل شيء في حياة الرجل، وإن كان كل شيء في حياة المرأة؛ ثم إنه شيء لا دوام له في الأغلب والفتور يعروه على الأيام؛ وهذا الاستحواذ الذي تغري به طبيعة المرأة ليست له ثمرة إلا إعلال من الجانبين. . . أظن أن كلامي ثقيل عليك جداً، ولكن ماذا أصنع وأنا(249/6)
مدعو لأكون ثقيلاً؟ كالطبيب. . جعلت مني طبيباً لك لا صديقاً، وما حيلة الطبيب إلا أن يثقل على الناس بما يمليه عليه علمه وفنه؟)
ولكنها لم تسمع ولم تقتنع، وأبت إلا أن تطيع طبيعتها ولها العذر، وتزوجت الرجل، وفرقت ما بينه وبين صديقه العالم بالآثار.
وبعد سنتين اثنتين لا أكثر دقت لي التليفون مرة أخرى فأحسست بأن الصوت معروف، ولكني لم أذكره حتى قالت أسمها، ودعتني إليها، ولكن هذا حديث آخر يطوى، فلنرجئه إلى وقت غير هذا. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(249/7)
شق وسطيح
وابن خلدون والقرآن والعربانيون
لأستاذ جليل
طالعت في شبابي الجزء الأول من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر) وهو المعروف عند الناس بمقدمة ابن خلدون. وقد وعيت يومئذ مباحثه، وقيدت الذاكرة ما استطاعت من فوائده - وإنها وأبيك لكثيرة - ثم فر جلها، وقر بعضها و (اختلاف النهار والليل ينسى) كما يقول شاعرنا (أحمد الثالث). فلما قرأت في مقالة (التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم) في (الرسالة) الهادية الموقظة هذه الجملة: (ولأبن خلدون بحث عن الكهانة خذله فيه التحقيق) تذكرت كتاب عبد الرحمن، ورجعت إليه أنشد حديثه عن الكهانة والكهان. وذهبت أتلوه تلاوة المتبصر، فلما تممته لم أتمالك أن كررت عبارة تلك المقالة: (. . . خذله فيه التحقيق) فقد ألفيت العبقري الألمعي إمام الباحثين الناقدين، ومعلن مغالط المؤرخين قد جره الضلال بجرير طويل، وقاده الوهم والخيال قود الذلول، فتقبل - مطمئن النفس - شعبذات الكهانة ومخارق العرافة وخزعبيلات العائفين، وآمن بشق وسطيح. وهذه طائفة مما قال:
(إنّا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها، وأهل الزجل في الطير والسباع، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى. وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها. . .)
(إن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها، وإنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء)
(وإن هنا صنفاً آخر من البشر - يعني الكهان - ناقصاً عن رتبة الصنف الأول - يعني الأنبياء -)
(وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة)
(ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات)
(ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة)(249/8)
(قد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث، ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم، وفي كتب الأدب كثير من ذلك. وأشتهر منهم في الجاهلية شق بن أتمار وسطيح بن مازن، وكان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. . . ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن نصر وما أخبره به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النبوة المحمدية في قريش. ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس. وهذه كلها مشهورة، وكذلك العرافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم)
فهناك عند أبن خلدون الكهانة تعلم الغيب، وهي نبوة ناقصة، وهناك الكاهن كأنه مرشح نبي. . . وقد قال في تضاعيف كلامه متبجحاً على المسعودي بعلمه وتحقيقه: (وقد تكلم عليها المسعودي في (مروج الذهب) فما صادف تحقيقاً ولا إصابة، ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله)
ومن قول المسعودي في الكهانة في (المروج):
(ذهب كثير أن علة ذلك علل نفسانية، وأن النفس إذا قويت وزادت قهرت الطبيعة، وأبانت للإنسان كل سر لطيف، وخبرته بكل معنى شريف، وغاصت بلطافتها في انتخاب المعاني اللطيفة البديعة فاقتنصتها، وأبرزتها عن الكمال)
فإذا قال المسعودي مثل هذا فزل وضل فان أبن خلدون لم يهتد. وما حديث أحدهما بأصدق من حديث صاحبه. إنهما في باب الكهانة والكهان سيان.
وشق وسطيح اللذان آمن بهما ابن خلدون، وصدق كونهما وأسطورتيهما هذا بعض ما قيل فيهما:
قال الدميري في (حياة الحيوان الكبرى):
(كان شق شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى مثل الحصير، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق)
وقال أبن منظور في (لسان العرب):(249/9)
(سطيح هذا الكاهن الذئبي من بني ذئب كان يتكهن في الجاهلية، سمي بذلك لأنه لم يكن بين مفاصله قصب تعمده، فكان أبداً منبسطاً منسطحاً على الأرض لا يقدر على قيام ولا قعود، ويقال: كان لا عظم فيه سوى رأسه)
وقال الثعالبي في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):
(سطيح الكاهن كان يطوى كما تطوى الحصير، ويتكلم بكل أعجوبة في الكهانة؛ وكذلك شق الكاهن، وكان نصف إنسان)
وقال الزبيدي في (تاج العروس): (شق كاهن قديم معروف قاله أبن دريد، وحديثه مستوفي في الروض للسهيلي، وإنما سمى لأنه شقاً واحداً، وكان في زمن كسرى أنوشروان)
وقال الشريشي في (شرح المقامات الحريرية)
(سطيح الغساني أكهن الناس، كان يدرج جسده كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه، وإذا مست باليد أثرت فيه للين عظمها)
وقد زلق قلم أبن خلدون فقال: (كان سطيح يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة) وكأنه أستحي أن يذكر أن شقا كان شقا: ذا يد واحدة وعين واحدة ورجل واحدة. . . فلم يعرفه بلحيته.
وأسطورتا هذين الكائنين العجيبين اللتان أشار إليهما ابن خلدون - ذكرهما مؤرخون ضالون كثيرون، وأدباء ناقلون غير محققين، ومفسرون ومحدثون، منهم ابن اسحق صاحب السيرة، وابن عبد ربه في العقد، والماوردي في أعلام النبوة، والرازي في مفاتيح الغيب، وابن منظور في اللسان، وأبن عربي في محاضرة الأبرار، والألوسي في بلوغ الأرب وغيرهم. ومما قيل في الأسطورة الأولى، وهو من (سيرة) ابن هشام:
(إن ربيعة بن نصر ملك اليمن رأى رؤيا هالته، فقال سطيح في تأويلها: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال له الملك: فمتى هو كائن؟ أو في زماني هذا أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين. قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم قال: يليه أرم بن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن.(249/10)
قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي. قال وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من أخر؟ قال: نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا أتسق، إن ما أنبأتك به لحق)
وقال شق للملك مثل قول سطيح
ومما جاء في الأسطورة الثانية: (أن الموبذان رأى رؤيا أفزعت كسرى فسئل عنها عبد المسيح بن عمرو بن نفيلة الغساني فقال: علم هذا عند خالي سطيح. قيل: فأنه وسله وأت بجوابه. فقدم على سطيح، وقد أشفى على الموت فقال (أرجوزة) مطلعها:
أصم أم يسمع غطريف اليمن؟ ... يا فاصل الخطة أعيت من ومن.
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه فقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح. بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلا صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد أقحمت في الواد، وانتشرت في البلاد. يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح شاما. يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت)
ذانك شق وسطيح، وتانك أسطورتاهما. والإسلامية غير مفتقرة إلى إعلام كاهن، وخبر عراف. إن ضياء الشمس مستغن عن شهادة (الدساسة) وهذا قول الإسلامية في الكهانة والغيب:
في الحديث: (من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد، أي من صدقهم.
(من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم يقبل منه صلاة أربعين ليلة)
(نهى عن حلوان الكاهن) أي أجرته. وفي (النهج):
(أيها الناس! إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدي به في برٍ أو بحر فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن)
قال الشيخ محمد عبده في شرح هذا الكلام: (الكاهن من يدعي كشف الغيب، وكلام أمير(249/11)
المؤمنين حجة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل والجفر والتنجيم وما شاكلهما، ودليل واضح على عدم صحتها ومنافاتها للأصول الشرعية والعقلية)
وقال الشيخ محمد عبده في (شرح مقامات الهمذاني):
(ويروي لنا من شعره ما يمتزج بأجزاء النفس رقة، ويغمض عن أوهام الكهنة دقة - أراد بالكهنة أصحاب دعوى علم النجوم وأسرارها. واستطلاع المغيبات مما تفيضه أرواحها. وقد جاء الدين الإسلامي بتكذيبهم والنهي عن الاشتغال بمذاهبهم في أوهامهم غير أنه بقى ذكرهم في الكلام من قبيل ضروب الأمثال)
وقال أبن أبي الحديد في الشرح الكبير للنهج: (إن المعلوم ضرورة من دين رسول الله إبطال حكم النجوم وتحريم الاعتقاد بها، والزجر عن تصديق المنجمين)
وابن خلدون الذي آمن بالكهانة قد كفر بالنجامة وفند مقالة النجامين أو المنجمين في فصل طويل في كتابه - تفنيداً:
متكهٌن ومنجم ومعزِّ ... وجميعُ ذاك تحيُّل لمعاش
نجئ إلى الغيب
في (مسند الربيع بن حبيب):
(عن عائشة: من زعم أن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى يقول: (قُلْ لا يعلم من في السموات والأرض الغيبَ إلا الله وما يشعرون أيّانُ يبعثون)
وفي (كتاب الله):
(قُلْ لا أقولُ لكم عندي خزائنُ الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك، إنْ أتبعُ إلا ما يوحي إليّ)
(ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا اعلم الغيب، ولا أقول إني ملك)
(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوء، إنْ أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون)
(عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلا من أرتضى من رسول فانه يسُلك من بين يديه ومن خلفه رَصَداً ليعلمَ أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عدداً)(249/12)
قال الكشاف: (أي هو (عالم الغيب) فلا (يظهر) فلا يطلع و (من رسول) تبيين لمن أرتضى، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوة خاصة لا كل مرتضى، وفي هذا إبطال للكرامات لأن الذين تضاف إليهم - وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب. وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط (فانه يسلك من بين يديه) يدي من أرتضى للرسالة (ومن خلفه رصداً) حفظة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه، ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ ما أوحي به إليه (ليعلم) الله (أن قد أبلغوا رسالات ربهم) يعني الأنبياء ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان)
والغيب في كلام الله هو الوحي، وحي النبوة كما قال الزمخشري: (حتى يبلغ ما أوحي به إليه) لا كل غيب كما يظهر من كلام (الكشاف) في أول تفسيره. وقد جاء في (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير): (وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما بينه من أحوال الآخرة لا ما يتعلق برسالته من الغيوب كوقت قيام الساعة ونحوه) وجاء في (جامع البيان) - وهو تفسير أبن جرير الطبري: (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من أرتضى من رسول فأعلم الله (سبحانه) الرسل من الغيب الوحي؛ أظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه، وما يحكم الله فانه لا يعلم ذلك غيره. قال أبن زيد: (ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء، أنزل على رسول الله الغيب القرآن، وحدثنا فيه بالغيب، بما يكون يوم القيامة)
وفي (موضوعات على القارئ):
(قد جاهر بالكذب بعض من يدعي العلم في زماننا وهو متشبع بما لم يعط أن رسول الله كان يعلم متى تقوم الساعة. وهؤلاء الغلاة عندهم أن رسول الله منطبق على علم الله سواء بسواء، فكل ما يعلمه الله يعلمه رسوله، والله تعالى يقول: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم؛ سنعذبهم مرتين ثم يُردُّون إلى عذاب عظيم) وهذا في (براءة) وهي من أواخر ما نزل من القرآن. هذا والمنافقون جيرانه في المدينة)(249/13)
فإذا كان صفوة النوع الإنساني، وسيد المرسلين والنبيين والعظيمين هو كما قال الله، فهل يعلم الغيب رسول أو نبي أو صحابي أو (ولي) أو (غوث) من الأغواث أو (قطب) من الأقطاب أو (بدل) من الإبدال أو كاهن أو منجم أو دجال أو شق أو سطيح أو سقط أو مليص؟
أين عقول الناس؟ أين عقول الباحثين؟
وحديث الكاهنين (شق وسطيح) يبعثنا على أن نختم القول فيه بهذه السطور:
أسلوب القرآن هو أسلوب المبتدع، لا أسلوب المتبع، والدليل الديني انه وحي الله، والبرهان العقلي أنه الكتاب العبقري، والعبقري في الدنيا مقلد لا مقلد، ومتبوع لا تابع. قال أبو العلاء احمد بن سليمان في (رسالة الغفران):
(أجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد بهر بالإعجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال. ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة، وجاء كالشمس اللائحة (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلام يقدر عليه المخلوقون فيكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق)
وقال أبو بكر محمد بن الطيب البلاقلاني في كتابه (إعجاز القرآن):
(إن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم - يعني العرب - ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه)
ذلك هو (الكتاب) وذلك - كما قال هذان الإمامان - أسلوبه، وقد أقبلت (أو أدبرت) طائفة من العربانيين - أعني المعروفين بالمستشرقين - تقول: (ليس أسلوب القرآن مبتدعاً وإنما قلد فيه سجع الكهان) وتلقف قولهم أو تخليطهم - جاهلين عمهين - متلقفون.
وقد قالت تلك الطائفة الغربية مقولتها وأئمتها من العربانيين المحققين يقولون كما قلت قدما وأقول اليوم: إنه لم يثبت من منثور الجاهلية شيء، فكيف اهتدت الفئة الضالة إلى أصل الأسلوب القرآني؟ وإلام استندت؟ وعلام بنت مزعمها؟؟
إن كان هادي القوم شق وسطيح وخنافر الحميري وسواد ابن قارب وطريفة وعفيراء(249/14)
وأمثالهم من الكاهنين والكواهن وكانت الحجة تلكم الأساجيع - فقد ضل هاديهم، وأودى الدليل.
إن سجع الكهان إنما قلد مفتعلوه في الإسلام نهج القرآن كما كان يقلده الممخرق (المختار بن عبيد الثقفي) الكيساني. والقرآن - كما قال أبن خلدون - لا يقلد، فكان سجع الجماعة ذاك الكلام البهرج.
وإن القوة التي أبدعت في العربية ذلك (الكتاب) وأخرجت من العرب تلك الأمة فإن القوة التي فطرت من العدم وجوداً ومن العربية (قرآناً) ومن العرب أولئك (الأصحاب) صفوة الناس وجوهر البشرية - هي ربة ذلك الأسلوب.
إن نهج القرآن هو نهج المبدئ المبتدع، لا طريق المقلد المتبع، وإنه لوحي الله، وإنه لكتاب الدهر
القارئ(249/15)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 15 -
إلى البصرة، إلى البصرة! إلى المدينة التي تجري من تحتها الأنهار. إلى مهد ليلى يطيب الإسراء
ولكن لا بد من السلام على ليلى قبل الرحيل، فقد صبرت النفس عن لقائها ثلاثة أيام، بسبب حادثة وجدانية لا أجرؤ على تدوينها في هذه المذكرات، وهي حادثة ضجت لها أرجاء العراق؛ ولكن لا موجب لتدوينها، لأني أحب أن تموت وهي في المهد، فقد تطويني طياً فأخرج من خدمة الحكومة المصرية وأفتح مكتب تصوير في بغداد؛ وفي مصر رجل عظيم يعرف ما أعني، ويفهم كيف تستطيع هذه الحادثة أن تهدم ما بنيت من آمال.
وأشهد أني كنت املك نسيان ليلى أسبوعاً أو أسبوعين، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان
وتفصيل ذلك أني رجل محزون، محزون، محزون، ولو شئت لكررتها ألف مرة، ولكني من أقدر الناس على الفرار من أحزاني. ولعلي أشبه الرجال بالشاعر الذي يقول:
جنَت عليَّ الليالي غير ظالمةٍ ... إني لأهلٌ لما ألقاه من زمني
فما رأيتُ من الأخطار عاديةً ... إلا بنيت على أجوازها سكنى
ولا لمحتُ من الآمال بارقةً ... إلا تقحّمتُ ما تجتاز من قُنن
أَحلْتُ دنياي معنًى لا قرار له ... في ذمة المجد ما شرَّدت من وسن
ولكن أحزاني تحقد على تجلدي أبشع الحقد فتجمع جيوشها وتهجم علي من حين إلى حين، وقد انتصرت في هذا اليوم مع الأسف الموجع، فلم أجد مفراً من السلام على ليلى، علها تجفف دموعي وتبرد أحزاني
إليك يا ليلى المرجع، وإليك يا ليلى المآب
دخلت على ليلى في العصرية لأقضي في رعايتها أربع ساعات إلى أن يحين الموعد لقطار البصرة فماذا رأيت؟ ماذا رأيت من ليلى ربة العطف والحنان؟
تلقتني عاضبةً بعينين تقذفان بالجمر المتوقد، وتحت قدميها ظمياء.
- من أتى بك إلى هذه الدار؟(249/16)
- من أتى بي إلى هذه الدار؟ هذه دار ليلاي!
- ليلاك؟ وهل يمكن لرجل مثلك أن يطمع في أن أكون ليلاه؟
- سيدتي، ماذا حدث؟ خبريني فقد طار صوابي
- وهل تجهل ما حدث؟ اسأل قلبك إن كان لمثلك قلب!
- إن قلبي يشهد بأنني وفي أمين
- وفي مثل ما صنعت تكون الأمانة، ويكون الوفاء!!
- سيدتي، ماذا حدث؟ خبريني فقد طار صوابي
- هل تنكر ما شاع عنك؟
- وما الذي شاع عني؟
- يقول أهل بغداد إنك كنت مثال السخف في سهرات المؤتمر الطبي. ويقولون إنك لم تترك سيدة إلا قبلت يديها، وربما أوغلت في السخف فقبلت جبينها وخديها
كذبوا، فأنا لم أغازل أكثر من عشرين سيدة
- ما هذا التظرف السخيف؟
- ليلى، أسمعي، أنت حمقاء
- أنت وحدك الأحمق
أنا وحدي الأحمق؟ صدقت يا ليلى، فلو كنت أعقل لرأيت لنفسي ألف مذهب في الحياة غير مداواة الملاح!
- قلت لك إني أبغض هذا التظرف السخيف
- وهو كذلك، تركت التظرف السخيف، تركت التظرف السخيف، ولكن اسمعي يا ليلى، سأرحل عن بلادكم بعد شهرين أو ثلاثة، وستبكين أيامي
- أبكي أيامك؟ وهل كانت لك معي أيام يطول عليها البكاء؟
- ليلى، اسمعي واعلقي، أنا لا أنكر ما وقع مني في سهرات المؤتمر الطبي، ولكني رجل حزين يداوي جراح قلبه بالعبث والمجون
- أعرف أنك حزين، لأني أعرف المرأة التي كوت قلبك
- ما كوى قلبي أحد، وإنما همومي هموم رجال لا تعرفينها يا حمقاء(249/17)
- أنت وحدك الأحمق
- شيء غريب! أهذا أدب النساء في بغداد؟
- هذا هو أدب النساء في بغداد، وستعرف عواقبه بعد حين
- ليلى، يظهر انك امرأة كسائر النساء
- النساء أشرف من الرجال
- المرأة أجمل من الرجل، ولكن الرجل أشرف من المرأة، لأنه يحتمل مصاعب وأرزاء لا تحتملها المرأة، ولو كنت في مكاني يا لئيمة. . .
- أنت وحدك اللئيم
- من أين تعلمت هذه الألفاظ الغلاظ؟
- تعلمتها منك!
- هل يسرك أن نفترق؟
- في أمان الله!
وخرجت من غرفة ليلى والدمع في عيني، فهذه آخر مرة أرى فيها المرأة التي آنست وحشتي في بغداد. نعم هذه آخر مرة أرى فيها المرأة الجميلة التي عرفت بها كيف استطاع العراق أن يسيطر على الآداب العربية مئات من السنين. هذه آخر مرة أرى فيها المرأة الحلوة العذبة التي جعلت قلمي أطوع قلم، وجعلت بياني أعظم بيان. هذه آخر مرة أشرب فيها صبابة الكأس، وألقي سيفي وأطوي لوائي، إلى آخر الحياة، إن كان لمثلي بعد ليلى حياة!!
وفي تلك اللحظة بكت السماء على غير موعد فظننتها تبكي لبكائي، أنا العاشق المسكين الذي لم يحفظ له جميل
وقد سقطت على السلم مرتين، فرأيت من الحزم أن أجلس لحظة في الحجرة التي تقارب الباب إلى أن تجف دموعي وترجع قواي
وما كدت اجلس حتى أدركتني ظمياء وهي تقول في تلهف: عيوني! دكتور زكي! عيوني، تعال، تعال
ومدت يدها لترجعني إلى ليلى، فدفعتها بعنف، وخرجت(249/18)
وفي أثناء الطريق عاد صوابي، وقد عجبت من أن يعود بهذه السرعة، ولكن قلب المحب له أحوال. . . وتذكرت أن ما وقع من ليلى غير مستغرب من النساء، فإن من هوى المرأة أن تجحد الجميل. تذكرت أن للمرأة يؤنسها ويعجبها ويرضيها أن تنكر على الرجل كل شيء، وهي تجد لذة في الجحود وتستروح به كما تستروح بعض الأفاعي بسواد الليل
وتذكرت أخطائي في معاملة النساء، فقد كنت دائماً أعامل النساء معاملة وحشية، لأنني عشت دهرى مدللاً بين الملاح، ولكن هذا الدلال كانت له عواقب سود، فقد أضاع علي فرصة سأندبها ما حييت: أضاع على المرأة الجميلة التي اتصلت بها منذ سنين بشارع الباطنية، المرأة التي قسم الله جسمها أجمل تقسيم، وصاغها على افضل نظام؛ المرأة التي كانت تقول في كل لحظة: إيش سويت لي؟ إيش صنعت لي؟ وكنت يومئذ جاهلاً. وأي جهل أقبح من دعوة المرأة إلى حفظ الجميل؟ وقد حملني هذا الجهل على هجر تلك المرأة بقسوة وعنف. . . ثم تطلع إليها القلب بعد ذلك، ولكني وأحر قلباه عرفت أن رجلاً تزوجها ونقلها إلى دمياط
وكانت تلك المرأة على جانب عظيم من العفاف؛ ولكني لا أزال أسأل: كيف كان يجوز في شريعتها أن تتمدد أمامي على السرير في غير ريبة؟ وكيف كان يطيب لها أن تعرض علي محاسن جسمها في غير سوء؟
أحب أن أعرف ما اختلف وما ائتلف من سرائر النساء، فمتى أعرف؟
أخشى أن يكون مصيري مصير الفراء الذي مات وفي نفسه شيء من حتى! والعشاق كالنحويين يموتون وفي أنفسهم أشياء
وحالي أغرب الأحوال، لأني نحوي وعاشق.
وتذكرت أن ليلى كانت قد رقت ولطفت في الأيام الأخيرة، فكنت أنعم منها بفنون من الأنس لا تحيط بها أوهام ولا ظنون. وتذكرت أني سأكون ألأم الناس إذا نسيت تلك المعاني الوجدانية التي كنت أتلقاها من عيني ليلى في كل لقاء، وتذكرت أنها عراقية، وأهل العراق كأهل بدر تغفر لهم جميع الذنوب
أرجع إلى ليلى؟ أرجع؟
لا. لن أرجع(249/19)
ولكن ليلى مريضة، وهجر المريض لا يستبيحه طبيب أمين
أعود إلى ليلى أعود
أعود إلى ليلى، أعود
أعود إلى المرأة التي قالت أنها تشتهي أن تموت ورأسها إلى صدري. أعود إلى المرأة التي ملأت رأسي بالنور، وغمرت قلبي بالحنان. أعود إلى المرأة التي أعزتني أكرم إعزاز، ورعتني أشرف رعاية. أعود إلى ليلى، أعود إلى ليلاى
وفي أي قلب غير قلبي تحيا معاني الوفاء؟
سيموت الرفق يوم تموت ليلى، وسيموت الشعر يوم أموت أعود إلى ليلى، أعود
ولكن ليلى، أهانتني وجرحتني
لا بأس، فليس يعيب الرجل أن تهينه الملاح. وأي هوان أقبح مما استبحت لنفسي في حي الحلمية يوم رجوت إحدى معشوقاتي أن تسمح لي بتقبيل نعليها
وكانت قبلة شهية جداً
أعود إلى ليلى، أعود
أعود إلى الغرفة التي تزدان بمؤلفاتي وهي في صوان خاص، وقد وشيت بالذهب وأسدلت عليها ستائر الحرير الشفاف، ثم أرى ما تصنع ليلى، فعهدي بها تنظر إلى الصوان الذي يضم مؤلفاتي وتقول: هذا زكي مبارك العالم وهو رجل محترم، ثم تشير إلي وتقول: وهذا زكي مبارك العاشق وهو رجل سخيف:
عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وُلِّيَتْ حُكما علىَّ تجورُ
وما هي إلا لمحة طرف حتى كنت عند ليلى فرأيت المسكينة في حالة تثير الدمع من أقسى الجفون
ونظرت إلي ظمياء في حنان وهي تقول: لقد صح أملي فيك فقد أكدت لليلى أنك سترجع وما كانت تصدق أنك سترجع وتسكت ليلى فلا تتكلم، كأنها تقاسي نوبة إغماء، ثم تفتح عينيها بتكلف وتقول:
- أنتم يا رجال ليس لكم أمان!
وأكاد أصعق، لأني سمعت هذه العبارة مليون مرة، ولعلها أول جملة سمعها آدم من حواء(249/20)
- ليلى!
- مولاي!
- مولاك؟ وكنت من لحظات ترفضين أن تكوني ليلاي؟
- إن رجوعك بهذه السرعة يشهد بأنك عليل، وقد صدق خصومك في لبنان حين سموك (قيس المريض في العراق)
- سنفترق في حزيران
- ومن يضمن أن تحفظ العهد إلى حزيران؟
- تأدبي يا ليلى، فستبكين أيامي بالدمع
- تأدب أنت، فستبكي أيامي بالدم
- الرجل أوفى من المرأة
- لم يخلق الله أغدر من الرجال
- المرأة سخيفة
- الرجل أسخف
وعند هذا الحد تدخلت ظمياء وهي تقول: أتريدون أن تمثلوا الرواية من جديد؟ أنا لا أسمح لكم بهذا العبث، اسكتي يا ليلى اسكت يا زكي
وقد عجبت من أن تكون لظمياء هذه السيطرة، وأن ترفع الكلفة في مخاطبتي مع أني أستاذ عظيم. فقلت: وما شأنك أنت يا بنت؟
فأجابت: أحفظ أدبك، فأنا حارسة هذا البيت، وأنا ست الكل.
- ست الكل؟
- نعم ست الكل ألا تفهم؟
ثم رفعت يدها ولطمتني لطمة غارت منها ليلى، فنظرت إليها بغضب وقالت: الغزل ممنوع في هذا البيت!
وكانت ظمياء كالعصفورة التي يفزعها المطر فتفزع إلى نوافذ البيوت وتزقزق لترحمها القلوب، فتدخلت لإنصافها وقلت: ما هذا غزلاً، إن هذا إلا تأديب
- ولن أسمح ليد أن تؤدبك غير يدي(249/21)
- شرع الله ولا شرعك يا ليلى
فلطمتني الشقية أحر وأعنف
ولم أفكر في الدفاع عن نفسي، وإنما أخذ قلبي يسأل: أي الكفين أندى وأرق؟ كف ليلى أم كف ظمياء؟
إن عيني تعودت كحل هند ... جمعت كفها مع الرفق لينا
ومن الواضح أن هذا الاعتداء كان إيذاناً بانتهاء الخصام
وفي لحظة واحدة تحولت الدار إلى بحر يموج بالبهجة والانشراح
- ليلاي!
- مولاي!
- أنا أحبك!
- وأنا أبغضك!
- سمعت انك بصرية
- أبي بصري أما أمي فموصلية
- وأنا أستأذنك في زيارة البصرة
- لا تفعل
- ولماذا؟
- البصرة لا تزار في هذه الأيام، وإنما تزار في الموسم
أي موسم؟
- موسم التمر، حين تذهب الصبايا إلى النخيل مع تباشير الصباح، موسم العيون والقلوب، موسم الصيد يا جهول
- جهول؟ وأنا أستاذ عظيم؟
- الأساتذة أجهل الناس، لأنهم يكتفون بما في الكتب من وصف الأشياء، ويجهلون حقائق الأشياء
ولكن أنا أحاول الوصول إلى حقائق الأشياء
وإذاً فلن تصلح للأستاذية(249/22)
- وكيف؟
- ألم تفهم يا غافل أن الرجل لا يصلح للأستاذية إلا إذا كان قطعة من الثلج؟ الأستاذ الحق في بلاد الشرق هو الرجل الذي يحفظ
- ولا يعقل؟
- ليس من الضروري أن يعقل، لأنه لا يشترط في الأساتذة عندنا أن يكونوا يعقلون. الأستاذ الحق يا غافل هو الرجل الذي يضيع نصف الوقت أو كل الوقت في التبرم بالمجتمع، ويقول في كل حين:
هذا الزمان الذي كنا نحاذره ... في قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث له عِوض ... لم يُبك مَيت ولم يُفرح مولود
أو كما قال: يهمني أن أعرف شيئاً في هذا الموضوع يا ليلى، فانأ طبيب أضاعه الأدب ولم يبق أمامه غير احتراف التدريس
- زين، زين! وأنا أعلمك، ولكن أدفع الثمن
وما هو الثمن؟
- قبل يدي
- أقبل يديك ورجليك يا ليلى
- أسمع يا زكي
- أنا الدكتور زكي
- لن تكوني دكتوراً إلا يوم تصبح مثال الغباوة والجهل
- وهو كذلك. هاتي ما عندك يا داهية!
- أسمع أيها الطفل الكبير! إن الأمم المتأخرة تعيش بعقل القرن التاسع قبل الميلاد، يوم كانت الأستاذية وقفاً على الكهان، والكهان كانوا قوماً منافقين، وإليهم كان الأمر في التعلم والتثقيف؛ وهم اللذين سيطروا على المصريين والآشوريين والكلدانيين. ومن واجبي أن أحذرك عواقب الثقة بأهل عصرك من أهل الشرق، فهم يتظرفون ليقال إنهم متمدنون. والبرهان على ذلك انهم لا يشهدون لمحة من ضوء الفكر إلا أطفئوها بالبصق لا بالماء. فاحترس يا غافل من الثقة بأهل زمانك فإني أخشى أن أسمع من أخبارك ما يسوء بعد حين(249/23)
- سيدتي! إن مصر تحضرت وهي تقود الشرق
- لن أصدق أن مصر تحضرت إلا يوم يقام المرقص في ميدان الأزهر كما يقام المرقص في ميدان السوربون
- أنت سخيفة يا ليلى!
- وأنت اسخف!
- أنت لئيمة
- أنا اعرف ما تريد، اعرف أنك تريد أن أعرك أذنك، ولكني لن افعل
- ولماذا يا شقية
- لأنك جهول
- أنا عالم علامة
- لو كنت عالماً لما فضحت نفسك بنشر أحاديث الحب في الجرائد والمجلات
- إذاً ماذا اصنع؟
- اكتم غرامك ونافق، كما يصنع فلان الذي يلقى الله بالفجور ويلقي الناس بالعفاف
- ولكن أنا أحب أن ألقي الناس بالفجور والقي الله بالعفاف
- غلبتني أيها المؤمن، فإن الذي يصلح ما بينه وبين الله لا يضره أن يفسد ما بينه وبين الناس
- وآية ذلك يا مولاتي أن تلاميذي لم يفسد رأيهم في أبداً، فما اشتغلت بالتدريس في معهد إلا شهدت أحجاره بأني أصدق من عرف من المدرسين
- أنت إذاً موفق
- تحبينني يا ليلى؟
- أنا أبغضك!
- ولكن أنا أحبك!
- أمامك دجلة، فاكرع منها كيف شئت!
- أستأذنك في السفر إلى البصرة
- في رعاية الله وأمان الهوى(249/24)
- ألا تغارين من سفري إلى البصرة؟
- أنا لا أغار عليك!
- أنت إذاً لا تحبينني!
- ما أنكر أني أحبك بعض الحب، ولكن لا موجب للغيرة، فقد ضمنت أن تكون لي طول عمرك. ولقد قيدت قلبك بقيود من حديد. أما سمعت ما قال أحد فضلاء المحاضرين بمحطة الإذاعة الفلسطينية؟
- وماذا قال؟
- قال إنك تحبني، وأنني وهبتك الخلود، وما يقال في فلسطين تسجله السماء
- وأقول في البصرة إني أحب ليلى؟
- قل في البصرة إنك تعبد ليلى ليكرموك
- وأنت تحبينني؟
- أنا أبغضك
إلى البصرة، إلى البصرة! إلى وطن ليلى التي تبغضني أمتطي قطار المساء، وأنا على موعد مع صاحبة العينين، فما الذي سيحدث في القطار وفي البصرة؟ أمري إلى الله وإلى الحب!
(للحديث شجون)
زكي مبارك(249/25)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 25 -
(معذرة إلى القراء من هذه الفترة التي انقطعت فيها عن الكتابة، وأشكر لهم. على العهد أن أوالي الكتابة حتى أفرغ من هذا التاريخ. ومعذرة ثانية إلى صديقي الأستاذ محمود أبو رية مما كان مني إليه، وسيأتيه ردي بعد قليل)
العريان
الرافعي والعقاد
لما مات المرحوم شوقي في خريف سنة 1932، اهتزت لموته المجامع الأدبية في مصر والشرق؛ فما تجد من كاتب أو أديب من أبناء العروبة إلا أهتم لهذا النبأ واحتفل به. وتهيأت (المقتطف) لكتابة فصل أدبي عن أمير الشعراء، فأفرغت بضع عشرة صفحة من العدد الذي كان موشكاً أن يصدر، وأبرقت إلى المرحوم الرافعي في طنطا أن يكتب هذا الفصل ويرسله إليها في أيام قبل أن يتم طبع العدد
ولم يكن بين الرافعي وشوقي من صلات الود ما يتيح له أن يعرف شيئاً من حياته يعينه على دراسة أدبه؛ ولا كان الرافعي مستعداً لهذه الدراسة ولا تهيأت له من قبل أسبابها ودواعيها لينشئ موضوعه على الوجه الذي يرضاه في ذلك الوقت العاجل. وإن الرافعي لكثير الأناة والتأنق فيما يكتب، فلا يبدأ في إنشاء موضوعه حتى يخلى له فكرة أياماً وليالي، يبحث ويوازن، ويزاوج ويستنبط؛ ثم يتهيأ للكتابة وقد استوى الموضوع في فكره كأنما قرأه لساعته في كتاب. ولكن كل أولئك لم يمنع الرافعي أن يجيب محرر المقتطف إلى ما طلب، وأرسل مقاله في الموعد المضروب. وكانت دراسةً أعتقد أن أحداً من كتاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله، فأنصف شوقي، وجلى عبقريته، وكشف عن أدبه وفنه ومذهبه. دع عنك بعض هنوات قليلة لا تغض من قيمة هذا(249/26)
البحث الفريد
وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماه غلطات في النحو أو اللغة، أن شوقي أبتدأ بالنكرة في قوله:
ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفّ له ... نشوانُ في جنبات الصدر عربيد
وهي هناة صغيرة قد يجد لها بعض العلماء بقواعد العربية وجهاً من التعليل وباباً من العذر
والعقاد أديب له شهرته العريقة في عداوة شوقي والزراية بأدبه وفنه؛ فما يعرف أدباء العربية أحداً كان أبلغ عداوة لشوقي أو أحد لساناً في نقده من العقاد!
ولكن العقاد لم يكد يفرغ من قراءة مقالة الرافعي في المقتطف، حتى تناول قلمه ليكتب كلمة يرد بها رأي الرافعي في نقد هذا البيت ويعتذر عن شوقي. . . وكان للعقاد نصيب من التوفيق فيما كتب!
ليت شعري، أفعلها العقاد دفاعاً عن شوقي وهو من هو في عداوته، أم تحدياً للرافعي؟
أفلم يجد العقاد في بضع عشرة صفحة يكتبها الرافعي مباهياً بشوقي، مفاخراً بأدبه وفنه وعبقريته شيئاً يستحق الرد والتعليق غير هذه الكلمة؟ هذا سؤال سألته نفسي يومئذ، وأحسب أن كثيراً من القراء سألوه أنفسهم؛ ولكن جواب هذا السؤال معروف لكل من يعرف ما كان بين الرافعي والعقاد، ثم ما كان بين العقاد وشوقي منذ قريب!
وقال لي الرافعي: (ماذا ترى فيما كتب العقاد؟)
قلت: (أنا وهو على رأي واحد فيما يرد به!)
فمط شفتيه ساخراً وهو يقول: (أخطأت، وأخطأ العقاد، وأخطأ المتأخرون من علماء النحو في العربية. . . ليس الرأي ما يقول العقاد وتوافقه عليه. . .)
وتملكه عناده وكبرياؤه؛ فأنشأ مقالة طويلة مسهبة يرد بها رأي العقاد، ويصر على تخطئة شوقي في الابتداء بالنكرة، ويتهم المتأخرين من علماء النحو بالغفلة وقلة البصر بأساليب العربية؛ ثم يفيض ويسترسل في بيان أوجه الابتداء بالنكرة وما يصيب منها وما يخطئ.
وإذا لم يكن لي في هذا المجال أن أصرح بالرأي فيما كتب الرافعي في هذا الموضوع؛ فإن لي أرد كل شيء إلى أسبابه، فأزعم أن الرافعي لم يكتب ما كتب خالصاً لوجه العربية، ولكنها الكبرياء والاعتداد بالنفس وخوف الهزيمة أمام العقاد في معركة أدبية!. . .(249/27)
ولست أكتم هنا أن الرافعي كان يسيء الظن بفهم العقاد لقواعد اللغة؛ فما يرى له شيئاً من مثل ما كتب في ذلك الموضوع مما يشير إلى بصره بقواعد العربية إلا اتهمه بأنه يستعين فيه بأصدقائه من أهل العلم بهذه اللغة. وأحسبه قال لي مرة: إن الذي يعين العقاد في ذلك هو صديقه الأستاذ عباس الجمل!
وانتهت هذه المعركة الصغيرة ولم تسفر عن أشلاء، ولكني أحسب أن الرافعي نفسه لم يكن مقتنعاً بما كتب في الرد على العقاد فبقي في نفسه شيء يحمسه إلى معركة جديدة، فلم يلبث إلا قليلاً ثم كانت المعركة الفاصلة. . .
وحي الأربعين
وكانت هدنة استمرت بضعة أشهر، ثم أصدر العقاد ديوانه (وحي الأربعين).
ومضى أسبوع أو أسابيع بعد صدور الديوان؛ ثم كان عيد من الأعياد، فغدوت على بيت الرافعي لأهنئه، ثم خرجنا نطوف ببيوت بعض الأصدقاء؛ حتى انتهى بنا الطواف إلى دار صديقنا الأديب الأستاذ حسنين مخلوف. والأستاذ مخلوف أديب مطلع، لا يفوته كتاب مما تخرج المطبعة العربية. فلم يكن ثمة بد من الحديث في الأدب، وفي الشعر، وفي المطبوعات الجديدة، وهو حديث يحلو للرافعي، ويحلو لمخلوف، ولو أستغرق هذا الحديث سحابة يوم العيد من الضحا إلى العصر، والبطن خاو يطلب الطعام، ورائحة الشواء تفوح في بيت المضيف وفي بيوت الجيران!
وسأل الرافعي مضيفه: (ماذا عندك من الجديد في الكتب؟)
وضحك مخلوف وهو يغمز بعينه ويقول: (وحي الأربعين!)
ووجد الرافعي طلبته، فدعا بالديوان الذي يود أن يقرأه منذ أيام ويمنعه من شرائه أنه كتاب العقاد. . .!
وجاء الديوان فوضعه الرافعي بين يديه وقال: (لست أريد أن أتجنى على العقاد الشاعر أو أحكم في ديوانه برأي قبل أن تتهيأ لي أسبابه؛ وإني لأخشى أن أفتح الكتاب فتقع عيني أول ما تقع على أردأ ما فيه فأحكم على الديوان ببعضه، وقد يكون فيه الجيد، وما هو أجود، وما تتقاصر أعناق شعراء العربية دون الوصول إليه. وإن بيني وبيني العقاد لسابق عداوة، وأنتما بريئان من التهمة وسوء الظن؛ فدونكما الديوان فقلبا فيه النظر، وتداولا فيه(249/28)
الرأي، ثم دلاني على أجود ما فيه لنقرأه معاً فنحكم له أو عليه مجتمعين؛ ثم يكون ما اتفقنا عليه من الرأي في هذا الجيد المختار هو الرأي في الديوان كله، من غير أن يتغلب الهوى أو تتحكم الشهوة. . .!)
ورضينا رأي الرافعي، فأخذنا الديوان نقلبه صفحة صفحة، ونقرأه بيتاً بيتاً؛ والرافعي، منصرف عنا إلى كتاب بين يديه. . . ومضت فترة، واستبطأنا الرافعي فيما دعانا إليه فقال: (أحسبكما لم تجدا ما تطلبان! ولن تجدا. . . . . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته؛ فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!)
وتناول الديوان يقرأ منه ونستمع إليه. ووقفنا عند أشياء، وتداولنا الرأي في أشياء. وكان أكثرنا حماسة في النقد هو الأستاذ مخلوف. ومضت ساعات ونحن نقرأ، ولكل رأي بيديه. ثم طوينا الديوان وأخذ الأستاذ مخلوف يتحدث في موضعه. . .
وقال الرافعي يخاطبه: (. . . وما دمت على هذا الرأي في الديوان فلماذا لا تنشره؟ إن لك لساناً وبياناً، وإنه لنقد (يستحق أن يقرأه أدباء العربية. . .!)
وتردد مخلوف قليلاً ثم سمع مشورة الرافعي. . . وتهيأ لكتابة نقده. . .
ومضى أسبوع، ثم نشر (المقطم) في صدره مقالاً مجوداً للأستاذ مخلوف في نقد ديوان وحي الأربعين، تناوله بأدب وهدوء في بضعة عشر موضعاً، وأرجأ بقية النقد إلى عدد تال. . ومضى يومان وكتب العقاد في صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد رده على مخلوف. . .
لم يكن مخلوف حين كتب مقاله الأول للمقطم مقدراً أن الأستاذ العقاد سيتناوله بهذه القسوة، ولكنه فوجئ مفاجأة شديدة بما كتب العقاد. . .
لم يرد العقاد على مخلوف رد الأديب على ناقده، ولكنه راح يتهكم عليه ويسخر منه ويستهزئ بعلمه وأدبه ومقدرته على فهم الشعر. وإذ كان مخلوف من مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، فإن العقاد قد أنتهزها سانحة لي ليطعن على مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، ويلحد في كفايتهم وعلمهم، ويعود بالسبب في ضعف اللغة العربية في المدارس على مخلوف وزملاء مخلوف. ولم تسلم مدرسة دار العلوم، ولا واحد من مدرسي اللغة العربية، من تهكم العقاد وسخريته في هذا المقال، لأن واحداً منهم كتب ينقده ويحاول(249/29)
رده إلى الصواب فيما رآه أخطأ فيه. . .!
وكتب مخلوف مقاله الثاني يرد مطاعن العقاد، ويتمم ما بدأ في نقد وحي الأربعين؛ ولكن المقطم أغلقت دونه الباب ولم تنشره، كرامة للعقاد وحرصاً على مودته. . .
وغضب مخلوف وتألم، ولكنه طوى صدره على ما فيه. . . وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية نصلي الجمعة كل أسبوع في مسجد المنشاوي بطنطا، فلقينا هناك مخلوف؛ فما رآه المدرسون حتى انهالوا عليه وركبوه بالعتب القاسي، وكلهم قرأ مقال العقاد في الطعن على مدرسي اللغة العربية بسبب مخلوف، وما منهم من قرأ مقال مخلوف إلا قليل. وحاول مخلوف أن يعتذر، ولكن اعتذاره ضاع بين ضجيج إخوانه وحملتهم عليه فلم يستمع له أحد!
وقلت للرافعي مازحاً ولقد لقيته بعد ذلك: (لقد كنت أنت السبب فيما نال مخلوفاً من إخوانه، وفيما نال مدرسي اللغة العربية من لسان العقاد؛ فأنت الذي هجت مخلوفاً إلى هذه المعركة، فانتهت إلى ما انتهت إليه بينه وبين إخوانه؛ وكانت سبباً فيما كتب العقاد عن دار العلوم ومدرسي اللغة العربية. . .)
وكان لمخلوف عند الرافعي منزلة، ولدار العلوم في نفسه مكان. ولكنه أجابني: (وماذا علي أنا فيما كتب مخلوف، وفيما رد العقاد؟)
قلت: (لولاك لم يكتب مخلوف فيتعرض لما تعرض له من لسان العقاد ومن عتب إخوانه. ولولا ما كتب مخلوف لبقيت دار العلوم بريئة من العيب لم يطعن فيها العقاد ولا غير العقاد!)
وقصدت فيما قلت - ومعذرة إلى الأستاذ العقاد - أن أهيج الرافعي للكتابة عن العقاد، فيشهد أدباء العربية معركة جديدة بين الأديبين الكبيرين يكون لهم من ورائها نفع ومتاع ولذة. . . وبلغت ما قصدت إليه، ووعد الرافعي بأن يكتب ما في نفسه من ديوان وحي الأربعين، ولكن على شرط: أن أشتري له نسخة على حسابي من الديوان، لأن عليه قسماً من قبل ألا يدفع قرشاً من جيبه في كتاب من كتب العقاد. . .!
ونفذت الشرط، وتهيأ الرافعي للكتابة عن وحي الأربعين؛ ومضت أيام، ثم دعاني ليملي علي مقالة الأول في نقد وحي الأربعين.(249/30)
(شبرا)
محمد سعيد العريان(249/31)
من برجنا العاجي
كنت أشكو ذات يوم عسراً في الهضم وقلة في النوم، وأضيق ذرعاً بالأدب والأدباء، وإذا بزائر أديب يلح في طلب رؤيتي ولا يريد أن ينصرف حتى يجاب إلى ما طلب. وعلمت أنه ممن لم يسبق لهم أن رأوني؛ فخطر لي خاطر سريع: ناديت تابعاً لي وأجلسته إلى مكتبي وطلبت إليه أن يقابل الزائر باسمي، وانتحيت أنا جانباً أقرأ إحدى الصحف. ولم يلبث الزائر أن دخل وسلم على تابعي في احترام قائلاً:
- يا أستاذ! إني سعيد جداً إذ استطعت أن أراك. فأنا من قرائك المدمنين، اقتنيت كل كتبك، وطالما رسمت لك في مخيلتي صورة أراها الآن طبق الأصل. . . فالحمد لله لم يخب ضني في شيء. إني أراك الآن كما تخيلتك بين سطورك
فطرحت من يدي الصحيفة ونظرت إلى الرجل محملقاً. أهذا الرجل صادق؟ لا شك عندي في ذلك، فكلامه مفعم بالحرارة والإخلاص، ولكن كيف انطبقت تلك الصورة (طبق الأصل) على غير (الأصل) بهذه السهولة؟! وجعل هذا الزائر يكثر من ترديد اسمي ويسبغه في اقتناع على سكرتيري الجالس إلى مكتبي، فشعرت بخلجة من شك هزت نفسي. ماذا بقى مني إذاً؟ هذا هو (توفيق الحكيم) إلى مكتبه كما يعتقد الآن هذا الزائر، وتلك صورته كما ظهرت له من بين السطور. أما أنا فشيء لا علاقة له بهذا الرجل ولا بما قرأ. اسمي قد انفصل عني وانتزع مني في تلك اللحظة كما تنتزع الإمضاء عن (الكمبيالة). وما أنا في تلك الساعة إلا كتلة من لحم ودم ملقاة على مقعد! وقد خيل إلي أن لفظ (توفيق الحكيم) ليس أكثر من (ماركة) توضع فوق كتب، مثل ماركة (الفابريكة) فوق علب (الساردين). إن بعض (الأسماء) لتتخذ لها أحياناً حياة مستقلة عن أصحابها. وهذا (الاسم) هو وحده الذي يباع ويشرى في سوق المكاتب والوراقين، ولدى الصحف والمجلات؛ أما الشخص فقد لا يعني أمره كثيراً من الناس. ولأول مرة أدركت إني غير موجود في نظر الجمهور باعتباري (شخصية آدمية)؛ إنما الذي يعاملونه هو (الشخصية المعنوية)، فمثلي في ذلك إذن مثل شركة (النور) و (الغاز) و (المياه)
توفيق الحكيم(249/32)
إبراهيم بك المويلحي
1844 - 1906
بقلم حفيدة إبراهيم المويلحي
السيد إبراهيم المويلحي بن السيد عبد الخالق بن السيد إبراهيم بن السيد أحمد بن السيد الشريف مصطفى وكيل المويلح. ينتهي نسبه إلى الحسين من جهة أبيه، والى الحسن من جهة أمه فأسره المويلحي يمتد نسبها إذن إلى الصادق (محمد صلى الله عليه وسلم) وإلى الصديق (أبي بكر). وهذا النسب ثابت ثبوتاً قضائياً يرجع إلى أحكام شرعية مصرية، لا إلى مجرد (الثبوت الإداري) المعروف في مصر
والمويلحي نسبة إلى المويلح (بلدة في جزيرة العرب على شاطئ البحر الأحمر كانت تابعة لمصر في عهد (علي بك الكبير) حتى سنة 1892 ميلادية، ثم ضمت إلى ولاية الحجاز
وقد انقسمت هذه الأسرة قسمين أحدهما في مصر والآخر في المويلح
وأول من وفد إلى مصر من المويلحيين السيد أحمد المويلحي بعد خدمة أداها لمحمد علي باشا الكبير في تسكين فتنة الوهابيين ثم أقام بها، وأسس بيتاً تجارياً بجهة التربيعة بالقاهرة
ورزق السيد أحمد المويلحي بالسيد إبراهيم المويلحي جد صاحب هذه الترجمة، فشب على حب الأدب وأولع به. وكان لا يخلو مجلسه من الأدباء والشعراء يطارحهم ويذاكرهم، فكانت ألسنة الوجهاء تلهج بذكر أدبه وشعره، حتى بلغ أمره (حبيب أفندي) كخيا المغفور له (محمد علي باشا) فجعله كاتبه
ولقد أدى إبراهيم خدمة جليلة لوالي مصر (محمد علي) فحفظها له البيت الخديوي، فانتفع بها المترجم له حالة عسره كما سيتبين لك فيما بعد
ورزق السيد إبراهيم بالسيد عبد الخالق الذي انتحى ناحية الاشتغال بالتجارة فشب على حبها وأفرغ همه فيها، فذاعت شهرته بصناعة نسج الحرير التي كانت رائجة بمصر في ذاك الوقت فجمع ثروة طائلة
ثم انجب ولدين هما (إبراهيم) صاحب هذه الترجمة، و (عبد السلام) وأستقر رأيه على أن يجعل من إبراهيم رجلاً تجارياً. فبعد تعليمه العلوم الابتدائية في البيت، أخذ يوجه نحو الاشتغال بالتجارة، وأبقاه في محله التجاري وأرسل أخاه (عبد السلام) إلى الأزهر ليكون(249/33)
عالماً. ولكن شاءت إرادة الله أن يكون إبراهيم هو العالم والأديب، وأن يتفرغ عبد السلام فيما بعد للتجارة ومزاولتها، فنهض فيها نهضة إبراهيم في العلم والأدب
فكان إبراهيم مولعاً بالأدب والشعر منذ حداثة سنه، وقد ورث ذلك عن جده إبراهيم، ومن حسن حظه أن كان بجوار محله التجاري عطار لم يحضرني أسمه كان من العلماء الأعلام الذين لم تتغلب عليهم التجارة فتنسيهم العلم، فتتلمذ عليه إبراهيم بغير علم من والده، فدرس عليه علوم الأدب والبلاغة والنحو والعروض حتى نبغ فيها
ومن نوادر ما يروي عن رغبته في العلم والتحايل على الحصول، عليه أنه كان معه بواب للمحل يدعى (علي الأشموني) فكان يتفق معه على أن يقف على ناصية الطريق حتى إذا ما رأى والده السيد عبد الخالق مقبلا نحو متجره راكباً مطيته يهرع إلى السيد إبراهيم المنشغل بدرسه ليقطع عليه لذة الدرس وينبهه إلى حضور والده السيد عبد الخالق، فيذهب إلى المتجر متظاهراً بمداومة العمل
وما كان يخطر له ولا والده أنه سيجعل الأدب مهنته، وهي يومئذ مهنة الفقراء، ولكن الأقدار ساقته إلى الاشتغال بها. فكان من اعظم نوابغها
وظل إبراهيم في حجره والده آمناً سعيداً حتى توفي الوالد سنة 1282 هجرية (1865 ميلادية) فتولى هو تجارة أبيه وقبض على ثروته التي تبلغ ثمانين ألفاً من الجنيهات، وجرى على خطته في العمل حيناً فازداد تقدماً وصار عضواً في مجلس التجار وعضواً في مجلس مصر الابتدائي
ولا يفوتن القارئ أن كل هذه المشاغل لم تحل دون ميله للأدب والشعر إذ كانت هذه الملكة تنمو فيه شيئاً فشيئاً بين مشاغل السياسة والإدارة والتجارة، فاتفق مع المرحوم (عارف باشا) أحد أعضاء مجلس الأحكام وصاحب المآثر الكبرى في نشر الكتب على تأسيس (جمعية المعارف) وكانت جل همها نشر الكتب النافعة وتسهيل إقتنائها، ثم أنشأ (إبراهيم بك) مطبعة باسمه سنة 1285 هجرية (1868 ميلادية) لتطبع تلك الكتب، وتعد من أقدم المطابع المصرية، وكانت كثرة العمل فيها تدفع الجمعية إلى طبع جزء من كتبها في بعض الأحيان بمطابع أخرى ولا سيما (المطبعة الوهبية)
ولا شك في أن هذه الجمعية كانت صاحبت اليد الطولى في نشر كثير من الكتب القيمة(249/34)
ككتاب (تاج العروس) و (أسد الغابة) و (رسائل بديع الزمان) و (سلوك المماليك) و (ألف با) و (محاورات الأدباء والشعراء والبلغاء) وغيرهما مما جعل لهذه الجمعية شأناً في تاريخ النهضة الدبية الحديثة
أما صاحب الترجمة ففي السنة الثانية من إنشاء مطبعته اتحد مع (محمد عثمان جلال بك) لإصدار جريدة عربية سماها (نزهة الأفكار) ولم يكن من الصحف العربية يومئذ بمصر إلا (جريدة وادي النيل) و (الجريدة الرسمية)
ولسوء الحظ لم يصدر منها إلا عددان، ثم اظهر المرحوم (شاهين باشا) للخديو إسماعيل تخوفه مما سوف تثيره مقالاتها من الأفكار وتولده من الفتن، فأصدر الخديو أمراً بإلغائها. وظلت المطبعة على ما هي عليه من طبع الكتب الأدبية والتاريخية والفقهية لجمعية المعارف، كما كان يطبع المترجم كتباً على نفقته الخاصة
وكانت مضاربات البورصة حديثة العهد بمصر، وقد تشدق الناس بمعجزاتها في سرعة الإثراء. ولما كان إبراهيم طلاباً للعلا لم يكتف بما عنده من الرزق الواسع وحدثته نفسه بطلب المزيد، فاندمج في صف المضاربين، يربح تارة فيطمع في المزيد، ويخسر أخرى فيطلب التعويض. وما هلت سنة 1289 هجرية (1872 ميلادية) حتى أستنزف ثروته، وأثقل بالديون وكاد البيت يتزعزع، فرأى الخديو إسماعيل من اللازم أن يقيم أود ذلك البيت المشهور بعزة وجاهه فقال لشريف باشا وثابت باشا: (إن ما سأصنعه لهذا البيت واجب على ذمتنا، فإن جدهم خدم جدي خدمات جليلة)
ثم طلب استدعاء إبراهيم وعبد السلام، فلما مثلاً بين يديه قال: من منكما الأكبر؟ فقال إبراهيم: عبدكم يا مولاي. فسأله: كيف تسير أعمالكما التجارية بعد موت أبيكما؟ فقال إبراهيم: إن علمها عند عبد السلام (وقد ذكرنا من قبل أنه هو الذي مارس التجارة وأدارها) لأني انقطعت للعلم والأدب. فالتفت الخديو إلى عبد السلام، فتقدم وبسط الحالة التجارية والمالية. وهنا تناول الخديو ورقة وخط فيها بيده الكريمة سطرين وناولها إبراهيم ليسلمها لرئيس الديوان
وبعد أن قام الأخوان بواجب الشكر ذهبا تواً إلى حيث أمرا وهما لا يعلمان ما خبأته لهما الأقدار!(249/35)
وكم كانت دهشتهما عند ما علما أن بالورقة أمراً كريماً بتعيين إبراهيم عضواً في مجلس الاستئناف براتب شهري قدره أربعون جنيهاً، وبصرف أربعة آلاف جنيه لعبد السلام ليسدد ما عليهما من ديون، وليتمكن من إقامة ما أعوج من شئون التجارة، وبالإنعام على كل منهما برتبة بك من الدرجة الثانية
ولم يكتف إسماعيل باشا بكل هذا، بل أبى عليه كرمه إلا أن يصدر أوامره إلى جميع من في قصوره من النساء بأن يعدلن عن لبس الأنسجة الأوربية إلى الأنسجة المصرية من صنع المويلحي، وألا يدخل تشريفات السيدات سيدة مرتدية غير هذه المنسوجات، كما أمر بصنع كمية كبيرة منها لإرسالها إلى معرض فينا في تلك الأيام
وما زال المترجم له في وظيفته بمجلس الاستئناف حتى آلت رياسته إلى المرحوم (حيدر باشا يكن) فوقع بينهما شقاق انتهى باستقالة (إبراهيم بك)
ولكن عناية الخديو إسماعيل ما زالت ترعاه؛ فأمر بإعطائه مصلحة تمغة (المشغولات والمنسوجات) على سبيل الالتزام (الاحتكار) على أن يؤدي للحكومة جعلا
ولما سقطت وزارة (نوبار باشا) سنة 1296هـ سنة 1879م التي كان فيها عضوان أجنبيان، وخلفتها وزارة (شريف باشا) المعروفة باسم الوزارة الوطنية، وهمت بإنشاء اللائحة الوطنية لتأسيس مبادئ الحكومة الدستورية - وقع الاختيار على المترجم له لوضع هذه اللائحة
ولما أن استقرت الوزارة الجديدة طلب المرحوم (راغب باشا) ناظر المالية وقتئذ من الخديو إسماعيل أن يكون إبراهيم بك معه في المالية لما يتوسمه فيه من النجابة والنباهة وعلو الهمة وسداد الرأي، فلم يمانع الخديو وسر بهذا الاختيار، وأصدر الأمر بتعيينه ناظراً للقلم العربي بها. وهنا تجلى نبوغه وظهرت جدارته فأحيلت إليه نظارة قلم (العرضحالات) مع ملاحظة (قلم تركي المالية) وعين عضواً في مجلس تسديد الديون السائرة
ولما تنازل الخديو عن العرش سنة 1879 م كما هو معروف، وصدرت أوامر السلطان بنفيه، طلب الإذن من السلطان بالإقامة في استانبول أو أزمير، فلم يصادف هذا الطلب قبولاً. فلما علم الملك (أومبرتو ملك إيطاليا بهذا الرفض، طيب خاطر صديق والده، ووضع تحت تصرفه سراي (الفافوريتا بضواحي نابولي(249/36)
على أن هذا النفي لم ينسه ذكر إبراهيم فبعث يستقدمه إليه. فلبى إبراهيم الأمر، واستعفى من مناصبه وظل في معية إسماعيل بضع سنوات كان يقوم في أثنائها بوظيفة كاتب يده (سكرتيره العربي) يكتب عنه الرسائل إلى الملوك والأمراء، كما كان يقوم بالتدريس لنجله سمو البرنس احمد فؤاد (المغفور له صاحب الجلالة فؤاد الأول) وقد أرسل إبراهيم بك كتاباً إلى أبنه المرحوم السيد محمد بك المويلحي بتاريخ 15 مارس سنة 1880 يطلب منه الإسراع بإرسال بعض كتب النحو الصغيرة لهذا الغرض
وفي نفس هذه السنة أي سنة 1880م أنشأ جريدة (الاتحاد) بإيطاليا، واصدر منها ثلاثة أعداد كانت مقالاتها شديدة اللهجة على سياسة الدولة العلية مما جعل السلطان عبد الحميد يطلب من سفارته بإيطاليا إيفاد مندوب من قبلها لدى الخديو إسماعيل ليرجوه أن يأمر (سكرتيره) بالكف عن نشر تلك الجريدة.
وفي أثناء إقامة الأسرة الخديوية بإيطاليا مرضت إحدى الأميرات من زوجات سمو الخديو إسماعيل (بالروماتزم)، ووصف لها الأطباء بلدة (بورسة) خشية عليها من المكث في الجو الذي هي فيه. فأشكل الأمر على الخديو، وبث همه إلى (سكرتيره) وطلب منه أن يكتب لجلاله السلطان عبد الحميد رسالة يشرح له فيها حالة المريضة بذلك الأسلوب المتين الساحر
فكتب إبراهيم بك رسالته المشهورة عن لسان الخديو إسماعيل التماساً لدخول حرمه الآستانة وأفرغ فيها كل أوتي من بيان
ولما ترجمت وعرضت على السلطان عبد الحميد تأثر بها وأرسل برقية إلى سفيره في إيطاليا بدعوة حرم الخديو إسماعيل إلى الآستانة للاستشفاء بمياه (بورسة) المعدنية
وقد يلذ القارئ أن يطلع على هذه الرسالة وهي رسالة طويلة نقتطف منها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه. من عبد أكتنفه حرمان الرضا من ولي نعمته، ومالك ناصيته، فساعته شهر، وليلته دهر، وعبرته نهر، وكذلك جواب دعائه جازعاً مما يقاسي من غضب أمير المؤمنين وقد قال الله تعالى حاثاً على العفو (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. .)(249/37)
وأمير المؤمنين أولى العالمين في الاقتداء بآي الكتاب العزيز. وإني أتضرع إلى مقام خلافتكم العظمى، وسلطتكم الكبرى متوسلا بجانب صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن يلحظ ما اعرضه لدى سدتكم الملوكية بعين الرضا، ولو أن العذر إقرار بالذنب لملأت الصحائف اعذاراً، ولعرضت التوبة ليلا ونهاراً
وهبني يا أمير المؤمنين جئت بكل ذنب. أليس في سعة عفوكم وساحة إحسانكم ما تغفر به الذنوب! وأمير المؤمنين أعلى نظراً أن يؤخذا بقول وهو إفك الوشاة، أو يعاقب بكلام وهو بهتان السعادة، من الذين اتخذوا حرفتهم انهم يحرفون الكلم عن مواضعه، بعد أن أفنيت حياتي لهذا البيت المعمور في خدم قدمتها، وأوامر أطعتها، ونواهي امتثلتها، موالاة جعلتها شرطاً سادساً لديني ومعتقدي، وإتباعاً لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). . . إلى أن قال في آخرها:
(. . . وإني أذكر أمير المؤمنين - فان الذكرى تنفع المؤمنين بقوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) وإن بين جلالتكم وبين رعيتكم، وهذه المريضة فرد من إفرادهم - الرحم الديني - الذي هو أولى بوجوب الصلة من رحم النسب، قال تعالى: (إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) أي واتقوا في اخوتكم في الدين برعاية عهودكم وحفظ حقوقكم، فعلمنا أن الأخوة الدينية تقتضي مزيد الشفقة والرحمة، ولا معنى للرحمة والشفقة إلا أن تنقذ المؤمن من المهالك، وتؤمنه من المخاوف، وتخلصه من الآفات، وأن توصل إليه المبرات ما استطعت؛ ولا يكمل عبد من الإيمان حتى يجب لأخيه ما يجب لنفسه. وإني أتوسل إلى الله أن يلحق أمير المؤمنين بنزاهته وشفقته ورحمته وعدله وإيمانه ورعايته، ما في يديه من ودائع الله التي هي أرواح المسلمين وأعراضهم. وصمته: الاستمرار على حرمان هذه المريضة من علاجها الممكن؛ فإنها إنما تدخل تحت سطوة السلطنة العظمى وقوة الخلافة الكبرى، في بلدة صغيرة من مماليك الدولة العثمانية
(ولو شاهد أمير المؤمنين هذه المريضة المسكينة وهي سائلتي: بماذا أجاب الخليفة؟ أيرضى أمير المؤمنين أن أقول لها: قد أغضى عن الإجابة!؟ وهو تصريح بهتك الحجاب أو الموت - كبرت كلمة تخرج من الأفواه! - فإذا قالت: فأين الدين والإيمان والحديث(249/38)
والقرآن والعدل والإحسان؟ فلا مساغ يا أمير المؤمنين للجواب!
(يا خليفة رسول الله: هذه فرد من أفراد رعيتكم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وكل راع مسؤول عن رعيته) فألتمس من أعتاب مولانا المعظم أن يصدر أمره العالي بما يوافق شفقته وإرادته وأن يصفح عن عبده. وإني لممتثل لجميع أوامر مولانا أمير المؤمنين، أعدها فرضاً واجباً، فإن الحياة والله لا تصفو لعبد سدتكم وفي التصور أن ولي نعمته مغض عنه
(وأنا واقف على العبد أتلقى أوامركم بفريضة الامتثال، وإن لم يصادف تضرعي ودعائي قبولاً فإني أخشى أن هذه المريضة وهي في الاحتضار، تمد يدها بكتاب الله قائلة: بيني وبين أمير المؤمنين هذا الكتاب العزيز في الدنيا والآخرة. والأمر لله من قبل ومن بعد. . .!)
(البقية في العدد القادم)
إبراهيم المويلحي(249/39)
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
عبادة الذات
موريس
1862 - 1923
للأستاذ خليل هنداوي
يقول (بورجيه) في مقدمته لرواية (التلميذ) إن الإنسان أصبح اليوم (عدمياً لطيفاً) وقد استحال آلة فساد ناعمة الملمس، ويوشك أن يكون كل منا هذا الإنسان. وهذه الآلة قد خلقها شك (رينان)، ولكن شك (رينان) لم يكن شكاً لئيماً ولا متشائماً. وإنما كان شك (ستندال) و (نيتشه) هو الشك الأكثر طغياناً. على أن تأثير (ستندال) لم يبلغ أشده إلا في مطلع عام 1880، وتين وبورجيه ومن يتبعهما من الأنصار يمجدون فيه قدرته على التحليل النفسي، وينذهلون بهذه العاطفة الذاتية التي تهيمن على تفكيره. (فالعاقل عنده ليس إلا من يعمل كمثل عمله، يفتش في هذه الحياة عن لذة عقلية صافية) ولم يعط ستندال مذهبه تحليلاً فلسفياً ولذلك لبث تأثيره ضيقاً، بعكس نيتشه الذي أعطى مذهبه قوة وتأثيراً. فنيتشة يتسامى بقوة ويهاجم شريعة العبيد التي أخذت بعد انتشار المسيحية تستعبد الناس. فالمحبة والمساواة والأخوة كلمات جبن وأوهام باطلة تجرب باطلاً أن تحتال على أنظمة الحياة وتتلاعب بها. ونظام مذهبه المقاتلة وسحق الضعيف وظفر القوي الذي يستحيل بعد خروجه من المعركة إنساناً كاملاً وسيداً. يقول زرادشت: (لقد مات الإله - الإله المسيحي. إنني أعلمكم الإنسان الكامل، الإنسان هو شيء يجب أن يفوق نفسه) وقد ذاع هذا الإنسان الكامل في الطبقات المثقفة خلال سنة 1900 وفي هذا التاريخ نقلت آثاره وترجمت. وموريس باريس - في رواياته الأولى - حاول أن يكسو هذه الذاتية الخارقة رداء فنياً، فكتب عدة روايات وأعطاها عنوان (مقالات في عبادة الذات) يتخللها تحليل بعيد يقذف بالنفس إلى عالم العزلة (وإنما يجب أن تحس أكثر ما يمكن عندما تحلل أكثر ما يمكن) قد(249/40)
يكون هذا، ولكن ينبغي عبادته، لأنه هو الذي يمنحنا معرفة أنفسنا معرفة صحيحة، ويجعلنا نعرف (ذاتاً) أفتى معنى واكثر تنوعاً وأكثر تأثيراً من ذات منظمة مأمورة. ألا فلنقدس اختلاط قوى النفس، فهذه هي اللعبة، أو معرفة هذه اللعبة التي هي ملح الحياة، أو على الأقل التمرين البسيط للعقل الذي ليس بخداع.
وفي هذه كله شك؛ وإن ذات (باريس) كما يقول أناطول فرانس مزيج من اضطراب وحيرة واختلاط. وإن من العمل الظافر العمل على احتوائها. إن تهكماً دائماً يحيط بها ويلتهمها، على أن في عبادة الذات شيئاً آخر. . .
وقد يخاطب (باريس) فئة مثقفة تائهة في الثقافة الإنسانية، ويجد أن تعليل (الذات) المصنوعة في العزلة البعيدة عن الكتب إنما هو راحته في هذا التيه: (إن قوة العقل والإحساس تمت وحدها بهؤلاء الذين يعيشون باتصال صادق مع أنفسهم، وهذا هو مذهب الشعراء والمتصوفين. وهذا وحده يستطيع أن يلقينا خارج دائرة الشك، ويقودنا إلى مثل أعلى. إننا بالانطلاق من هذه الذات الحالية نصبح رجالاً سائمين هذا المجتمع. . . رجالاً لما يتكونوا!) وقد تكون هذه الذات شديدة الاختلاف عن الإنسان الكامل (لنيتشه) الذي لا نظام له إلا الكمال المتكبر الأناني! على أن امتحان الذات ينبغي أن يرافقه شيء من الامتحان والبلاء. وذواتنا محدودة بأشياء وراثية. ومعرفة الذات تنتهي دائماً بأن تخلق لنفسها فضيلة ومراجعات جديدة. . . وقد جهد (باريس) عندما تطور أن تكون هذه الفضيلة خلل آثاره الشكوكية، وفي هذه الآثار ما يرفع من الشك إلى الإيمان ومن التعليل إلى التأليف؛ والتعليل ليس في كل صورة مبعثاً للكسل؛ هو ينقصه جهد يقاد إما بمنطق مدرسي جاف، أو بمنطق أسمى لشجرة تتحرى النور وتذهب إلى غايتها الباطنية (إنني لن أذهب باستقامة إلى الحقيقة كالسهم يريد هدفه. ففي أكثر الأحيان يخطئ السهم المرمي. ولكن تعليل الذات بأناة ويقين يقود إلى هذه النتيجة حيث - الذات - مهما كانت مختلفة ودقيقة فهي ليست بمختلفة ولا بدقيقة إلا لأنها ليست إلا مظهراً. (الذات - خاضعة للتعليل - بقليل من الجد تفنى ولا يتبقى إلا المجتمع الذي هي منه نتيجة فانية. وبرغم الهوان والتصاغر، فإن فكرتي التي تعاظمت من قبل لكونها حرة تصل إلى أن تعلن وتثبت اتصالها بهذه الأرض وبهؤلاء الموتى الذين - قبيل ولادتي - قد سيطروا عليها في أشكالها(249/41)
وألوانها
المجتمع خصم للفرد
الفلاسفة والمؤرخون والنقاد
إن خير المؤلفين - في الفئة الواقعية - الناشدة للحقيقة لم يكونوا ذوي نزعة فردية. ولم تقدهم دراساتهم إلى نتائج كنتائج نيتشه، فالمجتمعات عندهم لا يقودها إلى الأمام رؤساء ولا رجال عبقرية؛ ولكن المجتمعات تصنع نفسها بنفسها وتذود عن نفسها بنفسها، لا بالعقل وحده لأنه قد يكون خاطئاً، ولا بالإرادة وقد تكون عمياء، ولكن بغريزة حية توفق الحياة الاجتماعية بوسائل الحياة وهي تنشأ من التقاليد، وهذه تستطيع بل ينبغي أن تتطور وأن تتحور! ولكن لا يمكن حذفها ولا قلبها دفعة واحدة كما أنه لا يمكن تبديل مناخ ولا صفة أرض ولا أخلاق ذرية ما. وإنما يجب أن نفهم هذه التقاليد عندما نرغب أن نفهم حياة شعب ما.
وهذه خلاصة آراء المؤرخين في ذلك العصر، ولا سيما (تين) الذي حاول أن يطبق هذه الآراء في كتابه (أصل فرنسا الحديثة) ففرنسا الحديثة ينبغي أن تكون وليدة فرنسا الغابرة، وهذه كانت بائسة ذليلة، ولكن يجب إيجاد علاج لها، وهذا العلاج إنما يستمد من تقاليدها وعاداتها لا من أفكار مجردة. إن فلاسفة القرن الثامن عشر قد أوجدوا (الخير لذاته) لكل الناس في أي قطر من الأقطار فلم يفض قولهم هذا إلا إلى نظم خيالية، فالذاهب المجردة لم تكن إلا كلمات عاجزة، إنها لم تولد الثورة ولكنها ولدت مملكة الذعر والرعب الأعمى، وفلاسفة القرن الثامن عشر وزملاؤهم الثائرون لم يحسنوا معرفة نظام الحياة الاجتماعية وهو المثابرة من أجل البقاء!
هنالك فلاسفة قد أخطئوا في تفكيرهم في المجتمعات على نسق تفكيرهم في العلوم المنطقية، إذ في الحقيقة ليس هنالك أفراد للعالم النفساني والروائي، ولا يغني فيهم أن نتكلم عن أثر البيئة فيهم، لأنهم ليسوا إلا جزءاً من البيئة، أو نقطة من مذهب هو جزء من القوات المؤثرة لا يمكن حله إلا بحل المذهب كله
يعلن (جابريال تاور) في كتابه (شرائع التقليد) و (الرأي والجماعات) بأن منط ق(249/42)
الجماعات لا يلتقي مع منطق الفلاسفة. فالناس لا يفكرون ولكنهم يقلدون؛ وهم لا يتحققون ولكن يتبع بعضهم بعضاً؛ وهم يتشابهون
فالعالم (البيولوجي) لا يدرس حركة القلب كما يدرس الرياضي حركة كتلة ثابتة على حالة واحدة. كذلك الحوادث الاجتماعية لها خصائص خاصة، وطبيعتها تختلف بالعمق عن حوادث الحياة الفردية المدروسة عند علماء النفس إذ ليست كلها مجموعة وحدات، فالمجتمع باستطاعته أن يحلل الفرد، ولكن الفرد لا يحلل المجتمع
(يتبع)
خليل هنداوي
-(249/43)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 7 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وعادت السياسة تتطلب منه جهداً غير يسير؛ فهو اليوم يتحفز لأن يخطو خطوة جديدة وله من امرأته حافز ومن طموحه حافز. . . تطلع لنكولن إلى مقعد في ذلك المؤتمر الذي كانت تمثل فيه الولايات الأمريكية جميعاً والذي كان يعقد لينظر في الشؤون العامة لتلك الولايات ومقره وشنجطون. وما كان ابراهام ليستبعد الشقة أو ليستعظم الفكرة، وقد قضى ثمانية أعوام في مجلس المقاطعة ولكن رجال حزبه وجهوا أنظارهم إلى رجل غيره من أفراد ذلك الحزب؛ وتقدم ذلك الرجل ليأخذ الطريق على ابراهام ولكنه لم يظفر بالترشيح، ورشح رجل غيره وانتخب؛ واضطر هو أن ينتظر عامين حتى جاء دوره فانتخب؛ وظل بذلك لنكولن أربعة أعوام يتطلع إلى مقعد في المؤتمر؛ ولقد آلمه وكدره أن يأخذ الطريق عليه رجلان من حزبه يراهما دونه؛ ولكن روحه الوثابة ما كانت لتعرف الملل فيما تتجه إليه من الأمور
سنحت الفرصة بعد تلك الأعوام الأربعة ولكنها أوشكت أن تفلت منه هذه المرة أيضاً لولا ما كان من مهارة زوجه ولباقتها في التأثير على رجال الحزب حتى ظفر آخر الأمر بالترشيح. ولما تم له ذلك راح يخوض المعركة وأمله في الفوز عظيم. . .
وعجب الناس أن رأوا لنكولن يومئذ يعمل على كسب التأييد بوسائل منظمة وهو الذي اعتاد من قبل أن يصدر في أعماله عما تمليه عليه المواقف في غير تدبير أو ترتيب. . . عجب الناس أن رأوه يرسم الخطط ويسدد السهام فلا تخطئ مرماها، وكأنه في هذه(249/44)
المعركة الانتخابية قائد في معركة حربية يدبر الهجوم ويعد الدفاع وهو بصير بالموقف خبير بما يدور حوله، يميز باللمحة الخاطفة ما يأخذ مما يدع، ويتبين - مهما اشتد من حوله ضجيج الموقف - الطريق المؤدية إلى النصر.
كتب إلى جميع أصدقائه في نواحي الدائرة يطلب إليهم العون ويسألهم أن يدلوه على مؤيديه ليكتب إليهم، وعلى مخالفيه ليبتغي إلى إقناعهم الوسيلة؛ وراح يتحدث في الأندية، ويخطب في الجماعات، لا يدع فرصة ولا يتخلف عن موعد، وله من نباهة الذكر وطيب السمعة ومن محبة الناس لشخصه ما ينزله على الرحب أينما حل. . . وهل كان الناس يعرفون في خلقه غميزة؟ هل كان الناس يعرفون عن (أيب) الأمين إلا ما يحببه إلى قلوبهم؟ هل كان يجهل خاصة الناس وعامتهم المحامي الصادق السر؟ وهل كان ينسى العامة ذلك الرجل الطيب القلب الذي يجلس بينهم كأنه أحدهم، فيشاركهم أفراحهم وأتراحهم ويبادلهم ودا بود وحبًا بحب، ويبثهم من نصائحه ما ينير لهم سبيلهم، ويسمعهم من طريف أحاديثه وروائع أقاصيصه ما يبهجهم ويسري عن نفوسهم. . .؟
لم ينسه الناس ولم يجهلوه، ولكن للسياسة أحاكمها ولها غرائبها، وكم تأتي رياحها الهوج على ما بين الناس من مودة، وكم تترك ألاعيبها وأضاليلها الناس في عماية وغواية! وكم تصدهم الشهوات في معركتها عن الحق وهم يعلمون! أجل كم يظهر في السياسة الباطل على الحق، وكم يدلس الرأي بالهوى، وكم يضيع ما تواضع عليه الناس من أصول الفضائل فيما تزين لهم من أوهام وأحلام، وما توحي إليهم من غرور العيش ومطامع الحياة؛ وكم يذهب ما درج عليه العرف وما نشأ عليه الذوق وما نمت عليه المشاعر هباءً فيما تأنى به السياسة من بهتان!
هذا لنكولن راح يطعنه منافسه في عقيدته ويلجأ إلى الدين فيتخذ منه سلاحاً فيكيد له به كيداً أليماً؛ وهو لا يرعوى عن غيه بوازع من خلق أو بدافع من حياء! أجل إن من كان له من حسن سيرته ونقاء طويته وصدق إخلاصه درع يرد عنه السهام مهما كانت صنوفها، خليق ألا يأبه لما يتقول عليه المبطلون؛ بل إني لأعتقد أنهم يحسنون إليه من حيث انهم يريدون إساءته؛ إذ هم يشعرون الناس أنهم يتصيدون له العيوب حيث يرونه خلواً من العيوب؛ ويلفقون له النقائص إذ يغيظهم بكماله ويسمو عليهم بفضائله، ويباعد بينه وبينهم(249/45)
بأن يعرض عما يأفكون. . . بيد أن للإشاعة دويها، ولها مهما بطلت مجراها وإن تاهت آخر الأمر عن مرساها؛ وذلك هو ما غاظ ابراهام وآلمه وتركه في ضيق مما يفعل منافسه
وكان ذلك المنافس من الحزب الديموقراطي وهو رجل من رجال الوعظ الديني يدعى كارتريت كان مما عرف عنه تدفق نشاطه وتوثب حيويته وذلاقة لسانه فيما ينافح عنه مما يزجيه من الآراء؛ وهو اليوم يستعدي على ابراهام مواهبه ويسلط عليه لسانه في غير إعياء أو سأم؛ يتهمه بالزيغ والإلحاد مشيراً إلى بعض ما كتبه لنكولن من قبل من رسائل نقدية حمل بها على بعض رجال الدين أن رآهم ينقمون على الناس فجورهم وينكرون عليهم فواحشهم دون أن يقوموا بنصحهم أو يعملوا على خلاصهم مما هم فيه
ذهب لنكولن مرة إلى حيث أنضم إلى جماعة يستمعون إلى منافسه في حديث ديني! وبعد هنيهة قال منافسه: (ليقف كل من يريد أن يحيا حياة جديدة وأن يسلم إلى الله قلبه وأن يذهب إلى الجنة). . . ثم أردف قائلاً: (ليقف كل من لا يريدون أن يذهبوا إلى الجحيم). . . ووقف الناس جميعاً ما عدا لنكولن فاتجه الرجل إليه وقال: (هل لي أن أسألك يا مستر لنكولن إلى أين أنت ذاهب؟) ونهض لنكولن فقال: (أتيت هنا لكي أستمع في احترام، ولم أكن اعلم أن الأخ كارترايت سيعمل على إفرادي هكذا؛ إني أومن أنه يجب أن تطرق المسائل الدينية بما هي جديرة به من التوقير. يسألني الأخ كارترايت في غير التواء إلى أين أنا ذاهب، وإني أجيبه في غير التواء أيضاً أنى ذاهب إلى المؤتمر)
وجلس لنكولن بين ضحكات الإعجاب تنبعث من جوانب المكان، وقد كسب عدداً جديداً من المؤيدين
وعلم لنكولن أن خصومه يرمونه فيما يرمونه به من الأباطيل بأنه أرستقراطي لا يحفل رجاء العامة ولا يستجيب لهم دعاء؛ وأن هؤلاء الخصوم يتلمسون البرهان على دعواهم في زواجه من ماري، فدفع تلك التهم عن نفسه بإشارته إلى حياته الأولى حيث كان (غريباً لم يلق حظاً من التعليم، معدماً يعمل في قارب نظير أجر لا يتجاوز عشرة دولارات كل شهر)
وتم لابراهام النصر وكان يومئذ في السابعة والثلاثين؛ ورأى الناس وهم يعجبون أنه حصل على عدد من الأصوات لم يتسن لرجل قبله من رجال حزبه أن يظفر بمثله؛ وكان(249/46)
الحزب قد أعطاه مائتي دولار لينفق منها فيما يتطلب الانتخاب من أوجه الإنفاق ولكنه يرد إليهم المبلغ بعد الانتخاب ولم ينقص سوى ثلاثة أرباع الدولار، قائلاً إنه لم تكن به حاجة إلى النقود حيث أنه كان يتجول على جواده وأنه كان ينزل ضيفاً على أصدقائه. . .
