الوسيلة، فكان كل يوم يمضي يزيد في أحزانه، ويضاعف أشجانه
ثم استيقظ صبيحة يوم مشرق وقد بدا في وجهه البشر، وشاع في أعطافه السرور، فانطلق من صومعته إلى الكنيسة فدخلها، وأقفل عليه بابها، ثم لبث فيها أكثر من ساعة من الزمان، وخرج وقت الغداء فلم يغب طويلاً، ثم عاد إليها، وأقفل عليه الباب كما فعل في الصباح. . .
وظل منذ ذلك اليوم يذهب إلى الكنيسة في مثل هذه الساعة التي لا يفكر أحد من الرهبان في الذهاب إليها، لاشتغالهم بما أخذوا به أنفسهم من كتابة ونسخ وتصوير ونحت ونظم. . . وتبدل حال برنابا، فلم يعد يعاوده وجومه، وذهب عنه هذا الحزن الذي كان يلازمه دواماً. . . غير أن سلوكه المفاجئ قد أثار الغرابة والدهش في نفس رئيس الدير، الذي كان واجبه يقضي عليه بمعرفة كل ما يعمل رهبان الدير حتى في سرهم ونجواهم، فصمم أن يعلم من أمر برنابا ما أراد برنابا أن يجعله سراً مكتوماً. . .
ففي إحدى خلوات برنابا، ذهب الرئيس في صحبة زميلين من أكبر رهبانه سناً، ليروا ماذا يصنع أخوهم داخل الكنسية، ووقفوا يلاحظونه من ثقوب في الباب
ما شاء الله!!
لقد شهدوا الراهب المشعبذ وقد (تشقلب!!) أمام صورة العذراء المقدسة، بحيث وضع رأسه ويديه على الأرض، ثم راح يرسل كراته في الهواء ويتلقفها برجليه، ثم يتحوى ويتكور، ويرسل سكاكينه المرهفة ويتناولها في خفة ورشاقة بكلتا يديه، كما كان يصنع في أيامه الخوالي التي أكسبته الصيت والأحدوثة وأطيب الذكر. . ولم لا يصنع؟ أليس بهذا يضع ملكاته وخبرته الفنية وطول دربته في خدمة العذراء كما يصنع رفاقه؟ وما يصنع رفاقه غير هذا؟
لكن رئيس الدير لم يفهم شيئاً من ذلك، ولم يفطن إلى غرض المشعبذ النبيل، بل صاح وصاح معه زميلاه، ولعنوه اشد اللعن بما دنس هذا المكان المقدس واستباح حرمته! لقد كان الرئيس يعرف أن برنابا رجل ساذج مغفل، ولكنه ظن هذه المرة أنه قد فقد صوابه، فاندفع داخل الكنيسة واندفع في إثره زميلاه ليقذفوا به خارجها. . . ولكن! يا للمعجزة! لقد رأوا الصورة المقدسة تتحرك. . تتحرك، وتتقدم نحو برنابا. . . وقد مدت ذراعها الجميلة(236/70)
النقية، وراحت تمسح قطرات العرق التي كانت تتصبب فوق جبينه، بمنديلها الأزرق الحريري
وسجد رئيس الدير حتى مست جبهته رخام الأرض وسجد وراءه زميلاه، وجعلوا يصلون هذه الصلاة
(مباركون الذين تطهرت قلوبهم وخلت من الخبث، لأنهم سيرون الله)
دريني خشبة(236/71)
البريد الأدبي
متى تستقر نظم الدراسة في مصر؟
أشرنا في هذا المكان من قبل إلى المشروعات الجامعية الجديدة التي وضعتها وزارة المعارف لتعديل نظم الدراسة في الجامعة المصرية، ومنها مشروع يقضي بتخفيض مدة الدراسة في كلية الحقوق وإنشاء قسم جديد للتخصص (الدكتوراه)؛ وكان هذا التعديل مقدمة لمشروع شامل يتناول نظم الدراسة في جميع كليات الجامعة المصرية. فالآن نقول إن النية قد اتجهت إلى إلغاء هذه التعديلات كلها؛ وقد قيل في ذلك إن القوانين الجديدة قد وضعت بسرعة ودون تمحيص، ولم يؤخذ في شأنها رأي مجالس الكليات المختصة، وإن تعديل دستور الجامعة هو قبل كل شيء من شئون الجامعة ذاتها. وهذا كلام منطقي ومعقول؛ ولكن وراء ذلك كله حقيقة يجب أن تقدر قدرها، وهو أن هذا التعديل والإلغاء طوراً بعد طور سياسة خطرة على التعليم الجامعي فضلاً عن التعليم العام، وأنه يجب أن يوضع حد نهائي لهذه الثورات الفجائية في نظم التعليم الأساسية. ذلك أن هذه النظم مسألة قومية عامة يجب ألا تتغير بتغير الوزارات. وقد عانى التعليم وعانت الجامعة المصرية في عشرة الأعوام الأخيرة كثيراً من جراء هذه السياسة التعليمية المضطربة. وإذا كانت نظم التعليم لم تستقر بعد فإنه يحسن أن تبحث في روية وتمحيص، ثم توضع على أسس قومية ثابتة بعيدة عن العواصف والنزعات المختلفة. أما تلك التعديلات الفجائية السريعة التي أكثر ما يقصد بها تخفيف أعباء الدراسة عن جيل متبرم من الطلبة فهي خطر كبير على مستوى التعليم ومستقبل الجيل
الإسلام وكيف يعرضه كاتب تركي
كان الجنرال محمود مختار كترجيوغلو، أحد ساسة تركيا قبل الحرب قد وضع كتاباً عن القرآن وتعاليم الإسلام يعرض فيه ما يتفق مع المبادئ الحديثة من أصول الإسلام؛ وظهر هذا المؤلف بالألمانية ضمن مجموعة الكتب الشرقية بعنوان: (العالم الإسلامي على ضوء القرآن والحديث) وفي سنة 1935 ظهرت ترجمة فرنسية لهذا المؤلف بعنوان (حكمة القرآن) وبها تصدير بقلم المستشرق المعروف الأستاذ ماسنيون الأستاذ في الكوليج ده فرانس؛ وظهرت أخيراً ترجمة إنكليزية لهذه الترجمة الفرنسية بعنوان: (حكمة(236/72)
القرآن) بقلم المستر جون نايش
وفي هذا الكتاب عرض لأصول الإسلام مستقاة من القرآن والحديث؛ ولكن على نمط جديد. ذلك أن المؤلف كما يبدو في مقدمته متأثر جداً بوجهة النظر الغربية ومطاعن الغرب في القرآن وأصول الإسلام. وهو يزعم أولاً أن القرآن لم يكن كتاباً منزلاً، وإنما هو من صنع النبي وصحبه؛ ثم يعرض مبادئ الإسلام وتعاليمه بصورة يحاول بها إخراج هذه المبادئ والتعاليم عن حقيقتها الإسلامية المعروفة؛ ويحاول أن يقرب بينها وبين بعض المبادئ والنظريات الغربية. وهو بهذه الصورة يعتبر في الواقع من الكتب الطاعنة في الإسلام. ومن بواعث الأسف أن يكون مؤلف هذا الكتاب تركياً مسلماً من رجال تركيا القديمة التي اشتهرت بالتمسك بأصول الإسلام. ولو صدر من أحد الدعاة الكماليين لما كان في صدوره ما يلفت النظر، لأن تركيا الكمالية دولة لا دينية. وعلى أي حال فلعل الجهات ذات الشأن تعنى ببحث هذا الكتاب الإلحادي لترى ما إذا كان يسمح بتداوله في بلد إسلامي كمصر.
(م)
إلى الدكتور زكي مبارك
يا أخي العزيز
قرأت رسالتك إلى الأستاذ الزيات؛ ولقد سرني والله أن تعنى وأنت في العراق بدفع تهمة العقوق عن أدباء مصر، وإنها لعاطفة وطنية نبيلة أعرف كل العرفان ما يدفعك إليها وأنت بعيد. ولقد كنت أتمنى لو كان دفاعك إلى جانب الحق لأدع لك أن تزهى وتستطيل بين أدباء بغداد ما شئت أن تزهى وتستطيل. ولكني لا أريد أن أظلم الحقيقة يا صديقي في سبيل رضاك. وبرغمي أن أصر على اتهام الأدباء المصريين بهذه التهمة السوداء!. . . وإلا فهل ترى العربية قد وفت دينها للرافعي لأنك والأستاذ المازني قد كتبتما مقالين في رثاء الرافعي غداة منعاه؛ ولأن طائفة كريمة من الأدباء لم تكن بينهم وبين الرافعي خصومة، قد نشروا في الرسالة مقالات في رثاء الرافعي؟
ما أهون شأن الرافعي وأهون بأدباء مصر جميعاً إن كان إلى هذا ينتهي عندهم واجب(236/73)
الوفاء للراحل الذي عاش في خدمة العربية وآدابها خمساً وثلاثين سنة من عمر التاريخ، كلها جهاد ونشاط ودأب، ومات ولم يجاوز السابعة والخمسين. . .!
وتغضب يا صديقي لأني أضفتك إلى خصوم الرافعي في التعداد والإحصاء مع أن الخصومة لم تنشب بينكما غير خمس مرات؛ فمعذرة إليك أيها الصديق من هذه التهمة الباطلة لأن الخصومة لم تنشب بينكما غير خمس مرات. . . على أن لي رجاءً إلى الله - أيها الصديق - أن يكون هذا الحرص الشديد على نفي ما كان بينك وبين الرافعي من خصومة، عاطفة صادقة ورأياً صريحاً؛ فإن شيطاناً تعرفه يهمس في أذني بأنك لم تكن لتحرص كل هذا الحرص إلا زلفى إلى أدباء العراق لأن هواهم مع الرافعي
وبعد فوالله ما كان لي أن أزعم التفرد بذكرى الرافعي ولا قلتها، ولو قلتها لما كذبت؛ ولوددت والله أن أكون آخر من يذكر في الكاتبين عن ذكرى الرافعي ولا أشهد في أدباء مصر هذا العقوق!
أما (فلانة) فخل عنك حديثها يا صاحبي، فما أظنك كنت تنتظر أن تقول لك وأنت تجلس معها جنباً إلى جنب في الجامعة: (إن بيني وبين الرافعي لشأناً مما يكون بين الرجال والنساء!)
على أني قد حددت ما كان بينها وبين الرافعي بزمانه، بين سنتي 1923، 1924، وما كان بينك وبينها يومئذ شيء ولا كانت تجلس إليك؛ لأنها كانت قد زهدت في دروس الجامعة قبل ذلك بسنوات وانقطع الود الذي كان وتجافى جنب عن جنب. . .!
فإن كنت ما تزال تنكر ما رويت من خبرها وخبر الرافعي بعد هذا فالتمس العلم عند غيري، فستجد كثيراً من أصدقائك الذين تثق بهم يعرف من خبرها ومن خبره ما أعلم وما رويت؛ وما كنت شاهد مجلسهما فأروي عن عيان، ولكنه من حديث الرافعي تحدث به إلي وتحدث إلى كثير؛ وعند الدكتور محمد الرافعي من رسائلها إلى أبيه يخطها ما يشهد لي ويحسم كل خلاف
وتزعم أنني حاولت إيهام قرائي بأن الرافعي قد كسب المعركة بينه وبين الدكتور طه حسين. فليكن هذا الزعم صحيحاً يا صديقي فلا علي منه؛ ون وقائع الدعوى لمبسوطة أما الأدباء يحكم فيها من يشاء بما يشاء؛ وليس يهمني أن يكون الحكم للرافعي أو عليه مادمت(236/74)
أكتب للتاريخ
أما بعد فأين هي الأخطاء التي تراها في هذه المقالات؟ وما أصبرك عليها يا سيدي وللتاريخ حق عليك وللعربية حق؟
إنه واجب أؤديه غير مأجور عليه من أحد إلا وفاء لصديق أحللته من نفسي وأحلني من نفسه، ووفاءً للتاريخ؛ فإن كان فيما أكتب عنه شيء تراه إلى الخطأ فإن للعلم أمانة عندك لا يقيلك منها شفيع الزمالك ومصر الجديدة. . . وإنه ليسرني أن يكون الدكتور زكي مبارك هو الذي يحاول تصحيح أخطائي وبيني وبينه ما بين القاهرة وبغداد؛ ولكن احرص يا صديقي على أمانة العلم. ولا تكن أخطائي عندك من مثل ما قدمت: دعوى بلا بينة، وإلا فراحة لك أولى وأنا عذيرك
والسلام عليك ورحمة الله
(شبرا)
محمد سعيد العريان
من أوراق البردي المصرية
كتب العلامة الأثري الدكتور فريدمان، لمناسبة ما قرره مؤتمر الأوراق البردية من الانعقاد في مدينة فينا لسنة 1939، يصف مجموعة أوراق البردي المصرية والعربية القديمة التي تحتفظ بها المكتبة الوطنية النمسوية ويقول إن هذه المجموعة هي الثانية في العالم من حيث كميتها وقيمتها الأثرية، وإنها حملت من مصر إلى النمسا في أواخر القرن الماضي، واشتراها الأرشيدوق رينر ثم وهبها بعد ذلك للمكتبة الوطنية. ومن أنفس أوراق هذه المجموعة وثيقة ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام، وهي وثيقة زواج تعس تبسط فيها الزوجة، واسمها أرتميزا، قصة شقائها وبؤسها، وهي يونانية تزوجت في مصر، ثم أساء زوجها معاملتها فكتبت قصتها وشفعتها بالدعاء بلعنه. وكان المعتقد في ذلك العصر أن مثل هذه اللعنة تلحق المذنب مادامت محفوظة في أحد المعابد المقدسة، وهو نوع من السحر الأسود كان ذائعاً في العصور القديمة. ثم وثيقة عربية كتبت على البردي وترجع إلى القرن الأول الميلادي وموضوعها كتاب غرام بعث به عاشق إلى حبيبته، وجملته حمامة(236/75)
من الحمام الزاجل إلى حيث توجد المحبوبة، وعدة كتب فرعونية من كتب الموتى وغيرها. وستعرض هذه المجموعة لأنظار العلماء حينما ينعقد مؤتمر أوراق البردي الثاني. ومن المعروف أن هذا المؤتمر قد اعرف بوجود علم جديد يسمى (علم الوثائق البردية) أو البابيرولوجيا
مغامرة علماء في القطب الشمالي
نذكر أن بعثة جوية من العلماء الروس كانت قد طارت منذ أشهر إلى القطب الشمالي، ونزلت هنالك على بسيط من الجليد وأقامت منازل من المطاط لإقامتها، وكانت الطائرات السوفيتية تمونها بما تحتاج إليه من الأغذية والشحم؛ ولكن حدث بعد أسابيع من إقامتها في هذا الجليد النائي أن انفصلت الكتلة الثلجية التي تعيش فوقها وذلك في شهر مايو الماضي وأخذت تسبح ببطء نحو الجنوب؛ وعليها من علماء البعثة الأساتذة بابانين وكرنكيل وشرشوف وفيدروف ومنازلهم وأدواتهم العلمية، وبذلت من ذلك الحين عدة محاولات لإنقاذهم من هذا المأزق دون جدوى، فاكتفت السلطات بتموينهم من الجو. وأخيراً صرح الأستاذ أوتوشميدت رئيس البعثة، وكان قد عاد إلى موسكو قبل انفصال الجليد، أنه لم يبق خطر على البعثة، لأن الكتلة الثلجية التي تعيش عليها تسير في طريقها جنوباً، وقد تصل إلى جزيرة الأرض الخضراء في شهر أبريل أو مايو، ويفصل بين القطب الشمالي وساحل الجزيرة الخضراء الشمالي الشرقي مسافة شاسعة قطعت بها إلى الآن كتلة الجليد نحو ألف وخمسمائة كيلومتر منذ 21 مايو الماضي، وهي تسير بسرعة ستة كيلومترات في اليوم. والكتلة الثلجية صلبة جداً وعمقها ثلاثة مترات ومساحتها كيلومترين. وتستعد الحكومة السوفيتية لأن ترسل إلى الأرض الخضراء سفينة الجليد (مورمانتز) لتختبر حالة الثلوج وتتصل بالعلماء المحصورين بالراديو، وتهيئ مطاراً في جزيرة رودلف القريبة من مكان الحادث
اقتراح
سيتحدث كثير من العلماء والأدباء عن الأزهر وتاريخه وشئونه بمناسبة عيده الألفي؛ وسنعلم عنه كثيراً فوق ما نعلم اليوم، على حين أن هناك معاهد عظيمة لا تقل عن الأزهر(236/76)
في أمجادها وعظمتها وخدمتها للعلم والإسلام لا نعلم عنها شيئاً، كجامع القرويين في فاس، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع النجف في العراق، على حاجتنا الماسة إلى معرفة طرق التدريس فيها وأوضاعها وأحوال طلابها ومدرسيها، لأننا في مطلع نهضة عامة وتعارف بين الأقطار الإسلامية، ولا يتم التعارف إلا إذا بدأ من المدارس والجوامع مصانع الرجال ومعامل المستقبل. فهل يتطوع بعض الأدباء من إخواننا الفاسيين، أو التونسيين، أو النجفيين، ممن له وقوف على سير هذه المعاهد وأوضاعها فينشر فصولاً مختصرة في الرسالة يبين فيها تاريخ هذه المعاهد، والأدوار التي مرت عليها، وطبقات الطلاب والمدرسين فيها، والكتب المقررة، وأصول الدرس فيها، فيخدم بذلك التاريخ والعلم والنهضة الجديدة؟
(بيروت)
علي الطنطاوي(236/77)
الكتب
كتاب قصص القران
للأساتذة جاد المولى بك، محمد أبو الفضل، علي البجاوي، السيد
شحاته
للأستاذ أحمد أحمد التاجي
عرض للكتاب ومنحاه
عرف الناس من سنين أن في الأدب العربي كنوزاً مخبوءة تحت الرجام، ودرراً منثورة في قاع اليم، تحتاج في استخراجها إلى الغواص الماهر. ولكن أحداً لم ينبر لتلك الكنوز يرفع عنها الأنقاض، ولتلك اللآلئ يستخرجها من الظلمات ويعرضها للأنظار
ومن بضع سنوات فقط قام نفر من الكرام - والكرام قليل - ينبشون الأطلال ويستخرجون اللآلئ، فحظي أدبنا في السنوات الآخر بما لم يحظ بمثله في السنين الخوالي
رأينا الأستاذ (الزيات) يكتب في جريدة (النديم) أولاً (والرسالة) ثانياً قصصاً رائعة اقتبسها من أنوار العربية وحلاها وجلاها، وزاوج بين الحقيقة والخيال فيها. فزفها للقراء عرائس مياسة. وكانت قصة وضاح أول ما طرق سمعي على ما أذكر في هذا المنهاج
وكتب الدكتور (طه) في هامش السيرة فكان أجمل آثاره عند كثير من الناس. وتقدم (الرافعي) إلى الميدان فجال وصال وأتى بما لم يأت به إنسان. ولكنه في بعض أقاصيصه أمعن في السير وراء الأفكار يطاردها ويولدها فاختفى وراءها فكتب فأغرب فعز أدبه على كثير من الناشئين
ومع ذلك فإننا نعتبر (وحي القلم) أعظم مجهود في إحياء روائع أدب القديم. وكتب الأستاذ الحكيم (محمد) وحباه الله التوفيق
وتنبه الأدباء لهذه الناحية، فاقتحموا المناجم، وغصوا وراء كريم المعادن، وخرجوا بملء أيديهم جواهر ونضاراً ونشروا ما عثروا عليه في المجلات والصحف فأعجبوا وأطربوا، من هؤلاء الأساتذة (الطنطاوي) و (خشبة) و (العريان) و (عين شوكة) وغير هؤلاء
وأعود الآن إلى الكتاب الذي دعاني إلى التمهيد بهذه الكلمات ألا وهو (قصص القران)(236/78)
فأقول إنه يسلك في نهج (وحي القلم)
إن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
رأيت فيه مجهوداً عظيماً لذلك النفر الكرام جمع حلاوة اللفظ، وإشراق الفكرة، ولطف الانسجام بين المبنى والمعنى والحقيقة والخيال. فجاء كخيال الحسناء في المرآة. ولا بدع فهو ظل لقصص الله، ولو جاز لي أن أقتبس كلمة سعد العالية لقلت: (إنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم)
جرى الأفاضل وراء ما قصه الله الذي يقول: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القران) فأفاضوا القول في كل قصة، وبسطوا ما ذكر رمزاً في كتاب الله، وحشدوا الأسباب وعللوا، واستخرجوا الموعظة وذيلوا، وحققوا الزمان والمكان والإنسان، وصوروا البيئة بجميل الألوان، ونطقوا عن الألسنة بما يجاري الحق والتاريخ وإن كان لقاحاً بين الحقيقة والخيال، فأتوا بالعجب العجاب. والكتاب جليل الموضوع لم يطرقه أحد من قبل - على ما نعرف - بهذا البيان والاستعداد، وهو من الكتب التي تألفها الروح وتجد فيه غذاءها. غير أن بعض قصصه - وهو قليل - نزل أسلوبه عن معظمه، وأظن ذلك من ضرورة الشركة، وهو على كل حال كتاب قيم جليل
أحمد أحمد التاجي
حركة الكشف
للكشاف أحمد الشربيني جمعة الشرباصي
بين يدي الآن هذا الكتيب الصغير، دفعه إلي رسول من مؤلفه يرجوني أن أنظر فيه وأكتب عنه، وأنا رجل عفت الكتابة عن المؤلفين والكتب من زمان؛ فما بي طاقة على أن أظلم نفسي فأقول للمسيء أسأت فأتعرض لغضبه أو عتبه، وما لي طاقة على أن أغش قرائي فأقول عن الرديء إنه حسن وما فيه إلا حسن العاقبة لنفسي. . .
ولكن ما بال هذا الكتاب يدعوني إليه فأفرغ له، فلا أدعه حتى أتمه، ولا أتمه حتى أهم بالكتابة عنه، ولا أهم بالكتابة حتى تنثال علي المعاني انثيالاً ويمضي بي الفكر إلى غايته؟
لا، لم يكن هو الكتاب ما دعاني إلى ذلك بما فيه ولكن بما حوله، وليست هي مادته ولكن(236/79)
مؤلفه وظروفه: هذا فتى أزهري يطل عليك وجهه في الصفحة الأولى من الكتاب، بعمامته الصغيرة، وجبته المزرورة، وبنيقته المراغية البيضاء. . . وما كنت تتوقع هذا ولا شك، وأحسبك ستدهش دهشتي حين تقرأ هذا فتسأل نفسك: ما لهذا الفتى الشيخ؟ وما جاء به إلى هنا؟ وستفكر في كل جواب لسؤالك إلا أن يكون هذا الشيخ الصغير هو مؤلف الكتاب. . .
إي وربي إنه هو مؤلفه، وإنه هو هو أحمد الشربيني جمعة الشرباصي الكشاف، بعمامته الصغيرة، وجبته المزرورة، وبنيقته البيضاء. . . كشاف أزهري بعمامة! لوددت والله بما تشاء من ثمن أن أرى هذا الكشاف الشيخ في ملابس الميدان، لأرى كيف يستر ركبتيه العاريتين في سراويله القصير وعلى رأسه عمامته وعلى ظهره راويته وسفرته. . .
هاهو ذا أزهري فتي يضرب المثل لإخوانه الأزهريين في الفتوة الرحيمة التي تعمل للإنسانية. يا له من فتى متمرد! لا، لا تسموه متمرداً، إنه فتى يعرف ما عليه من تبعات الرجولة في غد فأعد للغد عدته، فلا عليه إن كان هو وحده الفتى الكشاف في الأزهر الكبير وروافده. إنني لفخور به
ليت شعري، هذه فرق الكشافة تنتظم تلاميذ المدارس عامة فلماذا لا نرى في الأزهريين فرقة كشافة؟ أترى تلاميذ المدارس اللدن الصغار أقدر على خشونة الكشافة من شباب الأزهر، أم يرون الفتوة عاراً لا تليق برجال الدين. . .؟ إنهم لأصح جسماً وأوفر نشاطاً وأقدر على مشقات الكشف والرحلة من هؤلاء الصغار، وإنهم ليعلمون علم اليقين أن دينهم هو دين البساطة التي يؤثرها الكشاف، ودين القوة التي يدعو لها الكشاف، ودين النجدة التي يعد لها نفسه الكشاف، فأين هي فرق الكشافة في الأزهر وروافده؟
إن لدي لكلاماً كثيراً أخشى أن أقوله فيغضب من لا أريد أن يغضب، فحسبي ما قدمت من قول وحسب الأزهريين، وليس حسبهم أن يكون فيهم كشاف واحد يشعر بوجود نفسه هو هذا الكشاف!
وبعد فهذه خواطر من وحي هذا الكتاب في نفسي، وما أريد أن أعرف عنه بأكثر من ذاك؛ ولكنه كتاب نافع على كل حلا: نافع للأزهريين عامة ليعرفوا به عن الكشافة ما قد يحببهم فيها فيكونون جنودها، ونافع للكشافين عامة ليبصرهم بكثير مما قد يغيب عنهم من واجبات الكشاف، ونافع لمعلمي فرق الكشافة في مختلف المدارس لعلهم يجدون فيه مادة يدرسونها،(236/80)
ونافع لكل قارئ لأن فيه أبواباً من العلم والتاريخ والتسلية تلذ كل قارئ؛ وقد نفعني أنا أيضاً لأنه نبهني إلى ما قدمت من قول عن الرياضة والكشف والرحلات في برنامج دراسة الأزهريين. أترى مؤلفه قد انتفع به كما انتفع كل هؤلاء؟
بارك الله في هذا الكشاف البطل ونفع به
(س)(236/81)
العدد 237 - بتاريخ: 17 - 01 - 1938(/)
النشر في مصر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قرأت ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن (التأليف والنشر في مصر). وقد روى فيه أن أحد أصحاب المعالي وزراء الدولة في الحكومة القائمة دعا إليه جماعة من الكتاب وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين ووعد في هذا وعوداً حسنة.
وهذا صحيح، فقد روى لي مثله صديق من الكتاب، ولا علم لي بما ينوي وزير الدولة أن يصنع، وأحسبه لا يزال يستطلع الآراء ويستشير أهل الذكر في هذا، فلندع له بالتوفيق، ولنسأله تعالى ألا يشغله بما هو أهم وأولى بعناية وزراء الدولة، من شئون الدولة، ولو كنت مكانه لكان حسبي أن أستطيع تنظيم أمور النشر على وجه صالح ونحو عادل، ولتركت غيري من الوزراء يحملون الأعباء الأخر.
وخلاصة التجارب في هذا الباب أن الأدب في مصر لا يُعوَل عليه في أمور المعاش، وأن الأديب الذي ليست له صناعة أخرى يرتزق منها ويحيا بها خليق أن يموت جوعا. وقد كان المرحوم السباعي يقول على سبيل المزاح: إن الأديب ينبغي أن يكون أديباً وشيئاً آخر. . . طبالاً، أو زماراً، أو عواداً، أو غير ذلك مما يجري مجراه. والذي كان يقول هازلاً. هو الجد الصميم. ودع الطبل والزمر وما إلى هذا فما كان يريد إلا السخرية والنكتة، وكانت المرارة التي يحسها في نفسه تفيض على لسانه على هذا النحو. على أن الواقع مع ذلك أنه لا غنى للأديب في مصر عن مرتزق غير الأدب، يجعل معتمده بعد الله عليه. وما أعرف في هذا البلد أديباً وسعه أن يجتزئ بالأدب؛ ولو كان هذا مما يدخل في الطاقة عندنا لكنتُ من أحق الناس بالقدرة عليه.
وكلام فارغ كل ما يقال عن الحرفة وإدراكها للأديب، فما تفعل ذلك إلا في مثل بلادنا، وحتى أدباء العرب وشعراؤهم لم يدركهم شيء من الحرفة، وإنما كانوا هم المجانين، إلا إذا كان المقصود أن بلاء الحرفة من النفس؛ على أن هذا مبحث آخر، قد نعود إليه في فصل آخر.
وقد جربت كل وسائل النشر في مصر، وانتهيت إلى أن الأمر لا ينقصه سوى التنظيم. ففي مصر والبلاد العربية الأخرى عدد كاف من القراء يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يعول(237/1)
عليه وهو مطمئن إليه، ولكن من العبث والعنت أيضاً أن تجشم الأديب فوق عمله أن يقوم بأعباء الطبع والنشر، وأن تتوقع أن يجني من كل هذا العناء ربحاً عادلاً. وليس لهذا الخلط من نتيجة سوى الاضطراب وفقدان الحقوق. وقد جرب كل أديب في مصر أن يتولى هو هذه الأعباء جميعاً وأن ينهض وحده بها جملة، فأخفق. وليس الإخفاق ألا تجني شيئا، بل أن تجني كل شيء ولا تشعر أنك جنيت شيئا. ولا أذكر هنا ما جرب غيري، فبحسبي ما جربت، وقد نشرت كتباً توليت أنا أمر طبعها ونشرها، ونفدت في زمن معقول، ولكن أصحاب المكاتب يختلفون، ولا سبيل إلى الاستغناء عنهم، وفيهم الأمين ذو الذمة، وفيهم الطامع المنهوم الذي لا يشبع ولا يرضيه إلا أن يخطف كتبك بغير ثمن. ومع ذلك لا يسعني إلا أن أعترف بأني ربحت، وإن كنت لم أشعر بذلك ولم أر له أدنى أثر في حياتي. وإذا حسبت الحساب على الورق وأحصيت ما أنفقت وما حصلت كانت النتيجة أني جمعت مبلغاً من المال لا يستهان به، ولكنه مال على الورق، لأني أنفقت جنيهات رجعت ألي قروشاً مبعثرة ذهبت إلى الشيطان وجربت أن ينفق غيري على طبع كتبي ويتولى عني نشرها ثم نتحاسب، فوقع لي ما يضحك وما يبكي. وأحب أن أستثني طائفة من الجادين المخلصين، وأقول بعد ذلك إن بعضهم نشر لي كتاباً طبع منه أربعة آلاف نسخة نفدت كلها في عام، وشرع يطبع لي كتاباً ثانياً، فقلت أحاسبه، وطلبت منه نصيبي، فكان جوابه الظريف أن دع الكتاب الأول فما أعرف أين ذهب، ولعلهُ سُرق أو حرق، ولنقصر الحساب - في أوانه - على الكتاب الثاني إن شاء الله!
فقلت له: يا أخي غفر الله لك! هل حسبتني هاوياً؟ أم ظننتني أني بائع كوارع؟ إن هذه صناعتي وهي مرتزقي، فإذا لم آخذ حقي فكيف بالله أعيش؟
فابتسم وربت لي على كتفي ملاطفاً، وقال: (العفو! العفو يا أستاذ، لا تقل هذا الكلام! سبحان الله العظيم!).
يعني أنه لا ينبغي لي أن أقول إن هذه صناعتي ومرتزقي! ويظهر أنه كان صادقاً وكنت أنا المخدوع، فقد عشت من غير أن آخذ منه حقي - ولا نصف مليم واحد منه!
وينفد الكتاب - عدة آلاف من نسخه - ثم يتبين لك أن الإسكندرية أو طنطا أو المنيا تسمع به وأن ما بيع بيع معظمه في مدينة واحدة هي العاصمة، والباقي رص في الصناديق(237/2)
وشحن على البواخر إلى الهند والعراق ومدغشقر الخ وتجيئك الكتب تترى بذلك، فتعلم أن النشر غير منظم، وأنه كان في وسعك أن تخرج للناس من كتابك أضعاف ما أخرجت لو أن هناك نظاماً.
والعلاج عندي ليس أن تعين الحكومة الأدباء، فإن هذا يفضي إلى الظلم والغبن، ولكل حكومة من تؤثرهم بعطفها وبرها؛ والأدب ينبغي أن يبقى حراً، وإلا فسد، وتعفن. ولو أن الحكومة أرادت الإنصاف وصدقت نيتها فيه، لوجدت أن الأمر يوشك أن يفشو عليها، والنتيجة المحققة على كل حال هي التمييز والغمط.
إنما العلاج الصحيح العملي أن تقوم شركة ذات راس مال كاف تتولى النشر، وتنظم أسواقه في البلدان العربية كلها، وترتب الأمر فيما بينها وبين الصحافة على نحو يكفل التنويه الوافي في أوانه، وقد استطاعت دور السينما أن تنظم علاقتها بالصحافة على وجه مرضي، فلن تعز عنه دار النشر. وبذلك يستريح الكتاب ويطمئنون على حقوقهم، ويثقون بسعة النشر ويوقنون من إمكان التعديل على ما يخرجون كما يفعل زملاؤهم في الغرب.
وفي هذه الحالة يتسنى ما لا يتسنى الآن: الطبع الجيد، والحجم الموافق، والربح المضمون، ومع ذلك انتظام عمل الأديب وإتاحة الفسحة الكافية من الوقت للتفكير والكتابة والإتقان.
هذه - فيما أعتقد - هي الوسيلة العملية؛ فإن الأسواق موجودة، والقراء يعدون بالآلاف في كل قطر، والصحافة أداة وافية: فالأمر لا ينقصه إلا التنظيم؛ وهذا لا يكون إلا بالمال الكافي، فهاتوا لي المال، ثم انظروا ماذا أصنع لكم يا إخوان! ولا تخافوا أن أبدده. نعم. ستحدثني نفسي بذلك وتحاول أن تحملني عليه، ولكني سأقاومها، وسأروض نفسي على هذه المقاومة من اليوم، فلا تخشوا شيئاً، ولا تقلقوا على مالكم، ومع ذلك فلأن أبدده أنا خير من أن تضيعوه أنتم. ومتى كنتم تحسنون الإنفاق؟
إبراهيم عبد القادر المازني(237/3)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 6 -
وما كانت ظمياء تفوه بالعبارة الأخيرة حتى ابتدأت أوقن بأني سأهتدي إلى سر ليلى. وقد عرفت أيضاً أنه لابد لي من التجمل والتوقر حتى يصل الحديث إلى مداه، فقد قضيت دهري وأنا أرعن أهوج لا أكاد أسمع الحديث عن الحب حتى يفتضح وقاري أشنع افتضاح. ولن أنسى ما حييت تلك الخسارة الفادحة التي قضت بأن يطوى عني إلى الأبد سر السيدة (ن) فقد كانت عرفت من صواحبها أن شفاءها عندي، وجاءت الشقية إلى عيادتي بشارع المدابغ، فلما فحصتها تبين أن العلة لها سبب مدفون، وكنت بحمد الله ولا أزال من أقدر الأطباء على تفرس المحجب من سرائر النفوس. . . انهدَّت تلك السيدة على المقعد، وبدأت أحاورها في ماضيها لأعرف سرَّ العلة، فما كادت تقرأ السطر الأول من صحيفة ذلك الماضي حتى طار صوابي، فوضعت يمناها على صدري، ولكن الشقية لم تمهلني وأفلت كالظبي المذعور. وبذلك طُوِي عني سرها إلى الأبد. وكانت تلك الحادثة سبباً في انتقالي من شارع المدابغ إلى شارع فؤاد.
وما احسب ظمياء إلا صورة من السيدة (ن) وربما كانت أفظع وأعنف فهي عراقية، والعراقيون تغلب عليهم سرعة الانفعال؛ والمرأة العراقية فيما سمعت ورأيت لا تسكن إليك إلا إن ضمنت حسن الأدب وكرم العفاف، وهي عندئذ لا تحتاج إلى من يستدرجها لمعسول الأحاديث، وإنما تنطلق كالبحر الثجاج، فإذا ارتابت في أدبك. . . لا أدري ما تصنع فإن الله رحمني من أمثال هذه المواقف منذ قدمت العراق، وهو عز شأنه قادر على أن يردني إلى وطني مُشرق الجبين.
وجملة القول أني تجلدت وتماسكت، فمضت ظمياء تتحدث، ومضى المطر يقرع النوافذ كأنه عذول، وبين القلب الخافق والسحاب الدافق صلات يعرفها من يؤمنون بوحدة الوجود.
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم وقف قطار المعرض، فلم تنزل ليلى ولم ينزل الفتى ذو العينين الخضراوين. ودار القطار دورة ثانية قطعتها في ذهول.(237/4)
- وأنت أيضاً تحبين يا ظمياء؟
- ألست إنسانة، يا سيدي الطبيب؟
(وهنا رأيت من الحزم أن أعلن نزاهتي، فأفهمتها أني أنكر عليها هذه البدوات، لأن الذي يهمني هو الوقوف على سر ليلى، واشهد أني لم أجد صعوبة في اصطناع هذا النفاق، فقد مرنت عليه بفضل ما ابتليت بالمنافقين الذين تقدموا وتأخرت. ويكفي ما مر بي من التجارب، وأخشى أن تقنعني الأيام بأن النفاق سيد الأخلاق).
- أنت يا مولاي طلبت أن أقص الحديث كما وقع
- كما وقع لليلى، لا كما وقع لك يا ظمياء، فأنت في عافية وليلى هي المريضة، والحكومة المصرية لم تكلفني استقصاء أخبار المتيمين في العراق، وإنما كلفتني مداواة ليلى المريضة في العراق.
- فهمت يا سيدي فهمت.
- زين، زين، ثم ماذا؟
- ثم وقف القطار فتلاحظ العاشقان.
- عاشقان؟ وهل يتم العشق في لحظة؟ هل نحن في السينما يا ظمياء؟
- وقع التلاحظ بين ليلى وبين ذلك الفتى، والتعبير بالعشق من عندي.
- شيء جميل! في أية مدرسة تعلمت يا ظمياء؟
- في المدرسة التي تعلمت فيها ليلى، وهي المدرسة التي أنشأها حكمت سليمان في سنة 1911 بعد إعلان الدستور العثماني؛ وكان حكمت سليمان مدير المعارف في بغداد، وكان تعليم الفتاة في تلك الأيام من المسائل التي يختلف حولها المسلمون، فكانت ليلى أولى فتاة قُيد اسمها في تلك المدرسة.
(وهنا دونت في مذكرتي أن ليلى قديمة العهد بالثورة على مأثور التقاليد، وهذه نقطة مهمة سأعرضها على المؤتمر الطبي، ولعلها تكون السبب في كشف كثير من الأسرار، فالثورة على التقاليد تحدث رجة في المخ والأعصاب، كما حدثنا المسيو ديبويه وهو يحاضرنا بكلية الطب في باريس، وهو أستاذ فاضل كنت السبب فيما وقع بينه وبين زوجته من شقاق).(237/5)
- وهل درتم بالقطار دورة ثالثة؟
- لا، يا سيدي، فقد خشيت ليلى أن تفطن إليها العيون فنزلت ونزل الفتى، ولكنه أقبل عليها يقول: هل أستطيع أن أرشد السيدة إلى محتويات المعرض؛ فأني أراها غريبة بهذه البلاد؟ ولكن ليلى لم تلتفت إليه، وانصرفنا ساكتين. وعرف الفتى أن سهمه أخطأ فمضى كاسف البال.
- وبعد ذلك؟
- مضينا بعد ذلك إلى البيت الذي نزلنا فيه بشارع قصر النيل، وكان الحديث على المائدة من أشهى ما يكون، فقد كانت الجرائد نشرت حديثاً لرجل مشهور اسمه سعد زغلول، وكانت ربة البيت تحب إمتاعنا بصور الجدل السياسي في مصر، فأحضرت نحو عشرين جريدة فيها الرفض والقبول لذلك الحديث، ثم أحضرت صورة كاريكاتورية نشرت في الكشكول لكاتب معمم اسمه عبد العزيز البشري فيما أتذكر، وصورة أخرى للشيخ بخيت وهو يعترض على دخول السيدات أروقة البرلمان، وكان الجو كله جو ضحك، ولكن ليلى لم تبتسم. ولعلها لم تعرف كيف كان الطعام في ذلك اليوم.
- مسكينة ليلى!
- نعم، يا سيدي، مسكينة، فقد قضت ليلة مؤرقة، ثم أزعجتني من نومي قُبيل الفجر لأستعد للعودة إلى المعرض.
- ورجعتما إلى المعرض؟
- رجعنا، رجعنا، وركبنا القطار عشرين مرة.
- عشرين مرة؟ ولماذا يا حمقاء؟
- لنرى الفتى ذا العينين الخضراوين!
- ورأيتماه؟
- ما رأيناه، وإنما رأينا أنضر منه وأصبح، رأينا فتياناً كاللؤلؤ المنثور هم الشاهد على أن مصر من الحقول التي تُنبت الجمال. وقد أمتعت عيني بمن رأيت، ولكن ليلى ظلت صريعة الهم والبلبال.
- مسكينة ليلى!(237/6)
- هل تسمح لي أن ألطم يا سيدي؟
- تلطمين؟ إنك لبغدادية ظريفة يا ظمياء. ما يهمني أن تلطمي، وإنما يهمني أن أسمع بقية الحديث.
- لم تكن ليلى تقول إنها ترجع إلى المعرض لتبحث عن ذلك الفتى، وإنما كانت تدعي أنها تحب الوقوف على سر تقدم الزراعة والصناعة في الديار المصرية. وحملتها هذه الدعوى المزيفة على شراء عدة نماذج مما أنتجته حقول سملاي، وهي النماذج التي عرضها السيد محمد محمود.
- سمعت بمعروضات هذا السيد يا ظمياء.
- وكتبت ليلى مقالة في وصف المعرض نشرتها في جريدة (البلاغ).
- سبحان الله! لقد قرأت تلك المقالة في ذلك الحين وكنت أحسبها من إنشاء ليلى الصحيحة في حلوان.
- لا، يا سيدي، هي من إنشاء مولاتي، شفاها الله!
- آمين، ثم ماذا يا بلهاء؟
- قلت إن ليلى كانت تترد على المعرض بدعوى الاطلاع على أسباب تقدم مصر في الزراعة والصناعة، أما أنا فكنت أعرف ماذا تريد، وقد استمرت هذه الدعوى أسبوعين، ثم يئست ليلى مما تريد، فلم تذهب إلى المعرض بعد ذلك.
- وبهذا انتهت القصة؟
- لا يا سيدي، فقد زعمت ليلى أنها شبعت من المعرض، وشبعت من الأخبار الحديثة في القاهرة، وصرحت بأنها تحب أن ترى القاهرة المعزية، علها ترى ما يذكرها بأحياء بغداد؛ فصحبتنا ربة البيت إلى حي يسمى الغورية، فدخلنا الحمزاوي والفحامين، وشهدنا حارة اسمها وكالة (أبو زيد) وفيها تجارة السيد (. . . . . .) الذي يبيع أدوات السمنة للسيدات، فوقفت ليلى عنده لحظة، ثم انصرفت. وفي خان الخليلي رأينا سيدة ملفوفة كأنها من عقائل بغداد، فحيتنا على غير معرفة، فردّت ليلى التحية بلهفة واشتياق. وأحببت أن أعرف سر هذه الحماسة من ليلى، فنظرت إلي تلك السيدة فرأيت عينيها خضراوين!
- أعوذ بالله!(237/7)
- تستعيذ بالله يا سيدي من ذلك؟
- نعم، أستعيذ بالله من شر العيون الخضر، فهي سبب بلائي في هذا الوجود. ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم عرضت تلك السيدة أن تصحبنا لزيارة معالم القاهرة وقالت إن زوجها أستاذ في الأزهر وأنه ينتظرها عند المعلم حسين الجريسي. ونظرت فرأيت ليلى تمشي وهي نَشوى من الانشراح كأنها تلمح من وراء الغيب أعلام الأمل المرموق.
وما هي إلا لحظات حتى كنا في حضرة شيخ جليل اسمه الشيخ دعّاس.
- الشيخ دعّاس؟
- نعم يا سيدي، الشيخ دعاس، وهو الذي أنجب أحمد وإبراهيم وجلبي وسيد ومحمود، وهم زينة الرجال في بلاد النيل.
- رضي الله عنهم أجمعين، ثم ماذا؟
- ثم تعلل ذلك الشيخ بضيق الوقت، ودعانا إلى تناول القهوة في منزله، فركبنا سيارته ومضينا إلى داره في حيّ الزمالك. ولما دخلنا أبصرنا فتاة هي قيد العيون، بل قيد القلوب، اسمها درية، فسألنا عنها فعرفنا أنها ابنة الشيخ دعّاس، وابنة السيدة نجلاء، ونظرت ليلى إلى تلك الفتاة فلم ترى عينيها خضراوين، وإنما رأت عيونها عسلية، وهو اللون الغالب على عيون المصريات، وهو لون ينطق عن السحر الحرام والحلال.
- اتق الأدب يا ظمياء، فأنت في حضرة طبيب!
- الطبيب يسمع كل شيء!
- أمنت وصدقت!
- ومضت درية تباغم أمها باللغة الفرنسية. فسألت عنها فقيل إنها تلميذة بمعهد الليسيه.
(وهنا أجهدت ذاكرتي لأعرف من هي تلك التلميذة، ثم تذكرت أنني لم أتصل بمعهد الليسيه إلا في سنة 1928 والحمد لله على ذلك، فما يسرني أن تكون تلميذاتي محوراً لأمثال هذه الأحاديث).
- نعم يا ظمياء.
- وبدا لليلى أن تسأل عن السر في اختلاف ألوان العيون، فأجابت السيدة نجلاء بأن درية(237/8)
صورة لأبيها الشيخ دعاس؛ أما ابنها فهو صورة أمه اللبنانية. فقالت ليلى: وهل اللبنانيون خضر العيون؟ فأجابت السيدة: أنا لبنانية الموطن، تركية الأصل. فقالت ليلى: ومعنى هذا أن لك ابناً أخضر العينين؟ فقالت السيدة: نعم، وهو المحروس عبد الحسيب، وهو طالب بمدرسة البوليس، وسيحضر بعد قليل.
(للحديث بقايا)
زكي مبارك(237/9)
سفارة ألمانية
إلى بلاد قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانت أسبانيا المسلمة (الأندلس) قد بلغت ذروة قوتها؛ وكانت إلى جانب الدول النصرانية الثلاث: الدولة البيزنطية، ومملكة الفرنج، والإمبراطورية الألمانية، رابعة الدول الأوربية العظمى؛ بل ربما كانت يومئذ أعظم الدول بما اجتمع لها من عناصر الفتوة، ومنعة الجانب، وروعة الملك، ورفيع الحضارة. كانت حقبة زاهرة، تعاقب فيها في قيادة الغرب الإسلامي ثلاثة من أعظم قادة الإسلام وساسته، هم عبد الرحمن الناصر، فولده الحكم المستنصر، ثم الحاجب المنصور. وكان عهد الناصر بلا ريب أسطع هذه العهود وأعظمها، وفيه بلغت الأندلس ذروة القوة والازدهار، وفيه قامت الخلافة الأموية في الغرب قوية موطدة، بعد أن اختفت من الشرق قبل ذلك بمائة وثمانين عاماً. وكانت قرطبة في عهد الخلافة الأموية عاصمة الغرب الفكرية والاجتماعية؛ وكانت في الطرف الآخر من أوربا تبث أضواء حضارة جديدة لم تلبث أن لعبت دورها العظيم في تكوين الحضارة الأوربية.
وقد تبوأت أسبانيا المسامة مركزها الدولي في الغرب. كان بلاط قرطبة يرتبط مع معظم الدول الأوربية بعلائق دبلوماسية منظمة؛ وكان أخص هذه العلائق مع الدولة البيزنطية في الشرق، ومملكة الفرنج في الغرب. ومنذ عهد عبد الرحمن بن الحكم (عبد الرحمن الثاني أو الأوسط) نرى سفارات الدول النصرانية تتوالى على بلاد قرطبة؛ وكان أهم هذه السفارات يومئذ سفارة تيوفيلوس إمبراطور قسطنطينية في سنة 225هـ (836 م) ومقصدها أن تعتقد الدولة البيزنطية مع الدول الأموية تحالفاً على الدولة العباسية؛ ورد عبد الرحمن على هذه السفارة بأن أرسل وزيره يحيى الغزال سفيراً إلى الإمبراطور لينظم بينهما علائق الصداقة والتحالف. وتبادل عبد الرحمن بن الحكم أيضاً السفارة مع ملك النورمانيين عقب الغزوات التي قام بها النورمانيون في الأندلس، وانتهت بردهم وهزيمتهم.
وفي عهد عبد الرحمن الناصر توالت سفارات الدول النصرانية على بلاط قرطبة، وكان(237/10)
أشهرها وأهمها سفارة قسطنطين السابع إمبراطور قسطنطينية في شهر صفر سنة 338هـ (950 م). وتقدم إلينا الرواية الإسلامية وصفاً شائقاً لتلك السفارة الشهيرة، وتصف لنا احتفال الناصر باستقبالهم في أروع المظاهر والرسوم، وتنقل إلينا أقوال الخطباء المسلمين في ذلك الحفل الباهر.
وفي سنة 344هـ (956 م) وفدت على الناصر سفارة من أوتو الكبير إمبراطور ألمانيا؛ وكان يومئذ أعظم أمراء النصرانية كما كان الناصر أعظم أمراء الإسلام. وكان بين الملكين العظيمين علائق ومراسلات منتظمة، بيد أنها لم تكن ودية دائماً. ولا تحدثنا الرواية الإسلامية عن سفارة أوتو (أو أوتون) إلى الناصر بأكثر من الإشارة إليها؛ بيد أنها كانت سفارة هامة، وكانت ذات غاية خاصة وذات مغزى خاص. وكان سفير الإمبراطور إلى الخليفة حبرا من أكابر الأحبار هو يوحنا أسقف جورتسي. وترك لنا يوحنا تفاصيل سفارته في ترجمة حياته وخلاصتها أنه سار إلى قرطبة ليسعى لدى الناصر في أمر المستعمرات والعصابات المسلمة التي انتشرت في أنحاء سافوا، وفي كثير من آكام الألب. وكانت غزواتها الناهبة تمتد حتى شمال سويسرا، وكان أمراء النصرانية التي تهدد هذه المستعمرات أملاكهم ورعاياهم قد فزعوا إلى الإمبراطور أوتو باعتباره زعيم النصرانية وأقوى أمرائها، وطلبوا منه أن يتوسط لدى خليفة المسلمين عبد الرحمن الناصر فيستعمل نفوذه السياسي والروحي لإجلاء هذه المستعمرات عن معاقلها أو على الأقل لوقف اعتدائها وعبثها. فنزل الإمبراطور عند تضرعهم وبعث سفيره إلى الناصر، فقصد يوحنا إلى قرطبة عن طريق فرنسا، ومعه طائفة من التحف والهدايا طبقاً لرسوم العصر. ولما وصل إلى دار الخلافة استقبل بحفاوة كبيرة، وأنزل في منزل خاص؛ ولكنه لم يقدم إلى الناصر في الحال، بل استبقي مدى حين في شبه اعتقال محوطا بالإكرام والرعاية؛ ويوضح لنا يوحنا بواعث هذا الاعتقال فيقول لنا: إن الخليفة كان يحقد على الإمبراطور لأنه كان قد تعرض للإسلام في بض كتبه إلى الناصر، واعتقل مدى حين سفيراً نصرانياً كان الناصر قد أوفده إلى بلاطه، فرأى أن يقابل تصرف الإمبراطور بمثله، ويعتقل سفيره أعني يوحنا حتى يتحقق من عواطفه ونياته. وبعث الناصر إلى الإمبراطور سفيراً، واختار لهذه السفارة قساً من رعاياه النصارى اتباعاً لتقليد جرى عليه الخلفاء في معظم سفاراتهم إلى القصور(237/11)
النصرانية. وكان أوتو يومئذ مشتغلاً ببعض الحروب الداخلية، فأبدى تساهلاً في قبول وجهات نظر الخليفة، ولم يثر من المجادلات ما اعتاد أن يثيره، وأكد صداقته لخليفة المسلمين. وعاد السفير إلى قرطبة يحمل إلى الناصر تحيات أوتو وتأكيداته الودية، فارتاح الناصر لهذه النتيجة، وأذن باستقبال يوحنا سفير الإمبراطور. واستقبل يوحنا استقبالا فخماً ظهرت فيه عظمة البلاط الأموي، وتحدث إلى الناصر عن مهمته وغاية سفارته. ولسنا نعرف ماذا كانت نتائج هذه السفارة، لأن يوحنا لم يحدثنا عن ذلك في روايته؛ ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة هي أنها ليست لها أية علاقة بالمستعمرات العربية في غاليس وسويسرا، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل لديها. وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة قرطبة لم تكن تعني كثيراً بشأنها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها في الأراضي النصرانية بعين العطف والتأييد.
على أن الرواية الكنسية من جهة أخرى تحدثنا عما أفضى به الناصر إلى يوحنا من الملاحظات السياسية والإدارية؛ فقد بسط ليوحنا خططه في السياسة العامة، وأنحى باللائمة على الإمبراطور أوتو لأنه يضع ثقته في أشرافه؛ ومثل هذه السياسة لا تزيد الأشراف إلا غروراً، ثم تنتهي بهم في أواخر الأمر إلى العصيان والثورة. ولهذه الملاحظة السياسية التي توردها الرواية الكنسية عن الناصر أهمية خاصة، وهي ليست إلى صدى لسياسة الخلافة الأموية وسياسة الناصر ذاته؛ ذلك أن الناصر كان يعتمد في تنفيذ سياسته على طبقة الموالي والصقالبة، ولا يثق بالأشراف وزعماء القبائل من العرب. وكان من آثار هذه السياسة أن جعل الناصر بطانته من الصقالبة المستعربين، ورفع كثيراً منهم إلى مناصب النفوذ والثقة في الحكومة وفي الجيش. وكان الناصر يخشى منافسة الرؤساء ذوي العصبية ويقصيهم عن كل نفوذ، ويخضعهم لهؤلاء الصقالبة الذين اتخذهم في يده آلات طائعة تعبر عن خططه ورغباته. وكان لهذه السياسة أثرها في توطيد سلطان العرش، والقضاء على سلطة الزعماء المحليين، وعلى مطامع الرؤساء المتطلعين، ولكنها كانت من جهة أخرى خطراً على العرش إذ عرضته لسخط الأشراف والزعماء العرب، وخطراً على الجيش إذ كان سواد ضباطه من العرب الذين يعتزون بعصبيتهم ويسوءهم أن تضار هذه العصبية(237/12)
ويعتدى عليها. وظهر أثر هذه السياسة في أواخر حكم الناصر إذ ظهرت أعراض الوهن والانحلال في الجيش؛ ثم ظهر خطرها على العرش فيما بعد إذ غدا عرضة لمطامع المتغلبين والمتنافسين.
تلك هي قصة هذه السفارة الشهيرة التي وجهها الإمبراطور أوتو الكبير إلى عبد الرحمن الناصر، وتشير الرواية الإسلامية إليها في عبارات موجزة مما يدل على أنها لم تفطن إلى أهميتها السياسية والاجتماعية، ذلك لأنها كانت سفارة من نوع خاص ولم تكن متعلقة بالشؤون والعلائق الدبلوماسية العامة، ولم تكن الإمبراطورية الألمانية الناشئة مشهورة في بلاد قرطبة شهرة الدولة البيزنطية أو مملكة الفرنج، ولكن التفاصيل الشائقة التي تقدمها إلينا الرواية الكنسية تدلى بأهميتها وطرافتها، وأول ما تدل عليه ما كان لبلاط قرطبة في عهد الناصر من الهيبة والنفوذ حتى في دول كألمانيا لم تكن تربطها بالأندلس مصالح أو علائق دبلوماسية مباشرة؛ بيد أن أهم ما تدلي به هذه السفارة هو صفة الزعامة والإرشاد التي كان يبدو بها بلاط قرطبة، فقد رأينا الناصر يلقي درساً في السياسة والإدارة على الإمبراطور أوتو، وهي صفة كان في ظروف الأندلس يومئذ ما يبرر اتخاذها، فقد كانت الأندلس عندئذ في أوج قوتها وعظمتها، وكانت حكومة قرطبة في نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية نموذجاً لأعظم وأرقى حكومات العصور الوسطى؛ وكانت الحضارة الأندلسية في سائر نواحي الحياة العامة والخاصة مضرب الأمثال في الروعة والبهاء؛ وكانت نبراسا تمتد أضواؤه إلى أقاصي أوربا؛ وكان للزهراء عاصمة الناصر وبلاطه في الأمم الشمالية شهرة سحرية، حتى أن الراهبة السكسونية هروسويتا تغنت بجمالهما وروعتهما في قصائدها اللاتينية وأسمتها (زينة الدنيا).
والخلاصة أن عظمة الأندلس يمكن أن تقرأ في هذه الصفحات المطوية من تاريخ العلائق الدبلوماسية بينها وبين الأمم الأوربية أكثر مما تقرأ في تاريخها الخاص: ففي هذه الصفحات نجد صوراً كثيرة مؤثرة من ذلك الإجلال الذي كانت تفرضه الأندلس إبان عظمتها على أمم الغرب والشمال.
محمد عبد الله عنان(237/13)
الفهم الفلسفي للثورة على الأخلاق
للأستاذ عبد العزيز عزت
سيدي الأستاذ الزيات
قرأنا بإعجاب في الرسالة الغراء ما كتبتموه، وما سطره أساتذة الأدب العربي في الثورة على الأخلاق، فأكبرنا فيكم نزعتكم إلى تأييد الفضيلة بهذا الأسلوب. وقد لاحظت بجوار ذلك غياباً نسبياً للفهم الفلسفي في ذلك الحوار الأدبي، مع أن الموضوع يمت إلى صميم الفلسفة بصلة وصلات. لهذا دعاني الواجب الفلسفي أن أحرر هذه الكلمة لعلها تلقي بعض الضوء من هذه الناحية على هذا الموضوع:
فهم بعض الناس في مصر الثورة أنها النزاع بين وجهتي نظر متناقضتين؛ فهناك أنصار القديم، وهناك المجددون؛ وهناك رجال الدين، وهناك (المستغربون)؛ وهناك أصحاب الفضيلة، وهناك (المسترذلون). نزعة (التثنية) هذه في تصور الشيء وضده، هي نزعة (حربية) لا تليق بطبيعة التفكير جرتها علينا من بعيد الحضارة الفارسية التي يسودها مذهب زرادشت في كتابه الأفستا الذي يقول بتنازع قوة الشر (أهرمن) وقوة الخير (أهورا). وكذلك جرتها علينا - فيما أرجح - من قريب مبادئ الثورة الفرنسية في تصور معنى الحرية والاستقلال؛ فهناك ابن الوطن من ناحية، وهناك الملك من ناحية أخرى؛ ذلك لأن التفكير في ذاته وسيلة سلمية هادئة لخلق (التماسك) في عقلية الفرد، وخلق التماسك في عقلية المجتمع؛ وهذا التماسك هو الانتقال من حالة نوعية إلى حالة من نفس النوع يجوز لها التخصيص. فكل ثورة هي نهاية ظاهرة لحالة تطور هادئ سبقته، وتضمنت هذه الثورة؛ فهي إذاً حاضر لماضي سبق قد مهد لها، وهي حاضر كذلك لمستقبل يأتي، تمهد هي له الثورة في نظر الفيلسوف الألماني شيلنج لا يمكن أن تنفصل عن التطور وعناصره الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل. (التطور هنا لا يقصد به نظرية داروين وسبنسر التي أثبت خطأها أستاذنا الفيلسوف لالاند في كتابه: (خداع التطور) وإنما التطور الذي نزل من فلسفة أفلاطون وقالت به المدرسة الألمانية الحديثة وخاصة هيجل وشيلنج وهو التطور المنطقي لمظاهر التاريخ عامة). فالثورة بهذا الفهم هي عنصر أكيد للسلام والتقدم.(237/14)
ولنأخذ مثلاً ثورة أفلاطون في العهد القديم. هذه الثورة كما يحدثنا الفيلسوف الألماني زللر في كتابه (فلسفة أهل اليونان) الجزء الأول - جمعت بين الفلسفة الطبيعية التي سادت التفكير اليوناني إلى ما قبل سقراط، وجمعت الفلسفة المنطقية التي وجدت في عصره عند السوفسطائيين، وكذلك الفلسفة الأخلاقية التي قال بها سقراط، ففيها يلتئم عنصر الماضي وعنصر الحاضر وكذلك عنصر المستقبل، لأن فلسفة أفلاطون ضمنت الحياة للفلسفات المنطقية والأخلاقية من بعده، الأولى في تلميذه أرسطو والثانية في زعيم الرواقيين كريزيب ومن أخذ عن هذين الفيلسوفين إبان القرون الوسطى من عرب، ورومان، ومسيحيين. وهكذا بعد أن كانت الفلسفة المنطقية من قبل أفلاطون سبيلاً للشعوذة والسفسطة والثرثرة، أصبحت فلسفة محترمة تبغي إقامة العلم والبحث عن الحقيقة المجردة. كذلك بعد أن كانت الفلسفة الأخلاقية من قبله وسيلة لإخضاع الفرد في المجتمع اليوناني أو الدولة الحاكمة، أضحت سبيلاً لتحريره وتقوية إرادته.
ومثل آخر في العهد الحديث: ثورة كانت الألماني فهي قد جمعت بين تيار الماضي - بالنسبة إليه - وهو تيار فلسفة ديكارت حينما يتكلم عن ملكات العقل، وتيار الحاضر - بالنسبة إليه - وهو تيار الفلسفة الإنجليزية الممثل في فلسفة دافيد هيوم لأن (كانت) نفسه يقول أن هيوم (أيقضه من سباته الفكري). ونجد أثر هذا ظاهراً عندما يتكلم كانت في أثر الحواس في نظرية المعرفة؛ أما عنصر المستقبل فهو أن كانت كفل الحياة من بعده لفلسفات تنطق تارة باسم العلم مثل فلسفات أوجست كنت، وكورنوه وفلسفات تنطق باسم المنطق والإلهيات مثل فلسفة لاشلييه وفلسفة بوتروه (اقرأ كتاب أستاذنا العلامة الكبير لاسباكس أستاذ الفلسفة بجامعة كليرمون، ورئيس المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، والسكرتير السابق للوزير بريان وعنوانه: (المنطق وتطور العالم).
وعليه فالثورة في التفكير هي عنصر للسلام أي التوفيق بين الماضي والحاضر الفكري، ومظهر للتقدم، أي يجب أن تكفل خلق تيارات جديدة للفكر في المستقبل.
أما الآن فلنتحدث عن الثورة (الأخلاقية). الثورة في مجال الأخلاق تتضمن الإقرار بوجود هذا المجال، وتمييزه في نفس الوقت عن المجالات الأخرى كمجال النفس والاجتماع والمنطق، والإقرار كذلك بأن له طبيعة خاصة وأصولاً للتفكير فيه، وإلا أصبح البحث(237/15)
عبثاً، والجدال رغاء، وقلبت الأوضاع، وأنكر التاريخ، وجحدت المجهودات القائمة للفلاسفة. فنحن إذاً لا نوجه كلامنا إلى أصحاب الرذيلة الذين بخسوا الفضائل حقها. ولكنا نوجهه إلى الأساتذة أصحاب الفضيلة فنقول:
الثورة في مجال الأخلاق لا تبنى على إنكار الفضائل، وتجاهل أمر الثورات الأخلاقية في تطور التفكير البشري، ولكن على علاقة الفضيلة بالرذيلة أولا، وعلى استعراض التصور النوعي للفضيلة في الثورات الأخلاقية.
(1) أما عن تحديد علاقة الفضيلة بالرذيلة فلا يمكن البحث عنها خارج فلسفة الرواقيين، لأنه أعظم مبدأ أخلاقي وجد إلى الآن في تطور التفكير الإنساني، وذلك لأنه قضى على مبادئ الأخلاق التي تقدمته بتعاليمه السامية. فبينما سقراط يجتهد أن يتخذ من الأخلاق سبيلاً لتقييد حرية الفرد وإخضاعه للدولة الحاكمة في المجتمع اليوناني، نرى أفلاطون يفترض السوء في طبيعة الإنسان ويجتهد بعد ذلك أن يرفعه إلى قداسة عالم المثل. كذلك أرسطو فهو يميز وبنوع بين خلق الله فيقر الرق والاستعباد، ويضع أخلاقه للسادة من الناس، والأرستقراطية التي قضت مباشرة على مبادئه وأضحى فكره ميتاً بعد حروبا الاسكندر الأكبر، لأن المجتمع اليوناني في ذلك الزمان أصبح في حاجة ماسة لمن يخاطبه بلغة قليلة التجريد - أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال، يتحقق خلالها ذلك الفهم الواسع الذي أدركه اليونانيون باحتكاكهم بعد تلك الحروب بسائر الأمم الأخرى، لهذا لاقت تعاليم الرواقيين نجاحاً عظيماً وخاصة تعاليم كريزيب (اقرأ كتاب أستاذنا أميل برهييه وعنوانه كريزيب في مجموعة أَلكان لكبار الفلاسفة) لأنها ألغت الرق، وجعلت الناس سواسية كأسنان المشط أمام القانون الأخلاقي، وافترضت الخير في طبيعة الإنسان. وأهمية هذا المذهب لا تقف عند هذا الحد لأنه ساد بعد ذلك كل العالم الروماني، وعالم القرون الوسطى في أوربا خلال آباء الكنيسة. والأهم من ذلك أخيراً أن زعماء الفكر الحديث عندما كتبوا في الأخلاق تأثروا بالرواقيين، فمثلاً ديكارت في خطاباته مع البرنسيس اليزابيث، وسبينوزا في كتاب (الأخلاق) وكانت في كتابه عن الأخلاق.
فالرواقيون آباء الأخلاق لم ينكروا في ثورتهم الفضائل ولم يبخسوا كذلك الرذائل حقها وما لها من أهمية في الحياة؛ غير أنه يستحيل في نظرهم فصل الاثنين عن بعضهما، لأن(237/16)
الإنسان مركب من روح وجسم وهي البداهة كلها فله شهوات تدعو إلى الرذيلة، وله غايات روحية سامية يريد تحقيقها؛ غير أن الشهوات والميل إلى الرذيلة ليست بطبيعية في الإنسان، فالإنسان كأساس خَير بطبعه، ولكن الحياة الخارجية المادية ومغرياتها هي التي تفسد عليه داخليته ونفسه الطاهرة. ولما كان أغلب الناس لا يمكنهم التضحية بمغريات الحياة الخارجية؛ أضطر الرواقيون ألا يتجاهلوا أمر الرذيلة وأثرها في التخلق فحسبوا لها حساباً بل جعلوا منها ضرورة لازمة للفضيلة؛ ويقدمون لذلك ثلاث حجج، (يجدها القارئ في كتاب أستاذنا برهييه والأستاذ بيفان
أولاَ - حجة بالمقارنة؛ فالرذيلة تابعة للفضيلة وشرط أساسي لها؛ ويضربون لذلك مثلاً جمال رأس الإنسان الذي يتضمن في نفس الوقت نوعاً من الضعف هو رقة عظامه وتعرضه في أي لحظة للأخطار الطارئة، فإذن ليس هناك جمال خالص من ضعف أو قبح يشوبه، كذلك. , ليس هناك فضيلة خالصة ولا بد للرذيلة أن تلازمها فهي ضرورية لها.
ثانياً - حجة منطقية: تتلخص في أن النقيضين متضامنان؛ فالخير يتضمن الشر في تصوره، والحسن يتضمن القبيح في إدراكه، والفضيلة تتضمن الرذيلة وهلم جرّاً. . .
ثالثاً - حجة أخلاقية: يقول الرواقيون: الرذيلة ليست من طبيعة مغايرة للفضيلة، فكلاهما من نوع واحد. وليست الرذيلة هي حرباً على الفضيلة، وإنما هي فضيلة ضالة، والعقل في تصورها وفعلها خاطئ، ومهمة الأخلاق هي العودة بما ضل إلى الطبيعة الخيرة الأولى.
هذا الفهم للعلاقة بين الفضيلة والرذيلة اضطر الرواقيين إلى تصوير نوعين من الأخلاق: أخلاق لا يصح أن نسميها (خارجية) نجدها في كتاب (الواجبات) لشيشرون، وهي تختص بمغريات الحياة الجارية وتنبني على ما يجب فعله وما لا يجب أن يفعله الإنسان في يومه، والتحقير من أهمية الماديات لتغير قيمتها بتغير الأشخاص والأزمان والأصقاع، فهي أشياء عارضة، وينبغي الزهد فيها، والإعراض عنها، فهي أخلاق تهتم بتخفيف وطأة الرذيلة.
وأخلاق نسميها (داخلية) تبنى على رياضة الإرادة، أساسها ضبط النفس وغرضها الوصول إلى الخير المطلق، ونجدها في كتاب شيشرون المسمى وهي ما يصح تسميتها كذلك بلغة العلم الحديث (أخلاق نظرية) ترمي إلى خلق الانسجام بين إرادة الوجود في الفرد، وإرادة الوجود في العالم، وإرادة الوجود في المجتمع.(237/17)
كذلك الاستعراض النوعي للفضائل في ثورات الأخلاق، يدل دلالة واضحة على أن هذه الثورات لم تكن حرباً على الفضيلة ولم تكن للحط من قيمة الإنسان إلى قدر هو أرفع منه؛ وإنما كانت برداً وسلاماً عليها، ترسم سبل الوصول إليها وإمكان تحقيقها: فالثورة اليونانية الأخلاقية كما يذكر الفيلسوف بوتروه في كتابه (مسائل في الأخلاق والتربية) كانت ترمي إلى رفع الإنسان إلى القداسة العقلية بحيث يصبح العالم بيتاً للإنسان والآلهة (أنظر كذلك شيشرون (طبيعة الآلهة)). ويتحقق حلم الرواقيين في خلق مدينة العقلاء فيسود السلام على الإنسانية، بإحسان كل إنسان إلى أخيه فلا يبقى هناك فضل (ليوناني) على أجنبي.
والثورة الدينية في الأخلاق: إبان القرون الوسطى ويمثلها فيلون الإسكندري في اليهودية، والغزالي في الإسلام، والقديس أوغسطين في المسيحية، تتلخص كلها في تلك النزعة القديمة الشرقية التي أختص بها الجنس السامي وهي فكرة الخطيئة الأولى وما تتطلبه من التحلي بالفضائل كوسيلة لإنفاذ خلق الله من وصمتهم والعود بهم إلى جنات الخلد والنعيم (أنظر كتاب مُنك (في الفلسفة العربية اليهودية)، وكذلك كتاب أستاذنا العلامة جلسن بالكليج دي فرانس وعنوانه: (المسيحية والفلسفة)).
ثم جاءت بعد ذلك الثورة الحديثة في الأخلاق تقيم الفضائل وتناصرها ولكنها تفهمها بشكل آخر جديد، فبينما نجد القداسة العقلية عند اليونان، والقداسة الربانية عند اليهود والمسلمين والنصارى، نجد القداسة العملية النفعية عند الإنجليز في شخص هبز ومدرسة بنتام وميل وسبنسر (أنظر عند الإنجليز وأيضاً سبنسر التطور والأخلاق.
أصبحت الأخلاق عندهم تهتم بالحياة الجارية وتتأثر بالفهم الرياضي فأضحت (حساباً للذات) من وجهات الكم والكيف، والبقاء، والزوال؛ وأصبح الفرد وأنانيته محوراً للأخلاق. ظهرت ثورة أخلاقية جديدة في ألمانيا هي ثورة كانت تذكرنا بآراء الرواقيين في العهد القديم لأنها ترتكز على فكرة الواجب ' المجرد عن الغايات النفعية والأغراض العارضة، وأن الإنسان في تخلقه يجب أن ينظر إلى ثلاثة أفكار: أولاً: أن يكون التخلق واحداً لكل الناس. ثانياً: أن يحترم الإنسانية في شخصه. ثالثاً: أن يتخلق وأن يملي على نفسه تخلقه دون أن يخضع في ذلك إلى مؤثر ما. لهذا كانت نهاية مبدئه الإرادة الحرة (انظر دلبوس فلسفة كانت(237/18)
ونحن بعد هذا لا نريد أن نعدد الأمثلة أكثر من ذلك لنثبت أن للأخلاق والثورة عليها أو فيها طبائع وأصولاً ومبادئ لا تبرر مطلقاً ما ذهب أليه الثائرون. لهذا غضبت النفوس الكريمة وناصرت الفضائل التي هي السبيل الوحيد لوجود الضرر كمنكر، لأن ديكارت لا يفصل التخلق عن المعرفة والسبيل الوحيد كذلك لوجود الفرد اجتماعياً، لأن دور كيم لا يؤمن بقيمة الفرد إلا إذا آمنت الناس من حوله بما ينطق ويفكر. فما كتبه الأستاذ الزيات، وعزام، والخولي هو لسان المجتمع في هذا الموضوع المعبر الصادق عن المشاعر الخفية التي تكنها نفوس المصريين أجمعين من حولهم، فليكفر إذا هؤلاء الثائرون - اعتباطاً - عن آرائهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة.
عبد العزيز عزت
خريج جامعات القاهرة وباريس، وكليرمون
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(237/19)
فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 7 -
(إذا أمسك الله تعالى بالحق في يمينه، وبالدافع الدائم إليه في يساره، ثم أمرني بالاختيار: لسقطت على يده اليسرى وقلت أعطني هذا أيها الأب الأقدس، لأن الحق الخالص ليس إلا لك).
ليسنغ
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال).
أحمد أمين
المنهج والطريقة
رأيت في المقال السابق كيف تمتد يد (الديمقراطية) إلى (المعلم) و (المدرسة) و (الطالب) لتصلح من شأن التربية ما قد أفسدته النظم البالية والتقاليد الرثة، وسترى اليوم ما ينبغي أن يكون عليه المنهج وطريقة تدريسه حتى لا يكون الأمر مجرد (إنهاك عصبي) لا أكثر ولا أقل. . .!
يقسم الأستاذ (هورن) العلوم إلى خمس طوائف: فنية، وتشمل: العمارة والحفر والتصوير والموسيقى والأدب والدين؛ وإرادية وتشمل: النظم والأخلاق والقوانين؛ وعلمية عقلية وتشمل: المنطق والميتافيزيقا والجمال واللغة والأخلاق النظرية؛ وعلمية مادية غير عضوية وتشمل: الطبيعة والجيولوجيا والجغرافيا والفسيوجرافيا والفلك والمعادن والكيمياء؛ وعلمية مادية عضوية وتشمل: الحياة والنبات والحيوان والفسيولوجيا والتشريح وتاريخ الإنسان والاجتماع والاقتصاد.
وأنت ترى أن كلاً من هذه العلوم يعالج إحدى نواحي الكون معالجة خاصة، وأنها جميعاً ذات قيمة (ذاتية) كما يقول (هربارت) ولكنا في ناحية (الثقافة العامة) على الخصوص(237/20)
مضطرون إلى التفريق بينها في الدرجة والضرورة فلا نفضل منها إلا ما يتفق وغايتنا. ومن هنا كان ذلك الخلاف الهائل في آراء علماء التربية وأساليبهم؛ (فهربارت) يطالب بقيمة المادة (الذاتية) بصرف النظر عن نتائجها وآثارها، و (ديوي) يصر على اختيار المواد (النفعية) وفقاً لمذهبه العملي، و (ريدجر القائل بفكرة الملائمة مع البيئة يعطينا قِيمَاً آلية وأخرى ثقافية. فالأولى منها التحضيري كمواد القراءة والكتابة، ومنها العملي كمواد اللعب، ومنها (الاجتماعي) كمواد الأجناس والأديان والأخلاق والتاريخ والأدب، ومنها (التقليدي) كالخطابة والجدل؛ أما الثانية - الثقافية - وهي أرقى القيم جميعاً، فتدخل فيها المواد التي تحرر العقل وتهذب العواطف وترقى بالشعور، كالفلسفة الخالصة والأدب المجرد.
هذا وقد رتب الفيلسوف (سبنسر) المواد تبعاً لأهميتها وضرورتها فجعل علوم (الصحة) على رأسها، وتليها علوم (التربية) ثم علوم (السياسة والاجتماع) ثم علوم (الفراغ) أي (الفنون). . .!
أما (رسل) فقد فضل المواد التي (تُبقي وتحفظ قوة الخلق والتضلع والحيوية في الفرد، وتعينه على التمتع بالحياة ذاتها.
وأما الأستاذ (أمير بقطر) فيقول بانتخاب المواد التي تفتح على الطالب أكثر من باب واحد.
ولقد أدلى الأستاذ (أحمد أمين) برأيه في الموضوع فقال (إذا كانت قيمة الثقافة الذاتية هي أبداً في مقدار ما ترفعه في المثقف من وجهة النظر إلى الأشياء وتقويمها قيماً جديدة أقرب إلى الصحة، أسلمنا ذلك إلى نتائج خطيرة، فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر إلى الله وإلى الحياة، وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي إليه من نظر راق صحيح. وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.
وأنت ترى معي أن تلك النظرة من الأستاذ حصيفة كل الحصافة وبعيدة الغور وسامية المنطق، وأن نظرة (ديوي) مشوبة بالنفع العملي الذي يشوه فلسفته الخاصة، وأن ترتيب (سبنسر) يقلل من شأن تلك المتعة (العقلية والفنية) التي جعلها (هورن) جوهر الثقافة(237/21)
الحقيقية.
ومهما يكن من شيء فما دامت غاية التربية هي خلق الحياة الاجتماعية المثلى. وأعني بها تلك الحياة (التي يستطيع الفرد أن يجد فيها مجالاً لتحقيق مستلزمات حياته الأدبية والعقلية والروحية والمادية على أتم وجه بحيث يتسنى له أن ينمو ويتقدم أخلاقياً وروحياً ومادياً وعقلياً نمواً تتطلبه طبيعته وتستطيع أن تحققه الظروف مع البيئة) أقول ما دامت تلك هي غاية التربية فبجب أن نحاول تطبيق ذلك على مواد المنهج وطريقة تدريسها.
فالمادة يجب أن تكون تامة الوفاء بما تتطلبه (المرحلة) البدنية والنفسية من نمو، ويجب أن تكون محبوبة للطفل شائقة لديه لا هي بالسهلة ولا هي بالصعبة، ويجب أن تكون مستمدة من الحياة ومرنة تلائم الاختلاف بين عقول الأفراد، ويجب أن تظهر للطفل كأنها مادته الضرورية الخاصة، ويجب أخيراً أن تكون (بحيث ترتفع به إلى مستوى أرقى في العمل والشعور لا مجرد إنهاك عصبي).
وإذا كان الناقد الألماني (ليسنغ) يقول إنه يفضل (الدافع الدائم للحق) ما دام الحق الخالص ليس لغيره سبحانه وتعالى، فإننا يجب أن نتجنب حشو المنهج بالمواد ونكتفي بإثارة حب البحث في الطالب ناظرين دائماً إلى الكيف لا إلى الكم حتى يكون المتعلم دائماً ذا عقل خصب لا يهرم بكبر السن، ولا ينوء تحت أثقال معلومات مهوشة، ولا يني يبحث ويطلع بعد الدراسة محتفظاً بربيع الحياة.
وما دامت دراسة (الطبيعة) ذاتها وسيلة للاحتفاظ بالحياة وللمتعة فيها والرفاهية، فلا تعارض إذاً بين الدراسات الطبيعية العلمية والدراسات النفسية الفنية، وإذاً فليكن في المنهج ثقافة عامة توسع الإدراك وتدقق الفهم، وتاريخ وجغرافيا يزيدان في معنى التجارب الإنسانية وثروتها، وعلوم طبيعية تفتح مجالاً للعقل وتؤدي به إلى الصيغ والقوانين الكلية، ولعب يجعل الدراسة شائقة وينفس عن الغرائز، وفلسفة خلقية وميتافيزيكية واجتماعية توطد من مركز الناشئ في المجتمع والكون وتفهمه علاقة الأرض بالسماء. . .!
أما الطريقة فلا تكاد تقل خطورة عن المادة، بل أن المستحدثات في التربية لتنصب عليها بوجه خاص، ذلك أن دراسة علم النفس للطفل وقواه قد كشفت عن أصول أساسية ينبغي أن يتبعها (المعلم) في تدريسه، ومن هذه الأصول ألا تكون الطريقة (قياسية) إلا في آخر(237/22)
مراحل التدريب؛ أعني أنها يجب أن تكون استقرائية قائمة على المشاهدة بحيث تجعل الطفل في حالة (اختبار) حقيقية يرغب فيها لذاتها، وتنبه فكره إلى المسائل التي يعالجها، وتتيح له القدرة على تدبير هذه المسائل بمعرفته وملاحظته، وتجعله مسئولاً عن حل الحلول التي تعرض له بطريقة منظمة، وتعطيه أخيراً الفرصة التي يختبر بها صحة فروضه ويتأكد من صحتها.
هذا إلى وجوب تفهيم الطفل قيمة ما يدرس ومدى نفعه في الحياة العملية والمعنوية ليزداد جهده فيه وإقباله عليه، وليكون قلبه معه دائماً في عمله، وإلى وجوب وقوف المدرس بين بين فلا يترك الطفل يمضى إلى إشباع ميوله دون رقابة، ولا يملي عليه ما يريد إملاء قسرياً، بل يتبين ما يتحفز فيه من غرائز وميول ويقدم له ما يساعده على ما يريد.
ولما كانت الطريقة هي ترتيب المادة بحيث تكون أكثر فاعلية في الاستعمال فإنها لا تكاد تخالف المادة قط. أليس من (يأكل) يتناول طعاماً هو (الأكل) نفسه؟
وقد نجم من فصل الطريقة عن المادة قلة فرص التجاريب أمام الطفل، وسوء فهم النظام والشوق، والعناية المقيتة بالحفظ وحده، وجعل عملية التعليم ميكانيكية عديمة الروح، فأدى الأمر إلى تخشب آلي (بسبب الفصل بين العقل والنشاط الذي له من خلفه غرض يدفعه).
أفرأيت هذا كله؟ أفلاحظت ما فيه من قوة ونفع وسمو؟ إنهم هكذا يفكرون في أمريكا وكذلك يطبقون. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(237/23)
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 5 -
متاحف طوب قبوسراي
يا أخي صاحب الرسالة
سلام عليك
وقفت بك في الرسالة السابقة على عرش الشاه إسماعيل الصفدي. وجدير أن نطيل الوقوف عند هذا العرش الذي بذلت الصناعة وسعها في هندسته وتذهيبه وترصيعه وتلوينه، ولاءمت فيه يد الإتقان بين الذهب والمينا والزمرد والياقوت، وألفت بين ألوانها تأليفاً متآلفاً مرضياً، وقد أرى فيه الذكر تتلألأ تلألؤ الجوهر.
وقفت عند هذا العرش أذكر الشاه إسماعيل هذا الملك الجبار الذي نشأ في زلازل الحادثات حتى ملك أزمة دولة مبتدأة وهو لم يبلغ الحلم؛ وما لبث أن مد سلطانه ما بين العراق إلى الهند، ثم أورث أبناءه دولة لا تزال آثارها شاهدة بمآثرهم، ناطقة بعظمة ملكهم، مذكرة بما طوى الدهر من سلطانهم.
هذا العرش ما خطبه، ما باله وخزائن سلاطين آل عثمان؟ هنالك ذكرت جلاد سليم وإسماعيل، وذكرت موقعة جالدران الموقعة التي كادت تذهب بدولة إسماعيل الناشئة؛ لولا أن عاقت سليماً العوائق. وجالدران وأرمديد وشمالي أذربيجان اصطفت فيه جنود سليم وجنود إسماعيل سنة 925 من الهجرة. قسم سليم جنوده، وجعل الانكشارية في القلب واتخذ مكانه خلفهم، وجعل المدافع وراء الجناحين وشد بعضها إلى بعض بالسلاسل. وصف إسماعيل جنوده، وتولى قيادة الجناح الأيمن مائة وخمسون ألف جندي صمدت لمثلها؛ فانظر هذه الحرب المتأججة يضرمها ثلاثمائة ألف!
ويحمل إسماعيل الفتى الشجاع، معتزاً بجنده، مفتخراً بنسبه العلوي، مصمماً أن ينتصر أو يقتل، ويشق جناح العثمانيين الأيسر ويحسب أن النصر مقبل عليه.
وتظاهر جناح العثمانيين الأيمن بالهزيمة وانقسم، فتحمل ميسرة إسماعيل وترمي بنفسها(237/24)
في الفرجة بين القسمين فإذا هي أمام المدافع، وإذا النيران تأخذها من كل جانب. لا تتبدل الحال ويواتي العثمانيين الظفر.
ويسقط إسماعيل عن جواده جريحاً وينجيه من الأسر القريب الفرار إلى تبريز
وبادر سليم يجمع الغنائم، ويزهى بما نال من ظفر على عدوه الجبار.
وسليم يدخل تبريز بعد ثلاثة عشر يوماً دون حرب، وكانت تبريز يومئذ دار الملك وبها خزانة إسماعيل قد جمع فيها ما أخذ من التيموريين وغيرهم من الأمراء الذين غلبوا على ممالكهم. وبينما يدبر للاستيلاء على ملك إسماعيل كله يرى بين جنوده إمارات العصيان فيرجع أدراجه قانعاً بما أحرز من نصر وما ملك من بلاده. ثم لم يقم في تبريز إلا ثمانية عشر يوماً.
هذا العرش مما غنم سليم في هذه الحرب الضروس.
وذكرت حينئذ الرجل الكبير قانصوه الغوري الذي خشي صولة سليم فمالأ الشاه إسماعيل فأفسد ما بينه وبين العثمانيين. وتتابعت الأحداث حتى كانت وقعة مرج دابق في رجب سنة 922 قبل وقعة جالدران بسنين ثلاث. وتصورت سليماً يحرز نصراً بعد آخر ويطوي مملكة بعد مملكة بجنده وعدده، ولا سيما هذه المدافع التي لم يتسلح بها محاربوه.
وعدت أتذكر ما أعقبت عداوة سليم وإسماعيل من عداوة بين المسلمين، وما أثارا من ضغينة بين أهل السنة والشيعة، وما كان القتال إلا على السلطان والجاه وإنما كانت المذاهب تعلة.
ثم تمادت الفكر وتوالت الذكر فأخذت أقيس الرجال الثلاثة واحداً بآخر، وأتذكر ما كان منهم في السياسة والعلم والأدب. وقلت: هؤلاء الثلاثة الذين سيطروا على وسط البلاد الإسلامية كانوا يمثلون ثقافة الأمراء المسلمين. وفيما أثر عن ثلاثتهم من شعر نماذج من أدب أمرائنا في القرن العاشر الهجري. وهممت أن أكتب إليك في هذا يا صاحب الرسالة ثم تذكرت أني أصف آثاراً في متحف، وأن الكلام على قانصوه وإسماعيل وسليم جدير أن يستأثر بمقال أو أكثر. ولعلي أجد فرصة بعد.
عبد الوهاب عزام(237/25)
من برجنا العاجي
للأستاذ توفيق الحكيم
ما أطول حديثنا الصامت في برجنا العاجي! هذا البرج الذي يحرسه (تنين) الوحدة! وما أكثر تلك الخواطر التي تمر برؤوسنا أحياناً كالطيور العابرة دون أن نقتنص منها شيئاً! هنا داخل هذا الإطار وبين هذا السياج سأحبس ما يقع منها تحت ذاكرتي. وإن خواطري لكثيرة، لأن أوقات عزلتي طويلة؛ وليس لي علم بلعب النرد ولا غيره من وسائل قتل الوقت، فالوقت عندي هو الذي يقتلني لأني لا أعرف كيف أقتله. ولقد حاولوا كثيراً في صباي أن يعلموني تلك الألعاب التي تلهي الناس عن أنفسهم في أوقات الفراغ، ولكني كنت أنسى دائماً في المساء ما علموني إياه في الصباح؛ ولم ينفع في أمري تعليم ولا تفهيم. وخرجت من عهود الصبا دون أن أحذق لعبة أو أحجية. شيء واحد كان يلهيني ويسرني، وقد كان عندي بمثابة النرد والأحاجي: ذلك هو الجدل حول فكرة من الأفكار. ولكم أتعبت كثيراً من أولئك الذين كانوا يلعبون معي هذا الضرب من الشطرنج في وقت من الأوقات! لقد كنت أضيع عليهم نهاراً بأكمله دون أن أمل؛ وإن رؤوسهم لتكل فما أرحمهم ولا أرحم نفسي. إن حب التفكير لنقمة. آه لو علم الناس كيف يعيش الأدباء ورجال الفكر؟! إذن فليعلموا أن القدر يوم دفع الأدباء إلى الوجود صاح فيهم ساخراً: (اذهبوا فإن لكم الفكر، ولكن. . .) ولم يتم كلامه وابتسم ابتسامة هي أبلغ من التعبير.
نعم. ما من أديب أو مفكر إلا أدرك أخيراً بعد أن قطع شوطاً من الحياة أن شيئاً آخر ربما كان أجدى عليه من الفكر قد سُلب منه إلى الأبد! إنا نحسد أحياناً بقية الناس. وإني لأتصور القدر وهو يشيع الآخرين إلى باب الوجود فيقول لهم: (اذهبوا فإن لكم الحياة. . . ولكن. . .).
أجل إنه يبتسم لهم كذلك عين ابتسامته الساخرة، ولكن هؤلاء الناس لا يفهمون مطلقاً أن القدر قد سلبهم شيئاً. وهنا الفرق بيننا وبين بقية الناس: إننا نحن رجال الفكر ندرك تمام الإدراك ما سُرق منا وما فقدناه؛ أما الآخرون فلا يعلمون. وهذا سر عذابنا نحن.
والآن وقد تكشفت لنا حياتنا الفكرية عن برج مرتفع لا خروج لنا منه؛ برج يملؤه السكون ولا نسمع فيه غير صدى أصواتنا الضائعة؛ فلنتكلم إذن بين تلك الجدران. فإن رجع(237/26)
الصدى يؤنس على الأقل وحشتنا.
توفيق الحكيم(237/27)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 72 -
إنني أبرأ من الاستسلام، وأنا أستشعر الحرية تحوطني في لذة وطرب.
وأنت - دائماً - تفرغ في كأسي من رحيقك العطر ذي الألوان رشفةً سائغة، فتفعم هذا الإناء الأرضي.
إن دنياي ستشعل من نورك مصابيحها العديدة، وتضعها أمام محراب معبدك.
لا، لن أغلق أبواب حواسي، فإن لذاذات البصر والسمع واللمس تحمل في ثناياها نشوة منك.
نعم، إن أوهامي ستتحرّق في شعلة من مرح، وإن رغباتي ستتفتح عن ثمرة من حب.
- 73 -
لقد خبا ضوء النهار وانتشرت عتمة الغسق على الأرض، وآن لي أن أنطلق إلى الغدير لأملأ جرّتي.
ونسمات الليل تشجيها موسيقا الموج الحزينة. آه، إنها تناديني لأندفع في أضعاف الظلماء، وما في الطريق الموحش من عابر سبيل، والريح تزف زفيفاً، وصوت خرير الموج يتصاعد هائجاً من جوف النهر.
لست أدري إذا كنت سأعود إلى الدار؛ ولست أدري من عساي أن ألقى على الطريق. إن هناك في القارب الذي يرسو في الناحية الضحلة من النهر، رجلاً مجهولاً يعزف على قيثاره.
- 74 -
إن آلاءك تفيض علينا فتسد مآربنا، ثم ترتد إليك وما نقصت شيئاً.(237/28)
فالنهر يجد كل يوم عملاً، وهو يندفع إلى الغاية بين الحقول والقرى، ولكن مجراه المستمر يهفو نحو قدميك ليغسلهما.
والزهر يتأرّج فيملأ الهواء عطراً شذيّاً، غير أن غايته إن يقدم نفسه إليك.
إن الاندفاع في عبادتك لن يجدب العالم.
ومن نفثات الشعراء خذ ما يحلو لهم، ولكنك ما تزال غرضهم الاسمي الذي إليه يشيرون.
- 75 -
وعلى مر الأيام، أفتسمح لي - يا إله الحياة - أن أقف بازائك وجهاً لوجه؟ وفي خضوعي وذلتي، أفأقف بازائك - يا إله الكون - وجهاً لوجه؟
وتحت سمائك العظيمة، في وجدتي وسكوني وذلة قلبي، أفأقف بازائك وجهاً لوجه؟
وفي دنياك الصاخبة وهي تضطرب بالكد والتناحر، وبين الزمر المتدافعة، أفأقف بازائك وجهاً لوجه؟
وحين ينتهي عملي في هذه الدنيا أفأقف - يا ملك الملوك - وحيداً صامتاً وجهاً لوجه؟
- 76 -
لقد عرفتك إلهاً لي ثم تنحيت جانباً. . . فأنا لم أعرفك أخاً فأندفع إليك، ولا أباً فأنحني أمام قدميك، ولا صديقاً فأشد على يديك.
ولم أقف حيث أراك تهبط فتهدي نفسك إلي، فأضمك إلى صدري وأتخذك رفيقاً.
إنك أخ بين أخوتي غير أني لا أعيرهم انتباهاً، فأنا لا أقسم بينكم حبي، ولكني أخصك بجميع قلبي.
في حالي نعيمي وبؤسي لا أسكن إلى رجل بل أعتمد عليك أنت. إنني لأنزوي وفي نفسي أن أنزع عني ثوب الحياة لأنني لا أريد أن أغتمر في خضمها.
- 77 -
في بدء الكون، والكواكب تسطع - أول ما سطعت - في تألق، اجتمع الآلهة في السماء، وانطلقوا يغنون (أوه، ما أجمل صورة الكمال! ما ألذ الطرب المحض!).
وعلى حين فجأة دوّى صوت من بينهم (إنه ليخيل إليّ أن هناك نقصاً. إن إحدى حلقات(237/29)
الضوء مفقودة؛ إن كوكباً قد ضاع!).
فانقطع وتر القيثارة الذهبي، وأمسكوا جميعاً عن الغناء؛ ثم صاحوا في فزع (نعم، إن الكوكب المفقود أشد الكواكب لمعاناً، لقد كان زينة السماء!).
وراحوا - منذ ذلك الحين - يفتشون عنه في دأب ونشاط، وغمرتهم الصيحة، ففقدت الدنيا - في ثناياها - بهجتها الوحيدة!
وفي هدأة الليل وسكونه تبادلت الكواكب الابتسامات والهمسات (عبثاً تفتشون! إن الكمال التام فوق كل شيء!).
- 78 -
ليست غاية جهدي أن ألقاك على الأرض، فإذا أريد أن أستشعر - دائماً - فقد النظر إليك. . . ولكن لا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
وحين أقضي أيامي بين الحشد في سوق الحياة فتمتلئ يداي بالكسب، استلبني من نشوة الربح؛ ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
وحين أجلس على جانب الطريق أستجم من أثر الأين والبُهر، فأنشر فراشي على الثرى؛ ألقِ في روعي أن رحلتي ما تزال طويلة؛ ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
وحين تتزيّن حجراتي وتتصاعد أنغام القيثارة وترتفع رنات الضحك، دعني أشعر كأنني لم أدعك إلى داري. . . ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.
- 79 -
أنا كأنني نُثار سحابة خريف تضطرب عبثاً في أرجاء السماء؛ آه، إن شمسي دائماً تتألق! إن لمساتك لم تحولني إلى بخار فأكون شعاعاً منك يحصي عدد الشهور والسنين التي تنفصل عنك.(237/30)
وإذا كانت تلك إرادتك، وهذه هي غايتك، فاجذب إليك حطامي المنقض، واصبغه بالألوان وزينه بالذهب، ثم أرسله بين هوج الرياح ليبدو في فنون أخَّاذة.
وإذا كانت مشيئتك أن تنتهي من عملك والليل ساج، فسأذوب وأتلاشى بين أضعاف الظلام، أو في بسمة الصباح اللامع. . . في الصفاء والنقاوة.
- 80 -
في أوقات الفراغ آسى أنا على أيامي الضائعة، ولكنها - يا إلهي - لم تضع، فأنت قد بسطت يديك على كل ساعة منها.
إنك تستقر في أعماق كل شيء، فأنت تنفث في الحبة فتصبح نبتة، وتنفخ في الكِم فبتفتح عن زهرة، وتنضج الزهرة فتحور ثمرة.
لقد كنت أستشعر الجهد والضنى فاستلقيت على فراشي وفي خيالي أن كل عمل في العالم قد وقف، وعند الصباح انطلقت إلى حديقتي فألفيتها تموج بالزهر الغض.
- 81 -
إن الزمان لا نهائي بين يديك يا سيدي، وليس هنا من يستطيع أن يحصي عدد اللحظات.
الليل والنهار يتعاقبان، والدهر يتفتح ويذوي كأنه زهرة، وأنت وحدك تعرف كيف تبقى، والقرون يتلو بعضها بعضاً، تدفع زهرة برِّية صغيرة إلى الكمال.
لم يبق من وقت نضيعه فلنتدافع نحو الفرصة السانحة، فنحن فقراء يؤذينا الكسل.
وهكذا تصرم الزمن وأنا أحبو منه كل شاكٍ يعتفي، فأقفر محرابك من القرابين.
وعند الغروب انطلقت أشتد نحو بابك خيفة أن يغلق علي، غير أني وجدت أنه ما يزال في الوقت بقية.
كامل محمود حبيب(237/31)
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 3 -
لا بد للكاتب الحريص أن يتحرى النواحي التاريخية التي تتصل بالحياة الأدبية عندما يعرض حياة رجل كأبي إسحاق الصابي خبّ في السياسة ووضع، وارتفع بأسبابها ووقع؛ ليتبين هل كان بؤس ذلك الرجل طوال عمره أثر سرف في خطته، ونتيجة سفه في مسلكه؟ أم أن جيله الذي نشأ فيه هو رأس نكباته، وأس ويلاته، حتى صار البؤس على وجهه كتاباً مسطورا، والشقاء في حياته طريقاً مرسوما؛ لذلك أرى وصف الحالة السياسية في العصر الذي عاش فيه موجِزا.
ولد أبو إسحاق في أوائل القرن الرابع الهجري، والخلافة مزعزعة الأركان، واهية البنيان، يتبارى في تقويض دعائمها وتهوين رواسخها أمراء متعددون، وقواد متحفزون، شغلتهم نفوسهم عن دولتهم، فهم يبغون لشخوصهم ملكاً عضودا، ولذواتهم نهوضاً وسعودا، لا يبالون أن يبنوا ذلك على أنقاض منعة الإسلام، أو على انتهاك حرمة السلام؛ وكان المتألبون أجناساً شتى؛ فللترك طوراً القدح المعلى والنصيب الأعلى، وللديلم حيناً القوة والبطش، والمنعة والبأس، والأمة حيال أولئك وهؤلاء كأسراب القطا تتخاطفها البزاة الجارحة، أو كقطعان الحملان تتناهبها الذئاب الضارية.
وفي الثلث الثاني من هذا القرن استتب الأمر قليلاً لآل بويه واطمأن إليهم الملك، فاستولى معز الدولة بن بويه على بغداد بعد أن انتشر فيها الفساد، وطغت عليها الفاقة، واجتاحتها المخمصة؛ حتى هجرها أهلها إلى المدائن والقرى يستمطرون الرحمة، ويبحثون عن الطمأنينة والدعة، وبعد مدة خلع معز الدولة الخليفة المستكفي بالله؛ لاتهامه إياه بدسائس يحوكها ضده، وتدبيرات ينسجها في الخفاء له، وولى بعده أبن عمه المطيع لله، وكان هذا كرة صولجانها معز الدولة، وخلة سيفها آل بويه؛ يأمرون فيأتمر، ويشيرون فيصنع، ويشاءون فينفذ، أما أن يكون له من الأمر شيء، فذلك مالا سبيل إليه. وظل ذلك شأن معز الدولة يدير شئون الأمة متفرداً، ويقضي في سياستها متوحداً، حتى أدركه المنون في منتصف القرن الرابع. فتولى الملك بعده ابنه بختيار، وتلقب بعز الدولة، وقد أشرف على(237/32)
الخلافة أحد عشراً عاماً، وهو لاهٍ عن أمر وَليَه، وملك سَلبَه حتى سُلبه؛ لها بالغواني الكواعب والمغنيات الكواكب، فبرز له منافس قوي أوتي نبلاً وبعد همة ونباهة ذكر وحسن أحدوثة هو عضد الدولة، فدخل بغداد فاتحاً، وقبض على محمد بن بَقية وزير عز الدولة وصلبه على رأس الجسر، وهو المرثي بالقصيدة الخالدة لأبي الحسين الأنباري وأولها:
علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات
في هذا العصر أهلّ أبو إسحاق ودرج، وشب واكتهل، وشاب وهرم، فلا بدع أن يناله ما ناله، ولكن البدع أن يخرج من هذا المعترك لا عليه ولا له، إذ معنى هذا أنه كان في الأدباء من النكرات، وفي رجال الدولة من الإمعات، وأن حياته لتنبئ عن غير هذا، فقد اعتقل في عصر معز الدولة عندما أناب عن الوزير المهلبي على ديوان الوزارة والرسائل لخروج الوزير إلى الشام مقاتلاً، فقتل بعمان، وقبض على عماله جميعاً وعلى رأسهم أبو إسحاق ومن قوله وهو معتقل:
يا أيها الرؤساء دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حبسي وطول تهددي ووعيدي؟
قلدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدوت في لفظي عن التسديد؟
أعليَّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي
ولما فك اعتقاله خدم عضد الدولة وهو بفارس، بالشعر والكتابة يفيض عليه المدح ويضفي الثناء حتى صار الصابي من جملة خاصته، وموضع ثقته ومحبته، ومحل رفده ورضيخته؛ وحتى همَّ بالنزوح معه إلى فارس بعد حلف عقد بينه وبين عز الدولة بختيار خوف سطوته، وخشية بطشه وفتكه؛ لتوثق علاقته بعضد الدولة، ولكنه - وهو من عرفنا رعاية لأهله، وحدباً على ولده - خاف أن يأخذ عز الدولة البريء بالمذنب، والمحسن بالمسيء، فينال أهله منه سوء لا يجد لرده دفعاً، ويصيبهم منه شر لا يعرف له درءا، فيكون كمن يفدي نفسه بولده، ويستخلص دمه بدماء ذوي قرابته، وما عرفنا فيه خيانة للجار الجنب، فكيف به يسلم بنيه وذويه، ويخرج مع البازي عليه سواد؟ عرف عضد الدولة ما يعتلج في نفسه، وما يضطرب به فكره، فجعل أمنه في سربه جزءاً من الحلف، وسلامته في ولده شرط من شروط العقد، فنص فيه على حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من(237/33)
أحواله. وبعد مزايلة عضد الدولة بغداد استخفى خائفاً، واستتر متوجساً شراً، حتى توسل أحد أصدقائه إلى عز الدولة وإلى وزيره ابن بقية أن يهبا له أمناً، ويبذلا له عوناً، فقبلا التوسل وتركاه طليقاً، وما لبثا أن قيداه سجيناً بإغراء ابن السراج لهما به، وفي هذا يقول ياقوت في معجمه (وجرت له في هذه النكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له، فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله) وفي محبسه هذا كتب إلى ابن بقية يستعطفه ويستميحه:
ألا يا نصير الدين والدولة الذي ... رددت إليها العز إذ فات رده
أيعجزك استخلاص عبدك بعدما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده؟
وصفا له الجو، وهدأت عواصف الشر، فاستخدمه عز الدولة فأخلص، واصطفاه فكان نعم المصطفى، وكتب له كتباً كانت مثار حنق عضد الدولة، ومدار إحنه، ولشد ما غضب عندما أنشأ كتاباً عن الخليفة الطائع لله يشيد فيه بعز الدولة، ومنه (وقد جدد أمير المؤمنين له (أي لعز الدولة) مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرّم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها) فقد أحفظه هذا التعريض أعظم حفيظة، واضطغن عليه أشد ضغينة، فلما ملك بغداد سنة سبع وستين وثلاثمائة هجرية أمره أن يؤلف كتاباً في مناقبه، وفي آثار الدولة الديلمية، وذكر فتوحها، فأطاع. وبينا هو في تأليفه وتصنيفه، وتسويده وتطريسه زاره في داره عدو في ثياب صديق، وسأله عما يعمل، فزعم عنه أنه قال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب الفقها، فحركت القالة المزعومة في عضد الدولة كوامن غيظه، وأثارت منه عوامل ضغنه، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، ولولا أن استشفع فيه من أصدقائه نصر بن هارون، ومطهر بن عبد الله، وعبد العزيز بن يوسف، لكان في ذلك اليوم من الهالكين؛ فقد أقبلوا على الأرض يقبلونها بين يدي ملكهم ضارعين مستشفعين راجين متوسلين؛ حتى صدر أمره باستحيائه مع اعتقاله، واستصفاء أمواله، فبقى في معتقله هذا ثلاث سنوات وسبعة أشهر وأياماً، وإن جاء ذكرها في شعره أربعاً على سبيل التجوز في قصيدة يسترحم بها عضد الدولة، وقد خرج لزيارة مشهد أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولها:(237/34)
توجهت نحو المشهد العلم الفرد ... على اليمن والتوفيق والطائر السعد
تزور أمير المؤمنين فيا له ... ويالك من مجد منيخ على مجد
فلم يُر فوق الأرض مثلك زائراً ... ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد
وفيها يقول:
أمولاي: مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب يستعدي
وهذي يدي مدت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ورد
أتاني شتاء ليس عندي دثاره ... سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد
فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا ... وفار الحشا الحران مني على الجلد
أزيحت لنفسي علتاها فأعرضت ... عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد
وداويت داءي النقيضين ذا بذا ... أعدل إفراطاً من الضد للضد
ومنها:
فلا تبعدني عنك من أجل عثرة ... فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدى
ولو كنت تنفي كل من جاء مخطئاً ... إذن لعممت الناس بالنفي والطرد
ومن زلّ يوماً زلة فاستقالها ... فذاك حقيق بالهداية والرشد
توالت شني أربع ومدامعي ... لها أربع كالسلك سل من العقد
أحوم إلى رؤياك كيما أنالها ... حيام العطاش الناظرات إلى الورد
ويبدو لي أنه أفرج عنه عقب هذه القصيدة، ولكنه ما سلم حتى ودَّع، وما هنئ حتى ووسى؛ إذ قبض عليه مرة أخرى عندما فتح بغداد للمرة الثانية بعد أن استشفع لديه قبل وصوله إليها بأبي سعد بهرام بن أردشير، وسأله أن يذكره لدى عضد الدولة، ويقيم له عذره، ويوضح له أمره؛ فكان جواب عضد الدولة العفو والمغفرة في كتاب طويل منه: (ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك بسابقتك في الخدمة ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة). ومنه: (فاسكن إلى ذلك واعتمده، ولك علينا - الوفاء به - عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد - أعزه الله - في هذا الباب ما يذكره لك. والله نستعين على النية فيه وهو حسبنا).(237/35)
ودخل عضد الدولة بغداد وهو عنه راض، وبرحها إلى الموصل وهو إلى ولاء الصابي مطمئن، ولكن الوشاة - وما أكثرهم - نبشوا الدفائن، وأخرجوا كتباً من عز الدولة إلى أحد عماله بخط الصابي، وفي بعضها قدح في عضد الدولة، ورفعوها إليه، فكتب من الموصل بالقبض عليه، ولعل حديثه هو عن نفسه أدق من حديثنا عنه، فهو يقول:
(كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة في يوم القبض عليَّ إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره؛ ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه؛ فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتخليصك إلا بذلته. وقد جعلت اعتقالك في دار ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي) كما قبض على ولديه أبي على الحسن، وأبي سعيد سنان؛ وقد وفى الوزير أبو القاسم بما وعد، فسأل عضد الدولة إطلاقه واستخلافه لقيام أبي القاسم على رأس جند لقتال صاحب البطيحة فقال له:
أما العفو فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك وتقول له إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا يعني: عز الدولة والديلم، ولأولادنا بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي، ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة ولنا في أمره تدبير، وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا بعمل كتاب في مفاخرنا. فحمل إليه المطهر ما أمر به الملك وأطلق ولديه، ورسم له تأليف الكتاب وبقى الصابي في محبسه يؤلف حتى أتم المؤلف، فلم يفرج عنه لوقته بل قيل: إنه أخر الإفراج عنه سنة، فلما رفع إليه إحدى قصائده يطلب فيها الصفح عنه والإفراج، قرأت عليه ولديه بعض أصدقاء أبي إسحاق ومنهم أبو الريان حامد بن محمد وعبد الله بن سعدان فقبلا الأرض وقال أحدهما: إن من أعظم حقوقه علينا وذرائعه(237/36)
عندنا أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك. قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنفذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه بملازمة داره إلى أن يرسم له ما يليق بمثله، فأفرج عنه قبل وفاة عضد الدولة بأيام، وقيل بل بقي في السجن حتى أفرج عنه ابن عضد الدولة أبو الحسين تاج الدولة.
وإني أرجو غير فاخر أن أكون قد وفقت في سرد وقائع هذا الجزء من حياته، وقربت بين الروايات المتضاربة عن اعتقالاته مستنداً في ذلك الترتيب على التاريخ السياسي للدولة البويهية، وفي المقال التالي نتحدث عن كتابته.
عبد العظيم علي قناوي(237/37)
علاقة الدين بين العرب والصين
بقلم بدر الدين الصيني
معتقدات الصين القديمة
كان للصينيين دين قبل وصول الديانات الأجنبية إليهم مبني على الأوهام والخرافات، كما كان الشأن في كل أمة من الأمم في الأزمان الغابرة؛ واتخذوا الأجرام السماوية والظواهر الطبيعية معبودات لهم غير معتقدين بخالق جبار يخضع لتصرفه كل شيء من الموجودات والكائنات، فكثرت فيهم الآلهة وتنوعت طرق عبادتهم.
فالحكماء الذين ظهروا في أرض الصين بعد زمن الخرافات وطلوع فجر التاريخ الصحيح، في شخصيات (لوتس و (كانفوشيوس و (مونشيوس و (مائي تس لم يأتي واحد منهم بنظام ديني يسير عليه الصينيون كافة. إلا أنهم جميعاً يعتقدون بما وراء الطبيعة، فمثلاً (الطريقة) عند (لوتس) هي شيء ليس بصورة ولا صوت يبقى دائماً، لا يفنى أبداً، ووجود قبل كل كائن مصدر لجميع الموجودات وروح تحيا بها. فهذا التعريف لطريقة (لوتس) يوافق ما نعتقد بصفات الله. وأما (السماء) في عقائد كانفوشيوس فهو صاحب السلطة الأخير الذي إذا أغاظه الإنسان بارتكاب الكبائر فلا سبيل له إلى النجاة، فلذلك يقول: (أين الدعاء من إغاظة السماء؟).
لا فرق بين (سماء) كانفوشيوس و (سماء) مونشيوس لأن الثاني تلميذ الأول، فهو يحذو حذوه في التفكير والبحث الفلسفي؛ وأما (مائي تس) فدينه دين المحبة والمؤاخاة، يحب الصلاح والسلام ويكره الفساد والقتال؛ ومبادئ حبه تشابه مبادئ الدين المسيحي، وأصول أخوته تماثل أصول أخوة الإسلام؛ لكنه لم يضع نظاماً لإظهار هذا الحب وهذه الاخوة فالكف عن القتال والنهب والامتناع عن السرقة والحسد في اعتقاده من دواعي التحاب ومقويات التآخي، وغير ذلك.
هذه الديانات كلها تخالف الإسلام في مسألة الحشر والنشر والحياة بعد الموت من جهة الاعتقاد، وفي مظاهر العبادات من حيث العمل - لأن أهلها لا يعتقدون بالحشر والنشر، ولم يأتوا بنظام خاص للعبادات - لعل هذا هو السر الذي يبقي أهل الصين في معتقداتهم القديمة مع أن أغلبهم دانوا بالديانة البوذية التي أصلها من الهند، وهذا التدين لم يحدث في(237/38)
اعتقاداتهم شيئاً من التغير، مع أن الديانة البوذية قد أثرت في أدبيات الصين وفلسفتها تأثيراً بيناً. فرجل الدين من أهل الصين يدين بمجموع عقائد ومبادئ هذه الديانات المذكورة، فلذلك ترونهم يتعبدون على مبادئ كانفوشيوس حيناً وعلى (طريقة لوتس) حيناً آخر، مع أنهم يتعصبون للبوذية إن دانوا بها، أو للمسيحيين إن كانوا مسيحيين. هكذا شأنهم في أمر الدين حتى الآن.
دخول الديانات الأجنبية إلى الصين
معتقدات الصين القديمة التي ذكرتها آنفاً، بطبيعتها ومبادئ لا تنافي الديانات الأجنبية التي كانت سائدة في آسيا أوسطها وأدناها، فسهل على البوذية أن تتسرب إلى الصين عن طريق تركستان في القرن الثاني للميلاد، وامتزجت بمعتقدات الصين، فصارت الآن ديناً شبه دين الدولة في الشرق الأقصى؛ مع أن مذهب كانفوشيوس أو (طريقة لوتس) أجدر بهذا الاحترام ولها نفوذ في كل ناحية من نواحي حياة الشعب الصيني يظل باقياً حتى يغلبه أثر الإسلام إن قدر الله للإسلام نهضة جديدة في تلك الديار في المستقبل.
من الديانات الأجنبية التي تسربت إلى الصين قبل الإسلام المانوية والمجوسية والنسطورية؛ فدخول المانوية الصين كان في القرن السابع للميلاد جاء إليها من تركستان لأن أغلب أهلها قد اعتنقوا هذا الدين قبل ظهور الإسلام، فانتشروا رويداً رويداً إلى شمال الصين وغربها حتى أسس المعابد لمعتنقيه في الشطر الأول من القرن الثامن للميلاد في بعض المدن الشهيرة، ولهم هياكل كثيرة في ولايات (هانان و (شانسي وكثرة أصحاب هذا الدين يمكن أن نعرفها من الواقعة التي وقعت في عهد (ووشونك) (841 - 846م). وكان هذا الإمبراطور متشبثاً (بطريقة لوتس) ومتعصباً لها، فاضطهد أهل الديانات الأخرى وهدم كثيراً من معابد المانوية والمجوسية والنسطورية. فقتل في عاصمة الصين وحدها 72 نسمة من راهبات المانوية ففنيت هذه الديانة من الصين بعدئذ.
أما المجوسية، كما أشار إليها سليمان السيرافي والسعودي وغيرهم من كتاب العرب، فدخلت الصين قبل الإسلام على الأقل بقرن، ولكنها لم تنتشر إلا في دائرة محدودة. فلما فتح العرب إيران وقضوا على دولة كسرى فَر يزدجرد إلى الشرق ولجأ إلى عاصمة الصين، فأنشأ فيها معبداً للمجوسيين، وكان معه جماعة من علماء المجوسية فبثوا دعايتهم(237/39)
في شمال الصين، لكن هذه الديانة غير مقبولة عند الصينيين. فالذين دخلوا فيها قليلون جداً. وقد محيت آثارها في سنة 846م كما أسلفنا.
وأما الديانة النسطورية فوصلت إلى الصين في سنة 635م، وذلك بناء على ما ثبت في كتابة تاريخية وجدت بمدينة تشانغ أن - وأول من جاء إلى الصين للدعاية إلى النسطورية كان رجلاً يدعى أولوبن ويظهر من تاريخ الصين أنه استوطن تشانغ، وأنه بنى معبداً للنسطوريين يسكن فيه واحد وعشرون راهباً؛ وكان أولوبن رئيسهم؛ ثم انتشرت هذه الديانة في بعض العواصم وأنشئوا معابد فيها، فنقشوا أعمالهم في الألواح الحجرية ونصبوها في المعابد تذكيراً وتخليداً، فالعبارات التي نقشت في هذه الألواح مدونة الآن في تاريخ الصين العام.
وبعض الكتب العربية يذكر أيضاً ذهاب النسطوريين إلى الصين. مثل أبن النديم، فانه روى في الفهرست أن الجاثليق قد بعث ستة من علماء النساطرة إلى الصين للإرشاد والدعاية فمات منهم خمسة ورجع سادس وهو من أهل نجران إلى الروم بعد الإقامة بالصين نحو ست سنين في سنة 377 هـ.
وكان لهذه الديانة قدم ثابتة في نفوس الصينيين، ولعلها تؤثر في حياتهم إلى حد ما إذا طال أمدها في الصين، لكن مشيئة الله لم ترد انتشار هذه الديانة في الشرق الأقصى فطرد مبشروها، وهدمت معابدها في أواخر القرن التاسع للميلاد، وحكاية الراهب النجراني أيضاً تشير إلى ذلك.
الأغلاط التاريخية فيما يتعلق بدخول الإسلام إلى الصين
لقد أطلت في ذكر هذه الديانات الأجنبية مع أن محور بحثي في هذا الموضوع هو دخول الإسلام، وإني مضطر إلى أن أفعل هذا لأن الأغلاط التاريخية التي تتعلق بدخول الإسلام لا يمكن أن تستدرك إلا بمعرفة تواريخ هذه الديانات ودخولها إلى الصين. لقد قيل أن الإسلام قد وصل إلى الصين في عهد (كائي وانغ - من (أسرة هوي - ومعنى ذلك أن دخول الإسلام الصين قد وقع بين سنتي 589 و605 م، وهذا مستحيل لأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يبعث بالرسالة إلى العالم كافة إلا في سنة 610 م.
ومن رأي أن القائل بهذا القول قد أخطأ في هذه النقطة فحسب المجوسية التي دخلت(237/40)
الصين في أواخر القرن السادس للميلاد دين الإسلام الذي دعا إليه صاحب الرسالة بعد نبوته، مغالطاً في دليله إذ قال إنها ديانة جاءت من (الغرب) بالغين ففهم من (الغرب) (العرب) ووقع خطأ فاضح دون أن يشعر أن الإسلام لم يكن له وجود في جزيرة العرب قبل سنة 610 من تاريخ الميلاد. فظهر من هذا الاستقراء أن الدين الذي وصل إلى الصين في عهد (كائي وانغ) كان في الحقيقة المجوسية لا الإسلام. وعندنا شهادة نقلية في الكتب الصينية غير تلك الدلائل العقلية التي أشرت إليها آنفاً، ونعرف أن بعض المجوسيين قد وصلوا إلى (تشانغ آن) في أول عهد (كائي وانغ) وأنشئوا المعابد وكانوا يغنون في صلواتهم فيها. ومن أناشيدهم الدينية نوع يقال له (موفوش) يوجد ذكره في (ديوان أغاني الصين) وفسر صاحب الديوان هذه الكلمة بأنها نوع من الأغاني الدينية للمجوسيين الذين وردوا إلى الصين في عهد (كائي وانغ) وهذا دليل قاطع يرد على من يدعي دخول الإسلام في هذا العهد.
أما اتصال الإسلام بالصين فكان عن طريقين: طريق البر وطريق البحر. كان قتيبة ابن مسلم الباهلي الذي فتح كاشغر في سنة 96 هـ، هو الأول الذي بعث وفداً من العرب بطريق البر إلى إمبراطور الصين أواخر تلك السنة فعرضوا عليه أحد الأمور الثلاثة: الإسلام والجزية والمحاربة. ولابن الأثير في هذا الوفد أقوال طريفة توجد في تاريخ الكامل، وللقارئ أن يرجع إليه في هذا الصدد، وأما وصول الإسلام إلى الصين بحراً ففيه اختلاف بين المؤرخين في سنة الوصول وفيمن هو أول من جاء بالإسلام إلى أقرب مرافئ الصين (كانتون).
(لها بقية)
بدر الدين الصيني
عضو من البعثات الصينية بالأزهر الشريف(237/41)
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فرديك نيتشة
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الغبطة القاسرة
وسار زارا يقطع أبعاد البحر تساوره مثل هذه الهموم، وتدور به مثل هذه الأسرار، حتى إذا تخطى مجال أربعة أيام عن الجزر السعيدة وما ترك عليها من صحبه، اشتدت عزيمته فتغلب على آلامه، وثبّت قدميه في موقفه متجهاً إلى مقدراته مناجياً سريرته وقد عاد إليها مرحها وسرورها قائلاً:
لقد فزعت إلى عزلتي لأنني تقت إليها، فأنا الآن منفرد أمام صفاء السماء ومدى البحار، وقد خطا النهار إلى عصره وما التقيت بأصحابي للمرة الأولى إلا في وقت العصر، وفي مثل هذا اليوم اجتمعت بهم للمرة الثانية. والعصر هو الساعة التي يهدأ فيها اضطراب الأنوار جميعها لأن السعادة الذاهبة بدداً منشورة على مسالكها بين السماء والأرض تتجه إلى الاستقرار في روح الضياء. وها أن السعادة تحول اضطراب النور إلى سكون.
فيا لعصر حياتي! إن سعادتي هي أيضاً قد انحدرت يوماً إلى الوادي تطلب مستقراً فلقيت هذه الأرواح النيرة تفتح لها الملجأ الأمين.
يا لعصر حياتي! لكم تخليت عن أشياء في الحياة توصلاً إلى مغارس أفكاري الحية وإلى أنوار الصباح تدور في ذراتها أسمى أماني وآمالي.
لقد طلب المبدع يوماً رفاقاً له وفتش عن أبناء آماله فأدرك أنه لن يجد إذا هو لم يخلقهم خلقاً.
لقد أتممت نصف مهمتي باتجاهي نحو أبنائي وبعودتي إليهم، وقد وجب على زارا أن يبلغ نفسه الكمال من أجل هؤلاء الأبناء. وما يحب الإنسان من صميم قلبه إلا ابنه ونتيجة جهوده، وحيث يتجلى الحب الأشد فهنالك تكمن القوة المولدة؛ ذلك ما أدركته بتفكيري.
إن أزهار أبنائي لا تزال تتفتق في الربيع والريح تهب على صفوفهم فتهزها؛ فأبنائي أشجار حديقتي ونبت خير أراضي.(237/42)
إن هذه الأشجار متراصة في منابتها على الجزر السعيدة، ولسوف أقتلعها واحدة فواحدة لأغرسها متفرقة فتتعلم احتمال العزلة وتنشأ فيها الأنفة والحزم لينتصب كل منها تجاه البحر وقد تعدب جزعها وتعقدت أغصانها كمنائر حية للبقاء القاهر.
على كل شجرة أن تشخص في مهب العواصف المترامية إلى البحر حيث يتدافع الغمر إلى قاعدة الجبل فلا تغفل ليلاً ونهاراً عن تفحص سرائرها. عليها أن تتحمل التجارب ليعلم أنها من سلالتي وأنها تحدرت من أصلي تعززها الإرادة المجالدة فتبدو صامتة حتى عندما تتكلم، وإذا ما استسلمت تبدو معطية وهي آخذة. وهكذا يتحول من يمشي على أثر زارا بإضرابه وبإبداعه إلى شخصية تحفر شريعتي على ألواحي فيكتمل بذلك كل شيء.
وهاأنذا من أجل هذه الشخصية وأمثالها أسعى إلى تكوين شخصيتي فأمتنع عن ورود السعادة مقتحماً كل شقاء في آخر تجربة أتحملها لأدرك سريرتي.
لقد آن الأوان لرحيلي وقد نبهني إلى وجوب الرحيل خيال المسافر وأطول الأزمان وأعمق الساعات صمتاً إذ نفخ الريح في فتحة القفل فتراجعت درفة الباب قائلة: هيا.
ولكنني كنت مقيداً بحبي لأبنائي يأسرني تشوقي إلى هذا الحب لأصبح فريسة لهؤلاء الأبناء فأضحى من أجلهم نفسي؛ وما الشوق عندي إلا صورة ظاهرة لحقيقة فنائي. إن أبنائي لي وفي هذا التملك يجب أن يضمحل كل شوق مستحيلاً إلى عقيدة مكينة.
وكان رأسي يلتهب بشمس محبتي فأتحرق بحرارة دمي فرأيت أشباح الشكوك تدور بي من كل جهة فتمنيت أن يلفحني قر الشتاء حتى تصطك أسناني من رعشة الصقيع، وما عتم أن اكتسح نفسي ضباب الجليد، فشق الماضي لحوده وبعثت منه الآلام التي دفنت وهي حية فيها، وما تناولها الفناء لأنها كانت نائمة طي أكفانها.
وكان كل شيء يشير إلي بأن قد حان زمن الرحيل ولكنني كنت لا أنتبه إلى هذه الدعوة حتى تحركت أعماقي ولسعتني ثائرات أفكاري. ويا ليت لي القوة للتغلب على ارتعاشي عندما أشعر بقوة التفكير في أغواري تحاول أن تخترق لها منفذاً، فإنني لا أزال أحس باختلاج قلبي عندما أتنصت لدبيب أفكاري وهي تحاول الانجلاء لي. إن في صمتك نفسه أيتها الفكرة ما يشد على عنقي وأنت أشد صمتاً من أغواري. ولكم حاولت أن أستخرجك من الأعماق أيتها الفكرة فخانني العزم واكتفيت بإضماري إياك في ذاتي. إنني لم أتصل(237/43)
بعد إلى جرأة الأسد وإلى منتهى إقدامه.
إنك لجد ثقيلة في أغواري أيتها الفكرة ولسوف أجد يوماً قوة الأسد وأتخذ لصوتي زئيره فأرفعك من الغور إلى المنبسط، حتى إذا ما تغلبت بذلك على نفسي تدرجت إلى انتصار أعظم أختم به أعمالي. وإلى أن أبلغ هذا الظفر سأبقى تائهاً على بحار لا أعرف لها ساحلاً تداعبني خطرات الأحداث فأتلفت إلى ما ورائي وإلى ما أمامي ولا أعلم أين المنتهى.
ألم تحن بعد ساعة جهادي الأخير أم هي ماثلة أمامي الآن؟ والحق أن البحر والحياة يحيطان بي بجمالهما الفتان ويعلقان أبصارهما علي.
فيا لعصر حياتي، يا للسعادة تتقدم ساعة المساء، يا للمرسى في وسط العباب، يا للسكون في قلب الارتياب، إنني أحاذركنّ ولا أثق بكنّ جميعاً.
أما والحق إنني أخشى جمالكن الغدار كما يخشى العاشق ابتسامة تجاوزت حد التلطف في افترارها. إنني أرفع عني ساعة السعادة كالغيور يصد عن محبوبته ولما يزل العطف يتجلى في قسوته وجفائه.
بُعداً لك أيتها الساعة السعيدة! فقد اجتاحتني بحلولك غبطة قاسرة وأنا أتوقع أعمق الأحزان. لقد جئتني في غير الأوان.
بُعداً لك أيتها الساعة السعيدة! اذهبي واطلبي لك ملجأ هنالك في مقر أبنائي، سارعي إليهم وباركيهم قبل حلول المساء وأنيليهم سعادتي.
لقد اقترب الغسق وجنحت الشمس إلى الغروب فتوارت عني سعادتي.
هكذا تكلم زارا. . .
وبات يتوقع نزول شقائه به طوال ليله، غير أنه انتظر عبثاً إذ بقى الليل منيراً ساكناً واستمرت السعادة تخطو مع الساعات مقتربة إليه. وما لاح الفجر حتى بدا زارا يتضاحك قائلاً:
إن السعادة تتأثرني لأنني لا أتأثر النساء، وهل السعادة إلا امرأة؟
قبل بزوغ الشمس
أيتها السماء الرافعة قبابها فوق رأسي نقية صافية، أيتها السماء السحيقة وقد غادرت في أبعادك الأنوار، إنني أشخص إليك فتمتلكني رعشة الأشواق الإلهية.(237/44)
أنا لا أسبر أغواري إلا إذا سموت إلى عليائك، ولا أشعر بطهارتي إلا حين يجللني صفاؤك.
إنك تحجبين نجومك كما يتلفع الإله بسنائه. أنت صامتة وبصمتك تذيعين لي حكمتك.
لقد تجليت لي اليوم في سكونك على زبد الآفاق فأعلنت لروحي المزبدة ما فيك من حب وعفاف. جئت إلي جميلة مقنعة بجمالك تخاطبيني بلا كلام وتعلنين حكمتك وما كنت أعلم ما في روحك من عفاف. أتيت إلي قبل بزوغ الشمس أنا المنفرد في عزلتي.
أنا وأنت صديقان منذ الأزل فأحزاننا واحدة كارتياعنا، وعمق أغوارنا وشمسنا واحدة أيضاً. وما نتناجى إلا لوفرة ما نعلم ثم يسودنا الصمت فنتبادل ما أعرف وما تعرفين بلغة البسمات. أفما بعثت أنوارك من مكمن أنواري أفليست فكرتك أختاً لفكرتي؟
لقد تعلمنا كل شيء سوية وتدربنا سوية على الاعتلاء فوق ذاتنا متجهين إلى صميمها مبتسمين بافترار لا تعكره الغيوم. وبلفتات صافية نغرقها في سحيق الأبعاد في حين تتدافع كالأمطار تحتنا النزعات المكبوتة وأهداف الأخطاء.
إلى مَ كانت تتوق نفسي عندما كنت أذهب في الليل شارداً على مسالك الضلال؟ وماذا كنت أطلب في تسلقي الجبال نحو قممها؟ أفما كنت أنت مقصدي أيتها السماء. وهل كانت أسفاري جميعها إلا ذهاباً مع حافز التدرب؟ وهل كان لإرادتي من هدف غير التحليق في الأجواء؟ وهل أبغضت شيئاً بغضي الغمام وكل نقاب يلفع الضياء؟ لقد كرهت بغضي نفسه لأنه يعكر صفاءك أيتها السماء.
إنني أنفر من هذه الغيوم تمر كأنها قطط برية تزحف زحفاً لأنها تختلس مني ومنك أيتها السماء الحقيقة الإيجابية الثابتة في كل شيء؛ فأنا وأنت ننفر من هذه الدخيلات المعكرات من هذه الغيوم الكاسحات، فما هي إلا كائنات مختلطة في نوعها يسودها التردد فلا تعرف أن تلعن بإخلاص ولا أن تبارك بإخلاص. وخير لي أن ألجأ إلى مغارة أو أسقط في هاوية من أن أقف أمامك يا سماء الضياء وقد عكرت صفاءك الغيوم الكاسحات. ولكم وددت لو أنني أسمر أردانها على آفاقك بسهام البروق الذهبية ثم أنزل عليها الرعود تهوى قاصفة على مراجل أحشائها. إنني أود قرعها بعصا الغيظ لأنها تحجب عني حقائقك أيتها السماء الممتدة بأغوار أنوارها فوق رأسي كما تحجب حقيقتي عنك.(237/45)
لخير لي أن أسمع هزيم الرعود وولولة العواصف من أن أتنصت إلى مواء هذه الهررة الزحافة المترددة. ففي المجتمع أمثال لهذه الغيوم يسيرون مترددين بخطوات الذئاب وقد وقفت أشد بغضي عليهم.
(على من لا يعرف أن يمنح البركة أن يتعلم إنزال اللعنات) ذلك ما ألهمتنيه السماء الصافية مبدأ ينير سمائي كالكواكب في أشد الليالي قتاماً.
ما دمت فوقي أيتها السماء الصافية المتألقة بالأنوار فإنني لا أنقطع عن منح البركة وإيراد بياني إيجاباً وتأكيداً لأنير بعقيدتي جميع الأغوار المظلمة.
لقد جاهدت طويلاً حتى أصبحت مبارِكاً ومؤكِداً. وما ناضلت إلا لأحرر ذراعي فأبسطهما للبركة؛ وتقوم بركتي على الاعتلاء فوق كل شيء كما تعتلي السماء والسقوف المكورة وقباب الأجراس والغبطة الدائمة. فطوبى لمن يبارك هكذا. لأن كل الأشياء قد تعمدت من ينبوع الأبدية وما وراء الخير والشر؛ وما الخير والشر إلا خيالات عابرة وأحزان بليلة وغيوم متراكضة إلى الفناء.
والحق أن من البركة لا من اللعنة أن نعلم بأن فوق كل شيء تمتد سماء الصدفة وسماء البراءة وسماء الحيرة وسماء الاضطراب.
إن كلمة الصدفة لأقدم ما في العالم من نسب للأشياء؛ وقد أرجعت كل الأشياء إلى هذا النسب النبيل فأنقذتها من عبودية المقصد والهدف. وهكذا رفعت الحرية والغبطة السماوية عالياً ونصبتها كالقباب فوق جميع الأشياء إذ علمت أن ليس من إرادة أبدية تعلو بها لتبسط مقاصدها فوقها.
لقد وضعت حداً لهذه الإرادة بل لهذا الجنون وهذا الاضطراب عندما علمت أن الوقوف عند الحقيقة كان مستحيلاً وسيبقى مستحيلاً. فما هناك إلا قليل من التعقل وذرات من الحكمة تتلقفها الكواكب لخميرة امتزجت بالأشياء جميعها ولولا الجنون لما امتزجت بها.
ليس للإنسان أن يعطي من الحكمة إلا قليلاً. غير أنني وجدت في كل مكان عقيدة لها سعادتها وهي تفضيل الرقص على أرجل الصدفة العمياء.
فيا أيتها السماء الممتدة فوق رأسي، أيتها السماء الصافية المتعالية، لقد أصبح كل صفاء فيك قائماً على اعتقادي بأن ليس في الكون عنكبة خالدة، وليس فيه من الحكمة ما تنسجه(237/46)
العناكب. فلتكن مجالاتك أيتها السماء مسرحاً لخطرات الصدف الإلهية، أو فلتكن خواناً يدحرج عليه الآلهة نردهم، فعلام يعلو أديم وجهك الاحمرار؟ أترى جاء بياني مبهماً أم وردت بركتي لك لعنة عليك؟ أم أخجلك أن أنفرد بك فأردت أن أتوارى وأكف عن الكلام لأن الفجر قد لاح على الآفاق؟
إن في العالم من الأغوار ما لا يدركه النهار، ومن الأشياء ما يجب كتمانها أمامه، وقد باغتنا النهار، فلنفترق.
أيتها السماء الممتدة فوق رأسي بطهرها واضطرامها. أيتها الغبطة المتجلية قبل بزوغ الشمس، لقد باغتنا النهار فلنفترق.
هكذا تكلم زارا. . . . . .
(يتبع)(237/47)
عروس الماء
للأستاذ إبراهيم العريض
لذتُ خلف الغصون في ... عزلةٍ لا أملّها
وحواليَّ خضرة ... بَلَّها ما يبلها
من نُهير زها على ... جانبيه محلها
فإِذا راقت السما ... ءُ بدا فيها ظلها
وزهور يلوح كال ... قُرط في الأذن طَلُّها
جادها الماءُ قبلةً ... ومضى يستقلها
وانبرى البلبل الود ... يع لها يستغلها
فكأن الحياة ثمَّ ... تَ للحب. . . كلها
أنا في نشوة أحدّ ... ث نفسي بما أراه
وأرى ملء ناظر ... يّ حياة - هي الحياة
تحت ظل يكاد يش ... تعلُ الزهر في مداه
وسكونٍ يمدُّه ... بلبلٌ بالذي شداه
وكأنَّ الوجودَ يب ... سم حولي بما حواه
وإذا بي أحسُّ خل ... في حراكاً على المياه
فتلفتُّ مستري ... باً إلى النهر. . . من أتاه
آه. . . ماذا شعرتُ في ال ... إثر تحت الضلوع. . . آه
وتواريتُ في الصخو ... ر وجانبتُ حدَّها
وسددتُ الصدوع حو ... لي ما استطعتُ سدها
حذراً أن تنمّ بي ... قبلَ أن أستجِدها
نظرةً كالوميضِ تب ... تدرُ العينُ ردها
لا تسلني بمن رأي ... تُ فأضمرتُ ودها
إذ تمثَّلتْ كالشعا ... عِ على الموج قدها
يتهادى منعَّماً ... فترى الماَء ضدها(237/48)
كلّما دافعتَهُ جلَّ ... لَ بالشعرِ خدها
فتمنَّيتُ لو دنت ... لي قريباً كما هيه
فأرى شعرَها يبلّ ... لها وهي عاريه
وأرى طرفَها تصّ ... دُّ به صدَّ عافيه
وأرى في تورَّدِ الخ ... دِّ أَشياَء ثانيه
وأرى حُقَّتين وسَطَ ... هما بعضُ غاليه
تستمرّانِ في النهو ... ضِ وإن تَحْنُ جاثيه
وأرى الماَء قد كسا ... ها على المتن حاشيه
فغدت من مهابةِ ال ... حسنِ تبدو ككاسيه
وانثنت نحو ناتئٍ ... فانثنى الموجُ صفَّها
ترتمي فوقَ صدرِه ... بيدٍ. . . ما أخفها
فاستوت عنده بحي ... ثُ ترى العينُ نصفَها
فأمرّت على السوا ... لفِ بالرفقِِ كفها
تنقضُ القطرَ عن غزي ... رٍ من الشعرِ لفها
ثم قامت فطوَّقَ ال ... ماءُ كالرَيْطِ خلفها
غير أنّي غضضتُ طر ... فيَ عن أن يشِفها
هي حوريَّةٌ من ال ... إِنسِ. . . والماءُ زفها
وتخيّلتُ أنني ... قائمٌ في جِوارها
حينَ تنسابُ بالحري ... رِ - وإن لم يُوارها
حولَ ساقَين عاطِلي ... ن - يد في سوارها
ثم تحنو لترتدي ... ما نضت من وقارها
فإِذا عادلت به ... سرَّةً في مدارها
أرسلت ظُلمةَ القمي ... صِ على ضوءِ نارها
وإذا ما مشت تموَّ ... جَ ما في صدارها
فتثنَّى عليهما ... فضَلةً من خمارها(237/49)
واكتست. . . ثم أبصرتْ ... بي عندَ انحدارها
فاستَفزَّت. . . كأنها ... صُورةٌ في إطارها
(البحرين)
إبراهيم العريض(237/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
335 - سبحان الله!
في (بغية الوعاة): الشيخ ضياء الدين القرمي العفيفي العلامة المتفنن كان إماما عالماً بالتفسير والرواية والمعاني والبيان والفقه، وكانت لحيته طويلة بحيث تصل إلى قدميه، ولا ينام إلا وهي في كيس، وإذا ركب تتفرق فرقتين. وكان عوام مصر إذا رأوه يقولون: سبحان الله! فكان يقول: عوام مصر مؤمنون حقاً لأنهم يستدلون بالصنعة على الصانع. . .
336 - ألم نسمع بفتكة جساس؟
أبو بكر بن جزي في طبيب يهودي:
ورُبّ يهوديّ أتى متطبباً ... ليأخذ ثارات اليهود من الناس
إذا جسّ نبضَ المرء أودى بنفسه ... سريعاً، ألمْ تسمعْ بفتكة جسّاس؟
337 - كنت أكون أذن أحمقين
في (ألف با) لأبي الحجاج البلوي: دخل جحا ذات يوم دار الرحا فجعل يأخذ من قمح الناس ويجعله في قفته فقيل له: لأي شيء تضع هذا؟ فقال: لأني أحمق. فقيل له: فلم لا تجعل شيئاً من قمحك في قفاف الناس؟ فقال: كنت أكون أذن أحمقين. . .
338 - أقمته مقام هزؤ
في (سرح العيون) لابن نباتة المصري: يروى أن المأمون كان قد أنحرف عن سهل بن هارون إلى أن دخل عليه يوماً فقال: يا أمير المؤمنين، إنك ظلمتني وظلمت فلاناً الكاتب. فقال: ويلك وكيف؟! قال: رفعته فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك في ذلك اشد ظلماً. قال كيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ، وأقمتني مقام رحمة. فضحك المأمون وقال: قاتلك الله ما أهجاك! ورضى عنه.
339 - ولكن سليقي أقول فأعرب
في (تاريخ اليمن) لنجم الدين عمارة اليمني: جبلا عكاد فوق مدينة الزرايب وأهلها باقون(237/51)
على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم، لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا قط بأحد من أهل الحاضرة في مناكحتهم ولا مساكنتهم. وهم أهل قرار لا يضعنون عنه. ولقد أذكر أني دخلت زبيد في سنة (520) أطلب الفقه دون العشرين فكان الفقهاء في جميع المدارس يتعجبون من كوني لا ألحن في شيء من الكلام، فأقسم الفقيه نصر الله بن سالم الحضرمي بالله لقد قرأ هذا الصبي في النحو قراءة كثيرة. فلما طالت المدة والخلطة بيني وبينه صرت إذا لقيته يقول: مرحباً بمن حنثت في يميني لأجله. ولما زارني والدي وسبعة من إخواني في زبيد أحضرت الفقهاء فتحدثوا معهم فلا والله ما لحن أحد منهم إلا لحنة واحدة نقموها عليه.
340 - ما يقول هذا؟
في (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للمحبي: مر بعض الظرفاء بغلام جميل فعثرت فرس في طين أصاب وجه الغلام منه نزر فقال الظريف: (يا ليتني كنت تراباً!).
فقال بعض المارين للغلام: ما يقول هذا؟
فقال: (ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا). . .
341 - يعشق مطلق الجمال
في (شذرات الذهب ونفح الطيب): كان ابن الفارض عشاقاً يعشق مطلق الجِمال حتى أنه عشق بعض الجِمال وولع به فكان يستأجره من صاحبه ليتأنس به، فقيل له: لو اشتريته فقال: المحبوب لا يُملك. وزعم بعض الكبار أنه عشق بَرنية بدكان عطار.
وذكر القوصي في (الوحيد) أنه كان للشيخ جوار بالبهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد. وكان أيام النيل يتردد إلى المسجد المعروف بالمشتهى في الروضة ويحب مشاهدة البحر مساء، فتوجه إليه يوماً فسمع قصاراً يقصر ويقول:
قطع قلبي هذا المقطّع ... لا هو يصفو أَو يتقطع
فصرخ وسقط مغمى عليه فصار يفيق ويردد ذلك ويضطرب ثم يغمى عليه وهكذا.
342 - الأمن، الصحة، الغنى، الشباب
في (العقد): قال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟(237/52)
قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش.
قال له: زدني.
قال: فالصحة، فإني رأيت المريض لا ينتفع بعيش.
قال له: زدني.
قال: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش.
قال له: زدني.
قال: فالشباب، فأني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش.
قال له: زدني. قال: ما أجد مزيداً.
343 - . . . ما سمعناه في كتاب الأغاني
مسعود الدولة النحوي مقدم الشعراء في أيام الأفضل أحمد بن بدر الجمالي أمير الجيوش المصرية:
ما أطاقوا تأمّل الجيش حتى ... كحلت كل مقلة بسنان
غنّت البيض في طُلاهم غناء ... ما سمعناه في (كتاب الأغاني)!
344 - خلعت ما لا تملك على من لا يقبل
حكي عن الشريف المرتضى أنه كان جالساً في عِلِية له تشرف على الطريق، فمر تحته ابن المطرزي الشاعر يجر نعلاً له بالية وهي تثير الغبار، فأمر بإحضاره، فلما حضر قال له: أنشدني أبياتك التي تقول فيها:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فأنشده إياها، فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال: أهذه كانت من ركائبك. . .؟
فأطرق المطرزي ساعة ثم قال له: لما عادت هبات سيدنا الشريف (أيده الله) إلى مثل قوله:
وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملك على من لا يقبل. . .(237/53)
رسالة العلم
ما بعد الطبيعة
للأستاذ محمد حسن البقاعي
كان علم ما بعد الطبيعة يعرف في القرون الأولى باسم (الفلسفة الأولى) وأول من أطلق عليه هذا الاسم هو أرسطو. أما مخترع كلمة (ميتافيزيك) فهو (آندرونيكوس من جزيرة رودوس. والسبب الذي دعاه إلى تسمية هذا العلم بما بعد الطبيعة هو أن الفلسفة الأولى جاءت في كتب أرسطو بعد الطبيعيات، فأطلق عليها اسم ما بعد الطبيعة.
أما موضوع ما بعد الطبيعة فهو درس الموجود من حيث هو موجود؛ فهي تتعمق في الأسباب وتبحث فيها أكثر من كل العلوم، أي هي تبحث في العلل الكافية لنفسها بنفسها والتي تنشأ عن كل المعلولات. ولقد حدد الفلاسفة موضوع ما بعد الطبيعة فقالوا: علم ما بعد الطبيعة يدرس الوجود المطلق وهذا الوجود يظهر لنا بصورتين:
1 - الصورة الطبيعية المادية 2
- الصورة المعنوية
فعلم ما بعد الطبيعة يدرس الطبيعة والنفس ومباحث الفكر والعالم الخارجي والداخلي وهو على نوعين:
1 - الكونيات العقلية وهو علم ما بعد الطبيعة الذي يدرس الطبيعة والمادة والحياة، فهو يبحث إذن في الطبيعة المادية.
2 - النفسيات العقلية وهو علم ما بعد الطبيعة الذي يدرس مسألة الفكر وطبيعته، والروح وماهيتها. فهناك إذن مسألتان: مسألة المادة ومسألة النفس؛ وهذان المبدءان يحتاجان إلى مبدأ يكون علة لهما وهو الإله جلّ شأنه. فعلم ما بعد الطبيعة يبحث في غاية الغايات وهو الله تعالى. ولنبدأ الآن بالبحث في المادة التي هي من الكونيات العقلية فنقول:
1 - المادة
كثيراً ما بحث الفلاسفة في المادة من القرون الأولى إلى العصر الحاضر، ويتلخص بحثها(237/55)
في نقطتين أساسيتين:
1 - الوصول إلى معرفة الأسباب التي تجعلنا نعتقد بوجود المادة.
2 - الوصول إلى معرفة حقيقة المادة بعد أن نقبل وجودها.
أما وجود المادة ففيه مذهبان: مذهب الرأي العام والحس السليم، ومذهب الفلاسفة. فالرأي العام يقبل وجودها لأنه كوجودنا، ولأن الحياة العملية تسمح لنا بالاتجاه في العالم الخارجي دون أن تخولنا حق الشك في وجوده. ففكرة المادة وطبيعتها لا يصعب على الرأي العام والحس السليم بيانهما بياناً واضحاً؛ فإننا نجدها مركبة من معان مألوفة. وكلنا نعتقد أن المادة هي جوهر دائم وراء الأعراض يتغير من صورة إلى أخرى دون أن ينعدم أو يزول. وإذا رجعنا إلى دستور العالم الكيميائي الفرنسي (لافوازين المسمى بمبدأ بقاء المادة القائل: (لا خلق ولا فناء في هذا العالم بل الكل في تحول) علمنا أن المادة تتحول من شكل إلى آخر؛ فالخشب مثلاً يتحول إلى رماد وغاز، ثم تتكاثف الغازات. . . وهكذا. فالمادة على كل حال موجودة لا تتلاشى. ونحن نعتقد أيضاً أن المادة غبر متجانسة، فهي تتصف بصفات مختلفة باختلاف الأجسام التي تتركب منها؛ فكل جسم له مادة لا تشابه مادة الجسم الآخر؛ فمادة الكبريت غير مادة الصوديوم، ومادة الصوديوم غير مادة النحاس، وهكذا. وهذه المادة عاطلة فهي لا تتحرك من نفسها لأنها غير قادرة على تبديل حالة سكونها بحركة، أو تغيير شكل حركتها التي هي خاضعة لها.
وأما الفلاسفة فقد ذهبوا في وجود المادة مذاهب شتى، حتى أن (زينون ده ليه ' أحد الفلاسفة الخياليين في القرون الأولى بحث في إثبات وجودها (وكأن ذلك يحتاج إلى إثبات) فقال: إن فكرة المادة لو حللناها لوجدناها مجموعة متناقضات لأن العناصر التي يتركب منها جوهر المادة كالزمان والمكان والحركة كلها متناقضة. فالحركة كلها تناقض وعلى ذلك فلا وجود للمادة أصلاً. وهو ينكر وجود الحركة كما ينكر معنى الزمان بالمعنى المعروف ومعنى المكان بالمعنى المألوف. وأدلته على إنكار الحركة كثيرة، منها أن الأرنب إذا لحق أرنباً آخر وكان بينهما مسافة وكانت سرعة الخلفي نصف سرعة الأمامي فإنه لا يلحقه أبداً، لأنه بحسب الحساب الرياضي يلحقه في اللانهاية؛ وهما لا يستطيعان أن يذهبا إلى اللانهاية. فترى أن بحثه أوصله في النهاية إلى إنكار وجود المادة. وكان (ديوجين)(237/56)
يعترض على زينون فيمشي ويقول: يا أستاذ؛ هاأنذا أمشي فلم تنكر الحركة؟
وقد بقيت هذه الأدلة إلى زمان (ليبنيز و (ديكارت على بساط البحث، ولكن (هنري برغسون رد عليه ردوداً كثيرة؛ كما أن حساب ليبنيز (النهاية الصغرى) ليس هو إلا رداً على زينون وأدلته الفاشلة. هذا وإن فيثاغورس وأفلاطون وتلاميذه يقررون أيضاً أن الوجود الحقيقي ليس وجود الأشياء المحسوسة بل هو وجود المعقولات فقط؛ لذلك فإن رجال الكهف (كهف أفلاطون) أي الناس كافة لا يرون إلا خيالات حقيقية. فقيمة العالم الخارجي في نظر أفلاطون الذي يعد في طليعة الخياليين هو هذه الخيالات. وقد أعطى أفلاطون للمعقولات وجوداً بالنسبة للعالم الخارجي المحسوس. لذلك فإنه يسمى خيالياً وجودياً.
أما في العصر الحاضر فقد ظهر أناس دافعوا عن الخيالية أمثال فيخته وهيكل. ولكن (بركليس) أخذ مذهب الخياليين وقال بعدم وجود العالم الخارجي مستنداً في تحليله إلى المعرفة التي توجد عندنا عن العالم الخارجي، ولكننا نعلم أن هذه المعرفة الموجودة فينا ناشئة عن الإحساس؛ وقديماً قال أرسطو: الإحساس أول العلم. فهذه الاحساسات التي هي أول العلم وأساسه هي شخصية وكيفية؛ ومجموع صفات الأجسام يمكن أن يرجع بالنسبة إلينا إلى هذه الاحساسات التي لولا وجودها عندنا لما استطعنا أن نطلع على الأجسام. فالجسم إذن هو مجموع احساسات إذا حذفت لا يبقى من الجسم شيء. يقول (بركليس) إنني لا أعرف الجوهر ولكني أعرف العرض. وهل ندرك الأعراض إلا بالاحساسات. فالاحساسات هي تغيرات نفسية تتأثر من الجوهر وتجعلنا ندرك الأعراض الناشئة عنها.
وقد قسم (بركليس) الأخوال الناشئة في الذهن والصفات الموجودة في الأجسام إلى قسمين: (1) الصفات الثابتة كالحرارة والطعم والنور (2) الصفات الأولى كالامتداد والمقاومة اللذين لا تدركهما إلا مصحوبين بصفات ثابتة مثل الحرارة والنور والطعم. فالأجسام كلها تستحيل إلى هذه الصفات الأولى والثابتة. ونحن لا ندركهما إلا بالاحساسات - كما تقدم - فكثير من معلولات النفس يبين لنا أن الإدراك والوهم متعاونان في الطبيعة وأنه لا يمكننا تمييز إحداهما عن الآخر. أضف إلى ذلك أننا عندما ندرك العالم الخارجي لا نستطيع في محاكمتنا أن يحصل عندنا منه إلا فكرة، والفكرة هنا كل الحقيقة. لذلك فأننا لا نمتزج في(237/57)
نفوسنا في كل إدراكاتنا. وهذا هو نفس دستور بركليس القائل , ' - أي الوجود هو الإدراك. فهل العالم الخارجي موجود لأننا ندركه أم ندركه لأنه موجود؟ فبحسب دستور بركليس موجود لأننا ندركه.
ويمكننا في مناقشة أدلة بركليس أن نقتصر على ذكر الاعتراضات التي وجهها الوجوديون على هذه الأدلة؛ فقالوا إن احساساتنا ناشئة عن الأشياء الخارجية وهي منتظمة، ومتفقة لأننا نرى ما يراه غيرنا، فنحن إذن متفقون بالأشياء التي نراها. فالقوانين التي تخضع لها احساساتنا تجعلها معقولة في نظرنا. وهذا ما كان يدعو (ليبنيز) إلى القول: (إن إدراكاتنا ليست إلا عبارة عن أحلام مرتبط بعضها ببعض، بل هي أحلام ذات إحساس. أي أنها منبعثة من وجود خارجي) فالوجوديون رفضوا بذلك نظرية الخياليين وقالوا إن العالم الخارجي موجود. . .
أما البحث في طبيعة المادة فتناول الفرضيات التي دافع عنها العلماء فيما يتعلق بماهيتها وذلك يتخلص في نظريتين عامتين:
1 - نظرية الميكانيكية
2 - نظرية الحركة
فالميكانيكية تستدل في دراسة الجسم الاعتباري الكيفي بالاعتبار الكمي. فكل التبدلات في الأجسام يمكن أن نرجعها إلى الميكانيكية وهي تتبدل بحسب تقدم العلم؛ وأول شكل للميكانيكية هو ما نجده عند ديموقريطس الذي يقول: إن العناصر الأولى في الجسم هي الجوهر الفرد (أتوم) وهو لا يُرى ولا يتناهى الجواهر الفردة من طبيعة واحدة ولكن لها أشكالاً مختلفة؛ ويتعدد هذا الجوهر الذي هو متين صلب لا يتبدل حاله ولا وزن له. فتتكون الأجسام، ولا يوجد في هذه الجواهر حرارة ولا لون ولا صوت. فهو يؤكد أنه لا يوجد شيء محسوس في هذه الحقيقة الوجودية التي سماها جوهر أفرد. لذلك قال: إن الجواهر لا كيفية فيها بل هي كمية؛ فهو يقربها من صفة حسية. ويمكن اعتبار نظريته هذه كتجربة أولى علمية لتوضيح الأشكال بصورة أولى ميكانيكية. ومن أشهر الفلاسفة الذين طبعوا على غرار ديموقريطس هو (أبيقور) فقد نسج في ذلك على منواله وزاد عليه بإعطائه الجوهر الفرد قوة الانحناء أي جعله يستطيع أن يغير الجهة التي يتحرك فيها إذ(237/58)
جعل فيه قوة خاصة.
والشكل الآخر للميكانيكية هو نظرية (ديكارت، وسبينوزا) اللذين يعتقدان أن جميع خواص الأجسام يمكن إرجاعها إلى الحركة. ومن هنا نشأت جملة ديكارت المشهورة (أعطني حركة وامتداداً وأنا أكوِّن العالم). ولكن هذا القول يحتاج إلى برهان بل إلى براهين. فديكارت يعتقد أن الحركة والامتداد هما العنصران الفعالان في تكوين هذا العالم؛ وقد أنكر بذلك قدرة الإله وأثبت الفاعلية لأحد مخلوقاته الذي لا يستطيع أن يغير حالة سكونه بدون قوة إلهية تسيطر على الامتداد وتهيمن على الحركة فتبعث فيهما الحياة. ويظهر لنا أن رأي ديكارت فاسد، وإن كان قصده بالامتداد العاري عن كل صفة حسية كالحرارة واللون أي هو الحيز الهندسي الذي لا يوجد فيه آتوم حسي بل هو الفراغ اللانهائي.
ولقد تطورت الميكانيكية بعد ديكارت تطوراً هاماً؛ ففي العصر الحاضر، ليس الجوهر الفرد كما كان عند ديموقريطس وأبيقور بسيطاً لا يتجزأ بل هو مختلف عن رأيهما كل الاختلاف. فمبدأ الاحتفاظ بالقوة وتناقض القدرة وخاصة تشعع الراديوم هو الذي جعلهم يعتبرون الآتوم مركباً من الإلكترونات السالبة التي تدور حول عقدة مركزية موجبة ومسافاتها كنسبة بعد الأرض عن الشمس. . . فإنهم يكادون يرجعون كل الأجسام إلى عنصر واحد، حتى أن (غوستاف لوبون) قال: إن هذه الآتومات تسبح في أثير سيَّال غير مادي تتكون منه جواهر الأشياء.
يستند أصحاب هذه النظرية إلى الإحساس، فقد قال أحدهم (هلمولتز) إن الإحساس نسبي؛ فكثيراً ما يكون المؤثر واحداً وتختلف الحساسية ويختلف الإحساس وبالعكس. فالاختلافات الظاهرة في العالم الحسي ناتجة إذن عن اختلافات الحس الموجود. لذلك قيل: إن عنصر الأشياء هو واحد؛ ولهم أدلة أخرى يصلون بها إلى إثبات وصف الحادث وهي التجارب التي قام بها (هوبكنس) و (دوفريل) و (آراغو) وهي مسألة الاهتزاز والانتشار للنور. ولكنه ظهر أخيراً أن النور يكون بالتموج.
وعندما ظهرت هذه الأدلة قبلها العلماء في بادئ الأمر ظناً منهم أنها منتجة. ثم انتقدها كثيرون وأثبتوا بُعْدَها عن كنه الحقيقة. فدليلهم الذي يعلنون به أن القدرة في العالم لها كمية ثابتة لا يسمح لنا بإرجاع كل القدرة إلى قدرة واحدة. وأول شيء يجعلنا نحجم عن قبول(237/59)
رأي الميكانيكية هو وجود بعض الحوادث التي لا يمكن أن تنعكس، فلو كانت ميكانيكية لانعكست. فالشمس مثلاً تشرق من الشرق وتغرب في الغرب فهذه لا يمكن أن تنعكس؛ وهذا دليل واضح على وجود قوة تحركها في هذا الاتجاه. وقد انتقد (ليبينز) رأي ديكارت فقال: إذا قبلنا أن الامتداد يجوز أن يكون فيه حركة أو سكون، فلو فرضنا جسماً مثل (ج) تحرك في هذا الامتداد وصادف جسماً آخر (ب) في حالة السكون، فهذا الأخير لا يبقى ثابتاً بل يتحرك، ولكن حركته ليست نفس حركة (ج) بل يقاومه بكتلة، وهذه الكتلة تنقص من سرعة الجسم (ج). نستنتج من ذلك أن الامتداد والحركة ليسا كافيين، ولو كانا كافيين لما كان يجب أن ينقص من سرعة (ج) وحركته.
إذن يوجد في المادة شيء غير الحركة والامتداد وهو القدرة المدخرة التي هي عبارة عن قوة تتصف بها الأجسام ولا يمكن الاستغناء عنها فهي قوة كامنة تسمى (الموناد فهي جوهر روحي تتكون من الأجسام وبواسطته يمكن تعليل المقاومة.
أما كل من دافع عن نظرية القدرة فإنه يستبدل أجزاء الآتوم بالقدرة وهي الحقيقة الجوهرية الكامنة في قلب كل الأشياء. فقد قال (أوسفالد): عندما نصاب بعصا فبماذا نشعر، أبا العصا أم بالقدرة؟ بالطبع نشعر بالقدرة التي هي الشيء الإيجابي الثابت الموجود في كل الأشياء. وهي ليست واحدة في جميع الأجسام؛ بل تتصف بأشياء مختلفة متناسبة مع شخصياتها وخواصها النوعية. والصعوبة في ذلك هي أن قوة تصدر هذه القدرة هل هي مركبة من عناصر بسيطة بقوة الإرادة كما يظن (هوكسلي على أن القدرة الفعالة لا يمكن أن تعتبر إلا كحالة شعورية فقط؛ وهذا يمكن أن يظهر غريباً. ولكن إذا حاول الإنسان أن يهتم بما يفهمه عن القوى المتجهة الواحدة منها نحو الأخرى يرى أنه يدركهما كأنهما يتحركان الواحد نحو الآخر بسرعة ما. وعند ذلك لا يتصور إلا الحركة تاركاً القوة جانباً. وأما أن يتصور كل جزء كأنه مصحوب بشيء يشابه حالته كحالة الإرادة وهو يعلم هذه الجهة. ونحن نشك أن صعوبة التفكير بالقوة شيء غير مقابل بالإرادة. فليبيز إذن يقترب من الحلول الأخيرة عن طبيعة المادة.
(انتهى بحث المادة)
دمشق(237/60)
محمد حسن البقاعي(237/61)
القصص
أقصوصة من هـ. ستاكبول
أحلام فضية
للأستاذ دريني خشبة
من نجوة (بون بك) يشرف الناظر على مرأى عجيب من رؤوس الأيك النائم في الغابة، والحياة الدائبة الصاخبة في الوادي، وأبراج (تور) المنطبعة في أديم الأفق، والشعاب الملتوية بين الدوح الجبار. . . ثم. . . هذه الرقائق من الفضة تنساح في مجرى اللوار، راقصة على رنين النواقيس من فيروفلاي، مضطربة تحت أقدام أرليان، متلاشية في لا نهائية البعد مما يلي المنبع. . . في شعاف السِّفِنْ.
ومع ذاك، فلم يكن فوق بون بك غير سنديانات أربع، منهن دوحة جدة، عظيمة الجذع ذاهبة الأفنان، وإن يكن قد نخزها الزمان، ونامت قرونه في الكهف الكبير الذي احتقرته في أصلها. . . ثم شجيرات حفيدات تينع في الربيع، وتنضر في الصيف، وتتجرد فيما سوى ذلك من فصول السنة. ولم تغير الثورة شيئاً من معالم هذا الغاب، على كثرة ما غيرت من معالم فرنسا، فهذا هو العم العجوز المتداعي (جين كابوش) ما يزال يقطع الخشب من الغابة ويُحمّله إلى شاتود نيفر، وما يزال يعالج الشجر ويصيد الأرانب، ويؤدي الأعمال التي كان يؤديها أبوه وجده من قبل، والتي كان يؤديها آباؤه الأولون. . . وإن له لآباء أولين يتلاشون في لا نهائية الأزل، كما يتلاشى اللوار في ظلام السِّفِن. . . فإذا قدر لك مرة أن تلقاه في أحد شعاب الغابة، لقيت رجلاً من القرون الغابرة لا يعرف عن زماننا شيئاً، ولا تربطه بالعصر الحديث رابطة؛ وكذلك تلقى بنته الجميلة الساذجة العذراء ماري، التي إن حدثتها حدثت قطعة من الغابة لا تدري ما وراءها. . . على أنها مع ذاك تصبيك وتفتنك، وتسحرك بجمالها العميق الملغوز، وتتأرج في نفسك وقلبك كما تتأرج البنفسجة الفيحاء، لا تدري من أين يسبيك جمالها.
أما أبوها - العم جان - فقروي - لا، بل ريفي قح، يحسبه من يلقاه نابي الذوق، جافي الطبع، لأنه لا يعرف قوانين التقاليد التي تفرضها حياة المدن على سكانها، ومن هنا عدم(237/62)
تمييزه بين طبقات الناس، فهم جميعاً سواء عنده، حتى رئيس الجمهورية الذي كان يجوب غاب فيروفلاي مرة، فلقيه فحياه؛ وكان جان يحتسي كأساً من الخمر، فلم يلتفت للحاكم الأعلى حتى أتى على النُّطف الأخر في الكأس، وبعد أن مسح فمه بكمه، وتجشأ وتمتّق، قال للرئيس: (أجل، أعرف أنك الرجل الذي يختاره الفرنسيون ليمثل دور الملك في باريس!). وماذا تنتظر من جَمّاع أحطاب وإنسان غاب أن يقول غير هذا؟
وربما كان للأسطورة التي تناقلها آل كابوش أباً عن أب، وجداً عن جد، في طويل الأزمان والآباد، أثر في هذه العنجهية التي تبدو أحياناً في أخلاقهم. ذلك أنهم كانوا دائماً يفخرون أن ملك الغابات في الزمن القديم كان رئيس قبيلتهم. . . فإذا كلم جان رئيس الجمهورية بهذه اللهجة، فأحجى بالرئيس أن يشكر الله، لأنه فرد عادي جداً إذا قيس بجان سليل ملوك الغاب!!
ما كان أجمل الأصيل فوق البون بك وقد جلست ماري الساذجة فوق العشب الحلو، تحت السنديانة الكبيرة، تعمل بإبرتيها في جورب الصوف الخشن الذي كانت تبيع ما تصنع منه في نهاية كل شهر لبازين العجوز تاجر الملابس في بورجه! لقد كانت تتحدث إلى عنْزِها المربوطة في جذع السنديانة كلما ضجرت من العمل، كما كانت تغنى بصوتها الرنان الجميل فتغمر الغابة المنتشية بألحانها، وتمتلئ أجواء الوادي الساكن بأغنياتها الطورينية الحبيبة، التي لم تعرف النوتة، ولم تأخذ طريقها إلى البيان، بل احتفظت بريفيتها المقدسة لتخرج من فم ماري، كما تخرج موسيقى الملائكة من قدس السماء!
ما كان أجمل الأصيل فوق البون بك حين جلست ماري فوق عشبه، وقد أخذ الخريف يواسي الناس بأنفاسه الربيعية، وقد راحت مارجوت - العنز السعيدة - تقضم الحشيش الحلو مرة، وتصغي إلى غناء ماري أخرى. . . وماري، فيما بين هذا وذاك تعمل أناملها في الجورب الذي أوشك أن يتم، لتتم به الاثنا عشر جورباً، ولتنطلق بها فتاة البون بك إلى التاجر بازين فتتسلم منه ثمنها، وتعود بالحلوى والفطيرة فتملأ فم مارجوت!
لقد جلست ماري تعمل وتغني، بينما كان السادة الباريسيون أصحاب الفيروفلاي، وأصحاب قصرها المنيف المنيع الذي تأخذه العين في أفق الغابة فترى منه أبراجه الشواهق، يصيدون الأرانب في المتائه والمسارب، ويطلقون بنادقهم على القنافذ والثعالب، فتتردد(237/63)
طلقاتها في أذن ماري، وتثير في قلبها الصغير شتى الهواجس والأفكار. . .
(الإبرتان الشقيتان!!) هكذا كانت الفتاة تفكر. . . (لا بأس، صبراً يا بازين صبراً، هاقد أوشكت أفرغ من هذا العناء الذي تشتريه مني بفرنكات معدودة لا تكاد تكفي ثمناً لمسح حذاء واحد من سادتنا. . . أوه! يالك من عقدة خبيثة! اذهبي إلى الشيطان! ألا ما أصعب إصلاح العقدة المختلطة! إنها كاللغز الذي لا يمكن حله! ما هذه الطلقات النارية يا سادة!! ارحموا الثعالب والأرانب، وارحموا أبي جان المسكين! ماذا يصيد هو إن لم تبقوا على أرنب واحد! هذا بلاء والله! أوه! وا رحمتاه لك يا أبي! إن صيد أرنب أو أرنبين أيسر عليك من قطع عسلوج واحد مع فرق ما بين الأجرين! الأغنياء! الثروة التي لا يحصيها عد!. . . . . . الخ. . .).
وسمعت الفتاة صوت بوق يُدَوّي في آفاق الغابة شغلها عن إبرتيها، وعن غنائها، وعن مارجوت. . . وعن كل شيء. . . حتى عن هذه السلسلة غير المنتظمة من الأفكار الفضولية التي كثيراً ما تزدحم بها رؤوس الناس، لأتفه ما يثيرها من الأسباب.
وأرسلت عينيها في شعاب الغابة مرة، وفي مسايل اللوار أخرى، فرأت السادة الأغنياء قد فرغوا من صيدهم، وقد حمل خدمهم أحمال القنص على خيول ضخمة، وانطلق الجميع يعدون نحو القصر المنيف، كما تعدو السمادير أمام العين العشواء، وكما تنطلق أحلام النائم في كل صوب. . . حتى غابوا عن بصرها.
وعادت ماري إلى إبرتيها بعد إذ ثابت إلى نفسها. . . وبدأت تعمل وتغني من جديد! ولم تكد تفعل حتى سمعت صوتاً حنوناً يهتف بها، فأرسلت عينيها في كل حدب، ولكنها لم تر أحداً. . . وارتبكت هذه المرة، وحاولت أن تعمل، ولكن العقد اختلطت أكثر من ذي قبل، وعاد الصوت الحنون يهتف وينادي. . . ونظرت ماري، وبحثت بعينها في كل مكان، فإذا بنبيل من السادة الصيادين يناديها في السفح البعيد، ويشير إليها بيده الآمرة أن تذهب غليه.
لم تتحرك ماري، بل ظلت ساكنة صامتة. . . وكأنما غيظ النبيل من سكونها، فغمز حصانه الكبيرة غمزة فأنطلق يطوي النجوة صعداً في غير مبالاة، كأن الدنيا بأسرها ملك له ولأجداده الخيول من عهد عاد! حتى الخيل تعرف الصفاقة أضعاف ما يعرف النبلاء!
لقد كان رجلاً عملاقاً له مهابة وفي عينيه نُبْل، وله لحية خفيفة فوق صدغيه قد وخطها(237/64)
الشيب فجعلها سنجابية حائلة كلون السحب في أوائل الخريف. . . وكان عريض المنكبين بارز الصدر واسعه، عظيم القامة، يشغل الناظر إليه عما يلبس من غريب الثياب التي تتخذ للصيد في غاب فرنسا. . . فلا خافية النسر التي راح النسيم يداعبها فوق مفرقه، ولا الجوارب الجلدية وما فوقها من أخفاف، ولا هذه السراويل الفضفاضة التي تغطي ظهر الجواد، ولا تلك القفازات اللامعة التي تحجب يديه، ولا هذه النياشين التي تتوهج فوق صدره، والقلائد الذهبية التي تتحوى حول عنقه. . . لا شيء من هذا أو ذاك قد بهر عيني ماري كما بهرها هذا الجسد الهرقلي، وذاك الوجه الصارم، والرجل العملاق!
واقترب الجواد بمن عليه. . .
وتبسم النبيل وكأنما كانت الدنيا كلها تبتسم معه، وحيَّا ماري، ثم قال:
- (قصر فيروفلاي يا جميلتي! قصر فيروفلاي! أتستطعين أن تدليني عليه، أو تعلميني الطريق التي أسلكها لأبلغه؟ لقد ضاعت سبيلي في شعاب غابتكم المضلة، فهل لك في أن تصحبيني، يا غادة؟).
لقد نظر النبيل إلى ماري فحمد الله والصدف أن ضلت سبيله، ليلقى هذه الجنّية الريفية الحسناء في هذا الأصيل الجميل من أصائل الخريف، وفوق هذه النجوة الناضرة المطلة على الغابة الشاسعة جميعاً. . . ولقد كان يبلع ريقه مرة بعد أخرى وهو يكلمها، وكان يكلمها بعينيه الجائعتين، أكثر مما كان يكلمها بلسانه اللاهث الظامئ، وكان يحس قلبه وهو يخفق ويخفق، كأنما يبتغي أن يثب إلى عينيه ليشبع من مرأى ماري هو الآخر!! يا لسحر الجمال! لقد عجب النبيل كيف عاش عمره الطويل المفعم بلا حب، وفي الدنيا العريضة مثل هذه الفتاة التي تسجد تحت قدميها القلوب!! لقد جعل جسمه يرتجف فوق الجواد، وجعل يقلب عينيه في الفتاة التي انعكست على وجهها آراد الشمس الغاربة فصبغته بالذهب، وتركت في جبينها وخديها سَفْعاً من اللهب يشبه الشفق، يزيده فمها الصغير الخبيث اشتعالاً!
- (أوه يا سيدي! إنه هناك وراء هذا الدوح، وهو قريب جداً من هنا. . . أنظر. . . هاهي ذي أبراجه تلوح وراء الغصون العارية. . . ثم هاهي ذي الطريق واضحة بينة!).
وكانت ماري قد نهضت من مكانها وهي تقول ما تقول. وتشير بيديها، فينحسر الكُمَّان عن(237/65)
مرمر الذراعين اللدنتين، وطرف الثوب عن جزء من الساقين الجميلتين، فيجن جنون النبيل الجليل!
وفي الحق. . . لقد خفق قلب ماري هو الآخر، لأنه أحس بما ينبعث من عيني الرجل من الصبوة والشغف. . . وما كان يسيل في ألفاظه من الرقة والضراعة، وإن لم يعبر عنهما إلا بهذا الروح الذي يفهم من غير أن يرسم!!
ووثب الرجل من فوق جواده، ووقف قريباً من ماري، ثم راح ينظر في الأفق ويتعاشى ويقول:
- (أجل. . . هاهي ذي أبراجه! ولكن أنى لي أن أهتدي إليه في غابتكم المضلة. . . تعالي يا صغيرتي فدليني عليه. . . إني أخشى أن أبيت ليلي في الغابة مع أرانبكم وثعالبكم!
- (بكل سرور يا سيدي. . . لا أحب إلى من أن أفعل. . . هلم!
- وهذه العنزة؟ أتتركينها هنا؟
- (أوه! إن مارجوت ستنتظرني هنا يا سيدي! وأين تذهب ما لم أعد إليها. . . ثم هي مربوطة مع ذاك!
- (إذن هلمي!
وانطلقا نحو السفح، ثم مضيا في طريقهما. . . هي إلى جانبه، أو في ظله! وهو، وحصانه من ورائه، ينظر صامتاً. . . ساكناً.
وفكرت ماري في اللهجة التي كان يكلمها بها فشاع فيها نوع من الزهو، ثم اتسع خيالها فوثقت أنه أحبها، بل هو يكاد يعبدها، وكان هذا الإحساس يملأ الدنيا في عينيها سعادة، وفي قلبها بهجة. . . وعرفت من ثيابه ومن منطقه أنه ليس من هذه الجهة من جهات فرنسا. . . قد يكون ضيفاً على آل فيروفلاي. . . على كل حال هو ليس من هذا الإقليم. . .
وأخذ الرجل يخلق الأحاديث ليسمع صوت ماري. . . هذا الصوت الموسيقي العذب الذي كان يملأ سمعيه وينفذ إلى أعماق قلبه كأنه رنين القُبل! وكانت هي تجيب في ظرف وتيه وأدب، فتخلب لب الرجل، وتذيب نفسه الوامقة بما تكسر من مخارج الكلمات، وما توشي في أواخر الجمل، كأنها الربيع الفينان ينثر وروده ورياحينه في أكناف الحديقة!!(237/66)
ولقد كان القصر على بعد فرسخ أو نحوه من النجوة، ولقد كان قصراً عتيقاً من عهد شارل التاسع، ولكن الغابة كانت مع ذاك أقدم منه عهداً. . . بل كانت هي هي الغابة منذ كانت هناك غابات في جنبات فرنسا، ومنذ كان جد ماري ملكاً عليها في بطن الأزل!!
وذكرت ماري هذا الجد الملك، فسرى في أعطافها الكبر القديم الذي ما يفتأ يسري في أعطاف آبائها وأهلها. . . وللحال آمنت أنها جديرة بقلب هذا النبيل، وأنه سيكون فخوراً بها!!
ونظر النبيل إلى جنبات الغابة فتغيرت في عينيه صورتها الجافة الخريفية التي انطبعت فيهما منذ الصباح، وصارت جنةً فيحاء آهلة بالحور العين أمثال اللؤلؤ المكنون، منضورة بالورد عبقة بأريج الرياحين كهذه الجنة التي وعد المتقون! لماذا؟ لم يدر الرجل. . . لكنه كان يؤول كل ذلك بوجود ماري الجميلة إلى جانبه. . . ماري، التي غيرت نظرته إلى الحياة، فجعلتها مشرقة باسمة، بعد أن كانت قمطريراً كالحة، لا تصلح لهذا العبث الذي كان يقرأ عنه في الكتب، والذي سماه الشعراء بالحب. . .
ولم تزل ماري تسلك بالرجل في هذا المنعرج وذاك المنعرج، ولم تسير به في متائه كثيرة، وتخطو به في فجاج كلهن مصائد وفخاخ نصبها أبوها للأرانب، حتى وقفا آخر الأمر لدى بوابة عتيقة. . . هي من غبر شك أعتق من القصر الذي تؤدي إليه وأذهب منه في البلى.
وكانت البوابة صغيرة واطئة، فصاحت ماري فجأة وهي تقول: (أوه يا سيدي! لن يستطيع حصانك أن يدخل من هنا. . . أوه! لقد نسيت، ليتني ذهبت بك إلى باب القصر!).
فتضاحك النبيل ثم قال: (ليس هذا شيئاً. . . إني سأربطه هنا، وهو ينتظرني كما تنتظرك. . . ما. . . ما. . . ما اسم عنزك؟).
- مارجوت يا سيدي.
- مارجوت! إي والله مارجوت. . . ولكن ما سنُّك يا عزيزتي؟
قال ذلك وقد أرسل أصابعه المرتعشة تربت تحت ذقنها الجميل وعينيه المشوقتين تسبحان في جمالها الريان!
- أنا؟ سني ست عشر سنة!
- ما شاء الله! سن فينانة! واسمك إذن!؟(237/67)
وقال ذلك أيضاً بعد أن صعد آهة عميقة كادت تحرق بحرها صدره.
- ماري. . . ماري يا سيدي!
- ماري! ماري! وحسب!؟
- ماري كابوش يا سيدي!
- ماري كابوش. . . حسن جداً! ماري كابوش اسم جميل ظريف، بيد أنني سأطلق عليك من الآن اسم (زهرة الغابة!).
ثم تقدم فأخذ رأسها الصغير في يديه المتخاذلتين، وطبع على جبينها قبلة عميقة حارة، استودعها كل أماني حبه، ثم دس يده في جيبه وقال:
- (والآن. . . تقبلي مني هذا القليل. . . من. . . الذهب. . . للذكرى. . . لا للفائدة!) ولما نظر في حافظته لم يجد بها إلا قطعة فضية واحدة. . . وحدجته ماري بعينين جريئتين ثم صاحت في رقة وحب: (أوه يا سيدي! ليست بي حاجة إلى نقود فأذكرك بها. . . إني سأذكرك إلى الأبد. . . لن أنساك!) وامتلأت عيناها بالدموع فجأة. . . وأحست بقلبها يرتعد ويخفق. . . وودت لو استطاعت فهربت في شعاب الغابة، لولا أنها نظرت إلى الرجل فوجدته مثلها ممتلئ العينين بالدموع. . . وصدره يعلو ويهبط، آية على ما فيه من مثل ما في قلبها!
- ليس في حافظتي إلا هذه. . . لتكن تذكاراً مني على كل حال!
- تذكار أحتفظ به إلى آخر رمق في حياتي يا سيدي!
- (أوه! دائماُ يا سيدي يا سيدي! ناديني باسمي المجرد يا ماري! أنا أُدعى هنري. . .! ليت لي مثل سنك يا ماري! ليت لي مثل سنك!).
- حسبك قلب مثل قلبي يا. . . هـ. . . هـ. . .
- هنري. . .! ماري. . . ماذا بك. . .
وجعلت الفتاة تبحث الأرض بعينيها مرة. . . وتحدق بهما في وجه هنري مرة أخرى. . . ثم تناول الرأس الصغير مرة ثانية فطبع عليه قبلتين حملتا سر قلبه، وودعها وهو يقول لها:
- هنا يا ماري يجب أن نلتقي الليلة بعد أن يشرق القمر! وأومأت ماري برأسها الصغير.(237/68)
وانطلقت تعدو كالمجنونة في ظلام الغابة. . .
ولم تفتأ ماري تستعيد الذكريات الحبيبة التي لم تمضي عليها هنيهات. . . ولم تفتأ تردد هذه النداءات الجميلة (يا جميلتي. . . يا صغيرتي. . . أوه شيري!! يا عزيزتي. . . إلى هذه المترادفات التي يمتلئ بها قاموس الحب، وألواح الغزل الإلهية المقدسة. . .
هل هو حلم؟!
نبيل من أماثل نبلاء فرنسا يحب هذه الريفية الساذجة التي لا قيمة لها إلا مسحة من الجمال؟ هذا النبيل العظيم الذي يملك أن تكون له جنة من حسان باريس، تشغفه هذه القروية من بنات الغاب؟ بل هو حلم. . . بل هو حلم!
وعادت إلى البون بك ففكت رباط مارجوت، وحملت سلة أشغالها، وعادت أدراجها إلى كوخ أبيها مصدعة القلب، واجمة الروح، كاسفة البال، لا تفكر إلا في هذه اللحظة التاعسة التي لقيت فيها هذا النبيل. . أولم تلقه. . لأنها ظنت أنها كانت تحلم!
وأقبل أبوها فأعدت له عشاءه فالتهمه، ثم انبطح على فراشه الخشن فلم يلبث أن نام، وراح يغط في سبات عميق.
وجلست هي في غرفتها تجتر أحلامها، وتصور الحادث الأكبر الذي زعمته حدث لها. . . ولكن رنين القبل على. . . جبينها. .! كان ما يزال يرن ويطن. . والنداءات الغزلية كانت ما تزال تتردد في مسمعيها. . .
وانهزم الظلام فجأة فهبت إلى النافذة فرأت القمر ينبثق من الأفق الشرقي، ويكسو بنوره الأحمر البركاني جوانب السماء الرهبة. ثم ارتفع مليك الليل رويداً فابيض نوره، وجعل كلما ارتفع ينشر في الوجود أضواء ولآلئه. . . فاعتزمت ماري أن تخرج إلى موعدها. . . ولو كان حلماً حقاً. . .
وانسرقت الفتاة في ظلام الكوخ الذي كان يملأه شخير أبيها النائم رهبة ثم انفتلت إلى الغابة. . . الغابة الفضية الصامتة التي كانت حينذاك أشبه بمعابد الهنود، فجعلت تنسرب في شعابها وكلما تحرك غصن أو برز أرنب وجلت المسكينة وجلاً شديداً، وهي كانت تحرس الغابة في الليالي المظلمة من الذؤبان والسباع. ثم لم تزل تسير في هرولة. . . ولم يزل قلبها يخفق ويدق. . . ولم يزل خيالها يمتلئ بالمخاوف. . . حتى كانت عند البوابة(237/69)
القديمة!
وا أسفاه! تبدد الحلم الفضي. . . إن هنري ليس عندها! وتلبثت ماري تتنسم أثر هنري. . . لكنها لم تجد شيئاً. . . فعادت محطمة ذاهلة موهونة. . . واخترقت الغابة وهي لا تخشى من أشباحها شيئاً. . . إذ ما يهمها أن يفترسها الذئب أو يحرقها العفريت؟! لا يهم. . .
ورأت أنواراً ساطعة تنبعث من الكوخ. . . وسمعت فيه ضجة. . . فخشيت أن تدخل. . . وظنت أن أباها افتقدها فلم يجدها فولت هاربة.
ولكن هنري كان قد لمحها من نافذة كوخ أبيها، فانطلق في إثرها. . . ثم عاد معها إلى الكوخ لتعانق أباها الذي يقول لها:
- (هنيئاً لك يا ماري. . . هنيئاً لك يا هنري. . . لك أكبر الشرف يا بني أن تكون سليلة ملوك الغاب زوجتك!).
وهكذا تحقق الحلم الفضي!
دريني خشبة(237/70)
البريد الأدبي
العربية والإنكليزية
كنت كاتب في جريدة (الأجبشيان جازيت) عن تعلم المصرين اللغة الإنكليزية يقول إن المصرين في مقدمة الشعوب التي تتقن التكلم والنطق بالإنكليزية، ولكنهم لا يصلون في ذلك إلى براعة السويديين والهولنديين وإن كانوا يفوقون الألمان والفرنسيين في ذلك بمراحل؛ ويرجع ذلك إلى أن الطلبة المصريين يتلقون اللغة الإنكليزية في مراحل الدراسة الأولى من الأساتذة الإنكليز أنفسهم، ويخصصون لدراستها في الأسبوع عدة ساعات، وبذلك تتاح لهم فرصة ملائمة لتلقي نطقها ولهجتها من أبنائها الأصليين، وبذلك ينجون من اللهجات الغريبة التي تخالطها أحياناً البلاد الأخرى.
وفي قول الكاتب كثير من الصحة، ولكنا نستطيع أن نزيد على قوله أن الطلبة المصرين لم يبلغوا في تحصيل اللغة الإنكليزية ما كان حقيقاً بهم أن يبلغوه في مثل هذه الظروف والفرص الملائمة، فالحصص التي تخصص لتدريس الإنكليزية في مدارسنا الثانوية تكاد تعادل الحصص التي تخصص للعربية، ومع ذلك فقد لوحظ أن الطلبة يلاقون في تعلمها صعاباً شديدة، وأنهم ما زالوا في تعلمها في مستوى لا يبعث على الرضى. وقد كان لهذه المسالة ضجة في العام الماضي اهتم لها رجال التعليم والمسئولون من رجال وزارة المعارف.
على أن الذي نريد أن ننوه به هنا هو أنه إذا كان للمصرين حظ من إتقان اللغة الإنكليزية سواء في التحدث أو الكتابة بها فإنه من بواعث الأسف أن يجيء هذا الإتقان في أحوال كثيرة على حساب اللغة العربية. وإذا كان ضعف الطلبة في اللغة الإنكليزية قد لفت نظر المسئولين من رجال التربية، فأن ضعفهم في اللغة العربية كان أيضاً باعثاً إلى الاهتمام والنظر.
وفي رأينا أن اللغة العربية ما زالت مغبونة الحق في مدارسنا الثانوية، وقد كان طغيان الإنكليزية والفرنسية على مناهج التعليم في الماضي مفهوماً، وكانت لذلك ظروفه وبواعثه. ومن الحق أن نقول إن هذا الافتئات عل حقوق العربية في الماضي كانت له آثار سيئة في تكوين الأسس التي قام عليها التعليم القومي في العهد المنقضي؛ ولكنا لا نفهم لماذا يبقى(237/71)
هذا الافتئات باقياً إلى اليوم بعد أن تحررت برامج التعليم من القيود التي كانت تحول في الماضي دون تقديم العربية على سواها.
إن تعليم اللغات الأجنبية الحية من العناصر الجوهرية في تكوين الثقافات الحديثة؛ ولا شك أن الإنكليزية والفرنسية من أهم اللغات الثقافية، ولكن الذي نرجوه هو ألا يبقى هذا العنصر الأجنبي كما كان في الماضي أداة للغزو الثقافي والمعنوي على حساب اللغة القومية، وأن يقتصر الأمر فيه على الاغتراف من مناهل الثقافة والعرفان.
هل كانت الفيوم منزل شعب في العصر الحجري
عثر المنقبون أخيراً في بقعة أثرية على مقربة من بحيرة قارون بمديرية الفيوم على جمجمة بشرية قديمة جداً. وقد عرضت هذه الجمجمة على العلامة الدكتور دري أستاذ التشريح بكلية الطب المصرية، فقرر بعد الفحص أنها لرجل بالغ، ويغلب علي الظن أنه كان ضعيف العقل نظراً لصغر حجمها عن الطبيعي. على أن هذا الفحص التشريحي ليس أهم ما في الموضوع، وإنما هو القيمة الأثرية؛ فقد عرفت هذه البقعة المجاورة لبحيرة قارون بأنها كانت وطن شعب مصري قديم يرجع إلى آلاف السنين قبل الميلاد. ووجد فيها العلماء المنقبون ولا سيما العلامة الألماني يونكر كثيراً من الآثار التي تدل على أن هذه البقعة قد عرفت العصر الحجري. ودلّ فحص الجمجمة المشار إليها من الوجهة الأثرية على أنها لإنسان عاش منذ نحو ثمانية آلاف عام. فإذا صح ذلك فأن علم الآثار المصرية يخطو خطوة جديدة نحو معرفة التاريخ المصري القديم. ذلك لأن قدم الوثائق الفرعونية التي عثر علها ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام قبل المسيح أي إلى خمسة آلاف عام؛ ولكن هذه اللقطة الجديدة إذا عززت ببعض آثار أخرى توجد في نفس المنطقة وتماثلها في القدم، قد توجه أنظار الباحثين إلى مرحلة أقدم جداً من تاريخ مصر الفرعونية.
هذا وقد أحال الدكتور دري هذه المسألة إلى العلامة في الأجناس الدكتور تيودور منود مدير متحف التاريخ الطبيعي بباريس، فأجاب بأن خواص الفلين في الجمجمة المشار إليها توجد الآن عند كثير من فصائل الزنوج في أفريقية الشمالية، وفي الصحراء الكبرى. وتاريخ هذا الإنسان مجهول، ويوجد بين القبائل المغربية قبائل تحمل جماجمها بعض هذه الخواص.(237/72)
وإذن فالمسألة ما تزال موضع البحث والتحقيق.
جائزة فاروق الأول
استقر الرأي على أن يطلق على الجوائز التي أقترحها الدكتور حافظ عفيفي باشا لتشجيع الحركة الأدبية والعلمية: جوائز فاروق الأول في الأدب وفي غيره من الفروع والفنون التي يستحق صاحبها من أجلها تلك الجائزة. ورأت اللجنة جعل الموضوعات التي تدخل في نطاق الجائزة ستة تتصل بالحياة المصرية في الأدب والقصص والاجتماع والتشريع والتعليم والزراعة.
وتقرر أن تكون قيمة كل جائزة خمسمائة جنيه وأن يكون التقدم إليها مرة في كل عامين. ورأت اللجنة توثيقاً لأواصر اللغة وتوحيداً للثقافة بين أبناء الأمم الشرقية إباحة دخول المسابقة في جوائز الأدب والقصص والاجتماع للشرقيين من أبناء العربية.
ودرست اللجنة طريقة اختيار المؤلفات، وهل ينحى فيها نحو (جائزة نوبل) أو يكتفي بأن يتقدم الكتاب والمؤلفون بكتبهم وتآليفهم مطبوعة طبعاً جيداً. وقد استقر الرأي على الأخذ بالطريقة الأخيرة.
وعند إقرار المبدأ تؤلف اللجان الفنية المختصة كل عامين لبحث ما يتجمع لديها في هذا الصدد. وقد لوحظ في جعل المدة سنتين أن تتاح الفرصة الكافية لكبار المؤلفين لإجادة ما يكتبون وما يؤلفون.
لجنة تنظيم الصحافة
يشتغل صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل بك وزير الدولة، ببحث المسائل التي درستها اللجنة الحكومية (لتنظيم جمعية الصحافة وترقية شؤونها).
وقد استقر الرأي على أن يضم إلى اللجنة أعضاء جدد من كبار الموظفين وأصحاب الصحف.
وسيرأس اجتماعها القادم صاحب الدولة رئيس الوزراء.(237/73)
مهرجان الأدب في الزفاف الملكي
فكر جماعة من قادة الفكر وزعماء الدولتين الشعر والنثر في اشتراك الأدب في ابتهاج البلاد بالزفاف الملكي، وقد اجتمع فريق منهم في مكتب حضرة صاحب العزة محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف وتدارسوا هذه الفكرة ثم اقروها واتفقوا على تأليف لجنة فرعية من بينهم لوضع برنامج المهرجان والاتصال باللجنة الرئيسية المعهود إليها تنظيم حفلات الزواج الملكي. وستجتمع اللجنة الرئيسية على أثر فراغ اللجنة الفرعية من مهمتها لتضع البرنامج النهائي للمهرجان.
المؤتمر الدولي السابع لتوحيد قانون العقوبات
في يوم الأربعاء الماضي تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك فأناب عنه من افتتح المؤتمر الدولي السابع لتوحيد قانون العقوبات رسمياً في دار الأوبرا الملكية، وفيما يلي بيان موجز عن تاريخه
تألفت بعد الحرب العظمى أول هيئة اهتمت بتوحيد قانون العقوبات وهي الجمعية الدولية لتوحيد قانون العقوبات. ولما كثر عدد المشتركين فيها فكر مسيو بيلا سكرتير الجمعية العام ومندوب رومانيا الدائم لدى عصبة الأمم في عقد مؤتمرات لبحث الموضوعات التي تهتم بها الجمعية، وكان أن أنشأ المكتب الدولي لتوحيد قانون العقوبات. وقد جاء في المادة الأولى من قانونه الأساسي أن غايته دراسة اقتراحات الدول والهيئات التابعة لمجلس عصبة الأمم والهيئات الخاصة الأخرى المؤدية إلى توحيد قانون العقوبات والقيام بالأعمال التمهيدية لتحديد المسائل التي يمكن الاتفاق على توحيد القانون فيها، والسعي لعقد مؤتمرات دولية والعمل على دوام الصلة بين أعمال المؤتمرات التي تعقد. وأخذ الاهتمام بأعمال المكتب يزداد ونفوذه ينمو حتى أصبح لأكثر الدول مندوبون فيه.
وقد عقدت ستة مؤتمرات في بروكسل وباريس وفارسوفيا وروما ومدريد وفي كوينهاجن على التوالي. وأولها مؤتمر بروكسل وقد عقد في سنة 1937.
معهد التعاون الفكري وشعبيته في مصر
كانت وزارة المعارف قد عهدت إلى عميد كلية الآداب زيارة المعهد الدولي للتعاون الفكري في خلال الصيف الماضي ووضع تقرير عنه، وقد رأى أن يبحث الأمر مع صاحب(237/74)
السعادة علي الشمسي باشا ممثل مصر في جامعة الأمم قبل وضع تقريره.
ومتى تم وضع هذا التقرير بدأت الشعبة المصرية عملها. وقد صدر قرار وزاري بتأليفها من حضرات أصحاب السعادة والعزة وكيل وزارة المعارف، ووكيل الخارجية، ووكيل الحقانية، ومدير الجامعة المصرية، وعمداء كليات الجامعات، ورئيس المجمع اللغوي، وناظر معهد التربية للبنين، وناظر دار العلوم، ومدير مصلحة الآثار المصرية، ومدير دار الآثار العربية، وأمين المتحف القبطي، ومدير دار الكتب المصرية، ورئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، ورئيس الجمعية الجغرافية الملكية، ورئيس الجمعية الملكية للاقتصاد والتشريع، ورئيس الجمعية الطبية المصرية، ورئيس الجمعية الرمدية، ورئيس المجمع العلمي المصري، ورئيس المجمع المصري للثقافة العلمية، ورئيس جمعية محبي الفنون الجميلة، ورئيس جمعية علم أوراق البردي، ورئيس الجمعية الصحية المصرية.
وقد ترك للأساتذة أعضاء الهيئة اختيار الرئيس والسكرتير الفني لها من بينهم. وسيكون أول عمل تقوم به وضع اللائحة الداخلية لتنظيم الأعمال حتى يصدر بها قرار وزاري من معالي وزير المعارف.
حول جائزة جونكور
لاحظ بعض الأدباء كما لاحظت المكشوف أننا ذكرنا في باب البريد الأدبي في عدد سابق أن الكاتب البلجيكي ش. بليسينيه نال جائزة جونكور في العام الماضي عن كتابه (أزوجة) مع أنه نالها عن كتابه (جوازات مزورة). وهذا الخبر نقلناه عن ملحق الأحد الأدبي لجريدة النمساوية لمراسلها الباريسي. وهو صحيح ولكنه ناقصو. وبيان ذلك أن بليسينيه رشح منذ العام الماضي لنيل الجائزة بروايته الأزوجة ولكن ترشيحه أرجئ يومئذ لاعتبارات تتعلق بجنسيته لأنه غير فرنسي. وفي هذا العام قدم روايته الجديدة وانتهت أكاديمية جونكور إلى مبدأ جديد في مسألة الجنسية، وقررت أن تمنح بليسينيه الجائزة عن روايتيه المذكورتين. وهذا هو ما صرح به رئيس الأكاديمية مسيو روزني نفسه في خطابه يومئذ.(237/75)
المسرح والسينما
السينما والأدب
بقلم محمد علي ناصف
في عامي 1932، 33 كان الفلم البوليسي أكثر أنواع الأفلام شيوعاً وأوفرها غلة على أصحاب الشركات.
وفي عام 1934 اختص بمرتبة النجاح الأولى الفلم الموسيقي، وجاء دور الفلم التاريخي في الموسم التالي.
ثم كان الطابع المميز لإنتاج الموسم الماضي إقدام الشركات على إخراج الأعمال الأدبية الكبرى؛ فشهدنا (حلم منتصف ليلة صيف) و (روميو وجوليت) لشكسبير و (البعث) و (أنا كارنينا) لتولستوي و (دافيد كوبرفيلد) و (قصة مدينتين) لديكنز و (مونت كريستو) و (الفرسان الثلاثة) لاسكندر دوماس الأب، و (غادة الكاميليا) لدوماس الابن. و (جحيم دانتي) وغير ذلك من الأفلام التي لم تعرض للآن في بلادنا مثل (الجريمة والعقاب) لدستويفسكي و (كما تشتهي) لشكسبير.
إذا تتبع القارئ هذا البيان المجمل تبين حقيقة ناصعة: تلك أن السينما تتطور من حين لآخر، وأنها تأخذ في تطورها اتجاهاً ثقافياً يقرب إلينا معنى السينما وما تستطيع أن تحققه من آمال كبار.
لقد كان كثير من الأدباء والفنانين في أول عهود السينما يترفعون عن العمل من أجلها ويحسبونها سلعة ذات بهرج لا صلة لها بالفن، حتى صرح بعض كبار الكتاب ومنهم الكاتب الإنكليزي جورج برناردشو بأنهم لم يسمحوا بإخراج كتبهم على الشاشة. وقد كتب لويجي بيرانديللو مقالاً في إحدى المجلات الأدبية عام 1927 يحاول فيه الإقناع بفشل الفلم الناطق.
واليوم يتهافت كل كاتب وفنان على السينما، ولا نستثني أشدهم غلواً في المحافظة والاتزان. فبرنارد شو نفسه لا يشغله الآن شاغل أكثر من إعداد مسرحيتيه (جان دارك) و (بيجماليون) للسينما. فإذا علمت أنه قد أُخرج له قبل ذلك مؤلفان ولم يلقيا نجاحاً يذكر، إذا علمت ذلك، أدركت قوة إيمان الكاتب الساخر بما كان يسخر منه.(237/76)
ولقد يعجب القارئ كذلك لو علم أن برنارد شو قد ظهر في فلم طويل مع زميله جون درنكوتر وسير أوستن تشمبرلن لمناسبة حفلات تتويج ملك الإنجليز.
ولقد أذيع أخيراً أن مستر ونستن تشرشل قد كلفه ألكسندر كوردا بعمل سيناريو عن حياة لورنس المعروف باتصاله بقضية العرب.
ويُعد هـ. ج. ولز الكاتب الإنجليزي المبتدع في طليعة الكتاب اهتماماً بالسينما؛ فقد أخرج له ثلاثة كتب في العامين الأخيرين كتب هو بقلمه سيناريو أحدهما
ومثله نويل كوارد وإن كان هذا الأخير قد انفرد بتمثيل دور البطولة في فلم أمريكي لم يعرض إلى الآن كل من الفيلم وممثله نجاحاً كبيراً.
ولقد شاهدنا أخيراً الموسيقار ليو بولدستكوفسكي وأوركستراه الشهير في أحد الأفلام، كما أن شركات السينما لا تدع جهداً في سبيل التعاقد مع كل فنان يصلح مادة للسينما. وقلما يظهر في عالم الفن كتاب أو مسرحية ناجحة دون أن تلقى اهتماماً من أحد الرواد. حتى لقد قيل إن إحدى الشركات راقها عنوان مسرحية فدفعت من أجل العنوان أربعة آلاف جنيه ولم تحفل بالموضوع.
ولا أنسى في هذا المجال الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول صاحب (توباز) الذي ألف شركة سينمائية لإخراج كتبه.
كل هذه أمثلة أسوقها للتدليل على أن السينما قد أخذت تمتزج بالأدب وتتصل به اتصالاً وثيقاً وإنها كانت متعة الجماهير، فهي كذلك متعة للخاصة لا يعدلها شئ.
والسؤال الذي قد يتردد هنا: (ما مصير المسرح الآن؟).
محمد علي ناصف(237/77)
العدد 238 - بتاريخ: 24 - 01 - 1938(/)
الزواج الملكي السعيد
في صباح الخميس العشرين من يناير كانت مصر كلها نطاقاً من الولاء والدعاء والبشر حول قصر القبة العامر!
في هذا اليوم الموموق، وفي هذا القصر المرموق، وضعت مصر المجيدة الخالدة تاجها الثاني على جبين ملكتها الطاهر!
في الساعة الحادية عشرة من ضحى هذا النهار الضاحك كان مولانا الفاروق يتم نعمة الله عليه بالزواج الموفق الباكر!
هل رأيت قبل اليوم أمة بأسرها تحتشد هازجة في مهرجان؟ هل سمعت في غير مصر ستة عشر مليوناً يهتفون بالحب لإنسان؟ هل علمت قبل فاروق أن اتفق مثل هذا الحب لسلطان؟
المدافع المبشرة تقصف في كل ثكنة، والموسيقى المطربة تعزف في كل ساحة، والنواقيس المجاملة تجلجل في كل كنيسة، والمذياع الجهير يرسل الأناشيد في كل جو، وهتاف الشعب المبتهج يهزج في كل نسيم، وتصفيق الجماهير المحتشدة يُدوي في كل شارع، وزغاريد العقائل والأوانس تنطلق من كل شرفة، وأدعية الترفئة والتهنئة ترتفع من كل قلب، وصوت الإمام المراغي ينبعث بالصيغة الشرعية من الحجرة الملكية رهيباً كأمر الله، جليلاً كصوت الرسول، فيربط بالدين قلباً بقلب، ويصل بالدعاء ملكاً برب، ويقرن في الدنيا تاجاً بتاج
فهل رأيت بعين الحلُم ما رأت عيناك في هذا القران؟
وهل سمعت بتاجين صاغهما الله من حب وإيمان؟
وهل أجتمع الدين والدنيا لغير فاروق في هذا الزمان؟
عهدنا بنشوة العرس تبسط قلبي العروسين؛ فإن زادت أبهجت قلوب أسرتين: فإن زادت أنعشت نفوس قرية
ولكن عرس الفاروق بِدْعٌ من الأعراس لم يسجل مثله التاريخ. وإلا فمتى وأين كان العرس الذي يشعر كل مواطن أنه عرسه، في بيته فرحه وفي نفسه مرحه وفي قلبه أنسه؟ لقد تبدلت الحياة غير الحياة في ثلاثة أيام على ضفاف النيل المقدس. فالجهود المسخرة لأكلاف العيش تقف، والعداوات المسعرة لمطامع النفس تبوخ، والأقلام المتسافهة على وجوه(238/1)
الصحف تكف، والقلوب المختلفة تأتلف على شعور واحد: هو أن وطنها مصر وملكها فاروق! فلا وساطة بين الملك وشعبه، ولا علاقة بين المرء وحزبه؛ كأنما أصبح الناس من وحدة الهوى أسرة في رقُعة أمة، وغدا الفاروق من شدة العطف أباً في عرش ملك!
قد يكون لعرس الفاروق أمثال تطاوله في الفخامة وتفاضله في السعة؛ ولكن مزيته الظاهرة أنه عرس قومي ساهم فيه كل امرئ بنبض من قلبه وفيض من جيبه. فلم يبق بلد في القطر، ولا أحد في الناس، لم يقدم إلى العريس الأعظم هدية فاخرة، أو تهنئة خالصة، أو دعوة مستجابة! وتسأل الملايين الوافدة من كل قرية، والأمواج الدافقة في كل طريق: أمصدر هذا البشر الذي يترقرق في جباهكم، ويتألق على شفاهكم، هو هذه الأَضواء الساطعة والزينات الرائعة والمباهج الخلابة؟ فيجيبونك إنما هو حب المليك الصالح وجد متنفسه في هذا الظرف السعيد فانقلب نشوة من نشوات السعادة يضيع في حمياها التدافع بالظهور، والتصادم بالصدور، والنوم على الأفاريز، والضلال في الشوارع. وهم في هذا المزدَحم الضاغط يتجهون إلى القصر ولا يذكرون غير الملك، كما يتجه الحجيج الحاشد إلى البيت ولا يذكر غير الله!
مولاي يا زين الشباب! لَنِعْمَ المثل العالي لناشئة الجيل أنت! إن في برك بشعبك، وفي إيمانك بربك، وفي إحصانك في بكور السن، وفي إقدامك على عزم الأمور، وفي ثباتك على تقلب الحوادث، لدستوراً من الخلق العظيم تصح عليه القلوب المريضة، وتنتعش به الآمال المهيضة، وتشتد به العزائم الرخوة، ويزكو عليه ثرى الوادي الحبيب الخصيب فيعود فينبت تلك الأدواح الشم التي فاء إلى ظلها وأكلها العالمَ القديم فاغتذى واسترْفه
مولاي يا أمير المؤمنين! لنعم الإمام العادل لدولة الإسلام أنت! إن في رفعك منار العدل، وفي إيثارك جانب الحق، وفي إعزازك كلمة الدين، وفي تجديدك ما رث من أسباب الخلق، وفي إحيائك ما عفا من سنن السلف، وفي أخذك نفسك الملكية الشابة بسْمت الرسالة وسيرة الإمامة، لومضةً من ومضات الروح الإلهي تبعث الحياة في هذا الهيكل العظيم الرميم فتعيده قوياً كما نشأ، عظيماً كما شب، حرياً بأن يبسط على الخافقين جناحه، ويستأنف في المشرقين دعوته وإصلاحه
مولاي يا وريث الفراعين! لنعم الملك الصالح لمصر العريقة أنت! إن في جمعك إلى(238/2)
مزاياك الخاصة رأيَ البعقري محمد علي في العُدة والقوة، وحب العزيز إسماعيل للحضارة والفن، وميلَ العظيم فؤاد إلى الثقافة والعلم، لضماناً لمصر الناهضة أن تساهم في بناء المدينة من جديد، وأن تصل حاضرها الطريف بماضيها التليد!
نضَّر اللهُ بالملكة السعيدة عهدك، وثَبَّتَ الله على المملكة الرشيدة مجدك، وأدام الله على الأمة المجيدة سعدك، فإنك يا مولاي لدولتك ورعيتك ومِلّتك نعم المولى ونعم النصير
أحمد حسن الزيات(238/3)
زواج ملكي
للأستاذ عباس محمود العقاد
لورنس هوسمان أديب شاعر رسام إنجليزي أشتهر بمسرحياته الصغيرة التي كتبها عن حياة الملكة فكتوريا ونشرها أخيراً (نادي اليمين) الذي يعارض جماعة الشمال من أصحاب المبادئ الاشتراكية والدعوات الانقلابية. وإحدى هذه المسرحيات مقصورة على المناقشة بين اللورد ملبورن والملكة فكتوريا عن مسألة الزواج الملكي وقد دار فيها بينهما هذا الحوار:
فكتوريا - إنني لم أفكر في أحد ما على التخصيص. . . أعني أنني لم أتخذ بعد قراراً حاسماً
ملبورن - يفرج عني أن أسمع هذا يا مولاتي، وأفهم منه إذن أن صاحبة الجلالة لا تزال طليقة الرأي. . .
فكتوريا - طليقة الرأي؟ نعم. نعم، لاشك أنني صاحبة الخيار في الأمر يا لورد ملبورن
ملبورن - وكيف لا؟ هذا ما أعنيه طبعاً ولا أشير بغيره لحظة
فكتوريا - لكن هناك أموراً قد عقدت النية عليها وبتتُّ فيها
ملبورن - مثل ماذا؟
فكتوريا - أن يكون زواجي يا لورد ملبورن زواج عاطفة
ملبورن - ذلك ما يستطاع تدبيره فيما أعتقد يا مولاتي بغير مشقة
فكتوريا - أعني أنني أريد إنساناً أجل خلائقه، وأستطيع أن أحبه وأن أرتفع إليه
ملبورن - ترتفعين إليه؟!
فكتوريا - نعم يا لورد ملبورن. وربما استغربت ما تسمع؛ إلا أنني أريد زوجاً أتطلع إليه حقاً بعد أن تكمل له الدربة على المرتبة التي سيشغلها
ملبورن - آه. هو كذلك، هو كذلك. إنني واثق من إمكان وجوده. وإذ كانت صاحبة الجلال قد أعربت عن طلاقة رأيها في هذا الصدد فعندي الساعة بيان بالأسماء المحتملة
فكتوريا - آه. لورد ملبورن، ما أعجب هذا! كم عددها؟
ملبورن - حسناً مولاتي. هم في الوقت الحاضر خمسة وحسب، ولكننا ننتظر آخرين. . .(238/4)
فكتوريا - تنتظرون؟!
ملبورن - أريد أن أقول إننا نستخبر خبرهم
فكتوريا - وكيف تستخبرون؟
ملبورن - عن كل شيء يا مولاتي، وهو واجبنا المفروض علينا، فليس من شأني أن أعرض على صاحبة الجلالة أحداً يتجه إليه اعتراض على وجه من الوجوه
فكتوريا - وقد وجدت منهم خمسة حتى الساعة. . . ما أبرعك يا لورد ملبورن!
ملبورن - تحدثت يا مولاتي عن (المحتملين). . . ولا يزال الاستخبار جارياً عن الآخرين، وأنا قائم بالبحث الآن، ولعله لا يبقى منهم بعد مراجعة صاحبة الجلالة غير واحد
فكتوريا - أود أن ألقي نظرة على بيانك يا لورد ملبورن
ملبورن - إن أذنت مولاتي فبعد تمهيد وجيز عن الملاحظات التي تهديني في بحثي أعرض بياني لنظر مولاتي، ولموافقتها فيما أرجو
فكتوريا - لا يسعني أن أوافق على خمسة!
ملبورن - على سبيل المراجعة الأولى لم لا يا مولاتي؟ من خمسة يجرون تختارين السابق
فكتوريا - يجوز ألا أختار أحداً إلى زمن طويل، ولكن على كل حال هات ما عندك. إنني مصغية ومهتمة
ملبورن - إن المزايا التي يمتاز بها قرين يليق بصاحبة الجلالة هي ولا ريب مزايا فريدة أو مزايا خاصة. ولعلي لا أعدو وصفها الصحيح إن قلت غريبة. فمن الواجب أولاً أن يكون من سلالة ملكية، ومع هذا يجب ألا يكون وارثاً مباشراً أو مرجحاً لعرش من عروش الملك أو الإمارة
فكتوريا - ولم لا يا لورد ملبورن؟
ملبورن - لأن وراثته ربما جرت يا مولاتي إلى بعض المشكلات السياسية. إن تاج هانوفر قد تجاوزك إلى غيرك لأن قانون الوراثة يقصر ولاية الملك على الذكور، وتلك مناسبة سعيدة فيما أحسب، فنحن لا نحب مزيداً من تيجان هانوفر، وإن البلاد لأحسن حالاً بغير تلك التيجان
ولنعد إلى المزايا المطلوبة يا مولاتي. فالقرين اللائق بصاحبة الجلالة ينبغي فوق عراقته(238/5)
الملكية وبعده عن وراثة العرش أن يكون أميراً من بيت لا هو بالصغير المفرط في الصغر ولا هو بالخطير المفرط في العظم. إذ لا مناص لنا من اجتناب المحالفات المعقدة. وينبغي بعد هذا أن يدين بالعقيدة البروتستانتية
فكتوريا - أجل. أجل. فليس في مقدوري أن أتزوج برجل (بابوي)
ملبورن - نعم يا مولاتي ليس في مقدورك. إن قانون الولاية يمنع ذلك. ثم ينبغي أيضاً أن يكون شاباً كي يصبح قرين حياة لصاحبة الجلالة؛ وينبغي أن يعرف أو يتعلم اللغة الإنجليزية، وأن يكون صالحاً لاقتباس العادات والتقاليد القومية. وإن هذه المزية الأخيرة لأصعبها جميعاً لما هو معروف من تحرج الإنجليز مع الأجانب
فكتوريا - لكني يا لورد أحسب ما تقول سيجعل الأمر مستحيلاً
ملبورن - حاشا يا مولاتي. غاية ما هنالك أنه سيضيق نطاق الاختيار. ولابد من العثور على أحد قادر بعد الاصطباغ بالصيغة الإنجليزية أن يقتبس عاداتها ومشاربها. وقد حدث هذا فإن أبن عمك الأمير جورج أوف كامبردج مثلاً يتخذ على عجب صورة الإنجليزي المطبوع، ولا تمضي سنوات خمس أو نحو ذلك حتى يتعود أن يجفو الأجانب كما نجفوهم
فكتوريا - لكن أتراك تجفو الأجانب يا لورد ملبورن؟
ملبورن - كلا يا مولاتي! كلا! وإنما أصطنع جفاءهم بعض الأحايين لأسباب سياسية
فكتوريا - حسن. وماذا بعد ما تقدم؟
ملبورن - يجمل به فوق ما تقدم يا مولاتي أن يملك بعض الثروة وإن لم تكن عظيمة؛ فإن البرلمان سوف يتكفل بما هو لازم؛ ويجمل به أن يكون صاحب سمت لائق بمقامه، وأن يكون على جانب من العقل لكن على غير جانب عظيم منه!!! إذ لا يحق له أن يتعرض لشؤون السياسة
فكتوريا - هذا حق، ولن أسمح له بالتعرض لتلك الشؤون
ملبورن - ثم ينبغي أن يكون صحيح الجسم سليم التكوين، منحدراً من (أصل أصيل). . . وهذا أصعب ما عانيناه في المسألة إذ كان (الأصل الأصيل) في الأسر الأوربية المالكة من أندر الصفات
فكتوريا - وضح من فضلك، فإني لا أكاد أفهم. ويخيل إلى أن كلمة (الأصل الأصيل)(238/6)
تنصرف إلى الماشية
ملبورن - هي كذلك يا مولاتي في بعض معانيها؛ بيد أنها تعني أيضاً ما ينحدر من الوالد إلى الوالد. ونحن نجدها في الوصية الثانية حيث تنبئنا أن خطايا الآباء تنصب على الأبناء؛ وكذلك الفضائل. ففي بعض السلالات الملكية قد امتزجت الخطايا والفضائل حتى لنخشى المزيد من امتزاجها والخلط بينها. ولهذا كان القران بين الأمراء الأقارب غير محمود المشورة
فكتوريا - أوه!
ملبورن - أعني على الجملة لا على التقصي. وفيما يرجع إلى بعض الفروع من شجرة أسرتكم يا مولاتي ينطبق هذا لسوء الحظ أشد انطباق. ومن ثم لم أضمن بياني أسمي أثنين من أبناء عمومتك على الرغم من ذكرهما لي، وإنهما لولا ذلك لكانا من أصلح المرشحين لتلك المكانة، وهما صاحبا السمو الأمير إرنست والأمير ألبرت من ساكس كوبرج جوثا
فكتوريا - ومع هذا كانا يلوحان لي على أتم صحة وقوة عندما رأيتهما منذ سنتين
ملبورن - في الظاهر يا مولاتي، والظواهر طالما تخدع. والمسألة بعدُ دقيقة، بل مؤلمة، غير أني لم أضمن أسميهما - اتباعاً لما عندي من الأنباء الطبية - في البيان الذي أتشرف الآن بعرضه على صحابة الجلالة (وينهض ويقدم إليها البيان فتعبره بلمحة واحدة)
فكتوريا - أوه. ولكن هل تراني أعرف أحداً منهم؟
ملبورن - جلالتك تعرفين أحدهم حق المعرفة
فكتوريا - أوه. لا أحسب. أتعني الأمير جورج؟ إنه أبن عمي أيضاً
ملبورن - في فرع آخر يا مولاتي، وليس على هذا الفرع اعتراض من ذاك القبيل
فكتوريا - أوه، لكنني لا أستطيع أن أقبل أبن عمي جورج. . . إنه. . . إنه
ملبورن - ليس من يريد أن يمس حق جلالتك في اختيارك. . . هناك غيره
فكتوريا - إلا أنني كما قلت لا أعرف أحداً منهم
ملبورن - يسهل إصلاح ذلك يا مولاتي. تدعينهم إلى البلاط واحداً واحداً ولا تقولين شيئاً، ثم تصرفينهم ولا تقولين شيئاً. أو تقولين ما بدا لك، ويبقى، أو يعود كرة أخرى
فكتوريا - لكنني أنا التي أختار. أليس كذلك؟(238/7)
ملبورن - نعم أنت التي تختارين يا صاحبة الجلالة، ولا ضرورة تلجئك إلى الزواج إن أبيت
فكتوريا - أوه، لكن لابد من الزواج. هكذا كانت أمي تقول في كل حين
ملبورن - وهكذا سمعت. على أن مسألة لها مثل هذه الخطورة قلما يسمح فيها لولاء البنوة أن يؤثر في اختيار صاحب الجلالة. وإنما أقول يا مولاتي إنه على فرض أن هناك محاولة من محاولات التأثير على اختيارك في وجهة من الوجهات فالواجب يقضي على لما قدمت من أسباب أن أعارض
فكتوريا - لورد ملبورن، إنني لن أقبل معارضة ما في أمر من الأمور التي على هذا النحو. إنها لن تؤثر في رأيي لحظة
ملبورن - لا؟
فكتوريا - علي التحقيق، وربما أثرت على النقيض في وجهة أخرى
ملبورن - فهمت يا مولاتي، وأنا أشاطرك شعورك، ولا أقول كلمة أخرى، وإنما أكل المسألة إلى حسن رأيك، وإلى ضميرك
فكتوريا - أوه. ما أكرمك معي يا لورد ملبورن! وكم ذا أتعلم منك!
ملبورن - بل كم ذا أتعلم أنا من مولاتي. لقد خدمت ملكين أسن من صاحبة الجلالة، إلا أنني لم أخدم أحداً يصغي إلى المشورة بما تبدين من حكمة وحسن إصغاء
فكتوريا - (ناهضة) أستودعك إذن يا لورد ملبورن. أتبقي معك البيان أم تتركه هنا؟
ملبورن - بأذنك يا مولاتي. اذكري ما قلته أو تفضلي بنسيانه. . . فالاختيار لك وحدك وليس لأحد غيرك
فكتوريا - نعم، ولكنك لم تُرِني بعدُ صورة من الصور
ملبورن - صوراً يا مولاتي، ولماذا الصور؟
فكتوريا - لا يسعني أن أختار أحداً حتى أرى ملامح وجهه، فليس هذا بالإنصاف لهم ولا هو بالإنصاف لي
ملبورن - تستطيعين أن تأمري بدعوتهم.
فكتوريا - كلا! لا أنوي أن أدعو أحداً إن لم يعجبني مرآه(238/8)
ملبورن - إن الصور لخادعة في بعض الأحيان يا مولاتي
فكتوريا - هذا صحيح. وقد رأيت منذ أيام صورة لأبن عمي الأمير جورج أوف كمبردج؛ فإذا به يلوح فيها وهو جميل
ملبورن - أستطيع أن أحصل على صورهم جميعاً يا مولاتي حسب مشيئتك، ولكن المصورين في البلاط - مثلهم كمثل رؤساء الوزارات - يعرفون واجباتهم، ولا يعملون إلا ما هو منظور منهم أن يعملوه، فإن لم يقدروا على عمله فعليهم أن يذهبوا
فكتوريا - (وهي ذاهبة إلى المائدة). . . هذه صورة أرسلت إلى والدتي منذ أيام: صورة ابن عمي الأمير ألبرت
ملبورن - (وقد تبعها إلى المائدة). . . أوه. . آه. نعم
فكتوريا - لا شك أنه نشأ جميلاً. ليس في استطاعة مصور بلاط أن يتخيل صورة على هذا المثال
ملبورن - من يدري يا مولاتي؟ من يدري؟ إن الخيال ليجمح. . . فأما وقد استغنينا عن بيان الأسماء فهل أمضي الآن في جمع الصور لصاحبة الجلالة؟
فكتوريا - أوه. كلا! يا لورد ملبورن. لم أكن جادة حين ذكرت هذا
ملبورن - ولا أنا يا مولاتي. إلا أنني أتوسل إلى صاحبة الجلالة أن تفكر في هذا الأمر جادة. . . إن مصير هذه البلاد لفي هذه اليد الصغيرة (وينحني على يد الملكة مقبلاً)
هذا الحوار طريف شائق مفيد من جوانب كثيرة، لأنه يرينا نمطاً من أدب الحديث بين الملوك والوزراء في بلاط الإنجليز، ويرينا نمطاً من الشروط السياسية التي تلاحظ في زواج الملوك الأوربيين والملكات الأوربيات، ويرينا نمطاً من اللياقة التي يتذرع بها الساسة هناك إلى تصريف المسائل الدقيقة. ويحسن الإطلاع عليه، والأمة المصرية تبتهج بزفاف المليك الفاروق حفظه الله وأدام ايامه، ليتم الإطلاع على الفارق بين تقاليدنا وتقاليد الغربيين في هذه الشؤون؛ فقد فرض العرف القديم وفرضت المواقف السياسية قيوداً على ملوك الغرب لا محل لها من العادات الإسلامية والشرقية. ومن ثم كان زواج الملوك المصريين أقرب إلى الديمقراطية وإلى الحرية وإلى المعاني الإنسانية مما يكون بين الأمم الغربية، وهي فيما توحيه الظواهر مهد الحرية في مسائل الزواج.(238/9)
عباس محمود العقاد(238/10)
الملك الشاب رمز الأماني الجديدة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
من أعجب الحقائق التي تقوم عليها الحياة في الجماعات الإنسانية أن جملة آرائها وعقائدها وغاياتها، هي آراء موتاها وعقائدهم وغاياتهم، وكل أمة تعرف ضرباً من تحكم الموتى في حياة الأحياء. ومن أمثلة ذلك: الوصية التي يتركها الذين يرحلون عن هذا العالم الفاني، ويخلفون بها ما لهم لهذا أو ذاك، بلا شرط أو بشرط يحتمون على الوارث التزامه. ومن أمثلته عندنا الوقف الذي تبقى شروطه نافذة جيلاً بعد جيل، ولا يكاد أحد يملك تغييراً لها، أو يعرف له حيلة فيها إلا النزول على حكمها. وكل من يعرف شيئاً من التاريخ لا يسعه إلا أن يفطن إلى سيطرة الماضي على الحاضر، وإلى أن عقول الذاهبين هي التي تسير الأحياء، أو تقيدهم كما يقيد الواقف ورثته ويحدّ من تصرفهم فيما يخلّف لهم. وأضرب مثلاً قريباً لهذا ما نزال نقرأه في الصحف ونسمعه من أفواه الناس، من قولهم: (مبادئ سعد). وقد أنتقل (سعد) إلى رحمة ربه ونفض يده من شئونها، وخلا قلبه من همومها وآمالها، ولكن يده لا تنفك تمتد من ظلمة القبر، وتدير الرؤوس إلى هنا وههنا. وليس من همي في هذه الكلمة أن أستقصي كل مظاهر هذه الحقيقة الثابتة، فان حسبي أيسر الإشارة إليها، وفي مقدور كل قارئ أن يتوسع كما يشاء في رد حاضر الجماعة إلى ماضيها القريب والبعيد. وكل ما أريد أن أقوله هو أن كل ما تنطوي عليه الجماعة من آراء سياسية أو اجتماعية، وما لها من عادات وخصائص، له تاريخ طويل، وان كل جيل يجيء يتلقى هذا الميراث عن سلفه، وأن التغيير الذي يقع لا يكون في العادة إلا بطيئاً. وكثيراً ما يخفي أمره حتى على الذين يكونون أداة له، ولكنه يتفق أحياناً أن يقع للجماعة حادث أو حوادث ترج كيانها وتزلزل قواعد حياتها وتفكك الإطار الذي يحيط بصورتها الثابتة، وتبث صلتها - إلى حد ما - بماضيها الطويل، وتغريها بالتماس طابع آخر غير الذي درجت عليه، وتدفعها في اتجاه جديد، بروح جديدة، وخصائص لا تطابق كل المطابقة ما كان مألوفاً ومعهوداً فيها.
وقد حدث هذا في مصر مرتين فيما أعلم، فأما في المرة الأولى فكانت الرجة التي أحدثت الانقلاب السياسي والاجتماعي سببها الثورة التي قامت في سبيل الاستقلال، وهو انقلاب بعيد المدى ما على من يشك فيه إلا أن يرجع البصر إلى ما كانت عليه حياتنا معشر(238/11)
المصريين قبل هذه الثورة، وما صارت إليه بعدها؛ وقد تناول كل وجه من وجوه حياتنا السياسية والاجتماعية، ولم يسلم منه شيء. وقد كان من الممكن أن يقع هذا التحول بغير حاجة إلى زلزلة الثورة ورجاتها العنيفة، ولكنه كان خليقاً أن يكون بطيئاً جداً، وغير محسوس، وعلى أجيال طويلة؛ غير أن الثورة القومية عجلت به، من حيث نشعر ولا نشعر، فأصبحنا فإذا نحن أمة أخرى، لها في الحياة آراء جديدة، وعزمات لم تكن معهودة، وآمال وهموم ومساع لا نكران أنها كانت تدور في نفوس البعض، ولكن السواد الأعظم كان ذاهلاً عنها، وقد لا تكون هذه الثورة التي انطلقت من عقالها في سنة 1919 سوى موجة صغيرة من ذلك البحر الأعظم الذي أزخرت الحرب تياراته ما فتئنا نرى فعلها وأثرها في أمم أخرى كثيرة غيرنا، ولكن هذه الموجة الصغيرة كانت حسبنا، وقد جاءت بالاستقلال آخر الأمر، ولكنها جاءت بشيء اخر، فكانت ختام عهد في حياة الأمة، وبداية عهد غيره له طابع مختلف جداً.
وهنا موضع الكلام في المرة الثانية، وبها يتم التحول الذي بدأته الثورة.
كانت قيادة الأمة في الثورة التي استعرت في سنة 1919 للشيوخ، وكان الزمام في أيديهم، وكان العبء السياسي في كواهلهم، وكانوا ولاشك يمثلون آراء البلاد واتجاه النفوس فيها، وقد فازوا لأمتهم بما كانوا ينشدون لها، والذي جادوا به هو الذي قدروا عليه، ولو كان في الوسع مزيد لزادوا، ولكنهم تولوا أمراً لا يسعهم فيه اكثر مما وقفوا إليه. وقد أصبحنا بذلك أمة مستقلة، ولكنا أصبحنا بهذا أيضاً أمة محتاجة إلى مثل عليا جديدة، ومساع غير تلك التي بلغتنا هذه القاصية - قاصية الاستقلال - وقد كنا خلقاء أن نشعر بالحيرة والارتباك لو لم يقع ذلك الحادث الجديد الضخم في حياتنا، وهو ارتقاء الملك الشاب فاروق الأول عرش البلاد. ذلك أن شيوخ الأمة لا يستطيعون أن يمثلوا اكثر مما مثلوا، ولا يسعهم في العهد الجديد أن يكونوا رمز الآمال الجديدة التي أنشأها تغير كياننا السياسي
لقد صرنا أمة حديثة، كأنما أفاض عليها الاستقلال ثوباً من الشباب النضير، فهي أحس بفيض الحياة وقوتها منها بما خلعت ونضت من الهلاهيل التي كان الاستعباد يكسوها، وما صدعت من القيود العارقة التي كانت تقعد بها عن السعي وتلزمها سكون الوهن وعجز الشيخوخة. والأمم في مثل هذه الحالة يقل صبرها على حكم الأيدي التي تمتد من وراء(238/12)
القيود، ويكون همها ما أمامها من حياة لا ما خلعته عنها من أكفان المذلة والهوان، ويكون مطلبها رمزاً تتعلق به آمالها وترحب به آفاقها
وقد قيض الله لها ذلك الرمز، فولى أمورها ملكاً غض الشباب، شامت الخير كله من لمحاته، وآنست الرشد أجمعه من حركاته وسكناته، فافتتنت به، ولها العذر واضحاً، والحق صريحاً فما يمثل آمال الشباب إلا الشباب، وهذا هو بعض السر في السحر الذي لملكنا: إنه شاب فياض الحيوية زاخر الآمال عظيم لثقة بأمته ومستقبلها، شديد الإيمان بالله وبالمجد الذي كتبه تعالى لها، وإنه قام على العرش قبل أن تدرك الحيرة شعور الشباب في الأمة؛ وقد كان المغفور له الملك فؤاد يدرك ذلك، ولهذا أعده للعهد الجديد خير إعداد
ومن فضل الله على الأمة أنه ملك سمح عظيم مروءة النفس، ومتواضع كريم، ورقيق حليم، ووثاب بعيد مرامي الهمة، وصادق العزم صارم الإرادة، وعالي المنزع شديد الطموح، يحب الأمة ويثق بها فإذا كان قد سحر الأمة فلا عجب. بل العجب العاجب ألا يسحرها.
ومن هنا فرحة الأمة به، وبكل ما يفرحه
وأمر آخر يجعل الأمة أعمق حباً له، وأشد تعلقاً به، ذلك أنه ليس مديناً بعرشه إلا لله جل جلاله، فقد ورث عرشه بحقه الصريح فيه، فهو لا يمكن أن يشعر بغير فضل الله عليه، وهو لهذا أول ملك حر في مطلع عهد الحرية، والأمة تدرك هذا حق الإدراك، ولهذا يفيض قلبها بالحنو والحب كلما رأت مظاهر توجه الصادق إلى الله تعالى
ويشاء الله أن يجعله موفقاً في كل عمل، فقد أسر قلوب الشعب يوم خطب لنفسه من بنات رعاياه، وقد صارت اليوم ملكتنا بسنة الله الرضية. ولو أنها كانت بنت أعرق الملوك لما كانت احب إلى هذه الأمة، ولا أندى على قلوبها، ولا أجل في عيونها، ولا أسمى فيما تحس نفوسها
لقد خلط الملك نفسه بنفوس أمته، فهي تشعر أنها منه وإليه. وتحس أنه ملكها بأدق ما تفيده هذه الإضافة من معنى
بارك الله في الملكين، وهنيئاً لهما وللأمة
إبراهيم عبد القادر المازني(238/13)
مهرجان المليك
للأستاذ محمود الخفيف
بَكَرَت تُفْصِحُ عن وجدانها ... أُمَّةٌ حُبُّكَ من إيمانها
طَرِبَ اللْيلُ على أوضاحها ... وانْجَلَى الصُّبْحُ على ألحانها
وصحا الشرقُ على موكِبِهَا ... وسِمَاتِ العيد في أوطانها
شَاعَتِ الرَّوعَةُ في أفراحها ... وتَجَلَّى الصِّدْقُ في بُرْهانها
أعْلَنَتْ بْعضَ الذي تُضْمِرُهُ ... من مَعَانٍ هن في إمكانها
أبَداً لم تَطْلُع الشَّمْسُ على ... مِثلِ ما تُبدِيه في إعلانها
مَرَحٌ في كلِّ نَادٍ ومُنىً ... تعجز الألسُنُ عن تبيانها
وأحاديث كأنفاسِ الربى ... تَنْهَلُ الأنفسُ من ريحانها
وأغاريدُ كما شاء الهوى ... رَنَّةُ الإخلاص في تحنانها
وَقْعُها في القَلبِ أحلى نَغْمَةً ... من هتاف الورْق في أفنانها
اسُمكَ الميموُنُ في مَطلعِها ... والولاَءُ الحقُّ من أوزانها
مِهْرْجَانُ العُرْسِ لم يسلف به ... زمَنٌ في الغُرِّ من أزْمَانها
لا ولا الشَّرْقُ رأت آفاقُهُ ... مِثلَ هذا السحرِ في أركانها
عَزَّ في الهندِ على أقيالها ... وعَزِيزُ الدُّرِّ في تيجانها
وعلى هرون في أفراحه ... وليالي الأنس من بغَدانها
وأنو شروان في دولَته ... والملوك الصِّيدِ من ساسانها
مِهْرَجَانٌ تشخَصُ الدنيا له ... ومعاني البَهْرِ في أجفانها
طاوَلَ الشمسَ سناءً وسنىً ... وارتدى ما جَلَّ عن عِقْيانها
لَبِسَ الوُدَّ على زينتِهِ ... ومعاني الحب في رَيعْاَنها
زهَرَاتٌ لم تُقَلِّبْها يَدٌ ... أين غالي الدُّرِّ من أثمانها
لم تَشُبْهُ خُدَعُ الدنيا ولا ... سَطوَة الزائِف من سلطانها
صَفْحَةُ الوادي عليها رَوْنَقٌ ... يَمْلِكُ الحُسنَ على شُطْئانها
أخذتْ زُخْرُفَها وازَّيّنّتْ ... بِبَديعِ الوَشيِ من ألوانِها(238/15)
وانْحَنى النَّهْرُ عَلَيْهَا مُعْجَباً ... يَغْبِطُ الفُلْكَ عَلَى رُبَّانها
هَزَّتِ الواديَ من أركانه ... فَرْحَةٌ وأتَتْهُ في إبَّانِها
ها هنا وَرْدٌ، وَرَيْحَانٌ هنا ... ورموزٌ زِيدَ في إتقانها
وطُيُوفٌ حُوَّمٌ خافِقَةٌ ... أرسلتها الخُلْدُ عن ولدانها
وجُمُوعٌ تلتقي مَزهُوَّةً ... بضُروب اللَّهْوِ في ميدانها
فَرْحَةٌ في الكوخ والقصر مَعاً ... في قرى مِصْرَ وفي بلدانها
في صَعِيدِ الأرض، في أبْطَحِها ... في ربوع النيل من سودانها
يَلْتَقي الناسُ عليها عُصْبَةً ... شيبُها والغُرُّ من شبانها
زُمْرَةُ المحرَاب من أشياخها ... ورُعاةُ الدَّيْرِ من رهُبانها
صاحِبُ الجاه على تُرْبَتِها ... وَمُجيلُ الفَأس في غيطانها
رّدَّها في العَيْنِ أبهى مَنْظراً ... قُرَّةُ الأعْيُنِ من غِلمانها
أقْبَلَت والحسنُ في غُرَّتها ... تُبْهجُ النظَّارَ من ضِيفَانها
دَلَّهَتْ مِصرَ وفاضَتْ فَسَرَتْ ... هِزَّةٌ منها إلى جيرانها
مَلِكَ النيل تَلاقَتْ أمّةٌ ... أفْصَحَتْ بالبِشْرِ عن شُكْرَانها
شَكَرَت بَعْضَ الذي أسْدَيتهُ ... فَتَهَانيها صدى عِرْفانها
لكَ في الخير يدٌ هَطَّالَةٌ ... لا تَنِي تُغْدِقُ من إحسانها
وسَجَايَا قد تَفَرَّدْتَ بها ... أَجْمَع الشَّعْبُ على استحسانها
قد حَمَلْتَ العِبَْء فيها يافِعاً ... فَشَأَوْتَ الشمْسَ في مِيزانِها
إن دجا الرأيُ عليها والتوى ... فَسَنا رأُيكَ من فُرْقانها
عَشِقَتْ فِيكَ شَباَباً ناضراً ... دبَّ مثْلَ الروح في جثمانها
تُقبلُ الدنيا فلا تُزْهى بها ... وتُطيع اللهَ في عصيانها
زدْت بالتقوى جَلاَلاً وهُدىً ... وأوَتْ مِنكَ إلى عُنْوانها
أنْبَتَ المجدُ بِمصْرٍ دَوحَةً ... أنت أزكى الشُمِّ من عيدانها
يا مليكا باهت الدنيا به ... أمةٌ تُغُليكَ عن رُعْيانها
أنت يا فاروق في مقلتها ... وهْيَ كالمقْلَةٍ من إنسانها(238/16)
الخفيف(238/17)
من الأعراس الإسلامية الشهيرة
زواج قطر الندى الطولونية بالخليفة المعتضد بالله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدولة الطولونية أولى الدول الإسلامية المستقلة بمصر وكانت أقصرها حياة، ولكنها لم تكن أقلها قوة وبهاء، فهي لم تعمر سوى سبعة وثلاثين عاماً (254 - 292)، ولكنها سطعت خلال حياتها القصيرة كما تسطع الدول العظيمة. ثم انهارت فجأة كأنها صرح أسس على الرمال، ذلك لأنها تدين بوجودها وقوتها لمؤسسها العظيم أحمد بن طولون؛ فلما توفي احمد في سنة 270هـ، وخلفه ولده خُمارويه، لبثت الدولة مدى حين تحتفظ بلونها الزاهر؛ ولكن عوامل الانحلال السريع كانت تعمل لتقويض دعائمها التي لم تكن قد رسخت بعد. وكان خمارويه أميراً مترفاً ينثر حوله ما استطاع من ألوان الفخامة والبهاء، فعنى بتوسيع القطائع وتجميلها عناية فائقة، وزاد في قصر أبيه زيادات كبيرة، وأنشأ له قصراً خاصاً بذل فيه من صنوف البهاء والبذخ آيات عجيبة، وجعل فيه بركة من الزئبق الخالص، وديواناً ملوكياً فخماً عليه قبة عظيمة، وداراً للسباع، ومسارح للطيور وغيرها. وكانت هذه الألوان الزاهرة تسبغ على الدولة الطولونية مظهراً بارزاً من القوة والعظمة، ولكن النضال المستمر الذي اضطرت إلى خوضه كان يستغرق قواها ومواردها، ويعرضها لتلك الزعازع والمفاجآت التي تنذر الدول الناشئة بالفناء الكامل
وكانت الدولة الطولونية تستظل منذ قيامها بلواء الخلافة الإسمي؛ ولم يشأ مؤسسها النابه أن يخرج على هذه السلطة الروحية التي يستمد منها شرعية حكمه واستقلاله. وحذا ولده خمارويه حذوه، فدعا للمعتمد العباسي، ثم دعا من بعده للمعتضد. على أن هذا الاستظلال الإسمي بلواء الخلافة لم يحل دون تعرض الدولة الطولونية لهجمات عمال الخلافة وأوليائها الآخرين. واضطر خمارويه، كما اضطر أبوه من قبل أن يخوض غمار معارك دفاعية متصلة؛ ولما ولي المعتضد الخلافة في أواخر سنة 279هـ، بعث إليه خمارويه بالهدايا الملوكية المعتادة، فبعث إليه المعتضد بكتاب الولاية والخلع التقليدية، وانتظمت العلائق الودية بين الخلافة والدولة المصرية، بشروط وعهود معينة. ورأى خمارويه من جهة أخرى أن يوثق هذه العلائق بمشروع معاهدة اقترحه على الخليفة، وهو أن يزوج(238/18)
ابنته أسماء الملقبة بقطر الندى لولده وولي عهده المكتفي بالله؛ فوافقه المعتضد على هذا المشروع على أن يتزوج هو قطر الندى. واغتبط خمارويه بعقد هذه الصلة الوثيقة بينه وبين الخلافة، وبعث الخليفة مندوبه وصديقه الحسن بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الخصاص إلى مصر ليتولى إحضار العروس إلى بغداد، وليشرف من قبله على أهبات القران الخلافي.
وكان زواج المعتضد بقطر الندى من أعظم الحوادث الاجتماعية في التاريخ الإسلامي، وكانت هذه الأميرة المصرية النابهة من أجمل نساء عصرها وأكملهن في العقل والخلال؛ وكانت وقت خطبتها صبية في نحو الخامسة عشرة؛ وكان أبوها خمارويه يعبدها حباً؛ فلما وقع الاتفاق على زواجها من المعتضد أحيط عقدها وزفافها بأورع ما يتصور الإنسان من مظاهر الفخامة والبهاء. وكان صداقها ألف ألف درهم، ولكن خمارويه أنفق في تجهيزها أضعاف أضعاف هذا القدر. وكان جهازها مضرب الأمثال في البذخ الطائل الذي تكاد تحسبه من مناظر ألف ليلة وليلة. وقد نقلت إلينا الرواية بعض تفاصيل مدهشة عن جهاز قطر الندى وزفافها؛ فذكرت لنا أن خمارويه قدم لابنته فيما قدم دكة أربع قطع من ذهب وعليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا تقدر، ومائة هون من ذهب؛ ومن الحلي والثياب روائع يعجز عنها الوصف، حتى قيل إن من بينها ألف تكة من الحرير قيمة الواحدة منها عشرة دنانير؛ وهي واقعة ينوه بها المقريزي ويتخذها دليلاً على بذخ هذا العصر الطائل، ويقول لنا إن أسواق القاهرة في عصره أعني في أوائل القرن التاسع كانت تعجز عن أن تقدم تكة واحدة بهذه القيمة؛ ويقول لنا القضاعي إن ابن الخصاص، وقد تولى إعداد الجهاز والإشراف على النفقة تحقيقاً لرغبة خمارويه، حينما قدم إليه ثبت النفقة ذكر له أنه لم يبق منها للتسوية سوى (كسر) قدره أربعمائة ألف دينار، وإذن فما بالك بالنفقة كلها إذا كان هذا كسراً منها فقط!
وفي أواخر سنة 281هـ، تم تجهيز قطر الندى، واتخذت الأهبة لإرسالها إلى الخليفة. وهنا أيضاً يحب أن نرجع الذهن إلى قصص ألف ليلة وليلة، لكي نتصور ما أحيطت به رحلتها من مصر إلى بغداد من مظاهر النعماء والفخامة والترف. فقد شاء خمارويه أن يجعل لابنته من تلك الرحلة الشاقة نزهة بديعة، فأمر أن يقام على طول الطريق من مصر(238/19)
إلى الشام ثم إلى بغداد في نهاية كل مرحلة منزل وثير تنزل فيه قطر الندى وحاشيتها، وتتمتع فيه بجميع وسائل الراحة. وأنفقت في هذه الرحلة مبالغ طائلة؛ وخرجت قطر الندى من القطائع في ركب ملكي عظيم يشرف عليه ابن الخصاص مندوب الخليفة وجماعة من الأعيان، ومعها عمها شيبان بن أحمد بن طولون؛ وصحبتها عمتها العباسة إلى آخر حدود مصر من جهة الشام؛ (وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصراً قد فرش، فيه جميع ما يحتاج إليه، وعلقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس)
ووصل ركب قطر الندى إلى بغداد في فاتحة المحرم سنة 282هـ فأنزلت في دار صاعد. وكان المعتضد غائباً بالموصل، فلما علم بمقدمها عاد إلى بغداد، وزفت إليه في الخامس من شهر ربيع الأول في حفلات عظيمة باذخة أسبغت على بغداد مدى أيام حللاً ساطعة من البهاء والبهجة. وسحرت قطر الندى الخليفة بجمالها وخلالها البارعة، وتفوقت في حظوتها لديه على سائر خطاياه. ومما يروي أن المعتضد خلا بها ذات يوم في مجلس أنس، فلما ثقل رأسه من الشراب وضع رأسه على حجرها، فلما استغرق في النوم، وضعت رأسه على وسادة وغادرت المجلس؛ فلما استيقظ ولم يجدها استشاط غضباً وناداها وعنفها على تصرفها، فأجابته: (يا أمير المؤمنين ما جهلت قدر ما أنعمت به عليّ، ولكن فيما أدبني به أبي أن قال: لا تنامي مع الجلوس، ولا تجلسي مع النيام)
محمد عبد الله عنان(238/20)
من برجنا العاجي
(كل شيء يزدهر في مملكة تمتزج فيها مصلحة الشعب بمصلحة الملك) تلك كلمة قالها (لابروبير) في كتابه (الأخلاق) تقابلها كلمة أخرى في كتاب للهند عن رجل دخل على مليكه فقال له: (أيها الملك إن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك. .)
وضعتني هذه الأقوال لحظة موضع التأمل وقلت في نفسي إن هذه النظرة إلى (الملك) لا يمكن أن تكون وليدة الأوضاع الاجتماعية وحدها أو المبادئ السياسية أو العقائد الدينية. فالشرق والغرب لا يتفقان هكذا إلا على شيء يخرج من نبع طبيعتنا الإنسانية. إن الشعوب منذ فجر حياتها كانت دائماً ترى الأمة هي الجسم والملك هو (الرأس) بمعناهما الطبيعي (الفسيولوجي). هذا صحيح لا ريب فيه، والملك هو الحاكم المطلق في نظام الملوكية المطلقة. أما والأمة في النظم الديمقراطية هي التي تتولى الحكم فمن الحق أن نتساءل عن صحة تلك النظرة القديمة. قليل من التأمل يهدينا إلى هذه النتيجة: إن الأمم في شبابها كالفتى، تستهوي عقله كل مظاهر القوة، وتسيطر على رأسه كل أحلام الفتوة؛ فهي تجمع كل السلطة لتعطيها ذلك الحاكم المطلق الذي يدير كيانها ويحرك جسمها ويهز عضلاتها، إلى أن تمضي أيام الصبا وفورة الشباب وتدخل الأمة في طور الرجولة والاستقرار، فتحزم أمورها المادية بنفسها، وتترك مليكها يشغل بما يشغل به الرأس الحقيقي من شئون الفكر ومسائل الثقافة. وهنا نرى الملك في الشعوب الديمقراطية قد انصرف عن وظيفة الحكم المادي إلى وظيفة أخرى تشبه وظيفة الرأس في جسم الإنسان المفكر، فينقطع هو إلى التوجيه الفكري لأمته وتشجيع العلوم والآداب والفنون، وختم كل مظاهر النشاط الأدبي والمادي في الدولة بطابع الحضارة. فالملك في كل زمان ومكان هو الرأس دائماً؛ على أنه في الأمة الفتية رأس فتي، وفي الأمة العريقة رأس رجل.
توفيق الحكيم
زفاف ملكة القلوب ويلهلمينا الهولندية
للأستاذ محمد لطفي جمعة
أخي الأستاذ صاحب الرسالة:(238/21)
تفضلت فطلبت إلي أن أكتب فصلاً يتصل بزفاف أحد ملوك الغرب بمناسبة الأفراح الفذة النادرة التي تقام في القاهرة لقران الملك الصالح السعيد فاروق الأول، فصادف تفضلك هوى في نفسي لأنني أشعر نحو شخص جلالته بحب وتقدير لا يعدلهما إلا ولائي لعرشه واستبشاري وتفاؤلي بعهده. وأعتقد أن عاطفتك نحو جلالته إن لم تزد على عاطفتي في هذا المضمار فهي تساويها لأن هذا الملك الشاب أثر أول ما أثر في قلوب المثقفين المهذبين أمثالك، ولذا رأيتَ أن تقف عدداً من رسالتك أو معظمه على مشاركة الأسرة والأمة أفراحهما، ونعمت الفكرة الملهمة التي ستلقى قبولاً ورضى من قرائك كافة في سائر أنحاء العالم العربي.
وأول ما خطر ببالي زفاف ملكة هولندا ويلهلمينا وزوجها الأمير ألبرت وقد شهدته بنفسي إذ كنت في سياحة في تلك البلاد العجيبة التي هي أقرب إلى القطر المصري بوديانها وخضرتها ومزارعها الناضرة وأخلاق أهلها الوادعين، وكانت الأميرة ويلهلمينا نفسها تدعى (ملكة القلوب) لما حباها الله من الجمال والجلال ورقة الحاشية، فكانت محبوبة من شعبها وإن نسب الحاسدون إليها شيئاً من الكبر والخيلاء وزعموا أنهما زالا مع الزمن بعد أن أحسنت القيام على حكومتها في رفق ولطف سياسة، وأصبحت بصيرة بوجوه التدبير والإدارة، خبيرة بتصريف الأمور، حتى كتب (فان كيكم) أحد وزرائها عقيب زفافها يقول: (إن ملكتنا أعقل أهل المملكة) ووافقه على ذلك من رفاقه الوزراء من كان لا يزال يرقب الملكة عن كثب ويدرس أحوالها وينظر إلى مستقبلها في إسطرلاب الحوادث المغيبة.
كان البرنس ألبرت خطيب الملكة من صفوة أشراف الطراز الأقدم، وكان قد ورث ثروة طائلة عن آبائه واتخذ لنفسه معلمين من الإنجليز بعد أن نال إجازات من جامعتي برلين وأكسفورد، وآوى إلى ضياعه التي يملكها في هولندا فغرس بستاناً على نمط جديد، وابتنى لنفسه قصراً على خطة من بنات فكره؛ وجعل ينفق في سبيل العناية بالمثوى وتعهد البستان وتنظيمه ما شاء الجمال وحسن الذوق، حتى استنبت أزهاراً نابغة من الخزامى والورد الأزرق
وكان يعلم أن الملكة الشابة تحبهما وتختارهما وتفضلهما على غيرهما من الأزهار فأهدى إلى جلالتها كل ما أخرجه البستان من الورد الأزرق الغض والخُزَامَى، فأصبح من أقرب(238/22)
الأمراء إلى البلاط، وقبلت الملكة ووالدتها دعوته إلى حفلة شاي أنيقة أقامها في عيد ميلادها في قصره، وكانت الملكة الوالدة قد آمت من زوجها وكسرت شبابها على تربية ابنتها (ويلهلمينا) وتثقيفها وإعدادها للعرش إذ كانت ولية العهد والوارثة الوحيدة بعد أبيها وفي تلك الحفلة ظهر البرنس ألبرت أجمل مظهر وأبدعه وأروعه وكان فتى رشيق القد ممشوق القامة يختال في حُلة عسكرية فائقة. ولما علم بدنو موكب الملكتين (الوالدة والجالسة على العرش وهي التي زفت إليه بعد قليل) امتطى صهوة جواد سابح ينهب الأرض وراح يستقبل موكب المركبة الملكية، ولم تكن السيارات قد ملأت العالم كما هي الآن، فوقع من قلب الملكة الشابة خير موقع، ورنت إليه بعين الرضى والسرور حتى أنه أثناء الحفلة أوعز لأمه الأميرة بياتريس أن تلمح إلى الملكة الوالدة لتجس نبضها في الخِطبة فانتهزت الأميرة فرصة الرضى وفاتحتها، فابتسمت وقالت: (إن في أمور الدولة ما يشغلنا عن استعجال المتوقع، وفي انتظار الفرص ما يصرفنا عن استدراج البعيد) ثم أسرت لابنتها ما أسرت، فتهلل وجه الملكة الشابة التي ما زالت ترنو إلى الأمير وتخالسه النظر في إعجاب وحياء. وفي الواقع أن الأمير كان خير من يصلح للملكة على الرغم من إقبال الأميرات الأجنبيات عليه ومبالغتهن في إظهار ميولهن وأمانيهن بأن تكون واحدة منهن عروساً له. ولكنه كان عنهن منصرفاً لا يكاد يكترث لهن، فأولن ذلك بأنه لابد أن تكون لقلبه سيدة استأثرت باحتلاله وامتلاكه والتربع على عرشه. وكن في حديثهن صادقات
وكذلك كانت فئة كبيرة من الأمراء يعللون أنفسهم بحظوة القرب من الملكة الشابة والارتباط ببيتها المالك برابطة المصاهرة والنسب، ولكن والدتها ووزراءها والقيمين عليها كانوا يفضلون أميراً من خلاصة الشعب وسلالته كما فعل جلالة مليكنا المحبوب أعزه الله
وكانت ويلهلمينا الملكة الشابة في السابعة عشرة من عمرها. كان يضيء محياها الجميل عينان زرقاوان براقتان كأنهما نبعان من ينابيع ماء الحياة، ومن العجب أن ترى جذوة النار في زرقة البحر! ولها من شعرها الأصفر البراق ضفائر يضل النظر في استحسان دقتها وغزارتها، وقد صدق من وصفها بأنها تمثال فاتن من صنع الإغريق بقي مكنوناً في صميم صدر الدهر حتى كشفت عنه الطبيعة المنعمة، وأظهرته العناية الملهمة، فبدا ملكة على(238/23)
الأفئدة قبل أن تكون صاحبته ملكة على العرش!! وكانت وحيدة أمها، وولية العهد، وصاحبة التاج المرموق، الذي يهيمن على ستين مليوناً من البشر في شرق آسيا الجنوبي، غير خمسة ملايين من أهل بلادها الأصلاء وهي على جانب عظيم من الثقافة والغنى ومكارم الأخلاق وكرم النفس والوداعة والرحمة، على عكس ما قال الحاسدون، فكانت أمها وأقاربها ورجال حكومتها وأهل البلاط يبالغون في ترفيهها وتدليلها. وكان ينتظر من وراء ذلك وبسببه أن يكون لها على أهلها وحاشيتها وخدمها، وكل من لابسها وجالسها، فرط جرأة وتسحب؛ ولكن الأمر كان على العكس فقد كانت وادعة متواضعة، شديدة الحياء والإيمان والتوقير لكل كبير، جمة الحنين لذكرى أبيها الذي مات وتركها في المهد صبية، وكان يتمنى أن يسهر على تنشئتها فيشهد زفافها، ولكن توفاه الموت قبل أن يدرك غايته. وقد اختلفوا في البائنة التي قبضها (البرنس كونسورت) أي الصهر الملكي الذي أسعده الحظ بزواجها، فقيل مليون كورون ذهباً، وقيل مليونان. ولكن الصحيح أنه قبض ثلاثة ملايين وتسلم زمام إحدى الجزائر المملوكة للتاج بغير شريك وهي تدر خيرات كبرى من الزرع والضرع والكنوز
وبعد قليل من تلك المقابلة صار الأمير بمكانة الزوج المنتظر ولم تمض بضعة أشهر حتى تم الزفاف في مدينة لاهاي (ذي هاج) عاصمة هولندا. وكان ذلك في صيف عام 1906. وقد قضى العروسان شهر العسل على شاطئ سكفيننجن وهي ضاحية الاستحمام والاستجمام تبعد عن العاصمة بضعة أميال. وكان عقد الزواج في هيكل القصر. ومن أبدع مظاهر زينته أولئك الفتيات القرويات ذوات الفتنة الضاحكة والسذاجة المستملحة وسحر البساطة المستعذبة اللواتي اشتهرن في أنحاء أوربا بجمالهن وعفافهن وميلهن للمداعبة البريئة. وقد رغبت الملكة الشابة أن يشتركن في زفافها، لشدة حبها لشعبها وعطفها على رعاياها ولا سيما من كان منهن في سنها ومن جنسها اللطيف
فكنت ترى بجانب جورج الخامس (وكان ولي عهد بريطانيا لأن الملك إدوارد السابع ورث العرش عن والدته الملكة فكتوريا) بثيابه الرسمية المرصعة بالجواهر والأوسمة الرفيعة، والسيف المحلى بالذهب والحجارة الكريمة، والحمائل العسجدية من المخمل الثمين وقد وضع على رأسه خوذة من الذهب الخالص وزانت وجهه لحية شقراء، وليوبولد الثاني(238/24)
وهو الآخر شيخ هم أبيض الشعر وردي الوجنتين أزرق العينين، وقد أبى إلا أن يلبس ثياباً هولندية مبالغة منه في التقرب الذي يقتضيه حسن الجوار وانفرد بين الملاك بهدية من تحف الكونجو، وهي تماثيل من الأبنوس والعاج مُنزلة بالذهب تمثل آلهة وفرساناً وغزلاناً وأيائل وفيلة وطيوراً من أجمل وأروع ما وقعت عليه العين. وكان ليوبولد الثاني يملك ولاية الكونجو الحرة ملك السيد المطلق لا تشاركه فيها حكومة
وكان ليوبولد الثاني بقدر قسوته على رعاياه الإفريقيين ذا حنان وشفقة على رعاياه الأوربيين، وكان يعطف على جارته ملكة هولندا لشبابها، ويرى أن يفرط في مجاملتها والحلول في نظرها محل والدها الذي كان من أصدقائه الحميمين
وكانت من المدعوات الإمبراطورة أوجيني بجلالة قدرها وعبرة شيخوختها، أتت من لندن مستندة إلى ذراع دوق كونت وقد اتشحت ثياباً بيضاء موشاة (بدنتلة) بروكسيل، قدرت ببضعة ملايين من الفرنكات، ووضعت على رأسها تويجاً من الزمرد الأخضر المتلألئ على شعر جبينها الأبيض، وزينت صدرها (بمنياتير) صورة مصغرة لولدها الأوحد (نابليون الرابع) الذي اغتاله المقاتلون في زولولاند وهو يحارب متطوعاً تحت راية الإنجليز بعد أن فقد ووالداه عرش فرنسا عقيب حرب السبعين
وقد أهدت الإمبراطورة إلى العروس حلياً وعقوداً من خزانة كنوزها، وإلى العُرْس (برنس ألبرت) سيفاً من سيوف نابليون بونابرت. وأرسلت جمهورية فرنسا هيئة شرف حربية ومدنية من الوزراء والسفراء والنواب وقد لبسوا الثياب الملكية وشارة الجمهورية (شريط مثلث الألوان) وحملوا على صدورهم نياشين الجمهورية ووسام (زايدرزي) وهو أرفع وسام هولندي، وأرسلت مستعمرات هولندا في الشرق الأقصى (جزيرة جاوي وأندنوسيا) وفوداً من سلاطينها وأمرائها، وقد زانوا الاحتفال بثيابهم الشرقية الفضفاضة وعمائمهم المرصعة بالجواهر، وكان أجملهم وأظهرهم غنى ووقاراً السلطان محمود بن تبني حليف هولندا وصاحب عرش جزيرة بيهالو - هوى، وكان حاكماً شرقياً مسلماً شديد الشكيمة واسع الحيلة، لم تستطع واحدة من دول الاستعمار إخضاعه، فحالفته محالفة الند للند؛ وكان يزين نحره وصدره بجواهر لا تقدر بمال، وأهدى إلى العروسين تحفاً قيمة منها سيوف هندية ولوحات منقوشة ومرصعة، وأقداح من الذهب للشاي وصناديق من العاج لصيانة(238/25)
الحلي
وكان هذا السلطان الشرقي يسير في مكان ظاهر من الموكب وحوله بقية الأمراء من وطنه. وكفاهم فضلاً أنهم سافروا في البر والبحر أربعين يوماً ليشتركوا في المهرجان قبل اختراع الطائرات.
وكانت تحمل أذيال الملكة العروس، وهي من الفراء الموشاة بالذهب والدر المنضد، فتيات وأطفال كاللؤلؤ المنثور، نشأوا في الهواء الطلق تحت ظلال أشجار البلوط ورضعن ألبان أمهات صحيحات الأبدان قويات البنية فكانوا وكن زينة الموكب. ولا مراء في أن لكل أميرة أو قرينة وزير أو عقيلة سياسي مشاركة في الاحتفال أن تبتسم من سلامة الفطرة التي كانت متجلية في وجوه الهولنديات، لأن العزلة والحرية والصحة الشاملة استنبتت ونَمت قبل الأوان في قلوبهن عواطف ونزعات وأهواء وشهوات لا تحسها ولا تدركها فتيات أوروبا الغربية. فكنت ترى بعض الأميرات والوصيفات وسيدات الشرف يضحكن في خفر ضحكاً بريئاً لا يؤثر في بساطة الجمال الهولندي وجليل محامده التي لولاها ما ظهر في تاريخ تلك البلاد (منذ الاحتلال في عهد فيليب الثاني) مثقال ذرة من العظمة الإنسانية
ولما كانت الملكة احتجاجية المذهب (بروتستنت) وكان الأمير كاثوليكياً، فقد عقد المعقد مرتين. وألقى خطبة الزواج بالهولندية والإنجليزية والألمانية والفرنسية فان كروب متزنجر كبير أساقفة لاهاي أمام الهيكل الذي شهد زواج والدة الملكة وجدتها وحفلة إعلان استقلال (نيذرلاندز أوبيباس - (الأرض الواطئة) من حكم إسبانيا الذميم
وقد ذرفت الملكة الوالدة دمعتين من دموع الفرح والذكرى لفراق زوجها وهو والد العروس، وكانت تتمنى أن يكون على قيد الحياة ليقدمها لعرسها، وقد حل محله الملك الشيخ ليوبولد الثاني لأن له من الحظوة والزلفى والدالة والوجاهة عند ملوك أوروبا منزلة رفيعة وشأناً عظيماً. وكان الأمراء الشرقيون على غاية السرور، ولم يحسوا شيئاً من التجانف والتجافي اللذين يلقونهما في بلاد الشرق من الحكام الهولنديين والإنجليز، ما عدا السلطان محمود فقد كان آية في الجد والوقار كأنه لا يخلو من التفكير والشجون على فرط اكتراث الملوك واحتفالهم بشأنه، ولكنه ممن لا تفتنهم مظاهر الأبهة ولا تأخذ بألبابهم فخفخة(238/26)
الحياة الدنيا
وكان الشعب مشاركاً في الأفراح ليلاً ونهاراً، ولم تبق شيخة أو كهلة أو فتاة في بيتها، وكن يلهجن بذكر العروسين ويفضن في شرح حالهما وأمرهما حتى أصبحا مجال البحث وموضع الحديث في كل شارع وطريق وزقاق ومحفل
ومن أساطير ذلك الزفاف الملكي أن الملكة العروس دست على خطيبها فتاة ذات حسن رائع من وصيفاتها وقالت لها: (اذهبي وانظري ألبرت خطيبي وافحصيه فحصاً ثم عودي فخبريني أي امرئ هو، وصفيه لي وانعتي خلاله ومزاياه وشمائله وسجاياه)
ونسى واضع الأسطورة أو واضعتها أن الملكة إنما خطبت عُرْسها على عينها وتخيرته بنفسها وأحبته للوهلة الأولى، ولكن ما الحيلة في أخلاق الشعوب وخصوبة أخيلة النساء وثرثرتهن حتى فيما ليس لهن به من علم؟ وحتى لو كن من أهل الشمال الأوربي البعيدات القاصيات النائيات عن الشرق وأساطيره. ولكن المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان من شمال القطب حيث يقطن الإسكيمو إلى جنوب أرض النار (تيراد يلفويجو)!