وفرحت ماري بالنصر وحق لها أن تفرح ولها في الجهاد نصيب، ولها في المستقبل آمال. أجل أحست ماري أنها تخطو خطوة واسعة نحو هدفها، وهل كان ذلك الهدف إلا كرسي الرياسة يتربع عليه زوجها؟ إنها ما تفتأ تستحثه وتشده أزره وتحذر أن ينصرف عن وجهته؛ عرض عليه قبل الانتخاب أن يشغل وظيفة حاكم مقاطعة النيوس، ولكنها صرفته عنها ليستقيم على الطريق ويدلف إلى الغاية
صار لأبراهام اليوم بين رجال حزبه شأن غير شأنه بالأمس وأصبح له في السياسة مكانته وخطره. على أن مهنته لا زالت هي المحاماة وسيظل محامياً حتى تنتهي إليه الزعامة، وتلقي إليه قضية البلاد الكبرى وتتوافى له أسباب تلك الرسالة التي مؤديها في غد إلى أبناء وطنه جميعاً
وكانت مسألة العبيد قبيل انتخابه قد عادت تظهر في وضع جديد؛ ذلك إحدى الولايات وهي تكساس كانت قد انسلخت عن المكسيك أو كادت، فلما أرادت أن تنضم إلى الولايات المتحدة أعلنت المكسيك حقها عليها، ولكنها لم تعبأ بذلك الحق وجعلت الأمر للسيف؛ وخاضت بذلك المكسيك غمار حرب ضد تكساس وضد الولايات المتحدة التي كانت تعاونها من قبل على الاستقلال لتضمها إليها. وكان أهل الولايات الجنوبية يحبذون ضم تكساس إلى الاتحاد لكي يطبعوها بطابعهم ويضيفوها إلى الولايات التي يسمح فيها بمبدأ اقتناء العبيد؛ ولكن أهل الولايات الشمالية كانوا يتنكرون لذلك ويرغبون عن الحرب؛ وكان لنكولن ورجال حزبه ضد هذه الحرب وهم في ذلك يشايعون كلي زعيم الهوجز والمرشح يومئذ لرياسة الولايات؛ ولقد تغلب الحزب الديموقراطي، ففشل كلي في الانتخابات بسبب آرائه عن تلك الحرب
ولقد كان لنكولن قبيل انتخابه للمؤتمر ينقم على تلك الحرب ويدعو إلى انتخاب كلي للرياسة؛ لا يفتأ يلقي الخطب وينشر الدعوة بكل ما يملك من الوسائل. ولم تكن نقمته على الحرب تشيعاً منه لزعيم الهوجز فحسب، بل لقد كان يكرهها لأنها تمكن لأهل الولايات(249/47)
الجنوبية في مسألة العبيد وهو يمقت تلك المسألة من أعماق قلبه؛ وإن نفسه لتنفر منها منذ ذهب إلى أورليانز ورأى مالا ينساه من منظر هؤلاء البشر يساقون في الأغلال إلى حيث يباعون في الأسواق كما تباع الدواب
وما أصل تلك المشكلة التي تظهر في ميدان السياسة حيناً بعد حين؟
بدأت مشكلة العبيد من عهد بعيد ولقد كانت تلك المشكلة بعد استقلال الولايات الأمريكية عن إنجلترا من أشد المشاكل خطراً حتى لقد كان الناس يرونها عقبة تحول دون بقاء الاتحاد. جلب التجار منذ بضعة قرون من أفريقيا طوائف من الزنوج باعوها في أمريكا، ورأى سكان الولايات - وجلهم من الأوربيين المهاجرين إليها من أوطانهم - في اقتناء هؤلاء العبيد ما يهون عليهم الكدح في طلب العيش ونظروا إليهم نظرتهم إلى الدواب، فأخذوا يشترونهم ويسوقونهم إلى الأدغال والإحراج يشقونها تحت إمرتهم. ولما كان أهل الولايات الجنوبية أهل زراعة فقد كان اقتناء العبيد عندهم أمراً أساسياً يقوم على الضرورة إذ لا تستقيم حياتهم إلا به؛ ومن ثم لم يكونوا ينظرون إلى مسألة العبيد تلك النظرة الإنسانية التي أخذ ينظرها بعض الناس بعد الاستقلال، فمنطقهم يقوم على المادة ويستند إلى الوقائع، ولا عبرة بعد ذلك بآراء المشفقين العاطفين. . .
ولما أعلنت حقوق الإنسان في مستهل الثورة، كان في مقدمتها أن الناس جميعاً أحرار ومتساوون في الحقوق وليس لأحد أن يسلبهم حقوقهم. وقد أخذ أهل الولايات الشمالية بهذه المبادئ فيما يتعلق بالعبيد فأعتقوهم، ولم يكن السود عند أهل الشمال في الجملة سوى خدم في المنازل، وذلك لأن أهل الشمال كانوا أهل صناعة أكثر منهم أهل زراعة، فلم يكونوا كأهل الجنوب يرون اقتناء العبيد أمراً جوهرياً بالنسبة إلى حياتهم، لا تتطلب زراعة القمح عندهم جهداً عسيراً ومن ثم فلا يتطلب استخدام العبيد؛ ولكن القطن في الجنوب يستلزم اقتناء هؤلاء السود الأقوياء الذين يتحملون الجهد ويقوون على الحر ويرضون بالقليل
وفي غداة الاستقلال هدد أهل الجنوب أهل الشمال أنهم ينسحبون من الاتحاد إلا أن يترك لهم حق اقتناء العبيد قائلين إن السود عندهم ليسوا مجرد رجال بل هم بعض أدواتهم، وخيل للناس أن الاتحاد منفصمة عراه لا محالة؛ وأشفق الزعماء أن يضيع الاستقلال الذي اشتروه بدمائهم وأموالهم؛ لذلك لم يروا بدًا أن يتهاونوا بعض الشيء وأن ينصوا في(249/48)
القانون أنه لا يسمح بعد عشرين عاماً باستجلاب طوائف من السود من أفريقيا؛ ومعنى ذلك أنهم يسلمون ولو إلى حين لأهل الجنوب بامتلاك العبيد، ويسلمون بذلك في صورة شرعية!
وتزايد إقبال الولايات الجنوبية على اقتناء العبيد حينما ازدادت أوروبا إقبالاً على طلب القطن، وقد أخذت الآلات تعمل عمل الأيدي وعلى الأخص في حلج القطن؛ وكان كلما ازداد طلب القطن ازداد حشد السود لزراعته وجمعه فكانوا يساقون إلى الحقول جماعات تحت إمرة رئيس من البيض، وإنهم لينظرون في فزع إلى ما في يده من سوط طالما ألهب جلودهم فمزقها وأدماها؛ فإذا غابت الشمس جيء بهم كالقطيع فأدخلوا في حظيرة تأويهم جميعاً حتى الصباح. . .
ولم يكن أحد من السادة أهل الجنوب ليسأل عما يفعل بعبيده؛ ولو أنه ساقهم إلى الموت كما يسوق كلابه لما أحس بينه وبين نفسه أنه يأتي أمراً منكراً؛ وكان يمن عليهم هؤلاء السادة أنهم يطعمونهم ويسقونهم كأنما هم يريدونهم أن يعيشوا بلا طعام ولا شراب! ولا تسل عما كانوا يلاقونه من صنوف العذاب إذا بدا لهم أن يظهروا ما ينم على استيائهم أو حتى على مجرد تألمهم لما يصب عليهم من وصب؛ بل ما كانوا يعانونه من بلاء إذا انتشرت الحمى وفشت فيهم وهم جموع متقاربون. . .
وكانوا في الأسواق يحشرون كما تحشر الخيل عارية أجسادهم فيباعون، وكثيراً ما كان ينتزع المرء من أخيه وأمه وأبيه، وكثيراً ما كانت ترسل الفتاة إلى مزرعة وأختها إلى مزرعة وأهلوها إلى حيث لا تعلم لهم مستقراً ولا مستودعاً. ولقد تسنى لابراهام أن يرى هاتيك الأسواق في رحلته إلى نيو أورليانز فاستقر في نفسه الألم؛ وكأنه رأى لساعته أن رسالته في غد تحرير هؤلاء المساكين. وكثير من عظماء النفوس تقع في نفوسهم الفكرة في سرعة كلمحة البرق، وتظل تلك الفكرة وإن لم يشعروا بها في أعماق وجدانهم كالبذرة في أعماق التربة، وما تزال تنمو تلك الفكرة وتنمو حتى تملك عليهم آخر الأمر مشاعرهم فتحركهم وتوجههم حتى لا يكون لهم لغد من أمل في الحياة سوى إبرازها ثم الدفاع عنها، ثم التضحية من أجلها ثم الموت في سبيلها إن لزم الأمر. . .
ذلك ما كان من أمر لنكولن فيما أعتقد، وإن لم يشعر هو في صدر شبابه أنه عامل في غده(249/49)
للقضاء على العبودية؛ ذلك ما كان من أمره وإن لم يلق باله إلى ذلك الأمر. إن نفسه لتجيش بكراهة هذا النظام، وإن إنسانيته لتنفر بطبيعتها من تلك الوحشية، ثم إن قلبه الكبير ليتمنى أن يخلص هؤلاء التعساء مما هم فيه من عذاب ومذلة، وما ذلك لعمرك إن لم يكن هو الإرهاص؟
ولم يكن للعبيد حق حتى في الهجرة، وكان إذا أبعد أحدهم إلى إحدى الولايات الشمالية التي أطلقت العبيد أعيد إذا عرف إلى سيده ومالكه بأمر القانون فلا ينفعه الفرار إلا أن يفر إلى الموت. . .
ولقد أدى ما كان عليه العبيد إلى ظهور دعوة في الشمال إلى تحريرهم ولكن أصوات الداعين كانت خافتة، كما كان عددهم ضئيلا، إذ كانوا يحسون ما تنطوي عليه دعوتهم من جرأة، وكانوا لا يأمنون أن يأتيهم الموت من كل مكان، فأهل الشمال مع أنهم لم يتمسكوا بالعبيد يخشون أن تؤدي الدعوة إلى تحريرهم إلى القضاء على الاتحاد، وأهل الجنوب كانوا كما علمنا يرون حياتهم في بقاء العبيد. لذلك كان الداعون إلى التحرير عرضة لسخط الجانبين. ولقد حدث أن أصدر أحد الرجال من ذوي النفوس الكبيرة صحيفة تدعى (المحرر) كان يندد فيها بما يلاقي العبيد ويدعو إلى تحريرهم، أيام كان لنكولن في الحادية والعشرين من عمره، فلما اشتدت حملاته هاجمه الناس وحطموا دار الصحيفة وألقوا بأدوات الطباعة في مجرى مائي، ولفوا حبلا حول وسطه وسحبوه في الطرق تنكيلا به وزجراً لغيره
لذلك لم يكن عجباً أن تقدم الشكاوى إلى مجالس المقاطعات الشمالية يومئذ ضد حركة التحرير والداعين إليها خوفاً على الوحدة أن تتصدع. ولقد رأينا لنكولن يقدم احتجاجاً إلى مجلس مقاطعة الينوس هو وصديق له يدعى ستون وفيه يخطو خطوة جريئة فيعلن رأيه في صراحة قائلا إن مسألة العبيد لا تقوم على شيء من العدالة، ولكنه يشير إلى مراعاة القانون في النظر إلى تلك المسألة خوفاً على كيان الاتحاد
وهاهو ذا اليوم يختار عضواً للمؤتمر وهو في السابعة والثلاثين وقد عادت المعضلة تظهر بسبب ما حدث في تكساس ومحاولة ضمها إلى الولايات
(يتبع)(249/50)
الخفيف(249/51)
الفصول
للأستاذ عبد الرحمن شكري
طيري أَمَانِيَّ النفوس وغَرِّدي ... فلقد دعاك الروض خير دعائهِ
هذى عيون للطبيعة قد رنت ... في الزهر من أكمامه وخِباَئهِ
بَسَطَ الربيعُ على الحياة رِدَاَءه ... يا ليتها أبداً تُرَى بردائه
بل ليته بُرْدٌ نَخيطُ على هوى ... هذى النفوس لكي تُرى بروائه
والشي لولا أن يَرُوَع بفقده ... ما شاق عند قدومه بلقائه
لا كالشتاء تزايلت أوراقه ... كتزايل المهجور عن قرنائه
تتناثر الأزهار عن أفنانه ... كتناثر اللذات من أهوائه
وتخال إذ دَلَفَ الشتاء كأنما ... ساق السنا بِدَبُورِه ورُخائه
هَرَبُ الضياء من السحاب وريحه ... هَرَب الكَعاَب من الهوى وقضائه
فر الخريف من الشتاء وخلفه ... عادٍ يريد لحاقه بجرائه
مثل المريض يفر من عادى الردى ... هيهات ذا والدهر من أعدائه
راع الشتاءُ بقُرِّه فكأنما ... أنفاس ثغر الموت قُرّ هوائه
والريح مثل فم الشتاء وصوتها ... شكوى العجوز يخاف من أبنائه
نَقِمَ العُقُوقَ فقام يشكو أمره ... للناس ينشد آسياً لبكائه
والأرض تنظر في فروج أديمها ... نظر الفقير إلى ثقوب ردائه
من بعد ما نفدت نفائس كنزه ... سَرَفاً وشح العيش بعد سخائه
وكأنما دجن الشتاء مُقَطِّباً ... ذكرى العجوز لزهوه وفَتاَئِهِ
وكأنما دوح الخمائل في الدجا ... نشوى شياطين انتشت بسقائه
شربت من الإظلام حتى أكثبت ... تبغي النهوض كَمُكْثِبٍ من دائه
في كل غصن في الظلام نواظر ... كنواظر للغيب خلف كِفاَئه
وكأنما دوح الظلام ثواكل ... لبست حداد الثُكلِ فعل نسائه
تحنو عليك غصونها فكأنما ... تبغي سرار السمع من إصغائه
والدوح يهفو كالمؤَرَّقِ في الكرى ... يلوي على الأفنان فضل كسائه(249/52)
تتردد الأرواح في أفنانه ... كتنفس الرعديد في لأوائه
وكأن في إطراقها وسكونها ... فِكَرُ المصيخ لروحه وندائه
يا ليت بعض العمر تُقْطَعُ بيْدُهُ ... وَثْباً ويُمْهِلُ في سنِّى رخائه
كالسِّفْرِ تقرأ بَعْضَهُ مُتَرَيِّثاً ... جذلاً وتطوي بعضه لهرائه
أوليت حادي الأرض يعكس سيرها ... عن بعض دورتها بوقع حدائه
أوليت هذا الدهر عقرب ساعة ... يَلْوِي به عن نحسه وشقائه
آمال أمس كزهرة قد صَوَّحَتْ ... عود الربيع مُجَدِّدٌ لرجائه
يا نفس لا تأْسَيْ لعمر قد مضى ... بربيعه زمن أتى بشتائه
تَتَشَوَّفين إلى قديم عهوده ... نَظَرَ الغريق إلى السُّهَى وسمائه
بُشْرَاكِ خلف الموت لو تردينه ... نبت الربيع يروق في غلوائه
كالطير بعد الصيف تترك عشها ... نحو الجنوب ترود أرض ثوائه
عطف النسيم على الأزهر هامساً ... أَنَّ الربيع سعى إلى ندمائه
أَنَّ الربيع أخا الصبيحة مُقْبلٌ ... إقبال وجه الحِبِّ في لألائه
كالظئر بَشَّرَت النَّؤُومَ بأَنْ بدا ... فجرٌ لِعِبدٍ كان قيد رجائه
والقلب مثل الطير في وَضَح الضُّحَى ... يتلو على الإصباح آي غنائه
وكأنما أُمُّ الخلائق دوحة ... من قبل آدم فهي من قربائه
تشدو كشدو الأم ناح وليدها ... تنحو عليه لصونه ووقائه
والريح طير شاد في أفنانها ... وكرا كأن الزهر من أبنائه
وكأنها أجنحة الملائك نسمها ... نسم يطب برفقه وصفائه
وكأن ينبوع الحياة غديرها ... خُلْدُ الصِّباَ في جرعة من مائه
والقلب مثل النهر باشَرَ ماَءهُ ... جسم الحبيب تراه في سودائه
أَهْوَاك يا روح الربيع فَهَيِّئيِ ... جسماً كجسم الغيد في لألائه
ثم اخطري بين الخمائل في الضحى ... رقص المدِلِّ بحسنه وبهائه
فلعل في قبلات ثغرك برء ما ... أَعْيا الأنام بحُكْمهِ وقضائه
أرد الخلود بقبلة وبضمة ... تروى ظماء الخلد من لمائه(249/53)
والزهر يبعث بالطيور إلى الضحى ... تُفْضي إلى الآفاق من أنبائه
الأَرض أم للخلائق كلهم ... والشمس بَعلٌ شاقها بفَتاَئه
فالناس والأَطيار في وَضَح الضحى ... والزهر في الأَكمام من أبنائه
النار والأَمواه من آبائنا ... والنار والأَمواه من آبائه
يهنيك يا دوح الخميلة بعده ... نسيان نيسان وطيب هوائه
تنسى الربيع كأَنه ما زفه ... نغم البلابل في مثير حِدَائه
لا تمنع المشتاةُ عَوْدَ زهورِه ... وأَريج نسمته وحَلْىِ كسائه
يا ليت طيب العمر يُنْسى وِرْدُهُ ... فأبيتُ مثلك لا أحن لمائه
لكنَّ طيب العمر ليس بعائد ... لأخي صَدًى يُظْميه صَوْبُ بكائه
وترى كحالات النفوس تغيرا ... في روضه وسمائه ونِهائه
فكأنما للكون روح خُلْقُه ... يبدو لنا في غيمه وضيائه
تتغير الأَشياء فوق وجوهه ... لتغير الأشجان في حَوْباَئه
من لي بأجنحة الزمان أهيضها ... كي لا يطير بصفوه ورخائه
أَوْليته الغَرِدُ الحبيسُ أُقيمُهُ ... كيما أُرَاح لشدوه وغنائه
كي يذكر العهد الأَنيق وأوجهاً ... كانت تُطِلُّ على وذيلة مائه
خلع الجمال قناعة وسعى إلى ... عُشَّاقِهِ وعُفاَتِهِ وظِماَئِهِ
والمرء لولاً صيفه وربيعه ... ما ذاق حُلْمَ السعد في لأوائه
والروض باب للجِناَنِ وثغرة ... منها ترى الفردوس خلف فنائه
وكأَنما صبغ الأزاهرَ صابغٌ ... فتكاد تأخذ منه إثر طلائه
والضوءُ غُدْرَانٌ ترقرق تْبرُهاَ ... وأراق منها الأَفْقُ فَضْلَ إنائه
واللونُ شِعرٌ للطبيعة وقعه ... في العين وقع اللحن في سودائه
شهد الشتاء بأن أُفْقَ سمائه ... أدنى إلينا من قَصيِّ فضائه
والنفس تعظم في الربيع كأنها ... في زهره ونَسِيمه وصفائه
والضوء خمر للنفوس ونشوة ... ودم الحياة يشام في أثنائه
والأرض كالحسناء قُدَّ قميصُها ... فبدت محاسن جسمها وَوَضَائِه(249/54)
فكأنما رفع الربيع حجابها ... فانجاب ستر الحسن عن حسنائه
والضوء كالحسناء بُزَّ رداؤها ... فأماط عنها العُرْيُ ستر غطائه
والقلب مثل الطير هِيضَ جناحه ... في نَزْوِهِ وحنينه وغنائه
والطير أفواه الرياض فشدوها ... أبداً يزجِّي الدَّهْرَ وَقْعُ حدائه
وكأَنما نغم الحفيف هواتف ... في القلب تدوي منه في أنحائه
والضوء من خَلَلِ كأَنه ... طير الفَرَاشِ نراه من شَجْرَائِه
وكأَنه والقلب يذكو شجوه ... شرر الغرام يطير من حوْباَئه
نَثَرَتْ ذُكاءُ على البسيطة عسجدا ... فاذخر ليوم الدجن كنز ثرائه
ولكل شيء منطق يشدو به ... والنفس تعرف كنه سحر غنائه
تتلو عليك الطير طِيْبَ ثماره ... وَأَرِيجَ روضته ورقة مائة
والحسن ظل السعادة في الورى ... إن السعادة لا تُرَى بِفِناَئِهِ
ظل الجِناَنِ على البسيطة واقع ... فاستقبل اللذاتِ من آلائه
فكأَنها كون حلمت بحسنه ... حتى نُقِلْتَ إلى ذرى خضرائه
وكأَنما زهر الخميلة إن بدا ... حُلُمُ الهوى في طيبه ووضائه
والطير أرواح الزهور وصيفها ... عهد الشاب يروق في لألائه
ضحك الزمان فذاع من ضحكاته ... صيف يعيد الحب في غلوائه
والقيظ يزفر بالهجير كأَنما ... يتنفس الولهان من بُرَحائه
فكأَنما مرح الحياة وحسنها ... لهب ترقرق في خَفيِّ دمائه
وكأَنما نغم الطيور أريجها ... يُسْقاَهُ زهر الروض في أندائه
فَيُحِيلُهُ نشرا يَضُوعُ ورونقا ... يشتار منه النحل أَرْىَ عطائه
ودت ذواتُ الحسنِ أن حُلِيَّهاَ ... كحُلِيِّهِ ورداءها كردائه
مَرَحُ الكعاب الرُّودِ في خطراتها ... كالنهر يرقص في ترقرق مائه
والريح تعبث بالغصون كأَنها ... طفل يعيث على رءوس إمائه
وترى جذور الدوح مثل أصابع ... بسط الشحيح يصون كنز ثرائه
وكأنما نغم البلابل مَطْرَةٌ ... فوق اللجين شجا مُرِنُّ إنائه(249/55)
تَنْدَى على القلب الجديبِ فينثني ... روضاً يرفُّ بزهره وأَضائِهِ
والزهر في وَضَح الصبيحة قد صحا ... صحو المفيق من الكرى وقضائه
وجلت ذُكاءُ ندى الزهور كأَنها ... أم الوليد تزيل فضل بكائه
حتى إذا أشتد الهجير حسبته ... نشوان أثمله اللظى بسقائه
وإذا الأَصيل علا السماء حسبته ... ذا لوعة حانت نوى قربائه
وحمى على قُبَلِ الظلام ثغوره ... كمعَشَّقٍ مُتَسَتِّرٍ بردائه
وتراه يرنو للنجوم كأَنها ... حُلُمٌ يُطِلُّ عليه في حَوْبائِهِ
كالطفل يُبْصرُ في الوذيلة وجهه ... فيخال ذاك الوجه من قرنائه
تحكى النجومُ الزُّهْرُ في دوراتها ... رقصَ المدِلِّ بعيشه وروائه
والنجم من خَلَلِ الغصون كأَنه ... ثمرٌ تَدَلَّى من علىِّ سمائه
والحي يحيا كالذي هو ناظر ... كالأُفْقِ يُرْسَمُ في متون نهائه
والزهر يحلم بالفرادس طرفه ... حلم الغريب بأهله وفناَئه
حسب الطيور تحاملت عن قلبه ... وبدت تبوح بشجوه ورجائه
والقلب مرآة الزمان فصيفه ... في صيفه وشتاؤه كشتائه
والكون مرآة الفؤاد فقبحه ... وجماله في نحسه ورخائه
والضوء خمر للربيع فلا تَعَفْ ... جُرَعاً تُنيلُ الخلد من صهبائه
هذى الطيور لسانه وغناؤها ... مستأنف من شدوه وغنائه
والزهر في حر الهواجر نائم ... سحرته باللحظات عين ذُكائِه
والأرض تحلم بالجِناَنِ فصيفها ... حُلُمٌ يزيح القلب عن ضَرَّائِه
بَسَطَ الجمالُ على الفضاء جناحه ... فالصيف من لألائه وروائه
فكأَنه مَلَكٌ يُحَلِّقُ فوقها ... فتصيب من آلائه وعطائه
يا ليت أن المرء في أرجائها ... مُتَفَرِّقٌ في أرضه وسمائه
حتى يصير من الجمال بمنزل ... في مائه ونسيمه وهوائه
وتظل تسمو النفس في آفاقه ... كالطير حَلَّقَ في أديم قضائه
عبد الرحمن شكري(249/56)
القصص
شارلس لام يروي عن شاكسبير
2 - قصة الشتاء
بقلم الأستاذ دريني خشبة
وهرول بها إلى كوخه ولقي زوجته هاشاً، ثم دفع بالطفلة الميمونة إلى صدرها اللطيف قائلاً: (أرضعيها يا موبسا. . . أرضعي ابنة الملوك الصيد) ونظرت الراعية إلى بارديتا تارة، وإلى طفلها أخرى، وكأنما جزعت أن تشركه هذه الغريبة النازحة في لبنه، فقال الراعي وهو يوشك أن يجن: (أرضعيها يا موبسا فقد حملت إلينا كنزاً وجعلتنا سادة الرعاة!). فانبلجت إشراقة سعيدة في أسارير المرأة، وأبرزت ثديها الكبير الممتلئ باللبن فدست حلمته في فم الطفلة. . .
وخشي الراعي أن يبدو عليه الثراء المفاجئ إذا هو تصرف في شيء من جواهر الطفلة بالبيع أو بغيره، فرحل عن الإقليم كله، ونزح إلى طرف سحيق ناء في أقصى حدود بوهيميا. وهناك تلبث غير قليل ثم باع جزءاً من الكنز الملكي الكريم، وابتاع بما حصل في يديه من ألوف قطعاناً كثيرة. وما هي إلا سنون حتى درت له إخلاف الثروة، ونضر الله الأرض تحت رجليه بالرزق، فعاش عيشه راضية مخفرجة، وعلم بارديتا ونشأها بين الضأن البهم، فشبت في هواء الطبيعة الحر الطليق وفي ميدانها السندسي الواسع، لا صديق لها إلا كلبها الأمين الوفي، ولا حديث إلا الأحلام الخافتة تتردد في فم القمر الصامت، ولا أطماع إلا أن تكبر البهم وتدر ألبانها
وشبت جميلة ناصعة كتمثال المرمر قد صقلته يد فنانة صناع. . . رزينة كأنما أوحي إلى قلبها الصغير الخلي أنه مسرح لمأساة صامتة ومعبد لآلهة وسنانة تجثم فيه لحينها!
وكان لملك بوهيميا أبن مولع بالصيد، يرتاد من أجله المسايل والوديان ومشارف الجبال. فبينا هو يصيد يوماً في ذلك الصقع إذا عيناه تقعان فجأة على بارديتا، وإذا هو يقف مسبوهاً زائغ البصر يعبد الفتاة البارعة الفينانة، ويردد عينيه في عالم جسمها الزاخر بأمواه الجمال. . .(249/58)
لله لحمها الوردي. وجبينها السني، وفمها الخمري القرمزي وشعرها المغدودن الذهبي، وطرفها الساجي! ولله هذا الخمل الناعم القطيفي الذي سلبته لها الطبيعة من خوخ بوهيميا! لقد ملأت بارديتا قلب فلوريزيل وعينيه، وسرت كالحميا في دمه، فنقلته من دنيا إلى دنيا، ومن ملك إلى ملك، وركبت له قلباً غير قلبه، وإحساساً مرهفاً غير إحساسه؛ وسرت في خياله طيفاً معبوداً جعل الحياة جميلة مثلها، حبيبة لأنها فيها. . .
وهكذا عمر قلب الفتى بحب الفتاة، فبات لا يفكر إلا فيها، ولا يتوجه بأحلامه إلا إليها. . . وأخذ يكثر الصيد في هذه الجهة ويتردد على هيكل غرامه المقدس لينشق عبيره، وينعم بأرج الحب في أكنافه. . . ثم لم يطق أن يظل هذا حاله، فتنكر في ثياب شعبية، وصار يتردد على كوخ الراعي فيحدثه ويسمر إليه، وآنس فيه لطفاً وظرفاً وتأدباً، فمال إليه، واطمأن فؤاده لصحبته. . . وكان فلوريزيل فتى مشرق الشباب حلو الفم، يتحدث فتنجذب إليه الأسماع، ويصمت فتسرح في وجهه العيون
ولقي الفتاة فنمت عيناه المدنفتان بكل ما في قلبه، وجميع ما يتأجج بين أضلاعه ففتحت له قلبها الخلي. . . وهرول هو من عينيها الصافيتين الساحرتين، ومن فمها القرمزي المتمتم، إلى أبعد أغواره. . .
وذكر لها أن أسمه دوريكليز. . .!
وطال غيابه من حضرة أبيه الملك، وتعدد، وأصبح لا يهمه أن يغشى المجالس الملكية، فجمجمت نفس أبيه بأشياء فراح يدبر أن يعرف منها ما حرص أبنه أن يخفيه عليه
وأرسل عيونه في عقبيه، فعرفوا ما بينه وبين برديتا
ودعا الملك إليه صديقه كاميللو، كاميللو المخلص الذي أنقذه من السم في بيت ليونتس ملك صقلية، فكشف له عما في نفسه وذهبا متنكرين في إثر فلوريزيل إلى كوخ الراعي. . . والد برديتا فيما زعم له الزاعمون
وكان عيد الصوف الذي يجزون فيه الأغنام، وكان الكوخ وما حوله في حركة صاخبة ومرح، وكان المدعوون جالسين إلى الموائد الحافلة بالآكال والأشربات والأشواب المعممة بالحبب، وكان الولدان والعذارى والغانيات يرقصون على نغم الناي فوق العشب الأخضر؛ وكان بائع متجول يجلس في ناحية وقد التف حوله فتيان وفتيات يشترون ويشترين، هذا(249/59)
رباطاً وهذه قفازاً. . . وكان فلوريزيل قد انتحى وبرديتا ناحية، وراحا يتناجيان ويتباثان، غير معنيين بهذا الحفل الراقص، المائد بالأذرع والسيقان، المائس بالقدود والنهود
ودلف الملك نحو الجهة التي أعتزل ابنه الناس فيها، ودلف وراءه كاميللو، ثم جلسا عن كثب، بحيث يسمعان نجواهما
- عجباً يا كاميللو! إن هذا الجمال وهذا السمت كثيران على ابنة راعٍ نشأت بين البهم، وشبت في جنبات المروج!
- ولم يا مولاي؟ أليس الرجل أغنى رعاة بوهيميا؟ إنه ملك القطعان، وأبنته من أجل لك ملكة اللبن والقشدة!
- إن فلوريزبل يجلس بين يديها كالحمل!
- وليس هذا عجيباً أيضاً، لأنها خبيرة بتأديب الذئاب! وتبسم الملك ثم ترك صاحبه وقصد إلى الراعي فسلم عليه ثم قال:
- عمرك الله أيها الأخ! من هذا المدنف المتبول الذي يناجي فتاتك الهيفاء؟
فقال الراعي: (ذاك الفتى! إنهم يدعونه دوريكليز، وكل منهما يهيم بصاحبه كما ترى. . . ولست أدري أيهما اسعد بإلفه من الآخر؛ بيد أنني لا أشك في أنه إذا اختارها لتشركه في حياته فإنه يفوز بشيء عظيم جداً، لأن وراءها كنزاً لا يحلم مثله بمثله!!)
ويمم الملك شطر الحبيبين فقال يخاطب ابنه وهو يمضغ كلماته ويمطها، حتى لا ينكشف أمره: (أنت أيها العاشق الصغير، فيم اعتزالك هذا العيد بما فيه من لهو ومرح وقصف وعزف! ويحك! لقد جاء علي حين من الدهر أحببت فيه كما تحب أنت اليوم. . . وكنت أسجل حبي بالهدايا والتذكارات، فما لك لا تشتري لحبيبتك من البائع المتجول كما يشتري الولدان لعذاراهم؟)
وقال فلوريزيل، وهو لا يدري أنه يخاطب أباه ومولاه:
(تالله يا أبتاه الشيخ لو أطلعت على ما في جوانحنا لا ستقللت الدينا بأسرها هدية لحبيبتي برديتا. وإن هديتي لها هي هنا. . . في هذا المكان الأمين. . . في قلبي)
ثم التفت إلى الفتاة وقال: (أوه يا برديتا! أصغي إلي يا حبيبتي! لقد سأل هذا الرجل الشيخ أن أقدم لك هدية كما كان يفعل إذ هو فتى ذو صبابة وذو هوى! فهأنذا أقدم لك فؤادي بين(249/60)
يديه وأجعله شاهدي؛ وهأنذا أعلن أمام الملأ أنني أكون أسعد الناس لو رضيني أبوك زوجاً لك، ويسعدني أن يبارك هذا الشيخ عقد حبنا وصحيفة ارتباطنا!. . .).
ولم يطق الملك على تصرف أبنه صبراً، فانتزع دمامه، وكشف عن حقيقته، ثم صرخ بابنه قائلاً: (بل أشهد على صحيفة طلاقكما أيها الشقي! ما شاء الله يا ولي العهد! لم يبق إلا أن تنسى دمك الملكي فتلطخه بدم هذه الراعية! تلك الغجرية التي استهوت فؤادك وسبت لبك! الويل لك يا فلوريزيل! أني أنذركما معاً! حذار أن يرى أحدكما الآخر، وإلا كان الموت جزاءكما تجرعانه يا شقيين! أتسمع أيها الراعي! ذُد أبنتك عن سيدك أو أدفع رقبتك ثمناً لعصيانك.
ثم أمر كاميللو أن يتبعه مصطحباً فلوريزيل، وامتطى هو جواده، وذهب يعدو به، وكأنه شيطان على فوهة بركان!!
وغلى دم الملكي في عروق برديتا، فوقفت تردد عينيها في أثر الملك وتقول: (ويحك! أيهذا الملك! على هينتك، فوالله ما أزعجتني غضبتك، ووالله لقد هممت أن أقول لك كما قلت لي، وإن الشمس التي تشع بأضوائها على قصرك هي هي التي تشع بلألائها على كوخنا هذا الهادئ الصغير! ولكن! وا أسفاه! لقد أيقظتني لهجتك الجافة ذات الصرير من أحلامي السعيدة التي رفعتني حيناً إلى مصاف الملوك! فيا أحلامي. . . وداعاً. . . . ووداعاً أيها الأمير! وداعاً يا مولاي.! اتركني أرجوك!
اتركني لخرافي ونعاجي الحبيبة أرعاها وأحتلبها. .! وأبكي معها فوق المروج الخضر والعشب الحلو!
وانهمرت عبراتها فجأة، فوجم ولي العهد المعذب، ووقف كاميللو ساهماً متأثراً. . . ثم خطر له أن ينقذ الحبيبين، وأن يصل حبلهما المقدس، لأن قضيتهما من قضايا القلوب التي لا سلطان لأحد عليها، والتي لا تقوى على فصمها حتى يد الموت التي هدد بها الملك المغيظ المغضب
وكان كاميللو قد علم بما كان من حزن ملك صقلية وتوبته وحسن أعذاره وجميل إنابته، بعد موت هرميون، وكان الشوق إلى الوطن والحنين إلى الأهل قد برحا به، ففكر لتوه أن يفر بالحبيبين من وجه ملك بوهيميا، إلى رحاب ملك صقلية، حيث تقي شفاعة ليونتس، من(249/61)
غضب بوليكسينز، وحيث تتيح الفرصة للود القديم فيحيا ويتجدد، وتتهيأ القلوب للمصافاة فتنسى
وعرض عليهما ما بدا له من الفرار فانشرحا له ووافقا عليه؛ ثم كلم الراعي في شأنه ونعمه وقطعانه فتركها في عهدة صديق له وجمع ما خف حمله من مال وما أحتفظ به من جواهر برديتا وثيابها التي وجدها فيها والورقة التي كتب عليها أسمها وشيء من نسبها وحديث مأساتها. . . ثم لاذ الجميع بالفرار
وكانت مجازفة مليئة بالشجن، في طريق محفوفة بالمخاطر
وأستأذن كاميللو على صديقه ملك صقلية، فتلقاه بعينين باكيتين محزونتين، وضمه إلى صدره كأنما كان يعانق أشباح الذكريات الحبيبة، ويضم طيف الماضي العزيز. . .
- مرحباً كاميللو. . . مرحباً بحبيبي المخلص، ومشيري الأمين.
- مولاي!. . .
ثم انحبس منطق الرجل فلم يزد على هذا، وترك لدموعه أن تتكلم!!
ولما هدآ، وسكنت نفسهما، قدم إليه كاميللو ولي العهد بوهيميا، ابن صديقه الأعز، وحبيبه الأوفى، بوليكسينز! فتبسم له الملك، وتلقاه بالأهل وبالسهل، ثم طبع على جبينه قبلة التكفير عما ظن بأبيه من سوء. وقدم فلوريزيل فتاته برديتا قائلاً: (خطيبتي الأميرة برديتا يا مولاي!) وهش لها الملك وبش، ولكن سرعان ما تبددت ابتساماته في جو من الذكرى دهم فؤاده فجأة!
لقد نظر الملك إلى الفتاة الجميلة الرائعة فكأنما وقف في ظهيرة غائمة قاتمة فوق قلة جبل، ينظر إلى أشعة الشمس تغمر سهلاً نائياً كله ورود ورياحين وأزهار!
لقد ذكر ماضياً سعيداً حافلاً بالهناء عند ما رأى برديتا!
لقد رأى في عينيها أحلامه المواضي الرائعات!
لقد أحس بقلبه يثب من صدره إلى حدقته ليرى إلى الأميرة القادمة؟!
وي! ترى! هل من الجنة آبت هرميون!
أليس هذا هو طيفها الحبيب يتمثل له في هذه العذراء المفتان؟
ولحظ الراعي ما بده الملك من برديتا فوجب قلبه، وطفت ذكرياته القديمة فوق بحر لجي(249/62)
من عباب نفسه، لكنه صمت مع ذلك ولم ينبس
(يتبع)
دريني خشبة(249/63)
البريد الأدبي
الحركة الفكرية والجامعية في مصر
أصدرت الحكومة المصرية في هذا الشهر كتاباً للدعاية عن مصر باللغة الإنجليزية هو وقد شمل كثيراً من نواحي النشاط الاقتصادي والعلمي والاجتماعي في القطر، وكان مما اشتمله هذا السفر مقالة للدكتور محمد مصطفى زيادة الأستاذ المساعد بكلية الآداب عن النهضة الفكرية في مصر جاء فيه: (كان تأسيس الجامعة المصرية عام 1908 أحد العوامل الفعالة الحيوية في قيام النهضة الذهنية في أرض الفراعنة، أما قبل هذا التاريخ فكانت مدرسة الشيخ محمد عبده الأزهرية (المتوفى سنة 1905) والمدارس العليا التابعة لوزارة المعارف المصرية هما القوى الوحيدة التي شنت حرباً عواناً صالحة على الجمود المردي الذي كان ضارباً بجرانه على البلد؛ بيد أن كلتا القوتين قد عاق تقدمهما طبيعة مجالهما ووجودهما، مثال ذلك أن مدرسة الشيخ عبده كانت تتألف من شرذمة ضئيلة من المصلحين الغيورين الذين حاولوا - متفرقين - القيام بتغييرات شاملة في نواح عدة رغم ما كانت تهددهم به الرجعية والجمود، ومن ثم فانه على الرغم من أن مشكلة التقدم الفكري كانت أقرب الأمور إلى نفوسهم إلا أن اتساع مدى مثلهم العليا لم يسمح لهذه الناحية إلا بالقدر الضئيل من اهتمامهم. أما المدارس العليا التي كانت تابعة لوزارة المعارف فإنها لم تستطيع أن تتزعم الحركة الفكرية، ولا تؤوي إليها النهضة الذهنية في البلد، ومرجع ذلك وجودها بالكيفية التي كانت عليها؛ إذ أن مهمتها كانت تخريج موظفين مدنيين وحكوميين لمصالح الحكومة المختلفة.
ومن الحق أن تضخم عدد طلاب هذه المدارس الذين كانت توفدهم الجامعة إلى أوربا عاماً بعد عام للحصول على درجات وإجازات جامعية قد عاد على مصر بالفائدة المرجوة التي تكافئ المهمة التي أدوها للدولة، إلا أن عدد هؤلاء الجامعيين كان محدوداً على العموم، كما أن التعليم الجامعي في مصر كان (واردات غير منظورة) فكان داعياً لضرورة إيجاد جامعة واحدة على الأقل في مصر. وكان إنشاء الجامعة القديمة بدء ظهور معهد علمي فريد ولم تعقه صعاب المصلحين والمدارس العليا، بل كان له أثره الصالح وفائدته المرجوة في مصر؛ بيد أن الجامعة وجدت عقبة مالية كأداء في سبيلها إذ كانت تقوم على هبات شرعية(249/64)
سرعان ما اتضح أنها غير كافية؛ ولكن لحسن الحظ أمكن التغلب على هذه الصعوبة عام 1926م حينما أشرفت عليها الحكومة - بإيحاء المرحوم الملك (فؤاد) الذي كان أول راع للجامعة وأول حادب على التعليم - وجعلتها في سلك المنشآت الحكومية ومنذ ذلك الوقت والجامعة تخطو نحو الكمال. كما أن مبانيها الفخمة في الجيزة دليل ملموس على النهوض بالحركة الفكرية
وبفضل رعاية الحكومة لها زادت ماليتها من 10. 000 جنيه في سنة 1925 إلى 278. 786 جنيه مصري عام 1932 كما أن عدد طلابها النظاميين يشير إلى روح التقدم السريع، فلقد كانوا 107 طالب قبل سنة 1925 ثم ما لبث أن بلغوا 2381 في 1932، وكان هذا العدد موزعاً بين كلياتها الأربع إذ ذاك وهي: الآداب، والعلوم، والحقوق، والطب، وإن كليتي الآداب والحقوق لهما من الجامعة القديمة، أما الطب والعلوم فمن آثار الجامعية الجديدة وإن كانتا في أصلهما مدرستين عاليتين
في سنة 1935 ضمت المدارس العليا الأخرى للجامعة، فأصبحت الآن تضم بين جوانبها سبع كليات هي: الآداب، والعلوم، والحقوق، والطب (بما فيها الصيدلة وطب الأسنان وطب البيطري ومدرسة الممرضات)، والهندسة، والزراعة، والتجارة. وبلغت ماليتها 850. 000 جنيه في 1936. وعدد طلابها النظاميين في العام الدراسي الحالي 6781 طالباً.
نظم الامتحانات ورابطة التربية الحديثة
تعقد رابطة التربية الحديثة، برياسة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك مدير معهد التربية للبنين، اجتماعاً في الساعة الخامسة من يوم الأربعاء المقبل بمدرسة فاروق الثانوية بالعباسية
ويثير الأعضاء في هذا الاجتماع موضوع الامتحانات في مصر، وقبل المناقشة يتكلم الأستاذ الدمرداش محمد مراقب الامتحانات المساعد في نظم الامتحانات المتبعة في مصر ورأيه الشخصي فيها. ويتكلم كذلك الدكتور عبد العزيز القوصي في موضوع أثر الامتحانات في التربية
وبعد هذا يطرح الموضوع للمناقشة. وهو من الموضوعات القوية الحساسة التي ترتبط بها(249/65)
النهضة التعليمية في البلاد ارتباطاً وثيقاً.
فان الاعتراضات المختلفة ترد على نظم الامتحان. وكثيراً ما أخفق فيه النوابغ، وجازه المتأخرون الضعاف.
وعند علماء النفس أن نظام الامتحان في بعض صوره جدير أن يربي عند التلاميذ الخوف والجبن والتملق. وهو عند آخرين لا يمكن أن يعتبر مقياساً صحيحاً للتفوق بين الأقران.
ويراه فريق من علماء التربية شراً لا بد منه، بينما يراه آخرون نظاماً تلعب فيه الصدفة دوراً عظيم الأهمية.
محطة إذاعة مصرية بوليسية
تعني محافظة العاصمة باستخدام الوسائل والاختراعات الحديثة التي تعين رجال البوليس على أداء أعمالهم بالقدر الذي تسمح به ميزانيتها
وقد ارتأت الحكمدارية أخيراً أن تستعين بالإذاعة اللاسلكية للبحث عن المجرمين الفارين، وإذاعة التعليمات على رجال البوليس في مختلف المناسبات، فأنشأت محطة خاصة بها في إحدى غرف الدور الأول بالحكمدارية لإذاعة أوامرها على موجة خاصة بجهازات رجال البوليس، وستذاع هذه التعليمات بواسطة (شفرة) خاصة لا يعرفها إلا البوليس.
وأعدت الحكمدارية جهازات التقاط في جميع سيارات البوليس، وفي أقسامه المختلفة، لالتقاط ما تذيعه المحطة
وقد جهزت الحكمدارية غرفة الإذاعة بثلاث آلات للتليفون، لتلقي الأخبار المراد إذاعتها من أقسام البوليس. في أنحاء القاهرة كما جهزتها بآلة للتلغراف لتلقي الأخبار من الأقاليم
وقد أقتبس هذا النظام من بعض دوائر البوليس في أوربا، والمنتظر تعميمه في إدارات البوليس في بعض المدن الأخرى.
مؤتمر المستشرقين في دورته العشرين
تلقت الحكومة المصرية دعوة للاشتراك في الدورة القادمة لمؤتمر العلماء المستشرقين الدولي وهي الدورة العشرون المزمع عقدها في مدينة بروكسل في الفترة القائمة بين 5و 10 من سبتمبر القادم(249/66)
كتاب عن قناة السويس
قالت جريدة (الديلي ميل) في عددها الصادر في 4 أبريل إن وزارة الخارجية منعت نشر بعض فقرات جوهرية من كتاب: (رواية قناة السويس) الذي يتضمن تاريخ الدسيسة السياسية الدولية التي أدت إلى حفر القناة والإشراف عليها، ثم قالت إن هذا المنع قد يؤدي إلى عدم طبع الكتاب
وقد توفي السر جون دافيز أحد مؤلفي هذا الكتاب، وعلى ذلك سيكون رفيقه المستر جرينول والناشرون أصحاب الحق في تقرير نشر الكتاب، ولما كان السر جون دافيز سكرتيراً خاصاً للمستر لويد جورج في أثناء توليه رياسة الوزراء فقد رأى قبيل وفاته أن يعرض الكتاب على وزارة الخارجية لتوافق عليه
وقد قال أحد موظفي الوزارة: (لقد درسنا الكتاب بعناية وهو يتعلق بمسألة معقدة جداً لها تأثير كبير في السياسة الدولية فرؤى أن هناك بعض فقرات في الكتاب غير مرغوب فيها لأنها من قلم رجل كان يشغل فيما مضى منصباً رفيعاً في الحكومة بحيث يحتمل أن يعتقد العالم أن هذه الآراء تعبر عن آراء الحكومة، ونحن نعرف أن السر جون دافيز كان قبل وفاته لا يعرف هل يسحب كتابه جملة أو يعدل الفقرات التي يعترض عليها).
وقد علمت جريدة (الديلي ميل) أن جزءاً من الكتاب يتعلق بمستقبل القنال عندما ينتهي أجل الامتياز بعد ثلاثين سنة.
رسالة مصري في باريس
سيدي صاحب (الرسالة):
بعث إليّ شيخي وصديقي الأستاذ (لويس ماسينيون) بالجزء الأخير من المجلة النفيسة التي يخرجها في باريس (مجلة الدراسات الإسلامية) 1937. -
وموضوع هذا الجزء رسالة مسهبة في العشائر الخاصة بالجنازات في مصر لهذا العهد. وأما صاحب الرسالة فشاب مصري يدعى م. (؟) جلال، وهو ممن يأخذ العلم في باريس عن الأستاذ لويس ماسينيون ثم الأستاذ موس (مدرس علم الاجتماع في الكوليج دي فرانس)(249/67)
والرسالة تعرض (الطقوس) الخاصة بأحوال المرض والاحتضار فضلاً عن أحوال الموت والجنازة. ثم تبين الإضافات التي بين تلك (الطقوس) والشؤون الاجتماعية والدينية والأخلاقية
ثم تبسط ألوان الشعور وضروب العقائد التي ترجع إليها تلك الشؤون. وللرسالة ذيلان: مضمون الأول طائفة من المراثي القومية التي تغنيها النائحات (العدادات)، ومضمون الثاني مجموعة من الصور الشمسية تبرز للعين مثل مائدة الغسل، والصلاة في المسجد، وموكب المشيعين (والعدادة) والدفن وإطعام الفقراء، إلى غير ذلك مما له علاقة بشؤون الموتى
وقد فرحت بقراءة هذه الرسالة فرحاً شديداً، ذلك بأنها مؤلفة على طريقة استقام عمودها، وهي طريقة البحث عن أحوال الشعب وتصوراته؛ وهذا النوع من التأليف العلمي له مكانة رفيعة في جامعات الفرنجة على حين ليس له في جامعتنا قليل من الحظ، حتى أن ما يتصل بشؤون الشعب المصري من أعمال ووجدانيات ومعتقدات إنما ينتهي إلينا على أقلام نفر من الباحثين الغربيين
فلا يحسن بنا اليوم أن نغفل رسالة الأستاذ م. جلال، إذا انصرف إلى إثبات ناحية من خصائص الشعب المصري ربما لا يتاح لها أن تبقى على حالها. ثم إنه يحق لنا أن نذكر للأستاذ ماسينيون عنايته بنشر الرسالة ورعايته لهمة المؤلف. . . وأسلم سيدي الأستاذ لمن يخلص لك الود
بشر فارس
حول المؤتمر العام للأدب العربي في تونس
في العدد 234 من الرسالة نشرنا خبراً تلقيناه من تونس بأن السيد محمد الفاضل بن عاشور يسعى لعقد مؤتمر عام للأدب العربي لتوحيد طرق الثقافة ودراسة الآداب العربية في جميع أقطار العروبة الخ. وقد كتب إلينا الشيخ محمد الشاذلي السنوسي يقول إنه هو صاحب الفكرة ومقترحها ويؤيد قوله بنشرات المؤتمر وأقوال الجرائد. وسواء أكان المقترح هذا أم ذاك فإن موضوع الفخر هو في تنفيذ الاقتراح وإنجاح الفكرة. إن الآراء(249/68)
كثيرة والأحلام أكثر، والعبرة بالعمل لا بالقول، وبخاتمة السعي لا بالشروع فيه. ونحن نتمنى لهذا المشروع الخطير النجاح على أي يد وبأي صورة
الاحتفال بتوزيع جوائز مختار
كانت جمعية أصدقاء مختار نظمت مسابقة لهذا العام موضعها (جحا وحماره) فتبارى فيها كثير من الفنانين المصريين وفاز بعضهم بالجوائز المرتبة والتي تبرع بها هذا العام حضرة النائب المحترم محمد شعراوي
وقد دعت الجمعية نخبة من رجال الأدب والفن مصريين وأجانب لحضور الحفلة التي أقيمت لتوزيع الجوائز على الفائزين وبعد أن ألقيت الكلمات المناسبة في موضوع المسابقة بدئ في تقديم الجوائز للفنانين وتولت ذلك حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي وألقت كلمة طيبة
ثم ألقى الأستاذ علي الديب كلمة الفن في موضوع (جحا وحمارة) ومما قاله:
(موضوع جائزة مختارة هذه السنة (جحا وحماره) موضوع وفقت في اختياره جماعة أصدقاء مختار كل التوفيق. إن شخصية جحا إثبات لناحية الخيال الفذ، وإظهار لما فيها من سعة في التصوير وقوة في التخيل ومبالغة في التعبير وظرف في الأداء، ولا أشك في أن الاتصال على تنفيذ هذه الفكرة وتبادلها - بالبحث والتصوير والتخيل بين شبابنا الفني في هذه السنة، والذي كان مرجعه إلى ما فيها من طرافة ومجون - هما أقرب ما يكون إلى طبيعة المزاج المصري - سوف يحدو جماعة أصدقاء مختار إلى التوفيق دائماً في اختيار موضوعات تعبر عن صور من الحياة والتفكير المحلي. وشخصية جحا شخصية محبوبة في مصر معروفة عن طريق كتاب يسمى (نوادر جحا) ويقال إن أسم جحا الحقيقي هو نصر الدين خوجه أحد شيوخ الترك الذين عاشوا في أوائل القرن الثامن الهجري. وكان مشهوراً بالدعابة والتظرف
ويغلبون رواية أخرى، وهو ما أعتقده شخصياً. . . إن جحا شخصيته خيالية من اختراع الشيخ نصر الدين خوجه. وكان نصر الدين هذا شيخاً عالماً وكان يشتغل بالتدريس - وكانت النكتة ألزم له من طعامه وشرابه. وفي يوم من الأيام استقر رأيه على أن يقوم برحلة تعليمية بين أهل القرى والأرياف يلقنهم فيها دروساً في التهذيب، وقد وجد أن أحسن(249/69)
الطرق التي يصل بها إلى نفوس العامة بالمعاني والحكم هي أن يضمنها قصصاً ونوادر فكاهية تحمل المغزى أو المعنى الذي يريد الوصول به إلى أذهانهم فاخترع الشخصية الخيالية (جحا) وجعله بطل قصصه)
السير جرافتون اليوت سمث
لأول مرة يؤلف كتاب بالإنجليزية عن العلامة صديق المصريين أليوت سمث الذي قضى أحسن شطر من حياته الطويلة العامرة يؤكد لعلماء الانترويولوجيه (تاريخ الإنسان الطبيعي) أن الحضارة الإنسانية نشأت أول ما نشأت على ضفاف النيل وبأيدي المصريين، معارضاً في ذلك الأستاذ ليوناردولي مكتشف آثار أور الذي يقول بأن العراق هو منشأ هذه الحضارة. والأستاذ السير جون مارشال الذي يقول إنها إنما نشأت في السند وفي مقاطعة بنجاب. وقد أشترك في ترجمة حياة الأستاذ إليوت سمث طائفة كبيرة من زملائه العملاء الذين ما يزالون يتمتعون بحياة مليئة حافلة. وذكروا أنه ولد سنة 1871 بمدينة جرافتون باستراليا، ومنها كان أسمه. وكان أبوه من المهاجرين الذين ضاق بهم سبيل العيش في إنجلترا فرحلوا إلى استراليا. وما زال دائباً حتى صار ناظر مدرسة جرافتون، ثم ناظر مدرسة سدني. وقد التحق إليوت سميث بمدرسة سدني الطبية فأبدى ميلا خاصاً إلى التشريح وانصلت أسبابه بأسباب أستاذ هذا الفن في المدرسة البروفيسيرج. ت. ولسن الذي أتخذه مساعداً له حتى نال الدكتوراه في التشريح. وفي الخامسة والعشرين وضع الأستاذ إليوت رسالة صغيرة عن (المخ) فأحدثت ثورة في عالم الطب، وكانت نواة لمعلوماتنا عن التلافيف والمادة السنجابية. ثم رحل إلى إنجلترا في سنة 1896 وقد سبقه إليها أسمه فصار يتردد بين جامعتي أكسفورد وكمبردج لمجرد البحث العلمي. وظل دائباً على بحوثه ثلاثة أعوام حظي بعدها بشرف الزمالة في جامعة سنت جونس وذلك لما حاز من إعجاب الأستاذ ماكالستر رئيس مصلحة التشريح الإنجليزية الذي أختاره لتدريس علم التشريح بمدرسة الطب المصرية سنة 1900. وقد ابتدأت شهرته كعالم عالمي مصرولوجي منذ ذلك التاريخ فقد أكب على الموميات وجماجم المتحف المصري يشرحها ويستنتج من تراكيبها عجائب الحضارة المصرية، وكان البرق يطير بحوثه إلى جميع أنحاء العالم فينتفع بها العلماء ويجري وراءها صيت مصر وينتشر أسمها في الآفاق - ثم هال الإنجليز ألا(249/70)
ينتفعوا بعالمهم العبقري فاستدعوه لكرسي الأستاذية في جامعة منشستر ثم لرياسة فرع التشريح بجامعة لندن حتى وافاه أجله سنة 1937
الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بباريس
أخذ يلقي دروسه في مدرسة الحقوق بباريس الأستاذ لطفي الدكتور في الحقوق وفي الطب، والعضو المراسل للجنة الاشتراع الأجنبي والحق الدولي في وزارة الحقانية الفرنسية، وقد كان الدكتور لطفي قنصلاً عاماً لتركيا في باريس قبلا
وسيبحث في هذه الدروس أهمية الفقه الإسلامي وتأثيره في حضارة شعوب الشرق والبلدان الممتدة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، واشتراع تلك الشعوب. وسيبحث أيضاً التحول الحالي في الإسلام والبلدان المنفصلة عن السلطنة العثمانية
ويقسم الدكتور لطفي بلدان الشرق إلى ثلاثة أقسام، من الوجهة القانونية، وفقاً لمزاولتها العمل بالتدقيق بمقتضى الشرع الإسلامي، كالحجاز وشرق الأردن واليمن الخ، أو بمزاولتها الشرع المختلط على ما هو جار في مصر وسورية وفلسطين، أو بمزاولة الشرع الغربي كتركيا وألبانيا
ومما لا شك فيه أن هذه الدروس ستلقى إقبالاً عظيماً وستمكن الطلبة الفرنسيين من التعمق في معرفة البلدان الشرقية
وفاة الأستاذ محمد لبيب البتانوني
فقدت مصر في الأسبوع المنصرم عالماً من خيرة علمائها ومؤلفاً بحاثة من كبار المؤلفين فيها وهو المغفور له الأستاذ محمد لبيب البتانوني بك
ولقد عرف عن الفقيد خلال حياته الحافلة بجلائل الأعمال شغفه بالعلم والأدب وتوفره على البحوث التاريخية التي كانت تزدان بها صور الصحف والمجلات لأكثر من ثلاثين سنة خلت. ذلك إلى ما ألفه من كتب الرحلات التي دل فيها على طول باعه في الأدب وسعة علمه بالتاريخ وقدرته على وصف عادات الأمم وطبائعها
كتاب للتلاميذ الإنجليز عن نهر النيل
الإنجليز هم أبرع الأمم في ابتكار الأساليب الفعالة في تربية أبنائهم. والتلميذ الإنجليزي لا(249/71)
يعيش في إنجلترا فقط، بل هو يعيش بخياله في العالم أجمع، وهذا الخيال المغناطيسي هو من صنع الأساتذة البارعين الذين يتخذون من خيال الصغير طريقاً إلى عقله. والكتاب الذي يصدر للصغار في إنجلترا عن النيل ليس كهذه الكتب الجافة المتحجرة التي تصرف للتلاميذ المصريين بل هو أشبه شيء بمجلة راقية تفنن في تنسيقها المصور والرسام والجغرافي والمؤرخ ورجل التربية ورجل المطبعة فجاء آية في الابتكار وسلامة الذوق. . . فهذا هو النيل في عهده الفراعنة، وهذى هي الأهرام والبرابي والمعابد والمسلات والعواصم المصرية القديمة. . ثم هذا هو النيل في عصر البطالسة وفي العصر الروماني وفي العصر العربي. . . ثم ذاك هو النيل في عصر محمد علي وإسماعيل وفي العصر الحديث، وهذه هي خزاناته وسدوده والمدن القارة على حفافيه. . . الخ وذلك كله على لوحات تبلغ إحداها ستة أقدام طولاً مزدانة بالألوان الطبيعية الجميلة الزاهية التي تنطبع بمجرد النظرة في خيال الصغير فلا يحتاج إلى قراءات طويلة مملة
وتصدر في مصر مجلة للتلاميذ لا بأس بها إذا عنيت قليلا بما هو مصري وقللت من هذا السخف الذي تدأب في ترجمته عن الكتب الأوربية المقررة وغير المقررة. فهل فكر القائمون عليها - وهم من خيرة رجال التربية المصريين - في إصدار أعداد ممتازة بالألوان على نسق كتاب النيل الذي سيصدر في إنجلترا للأطفال الإنجليز؟ عندنا الزراعة المصرية والصناعة المصرية وطرق المواصلات والموانئ والحدائق المصرية الناشئة ودور الكتب ومصر القديمة. . . الخ. فماذا يمنع رجال المجلة من تخصيص أعداد ممتازة تتناول هذه الموضوعات!!
لقب شيانج كاي شك وأعماله
أشتهر هذا العصر بطائفة من الزعماء كان لهم أثر بعيد المدى في توجيه شعوبهم توجيهاً سيذكره التاريخ بما يستحقه من فخر ومجد. . . والذي يلفت النظر أن كلا من أولئك الزعماء أشتهر بلقب عرفه به العالم أجمع. فهتلر هو الفوهرر، وموسوليني هو الدوتشي، ومصطفى كمال هو الأتاتورك، وغاندي هو المهاتما، وكان يطلق لقب النمر على كليمنصو. . . أما القائد الصيني شيانج كاي شك فلقبه جنرالسيمو أو القائد العام. وتاريخ حياة شيانج هو قصة البطولة التي يفخر بها كل شرقي والتي ينبغي أن تكون مثالاً لكل من(249/72)
ينشد المجد لبلاده. وقد طلب إليه مرة أن يلخص هذا التاريخ فذكر أنه ولد في شيكيانج وأنه تربى تربيته العسكرية في اليابان وأنه تتلمذ للدكتور صن - يات - سن - ثم سكت!! وقد أشترك في الثورة على الإمبراطورية وبناء الجمهورية، فلما مات بعد الدكتور صن يات سن أصبح هو زعيم الصين وجامع كلمتها بعد انتصاره حربياً على خصومه. ويعرف جيشه باسم (هوامبو) وهو أقوى فرق الصين وأكثرها نظاماً. ولو كانت الجيوش الصينية على نظام الهوامبو لما استطاعت اليابان اجتياح منشوريا ولا إذلال الصين. وقد تعلق الصينيون بشيانج تعلقاً عجيباً أظهره في أعين العالم بمظهر الدكتاتور مع أنه أشد الناس مقتاً للاستبداد، ومقته للاستبداد هو الذي أخجل القائد سيوليانغ فأطلق سراحه بعد أن أعتقله ومضى هو فسلم نفسه له بعد ذلك
ولا تنقص الهزائم المتوالية في ميدان الصين من قدر شيانج، لأن الجيش الصيني كما وصفه أحد قواده لحم ودم أمام قوى ميكانيكية فتاكة
هذا وقد صدر بالإنجليزية كتاب قيم عن تاريخ حياة هذا البطل لمؤلفه العلامة الأستاذ هولنجتن. ك. تونج
الشنتو
ما كادت صيحة النوردبين تهدأ في ألمانيا بعد طرد اليهود منها حتى ارتفعت في اليابان صيحة تشبهها في النعرة والتغني بالمحتد وتأليه الأرومة والتبرؤ من الانتساب إلى الصينيين في العنصر، والادعاء بأنهم (أي اليابانيين) سلالة مستقلة لا عن الصين فقط بل عن جميع البشر، لأنها منحدرة مباشرة من الآلهة. . .! وهذه دعوى عريضة جديدة، كان الناس يضحكون من قدماء المصريين واليونانيين حين ادعوها. . وقد اتسعت آفاق الشنتويزم فشملت ديانة اليابانيين ووطنيتهم وفدائيتهم ومذاهبهم السياسية والاجتماعية، وتغلغلت في جميع مرافقهم الحيوية. . من عنابر المصانع. . . إلى رمال الصحراء التي يقرءون في صفحتها الغيب. . . ومهما حاول اليابانيون التبرؤ من منشئهم فالثابت هو أنهم مزيج من المغول والآينو وأقوام البحار الجنوبية. كما أن الألمان ليسوا من سلالة نوردية خالصة، وكما أن اليهود ليسوا شعب الله المختار(249/73)
الكتب
مفرق الطريق
مسرحية في فصل واحد للدكتور بشر فارس
نقد بقلم الأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف
أصدر الشاعر الأديب الدكتور بشر فارس كتابه (مفرق الطريق) وهي مسرحية طريفة قدم لها بتوطئة بليغة في المذهب الرمزي
ويقيني أن المؤلف، وقد أحس غموض المنهج الذي أنتهجه في كتابة مسرحيته، كما عرف جدته على الناطقين بالضاد، لم يأل جهداً في الشرح والتبيين مفصحاً عن ماهية (الرمزية) في عالم الأدب وفي عالم الفن، كاشفاً عنها سجف الغموض والإبهام، وغايته من ذلك تيسير الفهم على القارئ إذا ما طالعه الإبهام وحيرة انقلاب المعاني، وقد طاح به الشغف بين سطور الرواية، فجاءت التوطئة بحثاً شائقاً فريداً في بابه باللسان العربي، خصباً في معارفه، محكماً في تعابيره، بليغاً في الدعاية لهذا المذهب الأدبي الطريف
ونبادر بتسجيل ما وضعه المؤلف في توطئة كتابه وصفاً للرمزية بأنها (استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، تدهشنا ظواهره وتردعنا بواطنه وتعجزنا مبادئه). إذ أن في هذا الوصف ما يكشف للقارئ عن الكثير مما يتضمنه هذا المقال. وبالقياس إلى هذا الوصف أو التعريف نصدر رأياً في المسرحية ومكانها من الرمزية في هذا المقال، على أن نعالج مذهب الرمزية في بحث آخر موعدنا به العدد القادم:
الحادثة في هذه الرواية ضئيلة ليس فيها شيء من المشوقات أو المفاجآت، ولو وجدت لما أعرناها كبير انتباه، ولما جعلنا منها قياساً للحكم على طرافة الرواية، إذ الحادثة في هذا النوع من الروايات وسيلة لا غاية نأتي بملخصها في سطور عابرة:
(سميرة) تتحدث مع (الأبله) الذي يومئ ولا يجيب، ثم يأتي (هو) شاب ظريف فيتبادل مع (سميرة) الحديث، حديث الماضي والحاضر، وترتفع أصوات ناي من مكان لا يرى، فهي(249/74)
تارة نائحة وأخرى شجية ليسدل الستار بعد ذلك وقد غابت سميرة في طريق، وأنحدر (الأبله) و (هو) في طريق آخر!
أما إطار الرواية، فقد أتى المؤلف على وصفه في البيتين إذ قال:
(في مفرق الطريق أي حيث ينفرج يميناً مناراً وصاعداً، ويساراً مظلماً ومنحدراً، يلتقي العقل والشعور فيتجاذبان المرء، ولكل منهما خطة من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل فينحدر المرء وقد عمى رشده إلى غاية تحترق عندها النفس، أما الجانب المنار فحيث يصرع العقل الشعور فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق)
وهو وصف معبر للمعالم المعنوية التي تجري فيها حادثة الرواية وهي معالم أقامها الرمز عن طريق الإضاءة في صعود الحظ أو هبوطه؛ وبهذا برز للرمزية في الرواية طابع مرئي من حيث المبنى، وهو سبيل التعبير في الرواية عن المعنى
وما كان للمؤلف، لولا حرصه على تيسير الفهم على القارئ للرواية، أن يورد بعد ذلك في تبيينه أوصاف شخصيات الرواية، إذ أن في حوارها المقتضب والمضطرب، والذي يشير ولا يبين، ما يكفي للإبانة عن أنها شخصيات تتحرك وتتكلم في إشراق روحاني وبإيماء من العقل الباطن، وتبدر منها اللوامع النفسية متجردة من السجف والأقنعة
(سميرة) المحور الأساسي في الرواية، هي الرمز الحي للإنسان الذي ينتهبه الماضي بحلاوته والماضي بمرارته، وفيها يتجلى الصراع الذي لا ينقطع عن القيام بين العقل والعاطفة، وهو صراع لم يكتب لأحدنا أن يكون في منجاة منه، وإنما تختلف مواقفنا منه باختلاف انفعالات وملابسات الأحوال.
أما باعث الخامد ومثير الماضي فهو الشخصية التي أطلق عليها المؤلف أسم (هو)، فمنه ينطلق التيار فتختلج (سميرة) مترنحة بين العقل والعاطفة، وبقطب (الأبله) وجهه وقد ساورته المخاوف
وما (الأبله)، وهو الشخصية الثالثة في الرواية إلا رمز لمسكة العقل التي نجدها بعد أن يعيينا الضرب في مفاوز العاطفة الضالة فنتعلق بها لنستريح ونريح
وتهب أنفاس المؤلف على هذه الشخصيات نافحة فيها حياة غزيرة متدفقة فإذا بها تتحرك(249/75)
في رمز وتتكلم في رمز وسط الإطار الذي ابتدعه المؤلف في حذق، فجاء الإطار والعقل رمزاً للنور والطريق الصاعدة، والعاطفة رمزاً للظلمة والطريق المنحدرة. وهكذا يبدو الرمز كاملاً من حيث المبنى والمعنى. وتستقر الرواية بذلك في صميم الرمزية، وقد تسامت على الرمزية السطحية المقصورة على الرمز بشيء إلى شيء آخر دون إظهار المبهم والمغلق من خلجات النفس ولوامعها
وأسلوب (مفرق الطريق) فصيح وبليغ، بل إنه لمتطلع إلى الشأو البعيد، الذي قد يراه بعض القراء تفاصحاً. وربما يؤاخذ هذا الأسلوب من جانبهم بأنه أسلوب مكبوت النغم مقبوض الإيقاع إذا قورن بالأسلوب الذي كتب به شعراء الرمزية، إلا أن واجب الإنصاف يقضي بأن نشير إلى أن الشعر شيء والنثر في مسرحية كهذه شيء آخر. هذا مع العلم بأن الشاعرية كامنة في تضاعيف حوار هذه المسرحية
وبشر فارس كتب مسرحيته هذه متثبتاً من صيغ الرمزية وفقيها في ضروبها. . . ولا أدري، لو طالت مشاهد هذه الرواية أكان النفس يواتيه بمثل ما واتاه الآن. فلا تلمح العين طغيان الصناعة الحاذقة على الإلهام المحض الذي يورد الشيء وهو لا يدري أسبابه وبواعثه!!
وجملة القول أن (مفرق الطريق) حدث جديد في تأليف المسرحية المصرية، جدير بالعناية من الكتاب ومن رجال المسرح، وحري بالثناء وكل ما أرجوه أن تطالع هذه المسرحية النور يوماً على المسرح، وأن تجد المخرج المسرحي الذي يحسن فهمها ليحسن تفهيمها للجمهور.
زكي طليمات(249/76)
المسرح والسينما
حظ العلماء والأدباء في السينما
اشتهرت السينما في بادئ الأمر بوصف أنها وسيلة للتسلية حظ الجماهير منها أكبر من حظ الخاصة والمثقفين. فكانت أكثر الأفلام رواجاً وازدياداً تلك التي تدور حول حياة رعاة الأبقار والأفلام البهلوانية والأفلام المسلسلة ذوات الموضوعات الغثة التافهة. فلما ارتقت الصناعة ارتقت معها الأفكار ولكن هذا التطور كان يسير تدرجاً وغايته الأولى وهي توفير (المتعة) مع الارتقاء إلى أفق أوسع.
وقد بدأ أولاً حظ الملوك ذوي العروش والتيجان والقصور، ففي هذا الوسط متعة وبهرج وجاه يلذ الأعين ويخطف الأبصار. ومن الملوك الذين أخرجت حياتهم وأعمالهم على الشاشة قيصر روسيا، وهنري الثامن، وكاترين الروسية، وكليوباترا، وفكتوريا رجينا، وماري الاسكتلندية، وكرستينا السويدية. ومن هؤلاء من أخرج عدة مرات في أفلام مختلفة في عهدي السينما الصامتة والناطقة
وبجانب أفلام أصحاب التيجان تلتقي أفلام الساسة والقادة فهؤلاء يثيرون الحروب ويتحكمون في مصائر الشعوب ويغيرون معالم الأمم، ولكل واحد منهم ناحية خاصة تثير في المرء الشعور وتدفعه إلى الاستطلاع، ومن القادة الذين أخرجت حياتهم على الشاشة نابليون، ونلسن، وغاريبالدي، ولافابيت، وبانشوفيلا المكسيكي. ومن الساسة دزرائيلي، وريشيليو، وبارنل الايرلندي ومترنيخ النمسوي، وبسمارك، وأندرو جاكسون الأمريكي، ولنكولن
وقطعت السينما خطوة أخرى فشملت حياة الفنانين وسيرهم وهذه لا تخلو كذلك من المآسي والغراميات والمؤثرات التي يطرب لها الجمهور. ومن هؤلاء الفنانين الذين شاهدنا عنهم أفلاماً: موزار، وشوبيرت، ورجراند المصور، وفاجنر، وستراوس، ودافيد جارك الممثل. وهناك مشروعات أخرى لا خراج حياة بتهوفن، وليزت، ونيجفسكي، وساره برنار
وكان العلماء والأدباء حتى هذه المرحلة أقل هؤلاء الناس حظاً من حيث الاهتمام بأشخاصهم في عالم السينما وإن كانت أعمالهم هي المادة التي تفخر وتحيا بها السينما؛ ويرجع عزوف رجال السينما عن إخراج سير العلماء والأدباء إلى أن حياتهم في الغالب(249/77)
حياة جافة تخلو من النعومة ومن النساء ومن الحوادث التي تثير في الناس غرائز الاستمتاع والبهجة؛ ولكن السينما كما قلنا في تدرج وفي اطراد، فلا بد لها أن تبلغ هذا الأمر فتظهره في الثوب الحقيقي به وتبرز النواحي الإنسانية فيه فتعوض بها النواحي السفلى التي تثيرها حادثة غرام أو معركة أو حريق
وقد نجحت المحاولة ووفق أصحابها فرأينا على الشاشة أول ما رأينا فولتير ثم باستير وزولا يلهبون الأكف تصفيقاً ويملئون السمع والقلب والبصر حكمة وموعظة وفخراً
ومن المشروعات التي تشغل الأذهان الآن في عالم السينما إخراج فلمين عن تولستوي وألفريد نوبل العالم الكيميائي مخترع الديناميت وصاحب الجوائز التي باسمه لخدمة العلم والأدب والسلم
ولكن الخطوة الأكثر تقدماً نحو الرقي هي الاشتغال بإعداد فلم عن مذهب العلامة سيجموند فرويد في التحليل النفسي؛ وصاحب الفكرة هو الممثل الألماني كونراد فاليت الذي يعتمد في إخراج هذا الفلم على المخرج الكبير الكسندر كوردا صاحب شركة أفلام لندن
وهكذا تتطور السينما من حسن إلى أحسن فتتوطد مكانتها كوسيلة ثقافية فضلاً عن وظيفتها كوسيلة استمتاع
محمد علي ناصف
جماعة أنصار التمثيل والسينما
في السابع عشر من هذا الشهر تحتفل جماعة أنصار التمثيل والسينما بيوبيلها الفضي في حفلة تقام بدار الأوبرا الملكية تفضل برعايتها حضرة صاحب الجلالة الملك ووعد بتشريفها وقيام جماعة أنصار السينما من الأسباب الحقيقية التي تحمل الإنسان على الاعتقاد بوجود مسرح مصري، لجدها المتواصل وعملها المنتج؛ وقد أخرجت عدة روايات ناجحة ما تزال تمثل للآن على مختلف المسارح. وعلى الرغم من كونها جماعة هواة فقد أفاد المسرح على يديها ما لم يفده من أكثر المحترفين جماعات وأفراداً. وكثير من الفنانين الذين تعتمد عليهم مسارحنا قد بدءوا طريقهم بين هذه الجماعة
ونصيب السينما من عملها لا يقل عن نصيب المسرح فقد أخرج على أيدي أعضائها عدة(249/78)
أفلام من أنجح أفلامنا المصرية وقد بدأ حماسها يشتد ونشاطها يزداد أخيرا لما تشرفت به من الرعاية الملكية السامية في أكثر من مناسبة، تلك الرعاية التي تشمل الآن العلوم والفنون وتبشر لها بعهد زاهر سعيد في العصر الفاروقي المجيد
والرسالة تتقدم بهذه المناسبة بالتهنئة إلى جماعة أنصار التمثيل والسينما راجية لها اطراد التقدم والنجاح(249/79)
العدد 250 - بتاريخ: 18 - 04 - 1938(/)
شركة تنشيف الريق!.
للأستاذ عبد العزيز البشري
أكثرت الصحف في هذه الأيام من مقابلات لحضرة صاحب المعالي وزير الأشغال، خاصة بتخفيض ثمن المياه في القاهرة، كما تردد خبر اجتماعات اللجنة المؤلفة لهذا الغرض من قديم الزمان، وسالف العصر والأوان!. ولقد زعم لي زاعم من المؤرخين أصحاب الإحصاء أن اجتماعها الأخير كان الاجتماع الـ 411، 032، 624، 853، 471!.
فترى هل آن أن ينجح المسعى، وتحط الشركة من أثمان الماء، فقد مضى على سكان القاهرة ستون عاماً، وستون عاماً غير قليل، وهم يغصون بماء النيل. وكأن الشاعر كان ينظر بلحظ الغيب إلى القاهريّين وما يعانون من شركة المياه حين قال:
نفرّ إلى الشراب إذا غصصنا ... فيكف إذا غصصنا بالشراب؟
ترى هل ينجح السعي هذه المرة ويحق لساكن القاهرة أن يتمثل بقول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً ... أكاد أغص بالماء الفرات؟
يا قومنا: أقسم لكم بالله تعالى، غير حانث ولا آثم، أن الشركة ليست تأتينا بالماء من افيان، ولا من إكس ليبان، ولا من فيشي ولا من بلاد اليابان حتى يُلتمس لها العذر، بنفقات النقل في البر والبحر، وأجور الحزم واللف والتعبئة والصف، والتأمين خوف الغرق والحريق، وما عسى أن يدركه من العطب في أثناء الطريق. وناهيكم بحساب ما قد يكسد في الأسواق منه، وما قد يبور في المتاجر بانصراف (الهواة) عنه. ومن يدري فلربما ظهرت (ماركة) ماء جديدة. (موديل سنة 1938 أو 1939)، فيها من المزايا ما ليس في هذا الماء، في ريّ العطاش وبلّ صدى الظِّماء!
ليست تجيء بشيء من هذا حتى تغلو هذا الغلوّ في الأسعار، توفّياً للنفقات وتوقياً للخسار. إنما تدفع إلينا من نيلنا الذي يشق مدينتنا، والذي يجرى بين أيدينا، والذي طالما طغى وزاد، حتى اغرق البلاد، واهلك العباد، واتى على اليابسة والخضراء، وألقى بربان الحذور إلى متن العراء. بل أن من يرى متدفقه في دمياط أو في رشيد، ليحسب انه ماض لري العالم القديم والعالم الجديد. وتراه يغذوا في شمالنا وجنوبنا ألف ترعة، فإذا جاز بنا ضيقت الشركة ذرعه، وباعتنا ماءه (بالشربة) والجرعة! حتى أصبحنا، ونحن نغدو على حافتيه(250/1)
ونروح، نتناشد قول الشاعر:
يا صرحة الماء قد سُدَّت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود؟
حقاً يا سيدتي الشركة، لقد سامتنا (عداواتك) رهقاً وعذابا، جرّعتنا من نيلنا علقماً وصابا، وكان من قبل سكراً مذابا، وكان شهداً وجُلاَّبا، لقد ساغ ورداً وحلا شرابا!.
حقا، يا سيدتي الشركة، إنك لتروّقين الماء ولكنك تعكرين النفوس، وتملئين الآنية ولكنك تخلين الجيوب حتى من الفلوس!
يا سبحان الله، يا شركة! تعطيننا الماء وتقتضين الذهب، ولو كان مالنا نيلا لجف يا شركةُ من كثرة النزع ونضب!
ارحمينا، يا شركة، وأعملي معنا بالمثل الذي قالته العامة من قديم الزمان: (المية ما تفوتشي على عطشان)!!!
وبعد، فعندي، يا سيدتي الشركة، أكثر من هذا، ولكن:
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء
ونرجع إلى سياقة الحديث فنقول: أفآن لوزارة الأشغال أن تنجز الوعود، ولشركة المياه أن تعدل عن دلّها المعهود، فتترفق في ثمن الماء، وتخفف عن كواهلنا ما يهددّها من الأعباء، فقد اعترانا الداء من ناحية الدواء. ولله در شاعر الغبراء:
من غصّ داوى بشرب الماء غصته ... فكيف حال الذي قد غصّ بالماء؟
فإن فعلت وإلا فقد طابت الهجرة إلى البراري والقفار، لنتعوض عن ماء النيل ماء الآبار والأمطار. وإني لأخشى أن تلاحقنا الشركة هناك، وتبسط علينا سوط (الاشتراك)، بعد أن تحوز ماء الغمام في مواسير، وتختم بالعداد على كل بير. فالشركة وراءنا ولو تعلقنا بالسحاب، أو تدسَّسنا في التراب، وأمرنا إلى من له المرجع والمآب!