وما أنس لا أنس الزينات التي قامت على قدم وساق في البر والبحر، فقد أمرت الملكة ألا يخرج صائد ولا باحث عن رزقه بين الأمواج خلال أسبوع الزفاف، وأجرت على الفقراء والعائلين أرزاقاً أغنتهم عن خوض غمار البحار في سبيل القوت والصيد فحشدوا سفائنهم ومراكبهم وزوارقهم وزينوها بالأعلام والمصابيح، وأقاموا مراقص شعبية تسمى بالهولندية كيرمس أو (دعكة) يشربون فيها الجعة والجين اللاذع، ويختالون في سراويلات ملونة ويحتذون أحذية من الخشب المنحوت، وهم بين كهل وفتى يراقصون الفتيات على أنغام الموسيقى الهادئة ذات الحنين المشجي؛ ولا يدري مقدار ما يُجمل أولئك الفتيات البحريات من أهل ساحل هولندا من فتنة السذاجة المستملحة وسحر البساطة المستعذبة إلا من رآهن رأي العين. وقد كان هذا الزفاف في عرفهن طارئاً عظيماً وحادثاً جليلاً، وقد اتخذن من التحلي والتزين له واقعة وتاريخاً وذكرى خالدة. وقد صورت الصحف مناظر الموكب والأفراح والمراقص، وما أزال أذكر صورة بالألوان البهيجة تمثل امرأة عانساً في الأربعين من العمر دهنت وجهها وزججت حاجبيها لترقص مع شيخ بحار من صائدي الحيتان وقد اصطنع لنفسه لحية تحيط بذقنه وعارضيه دون أن تدنو شعرة واحدة من شفتيه(238/27)
ووجنتيه، واتخذ على رأسه قلنسوة خضراء ذات صنع عجيب ووضع أعجب، وفي فمه غليون ضخم قصبته من خشب القرو، وخزانة الطباق فيه ويسمونها (الفرن) من القيشاني
أما الشوارع في يوم الزفاف وليلته فكانت تعج بمئات الألوف من أهل البلاد والسائحين والمصورين والصحفيين وأقاموا متاحف ومعارض لمتاجر البلاد ومنتجاتها من خيرات البر والبحر. ومن متاحف تلك الفترة مجموعة فريدة من تصاوير رمبراندت الهولندي ومؤسس تلك المدرسة العريقة في إتقان الألوان ومحاكاة الطبيعة في درس علم التشريح، وقد يبلغ ثمن بعضها مئات الألوف من الجنيهات
(من ذكريات قديمة)
محمد لطفي جمعه(238/28)
زفاف فاروق
للأستاذ محمود غنيم
طربت لعُرسكَ مصرُ يا ابن فؤادِ ... فكأنَّ عُرسك ملتقى الأعيادِ
بالفطر والأضحى الكنانة تحتفي ... فيه، وبالنيروز والميلادِ
في كل قلب مِهرجانٌ قائم ... وبكل أُذْن قام يهتفُ شادِ
ملِك قد اقترن السرورُ بعهده ... فكأنما كانا على ميعادِ
أو ما ترى قلبَ الدجى متوهجاً ... يبدو كقلب الصبِّ يومَ بعادِ
نُقِشَتْ حواشي الِليل نقش صحيفةٍ ... بالنور لا بيراعةٍ ومدادٍِ
لم تبدُ أنجمُهُ لترسل ضوَءها ... لكن لتشهده مع الشهَّادِ
غنَّوْا لفاروقٍ فألفيتُ اسمه ... أشجى صدىً من رنَّة الأعوادِ
وزهت ثُريَّات ٌ حلفتُ بأنها ... ليست كنور جبينه في النادي
قذفوا (النيازك) في الفضاء فخلتُها ... مشبوبةً من عزمه الوقَّادِ
أغنته عن باق الزهور خلائقٌ ... نفاحةٌ مثلُ الزهور نوادِ
ماذا أقول عن البدور وعُرسِها؟ ... عرسُ البدور يجلُّ عن إنشادي
خَلِّ الشبابَ الغضَّ في ريْعانه ... وعراقَةَ الآباء والأجدادِ
ودع العلا والمجدَ ويحك جانباً ... في الصمت ما يغني عن التَّعدادِ
نثروا الزهور وقمت أنثر بينهم ... شعري، وشعري طارفي وتلادي
إن الزهور قصيرةٌ أعمارُها ... وقصائدي تبقى على الآبادِ
شعرٌ تودُّ الحورُ عند سماعه ... لو صغنَ منه قلائد الأجيادِ
قل للشبابِ أصبْتَ أيةَ قُدوةٍ ... في شخص فاروقٍ وأكبرَ هادِ
لما رأى ولَعَ الشباب بكل ما ... في الغرب صاح بهم وقال: بلادي
وبنى بها ريحانةً مصريةً ... معصومة من هُجنة الأولادِ
عذراءُ نضرت الكنانةُ عودَها ... من أهل بيت ناطقٍ بالضادِ
رَشَفَتْ من النيل العتيد رحيقهُ ... وتفيأت منه ظلالَ الوادي
ولو ابتغى شمس الضحى عِرْساً له ... لرأيتها هَبَطَت من الآراد(238/29)
قل للغريب بقلبه وغرامه ... ما أَقفرت مصرٌ من الأغيادِ
لا تَبْنِ بامرأةٍ وتهدمَ منزلاً ... خيرُ الزواج تزاوجُ الأندادِ
لستم بمصريين حتى تؤثروا ... مصراً بكل محبةٍ وودادِ
كم فوق شطِّ النيل أهيف شادنٌ ... فتن الغصونَ بقدِّه الميَّادِ
يرنو بلحظ فاتنٍ بل فاتكٍ ... فتكَ السيوف وهنَّ في الأغمادِ
من عهد (فاتنة القياصر) لم تزل ... مصرٌ مَراحَ نواعِم الأَجسادِ
فاروقٌ كم لك آيةٌ شعبيةٌ ... كبرى تمسُّ شِغاف كلِّ فؤادِ
أحصنتَ في شرخ الشباب وطالما ... ألقى الشبابُ إلى الهوى بقيادِ
قالوا: كبحت النفس. قلنا فارسٌ ... يعتاد منذ صباه كبحَ جيادِ
ومن الشبيبة حكمةٌ ورجولةٌ ... لا تُحْسَبُ الأعمارُ بالأعدادِ
هات المسرةَ واسق شعبك إنه ... شعبٌ إلى كأس المسرةِ صادِ
لم يستظلَّ بمثل عهدك مذ هوى ... عن عرشه فرعونُ ذو الأَوتادِ
دَرَجَت قرونٌ وهو عانٍ مرهَقٌ ... يكفيه ما عاناه من إجهادِ
بعد السهاد يطيبُ للعين الكرى ... والنصرُ يُدرك بعد طول جهادِ
وطنٌ عتيدٌ من شبيبتك اكتسى ... حُلَلَ الشباب قشيبة الأَبرادِ
حتى سألت: أمصرُ في شرخ الصبا ... أم مصرُ أقدم من ثمودَ وعادِ
طوقْتَ أعناق البلاد بطول ما ... أسديت من مِنَنٍ وبيض أَيادِ
فعجبتُ كيف أسرت مصراً بعد ما ... حررتها من رقِّ الاستعبادِ
يا ثالثَ العُمَريْنِ أنت أريتنا ... بالعين ما يُروى عن الزهَّادِ
قد جئتَ في جيل يصلِّي جاهداً ... ويصوم لا لله بل للزادِ
حَرَصوا على الدنيا. وكل جديدةٍ ... تبلى وكلُّ ذخيرةٍ لنفادِ
فلعلَّ أنفسَهم بهديك تهتدي ... فتروجَ سوقُ الروح بعد كسادِ
وهي الحنيفةُ دينُ كلِّ حضارةٍ ... وعدالةٍ وهدايةٍ ورشادِ
شاء المهيمنُ أن تكون عمادَها ... هيهات يتركُها بغير عمادِ
اختلْتَ في رُد الزفاف وفي غد ... تختال في بُرد النبيِّ الهادي(238/30)
إن الخلافةَ كلما ذكر اسمُها ... شخصت إليك حواضرٌ وبوادِ
يا رُبَّ يومٍ فيه قد وفدت على ... مصرٍ، ومصرُ كثيرةُ الوفَّادِ
إنَّا أويناها غداة تشرَّدتْ ... وَعدت على دار السلام عَوَاد
أوَمَا استعارَ التركُ منا تاجها ... لجبين (محمود) ورأس (مراد)
منذا سواكَ يعيدُ عهدَ أُمَيَّةٍ ... بدمَشْقَ والعباس في بغدادِ
أصميتَ بالتقوى صُدورَ معاشرٍ ... مسخوا محيَّا الدين بالإلحادِ
لله إذ تَردُ المصلى خاشعاً ... تسعى إليه بخطوط المتهادي
وكأنَّ ركبَكَ لا يسير على الثرى ... وكأن جبريلاً لركبك حادِ
ملك يتوِّجُ مَفرِقيْه بالتقى ... نورُ الصلاح عليه أبلجُ بادِ
عجباً له يخشى الزمانُ نزالَه ... وعليه تبدو خشيةُ العبَّادِ
إنا عجمنا عودَه فإِذا له ... وجهُ البدور وصولةُ الآسادِ
حلوٌ مريرٌ صارمٌ متسامحٌ ... أرأيت كيف تقابلُ الأضدادِ؟
ما عيدُه إلا غداةَ تعُدُّه ... في شعبه فرداً من الأفرادِ
عرشٌ على الدستور قام أساسُه ... فإذا به أرسى من الأطوادِ
بُوِّئْتَ يا فاروقُ عرشاً كان في ... أيدي فراعنة بمصرَ شِدادِ
هم شاركوا الأرباب في مَلكُوتها ... كم صاح صائحهم وقال: عبادي
ضِمنوا بقاء رسومِهم وجسومِهم ... والحادثات روائحٌ وغَوادِ
قم سائل الأهرامَ عن تاريخهم ... ما فصَّل التاريخَ مثلُ جمادِ
هُنَّ الثقاتُ من الرواةِ برئْنَ من ... عصبية وسَلِمْنَ من أحقادِ
فأعِدْ لنا عهدَ الجدود وهات ما ... تركوا لمن تركوا من الأحفادِ
هَات الذخائرَ والسلاحَ لأمةٍ ... عزلاَء واستكثرْ من الأجنادِ
هذا الزمانُ مسلحُ لا يحتفي ... بعهود سِلْمٍ أو صكُوكِ حيادِ
أوما رأيت الطامعين بخيلهم ... حول الحمى يقفون بالمرصادِ
فاجعلهُ إن ذاقوه سمَّا ناقعاً ... واجعله إن مَسُّوه شوك قتادِ
فاروقُ دم واسلم لشعب مخلصٍ ... بنفيسه وبنفسه لك فادِ(238/31)
سل كل قلب في الكنانة نابضٍ ... عما يريد يجبكَ أنتَ مرادي
كوم حمادة
محمود غنيم(238/32)
زواج أمير عربي بأميرة هندية
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ماذا يخط القلم في هذا الفرح المتلألئ، والسرور المزدهر، والقلوب الخافقة، والأيدي الصافقة، والزينات الساحرة، والأضواء الباهرة؟ ماذا يخط القلم في أمة بل أمم خفقت قلوبها حباً، وانطلقت ألسنها دعاء، وتوجهت إلى هذا الوجه الأغر، والطلعة المباركة، إلى الملك الشاب الصالح جلالة الملك فاروق؟ ماذا يخط القلم إلا أن يشارك العيون متعتها والنفوس بهجتها، والقلوب أدعيتها، فيجول في مجال واسع من الفرح الحاضر، أو يقلب صفحات التاريخ عن صفحة من الجمال والسرور لألاءة، أو يطمح في المستقبل إلى حقب من المجد وضاءة تظللها السعادة واليسر، والصفاء والبشر.
قلبت صفحات التاريخ فعبرت من عرس إلى عرس حتى وقفت على عرس كان في الهند في القرن الثامن الهجري، ورأيت من غرابته وطرافته ما يؤهله لأن يعرض على قراء الرسالة قي هذا الأسبوع المبارك.
- 2 -
كان السلطان محمد بن غياث الدين تُغلُق شاه يملك دهلى وما يتصل بها وبلاد الدكن، في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري (725 - 752هـ)؛ وكان ملكاً ذكياً سخياً عظيم البطش، جبار السطوة.
وكان يحتفي بالغرباء الوافدين عليه ولاسيما العرب وخاصة من انتمى منهم إلى بيت النبوة؛ كان يبذل لهم من ماله، ويوطئ لهم من كنفه، ويبلغ لهم من إكرامهم وإجلالهم ما يملأ النفس عجباً.
- 3 -
وكان آل ربيعة من طيء أمراء على قبيل عظيم من العرب في أطراف الشام؛ في عهد الدولة الأيوبية ودولة المماليك؛ كان ملوك مصر يستنجدونهم في اللزبات، ويفوضون إليهم الرياسة على القبائل، ويبالغون في إكرامهم إذا وفدوا عليهم؛ وقد قدم منهم فرج ابن حية(238/33)
على المعز أيبك فأنزله بدار الضيافة أياماً وأنفق على ضيافته وهداياه ستة وثلاثين ألف دينار.
وكان من أمرائهم في القرن السابع والثامن إلى آل مهَنى ابن عيسى. (وكلهم رؤساء أكابر، وسادات العرب ووجوهها؛ ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة، وصيت عظيم، إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري)
- 4 -
قدم الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن مُهَنَّى على السلطان محمد فأكرم وفادته وأنزله بقصر في دهلي يسمى: (كُشكِ لعل) أي القصر الأحمر، وأغدق عليه العطايا وأكثر الهدايا، ثم زوجه أخته الأميرة فيروز
وكان الرحالة ابن بطوطة إذ ذاك مقيماً بدهلي في كنف هذا السلطان، فشهد العرس العظيم، وتولى بعض شؤونه، ووصف زفاف الأمير سيف الله والأميرة فيروز. فانظر كيف وصف:
(ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غداً عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله، وعينني لملازمة الأمير غداً، والكون معه في تلك الأيام. فأتى الملك فتح الله بالصيوانات فظلل بها المشورتين بالقصر الأحمر المذكور وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جداً وفرش ذلك بالفُرُش الحسان
وأتى شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان
وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين، والشربدارية والتنبول داران وذبحت الأنعام والطيور وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً، ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلاً ونهاراً
فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر فزينه وفرشنه بأحسن الفُرُش واستحضر الأمير سيف الدين، وكان عربياً غريباً لا قرابة له، فحففن به، وأجلسنه على مرتبة معينة له - وكان السلطان قد أمر أن تكون أم أخيه مبارك(238/34)
خان مقام أم الأمير غداً، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته وأخرى مقام خالته، حتى يكون كأنه بين أهله - ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن وانصرفن إلى قصر الزفاف. وأقام هو مع خواص أصحابه
وعين السلطان جماعة من الأمراء تكون من جهته (الأمير) وجماعة يكونون من جهة الزوجة، وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جَلْوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعة فلا يدخلون إلا أن يغلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم آلاف الدنانير إن لم يقدروا عليهم
ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة، قد غلبت الجواهر عليها فلا يظهر لونها مما عليها من الجواهر وبشاشية مثل ذلك. ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة؛ وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني، وابن ملك العلماء، وابن شيخ الإسلام، وابن صدر جهان البخاري، فلم يكن فيها مثل هذه
ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل منهم عصا قد أعدها، وصفوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره؛ وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه. فأبى من ذلك، وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر، فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه
وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم، وعليه جماعة الزوجة فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية وصرعوا كل من عارضهم فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات. وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله
ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج، مرصع بالجوهر، والمشور ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً. فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم عند أول درجة منه. وقامت العروس حتى صعد فأعطته التنبول بيدها. فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها. ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه، ولقطتها النساء،(238/35)
والمغنيات يغنين حينئذ، والأطبال والأبواق والأنقار تضرب خارج الباب
ثم قام الأمير واخذ بيد زوجته، ونزل وهي تتبعه. فركب فرسه يطأ به الفُرُش والُبُسط. ونُثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه وجُعلت العروس في محفة، وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النساء ماشيات. وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم، ونَثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته حتى أوصلوها إلى قصره
ولما كان الغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوْجها الثياب والدنانير والدراهم. وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً مُلجماً، وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر؛ وكذلك لأهل الطرب - وعادتهم ببلاد الهند ألا يعطي أحد شيئاً لأهل الطرب. إنما يعطيهم صاحب العرس. وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم. وانفض العرس
وأمر السلطان أن يعطى للأمير غداً بلاد المالوة والجزات وكنباية ونهر والة وخيل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها، وعظمه تعظيماً شديداً.
ا. هـ
عبد الوهاب عزام(238/36)
بالرفاء يا فاروق
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
في الروضة الشريفة المطهرة، وإلى جانب المنبر النبوي الكريم، أخذ القوم مجلسهم كما تعودوا أن يجلسوا كل يوم؛ يجلس علي وعثمان وطلحة والزبير، وسعد وابن عوف وإخوانهم من المهاجرين في سبيل الله، يتباحثون فيما يتصل بشؤونهم، ويتحدثون بما يهم المسلمين وينفعهم؛ وكان لابد أن يوافيهم عمر في مجلسهم، وينقل إليهم ما انتهى إليه من أخبار الأمصار وسير الولاة في الناس، ويستشيرهم فيما حمل إليه من الآفاق، فيشيرون عليه، ولكن عمر لم يحضر اليوم كعادته، ولقد انتظره القوم أكثر مما يجب فما وافى إليهم، قال قائل منهم: ترى ما الذي تأخر بابن الخطاب عن مجلسنا، وأنا أعلم عنه صحة البدن وتمام العافية، وما أعرف أن عنده من رجال العرب أو أن هناك ما يشغله عنا، ويحمله على الخلف والتخلف؛ فلعله قد نسي مجلسنا اليوم، وما أحسبه قد نسيه من قبل!
قال عثمان: رفقاً يا قوم بابن الخطاب، فقد ألقيتم عليه أعباءكم كلها فنهض بها صبوراً أميناً لا يألو جهداً في تدبير أموركم، ولا يدخر وسعاً في سبيل راحتكم وراحة المسلمين كلهم. ولقد وسوس الناس منذ أيام فيما بينهم بأن عمر يريد أن يعرس لنفسه، وهو جاد في اختيار الزوجة الصالحة ليفرغ لأمور الحكم بكل جوارحه، وأحسب أن الله قد وفقه لما يحبه هو لنفسه، وما يحبه له المخلصون من صلاح الحال، وسعادة البيت، فقد انتهى إلى سمعي أنه اختار لنفسه أم كلثوم بنت أبي بكر، ومن كبنت الصديق حسباً ونسباً، وصلاحاً وجمالاً؟ فإن كان عمر قد تأخر عنا اليوم، فلعله قد تأخر لهذا الأمر ليتمه على نفسه، وليفرغ منه إلى غيره، فما بالكم تلومون الرجل على فترة انتهزها لنفسه، واغتنمها لتدبير بيته؟ على أنه قد وقف عليكم كل وقته، ومنحكم جميع تدبيره. . .
قال طلحة: ولكني أعرف يا ابن عفان أن عمر قد رُد في خطبة بنت أبي بكر، وقد كان من خبر ذلك أنه لما كشف عن رغبته لعائشة أجابته إلى طلبه ووعدته بتحقيق رغبته، وقالت له: إن الأمر كله لك ونحن طوع أمرك، فأنت أمير المؤمنين وصاحب الرسول، وخليفة أبي بكر، ولكنها إذ ذكرت الخبر لأم كلثوم رغبت عنه، وقالت: إن عمر رجلٌ خشن العيش ولا طاقة لي باحتماله، فتحيرت عائشة وأرسلت إلى المغيرة بن شعبة لعله يحتال في رد(238/37)
عمر بالخير، فالتقى به المغيرة وقال له: بلغني يا أمير المؤمنين أنك خطبت لنفسك أم كلثوم بنت أبي بكر، وهذا أمر أعيذك بالله منه، وأرى من الخير لك ولها ألا يتم، وما أقول هذا رغبة بك عنها أو رغبة بها عنك، ولكني أقوله يا عمر لأني أحبك وأبغي لك سعادة البيت، فأنت تعلم ويعلم الناس جميعاً أن بنت الصديق قد نشأت في كنف أبيها، وقد كان رحمه الله لين الجانب، طويل الأناة، رحب الصدر، كبير الرفق، فتعودت ابنته ألا تعامل إلا بلين الجانب وطول الأناة ورحابة الصدر وحسن الرفق. فلما انتقل أبو بكر إلى جوار ربه انتقلت ابنته إلى جناب عائشة، وعائشة كما تعلم امرأة، عندها من العطف واللين والرفق أكثر مما كان في نفس أبي بكر. وأنت يا عمر رجل شديد المراس، قوي الشكيمة، تأخذ الناس بالشدة والعنف، وأنت على النساء أشد، وفي معاملتهن أعنف، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟ لا جرم كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك، وأبو بكر مكانته في المسلمين كبيرة، وحرمته عندنا واجبة، فليس من صواب الرأي وسداده أن تكون لك ابنته على ما تعودت في حياتها ونشأت في تربيتها، وعلى ما أنت عليه من ميول وأخلاق شديدة. وإذا كنت قد كلمت عائشة، فأنا أكفيك أمر عائشة؛ وإذا كنت ترغب في الزوجة الصالحة، فأنا لك بأم كلثوم بنت علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد انتهى الأمر على هذا التدبير يا ابن عفان، وقد علمت أن مسعى المغيرة قد ارتاحت له عائشة، واطمأن إليه عمر، وطابت به نفس ابنة الصديق
قال ابن عوف: ألا تقصرون من حديث عمر؛ فها هو ذا مقبل علينا يقتصد في مشيته، وإني لألمحه منبسط الأسارير مفتر الثغر، فلا بد أن يكون وراءه بشرى حميدة، تطيب لها القلوب وتطمئن بها النفوس، وما أتوقع من ذلك إلا الخبر فيما تتحدثون به، فانتظروا. . . وأقبل عمر على القوم بالسلام وأخذ مجلسه بينهم وهو يقول: رفئوني يا أصحاب الرسول، رفئوني يا أبناء العشيرة. قالوا جميعاً: قد رفئناك ولكن بمن يا أمير المؤمنين؟ فما انتهى إلينا في أمرك خبر قاطع، ولا صح عندنا نبأ صادع
قال عمر: إنه لخير وبركة إن شاء الله، فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي، وأنا والحمد لله قد وصلت به السبب ما(238/38)
استطعت، فصحبته على الجهاد في سبيل الله، باذلاً في ذلك وسع الجهد وطاقة النفس. وقد أحببت أيضاً أن أتصل بنسبه فأتصل به من الجهتين وأجمع إلى نفسي الفضيلتين، وأوثق رباطي بعروته التي لا انفصام لها، وقد رأيت أن تكون وصلتي في ذلك ورباطي أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب، فأبوها ابن عم النبي وصاحبه، وأمها فاطمة ابنته الحبيبة، فلعلي أكون قد وفقت إلى ما أردت، ولعل الله بفضله وكرمه يجعلها لنا خيراً وعلينا بركة
قال قائل: نعم ما اخترت يا أمير المؤمنين، وحبذا ما رأيت فإنه الرأي الجميل، وأم كلثوم من الحسب والنسب في المقام الكريم، والمكان الرفيع، ولكنا نعلم أن علياً قد حبس بناته على بني جعفر، وإنه ليشتد في ذلك ما وسعته الشدة، فهل أجابك إلى خطبتك، وحقق لك رغبتك، ووصلك بنسب النبي كما تحب؟
قل عمر: إن لذلك قصة يا أخي، لو تعلمونها جميعاً لقلتم معي حيا الله ابن أبي طالب وجزاه خير ما يجزي به الرجل الكريم، والعبد الصالح، فإني إذا مددت له اليد في ذلك قال: يا أمير المؤمنين نعم إني حبست بناتي على بني جعفر، ولكني لا أعدل بك آل جعفر جميعاً، وأنت ما أنت في صحبة النبي ونصرة الإسلام والجهاد للحق؛ غير أن أم كلثوم صبية حدثة، أحسبها لا تقوم لك بحق الزوج، ولا تستطيع أن تصبر على شدتك، وربما تحملت من ذلك فوق طاقتها. قلت: هون عليك يا ابن أبي طالب، فوالله ما على ظهر الأرض رجل يرصد من حسن صحابتها ما أرصد، وأنا إن نقلتها من كنف أبيها فسأنقلها إلى كنف ألين وأرحب. ألا تعلم أني سأرعى فيها حق الله، وحق جدها الرسول، وحق أمها فاطمة، وحقك أنت يا علي؟ وإذا صح لي أن أستهين بحقك أو حق فاطمة، فما يصح لي أن أسخط الله وأغضب الرسول
ومع هذا كله فقد انطلق عني علي وما أجابني إلى شيء، ولا وقفني على نهاية يصح أن أنتهي إليها. وانقضت فترات قضيتها في تقليب الرأي وتدبير الأمر، والحدْس بما سيكون من أمر ابن أبي طالب معي، وإذا بأم كلثوم تحضر عندي، وإذا هي واقفة بين يدي على يدها بُرد مطوي، تقول: إن أبي يقرئك السلام، ويقول لك: إن رضيت البرد فأمسكه، وإن سخطته فرده عليه. قلت لها: بارك الله فيك وفي أبيك يا سليلة الرسول، أبلغيه أنا قد رضينا بالبرد غاية الرضا، فإن رأى أن يسبغه علينا فله الفضل. ثم انطلقت عني وقد علمتُ أن(238/39)
أباها قد قبل خطبتي، وحقق رغبتي، ثم مال عليّ علي - وكان إلى جانبه - وقال: أليس كذلك يا ابن أبي طالب؟
قال علي: هو كذلك يا أمير المؤمنين، فبارك الله لك فيها، وبارك لها فيك. واعلم يا ابن الخطاب أنه إذا كانت الرغبة منك دعتك إلينا، فإن الرغبة فيك أجابتك منا، وقد أحسن بك ظناً من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوجتك ابنتي على كتاب الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل الأصهار صلة للأرحام المتقطعة والأنساب المتفرقة، فابتهل إليه أن يزيدنا بهذا الإصهار تمكينا وصلة على ما يحبه ويرضاه.
قال عمر: وأنا قد أمهرتها أربعين ألفاً. . . وإني لأقول ما قال النبي في ذلك: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي فيّ، وارزقني منها وارزقها مني، واجمع بيننا ما جمعت في خير، وإذا فرقت بيننا ففرق في خير، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني
قال الجالسون جميعاً: وإذن فبالرفاء والسعد يا أمير المؤمنين، وبالرفاء والسعد يا فاروق
محمد فهمي عبد اللطيف(238/40)
زفاف بوران إلى المأمون
للأستاذ محمد طه الحاجري
سرى الخبر في بغداد أن أمير المؤمنين المأمون قد أزمع البناء على بوران بنت الحسن بن سهل. ولقد طالما كان البغداديون يتنظرون هذا الخبر، ويستشرفون له، ويمنون أنفسهم بمظاهر الفرح الشامل، والطرب الكامل، تغمر الجو من حولهم، ويتجردون فيها من همومهم، ويمسحون بها على ما بقي من آثار الفتن الماضية في ذكرياتهم. فما إن انبعث ذلك الخبر حتى سرى في بغداد كلها، وأصبح حديث القوم الشهي إلى أنفسهم، الحظي عند أخيلتهم، وانتشر في المدينة جو من السعادة والغبطة جدير ببغداد الطروب
ثم علم القوم أن أمير المؤمنين قد أجمع على أن يتم على الحسن تكرمته، ويبالغ في ملاطفته، فيجعل الزفاف في بيته؛ وأنه منحدر في دجلة إلى ضيعته في (فم الصِّلح) حيث يقيم؛ فتهيأت بذلك الفرصة السعيدة لنفوسهم المرحة، فأخذ كثير من فتيان بغداد وسرواتها يعدون العدة للخروج في موكب الخليفة. فما جاء موعد الخروج حتى كانت دجلة تموج بالسفائن والزوارق من شتى الأشكال، وقد ركبها ألفاف من الناس من مختلف الطبقات: فهؤلاء من أهل اليسار والنعمة، قد نضدت لهم الفرُش، ووفرت لهم أسباب الترف، ووسائل الطرب، من قيان مثقفات، ودفوف وعيدان، وما إلى ذلك. وأولئك من أهل الحرفة، فهم يلتمسون النجعة، ويرجون التوسعة، ويأملون أن ينا لهم من ذلك الفيض الفياض ما تثلج له صدورهمثم نزل المأمون من قصر الخلافة، وحوله أصفياؤه وأصحابه إلى السفينة المعدة له، واتخذ مكانه فيها. وسارت السفينة جنوباً تتهادى في سيرها، ومن ورائها تلك السفن والزوارق، تنطلق منها نغمات العيدان، وأصوات القيان، حتى امتلأ جو دجلة مرحاً ونشوة
وكان يسير بازاء ذلك الموكب النهري الجميل الذي يمثل النزعة الفنية البغدادية، موكب رائع رهيب يمثل القوة العسكرية العباسية، يتألف من قواد الدولة وأجنادها، وقد ركبوا خيلهم وأخذوا سلاحهم وارتدوا أروع ثيابهم؛ وسار على رأسهم العباس ابن المأمون؛ وهكذا أخذ الخليفة طريقه إلى دار صهره.
وكان الحسن بن سهل قد ترك بغداد فراراً بأعصابه الرقيقة من زحمتها العنيفة، وأبعد في جنوبها حيث يطيب الهواء ويسود الهدوء؛ فأتخذ له قصراً ومعسكراً في بقعة هادئة جميلة،(238/41)
عند (فم الصِّلح) إلى شرقي دجلة: يشرف عليه الجبل من شرقيه، وتجري دجلة إلى غربيه، وينساب نهر الصِّلح في شماله، وتضطرد من حوله الكروم والبساتين، وتنفح عليه الأزهار والرياحين.
ولما علم الرجل أن أمير المؤمنين قد أزمع تشريفه في داره للبناء على ابنته استطار فرحاً؛ ثم ما لبث ذلك الفرح أن أخذ يعبر عن نفسه تعبيرات فنية رائعة تجلت في قصره الذي أخذ يتأنق في تزيينه، حتى صار فتنة للناظرين، ويبالغ في تأثيثه، ليكون جديراً باستقبال الخليفة فيه. وكان مزاجه الشعري يملي عليه بعض الصور الشعرية الرائعة التي كان يخترعها الخيال الفارسي المترف، والتي كانت موضع الإعجاب في ذلك العصر، فيسرف في تمثيلها، ويتأنق في تصويرها، كتلك الصورة التي اخترعها الحسن بن هانئ، وافتتن بها أهل عصره:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
فلم يأل في ذلك جهداً؛ ففرش القاعة الكبرى التي أعدها لاستقبال المأمون ببساط نسيجه من خيوط الذهب، وقد تناثرت فوقه حبات اللؤلؤ؛ وهو يتألق ويمج الأشعة في أضواء الشموع، وأي شموع! إنها شموع مصنوعة من العنبر، تسطع بالنور وتنفح بالعطر؛ فجعل كل ذلك يبعث في القاعة جواً سحرياً أخاذاً، تسبح به الروح في أحلامها، وكأنما نرى فيه صورة من الجنة وأخيلتها.
وأما الطريق ما بين القصر ودجلة فقد مهد وحف بماء شاء الخيال المترف أن يحف به من زينة أخاذة. وقد أقام الحسن في طرفه على شاطئ النهر جوسقاً جميلاً، نضدت فيه الفرش، وأعد لاستقبال العباس بن أمير المؤمنين. وكان الحسن في ذلك اليوم الموعود جالساً في ذلك الجوسق ينتظر، حتى وصل الموكب العسكري يقدم موكب الخليفة، فاستقبله الحسن وإن وجهه ليطفح بشراً، ثم مضى به إلى القصر، ولم يمض قليل حتى وقفت سفينة الخليفة على باب الحسن في نهر الصلح، فقام إليه الرجل وهو لا يكاد يكاتم سروره بما أفاء عليه الخليفة من شرف يقصر عنه كل شرف، بزواجه ابنته، وتشريفه بيته
وأمضى المأمون ليلته في سمر وطرب، وكانت (فم الصِّلح) تموج بالوافدين عليها من أهل الدساكر والقرى ممن جاءوا يشهدون المهرجان العظيم، فضلاً عمن كانوا في موكب الخليفة(238/42)
من البغداديين بين أصوات المزاهر والقيان تشق أجواز الجو، وتملؤه بأسمى مظاهر البهجة والهناءة. وقد شاء المأمون أن يمد في أسباب الفرح لهذه الأسرة، وأن يربط بين القلوب فيها، فأمضى في الليلة التالية زواج محمد بن الحسن بن سهل بابنة عمه العباسة بنت الفضل
فلما كانت الليلة الثالثة كان زفاف بوران إلى المأمون. وكان زفافاً اقترن بمظاهر النبل العربي والترف الفارسي؛ واجتمعت لديه عظمة المأمون وكرم الحسن، وكان مبعث بركة على الأسرة العباسية وعلى رجالات الدولة، وعلى أهل الحرفة، وذوي البؤس والمسكنة
فقد ذكروا أن المأمون أذن في هذه الليلة للسيدة زبيدة أن تؤدي حجها، وكانت ممنوعة منه، وكان هذا المنع أثراً من آثار الفتنة التي كانت قائمة بين المأمون وابنها الأمين
كما عفا عن إبراهيم بن المهدي، وكان أسيراً لديه، بعد الثورة التي ثارها عليه، محاولاً انتزاع الخلافة لنفسه؛ ثم خلع عليه، وقلده سيفه، ورد إليه ماله ورفع مكانه، وأتاح للأدب العربي أن يظفر بأمتع ما قاله شاعر في الشكر العميق والاعتراف بالجميل
وهكذا مسح على قلوب أسرته فشفى جراحها، واستل ما كان قد بقي عليه من حفائظ فيها. وما أمجده عملاً إنسانياً كان ذلك الزواج الإنساني النبيل مثاره ومبعث خيره
وأما الحسن فقد كان مضرب المثل في الحفاوة والترف فقد بالغ في ذلك مبالغة الرجل يرى كل شيء من ذلك قليلاً في جانب ما يشعر به، وما يحسب أنه قد ناله؛ فاستوقف أنظار الناس بإسرافه، حتى أصبح موضع أحاديثهم، ومثار عجبهم وتعجيبهم، ومن صور ذلك الإسراف شمعة عنبر أوقدها ليلة الزفاف، تزن أربعين مناً، أي ثمانين رطلاً أو تزيد، وقد أقامها في (تَوْر) من الذهب، مبالغة في السرف، حتى لم يفت المأمون فيما قالوا أن يلاحظ هذا ويأخذه عليهم. وحسبك هذا المثل وما تقدم لتتصور مقدار ما بلغ إليه الترف في هذا الزفاف البديع
كما أقام الولائم الفخمة لكل من كان هنالك من قواده وعساكره، ورجال المأمون وحاشيته، ثم تلك الجموع الحاشدة التي اجتمعت للمشاركة في الفرح، والتي يكفي للدلالة عليها أن نذكر أن طائفة الملاحين فيها كانت تبلغ نيفاً وثلاثين ألفاً، وقد ظل كل يوم يجددها ويفتن فيها، وقد أحاطها بكل مظاهر الجمال والفرح، كما كان لا يفتأ يخلع على القوم شتى الخلع،(238/43)
حتى عاد المأمون إلى بغداد بعد أن قضى هنالك سبعة عشر يوماً، كان مبلغ ما أنفق فيها على ما يقول الطبري وابن الطقطقي وغيرهما خمسين مليوناً من الدراهم
أما هباته في تلك المناسبة السعيدة، على القواد ومن إليهم من أمراء الهاشميين، فقد كانت بدعاً في أسلوبها ومقاديرها، غاية في الكرم والأريحية، تضمن لأصحابها الثراء الدائم، فقد كتب رقاعاً بأسماء طائفة من ضياعه، ثم وضعها في بطاطيخ من العنبر، ونثرها عليهم، فكل من وقعت في يده رقعة باسم ضيعة بعث فتسلمها، ملكاً خالصاً له، وتذكاراً بليغ الأثر في حياته لذلك الزواج الميمون
وحين أزمع المأمون المسير بزوجه إلى بغداد بعث إليه بعشرة ملايين درهم، فما حملت إليه حتى ثارت به أريحيته فأخذ يغدقها في قواده وأصحابه، وخدمه وحشمه، ثم مضى مع الخليفة يشيعه وعاد بعدها إلى داره قرير العين مطمئن الضمير
وأما بوران فقد مضت مع زوجها العظيم ونزلت دار الملك والخلافة، فكانت درته اللامعة، بجمالها الفتان، وذوقها المرهف وذكائها الوقاد، ومعرفتها الواسعة، وأدبها العظيم
ولقد ظل زواج المأمون ببوران غرة في التاريخ الإسلامي، بما قام عليه من أشرف معاني الوفاء والرعاية، وما اقترن به من أعظم مظاهر النبل، وأبهر دلائل الكرم والأريحية
محمد طه الحاجري(238/44)
آيات القران الملكي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
تيهي واثني أعطافك يا مصر، وميسي وجري أطراف الفخر، وازهي واهنئي بأطياف البشر ترفرف فوق قصور ربك، وتخفق على دور أهلك أبد الدهر؛ فهذا فاروق المحبوب المفدى، وفرقدك المشرق سؤدداً ومجداً، وسناك المعرق نبلاً وخلداً، يضم إلى آيات جلاله آية فريدة تتطامن لها العظمة، ويلبس من الطهر حلة وحيدة يختال بها فتهتف له الجلالة ويحصن دينه القويم؛ ومن غير المليك للدين حصناً، بالشمس طلعة والشرف ملكة، ويزين التاج بأنصع جوهرة في جيد المملكة، فتهفو لاسميهما المحبوبين أفئدة الأمة، وتقر بقرانهما السعيد السيادة والمعزة
وما تلك الزينات الموضونة، والأقواس المنضودة، والأعلام المرفوعة، والثرييات المؤتلفة المتلألئة، والكواكب المؤتلفة المتعانقة، إلا غيض من فيض شعور هذا الشعب المجيد بولائه السعيد بوفائه، وذرة من طود استبشاره الأشم، وغبطته بهذا القران الموسوم باليمن، المعقود بناصيته السعد. وإن دلت الاحتفالات على شيء فإنما تدل على أن الأمة لا يرضيها أن تعلن عن تعلقها بشخص فاروق العظيم، وولائها لعرشه المجيد، بالكلم الطيب ترتله، والدعاء الصالح ترفعه، والأهازيج تنشدها، والأغاني تنظمها، فحسب - بل بالبشر يفيض على كل محيا، والانشراح يفعم كل فؤاد، والسرور يملأ كل نفس، والزينات والثرييات يباهي بها كل بيت كواكب السماء ونجومها. ولو أتيح للشعب أن يعلن عن زهوه بمعقد مجده، وعن فخره بمناط سعده، وعن حدبه على موئل عزه بكل ما يشاء، لاستبدل بتلك الثرييات أفئدة وضاءة متألقة، يقرأ فيها رب التاج سطوراً من الحب المبين، ولجعل من أكباده مواطئ لقدميه؛ فالطنافس والبسط والخز والديباج، أدنى من أن تكون للمليك في ذلك اليوم الأغر موطئاً، ولصاغ للملكة الفريدة من أحداق العيون قلائد تزهو بها على خرائد الماس والجوهر؛ ولكن حسب الشعب نعماء أن مليكه يشعر بما يضفيه عليه من الولاء
ولا يقف بنا الفرح الزاخر والسرور الساحر عن استخلاص بعض آيات القران الباهرة، وبيناته الواضحة الرائعة، التي ستخلعها على الأخلاق فترى فيها مجداً، وتضفيها على الدين فيستعيد عزة وسعداً(238/45)
مثل عليٌّ جميل، يضربه زين الشباب لشباب الجيل، حفاظاً على سَنن الدين القويم، وإحياء لسُنن الرسول الكريم، ومن أولى من جلالة المليك التقي بآثار النبي تخليداً، ومن سوى جلالته يتخذ الشبان سنته تقليداً؟ فدونكم فتيان النيل وشبابه زهرات مصر اقطفوها في تقوى وإيمان، لا في طيش وعدوان، فذلكم هو المثل الأعلى للطهر فاسلكوه، والمهيع الواضح للنبل فانهجوه، والخطة المثلى للأخلاق فاحتذوها، فإنكم تحتذون بأسمى جناب، وأحب الأحباب، وحينئذ ترفعون ركن الخلق والدين، وهما لسيادة الأمم الحصن الحصين.
وفي تبكير مولانا الفاروق بالقران - في عصر طغت فيه الإباحية باسم المدنية، وجرفت فيه المادة كل معنى سام شريف، واضمحل وازع العقل واستشرى داء العاطفة - معنى عال جليل، فقد رمى - حفظه الله - إلى أن يبقى ثوبه عفاً لا تعلق به ريبة، ومحيطه طاهراً لا تحوم حوله ظنة، ودينه قويماً لا ترقى إليه شبهة، فأملك في تلك السن، لأن في ذلك كمال الإيمان، فلقد أملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وسنه إحدى وعشرون سنة (على ما أرجحه من الآراء)، وفي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يدل على توفيق رب التاج في دينه ودنياه، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) فمليكنا المحبوب الصالح ينفذ دعوة الرسول الأمين، ويدعو من يرى في جلالته نبراسه، وكل مصري يراه كذلك، إلى ذلك النهج القويم
وتخير الفاروق - أعزه الله - بصادق فطرته، وصائب إرادته، وسامي حكمته، نجيبة نبيلة، هي سليلة الطهر والشرف وربيبة العز والمجد، وتليدة الحسب والنسب، فحباها قلبه، وأولاها لبه، ووقف عليها حبه، فأعز باختياره شعبه، إذ اصطفاها من صميمه، ليمتزج دماء الملك في جلاله وصفائه، بدم الشعب في وداعته وإبائه. سنة كريمة سنها من قبله والده العظيم، فوهب الله لمصر فاروقها المجيد؛ له من خلق الملوك سناؤه وسموه، ونبله وعلوه، ومن خلال الشعب تواضعه وسجاحته، وديمقراطيته وسماحته، فَمَلكَ بشيمه قلوب أمته، وتطلعت إلى جلالته الشعوب الإسلامية ترى فيه مجدد شباب الإسلام بفتوته، ومعيد مجد الفراعنة بحكمته، وعرف له سامي عراقته ملوك الغرب، فأحبوه مليكاً نبيلاً، وعظموه صديقاً خليلاً. ثم إن المليكة الفريدة في المرحلة الأولى من حياتها مُهجرة مثقفة، متعلمة(238/46)
مهذبة، متصلة اتصالاً روحياً وثيقاً بالمُلكِ وتقاليده، فهي قد جمعت كل مؤهلات الملكة العظيمة؛ فكأن القدر والله مدبره، والدهر ورب الخلق يسيره، كان يعدها في نشأتها الأولى لهذا المستقبل العظيم ينتظرها ببشر غامر، ويمن وافر، فتتبوأ عرش الفراعنة تكلؤها عين رحيمة، ويرعاها حدب جميل. فجلالته البر الرحيم، والندب الكريم، فنشأت محبة للعلم مقبلة على دروسه لم تشغلها بحبوحة الثراء، ولا رفاهية السراة العظماء، عن أن تبذ قريناتها في رشف العلوم، وتبهر أترابها بفطنة تستشف بها المعارف، وتبعث الخشية في نفوس صويحباتها بما ترتل من آي القرآن الكريم، فكأنها كانت تعلم أن ستزف لناصر الدين والعلم والمعارف فهي تعمل لتقر عينه بما تتحلى به من أفانين العلم.
أليس كل هذا من علائم التوفيق واليمن، ومن بشائر الخير والسعد؟ وإنه لقران مبارك نتوسم أن يؤتي - إن شاء الله - أحسن الأثمار وأنضر الأزهار، وأن تعقبه أيام خالدات في جبين مصر تملأ عطف المصري تيهاً، وآلاء سنيات للإسلام ترفع له مناراً، وأياد على الوطن سخيات تعلى له شعاراً، فتنال الأمة في عهد الفاروق المفدى الحسنيين، ويبلغ مجد مصر الخافقين، وترفل فريدة في ظل رب العرش قريرة العين بخير من تظل السماء، منشرحة الصدر بالثجب من الأمراء، بسامة الثغر بما تراه من الحب والولاء، حينما تسمع القلوب والأفواه ترفع إلى الله خير الدعاء: يحيا الملك! تحيا الملكة
عبد العظيم علي قناوي(238/47)
الجلوة الملكية
للأستاذ إبراهيم مأمون
أي مجد حيال مجدك يُذكر؟ ... هذه الشمسُ في رحابك تُنثَرهْ
وابنُها البدرُ من رآك على العر ... ش تجلّيت، للوراء تأخّرْ
ونجومُ السماء تنتظم الأف ... قَ توشّيه من سناك المنضَّرْ
والنهار الضحوك يبتدر الشم ... س بوجه على الأريكة أنورْ
والنسيم الحفيّ يستاف ريا ... كَ، ومن فوحه أريج وعبهر
والرياحين في الرياض تواثب ... ن يُضمّخن من شَذاك المعطّرُ
والصِّبا الغضُّ: في المواكب ينسا ... ب انسياب الجمال في الروض أزهر
والكهولات زايلت كل كهل ... في مدَى يزحم النفوس ويبهرْ
والأغانيّ رَنّحت أذنَ الده ... ر فوافى لدى زفافك يسمُر
هذه هذه أغاريد مصر؟ ... أم هو الكون بين نايٍ ومزهر؟
ضَجَّ في سمعه الهتاف ودوّى ... منطق النيل في البلاد وزمجر
لَهوات الطيور تبتدع الشد ... ووتوليه صوت مصر المطهر
سال لحناً على شفاه مجالي ... ها، ومن نَفحة السماء تحدّر
في أغانٍ عُهِدن في شدْو (داو ... د)، ومن لحن بُوقه تتفجّر
وهتاف جرى على قصب الخل ... د، فغنت به ضفاف الكوثر
سرتُ والشعرَ في زفافك يا فا ... روق أحدو البيان غير مؤخر
وأناديه: إيه شعري، فهذا ... هو مجلاك، والكنانة مِنبر!
هات يا شعرُ من رصين القوافي ... هات بكرَ الخيال غير مُزَوَّر
لا تطف بي على عوانس ماضي ... ك. ومِل بي إلى البيان تمصّر
فاستوى يرسلُ المعانِيَ أبكا ... راً، ويُضفي الخيال لا يتعثر
ومضى بي كما أردت إلى العر ... ش، ومن دوننا جلالةُ عبقر
فإذا الساح والمواكب فيها ... حاشدات تسبي النفوس وتسحر
وإذا الشعر لا يشاء مضياً ... وإذا بي عن المدى أتأخر!!(238/48)
وإذا الحشد لا يطيق سكوتاً ... شهد العرشَ والمليكَ فكبرَّ
وإذا مصر بالهتاف تدوّي ... ذاك ركب الفاروق، الله أكبر!
عجزت ريشة المصور وارت ... دّ يراع الأديب غير مؤزَّر
وانتبذتُ القرطاس والقلم الفخ ... مَ، وأنكرت كل ما كان يُسْطر
وتسللت في الرياض لعلّي ... بجلال الرياض أحظى وأظفر
فإذا الصمت يحتوينيَ حيرا ... نَ، وشعري هناك غير مُيسَّرْ
ورأتني بلابل النيل أسْعى ... فتساءلن: ما لذاك تحيَّرْ؟
قلت: أرجو الإلهام من نفحة الر ... وض أحيّ به الزفاف الموقر
فتهامسنَ: ما لذاك؟ وعن أيّ ... ة حالٍ يرى المحاكِيَ عبَّر؟
أم عن العرش في الجلالة يبدو ... ضاحيَ الوجه، باسم الثغر، أحور؟
أم عن المُلك بات ينتظم الشع ... ب، كأن العباد للبعث تحشر؟
أم عن الليل بات يستبق الصب ... ح بوجهٍ من المواكب أقمر؟
أم عن الضوء في ائتلاق من البي ... ت يريك النهار أو هو أبهر؟
أم عن الغِيد يحتشدن جماعا ... ت وفي ركبها العفاف يُنَضَّرْ؟
أم عن الزهر في فروع العذارى ... يتهادين كالغصون تؤطَّر؟
أم عن الجَلوة المهيبة تسعى ... في احتشادٍ به الكمال تخفر؟
أم عن الدين في المحاريب يجثو ... بالدعاء المجاب للعرش يجْأر؟
أم عن الجحفل العرمرم في السا ... حة يهتزّ لِلوّاء المظفرْ
أم عن الخيل في رحابك يَرقصْ ... ن وفي موطن المنى تتبخترْ؟
أم عن الحائمات هَزَّمْن في الج ... وّ ومن نشوة العلا تتهدّر؟
أفحمْتني، فقلت: ويحك ماذا ... صُغْتهِ أنت؟ فانتحتْ تتفكر!
قلت. إيه بلابل النيل شدوا ... إن وصف البيان في الحق قَصّر!
فتناجين - والحقيقة تهفو - ... هكذا الوصف، نحن في الأمر نُعذر
قلت: إيه بلابل النيل إيهٍ ... إن جُهد المُقلِّ في الحفل يشكرْ
هل أتاك الحديث من شفةِ الوا ... دي بيوم على الزمان مُشهَّرْ(238/49)
أو رأيت الرحاب عادت سماء ... بسوى وجهك المضيء المدنّرْ
مهرجانٌ على المشارق ضافٍ ... يحشد الدهر رائعاً يتجمْهرْ
هذه مصر تحتفي بيفاع ... ساس بالحكمة الشئون ودبّر
يافعٌ، أروعُ الفؤاد، مُزكيَّ ... طيبُ النفس بالحنيف تَدَثّر
بلغَ الرشدَ يوم نُزِّيَ في المه ... د، وما كان في الأمور بإِمَّر
من وفاء البلاد إكليله السمْ ... حُ ومن حبها المؤكد يُضْفَرْ
وله الشمس وهي تاج المعالي ... تاج عِزٍّ، على سواه تكبر!
لم يُتح قبلُ للعياهِل في الأر ... ض ولم يُتخذْ لهامةِ قيصَرْ
رامه الشعب للمُمَلَّك رمسي ... س، وللفاطميِّ رجّاه جوهَرْ
يا مليك البلاد: ذلك يومٌ ... في حَشيد الأيام لَن يتنكّرْ
خفّ في قدسه فراعنة الوا ... دي نشاوى الخطا تُدِل وتفخَرْ
وكأن الوفود من (عين شمس) ... ومن (الكرنك) المخلد تخطرْ
وكأنّ الزفاف في (طيْبة) المج ... د وحشد الجموع حول (الأقصُر)
ههنا الصِّيد من فراعنة الوا ... دي يرون البلاد في العُرس تزخر
ذاك (وادي الملوك) ينتظم الني ... ل جلالاً على السفائن تمخُرْ
فانظر النيل والمواخر فيه ... تلْق دنيا من الزمان تُنشَّرْ
تلق عرش البلاد من (آل خوفو) ... ضاحيَ الحشد بين جند وعسكر
وترى (أحمسَ) الجريَء يزجّي ... سفن المجد تستزيد وتكثرْ
وانظر السُّفْنَ في الوشائع نشوى ... إن فيها (تحتْمسَ) النيل يَزْأرْ
أمِنتْ مصْرُ مِنْ عَوادي اللّيالي ... وزمان الفاروق بالعدل أسفر
إبراهيم مأمون
المدرس بمدرسة فؤاد الثانوية بالزقازيق(238/50)
عروس صاحب الجلالة فرعون الصغير
للأستاذ دريني خشبة
استيقظ أهل طيبة في هَدْأَة الفجر الأول من أيام الربيع على أصوات طبول فرعون التي أخذت تدوي في الأفق، وترن في ظلال المعابد، وتنسكب مع الشفق الوردي في أذني أمون رع وترف فوق مسلات الكرنك مع هُورس الكريم
واستيقظت الآلهة كلها تبارك الجيش، وتحرس صاحب الجلالة وتغسل الأعلام المصرية المنشرة بدموع الندى. . . تلك الدموع العطرية التي كانت تترقرق من أعين الربيع مما هزّه من فرح، وما سوى فيه من شباب فرعون
واهتز حابي العظيم تحت الأسطول اللّجِب الذي صدحت موسيقاه لتمتزج بموسيقى الجيش، فتتدفق في قلوب الشعب المزدحم فوق العدوتين ألحاناً من الحماسة، ونورانية من الحب، وقدسيةً من الولاء، تنعقد فوق هامة المليك هالةً من إعزاز رعاياه، وإكليلاً من وفاء الأمة النبيلة صاحبة المجد. . .
ويل للحثيين!!
لقد أغراهم بمصر أن رأوا على عرشها الملك الشاب تحتمس فغرتهم الأماني، وهاجت في قلوبهم الأحقاد القديمة، ووسوست لهم شياطينهم أنها الفرصة النادرة التي يدركون بها ما لم يدركوه في عهد آبائه، فتألبوا، وثاروا، وجمعوا الجموع لغزو مصر
ولكن. . . طاشت أحلامهم. . . ففوق عرش النيل ملك، وفي مصر أمة، وملء الوجهين قلوب فياضة بحب فرعون يوجهها أنى يشاء. . . وهاهو ذا الجيش تنتظم صفوفه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وهاهو ذا الأسطول يتهادى على أعراف الموج في النيل نحو الشمال. . . وهاهي مصر كلها تحملق مُغضَبة نحو المشرق، ساخرة مستهزئة بأعدائها الكلاب الذين طالما حطمتهم في ديارهم، وألبستهم لباس الذل والخوف، فلما صفحت عنهم إذا هم ينْفِرُون!
واستيقظت حَتَاسُّو، عروس فرعون، وفتحت نافذتها لتشهد المنظر الرائع، ولترى إلى زوجها الشاب يستعرض الجيش وقد استوى فوق جواده الأبيض المختال، وراح يتهادى بين صفوف الجند، كأنما يرسل من عينيه المصريتين سحراً في قلوب المحاربين، ومن(238/51)
فوق رأسه تاج المملكة المتحدة يشع سناه في غبشة الصبح، فكأنما يملأ الآفاق ذَهَباً
لقد كانت ليلة طويلة دجوجية، تلك الليلة التي قضتها حتاسُّو بين وصيفتيها النائمتين الحالمتين، تفكر في مليكها الذي أقبل في المساء يودعها ويتزود منها لرحلة الغد إلى بلاد الحثيين. . . لقد كانت تراه ما يزال جالساً إليها يحدثها ويسامرها، ويرسل عينيه الحبيتين في عينيها المذعورتين، ويرسل معهما روحه فتعانق روحها، وقلبه فيتحسس قلبها، وشعوره الفائر، فيتحد بشعورها. . . ثم تذكر رنين صوته العذب الموسيقي يترقرق في أذنيها فيملؤهما بالأحلام، ورنين قبلاته الحارة الطاهرة تهمهم على فمها الشتيت الحلو فتحمل إليه سِرّ الخمر الإلهية التي لا غَوْل فيها ولا تأثيم. . . فتبكي. . .! ولم لا. . .؟ أليس من البكاء بكاء تحمل دموعُه رسالة الروح فتذهب بها إلى الله اللطيف العلي، فتكون عنده صلاةً ليس مثلها صلاة!! ذلك بكاء المحبين. . .
ورحل فرعون الشاب بأساطيله وجنده
ولكن طيبة العظيمة لم يدم لها هذا الصفو الجميل الذي ودعت تحت بنوده ملكها. . . ذلك أن أم العروس المصون شوهدت في فجر اليوم الثاني راكعة في المعبد الكبير أمام المذبح، بين يدي أمون رع، تبكي وتصلي، وتتوجع وتتصدع وتشكو إلى الله بثها الذي لم يعرف أحد سببه
وقد وقف الكهنة حولها في ذهول وخشوع، ولم يجسر أحد منهم أن يسألها عما ألم بها؛ بيد أن رئيس المعبد تقدم إليها آخر الأمر في أدب وضراعة، وربت قليلاً على كتفها، ثم مد يده الواهية المعروقة إلى يدها المرتجفة المحزونة، فنهضت وهي لا تكاد تعي مما يعصف بها من هم وشجو. . .
وسار الكاهن الأكبر بين يديها إلى صومعته؛ وكان الكهنة يتلون أوْراد الفجر وأناشيد الصباح فتهتز جوانب المعبد بحسن إنشادهم وروعة ترتيلاتهم، فتنهمر دموع الأم، وتقف أمام هذه الصورة، وبين ذلك التمثال باسطة ذراعيها، وداعية الآلهة، متمتمة بكلام خفي غير مفهوم. . .
- ماذا يا ابنتي! فيم مجيئك في هذه الساعة من الفجر؟ وفيم هذا البكاء وتلك الصلوات. . .؟ تكلمي. . .! ألست أباك؟(238/52)
- تباركت أيها الأب. . . ولكن ليحضر نائب صاحب الجلالة، فالخطب جلل. . . وتكاد نفسي تتصدع. . .
- نائب صاحب الجلالة؟ أي خطب جلل يا أربابي؟! أمون رع!! لطفك يا ربي المقدس!
وأرسل الكاهن الأكبر رسوله إلى نائب الملك فجاء مهرولاً في ثياب النوم، وجعل يلهث من الفزع والتعب، ويسأل الكاهن فيم أرسل إليه، وماذا أصاب والدة الملكة. . . فأشار الكاهن إلى الأم الباكية، فالتفتت إليه مذهولة وقالت:
- ابنتي! ابنتي يا نائب صاحب الجلالة!
- الملكة!
- بل العروس!
- ماذا؟ ماذا أصابها؟
- لا أدري. . .! إنها ليست في القصر! لا هي، ولا وصيفتاها!
- هل فتشت الغرف؟
- كلها!
- والحديقة؟
- وطيبة جميعاً. . .
- جريمة! إن في الأمر جريمة. . . لا بد من تبليغ مولاي! وكاد النائب المسبوه يرسل صيحة ذعره في المعبد، لولا أن أشار إليه رئيس الكهنة، فصمت. . . وقال فتاح الكاهن الأكبر:
- أتحسب أن من الخير أن نحمل هذا النبأ المروّع إلى ملكٍ ذهب أمس، وأمس فقط، على رأس جنوده ليؤدب أعداءه؟ لا، لا، ليس هذا عندي برأي. . . إنها أول حربٍ يشنها الملك، فكيف نُثنيه بمثل هذا عن عزمه؟!
- فما الرأي إذن؟
- اهدأ يا نائب صاحب الجلالة، فنحن بين يَديْ أمون، ويوشك رَعْ أن يهدينا بِسَنا نوره ولألاء حكمته
ويرى الكاهن الأكبر أول شعاعة من شعاع الشمس تدخل من كوة الشرق في الصومعة،(238/53)
فيأمر المؤذن فيؤذن بصلاة جامعة، لرع. . . رب المشرقين!
وينتظم الكهنة صفوفاً أمام المذبح الكبير، ويبدأ رئيسهم إنشاده، فيأخذون في ترتيل جميل، وتركع (تي)، ويركع آنبو، ويصليان مع الكهنة. . . حتى إذا فرغ الجميع من صلاتهم خلا رئيس المعبد إلى آلهته، ثم أقبل على نائب الملك وأقبل على تي بوجه مشرق متهلل وهو يًسِّبح ويقول: (بخير. . .)
(بخير؟! وأي خير في أن تختفي عروس فرعون، فإذا آب من حرْبه لم يجدها؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يلقاه حين يصل إلى طيبة فلا تكون عروسه أول من تلقاه بها حاملةً له باقةً ناضرةً من أزهار اللوتس المقدسة؟ واأسفاه عليك يا ابنتي؟ وواأسفاه على الأحلام الضائعة!)
وهكذا راحت تي تندب حظها، وتذرف الدمع من أجل ابنتها، وكلما زارها كبير الكهنة فواساها لم تلق بالها إليه، حتى اساقطت نفسها أنفساً، وحتى براها الحزن، وشفها الوجد، وأوهاها طول البكاء
وكتموا الخبر حتى لا يصل إلى فرعون فيفت في عضده، ويوهي من جَلَده، ويكون سبباً فيما لا يوده له إلا عدوه
ثم أرسل تحتمس رسالة إلى عروسه أخذتها أمها، فلما فَضتها، انهمرت عيناها بالدموع الحِرار من أجل حتاسو، التي أرسل الملك يخبرها أنه اجتاز حدود مصر إلى بلاد الأعداد، وأنه يقبلها على هذا البعد الشاسع بينهما، ويسألها أن تصلي له وتركع بين يدي آمون رع من أجله. . . ومن أجل مصر. . . التي يفتديها الجميع، ويعيش من أجلها الجميع، ويموت في سبيلها الجميع
واضطرت الأم المحزونة أن تزور رسالة تبعث بها إلى صاحب الجلالة على لسان عروسه تشكره فيها وتتمنى له الخير والنصر؟ وكانت الرسالة جافة خالية من روح الحب الذي يملي على صاحبه ويوحي إليه، ويُنضر طِرْسه بألوان الورد، ويعطره بأنفاسه. . . فلما قرأها تحتمس هاجت الوساوس في قلبه، وإن يكن قد تجلد وصبر
ولقي فرعون أعداءه. . .
وكانت جيوشهم تغمر السهل والجبل، وقنابلهم تزحم البر والبحر، وهم على كثرتهم سابغون(238/54)
في دروعهم مُقَنعون في حديدهم، تصهل خيلهم فتتجاوب أصداؤها في جنبات الوادي وترغى فتشق عنان السماء. . . وقد آنس الملك ضعفاً وقلة في ميسرتهم فانقض عليها بميمنته، واستطاع بعد عناء أن يزحزحها، لكن المدد الذي وصل من وراء المجثبتين أفسد على فرعون خطته، فتقهقر قليلاً ليأمن التفاف الأعداء، الذين غرهم نكوص ميمنة مصر، فهجموا بجموعهم كلها؛ وحمى وطيس القتال في القلب والميسرة والميمنة. . . وثار النقع. . . وارتفع أنين القتلى في كل مكان. . . وانطلق عزيز النيل يصيح في جنوده ويحرضهم ويثبت أقدامهم، ويذكرهم بمجد بلادهم. . . وكانت كلماته تثير فيهم الحمية، وتلهب صدورهم بنار الوطنية، فيهجمون غير مبالين، وينقضون على أعدائهم غير هيابين، حتى زلزلوهم عن مراكزهم. وزادهم حماسة أن رأوا قلب الحثيين ينتقض على قادته، ويولي بعض عساكره الأدبار، فاقتحموا وراءهم الحلبة وأوقعوا فيهم حتى أثخنوهم. . . وأبصرت ميمنة الحثيين وميسرتهم ما حل بالقلب فبهتوا، وخارت عزائمهم، وساعد ذلك المصريين فانقضوا عليهم كالصواعق من كل مكان. . .
وظن المصريون أنهم ظهروا على أعدائهم فجعلوا يتصايحون ويهتفون، ويهنئ بعضهم بعضاً، والعدو ما يزال صامداً في مكانه. وفطن قائد الحثيين إلى ذلك فبدا أن يذهب له في كوكبة من أشجع فرسانه فيلتف بمركز القيادة في صفوف المصريين الخلفية وسرعان ما أنفذ الفكرة
وكادت حيلة القائد تنجح، لولا أن فطن إلى ذلك أحد فرسان المصريين فصاح ببعض ضباط الجيش قائلاً: (أيها الجنود دافعوا عن ملككم. . . الحثيون يوشكون أن يحدقوا به). وتلفت الضباط فرأوا كوكبة الحيثيين مسرعة إلى مركز القيادة
فصاحوا بجنودهم، وانطلقوا في أثر الفارس الذي نبههم فاشتبكوا مع الأعداء في ملحمة هائلة، أبلى فيها بلاءً حسناً. . . وهرب الحثيون. . . ولكن الفارس المسكين سقط جريحاً، وانبطح من فوق جواده بين القتلى العديدين. . . وتقدم إليه فارسان شجاعان فحملاه إلى المعسكر حيث ضمدا جراحه وجلسا عند سريره يواسيانه
وانتصر فرعون مصر، وطهر الأرض من رجس الحثيين! وعاد إلى معسكره فمنح الفارس الجريح أسمى ألقاب الجيش ورفعه إلى مرتبة قائد، ثم ذهب إليه بنفسه فأبدى له إعجابه(238/55)
بشجاعته وحسن بلائه
وذاعت أنباء النصر في مصر فغمر الفرح رعايا فرعون، وراح الجميع يقيمون معالم الزينة على مساكنهم ومتاجرهم، وانطلقت زرافات الكهنة ترتل أورادها في شوارع المدن، وبدت طيبة في أبهى حللها، ورفرفت الأعلام على الهياكل ودور الحكومة، وتدفق حابي بالبركات في أرجاء البلاد
وذهب نائب الملك في معيته كبير الكهنة للقاء صاحب الجلالة على حدود البلاد، وليجنباه الخبر المفزع الهائل. . . خبر اختفاء عروسه. . . أو ليكونا على الأقل معينين له على تحمل الصدمة. . .
وقد سألهما جلالته عنها حين لقيهما فكتما عنه الأمر، لتتم للبلاد أفراحها؛ واعتزما ألا يقولا له شيئاً حتى يستقر في عاصمة ملكه
وكم حدّث عزيز مصر نفسه أنه كان أحجى بحتاسُّو لو خرجت إلى الحدود للقائه، كما خرج نائبه وكبير الكهنة وكبراء الدولة. . . . . .
لكنه مع ذاك تجلد واصطبر. . .
ووصل إلى طيبه. . . ولكن حتاسو لم تسرع للقائه، فماذا جرى؟! وبدلاً من أن تذهب حتاسو إلى قصر الملك لتهنئه، فقد ذهبت أمها الواهية المتداعية. فما إن وقعت عيناه عليها حتى سألها:
- ماذا؟ أين حتاسو؟؟
فتبسمت الأم المذهولة وقالت:
- في سريرها يا مولاي!
- في سريرها؟ أهي مريضة؟
- أجل يا مولاي
ونظر نائب الملك إلى كبير الكهنة ثم راح يسر إليه: (يا للآلهة! إن تي وفية للملك مخلصة. . . إنها تأبى أن تكون أول من يبلغ الملك نبأ اختفاء عروسه!!)
قال الملك:
- إذن نمضي نحن فنراها(238/56)
ودخل صاحب الجلالة غرفة حتاسو، فوجدها طريحة الفراش، وقد ربطت فخذها وذراعها بأربطة وضمادات. . . وكانت تغط في سبات عميق، وكان وجهها مع ذلك مشرقاً جميلاً ساحراً كعادته. . . ولم يملك تحتمس إلا أن ينحني فيطبع قبلة اللقاء على فم عروسه. . .
وانتفضت حتاسو من سحر القبلة العزيزة، ولما فتحت عينيها، رأت صاحب الجلالة منحنياً فوق وجهها، ودمعة غالية تترقرق في مقلتيه. . . فهبت من سريرها باسمة سعيدة، وأنشأت تقول:
- أهنئ مولاي بالنصر الحاسم
وتحدرت الدموع من عيني الملك، ثم قال لعروسه:
- ماذا بك يا حتاسو!؟
فقالت له:
- لا شيء! جروح هينة من معركة مَجِدُّو!!
- معركة مجدُّو؟
- إي يا مولاي. . . مجدُّو. . . مجدُّو! ألا تعرف الفارس أحميس الذي رفعته إلى رتبة قائد؟ هو أنا! وهاتان صاحباي:
وبعد شهر واحد لبست البلاد زخرفها وازينت واحتفلت بزفاف صاحبي الجلالة.
دريني خشبة(238/57)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 7 -
وعند هذا الحد من الحديث تذكرت ليلى
تذكرت العبارة البغدادية الطريفة التي طلت بها قلبي منذ أول زيارة، فقد قالت حين رأتني أهم بالرواح:
(فراقك صعب، سيدي)
ورأيت من الخير أن أصرف ظمياء. وكانت لي سياسة أوحاها الشيطان، فقد رأيت الفتاة تقص أحاديث الشيخ دعاس وزوجته نجلاء بحماسة سحرية، ورأيتها تطنب في وصف ابنتهما الجميلة، تلك الفتاة التي اسمها درية، وهو اسم لا أدري كيف يلذع قلبي، ولكن لا موجب للمضي في سماع ما تقول ظمياء في وصف درية، فليس من الحزم أن تقول ظمياء كل ما عندها في ليلة واحدة. وهل أضمن رؤيتها بعد ذلك إن تم هذا الحديث؟ من الخير أن أصرف هذه الفتاة وهي في نشوة الحديث فلا أتعب في رَجْعها إلى منزلي حين أشاء
ولكن كيف أصرفها وقد استأنست كل الاستئناس؟
يجب أن أصرفها بعلة طبية لتتهيأ للمرض، فقد أمسيت أشعر بوجوب أن تصبح هذه الفتاة من مرضاي؛ ولا بد للطبيب من مريض؛ وستعافى ليلى بإذن الله، فلتكن لي ذخيرة ألتمس بها البقاء في بغداد. وكذلك صوبت بصري إلى الفتاة وقلت:
ما هذا الذي أرى بوجهك يا ظمياء؟
فانزعجت الفتاة وقالت بصوت مقتول: إيش بي يا عمي؟
فقلت وأنا أتكلف الحزن: سأخبرك يا بنيتي حين أجيء لعيادة ليلى. فاذهبي الآن واستريحي، وتجنبي التعرض للتيارات الوجدانية
فخرجت الفتاة مذعورة لا تُلوى على شيء. والجمال الساذج يفتن القلوب حين يكرثه الانزعاج
فراقك صعب، سيدي
كذلك قالت ليلى(238/58)
فراقك صعب. . .
أي والله، فراقي صعب، يا ليلى، وفراقك أصعب. فمتى يكون اللقاء؟
وأويت إلى فراشي في ليلة باردة لم يدفئها غير الذكريات. ثم خرجت مبكراً في الصباح فرأيت بغداد تموج بالحديث عن ليلى والدكتور زكي مبارك وانتخاب مجلس النواب
أعوذ بالله!
ثم سألت فعلمت أن مجلة الرسالة نشرت كلمة عن ليلى المريضة في العراق، فتذكرت الخطاب الخاص الذي أرسلته إلى الأستاذ الزيات منذ أسابيع. وما أتهم هذا الصديق بسوء النية في نشر ذلك الخطاب، فهو رجل عاش سنين في بغداد ولم ير ليلى بعينيه، فهو يحب أن يراها مع قرائه بأذنيه، تأسياً بقول الشريف الرضي:
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي
ومضى يوم، ويوم، وأيام، وأنا طعمة الألسنة والعيون في كل مكان
وكانت فرصة تذكرت فيها ما جنيت على نفسي في السنين الخوالي، فقد كنت عدو نفسي من حيث لا أريد. أنا الطبيب الذي أضاعه الأدب فلم يبق أمامه غير احتراف الصحافة والتعليم. ولولا جناية الأدب لكنت اليوم عميد كلية الطب بالجامعة المصرية، وأنا عند المنصفين أعرف بالطب من العميد المعروف
تذكرت وتذكرت. . .
تذكرت العيادة التي أقمتها في الزمالك مع زميلي الدكتور أديب نشوان، وهي عيادة كان يُرجَى أن تكون مضرب المثل في عالم الطب، ولكن مقالاتي في جريدة البلاغ جنت علي فلم يعد أحد يصدق أنني طبيب
وتذكرت مجلة (طبيب القلوب) وكانت والله مجلة لطيفة، ولكني تفلسفت في الدراسات النفسية، ثم ما زلت أوغل في التفلسف حتى حسبني القراء من العابثين؛ وعطلت المجلة، ولا تزال إلى اليوم في نزاع حول ما تراكم عليها من ديون
وقد نجا زميلي بجلده، وكيف لا ينجو وهو جبان! وبقيت أنا أضع الدينار بجانب الدينار لأتخلص مما جناه قلمي البليغ!
يرحمك الله يا أبي! فكم نصحتني ولم أنتصح! كم قلت إن الطبيب لا يليق به أن يتحدث في(238/59)
أشعاره عن الخدود والعيون والنحور والثغور، ولا ينبغي له أن يتفجع على مواسم الروح في مصر الجديدة والزمالك. ولكني أحسنت الظن بالناس فانطلقت أشدو وأترنم، فكان جزائي أن أعيش عيش المشردين بين القاهرة وباريس وبغداد
تذكرت وتذكرت لو تنفع الذكرى!
تذكرت العيادة الجميلة التي أقمتها في شارع فؤاد بعد أن خُرِّبت عيادتي بشارع المدابغ بسبب السيدة (ن)، وكانت عيادتي بشارع فؤاد تبشر بمستقبل رائع، فقد كانت مجهزة على أحدث طراز، وكان فيها ممرضة جميلة تخلب عقول النساء قبل أن تخلب عقول الرجال؛ ولكن الله ابتلاني بطائفتين من الناس كانوا السبب في خراب تلك العيادة الفيحاء: الطائفة الأولى جماعة الأصدقاء الذين يرون من حقوق الصداقة أن أداويهم بالمجان. أما الطائفة الثانية فهم الأدباء الذين جعلوا عيادتي سامراً يلتقون فيه كل مساء. وفي تلك العيادة تألفت رابطة الأدب القديم وجمعية عطارد وأصدقاء أفروديت. وفي تلك العيادة قامت المعارك بين القديم والجديد، وفيها نظم أول مؤتمر لكليات الجامعة المصرية، وفيها أسست نقابة المحبين
وما لي أكتم حقائق التاريخ؟ إن هذه المذكرات لن تنشر في حياتي، ولن يراها الزيات ولا غير الزيات. فلأدون فيها كل شيء وليقل الناس بعدي ما شاءوا؛ فسأكون في شغل عنهم بما أعد الله للأشقياء من نعيم الفراديس. وهل يُرضي الله في كرمه أن نشقى في الدارين؟
كانت عيادتي بشارع فؤاد هي الملاذ لكل أديب لا يجد في جيبه خمسة قروش يجلس بها جلسة لطيفة في مشرب. . . أو مشرب. . . أو مشرب. . . ولا موجب لذكر أسماء هذه المشارب فأصحابها لئام لا يستحقون الإعلان، وأخشى أن يعيشوا بعد أن أموت. أليس فيهم الرجل اللئيم الذي استقبل في حانته صديقي. . فلما انصرف سألني عن اسمه فطويته عنه. وكان اللئيم يريد أن يعرف ما هو اسم ذلك الشاب الذي يخاصر تلك الشقراء؟ وكان ذلك الصديق من كبار الموظفين بوزارة. . .
إن القاهرة ليس فيها مشرب أمين يلقى فيه الرجل حبيبته وهو في أمان من عيون الرقباء
وهذا الكلام الذي أدونه في مذكراتي هو السبب في خرابي، فأنا طبيب دقيق الإحساس، ودقة الإحساس في زماننا من أشنع العيوب. ومن حسن الحظ أن هذا الكلام سيُطوى إلى حين، لأني سأدفن مذكراتي بالمكتبة العامة في بغداد، ولن يطلبها مجلس كلية الآداب(238/60)
بالجامعة المصرية إلا بعد مئات من السنين. وستكون لكلية الآداب جهود مشكورة في درس النثر الفني في الأدب الطبي!
ألا فليعلم الجمهور الذي يخلفنا بعد مئات السنين أن الأدب أضاع ثلاثة من الأطباء كانوا يعيشون في مصر، وهم محجوب ثابت، وأحمد أبو شادي، وزكي مبارك
ولكن هل ضاع محجوب ثابت؟ وكيف؟ لقد اشتغل بالتمثيل السينمائي فنجح أعظم نجاح. وقد تفضل سعادة الأستاذ طه الراوي وكيل وزارة المعارف العراقية فدعانا منذ ليال لتناول طعام العشاء. وعلى المائدة تحدث الأستاذ منير القاضي فأشاد بنبوغ محجوب ثابت في التمثيل وجزم بأنه أبرع من الممثل زكي طليمات. وعندئذ أحسست الغيرة تلهب أحشائي، فهذا زميل أضاعه الأدب وحفظه التمثيل
وأبو شادي أحيته المعامل البكتريولوجية، فهو يفحص (عينات) الجراثيم ثم يخلد أصنافها بالشعر البليغ. أما زكي مبارك فقد أضاعه الأدب جملة واحدة. وإني لأخشى ألا يستمع إليه أحد إن وصف لمريض شربة زيت؛ ومع أنه ظفر بألقاب كلية الطب وكلية الآداب فقد ضاع في الكليتين، فهو عند كلية الآداب رجل طبيب، وعند كلية الطب رجل أديب، وعند الله جزائي!
ومما زاد البلاء أنني صرحت بأن ليلى تقيم في شارع العباس ابن الأحنف، وهو شارع معروف في بغداد، فما الذي كان يمنع من اختراع أسم موهوم أضلل به أهل الفضول؟ كذلك أمسيت في حيرة وارتباك، فما توجهت إلى ليلى إلا رأيت الشارع يعج بالمتطلعين. ويحسن النص على أن المدنية الحديثة جنت على بغداد أعظم جناية، فليس فيها شارع ولا حارة ولا درب ولا عطفة إلا وهو مضاء بالكهرباء، وبذلك ضاع علينا الحظ الذي كان يتمتع به المتنبي إذ يقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وفي بغداد شرطة لا تعرف التغافل الظريف الذي تصطنعه شرطة باريس. وليلى نفسها لا تخلو من عنجهية البدويات، وأنا نفسي لا أحسن الصبر وهو أقل ما يتخلق به الأطباء
وفي معمعة هذا الكرب وقع حادث ظريف، فقد تلقيت صكاً من مجلة الهلال على بنك إيسترن في بغداد، تلقيته في ساعة ضيق، فمضت إلى البنك لأتقاضاه وأنفق محصوله على(238/61)
نفسي وعلى بعض مرضاي من الملاح.
ولكن إدارة البنك رفضت تسليم المبلغ الميمون وقالت: هات جواز السفر، أو أحضر رجلاً يعرفك. فقلت: أما جواز السفر فلا سبيل إليه لأن المطر ينهمر والطريق كله أوحال. وأما البحث عن رجل يعرفني فهو سهل، ولكنه لا يتم بدون فضيحة البنك. فقال فريق من الموظفين: وكيف؟ فقلت: لأن مما يفضح بنك إيسترن أن يجهل زكي مبارك وهو رجل يشار إليه بالبنان في كل أرض، وفي صدره ودائع أغلى وأنفس مما تحفظ أقوى الخزائن في أعظم البنوك. وعندئذ ضج موظفو البنك بالضحك والقهقهة الساخرة؛ ولكن أحدهم ترفق وقال: أنت الطبيب الذي جاء يفتش عن ليلى والذي ينشر نتائج بحثه بمجلة الرسالة المصرية؟
فقلت: نعم!
فالتفت ذلك الموظف إلى زملائه وقال: يا جماعة. هذا هو الطبيب الذي جاء يفتش عن ليلى!
وما كاد يفوه بهذه الكلمات حتى أقبل الموظفون لمصافحتي. وفي لحظة واحدة تسامع مَن في البنك بقصتي، وقد استظرفوني جداً، بالرغم من أني أحمل أنفاً أعظم من أنف ابن حرب، كما قال الأستاذ حسن فهمي الدجاني، زميلي في أيام البؤس، يوم كنت تلميذ الشيخ سيد المرصفي بالأزهر الشريف. وصحبني ذلك الموظف إلي مكتب المدير فشربت عنده كأساً من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نواس. ولم يفتني أن أسأل عن اسم ذلك الموظف الأديب الذي يقرأ مجلة الرسالة وهو في البنك - وتلك إحدى الأعاجيب - فعرفت أنه يسمى ألبرت داود يعقوب، فمضيت وأنا أرتل الآية الكريمة: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
فقد نفعني الأدب في بنك إيسترن، فهل ينفعني عن ليلى؟
وهل نفعني الأدب عند عروس دمياط حتى ينفعني عند عروس بغداد؟
أمري إلى الهوى!
ظهر المقال الثاني في مجلة الرسالة وفيه كلام عن وزير المعارف ورئيس الوزراء، وقد صارحني الأستاذ عبد الجليل الراوي بأن لذلك عواقب. . .(238/62)
فليكن هذان المقالان كل ما أرسل إلى الزيات، ولتكن هذه الحوادث بداية لرجوعي إلى العقل، فأنا لا أزال شاباً، ومن السهل أن أحسن سمعتي وأن أعيد تنظيم عيادتي في شارع فؤاد، فلولا جناية الأدب لكنت اليوم أغنى الأطباء
على أنه لا موجب للندم على المقالين اللذين نشرتهما الرسالة، فقد أصبح العراق جذوة وجدانية، وصار اسم ليلى بداية كل حديث ونهاية كل حديث في الأندية والمعاهد، بغض النظر عن الفتنة التي ثارت بسبب ليلى في الرستمية، وبغض النظر عن المشاجرة التي وقعت من أجلها في كلية الحقوق. . . وينبغي أن أسجل أن هذين المقالين جذبا الأنظار إلى المؤتمر الطبي، فقد حدثني الدكتور حسين كامل أن طلبات الاشتراك بلغت المئات في أسبوع واحد. والسبب لا يخفى على من سيقرءون مذكراتي في السنين المقبلات، فقد صار مفهوماً أن ليلى ستحضر جلسة الافتتاح، وإلى ذلك أشارت جريدة البلاد وجريدة العقاب وجريدة الرأي العام وجريدة الهدف، وأنكرت ذلك مجلة الكفاح وقالت: إنه لا يليق بأمة إسلامية أن تعرض امرأة لعيون الناظرين؛ وفات مجلة الكفاح أن المؤتمر لا يعقد هذه السنة في بغداد إلا بسبب النظر في أمر ليلى المريضة في العراق
ولكن هل أسمح بخروج ليلى؟ هل ضاقت الحيل حتى أمكن الناس من رؤية ليلى؟
رباه! لقد بدأت أشعر بالغيرة على ليلى، فهل تكون الغيرة نذيراً بهبوب عاصفة الحب؟
أمري إلى الهوى!
نشرت جريدة البلاد في أبرز مكان كلمة تحت عنوان: (أنشودة اللقاء)
ثم قالت إنها تلقت قصيدة موجهة إليّ بتوقيع (ليلى المريضة) وأنها حولت القصيدة إلى الدكتور زكي مبارك راجية أن يكون له فيها شيء من العزاء
وقد تلقيت القصيدة وتأملت الخط، فعرفت أنها من ليلى غير ليلاي
ونشرت جريدة العقاب كلمة قالت فيها إنني شرعت في تعلم الطب، وذلك دليل جديد على أن شهرتي الأدبية أضاعت منزلتي في عالم الطب، فمتى يشفيني الله من الغرام بالأدب وصحبة الأدباء!
آه! آه!
هذا خبر جديد، فقد أخبرني الدكتور حسين كامل أن الزيات سيحضر إلى بغداد لشهود(238/63)
المؤتمر الطبي، وأنا أفهم جيداً ماذا يريد. وهل تجوز عليَّ الحَيلَ وأنا خِريج مونمارتر ومونبارناس؟ هيهات هيهات!
أترك هذا العبث في تدوين مذكراتي، وأمضي لعيادة ليلى، فقد طال الشوق إلى صوتها الرخيم و. . . عينيها الناعستين. أليست هي التي قالت: فراقك صعب، سيدي!
فراقي صعب؟ نعم، إن ليلى تقول ذلك، والقول ما قالت ليلى، ولو كره السفهاء من العذال
(للحديث بقية)
زكي مبارك(238/64)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 82 -
يا أماه، سأنظم من عبراتي. . . عبرات الأسى. . . عقداً جميلاً أزين به جيدك
لقد أحسنت الكواكب صنعة الخلاخيل الضوئية لتزين بها قدميك، ولكن عقدي سيكون على صدرك
إن الثراء والشهرة هما بعض نفحاتكِ، وهما لك حين أمنح وحين أمنع؛ ولكن أشجاني هي لي وحدي، وحين أقدمها إليك تبدلينني بها عطفاً وحناناً
- 83 -
إنها غصة الانفصال هي التي تنتشر في أرجاء العالم فتحور في الفضاء اللانهائي أشكالاً وفنوناً عديدة
إنه أسى الانفصال هو الذي ينبعث - في صمت الليل - من نجم إلى نجم ثم يرتد إلى لحن بين حفيف الأوراق في حلوكة الليالي المطيرة من شهر يوليه
إنه الألم العميق الذي يهبط إلى قرار الحب والرغبة، إلى الآلام والأفراح في دور الناس. وإنه هو الذي يذوب دائماً فيفيض في قلبي الشاعر ألحاناً
- 84 -
حين يخرج الجند - لأول مرة - من فناء سيدهم، أين كانوا يخفون قوتهم؟ أين كانت دروعهم والسلاح؟
لقد كانوا يبدون مساكين لا حول لهم ولا جاه، وهم يحملون القِسي والسهام أول ما خرجوا من فناء سيدهم
وحين يرتدون إلى فناء سيدهم، أين يوارون قواتهم؟(238/65)
لقد طرحوا السيف جانباً، وألقوا القوس والسهم، وعلى جباههم ترف نسمات السلام؛ غير أنهم خلفوا من ورائهم ثمار حياتهم حين ارتدوا إلى فناء سيدهم
- 85 -
إن الموت، وهو خادمك، يقف ببابي. لقد اجتاز البحر المجهول ليبلغني رسالتك
الليل داج، وقلبي ينتفض من أثر الرعب. . . ولكني سأحمل مصباحي، وأفتح بابي، وأرحب به، لأنه هو رسولك الذي يقف ببابي
سأتوسل إليه في ذلة وأسكب الدمع أمامه. سأتوسل إليه، وأضع كنز قلبي عند قدميه
سيرتد وقد أتم عمله ونشر ستاراً حالكاً على صباحي، ونفسي الضعيفة ما تنفعك في داري الموحشة لتكون قرباني الأخير إليك
- 86 -
وفي أمل اليائس انطلقت أفتش عنها في زوايا حجرتي فما وجدتها
إن داري صغيرة، وما فقد منها قل أن يعود ثانية
ولكن اللانهاية - يا سيدي - هي قصرك المشيد، وحين رحت أفتش عنها وقفت ببابك
وفي الليلة الظلماء وقفت تحت عرشك الذهبي. . . تحت سمائك ورفعت بصري إلى وجهك
جئت إلى حافة الأبدية حيث لا شيء يغني. . . لا الأمل ولا السعادة ولا وجهك وهو يتراءى من خلال العبرات
أوه، أغمس حياتي الخاوية في هذا الخضم، وأغمرها في أعماق الكمال ثم دعني استشعر - مرة واحدة - اللذة المفقودة في لمسة من لمسات خلود العالم
- 87 -
يا إله المعبد الخَرب! قد انقطعت أوتار القيثارة التي أوقع عليها لحن الثناء عليك، والنواقيس - في سكون الليل - لا تعلن عن ميعاد الصلاة لك؛ والهواء حواليك ساكن هادئ
لقد هبت نسمات الربيع في مسكنك الخالي وفي عطفيها سيل من الزهور. . . الزهور التي لا تقدم إلا في أوقات عبادتك(238/66)
وعبدك، عابر السبيل؛ ما يزال يلحف، يطلب بعض رحمتك فما ينال شيئاً، وفي الغسق، حين تختلط النار والظلماء بما على الأرض من كآبة وعبوس، يرتد هو إلى معبدك الخَرب وفي قلبه الظمأ
يا إله المعبد الخرب! كم من عبد يقبل إليك في صمت! وكم من ليلة من ليالي التهجد تدبر وفي أضعافها سراج منطفئ!
وكم من صورة جميلة زوقتها يد الفن الخادع ثم هي تندفع في مجرى النسيان المقدس حين يأتي عليها الزمن
ولكن إله المعبد الخرب ما يبرح في منأى عن العبادة في إهمال مروع
- 88 -
لا صخب ولا صياح. . . تلك مشيئة سيدي؛ لذلك سأتحدث في همس، وسيكون صوت قلبي دندنة فيها نغم لحن
إن الناس يشتدون إلى سوق المِلك، وهناك البيعان؛ غير أني رجعت قبل أن يحين وقت الانصراف. . . غادرت السوق عند الظهر وهو ما يزال يموج بالناس
إذن دع الأزهار تتفتح في حديقتي وإن لم يكن قد آن أوانها، وأرسل النحل في الهاجرة يطن طنينه الضعيف
لقد قضيت ساعات طوالاً في صراع حاد بين الفضيلة والرذيلة؛ والآن هاهو رفيقي يريدني على أن ألقي بقلبي بين يديه؛ وأنا لا أدري، لعلما أراد أن يدفعني إلى ما لا خير فيه
كامل محمود حبيب(238/67)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
345 - لعبة الدبوق
في (نثار الأزهار) لابن منظور: الدبوق كرة شعر ترمى في الهواء، ثم يتلقاها الغلام ضارباً لها تارة بصدر قدمه، وتارة بالصفح الأيمن من ساقه اليمنى، راداً إياها إلى العلو على الدوام. ومن بديع التشبيه قول الأرجاني في غلام يلعب بالدبوق:
يهتز مثل الصعدة السمراء
فقدُّه من شدة التواء
كالغصن تحت العاصف الهوجاء
تراه من تمدد الأعضاء
كأنه كواكب الجوزاء
346 - إنما رغبتنا في العفاف
في (كنايات الأدباء) لأحمد بن الجرجاني الثقفي: من كناية العامة: إذا قال أحدهم: سلامتها خير من كل شيء. فقد ولدت امرأته اثنين في بطن. . .
وإذا قال: إنما رغبتنا في العفاف. فقد تزوج قبيحة فقيرة. . .
وإذا قال: لقمة البيت أطيب من كل شيء. فقد فاتته دعوة
وإذا قال: وما شهدنا إلا بما علمنا. فقد ردت شهادته في حق من شهد له. . .
وإذا قال: ما بحلال الله من بأس فقد تزوجت أمه. . .
347 - الاقتصاد، البخل
في شرح النهج لابن أبي الحديد: الفرق بين الاقتصاد والبخل أن الاقتصاد تمسك الإنسان بما في يده خوفاً على حريته وجاهه من المسألة، فهو يضع الشيء موضعه، ويصبر عما لا تدعو ضرورة إليه، ويصل صغير بره بعظيم بشره، ولا يستكثر من المودات خوفاً من فرط الإجحاف به، والبخيل لا يكافئ على ما يسدي إليه، ويمنع أيضاً اليسير من استحق الكثير، ويصبر لصغير ما يجري عليه على كثير من الذلة(238/68)
348 - دع أيهما شئت وخذ الآخر
في (الأغاني): قال علي بن عبد الله الجعفري مرت بي امرأة في الطواف وأنا جالس أنشد صديقاً لي هذا البيت:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدين؟
فالتفتت المرأة إليّ وقالت: دع أيهما شئت، وخذ الآخر. .
349 - 14 يوماً. . .!
في (شذرات الذهب): حكى غير واحد أنه وجد بخط الناصر (الأموي) أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا، من سنة كذا، ويوم كذا من كذا، وعدت تلك الأيام فكان فيها أربعة عشر يوماً. . .!
350 - نسب بن حيطان
قال رجل لعبد الملك بن الزيات: أُمتُّ إليكم بجواري
فقال: نسب بن حيطان. . .
نظم ذلك بعضهم فقال:
أرى الجوار نسباً بين الجدر
والعطف والرقة حيناً والخور
طباع نسوان وصبيان غرر
351 - ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة
في (وفيات الأعيان): كان الأمير قرواش بن المقلّد (صاحب الموصل والكوفة والأنبار) كريماً وهاباً ذهاباً، جارياً على سنن العرب، نقل عنه انه جمع بين أختين في النكاح فلامته العرب على ذلك
فقال: خبروني ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة؟. .
352 - النرجس
لما قدم علي بن سعيد المغربي المؤرخ مصر المحروسة صنع له أدباؤها وليمة في بعض(238/69)
منتزهاتها، وانتهوا إلى روض نرجس
فجعل أبو الحسين الجزار يطأ عيون النرجس برجليه، فأنشده ناصر الدين حسن بن النقيب:
يا واطئ النرجس، ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل
فتهافتوا على هذا البيت وراموا إجازته فقال ابن أبي الأصبع:
فقال: دعني لم أزل محنَقاً ... على لحاظ الرشأ الأكحل
وكان أمثلَ ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غير ابن سعيد فقال:
قابل جفوناً بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل(238/70)
البريد الأدبي
جوائز فاروق الأول
من الطوالع السعيدة لعهد فاروق الأول - حفظه الله - أن تحظى دولة الأدب والتفكير بأول قسط مشكور من حقها في التشجيع والرعاية؛ فقد انتهت وزارة المعارف بعد طول البحث إلى إقرار مشروع خطير لتشجيع العلوم والآداب يتلخص في ترتيب ستة جوائز ثمينة للمتفوقين في مختلف نواحي التفكير؛ وقد أشارت الرسالة في عددها الماضي إلى قيم هذه الجوائز وأنواعها. وصاحب الفضل الأول في تقديم هذا المشروع هو سعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا وزير الخارجية المصرية سابقاً وسفير مصر الحالي في لندن؛ وهو فوق كونه من رجالات مصر المعدودين مفكر وأديب بارع، وله مواقف مشهودة في تعضيد الحركة الفكرية، وهو الذي أنشأ (السياسة الأسبوعية) التي كانت قبل أعوام أعظم الصحف العربية الأدبية
ومما يذكر بالحمد لوزارة المعارف أنها لم تنس الأقطار العربية الشقيقة في ترتيب هذه الجوائز الأدبية الثمينة، فقد تقرر أن يسمح لأبناء العربية من الأقطار الأخرى بالتقدم إلى هذه المباريات في جوائز الأدب والقصص والاجتماع نظراً لما هنالك من وجوه التعميم في هذه الميادين، ورغبة في تشجيع الآداب العربية بصفة عامة، وتقوية للروابط الفكرية والثقافية بين مصر والأقطار العربية الشقيقة
ونحن نغتبط بهذه الخطوة الموفقة التي تتخذها وزارة المعارف لتشجيع الحركة الفكرية في مصر والأقطار العربية؛ ويزيدها توفيقاً ويمناً أن الجوائز الجديدة تحمل اسم صاحب الجلالة الملك (فاروق الأول)؛ بيد أننا نحب أن نرى فيها باكورة فقط، ونرجو أن توفق مصر إلى المزيد منها على يد هيئاتها ومعاهدها العلمية الكبيرة. فعلى الجامعة المصرية والجامع الأزهر أن يساهما في ذلك العمل الجليل، وأن يرتب كل منهما جوائزه الخاصة لتشجيع الحركة الأدبية والعلمية؛ وعلى جميع هيئاتنا العلمية الأخرى أن تقوم بواجبها في ذلك السبيل
المتحف الزراعي المصري
في يوم الاثنين 17 يناير الجاري افتتح صاحب الجلالة الملك فاروق الأول متحف فؤاد(238/71)
الزراعي بالدقي بالجيزة؛ وهذا المتحف على حداثته يعتبر في رأي الخبيرين أعظم متحف في العالم من نوعه. والفضل في إنشائه يرجع إلى جلالة المغفور له الملك فؤاد الأول. وقد بدئ بإنشائه في سنة 1930، وأراد الملك الراحل أن يكون معهد ثقافة زراعية علمية، فحملت إليه النماذج الزراعية من كل ضرب، وعرضت فيه مجموعات بديعة من الأزهار والحبوب والأدوات المنزلية، وهياكل الحيوانات المصرية الأليفة ومومياتها وأنواع الأسماك المتوطنة في النيل منذ القدم وأدوات صيدها؛ وعرضت النباتات المصرية منذ عصر الفراعنة والعصور الإسلامية. وبالجملة فقد غدا المعرض على حداثته معهداً عظيماً للثقافة الزراعية والنباتية والحيوانية خلال العصور التي توالت على وادي النيل. وسيعمل المتحف في القريب العاجل على ضم جميع التحف والعاديات التي لها علاقة بالزراعة القديمة، ونماذج من أدوات الزراعة والفلاحة والصيد التي كانت تستعمل خلال العصور المختلفة
ويقدر ما أنفق على هذا المتحف المصري العظيم منذ إنشائه إلى اليوم بنحو ثلاثمائة ألف جنيه مصري، وهي قيمة يدل إنفاقها على ما وصل إليه المتحف من الضخامة وحسن الاستعداد لأداء مهمته
وقد تفضل جلالة الملك فتفقد أقسام المتحف المختلفة، وشاهد عرض فلم علمي زراعي يبين تربية النحل وحلج القطن
ومما يبعث على الغبطة أن مدير المتحف الحالي هو مصري من الأخصائيين في الشئون الزراعية، وقد كان إلى عهد قريب من الأجانب
فصل المؤتمرات الدولية بالقاهرة
أصبحت القاهرة من العواصم العالمية التي تتجه إليها أنظار المؤتمرات الدولية، وفيها يعقد كل عام في فصل الشتاء على الأخص عدة مؤتمرات دولية هامة، بدعوة سابقة من الحكومة المصرية وقد عقد بها في هذا الفصل إلى الآن مؤتمران دوليان كبيران هما مؤتمر الرمد الدولي، ومؤتمر توحيد قانون العقوبات الذي اختتمت اجتماعاته منذ أيام قلائل. وسيعقد في القريب العاجل مؤتمران دوليان آخران هما مؤتمر القطن الدولي، ويفتتح في 26 يناير الجاري، ومؤتمر اللاسلكي ويفتتح في أول فبراير؛ والأول من المؤتمرات الدولية التي(238/72)
تعلق عليها مصر أهمية خاصة باعتبارها في مقدمة دول العالم التي تنتج القطن وتعتمد في مواردها على تصريف محصوله. وقد كانت مصر دائماً عضواً بارزاً في مؤتمرات القطن الدولية وكانت لها في هذه المؤتمرات جهود مشكورة في التنويه بأحوال الزراعة القطنية وتجاربها العلمية وآفاقها وتصنيف محاصيلها. ولا يقل مؤتمر اللاسلكي عن سابقه أهمية لأن مصر أصبحت بعد تقدم اللاسلكي من أهم المراكز العالمية للمواصلات الأثيرية، وتشترك معظم الدول الكبرى في كلا المؤتمرين
محاضرة عن فلوبير بالقاهرة
ألقى العلامة الفرنسي الأستاذ هنري جيلمان نزيل مصر الآن، بدعوة من كلية الآداب، في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية، محاضرة شائقة عن الكاتب القصصي الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير، قدم فيها عنه لسامعيه صورة مؤثرة؛ وذكر أن فلوبير إنما يدرس في كتابات شبابه وما خلفه منها بعد موته، وأنك تجد فلوبير في أطوار حياته شخصاً يبدو في ألوان مختلفة. وقد مرض فلوبير في حداثته مرضاً عصبياً خطيراً حول مجرى حياته إلى ناحية لم يكن يتوقعها، فلم يفكر في أن ينشئ له حياة أو مدرسة، ولكنه جنح إلى التفكير العميق، وانتهى إلى اعتناق المبادئ التي جعلت منه شخصية مدهشة. وخلاصتها احتقار الوصول إلى الغايات الشخصية ورفض استخدام المواهب لتحصيل الربح المادي، وتخصيص الحياة للفن (العقيم) ومجانبة هذا المجتمع وهذا العالم. ومن ثم كان فلوبير يصور في كتبه هذا العالم بطريقة يترك الحكم عليها لقارئه، ولا يتدخل هو للتأثير فيه
على أن فلوبير لم يستطع أن يحرص على هذا المثل دائماً، فقد خرقه في حياته مرتين: الأولى بسبب امرأة هي لويز كوليه، والثانية بسبب محاولة الحصول على النجاح. بيد أنه لم يكن محباً مستسلماً، ولم تملكه المرأة إلا ردحاً ضئيلاً وانتهى بينهما كل شيء في سنة 1755؛ ولم يمض طويل على ذلك حتى اضطر فلوبير أن يسعى إلى المال والشهرة لكي يتدارك النكبة المالية التي أصابت ابن أخته، فتقدم إلى المسرح بقطعته (المرشح) ولكنه لقي خيبة أمل؛ فارتد إلى عمله وكتاباته التي كانت تلخص كلها في وصف الحياة البشرية، وكانت (مدام بوفاري) و (التربية العاطفية) و (القلب الساذج) من أروع ما كتب في هذا الميدان(238/73)
ونالت محاضرة الأستاذ جيلمان نجاحاً عظيماً؛ وكان الأستاذ يلقي محاضرته بذلاقة خلبت ألباب السامعين.
أسواق الأدب بين الركود والازدهار
خطب الروائي الإنكليزي الكبير السير هوج والبول في معرض للكتب أقيم أخيراً في جلاسجو، فقال انه توجد أزمة كتب في العالم البريطاني، وأهم أسبابها تخفيض أثمان الكتب إلى حد غير معقول. وقد ترتب على ذلك أن فقد كثير من الكتاب مورد أرزاقهم؛ ووقعت الأزمة بنوع خاص على الكتب القيمة لأنها اليوم ضحية منافسة شديدة من كتب تنشر بالملايين ولا يجد القارئ وقتاً للتحقق من قيمتها. ومن رأي الكاتب الكبير أن البؤس الذي تعانيه الحركة الأدبية من جراء هذه الحالة لا يقل عما كانت تعانيه منذ ثلاثين عاماً
وقد أنشئ في إنجلترا (مجلس قومي للكتب) مهمته أن يعمل على ترقية القراءة وترويج الكتب، وهو يسعى إلى هذه الغاية بمختلف الوسائل، ومن ذلك إقامة المعارض السنوية، وإقامة أسابيع خاصة لأصناف من الكتب المختلفة؛ وقد ساعدت هذه الوسائل على تخفيف الركود الذي أصاب حركة النشر في الأعوام الأخيرة
على أنه بينما يشكو العالم البريطاني من ركود الكتب وبؤس الحركة الأدبية إذا بسوق الأدب والكتب تزدهر في روسيا السوفيتية ازدهاراً شديداً. وقد نشر أخيراً إحصاء مدهش عما أخرجته دور الكتب الروسية التي تعمل تحت رقابة الحكومة من الكتب في عهد السوفييت، خلاصته أن هذه الدور كانت تخرج في سنة 1918 في اليوم 300 ألف مجلد؛ ولكنها أصبحت في سنتي 1936 و1937 تخرج في اليوم مليوناً وربع مليون مجلد. ومن هذه طبعات رخيصة من الآداب الروسية والعالمية. ومنذ سنة 1917 إلى اليوم أخرج من كتب مكسيم حوالي 32 مليون نسخة، و19 مليوناً من كتب الشاعر بوشكين، و14 مليوناً من كتب تولستوي، وأخرجت ملايين أخرى من كتب الكتاب الروس الآخرين. هذا عدا ما تخرجه دور النشر الروسية من الترجمات للكتاب الأجانب، وأشهرهم اليوم في روسيا سنكلير، وموباسان، وهوجو، وزولا، وبلزاك، وأناتول فرانس ودكنز؛ وفي ذلك ما يدل على التقدم الهائل الذي حققته روسيا السوفيتية في مكافحة الأمية وترقية التعليم
وفاة الأستاذ محمد صادق عنبر(238/74)
يعز علينا أن ننعى لقراء الرسالة في بهجة الفرح وبهرة السرور بزفاف المليك أديباً من أعلام البيان العربي، هو الأستاذ صادق عنبر
كان الأستاذ طيب الله ثراه بقية خير من تلك الطائفة الرشيدة الصالحة التي غذت الناشئين وبصرتهم بالأساليب المشرقة منذ ثلث قرن، فكان من أنصار الديباجة القوية، والأسلوب البياني المستمد من بيان القرآن ونبعته. وكان أسلوبه يشبه أسلوب المرحوم الأستاذ الرافعي، فقد كان يعجب بفنه وطريقته، ويأخذ نفسه على الجري في حلبته. ولقد عمل في الصحافة مدة من الزمن، فاشتغل في اللواء ثم في الأخبار ثم في الأهرام، ولكنه ظل على سليقته الأدبية، وظل أسلوبه أسلوب الأديب له روعته ورونقه. وآخر ما أخرجه من الآثار جملة من الرسائل الغرامية وضعها على لسان ليلى وقيس، ونحا فيها منحى الرافعي في أوراق الورد، ثم (كلمات في كلمة) كان ينشرها منذ أيام وكان ينوي جمعها في كتاب. فلعل أصدقاءه يقومون له بحق الصداقة فيجمعوا من آثاره ما تناثر كما قام بحق الوفاء لصديقه المرحوم أمين الرافعي
تماثل النابغة مي
شق على نفس الأدباء كثيراً ما ألم بنابغة الأدب الآنسة مي من مرض لازمها نحو عامين، فحال بينها وبين القلم، وحجبها عن ميدان لها فيه جولات صادقة، وجهود موفقة، حتى برز اسمها بين الأعلام البارزين في الشرق العربي.
ولقد تناقلت الصحف العربية في مصر وسوريا ولبنان هذا الأسبوع الخبر بأن الآنسة النابغة قد تماثلت من مرضها، وقد أذن لها أطباؤها في الخروج من المستشفى الذي كانت تعالج فيه إلى منزل استأجرته في بيروت في مكان هادئ لائق، وستكون معها ممرضتها التي لازمتها مدة المرض
ونحن نرجو للآنسة الفاضلة تمام التماثل، ونسأل الله أن يسبغ عليها ثوب العافية، وأن يمد في حياتها العزيزة، فإنها ولا شك ثمرة ناضجة قلما يجود بها الزمن على الشرق الحديث
مجمع اللغة الملكي في مؤتمر بغداد الطبي
قرر مجمع اللغة العربية الملكي الاشتراك في المؤتمر الطبي العاشر المزمع عقده ببغداد في(238/75)
الفترة القائمة بين التاسع والثالث عشر من فبراير. وقد ذكر المجمع في مذكرته إلى وزارة المالية أن الغاية من هذا الاشتراك هو تبادل الرأي في توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية، واقترح ندب الأستاذين الشيخ أحمد علي الإسكندري وعلي الجارم بك لتمثيل المجمع في تلك الدورة وقد وافقت وزارة المالية على هذه المذكرة
كتاب شائق عن شعب غريب
صدرت أخيراً ترجمة فرنسية لمؤلف يمتاز بطرافته العلمية والتاريخية هو كتاب العلامة الدانمركي بركت سميث عن قبائل الإسكيمو، وعنوانه والعلامة بركت سميث هو مدير المتحف الوطني في كوبنهاجن، وهو أشهر حجة معاصر في أحوال هذا الشعب القطبي الغريب. وتسكن قبائل الإسكيمو كما هو معروف في أطراف الجزيرة الخضراء (جرينلند) وشمال ألاسكا وعلى أطراف بوغاز بيرنج وأطراف الأرض الجديدة الشمالية؛ وكان أول من عرفه بعض الملاحين من جزيرة (ايسلنده) في القرن التاسع الميلادي، ثم عرفه النورمانيون واحتلوا شواطئ الجزيرة الخضراء حيناً حتى أواخر القرن الخامس عشر؛ وجاء من بعدهم الرحالة الإنكليزي مارتن فروبشر فازدادت معرفة العالم المتمدن بقبائل الإسكيمو. وقام المكتشفون الروس والدنمركيون برحلات عديدة في هذه الأنحاء الثلجية النائية. ولما احتلت الدانمارك أطراف الجزيرة الخضراء قام علماؤها بمباحث كثيرة عن أصل الإسكيمو وأحوالهم؛ وأنشئ في كوبنهاجن متحف طبيعي للإسكيمو هو أعظم متحف من نوعه
وقد اختلفت آراء العلماء في أصل هذا الشعب الغريب الذي لا يزيد تعداده اليوم على أربعين ألف نسمة موزعة بين هذه الأنحاء الشاسعة، فذكر بعضهم أنه من سلالة (الفليولوتين) الذين يرجعون إلى العصر (المجدليني) ولكن الظاهر أن هذا الرأي لا يعتبر نهائياً من الوجهة العلمية. وما زال علماء الأجناس والبيولوجيا والأنثروبولوجيا يحاولون الوقوف على أصول هذا الشعب. ويمتاز الإسكيمو بقصر القامة وبسطة العظام؛ وهم ضعاف على الأغلب ويعيشون في ثلج دائم وينقرضون بسرعة. وقد رأت الأمم التي تهتم بمصير هذا الشعب والمحافظة على بقيته الباقية من الانقراض أن تعقد في شهر أغسطس الأتي مؤتمراً علمياً لمباحث الأجناس والأنثروبولوجيا، وسيكون للإسكيمو من مباحثه أكبر(238/76)
شأن
ويستعرض الأستاذ بركت سميث في كتابه المشار إليه تاريخ الإسكيمو وأحوالهم الجنسية والاجتماعية، ويستند في معلوماته إلى الدرس والمشاهدة الشخصية لأنه عرف الأرض الخضراء منذ حداثته، وعاش بين الإسكيمو ردحاً من الزمن، ودرس لغتهم وعاش عيشتهم، ويصف لنا عقليتهم وأحوالهم النفسية والاجتماعية ببراعة، وكتابه كالقصة الشائقة ينتقل الإنسان فيه بين عجائب وغرائب مدهشة
ويهيب الأستاذ بركت في كتابه بالأمم الأوربية أن تعمل لصون هذا الشعب المسكين من الانقراض، وأن تبذل وسعها للمحافظة على هذه التحفة الإنسانية)
هل يشفي غبار الصحراء مرض السل
من أنباء ألمانيا الأخيرة أن حواراً علمياً هاماً يدور فيها حول اختراع طبي قام به العلامة الطبيعي الدكتور أرنست جيركي لشفاء مرض السل. وللدكتور جيركي رأي غريب في ذلك وهو أن السل يمكن شفاؤه باستنشاق غبار الصحراء، وقد انتهى إلى ذلك بعد تجارب طويلة، وأنشأ بالفعل لذلك جهازاً طبياً يعرف بجهاز جيركي يمكن للمريض أن يستنشق بواسطته غبار الصحراء المودع فيه بطريقة فنية، وتفيده المثابرة على ذلك فائدة كبيرة وتنتهي بتقوية الرئتين والسير نحو الشفاء. ويقول الدكتور جيركي أن ما يلاحظ من شفاء المرضى الذين يقيمون في أعالي الجبال إنما يرجع إلى استنشاق هذا الغبار بالذات وهو يهب من الصحراء في مواسم معينة حتى يصل إلى هذه الأنحاء، وأنه يمكن بواسطة جهازه أن يستغني المرضى عن الإقامة في المناطق الجبلية والسفر إلى مصر وغيرها من الأقاليم الصحرية
وقد أنكر بعض العلماء نظرية جيركي وحمل عليه بالأخص عالم طبيعي سويسري هو الدكتور ميركوفر، وقال إن نظريته لا ترجع إلى أصول علمية، وأنها مضاربة لا تزيد عن زعم أولئك الذين قالوا من قبل بأن السرطان يمكن أن يشفى بالأشعة وأمثالها؛ وأن غبار الصحراء لا يهب إلا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والجهات القريبة ولا أثر له في أعالي الجبال
وما زالت النظرية موضع الجدل الشديد في مختلف الأوساط العلمية.(238/77)
مناهج التاريخ العام ورأي الحكومة المصرية
تلقت وزارة المعارف من القومسيون الدولي لعصبة الأمم كتاباً انتظم مشروع تصريح خاص بإعادة النظر في الكتب المدرسية. وقد جاء فيه أن العصبة ترغب في توطيد العلاقات وتوثيقها بين الأمم والممالك المختلفة، ومن أجل هذا ترغب ألا يقف الأمر في دراسة التاريخ في المدارس عند التاريخ القومي، بل يجب أن يتضمن المعلومات الوافية عن الأمم الأخرى
ورغبة في توكيد ارتباط المصالح بين الدول، فإن الرأي يتجه في تدريس التاريخ العام إلى استنباط العناصر التي تهيئ أسباب هذا التوكيد والارتباط
وترى العصبة أن يستبعد من الدراسات التاريخية في الكتب تقرير كل إيعاز أو إيحاء، وكل تفسير للأحداث التي تثير في الناشئين روح الحقد واالكراهية، والتي يكون من نتائجها تكوين رأي في أمة ضد أخرى
ونوه سكرتير العصبة العام في كتابه باقتراح يرمي إلى إنشاء هيئات محلية في كل دولة تتصل بالشعبة الدولية في جنيف، وأن يترك لها أمر الحلول التي تؤدي إلى الأغراض المتقدمة. ولهذا حرصت جامعة الأمم على توجيه هذه الآراء والأفكار إلى الممالك والدول المشتركة وغير المشتركة فيها
وقد أحالت وزارة المعارف هذا الموضوع إلى الأستاذ محمد قاسم بك ناظر دار العلوم، فدرس المشروع دراسة دقيقة ووضع تقريراً عنه، وقد أقرته الحكومة المصرية وتقرر رفعه إلى العصبة
وقد جاء في هذا التقرير أن المناهج المصرية الدراسية تتفق والأغراض المشار إليها، وذلك لعدة أسباب، منها ما يرجع إلى موقع البلاد الجغرافي وحكم مركزها القديم واتصالها بالشرق والغرب، فضلاً عن أن مناهج التاريخ ولا سيما في الدرجات الثانوية من التعليم بل والابتدائية لا تقتصر على الجانب القومي
وأما عن توكيد ارتباط المصالح بين الدول، وخاصة في العصور الحديثة، فان مفردات مواد التاريخ وضعت من الوجهة الفنية في مصر على قاعدة اشتراك المصالح بين الدول الأوربية المختلفة(238/78)
وأشار التقرير إلى مسألة الإيعاز والإيحاء وتفسير الوقائع فقال إن الروح القومية المصرية السائدة في الكتب المصرية عامة هي روح الصداقة والود والتعاون بين أمم العالم قاطبة بغير استثناء. على أن هذا لا يمنع من تسرب بعض التعليقات التي تسيء إلى بعض الأمم في الكتب الدراسية من غير قصد، ومرجع هذا تأثر بعض المؤلفين بالمراجع الأجنبية التي يأخذون عنها فينقلون وهم حسنو النية بعض الآراء والتعليقات التي تسيء إلى بعض الدول وقد لا تتفق والواقع. وكثيراً ما يتأثر بعض المؤلفين بالبيئة التي يدرسون فيها والمراجع التي يرجعون إليها
ماني والمانوية
ما يزال العلماء الأجانب يعنون بفلاسفة المشرق عناية عجيبة، على حين لا نعني بهم نحن إلا عناية طفيفة تجيء مع تفاهتها ذيلاً لما يكتب غيرنا عنهم. . . وقد تصفحنا كتاباً بالإنجليزية عن ماني والمانوية وضعته الأديبة الفاضلة أ. س. دروور وطبعته جامعة أكسفورد على نفقتها الخاصة، وحسبك هذا دليلاً على قيمة الكتاب. وقد حدث أن عُين زوج المؤلفة الفاضلة مستشاراً قضائياً في العراق سنة 1922، فانتهزت هي هذه الفرصة وكانت تسكن في بغداد، فاختلطت بأحفاد المانوية الذين لا يتجاوز عددهم خمسة آلاف في كل العراق، وعرفت الكثير عن عقائدهم وعاداتهم وطقوسهم المذهبية وحفلاتهم الدينية، ثم عقدت أواصر الصداقة بينها وبين زعمائهم فاستطاعت أن تطلع على كتبهم القديمة النادرة التي لم يتيسر لأحد العلماء الاطلاع عليها من قبل لشدة حرص أصحابها عليها واحتفاظهم بها جيلاً بعد جيل. والفصول التي كتبتها المسز دروور عن المانوية قيمة حقاً، ولا نغالي إذا قلنا إنها نور جديد ألقته المؤلفة الفاضلة على هذا الدين القديم لا نكاد نجد مثله فيما كتبه ابن حزم أو الشهرستاني أو البيروني أو ابن نباتة أو اليعقوبي أو غيرهم من مؤرخي المسلمين - بل لا نغالي أيضاً إذا فضلناه على ما كتبه العلامة بيرون في كتابه عن المانوية - والكتاب خليق بأكثر من هذه الشذرة وسنعود إليه(238/79)
العدد 239 - بتاريخ: 31 - 01 - 1938(/)
من مشاهد المهرجان
كنت أمشي في شارع إبراهيم عصر يوم الأحد الرابع من أيام الزفاف الملكي السعيد، ونظري وفكري يتبعان فلول الزوار وهم يسيرون زمُراً في باحة الطريق يلقون أنظارهم الطائرة على بقايا الزينة من أقواس وأعلام، وينفقون قروشهم الأخيرة في مغريات النفس من شراب وطعام؛ وكان الملايين الثلاثة الذين ساهموا بآمالهم وأموالهم في زفاف الفاروق قد انتشروا في ميادين القاهرة وفنادقها وحدائقها ثم تركوها أشبه بمروج الربيع نفشت فيها قطعان الشاء فجعلتها كالصريم؛ ولكن هذه الأفواه الفرحة التي لم تفتر عن الضحك والهتاف، أو عن المضغ والارتشاف، قد أفعمت جيوب القاهرة مالاً وغمرت جنوبها بهجة. فكان منظر هذه الشراذم المتخلفة وهم يودعون مجال العُرس والأنس يبعث في النفوس شعور الأسف على انقضاء فترة من فترات الجنة اجتمعت فيها القلوب على السرور المصفى والوداد المحض
كنت أقول لنفسي وأنا أسير الهوينى في غمر من الصفاء استفاض على أوجه الناس حتى شاع حولهم في النسيم وشع فوقهم في الأفق: متى يتاح لسلائل الطين أن ينزعوا من صدورهم الجشع والأثرة فيعيشوا كما عاشوا في هذه الأيام حُشْداً على الخير عكفاً على الجمال خلصاً على المودة، ولهم على الله هواء يفعم كل رئة، وغذاء يتخم كل معدة، ورخاء يعمر كل قلب؟
ليت شعري أعجز ابن آدم ومعينه نور قلبه ووحي ربه وهدى عقله أن
يجعل دنياه الفانية كرياض الطير مسارح للشدو ومجاليّ للبهجة
ومشارع للحب، فيعيش على فضل الله كما تعيش الطير تغدو خماصاً
وتروح بطاناً وتغفوا أوامن؟ إن بقاء النفس أو القوت، وبقاء الجنس أو
الأنثى، هما الأصلان لكل غاية، والمصدران لكل عمل، فهل أعيا على
شريعة الخالق وفلسفة المخلوق أن تهذبا هاتين الغريزتين فتقطعا
أسباب الشر وتقلعا أصول الجريمة؟
ألا. . . ولكنني شعرت فجأة بجسمي الطليق الهائم ينحصر في زحمة ضاغطة من السواعد(239/1)
والأكتاف، فاطلعت فرأيتني أضطرب في سيل دافق من الأخلاط والطوائف يموج بعضهم في بعض، ويهدرون بذكر الله هديراً طغى على كل صوت وغطى على كل حركة. كان ذلك موكب الطرق الصوفية تجمعت ألوفه من جوانب القطر ليرفعوا إلى ملكهم الصالح فاروق تهنئات الطريقة. لم أستطع الخلوص إلى طوار الشارع من شدة الزحام، ولم أطق السير لا إلى الخلف ولا إلى الأمام، فتركت نفسي إلى تدافع الموكب أرسب في لججه واطفوا على أمواجه حتى أنصب في ساحة عابدين. وهناك رأيت على حواشي الميدان صفوفاً متراصة من الناس يحجزها عن الموكب الذاكر سلسلة من الجنود والشُّرط؛ ووجدت نفسي تحت البنود الخفاقة وبين الفرق الدفاقة أمام الشرفة الغربية من قصر المليك، وقد شرقت من حولي الساحة على رحبها بالطوائف المختلفة الإشارات والشارات والأناشيد، تملأ السماء بالأنغام، وتجلل الأرض بالأعلام، وتجعل من الميدان غابة من شجر الزان تسقسق تحت أفيائها الوريفة أسراب من الطيور الغريبة
أدركت القوم حال من حميا الوجد فترنحوا مهللين ومنشدين، واختلطت على غير نظام ولا انسجام هتفات الناس ونقرات الدفوف وصدحات الناي، فما كنت تسمع إلا لجباً لا يتبين فيه نشيد ولا يتميز به نغم. ثم قرَّت فورة القوم حين تنقَّل على أفواه المريدين أن جلالة الفاروق سيشرق عليهم، فخشعت الأصوات وسكنت الحركات واتجهت النظرات إلى الشرفة الملكية يرقبون منها طلعة المحيا الأبلج الموموق؛ ولكن الشرفة ظلت في سدْلها القرمِزي المتوَّج كأنها شفق الفجر يبشر بالحياة والنور والبهجة قبل أن تهصر الطبيعة ستائرها الوردية عن خِدْر الشمس. فلما طال الانتظار عاد النقباء والخلفاء يرتبون ما يقول الأتباع عند تجلي المليك: - لا ينبغي أن نصفق كما يصفق الأفندية - لا يجوز أن نهتف كما يهتف العامة - قولوا في صوت واحد: الله! الله! - بل قولوا: الله أكبر! - ولم لا نقول: عاش الملك الصالح! عاش أمير المؤمنين؟
- هذه الجهة تهتف بهذا ثلاثاً، ثم تسكت فتهتف الجهة الأخرى: ليحي حامي الإسلام
- أرى أن يهتف المرغنية: عاش ملك مصر والسودان، ويهتف النقشبندية: عاش خليفة الرحمن، ويقول الرفاعية. . .
- لا لا. هذه كلها هتفات لا تزكوا بأهل التصوف. اتفقوا على دعاء واحد تجأرون به إلى(239/2)
الله أن يحفظ عبده الفاروق لإعلاء كلمته وإعزاز دينه
وأخذت كل طائفة تروض ألسنتها على النداء والدعاء وأعينها شواخص إلى شرفات القصر ونوافذه
لعل الملك يخرج من هذا الباب يا فرحات! أظنه يطل من هذا الشباك يا مسعود! ربما يخرج إلى الميدان مع المشايخ فيعرض (الأشاير)
ثم انعقدت الألسنة وعُلقت الأنفاس واتجهت الأنظار بجاذب خفي إلى الشرفة. وهنالك تجلى ملك الناس للناس!! فهل رأيت البحر إذا مار به الإعصار، أو الغابة إذا رجفت بها العاصفة؟ لقد أصيب القوم بما أصيب به الكليم يوم الجبل، فوقعوا في بُحران من الحماسة السَّكرى لا يملكون غير حناجر تصيح، وشفاه تدمدم، وأذرع تلوِّح، وأكفٍ تصفق
تلك حال القروي الذي زعموا أنه بات ليلة القدر سهران يقلب طرفه في النجوم يرصد (الطاقة) أن تنفتح فيطلب إلى الله الغنىَ والعمر؛ فلما جاءت الساعة المرقوبة وانشقت السماء عن كوة من النور تلتهب التهاب البوتقة، التمس لسانه فلم يجده، فانطلق يعوي عواء الذئب حتى ثاب إلى نفسه فارتد من العواء إلى البكاء.
وجلال الفاروق قبس من جلالة السماء، وفيض من قداسة الأنبياء، فهل تقوى على بَهَره عين، وهل يثبت على سحره فؤاد؟
أحمد حسن الزيات(239/3)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 8 -
. . . ومضيت أعود ليلى مرة ثانية، بعد أن قبْلت الصورة التي أدفع بها وحشة الليل في بغداد، وبعد أن قرأت الرسائل المعطرة التي وردت من مدينة. . . وكذلك أعددت قلبي للرفق واللطف، وأنا في عالم الطب كالبلبل في عالم الأغاريد، لا أطرب إلا بعد مناجاة الأحلام، ولا يطرب إلا بعد أن تضوع من حوله أرواح الأزهار. فهل تعرف معنى ذلك تلك الإنسانة التي بلغ بها العناد أن تصرح بأنها لن تفتضح في حبي إلا يوم يظهر أنها دفعتني إلى الخلود؟ رباه! ما أصعب تكاليف الخلود! ولكن كيف ألقى ليلاي؟
إنني أخافها أشد الخوف؛ فقد بدت لي في المرة الماضية على جانب من الوعورة، ولا يبعد عندي أن تكون حمقاء، فان الجمال يورث أهله بعض خصال النزق والطيش؛ وأنا والله على استعداد لمقابلة الشر بالشر، فان رمتني بالحمق رميتها بالجنون، ولكنّ ذلك لا يقع بدون جزاء، فقد تفسد العلائق بين مصر والعراق
فراقك صعب، سيدي! كذلك قالت ليلى منذ ليال
فما الذي يمنع من الأدب؟ وهل كُتب عليّ أن أظل دهري شقيَّا لا أعرف غير الرجس؟ مالي لا أجرب الحب العذري مرة واحدة في حياتي؟ مالي أحرم قلبي أطايب العفاف؟ آمنت بالله! وهل كنت فاسقاً حتى أفوه بمثل هذا القول؟
إنك يا ربي تعلم كيف ابتدأت وكيف انتهيت. إنك يا ربي تعلم أني أشرف مخلوق سوته يمناك، مع استثناء الأنبياء؛ ولكني طبيب جنى عليه الأدب فسار في بقاع الأرض أنه من الفاسقين
كيف ألقى ليلى؟ تلك هي النقطة، كما يقول لافونتين!
ألقاها بالتجارب التي أفدتها في باريس، فقد وردت مدينة النور أول مرة في سنة 1927 وكنت سمعت أنها مدينة تموج بالهوى والفُتون، فكان أكبر همي أن أعيش فيها عيش المجانين بعد أن عانيت الأمرين من عيش الجفاف في شارع الحمزاوي وعطفة الجمالية!
ودخلت السربون، سقاها الغيث وجعل الله لها لسان صدق في الآخرين، فكانت عيني لا تقع(239/4)
على الأساتذة، وإنما كانت تقع على الطالبات، وهن في دروس الأدب أكثر من الطلاب. والفتيات هناك يفهمن وحي العيون، وكان يتفق أن تلقاني فتاة بعد المحاضرة فتقول: من فضلك يا سيد، هل عندك مذكرات عن دروس المسيو شامار؟ فأجيب: نعم، يا آنستي! فتقول: هل تتفضل فتعيرني إياها لأنسخها ثم أردها إليك؟ فأقول: وهل لمثلي أن يرفض ما تطلب هاتان العينان! فتنظر الفتاة إليّ نظرة سخرية وتنصرف!
وحدث مرة أن قالت لي فتاة ريَّا الجسم كأنها من دمياط: هل لك يا سيد أن تتفضل فتعيرني مذكراتك عن دورس المسيو مورنيه؟ فقلت: لك ذلك يا آنستي، ولكني لن أعود إلى السوربون إلا بعد يومين. فهل أستطيع أن أراكِ غداً عندي في الساعة الخامسة لأقدم إليك المذكرات؟ فأجابت بالقبول بعد أن استفهمتْ عن أسم الشارع ورقم البيت
وما كاد يحين الموعد حتى كانت المائدة مجهزة بأطيب ما تعرف فرنسا من ألوان الشراب. ثم مضت ثوان ودقائق وساعات، ولم تحضر الفتاة، عليها وعلى أمها اللعنات!
وفي ذات يوم قالت إحدى زميلاتي في الدرس إنها تجيد الرقص، فقلت إني لا أحسن منه غير (الحنجلة)، ورجوتها أن تعينني على إتقان ذلك الفن الجميل، فأجابت جواباً كله إغراء.
ولكنني اشترطت أن يكون ذلك في غرفتي حتى لا يعرف أهل باريس أنني رجل (غشيم)
وانتظرت، ثم انتظرت، ثم انتظرت، ولم تحضر الراقصة الحسناء!
ولم تمض أسابيع حتى شاع في جميع أروقة السوربون أني فتى ماجن خليع، فكنت ألقي أطيب التحيات ولا يجيبني مجيب. والشيطان يشهد أني كنت في ذلك العهد أعظم مغفل عرفته باريس
ونظرت فرأيت فتياناً أقل مني فتوة وجاذبية يعيشون في ظلال الحب عيش الملوك، فعرفت أنهم يحسنون ما لا أحسن من فن الغرام، وللغرام فنون
ولكن أين أذهب؟ لقد ضاع حظي في كلية الآداب، فهل أذهب إلى كلية العلوم؟ وكيف وهي أيضاً من السوربون؟ فلم يبق إلا أن أذهب إلى كلية الطب لأقيم فيها تجارب الحب من جديد، بعيداً عن جو الأراجيف الذي خلقتُه خلقاً بفضل الغفلة والجهل
وكانت فرصة عرفت فيها قيمة الشر في خَلْق الرجال. فلولا الحب ما عرفت كلية الطب؛(239/5)
ولولا الطب ما شرفتني الحكومة المصرية بمداواة ليلى المريضة في العراق
أقول إني ذهبت إلى كلية الطب بعد أن صقلتني التجارب، وبعد أن عرفت أن من العيب أن أخيب في باريس وأنا شاعر سنتريس؛ فلم تمض أيام حتى كنت في تلك الكلية فتى الفتيان. وبيان ذلك أني كنت أخفي عواطفي كل الإخفاء، فكنت ألقى الفتاة فلا أحدثها عن عينيها وخديها وشفتيها ونهديها - وما أجمل نهود الفتيات في باريس! - وإنما كنت أسارع فأتحدث عن حدائق الحيوانات في القاهرة وأقول إنها أجمل ما يعرف العالم من حدائق الحيوان. فان اعترضت إحدى الفتيات وفضلت حدائق الحيوان في لندن تحمست وقلت إن هذا مستحيل، لأن مصر هي البلد الوحيد الذي يطيب فيه العيش لأنواع الحيوان!
وما كنت أكتفي بهذا، بل كنت أخترع أسماء وهمية للباحثين والمفكرين، فكنت أقول إن بلدنا هو الذي نبغ فيه فلان وهي أسماء تحلى بها بعد ذلك بعض الناس!
وفي أثناء تلك الأحاديث الوهمية تجول عيناي في أعطاف الفريسة الحسناء، فان بدا لها أن تعترض علي ما تقول عيناي، أنكرت ما تقول عيناي، وهل كنت مسئولاً عما تقوله عيناي؟ وما هي لغة العيون؟ وهل للعيون لغة؟ إنْ هذا إلا اختلاق!
وما زلت أوغل في المداهنة والنفاق حتى تقدمت إحدى الفتيات وقالت: ما أجمل عينيك يا مسيو مبارك! فتكلفت الغضب وقلت: أنا اكره المزاح! فطوقتني بذراعيها وقالت: أنا أحب الشبان العقلاء! فقلت: وأنا أحب المجانين من الفتيات؟ وكانت لحظة ستنصب لها الموازين يوم يقوم الحساب!
وفي ظلال هذا الروح الطيب مضيت لعيادة ليلى، وقد صممت على الخوض في أحاديث لا تتصل بالحب. وما قيمة التجارب إن لم تنفع وأنا في ديار الاغتراب؟
دخلت على ليلى في ليلة مطيرة غاب فيها القمر وغابت النجوم، فتفضلت حرسها الله ومدت يديها الناعمتين لمعاونتي على دَرَج السلالم، فشعرت كأن خيوطاً من نور تجذبني إلى العِلِّية، وقد تكلفت التعب والضعف لأرى كيف تجذبني تلك الأنامل الرقاق. وكانت لحظة سحرية لا يعرفها إلا من أسدلت عليه الستائر في ليلة قمراء بالقصر الذي يعرفه القلب في الشارع رقم. . . بالضاحية. . . إحدى ضواحي القاهرة الفيحاء
رباه! إن القاهرة نعمة من نعمك على عبادك، فاجعلها عامرة أبدا الآبدين، واجعلها إلى يوم(239/6)
القيامة عروس الشعر والخيال، بل احفظها واجعلها شقيقة الفردوس يوم يلقى المخلصون جزاء ما يعملون! رباه! إن القاهرة هي الشاهد على أن اللغة العربية خليقة بالسيطرة في عالم العلم والمدنية. رباه! إن القاهرة من أجمل ما خلقت من المدائن فاجعلها كنانتك واحفظها من السوء حتى أعيش فيها عيش السعداء، وحتى يعيش فيها أبنائي وأحفادي وأحفاد أحفادي عيش النّضرة والنعيم، على وفاق وسلام مع جميع الأقطار العربية
كانت ليلى في زينتها، وكنت في عقلي!
وكان في نيتي أن أثير الجدل حول (قضية الأخلاق) التي اشتجرت فيها أقلام الخولي وعزام والزيات؛ وكنت أنوي أن أقرر أن المنافقين ينجحون باسم الأخلاق، فكيف لا ينجح بها الصادقون؟ وكنت أحب أن أقول أيضاً إن الثورة على الأخلاق كالثورة على الدين، فالذين يثورون على الدين لا يبغضونه من حيث جوهره، وإنما يحاربون الأبالسة الذين يسترون سوآتهم بتكلف الغيرة على الدين. وكذلك يثور على الأخلاق من يؤذيهم أن يغار المنافقون على الأخلاق. وكان من شهوة النفس أن أعلن في حضرة ليلى أن أهل البلادة يسترون تخلفهم بالأخلاق، فإذا رأوا رجلاً قوي القلب مُشرق العبقرية، أسرعوا فاتهموه بضعف الأخلاق لينفض الناس من حوله ويخلو لهم الميدان. ومن أجل هذا كان من النادر أن يمر بهذه الدنيا رجل عظيم بدون أن تطول في تجريحه ألسنة المتخلفين والمنافقين. وهل سلم الأنبياء من ألسنة الناس؟
كان في نيتي أن أصول وأجول في حضرة ليلى، فأعظم لذة في الدنيا أن يعذب لسانك، وتقوى حجتك، في حضرة امرأة حسناء. والكلام في هذا الموضوع يسهل عليّ بفضل ما أضعت من العمر في دراسة علم النفس وعلم الأخلاق، وبفضل ما ابتلاني الدهر من معاشرة أهل الرياء
ولكن ليلى ابتدرتني وقالت:
هل قرأت العدد الأخير من مجلة الرسالة؟
وما كادت شفتاها تفصحان عن هذا السؤال حتى كاد قلبي ينخلع، فقد تذكرت أنني رجعت عن عزيمتي في طيّ هذه المذكرات وأرسلتها جميعاً إلى الزيات. وهل أخاف ليلى أكثر مما أخاف سعادة الأستاذ محمد العشماوي بك الذي أوصاني بالاعتصام بالعقل يوم سفري إلى(239/7)
العراق؟ وما وجه الخوف؟ إن مذكراتي بريئة من العبث، وأنا أعيش في بغداد عيش النساك، وإن لم يكن لي فضل في هذا التنسك، فإن الحفلة التي كرمني بها أدباء بغداد جعلتني ممن يشار إليهم بالبنان، ولم يبق من ميادين الهزل غير تذكر الأحلام القديمة، أحلام القاهرة وباريس
ثم تشجعت فقلت: ماذا في مجلة الرسالة؟
فقالت: إن الأستاذ سعيد العريان يتحداك
فبلعت ريقي، وحمدت الله. وهل يؤذيني أن يتحداني كاتب من الكتاب؟ يرحم الله الأيام الماضية حين كان الأدباء يتهيبون المرور في طريقي، وحين كانت مقالاتي في جريدة البلاغ كالسيف المصلت على رقاب الكتاب والشعراء والمؤلفين. يرحم الله الأيام الماضية حين كان أعاظم الرجال يسرهم ويشرفهم أن أهجم عليهم في جريدة البلاغ. ولكن وا أسفاه! أنا اليوم أعيش في قفصين من الفولاذ. وهل كان الدكتور طه حسين يمزح حين قال: تذكر يا صديقي أنك أصبحت موظفاً في حكومتين، وأن مركزك دقيق؟
لقد قرأت كلمة الأديب العريان، ولكن لابد من التجاهل لتعيدها ليلى على مسمعي، فإن الهجوم عليّ يعذُب ويطيب حين أسمعه من ليلى. وهل كانت رخامة الصوت إلا عند ليلى، ليلى التي زعموا أنها مريضة في العراق، مع أن في صوتها من الحلاوة ما يهد رواسي الجبال؟
وقرأت ليلى:
(ولقد سرني والله أن تُعْنى وأنت في العراق بدفع تهمة العقوق عن أدباء مصر؛ وإنها لعاطفة وطنية نبيلة أعرف كل العرفان ما يدفعك إليها وأنت بعيد)
- أعيدي يا ليلى
- ولماذا؟
- أعيدي يا ليلى، ففي مصر إنسان يشهد بأني أعرف معنى الوطنية! وهل كنت في حاجة إلى من يشهد لي بصدق الوطنية؟ عشنا وشُفْنا!
- ولكنه يتهمك بعد ذلك بمصانعة أهل العراق!
- أنا أصانع أهل العراق؟ وهل صانعت أهل مصر حتى أصانع أهل العراق؟ لقد جنت(239/8)
عليّ الشجاعة ما جنتْ فلم أتهيب ولم أتوجع، وتركت الجبناء يتمتعون بمناصب كنت بها أحق، فكيف جاز لأديب مصري أن يتهمني بالمصانعة في معاملة أهل العراق؟
اسمعي يا ليلى. إن هذا الأديب نسى أن مجلة (الرسالة) لها في العراق قراء يعدون بالألوف، ونسي أن كلمته قد تؤذيني، وهذا الأديب الطيب القلب نسي أيضاً أن أهل العراق لن ينتظروا شهادته في عبقرية زكي مبارك، ونسي كذلك أنني لا أحتاج إلى إسناد يتفضل بها كاتب يجعل الرافعي إمام الأدباء. فأنا أعيش في مصر والعراق بفضل الله وبفضل عزيمتي، وإن كنت لا أنكر أن في مصر إخواناً كراماً يجعلون سيرتي مسك الختام في كل حديث
اسمعي يا ليلى. إن أدباء مصر لا يعرفون عواقب ما يكتبون. أليس من البلاء أن أنفق أوقات الفراغ في الدفاع عن مصر والمصريين؟ أليس من البلاء أن يكون من واجبي أن أنتقل في الأندية والمجتمعات لأصحح الأغلاط التي ارتكبها الكتاب المصريون؟ إن مصر ليس لها مطامع في العراق، ولكن ما الموجب لحرمان مصر من مودة أهل العراق؟ إن العراقيين يروننا إخوانهم أهلاً وسهلاً! فبأي حق يستبيح ناس في مصر أن يفوهوا بكلمات ينفر منها أدباء العراق؟
إن مصر تنفق ألوف الدنانير لتؤسس صداقات ومودات في الأقطار الأوربية والأمريكية، فكيف يغيب عنها أن تنفق الكلمات الطيبات لتؤيد ما يربطها من العلائق بالأقطار العربية؟
هل يعلم أدباء مصر - ولا سيما أعدائي - أني أدفع عنهم السوء في العراق؟
اسمعي يا ليلى. إن أهل بلدكم يقولون إن زكي مبارك لا يزال يحافظ على مصريته. وهذا حق، ولكنني أتشبث بمصر في سبيل اللغة العربية، فاللغة العربية هي الرباط الوثيق الذي سيكون في المستقبل أساس ما سيعرف الشرق العربي من قوة البنيان
وكنت وصلت إلى حد من التأثر انزعجت له ليلى. فقالت: هوِّن عليك يا صديقي!
فنظرت إليها نظرة الطفل المكروب إلى أمه الرءوم ثم قلت: ليلى، إنها سنة واحدة أقضيها في العراق!
فقالت وهي تتنهد: ستبقى عندنا طول حياتك.
فأجبت: على شرط أن تعفوني من هفوات الكتاب المصريين الذين أحمل جرائرهم صباح(239/9)
مساء
فقالت ليلى: وعلى شرط أن تنسى مصر الجديدة والزمالك!
فقلت: ذلك إليك يا ليلى!
فصوبت إلي عينين عاتبتين، فعرفت أنها تبغض التشبيب
ما أجمل ليلى حين تعتب بعينيها! إن ليلى جميلة يا بنى آدم، وإنها لخليقة بأن تنسيني من في مصر الجديدة ومن في الزمالك، إن حِاز لقلب مثل قلبي أن يعرف العقوق
- ليلى!
- نعم يا مولاي!
- ليلاي!
- لست ليلاك!
- معذرة يا ليلى، فأنا طبيب جنى عليه الأدب. وهذه عبارة شعرية سبقت إلى اللسان
- ماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول. . . أريد أن أقول إني سأعيش في بلدكم سنة واحدة، أعني أنني سأفارقك بعد أشهر معدودات
- هذا وعيد؟
- لن أعيش في بلدكم إلا إذا عينتني الحكومة المصرية واعظاً في بغداد
- واعظ؟ ما هذا الكلام؟ هل جننت؟
(وقد انتشيت من هذه العبارة لأن المرأة الجميلة لا تصف الرجل بالجنون إلا إذا ارتفع بينه وبينها التكليف)
- ما جننت، وإنما أقول إن المصريين والعراقيين يحتاجون إلى من يرعى العلائق بين البلدين فلا ينشر خبر في جرائد العراق عن مصر، ولا ينشر خبر في جرائد مصر عن العراق، إلا بعد أن يمر على رجل حكيم يفهم عواقب ما تنشر الجرائد والمجلات
- وأنت ذلك الرجل الحكيم؟ آمنت بالله!
- اسمعي يا ليلى. إن المحررين في الصحف يحتاجون إلى لجام من العقل والذوق
- دع هذا، وحدثني عما تعرف من أسرار ليلى المريضة في لبنان(239/10)
- تريدين (فلانة) التي قيل إنها كانت تحب الرافعي؟
- نعم! وهذه أهم نقطة تعنيني في كلمة الأديب العريان
- وأنا أريد أن أمن على مصر وأدباء مصر فأقول إني قضيت في بغداد سنة كسبت لوطني فيها ألوفاً من الأصدقاء
- أنت تمن على وطنك، والمن على الوطن لا يليق بكرام الرجال
- وماذا أصنع إذا كان وطني لا يعرف غير من يمنون عليه؟! وهل يعرف وطني أني أكتب في كل أسبوع أكثر من تسعين صفحة وأشتغل أكثر من سبع عشرة ساعة في كل يوم؟ هل يعرف وطني أني أهتم بالمصريين المقيمين في العراق أكثر مما أهتم بنفسي؟ هل يعرف وطني أني أزور كلية الحقوق مرتين في كل يوم لأطمئن على صحة الدكاترة عزمي وفهمي وسيف؟
- ومن هؤلاء؟
- هم أساتذة في القانون لا في الطب، وهم من أبناء القرن التاسع عشر
(وكانت غلطة فظيعة، فإنه لا ينبغي أن تعرف ليلى من المصريين أحداً سواي)
- حدثني عن ليلى المريضة في لبنان
- كانت ليلى المريضة في لبنان زميلتي في الدرس يوم كنا طالبين في الجامعة المصرية؛ وكنت أتقرب إلى قلبها باغتياب الأساتذة، فأزعم أن الكونت دي جلارزا لا يفهم الفلسفة، وأن الشيخ المهدي لا يعرف أسرار الأدب، وأن الشيخ الخضري لا يدرك حقائق التاريخ، وأن إسماعيل بك رأفت يجهل الجغرافيا ووصف الشعوب!
- يظهر أنها طالبة شقية!
- كانت أشقى من ليلى المريضة في دمياط
- أنا لا يهمني إلا الوقوف على أسرار ليلى المريضة في لبنان
- إنتظري، إنتظري، إن الله مع الصابرين
(للحديث بقية وبقية)
زكي مبارك(239/11)
ظفر المكيافيلية
وإلام يدفع العالم هذا الظفر؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لما وضع المؤرخ والفيلسوف السياسي نيكولو ماكيافلي، كتابه (الأمير) في سنة 1513 متضمناً لمذهبه المشهور في الحكم والسياسة، لم يكن يتوقع أن يغدو كتابه بعد أربعة قرون إنجيلاً لنوع جديد من الحكم يحاول اليوم أن يفرض مبادئه على العالم، ولم يكن يتوقع بالأخص أن تغدو آراؤه السياسية نبراساً لإيطاليا الجديدة يدفعها إلى طريق السلطان والقوة، أو يتصور أن هذه الآراء قد تغدو يوماً مثار حرب عالمية طاحنة بين المبادئ السياسية والاجتماعية الخصيمة. ذلك أن مكيافيلي كتب كتابه في عصر كانت إيطاليا تنقسم فيه إلى عدة جمهوريات وإمارات صغيرة، ينافس ويقاتل بعضها البعض، وتتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة من الزعماء والمتغلبين؛ واستوحى معظم آرائه من دراسته لأحوال هذه الدويلات الصغيرة، وهذا الرهط من الأمراء المتنازعين، واتخذ أميره الأمثل من رجال من طراز هذا العصر شقوا طريقهم إلى السلطان والملك بوسائل مثيرة من العنف والخيانة والغدر؛ وكان أقصى أمانيه حينما وضع (الأمير)، وأهداه إلى أميره وحاميه لورنز دي مديتشي أمير فلورنس، أن يكون كتابه مرشداً لأمراء عصره في تفهم أساليب الحكم التي تلائم روح العصر، وتلائم مطامع الزعامات المحلية التي كانت تضطرم يومئذ في دائرة محدودة، قوامها عدة من الولايات والمدن الإيطالية.
كانت المكيافيلية إذن شعار عصر خاص ومجتمع خاص؛ وكان طابعها القاتم، وما انطوت عليه من المبادئ العنيفة التي لا ضمير لها ولا وازع، والتي تغاضت عن كل المثل الإنسانية والأخلاقية، يسبغ عليها دائماً في نظر المجتمعات الرفيعة لوناً من الشذوذ البغيض الذي تأباه السياسة المستنيرة. ومن ثم كانت الفلسفة المكيافيلية على كر العصور مضرب الأمثال للسياسة البغيضة.
وليس من موضوعنا أن نتبسط في شرح المكيافيلية وأصولها، ولكنا نورد من أقوال واضعها هاتين الفقرتين اللتين تتضمنان لب النظرية المكيافيلية في الحكم والسياسة:
1 - (لا يستطيع الأمير العاقل وليس عليه أن يحفظ العهد، إذا كان مثل هذا الوفاء قد(239/13)
ينقلب ضده، وإذا زالت الأسباب التي حملته على قطعه
2 - (ليس من الضروري أن يتصف الأمير بالخلال الحسنة التي ذكرتها، ولكن من الضروري أن يبدو كأنه متصف بها. . ولا يستطيع الأمير، ولا سيما الأمير الجديد، أن يراعي كل الأمور التي يقدر الناس من أجلها لأنه كثيراً ما يرغم لكي يحفظ الدولة على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص والصداقة والإنسانية والدين، وإذاً فمن الضروري أن يكون ذهنه متأهباً للعمل وفقاً لتقلب الريح والجدود)
هذا هو لب النظرية المكيافيلية في الحكم. ويكفي أن نقرأ كلمة (الدولة) مكان كلمة (الأمير) لنسبغ على هذه النظرية طابعها الحديث؛ وفي التاريخ كثير من الأمراء والطغاة الذين حكموا قبل مكيافيلي بنفس الروح والوسائل التي نادى بها مكيافيلي، وفيه كثير من الأمراء والساسة المحدثين الذين أعجبوا بمبادئ مكيافيلي وطبقوها في عصور تعتبر فيها هذه المبادئ من ألوان الغدر السياسي والاجتماعي الذي يصمم الدولة المتمدنة؛ وما زالت المكيافيلية إلى يومنا محكوماً عليها، وما زالت تعبر دائماً منافية لجميع المبادئ الحرة والإنسانية التي تقوم عليها المدنية الحديثة
على أن هذه الحقيقة التاريخية القديمة تختفي اليوم شيئاً فشيئاً؛ فلم تعد المكيافيللية في عصرنا فلسفة سياسية منبوذة، ولكنها نغدو بالعكس حقيقة واقعة تطبقها وتؤمن بها دول عظيمة. ذلك أن الفاشستية الإيطالية والأنظمة الطاغية المماثلة الأخرى تقوم في جوهرها على الفلسفة المكيافيلية؛ وقد أسبغت وسائلها وأساليبها على نظريات فليافيلي شرعية جديدة، وغدت هذه النظريات اليوم أساساً لنوع جديد من الحكم والسياسة تقوم عليه عدة دول قوية جديدة؛ ففي إيطاليا وألمانيا وروسيا تجد نظريات مكيافلي اليوم ميداناً شاسعاً لتطبيقها
وقد تناول هذا الموضوع الخطير أخيراً كاتب ومؤرخ فرنسي كبير هو مسيو لوي دي في كتاب قيم عنوانه (نحن ومكيافيلي درس فيه حياة الفيلسوف دراسة وافية، وانقل منها إلى عصر التطبيق، فذكر أن الفاشستية هي أعظم تجربة مكيافيلية عرفها التاريخ، وأن فكرة السنيور موسوليني في توحيد الشعب هي فكرة مكيافيلية محضة. (أن تكون الدولة (وفي لغة مكيافيلي الأمير) كل شيء والفرد لا شيء، وأن تكون الدولة مصدر كل السلطات والقوانين، وأن تطرح كل اعتبار أخلاقي في تحري غاياتها) هذا هو شعار الفاشستية، كما(239/14)
يعرفها الأستاذ دي فيلفوس، وهذا هو شعار الدول الطاغية الأخرى التي تقوم على أصولها؛ وهذه هي نفس الرسالة التي بشر بها الفيلسوف الإيطالي في كتابه (الأمير)
وكما أن الفاشستية تقوم من الوجهة العلمية على أسس المكيافيلية فهي أيضاً تؤثر لغتها وأساليبها الدبلوماسية؛ فزعيم الدولة الإيطالية يستعمل اليوم نفس الوضوح الجاف، والصراحة المثيرة، في تمجيد وسائل العنف وأساليب القوة الهمجية، ويبدي نفس الاغتباط في تمزيق جميع المثل العاطفية، ويتقدم إلى العام باسم الدولة وضرورة قيامها على أنقاض جميع العناصر والاعتبارات الإنسانية، وبأنها مصدر الحق ومجمع القوى؛ ثم هو يرجع مثله الأعلى إلى نفس الكعبة المقدسة التي مجدها مكيافيلي، وهي (روما) وعظمتها الخالدة
فالفاشستية هي إذن ذروة النجاح العملي في تطبيق الفلسفة المكيافيلية؛ وإذا كانت المكيافيلية قد استطاعت من عصر إلى آخر، وفي بعض الظروف المناسبات أن تحقق لمحات من الظفر، فإنها اليوم على يد الفاشستية تحقق ظفرها كاملاً. وخلاصة شعارها الظافر الذي نادت به منذ أربعة قرون هو شعار الدول الفاشستية المعاصرة، وهو أن النصر الحقيقي إنما هو للقوى المسلحة والوسائل المدمرة، وإن كل سياسة لا تقوم على الحقائق العملية مصيرها إلى الفشل المحقق، وإنه لا حق للضعيف والأعزل في البقاء، ولا وجود لمثل أو مبادئ مثلى لا تدعمها القوة المادية
بل ويرى الأستاذ فيلفوس أن ظفر المكيافيلية لم يقف عند هذا الحد؛ ذلك أن هذا الظفر يشمل ميادين لم تكن تصلح بطبيعتها ولا بمبادئها لاعتناق المكيافيلية وتطبيقها وهي الدول الديموقراطية؛ ولكن الدول الديموقراطية ترى نفسها اليوم مضطرة إلى أن تتحوط لخطر الدول الفاشستية المدججة بالسلاح، وأن تقابل القوة بالقوة محافظة على سلامتها وكيانها، فهي بذلك مضطرة إلى أن تقتبس نوعاً من المكيافيلية التي لا ترغبها ولا تؤمن بها، وهذه هي حقيقة محزنة، ولكنها حقيقة لا ريب فيها
هذه هي خلاصة الحقائق التاريخية الجديدة التي يبسطها الكاتب الفرنسي في مؤلفه بسطاً قوياً شائقاً؛ ونقول إنها حقائق تاريخية لا تعوزها الأدلة الواقعية. وماذا تكون المكيافيلية إذا لم تكن هي نفس النظم التي تطبق اليوم بمنتهى العنف والصرامة في إيطاليا الفاشستية، وألمانيا النازية، وروسيا البلشفية؟ إن هذه النظم جميعاً تقوم على نوع من الزعامة الممعنة(239/15)
في الطغيان والاستئثار بكل السلطات، وهذه الزعامة ذاتها تستتر وراء فكرة الدولة؛ ولم يبق للفرد اليوم وجود في ظل هذه النظم المطلقة، ولم يبق له شيء من الحقوق أو الحريات العامة، فهذه كلها تفيض وتنمحي في شخص الدولة؛ والدولة أو أولئك الذين يعملون باسمها يضعون أيديهم على مصاير الأمة أرواحها وعقولها وجسومها وكل ما ملكته أيديهم، ويتخذون من التسريع المدعم بالقوة القاهرة سلاحاً لفرض كل تجاربهم الإصلاحية على الشعب، ويزعمون أن مناهجهم الإصلاحية هي السبيل القويم لتحقيق عظمة الأمة وخير الشعب؛ وقد يعتمدون في هذا السلطان فضلاً عن قوة الجيش العامة على صفوف حزبية كثيفة من الشباب المسلح المدرب على أساليب العنف؛ وتسيطر هذه التجارب والمحاولات الإصلاحية على حياة الفرد الخاصة فضلاً عن الحياة العامة، فترسم له خطط أعماله وتفكيره واعتقاده واتجاهاته وتصرفاته كلها دون أن تكون له إرادة الاختيار أو المعارضة، وتجري هذه المحاولات جميعاً باسم الدولة التي تقبض عليها الزعامة المتربعة في دست الحكم
وهذه الزعامة المطلقة العاملة باسم الدولة هي بعينها (أمير) مكيافيلي، واستثارها وراء فكرة الدولة إنما هو نوع من النفاق السياسي الذي أوصى به مكيافيلي
وكما أن المكيافيلية تبدو واضحة أيضاً في السياسة الداخلية لهذه الدول المطلقة، فهي تبدو واضحة أيضاً في السياسة الدولية الخطرة التي تجري عليها هذه الدول في تنظيم علائقها مع الدول الأخرى؛ فالقوة في نظرها هي أساس الحق والعهود، والمواثيق الدولية لا قيمة لها في نظرها مادامت لا تتفق مع مصالحها ومراميها. وهذه هي الصورة الحديثة لمبدأ مكيافيلي في قوله: (إن الأمير كثيراً ما يرغم لحفظ الدولة على أن يتصرف بغير ما يقضي به الإخلاص والصداقة والإنسانية والدين) ولقد رأينا إحدى الدول العظمى تلغي ما بقي من تعهداتها في معاهدة الصلح، وتنكر ما وقعته من مواثيق دولية لصون السلام بحجة أن هذه النصوص والعهود تصطدم مع مصالحها الوطنية ولم يبق اليوم مبرر لبقائها بعد أن تغيرت الظروف التي أبرمت فيها، ولم تفعل ذلك إلا بعد أن آنست من نفسها قوة تدعم بها خطوتها. بيد أن الروح المكيافيلية تبدو بنوع خاص في اعتداءات بعض الدول القوية على الدول الضعيفة وغزوها أو استعمارها، وقد كان غزو الفاشستية للحبشة والاستيلاء عليها(239/16)
بلا ريب أسطع المغامرات المكيافيلية في عصرنا، فقد انتهكت فيه جميع المعاهدات التي عقدت والمواثيق التي قطعت باحترام سلامة الحبشة واستقلالها، ولم تخف الفاشستية أنها أقدمت على هذه الخطوة الجريئة تحقيقاً لمطامعها الإمبراطورية
وهانحن أولاء اليوم نشهد نفس التجربة المحزْنة في أسبانيا وفي الصين
فإلى أي مصير يسير العالم في ظل المبادئ العنيفة الخطرة؟ يقول لنا مؤلف كتاب (نحن ومكيافيلي) إن مدى الشر الإنساني لم ينقص وإن العناصر السيئة في الأفراد تجمع من جديد لتطلق بعد ذلك من عقالها في أعمال العنف والشر، وأنها قد تدفع العالم إلى كارثة أفظع وأروع من كارثة الحرب الكبرى
ونخشى أن يكون في ظواهر العصر وتطورات السياسة كثير مما يدعم هذا التكهن المروع
محمد عبد الله عنان(239/17)
التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم
لأستاذ جليل
هذا التنويم المغناطيسي قديم، وقد عرفته الحضارة العربية يوم كانت، وقيدته بالكتاب، وأثبته بعضهم في مجلة العجائب وجريدة ما وراء الطبيعة، وحاول العلماء تعليله وتفسيره فعجزت ذرائع علمهم في ذلك الوقت عما حاولوا. وهل اهتدى إليه علم الغربيين إلا منذ حين؟
وأول من ذكر التنويم المغناطيسي في العربية - وأن لم يسمه باسمه - هو (أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي) في كتابه (المعتبر) منذ أكثر من (800) سنة
قال الوزير جمال الدين يوسف القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء): (هبة الله بن ملكا أوحد الزمان طبيب فاضل عالم بعلوم الأوائل، وقريب العهد من زماننا. كان في وسط المائة السادسة، وكان موفق المعالجة لطيف الإشارة. وقف على كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا الشأن وأعتبرها واختبرها، فلما صفت لديه وانتهى أمرها إليه صنف فيها كتاباً سماه (المعتبر) أخلاه من النوع الرياضي وأتى فيه بالمنطق والطبيعي والإلهي فجاءت عبارته فصيحة، ومقاصده في تلك الطريق صحيحة. وهو أحسن كتاب صنف في هذا الشأن)
وقال ابن أصيبعة في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء): (أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا كان في خدمة المستنجد بالله (العباسي) وكان له اهتمام بالغ بالعلوم وفطرة فائقة فيها، وله من الكتب كتاب (المعتبر) وهو من أجل كتبه وأشهرها في الحكمة)
وهذه قصة ذاك التنويم كما حدث أبو البركات:
(والمرأة العمياء التي رأيناها ببغداد، وتكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة قدرُها ما يقارب ثلاثين سنة، وهي على ذلك إلى الآن تُعرض عليها الخبايا فتدل عليها بأنواعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها دقيقها وجليلها؛ تجيب على أثر السؤال من غير توقف ولا استعانة بشيء من الأشياء، إلا أنها كانت تلتمس أن يرى أبوها (المرءَ) الذي يسأل أو يسمعه، فيتصور الدهماء أن الذي تقوله بإشارة من أبيها، وكان الذي تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة، وإنما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة(239/18)
الأشكال والأنواع في مرة واحدة كلمة واحدة، وأقصاه كلمتان، وهي التي يكررها في كل قول، ومع كل من يسمع ويرى: (سلْها وسلها تخبرك؛ أو قولي له، أو قولي يا صغيرة) وقد عاندته يوماً وحاققته في ألا يتكلم البتة، وأريته عدة أشياء، فقال لفظة واحدة، فقلت له: الشرط أملك فاغتاظ، قال: ومثلك يظن أني أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة. واسمع الآن، ثم التفت إليها وأخذ يشير بإصبعه إلى شيء وهو يقول تلك الكلمة، وهي تقول: هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، على الاتصال من غير توقف، وهو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها، وهي لفظة واحدة بلحن واحد، وهيئة واحدة حتى ضجرنا، واشتد تعجبنا ورأينا أن هذه الإشارة لو كانت تتضمن هذه الأشياء لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء. ومن عجيب ما شاهدنا من أمرها أن أباها كان يغلط في شيء يعتقده على خلاف ما هو به، فتخبر هي عنه على معتقداتها كأن نفسها هي نفسه. ورأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها من خبيئة في الخبيئة التي اطلع عليها أبوها. وهذا أعجب وأعجب، وحكاياتها أكثر من أن تعد. وما زلت أقول إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها)
وقد أورد ابن أبي الحديد خبر (العمياء) هذه في بحثه عن المغيبات في شرح (النهج) وقال قبل روايته: (وقد يقع الأخبار عن الغيوب بواسطة إعلام إنسان آخر الغيب، لنفسه بنفس المخبر اتحاداً وكالاتحاد، وذلك كما يحكي أبو البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر):
وعدّ الرازي تلك العمياء (كاهنة) فقال في تفسيره (مفاتيح الغيب): (الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل ذكرت أشياء ثم إنها وقعت على وفَق كلامها.
وأنا قد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخباراً على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب (المعتبر) في شرح حالها، وقال لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً)
وليست (العمياء) بكاهنة، وليس الذي تقوله من أنباء الغيب، وما ذلك إلا (التنويم المغناطيسي) الذي عرفناه في هذا الزمان، وهو اليوم حرفة محترفين، ومَصيدة متصيدين. .(239/19)
روى المقريزي في (عقوده) هذا الخبر ونقله السخاوي في (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع):
(كان أحمد بن عبد الخالق البدر القاهري إذا كتب له البيت من الشعراء أو نحوه في ورقة لم يرها ودفعت إليه، ويده من تحت ذيله قرأها، ويده وثوبه يحولان بين بصره وبين رؤيتها، إلا أنه كان يمر بيده على المكتوب خاصة فيقرأ ما كتب في الورقة، امتحناه بذلك غير مرة، وشاهدت غيره يفعل مثله أيضاً)
والذي رواه المقريزي إنما هو من (قراءة الأفكار) وهو من ضروب المسمى عند الفرنج وقد رأينا المنومين يفعلونه كثيراً
وذكر القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) رجلاً اسمه (مخرج الضمير) فقال: (هذا رجل اشتهر بهذا الاسم، وكان يدعى المعجز في إخراج الضمير، فانطلق عليه ذلك) ثم روى قصة من قصصه، و (إخراج الضمير) مثل: (قراءة الفكر) أو هو هي، والحكايات الصحيحة لبعض المتصوفة في المخاطبة أو المراسلة النفسية (الكهربية) هي من هذا الباب
كنت قد أقرأت حديث ذلك التنويم القديم المنومين: الدكتور سلمون والدكتور داهشاً) فقالا: هذا هو التنويم المغناطيسي بنفسه، وسلم سلمون ودُهش داهش! وسلمون هذا شاب من دمشق، وداهش فتى من بيت المقدس، وهذه الدكتورية وهذه التسمية أو التعمية هي أفنون من أفانين هذا التنويم. . . وما أقول ذلك لائماً أو عائباً، إني أعلم أن عملهما يقول لهما يا منومان، يا لا عبان، العبا كما تهويان، وتسميا وتلقبا بما تريان. . .
وكل في هذه الدنيا إما منوِّمٌ مستهوٍ وإما منوَّمٌ مسهوىً. وما الأول - يا أخا العرب - إلا مثل الثاني؛ فالمستهوِي مستهوىً، والقاهر مقهور، والمستعبد عبد، والحر غير طليق، وذو الإرادة فاقدها، والكون في موج القدر
وبصير الأقوام مثلي، أعمى ... فهلمو في حندس نتصادمْ
بل ليس الناس كلهم أجمعون غادين ورائحين وعاملين ومتناحرين على الرغيف - إلا نائمين منومين، إلا في شبه الحالة المسماة عند الفرنج وما الإنسان إلا النائم السائر (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود)
مفتحةُ عيونهم نيامُ(239/20)
وما يشعرون وما يستيقظون إلا وقت الموت. و (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)
(ق)(239/21)
النار المقدسة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أنضجت قلبه النار المقدسة التي أنضجت قبله قلوب رعاة القطيع. . . ورواد الطريق، وآباء الإنسانية البلهاء. . . فغدا يسير على الدنيا وله فيها زفير وشهيق مكتومان لا يحسهما إلا من يتصل به عن قرب فيفتح له قلبه الكبير الذي فيه كل آلام الناس، وكل فجائع الناس، وكل مسئوليات الناس. . . كأنه أب ذو عيال! وكأنه مسئول عن ذنوب البشر فهو يبخع نفسه أسفاً ويسيل نفسه حسرات.!
سألته مرة: لم تحمل على قلبك الدنيا؟ ولم تجتر آلامها وتمضغ أسقامها، ولست فيها حاكما ولا شرطياً! فقال: بليت بالنظرة الناقدة إلى العيوب، وبالعجز عن وسائل الإصلاح، فكان لي ما تراه من إدمان المضغ لأحاديث الشقاء وأماني الشفاء!
مات أبوه فبكت عينه وقلبه ذلك البكاء الرحيم لألم الحب والرحمة والفقد ساعات. . . ثم نامت عينه ونام جسده بجوار جثة أبيه حتى صباح الدفن والضريح كأن شيئاً لم يحدث. . . ولكنه لا ينام إذا مات من دينه أو وطنه شي. . . حتى يكاد يجن من الأرق، لولا أن يتداركه الله بالنسيان والسلوى
ينخل الرجال والأعمال، ويرى ما وراء الوجوه ويقرأ ما بين السطور. . . فتروعه عورات الحقيقة العارية في الناس. . . إذ يرى الجهل والإثم والدجل والخيانة والأنانية والبلاهة. . . فيسأل السماء: أهذه هي الإنسانية أثمن وديعة في الأرض حاكمة ومحكومة؟!
مرهفٌ حسُّه: فيرى كل شيء ويشم كل شيء ويسمع كل شيء حتى امتلأ وأتخمته الدنيا بما فيها؛ فضوي جسده، وتوسعت نفسه على حسابه
استقى لنفسه من الأنهار الكبيرة الجارية، ومن الجداول الصغيرة، ومن البرك الآسنة، وحط على الزهرة والشوكة، والجبل والحصاة والنار والماء. . . فاصطرعت فيه الأضداد.
يعيش في سجن من وصايا الدين والعلم والخلق كأنه (ديدبان) فهو مسجون وسجان. . .
متيقظ للزمان. . . يعيش كل دقيقة. . . ويحسب كل نفس، ويصحب نفسه دائماً حتى أصيب بالذهول عن الناس.
يتكلم مع كل شيء؛ فيقول لكل حق أنت صديقي، ولكل باطل أنت عدوي. . . لا يؤمن(239/22)
بالذكاء؛ لأنه يدلس. . . ولكن يؤمن بالطبع لأنه صريح. . .
يريد أن يعلم الناس كيف يحبون؛ وهم يرونه ميتاً. . . فأين الملتقى؟!
يقول لهم: لا تأكلوا الثُّفل. . . والحروف. . . والحجارة. . . واكتفوا بالعصارة والمعنى والروح؛ فيقولون له: أنت تمضغ ماء وهواء. . .!
يا رحمتاه هذا ما دام حيَّا. . . فإذا مات فوا رحمتاه للناس!
إن هذا وأمثاله هم أعضاء الإنسانية وأوتادها. من أجلهم وجدت على الأرض، وإن نارهم موُقدة من القبس الخالد الذي أضيئت به السماوات وقام عليه صلاح العالم
يكفي أن أنظر إلى واحد من هؤلاء حتى أهتدي إلى نفسي الضائعة، فأجدها تحت ركام من ضجة الدنيا. . . فأقول لها: تعالي وارمضي لفائف صدرك في هذه النار المشبوبة في هذا الرجل المحترق المضيء وتطهري بها وارجعي إليّ. . .
ولقد وجدت واحداً منهم وعشت معه سنتين، رأيت على ضوئه كل شيء في موضعه الحقيقي من الدنيا، فحملني على احترام الإنسان والثقة بما فيه من عالم طاهر مؤنس إذا صُفى جوهره من الخبث والشوائب بهذه النار
بل لقد حملني على احتقار أكثر القوالب الإنسانية التي تملأ الأسواق والشوارع. . . وجعلني أدور دورة (ديوجين) بمصباحه وأنشد مع القائل:
ما أكثر الناس! لا بل ما أقلهم! ... الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
أو مع المتنبي: (أرى أناساً ومحصولي على غنم!)
أو مع الآخر:
لا تعجبنْكَ الثياب والصور ... تسعة أعشار من ترى بقر!
في خشب السرو منهمُ مَثَل ... له رُواء وما له ثمر
ويا ويلي من الإنسان! إنه يشغلني دائماً بصوره التي لا عداد لها كلما رأيت وجهاً له. . . وأقسم غير حانث أني لا أعرفه ولا أدركه، رغم خبري به في هويتي ودمي وصورتي! وإن نفسي التي بين جنبي ي القفل والغَلَق الذي حال بيني وبينه حتى عييت وبئست. . .
بل يا ويلي من نفسي واحتكاكها بما وراء الحياة الظاهرة والصور والأشخاص والمواد. . .(239/23)
ومن طلبها المزيد من هذا الاحتكاك الذي يمغطسها ويتركها ذاهلة ماضية إلى غير وجه الحياة الذي يمضي عليه الناس. . .
ولكن لا. . .! بل يا لذتي من غريزة التكوين والتخريب هذه التي تريني كل شيء كامل كومة من الأنقاض. . . وكل شيء مخرب خلقاً سويا. . .!
أليس الرجل طفلاً كبيراً؟
يلذ لي أن أراقب الناس وقتاً طويلاً في الشارع، وأشبع عيني وما وراءها من أنواعه واختلافه. . . لأزداد به جهلاً. . .
بل إني أذهب إلى (السينما) لأراه في جميع بقاعه وألوان معاشه واختلاف سحنه وألوانه ولغاته، لأخرج بعد ذلك مبلبل الفكر فيه في سوء ظن تارة، وفي إحسان تارة أخرى
بل إني أطوف كل يوم قبيل نومي بخيالي عليه في جزره النائية في المحيطات، وفي القطبين، وفي خط الاستواء، وفي هضبة التبت، وفي سفوح الهند، وفي رمال العرب، وفي. . . وفي. . . لأعيش في غيبوبة الصحو قبل غيبوبة النوم!
لقد رأيته قاتلاً ومقتولاً. . . جنينا محمولاً وميتاً ملحوداً. . . عاهراً وناسكا. . . جميلاً وقبيحاً. . . رجلاً يشعر وجهومة، وامرأة بزينة ونعومة. . . عالماً يضيء استراليا وهو في أوربا، وجاهلاً فدْماً عارياً آبداً عاجزاً أن يعد أصابع يده. . . فذهبت من نفسي قداسته وانحطت هيبته. . .
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد!
أجل! إني رأيت مخه. . . ورأيت قلبه. . . فلم أر شيئاً غريباً عما آكله من الغنم والثيران. . . ولذلك كفرت بالجسد كفراً لا إيمان بعده أبداً. . . ورحت أبحث عن الإنسان - ذلك المجهول. . . فلم أعثر إلا على لمحات عنه خلال كلمات ليست منه وإن كانت بألفاظه. وهي كما رواها محمد:
(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد)
(وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. . .)
(ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم. . .)
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. . .)(239/24)
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين)
يا يد الله! يخيل للإنسان العاجز أنك تخرجين الصنعة من مخابير ومسابير وعجلات ودواليب في مصانع وحظائر. وأنك تستخدمين طلاسم ولوغاريتمات ومعادلات. . . كما يفعل هو إذا أراد أن يحاكي أو يوحد بين ذرتين أو يفصل بينهما. ولذلك سألكِ إبراهيم أحد المقربين إليك: رب أرني كيف تحيي الموتى فأريته ذلك الكَيْف. ولكنه لم ير شيئاً أكثر من أنه دعا مًوَاتاً فاستجاب له حياً! إنه لم ير شيئاً. . .
إن كل آلاتك كلمة واحدة من حرفين اثنين بِكَيْلِنَا نحن ولكنها عندكِ خارجة عن حدود التعداد والقياس
إنك يد تتكلم كلمات وراءها حقائقها المُنْجزة التي لا تنفد ولو كُتبت بما في الأرض من شجرة أقلاماً ممدودة بماء البحر من بعده سبعة أبحر. . .
قال (إسحاق نيوتن) ما معناه: إن خالق هذا الكون على علم تام بعلم الميكانيكا. . . تماماً كما يقول الطفل: إن الملك عنده مائة دينار
ومن هنا آفة الفكرة في (الألوهية) عند أكثر الناس إذ جعلوا (الله) على صورتهم وبمنطقهم. . .!
قالت القدرة المطلقة للعجز الإنساني: تَهَج هذه الأبجدية التي شئت أن تراها وحدها مني وهي حسبك من معرفة. ولكنه تخطى البُدائيات وخاض في المجاهل فضل في فلسفاته وفرضياته حتى عاد لا يرى تلك المشيئة الغالية
(حددوا المادة وأنا أتكفل بتحديد الروح). هذا قول (مِلِكنَ) العالم الطبيعي الذي قاس مقدار الشحنة الكهربائية على الإلكترون، والذي اكتشف أشعة تفوق أشعة إكس مئات الأضعاف في قوة اختراقها للمواد. . لم يتخط عقله إلى البحث في الروح قبل أن يدري ما هي المادة. . . ولعمر الحق إن مثل هذا لن يضل. . .
سأراك أيتها الشمس في عيني جديدة كل صباح. . . وأنت يا عالم الظلام. .
وأنت أيتها الأشجار سأصحبك بلفتاتي الذهنية كلما رأيتك قائمة بالفرع ساجدة بالجزع في محراب الطبيعة. . .
ويا أيها الماء والحيوان والإنسان والجبل والحصى. . .(239/25)
يا سائر ما خُلق من الآيات التي نمر عليها ونحن عنها معرضون أقسمتُ لا أبرح أراكِ جديدةً عجيبةً مثيرة للفكر في الرأس والدم في القلبِ. . . حتى لا أنسى. . . حتى لا أنسى!
عبد المنعم خلاف(239/26)
من برجنا العاجي
يتساءل بعض الناس كيف لا يستطيع أدباؤنا أن ينتجوا إنتاج أدباء الغرب؟ أما أنا فأتساءل كيف استطاع أدباؤنا أن ينتجوا إطلاقاً، ولماذا هم ينتجون؟ إن موقف أدبائنا اليوم ليدعو إلى العجب. إنهم في موقف لم يقفه أدب ولا أدباء في عصر من العصور. إن المعروف في كل عصر أن الأدب يرعاه دائماً تشجيع طبقة من الطبقات. ففي عهد الأرستقراطية كان في كنف الملوك والخلفاء والأمراء والنبلاء، يتبارون في حمايته، ويتسابقون في إعلاء كلمته. وفي عهد الديمقراطية الحديثة وانعدام الأمية انتقل أمره إلى يد الشعب المتعلم فهو الذي يثيب الأديب بالتهافت على اقتناء كتبه، وهو الذي يحوطه بمظاهر الاحتفال والتقدير. أما أدبنا اليوم، فهو حائر كاليتيم بين أرستقراطية لا وجود لها، وإن وجدت فلا شأن لها بأدب ولا أدباء، وبين ديمقراطية اسمية في شعوب لم يتم تعليمها، فهي بعد لا تعنى بأدب ولا أدباء. فأنا ننتج ونحن نعرف أن إنتاجنا لا يهم الحكام ولا المحكومين، وأن ثمرات هذا الفكر الذي أضعنا من أجله كل حياتنا الجميلة لن يجنيها غير نفر قليل ممن ينظرون إلى استشهادنا بعين الرثاء. نعم إن هو إلا استشهاد، هذا الأدب في هذه البلاد. . . لا شيء غير ذلك. وإني قد سألت نفسي مراراً لمن أنشر كتبي؟ فكان الجواب: إني إنما أفعل من أجل أولئك التسعة أو العشرة من الأدباء الكرام الذين يفهمونني لأنهم يعانون عين الألم، وينتظمون معي في سلك العذاب، ويدبون مثلي على أقلامهم في تلك الحياة الطويلة الجرداء، كأنها صحراء من الجليد لا يهب علينا فيها غير صقيع الإهمال من الشعب وأصحاب السلطان، ولكننا مع ذلك نسير ونسير متجلدين، أيدي بعضنا في أيدي البعض كأننا منفيون في مجاهل سيبيريا. . . وما نحن في الحقيقة أكثر من ذلك. . . ما نحن إلا منفيون في مجاهل (فكرنا) الذي يجهله الناس
توفيق الحكيم
كلمة لبنان في مهرجان القران الملكي السعيد
للأستاذ أمين بك نخلة
باسم القلم في لبنان، بل باسم القلم اللبناني في كل أرض، بل باسم اللبنانيين في دارهم وفي(239/27)
كل دار لهم على جنبات المعمور، أرفعُ هذا الصوت على النيل، في فرحة البيت المصري بصاحب التاج، فينجلي الحجاب، ويبش وقار المْلك وبأنس عرش (محمد علي) لرسول الأحبة من ارض (بشير)!
فيا فاروق، يا لابس المطرف (العلويّ) ووارث الميثاق: هذه رسالات الوفاء في يدي، أحملها إليك من وراء قنال (السويس)، من نهايات شطه الآخر، حيث لا ينبسط القتال في ظن القلوب بين بيروت والقاهرة، ولا يشطر دار الهوى في خطرات (محمد علي) وسرائر (بشير)، فكأن معاول (دي ليسبس) عند عقدة (الأبيض المتوسط) و (الأحمر)، وأوشك التلاقي بين لوني آسيا، وأفريقيا، في مخطط الدنيا، لم يُسمع لها رنّة على الساحل الشرقي من (المتوسط)!
وهكذا تسلم علاقة الماضي بين جبل المقطم وجبل الأرز، لا يحول دونها خط (السويس) في الخارطة، وهي من إرث الوجدان قبل عهد الخلائق بالورق. . .
كان التراب أمس - كما تدري - أوفر أثراً من الماء في علائق البشر، وتعمير الممالك، ونقل المدنيات؛ بل كان مدار العقل القديم في تأليف الأمم، ومزج الأجناس، قبل أن يصبح المدار على دم العرق، وهوى الضمير، ولغة الفم، ففي ذلك الأبد السحيق كان من المتحتم أن يغدو هذا الشاطئ المشرقي المنطرح من مباسط (طوروس) إلى مشارف (أسوان) ملعباً لدورين ينقص تاريخ البشر يوم يسقط لهما ذكر! لنا دور منهما ولمصر الآخر. فرجت كرة الأرض يومئذ من الحركة المشرقية. فالملعب عريض، قبالة الأمم على (المتوسط)، والرواية رواية المدنية، وأصحابها أساتذة الأزمنة في رفع الحجر إلى الجو، وإخراج النبتة من الأرض، وإبراز خاطرة البال في حلة الحرف، وربط هذه المخيّلة البشرية بالغيب العالي، فشهدت الدنيا القديمة، للمرة الأولى، كيف العهد بآفاق يراد لها وحدة، وشعوب يراد لها تأليف، وإذا الشمس لا جديد تحتها؛ فكرة من صوب مصر علينا، وكرّة من صوبنا على مصر، حتى تتعب الأزمنة بين أخذ ورد. فكان عبثاً مجيء (كنعان) من جوار الجبل اللبناني، ووادي مصر أغبر، وماء النيل هدره، فيسمح بالخضرة، هاهنا، على كل فج عميق. وكان عبثاً أن يقطع (تحتمس) إلينا، حتى يبلغ ضفاف (الفرات) ويكاد يشرف على صفرة آسيا، كما كان من العبث أن يقطع (سلاتيس) إليكم حتى يبلغ ضفاف النيل ويكاد(239/28)
يشرف على سواد أفريقيا. بل كان من العبث فوق ذلك أن نتلاقى على الملعب: فرعونية من جانب، وفينيقية من آخر. نمدكم بالحرف واليد والشراع، وتمدوننا بالخاطرة والصنع والوسق، فتدق البشائر في الدنيا بأول العهد بالعلم والصناعة والتجارة
ولا تقف المحاولة عند ربط صعيد بصعيد، وعلم بعلم، ومصلحة بمصحلة، بل جاوز الأمر إلى الديانة. فإذا الإله اللبناني (أدونيس) تحت القناطر في (أسوان)، وإذا الإله المصري (أوزيريس) فوق المذابح في لبنان. فألف الأول في العصبية الدينية زرقة السماء المصرية على خضرة الجبل اللبناني، كما جمع الآخر أمواج (أفقا) إلى أزباد النيل. ولكن الوحدة في التيجان والرايات وأجناس القبائل لبثت على ذلك كله غير مستطاعة، حتى إذا دار بنا الفلك بعد مليءٍ من الدهر، وطلعت علينا أمم الفتوح واحدة واحدة من الآشوريين إلى الرومان، خفقت على هذا الشاطئ المشرقي صيحة الوحدة
ثم انقلب أمر الدنيا، ثم جاء (الإنجيل)، فنوَّرت هاتيك الجهات على مقربة من لبنان , ثم نور لبنان بالسبب الجديد؛ وما هي حتى جاءكم مرقس يكرز، فكأنما عدنا إلى المحاولة. ويلمع في الأيام بعد ذلك ضياء من صوب (البحر الأحمر)، فتلألأ (مكة) وتغرق بلاد العرب في اللألاء (القرشي). فإذا القضية لقومية، فوق كونها لديانة. فتنقل شعاع (القرآن) في مشرق (المتوسط) على الدروب الباقية من ذلك الغرض القديم. وشرعت الرايات (المحمدية) تخفق في دمشق على خطوتين من جبل اللبنانيين، فأقبلنا في الزمن (الأموي) نعب من (كتاب) العرب، وندير ألسننا في الفصاحة؛ كما أقبلتم على يد (ابن مروان) تتلقون عقيدة الكتاب الجديد، وتتلقنون لسانها؛ فكان أن جَمَعت رابطة الفم بين هذا (الوادي) وذلك (الجبل)، بعد أن جُمعا تارات في المحاولة على المصلحة والعلم والديانة، وعلى دفع الفتح، وتحمل الأمم الغربية. ولكن تلك الرابطة التي تضم الفم إلى الفم، كانت أشد الروابط، فتلاقينا معاً على ملعب (المتوسط) كرة أخرى. أما الغرض القديم فكان في نقلة الزمن قد تحول من نحو إلى نحو، بل انتقل من جنس في الجمعة المشرقية إلى جنس؛ فضج الكون بالعرب، ورقصت فصاحتهم على (شنيل) الأندلس، كما رقصت على (نيل) الكنانة، وغدوا وراحوا على الممالك، حتى لقد تصايحوا بالضاد على أبواب فرنسا
وتسكن العروبة بعد الدور العظيم، وتجيء العثمانية تملأ الملعب، فنعتليه ومصر؛ وتتعاقب(239/29)
فصول في الرواية التركية الطويلة، وتختلف وجوه؛ وكانت مغارب الشمس قد أضاءت وطفقت مشارقها تعتم. فيرج المدفع في (عكا)، ويقطع على (بونابرت) طريق (الهند) ويرد يد الإسكندر الثاني عن تغيير خارطة العالم:
فيا صاحب الجلالة
في تلك اللَّفتة من التاريخ جاء جدك. . . وقد كان من الاتفاق أن يولد بونابرت في (أجاكسيو) خارج فرنسا في العام الذي ولد فيه محمد علي في (قَوَله) خارج مصر. فلما غلغلت الشمس الفرنسية في جوف (البركان المنطفئ) وراء (الأوقيانس)، وأخذت الشمس المصرية تتعالى في سماوات التاريخ - وكأنما أنوارها تتفلت من وحشات ذلك الغروب البعيد - كان من الاتفاق أيضاً أن ينهض عرش عصامي في الشرق، حيث يهوي في الغرب عرش عصامي؛ فيتربع (محمد علي) في مصر، ويعود الشاطئ المشرقي على يديه إلى المحاولة. وأنت تدري أن كرة الأرض قد صغر حجمها في عيون أساتذة الطمع، منذ ما قامت أوربا على قدميها، وأصبح قيد الشبر من أرض على خليج يحله فاتح في الأعصر الحديثة، بمثابة نصف قارة يخوضه في الأعصر القديمة فاتح مثله؛ فلم يخرج (محمد علي) على قاعدة الأساتذة، ولكن قيد شبره كان كبيراً. . . فصهلت خيل (طوسون) و (إبراهيم) على سيف (البحر الأحمر) المشرقي، وفي صحراوات (الحجاز)، ومشارف (نجد)، ولوّحت أعرافها تحت (إسماعيل) على (البحر الأزرق)، وخطرت عمارة (إبراهيم) بين عيني الجزائر (اليونانية)، ثم طلعت أعلامه علينا من (العريش)، فقطعت من يافا العربية إلى (قونية) التركية خلف (طوروس)، وكادت تطل على خليج (البوسفور)!
أما لبنان فأقبل على المحاول المصري الكبير في إجابة من النفس. إذ الملعب المشرقي لنا فيه سابقة الخطرات. فلا عجب أن تصبح يد (بشير) في يد (محمد علي) - وكان سيد (الجبل) قد نفضها قبل من نابليون نفسه - عند أسوار (عكا). . .! ثم تنسخ في المحاولة الجديدة صورة أختها تلك، فيرتبط الجبل اللبناني بالوادي المصري في العلْم، بعد أن ارتبط به في الحد والمصلحة واللسان؛ وفي دين (ابن مروان) ودين (مرقس)؛ فأظلنا (القصر العيني) معاً، وجمعتنا مطبعة (بولاق) على الممتعات في الفلك والزراعة والهندسة والجغرافية(239/30)
وكما كانت المحاولة في الأمس العتيق تساجلاً بين نضرة من هنا ونضرة من هناك، كذلك كان الأمر في أعقاب القرن الماضي؛ يوم أصبح العلم العربي لا يطلع له قمر إلا من أرضنا، فبعثنا بالممتعات في الأدب والفن والتاريخ واللغة، وجاء الرد بعد الأخذ، وصحت المقابلة في التاريخ! وإذا كانت رياح العربية تهب اليوم من مصر ومن عندنا في آن معاً، حتى ليكاد يختلط الطيب فنتقاتل على فخر الشيوع، فما هي إلا من أهبة يأخذها التاريخ لتدوين هذا النسق الجديد من المحاولة التي لم ينقطع خيطها، والحمد لله. . .!
فيا صاحب الجلالة
شرفاً لعرشك فهو كرسي النيل، ودق ظلَّل نصف الحضارة البشرية؛ وتيهاً لمطرفك فهو ثوب (محمد علي) وقد فيَّأَ نصف الحضارة العربية. فشاطر عرشك في محاولة الشرق القديمة، وساهم مطرفك في المحاولة الحديثة؛ فإذا تسلمت بكفّيك الغضتين وديعة الماضي الباهظة، فلا خوف عليها، وأبيك (يا ابن فؤاد)! وإن لبنان الذي شرفني بالوقوف بين يديك، فوق تشرفي بالكلام باسمه، لا يبرح على العهد. فدارنا الشرق، وأهلنا العرب، ولساننا الضاد، نشمخ به في الأفلاك. . .
ويا صاحب الجلالة
مقبلٌ أنت - يا ربيع الوادي - على سنَّة الثمر، غِبَّ الزهر، فتصبح المثال العالي لجبل الشرق الطالع، في مباكرة ذلك النعيم الاجتماعي، الذي يأنس له العقل والدين، ويحمد (واديك) طيب الموسم، وينظر لبنان إلى البركة بعين الصديق. إذا شاء الله
أمين نخلة(239/31)
بحث سيكولوجي
اعمل ما تخشاه
للأستاذ أحمد المغربي
من أشهر المجلات الشهرية العالمية وأوسعها انتشاراً وأغزرها فائدة، هي مجلة (زبدة القراء) التي يشرف على تحريرها نفر كبير من مشاهير الأدباء والعلماء، وقادة الفكر المحدثين. ولعل خير وصف لها تسميتها (بمجلة المجلات). ذلك لأن القائمين على إدارتها يختارون لها من عشرات المجلات أطيب الآثار الأدبية وأوثق الآراء العالمية وأحدث الأنظمة الاجتماعية وما إليها، ثم يجملونها ويوجزونها في صفحات قليلة يعرضونها على قرائهم بصورة جذابة وطريقة خلابة تستلفت أنظارهم، وتستهوي أفئدتهم، وتسحر عقولهم، فيقبلون على انتهال مواردها إقبالاً يفوق إقبال الصادي في الصحراء على موارد المال
وميزة أخرى يتحتم علي إلا أغفل ذكرها، هي أن القارئ يجد في القسم الأخير منها موجزاً لكتاب في مختلف ألوان الأدب والقصص والعلوم، تقره في كثير من الأحيان، جمعية (كتاب الشهر) وتوصي بمطالعته بعد أن تكون قد اختارته من مئات الكتب التي صدرت في تاريخ صدروه
ولا شك في أن مثل هذا العمل المثمر والإنتاج النافع يسدي إلى القراء خدمات جليلة. ذلك لأن الإنسان، بلغ ما بلغ من حب المطالعة لا يستطيع، بل إنه ليعجز عن أن يطالع جميع ما يصدر من كتب ومجلات، مهما اتسع وقته وتوفر فراغه. ولا ريب أيضاً في أن الأستاذ الزيات يشاركني في اعتقادي، ونحن في مستهل نهضتنا الفتية المباركة، بأن حاجتنا مُلِحةٌ جداً إلى مثل هذه المجلة الفريدة، مع نبل الرسالة التي تحملها رسالته، فعسى أن تكون كلمتي هذه حافزاً له في تحقيق هذه الفكرة وسد هذه الثغرة
كاتب هذا المقال الذي نقتبسه من هذه المجلة هو الدكتور هنري لنك رئيس دائرة الخدمة السيكولوجية في مدينة نيويورك. وتضم هذه الدائرة جماعة من علماء النفس الذين يقومون بإرشاد من يستشيرهم في المشاكل التربوية والمهنية والشخصية. ولا يزال كتاب الدكتور لنك الأخير: (العودة إلى الدين) يتمتع بشهرة واسعة وإقبال عظيم، بالرغم من مضي أكثر من سنة ونصف سنة على نشره(239/32)
يستهل الكاتب حديثه قائلاً:
لقد نازعتني عوامل التردد والإحجام قبل أن قررت الكتابة في موضوع (الأوهام والمخاوف)، ذلك لأن طائفة كبيرة من المخاوف التي تعتور نفوس الناس، إنما هي بلا جدال تعزى إلى كثرة ما كتب في هذا الصدد. وكم كنت أتمنى لو أن لفظة (مركب الضعة أو الشعور بالحطة) لم تخرجها المطابع إلى الوجود، إذن لما خطر لملايين البشر بأنهم مصابون بذلك، ولنقص خوف من مخاوفهم ووهم من أوهامهم
والواقع أن معظم المخاوف لا تنشأ عبثاً، بل تتولد عموماً من الإغراق في المطالعة والإكثار من التفكير والكلام. فنحن نتعهدها ونرعاها ونغذيها حتى تستحيل من أمر بسيط في غاية البساطة، وشيء تافه بعيد عن الخطورة، إلى هم مقيم وعذاب أليم
إن الأم التي تكثر من مطالعة الكتب المختصة بتربية الأطفال وتحرص كل الحرص على الإحاطة بدقائقها وأسرارها تصبح شديدة المخاوف. والفتاة التي تهتم بمظهرها الخارجي وتكلف كل الكلف بأناقتها سرعان ما يزداد قلقها ويتعاظم هلعها مما يراه الناس فيها، والجماعات التي تدقق البحث في أحاديثها ومناقشاتها عن وضع البلاد يؤول تشاؤمها في الغالب إلى الخوف
وصلتني رسالة من فتاة تبتدئ كما يلي:
(منذ أن بلغت السادسة عشرة من عمري كنت أخاف من التحدث إلى الغرباء. ثم تستمر الرسالة في تعداد مخاوف أخرى، كالخوف من رئيسها، والخوف من الرجال، والخوف من سوق السيارة، والخوف من تقديم تقرير في ناد للبنات، وغيرها من المخاوف التي بلغ عددها). وجميعها مخاوف من صعيد مشترك واحد، يقاسي منها ملايين البشر. والنتيجة لهذه المخاوف، في كل حالة تقريباً هي واحدة: نوع من الشلل الزاحف، شعور بالبؤس والاختناق والروع والرعب والهزيمة
شكا إليّ شاب بأن النوم يجفوه، وبعد أن شرح لي شرحاً سيكولوجياً مسهباً على ما أصابه سألني: (هل تستطيع أن تساعدني على التخلص من هذه الهواجس والوساوس؟ فأجبته: لا. فتوسل إليّ قائلاً: إذن، ماذا أستطيع أن أعمل؟ فاقترحت عليه أن يركض في الليل حول الحي الذي يعيش فيه حتى يكل وينصب ويبلغ به الجهد حداً يشعر معه بأنه سوف يسقط(239/33)
على الأرض إعياءً. وقلت له: إن ما تحتاج إليه، هو الإجهاد؛ لقد أنهكت قواك البدنية في التفكير والتخيل والأحلام؛ فإذا ركضت ركضاً مكداً مجهداً فلا تلبث أن تشعر بالارتخاء والفتور فتنام؛ إنك لشدة ما فكرت، جررت نفسك إلى الخوف، بفكرك، وإنك لقادر على أن تفر منه بساقيك)
ولقد فعل!
قدمت إليّ والدة منذ أمد غير بعيد، هذا الملخص المهم لتاريخ حياتها: (كنت وأنا فتاة، تعروني مخاوف كثيرة تسبب لي قلقاً واضطراباً، منها الخوف من الجنون، ولقد استمرت هذه المخاوف حتى بعد زواجي. إلا أنه بعد مدة قصيرة، رزقنا طفلاً ثم انتهى بنا الأمر إلى أن أصبح لدينا ستة أولاد. ولما كنت أقوم بنفسي بجميع أعمالي البيتية كنت كلما بدأت أشعر بالقلق، أسمع بكاء الطفل أو نزاع الأطفال، فأبادر إلى تهدئة أحوالهم. أو كنت أتذكر فجأة بأن وقت الغداء قد حان، أو بأنه يتحتم عليّ أن أتم كي الملابس، فكانت المخاوف التي تنتابني تُقطع على الدوام بواجبات عائلية، وعلى مر الأيام تلاشت تدريجياً. وأنا الآن ألقي عليها نظرة لمجرد اللهو والسلوة)
وقد يكون مغزى هذه الحادثة ألا يكون للوالدين ستة أطفال، ولكن الميل إلى تقليل عدد أفراد العائلة وزيادة أوقات الفراغ، يؤدي، في الحقيقة، إلى توليد المخاوف. ومن الحقيقة أيضاً، أن الكثيرين ممن تلازمهم هواجس مقلقة، قد يجدون لذة جديدة في الحياة لو أنهم يهتمون بشئون أناس آخرين بواسطة الاشتراك في الأعمال الاجتماعية المحلية.
أنت لا تحب مثل هذه الأعمال؟
إذن، يجب أن تتذكر بأن كل خطوة في التغلب على الخوف تتطلب، في البداية، قوة إرادة
إن الذين تعلموا الغطس، مثلاً، يذكرون المصاعب التي أصابتهم. فأنت أول في الأمر، توازن نفسك ثم تميل إلى الأمام، فتتردد فترتد إلى الوراء خوفاً وهلعاً، ثم تحاول مرة ثانية فتنسحب. وأنت في كل تردد تزداد مخاوفك. وأخيراً تثور ثائرتك ويشتد غضبك من هذا الخور والجبن، فتقذف بنفسك دون أن تبالي بانحراف ذراعيك، أو تكترث لاعوجاج ساقيك. تصعد، بعد ذلك. كسيفاً مضطرباً، وتزداد حالتك سوءاً حين تسمع قهقهة أصدقائك وتشاهد سخريتهم. فلو أن مخاوفك، في هذه النقطة، حالت دون أن تقوم بمحاولات أخرى(239/34)
لما تعلمت الغطس؛ ذلك لأن مخاوفك تصبح غير قابلة للقهر. ولكن لو أنك تشبثت وداومت على القيام بغطسات مؤلمة خرقاء غير لبقة، لأمكنك الغطس بهدوء ونعومة، والصعود مرتاح الفكر ناعم البال. ولقد كنت في طريقك إلى أن تصبح غطاساً ماهراً
تلك هي السيكولوجية الأساسية للتغلب على الخوف، واكتساب الثقة والإيمان بكل ناحية من نواحي الحياة؛ وليس ثمة مفر من هذه الطريقة. يتحتم علينا، بين آونة وأخرى، أن نخوض جدول الحياة ونغوص فيه، فنضيف نصراً إلى نصر، وننتقل من فتح إلى فتح، متغلبين على ما يعترض سبيلنا من مخاوف وأوهام، الواحد بعد الآخر. وكما قال امرش: افعل الشيء الذي تخاف منه فان موت الخوف محقق. والواقع أن مخاوفنا هي القوى التي تكوننا حين نعالجها بشدة وحزم، وهي التي تحطمنا إذا ما عولجت بالتردد والحيرة والتواني والتعقل
سألني شاب منذ مدة غير طويلة أن أقترح له بعض أعمال صعبة يقوم بها، وقال لي: (إن كتابك يوصي بالتمرن على الرقص وكرة السلة أو بعض المباريات الرياضية والبردج وحفلات السمر والألعاب، ويقول بأن على الإنسان أن يعمل حتى الأشياء التي ينفر منها ويبغضها؛ على أنني لم أكن أكرهها وأنفر منها فحسب، بل كنت أخاف من القيام بها. بيد أنني عزمت على تجربتها. فمر عليّ ردح من الزمن الرهيب كنت أشعر فيه بالبؤس والتعاسة وأعاني فيه عناء كبيراً وعذاباً مريعاً؛ ولكن سرعان ما زالت مخاوفي واستعدت نشاطي وانكببت على هذه المشروعات الجديدة. والواقع أنني أتمتع بحياة جديدة تضفي على نفسي ألواناً من الهناء والصفاء حتى بت أخشى أن أميل إلى حياة الراحة والترف. وأود منك أن تخبرني ببعض الأعمال التي أجد في القيام بها مشقة حقيقية.
إن هذا الشاب تعلم درس استخدام مخاوفه كواسطة للفوز والانتصار والهناء والمرح البهيج. واتجه إلى حياة أوسع نشاطاً وأغزر حيوية من الناحيتين الحيوية والفكرية
والخطوة الأولى في التغلب على الخوف هي أحياناً عملية بسيطة أولية جداً. أتذكر شاباً غمرته المخاوف إلى حد كلما كان يتمكن من الكلام بصوت مسموع. كان يعمل في مصرف كبير ويعرف اثني عشر رجلاً في دائرته، إلا أنه عندما كان يذهب إلى مكتبه لا يحيي أحداً. فاقترحنا عليه أن يبدأ بتحية رفاقه من صميم قلبه قائلاً: صباح الخير، إبراهيم، يا(239/35)
أهلاً، زهير،. . صباح الخير، يا سيدي، أثناء مروره بهم. فجرب ذلك وكانت تجربته مرضية مدهشة حتى أنه تشجع لتجربة أعمال أشد صعوبة كان الفوز في أحدها يقوده إلى فوز آخر
إن أكثر المخاوف شيوعاً وانتشاراً، كالخوف من الجنون أو الاضطهاد والظلم، أو الخوف من الأغراب والأجانب، أو الضعة هي عادة، نتيجة فشل الإنسان في التغلب على مخاوف صغيرة كافية وقهرها بمثل هذه الطريقة التي أشرنا إليها. إلا أنها تغري أحياناً، إلى أن الإنسان، لسبب ما، كالفشل في الحب، أو موت قريب عزيز، أو لكوارث مالية، أو لخسارة عمل أو وظيفة - ينزوي عن الناس وينسحب من أعماله المألوفة. ويتحتم على الإنسان، إذا ما مني بكارثة، خصوصاً ألا يتابع أعماله القديمة فحسب بل يوجه إرادته ويعزم عزماً أكيداً على أن يبدأ بمساع جديدة يستحسن أن تكون مكدة عنيفة
ومع أن التعاميم مخطرة جداً فإني أجرأ على القول بأن في قرار معظم المخاوف فكراً مجهداً، وجسما خاملاً، ولهذا فأنني نصحت كثيراً من الناس في سعيهم وراء السعادة أن يقللوا من استعمال رؤوسهم ويكثروا من استعمال أذرعهم وسيقانهم في عمل أو لعب مثمر نافع. فنحن نولد المخاوف بركوننا إلى الراحة، ونتغلب عليها باللجوء إلى العمل؛ وما الخوف إلا نذير الطبيعة بدعوتها إلى العمل
إن ملايين البشر الذين يعتمدون في معاشهم على المساعدات الحكومية إنما هم يربون في أنفسهم المخاوف والأوهام من حيث لا يشعرون. وقد يكون من الواجب المحتم علينا أن نضع نصف سكاننا في مخيمات الخدمة الاجتماعية - هي مخيمات تضم عدداً من الشبان في سن الدراسة الثانوية والجامعية العاطلة عن العمل، تستخدمهم الحكومة الأميركية في القيام ببعض الأعمال الاجتماعية كتعبيد الطرق وبناء الجسور والمحافظة على الغابات من الحريق الخ. . . لقاء أجور زهيدة تدفع قسماً منها إلى أهليهم كما أنها تهذبهم في المخيمات تهذيباً منظماً وتدربهم على الأعمال الفنية التي تفيدهم بعد تخرجهم فيها) حتى نستأصل شأفة المخاوف التي تقلق الأمة
والخوف في أدواره الخفيفة الأولية يتخذ شكل النفور من بعض المشاريع والاشمئزاز من بعض الناس وانتقادهم، فيقيم بذلك شاهداً ودليلاً على أن الإنسان يبرر خموله المستمر.(239/36)
إن العالم مليء بالمستائين والساخطين، غني بالشيوعيين والنظريين الاجتماعيين، لأنهم لا يريدون أن يغيروا أنفسهم، يتحدثون عن تغيير نظام العالم بأسره. ويظهر أن الكثيرين منهم لا يدركون انه، في أي نظام اجتماعي، مهما كان نوعه ولونه، لا بد من وجود مفاسد ومساوئ، وهم بأحاديثهم يصوبون غضبهم من العالم ويسبغون على سخطهم وتذمرهم رداءاً من الحكمة والتعقل بدلاً من أن يسخطوا على أنفسهم ويهبوا إلى القيام بعمل صالح نافع
(بغداد)
أحمد المغربي
مدرس العلوم الاجتماعية بدار المعلمين الابتدائية(239/37)
الخلود
'
للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين
ترجمة السيد أحمد عيتاني
أحب لامارتين (ألفير) حباً ملك عليه حواسه ومشاعره وكاد يقرب من العبادة إلا أن القدر أبى أن يمنعه بهذا الحب طويلاً، فبينما هو يقضي إلى جانب محبوبته ألذ ساعات العمر وأعذب أوقات الحياة، إذا بالنبأ يفاجئه بأنها مريضة ومشرفة على الموت، فينال هذا النبأ منه وينظم آلامه وشجونه في تلك القصيدة التي ينظر فيها إلى الموت نظرة المنقذ الذي ينقل الإنسان من آلام الحياة الفانية إلى سعادة الحياة الأبدية
لقد آلت شمس أيامنا منذ فجرها إلى الاصفرار!
فهي لا تكاد ترسل نحو جباهنا الكليلة
سوى بضعة أشعة مرتجفة تقاوم الظلمة!
ولكن الظلمة تنمو، والضياء يتلاشى، وينمحي كل شيء ويزول!
ألا فليرتعد سواي أمام هذا المشهد! ولتخنه قواه!
وليبتعد مرتجفاً عن شفا الهوة!
وليعجز عن الاستماع بعيداً دون أن يجزع
إلى أنشودة الموت البائسة التي يتهيأ لالتقاطها، أو إلى الزفرات
المختلفة تصعدها حبيبة أو شقيق
فتعلق حول أطراف سريرها الكئيب!
أو إلى الناقوس المدوي،
تنشر دقاته المضطربة بين الملأ أن فلاناً قد قضى!
سلاماً أيها الموت! أيها المنقذ السماوي!
إنك لا تظهر لي في هذا الشكل الرهيب
الذي ألبسك إياه الوهم والرعب زمناً طويلاً!(239/38)
إن ذراعك لا تحمل ذلك الخنجر الهدام!
إن جبينك ليس مرعباً! وإن عينيك ليست غادرة!
إن رباً لطيفاً يسوقك لتخفيف الآلام!
إنك لا تهلك! إنك تنقذ!
وإن يدك لرسول سماوي يحمل شعلة إلهية!
عندما تنطبق عيني المتعبة على ضوء النهار
ستأتي، وتغرق جفونها بنور أشد نقاوة منه!
ويفتح أمامي الأمل، وأنا أحلم في القبر على مقربة منك
أبوابَ عالم أبهى من هذا العالم!
تعال إذاً وأنقذني من قيودي الجسدية!
تعال وافتح لي سجني! تعال وأعرني جناحيك!
ما يلهيك؟! اظهر! ولأقذف بنفسي أخيراً
نحو هذا الكائن المجهول: مبدأي وغايتي!
من فصلني عنه؟! من أنا؟! وما يجب أن أكون؟!
إني أقضي ولا أفهم معنى الحياة!
أيتها الروح! أيها الضيف المجهول! يا من أسائلك عبثاً!
في أية سماء كنت تقطنين قبل أن تكوني فيّ؟!
أية قوة قذفت بك إلى هذه الكرة الأرضية؟!
وأية يد ألقت بك في سجنك الصلصالي؟!
أي روابط خفية، وأي عقد مدهشة
جعلتك تقيمين في الجسد، وجعلت الجسد مالكاً لك!
أي يوم تنفصلين فيه عن المادة؟
وإلى أي صرح جديد تغادرين الأرض؟
أتنسين عندها كل شيء؟!
أتعودين بعد القبر إلى الحياة؟!(239/39)
أتبدئين حياة ثانية؟
أم ستعملين، وقد تجردت إلى الأبد من قيودك الفانية
على التلذذ بحقوقك الخالدة
في جوار الله مبدأك ومعادك!
أي نعم. ذاك ما أتمناه يا نصيفة حياتي!
ذاك ما جعل نفسي مطمئنة
وقادرة على النظر، دون ما ذعر إلى قسمات وجهك الوسيمة
تذوي عليها ألوان ربيعك الساطعة!
ذاك ما جعلك ترينني أبتسم
وأنا أموت شاباً فريسة تلك الطعنة التي أصبت بها!
ذاك ما جعل دموع الفرح تلمع في عيني
عند رؤيتك الأخيرة، في وداعنا الأخير!
(أمل باطل!) هكذا سيقول أتباع أبيقور!
إنهم سيقولون: (يا فاقد الشعور، يا من يخدعك غرورك الكثير!
أنظر حواليك: فكل شيء يبدأ ويتلاشى!
كل شيء يسير إلى نهاية! وكل شيء يولد ليموت!
إنك ترى الزهرة تذوي في تلك الحقول الصفراء!
والأرزة الشامخة تسقط في الغابة تحت أعباء السنين لتفنى خلال الأعشاب!
إنك ترى البحار تجف في أحواضها الناضبة!
والسماوات نفسها قد أخذت بالاضمحلال!
حتى الشمس، ذلك الكوكب الذي كتم الزمن مولده
تسير مثلنا نحو الفناء!
ولسوف يبحث البشر عنها يوماً فلا يجدونها، فيتيهون في الفضاء الفارغ!
إنك ترى الدهور حواليك، في الطبيعة كلها! تتراكم غباراً على غبار!
وإنك لترى الزمن يخطو خطوة واحدة فيطويك مع كبريائك!(239/40)
وينقلب كفناً لجميع ما أنتج!
والإنسان! والإنسان وحده! يا للجنون العظيم!
يظن أن سيعود ثانية إلى الحياة في أعماق لحده!
ويحلم بالخلود، بعد أن حطمه الزمن
وحملته العاصفة إلى العدم!
ألا فليحبكم سواي يا فلاسفة الدنيا!
ودعوني ووهمي! فالأمل يجب عليّ وهو حبيب إليَّ!
إن عقلنا ليتعثر ويختلط عليه الأمرَ
نعم إن العقل ليسكت، ولكن القلب ليجيب!
أما أنا، فحينما أرى الكواكب
وقد تاهت عن طريقها السوي في السهول السماوية
يصطدم بعضها ببعض في حقول الأثير
وتنقلب دون ما غاية في السماوات المذعورة؛
حينما أسمع الأرض تئز وتتحطم!
حينما أرى كرتها الشاردة المنعزلة
تسبح بعيدة عن الشموس، باكية إنسانها الهالك!
لتضل في حقول الليل الأبدي!
حينما أكون آخر شاهد لتلك المناظر الرهيبة؛
حينما أظل محاطاً بالموت والظلمة
وبالرغم من وحدتي وجزعي
سآمل فيك أيها الكائن الحق اللطيف
وسأنتظرك أيضاً، وأنا في العوالم البالية
مؤمناً بعودة الفجر الأبدي!
ما أكثر ما غمرتني وإياك تلك الظلمة ونحن بعيدان عن العالم، يحدونا الأمل
تارة على قمم الصخور الهرمة! وأخرى على ضفاف البحيرة الكئيبة القاحلة!(239/41)
أثناء مقامنا السعيد. . . حيث بدأ حبنا الخالد
لدي النظرة الأولى كما تذكرين!
لقد كانت الظلال، وهي تنحدر من وراء الجبال
بقطعها الطويلة، تحجبها عن أبصارنا!
فلا تلبث كواكب الليل الغريبة
بعد برهة من الزمن
إن تزحف دون ما جلبة أو أبهة
وترد على أبصارنا ما حجب عنها
وتسبغ على الأرض ثوباً من الأنوار الضئيلة
كما يسبغ المصباح نوره المقدس على المعابد المقدسة التي أضاءها النهار بنوره
فينير منها الهياكل بعد ما تأخذ أشعة المساء تدريجاً بالاصفرار!
هنا كنت تفتشين وكنت تنتقلين ببصري
من السماء إلى الأرض، ومن الأرض نحو السماء
وكنت تقولين: (إيه يا إلهي الخفي)
إن الطبيعة هيكل لك
إن العقل ليراك في كل بقعة تتأملها العين منها
إن هذا العالم مرآة لكمالك الذي يحاول العقل إدراكه!
وصورة له وانعكاس عنه!
إن النهار نظرتك، والجمال بسمتك!
إن القلب ليعبدك في كل ناحية!
وإن النفس لتحيا بك!
أيها الخالد الأبدي! أيها القدير اللطيف!
إن جميع تلك النعوت ليست كافية لتصوير عظمتك!
إن العقل ليعنو أمام جوهرك العظيم!
فيمجد عظمتك حتى لدى سكوته!(239/42)
إلا أنه وهو ذاك العقل المنهزم يا إلهي
حينما يشعر أن الحب سر وجوده
يندفع بذاك القانون الجليل نحوك
متشوقاً إلى حبك ومتحرقاً إلى معرفتك
لقد كنت تقولين، وقد وحد قلبانا زفراتهما المتصاعدة
نحو هذا الكائن المجهول الذي نمت عليه آمالنا!
كنت تقولين ونحن جاثون أمامه وقد أجبناه في خلقه
وحمل إليه الفجر والعشاء تمجيدنا إياه!
كنت تقولين وقد أخذت عينانا المنتبشيتان
تارة تتأملان الأرض: منفانا نحن!
وأخرى تتأملان السماء مقامه هو!:
(أه لو أن الله يستجيب دعواتنا في هذه الساعة التي تحاول بها نفسنا الغرارة خلاصها
وتحطيم قيدها وإسارها!
فيرسل علينا من علياء سمائه طعنة تحررنا كلينا!
إذا لرجعت روحانا نحو منبعهما دفعة واحدة!
ولصعدتا على جناح الحب في ثنايا اللانهاية كأنهما خيط من نور! حتى تصلا، وقد
اجتازتا في سيرها العوالم معاً
أمام الله، وقد ذهلنا عن ذاتيهما
فتعيشان إلى الأبد ممتزجتين فيه!
أتريننا مخدوعين بهذه الآمال؟!
أصائران نحن إلى العدم؟!
أمقدر على أرواحنا الفناء؟!
أتقاسم الروح والجسد مصيره بعد خلاصها منه! فتفنى معه في ظلمات القبر
وتتحول إلى غبار؟! أو تتلاشى كما يتلاشى الصوت في الفضاء؟!
أو لا يبقى، بعد الفراق الفادح واللوعة الضائعة(239/43)
جزء يحبك من ذاك الذي كان يحبك؟!
أه يا إلفير! لا تسائلي سوى نفسك عن ذلك السر العظيم!
وانظري إلى من أحبك وهو يموت
ثم أجيبي!
أحمد عيتاني
عضو بعثة أساتذة جمعية المقاصد في مصر(239/44)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 22 -
الرافعي وعبد الله عفيفي:
لم يكن الأستاذ عبد الله عفيفي خصماً للرافعي على الحقيقة، ولا أحسب أن أحدهما كان يرضيه أن يكون بينهما ما كان ولا سعى إليه؛ ولكن الأستاذ عفيفي في مكانه من ديوان جلالة الملك، وفي موضعه عند الإبراشي باشا، قد دارت به المقادير دورتها حتى وقفته مع الرافعي وجهاً لوجه، وجعلته بالموضع الذي لا يستطيع واحد منهما فيه أن يتجاهل أنه أمام خصم يحاول أن يظفر به. ومن هنا نشأت الخصومة بين الرافعي وعبد الله عفيفي
على أن هذه الخصومة بينهما تختلف عن سائر الخصومات التي نشبت بين الرافعي وأدباء عصره، فهنا لم تنشأ الخصومة إلا للتزاحم على رتبة (شاعر الأمير)؛ على حين كانت أكثر خصومات الرافعي ذياداً عن الدين وحفاظاً على لغة القرآن، فما كنت ترى فيها إلا التراشق بألفاظ الكفر والزيغ والمروق والإلحاد؛ أما هنا فكانت المعركة تدور وما فيها إلا التهمة بالغفلة وفساد الذوق وضعف الرأي وقلة المعرفة. . . وما بدٌّ من أن يكون في نقد الرافعي أحد هذين اللونين: الاتهام بالزيغ، أو الاتهام بالغفلة، ولا ثالث لهما. ومن هنا فقط نستطيع أن نزعم أن الرافعي لم يكن موفقاً في النقد، مع أهليته واستعداده وإحاطته الواسعة وإحساسه الدقيق؛ إذ كان أول ما ينبغي أن يتصف به الناقد هو عفة اللسان والاقتصاد في التهمة وضبط النفس. . .
وثمة شيء آخر يفرق في بين هذه الخصومة وبين سائر الخصومات: هو أن هذه المعركة كانت إيجابية من طرف واحد، على حين ظل الطرف الثاني صامتاً قاراً في موضعه، لم ينبس بكلمة ولم تبدر منه بادرة مشهودة للدفاع. . .!
كتب الرافعي مقالات ثلاثاً بعنوان (على السفُّود) في نقد ثلاث قصائد أنشأها الأستاذ عبد(239/45)
الله عفيفي في مديح الملك - والسفُّود هو الحديدة التي يُشْوَى عليها اللحم - وهو عنوان له دلالته، وفيه الإشارة والرمز إلى ما حوت هذه المقالات من الأساليب اللاذعة والنقد الحامي. وإذ لم يكن توقيع الرافعي في ذيل هذه المقالات ولا كان يريد أن يُعرف أنه كاتبها - فإنه خرج عن مألوفه في الكتابة وفي نمط الكلام، فاسترسل ما شاء كأنه يتحدث في مجلسه إلى جماعة من خاصته: لا يعنيه الأسلوب ولا جودة العبارة ولا عربية اللفظ، بقدر ما يعنيه أن يتأدَّى معناه إلى قارئه في أي أسلوب وبأية عبارة؛ فكثر الحشو في هذه المقالات من الكلمات العامية والنكات الذائعة والأمثال الشعبية، ولكنه إلى ذلك لم يستطع أن يتخلص من كل لوازمه في النقد والكتابة، فبقيت له خفة الظل وحلاوة اللفظ وقسوة النقد، إلى بعض عبارات في أسلوبه تنم عليه وتكشف عن سره.
ولم يذكر الرافعي حين أنشأ هذه المقالات أنه يتناول بهذا النقد شاعراً من شعراء القصر له حظوة عند رئيس الديوان الملكي، وأن هذا الشعر الذي يفريه ويكشف عن عيبه إنما أنشأه ناظمه في مديح الملك. أو لعل الرافعي كان يذكر ذلك ولكنه يحسب نفسه بنجوة من التهمة لأنه لم يوقع بإمضائه على هذه المقالات؛ فلم يتحرج مما كتب، وألقى القول على سجيته في صراحة وعنف وقسوة، ولم يصطنع الأدب اللائق وهو يتحدث عما ينبغي أن يكون عليه الشعر الذي يقال في مدح الملك وما لا ينبغي أن يقال؛ فجاء في بعض كلامه عبارات لا يسيغها الذوق الأدبي العام عندما يتصل موضوع القول بالملك الحي الذي يحكم ويدين له الجميع بالولاء. وكأنما ركبتْه طبيعةٌ غير طبيعته خَيَّلتْ إليه أنه يكتب في نقد شاعر من الماضين يمدح ملكاً من ملوك التاريخ، فلم ينظر إلى غير الاعتبار الأدبي الخالص من دون ما ينبغي أن يُراعي من التقاليد واللباقة السياسية عند الحديث عن الملوك
وانتهت أولى هذه المقالات إلى القصر، فمالت الأفواه إلى الآذان، وتهامس القراء همساً غير خفي، ثم جهروا يتساءلون: من يكون هذا الكاتب؟ ولكن أحداً منهم لم يفطن إليه ولم يعرف الجواب، وأنفذوا دسيساً إلى الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور يسأله فلم يظفر منه بجواب
ونُشر المقال الثاني والثالث، فلم يلبث أن أنكشف السر؛ ونم الرافعي على نفسه بلسانه في مجالسه الخاصة. . . أو نم عليه أسلوبه وطريقته في النقد(239/46)
وجاءه سائل من القصر يسأله ويستوثق من صحة الخبر في أسلوب السياسي البارع: (. . . وكيف تأذن لنفسك أن تقول ما قلت في شاعر من شعراء الملك، وأن تكتب عنه بهذا الأسلوب؟ أفيتفق مع الولاء لصاحب العرش أن تكتب ما كتبت لتصرف الشعراء المخلصين عن ساحة الملك. . .؟ أم تريد ألا ينطق أحد بالثناء على صاحب التاج وألا يكون أسمه على لسان شاعر؟ أم هي دسيسة تصطنع الأدب لتفض المخلصين من رعيته عن بابه. . .؟)
وغص الرافعي بريقه، وتبين الهاوية تحت قدميه يوشك أن يتردى فيها بحيلة بارعة، وأحس الإبراشي باشا من ورائه يحاول أن يدفعه بعنف لينتقم لكبريائه التي مسها الرافعي بحماقته منذ بضعة أشهر. . .
وحاول النجاة بنفسه من هذه المكيدة المبيتة، فلم يجد له وسيلة إلا الصمت فأوى إليه. وانقطع ما بينه وبين القصر من صلات، إلا الصلة العامة التي بين الملك وبين كل فرد من رعيته. وكان أخوف ما يخاف الرافعي أن تكون خاتمة ذلك هي انقطاع المعونة الملكية عن ولده الذي يدرس الطب في جامعة ليون على نفقة الملك؛ ولكن ذلك لم يكن إلا بعد هذه الحادثة بأربع سنين (في سنة 1934) لسبب آخر، ولم يكن باقياً بين الدكتور الرافعي وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر كما تقدم القول
لقد كَثُر ما استغل خصوم الرافعي السياسي لينالوا منه. ولقد كثر ما اتهموه من أنه من أدوات الإبراشي باشا في محاربة سلطة الأمة، وأنه صنيعته ومولاه؛ على حين كان هذا الموقف هو كل ما بين الرافعي والإبراشي باشا من صلات الود والموالاة! فما انقطعت صلة الرافعي بالقصر إلا في عهد الإبراشي، وما كان معه يوماً على صفاء. على أنه كان تلميذاً معه في مدرسة المنصورة الابتدائية فيما أذكر. . .
ولقد كتب كاتب من خصوم الرافعي غداة دالتْ دولة الإبراشي، فصلاً مؤثراً. . . بعبارات بليغة. . . في صحيفة من صحف الشعب، يصف جناية الإبراشي باشا على الأدب؛ وكان من براهينه على ذلك أنه اصطنع الرافعي ليحارب بقلمه ولسانه سلطة الأمة. . . وقرأت هذه المقالة مع الرافعي، ونظرت إليه فإذا هو يبتسم ابتسامة مرة، ثم قال: (هذا أديب يتحدث عن جناية السياسة على الأدب. . . أرأيت. . .! صَدقَ! لقد جنت السياسة على(239/47)
الأدب)
لم يكن لهذه المقالات الثلاث التي كتبها الرافعي عن الأستاذ عبد الله عفيفي صدى في غير هذه الدائرة المحدودة؛ على أنها أنشأت بينهما خصومة صامتة ظلت مع الرافعي إلى آخر أيامه، وظلت مع الأستاذ عفيفي في أحاديثه الخاصة إلى أصدقائه، وإلى طلابه في كلية اللغة العربية بالأزهر. . .
فلما مات المرحوم شوقي بك في خريف سنة 1932، كتب الرافعي عنه مقاله المشهور في مجلة المقتطف، وذكر فيما ذكر فيه أن شوقي بك لو كان مصرياً خالصَ المصرية لما تهيأت له الأسباب النفسية التي بلغت به مبلغه في الشعر؛ لأن الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية، ولا تعين على إبراز الشاعرية الكامنة في كل نفس
هو رأي أبداه فيما أبدى من الرأي، لم يقصد به التعريض بأحد أو الحط من مقداره. وقد يكون رأياً إلى الخطأ أو إلى الصواب، وقد يتكافأ فيه كِفتا الخطأ والصواب، ولكنه رأي أبداه الرافعي مجرداً من الهوى، لا يعني به إلا أن يستوفي عناصر بحثه. ولكن خصومه تناولوه على ألوان وفنون
أما طائفة فمالت به إلى السياسة، وقال قائلهم: هذا رجل ليس منا، يريد أن ينكر فضل مصر عليه وعلى آله، فيتهمها بالعقم وركود الذهن وجمود العاطفة فيجردها من الشعراء. . . ومضى في دعواه. ذلك سلامه موسى. . .!
وأما ثانيةٌ فقالت: وهذا قول يعنينا به نحن الشعراء المصريين ليجردنا من الشاعرية في قاعدة عامة لا تستثني أحداً إلا من انحدر إلى مصر وفي أعرافه دم غريب. . . ومضت هذه الطائفة تنقض دعواه وتسفه رأيه بما تسوق من الأمثال وتذكر من أسامي الشعراء المصريين
وانتضى الأستاذ عبد الله عفيفي قلمه ليكتب في (البلاغ) مقالاته الأسبوعية بعنوان (مصر الشاعرة) يذكر فيها من شعراء مصر في مختلف الأجيال منذ كانت مصر العربية، ما يراه رداً على دعوى الرافعي. ومضى في هذه المقالات بضعة أسابيع يضرب على وتر واحد، ثم ملّ هذه النغمة فراح يتصيد موضوعات أخرى من مشاهداته وآرائه في الناس والحياة؛ ولكن عنوان (مصر الشاعرة) ظل على رأس هذه المقالات يبحث عن موضوعه. . . فكان(239/48)
حسْب الأستاذ عفيفي في هذه المقالات أن أنشأ هذا العنوان في الرد على الرافعي. . . .!
وقد ظل الرافعي إلى آخر عمره يذكر أيامه وهو شاعر الملك، ثم ما كان بينه وبين الإبراشي، وبينه وبين عبد الله عفيفي. وما كانت تظهر للأستاذ عفيفي في الصحف مدحة ملكية، في موسم من المواسم أو عيد من الأعياد، حتى يتناولها الرافعي فيقرأها إلى آخرها، ثم يلتفت إلى جليسه فيقول: (ماذا رأيت فيها من شعر ومن معنى جديد؟) ثم يسترسل فيما تعود من المزاح والتندر
وقد ذكرت فيما قدمت من هذه المقالات أن الرافعي كان يسمي كل جميلة من النساء (شاعرة)، فمنهن كالمتنبي، ومنهن كالبحتري، ومنهن بشار بن برد، ومنهن عبد الله عفيفي
فهذه الأخيرة عنده هي ذلك النوع (البلدي) من نساء الطبقة الثالثة، التي تبدو ملفوفة (محبوكة الأطراف) في ملاءتها السوداء، غضةً بضة، تستهويك بجمال الجسم دون جمال المعنى، وفيها أنوثة الدم واللحم ولكنها جامدة العاطفة عقيم الخيال. . .
معذرة إلى الأستاذ عبد الله عفيفي! فإنما أنا راوية أكتب للتاريخ، وما شهدت إلا بما علمت، وعلي تبعة الرواية وعلى غيري تبعة الرأي. وللأستاذ عفيفي في نفسي رغم أولئك كل إجلال واحترام
(شبرا)
محمد سعيد العريان(239/49)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 89 -
في اليوم الذي يطرق الموت بابك، ماذا تقدم إليه؟
آه، سأضع أمامه كأس حياتي المترعة لكيلا يرتد صفر اليدين
سأقدم له كل ما يحلو من ثمار أيام الخريف وليالي الصيف، وكل ما كسبت والتقطت في حياتي المليئة بالجد. . . سأقدمها كلها إليه عند آخر لحظة من لحظات حياتي. . . حين يطرق الموت بابي
- 91 -
أيها الموت، يا من هو آخر أمل في الحياة، تعال وأهمس في أذني!
الأيام تمر وأنا أرقب لقياك؛ فمن أجلك أنشأت في حياتي والسرور والألم معاً
أنا، وكل ما أملك، وكل ما آمل، وكل حين. . . كل أولئك يندفع إليك في أعماق الخفاء. إنني أبتغي النظرة الأخيرة من عينيك ثم لتكن حياتي شيئاً تملكه أنت إلى الأبد
لقد صففت الزهور، والأكاليل تنتظر العروس. وبعد العرس ستنقلب العروس من دارها لتلقى سيدها - في خلوة - في هدأة الليل وسكونه
- 91 -
أنا أوقن بأن اليوم الذي أحرم فيه النظر إلى الأرض آت لا ريب فيه! وأن روحي ستفزع عني في صمت. فيسدل على عيني آخر ستار من أستارها
ولكن النجوم ما تزال تتألق في غسق الليل، والصبح ما يبرح يتنفس في حينه، والساعات تمر جياشة كأنها الموج المضطرب وفيها اللذة والألم في وقت معاً
وحين تتراءى لي ساعتي الأخيرة يتصدع أمام عيني حجاب الزمن. فأرى من خلال لمعات(239/50)
الموت. . . أرى دنياك وفيها كنوزها المهملة؛ وما فيها سوى منزل وضيع وحياة حقيرة
دع كل ما أندفع عبثاً في إثره وكل ما أصيبه. . . دعه يمر ولكن مُنّ عليّ بكل ما كنت أزدريه وأعرض عنه
- 92 -
لقد اعتزمت الرحيل فودعوني يا اخوتي! سأنحني لكم جميعاً في رفق ثم أنطلق
هاكم مفاتيح داري فخذوها. . . سأنزل لكم عن حقي فيها. . . ولن أطلب إليكم شيئاً سوى كلمة عطف
لقد تجاوزنا طويلاً؛ ولقد نلت أكثر مما أستطيع أن أعطي والآن ابتسم الفجر وفزع عني السراج الذي أضاء ركني المظلم زماناً؛ وناداني الداعي، وهاأنذا على استعداد للرحيل
- 93 -
في ساعة الرحيل، تمنوا لي السعادة، يا رفاقي! فالفجر يلمع في السماء والطريق أمامي لاحب جميل
ولا تسألوا عما أتزود به فأنا أندفع في طريقي قفر اليدين ممتلئ القلب بالإيمان
سألبس إكليل العرس، ولن ألبس ثياب الرحيل الحمراء القاتمة؛ ورغم أن في الطريق مخاوف فقلبي مطمئن ساكن
ستبزغ نجوم الليل حين تنتهي رحلتي، سترن في مسمعي ألحان الدجى الشجية تتصاعد عند باب ملك الملوك
- 94 -
لم يكن لي أن أعرف اللحظة التي أخطو فيها خطواتي الأولى نحو الحياة
أي قوة جعلتني أتفتح في هذه المتاهة الواسعة كما يتفتح كم غض في مضلات الصحراء تحت ستر الظلام
وعلى ضوء الصباح فتحت عيني فما استشعرت في نفسي الغربة عن هذه الدنيا؛ لأن قوة خفية لا اسم لها ولا شكل، ضمتني إليها تهدهدني كأنها أمي
بمثل هذا ستبدو أمامي هذه القوة الخفية نفسها. . . . ستبدو عند موتي كما عهدتها، وكما(239/51)
أحببت الحياة سأحب الموت
إن الطفل ليصيح حين تنتزعه أمه عن ثديها الأيمن. ولكنه سرعان ما يجد في الثدي الأيسر سلوة وغراء
- 95 -
فلتكن كلمة وداعي حين أبرح هي: إن ما رأيته هنا هو المثل الأعلى
لقد رشفت بعض الرحيق الخفي من زهرة اللوتس المنشورة على محيط النور. لهذا فأنا سعيد. . . فلتكن هذه هي كلمة وداعي
وفي هذا الملعب اللانهائي وجدت نفسي لهوها؛ وفيه استطعت أن أنظر إليه نظرة خاطفة. . . إليه هو الذي لا شكل له
وأرتعد جسمي كله واضطربت أطرافي بلمسة من لمساته هو. . . هو الذي لا يلمس؛ وإذا حان حَيْني فليأت. . . فلتكن هذه هي كلمة وداعي
- 96 -
حين أجد لذتي معك لن أسأل: من عسى أن تكون؛ فأنا لا أعرف الخداع ولا الخوف، لأن حياتي كانت صاخبة
وفي بكرة الصباح ستوقظني من غفوتي في رفق كأنك صديقي، ثم تقودني في سرعة من طريق إلى طريق
أنا - في هذه الأيام - لا يعنيني أن أدرك معنى الأغاني التي تترنم لي بها؛ غير أن صوتي يوقع اللحن، وقلبي يرقص على النغم
والآن، وقد تصرّم زمان العب، ماذا عسى أن تكون هذه النظرات الفجائية التي تتساقط علي؟ إن الدنيا مطرقة في خشوع ونظراتها معلقة بقدميك وكواكبها صامتة
كامل محمود حبيب(239/52)
في المهرجان الملكي
هنيئاً لك اليوم السعيد!!
للأستاذ علي الجارم بك
صفا ورده عذباً، وطابت مناهله ... وجلَّت يد الدهر الذي عز نائله
وأقبل منقاد العنان مذللاً ... تطامن متناه، ودانت صوائله
يطأطيء للفاروق رأساً وتنحني ... أمام سنا الملْك المهيب كواهله
تلفت في الآفاق شرقاً ومغرباً ... فلم ير في أنحائها من يمائله
رآى ما رآى! لم يلق عزماً كعزمه - تقد مواضيه، وتفرى مناصله
يذوب مضاء السيف عند مضائه ... فما هو إلا غمده وحمائله
إذا ما انتضاه فالسعود أعنة ... إلى ما يرجى، والليالي رواحله
رأى طلعة لو أن للبدر مثلها ... لما انحدرت دون النجوم منازله
عليها شعاع لو رمي حائل الدجى ... لفاخر وجه الصبح في الحسن حائله
تراها فتغضي للجلال، وربما ... تشوف لحظ العين لو جال جائله
هو الشمس يدنو في الظهيرة ضوءها ... ويصعب مرآها على من يحاوله
هو الروض، أو أزهى من الروض نضرة ... إذا داعبت وجه الربيع خمائله
هو الأمل البسام، رف جناحه ... فطارت به من كل قلب بلابله
هو الكوكب اللماح، يسطع بالمنى ... وتنطق بالغيث العميم مخايله
ترى بسمة الآمال في بسماته ... وتلمح سر النبل حين تقابله
شباب كما يصفو اللجين، كأنما ... تملأ من ماء الفراديس ناهله
يفديه غصن الدوح ريان ناضراً ... إذا اهتز في كف النسائم مائله
تطلع رمح الخط يبغي اعتداله ... فعاد حسيراً ينكت الأرض ذابله
ومن أين للرمح المثقف عزمه ... ومن أن للرمح الطويل طوائله؟
إذا حفّزته الحادثات رأيته ... وقد شك أحشاء الحوادث عامله
علاء تحدَّى الدهر في بُعد شأوه ... فمن ذا يدانيه؟ ومن ذا يفاضله؟
ورأيٌ كأنفاس الصباح وقد بدا ... تشف مجاليه، وتهفو غلائله(239/53)
وخلق كمخضل النسيم بروضة ... ذوائبه نفَّاحة وجدائله
يمس جبين النيل في رفق عاشق ... وتفتح أكمام الزهور مساحله
دعوت إليك الشعر فانقاد صعبه ... وقد كان قبل اليوم شُمساً جوافله
وما كدت أدعو الوحي حتى سمعته ... تبادهني آياته ورسائله
خيال إذا أرسلتُهُ إثرَ نافر ... أتت بأعز الآبدات حبائله
ولفظ كوجه الروض في ميعة الضحى ... وقد صدحت فوق الغصون عنادله
إذا قلته ألقى عطارد سمعه ... وساءل شمس الأفق من هو قائله
وإن سارت الربح الهبوب بجرسه ... فآخر أكناف الوجود مراحله
إذا ذكر الفاروق فاض معينه ... وثجت قوافيه، وعبَّت حوافله
يقول وما لي حين أكتب قوله ... من الفضل شيء أني ناقله
رأى ملكاً يحيا القريض بوصفه ... فضائله جلت، وعمت قواضله
رأى ملكاً يزهى به الدين والتقى ... شمائل أملاك السماء شمائله
رأى ملكاً كالنيل، أما عطاؤه ... فغمر، وأما المكرمات فساحله
فغرد بالأجواء باسمك طيره ... وردد في الآفاق ذكرك هادله
وصاغت لك التبر المصفى فنونه ... وحاكت لك البرد الموشى أنامله
ولم يبق من نسج السحائب زهرة ... ترف ندى إلا حوتها فواصله
وصب شعاع الشمس تاج مهابة ... لمن توَّجته بالفخار فضائله
وفك رموز السحر من أرض بابل ... لأجلك حتى استنجدت بك بابله
أعدت له عهد الرشيد فأسرعت ... إلى سدة الفاروق تشدو بلابله
وما أنت في الأملاك إلا قصيده ... تفاعليها البر الذي أنت فاعله
يهب طريح الشعر في دولة النهى ... وتلهم أسرار البيان مقاوله
حملت له الريحان يوم زفافه ... نضير الحواشي ينشر المسك خاضله
أزاحم للفاروق حشداً كأنه ... خضم من الأمواج، ضاقت سبائله
يغطى أديم الأرض عز اختراقه ... وسدت على أقوى الرجال مداخله
إذا أنت لم تعرف مدة أخرياته ... فسل طرفك المحدود أبن أوائله(239/54)
حملت له لريحان، أرفع معصمي ... إلى الملك الفرد الذي فاز آمله
وقد ملأ الأنس الوجوه فأشرقت ... من البشر حتى كاد يقطر سائله
طلعت على الجمع الحفيل بموكب ... يبادلك الشعب المنى، وتبادله
مواكب لم يعرف لرمسيس مثلها ... ولا خطرت في مثلهن قنابله
يحيط بها عز المليك ومجده ... وتزحمها فرسانه وصواهله
إذا امتلك الحب النفوس هفت له ... سراعاً، وأعطفت فوق ما هو سائله
رأوك فعالوا بالهتاف كأنما ... ينافس ند نده ويساجله
كأنهم جيش الغمائم أرقت ... رواعده جفن الدجى وزواجله
فلا عين إلا وهي ترتقب المنى ... ولا صدر إلا فارح القلب جاذله
وقد رفعت أعلام مصر خوافقاً ... يغازلها من الصبا وتغازله
فإن كل من عين، فإنك نورها ... وإن كان من قلب، فانك آهله
وإن كان من دهر فأنت نعيمه ... وإن كان من فضل، فانك باذله
رأى فيك هذا الشعب آماله التي ... تمنى على الأيام وهي تماطله
أحبك حتى صار حبك روحه ... ونور أمانيه الذي لا يزايله
فمن شاء برهاناً على صادق الهوى ... فتلك الجموع الزاخرات دلائله
نثرت بذور الحب في كل مهجة ... وتلك التي تهفو إليك سنابله
حياتك يا فاروق للدين عصمة ... وأعمالك الغر الجسام معاقله
منابره تهتز باسمك فوقها ... وتلتف من شوق عليك محافله
تعفر بالترب الجبين الذي عنا ... له الشرق وانقادت إليه جحافله
له لمعات المشرقي ازدهت به ... على كل أبناء الغمود صياقله
لياليك أقمار الزمان وسعده ... وأيامك البيض الحسان أصائله
قد اختارك الرحمن موضع فضله ... إذا عز موصول فقد جل واصله
هنيئاً لك اليوم السعيد الذي زها ... على الدهر لما لم يجد ما يشاكله
يذكرنا المأمون يوم زفافه ... وقد مشت الدنيا إليه تجامله
وسال به سيل النضار كأنما ... تفجر من بين السحائب وابله(239/55)
وأين من المأمون أو من زفافه ... جلالة ملك أعجزت من يطاوله؟
أبى الدهر أن يلقى ليومك ثانياً ... يقاربه في نبله أو يعادله
تخيرت من وادري الكنانة زهرة ... تتيه بها جناته وظلائله
فريدة مجد، يعرف المجد قدرها ... وتزهى بها يوم الفخار عقائله
ودرة خدر أقسم الخدر أنه ... على مثلها لم تُلق يوماً سدائله
يتيه بها ضافي الشباب ونضره ... وتسمو حواليه بها، وعواطله
تخيرتها فوق السحاب مكانة ... وأصفى من الماء الذي هو حامله
حباها إله العرش أكبر نعمة ... فجلت أياديه، وعمت جلائله
فعش في رفاء بالبنين ممتعاً ... يضيء بك الوادي، ويخضر ماحله
ودم لبني مصر أماناً ورحمة ... فأنت حمى النيل الوفي، وعاهله
علي الجارم(239/56)
القصص
أقصوصة سيكولوجية من كاي بوبل
كيف تنفس في قلبها الحب
للأستاذ دريني خشبة
كانت تجلس هي وجدَّتها العجوز الحَيْزَبون فوق حَيْد الجبل على مقعد خشبي صنع لهما خصيصاً في هذه الجهة لكثرة ما بَسَق فيها من الأيّك. . وكانت السماء ترسل عليها مدراراً من الغيث، وكان الهواء بالرغم من ذلك دافئاً جميلاً منعشاً
وكانت الفتاة تتلو في كتاب عن الأدب الإنجليزي، والجدة مُصغية ساكنة، فلما انهمرت شآبيب المطر أقفلت الفتاة كتابها، وراحت تصغي بدورها لهذه المحاضرة الطويلة الممتعة التي أنشأت جدتها تلقيها في حماسة عن اللغة والأدب، وعن دكنز وإليوت وثاكراي وغيرهم من فحول رجال الأدب في العصر الفكتوري وتنعى على الأدباء في هذا العصر هراءهم الذي يؤلفون فيه الكتب من غير أن تكون لهم مُثلٌ عليا يؤلفون من أجلها، ويبشرون بها بين الناس. . .
وكانت الجدة لا تبالي أن تضرب لحفيدتها الأمثال بما ورد في قصص أولئك الفحول عن الحياة والعمل والأخلاق. . . والحب. . .
فهذه بِكّي شارب بطلة قصة ثاكراي الخالدة لا ترى شيناً في أن تنفع زوجها بمجازفة غرامية يكون فيها حبيبها رجلاً شيخاً ضعيفاً. . . وهذا لورد لِستَر في قصة سكوت
لا يرى بأساً في أن تُقتل حبيبته إيمي حتى لا تقف عقبةً في سبيله إلى عرش إنجلترا. . . وهذا فلان، ثم ذاك فلان. . . أما في هذا العصر. . . فماذا يصنع الأدباء؟!
وكانت الأمثال التي تضربها الجدة المتحمسة تطن في أذن الفتاة الصغيرة كما يطن النحل في الخلية الفارغة. . . ذلك أن فؤادها كان خالياً من هذا الوحي الجديد الذي نبه فيه غرائز حواء، من غير أن تعرف الفتاة علة هذا القَبس المقدس الذي بدأ يذكو في أعماقها، والذي نعرف سلفاً أنه فجر الحب وخَيطه الأبيض الجميل
ثم حدث أن أقبل فتى وفتاة في هذه اللحظة، وطفقا يَتَوَقّلان في الجبل، فلما جاوزا، نظرت(239/57)
الجدة إلى الشاب نظرة المشغوف الظميء. . . ثم رددت طرفها في الفتاة كأنما استيقظ في فؤادها العجوز ماضيه الجميل الوارف المنَدَّى. . . المفعم بالمغامرات!!
وصَعّد الفتى والفتاة. . وظلت العجوز تتبعهما بعينها المشوقتين. . . وكانت الفتاة قد حَسَرت عن ساقيها خشية أن يصيب الوحل حاشية ثوبها الوردي الهفهاف، فبدا جزء عظيم من الساقين الجميلتين. . . وكانت تدلف أمام الفتى، فحسبت العجوز وغالت في الحسبة؛ ثم التفتت إلى حفيدتها تقول: (عجيب جداً أمر هذا الفتى وهذه الفتاة! كل يوم في هذه الساعة يقبلان إلى الجبل ويصعدان فيه، ويغيبان في الدوح. . إن هذا أمر يثير الشك، ويبعث على الريب! تُرى ماذا يصنعان ثمت؟ شاب ريان يتدفق الدم حاراً في عروقه، وله قلب ينبض بموسيقى الحياة، وفم تخرج منه الكلمات عذبة سحرية، وعينان زرقاوان ترتسم فيهما صوَرُ هذه الدنيا لا كما ترتسم في عينين سواهما. . . ووجه مشرق وثغر باسم. . . يخلو بهذه الفتاة في تلك الغابة لغير ما سبب! ومع ذلك فالفتاة غضة يانعة. تتأرج كما تتأرج الزهرة إبان الربيع ويتورد خداها كما تتورد تيجانه. . . يا للساقين!! أبداً لا يخلب ألباب الشباب مثلهما أبداً!!. . .)
ثم أفاقت الجدة من سكرتها فوجدت حفيدتها ذاهلة عن نفسها وقد أخذت القناديل الرائعة التي تحترق في سُوَيدائها تشع السناء من عينيها، وأرهفت أذنيها تتلقفان الكلام العجيب الحلو الذي كان يخرج من فم الجدة، والذي لم تكن الفتاة تحسن أن تقول مثله
- (تُرى؟ فيم تساؤل جدتي عن الفتى والفتاة؟ وفيم خلوتهما بين الأيك في مثل هذا الوقت من كل يوم؟ وأي شك يثيره أمرهما ثمة؟ شاب ريان! إلا ما أجمل هذا الوصف البديع وأنا أفهم أن يكون الإنسان رياناً، ولكن ما هذه الدماء الحارة التي تتصبب في عروق هذا الشاب؟! ذاك شيء غريب لا أفهمه! وهذه الموسيقى التي ينبض بها قلبه ماذا تكون؟ ولماذا تكون في قلبه موسيقى؟ ولم لا تكون الموسيقى في أذنيه كما هي في آذان جميع الناس؟ أية موسيقى هذه التي تكون في القلب يا ترى. .؟ وكلماته العذبة السحرية ما هي؟ قد تكون من صنف هذه الكلمات التي تقولها جدتي. . . إنها تكون جميلة جداً إذا استطاع الشاب أن يقول مثلها؛ وأحسبه لا يستطيع، لأن جدتي كبيرة، وقد قرأت كثيراً في الأدب، ووعت كل ما جاء في القصص. . . وأنا نفسي لا أشعر بأية طلاوة فيما ترغمني على قراءته لها في(239/58)
هذا الكتاب العتيق الجاف، مع أنها تكاد ترقص طرباً عند بعض فقراته؛ ولا أدري لماذا تفرح بهذا الهراء السخيف الذي لا أفهمه. لقد قصت عليّ من أمر بكا شارب والفتاة المسكينة إيمي، وان قصارى حكمي على شارب أنها سافلة قليلة الأدب لأنها لم تحب زوجها كما أحب أنا أمي. وبمثل ذلك حكمت على هذا اللورد التاعس ليستر الذي ضحى إيمي ليتزوج الملكة. . . ولكن. . . لماذا حزنت إيمي؟ ولماذا أحَبَّته؟ هل كانت يتيمة ليس لها أم تحبها ولا أب تحبه؟ ولكن هذا كله ما قيمته إذا قيس بالموسيقى التي ينبض بها قلب الشاب. . .)
ومرت هذه الخواطر كلها في قلب الفتاة في اللحظة القصيرة التي تلت صمت الجدة، ثم سألتها حفيدة في سذاجة الصبي وطهارته
- (بالله يا جدة! ما هذه الموسيقى التي ينبض بها قلب أحد من الناس؟)
وانفرج فم العجوز عن ابتسامة كبيرة، ثم ربتت بأناملها المرتجفة على خد الصغيرة، وقالت لها: (أقرئي)، وأطاعت الفتاة، وراحت تقرأ الببغاء، ولا تكاد تفقه شيئاً مما تقرأ
واعتدل الجو، وسكنت الريح، واعتز النبات ينفض قطرات المطر كالطيور الصغيرة. . . وانتشرت عصافير السنونو في السهل الفياح توقع على شجيراته ألحانها، وأشرقت الشمس لتشترك في مهرجان الطبيعة بآرادها الذهبية الناصعة. . . ولبثت العجوز تنتظر عودة الفتى والفتاة بنفس مشوقة وقلب خفِق، حتى أقبلا آخر الأمر، وفي وجه الفتى صُفرة وفي ساقيه رجفة، وقد مشت الفتاة هذه المرة في إثره، لا تعرف العجوز لماذا. . .
ولا جاوزا أرسل الفتى نظرة وسنانة من عينيه النافذتين ناحية فتاتنا حفيدة العجوز. . . ثم مضى في سبيله حتى كان في سفح الجبل. . وهنا نهضت عجوزنا مهرولة إلى السفح كذلك، وحفيدتها تتعثر في خطاها خلفها، وفي قلبها سرب من الهواجس عن هذه الموسيقى التي تستطيع القلوب أن تنبض بها. . . ثم عن هذه النظرة التي رمقها بها الشاب العابر، والتي لم تعرف بم تفسرها. .
(إنه شاب ريان كما ذكرت جدتي، وإن له لعينين نفاذتين كما قالت. . . ولكن لم ألمسه حتى أحس دمه الذي يتدفق في عروقه فأعرف إذا كان حاراُ حقاً. . . وكذلك قلبه الذي ينبض بالموسيقى. . . لابد لكي يسمعها الإنسان من أن تكون له (سماعة) طبيب أو على(239/59)
الأقل، لابد من أن يضع الإنسان أذنه فوق صدره، ليعرف ما هنالك. . على أن وجهه أصفر كاللوتس. . فما السبب يا ترى؟ هل هو مريض. . .؟)
وظلت هذه الهواجس تضطرب في صدرها، وجدتها تنهب الطريق في إثر الفتى والفتاة، حتى إذا كانت حذائهما، أقرأتهما سلاماً جميلاً، فرداه احسن رد وأطيبه، وافتر فم الشاب عن ابتسامة حلوة حيا بها الفتاة. . . فلم تدر كيف ترد عليه ابتسامته. . .
وجلست الفتاة تقرأ لجدتها في ضوء مصباح عليل. وجدتها ما تلبث أن تتثاءب وتتثاءب. . . وحتى تضايقت حفيدتها من ذلك ولم تبال أن تقول:
- إذن نبقي القراءة إلى الصباح يا جدة، ولابد أن تذكري لي شيئاً عن هذه الموسيقى العجيبة التي تنبض بها القلوب
فقهقهت الجدة حتى بدت نواجذها وقالت: هل تذكرين حينما كنت أزوركم وذهبنا في المساء إلى (السرك)؟ فلما انتهت الموسيقى قلت لكم إنها لِبَاخ؟) فعبست الفتاة، وقالت: (ومن باخ يا جدة؟) فأجابتها: (موسيقي عظيم يا تلدا) فقالت تلدا: (وما شأنه فيما سألتك عنه؟) فقالت الجدة: لقد كان باخ يوقع على بيانه بأنامله، وفي الحقيقة لقد كان يوقع عليه بقلبه؟) فتجهمت تلدا وقالت: (تعنين أنه كان يتكئ على البيان بصدره؟ فتضاحكت العجوز وزجرت تلدا، ثم قالت لها: (هذه يا تلدا أشياء كالعلوم التي تتلقنينها في المدرسة، هل تستطيع فتاة في السنة الأولى أن تفهم درساً من دروس السنة الخامسة؟) فهزت الفتاة رأسها الجميل وقالت: (طبعاً هذا غير ممكن!) فقالت الجدة: (فهذا مثل ذاك يا بنية!) ثم أمرتها أن تقرأ، ففتحت الكتاب وما كادت تقلب صفحاته باحثة عن الباب الذي كانت تتلوه، حتى تثاءبت جدتها بشدة، فجعلت تلدا تقلب وتقلب إلى أن أغمضت العجوز عينيها، وألقت على سنادة الكرسي رأسها، وغطت في سبات عميق
وقذفت تلدا الكتاب على سريرها، ثم انطلقت إلى مكتبة جدتها فجعلت تقلب في الكتب، وتنظر إلى الرسوم والصور، حتى عثرت آخر الأمر على قصة دانتي الرائعة المسماة (الكوميديا الإلهية)، وكانت نسخة هذه القصة مصورة حافلة بالرسوم الزاهية بالألوان الطبيعية. . . فجلست تتفرج بها، وتنعم النظر فيها، حتى اهتدت إلى الصورة الخالدة الباهرة، صورة بوْلو وفرنشسكا، وهما متعانقان في الجحيم، وقد انطبق فم بولو على ثغر(239/60)
حبيبته، وراح يقبلها تقبيلاً حاراً، يخفف عنهما ما هما فيه من عذاب السعير
ولبثت تلدا تنظر في الصورة وتتعجب. . . (ترى ماذا يصنع هذا الساب الريان في هذه النار المتقدة؟ إنه يضع وجهه في وجه امرأة ويقبلها كما تقبلني أمي حينما أكون مغضبة! ألا يحس هذه النار المتأججة حوله؟ هل هذه المرأة ابنته؟ لا شك أنها ابنته، وإلا فلماذا يقبلها!)
ثم قرأت في أسفل الصورة هذه السطور:
(بَولوّ يقبّل حبيبته فرنشسكا في سواء الجحيم، غير عابئ بالنيران التي تشتعل في ساقيه وتلتهب من حوله. . . وهكذا قضى الله أن يكون الحب عزاء للمحبين حتى في وهادِ سقر. . . فهو الماء العلوي الذي يطفئ النار المندلعة بين جوانحهم والقبلة ثمرته المشتهاة، وحَمْرُه وجناه!)
وبرقت عينا تلدا، وحملت الكتاب ذا الصور إلى حيث راحت جدتها تغط وتزعج البوم بشخيرها:
- جدة، جدة، استيقظي!
- ماذا. . . ما. . . ذا. . .
- استيقظي وحياةِ أبيك!
- ماذا يا تلدا؟ لماذا لا تقرئين؟
- هاأنا ذي أقرأ والله! واسمعي:
ثم شرعت الفتاة تقرأ السطور التي تحت صورة بولو وفرنشسكا!
- ما هذا يا تلدا؟! الكتاب تأريخ للأدب الإنجليزي، وبولو وفرنشسكا شخصان خرافيان اخترعهما دانتي الإيطالي! هاتي الكتاب!
وتناولت العجوز الكتاب، ونظرت في الصورة، ثم عبست وبسرت وأقفلته لترى ما هو. . .
- هذه كوميدية دانتي من أين جئت بها؟
- من المكتبة. .
- آه يا خبيثة. . . كان يجب أن أبقي المفتاح معي. . . الصور التي من صنف هذه(239/61)
الصورة، والموسيقى التي تنبض بها القلوب، من دروس السنة الخامسة، ولا تستطيع تلميذة السنة الأولى أن تفهم دروس السنة الخامسة!
وفي صبيحة اليوم التالي قرع الباب قادم فهرعت تلدا لتلقاه
- أهو أنت؟
- أجل، هو أنا!
- وأين الفتاة التي كانت معك أمس فوق الجبل؟
- في المنزل
- وما هذا الورد الجميل! أَتُعْطيني وردة؟!
- إنه كله لك!
- كله؟!
- أجل. .
- والفتاة التي كانت معك، ألا تأخذ منه شيئاً؟
- إنها أختي!
- أختك؟ وهل أختك لا تحب الورد؟
- ومن ذا الذي لا يحب الورد؟ إنها تحبه جداً
- إذن لا آخذه كله يجب أن تبقي بعضه لأختك ثم صاحت جدتها تسألها مع من تتكلم، فقالت للشاب:
- ما أسمك أيها الشاب. . . الر. . . يان؟
- فكتور!
فصاحت تجيب جدتها:
إنه فكتور يا جدة!
- فتكور؟! ومن فكتور؟
- أجل فكتور. . . الشاب الذي رأيناه على الجبل أمس وأقبلت العجوز الحيزبون مُهرْولة فسلمت على الشاب ودعته إلى حجرة الجلوس، فدخل ومعه باقة الأزهار الكبيرة
- مرحباً بك يا فتكور، كم أنا سعيدة بك(239/62)
وكانت تتكلم وذكرياتها القديمة ثائرة كلها في صدرها العجوز والدم العجوز يتدفق في عروقها الضعيفة. . . والمفاجأة الحلوة تعقد لسانها فتأخذها ربكة مضحكة
- هذا الورد جميل. . . أوه. . . ذاك سَوْسَن ما أبهاه! وبنفسج، لمن حملت هذا يا مسيو فكتور؟
- لـ. . . لهذه الأخت الصغيرة. . . و. . . لك يا أماه
وبلعت العجوز ريقها، ونظرت إلى حفيدتها في حنق، وقالت للشاب:
- والفتاة الجميلة التي كانت معك أمس؟
فقالت تلدا:
- إنها أخته يا جَدّة
- أخته؟ حقاُ هي أختك؟
فقال الفتى (إي وربي، إنها أختي)
فقالت العجوز: (إذن. . . احمل هذه الباقة إليها. . . فهي بها أحق. .)
فقال الشاب: (ولكني قطفتها بِيدَيَّ من حديقتي هدية لحفيدتك!)
وتدخلت تلدا فقالت له: (من حديقتك؟ إذن أنت تملك حديقة؟)
فقال لها: (أجل، وهي حديقة غناء، تليق بك)
فقالت له: (وهل تأذن لي في زيارتها؟)
فقال: (ولم لا. . . إنك تكونين أبهى زهرة فيها. . .)
ولم تطق العجوز أن تسمع إلى كل ذلك، فصرخت صائحة (كفى! حَسْبُك، أرجوك)
بيد أن الفتى ما زال بها حتى وعدت أن تزوره في صحبة حفيدتها بعد يوم أو يومين
وكثرت زيارات العائلة المقدسة لحديقة الفتى، وتوثقت بينهما عرى الصداقة والتحاب، وكانت أخته الجميلة التي حسبتها العجوز حبيبته من قبل تلقاهما فيأنسان إليها
وذهبت تلدا مرة وحدها تزور حديقة فكتور ففرح بها أيما فرح، وقطف لها أحسن وردة وأبهاها، وجاءها بتفاحة كبيرة حمراء؛ ثم جلس بجانبها برهة، وجعل يحدق فيها بصره
ثم اقترب منها فلم تبتعد. . .
ولمس جسمه جسمها فأحست بدفء ولكن ليس كالدفء الذي ينبعث من النار. . . ثم(239/63)
لمحت في عينيه شيئاً غريباً فلم تجسر أن تسأله عنه. . . ثم مد إليها يده فمدت إليه يدها. . . فأخذها في كلتا راحتيه
وتركت الأزهار تسقط على العشب أمامها
وأبصرت عبرة تترقرق في عينيه فسألته لماذا يبكي؟ فلم يجب
ثم ارتبك قليلاً وقال لها بلسان متلعثم: (تلدا!) فقالت له: (نعم يا فكتور؟) فقال لها والخجل يبعثر الحروف من شفتيه: (أتأذنين لي في. . . قُبلة. . .؟)
وسمعا وراءهما هاتفاً يقول:
(فرنشسكا. . . بَوْلو. . .)