أرجو أن تنصفينا، يا شركة المياه، وتفرّجي عنا من هذا الضيق، وإلا اضطررنا إلى أن ندعوك (شركة تنشيف الريق). . . والسلام
عبد العزيز البشرى(250/2)
قضية اللغة العربية
للأستاذ أحمد خاكي
يرى الكاتب أن اللغة ينبغي أن تكون لغة معان قبل أن تكون لغة ألفاظ. وأن تعليمها ينبغي أن يرمي إلى ثلاثة أغراض: أولها التدريب العقلي، وثانيها الخبرة الحسية أو الجمالية، وثالثها الوجهة النفعية. وهو يبحث في بعض وسائل تعليم اللغة العربية وينقدها في هذا المقال
1 - أصول نفسية لتعليم اللغات
إذا نحن عالجنا الوسائل التي تكفل إدراك الغايات من تعلم اللغة العربية، وجدنا أنها شعبة من الخطط العامة التي ترسمها المربون وعلماء النفس في العصر الحديث. ويسيطر على التربية في هذا العصر مدرستان متكافئتان من مدارس الفكر: أولاهما يتزعمها فرويد، وثانيتهما كان زعيمها بافلوف
ويذهب الأولون إلى أن النفس جماع الغرائز والميول الفطرية، وهذه تأتلف في أحيان وتختلف في أحيان أخرى. ولقد اتجهت التربية في هذا العصر وجهة من يحاول أن ينشئ تلك الميول سواء أكان ذلك بالاستعلاء بها أم بالتهدي إليها. وقامت فلسفة التربية على أساس من تلك الغرائز المتوافقة المتناكرة، بل لقد كان فتحاً جديداً في التربية أن اصبح الطفل موضع العناية عند المربين. ولعل روسو واضرابه من فلاسفة القرن الثامن عشر كانوا أول من نادى بتربية الطفل كطفل، وأول من هيأ السبيل للعلماء المحدثين. على أن تلك المسألة قد اختلجت بين الفلسفة والأدب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى قام فرويد يؤصل أصولها النفسية في السنوات القليلة الماضية. وهنا ظهرت في التربية مبادئ الحرية التي تحاول أن تساير ميول الطفل وغرائزه، وذهب المربون يصطنعون وسائل التعليم على هدى تلك المبادئ الحديثة، فأفلحوا في اصطناع الكثير منها فيما يتصل بكل فروع المعرفة ومنها اللغات.
والطفل عند هؤلاء عامل كبير في تربية نفسه، فليس هو جهازاً مستقبلا، وليس موقفه سلبياً محضاً، وليس ينعم بتلك القابلية التي تستوعب أي شئ وكل شئ من غير أن يكون له من نفسه سلطان على ما يعلم وما يعمل، وإنما نفسية الطفل عندهم فعالة مؤثرة، فهو(250/3)
تتنازعه الهواجس والعواطف والميول. وعلينا نحن أن نبسط له من العلوم ما يتروّاه وينعم به. أما وسائلنا فخيرها ما ساير ميول الطفل حتى يدفعه الشوق إلى الاستزادة من ألوان المعرفة، وحتى يصبح تعليمه داخلياً فعالاً لا خارجياً لا يكاد يتدسى إلى الصميم
وإلى جانب تلك المدرسة النفسية الغامرة ظهرت مدرسة أخرى تؤمن بالغرائز والميول أيضاً، لكنها تؤمن فوق كل ذلك بما يسمونه الأفعال المنعكسة وتلك مدرسة العالم النفسي بافلوف؛ فلا يذهب هؤلاء في تقدير الغرائز مثل ما يذهب أصحاب فرويد ولا يمعنون في تقديرها مثلما يمعن الأولون، وإنما يضعونها جنباً إلى جنب مع الأفعال المنعكسة التي يستطيع أن يكسبها الطفل، ويؤمن هؤلاء بأن الغرائز والميول قابلة للتعديل عند الإنسان وأنه قد يكسب نوعاً خاصاً من المهارة إذا هو وضع تحت مؤثر دائم متكرر. فالتقليد والتكرار والمراجعة كل أولئك جديرة بأن ترشد المتعلم إلى إحسان المهارات وهي جديرة بأن تكون أساساً ثابتاً لعلوم كسب المهارة
ومدرسة بافلوف ومدرسة فرويد كلتاهما على حق. وهما في ذاتهما تمثلان وجهتي نظر مختلفتين لكنهما متكاملتان. أما الأولى فهي تمثل الحرية في التربية، وأما الثانية فهي تمثل النظام. الأولى تعترف بملكات الطفل وقواته، والثانية تحاول أن تشيع نظاماً خاصاً يأتلف تلك الملكات، والأولى تسمح للطفل بأن ينمي كل ما وهب من مدارك، والثانية تربط تلك المدارك بعضها ببعض حتى تصبح موثوقة الأجزاء مرتبطة الأطراف
والآراء النفسية التي يذهب إليها الفريقان تخلق دستوراً بأكمله نجتلي فيه أحسن الوسائل لتعليم اللغات، فاللغة من ناحية ينبغي لها أن ترتبط بالميول والغرائز التي تجتمع لدى الطفل. وينبغي أن تكون مادتها بحيث تهز مشاعره وتحرك أعطاف قلبه، وهي من ناحية أخرى إحدى المهارات التي يكسبها الأطفال كأي فعل منعكس آخر، ولن يتأتى ذلك حتى يكون إحسانها نتيجة لمؤثر أو باعث شديد دائم متكرر. من هذين الوجهين ينبغي لنا أن نثبت الوسائل التي تكفل إدراك الغايات من تعلم العربية. وسنرى في نقد وسائل التعليم الحاضرة أنها بعيدة كل البعد عن ميول التلاميذ من جهة، وإنها لا تقوم على بواعث شديدة متكررة من جهة أخرى، وأن تعليمها عندنا لن يستقيم حتى نداول بين هذين الوجهين من وجوه التربية الحديثة(250/4)
2 - طرق التعليم
تتصل طرق تعليم اللغات إذن بميول الإنسان وغرائزه. وقد بحث المربون اقرب تلك الميول وأكثرها مواتاة فوجدوا أن اللعب يجلوها، واتخذه كثير من المربين وسيلة من وسائل التعليم، واللعب بمعناه النفسي فيض من النشاط الذي يغمر نفس الطفل، وهو اشد أثراً فيها من العمل. فالعمل يفرض فرضاً لكن اللعب بادرة من وحي النفس، وللعمل غرض قد يكون نفعياً يفسد النشاط ويخبث النفس، ولكن اللعب لا يعرف لنفسه حدوداً، ولا ينقلب شراً إلا إذا اصبح عبثاً غير محمود. وفي اللعب تتنظر قوى الأطفال بأكملها وتتوافى مداركهم، واللعب في المدرسة الحديثة وسيلة للعمل فإذا أفلح معلمو اللغات في اتجاه وسيلة لتعليمها حققوا ما ذهب إليه علماء النفس وربطوا اللغة بالميول الفطرية ربطاً محكما لا انفصام له
ولعل القصة أول أنواع اللعب التي نستعين بها في تعليم اللغة. وعند الطفل ميل طبيعي للتمثيل. ولسنا نقصد بالتمثيل ذلك النوع المسرحي الذي يحسنه الممثلون، وإنما نقصد ما يميل إليه الأطفال من إحلال أنفسهم محل بطل القصة أو بطلتها. وأنت إذا بحثت عقيدة الطفل - بل إذا تعمقت عقائدنا الأدبية - وجدت أنها خليط من الحقيقة والخيال. ففي القصة يتمثل القارئ أو السامع نفسه في الشخصية الروائية التي يميل إليها. فالبطل ينقذ فتاة، والبطل يقود أمة نحو المجد، والبطل كثير الحيطة أيد شجاع، وخلال القصة تعلو عقيدة الطفل حتى ليحسب الخيال واقعاً، وحتى ليتداخله الزهو فيخال نفسه بطلا. ذلك عندنا نوع اللعب الذي يدفع بالناشئين إلى القراءة، فهو يستغرق تفكيرهم، وهو يستهلك جهدهم. وهو بعد ذلك دعامة لا تتزايل من دعامات اللغة
ولسنا ندري من الملوم على حالة الكساد التي قضت على أدب الطفولة عندنا، لكنا نرى عند الطفل الإنجليزي آلافاً من الكتب الجميلة التي تزخر بالصور والرسوم. والطفل الإنجليزي يمتع في صباه بما يرى وبما يقرأ، وهو يندفع وراء القراءة بوحي نفسه، لأن كل هذه الكتب تصادف هواه، لكن الطفل المصري محدود الاختيار. فالمدرسة لا تعترف بما يقرأه في الخارج مهما بلغت عنايته بالقراءة، وهو لا يجد إلا قليلاً من القصص المترجم إذا شاء أن يقرأ، وإنه ليصرفه عن القراءة تبرم بعض المدرسين بالقصة ووصفها بأنها(250/5)
نوع من أنواع العبث. هذا على أنه لا يجد (مكتبة) من القصص، لأن وزارة المعارف هي التي تحكم مصائر الأمور في التعليم، ولأن وزارة المعارف لم تتضمن مركزيتها الاعتراف بالقصة أداة للتعليم في العربية، ولو أنها اعترفت بها أداة للتعليم في الإنجليزية منذ زمن بعيد
عالج المستر مان خبير التربية هذه المشكلة في تقريره عندما تحدث عن الفرق بين لغة الحديث ولغة الكتابة في مصر. وعنده أنه لن ترقي لغة الكتابة في مصر ولن ينقص الفرق بينها وبين لغة الحديث حتى نخلق أدباً قائماً للأطفال يتضمن مادة جذابة توافق عقل الطفل. وينبغي لكتب الطفولة في رأيه (أن تحتوي تلك القصص ذات اللون الخاص التي تتمثل في أدب كل شعب من الشعوب). والحق أن العربية ذات أدب شعبي تمثله كتب كألف ليلة وليلة. لكن ألف ليلة وليلة طبع بالإنجليزية مئات المرات في أشكال وأحجام جميلة مختلفة. وقد بلغ من عنايتنا الضئيلة بمثل هذا الكتاب أننا بدأنا الآن فقط بترجمة ترجماته الإنجليزية إلى العربية. ومثل هذا يقال في القصص الأخرى التي انتقلت في عصر النهضة من الشرق إلى الغرب
ولقد يطول الحديث بنا إذا نحن استرسلنا في الكتابة عن تقصيرنا في خلق أدب الطفولة. وحسبنا أن نقول أن وزارة المعارف هي الهيئة الوحيدة التي تستطيع أن تخلق مثل هذا الأدب. وما دامت المركزية أصلاً من أصول إدارة التعليم عندنا فوزارة المعارف هي التي تستطيع أن تنتخب مدرسين وكاتبين تحبسهم على عمل مثل هذا. ولا غناء عندنا في جهود فردية محمودة يقوم بها الفينة بعد الفينة أفراد متحمسون
والتمثيل المسرحي نفسه وسيلة تكفل حرص الأطفال على تعلم اللغة. ولسنا نقصد بذلك أن يكون له - كما له اليوم - إدارة خاصة مركزية. ولا أن يكون قاصراً على بضعة أفراد من التلاميذ يمثلون فصلاً أو فصلين في العام لأن ذلك قد ساير المدارس الثانوية عندنا منذ نشأتها إلا أنه لم يفد اللغة إلا قليلاً. وإنما نقصد بالتمثيل المسرحي أن يكون لكل مدرس اتجاه خاص يحبب إلى تلاميذه ممارسة التمثيل. فإذا هو أمدهم بالقصص المسرحية العربية وعاونهم على تمثيلها من غير مسرح ولا ستائر كان في ذلك إدراك للغرض من تعلم اللغة، وكان فيه رياضة جمالية سامية. وخيال الطفولة ضمين بأن ينشئ مسرحاً خيالياً، وكفيل(250/6)
بأن يسير بالقصة إلى حد كبير من الإتقان
والتمثيل راسخ كوسيلة من وسائل تعليم اللغة لأنه يقوم على التقليد؛ والتقليد ميل غريزي هو الأساس الأول لدروس كسب المهارة. فإذا اتخذنا التمثيل ذريعة لتعليم اللغة أوفينا على الغاية مما نرمي إليه من تعليم العربية؛ وأدركنا في نفس الوقت غرضنا الحسي أو الجمالي الذي أسلفنا الحديث عنه
ومثل ذلك فكرة الموسيقى والأناشيد وإلقاء الشعر والخطب عند الأطفال. والذي قلناه عن التمثيل ينطبق جميعه على كل هؤلاء؛ وليس يكفينا في هذه المرة أيضاً أن تكون هناك إدارة مركزية للموسيقى تلقن عدداً من الأطفال بضعة أناشيد كل عام، بل الذي يعنينا أن تكون الأناشيد والموسيقى من بين الكفايات التي يحسنها المدرسون حتى يوفقوا بينها وبين دروس العربية، وحتى يتخذوها مُعيناً على إحسان التوقيع وإتقان الخطابة، والسيطرة على مخارج الحروف والكلام. دع عنك ما تراه الطفولة في كل ذلك من الترفيه، وما تجده من الدواعي إلى الاستزادة من معين اللغة
فإذا درج الطفل إلى الصبا بعد ذلك كان في الأدب مجال واسع لتحبيب اللغة إليه. والأدب الذي ندعو إلى دراسته هو الأدب الذي لا يقف جامداً عند سير الشعراء والادباء، ولا يتغير بعصور السياسة، ولا تتقطع بصاحبه الأسباب دون تذوق الجمال. والناشئ الذي قضى أيام الطفولة في جو خيالي من القصص والغناء والتمثيل خليق به أن يصل ذلك بالأدب الموروث، وأن يتأتى لأدب الرجال بما يزخر من شعر سام وبما يحتوي من نثر علمي منتظم
ينبغي أن يكون من أغراض الأدب أن نحيط المتعلم علماً بما ازّينت به اللغة من جمال، وأن نروض الفتيان على أسرار القول المتسق. والعبث بعينه أن نحاول تحفيظهم أين ومتى مات الأدباء والمتفننون. والعبث بعينه أن نفرض عليهم استذكار سير الأدباء وما اتصف به شعر كل منهم من جزالة اللفظ، وما يترقرق في كلامهم من رقة المعنى ولطف الروح، وألا يكون ذلك إلا كلاماً يرددونه كالببغاوات ابتغاء النجاح في الامتحان. بل الخير كل الخير أن ندفع بهم في غمار المأثور من الأدب نعلمهم الأصول ونزكيهم في نفس الشعر ونفس القصص ونفس المقامات حتى يخلق كل واحد منهم لنفسه مزاجاً أدبياً أو فنياً خاصاً(250/7)
فيما يتصل بشؤون اللغة والأدب
ولعلنا نستطيع بعد الذي أسلفنا من وصف الاتجاه الحديث في تعليم اللغات أن نلمس موطن العلة في أساليبنا الحاضرة. وبين الذي فصلناه وبين الذي يقع الآن اختلاف عريض ليس من سبيل إلى تلافيه حتى تتكثر الجهود بعد الجهود، وحتى تقوم مدرسة من مدارس الفكر لتخلق جواً آخر غير الذي تعيش فيه اللغة. وقد تحدرت في أصول التعليم عندنا تقاليد ما زالت تنكر على الطفل حياته الوجدانية الخاصة، فلم يقم إلا القليل يبعثون القصص التي توائم الطفولة. ولم يدرك أحد بعدُ العلاقة بين اللعب الحر وبين اللغة، ولا نحسب أننا في حالة نتوقع فيها أن نقيم العلاقة بين اللغة وبين الموسيقى والغناء، فإن هذا أمل غير قريب التحقيق
على أن الذي نراه قريب التحقيق هو شئ واحد ينتظم كل ما ذكرنا. فإن المعلمين يخلطون دائماً بين الوسيلة وبين الغاية. ويؤمنون بأن الذي اتخذوه وسيلة إنما هو غاية في نفسه. فقد اتخذ المعلمون الأقدمون النحو وعلوم البلاغة وسائل لتقويم اللسان وسلامة المعنى، ويتخذها المعلمون المحدثون غايات في نفسها يعقدون فيها أعسر الامتحانات. ولو أنهم علموا أن إحسان القول وإتقان القراءة والكتابة هي نفسها الغايات لتغيرات نظم التعليم عندنا ولنهيأ جو صالح يتحول فيه تعليم اللغات إلى المرتبة التي نبغي
ولشد ما يعجب المرء حينما يمر بنظرة عجلى على الكتب التي يدرسها تلاميذ المدارس الثانوية في مختلف الفرق. وأشهد أنى لأتردد كثيراً أن أعقد موازنة بين الكتب العربية التي يدرسونها والكتب الإنجليزية. ولعلك تدرك قليلا من مثل هذا التردد إذا علمت أن التلميذ في السنة الأولى يقرأ حوالي أربعمائة صفحة من الإنجليزية وهو يقرأ مثل هذا القدر في السنة الثانية، ويزيد على الخمسمائة في الثالثة ثم يربى على الستمائة في الرابعة. أما إذا سألتني ماذا يقرأ هؤلاء في العربية أجبتك بأن التلميذ لا يقرأ نصف هذا القدر في فرقته. وبالضياع مجهود البلاغة والنحو لو لم يستعن بعض هؤلاء التلاميذ بالمجلات وبروايات الجيب ثم بعد ذلك بالأدب الرخيص
ولنا حديث آخر عن تعليم النحو والقواعد، واتصال ذلك بفكرة الأفعال المنعكسة نرجو أن نزجيه إليك في الأسبوع القادم أن شاء الله(250/8)
أحمد خاكي(250/9)
الحبشة تهدد مصر بمنع زيادة النيل سنة 847
لأستاذ جليل
المفاوضات والمخاوضات بين (الحليفة) بريطانيا! و (الجارة) إيطاليا! (يا جارتا ما أنت جارة!) - بعثتني على أن انشر في (الرسالة) الغراء هذه الكلمة ذات العنوان تبصرة وذكرى
قال شاعرنا شوقي:
فمصر الرياض، وسودانها ... عيون الرياض وخلجانها
وما هو ماء ولكنه ... وريد الحياة وشريانها
تتمم مصر ينابيعه ... كما تمم العين إنسانها
وأهلوه منذ جرى عذبه ... عشيرة مصر وجيرانها
إذا لم يعتقد المصري أن السودان مصر وأن مصر السودان، وإذا لم يؤمن بوحدة وجودهما
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني ... وإذا أبصرتني أبصرتنا
إذا تّبدي حبيبي ... بأي عين أراه؟
بعينه لا بعيني ... فما يراه سواه
فإن المصري إذا لم يعتقد ذلك الاعتقاد، ويؤمن بتلك (الوحدة) إيمانه بالله ورسوله وقرآنه فهو كافر حقُّ كافرٍ بالمصرية. وما أريد في هذه الكلمة أن أثبت أن الكون حقيقة وليس بوهم، وأن شمساً في السماء تطلع علينا كل يوم، فإن البديهيات اليقينيات هن بديهيات يقينيات
وليس يصح في الأفهام شئ ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وبعد فهذا خبر في كتاب (التبر المسبوك) للعلامة (السخاوي) في الصفحة (70) في رسالة من (النجاشي) ملك الحبشة إلى الملك الظاهر (جقمق) ملك مصر المعظم في سنة (847) أرويه ليتلوه المصري متبصراً فيه، مفكراً في بعد مراميه.
قال النجاشي متهدداً متوعداً:
(وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجرُّ إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة(250/10)
على أن على نمنع الزيادة التي تروي بها بلاكم عن المشي إليكم، لأن لنا بلاداً نفتح لها أماكن فوقانية يتصرف فيها إلى أماكن أُخر قبل أن يجئ إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى. وقد عرضنا على مسامعكم ما ينبغي إعلامه، فاعملوا أنتم بما يلزمكم)
هذا كتاب النجاشي، وهو لا يحتاج إلى تفسير ولا هامش ولا تعليق. وإنه ليدمغ باطل ألف مقالة ومقالة - مثل ألف ليلة وليلة - ينمقها ويلفقيها سوفسطائي منحط في هوى العدو (أكل من حلوائهم، فانحط في أهوائهم) ليبرهن أن الإنسان مالكَ الماء، متمدناً (أوربياً) لن يقتل أخاء الإنسان - وإن ناكره وخاصمه - بالعطش(250/11)
في المذهب الرمزي
للأستاذ زكي طليمات
مفتش التمثيل بوزارة المعارف
(كتبنا في العدد الماضي نقداً (لمفرق الطريق) وهي مسرحية تنزع نزعة رمزية في مبناها ومعناها كتبها الأستاذ بشر فارس فجاءت تحفه فنية رفيعة، ومقال اليوم بحث في الرمزية على القدر الذي لا تضيق به صفحات الرسالة)
زكي
الرمزية إحدى الاتجاهات النفسية في الإفصاح والتبيين، فهي وسيلة من وسائل التعبير عن خلجات النفس تتجاوز الرمز بشيء إلى شئ آخر، إلى إظهار الغامض والمبهم والتائه في مغلفات الروح، وتسجيل أصداء العقل الباطن
الرمزية عريقة في الإنسان
ليس الرمز في بالشيء الجديد في نتاج الشعر الإنساني. ولو رجعنا إلى الوراء نتأثر مصدر الرمز لوجدناه بعيداً في أغوار الشعور الإنساني منذُ القدم؛ فقد سجل الإنسان الغائر في أجواف الماضي بالنقش على الحجر والحفر على جدران المغاور، خلجات نفسي ونجى التائه فيها، بعد أن أعياه الفكر في الكشف عنها ومعرفة بواعثها، فجاءت رموزاً تومئ ولا تفصح الإفصاح كله عن أصداء النفس ولوامعها. بل من الرمز انبثقت العقائد لدى الزنوج. وما سائر طرائق الوثنية إلا رموز متتابعة لحيرة النفس أمام عجزها عن تفهم المظاهر الطبيعية الغامضة وقصورها عن أدراك أسرار القوى الخفية كالقدر والحياة والموت والبعث
فلما كد الذهن مستنبطاً أوضاعاً للحياة مصطنعاً دعائم المدنية، وتقدم شأن العلم فحسر اللثام عن حقائق لم تتح معرفتها للأولين ضعفت النزعة إلى الرمز بعض الشيء، ولازمها الضعف منزلاً بها الشحوب والهزال كلما دق الفكر في وضع الصيغ واستنباط القيم، وكلما كشف العلم عن حقول جديدة خفية من مظاهر الكون. وسرعان ما شغل الإنسان بالملموس من الأشياء عن التفكير وراء اللمس والحس، وصارت خلجات النفس تصدر مصنوعة في(250/12)
قوالب، فكانت (كلاسيكية) التفكير والأدب والفن
وقويت دعوة العلم بعد أن هيمن الإنسان على القوى الطبيعية فنظم عملها، وسخرها لمنفعته ورفاهيته هازئاً بما راعه من جبروتها الاول؛ ولكن ليتلقى سخريتها أحياناً وهو كظيم حينما يعاودها هذا الجبروت، وهو طبيعة فيها، فينفلت قيادها من يده وتطغى على قدرته. وبلغت هذه الدعوة أوجها في أوائل النصف الأخير من القرن الماضي بعد أن سخر البخار في وسائل النقل وإدارة الآلة، وجاء العلم (بالمعمل) يفسر الغوامض ويحلل المركبات فقويت نزعة الإنسان إلى الأخذ بما ينتجه التحليل، وصار العقل الصرف هو الميزان لديه في الحكم على كل ما يقع عليه الحس وما لا يقع، فاستنبط الفكر متأثراً (بالمعمل)، واقعية الأدب والفن، وهي النقل المجرد عن الطبيعة في المحسوس والمرئي الظاهر من الأشياء، وبذلك كمل طغيان المحسوس على ما وراء الحس
بيد أنه على الرغم من طغيان المحسوس على ما وراء الحس فإن النزعة الرمزية لم تمت في النفس، بل كانت لها يقظات خلال هذه المراحل المتوالية من التقدم الذهني، ترفع صوتها كلما راعها القصور عن إدراك كنه الحالات التي تعترضها
وما (رومانسية) الأدب والفن إلا مظهر شاحب من هذه الحالة، وهى نزعة حطمت في وقت ما القوالب والصيغ الكلاسيكية التي هي من فعل الفكر الخالص، وأرسلت من القلب خلجة إحساسية مترعة، وكان ذلك في أواخر القرن السادس عشر في إنجلترا، ثم في أوائل القرن التاسع عشر في فرنسا
وليس هذا بالأمر العجيب المستغرب، فالإنسان يحيا بغرائزه أحياناً أكثر مما يعيش بعقله الخالص. وآية ذلك أن الإنسان ما برح يخاف الموت وهو موقن بعقله أنه نهاية محتمة على كل حي
وكان بعد ذلك أن أفلس العلم في كثير من المسائل الحيوية على الرغم من اختراع الكهرباء وتنظيم شؤون الحياة، فقلل العلم من غلوائه في تفسير كل شئ، وأخفت من صوته في دعواه الكشف عن كل غامض، وسرعان ما استيقظت نزعة الرمز من جديد، وبرز لها طابع في أدب أهل الشمال من أوربا، وهم قوم يسكنون بلاداً يخفى الضباب معالمها في وضح النهار، وتطغي قتمة السحب على زرقة السماء طوال العام إلا أشهراً معدودة(250/13)
هنريك ابسن وشعراء الرمزية
فطلع (أبسن) - وذلك في أقصى الشمال ببلاد النرويج - بروايات رمزية أهمها (براند) و (بيرجينت)، وانحدرت الرمزية إلى البلجيك وهولندا، فلاقت مستقراً خصباً إذ الطبيعة في تلك البلاد تبدو كأنها غارقة في التفكير والتروي والمراجعة، وسرت عدوى الرمزية إلى فرنسا فطبعت أدبها وفنها ردحاً من الزمن تحتفظ منه واعية الأدب بأسماء (فيرهارين) و (رودنباخ) و (فان لربرج) و (رامبو) و (فيرلين) و (مالارميه) في الشعر، ثم (ماترلنخ) في الروايات التمثيلية. وكانت الحقبة الأخيرة من القرن الماضي عصر ازدهار للأدب الرمزي في فرنسا، وكانت الحركة في صميمها نزعة إلى التحرر من أدب الواقع والملموس إلى ارتياد أفاق جديدة طلباً للبحث عن الغامض من العواطف والتائه من الخلجات في منعطفات الروح ومثاني المادة؛ وهاديهم في البحث والتنقيب الإحساس المرهف والإدراك المحض (والتخيل المنسرح)، وصاغوا ما انتهوا إليه في أسلوب طريف مترع بالأخيلة مشرق بالروحانية. إلا أنه كان للبعض منهم شطحات في الخيال، وجولات بعيدة فيما وراء المادة، وغوص عميق في متاهات القلب لم يخرجوا منه بكثير يؤبه له
ولا يتسع هذا المقام للإحاطة بالرمزية في آداب الأمم الأخرى
الرمزية في الأدب الإسلامي
أما في العربية الاسلامية، فالصوفية أبين مظاهر الرمزية. إلا أن الرمزية كانت لدى العرب علماً وليست فناً؛ وبين العلم والفن فارق معروف، ولذلك لم تفرض طابعها على كثير من الأدب الإسلامي، وإن استقامت لها طريقة في شعر (الخيام) وأمثاله، ومن أخذ عنهم، أو نحوا نحوه
والرمزية عند (الخيام) ضرب من الفورة الحسية حلت فيها عبقة روحانية
ولعل السبب في أن الأدب العربي لم ينحرف إلى الرمزية الغامضة في كثير من نتاجه، ويخرج عن الواقعية و (الكلاسيكية) يرجع إلى الطبع البدوي الذي يميل إلى الوضوح والبساطة، وإلى طبيعة البلاد التي نشأ ودرج وشب فيها، حيث الشمس تسطع من أول النهار إلى آخره في سماء صافية متدخلة في الثنايا والشقوق، كاشفة عن ظواهر الأشياء في(250/14)
جلاء ساطع، كما أن الأدب الإسلامي لم يخرج عن الأوضاع الذي أورثه إياها الأدب الجاهلى، واقتصر أمر التوليد فيه على التنميق في الصيغ الشكلية
ويقيني أننا نتحرج إذا قضينا بأن الأدب العربي أو الإسلامي لم يعرفا الرمزية في تراثهما الكبير، إذ أن معين هذين الأدبين هو نفس المعين الذي أخذ منه الأدب الأوربي، ألا وهو النفس البشرية. وما برح البحث والاستقراء يتعقبان مخلفات الأدب العربي والإسلامي، وهى مخلفات، وياللأسف، ما برحت مشتتة في دور الكتب ما بين أوربا وأمريكا ليلقيا كل حين ضوءاً جديداً عليها
هذا والرمزية كما أسلفنا شئ كامن في النفس، تبدو صريحة كلما استشفها الرغبة الذهنية إلى التطلع إلى ما وراء المحسوس، وهو الباطن الغائر في أعماق النفس، أو كلما أحست النفس بهزيمة العقل أمام الغامض من الأمور. وها نحن أولاء في القرن العشرين، وهو قرن اصبحت للعلم فيه دولة، ومع ذلك فقد قامت نظريات جديدة تدحض نظريات علمية وفلكية اتفقت عليها الآراء وقطعت بصحتها منذ مئات السنين. وهناك بديهيات عديدة ما برح للعقل فيها حيرة. ولم يبالغ (بوانكاريه) حينما قرر أن تقدم العلم تقدم آلي عجيب، إلا أنه عجز عن أن يكشف الكشف الكامل عن كثير من الحقائق
الرمزية في الأدب العربي المستحدث
أما ما يحضر أذهاننا من آثار الرمزية في الأدب العربي المستحدث فينحصر في كتابات (جبران خليل جبران) وهو لبناني المولد عاش دهراً طويلاً من حياته في المهجر الأمريكي فتأثر بكثير من كتاب الغرب، واستقامت في كتاباته طريقة رمزية تخالطها نزعة رومانسية. وقرأنا بعد ذلك شعراً رمزياً في الأداء للدكتور بشر فارس وذلك منذ عشر سنوات في مجلة المقتطف
وفى مؤلفات (توفيق الحكيم) نلمح الرمزية لامعة في بعض ما أخرجه للمسرح، ولا سيما في روايته (شهرزاد). وليس في هذا ما يبعث على العجب، فلتوفيق الحكيم نزعة صوفية أصيلة، كما أنه احسن استيعاب مسرحيات الإيطالي (بيراندللو)، وهو ابرز مؤلفي المسرحية الرمزية في هذا العصر؛ وتفهم مسرحيات الفرنسي (لونورمان)؛ وليس مؤلفات (فرويد) و (بيرجسون) مما لم يحسن مطالعتها(250/15)
فبشر فارس وتوفيق الحكيم يغترفان من مصدر واحد، الأول يكتب متثبتاً بما تلقنه، والثاني يؤلف بطبعه وخياله، إلا أن لكل منهما طرائقه في التعبير عن رمزيته، وكلاهما يعيش بذهنه في أوربا ويحيا بجسمه في القاهرة.
زكى طليحات(250/16)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 26 -
وحي الأربعين
أصدر العقاد ديوانه (وحي الأربعين) في سنة 1933؛ والسياسة المصرية يومئذ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تمكن لنفسها بالحديد والنار، و (الوند) ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنيناً ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق في كل مدينة وكل قرية؛ فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء هو أبلغ من كتب وأشعر من نظم، حتى ليؤول أمره من بعد إلى أن ينحله الدكتور طه حسين بك الوفدىُّ المتحمس، لقب أمير الشعراء، تملقاً للشعب ونزولاً على هواه. . .!
ولقد يكون العقاد يومئذ على حقيقته هو سيدَ الكتاب وأمير الشعراء أو لا يكون؛ ولكن هذه هي كانت منزلة عند الشعب يومئذ؛ فلا يعاديه أحد إلا كان عدو الأمة، ولا يعرض له أحد بالنقد في أي منشأته الأدبية أو السياسية إلا كان في رأى الشعب (دسيسة) وطنية أو صنيعة رجعية. . .
هذه هي كانت الحقيقة في تلك الحقبة من التاريخ التي امتزج فيها الأدب بالسياسة امتزاجاً جعل طائفة كريمة من الأدباء يؤثرون الصمت واعتزال الأدب على أن ينزلوا بأنفسهم إلى معترك لا يعرفون أين تبلغ بهم عواقبه. ولكن الرافعي رجل - كان - لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها؛ فهو لا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته؛ وسواء عنده أكان رأيه هو رأى الجماعة أم لا يكون، ما دام ماضياً على طريقته ونهجه. ولقد قدمت القول بأن الرافعي كان يتربص بالعقاد منذ قريب لينزل إليه في معركة حاسمة تنقع غلته وتبرئ ذات صدره، فما أن تهيأت له الأسباب بصدور (وحي الأربعين) حتى تحفز للعراك. وكان ما(250/17)
بين العقاد ومخلوف هو السبب المباشر الذي ألهب حمية الرافعي فنزل إلى الميدان مستكملاً أهبته مزوداً بسلاحه، غير مكترث بما قد يناله من غضب الآلاف من القراء الذين يقدسون العقاد الكاتب تقديساً اعمي فلا يفرقون بين العقاد السياسي والعقاد الأديب. . .!
وأرسل الرافعي يستدعيني إليه ذات مساء، فرحت إليه بعد العشاء بقليل؛ فإذا هو جالس إلى مكتبه، وعلى مقربة منه (وحي الأربعين) وإن عليه لثوباً أحمر في لون عرف الديك، وفى عينيه فتور وضعف ينبئ عن السهر والجهد العميق؛ فإنه ليبدو في مجلسه ذلك كأنه عائد لساعته من معركة حمراء. . .!
قال: (لقد فرغت من قراءة الديوان منذ قليل، وإن لي فيه لرأياً. فهل تساهرني في الليلة حتى أملي عليك ما أعددت في نقده؟)
كانت هذه أول مرة يملى الرافعي على فيها من مقالاته؛ فكانت فرصةً سعيدة لي، اشهد فيها الرافعي حين يلقَّي الوحي، وأصحبه في سبحاته الفكرية يقتنص شوارد الفكر وأوابد المعاني. وكانت فرصة سعيدة له: أن وجد يداً غير يده تحمل له القلم حين يكتب ليفرغ لنفسه، ويخلو بفكره؛ وما تعوَّد قبلها أن يكتب وفى مجلسه إنسان. وإن أثقل شيء عليه أن يكتب بيده، ولكن اقل من ذلك عليه أن يعرف أن عيناً تلاحظه وهو يكتب، فما زال يكتب لنفسه منذ بدأ متبرماً بهذه المهمة، ضيق الصدر بما يبذل في الكتابة من جهد. وإن خطه لأردأ خط قرأت في العربية. . . حتى اصطفاني لهذا الواجب، فلزمته ثلاث سنين لا يهم بكتابة مقال إلا دعاني ليمليه عليّ، حتى انتقلت من طنطا فعاد إلى ما كان من عاداته: يملي على نفسه ويكتب لنفسه، ولم يسترح إلى كاتب بعدي يشركه في جلوة الوحي وخلوة الكتابة!
وجلس فأملى عليّ مقاله في نقد (وحي الأربعين)، من قصاصات في يده لا تزيد إحداها على قدر الكف، فما فرغ من الإملاء حتى أذن الفجر، وحتى كانت هذه القصاصات بضعاً وعشرين صفحة كبيرة، تشغل بضعة عشر نهراً من جريدة البلاغ. وكانت ليلة تحملت فيها من الجهد والمشقة ما لم أتحمل في ليلة غيرها فقمت منهوك القوة عيّان، وقام الرافعي في مثل نشاط الشاب في عنفوانه، كأنما كان عليه عبء فرماه عن كتفيه. . .!
وكان بين البلاغ والعقاد خصام، وكان بينه وبين الرافعي مودة، فما كادت تصل إليه مقالة(250/18)
الرافعي في البريد المستعجل ظهر ذلك اليوم، حتى أعلن عنها وبشر القراء أن ينشرها في غد. . . وشغلت من البلاغ ثلاث صفحات في يومين. . . وكان نقداً مُراً حامياً اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه، ولكنه كان نقداً منزهاً عن العيب
أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية: أن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر، وأقربها إلى المثال الصحيح، لولا هفوات قليلة يعفيه من تبعتها أنه إنسان!
من قرأ (على السَّفُّود) فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان ينزله من نفسه، فليقرأ مقال الرافعي في نقد (وحي الأربعين) ليرى الرأي المجرَّد في شعر الأستاذ العقاد عند الرافعي. . .
ومضى يوم واحد، وظهرت صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد وفيها رد العقاد على الرافعي، وقد نفذ إليه من باب لم يحسب الرافعي حسابه، فتغير وجه الحق، ودارت المعركة حول محور جديد. . .
كان عنوان مقالة العقاد (أصنام الأدب) فيما أذكر، وكان مدار القول فيها هو الطعن على رجلين: هما إسماعيل مظهر، والمهزار الأصم مصطفى صادق الرافعي. وكان أكثرُها سباباً وشتيمة واقلها في الرد والدفاع. على أن العقاد لم يرد رأي الرافعي فيما أخذ عليه من مآخذ إلا في مواضع قليلة، وترك الرد في أكثر ما عاب عليه الرافعي، مستعيضاً على الرد بالشتم والسباب. . .!
وإذا كان السبب مفهوماً في طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه، فأي سبب حمل العقاد على أن يشرك الأستاذ إسماعيل مظهر مع الرافعي فيما وجه إليه من الشتم والتهمة؟
جواب ذلك يفهمه من يعرف أن الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور، هو طابع كتاب (على السفود) وناشره ومروِّجه. أفنستطيع أن نحكم من هذا بأن العقاد لم يكن يعني الرد على مقال الرافعي الأخير وحده؛ ولكنه وجدها فرصة لتصفية الحساب القديم كله بينه وبين الرافعي وصاحبه الذي أغراه على كتابة (على السفود)
وكان الباب الذي نفذ منه العقاد في الطعن على الرافعي، هو اتهامه في وطنيته، وإيهام قرائه بأن الرافعي لم يكن لينقذه إلا لأنه هو العقاد السياسي الوفدي عدو الحكومة المتسلطة(250/19)
على الناس بالحديد والنار! وحسبك بها من تهمه حين يقولها العقاد!
أن للعقاد مفاجآت عجيبة النقد، تمثل العقاد الكاتب المرن المحتال في أساليب السياسة، اكثر مما تمثله ناقداً محيطا يدفع الرأي بالرأي والبرهان بالبرهان!
وقرأت مقالة العقاد في الرد على الرافعي، فوجدت أسلوباً في الرد لم اكن انتظره، يؤلم ولا يفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج. فما فرغت من قراءة المقال حتى تمثل لي الرافعي مرّبد الوجه من غيض وغضب، مزبد الشتقين من حنق وانفعال؛ فسرني أن أسعى إليه قبل ميعادي لأراه في غيظه وحنقه وانفعاله، فانتهزت ساعة فراغ في الظهر، فمضيت إليه في (المحكمة)؛ فما كاد يراني مقبلاً عليه حتى هتف بي وهو يبتسم ابتسامة المسرور ثم قال: (أقرأت مقالة العقاد؟) قلت: (نعم) قال: (فماذا رأيت فيها؟) قلت: (لقد كان شديداً مؤلماً!) فضحك وقال: (والله ما رأيت كاليوم! لقد ضحكت حتى وجعني قلبي من شدة الضحك. . . إنه لم يكتب شيئاً، ولم يرد علي شيء؛ أن سبابه وشتمه لن يجعله عند القراء شاعراً كما يشتهى أن يكون، وأن حسب أنه به يكسب المعركة. لقد حق عليه ما قلت فيه، وأنه ليعترف. أن فراره من الرد إلى السباب والشتيمة ليس إلا اعترافاً بالعجز. . .)
قلت: (إذن فأنت لا تنوي الرد؟)
قال: (وأي شيء تراه يستحق الرد فيما كتب؟)
قلت: (ولكن القراء لن يفهموا سكوتك على وجهه، ولن يسموه إلا انسحاباً من المعركة. . .! أفترضى أن يقال عنك. . .؟)
وبدا على الرافعي كأنه اقتنع، وهاجته كلماتي مرة أخرى إلى النضال. ومعذرة ثانيه إلى الأستاذ العقاد!
إن معركة تدور رحاها بين العقاد والرافعي جديرة بأن يحتفل لها الأدباء وان تنال من اهتمامهم أوفى نصيب، وإن لهم فيها لمتاعاً ولذة وفائدة. وما كان لي أن أقنع وقد هجت هذه المعركة بما فيها من متاع ولذة وفائدة بأن تنتهي من أول شوط!
وقال لي الرافعي: (فهل توافيني الليلة لأملي عليك؟)
فواعدته وذهبت إليه في المساء، فأملى عليّ فصلا من نسخته الخاصة لكليلة ودمنة، بعنوان (الثور والجزار والسكين!) ثم أتمه مقالا في الرد على العقاد. وكان فصلا قاسياً عنيفاً، ليس(250/20)
من مذهب المقال الأول ولا نهجه، إذ لم يكن المقصود به النقد وحسب، بل الرد والسخرية والإيلام، ثم قطع السبيل وتدعيم الدليل وتقرير المعنى فيما قدم من مواضع النقد
ثم رد العقاد ليعلن انسحابه من المعركة، شاكراً للذين أيدوه، متعذراً عن عدم الاستمرار في مناقشة دعوى الرافعي! واستمر الرافعي يكتب حتى فرغ. . .
وكان النصر للرافعي عند طائفة، ولكنه خسر عطف الآلاف من أصدقاء العقاد الكاتب الوطني الكبير، إذ لم يروا عداوة الرافعي له في الأدب إلا دسيسة سياسية من خصوم العقاد!
وانتهت المعركة الأخير بين الرافعي والعقاد، ولكن الرافعي لم يقتنع بما نال من النصر عند الصفوة من القراء الذين يفرقون بين الأدب والسياسة، إذ كان على يقين أنه وأن كانت له الغلبة، قد خسر اكثر الطائفتين من قراءه لأنهم على مذهب العقاد السياسي، فضل مغيظاً محنقاً إلى حين. . .
ومضت سنتان، وتقلبت السياسة المصرية من تقلباتها، فإذا العقاد الذي كان كاتب الوفد الأول، خارج على الوفد، يطعن عليه وعلى رئيسه؛ وأنصار الوفد ما يزالون إلى يومئذ اكثر الأمة. . . ووجد الرافعي فرصة سانحة لينتقم، وليستخدم السياسة في النيل من خصمه في الأدب، فيكيل له صاعاً بصاع، ويحاربه بمثل سلاحه؛ فكتب مقالاً بغير توقيع في كوكب الشرق، جريدة الوفد، بعنوان: (أحمق الدولة!) وكان مقالا له رنين وصدى. . .
ونشر في (الرسالة) يومئذ كلمات تحت عنوان (كلمة وكليمة) عرض فيها بالعقاد الخارج على الوفد تعريضاً أليماً يؤذيه، لم ينتبه له إلا القليل
وكان مقاله عن العقاد في كوكب الشرق، وكلماته في الرسالة سبباً في أن يدعوه الأستاذ توفيق ذياب ليحرر في الجهاد بأجر كبير؛ ولكن لم يتم بينهم اتفاق
ولم تكن تسنح للرافعي سانحة لغيظ العقاد إلا انتهزها، فما كتب الرافعي عن شاعر من الشعراء بعد ذلك إلا جعل نصف كلامه تعريضاً لشعر العقاد. وبذلك ما كتب عن الشاعر المهندس علي محمود طه في المقطم، وما نشره عن الشاعر محمود أبو الوفا في الرسالة، ومقالته (بعد شوقي) معروفه لقراء الرسالة عامه؛ وكلها تعريض بشعر العقاد الذي نحله الدكتور طه حسين إمارة الشعر في يوم من الأيام بعد شوقي!(250/21)
والعداوة بين الرافعي والعقاد من العداوات المشهورة بين أدباء الجيل، ولها أثر أي أثر فيما انتج كل من الأديبين الكبيرين في أدب الوصف؛ ولا تدانى هذه العداوة في الشهرة إلا العداوة بين الرافعي وطه حسين
واحسب أنه كان بالإمكان أن يجتمع العقاد والرافعي في تحرير الرسالة لولا ما كان بينهما من خلاف وعداوة. قال لي الأستاذ الزيات مرة منذ عامين: (وددت لو يكتب العقاد في الرسالة! ولكنما يمنعني من دعوته إلى ذلك أنني لا أستطيع أن انشر له وللرافعي في عدد واحد!)
قلت: (فما يمنع؟)
قال: (أنت تعرف أخلاق الرافعي، وأنا اعرف أخلاق العقاد، وإن لكل منهما اعتداداً بنفسه بازاء صاحبه، فأي المقالين اقدم وأيهما أؤخر في ترتيب النشر؟ أن تقديم مقال على مقال ليس شيئاً ذا بال، ولكنه بين الرافعي والعقاد له شأن أي شأن!)
وظل الأستاذ الزيات معنيا بهذا الأمر، حريصا على أن يجمع بين الأديبين الكبيرين في مجلته، وهو يلتمس السبيل إلى ذلك فلا يوفق، حتى مات الرافعي فانحلت المشكلة؛ ودخل العقاد، ولكن بعدما خرج الرافعي!
رحم الله الراحل، ونفع بالباقي!
محمد سعيد العريان(250/22)
عبقرية الشريف الرضي
للدكتور زكي مبارك
(قبل نهاية هذا الشهر يصدر في بغداد كتاب في جزأين للدكتور زكي مبارك. وهذه فاتحة ذلك الكتاب، وهي تشرح مذهب المؤلف في دراسة الأدب العربي وطريقته في التأليف)
أما بعد فهذا كتاب (عبقرية الشريف الرضي) وما أقول أني شغلت به نفسي سنة كما قلت يوم أخرجت شرح (الرسالة العذراء)، ولا سبعة سنين كما قلت يوم أخرجت كتاب (النثر الفني)، ولا تسع سنين كما سأقول بأذن الله يوم اخرج كتاب (التصوف الإسلامي)
فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر. ولكنها من أشهر بغداد لا أشهر القاهرة ولا باريس. وما كان في بغداد لهو ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدر، خير من ألف شهر، والتوفيق من أشرف الأرزاق
وكتابي هذا هو مجموعة المحاضرات التي ألقيتها في قاعة كلية الحقوق، وكانت تلك المحاضرات من أشهر المواسم في حياتي، فقد كان أصدقائي يخشون أن يمل الجمهور بعد أسبوع أو أسبوعين، ولكن الجمهور كان يزداد إقباله من أسبوع إلى أسبوع، ولم ينقذني منه غير التصريح بأني أنفقت كل ما كنت أملك، ولم يبق إلا أن استريح!
ومحاضراتي بكلية الحقوق في بغداد هي الموسم الثاني بعد محاضراتي عن (المدائح النبوية) وهي المحاضرات التي ألقيتها باسم الجامعة المصرية في قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة، فهل يتسع العمر لموسم ثالث في القاهرة أو في بغداد؟
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأعددت هذه المحاضرات وأنشأت معها مقالات كثيرة جداً نشرتها صحف مصر ولبنان والعراق ورججت الحياة الأدبية في بغداد رجاً عنيفاً، فذلك كان أقل ما يجب أن اصنع في مقابل الثقة التي شرفتني بها حكومة العراق؛ وذلك كان اقل ما يجب أن اصنع لأحفظ لنفسي مكاناً بين الأساتذة المصريين الذين تشرفوا بخدمة العراق من أمثال محمد عبد العزيز واحمد حسن الزيات والسنهوري وعبد الوهاب عزام ومحمود عزمي؛ وذلك كان اقل ما يجب أن اصنع في خدمة تلاميذي وتلميذاتي في بغداد، وقد رأيت في وجوههم وجوه أبنائي وبناتي فكلفت نفسي في خدمتهم فوق ما أطيق
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأنفقت من العافية ما أنفقت؟ فقد ساءني أن اعرف أن (دار(250/23)
المعلمين العالية) لها في بغداد تاريخ، فكانت تفتح ثم تغلق، وتفتح ثم تغلق، فاستعنت الله وانتفعت بعطف معالي وزير المعارف الأستاذ محمد رضا الشبيبي وأريحية الأستاذ طه الراوي ومودة الدكتور فاضل جمالي، وعولت على همة زميلي وصديقي الدكتور متي عقراوي، وأقمنا لدار المعلمين العالية أساساً من متين التقاليد الجامعية، فأغنينا مكتبتها بالمؤلفات القديمة والحديثة وعلمنا طلابها كيف يبحثون ويراجعون، وغرسنا فيهم الشوق إلى التحقيق والاستقصاء
ورأيت أن يكون من تقاليد هذا المعهد العالي أن يخرج في كل سنة كتاباً عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل، فألفت كتابي هذا عن الشريف الرضي. فأن ترفقت شواغلي بمصر وأذنت لي بالرجوع إلى بغداد فسأخرج في كل سنة كتاباً جديداً. وإن أبت تلك الشواغل أن أتمتع مرة ثانية بالاستصباح بظلام الليل في بغداد فسيذكر من يخلفني أني طوقت عنقه بطوق من حديد، وأن لا مفر له من أن يشقى في سبيل (دار المعلمين العالية) كما شقيت
وإنما نصصت على هذه المعاني في مقدمة هذا الكتاب لأجتدي العطف على (دار المعلمين العالية). وممن أجتديه؟ من حكومة العراق، فما يجوز أن يغلق هذا المعهد، وإنما يجب أن تبذل الجهود ليصبح منافساً قوياً لكلية الآداب بالجامعة المصرية
قد يقول قوم من خلق الله: ولماذا ابتدأت بالشريف الرضي! أن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ عباس محمود العقاد، فهو يذكر جيداً أنني قلت له يوم اخرج كتابه عن ابن الرومي: كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار شريف الرضي
إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ الدكتور طه حسين، فهو يذكر جيداً أني نبهته إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث
إن قالوا ذلك فالجواب عند نادي الموظفين بالقاهرة فقد طلب في سنة 1932 أن القي محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية فكانت محاضرتي عن الشريف الرضي
ابتدأت بالشريف الرضي على غير موعد، فقد رأيتني فجأة بين دجلة والفرات، فتذكرت أن قد جاء الأوان لدراسة هذا الشاعر الذي تعصبت له منذ أعوام طوال
ويشهد الله وهو خير الحاكمين أني لم أفكر في إنصاف الشريف الرضي إلا يوم قدم لي(250/24)
الدكتور شريف عسيران نسخة من كتاب الأستاذ المقدسي عن أمراء الشعر في العصر العباسي، فأزعجني أن يهتم بابن المعتز وينسى الشريف الرضي، مع أن ديوان ابن المعتز لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف
فمن شاء له هواه أن يزعم أن لي غاية في التعصب للشريف الرضي فليتق الله في نفسه، وليذكر أن الدكتور زكي مبارك لو كان انفق نشاطه في الاتجار بالتراب لأصبح من كبار الأغنياء، ولكنه بلا أسف سيموت فقيراً لأنه أنفق نشاطه في خدمة الأدب العربي
والأدب العربي خليق بأن يكون له شهداء، وأنا في طليعة أولئك الشهداء
سيرى قراء هذا الكتاب أنني جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟
وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب. لن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب. والقول الفصل في هذه القضية أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي، وكل عبقري هو في ذاته أعظم الناس لأن ميدانه لا يجاريه فيه أحد سواه، والشريف بهذا المعنى أفحل الشعراء لأنه جرى في ميادين سيظل فارسها السباق على مدى الأجيال
وما الذي يضر أنصار المتنبي حين أُقدَّم عليه الشريف؟ هل فيهم من يحفظ ديوان المتنبي كما أحفظ ديوان المتنبي؟
إن سجلات كلية الآداب بالجامعة المصرية تشهد بأنني كنت أول من دعا إلى الاحتفال بمرور ألف سنة على وفات المتنبي، ولي على ذلك شهود منهم الشيخ السكندري والأستاذ عباس محمود والدكتور منصور فهمي
وما الذي يضر أهل العراق من أن اهتم بشاعر لا يعرف العراقيون موضع قبره على التحقيق؟ أليس من العجائب أن يعرف العراقيون قبر معروف الكرخي ويجهلوا قبر الشريف الرضى؟ أن هذا هو الشاهد على أن العوام أحفظ للجميل من الخواص!
إن كان خصومي في بغداد دهشوا من أن أتعصب لشاعر رضى عنه ناس وغضب عليه ناس فليذكروا أنني كنت كذلك طول حياتي فوضعت بالنقد قوماً ورفعت آخرين، وفقاً للحق لا طوعاً للأهواء(250/25)
وأنا والله راض بأن يغضب علىّ أهل بغداد، فقد غضبوا على أبي طالب المكي فمنحوه الخلود
أنا أحب الخصومات لأنها تذكي عزيمتي، ومن أجل هذا أنظر نظر الجزع إلى مصير خصوماتي في بغداد، فلن يكون لي في بغداد خصوم بعد ظهور هذا الكتاب؛ وأنه لقادر على أن يفجر العطف في القلوب المنحوتة من الجلاميد. سيذكر أدباء بغداد أنني أحببت شاعراً هو من ثروة العروبة وثروة العراق. سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية حين اهتممت بشاعر كان اصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد
وكتابي هذا تطبيق لما شرعت من قواعد النقد الأدبي، تلك القواعد التي أذعتها في كتاب (الموازنة بين الشعراء)، وهو من اجل هذا لون جديد في اللغة العربية. وسيكون له تأثير شديد في توجيه الدراسات الأدبية، وقد يصلح ما أفسد الزمان من عقول الباحثين
وبيان ذلك أني لم أقف من الشاعر الذي أدرسه موقف الأستاذ من التلميذ كما يفعل المتحذلقون، وإنما وقفت منه موقف الصديق من الصديق. والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جداً؛ ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي: كافح في سبيل المجد ما كافح وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت وجهلني قومي وزماني
وهذا الترفق في معاملة الشريف ليس نزوة شخصية، وإنما هو وثبة علمية، فما كان يمكن أن أكون وفياً للبحث إلا أن سايرت الشاعر الذي أعرض عقله وروحه على تلاميذي. وهذه هي المزية التي أنفرد بها بين أساتذة الأدب العربي
سايرت الشريف مسايرة الصديق للصديق: فإن آمن آمنت، وإن كفر كفرت. أن جدّ الشريف جددت، وإن لعب لعبت. أن عقل الشريف عقلت، وإن جن جننت. أن قال الشريف أن غاية الرجل العظيم هي الحرب، قلت: صدقت. وإن قال: أن الحياة هي الحب، قلت: والحب الحياة!
ولكني مع هذا عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق؛ نبهته تنبيهاً دقيقاً جداً لا يفطن إليه إلا الأذكياء، وفي بني آدم أذكياء. نبهته إلى عيوبه أكثر من ستين مرة؛ وما أظنه يحقد عليّ، لأن الصديق الذي في مثل حالي تغفر له جميع الذنوب(250/26)
والشواهد في هذا الكتاب كثيرة جداً؛ وذلك هو أسلوبي في البحث، فأنا أشغل القارئ بالشاعر الذي أدرسه أكثر مما أشغله بنفسي، وهذه إشارة أرجو أن ينتفع بها المتحذلقون
اعتمدت على طبعة بيروت وصححت ما صادفني فيها من أغلاط، وشرحت ما يجب شرحه من الأشعار خدمة للقارئ الجاحد الذي لا يفهم قيمة الوقت الذي ينفقه الشارح في تحديد المعاني؛ وصححت الكتاب كله بنفسي تصحيحاً دقيقاً. فإن رأى فيه القارئ أغلاطاً فذلك ذنب العجلة لا ذنبي. وأدخلت فنوناً من الذوق على الطباعة في بغداد سيذكرها أصحاب المطابع بغداد!
هذا كتابي، أقدمه بيميني في تهيب واستحياء؛ فإن رضيت عنه فذلك لطف ورفق، وإن غضبت عليه فلست أول حسناء تجحد الجميل
اصنعي في ودادي من التنكر والتقلب ما شاء لك الدلال. أما أنا فأشهد أنك صنعت بقلبي وعقلي ما عجزت عنه القاهرة وباريس!
أنت مظلومة يا بغداد، وأنا مظلوم يا بغداد؛ والظلم يجمع بين القلوب، نصرك الله ونصرني، ورعاك ورعاني، إنه سميع مجيب.
وعليك مني السلام.
زكي مبارك(250/27)
من برجنا العاجي
سألني الأستاذ أحمد أمين من أيام عن فكرة غريبة قال إنها جالت بخاطره؛ وخاطره هذا كنز لا يفنى من الأفكار الغريبة. قال:
(ترى ماذا يفعل الإنسان إذا علم أنه سيموت بعد عام؟) فقلت له: الجواب يتوقف على معرفة نوع هذا الإنسان وطبيعته وعلمه
فقال: (أنا وأنت مثلاً. ماذا كنا نصنع؟)
فأجبته على الفور:
أنا وأنت؟ كنا ننكب في الحال على التأليف والكتابة ليل نهار. فقال في دهشة:
- كنت أحسبك تقول العكس، وترى أن قرب الموت قد يجعلنا نطلّق العمل ونفزع إلى حياة اللهو والمتعة، أو على الأقل حياة الهدوء والراحة
- نحن يا صديقي نفعل ما يفعله كل أب بار. فما الذي يصنعه الأب البار بأبنائه حينما يدنو منه الموت؟ ألا يتمنى أن يتركهم وقد اكتمل نضجهم؟ ألا يفكر ليل نهار في إتمام تربية هذه الأكباد حتى تقوى على المشي فوق الأرض؟ وأنا وأنت لسنا أكثر من آباء، لنا أكباد تمشي لا على الأرض. . . لكن على الورق. . . فكيف نموت وفي خزائن أحدنا صفحات من كتاب لم يكتمل في (ضحى الإسلام) أو في (النقد الأدبي)، وعلى مكتب الآخر قصص تعج بأشخاص نصف أحياء يطالبون بحقهم في الحياة، ويمسكون بتلابيب (مؤلفهم) لا يدعونه يموت قبل أن ينفخ فيهم بعض الروح؟ إنه ليخيل إليّ أحياناً أن حياتنا متصلة بحياة إنتاجنا، وأن في أعماق كل (خلاّق) شبه غريزة داخلية تدفعه إلى الإنتاج البطيء أو السريع طبقاً لطول حياته أو قصرها. إنا قد بعنا أنفسنا لشيطان (التأليف)، ولن يتركنا هذا (الشيطان) في راحة إلا عندما نلفظ النفس الأخير.
توفيق الحكيم(250/28)
المخترعات
وكتاب الفصول والغايات
لباحث كبير
(اللزوميات) هي عبقرية المعري في النظم، و (الفصول والغايات) هي عبقريته في النثر. والعبقريتان في أكثر المقاصد والمرامي تلتقيان. وفي هذه العبقرية (المعجزة الأحمدية) يقول أبو العلاء:
(إن شاء الملك قرب النازح وطواه، حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف، ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما هّمت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام، ويأخذ الجمرة من تهامة فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال)
وقد شاء الله أن يكون في هذا الزمان كل ذلك، فإن المرء ليسري من (الإسكندرية) طائراً إلى (قاف) سلع، الجبل في المدينة (يثرب)؛ ثم يؤوب ويأوي في فراشه والليلة ما همت بالأسحار، وطوفه حول (قاف) القصاصين و (قاف) بعض المفسرين - حول الكرة الأرضية - في يوم أو ليلة هو في الغد، و (مهما تعش تره)
وإن المصلي (أو غير المصلي) ليسلم في مكة فيسمعه أخوه في (سان فرنسيسكو) وأخوه الذي هو في (طوكيو)، ويسمعه كل صاحب (مِصْوان) في الأرض
وإن مركونى - وهو في سفينته في ميناء في إيطالية - قد أضاء بشرارة - لا بجمرة - مدينة (سدني) في أسترالية
هي العبقرية وهم العبقريون يقذفون بالقول فيفسره الدهر بعد أحقاب أو يحققه
وقد شاء الله (جلت قدرته) أن يجئ في هذا الزمان ما تخيله أبو العلاء في وقته
وقد شاء الله (عظمت منته) أن يظهر اليوم هذا الكنز العظيم: كتاب (الفصول والغايات) المكتنز بالفوائد، محققاً مضبوطاً مشكولاً مشروحاً يشرح الصدر، ويسر العين، ويبهج القلب، وينور العقل
وهذا القول في هذا الكتاب حق كله، ولم يهده مهد إلى فيقول الإهداء: هات الثناء. بل افتلذت، اقتطعت ثمنه (والله) من عيشي، ومن قوتي، وكنت لعقلي وروحي من المحسنين.(250/29)
وفي سبيل أبي العلاء والعلم الصوم ووهن الجسم
(الإسكندرية)
(* * *)(250/30)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 14 -
(إذا لم تكن البطالة ناشئة عن نقص في الشخص نفسه، فهي ناجمة من غير شك عن خطأ في روح تعليمه!!)
(إن من يأنف اليوم من حمل الفأس ومن تلويث يديه بالطين لن يصلح غداً لإصلاح أمره إذا ما ضاقت به الحياة وقسا عليه القدر!)
(لقد أفقدناهم الحماس وا أسفاه، وجعلناهم يقبلون على العلم بخمود دائب، وتحجر متواصل، وبطأ شديد!)
(من رسالة الدكتور جاكسن)
4 - المتعلمون العاطلون
تبينت في المقال السابق بعض نواحي الضعف في التعليم الإلزامي وبعض وجوه الإصلاح، وسترى اليوم ناحية أخرى جديرة بالدرس والعلاج نظراً لما فيها من خطر شديد على كيان المجتمع القائم حاضره ومستقبله:
1 - العاطلون
أترى أولئك المتعلمين العاطلين؟ أتسمع عن جيوشهم في كل مدينة من مدن القطر؟ أتلحظ حقدهم على كل حكومة لم تسلكهم في سلوك الموظفين المجدودين؟ أتتبين تقاعدهم وتسكعهم وعجزهم عن المجاهدة في الحياة إزاء الأجنبي الدخيل؟ ثم نفورهم كبراً وتيهاً من أعمال البيع والشراء وغير البيع والشراء، مما يظنون أنهم لم يخلقوا له في كثير ولا قليل؟
ذلك هو المشكل الذي نبسطه اليوم ونعالجه على ضوء التربية والتعليم! والذي ينبغي على الدولة أن توليه من عنايتها نصيباً موفوراً نظراً لأن أولئك المتعلمين العاطلين خير تربة صالحة لإنماء المبادئ والأفكار التي فيها كما قلت الخطر كل الخطر على كيان المجتمع(250/31)
نفسه حكومة وشعباً!
تُرى مِمّ نجمت هذه البطالة؟ ومن هو المسئول عنها؟ أفي البلد أزمة اقتصادية عنيفة فهم لا يجدون فيها عيشا؟ وما بال أولئك (الأجانب) يملئون المتاجر والمصارف ويقومون بمختلف المشروعات وينجحون فيها كل النجاح؟ ألست ترى إلى الرومي أو غيره يدخل البلد فقيراً معدماً ثم يغدو بعد سنين صاحب متجر عظيم وملك أعظم؟ أن الخير في هذا البلد كثير، والعيش يسير، ولكن العيب وا أسفاه في المتعلم نفسه وما قد طُبع عليه من كره للعمل والعاملين، وعشق (للديوان) الثابت والراتب المضمون!! ولذلك يقول الدكتور (جاكسون): أن الخطأ إنما يقوم في روح التربية المعطاة وما يوحيه من أن المدرسة تأخذ بالأيدي من (الطين) حيث الجهد والنصب، إلى (المكتب) حيث الراحة والكلام!! ألست تسمع أنشودة (الوظيفة) من أمك وأبيك وأقاربك وذويك؟ ألست ترى (للموظف) قدراً في المجتمع دونه قدر التاجر أو الصانع أو الفلاح؟ ألست ترى طابع (الحكومة) يميز حامليه ويملأهم عجباً وتيهاً وزهواً وفخراً؟ ألست ترى حولك كثير من ممن يرون في (العمل) حطة لهم ولعائلاتهم مع أنه قد يكون السبيل الوحيد لمعاشهم؟ وأخيراً ألست تشاهد المئات من خريجي المدارس الزراعية والتجارية والصناعية يتكالبون على الوظائف الفنية وغير الفنية، مع أن الدولة قد أنفقت عليهم الألوف لتجعل منهم طبقة فنية راقية تأخذ بيد مرافق البلد الاقتصادية وترقيها، وتحررها من قيود الجهل والتقاليد، وتطبعها بالطابع القومي المنشود؟
2 - العلاج
تلك إذاً هي (الفكرة الخاطئة) التي يجب أن نمحوها محواً بمختلف أساليب التربية والاقتصاد، لأن التربية لا تستطيع وحدها أن تصلح كل شيء. يجب أن نحسن الأسواق القائمة، وأن نفتح أسواقاً جديدة، وأن نعمل كما يقول الأستاذ جاكسون على زيادة (الطلب) ليرتفع أجر العامل ويغريه بالعمل وترك الحكومة، كما يجب كذلك أن نجعل مدارسنا الفنية مسلحة بكل تجديد كهربائي أو ميكانيكي لتستطيع أن تواجه حاجات العصر، وأن تصمد لمنافسة المحصولات الرخيصة التي تمطرنا بها أوربا وأمريكا واليابان، وأن نحول مدارسنا الإلزامية والابتدائية والثانوية إلى نظام آخر يسمح بكثير من (العمل) اليدوي ما(250/32)
دام العاطلون من خريجي هذه المدارس اكثر عدداً وافدح خطراً من خريجي المدارس الفنية. أفي المدارس الإلزامية (عمل) بالمعنى الساذج البسيط؟ وهل في المدارس الابتدائية غير ساعتين للعمل في الأسبوع منفصلتين تماماً في (عملهما) عن المواد الأخرى؟ وهل يعدو (العمل) في التعليم الثانوي (اللهو والفراغ) عند أغلبية الطلبة الساحقة؟؟
3 - الصعوبة القائمة
وهناك فضلاً عن ذلك صعوبة كبرى هي قبول المدارس الثانوية لعدد عظيم من الطلبة لا تستطيع أن تقبله فيما بعد الجامعة والمدارس العالية لأنها لا تتسع له. ويقول بعض حضرات النظار أن حوالي 30 % من طلبة البكالوريا يقعون في هذا المشكل، ويمضون حياتهم في يأس وقنوط وألم وشقاء. وإذاً فإما أن ينقص عدد الملتحقين بالمدارس الثانوية حتى يستطيعوا أن يجدوا لهم منفذاً في التعليم العالي، وإما أن يصبح التعليم الثانوي نفسه غاية ووسيلة معاً لا وسيلة تعد الناشئ للجامعة فحسب. والحل الثاني أليق بمصر، لأن خمسا وعشرين مدرسة ثانوية للبنين، وسبعا أخرى للبنات، ليس بالعدد الكثير على بلد سكانه خمسة عشر مليوناً!! وإذا فلننظر فيما ينبغي أن يكون عليه هذا التعليم:
4 - الإصلاح المنشود
ينبغي أولاً أن يسود فيه الشعور بأنه إعداد للحياة لا للدراسة العليا فحسب. ويتأتي ذلك فيما يرى الدكتور جاكسن بوضع أساس عملي لا يجني على (كيف) التعليم فيه، وذلك بأن ندخل فيه الزراعة والطباعة وأشغال الخشب والحديد على نحو (جدي) مع تعديل المقرر أو بالأحرى تخفيفه تخفيفاً مناسباً. فمثلاً في السنتين الأولى والثانية: عشرون درساً للغات من أربعة وثلاثين، ودرس رسم واحد، ودرس أشغال لا يقوم به إلا قلائل لا يفيدون. فماذا يمنع من استعمال اللغة في تجارة عملية بدلا من قصرها على هذه الحصص الكثيرة التي لا تؤدي بالطالب بعد تسع سنوات إلى القدرة على الكتابة خطاب تجاري صحيح النحو مستقيم المعنى؟ وماذا يحول بين الطلبة وبين جمعهم لحروف مجلتهم وطبعهم لها بأنفسهم؟؟ ولم لا يزرع الطلبة حديقة المدرسة ويسهرون على تهذيب أغصانها وأروائها بدلا من رجل واحد تعينه المدرسة لهذا الشأن؟ وكيف يتكلم المدرس عن الذباب وخطره والمدرسة ذاتها(250/33)
لا تعمل على منعه من دخول الفصل؟؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن يعنى التعليم بغرس الروح الاجتماعية عن طريق (دراسة المشروعات) والجمعيات العلمية والرياضية والفنية التي تسودها روح التعاون والمحبة والتضحية واحترام القانون، ويجب أن يتاح للمدرس من الوقت ما يساعده على الإشراف التام على أعمال هذه الجمعيات و (العيش) فيها كمرشد حكيم؛ هذا مع غرس السرعة والابتكار والذوق في نفوس الطلبة تلبية لحاجات (رجال الأعمال) الذين يريدون كل حاضر البديهة، حكيم التصرف، جميل الذوق وديع المحضر، مطيعاً للقانون:
5 - التوجيه المهني
ثم لا ينبغي أن يقف الأمر عند ذلك. أن مصر لفي حاجة كبرى إلى توجيه أبنائها توجيهاً سليماً يتفق وميولهم النفسية، ويضمن على الأقل نجاحهم في عملهم وثقافتهم أن لم نقل نبوغهم فيها. والشبان عندنا لا يطرقون أبواب المدارس المختلفة جرياً وراء إشباع ميولهم الشخصية بقدر ما يطرقونها تحقيقاً لمطامعهم القاصرة في مهن محترمة كالقضاء أو الطب أو المحاماة! أليس عندنا من يدخل الحقوق ليكون نائباً أو وزيراً، ثم يفشل أخيراً في موقفه أمام القاضي ويخاطبه كما يخاطب التلميذ الأستاذ؟ أليس عندنا من يدرس الفلسفة ليدعى فيلسوفاً، ثم لا يكون بينه وبين الفلسفة الصحيحة إلا هوة سحيقة من الجهل والاعوجاج؟ كم من مئات الحقوقيين قد أثبت له قدراً في عالم القانون؟ وكم من خريجي التجارة أو الهندسة قد سجل لبلاده فخراً في مجال دراسته الخاصة؟ إنها إذاً لآفة كبرى يجب علاجها علاجاً علمياً صحيحاً ينحصر فيما يسمى الآن (بالتوجيه المهني!) ويستطيع الأستاذ في ذلك التوجيه أن يدرس ميول الطالب الحقيقية لا الوهمية أو المصطنعة، وأن يقدم له النصح والإرشاد على أساس هذه الدراسة يستطيع أن يختبر ذكاءه وميله الأدبي أو الفني أو العلمي باختبارات خاصة يجرونها الآن في أوربا وأمريكا؛ ويستطيع أن يلاحظه ويدرسه عن كثب طيلة أعوام الدراسة ليضم إلى نتائج هذه الاختبارات درايته الشخصية؛ ويستطيع أن يقول له أخيراً عليك بالآداب أو الحقوق أو الطب أو الصناعة أو التجارة، لأنك لا تليق ولا تنبغ، ولا توفق ولا تسعد، إلا في ذلك الذي دلتني عليه دراستي العلمية وخبرتي الشخصية؛ ثم يستطيع باتصاله بذويه أن يسدي لهم النصح في مستقبل ولدهم حتى لا يقفوا عثرة في(250/34)
السبيل كما أراد لي والدي يوماً أن أدرس (التجارة) وأنا لا اهضم (الحساب) على الإطلاق!، وأخيراً يستطيع الناظر عملا برأي الأساتذة أن يزود تلميذه بخطاب خاص يحمله كشهادة محترمة لرؤساء المعاهد أو الأعمال التي يريد أن يطرقها كيما يكون (واسطته) فيها. . .
وبذلك وبغيره نوجد أعمالا للعاطلين، وتوفيقاً ونبوغاً للمتعلمين!. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(250/35)
إبراهيم بك المويلحي
1844 - 1906
بقلم حفيده إبراهيم المويلحي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ثم سافر إبراهيم بك إلى باريس سنة 1884م وحرر العدد الرابع من جريدته (الاتحاد) بعد صمت أربع سنوات وطبع منها أعداداً كثيرة، وكانت أشد لهجة من أخواتها فاستشاط السلطان غيظاً وحنق على إبراهيم حتى أنه أرسل إلى (أسعد باشا) سفير الدولة العلية في باريس بمذكرة مستعجلة يريد بها إبلاغ رغبته إلى الخديو إسماعيل بأن يأمر سكرتيره (إبراهيم بك) بالكف نهائياً عن إصدار جريدة (الاتحاد) المحررة تحت رعاية سموه
فلما تفاوض (أسعد باشا) مع الخديو اعلمه بأن لا بد له فيها مطلقاً وأنه برئ من تلك الظنون. فما كان من السفير العثماني إلا أن طلب من الحكومة الفرنسية، بناء على رغبة السلطان، نفي المترجم له من فرنسا
ولما كان هذا النفي غير مسبوق بأي محاكمة فقد انبرى المسيو بوددي مورسلي يدافع عن إبراهيم ويستنكر وقوع مثل هذا الإجراء ويأخذ على وزير الداخلية الفرنسية تسليم إبراهيم لأسعد باشا بهذه السهولة، في مقال نشر في حينه في جريدة (الفيجارو) عدد 331 سنة 1884م اختتمه بقوله: (إني أسأل بصراحة المسيو ولدك روسو عن الضرر الذي يسببه وجود إبراهيم بك في باريس. أم هل فقد بلدنا الجمهوري (حق الإقامة) فيه وأضحى غير قادر على منح الضمان الكافي للمحكوم عليهم سياسياً! وإلا فما هو الأمان الذي يمكن أن يجده عندنا كل غريب فقد حق التمتع بمصالح بلده؟ ألا يظن حضرة وزير الداخلية أنه من السذاجة أن ننال بسهولة وبدون محاكمة إبعاد صحفي فرنسي غير راض عن سياستنا الحالية من استنبول أو لندرة مثلاً، لأنه يصدر جريدة عدائية هناك؟!)
إن القبض على إبراهيم بك ونفيه بدون محاكمة لا يعد فقط عملاً استبدادياً، بل أمراً منكراً ربما استحق الاستجواب عنه في البرلمان)
فلما رأى إبراهيم بك نفسه مرغماً على ترك فرنسا بأمر السلطان، سافر تواً إلى(250/36)
(بروكسيل) فكتب إليه السيد جمال الدين الأفغاني لما كان بينهما من روابط الصداقة أيام كانا في مصر، يشير عليه بالتوجه إلى لندرة ليتحدا في الدفاع عن حقوق الأمة ونصرة الدين. فاستصوب إبراهيم هذه الفكرة ولاسيما أنه كان غيوراً على دينه، شديد الحب لوطنه. فأبحر إلى (لندرة) وتسنى له التعرف هناك باللورد تشرشيل واللورد سالسبوري وأخذ يعاون السيد جمال الدين في تحرير (العروة الوثقى) وأنشأ لنفسه جريدة (الأنباء) ثم (عين زبيدة) وأفاض فيهما ولاء خالصاً للسلطان، وأظهر حرصاً على صيانة الدولة بانتقاده الشديد لسياسة غلادستون نحو الدولة العلية في ذاك الوقت
وبلغ مسامع السلطان عبد الحميد أمر هاتين الجريدتين فسر من خطة إبراهيم هذه وأرسل إليه يستقدمه بواسطة سفيره في لندرة
ولما كان إبراهيم بك لا يتوقع هذا العفو السريع سنة 1303هـ - 1885م ظن أنها مكيدة من السلطان ليتمكن بها من الانتقام منه، فامتنع من الذهاب إليه، وكلف ابنه السيد محمد بك المويلحي - الذي كان بصحبته في إنجلترا - السفر إلى استنبول ليستطلع جلية الأمر
فتوجه محمد بك إلى الآستانة عن رغبة والده، وأرسل إليه خطاباً يطمئنه فيه من جهة السلطان
فدخل إبراهيم بك الآستانة وكتب إلى جلالة السلطان الخطاب الآتي يشكره فيه على عفوه عنه ويعتذر عن تأخره في المثول بين يدي جلالته: (المعروض على سدة أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، أن العبد لا يصف عفو أمير المؤمنين إلا كما قيل لأخ جلالتكم في الخلافة المعتصم العباسي: (لو علم الناس ما تجدون من اللذة في العفو لتقربوا إليكم بالذنوب). والحمد لله على تلك النعمة التي أسداها أمير المؤمنين لعبده الصادق. وإنما كان تأخيري عن التشرف بسدة الخلافة لأمور هامة في فائدة الدولة والملة قد تم بعضها. وإني ألتمس أن أعرضها على ذات مولانا المقدسة حفظها الله للإسلام)
وبعد أيام طلب السلطان مثوله بين يديه، فأكرم مقابلته وعينه عضواً في مجلس (انجمن المعارف) سنة 1303هـ - 1885م. وكان ناظرها وقتئذ العالم الجليل المغفور له صاحب الدولة منيف باشا، فقدر إبراهيم حق قدره، وقربه إليه وعرفه بالشيخ الشنقيطي اللغوي الشهير(250/37)
وتصادق المترجم له مع إبراهيم بك ادهم صاحب جريدة (الحقائق) التي كانت تصدر في استانبول، فكان ينشر فيها وصف جلال الموكب السلطاني في كل مرة يذهب فيها لتأدية فريضة الجمعة
ومكث إبراهيم بك في وظيفته هذه عشر سنوات تقريباً من سنة 1885هـ - 1895م. حدث في أثنائها أن كتب بعض الجواسيس إلى السلطان عبد الحميد تقريراً جاء فيه أن إبراهيم بك لا يزال يراسل الجرائد في مصر خفية بما لا يتفق وسياسة السلطان! فما كان من جلالته إلا أن أرسل إلى صاحب العطوفة (كامل بك) ناظر الضبطية لاستجواب صاحب الترجمة والتحقيق معه فيما وصل إلى السلطان
ولقد كان هذا الجاسوس صادقاً في تقريره. وهكذا كانت خطة إبراهيم بك في جميع مراحل حياته السياسية لا يعرف التملق ولا التزلف، ولم تُحِده تلك الرتب والإنعامات الشاهانية عن طريقته المثلى في حبه لمصلحة البلاد والدفاع عنها وانتصاره لها
وقد رأى شطط السياسة من جراء ما يزينه الملتفون حول عرش جلالته، فأخذ ينشر مقالاته الانتقادية في المقطم، وكان يذيلها بإمضائه المستعار: (أحد العثمانيين الأفاضل)
وكان إبراهيم بك في اليوم الذي قبض عليه فيه يحمل مسودة مقالة كان يريد نشرها، فأسقط في يده واخذ يجهد فكره في التخلص منها بأية وسيلة! واتفق أن كان الناظر في هذه الساعة مشغولا بتحقيقات أخرى - وما اكثر التحقيقات في الآستانة - فأمر بإبقائه في غرفة تجاور غرفة التحقيق ريثما ينتهي من استجواب الذين بين يديه
ففكر إبراهيم بك، وهو المنعزل في الغرفة، أن يتخلص من المقالة التي في جيبه خشية تفتيشه، فهم بحرقها، فحدثته نفسه أن رائحة الدخان قد تبعث الشك في إدانته، كما خشي تمزيقها خوف وصول بعض وريقاتها إلى بعض الجواسيس المنتشرين بدار الضبطية. وبينا هو في شغل شاغل إذ سمع صياح ديك فنظر حوله فرأى نافذة صغيرة بحواجز حديدية، ففتح زجاجها وأطل من بين قضبان النافذة فرأى ذلك الديك وحوله أفراخ كثيرة ينقرن في الأرض بحثاً عن القوت؛ فما كان منه إلا أن أخذ يقطع الورقة قطعاً صغيرة ويضعها في فمه حتى تمتزج بلعابه فيمضغها حتى تصير على شكل الحب ثم يرمي بها إلى الأفراخ فتتسابق إلى ابتلاعها حتى أتت على آخرها، واغلق النافذة وحمد الله(250/38)
وبعد ساعة تقريباً اقتيد إبراهيم بك إلى غرفة التحقيقات وابتدئ بتفتيشه فلم يعثروا على شئ، وبعد مناقشات طويلة أسفر التحقيق عن براءته مما جاء في تقرير الجاسوس، وطير الخبر إلى جلالة السلطان فأمر باستدعائه إلى (المابين)، وأنعم عليه بالرتبة الأولى من الصنف الثاني سنة 1311هـ - 1893م. وصاحبها يلقب (بسعادتلو أفندم) وهي توازي رتبة الميرميران الملكية التي يلقب صاحبها بلقب (باشا)
وفي نفس هذه السنة قدم الخديو (عباس الثاني) ومعه بعض الوجهاء من المصريين لزيارة الآستانة والتشرف بمقابلة جلالة السلطان (لعرض الشكر والعبودية على أعتاب الخلافة السنية) فرأى إبراهيم بك من واجبه كمصري مقيم في استنبول أن يتشرف بمقابلة سمو الخديو عباس، فذهب إلى القصر الكائن (بدفتر دار بروني) الذي يقيم فيه سموه، ولكن (محمود باشا شكري) أشار على سمو الخديو عباس باشا الثاني لشيء في نفسه من جهة إبراهيم أن يمتنع عن مقابلته تجنباً لخطره وسطوة قلمه. فسوف الخديو تحت هذا التأثير مقابلة إبراهيم الذي خرج حامقاً والشرر يتطاير من عينيه!