فنظرا. . . فإذا هي الجدة العجوز الحيزبون
وكان هذا في سن تلدا التي لم تبلغ الثالثة عشرة. . . وبعد ثلاث سنين أُخر. . . كانت موسيقى جميلة تصدح في حديقة فكتور، انتظاراً لقدوم عروسه تلدا
دريني خشبة(239/64)
البريد الأدبي
المهرجانات الأدبية في موكب الزفاف الملكي
كان زفاف الفاروق الميمون موسماً من مواسم الأدب والشعر، اهتمت له جميع الهيئات الرسمية وغير الرسمية، فأعدت الحفلات الحافلة، وأقامت المهرجانات الفخمة، وتبارى الشعراء والخطباء في وصف اليوم الرائع وكلهم مجيد محسن. فأقامت جمعية الشبان المسلمين حفلة شائقة افتتحها الأمير عمر طوسون بكلمة طيبة، وأقامت اللجنة الأهلية مهرجاناً رائعاً في دار الأوبرا تكلم فيه نخبة طيبة من رجال المواهب في الشعر والخطابة، وأقامت الجامعة الأزهرية حفلاً مهيباً حضره رئيس الوزراء وخطب فيه شيخ الأزهر وكثير من الأعلام، وإنما كان أروع وأفخم جميع الحفلات والمهرجانات ذلك المهرجان الكبير الذي أقامته وزارة المعارف في دار الأوبرا الملكية في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الاثنين الموافق 24 يناير سنة 1938م، فقد حضره مندوب جلالة الملك، وألقى وزير المعارف كلمة الافتتاح، ثم تعاقب على منصة القول حضرات الأساتذة الشعراء علي الجارم وخليل مطران ومحمد الهراوي وعلي محمود طه، والأساتذة الخطباء عباس محمود العقاد وأحمد أمين وإبراهيم المازني وعبد العزيز البشري. وقد زاد في روعة المهرجان وأفاض عليه روح الفكاهة والبهجة أن الخطباء والشعراء عُرضوا على الجمهور عرضاً مسرحياً فكاهياً ضمن صورة تاريخية مسرحية لمجالي الشعر والأدب في عصر الرشيد وضعها الأستاذ توفيق الحكيم وهي فكرة طريفة لم يسبق إبداعها في مثل هذه المناسبات، وقد صدحت فرقة الهواة الموسيقية تحت رياسة الدكتور الحفني بالأنغام العذبة الشجية في البدء والختام
متحف فلسطين
أفتتح أخيراً في بيت المقدس متحف عظيم، قد يغدو في المستقبل القريب المتحف الثاني في الشرق الأدنى من حيث أهميته الأثرية بعد متحف القاهرة، ولهذا المتحف قصة ترتبط أيضاً بذكر متحف القاهرة؛ ففي سنة 1923 عرض المثري الأمريكي الشهير روكفلر كما نذكر، على الحكومة المصرية هبة مالية عظيمة لبناء متحف مصري عظيم، ولكن الحكومة المصرية اعتذرت من قبول هذه الهبة نظراً لما اقترن بها من شروط غير مقبولة؛ فعندئذ(239/65)
تدخل بعض علماء الآثار في الأمر وفي مقدمتهم العلامة الأستاذ برستيد، وتوسطوا لدى المثري روكفلر في أن يحول مشروع الهبة إلى حكومة فلسطين، فنزل عند هذه الرغبة وقدم إلى الحكومة الفلسطينية هبة قدرها مليونان من الدولارات (أربعمائة ألف جنيه) لبناء متحف عظيم في فلسطين يضم آثار الأرض المقدسة؛ وتبرعت الحكومة بالأرض التي يقام عليها المتحف وهي تبلغ نحو عشرة فدادين تقع في الجانب الشمالي الشرقي من المدينة وتشرف على جبل الزيتون، وقبة الصخرة، وربى شرق الأردن
وأقيم المتحف في هذا الموقع التاريخي على أحدث الأصول الفنية، وقسم إلى أروقة تظللها حنيات معقودة، وأقيمت في شماله حظيرة بها فسقية عربية جميلة؛ ونظمت أروقته تنظيماً تاريخياً لتكون معرضاً لتاريخ فلسطين في جميع أطواره، وجمعت فيه كل الآثار التي وجدت في فلسطين حتى اليوم، ومنها آثار العصر البرنزي حتى عصر الكنعانيين. وسيخصص فيه قسم لعرض الزخارف العربية التي استخرج معظمها من أطلال قصر هشام ابن عبد الملك التي اكتشفت أخيراً بالقرب من أريحا، وقسم آخر للتحف المصرية الآشورية، وهكذا. وقد فتح للجمهور رواق واحد هو الذي يضم آثار العصر البرنزي، وذلك حتى يتم تنظيم الأقسام الأخرى
وقد أثار افتتاح هذا المتحف الجديد اهتماماً في الدوائر الأثرية والمعتقد أنه سيكون إلى جانب آثار بيت المقدس التاريخية عاملاُ جديداً في إغراء السياح من أنحاء العالم على زيارة الأراضي المقدسة
حرب الأثير
يشهد العالم اليوم أغرب حرب عرفت في التاريخ فهي ليست صراعاً بين الجيوش والقوى المادية، بل هي صراع بين وسائل الدعاية لغزو أعظم حشد ممكن من العقول والقلوب. ولم يبق الراديو أداة للدعاية القومية أو المحلية فقط بل غدا أداة للدعاية العالمية يرسل أمواجه فيما وراء البحار إلى مختلف الأمم؛ فمن محطة باري الإيطالية تسمع الأمم العربية منذ أعوام خطباً عربية في مختلف الشئون وتسمع أنباء العالم بالعربية وتسمع الموسيقى العربية؛ ولم يكن القصد من ترتيب هذه البرامج العربية في محطة إذاعة أوربية إمتاع الأمم العربية فقط أو تحري غايات ثقافية، بل رتبت بقصد التأثير في عقول السامعين(239/66)
وتوجيههم إلى ناحية معينة من التفكير السياسي. ومنذ أسابيع قلائل أنشئت في لندن محطة للإذاعة العربية تنحو نحو المحطة الإيطالية في إذاعة الخطب والمحاضرات والموسيقى العربية من العاصمة الإنكليزية؛ ومن أنها أنشئت في الحقيقة لمقاومة الأثر الذي تحدثه محطة باري في نفوس الأمم العربية، فإنها لم تسلك سبيل الدعاية المفرقة، على أنها تؤمل على أي حال أن تلطف من هذا الأثر الذي اعتبر في لندن ضاراً بهيئة إنكلترا وسمعتها في الأمم العربية. والذي يلفت النظر في أمر هذه الحرب الأثيرية الغريبة هو العبرة التي يمكن للأمم العربية أن تستخلصها منها؛ فهي في كلتا الحالتين الميدان المختار لأحداث الأثر والآثار المنشودة، وهي المقصودة بالتوجيه والتحريك، ولا ريب أن الأمم العربية ليست من الغفلة بحيث يفوتها هذا الاعتبار
في مجاهل التركستان
عاد أخيراً إلى ألمانيا العلامة الرحالة الألماني الدكتور فلشر بعد رحلة خطرة في مجاهل التركستان دامت أربعة أعوام، واستقبل في برلين بحفاوة عظيمة؛ وكان قد بدأ رحلته في سنة 1934، وذلك بقصد استكشاف الخواص المغنطيسية والمعدنية للمنطقة الشاسعة التي تقع بين الصين والهند، فقصد إلى نانكين ومنها إلى التركستان في قافلة مؤلفة من زميل له وستة من الصينيين وأربعين جملاً، ولقي من الصعاب والمتاعب ما لا يوصف من اعتداء قطاع الطريق وتمرض رفاقه، والمرض المتكرر والحر المرهق. ولما وصل إلى خوتان قبض عليه الحاكم وألقاه مع رفيقه في السجن وصادر ما يحملانه من الآلات الفلكية والعلمية؛ ولبثا في السجن ستة أشهر، ثم أفرج عنهما أخيراً بتدخل ممثل إنكلترا؛ فاستأنفا رحلتهما إلى (لي) بعد أن عبرا جبال الهمالايا الشامخة
وأنفق الدكتور فلشر أربعة أعوام في الدرس والاستكشاف وفي رأيه أن هذه المناطق غنية بالبترول ولا سيما في شرق التركستان حيث تبدو آثار الزيت ماثلة في مياه الأنهر، كذلك هناك ما يحمل على الاعتقاد بوجود الذهب في سهل كشغر نظراً لأن الأهالي يحرزون كثيراً من تراب هذا المعدن النفيس
وقد زار الدكتور فلشر هذه المناطق من قبل في سنة 1903 حيث سافر من طشقند في التركستان الروسية إلى منغوليا وكنسو، وفي سنة 1926 عاد إلى طشقند وسار منها إلى(239/67)
تنجاز، ثم عاد إلى الهند بطريق كشمير، فهو بذلك من العلماء الخبيرين بهذه المنطقة وخواصها
نسائم الأستاذ الجارم
الأستاذ علي الجارم الأديب الكبير وخليفة (شوقي) في مصر عند طائفة يقول في لاميته في المهرجان الملكي:
يفديه غصن الدوح ريان ناضراً ... إذا اهتز في كف النسائم مائله
فجاء بالنسائم جمعاً للنسيم أو للنسمة، والمعروف أن جمع نسيم أنسام وجمع نسمة نَسم وسالمها نسمات، ولم ترد هذه (النسائم) في كلام إسلامي أو مولد. دع عنك المخضرم والجاهلي، والمتأخر والعصري ما هما حجة
(الإسكندرية)
(* * *)
مخطوط للموسيقي موتسارت
ظهرت أخيراً تحفة أثرية جديدة للموسيقى الأشهر موتسارت هي عبارة عن مذكراته التي كانت يكتبها (بالألمانية) عن حياته وتآليفه الموسيقية في مذكرة جيب صغيرة، وقد كانت هذه التحفة في حوزة أحد الهواة الإنكليز، فعمل أخيراً على تصويرها، وطبعها أحد الناشرين الإنكليز، ولم يغير شيئاً فيها بل نقلها كما هي في لوحات (أكليشيهات) مصورة، وبذلك يستطيع القارئ أن يقرأ فيها محتويات بخط الموسيقي نفسه
وفاة مستر كيلوج
ليس في الدنيا رجل محب لسلام العالم لا يعرف مستر كليوج صاحب الميثاق المعروف باسمه لعدم اتخاذ الحرب وسيلة لحسم المنازعات التي تحدث بين الدول. . . هذا الميثاق الذي حمل غصن الزيتون طويلاً والذي أقرته الدول قاطبة، وكانت اليابان ثم إيطاليا أول من جعله قصاصة ورق لا قيمة لها من حيث القيمة الفعلية. . .
مات مستر كليوج في 22 ديسمبر الماضي في سن الحادية والثمانين بعد حياة موفورة مليئة بجلائل الأعمال. . . حياة غالية غزيرة الحب للإنسانية، هي المثل الأعلى لما يجب أن(239/68)
تكون عليه حياة العظماء العصاميين في كل زمن ومكان
ولد كيلوج في ديسمبر سنة 1856 من أبوين فلاحين وعمل في المزرعة مع أبيه ثم تردد على مدرسة أولية تعلم فيها القراءة والكتابة ورشف قدراً تافهاً من المعلومات البسيطة أغراه بالدراسة العالية بطريق المراسلة والانتساب من الخارج حتى نال إجازته التي فتحت له باب المجد على مصراعيه فما زال يرقى من منصب إلى منصب حتى عين سنة 1924 سفيراً لبلاده (والولايات المتحدة) في لندن وفيها سعى حتى عقد ميثاقه ضد الحرب بين الدول ثم نقل إلى واشنطون ليظل سكرتيراً للجمهورية طوال رئاسة مستر كوليدج (1925 - 1929) ثم عين قاضياً لمحكمة (إلهاج كورت). . . . . . وهكذا كانت حياته سلسلة من المفاخر سيزهى بها أسمه على اسكندر قيصر روسيا وولسن رئيس أمريكا وغيرهما من خدام السلام
صومبارت والوطنية الاشتراكية
أفلحت النازية - أو أفلحت الاشتراكية الوطنية الألمانية - في خلق فلسفة جديدة ثابتة الدعائم هي الآن ألد أعداء الماركسية أو بالأخرى الشيوعية، وقد كتب العلامة فرنر صومبارت كتابه العظيم (فلسفة جديدة اشتراكية فلفت إليه الأنظار بما تناول به كتاب كارل ماركس (الرأسمالية الحديثة) من النقد المر والتجريح البارع، وقد ارتفع العلامة صومبارت بكتابه هذا إلى مرتبة هِيِجل في الوطنية الألمانية، والألمانيون يتخذون من كتابه إنجيلاً جديداً يذكي فيهم روح المطامع العالية التي نفختها فيهم النازية والتي نفخها في أسلافهم هجل من قبل. وصومبارت يدعو إلى فلسفة إيجابية تأتي من الله مباشرة، فلا تعرف هذه الطريق الملتوية المكتظة بالوسطاء من قسس وأحبار ودهاقين؛ وهذا هو الذي أثار عليه الكنيسة وخلق منها عدواً داخليّاً لألمانيا النازية، بل هو أيضاً ما ألب الألمان على اليهود وحفزهم إلى طردهم خارج الوطن الألماني المقدس لأن النازية لا تعنى بشيء أكثر مما تعنى بالوحدة في كل شيء
تاريخ أبن حيان
صدر أخيراً القسم الثالث من الجزء الذي انتهى إلينا من تاريخ ابن حيان مؤرخ الأندلس(239/69)
مطبوعاً بعناية بعض المستشرقين وقد نشر هذا الجزء بأقسامه الثلاثة عن مخطوط وحيد تحتفظ به مكتبة (بودليان) الإنكليزية؛ وتبدو نفاسته وأهميته متى علمنا أن مؤلفه أبو مروان ابن حيان هو أعظم مؤرخي الأندلس المسلمة؛ وهو جزء من تاريخه الشهير المسمى (المقتبس في تاريخ الأندلس) وفيه يستعرض تاريخ الأندلس منذ الفتح إلى أوائل الطوائف، ويعنى عناية خاصة بترجمة العلماء، ويتعلق الجزء المنشور بعهد الأمير عبد الله الأموي (275 - 300هـ) وهو عصر من اخطر عصور الدولة الأموية، وفيه كانت ثورات الأندلس الشهيرة ومنها ثورة ابن حفصون أعظم ثوار الأندلس؛ هذا ويظن بعض العلماء المطلعين أن كتاب (المقتبس) بأكمله لم يفقد نهائياً، وأنه ربما وجدت منه نسخة في بعض مجموعات المغرب؛ خصوصاً وأنه كان حتى القرن الحادي عشر الهجري مرجعاً للكتاب المتأخرين ومنهم المقري
مقدمة ابن خلدون بالفرنسية
منذ نحو قرن وضع المستشرق الفرنسي البارون دي سلان ترجمة فرنسية لمقدمة ابن خلدون، صدرها بترجمة لحياته مشتقة مما كتبه ابن خلدون نفسه عن حياته في (التعريف) وقد لبثت هذه الترجمة عمدة المستشرقين حتى يومنا؛ وقد فكر لفيفهم في إعادة طبع هذه الترجمة وتنقيحها وإخراجها في ثوب جديد؛ وبالفعل صدرت أخيراً طبعة جديدة لترجمة دي سلان تفضل الترجمة القديمة بكثير، وهي كالقديمة في ثلاث مجلدات كبيرة، منقحة مهمشة ذات فهارس جديدة(239/70)
الكتب
في منزل الوحي
بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
لعل فريضة من فرائض الإسلام وشعائره لم تخدم الثقافة الإسلامية، وتنفع الأدب العربي كما خدمت في ذلك فريضة الحج وأفادت، فإن جل الذين كتبوا الرحلات، وألفوا في التاريخ الإسلامي خصوصاً تاريخ بلاد العرب، ووصف طبيعتها وجغرافيتها وتقويمها، هم من الذين كانوا يقصدون إلى أداء الفريضة المقدسة، وزيارة الروضة المطهرة. وكتاب (في منزل الوحي) إنما هو أثر من تلك الآثار التي فاض بها الشعور الإسلامي، والاتجاه الوحي نحو تلك البلاد الطيبة التي تنزع إليها النفوس، وتهفو نحوها الأرواح، وتطمئن بذكرها القلوب. وقد وصف المؤلف الفاضل كتابه وتحدث عن القصد الذي قصده من تأليفه فقال: (وليس هذا الكتاب مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب، إنما هي وقفات وقفتها في بلاد الوحي ومنزله، أستوحي فيها مواقف محمد عبد الله ونبيه ورسوله، وهناك في هذه المواقف تجردت نفسي وسمت روحي وكررت بالعصور والقرون أطويها، ورحت أتمثل هذا الهادي الكريم، وأتمثل المسلمين من حوله، ألتمس في ذلك الأسوة والعبرة، آملاً أن أشرك فيهما إخواني المؤمنين بالله، وبما جاء من عند الله. لم أتقيد في هذه المواقف بما جاء في كتاب غير كتاب الله الكريم، ولم أخضع تفكيري لحكم غيري، وما كان لي أن أخضعه، فقد كنت أحس في كثير من هذه المواقف أنني بين القوم أسمع وأرى، وأتمنى لو كنت أجاهد معهم، فأفوز فوزاً عظيماً، وما كان لي أن أفعل ثم أخدع نفسي فأزعم أنني إذ أحدث الناس إنما أقص عليهم ما رأيته وما أحسست به في حين لا أقص إلا ما رآه غيري، وما سبقني إلى تسطيره. لقد تركت نفسي على سجيتها تتوجه بوحي روحي، وتستلهم الحق مما حولي، وتستعرض ما تستلهمه على حكم عقلي وتقدير ضميري، ثم سطرت ما اجتمع من ذلك لا أبغي به إلا رضا الله)
هذا كلام المؤلف الفاضل في وصف كتابه، وهو كلام، على ما أرى، فيه شيء من(239/71)
التواضع يغطي جانباً من الحق؛ وقد تكون هذه نية الدكتور هيكل في تأليف كتابه، أراده على أنه (ليس مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب وإنما هي وقفات في بلاد الوحي ومنزله) ولكنه على ما يظهر غلب على أمره فجاء كتابه مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي، وجاء خير دليل يجب أن يصحبه كل راحل إلى تلك البلاد، وجاء أيضاً من أهم التقاويم لكثير من الأماكن في بلاد العرب، ثم جاء مشروع إصلاح قويم يهم من يهمهم (العناية بهذه البلاد المقدسة ودراسة حاضرها وماضيها دراسة علمية دقيقة، وما يدعو المفكرين والساسة أولي العزم ليعملوا على إصلاح هذه البلاد)، ثم هو نفحة روحية من أثر الرسول الكريم فاض بها قلب خافق وشعور دافق. فإذا كانت نية الدكتور هيكل على ما ذكرنا من قبل، فلا شك أنه قد غلب على أمره، وتجاوز رغبته في إخراج كتابه، وتحديد الموضوع الذي أراد أن يجري في حلبته؛ وهو تجاوز قد اقتضته طبيعته، ودفعته إليه صناعته، فكان ذلك في حظ العربية وحظ قرائها وحظ رواد تلك البلاد المقدسة
نعم! هو تجاوز اقتضته طبيعة هيكل، لأن هيكلاً كما نعرف صحافي، والصحافي من طبيعته لا يقف عند شيء ولكنه يحب أن يقف على كل شيء؛ ثم هو أديب دقيق الشعور وافر الإحساس يتأثر ويهتاج لكل ما يراه ويقع عليه حسه، فإذا وصف أضفى على وصفه الإحساس والشعور وخلقه خلقاً حياً كله الروعة والجلال؛ ثم هو عالم ناقد ينظر إلى كل شيء بعين فاحصة، وفكر صائب وتقدير سديد، وهذه الغريزة في نفسه هي التي جعلته يقول ما يقول عن حق (إن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل لأن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشاً غير جدير بمفكر يحترم عقله فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن ينحل نفسه حكم غيره قبل أن يمحصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعاً حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيع من الحق فيها)
وأحب لك أن تتأمل الكتاب بنفسك، وأن تصحب مؤلفه الفاضل من (عزم السفر) حتى (أوبة الرضا) فستقضي في ذلك سفرة سعيدة، ورحلة طيبة، يسعد فيها عقلك بكثير من العلم(239/72)
والمعرفة، ويفوز منها قلبك بكثير من البهجة والانشراح، وتطيب بها روحك على خير ما تطيب به الأرواح من ذكر الماضي وأثر الدين؛ غير أني أحب لك أيضاً أن تكون صبوراً مع هيكل ما وسعك الصبر، إذ تراه يسير سيراً بطيئاً فيقف بك عند كل أثر من آثار الرسول، ينبش الماضي، ويسأل التاريخ، ويفحص المعالم، ويستوحي الروح، ويحكم العقل، ويقارن بين ما يرى وما يسمع، فإذا طفت معه مثلاً في أنحاء مكة الحديثة، فكن شديد الاحتمال إذ تراه يدخل بك في كل زاوية، وينعطف بك على كل ثنية، وينحدر بك إلى كل مغار، ويرتفع بك إلى كل نجد، ويدفعك دفعاً حتى بين النؤى والأثافي، والأحجار والصخور، ويقف بك عند كل أثر ظاهر، وكل مظهر قائم. وإذا ما صحبت هيكلاً مثلاً إلى أسواق العرب فاصبر إذ تجده يطيل عليك فيحدثك عن الأسواق الثلاث في العهود القديمة، ويتلمس لك موقع المجنة وموقع ذي المجاز، ويكشف لم عن أسباب الخصومة في الأسواق العامة؛ ثم يحدثك عما كان يجري في عكاظ وعن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السوق، ثم يسرد الأقوال التي قيلت في ذلك من قبل محاولاً أن يطبقها على ما يرى وأن يقيسها بمقياس العقل. نعم أحب لك أن تكون صبوراُ مع هيكل إذا رأيته في جميع المواقف يبحث ويتقصى ويطيل النظر والتأمل فإنه إنما يقف بك على آثار ومعالم لحياة قوم ملئوا الدنيا بمجدهم، وأسعدوا العالم بهديهم، وأفعموا التاريخ بذكرهم. أما نفس هيكل في هذه المواقف فهي نفس مطمئنة يقول هو عنها بأنها (قد سمت إلى حيث لم تسم من قبل قط) وهو يحدثك عن شعوره في ذلك فيقول: (رأيت نور الله ماثلاً في كل دقيق وجليل من خلقه، ورأيت آية الهدى متجلية يشهدها كل من أراد أن يفتح لها قلبه وبصيرته، ورأيت سنته في الكون تبتدى لكل من أخلص إلى الحق وجهة ثابتة لا تبديل لها، رأيت هذا كله رأى العين، وآمنت به إيماني بما يقع عليه حسي، وما تلمسه يدي، وأيقنت أن العلم بهذا كله هو الحياة الراضية المرضية)
وما نفس هيكل في ذلك وشعوره إلا طراز من النفس السامية على حقيقتها، وتمط من الروح الشرقية التي تمجد الدين أبداً، وتقدس المعنويات أبداً، إذ ترى سعادتها في الروحيات أكثر منها في الماديات
والظاهر أن هيكلاً في حياته الروحية الجديدة قد اتصل بالقرآن اتصالاً وثيقاً، وتغذى(239/73)
بألفاظه وأسلوبه كما تغذى بمعناه وروحه، وإنك لتلمح أثر ذلك واضحاً جلياً في تعابيره خصوصاً إذا ما تحدث عن معاني الإسلام تعمر القلوب، وسمو الإيمان يغمر الأرواح والنفوس. أنظر إليه وهو يصف الحجاج محرمين في طريقهم إلى مكة فيقول: طبع هذا المنظر أعمق الأثر في نفسي فهذه القوافل من المشاة والركبان تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى. . . ليس يذكر أحدهم ما له من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه هو وهؤلاء المسافرين معه أخوة في الله وأنهم جميعاً قد أتوا قاصدين بيته، ملبين داعيه، ليشهدوه على أنفسهم وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم، وليبدؤوا بذلك حياة جديدة يبتغون فيما أتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا ويحسنون كما أحسن الله إليهم، ولا يبغون الفساد في الأرض. لهذا جاءوا من كل فج عميق، ولهذا ركبوا البر والبحر واستهانوا بالمشقة ونسو كل شيء إلا الله، ولهذا أحرموا آية إخائهم ومساواتهم إيذاناً بأن أقربهم إلى الله أتقاهم، ومظهراً لميلادهم الروحي الجديد، ليتخذوا من هذا الميلاد عدتهم لحياة جديدة، ولهذا تتصل قلوبهم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم ولهجاتهم، وهم يعبرون عن هذا الشعور بالتلبية تنفرج عنها شفاههم في حبور وغبطة مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إنه يغفر الذنوب جميعاً، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فهيكل كما ترى مولع بآيات القرآن يقتبسها لأسلوبه؛ ويقحمها في عباراته، ويستخدمها استخداماً طلياً منسجماً يدل على مهارة وتمكن. ولقد بلغ من ولعه بألفاظ القرآن أن آثر كلمة (طوّع) على مرادفتها في الأستعمال، فعبر بها مراراً إلى حدّ يلفت النظر، حتى أنه ليستخدمها في مواضع قد تكون مرادفاتها أولى بها، وقد لا تؤدي المعنى إلا على شيء من التسامح، ولكن هيكلاً يؤثرها لأنها لفظة قرآنية فهي حلوة سائغة. وإن من العجيب حقاً أن يؤثر هيكل ألفاظ القرآن كل هذا الإيثار، وأن ينتفع بأسلوبه إلى هذا الحد الذي يفوق فيه أولئك الذين شبوا على مدارسة القرآن، وقضوا أعمارهم في مزاولة عباراته والبحث في نصوصه على حين أنه قد نشأ نشأة مدنية كما يقولون، وتثقف ثقافة تتصل بالغرب أكثر مما تتصل بالشرق، وما آثاره الأولى إلا لون من ألوان تلك الثقافة الأجنبية. وإنما يسر لهيكل أن يندمج في حياته الروحية كل هذا الاندماج، وأن يتصل بثقافة القرآن وأسلوبه كل هذا الاتصال، أنه ذو موهبة فنية، وطبيعة أدبية صافية، والأديب إذا ما صفت طبيعته،(239/74)
وخلصت نفسه، ينطبع على الحياة التي يريدها وكأنها حياته التي تعودها حياته، ويفنى في البيئة التي يلابسها فإذا هو صورة قوية رائعة لما فيها من الألوان والمظاهر، ويخضع حواسه في الانفعال للفكرة يريد تنفيذها فينجلي لك صادق الإحساس صحيح الغرض، وهذا هو السر في أنك ترى الكاتب أو الشاعر يدرج بين صخور البادية وعلى أشواكها فتلمح في أسلوبه وتفكيره الشدة والجفوة، ثم ينتقل إلى مطارف الحضارة فإذا به هين لين مذلل الفكر يجري أسلوبه في مثل رقة الماء والهواء. وهذا هو السر أيضاً في أنك ترى الكاتب أو الشاعر يحدثك مثلاً عن البؤس فيجيد الحديث على أنه ليس ببائس، ويقول في النسيب والغزل فيملك عليك نفسك مع أنه ليس بغزل ولا محب، فكيف بذلك الأديب أو الشاعر إذا كان صادق العاطفة، خالص الرغبة، صافي النفس والروح كهيكل في حياته الجدية؛ لاشك أنه يكون شيئاً كبيراً، ويكون أثره أثراً قوياً رائعاً كهيكل (في منزل الوحي)
وأما بعد فقد أطلت على القارئ، ولنا وقفة أخرى مع (هيكل) في منزل الوحي سيرى القراء فيها لوناً طلياً من ألوان الفكر الروحي الذي يحترم العقل ويمجد الحق
محمد فهمي عبد اللطيف(239/75)
المسرح والسينما
محنة المسرح
بقلم محمد علي ناصف
تساءلنا في العدد الماضي عن مصير المسرح بعد طغيان السينما واجتذابها أنظار الأدباء والفنانين فضلاً عن توطد مكانتها بين الجماهير
وقبل أن نجيب على هذا السؤال دعنا نستمع إلى حدث لأدولف زوكور كبير مؤسسي شركة برامونت السينمائية لعله يغني أو يمهد للجواب
يقول زوكور لأحد الصحفيين الأمريكيين: (إن شركته متعاقدة مع 83 ممثلاً وممثلة، منهم 64 أتوا عن طريق المسرح والباقون خمسة أطفال، وأربعة من محطات الإذاعة، واثنان من الأوبرا، واثنان من الأندية الليلية، واثنان من الفرق الموسيقية وآخران عن طريق المسابقات الصحفية، وواحد من الألعاب الأولمبية، وآخر من أحد معاهد التمثيل!!)
فالغالبية الكبرى إذن قد تخرجت على المسرح، وأكثر الباقين قد كسبوا كذلك خبرة تمت إلى المسرح بصلة
وليست هذه الحال فريدة بأمريكا؛ فان المسرح في كل بلد يمد السينما بحاجتها من الممثلين. . . كما أن له نصيباً كذلك من تقديم طائفة من كبار المخرجين السينمائيين أمثال ريتهاردت ولوبتسن وماموليان وديتريل وغيرهم
نستخلص من ذلك أن تغذية السينما بحاجتها من الفنانين إنما هي خطوة تالية لنهوض كفايات مسرحية
ولكنا إذا نظرنا إلى حديث أدولف زوكور من ناحية أخرى فماذا نستخلص من وراء قوله إنه متعاقد مع 83 منهم 64 من المسرح؟
أو ليس معنى ذلك أن السينما تجرد المسرح من قواه وكفاياته، وأن المسرح أصبح وسيلة أو قنطرة عبور إلى السينما؟
أجل، هنا يتكشف الستر قليلاً عن محنة المسرح، فإذا سفرت حقيقة تلك المحنة، فإنما هي كلمة تضيء بنور يخطف الأبصار: (المال)
المال هو الذي يسلب المسرح جاهه ويقلم أظافره(239/76)
المال هو الذي يخلب برقه ألباب الكتاب والممثلين والفنانين فيجذبهم من أنوار المسرح الباهتة إلى أنوار الاستديو الساطعة
والواقع أن هؤلاء الأمريكيين لا يحسبون حساباً للمال، أو أنهم يحسبون حساباً عجيباً؛ ففي العام الماضي ابتاع هاري كوهين صاحب شركة كولومبيا حقوق إحدى المسرحيات الناجحة ببرودواي بمبلغ 40. 000 جنيه، نعم أربعين ألفاً، وكان هذا رقماً قياسياً شاءت شركة راديو أن تكسبه لنفسها فدفعت خمسين ألفاً من الجنيهات في مسرحية آبوت
وقبل ذلك بعام دفع سام جولدوين 160 , 000 دولار إلى سنكلير لويس في روايته التي شهدناها في الموسم الماضي.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي قد يعتبرها المرء أمثلة لشغف هؤلاء القوم بالبذخ والإسراف
فأي كاتب يستطيع أن يحمل نفسه على الاقتناع بعد ذلك بما يقدمه له الناشر أو القارئ؟ أي كاتب لا يحلم الآن بمجد هوليود ومال هوليود؟ إن عمل الكاتب في الفيلم يذاع أكثر من عمله في المطبعة بمئات المرات، فضلاً عن هذه الآلاف من الجنيهات
لقد طالب محصلوا ضريبة الدخل في أمريكا ب. ج. وودهاوس أحد كتاب السيناريو بمبلغ 50. 000. . . فإذا كانت هذه ضريبة دخل، فكم بلغ إذن دخل الرجل؟!
ويستوي في التمثيل هنا المخرجون والممثلون؛ فإن ماكس ريتهاردت عاهل المسرح الكبير رأى تلامذته في هوليود يثرون ويشتهرون من الأفلام، وهو باق في فينا يشهد ركود المسرح، رأى إيرفنج تالبرج يتقاضى أسبوعياً من شركة مترو 2. 400 جنيهاً مع 10 % من أرباح الشركة، ورأى المخرج العادي يأخذ في الفيلم الواحد عشرين أو ثلاثين ألفاً من الجنيهات فلم يطل انتظاره وحزم أمتعته ورحل إلى هوليود فأخرج (حلم منتصف ليلة صيف) وهو يأخذ عدته الآن لإخراج فيلمه الثاني (وانتون)
وأبهظ الأجور في أمريكا من نصيب ممثلي السينما، فقد أصبح من الأمور العادية أن يأخذ الكوكب من الفيلم الواحد خمسين ألف جنيه، ومثل هذا الأجر كفيل باقتلاع أي ممثل من فوق خشبة المسرح
فإذا استثنينا القليل من الممثلين الذين لا تستعبدهم تماماً شهوة المال فيقسمون أوقاتهم بين(239/77)
العمل في المسرح والعمل في الأستوديو مثل والتر هاستون وهنرى فوندا ومثل هيلين هايز التي تركت الشاشة وهي في أوجها، وبعد أن اكتسبت التمثال الذهبي من أكاديمية الصور والفنون لأحسن ممثلة سينمائية في أول فيلم مثلته - إذا استثنينا مثل هؤلاء فأنا لا نغالي إذا قلنا إن الدولار هو الذي هزم المسرح
محمد علي ناصف(239/78)
العدد 240 - بتاريخ: 07 - 02 - 1938(/)
المرأة والأدب
قال لي صديق أديب:
إن من يقرأ الرسالة في مصر من الأَمصار النائية، أو في عصر من الإعصار الآتية، يحسبها تصدر أو كانت تصدر في بلد ليس فيه نساء. والرسالة كما نعتقد تسجل ظواهر النهضة المصرية، وتصور مظاهر العبقرية العربية؛ فهل خلوها من أثر المرأة معناه أن المرأة لا تزال بمعزل عن نهضة الفكر في مصر، وحركة الأدب في الشرق؟
وهذا السؤال نفسه ألقاه علي أكثر من تحدثوا إلي في الرسالة أو في المرأة أو في الأدب. والجواب عنه ميسور على من عرف كيف نربي البنت ونثقف الأم ونؤلف الأسرة. فنصفنا الجميل الشاعر كما يعبرون اليوم لا تزال كثرته الفاحشة على جهالة الأمية وسذاجة الفطرة. أما قِلَّته الضئيلة فبين طبقة علمتها المدارس المصرية تعليماً فجاً لا يمهد للعقل طرائق المعرفة، ولا يكشف للنفس آفاق الحياة، فعلمها محدود بالتعليم الأولي أو التمريض العملي، وأدبها واقف عند قراءة المجلة الخفيفة وكتابة الرسالة العادية؛ وبين طبقة ثقفتها المدارس الأجنبية فهي غزيرة الأدب صحيحة الفكر سليمة الذوق لطيفة الحديث، ولكنها لا تعلم من لغتها وأدبها غير القشور، ولا تعرف عن يدنها وتاريخها غير الشُّبه، ولا تجد في مكتبتها مؤلفاً شرقياً، ولا ترى على مكتبها ريشة عربية. وقد كتبت إلي آنسة من هذه الطبقة كتاباً بالفرنسية، فلمتها على أن تُقحم هذا اللسان الغريب بين لسانين عربيين، فردت عليّ بذلك اللسان نفسه تقول ما ترجمته:
(لو كنت كتبت إليك بعربيتي لحسبتني طفلة تجمجم بالكلام ولا تبين؛ ويكون من وراء ذلك أنك لا تفهمني ولا تفهم عني. فكتبت إليك بالفرنسية لأن الإنسان يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولئن تعرضت بذلك إلى غضبك، لقد نجوت ولله الحمد من سخرك؛ وسخطك عليّ أحب إلى كرامتي من استخفافك بي)
فالطبقة الواقفة على الأعراف بين الجهل والعلم لا تستطيع بنصيبها الأخس من الثقافة أن تسُبر عقل الرجل ولا أن تصور قلب المرأة؛ فمثلها مثل الجمهور الأوسط من سواد الشعب يعلو على العامة بمتاع جسمه، ويسفل عن الخاصة بغباء ذهنه. والطبقة القائمة على البرزخ بين الشرق والغرب لا تستطيع كتلك أن تساهم في الأدب العربي بشعاع من الروح(240/1)
ولا بنتاج من العقل، لأنها مصرية القلب أجنبية اللسان، تغرِّبُ بهذا وتَشرِّق بذاك، وتنام هنا وتحلم هناك، وتأكل وتشرب فيظهر أثرها في مصر، ثم تقرأ وتكتب فيظهر أثرها في الخارج. فسيداتنا العبقريات الحسان: سيزا نبراوي، ونعمت راشد، وقوت القلوب، وإيمي خير، لا يمكن أن يتصل تفكيرهن بالأدب العربي ما دمن يجهلن لغة القرآن، ويحتجن في إفهام قومهن إلى ترجمان
على أن في هاتين الطبقتين شواذ لا يستطعن لقتلهن أن يكنَّ طبقة ثالثة. وهل تستطيع أن تعد في أقطار العربية كلها أكثر من الدكتورة أسماء فهمي، والماجستيرة سهير القلماوي، والفضليات الكواتب ابنة الشاطئ وجميلة العلايلي وفلك طرزي ووداد سكاكيني؟
هؤلاء على تفاوت بينهن يُجدن التفكير والتعبير، ويعطرن من حين إلى حين وجوه الصحف وصدور المجالس بأنفاسهن العبقة وأحلامهن الجميلة؛ ولكن فحولة الأدب في أنوثة العاطفة لم نجدها في امرأة بعد (باحثة البادية) و (مي)؛ وباحثة البادية في ظلال الخلد، ومي وا أسفاه على سرير المرض!
تلك حال المرأة مع الأدب. وهي حال اقتضتها طريقة التعليم وطبيعة المجتمع وحداثة النهضة. فمن الطبيعي ألا يجد فيها الأدب رفداً من إنتاج، ولا الأديب مدداً من وحي. ومن البديهي ألا تحس أنت في الرسالة وفي سائر المجلات سحر المرأة فتشكو الاعتلال والنقص، وألا يجد صديقنا الحكيم في المجالس والأندية عطر المرأة فيشكو الجفاء والجدب. وما دامت المرأة غائبة عن الأدب وعن المجتمع فهيهات أن يبرءا من علل الجفاف والإسفاف والسآمة والفوضى
يريد صديقنا توفيق الحكيم أن يجرب في برجه العاجي أثر المرأة الفاتنة في مجلس جماعة من الأدباء سماهم. ولقد كتبت في العدد التاسع من (الرسالة) ما يصح أن يكون نتيجة لهذه التجربة قلت: (لاحِظْ مجلساً من مجالسنا اجتمعت فيه الرجال شباباُ وشيباً فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة والمناقشات الفجَّة والأحاديث الجريئة والكلمات المندية والذوق العامي والإحساس البطيء؛ ثم لاحظْ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة، تجد الحركات تتزن والأصوات ترق والمناقشات تُنتج والأحاديث تحتشم والكلمات تُنتقى والذوق يسمو والإحساس يّدِق؛ ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يُجمل سَمْته في(240/2)
عين المرأة، ويحسن صوته في أذن المرأة، ويسوغ رأيه في عقل المرأة؛ والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع وتنتهي إلى الطبع) فمتى يُتاح للمرأة يا تُرى أن تُدرك خطرها في غير الحب، وأثرها في خارج البيت، فتؤدي أمانتها على الوجه الأكمل، وتُبلغ رسالتها على الطريق الأسد؟
أحمد حسن الزيات(240/3)
في معرض الآراء
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأستاذ أديب عباسي في بعض الأعداد القريبة من الرسالة مقالاً سأل في عنوانه: (هل انتهت السياحات والكشوف الظاهرة في القرن السابع عشر أو بعده؟) ثم عاد سائلاً فيه: (أصحيح أن الكشوف الظاهرة أو الكشوف الجغرافية انتهت في القرن السابع عشر أو حواليه، ومن ثم بدأت الكشوف الباطنة للنفس كنتيجة لانصراف الذهن البشري عن الدراسات والسياحات الظاهرة إلى الدراسات والسياحات الباطنة؟! إنني أشك في صحة هذا الزعم، بل أكاد أنفيه قاطعاً)
ثم استطرد في جوابه قائلاً: (ليست السياحات الظاهرة وقفاً على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف كل رجأ من أرجائها؛ وليس الاستشراف للمجهول في خارج حدود النفس الإنسانية قاصراً على الحدود الجغرافية لقارات الكرة الأرضية؛ فهناك السماء بعوالمها الشاسعة، وأكوانها المبثوثة في رحاب الكون، وأسرارها المحيرة؛ وثمة الذرة بصفاتها العجيبة وسلوكها الغريب وأسرارها الدقيقة؛ وهناك أمواج الأثير من ضوء وحرارة وكهرباء وأشعة كونية. . .) إلى أن قال:
(من يستطيع أن يقول: إن الكشوف الظاهرة التي تمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداءة هذا القرن في عوالم الطبيعة والحياة تقل روعة وأسراً للخيال وشدْها للإنسان عن أروع المغامرات الجغرافية التي تمت في القرن السابع عشر أو بعده؟ ثم هذه الكشوف الجغرافية ذاتها هل انتهت حقاً في القرن السابع عشر؟ أين مغامرات سكوت وشاكلثون وبيرو وغيرهم. . .)
ومن طرائف المناقشات أن تأتي هذه المناقشة من الأستاذ أديب عباسي تعقيباً لما أسلفناه في مقال (الحدود الحاسمة) الذي قلنا فيه إننا قد نستغني في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء لما هو معلوم غني عن البيانات من ضرورات الاستثناء في كل قاعدة. فإذا قال الإنسان إن النهار مضيء وإن الليل مظلم فليس من الواجب بعد ذلك أن يحصي أيام الغيم ولا الأغوار المحجوبة التي تظلم بالليل والنهار
فقد حدثت كشوف جغرافية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنها كلها لا تخرج(240/4)
عن (المتممات) التي تأتي بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير. وكذلك نقول مثلاً إن القرن التاسع عشر كان قرن الانقلاب الصناعي ولا نمنع بذلك استمرار الاختراع في عالم الصناعة إلى القرن العشرين بل إلى هذه الساعة
فالأرض نفسها كانت مجهولة قبل الكشوف التي بلغت أوجها في القرن السابع عشر وما حواليه
والبنية الإنسانية نفسها كانت مجهولة قبل تلك الكشوف، فكان من الناس من ينازع في شكل الأرض وفي القرار الذي هي قائمة عليه؛ وكان منهم من يزعم أن الإنسان في بعض الأصقاع يشبه الكلاب أو يشبه الغيلان، ويجري التناسل بينه وبين فصائل شتى من الحيوان
فلما انتهت كشوف القرن السابع عشر انتهى الخلاف في أمر الأشكال والظواهر، وانفتح المجال للبحث في الحقائق والبواطن، أو لمعرفة الإنسان نفساً بعد أن عرفناه تركيباً ووضعناه في موضعه من عالم الأحياء الظاهرين
ولقد ذكر الأستاذ (أديب) كشوف الكواكب وكشوف الذرة وأمواج الأثير والأشعة الكونية، إلى أمثال هذه الكشوف العلمية التي حدثت بعد القرن السابع عشر ولا تزال تحدث في هذه الأيام
ولكن ما شأن هذه الكشوف وما نحن فيه؟ وأين هي من (الحاسة الاجتماعية) التي تتعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات؟ أو التي تتعلق بها الديمقراطية وما لها من الأثر في وصف المجتمع وتحليل أفراده وطبقاته؟
فالسائح الذي يعود من الأقطار الأسيوية وقد روى لأبناء وطنه أنباء البذخ والفخامة ونوادر الذهب والفضة والجواهر والنفائس في أيدي الناس؛ يلهب أشواقهم ويعلق آمالهم وأحلامهم وأوهامهم أضعاف أضعاف ما يفعله كشف الذرة وما إليه من كشوف لا تتصل (بالحاسة الاجتماعية) إلا من بعيد
وألف كشف من كشوف (الذرة) لا يغير وصف الأبطال في القصص والروايات إلا أن يصل إلى اختراع طيارات أو سفن أو أسلحة أو ما شابه هذا من أمور تتصل (بالحاسة الاجتماعية) على نحو من الأنحاء(240/5)
فالمعول فيما كنا نبحثه من اختلاف وصف الأبطال في القصص بين العصور القديمة والعصور الحديثة إنما هو على شعور الناس بها، أو تعلق (الحاسة الاجتماعية) بموضوعها، وليس المعول على حدوثها في عالم الواقع أو تسجيلها في دواوين العلماء
و (الذرة) بعد لا يكشفها إلا عالم أو مشتغل بعلم وصناعة؛ أما البقاع فيكشفها كل من شاء الرحلة من المغامرين، ويعني بها كل من قعد وراءهم من المتخلفين، ويشتغل بها من يراقب الجماهير ويدرس النفوس ويسجل أطوار الشعوب والأفراد. فهي لا تنعزل عن الحياة الاجتماعية ثم الحياة النفسية التي هي موضوع الروايات ومحور وصف الأبطال، وليست كذلك كشوف الكواكب أو كشوف الذرات
ولعل فيما تقدم توضيح ما التبس على الأستاذ (أديب) فهو غني عن المزيد من التوضيح
وقد كتب إلينا الأستاذ عبد الحميد العبادي يسأل عن كتاب الدكتور ويلكوكس وأسمه باللغة الإنجليزية، فذكرنا هذا الاسم في العدد الـ (236) من الرسالة، ووعدنا بالإجابة عما استوضحه الأستاذ من أثر الطريقة الزراعية الحديثة في أحوال العالم بأسره، وأنه ربما فاق في اتساعه وبعد مداه أثر الانقلاب الصناعي منذ قرن من الزمان
أما شرح الطريقة الزراعية العلمية التي تكفل لكل قطر من الأقطار أن يعيش على موارده الداخلية فليست الرسالة محله، ولسنا نحن أصحاب الاختصاص فيه
وأما الأثر الاجتماعي فيستطاع العلم به إذا عرفنا ما كان من أثر الانقلاب الصناعي في القرن الماضي، وعرفنا البواعث التي أفضت إلى ذلك الأثر ولا تزال تفضي إليه
إن الانقلاب الصناعي قد أحوج الدول إلى مستعمرات لجلب (الخامات) وبيع المصنوعات وتسخير الأيدي العاملة بأبخس الأجور
وإن الانقلاب الصناعي قد أخرج للأمم طبقات العمال وأثار بينهم وبين أصحاب الأموال ذلك الصراع الذي قوض ما قوض من دول، وأقام ما أقام من مذاهب في السياسة والدين والأخلاق
وإن الانقلاب الصناعي قد أذكى ضرام التنافس بين الحكومات، وأنشب ما أنشب من حروب وثورات
فكل هذا يتغير لا محالة إذا استغنت كل أمة عن الخامات واستغنت عن الأسواق(240/6)
كل هذا يتغير إذا نجحت طريقة المجددين في الزراعة العلمية واستطاعت الأمم أن تعيش على مواردها الداخلية كما يقول الدكتور ويلكوكس في كتابه الذي أشرنا إليه
كل هذا يتغير، ويتغير معه تقسيم المجتمع وتقسيم الثروة وتقسيم عناصر الحكومة وتقسيم عوامل السياسة وما يتبعها من أهبة الحرب وأهبة الفتح وأهبة (التحالف) من جهة، والتعادى والتباغض من جهة أخرى
لا خامات في الخارج فلا مستعمرات، ولا أسواق في الخارج فلا منافسات، ولا احتكار فلا تكديس للثروة ولا نزاع بين العاملين وأصحاب رؤوس الأموال، ولا تسليح من ثم ولا توجيه للمصانع إلى غير المفيد من صناعات العمار والإنشاء دون التدمير والتقويض. وإذا احتاجت الأمم إلى بعض الخامات أو بعض الأسواق، فإنما يكون ذلك في أمان واستقرار وتعاون واشتراك على النحو الذي يجري به البيع والشراء بين الأفراد، أو على النحو الذي يجري به التبادل بين جماعات التعاون ولا سيما في بلاد الشمال ونعني بها بلاد الدنمرك والسويد والنرويج
ذلك مجمل الدعوة التي يبشر بها المجددون في علم الزراعة والمشفقون على بني الإنسان من أهوال الحروب
والمذهب معقول في أصوله وفروعه. ولو أنه مشكوك في مقدماته أو في نتائجه لكان مع ذلك جديراً بالبحث والمتابعة والجد في تحقيق ما يستطاع من خيراته وحسناته، لأن متابعة الأحلام قد تجوز إذا عظمت الغاية وعظم الخطر المرهوب. وأي غاية أعظم من اتقاء الحروب؟ وأي خطر أعظم من خطر الفجائع التي تطبق على الشعوب المسوقة إلى تلك الحروب؟
إن متابعة الأحلام قد تجوز في هذا المقام، فكيف بالبحوث العلمية وكيف بالوقائع والأرقام؟
عباس محمود العقاد(240/7)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
خرجت من عند ليلى وقد انتصف الليل، فما كدت أبلغ الجادة حتى لمحت إنسانة تعدو خلفي في الدربونة فالتفت فإذا هي ظمياء
- دكتور، متى أرجع إليك؟
- حين تشائين يا ظمياء، ولكن ما الموجب لهذا الاستعجال؟
- هل نسيت البقية من قصة ليلى مع عبد الحسيب؟
- ما نسيت. ارجعي إليّ مساء الغد يا ضمياء، ومعك ماعون من الكُبّة الموصلية
لا موجب للنفاق في هذه المذكرات. إن ظمياء فيما يظهر تتشهى أن تتكلم في عبد الحسيب؛ وأنا فيما يبدو أتشهى الكلام عن درية؛ وأكرر ما كتبته من قبل: (إني لا أعرف كيف يلذعني هذا الاسم) وربما كان هذا من جنون الشعراء، فأنا شاعر مقل، ولكن الإقلال لا يمنع من التشرف بجنون الشعراء. ولعل الإقلال أدل على الجنون؛ وإلا فما كان الذي يمنع من أن أفجع العالم بعدة دواوين ليصبح شعري حديث الأدباء في سائر البلاد؟
درية! درية! ما أعذب هذا الاسم! وما أشقاني في (استلطاف) الأسماء!
رجعت إلى المنزل وأنا أتشوق إلى اقتيات النعاس، فقد كنت انتشيت في حديث ليلى، والمنتشون يتشوقون إلى الهجود؛ كذلك سمعت. ولكني صادفت ما أطار النوم من رأسي، فقد وجدت جريدة الشباب بين البريد وفيها هذه الكلمات:
(فجع الأدب والعلم ونكبت الأخلاق الكريمة بوفاة الأديب الكبير المحقق والكاتب العبقري المنقطع النظير المرحوم الأستاذ محمد صادق عنبر المنشئ الشهير واللغوي المعروف، فقوبل الخبر بحزن شديد، وألم عميق، لما أشتهر عن المرحوم من واسع العلم والإطلاع وصدق الوداد ومكارم الأخلاق)
وقد هدني هذا الخبر المزعج، ونشر أمام عيني كثيراً من الصور والأطياف، فتذكرت أني رأيت صادق عنبر أول مرة سنة 1923 في جريدة الأخبار، فسألني عمن أفضل من الشعراء فقلت: شوقي. فقال: أسألك عن الشعراء الثلاثة. فقلت: من هم؟ فقال: أبو تمام(240/8)
والبحتري والمتنبي. فقلت: أنا أفضل الشريف الرضي على هؤلاء الثلاثة. فاستغرب وقال: هذا كلام لم يقل به أحد سواك!
وتذكرت أني كنت أتلقى مجلة النهضة النسائية وأنا في باريس سنة 1927 وفيها رسائل وجدانية عنوانها: (الرسائل الضائعة) وهي رسائل نفيسة بقلم صادق عنبر، فلما لقيته بعد حين أثنيت عليها، فقال وهو يتوجع: ليتها كانت صحيحة، فهي خيالية! فقلت: ليتك تمضي في هذا النظام البديع!
وبعد رجوعي من باريس في سنة 1931 كان أول من سأل عني، فمررت عليه في قلم المطبوعات فحبسني ساعتين ليمتع أذنيّ برسائله: (رسائل الحب بين قيس وليلى) فقلت: أهي أيضاً رسائل خيالية؟ فتنهد وقال: لو كانت تنبئ عن وجد دفين لما كان جسمي أضخم جسم في هذه البلاد؟ فنصحته بتكلف العشق ليخف وزنه فيمسي وهو فتى رشيق؟
وتذكرت أني أردت مداعبته في جريدة البلاغ سنة 1935 فذهب إلى صديقي الأستاذ كامل كيلاني وقال له: قل للدكتور زكي مبارك: إن صادق عنبر لن يقرأ البلاغ ولن يعرف ماذا يقول؛ فليثق حضرته بأن الأرض لن تُزلزل تحت قدميّ، ولن يتقوض ماضي صادق عنبر لأن زكي مبارك يهجم عليه في جريدة البلاغ!
وتذكرت والدمع يملأ عيني أن الأستاذ محمد علي الطاهر أراد أن يحتفل بسفري إلى العراق فدعاني إلى الغداء عند العجاتي مع جماعة من أهل الأدب والعلم والبيان، كان فيهم الأستاذ صادق عنبر، ولكنه يومئذ لم يشترك في أطايب الحديث، فهل كان انتهى من دنياه؟
يرحمك الله يا صديقي، ويرحم عهدك في جريدة اللواء، يوم كان أكثر كتاب اليوم أطفالاً يلعبون!
الشجي يبعث الشجي!
هل أستطيع أن أنتهز هذه الفرصة فأدون في هذه المذكرات حادثة عجزت عن تدوينها منذ أشهر طوال؟ هل أستطيع أن أقول بصراحة إنني كنت من أشد الناس ارتياحاً إلى اصطخاب الجدل السياسي في مصر؟ لقد آن لقلبي أن يفصح عن بلائه المكنون. إن الجدل السياسي في مصر كان نعمة وارفة الظلال لأنه استطاع أن يشغل صديقي الأستاذ عباس الجمل عن أفدح نكبة أصيب بها في دنياه، وهي اختصار الغصن المطلول الذي أسمه(240/9)
طاهر عباس الجمل الطالب بكلية الحقوق
آن أن أصرح بأن هذا الأديب المفقود كان يحفظ ديواني، وأنه تفضل فأسمعنيه قبل أن يذهب إلى دمياط بيوم واحد. آن أن أصرح بأن هذا الشاب كان يراني أكرم أصدقاء أبيه، وكان يرى من البر أن يحفظ أشعاري ويقتني مؤلفاتي. آن أن أبكي هذا الشاب النبيل الذي كان أطهر ضحية ظفرت بها الأمواج
لقد حضرت الذكرى الأخيرة من ذكريات سعد زغلول وكان مجلسي في السرادق يواجه مجلس النقراشي باشا فلم أسلم عليه؛ وظن بعض الحاضرين أنني خشيت أن يكون في السلام عليه ما ينقض مودتي للنحاس باشا. فهل أستطيع أن أنص في هذه المذكرات على أنني لم أخف يومئذ إلا أن يقع بصري على الأستاذ عباس الجمل فأذكره بتلك المصيبة التي تذيب لفائف القلوب؟
كان طاهر الجمل لا يلقاني في الطريق إلا دعاني إلى رؤية منزلهم الجديد في مصر الجديدة، وكان يغريني فيقول: إن لونه كالشليك!
ولكني لم أطعه ولم أر المنزل. وما أظنني سأراه في بقية حياتي، لأن جزعي على طاهر خليق بأن يقتلني إذا رأيت ما كان يهواه في دنياه
أخي الأستاذ صادق عنبر
أرأيت كيف كانت مصيبتي فيك باباً من البلاء!
إن طاهراً في نضارته كان مثلك في ذكائك؛ وعبقرية النضارة لا تقل روعة عن عبقرية الذكاء. وأنت قد تجد من يحبر الرسائل الطوال في الثناء عليك، ويقيم لك حفلات التأبين؛ أما طاهر الجمل فيستصغر ناس قدره، لأنه كان طالباً بالسنة الثالثة بكلية الحقوق، فلم يبق إلا أن أقف وحدي لبكاء تلك الزهرة النضيرة التي اقتطفها الموت في شاطئ دمياط
وما يؤذيني وأنا أكتب هذه الكلمات إلا أن تحمل نسائم الهواء إلى الأستاذ عباس الجمل أنني فكرت في طاهر، فيتذكر أنني ما عزيته فيه، فيتجدد عتبه على صديقه القديم، أو يؤذيه أن يتذكر ابنه بعد تناس؟ ولكن كيف يتناساه بعد أن نعم بوجهه وروحه سنين وسنين، وأنا ما نسيته مع أن بصري لم يقع على وجهه الجميل غير مرات؟
يا طاهر!(240/10)
اذكرني عند ربك، وقل إن في سكان الأرض ناساً يحفظون الجميل!
وقضيت تلك الليلة وأنا مؤرق الجفون؛ وزاد في الغم والحزن أن الوهم خيل إليّ أن صادق عنبر قد يكون مات بسبب ليلى، مع أن ليلاه خيالية، فكيف يكون مصيري وليلاي امرأة رخيمة الصوت ساحرة العينين تقيم بشارع العباس بن الأحنف في بغداد؟!
وفكرت ثم فكرت، والشجون من جملة الأرزاق!
ولكن وقع حادث طريف خفف ذلك البلاء:
فقد صمم سعادة وكيل وزارة المعارف العراقية أن يزورني في منزلي ليؤدي واجب التحية لرجل هجر وطنه وأهله ليتشرف بخدمة الأدب العربي في العراق؛ وكانت زيارته في الليل، فراعه أن يرى الظلام يغمر السلالم والدهاليز، فاستشاط غضباً وقال: كيف يجوز لصاحب هذا المنزل وهو عضو بمجلس النواب أن يهمل الإضاءة الواجبة، وهو يعلم أن من سكان منزله صاحب النثر الفني؟ سأعرف كيف أحاسب ذلك النائب وكيف أقهره على تعميم النور في دهاليز ذلك البيت؟
فقلت وأنا أتخوف العواقب: أنا مطمئن إلى هذا الظلام يا سعادة الأستاذ!
فقال: وأنا أخشى أن تشكونا إلى مجلة الرسالة أو جريدة البلاغ ولم يمض يومان حتى نفذ النائب المحترم ما أراد سعادة الوكيل؛ ولكن ظمياء استرابت بهذه الأنوار ورفضت دخول البيت!
- ماذا تخافين يا ظمياء؟
- أخاف الأقاويل والأراجيف
- من المفهوم أنك وصيفة ليلى، وأني طبيب ليلى
- هذا كلام لا يصدقه غير المطلعين على ما جرى في هذا الشأن من المخابرات بين الحكومة العراقية والحكومة المصرية
- والجمهور؟
- أترى الجمهور يصدق حقيقة أنك جئت لمداواة ليلى المريضة في العراق؟
- خبر أسود!
- خبر أسود، خبر أبيض، خبر بنفسجي، خبر عنابي، خبر برتقالي، خبر بني، خبر(240/11)
خمري، أنا لا أدخل هذا البيت في هذه الأنوار وكل سكانه يعرفون أنك رجل وحيد
- نعم، أنا رجل وحيد
- وحيد، أعني تعيش وحدك
- مفهوم، يا ألأم النساء في بغداد
- إيش لون؟
- لا شيء، أقول إنه لا موجب لهذا التخوف، فأنا طبيب ليلى وأنت وصيفة ليلى
- اسمع يا دكتور، أنا أثق بأمانتك، وليلى لم تنهني عن التودد إليك، ولكني لا أقبل أن أكون مضغة الألسنة في هذا الخان
- ومن الذي سيعرف مثلاً أنك ظمياء؟
- يجب أن تفهم أنك في بغداد!
- باسم الله الحفيظ!
- أسمع يا دكتور! يظهر أنك رجل طيب أكثر مما يجب. إن التعرض لأقوال الناس كالتعرض لأقوال الجرائد؛ وربما كان كلام الجرائد أسلم عاقبة من كلام الناس، لأنك تستطيع أن تكذب ما تنشر الجرائد من الباطل فتدفع ما تؤذيك به من بهتان؛ أما كلام الناس فلا سبيل إلى دفعه لأنه ينتقل من أذن إلى أذن ومن لسان إلى لسان، ثم لا تمضي غير أيام حتى يأكل لحمك المفترون، ويأثم بسببك الأبرياء
- وماذا أصنع يا ظمياء؟
- ارحل عن هذا البيت
- وكيف بعد أن تكلف صاحبه ما تكلف في تبديد الظلمات؟
- اختلق سبباً من الأسباب
- أختلق؟!
- الاختلاق مما يجوز في بعض الأحيان
وعندئذ تذكرت أن الأستاذ بهجة الأثري كان اقترح على صاحب البيت أن ينظم الحمام ولم يفعل؛ فطمأنْتُ ظمياء. ومضيت فقضيت معها السهرة في بيت أمها، وهو منزل صغير في درب ضيق لم أسأل عن أسمه، وهو درب يشبه ما يسمونه في مصر: شق الثعبان(240/12)
وفي صباح اليوم التالي قابلت حضرة النائب المحترم وذكرته باقتراح حضرة الأستاذ بهجة الأثري، فأراد أن يتحلل من الوعد فتكلفت الغضب وقلت في سخرية مصطنعة: كذلك تكون وعود النواب!!
ولم تمض غير ساعات حتى انتقلت إلى منزل آخر في شارع السموءل
ولكن كيف انتقلت بهذه السرعة في يوم واحد؟
ذلك أمر كان يعجز عنه السنهوري والزيات وعزام
والواقع أني رجل خطر جداً، فقد أمسيت أعرف بغداد كما أعرف باريس؛ ومعرفتي بهاتين المدينتين تساوي جهلي بمدينة القاهرة التي لا أعرف منها غير ثلاثة أحياء. أما الإسكندرية فلا أعرف منها غير الشاطئ الذي تعطره أنفاس الملاح في الصيف
ولكن لماذا اخترت شارع السموءل؟
لأنه شارع البنك وجميع سكانه من أهل المال، وأهل المال في الأغلب لا يعتدون على الأعراض، وإنما يعتدون على الجيوب. فالشرطة في مثل هذا الشارع لا تفكر في الفجرة وإنما تفكر في اللصوص، وكذلك تعودني ظمياء بلا تهيب، لأن المآثم في هذه الجادة قليلة الخطورة بالبال، وذلك كل ما أتمناه للسلامة من أهل الفضول
وقد عز عليّ أن يتطاول بنو إسرائيل على اسم السموءل فيسموا به شارع البنك؛ وكان السموءل على يهوديته عربياً سخي اليدين، فما كان ضرهم لو نطقوا أسمه على طريقتهم فقالوا (صمويل). ثم تذكرت أن السموءل كان أقدم من عبر عن ضمائر البنوك حين قال:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
فالبنك هو الذي ينكر ما تقول، ولا تستطيع أن تنكر ما يقول، فهو الفيصل في التصحيح والتزييف
ولعل انتقالي إلى شارع السموءل يدخل على طباعي بعض التعديل. ولعلني أكتسب شيئاً من أخلاق بني إسرائيل، فان الحب يبدد ما اجمع من المال. أليس من السفه أن أراني مسئولاً عن طوائف من البيوت تُسدل ستائرها على طوائف من الوجوه الصِّباح؟ وهل رأى الناس حالاً أغرب من حالي وأنا أنفق على بيت في النمسا منذ سبع سنين لأن فيه فتاة جميلة كانت ترافقني في السوربون؟(240/13)
أمري إلى الهوى!
تركت أول منزل سكنته في بغداد. ويا حسرة القلب على فراق ذلك المنزل الجميل! فقد كان صورة صحيحة للمنزل الذي كنت أسكن فيه حين كنت طالباً بالأزهر الشريف. كان صورة لربع يعقوب بالغورية، على أيامها السلام! وكانت جاراتي في ذلك الربع من الغيد الحسان، وكان فيهن اسرائيلية تأتمنني على كل شيء وتقول: الشيخ زكي مسلم ولكنه ابن حلال
وكنت حقاً ابن حلال. كنت مستقيماً أؤدي الفرائض وأقرأ الأوراد، وما تغير حالي إلا منذ استطعت أن أقول: بونجور مدموازيل! بونسوار مدام!
لم أفارق منزلي في شارع الرشيد بدون حسرة لاذعة، فقد أقمت فيه ثلاثة أشهر أنشأت فيها تسعمائة صفحة، واستقبلت فيه ظمياء تسع مرات، وهو يذكرني بمأواي القديم في ربع يعقوب الذي ألفت فيه كتاب الأخلاق عند الغزالي، واستقبلت فيه الشيخ الزنكلوني والشيخ عبد المطلب؛ ويذكرني بأول منزل سكنته في مصر الجديدة وهو الذي ألفت فيه كتاب التصوف الإسلامي، واستقبلت فيه الدكتور طه حسين والمسيو لالاند والمسيو ماسينيون؛ ويذكرني بغرفتي بشارع أراس في باريس، وهي الغرفة التي ألفت فيها كتاب النثر الفني، وسمعت فيها أنغام اللغة الفرنسية كما ينطقها بناتها، وكما يلحن بها الإنجليزيات والأسبانيات والنمسويات والألمانيات، ولا سيما الشقراء التي ما كانت تتكلم بغير الغناء:
هل الله عافٍ عن ذوب تسلَّفتْ ... أم الله إن لم يَعْفُ عنها يعيدها؟
أمري إلى الهوى!!
لقد انزعج صاحب المنزل حين رأى الحمالين من الأكراد ينقلون أثقالي، وبالغ في التلطف ليردني إلى المنزل. ولكن هيهات، فأنا طبيب أفسده الأدب والطبيب الفاسد لا يطاق
أنا أعرف أني خاصمت نائباً، ولكن يعزيني أن نواب العراق لا يلتفتون إلى المسائل الشخصية، فلن ينالني شر من هذا النائب على الإطلاق. وسأرجو الأستاذ معروف الرصافي أن يصلح ما بيني وبينه إن رأيت ما يوجب ذلك. . . وهل من الكثير أن أخرج على أصول الأدب والذوق في سبيل ظمياء؟ إن هذه الوصيفة تعرف جميع أسرار ليلى، وهي أيضاً ستحدثني عن درية. ويا لوعة القلب من طيف درية! فهل يتلطف الحظ فيمتعني(240/14)
بهوى امرأة تحمل هذا الاسم الجميل؟!
إن أحزاني لا تحملها الجبال، ولكن الله بعباده رؤوف رحيم؛ فهو يسوق إليّ موجبات الأبتسام، أنا الرجل الحزين الذي لم يعرف قلبه الفرح منذ سنين، وكيف أفرح وقد طلبني أبي يوم موته أكثر من خمسين مرة فلم أكد أصل إليه حتى بكته النائحات؟
انتظرت ظمياء في المنزل الجديد وأنا محزون، وأشهد أني مُكره على تأدية هذه الخدمة الوجدانية، فما أعرف كيف يصير حالي مع ليلى، ولعلها تُعافَى ويمرض الطبيب!
ودخلت ظمياء وهي تُرغي وتُزبد
- هل عرفت ما صنعت المرأة جميلة؟
- ماذا صنعت؟
- لقد مزقت قمصانك بعد أن غسلتها وكوتها
- عجيب! ولماذا؟
- لأنها قرأت في مجلة الرسالة أن أسمها جميلة، واسمها الحقيقي هو. . .
وعندئذ ضحكت ضحكة قوية كادت تمحو سطور الأحزان من القلب العميد
إن تلك المرأة لم تعرف إحساني إليها بتلك التسمية، فقد خلعت عليها اسماً أحبه أصدق الحب، ورحمتها من الاسم الذي كانت تحمله، لأنه يقربها من شيخ أبغضه أشد البغض، ويكفي أن يكون أسمها واسمه مبدوءين بحرف الحاء
تلك امرأة حمقاءّ! ولكني لن أنسى معروفها عندي، فقد كانت أول امرأة خدمتني في بغداد. ولو رآها الجاحظ لصاغ لها عقود الثناء
- ظمياء
- نعم يا مولاي
- لا أريد أن أسمع اسم هذه المرأة مرة ثانية، ولا أحب أن أراها بعد أن مزقت قمصاني
- وأنا أكره لسيدي الطبيب أن يتصل بهذه المرأة فقد بدأت تغتابه منذ يومين
- تغتابني؟ وما عساها أن تقول؟
- تقول إنك تحب ليلى
- أنا أحب ليلى؟ وهل جننت حتى أحب امرأة عليلة لا تملك من شواهد الحياة غير صوت(240/15)
بَغوم وطرف يشيع فيه التكسر والنعاس؟
- إيش لون؟
- ما أدري يا ضمياء
- الأفضل أن نعود إلى قصة عبد الحسيب
- أو قصة درية
- قصة عبد الحسيب
- قصة درية، قصة درية
- وهل تكره قصة عبد الحسيب؟
- قصي على حديث الأخوين: درية وعبد الحسيب
- وأخذت ليلى تقلب الجرائد بحضور السيدة نجلاء فرأت في السياسة الأسبوعية مقالة في رثاء أستاذ مستشرق أسمه بول كازانوفا كتبها أستاذ مستغرب أسمه طه حسين. وتدخل الشيخ دّعاس ليشرح المراد من الاستغراب والاستشراق
(للحديث بقايا)
زكي مبارك(240/16)
الأدب في العراق
كلمة تشخيصية أولى
للأديب السيد عبد الوهاب الأمين
- 1 -
الأدب بعد الحرب
دعي القرن العشرون قرن المدنية والنور؛ ولقد كانت مفاخر العصور السابقة من طراز آخر غير المدنية وغير النور، فمفهوم (المدنية) لا زال مقروناً بالحرب والدمار، ولا يزال النور مقصوراً على الماديات دون المعنويات. وقد قامت بعد الحرب العظمى هيجة صاخبة أيقظت جميع الشعوب، كان قوامها نهضة أدبية شاملة، لا تزال بقايا منها محتفظة بفعالية ظاهرة. وهانحن أولاء نرى في كل يوم دليلاً جدياً على هذه النهضة الأدبية الكبرى، فيما تستبق إليه المطابع العربية من نشر مؤلفات جديدة لشخصيات أدبية عالية من طراز لم تعهده البشرية قبل الحرب العظمى؛ فكان من الطبيعي أن يثار التسآل عن هذا الأدب وهذه النهضة الأدبية، وما محصولها وقوامها وجدواها؟ وهل الأدب لهو يزجي الإنسان به ساعات فراغه ليعتصم به من مفاسد الفراغ كما يقول الشاعر؟ أو هو ضرورة من ضرورات الحياة المدنية ودلالة على الحياة المعنوية المكتملة؟
إن كانت لهواً فالأدب كالحياة لهو لا مفر منه، وإن كان يفوقها بأنه لهو له جدواه ودلالته، وهي مقصورة الدلالة على أنها لا جدوى لها؛ وهو إحدى ضرورات الحياة الشاعرة المدركة ودلالاتها؛ وبغير فضيلتي الشعور والإدراك لا تبقى من معاني الحياة غير الناحية البهيمية التي يترفع البشر المدرك أن يقتصر عليها. والأدب - وهو وصف الحياة الصادق - مقرون بالحياة ومحمول عليها؛ فإن كانت حياة رفيعة فهناك أدب رفيع، وإن كانت منحطة فأدب منحط؛ وفي هذه الناحية يؤيدنا التاريخ تأييداً لا يستدعينا البرهان
ونعتصم بالتاريخ مرة أخرى فنراه يقول: (إن نهضة من النهضات في الشعوب العالمية لم تتم إلا بعد أن تقدمتها حركة أدبية). وقد سجل هذا التاريخ في صفحاته مجداً لفولتير ورسو كمجد نابليون وروبسبير؛ ولسنا نعني أن الأدب بصورة مجردة يتقدم ظهوره في نهضات(240/17)
الشعوب، بل المقصود أن تقدم ظهوره في مثل هذه الحالات إنما هو دليل قاطع على نهضة تلك الشعوب وإنذار وبلاغ بنهضة مقبلة على الفور، وما نريد أن نعني بالأدب غير البلاغ والإنذار
هل الأدب ضرورة؟
ليس من شك في أن الأدب ضرورة
وهو ضرورة لا تشبه غيرها من ضرورات الحياة الكبرى، لأنها ضرورة شديدة الشبه بالحياة نفسها كما تقدم، وذلك لأنها حياة أخرى من دون لحم ودم. أو هي الحياة نفسها مخلدة على الورق، وفي بطون الكتب. وليس المقام مقام تمجيد للأدب ومغالبته في الحياة، وإنما هو مقام تعريف بقدره ومكانته بوجه عام، وما دمنا نريد لحياتنا العامة تقدماً واضطراداً. فأحرى بنا أن نوجه أنظارنا لتعرف آثار هذه النهضة المقبلة وما يجب أن يسبقها من البعث الأدبي
نظرتنا إلى الأدب ونتائجها
لذلك ينبغي أن نغير نظرتنا إلى الأدب، تلك النظرة السطحية التي تعودنا منذ عشرات السنين أن ننظرها إلى المحصول الأدبي وإلى أشخاص الأدباء، سواء الأحياء منهم والأموات. يجب أن نفهم أن الأدب ليس تزجية الفراغ، أو سمر العاطل، أو منادمة الميسور، أو ما يدخل في أمثال هذه المعاني مما درجنا على اعتقاده، فالأدب كما يفهم غيرنا قوة فعالة في الحياة اليومية والحياة العامة بصرف النظر عن مفهومه ودلالته
إن هناك خطراً خلقياً عظيم الأثر سنتعرض له، إذا استمرت نظرتنا إلى الأدب على ما هي عليه الآن من السطحية وقلة الشأن من جهة، ومن الخطأ الشائع في مفهومه وإدراكه من جهة أخرى. فالأديب في نظر الأكثرين منا هو الشخص الذي يعيش على هامش الحياة ولا يقيم وزناً لخارجياتها ومادياتها، ولا يسأل عما يقول أو يفعل، ويكفي أن يوصف الإنسان (بالأديب) لكي يفهم السامع أنه أمام شخص غريب الأطوار يعيش في عالم لا علاقة له بالحاضر ولا يطلب منه الاستعداد للمستقبل. وكذلك يتلقى أكثرنا كتابات الأدباء وقصائد الشعراء على أنها أقرب ما تكون إلى الآثار والعاديات(240/18)
وقد كان لهاتين الحالتين نتيجتان أولاهما مادية والأخرى روحية، فالأولى أننا أصبحنا فقراء في أدبنا عالة على آداب غيرنا. فمنا من ينصرف إلى قراءة الأدب بإحدى اللغات الأجنبية إن كان يحسنها، والذين يجهلون تلك اللغات قد تعودوا القناعة بما تصدره مصر وسورية وبقية البلاد العربية من مطبوعات وكتب. والنتيجة الروحية هي هذه الحالة التي نوشك أن نحس بها جميعاً من القنوط من بعث أدبي لا نحس الحاجة إليه، ويقنعنا أن نكتفي بالتعيش على فيض مما تصدره جاراتنا العربيات من أدب يختص بهن، ولا يطمئن حاجاتنا الروحية أو يعبر تمام التعبير عن إحساسنا الفني
أدبنا كما ينبغي أن نفهمه
الأدب كما يفهمه هذا العصر لا ينحصر - كما يعتقد الكثيرون منا ممن اقتصرت ثقافتهم على نوع واحد من أنواعه - في القدرة على الأداء والتعبير الجميل، بل أصبح - بفضل الطباعة والصحافة - يضم إليه أشتاتاً أخرى من فنون لم تكن في العهد القديم تقرن به؛ وتطورت تسمياته فأصبحنا نسمع الآن (بأدب البحر) و (أدب الموسيقى) و (أدب الموقد) وما إلى ذلك من التسميات. وعهدنا نحن بالأدب أنه محصور في اللغة والبديع، والأمالي، والمقامات، وما إليها. ولكل من هذه الفنون - طبعاً - أصول ليس في مكنة الأديب أن يتعداها أو يغفل عنها؛ ومن هنا نتج الضيق فيما نسميه نحن أدباً ويسميه الغربيون عنا بينما هم يسمون الأدب باسم آخر
ولو أردنا أن نحصر مفهوم الأدب كما يذكره أيناه العصر الحاضر لما عجزنا عن ذلك فحسب، بل لكان عملنا - لو تم - ناقصاً في ذاته، بالغاً ما بلغ من كمال؛ ذلك لأن المفهوم عنه لن يقف عندما سوف نصل إلى تحديده وتعريفه، بل سيخلق وشيكاً غيره وغيره من فنون لا نستطيع منذ الآن أن نعطي فكرة عنها فنحن الآن مثلاً لا زلنا نعيش في أدب الترسل واجترار الكلام على الأصول القديمة؛ أما في العالم فقد حدثت بعد دورنا هذا آداب جديدة: كأدب المقالة، وأدب القصة، وأدب الرواية، وأدب الترجمة ولن يستطيع أي مفكر وأديب كبير أن يتنبأ عن أدب العصر المقبل: ما هو؟ وكيف سيكون؟ وماذا يفيد؟ وما أسلوبه؟
علم الأدب(240/19)
إننا نفهم الأدب الآن فهماً غريباً لا هو بسبيل فهم الأقدمين له، ولا هو على شاكلة ما يعنيه الغربيون ويصطلحون عليه؛ فقد كان شأنه في القديم عظيماً، وكان شخص الأديب عنصراً فعالاً في الحياة العامة. وحسبنا دلالة على مفهوم الأدب وفعاليته في تلك العصور ومقام الأديب في الحياة الاجتماعية أن الأقدمين كانوا يعزون الأدب فيسمونه (علماً) وهم يقصدون بالعلم ما نقصد العلم به الآن بهذه التسمية فيقولون (علم الأدب)! ويصفون الأديب بأنه عالم في علم الأدب
تطور مفهوم الأدب والصحافة
والأدب في العصر الحاضر له مفهوم تطور وترقي حتى زاد في علوه على ما كان له من المكانة في العصور القديمة، وأصبح شأنه في الحياة العامة أعمق وأخطر مما كان عليه في العصور التي سبقت المدنية الحديثة، وأصبح الإنسان لا يستطيع أن يتصور بلداً متمدناً من دون صحف وطباعة. وقد حاول أحد الكتاب أن يستمر في خياله عن مدنية كهذه، فانتهى به الأمر أن وكل نتائجها إلى الجنون. فقد أصبحت الصحافة سلاحاً وكانت في بداية أمرها لا تزيد على وسيلة بسيطة لزيادة المعلومات العامة ونشر الأخبار؛ وصارت (القصة) الفنية الأدبية وسيلة العالم في الدعوة إلى نظرية من نظرياته، والفيلسوف إلى نشر فلسفته، والسياسي إلى الدفاع والدعاوة عن سياسته، وغدا شخص الأديب متمتعاً بأكثر مما كان يتمتع به شخص الأمير من التجلة والاحترام والتقدير والمهابة في العصور السابقة
الأدب كما نفهمه نحن
أما ما نفهمه نحن عن الأدب فأنه ينحط إلى أقل من اللهو والمجانة، وبعض أساليب اللهو عندنا تستدعينا شيئاً من الجد والهمة في إحضارها والاستعداد لها، أما الأدب فلا نكاد نعتبره من الملاهي التي نجد في الحصول عليها، فان حصل من تلقاء نفسه فانه لا يكاد يعنينا إلا أن نكون نحن في حالة لهو، أو نتلقاه على أنه صنيعة لاه غير مسؤول عما يقول، في ساعة لهو خالية من خير أو من جد أو من منفعة. وهذا نهاية ما يصل إليه سوء فهم الأدب، وسوء تأويله، وخطر حالة مثل هذه لا يقتصر على تشويه جمال الأدب نفسه، بل يتعدى ذلك إلى خلق شعور العجز والمحاكاة والتقليد الأعمى كما نرى جماع ذلك في حياتنا(240/20)
الأدبية الحاضرة
لقد آن لنا أن ندرك حظ الأدب ومغالبته في الحياة العامة وتأثيره في إعداد الأجيال المقبلة الأعداد الذي يتفق مع ما سيحتاجون إليه من كفاءة وقدرة. ونحن مسؤولون أمام التاريخ عن إهمال الناحية الأدبية والفنية في حياتنا، كأفراد، كأمة، وكحكومة. وما دمنا نسعى إلى النهوض في جميع مناحي حياتنا العامة فأحرى بنا أن نضع نصب أعيننا ضرورة اعتبار الأدب بوجه عام من أهم ما ينبغي السعي على إحيائه والعمل على النهوض به. ولن يستدعينا العمل لهذه الغاية ما يستدعي الحياة المادية من تضحية في النفوس والأموال والكفاءات والجهود، بل كل ما نحتاجه في هذا المضمار هو تحسين نظرتنا إلى الأدب ومعناه وأثره واعتباره من الضرورات التي ينبغي أن نوحد الجهود في سبيل العناية بها في غمار ما نحن آخذون بسبيل السعي إليه من نواحي الحياة الأخرى، والكف عن اعتباره ألهية لا تستحق عنايتنا إلا بعد الإجهاد والنصب كما نتناول ألهيات الحياة وتفاهاتها. ولا نطمع في أن يصل تقديرنا هذا للأدب إلى أكثر مما وصل إليه فعلاً في أيام المتنبي وأبي نواس ومن عداهما وإن كان يحق لنا أن نحذو حذو أوربا والغرب في هذا المضمار وأن يكون تقديرنا له كتقديرهم له سواء بسواء
(للحديث بقية - بغداد)
عبد الوهاب الأمين(240/21)
من برجنا العاجي
التجارب هي إحدى وسائل (العلم)، لعل ساعة (التجربة) هي أمتع لحظات (العالِم) خطر لي مرة أن أقوم بتجربة غريبة ممتعة: أن أضع امرأة فاتنة بين إخواني الأدباء الأفاضل: العقاد وطه والمازني وأحمد أمين والزيات والبشري؛ ثم أنظر بعد ذلك ما يكون. إني على ثقة أنهم لن يناموا ليلتهم قبل أن يسطر كل منهم على الورق أشياء قد تكون من أجل ما كتبوا. إن المرأة الجميلة في مجلس الأديب لها فعل السحر. تستطيع بغير عصا أن تخرج جواهر البيان من أفواه الأدباء؛ إنا لا نكاد نجد أدباً من الآداب العظيمة لم يرو لنا خبر المرأة في مجلس الأدب؛ فإذا راجعنا الأدب العربي القديم وجدنا ذكر الجواري اللواتي كالشموس، الضاربات بالعود، اللاعبات بالنرد، الراويات للشعر؛ وإذا نظرنا في آداب الغرب في كل عصر وجدنا أخبار (الصالونات) وما فيها من أقمار كلهن ذكاء وثقافة ودلال. نعم؛ وهل يمر يوم على أديب من أدباء الغرب لا يجلس فيه إلى مائدة تزينها باقات النساء الجميلات؟! فيلبث ساعة يتحدث إلى ملكين رقيقين عن يمينه ويساره يقطر الوحي من شفتيهما، ثم يعود إلى عزلته وكتبه وورقه ليمضي في إنتاجه الأدبي، وهذا الإنتاج الذي نراه بعد ذلك آية من آيات الإعجاز! أما نحن فلا عرب بلغنا ولا غرب، ولا شموس حولنا ولا أقمار؛ ولكننا أدباء كالعناكب ننسج في الظلام، ونعيش في الجدب والحرمان؛ ومع ذلك ننتج أحياناً، وهنا حقاً آية الإعجاز! إن أولئك الذين يتهمون أدبنا الحديث بالتقصير هم قوم ظالمون أو أغرار لا يبصرون. إن أدباءنا المعاصرين لجبابرة مستبسلون، ومجاهدون مستشهدون، لم يعرف مثلهم أدب من الآداب. فما من أدب في التاريخ استطاع أن يظهر في ظروف اجتمعت على خنقه كهذه الظروف. اللهم إنَّا شهداء! اللهم إنّا شهداء!
توفيق الحكيم
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان(240/22)
- 23 -
الرافعي والعقاد
لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات. وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أولَ ما يتناول، فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال؛ وإنما هو تاريخ إنسان له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به؛ فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسئ فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت، ولا به رضيت؛ ولكنها أمانة أحملها كارهاً، وأضطلع بعبئها مضطراً، لأؤديها إلى أهلها كما تأدت إليّ. وإني لأعلم أني بم اكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع؛ ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد؛ ولا عليّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان؛ فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطةً كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض عليّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلاً إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى هوى يسعى إليه - إن كان أحد يريد ذلك فلْيمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمْت، فلتفترق بنا الطريق أو تلتق على سواء، فليس هذا أو ذاك بما نعى من المضيَّ في سبيلي. ومن الله التوفيق!
وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي، ومعركة جديدة من معاركه. وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناءُ ثم مسحت على قلبيهما الأيامُ فتصافيا، فإنه ليُذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر. والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس؛ فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوةٌ في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخاً لا تجتازه الأرواح إلى أُخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية. فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته؛ فما تخلص ضوضاءُ الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم(240/23)
هنا رجل من الأحياء، وهناك رجل في التاريخ، وشتان بين هنا وهناك؛ فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماض بعيد. والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان، فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضيَ البغضاء، وهذا عذيرى فيما أذكر من الحديث. . .
لم يكن بين الرافعي والعقاد قبل إصدار الطبعة الملكية من إعجاز القرآن غير الصفاء والود؛ فلما صدر هذا الكتاب في طبعته الجديدة أحدث بينهما شيئاً كان هو أول الخصام. . .
حدثني الرافعي قال: (سعيت لدار المقتطف لأمر، فوافقت العقاد هناك، ولكنه لقيني بوجه غير الذي كان يلقاني به، فاعتذرت من ذلك إلى نفسي بما ألهمتني نفسي، وجلسنا نتحدث. وسألته الرأي في إعجاز القرآن، فكأنما ألقيت حجراً في ماء آسن. . . . . . ومضى يتحدث في حماسة وغضب وانفعال، كأن ثأراً بينه وبين إعجاز القرآن. ولو كان طعنه وتجريحه في الكتاب نفسه لهان عليّ، ولكن حديثه عن الكتاب جره إلى حديث آخر عن القرآن نفسه وعن إعجاز وإيمانه بهذا الإعجاز. . . . . . أَصدقك القولَ يا بني: لقد ثارتْ نفسي ساعتئذٍ ثورة عنيفة، فكدت أفعل شيئاً. إن القرآن لأكرم وأعز. . . ولكني آثرت الأناة. . .)
قال الرافعي: (وأخذت أناقشه الرأي وأبادله الحوار في هدوء وإن في صدري لمَرجلاً يتلهب؛ إذ كنت أخادع نفسي فأزعم لها أنه لم يتخذ لنفسه هذا الأسلوب في الهجوم على فكرة إعجاز القرآن إلا لأنه حريص على أن يعرف ما لا يعرف، وعلى أن يقتنع بما لم يكن مقتنعاً به؛ فأخذت معه في الحديث على هدوئي وثورة أعصابه. . . ولم أفهم إلا من بعدُ ما كان يدعوه إلى ما ذهب إليه. . .)
قال: (لقد كان العقاد كاتباً من أكبر كتاب الوفد، ينافح عنه ويدعو إليه بقلمه ولسانه عشر سنين، وإنه ليرى له عند (سعد) منزلة لا يراها لكاتب من الكتاب، أو أديب من الأدباء، وإن له على سعد حقاً؛ ولكن سعداً مع كل ذلك لم يكتب له عن كتاب من كتبه: (كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم) وكتبها للرافعي وليس له عليه حق مما عليه للعقاد. . .)(240/24)
قال الرافعي: (. . . من هنا يا بني كانت ثورته. كانت ثورة الغيرة. . . لا ثورة الأديب الناقد الذي لم يقنع بما كتب الكتاب عن إعجاز القرآن فهو يلتمس المعرفة والاقتناع. وعرْفتُ ذلك من بعدُ، فما بدا عليّ ما في نفسي من الانفعال، ومضيت معه في الحديث في وجه جديد. قلت: أنت تجحد فضل كتابي فهل تراك أحسن رأياً من سعد؟)
قال الرافعي: (وفهم ما أعنيه فقال: وما سعد؟ وما رأي سعد؟)
قال الرافعي: (وطويت الورقة التي كان يكتب فيها حديثه فقبضت عليها يدي ثم قلت: أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد لقرائك وإنك لتأكل الخبز في مدح سعد والتعلق بذكراه. . .؟ قال: فاكتب إليّ هذا السؤال في صحيفة من الصحف تقرأ جوابي كما عرفته الآن. . .!)
قال الرافعي: (وابتسمت لقوله ذاك وأجبته: يا سيدي، إن الرافعي ليس من الحماقة بحيث يسألك هذا السؤال في صحيفة من الصحف، فتنشر السؤال ولا ترد عليه، فيكون في سؤالي وفي صمتك تهمة لي، وتظل أنت عند قرائك حازماً أريباً بريئاً من التهمة مخلصاً لذكرى سعد!)
قال الرافعي: (وما قلتُ ذلك - وإن ورقته في يدي أشد عليها بأناملي - حتى تقبض وجهه، وتقلصت عضلاته، ثم قال في غيظ وحنق: ومع ذلك فما لك أنت ولسعد؟ إن سعداً لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب!)
قال الرافعي: (وما أطقت الصبر بعد هذه التهمة الشنيعة، ولا ملكت سلطاني على نفسي، فهممت به. . فدخل بيننا الأستاذ صروف، فدعا العقاد أن يغادر المكان ليحسم العراك ويفض الثورة!)
هذه رواية الرافعي، حدثني بها غير مرة في غير مجلس، كما تحدث بها إلى غيري من أصدقائه وخاصته؛ فما لي فيها إلا الرواية والتصرف في بعض الكلام تأدباً مع الأستاذ العقاد وكرامة لذكرى الرافعي
على السفود
وفرغ الرافعي من مقالات عبد الله عفيفي التي كان ينشرها بعنوان (على السَّفُّود)؛ ثم ذهب(240/25)
مرة لزيارة صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور، فسأله تتمة هذه السلسة في نقد الأستاذ عفيفي، فاعتذر الرافعي وقال: حسبي ما كتبت عنه وحسْبه. قال الأستاذ مظهر: فاكتب عن غيره من الشعراء. إن في هذه المقالات لمثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!
فتنبه الرافعي إلى شيء في نفسه، وجلس إلى مكتب في دار العصور فكتب مقاله الأول من كتاب على السفود؛ وتوالت مقالاته من بعد في أعداد المجلة متتابعة في كل شهر. فلما تمت هذه المقالات نشرها الأستاذ إسماعيل مظهر في كتاب قدم له بمقدمة بإمضائه يبين فيها ما دفعه إلى نشر هذا الكتاب الذي لم يكتب على غلافه اسم مؤلفه، ورمز إليه بكلمة (بقلم إمام من أئمة الأدب العربي)
وفي الأسبوع المقبل إن شاء الله حديثنا عن الكتاب ونهجه
(شبرا)
محمد سعيد العريان
مصر وفلسطين
لأستاذ جليل
سمع الناس في الخافقين منذ أشهر كلمة مصر الإسلامية العربية في (دار العصبة) في شأن فلسطين وذلك التقسيم المقطِّع الممزِّق، وتلوا في هذا اليوم كتاب رجال من (دار الندوة) ومجلس الشيوخ فيها إلى سفير الإنكليز، وفي الكتاب ما فيه. وهذه كلمة ذات زئير ونهيم قالتها مصر منذ قرون حين سأل الغرب مثل الذي يبغيه اليوم. وقد رواها (صبح الأعشى) من (التعريف بالمصطلح الشريف)، وإنها لتنادي مفصحة مبينة على أن مصر هي مصر في كل وقت، وأنها لن تنام عن مظاهرة أخ في الدين أو العربية مستطاعة. وفي رواية (التعريف) ألفاظ عامية لا تنحط بها قيمها بل تغليها؛ وإن كثيراً من الباحثين اليوم ليهتمون بالوقوف على مثلها. وهذه هي الطرفة التاريخية:
(قال في (التعريف): أما الرِّيد فَرَنسي فلم يرد له إلا رسول واحد أبرق وأرعد، وجاء يطلب بيت المقدس على أنه يفتح له ساحل قيسارية أو عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة(240/26)
مع ولاته، والبلاد مناصفة ومساجد المسلمين قائمة، وإدارات قومتها دارّة، على أنه يبذل مائتي ألف دينار تعجل وتحمل في (كل) سنة، نظير دخل (نصف) البلاد التي يتسلمها على معدل ثلاث سنين، ويطرف في كل سنة بغرائب التحف والهدايا. وحسّن هذا كُتّاب. . . . . . كانوا صاروا رءوساً في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد وإن سرى في البدن هذا السم وتطلب له الدرياق فعز
وقالوا: هذا مال جليل معجل؛ ثم ماذا عسى أن يكون منهم وهم نقطة في بحر، وحصاة في دهناء؟
قال: وبلغ هذا أبي رحمه الله فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر عليه، ولو لاوئ السلطان على رأيه أن أصغي إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلم، ولو خضبت ثيابنا بالدم، وأرسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الأستعداد، فلما بكرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، حضرت الرسل وكان بعض أولئك الكتبة حاضراً، فاستعد لأن يتكلم، وكذلك استعدينا نحن: فما استتم كلامهم حتى غضب السلطان وحمى غضبه، وكاد يتضرم عليهم حطبه، ويتعجل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاء بما بلغه السلطان مما رده بخيبته، فصد ذلك الشيطان وكفى الله المؤمنين القتال، وردت على راميها النضال؛ وكان الذي قاله السلطان: وَالْكم أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكانوا جماعة أكراد ملفقة مجمعة، وما كان بعد هؤلاء الترك، وما كان يشغلنا عنكم إلا قتال التتر، ونحن اليوم بحمد الله تعالى صلح (نحن وإياهم) من جنس واحد ما يتخلى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلا الابتداء؛ فأما الآن فتحصلوا وتعالوا وإن لم تجوا فنحن نجيكم لو أننا نخوض البحر بالخيل؛ وَالْكم صارت لكم ألسنة تذكرون بها القدس؛ والله ما ينال أحد منكم منه ترابة إلا ما تسفيه الرياح عليه وهو مصلوب! وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردهم أقبح رد، ولم يقرأ لهم كتاباً ولا رد عليهم سوى هذا جواباً)
(الإسكندرية)
(* * *)(240/27)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ليست الجماعة مجرد علاقات، ولكنها في كل منا، ثم هي
ترتفع في أعظمنا إلى الدرجة القصوى)
(ماك إيفر)
(لو قد نشأ الفرد على المرونة والتجديد: لما استطاعت يد
الرجعية الآثمة أن تعوق سير الحضارة، وأن تعبث بجلال
الإنسانية)
(* * *)
(أليس في الطبيعة فرد مطلق غير الله تعالى، وما الفرد من
بني الإنسان إلا جزء من والديه ومن خلية الحياة الأولى بل
ومن الإنسانية ماضيها وحاضرها)
(برجسن) (وغيره)
الجماعة والفرد
رأيت فيما سبق بعض تطبيقات الديمقراطية، على الثقافة والمنهج، والمعلم والطالب، والمدرسة وطريقة التدريس، احب اليوم أن أكمل الناقص في ذلك، وأوضح الغامض، ولا سيما من ناحية الجماعة والفرد وما ينبغي أن يكون بينهما من علاقة ديمقراطية صحيحة تغرسها التربية الحديثة وتنميها
ما الجماعة وكيف نشأت؟ اختلف العلماء في ذلك وتباينوا؛ ومن اشهر نظرياتهم في ذلك دعوى (العقد الاجتماعي) التي قال بها (روسو) ومهما يكن من شيء فالجماعة الحق يسود(240/29)
فيها التبادل كما يقول (نوفيكو)، كما أنها ليست مجرد علاقات أفراد بعضهم ببعض، ولكنها روح دافع غلاب في كل فرد كما يقول (ماك إيفر)، وها هو (هوبهوس) يقول إن الجماعة توجد في أفرادها، إن كل فرد فيها مركز اتصال، وإن هذا الاتصال يتوقف قوة وضعفاً على الفرد نفسه ويؤثر فيه، وإن الأفراد إنما يتحسن شأنهم ويرتقى باتصالهم بغيرهم
وقد يبدو للبعض أن الرجعية والبطء في التطور والتجديد طبيعة في الجماعة ثابتة، ولكن الراجح أن التربية العميقة هي المسئولة عن ذلك كله. ولذلك نرى التربية الديمقراطية تدعو إلى سعة الصدر وحرية الفكر ومرونة العادات، وتصرح قائلة على لسان (جون ستيوات مل): (ويل للزمن الذي لا يجرؤ على الشذوذ فيه إلا الأقلون)!
أما الفرد فهو أنت وأنا أيها القارئ العزيز! وكم أحُتقر وازدري في الدهورالغابرة، وحُرم حرية الفكر والحركة والحياة، وكم اعتز بشخصيته، وعلا وتكبر، واعتبر نفسه مقياساً للأشياء جميعاً من حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح - في عهد السفسطائيين؛ ولو شئت الحقيقة في أمر هذا الفرد لعرفت أنه لا يستطيع أن يكون (مطلقاُ) بحال من الأحوال! وهل من مطلق في الطبيعة غير الله؟ سر إلى الصحراء إذا شئت وعش هناك وحيداً إذا استطعت، فلن تجد (الجماعة) إلا محيطة بك عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك ومن قدامك، ألم ترث عنها ما قد ورثت عن آبائك وآجدادك؟ ألا تفكر بمنطقها؟ أو لا تهجس بلهجتها؟ ثم ألا تستفيد من تجاربها العملية في كل ما تتخذ من سلاح وغطاء ودثار؟
نحن إذاً مدينون للجماعة حاضرها وماضيها بكل شيء تقريباً وإذاً فلا أقل من أن نعطيها من أنفسنا بعض هذا الدين الذي لو عشنا دهوراً لما وفيناه؛ ولكن الجماعة مع ذلك مدينة لبعض الأفراد هي أيضاً؛ إلا يقول: (كارليل) ما تاريخ الإنسانية إلا تاريخ عظمائها؟ وإذا فلا أقل أيضاً من أن تحترم الجماعة الفرد وتشجعه على خدمتها، وتسمح له بإصلاح ما فيها من عيوب والسمو بها إلى مثله العليا. وإذ كان الجمال في الفن هو (كثرة) تسيطر عليها (وحدة) كما يرى الأستاذ (كوزن) في كتابه الفريد: (الخير والحق والجمال)، فإن (السير برسي نن) يرى أن تاريخ الإنسانية يتطور ويتقدم نحو (الفردية) المتزنة، وكلما قطع في تطوره شوطا كلما كانت الحياة أسمى وأهنأ وأرفع وأخصب
وإذا كان الأمر كذلك فماذا عسى أن تكون العلاقة الصالحة بين كل من الجماعة والفرد؟(240/30)
يقول هوبهوس (يجب أن تنمو الجماعة وحدة متناسقة فلا يتضخم فيها (فرد) ويصير مارداً على حساب الجميع)
ويقول الأستاذان (ديوي وتفت) إن مقياس كل نظام اجتماعي هو: (هل يجعل قدرة الفرد حرة في زيادة الخير العام؟ وهل يسمح بمساواة الجميع في فرصة إظهار الكفايات؟) بل إن (ديوي) ليقف عند كل نظام سياسي أو غير سياسي ليرى أي دوافع يثيرها؟ وأي أثر له على من ينفذونه؟ أهو يحرر القوى؟ وإلى أي حد؟ وللجميع أو للأقلية؟ وهل تسير القوى التي يحررها في طريق معقول؟ وإذا كان النظام نظام تعليم نراه يسأل (هل يرهف الحواس ويدرب العقول؟ وهل يثير حب المعرفة في النفوس؟ وما هو نوع (حب المعرفة) هذا؟ أهو عرضي يطفو أم جوهري يغوص؟)، وهكذا دواليك. . .
بقي أن نتساءل وما (المصير)؟ إلى ما هو أحسن كما يقول المتفائلون؟ الواقع أن الجماعة في تطور دائب مستمر وإن كنا لا نستطيع أن نعتبر كل تطور نجاحاً. وبعد الوقوف على آراء - هوبهوس - وديوي - وفاجيه - وشو - ويود - ومل - وبيري - في ذلك الموضوع نستطيع أن نقول: إن (النجاح في الجماعة ليس أتوماتيكياً بل يعتمد على الإرادة والقصد، وإن الهرم في الأمة يمكن أن يجتنب تماماً بمرونة العادات، وإن مذهب (إمكان التحسين) خير من التفاؤل البحت أو التشاؤم البحت، لأنه وحده يبعث على الأمل والرجاء، ويمنع الغرور واليأس، وإن (حرية الفكر) هي أهم عامل في التطور نحو (الأحسن) وخصوصاً إذا اقترنت بنية بريئة فاضلة ونفوس حازمة عاقلة، وإن (انحطاط) العهود التاريخية المظلمة ليس غير حقارات أفراد، وطوائف، وأحزاب، وجماعات، أكثر مما هو حقارات أمم وشعوب. وإذاً فتقدم الإنسان بيده لا بيد الطبيعة الصماء، وذلك طبعاً أفضل له وأشرف. وهاهو ذا تقدم العلم يقول لنا أن ليست هناك غاية موضوعة، ولكن هناك ما يمكن أو ما يجب أن يكون
ولكن تُرى من يدفع الجماعة إلى هذا (المصير)؟ وكيف السبيل إلى ذلك الدفع؟ يرى (أرسطو) أن ذلك هو واجب الحكومة وسبيله التربية، ولكن (ديوي) يخشى إشراف الحكومة لأنه يعتبرها أكثر جموداً وتلكؤاً من المجتمع، ولذلك نراه يعتمد على (الهيئات الحرة) أكثر مما يعتمد عليها؛ وهاهي ذي الحكومات كثيراً ما تخطئ في الخطط وتجني(240/31)
على الديموقراطية جناية نكراء، ألم تحول إيطاليا المدارس إلى ثكنات عسكرية يحرم فيها النشء من أشياء في الحياة كثيرة، ويساق سوقاً إلى نظام تعسفي مرذول فرضته سياسة خاصة قوامها الوطنية المتعصبة التي لا يضيرها احتراق بعض العالم ما دام في ذلك خير لها؟
وبعد فتلك هي الجماعة، وهذا هو الفرد كما تتصورهما الديمقراطية الحديثة، جماعة مرنة متجددة، وفرد حر خادم مطيع ثم تقدم يدفع بهما معاً نحو (الأحسن) قوامه الحرية والنية الفاضلة. . . ولما كانت التربية هي الوسيلة الوحيدة الفعالة الجديرة (بخلق) هذه الجماعة وذاك الفرد، فإنها يجب أن تكون بحيث تستطيع خلقهما خلقاً صحيحاً يقي الإنسانية آفات الرجعية والجمود، ويوفر عليها حقارات أولئك الذين يسودون صفحات التاريخ!. ومعنى هذا أن تكون المدرسة مجتمعاً صغيراً تتوافر فيه جميع الأسباب التي تحرر العقول، وتطهر النفوس، وتغرس التعاون والإيثار، وتمهد للمجتمع الفاضل المنشود. . . ويتطلب ذلك بالطبع اتباع طريقة في التدريس خاصة، والعناية بدراسة معينة، أو معاملة الطلبة على أساس ديموقراطي مرسوم؛ ولست تطمع من غير شك في أن أمر معك بكل التفاصيل. حسبك أن تعلم أن رياضة الغلبة والتعصب والأنانية والتنافس، لا تؤدي بنا إلى شيء من هذا كله، وأن حشو العقول لا يحررها ولكنه يشلها ويبلدها، وأن الاهتمام بالحروب والاطناب في سير أبطالها يبرر ما فيها من نهب وسفك وهدم وتدمير لدى الناشئ الساذج البريء، وأن الدروس الإلقائية التي لا تطبيق فيها ولا تعاون لا تعمل أكثر من تكوين أفراد (لأنفسهم) قبل أن يكونوا لغيرهم، وان إعطاء كل شيء للطالب وتوفير مجهود البحث والاطلاع عليه يجعله اتكاليّاً عديم الثقة بنفسه والاعتماد عليها.
وأن. . . وأن. . . وأن. . . مما قلت وما سأقول، وما تستطيع أن تدركه أنت دون ذكره أو الإشارة إليه! كل ذلك لا يخلق الجماعة الديموقراطية المرنة المتجددة، ولا يتمخض إلا عن عقول العصافير، وإلا عن نفوس يملكها الركرد والخمول، وعن طوائف العصبية والانخذال، ونزعات الرجعية والأنانية والشهوة والجمود. . . وها أنت ذا ترى العالم يمجد سياسة الحروب ويدعو إليها ويجد وا أسفاه من الشعوب جنوداً مثلهم الأعلى الإسكندر وهانيبال وقيصر ونابليون. . أفكان ذلك يتأتى لو درس الطفل تاريخ الإنسانية لا تاريخ(240/32)
الوحوش؟
وحسبي اليوم ذلك وإلى اللقاء حيث نرى لوناً آخر من الكلام
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بمدرسة شبرا الثانوية الأميرية(240/33)
المثل الأعلى للشاب المسلم
للأستاذ علي الطنطاوي
كلما أراد الشاعر الفرنسي الأشهر بول فاليري أن يحاضر بدأ بتعريف مدلول الكلمات التي يتألف منها عنوان المحاضرة. وهذه هي عادة أجدادنا، إذا أخذوا في الكلام على علم من العلوم أو بحث من المباحث، فليس عليَّ إذن من بأس إذا اتبعتها هذه الليلة، فبدأت محاضرتي بتعريف المثل الأعلى، والكلام على صفات الشباب الأساسية، وتلخيص القول في الإسلام. . .
إنه ليس فيكم أيها السادة من هو راض عن حالته، مطمئن إليها، وليس فيكم من لا يتصور حالة خيراً منها، فإن كان عالماً فكر فيمن هو أعلم منه، وإن كان غنياً تصور من هو أغنى. فإذا صار مثل من يتصوره من الأغنياء، أو يفكر فيه من العلماء، طمح إلى درجة أعلى، ومنزلة أسمى، لا يكاد يبلغها حتى يزهد فيها، ويطمع فيما وراءها. وإذا أنتم استعرضتم أعلم العلماء، واجمل الفتيات، وأبهى الرياض، وأبرع الصور، وأفخم البنى، لرأيتم الذهن البشري، يتخيل على أهون سبيل، عالماً أكبر، وفتاة أجمل، وروضة أبهى، وبنية أفخم، وصورة أبرع. . . ثم يبالغ في التخيل حتى يستقر على مرتبة، ويثبت في منزلة لا يرى فوقها منزلة، فتكون هي المثل الأعلى
فالمثل الأعلى إذن هو أسمى ما يتصوره العقل البشري. . والمُثُل تعدد بعدد الناس، فلكل مثله الأعلى في الحياة، وعدد الأشياء فلكل شيء صورته الكاملة، ولكنها تجتمع كلها على افتراقها، وتتحد على تعددها، في أشياء ثلاثة نبه إليها أفلاطون واخذ بها الناس في كل عصر ومصر، وأجمعوا على إجلالها، واتخاذها مثلهم العليا، وغاياتهم السامية؛ وهنّ: الحق والخير والجمال
هذا هو المثل الأعلى. أما الشباب، وهل أحتاج إلى تعريف الشباب؟
الشباب الحياة، والحياة الشباب، (روائح الجنة في الشباب)
خَلَقُ العيش في المشيب ولو كا ... ن نظيراً وفي الشباب جديده
الشباب يا سادتي الواحة الفريدة في صحراء الحياة، هو الربيع في سنة العمر، هو البسمة الوامضة على ثغر الزمان القاطب. الشباب في الأمة قلبها الخافق، وعيونها الناظرة،(240/34)
وأيديها العاملة
لست أعني هذا الشباب الغض الغريض، الحلو الناعم، الذي يجرح خديه لمس النسيم، ويدمى بنانه مسّ الحرير، والذي يرق حتى يسيل من العيون نظرات ساحرة مغرية، ويدق حتى يستحيل إلى فكرة تطير كالفراشة بين أزهار الجمال في روضة الحب، أو نسمة معطرة تهب من حراش فتاة فتانة، أو قبلة فيها خمر وعسل تجمع لذائذ الدنيا في رشفة مسكرة. . . لست أعني هذا الشباب الفاتن المتأنث الذي يسبي القلوب، ويسلب النفوس، ويعيش الهوى والأحلام، ويبدأ تاريخ حياته بالحاء (ح) فلا يتلبث أن ينتهي بالباء (ب). . .
إنما أعني الشباب الحي العامل القوي المتين، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من العيش، ونظم نفسه حلقة في سلسلة شعبه، واتخذ له مطمحاً، ومثلاً عالياً، ثم عمل على بلوغه، وسعي إليه باندفاع الصواعق المنقضة، وقوة العواصف العاتية وثبات الطبيعة، وألقى في سفر حياته الراء بين الحاء والباء؛ وهل الحياة إلا حرب دائمة ونضال مستمر، فتنازع على البقاء، وتسابق إلى العلاء
لا يبقى غير الصالح، ولا يصلح غير القوي. . هذه هي الحقيقة الباهرة، هذا هو القانون المقدس الذي لا يلغيه برلمان، ولا يعبث به إنسان، ولا يخرج عليه إنس ولا جان ولا حيوان، لأنه من قوانين الله التي كتبها على صفحة الوجود يوم أخرجه من العدم، وقال له كن فكان
الجراد يأكل البعوض، والعصفور يفترس الجراد، والحية تصطاد العصافير، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يأكل القنفذ، والذئب يفترس الثعلب، والأسد يقتل الذئب، والإنسان يصطاد الأسد، والبعوض يميت الإنسان. . . هذه هي السلسلة الإلهية الخالدة لا تبديل لها ولا تغيير. إما أن تقتل الأسد، وإما أن يقتلك البعوض
فيا شباب! لا يغلبكم البعوض، ولكن اغلبوا الأسود!
الحق ثقيل، ولكن الحق أحق أن يقال. فأرجو إلا يغضب مَن ههنا من يحسبون أنفسهم شيوخاً إن خاطبت الشباب، وقلت إن المستقبل للشباب. ولكن من هم الشباب؟ يصف أندريه موروا الشباب بالرغبة الأكيدة في حياة العاطفة والحب، وحياة الحماسة والبطولة،(240/35)
أي بالمجون والاستهتار، والميل إلى الإصلاح، والإخلاص للمبدأ والزعيم، والاندماج والفناء في المجموع (في الجمعية أو الحزب أو الأمة) وبأنهم أدنى إلى المثل العليا، وبأن شعارهم الإقدام والتعجل والسرعة وبعض الأناة والانتظار. الشباب بهذه الصفات، ليس الشباب بورقة النفوس وسجل الميلاد؛ فكل من مات قلبه، وانطفأت شعلة حماسته، وضاعت مثله العليا، وأحس بأنه قد بلغ مأمله فلم يُعدْ له أمل، فهو شيخ ولو كان في العشرين من سنه. وكل من كان له قلب، وكانت له آمال ومطامح، وكل متحمس مندفع شاب ولو شاب!
فلا تغضبوا يا سادتي الكهول إذا قلت إن المستقبل للشباب ورفعت من شأن الشباب، فإن فيكم شاباً ولو ابيضت لحاهم ورءوسهم، وانحنت ظهورهم، وتجعدت جباههم. هم شباب العزائم والقلوب! وهؤلاء الخاملون من الشباب هم الشيوخ. لا تعجبوا يا سادتي، فلقد كان شوقي شيخاً في مطلع شبابه يوم كان شاعر الأمير، ثم عاد شوقي شاباً في كهولته يوم صار شاعر الآمال والآلام، شاعر العروبة والإسلام. . .
بقي عليّ تعريف الإسلام، ولكن من العبث يا سادتي أن أعرّف الإسلام، وأنا أحاضر قوماً هم بحمد الله مسلمون، ولا يكون مسلماً من لا يعرف ما هو الإسلام، ولا صلة له بعلومه، ولا اطلاع له على أحكامه، ولا وقوف له على أمره ونهيه، وعند أمره ونهيه. إن من العبث أن أقول لكم إن ديننا إيمان وعقائد، وإسلام وعبادات، وإحسان وأخلاق، وسياسية وشريعة، وأن له في كل جانب من جوانب الحياة مصباحاً يضيء، ومناراً يهدى، وإنه لا يفارق المسلم أبداً، ولا يدعه لحظة. إن كان وحده، منفرداً بنفسه كان معه الإسلام يأمره بأن يحاسب نفسه، ويتوب من ذنبه، ويتأمل في بديع صنع الله في نفسه وفي العالم، ويستدل بالصنعة على الصانع، وبالأثر على المؤثر. (وفي أنفسكم) أكبر الدلائل، وأقوى الحجج، (أفلا تبصرون. . .؟) أو لا يتفكر هؤلاء الجاحدون (اخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟). (أو لم يتفكروا في أنفسهم؟ ما خلق الله السموات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى)، (أفلا تتفكرون). وإن كان المسلم في المجتمع كان معه الإسلام، يبين له سبيل الحكمة، ويدله على صراط الأخلاق المستقيم، ويأمره بأن يحسن استعمال هذه القوى التي وهبها له الله، فلا يتبع بها ما ليس له به علم، (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع(240/36)
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ولكن يستعملها في سبيل العلم، العلم كله حتى الفلك والجيولوجيا وعلم الأجناس، هذه العلوم من آيات الله. ألم يأمر الله بهذه العلوم التي يمنعها بعض مشايخ العصر؟ قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، (إنما يخشى الله من عباده العلماء)
ينظم الإسلام العلاقة الاجتماعية خير تنظيم، ويبني الأمة أمتن بناء، يبدأ بإنشاء الأسرة فيجعل لها رأساً مسئولاً، له حق الطاعة لينتظم الأمر، وتتم المصلحة، وعليه واجب العدل والعمل، وجعل الرجل هو الرأس لطبيعة تكوينه وخلقته ونوع عمله وغايته (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وجعل على النساء واجباً، ولكنه أعطاهنّ حقاً مثله (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ورفع من شأن التربية، وجعل للمربين الأولين، للوالدين أرفع مقام، وجعل طاعتهما مقرونة بالتوحيد الذي هو رأس الدين وبيت قصيده ودعامة بيته. قال عزّ من قائل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) ووضع خير القواعد وأحكمها للزواج والطلاق والإرث، وينظم الإسلام أمور الأمة، ويقيمها على أساس من الفضيلة والعدل. (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) ويشرع لها القوانين الثابتة المحكمة في معاملاتها، والقواعد الأخلاقية السامية في علاقاتها الخاصة، ويدعو إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والدليل الواضح والبرهان القاطع، لا بالإرهاب ولا بالترغيب. (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) ودعا المخالفين إلى المحاجّة والمناظرة، وإقامة الأدلة (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) (أإله مع الله قل هاتوا برهانكم). وعاب الإسلام التقليد والجمود واتباع الآباء والأجداد، وإهمال العقل، ودفع الناس إلى التفكير، وإقامة البراهين العقلية والأدلة اليقينية، أي أنه دعا منذ (1400) سنة إلى الطريقة العلمية التي يفخر بها علماء اليوم ويظنونها من ابتكارهم وأثراً من آثار حضارتهم. قال تعالى يذم أهل الجمود وينعى عليهم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟)
إنكم تعرفون هذا كله أيها السادة لأنكم مسلمون، وإن من العيب أن ألقيه عليكم فما جئت لأعرف الإسلام، ولا أرد تعريفه. ولكن أحببت أن أوجه أبصاركم إلى مسألتين مهمتين:(240/37)
أما المسألة الأولى فهي أن ديناً يضع للعقل قواعد في التفكير، ويشرع للعلم طريق البحث، وينظم حياة الفرد وحياة الأسرة، ويكون هو القانون المدني والجزائي، والقانون الدولي، والأخلاق والفلسفة - إن ديناً هذا شأنه لا يصح أن يعدّ مع الأديان التي لا تتجاوز أحكامها عتبات معابدها، ولا يجوز أن نطلق عليه ما يطلقونه عليها من أحكام. فإذا قبلنا بمبدأ فصل الدين عن السياسة مثلاً وهو مبدأ محترم، فلا يصح أن نستنتج منه وجوب فصل الإسلام عن السياسة، لأن الإسلام ليس ديناً، ولكنه دين وسياسة. هل تستطيعون يا سادتي أن تحذفوا سورة براءة مثلاً من القرآن لأنها سياسة. .؟ وإن قبلنا مبدأ استقلال العلم عن الدين لأن الدين لا يستند إلى البحث العلمي ولا إلى العقل فلا يصح أن نسحب هذا الحكم على الإسلام لأن الإسلام ليس ديناً وسياسة فقط. ولكنه دين وسياسة ومنطق وعلم. . .
هذه يا سادتي حقيقة ظاهرة ظهور الشمس، ولكن أكثر شبابنا لا يرونها، خفيت عنهم، وغربت هذه الشمس من أفق تفكيرهم، فتخبطوا في ظلام ليل أليل، فلذلك ترونهم يأخذون كل ما يقوله الإفرنج عن دينهم فيطبقونه على الإسلام، على الاختلاف بينهما، والتباين بين طبيعتيهما. . .
ولعل من هذا الباب تسمية العلماء برجال الدين وإنها لتسمية باطلة فشت على ألسنة وعم بلاؤها ونسى المسلمون أنهم كلهم رجال الدين. دين الإسلام، دين المساواة والسمو والعمل، ليس فيه طبقات مميزات من طبقات، وليس أحد أحق به من أحد، وليس فيه جماعة هم وكلاء الله، يحلون ويحرمون، وهم أصحابه الأدنون وأهلوه الأقربون، وغيرهم الأبعدون، ولكن المسلمين كلهم (أبناء النبي وعترته والفارسيين والصينيين) وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. . . لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى والعلم والقيمة الشخصية: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). . . (يا فاطمة بنت محمد، لا أغنى عنك من الله شيئاً). .
فلا تقولوا للعلماء رجال الدين، ولا تحملوهم وحدهم واجبات الدين، فان رجال الدين هم كافة المسلمين. ليس عندنا إلا العلم والتقوى، فمن كان عالماً عظمناه وسألناه، ومن كان تقياً أجببناه وأجللناه، ومن أخطأ وحرف رددناه أو ردعناه كائناً من كان ذلك المخطئ وذلك الناقد. ليس الناقد بأقل من تلك العجوز، وليس المنقود بأجل من عمر!(240/38)
هذه المسألة الأولى. أما المسألة الثانية التي أحب أن أوجه إليها أنظاركم، فهي أن الدين على ما يفهمه العلماء من أهل أوربا هو الذي ينظم علاقة الإنسان بالله، وبما خلق الله من المخلوقات المغيبات وراء المادة وبالعالم الآخر، فلا علاقة له بالحياة السياسية ولا الأوضاع الاجتماعية، ولا بالقوانين والنظم، ولا يصح أن تبنى عليه الجامعة الوطنية. هذا ما يقرره العلماء الذين بحثوا في هذه الجامعة وطبيعتها وقيمتها، وفي مقدمتهم (رينان) في محاضرته المشهورة التي ألقاها في السربون سنة 1882. وهذا صحيح في الأديان ولكنه ليس بصحيح في الإسلام، لأن الإسلام ذاته وطنية، ورابطة اجتماعية معنوية، ليست قائمة على لغة ولا على أرض. ولكن على ما يسميه (أرنست رينان) بالإرادة المشتركة ويجعله أساس الرابطة الوطنية. فليس وطن المسلم مكة ولا المدينة ولا البلد الذي ولد فيه، ولكن وطن المسلم المبادئ الإسلامية، فحيثما وجدت هذه المبادئ وحيثما كان أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فثّم وطن المسلم. وعندي أن هذه الرابطة الإسلامية رابطة (إنما المؤمنون اخوة) معجزة من أعظم معجزات الإسلام لأنه أقر منذ أربعة عشر قرناً المبدأ الذي اهتدى إليه العقل البشري سنة 1882م وسار منذ أربعة عشر قرناً في الاتجاه الذي يسير فيه العالم اليوم. لقد سقط اليوم مبدأ القوميات الذي دعا إليه الرئيس ولسن بعد الحرب ونهضت المبادئ الفكرية الاقتصادية، فانقسم العالم كما ترون إلى جهات ثلاث: الديمقراطية والشيوعية والفاشية. وكما أن الشيوعي الفرنسي أخو الشيوعي الروسي ولو تناءت الديار وتباينت اللغات واختلفت الأجناس فكذلك المسلم أخو المسلم، أينما كان وكيفما كان. وكما أن الفاشيّ الإيطالي أقرب إلى الأسباني الفاشي من أخيه الأسباني الشيوعي فكذلك المسلم الهندي أقرب إلىّ من غير المسلم ولو كان عربياً هاشمياً قرشياً!
وليس هذا مجال البحث في الجامعة الإسلامية، وطريق تحقيقها، فإن لهذا البحث موطناً آخر وما أردت إلا لفت أنظاركم إلى هذه الناحية من الإسلام، لأقول بأن الشاب المسلم لا يستطيع أن يندمج في أي رابطة دولية تقوم على اخوّة غير الأخوة الإسلامية، ولا يقدر أن يدعو إلى أي رابطة قومية أو جنسية لأنه ليس من المسلمين من دعا بدعوة الجاهلية. . .
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(240/39)
نظر ونقد
شعراؤنا في موكب الزفاف
كان زفاف الفاروق حرسه الله بهجة غمرت جنبات مصر، وهزت شعور أبنائها على اختلاف طبقاتهم بالجذل والسرور، فنهضوا يتسابقون في إعلان جذلهم وسرورهم بشتى المظاهر والظواهر، فإذا مصر من ذلك في صورة رائعة من الواقع رجحت الخيال، وأصغرت ما لها من الأشباه والنظائر في التاريخ، وأزرت بما يمثله القصص الموضوع عن (الليالي الملاح) في ألوان الترف والنعيم، واشتمال الأنس والصفاء، ومهارة العقل فيما أبدع، وجمال الفن فيما نوّق؛ على أنه تنفرد في هذا كله بجلال الإخلاص، وصفاء الحب، وروعة التمجيد. وسيكون للتاريخ من ذلك صفحة وضاءة مشرقة، لم تكن له في الأيام الخالية، أخشى أن يطالعها الناس فيما بعد فيقولوا: إنها تلفيق الخيال، وصنيع الكذب، كما نقول نحن في ليالي ومحافل ألف ليلة وليلة وأشباهها من القصص المختلق
لقد شهد المصريون جميعاً ذلك اليوم، وامتلأت نفوسهم وقلوبهم بروعته
وجماله، واستطاع كل فرد وكل جماعة أن تعبر عن شعورها بذلك
أوضح تعبير وأجمله، فكان اليوم في كل مناحيه ومظاهره يوم
الشعراء؛ الشعر يبدو في مجاليه، والحسن يزهو في حواشيه. هو دنيا
تفيض بالجمال والجلال، وشمس تشع على الكون نور البهاء والرواء،
فأينما سرحت النظر وجدت حفزاً للشعور، وإرهافاً للإحساس، وتزكية
للعواطف؛ والشعراء كما نعلم أوفر الناس شعوراً، وأرهفهم إحساساً،
وأزكاهم عاطفة، تلك هي مواهبهم التي تميزهم عن سائر الناس،
وتطوّع لهم الصناعة الشعرية دون غيرهم، فكان لا بد أن تفيض
نفوسهم بما رأوا قوافيَ كلها الإحساس بالجمال والجلال، وأن يجري
شعرهم بما في نفوسهم أوزاناً صادقة منسجمة هي لحن الزمن الباقي(240/41)
على الزمن، ونغمات الأجيال المتعاقبة على كر الدهور
على هذا الاعتبار كان الشعر سجلاً خالداً لحوادث التاريخ، وعظائم الدهر، وروائع الأيام؛ وعلى هذا الاعتبار اندفع الشعراء قديماً يتحدثون عن زفاف المأمون إلى بوران، وهو زفاف له في التاريخ خبر مشهور، وهو يشبه زفاف الفاروق في كثير من الأفراح والمعالم؛ وعلى هذا الاعتبار أيضاً انتظرنا وانتظر الناس ما وراء شعرائنا في اليوم الحافل، والزفاف الذي لم يعهد مثله في عصر من العصور، وقلنا: لعلهم يتركون في ذلك للأجيال المقبلة صفحة قوية بروعة التصوير وإبداع المعاني، وجمال الأسلوب، وانسجام الخيال، وسلامة الذوق
ولقد قال شعراؤنا في يوم الزفاف ما وسعهم القول، ففاضت أنهار الصحف بكثير من الكلام المقفى المجنح الأشطار مقدماً بالتقاريظ والتزكية، وأقيمت حفلات متعددة (أراق) فيها الشعراء على (مناضد) الشعر ما أعدوا لذلك من كل (خريدة عصماء) رسم حدودها الخيال وياله من خيال. . . ونسق وشيها الذوق وإنه لذوق. . . وأبدع معانيها العقل وأي عقل. . . وقد سمعنا الجمهور يهتز لكل ذلك طرباً، ويصفق من العجب تصفيقاً عالياً مُدوياً أدمي الأكف، وصك المسامع، واضجر الأعصاب. ولو كان الحكم الأدبي ومقاييس الشعر هي على ما يرى الجمهور وتقدّر الصحافة لكان شعراؤنا على ذلك قد بلغوا الذروة التي لا تطاول، ولكان شعرهم آية الإبداع والاختراع، فمن حقه البقاء والخلود والإجلال والتقديس، ومن الواجب علينا أن نعتز به ونفاخر، وأن نكتبه في (القباطي) ونعلقه بأستار. . . بأستار ما لا أعرف!!
ولكن الحكم الأدبي في تقدير الفن والأدب إنما هو للذي يستطيع تعليل حكمه كما يقول العقاد. فإذا عجز عن الحكم استطاع أن يعلل عجزه بكلام سائغ في الأفهام، ولا يكون ذلك إلا ناقد ذو ثقافة أدبية واسعة، وطبيعة فنية موهوبة، ونظر مميز فاحص. فهو الذي يمكنه أن يميز الجوهر من الخزف، والدر من الصدف؛ وهذا التمييز هو المعول عليه في التقدير الحق، وهو الحكم الأدبي الصحيح الذي يرمقه المعنيون بدراسة التواريخ الأدبية للأمم والأفراد، ثم هو الذي سيبقى على الزمن على حين تطير الفواقع والقواقع، وتموت التقاريظ الأدبية الرخيصة، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وأنت(240/42)
أبقاك الله تعلم حق العلم أن حكم الناقد إنما يكون له هذا المقام من الإجلال والإكبار والتقديس والتقدير إذا ما تجرد من الهوى والميل، وتنكب التدليس والتمويه، وارتفع عن الارتباطات الشخصية وعلاقات الصداقة، وكان القصد فيه الحق للحق، والفن للفن والأنصاف مجرداً عن كل غاية ومأرب، فان الأمور الشخصية والميل مع الهوى شر ما منيت به أعمال الخير في كل عصر ومصر، وشر ما منى به النقد الأدبي في مصر على الخصوص، وشر ما منى به الأدب في جميع نواحيه على تقدير صحافتنا سددها الله إلى الرشد، فكان من وراء هذا أن ساء ظن الناس في أهل الأدب والنقد، وأصبح وجود الناقد الحر في اعتقادهم كوجود الغول والعنقاء والخل الوفي!
ولقد انتوينا أن نتناول شعر الزفاف بالنظر والنقد على ما يتفق وحرمة النقد البريء، وكرامة الفن المهذب، ومهمة (الرسالة) الشريفة. سنقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت. سننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، لا نخضع في ذلك إلا لوازع الضمير وسلطان الحق، ومعايير الفن. ويعلم الله لقد حفلنا لذلك ما وسع الجهد، فسبقنا إلى كل حفل، ونهضنا إلى كل جمع، واستمعنا وقرأنا كل ما قيل وما نشر حتى ما لا يستحق أن يسمع ولا أن يقرأ. ولعلنا بهذا العمل نكون قد سجلنا على صفحات الرسالة، وهي سجل الأدب الخالد، لوناً طريفاً من ألوان الأدب لا يخلقه إلا المناسبات الطيبة، والفرص السعيدة، وما أقلها في تاريخ الأمم، وما أندرها في حياة الأفراد
ولا أكتمك الحق إذا قلت لك إن شعراء الزفاف قد قصروا عن الشأو، وقعدوا دون الغاية، وخيبوا الأمل، وكان الأمل فيهم كبيراً، وخذلوا الشعر وكنا نرجو للشعر على أيديهم نصراً مبيناً!! الأمر الذي جعلنا نعتقد اعتقاداً صحيحاً أن الميدان قد خلا من بعد صاحب الشوقيات، وأن الشعر عند شعرائنا تلفيق وشعوذة وصناعة احتطاب على حد تعبير الرافعي يرحمه الله، فليس هناك إلا إحساس ضئيل أن دل على شيء فإنما يدل على أن في نفس صاحبه شاعرية كنبوة مسيلمة. . .
لقد كان يوم الزفاف حافلاً بمعالم الزينة والبهجة، يفيض كما قلنا بالجمال والجلال، والبهاء والرواء، فكان في كل منظر شعر، وفي كل مظهر سحر، وفي كل وضع فن، فلو فاز ذلك اليوم بشاعر كابن الرومي أو شوقي لربح الشعر والفن؛ ولكن كل هذا لم يكن له مع الأسف(240/43)
أدنى أثر في إحساس شعرائنا، فطاروا بخيالهم إلى عنان السماء، يصفون النجوم وجمالها، والأفلاك ومداراتها، وراحوا يُنطقون الطيور بالسجع، والعنادل بالتغريد، وقفزوا إلى الربُى قد غطاها الزهر والنور وما في مصر شبه رابية من ذلك! واهتموا كثيراً بداوود ومزماره، وعنوا جميعاً أن يُذكرونا بيوم الحشر والنشر، وكأنهم لم يعرفوا من سجايا المليك إلا الذهاب إلى المساجد وصباحة الوجه فوقفوا عند هذا الحد وما زادوا!! ثم هم قد جروا على طريقة لا تُرضى في الأسلوب الشعري. يريد بعضهم أن يقوي فيتعجرف، ويروق لبعضهم أن يلين فيسخف؛ أما الإحساس بما كان من بهجة الزفاف، وروعة الزينة، واشتمال الصفة، وفرح الشعب، وتزاحم المواكب، وعرض الجيش؛ وأما الملك يبادل شعبه على هذا كله حباً بحب، وعطفاً بعطف، كل هذا لا نجد له ذكراً في شعر الزفاف. فكأن غاية القول عندنا أن نترسم السابقين في إحساسهم وخيالهم وأسلوبهم، لا أن نقول كما نحس وعلى ما نرى وبما نسمع!!
إن شعر الزفاف في الواقع قد جاء فاقداً للخصائص المميزة، وهي لاشك كل شيء في الشعر خصوصاً شعر الوصف والمديح. فمن السهل جداً أن يحول ذلك الشعر إلى حفل آخر، ومن السهل جداً على شعرائنا أن يقصدوا به إلى أي موقف. فلو وقفوا مثلاً في يوم عيد الميلاد الملكي المقبل ينشدون شعرهم هذا للجمهور لصفق لهم الجمهور وقرظتهم الصحافة. أليس من الزوال كما يقول المعري أن يقف أحد أولئك الشعراء فيلقي مطولة في حفل حافل وكلها تمجيد لجلالة الملك وإشادة بأخلاقه وليس فيها ذكر للزفاف ولا أي خبر عنه؟! ومن يدري لعل ذلك الشاعر كان قد قال قصيدته هذه في عظيم من قبل، ولعله ينوي أن يقولها في عظيم من بعد! وقديماً دخل أحدهم على سلم الخاسر فوجده يعمل قصائد بعضها في رثاء أم جعفر وأم جعفر باقية، وبعضها في مدح رجال لم تعين أسماؤهم بعد! فقال: ما هذا يا سلم؟ قال: وما أصنع يا أخي وقد تحدث الحوادث فجأة فيطلب إلينا القول ولا يرضي منا إلا بالجيد!!
ولكن ما عذر شاعرنا وزفاف الفاروق لم يكن فجأة وإنما كان حديث الناس منذ زمن طويل يتسع لكل شيء
نحن لا نتجنى على الحق، ولا نحب أن نلقي الكلام على عواهنه، ولكن نحب أن نشرح(240/44)
ونعلل، وأن نقدم الأمثال والشواهد، ولذلك آثرنا أن نقف مع كل شاعر على حدة فنقرر ما له وما عليه، وموعدنا بذلك المقالات الآتية إن شاء الله
(م. ف. ع)(240/45)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 97 -
سأزينك بالرايات والأكاليل علامة غلبتك علي؛ فما كان في قوتي أن أدفع عن نفسي الهزيمة
لا ريب، فكبريائي قد عُصف بها، وحياتي تصدعت عن آلام مبرحّة، وقلبي الخاوي تفجر عن لحن موسيقى كأنه اليراع المثقب، وهذه الأحجار الصماء ستحور عبرات
لا ريب في أن أوراق زهرة اللوتس لن تظل متماسكة أبد الدهر؛ وأن رحيقها المكنون سيبدو في وقت مّا
ومن خلال السماء الزرقاء ستحدق عين فيّ ثم تناديني في صمت، فأنفض عني كل شيء. . . كل ما أملك. . . ثم أتقبل القضاء المحتوم عند قدميك
- 98 -
حين ألقي بالدفة من يميني ألقي بها لأنه يكون قد آن لك أن تديرها أنت، وسيتم كل ما تريد في لحظات، وعبثاً هذا الجهاد
إذن ألق السَّلم - يا قلبي - وأصبر في صمت على ما مُنيت به من إخفاق، وثق بأنه من حسن حظك أن تستقر هادئاً في مكانك. . . مكانك الذي حللت
إن مصابيحي تنطفئ عند كل هبة نسيم، وإني لأنسى ذلك حين أنطلق أضيئها
غير أني سأكون - في هذه المرة - حازماً، فأظل في غسق الظلماء، أنشر فراشي على الأرض؛ وإذا طاب لك هذا - يا سيدي - فتعال إليّ في صمت، واتخذ لك مجلساً بازائي
- 99 -
لقد اندفعت إلى أعماق بحر الأشباح عليِّ أجد الدرة الكاملة التي لا شكل لها(240/46)
لن أبحر - بعد - على قاربي المحطم من مرفأ إلى مرفأ؛ فما أطول الأيام حين أقضيها بين أمواج تتقاذفني!
والآن، فأنا أستشعر في نفسي الشوق إلى أن أغتمر في الخلود.
سأندفع إلى مجلس السمر، حيث اللجة ما لها من قرار، وحيث الموسيقى تتصاعد مختلطة في غير نغم. . . سأندفع إلى هناك وبين يديّ قيثار حياتي
سأوقع عليها ألحان الأبدية، وحين آتي على آخر لحن ألقي بها عند قدمي السكون
- 100 -
لقد أفنيت عمري أفتش عنك بأغانيّ. إنها هي التي قذفت بي من باب إلى باب، ومن خلال نبراتها لمست كل ما حولي، فانكشف أمام عينيّ العالم، فأحسست به
إنها أغانيّ هي التي علّمتني كل دروس الحياة، وهي التي كشفت لي عن مسالك غامضة، وحسرت لي عن كواكب تتألق في أفق قلبي
وهي قادتني إلى مفاوز في عالم من السرور والألم معاً؛ وأخيراً، ماذا عسى أن يكون باب هذا القصر الذي دفعتني هي إليه والليل ناشر أستاره، فوقفت بإزائه وقد تمت رحلتي؟
- 101 -
إنني أباهي صحابتي بمعرفتك، وهم يلمسون شعاعك في كل ما أعمل فيندفعون إليّ يسألون: (من عسى أن يكون؟) فما أدري بماذا أجيب. . . ثم أقول: (حقاً، إنني لا أستطيع قولاً) فيتهكمون عليّ بكلمات لذاعة ثم ينصرفون عني في ازدراء، وأنت جالس هناك تبسم
وصغتُ أحاديثي عنك في أناشيد يتدفق في ثناياها السر الدقيق من قلبي، فاندفعوا إليّ يسألون: (خبّرنا عن معاني حديثك) فما استطعت حديثاً. . . ثم قلت: (من عساه أن يعرف؟) فابتسموا في تهكم ثم انصرفوا عني في ازدراء جامح، وأنت جالس هناك تبسم
- 102 -
في تحية واحدة إليك - يا إلهي - دع كل حواسي تنطلق فتلمس هذا الكون عند قدميك
وكما تتعلق سحائب يوليه وقد أثقلتها القطرات المكفوفة، دع قلبي ينحن عند بابك في تحية واحدة إليك(240/47)
واجعل أغانيّ تنتظم كل الألحان المتضاربة في تيار واحد ثم تتدفق إلى خضم السكون لتكون تحية واحدة إليك
وكما ينطلق سرب من الكراكي وقد أهمته الغربة. . . كما ينطلق في دأب ونشاط - صباح مساء - ليبلغ أعشاشه على قنن الجبال، دع حياتي تتخذ طريقها إلى مستقرها الأبدي لتكون تحية واحدة إليك
(تمت)
كامل محمود حبيب(240/48)
من أدب العمد
بين ديكي وكلبي
للشيخ حسن عبد العزيز الدالي
ديكي العزيز!
بقروش فوق الستين اشتريتك يا ديكي العزيز، بعد بحث طويل عنك في الأسواق. وما أكثر الديكة من إخوانك أيها الديك، ولكن قليلاً منهم ما يشبهك. وأين من الديكة جمال ريشك، وطول عُرفك، وثقل وزنك، وخفة روحك؟ صفات ما اجتمعت قبلك في ديك. فأنت الذي كنت أبحث عنه في الأسواق بذاته وعينه وخصوصيته، حتى عثرت بك!
وعنيت بأمرك يا ديكي كل العناية؛ فأفردت لك جناحاً خاصاً تسرح فيه وتمرح، فتنفش ريشك الأخضر الجميل، وتخفق بجناحك الزاهي الممدود، وتدلي عرفك الأحمر الطويل، وتكركر بصوتك الموسيقي الصادح: كُر كُر كُرْ. . . . . . .
بيدي كنت أقدم إليك الطعام في الأطباق الصيني في وجبات منتظمة الميعاد، شهية المذاق، مغذية سائغة، استعداداً ليومك المعهود بعد ثلاثة أسابيع، يومَ تُزَفُّ في الصحفة الكبيرة، لتكون عشاء العروسين في ليلة الزفاف. أيّ شرف كنت أُعدّ لك أيها الديك؟ ولكن. . .
ليت شعري ماذا أصابك أيها الديك. . .؟ لقد كنت في زيارتك أمس بعد الغروب ورأيتك وأنت تقفز بخفتك ونشاطك إلى العريش الذي اتخذته لك بيتاً عندما يجن الظلام. . . ويلي منكم يا معشر الديكة! لا يفارقكم الزهو والخيلاء: ففي النهار كرٌّ وفرّ وعُجْبٌ وكبرياء، وفي الليل لا يرضيك أن يمس جنبيك التراب فتأبى إلا العلاء. . .؟ بَلَى، رأيتك أمس يا ديكي في خفتك ونشاطك، وعافيتك وصحتك، وحوصلتك مملوءة، وعرفك ريان؛ فماذا دهاك في الصباح يا ديك؟
يا أسفاه وقد غدوت عليك لأقدم إليك الفطور بيميني فإذا أنت جثة هامدة، ملقى على الأرض، معفر بالتراب، تحت السرير الذي ارتقيته أمس مزهواً أمام عيني!
لقد أحزنني مرآك يا ديك على هذه الحال، وبجوارك ذلك الكلب الصغير (بيتر) الذي أصفاك الود منذ حللت الدار!
ما بك من جرح أيها الديك يُظن أن صديقك الأمين قد أحدثه بك في ثورة طيش، وما بك(240/49)
رضٌ يحتمل أن يكون من جراء سقوطك من مرقدك في غفوة حلم؛ وهذا مكانك دافئ لا إمكان لأن ينالك فيه برد. . . إذن فماذا. . .؟
لابد من تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة. ليس في الأمر جريمة على ما أعتقد وأرى! أهي سكتة قلبية؟ أهي ذبحة صدرية؟ أهو تصلب في الشرايين. . . .؟ ليتني أعرف يا ديكي العزيز. . .!
يا للقدر! لقد كنا نأمل أن يكون تشريحك بين العروسين في ليلة الزفاف، فكيف يطاوعني قلبي أن أبدلك منهما مبضع الطبيب البيطري. . .!
هذا صديقك (بيتر) يهز ذيله في حيرة، وينكت الأرض برجليه في ألم، ويعوي من قلبه في صوت مبحوح. ماذا يريد يا ترى؟ أيطمع أن يرشدنا إلى القاتل وليس هناك جريمة؟ أم يريد أن يقوم هو بعملية التشريح وتمزيق اللحم بعد ما أصبح الديك لا يصلح للعروسين، أم. . . أم هو يبدي الحزن على صديقه الفقيد ويريد أن يحفر له قبره بيده. . .؟
من يدري أي سر يعتمل في صدر هذا الحيوان؟ لقد تركناه لحاله وما فهمنا قصده، واتجهنا إلى هذا الفقيد نفكر فيما نصنع به وأخيراً شيعناه بنظرة وداع، وعقدنا العزم على أن نجعله طعاماً لبيتر. ما أشد ظلم الإنسان للحيوان، حتى على الموت! لقد قطعنا فخذ الديك فنزعنا ما بها من ريش، ثم جعلناها وجبة الطعام لبيتر. . . ولكن. . . يا عجبا! إن بيتر يأبى أن يأكل من لحم صديقه الذي مات، على شهوته وجوعه. ها هو ذا يعمد إلى الريش المنزوع فيجمعه بفيه ثم يغطي به هذه الفخذ العارية. لقد قام الكلب بواجبه، فكفن صديقه في أثوابه وواراه التراب!
يا للوفاء! الكلب يأبى أن يأكل لحم صديقه ميتاً وإنه لا يعف عن طعام، والإنسان - ويلي على الإنسان! - والإنسان لا يتعفف أن يأكل لحم أخيه. . . إن في الكلاب لنُبلاً وشهامة. . .!
لله أنت يا بيتر، وفي ذمة الله يا ديكي!!
حسن عبد العزيز الدالي
عمدة كفر دميرة القديم(240/50)
معاودة الذكرى
تحفة من الشعر الغنائي الرائع
للشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين
عاوَدَ القلبَ حنينُهْ ... مَن على الشوق يعينُهْ
ويح قلبي من غرامٍ ... هاج بالذِّكرى كَمينُهْ
يا لخّفاقٍ إذا ما ... قَرَّ هزّته شُجونُهْ
واصلٌ مَن صَدّ عنه ... صائنٌ من لا يصونه
خانه الصبر ولولا الص ... دُّ ما كان يخونه
يا زمانا لم تكن إلاّ ... هُنَيهاتٍ سِنينه
كنتَ رَوضاً حالياً بالو ... صل قد رَفّت غصونه
حُلُمٌ إن يَمْحُه الده ... رُ ففي الذكرى تصونه
كلَّما مَنَّاه ظنٌّ ... عاد باليأس يقينه
آه لو تدرين ما بي ... ضاق بالقَيْد سَجينه
إنّها تدري ولكن ... لِصبا الغِيدِ فُتونه
أنتِ لي كلُّ شئوني ... ويلَ من أنتِ شُئونه
كان لي دمعٌ فمالي ... جَفَّ مِن دمعي مَعِيته
مَن لصَبٍ غَدَر الوا ... فِي به حتّى جفونه
سكن الليلُ فما للِ ... قلبِ يجفوه سُكونه
كلَّما ظَنَّ سُلُوّاً ... كَذبتْ فيهِ ظنونه
لا أذُودُ الحبَّ عن قل ... بي ولو شُقَّ وَتِينُه
كم فنونٍ ذاق في الح ... بِّ وللحُبِّ فُنونه
فليَذُق ما شاء منه ... ما رَعَى العهدَ أمينه
أيها اللائم دَعْهُ ... فَلهُ في الحبِّ دِينهُ
أحمد الزين(240/52)
الضياء
للأستاذ أمين نخله بك
هذه القصيدة أهديت يوم نظمت إلى (مدموازيل كلير) ومن المحزن كثيراً أن تكون (مدموازيل كلير) قد غرقت في - ضمير الفناء - في أرض فرنسا، على حين أن الأدب العربي يستقبل اليوم (الضياء) فيطرب لها ويتلألأ بها، وصاحبتها التي من أجلها ألفت قوافيها وجمعت لفظاتها غائبة عن الدنيا في عتمة عميقة
فلتكن هذه القصيدة، إذن، ألطف زهرة على ألطف تراب في أرياف (إيل دة فرانس) البعيدة. . . قال الأستاذ نخلة:
عاش لنا الصبحُ، ومات المساءْ ... في الصبح ألقاكِ، وألقي الضياءْ!
كأنّ لطف الله، سبحانه ... زحزح عند الصبح ذاك الغطاءْ
فالحمد لله على نعمةٍ ... تشمل حتى لون خيط الهواء!
إن الظلام المرتمي لّجة ... أعمق غوراً من ضمير الفناء. .
يبتلع الدنيا على رحبها ... ويمسح الحسن، ويطوي الرواء
لولا الضياء السمح ما اخضوضرت ... منابت العشب، ولا ازرقّ ماء!
في دورة الجدول حمدٌ له ... وفي الأفانين عليه الثناء
ما العيشُ، لولا الضوء، ما لونه!؟ ... ما نضرةُ الرغد، وصفوُ الهناء؟!
يا ضوءُ شعشعْ، أنت عيدُ الضحى ... عيدُ الشعاع الطلق، عيدُ الفضاء
يا ناسجَ السحبِ على نوله ... أحسنتَ، فاسحبْ ذيلها ما تشاء
يا كاسيَ السنبلِ من عسجدٍ ... اخلعْ على الكرمة هذا الكساء!
إن الدوالي، وعناقيدها ... سخيّةٌ، فاسكبْ لها عن سخاء
يا ضوءُ، يا أنس المغاني، ويا ... بشائر الخير ولمع الرجاء
لك الحبورُ الذهبيّ، الذي ... راح على الوادي صباحاً وجاء!
رُبَّ شعاعٍ منكَ شكّ الدجى ... فقام بالجرح، وفي الفجر ناء
خلِّ الدجى يبكي على ملكه ... مقطّب الوجه، حوالي السماء!
من مبلغي من معمعان الهوى ... دفقة ضوءٍ، لا يليه انطفاء(240/54)
أُغرقُ في النور حبيبي، وفي ... زواخر الوهج وسكب البهاء. .
أمين نخله(240/55)
رسالة العلم
ما بعد الطبيعة
الحياة
للسيد محمد حسن البقاعي
- 2 -
إن الإنسان ليتساءل فيقول: ما هو أساس الحياة؟ تُرى هل هو نمو الحسِّ وحركاته وألمه وعضويته؟ فهذه المسألة لا يمكن الجواب عليها إلا بالاستعانة بالعلم والفلسفة. على أن البحث في الحياة ليس إلا التفتيش عن الحي هل هو ناشئ عن مادة أو هل الحياة الموجودة في الجسد مًحصِّلةٌ لأمور مادية أم خاضعة لمبدأ روحي عقلي؟
ولعمري إن الغوص في بحث الحياة وسبر غورها ليتطلب البحث في النظريات التي وضعها الفلاسفة من القرون الأولى حتى عصرنا الحاضر. وهذه النظريات على نوعين:
(1) النظريات الآلية
(2) النظريات الحركية
أما خلاصة ما يقوله واضعو النظريات الآلية فهي: إنه من الممكن تعليل الحياة بالخواص الموجودة في كل نوع من أنواع المادة، أي يمكن تعليل الحياة بالحركة التي تصحب المادة. فقد قال (فاندال): (ليس تشكل نبات أو حيوان أو تبلور إلا حادثة ميكانيكية لا تختلف عن قضايا الميكانيك الاعتيادية إلا أن العناصر فيها بسيطة جزئية) على أن كيفية الحركة مركبة، فهي تعلل كل شيء بالمادة، مثال ذلك: تركيب الماء من ليس هو إلا تركيباً مادياً ويدعمون نظريتهم هذه بسلسلة من الأدلة الطبيعية
الدليل الأول: إننا نستطيع إرجاع كل شيء من مظاهر المادة إلى حركة، فالحرارة والنور يرجعان إلى اهتزاز وحركات فَلِمَ لا نعتبر الحياة مثلها ونرجعها إلى الحركات؟
الدليل الثاني: إن مبدأ (لا فوازيه المشهور، والمعروف بمبدأ حصانة المادة وبقاؤها لخير دليل على أن الأجساد الحية لا يوجد فيها شيء غير المواد الكيميائية التي تنتج بتحليلها تحليلاً كيميائياً، إذ أننا لو وَزنَا المواد الحاصلة بعد التحليل الكيميائي ووزنا الجسم المحلل(240/56)
قبل ذلك لوجدنا هناك تعادلاً
الدليل الثالث: كلنا يعلم أن التركيب الكيميائي يعطي مُركباتٍ ذات خواص لا توجد في العناصر المركبة، فتركيب كلور الصوديوم من الكلور والصوديوم يكسب المركب خواص مغايرة لخواص كل من عنصريه فَلِمَ لا تكون الحياة مركباً ناشئاً من مركبات مختلفة؟
الدليل الرابع: لقد سمحت لنا التجارب الحديثة بمشاهدة بعض المماثلات والمناسبات الغريبة بين بعض صور الموجودات الحية وبين صور بعض الأجسام البللورية؛ فمن هنا نرى أنه يمكن إيضاح الحياة ميكانيكياً مثلها
ولكن هذه الأدلة لم تسلم من الأعتراض؛ فقد اعترض عليهم بعض الفلاسفة فقالوا: (إن العلماء حتى اليوم لم يستطيعوا أن يركبوا الحياة) غير أن هذا الاعتراض يستند إلى أساس أو هي من بيت العنكبوت. وهذا الأساس ليس إلا تلك التجربة التي قام بها (باستور) وأثبت عدم إمكان التوالد العضوي. فإذا لم يوصلنا العلم حتى الآن إلى تركيب جسم حي فلا بد أننا في المستقبل نستطيع ذلك. على أن كلام باستور: (إن الحي لا يتولد إلا من الحي) لا يمكن أخذه كمبدأ أساسي ما دام العلم في ارتقاء وتقدم مستمرين، وها هو (ليبنيز يقول: إن كل شيء في العالم يحدث ميكانيكياً. ولكن يجب أن ترتقي إلى مبدأ أعلى، وهو المبدأ الميتافيزيكي ليتجلى لنا إيضاح الميكانيكية نفسها: على أن في الحياة نظاما واتساقا خاصا لا يمكن تعليله في الحياة الميكانيكية فقط؛ مع أننا لا ننكر أن كثيراً من الحوادث الحيوية يمكن تعليها بالحوادث الميكانيكية. فقد قال (كلود برنارد ليس تكوُّن الجسم الحيوي من مجموعات عناصر كيميائية هو كل ما نمتاز به، بل هو الحياة أي القوة الحيوية التي لا توجد في الكيمياء، كاتجاه أعضائنا كل منها إلى غاية كغاية القلب وغاية المعدة. . . فنحن في هذه النظرية في عالم الأفتراض؛ لذلك نقول: إن كلاٍّ من هاتين النظريتين: الميكانيكية والديناميكية تستطيع دحض الأخرى وتقويضها
ولقد اعترض (هنري برغسون على نظرية الميكانيكية فقال: الحياة كلها إبداعُ فهي مبدعة: أي أن تيار الحياة يأتي دائماً بالجديد. فالحوادث الحيوية فيها عدم تنبؤ ولا يمكننا أن نتنبأ بأن الأحفاد فيهم صفات الأجداد، وهذا ما يدعونا إلى عدم إيضاح الحياة(240/57)
وزيادة على ذلك فإن الحوادث الحيوية الموجودة في الجنين لا يمكن إيضاحها بصورة ميكانيكية: فنرى أن الشبكة العينية عند ذوات الفقرات ناشئة عن اتساع القسم الدماغي في الرشيم الحديث بينما هي عند النواعم مشتقة من الأدَمة أي من الخارج بصورة مباشرة لا بواسطة الدماغ. ومن هنا نرى أن العضو الواحد في حيوانات مختلفة لا يتشكل من نفس العنصر. والسبب في ذلك لا يمكن تعليله بالعناصر الميكانيكية في الرشيم ولا بشروط الإقليم والبيئة الموجودة فيها الرشيم. فتجدنا مضطرين إلى افتراض مبدأ مسيطر أي غاية واتجاه. وإذا اعترضنا على الميكانيكية والحركية هل نصل إلى شاطئ الصواب؟ كلا! فلا يسعنا لحل هذه المسألة إلا الرجوع إلى نظريات غير الحركية والآلية علنا نقرع باب الحقيقة ونلمسها بأناملنا العشر. فلنبدأ بذكر النظرية الحيوية فنقول: إن أصحاب هذه النظرية هم لروه وبارتس وكافة أطباء مدرسة (مونبيليه) وهم يعتقدون أن الحياة لم تنشأ إلا عن مبدأ خاص لا روح ولا شيء آخر، بل هو مبدأ حيوي وسط بين الروح والجسد. . . وقد تتجلى للقارئ قيمة هذا التعليل بمجرد ذكره فهو بدلاً من أن يوصلنا إلى حل هذه المسألة؛ أوجد لنا معضلة أخرى لذلك فان الحيويين مثل (بروسن) و (كابانيس وغيرهما من مدرسة باريس غيروا رأيهم فقالوا: ليست الحياة ناشئة عن مبدأ مفارق للجسد والروح؛ ولا عن خواص المادة. بل هي ناشئة عن خواص معينة حيوية من نوع ثابت معين موجود في الجسد، أي أن المادة فيها خاصة الحياة عدا خواصها المعروفة. وإذا عَرَّجنا الآن على نظرية العضوية القائلة: (إن الحياة هي وجوه الأعضاء في الجسم على هذه الصورة فهذا الوضع هو الذي أكسبها خاصة الحياة) نجد أننا لم نزل في غياهب جهل بحقيقة الحياة؛ بل كدنا أن نرتبك أكثر مما كنا فيه. إذن فلنبحث الآن في النظرية النفسية وهي النظرية التي تقول: (النفس مبدأ الحياة الأساسي). فإن الحياة تفارق الجسد عندما تفارقه النفس، وهي مبدأ العقل أيضاً فإننا نجد علاقة صحيحة بين الحياة العاقلة والحياة المادية أي أن مبدأ العقل هو مبدأ الجسد. ويثبت أصحاب النظرية النفسية رأيهم هذا بوجود الوحدة في الجسد بالرغم من هذه الكثرة، فبما أن في النفس غاية واحدة فهي إذن المبدأ الأول للحياة
ولا يمكننا إيضاح هذه الوحدة وهذا التناسق إلا بهذه الغاية الموجهة، إلا وهي النفس. على أننا لا نعرف بأية صورة تؤثر الروح في الجسد؛ وهذا الأمر شغل كثيراً من علماء النفس(240/58)
وعلماء الاجتماع والفيسيولوجين، ولم يستطيعوا التوصل إلى حل معقول. فنحن إذن لا نزال في عالم الفرضيات؛ أضف إلى ذلك ما يعرضه بعض الفلاسفة على أصحاب هذه النظرية من الأسئلة، فقد قالوا: إذا كانت النفس لها تلك القدرة التي يسندونها إليها - أي هي التي تحمي الجسد - فلماذا تتركه يفسد فيزول أو يمرض؟ وكيف توضح الحوادث التي تحدث في الجسد بعد مفارقة الروح له كأن يطول الظفر بعد الموت وينمو الشعر؟ وماذا نقول إذا علمنا أن بعض البوليب التي تعيش في المياه الحلوة إذا قطعت بصورة عرضية، أي إذا شطرت شطرين، يكون كل شطر منهما ذا حياة جديدة ويعيش؟ ألم يقرروا أن النفس لا تنقسم؟ إننا نجد هذه النظرية لا تخلو من الصعوبات أيضاً. ولقد وضع (داروين وكروسي) نظرية دعيت بالنظرية الروحية الكثيرة العناصر الحيوية فتقول: (الحياة ناشئة عن الروح والجسد معاً أي عن عنصرين. فلا يعتبر الجسم مادة عاطلة لا حياة فيها، بل هو مستعمرة لحجيرات كثيرة كل منها لها حياتها الخاصة؛ والنفس توجد هذه الحياة الكثيرة العناصر وتوجهها إلى جهة واحدة)
فهذه النظرية لم تكن أسعد حظاً من رفيقاتها السابقة، بل هي لا تختلف عن نظرية مدرسة مونبيليه من حيث توضيحها للحياة بالحياة نفسها
وفي ختام هذه البحث لا يمكننا إلا القول: الحياة هي قوة إلهية كامنة يبثها الله تعالى في الموضع الذي خصصه لها وهي كل جسم صالح للحياة. وقد تبين لنا أن العقل البشري منذ القرون الأولى إلى العصر الحاضر لم يكتشف كنهها، فهو إذن عاجز عن إدراك الحقيقة النهائية للحياة، ولعل الله يكشف لبعض الأدمغة الواسعة عنها فيخلص طائفة كبيرة من عناء التفكير فيها ويردعهم عن الوقوع في الزلات الجسيمة وارتكاب الأخطاء العظيمة
(انتهى بحث الحياة ويليه بحث الروح)
(دمشق)
محمد حسن البقاعي(240/59)
القصص
أقصوصة حكيمة من جولد سمث
الجندي الأجذم
للأستاذ دريني خشبة
يجهل نصف الناس كيف يعيش نصفهم الآخر!!
تلك ملاحظة عامة شائعة؛ بل ليس فيما يلاحظ الناس أكثر منها شيوعاً. . . وهي مع ذاك ملاحظة صادقة؛ فهموم العظماء ما تلبث أن تفشو وتفشو، وتذيع أنباؤها حتى تصبح مِلء الأسماع، وملء الأفواه، وحتى تصبح حَبتها قبة، وحصرِ منها عِنَبَة؛ وذلك بما يمطها به الرواة، وما يُضْفون عليها من الزخرف الزائف، والبهرج العقيم. . . ويبتعث هذا في نفوس المهمومين طائفاً من الزهو فيلتذون همومهم، ما دامت تجعلهم أبطالاً في تقدير الأغرار
هذا، وليس فخراً أن نحتمل الرُّزْء في ثباتٍ وفي جلدٍ ليسا طبيعةً فينا، ولا أصلاً في جِبلتنا، بل هما صدىً للخُيَلاء التي يثيرها فينا إعجاب الناس بنا، واستعظامهم لنا
أما العظيم حقاً، فهو الذي ينزل بساحته الخطب فيصمد له، ولا يحفل به، في حين لا خِلٌ فيواسيه، ولا صديق فيشجعه. . . بل. . . ولا بارقة من أمل فتُسرى عنه. . . ذلك رجل ينبغي علينا احترامه، ويجب أن نتخذه لنا قدوة، مهما يكن. . . من السوقة هو. . . أو من عِلية الناس
يا ما أتعس حظ الفقير!!
إن الرجل الغني إذا أصابته ضرّاء، وقد لا تكون من الضرّاء في شيء، تناقل الناس ضرّاءه، فهولوا بها، وأفاضوا فيها، بَيْنَا يُرَزّأ الفقير بأضعاف ذلك فلا يلتفت إليه أحد، ولا يعتدّ به مخلوق. . . وإن مصيبةً واحدةً من مصائبه في سحابة يوم لترجح مصائب العصبة أولى الحول من السادة العظماء في حياتهم جميعا. ً. .
إن من أصغر جنودنا وبحارتنا العاديين مَنْ إن ينزل به الخطب لا تتصور فدحه عقولنا، فيصبر له في عظمةٍ وتسليم وإيمان، دون أن يشكو أو يتململ، أو يتسخط على قضاء الله،(240/60)
ودون أن يُشهد الناس!. . . هذا. . . وقد تكون أيامه كلهن نوازل يأخذ بعضها برقاب بعض
لشد ما كنت أضيق ذَرْعا بأوفيد وشيشرون ورابوتين حينما كنت أقرأهم فأراهم يشكون ويبرمون ويتسخطون، ويندبون حظهم العاثر، وطالعهم النحس.،. ولماذا؟؟ لأن أحدهم لم تسعده المقادير بزيارة هذا المكان أو ذاك، مما وقر في باله أنه كان حرياً لو قطف ثمار السعادة فيه. . . وليس هذا الهم من الهموم إلا سعادة صرفة إذا قيست بما يجرعه البائسون من غصص الحياة كل يوم. . .
لقد كان أولئك يحيون في بُلهنية وسعة، يحف بهم حشمهم، ويسجد تحت أقدامهم خدمهم، لا يحملون هماً من هموم المادة، ولا يبالون كلفة من كلف الحياة. . . كل هذا بينما كان كثيرون من بني جلدَتهم يجوبون الآفاق في ظمأ ومسغبة، لا يكادون يجدون الكِنّ الذي يدرأ عنهم عاديات الجو وتقلباته. . .
كل هذه الخواطر دارت بِخَلَدي حينما لقيت فجأةً، ومنذ أيام خلت، رفيقاً بائساً كنت أعرفه إذا أنا صبي؛ يطوف في أزقة المدينة وهو يتكفف الناس، وقد جعل يقْزل برجلين إحداهما من لحم وعظم. . . والأخرى من خشب. . . ومن فوق كاهله سترة بحَّار بالية، يتوكأ بها على عُكازةٍ نابية
وهالني أن أراه قد آل إلى هذا المال. . . فلقد كنت أعرفه أميناً دائباً شديد الدؤوب إذ كان يعمل في الريف. . . فبعد أن دسست في يده ما هو حسْبُه، رغبت إليه في أن يقص علي قصة حياته، وطرفاً من أنباء مأساته. . . وأرسل صديقي الجندي الأجذم، وقد كان جندياً حقاً وإن بدا في ثياب بحار، أظافره تعيث في جلدة رأسه، ثم انكأ على عكازته، فعرفت أنه يجمع أشتات الذكريات التي تتألف من أسرابها قصته، والتي ساقها في حديث طويل طلى هكذا:
(لا أستطيع أيها السيد أن أدَّعي أن مصائبي قد فاقت مصائب سواي، أو أنني لقيت من العنت ما لم يلق غيري، إذ أنني، فيما عدا هذه الساق المبتورة، وتلك الأصابع المجذومة، وما اضطررت إليه من المسألة والتكفف، لا أجد والحمد لله ما أشتكي منه!! وإن هذا زميلي تِبْز الذي فقد ساقيه جميعاً، وإحدى عينيه، والذي أقعده كل ذلك عن السعي وراء رزقه. . .(240/61)
فأين أنا مما آل إليه؟ شكراً لله!
ولقد ولُدت في شُبْشَيَر، ومات أبي - وكان من العمال - ولما أبلغ الخامسةَ بعد، فأرسلت إلى ملجأ إحدى الكنائس ذوات الضياع. . . ورفض القساوسة أن يبقوا عليّ لأنني لم أستطيع أن أنتسب لديهم، ولأنني لم أستطع أن أخبرهم أين وُلدت؛ ومن لي بهذا وأبي - وقاك الله! - كان رجلاً آفاقياً، لا ينتهي من تطواف إلا إلى تطواف! وقذفوا بي من أجل هذا إلى ضيعة كنيسة أخرى، فأرسلتني بدورها، ولنفس الأسباب، إلى ضيعة ثالثة، فرابعة، فخامسة، وهكذا دواليك، حتى حسبتني أقضي الحياة في هذا التشرد الطويل دون أن أستقر، لولا أن تغلبت مروءة الإنسانية آخر الأمر، فخلجت إحدى الكنائس أن تطردني من ضيعتها، فبقيت ثمة، وألحقت بكُتَّابها لأتعلم الهجاء، بيد أنني وا أسفاه لم ألبث به طويلاً، إذ آنس في مُعلم المصنع الملحق بالكنيسة جسماً يافعاً وذراعاً مفتولة لا أيسر عليها من حمل المدق والمطرقة فاختارني لمعاونته في عمله. . . وبقيت هناك خمس سنوات كانت أسعد فترة في حياتي لسهولة العمل، وطراوة العيش، وإقبال الزمان. . . ذلك أنني لم أكن أعمل كل يوم أكثر من عشر ساعات (!)، ومع ذلك فقد كنت أعطي نصيباً وافراً من اللحم والشراب يتناسب مع مجهودي الضئيل، ومع أنني كنت أشتهي لو قضيت حياتي كلها ثمة فانهم كانوا يحبسونني داخل الكنيسة، بحيث لم يسمحوا لي قط أن أعدو وصيد بابها، خشية أن أفر إلى ملجأ آخر. . ولا أدري لماذا كانوا يظنون مثل هذا الظن، والكنيسة كلها كانت حِلا ّلي، وحوشها الكبير أمرح فيه حيث أشاء. .
(ثم نقلت بعد أن شببت إلى مزرعة مجاورة لأعمل فيها من مطلع الفجر إلى غسق الليل، ثم أعود إلى الكنيسة لأنام، وكنت أحمد الله على أن يسر لي أمر طعامي وشرابي، وعلى أن حبب إلي عملي الذي كنت أقبل عليه في رضي وقناعة. . . ولما مات المعلم الذي لزمته طوال هذه المدة، كان طبيعياً أن أهجر الضيعة لأشق طريقي في الحياة بنفسي، ولأكدح في سبيل رزقي فرحت أزرع الأرض، وأنتقل من قرية إلى أخرى، وأشبع إذا لقيت ما أعمله فأوجر عليه، وأجوع إذا لم ألق عملاً حتى أوشك أن أقضي من الطَّوى
(ثم حدث أن كنت ماراً ذات يوم في طريق وسط مزرعة لحاكم الإقليم فلمحت أرنباً برياً يرتع ويلعب ويقضم العشب، فوسوس الشيطان في صدري أن أحذفه بعصاي. . . ففعلت.(240/62)
وقصمت ظهره، ثم هرولت إليه فحملته وأنا فرح بهذا الصيد، وما كدت أمضي حتى لقيني الحاكم صاحب المزرعة نفسه وانطلق يسبني ويلعنني، ويرميني بكل موبقة، ويشتمني فيقول ويقول. . . ثم أمر بالقبض علي، وإحضاري أمامه لأثبت شخصيتي وليرى إن كنت متشرداً أو جَوّاب آفاق. . . وقد وقفت أقبل الأرض بين قدميه وأترضاه واستعطفه، ثم جعلت أسرد له ما أعرف من أرومتي ونشأتي وآبائي، حتى لم أبق شاردة ولا واردة إلا قصصتها. ولكنه وا أسفاه تجهم وقال: إني لم أستطع أن أثبت له شخصيتي. . ثم حوكمت بعد هذا - أعاذك الله - بتهمتين عجيبتين، أما إحداهما فخرق قوانين الدولة بما قصمت ظهر الأرنب، وأما الأخرى. . . فلأني فقير معدم. . . لا أمامي. . . ولا ورائي! وأرسلوني إلى نيوجيت بلندن لأنفى من أرض الوطن في زمرة المجرمين والمتبطلين
(وبالرغم مما يزعمه الناس عن الحياة في السجن، فلقد وجدته لطيفاً ظريفاً كما وجدت أي مكان غيره في العالم. . وماذا غير أن يأكل الإنسان ويشرب ملء بطنه، وينام ملء عينيه، دون أن يعمل عملاً ما. . .! لعمري لقد كنت أوثر أن أبقى هناك إلى الأبد، لو لم يأخذوني بعد خمسة أشهر إلى الميناء، حيث شُحنت أنا ومائتان غيري من ذوي البطالة في فُلك كبيرة، ما لبثت أن همت بنا في موج كالجبال إلى مزارع المستعمرات وراء البحار وقد تركونا لكثرتنا الهائلة ننام في ممر ضيق بين القمرات، فاختنق من اختنق، وعاش من عاش، وكانوا يقذفون بمن مات في اليم ليدفن في بطون السمك، وتالله لقد دفن فيها نصفنا أو يزيد. . . أما من نجا، فقد اعتل جسمه وخارت قواه، وهُزل هزالاً شديداً
(وبلغنا الشاطئ، وباعونا كالرقيق للمزارعين، وظللت أفلح الأرض مع العبيد، ولو قد تعلمت الهجاء لنجوت من حمارة الشمس الاستوائية، ولقمت بعمل أسهل. . . ولا أطيل عليك، فلقد لبثت في عملي المتصل سبع سنين سُرِّحنا بعدها وهفا القلب إلى الوطن. . . واشتاقت النفس إلى إنجلترا الأم التي أهواها من كل قلبي، وأخلص لها الحب من أعماقي، فلبثت أياماً أفكر في الأوبة وأعد ّلها عُدّتها، وحرصت على ألا أقع فيما وقعت فيه من قبل من تهمة البطالة والتشرد، فلم أذهب قط بعيداً عن حدود المدينة، بل رحت أذرعها مشرقاً ومغرباً وأنتظر يوم الرحيل. . واستعنت بأداء بعض الأعمال التافهة على التوقي من أعين(240/63)
الشرطة
وكنت أشعر بسعادة عميقة أثناء هذه الفترة التي تسبق عودة النازح إلى أرض الوطن. . . ولكن. . . حدث ما لم يكن قط في حسباني، فبينما كنت عائداً أدراجي من بعض عملي إلى منزلي، إذا رجلان قويان يلكمانني لكماً كاد يحطم رأسي، وإذا بي أهوي إلى الأرض في غير وعي. . . حتى إذا أفقت إذا هما يأمرانني أن أنهض ثم إذا هما ينطلقان بي إلى الحاكم الذي يطلب إلى ما يثبت شخصيتي! حتى إذا عجزت هذه المرة كما عجزت في الأولى، تُرك لي أن أختار إحدى اثنتين لا ثالثة لهما، فإما أن أنطلق من فوري فأعمل بحاراً على ظهر مركب يوشك أن يبحر أو أن أنضوي إلى صفوف الجند فأحارب أعداء المملكة. . . ولم يكن بد من أن أختار الجندية التي شعرت فيها بكرامتي خصوصاً بعد أن حاربت في وقعتين كبيرتين هما معركة الفال الخالدة، ومعركة فونتنوي التي لن أنساها ما حييت. . . ولم يمسسني ضر في أي منهما، اللهم إلا جُرْح هنا. . . في هذا المكان الرحب من صدري، استطاع طبيب فرقتنا الحاذق النطاسي أن يشفيه سريعاً
(وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ودخلنا في السلم كافة، سُرّح كثير من الجنود فكنت منهم. . . ولم استطع أن أضطلع بالأعمال الشاقة التي كنت احتملها من قبل، لأن جرحي كان يَنْغَل أحياناً فيؤلمني ويقعدني عن أي عمل. . . ثم انضممت إلى جيش شركة الهند الشرقية فحاربت الفرنسيين في ست معارك دامية، أبليت فيهن جميعاً بلاء حسناً، ولو كنت قد أسعدني الحظ فثقفت بالكتابة والقراءة لارتقيت إلى مرتبة (أونباشي). . . وشاء الجد العاثر أن يلم بي مرض يقعدني عن الحياة العسكرية المقاحمة، فيهيج في قلبي حنينه القديم، وفي نفسي توقها إلى الوطن؛ فأنتوى الأوبة من جديد، وإن في جيبي لأربعين جنيهاً حمراً رنانة. . . وكان ذلك في إبان الحرب الحاضرة؛ وكم كنت أحلم أحلاماً لذيذة سعيدة إذ أنا على ظهر الفلك، وأفكر في كيف أنفق هذا القدر غير القليل من الذهب الوهاج. . . . وكانت الحكومة في حاجة ماسة إلى الرجال، فلما أهابت بأبناء الوطن انضويت إلى الصفوف وأنا في عرض الحر، فعملت بحاراً في إحدى وحدات الأسطول، من غير أن تكون لي أية دراية بأعمال السفانة الحربية ولا غير الحربية. . . . وطالما اتهمني الربان بأني أعرف من الأعمال البحرية ما أنا مخفيه، إيثاراً للعمل الحربي في البر، فكان(240/64)
يضربني ضرباً مبرحاً لم يكن يخفف من أوجاعه في نفسي إلا الأربعون جنيهاً التي ادخرتها واكتنزتها في جيبي، والتي كثرتها بما ضممت إليها مما كنت أقتصد بعد
وقد ضلت سفينتنا مرة، فأسَرتَنا وحدة بحرية فرنسية. . وبهذا - وا أسفاه - خسرت نقودي كلها. . . . . . ونزلنا إلى البر في ميناء برست، ولم يحتمل رفاقي الملاحون زهمة السجن وهواءه الخانق، فمات أكثرهم. . . أما أنا فقد بقيت فيمن بقي؛ ويبدو أن ما تعودته من الحياة في أشباه هذا السجن، قد جعلني أحتمل ما لم يحتمل زملائي
وبينما كنت نائماً على أرض السجن، وأنا ملتفع بغطائي الدافيء، إذا بي استيقظ على صوت الربان الذي جعل يلكزني لأصحو. . . وقال لي في صوت خافت، وهو يحمل مصباحاً أخفت من ضوئه: (جاك! جاك! هل لك في أن تحطم رأس (الديدبان) لنلوذ بالفرار يا صاحبي؟!) ولم يكن أحب إلي من أن أفعل. فوافقت على هذه المجازفة التي رغبها إلى كراهيتي للفرنسيين، الذين أعدهم أمة من العبيد. . . والذين لا يلبسون في أرجلهم إلا (القباقيب!)
ولم يكن معنا سلاح ما. . . بيد أننا كنا على ثقة دائماً من أن إنجليزيا واحداً يسعه أن ينتصر على عشرة من الفرنسيين. . . وهكذا انطلقنا إلى حيث انكمش الحارسان في ركن بعينه من البرد، فانقضضنا عليهما، وانتزعنا منهما سلاحيهما، ثم حطمنا رأسيهما، ولذنا بالفرار إلى الشاطئ. . . ولحق بنا تسعة ممن بقي من أسرانا، فركبنا زورقاً كبيراً، وأبحرنا من فورنا
(ولبثنا نصارع الموج ثلاثة أيام سوياً، حتى أضرّ بنا الجوع، وأوشك أن يهلكنا الظمأ. . . ثم اقتربنا من مركب كبير فحسبنا أن يد العناية قد أرسلته إلينا لتنشلنا مما نحن فيه. . . فإذا هو مركب من كراكب (قراصين) البحر، استطاع رجاله أَسرَنا. . . وكم كان فرحهم بنا عظيماً، لأننا أيد عاملة تنفعهم فيما هم بسبيله من أعمال القرصنة. . . وقد رضينا نحن بالعمل معهم، إذ كان لابد مما ليس منه بد. . . ولم يكن حظنا بساماً هذه المرة، فلقد شاء سوء الطالع أن نشتبك في قتال بيننا وبين الـ (بومبادور) القوية التي يملك قراصينها أربعين مدفعاً صالحة كلها للعمل، بينا لم نكن نملك أكثر من عشرين وثلاثة مدافع. . . ومع ذاك فقد قاومنا ما وسعنا أن نفعل، بل بدا لنا أننا نرى النصر قاب قوسين أو أدنى، في(240/65)
نفس اللحظة التي تمت هزيمتنا فيها. . . وعلة ذلك كثرة من قتل من رجالنا، وقلة الأيدي التي لم يكن يسعها أن تُعمل المدافع كلها لنحوز النصر. . .
(وهكذا شاءت المقادير أن أكون مرة أخرى في قبضة الفرنسيين. . . ولشد ما فزعنا أن يرسى بنا ثانية في برست، إذن ما كان جزاؤنا إلا القتل هناك. . . ولكننا رسونا في ميناء أخرى، فنجونا. . . وقد نسيت أن أذكر لك أنني فقدت إحدى ساقيّ، وأربعاً من أصابعي، وأصبت بأربعة جروح كبيرة في هذا القتال الهائل. . . أواه يا سيدي؟! أواه لو أسعدني الحظ فكنت قد فقدت هذه الساق وتلك الأصابع فوق بارجة من بوارج الوطن. . .؟! إذن لكفلتني الحكومة، وحبست على معاشاً كاملاً طوال الحياة. . . ولكن. . .! ما حيلتي؟ إن من الناس من يولد وفي فمه ملعقة من فضة، وإن منهم من يولد وفي فمه مغرفة من خشب. . .!! على أنه مهما يكن من أمري، فأني أحمد الله القدير الذي حباني عافية وصحة، ووهبني النعيم والحرية ورزقني محبة بلادي. . . بلادي ذات المجد. . . إنجلترا. . . إنجلترا الأم. . . عاشت إنجلترا!)
ثم مضى عني، وغادرني في حيرة من رضاه بما هو فيه، وتسليمه الجميل لما صنع الله!! حقاً. . . إن التمرس بالبؤس يعلمنا كيف نستهين به، أضعاف ما تعلمنا ذلك الفلسفة!!
دريني خشبة(240/66)
البريد الأدبي
مؤتمر المواصلات السلكية واللاسلكية
وهذا مؤتمر دولي آخر يعقد في القاهرة ويفتحه جلالة الملك (فاروق الأول)، هو المؤتمر الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية؛ وهو رابع مؤتمر دولي يعقد في القاهرة في هذا الفصل بعد مؤتمر الرمد الدولي، ومؤتمر توحيد قانون العقوبات، ومؤتمر القطن الدولي؛ وقد أشرنا إليها جميعاً في حينها. ويعتبر مؤتمر المواصلات السلكية واللاسلكية الذي عقد في أول فبراير الجاري من أعظم المؤتمرات التي عقدت في مصر في الأعوام الأخيرة إن لم يكن أعظمها جميعاً، فقد مثلت فيه ثلاث وستون دولة وهو أكبر عدد من الدول اجتمع في مصر في مؤتمر واحد. ويرجع ذلك إلى أهمية المسائل التي يعالجها المؤتمر، وإلى أهمية الدور الذي لمصر بفضل موقعها الجغرافي الفريد في المواصلات اللاسلكية. وقد كانت مصر في مقدمة الدول التي أدخلت فيها المواصلات الحديدية والتلغرافية، وهي اليوم في مقدمة الدول التي يحتم عليها موقعها الجغرافي بين قارات العالم القديم، وظروفها الدولية الخاصة، أن تكون من أعظم مراكز المواصلات اللاسلكية في العالم
وقد جرى جلالة الملك في افتتاح هذا المؤتمر على سنته المشكورة التي استنها، وهي افتتاح المؤتمرات الدولية التي تعقد في مصر باللغة العربية؛ وألقيت أيضاً خطبة الافتتاح الرسمية من وزير المواصلات بالعربية؛ وهذا تقدير كريم للغة البلاد وتشريف يبعثان إلى الغبطة والحمد
مؤتمر طبي عربي
يعقد في التاسع من فبراير الجاري بمدينة بغداد - كما ذكرنا من قبل - مؤتمر طبي عربي دعت إلى عقده في العاصمة العراقية الجمعية الطبية المصرية؛ وسيتفضل صاحب الجلالة ملك العراق بافتتاح هذا المؤتمر الذي سيعقد في قاعة الحفلات الكبرى بسراي أمانة العاصمة، ويستمر عقده أيام عيد الأضحى؛ وقد هرع إلى شهود هذا المؤتمر عدة من أكابر الأطباء المصريين وأساتذة كلية الطب، وفي مقدمتهم علي إبراهيم باشا وسليمان عزمي باشا؛ وكذلك بادر إلى شهوده جماعة كبيرة من أطباء الأقطار العربية الشقيقة، من فلسطين وسورية والحجاز(240/67)
وسيكون عقد هذا المؤتمر العربي فرصة جديدة لتقوية أواصر الثقافة الطبية والاجتماعية بين مصر وشقيقاتها
في مملكة سبأ
أذاعت بعض الصحف الخارجية أخيراً بعض بيانات أفضى بها الرحالة المستشرق الإنكليزي المعروف المستر سنت جون فيلبي المعروف بالحاج عبد الله، والذي يقيم في جدة منذ أعوام طويلة، وتربطه بالملك ابن السعود صداقة متينة - عن اكتشافاته لآثار مملكة سبأ في (الربع الخالي). وكان قد حاول اختراق هذه المنطقة قبله رحالة فتى ألماني يدعى هانز هلفريس، ولكنه وقع في أيدي البدو، ثم بعث به إلى الشاطئ؛ ومع ذلك فقد استطاع أن يلتقط بعض صور فوتوغرافية مدهشة، منها صورة أطلال مدينة حصينة على رؤوس الجبال، وبها أبنية متهدمة عالية ترتفع عدة طبقات، وآثار أطلال ضخمة تضارع الأطلال الفرعونية في روعتها؛ فحفزت هذه الصور بعض العلماء المغامرين إلى محاولة اختراق (الربع الخالي)؛ وكان الحاج عبد الله فيلبي بمركزه في المملكة السعودية، واعتناقه الإسلام، ومعرفته الواسعة للغة العربية ولهجات القبائل، أسبقهم وأقدرهم على أداء هذه المهمة؛ فجهز في العام الماضي قافلتين إحداهما من السيارات والأخرى من الجمال، واخترق الصحراء الغربية من مكة إلى المكلا عاصمة حضرموت، ثم عاد غرباً نحو اليمن، واخترق اليمن من الجنوب إلى الشمال؛ واستطاع أثناء رحلته الشاقة أن يقوم باكتشافات أثرية هامة، وأن يحقق الأسباب التاريخية والجغرافية التي أدت إلى خراب مملكة سبأ، وفي رأيه أن هذا الخراب يرجع إلى عاصمة مملكة سبأ التي كانت تحيط بها سلسلة من البراكين الثائرة، وأن الزلازل هي التي قضت عليها منذ نحو ألفي عام، كما قضت على مدينة بومبياي الرومانية الزاهرة، وبذلك انمحت مملكة سبأ من صفحة التاريخ
وقد أثارت رحلة الحاج فيلبي واكتشافاته اهتماماً في جميع الأوساط العلمية والأثرية
رابطة دولية للكتاب
تألفت في لوزان جمعية أدبية كبيرة لحماية الكِتَاب وترويجه باسم (رابطة الكتاب)، وانتظم فيها عدد كبير من أكابر الكتاب والمفكرين مثل رومان رولان وجورج دوهامل واندري(240/68)
جيد وغيرهم، وقد وصف دوهامل أغراض هذه الجمعية في مقال ذكر فيه (أنها تقوم بمهمة بديعة، لا في سبيل ترقية ذوق القراء لدى جمهور عظيم من الناس فحسب، ولكن أيضاً في سبيل إذكاء ثقافة إنسانية عالمية، ومن ثم فإنها غدت تضم صفوة المفكرين في أوربا)
وتعني رابطة الكتاب الدولية عناية خاصة بحماية الذوق الثقافي بعد أن جنت عليه جهود الراديو والسينما، والصحافة الأخبارية السطحية، وبعض الناشرين الذين يتجرون في الأدب الرخيص، وإعادة الكتاب القيم إلى مركزه الرفيع. وقد انضم إلى الرابطة جماعة من الناشرين المحترمين الذين يعنون بنشر الكتب القيمة، ووضع نظام لإخراج سلسلة من الكتب والمؤلفات الرفيعة في مختلف المواد، وروعي أن تكون في الغالب كتباً جديدة؛ وستقدمها الرابطة إلى القراء بأثمان تكاليفها دون أن تسعى إلى ربح، وقد أصدرت فعلاً عدة مؤلفات نفيسة من كتب راموز ومسترال ومكسيم جوركي وتولستوي وغيرهم
جيته بطل قصة مسرحية
مثلت أخيراً في المسارح الألمانية (كوميديا) جديدة عنوانها (مقابلة مع أولريخا) بقلم الكاتب المسرحي زجموندجراف وفيها وصف لفصل غرامي من حياة جيته شاعر ألمانيا الأكبر فيبدو الشاعر على المسرح وهو في شيخوخته عاشقاً لفتاة تدعى أولريخا ليفتوف كان قد قابلها أثناء استشفائه في مدينة مارينباد ورغب في زواجها، ولكن حالت دون رغبته ظروف خاصة، وهي واقعة حقيقية في حياة الشاعر الكبير، وقد لقيت القطعة من جراء ذلك نجاحاً عظيما
جوائز قومية ألمانية لتشجيع العلوم والآداب
في العام الماضي قررت الحكومة الألمانية أن تحرم على العلماء والكتاب والفنانين الألمان قبول أية جائزة دولية أو أجنبية للعلوم أو الآداب أو الفنون؛ وقررت من جانبها أن ترتب جوائز ألمانية قومية تمنح لأقطاب العلم والأدب الألمانيين، وتكون في أهمية جوائز نوبل من حيث قيمتها المادية والأدبية؛ ولذلك سبب قد يذكره القراء، وهو أن لجنة جامعة استوكهلم منحت في العام الماضي جائزة نوبل للسلم للكاتب الألماني كارل فون وسيتسكي، وكان لذلك صدى سيئ لدى الحكومة الألمانية لأنها تعتبر الكاتب المذكور من خصومها لأنه(240/69)
ديموقراطي، وكان قبل قيام الحكومة النازية يدعو إلى السلام ونزع السلاح. فلما قام الهتلريون في الحكم قبض عليه ولبث في معتقله حتى منح جائزة نوبل للسلام؛ واعتبر الهر هتلر أن في منحه الجائزة على هذا النحو إساءة لألمانيا وتعريضاً بنظمها وسياستها، فأصدر قراره بتحريم الجوائز الدولية على جميع الألمان
وقد احتفل في 30 يناير الماضي، وهو يوم ذكرى قيام الحكومة النازية في الحكم بتوزيع الجوائز القومية الألمانية لأول مرة على مستحقيها؛ فمنحت جوائز في العلوم والآداب والفنون إلى كل من العلامة الرحالة الدكتور ولهلم فلشنر الذي عاد أخيراً من رحلته الطويلة في مجاهل آسيا الوسطى، والدكتور روزنبرج الكاتب النازي الشهير، والأستاذ الدكتور زاوربروخ الجراح الشهير، والأستاذ تروست الذي توفي أخيراً، والدكتور أوجست بير. وقد استقبل الزعيم هتلر المنعم عليهم بالجوائز في يوم 30 يناير وأثنى على علمهم وعبقريتهم، وقدم إليهم بنفسه براءات الجوائز المذكورة، وهي عبارة عن نجمة من الماس في وسطها رمز الإلهة منيرفا؛ هذا عدا الهبات المالية التي سيحصل عليها الفائزون وهي كبيرة
ديوان إسماعيل صبري باشا
يسرنا أن نزف إلى قراء العربية أمنية من أعز أمانيهم طالما تاقت نفوسهم إلى تحقيقها، وهي إعداد ديوان أستاذ الشعراء وحامل لواء الشعر الحديث المرحوم إسماعيل صبري باشا. وهذا الديون الحافل بطرائف شعره يطبع الآن في مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بعد أن أتم حضرة الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين ضبطه وشرحه وتصحيحه على أتم وجه وأحسنه. ولاشك في أن ظهور هذا الديوان الخالد يعد حادثاً أدبياً ذا بال في عالم الشعر، فهو بحق حلقة اتصال بين الجيل الماضي والجيل الحاضر
ويحسن بنا أن نشير إلى ما كان بين الأستاذ أحمد الزين وبين المرحوم صبري باشا من مودة وثيقة دامت سنين طويلة فلا عجب إذا تولى هو إخراج هذا الديوان وفاء لصديقه وقياماً بالواجب الأدبي نحو فنه. وقد وصل إلى علمنا أنه ستقام حفلة ذكرى للفقيد بعد إتمام طبع هذا الديوان، رحم الله صبري باشا وجعل في أثره الخالد عزاء عن فقده
مذكرات لورد بيرون(240/70)
تحتفل الأندية الأدبية في إنجلترا وفي العالم بمضي 150 سنة على ميلاد الشاعر العظيم جورج جوردون بَيْرون المولود في سنة 1788 والمتوفى سنة 1824. . . وسيستفيد العالم من إحياء هذه الذكرى فائدة جليلة وذلك بما اعتزمه بعضهم من نشر مذكرات الشاعر النثرية التي كتبها بين سنتي 1819 و 1821 وهو مقيم إذ ذاك في إيطاليا والتي حال دون نشرها ما جاء فيها من تصريحات بيرون الشائنة فيما يتعلق بصلاته الغرامية والتي لا يسمح القانون الإنجليزي بتداولها في أيدي الناس لكونها من المحظورات التي يتنافى ذيوعها مع الأخلاق الإنجليزية المحافظة. . . والمفهوم أن إذاعة هذه المذكرات سيكون بموافقة الحكومة وبعد حذف الفقرات الصريحة الصارخة التي لم يبال اللورد أن يثبتها بقلمه فيها
والمعروف من تاريخ حياة بيرون أنه نشأ نشأة مستهترة لا تعرف للعرف حرمة ولا للشرائع سلطاناً. فمن هذا أنه صبا إلى أخته وافتتن بها، ثم أتصل بها اتصالاً يخجل القلم من تسجيله هنا. . . ومن ذاك أيضاً أنه ألف جماعة خمرية كان يحتسى أفرادها الخمر من جماجم الموتى التي كانوا يسرقونها من المقابر. . . وبحسب القارئ هذان المثالان عن شذوذ الشاعر العظيم الذي كان أديب الألمان جيته يعجب به ويقول فيه إنه يصدر في شعره عن أمواج البحر الدفاقة، وينفث فيها رقة الأثير.
وكان بيرون وثنياً شديد الولوع بالإغريق. . . ومن هنا عبادته للجمال وترديده أسماء آلهتهم في شعره. . . ومن هنا أيضاً دفاعه الحار عنهم في الحرب الاستقلالية التي لاقوا فيها الرعب من البطل المصري إبراهيم باشا. . . وقد حضر بيرون حصار مسولونجي ونظم فيه إحدى غرره، ولا ندري إن كان القائد المصري قد قابله أم لا. هذا وسنفرد له فصلاً خاصاً في عدد آخر
الأدب الكاريكاتوري
كان ظريفاً جداً هذا العمل الجليل الذي ساهم به الأستاذ توفيق الحكيم في مهرجان الأوبرا للزفاف الملكي والذي أظهر فيه أدباء العصر على خشبة المسرح في رواية تمثيلية. . . ونحن نضع لهذا اللون من الأدب اسماً فندعوه الأدب الكاريكاتوري، وهو غير الأدب(240/71)
الهزلي أو (الكوميدي). وقد وضع أساس الأدب الكاريكاتوري الشاعر اليوناني أرسطو فان منذ أربعة وعشرين قرناً، وكان يتناول في (كاريكاتورياته) شخصيات عصره والعصر الذي سبق بالنقد والتسفيه و (التضحيك). وخص الشاعر يوربيبدز بكثير من هذه (الكاريكاتوريات)؛ ولم يستطع مع ذلك أن يقلل من قيمة مواطنه العظيم أو أن يخفض من قدره. وقد ألف شاعرنا الخالد أو العلاء كتابه (رسالة الغفران) على هذا النوح، فطاف بصاحبه ابن القارح في المحشر وفي دركات جهنم. . . وفي جنات عدن. . . وفعل مثل ذلك دانتي الليجيري في الكوميديا الإلهية
وقد كتب الأديب الكبير ولز آخر قصصه على النمط الكاريكاتوري. وقد صدرت هذه القصة في يناير الماضي واسمها (الأخوة) وهي نقد لاذع لطغاة العصر الحاضر وفي مقدمتهم هتلر وموسوليني وستالين، وبالطبع قد أطلق أسماء غير هذه على أبطاله
الإذاعة المدرسية في مصر وفي إنجلترا
في الوقت الذي تنطفئ فيه حماستنا في مصر للإذاعة المدرسية لنشتغل بالسفاسف السياسية التي استغرقت كل جهودنا ترتفع النسبة المئوية لهذه الإذاعة في إنجلترا وبلاد الغال (ويلز) فتزيد 27 % في خريف 1937 على ما كانت عليه في خريف 1936، ويرتفع عدد المدارس التي تنتفع بهذه الإذاعة هناك فتصبح (7280) مدرسة بين ابتدائية وثانوية. ويشجع هذا النجاح المطرد ولاة الأمور هنا فيفكرون في الوسيلة التي ينشرون بها الإذاعة في المدارس التحضيرية ورياض الأطفال؛ وقد انتفعت بطبيعة الحال مدراس إسكتلنده بهذه الإذاعة وإن لم يكلفها ذلك شيئاً. ويقدرون هذه المدارس الإسكتلندية بألف مدرسة أو زهائه. وكانت الموضوعات الطريفة التي أُلقيت كثيرة متنوعة، ولكن التلاميذ كانوا يصغون في الأكثر لموضوعات الأسفار والرحلة في البلدان الأجنبية، ثم تلي هذه الموضوعات المتعلقة بدراسة غرائب الطبيعة؛ وقد اجتمع للتلاميذ الإنجليز عاملان هامان في تثقيفهم الحديث، وذان هما التعليم بالسينما والتهذيب بالإذاعة المدرسية، وليس من هذا شيء عندنا
الطيران والخرائط الجغرافية
معظم الخرائط الجغرافية التي بأيدينا قديم غير مضبوط، ويرجع وضعه على هذا النحو(240/72)
الذي نراه إلى مائة سنة على الأقل وقد أخذت صور لنهر النيل مثلاً من الجو أظهرت ما في خرائطنا القديمة البالية من الأخطاء الفاحشة التي لم يعد يخلق بنا أن نغضي عنها. وقد تنبهت لهذا أكثر الدول الأوربية ولا سيما ألمانيا، فعملت على تلافيه، وساعدها تقدم الطيران وانتشاره عندها على وضع خرائط متقنة تداركت بها ما فشا في خرائطها القديمة من أخطاء. ويقال إن في النية عقد مؤتمر عالمي لدراسة هذا الموضوع ولوضع خرائط جديدة للعالم بأسره من الجو. وحبذا لو تم هذا المشروع
مسرح روسي عجيب
من أنباء روسيا أن المخرج العظيم ماير هولد قد عصفت به ريح السياسة العاتية. . . وأن مسرحه الكبير قد أغلق. . ويذيع الشيوعيون أن ماير هولد قد وقع في فضيحة لم يذكروا لنا ما هي وهكذا تلطخ الشيوعية مجد الأبطال الروسيين الذين أدوا لأوطانهم وللعالم أجل الخدمات. . . ومن هذه الأنباء أيضاً أن مخرجاً جديداً يدعى أوخلوبكوف قد أسس على أنقاض مسرح ماير هولد مسرحاً غريباً لم يؤسسه على ما عرفه العالم من النظام الشائع لدور التمثيل، إذ يدخل المُشاهد صالة المسرح فلا يرى ستاراً وينظر هنا وهناك فلا يجد خشبة المسرح التي تمثل فوقها الرواية. . . وأغرب من هذا أنه يجد الكراسي غير مصفوفة في اتجاه خاص يدل على مكان المسرح. . . فإذا آن أوان التمثيل وجد الممثلين معه في الصالة، ووجدهم في الشرفات (البناوير) ووجدهم في كل مكان. . . حتى في السقف. . . ويقولون إن الروايات التي تمثل ثمة موضوعة خصيصاً لهذا المسرح، لتتفق وهذه الطريقة العجيبة من طرق الإخراج. . . ويبدو أن الروايات الأجنبية، بل الروسية نفسها، التي لم تؤلف لتؤدي على هذا النمط الحديث من فن الإخراج، تسقط سقوطاً فاحشاً حين تؤدي فيه. وقد كتب أحد النقاد الألمان فصلاً مضحكاً عما شاهده في هذا المسرح، وكان قد حضر تمثيل روايات حنة كرنينا لتولوستوي وحديقة الكراز لأنطون تشيخوف ودرامة عطيل. . . فسمى ما شاهده من تمثيلها (تهريجاً شيوعياً!!)(240/73)
الكتب
إلى حياة روحية
2 - في منزل الوحي
بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
إلى حياة روحية تسمو بالنفس، وتضيء القلب، وتهذب العواطف، وتحد من النزعات والأهواء، وتصل أسبابنا بالسماء. . هذا هو ما يدعو إليه هيكل ويحبذه، بعد أن شهد ما شهد من مظاهر الحياة الروحية من آثار النبي العربي، ورأى كيف يفعل الإيمان الأعاجيب في مواطن لولاه ما كان للإنسان بها طاقة؛ ويعجب هيكل من الذين ينكرون الحياة الروحية ويتنكبون طريقها، ويسأل في تعجب واستنكار فيقول: (فما بال قوم في عصور وبلاد مختلفة جحدوا الحياة الروحية وكفروا بفضل الإيمان؟!) ثم يمضي هيكل ينعى على الماديين هذا الجحود لتلك الحياة، ويرده إلى خطأهم في فهم الحياة الروحية على حقيقتها، وتصويرهم لها تصويراً بعيداً عن الفهم والواقع، فهم يحسبونها خارجة على نطاق العقل، لا تخضع لقوانين العلم في تعليل الظواهر والمظاهر، مع أن سبيل الحياة الروحية الصميمة إنما هو الإحاطة بالعلم في أحدث ما وصل إليه، واتخاذه وسيلة للنظر في آيات الله وهي لا تنكر العقل إلا إذا قيد النظر وقُيد العقل معه، ومن ثم كان الجمود عدواً للحياة الروحية، ثم يلمع هيكل إلى الغاية من الحياة الروحية وصلتها بالنفوس فيقول: (والناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الدعوة الروحية لأنهم يبغون الحق بفطرتهم، ولولا ما يمد لهم فيه دعاة المادة من أسباب الضلال إذ يغزونهم بمتع الحياة ولذاتها لانهارت فوراق كثيرة ليس يبقيها إلا هذا الضلال ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد، ولأخلصت القصد في سعيها إلى السلام بدل أن تجعل من نذر الحرب هياكل عبادتها، ولكانت خطا الإنسانية في سبيل التقدم ناحية الكمال أسرع وأهدى سبيلاً، ولو أن الناس لم يتنكبوا طريق الهدى لنعموا اليوم بما يلتمسونه من سعادة، ولعلهم تنكبوا هذا الطريق لأنهم بعد في جهالتهم، ولأن ما بلغوا من العلم لا يزال قاصراً دون هداهم والعلم الناقص داعية الضلال!)(240/74)
وهيكل إذ يقول: (إن الناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الحياة الروحية لأنهم يبتغون الحق بفطرتهم) يقرر حقيقة قد قررها لدين، وجاء بها الإسلام، ففي القرآن الكريم (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها) وفي الحديث الشريف (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه)، وهيكل إذ يرى أنه لولا ما يمده دعاة المادة من أسباب الضلال، لانهارت فوارق كثيرة ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد. إنما يرى حقيقة لا تنكر، بل إنها حقيقة يقررها كثير من أهل الفكر والثقافة، ويرونها الملجأ الذي سيلجأ إليه العالم بعد أن يضنيه وينهكه ذلك النضال المادي العنيف، ولقد كان من حسن التوافق أن أقرأ هذا الكلام لهيكل وقد وافتني جريدة الأهرام وفيها نبأ من لندن يقول: إن اجتماعاً عقد في (هيكل) العاصمة تحت رعاية جمعية الأديان المتعددة، وقد أوضحت السيدة الناطقة باسم هذه الجمعية أن غرضها إيجاد وحدة عالمية بواسطة التفاهم الروحي
وقد تكلم إمام جامع ووكنج فقال: (إن الوقت قد حان لجميع الأديان كي تدفن أحقادها، وتتحد على مقاومة موجة الكفر المتعالية، والتمسك بالأمور المادية في العالم وإهمال الأمور الروحية، وقال: إن جميع الأديان تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، فهي تشترك في وحدة أساسية، وهي تتفق على الإيمان بوجود الله وعلى تجلى الله للإنسانية، فيجب علينا إذن أن نتفاهم
وليطمئن هيكل وليطمئن إمام جامع ووكنج. فإن ذلك الحلم اللذيذ لابد أن يتحقق، لا أقول سيحققه فرد من الأفراد أو جماعة من الجماعة، وإنما أقول سيحققه الزمن بسنته وطبيعته وأفاعيله، وغداً سنرى وإن كنت لا أعلم متى يكون ذلك الغد أفي القريب أم في البعيد، ولكني لست مع الدكتور هيكل إذ يعلل جحود الماديين للحياة الروحية بالجهل ونقص العلم، فإن في الماديين الجاحدين أساطين العلم، ومن هم في الذروة التي لا نطاول عقلاً وثقافة، وإنما يرجع هذا الجمود على ما نرى إلى اعتقاد يقوم في أذهان أولئك الناس، وهو أن العقل كل شيء في الحياة، لا قول إلا قوله، ولا منطق إلا منطقه، فمن الواجب أن نُخضع لمنطقه كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا، وفاتهم أن هناك القلب، يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة، إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أجل وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في(240/75)
رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة، ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيما لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر الناس في هذه الأيام بالموت والأنتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة الصالحة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يجحدها الماديون أنفسهم، وأنت أبقاك الله تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشرف والعرض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها تجده يجيبك عليها جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر والتي هي مسيطر عليها، وإذن فالعقل ليس كل شيء في الحياة كما يزعم الماديون، وعبثاً حاول بعض الفلاسفة أن يجعلوا العقل حد الدين، وأن يشرعوا للناس المذاهب الفلسفية النفعية، فنشروا كتباً (في دين الطبيعة) لتأييد مذهبهم، وموهوا على الناس إذ زعموا أن العلم ينافي الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية، حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هادياً ومرشداً أميناً بصفته فرداً صالحاً من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي، أخفقوا سعياً وضلوا سبيلاً، لأن الطبيعة لم تحبُ الإنسان بشيء من هذا. رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات
ولكن أي لون من ألوان هذه الحياة الروحية يجب أن يختار الشرق حتى يفوز بالغاية؟!
يرى بعض المفكرين في مصر أن لون الحياة الغربية هو اللون الصالح، فراحوا ينقلون للشرق آثار الغرب في ذلك ما وسعهم النقل؛ وقد كان هيكل على هذا الرأي من قبل، ولكنه خرج عليه إذ لمس فيه الخطأ الواضح، وهو يتحدث عن ذلك فيقول: (لقد خيل إلي زمناً -(240/76)
كما لا يزال يخيل إلى أصحابي - أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، لأن تاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته) وبعد أن يكشف عن وجه الفرق في ذلك يدل على اللون الصالح للشرق من الحياة الروحية، وهو في كلامه يتحدث عن خبرة وتجربة فيقول: وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية والروحية لنتخذهما هدى ونبراساً، لكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، ورأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء الشرق في هذا الجيل نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين
وهذا كلام أصاب فيه هيكل شاكلة الصواب، وشرحه شرحاً وافياً كافياً في منزل الوحي، فجاء كتابه صفحة روحية مشرقة، وفكرة صالحة يجب أن يطالعها أبناء الشرق لتنمو في نفوسهم، فتؤتى ثمرها الطيب
محمد فهمي عبد اللطيف(240/77)
المسرح والسينما
في النقد
1 - يحيا الحب
2 - جاري كوبر في نيويورك
3 - مدخل الممثلين
بقلم محمد علي ناصف
يحيا الحب
قصة هذا الفلم من النوع الكوميدي الشائع الآن في الأفلام الأمريكية وكثيراً ما تكون موضوعات هذه الأفلام تافهة، غير أنها تعوض هذا النقص بجمال الحوار وتعدد المفاجآت المبتكرة وبراعة التمثيل وحسن الإخراج. وقد جاء كذلك (يحيا الحب) من حيث فراغ الموضوع. . . فلننظر إلى نواحي الفلم الأخرى
كان لحوار ركيك الأسلوب خالياً من النكتة والمفاجأة القوية. وقد أثر هذا الضعف في عمل المؤلف، وفي عمل الممثل، وفي عمل المخرج
فمن ناحية التأليف رأينا البرتقال يجنى في الصيف، وموظفاً لا يعرف رئيسَه أصله حتى ولا من شهادة الميلاد
ومن ناحية التمثيل رأينا إحدى الشخصيات خليطاً بين أستاذ في العلوم ومهرج
وليس أدعى إلى إفساد عمل المخرج من أن يتعهد موضوعاً عادي التأليف ضعيف السيناريو مضطرب الشخصيات
ومآخذ الإخراج كثيرة في (يحيا الحب) أهمها في رأيي خلو الفيلم من الحركة
ولقد ذكرت أن قصة الفيلم من النوع الكوميدي ولكنها لم تعالج على هذا الأساس في كثير من الأحايين، لم يعالجها كريم في مشهد ذلك الحلم المبدد، ولم يعالجها رامي في أغانيه، ولم يعالجها عبد الوهاب في ألحانه وتمثيله، واحسب أن مشهد تكسير العود مثلا كان من المستطاع أن يكون من أجمل المشاهد الكوميدية لولا أنهم أخرجوه كأنه مشهد بطل(240/78)
مصروع أو مدينة مخربة
والفلم على وجع عام فقير من ناحية التمثيل إذا استثنينا شخصية رضوان باشا التي مثلها عبد الوارث عسر، ولولا اضطراب شخصية مجاهد بك (أستاذ العلوم) لأعتبر أمين وهبه من المجيدين، ولم يكن عبد القدوس في أحسن حالاته
ولقد حاول عبد الوهاب كثيراً ولكنه لا يزال في حاجة إلى محاولات أخرى ليبدو ممثلاً، ولم يكن مستحسناً ظهوره تارة بالنظارة وأخرى بدونها. وما يقال عن عبد الوهاب من التمثيل يمكن قوله عن ليلى مراد، ولو أن هذا أول أفلامها. وتمتاز ليلى بوجه حسن وعود رشيق يصلحان للشاشة، وصوتها كذلك لا شك في جماله.
وأصلح ألحان الفلم كانت في الموسيقى المصاحبة للشريط وهي من وضع عزيز صادق
أما أغاني الفلم فإذا استثنينا أغنية (يا وابور قولي رايح على فين) وأغنية أخرى على الأكثر، فإن الأغاني الباقية غير مناسبة لطبيعة الفيلم، وقد ماثلتها الألحان كذلك فكانت مليئة باللوعة والتأسي والتفجع
والتصوير في (يحيا الحب) جميل أحياناً، وأحياناً أخرى على النقيض
وما نرجوه لأفلام عبد الوهاب هو أن نحس بتطورها من حسن إلى أحسن وقد أصبحت شركة قديمة غنية جديرة بالاهتمام والمحاسبة
جاري كوبر في نيويورك
لشركة كولومبيا من أحسن أفلام الموسم الماضي، وقد نال عنه مخرجه فرانك كابرا الجائزة الذهبية من أكاديمية الصور والفنون؛ وكانت جمهرة النقاد لا تشك في أن جائزة التمثيل من حق جاري كوبر لدوره في هذا الفيلم لو لم تذهب إلى بول ميوني في (حياة لويس باستير)، ولا يفضل عمل المخرج أو الممثل في هذا الفيلم عمل كاتبه الفذ روبرت ريسكين فالفيلم متعدد نواحي العظمة؛ ولذلك كان استديو مصر موفقاً في اختياره لعمل (دوبلاج) ينطقه بالعربية
وهذه فكرة طريفة قد تلاقي نجاحاً من الناحية المادية وخاصة وهي بداءتها، ولكني أحسب أن التقدير يختلف من الناحية الفنية، وخاصة إذا كان الفيلم قريباً من درجة الكمال كالذي نحن بصدده؛ فلو أن النقاد الذين حكموا له بالتفوق شهدوه كما يعرض الآن لتغير حتما(240/79)
رأيهم؛ فجاري كوبر قد فقد جزءاً كبيراً من شخصيته بفقدان صوته مقابل صوت خال من التأثير وقوة التعبير؛ وروبرت ريسكين قد انحط أسلوبه وفترات نكتته؛ وفرانك كابرا قد أثرت هذه العوامل على مجهوده الكبير فقل شأنه
وقد يكون عمل الأستديو أقرب إلى الإجادة لو أنه بذل عناية أكبر بلغة الحوار وبتخير أصوات تلائم شخصيات الفيلم وتتمايز بعض أصواتها عن بعض، إذ أنه رغم تشابه الأصوات في الفيلم فإن أكثر من شخصية واحدة قد أنطقت بصوت واحد، وهذا اضطراب كان تلافيه من البدهيات
مدخل الممثلين
شهدنا منذ أسابيع قليلة فيلم وهو أول فيلم يمثل مدينة السينما على حقيقتها. وقد لقي بهذه الصفة - فضلاً عن استكمال صفات الفيلم الأخرى - نجاحاً مدوياً بأمريكا وأوروبا وقد أعقبه فليم عن حياة المسرح فصادف نفس النجاح إن لم يفقه في قوة الإخراج وجمال السيناريو
وهو منقول عن مسرحة ناجحة لأدنافيربر وجورج كوفمان مثلت طويلاً على مسارح برودواي. وأعدها للسينما موري ريسكيند وأنتوني فيلر وأخرجها لشركة راديو جريجوري لاكافا الذي لا تزال تذكر له (رجلي جودفري)
وقد بلغ كل من لغة الحوار والتمثيل والإخراج في هذا الفيلم مستوى رفيعاً سيظل أثره ماثلا في أذهاننا طويلا
محمد علي ناصف(240/80)
العدد 241 - بتاريخ: 14 - 02 - 1938(/)
في القرية
من أحاديث العيد
أصبحت القرية الصغيرة غارقة في ضباب أمْشير البارد الأهوج كأنها قِطَع السحاب المركوم جثمت من ثقلها على الأرض. فالجو على قول (هوجو) كستار الغيب المسدول، والنسيم على قول (ابن المعتز) كذيل الغلالة المبلول، ووجه السماء كوجه الصحراء في يوم الدجن لا ترى فيه إلا تلولاً من الغمام الجون وسهولاً من السحاب الِهَفِّ. وكانت جدران المسجد تعج بالتكبير والتهليل، وأفنية الدور تنعم بالعناق والتقبيل، والطرقات من البيوت إلى الزاوية، ومن الزاوية إلى المقبرة، تزدان بالشباب القروي القوي العامل، وهو يطفر من مرح الصبي، ويخطر في زينة العيد، فيكسب الطبيعة العابسة المقرورة بشراً من طلاقة وجهه، وقيساً من حرارة قلبه
أخذت (المناظر) والمصاطب زخرفَها بالقوم بعد أن أقاموا الصلاة لله، وأدّوا الزيارة للموتى، وقدموا التهنئة للأهل، وانفضوا ثقالاً عن سماط العيد، ودارت عليهم أكواب القرفة وسكائر الطَّباق، وتشققت بينهم مقطَّات الحديث، فترامت إلى عيد الملة بحج البيت، وعيد الأمة بمولد الفاروق، وعيد الأسرة بيوم الأضحى. وكان اجتماع هذه الأعياد السنوية الثلاثة في يوم العيد الأسبوعي من مصادفات الدهر النادرة، وموافقات القدّر البعيدة، فتألقت في وجوههم أضواء مختلفة من السرور، وتدفقت في قلوبهم أحاسيس شتى من اللذة؛ منها المنبثق عن مشرق الإيمان بالله، ومنها الصادر عن منبع الإخلاص للمليك، ومنها المنبعث عن فيض النفس الراضية تفتحت في حرارة الحب كما تتفتح الأكمام في دفء الربيع
من الصعب أن تقيد الأحاديث المرسلة إذا جرت بين قوم لا يؤمنون بقواعد الجدل، ولا يحفلون بأمانة التاريخ، ولا يرون الحق للمتكلم أن يتم كلامه أو يشرح رأيه. وحديث الناس في القرية كشقشقة العصافير في الشجرة، تسمع كل عصفور يغرد، ولا ترى عصفوراً واحداً يسمع!
- كل عام وأنتم بخير. واللقاء في العام المقبل إن شاء الله على عرفات!
بهذه التحية وهذه الأمنية أبتدأ الحديث؛ وكأنما كان لفظ عرفات سبباً من الجذب الروحي حوَّل عواطف القوم وأمانيهم إلى مكة! فالذين حجوا أخذوا يذكرون وهم في غمرة الشوق(241/1)
ونشوة الذكرى، تجلى الألوهية في مهابط الوحي، وإشراق النبوة في مطالع الرسالة، ويروون عن كل منسك حديثاً، ويقصون عن كل موقف حادثة. والذين لم يحجوا يصغون إلى صرف الحديث وهم من فعله الساحر في هيام غالب وطرب نزوع. ثم رجع الحديث مشرقَ الحواشي معطر الأطراف من الكعبة إلى عابدين، فأفاضوا في صلاح الملك الشاب وبره، إفاضة الخيال الشاعر في عدل عمر وفضل الرشيد. فهذا يقول إن جلالته يزور القرى متنكراً ليرى بنفسه منابت الشر ومواطن الفقر، فإذا كتب الله النعمة لبيت من البيوت عطفه إليه فدخله دخول الرحمة، وحل به حلول السعادة. ثم يروي الأعاجيب في هذا الباب مما تناقلته الأَفواه في الأسواق ورددته الأَلسنة في المجالس. وهذا يذكر أن الشيخ فلاناً رأى جلالته في المنام والنبي يقبله قبلة الرضى، ويقلده سيف الخلافة، ويِعَده نصر الله ما دام على النهج الواضح والعمِل الصالح والوحدة الجامعة. وذلك يقرر أن غضب الملك الصالح من غضب الله، إذا صُب على الباغي لا تعصمه منه قوة، ولا تدفعه عنه كثرة. لأن غضبه فوق الهوى والطمع، فلا يكون إلا للعدل في جوهره، وللشعب في صميم حقه
ثم انتقل الحديث من غضب الملك إلى حل مجلس النواب، فغاضت البشاشة من الوجوه وقالوا بلهجة الآسف الحزين: عدنا إلى الحرب الضروس، تفتك أسلحتها الأثيمة بالأموال والأنفس والأخلاق والقرابة. فالانتخاب بمآثمه ومغارمه هو المظهر الذي نحسه وتعرفه من مظاهر الدستور. وفترة الانتخاب هي الفرصة التي نرى فيها النائب طول الدورة البرلمانية. ومعركة الانتخاب بين الحكومة والأحزاب، وبين المرشحين والطلاب، هي التي تحمل أولياء الحكومة وأغنياء الأمة على أن يذكروا القرية، ويزوروا الفلاح، ويعطفوا على بؤس الأجير، ويمسحوا على رأس العامل، ويعدونا المواعيد، ويمنونا المنى، ويصوروا لنا البرلمان في صورة المسيح المنتظر؛ فلا ظلم وهو منعقد، ولا بؤس وهو قائم! فنقطع في رضاهم القرابة، وتنقض في سبيلهم الجوار، ونتحمل في نجاحهم العنت؛ حتى إذا فاز النائب، والتأم المجلس، وحكم الدستور، انصرف البرلمان إلى الأحزاب، واشتغلت الحكومة بالموظفين، واهتم النائب بنفسه! أما القرية والفلاح، وأما الدائرة والناخب، فمرآهم مقتحمَ العين، وشكواهم دْبرَ الأذن
ذلك بعض حديث القوم. وهو على سذاجته أو قل على تفاهته أخف على القلب وأندى على(241/2)
الكبد من حديث يزوره كاتب يتعاطى الأَدب، أو خطيب يحترف السياسة
أحمد حسن الزيات(241/3)
من مآسي التاريخ الإسلامي
فرار عبد الرحمن الداخل
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس بين أمراء الدولة الأموية، سواء في الشام أو الأندلس، من تقدم إلينا حياته وسيرته تلك الصفحة المدهشة التي يقدمها إلينا عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل؛ فقد كان هذا الأمير بطل مأساة خارقة مؤثرة؛ ولم تكن روعة هذه الصفحة في أنه أقام من العدم ملكاً عظيماً فقط، وأقام لمجد أسرته الذاهب صرحاً شامخاً فحسب، ولكن روعتها تبدو بنوع خاص في معترك المحن الأليمة التي نشأ في غمارها هذا الأمير القوي النابه. وإذا كانت حياته السياسية لا تحمل على كثير من الحب، وتبدو لنا حياة مغامر يشق طريقه إلى السلطان بوسائل ليست دائماً مشروعة، فان المحنة التي طبعت بها حياته الخاصة، وما صقلت هذه المحنة من خلاله الباهرة، لمما يستثير منا أيما عطف وإعجاب
وقد لا نجد لحياة الداخل صورة أبلغ وأقوى من تلك التي رسمها لنا خصمه وعدو أسرته أبو جعفر المنصور العباسي إذ نعته بصقر قريش، ولخص لنا حياته المدهشة في قوله: (عبر القفر، ودخل بلداً أعجمياً منفرداً بنفسه، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلّلا له صعبه؛ وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين بطيب عترته واجتماع شيعته؛ وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين)
تلك هي حياة عبد الرحمن بن معاوية، حياة نشأت من العدم، وسلسلة حافلة بالمحن والصعاب الفادحة، تبدأ في المشرق بفرار عبد الرحمن أمام مطارديه وقتله أسرته ومغتصبي عرش آبائه وأجداده، وتنتهي في الغرب وبسائط الأندلس بالظفر والملك الموطد. ولقد كان هذا الفرار أول وأعجب فصل في هذه المأساة، وكان عنوان القدر المدهش يدبر من الحوادث الواقعة ما لا يخطر تصوره على الذهن المغرق في الخيال
كانت سنة 132هـ سنة حاسمة في تاريخ الإسلام والخلافة، ففيها أنهار صرح الدولة(241/4)
الأموية تحت ضربات بني العباس، وقامت في المشرق خلافة جديدة هي الخلافة العباسية؛ ورأت العصبة العباسية الظافرة أن تتوج ظفرها بسحق الأسرة التي استولت على تراثها واجتثاث أصولها وفروعها، فنظمت مطاردتها الشهيرة لبني أمية، وتتبعتهم بالقتل الذريع في كل مكان، وقتلت منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة ولم تبق حتى على النساء والأطفال؛ ولكن هذه المطاردة الدموية الشاملة لم تجتث الشجرة من أصلها، وشاء القدر أن يفلت بعض فروعها، وأن يزكوا ليستعيد أصله الراسخ في أرض أخرى؛ فكان ممن نجا من المذبحة الهائلة فتى من ولد هشام بن عبد الملك، اختاره القدر ليحمل مصاير الدولة الأموية إلى وجهة أخرى
هذا الفتى هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام. وكان وقت أن حلت النكبة بأسرته يقيم مع أهله وإخوانه في قرية تعرف بدير يوحنا من أعمال قنسرين، وفيها كان مولده قبل ذلك بعشرين عاماً؛ وكان أبوه معاوية قد توفى شاباً في أيام أبيه هشام، فكفله واخوته جدهم هشام؛ ولما وقعت النكبة وأمعن الظافرون في مطاردة بني أمية فر عبد الرحمن بأهله وولده إلى ناحية الفرات وحل هنالك ببعض القرى، واختفى بها حيناً يدبر أمره؛ وكان يرقب الموت في كل لحظة، ولكنه كان في الوقت نفسه يتجه بذهنه إلى مستقبل بعيد غامض. وبينا هو في هذا الجزع القاتل يدبر أمره، وإذا بجند المسودة تطوق القرية، وتستقصي آثار بني أمية؛ وإذا بعيد الرحمن يرى شبح الموت أمامه فجأة، فيحاول اجتنابه بالفرار من مطارديه
وقد انتهت إلينا عن هذا الفرار قصة مؤثرة نقلها إلينا مؤرخ أندلسي مجهول عن لسان عبد الرحمن ذاته، ونقلها عنه بعد ذلك أبو حيان مؤرخ الأندلس وخلاصتها أن عبد الرحمن حينما علم أن القرية قد غصت بجند المسودة، بادر إلى شيء من المال فحمله، وفر مع أخيه الأصغر، وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره، وقصدا إلى شاطئ النهر (الفرات) فدل عليه بعض الخونة فما شعر إلا والخيل في أثره، فألقى بنفسه في النهر مع أخيه وأخذا يقطعانه سباحة، واستطاع عبد الرحمن أن يصل إلى الضفة الأخرى؛ ولكن الغلام عجز عن قطعه، وآثر أن يعود إلى الضفة الأولى بعد أن وعده الجند المطاردون بالأمان؛ ولكنه ما كاد يقع في أيديهم حتى انقضوا عليه وقطعوا رأسه أمام عيني أخيه وقلبه يتفطر روعة(241/5)
وأسى
ولما أمن عبد الرحمن خطر مطارديه سار مختفياً إلى الجنوب وقطع فلسطين ثم مصر، وهو يحمل حياته في كفه متأهباً للقاء الموت في كل لحظة. وكانت عيون العباسيين ترقبه وتشيعه خلال هذه الهضبات والفيافي الشاسعة، وتكاد تكشفه من آونة إلى أخرى؛ ولكن طالعه كان يهديه، فجاز مصر إلى برقة ناجياً بنفسه، والتجأ إلى أخواله بني نفرة، وهم بطن من بربر طرابلس وكانت أمه بربرية منهم تدعى راح، وأقام لديهم يرقب الفرص، وأنفذت إليه أخته أم الأصبغ مولييه بدراً وسالماً ومعهما شيء من المال والجوهر. والظاهر أن عبد الرحمن كان يتجه منذ الساعة الأولى ببصره إلى إفريقية، وأن نفسه كانت تحدثه بما قد يكون له في الأندلس من شأن. فلما هدأ روعه استأنف سيره، ونفذ إلى إفريقية يحاول اختراقها؛ وكان المتغلب عليها يومئذ عبد الرحمن ابن حبيب الفهري، وكان وقت أن دالت دولة بني أمية في المشرق قد دعا لبني العباس، وكان يخشى على سلطانه من ظهور بني أمية في إفريقية، فطارد اللاجئين إليها منهم، وقتل بعضهم واعتقل البعض الآخر وصادر أموالهم. ولما شعر بظهور عبد الرحمن بن معاوية حاول القبض عليه، ولكن عبد الرحمن استطاع أن يتجنب المطاردة، وأن ينجو مع صحبه إلى المغرب الأقصى
وهنا تتفتح آمال عبد الرحمن وأطماعه؛ فعلى مقربة منه في الضفة الأخرى من البحر بلد غني زاهر من تراث الدولة الأموية الذاهبة لم تمتد إليه يد المسودة، ولم تقتحمه دعوتهم، وفيه عصبة قوية من بني أمية وأنصارهم ومواليهم، وفيه يستطيع - إذا حالفه حسن الطالع - أن يعيد بناء الصرح الذي انهار في المشرق، ويستأنف لأسرته حياة جديدة في السلطان والملك. وكانت الأندلس في الواقع، منذ انجلت عنها يد السلطة المركزية، مهبط الطامعين والمتغلبين، وكان يحكمها ويقودها يومئذ يوسف ابن عبد الرحمن الفهري؛ وكان قد وليها قبل ذلك بنحو عشرة أعوام باتفاق الجماعة عقب معارك داخلية طاحنة، ولكن حكمه لم يتوج قط بالصبغة الشرعية؛ ولم تستكن الأندلس نهائياً إلى حكمه بل كانت تتطلع دائماً إلى مصيرها وترجو أن تظفر بالاستقرار السياسي في ظل أميرها الشرعي. وهكذا فإن عبد الرحمن الأموي حينما سبر غور أحوال الجزيرة على يد بعض رسله وموالي أسرته، آنس أملاً في العمل وفي النجاح؛ ثم عبر إلى الجزيرة، والتقى في أنصاره وعصبته بيوسف(241/6)
وقواته في (المسارّة) على مقربة من قرطبة في أوائل ذي الحجة 137هـ (756م)؛ وكان النصر حليفه، إذ هُزم يوسف وحلفاؤه هزيمة شديدة، ودخل عبد الرحمن قرطبة في يوم الأضحى، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً
على أن يوم المسارة كان بالنسبة لعبد الرحمن فاتحة الظفر لا غايته؛ فقد استطاع بعد أحداث وخطوب جمة أن يجوز إلى الأندلس، وأن يفتتح عاصمتها وينتزع إمارتها لنفسه؛ ولكنه ظفر بعرش لم يتوطد سلطانه؛ وكان ثمة بينه وبين ملك الأندلس الحقيقي مراحل شاقة؛ بيد أن هذا الفتى الذي شحذت المحنة والخطوب هممه، استقبل مهمته الفادحة بعزم مدهش، وقضى بقية حكمه وحياته ثلاثة وثلاثين عاماً يغالب صعاباً لا نهاية لها. وكانت الأندلس خلال هذه الفترة كالبركان الثائر، يضطرم كل يوم في ناحية، فلا تكاد الثورة تخمد في ناحية منها حتى تضطرم في ناحية أخرى. وكان عبد الرحمن في خططه وأساليبه طوال هذه المعركة مثال الجرأة والصرامة والقسوة، بيد أنها لم تكن شهوات طاغية ظامئ إلى الدم، بل كانت أساليب عنف يمليها العنف والخطر الداهم. كان عبد الرحمن يعيش من يوم إلى يوم في غمر الخلاف والثورة والخيانة، ولم يترك له الكفاح المضطرم المستمر فرصاً كثيرة لأعمال السلم، بيد أنه خرج ظافراً من المعركة، ظافراً بإعادة الصرح الأموي الذي تهدم في المشرق؛ وتوطيد دعائم الملك الذي غلب، وإنشاء أسرة أموية جديدة في الغرب، قدر لها أن تسير بالأندلس في سبيل العظمة والفخار أحقابا
بيد أن هذا الظفر الباهر كانت تغشاه دائماً آلام نفس معذبة ذلك أن المحنة طبعت نفس عبد الرحمن وروحه إلى الأبد بطابع الكآبة والشجن؛ وهو لم ينس قط أنه سليل دوحة تقصفت واجتثت أصولها الراسخة حيث كانت يانعة زاهرة، وأنها اجتثت في مناظر دموية مروعة كان من شهودها وكاد يغدو في ضحاياها؛ ومن ثم نراه حتى آخر حياته محزون النفس يتلهف على ماضيه، ويبكي مجد أسرته، ويتحسر على فراق وطنه، وعلى نفيه وغربته وقد انتهت إلينا من شعره أبيات مؤثرة تفصح عن آلامه المعنوية مثل قوله في التشوق إلى ربوع الشام:
أيهذا الركب الميمم أرضى ... أقْر من بعضيَ السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض(241/7)
قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي
وقوله وقد رأى في الرصافة نخلة منفردة:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الاقصاء والمنتأي مثلي
تلك هي مأساة عبد الرحمن الداخل؛ ونقول مأساة لأن الظفر الذي اختتمت به لم ينزع عن هذه الحياة الشاقة لونها المؤسي. وقد كان الداخل بلا ريب من أعظم شخصيات التاريخ الأندلسي؛ بيد أنه في حياته الخاصة يبدو لنا دائماً ذلك الطريد تثير محنته وآلامه في النفس شجنا، قبل أن تثير أعماله الحافلة في النفس إعجاباً
محمد عبد الله عنان(241/8)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 10 -
أقف قليلاً حتى أستعد لتدوين ما سمعت من ظمياء. وأشهد أني سمعت بقية حديثها وأنا كاره، لأن أسم عبد الحسيب أصبح يزعجني، فهو الحبيب الأول، وأنا إن شاء الهوى سأكون الحبيب الثاني. وحماسة ظمياء في سرد القصة قد تنتهي بتذكير ليلى بماضيها فتنتكس وتضيع من يدي، لا قدّر الله ولا سمح. وهل أملك زمانها إلا إن وصلتُ بها إلى ساحل العافية؟ كتب الله لها السلامة، وشفى من أجلها جميع المرضى من الملاح!
ومن واجبي نحو نفسي أن أنص بصراحة على أني لست لئيماً كل اللؤم في هذه القضية - وما أبرئ نفسي، إن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي - فأنا أحب أن تُعافَي ليلى لأنفرد بهواها، ولكني مع ذلك أشعر في بعض الأحيان أني أخدمها بإخلاص، فانه يعز عليّ والله أن تُعطب سيدة لها مثل طرفها الساحر، وصوتها الرخيم. يعزّ عليّ أن تعطب مثل تلك الإنسانة وإن خلت منها يدي، وهذه فيما أظن أول مرة أشعر فيها بحلاوة الصدق، فقد مضت أعوام وأنا لا أداوي امرأة جميلة إلا هممت بخطفها من زوجها. وقد وقعت لي من ذلك حوادث سيطول عليها ندمي، حين أثب إلى رشُدي، أنا الطبيب الآثم الذي زعزع عروش السعادة في كثير من البيوت
أنا أشعر حقاً وصدقاً أن ليلى تهمني؛ وأشعر حقاً وصدقاُ أني مستعد للتضحية بنصيبي من هواها؛ ولكن ما الذي يمنع من الجمع بين المزيتين: عافيتها وسعادتي؟ يمكن بسهولة أن تصير محبوبتي بلا بغي ولا عُدوان، والخلاصة أني أريد أن يُنسى اسم عبد الحسيب، ولكن كيف؟ إن قصته تهمني جداً، لأنها ستعلمني كيف أسوس ليلى، وهذا بيت القصيد، فقد أصبح مفهوماً عندي أنه كان (عبيطاً) لا يعرف ما يأتي وما يدع. وكان مصيره أن يُحرم عطف ليلى، فيمرض هو في مصر، وتمرض هي في العراق، وما احب أن أكون ثالث المرضى!
يضاف إلى هذا أن ظمياء ستتكلم أيضاً عن درية أخت عبد الحسيب؛ وهذا الاسم يهمني جداً، ولا اعرف السبب في ذلك، ولعلي أعرف بعد حين، فقد تتذكر الإنسانة التي تحمل(241/9)
هذا الاسم الجميل أن الفتى الذي كان يصارحها وتكاتمه لم ينس أن جسمها كان أخصب حسم تبختر واختال في شارع فؤاد. ولعلها تمرض هي أيضاً فيُدَعى لها الطبيب الذي يداوي ليلى المريضة في العراق
درية، متى تمرضين؟ إخص عليك! بل متى تتصنعين المرض لأراك - في غير ريبة - ممدَّدة على السرير؟ متى؟ متى؟ إن بلائي سيطول!
أنا أغار من اسم عبد الحسيب، فليؤجّل حديثه لحظات، ولأدوِّن بعض الوقائع المتصلة بهذه الأحاديث
1 - بجوار دار المعلمين العالية رجل يجلس على الأرض و (يضرب الرمل) وهو معروف لسائر أهل بغداد، وهو يذكرني بأمثاله من الذين كنت أستخبرهم مصيري في الحب حين كنت أمشي بشارع الخليج. وما كنت أول محب استخبر الرمل، فزميلي البهاء زهير تنطق أشعاره بأنه كان يعرف جميع من (يضربون الرمل) بالقاهرة
أقول إني أقف دقائق كل صباح حول بساط هذا الرجل وأنا في طريقي إلى الدرس، والطلبة يمرون فلا ينتقدون أستاذهم، لأنهم سمعوا أنه أديب فيلسوف لا يهمه غير الوقوف على أحوال المجتمع. ولكن الواقع غير ذلك، الواقع أني بدأت أتخوف مصيري في هوى ليلى، وأصبحت كالطفل أصدّق كل شيء. ولكن كيف أستخبر الرمل والطلبة يغدون ويروحون وأكثرهم يحمل المصورات الشمسية، وفي مقدورهم أن يأخذوا صورتي على تلك الحال ويقدموها إلى الجرائد فأصبح محور السمر الساخر في الأندية والمعاهد؟
الحل سهل: أنتظر ذهاب الطلبة للغداء ثم أعرج على ضارب الرمل لأشوف بختي
كذلك فعلت
ويلاه! ماذا تصنع المقادير؟
أنا أجلس أمام أحد الدراويش في بغداد لأشوف بختي، وأنا الذي غلبت الساحر الهندي على شاطئ الإسكندرية في صيف سنة 1934؟
ليت أيامي تعود!
فما زلت أذكر كيف أعطاني ذلك الساحر الهندي عشرين ديناراً في سبيل أن أترك له التفرد بقراءة الكف لمن يحج ذلك الشاطئ من الظبيات(241/10)
وخلاصة القصة أني ذهبت في ضحى يوم صائف إلى خليج ستانلي، ونزلت بثوب البحر إلى ملعب الغزلان، فرأيت فقيراً هندياً يقرأ الكف لفتاة ناهد تشبه أفروديت، أو تشبهها أفروديت، فجلست بجانبهما جلسة الباحث المتعقب، لا جلسة اللاهي اللاعب، وما هي إلا لحظات حتى قلت بصوت الواثق بصحة ما يقول: على رِسلك أيها الساحر، فأنت فيما يظهر قليل العلم بأسرار الكف، وما يجوز لك أن تشغل فتاة بمصيرها على غير هدى. أين تعلمت هذا العلم أيها الدرويش الجهول!
فانزعج الرجل انزعاجاً شديداً، وفقراء الهنود ضعاف العزائم والقلوب في أكثر الأحيان
ونظرت الفتاة في استغراب وقالت: وحضرتك تعرف علم الكف؟
فقلت، وأقسم ما قلت غير الصدق: نعم أعرف علم الكف وهو خير ما تعلمت في باريس!
فانعطفت الفتاة في تخاذل وقالت: تسمح تقرأ لي كفي!
فأخذت يدها ونظرت إلى صدرها مرة وعينيها مرتين، ثم شرعت أقص عليها أخبار المستقبل وما فيه من ابتسام وأنين
وما هي إلا دقائق حتى كنت ساحر الشاطئ
فهل تعود أيامي؟ هل تعود؟ أمري إلى الهوى!
وتخاذل الساحر الهندي وتضعضع وأقبل يسر في أذني: تتفضل بكلمة؟ فقلت: نعم. وانتحينا بعيداً عن أسماع الظباء فقال: أعرف أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأعرف ثانياً أني أعلم منك بقراءة الكف، ولكني واثق بالهزيمة إذا ناضلتك، لأنك تحدث الفتياتِ بأحاديث أجهلها كل الجهل، ويغلب على ظني أنك لا تقرأ الكف، وإنما تقرأ العيون، ولا علم لي وحياة غاندي بلغة العيون
فقلت: وماذا تريد، أيها الشيخ؟
فقال: أرجو أن تبيعني هذا الميدان
(وعندئذ تذكرت أني موظف في الحكومة المصرية وأن من الممكن أن يتعقبني مندوب (آخر ساعة) أو مندوب (روزاليوسف) أو مندوب (الصباح)، وأن من العقل أن أقبض ما يمكن قبضه وأترك الميدان)
- وماذا تقدم يا شيخ؟(241/11)
- أقدم عشرة دنانير
- أنا أترك لك هذا الميدان من أجل عشرة دنانير؟ هيهات!
- يا سيد، أنت في وطنك وأنا غريب
- ونحن لا نترك خيرات بلادنا للأجانب
- أنا لست أجنبياً بالمعنى البغيض لهذه الكلمة، فأنا مسلم مثلك وأتكلم اللغة العربية
- إنك رجل لبق يا شيخ، ولكني لا أترك هذا الميدان بعشرة دنانير
- أنا لم أغنم من هذا الموسم غير أربعين ديناراً
- أنت إذاً جهول! ولو كنت مكانك لجمعت ألف دينار في شهرين
- هذا ما وقع وأنت تعرف يا سيدي أن عمل السحر صار قليل المكاسب بفضل المقالات التي تكتب ضده كل يوم. وأنت يا زميلي تعرف ما جنت علينا حذلقة أصحاب الجرائد والمجلات
- إذن تدفع عشرين وتحفظ لنفسك عشرين
فقبل الرجل وقدم المبلغ، فأخذته وانصرفت
وقد علمت بعد ذلك أن عرائس الشاطئ شككن في قدرته على فهم أسرار الكف فبار سوقه وضاع
أما أنا فمضيت في دراسة هذا العلم النفيس حتى تفوقت فيه، ولكل مجتهد نصيب
أليس من الغريب أن يكون هذا حالي في العلم بمصاير القلوب ثم أجهل مصير قلبي؟
إن هذا لدليل على ضعف القدرة البشرية، إن كان ذلك ما يرتاب فيه الزنادقة والملحدون
جلست إلى الرمل أستلهمه وأستوحيه، والأمر للهوى
- يابا، يابا
- نعي يا عمي
- لك أعداء في الشام، وسينصرك الله عليهم
- طيب، طيب! (وماذا جنيت حتى يكون لي أعداء في الشام أو لبنان؟)
- ولك أعداء في مصر، وسينصرك الله عليهم، قل آمين
- آمين، آمين!(241/12)
- ولك في العراق فرد عدو (يعني عدواً واحداً)
- طيب
- ويجيء إليك فرد مكتوب
- من وين يا عمي؟
- من بغداد
- خير، خير
- وأنت تحب فرد امرأة، وأكُو ناس يحسدونك
- أكو خوف يا عمي؟
- ماكو خوف، ولكن احترس
فنفحت الرجل درهما ومضيت
وبالقرب من جامع مرجان سمعت صوتاً يناديني فالتفت فإذا أحد سعاة البريد يقدم إليّ خطاباً فعجبت من أن تفضحني ليلى إلى هذا الحد، ونظرت فرأيت العنوان مكتوباً بهذه الصورة الطريفة:
(لحضرة الأستاذ الخفيف الروح الدكتور زكي مبارك
يسلم إليه أثناء تجواله في شوارع بغداد!!)
شيء ظريف حقاً! وأي ظرف أروع وأمتع من أن تصبح دار إقامتي موزعة بين شوارع بغداد، وأن ترى مصلحة البريد أنها مسئولة عن البحث عني في شوارع بغداد؟
إن مرسل هذا الخطاب لابد أن يكون أظرف الناس. وإذا كان العنوان بهذه الصورة من اللطف فسيكون الخطاب ولا ريب آية الآيات في خفة الظل ولطف النسيم
ولكني ما كدت أفض الظرف وأنظر الخطاب حتى انزعجت. فهو بغير إمضاء وكاتبه ينهاني عن عيادة ليلى، ويهددني بالقتل. . . أمري إلى الله لا إلى الهوى!
ورأيت أن أحتاط لنفسي فذهبت أستشير صديقاً بالمفوضية المصرية سبقني إلى العراق بسنتين؛ فكان من رأيه أن أبلغ الخطاب إلى الشرطة. وأكد لي أن العراقيين لا يعرفون المزاح في هذه الشؤون. وبعد ساعة من تسلم الخطاب كنت عند سعادة رئيس الشرطة، فكان أول كلامه بعد رد التحية أن قال:(241/13)
- إيش لون ليلى؟
- أهدّد من أجلها بالقتل!
وقدمت إليه الخطاب فكان يقرأ والغضب ينقله من لون إلى لون، ثم ابتسم فجأة وقال:
- ولكنه صفح عنك!
- صفح عني؟ وكيف؟
- ألم تقرأ هذه الجملة؟
ونظرت فإذا في نهاية الخطاب (ولكني عدلت عن هذا الخاطر لأني إذا قتلتك قتلت معك علماً غزيراً في الطب، وذوقاً دقيقاً في الأدب) فعجبت أن تفوتني هذه الجملة، ولكن يظهر أن انزعاجي صرفني عن استيعاب الخطاب؛ والتهديد بالقتل يصنع أشنع من ذلك. عافى الله قراء هذه المذكرات من الأسواء
ولما اطمأننت إلى صفح غريمي في هوى ليلى تشجعت وقلت: ومع هذا فأنا لا أبالي أحداً، وقديماً قال جميل:
فليت رجالاً فيكِ قد نذروا دمي ... وهَّموا بقتلي يابثين لقوني
إذا ما رأوني طالعاً من ثَّنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني
فقال رئيس الشرطة وهو يبتسم: يجب أن تثق يا دكتور أن العراقيين يفدون ضيوفهم بالأرواح، وهم لا يخافون عليك إلا عادية هواك
2 - تفضل سكرتير محطة الإذاعة العراقية فدعاني لإلقاء محاضرة عن الحِكم العطائية؛ وأنا فيما يظهر رجل خدّاع، فقد ظن الأستاذ فؤاد جميل أني أصلح الناس للكلام عن حِكم ابن عطاء الله؛ ولعل حياتي في بغداد هي التي هدته إلى ذلك، فقد رآني أحفظ آداب الصيام، وأؤدي الفرائض والنوافل، فظنني رجلاً تقياً، ونسى هذا الأديب أن الغريب لا فضل له في التخلق بمكارم الأخلاق. وهل يستطيع رجل مثلي أن ينحرف عن الصراط المستقيم في بغداد؟ إن استقامتي في هذه المدينة ليست إلا ضرباً من الآداب الصناعية، ولن تكون لها قيمة إلا إذا عاملني الله عز شأنه بالمثل المأثور
(يؤجر المؤمن رغم أنفه)
وهنا أشعر بأن الله تباركت أسماؤه خصني بمزية قليلة الأمثال، فأنا أحاسب نفسي قبل أن(241/14)
يحاسبني الناس، وأدوّن عيوبي قبل أن يدونها الكرام الكاتبون، وربما كنت الرجل الوحيد الذي يخفي حسناته - إن كانت له حسنات - حتى لا تزل قدمه في مز الق الرياء
أقول إني ألقيت محاضرة في محطة الإذاعة عن حِكم ابن عطاء الله، ولكني ما كدت أودع جمهور المستمعين حتى كان المذياع يجلجل:
يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وكانت لحظة طرب لن أنساها ما حييت، فاسم ليلى يشوقني، وبفضل ليلى رأيت العراق. وبدا لي أن أسأل عن صاحب الفضل في إمتاعي بهذا الصوت، فعرفت أنه الأستاذ يونس بحري صاحب جريدة العُقاب. ويونس بحري أديب شرب ماء النيل، وذاق لذة الأسمار في القاهرة، وعرف كيف تطيب الأصائل والعشيات في مصر الجديدة والزمالك والمعادي وحلوان، وتمرغ على الرمل المقدس: رمل الإسكندرية وبور سعيد ودمياط، وقد شاء له وفاؤه لمصر أن يؤنسني بهذا الصوت، لأنه يعرف أني طبيب ليلى، ولأنه يعرف أن السيدة نادرة حضرت نادي الصحافة منذ سنين فلم تر إلا أن تجلس بجانبي عند اخذ الصورة التاريخية ليصح لها أن تقول إنها رسمت وبجانبها قلب خفّاق
وليس من التزيد أن أقول إن محاضراتي في الإذاعة ينتظرها الناس في جميع أرجاء العراق؛ وكذلك كان إلقاء ذلك الصوت بعد محاضرتي شاهداً على حلاه الدعابة العراقية التي خلدها أبو الفرج الأصفهاني على وجه الزمان
جلست بعد المحاضرة أستمع هذا الصوت، والرفاق يضجون من حولي بالضحك وفاتهم أني صرت كالذي قال:
بكيت عينيَ اليسرى فلما زجرتها ... عن الحلم بعد الجهل أسبلتا معا
فقد كنت أعرف أن ليلى تسمع، وكنت أعرف أنها ستطرب لهذا الصوت الذي حبسه البغداديون عن أذنيها خمس سنين، وكنت أعرف أنها لو رأتني لقّبلتني. ولكن هل تقبّلني ليلى؟ ليت ثم ليت!
وخرجت من دار الإذاعة فعبرت دجلة من الكرخ إلى بغداد وأنا في ذهول، فحدثتني النفس بحلاوة الغرق في ذلك النهر الذي وعَى ما وعَى، وضيَّع ما ضيَّع، من أسرار القلوب. ثم تذكرت ديوني في القاهرة، ديوني للوجوه الصِّباح التي تعطّر بأنفاسها نسائم مصر الجديدة(241/15)
والزمالك، وديوني لعرائس دمياط اللائى تفردن بنعومة الأجسام وعذوبة الأحاديث:
رباه صُغْتَ فؤادي ... من الأسى والحنين
ولم تشأ لضلوعي ... غير الجوى والشجون
فكيف تصفو حياتي ... من الهوى والفُتُون
أم كيف تُرجى نجاتي ... من ساجيات الجفون
وهل من الإثم في هوى ليلى أن أحنّ إلى هوايَ في القاهرة عروس الشرق؟
هل من الآثم في هوى ليلى أن أتذكر غَبُوقي بمصر الجديدة وصَبُوحي بالزمالك؟
هل من الآثم في هوى ليلى أن أقول إني أبذل دمي إن استطعت لأفضي ليلة واحدة في ضيافة ليلى الصحيحة في حلوان؟
متى تعود أيامي وأستأنف اختطاف القبلات في القطار بين المعادي وحلوان؟!
وما كنت أنتظر أن يخط قلمي أمثال هذه الاعترافات، ولكني أحب أن تغار الإنسانة التي سيخلِّد اسمها شارع العباس ابن الأحنف في بغداد، فإن غارت فهي ليلى بنت ليل وإلا فهي صخرة تغمرها الثلوج في أقاصي الشمال
وأقسم لئن لم تنته عن تغافلها البغيض لأحدثنها عن لياليّ وأيامي في فندق مينا هاوس بسفح الأهرام؛ ولئن فعلت لأصوّبنَ إلى صدرها سهماً مسموماً لا يُرجى منه شفاه
ليلى، يا بنت الفرات!
أمري وأمرك إلى الهوى، فإليه ترجع القلوب!
ألم يأن لي أن أعود إلى حديث الضابط عبد الحسيب؟
إن حديثه لن يصل إلى ليلى حتى أكون أنسيتُها كل من في الوجود. وهل أمكنَ يوماً أن يكون لي فيمن أحب شريك؟ فلتقص حديث ذلك الغريم بلا تهيب ولا إشفاق
قالت ظمياء (وما أعذب كلام ظمياء)
- وأفاض الشيخ دعاس في شرح الاستشراق والاستغراب ففهمنا أن المستشرق هو الذي يدّعي علم الشرق، والمستغرب هو الذي يدّعى علم الغرب. ثم تشعب الحديث من فن إلى فن، فانتقلنا من الأدب إلى السياسة؛ وليلى لم تشاطرنا الحديث، فقد كانت مشغولة البال بانتظار عبد الحسيب. وكانت ترجو أن يكون هو الفتى الذي رافقناه في قطار المعرض.(241/16)
وبعد ساعات مرت على ليلى كأنها أعوام دخل شاب أخضر العينين، وكان هو يا مولاي، هو نفس الفتى الذي دارت معه ليلى في قطار المعرض دورتين
- وكيف كان التلاقي؟
- فرّت ليلى من وجهه فرار الظبية الضعيفة من القانص الظلوم، فانزوت في أحد أركان البيت. وألحت السيدة نجلاء في أن تتفضل ليلى بالسلام عليه، فاعتذرتْ بأن سلام الفتاة على الفتى وهي ليست من محارمه أدب تنكره حرائر العراق
(للحديث شجون)
زكي مبارك(241/17)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 9 -
(يتفتح الطفل باللعب كما تتفتح الزهرة)
(فروبل)
(الفرق بين مخ أرقى قرد وأحط إنسان أكبر بكثير من الفرق
بين مخ أرقى إنسان وأحط إنسان)
(البيولوجيا)
الناحيتان البيولوجية والفسيولوجية
شرحنا في المقالات السالفة عملية التربية على ضوء الفلسفة وأشرنا إلى بعض (ما يجب أن يكون) وعلينا اليوم أن نرجع إلى (مجموعة العلوم) التي تتناول (الإنسان) بالدراسة والتحليل لنسمع كلمتها فيه، ولنتخذ من نتائجها المحتومة كل ما يفيدنا في تكوين (بطلنا المنشود)! وفي ذلك بالطبع من زيادة الشرح وتكميل النقص ما فيه
ستسأل: وما هذه (العلوم)؟ وسأجيبك بأن ما يهمنا منها هو علوم الحياة ووظائف الأعضاء والنفس والاجتماع؛ ثم ستسأل: وما علاقة ذلك بالفلسفة؟ وسأقول إن من خصائص الفلسفة الحديثة النظر في مبادئ العلوم ونتائجها، والخروج منها بوحدة متسقة منسجمة فيها من المعنى الجامع، والتفسير الشامل، والاتجاه العام، الشيء الكثير. وما دمنا في التربية حيال تلك القطعة الفذة من الخليقة (وأعني بها الإنسان) فلا بد لنا أولاً من أن نحاول فهمها وكشف خفاياها، حتى لا تكون أقوالنا عنها خيالية غير مجدية، وحتى نستطيع بعد حل لغزها بالعلوم المختلفة أن نسير بها إلى كل ما تتطلبه طبيعتها، وتحتمله قواها ويسمح به استعدادها. فترى ما هي كلمة البيولوجيا والفسيولوجيا في الإنسان؟ الجواب كما يلي:(241/18)
الناحية البيولوجية
وقد أصبحت هذه الناحية هامة وجديرة بالاعتبار في التربية ولا سيما بعد أن ظهرت (نظرية التطور) ووضعت الإنسان في مكانه بين سائر المخلوقات. ولعلك تعرف أن محور البحث هنا يدور حول الكائن الحي من حيث ملاءمته بين نفسه وبين بيئته. ومع كل فلا يهمنا من ذلك في التربية إلا المخ، والطفولة، والعقل
(1) فأما المخ فقد ثبت نهائياً أنه في (الإنسان) أكبر الأمخاخ بالنسبة للجسم، وأن الفرق بين مخ أرقى قرد وأحط إنسان أكبر بكثير من الفرق بين مخ أرقى إنسان. وقد لوحظ أن القابلية للتعلم والتهذيب تتمشى من كبر المخ تمشياً مطرداً، وإذن فمعنى كبر المخ في الإنسان هو القابلية العظمى للتربية، وقيام المخ ذاته مقام الانتخاب الطبيعي وجوهرية عملية التعليم ذاتها بالنسبة للإنسان والقدرة الكبيرة على التخلص من الغرائز أو تهذيبها ما دام المخ يستطيع أن يقوم مقامها.
(2) وأما طفولة الإنسان فهي أطول طفولة معروفة، إذ بينا يصير فرخ الطير قادراً على الاستقلال بنفسه بعد أيام قليلة، لا يصير ابن الإنسان كذلك إلا في سن لا تقل عن العشرين في الشعوب الراقية على الخصوص. وإذن فالتربية السليمة هنا أداة لا مندوحة عنها لأحكام عملية النمو وتحقيق آمال الجماعة في أفرادها
(3) بقي (العقل) وقد أثبتت جميع تجارب الباتولوجيا والتشريح والفصل الجزئي علاقته التامة بالمخ المشتمل على المراكز العليا التي تقوم بالعمل المُروي تاركة الأفعال العكسية واستجابات الغرائز للمراكز السفلى في العمود الفقري. وهذا (المخ) قابل للتربية كما يقول الأستاذ ولا سيما في سن الطفولة والشباب لأنه يكون حينذاك (مرناً) سريع التأثر، وإذاً فميسور تقوية نسيجه وقواه بتكوين عادات عصبية توفر الوقت وتترك للعقل فرصة للتفكير فيما هو أرقى من (الدفاع) الذي يبدو أنه الوظيفة الأساسية للجهاز العصبي عند الحيوانات جميعاً. والتربية هنا توقظ القوى النائمة، وتحفز المستيقظة، وتربط الرذيلة بالألم، والفضيلة باللذة؛ وتغرس العادات الحسنة التي قد تعادل الغرائز في قوتها. ويؤكد الأستاذ بعد هذا أن الجهاز العصبي في الأمم المتعلمة أقدر على قبول التربية منه في الأمم الأخرى. وإذاً فالفرق بين الوحشية والتمدن هو في الحقيقة فرق بين مخ يستجيب صاحبه للغرائز(241/19)
الطبيعية استجابة الحيوان، ومخ يستجيب صاحبه لها استجابات حرة مهذبة معدلة فيها التسامي والتعويض، والكبت والتحوير!
ولكن هل ترمي التربية إلى جعل جميع أعمالنا آلية عديمة الشعور؟ الجواب كلا! ذلك أن العقل الآلي لا يصلح قط للظروف الاجتماعية الدائمة التغير والتشكل. وإذاً فهي ترمي إلى إدخال عنصر (الشعور) في الأعمال حتى يمكنها إحكام التصرف على ضوئه المنير، وحتى تستطيع أن تشرق به على (اللاشعور) فتضيء ظلمته، وعلى الزمن فتنبهنا إليه، وعلى (المثل الأعلى) فتطمح بنا نحوه. وهناك لا نكون مجرد (آلات) تذهب إلى العمل وتعود منه إلى البيت، ثم تخرج إلى المقهى، وهكذا دواليك على نحو أوتوماتيكي خاص؛ وإنما نكون في أعمالنا كائنات حساسة شاعرة تحيا حياة اجتماعية خصبة فيها التقليد النافع، والتضحية السامية، والمحبة النابضة، والمنافسة السليمة، والقابلية لإصلاح أنفسنا وعاداتنا كلما شعرنا بالنقص ورأينا الكمال
أما النظرة العامة التي نخرج بها من هذه الناحية البيولوجية فهي العيش أولاً ثم الكماليات، العيش ثم الفلسفة والفن؛ هذا إلى جعل (الطفل) موجباً يؤثر لا سالباً (يتأثر)، لأن المخلوقات الحية قد تشكلت بردود أفعالها أكثر مما تشكلت بالبيئة. ويقتضي بالطبع جعل المدارس دور (نشاط) نظري وعملي لا دور حشو واستماع، والنظر إلى التربية ذاتها كمعوض أساسي يسد للإنسان ذلك النقص الهائل الذي لا نجده في الحيوان، وكأسلوب من (المواءمة المثلى بين المرء وبيئته) كما يقول الأستاذ هورن
الناحية الفسيولوجية
أما هذه الناحية فتقول مع بعض مذاهب الفلسفة إن الحياة قد بدأت بالمادة ثم بالروح، وإن الجسم والعقل لم يتلاشى بعضهما في بعض بالرغم من شدة امتزاجهما، فهما يكونان وحدة متسقة ويؤثر بعضهما في بعض تأثيراً كبيراً. ألا تنمو قوى العقل بالحس والحركة؟ أو ليست الإرادة حركة مُروًّى فيها؟ أو ليس (الشعور) - بعد هذا - صدى للإرادة والمعرفة؟
ولذلك تنحصر مهمة التربية هنا في تسليح الجهاز العصبي بردود أفعال حرة منها الاعتيادي - عن طريق العمود الفقري - ومنها المروّي فيه - عن طريق المخ - وفي الاستفادة من نتائج التجارب القائلة بأن العمل ينهك المخ فلا يكون لعمله بعد أربع ساعات(241/20)
قيمة ما، وبأن المخ يحتاج إلى غذاء خاص من الهواء النقي وغيره، وبأن القوى العقلية تمر في مراحل تمتاز أولاها بسيادة (الذاكرة)، وثانيتها بسيطرة (الخيال)، وثالثتها بحكم (الفكر)، وبأن التعب العقلي يمكن أن يجتنب إلى حد كبير بتنويع العمل على المراكز المخية المختلفة، وبأن صحة الجسم واجبة والعدل بين مجهود الجسم والعقل أوجب، وبأن وبأن مما يتسع المقام لذكره. . .
هذا إلى أنها - تمشياً مع الحقائق أيضاً - تنصح بإدخال (العمل اليدوي) و (اللعب) في عملية التدريس. ذلك أنها تعتبر الأول خير أداة للتعبير عن النفي، ولتنمية العقل وتدريب الحواس، وربط المواد، وتقوية الإرادة، واكتساب الذوق الجميل، وغرس القدرة على الإنتاج، وتعويد الدقة، وحب العمل واحترام العمال، وتقدير العاملين!. وأنا لثاني - وهو اللعب - فيقول عنه (فروبل) إنه يجعل الطفل يتفتح كالزهرة ويقول عنه شلر (إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا به) ذلك أنه بعيد الغور في طبيعة الإنسان، حتى أن الشعوب نفسها لتلعب أحياناً وتلهو كالأطفال، وأنه ذو وظيفة أساسية في الحياة وإن اختلف العلماء في كنهها، وأنه إذا ما دخل في العمل الجدي جعله سهلاً مستساغاً وهيناً محبوباً. أليس الفن نفسه صدى للعب الخيال المنتج؟ وإذاً فلا مندوحة لنا من العناية به في المدرسة والتدريس، ولا مندوحة لنا من أخذ الجميع بالألعاب التي تقوي شخصيتهم، وتجمل أجسامهم، وتبث فيهم الروح الاجتماعية والجرأة والحرية والديمقراطية والإقدام وضبط النفس والإيثار. ولكن ليكن مبدؤنا دائماً في المباريات العامة والخاصة هو أن (الخسارة بحق خير من الفوز بباطل!)، ولنتجنب ما استطعنا ألعاب المنافسات الحقيرة والعصبيات التافهة والإنهاك الشديد؛ وبذلك تكون المدرسة فردوساً يحفه المرح ويسري فيه العمل الصحي بجميع نواحيه، وتكون التربية (مواءمة عليا بين المرء النامي الجسم وبين بيئته)
وإلى اللقاء حيث أحدثك عن الناحية النفسية فالناحية الاجتماعية
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية الأميرية(241/21)
المثل الأعلى للشاب المسلم
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لقد انتهينا من تعريف المثل الأعلى والشباب والإسلام، فلنشرع في الموضوع:
قلت إن أندريه موروا وصف الشباب بصفتين أساسيتين: هما الحب والبطولة. أما الحب فهو عماد الحياة وركنها وأساسها، لا معدي عنه، ولا منجى منه. وأحسب أن الشباب الحاضرين، بل وكثراً من الشيوخ يصفرون لي وينزلونني عن المنبر، إذا أنا قلت لهم: (لا تحبوا)، وكيف أقولها؟ أجننت حتى أقول: (حطموا القلوب)، ودوسوا العاطفة. وماذا يبقى لنا إذا خسرنا العاطفة؟ لقد خسر أدوار عرش بريطانيا العظمى، ولكنه ربح العاطفة فلم يخسر شيئاً. لقد أنسته عينا مدام سمبسون ملك إنكلترا، فهل كان ينسيه هذا الملك الضخم، وهذا التاج المرصع، عيني سمبسون لو أنه هجرها. . .؟
العاطفة هي التي تدير دولاب حياتنا، وتسّير أمورنا كلها، أما العقل فلا يصنع وحده شيئاُ. من يذكر منكم أنه مشى خطوة واحدة برأي العقل وحده؟ العقل يا سادتي فيلسوف أعمى، حكيم مقعد، ينادي بصوت خافت ضعيف. . . أما العاطفة فهي القوة، هي النشاط، هي الحياة. . .
أنا لا أقول اقتلوا العاطفة، لأن في موتها موتنا، ولكن أقول إن العاطفة تضيق حتى لا تشمل إلا شخصاً واحداً، وتنحط حتى تنزل من قلب هذا الشخص إلى ما تحت القلب، إلى ما تحت. . . السرّة! وتسمو حتى تحيط بالمثل الإنسانية العالية، وتعمّ حتى تشمل الأمة كلها، بل الإنسانية جمعاء. فاسموا بعواطفكم عن مواطن شهواتكم، واخرجوا بها من ذواتكم، وقفوها على أمتكم وبلادكم
أحبوا، فإن الذي لا يجب لا يكون إنساناً، واذكروا واحلموا وتألموا. . . ولكن افهموا الحب بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما هو حق وخير وجميل. . . لا المعنى الضيق العقيم، الذي لا يتجاوز حدود جسم امرأة. . . أحبوا، ولكن ابقوا مسلمين. إن للمسلم قلباً، قال الله عز وجل: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، ولكن المسلمين يغضون عيونهم وقلوبهم وفروجهم (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير(241/23)
ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون). أحبوا ولكن ابقوا رجالاً. إن الرجل إذا احب لم يبكِ ويتذلل ويأرق الليل، ولم يلق شفتيه على قدمي المرأة، كما كان يفعل لامارتين، ولكنه يقوم قائما على مشط رجله، ثم يقول لها، بعينيه النافذتين، وعضلاته الحجرية، وإرادته الماضية، ورجولته البادية: (تعالي!)
أحبوا ولكن ابقوا أفراداً من هذه المجموعة البشرية التي هي الأمة، لا يقطعكم الحب منها، ويُعِدْكم إلى الحياة الفردية الوحشية، فتنكروا كل شيء، وتنسوا الدنيا، وتتجاهلوا الحياة إلا إذا أشرقت عليها نظرة من المرأة وأضاءت في أرجائها كله منها. ولا تقيموا الدنيا وتقعدوها، وتغرقوا الأرض بالدموع لأن الحبيبة المحترمة لم تمنح قبلة وعدت بها، ولم تصل وقد لوحت بالوصل، تنظمون الأشعار في هذه الكارثة، وتنشئون فيها الفصول، تبكون وتستبكون، ثم تنامون آمنين مطمئنين، والنار من حولكم تأكل البلاد والعباد. . .