ولما كان يعلم أن جلالة السلطان سيدعو سمو الخديو والوفد الذي جاء معه إلى سراي (بلدز) مرت بخاطره فكرة جهنمية يستطيع بها تحريك غضب عبد الحميد عليهم أجمعين! فحرر عريضة من تلقاء نفسه اختلقها اختلاقاً، كأن هؤلاء الوجهاء يرومون رفعها إلى الأعتاب الشاهانية وبعث بها إلى المقطم فنشرها، والتقطتها التلغرافات الأجنبية وترجمتها الصحف الإنجليزية وعلقت عليها ما شاءت أن تعلق، وذهب سفير إنجلترا في تركيا بأمر من رئيس الوزارة الإنجليزية إلى الصدر الأعظم ليستفسر عما أجاب به السلطان على هذه العريضة التي قد تسبب توتر العلاقات بين بريطانيا العظمى والدولة العلية
فحدث من جراء هذه العريضة أن امتنع السلطان عن الإنعامات التي كان يرغب في الإنعام بها على من كان بمعية سمو الخديو كما هي العادة في مثل هذه الظروف، إرضاء لخاطر إنجلترا حتى لا تعتقد أن لهذه العريضة أثراً في نفسه
وإليك صورة هذه العريضة بعد ديباجة الحمد والثناء:
(إن الله عز وجل نظر إلى العالم نظرة رحمة فاختارك يا أمير المؤمنين من بين البرية خليفة على عباده، وجمع فيك شرائط الخلافة وبسط لك من القوة والسطوة، وآتاك من(250/39)
الحزم والعزم وأصالة الرأي ما يفتخر به هذا العصر على سائر الأعصار، وقرن طاعتك بطاعته وطاعة نبيه في كتابه العزيز، وجعل حبك إيماناً والخروج عن أمرك مروقاً من الدين، وحبب إليك الإقدام لمصلحة الإسلام. دأب الخلفاء السابقين، وأودع في يديك أرواح المسلمين وأموالهم تحكم فيها عن رضى وتسليم منهم. وقد عاهدوك على بذل دمائهم في طاعتك بأيمان البيعة التي ربط الله بها لك القلوب على المحبة في خلواتها ونجواها
فالمسلمون كلهم قاصيهم ودانيهم مجمعون على الانقياد لك في السر والعلانية لا يميل بهم عن هذه السنن قول ولا فعل لتوقف سعادتهم على طاعتك في الدنيا والآخرة
هذا ما جعل الله لك يا أمير المؤمنين، وقد جعل لهم بهذا من جانب جلالتك أن تكلأ بيقظاتك بلاد الإسلام بعيدها وقريبها من طوارئ السوء وغوائل الشر على نسق واحد لا فرق بين مطلقها وممتازها، وأن تدفع عنها كل سائل ومحتال، وأن تذود عنها بالحجة والسيف والقلم وما يمكن أن يدافع به مادياً ومعنوياً
هذه مصر - أيد الله بك مقام الخلافة، وثبت بك أركان السلطنة، ونصرك النصر الوشيك - فريدة التاج العثماني، والقسم الأكبر من السلطنة السنية والطريق الأعظم إلى الحرمين الشريفين. قد أصبحت تمديد الفزع الصارخ إلى عظمتك، وتنظر كالمغشي عليه من الموت إلى حياتها في يدك الكريمة؛ فامنن عليها بالحياة يا أمير المؤمنين، وخلصها ممن تجاسر على حوزة الإسلام بلا حجة ولا قوة، وفي يد جلالتك الحجة والقوة، وهذه أرواحنا رهينة ثلاثة أحرف من عظمتك، فأمرنا بما تريد لنخلص الإسلام المتخبط في تلك الإشراك. وقد بقينا يا أمير المؤمنين سنين عدة معلقين لا ندري أنحن تحت حكم الخلافة والسلطنة السنية فتطمئن قلوبنا، أم تحت حكم هذا الذي دخل في يوم على وعد أن يخرج في غده فبقي إلى الآن تخفق راياته على مساجد المسلمين في بلد هي عش الأولياء ومرقد آل البيت النبوي ومجد جدك السلطان سليم خان؛ فطفق هذا الداخل يستهوينا باسم الحرية التي لا توافق قيودنا الدينية ولا عاداتنا الأدبية فمال إليه جماعة منا، ويوشك أن استمر في سيرة أن يفسد الحاسيات والأخلاق بهذا التساوي المخالف للتفضيل الإلهي
فالآن قد وفدنا على دار الخلافة مع سمو وكيلك المطبوع على محبة جلالتك، المفتخر بنظرات الرضى عليه من ألطاف عظمتك، الواقف موقف السمع والطاعة لأوامرك، راجين(250/40)
من السدة السنية إجراء الوسائط الفعالة لإخراج هذا الداخل على وطننا وإبعاده عن الأراضي المقدسة التي يدأبون على التدخل فيها، فأنهم إذا استمرا - لا قدر الله - في البقاء بمصر سهل عليهم الدخول فيها وفي غيرها لطبيعة الموقع
ونسأل الله أن يؤيد جلالة مولانا الخليفة الأعظم وينصره على الباغين)
وفي أوائل سنة 1895م سئم العيشة في جو استنبول المكتظ بالجواسيس المختنق بالفتن والوشايات وشعر بالحنين إلى وطنه بعد طول الغربة. فعزم على الرحيل إلى مصر ودبر طريقة سفره في الخفاء على باخرة بخارية قادته إلى الإسكندرية
ولما علم جلالة السلطان عبد الحميد بخبر اختفائه وسفره إلى مصر بدون أن يقدم استقالته، بعث يستعلم بواسطة (مختار باشا) المندوب فوق العادة للباب العالي عن السبب الذي جعل إبراهيم بك يترك وظيفته في (أنجمن المعارف)
فأبدى إبراهيم أسفه لمختار باشا وافهمه أن قدومه إلى مصر إنما هو من باب الحنين إلى الوطن والشوق إلى رؤية ابنيه (محمد) و (خليل)، وأنه لا يدري كيف يشكر السلطات على نعمه
ولما كان إبراهيم بك مشغوفا بالتحرير أخذ ينشر في المقطم من وقت إلى آخر مقالته الانتقادية فيما رآه في الآستانة العلية مدة إقامته فيه تحت عنوان (ما هنالك) ثم جمعها وطبعها كتابا سنة 1896 ميلادية. فبعث السلطان عبد الحميد بأمره بإرسال جميع النسخ التي في حيازته إلى (المابين)! فخضع إبراهيم لأمر جلالته وأرسلها جميعاً إليه ما عدا بضع نسخ كان قد وزعها على عائلته وأصدقائه. لذلك يندر وجوده
وفي سنة 1898م أنشأ جريدة أسبوعية سماها (مصباح الشرق) وقفها على خدمة الأدب ونصرة الدين والدفاع عن حقوق الدولة العلية. وكان يعاونه في تحريرها أبنه السيد محمد بك المويلحي. وكان طلاب الأزهر يقفون على باب المطبعة الساعات الطويلة ينتظرون صدور أعدادها بفارغ الصبر، وكانت تباع بقرش صاغ واحد، وكان يعز مطلبها في اليوم الثاني من صدورها حتى كانت تشترى بخمسة قروش
وكان إبراهيم بك يسافر من وقت إلى آخر للآستانة لمرض ولائه على الأعتاب الشاهانية، وليتسنى له الإطلاع بنفسه على ما في الجو السياسي من أخبار، فكان في كل مرة يعود(250/41)
مثقلا بالإنعامات والعطايا حتى نال (الرتبة الأولى من الصنف الأول) وصاحبها يلقب (بسعادتلو أفندم حضر تلري) وهي توازي رتبة (روم ايللي بكاربكي) الملكية. لكنها تتقدم عليها في التشريفات
وقد نال حظوة عليا لدى حضرة صاحب السمو الخديو عباس الثاني حتى إنه كثيراً ما كان يكلفه بأعمال سياسية هامة، فكان يقوم بها خير قيام فنال بذلك ثقته. ولم يقف دون رغبة سموه إلا مرة واحدة غضب عليه فيها بضعة أشهر ثم رضى عنه فكتب إليه الخطاب الآتي:
(قد وضعني ولي النعمة في بودقة الامتحان وأوقد عليّ بنار غضبه زماناً طويلا كما اقتضته حكمته، حتى إذا صفاني وخاف على أن احترق نقلني كما اقتضته رحمته وسعته. فأشكر ولي النعم شكرين: شكراً على تصفيتي وتهذيبي، وشكراً على رضاه عني
وقد بعث الله لنبيه الملكين جبريل وميكائيل فشقا صدره صلى الله عليه وسلم، وأخرجا ما يكون بناموس الطبيعة في قلوب البشر، ثم ختماه على الحكمة. وكذلك فعل ولي النعم: بعث إلى عبده فأصبح قلبي مختوماً عليه بطابع الإخلاص والقيام بفروض الخدمة لدرجة التفاني فيها. فلو ذوبوني لم يجدوا في تركيب صدري إلا ثلاثة أشياء: الوفاء والدعاء والولاء، لولي النعماء
كل هذا انتهى وتم على موجب الحكمة العالية حكمة ولي النعم الذي اعتنى بتربية عبيده على هذا الأسلوب الحكيم.
فخدمة الأعتاب السنية هي قبلتي التي اوجه وجهي إليها، وأصرف عزمي إليها. وهذا اعتقادي وهذا قولي وهذا خطي على ذلك والله شاهد ووكيل
وفي سنة 1903 كف عن إصدار الجريدة فجأة! وهكذا كان إبراهيم بك يعطل كل جريدة ينشئها إذا نال منها غرضه
وكان يرسل في بعض الأحيان بمقالاته السياسية إلى بعض الجرائد كالمؤيد والمقطم عندما كان يرى أن حقاً للأمة هضم
ثم أنشأ جريدة (المشكاة) باسم ابنة (السيد خليل بك المويلحي) و (حمدي بك يكن) ولم يصدر منها إلا أربعة أعداد فقط سنة 1905. وفي أواخر سنة 1905 اعتلت صحته(250/42)
فاعتزل السياسة ليعالج مرضه حتى وافته المنية في 29 يناير سنة 1906
ولقد كان المرحوم سريع الخاطر، طيب اللسان، شديد الميل إلى النقد والمداعبة لا يفرق في ذلك بين قريب أو صديق حتى قيل فيه: (لم ينج من قوارص قلمه إلا الذي لم يعرفه)
وكان سريع الفهم، قوى الإحاطة بخفايا الأمور، وغوامض السياسة، ولقد تقلب في أعمال كثيرة بين تجارية وحكومية وصحافية وسياسية، لكنه لم يبلغ الهدف الذي كان يرمي إليه في كل واحد منها مع شدة ذكائه وحدة ذهنه. ولعل السبب في عدم ثباته هذا يرجع إلى طموحه إلى النجاح السريع ورغبته في بلوغ الدرجات العلى طفرة واحدة، فأنه لو ثبت في عمل واحد لبلغ أوجه
ويجمل بنا أن نقول قبل أن نختم ترجمته إنه كان مشغوفاً بتعلم اللغات الأجنبية حتى حذق التركية ومهر في الفرنسية وتعلم الإنجليزية في آخر سني حياته عليه رحمة الله
إبراهيم المويلحي(250/43)
أبي!!
للأديبة بهية فرج الله زكي
أبي! سلاماً من وراء دجلة! سلاماً عليك من قلب وحيدتك! سلاماً من قلب جريح! سلاماً على الروح السابح في لجة الأبد، سلاماً على الجسد الهامد في التراب!
أبي! لقد مات أبي، وطار البرق الحزين ينعى بقية الأمل إلى القلب الحزين. . مات أبي، وفي مصر خمدت جذوة حياته الذاكية، فانطفأ في العراق مصباح رجائي المشتعل. . مات، وقد كان وهو حي رسول البسمات إلى الثغور، فأصبح وقد مات رسول الدموع إلى العيون
أبي! حتى في ساعة الموت لا أراك! وفي ساعة الوداع لا اطبع على جبينك القبلات، وفي ساعة الرحيل إلى المثوى البعيد، يحول دوني ودونك البحر المائج والبلد السحيق!
أبي! يا منى النفس، ويا روحا ضاقت بها حدود الأرض فطلبت فسحة الحياة في السماء. لماذا استسلمت للكرى فنمت نوم الأبد؟ لماذا تركتني وحيدة وكنت بك جمعاً لا يخذل. . صوتي يملأ الفضاء، وتجاوب أصداءه الأرض والسماء. ولكنى لا اسمع جواباً، فأين أبي؟
أبي! كنت تستلهم السماء خبر الغيب، فهل قرأت في لوح الأجل موعد هجرتك من دنياك الفانية إلى عقباك الباقية، فبكيت حين تحرك بي القطار، وأنت الرجل الجلد الذي يسخر بالعواطف، وجريت مع القطار وأنت الرجل الرزين الذي تخضع جوارحك أبداً لعقلك الكبير، واتبعتني النظر الحائر وما حيرك الدهر المضطرب بالحادثات. . . بلى لقد أحسست بالموت فكتمت سر الموت عن الأحياء
أبي! لأنك تحب العراق آثرت الرحيل إلى العراق؛ البلد الذي لم تبخل عليه بفلذة كبدك، البلد الذي خلت فيه حياة خصيبة لأملك الروحي. . . فلماذا تركتني في وطن قلبك ونزحت أنت إلى وطن الخلود
أبي! لن أنسى ما حييت رسالتك، رسالة المحبة والسلام، وسأظل ذاكرة إلى الأبد ما سطرته إلى يدك وأنت تعالج الموت: (عاشري الناس بروح المحبة. كوني قدوة حسنة، ارفعي الفوارق الموجودة بين الناس. . . إننا كلنا أوراق أغصان شجرة واحدة. . .)
أبي! سأعيش كما عشت بهذه المبادئ، وسأموت لها. وإذا كان الوفاء هو دين الميت على الحي، فان ديني الذي لا أمطله جهاد كجهادك، ودعوة إلى الحب كدعوتك، وذكرى طيبة(250/44)
ترضيك، وعمل في سبيل الإنسانية يرضى الله
أبي! سلام عليك في الذاهبين، سلام على قبرك بين قبور المخلصين، سلام على وحيدتك الجريحة، سلام على بغداد التي أحببتها وسأحبها من أجلك!
بهية فرج الله زكي
مدرسة بمدارس العراق(250/45)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 8 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني لعظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
نجح لنكولن في الانتخاب، فظفر بمقعد في المؤتمر ظل ينزع إليه سنوات أربعا طويلة؛ وكان هذا النجاح كفيلاً أن يبث في قلبه من الغبطة والبهجة بقدر ما بثه فيه الانتظار الممل من السأم والضجر، ولكنه كتب إلى صديقه سبيد ينبئه أنه لم يهتز كثيراً للنجاح كما خيل إليه قبل أنه فاعل إذا ظفر. وتلك حالة من حالاته العجيبة، بل هي حال من حالات النفس البشرية تدعو إلى العجب والاعتبار! فكثيرا ما يتمنى المرء ما ليس في يده حتى لتكون سعادته كلها مجتمعه في أن ينال ذلك الذي يتمناه، فإذا اقترب من بغيته أو شه له أنه مقترب راح يطفر من الفرح، ورأى في كل شئ حوله معاني الحبور والغبطة، وإذا بعد عن ضالته أو خيل إليه أنه مبتعد، ضاقت في وجهه الدنيا وبات من همه كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج؛ حتى إذا قدر له آخر الأمر أن يرسو على الشاطئ وأن يلمس بيده مبتغاه وقف حياله وقفة من لم يجد شيئاً، وفتحة عينيه على الحقيقة كمن يفيق من حلم ذابت ألوانه وتلاشت أطيافه وتبددت رؤاء. . . ذلك هو غرور الحياة، ولكن ما ألذه من غرور! وما الحياة في جملتها أن هي خلت من هاتيك الأحلام؟
وانقضى عام بين نجاحه وذهابه إلى المؤتمر. ولقد صحبته زوجه إلى وشنجطون العظيمة، وزارت البيت الأبيض، ولعلها كانت تحدث نفسها في زهو أنه في غد مقر بعلها. ومشى ابن الأحراج في المدينة تستوقف الأبصار هيئته إذ كانت لا تزال روح الغابة تصحبه كأنما هو نوع من الشجر جئ به إلى غير منبته. . . وسرعان ما أنس الناس به، فهم إذا جلسوا(250/46)
إليه يشعرون أن روحاً قوياً يسرى إليهم منه وإن لم يتبينوا ما هو؛ وكذلك أخذت تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه. . .
أما في المجلس فقد كان أول الأمر بحيث لا يحسب أحد أنه سيكون يوماً من النابهين، ولكنه ما لبث أن بدد هذا الزعم بخطاب احتفل له وجعل له كثيراً من الأهمية، يتبين لنا ذلك فيما كتبه في هذا الشأن إلى صديقه هرندن؛ وكان الخطاب يدور حول الحرب القائمة في تكساس، وجه فيه لوماً عنيفاً إلى رئيس الاتحاد أن خرج بهذه الحرب عن الدستور كما فرط بها في جانب العدالة والخلق
قال لنكولن: (ليذكر الرئيس أنه يجلس حيث كان يجلس وشنجطون، وليجب إذا ذكر كما كان يجيب وشنجطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من الحق، والله لا يسمح أن يهرب منه. كذلك ليتجنب الرئيس الهرب والمراغة؛ فإذا استطاع بعد ذلك أن يقيم الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا فإني موافقه فيما يسوق من مبررات. ولكنه إن عجز عن ذلك أو أحجم عنه فإني حينئذ خليق أن آخذ على اليقين ما يقوم في نفسي فعلاً مما هو أكثر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطئه، وأنه يشعر أن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم قابيل يستصرخ السماء ضده)
ولكن تلك الحرب كانت في نظر الناس أمراً مستساغاً لأنها ستضم إلى الولايات أرضاً جديدة، كما أن جيوش الولايات كانت ظافرة فيها. من أجل ذلك لم ينل ابراهام بخطابه من الرئيس، كما أنه لم يظفر بتأييد أو قبول من جانب زملائه. ولقد أحس هو بضعف موقفه ولهذا جعل الأمر في المهاجمة أمر خلق لا أمر سياسة؛ وأخذ يندد بضم تكساس على رغمها ويستنكر ذلك الفعل على الأخص أن كان صدوره من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى العالم بأنها أرض الحرية
وكان مما جاء في ذلك الخطاب قوله: (إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل واستثمرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما يكون أكثر ملاءمة لها). وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، كما إننا نفهم من هذا المبدأ مبدأ آخر جاء ضمنه ألا وهو مبدأ سلطة الأمة ووجودها في أساس كل سلطة!(250/47)
تلك هي خطبة لنكولن التي احتفل لها وافتتح بها عمله في المؤتمر؛ تراها وإن لم تصب بموضوعها موضع العطف من نفوس أعضاء المؤتمر، قد رفعت ذلك المحامي في أعين رجال السياسة، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتيه ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومقدار ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه إلى جانب القصاص الذي لا يبارى، الخطيب الذي يعرف كيف يسحر السامعين وإن كانوا عن آرائه معرضين.!
وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في المؤتمر يندد بالحرب، وقد تعاظمه سفك الدماء وإزهاق الأنفس؛ وهذا لنكولن يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات. . . ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه؛ يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد وهو يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم ناراً حامية ويسفك الدماء ويزهق الأرواح حتى يكرههم على الاتحاد وهم صاغرون!
وتهيأت له الأسباب ليسير في البلاد فيزداد بالناس اتصاله ويستزيد منهم أعواناً له ومحبين. فلقد انتهت وهو في المؤتمر مدة الرئيس القائم أخذت البلاد تنتخب رئيساً جديداً؛ وكان حزب الهوجز الذي كان ابراهام من أفراده قد رشح للرياسة أحد زعمائه ويدعى تيلور. وهل نسى إبراهام تيلور وقد كان رئيسه في الحرب ضد الصقر الأسود؟ على أنه على الرغم من محبته لتيلور يأسف أن يراه ممن يتملكون العبيد على نمط أهل الجنوب. . . ولكن لا ضير الآن فهو ممن لا يريدون أن تزداد ولايات العبيد، كما أنه اقل من منافسة من الحزب الديمقراطي تشيعاً لمبدأ اعتناقه العبيد واضعف منه استمساكا به. . .
اخذ لنكولن يجوب البلاد شرقاً وغرباً ويخطب في الناس مؤيداً رجل حزبه؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها وإن أدركوا فعلها. . . ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قبل، وأبصروا في ملامحه معاني ابلغ من كل كلام، واعمق أثراً من كل حجة. . . والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل ومن حكاية إلى حكاية؛ ثم يرسل الجملة بين حين وحين، فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم؛ وهو في حماسته يشمر ردني حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه. ولقد يحل رباط عنقه(250/48)
أو ينتزعه من موضعه كأنه مقبل على مبارزة! ولا يكاد يفرغ من خطابه حتى يهرع الناس إليه متدافعين بالمناكب لكي يزدادوا نظرا إليه من كثب. . . وظفر تيلور بالرياسة، وعرف لإبراهام يده وحسن صنيعه. . .
وكان مما صادفه في تجواله هذا أن استمع في بوستن إلى خطبة من أقوى الخطب التي وجهت ضد امتلاك العبيد، وقد ألقاها رجل من كبار الداعين إلى التحرير، هو سيوارد ذلك الذي سيكون له في غد شأن في هذا الأمر مع لنكولن حين يهم بتأدية رسالته. استمع لنكولن إلى الخطبة في بوستن واستشعرتها نفسه، وكان مما عقب به عليها قوله: (أعلن أنك محق. لقد آن أن نطرق معضلة العبيد وان نلقي إليها من اهتمامنا بأكثر مما كنا نفعل من قبل)
وفي عودته إلى وشنجطون أخذ يعضد حركة أخرى كانت موجهة ضد العبيد على يد داعية آخر من دعاة التحرير، هو ولت الذي كان يدعو بكل قواه إلى منع انتشار العبيد في الأراضي التي تستخلص من المكسيك؛ وفي المؤتمر تقدم لنكولن يطلب القضاء على العبودية في ولاية كولومبيا وفي عاصمة البلاد، وكان في مقترحه عادلا يجمع إلى العدالة الكياسة وبعد النظر، ولكن ذلك المقترح وا أسفاه قد حيل بينه وبين أن يكتسب الصفة الشرعية إذ عمل رجال المؤتمر على تأجيله مخافة أن يثير من الجدل ما لا يحبون، حتى أوفى دور الانعقاد على الانتهاء فاعتذروا من عدم النظر فيه على الرغم مما بذله لنكولن من جهود وما أنفقه من حيلة. . .
وانقضت أيام ذلك المؤتمر، وهو المؤتمر الثلاثون في تاريخ الولايات وعاد لنكولن وهو يخطو إلى الأربعين ليعيش من جديد في سبرنجفيلد. . .
عاد ابراهام إلى سبرنجفيلد وهو يحس بينه وبين نفسه مرارة الهزيمة في السياسة، فلقد خذله رجال المؤتمر في مقترحه كما رأينا وأعرضوا عن خطبته التي وجهها ضد الحرب في تكساس، تلك الخطبة التي لامه عليها الكثيرون من رجال حزبه حتى هرندن نفسه احب أصحابه إليه
لذلك انصرف عن السياسة وعاد من جديد إلى المحاماة؛ بيد أن رجال حزبه يزينون له أن يطلب منصباً رسمياً ويشيرون إلى حقه في ذلك وهو من جانبه لا يحجم فيطلب إلى(250/49)
الرئيس أن يهيئ له منصباً ثم يزيد فيطلب منصباً معينا لا يلبث أن ينافسه في السعي إليه آخرون حتى يفلت من يده، ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصباً غيره؛ ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود بهما إلى الأدغال حيث كان مقر ذلك العمل واحدا من تلك الأصقاع الداخلية؛ ويرفض ابراهام المنصب آخر الأمر. وهكذا نرى زوجه للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة. . .
وكانت المحاماة وظيفته الطبيعية إذا فرغ من السياسة إلى حين؛ فما باله يريد أن يتنكب طريقه ويستبدل بعمله عملا آخر لا يتصل بطبعه ولا يستقم مع خلفه؟ ما باله يريد أن يحيد عن الغاية وقد قطع في سيره إليها شوطاً ليس باليسير؟ ترى ماذا كان يحدث لو أنه كان غير وجهته واخذ له غاية غير غايته؟ ولكن الدهر يضمن به ويدخره لغد ويأبى أن يغير تاريخ قومه بطمس رسالته. . .
عاد من السياسة إلى المحاماة عودة ظن الناس معها أنه يقرب السياسة بعد ذلك؛ وكان قد ترك العمل كله لصديقه هرندن؛ وهو اليوم في المحاماة أعظم خبرة من ذي قبل وأكثر معرفة بأحوال الناس وشئون حياتهم
وكان من أبرز صفاته سرعة أُلفته للمواقف الجديدة في حياته، وترك مواضيها حتى تبعثها الأسباب. لذلك أقبل على المحاماة إقبالا لا يظن امرؤ معه أن قد كانت له صلة بمهنة سواها، وكأن العمل في السياسة لم يكن إلا عارضاً مر وانقضى فليس إليه رجعة. . . هذا والسياسة مستكنة في نفسه ومعضلة العبيد في أعماق وجدانه تنتظر أول صيحة لتبرز من جديد وهي أعظم قوة واشد وضوحا واكثر اقتراباً من الغاية. . .
وضاق ابراهام ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط وتأخذ بألوان من العنف يوشك أن ينفذ لها صبره ويطيش حلمه، لولا أنه يعود بالسبب على مزاجها الحاد؛ وإن كان ليسأل نفسه بين حين وحين أهي مغضبة عليه حانقة لما أصاب من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب لمجادلته ومغاضبته وقد صغر في عينها وهان لديها شأنه؟. . . ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما يعرف من طباعها(250/50)
ولكن الشقاق متصلة حلقاته وإن وهت دواعيه؛ والمدينة أضيق في عينه اليوم منها قبل، وهو ابن الإحراج والغابات والبقاع المترامية؛ وهو الذي لم يألف الاستقرار في موطن. لذلك عود على أن يعمل في المحاكم المتجولة فيقضى اشهراً بعيدا عن المدينة وعن بيته، يتبع المحكمة أينما سارت، إذ كانت المحاكم يومئذ في تلك الأصقاع هي التي تذهب إلى الناس!
وبرزت في المحاماة مواهبه من جديد وظهرت خلاله، وأخذ ينشر مبادئه بالعمل لا بالقول. جعل الحق رائده والصدق شعاره كما جعل مرد كل شئ عنده إلى معاني الإنسانية والفضيلة لا إلى أصول القانون وملابساته. وليس معنى ذلك أنه أهمل جانب القانون كلا إنما كان يهمل جانب القانون إذا أدت ملابساته إلى التعمية وإظهار الباطل في زائف من ثياب الحق؛ ولذلك جعل الفضيلة فوق القانون، والصدق فوق المهارة في الحوار واللباقة في المجادلة. وكان يحث أصدقاءه من المحامين ومحبيه من الناشئين على ألا يفرطوا في جنب الفضيلة قائلا في صراحة وفى بساطة: أن هناك رأيا شائعاً في الناس مؤداه أن المحامي رجل يتهاون عادة في حق الأمانة؛ ولذلك فلا بد من أن يتمسك المحامي بالأمانة فيما صغر أو كبر من الأمور لكي يدرأ تلك التهمة الشنعاء عنه وعن طائفته. ومن عباراته الشهيرة في ذلك قوله: (يجب أن تثبت في المهنة روح الفضيلة لكي تطرد تلك الروح الأدنين) وقوله ينصح أحد الناشئين: (أعمل على أن تكون محامياً أميناً. فإذا لم تستطيع أن تكون أميناً وأنت محام فخير لك أن تكون أميناً وألا تكون محامياً)
أما عن مسلكه في معاملة الناس فظل هو هو الرجل المتواضع القنوع. كان يرضى بالقليل من الأجر إذ كان يعتبر طلب الأجر الباهظ من اكبر آثام المهنة. ويذكر أنه دافع مرة عن حق رجل في مبلغ ستمائة دولار ولم يتقاضه أجراً على ذلك سوى ثلاثة ونصف! ويذكر أيضا أنه لم يتفق على الأجر مرة. فلما ربح القضية أرسل إليه موكلوه خمسة وعشرين دولاراً، فرد إليهم عشرة منها قائلاً: أن ما بقى هو ما يستحقه!
وكان أينما حل يأمر القلوب بسجاياه، فهو لا يتكلف ما ليس له. ولذلك كان يخالط الناس كأنه أحدهم، يضاحكهم ويلاطفهم ويسرى عنهم بأقاصيصه، والناس يفطنون إلى عذوبة روحه وطيب قلبه ويقظة وجداته، فيفرحون أن عرفوه ويحرصون اشد الحرص على(250/51)
مودته. ولا فرق عنده بين غنيهم وفقيرهم أو بين كبيرهم وصغيرهم، حتى الصبية كان يغمرهم بعطفه فيذهب أحيانا إلى جماعاتهم يتفرج على ألعابهم لحظة، ثم إذا هو بينهم طفل كبير. ولا عجب فقد كان قلبه الكبير مليئاً بمعاني الإنسانية في نسقها الأعلى. وتلك لعمري هي العظمة الحق التي تعمر قلوب بعض البشر فتسمو بهم عن بشريهم وهم بين الناس يعيشون كما يعيشون
وكان في لمحكمة كما كان في خارجها الرجل المتواضع العف يدخل وجيوبه منتفخة بأوراقه، وقبعته ثقيلة بما حوت، لا يعرف أبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ولا يدرى ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي كما يفعل!
كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع. وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس عليه بالباطل فيترك القضية لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره. على أنه ما كان ليفعل ذلك لو أنه استطاع. وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك أدواته ووسائله؛ يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له، والإحاطة بجميع تفاصيله. هذا إلى ما امتاز به من صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، حتى ما يلتوي عليه امرأ ويغرب عن ذهنه حادث
وعرف عنه فيما عرف الأناة حتى لقد كانت تغضب منه زوجه وترميه بالبلادة. وكثيراً ما تبرم صديقه هرندن وتململ لأناته. فانظر إلى إبراهام يسأله أن يأتيه بمبراة وسكين فإذا أحضرهما قال له: أن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد ولعلك تظنها بذلك انفع من السكين إذ هي اسرع، ولكن أيتهما أبعد من الأخرى غوراً إذا نفذتا في جسم؟ ويقتنع صاحبه بعدها أن التأني في الأمور أبعد في سير الأمور غوراً، ولا يشتكي بعد من أنانه ويطيق معه صبراً!
وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه، فهو يعمد في دفاعه أحياناً إلى التهكم اللاذع فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من جوانب القاعة من الضحكات. . .
وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه المدافعة عنه استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة قلبه يقرأ في وجه محدثه إمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في مهارة دون أن يسيئه في شعوره! فهو وإن لم يك من الماكرين لا يقدر أحد أن يمكر به. فإذا جاء دور الأجر طلب إلى موكله أن يدفع ما يستطيع. فإن كان موكله مملقاً(250/52)
فكثيراً ما كان يكتفي من الأجر بالثواب وبالجميل يغرسه في قلبه. ذلك ما حدث حين قام يدافع عن ابن متحديه القديم ارمسترنج وقد اتهم في جناية فانه لم يتقاضه على تبرئته أجراً إلا المودة
(يتبع)
الخفيف(250/53)
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
فرديناند برونتيير
1894 - 1906
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
نقده التطوري
كان (برونتيير) في نقده معارضاً اشد المعارضة للنقد المنفعل وزعيمه (جول لميتر). والنقد الشكي وصاحبه (أناطول فرانس)، كان يؤمن بأن في خارج عوالمنا حقيقة معهودة وأن ليس حقاً أن تكون الآراء مختلفة وأنواع المذاهب عميقة التباين إلى غير حد. إذ في الإمكان أن تعرف - وبمقياس خاص - أن نحلل فنحد تاريخ أثر ما، وأن نفسر أخلاق كاتبه، وندرس تاريخ بيئته كما صنع سانت بوف وأن نعمل خيراً مما عملوا. يمكننا هذا ويجب أن نناقشه. أما النقاد المنفعلون فيعملون على ألا يبدوا إلا انفعالاتهم دون أن يجزموا بها. على أن هنالك قواعد كثيرة مرهقة دقيقة تخص الأدب والفن، تجبرنا على أن نناقش الآثار الأدبية ونعمل على تصنيفها وبحسب هذه القواعد شن (برونتيير) الغارة على الواقعية والرمزية، وهنالك شئ غير هذا يتعلق بالقواعد الفنية
فنظرية الفن من اجل الفن نظرية خطرة يجب ألا تقفنا مجردين إزاء الخير والشر في الأخلاق، إن أرادوا أو لم يريدوا، فإن أثراً ما قد يثير تأثيراً حسناً أو سيئاً. ومن واجبهم أن يقضوا عليه مهما كانت بواعث المؤلف إذا كان تأثيره تأثيراً خطراً. والناقد في نظريته هذه يوافق تلميذ بول بورجيه.
وقد أراد - برونتيير - أن يعطي نقده صفه علمية، وقد زعم أنه اكتشف قانوناً يحيط بالأنواع الأدبية ويصنفها، يقول: إن الأنواع الأدبية مهما كانت البواعث عليها من ضرورة أو حاجة أو بيئة، فهي مثل الأنواع الحية للأحياء التي درسها (داروين). (كل شئ يتطور. لا شيء يبقى ساكناً. كذلك الأنواع الأدبية تتطور، تمشي حيناً إلى صلاح وحيناً إلى فساد، وقد درس الشعر العاطفي والقصصي وبنى نقده على مذهبه التطوري. وإذا لم يبقى(250/54)
لبرونتيير شيء من هذا المنطق العلمي فإن تطوراته جاءت تحتوى تنظيما للتغيرات الأدبية، تصنف الآثار الأدبية كما يصنف علم الطبيعة أنواع الأحياء. وكان لنقده تأثير كبير في الأندية الأدبية. ولم يكن هذا النقد يعتمد على الأحوال العلمية فحسب، بل كان يرجع إلى التاريخ وإلى معرفة واسعة للآثار والنصوص. وذلك ما كان مجهولاً قبله، ولقد كان قبل كونه نقاراً محارباً نقاداً قاسياً ذكياً. فهو وحده أعلى شأن الكتاب المهملين وشأن كل الحركات الفكرية المهجورة لأنها لم تأت في أثر مذكور، أو قول مأثور. وكان ذا موهبة خطابية يعلمها من كان يشهد محاضراته، وتشهد عليها تلك الأفواج الكثيرة التي كانت تسحرها لهجته ويفتنها بيانه
أدب الحياة
إن المدرسة الرمزية كالمدرسة البرناسية تعمل على الانطلاق من حياة الجماعات، لا يؤلف أصحابها إلا لأنفسهم خاصة. فهم ينظمون شعراً لفئة خاصة، وإذا هم ترنموا بالحياة لم يترنموا بالحياة العامة التي يظهر فيها القطيع الإنساني قطيعاً بائساً يمشى على إيقاع القوات الحاكمة. والعودة إلى الأدب الاجتماعي ومحو التشاؤم (البرناسي) قد ولدا مدارس وآثار تريد أن تترنم بالحياة وتملأها شدواً وحناناً وجمالاً. وقد أسس (بوهيلي ومونتفورو موريس) مذهباً بعيد للإنسانية جمالها البطولي، وينظم الروابط التي تصلها بالوجود، وينير شعاعها القوي في الطبيعة. وهذا الشاعر (فرناند جميك) يذود عن الإنسانية التي تحتل مكانها في الوجود بواسطة الإنسان. وبعد هذا فإن الوحدة التي أعلنها (جول رومان) والتي تسعى إلى التعبير بصورة رمزية لا عن نفس ولا عن أنفس، ولكن عن النفس الإنسانية عامة التي تبدو حيناً متحدة وحيناً منقسمة. هي النفس الحقيقية العميقة من النفوس البشرية؛ ومن أظهر آثاره في هذا المعنى (الجيش في المدينة)
ومثال ذلك من الشعراء مقاطيع (أميل فارهارم) الشاعر البلجيكي. ولد في (سانت راماند) بالقرب من (أنفرس) سنة 1855. وقد درس الحقوق في أول عهده ثم وقف حياته كلها على الشعر، ودرس خلال ذلك أسرار النفوس الخفية. ومات سنة 1916
عاش (فارهارم) وتثقف في بلد هادئ، وفي قلب أسرة متدينة غنية بالعافية مطمئنة القلب. ونشأ هو درّيساً مرحاً وإنساناً يجنح إلى الطرب. وبعد أن قل ميله إلى المدرسة الكلاسيكية(250/55)
ونزوعه إلى لامرتين وهو جو أخذ ينظم شعراً واقعياً حساساً. ولكنه استنفذ قواه، أو أن قواه كانت اضعف مما كان يظن، فأصابه بلاء في صحته، حتى أصبحت أعصابه المتوترة لا تستطيع أن تحتمل أية ضجة، لا وقع لحن ولا وطء قدم. وهذا بلاء تولد عن بلاء نفسي. فلقد كانت طفولته مشحونة بالأساطير، طافحة بالتقوى والاعترافات والصلوات! ولكنه شك فجأة وجرب باطلاً بأن يستعيد إيمانه، فكان أن فرّ الإيمان وأقبل الألم
فأخذ يجد في السياحة في أطراف البلاد طالباً التعزية لنفسه فكتب ونظم. . . وفى هذه الفترة أصاب وطنه أزمات اجتماعية عنيفة حتى أقوت القرى من سكانها، وعفت المدن بمن استهوتهم بألوانها. ولكن (فارهارم) عاوده الشفاء رويداً رويداً، فعاد يجد الحب والإيمان. أما الحب فلم يتكلم عنه إلا بمقاطيع محجبة ولكنه يبدي إيمانه به. فالمدن قد فتحت اذرعها إلى القرى لتخليها من أهلها ولكنها - برغم عيوبها وشرورها - قد أوجدت العزم والقوة. وإنها لقوة مشوشة، ولكنها جميلة مخصبة لأن البرية المنجذبة أخذت تموت. فلتترنم الآن بالقوة التي تحيي الموات. هذه هي ألحان الحياة الحاضرة. . .
ولكن شفاءه لم يجعل منه إنساناً صافى الشعور. فقد ظل على ارتعاشه وهيامه الباطل. وقد علمنا أن له - منذ طفولته - إحساساً عصبياً عنيفاً، وبعض الذكريات من هذه الطفولة قد ولدت فيه أنواعاً من حب الأسرار ناهيك بطغيان المخيلة عليه. وقد جرى خلف مدارس أدبية حديثة، فاستمد من شوبنهاور ومن بودلير ومن فرلين ومن مالارمي. فكان هو ومعه فئة من بني قومه أسسوا الفن الحديث في بلجيكا الحديثة، وكانوا ينشرونه في المجلات الرمزية. وهذه الرمزية كان مزاج شاعرنا يميل إليها
هنالك صور مفاجئة تتولد من نفسه في ظلمة نفسه بصيحة من نفسه، أو حلم أو حالة مجهولة، ومنها تتولد صور أخرى تحف بها فتكون قصيدة رمزية، لأنها ليست مظهراً عددياً للتأمل. ولكنها نوع من هذا الهيام الباطني حيث كل خيال يعكس حالة من حالات النفس، وكل نغمة تمثل فكرة موزونة
وهكذا قدر لشاعرنا أن يعبر في ديوانه (القرى الباطلة) و (البراري الهائمة) عما لا يقدر عليه شاعر آخر من معاني تفر من الوضوح ومن التعبير الواضح. فكان بهذا شاعر المطر والريح والسكون وكآبة الهجر والعزلة. وكان بهذا شاعر الكآبة المنجذبة الشاردة للأشياء.(250/56)
ولكن سرعان ما شفي من هذه الحالة النفسية فلم يعد يميل إلا إلى الطرب والنور. وبدلاً من تلك المطاحن السوداء والمآسي وحفاري القبور وكل ما يبعث على الأسى اخذ ينظر إلى السنابل المتحركة والمطاحن الفرحة ويسمع الصراصير ويفهم كل أشكال النور والخصب وفرح الحياة. ألم يكن يجد في كل حالة شقاء له وكمداً دون أن يقدر على الفرار من هذا الكمد! كان يحيى في عالم صاخب، ومذ عاد إليه إيمانه الاجتماعي وتفاؤله نشأ عنده ميل إلى كل ما يرن ويدوي، وإلى كل ما لا يسقط كالسهم في النور. وإنما ينساح كالجدول المناسب في الغابة. فتش فوجد الشعر العاطفي هو الذي يقدر أن يعبر عن هذا الشعر للحياة الهامسة المضطربة، هذا الشعر الخطابي حيث تدور الفصاحة فيه وتسيطر عليه. وأطياف من الصور القاسية التي تنتهي بالذوبان في شبه وحدة متحركة في الإيقاع الناعم القاسي لحياة لا تجري على نظاماً متبوع!
خليل هنداوى(250/57)
رسالة الشعر
الباحث
للأستاذ عبد الرحمن شكري
المقدمة
قد صور كثير من المفكرين والشعراء حياة الإنسان عصراً بعد عصر كأنها حياة إنسان واحد أو كأنها بحث متصل دهراً بعد دهر، وهذا البحث هو ما يزكون به حياة الإنسان وما يعذرون به شقاءها وآلامها ويأملون آمالاً كباراً من وراء تقلب الإنسانية في بحث الحياة. ومن هذه الآمال رجاؤهم أن يعم الشعور بوحدة الإنسانية على اختلاف الأجناس والشعوب والمطامع والضرورات والمطالب والنزعات النفسية، ويأملون إذا عم هذا الشعور بوحدة الإنسانية أن يقلل الإحساس العام بوحدتها من البغضاء والشرور والحروب والآلام والجشع، وأن يؤدي إلى التعاون على الحياة بدل التقاتل عليها. وهذا البحث الإنساني المستفيض دهراً بعد دهر للحياة وما يدعوا إليه من الإحساس بكل شعور وكل حالة من الحالات كي يعم مبدأ وحدة الإنسانية هو الذي دعا إلى تخيل إنسان يعيش دهراً بعد دهر في كل حال وفي كل مكان حتى يملأ العطف قلبه ويرى أن نشدان الحق غاية الحياة، وعلى فرض أن هذا الأمل الكبير في أن يعم الإحساس بوحدة الإنسانية حتى تنمحي شرور الجشع في التقاتل عليها لن يتحقق فأن بقاءه كمثل أعلى مما يخالط مرارة الحياة بحلاوة منه
وعلى فرض أن المثل الأعلى لا يكون في تحقيق وحدة الإنسانية؛ ففي القصيدة مثل آخر وهو أن نشدان الحق هو الشعلة المقدسة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وأن ترعاها الإنسانية عامة
القصيدة
بينما كنتُ سائراً لاح شيخ ... ذو سكون ونظرة هوجاء
ويكاد الضياء ينفذ منه ... فهو بين الأنام صنْوُ الهواء
باحث في السماء يطلب شيئاً ... غاب عن عين غيره في السماء
وهو فينا جزء من الزمن الأ ... ول ذكرى لسالف الآباء(250/58)
وجهه رائع كوجه أبي الهو ... ل رأى ما مضى على الغبراء
قلت يا شيخ ما دهاك وما شأ ... نك بين الأموات والأحياء
قال من يدرس الحياة طويلاً ... لَخَلِيقٌ بضَحْكةِ الجهلاء
كنت والكون في الطفولة أغدو ... وشباب الأيام في الغُلواء
وصرعت المنون حتى لأنسا ... نِيَ طولُ الحياةِ حُكْمَ الفناء
دُوَلٌ قد أتت وأخرى تَقَضَّتْ ... وبقائي بين الأنام بقائي
وشهدتُ الصروف من قبل عادٍ ... والمنايا تَجُرٌّ ذيل العَفَاء
أنْشُدُ الحقَّ لست ألْوِى إلى البا ... طل فالحق يُطَّبى بالرجاء
عشت دهري بالبحث والأمل الحل ... وولولاه لم أَفُرْ بالنجاء
من سهام المنون إنَّ سهام ال ... موت فينا كثيرة الإِصماء
هِمْتُ يوماً من قريتي أنشد الح ... ق لعلي أراه في الدهماء
عِفْتُ بيتي وبلدتي وهجرت ال ... أهل أبغي ريَّ النفوس الظِماء
ظمأ النفس مثله ظمأ الجس ... م وداء النفوس كالأدواء
زعم الناس بي الجنونَ وخالوا ... طالب الحق أخرق الأحياء
كلما لاح شامخ قلت إن ال ... حق يغدو مِنْ خَلْفِهِ بإزائي
ورَعَيْتُ الظلماء عَلِّى أراه ... خارجاً من سرائر الظلماء
وجزعت الصحراء أرجو لقاء ... منه يُرجَى في وحدة الصحراء
ولكم غُصْتُ في العُّبَابِ عليه ... إنما الدر منه في الأحشاء
وأَثَرْتُ الأصداء أبغي جوابا ... لسؤالي في منطق الأصداء
وسألت الرياح عنه فَصُمَّتْ ... عن دعائي فلا تُجِيبُ دعائي
وسألت السماء تبرز وجها ... منه يَبْهَى في الأُفق جَمَّ الضياء
وأعارَتْنِيَ الطيورُ جناحا ... أرتجي منه لقية في الفضاء
طالما خاب ناشد الحق لك ... ن رجائي كما عهدتُ رجائي
قد يجيء الصباح منه بوجه ... طالما كان مُضْمَراً في الخفاء
أو تُبِينُ الأحلام منه ضياءً ... في سماء الأحلام مثل ذُكاء(250/59)
قد صحبت الأنام طُرًّا كأَني ... بينهم في تَنَوُّنِ الحرباء
كان لي نوح في السفينة خِدْناً ... فنجونَا من مُهْلِكِ الأَنْوَاءِ
وحباني أشور في نَيْنَوَى العُظْمَ ... ي بِسَيْبٍ من جوده وثناء
ورآني فرعون أُقْدِمُ في الجي ... ش مُشِيحاً ورافعاً للواء
وتَجَلَّى آمون في معبد الأق ... صر يقضي في شعبه بالقضاء
ولكم جُلْتُ في أثينا وأفلا ... طون يتلو فصاحة الحكماء
ورأيت الرومان في رومة العُظْ ... مَى عظام الأعمال والأهواء
وصحبت المسيح في القُدْسِ دهراً ... وحباني من روحه بالصفاء
وعبدت النيران قِدْماً ولكن ... قد سما بي الإِيمان للسمحاء
وحمدت النعيم والترفَ الوا ... فر قِدْماً في صحبة الخلفاء
وحَسَوْتُ النعيم والبؤس حتى ... لم أَدَعْ كأس لذة أو شقاء
وصحبت العبيد في ظُلُمَاتِ الع ... يش حتى جُنِنْتُ بالضَّرَّاء
وأَلِمْتُ الآلام طُرَّا وَلُقِّي ... تُ عذاباً أُتيح للتعساء
وصحبت الوحوش في البيد حتى ... أَنِسَتْ بي الوحوش في البيداء
وأرقت الدماء في الحرب حتى ... جُنَّ قلبي من نشوة الهيجاء
لم أدع خَطْرَةً أُتِيحَتْ ولا مع ... نى ولا فكرة من الآراء
أو شعورا أو هاجسا أو طموحا ... لا ولا مَشْهِداً تركتُ لرائي
أنشد الحق بالتقلب في العي ... ش وأبغي سريرة الأشياء
أنت أيضاً شهدت هذا جميعا ... غير أن لا تُعَدَّ في الفطناء
قال ما قال ثم غاب عن العين ... كما يخفت الصَّدَى في الهواء
عبد الرحمن شكري(250/60)
في سكون الليل
للأستاذ إبراهيم العريض
غفا الكَونُ. . إلا ما يكونُ من الصبا ... إذا حرّكت مهدَ الزهورِ النواعس
تخالينَها - يا ميُّ - طُهراً مجسَّما ... على كل غضنٍ في الخميلة مائس
ويحبسُ من أنفاسِها الليلُ ريثما ... يخالطُها بردُ الندى المتقارس
فُترسِل طيباً حولها في دوائرٍ ... تدورُ إلى أن يغمرَ الطيبُ هاجسي
وقد سكنت حتى المياهُ كأنها ... هنالكِ تُصغي في الظلام لهامس
يصقَلها مرُّ النسيم فتنجلي ... بها صورُ الأشياء شبهّ رواكس
وينظرُ في مرآتِها النجمُ حائراً ... فليس يرى إلا شرارةَ قابس
أنزعمُ أن اللهَ أبدعَ هذِه ... لنقضِيَ ريحانَ الصِبا في المجالس
ولا طيرَ إلا وهوَ طاوٍ جناحَه ... على الرأسِ حتى المنكبين كبائس
تخالينَه من هَيئة الشكل ناعساً ... ولكنهُ - يا ميُّ - ليسَ بناعس
فإن لذكرى كل لحنٍ شدا به ... سحابةَ يومٍ هزَّةً في المغالس
تؤرّقُه تلك الهواجسُ موهِناً ... فيشفِق من جرّاء تلك الهواجس
وكم دوحة في الروض حالَ سوادُها ... بأنوارِ بدرٍ شعَّ بين المغارس
فألبسَها من نسجِه بعد عُريها ... وشاحاً لجينيَّ السنا كالعرائس
وتحتَ شُعاع البدرِ أسفرتِ المنى ... وعانيتُها تحنو حنوَّ الأوانس
تعالى هُنا نخلُدْ من العُمرِ ساعةً ... يداً بيدٍ في نجوةٍ وتهامس
إبراهيم العريض(250/61)
القصص
شارلس لام يروي عن شاكسبير
3 - قصة الشتاء
بقلم الأستاذ دريني خشبة
تتمة
والتفت الملك إلى فلوريزبل يقول: (مرحباً بك يا ابن اعز الأحباب وأوفى الأصدقاء! لقد فقدت محبة أبيك الذي أهفو إليه وأحن له، وبنفسي ما ألقى من الشوق للقائه! ولكن. . . بحسبي أن أنظر إليك فكأنما أنظر إليه. . . وبحسبي أن انظر إلى الأميرة الجميلة، فكأنما أنظر إلى هرميون!
- ومن هرميون يا مولاي؟
- هرميون! ويلاه عليّ! إنها زوجتي المغفور لها يا بني! لقد ماتت منذ ست عشرة سنة. . . وفقدت كل شئ بموتها! حتى ابنتي الوحيدة التي لا أعلم أين تعيش اليوم إن كانت ما تزال حية! آه يا هرميون! لشد ما تشبهك هذه الأميرة الصغيرة! ولشد ما تنطبق صورتها على صورتك في ذهني المعذب بذكراك! آه يا بُنيتي! أين أنت اليوم لأفتديك بملكي ونفسي!)
ثم انحدرت عبرات من عينِي الملك، فازدحمت الآلام في قلب الراعي، وتأكد أن ابنة الملك هي برديتا الحبيبة التي وجدها في الغابة؛ ثم جعل يستعرض براهينه، فذكر الجواهر التي كانت الواحدة منها تشري له قطيعاً بأكمله، وأيقن أنها لا تكون إلا مما يقتني الملوك. . . ثم ذكر ما هو مكتوب في الورقة فلم يزده إلا ثقة في حقيقة ما حدس. . .
وتقدم الراعي إلى الملك واستأذنه في الحديث فأذن له، فأخذ يسرد قصة برديتا كيف تركها رجل في ظل دوحة على الشاطئ البويهيمي، وكيف قتل الدب هذا الرجل واغتذى به، ثم كيف سمع الطفلة تبكي وتئن من البرد والجوع، وما كان من ذهابه بها إلى زوجته، وما وجده في ثيابها من الجواهر واللآلئ وغالي الحلي، وما وجده مكتوباً في ورقة مثبتة في صدرها بدبوس(250/62)
ولم يكد الشاعر يبرز الورقة وما تبقى معه من الجواهر، ولم يكد الملك ينظر إلى الجواهر في يديه، حتى اهرع إلى برديتا وهو يصيح: (ابنتي! ابنتي! تعالي يا برديتا! تعالي إلى صدر أبيك الشقي!) ثم ضمها إلى صدره، وراح ينشج نشيجاً مؤلماً ويذري عبراته الحرار على صدر الفتاة المشدوهة، التي تركت نفسها حائرة مستريبة في حضن الملك، وهي لا تفهم من هذا المشهد المؤثر شيئاً مطلقاً. . .
إذن قد عرف الملك جواهره التي أهداها بيده إلى هرميون ليلة زفافها! فهذه آية لا يسمو إليها الشك. . .
وكانت بولينا - زوجة أنتيجونوس حاضرة - وهي التي حملت برديتا من السجن لتلقي بها بين يدي الملك - فلما أخذت الورقة من يد الراعي لم تشك في أنها هي نفس الورقة التي كتبها زوجها وثبتها بيده في ثوب الطفلة. . . فكانت هذه آية أخرى. وبالرغم مما علمت بولينا من أمر زوجها، وما صنع به الدب، فإنها فرحت بعودة برديتا فرحاً أنساها أشجانها
وآية ثالثة. . . فقد ذكر الملك الشطر الأخير من نبوءة دلفي (سيعيش الملك بلا وارث إن لم تعد إليه طفلته المفقودة!) فأيقن أنها هي، وأن أبوللو لم يكذب!
وفي هذه الثورة الهائلة من الوجد الجارف، والذكريات المؤلمة، تقدمت بولينا إلى الملك ببشرى رائعة!
ذلك أنها كانت قد حرست على تخليد ذكرى هرميون، فكلفت المثال الصناع الشهير جوليو رومانو بنحت تمثال للملكة المغفور لها، فجاء التمثال طبقاً لهرميون الخالدة، ثم توسلت إلى الملك أن يتفضل فيذهب إلى منزلها، ليرى أن تمثال هرميون هو صورة حقيقية لبرديتا!
وذهب الجميع إلى بيت بولينا. . . وأزاحت بولينا الستار فبدا التمثال الرائع. . . ووقف الملك مسبوهاً أمامه يتأمله. . .
وذكر الملك أن هرميون تبدو في التمثال اكبر من سنها الحقيقية، فلفتته بولينا إلى أن المثال قد أضاف إلى عمر هرميون هذه الست عشرة سنة!
ولاحظت بولينا ما انتاب الملك من الحزن، فاستأذنته في إسدال الستار على التمثال. . . وهنا - يدور هذا الحديث الباكي:
- لا. . . لا تستدلي الستار يا بولينا! ليتني مت قبل هذا!! أنظر يا كاميللو؟! ألا ترى إليه(250/63)
كأنه يتنفس يا صديقي؟! ألا ترى إلى عينيها كأنما تتحركان وترنوان؟!. . . لا تسدلي الستار يا بولينا! إني أحس كأن عشرين سنة تتكلم من فم هذا التمثال! أوه - ها هي ذي الحياة تدب فيه! فيا للناحت الذي يضع الأنفاس في الصخر؟! ليهزأ بي من يهزأ، فلا بد أن أقبل الشفتين الحمراوين!
- مولاي. . . حاشاك يا مولاي. . . إن الزيت ما يزال غضّاً وقد تعلق الحمرة بفمك! فلأسدل الستار، فهذا خير!
- لا. . . ليست هذه السنون العشرون!)
وبينما كان الملك يتكلم، كانت برديتا الحزينة ساجدة أمام التمثال تبكي وتصلي، وتتمتم باسم أمها الميتة
وتوسلت بولينا إلى الملك مرة ثالثة في أن تنزل الستار على التمثال رحمة به. . . (وإلا، فأذن لي يا مولاي أن آمر التمثال فيتحرك ويتكلم، فإني قد عُلمتُ من السحر ما أصنع به هذا!)
وعجب الملك، ثم أذن لها. . . (لأني مستعد أن أرى بعيني وأن اسمع بأذني!)
وهتفت بولينا بأسماء كثيرة، فسمع الواقفون موسيقى عذبة تنسكب في آذانهم وتدب منها في أرواحهم، ثم أشارت إلى التمثال فنزل من فوق قاعدته المرمرية، وخطر نحو الملك، ثم ألقى ذراعيه على عنقه وقبله. . . وضمه في حنان وعطف، وتركه وتوجه نحو برديتا فاحتضنها كذلك، وطبع ألف قبلة على خديها وفمها وجبينها، ثم جعل يتكلم فيقول: آه يا ابنتي! الحمد للآلهة فقد عدت أخيراً إليّ!. . .)
مرحى بولينا مرحى!!!
لم يكن هذا تمثالا كما زعمت بولينا، بل كانت هرميون نفسها! إي والله! كانت هرميون لأنها لم تمت، كما زعمت بولينا للملك، لكي تنقذ الملكة من سجنها السحيق، ومن مأساتها الدامية
وعاشت هرميون مع بولينا طوال هذه السنين مفضلةً ألا تعود إلى الملك الذي تأكد من براءتها، لأنها لم تشأ أن تغفر له ما صنع بابنتها. . . فلما أعلن عن عودة برديتا، دبرت بولينا هذا اللقاء العجيب!(250/64)
وفزع بوليكسينز لما علم من هرب ولي عهده. وتأكد أن كاميللو أبق به إلى صقلية، فاقتص آثارهما - فيا لمحاسن الصدف؟!
لقد وصل بوليكسينز في هذه اللحظة السعيدة التي التقى فيها الأحباب، واطمأنت عندها القلوب!
وعرف أن برديتا لم تكن راعية شاءٍ ولا رفيقةُ بهم. . . وأنها ابنة صديقه الأعز ملك صقلية، فلم يكن أحب إلى نفسه من أن تكون زوجة ولى عهده.
دريني خشبه(250/65)
البريد الأدبي
معرض الفن بكلية الحقوق
أقامت لجنة الفنون بكلية الحقوق معرضها الأول السنوي الشامل لمجهودات طلابها وأستاذين من وأساتذتها في التصوير والرسم؛ وقد وقفت هذه اللجنة الفتية المباركة التي يرأسها الدكتور علي أبو هيف أجمل توفيق في بلوغ الغاية التي تنشدها، واستطاعت أن تقدم من الفن الجمل آيات إذا كان هذا يومها فأكرم بغدها
وإن المجموعة الأولى التي قدمها الدكتور أبو هيف ليتجي فيها روح الفنان الموهوب فلقد وفق في إبراز المعاني الخفية في جلاء ووضوح، ولعل الناحية التي يبدو فيها فنه هي الناحية الغريزية في النفس، فإن الناظر ليرى في عيني صاحبه (نشوة الألم) كل المعاني التي تجول في خاطرها فهي تكاد تثب وثوباً من مقلتيها، أما صورة (الندم) فقد كان أولى بها أن تسمى (بالذكرى) أو (الحنين) إذ يتبين الناظر في ضم ذراعي صاحبتها معاني اللهفة الحائرة، أو كأنها تخشى أن تنسرب من نفسها نشوة لحظة فهي تضم ذراعيها في قوة وتشبكهما على صدرها. وتتجلى مقدرة الأستاذ الفنان في تصوير الناحية الجنسية في صورته الفحمية الرائعة (نداء الذكريات) ففيها استلهام لماض معسول، وانتشاء بذكرى عابرة عاطرة، كما استطاع في هذه الصورة نفسها أن يبرز بدائع التكوين الجسدي وروائع الفتنة. وهناك ناحية أخرى لازم التوفيق فيها الدكتور أبا هيف، تلك هي نقوشه الرائعة لصور الطبيعة، فلقد جلى خبايا الحسن والروعة فيها في دقة بالغة في (فجر الربيع) وفي (سكون الصباح وسحر الغروب) وكلها تنطق بأنه فنان ملهم عرف في هذه الصور وغيرها كيف يوفق بين الألوان واعتناق الظلال والأضواء كما يبدو ذلك في (هيكل الحب) وهي صورة غلب فيها خيال الشاعر على إدراك الفنان فجاءت مزيجاً من الاثنين معاً
ويطول بنا الكلام لو وقفنا عند مجموعة كل طالب فنان، وحسبنا أن نشير هنا إلى أن هذه الصور تدل على نبوغ كامن في نفوس لا ينقصها غير التشجيع والأخذ بيدها في هذا الطريق فإنها ولا شك ستبدع وستكون للفن الجميل خير معوان
ويغلب على الطلبة في هذه النواحي الميل لصور الطبيعة، وعلى الأخص مناظر النيل الساحر في مختلف الأحوال، ففيها بذلك روح مصرية جميلة نرجو أن تجد من الحدب ما(250/66)
يأخذ بها في سبيل التقدم ومعارج الكال. ومن هؤلاء كمال نجيب وزكي واعيش وإحسان والدالي والسمنودي ودسوقي وحتاتة ويحيى سامي وحنفي وحمزة ومدكور والشموتي. وإن ما أبدعته ريشة الفنان الشاب إحسان احمد إبراهيم لما يدا على روح فنية أصيلة يرجى بها منها الخير، والحق أن ما عرضه آية في بابه يستحق عليه التهنئة ويستأهل عليه الثناء، وصوره هذه تشير إلى نبوغ فطري فيه سيؤتي أكله في القريب إذا والى العناية بهذه الناحية. ولقد أجاد وأوفى في الإبداع في (الغروب بالأقصر) فإن تعانق الشمس بالمياه في هذه اللوحة لما يلهم الخاطر شتى المعاني وتتدفق خيالها الأخيلة الرفافة، فهذه الشمس معبودة المصريين القدماء تحنو على المياه التي مدت متنها مركباً ذلولا لفراعنة مصر وكأنها تهمس في أذنها بمعاني الخلود، وتنغم أغنية العصور في مسامع الدهر
كذلك استطاع الأستاذ لوسيان شيرون الأستاذ بكلية الحقوق أن يقدم باقة عطرة من صوره للآثار المصرية والإسلامية وهي على قلتها تنبئ عن مقدرته التامة التصويرية، كما تشير لميله للآثار.
ح. حبشي
ألدوس هوكسلي
إذا عد الثلاثة الأوائل من زعماء الفكر في إنجلترا في العصر الحديث فلا شك أن ألدوس هوكسلي يكون ثالثهم؛ وأولهم - فيما نرى - هو برنردشو. وثانيهم هو هـ. ج ولز - وقد نظم برتراند رسل بهذا الترتيب، وهو على كل حال رابعهم، وله مزاياه التي يتفرد بها بينهم. . . وألدوس هوكسلي هو ابن العلامة الأشهر توماس هوكسلي الذي اهتدى إلى نظرية النشوء قبل أن ينشر داروين كتابه (أصل الأنواع) بثمانية أعوام، والذي لولاه ولولا كتاباته الخالدة لم يكن لداروين هذا الذكر وذاك الخلود. . . وهوكسلي الصغير هو أحد الكتاب الشباب، وإن يكن قد جاوز الأربعين، الذين برزوا إلى الوجود بعد الحرب الكبرى، والذين ثاروا على القديم تلك الثورة الهدامة التي كادت تأتي على أسس الأدب الإنجليزي المحافظ. وقد اشترك مع هوكسلي في هذه الثورة لورنس وجويس وفَلسفَها شو، لكن لورنس وجويس كانا يتخذان في ثورتهما سلاحاً من العاطفة مسنوناً، ومادة من الجنس(250/67)
يتغلغلان بها إلى أعماق القلوب، وكذلك كان يفعل هافلوك أليس، وما يزال؛ إلا أن أليس عالم يحلل النفس وكأنه في معمل من هذه الحياة، وقصته (أوليز) آية علمه، وقصته الجديدة (رقصة الحياة) آية أخرى. . . وألدوس هوكسلي ثائر من صنف أليس، وعالم مثله، وبينه وبين ولز صداقة حميمة، ويحسبه القارئ من تلاميذ شو، لكنه في الحقيقة تلميذ السويدي العظيم هنريك إبسن، وقد ظل طوال حياته الأدبية متأثراً بطريقته فهو يهدم ولا يبني، ويشخص ولا يصف العلاج. . . ولكن انقلاباً عظيماً حدث فجأة في حياة هذا الأديب الكبير، فقد اصدراً كتاباً جديداً له أسماه الغايات والوسائل & تناول فيه علل الحياة الحاضرة من سياسة وتعليم واقتصاد وأطماع فجعل يبدئ ويعيد في أسبابها، ثم يشرع بعد ذلك في وصف الدواء لكل حالة. وقد فزع هوكسلي في مقدمة كتابه من الحالة المخيفة التي انتهى إليها العالم جملة والأفراد متأثرين بما يرون من أعراض العلل التي تنتاب الأمم في موكبها المضطرب الذي تسير فيه إلى نكبة محققة. . . وقد اعتدل هوكسلي في مؤلفه الجديد فيما يخص الأديان، بل هو يعترف أن التدين سيلعب دوره الخطير في رد العالم إلى التعقل، ويبدو هنا أنه تأثر بالأديب الفيلسوف الفرنسي الكبير برغسون الذي وقف لوالد المؤلف ولداروين بالمرصاد، يرد نظرياتهم المادية، ويقفها صامته جامدة أمام حججه الروحية التي لم يستطيعا نقضها، والتي جاء مؤلف هوكسلي يؤيدها ويبشر بها. . . وينعى هوكسلي على طريق التعليم والتربية المنتشرة في العالم اليوم أنها رثة بالية، وأن مكروب الفساد الذي ينخر في كيان البشرية في هذا العصر ينتشر من رممها ويتكاثر فيها، ودليله أن أرق الأمم وأقواها، وأكثرها مدنية ومدارس وجامعات هي التي تهدد سلام العالم وتتربص بغيرها الدوائر، وتعد أدوات الدمار لساعة الجد؛ ولو كانت وسائل التربية والتثقيف ناجعة لما نامت الملائكة واستيقظت الشياطين وتأججت الحفائظ بالعداوات بين الدول. . . وهوكسلي هنا يبدو من أنصار فكرة السلام العالمي، بل هو من دعاة البشرية التي بحّ صوت ولز بتحبيذها. . . وقد وجم الرأسماليون الإنجليز من صيحة هوكسلي، وبدءوا يسفهون فلسفته الاجتماعية الجديدة، وهذا لأنه عاب توزيع الثروة العالمية بين الأمم، وصرح بأن استئثار بعض الدول دون البعض بخيرات الأرض هو شل لنشاط أمم ناهضة عاملة، كما أنه تخمة تشل نشاط الأمم المالكة(250/68)
وسنعود إلى هذا الكتاب القيم حين نفرغ من قراءته
الحبشة بعد الفتح الإيطالي
قام الميجر. ا. وبولسون نيومان الإنجليزي برحلة طويلة في بلاد الحبشة بعد استقرار الفتح الإيطالي فيها استغرقت ثلاثة أشهر (من مارس إلى يونيه سنة 1937) متبعاً طريق الغزو التي سار فيها الجنرال بادوليو مبتدئاً من مصوع وماراً بعدوه وأكسوم وماكالي وكوارم. . . إلى ديسي. ثم إلى أديس أبابا ثم إلى لهمتي (!) فسابو فجمبيلا فحدود السودان، ثم انثنى بطريق الجنرال جرازياني إلى مقدشو على المحيط الهندي. ثم ركب الطائرة من قسمايو في (الصومال) فطاف بمقاطعة أوجادن إلى ديردوا وإلى هرر ومن ديردوا بالسكة الحديدية إلى جيبوتي وبالباخرة إلى الميناء الإيطالي الجديد عند عصب. وقد كان أهم ما لفت نظر الميجر بولسون هو زوال روح الجفاء بين الأحباش المقهورين والإيطاليين الغزاة، وهذا النشاط العجيب الذي يبديه الإيطاليون في تحضير الحبشة وترقية مرافقها الحيوية وانتشار المدارس الإيطالية في أرجاء إمبراطورية أسد يهوذا. وقد ألف الميجر في رحلته هذه كتاباً هو أحسن ما وصفت به الحبشة إلى اليوم. وبالرغم من أن المؤلف إنجليزي فالكتاب موضوع في أسلوب حبي وروح غير عدائي.
كتاب جديد للمستر ولتر
من أنشط المؤلفين في العصر الحديث وأكثرهم إنتاجاً هو الكاتب الأشهر هـ. ج ولز الذي لا يكاد يمضي عام إلا ويتحف قراءه - وهم عشرات الملايين - بكتاب جديد تحتاج قراءته إلى عام أو أكثر من عام؛ وأحسن ما ألف ولزهي طوبوياته التي يدفع بها الإنسانية إلى السبرمان. وقد دعا في السنوات الأخيرة إلى وجوب عالمية التعليم وهي عالمية لا تفهمها القومية ولا تريد أن تستسيغها، لأنها نقيض لها، فالعالمية هي الديمقراطية بين الأمم، أما القومية فهي الاستبداد بين الأمم، وسلاح الأولى السلم والصالح العام، أما سلاح الثانية فالحرب والتغلب والتبرير. وولز من اجل ذلك يدعو إلى وجوب جعل التعليم عالميا، وانتزاع أخبار الحروب والصدام بين الأمم وتراجم الطغاة والمستبدين من صلب منهاج التاريخ الذي يدرس للتلاميذ في مدارس العالم قاطبة حتى لا تخدعهم الكبرياء الوطني عن(250/69)
صالح البشرية العام. وهو يدعو أيضاً إلى تأليف موسوعة عالمية تبشر بالأخاء الإنساني وتكون إنجيلاً حديثاً يوجه البشرية ويمهد لحكومة عالمية تحل محل عصبة الأمم التي ماتت ورنقت الغربان الجائعة فوق جيفتها تنوشها وتمزقها. وقد طاف ولز أنحاء العالم وراح يدعو إلى مذهبه في جامعاته، وقد حاضر في أمريكا وفي إنجلترا وفي فرنسا فنور الأذهان لما دعا إليه، ثم جمع محاضراته وأحاديثه ومقالاته وأصدرها في كتاب واحد سماه وهو اسم غريب تشوهه الترجمة
رابطة التربية الحديثة
زار مصر الأستاذ برفيه مدير معهد جان جاك روسو وكان من أثر زيارته أن اقترح إنشاء فرع في مصر لرابطة التربية الحديثة يكون من أغراضه مناقشة شئون التربية والتعليم والوقوف على التيارات المتصلة بها في العالم الحديث وإحداث تجارب في هذا الصدد محليا، وعقد الاجتماعات الدورية الخاصة، وإلقاء محاضرات عامة، وعقد المؤتمرات، ونشر البحوث الفنية، وإنشاء مكتبة لهذا الغرض، والاتصال بالهيئات التربوية في الخارج
وقد أنشأت فعلا هذه الرابطة من كبار رجال التعليم وألف مجلس إدارتها من صاحب العزة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك ناظر معهد التربية. والأستاذ إسماعيل القباني ناظر مدرسة فاروق الأول الثانوية، والدكتور عبد العزيز القوصي الأستاذ بمعهد التربية، والأستاذ محمد فريد أبو حديد الموظف بالمعارف، والدكتور سيد أبو باشا ناظر مدارس النيل، والدكتور أمير بقطر الأستاذ بالجامعة الأمريكية، والآنسة أسماء فهمي، والآنسة سمية فهمي، والأستاذ محمد عبد الواحد خلاف مدير التعليم بالجمعية الخيرية الإسلامية، والأستاذ احمد خلف الله المدرس بالجامعة، والأستاذ علي النحاس بمعهد التربية للبنات، والأستاذ رياض عسكر وكان أول ما فكرت فيه موضوع الامتحانات في مصر على نحو ما ذكرناه في العدد الماضي
ذكرى الرافعي
اعتزمت مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس الاحتفال بذكرى المرحوم الرافعي لمناسبة مرور عام على وفاته في 9 مايو سنة 1938 ودعت بعض أدباء المصريين للمساهمة في(250/70)
هذا الاحتفال. وإنه لوفاء يستحق الإشادة والذكر كنا نرجو أن تكون محطة الإذاعة المصرية اسبق إليه أحياء لذكرى فقيد العروبة الكبير الذي نشأ في مصر وكانت لها حياته وفيها مثواه. على أن الوقت ما زال متسعاً لتفكر محطة الإذاعة المصرية في القيام بهذا الواجب؛ جرياً على سنتها في الاحتفال بذكرى الخالدين من أدباء العربية، ومنها الأسوة في الاحتفال بذكرى الشاعرين الكبيرين شوقي وحافظ إبراهيم
مدرسة الخدمة الاجتماعية في خدمة الفلاح
أنشئت مدرسة الخدمة الاجتماعية في القاهرة لإعداد الشباب لخدمة المجتمع، واستغلال جهودهم للصالح العام. وكان طبيعياً أن تتجه الفكرة في المدرسة إلى تنظيم دراسة الخدمة الاجتماعية في القرية فوضعت لذلك برنامجاً منظماً وافياً يشمل كل نواحي القرية ويدرس أكثر المشاكل الريفية دراسة عملية قائمة على الخبرة والتجارب ونظرة إلى هذا البرنامج تبعث في نفوسنا الاطمئنان على ما تقدمه الخدمة الاجتماعية في القرية:
تقدمة عن تاريخ الفلاح. اقتصاد زراعي وتعاون ومسائل صحية. التعليم. تجميل القرية والمسكن. ترغيد الحياة الريفية الأمن العام. الفلاح والدولة. مسائل اجتماعية. الخدمات الاجتماعية في الريف
وقد بدأت هذه الدراسة الريفية يوم 13 أبريل وتستغرق نحو شهرين وتلقى المحاضرات في أحد مدرجات كلية الطب ويقوم بإلقائها نخبة ممتازة من المتصلين بشؤون القرية والمتهمين بإنهاض الفلاح، نذكر منهم الآنسة ابنة الشاطئ وإبراهيم رشاد بك والدكتور محمد خليل عبد الخالق بك والدكتور علي بك حسن والدكتور حلمي السعيد والدكتور القللي بك والدكتور عبد الله العربي بك والدكتور مأمون عبد السلام والدكتور احمد حسين
وإلى جانب هذه الدراسات العلمية المنظمة تقوم المدرسة بزيارات عملية للريف
كتاب شواهد القبور
نشر الأستاذ جاستون فييت مدير الآثار العربية (كتاب شواهد القبور) وهو السفر التاريخي الذي يسجل فيه هذا العالم ما يعثر عليه من شواهد القبور في العهود الإسلامية المختلفة في مصر، ونورد فيما يلي نموذجاً من هذه الشواهد، وما كتب عليها:(250/71)
(بسم الله الرحمن الرحيم، إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، هذا قبر محمودة بنت عبد الله بن موسى بن خالد توفيق يوم الجمعة لأربعة عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة)
وكتاب الشواهد موضوع باللغتين العربية والفرنسية ويقع الجزء الخامس منه - وهو الذي صدر أخيراً - في نحو مائتي صفحة بما وجد على القبور من مثل هذه النقوش، كما الحق بها رسوم واجهات هذه القبور في نحو خمسين صفحة من الورق الفاخر المصقول
اشتراك مصر في معرض البندقية الفني الدولي
يقام معرض الفنون الجميلة الدولي المعروف باسم (البينالي) في مدينة فنيسيا في الصيف القادم ويعد هذا المعرض من اكبر معارض الفنون الجميلة وتشترك فيه الدول كلها فيمثلها كبار الفنيين من مصورين ومثالين
وقد قررت وزارة المعارف المصرية الاشتراك لأول مرة في هذا المعرض، فخصص للفنانين لمصريين جناح كبير تعرض فيه مبتكراتهم التي عنى بانتقائها الأستاذ ريمون مراقب الفنون الجميلة في الوزارة
وألفت لجنة من حضرات الأساتذة محمود سعيد ومحمد ناجي ومحمد حسن وراغب عياد ويوسف كامل وأحمد صبري ولبيب تادرس وسعيد الصدر وعلي الديب ونحميا سعد من رجال الفنون المصورين والمثالين لترتيب المعروضات وتنسيقها في المعرض
جائزة للتعاون الدولي
نظم (مركز نشر الفكر الفرنسي) مباراة لنيل جائزة (رحلة إلى فرنسا) مقدارها عشرة آلاف فرنك
وهذه الجائزة تمنح لشاب مصري يضع احسن بحث في الموضوع الآتي:
(الإبانة على نور الحوادث والتجارب بعد الحرب، عن مدى التضامن الاقتصادي وقوته، الذي يربط الأمم بعضها ببعض حتى ولو تغاضت عنه)
ويجب أن يكون المتبارون مصريين، دون الخامسة والثلاثين من العمر، وأن يكونوا من(250/72)
تلاميذ مدرسة عالية أو من خريجيها، وان يقدم كل منهم (بحثه) في هذا الموضوع قبل 10 مايو القادم، إلى عميد مدرسة الحقوق في الجيزة، على ألا يزيد هذا البحث على خمس وعشرين صفحة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، وأن يقدم منه ثماني نسخ، ولا ينبغي أن تذيل هذه النسخ بتوقيع صاحبها، بل يجب أن ترفق برسالة فيها اسم صاحبها، وتكتب (البحوث) باللغة الفرنسية أو باللغة العربية مع ترجمتها بالفرنسية
لعبة الشطرنج عند قدماء العراقيين
أثبتت الآثار القديمة المكتشفة أخيراً في العراق أن سكان العراق القدماء كانوا يلعبون الشطرنج، وأن هذه اللعبة كانت إحدى وسائل اللهو عندهم. وقد أثبت هذا معهد الأبحاث التاريخية وبعثة بنسلفانيا الأمريكية التي تباشر أعمال التنقيب في العراق. وقد وجدت بعض القطع في شمال العراق. ويرجع عهدها إلى أربعة آلاف سنة ق. م. ويدل وضع هذه القطع على أنها استعملت كثيراً في اللعب
تعداد سكان العراق
ظهر من السجلات الرسمية أن النفوس المسجلة في العراق في الوقت الحاضر بلغت 1. 846. 915 نسمة من أهالي المدن و 1. 523. 196 نسمة من العشائر فالمجموع 3. 370. 111 نسمة. وتقدر النفوس غير المسجلة من سكان المدن بعشرة في المائة أي 185. 000 نسمة، ومن العشائر بستين في المائة أي 914. 000 نسمة، فيكون مجموع النفوس غير المسجلة 1. 098. 000 نسمة ومجموع نفوس العراق 4. 468. 000 نسمة
وفاة المغني الشهير شاليابين
توفي المسيو فيدور شاليابين المغني الروسي الذائع الصيت. وقد ولد في بلدة كازان بروسيا أول فبراير سنة 1873 واشتغل عدة أشهر (صبياً) لصانع أحذية ثم موظفاً صغيراً في السكك الحديدية وتلقى مبادئ الموسيقى الأولى عند انضمامه إلى فرقة المرتلين بكنيسة بلدته كازان ولما بلغ السابعة عشرة من عمره انضم إلى فرقة تمثيلية متنقلة، وكان يقوم فيها بالغناء والرقص. وتلقى الدروس الموسيقية الأولى على الأستاذ اوستانوف في مدينة تفليس سنة 1892 وظهر لأول مرة في دار الأوبرا في رواية (حياة القيصر) بمدينة(250/73)
بتروجراد 1894 ثم اخذ يتنقل في جميع دور الأوبرا في روسيا، وكان ظهوره لأول مرة خارج روسيا في لاسكالا دي ميلانو وتنقل بعد ذلك في عواصم أوربا وأميركا وكانت أولى رواياته السينمائية رواية (دون كيشوت) وله عدة مؤلفات منها (صفحات من حياتي) و (الرجل والقناع) وكان يميل إلى الرسم والتصوير وصيد السمك
المطابع السارقة
إلى مجلة الرسالة الغراء
يرى الأستاذ المازني أن (تنظيم النشر) في مصر يكفي لإزالة أسباب الشكوى التي يشكوها الكتاب والمؤلفون، وأن هذا التنظيم وحده هو أعود عليهم بالربح والجدوى. وللأستاذ الحق في هذا الرأي، غير أن علة أخرى لم ينتبه إليها مع أنها من أكبر أسباب الغبن الذي أدرك الأدباء العرب في هذا العصر
حدثني أحد باعة الكتب في الجزائر بأنه كان سافر إلى مصر ليقف بنفسه على طبع ثلاثة مخطوطات، وتعاقد مع مطبعة كبيرة في القاهرة. وشرعت هذه في العمل، وكان هو يتردد عليها صباح مساء. فلاحظ أنها تطبع ضعفي الكمية المطلوبة من النسخ، فذكر لصاحب المطبعة ما رأى فاعتذر هذا بأن العامل هو الذي أخطأ، وتعهد بإعدام النسخ الزائدة، إلا أن كان حضرة العميل في حاجة إليها. فأكد له هذا أنه لا يريدها. ثم حدث للعميل ما حمله على زيارة مطبعة أخرى. ولم يكد يدخلها حتى استولت عليه الدهشة، فقد رأى أكواماً من الملازم المطبوعة من نفس الكتاب الذي يقوم هو على طبعه، وذلك لأن المطبعة الأولى بعدما افتضح أمرها صارت كلما طبعت ملزمة نقلت الحروف مصفوفة مربوطة إلى هذه المطبعة الأخرى فتطبع فيها العدد المسروق. قال الراوي: وقامت بيني وبين صاحب المطبعة الأولى خصومة حادة عنيفة كادت تنتهي إلى المحاكم. ولكنها سويت على صورة غريبة صرت بموجبها شريكا له في السرقة، فقد ناولني كمية مهمة من الكتب القيمة التي طبعها أخيراً على نفقة أصحابها المؤلفين المشهورين. قال: (ومنذ ذلك اليوم أصبحت من عملائه الكثيرين المنتشرين في كثير من البلدان العربية والإسلامية. . .) قلت: (وهل كل هذا صحيح. . .) قال: (نعم. وهنالك أصحاب مطابع أخرى، وهنالك ناس ينسجون على هذا المنوال. وفي القاهرة رهط من الناس (ومنهم أصحاب مكتبات يحترفون ترويج الكتب(250/74)
المسروقة ووسقها إلى خارج القطر المصري. . .)