الشعر شعور، فأي شعور وأي حس فيمن يرى أمة كريمة مجيدة بقضها وقضيضها، ومفاخرها وتاريخها وحياتها وأمجادها تطرد من ديارها، وتخرج من بيتها - وهي أمته، وأفرادها اخوته - لتعطى مساكنها إلى أمة من أسقط الأمم: أمة ضربت عليها الذلة والمسكنة وباءت بغضب من الله، وغضب من الناس والحق والفضيلة والتاريخ، ويرى صدورها مفتحة للرصاص، وشيوخها مسوقين إلى حبال المشانق، وشبابها في شغاف الجبال وبطون الأودية يدفعون الظلم بالدم، وأطفالها ونساءها بين لصين: لص ديار، ولص أعراض، لص يحارب بالذهب، ولص يقاتل بالبارود - ثم لا يحس بهذا كله، ولا يدري به، ولا يفكر فيه، لماذا؟ لأن الشاعر المسكين مصاب متألم. . . ماله؟ ما مصابه؟ إن حبيبته لم تعطه خدها ليقبله. . .
إن العاطفة إذا بلغت هذا المبلغ كانت جريمة.
وما دمنا في حديث الحب فلنوف الحديث حقه. إن لي تعريفاً قديماً للحب، هو أنه المرقد (البنج) الذي وضعه الله لتمام عملية التناسل التي لابد منها لبقاء النوع البشري، والتي لا يصبر الإنسان على احتمال قذارتها وآلامها لولا هذا المخدر، فأول الحب إذن ووسطه وآخره الاجتماع الجنسي والسلام، أما الحب العذري الأفلاطوني العفيف فليس إلا إحدى الأكاذيب الجميلة، التي لا يصدق بها عاقل. من أجل ذلك يشك العقلاء في عفاف المرأة(241/24)
المحبوبة، وينظر المسلمون إلى الحب نظر الريبة. . . إني لألحظ في وجوهكم معنى الاستنكار والاعتراض، وأرى فيها بوادر الثورة. . . لا يا سادتي. . . أنا لا أنتقد الحب، ولا أشك في جماله، ولكن أسألكم وارجوا أن تجيبوني بإنصاف: من هو الذي يسمح لي فيكم أن أحب زوجته أو أخته؟ لا تغضبوا يا سادتي. . . فما أردت إلا التمثيل فجاء المثل غليظاً نابياً، وإني ليسرني أن تستهجنوه، لأن هذا دليل على أنكم للحقيقة أشد استهجاناً. . .
فلنعلن إذن أن هذا الحب المعروف اليوم، ما يأباه الإسلام ويتنافى مع المثل الأعلى للشاب المسلم، ولكن ماذا يصنع الشباب؟
الجواب: يتزوجون. . .
نعم يتزوجون. إن حياة الغرب حياة خطرة على نفسه وعلى المجتمع. إنه صندوق ديناميت يوشك أن ينفجر في كل لحظة فيدمر سعادة أسرة من الأسر، وينقض دعامة من دعائم الوطن. إن حياة العزب حياة فارغة من كل شيء لأنها فارغة من الزوجة ولو امتلأت بكثير من النساء (غير الزوجات). إن أفكار العزب مهما اختلفت مناحيها وتعددت متوجهة إلى وجهة واحدة، تسعى إليها بشدة وعنف كما تسعى السيول من كل جهة إلى قعر الوادي، إنه لا يجتمع عزبان إلا نظما مؤامرة على الأخلاق والعفاف
لست أبالغ. . . أنا أيضاً شاب عزب! ولكني كسائر العزاب لا أحمل ذرة من اللوم، وليس عليّ شيء من الذنب. الذنب عليكم أيها الآباء. إنكم تبيعون بناتكم. إنكم تصاهرون المال والجاه والأرستقراطية الزائفة، إن حفلات العرس وحدها تخرب بيتي العروسين. . . فما قولكم في المهر والأثاث؟ وما قولكم في شاب مثلي في رأسه شيء، وليس في جيبه شيء من مال؟ كيف يتزوج؟
لا أحب يا سادتي أن أكون منحطاً إلى هذه الدركة من الاستئثار و (الأنانية) فأستغل اجتماعكم لسماع محاضرتي لأعلن عن نفسي، وأعرضها خاطباً مستجدياً. . . ولكني أحبّ أن تفكروا في هذا الأمر تفكيراً جدياً. إننا قد شبعنا من الخطب ومللنا من المقالات، فهل فيكم أب مسلم له بنات يكون قدوة طيبة للآباء المسلمين الطيبين، فليفتش عن شاب صالح جاد فيزوجه بما يستطيع من المهر والنفقات: بخمسين ليرة سورية بثلاثين لم لا؟ أهي تجارة؟ أتريد زوجاً لبنتك صالحاً تسعد به ويسعد بها، وينشئان أسرة شريفة مستورة سعيدة(241/25)
أم تريد ذهباً تبيع به ابنتك؟
هذا دواء هذا المرض العضال. هذا حل المشكلة. فإذا لم تحلوها اليوم لا تنحل أبداً، إذا لم تداووا المرض اليوم يموت المريض. . .
فيا وجهاء هذا البلد، الوجاهة بالعمل النافع، وبالتقوى والإصلاح، لا بالمال ولا بالفخفخة الفارغة، ولا بالعظمة الجوفاء ولا بالمراتب العالية، فاعملوا أو فتنحوا عن أماكنكم لمن يعمل!
وإن من الحماقة التي ليس وراءها حماقة أن تبن الأسرة الثابتة على عاطفة متبدلة متحولة. من الحماقة أن يبنى الزواج على الحب. منذَ الذي يبني داره على كِثب من الملح في طريق السيل؟ الحب فراشة حلوة، فيها أجمل الألوان ولكنها لا تعيش إلا يوماً واحداً. الحب زهرة فوّاحة ليس لها في الروض مثيل، ولكنها تذبل عند أول لمسة. من رأيي في الحب أنه لا يكون إلا إذا كان أمل، وكان مع الأمل حرمان، كالكهرباء لا تضيء المصباح إذا التقى فيها القطبان المختلفان. أنت تحب المرأة لأنك لا تقدر عليها، فتسبغ عليها من خيالك ثوباً تراها فيه أجمل الناس، فإذا قدرت عليها، وخلعت هذا الثوب عنها، عادت امرأة كسائر النساء. انظروا إلى الزوجين الحبيبين في شهر العسل، وقد ذهبا يسيحان ينعمان بالخلوة الحلوة، في اجمل البقاع، أو أكبر المدن، تحسبوا أن السعادة قد جمعت لهما من أطرافها، ولكن اقتربوا منهما تروا أنها لا تمر إلا أيام حتى لا يجدا ما يتحدثان به، إلا حديث الأيام الأولى، يوم كان أمل وكان حرمان، ثم تمضي الليالي، وتبلى جدّة هذا الحديث، فلا يبقى بينهما كلام. . .
وماذا في لغة الحب، غير (أحبّكِ) و (أحبّكَ) رددها مائة مرة فإنكم تنامون. . .
فلنعلن إذاً أن بناء الزواج على الحب وحده لا يرضاه الإسلام، لأنه لا يرضاه العقل. . . فهل نعود إذن إلى طريقتنا الأولى: تخطب لي عمتي أو خالتي، وتنتقي لي الزوجة على رأيها، وأنزل أنا على حكمها، وأعلق مستقبلي بها، وأمضي العقد وأمشي إلى حفلة العرس، وأنا لا أعرف ما لون عين العروس وما شكل أنفها؟
هذه طريقة سقيمة عقيمة. . . فماذا نصنع إذن؟ ما هي الطريقة المثلى؟ هي يا سادتي طريقة الإسلام. إن الإسلام منح الخاطب (بعد أن يتم الرضا عنه، ويرجح جانب قبوله(241/26)
صهراً) أن يرى وجه المرأة وكفيها، أن يجلس معها (بحضور وليها). . . هذه هي سنة الدين، ولكن الآباء جاهلون، يأبون أن يرى الخاطب الصالح وجه الفتاة، ثم يخرجونها إلى الأسواق، متبرجة متهتكة، يرى أكثر من وجهها وكفيها الفاسق والخبيث، وكل من كان في الطريق، حتى الحمار!
إننا تركنا قواعد الإسلام، فتركنا الفلاح والنجاح
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
المدرس في كلية بيروت الشرعية(241/27)
من برجنا العاجي
فكرة الضحية وإهراق الدم للمعبود لم تزل باقية إلى اليوم. فالوثنية قد خلفت تقاليد لم يكن محوها من اليسير. إن ذبح الخروف في العيد الكبير إن هو إلا ظل باهت لتلك العهود التي كان يُدفع فيها الآدمي للذبح عند أقدام الهياكل. ولكن الزمن غير الشكل ولم يغير المبدأ. إن الإنسانية في تطورها لا تمحو شيئاً غرس في طبيعة الإنسان من قديم. . . ولكنها تبدل في لونه وطلائه، وتعدل في ملامحه وتكسوه ثياباً أخرى، وتسميه اسماً جديداً يتفق مع روح العصر الجديد. فالإنسان لا يتغير. إنما يتطور. ولم يغب ذلك عن حكمة الأديان. فهي في تعاقبها لم تنسخ كل ما رسخ من عقائد الإنسان. ولكنها أخذت أكثر هذه العقائد بالرفق، فهذبت من وسائلها وغاياتها. فالضحية الآدمية جعلتها ضحية من الحيوان؛ والغاية منها، وقد كانت إرضاء المعبود وحده، حولتها إلى إرضاء الله بإرضاء الفقير في يوم العيد
هنالك شيء ينبغي أن نتدبره إذا أردنا إحداث انقلاب في حياة البشر. الحذر كل الحذر من أن نقتلع شيئاً من جذروه، فإن ما نبت في قلب البشرية لا يقتلع. إنما نحن نستطيع دائماً أن نهذب ذلك الغرس وأن نميل به إلى حيث تريد ريحنا. وأن نبدل بما نشتهي ألوان أزهاره وثماره، وأن نولد منه أقوى الأشجار. . . وهكذا نخرج للحياة مما كان وعلى أساس ما كان، ذلك الذي يقول فيه الناس إن عين الشمس لم تره. آه! ما أصدق تلك الكلمة: لا جديد تحت الشمس. نعم. إن يد (الطبيعة) لا تبرز جديداً ولا تميت قديماً، ولا تمحو من الوجود، ولكنها تعدل وتبدل في الموجود. فلنتذكر دائماً أن لا شيء ينعدم في الطبيعة. وليست (المادة) وحدها هي التي لا تنعدم، كما يقول الكيمائيون. كل شيء لا ينعدم في هذا الوجود. إن الطبيعة لا تعرف كلمة (العدم) ولكنها تعرف كلمة (التحول)
ذلك أسلوب الخالق الأزلي
توفيق الحكيم(241/28)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 24 -
(. . . . إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها!)
عباس محمود العقاد
الرافعي والعقاد
ذلك كان رأي العقاد في الرافعي قبل بضع عشرة سنة من هذه الخصومة التي أروي خبرها. وشتان بين هذا الرأي يبديه العقاد سنة 1917 في مقال ينشره ليعرِّف بكتاب من كتب الرافعي أنشأه في ذلك العهد، وبين رأيه الأخير في المهذار الأصم مصطفى صادق الرافعي كما يسمه في سنة 1933!
إن هذه الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد قد تجاوزت ميدانها الذي بدأت فيه، ومحورها الذي كانت تدور عليه، إلى ميادين أخرى جعلتْ كلاًّ من الأديبين الكبيرين ينسى مكانه ويغفل أدبه ليلغ في عرض صاحبه ويأكل لحمه من غير أن يتذمم أو يرى في ذلك معابة عليه. وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعي في مقالاته على السفود. .
هم ثلاثة أو أربعة من كتاب العربية في الجيل الحديث كانت لهم هذه الخلة المرذولة في النقد وفي أساليب الجدل. هذان اثنان منهم وكان للرافعي مع كل واحد من الاثنين الآخرين معركة. على أن أشد هذه المعارك عنفاً وأبعدها عن حدود الأدب اللائق هي المعركة بينه وبين العقاد!
وكان بدء هذه المعركة كما قدمت حديثاً خاصاً بين الرافعي والعقاد في دار المقتطف، حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب إعجاز القرآن. وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي،(241/29)
فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن والعقادُ ينكر إعجازه؛ ولكتابه والعقادُ يجحد فضله؛ ثم كانت الغضبة الثانية للتهمة التي رماه بها العقاد حين جبهه بأنه افترى كتاب سعد ونحَلَه إياه في تقريظ إعجاز القرآن ليروج عند الشعب. . .
فثمة سبب عام أنشأ هذه الخصومة، هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيماناً لا يتناوله الشك؛ وسببان خاصان: هما رأي العقاد في كتاب الرافعي، ثم تهمته له بأنه مفتر كذاب. . .!
تُرى أي هذه الأسباب الثلاثة هو الذي أثار الرافعي فدفعه إلى الخروج عن الوقار والأدب الواجب فيما أنشأ من مقالات (على السفود). . .؟ الرافعي يقول: إنها غضبة لله وللقرآن، وللتاريخ رأي آخر سيقوله فيما بعد، لست أدري أيفارق الرأي الأول أو يلتقي وإياه على سواء. . .!
ولكن كتاب على السفود مع ذلك لا يتناول مسألة المسائل في هذا الخلاف؛ فلا يتحدث إلا عن شعر العقاد وديوان العقاد؛ ثم عن أشياء خاصة تعترض في فضول القول وحشو الكلام؛ فأين هذا مما دارت عليه المعركة من أسباب الخصام. . .؟ الرافعي يقول: هذا أسلوب من الردّ قصدْت به الكشف عن زيف هذا الأديب والزراية بأدبه؛ حتى إذا تقررت منزلته الحقيقية في الأدب عند قراء العربية، لا تراهم يستمعون لرأيه عندما يهم بالحديث عن إعجاز القرآن. وهل يحسن الحديث عن إعجاز القرآن من لا يستقيم منطق العربية في فكره، ولا يستقيم بيانها على لسانه؟. . . هكذا يقول الرافعي!. . .
ومن ثم بدأت المعركة على أعين القراء. . .
يقول الأستاذ إسماعيل مظهر في مقدمته لكتاب (على السفود):
(. . . أردنا بنشر السفود أن نرضي من أنفسنا نزعتَها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سبباً في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى. . .)
(. . . ونقدم بهذه المقدمة تعريفاً لما قصدنا من إذاعة هذه المقالات الانتقادية التي أعتقد بأنه لم يُنسج على منوالها في الأدب حتى الآن!)
(وعسى أن يكون السفود (مدرسةَ) تهذيب لمن أخذتهم كبرياء الوهم، ومثالاً يحتذيه الذين(241/30)
يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!)
أما أن تكون هذه المقالات الانتقادية لم يُنسج على منوالها في الأدب الحديث فَنَعم، وأما أن تكون مدرسة للتهذيب ومثالاً يحتذيه النَّقدةُ فلا. . فليس بنا من حاجة إلى أن يحتذي النقدةُ هذا المثال في أسلوب النقد والجدل فيزيدوا عيباً فاحشاً إلى عيوب النقد في العربية
والحق الذي أعتقده أن في هذا الكتاب - على ما فيه - نموذجاً في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها. ولكن فيه مع ذلك شيئاً خليقاً بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أَدَمُّ الصور وأقبح الألوان، بما فيه من هُجْر القول ومر الهجاء؛ ولئن كان هذا مذهباً معروفاً في النقد للرافعي وخصمه واثنين آخرين من كتاب العربية في هذا الجيل - إننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصحَّ أدباً وأعفَّ لساناً من ذاك. . .!
ذلك رأي قلته للرافعي - يرحمه الله - فما أنكره عليّ ولا اعتذر منه؛ فما يمنعني اليوم شيء أن أعلنه صريحاً إلى الأدباء. ولقد همّ الرافعي منذ سنوات ثلاث أن يجمع كل ما كتب في النقد بعد كتاب (المعركة) في كتاب واحد؛ فأبديت له الرأي أن يضم إلى هذا المجموع مقالات (على السفود) بعد أن يجردها مما يعيبها حرصاً على ما فيها من الفن؛ فارتاح لهذا الرأي واطمأن إليه، ولكنه لم يفعل، إذ حالت الحوائل دون تنفيذ فكرته
وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغموراً في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة وهيهات أن تُقبل عليها النفس؛ وإنها لخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يتكنفه هذا الكلام النازل من هجر القول ومر الهجاء
ولقد كان الرافعي نفسه يعترف بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقول، وبأن خصمه بما قال فيه كان يملك أن يسوقه إلى المحاكمة؛ ولكن الرافعي مع ذلك كان مطمئناً إلى شيء آخر. .
قال الرافعي: (. . . قال لي قائل: لقد قلت في العقاد ما كان حرياً أن يقفه وإياك أمام القضاء!. . . ولكني يا بني كنت على يقين بأن العقاد لن يفعلها؛ إنني كنت أهاجم العقاد بمثل أسلوبه في النقد، وإن معي لورقات بخطه لا يسره أن أجعلها دفاعي أمام المحكمة فيخسر أكثر مما يربح. ولقد قرأت من هذه الورقات على مستشار كبير فأيقن بما أنا موقن(241/31)
وحكتْ لي محكمتُه. . .!)
ذلك حديث الرافعي. . . فهل كان هذا حسْبَه من العذر فيما كتب؟
على أن كثيراً من قراء على السفود لم يعرفوا كاتبه إلا بعد سنين؛ وكان في هذا خير للرافعي ولسمعته الأدبية ولمكانه من نفوس القراء؛ إذ كان العقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، والوفدُ هو الأمة كلها، قراءها وعامتها وشيوخها وشبابها؛ فكان العقاد بذلك هو عند الشعب إمام الكتاب وأمير الشعراء، لا يعاديه إلا خراج على الأمة أو مارقٌ من الوطنية، ولو كانت عداوته في مسألة أدبية لا تتصل بالسياسة، ولو كانت مناقشته حول إعجاز القرآن. . .!
ثم كانت هُدْنةٌ بين الرافعي والعقاد، صمت فيها الخصمان طويلاً وكل منهما يتربص بخصمه ليضربه الضربة القاضية، فلما مات المرحوم شوقي بك في خريف سنة 1932، انتهز العقاد نهزة ليبدأ مع خصمه معركة جديدة لم تكن هي آخر العراك بينهما
(شبرا)
محمد سعيد العريان(241/32)
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 4 -
كان العصر الذي نشأ فيه أبو إسحاق الصابي عصراً زاخراً بالكتاب النابغين والشعراء المجيدين ممن خلفوا للغة ثروة ثمينة خالدة، وتركوا في الأدب روحاً فريدة صافية؛ إذ لم يعدْ الخيال وقفاً على الشعر، بل تعداه إلى الكتابة والنثر، فضرب الكتاب به في ضروب متنوعة لم تعهدها العربية، وساروا به في دروب متشعبة لم يألفها من قبلهم، وإن أعزم بها وسار على نمطها من جاء بعدهم. ولعلَّ من أعظم البواعث على رقي النثر والشعر في هذا العصر ذلك الاضطراب الذي انتظم جميع شئون الدولة؛ فهناك اضطراب ديني يدفع إلى الجدل والمنافحة، والنقد والمدافعة واضطراب سياسي، يسوق إلى المؤازرة والمعاضدة، والمنافسة والمعارضة، فكان ذلك الجو المضطرب جو صفاء للغة وآدابها، وهذا العصر المكهرب عصر ازدهار للنثر والشعر على السواء، فاتسع أمام هؤلاء وهؤلاء أفق الابتكار، ولمع مجال الابتداع، وأوحى إليهم ذلك المعترك المنطق الخلاب، والخيال الصافي والبيان الرائع والنسيج الساحر، فجاء نتاجهم عصارة أذهانهم، وذوب أفكارهم، وصفوة قرائحهم؛ تعمقاً في إبراز فكَرهم واضحة جلية، وتعملاً في تنسيق آرائهم ناصعة صفية؛ لتبدو للقارئ مصقولة مستساغة يرضاها عقله البريء؛ إذ لا يعتورها وهن ولا التواء، ولا يكتنفها غموض أو إبهام، وكثيراً ما كانت تدفعهم أحداث السياسة ودفع ما قد ينتظرهم من كوارث، وخوف ما ربما استقبلهم من حوادث، فيما لو تغير مجرى الأمور إلى الكتابة اللولبية، لا تكاد تتبين مرماها، ولا تعرف مأتاها أو مؤداها، إمعاناً في الإبهام، وإيغالاً في الإبهام. وناهيك بعصر نامت فيه السكينة وصحت الفتنة، وأشرقت الأسارير، وأظلمت السرائر؛ فملوكه متنافسون، وأمراؤه متنابزون، وقواده متحفزون، لا يخشى أحد هؤلاء قربى، ولا يأبه لزلفى، كلما جمعتهم جامعة فرقتهم شيعاً مآربُ، وإذا ألف بينهم حلف نقضته دوافع، وأولئك جميعاً يريدون الأدب للسياسة فرساً ذلولا يركضون متنه وسيفاً مسلولاً يشهرونه على ضغنهم، والويل أي ويل لمن تخلف عن الطاعة أو نكص دون تنفيذ الإرادة، إنه إذن لمن المنبوذين المبغضين، ينتظره الحيف ويترصد له الظلم كل مرصد. ومن هنا كان(241/33)
البطش ببعض الكتاب والشعراء سنة مسنونة، فمن أمن اليوم فهو قليل الأمن والدعة غداً، ومن سعد فترات ترقبه النحس سنوات
ومن كتاب ذلك العصر الذي أسلفت وصفه الرئيس ابن العميد، والوزير ابن عباد، والكاتب أبو بكر الخوارزمي؛ ومن شعرائه أبو فراس الحمداني، وأبو الطيب المتنبي، والشريف الرضي. ولقد كان الصابئ مع معاصرته لأولئك الأفذاذ الذين قلما يجود الدهر بأمثالهم، أو يسمح بمن يجري على غرارهم جملة - مرموق الأثر، موموق الخبر؛ يجري أسمه على الألسنة في مراتع اللهو والأنس، أو مهامه اليأس والبؤس، وتتناقل أنباءه الأندية إن أصابته غبطة ونعماء، أو مسته مخمصة وضراء، وتعمر به المحافل والمجالس متى صفرت منه المعاقل والمحابس، وهكذا دواليك يظهره تاريخه حركة دائبة، لا تقفها نعمى تركن بها الدعة، ولا تفدحها بؤسي، فتستسلم للشدة، فهو كادح في الحالين، وأداة عاملة لا يعطل محركاتها ميسرة أو معسرة. ولكأني به يشحذه طول الضراب، ويستثير شعوره أمل الثواب، ويستحيي وجدانه توقع العقاب، فيأتي بما يلذ السامع سمعه، ويعجب القارئ وقعه، وسيبرز هذا الوصف واضحاً جلياً ما سأقدمه بين يدي الكتاب من كتاباته، وما أعرضه على الشعراء من فرائد أبياته، فسنرى أن أروع نثره وأقواه ما جاء في الشكوى؛ وأرق شعره وأرقاه ما جرى في العتبى، ولقد عرف له فضله حامدوه وحاسدوه، ونفس عليه أدبه شاكروه وكافروه، وحسبه ذلك فخراً
نعم إن الصابي كان في الشكوى والاستماح، والنصح والاستنصاح قوي الصوغ والنسج رائع التصوير والخيال بارع المنطق والبرهان، لا تعوزه الحجة، ولا تنأى دون غرضه المحجة. وإذا كان (خير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة) فشكوى الاعتقال وذم الحبس يصدران عن عاطفة صحيحة قوية لا سقيمة ضعيفة؛ ودعك من حبس الجسم والحد من حريته، فذلك أهون خطبه وأيسر أمره، وإنما مر الشكاة تصدر عن سجين العقل معتقل الفكر مرهف الحس، فذلك إذ ينثر أو يشعر يعبر تعبيراً قوياً جياشاً يستثير به العواطف الكامنة، ويستجيش المشاعر الهامدة، ليبعث فيها عواطف ثائرة للعطف عليه ولتستحيل المشاعر الخامدة مشاعر مشتعلة للبر به، ومن يطالب مثل ذلك بالصبر والسلوى والسكون إلى البلوى وعدم الشكوى، أو يعتبر إعلان ألمه خوراً في أدبه، أو استظهار(241/34)
الناس إلى معرفته ضعفاً في خلقه، متطلب في النار جذوة نار، أو هو كما قيل:
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعىَ التجلد، وهو غير جماد
ولو أن أبا أسحاق كان في سياسته كما كان في ديانته، يكتب عن إيمان، ويصدر عن عقيدة (مهما كانت حقيقتهما) لنجا بعض النجو من كثير مما أمضه، ولكنه كما يروي الثعالبي كان يكتب كما يؤمر، وكان كالمركب السهل يوجهه راكبه حينما شاء، فهو يتحدث بما يمليه عليه ربه، ويعبر عن أفكار مولاه، ومع هذا فإنه يأتي بالعجيب، فكيف به إذ يكتب عن عاطفة أو يشعر عن حافزة؟ إنه ليجمع بين اللفظ الرشيق والمعنى العميق، ومن ذلك الذي يبلغ به فنه الجمع بين لغة الألفاظ ولغة العواطف إلا الكاتب المالك عنان قلمه؟ (لأن الألفاظ (كما يقول الأستاذ أحمد أمين) لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ، فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة، أو أنقل حباً ملأ جوانحي أو غضباً استفزني، أو رحمة ملكت مشاعري! لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، وإنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئنا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلا أن نكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف) إذا كان ذلك الرأي صحيحاً ولا أخاله غير ذلك، فقد بلغ الصابي أفقاً لم يبلغه كاتب سواه
ويجدر بنا إذ نتحدث عن نثر الصابي أن نقسمه أقساماً ثلاثة: النثر الديواني، والاخواني، والنثر العام غير المقيد بأحد هذين الوصفين
فأما كتابته الديوانية فكان يصورها باللون الذي يريده عليه سيده ويرسمها بالريشة التي يهبها له، فتارة تبرز سافرة واضحة هينة لينة، ناصعة الكلمات رقيقة الفقرات رفيعة اللمزات والغمزات، تبعث في نفس قارئها الرضا إن كان غاضباً، وتوليه العتبى إن كان عاتباً، والسكون إن كان عاصفاً، وربما لمحت في ثناياها الحكمة العابرة، والأمثال السائرة. فمن ذلك قوله يؤلف بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة على لسان أولهما:
(والله العالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من(241/35)
شرف المكان، وظل السلطان، وكثرة الأعوان - لأجزع في مناضلة عضد الدولة من أن أصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به، كما أكره أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بنابي)
وأحسبه خشي أن يدور بخلد أحد أن عز الدولة يتهافت على مرضاة قرنه أو أنه يرهب مصاولته وضعفه، فبدأ الكتاب بأسلوب القوي الصارم، واستهله بلهجة الغالب الظافر، فذكر العز والمنعة، والقوى والمنة، والملك والسلطان، والجند والأعوان وتأييد الله له، والتفاف الأمة حوله، ثم ثنى بالغرض الذي إليه أراد، وهي فطنة وذكانة في جزالة ورصانة. ومن ذلك قوله أيضاً وفيه حكمة ومواعظ، وتبصره وذكرى، وإن أنكر عليه الحكمة إلا قليلاً الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني حيث يقول: (وقد تصفحنا رسائله غير مرة لنرى أثر الحكمة فيها فوجدناه ضئيلاً):
(إن انتثار النظام إذا بدا - والعياذ بالله تعالى - لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسرى النغل في الأديم؛ وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرْب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب)
وتارة يشاء الموحي إليه صرامة وحزماً، فتقرأ له كتباً أقوى من كاتبها منة، وأرصن من منشئها قوة، تخالها إذ تقرؤها لرجل مارس الحروب، وخفقت فوق رأسه الألوية والبنود، وسبح فوق متون الجباد، وأوتي قوة وعزمة في القيادة والجلاد؛ فهو يتقمص روح مليكه، أو يستعيره قلبه الفتي عندما يهم بكتابة رسالة من هذا النوع. وكأني به يعصر فكره، ويقدح ذهنه، ويكد عقله، ليأتي بالمعاني الشاردة تتصدع لها القلوب، والألفاظ الصادعة تصك الآذان؛ فكل كلمة من كلماته وعيد ونذر، وكل فقراته نار يتطاير منها الشرر؛ وقد يخلطها أحياناً بالسخرية اللاذعة، والتهكم الساخر والهزء الممض، دون إفحاش في ذلك أو بذاءة. فمن ذلك ما كتبه على لسان عز الدولة إلى سبكتين الغزني:
(ليت شعري بأي قدم تواقفنا، وراياتنا خافقة فوق رأسك، ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيولنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ على أعدائنا في يدك). ويقول له أيضاً:(241/36)
(تناولتك الألسنة العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراُ لا يرحضه الأعتذار، ولا يعفيه الليل والنهار). وتحدث عنه فقال:
(هو أرق ديناً وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانة من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة)
ومن هذا الطرز قوله أيضاً:
(ولما بَعُد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبه الرجال، وتضرمت بحسده جوانب الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته فأدركته شقوته، ونزع به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه)
وإنا لنجد في كتبه ورسائله محاولة قد تكون ناجحة في هدم الرجال وتخضيد شوكتهم وتعضيد قوتهم، تلك هي التهوين من شأنهم والحط من قيمهم، فيصمهم بوصمة الذل، ويسمهم بسمة الرق؛ وذلك أحز في النفس، وأعلق بالذهن، وأجرى على الألسن؛ وربما كان حديث تنادر، وطرف فكاهة. وهو يلم بالموضوع الذي يتناوله، فلا يترك فيه فرجة إلا سدها، ولو كوة إلا رقعها، وربما استخدم في سبيل ذلك الطب الذي تعلمه في يفعه استخداماً نافعاً؛ فقد عهد الخليفة إلى عالم بالقضاء فكتب إليه يوصيه، فكانت وصاته خليطاً من حكمة الأطباء، وطب الحكماء، فذكر بأن البطنة شر الأدواء، ونبهه على أنها تذهب الفطنة، ثم بصره عواقب البطر، وخوفه آثار الشره، وأنهما يفسدان عليه أمره، ويحطان من قدره، وإليك كتابه:
(وأمره أن يجلس للخصوم وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حده من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم، ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده)
وهذه فقرات من رسالة يصف فيها حرباً نشبت بين المسلمين والروم، وكانت الغلبة للمسلمين، يصور فيها الحرب وقد حمي وطيسها، واشتعل أوارها، فتتخيل إذ تقرؤها أنه أحد قوادها وبطل من أبطالها؛ فإنه ليبعث النخوة في النفوس، ويثير الحمية في الرؤوس،(241/37)
فكأنه يشرع الأسنة لا اليراع، ويشهر الرماح لا الأقلام؛ وإن القارئ ليحسب أن كاتب الرسالة رجل من صفوة المسلمين، وتقي من خلاصة المتقين، لا صابئ من الكفار الجاحدين، فهو يقول:
(فلما استعرت الملحمة، وعلت الغمغمة، ودارت رحى الحرب، واستحر الطعن والضرب، واشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح، تداعى الأولياء بشعار أمير المؤمنين المنصور، وتنادى الكفار بالويل والثبور، فنكصوا على أقدامهم مجدين في الهزيمة، واعتدوا الحشاشات لو سلمت لهم من أعظم الغنيمة، واستلحمتهم السيوف، واحتكمت فيهم الحتوف، وأخذ المسلمون منهم الثار، وعجل الله بأرواحهم إلى النار)
ورسائله الديوانية كثيرة، فلقد خدم عدة ملوك، وطال به العمر فاتصل بكثير من الولاة والأمراء. ولعل ما بين أيدينا من كتابته في هذا الباب قُل من كُثر، فقلما يعني المؤرخون بمثل هذه الرسائل، وإلا لكان له ولغيره ممن اتصلوا بالسلطان عن قرب أو بعد مجلدات يعيا بها العبء، فلنجاوز هذا الضرب من النثر، فقد عرضنا منه ما فيه الغناء؛ وسنتحدث مستقبلاً عن الضربين الآخرين إن شاء الله، ولن تقف بنا دورة الفلك
عبد العظيم علي قناوي(241/38)
الترجمة خطرها وأثرها في الأمم المختلفة
للدكتور عبد العزيز عزت
1 - عند الرومان
تمر على الأمم في تاريخها فترات تشعر خلالها بحاجة إلى رفع نفسها إلى مستوى من سبقها من الشعوب في مضمار التقدم الفكري، فيحدث إبان ذلك نوع من الهجرة الثقافية في أنواع المعارف المختلفة وخاصة في مجال الفلسفة، لأنها حتى منتصف القرن الثامن عشر، أي قبل أن تأخذ فلسفة كانْت شكلها الحاسم، كانت تفهم بأنها مجموع العلوم الإنسانية. ومن الطرق التي تمهد لهذه الهجرة الثقافية: الحروب تارة كما حدث إبان الحروب الصليبية من اشتباك التفكير المسيحي والتفكير الإسلامي، وتارة التجارة فهي بجوار ما تحمله من السلع تحمل على وجه خاص تفسيراً لها وشرحاً عقلياً. وأمر الفينيقيّين معروف في هذا الباب؛ ومنها الرحلات وأهميتها ظاهرة عند أفلاطون وتأثره بالتفكير المصري القديم كما يلاحظ ذلك عنده في مقدمة كتابه (طيماؤس) وكذلك عن ابن خلدون في (مقدمته)؛ ومنها البعثات العلمية في خارج البلاد كبعثات فرنسا في ألمانيا، فرافيسون يشيد بذكر أستاذ شلنج واستاذنا بوجليه يشيد بذكر أهرنج وكبعثات مصر في فرنسا، فهناك من ينطق باسم جوستاف لوبون وهناك من يبشر باسم ديكارت وغير ذلك. ولكن مهما يكن لهذه الطرق من الأهمية في هجرة الثقافة، فهي في نظري ناقصة لأنها لا تخلق إلا عرفاً ثقافياً.
ومن أصول العرف عامة إلا يستقر على قرار متين، لأنه يخضع لظاهرة التقليد في المجتمعات البشرية كما يؤكد ذلك العلامة تارد في كتابه (القوانين الاجتماعية). لهذا لوم خلق قانون وضعي للثقافة يحدد شرعتها واتجاهها ويضمن لها الاستقرار والإنتاج خلال نزعة معينة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالترجمة فهي الأساس الأول الذي عليه يبنى (التماسك) الفكري في عقلية الفرد، والتماسك الفكري في عقلية المجتمع
وأهمية الترجمة تتلخص في أربعة أفكار نجدها عند زعيم الأدب الفرنسي وأستاذه السابق بمدرية المعلمين العليا بباريس العلامة لانسون في (مجلة التاريخ الأدبي لفرنسا) عام 1896
أولاً - تمهد الترجمة لخلق (فكرة عامة) عن الشعب المترجم عنه، لأن الشعب المترجم إليه(241/39)
سيهتم في ذلك الحين بتعرف تاريخه في كل نواحيه، وحالته السياسية والاجتماعية الراهنة، وآدابه وفنونه، وسائر أنواع نشاطه التي تكوّن حضارته في مجموعها
ثانياً - الترجمة تحقق (الاستفادة المؤكدة) في موضوعات معينة، خلال تيارات محدودة للفكر، إبان زمن معين للشعب المترجم عنه، فهي استفادة مباشرة تفصيلية تشتق من مطالعة الكتب المترجمة ذاتها
ثالثاً - الترجمة تخلق موجة فكرية فتوجه الرأي في الشعب المترجم إلى غايات معينة، هذه الموجة هي موجة (تقليدية) فهي استفادة غير مباشرة، وذلك بأن يأخذ كتاب الشعب المترجم إليه نفس موضوعات التراجم ولكنهم يعالجونها من وجهة نظرهم الخاص بهم في بلادهم، أي الاستمرار بالاستفادة المباشرة من قراءة التراجم لمعالجة موضوعات تحل بروح وطنية على ضوء ما تحتويه التراجم من علم جديد، فهي تمهد الاستمرار الوطني الأهلي (بالاستفادة المؤكدة)
رابعاً - بعد هذا ينتج عن الترجمة نوع من الانسجام بين عقلية المترجم عنه والمترجم إليه، وهذا الانسجام هو تداخل عقليتهما، وظهور نوع من التشابه في ألوان تفكيرهما، فيحصل ضرب من الاتحاد في الذوق والتفكير والميول، ويكتسب نشاط الاثنين نفس الشكل، ويتجهان إلى نفس الغاية
لهذا عندما أحس الرومان أنهم أهل حروب وسفك دماء يفرضون استعباد السيف باسم القانون والتشريع على الهادئين المطمئنين من خلق الله - ذهبوا إلى اليونان القدماء ينشدون أصول العقل، واتزان الحس، ومنطق الجمال، ليقللوا من حدة طباعهم، وتنافر غرائزهم، ولينعموا - قليلاً - بما للإنسانية من معان سامية، وآيات قدسية، وأهم من يمثل حركة الترجمة عندهم هو بلا شك، شيشرون ولقد حاول دراسة هذا الرجل كل من العلامة فان هوسدو والعلامة بومهور الأول يبحث عن أثر أفلاطون في مؤلفاته والثاني عن أثر أرسطو فيها، وذهبا إلى طريقة عقيمة في ذلك تتلخص في مقارنة النصوص وتشابه معانيها، مع أن شيشرون أخذ العلم والفلسفة في بلاد مختلفة وليس في أثينا فقط مهبط المشائين من الفلاسفة، فهو قد ساهم في تأثره العقلي لمدارس فلسفية مختلفة، فدرس بجوار ذلك على فدروس الأبيقوري، وفيلون دي لاريس ومن ينتمي إلى تعاليم الأكاديمية(241/40)
الجديدة كأنطيوخس ودرس على الخصوص على ديودوتس الروافي ومن ينتمي إلى هذه المدرسة كبسدونيس ثم إنهما لم يرجعا إلى الصفات الأساسية التي تميز العقلية الرومانية وأخصها كما يذكر العلامة - الجمع - ' فحقيقة نجد عنده أثراً لأفلاطون وأثراً لأرسطو وإنما كذلك (وقبل ذلك) هناك أثر الرواقيين والأكاديمية الجديدة، فهي التي سادت تربيته عندما رحل إلى بلاد اليونان، وهي التي سادت كذلك في كل مكان في زمانه وقبل زمانه، لأن حروب الأسكندر الأكبر عاقت انتشار مذاهب أفلاطون وأرسطو سواء في المجتمع اليوناني أن المجتمع الروماني - كما يؤكد العلامة جانيه فبعد هذه الحروب حدث كما يحدث عادة بعد انتهاء كل حرب من ضعف أخلاقي لهبوط قيمة الحياة في إفهام المحاربين والانغماس في اللذات كنتيجة للانتصارات، وكذلك ضياع الفهم السياسي وأهمية الفرد في المجتمع، وكذلك انعدام الروح الدينية والاهتمام بالنتائج المادية للغزو، وهذا بطبيعة الحال يجني على التصور السامي لغايات النفس في أمور الحياة. ولما كانت فلسفة أفلاطون كأساس فلسفة (طبيعية) تهتم بفهم عالمنا الخارجي على قياس عالم داخلي هو عالم الأفكار الخالدة، ولما كانت فلسفة أرسطو كأساس فلسفة منطقية تبغي إقامة العلم والوصول إلى الحقيقة المجردة، شعر اليونان بعد تلك الحروب بحاجة إلى فلسفة جديدة تسمو بنفوسهم إلى مستوى أرفع مما وصلوا إليه، أي كانوا بحاجة ماسة إلى فلسفة أخلاقية، لهذا سادت مباشرة تعاليم الرواقيين وظل أرسطو نسياً منسياً حتى القرن التاسع الميلادي حيث ولد من جديد عند العرب، ومن جديد كذلك إبان القرن الثالث عشر الميلادي عند آباء الكنيسة في أوربا خاصة القديس البير الكبير والقديس توماس فهذه هي الحوادث التاريخية الصريحة التي بدونها لا يمكن أن يفهم المنطق التاريخي للفلسفات في جولاتها المتعاقبة
على أية حال لقد كان شيشرون (زنجياً أبيض) لأسياده اليونان القدماء في تفكيره وهو يعترف بذلك في نص صريح تعبنا في استخلاصه من مؤلفاته حيث يقول في الأتيكوس , , ما ترجمته: (إن مؤلفاتي لم أجد في كتابتها عناء كبيراً، لأنني بحثت فقط عن الاصطلاحات التي وقفت في وضعها)
وفي واقع الأمر أن أغلب مؤلفات شيشرون إن لم تكن كلها عبارة عن (ترجمة حرفية) للكتب اليونانية القديمة، بل أحياناً يعجز عن وضع الاصطلاحات لبعض التعابير اليونانية(241/41)
فيتركها على حالها دون نقل، كما فعل بعد ذلك العرب في كلمة (ميتافيزيقا) و (إيساغوجي)، فهو يترك مثلاً اللفظين اليونانيين لكلمتي الأفكار والمغريات عندما يعرض للأخلاق العملية، ونجد في وضوحٍ أثر أفلاطون ظاهراً في نواميس شيشرون وجمهوريته وفيهما يعرض فهمه للسياسة، فهو يبغي تحقيق دولة فيها تمتزج مبادئ الملكية والأرستقراطية والديمقراطية في آن واحد، حتى يستقيم ظل الحكم وتسود الطمأنينة بين عباد الله، لأن الحكومات القائمة في عهده يعتبرها صورية تتخذ من الحكم سبيلاً لفرض السيف على رقاب الناس ووضع الحبل في أعناقهم باسم الحرية تارة وباسم الصالح العام تارة أخرى. وأثر أرسطو على الخصوص في التوسكيلان وفي هورتنيوس حيث يعرض في الأول للنفس الإنسانية في أصلها وطبيعتها وقدرتها في التصور وأنواع ملكاتها المختلفة، وخاصة الشهوات والانفعالات النفسية في كل نواحيها بدقة تفوق الوصف؛ وفي الثاني يعرض للأسباب التي دعته لدراسة الفلسفة وأهمية أرسطوا في هذا الباب
(البقية في العدد القادم)
عبد العزيز عزت
خريج جامعات القاهرة، وباريس، وكليرمون
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(241/42)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
ما أحوج بني الإنسان كلما قطعوا شوطاً في طريق هذه الحياة، أن يديروا وجوههم لحظة عن الأفق الذي يستقبلون، وأن يرجعوا إلى ما استدبروا من آفاق متطلعين إلى تلك النجوم الزواهر التي تلتمع على جوانبها، والتي ستبقى هناك ساطعة باهرة ما دار الفلك وما تصرمت السنون
أجل، وما أحوج الإنسانية أن تهتدي في سبيلها بهدى الذين رسموا لها ذلك السبيل؛ وما أحرى قافلتها كلما آدها العبء، أو أعياها السير، أو اعترضتها العقبات، أن تستأنس بقبس من تاريخ أولئك البواسل الأبرار الذين تتألف من سيرهم مجتمعة سيرة البشرية في هذا الوجود
وهانحن أولاء نتجه بعقولنا وقلوبنا إلى سيرة الزعيم (لنكولن) رئيس الولايات المتحدة، أحد أبناء الإنسانية الغر الميامين وأحد أفذاذها البواسل. ولا لوم علينا معشر الشرقيين إذا تخطينا مشرق الأرض إلى مغربها، بل إذا تخطينا الدنيا القديمة إلى الدنيا الجديدة، متخذين قبسنا في هذا الحديث من وراء المحيط. لا لوم علينا في ذلك، فأبناء الإنسانية العظماء متى اجتازوا باب الخلود صاروا للعالم كله، ولا اعتبار في ذلك لشرق ولا لغرب
وما هذه الدنيا الجديدة التي أخرجت بطل حديثنا وما فصلها في تاريخ الوجود؟ برزت الولايات المتحدة كدولة من دول العالم على حين غرة، فكان بروزها السياسي شبيهاً بما يزعمه الجغرافيون عن وجودها المادي، إذ يقولون إن أمريكا، أو الدنيا الجديدة قد برزت(241/43)
من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم؛ حركة لم تكن متوقعة من قبل، ولم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها واصلة إلى ما وصلت إليه!
سمع الناس في أوربا قبل أن تنبعث الرجفة الكبرى من فرسنا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط. سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولمبس أنظار العالم القديم إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون؛ وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها وتشهر سلاح الإيمان واليقين، سلاح (جان دارك) الخالد في وجه الطغيان المربد العبوس؛ سمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتأكلها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالاً، ثم ما لبثوا أن علموا أن الناس روعوا هنالك وزلزلوا زلزالاً شديداً
وجاءت الأنباء تترى بعد ذلك عن حرب طاحنة، تسمع في ضجيجها صيحات الاستقلال وحقوق الإنسان حتى ترامت إليهم الأخبار عن انتصار يتلو انتصاراً تحت راية (واشنجطون). وأخيراً علموا أن إنجلترا سلمت مغلوبة على أمرها واعترفت في عام 1783م بمولد دولة جديدة انتزعت منها انتزاعاً؛ ورأى العالم في ذلك دليلاً جديداً على أن الإيمان يفعل أكثر مما يفعل الحديد والنار!
ولدت دولة جديدة كانت قبل ذلك ولايات متنافرة متباغضة ولكنها وجدت نفسها بعد مولدها مملقة فراضت أحرارها على خشونة العيش، وما كان هؤلاء الأحرار بعد استقلالهم ليشتروا به ثمناً قليلاً وهم سلائل أولئك الذين هاجروا من قبل في سبيل الحرية إلى هاتيك الأصقاع من موطنهم الأصلي في إنجلترا. لذلك تحملوا الفاقة وأخذوا يكدحون كدحاً شديداً، وتولت قبائل منهم حين ضاقت بهم المدن أصقاعا من الأرض البكر تنمو فيها الألفاف والأحراج من وحشي النبات، يشقونها ويفلحونها، ويعيشون فيها عيشة أولية كأنما عادت الإنسانية في أشخاصهم تبدأ حياتها من جديد!
وكان هؤلاء في أصقاعهم هذه منعزلين عن عالم المدنية الانعزال كله، يقيمون الأكواخ من كتل الخشب في جوانب الغابات، ويعيشون على الصيد وعلى قليل من الزرع، ويفعلون ما(241/44)
كان يفعل آباء الإنسانية الأولون، يتعرضون لعشرة الطبيعة ولا يأمنون شرة الوحوش ولا هجوم القبائل الأصلية من (الهنود الحمر) ويتناثرون هنا وهناك في مساحات هائلة يمشون في مناكبها جماعات ضئيلة العدد حتى ليخيفهم الفضاء وحده ولو لم يكن فيه شيء من عوامل الخوف
في هذه البيئة الساذجة وفي كوخ حقير من الخشب يقوم وسط فضاء الطبيعة الرهيب الرحيب، فتح إبراهام لنكولن عينيه على هذا الوجود في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير عام سنة 1809م!
خرج الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة، بل خرج إبراهام لنكولن أحد القلائل الأفذاذ الذين تفخر البشرية بانتمائهم إليها من هذه البيئة ودرج من ذلك الكوخ. وما كان ذلك ليعيبه، بل إنه لمن دواعي الفخار إن قدر لمثل هذا العظيم أن يزهي أو يفتخر. وهو لعمري مدين بجانب كبير من عظمة نفسه وسمو روحه إلى تلك البيئة التي خرج منها؛ ذلك أنه نجا على نقاء عنصره وصفاء روحه من زخرف الحياة وغرورها، ومن مفاسد المدينة وأوضارها، ومن أوهام المجتمعات وكواذب أحلامها، فخلص له معدنه الحر وبقي نقياً لم تعلق به الأوشاب؛ وصار في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي! وتمثلت فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها وفي إسفافها وعلوها؛ وصار الناس يلمحون في سجاياه براءة الطفل وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله! وكم للفقر من يد على العظماء! وكم أخرجت مثل تلك البيئة الطليقة الخالصة من رجال أماثل ومصابيح أعلام قادوا القافلة واستقاموا على الطريقة، أو على الأصح استقامت بهم الطريقة ووضحت المحجة!
ذلك هو لنكولن الناشئ في الشوك من أيامه، وتلك هي صفاته في جملتها كما ستتضح لك فيما سيأتي من حديثه. وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه؛ وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء. فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العريضة العالية المجعدة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم. ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة(241/45)
استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال؛ ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل!
فتح الوليد عينيه على الوجود في لوح أقيم من الكتل الخشبية في مقاطعة كنتوكي بعد استقلال الولايات بنحو ستة وعشرين عاماً، فنما كما ينمو وحشي النبات في ذلك الإقليم! نما على ما تجود به الحيوانات من ألبانها، وتدثر بجلودها، ثم تغذى ثمار الشجر واضطجع في مهد من أوراقها الجافة كأنه فرخ من أفراخ الطير. ولما بدأ يدر الأشياء وجد عالمه في ذلك الكوخ الذي لم يكن يزيد اتساعه على أربعة أمتار في مثلها والذي لم يكن فيه من الأثاث إلا وحشية وغليظة، من جلود مجففة إلى آنية جافة شوهاء إلى قطع غليظة من الخشب سوتها فأس أبيه التي كان يراها بين آونة وأخرى معلقة على الحائط بجانب أداة أخرى كانت تبدو غريبة في عينه الغريرة، تلك هي بندقية أبيه التي كان يحملها على كتفه كلما سار نحو الغابة، فهي لذلك تختفي في النهار وترى بالليل على حائط الكوخ
وكانت الغابة أو كان الجزء المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل خيال من هذا الوجود. حسبه الآن من الوجود أن يلعب ويمرح في هذا المضطرب وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته التي تكبره بعام؛ وأن يستمع إلى ما ترويه له أمه من أقاصيص وأنباء يلتهما التهاماً وأن يصغي إلى ما تجيب به عن أسئلته الكثيرة
على أنه كان ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معاً؛ وكان يعجب كلما رأى أباه مقبلاً من بين الأشجار، بندقيته على كتفه ومعوله في منطقته، وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه إذا وصل إلى الكوخ فتأخذه في فرحة ظاهرة وتهيئ الطعام للأب وللأسرة جميعاً
في هذه السن الباكرة يرى الغلام الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو يعيش كما كان يطلب (روسو) في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه ويقوي وجدانه ويعمق خياله وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة وتستشف ما في هذا الكون العجيب من سحر وجمال وتستشعر ما فيه من سر ورهبة
أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من راحة واطمئنان؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش؟ وحسبه في سنة أن يرى ذلك(241/46)
وأن يلمسه
على أن مجال الحياة يتسع أمامه بعد أن تخطى سنته الخامسة إذا انتقلت الأسرة فأقامت كوخاً جديداً على طريق مطروقة كانت تؤدي إلى إحدى المدن القريبة. وهناك يرى الغلام أنماطاً من الناس غادين رائحين ويرى دواب وعربات وأشكالاً من الملابس تختلف اختلافاً كبيراً عما اعتاد رؤيته على جسد أبيه، فيتأمل ويعجب بينه وبين نفسه
وفي السابعة من عمره يصحب الغلام أباه إلى الغابة، هنالك حيث بدأ يقوم بنصيبه من العمل، فيساعد ذلك الأب الذي يقطع الأخشاب ويصنع الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقوداً تحتاج إليها الأسرة، وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل بتعب في تلك المساعدة التي يباهي بها أخته، وإن كانت هي أيضاً تقوم بنصيبها في مساعدة أمها؛ ولكن هل كانت (سارا) تستطيع أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ هل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل (أيب) الصغير؟
كان لا ينقطع عن العمل إلا في أيام الآحاد، إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ فيستمع في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات مشتقة من الإنجيل. ولقد أحدثت تلك الحكايات في نفس الغلام أثراً عميقاً وظلت مسحتها الدينية تلازمه بعد ذلك في جميع أطوار حياته
وجاء بعض ذوي قرباه فأقاموا إلى جوارهم وأقبل الغلام على خاله وخالته يستزيدهما الأنباء والأقاصيص، وكم كان معجباً بتلك الخالة التي تكتب وتقرأ وتحبذ أن يتعلم الغلام القراءة والكتابة على الرغم من إعراض أبيه عن ذلك وعدم اهتمامه به
وبدا للغلام يوماً فسأل عن أسرته، وأين نشأت، وممن انحدرت؟ فسمع ردوداً مبهمة لم ترو ظمأ نفسه، وماذا كان يتوقع الغلام؟ أكان يحسب نفسه سليل سادة أكابر؟ ولكن ما كان أبعد فكره عن هذا؟ وهل رأى غير بيئته وأسرته؟
ولئن سمع غيره من الأطفال من آبائهم عما كان عليه جدودهم من عظمة وما تقلبوا فيه من نعيم الحياة ورفيع المناصب، لما كان لمثله أن يسمع شيئاً من هذا. وأنى له ذلك وهو ابن الأحراج والأدغال!؟. وغاية ما سمعه عن جده ما حدثه به أبوه ذات مرة، أنه بينما كان يساعد أباه - جد (أيب) - في الغاب ومعه أخواه إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال(241/47)
فأصابت ذلك الأب فخر صريعاً، وجرى الأخوان نحو الكوخ، وبرز من بين الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة بعد موت أبيه، لولا أن صوب أكبر الأخوين بندقيته التي أحضرها من الكوخ مسرعاً، إلى رأس ذلك الهندي فأرداه قتيلاً
فسمع الطفل ذلك الحديث وقد علقت أنفاسه ودق قلبه إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من الخطر، ورأى أنه أشرف على الموت لولا بسالة عمه لذهب كما ذهب جده، وهاله موت جده على تلك الصورة، وكان ذلك كل ما عرفه عن ذلك الجد، أو قل كان هذا هو نصيب جده من العظمة ومن جاه الحياة! ولكن متى كان الإنسان بجدوده وآبائه؟ وأي فضل لامرئ يرث الجاه ولا يكسبه ويُعْطى العظمة ولا يبنيها؟
تلك هي حياة (أيب) وذلك هو محيطه وهو في السابعة. أجل هي تلك حياة رئيس الولايات المتحدة في أولى مراحلها في أحراج مقاطعة كنتوكي حيث لا مدنية ولا تعليم ولا رفاهة! كلا، بل لقد ذهب الغلام إلى المدرسة في خاتمة تلك المرحلة؛ ولكن أية مدرسة هي؟ كانت كوخاً من كتل الخشب أقيم كما أقيم كوخه الذي يعيش فيه، وكانت تبعد عنه نحو أربعة أميال، وكان يذهب إليها كلما استطاع أن يطلقه أبوه من أعمال النجارة في الغابة فيجلس ساعات مع الصبية على الأرض إلى معلم يعلمهم الهجاء بأن يناولهم كتاباً واحداً يمر عليهم جميعاً الواحد بعد الآخر فيتعلمون الحروف ورسمها ونطقها! ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديد متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل خالته وأمه؟ وإن ذلك غاية مبتغاه ومنتهى هواه
(يتبع)
الخفيف(241/48)
جوامع النجف الأشرف
للشيخ ضياء الدين الدخيلي
من ذكرياتي التي أنتعش كلما حلقت في سمائها سويعات ممتعة ألقيت فيها محاضرة على زمرة من أساتذة العالم العربي في مدرسة، طالما حنت أضلاعها على جهابذة قادوا الرأي العام الإسلامي وبقوا مصابيح هداه في عصر كانوا هم المهيمنين على جميع مقدرات أمة القرآن. منذ بضع سنوات طرق النجف الأشرف وفد الجامعة المصرية وفي طليعته الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الزيات حين كان رسول الأدب إلى عاصمة المأمون. إذ ذاك تحفزت لمقابلة تلك العبقريات اللامعة التي أنفقت ليالي في الاستمتاع بثمراتها الغنية بالغذاء الروحي؛ ما هي إلا خطوات أثقلتها الخواطر والعزمات حملتني أن أغادر مدرسة السيد كاظم البزدي (إحدى المدارس الإسلامية الكبيرة في النجف الأشرف) لاستقبال موكب االثقافة، وإذا بجلبته تملأ مدخل المدرسة الشمالي، فوقفت تحت مصباح زيتي يلفظ أشعته الباهتة كأنه رمز عصر ينقرض؛ في سكون المدرسة الذي زاده اعتكار الليل وروعة المفاجأة - هيبة وجلالاً - وقفت أحدث أفلاذ القاهرة عن قطعة من جسم مزقته الحوادث القاسية عن الحركة العلمية والأدبية في هذا البلد الطيب، أحاطوا بي يصغون إليّ وقد تآلفت القلوب الخفاقة وألهبت العواطف دم العروبة الإسلامية فكللنا بهالة من روابط روحية قدسية. وتمضي الأيام وإذا بسماحة السيد أمين الحسيني ورفيقه دولة محمد علي علوية يزوراننا فأجتمع بهما في نفس البنية لأحداثهما عن حياتنا الدراسية، فأجد في إقبالهما وابتهاجهما طلائع الوحدة العربية والإسلامية تتجلى متجلببة هذه النزعة للتعارف فالتآلف فالتضام؛ وحقاً إن الحركة العلمية في هذه البقعة وأساليب الدراسة - ذات أطراف وأفانين شائقة تتطلع لتفرسها النفوس تواقة لما فيها من مزايا وصبغة خاصة وليدة عوامل عديدة لم تجتمع لغير هذه المعاهد، فقد لاحظت ذلك حتى في الغربيين إذ جاءنا سرب من الأمريكان والإنكليز منذ أيام فزاروا المدرسة وبينت لهم طرفاً من سير الدراسة وترجمت لهم إلى الإنجليزية حديث بعض إخواني من أساتذة ذلك المعهد، فأثار الوضع إعجابهم ولم نشعر إلا وآلات التصوير صوبت شطرنا تلتقط المشاهد المختلفة كأنها تحاول أن تلقي علينا درساً عن تقديس السياح الغربيين للمادة المحسوسة في موضع لم يكترث فيه أبناء مصر وسورية(241/49)
لغير روحياته، وكم بين الشرق والغرب من شذوذ وفوارق!
الحياة المدرسية في حاضرتنا متشعبة الأطراف، حسبي أن أزودك منها بقطفة العجلان ولمحة الطائر، مخططاً لك فكرة عامة سوف أشفعها بتفصيل واف قد يرضي الأستاذ علياً الطنطاوي ومن شاطره رغبته
يزدحم في جوامع النجف الأشرف ألوف المهاجرين لانتجاع الثقافة الإسلامية قد امتطوا ظهور الأسفار من كل حدب وصوب من شتى الأقطار الشيعية. ففيها العشرات من سورية من جبل عامل وغيره، والألوف من مختلف أنحاء إيران وفيها من سمرقند وبخارى وغيرهما من تركستان، وفيها من أذربيجان وفيها الكثير من الهند والأفغان وهضبة التبت، هذا عدا من يرتادها من أطراف العراق ومن شيعة الحجاز. لذلك قد شيدت في النجف الأشرف المدارس العديدة ذات الغرف المعدة للإيواء الغرباء حيث يكفل المجتهدون (وهم أئمة الشيعة الذين يرجعون إليهم في بيان أحكام دينهم مستنبطيها من القرآن والحديث وأسس التشريع الإسلامي) ضمان معاشهم وتجهيزهم بأهبة الدراسة، ينفقون عليهم من بيوت المال التي تصب فيها الشيعة الذهب والفضة من كل ناحية وجانب باسم الزكاة والخمس وحق الإمام وأثلاث الموتى وغير ذلك من الوجوه الشرعية
يبدأ الطالب بدراسة النحو والصرف فينكب على الأجرومية ثم شرح القطر لأبن هشام، ثم شرح ألفية ابن مالك لأبن بدر الدين (هذا منهاج الطلاب العرب، أما الفرس فيدرسون كتباً بعضها بالفارسية يلمحها مجلد باسم جامع المقدمات، ويدرسون شرح السيوطي لألفية ابن مالك) ثم يتناول الطالب مغني اللبيب لأبن هشام، ثم يشرع في المنطق فيدرس حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، ثم شرح الشمسية، ويتوسع بشرح المطالع ومنطق إشارات ابن سينا وشرحه وكتب كثيرة كحاشية الخبيصي ومختلف كتب المنطق مجهداً نفسه بمراجعة الشروح والحواشي عليها بأسلوب ودراسة لا تعرف النظرة السطحية؛ ومن ثم ينكص قافلاً إلى الأدب فيدرس شرح التفتازاني المطول لتلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع ويتوسع بمراجعة الإيضاح ومفتاح العلوم للسكاكي وشرح السيد الشريف للقسم الثالث منه، ولا يذر مؤلفاً في البيان إلا ويوسعه تمحيصاً
وبعد علوم البيان يخوض الطالب غمار التشريع الإسلامي وقد سبب انفتاح باب الاجتهاد(241/50)
عند الشيعة أن تشعبت أطراف علم الفقه وكثرت المؤلفات فيه وفي أصوله
نبدأ بدراسة (المعالم) في أصول الفقه للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني نضم إليها كتاب (الشرائع) في الفقه للمحقق الحلي ثم ندرس (القوانين) في الأصول للمحقق القمي مع (شرح اللمعة الدمشقية) في الفقه والأصل للشهيد الأول والشرح للشهيد الثاني ثم ندرس (الكفاية) في الأصول للشيخ ملاَّ كاظم الخراساني ثم في الأصول العملية (رسائل) الشيخ مرتضى الأنصاري مع كتابه في الفقه (المكاسب) ولا يقنع الطالب بهذه الكتب بل يكثر الترداد على المصادر الأخرى للتوسع فيطالع في الأصول (بحر الفوائد في شرح الفرائد) وحاشيتي سلطان والشيخ محمد تقي على المعالم و (حقائق الأصول) و (عدة) الشيخ الطوسي و (أنيس المجتهدين) و (تشريح الأصول) للشيخ ملا على النهاوندي و (خزائن) الدربندي و (منهاج الأصول) و (غاية المسئول) و (شرح العضدي) و (تهذيب الأصول) إلى غير ذلك من الكتب العديدة في الأصول التي قضيت في دراستها زمناً ذهبياً (بأوراقها الصفراء) ونطالع في الفقه (جوهر الكلام) وهو في عدة مجلدات من أهم الكتب يتوسع مؤلفه كثيراً في أبحاثه ولا يترك مذهباً في المسألة لا ينقد أدلته، و (الحدائق) و (المسالك) و (المدارك) و (البرهان القاطع) و (تذكرة العلامة) و (قواعده) و (سرائر) ابن إدريس و (الرياض) و (مستند الشيعة) و (مختلف) العلامة و (تحريره) و (جامع المقاصد) و (جامع الأعرجي) وشرح منظومة بحر العلوم و (كشف الغطاء) و (المبسوط) و (طهارة) الشيخ وهو مجلد واحد، وقد وجدت للعلامة الشيخ دخيل كتاباً في عشرة مجلدات أسماه (بأنوار الفقاهة) وإن هذه المجلدات العشرة كلها تبحث في فصل واحد في الفقه وهو فصل الطهارة فياله من توسع في البحث.!
وبعد دراسة كتاب (الرسائل) في الأصول يحضر دروس العلماء الكبار الذين يحاضرون في التشريع الإسلامي وأصول الفقه متخللة أبحاثهم جولات في علم الرجال وفي التفسير والفلسفة (التي يدعونها هنا الحكمة) إذ يرتفع المجتهد على منبر عالٍ حيث يزدحم تحته المئات من الرؤوس (البيضاء والسوداء بعمائمها) تلك الرؤوس التي هذبتها الدراسات الفردية فعادت لا تستند إلى كتاب تفتحه بينها وبين أساتذتها كما كانت في الأول، إنما يتناول المجتهد أطراف العلم فيناقشه طلبته بكل حرية ويتنقلون في الفصول المختلفة من(241/51)
دون التزام بكتاب واحد وإنما يستعرضون المذاهب في المسألة وينقدونها من جميع وجوهها على ضوء حرية الفكر ثم يرجحون ما يختارونه من الآراء، وهنا يقضي الطالب عدة سنوات حتى يدرك درجة الاجتهاد وهي ملكة يقتدر بها على استنباط أحكام الشرع لشريف من مصادرها، حينئذ يمتحنه مجتهدوا عصره ليعطوه إجازة الاجتهاد وهي الشهادة العليا. وفي السنين الدراسية الأخيرة يتجه البعض إلى دراسة الكلام والفلسفة الإسلامية فيدرس فيهما (شرح المنظومة) للسبزواري و (شرح التجريد) للعلامة الحلي و (شرح إشارات ابن سينا للخواجه نصير الدين الطوسي و (أسفار) ملا صدرا و (الشوارق) لعبد الرزاق اللاهجي و (الشفاء) لأبن سينا. والحق أن جوامع النجف الأشرف تدرس الفلسفة الإسلامية بتوسع لا مزيد وراءه. كنت أدرس شرح إشارات ابن سينا لدى شيخ فارسي يدعى (الدامغاني) فكان يتمعن في تدقيقه فلا يدرس في اليوم أكثر من نصف صفحة أو ربعها بالرغم من أن الدرس يستغرق ساعة أو أكثر وكنا نذهب إلى داره بعد الظهر بقليل وذلك في صيف النجف الأشرف تكليف شاق لا يطاق لشدة الحرارة في هذه البقعة الجافة. في هذه البلدة الجاثمة على حدود الصحراء العربية الملتهبة بضرام حصاها ولا سيما أني كنت أخرج من سراديب مدرسة السيد كاظم اليزدي التي تتوغل عميقة في الأرض حيث تغوص بك في مناخ بارد شتوي يضطرك إلى الالتحاف بما يقيك أذى البرد القارس. ولربما يتذكر تلك السراديب الأستاذان الزيات وأحمد أمين وصحبهما فقد أنزلت الوفد إلى سراديب المدرسة وحملت له المصباح وجلنا في أحشاء هذا المعهد العلمي. ولكم أعجبت تلك السراديب السياح فكتبوا عنها الكثير وهي ابتكار لطيف في التغلب على الطبيعة القاسية والتمرد على عذابها - ولكن أستاذي الدامغاني كان أقسى. فكم أجهدنا في خوض معارك الفلاسفة الدامية يقذف بنا في جحيم الخصومة العنيفة بين الخواجه نصير الدين الطوسي وبين محمد بن عمر الخطيب الرازي وكل منهما شارح للإشارات، ولكني ابتليت قبله بأستاذين درست عليهما الفلسفة في حلقتين كبيرتين تضم العراقي والفارسي والتركي والسوري الخ كأنها سفينة نوح في الأساطير، كان كل من هذين الأستاذين مفتوناً بسعة إطلاعه في المذاهب الفلسفية وما نسجه العقل البشري من أحابيل وأضاليل وما كشف النقاب عنه من حقائق ناصعة فكانا غفر الله لهما يركضان بنا في ميادين واسعة من أفكار(241/52)
فلاسفة اليونان من مشائين وإشراقيين ومن محاجّات فرق المسلمة وطوائفها من أشاعرة ومعتزلة وشيعة وصوفية وباطنية حلولية إلى غير ذلك؛ فإذا حمى الوطيس بين هذه المذاهب فليس عليك إلا أن ترهف سمعك ليفيض عليك هذان الأستاذان بخلاصة جهودهما الفكرية، ألا أزيدك أن النجف الأشرف في هذا العصر تدرس الطب اليوناني القديم وفيها أطباء من خريجي جوامعها يعالجون الأمراض المختلفة حسب تعاليم شرح النفس في الطب وغيره؛ وفي جوامع النجف الأشرف يدرس علم الهيئة والفلك عدا العلوم الرياضية الأخرى؛ أما علوم الأدب من لغة وعروض وقافية وتاريخ أدب وشرح النصوص الأدبية، أما التاريخ الإسلامي والعلوم الاجتماعية، فان طلبة جوامع النجف الأشرف لا يتركون كتاباًُ جديداً إلا ويقتنونه موسعيه بحثاً وإنعام نظر، وقد خرجت هذه المدرسة كثيراً من الشعراء النابغين
والمكتبات في النجف كثيرة منها الخصوصية وبعضها يفتح لعامة الناس كمكتبة آل كاشف الغطاء ومكتبة المعارف. وعندي مكتبة تضم حوالي ألف كتاب كثير منها مخطوط عزيز، وقد زارها البحاثة عبد العزيز الميمني الهندي المعلق على أمالي القالي فرأى كتاباً مخطوطاً قديماً أعجبه فقال: (لو ضربن آباط الإبل إلى الصين ولم أحظ بغير رؤية هذا الكتاب لكفاني ذلك غُنما)
وإن الطلبة هنا مشغوفون باستشراق الحركات الأدبية في العالم العربي من مصر وسورية والمهجر، ولمؤلفات (لجنة التأليف والترجمة والنشر) سوق رائجة لدينا
ولكننا لا يسعنا أن نفيض في الحديث أكثر من هذا فيمل القارئ الكريم وإنما هذه نبذة تحدثت بها بصفتي أحد خريجي هذه الجوامع المقدسة
(النجف الأشرف - العراق)
ضياء الدين الدخيلي(241/53)
رسالة الشعر
ذكرى ياسين باشا الهاشمي في الموصل
ياسين البطل
للأستاذ أنور العطار
يا صور ةً ِملؤُها الإحسانُ ساميةً ... قبستُ من وحيهاَ الشعرَ الذي أَجدُ
غنى بها الدهْرُ مزهُورًّاً برَوْعِتها ... وعاشَ يمَرحُ في أعطِافها الأبدُ
يُمُّدها النورُ بالأفلاكِ ساطعةً ... حتى تكادَ منَ الأَضواءِ تتَّقدُ
قالوا لمنْ صُغْتَ حُرَّ الشِّعر تكرمةً ... ومَنْ تُرى بثناءِ الدهْرِ ينفرِدُ
فقلْتُ (للهاشمي) الفَذِّ أُحْكِمُهُ ... وأَنْتَقي الكلِمَ الباقي وأَحتشِدُ
(ياسينُ) نورٌ مِنَ الإخلاصِ مُؤْتلقٌ ... مِنْ نَفْحَةِ اللهِ لم يُخْصَصْ بهِ أَحدُ
مِنْ معْدِنِ الحزْم والتصميم جوهَرُهُ ... يكونُ حيْثُ يكون الرأْيُ والسدُدُ
إذا العُرُوبةُ لم تسلُكْ مَحَجَّتَهُ ... يوْمَ الهزاهِزِ لم يبْرَحْ بها أَوَدُ
ضمِنْتَ للوطَنِ المجروح عِزَّته ... فأَنْتَ آمالْهُ الكْبرى وأَنْتَ غَدُ
أمّا تذكرُ أياماً لهُ غَبَرَتْ ... وَملْءُ أَحشائها التَّرْويعُ والسَّهَدُ
تفتَّحَتْ حُفَرَ الأَجْدَادِ صارِخةً ... وهَبَّ مِنْ رقْدَةِ الآبادِ ملْتَحِدُ
شَببتَهَا ثوْرَةً حمراَء لاهَبةً ... تكادُ مِنَ هَوْلها الأَطوادُ تْرتِعدُ
لِسَانُها في الفَضَاءِ الرحْبِ مندْلَعٌ ... ووهُجها في فّم الجوزَاء منعقدُ
يسيلُ (دِجْلَةُ) صخَّاباً بها حَنِقاً ... يرْغو على ضِفتَّيْه الثأْر والضَّمَدُ
وأنْتَ في غمرات الموتِ تَقْحَمُها ... تُظلُّ نفسكَ روحٌ للعلى ويدُ
في فتيةٍ حلَبُوا الأَيامَ أَشْطُرَها ... وصافحوا الموتَ لم يفتُرْ لهم جَلَدُ
عاشُوا جمالَ الدُّنا حتى إذا أنزلتْ ... بِهم مناُياهُم بين الورى خَلدُوا
كأنما يبدءونَ العمرَ ثانيةً ... فإِنْ هُمُ لفظُوا أَنفاسَهُم ولُدوا
كأَنهُمْ في فضاءِ الله ألْوِيةٌ ... دَمُ الجهادِ عَلَى أَطرافهَا يِقدُ
والمخلصونَ جلالُ الكوْنِ ما طلعُوا ... والمخلصونَ سنَا الأيام ما همدُوا(241/54)
في العبقَرِية أحقابُ لهمْ قُشُبٌ ... وفي البطولِةِ آبادُ لهمْ جُدُدُ
حلَّقْتَ كالنَّسرِ في الجوزاءِ مرتقياً ... وخلْفَكَ الناسُ في أَثوابهمْ جَمَدُوا
يرَوْنَ فيكَ مَضاءً لا كَفَاََء لهُ ... وعَزمةً تخلُقُ الأبطالَ أَو تِلًدُ
فخفَّضَوا الهامَ إِعْجاباً وتكرِمةً ... والناسُ إِن بَهَرَتْهُمْ خلَّةٌ حمِدُوا
أُقصيت عن وطن مارُمْتَهُ بأذًى ... وعُشتَ تبنى له العَلياَء أو تُعدُ
تنكَّرت لك دنيا لا ذمامَ لها ... وخانك الصَّحْبُ والأدنَوْن والبعدُ
أيرتعُ الغِرُّ في أَمْنٍ وفي دعةٍ ... وأَنت ناءٍ عن الأوطانِ مُبتَعدُ
من همَّ يسألُ عن (ياسينِهِ) لَهِفاً ... مشى به القَيْدُ أَو أَلوَى به الصَّفَدُ
لما نُعيتَ إلى أرض العراقِ ضُحَىَ ... ضَج الفضاءُ وَضَج السَّهل والجَلدُ
وزُوِّعَتْ فئةُ للبغْيِ جاحِدةُ ... حاق الشَّقاءُ بها والنَّحْس والنكَدُ
خافوك مَيْتاً وما بالميتِ من فرَقٍ ... لما نُعيتَ تهاوَوْا ثمَّةَ افتًقِدًوا
كأنهم في سَوادِ الليلِ أَخْيِلَةٌ ... لولا الخيالاتُ في دُنياكَ ما وُجِدُوا
لم يَلْبَثُوا أَن توارَوْا في معايبهمْ ... وَجرِّعُوا الموتَ لم يَفطُن لهم خَلَدُ
مشت (دِمشقُ) وراَء النَّعشِ جازعةً ... يكادُ يُصْعِقُهَا الأحزانُ والكمدُ
تَبكي ابنَها البَرَّ قد أَوْدي الحِمَامُ به ... فضاع في مَوته التبِّيْاَنُ والرَّشَدُ
عَمَّ الذُّهوْلُ رِباعَ الشام من أَسَفٍ ... كأنها مُقْلَةٌ دَمِعَاءُ أَو كِبَدُ
قد فَجَّرَ الألمُ الجبارُ أَدْمُعَهَا ... كما تَفَجَّر يومَ العارِضِ االبرَدُ
لا الأُنْسُ يضحكُ في أَرجائِهَا أَلفاً ... ولا النعيمُ عَلَى جناتِهَا يفِدُ
إلا الكآباتِ تَعلو الأُفْقَ غامرةً ... وللكآباتِ صوتٌ صارخٌ فَرِدُ
لَهْفِي عليها ولهف الُعرْبِ قاطِبةً ... مات الحبيبُ ومات القائدُ النَّجِدُ
ياسِينُ لا تحتفِلً كيداً رمَوْكَ بهِ ... ولا يَهولَنك ما حاكوا وما سَرَدُوا
فأنت كالشمسِ إن تَسْمُ العُيونُ لها ... ترتدُّ عنها وفي أجفانِها رَمَدُ
لم يلبث الحقُّ أن لاحت مَخَايُلهُ ... وغاب في طيِّهِ الُبهتَانُ والَفَندُ
إن أَرجَفوا فضلالُ ما نعوجُ بهِ ... كم يضحكُ اليمُّ إن أَرْغي به الزَّبَدُ
دَعِ المُفَنِّدَ يمِعنْ في غَوَايتِهِ ... فليس يَرْفعُ إلا الواحِدُ الصَّمَدُ(241/55)
إنْ يَكتبِ اللهُ للإنسانِ مَكْرُمَةً ... لا يمحُها الخلقُ بل لا يَطْوِها الأَمَدُ
خُذِ الخلودِ نِقّياً ما به دَخَلُ ... وَخَلِّ هذا الورى يذهب به الحسَدُ
يا بانِيَ المجدِ لم تَضْعُفْ دعائُمُهُ ... كلٌّ عَلَى ما بنيتَ اليومَ مُعتمِدُ
سرْ في لِواءِ الهدى جَذْلانَ مُغتبطاً ... فالقومُ قومُكَ ما حادوا ولا رَقَدوا
قد صَفَّفَتْ لَبُوَاتُ العُرْبِ شِكتَهَا ... وحدَّدَ النَّابَ في عِرنيِنِهِ الأَسَدُ
(الموصل)
أنور العطار(241/56)
صلاة شاعر!
وقال: أُصلِّي، قلتُ: صلِّ جماعةً ... لنعرض قبل الحشر بين يدَيْ ربّي
ورتلْ من القرآن سورة يوسف!! ... أُرتِّلْ - كما شاء الهوى - آية الحبّ
وحي صورة
بقيةٌ من صِبا (حمدي) أشاهدها ... فأسألُ الدهر عنها كيف أبقاها
كأنّها نفحة للحسن خالدة ... عزَّت على الدهر أن يمحو محيَّاها
(المطرية)
عبد الله حبيب(241/57)
أقوام بادوا
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مفتاح القصيدة
جعلوا لطبع اللؤم كل قداسة ... وتحرزوا من سنة المختار
المختار هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من نبذ سنة الله ورسوله لابد أن يصير إلى ما هو موصوف في هذه القصيدة من الصفات؛ ونعني بالنبذ نبذ القلب وإن لم ينبذ اللسان، ولا نعني أحداً بالذات وإنما هي صفات يعرف كل منصف منها أنها شائعة حيث الاضمحلال والبوار
القصيدة
تركوا اللباب وشاقهم ما شانهم ... من بهرج في مطلب غرار
عاشوا عبيد كلامهم لم يدلفوا ... من خلفه لحقائق الأفكار
جعلوا حطام اللؤم أعلى مكسباً ... وأعز محمدة ليوم فخار
يخفون أوزار النفوس بمنطق ... فينم فاضح خافيَ الأوزار
حسبوا اغتياب الغائبين مطهِّرا ... لنفوسهم من خزية أو عار
كل يغار من الإِجادة جهده ... مثل النساء تغار كل مغار
يحكي عظيمهم الحقير سفالة ... متكثراً بدناءة الأنصار
يخشى البريء قضاءهم من خطة ... لم تُعْفِ ناساً من هوى الأصهار
العدل فيهم أجر كل مملِّق ... جعل النفاق عصابة الأبصار
كل يعاقب من يريد أليفه ... ضراً له لا الكره للأشرار
الكِذْب عجز فيهمُ وخساسة ... والصدق عبد مزدرًى متوارى
ندم المجيد على إجادةٍ قوله ... أو فعله من ضيعة وضرار
الضيم ما يجري اللئامُ مُجَوِّداً ... فيصون كلُّ عجزه لفخار
سبقٌ بمضمار الحياة يحوزه ... مُتَخَلِّفٌ بالغش في المضمار
وتفرقوا إلاَّ لدى التهويش والت ... ضليل فهو مؤلف الدُّعَّار
وتخالهم حشرات روث مالهم ... إلا به حظ من الإكثار(241/58)
وكأن كل إجادة قد دهورت ... من عقلهم في بؤرة الأوضار
فكأنما أذهانهم بالوعة ... أخفت نفيس الدر في الأغوار
كل يلوذ بإثْرَةٍ ويخالها ال ... إيثار بئس مزيف الإيثار
ففعاله ومقاله وسكوته ... للؤم لا فضلاً وحسن جوار
دأبوا على إخفاء حق مالهم ... في حجبه من مكسب ونضار
لؤم لعمرك لا مدى لصياله ... وضؤولة تحدو لسفل قرار
الطيش أغلب للتأمل فيهم ... حتى لدى العظماء والأخيار
سبق اللسان حصاتهم فكأنما ... سكر العقار لهم بغير عقار
رانت على مهجاتهم وقلوبهم ... وعلى الحجا والسمع والأبصار
شيم تُوَرَّثُ حقبة عن حقبة ... كتخلف الأَرجاس في الأَنهار
أو ما دهى أوصال جسم من ضنى ... يمضي ويترك باقي الآثار
جعلوا لطبع اللؤم كل قداسة ... وتحرزوا من سنة المختار
هات المُرَبِّي للكبار ولا تقل ... يا أين مُعْوِزَ رشده لصغار
هيهات يصلح نشء قوم لم يجد ... خُلق الكِبَار يضيء مثل منار
عدوى الضؤولة والخساسة فيهمُ ... عدوى الوباء تسير كل مسار
قوم إذا ابتدروا السباب رأيتهم ... يطلون موضع عُرِّهم بالقار
متعاظمين على نجاسة أنفس ... نتجت نتاج الدود في الأقذار
ستر الخسيس خساسة بخساسة ... في أنفس الأعوان والأنصار
متعظماً يبدو كريماً سامياً ... متحلياً بفضائل الأطهار
وترى الوقار ولا وقار وإنما ... اخفوا دعارة أنفس بوقار
ودعوا إلى الإصلاح دعوة مائق ... يسعى إلى الأرباح سعي تجار
هم يبتغون الجاه إنْ لم يبتغوا ... مالا بدعوة مصلح ثرثار
لم تَدْر وَحْيَ المصلحين حصاتهم ... فتشبثوا بزوائف الأفكار
صارت وسائل عيشهم ما غاله ... من طبع لؤم سائق لبوار
فقد الحياَء صغارُهم من ضيعة ... فغدوا كبار الفخر غير كبار(241/59)
صنعوا الأذى من غير ما سبب ولا ... يؤذي لغير القوت وحش ضاري
ضلت غرائز شرهم عن أصلها ... في صون عيش أو لدفع ضرار
فغدت دناءة أنفس وخساسة ... كيداً بلا كسب ولا أوطار
وحديثهم كالحك يهتك عزهم ... فأخو السفاهة منهم كأسٍ عاري
العدل ما وهب السمير سميره ... والرأي للأوشاب والأغمار
جرأت صعاليك على ما لم يكن ... في فهمهم فقضوا بغير تماري
فوضى لعمرك لا صلاح لشأنها ... كيف الصلاح لأمر هاوٍ هاري
عادوا الذكاء خساسة فكأنما ... نبذ الذبالة في الظلام الساري
إلا الدعاوي الباطلات فأنها ... عادت كعود مزيف الدينار
سل صفحة التاريخ كم قوم به ... أجراه مجرى الدهر في مضمار
أقوام أدهار مضت بعض لها ... ذكرى وبعض ما لها من داري
قد أبدلوا طبع السفال بأنفس ... من طبعها المتصاعد السوَّار
صاروا إذا غضبوا وإنْ سُرُّوا وإن ... درجوا لأمر ثالث بمدار
يتمرغون مجانة فنفوسهم ... وجسومهم كمزابل الأوزار
كتمرغ المفلوك دغدغ جلده ... عضة من البرغوث في الأقدار
وصموا الشباب ولم يكن من طبعه ... خلق اللئيم العاجز الغدار
إن الشباب مروءة وسذاجة ... وترفع ينبو عن الأوضار
تخذوا السفال مِجّنَّهُم ليصونهم ... من صولة الغلاَّب والمغوار
فغدا السفال سعادة ومسرّة ... عبث الخنى ومجانة الفجار
نبذوا الحياء وكيف ترجو أمة ... للنائبات مجانة العهار
قد قيل في فقد الحياء رجولة ... فقد الحياء أنوثة الدعار
طبع المجانة عم حتى خلته ... كيداً يحاك عليهم بسرار
أم وُرِّثُوهُ عن الجدود غنيمة ... يطفو الذليل بها على الأقدار
ويُذِلُّ من عنت وضيمها ... بسعادة المجان والفجار
وتكايدوا كيد العبيد ولم يكن ... كتنابذ بطبائع الأحرار(241/60)
واستمرءوا مرعى الغباوة والخنا ... إلْفَ السجون لطول عهد إسار
هزموا الدهور الغازيات بهزلهم ... فمضت وضلوا رهن عقر الدار
فإِذا الدهور جديدة غلاَّبة ... وإذا اللئام فريس الأدهار
درجوا على درج الحياة إلى الردى ... من بعد جهل راقهم وصغار
عبد الرحمن شكري(241/61)
رسالة العلم
ما بعد الطبيعة
الروح ,
للسيد محمد حسن البقاعى
- 3 -
لقد بحثنا في الفصلين السابقين عن المادة والحياة، وأتينا على ذكر النظريات والنتائج التي وصل إليها الفلاسفة على اختلاف آرائهم، وتعدد مذاهبهم. ولا يسعنا الآن إلا أن نقول: إن نتائج تلك الأبحاث والبراهين والاعتراضات التي أثارها الفلاسفة للوصول إلى كنه المادة وحقيقة الحياة، لم توصل العقل البشري إلى نتيجة حاسمة، بل لا تزال الصعوبات قائمة. ولكننا نظن، أن الله سبحانه وتعالى سوف لا يعدم البشرية من نور مفاجئ يرسله إلى عقل بعض الفلاسفة الجادِّين في الوصول إلى الحقيقة النيرة في هذه الأبحاث؛ فيكشف اللثام عن تلك المسائل التي لم تتعدَّ حيز الفرض والاعتراض، ويأخذ بيد العقل البشري إلى شاطئ السلامة، فيخرجه من الظلمات إلى النور. وهانحن مقدمون على البحث في الروح فنقول:
إن البحث في الروح لم يكن نصيبه أكثر من نصيب البحث في الحياة؛ فخلاصته ما شغل عقول الفلاسفة من معرفة حقيقة الروح وماهيتها هو إقرارهم - إقراراً ضمنياً - يعجز العقل البشري عن سبر غورها، وقرع باب حقيقتها. فإن الروح هي من أمر الله، فكيف يتأتى لعقل قاصر إدراك ماهية أمر الله تعالى - وهو لم يستطع إدراك الأشياء البسيطة بالنسبة إلى الروح مثل المادة والحياة
وسنأتي الآن على ذكر النظريات التي وضعها العلماء والفلاسفة الذين عالجوا البحث في الروح وطمحوا في الوصول إلى حل نهائي معقول؛ ولكنهم - ويا للأسف - لم يصيبوا غرضهم المقصود. فالبحث في الروح إما أن يكون عن طريق الرأي العام والحس السليم الذي يقرر أن الروح والجسد مختلفان في طبيعتهما: ويضع الروح فوق الجسد أي إنه(241/62)
يقرر: أن الحياة النفسية فوق الحياة الجسدية، ويعتبر الروح مبدءاً معنوياً يدير الجسد.
وإما عن طريق آراء الفلاسفة والبحاثين التي يمكن تقسيمها مبدئياً إلى قسمين
1 - نظرية الماديين
2 - نظرية الروحيين
أما الماديون فيقولون: (لا يجوز أن نقبل أن الروح والجسد مختلفان بطبيعتهما، أي لا يمكننا القول بأنهما عنصران بل عنصر واحد) فهي إذن نظرية توحيد لا نظرية تثنية وهي تجعل النفس خاضعة للعناصر المادية التي في الجسد. وهم يستندون على طائفة من الأدلة التي يمكن أن تعتبر فيزيولوجية وهي:
1 - إن ما توصل إليه الفلاسفة من تعيين مناطق الكلمات والرؤية والنطق في الدماغ يثبت لنا أن كثيراً من الأمراض العصبية تولد بذاتها اختلافات نفسية واختلافات فكرية.
2 - إن الدورة الدموية في الدماغ تزداد أثناء التفكير. وقد ذكر الدكتور جميل صليبا أن العالم الإيطالي (موسو) شاهد أدمغة أشخاص أصيبوا بمرض في الجمجمة فرأى من وراء القحف أن العمل الذهني والاضطراب النفسي والأحلام كل ذلك يبعث على ازدياد ضغط الدم في الدماغ؛ حتى لقد فكر في إثبات ذلك بتجربة محسوسة فصنع ميزناً كبيراً على صورة منضدة يمكن أن ينام عليها الشخص؛ فكلما أجهد الشخص النائم فكره رجحت جهة الرأس من الميزان لانصباب الدم عليها. فيستنتج من ذلك أن الحياة الجسدية هي المؤثر الأول على الحياة النفسية
3 - نرى في علم التشريح أن ارتقاء الجملة العصبية متناسب مع ارتقاء الحوادث النفسية. فكلما تكاملت الجملة العصبية تكاملت الحوادث النفسية؛ فالأفاعيل الفيزيولوجية إذن ترافق الأفاعيل النفسية
4 - إن التأثير الحاصل من الجسد في النفس كتأثير الصحة والمرض والكبر في النفس نبرهن على اتحاد الجسد والنفس في الماهية
5 - لقد بَيَّنتْ مباحث علماء (البسيكوفيزيولوجيا) - بالرغم من كونها ابتدائية أولية - أن هناك قوانين تربط الحوادث النفسية بالحوادث المادية، فيقول (فيخنر): إن النفس من محصول الجسد، ولكن الشعور في هذه النظرية ليس إلا عرضاً زائلاً كالنور وتأثيره في(241/63)
حركة القطار. . . فلو عرفنا أحوال (لوتر الفيزيولوجية فهل نستطيع أن نكتشف الأسباب التي دفعته للقيام على البابا؟ الجواب على هذا السؤال بحسب هذه النظرية التي ليست إلا نظرية الشعور الملحق هو بلا شك (كلمة نعم!). أما القول في مناقشة هذه النظرية فيتلخص في أربع فقرات:
1 - نستطيع أن نقول عن هذه النظرية إنها لا تزال في عالم الخيال؛ فقد أخطأت باعتبارها أن الشروط الضرورية في الفكر هي المادة.
2 - إذا أنعمنا النظر في هذه النظرية وجدناها لا توضح الشعور بل تعتبره حادثة زائدة لا أثر لها في الحوادث النفسية؛ على أننا لا ننكر اتصال الجسد بالروح؛ ولكن هؤلاء الماديين تجاوزوا هذه الحدود، فهم يعتبرون الأمور النفسية ناشئة عن الجسد بينما نجد بينهما موازاة فقط؛ ويقررون أن الشعور ناشئ عن الحركة، مع أن بينهما فرجة في الحقيقة. ولو سَلَّمنا أن الشعور حادثة عرضية فكيف يمكن إيضاح ارتقائه على مَرِّ العصور وتكامله تكاملاً تدريجياً؟ ألم يقرر الفيزيولوجيون أن العضو الذي لا فائدة منه يزول في التطور؟ فكيف بنا ونحن نراه يرتقي ويتكامل عوضاً عن أن يضمحل ويتلاشى! إذن لابد أن يكون حادثة من حوادث النفس لا. . . بل هو ذلك الحَدْسُ النفسي الذي نطلع به على حوادثنا النفسية
3 - إنهم ينكرون تأثير الحوادث الروحية (النفسية) ولا ينكرون العكس مع أننا نعلم أن للفكر والعاطفة وغيرهما من الحياة الانفعالية تأثيراً بيناً في الجسد. وقد وضع الفيلسوف (ويليام جمس نظرية يدعم بها رأي القائلين بتأثير النفس في الجسد فقال: (لا يمكن أن نقبل أن الجسد يؤثر في النفس ونترك تأثير النفس في الأخير) لأننا نرى أن الشخص عندما يبكي لا يكون بكاؤه فجأة بل لابد من أن يحزن أولاً ثم يبكي؛ إذن لا يمكن للمرء إهمال الفكرة. وكثيراً ما استغرق الإنسان في فكر من الأفكار، فأنساه استغراقه هذا ألماً من آلامه المادية. فالرغائب والأهواء تلعب دوراً هاماً في الجسد وتسبب حركته، وهذا كله كاف لدحض حجة الماديين التي يمكن أن تعتبر حجة بتراء
4 - إننا نرى أن الحاضر مثقل بالماضي، وهو يهيأ للمستقبل فتتجمع آثار الماضي في الحاضر. إذن فالحاضر والماضي متصلان؛ واتصالهما هذا يؤول إلى القول بأن كل حالة من أحوال النفس تحوي كل حالات النفس؛ فالكل موجود في الجزء والجزء موجود في(241/64)
الكل؛ ولكن الحقيقة أن الكل موجود في الكل. وكل هذا مخالف لاعتقاد الماديين بل يستحيل عليهم قبوله؛ فلا يستطيع الماديون إذن أن يوضحوا أمراً هاماً جداً وهو الحكم والمحاكمة؛ ولا اتفاق الناس وتبادلهم بالأفكار؛ بل يقولون إن تبادلهم في الأفكار إنما يكون باتفاقهم في الحوادث الفيزيولوجية؛ فليست هذه النظرية إلا ضرباً من الخيال فهي نظرية ميتافيزيكية أكثر مما هي عقلية
أما اللاماديون أي الروحيون الذي عارضوا نظريات الماديين فقد قالوا: يجب أن نقبل وجود شيئين مستقلَّيْن عن بعضهما بطبيعتهما، أي هما مختلفان بمادتهما. وأول مدافع بل أول واضع لهذه النظرية هو أفلاطون الذي يقول: (إن النفس هي أخت المثل العليا الخالدة، وهي خالدة مثلها؛ فالنفس إذن محبوسة في الجسد كأنها في حجرة من حجرات هذا الجسد؛ أي إن النفس كالرُّبان في السفينة يُسِّيرها ولا يتأثر بما تتأثر به هذه السفينة. وعلى ذلك فالموت هو رجوع النفس إلى إخوانها حيث تسترجع علمها الأبدي الذي نسيته في الجسد). أما (ديكارت) فهو يعتبر أيضاً أن النفس والجسد من طبيعتين مختلفتين؛ فماهية النفس هي الفكر، وماهية الجسد هي الامتداد؛ فهما إذن غير متجانسين ولا متشاكلين، بل لكل منهما طبيعة خاصة به. إلا أنه ينكر على أفلاطون قوله بعدم اتصالهما ببعضهما وتشبيه النفس بربان السفينة الذي لا يتأثر بما تتأثر به السفينة فيقول: (إنني لا أنكر أن لي جسداً يتألم عندما أشعر بألم؛ وأحس بالجوع والعطش عندما يكون بحاجة إلى الأكل والشرب؛ وإنني لست ساكناً بجسدي كما يسكن الرُّبان في السفينة بل أنا أكثر من ذلك؛ أنا متصل بجسدي أكثر من اتحاد الربان في السفينة، ولو كنتُ مثله لكنت إذا جُرحت لم أتألم، بل على الأقل كنت أرى جرحاً فقط دون أن أشعر بألم، فأنا إذن عبارة عن شخص مفكر)
فديكارت إذن يقول بتأثير الجسد في النفس ويقول: (إن الحركة لا تتغير) أي لا تزيد كمية الحركة في العالم. وهو يصرح بقبوله لفكرة العلاقة بين الجسد والنفس، ولكنه يوضح هذه العلاقة بقوله: (إن كلاً من - الروح والجسد يؤثر في الآخر بمعونة الإله). ولقد اعتبر بعض الفلاسفة أن هذا الإيضاح مبهم وقالوا: إن إيضاح تلاميذ (ديكارت) أتم وأوسع من إيضاح (ديكارت) نفسه. فتلميذه (ماليبرانش) الذي وضع نظرية الأسباب المصادفة - أي العلل الاتفاقية - يقبل كل أقوال أستاذه ويشعر بالصعوبة في اتحاد الجسد في النفس(241/65)
وكيفيته وأسبابه؛ ولكنه يحل ذلك بشرح مبتكر، فيقول: (إنني أرى أن الروح لا تؤثر في الجسد والجسد لا يؤثر فيها، فمن الذي يؤثر إذن. . .؟ لا شك أن الإله وحده هو الذي يؤثر. مثال ذلك: عندما تحترق يدي فلا تستطيع نفسي أن تحدث في الألم بل الإله هو وحده الذي يحدث فيَّ الألم). فمن ذلك ترى أن (ديكارت) و (ماليبرانش) قد فتحا في حل مسألة الروح فتحاً جديداً؛ فهما بتعليلهما هذا يقرَّان بالعجز عن إدراك حقيقة اتحاد الروح بالجسد. وليس هذا إلا رضوخاً للحق واعترافاً بالواقع؛ فيجب عدم الاكتراث باعتراضات بعض الفلاسفة المتعنتين أو الملحدين عن الأصح، فهم يقولون: (يؤخذ على ديكارت إسناده كل فعل إلى الإله، وتوقفه على إرادته ومعونته؛ فبذلك يحذف كل فاعلية للجوهر اللامتناهي، ويجعل الإله كعامل من العمال غير كامل لأنه صنع آله لا تمشي إلا إذا كان هو موجوداً فيها)
فمناقشة هذا الاعتراض تتلخص بقولنا: ليس هذا الاعتراض إلا كلمة حق أُريد بها باطل. ولنفرض أن للجوهر فاعلية، فمن أوجد هذه الفاعلية؟ ومن أوجد الجوهر؟ ومن هو مرتِّب ومنسق هذا النظام في عالم الكون والفساد. . .؟ هل يستطيع هؤلاء المعارضون المنكرون للقوة الإلهية أن يجيبوا على هذه الأسئلة بأن المؤثر والفاعل الأول لذلك هو غير الله عز وجل؟ هبهم أجابوا بذلك وقالوا: إن الطبيعة هي الفاعلة، فما هي هذه الطبيعة ومِمَّ تتركب؟ وما هو مبلغ قوتها واقتدارها؟. لاشك أنهم يقفون حيارى تجاه هذا الأمر ولا يسعهم إلا الرجوع إلى القدرة الإلهية. .
ولقد وضع (سببنوزا نظرية جعل فيها الامتداد والفكر جوهراً واحداً وقال إنه جوهر الإله؛ بل قال إن كل الجواهر كالروح والجسد هي أعراضٌ لجوهر الإله. فهذه النظرية تسمى بالنظرية الحلولية فهو ينتقل من مذهب التثنية إلى مذهب حلوليٍ واحدٍ مُوحَدٍ لجميع الجواهر. وخلاصة هذا المذهب هي: لا يوجد غير الإله؛ وكل ما نراه هو أعراضٌ وصفاتٌ له؛ فالجواهر إذن هي لا نهاية في لا نهاية؛ ولكننا لا نعرف منها إلا صفتين فقط وهما: الامتداد والفكر لننظر إلى العالم المحسوس فنرى لوناً وصوتاً وحركة، وكل هذه هي عبارة عن أحوالٍ وهي متناهية، إلا أن عددها غير متناهٍ، فالفكر صفة الإله وأحواله غير المتناهية كالرغائب والذكريات. . . فأحوال الامتداد الإلهي هي الأجسام؛ وأحوال الفكر(241/66)
الإلهي هي النفوس وعلى ذلك فالعالم والإله شيء واحد. ويقسم هذا المذهب الطبيعة إلى قسمين:
1 - الطبيعة الطابعة
2 - الطبيعة المطبوعة
فالطبيعة الطابعة هي مجموع العلل الثابتة الدائمة الموجودة في جوهر الإله؛ والمطبوعة هي مجموع الأعراض المتغيرة المتبدلة التي لا تستقر على حال. فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان مركباً من مجموع نوعين من الأحوال الإلهية؛ وهما الفكر والجسد ولا يمكن أن يعتبر جوهراً؛ وعلى ذلك فلا يوجد عقل ولا إرادة بل إرادات، فجموع الأحوال النفسية يوازيها مجموع الأحوال الجسدية، فهي تشبه نظرية الموازاة فهذه النظرية لا تقبل تأثير النفس في الجسد ولا العكس بل تقول إن بينهما موازاة فقط؛ وهي تنكر الحرية؛ واعتراضنا عليها هو نفس الاعتراض على النظرية المادية السابق
أما (ليبنيز فيقول إن مذهب الحلول هو مذهب فاسد لا يستند إلى مبدأ ديكارت. ويجب أن تكون هذه المبادئ نفسها فاسدة لأنه لا يمكن أن ينتج الفاسد من الصحيح، فهو إذن ينتقد مبدأ ديكارت. وقد وضع نظريةً تدعى (نظرية الموناد التي لا تقبل أن الجوهر هو امتدادٌ بل هو في القوة. فالروح والجسد من طبيعة واحدة؛ وبما أن النفس مركبة من موناد واحد فالانعكاسات التي تنعكس فيها تظهر جلية، بعكس الجسد المركب من مجموع الموناد. فالانعكاسات فيه مختلطة وكل موناد ينعكس على الآخر، فموناد النفس ينعكس على الجسد؛ وموناد الجسد ينعكس في موناد النفس؛ على أن ليبنيز لا يستطيع أن يقبل كيف يؤثر جسم في جسم فيقول: (أخذت أتأمل في مسألة اتحاد الروح بالجسد، فلم أجد واسطة تدخل بعض أشياء في النفس، وبالعكس لم أدرك أن جوهراً يؤثر في جوهر؛ فلا أستطيع قبول تأثير الجواهر بل أقول: لا يؤثر إلا الإله) ومن هنا نشأت نظريته المسماة (نظرية التناسق التي يقول فيها: إن كل موناد هو عبارة عن عالم صغير يعكس كل العوالم الأخرى ولكن بإرادة الإله وحده. ويقول أيضاً: إن الإله خلق النفس أو أي وحدة أخرى حقيقية؛ بصورة أن كل شكل يتولد داخلها بعضويته بالنسبة إليها: وبصورة متوافقة تماماً مع الأشياء الخارجية؛ وهذا التوافق مراد منه - أي من قبل الإله - ولعمري إن نظريات ليبنيز لهي(241/67)
خلاصة ما توصل إليه جمهور الفلاسفة في أمر الروح؛ ولقد انكشفت له الحجب عن الحقيقة، وهو الفيلسوف الأوحد الذي يكاد يقترب من الحقيقة الناصعة
محمد حسن البقاعي(241/68)
القصص
الوحدة والجريمة
للكاتب الإنكليزي القدير لورد لبتون
للأستاذ أبو جاويد أكمل
ولدت إنجليزياً ولكني قضيت الأيام الأولى من عمري في بلدة نائية أجنبية، وليس لي اخوة ولا أخوات، وقد توفيت والدتي وأنا في المهد فوجدت في والدي الرفيق والمعلم والصديق، وقد كان هذا الوالد الأخ الأصغر لأسرة شريفة وبيت عريق. أما ما حدا به إلى ترك بلدته وأصدقائه وتجنب المجتمعات والإقامة ببلدة كالصخرة فقصة قائمة بذاتها لا دخل لها بقصتي هذه
قلت أن والدي أقام ببلدة كالصخرة لأن بلدتنا لم تكن في الواقع إلا كذلك: قفار حالكة عرضة للسافيات، وأشجار عجزت عن النمو، وعشب جاف، وتجاويف لم تهتد إليها النجوم ولم يعرف ضوء الشمس مكانها إلا من بعض فجوات بالصخور التي تعلوها، تجتازها مياه قاتمة مغبرة ترغى وتزبد أثناء سيرها في طريقها الصخري. هضاب غطتها الثلوج المتراكمة تأوي إليها الطيور الجارحة وينبعث منها صوتها المرعب المخيف إلى عنان السماء التي أبت أن تتدثر بالسحب على ما بها من شحوب وخوف وهرم. كل هذا ينم على حال تلك البلدة التي سلخت بها الأيام الأولى من حياتي. أما مناخها فلم يغير من المناظر التي تحيط بمنزلي إلا قليلاً وإن كان في بعض الأحياء الأخرى يحل صيفها المفاجئ الذي لا يعقبه خريف بشهوره الثلاثة لطول شتائها؛ وربما في فترات قصيرة الأمد يذوب الثلج في الأودية وتفيض المياه ويظهر نبات أصفر غريب يفتر ثغره عن بسمات خبيثة موجهة لبعض أجزاء من هذه الصخرة العالية لأمثال هذه المناظر التافهة من تقلبات الفصول. قضيت أيام حياتي عاماً فعاماً. وكان والدي مغرماً بالعلوم الطبيعية ومشاركاً في باقي العلوم فدرس لي كل ما عنده. وكان للطبيعة الفضل في سد النقص بما أوحت إلى قلبي من دروس عميقة صامتة وهي تكشر عن نابها وتعبس. علمت قدمي الركل وذراعي اللكم ونفثت في رغباتي روح الحياة وألهمت طباعي الجد لا الهزل. علمتني كيف أعانقها وإن(241/69)
كان قوامها معوجاً وشكلها غير مغر. أفر من سواها وأهرب من مصادقة رجل وأنثني من ابتسامة أنثى. أهرب من بكاء الطفولة وأخشى من التقيد والآمال وملذات الوجود كما أخشى من اللعنة والعذاب؛ ومع ذلك كانت لي في هذه الصخرة العابسة وتحت هذه السماء الشاحبة متعات لا يهتدي إلى كنهها أهل الحضر الذين يجدون لذتهم في أريج العطر وعبيق الورد، فما هذه المتعات؟ إن لها من المتنوعات والأشكال المختلفة عشرات الألوف كما لها من أفياء السرور، ولكن ليس لها من الأسماء المتداولة إلا أسم واحد، فما هي هذه المتعات؟ هي (الوحدة)
مات والدي وأنا في الثامنة عشرة فانتقلت إلى كنف عمي وأزمعت الرحيل إلى لندن فوصلتها نحيفاً عبوساً مفتول الساعد قوي البنية؛ بيد أني في نظر من حولي كنت وحشاً في هيئتي وطباعي. كان لهم أن يضحكوا مني، ولكني أرهبتهم بصورتي؛ وكان لهم أن يغيروا من طبعي، ولكني أثرت فيهم وألقيت على بهجتهم رهبة فكانوا وجلين مني وإن لم أتكلم إلا نادراً ولم أجالسهم إلا مجلس الغريب الصامت المنقاد. ما من أحد منهم يستطيع معاشرتي ويكون مسروراً أو مرتاحاً. هذا ما شعرت به وقد أبغضهم إذ لم يمنحوني حبهم
مضت ثلاث سنين بلغت فيها سن الرشد، فطالبت بثروتي واحتقرت الحياة الاجتماعية، وذبت شوقاً مرة أخرى إلى الوحدة، فصممت على الرحيل إلى الأراضي النائية الخالية من السكان، تلك الأراضي التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها
استأذنت عمي وزوجه وأولاده وبدأت الحج فاجتزت الرمال المحرقة، وقطعت الفيافي الشاسعة، حتى وصلت إلى غابات أفريقيا الكثيفة التي لم تطأها قدم، ولم يشوش صوت إنسان هذا الجلال المهيب الذي يخيم على وحدتها كما كان يخيم قبل الوجود على العوالم المضطربة. هناك حيث تنمو الفطرة الأزلية وتذبل بغير إزعاج أو تغيير يطرأ عليها من اضطراب ما يحيط بها من العوالم. هناك حيث تنبت البذور أشجاراً تعيش أعماراً لا تحصى ولا تعد، ثم تتساقط أوراقها ويسطو عليها البلى ويعتريها الفساد ويدركها الفناء. هناك حيث يخطو الزمن المتثاقل لم يشهد تقلباته الهائلة الصامتة إلا أسد شارد، أو أفعوان جسيم، يكبر مائة مرة تلك البوا التي يباهي السائحون برؤيتها. هناك تحت الظلال الوارفة(241/70)
التي آوى إليها وقت القيلولة كنت أسمع وقع أقدام كالجند وأصغي إلى وسوسة الأشجار الباسقة وهي تدك وتنهدم، وأرى من خلال فروع الأشجار الملتفة البهموث عابراً سبيله الوعر وعيناه تتقدان كالجمر وأنيابه البيضاء في فكه الشرس جاثمة براقة كأعمدة من الصوام تشع في غار. ذلك هوا الوحش الذي جعلت له دون غيره هذه الفدافد موطناً؛ ذلك هو الوحش الذي لم يتبدل من يوم أن عرفت المياه سبيلها في الكون؛ ذلك هو الوحش الذي لم تبصره عين آدمي غيري
تسللت فصول الأعوام لم أحصها عداً، إذ لا أنيس يخببها إليَّ، ولا أثر يترسم من أعمال أبن آدم القذرة يبغضني فيها. أقول كرت الفصول ونضج شبابي حتى بلغت الرجولة وجلل الشيب مفرقي بالثغام، ولم ألبث أن استولى عليَّ ميل دفين لا يقر على حال وناجيت قلبي المذنب أن لابد من نظرة أو عودة إلى عشيرتي
قفلت أطوي الفدافد إلى أن بلغت المدائن فتدثرت بلباس أهلها إذا لم أكن في البيداء إلا عاري الجسد، ولما بلغت الثغر أقلتني سفينة إلى إنجلترا كان فيها رجل هو وحده الذي لم يتجنب صداقتي ولم يخش غضبي، يستولي عليه النزق، ويملأه الغرور، ويتيه عجباً كما يختال عادة هؤلاء الذين استوطنوا المدائن، واتخذوا الكلام غذاء عقولهم. وكان طفيليًّا سخيفاً ونسيجاً قذراً من آراء سافلة، وكان الرعب الشائن هو الخصلة الفريدة التي لم تفارقها نفسه، فمحال أن ترهبه أو تسكته أو تهزمه؛ يتعقبني دائماً ويلازمني كظلي ليس لقوة أن تنزعه مني، وكلما بصرت به شعرت بدوار، وكان هؤلاء الطغام المحتقرين الذين ترتعد الفرائض لرؤيتهم
كنت أقاطعه مراراً كلما خاطبني. ولكم هممت أن أقبض عليه وأقذف به إلى البحر للحيتان التي كانت تسبح ليل نهار حول السفينة بعيون براقة وأنياب تواقة، إلا أن نظرات الجميع كانت متجهة إلينا فكبحت جماح نفسي وعدلت عن ذلك مغمضاً عيني على مضض؛ وكلما فتحتهما ثانية وجدته بجانبي وصوته الأجش يرن في أذني الكارهة سماعه
في ذات ليلة تنبهت من نومي على صياح الرجال وهم يقسمون فأسرعت إلى سطح السفين وكنا قد ارتطمنا بصخرة فما أروعه منظراً! إنه كان هائلاً. فضوء القمر هادئ والبحر على فيروزته نائم. في وسط هذا السكون الصامت الناعم الذي شمل كل شيء انمحى أثر(241/71)
ثلاثمائة وخمسين نسمة من الوجود. لزمت عزلتي لم أساعد أحداً من المغرقين بل ظللت أنظر، وإذا بصوت كصوت أفعى ينساب إلى أذني فالتفت ورأيت مزعجي وقد انعكس ضوء القمر على وجهه وهو يتمتم كالسكارى وعينه الذابلة الزرقاء تحملق وهو يقول: لا نفترق حتى في هذا المكان
جرى الدم حاراً في عروقي وعزمت على أن أرميه في البحر الذي كان يغمرنا سريعاً، ولكن خيل إليّ أن القمر يرمقني كما ترمقني عين السماء ولم أتجاسر على أن أقتله. ولما كنت لا أستطيع البقاء كي أموت مع المغرقين قذفت بنفسي نحو صخرة وقد طاردني حوت فأرهبته، وبعد برهة وجيزة كان لديه القدر الكافي لإشباع نهمه سمعت دوياً فصيحات يأس ممتزجة مزعجة، بأس ثلاثمائة وخمسين قلباً سكنت في لحظة. قلت في نفسي وقد داخلني سرور عميق إن صوته لا محالة بين أصواتهم وقد افترقنا. وما وصلت الشاطئ حتى اضطجعت للنوم
وفي صباح اليوم الثاني انفتحت عيناي على أرض أجمل من أحلام الشباب وقد ابتسمت الشمس وأشرقت على أنهار فضية، ومالت الأشجار بثمار أرجوانية عسجدية، وتلألأ كالماس الندي في أرض تحلت بأزهار ذات أريج عبق ممتع، وقد حلقت عشرات الألوف من الطير بأجنحة براقة امتزجت ألوان قزح بها وطارت من على النبات والأشجار وملأت الجو تغريداً من سرورها. البحر يزأر تحت قدمي لا أثر في جبينه اللامع لتأكل سالف؛ أما السماء فكانت تدفئ عروقي بأشعتها الذهبية التي لم تعترضها سحب. استيقظت نشيطاً مرحاً وجست خلال هذا المكان الجديد الذي اهتديت إليه فتسلقت تلاً ووجدت أنني في جزيرة صغيرة لا أثر لرجل فيها، فارتاح قلبي وصحت طرباً لما رأيت أني سأكون وحيداً مرة أخرى، ولكني لم أكد أنحدر من التل وأصل إلى نهايته حتى لمحت رجلاً يقترب مني. نظرت إليه فارتاب، قلبي ثم دنا مني فإذا بالغيض المضطهد يقف أمامي بعد أن نجا من الغرق! لقد عاد بتمتمته وعينه البراقة، وما لبث أن طوقني بذراعيه فشعرت بأن أفعى تحتضنني وقال بصوت أجس خشن: مرحى مرحى! سنبقى معاً أيها الصديق
فنظرت إليه وأنا مقطب الجبين لم أتلفظ بكلمة، وكان بجانب الشاطئ غار كبير فقصيدته ودخلت فيه وهو يتبعني قائلاً: سنعيش في هناء هنا لا نفترق إلى الأبد. فارتعشت شفتي(241/72)
وانقبضت يدي.
قد انتصف اليوم وغلبني الجوع فخرجت واصطدت غزالاً وشويت جزءاً منه على نار من أخشاب عطرية فأخذ الرجل يأكل ويزدرد ويقهقه، وتمنيت لو غص بالعظام. ولما انتهى قال ليس لدينا هنا إلا النذر اليسير من الأنشراح، بيد أني لم أزل محافظاً على صمتي، وأخيراً تمدد في ركن من الغار ونام، فنظرت إليه ورأيت نومه عميقاً ثم خرجت ودحرجت حجراً كبيراً عند باب الغار واتخذت سبيلي إلى الجزء المقابل من الجزيرة. وجاء دوري في الضحك ووجدت غازاً آخر وهيأت فراشاً من العشب والأوراق، ومن الأخشاب صنعت منضدة، وتطلعت من فوهة الغار فرأيت البحار العريضة أمامي وقلت الآن سأكون منفرداً. ولما أقبل اليوم الثاني خرجت مرة أخرى واصطدت جدياً وعدت به وجهزته كما سبق. ولما كنت غير جائع لم أستطع تناول الطعام وهمت على وجهي في أنحاء الجزيرة، وعند عودتي كانت الشمس قد غربت فدخلت الغار، فجلست على فراشي؛ ولكن بجوار منضدتي كان الرجل الذي ظننت أني دفنته حياً بالغار الأول. وما إن وقع نظره عليّ حتى ضحك وألقى بالعظمة التي كان ينهشها وقال: آه لقد عولت على أن تعلمني خدعة نادرة، ولكن بالغار نفقاً لم تفطن إليه وقد خرجت منه للبحث عنك، وهذه مسألة هينة، لأن الجزيرة صغيرة، أما وقد تقابلنا فلا فراق بعد
فقلت: قم واتبعني. ففعل، وما ترك من الطعام كان قذى في عيني لأنه مد إليه يده، وأخيراً فكرت أأزرع ليحصد هذا المخلوق؛ وشعرت بقلبي وقد تحجر
صعدت إلى صخرة عالية وقلت: أنظر حولك وتطلع إلى هذا الجدول الذي يشطر الجزيرة فستقيم في شطر وأقيم في الآخر. ومن المحال أن تجمعنا بقعة واحدة أو يضمنا خوان، فقال: لا يتأتى ذلك إذ ليس في مقدوري أن أصطاد الغزلان أو أقتنص الجديان. وإذا لم تتعهدني بالغذاء فسأموت جوعاً. قلت: ألا توجد فاكهة وطيور تستطيع اقتناصها، وسمك يقذف به البحر؟ فقهقه وقال: لا أهواها كما أحب لحم الجديان والغزلان. فقلت: أفهم الآن وأنظر إلى هذا الحجر الداكن من الشاطئ الثاني لهذا الجدول. سأترك لك كل يوم عنده جدياً أو غزالاً حتى تنال من الطعام ما تشتهي، ولكن إذا اجتزت هذا الجدول ودخلت في ملكي فمن المؤكد أني سأذبحك. نزلت من الصخرة وأرشدت الرجل إلى شاطئ الجدول،(241/73)
فقال: لا أعرف السباحة، فحملته على كتفي واجتزت الجدول ووجدت له غاراً وهيأت له فراشاً ومنضدة كما صنعت لنفسي، ثم تركته، ولما حاذيت شاطئ الجدول ثانية كدت أطير من الفرح ورفعت صوتي قائلاً: سأكون الآن وحيداً
مر يومان وأنا منفرد، وفي الثالث خرجت للقنص وكان وقت القيلولة وأعياني التعب حينما عدت؛ وإذ دخلت مغارتي وجدت الرجل منطرحاً على فراشي وقال: ها، ها. أنا هنا لقد سئمت الوحدة في منزلي وجئت لأعيش معك ثانية. فعبست وقطبت ما بين حاجبي وقلت: من المؤكد أني ذابحك. وجذبته من فراشي بذراعي وأخذته في الهواء الطلق ووقفنا سوياً على الرمال قريباً من البحر العظيم. استولى عليّ الخوف وداخلني ذعر من السكون الشامل الذي يخيم على الوحدة مع أني لا أبالي بالناس لو أحاطوا بنا آلافاً لذبحته أمام أعينهم. وما راعني إلا أننا وحيدان في الصحراء لا ثالث معنا إلا الله. أرخيت عنان قبضتي، وقلت له: أقسم لي بأنك لا تضايقني بعد، وأنك تحافظ على حدود منازلنا ولا تجتازها وأنا أعفو عنك. فقال: لا أستطيع القسم، وخير لي أن أموت في الحال من أن أفارق وجه آدمي صبوح ولو كان عدواً لي. ولهذه الكلمات عاودني حنقي فطرحته أرضاً ووضعت قدمي على صدره ويدي في عنقه، فحاول الخلاص برهة، ثم كان جثة هامدة. تولاني الخوف على أثر ذلك؛ ولما نظرت إلى وجهه ظننت أنه عاد إلى الحياة وخيل إليَّ أن عينه الذابلة الزرقاء ترنوا إليّ، وأن ابتسامته الخبيثة لم تفارق شفتيه، كما أن يديه اللتين كانتا قابضتين على الرمال في حشرجة الموت امتدتا نحوي فضغطت على صدره مرة أخرى وحفرت حفيراً بجانب الشاطئ وواريته التراب وقلت: صرت الآن وحيداً
هنا تجلت لي المعاني الحقيقية للوحدة والكآبة ولعدم الاستقرار والعزلة، فارتعشت وترنح كل عضو من هيكلي الجبار كأني طفل ترتعد من الظلام فرائصه، وقف شعر رأسي وتقلصت عضلاتي، ولم أستطع البقاء في هذه البقعة دقيقة واحدة، ولو عاد إلي شبابي. غادرتها هرباً وجبت هذه الجزيرة، وكلما يممت شطر البحر واصطكت أسناني واشتقت إلى صحراء شاسعة لا نهاية لها أتوارى فيها إلى الأبد
عند الغروب عدت إلى مغارتي وجلست في زاوية من الفراش وأخفيت وجهي بكلتا الراحتين، وتوهمت أني أسمع ضوضاء فرفعت بصري. ولعمري لقد رأيت الرجل الذي(241/74)
أجهزت عليه ودفنته مقيماً بالطرف الثاني من الفراش
هناك على بعد ست أقدام مني كان جالساً يشير إليّ برأسه وينظر بعين شاحبة ويقهقه. وليت الأدبار من الغار ودخلت في غابة واستلقيت، ولكن هناك على بعد ست أقدام مني كان وجه ذلك الرجل أيضاً
أيقظت شجاعتي وخاطبته ولكن لم يبد جواباً. حاولت القبض عليه فأفلت وكان على بعد ست أقدام، وجهه دائماً أمامي
خررت على الأرض ساجداً وغطيت وجهي بأديمها وآليت لا أرفع رأسي حتى يحين الليل وينسدل الظلام
وقتئذ قمت وعدت إلى الغار واضطجعت في فراشي، فنام بجانبي الرجل، فغضبت وحاولت أن آخذ بتلابيبه فلم أتمكن
أخيراً أغمضت جفني ورقد بجانبي. مرت الأيام والحال لا تتغير في الداخل ولا في الخارج، في المنزل وفي الفراش، في القيام وفي الرقاد، بالليل أو أثناء النهار. هناك في طرف فراشي وعلى بعد ست أقدام لا أكثر ولا أقل كان الميت الشاحب
وما كدت أنظر إلى الأرض الجميلة والسماء الصافية وإلى هذا الصاحب المخيف حتى قلت: لا أعيش وحيداً بعد ذلك، فضحك الرجل بملء شدقيه. رست في النهاية سفين فحييتها وأقلتني وما وطئت قدمي سطحها حتى ظننت أني بمنجى من مزعجي، ولكن سرعان ما رأيته يعتلي سطحها، واجتهدت عبثاً أن ألقيه في اليم، ولكنه كان بجانبي دائماً يأكل معي وينام كسابق عهده
وصلت إلى مسقط رأسي واندمجت في الزحام. شهدت الولائم وسمعت الألحان، جعلت ثلاثين رجلاً يجلسون معي وظللت أراقبه ليلاً ونهاراً، ولكن رفاقي كانوا واحداً وثلاثين وأخيرهم كان أكثرهم ألفة وعشرة
فخاطبت نفسي: أهذا وهم أم هو خِداع الحواس؟ ولابد أن أستشير الأخصائيين في هذا الاضطراب لكي أعود إلى الوحدة؛ دعوت عرافاً ذائع الصيت في طرد ما علق برأسي من الأوهام واستحلفته أن يكتم السر ورويت له قصتي، وكان رجلاً جريئاً عالماً فوعدني الخلاص والنجاة، ثم سألني مبتسماً: أين هذا الشخص الآن فإني لا أراه، وإن كان حقاً ما(241/75)
تقول فإن حواسي لا تقل اداركاً عن حواسك؟ وكان في خطابه كما يكون الأستاذ مع تلميذه وأنا لا أعارضه ولا أساجله، وأمرت الخدم أن يهيئوا غرفة ويكسوا أرضها بالرمل. ولما صدعوا بالأمر التمست من طبيبي أن يتبعني إليها وأحكمت رتاجها، فسألني: أين الشخص الآن؟ فقلت: إنه على بعد ست أقدام منا. فأبتسم الطبيب فأهبت به أن ينظر إلى الأرض وأشرت إلى بقعة منها قائلاً له: مادا ترى؟ فأرتجف وتعلق بي حتى لا يهوى ثم قال حينما دخلنا: كان الرمل ناعماً ولكني أرى في هذه البقعة أثراً لأقدام آدمي، فضحكت ومشيت مع رفيقي الحي إلى الأمام وقلت له: أنظر ماذا يتبعنا كلما تحركنا، فحاول الطبيب أن يتنفس الصعداء ثم قال: صاحب هذه الأقدام، فصحت به فجأة صيحة اليأس الغضوب: ألا تستطيع أن تدبرني وهل قضى على ألا أعيش بعد منفرداً؟ غير أني رأيت آثار هذا الهالك تخط على الرمل هذه الكلمات:
(لم تخلق الوحدة للمجرمين. الأفكار السيئة رفيقات الساعة، ولكن الأعمال السيئة صديقات إلى قيام الساعة)
أبو جاويد أكمل(241/76)
البريد الأدبي
تنظيم أوراق البردي المصرية
كانت الحكومة المصرية قد استدعت في العام الماضي العلامة الأثري الألماني الدكتور هوجو إبشر أمين المحفوظات البردية في متحف برلين ليقوم بإصلاح مجموعة البردي المصرية وتنظيمها.
وفي المتحف المصري مجموعة كبيرة من هذه الوثائق القديمة التي لم تنظم ولم تعرف جميع محتوياتها بعد؛ وقد قدم الدكتور إبشر إلى مصر في شهر مايو الماضي وقضى ثلاثة أشهر في تنظيم المجموعة البردية بالمتحف المصري، ولكنه لم يستطع يومئذ أن يتم كل مهمته، وما زال كثير من الوثائق البردية في حاجة إلى عنايته
ومن ثم فقد استدعى الدكتور إبشر لاستئناف عمله في القاهرة مرة أخرى؛ وفد قدم العلامة إلينا منذ أيام قلائل ليتم تنظيم مجموعة البردي؛ وسوف ينتهز هذه الفرصة ليزور البقاع الأثرية التي وجدت فيها من البردي، ولاسيما منطقة بحيرة قارون التي وجدت فيها منذ أعوام أوراق بردية ثمينة تحتوي على شروح كاملة لبعض كتب الفيلسوف ماني؛ وشروح أخرى لمذهب زرادشت؛ وقد نقلت هذه المجموعات من مصر سراً إلى برلين، وتولى الدكتور إبشر تنظيمها وقراءتها، كان لظهورها ضجة كبيرة في جميع الأوساط الأثرية
وقد روت الصحف الألمانية بهذه المناسبة أن الدكتور إبشر سيقوم لجلالة ملك مصر بمهمة خاصة، وهي إصلاح خريطة قديمة ثمينة لإفريقية كانت ملكاً لمحمد علي باشا رأس الأسرة المالكة، وقد بليت وتآكلت بعض أجزائها، وكان المغفور له الملك فؤاد يتوق إلى إصلاحها وردها إلى أصلها؛ وسيقوم الدكتور إبشر بهذه المهمة، وهو اليوم أشهر علماء الصيانة الأثرية
معرضان للفن الأجنبي في مصر
نظم في هذا الأسبوع معرضان للفن الأجنبي بدار الجمعية الزراعية الملكية بالقاهرة، أحدهما معرض هولندي للتجارة والصناعة، وقد افتتح في الخامس من فبراير الجاري؛ والثاني معرض فرنسي للفنون الجميلة والزخارف الفنية، وقد أفتتح في الثامن من فبراير، وتفضل صاحب الجلالة الملك فاروق الأول بافتتاحه بحضور مسيو جان زاي وزير(241/77)
المعارف الفرنسية الذي قدم إلى مصر خصيصاً لذلك، وعدة من الشخصيات الكبيرة مصرية وأجنبية. وقد بذلت الحكومة الفرنسية في تنسيق هذا المعرض جهوداً عظيمة، وعرضت فيه مجموعات فنية نادرة من الصور والتحف الفنية الدقيقة استحضرت من فرنسا؛ وهذا دليل جديد على ما تبديه فرنسا في العهد الأخير من الاهتمام بتوطيد نفوذها الثقافي بمصر بعد أن تطورت الأحوال السياسية والاجتماعية عقب المعاهدة المصرية وإلغاء الامتيازات الأجنبية
ذكرى الفيلسوف شوبنهارور
تحتفل ألمانيا في العشرين من الشهر الجاري بذكرى فيلسوفها العظيم شوبنهاور لمناسبة انقضاء مائة وخمسين عاماً على مولده. وتقام لهذه الذكرى بالأخص حفلات عظيمة في مدينة دانتزيج مسقط رأس الفيلسوف ومدينة فرانكفورت حيث قضى شطراً عظيماً من حياته. وستذاع في كل منهما محاضرات وخطب بالراديو عن الفيلسوف الراحل وآثاره وآرائه، ويقام في كل منهما حفل تذكاري رسمي، وتوضع أكاليل الزهر التي ترسلها مختلف الهيئات العلمية على قبره في فرانكفورت
وكان مولد الفيلسوف في دانتزيج سنة 1788، ولكنه لم يلبث بها طويلاً فغادرها مع أسرته سنة 1793. وبعد أن قضى حداثة مضطربة، درس في برلين وجتنجن، ثم قدم إلى فرانكفورت في سنة 1831 فاستقر بها حتى وفاته في سنة 1860. وفي سنة 1911 ألفت في ألمانيا جمعية شوبنهاور، وفي سنة 1929 نظمت هذه الجمعية جميع الوثائق والمراجع المتعلقة بحياته وفلسفته، وأنشأت مكتبة عظيمة نادرة تضم جميع الكتب والشروح المتعلقة بفلسفته
وقد كان شوبنهاور من أعظم فلاسفة العصر الحديث، وفلسفته تمتاز بطابع واضح من التشاؤم، وأعظم كتبه هو كتاب (العالم كإرادة وفكر)، وفيه يبسط أعظم وأقوى آرائه، ونظرياته الفلسفية، وقد ترجم إلى معظم اللغات الحية. وله عدة كتب ورسائل فلسفية أخرى، مثل كتاب (الإرادة في الطبيعة) وكتاب (الأساس الرباعي لمبدأ العقل الكافي) ورسالة في (الرؤيا واللون) وغيرها، بيد أنها دون كتابة الجامع قوة وطرافة. وقد تأثر شوبنهاور في فلسفته بأفلاطون وكان تأثيراً كبيراً؛ بيد أنه يعتبر مؤسس مذهب فلسفي جديد(241/78)
في التشاؤم.