لقد ارتبت لأول مرة في صحة هذا الكلام وما لبث أن استيقنت عندما اطلعت على حوادث أخرى من هذا القبيل؛ فقد عرض علينا ذات يوم أحد باعة الكتب في فاس قائمة بأسماء كتب قيمة طبعت ولا يزال بعضها يطبع في القاهرة (وهي بأقلام أئمة الأدب في العصر الحديث) بأسعار مخفضة إلى حد غير معقول. فقلت لا يخلو الأمر من إحدى اثنتين: إما أن تكون هذه الكتب في منتهى الرداءة طبعاً، وورقاً أو أن عارضها قد ارتبكت أحواله المالية وأشرف على الإفلاس فهو يبيعها بأي ثمن
ثم عرفت أنه لا هذه ولا تلك وإنما هذا الرجل هو أحد عملاء المطابع السارقة. . . وكان أحد المتعهدين في الجزائر قد عرض مجلة الرسالة (التي يصدرها في القاهرة الأستاذ الزيات) على صغار الباعة والمتعهدين بثمن بخس جداً. . . وتبين أنه كان يستوردها من مكتبة بالقاهرة لها صلة وثيقة بمطبعة سارقة كانت (الرسالة) تطبع فيها قبل أن تتخذ لنفسها مطبعة خاصة. وأكثر هؤلاء (العملاء) ينشرون الدعوة ضد مطبوعات (لجنة التأليف والترجمة والنشر) في القاهرة. وسبب ذلك (فيما يظهر) هو أنهم لم يستطيعوا أن يسرقوها. . . وهذه الأشياء فضلا عن كونها تؤذي سمعة مصر أذى شديدا، فهي ضربة قاضية على الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي. ونعتقد أنه لا بد للحكومة المصرية أن تعالج هذه الحالة بما تراه ناجحاً. لكي تسير حركة النشر في طريقها المشروع
(وهران)
الوفاق
محمد السعيد الزاهدي(250/75)
المسرح والسينما
السينما فن وذوق وليست أكاذيب وجهالة
أجازت الحكومة المصرية في الشهر الماضي لشركة (راديو) الأمريكية أخذ فلم عن الحياة المصرية وتطوراتها من نوع الأفلام التي تخرجها هذه الشركة بعنوان (دورة الزمن) ولقد شهدنا عدة أفلام من هذا النوع نذكر منها فلماً جميلاً عن تركيا؛ والرأي الذي استخلصناه بعد رؤية عدة حلقات من (دورة الزمن) أن هذه الأفلام تقوم على أساس تاريخي صحيح وأنها ليست من نوع أفلام الدعاية الهزيلة أو من نوع الأشرطة الأخبارية العادية. على أننا نشفق مع ذلك أن تخطئ الشركة المصادر التي تستقي منها مادة الفلم أو أن تعتمد على ما تلفقه عادة الأفلام الأجنبية عن مصر وشعبها؛ وكثيراً ما رأينا القوم يصوروننا قبائل رحلا في بلد صحراوي تناثرت فيه بعض المدن المليئة بالمآذن والقباب، وفيما عدا ذلك فرمال وجمال وخيام. فلعل أولي الأمر لا تفوتهم مباشرة هذه الحقائق ومعالجتها بما يكفل لنا كرامتنا ولتاريخنا وقائعه الصحيحة
ولهذه المناسبة أذكر كثيراً من الأفلام التي مسخت الحوادث وشوهت من حقائق التاريخ فأساءت إلى بعض الشعوب. وأول ما يعنينا من هذه الأفلام فلم مصري حديث الإنتاج كان من شخصياته الرئيسية شخصية كسرى وقد أخرجت بشكل مزر غضب له إخواننا الإيرانيون. وقد كتبت رأيي في هذا الفلم في العام الماضي من تقرير قدمته إلى لجنة تشجيع السينما بوزارة الداخلية طلبت فيه منع مثل هذه الأفلام وهذا الفلم على الخصوص الذي حاول أصحابه أن يعرضوه على رغم حقارته بمعرض البندقية الدولي. وقد صادرت الحكومة هذا الفلم ولكنها مصادرة جاءت متأخرة
نقدم مثل هذه الإساءة إلى قطر صديق في غير ضرورة يبيحها الفن أو الذوق أو حتى التقدير التجاري. وقبل عرض هذا الفلم بزمن قصير يحمل لنا البرق خبر شجار كبير حدث في إحدى دور العرض بأمريكا الجنوبية بين جماعة من الأهالي وفريق من إخواننا السوريين المستوطنين هناك عند عرض شريط عن مصر قابله الأمريكيون بسخرية استفزت إخواننا السوريين فثاروا لكرامتنا وقابلوا المعتدين بالضرب
نسمع هذا في الوقت الذي نقدم فيه هذا المثل غير اللائق لإيران(250/76)
وطالما تولدت الأزمات المشابهة في كثير من الأفلام، ومن ذلك أن شركة برامونت قد أخرجت فلماً عرض باسم (مات الجنرال في الفجر) وفيه تحقير للشعب الصيني. فما أن علمت الحكومة الصينية بأمر هذا الفلم حتى بعثت للشركة إنذاراً بسحب هذا الفلم من جميع أسواق العالم وإلا تحرم الحكومة الصينية عرض أي فلم في المستقبل من إنتاج شركة برامونت. وقد انصاعت الشركة للأمر لأنها لا تستطيع أن تضحي بسوق كبيرة مثل الصين. وقد أخرجت نفس الشركة قبل ذلك فلماً آخر يسئ إلى أسبانيا بعنوان (الشيطان امرأة) مثلته مارلين ديتريش وشهده الجمهور المصري فمنع عرض هذا الفلم بأسبانيا وأرسلت حكومتها احتجاجاً قابلته الشركة بالاعتذار والأسف
وهناك حكومات يقظة تتنبه إلى الأمور قبل وقوعها، ومثل ذلك ما فعلته الحكومة التركية مع شركة مترو إذ أعلنت هذه أن من مشروعاتها الكبيرة إخراج فلم بعنوان (أيام موسى داغ الأربعون) وفي تصوير هذا التاريخ ما يجرح الشعور التركي، فلما علمت الحكومة التركية بنية الشركة نصحتها بالعدول عن المشروع واستجابت الشركة فعلا للنصيحة ودفن المشروع
وقد كانت شركة (فوكس - القرن العشرون) قد انتوت إخراج سلسلة من الأفلام الشرطية على غرار أفلام (شارلي شان) الشرطي الصيني لبطل ياباني للأفلام الجديدة اسمه (موتو) وقد أخرجت الشركة بالفعل أول هذه الأفلام ولم يعرض في بلادنا بعد، ومثل الشرطي الياباني الممثل المعروف بيترلور. وقد طلبت الحكومة اليابانية بعد إخراج هذا الفلم من الشركة المذكورة أن تطلعها على موضوع كل فلم من هذا النوع للموافقة عليه قبل البدء في إخراجه. وقد أدى هذا التدخل إلى وقف سلسلة مستر موتو
الرأي الذي نخرج به أخيراً أن السينما كأي فن يجب أن يقوم على الحقائق. فإذا أهملت الحقيقة عن غير عمد فيجب على الأقل ألا يهمل الذوق. فإذا لم يراع هذا أو ذلك فقد فقدت السينما وظيفتها وفائدتها وأصبحت شيئاً يستحق المصادرة والمحاربة
محمد علي ناصف
في السينما(250/77)
أخطار السينما
تثبت إحصاءات شركات التأمين بالولايات المتحدة أن مبالغ التعويض التي دفعت في العام الماضي ضد أخطار السينما تقل 45. 000 جنيه عنها في عام 1929. ففي هذا العام بلغ عدد الإصابات 7700 إصابة وقف في العام الماضي عند 450 فقط.
ومع ازدياد الإنتاج السينمائي وقطعه مراحل كبيرة كانت تعتبر من المعجزات وخاصة في إخراج حوادث الحرب وتصوير نكبات الطبيعة من زلازل وعواصف وسيول فان هذا الإحصاء يدل دلالة قاطعة على تقدم الصناعة وأمنها
ومن أشأم الحوادث في تاريخ السينما موت المخرج كينث هوكس من تصادم طائرتين أثناء إخراجه فلم (رجال مجازفون) وكذلك الحوادث التي اقترنت ببعض الأفلام مثل: (ملائكة الجحيم) و (ثورة على السفينة بونتي) و (الطريق الخلفي) و (الوريثة المتشردة) والفلم الأخير يعرض الآن بالقاهرة
وتعتبر الإحصاءات أن استوديوهات شركة وارنر أكثر الاستوديوهات أخطاراً وتتبعها شركة مترو جولدوين. وقد اعتبر إخراج فلم (في شيكاغو القديمة) لشركة (فوكس - القرن العشرون) شيئاً يشبه المصادفة لعدم حدوث أي إصابة رغم تعدد حوادث الفلم من حريق وفيضان وثورة قطعان الماشية واجتياحها آلاف الخلائق، أما أكثر الأفلام أخطاراً فهي أفلام رعاة الأبقار
في المسرح
ايفور نوفيلو من أبرز شخصيات المسرح الإنجليزي
انتقل ايفور نوفيلو بموسيقيته من مسرح دروري لين إلى تريتهام هيل لإجراء بعض الإصلاحات بالدروري قبل أن يفتتح فيه مسرحيته الجديدة
ويعتبر نوفيلو من أسعد رجال المسرح في جميع العصور فهو في الخامسة والأربعين من عمره يؤلف مسرحياته ويلحنها ويخرجها ثم يمثلها. ولا تزال فرقته منذ سنة 1935 دائمة العمل في موسيقياته الثلاث الأخيرة لا يقف عملها إلا في الفترات التي بين مسرحية واخرى؛ ويقدر له العارفون أن رواد مسرحه في هذه المدة بلغوا 1. 750. 000 وأنه أحيا(250/78)
750 حفلة متوسط دخل الحفلة الواحدة 600 جنيه
وبعملية بسيطة يكون دخله في هذه المدة 450. 000 جنيها دفع منها ضرائب فقط 67. 500 جنيه
تمثل الآن على مسارح برودواي مسرحية (النساء) وجميع شخصياتها نساء وقد رفض الرقيب الإنجليزي تمثيلها على مسارح إنجلترا إلا بعد تعديل منظر لفتيات مجتمعات في قاعة نوم ولكن المؤلف رفض إجراء هذا التعديل.
يعتبر هذا الموسم من أكسد مواسم التمثيل في أمريكا، ولذلك فأن قيام مسرحية ناجحة وسط عدة مسرحيات فاشلة شيء يقابل بالضجة والتهليل، وهذا ما لقيته مسرحية التي اقتبسها للمسرح بول اوسبورن من رواية لورنس ادوارد انكنس ومثل الدور الأول فيها بنجاح كبير دادلي دبجز الممثل المعروف في السينما والمسرح(250/79)
العدد 251 - بتاريخ: 25 - 04 - 1938(/)
شم النسيم. . .
اليوم يا صديقي يوم شم النسيم! وشم النسيم في مصر هو عيد الطبيعة والناس؛ والناس الذين يعيدون هذا العيد هم سكان هذا البلد الأمين من كل جنس ونحلة؛ وهو بهذه الخصيصة يكاد لا يشبهه عيد من أعياد الأمم. فإن أعياد الأمم إما أن تقوم لذكرى دينية فتكون لأهل هذا الدين، وإما أن تقوم لذكرى وطنية فتكون لأهل هذا الوطن. أما عيد شم النسيم فهو عيد إنساني اشتراكي سمح، يفتح قلبه لكل دولة، ويخلص حبه لكل ملة، ويبذل أنسه لكل جنس. فالمصريون على اختلاف الأديان، والأجانب على تباين الأوطان، يتلاقون فيه على بساط الربيع إخواناً في المودة، أخداناً في السرور، يتساقون راح الأنفس، ويتطارحون حديث القلوب، ويتجردون من فوارق الدنيا ليقفوا أمام الطبيعة الصريحة أطهاراً من رجس الحياة، أحراراً من إسار المادة، يرتعون في الجنة التي خلق فيها أبوهم الأول، وينعمون بالصفاء الذي نشأت فبه أُسرتهم الأولى
هذه الخصيصة التي تفرد بها هذا العيد إنما اكتسبها من طبيعة هذا الوطن الأريحي الذي طبع بنيه وساكنيه على فيض نيله وخصب واديه ورحب صحرائه وصفو سمائه واعتدال جوه ووداعة طبيعته، فجعل المصري والرومي يعيشان في قرية، والمسلم والمسيحي يصليان في كنيسة، واليهودي والألماني يعملان في متجر، والتركي والأرمني يسكنان في دار؛ ثم يلح على هؤلاء جميعاً بالخلط والمزج والتوحيد حتى تتشابه الألوان، وتتعرب الألسنة، وتتقارب الطباع، وتتحد العناصر، فيدخلوا صرحاء خلصاء في هيكله النقي القوي المقدس
في هذا اليوم وحده من دون أيام السنة تغلق القاهرة دواوينها ومدارسها ومتاحفها ومصارفها ومتاجرها ومصانعها وحوانيتها؛ ثم تخرج إلى الرياض والخلوات، خروج الحجيج إلى عرفات؛ ولكنه حجيج وثني لا يؤمن في ذلك اليوم إلا بأفروديت وباخوس، فيتفيأون ظلال الروض، ويتشربون أشعة الربيع، ويستروحون أرج النسيم، ويجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المبثوثة في السماء والأرض، ويتطلقون من عقال الهم والوقار والكلفة، فيطيشون كالفراش، ويهتفون كالطير، ويطفرون كالأطفال، ثم تدركهم ضرورة الحياة فيجلسون للموائد حِلَقاً وسلاسل يتهنأون بضروب الآكال وصنوف الأشربة، حتى إذا تضلعوا شِبعاً وتحببوا ريا قرت فيهم فورة المرح فأووا(251/1)
إلى أحضان الطبيعة الخادرة منحر الظهيرة. وحينئذ ترى أشتاتاً من خلق الله قد ضرب على آذانهم الكرى أو الكِظَّة أو السكر أو الفتور، فأصبح الناس والطير والشجر قطعاً من مادة الأرض لا يميز بعضها من بعض رقي النوع ولا سمو الفكر ولا غرور الفلسفة
لا أزال أشعر بحلاوة هذا الموسم في القرية. فقد كان الشباب والأيفاع يعتقدون أن في العشرة الأخيرة من شهر رمضان تُفتح في السماء (طاقة القدر) لمن كتب الله لهم السعادة، وأن في العشر الأولى من المحرم تطوف (بغلة العشر) في أعقاب الليل وهي موقرة بالذهب على من كتب الله لهم الغنى، وأن في يوم شم النسيم تهب نفحة من الفردوس لا يتنسمها إلا من كتب الله له القوة؛ فكانوا إذا تنفس صبح ذلك اليوم أفعموا خياشيمهم بريح البصل ليدرءوا عن أعصابهم خمود العام كله، ثم يخرجون إلى القنوات والنهيرات يستحمون في مائها الجاري، ويمشون هوناً على حفافي الحقول وضفاف الترع وحواشي البساتين يجمعون الفلية والحَبق والورد وزهر النارنج وورق الليمون، ثم ينسقون منها باقات يشدونها بأعواد السعد وسعف النخل، ويدسون فيها أنوفهم من لحظة إلى لحظة؛ ثم يقفون في مهب النسيم الفواح يعبُّونه عباً بالخياشيم والحلوق لعلهم يجدون فيه تلك النسمة الهاربة من ريح الجنة فيمسهم منها (عِرق الصبا)، ثم يسيرون صامتين مستغرقين نشاوي يتشممون ذلك السر الإلهي المكنون في أنفاس النهر، وفي عبير الزروع، وفي فوحة الرياحين، كما يتلمس الكيميائي الخبير إكسير الحياة في عصير العقاقير وحَلَب الأنابيق ومزيج الأشربة
فإذا أحسوا نشوة في الروح وفتوة في الجسم وقوة في الأعصاب لطول ما استنشقوا الهواء الخالص، واستيقنوا الأمل الخادع، تسلقوا أشجار التوت فجنوا منه أطيبه، وخضبوا أناملهم بجناه، ونقشوا طواقيهم بصبغة؛ ثم رجعوا إلى القرية يخطرون في مطارف الصبا الغريض، وكأن في نفوسهم بالياً قد تجدد، وفي نفوسهم ذاوياً قد انتعش. فيأكلون البيض الملون والخس الطري والسمك المملح، ثم ينامون وهم معتقدون أنهم ادخروا لبقية العام من القوة والصحة والفراهة ما لا يهن على طول العناء وسوء الغذاء ومس المرض
ذلك شم النسيم بخصيصته ودلالته، تراه في المدينة والقرية يوم الصفاء المشترك والأنس المشاع. ولقد كانت لي فيه ذكرى أو ذكريات لا تزال مشرق النور والسرور في نفسي. وما(251/2)
كان أحب إليّ أن أقصها عليك؛ ولكن الصفحة قد نَفِدت، وساعة الطبع قد أفدَت، ورئيس المطبعة يقول: هات!
احمد حسن الزيات(251/3)
البحث عن غد
- 2 -
للأستاذ عباس محمود العقاد
أجملنا في المقال السابق حديث مؤلف الكتاب مع الأستاذين الكبيرين شيخ الجامع الأزهر ومدير الجامعة المصرية
وقد تحدث المؤلف إلى فئة من المصريين النابهين غير الأستاذ المراغي والأستاذ احمد لطفي السيد فقال عن الدكتور حافظ عفيفي باشا إنه أول سفير مصري في بلاط (سان جيمس) وإنه طبيب أطفال مشهور، وكان وزيراً للخارجية في سنه 1928 وله مكانة عالية لبعده عن التحيز ووقوفه موقف الحيدة، واطلاعه الواسع في شؤون الثقافة المصرية
قال المؤلف: (ولما أخبرته بزيارتي للشيخ المراغي قال: إنني عظيم الإعجاب بالشيخ المراغي، وهو عندي اصلح الرجال في وقتنا هذا لقيادة حركة الإصلاح في التعليم الديني. وقد ترك الطلبة هناك عادة الجلوس على الحصير واصبحوا يجلسون على الكراسي، وتعودا أن يضموا الكتب على المناضد بدلاً من وضعها على الركب! وهذا كل ما هنالك من الصبغة العصرية الحديثة. فهي لم تتجاوز ذلك إلى أساليبهم وأنظمتهم ولا إلى روح تعليمهم ودراستهم، ولا يزال الأزهر حتى اليوم معنياً بالمراسم الدينية والآراء الجدلية. والشبان يضيعون هناك سنوات غالية من أعمارهم كانوا خلقاء أن يتعلموا فيها أموراً انفع لهم ولبلادهم على التعميم. أما مدارسنا العصرية فهي على نقصها لا تني تتقدم تقدماً مطرداً في سبيل التفكير العلمي الملائم لزماننا، وهذا في حين أن الأزهر لا يزال على سنة القرون الوسطى علماً وعملاً. ومن تقاليده أن يقع الاختيار على معلميه من بين تلاميذه وطلابه المتخرجين فيه، وسيظل متخلفاً ما داموا مصرين على هذه التقاليد. ولا رجاء لنا في نهضة روحية صحيحة من جانب الدين ما دام المعلمون الدينيون بيننا ينشئون على غير النشأة المستنيرة التي ينشأ عليها الأساتذة الآخرون)
قال المؤلف: فسألته: ولماذا تحسب أن هذه النهضة الروحية ضرورية؟
فقال: لأن الفلسفة المستقرة وراء الحياة المصرية لا بد لها من آساس روحيه، ولا تقوم هذه الآساس إلا على الإسلام؛ وينبغي أن تقوم على إسلام صريح لا خرافة فيه. وإنما أعنى بما(251/4)
أقول أن تربيتنا الدينية يجب أن تكون على طبقة من الاستنارة تضارع تربيتنا في الثقافة العامة. وقد جاءت قوة الإسلام الدافعة في عصره الذهبي من حقيقة واحدة: وهي أنه كان ديناً جد بسيط وجد واضح، خلوا من التعقيد والإبهام، فأخرج للدنيا ثقافة رفيعة، وحول القبائل المتبدية في فترة وجيزة إلى أمم متحضرة تعيش عيشة المدينة. ولا بد للإسلام في نهضته المقبلة من قيادة اتباعه مرة أخرى إلى الحضارة الصحيحة؛ ولن يتسنى له ذلك إلا إذا اطرح الآراء الجامدة العتيقة والتجريدات المتخلفة من عقائد القرون الوسطى وليست هي من جوهر الدين في شيء. عندئذ - وليس قبل هذا - يعود الإسلام وهو تلك القوة الروحية التي تفتقر إليها البلاد أشد افتقار
فعاد المؤلف يسأل الباشا: وما هي إذن مسألة الغد في مصر المقبلة؟
فأجابه الباشا: مسألة الغد هي التعليم ثم التعليم كرة أخرى. وعلى أساتذتنا الدينيين والعصريين معاً ألا يقصروا تربيتهم على اقتباس العلم وحده، بل يضيفوا إليه اقتباس الخلق والتهذيب. وعليهم أن يردوا الشعب إلى فضائل الشجاعة والصدق وحب الخير وحب الفن والمعرفة، ونظافة العقل والبدن، وهي الفضائل التي كانت مبعث القوة في الإسلام. وعلى شبابنا المتعلمين وهم أشباه متعلمين أن يذكروا أبداً أن الأمة من الأمم لا يجوز لها أن تنعت نفسها بالتحضر والمدنية ما عاش أبناؤها على تلك الحالة المحزنة التي يعيش فيها الفلاحون، ولا تغيير لها قبل انقضاء زمن مديد في التثقيف والتهذيب)
وسأله المؤلف: أيوجد في مصر أناس عندهم من البصيرة والشجاعة الأدبية ما يتطلبه التصدي لإصلاح البلاد والجهر بحاجاتها؟
قال الباشا: نعم. هناك أناس من هؤلاء، واذكر لك على سبيل المثال أسماء أصدقائي لطفي السيد وحسين الهيكل ومصطفى وعلي عبد الرازق وطه حسين
وهنا أنتقل المؤلف إلى رواية الحديث الذي جرى بينه وبين الدكتور طه حسين، وقد بدأه الدكتور بكلام يدل على تغير الشبان من الوجهة الدينية
فسأله المؤلف: أترى أن الدين لا يدخل عندكم في حياة الشباب؟
قال الدكتور: على النقيض. إن له لدخلا في حياتهم، لأن للشباب تناقضاً معروفاً، ومن تناقضه عندنا مسلكه في أمر الدين، فالشبان المصريون في مقاومتهم للنفوذ الأجنبي، وفي(251/5)
شعورهم الوطني يصدرون عن عقائد آبائهم وتقاليد أسلافهم. ولم هذا؟ لأن القرآن في الشرق الأدنى هو الأساس الوحيد الذي يقاوم عليه بناء أمة؛ وقد اصبح شبابنا العصريون في حياتهم الدارجة شعبة صغيرة منقطعة عن سائر الأمة. إلا أنهم يجدون أنفسهم في القرآن على ملتقى واحد مع كل فلاح وكل بدوي في الصحراء؛ وهم - باعتمادهم على القرآن - يهيئون لسواد الجماهير أن يحالفوهم في المعركة السياسية، وإنما يأخذون من القرآن أسلحتهم السياسية ولا يستمدون منه عتاد الروح)
فقاطعه المؤلف سائلاً:
وما هو موقفهم إذن من الناحية الروحية؟
فأجاب الدكتور: (أما من الناحية الروحية فهم واقفون في العراء. لم يهضموا فلسفتهم العقلية الحديثة لأنهم تلقوها في الغرب بعقولهم ولم يشركوا فيها قلوبهم وضمائرهم، ولكنهم قد انحرفوا عن جادة آبائهم فهم بمعزل عن كل مَعْلم من المعالم الروحية، وإن كان هذا لا يعني أنهم بمعزل عن الدين في آمالهم ومخاوفهم)
فسأل مؤلف الكتاب: أتحسب إذن أنهم يثوبون إلى الدين في أزماتهم الحاسمة؟
قال: فضحك الدكتور طه حسين وقال: هذا ما أعنيه تماماً، فقبل الدخول إلى مشرحة الجراح، وقبل الدخول إلى حجرة الامتحان، يثوب المتطرف منهم في الإيمان بالعقل إلى الإيمان بقوة فوق متناول التفكير، أو بقوة تعين الجراح وتلهم الأستاذ الممتحن وتوحي إلى المسئول كيف يجيب، ويعود فجأة إلى اسم الله. . .)
وبعد مناقشة في رأي الشيخ المراغي وفيما يحسن بالرجل العصري أن يتخذه من موقف في أمور الدين ختم الدكتور حديثه قائلاً ما معناه: إن المصريين فرديون متفرقين، ولكنهم في المجتمع منساقون مسلسون
وبين الكبراء الذين حادثهم (روم لاندو) علي ماهر باشا واحمد حسنين باشا قبل أن يندب الأول لرآسة الديوان الملكي
فكانت خلاصة الحديث الذي أفضى به علي ماهر باشا أن الشعور الوطني قد طغى بعد الحرب على كل شعور آخر، وأن الجيل الحديث سيعود كرة أخرى أدراجه إلى حظيرة الدين، وأن أناساً من أبنائه يتعطشون - حتى في هذه الآونة - إلى مورد للدين يكشفونه(251/6)
بأنفسهم لأنفسهم وإن كانوا لا يزالون قلة بين المجموع
قال علي باشا: (نحن عرضة لكثير من الأفكار، وفي الحياة المصرية حركات كثيرة النقائض والأضداد، والعلم بالنتائج مستحيل. إلا أنني أحسب أننا على حق حين نرى أن النزعة الدينية أقوى في طائفة من الجيل الحديث مما كانت قبل بضع سنوات)
وسأل الأستاذ لاندو: (ماذا يصنع الآن لتحويل الوجهة التي كانت منصرفة كلها إلى الناحية السياسية؟)
فأشار علي باشا إلى الخطة التي أعدها حين كان على رأس الحكومة لإنشاء معسكرات في أرجاء البلاد يتعلم فيها الشباب الرياضة والأخلاق الرياضية ويأوون إليها في كل شهر أربعة ايام، ويتلقون فيها دروساً ومحاضرات عامة في علم الاجتماع وشؤون الثقافة ومعارض التاريخ
ولما سأله المؤلف عن مصير هذا الاقتراح، قال: إن الوفد أبطله حين تولى الحكومة. وعقب المؤلف قائلاً: (إن من تقاليد السياسة المصرية - أو السياسة في معظم الأقطار الشرقية - أن الحكومة الجديدة تبطل ما استطاعت من أعمال الحكومة السابقة
ثم سأل: (ولكن الوفد له هو أيضاً مقترحاته للسمو بالجيل الحديث وتحويل جهوده. أليس كذلك؟ فقد سمعت بالعناية المبذولة في الألعاب وضروب الرياضة!)
قال الباشا: نعم. إلا أن النظام الحاضر يجعل باله قبل كل شئ إلى إنجاب (الأبطال) الذين يحرزون الجوائز في المباريات الدولية ولا يعطى الجمهور نصيبه من الرعاية، ولا يلتفت إلى الأخلاق كما يلتفت إلى الأبدان. وما كان التعليم المتجه إلى إحياء الحاسة المدنية الاجتماعية يوماً من الأيام شاغلاً ينفع الأحزاب السياسية في غايتها من الدعاية، فلا سبيل إلى هذا التعليم إلا على أيدي حكومة غير حزبية أو حكومة قومية)
أما احمد حسنين باشا فقد بدأ الكلام معه على تعليم صاحب الجلالة الملك فاروق. ثم استطرد إلى السماحة الدينية ومذهب الباشا فيها؛ وهو مذهب يشبه مذهب محي الدين بن العربي. وقد كانت لرحلاته في الصحراء يد قوية في هدايته إلى تلك الطريق الروحية
سأله الأستاذ لاندو: لقد أخبرت أن الملك يؤدي جميع فروض الصلاة بانتظام، فهل تعتقد أن صاحب الجلالة ذو سليقة دينية؟(251/7)
فقال الباشا: (أعتقد ذلك. وقد قال لي منذ أيام فجأة خلال الحديث: إنه يشعر براحة حقيقية في الصلاة. وهذا شئ جدير بالتنويه والملاحظة من شاب يقوم بأعباء الملك في سن الفتوة، ولا سيما وصاحب الجلالة غير مطبوع على الانزواء أو الخيالات العاطفية، ولكنه نشيط إلى الرياضة لا يميل إلى النزعات الخفية الغامضة، وهو يحمل مصحفاً صغيراً لا يفارقه؛ وأعلم أنه شديد الحب له والإيمان به)
وسنعود في المقال التالي إلى التعقيب على أمثال هذه المباحث التي يتصدى لها بعض السائحين، والى بيان الحقيقة فيما يلمحونه أو يخيل إليهم أنهم يلمحونه من دلائل الحياة الروحية وبواعث التغير والتجديد فيها.
عباس محمود العقاد(251/8)
من برجنا العاجي
لبعض القراء ملاحظات تدل أحياناً على جهل مروع بطبيعة الأدب.
من ذلك أنهم يعيبون على الأديب تحدثهم عن نفسه. أمثال هؤلاء القراء
لابد أن يكونوا من تلاميذ المدارس أو المتخرجين فيها حديثاً. فهم
يخلطون بين (معلم المدرسة) وبين (الأديب الفنان). فمهمة (العلم)
الأولية أن يلقن أصول المعارف وأن يفرغ في أذهان النشء مادة
بعينها بغير أن يكون لشخصه دخل في الأمر. أما (الأديب أو الفنان)
فلا يلقن شيئاً ولا ينبغي له. لأنه يخاطب قوماً مفروضاً فيهم أنهم قد
جاوزوا مراحل الدرس؛ فهو يخرج لهم عصارة العلوم والمعارف
والتجارب مقطرة من خلال (نفسه). إن كل ما نطلبه ونرجوه من
رجال الأدب والفن أن يحدثونا عن كل خلجة من خلجات نفوسهم، وكل
دقيقة من دقائق حياتهم، وكل لمحة من لمحات أبصارهم، وكل ناحية
من نواحي أحاسيسهم. إن (نفس) الأديب العارية هي كل ما ينبغي له
أن يضعه تحت أنظارنا. ومن لم يفعل ذلك فليس مطلقاً بأديب. فالأديب
هو الآدمي الوحيد الذي خلق لكي يفتح لنا نفسه لنرى من خلالها النفس
البشرية قاطبة. ويتحدث لنا عن نفسه فنرى من خلال حديثه كل
تجاريب الإنسانية الشاعرة. وإن كل رجال الأدب العظام ليسوا إلا
آدميين حدثونا طول حياتهم عن أنفسهم، بوسائل شتى. وأنا كقارئ لا
يروقني شيء مثل قراءة المذكرات التي يكتبها الأدباء العظماء عن
حياتهم الخاصة. والاعترافات والرسائل التي تتناول مسائل تمس
أشخاصهم. فنحن في تلك الكتابات المجردة عن أثواب التكلف(251/9)
والصناعة نستطيع أن نهبط إلى أغوار تلك النفوس الرحبة الغنية، كما
يهبط الغواص فجأة إلى أعماق البحار، فيفاجئ اللآلي في أصدافها لم
تمسها بعد يد غريبة، تنتزعها لتدخل عليها بهرج الصاغة. إن الفنان
إذ يحدثنا عن نفسه وفنه وحياته الخاصة إنما يقدم لنا مادة فنية غير
مصنوعة. إنه يترك رداءه الرسمي ليخرج إلينا بثياب البيت في غير
كلفة كأنه صديق، وهذا منتهى الإخلاص منه ومنتهى التكريم لنا.
توفيق الحكيم
مظاهر القسوة والرحمة في الحضارات
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أشرت في مقالة (مجد العرب والإسلام) إلى محاولة بعض المؤرخين الأوروبيين أصفار مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية وإعظامها في الحضارات الشرقية. ولسنا نريد أن ننكر مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية، وإنما نريد ألا يكون هناك لبس، وألا تختفي الحقيقة التاريخية، وهي أن الحضارات الأوربية لم تكن مظاهر القسوة فيها أقل من مظاهرها في الحضارات الشرقية. فكل تمثيل قرأنا عنه في حضارة شرقية قرأنا مثله في الكلام عن الحضارات الأوربية. ولا يمكن تقصي كل مظاهر القسوة في الحضارات؛ ولا يفيد الإنسانية إخفاء الحقيقة، والمؤرخون الذين يخفونها قد يفعلون ذلك بحسن نية لأنهم يغالطون أنفسهم فيكونون كمن يجهل الحقائق وإن كانت ماثلة أمامه. وهذه ظاهرة كثيراً ما تشاهد في الحياة فيحسبها الناظر سوء نية وكذباً متعمداً وما هي كذلك، وإنما هي المغالطة للنفس التي تجعل المؤرخ يفرق بين النفوس البشرية ونزعاتها في الشرق، وبين النفوس البشرية ونزعاتها في الغرب. كما يفرق المؤرخون في بعض الأحايين بين العقول البشرية وملكاتها وطرق تفكيرها في الشرق وبينها في الغرب، ويبالغون في اختلاف طرقها بحسن نية، وإن كانت المبالغة خطأ في البحث والاستقراء(251/10)
كنا نقرأ عن الحضارة الإغريقية أنها منبع الرحمة والنور في العالم القديم والحديث؛ وكان بعض المؤرخين لا يسهبون في وصف مظاهر القسوة فيها، وإن كانت موصوفة في مراجع التاريخ، وإنما هم يهملون وصفها عند إثبات أن الحضارة الإغريقية منبع الرحمة والنور في العالم، فلا يذكرون أن تلك الحضارة كانت مؤسسة على عرق جبين الأرقاء ودمائهم، ويهملون ذكر ما كان يحدث في المحاكم الإغريقية إذا ادعى أحدهم دعوى على رجل وأنكر هذا الرجل الدعوى وجئ بالأرقاء الذين يملكهم هذا الرجل المنكر وعذبوا بأصناف من العذاب القاسي الشنيع كي تؤخذ اعترافاتهم وهم يعذبون حجة على سيدهم. وكان السيد إذا اعترض على تعذيب أرقائه عُدَّ معترفاً أو شبه معترف بخوفه من أن يبوح أرقاؤه وهم يعذبون بما يؤدي إلى إدانته. ومن أمثال تلك القسوة في الحضارة الإغريقية ما كان يلاقيه الأرقاء في المحاجر والمناجم، ومثلهم مثل الأرقاء في مناجم الرومان. ويكفي وصف ما لاقاه جنود أثينا الأسرى عندما حاولوا غزو سراقوسة في صقلية وفشلوا واستخدموا في المحاجر والمناجم أرقاء. ومن مظاهر القسوة أيضاً معاملة المدينة الظافرة للمدينة المغلوبة على أمرها إذا ثارت على سيدتها، فقد كانت المدينة الظافرة تقتضي في بعض الأحايين بقتل جميع الرجال وبيع الأطفال والنساء في سوق الرقيق. وهذه المعاملة تذكرنا بما كان الإغريق في العصور الحديثة يشنعون به على الأتراك ومعاملتهم لرعاياهم من الإغريق؛ إلا أن تلك المعاملة القاسية القديمة كان يعامل بها الإغريق الإغريق. وحتى في المدينة الواحدة كان الحزب السياسي إذا ظفر عامل الحزب المخاصم له أشنع معاملة. وهذا كان حال الحضارة الإغريقية التي كانت بالرغم من ذلك المنبع الرحمة والنور في تاريخ الحضارة الأوربية. فإذا انتقلنا إلى حضارة الرومان وجدنا أن مظاهر القسوة لم تكن اقل منها في الحضارة الإغريقية، فكان الأرقاء يعاملون معاملة قاسية بالرغم من القوانين التي أصدرت لحمايتهم. وكانت الأحزاب السياسية يقسو بعضها في معاملة بعض قسوة شنيعة. وكان الظفر الحربي الروماني نذير القسوة الشنيعة حتى بعد ذلك الظفر عند الاحتفال به وبعد الاحتفال به. وكانت الخوازيق التي يُعيرُ بها الأتراك والشرقيون من العقوبات الرومانية؛ وكذلك الصلب والتمثيل بالمصلوبين وهم مصلوبون. وكانت ميادين الكوليسيوم معرضاً لجنون قسوة النفس الإنسانية حتى صارت من ملذات الجمهور الروماني رؤية(251/11)
الوحوش وهي تفترس أجسام الأحياء وتمزقها تمزيقاً، ورؤية حرق الأحياء كما كان المسيحيون يُحرَقون. ولم تكن مظاهر القسوة في الحضارة مقصورة على حضارة أوربا الوثنية، بل كانت على أفظع شكل حتى عند المتدينين من القائمين بأمور محاكم التفتيش الذين كان بعضهم يبكي رحمة بمن يعذبونهم فلا يزيدهم بكاء الرحمة إلا رغبة في تعذيب ضحايا تلك المحاكم اعتقاداً أن ذلك التعذيب وأن تلك القسوة رحمة بالضحايا. ويقولون إن تعذيبهم في الحياة الدنيا يقلل من عذابهم في الآخرة، فيكون تعذيبهم في الحياة الدنيا رحمة بهم. ولم تكن مظاهر القسوة مقصورة على طائفة دينية دون الطوائف الأخرى بل اشتركوا فيها جميعاً. كما أن القوانين التي كانت تطبق في الأمور غير الدينية كانت مثقلة بروح القسوة والتعذيب. ومن العجيب أن المؤرخين الذين ينعون على الدولة الإسلامية تنفيذ الحدود ينسون أن القوانين الأوربية والمحاكم الأوربية كانت إلى قبيل الثورة الفرنسية توقع عقوبات هي نفس الحدود التي ينتقدونها في الدولة الإسلامية. فإننا نقرأ في مؤلفات ماكولي وغير ماكولي من المؤرخين عن قطع الأيدي وجدع الأنوف وصلم الآذان وغير ذلك من أجزاء الجسم، وقراءة وصف العقوبات التي وقعت بعد فشل ثورة دوق مونموث تكفي للدلالة على أن المؤرخين ينسون ما كان فيا لحضارات الأوربية من مظاهر القسوة عند ذكرها في الحضارات الشرقية. فإننا نقرأ كيف كانت أجسام الأحياء تقطع وتنصب أجزاؤها على النصب والمباني والأعمدة وعند ملتقى الطرق، فمن رءوس وأحشاء وأرجل وأيد منصوبة نتنة كانت تفسد الهواء في إنجلترا بعد ثورة دوق مونموث وغيرها من الثورات الفاشلة. والمستعمرون الأوربيون في أمريكا حتى المتطهرون منهم لم يقصروا في مظاهر القسوة. وقد استعرض فان لون المؤرخ الأمريكي مظاهر القسوة في الحضارة الأوربية والأمريكية في كتابه المسمى (تحرير الإنسانية) ولا تزال آلات التعذيب في المتاحف الأوربية الخاصة بها تدل على أن النفوس في أوربا لم تكن أقل قسوة من النفوس في الشرق؛ ولا نريد ذكر هذه الحقائق للغض من فضل الحضارة الأوربية. وإنما نريد تصحيح ما يشيعه بعض المؤرخين بحسن نية أو بسوء نية فيظل ما يقولون ويؤدي إلى تخليد النفس الإنسانية، وربما كانوا أبعد الناس عن الرغبة في تخليدها
والحقيقة أن النفس الإنسانية إذا غضبت قست وأجرمت حتى ولو كان غضبها للحق أو(251/12)
الحرية أو الوطنية أو كرهاً للظلم. ولعل أكبر انتصار للنفس الإنسانية في المستقبل يكون انتصارها على نفسها بمنعها من الأجرام والقسوة الهمجية الوحشية عندما تغضب للحق أو الحرية أو الوطنية اكرهاً للظلم. أنظر مثلا ما ارتكبه ثوار الثورة الفرنسية من شرب للدماء، وتمزيق أجسام الأحياء، وأكل للحوم البشرية وسلخ لجلودها والتذاذ بإراقة الدماء والفخر بما كانوا يسمونه الغنائم والأسلاب من أحشاء نتنة ورءوس كانوا يضعونها على الرماح. ولم يفعل كل هذا أناس شرقيون ولا أناس من قبائل نيام نيام في أواسط أفريقيا بل أناس غضبوا للحرية وكرهوا الظلم وكانوا يدعون إلى الحرية والإخاء والمساواة والى محو الشر. وهذه الثورة الفرنسية كانت مقدمة للديمقراطية الحديثة، ولكن بعد أن كره العالم اسم الحرية زمناً وارتضي الحكومات المطلقة زمناً بسبب هذه الفظائع وهذه النذالة في الأجرام والقسوة
ثم انظر إلى فظائع الحروب الاستعمارية وفظائع الحرب الكبرى فقد قاسى من اجلها من المحاربين ومن الأطفال والنساء آلاماً كثيرة عدد لم يقاس مثله في الحضارات الشرقية بشهادة بعض المؤرخين الموثوق بقولهم وبشهادة المفكرين مثل هالدين وليوناردوولف
ثم أنظر إلى مستقبل الإنسانية وما هو منظور أن تقاسيه من الويلات بسبب الحضارة الأوربية وجشعها ومخترعاتها مما ينسي المفكر كل مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية التي ينتقدها بعض المؤرخين الأوربيين. والحقيقة أن النفس الإنسانية في السلم والحرب وفي أعمالها وأقواله اليومية لا تزال اكثر ولوعاً بالقسوة مما يظن المستعرض لها بنظرية سطحية عجلي، كما هي اكثر لوعاً بالمجون وقصصه وأعماله مما يظن المستعرض للأكاذيب المقررة التي هي طلاء الحضارة والتي تخفي مظاهر القسوة والمجنون في أعمال النفوس البشرية
وإني ما ذكرت تنور المتوكل الذي عذب فيه وزيره محمد ابن عبد الملك الزيات إلا ذكرت الغلاف الحديدي ذا المسامير الذي كان يوضع فيه الأحياء في أوربا. وما ذكرت الرقيق في الدول الشرقية إلا ذكرت أن الرقيق كان شائعاً في أوربا وأمريكا إلى عصور قريبة، وإلا ذكرت أنه عندما بدأ الرحماء يدعون إلى تحرير الرقيق ووجدوا نصراً من رجال الدين في أوربا ألْفَوْا أعداء من رجال آخرين من رجال الدين كانوا يتذرعون بآيات من الكتاب(251/13)
المقدس من العهد القديم كي يزكوا بها الاستعباد، وذكرت ما كان يقاسيه الرقيق في الحضارات الأوربية مما يطول شرحه ووصفه، وذكرت أن الكنيسة نفسها كانت تشتري الرقيق من الغلمان الصغار الملاح وتخصيهم، وكانوا يسمون خصيان الكنيسة؛ وكانت تفعل ذلك كي يرق صوتهم فيرتلون الآيات في الصلوات بصوت عذب شبيه بأصوات النساء. وكان بعضهم يهلك من عذاب الخصي
وبعد فإن مثل المؤرخين الأوربيين الذين ينكرون أو يصغرون من أمر مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية ويكبرون أمرها في الحضارات الشرقية مثل كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، فإن كل إنسان في هذه الحياة الدنيا يصغر ويهوّن من أمر مظاهر القسوة التي ترتكبها نفسه ويكبر من أمر مظاهرها الصادرة عن نفوس غيره من الناس. وهو يفعل ذلك أما غفلة وعن حسن نية، وإما يفعل ذلك وهو يدري ما يفعل. ولن تنصلح الإنسانية إلا إذا امتنع تظليل النفس هذا
عبد الرحمن شكري(251/14)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 27 -
فترة جمام
نفض الرافعي يديه من المعركة بينه وبين العقاد، ثم فاء إلى نفسه، وعاد إلى دار كتبه يطالع ويقرأ ويتزود. . . واختفى اسمه من الصحف والمجلات أشهراً، كان في أثنائها يتهيأ لإتمام كتابه (أسرار الإعجاز)، ويعمل في الوقت نفسه على جمع ما نشر من المقالات في الفترة السابقة وترتيبها، ليخرجها كتابا يسميه (قول معروف. . .)
على أن عنايته بشأن هذين الكتابين: أسرار الأعجاز، وقول معروف - لم يمنعه أن يكون له في كل يوم ساعات محدودة للقراءة والاطلاع. وكانت هذه الساعات المحدودة في اكثر لياليه تمتد من المغرب إلى منتصف الليل. وأستطيع أن أقول: إن هذه الفترة على ما كان يبذل فيها من جهد، كانت فترة جمام وراحة، لم ينعم بمثلها فيما بقي من حياته. وكنت بسميته يومئذٍ قريب العهد، ولكني كنت الصق أصحابه به؛ فكان لي به كل يوم ساعات: يقرأ لي واستمع إليه في داره، أو أماشيه في الخيال أو أُجالسه في القهوة أو اصحبه إلى السينما. وكان علي في هذه الفترة وفيما بعدها من الزمن، أن اقرأ ما يهدى إليه من الكتب، لأشير له إلى المواضع التي يجدي عليه أن يقرأها، ضنَّاً بوقته على قراءة ما لا يفيد. وكان لي وله في ذلك فائدة أيُّ فائدة؛ وكثيراً ما كان يدفع ألي بعض ما يرد إليه من الرسائل، لأرى رأي فيه وأشير عليه بالجواب أو أتولى ذلك بنفسي. وكانت هذه الفترة ذات اثر كبير في تكويني وتوجيهي في الأدب توجيهاً لم اكن اقصد إليه؛ كما تأثر هو بصحبتي في هذه الفترة تأثُراً وجهه في أدب الإنشاء توجيهاً لم يكن يعرف به منذُ نشأ في الأدب قبل ذلك بثلاثين سنة؛ فبدأ أسلوبه اكثر استواءعند عامة القراء، وكان قبلها يُتَّهَم بالغموض والتعقيد؛ كما عالج القصة فنجح فيها إلى حداً بعيد، إذ كانت القصة - وما تزال - أحبَّ ألوان الأدب(251/15)
اليّ، على حين كان الرافعي لا يؤمن بفائدة القصة ولا يعترف بخطرها بين أبواب الأدب الحديث. فما هو إلا أن حملته على محاولتها فأنشأ قصته الأولى؛ ثم كأنما اكتشف نفسه من بعدُ فصار ما ينشئ من القصص هو احب منشأته إليه، وخطا بها إلى نفوس القراء خطوات. . .
ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أنني كنت أنشئ القصص لمجلة الرسالة، لا أكاد أعنى بشيء غيرها من موضوعات الأدب، وكان حُسن وقْعها عند القراء يدفعني إلى الإجادة والاستمرار؛ ولكن قارئ واحداً كان يعيب علي ما اكتب، ولا يرضى مني أن تكون القصة هي كل ما أعالج من فنون الأدب، وكثيراً ما كان يقول لي: (يا بني، أن لك بياناً وفكراً ومعرفة، فلماذا لا تحاول أن تكون أديباً؟ أنه لا يليق بك أن تكون القصص هي كل ما تحاوله من ضروب الإنشاء. وإن فيك استعداداً لأكثر من ذلك. . .!) وما زال يلج علي ويكرر هذه الملامة حتى وقع في نفسي أنني أسئ إلى نفسي بمحاولاتي أن أكون قصصياً؛ فانصرفت عن القصة، وكانت أحبَّ إليّ، إلى فنون أخرى من الأدب، إلا ما أنشئ من (القصص المدرسية) التي أؤلفها لتلاميذي على أنها وسيلة من وسائل التربية لا باب من الأدب. ثم لم يمض بعد ذلك إلا قليل، حتى كانت القصة هي اكثر ما يعالج الرافعي من أدب الإنشاء، وكان له فيها فَوَاقٌ منسق. وحلَّت القصة محلها من تقديره بين أبواب الأدب. .!
وإذا كان في أذني الرافعي ذلك الوقر الذي يقطعه عن دنيا الناس، فان أسلوبه في الكتابة كان بعيداً عن فهم الكثير من ناشئة القراء. فلما اصطفاني بالودّ، أخذت على نفسي أن أكون أذنه التي يسمع بها ما يقال عنه، وما يرى القراء في أسلوبه، فكنت إذا جلست إليه ليملي عليّ أحاوره فيما يدق على الإفهام من أسلوبه، وما تنبو عنه أسماع القراء. ثم لا أزال به حتى يغير العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخف على السمع. وكان ينكر ذلك عليّ أول أمره، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحياناً يوشك أن يغضب، وأنا أتلطف له وأحتال عليه؛ ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي علي العبارة من المقال، ثم يسألني: (ماذا فهمت مما كتبت؟) فإذا كان يطابق ما في نفسه مضى في إملائه، وإلا عاد إلي ما أملاه بالتغيير والتبديل حتى يتضح المعنى ويبين المراد. وبدا في النهاية أن يسميني(251/16)
- على المزاج -: العقل المتوسط من القراء. . .!
لم يُنشر للرافعي في هذه الفترة شيء ذو بال، إلا أحاديث كان يمليها على بعض المرتزقة من كتاب الصحف الأسبوعية. وكان له طائفة من هؤلاء الكتاب يعطف عليهم ويعينهم على العيش، فكانوا يفدون إليه في المحكمة ليسألوه حديثاً فيملي عليهم جوابه ثم يذهبون لينشروه حيث يشاءون ويقبضوا أجره
في هذه الفترة، وكَلَ إليه الأديب حسام الدين القدسي الورّاق تصحيح كتاب (ديوان المعاني) لأبي هلال العسكري، وكان قد وقع منه على نسخة خطية فطبعها بأغلاطها وتصحيفها، ثم بدا له قبل أن يتم طبع الديوان أن يلجأ إلى الرافعي ليصحح أغلاطه ويتم نقصه على أن ينشره في الجزء الأخير من الكتاب
وقبِل الرافعي هذا التكليف على قلة أجره، ليقرأ الكتاب قبل أن يقرأه الناس، وليستمتع بلذة المعاناة في تصحيحه وتصويب خطئه؛ وإنها لرياضة عقلية ممتعة، لا يستشعرها ولا يقوي عليها إلا القليل من الأدباء. ومضى في هذا العمل شهراً أو يزيد، وكنت معه فيه، ثم انتكثت المعاهدة التي كانت بينه وبين القدسي فترك له كتابه بعد أن أصلح منه جزءاً غير قليل. وقد استطعت في تلك الفترة التي صحبت فيها الرافعي وهو يحاول تصحيح الكتاب أن أعرف مقدار اطلاعه وسعة علمه وقوة بصره بأساليب العربية؛ وقد رأيت منه في هذا الباب أشياء عجيبة من قوة الحافظة، وسرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، ومهارة الاستدلال على مواضع النقص، حتى لكأنني بازاء مكتبة دقيقة الترتيب منتظمة التبويب ما شئت من بحث هَدَتْك إليه قبل أن تبحث عنه. على أنه كان أحياناً يعرف موضع النقص من الكتاب ثم لا يهديه البحث إلى تتمته، فيضع فكره موضع فكر المؤلف ليستقيم المعنى ويتساوق الكلام وأكثر ما كان يقع ذلك في الشعر المشطور. وقد حدث مرة أن ظلّ الرافعي يبحث يوماً كاملاً عن تمام بيت من الشعر في مظانه من كتب العربية؛ فلما أعياه البحث جعل تمامه من نظمه ثم مضى إلى تصحيح ما بعده من الكتاب. وفجأة ترك ما هو فيه وقال: (اسمع! ناولني الكتاب الفلاني) فمددت يدي إلى موضعه من المكتبة فناولته إياه، فأخذ بتصفحه قليلا ثم قال: (لقد وجدته. . . هذا هو البيت الذي كنت ابحث عنه وتمامه. عد إلى ما كتبت من قبل لتصححه!) وعدت إلى ما كتبت، ورجعت النظر في الكتاب الذي(251/17)
بين يديّ، فإذا تمام البيت فيما كتبت وفي الكتاب سواء، لا يختلفان إلا في حرف الجر. . . أكان فضل هذا إلى ذاكرة الرافعي، أم إلى قوة بصره بالشعر وبأساليب البيان؟
ولم يكتب الرافعي في هذه الفترة التي سبقت اشتغاله بالرسالة، إلا بضع مقالات في البلاغ؛ وكان لكل مقال حافزه وداعيه:
كان السيد حسن القاياتي يكتب في جريدة (كوكب الشرق) كليمات في موضوعات شتى من وحي الساعة وخواطر الحياة. فبدا له يوماً أن يكتب في الموازنة بين قول الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة. . .) وقول العرب: (القتل أنفى للقتل!) فانزلق إلى رأي. . . وكان محرر الكوكب في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين، وهو من هو عند الرفعي في دينه وفي أدبه وفي إيمانه يقدس القرآن. . . ولم يكن الرافعي يواظب يومئذ على قراءة كوكب الشرق
وجاء البريد ذات صباح إلى الرافعي برسالة من صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر، يلفت نظره إلى ما كتب الأستاذ القاياتي وإلى ضلاله في تفضيل الكلمة الجاهلية على آية القرآن. . . ودفع إليّ الرافعي برسالة الأستاذ شاكر وهو يقول: (أتصدّق هذا؟ أيجرؤ أحد أن يقولها، أم هي مبالغة وتهويل من محمود؟ أم هو لم يفهم ما كتب الكاتب المسلم وحمل كلامه على غير ما يريد؟)
ثم بعث في طلب الجريدة التي نشرت هذه الضلالة فجيء بها. فما كاد يقرؤها حتى اربدّ وجهه وبدا عليه الغيظ والانفعال، ودار لسانه بين شدقيه بكلام، ثم لم يلبث أن نهض مغضباً إلى الدار قبل موعده، فانقطع عني يومين ثم أرسل يستدعيني إليه، فأملى عليّ مقالة طويلة بعنوان: (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة!)
وكانت مقالة من عيون مقالات الرافعي، نشرتها البلاغ في صفحتها الأدبية. وقد أورد فيها بضعة عشر رأياً في بيان إعجاز الآية ومبلغها من البلاغة بازاء الكلمة الجاهلية، وقد جعلها من بعدُ فصلاً من شواهد كتابه (أسرار الإعجاز) الذي لم يطبع بعد. . .
وقرأ الأستاذ القاياتي مقال الرافعي في الرد عليه، فاقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، واعترف على نفسه في خلوته، ولكنه لاذ بالصمت، وكانت كرامته الأدبية أعز عليه من كرامة القرآن، فلم يردّ عليه ولم يعترف علانيةً بما كان من خطئه فيما انزلق إليه. .!(251/18)
وفتح مقال الرافعي أبواباً من القول لطائفة من الأدباء؛ إذ كان فيما ردّ به الرافعي أن كلمة (القتل أنفى للقتل) ليست جاهلية كما يعرف قراء العربية عامة، ولكنها نشأت في العصر العباسي لمثل ما استعملها له الأستاذ القاياتي في معارضة القرآن، واسندها مخترعها إلى حكيم الجاهلية اكثم بن صيفي ليتم له قصده؛ وجاز دعواه على قراء العربية حتى كشف الرافعي عن زيفها بعد ألف سنة!
كان تاريخ هذه الكلمة ميداناً للقول والمعارضة أياماً بين الرافعي وبعض الأدباء، ثم لم ينتهي إلى خاتمة؛ إذ كان الذي يعارض الرافعي في موضوعها ليس أهلاً لمناظرته، فلم يلبث أن شعر بالإعياء من أول شوط، فكتب إلى الرافعي رسالة خاصة في البريد يستعفيه ويعتذر إليه أنه مشغول البال بالاستعداد للزواج. . .
وفي هذه الفترة تم إنشاء (المجمع اللغوي) وكان الرافعي يمني نفسه بأن يكون من أعضاءه، فحال بينه وبين ما يتمنى أنه لا يسمع؛ وإن لم يمنعه أن يكون عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وقد اختير له هو والمرحوم حافظ بك إبراهيم قبل ذلك بسنوات، فلم يشهد جلسة من جلساته، ولم يشترك في قرار قرره، ولم يبعث إليه برسالة واحدة في موضوع من موضوعات العلم العربي. . .
وساء رأي الرافعي في المجمع اللغوي من يوم إنشائه، ولم يمنعه من الحملة عليه أنه كان موعوداً بأن يختار فيه عضواً مراسلاً كما أنبأه صديقه فارس نمر باشا عضو المجمع
وافتتح المجمع، وكان أول محرراته الأدبية برقية بالشكر إلى المرحوم الملك فؤاد
ولقيت الرافعي ذات مساء؛ فإذا هو يرفع إليّ جريدة البلاغ قائلاً: (أقرأ؛ هذا أديب صغير يهاجم المجمع اللغوي في يوم أنشائه، ويزعم أنه لم يستطع أن يكتب برقيه بريئة من الخطأ ليشكر بها منشئه. . .!)
وقرأت، فإذا نقد عنيف، وتهكم مر، وسخريه لاذعة. . . كانت كلمة صغيرة ولكنها ذات شأن، وقد اختار كاتبها أن يكون توقيعه (أديب صغير) مبالغه في السخرية والتهكم. . . وأخذ الكاتب على المجمع بضع غلطات لا ينتبه لمثلها إلا أديب دارس، له في العربية مكان. . .
وقال الرافعي: (ماذا رأيت؟) قلت: (نقداً مر لا يبلغ به هذا المبلغ على إيجازه إلا أديب(251/19)
كبير!) قال: (فمن تضنه؟) وكان سؤاله مشعراً بجوابه، ولكنني كذبت نفسي. . . أيكون هو؟ وما يحمله على أن يخفي عني؟ لقد كان معي أمس، وأمس الأول؛ فلماذا لم يحدثني بشيء من ذلك!
وقلت للرافعي: (أو تعرف كاتبه؟) قال: (حاول أن تفكر. . . لقد حاولت فلم أوفق!) وكان حسبي هذه الكلمة ليزول كل شك في نفسي، فما كذب عليّ الرافعي قبلها قط. . .! ولم اعرف إلا بعد أيام أنه هو. . .
ورد المرحوم الأستاذ حسين والي، وعاد الرافعي يرد ويتهكم ويسخر، ويتحدى المجمع اللغوي كله أن يرشده إلى الأطوار الاجتماعية التي مرت بها كلمة (حظِيَ) حتى ساغ للمجمع من بعد أن يستعملها بمعنى (ظفر) في برقية الشكر إلى جلالة الملك. . . وسكت المجمع، وسكت الأستاذ حسين والي، وظل الرافعي (الأديب الصغير) يكتب حتى جاءه الرجاء أن يسكت فسكت!
مقالات (الأديب الصغير) في نقد المجمع اللغوي هي أخر ما كتب الرافعي في النقد على أسلوبه وطريقته
ومما كتبه في تلك الفترة بحث طويل في البلاغة النبوية أنشأه إجابة لدعوت الهداية الإسلامية بالعراق، لتنشره في ذكرى المولد النبوي. وقد لقي الرافعي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا احسب غيره يقوى عليه. وحسبك أن تعلم أن الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا الفصل حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، وانفق في ذلك بعضة عشر يوماً، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العجل أن يقرأ في صحيح البخاري قراءة تلاوه؛ فكيف به دارساً متمهلاً يقرأ ليتذوق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟ ولكن ليس عجيباً من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يوجعه قلبه!
وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إليّ لأكتبه بخطي ولم يمله عليّ، فأنفقت في كتابته ثلاثة أيام أخرى
هذا الفصل يملأ نحو عشرين صفحة من صفحات الرسالة، ويصلح أن يكون خاتمه لكتاب إعجاز القرآن - لو قدر لإعجاز القرآن أن يطبع طبعة جديدة - فأنه أشبه لموضوعه وفيه تمامه(251/20)
وما فرغ الرافعي من كتابة هذا الفصل، حتى أحس بحاجته إلى الراحة بعد ما بذل من جهد، فاغلق دار كتبه وخرج إلى الشارع يشم الهواء، ثم لم يكد يأتي المساء حتى جاءه البريد برسالة من جمعية الكشاف المسلم بالشام، تطلب إليه أن يعد لها موضوعاً تنشره في صحيفتها لمناسبة المولد النبوي كذلك. . .!
وضاقت أخلاق الرافعي، فهم أن يلقي الرسالة ليفرغ لنفسه بضعة أيام للاستجمام، ثم تحرج، فعادت إليه ابتسامته وهو يقول: (سأفعلها قُرْبَى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولو رمى بي هذا الجهد المتواصل إلى تهلكه!) وعاد إلى مكتبه وهو متعب مكدود. . . ثم أملى عليّ مقالة (حقيقة المسلم) الذي أعاد نشره في الرسالة بعد ذلك وجمعه إلى وحي القلم
وكتب بضع مقالات أدبية في مجلة المقتطف
ثم دعته (الرسالة) ليكتب فصلاً عن الهجرة في العدد الممتاز الأول لسنة 1353هـ، فكان ذلك أول عهده بالكتابة فيها، ثم اتصل بها حبله، فظل يكتب لها كل أسبوع مقالاً أو قصة من قصصه الممتعه، لا يفتر عن هذا الواجب إلا أن يمنعه المرض أو تشغله شاغله من شواغل الحياة. ومات وهو يتهيأ لكتابة مقاله الأسبوعي لها، ولكن القضاء عاجله فخلفه على مكتبه ورقة بيضاء. .!
(لها بقية)
محمد سعيد العريان(251/21)
أراء حرة، لعلها طلائع معركة!
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
قرأت ما كتبه الأستاذ سعيد العريان تحت هذا العنوان في الرسالة، كما قرأت كل ما كتبه عن (مصطفى صادق الرافعي)
قرأته تحت تأثير عامل نفسي خاص، ذلك أنه كان لي رأي في المرحوم صادق الرافعي، لعل فيه شيئاً من القسوة. ولما كنت على ثقة أن هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أي عامل خارجي، وإنما كانت نتيجة لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني، فقد كنت في حاجة لأن أسمع من أصدقاء الرافعي ما عساه يخفف شدة هذا الحكم، ويكشف لي عن بعض حياة الرجل التي اشتركت في تكوين أدبه، فلعل فيها تفسيراً وتبريراً لما كنت أراه فيه، مما يستدعي قسوة الحكم، وشدة النفور
وكنت أخذت ألمح من كتابات الأستاذ سعيد أنه صديق له، مطلع على الكثير من أسرار حياته، وعوامل إنتاجه، فقلت: اتبعه فلعلك منقلب صديقاً للرافعي أو محايداً بالنسبة له!
والقصة بين الرافعي وبيني أنني قرأت له أول ما قرأت كتابه: (حديث القمر) فأحسست بالبغضاء له. أجل بالبغضاء، فهي اصدق كلمة تعبر عن ذلك الإحساس بين العقاد الذي خالجني إذ ذاك. ولم تكن ثارت بين العقاد وبينه إذ ذاك خصومة، ولم أكن سمعت شيئاً عنه من العقاد أو سواه، مما قد يكون سبباً في هذه البغضاء. ولو خالجني هذا الشعور بعد خصومته للعقاد لوجدت بعض التفسير، فأنا لا أنكر أنني شديد الغيرة على هذا الرجل، شديد التعصب له، وذلك نتيجة فهم صحيح لأدبه واقتناع عميق بفطرته، لا يؤثر فيه أن تجف العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان
ولقد كنت أكره نفسي بعد ذلك على مطالعة الرافعي، فتزداد كراهية لهذا اللون من الأدب، دون أن أجد التعليل. ذاك أنني كنت إلى هذا الوقت أديباً يتذوق فحسب، لا ناقداً يستطيع التعليل، ويصبر على التحليل(251/22)
والرجل قد مات فما تحسن القسوة عليه، ولكن لا يصح أن يكون الموت معطلاً للنقد، ولهذا سأتحدث عنه كما لو كان حياً، لأن الذي يعنيني منه هو إنتاجه الأدبي، وما يبدو من نفسه خلال هذا الإنتاج
كنت أشك في (إنسانية) هذا الرجل، قبل أن أشك في قيمة أدبه؛ وكنت أزعم لبعض إخواني في معرض المناقشة، أنه خواء من (النفس). وأن ذلك سبب كراهيتي له، ولو أنني لم أره مرة واحدة، ولم أجلس إليه
ولذلك كان همي أن أبحث فيما كتبه الأستاذ العريان عن حياته، لا عن أدبه؛ وكان يهمني أن أعثر في ثنايا هذه الحياة على (نفس) وعلى (إنسانية)
ولهذا اغتبطت، إن لم أقل دهشت، حينما رأيت الأستاذ سعيدا يذكر للرافعي (حباً) ويحدثنا عن مظاهر هذا الحب وخطواته. ذلك أن خيالي المنبعث من قراءتي للرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته؛ فالحب يتطلب قلباً، وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب؛ والحب يقتضي (إنسانية) وكنت افتقدها فيه
إلى هذا الحد كان الحكم قاسياً على الرجل، وإلى هذا الحد كان تشاؤمي في تقديره
ولقد ظللت هكذا حتى استطعت أن أكون ناقداً، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان، ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟
لقد عدلت حكمي قليلاً، وخفت حدته، ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه، ولكن بقي الأساس سليما
كنت أنكر عليه (الإنسانية) فأصبحت أنكر عليه (الطبع)، وكنت لا أجد عنده (الأدب الفني)، فأصبحت لا أجد عنده (الأدب النفسي)
الرافعي أديب معجب، في أدبه طلاوة وقوة، ولكنه يعدُ أدب الذهن لا أدب الطبع؛ فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية، التي تلوح للكثيرين أدباً مغرباً عميقاً لذيذاً، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية، ولا طبيعة حية
لم يكن يعني الرجل في أدبه الحقيقة الأزلية البسيطة، بقدر ما يعنيه أن يصور الحقيقة الوقتية محكمة النسج، رائعة المظهر، تشبع الذهن ويستطيبها، ولكنها لا تلمس القلب أو يسيغها(251/23)
وكثيراً ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع، إذا كان مع ذكاء وقوة. وما من شك أن الرافعي كان ذكياً قوي الذهن، ولكنه كان مغلقاً من ناحية الطبع والأريحية
أترى كبير فرق بين حكم الأديب وحكم الناقد؟
قد يكون، ولكنهما قريبا المأخذ، متحدا الإحساس.
وبعد فما كان أن يتفق العقاد والرافعي في شيء! فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء
العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة، والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع
والعقاد متفتح النفس ريان القلب، والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات
والطاقة العامة لكل منهما في ناحيته متفاوتة بعد ذلك، فطاقة العقاد النفسية أقوى من طاقة الرافعي الذهنية، وعالم العقاد والحياة في نظره أشمل وأرحب بكثير من العالم الذي يعيش فيه الرافعي ويبصر الدنيا على ضوئه
وإذا لم تكن كلمة اليوم تتسع لضرب الأمثال، فستتسع الكلمات المقبلة للمثال بعد المثال
إنما يعنيني اليوم ما كتبه الأستاذ سعيد العريان!
ففيما كتبه وهو أخص أصدقاء الرافعي مصداق لكثير مما تخيلته فيه؛ وفيما كتبه عن العقاد أشياء كثيرة تستحق المراجعة؛ وسأبين هذا وذلك
في إباء الرافعي أن يشتري كتاب (وحي الأربعين) مع حاجته لنقده ما يشير إلى ضيق الأفق النفسي الذي كان يعيش فيه، وتصوير للون من الحقد الصغير قلما يعيش في (نفس) رحبة الجوانب متفتحة للحياة مستعدة لقبول صورها المختلفة المتعاقبة؛ وهذا ما كنت أتصوره من أدبه
وفي البواعث التي تدعوه لنقد وحي الأربعين كما صورها صديقه ما يصور نظرة الرجل إلى النقد والأدب والغاية منهما، ومدى نظرته العامة للحياة، واتساع مداها في نفسه، وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له
وفي اختيار الظروف السياسية للنكاية، دون أن يكون وراءها عقيدة ما، إلا شفاء الحزازات، كالمقال الذي كتبه في الكوكب، وكلمة وكليمة بالرسالة ما يؤيد خلو الرجل من(251/24)
(العقيدة) وهي الملازمة (للطبع) المفقود في الرافعي، فدوافعه في الأدب لم تكن دوافع العقيدة والانطباع، بمقدار ما هي وليدة الفكر والتوليد والمماحكات
ويخطئ من يعتقد أن ما أقوله هنا مقصود به شخص الفقيد ولكنه شيء لا بد منه لتقدير أدبه على حقيقته
وفيما كتبه الأستاذ سعيد عن العقاد كثير من الجهل بطبيعة العقاد ودوافعه في الحياة، وعوامل الكتابة في نفسه
والأستاذ معذور في هذا لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً، ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فيفهمه ثانياً
ولقد كان يعيش في بيئة الرافعي وجوه، ويلوح لي من كتابته أن ذلك يلائم جوه الخاص، ويناسب بيئته الروحية
وأول ما يخطئ فيه اعتقاده أن طعن العقاد على الرافعي من ناحيته الوطنية، في رده على نقد وحي الأربعين، كان حيلة أملتها البراعة السياسية
ووجه الخطأ هو تصوير العقاد كالرافعي في هذه الخلة النفسية وفي وسائل الصراع، واستعمال الحيل الذهنية، والمناسبات العارضة لكسب القضية!
والذين يفهمون العقاد لا يعرفون فيه هذه الصفة. ولكنهم يعرفون طبيعة قوية مخلصة، لا تتذرع بالحيل الذهنية، والبراعة السياسية العأرضة، ولكنها تتذرع بنفوذ الإدراك، وعمق الإحساس، وشمول الشعور. فإذا اتهم العقاد الرافعي بأن نقده لوحي الأربعين منشؤه ضغينة شخصية، وإيحاء سياسي كما فعل، فإنما هو معتقد هذا في صميم نفسه، وما يعنيه ما ينال الرافعي من الناحية السياسية، قدر ما يعنيه (كشفه) من الناحية النفسية، وتصوير البواعث التي تهيجه لهذا النقد اللاذع
وما عن مبدأ خلقي يصدر العقاد في هذا، ولكن عن طبع قوي يخلق المبادئ الخلقية، ويختار منها ما يناسبه، ويرفض مالا يرتاح إليه، ولو تواضع الناس عليه!
ويخطئ الأستاذ سعيد كذلك في تسمية ما كتبه العقاد في رده شتماً وسباً للرافعي، كما أخطأ في تسمية ما كتبه من مخلوف سباباً وشتائم
ويبدو أننا في حاجة لتحديد معنى السب والشتم في لغة الأدب، بعيداً عن لغة القانون(251/25)
في حاجة إلى بحث هذا الموضوع على ضوء من علم النفس وعلم الأخلاق وتطبيقهما على العالم الأدبي، فطالما سمعت وصف الكلام بهذين الوصفين، مستمداً هذا الوصف من ألفاظ الكلام دون بحث أسبابه، والحالة التي يعالجها
وطبيعي أن الحكم على الكلام وحده، مجرداً عن بواعثه وملابساته حكم شكلي، إن أرضي ذوي المواهب الذهنية، فلن يرضى ذوي المواهب النفسية؛ وإن أرضي العقل فلن يرضى القلب
وفي هذا عودة إلى الفوارق الأساسية بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي!
كتب الرافعي عن وحي الأربعين كلاماً يعترف الأستاذ ببواعثه الأصلية، والعقاد يعرف هذا، ويعتقد في صفات الرجل النفسية، وفي نصيبه من الطبع السليم والفهم المتفتح أشد مما أعتقد أنا. ودواعيه لذلك الاعتقاد كثيرة ومفهومة، فإذا كتب يصور الرافعي كما هو في خيال العقاد، وكما هو في الحقيقة، فليس الذنب ذنب العقاد في قسوته، فإنما هو يصور حقيقة، أو على الأقل ما يعتقد هو أنه حقيقة
وإذا كتب عن (مخلوف) يتهكم به، ويشنع بسوء فهمه للأدب، فمبعث ذلك عظم الفرق بين طاقة العقاد وطاقة مخلوف، والحنق على أن يكون مثل هذا ناقداً لمثل ذاك
والحق أن هذا مما تضيق به الصدور. وقد كنت أنا لا العقاد مستعداً للثورة والحنق، لو تناول هؤلاء أدب بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور، أو بمثل التلاعبات الذهنية، واللفات البهلوانية، التي تناولا بها أدب العقاد
ثم لا بد من عتب على الأستاذ سعيد في أن يسمح لصداقته للرافعي أن تعدو على التقدير الصحيح للعقاد، فيعرض بلقب (أمير الشعراء) الذي (ينحله) الدكتور طه حسين بك للعقاد (تملقاً) للشعب ونزولا على هواه
وما أريد أن أبحث عن بواعث الدكتور طه لإطلاق هذا اللقب، فصلتي بالدكتور لا تزال حتى اليوم لا تسمح لي بتفسير حقيقة بواعثه. والحكم على النيات عمل عسير لا يصح الاستخفاف به، ولكنني أتحدث عن مظهر هذا التصرف لا عن باعته. ورأيي أن هذا اللقب غير لائق بالعقاد، لأن المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء(251/26)
وإنني لأكررها مرة أخرى، وأعينها في معرض الحقائق الواقعة لا معرض الجدل والمناقشة
قد يكون هناك كتاب يتقاربون مع العقاد، ولكن ليس هناك شعراء في لغة العرب يتقاربون مع العقاد
ولقد كنت هممت بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرين، ونظرت في أدب جميع الشعراء الأحياء - وأنا من بينهم - ولكن عاقني عن إصداره أن لم أجد نقط اتصال بين العقاد الذي سأكتب عنه أولاً، وبين جميع الآخرين من الشعراء
الفرق هائل جداً، وأكبر مما يتصوره الأكثرون، بين طاقة هذا الشاعر والطاقات الأخرى
وسيغضب لقولتي هذه كثير من أصدقائي الشعراء المعاصرين، ولكنهم ليسوا أكرم علي من نفسي، وأنا حسن الظن بشعري، - وليعذرني أنصار مبدأ التواضع - ولكنني حين أضعه أمام شعر العقاد يتلاشى، وتحتبس نفسي عن التعبير حتى يسكن صدى شعر العقاد في نفسي!
هذه كلمة حق وعقيدة. وسأتولى شرح الأمثلة التي تثبت كل ما أسلفته من آراء
(حلوان)
سيد قطب(251/27)
الرئيس الوزير إدوار هريو
رجل الأدب
بمناسبة زيارته لمصر
للأستاذ عبد العزيز عزت
هناك ثالوث من المعارف لا تنفصم أجزاؤه، إذا تحقق في رجل كانت له صفة الإنسانية الخالدة! هذا الثالوث هو الفلسفة والسياسة والأدب؛ ذلك لأن الفلسفة تصقل الفكر إلى درجة يرتفع بها عن اضطراب مفردات الوجود الجزئية، إلى نوع من التجريد العقلي تنفذ به القريحة إلى صميم الأصول التي تحدد الأشياء في جوهرها الدائم، واقعية كانت أم فرضية. والسياسة ضرب من المعرفة أخطأ مكيافللي في تعريفها حين قال: (إنها وسيلة للكذب والخداع)؛ لأنها عند المفكر الأول للبشرية أفلاطون الإلهي - إذ استعرنا لغة الفارابي -: هي وسيلة لتحقيق منطق العالم في مجال عالم الاجتماع الإنساني، فيسوده نوع من الانسجام يوجب استقرار النظام فيه؛ وتتحقق فيه (ذروة) الكمال فتستقيم حياة الإنسان. لهذا كانت السياسة هي بيت القصيد في فلسفة أفلاطون، وكانت (المدينة) كنظام اجتماعي - إذا استعرنا لغة فستيل دي كولانج - هي المحور الأساسي الذي تدور حوله فلسفات الإغريق في العهد القديم. والأدب، يكفي لتعريفه أن يلقي القارئ نظرة إلى جدول موضوعاته في مؤخر كتاب العلامة الكبير لانسون عن (الأدب الفرنسي) ليرى انفهاق نواحيه والتي في صلبها الفلسفة والسياسة؛ وذلك لأن الأديب يجب أن يعيش لتحقيق فكرة معينة في مجتمع معين، وتأكيد مذهب ونزعة واضحة في الفكر لا يحيد عن دعمها مرة واحدة في بلد من البلاد، وإلا كان قلمه رخيصاً لا قيمة لما يسطره في أسواق الأدب الرفيع؛ لأن الأدب إذا قام على العجز في الإبصار والإدراك بمعنى أن يذهب الأديب إلى ترديد (الماضي) دون أن تدفع به عين التفكير في حركتها إلى الأمام، كان أدبه مستذلاً تسوده النزعة التاريخية، لا يبصر قارئوه أبعد من أنوفهم؛ وإذا نظروا خلال ذلك الأدب لن يروا أمامهم إلا سراباً. وثانياً ينتاب هذا الأدب العجز في الإدراك بمعنى انعدام الخلق الوطني فيه، بأن يعمد واضعوه إلى تقليد الأجانب في أدبهم معتمدين في ذلك على الترجمة والاقتباس، فيكون بذلك(251/28)
أدبا (فردياً) كله المحاكاة والتنافر مع أول احساسات أهل الوطن، لأن الأدب كأساس نتاج فكري يتعلق بالمشاعر والعواطف، فهو خاص له لون معين يشتق من طبائع الأمم وميزاتها. (اقرأ كتاب فكتور هوجو وعنوانه (الأدب والفلسفة) وأيضاً ما كتبته مدام دي ستايل عن الأدب والسياسة)
فالفلسفة، والسياسية، والأدب، تتميز بعضها عن بعض ولكنها لا تنفصل، (كالمثلث) إذا ضاع أحد أضلاعه، انعدمت وحدة الوجود الهندسي فيه. كذلك (الرجل) بالمعنى الأدبي هو ذلك الهيكل الفكري الذي تحقق فيه المعارف الثلاث. وليس في عصرنا هذا رجل يتمثل في شخصه ثالوث هذه المعارف الثلاث وانسجامها كالرئيس هريو، فهو بحق رجل الفلسفة والسياسة والأدب
أما عن فلسفته: فذهب يسعى إليها عند مفكر مصري هو فيلون الإسكندري الذي جعل منه موضوعاً لكتاب طريف يمثله في حياته الأولى. وفي دراسته هذا الفيلسوف أكبر دليل على تحقق صفة الرجولة والإنسانية فيه، لأن فيلون يوحد في شخصه وفي انسجام تام عناصر فكرية مختلفة النزعات، فهو يهودي النشأة، مصري المشاعر، يوناني الثقافة. هو عالم مستقل بذاته يتوسط بين العالم اليوناني القديم، وبين عالم التفكير في القرون الوسطى. ففي دراسته إلمام بما تقدم وما تأخر من المعارف في تطور التفكير عند بني الإنسان حتى ظهور العهد الحديث. وفي دراسته أيضاً توفيق بين الإلهام والعقل وبين عالم الشهادة وعالم القداسة، وبين الفلسفة والدين، وبين العقلية اليونانية والعقلية الشرقية. وبفضله أصبحت الإسكندرية العامرة، منارة العلم ومنبع النور في الإيمان والتجريد الفكري. فاهتمام الرئيس هريو بفيلسوف كهذا يدل على مبلغ ما هو عليه من العلم الغزير وسعة الاطلاع، وحاسة (توحيد ما اختلف) مما ساعده أهله ليكون رئيساً لمجلس النواب الفرنسي يقيم الانسجام بين ما تباين من نزعات الأحزاب، وأهواء السياسة، وجموح مناقشاتها العسيرة، لتسير في هدوء إلى سبيل الحق الذي يعلو على شهوات التخصيص الضيق في أصول الحكم
وهو في كتابه هذا يعرض أولاً لمقارنة يهودية التوراة في عهد فلسطين بالمعتقدات اليونانية، ثم مقارنة يهودية الإسكندرية - وكفرع - بنفس تلك المعتقدات الإغريقية؛ وفي موضع ثالث يتطرق إلى تحليل منهج فيلون وآرائه الثابتة في مجال الإلهيات، فيعرض(251/29)
لنظرية التأليه عنده، وتحديد فهمه لطبيعة الأفكار والأعداد، ويثبت تأثره بفلسفة الفيثاغوريين؛ ثم ينتقل بالكلام أو شرح جوهر النفس وتشعب نشاطها، وعلى الخصوص وصف حياتها (القابلة) التي تتمثل في انفعالاتها وشهواتها الثائرة المريضة، ثم يعرض إلى مذهبه في الأخلاق وطبائع الفضائل وأصول التخلق في الحياة وما بعد الحياة، ثم يشرح أخيراً آراءه في السياسة، فينقد مبادئ الاستبداد والتزعم الجامح
وأما عن أدبه: فهو أدب بني على النبل والورع؛ لم يقصد به فرض وهم في الزعامة على الأدب في فرنسا، لأنه يعرف أن الزعامة تاج يكلل به الناس رؤوس من يتوسمون فيهم أهلية هذه الزعامة، فهي (تسعى) إليهم، دون أن تفرض على الناس فرضاً. وهذه الزعامة لم تقم يوماً ما على الغرور الفكري، ولا على مهاجمة الناس في معتقداتهم وأديانهم؛ ولم يكن التجديد في الأدب يوماً هو الانسلاخ عن تراث الآباء والأجداد والذهاب لما يمجه ذوق البلاد من التواء وغموض في التصور عند الفرنجة، وإنما هو الإقرار بفضل من تقدم من السلف الصالح، وفهم الحاضر الفكري فهما يكفل الإنتاج العقلي في المستقبل القريب. فبهذا تحفظ روح الأمة ومشاعرها، صافية من غير امتزاج، وتسير إلى الأمام في غير ما ترقيع ولا ابتذال
لهذا ذهب الرئيس هريو إلى أدب قومه، واختار من بين فتراته حقبة من الزمان هي الحد الفاصل بين نوعين في الأدب الفرنسي: نزعة المحافظة على القديم التي تتمثل في أدب القرن السابع عشر الميلادي عند راسين ومليير وبوالو، ونزعة (الإصلاح) فيه عند كتاب القرن الثامن عشر مثل روسو وفلتير ومنسكيو. هذه النزعة الثانية نزعة (حربية) لم تنسجم وطبيعة التفكير الأدبي، فقضت على الأدب (الرفيع) بثورتها؛ لأن مجاله أصبح مهزلة لتراشق خطباء الثورة بما يمجه كل ذوق أدبي سليم، ويأباه كل عُرف في التصور والتأدب. وفضت عاصفة السياسة على الاستقرار الأدبي، وحرمته الخضوع لمذهب واحد معين يمثل مشاعر أمة واحدة معينة، له لونه وصبغته الخاصة، وأصبحت أقلام الأدباء كسهم الريح في أعلى المنازل تعصف به الزوابع في كل اتجاه، فهي تباع وتشترى بيع الأنقاض في أسواق السلع البائسة، تدور وتتذبذب في سائر الأحزاب، دون استقرار محدود على مبدأ واحد ثابت لا يتغير(251/30)
هذه الفترة التي ذهب إليها الرئيس هريو هي مبدأ القرن التاسع عشر، إذ هدأت عاصفة الثورة الفرنسية بأدبها (الوهمي) وإذ ابتدأ ظهور المذهب الرومانتيكي أي (التخصيص في الأدب) (بمعني أن يكون للأديب مسحته الخاصة الغالبة وحريته الكاملة في تصوير وتسطير ما يشاء ويهوى، دون أن يخضع مثلاً لقانون الوحدات الثلاث الذي نجده مثلاً عند راسين، والذي يتأثر هو فيه بتعاليم اليونان، وخاصة أصول (التراجيدي) عند أرسطو وسوفكليس وأربيدس في العهد اليوناني القديم)، بفضل ما كتبه شاتوبريان، وعلى الخصوص الشاعر الخالد فكتور هوجو في (مقدمته) لرواية كرمويل. واختار الرئيس هريو من أدباء هذه الفترة مدام دي روكامييه، كموضوع لرسالته الكبيرة لدكتوراه الدولة، ومدام دي ستايل، كموضوع لرسالته الصغيرة
كانت الرسالة الأولى من الضخامة بحيث طبعت في جزأين، واضطر الرئيس (هريو) أن يعيد طبعها (مخفضة) عند (بايو) لتكون في متناول كل قارئ مثقف، بعد أن حذف كثيراً من (الهوامش) التي ما كانت في واقع الأمر إلا (زينة) في رسائل مدرسة السربون، وغرضه الأول فيها لم يقتصر على دراسة هذه الأديبة وتحليل شخصيتها في ذاتها، بل كان مع ذلك دراسة الروح العامة للأدب في ذلك الزمان، وحل المناسبات الاجتماعية التي ساهمت في نضوجها الفكري. وليس أدل على صحة كلامنا من عنوان الرسالة نفسها وهو: (السيدة ركامييه وأصدقاؤها). والغرض الثاني إثبات أثر مدينة ليون التي ولدت فيها هذه السيدة في تكوينها الأدبي، والحياة الأدبية لهذه المدينة خلال ما كتبته هي عنها في زياراتها المتعددة لها في ذلك العهد. والغرض الثالث هو شرح أهمية اتصالها بمؤسس مذهب الرومانتيزم شاتوبريان وما كان له من الأثر في توجيه تفكيرها الأدبي والسياسي
والرسالة الثانية، تعرض للصداقة المتينة التي كانت بين السيدتين ركامييه، ودي ستايل، واتحادهما في نزعة العداء ضد مبادئنابليون بونابارت. فهي رسالة تبحث أيضاً في أدب نفس ذلك المعهد وفي نفس الجو الأدبي؛ غير أنها تمتاز بكونها شرحا لبعض مخطوط لم يطبع حتى ذلك التاريخ، يوجد في المكتبة الأهلية بباريس في نحو 297 صفحة بعنوان (منتخبات لآراء سياسية) فيها تعرض مدام دي ستايل عن (حلمها) السياسي وهو إمكان تحوير مبادئ الدستور القائم إبان ذلك، وإحلال جمهورية تثبت على أصول العقل. ففي(251/31)
القسم الأول من هذه (المنتخبات) تشرح مبادئ الثورة والشروط اللازمة لتحقيق مبادئها. وفي الجزء الثاني تعرض للأصول العامة العقلية لإمكان تحقيق الجمهورية. وفي القسم الأخير تبسط أهمية أصول العقل في تغيير الحالة العامة في فرنسا في ذلك الحين. فهي بهذا المخطوط تكتب على طريقة أفلاطون في (جمهوريته) فترسم فرضاً سياسياً وإن كان يسوده الخيال، إلا أنه مع ذلك يحدد لنا نزعاتها الخاصة في الحكم، وكيف أنها تميل في نزعاتها إلى نوع معين من الديمقراطية لا نبني مباشرة على مبادئ الثورة الفرنسية بل على أصول التفكير والعقل الخالص
أما عن سياسته: فنقول إن السياسيين في أغلب أمم الأرض في زماننا هذا هم أكثر الناس جهلا بالسياسة وأصولها، وهذا الجهل راجع في نظري إلى أن السياسة أصبحت مجالاً للدجل والتهريج لا يطرق بابها إلا أصحاب الفراغ والجدة في كل شئ. ومن ادعى من رجالها العلم والفهم في مجالها، رجع في علمه وفهمه هذا إلى مفكري العصر الحديث، أولئك الذين يشرعون باسم المادة والاقتصاد، مع أن السياسة عند أهلها من آباء التفكير وخاصة أفلاطون الإلهي، تقوم على فهم طبيعة الإنسان الخاصة وتخلقه. لهذا كانت السياسة هي بيت القصيد في الفلسفات القديمة وكانت تتضمن دراسة هذا العلم، ودراسة الآداب، وعلى الخصوص دراسة الأخلاق؛ وكان لا يمكن أن يسمى الرجل (سياسياً) إلا إذا بلغ الخمسين من عمره، بعد أن عرك الحياة ووقف نظرياً وعملياً على طبائع الناس وتضارب ميولهم، وتباين تخلقاتهم، وأضاف إلى علمه بجوار منطق العقل، منطق الحياة. أما اليوم فهي لا تلم إلا (القش) (والرماد) في كل هيئة اجتماعية من الذين يؤمنون بما يوحي إليهم رجل كمكيافل أن السياسة هي (مكر ولؤم وخداع)، عوضاً من أن تكون (فلسفة، وأدبا، وأخلاقا)
لهذا كان الرئيس هريو ليس من المحدثين في السياسة، لأنه يسير وتعاليم اليونان القدماء، فهو لم يتعجل أن يطرق بابها، فيصيبه ما يصيب أهلها الآن من ابتسامات تقديرية لو فهمها الرجال منهم لأحمرت لها وجوههم. فبعد أن مهد لنفسه النضوج الفكري بثقافة جامعة وافية في الفلسفة والأدب، طرق مجال الخدمة الاجتماعية عملياً في عمادة مدينة ليون، فأثبت ما هو أهل له من العلم، وإحكام الادارة، وتصريف أمور الحياة بين الناس، حتى إذا كان في(251/32)
نحو الأربعين من عمره انتخب مباشرة عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي عن منطقة الرون، متخطياً مجلس النواب، فكان أصغر عضو في ذلك المجلس عام 1912؛ ثم تطرق بعد ذلك إلى منصب الوزارة، ثم إلى رياسة الوزراء، ثم إلى رياسة النواب، فكان في كل مرة مرحلة منها (الفيلسوف العادل)، (الموحد لما اختلف). ولعب بجوار ذلك دوراً لا يستهان به في تنظيم الحياة الداخلية لأمته إبان الحرب العظمى عندما ولاه الرئيس الوزير بريان وزارة الأشغال والمواصلات والمؤونة؛ ويمكن أن يتصور خطر هذا المنصب، والقتال قائم على قد وساق
وباعتباره (عمدة) لمدينة ليون، يكفي هذا أن يرفع نظر المصريين إليه، لأن لهم فيها ذكريات تتعلق بتاريخهم في العهد الحديث. فالرجل الذي قاد الجنود المصرية في ساحة الوغى، وأثبت للعالم سمو الروح الحربية عند المصريين، ووضع أسس الإمبراطورية المصرية، هو القائد سيف أو سليمان باشا الفرنساوي الذي ترك وطنه في مدينة (ليون)، بعد انهزام نابليون، ليعمل لحساب مؤسس الأسرة العلوية الكريمة، فكان عند حسن ظن محمد علي باشا فيه؛ فحقق ما رسم له خالق مصر الحديثة ومشيد عظمتها. كذلك ساهمت ليون بعلمائها الأعلام وعلى الخصوص الأستاذ لامبير في خلق مدرسة للفكر في مصر تتمثل في ذلك الشباب النابه الذي ورد شرعة العلم من سنين في هذه المدينة، والذين أصبحوا الآن من قادة الفكر في مصر، في الفلسفة الإسلامية، وفي عمادة الحقوق، وفي بطولة المحاكم المختلطة، وفي زعامة المحاماة والثقافة. والجميل في أمر هذه المدرسة، أن أهلها يعملون على إعلاء كلمة الوطن في نبل وهدوء وورع، دون أن يتخذوا من العلم سبيلا وضيعاً لمهاجمة معتقدات أهل البلاد ودينها، وتصويرها في حفلات عامة كقبائل المتوحشين لا هم لساكنيها إلا التفكير في المأكل والمشرب كما يفعل هذا الكثير من متخرجي السربون وجامعة باريس، وهو ما لا يليق بشباب يدعي الثقافة والفهم، ومكتوب على جوازه سفره أنه (مصري)!؟
عبد العزيز عزت
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(251/33)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 16 -
خرجت من منزل ليلى نشوان، نشوان إلى حد الجنون. والمرء في العراق لا يكون إلا في حالين اثنين: حال تحدثه فيه النفس بالغرق في دجلة من الفرح، وحال تحدثه فيه النفس بالغرق في دجلة من الغيظ. فالمرء في العراق إما أن يكون سعيداً كل السعادة، وإما أن يكون شقياً كل الشقاء
وكذلك حال ليلاي، فهي قد ترق وتلطُف فأدخل دارها بُعَيْد الغروب ولا أخرج إلا قُبَيْل الشروق؛ وقد تقسو وتعنف فتطردني من دارها بلا ترفق ولا إشفاق
خرجت من منزل ليلى نشوان، فقد رضيتُ عنها ورضيت عني، ولكن الحادث الأخير ترك في القلب عقابيل، فأخذت احترس، وهل يتفق الحب والاحتراس؟
نعم يتفق الحب والاحتراس، ولكن يضيع النعيم فالمحب المحترس يثق بنفسه، ولكنه لا يثق بمن يحب. . . وليلى بدأت تعد ذنوبي ولكن من أي تاريخ؟ منذ اليوم الذي اطمأنت فيه إلى عودة العافية!
فمن أنا في دنياي؟ من أنا في دنياي؟
لقد كنت أرجو أن تعمى ليلى عن عيوبي، ولكن هكذا كنت في حياتي، فما أذكر أبداً أني عانيت الظلم إلا على أيدي ناس أحببتهم واستقتلت في الدفاع عنهم. كنت كالسيف يلقيه صاحبه بعد أن يفله القتال. كنت كالغصن المثمر يؤخذ للوقود بعد إنتهاب ما يحمل من ثمرات. كنت وكنت، فما أشقاني وما أعظم بلائي!
كذلك دار رأسي وأنا ماض إلى قطار البصرة. وما أدري كيف صاغ الله عقلي على هذه الصورة، فعقلي لا يغفو أبداً؛ وهو دائب على الدرس والتحليل، وليس من الزهو أن أذكر أن أعلم ما يساورني من المعضلات الفلسفية أهتدي إلى حله في أحلامي، والمسيو ماسينيون يذكر ذلك، فقد كانت لي معه مواقف يوم كنت تلميذه في باريس
أمسيت أحقد على ليلى، ولكن لا بأس، فقد وثقت بي، واطمأنت إلي، فأخذت تصادق من أصادق، وتعادي من أعادي؛ وليس ذلك بالقليل، فما الذي يمنع من أن أحتمل ما يثور في(251/35)
صدرها أحياناً من براكين؟
أليست عراقية؟
بلى، هي عراقية
وأنا رأيت الأعاجيب في العراق
فمنذ ليال أويت إلى فراشي في منتصف الليل والسماء صاحية، ثم انتبهت على الروع والفزع، فقد كان المنزل ترج سقوفه وحيطانه بعنف، فأوقدت المصباح وأنا خائف أترقب، ثم عرفت بعد التأمل أن الصحو أعقبه غيم ومطر وصواعق
ولما خرجت في الصباح رأيت الشمس آست ما جرح الليل، وكأن لم يكن شيء!
ذلك هو العراق
وكذلك تكون ليلاي في العراق
فما الذي يمنع من الصبر على دلالها أو أذاها شهراً أو شهرين حتى تمل هي من النضال؟
إن بعض المرضى يريحهم أن يثوروا على الأطباء. ومن واجب الطبيب أن يرحب بمثل هذه الثورة، لأنها بشير العافية. وستذكر ليلى أني كنت من الصابرين، وأني منحتها عطف المحب ورفقة الطبيب! ولن أفارق بغداد قبل أن تبذل في سبيلي غاليات المدامع، أن كتب الله أن تأخذ عن طبيبها أدب الصدق والوفاء
لن أنساك يا ليلى فقد عاديتُ فيك وعُوديت
واحمل في ليلى لقوم ضغينةً ... وتُحمل في ليلى عليَّ الضغائنُ
ولكن هل تفهمين أو تعقلين؟
أما والله لو تجدين وجدي ... جمحتِ إليَّ خالعة العذار
كانت هذه الخواطر السود تنتاش قلبي وأنا في طريقي إلى المحطة، ثم تفجر الحنان في قلبي على غير انتظار، فقد سمعت المذياع يرسل هذه التغريدة رحمة للقلوب
(ليه تلاوعيني، وأنت نور عيني)
وهي من تغاريد أم كلثوم، وكأني اسمعها أول مرة، فرجعت على نفسي باللوم وقلت: كذلك يكون العقاب! وهممت بالرجوع إلى ليلى لأقول:
(ليه تلاوعيني، وأنت نور عيني)(251/36)
ولكن تذكرت أن الوقت لا يتسع للقيام بواجبين في وقت واحد: عتاب ليلى وملاقاة صاحبة العينين التي أرجو أن ادفع بوجهها المشرق وحشة الطريق وظلام الليل
ودار ذهني يحاور ويجادل:
- كيف تشرك بليلى هذا الإشراك؟
- أنا أُشرك بليلى؟ معاذ الحب!
والحق أني أشرك بهوى ليلى، ولكن هذا الشرك هو طريقي إلى التوحيد. أنا احب جميع الملاح لأهيئ قلبي لحب ليلى. أحب من أجلها كل ما في الوجود، وأصبح من أجلها عن جميع الذنوب
وصاحبة العينين ستسألني عن ليلى؛ والسؤال عن ليلى، من ذلك اللسان الألثغ الملجلج هو في ذاته زُلَفى إلى ليلى. وأنا أيضاً رجل مكروب تضيق به دنياه، والظلال في هوى العيون قد ينسيني كروبي؛ وليلى يسرها أن أعيش أيطيب العيش، وهي تعرف أني لا أحيا بغير الحب والنسيم، شفاها الله وشفاني
طوّفت بجميع إرجاء المحطة لأرى صاحبة العينين، وما رأيت صاحبة العينين
فتشت جميع دواوين القطار لأرى صاحبة العينين، وما رأيت صاحبة العينين
ورأى حيرتي ناظر المحطة فقال في تلطف: ضاع منك شيء؟ فقلت: لا، ما ضاع مني شيء، وإنما أخاف وحشت الطريق وظلام الليل
فتعجب الرجل من هذا الجواب المضحك وانصرف
فهل رأى الناس حالاً مثل حالي؟ هل رأوا من قبلي رجلا يرحّب بالشّرك فيعز عليه الشرك؟
أن الحب يريد أن اذهب إلى البصرة وليس في قلبي غير ليلاي وكان لي في القطار رفيقان: أولهما الدكتور عبد المجيد القصاب، وهو طبيب يمثل عذوبة الروح، وصفاء القلب، وهو من خيرة الذين عرفتهم في العراق، وثانيهما السيد ظالم وهو صحفي آيب لا تعرف بصحبته ضجر السفر ولا طول الطريق وليس فيه غير عيب واحد هو التجني على الموسيقار محمد عبد الوهاب والغناء المطلق في الغاني أم كلثوم
جلس حضرته يدندن، ولكن كيف؟ بعد أن لبس عباءة فضفاضة جعلته نسخه من سلطان(251/37)
زنجبار
وأمسى ديواننا في القطار قريب الشبه بالغرفة التي يجلس فيها احمد رامي بدار الكتب المصرية، الغرفة التي ترق فيها الدندنة وتشتبك حتى لتحسبها خيوط العنكبوت، الغرفة الجذابة التي يحرم دخولها على احمد الزين ثم يحل ويباح لمن يسألون عن رباعيات الخيام أو تأملات لامرتين
وظالم ورامي يشتركان في صفات كثيرة أهمها تشويه الوجه ورخامة الصوت
- يا سيد ظالم!
- نعم، يا سيدنا ألبيه!
- هلم بنا إلى العشاء
- عشاء إيه، أنت عاوز تخرب جيبك؟
- أخرب جيبي؟ وكيف؟
- العشاء في القطار غال جداً
واعترض الدكتور القصاب فقال: أما يسرك أن تصنع مثل الذي كنت تصنع في قطار ليون!
- لا بأس إذن تنتظر إلى أن يقف القطار في المحطة المقبلة
وفي المحطة تقدمت فلاحة في خمار اسود ومعها ماعون هائل من اللبن الرائب، فاشتريناه بعشرة فلوس، وتقدم طفل، وفي يده رغيفان؛ فساومناه، فاشتط في الثمن، فقاومناه، فقبض على الرغيفين بأسنانه والقطار يمشي، فرميناه بعشرة فلوس ونزعنا من أسنانه الرغيفين!!
ما اظرف العبث في قطار البصرة وما أحلاه؟
وفهم الرفيقان أني ميت من الجوع فلم يأخذا من الطعام غير لقمتين
وما كاد الطعام يستقر في جوفي حتى هجم النوم هجوما لم أشهد مثله منذُ أعوام طوال، فعرفت أن ذلك اللبن الرائب أراح أعصابي، وهي أعصاب أرهقها النضال وسهر الليالي
اتكأت على المرفقة ونمت وأنا جالس، نوماً شهياً جداً، ولم يعكر نومي غير الجدل السياسي الذي أثاره الدكتور القصاب مع رفيق غاب عني اسمه، وكانا يتحدثان عن المعارك الحزبية في دمشق(251/38)
وفي تلك الغفوة الشهية صاح صديق:
دكتور، دكتور، أنظر، أنظر، أنظر
فنظرت من نافذة القطار فإذا صاحبة العينين في سيارة مغروزة في الوحل
وهممت في النزول من القطار لأُرى هذه المرأة كيف أنفع في لشدائد!
ثم تذكرت أنني أيضاً في سيارة مغروزة في الشوك، هي سيارة الحب
ونظرت إليّ المرأة نظرات الملهوف
ونظرت إليها نظرة الغريق
نظرتْ ونظرتُ، ثم نظرتْ ونظرتُ
وأنقذ القطار الموقف فسار لا يلوي على شيء
- دكتور، دكتور
- نعم، نعم
- أنظر، أنظر
ففتحت عينيّ فإذا الشمس أشرقت وإذا سرب من الظباء الوحشية يجول في البيداء، وهي أول مرة أرى فيها الظباء الوحشية ذات الأجياد والعيون
أتكون هذه الظباء الوحشية هي البشير بالاقتراب من الظباء الإنسية؟
هو ذلك، فلم يبقى بيننا وبين الأنس بوجوه أهل البصرة غير ساعتين
الله وأكبر ولله الحمد!
هذه هي البصرة، هذه هي البصرة، وما تخونني عيناي
هذا هو البلد الطيب، بلد المبرد، المبرد صاحب الكامل في اللغة والأدب والنحو والتصريف
وبفضل الكامل للمبرد وصلت إلى منصب الأستاذية في الأدب العربي؛ وبفضل الكامل للمبرد صحبت الشيخ سيد المرصفي سبع سنين؛ وبفضل الكامل للمبرد استطاعت القاهرة أن تزاحم البصرة، فسيذكر التاريخ أن الأزهر جلس على حصيره الممزق رجل أعلم من المبرد، هو الشيخ سيد المرصفي أستاذي وأستاذ الأساتذة طه حسين وعلي عبد الرزاق واحمد حسن الزيات، وأول أستاذ تصدر لتدريس الأدب بالأزهر في العصر الحديث(251/39)
الله أكبر ولله الحمد!
هذه هي البصرة ذات النخيل
هذه هي المدينة التي تجري من تحتها الأنهار
هذه شقيقة الفيوم، على أزهاره وأشواكه أذكى التحيات
هذه هي البصرة، وما تخونني عيناي
فإذا قيل إن منظر القناطر الخيرية على النيل منظر لا ثاني له في الوجود؛
وإذا قيل إن شواطئ الإسكندرية في الصيف لا ثاني لها في الوجود؛
وإذا قيل إن حي الشانزليزيه في باريس لا ثاني له في الوجود؛
وإذا قيل إن السهل الذي تصادفه بعد الانحدار من جبل لبنان منظر لا ثاني له في الوجود؛
وإذا قيل إن مفترق الطرق بين شارع عماد الدين وبين شارع فؤاد شيء يفوق الظنون؛
وإذا قيل إن الغبوق بمصر الجديدة والصبوح بالزمالك نعيم يذكّر بنعيم الفراديس؛
وإذا قيل إن صبايا المنصورة لها مذاق لا ثاني له في عالم الجمال؛
وإذا قيل إن مناظر الكروم في بوردو لا شبيه لها ولا مثيل؛
وإذا قيل إن بغي المصريين بعضهم على بعض معنى فريد في الوجود؛
وإذا قيل إن قبة الجامعة المصرية اعظم قباب الشرق؛
وإذا قيل إن زكي مبارك اسعد من استصبح بظلام الليل في بغداد؛
إذا قيل ذلك أو بعض ذلك فأعرف أن مدينة البصرة هي شيء فريد في دنيا الشرق، ودنيا الغرب. هي غريبة الغرائب، وأعجوبة الأعاجيب. هي فوق الأوهام والظنون، وإن جهلها فريق من أهل العراق
ما هذه المدينة؟ ما هيه؟
لقد استأنست كل الاستئناس حين عرفت أن اللغة العربية لا تزال تسيطر على مثل هذا الثغر الجميل
لقد كبرت وهللت حين رأيت وطن المبرد والجاحظ والحسن البصري وإخوان الصفاء
لقد كبرت وهللت حين عرفت أن للعروبة مواطن لا تقل روعة عن القناطر الخيرية
ثم غلبني الحزن حين تذكرت أن مناظر شط العرب تشبه مناظر القناطر الخيرية في(251/40)
الحظ. فعن شط العرب تغافل الشعراء، وعن القناطر الخيرية تغافل الشعراء
ليس على شط العرب قصور، وليس على القناطر الخيرية قصور.
الله أكبر ولله الحمد!
هذا طريق النخيل، وهو صورة أروع من غابة بولونيا، ولكن أين الظباء؟
وهؤلاء البصريون وفي عيونهم السحر الحرام أو الحلال، ولكن أين الشعراء؟
عرفت في البصرة رجلين:
الأول هو السيد تحسين علي، حاكم البصرة، أو متصرف البصرة
والسيد تحسين علي هو ملك في صورة إنسان
هو تحفه من الأريحية العربية التي جاد بها الله على الوجود السيد تحسين علي هو الشاهد على أن شعراء العرب لم يكونوا في مدائحهم من الكاذبين
السيد تحسين علي هو الخليق بأن يقال فيه اطهر من الماء، وارق من الهواء
السيد تحسين علي هو مجموعة من الخلائق والطباع: فيه أدب مصطفى عبد الرزاق، وتباله محمد العشماوي، وتغافل منصور فهمي، وطيبة محمد جاد المولى، وسماحة علي الزنكلوني، وذكاء لطفي السيد، وسذاجة زكي مبارك، وعقل زكي مبارك، إن كان له عقل!
وبفضل السيد تحسين علي عرفت من البصرة في يومين ما لا يعرفه غيري في سنين
أكتب هذا والدمع في عيني، فالدنيا ألأم وأغدر من أن تسمح لي بملاقاة هذا الرجل مرة ثانية. فإن كان هذا آخر العهد فحسبي من الوفاء أن أسجل ثنائي عليه في هذه المذكرات، ولها قراء يعدون بالألوف
يا سيد تحسين
سلام عليك، سلام رجل مصري يحفظ عهد العراق
أما الصديق الثاني فهو الدكتور عبد الحميد الطوخي، وما ادري إلى أي بلد أُضيف هذا الطبيب، فقد عرف المنصورة وشبين الكوم والقاهرة وبغداد والبصرة والموصل، فهو بالاختصار رجل مخضرم: فيه رقة المنصورة وأدب شبين الكوم وعقل القاهرة وذكاء بغداد وظرف الموصل وكرم البصرة، هو شخصية دولية يحسب لها المنصف ألف حساب
وبفضل هذا الطبيب قضيت يومين في ابتسام، فقد ترك سيارته تحت تصرفي يومين،(251/41)
وكانت فرصة تذكرت فيها الزميل الغالي علي جارم بك، فعهدي به يهرب مني، لأني كنت أرجو أن ينقلني بسيارته من وزارة المعارف إلى محطة المترو، وكان ذكاءه يسعفه بالهرب مني، فكان يقول: يا دكتور زكي، أنا رائح عند العشماوي بك، ثم يروح ولا يعود!
ولما قدم الجارم بك بغداد كنت انتظر أن ينتفع بخبرتي فيسألني عن الحياة العلمية والأدبية والفلسفية، ولكنه لم يسألني إلا عن شيء واحد؛ لم يسألني والله العظيم إلا عن أسعار البنزين في بغداد!!
نحن في البصرة
إي والله، نحن في البصرة
وفي تلك المدينة تسأل سيدة نبيلة عن طبيب ليلى المريضة في العراق
وتطلب أن تراني وحدي، فاذهب إليها وحدي ولا يكون معنا ثالث غير زوجها الشهم النبيل
ويدوم المجلس ساعات وساعات في جدل هو أنظر واشرف ما عرفت العقول
وتجري على لسان تلك السيدة ألفاظ يوحيها روحها الشفاف فيبتسم زوجها وهو جذلان
وفي غمرت تلك النشوة انظر ساعتي فأرى الموعد أقترب للمحاضرة التي دعاني إليها سعادة الأستاذ عبد الرزاق إبراهيم مدير المعارف بالبصرة. وتمد تلك السيدة يدها لتوديعي فأبكي لأني لا أضمن الرجوع إلى البصرة، أنا الطائر الغريب الذي لم ينعم في البصرة بغير سواد العيون في غفوة الزمان، وهو لا يغفو في العمر كله غير دقائق
وبعد لحظات أكون في نادي البصرة فأرى الناس في انتظاري بالمئات، إن لم أقل بالألوف. وهناك أرى فتاة جميلة هي بنت عمة ليلى، فتسرع إلى لقائي بعد انتهاء المحاضرة وهي تقول: حافظ على شبابك يا دكتور، فإني أخشى أن يؤدي التأليف بشبابك
فأتلطف وأقول: لا تخافي على شبابي يا بنيتي، فهو باق ما بقيت عيون الظباء
وتشجع الفتاة فتقول: أخشى أن يقتلك التأليف!
فأتشجع وأقول: لا تخافي عليّ يا بنيتي فأنا لا أخاف الموت، وإنما يخافني الموت
ويروعها ذلك فتقول: وكيف؟
فأجيب: لأن الموت جبان وهو يخشى أن أكتب ضده في الجرائد والمجلات!
أفي الحق أنني زرت البصرة ورأيت شط العرب، ونعمت بكرم السيد تحسين علي،(251/42)
ومروءة الدكتور عبد الحميد الطوخي، وأدب السيد عبد الرزاق إبراهيم، ورأيت بنت عمة ليلى، وشربت الشاي في منزل السيدة التي تغار من ليلى؟
لا تصدق ذلك يا قارئ هذه المذكرات، فتلك أحلام رأيتها في نومي ولن تعود
أن سمعت أيها القارئ أن جرائد البصرة اعتركت في سبيلي أسابيع وأسابيع فلا تصدق
أن سمعت أيها القارئ أنني كحلت عينيّ بتراب البصرة فلا تصدق
أن سمعت أيها القارئ أنني عرفت السيد تحسين فلا تصدق
أن سمعت أنني زرت قريبات ليلى في البصرة فلا تصدق
أن سمعت أنني ألقيت في البصرة محاضرة سمعها مئات أو ألوف فلا تصدق
أن سمعت أن حاكم البصرة ودعني على المحطة فلا تصدق
أن سمعت أنني عانقت عشرين نخلة في البصرة فلا تصدق
أن سمعت أن انهار البصرة داعبتني بالمد والجزر فلا تصدق
أن سمعت بأن اسماك شط العرب قبلت يدي وخدي فلا تصدق
أن سمعت بأني لم انفق درهما واحد في البصرة فلا تصدق
أن سمعت أن البصرة هدتني بعد ضلال فلا تصدق
أن سمعت أنني ودعت البصرة بالدمع السخين فلا تصدق
أيها القارئ!
أنا ما رأيت البصرة، ولا رآني أهل البصرة؛
وشاهد ذلك أنني لا أزال في عقلي؛ ولو أنني رأيت البصرة لخبلني حسنها فأصبحت من المجانين
أيها القارئ!
أما سمعت أنني اخترع الأقاصيص؟ فلتعرف أن زيارة البصرة من تلك الأقاصيص
متى أعود إليك أيتها البصرة مرة ثانية؟ متى اعود؟ متى أعود؟
(للحديث شجون)
زكي مبارك(251/43)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 9 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وكان لنكولن يرى في هذا الطواف مدرسته التي يتلمس فيها المعرفة وأي معرفة هو أحق بها من دراسة طباع الناس والوقوف من كثب على أحوالهم بل والنفاذ إلى سرائرهم وخلجات نفوسهم؟ أي معرفة هو أحق بها من هذه وهو في غد رئيس الولايات ومحطم الأصفاد؟
لذلك كان في طوافه إذا فرغ من عمله يغشى المجالس وينطلق إلى البلاد القريبة فيسمع ويرى، ويأخذ بقسط من الأحاديث، ويدلي بآرائه إذا عن له أن يبدي آراءه في أمر ويستفهم الناس ويسألهم عن أمانيهم؛ وله مما يلقى إليه من القضايا هاد يرشده في تطلعه وتقصيه
ويظل هذا شأنه حتى ينتهي دور المحكمة فيعود إلى سبر نجفيلد وتنظر زوجه فإذا هو يدخل الباب وفي عينيه الحنين إلى زوجه وأولاده، وفي أساريره من البشر بقدر ما في جيبه من المال؛ ثم يدفع إليها بمظلة قديمة مهلهلة حائلة الصبغة يمسكها بعضها إلى بعض بخيوط ورقع، ويلقي إليها حقيبة اتخذها من رقعة بساط قديم بها من الأوراق ما ضاقت عنها جيوبه وما صغرت دونها قبعته، ويقبل على بنيه فيرفعهم على كتفيه وذراعه كالعملاق وهم فرحون يتسابقون إلى محادثته حتى لتضيع كلماتهم فيما يثيرون من زياط، وأمهم تكظم الغيظ لهذا الخروج على النظام
وكانت مدرسته في المدينة إذا فرغ من قضاياه الكتب يستوحيها، وإن له فيها لغنية ومتعة. وما تلك الكتب التي يقرأ اليوم؟ إنه شكسبير العظيم الذي رفع المرآة فانعكست فيها الطبيعة(251/45)
واضحة سافرة كأتم ما يكون الوضوح والذي مست ومضة من عبقريته القلب البشري فأنارت أكثر نواحيه، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتاباً من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها؛ فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصاً ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء كأنما أخذته عن نفسه حال. . .
وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة (دوجوان) وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده يستزيدها معرفة بأحوال الأمم ويرى فيها خطى البشرية في شتى مراحلها. أو ليس الزمان يسير به ليضعه بعد سنوات على رأس أمته؟
ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول من الكتب كتب العلوم وأخذ يدرسها وقد جعل لها ساعات من فراغه، فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظاً ليس باليسير!
ولكن فيم العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ أني وإن كنت أسلم بما للبيئة من خطر وبما للميل النفسي من اثر في توجيه المرء، أعتقد أن العبقرية إنما هي فوق ذلك، وأن العبقري مهما تناول من الأعمال فإنما ينفذ إلى لبابها بقوة نفسه. وهذا لنكولن لو لم يكن محامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. ولقد تأتى له أن يقول الشعر في بعض المناسبات فجاء شعره صورة من نفسه تشعرك بساطة العظمة والسمو
وإنك لتحس الشعر في نفسه وتراه ينظر إلى الحياة والناس نظرة الشاعر؛ ولكن خياله لا يطغي على عقله كما أن عقله لا يأتي على نوازع قلبه. وإني أراه في ذلك أكثر الناس شبهاً بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، ذلك الذي كان يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية. . .
وكان ابراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقاً وهو في(251/46)
أول العقد الخامس؛ وصار يحس كأن شيئاً يقلقه، شيئاً خفيّاً لا يدرك كنهه يقلقه ويحرك نفسه وينقبض له صدره أحياناً؛ فهل أخذت السياسة تدب في نفسه من جديد فهو يتأهب ويتحفز؟
ولاحظ أصحابه أن إمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته أخذت تزداد وضوحاً، فهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يعرف مبعثه؛ وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وقد ترَّبد وجهه وانعقدت عليه كآبه مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه؛ وكثيراً ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال؛ وكثيراً ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون. . .
وهو يدعي منذ زمن (أيب العجوز) أطلقها عليه الناس وهو في ريعان فتوته وربيع حياته، وذلك لما كان يظهر على وجهه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين؛ وكان يسره أن يستمع هذا الاسم الجديد كما كان يسره أن يسمعهم يدعونه باسمه الآخر (أيب الأمين)
ما باله اليوم مهموماً وقد بسط الله له رزقه كثيراً حتى لقد باتت تجدي عليه المحاماة - على قناعة في الأجر - ما يزيد على خمسمائة من الجنيهات كل عام؟ أجل ما باله مهموماً وقد استطاع أن يلقي عن كاهله ذلك العبء الذي آده حمله زماناً، فلقد خرج من الدين الأهلي؟ يا ويح نفسه من هذا الهم الدفين الذي يتزيد منه على الأيام. . .
ليس غير السياسة يلقي بنفسه في غمرتها لتقوم أحداثها بين نفسه وبين همومها. ليس غير السياسة تشغله عن وساوسه وتباعد بينه وبين امرأته التي ما برحت تنغصه وتضايقه في غير موجب
إن زوجه تعيش اليوم من وراء كده في رغد؛ فهو يلقي إليها كل ما تصل إليه يده لا يسألها إلا أن تدفع له ثمن ما يطلب من الأشياء وهي قليلة؛ وما كانت له بالمال حاجة وهو الذي لا يعرف أبهة المظهر ولا تغتره شهوات الحياة. حسبه من المال ما يسد به رمقه ويستر به جسده، وأمر ذلك موكول إلى امرأته؛ ثم ما يفرج به الكرب عن بعض المساكين وهو يفعل ذلك في كثير من الأحيان على كره منها. أما هي فلا ترضى بغير فراهة المظهر وأناقة المنظر؛ تروح وتغدو في مركبة هي اليوم بعض ما تملك، وما رأى الناس زوجها في تلك المركبة قط؛ وتلبس من الثياب ما تحكي به أهل باريس، وتقتني من الأثاث ما تدل به على(251/47)
كثير من الزوجات. . . تفعل ذلك وإن كان زوجها ليطلع على الناس في حلل تطاول عليها العهد وقبعة متضعضعة متغضنة؛ على أنها تراه في ذلك هو الملوم، فهي ما زالت تهيب به أن يغير من عاداته وأن يعنى بهندامه، وهو لا يحفل إلا النظافة، حتى أنها لم تجد بدَّا آخر الأمر من أن تسكت وهي كارهة. . .
ولقد كان يهرب من المنزل أكثر الوقت، فيقضي النهار كله في محل عمله أو يقضي طرفاً من في أنحاء المدينة في بعض المنتديات أو في بعض الحوانيت، يتحدث إلى هذا ويسأل ذاك عن حاله، ويستشيره هؤلاء في أمر قضائي، ويعقد غيرهم حوله حلقة يتساقطون فيها الحديث، ثم يعود إلى منزله فيمضي الوقت في القراءة أو في ملاعبة أولاده؛ وإنه ليحذر في هذه الملاعبة أن تدخل زوجه الحجرة فجأة فتراهم يركبون ظهره وهو يزحف بهم على البساط، فتصرخ وتعكر عليهم صفوهم!
عجيب أمر تلك المرأة التي تحب بعلها وتعلي قدره ثم هي لا تفتأ تمد له من أسباب الشحناء والشقاق ما يخيل إليه أنها تبغضه، لولا أنه يعتقد أنها ما اختارته زوجاً - على الرغم مما وقع يومئذ منه في حقها - إلا لما تضمر من محبته والإعجاب به. . .
دخلت عليه مرة ومعه رجل من أصحابه، فسألته عن أمر كانت طلبت إليه قضاءه، فلما علمت أنه لم يقضه عنفته وولت محنقة فجذبت الباب وراءها فأحدث ضجة مزعجة؛ ونظر لنكولن إلى صاحبه وقد قرأ في وجهه الدهش، فقال وهو يبتسم ليخفي بابتسامته ما به: إن الأمر هين، وإن هذه عادة امرأته مردها إلى حدة مزاجها ولن يكربه ما فعلت بالباب فلعله يكفكف من حدتها
هذا طرف من حياة لنكولن في سبرنجفيلد بعد أن عاد من وشنجطون، وبعد أن انتهت الدورة الثامنة لطواف الهيئة القضائية في تلك الأصقاع؛ وإنه ليتطلب مخرجاً من هذه المدينة وما كان له من مخرج إلا أن تستثيره السياسة من جديد. . .
وآن للسياسة أن تدعوه إليها، وقدر لتلك الدعوة أن تجئ عن معضلة العبيد، فلقد باتت تلك المعضلة وهي كبرى المسائل القومية لا مناص من مواجهتها إذ صارت تحمل في تضاعيفها كل ما عداها من المسائل
ازداد ثراء أهل الشمال بسبب الصناعة، واتسع نطاق التعليم عندهم، وقوي نفوذهم(251/48)
وتسامت إلى الحياة نظرتهم، لذلك شاعت في الشمال حركة الدعوة إلى تحرير العبيد وتعالت أصوات الداعين واشتدت على الأخص حركة المنادين بالا يسمح بعد بانتشار العبيد في ولايات جديدة
وبقى أهل الجنوب أهل كسل وخمول، لا تزال حياتهم تقوم على الزراعة، والزراعة عندهم تقوم على أيدي العبيد، وازداد طلب القطن فاشتدت الحاجة إلى العبيد؛ لذلك ازدادت في الجنوب حركة التمسك بالعبيد، واشتدت على الأخص حركة المنادين بوجوب السماح للعبيد بالانتشار فيما عساه أن يضم إلى الاتحاد من ولايات
وماذا يخيف أهل الشمال من انتشار العبيد؟ إن للمسألة وجهاً آخر إلى جانب الوجوه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وجهاً لا يقل خطره إن لم يزد عن هاتيك الوجوه؛ وذلك أن التمثيل النيابي في أحد مجلسي الاتحاد، وهو المجلس الأدنى، كان قائماً كما رسم الدستور على قاعدة لمسألة العبيد فيها دخل كبير؛ وذلك أن كل ولاية كانت ترسل إلى ذلك المجلس من الممثلين عدداً يصغر أو يكبر حسب عدد سكانها. ومن عجب الأمور أن العبيد، ولم يكن لهم حق في شئ حتى في أنفسهم، قد أقيم لهم وزن في هذا الباب فقيس عدد السكان في الولايات بما يقطنها من بيض وعبيد على أن يعد كل خمس من العبيد بثلاثة من البيض؛ ومعنى هذا أن انتشار العبيد يزيد عدد ممثلي الولايات الجنوبية في المجلس الأدنى للاتحاد؛ أما في المجلس الأعلى (مجلس الشيوخ) فكان يمثل كل ولاية عضوان صغرت تلك الولاية أو كبرت. . .
ولقد كان أهل الشمال في الأصل أكثر عدداً من أهل الجنوب فكانت لهم بذلك أغلبية في المجلس ولكنها كانت أغلبية صغيرة؛ ولقد أخذ عددهم يزداد كما ذكرنا فظلت لهم الغلبة؛ ولكن أهل الجنوب يريدونها أن تكون لهم ولن يتسنى لهم ذلك إلا بانتشار العبيد
لذلك نرى أن معضلة العبيد كبرى المعضلات وأنها ناجمة من عوامل أساسية ترجع إلى كيان الاتحاد نفسه ولمن تكون السيطرة فيه: لأهل الشمال أم لأهل الجنوب؟ وهما قسمان متباينان مزقت بينهما عوامل البيئة، هذا إلى ما في المعضلة من عناصر خلقية إنسانية لها نصيبها من الخطر والاعتبار
ولما تقدمت بالاتحاد السنون أصبحت مسألة العبيد بحيث أن أدنى اضطراب فيها يؤدي إلى(251/49)
زلزلة في هيكل الاتحاد كله! ولقد فطن قادة الرأي إلى ذلك من أمر بعيد، وذلك حينما انضمت ولاية جديدة هي ولاية مسُّوري إلى الاتحاد عام 1820 ولنكولن يومئذ في الثانية عشرة، فلقد أصدر المجلس قراراً خطير الشأن عرف باسم (اتفاق مِسُّوري)، ومؤداه أنه لا يسمح بانتشار العبيد شمال خط عرض 36 اعني أن هذا الخط يفصل بين الولايات التي يسمح فيها بنظام العبيد والولايات التي يحظر فيها ذلك النظام
منذ ذلك اليوم يعمل الساسة على توطيد هذا الاتفاق وكان من أكبر الداعين إلى مراعاته دوجلاس ذلك الذي رأيناه منذ أعواميجلس إلى جانب لنكولن نائباً في مجلس مقاطعة ألينوس. ومما يذكر له في هذا الصدد قوله: (إن هذا الاتفاق أبدي وجوهري)
ولقد رأينا فيما سلف كيف كان دوجلاس ينافس ابراهام وهو يمد عينيه إلى الهدف، ورأينا كيف كان يأخذ الطريق على منافسه في كل شئ. وهاهو ذا اليوم وله في الحزب الديمقراطي مركز الصدارة، يرج البلاد رجة عنيفة بخطوة جريئة من خطواته
طلبت ولاية واسعة في الشمال الغربي هي ولاية نبراس كنسيكا إلى الاتحاد أن يضمها إليه، فسرعان ما عادت مسألة العبيد إلى الظهور كما عادت من قبل في عدة حوادث وآخرها أخذ تكساس من المكسيك
عادت المشكلة وتفاقمت، فهذه الولاية تقع شمال خط عرض 36 ومع ذلك قام رجال الحزب الديمقراطي يدعون إلى جعلها ولاية من ولايات العبيد! ولا تسل عما قام في الشمال إزاء ذلك من هياج وغضب ونفور، وهنا يخطو دوجلاس خطوته فيعلن أن قيام العبيد في ولاية أو عدم قيامهم أمر يجب أن يترك الخيار فيه إلى الولاية نفسها ولا عبرة بعد ذلك برأي مجلس الاتحاد. بذل دوجلاس كل ما في وسعه وهو يومئذ عضو في مجلس الشيوخ حتى اصدر المجلس قراراً بذلك، على الرغم من اتفاق مسُّوري وعلى الرغم من تصايح أهل الشمال وانزعاجهم
وسرت في الشمال موجة من الهياج والسخط لن يصفها كلام؛ ورأى كل من له حظ من الفكر أن هذا القرار الذي بذل دوجلاس ما في وسعه لاستصداره هو الجمرة التي سوف تتوهج بعد حين فتندلع منها نيران الحرب الأهلية. ولقد كانت هذه الخطوة من جانب دوجلاس، وما أعقبها من حوادث، سبباً في عودت لنكولن كره أخرى إلى ميدان السياسة(251/50)
وقام بين الرجلين من جديد جلاد وصراع
(يتبع)
الخفيف(251/51)
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
فرديناند برونتيير
1894 - 1906
للأستاذ خليل هنداوي
- 3 -
خلال العوالم النفسية
إن علم النفس - في كلا العصرين المدرسي والإبداعي - لم يصل إلى القول بأن كل شئ في النفس الإنسانية واضح جلي. وكورنيي وديكارت يؤمنان بهذا الوضوح. أما راسين ومدام فايت وروسو فلا يؤمنون إيمانهما
يقول هرميون لأوريست؛
- من قال لك. . . إنني قلت لك إنني قتلت (باروس) ولكن هذا ليس إلا جزءاً من نفسي الذي أبغضه وأريد نسيانه وأريد جزءاً آخر يقول عكس هذا
والأميرة (كلاف) لا تعرف ولا تريد أن تعرف لماذا لم تحب (كلاف) ولماذا أحبت (آخر) بدلا منه. إنها تناضل ولكنها لا تستطيع أن تفسر أسباب هذا النضال
أصحاب المدرسة الإبداعية قد أحبوا الأهواء المضطربة، وملئوا رواياتهم بالمشاعر المظلمة، والنفوس التي يناقض بعضها بعضاً، ولم يجهلوا أن كل شخص إنما هو عالم بذاته بل جملة عوالم مختلفة. ولكن هؤلاء كأولئك قد جربوا أن يعملوا من هذه العوالم عوالم عقلية حيث يمكن النفاذ بوضوح من الأعمال إلى الأسباب. وقد أعطوا أمثلة على ذلك أسلوبهم الذي يعبر - بنظام عن الفوضى - وبوضوح عن التشويش
وهكذا كان علم النفس في المدرسة الاتباعية واضحاً لأنه يرى أن كل شئ يمر بالنفس، وكل شئ في النفس بالشعور. وبين المادتين - سواء تعاكسا أو اتحدا - يمكن دائماً أن نجد مذهباً واضحاً قابلا للتحليل. ولكن هذه النظرية (الديكارتيه) قد تحورت في القرن الثامن عشر (إذ ليس الإنسان ما يريد أن يكونه، أو ما تسمح له نفسه بأن يكون. فالمادة تعمل فيه وتؤثر فيه وهو يحتمل تأثير المناخ والبيئة، وهو يخضع لجسده ولكل ما يؤثر في جسده.(251/52)
وإن للمناخ والوسط تأثيراً كلياً وباستطاعتهما أن يغالبا الطبع الذاتي، ناهيك بأن التأثيرات التي تأتي من الجسد هي حالات وصدف تفر من كل منطق، ولقد تكون حياتنا الباطنة - في كثير من مواطنها - خالية من العقل
فالوراثة التي جعل منها - زولا - قاعدة علم النفس تستطيع أن ترتب الحوادث النفسية على حوادث سابقة. وأصحاب هذا المذهب يخضعون التحليل العلمي للمنطق العقلي، ويرجعون الحوادث النفسية لحالات عضوية خاضعة لنظم المادة. ولكن هذه المادية قد حطمت والتحليل العلمي قد نوقش فكان صبيانياً!
وهاهنا تظهر مبادئ علم النفس المدرسي التي ظن أنها تهدمت. فان بعض علماء ما وراء الطبيعة من الألمان - كشوبنهاور وهارتمان - جربوا بأن يقولوا: إن العالم لا يُقاد بالعقل، وإنما يقاد بالإرادة دون أن تحسب حساب نفسها، ودن أن تقلق لكونها حقه منطقية. ولقد كان لفلسفة (شوبنهاور) تأثير ذائع في فرنسا حول سنة 1880 وهي ولا ريب تمت بصلة إلى علم ما وراء الطبيعة. ولكنها تعتمد في كثير من أصولها على نظريات نفسية طبية.
فإن آثار العالم - شاركوا - 1870 - 1890 تعمل على إثبات النظرية القائلة بأنه يمكن أن ينشأ في العقل من موضوع واحد أفكار وإيرادات مجهولة لا يعيها العقل الواعي؛ ولكنها تؤثر في الجسم تأثيراً أشد وأوسع مدى من تأثيره
والعالم - ريبو - بدرسه لأمراض الذاكرة والإرادة يثبت أن فينا - ذاكرات - لا نعيها ولكنها تحيا في أنفسنا منتحيه بعيدة، وباستطاعة داء ما أن يوقظها ويحيها. (وبطرس جابي) أقر بأنه يمكن في الكائن الواحد أن تقيم نفوس متعددة، كل نفس لها عالمها، وكل نفس تظهر بدورها. والفلاسفة أنفسهم يغادرون العالم الواعي ويفتشون عن المسائل الكبرى في عالم غير واعي حيث لا سلطه للعقل ولا للمنطق. والطبيب الكبير (فرويد) انطلق إلى دراسة الغريزة الجنسية وقال: إن فينا كائنين، كائناً طبيعياً يلائم طبيعتنا، وكائناً سطحياً يأتي بتأثير التربية والمجتمع. وشعورنا لا يريد أن يعرف إلا الثاني، ولكن الأول هو الذي يبقى قادراً قاهراً. وهو الذي يطلب ألينا في أعماق أنفسنا حركة أو حلماً أو جنوناً أو جريمة. وهذا التحليل النفسي - في عدم الوعي - لا يبقى مغلولاً في درس الحالات الشاذة. والفيلسوف - برغسون - يجد أن الشعور أو الوعي إن هو إلا جزء من كوننا(251/53)
العقلي وليس له دور لتحليل شئ أو عمله أو تفهمه. دوره دور عملي. . . وهو يوضح في بعض الأحيان نقطة الأشياء التي يجب أن نعمل عليها، والناحية من الفكر الذي يستطيع أن يعمل. ولكن عقلنا وشخصيتنا قد يفوقان هذا القسم غير الواعي. وعند برغسون وغيره من الفلاسفة يصبح غير الواعي شكلاً من الحياة الروحية، والينبوع الخفي العريض العميق حيث تجري يرقة حياتنا الواعية المنطقية. . . ونحو هذا الينبوع اتجه الرمزيون - منذ أعوام - والروائيون
المؤثرات الأجنبية في الأدب الفرنسي
لم تكن رواية تولستوى ودوستوفسكي رواية رمزية ولا مبهمة ولا رواية لا شعورية. على أنها في بعض نواحيها تحمل طابع الثقافة الفرنسية المدرسية على أنها أثرت في الطريقة التي جاءت بها الرمزية. فأشخاصها - ولا سيما أشخاص تولستوي - هم أقل اعتناء بالأفكار من المثل الأعلى، وأقل ضجراً في تحليل أنفسهم من أن يجدوا في أنفسهم بساطة عميقة. ويظهر أنهم يجهدون النفوس ليتفوقوا على ذواتهم المفكرة المعقدة ليبلغوا ذاتاً بسيطة غريزية حيث يجدون سبب حياتهم. فعقلهم وإرادتهم المفكرة تعترضهما اندفاعات لذة عابرة يحتملانها بتوبيخ ولذة. هذه رواية نفوس ابتدائية أو وحي نفوس قد تكون كثيرة الدعوة إلى المثل الأعلى، ولكنها عاجزة عن إيجاد مثلها الأعلى في الثقافة العقلية
وهنالك تأثير (إبسن) ورواياته المسرحية! ففي مسرحياته موضوعات شديدة عنيفة لأنه كتب في بلد ذي تقاليد راسخة، وأخلاق مفرطة. عمل (ابسن) على تحرير الفرد من حالة خانقة ومن أنانية متسيطرة. أراد أن يحيا الإنسان حياته فلا تكون المرأة عبدة للرجل ولا الأبناء عبيداً للآباء والأجداد. وهذه الموضوعات كانت سبب نجاح (ابسن) وقد لا يكون فيها ما يغري كثيراً ولكن في (ابسن) شيئاً وعبقرية. فان أشخاصه في الوقت الذي يعرفون فيه بوضوح ماذا يريدون، وعندما يفهمون أنفسهم، ويتفاهمون ما بينهم تراهم لا يحللون أنفسهم، ولا يتناجون ما بينهم محللين أنفسهم كالأشخاص في المسرح المدرسي والحساب الذي يجعلونه منهم يبدأ ثم ينتهي قصيراً. ولقد يخونون أنفسهم وقد تكون هذه الخيانة اندفاعية. وعملهم لا يظهر إلا لكي يعبر عن ضجرهم، وكثيراً ما لا يفهمون أنفسهم، ولا يفهمهم غيرهم. يشعرون بأنهم وحدهم ويحسون أنهم منقادون بما لا يُعرف نحو ما لا(251/54)
يُعرف في خباية من الأسرار والحرقة مما لا يندى منه الرواية إلا قليلاً. ثم يأتي زمان يحسون فيه رموزاً - رموزاً لا أفكارا صافية، ولكنها هادئة لا مضطربة. الحياة ليست خلاله منتظمة ولكنها معكوسة فيه كثيراً، والفن أو عدم الفن يشدد تأثير العمق والأسرار
(يتلى)
خليل هنداوي(251/55)
في عيد الربيع
البعث
للأستاذ محمود الخفيف
خَالِسِ الزَّهرَ في مُتوع نَهارِهْ ... واستشفَّ الخفِيَّ من أَسْرَارِهْ
مُدَّ عينيكَ في مطارفه الخْض ... رِ مَليَّا واسْتَشْعِرِ الحسْنَ وانْشُقْ
نَفحَةَ الخْلدِ من شَذَي نُوَّارِهْ
هُوَ ذا البَعْثُ هَزَّ كلَّ مكان ... ومَشى في الرِّياض جَمَّ المعاني!
أطْلِقِِ النَّفْس في مواكب آذا ... رَ وغَيبْ وساوسَ القلب واطرحْ
خَلَجَاتِ الهمُوم في تَيَّارِهْ
سَرِّح العَينَ هل ترى غير بشْرِ ... ونماد في كلِّ وادٍ وسِحْرِ؟
والْتِماع وطْيلساَنٍ وَوَشْيٍ ... وتَهَاوِيلَ تلْمَحُ النَّفْسُ فيها
من معاني الربيع رُوحَ ابتكاره
الضُّحَى زَاخِرٌ بِفَيْضِ الحياةِ ... والرَّوابي مِسْكِيَّةُ النَّسماتِ
تنْهَملُ النَّفْسُ من جَمَالٍ وعِطْرٍ ... وسناً ساحِرٍ تُطيفُ برُوحي
لُمَعُ الوَحْي من وَراء ستارِه!
يقْظَةٌ في الرِّياض توقِظُ حِسِّي ... وطُيوفٌ بهَا تَملَّكُ نَفْسي
يَخْفِقُ القَلْبُ للجمال ويَهفُو ... للضُّحَى مثْلَ زهْرَةٍ نبَّهتْهَا
نَفَحَاتٌ من دِفْئِهِ وازْدِهارِه
نْثرَةُ هاهنا ونَفْشٌ بديع ... واتساقٌ هُنَا وحَشْد جميعٌ
زِينةٌ صاَغَهَا الرَّبيعٌ فُنُوناً ... هِيَ في العَيْنِ بَهْجَةٌ وهْيَ لَحْن
مَلَكَ القَلْبَ واستوى في قرَارِه
زَهَرَاتٌ فيهِنَّ يغْرِقُ طَرْفي ... تتَحَدَّى ألوانُها كلَّ وَصْفِ
طاف بالنَّفْسِ عندهُنَّ شُعور ... أين منه البياَنُ؟ أين القوافي؟
أيْن نُورُ الصبَّاَح من أنوارِه؟!
خطَرَاتٌ تميلُ بي للسُجُوِد ... وَرُؤَى مِن وَراء هذا الوجود!(251/56)
شاع في نَفْسيَ الجلالُ ومَسَّتْ ... من هدى الباَرِئ المصوِرِّ قلبي
لمَحاتٌ تُشْتَامُ في آثارِه
يا رُبوعاً أفْوَافُهَا سَحَرتْني ... زَحْمَةُ الحُسْنِ حَوْلَها شغلتني!
تتبارى جُمُوعها باسِمَاتٍ ... وادعَاتٍ في زَهْوِهَا خَفِرَاتٍ
شَاقَهَا للرَّبيع طولُ انتظارِه
امْلأِي القَلْبَ من حدِيثِ الشبابِ ... وأَفَانينِ لَهْوِهِ المُسْتَطَاب
إيه يا زهْرَةَ البَنَفْسِج هاتي ... ما تحفظينه وأفِيضي
من حديث الهوى ومن أخْبَارِه
وصِفي يا وُرُود وَرْدَ الخُدُودِ ... ورُوَاَء الصِّباَ وطُهْرَ الوُعودِ
هِيهِ! هذا الرَّفيفُ هَاجَ فؤادي ... هات! هَاتِ الحَدِيث حُلوً انَديَّا
كنسيم الرَّبيع في أسْحاَرٍه
صَوِّرِي لي من الجمالِ الشِّفَاهاَ ... حالماتٍ رَفَّتْ عليها مُناَهاَ
هَدْهِدِي القَلْبَ يا ثُغُورَ الأَقاَحي ... رَوِّحِيهِ بهَمْسَةٍ من عِتابٍ
كم عَصَرْتُ السُّلاَفَ من قيثارِة
العَصَافيرُ في العِشاَشِ تُغَني ... ما أرى مِثْلَ لَحْنِهاَ أيَّ لَحْنِ
فَرَحٌ صادِقٌ ولَهْوٌ غريرٌ ... وهناءٌ ونشوةٌ وزِياَطٌ
يَرْغَبُ القَلْبُ بينها عن وَقاَرِه!
واليمَامَاتُ قَدْ ذَكَرْنَ الهديلاَ ... فَنَظمْن الغِناََء لحناً جميلاً
ناعماَتٍ في أيكها خافضاَتٍ ... يملأ السمعَ من غِناَها حنين
لو حكى العُودُ شَجْوَهُ لم يُجَارِه
والفَراشُ الطَّرُوبُ حُلوُ الطَّواف ... في الرُّبا، في البطاح، حولَ الضِّفَافِ
حائمٌ خافقٌ بعيدٌ قريبٌ ... جَدَّ في الرَّوْضِ سابحاً وتهاوَى
حائراً بين زَهْرِهِ وثمارِه
فَرْحَةٌ هَزَّ سِحْرُهاَ كلَّ حَيِّ ... صُغْتُ لحني من لحنِهَا العبقريِّ
تتوالى الأيامُ كرًّا ويبقى ... سِحْرُ هذا الجمالِ يُبهجُ نَفسي(251/57)
كلما طاف طائِفٌ من نهارِه
هاَلِ. ها يا بواسم الزًّهَرَاتِ! ... هالِ ها. يا سواجعَ الأيك هاتي!
ما غَدٌ؟ هذه الهُنَيْهَةُ حَسْبِي ... واعظاً، بتّ بَعْدَهُ لا أبالي
بصروف الزَّمان أو أكداره
الخفيف(251/58)
شوقي والرافعي
في النحو
لأستاذ جليل
قال الأستاذ محمد سعيد العريان في مقالاته الأنيقة (الرافعية) في (الرسالة) الجامعة الغراء: (وكانت - يعني مقالة الرافعي في شوقي في المقتطف - دراسة أعتقد أن أحداً من كتاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله. وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماء غلطات في النحو أو اللغة أن شوقي ابتدأ بالنكرة في قوله:
ليلى، مناد دعا ليلى فخف له ... نشوان في جنبات الصدر عربيد
أقول: الحقّ أنّ مقالة الأديب الكبير الأستاذ الرافعي في (أمير الشعراء) - رحمة الله عليهما - هي من أبلغ ما قال القائلون في شوقي، وأما قول الأستاذ محمد سعيد: إن شوقياً ابتدأ بالنكرة في قوله: ليلى، البيت، فهناك اشتباه والأشياء تشتبه. وهذا البيت لم يره الأستاذ الرافعي، والذي أورده في مقالته في المقتطف الغراء في أبيات وخطّأ (نحويته) وصوّبها الكاتب المشهور الأستاذ (العقاد) هو هذا:
إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء
وابن مالك يقول: (وبعد ماض رفعُك الجزا حسن) ويقول أبن عقيل: (إذا كان الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز جزم الجزاء ورفعه، وكلاهما حسن) وأدق من قولي ابن مالك وابن عقيل قول تلميذ (الخليل) في (الكتاب) (وقد تقول: (إن أتيتني آتيك أي آتيك إن أتيتني)، قال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرِمُ)
وفي (كتاب الله): (من كان يريد حَرْث الآخرة نزِدْ له في حرثه، ومن كان يُريد حرث الدنيا نؤتِهِ منها، وما له في الآخرة من نصيب)
فالرفع حسن والجزم أحسن، وللنحاة في الترجيح أقوال
وأما قول شوقي: (ليلى مناد دعا ليلى فخف له الخ) وابتداؤه بالنكرة فنذر الكلام في ذلك لابن الدهان وقد استجاده الرضى فنقله في (شرح الكافية): (قال ابن الدهان - وما احسن ما قال: إذا حصلت الفائدة فأخبر عن أي نكرة شئت، وذلك لأن الغرض من الكلام إفادة(251/59)
المخاطب، فإذا حصلت جاز الحكم سواء تخصص المحكوم عليه بشيء أو لا. فضابط تجويز الإخبار عن المبتدأ وعن الفاعل سواء كانا معرفتين أو نكرتين مختصتين بوجه أو نكرتين غير مختصتين بشيء - واحد: وهو عدم علم المخاطب بحصول ذلك الحكم للمحكوم عليه. فلو علم في المعرفة ذلك كما لو علم قيام زيد مثلا فقلت: زيد قائم عُدَّ لغواً، ولو لم يعلم كون رجلٍ ما من الرجال قائماً في الدار جاز لك أن تقول: رجل قائم في الدار، وإن لم تتخصص النكرة بوجه، وكذا تقول: كوكب انقض الساعة، قال الله تعالى: (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة)
الحديث عن (شوقي) ذكّرني عبارات من مرِثية قيلت فيه:
بُلبُلُ (الكرْمة) وّلى! أين غاب البُلبُلُ؟
أين غاب البُلبُلُ؟!
زَهَرُ (الكرمةِ) يبكي بدموعٍ ظاهراتٍ في الصباح!
فَنَنُ (الكرمة) آسٍ: لا اهتزازٌ، لا ارتياحٌ، لا طرَب!
بَهْجةٌ زالت، وجاءتْ وَحشةٌ، وعَرا (الكرمةَ) حُزْنٌ لا يَريمُ!
أبا علي، الشعرُ بعدكَ ما نطق!
الإسكندرية
(* * *)(251/60)
في المذهب الرمزي
تعليق
للدكتور بشر فارس
قبل أن يندفع قلمي في التعليق أحب أن أشكر لصاحب (الرسالة) انبساطه إلى مسرحيتي (مفرق الطريق) إذ سمح بنشر نقد مسهب لها لأسبوعين مضيا، ثم بحث مستفيض في المذهب الرمزي لأسبوع مضى، وكلاهما من قلم الأستاذ زكي طليمات مفتش التمثيل بوزارة المعارف. وكأن صاحب (الرسالة) يُصر أن تُنقل الأساليب المستحدثة على يده إلى قراء العربية. أليست (الرسالة) رسالة؟
والحق أني ما كنت لأتوقع أن يهتز القراء حتى النقاد لمسرحيتي ذهاباً مني أنها تنحرف عن ألوان الأدب المعروف عندنا انحرافاً شديداً فلن يكون مصيرها سوى الضياع، حتى فوجئت بطائفة من الرسائل والمقالات جعلتني أرى الشرق العربي غير نفور مما يهجم عليه من باب كان مغلقاً، بل غير جزوع مما يحمل الفهم بعض المشقة. وإليك دليلا على هذا ما بعث به الأستاذ أمين الريحاني: (تصحفت الرواية أولا بشيء من الاستغراب والدهش. ثم قرأتها لأفهما ففهمتها - أظن - واستكبرتها على صغرها. ثم أعدت قراءتها للمرة الثالثة متلذذاً بمحاسنها الفريدة الجمة، برقائقها الصوفية، وحقائقها المادية، ونظرتها الفلسفية، وروائعها الفنية. . .). فإني لفرح بهذا الأمر لأني حققت ما قلت في توطئة المسرحية: (وعندي أنه قد حان الزمن الذي فيه أصبح الإيجاز والإيماء في الإنشاء الرفيع أحب إلى القارئ العربي المهذب من التطويل والتذييل. . .)
هذا وقد خطر لي أن أصنع للمسرحية توطئة جامعة أبسط فيها طريقة المسرحية لأهيئ الأذهان إلى الوقوف عليها، لا تطاولاً مني، معاذ الله! ولكن تلطفاً في استدراج القارئ إلى القراءة وكشفاً عن نزعة قلمي. وإذ لم أجد بداً من إطلاق عنوان على تلك الطريقة دونت هذه الجملة: (هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت.) أتدري لم قلت (إذا شئت)؟
إن لفظة الرمزية في الأدب الحديث تصرف ذهنك على الفور إلى الطريقة التي ابتكرها نفر من شعراء الفرنسيين خاصة حول سنة 1886، تمرداً على الأسلوب الوضعي الجامد(251/61)
الذي كان له الأمر في ذلك العهد، وانقلاباً إلى وحي الوجدان: إلى تغليب الإحساس على العقل. وروّاد الرمزية (ألويزوس برتران) و (جيرار دي نرفال) ولا سيما (بودلير) الفحل. وأما أبطالها فـ (أرتر رامبو) و (بول فرلين) و (مالارميه) ثم (لافورج) و (كاهن) و (رودنباخ) و (فرهايرن) و (مورياس) و (ستوارت مِرِل) و (هنري دي رينييه) و (ديجاردان) و (سامان) وغيرهم. وسرعان ما انتحى المذهب نواحي مختلفة بالإضافة إلى الأداء وإن استقامت جميعها على عمود واحد من الاستلهام. وإذا نحن وقفنا عند أبطال المذهب أصبنا (رامبو) يعول على السحر اللفظي، و (فرلين) على الترنم، و (مالارميه) على الإيهام. وقد دوُنت هذه النواحي إلى جانب ما وقع بين أصحابها من المناظرات في مجلات صغيرة أنشئت للدفاع عن الرمزية وبثها فضلاً عن هدم الشعر الاتباعي القائم، اذكر منها: , , وكان لأجل (الرمزية) - فوق هذا - قهوات يجتمعون فيها، قد أدركت واحدة منها في باريس قبل أن تنقلب قهوة حديثة، وكان اسمها، وهي اليوم
وقد راسلت (الرمزية) في الشعر (رمزية) في الموسيقى والفن تأخذ مأخذها. وأمهر الموسيقيين الرمزيين (كلود ديبوسي)، وأبرع المصورين (بوفيه دي شافان)، والنحاتين (رودان) معلم جبران خليل جبران
ثم إن (الرمزية) الشعرية امتدت إلى ما يلي فرنسا شمالاً وجنوباً. فظهر في ألمانيا (رِلكه) و (ديمل)، وفي إنجلترا (بيتس)، وفي البرتغال (أوجينيو دي كاسترو)
وأما مصادر هذه (الرمزية) فيتنازعها الأدب والفلسفة والفن والموسيقى. وإذا نحن قررنا أن الرمزية إنما هي - آخر الأمر - التعبير عن الحياة الباطنة رجعنا خاصة إلى تأويل (بودلير): (الفن الخالص أن تخلق سحراً يوهم ويوحي فيضم في آن الذات والموضوع)، والى قولة (شوبنهور): (العالم هو ما يتمثل لي)، والى منهج نفر من المصورين الإنجليز الموسومين بهذا اللقب - وهو منهج يصعد إلى سنة 1848 وقوامه أن المصور ينبغي له أن ينبذ القواعد المضبوطة ليترك عينه تقرأ على هواها في صحيفة الطبيعة. ثم إلى ثورة (فجنر) على الأوبرا التقليدية وإدارجه (العنصر الإنساني الخالص) أو في المأساة الموسيقية
تلك هي الرمزية الأولى في الأدب الإفرنجي الحديث ولا سيما في الشعر. وقد انحلت إلا(251/62)
قليلاً عند مختتم القرن التاسع عشر. إلا أنها شقت طريق أدب العصر، وخلفت مذهباً آخر هو مذهب الـ (ما وراء الواقع). بل إنك ترى الأدب والفلسفة وعلم النفس والموسيقى والفن حتى الرقص تجري اليوم إلى غاية واحدة، وكل واحد منها يؤثر في الآخر. وكان بودي أن أشير إلى كل هذا حتى يأتي اليوم الذي فيه يتاح لي أن أكتب رسالة ضافية فأشرح هذا الجانب من الثقافة الحديثة. ولكني أخشى الإطالة وأكره أن يتطرق الملل إلى قراء (الرسالة) وجل ما أثبته اليوم أن الظاهرة الغالبة على آداب هذا العهد وفنونه في بلاد الفرنجة إنما هي الرغبة في الفرار، لا الفرار من الدنيا أنفةً ومرضاً نفسانياً عل النحو الابتداعي (الرومنتيكي)، ولكن الفرار من المنقول والمصطلح عليه، ومن القواعد القائمة والصناعة الموقوفة، ومن العالم المتناسق المختلق اختلاقاً بكد أذهاننا، ومن الطبيعة البشرية الموثوقة، ومن العقل المتصلب والمنطق المتجمد واليقين الملفق
أتدري لمَ قلت: (. . . إذا شئت)؟
إني أردت أن أستدرك، محاذرة أن ينصرف ذهن القارئ إلى الطريقة الرمزية الأولى خاصة. وقد أضأت هذا الاستدراك بخمس صفحات بسطت فيها وجهة الأسلوب الذي أجريت عليه المسرحية، فجاء حديثي عن الفلسفة والأدب كالتأسيس، وكلامي على التصوير والموسيقى والرقص كالتمثيل. ثم إني لم أعرض لتاريخ الرمزية لأن التوطئة رسالة فنية لا شأن للنقد فيها. على أن ذلك الأسلوب إنما هو أسلوب (انساق له قلمي ورفت إليه نفسي بعد التحصيل والروية والاجتهاد) وإن كان متأثراً بالرمزية الأولى ولا سيما بالمذهب الذي خلفته. وهذا الذي حملني على أن أختار لفظة (الرمزية) دون غيرها فضلاً عن أن المسرح الحديث لا يزال يحمل هذه اللفظة عنواناً له
حقاً إن الرمزية الأولى كانت قد أوحت مسرحيات مثل (لبول فور) و (لميترلنك) (لجاري) مثلت كلها في ' ' غير أن المسرح الحديث وإن سماه أهل الفن (المسرح الرمزي) من باب الاصطلاح لينهض على عناصر تزيد على التي عرفتها الرمزية الأولى: ينهض على نتائج علم النفس الحديثة (تجارب (شاركو) في التنويم والإيهام، و (ريبو) في أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية، و (فرويد) في أحوال العقل الباطن، و (برجسون) في تغلب المضمر الذي في النفس على البارز) ونظريات الفلسفة (الإدراك بالبصيرة لا بالعقل(251/63)
على نحو ما يرى (برجسون) ثم الشك في العلم المطلق والمرفع عن المواضعة حسب مذهب علماء الطبيعة لهذا العصر) وقصص جماعة من الروس مثل (دوستيوفسكي وتولستوي وجوركي) ففيها يبرز الخلق كأنهم على فطرتهم، ولكنها فطرة من صفت نفسه حتى أنها تأبى القناعة بثقافة الذهن وحده)، ومسرحيات أدباء الشمال مثل (بيورنسن) ولا سيما (إبسن) حيث المغالبات النفسانية تصرع قوى الحياة الاجتماعية، ثم قصص فئة من الإنجليزيات مثل (كاترين منسفلد) و (فرجينيا وولف) لما يطرد فيها من التأثرية المحضة. ثم أضف إلى هذه العناصر ما انبثق من جانب الفنون الأخرى كالتصوير التعبيري والموسيقى التأثرية والرقص الإبهامي
والمسرح الرمزي الحديث على ألوان. ولا أحب أن أفيض في هذا الموضوع الجديد. وحسبي أن أذكر أسماء بعض رجاله النابهين، وهم: (إبسن) و (هوبتمن) و (ميترلنك) وإن رجعت طريقته إلى الرمزية الأولى، و (هنري باتاي) احياناً، و (لينورمان) وإن كانت طريقته قريبة المأخذ، و (كلوديل) وإن نزع إنشاؤه إلى ما وراء الطبيعة على مثال إنشاء صاحبه فاليري الشاعر، و (جانتيون) مؤلف قصة (مايا) التي شهدتها ثلاث مرات في مسرح (مومبارناس) في باريس سنة 1931، و (جان كوكتو) و (حيرودو) و (بريستلي) أخيراً و (أليس جرنستبرج) و (بيرندللو) العظيم ثم (روبندرونات توجور) إذا شئت، وإن كانت مسرحياته تشف عن وثبات الصوفية الهندية
كتبت (هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت. غير أن النقاد وقفوا عند مفاد الرمزية الأولى أو كادوا سواء أهملوا الخوض في مفادها أم خاضوا. وممن خاض الأستاذ صديق شيبوب في صحيفة (البصير) (8 أبريل 1938) والأستاذ زكي طليمات في مجلة (الرسالة). ثم إن الأستاذ ميخائيل نعيمة كتب ألي يقول: (. . . ومسرحيتك هذه تدرج على الطريقة الرمزية، طريقة فاليري (الشاعر المذكور فوق هذا الكلام) وهي كزيّ جديد في الأدب العربي حقيقة بأن نؤهل بها. . . ووقعت في مقدمتها (يعني توطئها) على أدق وأجمل بيان قرأته في العربية عن الطريقة الرمزية وغاياتها. . .)
إلا أنه لا يفوتني أن أذكر أن ناقداً واحداً تنبه لما أردت. فقد نشرت صحيفة (الجورنال ديجبت) ' البارزة في القاهرة، يوم (19 أبريل 1938)، مقالا غزيراً باللغة الفرنسية(251/64)
للأستاذ إدجار جلاد، جاء فيه أن الرمزية في (مفرق الطريق) بين التأثيرية والتعبيرية وأنها تتميز بالبصيرة الشرقية فهي لا تماثل الرمزية الأولى
أن أدفع وهماً ذلك الذي بعثني على كتابة هذا التعليق. وقبل الخروج منه أحب أن أشكر للأساتذة ميخائيل نعيمة وزكي طليمات وصديق شيبوب فضلهم. وهل للأستاذ زكي طليمات أن يأذن لي في أن أكاشفه بأني فرحت فرحاً شديداً لما اصبته يستعمل في مقاليه بعض تراكيب جرت على قلمي في توطئة المسرحية، منها: (المحسوس وما وراء الحس)، (لوامع النفس)، (منعطفات الروح ومثاني المادة)، (التخيل المنسرح)، وما فرحي إلا لأني أرى تراكيب اجتهدت في سياقها تنطلق على قلم كاتب مفنّ، وكنت أخشى أن تموت يوم ولدت. ثم هل للأستاذ زكي طليمات أن يفسر لي قوله في بحثه في المذهب الرمزي (إن ب. ف. يكتب متثبتاً بما تلقنه؟) وفي (لسان العرب) (وقد لقنني فلان كلاماً تلقيناً أي فهمني منه ما لم أفهم)
بشر فارس(251/65)
البريد الأدبي
وفاة الأستاذ السكندري
نعى يوم الثلاثاء الماضي الأستاذ الشيخ احمد الإسكندري بك، وكان وقع نعيه أليماً، فالفقيد أستاذ جليل من المثقفين والمتعلمين، وكان لا يزال كثير النشاط، متوفراً على البحث والدرس، وآخر مواقفه المشهودة تمثيله لمجمع اللغة العربية الملكي في المؤتمر الطبي العربي في بغداد حيث أعلى صوت مصر ورفع كلمتها
تخرج الفقيد في دار العلوم سنة 1898، واشتغل بالتدريس في المدارس الأميرية حتى عين أستاذاً للأدب العربي في دار العلوم سنة 1907، وفي سنة 1911 انتدبته وزارة المعارف للسفر إلى مؤتمر المستشرقين
وفي سنة 1934 استدعته الجامعة المصرية لتدريس الأدب العربي بكلية الآداب. ثم اختير عضواً في المكتب الفني بوزارة المعارف. وكان عضواً في مجمع اللغة العربية الملكي منذ نشأته. وفي فبراير الماضي اختير عضواً في المجلس الأعلى لدار الكتب
ولم يكن الفقيد إبان اشتغاله بالتدريس بالمدرس الذي يحصر جهده في دائرة المدرسة، وإنما دأب - حياته - على دراسة اللغة العربية وآدابها، وكان أثره بارزاً في توجيه الدراسات العربية توجيهاً حديثاً، فهو مؤلف كتاب (الأدب العربي في العصر العباسي، وكتاب (الوسيط) الذي اتخذه كثير من المؤلفين في تاريخ أدب اللغة العربية مرجعاً ومنهجاً، فكان بمثابة الأصل الذي قام عليه كثير من الكتابات في الآداب العربية. وهو أول المؤلفين الحديثين في فقه اللغة ودراسة اللهجات، وأول من قام بتدريس فقه اللغة في دار العلوم
ولجهود الفقيد في الدراسات الأدبية واللغوية أخذ مكانة ممتازة بين العلماء وأفسحت له الأوساط العلمية صدرها فكان فيها السبّاق. وهو آخر طبقة جليلة من الأعلام الذين أنجبتهم دار العلوم مثل المهدي والخضري وحنفي ناصف، فكان لهم في الدراسات العربية أثر خالد
ومما يذكر أن كثيراً من جهود الأستاذ السكندري في دراسة اللغة العربية قام عليها نتاج مجمع اللغة العربية، فمحاضر الجلسات وصحيفة المجمع زاخرة بآثاره ودالة على وفرة علمه
جزى الله الفقيد خيراً عن خدمته للغة كتابه الكريم(251/66)
أسبانية في نظر الرحالين المسلمين
سيدي صاحب الرسالة
بعث إلى صديقي (هنري بيريس) بكتاب غزير المادة يقع في مائتي صفحة من القطع الكبير، ظهر في باريس في مختتم سنة على يد الناشر وعنوان الكتاب ' 1610 1930 (أسبانية في أعين الرحّالين المسلمين من سنة 1610 إلى سنة 1930)
والأستاذ (هنري بيريس) مستشرق فرنسي معروف وهو من أساتذة كلية الآداب في الجزائر، وله طائفة من المباحث تعرض خاصة للأدب العربي ولا سيما الحديث منه. وأما الكتاب الذي بين يدي فيسرد تأثرات من رحل من المسلمين إلى أسبانية ونظراتهم. وإليك أسماءهم: الوزير الغساني (القرن السابع عشر) الزيّاني والغزّال (القرن الثامن عشر)، الكردودي وابن التلاميذ التركزي الشنقيطي والورداني واحمد زكي باشا (القرن التاسع عشر) محمد فريد وأحمد شوقي ومحمد كرد علي ومحمد لبيب البتنوني وسعيد أبو بكر ومصطفى فروخ (القرن العشرون)
وقد جاء السرد على الطريقة العلمية بما قام عليه من المراجع وما غلب عليه من التحليل البعيد الغور. وكثيراً ما نقل المؤلف إلى اللغة الفرنسية بعض النصوص العربية من شعر ونثر تتناول وصف الطبيعة أو النظر في الأخلاق والتاريخ والفن على وجه عام
وفي رأي المؤلف أن المسلمين الذين دونوا رحلاتهم الأسبانية ينقسمون قسمين: أما الأول، وامتداده من سنة 1610 إلى سنة 1885، فأصحابه عدوا أسبانية وطناً مغتصباً وأهله إخواناً أفسدت النصرانية نزعاتهم وبدلت من عاداتهم، ثم كتبوا ما كتبوا وهمُّهم تقرير الملموس دون تدوين المحسوس. وأما القسم الثاني فأصحابه - وفي مقدمتهم أحمد زكي باشا في كتابيه (السفر إلى المؤتمر) ثم (الرحلة الكبرى) والبتنوني (رحلة الأندلس)، ومصطفى فرّوخ - (رحلة إلى بلاد المجد المفقود) بيروت - فقد عدوا أسبانية (الفردوس المفقود) فأطلقوا ألوان شعورهم تحسراً على ما ضاع وفخراً بما كان وغضباً مما حدث وفيهم المؤرخ والشاعر والسياسي والاجتماعي والفنان. ثم رأوا أهل أسبانيا قوماً لهم معايب ومحاسن. أما هذه فترجع في الغالب إلى أرومتهم العربية، وأما تلك فتصدر في الغالب عن الحضارة الأوربية وعن العنصر الأسباني الأول. فجاءت كتابتهم أقرب إلى التأثر منها إلى(251/67)
التفكر، وطريقتهم ألصق بالذاتية منها بالموضوعية على ما يطرد في رحلاتهم من ألوان الوصف الدقيق للأخلاق والعادات والعمران واللغة والفنون
واسلم سيدي الأستاذ، لمن يخلص لك الود
بشر فارس
بعثة السرجون مري ونتائج رحلتها العلمية
تلقت إدارة الأحياء المائية منذ أسبوع ثلاث رسائل جديدة من بعثة السرجون مري العلمية البحرية عن نتائج رحلتها الأوقيانوسية
وإحدى هذه الرسائل وضعها المستر (ما كان) من أعضاء البعثة عن (نجوم البحر)، وهي من الأحياء المائية التي تعيش في المحيط الهندي، وقد ذكر فيها أن البعثة أحصت من هذه الأحياء 1160 نوعاً تنقسم إلى 53 قسما منها 18 نوعاً جديداً كشفتها البعثة في رحلتها الأخيرة إلى الأوقيانوس الهندي، وأطلق على أحد هذه الأنواع اسم الكولونل سيول رئيسها، وسمي نوع آخر باسم الدكتور حسين فوزي مدير إدارة الأحياء المائية وكان من أعضاء البعثة المصريين، وسمي نوع آخر باسم الدكتور عبد الفتاح محمد (من الأعضاء المصريين أيضاً) ونوع باسم السفينة (مباحث)
والرسالة الثانية وضعها الدكتور محمود رمضان عن الأحياء المائية ذوات القشور كالجمبري ونحوه
والثالثة وضعها الدكتور ستوبج الأستاذ في متحف التاريخ الطبيعي في لندن عن نوع من الأحياء المائية يدعى (البترويودا)
مؤتمر مشاكل الشباب - دعوة مصر للاشتراك فيه
تلقت وزارة الخارجية دعوة موجهة إلى الحكومة المصرية للاشتراك في مؤتمر دولي (لدراسة مشاكل الشباب) يعقد في غضون الصيف القادم بنيويورك
وقد أحالت الخارجية تلك الدعوة إلى وزارة المعارف، قرأت إخطار الجامعة المصرية بنبأها حتى إذا رغبت في الاشتراك فيه اتخذت التدابير لإيفاد من ترى إيفادهم لتمثيلها في المؤتمر المشار إليه(251/68)
وقد درجت أمريكا على عقد دورات هذا المؤتمر فيها وأخذت في بث الدعاية له في الممالك والحكومات المتباينة. ولم تغفل أوساط الشباب وبيئاته بل تمنحهم امتيازات تحببهم في السفر إليها للاستفادة منه
ويتناول المؤتمر بالبحث والدراسة كل ما يتصل بحياة الشباب ومشاكله، وتوجيه الرغبات للحكومة بحلها على ضوء النظريات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الجديدة
مصر والآداب الفرنسية
نشرت جريدة (الجورنال) مقالة مسهبة للمسيو فرنسوا بياتري بعنوان (مصر والآداب الفرنسية) امتدح فيها سير الحياة العلمية والأدبية في مصر وأظهر ما للمدارس الفرنسية من الشأن العظيم، وقال إن عدد الأساتذة والمدرسين فيها يبلغ 2485 منهم 782 من الفرنسيين و 1703 من المصريين والسوريين وأما مجموع عدد الطلبة فيها فيبلغ 41 , 524 منهم 1965 من الفرنسيين
ثم نوه بمزايا التفاهم والاتفاق بين البعثات الفرنسية الدينية والعلمية ووصف ما انطبع في نفسه من زيارته الأخيرة لمصر حيث كان من أعظم بواعث سروره أن يرى أن أثبت وأرسخ تحالف هو التحالف العسكري الأدبي
أبو تمام أيضاً
سيدي الأستاذ
في الرسالة (250) كتب المخرج المسرحي الكبير الأستاذ زكي طليمات كلمة بديعة عن المذهب الرمزي في الأدب. ولقد تناولت كلمته الأدب الإسلامي فذكر الخيام وشعر الخيام
فليسمح لي إذن أذكره بشاعر آخر هو - في نظرنا - خير من يمثل الرمزية في الأدب العربي كله. وهذا الشاعر هو حبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام. فرمزية أبي تمام هذا تستحق منا - في الحقيقة - جزءاً غير صغير من عنايتنا إذا نحن نظرنا في الرمز بصفة خاصة، وفي الشعر العربي بصفة عامة
فإذا اتسع لهذا القلم العاجز صدر الرسالة الفاضلة، استطعنا أن نهدي إلى الأستاذ طليمات باقة صغيرة من رمزية أبي تمام، كرمز تقدير له. . . والسلام عليكم ورحمة الله(251/69)
م. وهبه
نزيل بالقاهرة
حول الدوس هكسلي
اطلعت في عدد الرسالة الأخير في باب (البريد الأدبي) عن (الدوس هكسلي) على بعض أخطاء أحب أن أصححها لكاتبها فقد ذكر أن (أوليسيس) من تأليف (إليس) والواقع أن أوليسيس كتاب شهير من تأليف جريس وهو أهم مؤلفاته وترجم إلى لغات كثيرة. والخطأ الثاني أنه ذكر أن أليس ألف كذلك (قصة) رقصة (الحياة) ورقصة الحياة ليست قصة وإنما هي كتاب فلسفي لها فيلك أليس. أرجو يا سيدي الأستاذ أن تنبه صديقنا لما ذكرت ولأخطاء مماثلة عن الدوس هكسلي نفسه منها أنه حفيد هكسلي الكبير لا ابنه كما ذكر الكاتب الفاضل. . . ودمت للمخلص الشاكر
ناجي
معهد الشواذ - تأليف لجنة لدراسة المشروع
عهدت وزارة المعارف إلى لجنة من موظفيها، دراسة مشروع إنشاء معهد للشواذ، مؤلفة من حضرات الأساتذة ناظر معهد التربية ومراقب التعليم الابتدائي وأحد أساتذة معهد التربية، وناظر فاروق الأول الثانوية، ومدير متحف التعليم الذي يتولى أعمال السكرتيرية
وستكون مهمة تلك اللجنة دراسة المشروع من حيث حاجة البلاد إليه، ووضع البرامج والخطط الدراسية اللازمة له، والنظام الذي يتبع فيه وإعداد المدرسين الذين تتألف منهم هيئة التدريس
ويظهر أن الرأي متجه إلى أيفاد بعثات للتخصص في شئون الشواذ، وقد طلب إلى اللجنة المشار إليها إنجاز مهمتها على وجه الاستعجال، حتى تتمكن الوزارة من تنفيذ المشروع في السنة الدراسية القادمة
كتاب هندي عن مدينة الغرب
زار الدكتور ف. كاراكا - وهو من خيرة المثقفين الهنود - طائفة من ممالك الغرب ليخبر(251/70)
مدى ما بلغته من المدينة ومقدار ما أدركته من الحضارة، ثم عاد ليكتب مؤلفه أو رحلته إلى الغرب. وقد صدر هذا الكتاب منذ أسبوعين فأثار ضجة كبيرة وكان لصدوره صدى عظيم خصوصاً في إنجلترا. فقد أرسل المؤلف لسانه في الحضارة الإنجليزية، ونال منها بقلمه ما لم ينال منها قلم آخر من قبل. وقد تصفحنا الكتاب فرأينا المؤلف يكتب كوطني هندي ينقم على الإنجليز كل ما تلقى الهند من مصائب ويعزو إليهم تأخرها وانحطاطها بما سلطوا عليها من رجال (الطبقة الثانية) كما يسمى القائمين بالأمر منهم في بلاده، ويقصد بهم هذه الفئة العسكرية التي تتكلم بالسيف وبالمدفع، وتحكم الملايين من بني جلدته بالحديد والنار، وتضحك على عقول أغنياء الهنود باللآلئ والأحجار الثمينة، في حين تنكر الخبز على الفقراء والملح على المعوزين
وليس على المؤلف في هذا ملامة، ولا عليه من تثريب لكن الملامة والتثريب في هذه النظرة السوداء القائمة التي ينظر بها المؤلف إلى أرقى حضارات التاريخ، ثم هذا التقرير الوجداني المتفزز لثمرات تلك الحضارة. . . وما دام يفكر الهنود بمثل تلك العقلية فلن يخلصوا من ربقة الاستعباد. . . وقد شهدنا كيف انهزم مغزل غاندي أمام أنوال لانكشير، وكيف انكمش غاندي وتقاعس، لأنه لم يتخذ الوسائل الحديثة لتدعيم الحركة الهندية، بل آثر عليها المغزل والعصيان المدني والصوم. . . وهي وسائل ضعيفة واهية هي إلى الشعر الصوفي أدنى من البخار والكهرباء والغازات.
وفاة الشاعر محمد إقبال
يعز على الرسالة أن تنعى لقرائها وللعالم الإسلامي خاصة والعالم الإنساني عامة وفاة الشاعر الفيلسوف محمد إقبال الهندي الذي وقف ذكاءه المتوقد وعلمه الواسع وشاعريته السماوية على الإشادة بفلسفة الإسلام ومقاصده العالية، ودعوة المسلمين إلى أن يعتصموا بها فلا يتهافتوا في مهالك العصر الحاضر. ولم يقصر في دعوة البشر كافة إلى الوئام والسلام والسمو فوق السفاسف التي يعتركون عليها والمذاهب المعوجة التي يوغلون فيها. وقد خلف إقبال للأدب والفلسفة كتباً كثيرة في الأوردية والفارسية والإنجليزية هي تراث عظيم من شاعر فيلسوف كبير. وستقضي الرسالة في أعدادها التالية حق الرجل النابغة الذي عرفه قراؤها فيما تُرجم من شعره ورُوى من أخباره(251/71)
الكتب
1 - حياتي
بقلم موسوليني وترجمة الأديب محمد عبد الحميد
2 - جمال الدين الأفغاني
بقلم الأديب محمد سلام مدكدر
كتابان يعرضان لك سيرة رجلين أولهما خالق أمة وثانيهما باعث نهضة. وما أحوجنا أن نلم بسير الرجال في نهضتنا الحالية
نقرأ في الكتاب الأول حياة موسوليني كما كتبها بنفسه أو كما أملاها؛ وشخصية موسوليني لا شك من الشخصيات الجديرة بالدراسة من حيث كونه أحد عظماء هذا الجيل من ناحية، ومن ناحية أخرى من حيث كونه من الرجال الذين تمس أعمالهم في بعض وجهاتها مصر من بعيد أو من قريب
أجل يعتبر موسوليني مهما تكن نظرتنا معشر المصريين إلى سياسته من كبار عظماء هذا الجيل إن لم يكن في طليعتهم. فهو رجل درج في عش الفاقة، ثم كان في مستهل حياته من الأوزاع والهمج؛ ولكن كانت تتأجج في صدره شعلة الحماسة، تلك الشعلة التي لا تقوم عظمة بدونها؛ وتجهمت له الأيام وتحدته الصعاب فمضى لا يعرف سهلا ولا صعباً حتى خلق من حالة أشبه بالعدم أمة قوية تتشكل سياسة العالم الآن حسب ما تأتيه من حركات، وتضطر أعرق الأمم جاهاً وأعظمها سلطاناً أن تخفف أمامها من غلوائها، وأن تخفي سيفها وراءها وتتقدم إليها بغصن الزيتون؛ والرجل دائب العمل يأتي من ضروب النشاط والمغامرات ما يحمل حتى أكبر أعدائه على الإعجاب بمقدرته وبيقينه وبتفانيه في خدمة بلاده. . .
والفاشية نظام تردد اسمه في الشرق وأقبل على دراسته أهل السياسة وأهل الثقافة؛ وأكبر ظني أن دراسة نظام كهذا النظام لا بد أن تستند قبل كل شئ إلى دراسة حياة صاحبه، بل إن دراسة هذه الحياة أمر جوهري لمن يريد أن يعرف حقيقة هذا النظام وينفذ إلى لبه. ولئن سلمنا صاحب الدعوة قد يتعامى عامداً أو غير عامد عن بعض سوآتها، فأننا من(251/73)
ناحية أخرى نسلم أن صاحب الدعوة أدرى بحقيقتها وأعرف بخفاياها من سواه
لذلك أرى أن القارئ يصيب من مطالعة هذا الكتاب غرضين: معرفة موسوليني وتفهم الفاشية. وكلاهما ليس بالهين. وهو أثناء ذلك يستمتع ساعات من الزمن بتلك الروح القوية تطالعه من بين سطور الكتب، روح موسوليني، ثم بتلك الحوادث العظيمة كالزحف على روما ومغالبة الصعاب حين القيام بأعباء الحكومة؛ ثم الكفاح والجلاد للمحافظة على البنيان بعد إقامته وتدعيمه والعمل على إعلائه
من أجل ذلك أتقدم بالثناء والشكر للأديب المعرب لاختياره هذا الكتاب. أما من حيث الترجمة فليس لدي الأصل حتى أراجع عليه التعريب، ولكني أميل إلى الاعتقاد أن من يضطلع بنقل مثل هذا الكتاب الفذ، وله من شرف غرضه حافز، جدير أن يتوخى الأمانة وأن يتحرى الدقة. وأما من حيث الأسلوب فإني أجدني مضطراً أن أصارح المعرب الفاضل أني كنت أحياناً يعسر على فهم بعض الفقرات، كما كان يلتوي على بعضها كما أني كنت أقف عند بعض الكلمات التي وضعها في العربي كما هي في الأصل إذ لم يجد لها مرادفاً عربياً، ولكنه كان حرياً أن يشرح المراد منها، على أن هذا على أي حال يسير إذا قيس إلى ما بذل من جهد محمود
أتحدث بعد عن الكتاب الثاني (جمال الدين الأفغاني) وقد حببه إلي عدة أشياء: أولها أن مؤلفه الشاب الأديب محمد سلام مدكور أحد تلاميذي، حضر علي دروساً في التاريخ أيام كنت أقوم بالتدريس في الأزهر، وأشهد لقد توسمت فيه النجابة يومئذ ورجوت فيه وفي بعض زملائه الخير. واليوم أقرأ له مؤلفاً فأغتبط وأفخر، وأي شئ هو أحب إلى المدرس من أن يرى ثمرة من ثمار غرسه؟
وحبب إلى الكتاب بعد ذلك أن يضعه أحد أبناء الأزهر عن جمال الدين، فيكون الكتاب بذلك. فضلاً عن أنه علامة اجتهاد، دليل عرفان للجميل نجحوا أحد بناة هذا الجيل. ومن كجمال الدين أحق بعرفان الجميل وتخليد الذكر على يد الأزهر بين خاصة وبني مصر والعالم الشرقي عامة؟ ثم عطفي على الكتاب فوق ذلك أنه يدور حول تلك الشخصية الفذة المحبوبة، فلقد كان جمال الدين رحمة الله ورضوانه عليه قبساً من روح الشرق انبعث في ظلمة الأيام والتمع كما يلتمع الشهاب في دجنة الليل، وراح يعمل وحده ويبذر بذوره أينما(251/74)
حل! أجل كان جمال الرجل الذي يظهر حين تتهيأ الظروف وتصبح بحيث لا بد لها من رجل؛ واحسبني لا أغالي إن قلت إن نهضة الشرق الحديث إنما هي من صنع يده؛ ولذلك فأنا أعده من رجال العالم المعدودين إن كانت له في تاريخ العالم حركة تركت أثرها في دورانه. . .
ولقد قدم هذا الكتاب بكلمة طيبة أحد رجال الأزهر الأمائل هو: الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق بك، وإني أشاركه رجاءه وعطفه على المؤلف الشاب. . .
وبعد، فقد عودت طلابي ومنهم المؤلف الذكي أن يسمعوا من كلمة الحق في جلاء، وأنا موقن أنهم اعتادوا ذلك وراضوا أنفسهم الفتية المتوثبة عليه. لذلك أصارح سلاماً في جلاء أنه كان يستطيع أن يظهر الكتاب في ثوب أجمل من هذا الثوب فالكتاب بذلك جدير. كذلك كان يستطيع أن يتدارك كثيراً من الأخطاء المطبعية لو أنه ألقى إلى عمله من الاهتمام أكثر مما فعل. فليسمع لومي على تقصيره، وليأخذ نفسه بعد اليوم بتحري الدقة والإتقان، هذا إلى أن أسلوبه وإن كان راقني في كثير من مواضعه، يتطلب التهذيب في بعض النواحي
أما عن البحث في ذاته فحسبه في هذا المجال وفي هذه العجالة أن أعلن إليه أنه جاء على خير ما يرجى ممن كان في سنة وفي مثل درجة ثقافته. وهو يبشر بالتفوق في المستقبل إن شاء الله. ولقد أعجبني أنه لا يقتصر على مجرد سرد الحوادث فانه يقف ليرينا أثر تلك الحوادث في مجرى التاريخ
أثني على مدكور وأرجو الخير منه ومن زملائه من ناشئة الأزهر الحديثين. ولعل الله يجعل منهم في غد رجالاً أفذاذاً يعود بهم الأزهر المعمور سيرته الأولى من الزعامة في حياتنا الفكرية فذلك لعمري خير ما نرجو وما نرضى.
الخفيف(251/75)
المسرح والسينما
جولات ومطالعات في المسرح والسينما
الرواية المصرية
أقامت جماعة أنصار التمثيل والسينما في السابع عشر من هذا الشهر حفلة تمثيلية كبرى بدار الأوبرا بمناسبة انقضاء ربع قرن على تأسيسها، وقد مثلت خمسة فصول من مسرحيات مختلفة سبق للجماعة إخراجها. ولسست أدري إذا كانت الجماعة قد قصدت بهذا الاختيار أن تعرض جميع أنواع الرواية المسرحية أم أن المصادفة هي التي جعلت هذا البرنامج شاملا للرواية الغربية المترجمة والرواية المصرية المؤلفة والرواية الممّصرة أو المقتبسة عن فكرة أجنبية
وسواء كان ذلك عن قصد أو مجرد مصادفة فان هذا العرض الموجز قد جعلنا نتدبر على ضوئه مسرحنا وما يعانيه من فقر إلى الرواية المصرية الصميمة
اختص بالنجاح الأكبر في الحفلة فصلان من روايتي (حادث الطربوش)، (إلى الأبد) الممصرتين، ولقي نجاحاً وسطاً فصل من رواية (دافيد جارك) الإنجليزية. وكان أقل الفصول نجاحاً فصلان من الروايتين المصريتين (عبد الستار أفندي)، (الواجب)
وقد اتفق أن تكون درجات النجاح في هذه الفصول خاضعة لسلطان الرواية وقوتها فحسب، لأن الممثلين هم أنفسهم في معظم الفصول، وقد سبق لهم القيام بهذه الأدوار فتفهموها وأجادوا تمثيلها، وهي كذلك روايات مثلت مراراً واختيرت من بين روايات الجماعة الناجحة، واختير منها بعد ذلك احسن فصولها
فهذا التفاوت في النجاح يجعلنا نوقن بحاجتنا إلى الرواية المصرية الصحيحة كما يجعلنا نوقن بأن في حياة كل شعب ذخيرة للرواية، فإذا أعوزتنا حقاً البيئة الخاصة فأمامنا البيئة العالمية التي نقلنا ولا نزال ننقل عنها روايات بأسماء مصرية نجحت بطابعها المصري نفس نجاحها بطابعها الأجنبي الأصلي
إن أكثر الكتاب اليوم لا يكتبون لجمهور خاص ولكنهم يعالجون المجتمع العالمي ويحلقون في آفاق واسعة ليشمل نجاحهم هذه الآفاق؛ فالكاتب الأمريكي مثلا لا يقصر كتابته على المجتمع الأمريكي لأنه يفهم غيره من المجتمعات الأخرى، ولأن هذه المجتمعات كلها تلتقي(251/76)
وتتشابه في نواح كثيرة، وقد أصبحت بعض النزعات تؤثر في العالم جميعه وتقرب من أبعاده. فالذي يحدث هنا جائز حدوثه هناك، والرجل الذي تلقاه في هذا البلد يذكرك بمن لقيته في بلد آخر
فلم نقف إذن عند عبد الستار أفندي الكاتب بوزارة الأوقاف وعم سيد البواب، وست أمينة الخاطبة، والحاج حسن العمدة الخ
لم نذهب في كتابتنا إلى حيث لا نستطيع الحراك؟ لم نعالج شخصيات لا لبس فيها ولا غريب من ورائها ولا تنطوي على شئ يجهد الفكر أو يكسبه جديداً؟!
أنا لا أستطيع أن أنكر حاجتنا إلى الرواية المصرية القحة، ولكن لتحقيق ذلك علينا أن نسلك الطريق الصحيح إليها. فنحن شعب قليل الحركة، كثير الآمال والأحلام، فيجب أن تكون هذه الآمال والأحلام الميدان الأول للرواية ذات البيئة المصرية الخاصة. يجب أن نعالج النفسية المصرية بالكشف والتحليل فهذه خطوة يتبعها التوجيه العملي الذي يخلق الحياة والحركة قوام الرواية ومساكها، أما أن نبعث الرواية في حياة فقير تافهة ونقيم الشخصيات على حركة راكدة خاملة فان ذلك هو العبث والجهد المضيع
في المسرح
شهدت في الأسبوع الماضي حفلة غنائية أحيتها الآنسة أم كلثوم بمسرح الحديقة. وقد أحسنت وأطربت فنانتنا الكبيرة ودلت على أنها تتعهد فنها الجميل بالمران والرعاية بخلاف معظم المطربين الذين يسمجون يوماً بعد يوم. فصوت الآنسة أم كلثوم اليوم أعذب منه منذ عامين وأكمل منه منذ أعوام
وقد نجحت الحفلة ولكن لم يكن من دلائل نجاحها هذا الصياح والأصوات المنكرة التي كانت تصدر من بعض الحاضرين عقب وقبل نهاية كل مقطع غنائي على اعتبارها علامات الإعجاب والاستحسان
وقد اعتاد جمهورنا هذه العادة القبيحة التي لا تمت إلى الفن ولا إلى الذوق بأوهى سبب، بل إن مقاطعة المطرب في غنائه يمثل هذا الصراخ إنما هو بالنسبة إلى الغناء (نشاز) يثقل على السمع ويزعج المنتشي ويقضي على انسجام المغني
ولقد لاحظت على بعض هؤلاء الناس كأنما هم مكلفون بمثل هذه العادة حتى لقد تساءلت(251/77)
هل هذا جمهور طرب أو جمهور مظاهرات؟!
وأحسب أن هذه عادة تقليدية صرفة لا علاقة لها بالحس، لأن الجمهور المجتمع حول آلة الراديو هو من نفس الجمهور الذي يستمع إلى المغني مباشرة ولكنه لا يجاريه في تهليله وصراخه، وقد يستنكر منه هذا العمل
فالفارق بينهما أن هذا قد ألف هذه العادة عندما يحتويه مع المغني مكان أو مسرح، في حين أن الآخر لم يألف ذلك حين يستمع إلى الميكروفون
وأنا لا أنكر أن العامل في ذلك عامل فسيولوجي له أثره، ولكن هذا الصراخ والأنين والتهريج ليس لها من مصدر غير اعتلال الذوق وعدم القدرة على ضبط النفس والأنانية. ويكفي مصداقاً لذلك أن نفكر في أن أمثال هؤلاء يسيئون إلى كل من معهم وقد يسيئون إلى آلاف أو ملايين المستمعين إلى الراديو، كما أنهم يسيئون إلى المغني نفسه فوق إساءتهم إلى أنفسهم بتعريضهم لمثل هذا اللوم
فلم عن قناة السويس
أشرنا في العدد الماضي إلى ما تفعله بعض الحكومات إزاء الأشرطة السينمائية التي تخرج عن بلادها، وقد ضربنا مثلاً بتركيا واليابان حين علمتا باعتزام بعض الشركات إخراج أفلام تسئ إليهما فتدخلتا لدى الشركات تدخلا أدى إلى احترام هذا الحق
وقد حمل إلينا البريد منذ أيام نبأ اعتزام المخرج المعروف داربل زانواك إخراج فلم باسم (السويس) يدور حول شق قناتها وحوادثها التاريخية. ولقد قيل إن مشروع الفلم على وشك البدء في التنفيذ فقد رصد له ميزانية قدرها مليونان من الدولارات وفوتح الممثل المعروف جورج أرليس للقيام بشخصية دزرائيلي والممثلة الفرنسية سيمون للقيام بشخصية الإمبراطورة أوجيني
فلعل حكومتنا تفعل مثل الحكومات الأخرى فتطلب ضماناً لرعاية كرامتنا في هذا الموضوع الذي يخصنا. ومثل هذا التدخل يفيد ولا يأتي بضرر وخاصة أن الفلم ضخم وتأثيره تابع لهذه الضخامة(251/78)
العدد 252 - بتاريخ: 02 - 05 - 1938(/)
هل تقوم للأدب دولة؟
معالي مصطفى عبد الرازق بك
صديقنا صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرازق بك وزير الأوقاف إمام من أئمة الدين، وعلم من أعلام الأدب، وسري من سراة الأمة، نشأ بحكم ولادته على النبل كما ينشأ ابن الملك على الملك، فهو في خلقه وسمته يجري على سراح الطبع الجميل، لا يتكلف ولا يتطبع، ولا يتصنع، ولا يقلد. وقلما تجد فقي مصر من ظفر بما ظفر به هو من إطباق الناس على اعتقاد سماحته وسراوته وفضله. ولعلك تدرك السر فيما تعرف من خلاله إذا علمت أن بيت عبد الرازق نمط لا واحد له في تقاليده وتربيته وبيئته. فهو وحده لا يزال يمثل نوعاً من الفتوة الإسلامية له خصائصه وله سننه: يرى العزة في سمو الإنسانية فيه، لا في إفراط العصبية عليه؛ ويجد المزية في سؤدد الفكر المهذب والخلق السجيح، لا في سطوة المال المكنوز والجاه المتسلط؛ ويمثل المدنية الحديثة تمثيل المعدة الصحيحة للطعام الهنيء فلا تكون إلا مدنيته الخاصة فيها سره وعليها طابعه؛ ثم يسير في سبيل الحياة على سنن واضح من شهامة القلب ونزاهة النفس وشرف اللسان وثبات العقيدة وكرم التضحية، كأنما يستجيب إلى صوت في دمه، ويمشي على دليل من طبعه
ساهم في جهاد الدستور والحرية بالنفس والمال ثم عف عن الغنيمة، وشارك في ثقافة العقل والروح بالتشجيع والإنتاج ثم عزف عن الشهرة، وتهافتت من حوله بيوت المجد على الأضواء الغربية الخادعة فأضل بعضها العشا، وأحرق بعضها اللهب، وبقي هو على شرقيته ومصريته قوي الدعائم رفيع الذرى تضوع في أبهائه نفحة الإسلام، وتهش على موائده أريحية العروبة، وتخفق في جوانبه روح مصر
والشيخ مصطفى يلخص في شمائله أمجاد هذا البيت، فهو سر وراثته وعطر أرومته وجملة ماضيه. فإذا جلست إليه في ألفة أو كلفة غمرك منه شعاع لطيف يملك نفسك من غير سطوة، ويبسط شعورك من غير خفة؛ ثم تحس في تواضعه سمو الكبرياء، وفي وداعته أنفة العزة، وفي بساطته جلالة النبل؛ فلا تستطيع أن ترد هذه الخلال فيه إلى الحد الذي تواضع عليه الناس في تعريف الخلق؛ إنما تنتهي إلى أن شخصيته الجذابة واحدة الطراز لما تهيأ لها من أثالة المنبت وزكاوة العرق وسعة الثقافة وسلامة الفطرة وجمال(252/1)
القدوة
رأيت الشيخ مصطفى طالباً في الأزهر، وعرفته أستاذاً في الجامعة، وزرته عضواً في الوزارة، فلم أجده في كل حالة من هذه الحالات إلا على الوجه الذي لقي به الدنيا، لم يتغير فيه لسان ولا عين ولا مخيلة؛ ومزية المعدن الكريم ثبات وجهه على لونه، وبقاء جوهره على نقائه. ولو أن وجوه الناس تثبت على تقلب الحظوظ لما تنكر صديق لصديق ولا تجهم وطني لوطن
لله ما كان أنبل وأجمل حين دخلت على الشيخ الوزير مكتبه في الوزارة من غير وقفة على حاجب الباب أو جلسة لدى مدير المكتب! لقد كان في زيه الوطني الجميل ملء العين والنفس والشعور، يوزع التحيات على عادته ببسماته الرقيقة ونظراته الوديعة وكلماته الحلوة، فيجعلك تشعر أن الوزير منك، وأن الوزارة لك، وأن الأمر بينك وبين أولياء الحكم كما يكون بين الأب وأعضاء الأسرة.
كان سروري وأنا أهنئ صاحب المعالي وزير الأوقاف أقرب إلى أن يكون سروراً بنفسي؛ فقد وقع في وهمي أنني أساهم في هذه الوزارة بنصيب مبهم شائع لا أجهله ولا أدريه. ولعل مبعث هذا الوهم أن الوزير أزهري وصديق وأديب، وصلته بالناس من جهة الثقافة أو الصداقة أو الأدب يجعلها وفاؤه الطبيعي أدنى إلى النسب الشابك والقرابة الواشجة
أما بعد فإن استيزار أميرين من أمراء الأدب لهو فتح مبين لدولة القلم. فإن النهضات العلمية والأدبية في تاريخ الفكر لم تزدهر إلا في حمى ملك أو كنف وزير. والوزراء الأدباء أمثال ابن العميد والصاحب ابن عباد والمهلبي وابن زيدون وابن الخطيب لا يزالون عناوين فاصلة في تاريخ الأدب. فإذا ناط رجال الثقافة والصحافة آمالهم بوزير الخير مصطفى، وبوزير الجمال هيكل، فإن دلالة الحال تعلن أن مواتاة هذه الفرصة في صباح عهد الفاروق حين صدقت النيات على الاستقرار، وتهيأت النفوس للعمل، إيذان من الله بتيسير السبل لأمة العلم أن تنهض ولدولة الأدب أن تقوم.
أحمد حسن الزيات(252/2)
في خيف منى
للدكتور الحاج عبد الوهاب عزام
هذا ثاني أيام التشريق؛ ومنى غاصة بمضاربها؛ قد اجتمع إليها الحجيج من أرجاء الأرض، واختلط فيها وفود المسلمين من كل الأقطار. تجاورت القباب واشتجرت الأطناب، وتمعجت السبل بينها تجور بالسائر، وتعدل بالسالك، إن لم يكن خبرها وعرف بالعلامات مسالكها، إلا مهيعاً يتوسط البقعة تفضي إليه المسالك فيقصد فيه السابل على بينة
زخرت منى بالحجيج، وازدحم الموسم بأهله. وقد أدينا بحمد الله المناسك ولم يبق إلا رمي الجمار، وهي أمر أمم لا يشغل نزال منى إلا قليلاً. فهناك سعة للتزاور والتعارف، وهناك فسحة لتبادل الآراء والتشاور في خطوب المسلمين
خرجت في رفاقة بعض الإخوان العراقيين أبتغي زيارة بعض الأجلاء من علماء الفرس، فلما لقيت الشيخ وبلغ الحديث منتهاه رغبت أن أرى من وجوه المسلمين وجهاً معروفاً في مجامع الحج منذ سنين لا يخلو منه موسم، ولا يجهله محفل. وقد رأيته في عرفات ضارباً مخيمه على الجادة فنزلت إليه في نفر من رفقائي حجاج الجامعة وأنسنا به حيناً. وبينا أنا بالمشعر الحرام من مزدلفة رأيت خطيباً واعظاً يتكلم على جماعة باللغة الأردية، فدلفت إليه فإذا هو ذلك الوجه المعروف غير المنكر، وأنا أرجو ألا يفوتني في منى لقاؤه؛ ومضربه في منى أرفع المضارب، يلوح للسائر عالياً متميزاً تخفق عليه رايته. فليس على من يبغي المسير إليه إلا أن يذهب إلى مسجد الخيف ثم ينظر إلى سفح الجبل ليرى فسطاطاً كبيراً قد احتل من السفح مستوى لا يتسع لغيره، فليس هناك فسطاط سواه. فإذا تأمله أبصر الراية الأفغانية فعرف أنه منزل السيد محمد الصادق المجددي
أخذت سمت المكان حتى قاربت المسجد فلقيني جماعة من حجاج الجامعة والأزهر فصعدنا إلى الفسطاط في شرف يطل على الموسم كله وينظر إلى مسجد الخيف من كثب. لبثنا قليلاً ثم هبطنا إلى فجوة بين الصخور تسمى غار المرسلات؛ يقال إن السورة الكريمة (والمرسلات عرفاً) أوحيت إلى صاحب الرسالة صلوات الله عليه هناك. وقد اجتمع الناس يمنعهم الشرطة من الدخول إليه والتمسح به كما كانوا يفعلون. فوقفنا وقفة قضينا بها حق الذكرى العظيمة، ثم سرنا مصعدين في الجبل وهو جبل شاهق أدكن عظيم الصخور كثير(252/3)
القلع. فما زلنا نصعد حتى لاح لنا الموسم جميعه، وزويت لنا أطرافه؛ فيالك مشهداً جميلاً رائعاً! فهذا مسجد الخيف وهو مسجد بري معطل من الزينة وفراشه الحصباء: بناء كبير تحيطه جدران مديدة بيضاء، يتوسط صحنه الفسيح مصلى عليه قبة ومنارة، وفي جانبه القبلي سقيفة على ثلاثة عقود. وقد راقني منظره من سفح الجبل تتجلى فيه فطرة الإسلام وطبيعة البداوة
وهذا المحصب عن شمالنا حيث العقبات الثلاث التي ترمى فيها الجمرات. والى اليمين يمتد وادي منى بين سطرين من الجبال الشاهقة يساير فيه الطرف أسراب الخيام إلى أن يكل. وهناك تبدو دار الملك عبد العزيز التي ينزلها أيام الموسم. وهنالك بناء أبيض يلوح بين الأشجار هو (السبيل) المصري: مورد عذب يستقي منه الحجاج، يزدحمون عليه النهار كله وطرفاً من الليل. وإنها لمبرة عظيمة
وأما الجبل الشامخ الذي يمتد على جانب الوادي الأيسر فهو ثبير. وكم ردد التاريخ والشعر ذكر ثبير!
ترادفت الذكر وتوالت العبر في هذه البقعة المقفرة التي تخصب بالجماعات كل عام منذ عهد الجاهلية، فكأني بالقبائل تلتقي تتناشد الأشعار، وتتفاخر بالاحساب، ويضعون عنهم العداوة والحرب إلى حين، وقد تغلبهم الضغائن فيفجأ بعضهم بعضاً غير مراعين حرمة الشهر والمكان كما أغارت هوازن على خزاعة بالمحصب من منى فقال أحد بني عدوان:
غداة التقينا بالمحصَّب من منى ... فلاقى بنو العنقاء إحدى العظائم
وكأني بهم ينحرون ويذبحون ويضيفون ويطعمون، ويشرقون بقايا اللحم على سفح الجبل.
وكأني بفتيان قريش وشعراء مكة في الجاهلية والإسلام يقضون حق المكارم والفتوة؛ يضيفون ويطعمون ويشيدون بالمفاخر ويتناشدون الشعر ويتناقلون الأخبار، وينزع بهم الشباب فيتغزلون ويرون في الموسم على جلاله وحرمته شملاً من الأحباء يجتمع، وشملاً يفترق، فيشيد الشعر بفرحة اللقاء ولوعة الفراق، فهذا عمر بن أبي ربيعة يقول:
نظرت إليها بالمحصَّب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف الستر أم أنت حالم
بعيدة مهوى الفُرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم(252/4)
ومن قبل تذكر المجنون في هذا المكان ليلاه:
وداع دعا إذ نحن بالخيْف من منى ... فهيج أطراب الفؤاد ومن يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
وهذا العرجي - وغفران له - يقول:
في الحج إن حجت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج؟
وأنا أقول ما قال عطاء حين استوقفه ابن سريح فغناه أبياتاً منها بيت العرجي قال:
(الخير كله والله بمنى، لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره)
والعرجي هو القائل:
عوجى عليّ فسلمى جبرُ! ... فيم الوقوف وأنتم سَفر؟
لا نلتقي إلا ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا النفر
ورحم الله جريراً! كان أرشد من هؤلاء: لقيه الفرزدق بمنى فأنشده:
فإنك لاقٍ بالمنازل من منى ... فخاراً؛ فخبرني بمن أنت فاخر؟
فقال جرير: (لبيك اللهم لبيك)
نبهتني تلبية جرير فقلت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك الخ كم في هذه الخيام من قلوب وردت هذه المشاهد ورود القطا الظماء! وكم من نفوس هجرت خفض العيش إلى مشقة الأسفار، وغربة الديار لتنعم بالذكر والتوبة في هذه البقاع المقدسة. لو نفض كل قلب هنا آماله وآلامه لسامت هذه الحبال جبال من أحزان البشر وأمانيهم حملها أصحابها إلى سدة الخالق العظيم يستغفرون ويتضرعون، ويسترحمون ويتذللون. سرائر لو اجتمعت في هذه الساعة لتمثل فيها تاريخ البشر. لو اجتمعت! لو تشاكى أصحابها وتناجى أربابها! لو تشاكى المسلمون في هذه البقعة وبث بعضهم لبعض خبايا قلبه، وتشاوروا فيما يحز بهم! أجل، هذه خيام مجتمعة، وجماعات مختلطة، وبينها تعارف وتزاور، ولكن أين هذا مما يريد الإسلام ونريد؟ لابد أن ييسر لكل حاج السير والزيارة، ويمكن من أن يلقى من يشاء حين يشاء. إن مئات الآلاف من الحجاج لا تتيسر لهم مقاصدهم ولا تكفل راحتهم إلا في نظام دقيق وترتيب حسن. وذلك لمن شاءه جد يسير. وعلى المسلمين جميعاً أن يعملوا له. لماذا لا يكون في منى مجمع مسقوف يسع الحجاج جميعاً يقفون أو يجلسون في راحة(252/5)
ونظام، فيسمعون جميعاً إلى الخطباء من زعماء المسلمين يرفعون أصواتهم بالمجاهر! لماذا لا يكون هناك مدرج ينحت في الجبال ليسع الألوف المؤلفة؟ هذا أمر حتم لابد أن تتخذ له الأهبة.
طالت بي الوقفة وأصحابي على مقربة مني! فقلت: هذا أمر له غير هذه الوقفة. ثم التفت فإذا أعرابي بجانبي تفتر شفتاه عن أسنان ناصعة وفي فمه عود
قلت: ما هذا؟ قال: بشام. قلت، الذي يقول فيه جرير:
أتذكر إذ تودعنا سليمى ... بفرع بشامة؟ سُقى البشام
قلت: وما هذا؟ مشيراً إلى شجرة صغيرة من الشجر الذي يسمى السنط في مصر. فقال: سلم. فتذكرت قول القائل:
ويوماً توافينا بوجه مقسم ... كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم
وقول الحجاج: والله لأعصبنكم عصب السلمة الخ
قلت: أتستطيع أن تأتينا بأعواد من البشام؟ قال: إنه على الربع الآخر، وأشار إلى الجبل يعنى سفحه الآخر. فتذكرت الآية الكريمة: (أتبنون بكل ربع آية تعبثون) والربع المكان المرتفع قلت لأصحابي: لو اتسع الوقت لأخذنا كثيراً من اللغة عن هذا الأعرابي. فمن كان يظن أن هذه ألفاظ ميتة في المعاجم فليعلم أنها لا تزال حية في أفواه كثير من العرب. وحان الرجوع فرجعنا إلى الخيام
عبد الوهاب عزام(252/6)
أبو العلاء حرب الظالمين
لأستاذ جليل
من (عبقرية) نابغة العرب أبو العلاء حرب الظالمين وعدو المستبدين، ونصير البائسات والبائسين، وخصيم المترفين والباخلين، ومقرع المستكبرين والمدعين، ومجل التواضع والمتواضعين، ومهجن الشراب الحرام والشاربين. وأقواله في (اللزوميات) في هؤلاء المذكورين مشهورة؛ ولم يغفل (نابغة العرب) في (الفصول والغايات) - عبقرية في النثر - عنهم. وفي الآيات البينات بعض ما قال فيهم:
- 1 -
(يا بغاة الآثام، وولاة أمور الأنام، مرتع الجور وخيم، وغبه ليس بحميد، والتواضع أحسن رداء، والكبر ذريعة المقت، والمفاخرة شر كلام. كلنا عبيد لله)
- 2 -
(ما بيت يأتلق فيه الياقوت، وللزرياب حواليه شعاع، يسكنه ظالم جبار يسفك الدم، ويسفح دموع الباكيات، ويشرب كاسات الرحيق - بأعز عند الله من ناسجة الغبار فيا ويح جائر - إذا حكم - عات!)
- 3 -
(إذا أصبح النصح ثقيلاً، والمساجد قالاً وقيلاً، وصارت الإمارة غلاباً، والتجارة خلاباً - فالبيت المحفور، خير لك من مشيدات القصور، والفقير أربح صفقة من ذي التاج)
- 4 -
(إني لوغد وقد عرفت نفسي بعض العرفان، وحقرتها وهي جديرة بالاحتقار. خلقتني كما شئت، وأعطيتني ما لا أستحقه منك. ولعل في عبيدك من هو مثلي أو شر. في خزائنه بدر اللجين والعقيان لا يطعم منها المسكين، ولا يغاث الملهوف)
- 5 -
(إن من يفتقر إلي لفقير، فأغن (اللهم) كل مسكين. وبئس البيت المسكون، بيت تحت(252/7)
الغبراء يكون، لا أس له ولا عمود، إنما هو من هباء، ليس بالطراف ولا الخباء ولأعمال الصالحات خير ما راح إليه من السوام. فكن أيها الرجل من الصالحين، وإذا رأيت الملأ يبرمون أمراً فقل: لعب الولدان خراج)
- 6 -
(أطعم سائلك أطيب طعاميك، واكس العاري أجد ثوبيك، وامسح دمع الباكية بأرفق كفيك)
- 7 -
(ما ريا قطر، ورائحة حبيب عطر، بأطيب من ثناء مستطر، يثني به بر على مبر! وذكر الله مراتع القلوب يستعذبه الأواب، ويسكن إليه الصالحون. فاغسل الحوب بأن تتوب، ولا تعرك ذنبك بجنبك، فتصر على سخط ربك، والى السوق تحمل الوسوق، فما كان جيداً نفق، وما كان ردياً زهد فيه. وإنما أنت درهم إن اتقى وضح، وإن فسق زاف)
- 8 -
(خافوا الله وتجنبوا المسكرات: حمراء مثل النار، وصفراء كالدينار، وبيضاء تشبه الآل، وكميتاً وصهباء، وكل ما أدرك من الألوان. لو كانت أقسام اللب كرهاق الحصى، والسكرة من الجرع بمثل ذاك لقلت: إن النغبة الواحدة حرام. ولو هجر أب لجناية ولد لحرم العنب لجريرة المدام. وهل لها من ذنب؟ إنما الذنب لعاصر الجون، ومستخرجها وردية اللون، وحابسها في الدن، ومنتظرها برهة من الدهر، وشاربها ورد العطشان. فاجتنبوا ما يذهب العقول، فبها عرف الصواب)
- 9 -
(أحسن الفضل ما شهد به الملأ لغير شاهد؛ إذ كان الغائب كثير العائب، والحاضر يلقي بالوجه الناظر؛ والدعوى رأس مال قلما ربح تاجره وإن صدق. وأحب لابن آدم أن تكون مناقبه كمناقب الطرف الرائع والسيف الحسام تذكر، وهما صامتان)
- 10 -
(قد يكون الخمول داعياً للنباهة كالنار ستر ضوءها باليبيس فأظهر ذلك لهباً)(252/8)
أبو العلاء حسنة من حسنات سيدي وسيده (محمد) - صلى الإله على محمد - هداه (كتاب الله) فكان من المهديين ومن الأئمة الهادين، وكان (والله) رهين المحبسين أزهد الزاهدين. واستضاء بالقرآن وبلاغة القرآن فأضاءت أقواله وأشعت وبهرت الناظرين والسامعين
نور القرآن قولاً فعلاً، وسما صاحبه في القائلين
إنما القرآن هدى الناطقين. إنما القرآن نور العالمين
غث قول لم يهذبه (الكتاب)
القارئ(252/9)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ترجع بعض أسباب (الإضراب) إلى أن الطلبة يتصورون نظام المدرسة مفروضاً عليهم، ويتصورون أنفسهم جزءاً منفصلاً عن ذلك النظام.!)
(لا يستطيع ذو الساعد القوي إلا أن يوجد في المدرسة نظاماً آلياً لا روح فيه.!)
(يجب أن يعرف الطلبة أنهم عندما يثورون ويضربون إنما يفعلون ذلك ضد أنفسهم.!)
(لسنا نريد أولئك الأساتذة الذين يلقنون الطلبة العلم فحسب، ولكن أولئك الذين يحدثونهم أيضاً في أشياء كثيرة ويوحون إليهم أمثل أساليب الحياة.!)
(من رسالة الدكتور جاكس)
5 - النظام
تناولت في المقال السابق أزمة المتعلمين العاطلين ببعض الشرح والتعليل، وقدمت بعض ما ينبغي أن يؤخذ به درءاً للخطر وتلافياً لنتائجه القريبة والبعيدة، وسأتناول اليوم ناحية أخرى هامة هي ناحية النظام المدرسي وأثره في نفوس النشء:
1 - النظام الحاضر
ولعلك تدري ما هو النظام الحاضر وما هي نتائجه! لعلك تعرف أن (الآلية) تغلب على ذلك النظام إلى حد خطير يجعل المدرسة غير محبوبة، ويجعل (الإضراب) محتملاً لأهون الأسباب! ولعلك تعلم فداحة نسبة الغياب والتأخر في معاهدنا وكثرة ما نحتاج إليه من عقاب وخصم وتنبيه وتحذير في كل صباح! أجل، ولعلك تعرف بعد هذا ما قد يحدث من هروب بالليل أو بالنهار، ومن (تزويغ) من بعض الدروس إذا اقتضى الحال! ومن حلول الفوضى والاضطراب إذا غفلت عين الناظر أو الأستاذ، واختفت العصا وزال الوعيد والتهديد والرفض والإنذار!! أجل! ولعلك تعلم أيضاً أن المدرس قد يلقى من العناء في حفظ نظام الفصل بعض ما يلقى من العناء في التدريس! وأنه يحتاج أحياناً لأن يكون شرطياً أكثر مما يحتاج لأن يكون أستاذاً!! لعلك تعرف ذلك كله، ولعلك تدرك منه أن (النظام) قائم(252/10)
عندنا على القوة والإرهاب أكثر مما هو قائم على الرغبة والشعور، وأن ما يشوب حياتنا خارج المدارس من فشل أو فوضى بسبب انعدام المنطق فيها إنما يرجع إلى أن المدرسة لم تفلح بعد في غرس النظام فينا وجعله دماً يجري في العروق قبل أن يكون مظاهر وقشوراً!! وإلى أنها لا تزال تبدو كريهة غير محببة ولا مغرية، يبهظنا نظامها، ويرهقنا عملها، وتثقلنا واجباتها، ولا نرى فيها بعد هذا من المتعة والنعيم ما قد يخفف من هذا الإرهاق وذلك الإبهاظ!!
أترى لو كان الأمر على غير ما أقول: أكان الطلبة يضربون ويتركون فصولهم لمجرد استقبال زيد أو عمرو مهما قيل في ضعف الإدارة المدرسية أو الإشراف الوزاري؟؟
أترى لو كان حب النظام متغلغلاً في نفوس الطلبة: أكانوا يهددون بالإضراب كلما عنت لهم حاجة، فإذا ما أضربوا انقلبوا إلى جماعات ثائرة متمردة، وأعلنوا على المدرسة معاملها وأثاثها - وأحياناً ناظرها ومدرسيها - حرباً عواناً لا تبقى ولا تذر؟
ذلك إذاً نظام آلي تعسفي مبغوض!، وتلك إذاً نتائج خطيرة تسود حياتنا الخاصة والعامة وتجعل الفشل والاضطراب نصيبنا المحتوم؛ وإذا كان (النظام الحق) سر عظيم من أسرار النجاح تتحلى به الشعوب العظيمة كالإنجليز والألمان، فما أحوجنا في نهضتنا الحاضرة ومركزنا الحربي الدقيق إلى التحلي به والأخذ بروحه وتفاصيله. . .!؟
سبيل الإصلاح
ويرى الدكتور جاكسون أن الإصلاح إنما يتأتى عن طريق تعليم الطلبة كيف يحترمون (السلطة المشروعة) إذ ما معنى أن يتملك زمامهم نفر من خطبائهم ومهيجيهم، ويقف ناظرهم وأساتذتهم عاجزين حتى عن توجيه الكلام إليهم؟؟ كذلك يجب ألا نقبل أبداً التهديد بالإضراب كوسيلة منتجة تحقق لهم طلباتهم؛ وإنما يجب أن نعاقب الداعين إلى الخروج على سلطة الناظر عقاباً صارماً رادعاً، وألا نستجيب إلى طلباتهم إلا إذا اتخذوا في رفعها ومناقشتها الطريق المشروع والأسلوب اللائق بطلبة يتثقفون ويتهذبون!، أما نظام المدرسة الذي له ضلع كبير في تلك الحالة الشاذة فيجب أن يتبدل بحيث يصبح أكثر مرونة، وبحيث يشعر الطلبة أنفسهم أنهم جزء فيه لا يتجزأ!، وبذلك يصبح إضرابهم موجهاً ضد أنفسهم، ويصبح إخلاصهم للمدرسة خير ضامن لانتظامهم في عملهم واحترامهم لقانونهم.(252/11)
ويتطلب ذلك النظام الجديد منا أن نفهم الطفل خطأه قبل أن نثور عليه ونصخب في وجهه؛ وأن ننشد منه الطاعة المصحوبة بالرضا والاحترام قبل أن ننشد منه الخضوع الممزوج بالرهبة والخوف؛ وأن نعامله معاملة ديمقراطية ونعرف له حقه كعضو في جسم حي متعدد الأعضاء؛ وأن نقنعه بأن خطأه إنما يعود على المجتمع الذي هو عضو فيه مما قد يثير غضب هذا المجتمع عليه؛ وأن نجعل لجسم المدرسة غاية سامية في رأسه ونطالبه بالمساهمة في تحقيقها كعضو فعال في ذلك الجسم؛ وأن ندخل في المدرسة ذاتها من أساليب المتعة والإغراء والجمال والفن، ما يزيد في تحمسه لها وشغفه بها حتى يعز عليه أن يتركها أو أن يعبث بجلالها ووقارها؛ وأن نقدم له مدرسين من طراز خاص يستطيعون أن يمتزجوا بنفسه، وأن يحدثوه في أشياء كثيرة، وأن يلقنونه أمثل أساليب الحياة؛ وأن نربط ما بين بيته وبين المدرسة برباط متين، فيلتقي الناظر والمدرسون في الآن بعد الآخر بأهله مجتمعين مع أهل زملائه في ساحة المدرسة حيث يدور النصح والإرشاد، ويتحقق تعاون المدرسة مع البيت على نحو مأمون
وأن ندفع به إلى مختلف الجمعيات المدرسية حيث توفر له مجتمعاً صغيراً له غاية ولإفراده من الحقوق والواجبات والقانون والنظام ما يؤهله لأن يكون عضواً حياً في جسم حي
وأن نتيح له من ألوان الرياضة البدنية ما ينمي جسمه ويقوي عضله ويروح عن نفسه ويعلمه أن الخسارة بحق خير من الفوز بباطل، وأن المرمى واحد والجميع يعملون متعاونين من أجله
وأن نقدم له من الجوائز الأدبية والمادية ما يثير فيه روح المنافسة الشريفة، ويحببه في العمل الذي قد جوزي عليه خيراً، ويجعل مجده الشخصي عائداً على مجد المدرسة كلها بالعظمة والخير. .!!
بذلك وبغيره نوجد في المدرسة نظاماً حياً يمتد من الملعب إلى حجرة الدرس، ويتحقق في حضور الرقيب كما يتحقق عند غيبته، وبذلك وبغيره نستطيع أن نخرج الرجل الاجتماعي المنشود الذي يرعى قوانين أمته، ويطيع عرفها، ويندمج في وحدتها الكبرى غير ناظر إلى رياسة تذيع اسمه، أو منصب يدر عليه الخير، أو شخص يحسده ويسعى إلى تحطيمه(252/12)
بالمنافسة الشريفة وغير الشريفة.!!
ولعلك تعرف بعد هذا أن قوام ذلك النظام المنشود إنما هو الناظر والمدرسون، فترى ماذا يمنع نظارنا ومدرسينا من أن يوجدوا هذا النظام في معاهدهم؟ ذلك ما أدعوك اليوم إلى التفكير فيه، وما سأحاول أن أعرض لبعض نواحيه في العدد القادم. .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(252/13)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 28 -
(قرأت كلمة الأستاذ سيد قطب (بين العقاد والرافعي) في العدد السالف من الرسالة؛ وأنا أعمل الآن عمل المؤرخ لحياة قد استأثر بها التاريخ، والأستاذ قطب يريد أن يكون ناقداً، وفي مذهبه أنه (لا يصح أن يكون الموت معطلاً للنقد). . . وفي مذهبنا أنه لا ينبغي أن يكون بيني وبينه جدال يعطل التاريخ؛ ومع ذلك فإن ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا. ولقد مات الرافعي ولكنه خلف طائفة كريمة من الأدباء، كلهم أمين على أدبه حريص على تراثه؛ فلا جرم أن يتولى تزييف هذا النقد أو تعديله رجل غيري ممن خلف الرافعي لهم أدبه أمناء عليه، لأفرغ لما أنا فيه؛ فلينتدب له صديقنا (الأستاذ محمود محمد شاكر)، فتلك من أمانات الرافعي في عنقه)
العريان
الملاح التائه
بعد ما أنشأ الرافعي مقالة (وحي الهجرة في نفسي) للعدد الممتاز من الرسالة في سنة 1353هـ، أهدى إليه الشاعر المهندس علي محمود طه ديوانه (الملاح التائه)، وأحسبه طلب إليه أن يكتب عنه. وكان بين الرافعي والشاعر المهندس صلة قديمة من الود، أظنها نشأت في حجرة الأستاذ فؤاد صروف محرر المقتطف، حيث كان الرافعي يقضي أكثر أوقات فراغه كلما هبط إلى القاهرة لعمل من أعماله. وهناك كان يلتقي الرافعي، وصروف وإسماعيل مظهر، ومحمود شاكر، والمعلوف، وغيرهم من أدباء العربية، فيحتدم الجدل ساعات في موضوعات شتى من الأدب. ولم يكن للرافعي ندوة أدبية يقصد إليها كلما جاء القاهرة منذ هجر فلانة - أحب إليه من دار المقتطف، ثم صار له ندوة ثانية من بعد حين(252/14)
اتصل سببه بالرسالة؛ فكان يقضي وقته بين عيادة الدكتور شخاشيري في فم الخليج، وعبد القادر حمزة والمازني في البلاغ، وإخوان صروف في المقتطف، والزيات في دار الرسالة. ولم يلتق إلا مرة أو مرتين بالأستاذ أحمد أمين والدكتور عزام في لجنة التأليف والترجمة والنشر، عندما كانت اللجنة قائمة على طبع كتابه وحي القلم
قلت: إنه كانت بين الرافعي والشاعر علي محمود طه صلة من الود، ومنها أن الشاعر المهندس وضع له رسماً (تصميماً) للبيت الذي كان في نيته أن يبنيه لينتقل إليه وينقل دار كتبه قبل أن يموت. ولهذا البيت قصة لم تتم، لأن هذا البيت لم يتم. .، فقد كان كل ما ادخره الرافعي من جهاده بضعاً وثلاثين سنة بضع مئات من الجنيهات، اشترى بنصفها قراريط لينشئ فيها حديقة وبيتاً يسكنه - إذ كان ومازال إلى أن مات يسكن بيت أبيه - وبقي معه بعد ذلك قدر من المال لا يكفي نفقات البناء والإنشاء، فآثر أن ينتظر حتى يجتمع إليه شيء، وأسلف صهره ما بقي عنده من المال إلى أجل، وفي النفس أمل. . . ثم. . . ثم جاءت الأزمة فأكلت ثروة صهره جميعها لم تبق منها على شيء، وضاعت ذخيرة الرافعي فيما ضاع ولم يستطع المدين وفاء الدين، فلم يبق للرافعي من جهاده وما ادخر إلا الأرض الخربة، والأمل في عطف الله، وخطوط تبين حدود البيت وحجراته وأبهاءه وحديقته، مرسومة على ورقة زرقاء. . .!
وجاءه ديوان الشاعر علي محمود طه، وديوان الماحي؛ فدفعهما إلي لأختار له ما يقرأ من كليهما. ولم أكن عرف يومئذ ما بينه وبين الشاعر المهندس، ولكن رأيي في ديوانه وافق هواه؛ فما فرغت من قراءته حتى دفعته إليه وعلى هامشه إشارات بالقلم، وما دفعته إليه حتى تهيأ للكتابة عنه. . .
وأنشأ مقالة مسهبة نشرها في المقطم، تحدث فيها عن الشعر حديثاً يبين مذهبه وطريقته في فهم الشعر وفي إنشائه؛ ثم انثنى إلى الشاعر المهندس يمدح ويثني، وينتقد وينصح. . . وكان مؤمناً بما كتب، ولكن إيحاءات من الواعية الباطنة كانت تملي عليه بعض الحديث في التعريض ببعض الشعراء المعاصرين. . .
وتناول الأستاذ المازني ديوان (الملاح التائه) في البلاغ بعدما تناوله الرافعي، فعاب عليه أشياء كان يمتدحها الرافعي، وأخذ على الشاعر أنه كثير العناية باللفظ والعبارة وجزالة(252/15)
الأسلوب؛ فكانت مقالة الأستاذ المازني حافزة للرافعي على أن ينشئ مقالة للرسالة في الرد عليه، جعل عنوانها (الصحافة لا تجني على الأدب ولكن على فنيته)؛ فبهذه المقالة كان الرافعي يقصد الأستاذ المازني، دفاعاً عن صديقه الشاعر، أو دفاعاً عن مذهبه في الشعر. وكانت هذه أولى مقالات الرافعي في الرسالة بعد فترة من مقالة (وحي الهجرة) وقد أنشأها على نهجه القديم، وحاول فيها فناً من التهكم في قصة اخترعها عن الأصمعي الراوية في عهد الرشيد
في الرسالة
كان الرافعي مفتوناُ بمقالاته الثلاث التي أنشأها في هذه الفترة: البلاغة النبوية، وحقيقة المسلم، ووحي الهجرة. وكان حسن وقعها عند كثير من القراء حافزاً له على الاستمرار في هذا الباب من الأدب الديني، فعقد النية على أن يكتب السيرة النبوية كلها على هذا النسق الفلسفي، ليجعلها كتاباً بعنوانه، يتناول سيرة النبي المعظم - صلى الله عليه وسلم - على طريقة من التحليل والفلسفة، لا على نسق من الرواية. فأنشأ بعد ذلك مقالاته: (سمو الفقر)، و (الإنسانية العليا)، ثم بان له من بعد أن هذا الفن من الإنشاء عسر الهضم عند كثير من قراء الرسالة، فتركه إلى موضوعات أخرى يعالج بها بعض مشاكل الاجتماع في الحياة المصرية، على أن يكتب ما يتيسر له من المقالات النبوية نجوماً في فترات متباعدة حتى لا يمل قراءه أو يثقل عليهم. وسأتحدث من بعد عن كل مقال من المقالات التي أنشأها للرسالة في الفترة التي صحبته فيها، لعل ذلك يعين على فهم أدب الرجل ودوافعه ومعانيه؛ ولعله يبلغ بي الوسيلة إلى الذين لا يفهمون أدب الرافعي ثم يحاولون أن يتحدثوا عن أدب الطبع وأدب الذهن، أو الأدب الفني والأدب النفسي. . .
ولكن علي قبل أن أبدأ هذا الحديث، أن أصف الرافعي حين يهم بموضوعه، ثم حين يفكر فيه، ثم حين يتهيأ لكتابته، ثم حين يمليه علي من القصاصات المبعثرة على مكتبه، فإن ذلك من الموضوع فاتحته وأوله:
اختيار الموضوع كان أول عمل يحتفل له الرافعي؛ وإذ كان لم يعمل في الصحافة قبل اشتغاله بالرسالة، فإنه لم يتعود من قبل أن يفتش عن الموضوع؛ ولم يكن يحاول الكتابة إلا أن يدفعه إلى الكتابة دافع يجده في نفسه قبل أن يطلبه؛ فلما دعاه الزيات ليكتب للرسالة(252/16)
موضوعاً كل أسبوع، راح يلتمس الموضوعات التي تصلح أن يكتب فيها للرسالة. وكان يضيق بذلك ويتحير، ثم لم يلبث أن تعودها، فكان يرسل عينة وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة، ثم يختار موضوعه مما يرى ويسمع ويشاهد ويحس، ثم لا يبدأ أن يجمع له فكره ويهيئ عناصره إلا أن يجد له صدى في نفسه، وحديثاً في فكره، وانفعالاً في باطنه. وكثيراً ما كان يعرض له أكثر من موضوع؛ وكثيراً ما كان يرتج عليه فلا يجد موضوعه إلا في اللحظة الأخيرة، واللحظة الأخيرة عنده قبل موعد إرسال المقال بثلاثة أيام!
فمن ذلك، ومن خشية الارتاج والحرج، كان دائماً في جيبه ورقات، يكتب في إحداها عنوان كل ما يخطر له من موضوعات الأدب، ليعود إليها عند الحاجة؛ ويتخذ الورقات الباقية مذكرة يقيد فيها الخواطر التي تتفق له في أي من هذه الموضوعات أين يكون. وبلغ بذلك أن يجتمع عنده في النهاية ثبت حافل بعناوين مقالات لم يكتبها ولم يفرغ لها باله، وورقات أخرى حاشدة بخواطر ومعان شتى في أكثر من موضوع واحد، لا تربط بينها رابطة في المعنى ولا في الموضوع. ومن هذه الورقات، ومن فضلات المعاني في المقالات التي كتبها وفرغ منها - كان يختار (كلمة وكليمة) التي كان ينشرها في فترات متباعدة من الرسالة كلما وجد حاجة إلى الراحة من عناء الكتابة. فهذه الكلمات هي إحدى ثلاث: خواطر مبعثرة كان يلقاها في غير وقتها، أو عناوين موضوعات لم تتهيأ له الفرصة لكتابتها، أو فتات من مقالات كتبها وفرغ منها وبقيت عنده هذه المعاني بعد تمام الكتابة إذ لم بجد لها موضعاً مما كتب
وبسبب أنه كان يقيد عناوين الموضوعات التي كان يختارها ليكتبها في وقتها، كان يعد قراءه أحياناً بموضوعات ثم لا يكتبها ولا يفي بما وعد، لأنه لا يملك منها إلا عنواناً في ورقة بيضاء؛ ومن ذلك مقالة (الزبال الفيلسوف) التي وعد أن يكتبها حين أنشأ للرسالة قصة (بنت الباشا) ثم مضت ثلاثة أعوام ووافاه الأجل وما تزال مقالة الزبال عنواناً في رأس ورقة تحته نثار من الخواطر والمعاني التي كان يدخرها إلى يومها المؤمل!
ولقد وجدت على مكتبه في طنطا غداة نعيه كثيراُ من هذه الورقات، تشير إلى كثير من أمل الأحياء والى كثير من خداع الحياة. . .!(252/17)
فإذا تم له اختيار الموضوع الذي يتهيأ لكتابته، تركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته؛ ويدعه كذلك وقتاً ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في كل موجود يراه صوتاً يسمعه، وكأن في كل ما يسمعه لوناً يراه، وكأن في كل شيء شيئاً زائداً على حقيقته يملي عليه معنى أو رأياً أو فكرة. . .
فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف - والقدر الكافي لتجتمع له هذه الخواطر هو يومان أو ثلاثة - يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى، وجملة الىجملة، ورأياً إلى رأي. فهذه هي الخطوط الأولى من هيكل المقالة
ثم هو يعود بعد ذلك إلى هذه الخواطر المرتبة - بعد أن ينفي عنها من الفضول ما يدخره لـ (كلمة وكليمة) أو لموضوع آخر - فينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا: يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، ويتفطر له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها
إلى هنا يكون قد انتهى عمل الذهن، وعمل النفس، ويبقى عمل الفن والصناعة لتخرج مقالة الرافعي إلى القراء في قالبها الأخير الذي يطالع به الأدباء. . . وبيني وبين القراء ميعاد. . .
(شبرا)
محمد سعيد العريان(252/18)
من برجنا العاجي
أذكر أني ما قرأت بعض فقرات من (يوليوس قيصر) لشكسبير، إلا غمرني حزن حقيقي. قصة أخرى أذكر أيضاً أنها كانت تترك في نفسي عين الأثر: هي رواية فرنسية تسمى (نابليون المسكين) لكاتب فرنسي يسمى (برنارزبمر) يصور فيها الإمبراطور سجيناً في جزيرة سانت هيلانة، وقد قصت أجنحة هذا النسر الهائل، وقلمت مخالبه، وأمسى مخلوقاً بائساً يهزأ به خادمه ويخفي عنه غليونه الذي يدخن فيه، ويهمله سجانه الإنجليزي ويدعه يتقلب طول الليل على مضجع الألم من مرض أضراسه، فلا يرحمه ولا يحضر له طبيباً ولا دواء، ويلقبه (بالدب) الذي وضع في أنفه حلقة من حديد ويسمح لبعض الزائرين من السائحين أن ينظروا إليه خلسة من ثقب باب حجرته، كأنه أسد هرم رابض في قفصه بحديقة الحيوان، هذا الذي كان وحده يقيم العروش ويثل العروش، ويدب بحذائه العسكري على أديم أوروبا فتهتز لمشيته التيجان على رؤوس الملوك. وكان يقول في صوته الحديدي: أنا وحدي (أوربا)، فتقول له أوروبا كلها: بل أنت (العالم). نعم لا شيء يؤلم نفسي مثل رؤية (العظيم) يرى سقوطه بعينيه، ومع ذلك لقد احتفظ هذا العظيم بكبريائه حتى النفس الأخير. فلقد كان يصر على أن يلقب بالامبراطور، ولقد خاطبه في ذلك مرة حارسه الإنجليزي قائلاً له: إمبراطور على من؟ وإمبراطور على ماذا؟ فلم يجد منه إلا تشبثاً. فأذعن رفقاً به أو سخرية منه، وترك له هذا اللقب الذي لا يغني ولا يفيد. ولبث هذا البطل المهجور يعيش في هذه الجزيرة المهجورة إلى أن مات، لا بين قصف المدافع ودوي الأبواق ودق الطبول وهتاف العالم من جميع الأركان، ولكن بين سكون النسيان، لا يشيع جثمانه العظيم غير خادم وسجان. يا لقسوة القدر! إن السماء لتنتقم أحياناً من العظيم الذي يتوهم أنه غير وجه العالم بأعماله، فتؤخر موته بضعة أيام عن الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يموت، حتى يرى بعينيه قبل أن تغلقا أن العالم بخير لم يتغير فيه شيء بذهابه، ولم تخفت ضحكاته ولم تقف عجلاته برحيله.
توفيق الحكيم
آراء حرة
بين العقاد والرافعي(252/19)
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
في كلمة الأستاذ سعيد العريان الأخيرة، وردت الجمل الآتية يصف نقد الرافعي لوحي الأربعين
(وكان نقداً مراً حامياً اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه، ولكنه كان نقداً منزهاً عن العيب)
(أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية، إن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر، وأقربها إلى المثال الصحيح)
(من قرأ (على السفود) فعابه على الرافعي وأنزله ما كان ينزله من نفسه، فليقرأ مقال الرافعي في نقد (وحي الأربعين) ليرى الرأي المجرد في شعر الأستاذ العقاد عن الرافعي)
وفي هذه الكلمة نفسها يقول عند رد العقاد:
(قرأت مقالة العقاد في الرد على الرافعي، فوجدت أسلوباً في الرد لم أكن أنتظره، يؤلم ولا يفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج
ويسمى الرد كله: (طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه)
ويقول عن المقالة كلها: (وكان أكثرها سباباً وشتيمة، وأقلها في الرد والدفاع). . . الخ. . . الخ
هذا ما يراه الأستاذ سعيد في نقد الرافعي ورد العقاد. فمن شاء أن يعرف ما هو نقد الرافعي، فليسمع نماذج منه تعطي صورة كاملة عنه، لأنها منتقاة من نواح مختلفة فيه، لتمثل (فنونه) كلها. وإني لأستميح قراء الرسالة العذر، حين أستبيح أسماعهم وأذواقهم في سماعها، وقد اختصرت على أقلها إفحاشاً وهاهي ذي:
1 - (وما يخيل إلي في شعر العقاد إلا أنه مستنقع اخضرت ضفتاه، فهذا الجمال القليل فيه لا يكشف عن سر ورونق وإمتاع، وإنما يزيد في القبح والشنعة. وما هو المستنقع إلا البعوض الملاريا والطحلب والوخم والعفن. ولو أنك كنت شاعراً دقيق الحس، مصفى الذوق، عالي البيان، ثم قرأت شعر العقاد لرأيت من ألفاظه ألفاظاً تلسع الذوق لسع(252/20)
البعوض، ومن شعره أبياتاً تنهق نهيق الضفادع التي هي حمير الماء
2 - يقول العقاد عن حبيبته:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
فلا يرى الرافعي في هذا البيت الفريد إلا أن يقول:
(قلنا فإن (من كل موجود) البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنجليزي إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون من هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟)
3 - يقول العقاد في طرافة ودعابة عن حسان شاطئ استانلي
ألقى لهن بقوسه ... قزح وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف
فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول:
(فقزح لا يلقي قوسه أبداً، إذ لا يفصل منه. قال في اللسان (لا يفصل قزح من قوس) فإذا امتنع فكيف يقال: (أدبر وانصرف)
أما قزح العقاد، فلعله الخواجة قزح المالطي، مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلي الذي قيلت فيه القصيدة
4 - ويسمع العقاد، صيحات الاستنكار للهو الشواطئ وما
تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب
بالحيوية والجمال:
عيد الشباب ولا كلا ... م ولا ملام ولا خرف
فإذا الرافعي يقول:
(إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه
عيد الشباب فلا كلا ... م ولا ملام (بلا قرف)!
هذه نماذج منوعة من ذلك النقد الذي ينال الرضاء والاستحسان من أصدقاء الرافعي، ومن(252/21)
أبناء مدرسته، ويعتبر (نقداً منزهاً عن العيب)!
وهذا هو الكلام الذي يعتبر رد العقاد عليه (سباباً وشتيمة)!
ومثل هذه الآراء الغريبة تثير الحنق وتستفز النفوس، ومع هذا فسأحاول أن أناقشها بهدوء، وأن أخلص منها إلى البرهنة على ما سبق أن أسلفته من رأي في الرافعي
فأما المثال الأول فما أدري ماذا أسميه إن لم أقل عنه: (إنه إفحاش) أو إنه (سباب وشتائم) بتعبير أصدقاء الرافعي وهو وأمثاله يؤلف نصف النقد في أوائله وأوسطه وأواخره، فلنمر عليه مر الكرام
وأما المثال الثاني فهو مصداق رأيي في أن الرافعي أديب الذهن لا أديب الطبع، وأنه تنقصه (العقيدة) التي هي وليدة الطبع.
أو. لا. فأي (طبع) سليم يتجه إلى تفسير بيت عزلي في معرض إعجاب شاعر بحبيبته، واستغراق في شمول شخصيتها بأن (كل موجود) هو البق والقمل والنمل. . . الخ)؟ غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة) و (استكناه) لجوهر الشخصية، و (خيال بارع) تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا، عالماً كاملاً من كل موجود وموعود؟
أحد أمرين:
إما أن الرافعي ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت إلى مثل هذه اللفتات الغنية بالشعور
وإما أنه يدرك هذا الجمال، ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسه وأدركه
وهو في الحالة الأولى مسلوب (الطبع)، وفي الثانية مسلوب (العقيدة). فأيهما يختار له جماعة الأصدقاء؟
والمثال الثالث فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخس من السابقة. ففي الأولى كان تلاعباً بصور ذهنية، وهو هنا تلاعب ألفاظ لغوية!
أولاً فمن ذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقياً بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرف، مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلب جمالهن جماله!(252/22)
ألا تستحق مثل هذه الطرافة، ومثل تلك الحيوية من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك هل يفصل قوس عن قزح أولا يفصل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال!
أهذا هو النقد الذي هو (أقرب إلى المثال الصحيح)؟
وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء!
والمثال الرابع يغنينا الرافعي عن الحديث فيه، فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم استغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد، وقيود العرف، ولم يجد ما يقوله إلا (بلا قرف) وهو قول لا تعليق لنا عليه
هذه نماذج يبين أولها شتائم الرافعي وسبابه؛ ويمثل الثاني تلاعبه بالصور الذهنية، واستغلاق طبعه دون تملي الإحساس الفني؛ ويمثل الثالث تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تشعه في الخيال من صور طريفة؛ ويمثل الرابع هروبه من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف - في رأيه - بنكتة أو تهكم أو شتيمة.
وليس في نقده كله إلا أمثلة لتلك النماذج، وهي كلها لا تستدعي رداً من المنقود. وإني لأعجب كيف رد العقاد على مثل هذا، وكيف عني أن يناقش ما لا يناقش من الآراء والتحايلات
لقد قلت في كلمة سابقة: إني أنا - لا العقاد - كنت مستعداً أن أثور وأن أستهزئ، لو تناول متناول أدبي بمثل هذا الضيق في الفهم والاستغلاق في الشعور، أو بمثل تلك التلاعبات الذهنية واللغوية، واللفات البهلوانية
وإنني لأكرر ما قلته، وأعجب من بعض أصدقاء الرافعي: كيف كانوا يريدون من العقاد أن يقابل مثل هذا بالنقاش الهادئ (ويرد الجرح بالعلاج لا بالجرح). ولماذا أيها المنصفون يطلب من العقاد وحده أن يلزم جانب النقد الأدبي مع من لا يلتزمه
وبعد فقد اخترت أن أثبت رأيي في الرافعي من نقده الذي استحق إعجاب أصدقائه، وفي مرة أخرى سأفصل هذا الرأي معززاً بإنتاجه الطبيعي الخالص من فورة الخصومة وحدة النزال(252/23)
(حلوان)
سيد قطب(252/24)
رسالة الأديب إلى الحياة العربية
للدكتور بشر فارس
الأديبة تريحنا من الأدباء:
القصر تدخله فيروعك الرواق الممدود والجدار المنطلق والسقف المقبب، ثم الطنافس كأنها من بطون النوق، والمصابيح كأنها انسلت من أعطاف القمر، والأسرة كأنها من عضل الزنج منحوتة. فإذا طرفك تنهكه الغلبة؛ حتى إذا انثنى إلى الخدر وارتفع له ستاره كان كالسنبلة تلطمها السموم فيغيثها البلل. الخدر: زهر مطروح، وإبريق مترع نصفه، وكأس تنظر أين شاربها، ومقعد مقتضب ولكنه وثير، ووساد كأنه خدود جمعت، وباب هنالك تدفعه بنفثة
فبورك اليوم الذي فيه حنت أنامل مي إلى قلمها!
وبعد، فقد ألقت الآنسة مي في قاعة الجامعة الأمريكية لبيروت محاضرة موضوعها رسالة الأديب إلى الحياة العربية)، وقد نشرتها (الرسالة) (رقم 248) وإذا هي محاضرة تسيل رقة وتثب خفة، فيها من الحقائق النواهض ما يكشف للذهن عن أفق منبسط وهاج.
وثمة ثلاث حقائق لم ينصرف قلم الآنسة مي إليها؛ فهل لي أن أبينها هنا؟
الأدب صناعة!
كذلك كان عند الأمم الراقية وفيها العرب أصحاب لغتنا. وكذلك هو اليوم في بلدان الفرنجة. و (الصناعة) لفظ له مدلول معين. إنما مداره هذه المجموعة من القواعد والشرائط. ومن الشرائط أن تكون منجذباً إلى الأدب سليقة، وأن تنصبه فوق كل شيء، وأن تبذل في سبيله ما عز عليك من متاع أو مطلب، وأن تنصرف إليه لوجهه. ومن القواعد ن تملك اللغة التي تكتب بها، وأن تكون مطلعاٌ على آدابها واقفاً على فنونها، وأن تكون - فوق هذا - طلاباً للعلم، مأخوذاً بحمى الاستطلاع المتصل، مستقيماً في الاداء، رغاباً في التطلع إلى التمام.
قواعد وشرائط هيهات أن تكون من مستحضرات الذهن النظري، بل هي من مستخلصات تاريخ الآداب عامة.
هل الأدب صناعة في الشرق العربي؟ إنه لصناعة عند فئة ممن يقبلون عليه وقلوبهم تحدثهم بقدره. غير أن العدد الأوفر من كتابنا وشعرائنا إنما يهجمون على الأدب من غير(252/25)
بابه.
أليس الأدب أن تقبض على قلم وتفرش ورقة وأنت عارف كيف ترفع الخبر وتخفض المضاف، وإن حيرتك حروف الجر أو أدار عقلك وصل الجمل وفصلها؟ أما الذي يغشى الورقة فمما لا شأن للقارئ فيه. أنا أكتب، وأما أن فالقراءة القراءة، بل عليك أن تكبرني. لمه؟ لأني أكتب؛ لأني أديب. أين الشهادة بأني أديب؟ إن صحيفة كيت وكيت تنشر لي. إن لي كتاب كذا وكذا. . . ما شاء الله! ماذا تقول؟ (الأدب صناعة)؟ ها ها! الأدب وحي! الأدب زير يرشح وأنا الطست من تحته! أجل أنا أقرض الشعر وإن لم أقوم أوزانه! الشعر موسيقى وأذني دف تنقره وثبات روحي اللطيفة. أجل أنا أحلل فلسفة برجسون وإن لم أقرأ أفلاطون ولا بلوطينس ولا سبينوزا ولا دركايم. إني أتسلق الدار وأعف عن إتيانها من مولجها. أجل أنا أؤلف مسرحيات وإن لم أقرأ مسرحية إفرنجية واحدة. لا حاجة بي إلى من يدلني على الطريق. أنا (موهوب). أجل أنا أصف الصور والتماثيل التي في معارض الفن وإن لم ألمح من متحف (اللوفر) سوى طرفاً من سلمه. الأدب تهويل على الناس، يا صديقي. أجل أنا أنزلق إلى الغمز بمجمع اللغة العربية وإن لم أقرأ (القرآن) ولا (المخصص) ولا (مغني اللبيب) وإن جهلت كيف أطلب مادة أدب في القاموس المحيط. أنا أنشئ افتتاحيات سياسية، والسياسة مدرجة إلى كل شيء
الأدب غذاء!
أن تشرح روحي وتزيد في علمي وترهف إحساسي وتصقل إدراكي ثم تدفعني إلى حيث أفلت من قيود المادة، ذلك الذي أرقبه منك خاصة أيها الأديب. أما أن تقصر أدبك على الترويح عن نفسي كأنك ببغاء يسلي عجوزاً عن شمطها فلي عنك في ذلك غنى. أليس بين يدي (روايات الجيب) ومجلة (اللطائف) والصور المتحركة الأميركية و (الكسار) والمزمار البلدي ورقص البطن فضلاً عن القهوات وما يقع عليها من غرائب المخلوقات؟
كأني بك تكتب وتلقي في اعتقادي أنك ممن يقود فكري فتغويني وتفسد علي معنى الأدب. وإن قلت: إني لم أهيأ بعد لتلقي أسرار فنك لقعود فهمي عن النفوذ إلى مخبآت الضمير، فما رسالتك إذن؟ أترفعني إليك أم تنخفض إلي؟
خبرني، هل رأيت - حياتك - الزهرة تميل إلينا لنستروح شذاها أم هل رأيت البحر يأتينا(252/26)
في بيوتنا لنركبه إلى الشطء المحنون إليه؟ روضني على التفكير. خذ بيدي. خذ بما تيسر لك مني نحو ذلك الضوء الذي تراه (من باب الفرض على الأقل) ثم تأت لعيني وتلطف في فتحها. إن الغشاوة التي تركبها إنما أمرها موكول إليك. وما هي بالمستعصية والله! ولكن إياك والسطو على تآليف غيرك ولا سيما الفرنجة، فإنما روحك التي أتلمسها فيما تكتب، ومن روحي إلى روحك رسول، ألسنا من جبلة واحدة؟
المرأة قوام الأدب!
المرأة عندنا لم تعرف بعد ما المرأة. فإن كانت مثقفة فإنما يشغلها التحرر والنسج على منوال الإفرنجية في مظاهرها. وإن كانت أمية فإن هي إلا عرض في عينيها. آه لو عرفت المرأة أن الأدب منها واليها! لأن بين يديها مفتاح الغبطة والألم. ومن ذا الذي يلقنها هذا غير الاديب، بل من ذا الذي يقفها على وليجة نفسها غيره؟
الجانب الأعظم من أدبنا أشبه شيء بصحراء رباها متناسقة ورمالها متناسبة وليس فيها بئر ولا نخل، حتى إذا جزتها وفوزت أصبت عند مخرجها آباراً مهجورة ونخلاً تكاد الوحدة تصرعه. إن البيئة الشرقية مقسمة قسمين: هنا الرجال وهنالك النساء. وما أدري - حتى اليوم كيف يستمرئ الرجال العيش على هذا النحو الشاذ. ولذلك ترى أدبنا المحدث غير طبيعي في جملته؛ أما الشعر فمصنوع، وأما القصص فملفق، وأما الرسائل فجافة
وإذا فوض إلى الأديب أن يرشد المرأة إلى سريرة نفسها، فمما وكل إلى المرأة بعد هذا أن تلهم الأديب من طريق مباشر أو غير مباشر، وأن تهذب القارئ بلطف حسها فتقوم مقام الهمزة الدقيقة تصل بين الأدب الحق والمتطلع إليه
بشر فارس
رَجْع: في مقالي المنشور في العدد الماضي من الرسالة (250) وعنوانه (في المذهب الرمزي) (تعليق)، بعض هفوات، منها: وكان لأجل، والصواب: لأهل - والصواب: - والصواب: - أو والصواب: الـ - الطبيعة البشرية الموثوقة، والصواب: الموثقة - ' والصواب: ' بين التأثيرية، والصواب: التأثرية - أن أدفع وهماً، والصواب: وهماً ممكناً
ب. ف(252/27)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 17 -
أمري إلى الحب!
أمري إلى الهوى!
بل أمري إلى الله الذي يقلب القلوب
كانت ليلتي في قطار البصرة ليلة شاتية وما كنت أخذت أُهبتي لمكافحة البرد في قطار البصرة، وهل كنت أعلم أن البرد في قطار البصرة له تواريخ؟
لقد عشت دهري مفتوناً بشبابي، لأني نشأت في أسرة كان أكثر رجالها من العماليق
وكذلك يزين لي الفتون أن أمتطي قطار البصرة في ليلة شاتية بلا غطاء
دخلت البصرة محموماً، دخلتها أهذي هذيان المحمومين
ولكني تذكرت فجأة أن سعادة السيد عبد الجبار الراوي حاكم الحلة كان كلفني تبليغ التحية إلى سعادة الدكتور عبد الحميد الطوخي مدير الصحة بالبصرة، وتذكرت أن هذا الطبيب مصري صقله العراق، وأنا على كل حال أحب المصريين، فقد شاع في بقاع الأرض أني مصري، ومن واجبي أن أحب مصر وفاءً أو رياءً.
ذهبت محموماً للتسليم على هذا الطبيب فكاد يطير من الفرح بلقائي. فقلت له: هون عليك، فما جئت إلا لأبلغك تحية حاكم الحلة، الحلة الجميلة التي تشبه شبين الكوم حاضرة المنوفية
وما هي إلا لحظة حتى نقلني هذا الطبيب إلى حاكم البصرة، والى مدير المعارف بالبصرة، وكان اليوم كله طوافاً بما في البصرة من غرائب وأعاجيب
وعند الغروب لقيني الدكتور عبد المجيد القصاب فقال: ارجع بنا إلى بغداد. فقلت: لا أستطيع. فقال: إنك ستلقي كلمة مصر في تأبين المغفور له ياسين باشا الهاشمي، واسمك في منهج الاحتفال
فقلت: أعرف ذلك، وأفهم قيمة الشرف الذي أظفر به في حفلة يخطب فيها فخامة رئيس الوزراء، وفخامة نوري باشا السعيد ولكني محموم، وما أستطيع أن أعاقر البرد في قطار البصرة ليلتين متواليتين(252/29)
وأرسلت برقية اعتذار، وأويت إلى فراشي بالفندق أعاني الغربة والمرض والحب. وشاع في البصرة أني مريض، فتفضل حاكم البصرة ومر بالفندق فترك لي كلمة عطف، وتفضل مدير الصحة بعيادتي فأزعجه حالي
وفي الصباح أفقت، فكان أكبر همي أن أزور قبر أستاذي في التصوف، مولاي الحسن البصري، ولكن كيف؟ لقد قضيت ليلتي محموماً وقضت السماء ليلها في بكاء
وأويت مرة ثانية إلى الفراش لأن المطر جعل ذهابي لزيارة قبر الحسن البصري غرضاً عزيز المنال
وطلبت الجرائد لأتلهى بها فرأيت في جريدة (الناس) وجريدة (الثغر) أنى سألقي محاضرة بنادي البصرة، فذهبت في الموعد وتكلمت نحو خمسين دقيقة عن ماضي البصرة، ثم مضيت إلى الفندق فأخذت أمتعتي لأعاقر البرد من جديد في طريقي إلى بغداد
هل يعرف قارئ هذه المذكرات كيف يشقى من يقضي ثلاث عشرة ساعة في القطار وهو محموم؟
علم ذلك عند الأستاذ النبيل الذي يدير إحدى المدارس في بغداد فقد أخرج ما في حقائبه من أغطية وملابس وألقاها فوق جسمي لأنجو من البرد الذي قتل أخانا أبا الدرداء
صرعني البرد في الذهاب والإياب، وأضرعتني الحمى فلم أدخل بغداد إلا وشفتي يزينها عقبول، والعقبول هو التشقق الذي يصيب الشفاه من وهج الحمى، ومنه جاءت عقابيل الحب، وكذلك اجتمعت العقابيل في قلبي وشفتي، وهو أول حادث يقع في التاريخ
كان هذا العقبول مزعجاً، فقد كان كل من يراني يحسب أني أصبت بأخت بغداد؛ ولو صح ما حسبوا لكانت نكبة، فأخت بغداد إذا أصابت الشفة كانت نذيراً بالحرمان من جميع أخوات بغداد
ومن أجل هذا العقبول حبست نفسي في المنزل أسبوعين قضيتهما في إنجاز كتاب (عبقرية الشريف الرضي)
ولكن هذا الحبس كانت له أيضاً عقابيل، فقد اشتغلت بالسياسة العراقية مع أني طلقت السياسة المصرية منذ أعوام طوال
وتفصيل ذلك أن مجلس النواب كان يستعد لدرس معاهدة الحدود بين العراق وإيران، وكان(252/30)
شط العرب محور النزاع، شط العرب الذي تغنيت به في البصرة ونشرت ثنائي عليه جريدة البلاد
كان العراق في فورة، وكنت في فورة، وما أشقى من يضطرم صدره تحت سماء العراق!
ومضيت إلى رئيس الكتاب بالمجلس النيابي، وهو صديق عزيز، فطلبت تذكرة لحضور تلك الجلسة التاريخية. وكنت أول من دخل شرفة المجلس في ذلك اليوم، فهالني أن أرى خريطة شط العرب مرقومة بالطباشير على لوحة سوداء
كان الجو كله دخاناً في دخان، وكنت أكاد أختنق
ثم وقف وزير الخارجية يخطب، وما كان أروعه في ذلك اليوم، فقد بدد ما ران على صدري من ظلمات
وتدفق الخطباء بين معارض وموافق، وكانت جلسة برلمانية حقاً وصدقاً. كانت جلسة صريحة أبدى فيها النواب آراءهم بألفاظ لا مداورة فيها ولا التواء
خطب وزير الخارجية خطبتين في ذلك اليوم وكان بالتأكيد أشجع الخطباء، ولن أنسى أنه قال: كان في يقيني أن أقترح جعل هذه الجلسة سرية، ثم رأيت أن تكون علنية ليرى الجمهور بعينه أن الحكومة حريصة على أرض الوطن كل الحرص
وسألت أحد الصحفيين عن هذا الرجل فقال: أما تعرفه؟ هذا زميلك
فقلت: وكيف كان زميلي؟
فقال: هو سوربوني مثلك، هذا توفيق باشا السويدي خريج السوربون!
السوربون! السوربون!
رعى الله عهدي يوم كنت أجول فيها وأصول!
خرجت من مجلس النواب منشرح الصدر. ولقيني أحد النواب فقال: كيف رأيت؟ فأجبت: رأيت وجه الحق. ولكن آذاني أن تكون حجة الموافقين على معاهدة الحدود مقصورة على أن إيران جارة عزيزة. فما الذي كان يضيركم لو قلتم إن إيران أمة إسلامية، وإن المسلمين يجب أن يتسامح بعضهم مع بعض، نحن مسئولون عن الأخوة الإسلامية أما الله وأما التاريخ. مسئولون أمام الله الذي يكره أن يبغي المسلمون بعضهم على بعض، ومسئولون أمام الماضي الجميل الذي تعاونت فيه الأمة العربية والأمة الفارسية فأنجبتا أشرف ذخيرة(252/31)
من ذخائر الأدب والتشريع. إن العداوة بين العرب والفرس أجج جذوتها ناس من الأدباء، فما الذي يمنع من أن يقوم فريق من الأدباء المصلحين فيخلقوا الحب بين ايران والعراق؟
إن فرنسا لها مدرسة لنشر اللغة الفرنسية في إيران
فما الذي يمنع أن تقوم الحكومة المصرية أو الحكومة العراقية بإنشاء مدرسة لنشر اللغة العربية في إيران؟
حدق النائب في وجهي طويلاً وقال: هذا رأي وجيه، ولكن الظروف. . .
فقلت: أي ظروف؟ إن أوربا يسرها أن نتمزق. وهي قد استطاعت بالفعل أن تؤلب المسلمين بعضهم على بعض وأن تضرب العرب بعضهم ببعض. وإذا استمر الحال كذلك ربع قرن فلن تجد من يرد عليك السلام في مصر، ولن أجد من يرد علي السلام في العراق
الحمد لله. تم الصفاء بين إيران والعراق، ومرت معاهدة الحدود بسلام، والله المسئول عن هداية العرب والمسلمين
ولكن شط العرب الذي عجز عن تكدير السلام بين العراق وإيران استطاع أن يكدر السلام بيني وبين ليلاي
كنت انقطعت عن زيارة ليلى إلى أن يذهب العقبول الذي شوه شفتي، فاستوحشت ليلى لغيابي، وأرسلت ظمياء للسؤال عني، فطار بي إليها الشوق، فلما وقع بصرها على شفتي قالت:
ما هذا الذي بشفتك؟
فأجبت: هذا عقبول
فقالت: أما آن لك أن تتوب؟
فقلت: ماذا تعنين؟
فأجابت: ما هذا عقبولاً يا حضرة الدكتور
فقلت: وما هو؟
فأجابت في سخرية: هذه عضة سمكة من أسماك شط العرب!
فأقسمت بالله والحب أنني ما حاولت الصيد في شط العرب حتى تعضني السمكات
وطالت اللجاجة بيني وبين ليلى، وحملني الغضب على أن أقول: اسمعي، أنا مستعد لما هو(252/32)
أخطر من ذلك
فقالت: إيش لون؟
فقلت: أنا مستعد لتقبيل ثغر الحية
فقالت وعيناها تقذفان بالشرر المتوقد: لن تقبل ثغر الحية.
فانزعجت وعرفت أنه وعيد
وانقضت السهرة في كلام تافه، وعند الانصراف لم تسألني ليلى متى أرجع؟
آه، ثم آه!
كانت ظمياء خدعتني حين قالت إنها وصلت مع ليلى إلى القاهرة في آذار شهر الأزهار والرياحين، فقد عرفت أن آذار القاهرة غير آذار بغداد. عرفت بالتجربة أن العراقيين على حق حين يحكمون بأن (آذار، شهر الزوابع والأمطار) فقد قضيت هذا الشهر في كروب وأحزان
ولكن أي كروب وأي أحزان؟
كنت أذهب لتأدية الدروس في الصباح، وكنت أذهب بعد العصر إلى المطابع لأصحح تجارب كتابي، ثم ارجع قبيل المغرب إلى البيت لأعاني وحشة الليل، الليل الهائل، ليل بغداد
وزاد الكرب أني انقطعت انقطاعاً تاماً عن المصريين والعراقيين
انقطعت عن المصريين للسبب الذي شرحته في كتاب (ذكريات باريس) وهو سبب يؤذيني أن أسجله مرة ثانية في هذه المذكرات، وأنا في الواقع أنسى مصر حين أفارق مصر، لأني أفهم أن مصر حين ترسلني إلى باريس أو بغداد لا تريد إلا أن أفهم باريس أو بغداد. ومصر لا تلعب، فهي تحب لأبنائها أن يفهموا روح الغرب وروح الشرق، وأنا فيما أزعم مصري تحبه مصر، وإن كانت لا تلقاني بغير العبوس
وانقطعت عن العراقيين لأن حسابي عندهم أثقل من الجبال. ولن أنسى السهرة التي قضيتها في منزل السيد محمد حسين الشبيبي فقد قضيت ثلاث ساعات وأنا أتدفق كالسيل دفاعاً عن الآراء التي أذعتها في مؤلفاتي، وآذاني ذلك الجهد فمرضت يومين
أين أذهب؟ لا أدري أين أذهب(252/33)
كنت أدخر ليلى لأيام الشقاء، وهي الآن في تغضب وتعتب.
كانت ليلى تقول حين أهم بالخروج: فراقك صعب سيدي،
وهي اليوم لا تقول شيئاً من ذلك ولا تسأل متى أرجع
كانت ليلى تقول: (ليش ما جيت عندنا من زمان يا دكتور؟)
وهي اليوم تسأل فيما أظن - وبعض الظن إثم - متى أرحل عن بغداد
عافاك الله يا ليلى وأسبغ عليك نعمة العافية!
تباركت يا ربي وتعاليت
فما عانيت في حياتي بلاء إلا رأيت ما يصحبه من محمود العواقب.
فبفضل تغضب ليلى وتعتبها عرفت سراً من اغرب الأسرار، عرفت كيف ظل العراقيون أكثر من ثلاثمائة سنة يغنون هذين البيتين:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أباها عليّ الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
لقد هدني غضب ليلى فلم أعد أعرف للحياة أي مذاق، وجزعت على ما صرت إليه أشد الجزع، فهذا الربيع يفيض على أرجاء العراق أرواح الابتهاج والانشراح، وقلبي وحده يعيش بلا ربيع
وجاء (نيسان، شهر الزيادة والنقصان) فلم يهش له قلبي، وبقيت أعاني ألم الوحشة والانفراد
كنت أستطيع غشيان بعض الملاهي لأنسى همومي وما في ذلك ما يضيرني، فقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يجلس في قهوة متاتيا بالقاهرة يوم كان الجلوس في مثل تلك القهوة شيئاً غير لائق، وكان يقول: من حق الفيلسوف أن يجلس في قهوة متاتيا، وأنا دكتور في الفلسفة ومن حقي أن أجلس في قهوة متاتيون!
ولكن ملاهي بغداد فيها أغانٍ وألحان، وقد صرت بعد غضب ليلى مرهف الحس إلى حد مفزع، وأخشى أن أسمع الغناء مع الناس فتفضحني عندهم دموعي
وكان يتفق أن أسمع المذياع من حين إلى حين فأتوهمه يدمدم:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح(252/34)
ومن غريب ما وقع أن غضب ليلى قوبل بعوض مزعج هو كرم أهل العراق
كنت أدخل المطاعم للغداء أو للعشاء فأجد من يدفع عني من حيث لا أعرف. وكثر ذلك حتى أضجرني، وما كنت بخيلاً حتى أنكر الكرم، ولكن قلبي كان يهتف بقول الزميل القديم:
آل ليلى إن ضيفكُم ... واجد بالحي مذ نزلا
أمكِنوه من ثَنِيَّها ... لم يرد خمراً ولا عسلا
وفي حومة من هذه الحرب الوجدانية سمعت أن جماعة من الأطباء كتبوا يشكونني إلى الجمعية الطبية المصرية، وهم يزعمون أنني حنثت في اليمين، فقد أقسمت كما أقسموا ألا أفشي سراً لمريض، ولو كانوا يعقلون لعرفوا أن مرض ليلى أصبح معضلة دولية، ولكن هل يعقل من في قلوبهم مرض؟
آه ثم آه من حقد الزملاء
لم تسألني ليلى متى أرجع، ولكن لابد أن أرجع
وهل هنت على نفسي إلى هذا الحد؟
ما هنت على نفسي. فقد رعاني الله فعشت طول حياتي عزيزاً، ولكن هذه فرصة أختبر فيها أخلاقي. هذه فرصة ثمينة قد لا تعود. إن ليلى تحقد علي، وتتهمني بخيانة الحب، ومن واجبي نحو الأخلاق أن أرحم من يرتاب في أخلاقي، فما ارتاب في أخلاقي غير الضعفاء والمساكين
ولكن ليلى لها تاريخ، وأشقى الناس من يعشق امرأة لها تاريخ
وتاريخ ليلى ابتدأ في القاهرة واستفحل في بغداد، ومن الواجب أن أكون على بينة من تفاصيل ذلك التاريخ، وعلم ذلك عند ظمياء
- إيش لونك يا دكتور!
- أعاني ظلام الحب وظلام الليل، وإيش لون ليلى؟
- استراحت لمكايدتك فدبت في روحها العافية
- وكذلك أبني الأصدقاء ليهدموني يا ظمياء
- لا تندم على ما صنعت من جميل(252/35)
- سمعت وأطعت يا بنيتي الغالية، ولكن أحب أن نرجع إلى حديث ليلى مع الضابط عبد الحسيب
فانشرح صدر ظمياء وأخذت تقول. . .
(للحديث شجون)
زكي مبارك(252/36)
أهمية الترجمة وحركاتها في التاريخ
الترجمة في الإسلام
صفاتها وفهمها في أوربا
للأستاذ عبد العزيز عزت
كذلك كلما فتح العرب الممالك الواسعة في مشارق الأرض ومغاربها واختلطوا بأهل تلك البلاد، وكان بينهم من يسمو عليهم في الحضارة والفهم، أحس العرب بجهلهم وما يخضعون له منذ زمان بعيد من عرف الحكم المتقطعة والأوامر والنواهي التي لا تؤدي إلى خلق دورة كاملة للتفكير في موضوعات معينة، لأنهم قوم رحل يعشقون الحرية التي جعلتهم شعباً ملهماً تتقد فيه المشاعر وتسمو فيه البلاغة، وينضج فيه الشعر، ويسبح فيه الفكر بين الذاكرة والخيال دون أن يهبط إلى ظاهرات الوجود الدنيوي ليحلل عناصرها ويعسعس عن منطق الترابط العقلي بينها. عقلية يسودها الماضي بعرفه وذكريات أبطال القبائل، والمستقبل تحت عبء القضاء والقدر؛ رحبوا لهذا بخلق هجرة العقل، بعد أن مهدت لذلك من قبل هجرة الإيمان لسيد الخلق عليه السلام
فابتدأ تأريخ العقل عندهم حينما أسس المأمون (ديوان الترجمة) ببغداد عام 832 ميلادية، وكان أغلب هذا الديوان من النصارى كحنين بن اسحاق، وابنه إسحاق، وكحبيش، وقسطا بن لوقا وغيرهم فذهب هؤلاء المترجمون إلى فلاسفة اليونان يتوسلون ويستجدون فطربوا على وجه الخصوص لأفلاطون وأرسطو، فترجموا للأول خاصة ما يتعلق بعهد الشيخوخة، لأن علماء تاريخ الفلسفة كأستاذنا روبان يقسم أفلاطون إلى ثلاثة أقسام: عهد الشباب ويتأثر فيه بسقراط في جمال الأخلاق وطبيعة الفضيلة، وعهد الرجولة وفيه يبسط آراءه في نظرية المعرفة وما وراء الطبيعة وطبيعة النفس
وملكاتها، وعهد الشيخوخة وهو أهم عهوده لأنه يلخص العهدين السابقين بل كل الفلسفة اليونانية إلى عهد افلاطون، كما نجد ذلك في (طيماؤس)، وكذلك فيه يضع كتبه في السياسة كالجمهورية والسياسة والقواميس، فترجمة العرب لافلاطون وأن قلت في الكم فإنها عظمت في الكيف، هذا من الوجهة المباشرة، أما من الوجهة غير المباشرة فلقد ترجم كذلك العرب(252/37)
كتباً وإن لم تكن لأفلاطون إلا أنها تمت إلى فلسفته بصلة وصلات (ككتاب (الأثولوجيا) الذي نسب خطأ لأرسطو وهو لفلوطين، وهو (الشيخ اليوناني) على حد تعبير الشهرستاني الذي ينتمي لمدرسة الإسكندرية، وكذلك (كتاب العلل) لبرفلس، وفلسفة كل منهما تنتمي إلى فلسفة أفلاطون، وبجوار هذا كان للمسيحية أثر لا يستهان به عن طريق المترجمين لأن أغلبهم كان من المسيحيين والكل يعرف الاتصال الوثيق بين التثليث في المسيحية وخصوصاً تثليث القديس اوغسطين، والتثليث الأفلاطوني
وترجموا كذلك لأرسطو، وهنا نجد الكم يسبق الكيف لأن كل مؤلفاته قد ترجمت إلا ما كتبه في السياسة وهذا الاستثناء راجع في نظري إلى أن سياسة أرسطو سياسة (مغلقة) تختص بما للمجتمع اليوناني القديم من نظم مدنية خاصة، وإنها كذلك تقر الرق والاستعباد، وهذا يناقض مبادئ الإسلام التي تصرح أن لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وإنها أيضاً تعطي الوجه الاقتصادي في المدينة أهمية كبرى بينما نجد عند فلاسفة الإسلام الأثر ظاهراً في تغليب الوجه السياسي لأنهم يرددون كثيراً: (الناس على دين ملوكهم) وهذا راجع بطبيعة الحال إلى أهميته من أن الخلافة في الإسلام الذي يشتق من أهمية رئيس القبيلة في النظام الاجتماعي لمعيشة العرب في البيداء
وسبب سيادة أرسطو عند العرب ترجع في نظري إلى أنهم وجدوا في منطقه أداة للجدل ونشر تعاليم الإسلام عن طريق الإقناع لا عن طريق السيف كما يفهم بعض المغرضين، لأن عبقرية هذا الشعب هي: البلاغة والبيان وقوة الحجة. وصحة نظري هي أن القرآن الكريم هو إعجازهم؛ ثم إن القران نفسه يصرح قائلاً في سورة (البقرة) بند 189، 192 (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ويقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين). ويقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)؛ وكذلك فلسفة أرسطو في مجموعها أقرب إلى عقولهم البدوية من فلسفة أفلاطون لأنها نسبياً أقل تجريداً، ويذكر أيضاً أن عقلية العرب عقلية (جامعة) وفلسفة أرسطو تنسجم وهذه الصفة لأنها موسوعة عامة للمعارف، ولكن بالرغم من هذه المرغبات في فلسفته ضاع أرسطو على حقيقة أمره فيما بينهم، لأنهم(252/38)
ألبسوه زياً مخالفاً لزيه اليوناني الأصيل، فأرسطو العرب شخصية جديدة أقرب إلى أفلاطون منها إلى أرسطو نفسه، وهذا راجع في نظري إلى أن علم الإلهيات عن أفلاطون وعند فلوطين (على وجه الخصوص) أقرب إلى تعاليم الإسلام منه عند أرسطو، وهذا العالم كان طوال العهد اليوناني، والقرون الوسطى، بل حتى عند ديكارت في العهد الحديث عندما يتكلم عن تقسيم العلوم أساساً لسائر العلوم والفلسفات، وبجوار ذلك هناك سبب آخر هو انتشار مذهب أفلاطون وفلوطين في بلاد الشام والعراق إبان الترجمة اليونانية في القرن السابع والثامن كما يؤكد هذا فرنسوا نو، وتأثر المترجمين المسيحيين بهذا التراث، بعهد ذلك إبان ترجمة القرن التاسع الميلادي في عهد المأمون
ونشعر أنه من العبث بعقول القراء أن نسرد حوادث تاريخ هذه الترجمة فنذكر مثلاً: حياة كل مترجم وما ترجمه ومحتويات كل كتاب، فهذا ممل، ولأن الحوادث لا قيمة لها مطلقاً في ذاتها فهم يجدون هذا مثلاً في القسم الأول لكتاب كارادي فو عن ابن سينا، وفي كتاب (الطب عند العرب) بجزئيه للكلرك وعند برييه، وعند منك. . . وهلم جرا
ونكتفي بما قدمنا من الصفات الأساسية من ناحية اختصاصنا - الفلسفة - والمهم من ذلك في نظري أن يقف القراء على الفهم الأوربي الحديث للتراث الإسلامي الذي بني على هذه الترجمة، وهذا الفهم يتشعب خلال ثلاث مدارس نكتفي اليوم ببسط فهم المدرسة الأولى:
مدرسة الفيلسوف رينان
ولد رينان (أرنست) في بلدة ترجييه من مقاطعة بريتانيا في غرب فرنسا عام 1823، وتربى في هذه البلدة تربية (دينية) سواء في عائلته أم في مدرسة هذه البلدة أم في جو هذه المقاطعة التي يتغلغل فيها المذهب الكاثوليكي إلى أبعد مداه كما شاهدته بنفسي منذ عامين. ثم ذهب إلى باريس ليتعلم في مدرسة القساوسة، وما كاد ينتهي بنجاح في دراسته ويرسم قسيساً حتى غلبت على أفكاره تلك النزعة (الغبية) نزعة الكفر والإلحاد، فترك حياة الدين والإيمان، ودخل الحياة الدنيا غير آسف على ما فرط فيه من قبل، وحاز درجات علمية ممتازة من الجامعة والتحق بعد ذلك بالصحافة؛ ثم ساح ورحل في بلاد الشرق فكان في سوريا عام 1860، وفي فلسطين عام 1863 حيث كتب (حياة المسيح) ثم عين أستاذاً في (مدرسة الكليج دي فرانس). ويبن عام 1863، 1883 ألف (تاريخ أصول المسيحية) وبين(252/39)
عام 1887، 1893 ألف كتابه العظيم (تاريخ بني إسرائيل) وبعد سنة ظهر له (محاورات ومنتخبات في الفلسفة) وفي سنة 1883 (ذكريات الطفولة والشباب) وفي عام 1890 (مستقبل العلم. . .) وغير ذلك. ومات في عام 1892، والذي يهمنا بالنسبة للتراث الإسلامي أنه عرض فيما تقدم من المؤلفات وفيما سنذكره بعد ذلك لحياة محمد عليه الصلاة والسلام، ولأصول الإسلام، وللعقلية السامية، وللإسلام والعلم، ولفلسفة ابن رشد، وناقش الشيخ الأفغاني في جريدة (الديبا)، ولكن كل دراساته ومناقشاته هي طعن في الإسلام ونبيه وأهله ومبادئه. فمثلاً يقول في كتابه دراسات في تاريخ الأديان (صفحة 200) (لم يعرف الشرق مطلقاً في تاريخه تلك العظمة العقلية الخالصة التي لا تحتاج إلى الرجوع إلى المعجزات، ويصعب عليه تصوير فيلسوف لا يعمد إلى التهريج، ولم يصل الشرق مطلقاً إلى درجة التجريد العقلي لأنه نظر إلى الطبيعة والتاريخ بعيون صبيانية. . .) (وفي صفحة 210) يصور النبي عليه السلام كرجل مخادع دجال يخترع الكذب باسم الملاك جبريل. (وفي صفحة 245) يروي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يربي ديكاً عجوزاً احتفظ به ليدفع عنه سوء العين، ويصد عنه خطر النظرات الحاسدة. ثم بعد أن يتحدث في هذا الكتاب عن رفق النبي صلوات الله عليه، بالحيوانات والأطفال والنساء يتخذ من هذا الرفق آية لإثبات ضعفه، وينتهي (في صفحة 250) بأن يقرر أن الذي أسس الإسلام وشيد صرحه هو سيدنا عمر رضوان الله عليه لأنه يماثل كما يذكر القديس بولس في المسيحية
ويجمل هذا الرجل عقله ونزعته هذه في فهم ما ترجم من الفلسفة في الإسلام فيسطر في نفس الكتاب (صفحة 200 الملاحظة الأولى في الهامش) ما ترجمته: (عندما اتخذ العرب من أرسطو معلماً لهم في المعارف، اخترعوا له خرافة تجعل منه نبياً، وتصوروا أنه قد انتزع من السماء حيث كان يلتصق بعمود من نار) ويذكر كذلك رينان في كتابه (مقالات ومحاضرات) أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا الفلسفة اليونانية (مخطوطة) بحروف عربية، لم يهضمها العرب لأن الإسلام دين لا يسمح بحرية التفكير وروح النقد، وعندما يدرس هذه الفلسفة يدرسها بحركة (عكسية) لا تتفق وأولى مبادئ تاريخ الفلسفة كعلم محترم له أصوله في البحث لأنه يبتدئ بدراسة ابن رشد مع أن فلسفته لا تنفصل مطلقاً عما تقدمها من فلسفات، وكل الناس يعرف معركة (التهافت) و (تهافت التهافت) ويصوره رينان في كتابه(252/40)
(ابن رشد ومذهبه) صفحة 52 أنه لا يعرف كيف يكتب ولا كيف يفكر، وأن لغته لغة همجية، ومؤلفاته لا قيمة لها. نقل عن مؤلفات نقلت هي بدورها عن مؤلفات أخرى نقلت عن الأصل اليوناني. وفي كتابه (تاريخ اللغات السامية) صفحة 291 يشك بوجه عام في علم فلاسفة الإسلام لأن عملهم كان بالواسطة، علم منقول بني على جهلهم باللغة اليونانية
آراء هذا الرجل بهذا الأسلوب أفسدت الاستشراق الفرنسي (عدة من الزمن) من بعد، حيث سار على نهجه ومبدئه (منك) في (الفلسفة العربية واليهودية)، وكليمان هوار في كتابه (تاريخ العرب) وخصوصاً الجزء الثاني، وكازانوفا في (محمد ونهاية العالم)، وجوتييه تلميذه الأصيل في رسالة عن (ابن رشد). وسبب الضلال في هذا الاستشراق يرجع أولاً إلى ذلك المذهب الذي انتشر في زمان هؤلاء الناس، وهو المذهب الوضعي الذي ينكر أهمية الادباء، ويهاجم أصول العقل التجريدي ويقر بعكس ذلك دراسات المظاهر الخارجية في الطبيعة والإنسان بمنهج التجربة، وأمله أن يجعل من علوم الإنسان الأدبية علوماً لا تقل في دقة أبحاثها عن علوم المادة. لهذا شجع هذا المذهب النزعة الإلحادية في فرنسا إبان ذلك العهد ويقول رينان بهذا الصدد في كتابه (مقالات ومحاضرات) صفحة 406 ما ترجمته: (أقول دائماً ولست بحاجة أن أكرر إن العقل البشري يجب أن يتنزه عن كل المعتقدات الدينية، وأن يحصر مجهوداته في مجاله الخاص وهو إقامة العلم الوضعي). وسبب آخر أن في زمان رينان ضاعت هيبة الإسلام والمسلمين في فرنسا لفتحها بلاد الجزائر بحد السيف وظهور كتب عن تلك البلاد تمثلها في حالة وحشية وتأخر وانحطاط، ككتب القائد دوما؛ وهذا ما قوى النزعة العدائية للإسلام، فرينان يقول عن غايات العلم في الكتاب المتقدم ذكره صفحة 400، 401: (العلم هو روح المجتمع لأن العلم هو العقل وهو يخلق التقدم الحربي والرقي الصناعي. . . ولو أن عمر وجنكيزخان وجدا أمامهما المدافع مصوبة لما تقدموا خطوة واحدة عن حدود الصحراء)
وسبب ثالث أن دراسات الاستشراق في عهد رينان لم تكن متقدمة بشكل يوجب احترامها العلمي، بل كانت في الغالب تراجم وتعليقات لبعض مفكري العرب قام بها أعضاء (الجمعية الأسيوية). ورينان نفسه يكتب تارة في الأدب، وتارة في الفلسفة، وتارة في الدين، وتارة في اللغة، مما دعا بيكافيه أن يحكم في أحد كتبه القيمة أنه رجل (يقلب(252/41)
أوضاع الأشياء والمسائل) وزد على ذلك اختمار النزعة الصليبية في عقله الباطن وتملكها على أفكاره في الحكم على من يخالف تعاليم دينه الأول قبل إلحاده وكفره وزندقته فهو مثلاً (كما يذكر هو في كتابه (مقالات ومحاضرات) صفحة 306، 307) لا يتصور أن مسلماً مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي يؤلف كتاباً عند عودته إلى مصر من باريس (على ضفاف السين) يشرح لبني وطنه حياته كطالب في فرنسا وفهمه لحالة العلم فيها وسبل الحياة في مرافقها. وسبب أخير أن (أشباه المستشرقين) هؤلاء آمنوا إيماناً مطلقاً بما يروى لهم في كتب تاريخ الفكر الإسلامي معتقدين (أن صاحب الدار أدرى بما فيها) مع أن هؤلاء المؤرخين أبلغ منهم في التسكع في هذا الباب. فرجل كالشهرستاني يكتب في الفلسفة عن طريق السماع والرواية وعدم الرجوع إلى ما ترجم من النصوص الفلسفية. وعند ما يكتب عن أفلاطون يخطئ حتى في كتابة اسمه مما دعا أحد هؤلاء المستشرقين - كما يؤكد مهرن - في مجلة جامعة لوفان أن يعتقد أنه يبسط آراء الشيخ اليوناني (صاحب التاسوعات) وعندما يعرض للكلام عن أرسطو يصوره كإله الفلاسفة؛ ويذهب لابن سينا للتحدث عنه، رجل كالقفطي إذا تحدث عن الفلسفة تركها وترك أصولها وتكلم عن الفلاسفة في حياتهم الخاصة وأنسابهم وأمهاتهم وأولادهم وغير ذلك من تافه الأمور؛ ورجل كالفارابي تختلط في ذهنه فلسفة أفلاطون وأرسطو فيعمد إلى التوفيق السقيم بينهما مع أن الأصول الأولى للعقلية الفلسفية هي الدقة في الإدراك والتصور، والتمييز بين تنوع الآراء المتقاربة ووضع حد فاصل بين المعتقدات والمذاهب (اقرأ نظرية أرسطو في التعريف). فانعدام الفهم الفلسفي في عقلية بعض من اهتم بالفلسفة من المسلمين ضلل المستشرقين الأولين. واستمر هذا الضلال في الفهم إلى أوائل القرن العشرين حيث ظهرت مدرسة جديدة في فرنسا نحترم تعاليمها في الاستشراق لأن أفرادها بغوا العلم وحده دون أغراض تخرج عنه في نزعاتهم الفكرية. وهذه المدرسة مهدت بدورها لمدرسة ظهرت في أوائل هذا العام فقط هي أبلغ من الأولى، سنعرض لهما في وقت آخر إن شاء الله.
(يتبع)
عبد العزيز عزت(252/42)
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(252/43)
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الاحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 10 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وما كان دوجلاس ليعجز عن أن يبرر عمله أو أن يتلمس له الأوجه القانونية؛ وإذا عجز دوجلاس عن هذا فمن يقدر عليه؟ وإنه لأعلم الناس يومئذ بألاعيب السياسة وأضاليلها، يصدر في ذلك عن طبع وعن خبرة ويسدد الرمية في لباقة وخفة. .
ولم يكن اهتمام دوجلاس بتلك المسألة إلا جزءاً من خطته التي رسمها وأراد أن يدلف بها إلى الغاية التي لا يرى دونها غاية؛ وهو يتحرق شوقاً إليها ويتقطع تلهفاً عليها؛ ولا يفتأ يتبين السبيل المؤدية مهما كانت وعورة مسالكها. والآن تسنح الفرصة فيقتنصها وهو باقتناص الفرص جد خبير. موه على الناس أنه يمكن لسلطان الأمة إذ يرد مسألة العبيد إلى رأي الأمة، وأنه بذلك يجعل كلمة الشعب هي العليا لا كلمة مجلس الاتحاد. وهو إنما يرمي إلى كسب قلوب أهل الجنوب الذين كانوا من أول الأمر ترون أن يكون لكل ولاية من الحرية ما لا تتلاشى معه شخصيتها في الاتحاد، والذين يريدون أن يتخلصوا اليوم من قيود اتفاق ميسوري. . .
وإننا لنلمح فيما فعل دوجلاس مهارة الرمية، كما نلمح فيما يقول حذق السياسي وفكره وسعة حيلته. وكم في الحياة له من نظراء ممن يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من تفاصيلها ودقائقها كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم؛ ولقد برع دوجلاس في هذا المضمار فإنه ليجعل الغاية هي عنده كل شيء ولا عبرة بعد ذلك بالوسيلة. وهل كان مثله من السذاجة والبساطة بحيث يتمسك(252/44)
بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة فيؤدي بذلك إلى فوات الفرص وضياع الغاية؟ كلا إنما كان هو أقوى من أن يتطرق إليه مثل هذا الضعف وأذكى من أن تنطلي عليه مثل هذه البلاهة
ولكن لنكولن لا يعرف المراوغة؛ ولا يدري ما الالتواء. فهل له طاقة بمناضلة ذلك القزم الماكر المخاتل؟ وماذا يجدي على ابراهام طوله والمسألة اليوم مسألة مدافعة ومقارعة، وليست هي مسألة مكافحة ومصارعة، كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول أرمسترنج وألقي به على الأرض؟. . . إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بي الطبيعتين، فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك بسيط ساذج صريح كوجه السهل. . .
خطا دوجلاس خطوته وحمل المجلس على الأخذ برأيه فترك لهل كنساس أن يختاروا ما تكون عليه ولا يتهم إذا ضمت إلى الاتحاد؛ وجرى الانتخاب التمثيلي فيها على أساس التسليم بمبدأ العبيد أو رفضه؛ ولو أنه تركت الولاية وشأنها حقاً لهان خطب ذلك الانتخاب ولمر دون أن يعقب ضرراً، ولكن كثيرين من أنصار التحرير ومن المنادين بمقاومة انتشار العبيد من أهل الشمال هاجروا إلى تلك الولاية ليشتركوا في الانتخاب، كما هاجر إليها كذلك عدد عظيم من أهل الجنوب وفي أيديهم أسلحتهم. والتقى الفريقان هناك وبينهما من البغضاء والشحناء ما أوقد نار الحرب وذلك أن أهل الجنوب قد حالوا بقوة السلاح بين خصومهم وبين ما يخوله لهم القانون من التصويت ففاز بالغلبة رجل من أنصار اعتناق العبيد؛ ولكن أهل الولاية ومناصريهم من أهل الشمال احتشدوا في مكان آخر واختاروا رجلاً من دعاة التحرير، فقامت لذلك الحرب بين الحزبين ولبثت نارها مشبوبة بينهما زهاء عامين. وفطن الناس إلى أن هذه الحرب إنما هي مقدمة الحرب الأهلية الكبرى
انتهت في تلك الأثناء مدة مجلس الشيوخ، وانصرف الأعضاء إلى البلاد يدعون لأنفسهم من جديد؛ وكان دوجلاس نائباً عن شيكاغو في شمال الينوس، فذهب إلى هناك يدعو لنفسه، ولكن هاله ما رآه من انصراف الناس عنه، فهو أينما تولى يجد من الناس نفوراً وإعراضاً بل إنهم كانوا يجبهونه بالسوء من القول ويظهرون له ما باتوا يضمرونه من حقد ومقت.
وإنه ليجزع ويستولي عليه الحنق إذ يرى الرايات في شيكاغو منكسة في هامات السفن،(252/45)
ويرى الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل في الجو في نغمة حزينة كأنما أصبحت المدينة في مأتم شعبي وهو يحاول أن يخطب الناس وهم يرعدون في وجهه ويسلقونه بألسنة حداد، حتى يرغموه على الرحيل وقد امتلأ قلبه عليهم غيظاً كما امتلأ منهم كمداً.
وينتهي به المسير إلى سبرنجفيلد ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سيأفل نجمه وسيبعد ما بينه وبين غايته. وكانت المدينة يوم وصوله إليها تموج بالناس إذ كانت في موسم سوق من أكبر أسواق الزراعة. ولقد خيل إليه أن له في وجود هذا الجمع الحاشد فرصة. . .
وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء؛ بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه هو الحزب الجمهوري؛ وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل المدينة ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، ولم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس؛ وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة
وقف دوجلاس يخطب، وكان وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم، مارداً جباراً برأسه الضخم ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهاؤه الذي لن ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقد الموقف، والتوت مذاهب الكلام
ولقد كان دوجلارس في الحق من أقوى الرجال في عصره إن لم يكن أشد منهم جميعاً قوة، وكان الحزب الديموقراطي يباهي به ويفخر وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد خطا الأربعين بعد. . .
أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب: وكانت العبارات معسولة والحجج تلقى في روع السامعين أن لا سبيل إلى رفضها إذ لم يكن ثمة من سبيل إلى نقضها
وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عساه أن يقول في الرد على هذا الداهية، ووقف إن الإحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج، ومن(252/46)
وراء هذا كله عبقرية دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه ثلاث ساعات وبعض الساعة ومنافسه يعض على نواجذه وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغاية. . .
بدأ خطابه بقوله أنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ فإنه ليسره أن يرده لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل يقاطعه بين حين وحين ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح قائلاً: أيها السادة! إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي المسئولية أن أحق الحق وحدي فأعفي بذلك القاضي دوجلارس ضرورة تلك التصحيحات العنيفة). . . وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل مع شدة ازدحام المكان، والخطيب المرتجل لا يعرف اضطراباً ولا اعوجاجاً، يهدر كالسيل لا يصرفه عائق عن وجهه، وكأنما كان ينطق عن وحي، فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام ولا رأوه يبين مثل هذه الابانة؛ وهو في حركاته وإشاراته ونبرات صوته موفق توفيقاً ما شهد الناس مثله من قبل
وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدراً وأكثر محبة عما كان ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما تصوب السهام. . ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتاً، ولم يبق في قلوب الناس من أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة، إذ لم يترك له ابراهام دليلاً إلا سفهه وأظهر للناس ما يقوم عليه من بهرج وما يستتر وراءه من طلاء. وبهذه الخطبة فتح لنكولن فصلاً جديداً في تاريخ حياته وقطع شوطاً كبيراً عوض عليه ما فات من ركود. . .
ومهما يكن من تفوقه ونباهة شأنه في هذه الخطبة، فإننا نستطيع أن نعود بالسبب إلى حد كبير - على صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والنفاذ إلى جوهره ثم الاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ومع توخي الصدق والأمانة كما يفعل حين ينهض في المحكمة للدفاع، هذا إلى لقانه عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي كأنه الميزان الدقيق يحس(252/47)
قبل أن يدرك أن هذا عليه مسحة الشك وذلك عليه نور اليقين
قال يرد على دوجلاس قوله أن من الامتهان لأهل كنسسكا أن نعتبرهم غير جديرين بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، (إني أسلم أن المهاجر إلى لنساس وبزاسكا جدير أن يحكم نفسه ولكني أنكر عليه الحق في أن يحكم شخصا آخر بغير رضاء ذلك الشخص) ولقد كانت عبارته هذه كالرمية القاتلة فهي تهدم ما بنى دوجلاس من أساسه ولا تدع لمبدأ سلطة الأمة الذي نادى به أي قيمة. وقال في رده على دوجلاس إذ يدعي أن الحكومة إنما أقيمت لصالح البيض لا لصالح الزنوج (إني أوافق على ذلك من حيث الواقع في ذاته، ولكني أرى في هذه الملاحظة التي ساقها القاضي دوجلاس معنى هو عندي مفتاح تلك الغلطة الكبرى (إن كان ثمة من غلطة كهذه) التي فعلها في قرار نبراسكا؛ إنها تدل على أن القاضي لا يقوم في ذهنه مؤثر حي يريه أن الزنجي إنما هو إنسان وعلى ذلك فليست تقوم في رأسه فكرة عن ضرورة وجود العنصر الخلقي عند التشريع له). . .
وبعد الخطبة وقف دوجلاس ليرد ولكن مذاهب القول التوت عليه وخانته بديهته فجعل بينه وبين الناس موعداً في المساء لا يخلفه، وحل المساء وارتقب الناس ولكنهم لم يجدوا الخطيب. . .
وبعد ذلك باثني عشر يوماً ذهب لنكولن ليخطب في بلدة أخرى هي بيوريا؛ ولقد تبعه دوجلاس إلى هناك لعله أن يظفر هذه المرة. ولم يرتجل لنكولن كما ارتجل في سير نجفيلد بل قرأ من أوراق؛ ويشهد الذين سمعوه في المرتين أنه كان يوم ارتجل أعظم شأناً وأبعد أثراً؛ أجل كانت خطبته الثانية أحسن بناء وأحكم نسجاً وأقوى منطقاً ولكنها لم تكن أكثر سحراً. . .
ولقد بدأ دوجلاس في بيوريا كما بدأ في سير نجفيلد واستمر يخطب ساعات ثلاثاً، ورد لنكولن في المساء فاستغرق خطابه مثل هذا الزمن. ومما جاء فيه قوله عن قرار بنراسكا (إن هذا القرار يعلن الحياد ولكنه يضمر حماسة حقيقية لانتشار العبيد لا يسعني إلا أن أمقتها، لما تنطوي عليه العبودية في ذاتها من جور قبيح، وأمقتها لأنها تسلب نظامنا الجمهوري الذي نسوقه للعالم مثالاً من أثره الحق في الدنيا، وأمقتها على الأخص لأنها تدفع كثيراً من رجالنا الأخيار إلى حرب صريحة ضد المبادئ الأساسية للحرية المدنية،(252/48)
وهم يوجهون انتقادهم إلى إعلان الاستقلال ويصرون على اعتقادهم أنه ليس ثمت من مبدأ حق تقوم عليه أعمالنا وأنه ليس إلا المصلحة الشخصية) وقال في معرض آخر: (إن مبدأ حكم الشعب نفسه مبدأ صحيح؛ هو مبدأ صحيح دون أدنى شك وهو إلى الأبد صحيح. . ولكن إذا كان الزنجي رجلاً، ألسنا - بقدر ما في المبدأ من صحة - نرى أننا إذا حرمناه من أن يحكم نفسه إنما نحطم بذلك مبدأ سيادة الشعب؟ حينما يحكم الرجل الأبيض نفسه يكون ذلك مبدأ سيادة الشعب، ولكنه حينما يحكم نفسه ويحكم في الوقت ذاته رجلاً آخر فإن ذلك يكون أكثر من سيادة الشعب فهو الاستبداد. . . ليس في الناس من يتوفر لديه الخير ليحكم غيره دون رضاء ذلك الغير، هذا هو المبدأ الأول والمرفأ الأمين للنظام الجمهوري الأميركي).
ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته وهو الذي نشأ كما رأينا عصامياً في أوسع معنى لتلك الكلمة! إنما يصد الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة مثله في ذلك مثل غيره من أعلام البشر وقادة القافلة في طريق الإنسانية. . .
يتبع
الخفيف(252/49)
هل ينبغي أن تزاحم المرأة الرجل؟
للآنسة زينب الرافعي
قامت في كلية الآداب بالجامعة المصرية مناظرة بين طائفتين من طلبة الكلية وطالباتها حول الغاية التي تتعلم من أجلها الفتاة: أهي تتعلم لتزاحم الرجل في ميدانه، أم لتشق طريقها لنفسها في الحياة؟ والمقالة التالية هي كلمة الآنسة الأديبة زينب الرافعي في هذه المناظرة، ولها كانت الغلبة. والآنسة زينب هي كريمة الفقيد المرحوم مصطفى صادق الرافعي
رجل وامرأة: هذه قسمة الطبيعة، فهل كانت عبثاً؟
رجل وامرأة: هما العنصران اللذان تتكون منهما الإنسانية، فهل أخطأت الطبيعة حين جعلت معنى الإنسانية يتكون من عنصرين لا عنصر واحد؟
عجباً! إن الإنسان لا يمكن أن يقهر الطبيعة وهو جزء منها، لأنه خاضع لسلطانها، لأنها بقوانينها الصارمة تسيطر عليه وتوجهه وجهته من غير أن يكون له اختيار
إن القوانين لا توضع لمصلحة فرد واحد، ولكنها تشرع لمصلحة الجماعة عامة، والقانون الذي فرضته الطبيعة على البشرية أن الإنسانية اثنان: رجل وامرأة، فكيف تريدونه على ذلك التفسير الخاطئ حين تقولون إن الإنسانية رجل ورجل: رجل له شارب ولحية، ورجل ناعم أمرد. . .
اذكروا لي إنساناً واحداً يستطيع أن يقول بعقل: لماذا يمشي الناس على أرجلهم ولا يمشون على أيديهم؟ قد تكون الأرجل أقوى وأشد صلابة من اليدين، وهي بذلك أقدر على عمل الأيدي، ولكن الطبيعة خلقت الرجلين ليمشي بهما من يريد أن يمشي، وخلقت اليدين لتعمل؛ فما أحمق من يتخيل إنساناً يستطيع أن يجعل رجليه لغير المشي ويديه لغير ما تعمل اليدان! هكذا خلقت الطبيعة الإنسان، والطبيعة قانون عام مطاع لا يجدي أن يتمرد عليه متمرد. . .
ولكن تعالوا حدثوني حديثكم عن المعنى الذي تريدون حين تزعمون أن من حق المرأة أن تنافس الرجل في ميدانه، وأن تضطلع بما يضطلع به من العمل؟
أتريدونها أن تحمل الفأس، وتجري خلف المحراث، وتحرس قنطرة الترعة، وتمهد السكك(252/50)
الزراعية. . .؟
أم تريدونها على أن تعمل بالمنشار، وتدق بالقدوم، وتصعد على الخشب الممدود فوق العمائر لتبني، وتحفر حيطان البيوت لتضع أسلاك النور وأنابيب الماء. . .؟
أم تريدونها على أن تقف في خطوط النار وفي جرابها سيف يلمع، وعلى كتفها بندقية تقذف بالشرر، أو تجري على الصخر وراء المدفع وفي يدها زناده، أو تحفر الخندق بيديها الناعمتين لتصد عدوان المغير، أو تبني الثكنات لتقيم فيها أخواتها العسكريات الرشيقات الخفيفات الأجسام. . .؟
حدثوني أيها المؤيدون، أتريدونها لهذا لتهون عليكم وتبتذل وتذل، أم تريدون لها النعمة والصون والعزة؟
ما أهون شأنك عند نفسك أيتها الفتاة لو لبيت هذا النداء!
أسمع همساً تختلج به الشفاه: إنهم يقولون: لسنا نريد لها هذا. فحدثوني ماذا تريدون؟ أتريدونها للقضاء والنيابة، ولإدارة الأعمال في المتاجر، وللكتابة والحسابة، وللقيام على شئون الطلاب في المدارس والكليات، وللدفاع عن المظلومين في المحاكم، ولتخطيط المصورات الهندسية للبناء؟
حسن! قد يكون هذا خيالاً لذيذاً يداعب كل فتاة في أحلامها، ولكن. . . ولكن ليس الرجال جميعاً نواباً، وقضاة، وتجاراً، وكتبة وحسبة، ومعلمين ومحامين ومهندسين
إن هذه الوظائف على كثرتها لا يقوم بها إلا ربع الرجال، وثلاثة أرباعهم لغير ذلك من المهام الشاقة والأعمال المضنية، فخبريني يا فتاة: أتريدين أن تكوني رجلاً كاملاً يقوم بواجباته كلها ويحتمل ما عليه من تكاليف الرجولة بشقائها وآلامها؟ أم تريدين أن تكوني ربع رجل؟ يا لها من صفقة خاسرة! إن أعدى أعداء المرأة لا ينتتض من مكانتها الاجتماعية بأكثر من دعواه بأنها نصف الرجل، فما لك ترضين بالأقل لتعودي ربع رجل. . .؟
لا يا أختي، إن لك وظيفة أخرى غير مزاحمة الرجل في ميدانه، وإنها لأجل شاناً وأعظم خطراً من كل ما يقوم به الرجال من أعمال. إن لك وظيفة الأم التي تلد الرجل، ووظيفة المربية في البيت التي تربي الطفل لتخلق منه الرجل، ووظيفة الزوج التي تملأ قلب(252/51)
زوجها بأفراح الحياة لتشد فيه عزيمة الرجل
إنك سيدة الرجل فلا تبتذلي نفسك دون ذلك لتوهمي الرجل أنه خير منك
ثم ماذا؟ سأحاول أن أمزق النقاب قليلاً لأتحدث إليكم في جرأة الفتاة التي تعتز بأنها فتاة، لأقول لكم إن المرأة لم تخلق لتقوم في الحياة بوظيفة الرجال: المرأة التي يستهويها الثوب الأنيق فتقف أمام المرآة طويلاً تنظر إليه، وتنظر إلى نفسها فيه - هذه المرأة لا تعرف قيمة الزمن، والزمن هو الميزان في كل الأعمال
ستحاول فتيات من زميلاتي أن يعترضن، ولكن هذه هي الحقيقة. لقد خلقت المرأة وليس أحب إليها من زينتها شيء. الزينة لنفسها لا لشيء آخر، وكأن كل أنثى تشعر في أعماق نفسها أنها ليست شيئاً بغير الزينة. أجمل الجميلات وأدم الدميمات في ذلك سواء، فأين هذا من خشونة الرجل؟ أترونها بذلك تصلح لأن تزاحمه وتعمل في ميدانه؟ هيهات يا أختاه! وحذار أيتها الفتاة أن يخدعك معسول المنى. . . إن مكانك هناك. . .
هناك على العرش في مملكة البيت أيتها الملكة
إلى هنا أقف قليلاً لأنظر في وجوهكم ووجوهكن أثر الاقتناع ومظهر الطمأنينة إلى عدل الطبيعة
هل بلغت موضع الإحساس من نفوسكم؟
إن شفاهاً تبتسم، وإن همساً يتطاير من هنا ومن هناك.
اسمعوا:
هذه فلانة ناظرة مدرسة ثانوية من مدارس الحكومة، في الدرجة الرابعة أو الثالثة لا أدري، تقبض كل شهر خمسين جنيهاً، وتحكم على عشرين أو ثلاثين من خيار المعلمين والمعلمات، وتسيطر بإرادتها على بضع مئات من بنات الطبقة العالية في مصر، تلميذاتها، ولها في البيت ولد، ولها زوج!
أتحسبون أن هذه السيدة سعيدة بما بلغت من جاه وما أدركت من نجاح في مزاحمة الرجل؟
وا رحمتاه لها مما تعاني، وألف رحمة للأمة منها، وألف ألف لزوجها المسكين، وما شئتم من الرحمات فاستمطروها على ولدها المحروم، اليتيم في حياة أبويه
أتعرفون من يقوم لها بشئون البيت! لو كان هو زوجها لقلنا: شيء مكان شيء! ولو كان له(252/52)
امرأة أخرى لقلنا: قد انتصف لنفسه! ولو كان في البيت مديرة مصرية لقلنا: ذهبت واحدة لعمل وحلت أختها في عمل غيره. ولكن. . . وا أسفاه! إن في البيت مديرة حقاً، ولكنها مديرة أجنبية، مديرة لا تعرف من لغتنا، ولا من تقاليدنا. ولا من ديانتنا؛ مديرة ليس لها عواطف الأم، ولا حنان الزوجة، ولا غيرة الأخت، حتى ولا شعور التراحم بالرابطة الوطنية. . .
لقد ذهبت السيدة الجليلة لتزاحم الرجل، ولكنها أخلت مكانها لأجنبية، لقد باعت أمومتها واشترت الوظيفة، لقد جحدت وطنيتها حين جحدت أنها امرأة. . . ليت شعري أليست تغار هذه المراة، أليست تغار على زوجها حين استهانت بالرابطة التي بينهما فاستأجرت له زوجة؟ أليست تغار على ولدها الذي تجاهلت حقه في حنانها فاستأجرت له أماً؟ أليست تغار على بيتها الذي لا تحل فيه إلا كما يحل المسافر في فندق؟ أليست تغار على وطنها حين أفسحت لامرأة أجنبية أن تكون مكانها سيدة بيت؟
ليست هذه وحدها التي خرجت لتزاحم الرجل في ميدانه فما زحمت إلا نفسها. إنهن كثيرات أيها السادة، وإن أسفي لشديد؛ نعم نجحت بضع نساء في مزاحمة الرجل ولكن بعد ما أسلمن بيوتهن إلى الأجنبيات. لكأني بكل امرأة من هذا النوع تهتف في أعماق نفسها قائلة: (لقد احتل الرجال مراكز الأعمال جميعاً فليجلوا عنها بقوة المرأة. ولا علينا بعد ذلك أن تحتل الأجنبيات كل بيوت مصر!)
علموا لنا أولاً مديرات البيوت وربات المنازل وأمهات الرجال وزوجات الأبطال، ثم ادعوا بعد ذلك واستطيلوا وقولوا يجب أن تنزل المرأة إلى ميدان الرجل لتزاحمه حتى تجليه. ربوها أولاً على أن تؤدي وظيفتها الأساسية، وظيفة الأم الصالحة التي تنشئ للأمة الرجال. ووظيفة الزوجة المسعدة التي تملأ بيتها أفراحاً ومسرة، ووظيفة سيدة البيت التي تديره وتدبره لتجعله جنة الأسرة؛ ووظيفة المرأة الكاملة التي هي الحنان والعطف والرحمة والمحبة، بازاء الرجل الذي هو العقل والحزم والقوة واليد العاملة؛ فإذا بلغتم الغاية من كل ذلك فافتحوا لها الباب وقولوا: اذهبي إلى الطريق راشدة فاصنعي ما تريدين، وزاحمي الرجل إن وجدت السعادة في زحامه
(يتبع)(252/53)
زينب الرافعي(252/54)
ذكرى قاسم أمين
للأستاذ علي الجارم بك
ملَّ من وجدِه ومن فرطِ ما به ... وأراق الشرابَ من أكوابهْ
وإذا القلب أظمأته الأما ... نيَّ، فماذا يريده من شرابه؟
وإذا النفس لم تكن منبِتَ الأن ... سِ تناءى القريبُ من أسبابه
وأشدُّ الآلام أن تُلزمَ الثغ ... رَ ابتساماً والقلبُ رُهنُ اكتئابه
كلما اختال في الزمان شبابٌ ... عصفت ريحُه بَلدْن شبابه!
والنبوغ النبوغُ يمضي وتمضي ... كلُّ آمال قومِه في ركابه
غَرِدٌ، ما يكاد يصدح حتى ... يُسكتَ الدهرُ صوته بنُعابه
وحَبابٌ، إذا علا الماء ولى ... فاسأل الماَء: هل درى بحبابه؟
وسفين، ما شارف الشطّ حتى ... مزَّق اليمُّ دُسرَه بعبابه
بخل الدهرُ أن يطوِّل للعق ... ل فيجري إلى مدى آرابه
كلما سار خطوةً وقف المو ... ت فسدَّ الطريقَ عن طلابه
وابتداءُ الكمال في عمل العا ... مل بَدْءُ الشَكاة من أوصابه
ضلةً نكتم المَشيب فيبدو ... ضاحكاً ساخراً خلالَ خضابه
أين من يستطيع أن يرشد الدني ... ا، وسوطُ المنون في أعقابه؟
أيها الموت أمهل الكاتبَ المس ... كين يُرسلْ أنفاسه في كتابه
آه لو يشتري الزمان قريضي ... بسنين تمدُّ لي في حسابه!
ما حياتي، والكونُ بعدَ جهاد ... لم أزل واقفاً على أبوابه؟
تظمأ النفسُ في حياة هي الفق ... ر فترضى بنهلة من سرابه
أنا قلبي من الشباب، وجسمي ... أثخن الشيب رأسه بحرابه
أملٌ هذه الحياة! فهل يع ... ثر بي الموت دون وشك طلابه؟
كلما رمتُ لمحة من سناء ... هالني بعدُه وطول شِعابه
ما الذي تبتغي يدُ الدهر مّني ... ودمي لا يزال مِلَْء لعابه؟
دع يراعي يا دهر يملأ سمع الن ... يل من شدوه وعزفِ رَبابه(252/55)
كلُّ شيء له نصاب سوى الفن ... فلا حدّ ينتهي لنصابه
عصفت صيحة الردى بخطيب ... وهو لم يَعدُ صفحة من خطابه
سكتةٌ أسكتت نئيج خضمٍ ... عقد النوء لجّه بسحابه
سكتة أطفأت منار طريق ... كم مشت مصر في ضياء شهابه
ومضى (قاسم) وخلف مجداً ... تفرع النجم راسيات قبابه
قد نكرناه حين قام ينادي ... وفهمنا معناه يوم احتسابه
ربَّ مَن كنتَ في الحياة له حر ... باً شققت الجيوب عند غيابه
وتحّديتَ شمسه، فإذا ولّى ... تمنيت لمحة من ضبابه
لم يفز منك مرة بثناء ... فنثرت الأزهار فوق ترابه
يُعرف الوردُ حينما ينقضي الصي ... فُ ويُبكى النبوغ بعد ذهابه
كم ندبنا الشباب حين تولى ... وشغفنا بالبدر بعد احتجابه
كتب الله أن يعيش غريباً ... كل ذي دعوة إلى الحق نابه
لا ترى فوق قمة الطود إلا ... بطلاً لا يهاب هولَ صعابه
كلُّ ذات الجناح طير، ولكن ... عرف الجو نسره من غرابه
كم رأينا في الناس من يبهر الع ... ين وما فيه غير حسن ثيابه
يملأ الأرض والسماء رياءً ... وعيوبُ الزمان ملءُ عيابه
نقد الناس (قاسماً) فرأوه ... أصبر الناس في تجرع صابه
حجة الجاهل المراء، فإن شا ... ء سموا أمدها بسبابه
قد يغشى الوجدان باصرة العق ... ل فيعميه عن طريق صوابه
صال بالرأي (قاسم) لا يبالي ... ومضى في طريقه غيرَ آبه
كم جرئٍ لا يرهب السيف إن سل ... ونِكس يخاف مسَّ قرابه
والشجاع الذي يجاهر بالحق ... ولو كان فيه مرُّ عذابه
كيف يهدي النصيح إن رِيع يوماً ... من قِلَى من يحب أو إغضابه
وطريق الإصلاح في كل شعب ... عسِر المرتقى على مجتابه
يعشق الشعب من يدلله زو ... را بِمَذْقٍ من سخفه وكذابه(252/56)
قمتَ للجهل تقلمُ الظفر منه ... وتفضُّ الحِداد من أنيابه
في زمان كان القديم به قد ... ساً يذاد الجديد عن محرابه
يا نصير النساء والدين سمح ... لو وعينا السريَّ من آدابه
قد خشينا على الحمائم في الدو ... ح أظافيرَ بازه أو عقابه
إن أردت الظباء تمرح في السهل ... فطهِّر أكنافه من ذئابه
كم ضراء وسط المدائن أذكي ... من ضراء الضرغام في وسط غابه
وشباك من الجرائم والخت ... ل حواها شيطانهم في جرابه
وإذا ما الحياءُ لم يستر الحس ... ن فماذا يفيده من نقابه؟
قمت تدعو البنات للعلم فانظ ... ر كيف حلقن فوق شمِّ هضابه
وزها النيل بابنة النيل فاختا ... ل يجرُّ الذيولَ من إعجابه
وغدا البيت جنةٌ بالتي في ... هـ خصيباً بالأنس بعد يبابه
يا فتى الكرد، كم بززت رجالاً ... من صميم الحمى ومن أعرابه
نسب المرء ما يعد من الأع ... مال لا ما يعدّ من أنسابه
كم سؤال بعثت إثر سؤال ... أيقظ النائمين رجع جوابه
كنت في الحق للإمام نصيراً ... والوفيّ الصفيّ من أصحابه
نم هنيئاً فمصر نالت ذرا المج ... د وفازت بمحضه ولبابه
منك عزم الداعي وفضل المجليِّ ... ومن الله ما ترى من ثوابه
علي الجارم(252/57)
إلى المجهول
للأستاذ عبد الرحمن شكري
المقدمة
الولوع بالمجهول من أمور الحياة والطبيعة والنفس والكون والشغف باستطلاعه وكشفه هو الذي أخرج الإنسان من المعيشة في الكهوف ومن حضارة العصر الحجري من عصور الحضارة وأزال عنه خوفه من مظاهر الطبيعة ببحث تلك المظاهر، وهو الذي أدى به إلى كشف القارات والبحار وزاد علمه بالسماء، وعلمه ركوب الهواء في الطائرات حتى طمع في الوصول إلى الأفلاك، وذلك الولوع بالمجهول هو الذي جعله يخترع مخترعات الحضارة التي زادت حياته بهاء ومتعة وراحة ولذة، وجعله يجد لذة حتى في ركوب الأخطار من أجل كشف مغاليق الكون والحياة والطبيعة ويستشعر اللذة حتى فيما قد يصيبه من الألم أو الهلاك في أثناء بحثه المجهول من أمور الحياة والكون، والولوع بالمجهول هو الذي أدى إلى سيطرة الأمم القوية التي تمكنت من كشف المخترعات التي زادتها قوة واستعلاء، وإذا بحثت عما يميز أبناء الدول القوية التي تمتعت بالثروة والسطوة والعلم والحضارة عن أبناء الأمم المتأخرة التي لا تزال تعيش في الكهوف أو الغابات أو في المدن أو الأحياء المتهدمة القديمة الفقيرة الموبوءة بالأسقام والأقذار المغلوبة على أمرها لرأيت أن صفة النفس التي ميزت أبناء الشعوب القوية السعيدة المسيطرة على الحياة والناس هي الصفة التي تجعلهم يجدون لذتهم في كشف مغاليق المجهول من أمور الحياة، والأمة التي تريد أن تعلو وأن تأخذ مكانتها تحت الشمس ينبغي أن تهيئ لأبنائها نوعاً من التربية والتعليم يبث في نفوسهم حب استطلاع المجهول وكشف مغاليقه. أما التعليم الذي لا يبث هذه الصفة في النفوس فهو تعليم لا يليق إلا بالذين يجدون لذتهم في حياة الخمول من المألوف الذي أصبح كالمخدرات، وكلما كان فقدان صفة حب استطلاع المجهول من النفوس أوضح وأظهر من أجل المؤثرات التاريخية المذلة المؤخرة كان ذلك أدعى إلى إصلاح نظم التعليم، وإلى اتخاذ التربية التي تزيل هذه المؤثرات. والمراد بهذه القصيدة الدعوة إلى بث صفة حب استطلاع المجهول في نفوس النشء لأن نفوس النشء تحب استطلاع الغريب والمجهول بطبيعتها وترى لذتها في ذلك قبل أن تعلمها التقاليد والأوضاع(252/58)
الخمول والقنوع بالمألوف، ومن الخطأ أن يظن أحد أن عاطفة الشغف بالمجهول لا تنمي بالتربية وأنها قوة طبيعية في الأمم القوية فحسب. . . لا. . . بل إن أسلوب التربية والتعليم قد يقوي هذه العاطفة التي هي أساس الرقي العلمي والاجتماعي الصحيح، وهذا الأسلوب من التربية ألزم في الأمم الضعيفة لشدة احتياجها إليه
القصيدة
(الخطاب موجه إلى المجهول)
يحوطني منك بحر لست أعرفه ... ومَهْمَةٌ لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها ... وحَوْليَ الكونُ لم تُدْرَكْ مجاليه
يا ليت لي نظرة في الغيب تسعدني ... لعل فيه ضياء الحق يبديه
أخال أني غريب وهو لي وطن ... خاب الغريب الذي يرجو مُقاَصِيه
أو ليت لي خطوة تدحو مجاهله ... وتكشف الستر عن خافي مساعيه
كأن روحيَ عُوْدٌ أنت تُحْكِمُهُ ... فابسط يديك وأطلق من أغانيه
والروح كالكون لا تبدو أسافله ... عند اللبيب وَلا تبدو أعاليه
وأكبر الظن أني هالك أبدا ... شوقاً إليك وقلبي فيه ما فيه
من حسرة وإباء لست أملكه ... يأبى لِيَ العيش لم تُدْرَكْ معانيه
وأنت في الكون من قاص ومقترب ... قد استوى فيك قاصيه ودانيه
كأنني منك في ناب لمُفْتَرس ... المرء يسعى ولغز العيش يُدْمِيه
كم تجعل العقل طفلاً حار حائرهُ ... ورب مُطَّلبٍ قد خاب باغيه
لو النبال نبال القوس مُصْمِيَةٌ ... كنت ادُّريتَ بسهم القوس أرميه
أو كان للسحر سهم نافذ أبدا ... لكان لي منه سهم صال راميه
يا مُصْلِتَ السيف قد فُلَّت مضاربه ... ورامِيَ السهم قد خابت مراميه
قلبي يحدثني أن لا يليق به ... رضا بجهل ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفس عزَ مَطلَبُها ... وطار طائر لب في مراقيه
كالنسر لا حاجب للشمس يحرقه ... ولا الصواعق والأرواح تَثْنِيه(252/59)
وأنت كالليل والأفهام حائرة ... مثل العيون علاها منك داجيه
ليل مهيب كليل البحر حندسه ... تكاد تسمع منه صوت طاميه
فليت لي فكرة كالكون واسعة ... أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه
ليس الطموح إلى المجهول من سفهٍ ... ولا السمو إلى حق بمكروه
إن لم أنل منه ما أروي الغليل به ... قد يحمد المرء ماءً ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عَيْشُهُمُ ... مَوْتٌ فان خضوع اللب يُرْدِيه
يا قلب يهنيك نبض كله حُرَقٌ ... إلى الغرائب مما عز ساميه
فالعيش حب لما استعصت مسالكه ... تجارب المرء تُدْميهِ وتُعْليِه
كم ليلة بتها ولهان ذا أملٍ ... لم يُسْلِ قَلْبِيَ أَنْ غابت أمانيه
لعل خاطر فكر طارقي عرضاً ... يدنو بما أنا طول العمر أبغيه
يُوَضَّحُ الغامض المستور عن فِطَنٍ ... وأفهم العيش تستهوي بواديه
عبد الرحمن شكري(252/60)
شعر ابن تسعين!
كتاب الفصول والغايات
يا صاحب الرسالة الغراء:
إليك من شيخ قعيدة داره، رهين كتبه وأسفاره، تحية الأديب للأديب، ومناجاة القريب للقريب. وبعد فإني لما قرأت في رسالتكم الإعلان عن كتاب (الفصول والغايات) لشيخ المعرة حكيم الشرق اقتنيت منه نسخة وقرأتها فرأيت الشيخ الحكيم قد أتى فيه بالعجب العجاب، ورأيت الشيخ الفاضل الزناتي قد أحكم فيه الصنيع، وفاق كل أديب ضليع، كيف لا وهو تلميذ شيخي اللغة المرصفي والشنقيطي
لذلك فقد جئت بأبيات مدحاً في الكتاب وناشره. وإني مرسلها إليك لنشرها، ولا أظنك إلا فاعلاً إن شاء الله، وإني وقد جاوزت التسعين من عمري لم أنشر شيئاً من شعري قبل اليوم، وها هي ذي الكلمة
أين مني أبو العلاء أحيي ... هـ وأهديه أصدق التهنئآت
أنا في مصر وهو في الشام رهن ال ... قبر أعظم بفرقة وشتات
نال منه يراع كل غبي ... ورموه بأشنع السيئات
فتصدى لنصره المعيّ ... هو (محمود) عصره ابن (زناتي)
وانتضى ماضي اليراع فأبدى ... عن (كتاب الفصول والغايات)
كان هذا الكتاب رجم ظنون ... وشكوك تحتاج للإثبات
فجلاه للناس صفحة حق ... نُضِّرَتْ بالعظات تِلوَ العظات
وأفانين تبهر العقل لم تخ ... طر لندب سواه منتظمات
وتولى تفسيره ببيان ... واضح اللفظ ناضر الكلمات
فغدا في صنيعه عبقرياً ... جل قدراً عن ناشري الهفوات
ناشري الكتب للتجارة لا لل ... علم مملوءة من الغلطات
جاعلي النظم في الطباعة نثراً ... ونثير الكلام مثل الرفات
ونظمت القريض طوعاً لوجه ال ... علم ما قلت فيه (خذ وهات)
محمد بن علي الدرعي(252/61)
البريد الأدبي
وزارة المعارف وجائزة نوبل
رأت وزارة المعارف أن تعمل على حث المؤلفين المصريين على الاشتراك في جوائز نوبل جهد الطاقة، ومهدت لذلك بأن فكرت في أن تكل إلى الشعبة المحلية للمعهد الدولي للتعاون الفكري في مصر مراقبة ما ينشر كل عام من المؤلفات والبحوث العلمية والأدبية التي تمتاز بالدعوة إلى تحقيق المثل الأعلى في الحياة الإنسانية وتخصيص جائزة محلية كل عام لصاحب احسن كتاب يمتاز بالطابع المشار إليه توطئة للاشتراك في مسابقة نوبل العالمية
وترى وزارة المعارف أنه يجب على أغنياء المصريين أن يساهموا بنصيبهم في هذا الباب، فليست التبرعات وقفاً على إنشاء المساجد والمستشفيات وتقديم الكؤوس للألعاب الرياضية، وإنما يجب أن توجه أيضاً إلى تشجيع الإنتاج الأدبي والفني بأن يقوم الأغنياء بوقف جوائز شعبية باسمهم إلى جانب الجوائز الحكومية
ويمكننا تلخيص الشروط لجائزة نوبل فيما يلي:
1 - ليس من حق الأكاديمية السويدية أن تتخذ الخطوة الأولى في الترشيح للجائزة مهما تمتع الشخص بالمؤهلات اللازمة وإنما يجب أن تنتظر حتى يقدم إليها الاسم طبقاً لأحكام مؤسسة نوبل
2 - لا يشترط من جهة المبدأ أن تترجم مؤلفات الترشيح للجائزة، لأن بالأكاديمية السويدية خبراء في اللغات المختلفة. كذلك لا يشترط أن يكون لهذه المؤلفات جمهور كبير من القراء فقد حدث أن منح الشاعر الفرنسي (مسترال) جائزة نوبل سنة 1904 مع أنه كتب مؤلفه بلغة مقاطعة البروفنس وهي لغة يتكلمها عدد محدود جداً من الفرنسيين
3 - تمنح جائزة نوبل الخاصة بالآداب لمن يصنف مؤلفاً في السنة السابقة للطلب مباشرة يعود بالنفع على الإنسانية ويقودها إلى المثل الأعلى؛ غير أن اختيار هذا المؤلف قد يكون فوق الطاقة لكثرة ما ينشر من المؤلفات الأدبية في كل عام
ولذلك يمكن القول بأن هذه الجائزة أصبحت تعطي مكافأة على إنتاج نوابغ الأدباء في كل حياتهم إذا امتازت بقربها من المثل الأعلى(252/63)
ميزانية التعليم
خصص لميزانية وزارة المعارف في السنة المالية الجديدة أربعة ملايين و356 ألف جنيه بزيادة قدرها 336 ألفاً و500 جنيه تقريباً على ما كان مخصصاُ لها في الميزانية السابقة
وفيما يأتي توزيع هذا المبلغ على أنواع التعليم المختلفة
شؤون التعليم - للإدارة العامة والبعثات العلمية 320 ألف جنيه وللمدارس العالية 376 ألفاً، وللتعليم الثانوي 74 ألفاً وللتعليم الابتدائي للبنين 688 ألف جنيه، وللتعليم الفني 514 ألفاً ولمدارس البنات 384 ألفاً وللتعليم الأولي مليون و442 ألف جنيه وللفنون الجميلة 47 ألف جنيه
الإعانات - وبلغت قيمة الإعانات المقرر منحها في العام الجديد مليون و194 ألف جنيه وهي:
269 ألف جنيه للجامعة المصرية و826 ألفاً لنفقات التعليم لمجالس المديريات و65 ألفاً للتعليم الثانوي الحر للبنين ومثلها للتعليم الابتدائي الحر وكانت في العام الحالي 32500 لكل منهما و54 ألفاً لمدارس البنات الحرة وكانت 27 ألفاً في العام الماضي و10 آلاف جنيه للمدارس الأولية الحرة و8500 جنيه للمدارس الصناعية والملاجئ و250 جنيهاً لمدارس الصناعات الحرة النسائية و15 ألف جنيه للجنة الأهلية الرياضية البدنية ومثلها للفرقة القومية للتمثيل و4800 جنيه للمدرسين الصناعيين بالإسكندرية
و3500 جنيه لدار الكتب الملكية و6500 جنيه لدار التمثيل الملكية و2000 جنيه لجمعية محبي الفنون الجميلة و2330 جنيهاً للمدرسة الفاروقية البحرية و1500 جنيه لكل من الجمعية الملكية الجغرافية والمجمع العلمي المصري و1200 جنيه لكل من الجمعية الطبية ومرتبات الطلبة في المدارس الصناعية و2300 لمعهد الطلبة المصريين بلندن و500 جنيه لكل من الجمعية الرمدية ومعهد التعاون الفكري وجمعية علم أوراق البردي و450 جنيهاً للجمعية الجغرافية الملكية و700 جنيه إعانة فرقة الكشافة والمرشدات و400 جنيه لكل من معهد التربية الدولي بسويسرا والأندية الفنية و300 جنيه لنادي الألعاب الرياضية و200 جنيه لكل من المجمع المصري للثقافة العلمية وجمعيتي المعلمين الملكية والموسيقى المصرية ومدرسة جبل سينا والنادي الرياضي المصري ببرلين وجمعية الفنانين المصريين(252/64)
ومرتبات لطلبة دار العلوم و25 ألفاً مصاريف المدارس التابعة للسكك الحديدية وخصص لجوائز الطلبة 950 جنيهاً علاوة على 300 جنيه لجوائز التفوق
ومما يلفت النظر هنا أن الإعانات - على ضخامة المبلغ المرصود لها والذي يزيد على ربع ميزانية المعارف كلها - لم ينظر فيه إلى ما ينبغي لتشجيع الأدب والتأليف، فليس فيها شيء مقرر لتشجيع ذوي المواهب من المؤلفين ورجال الآداب، على حين تكثر الآلاف لتشجيع الرياضة البدنية والنوادي والجمعيات؛ وتلك ملاحظة نسوقها إلى وزير الأدباء معالي الدكتور هيكل باشا
الثقافة الموسيقية في مصر
تشتغل وزارة المعارف، بإعداد مشروع واسع النطاق، يتجه إلى رفع مستوى الثقافة الموسيقية بصفة عامة، وذلك بإقامة دراسات تثقيفية للموسيقيين المحترفين الذين يزاولون تلك المهنة، ينتظم فيها الراغبون في زيادة ثقافتهم الموسيقية بالمجان. وستكون تلك الدراسات في إحدى مدارس الوزارة بالعاصمة.
وتلقى تلك الدروس في مساء يومين من كل أسبوع. وهي دراسات لجميع المواد الموسيقية التي يحتاج إليها رجل الموسيقى في مزاولة مهنته، والى جانب هذا تدرس اللغة العربية والخط
وتقرر أن توزع برامج الدراسة على عامين تعقد الوزارة في نهايتهما امتحاناً يمنح الفائزون فيه درجة في الموسيقى
وستشرع الوزارة في تنفيذ هذه الخطة ابتداء من أول أكتوبر القادم على أن يشرف حضرة مدير إدارة التفتيش الموسيقي بالوزارة على هذا المشروع
الموسيقى العربية للبارون رودولف ديرلانجيه
لا يتلفت أحد منا إلى التراث العلمي الذي خلفته الثقافة العربية إلا تحسر على نصيبه من الإهمال. والحق أن نواحي جمة من ذلك التراث أصبحت موضع بحث وتنقيب، إلا أنها لا تظفر بما يليق بها من العناية. وفي مقدمة تلك النواحي الموسيقى. على أني لا أجهل أن نفراً من المشتغلين بالموسيقى عندنا مثل الأستاذ كامل الخلعي والأستاذ منصور عوض(252/65)
راحوا ينظرون في بعض أوضاع الموسيقى العربية بدراية، كما أني لا أجهل أن فئة من المستشرقين كتبوا رسائل عالجوا فيها تاريخ الموسيقى العربية وخصائصها، أذكر منهم: ولاسيما
ولكن النظر في أوضاع الموسيقى العربية والإلمام بتاريخها وخصائصها لا يزالان على شيء من الاضطراب. ذلك بأن المصادر العربية الخاصة بالموسيقى تكاد تكون كلها مطوية. وأعني بالمصادر هنا تلك التي أجراها أصحابها على الطريقة العلمية. وأما المصادر الأخرى وعلى رأسها كتاب الأغاني لأبي الفرج فإنما تسوق الأخبار المتصلة بالموسيقى وإن اندست في تلك الأخبار مصطلحات وفوائد علمية
والحاصل أن في نشر أمات تلك المصادر خيراً وأن في بحثها بحثاً مطرداً فائدة جليلة. كل هذا لم يفطن له معهد الموسيقى العربية القائم في مصر لأنه بينه وبين العلم الخالص أشياء، ولكن الذي فطن له رجل أجنبي عنا هو: البارون رودولف ديرلانجيه رحمه الله
وضع البارون خطة سديدة إذ رأى أن ينقل المؤلفات الجليلة إلى اللغة الفرنسية ثم يلحقها بمجمل شامل يعرض نواحي الموسيقى العربية علماً وعملاً.
وقد ظهر المجلد الأول من هذه المجموعة سنة 1930 مطوياً على الجزء الأول والثاني من (كتاب الموسيقى الكبير) للفارابي وهذا المجلد الثاني فيه الجزء الثالث من كتاب الفارابي ثم رسالة في الموسيقى من كتاب (الشفاء) لابن سينا. ويتناول الجزء الثالث من كتاب الفارابي التأليف الموسيقي من لحن وإيقاع وقرع ومن الجموع الكاملة والناقصة والمتلائمة والمتنافرة. وأما رسالة ابن سينا ففيها مباحث في الصوت وسببه وثقله وحدثه، وفي الأبعاد وتقسيمها وتجزئتها وتضعيفها، وفي الإيقاع وفي الشعر وأوزانه
ثم إن في مختتم هذا المجلد حواشي يشرح فيها بعض الملتويات ويلوح فيها إلى الأصول اليونانية
وعسى أن يواصل أصحاب البارون ديرلانجيه وأعوانه نشر المجموعة، فالعالم العربي المهذب يرقب رسائل الكندي صفي الدين وعبد الحميد اللاذقي وغيرهم. ولا يفوتني أن ارغب إلى من سيتم نشر المجموعة أن يعمل كتاباً قائماً برأسه يثبت فيه المصطلحات الموسيقية الواردة في التآليف العربية مع ما يراد منها في اللغة الفرنسية حسبما نقل. وفي(252/66)
ظني أنه يبذل بهذا ما لا ينهض به شكر؛ ذلك بأن اللغة العربية لهذا العهد مفتقرة إلى التعابير الفنية والاصطلاحات العلمية
بشر فارس
الفلم المدرسي ونصيب مدارسنا منه
يرجع الفضل في استخدام السينما في المدارس إلى المستر بروس وولف بعد الحرب الكبرى مباشرة (1919) حين وضع - بمساعدة زوجته - أفلامه المدرسية الناجحة: معركة جنلند بين الأسطولين الإنجليزي والألماني، وغزو اللنبي لفلسطين، والحرب بين آلهة الخير وآلهة الشر. . الخ وقد لقي المستر وولف من إقبال المدارس وتعضيد الحكومة ما جعله يبتكر من الأفلام ما هو الآن ضرورة من ضرورات الحياة المدرسية في إنجلترا. بل لقد عظم أثر هذه الأفلام لدرجة أنها توجه التعليم وجهات خاصة في بعض الأحيان. وقد كان أول أفلام مستر وولف فلماً مساحياً على السطوح والدوائر والمثلثات. . . الخ. وبالطبع لم ينجح هذا الفلم ولذا آثر الأفلام الأفلام الجغرافية والتاريخية بعد ذلك. وقد أشرنا في هذا الباب إلى الفلم التربوي الذي قامت به شركة الفحم الإنجليزية والذي كان له أكبر الأثر في تحسين أسلوب المعيشة والتربية في البيئة الإنجليزية
هذا في إنجلترا. . . فماذا عندنا في مصر؟ لقد كانت وزارة المعارف تحض على استعمال السينما في المدارس، فأين هي الأفلام المدرسية التي عرضت؟ لقد قامت وزارة الصحة بعرض بعض الأفلام السقيمة للتنوير العام، فلم يكن لها أي أثر، وهكذا صنعت وزارة الزراعة. . . ولسنا ندري ماذا يمنع وزارة المعارف من إلقاء مهمة إخراج أفلام مدرسية على عاتق ستوديو مصر على أن يعاونه معهد التربية في ذلك. . . إنها بهذا تفتح حقلاً جديداً لأستوديو مصر وتضمن الأفلام التربوية الناجحة للمدارس المصرية
شذوذ العبقرية في الهند
في الأنباء البرقية أن السيدة سوبارويان قد انتخبت نائبة في البرلمان الهندي عن مدينة مدراس. . . ومنذ شهرين كانت تزور مصر إحدى الزعيمات الهنديات فلم يمنعها زهوها الوطني أن تعير نساءنا المصريات بتخلفهن عن أخواتهن الهنديات في مضمار الحياة، لأن(252/67)
المرأة الهندية قد نالت من الحقوق المدنية ما لا تزال المصرية تحلم به وتعتبره طوبى! وقد منع كرم الضيافة السيدة المصرية من الرد على الزعيمة الهندية. . . ونحن من جانبنا لا نجعل لنهضة المرأة الهندية تلك الأهمية التي تصورتها لها زعيمة الهند، ولا يمنعنا من التمسك بهذا الحكم انتخاب السيدة سوبارويان للبرلمان الهندي. ونحن إنما نستند في رأينا إلى التقاليد والعادات والمعتقدات الهندية نفسها. فالمرأة الهندية تشارك الرجل في التطهر ببول البقر وتقديس البقرة كما تشاركه في إذلال الأنجاس وتفضيل الفئران عليهم. وقد كان خيراً للهند ألف مرة لو عملت نائبة مدارس في محاربة الآفات الهندية ولم تقحم نفسها في الميدان السياسي. . . وتعليل هذا بسيط. . . فالبيئة الهندية مشهورة بالشذوذ ولاسيما في خلق العبقرية. . . فالهند الفقيرة المجدبة من الثقافة قد أعطت العالم رجالاً أفذاذاً عبقريين في ثقافتهم وفي عملهم كالشاعر المسلم المرحوم إقبال والشاعر الهندوكي طاغور والمرحوم أدجاديز بور العالم النباتي. . . ثم السياسية سوبارويان، ومن أجل ذلك فنحنن متفائلون جداً بنهضة المرأة المصرية ولو لمت تدخل البرلمان
تركيا والإسلام
أدلى السيد إسماعيل ولي الله الصحفي الهندي والمحرر بجريدة (انديان نيوز) التي تصدر في دربان بجنوب إفريقية إلى جريدة (جمهوريت) لدى عوده إلى بلاده بما يأتي: (قبل أن أحضر إلى بلادكم طفت ببلاد العرب ومصر وسورية. وقصدي أن أعرف بتركيا العالم الإسلامي في الشرق بحيث أقوم الرأي الخاطئ الذي كونه عنها. لقد اقتنعت كل الاقتناع منذ اليوم الأول لوصولي إلى مدينتكم بأن الأتراك - على نقيض الدعايات السلبية التي راجت عنهم في العالم الإسلامي - لا يزالون مسلمين كما كانوا في الماضي، وإنكم مع محافظتكم على إسلامكم قد كيفتم أنفسكم وفق مقتضيات الحضارة الأوربية. وإنا لنرجو أن يجرب جميع مسلمي الشرق هذه التجربة التي نجحت فيها تركيا. إن عدد مسلمي جنوب إفريقية يبلغ 12 مليون نسمة منهم 8 ملايين من أهل البلاد الأصليين ومليونان من الأوربيين و150 , 000 من المسلمين. أما الباقون فصينيون ويابانيون وأفراد من أجناس مختلفة. وينقسم المسلمون إلى فريقين أحدهما فريق المسلمين الهنود أمثالنا الذين يقطنون البلاد منذ ستين عاماً. والآخر هو فريق المسلمين المولودين في جاوا - وهذه المناطق(252/68)