وقد كان لتفكيره ونظرياته أثر كبير في تطور الفلسفة الألمانية في أواخر القرن التاسع عشر
من مكتشف أستراليا
ثار في الأسابيع الأخيرة جدل علمي تاريخي بين الصحافتين الإنكليزية والهولندية حول المكتشف الحقيقي للقارة الأسترالية وذلك بمناسبة الاحتفالات التي أقيمت أخيراً في أستراليا بمناسبة مرور مائة وخمسين عاماً على تأسيس أول مستعمرة أوربية في خليج (بوتاني)، والمعروف أن هنالك رأيين في هذا الموضوع: الأول النظرية الهولندية، وهي ترجع الفضل في اكتشاف أستراليا إلى البحارة الهولنديين في أواخر القرن السابع عشر، والثاني نظرية بعض المؤرخين الإنكليز وهي ترجع الفضل في هذا الاكتشاف إلى الرحالة الإنكليزي الكبتين كوك بين سنتي 1776 و 1779. والواقع أن الرأي الأول أقوى وأرجح، والبحارة الهولنديون هم أول من أطلق أسم أستراليا على هذه القارة، وظهر هذا الاسم لأول مرة في كتاب ظهر في أمستردام سنة 1597 وسميت فيه هذه الأرض وقد كان البحارة الهولنديون يبحثون قبل ذلك عن قارة مجهولة في الجنوب، وهم الذين وضعوا أول تحديد علمي لموقعها
وقد بسط هذه النظرية العلامة المؤرخ الهولندي هيريس في كتابه، فذكر أن الرحالة الهولندي دوفكن اكتشف جزاءً من خليج كربنتاريا في سنة 1605؛ وفي سنة 1616 سار الرحالة ديرك هارتوجس إلى المياه الجنوبية في السفينة الهولندية اندراخت ووصل حتى خليج شارك. وتدل وثائق العصر على أن هذا الرحالة هو أول أوربي وضع قدمه في أستراليا
وعلى ذلك فإنه من الخطأ أن ينسب فضل اكتشاف القارة الجنوبية إلى الكبتين كوك الذي لم يزر هذه المياه إلا بعد ذلك بنحو مائة وخمسين عاماً. على أن كثيراً من المؤرخين الإنجليز يفض هذه النظرية التي يستند إليها استعمار إنكلترا للقارة الأوسترالية، وما زال هذا الرأي يلقى على طلبة المدارس؛ وقد كررته بعض الصحف الإنكليزية في المناسبة الأخيرة، أما الكبتين كوك فإن فضله لا ينكر في اكتشاف الجزائر الأقيانوسية في هذه المياه(241/79)
مخطوط جديد للشاعر ببرون
بمناسبة الاحتفالات التي أُقيمت أخيراً في أثينا تخليداً لذكر المائة والخمسين لمولد الشاعر الإنكليزي الأشهر (لورد بيرون)، والتي أشارت إليها الرسالة في عددها الماضي، أعلن الأستاذ سقراط كوجياس الأكاديمية الأثينية غداة الاحتفال بأنه عثر في مخطوطات المكتبة الوطنية اليونانية على مخطوط جديد للشاعر الكبير هو عبارة عن القسم الأول لقصيدة (تشايلد هارولد)؛ وفي ظهر المخطوط مذكرة بخط الشاعر عن إحدى قرى جزيرة دلفي. ومسودة القصيدة ملأى بالتصحيحات والتعديلات التي لم تظهر فيما ظهر من طبعات هذه القصيدة الشهيرة. ولم يعرف بعد كيف وجد هذا المخطوط في المكتبة الوطنية، ولكن وجد في ذيله بالإنكليزية ما ترجمته: (مهدي إلى فرند كلادان المعجب باللورد بيرون، من أخته أوجاستالاي) اعني أخت الشاعر؛ ووجد هامش آخر فيه؛ إن المخطوط كتب بيد الشاعر، وأهدى منه إلى كلادان هذا، وهو أحد إشراف أثينا في هذا العصر ومن هواة الخطوط الأثرية
موسم فاجنر في لايبزج
في أنباء ألمانيا الأخيرة أنه تبدأ منذ 13 فبراير الجاري في مدينة لايبزج حفلات الموسيقي الشهير فاجنر، وتمثل فيها أوبراته الخالدة كلها، ومنها تأليف حداثته، وسيراعى في تنظيم أدوارها، ما وضعه فاجنر نفسه فيما بعد. وقد استدعى بهذه المناسبة عدة من أكابر الفنانين الأجانب اللذين اشتهروا لتمثيل أوبرات فاجنر إلى لايبزج للاشتراك في هذا الموسم، وسيعاد تمثيل هذه القطع الشهيرة وعددها ثلاث عشر من عشرين أبريل إلى 19 يوليه القادم، وقد اتخذت استعدادات فنية وموسيقية عظيمة بجعل موسم فاجنر من أعظم المواسم الفنية العالمية، واختيرت مدينة لايبزج لأنها مسقط رأس الموسيقي العظيم، وفيها بزغ مجده الأول
مصير اللغة الإنجليزية
أذاع ولز محاضرة من لندن عن اللغة الإنجليزية في ديسمبر الماضي تناول فيها جملة تنبؤات طريفة عن مستقبل هذه اللغة، وقد وازن ولز بين الإنجليزية واللاتينية، وبينها(241/80)
وبين اللغات السامية فطمأن سامعيه إلى استحالة أن يكون مصير الإنجليزية كمصير هذه اللغات، فالظروف التي ساعدت على تمزيق اللاتينية مثلاً إلى فرنسية وإيطالية وقشتالية وقطلومية. . . الخ قد زالت في العصر الحديث، أو أن الاختراعات، وأهمها البخار والكهرباء والطباعة والراديو، قد جنبت اللغات عامة والإنجليزية خاصة شر المنقلب الذي أنتها إليه حال اللغة اللاتينية
الإنجليزية لغة عالمية
وقد تنبأ ولز أن الإنجليزية ستكون لغة عالمية في العاجل القريب، لأن الثلاثمائة مليون الذي يتكلمونها في مختلف أنحاء العالم قد اختاروها أداة للتعبير عن خلجاتهم مختارين غير مجبورين، وذلك لما آنسوا فيها من السهولة واليسر والطواعية. . . ولكن ولز يبدي تألمه من بطأ انتشار الإنجليزية في غير الإمبراطورية البريطانية من سائر الدول، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية التي تنازع الإنجليزية فيها منازعة قوية للغات شتى، أهمها الفرنسية والأسبانية والألمانية(241/81)
العدد 242 - بتاريخ: 21 - 02 - 1938(/)
صاحب المعالي هيكل باشا
أنت يا أخي أول أديب في مصر العظيمة رفعه الأدب المحض إلى منصب الوزير ورتبة الباشا. وأقول (الأدب المحض) وإن كنت لا أنكر أن لثقافتك وكياستك وسياستك أثراً ظاهراً في هذا الحادث الأدبي الخطير؛ لأن الأدب بمعناه الأصح لا يكمل إلا بهذه الصفات، ولأن أدبك على الأخص مثال الأدب الكامل الذي يقوم على ألزم الخصائص للإنسان وهي سراوة الخلق وذكاء القريحة وسداد الذهن وسعة الثقافة. وإذن لا نستطيع أن نحلل تركيبك الأدبي إلى فقيه وأديب وصحفي وسياسي، مادام أسلوبك الفكري مزيجا من أولئك جميعاً. فإذا كان غيرك قد وصل بالأدب من غير خلق، أو بالصحافة من غير أدب، أو بالسياسة من غير صحافة، فإنك لم تصل إلا بهذا الأدب الشامل الذي يشرق فيه وميض الروح ويسيطر عليه نبل النفس. لذلك نعد بلوغك هذه الغاية من المجد انتصاراً للأدب المجاهد، وترضية للقلم المجهود، وتمكيناً للفكر الجميل أن يؤدي رسالته في عالم أوسع وعلى طريق أسد؛ ولذلك نجعلك من بين الوزراء الصلة الطبيعية بيننا وبين أولي الأمر؛ فقد قطعوا أسبانيا الواصلة، وسفهوا حقوقنا المعلومة، واعتقدوا أننا حلىً تزين ولا تنفع، ودمىً توجد ولا تعيش
فمن غيرك اليوم يا باشا يستطيع أن يسمعهم أن الأدباء بعد انقطاع الوحي هم رسل الله وكتبه: في أقلامهم أقباس الهداية، وفي أفواههم أبواق اليقظة، وفي أيمانهم مفاتح الخلود؟
من غيرك اليوم يا باشا يستطيع أن يقنعهم أن الشعب بغير صوتهم لا ينهض، والجيش بغير روحهم لا ينتصر، والرأي بغير منطقهم لا يجتمع، والحكومة بغير سلطانهم لا تحكم؟
من غيرك يا باشا يستطيع اليوم أن يقول لولاة الأمر، لعيشه فيهم وقربه منهم، إن الأدباء هم الذين ينشئون الصحف للجمهور، ويؤلفون الكتب للقراء، ويدبجون الخطب للزعماء، ويصوغون الشعر للوزراء، ويكتبون التاريخ للملوك؟
الأدب يا باشا كما تعلم هو شعاع الحس اللطيف، وعطر النفس الزكية، وزاد الإنسانية الدائبة من أفكار السلف وتجارب الماضي
والأدباء يا باشا كما تعلم هم أوصياء الخليقة على تراثها العقلي، يحفظونه ويزيدونه، ويتصرفون فيه، ويجعلون منه مرشداً للحائر وقصداً للجائز وسنداً للضعيف
وقد عرفت الأمم الرشيدة فضل الأدب والأدباء فأطاعوهم كالقادة، واتبعوهم كالرسل، ورفعوهم كالمصابيح. ولكن الأدب في مصر كما تعلم يا باشا لا يزال فريسة الإهمال(242/1)
والفوضى: يكابد طغيان السياسة في استسلام، ويجاهد سلطان الجهالة في يأس، ويقاسي مضض الحرمان في ضراعة؛ وأولوا الأمر يقابلون جهده بالاستهانة، ويكافئون بره بالعقوق، ويستغلون سلطانه في الصحف وعلى المنابر، ثم لا يدخلونه في الحساب يوم الغنيمة. والأدباء في مصر كما تعلم يا باشا لا ينفكون يؤدون رسالة الروح المضنية في بسالة وصبر، وقرائحهم المجهودة تنضح بالمداد كما تنضح الجباه الناصبة بالعرق والصدور المحاربة بالدم؛ ثم لا يلقون ممن يحملون لهم الشعلة إلا ما لقي أصحاب الرسالات من الكفران الغادر والخذلان المهين. وما حال الأدب في الأمة الأمية إلا كحال النبوة في الأمة المشركة، إذا لم يكن له سند من الله وعون من الحكومة ذهب ذهاب المصباح في عواصف البيد المظلمة
فالأديب المضطر إنما يشقى للقوت لا للفن، ويسعى للحياة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل؛ وإذن لا يكون الأدب إلا كما ترى: بخس في الكيف، ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، وإسفاف في الغاية
كل ذلك علمته وكابدته وشكوته أيام كنت معنا في الطريق المزدحم الصاخب، تعرض على فقراء المعرفة غذاء العقل والروح من عصارة مخك وقلبك، فيعرضون عنك ويأبون إلا خَنْزَرةً تسوف التراب وتلغ في القذر.
فماذا أعددت يا باشا لهذه الأعصاب المحترقة التي لا تبغي من الناس إلا أن يستفيدوا من احتراقها النور والحرارة؟
لا نريد أن نصف لك العقدة ولا أن نقترح عليك الحل، فإن ذلك بجانب علمك وخبرتك وتجاربك أنفال وفضول. وقصارى ما نرتجيه أن تبسط الحكومة على الأدب ظل الحماية، فما يستطيع لضعف دولته وجهل رعيته أن يستقل. نريد ألا تدعوه لأهواء الجمهور ودوافع الحاجة، فإن في إخضاع الأدب لشهوات الناس وضرورات العيش إفساداً لملكة الذوق وتكديراً لنقاء الضمير وتشويهاً لجمال الوحي.
ليس الأدب من المهانة بحيث تتخطاه رغبة الأمة. وليس الأدباء من الكثرة بحيث تضيق بهم معونة الحكومة؛ ولكن السياسة الحزبية في البلد الجاهل تقلب الأوضاع، وتغير المقاييس، وتعامل كل فرد بحسب ما له من الدالة، وتقدر كل شيء بمقدار ما فيه من(242/2)
السياسة. فالكتابة في غير السياسة لغو، والسياسة على غير مذهبهم هذر!
فهل آن للأدب أن تنهض به عواثر الجدود، وللأدباء أن تَرِفَ عليهم ذوابل المنى؟ إن الأدب الذي رفعك هذه المكانة وبوأك هذا المجلس ينتظر منك البر، وإن الأدباء الذين صافيتهم على الشدة وعاهدتهم على التأييد يرجون منك الوفاء. فأخرج من عهدة ما وعدت يا صديقي واليد طائلة والرأي نافذ، قبل أن تعود بعد عهد طويل زاهر إلى المكتب الذي ليس فوقه محفظة، ولا أمام بابه حاجب، فلا تملك إلا ما نملك من الشكاة والألم
أحمد حسن الزيات(242/3)
تحية شوبنهور
للأستاذ عباس محمود العقاد
صديقنا القديم من جديد!
يوم قرأت أنهم سيحتفلون في معاهد الغرب الفلسفية بانقضاء مائة وخمسين سنة على مولد (شوبنهور) كان شعوري بهذا النبأ كشعور السالك في الطريق يلقاه على حين غرة صديق قديم مستحب اللقاء مذكور البدوات، على شوف إلى مراجعة عهده السابق واستئناف عشرته القديمة
هذا أنت يا صاح؟
وأين كل هذا الزمن الطويل؟
فقد مضت فترة ليست بالقصيرة لم أصاحب فيها هذا (المعري) من بني الجرمان ولم أراجع كتبه ولم أساجل آراءه وخواطره وأفانين تفكيره، فلما سمعت أنه سينبعث من جديد في ذكرى ميلاده، وأن ميلاد إمام المتشائمين القائلين بأن الولادة أدعى (الذكريات) إلى الحزن والندم - سيصبح في الملأ كله موعداً للغبطة والتبجيل، وأن الدنيا ستشهد هذا الحادث المتناقض كما شهدت نقائض شوبنهور في إبان حياته - عادت إلى الذهن تلك النقائض كلها وتلك الطوائف المقرونة بها، ولاح لي شوبنهور الظريف وهو أول ما يلوح للذهن منه قبل الفيلسوف وقبل الشيخ الوقور
وتلك أولى النقائض والبدوات من صاحبنا القديم: فيلسوف متشائم ولا يذكره الذاكر إلا ابتسم لفكاهاته ونكاته وغرائب عاداته، وولع الدنيا بمناوأته واستخراج شكاياته
فإذا ذكرت (شوبنهور) فأنت تذكر الرجل الذي يبشر بالفناء ويستنكر الحياة، ثم يسمع بظهور الهواء الأصفر في برلين فلا يقف في طريقه هرباً حتى يبلغ فرنكفورت، ولا يعود منها حتى بعد جلاء الوباء بسنين
وتذكر الحكيم الزاهد في عرض الحياة وهو لا يترك دانقاً من حسابه في المصرف، ولا يضع النقد إلا في صندوق مكتوب عليه (مادة طبية). . . كما فعل العطار الذي يكتب عنوان الفلفل على صندوق الحلوى!
وتذكر الراهب الذي يعربد حتى يلحق به تلاميذه في بيوت بنات الهوى، وينفي لذاذات(242/4)
الدنيا وقد أخذ من جميع لذاذاتها بما استطاع من نصيب
وتذكر المبشر بالبرهمية في بلاد الغرب وقد سمي كلبه (أتما) أي روح الوجود!! وأبى الصبية من جيرانه إلا أن يسموه شوبنهور الصغير، إذ لم يكن في البيت صغير غير ذلك الكلب المسكين. . . الذي قال بعض المعجبين بالفيلسوف إنه هو أيضاً لابد أن يكون من المتشائمين، ولابد أن يبدو على وجهه ما يبدو على وجه أستاذه من عبوس ظريف
وتذكر الفيلسوف وقد جلس إلى مائدته في المطعم وأخرج من جيبه كعادته كل يوم جنيهاً إنجليزياً فوضعه على المائدة بحيث يراه الحاضرون، ثم يفرغ من طعامه فيرده إلى جيبه ويقول: (قد كسبت الرهان). . . أي رهان؟؟ رهانه مع نفسه أن زوار المطعم من الضباط لن يتكلموا ذلك اليوم في شيء غير النساء والكلاب وخيل السباق!
وتذكر طالب الجائزة من جامعة كوبنهاجن برسالة لا نظير لها في كتابات عصره، فلما ضنت عليه الجامعة بالجائزة - غفلة منها عن قيمة الرسالة - طبعها وكتب عليها بالخط العريض: (لم تظفر بالجائزة من جامعة كوبنهاجن). . . كأن هذا تزكية لها وضرب من الإعلان!
وتذكر المتهكم الحانق الذي نقم على بعض الممثلين ارتجاله العبارات من غير كلام المؤلف حتى شكاه الكتاب إلى مدير المسرح فنهاه وأنذره بالفصل إن عاد إلى مجونه. . . قال شوبنهور: فلما ظهر بعدها في المسرح على ظهر جواده نسي الجواد موقفه وأتى بصوت لا يسمح به في مسارح التمثيل، فارتبك الممثل وصاح بالجواد: ألم تعلم أنهم يحرمون علينا الارتجال بغير تلقين؟!
تذكر هذا وأشباهه قبل أن يطرأ على بالك شأن الفيلسوف العظيم وتفصيل ذلك المذهب المستفيض الزاخر المجتمع من بديهة الحكمة وسليقة الفن وشعور الرجل المتصل بالحياة على غير انقطاع ولا مجافاة، كمجافاة النساك في صوامع الدين، أو النساك في صوامع العلم والدراسة
فإذا ذكرت ذلك المذهب فلعلك واجد فيه من وشائج القربى مثل ما وجدت من طرائف صاحبه ونقائضه وأفانينه. لأنه مذهب شعر بفحواه كل شاب عالج الفلسفة واشتغل بالتفكير في أوائل هذا القرن العشرين(242/5)
لقد كان التشاؤم طبيعياً معقولاً في زمان شوبنهور فأصبح طبيعياً معقولاً أن يتصل الرأي والشعور بينه وبين الشبان في مثل عهده وفي مثل حاله وإن لم يكونوا على مثاله في مزاجه وأطواره
وخير ما قرأناه في تعليل التشاؤم عند ذلك الفيلسوف الكبير كلمة (دورانت) مقدم طبعته وملخص فلسفته حيث يقول عنه وعن بعض معاصريه:
(لماذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر مبعثاً لتلك الأصوات من أصداء العصر ينطق بها الشعراء المتشائمون على غرار بيرون في إنجلترا ودي موسيه في فرنسا وهيني في ألمانيا وليوباردي في إيطاليا وبوشكين ولرمنتوف في روسيا، عدا الموسيقيين من أضراب شوبير وشومان وشوبان بل بيتهوفن المتشائم الذي حاول أن يقنع نفسه أنه من المتفائلين؟ بل فوق ذلك جميعه فلسفة الحكيم العميق في تشاؤمه ارثر شوبنهور؟
(لقد ظهرت مجموعة الويل والهول المسماة بـ (الدنيا إرادة وفكرة) سنة 1818 وكانت سنة الحلف المقدس بعد أن قضى الأمر في معركة واترلو وخمدت الثورة وقذفت الحوادث بابن الثورة إلى صخرة في البحر السحيق يبلى عليها ويذوي. وإن قبساً من تقديس شوبنهور للإرادة مأخوذ ولاشك من ذلك الأفنوم الفخم المخضب بالدماء المجسد في شخص ذلك الكورسيكي الصغير، وإن قبساً من قنوطه وإحجامه عن الحياة مأخوذ ولاشك من جوانب جزيرة القديسة هيلانة حيث صارت الإرادة إلى الهزيمة والفشل في النهاية، وأصبح الموت وهو الظافر الوحيد المحوم على ميادين تلك الحروب، وقد عاد البوربون إلى عرشهم، ورجع الأمراء والنبلاء يطالبون بأرضهم، وراح خيال الاسكندر الطامح إلى السلام يحتضن في غفلة منه عصابة تقضي على التقدم من كل صوب وفي كل مكان. فقد ولى العصر العظيم وقعد جيتي يحمد الله على أنه ليس بالشاب الفتيِّ في عصر مفروغ منه مقضي عليه بالختام
(خشعت أوربا، وانقرض ألوف الألوف من أشد الرجال، وخربت بطاح واسعات، وكتب على الحياة في كل موضع على القارة الأوربية أن تبدأ من جديد وأن تبدأ من أعمق الأعماق كي تستعيد في ألم وبطء شديد ذلك الفيض الذي التهمته الفتن والحروب. وكان شوبنهور يسيح خلال فرنسا والنمسا في سنة 1804 فيروعه ما يشهد من الفوضى والقذارة(242/6)
في القرى، ومن الفقر والبؤس بين الفلاحين، ومن القلق والشقاء بين المدائن والحواضر. ذهبت حروب نابليون وأعداء نابليون وخلفت وراءها ندوب الويل والهلاك على وجه كل بقعة من هاتيك البقاع: فموسكو في الرماد، والبلاد الإنجليزية على ما أصابها من فخر الانتصار قد مُني فيها الفلاحون بكساد القمح وغلات الزراعة، ومُني فيها صناع المعامل بكل ما يبتلى به الصناع في معمل لا رقيب عليه ولا حسيب، وزاد تسريح الجنود في نكبات البطالة. وروي كارليل عن أبيه في تلك الآونة أن العمال كانوا يذهبون يومئذ فرادا إلى البرك والجداول يملأون بطونهم بالماء بدل الطعام ولا يعنيهم إلا أن يستروا ما بهم من الضنك عن الآخرين. ما كانت الحياة قط أفرغ من معنى ولا أخس مما كانت يومذاك)
هذا منشأ الفلسفة الشوبنهورية من أحوال السياسة وأطوار الدول والمجتمعات. ولهذه الفلسفة منشأ آخر من أطوار الفكر والعقيدة لا يقل في أثره عن حروب نابليون وهزائم الجيوش، وذاك هو شيوع الشك في العقائد والأديان والأمثلة العليا بين الأوربيين بعد عصر النهضة العلمية وعصر الثورة الفرنسية، فلا أمل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا معنى للسعي ولا للقعود، ولا خير في التفكير ولا في التسليم، ولا مناص بعد ذلك من ترجمة هذه الحالة في فلسفة منظمة منسوقة مقنعة كتلك التي بشر بها صاحبنا رسول التشاؤم ونذير الفناء
أي حالة هي أشبه بحالة الشاب القارئ في أوائل القرن العشرين من حالة ذلك العصر أو حالة ذلك الانتقال؟
كل شاب يخرج من حظيرة البيت إلى معترك العالم فإنما يخرج من دنيا أحلام وظنون إلى دنيا صراع لا هوادة فيه، ولاسيما في أوائل القرن العشرين حيث كان للعقائد سلطان، وكان للأمثلة العليا بين الشرقيين خاصة مجال لم تضيقه الحقائق والتجاريب
لهذا كان بين شوبنهور وكثير من الشبان القارئين عندنا نسب قريب في أوائل هذا القرن العشرين. ثم تقلبوا مع الحياة فنسوه بعض النسيان من أثر الواقع تارة ومن أثر التشاغل تارات، أو من أثر التصحيح والتهذيب الذي لا محيص عنه مع تعاقب الأيام وتعدد القراءات
فلما قيل إن العالم سيحتفل بميلاد إمام المتشائمين كان في القول ما يشبه الفكاهة والدعابة؛ ولو قيل إن العالم سيحتفل بيوم وفاته لكان في القول بعض المجاراة لموضوع الاحتفال(242/7)
وصاحب المذهب. ولكن الرجل ظريف على الرغم منه ومن فلسفته، فلتكن هذه من دعابات الزمن معه، ومن وفاء الزمن له في قرن واحد
أما فلسفة الرجل بتفاصيلها فيطول شرحها ولا يتسع لها مقال ولا سلسلة مقالات، وهي مستمدة من حياته ومن سيرته ومن عصره. فمن عرف تاريخه عرف الكثير من بواعث آرائه وعلل أحكامه، وعرف مكان الصدق في المطابقة بين الوحي ومصدره وبين البيئة والتعبير عنها. ومجمل تلك الفلسفة في سطرين: أن الإرادة هي صاحبة السلطان في أعمال الأحياء وحركات الحياة؛ وأن الإنسان يلتمس الأسباب والبراهين لأنه يريد، ولا يريد لأنه يلتمس الأسباب والبراهين؛ وأن الفكرة تلغي الإرادة وتشل الحركة وتنتهي بالحياة إلى سكون كسكون (النرفانا) عند الهنود؛ وأن الإرادة تتعلق بالفردية، أما الفكرة فتتعلق بالعمومية الشائعة في الكون كله. ومن ثم يجيء الفن والدين والعبقرية على رأس الفكرة ومن وراء الإرادة أو من وراء عالم الأعمال والحركات، فالمصير الذي يطوينا جميعاً ويطوي أعمالنا وآمالنا إنما هو الفناء أو ما يشبه الفناء
وفي مقال آخر سنطابق بين سيرة الرجل وفلسفته، وبين العرض والجوهر في هذه المطابقة. وحسبنا الآن وهم يحتفلون بميلاده في الثاني والعشرين من شهر فبراير أن نزجي إلى ذكراه تحية المودة والإكبار، وأن نهتف به: مرحى! ومرحباً صديقنا القديم من جديد!
عباس محمود العقاد(242/8)
غريب الهوى
في عيد القمر
للدكتور زكي مبارك
أتذكرُ يا قلبي؟
أتذكر أن من الناس من يقول: (عيد الأضحى)، وأن منهم من يقول: (العيد الكبير)، وأن أهل سنتريس يقولون: (عيد القمر) كأنما عزّ عليهم أن يبقى القمر بلا عيد؟
ليت شعري أظلّ أهلي وأهلك يسمونه عيد القمر، أم تغيرت من بعدنا الأسماء؟
كان لي أهل، وكان لك أهل، يا قلبي
أما أهلي فبخير، وإن كانت أتوجع كلما ذكرت أن أولئك الأهل خلا ناديهم من وجه أبي؛ وكان لك أهل يا قلبي، ولكن أخبارهم غابت عني منذ أزمان. فإن كانت عندك أخبار فحدثني عنهم، فما أحب لك أن تعيش في دنياك عيش الغريب!
لا تكتم عني شيئاً يا قلبي، فم لك في الدنيا آسٍ سواي. أما رأيت كيف كانت أحاديث الناس في هذا المساء؟ فما لقيني أحد من أعضاء المؤتمر الطبي إلا سألني عن صحة ليلى. وما أذكر أبداً أن أحداً سألني عنك! وكذلك جاز أن يسأل الناس عن صحة القاتل ويسكتوا عن فجيعة المقتول! والويل كل الويل للمغلوب
إن ليالي الأعياد ترجعني إليك يا قلبي
فهل تذكر يوم كنا طفلين، حين كان من المألوف أن يزور الناس المقابر وفي أيديهم المصابيح؟ وهل تذكر أننا سألنا مرة عن الحكمة في حمل المصابيح في الليلة المقمرة، ليلة عيد القمر، فكان الجواب أن الأموات يأنسون بالأضواء؟
فهل تسمح بأن أحمل مصباحاً في هذه الليلة، وأخرج معك لزيارة المدفون من أوطارك وأحلامك؟ ولكن أين المقابر التي دفنت أوطارك وأحلامك حتى أونسها بضوء المصباح؟ أين؟ لا أين، فإني أخشى أن تكون المقادير صنعت بأحلامك ما يصنع البحر بما يُدفن فيه من سرائر القلوب!
حدثني أين دفنت أحلامك، فإني أعرف أنك قليل البخت في دنياك. ولو كان لك بخت لما جاز أن تبيت مشرد الأماني في ليلة عيد(242/9)
قلبي، قلبي!
يرحم الله غربتك بين القلوب!
قلبي!
أتذكر ما صنعت في سبيلك؟
لقد فررت بك من سعير الحب في القاهرة، ونقلتك إلى بغداد: دار السلام، فهل كانت بغداد يا قلبي دار سلام؟ أم كان أسمها من أسماء الأضداد؟
لقد تجهمت أبشع التجهم حين وقع البصر عليها أول مرة، واستقبلتني بوجه يتطاير منه شرر القسوة والوعورة، فقلت: لا بأس، فهي هدنة يستجم فيها قلبي، ليقوى على مناضلة العيون حين يرجع إلى القاهرة. ولكنك استوحشت وأخذت تفتش عن (عيون المها بين الرصافة والجسر) وقد انخدعت لك فتركتك ترود مراتع الغزلان وأنا آمن، فقد كنت سمعت أن بغداد لم يبق فيها للحب سامر ولا أنيس، ثم وقعت الواقعة وأسرتك عيون المها بعد أسبوعين أثنين من قدومنا بغداد
قلبي!
لقد كان يعز علي أن تخرج من بغداد بلا هوى، فمن الفضيحة لبغداد أن لا تكون فيها عيون ترمي فتصيب، ولكني ما كنت أحب أن أحملك جريحاً محطماً إلى الأنامل الرقاق التي تعبت في تضميد جروحك بين مصر الجديدة والزمالك. وما كان يخطر بالبال أن تكون دار السلام دار حرب، وأن تتألب ظباؤها على قلب أعزل كان يرجو أن لا يعرف البلاء وهو ضيف العراق
من كان يظن أن هذه المدينة الجافية التي لا تعرف غير وصل النهار بالليل في سبيل الرزق أو المجد، من كان يظن أن مثل هذه المدينة تعيش فيها مباسم وعيون لا تتقي الله في الناس؟ من كان يظن أن ينعدم كرم الضيافة في بغداد حتى يستبيح ظباؤها انتياش قلبٍ غريبٍ لا يملك من وسائل الدفاع غير الأنين؟
أهذا جزاء الصنع الجميل في بغداد؟
أهذا جزاء من يملأ الصحف العربية بالثناء على العراق؟
سيعود ناس إلى أوطانهم صحاح القلوب، وأعود إلى وطني بقلب ممزق لم تبق منه غير(242/10)
أطياف من الأشلاء
بغداد!
لقد كاد يسفر الصبح ولم تغف عيناي. أكذلك تكون ليالي الأعياد، يا بغداد؟ ليتني أعرف أين يقيم اللصوص الذين سرقوا النوم من جفوني! ليتني أعرف أين يقيم أولئك اللصوص فأنتقم منهم أشنع انتقام بتقبيل جفونهم في غفوات الليل!
بغداد!
خذي من نومي ما تشائين، بل خذي من دمي ما تشائين، فلن أنسى ما حييت تلك المؤامرة الوجدانية: مؤامرة العيون: عيون المها، على قتلي؛ فإن من الشرف أن يكون المرء قتيل المها في بغداد
إي والله! هذا الصبح يتنفس وما غفت عيناي. فهل تعرف الظباء التي كانت تعترض طريقي لتصرعني أنني لا أزال بين الأحياء؟
أنا أدعوها إلى مناضلتي مرة ثانية، وموعدنا بهو أمانة العاصمة يوم الأربعاء
أحبابي في مصر الجديدة والزمالك!
ناموا هانئين وادعين، وانهبوا ما شئتم من أحلام الأماني، فسأغفر لكم جريمة النسيان والعقوق
أحبابي في بغداد!
تذكروا أن الشاعر لم يعن أحداً غيري حين قال:
وكل محبٍّ قد سلا، غير أنني ... غريبُ الهوى، يا ويح كل غريب!
زكي مبارك(242/11)
حدود الحق والواجب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مفتش التعليم الثانوي
إني أرى أن رقي كل أمة لا يقاس بما فيها من مسببات الرفاهية والثروة أو معدات القتال إذا كان احترام حدود الحق والواجب غير شائع بين أبنائها. فإنها إذا فقدت هذا الاحترام فقدت العروة الوثقى التي تعتصم بها للمحافظة على مسببات الثروة والرفاهية وللانتفاع بمعدات القتال والدفاع. وإذا عرضنا حياة الأمم وتاريخها الاجتماعي وجدنا أن مسببات الثروة لا تلبث أن تزول إذا كان نظامها الاقتصادي غير مؤسس على احترام حدود الحق والواجب. إنها قد تزدهر فيها الثروة حيناً، وقد يؤجل لها الخراب المحتوم زمناً ربما طال، وربما يغرها طول هذا الزمن الذي تستمر فيه رفاهيتها وثروتها بالرغم من ضياع احترام أبنائها لحدود الحق والواجب؛ وما طول تأجيل خرابها إلا لما يزال فيها من العناصر الصالحة والقوة المدخرة من عهد الماضي الصالح، كالقوة التي تدفع المرء إذا نزل من سيارة سائرة فيسير هو أيضاً بعد نزوله منها؛ وقد تكون خطوات سيره قليلة أو كثيرة، ولكنه إنما يسير إلى الأمام مدفوعاً لا مختاراً. وكذلك الأمة التي تنزل عن احترام حدود الحق والواجب إذا تقدمت فإنما يكون سيرها سيراً آلياً لا فضل لها فيه، ولا يلبث أن ينتهي، إلا إذا أدركتها أسباب جديدة تدعوا إلى استمرار سيرها. وينبغي ألا نستبطئ أو نستعجل انتهاء تقدم مثل تلك الأمة التي فقد أبناؤها احترام حدود الحق والواجب، فإن خطوات الأمم أطول مدى من خطوات المرء الذي ينزل من سيارة سائرة؛ وقد تستجد أمور تزيد خطوات سيرها إلى حين، وكلما كانت السيارة التي ينزل المرء منها أسرع في سيرها كانت خطوات المرء الذي ينزل منها أكثر.
وهذه الظاهرة تشاهد في أمور مختلفة من أمور الأمم، فهي إذا فقدت احترام حدود الحق والواجب لم يكن الخراب مقصوراً على حالتها الاقتصادية، بل هو يشمل أيضاً خراب الأسرة وخراب التعليم وخراب كل شيء. وكثيراً ما نرى في التاريخ جيوشاً أقل عدداً وعدة تهزم جيوشاً أكثر عدداً وعدة من جيوش أمة فقد أبناؤها احترام حدود الحق والواجب. وهذا لا ينفي انتصار الفريق الأكثر عدداً وعدة إذا ظفر الفريقان المتحاربان(242/12)
بقدر متكافئ من احترام حدود الحق والواجب
ولكن القارئ غير الملم بحقيقة الأمر ربما يظن أن انتصار جيوش الدول الأوربية على جيوش الدول الشرقية كان دائماً بسبب كثرة حظ الجيوش الأوربية من عدد القتال وآلاته الحديثة. نعم إن الأمر كان كذلك في معارك كثيرة، ولكنه لم يكن دائماً على هذه الحال. ففي واقعة بلاسي في الهند كان جيش سراج الدولة أكثر عدداً وعدة، وكان قد اشترى من الفرنسيين مدافع وأسلحة كثيرة، ولكنه - بالرغم من ذلك كله - دارت عليه الدائرة
وفقدان احترام حدود الحق والواجب يفسد أيضاً أداة الحكومة وأداة التعليم، ويفسد صلات أعضاء الأسرة الواحدة كما يوقع بين الأسرة والأسرة؛ وهذا الفساد وهذا الخراب لاشك من مظاهر التدهور مهما كان في الأمة من مسببات الثروة أو مظاهر الحضارة والتفكير والأدب. فمن المعروف في التاريخ أن مظاهر الحضارة والتفكير والأدب والفنون قد تزدهر حتى والأمة على حافة التدهور؛ وقد تستمر وهي آخذة في التدهور فنحسب هذه المظاهر نضوجاً، وإن كانت نضوجاً فهي نضوج العطن العفن كالفاكهة التي تعطن من كثرة النضج
ولقد كانت في أواخر مراحل الدول الإغريقية والرومانية والفارسية والعربية مظاهر كثيرة من مظاهر الحضارة والأدب والفنون حتى بعد أن أخذت في التدهور
ولاشك أن فقدان احترام أبناء الأمة لحدود الحق والواجب يفسد عليهم مظاهر الحضارة والتفكير والأدب، ولكن هذا الفساد قد يعمل في السر عمل السوس ولا يظهر في أعظم أشكاله خطراً إلا في النهاية. وفي بعض الأحايين لا يحترس أبناء الأمة ولا يأخذون الحيطة والحذر لمنع أسباب التدهور اغتراراً منهم بكثرة المدارس، وأنواع التعليم، وكثرة الصناعات، ورواج التجارة وانتشار التفكير، وكثرة المؤلفات والمؤلفين، وازدياد الأرض المزروعة، وغير ذلك من مظاهر الحضارة ككثرة المباني الشاهقة الحديثة، والشوارع المنتظمة، والميادين الفسيحة، والسيارات الفخمة، ومهيئات الراحة والرفاهية، ودواعي الاطمئنان وما يجلب اللذة والسرور. . .
فإذا تنبه أحدهم إلى أمر ضروري وهو احترام حدود الحق والواجب وافتقده ولم يجده في النفوس بالرغم من كثرة المدارس والسيارات والعمارات والمنشآت وغيرها من وسائل(242/13)
الحضارة، وإذا حذرهم وقال لهم إن افتقاده لابد أن يؤدي حتماً إما آجلاً وإما عاجلاً إلى التدهور والخراب - عدوه متشائماً وخدروا عقولهم تخديراً بأن يحسبوا أن يحسبوا أن وسائل الحضارة هذه من مدارس وعمارات وميادين وسيارات وغيرها لابد أن تجلب لنفوسهم هذه الصفة الضرورية وهي احترام حدود الحق والواجب، إذا كانت حقيقة ضرورية لا غنى عنها إذا أريد تجنب التدهور لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا كيف أن كل مظاهر الحضارة هذه لا تحميهم من التدهور والخراب إذا افتقد شيء غير مرئي ولا منظور وهو احترام حدود الحق والواجب
وهؤلاء الذين يأملون أن تعصمهم المنشآت والعمارات والسيارات والمدارس والميادين وغيرها من التدهور، لأنها في ظنهم لابد جالبة هذا الشيء المطلوب، وهو احترام حدود الحق والواجب، ربما كانوا أقل ضرراً من الفريق الذي يتبجح ويقول إن الحضارة الحديثة مؤسسة على عدم احترام حدود الحق والواجب، وإن كان هذا الفريق يصوغ قوله في قالب آخر فيقول مثلاً: ينبغي ألا نيأس، فإن التفكير الحديث قد قلب الأخلاق رأساً على عقب، وألغى الأخلاق القديمة وجاء بأخلاق تناسب رجل المستقبل. أو يقولون: إن الإنسان الذي يريد أن يكون رجلاً ينبغي أن يحرر نفسه من قيود الأخلاق القديمة. كأن الفلسفة الحديثة يمكنها أن تعطل سُنة من سنن الحياة، وهي سنة تدهور الأمم إذا فقدت احترام حدود الحق والواجب
ومما يدعوا إلى الأسف انتشار هذه النغمة بين بعض المثقفين المفكرين الذين كان ينبغي أن يكونوا أكثر فهماً لحقائق الحياة الثابتة والذين يستطيعون أن يروا كيف سرت هذه الحقائق في الماضي في حياة الأمم، والذين ينبغي أن يفهموا أن ما يدعون إليه من الأخلاق الجديدة ما هو إلا عدم احترام حدود الحق والواجب ذلك الاحترام الذي إذا فقد تدهورت الأمة التي تفقده كما يشهد التاريخ
وهناك فريق آخر أكثر صراحة وأكثر أثرة وهم يفهمون حقيقة الأمر، ولكنهم يقولون: الطوفان بعدنا. ويريدون أن يستفيدوا من فقد احترام حدود الحق والواجب، وأن يعيشوا بهذه الفائدة قبل الطوفان
وهناك فريق آخر يدرك حقيقة الأمر، ويحاول أن يزيل الخطر وأن يصلح الأمر، ولكن(242/14)
بقوة مشلولة، لأن الله إذا أراد بأمة سوءاً شل إرادتها وقوتها، وهذه الطوائف الأربع هي الطوائف التي تكون في الأمة التي فقدت احترام حدود الحق والواجب.
وإذا نظرنا إلى بلادنا وجدنا مظاهر الحضارة من مدارس ومنشآت وعمارات وصناعات وميادين فسيحة وسيارات، ووجدنا من يظن أن هذه الأمور تعصم من التدهور الذي ينشأ من افتقاد احترام حدود الحق والواجب، ووجدنا أيضاً طائفة من هذه الطوائف الأربع، ووجدنا أيضاً. . . فقدان احترام حدود الحق والواجب، والشواهد على فقدانه لا يمكن أن تحصى فهي كعدد الرمال على شاطئ البحر
ولكني سأقص على القارئ حوادث تدل على أن فقدان احترام حدود الحق والواجب أمر قد تفشى حتى في نفوس أرقى الطبقات.
والحادثة الأولى حدثت عندما كنت ناظراً لمدرسة ثانوية في الأقاليم، ورسب ابن أحد كبار رجال الإدارة وابن أحد كبار رجال البوليس في امتحان النقل. ويكفي أن نقول (أحد كبار الرجل) وكان رسوبهما في اللغة الإنجليزية، ورفض الأستاذ الإنجليزي مراقب تصحيح المادة أن يزيد درجتي الطالبين في الامتحان، والقانون يقضي أنه لا يمكن أن تزاد درجة إلا بواسطة مراقب التصحيح، والنظم الحديثة التي كانت سائدة وقت الحادثة تحرم على ناظر المدرسة أن يزيد هو الدرجة، فحاولت أن أطلع أحد الكبيرين على حقيقة الأمر، وعلى حدود حقوقي وواجباتي كناظر مدرسة، وعلى أن القانون يحرم عليّ زيادة الدرجة وإنجاح الطالبين، فقال أحدهم: أنا لا أفهم كيف أننا نتصرف في تطبيق قانون يتوقف عليه حياة الناس، ويتوقف عليه امتلاكهم لما يملكون، وأنت لا يمكنك أن تتصرف في تطبيق قانون (مدرسي) لا أقل ولا أكثر! ثم ذهب ولم يصدق قولي. والحادثة الثانية تشبه هذه الحادثة تمام الشبه، ولكنها حدثت في مدرسة قريبة من القاهرة، فقد رسب أيضاً طالب في اللغة الإنجليزية، ورفض المراقب زيادة الدرجة وإنجاح الطالب، وأبى أبو الطالب، وكان من الوجهاء العظام، إلا أن يحمل لي ضغينة شديدة وأن يثير ضدي غيره من الناس وإن كنت لا أملك وسيلة قانونية لزيادة الدرجة إذا رفض مراقب اللغة الإنجليزية أو غيرها من المواد إنجاح الطالب. كما أني ما كنت أملك وسيلة لمنع مراقب التصحيح من إنجاح الطالب لو أراد إنجاحه، ورأى أنه يستحق النجاح، وفي هذا العجز عن منعه من إنجاح(242/15)
الطالب ما يدل على العجز عن منعه من إسقاطه مادام يستعمل حقه القانوني ومادام الطالب يستحق التقدير الذي قدره له مراقب التصحيح
وقد اتضح لي أن أولياء أمور الطلبة في مثل هذه الأحوال يريدون أن يوسطوا بعض المشتغلين بالتعليم فيزيد هؤلاء النار أجيجا. وقد ذكرت الآن حادثة ثالثة حدثت في المدرسة الأخيرة وهي أن طالباً أهان أستاذاً فرفت الطالب بضعة أيام، فجاء إليّ والده وقريبه وهما من الأعيان ومعهما ثالث من المشتغلين بالعلم والتعليم، وحاولوا من غير تلطف بل بوجاهتهم ونفوذهم، وقبل أن يعرفوني بأنفسهم أن يحملوني على نقض ما أبرمت، ورأيت أني لا أملك حق السامح للطالب أن يهين أستاذه، فرضت، فحملوا لي الضغينة وكان أشدهم ضغينة ذلك المشتغل بأمر التعليم. وذكرت حادثة أخرى مثلها حدثت في مدرسة من مدارس الوجه البحري، وتدخل أيضاً أحد المشتغلين بالتعليم بخطاب شفاعة من القاهرة فتلطفت في رد طلبه، فحمل لي ضغينة العمر. والذي أعرفه أن الطلبة كانوا قديماً لا ينقمون العقاب المدرسي إذا عرفوا حسن نية موقعه، ولكن الحال قد تبدلت الآن لسوء قدوة الكبار. فإذا كان بين الطلبة من لا يحترم حدود الحق والواجب فقد لقنوا ألا يحترموه، بل لقنوا أن احترامه ضعة ومهانة. وكثيراً ما كنت أشاهد أن الطالب قد يتذمر من العقاب ولكنه يعود إلى الصفاء والولاء. أما الشفيع المخذول فإنه لا ينسى أبداً أنه قد رفضت شفاعته، وهذا كان قبل أن تسري طباع الكبار إلى الطلبة. ومن عجائب الدهر أن أشد الناس لوماً للطلبة وتعنيفاً لهم وذماً لسلوكهم في كثير من الأحايين أسوأ قدوة للطلبة، وهم على نفس الطباع والخصال التي يذمونها في الطلبة والتي سرت منهم إليهم، وهؤلاء هم الكبار على اختلاف طبقاتهم وأعمالهم.
عبد الرحمن شكري(242/16)
من برجنا العاجي
يدهشني في حياة الملكة فكتوريا تلك الإرادة التي استطاعت بها أن تفصل بين (واجبها) كملك تحكم، وبين (قلبها) كامرأة تحب. إنها كانت مشغوفة بزوجها الأمير (ألبرت)، ومع ذلك أقصته أول الأمر في قسوة عن دفة الملك وشئون الحكم، وهو الرجل الذكي الواسع الاطلاع، فكانت تدرس هي معضلات الدولة وتتركه هو يقتل الوقت بالقراءة وعزف الموسيقى. آه! ما أحوجني أنا إلى مثل هذه المرأة التي تتركني أقرأ وأكتب وأسمع الموسيقى، وتنصرف هي إلى حمل المسؤوليات وحل مشاكل العيش. . . شيء آخر يعجبني في تلك الملكة العظيمة: إنها كانت تقرأ. إني أحب الملوك والقادة الذين يقرأون. تلك هي الوسيلة التي بها يعرفون حاجات شعبهم. لقد قرأت فكتوريا بعض قصص (ديكنز) التي يصف فيها شقاء الطبقات الفقيرة، وأحست وهي في أبراج قصرها ما يعانيه ألوف من البشر يطؤهم ظلم أرستقراطية جامحة بعرباتها الفخمة وخيولها المطهمة، فأدركت من خلال سطور ذلك الأديب كيف أن في بلادها عالماً آخر مهملاً يئن من الجوع والبؤس ولا يلتفت إليه أحد. فتركت الملكة الكتاب وقامت صائحة مرتاعة لم يهدأ لها قرار حتى مدت يدها إلى أولئك المناكيد، فرفعت عن أعناقهم نعال الفئة الباغية، وأطلقتهم يعيشون في هواء الحرية والرخاء كما يعيش الآدميون. في مصر والشرق أيضاً بغي وبغاة، وظلم وظالمون من جميع الأنواع؛ وفيهما كذلك فقر وشقاء وجهل وظلام في كل ركن من الأركان. ولقد يسألني سائل: أين هو الأديب الذي يصف كل هذا البلاء، ويصور هذه الدنيا التعسة المهملة التي لم تمتد إليها يد إصلاح منذ أجيال؟ جوابي على هذا السؤال بسيط: هات لي من يقرأ، أحضر لك من يكتب. إن الطاهي لا يوجد إلا إذا وجد الآكلون. إن الشرق لن يتغير حتى يعلم قادته كيف يملئون أدمغتهم بكل ما يمكنهم من فهم حال شعوبهم. إن ربان السفينة لا يركب البحر قبل أن يعرف بعض أسرار الريح والماء ونجوم السماء. فلنرج دائماً ممن يمسك بالزمام أن يمسك أيضاً بالكتاب
توفيق الحكيم
بين الوطنية والأممية
للأستاذ ساطع بك الحصري(242/17)
مدير الآثار بالعراق
الوطنية من أهم وأقوى النزعات الاجتماعية المتأصلة في النفوس البشرية، ومع هذا فهي لا تسلم من أعداء وخصوم، يسعون إلى كسر قوتها وإزالة تأثيرها. . . إنني سأتحدث إليكم عن أهم أعداء الوطنية وأخطر خصومها. . .
عندما أقول (أعداء وخصوم) لا أقصد بقولي هذا (الأشخاص والأفراد) بل أقصد (الميول والنزعات). . لا أقصد الأشخاص والأفراد الذين يعادون وطنهم، ويخونون أمتهم. . بل أقصد الميول النفسية والنزعات الفكرية التي تعاكس الدواعي الوطنية، وتوجه العواطف والأعمال إلى اتجاه يخالف اتجاهها. . .
إن أهم وأعم الميول النفسية التي تعارض الوطنية وتعاديها بهذه الصورة هي (الأنانية). . . لأنها توجه النفوس نحو المصالح والملذات الذاتية، وتحملها على تقديم هذه المصالح والملذات على كل شيء. . في حين أن (الوطنية) - بعكس ذلك - تدعو إلى (الإيثار) و (التضحية)، في سبيل الوطن والقومية. . إنها تطلب من كل شخص أن يحب وطنه ويخدم أمته بكل ما أوتي من قوة، وأن يضحي بشيء كثير من راحته وهنائه في هذا السبيل، حتى أنها تطلب منه أن يوصل هذه التضحية إلى درجة (بذل النفس والحياة) عند اللزوم. .
ولذلك نستطيع أن نقول: إن الأنانية تعمل على الدوام عملاً معاكساً لدواعي الوطنية. . . فالوطنية لا تستطيع أن تنمو وتقوى دون أن تتغلب على الأنانية المعادية لها
غير أن الأنانية لا تعادي النزعة الوطنية وحدها، بل تعادي جميع الفضائل والنزعات الأخلاقية، على اختلاف أنواعها. . فكسر قوة الأنانية ليس من الأمور التي تتطلبها النزعة الوطنية وحدها، بل هو من الأمور التي تتطلبها سائر النزعات الأخلاقية بأجمعها
فنستطيع أن نقول لذلك: إن خلال النضال العنيف الذي يحدث بين الوطنية والأنانية لا تبقى الوطنية بدون أنصار. . . بل إنها تجد لنفسها عدة أنصار من سائر النزعات الأخلاقية التي تشترك معها في هذا النضال. . .
غير أن هناك بعض النزعات التي تعادي الوطنية دون أن تعاكس سائر الفضائل الأخلاقية؛ فالوطنية لا تجد لنفسها أنصاراً من تلك الفضائل خلال مناضلة مثل هذه(242/18)
النزعات، فتتحمل أعباء هذا النضال بمفردها بطبيعة الحال
أما منشأ هذه النزعات المعادية للوطنية فهو الآراء والمذاهب الفلسفية والاجتماعية التي تعتبر الوطنية من (النزعات البالية المضرة) فتدعو الناس إلى نبذها والتخلص منها
لعل أقدم هذه الآراء والمذاهب هي الفكرة التي تعرف في بلاد الغرب باسم الـ (كوزموبوليتيه) بمعنى (مواطنية العالم) - أو بتعبير أقصر (العالمية) - هذه الفكرة تدعو الناس إلى الترفع عن (النزعات الوطنية الخاصة) وتطلب إليهم أن ينزعوا إلى (حب العالم) دون أن يفرقوا بين مختلف الأوطان
أما الملاحظات التي تستند إليها (فكرة العالمية) فيمكن أن تلخص بهذه الكلمات:
ما لفرق بين الأوطان المختلفة؟ ألم تكن كلها من أجزاء الأرض التي نعيش عليها؟ وما قيمة الحدود التي تفصل الأوطان بعضها عن بعض؟ أفلم تكن كلها من الأمور الاعتبارية التي أوجدتها الوقائع الحربية أو المناورات السياسية؟ وما الفرق بين الأمم المختلفة؟ ألم تنحدر كلها من أصل واحد؟ أفلا يجدر بالإنسان - وهذه هي الحال - أن يسمو بأفكاره وعواطفه فوق الأوطان وفوق الأمم، فيعتبر الأرض بأجمعها (وطناً) كما يعتبر أبناء البشر بأجمعهم (مواطنين)؟
لقد مر - في الحقيقة - في تاريخ حياة البشرية عهوداً طويلة، كانت فيها (الرابطة الوطنية) ضيقة محدودة لا يتعدى نطاقها أسوار بعض المدن. كما كانت فيها الرابطة القومية محدودة المدى، لا يتجاوز تأثيرها حلقات بعض القبائل. فقد شهد التاريخ (الدور) الذي ارتفعت فيه الحدود من بين المدن التي كانت متحالفة، وانتفت فيه الضغائن من بين القبائل التي كانت متعادية. . . فتوسعت فيه فكرة الوطنية والقومية إلى ما وراء حدود المدن ونطاق القبائل، فوصلت إلى الحدود التي نشاهدها في الحالة الحاضرة. إن سلسلة التطورات التي حدثت بهذه الصورة إلى الآن، تدل على أن هذا التوسع سيستمر على الدوام، فسيأتي يوم تندمج فيه الأوطان المختلفة بعضها في بعض، إلى أن يصبح (العالم) (الوطن المشترك) لكل الناس، كما تمتزج فيه الأمم المختلفة بعضها ببعض إلى أن تصبح (الإنسانية) بمثابة (القومية المشتركة) بين جميع أبناء البشر. وأما (النزعة الوطنية) التي نعرفها الآن فستزول حتماً بتقدم البشر وتسامي العواطف، وستترك محلها لعاطفة إنسانية،(242/19)
وأخوة شاملة. . . فيجدر بالمفكرين أن يسبقوا سائر الناس في استقبال هذا التطور الجديد، فيسموا بأنفسهم - من الآن - فوق الوطنيات الخاصة ويعملوا بهذه الصورة على تعجيل حلول عهد الإنسانية الحق. . .
هذه هي سلسلة الآراء والملاحظات التي تستند إليها فكرة (الكوزموبوليتية)، (فكرة العالمية). . .
لاشك في أن هذه الآراء لا تخلو من قوة جذب وإغراء: لأنها تفسح أمام الأذهان مجالا واسعاً لأحلام الأخوة البشرية وأماني السلم الدائم، وتصور أما الخيال عالماً جديداً أرقى وأسمى من العالم الذي نعيش فيه الآن. . . فمن الطبيعي أن تستولي هذه الآراء - من الوهلة الأولى - على بعض النفوس التواقة إلى الكمال، ولو كان في الخيال. . .
فقد انتشرت الفكرة - فعلاً - انتشاراً كبيراً بين المفكرين في النصف الخير من القرن الثامن عشر. . . ولا سيما في ألمانيا، وحيث أصبحت النزعة السائدة في عالم الفكر والفلسفة. . فكان معظم الفلاسفة والأدباء - من كوته إلى لسينغ، ومن هردر إلى شللينغ - يقولون بها ويدعون إليها؛ فكان (كوته) - مثلاً - يترفع عن النزعة الوطنية، ويقول (وقانا الله إياها)، وكان (هردر) يعتبر الوطنية (من النزعات التي لا تليق بالمستنيرين والمفكرين). . .
ومما يجدر بالانتباه والملاحظة أن هذه النزعة الفكرية - مع انحدارها في الأصل من روح التشوق إلى الكمال - تتفق - في النتيجة - مع روح الاستكانة السلبية، وتكتسب لذلك قوة من ميول الأنانية الخفية. . .
لأن (فكرة الإنسانية والعالمية) نزعة أفلاطونية، لا تتطلب من الفرد عملاً فورياً وتضحية فعلية، في حين أن الوطنية نزعة واقعية تتصل بالحياة الحالية، وتتطلب من المرء أن يقوم ببعض الأعمال والتضحيات بصورة فورية؛ فالانصراف عن النزعة الوطنية، استناداً إلى (الفكرة الإنسانية) يكون بمثابة الانصراف عن الأعمال الإيجابية استكانة إلى الأوضاع السلبية. . ولهذا السبب يتفق هذا الانصراف اتفاقاً كبيراً مع روح الأنانية، التي كثيراً ما تتقنع بأقنعة خداعة تستر وراءها كثيراً من الميول النفعية. . .
لقد انتبه (جان جاك روسو) إلى هذه الحقيقة، فانتقد (الفكرة العالمية) بأسلوب لاذع، فقال:(242/20)
(إن بعض الناس يحبون أبناء الصين، لكي يخلصوا من الواجبات الفعلية التي تترتب عليهم من جراء حب أبناء وطنهم الأقربين)
وعلى كل حال يمكننا أن نقول: إن فكرة (العالمية) انتشرت في القرن التاسع عشر انتشاراً كبيراً بسبب تشوق المفكرين إلى الكمال الخيالي من جهة. . . وبدافع ميل الناس إلى التخلص من ثقل الواجبات الفعلية من جهة أخرى
وهذا الانتشار صار عظيماً في البلاد الألمانية بوجه خاص؛ أولاً: لموافقة الفكرة لروح الفلسفة السائدة بين مفكري الألمان عندئذ، وثانياً: لعدم اصطدامها هناك بنزعة وطنية قوية بسبب انقسام الأمان إلى دويلات كثيرة، واشتباك منافع هذه الدويلات وأمرائها اشتباكاً يحول دون نمو النزعات الوطنية والقومية نمواً سريعاً. . . إننا نجد في إحدى الكلمات التي كان قالها المفكر الألماني (شله يجل) دليلاً قاطعاً على ما أسلفناه؛ فقد قال: من العبث أن نحاول تكوين أمة ألمانية، فالأجدر بنا أن نأخذ بالفكرة العالمية، ونخدم الإنسانية. . .)
واستمر الحال في البلاد الألمانية على هذا المنوال حتى غزوة نابليون وهزيمة (يه نا). . .
ولاشك في أن الانهزام الهائل الذي مني به الجيش البروسي في واقعة (يه نا) كان من أبرز نتائج ضعف النزعة الوطنية وانتشار الفكرة العالمية. . . فإن الجنود كانوا ينهزمون من ساحة القتال تاركين أسلحتهم فيها دون أن يحاولوا استعمالها لصد غارة العدو الزاحف إلى بلادهم
غير أن كل ما حدث بعد ذلك بدد الأحلام العالمية والأماني الإنسانية التي كانت مستولية على النفوس. . . وأظهر لكل ذي عين بصيرة الفروق الهائلة بين (الوطن) الذي ينتسب إليه وبين غيره من الأوطان. . . وبين (الأمة) التي ينحدر منها وبين غيرها من الأمم. . .
فإن الذين كانوا انهزموا من ميدان القتال دون أن يستعملوا أسلحتهم لصد غارة الجيوش الأجنبية اضطروا - بعد بضع سنوات من تاريخ الواقعة - إلى الانخراط في سلك الجيوش المذكورة ليخدموا مآرب قائدها الخاصة. . . إنهم أرغموا على التجنيد وعلى العمل تحت إمرة قواد فرنسيين ليحاربوا - رغم أنوفهم - الدول والأمم التي أراد زعيم الفرنسيين الاستيلاء عليها دون أن يكون في كل ذلك أدنى مصلحة لهم ولوطنهم الخاص ولأمتهم الحقيقية. . .(242/21)
وهكذا قد شاهد مفكرو الألمان بأعينهم أنه بينما كانوا يغطون في أحلام الإنسانية والعالمية استولت على بلادهم جيوش أمة بعيدة عن تلك الأحلام، ومتشبعة بروح الوطنية بأشد وأحد أشكالها، فأخذت تلك الأمة تسيطر عليهم وتستعبدهم، وتذيقهم أنواع الذل وتسوقهم إلى حيث تريد. . .
فكان من الطبيعي أن تنقلب الآراء والنزعات في ألمانيا انقلاباً هائلاً تحت تأثير الدروس القاسية التي ألقتها هذه الوقائع والنكبات. . وفي الواقع لم يمض على واقعة (يه نا) مدة طويلة، حتى تركت الفكرة العالمية محلها لحماسة وطنية شديدة ويقظة قومية جبارة. . . وهذه الحماسة الوطنية واليقظة القومية هي التي أدت إلى نهضة بروسيا المعلومة، وخلصتها من نير الفرنسيين ثم قادت الأمة الألمانية بأجمعها نحو الاستقلال والوحدة والقوة والعظمة. . .
ومن المفيد لنا أن نتتبع هذا التطور العميق فيما قاله وكتبه البعض من مفكري الألمان أنفسهم في ذلك العهد. . أود أن أذكر لكم مثالين بارزين: أحدهما من الحكماء وهو (فيخته) والثاني من الشعراء وهو (آرنت)
عندما يذكر اسم - فيخته - في ألمانيا، يتبادر إلى الأذهان الخطب الحماسية التي وجهها (إلى الأمة الألمانية) خلال أيام النكبات التي بحثنا عنها، تعتبر هذه الخطب من أهم عوامل النهضة في ألمانيا، ومن أقوى موجهات القومية فيها. . .
ألقى فيخته خطبه الأربع عشرة في مدرج جامعة برلين، عندما كانت الجيوش المحتلة تقوم باستعراضات متوالية في شوارع العاصمة البروسية وميادينها. . . تحتوي هذه الخطب على نظرات فلسفية في تاريخ حياة الأمة الألمانية، وأبحاث شيقة عن الحيوية الكامنة فيها وعن وسائل التربية التي تكفل تجديد حياتها. . . وكل هذه النظرات والأبحاث ترمي إلى غاية واحدة، هي استنهاض الهمم في سبيل بعث الأمة الألمانية، وإعادة بناء مجدها. .
إن خطب فيخته تنم عن روح وطنية متأججة، وتدعو إلى نزعة قومية متعصبة، ولاسيما الخطبة الختامية، فإنها تعتبر آية من آيات التحميس والاستنهاض. يوجه (فيخته) في خطبته هذه بعض الكلمات إلى الشباب، ثم إلى الكهول، ثم إلى رجال الدولة والمفكرين والأدباء، وأخيراً الأمراء، مصدراً كل واحدة من هذه الكلمات بقوله: (إن خطبي تستحلفكم(242/22)
وتبتهل إليكم. . .)
بعد ذلك يضطرم حماسة، فيقول لجميعهم: (إن أجدادنا أيضاً يستحلفونكم معي، ويضمون صوتهم إلى صوتي (ويأخذ في تصوير صوت الأجداد) بأسلوب حماسي جذاب. ثم يعقب ذلك بقوله: (إن أخلافكم أيضاً يتضرعون إليكم). ويشرح صوت الأخلاف بأسلوب مؤثر خلاب
وأخيراً ينهي الخطبة بكلمات تدل على شعوره بغرور قومي عميق: (. . . ولو تجاسرت لأضفت إلى كل ما تقدم قائلاً: إن القدرة الفاطرة أيضاً تستحلفكم وتستنهضكم. . . لأنه لم يبق على وجه الأرض أمة حافظت على بذور قابلية التكمل البشري بقدر ما حافظت عليه أمتكم المجيدة. . . فإذا سقطت الأمة الألمانية سقط معه الجنس البشري بأجمعه، ولا يبقى له أدنى أمل في السلامة. . .)
(يتبع)
ساطع الحصري(242/23)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الاحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 2 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
ما لبثت الأسرة أن رأت في عميدها (توماس لنكولن) ميلاً شديداً إلى الرحيل من (كنتوكي) إلى حيث يسهل عليه كسب قوته وقوتها مع اليسير من الجهد، وكان توماس من النفر الذين يضيقون بالجهد والذين يطلبون أكلاف العيش من أيسر سبلها فهو لذلك لا يكدح إلا مضطراً؛ وما فتئ يذكر اسم (انديانا) مقروناً بالخير والبركة وهو يزين لزوجه الرحيل إلى تلك الجهة، ثم ذهب فخبرها بنفسه وعاد بعد قليل يحمل إليها متاعه وأسرته. وما كان أسرعه بعد عودته في توطيد ما اعتزم! حزم متاع بيته وحمله على جوادين أعدهما لذلك، وكان ابنه (أيب) يركب معه على ظهر أحد الحملين، وتركب زوجه وابنته (سارا) على الآخر وقضوا في الطريق زهاء أسبوع يشقون في سيرهم الأحراج ويجتازون بعض مجاري المياه، فإذا جنهم الليل قام عميد الأسرة على حراستهم حتى ألقوا رحالهم آخر الأمر في (انديانا)
وشمر توماس لنكولن عن ساعديه وشمر معه أيب وأهوى بفأسه على الأشجار يقطعها ويشقها ويسوي فروعها وابنه يعاونه ما وسعه العون وهو لا يني يشق هاتيك الخشبة، ويقطع تلك ويشذب هذه، حتى تم له إعداد ما يلزم لإقامة كوخ تأوي إليه الأسرة، ثم دعا إليه بعض جيرانه ليساعدوه في رفع تلك الأخشاب بعضها فوق بعض. وكان رفع الأخشاب عملية يدعى إليها الجيران فيلبون في سرور وإخلاص، وكان يجري فيها من فنون اللهو والمزاح ومن ضروب التندر واللعب بقدر ما يكون فيها من مشقة ونصب(242/24)
أقامت الأسرة في انديانا، وتركت موطنها في كنتوكي، وإنك لترى هذا الارتحال من مكان إلى آخر ومن مقاطعة إلى مقاطعة أشبه بتنقل البدو في الصحراء. ليس بين الحياتين من فرق إلا بمقدار ما يكون بين الغابة والبيداء، وبين البيت يتخذ من الشعر أو يقام من كتل الخشب؛ ومن ثم فليس بين المعيشتين من فرق من حيث أثرهما في الخلق والخيال إلا بقدر ما يقوم بين الطبيعتين من اختلاف
وكان لهذا الترحال أثره في نفس الغلام، إذ أخذ الوطن منذ ذلك الحين يتسع في نظره ويمتد حتى أصبح وطنه هو أمريكا كلها؛ فهو مرتحل أبداً مادام العيش يتطلب الارتحال، وهو متخذ من كل مكان وطناً يتصل بنفسه ويعلق بخياله، وظل ذلك شأنه حتى انتهت إليه زعامة الولايات جميعاً وحتى أخذ بيده مقاليد الحكم فيها
وكانت الحياة في انديانا سهلة لا تكلف الناس عناء ولا ترهقهم عسراً، إذ كانت تقوم على الصيد، وكانت الحيوانات موفورة في الغابات لمن يطلب الصيد، ولكن تلك المعيشة كانت إذا قيست إلى معيشة المدن بعيدة كل البعد عن أسباب الرفاهة، بل عن أبسط وسائل الراحة، وحسبك دليلاً على ذلك أن الملابس كانت ما تزال تتخذ من جلود الحيوانات، إلا في بعض الأحيان حين كان يغزل الصوف وينسج بالأيدي وفي الأكواخ، وأن البيوت كانت كما رأيت، وما كانت تفتقر إليه تلك الأصقاع من المتاجر أو سبل الاتصال أو دور الاستشفاء أو دور التعليم إلا ما كان منها في أبسط حالاته، أو غير هذه من مظاهر العمران المعروفة في غير تلك البيئة من البيئات
على أن الصبي كان مغتبطاً ببيته الجديد في أنديانا، يأنس بكثرة الجيران هنا، ويرى الحياة أكثر نشاطاً وأوسع مجالاً، ولقد جاء ذوو قرباه فأقاموا معهم حيث كانوا يقيمون. ومرت الأيام في هدوء وسلام وصفو، وكان كل يقوم بنصيبه من العمل لم يتخلف عن ذلك حتى الصغار؛ فهذا (أيب) وكان غلاماً قوي الساعدين - على نحافته - يبذر الحب في الربيع، ويشترك في الحصاد وقت الصيف، ويطعم الخنازير، ويحلب الأبقار، ويساعد أباه في أعمال النجارة؛ وهذه سارا تساعد أمها فيما لا يحسنه أيب من أعمال البيت. وظل هذا حال تلك العشيرة مدة عامين
ولكن الزمن القاسي يأبى عليهم أن يظلوا في أمنهم وسكنهم فتنتابهم حمى مروعة ينوء بها(242/25)
الناس والدواب، ويحار الكبار والصغار في أمرها وهم لا يجدون طبيباً. وهيهات أن يظفروا بطبيب إلا أن يقطعوا نيفاً وثلاثين ميلاً على الأقل. وهل كانوا يستطيعون أن ينتقلوا بضع خطوات؟. . . لقد هدهم المرض فرقدت الأم ورقد الجيران من ذوي القربى. ثم جاء دور أيب وأخته. . . وأخيراً حم القضاء ووقعت الكارثة فماتت الأم وقد أضنتها الحمى وفتكت بجسدها النحيل! ماتت الأم ورزئ أيب بأول صدمة من صدمات الأيام. وأي صدمة! لقد ضاقت في وجهه الدنيا، وأحس معنى اليتم إحساساً قويّاً زاد من وقعه ما فطر عليه الصبي من عمق الخيال واشتداد العاطفة. ولقد ظل واقفاً أمام تلك البقعة من الأرض التي دفنت تحتها أمه حتى تناوحت من حوله رياح المساء، ومشت في الأفق ظلال الطفل، فذرف الدمع سخيناً وعاد إلى الكوخ كسير القلب موجع النفس يحس كأنه غريب في هذا الوجود الواسع!
وكان قد سبق أمه إلى الموت أبوها وأمها، ذهبا كما ذهبت ضحية تلك الحمى القاسية، وعلى ذلك صارت ربة الأسرة سارا الصغيرة التي لا تزيد سنها على الثانية عشرة! وكانت سارا تخدم أباها وأخاها فيما يلزمهما من شؤون البيت؛ ولكن الرجل لم يطق صبراً على تلك العيشة، فترك - بعد سنة من وفاة زوجته - ابنه وابنته وصحبتهما طفلة دونهما في العمر هي بقية العشيرة؛ ثم عاد إليهم في عربة يجرها أربعة من الجياد! ونزلت من العربة سيدة يذكر أنه رآها قبل ذلك في كنتوكي، ونزل منها غلام وأختان له، وكانت تلك السيدة - كما عرف - زوج أبيه!
ودهش أيب لما رأى من متاع جديد! فقد رأى سرراً حقيقة وكراسي وخواناً ومائدة ومُدىً وسواها مما لم تقع عليه عينه من قبل بين جدران الكوخ. وسرعان ما توثقت عرى المودة بين الجميع، فكوَّن الصغار رفقة تربطها المودة والمحبة، لا يحسون جوراً في المعاملة من جانب ربة البيت الجديدة؛ فلقد كانت امرأة صالحة طيبة القلب، رقيقة العاطفة حلوة الشمائل، ذكية الفؤاد، ازدادت محبة في نفس أيب إذ رأى منها - فوق ما أولته من عطف - ميلاً إلى تعليم الصغار، وسمعها تجادل زوجها في ذلك وتصر على أن يذهبوا عصبة إلى المدرسة؛ وكان الزوج في بداوته يقدم الفأس على القلم ويضن بابنه وقد أنس من قوة ساعديه ومهارة يده أن يرسله إلى المدرسة وهو أحوج ما يكون إلى مساعدته، ولكن رأيها(242/26)
تغلب في النهاية وسار الأولاد إلى المدرسة وكانت على مسافة ميل ونصف ميل من كوخهم
وفي المدرسة أقبل أيب على تعلم القراءة والكتابة إقبالاً لم يعرف له مثيل في قرنائه. أليس ذلك غاية مبتغاه ومنتهى هواه؟. لقد كان يعمد إلى قطع الفحم إذا عاد إلى الكوخ فيكتب بها على غطاء صندوق من الخشب تارة، أو على ظهر لوح الخشب الذي كانوا يحركون به النار تارة أخرى! يكرر ذلك في غير ملل مع صعوبة الكتابة بالفحم على مثل تلك الأشياء. وأنى له الحبر والورق إلا ما ندر من قصاصات رديئة كان يضن بها على التمرن فلا يخط عليها إلا ما يحسنه فيزهي به ويباهي. . . هكذا تعلم إبراهم لنكولن القراءة والكتابة!
لكن أباه لا يهتز لذلك ولا يهش له، بل إنه ليقطع عليه أكثر الأحيان هوايته فيستصحبه إلى الغابة ليعاونه فيما كان يراه أجدى على الأسرة من الأعمال. وهو يرى فيه الآن وقد ناهز الرابعة عشرة خير عون له إذ كان الفتى حاذقاً قوياً حتى لتبدو قوته مدهشة تحمل على العجب ما رأى الجيران مثلها قط فيمن كان في مثل عمره. ورأى فيه أبوه فوق ذلك قدرة على الرماية تجلت له في حادثة واحدة ولكنها كانت مقنعة: تناول البندقية ذات يوم وصوبها نحو فرخ بري فأصابه في مهارة وخفة. . . على أنه قد جزع وأخذه الرعب وندم على ما فعل، وعافت نفسه هذا الفعل وما فيه من قسوة، وما رآه أحد بعدها يصوب سلاحاً نحو مخلوق. . .
وما كان إذعان إبراهام لأبيه إذا دعاه ليصرفه عما مالت إليه نفسه، فكان يختلس الساعات فيكتب ويقرأ ويكتب ويقرأ والشوق يحدوه واللذة تدفعه حتى صار قادراً على تناول الكتب! وأول ما تناوله من الكتب الإنجيل وخرافات إيزوب وروبنسن كروزو ورحلة الحاج. وكم كان لهذه الكتب من أثر في خياله ووجدانه، ذلك أن نفسه أخذت تتفتح للحياة كما تتفتح الزهرة أحست دفء الربيع ونوره وصفاءه! وتاقت تلك النفس الذكية إلى تاريخ العظماء، فقرأ حياة هنري كليي وحياة فرانكلن ثم حياة وشنجطون بطل الاستقلال وزعيم الحرية. ولقد كان جد معجب بهذا الزعيم العظيم مأخوذاً بما يطالع من مواقفه في حرب الاستقلال، مسحوراً بما تجلى في تلك الحرب منن أعمال البطولة. ولا يخفى ما تركته مثل هاتيك المطالعة من عميق الأثر في تلك النفس الوثابة الجياشة بأنبل المعاني
وعرف عنه وهو في السادسة عشرة من الشمائل ما لا يتحقق إلا للمصطفين الأخيار. كان(242/27)
على قوة جسمه مضرب المثل في دماثة الخلق وعفة اللسان واليد، وكان حديث القوم في أمانته ونزاهته وسمو أدبه. تحدثت عنه زوج أبيه مرة فقالت: (لم يوجه إلى مرة كلمة نابية أو نظرة جافة، ولم يعص لي أمراً قط سواء أكان ذلك في مظهره أم في حقيقة أمره) ويروي عنه أنه استعار من أحد الجيران كتاباً عن وشنجطون لمؤلف آخر فأقبل عليه يطالعه حتى جن عليه الليل فوضعه في شق بين الكتل الخشبية في أحد جدر الكوخ فبلله المطر، فلما رآه في الصباح اشتد أسفه وحمله إلى صاحبه، وهو لا يقوى على الوقوف أمامه من شدة الخجل، ولا يدري كيف يعتذر! ثم بدا له فعرض على صاحب الكتاب أن يدفع ثمنه، وكان ذلك الثمن أن يأجره الرجل عنده ثلاثة أيام في عمل من أعمال الزراعة! وقد تم له ذلك فطابت به نفسه وصار الكتاب ملكا له، وذلك ما اغتبط له أشد الاغتباط
وراح يقرأ وهو يقتبل شبابه كل ما تصل إليه يده. يقرأ في ضوء النهار حتى ينقضي فيقبع في الليل إلى جانب الموقد يقرأ على ضوء اللهب! لا يكل له طرف ولا تأخذه سنة حتى لينسى طعامه وشرابه إذا كان حيال فقرة قوية أو حديث ساحر
ومالت نفسه إلى تفهم أسرار الحياة وهو بعد في تلك السن، فأخذ يتأمل ويتأمل، يلتقط جريدة قديمة فيقرأ فيها ما يعجب له ولا يفهمه، يقرأ عن الانتخابات وعن مسألة العبيد، ويسمع أشباه ذلك في الكنيسة وفي أحاديث الجيران فيعجب بينه وبين نفسه، وهو لا يدري كنه هذه الأشياء على وجه اليقين
وأخذ يدرس من كثب طباع الناس، وكانت له نظرة نافذة إلى أعماق الأشياء، وكانت نفسه بطبيعة تكوينها تنفعل للجمال والحق وتنفر من الشر وتنأى عنه. ولو رآه خبير بطباع البشر يومئذ لظن أنه حيال شاعر تنبسط جوانب نفسه، وتتهيأ لرسالة من الرسالات روحه. ولقد كان إبراهام يكتب الشعر يومئذ ويقرأه على خلانه؛ وصارت للشاعر بيرنز عنده مكانة سامية حتى لقد حفظ ديوانه عن ظهر قلب، وصار لا يقدم عليه شاعراً سوى شكسبير
عجيب حقاً أمر هذا الفتى الذي تنقسم حياته بين المدرسة وبين أعمال النجارة في الغابة، والذي يقرا مثل هذا النوع من الكتب قراءة تمعن وتمحيص! ولكنها العبقرية تفتح وتعلن عن وجودها بشتى الصور والأساليب، وهي هي الجوهر الثابت لا تدركه الأبصار وإن أحسته القلوب والعقول.(242/28)
هو الآن يتخطى السادسة عشرة، طويل الجسم مديد القامة عريض الصدر، ولكنه نحيف تستوقف الأبصار نحافته كما يستوقفها طوله، وهو على نحافته قوي الجسم قوة ما توافت لمثله في هذه السن؛ وكأنما تجمعت تلك القوة في ساعده، فليست هناك دوحة تقوى عليه إذا هو أهوى بفأسه عليها. بذ أباه في قطع الأشجار وتسوية الأخشاب، وغالب أقرانه في الغابة حتى سلموا له بالتفوق مكرهين
وكانت هيئته وحشية بسبب شعره الأشعث المغبر وهندامه الساذج المتهدل، وتقاطيع وجهه المسنون الذي يبرز فيه الأنف بروزاً شديداً فيبدو كأنه أضخم من حقيقته، ولذلك ما كان يطمع ابراهام وهو في سن الأحلام والتظرف أن تنظر إليه فتاة نظرة ذي علق. . . وهل كان يتجه خياله إلى شيء من هذا؟ حسبه ما هو فيه مما هو أسمى من ذلك وأجدى
ولاحظ عليه أقرانه شيئاً من الشذوذ يومئذ، فهو يلقي بفأسه أثناء العمل في الغابة ويخرج من جيبه كتاباً فيقرأ ويقرأ في صوت جهوري كأنه خطيب. . . وهو يضحك أحياناً بلا سبب ظاهر وقد يعلو في ضحكه مبتدئاً من ابتسامة حتى يصل إلى قهقهة، وهو على رقة عاطفته ورفق قلبه يقوم للجيران إذا دعوه بأعمال الجزارة فيقتل لهم الخنازير بوقذها في جباهها في جرأة وسرعة. . وبينا يرى الناس منه ذلك يعجبون العجب كله إذ يرونه يمد يد المساعدة إلى الضعفاء والبؤساء. لقي وهو في طريقه مع رفيق له رجلاً قد ألقاه جواده في الطريق وقد ذهبت الخمر بلبه، فمازال به يوقظه وهو لا يستيقظ ولا يفيق، فتبرم صديقه، فرد عليه أنه لا يستطيع أن يترك هذا الرجل على الرغم من سكره فريسة للبرد وحمله على ظهره إلى كنه؛ وأقام إلى جانبه ردحاً من الليل. وسمعه الناس يعلن عطفه على الهنود الحمر قائلاً إنهم أصحاب تلك الأرض وإنهم أخرجوا من ديارهم وأنهم لذلك جديرون بالرحمة والعطف!. ولم يقف به عطفه عند الإنسان، بل لقد أظهر غير مرة الرأفة بالحيوان، فوقف ذات يوم ينقذ كلباً وقع في الثلج وقد ناله في ذلك من التعب ما ناله. ورأى بعض خلانه يلعبون بسلحفاة أوقدوا على ظهرها ناراً فعنفهم وذهب من فوره فكتب موضوعاً في الرفق بالحيوان وقرأه على من صادفهم من جيرانه!
ومما يعرف من ميوله يومئذ ميله إلى المحاماة، ولعل مرد ذلك إلى حدبه على المستضعفين. عرف هذه المهنة حين قصد ذات يوم إلى جلسة قضائية في بلد قريب(242/29)
ليتفرج، وقد أعجب بدفاع أحد المحامين ودفعه إعجابه إلى أن يتقدم إلى ذلك المحامي مهنئاً، فاقتحمته عين المحامي المدل بنفسه وازدراه وهو يرى من هيئته ورث ثيابه ما يرى، ولم يدر أنه كان يزدري من سيكون يوماً رئيس الولايات المتحدة! ومنذ ذلك اليوم تاقت نفسه إلى معرفة القانون عله يستطيع أن يخطب ويدافع فينصر المظلومين، فلقد صار ذلك العمل محبباً إلى نفسه.
ولكن أنى له المال الذي يهيئ له سبل الدراسة والظهور في المجتمعات؟ أنى له المال وهو لا يكاد يراه. هاهو ذا يصنع قارباً بيديه ويحمل فيه بعض حاصلات إقليمه ليبيعها في سوق قريبة ولكنه يبيعها بثمن زهيد؛ بيد أنه حدث أن حمل في تلك الرحلة بعض الناس في قاربه من شاطئ النهر إلى حيث أدركوا قارباً بخارياً في عرض النهر، وما كان أعظم دهشته حين مد إليه أحدهم يده بقطعتين من الفضة كانتا تساويان ريالاً، وما كان أعظم فرحه بذلك. أشار إلى ذلك الحادث يوماً وهو في منصب الرياسة يخاطب صديقه ستيوارت فقال: (إني لم أكد أصدق عيني. ربما رأيت ذلك يا صديقي أمراً تافهاً، أما أنا فإني أعتبره أهم حادث في حياتي. لقد كان من العسير عليّ أن أصدق أني - وأنا ذلك الفتى الفقير - قد كسبت ريالاً في أقل من يوم؟ لقد اتسعت الدنيا في ناظريّ وبدت لي أكثر جمالاً؛ وازداد أملي وثقتي بنفسي منذ تلك اللحظة).
(يتبع)
الخفيف(242/30)
المثل الأعلى للشاب المسلم
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
هذه هي الصفة الأولى للشباب، وهذا هو المثل الأعلى فيها. تزوج ثم أحب زوجتك، وأوْلها قلبك، وامنحها عاطفتك. أما الصفة الثانية فهي البطولة، وحظ الشباب المسلمين فيها أوفى من حظوظ شباب الأمم. وعلى الشباب المسلمين واجب أضخم، ذلك أن المصلحين كانوا يتلفتون قبل عشرين عاماً فلا يرون حولهم إلا ظلاماً لا تسطع في ثناياه بارقة أمل، ونوماً (أو قل موتاً) لا ترى في خلاله أمارة حياة، وخيبة مستمرة في السياسة والعلم والعمل؛ ثم انجلت الحرب العامة عن جسم واحد، حاول الأقوياء الغالبون أن يخالفوا فيه سنة الله ونواميسه في كونه، فيجعلوا الرأس يحيا وحده، واليدين تعيشان وتفكران على استقلال، والقلب يصبح إنساناً برجلين؛ فقرروا أن تكون هذه الحكومات الكثيرات المضحكات في بلد مجموع سكانه أقل من نصف سكان لندن، فكأنهم جرَّبوا ألا يكون الواحد ربع الأربعة، بل يكون كل واحد أربعة كاملة!
كان المصلح يرى ذلك كله ولا يرى إلى جانبه ما يبعث في النفس أملاً أو يحيي فيها رجاء، فكان يتشاءم ويقنط؛ ولكن الزمان يا سادتي قد تحوَّل، وختمت يد القدرة المجلد الثاني من تاريخ الأمة الإسلامية، ذاك الذي سجلت فيه عصر الانحطاط والتأخر، وافتتحت اليوم المجلد الثالث من هذا التاريخ لتسجل فيه عهد البعث والتقدم. إن المصائب التي اشتدّت وآلمت، وتتالت وتعاقبت، قد نبَّهت وأيقظت، وحذرت وأنذرت، فأفاقت شعوب هذا الشعب الإسلامي مذعورة تفتش عن طريق الحياة، وتبحث عن سبيل العمل؛ وظهرت بوادر يقظة قوية، ونهضة شاملة، ولكن (يا سادتي) ينقصنا الإيمان بهذه الحقيقة الواقعة فليكن اجتماعنا هذا تبشيراً بها ودعوة إليها. يجب أن نؤمن بهذه النهضة إيماننا بوجود أنفسنا، ويجب ألا يبقى فينا متشائم
لقد نهضنا، ولكن القافلة تجتاز اليوم أشدّ مرحلة من الطريق، وأخطر مغارة في هذه البادية. كانت القافلة تسير نائمة يقودها أدلاء جهلوا الطريق، وحادوا بها عن المحجة، وتنكبوا بها الصراط المستقيم، فلما سمعت صوت القدر على لسان أولئك الأعلام: الأفغاني، ومحمد(242/31)
عبده، والقاسمي، والشيخ طاهر، والألوسي، وسعد، ورشيد رضا، وشكيب أرسلان، والرافعي وأمثالهم - أفاق منها من أفاق، فنهض وفتح عينيه من لم ينهض، وقال كلٌّ كلمته، فوقعت المعركة بين الداعين المصلحين والأدلاء الجاهلين، وانقسم الناس بينهم انقساماً؛ فكانت بلبلة، وكانت جلبة، وكان اضطراب، ولكن القافلة تمشي. . . تمشي على الطريق لأنها أفاقت، ومن أفاق وانتبه لا يتبع دليلاً جاهلاً
إن هذه النَّبتة على قوتها مختفية بين مئات من الأعشاب الجافة التي بقيت من الموسم الماضي، إنها ستشق طريقها من بينها وتحيا من دونها، لأن النبتة الجديدة أمُّ المستقبل: نصيبها الغد، وتلك الأعشاب بنت الماضي فستذهب مع الأمس إلى غير ما رجعة. إن صوت النهضة الجديدة، صوت الحق، ضائع الآن في الصيحات التي تُدوّي اليوم في الأسماع صدى للأصوات الماضية لا يلبث أن يخفت، لأن الصدى ينتهي، أما الصوت فإنه يبدأ
هذه النهضة واضحة، فآمنوا بها يا شباب، وانظروا إلى الحياة من ناحية الأمل المشرق الواسع لا من جهة اليأس الضيق القاتم
إن شبابنا متشائمون: اقرؤوا قصائد الشعراء من الشباب، إنها مليئة بالآلام، مغمورة بالكآبة، غارقة في الدموع. اسمعوا موسيقى الشباب كلها بكاء، كلها نحيب: يا لوعتي يا شقايا، ضاع الأمل من هوايا. . . فما لشعرائنا وموسيقينا الشباب لا يرون في الدنيا لذة ولا سروراً؟ لم يبصرون ظلام الليل ولا يرون بهاء الشمس؟ لم يفكرون في وحشة الخريف ولا يفكرون في روعته؟ لم ينتبهون إلى عُري الشتاء ولا ينتبهون إلى خشوعه؟ إن كلّ ما في الدنيا جميلٌ بهيٌ ولكن في عين الشاب الصحيح القوي. أما المريض، أما المسلول المحطوم، فلا يرى إلا الظلام. فيا شبابنا داووا نفوسكم من سُلِّ اليأس
لقد استدار الزمان كيوم ظهر الإسلام، واحتضرت الحضارة وكادت تأتي عليها مادية الغرب، فتذهب بها كما كاد يذهب بالحضارة الأولى تَفَسخ الحكومتين الكبيرتين فارس والروم. إن العالم اليوم بين حجري الرحا التي تطحن المدنية، وتتركها هباء منثوراً كما تكهن ولِزْ. العالم بين مادية الغرب وحياته الحديد الآلية وروحية الشرق الأقصى وفناء الهنود في ما وراء المادة، ولا سبيل إلى النجاة إلا بالنهج السوي نهج الإسلام(242/32)
فيا شباب المسلمين تجردوا لأداء الواجب، وإسماع العالم صوت الإسلام
إن هذه الدور الذي تجتازه اليوم أمم الشرق الإسلامي، يشبه دور البعث (الرونِسانس) في أوروبا، وعلى الشباب أكبر الوجائب في هذا الدور
على الشباب واجب علمي هو أن يبعثوا المكتبة العربية القديمة بحلل جديدة، وأساليب مستحدثة. إن في هذه الكتب الصفراء علماً جماً ولكنه مطمورٌ تحت أنقاض الأسلوب الماضي. في كتب الفقه مثلاً ما يستنبط من القانون الأساسي، والقانون الجزائي، والقانون المدني، والقانون الإدراي، وقانون أصول المحاكمات، ولكن هذه الكتب موضوعة على طريقة لا نسيغها اليوم، ولا نألفها ولا تصلح لنا ولا نصلح لها، وإن كانت تصلح كل الصلاح في عهد من ألّفوها، فيجب على الشباب أن ينقطع منهم فئة إلى دراسة هذه الكتب وتفهمها، ومعرفة ما فيها، واستخلاص موادِّها العلمية، وعرضها بشكل جديد
إن الأساليب (يا سادتي) أزياء، وقد تبدل الزي اليوم، فليأخذ الخياط الماهر هذا الثوب القديم، وليصنع من قماشه ثوباً جديداً، على ألاَّ يضيع منه خيطاً واحداً. إن من العار أيها السادة أن تترقى أساليب التأليف في كل العلوم ونبقى نحن، في علومنا، على ما كنا عليه. إن الذين كتبوا هذه الشروح وهذه الحواشي وهذه التقارير عظماء أجلاء، لأنهم أنتجوا شيئاً، وعرضوه على أحسن شكل يألفه عصرهم، وليس عليهم من ذنب، ولكن الذنب علينا، نحن الذين لا يؤلفون، ولا يشتغلون، ولا ينتجون، وإنما يعيشون عالة على أجدادهم كهذا النبات الطفيلي الضعيف الذي يتمسك بأقدام النخلة الباسقة
وإن على الشباب واجباً اجتماعياً هو أن يدرسوا الإسلام، ويكشفوا عن رأيه في هذه المعضلة الاجتماعية: إن العالم سيضيع بين الاشتراكيين والماليين الفرديين، ولا طريق إلى النجاة إلا الطريق الأوسط الذي يهبط عن خيالات الشيوعيين وأحلامهم التي لا تتحقق أبداً، ويترفع عن أفق الماليين الذين يستعبدون الناس بأموالهم، ويسخرون المجموع لمصلحة الفرد
وإني على يقين أن للإسلام القول الفصل في هذا الباب، ولكن أحداً من العلماء لم يكلف نفسه عناء البحث عن رأي الإسلام الاجتماعي
وإن على الشباب المسلمين واجباً أخلاقياً، هو إنقاذ العالم المتردّي في مهاوي الرذيلة التائه(242/33)
في مهامه الظلام. ارفعوا منار الإسلام، وانشروا مكارم الأخلاق التي بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم لإتمامها
أليس من العجيب يا سادتي أن يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن: هل يسرق؟ هل يزني؟ فيجيب باحتمال ذلك، وإن كان نادراً، فإذا سئل: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. أليس من العجيب أن يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب ثلث النفاق، وإخلاف الوعد الثالث الثاني؛ ثم يكون في المسلمين اليوم أكذب الناس، وأخلفهم للمواعيد؟
أليس عجيباً أن يأخذ الإفرنج غير المسلمين أخلاقنا، فتكون لهم عادة وطبعاً، ويضيع المسلمون أخلاقهم؟
أليس عجيباً أن يقول الله في كتابه: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ثم يكون المؤمن أذل الناس في نفسه وأضيع الناس لكرامته، ويكون المسلمون أمة ذليلة بين الأمم، لا عزة لها ولا كرامة؟
فيا شباب المسلمين تخلقوا بأخلاق الإسلام وانشروها بين الناس وأنقذوا بها العلم
أتحبون بعد هذا أن ألخص لكم المثل الأعلى للشاب المسلم؟
بسم الله الرحمن الرحيم:
والعصر، (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) بالله وعلموا أنه الأول والآخر، وأنه المريد القادر، وأيقنوا أن كل شيء بإرادته، لا شريك له في ملكه، ولا شفيع عنده إلا بإذنه ولا يعلم الغيب إلا هو، فلم يغفلوا عنه، ولم يعبدوا غيره، ولم يقدسوا سواه، ولم ينتظروا النفع والضر إلا منه، وعلموا أن له جنداً لا نراهم وملائكة وجناً، وعوالم لا نبصرها، وآخرة وجنة وناراً، وسموات وعرشاً. . . وأنه بعث أنبياء وأنزل كتباً (وعملوا الصالحات) فأدوا حق الله عليهم من صلاة وزكاة وصيام وحج، وتقربوا إليه بالنوافل والأعمال الحسنة، وأدوا حق الناس فلم يتعدوا على أحد في ماله ولا عرضه ولا جسمه، وأدوا حق أهليهم ووالديهم ومن له فضل عليهم، وأدوا حق الأمة بالسعي في نجاحها وتقوية روابطها العامة، وضمان مصالحها المرسلة، والعمل على كل ما يرفع شأنها، ويعلي مقامها بين الأمم من علم أو فن أو صناعة أو زراعة، أو وعظ وإرشاد، أو تعليم وتهذيب، (وتواصوا بالحق)، أوصوا به نفوسهم، ووصوا به غيرهم، وتحروه في أمورهم، فكان(242/34)
الحق إمامهم ودليلهم ورفيقهم وقائدهم ولم يكونوا من أنصار الباطل أبداً، فلا يقبلون من المبادئ والعلوم والفنون إلا ما هو حق لا باطل فيه (وتواصوا بالصبر) على أداء الواجب وعلى التواصي بالحق، واجتناب الباطل والابتعاد عن الرذائل مع منازعة النفس إليها، وإقبالها عليها. هذا هو المثل الأعلى للشاب المسلم: إيمان كامل لا شرك فيه، وتصديق بكل ما جاء من عند الله على مقدار ما جاء عند الله، وعبادات منزهة عن البدعة، وعمل صالح ينفع الفرد والمجموع، ودعوة إلى الحق وتمسك به، وصبر على تحقيق هذا المنهج، وأداء هذه الواجبات
علي الطنطاوي
المدرس في كلية بيروت الشرعية(242/35)
مهداة إلى جماعة دار العلوم العليا بمصر
حلم!
في ملتقى العواصم
للأستاذ عبد المنعم خلاف
من مبلغ عني تلاميذ علم الإسكندري ومحبي شعر الجارم بمصر أني ظفرت بما لم يظفروا به وشهدت ما لم يشهدوا. . .؟ شهدت شيخ الأدب العباسي أستاذنا الجليل ومؤدب الجيل الشيخ أحمد الإسكندري الممتلئ بدنيا بغداد - يدب على أديم بغداد (ملتقى العواصم) ويناقل الخطو على مواقع أقدام الجاحظ. . . وعلى فمه ابتسامة عريضة شفافة أعرف معناها معرفة التلميذ معاني أستاذه. هي ابتسامة للأرواح والأطياف التي تطفر من رأسه الكبير لتعيش في جوها وملاعب وجودها الأول. . . أو هي ابتسامة الحاج إلى كعبة فكره ومعالم أنسه الروحي
ويشهد الأدب أني حين أدرس (العصر العباسي) في كلية دار العلوم بالأعظمية أو المدرسة المتوسطة الغربية، أستحضر صورة مجلسه في دار العلوم بمصر وإيمانه بهذا العصر وامتلاءه من علومه وآدابه وأخباره؛ ويشاء الله أن أراه في بغداد لأحظى بالصورة الكاملة للعالم والمعلوم
ومن مبلغهم أخرى أني رأيت للمرة الثانية قلب شاعرنا الموسيقي الممثل علي بك الجارم يرقص على الأجواء التي رقص عليها قلب النواسي والبحتري وابن الرومي وأبي تمام. . . في الضوء الذي بنوا منه أبياتهم الخالدة. . . ويسكب في أسماع أحفاد بابل سحر بابل. . . من الخمر التي عتقت ألفاً في دنانٍ من الأذهان. حادرة من إبريق إلى إبريق حتى رأيناها شيقةً ريقةً مترقرقة في فيه. . . ويهمس في أذن دجلة الراقدة، بصدى الأصوات البعيدة التي رفت عليها أيام أن كانت حدائق وبلابل وظلال وبنود، ومعسكر جنود، وسوامر إنشاد، وملتقى كل واد. . . وفي عينيه بريق وتحديق إلى السماء التي أوحت بكواكب الأشعار إلى مفرغي قلوبهم في قلبه، وباسطي اجتحتهم على خياله. . .؟!
إني رأيت ذلك كله. . . وكان لابد لي منه. . . كان لابد من الإسكندري في دار العلوم(242/36)
العليا بمصر حتى أعرف العراق في عالم الفكر ذي الوقود الأبيض. . .
وكان لابد من الجارم حتى أعرفها في عالم القالب ذي الوقود الأحمر. . . وكان لابد أن أراهما معاً في بغداد حتى تتم الصورة ويشبع الخيال الجائع فيمزج الثلج بالنار!
ولقد سمعت الجارم العام الماضي في رثاء الزهاوي ولكن جو الرثاء لم يكن طليقاً أمام هذا الطائر الصداح
ثم كان صباح المؤتمر الطبي العربي في (بهو أمانة العاصمة) ببغداد، وجلس شاعرنا قلقاً في مجلسه من فيض شعوره (بجو الساعة) الذي قذف في قلوب الجميع، حتى أبناء العلم والمخابير والمباضع، شعلة الشعر والإحساس بالتاريخ الذي يسير في الدم. . والحاضر الذي يخلق الثقة، والمستقبل الذي ينادي إلى العمل. وجلس الإسكندري يتفرس ويقلب الصور ويستحضر البعيد. . . من ابن سينا والرازي والزهاوي، وجلست أرقبهما وأرصد طرفي عليهما وأتسلل بقلبي إلى قلبيهما فيرجع بالذكرى بعيدة وقريبة.
ثم ابتدأ الجو الروحي بكلمة فخامة رئيس الوزراء جميل بك المدفعي التي يسجل بها ويقول - وهو رجل مسئول - (ولاشك أن وحدة النزعة العلمية والأدبية هي في الوقت ذاته تمثل وحدة الفكر والرأي بينكم وتؤلف منكم أخوة من أمة واحدة عبثا حاولت الحدود والحواجز أن تفرق بين قلوبكم وأهدافكم. . .)
ثم يقف بعد فخامته الدكتور شوكة الزهاوي رئيس الجمعية الطبية العراقية فيقول: (إن من جملة ما يقوم به هذا المؤتمر من الأعمال الصالحة هو توحيد صفوف أطباء العرب وجمع آرائهم حول مكافحة الأمراض ومعالجتها بالطرق الفنية فضلا عن أنه يقرب الأقطار العربية من بعضها ويبعث على تكاتفها وتعاضدها في مختلف النواحي الحيوية، وأعد هذا المؤتمر خطوة مباركة منبعثة من الشعور المتقابل ونتيجة من نتائج الثقافة العامة التي أخذت تتغلغل في بلادنا العزيزة وفاتحة عهد حافل بالأماني السامية. . .)
ثم يعقبه سعادة علي باشا إبراهيم بخطابه الجميل الذي يقول فيه: (ولعمري إنه لأسبوع مبارك ميمون الطلعة بوقوف الأطباء في بغداد إبان وقفة الحج في عرفات نضم إلى دعواتهم المتصاعدة إلى السماء في رحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دعاءنا أن يبسط على بلاد الناطقين بالضاد ظل رضاه ونعمته وأن يوطد بالاتحاد سؤددها وبالعلم(242/37)
عروشها ويغمر بالسلام والصحة ربوعها)
ثم يقف الدكتور كمال رحيمة فيرفع صوت سورية العربية المجاهدة العاملة بقصيدة عصماء برهنت على أن حرفة الأدب تتسلل دائماً إلى كل مهنة في سورية
ثم وقف الجارم يرسل قلبه في صوته المعهود الذي يخيل إلي أنه كله هاء عميقة. . . من فرط الشجو وإثارة النفس واستحضار المعاني الكامنة التي لا تظهر وتستعلن إلا إذا تلا لها ساحر رقية. . . أو عزف لها عازف برَنَّة. . . أو شدا لها شاد بحنة. . . أو خيل لها مخيل بريشة. . .
وقف يقلب وجهه في السماء والأرض والجهات الأربع في قلق وغيبوبة شاعر. . . ويمسح على أبصار الجمع بحركاته ويرسل نشيده، فيخيل إلينا من سحره أن كلماته أجسام تسعى. . . أو أمواج تطغى على قلوبنا فتملؤها بالذكرى الحادة، ثم بالفخر النافخ، ثم بالضحك المرسل؛ ثم بالعزم الممرِّس الدافع، ثم بالأمل القريب، فيخرج الدكتور زكي مبارك - طبيب ليلى المريضة بالعراق - عن طوره وعن حدود وقار الحفل فيستعيد ويطلب المزيد وبخاصة إذا جاء بيت فيه ذكر (الحسان) ووعود الحسان
ثم ينتهي الحلم السعيد بجوه الروحي وقلوبنا راقصة وأكفنا دامية؛ ويقبل الأدباء والأطباء على الجارم يطلبون منه ثمن دواء للأكف المتسلخة والقلوب الجريحة. . . ويقبل (طبيب ليلى) فيطبع على خدي الجارم بك قبلتين ذواتي رنين أدار الأبصار إلى مصدر ضجتهما. . . ثم ينقلب يفخر عليّ بأنه نال بهما ما لم أنل. . . ثم يرتد إلى الجارم بك يبشره بأنه من أول الداخلين إلى الجنة جزاء خدماته بشعره للغة القرآن. . . ولله في الدكتور زكي شؤون!
وكنت أرقب خلسة وجهي طبيبين أوربيين أخذا مجلسهما بجانبي، يستمعان في غير فهم إلى ما يقال، ويريان صداه صفق كف بكف وتلاقي هتاف بهتاف فاعرف ما يقول قلباهما الفقيران جداً إلى الشعور بمثل هذه الأخوة الملموسة المعلنة بين أبناء الشرق الإسلامي. . .
هنا الأخوة من غير دم. . . والواشجة من غير نسب. . . والحب من غير غرض. . . والتفدية من غير ثمن. . . والتلاقي من غير رياء. . . والكلام من غير خبئ يا أوربا!
هنا التاريخ لا يزال واحداً في العقول والقلوب واللسنة والأهداف حتى في وحدة الأمراض! كما يقول الدكتور شوكة الزهاوي(242/38)
خذاها مني يا أستاذي تحية في نشوة الذكرى وسكرة الآمال أنا اليقظان أبداً. . . الساهد القلب أبداً. . . العائش في التاريخ أبداً. . . تاريخ المجد والحياة! ومعكما السلامة
(بغداد)
عبد المنعم خلاف(242/39)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
الناحيتان الاجتماعية والنفسية
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 10 -
(لا يعيش المرء بالخبز وحده)
(الإنجيل)
(إن عقل الرجل ليضيق، وإن مشاعره إزاء غايات الإنسانية لتتحجر إذا ما قصر فكره على الحشرات، أو المعادلات الجبرية، أو تدبيب أسنان الدبابيس!)
(جون ستيوارت مل)
(لا كمال إلا باتحاد الجهد والشوق، وهنا يكون المرء سابحا (مع) التيار؛ أما الشوق دون ما جهد فطفو فوق التيار، كما أن الجهد دون ما شوق سباحة ضد التيار)
(هورن)
رأيت في المقال الآنف ما تستطيع أن تستفيده التربية من علمي الحياة ووظائف الأعضاء. وسترى اليوم فائدتها بالمثل من علمي النفس والاجتماع
الناحية الاجتماعية
وتتلو هذه الناحية ناحية الفسيولوجيا. والتربية هنا هي الأسلوب الذي يجعل الفرد مشاركا في حياة الجنس، ويعنى بعلاقته مع غيره من أعضاء الجماعة ومثلهم العليا. وعناصر هذه الناحية ثلاثة: الإدراك والوجدان والنزوع، أي الحق والجمال والخير.
1 - أما (الحق) فسبيله (العقل) الذي يبدأ بالمحسوس وينتهي بالمعقول، والذي تشمل علومه (الموضوعيات) و (الذاتيات) على السواء. وتعرفنا هذه (العلوم) بالعالم وتشجعنا على البحث وتحررنا من الأوهام. فدراسة الطبيعة مثلا تقوي فينا (الملاحظة) و(242/40)
(الاستقراء) وبعد (النظر) و (التجويد)، وتمكننا من السيطرة على القوى الطبيعية، وتنتهي بنا إلى فكرة (الوحدة) التي يندمج فيها الكون كله. ودراسة الرياضة تعطينا كما يقول المسيو فكرة واضحة عن (القياس)، وتنتهي بتفكيرنا إلى نتائج مؤكدة، وتبث فينا احترام الحق، وتقدم لنا أكبر أداة للبحث الدقيق في علوم الطبيعة. أما الفلسفة والأخلاق واللغة والفن والدين فقيمتها جميعاً عظيمة إلى أبعد حد وإن خلت من النفع المحسوس كما يتهكم دعاة (الخبز)!؛ ألم يقل الإنجيل (لا يعيش المرء بالخبز وحده)؟ أو لا ترتفع هذه العلوم بالمرء إلى عليين وتجعله فوق البشر؟
2 - وأما (الجمال) فسبيله العاطفة ويشمل الفن والدين. والجمال المحسوس وحدة تسيطر على كثرة، وتبدو في مادة تجسم معنى. وأرقى الفنون هو (الأدب)، وأرقى ما في الأدب (الشعر)، والعلاقة بين الفلسفة والأدب هي أن هذا يعبر عن الحياة بالإلهام، وتلك تعبر عنه بالمنطق؛ كما أن العلاقة بين الفن والدين هي أن هذا تعبير عن الشعور إزاء الشيء الإلهي، وذلك تعبير عنه إزاء الشيء الجميل. هذا وقيمة الفنون في التربية عظيمة بحيث لا سبيل إلى إغفالها. أليس الإحساس بالجمال أمتع شعور يستطيع أن ينعم به العقل؟ أو لا يمدنا ذلك الإحساس بقوة سامية تعيننا على الرفعة في الحياة؟ أو لم يعترف (دارون) بطل التاريخ الطبيعي المشهور في مذكراته الخاصة: أن انكبابه على (العلم البحت) قد افقده لذة ذلك الشعور العظيم بالجمال؟ أو لم يصرح بأنه لو ارتد صغيراً لأخذ نفسه كل يوم بترتيل قصيدة من الشعر، وسماع لحن من الموسيقى، ورؤية آية من آيات الفن لئلا يفقد على مر الزمن أسمى شعور بالسعادة يتاح للإنسان؟ وكذلك قيمة الدين في التربية عظيمة ولاسيما في هذا العهد المادي الجشع الذي يملأ الإنسان عتواً وغروراً. ذلك أن الشعور الأساسي في الدين هو الضعف والاعتماد، ويؤدي ذلك بنا إلى الإحساس (بالجوهر الخال) في أمثل صوره وأعظمها، وإلى الفناء فيه والرضا بقضائه وقدره فيسهل علينا احتمال الحياة، ونقدم على الكفاح فيها بقوة وبأس وإقدام. ولكن لما كانت دراسة الدين في المدارس تؤدي أحياناً إلى نزعات وعصبيات طائفية، فإن الأمل في (المعلم) وفي لباقته وحسن منزعه لم يزل كبيراً. ذلك أنه يستطيع أن يكون أمام التلاميذ (نبياً) لا شيخاً ولا حاخاماً ولا مطراناً!
3 - وأما (الخير) فسبيله (الإرادة) ويشمل الأخلاق والقانون والنظم والدساتير والتاريخ.(242/41)
ويرى (هيجل) أن هذا الأخير (التاريخ) (هو النحو الذي يكافح به الحق على مسرح الحياة، والذي تحقق به إرادة الإنسان إرادة الله)؛ أما الدساتير فهي إرادة الأمة ممثلة في وثيقة، وأما القوانين فهي إرادة الجماعة فيما يخص خيرها العام، وأما الأخلاق فهي كلمة الضمير فيما يخص قدر الإنسان وأعماله مع الناس، ومجال الحرية فيها أفسح وأسمى من مجال القانون. . . وقيمة هذه العلوم في التربية عظيمة أيضاً، إذ بها يعلم الناشئ مركزه في الجماعة ويدرك أنه غاية ووسيلة معاً، كما أنه يستمد من التاريخ ملكة الحكم الصحيح ويملأ ذاكرته وخياله بحوادث فريدة ومثل عليا وبطولات فذة؛ وهذا وغيره يجعله عضواً اجتماعياً يفهم ما له وما عليه، ويصدر أحكامه الخلقية والدستورية على المواقف المعقدة التي تعرض له فلا يكون مجرد (إمعة) يصفق لكل متكلم، ويتشيع لكل كاتب، ويعبد ما لا يستحق أن يعبد، ويتغير ويتحول بهبوب العواصف الطبيعية أو المصطنعة. . .! كما أنه يجعله طامحاً أبداً إلى أن يكون بطلاً هو أيضاً، فيقف موقف الجهاد الذي وقفه (وشنطن)، أو يصرخ صرخة الحق التي صرخها (سعد زغلول)!
وأما فائدة الجماعة ذاتها من التربية فلا تكاد تقدر - إذ هي تحفظ لها (الماضي) وتصونه كالحارس الأمين كيما تستطيع الأجيال أن تبني عليه لتعليه، وهي تصون الحاضر وتسعد أهله وتقوي الرأي العام كما قال الزعيم وشنطن، وتحرر الناس وتضمن لهم حكومة صالحة. ثم هي تمحو الإجرام أو تقلله بفضل تنميتها للشعور والإرادة والمسئولية، وبفضل تحويلها النزعات الشاذة إلى نواح أخرى صالحة، وتقويتها الشعور ضد الإجرام. يقول الأستاذ (فالكنر) إن الإجرام يقل في الأمم المتمدنة من حيث معناه الأدبي، فإن وجد بعد ذلك إجرام بالمعنى القانوني فإنما مرجعه ظروف أخرى تقتضي الإصلاح والتعديل؛ وأخيراً تضمن التربية مستقبل الجماعة إلى حد كبير. أليس الإبقاء على الماضي الجدير بالإبقاء تحسيناً للمستقبل؟ أو لا يزيد امتلاكنا للطبيعة كل يوم بفضل ما ندخله على الماضي من تحسين؟ أو لا توجد علوم الطبيعة عملاً لملايين العمال؟ أو لا تخرج لنا أولئك العلماء الأفذاذ يخضعون البحر والجبل والهواء لإرادتنا؟ ثم إذا كانت التربية لا تخلق عبقرية الفنان أو العالم أو الفيلسوف أفليست تصيدها بشبكتها المحكمة؟ أو ليست تمدها بمادة الأزهار والإيناع؟(242/42)
وإذاً فالتربية في هذه الناحية الاجتماعية، كما يقول الأستاذ هورن: (هي أحسن وسيلة للملاءمة بين الفرد وبين البيئة العقلية والعاطفية والإرادية)
الناحية النفسية
وأما هذه الناحية فتبحث في طبيعة النشاط العقلي، وفي نوع النمو العقلي، وفي صفات العقل النامي:
1 - فمن حيث طبيعة النشاط العقلي: يرى الجميع أن العقل أساس الإدراك والوجدان والنزوع، وأنه لا ينمو بغير عمل كما هو الشأن في كل شيء، وأنه مرتبط في نموه بنمو الجهاز العصبي وبدرجة احتكاكه بالوسط حوله، وأنه يحتاج فيما يتعرض له من تقليد وشوق وجهد إلى رعاية حتى يكون نموه كاملاً. فمثلاً يجب أن يرى الطفل مثلاً حسنة يقلدها، ويجب أن تكون المدرسة آية في النظافة والنظام والجاذبية والجمال حتى يرتاح إليها ويعمل بتعاليمها، ويجب أن تكون شخصية المدرس قوية تحمل النشء على احترامها وحبها والأخذ منها، هذا من حيث التقليد الذي هو إعلان للنفس يؤدي إلى الاستقلال
أما من حيث الشوق فيجب أن يكون موضوع الدراسة مثيراً لرغبة الطفل وحافزاً لاهتمامه، لأن ذلك كما يرى الأستاذ (شيرمان) أهم كلمة في التعليم. وأضمن سبيل لإثارة الشوق هو المدرس نفسه إذا كان محباً لمهنته ومتحمساً لمادته. وأما من حيث الجهد - وهو ما يبذله المرء في عمل لا يساير شعوره - فيجب - لتقويته - غرس الآمال العذبة البعيدة في نفوس الناشئين، ويجب تعويدهم مخالفة أهوائهم في أمور طفيفة كل يوم حتى تكون لديهم المناعة الكافية ضد كل إغراء دنيء. ويجب التوفيق بين الشوق نفسه والجهد بحيث يصبح الأول كالنسيم الذي يهب على سفينة حياتنا أحيانا، ثم ينحرف عنها أحياناً أخرى، فيقوم لنا الجهد حينئذ مقام المجاديف التي توصلنا إلى البر سالمين، ولنعتقد أبداً أن الكمال كائن في اتحاد الشوق والمجهود حتى يكون المرء سابحاً (مع) التيار لا فوقه ولا ضده. . .
2 - وأما من حيث نوع النمو العقلي فقد أثبت علم النفس أن هناك مراحل تجب رعايتها في حلقات التربية والتعليم حتى يكون النمو سليما. فالطفولة مثلاً تمتاز باللذة والألم وتزعزع الإرادة. وإذاً فلتكن التربية هنا حسية بحتة كثيرة التسامح واللعب. وفي الشباب الباكر تنمو الصداقة والحب، والطموح وروح الاجتماع، وإحساس الخير والجمال، كما(242/43)
تتذبذب الأخلاق وتسود العاطفة. وإذاً فلتكن الدراسة هنا مليئة بالتاريخ الطبيعي، والسياسي، وبالقصص السامي، وبكل ما يؤدي إلى سرعة الحكم ودقته، وإلى كل ما يتسامى بالعواطف والغرائز ويغرس روح المحبة والتعاون، ويرشد الناشئ إلى كيفية حماية نفسه مما يتعرض له من عادات سرية وسقوط خلقي وانهيار جنسي. . . (وإن كان لا يزال هناك من يعتقد أن التحدث في مثل ذلك للشبان وقاحة وفسق. .!!)؛ وفي الشباب المتأخر تتمركز الشخصية ويستقر العقل وتسود الوحدة. وإذاً فلتكن الدراسة هنا مرتقية إلى نظرات كلية جامعة لقوانين الوجود العامة. . . ويتلخص هذا كله في أن الطفل (يرى)، والشاب الباكر (يفهم)، والشاب المتأخر (يتأمل ويحكم)
3 - بقيت صفات العقل النامي، ويمكن إيجازها في أن التعليم نشاط وخلق لا تسلم وقبول، وتأمل وتفكير لا وعي وحفظ، وقوة معرفة أكثر منه معرفة فحسب: حواس مرهفة، وعقل واسع المدى راغب في المعرفة بريء الاتجاه؛ وحب للحق المجرد عن التدجيل والتهويش؛ ومعرفة بالعالم لا تترك شيئاً فيه خرافياً، وإحاطة بالنفس بعد الإحاطة بالعالم؛ وخيال يقدم الفروض للعلم والإبداع للفن، والإحياء للتاريخ؛ وحكم مدرب حصيف عام النظرة منطقي الخطوات؛ وذوق جميل مهذب يدمج الإنسان في الكون ويجعله جميلا في كل شيء؛ وشعور أخلاقي راق يدرك الخير والشر، ويحكم على الخير والشر، ويلوح بساعد الإدارة القوية أمام كل إغراء حقير؛ وحب للعمل وتلذذ به؛ وإحساس بالسعادة يمتلك قوى الشخص جميعاً ويجعله يعيش هانئاً مطمئناً حي الضمير حر الإرادة جريء الجنان؛ واتفاق مع السماء واطمئنان للنهاية المحتومة التي تنقلنا من عالم ناقص إلى عالم كامل. هذا إلى تواضع نزيه، وعشق لأحسن ما في الحياة كله حماس؛ ووفاق تام مع النفس لا يترك في الشخص أدنى نزاع؛ وتعليم للغير هو رسالة النور تبدد ظلام الحياة؛ وحياة تفني النفس في الكون لا الكون في النفس، ولا تشغل المهندس أو الطبيب عن نواحي العيش الأخرى بما فيها من خير وجمال. . .
يقول (هكسلي): (للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية. هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام(242/44)
مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون)
وتكون التربية هنا هي (الملاءمة بين الرجل التام النمو الجسمي والعقلي، وبين بيئته العقلية والعاطفية والإرادية)
إمكان التربية
بقيت كلمة صغيرة نختم بها هذا البحث الذي مهدنا به لنقد التربية في مصر، وهي كيف تفسر الفلسفة إمكان التربية من الناحية الميتافيزيكية؟ يقول (كانت) في كتابه عن التربية: (إذا تدخل مخلوق أرقى منا في تربيتنا فلسوف نرى إلى أي مستوى يبلغ الإنسان، وإن الإنسان لا يصير إلى ما يستطيع أن يكونه إلا بالتربية. كما تسأل: أين هي النفوس التي فطرها الطبع على الشر حتى تبقى مستعصية على حزم أم رحيمة وسلطة أب محب؟). فترى هل يقوى المدرس حقّاً على التأثير في الناشئ، أو بالأحرى هل الإنسان (حر) حتى تصلحه التربية؟ أما العلم فيقول (بجبرية) المادة وباعتماد العقل - وهو أساس التربية - على (مادة المخ). . . فكيف إذاً نستطيع تغييره؟ ينقدنا الأستاذ (هيزنبرج) فيقول: (إن (جبرية) المادة نفسها موضع شك لأنا لا نستطيع التنبؤ بحالة (الأتوم) المستقبلة إلا بمعرفة مركزه وسرعته في لحظة واحدة. وذلك محال. . . ومع كل فهاهو الإنسان قد خلق لنفسه دنيا واسعة عريضة من التأمل، وسما بخلقه وتطور وتغير، وخرج على ما قد خالوه (قانوناً)، مما يثبت أنه (حر) بالفعل. وإذا قال قائل: إن العالم يسير وراء (غاية) خفية، وإن الإنسان كجزء منه مضطر أن يحقق (مجبوراً) هذه الغاية؟ سألنا: وهل تمنع (حريته) من تحقيق الغاية الكبرى إذا كانت هذه الحرية محدودة بحدودها الخاصة؟ إن القول بالغائية والجبرية الضيقتين يجعل الإنسان مجرد ألعوبة، ومسئوليته الخلقية مجرد تناقض محزن. يقول برجسن في كتابه: (الحرية تجربة راسخة وإن كان الفكر ينكرها)
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرسة الفلسفة بالمدارس الثانوية الأميرية
يسرني أن أسجل هنا شكري (للرسالة) الغراء على تكرمها(242/45)
بإفساح صدرها لهذا البحث المتواضع، وأعدها وأعد القراء
الكرام بتطبيق الحقائق الآنفة على التربية في مصر ابتداء من
العدد القادم إن شاء الله، وأرجو كل من يريد أن يتكرم عليّ
بملاحظة ما أن يكتب إليّ على مدرسة شبرا الثانوية الأميرية
للبنين(242/46)
موت سقراط
للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين
ترجمة السيد أحمد عيتاني
تذكر لنا الرواية اليونانية أن سقراط حينما حكم عليه بالموت أشار عليه أصدقاؤه بمغادرة أتينا والنجاة بنفسه، فأبى عليهم ذلك، وآثر الموت على الفرار. ولما قدمت إليه كأس السم تجرعها بجرأة ورباطة جأش، ولم يكد يفرغ من تناول ما فيها حتى أجال نظره بين أصحابه، فلمح عبراتهم تتساقط على وجناتهم حزناً عليه، وألماً لما حل به؛ فآلمه هذا المشهد، ووقف في أصدقائه خطيباً وهو في نزاعه الأخير، يشرح لهم الموت ونظرته إليه، ويطلب إليهم أن يكفوا عن البكاء. وقد نظر الشاعر الفرنسي الكبير لامارتين إلى هذه الرواية، فنظم حوادثها في شعر يفيض رقة وعذوبة وجمالا وسلاسة، وجعل عنوانها (موت سقراط). وفيما يلي خطبة سقراط بعد تجرعه السم، وهي من أروع ما جاء في هذه القصيدة الفذة
(أحمد عيتاني)
ماذا؟! أتبكون أيها الأصدقاء؟!
أتبكون وقد تحررت روحي من أثقالها الجسدية الدنيئة
فهي كالبخور تحرقه الكاهنة
على وشك الطيران نحو الآلهة؟!
أتبكون أيها الأصدقاء
حينما ترحب روحي بهذا اليوم الطاهر
الذي كانت تطمح إليه؟!
حينما توشك على السفر في رحله مقدسة
تبحث فيها عن الحقيقة
فتعثر عليها، وتتعرف إليها؟!(242/47)
إذاً علام الحياة إذا لم يكن مصيرنا للموت؟!
علام أحببت الألم في سبيل العدالة؟!
علام كانت نفسي الحبيسة
تقاوم حواسها وميولها الدنيئة العنيفة
أثناء تلك الميتة التي تسمونها الحياة؟!
ماذا عسى تكون الفضيلة بغير الموت أيها الأصدقاء؟!
ذاك ثمن المعركة، ذاك تاج سماوي
يمنحنا إياه حكم زكي في نهاية المرحلة
إن صوت جوبيتر يدعوني إليه
ألا فلنقدسه أيها الأصدقاء
فإني أستمع إليه الآن!
لقد كان بوسعي، لو رغبت في بقية من الأجل
أن أحمل السماء على ترديد ندائها إليّ.
ولكن، لِتحفظني الآلهة من هذا!
فأنا حين تدعوني إليها أُلبيها عبداً مطيعاً!
وأنتم أيها الأصدقاء: إذا كنتم تحبونني
فأريقوا على رؤوسكم العطور،
شأنكم في أبهج أعيادكم،
وعلقوا على حائط سجني قرباناً،
ثم خذوا بيدي نحو ذراعي الموت،
وقد توجتم جباهكم بأطواق الرياحين
كما يؤخذ بيد العريس الشاب إلى سرير زفافه،
وقد أخذت الجموع المتدافعة
تنثر أمامه الأزهار، أمام عتبة عروسه!
وبعد، فما الموت؟ إن هو إلا تحطيم هذه العقدة الدنسة؛(242/48)
إن هو إلا فسخ هذه الاقتران الشائن بين الروح والأرض؛
إن هو إلا إزاحة عبءٍ ثقيل نرمي به في القبر!
إن الموت انتقال أيها الأصدقاء، وليس فناء!
والإنسان مادام رازحاً تحت هذا الجسد المقيد به
يزحف بعناء عظيم نحو الخير الحق.
ومادامت رغباته السافلة تقطع عليه هذا المسير
فسيسير وراء الحقيقة بخطوات راجفة، وربما أضاعها أيضاً!
ألا إن من يصل إلى آخر حياته التي يرجوها
ويبدو له شعاع فجر يومه الأبدي
ليعودُ ثانية نحو السماء، وكأنه شعاع من أشعة المساء!
ويرتدُّ ثانية إلى جوار الآلهة، بعدما أُقصى عنها
حيث يحتسي بشَرهٍ ذلك الرحيق المسكر
ويبدأ حياته من ذلك اليوم الذي يقضي فيه!
ألا إن الموت ألم، والألم شر أيها الأصدقاء!
ولكن ما يدرينا ذلك؟!
ولو كانت ساعة الموت الرهيبة
ساعةً يتألم فيها جسمنا الفاني
كما تتألم الضحية الذبيحة
أو ليس عن الشر يصدر كل الخير؟!
إن الشتاء ليتمخض عن الصيف، وإن الليل لينكشف عن النهار!
لقد وضع الله تعالى بنفسه هذه السلسلة،
ونحن، وقد جئنا إلى هذه الحياة على الرغم منا؛
فليست هذه الميتة الهانئة التي يرهبها ضعاف النفوس
إلا ابتداء حياتنا في العالم الخالد!
ولكن، أيكفي أن نموت لنبعث ثانية؟!(242/49)
لا! بل يجب أن نحرر أنفسنا من نير حواسنا
ونعملَ لنصرتها على ميولنا الفانية!
يجب أن تكون حياتنا هذه موتاً طويلاً!
إن حياتنا معركة، والموت انتصار لنا فيها!
إن الأرض لدار يطهر فيها الإنسان نفسه؛
فعليه، وهو فيها على عتبة الموت قد تجرد عن حواسه،
أن يقذف إلى النار بثوبه المدنس
قبل أن يتقدم بروحه، ضحيةً طاهرةً
إلى الآلهة الزكية في الدار الصالحة!
إنهم (الأشخاص الصالحين) يلحقون بالأبطال والآلهة لدى الإشارة الأولى!
يلحقون بهم في السماء حيث لا يوجد موت!
إنهم يلحقون بهؤلاء الذين دمروا شهواتهم إبان حياتهم القصيرة
فأخضعوا المادة للعقل وأذلوها له.
هؤلاء الذين خضعوا للشرائع والقانون،
وأصغوا إلى صوت ضميرهم الداخلي،
واتبعوا طريقاً سوياً بعيداً عن الناس،
وخدموا الآلهة وعبدوها، وفي ذلك أصل الفضيلة،
وأحبوا الحقيقة، وتألموا للفضيلة،
فاستعادوا حريتهم من الآلهة ابنة السماء
أحمد محمد عيتاني
عضو بعثة جمعية المقاصد في معهد التربية(242/50)
الترجمة
خطرها وأثرها في الأمم المختلفة
للدكتور عبد العزيز عزت
2 - عند الرومان
ونجد أثر الرواقيين والأكاديمية الجديدة في كل كتبه الأخرى وعلى الخصوص في (غايات الخير والشر) وهو أهم كتاب لشيشرون بإجماع مؤرخي الفلسفة، ويشرح فيه الأخلاق النظرية، وهي ترتكز على حرية الإرادة التي تتضمن سياسة النفس الفردية وانسجامها مع منطق المجتمع البشري، وتفهم إرادة الوجود العالمي الذي فيه الإنسان جزء بسيط في مرتبة الكائنات المختلفة التي تتسلسل في درجات متصاعدة حتى تبلغ القداسة السماوية. كذلك في كتابه الواجبات ويشرح فيه الأخلاق العملية معلناً أن مغريات الحياة الخارجية أعراض زائلة يجب الزهد فيها، ويجب التماس النافع منها لتقوية روح الإنسان لفعل الخير ومقاومة الشهوات الجامحة والانفعالات الثائرة، كي يصل الإنسان إلى تلك الجنة النفسية الداخلية التي يصورها الرواقيون في تفكر الفلاسفة والحكماء، وكذلك في (طبيعة الآلهة) حيث يعرض للإِلهيات والطبيعة. وبينما يتأثر في الجزء الأول منها بأبيقور ومذهبه في اللذة في مجال الأخلاق وفلسفة الطبيعة عامة، يتأثر في الجزء الثاني بفلسفة الرواقيين من حيث خلق العالم وترتيب نظامه وعناصره ومخلوقاته، ثم هرمه وتناقصه حتى المبدأ الفطري الأول حيث تحصل الطهارة ويخلق العالم من جديد وتتم دورة نظامه. وهو أهم هذه الأجزاء لأنه يبسط آراء كريزيب وكلبانت، وفي الجزء الثالث يحدثنا كوتا عن آراء أرسطو
وبجوار ذلك ترجم شيشرون الكتب الآتية من أولها لآخرها وهي كتاب لزينوفون، (ولقد ضاعت هذه الترجمة) وكتاب البروثا جوراس لأفلاطون وهي من كتب عهد الصبا حيث يتأثر أفلاطون بتعاليم سقراط الأخلاقية إذ يتساءل فيها عن صفات الفضيلة: أهي طبيعية فينا أم هي مكتسبة بالتعلم والتمرين والعادة؟ (ولقد ضاعت هذه الترجمة)، وترجم لأفلاطون كذلك كتابه العظيم الخالد، الذي يلخص كل فلسفته وكل العلم اليوناني حتى زمان أفلاطون(242/51)
وهو كتاب (طيماؤوس) وفيه يتكلم أفلاطون عن رحلاته وعن روح العالم، وكيف تتوسط بين الخالق الفنان وبين سائر المخلوقات التي تنتظم في ترتيب يحقق جمال عالم المثل. وبعد أن يعرض لطباع المخلوقات بالتفصيل مبتدئاً من الله ومعقباً بالعالم السماوي ثم بالإنسان والحيوانات والنباتات والجمادات، يمهد لرأيه في السياسة الذي يبسطه بعد ذلك في (جمهوريته) وفي نواميسه. (فطيماؤس) هذا هو أهم كتاب في نظري تركه العالم اليوناني وسار سواء في العالم الروماني عن طريق شيشرون أم في العالم العربي بعد ذلك حيث ترجمه حنين بن إسحاق وأصلحه يحيي بن عدي كما يؤكد ذلك العلامة لكليرك في كتابه (تاريخ الطب عند العرب) الجزء الأول، وكما يؤكد القفطي في مقالته عن أفلاطون في أخبار الحكماء. ولقد شرحه أخيراً بالفرنسية أستاذنا العلامة ألبير ريفو في مجموعة بيدي
فمؤلفات شيشرون بنوعيها سواء المترجم منها أم التي يسودها الترجمة في أغلب أجزائها تدل دلالة واضحة على أنه لا أهمية لشيشرون كمؤلف، لأنه لم يضف شيئاً جديداً إلى ما قاله اليونان القدماء. وهذا راجع إلى أن عقلية الرومان عقلية عملية تهتم بالحياة الجارية أكثر من الحياة الفكرية، وبحياة الفتح والغزو أكثر من حياة الاستقرار والإنتاج، وبحياة القهر والاستعباد والقانون والعقاب أكثر من حياة الحقيقة المجردة والخطأ الفكري وإصلاحه وواجب الفضيلة وتأنيب الضمير. عقلية تمتزج بعوارض الدنيا، وإذا أرادت أن تتحرر من قيود المادة هامت على وجهها في ميدان العقل. فنجد مثلا شيشرون يخطئ في التعليق على آراء الفلاسفة كما يفعل عندما يتكلم عن عناصر المادة في الكاديميك مما دعا العلامة تيوكور في رسالته لدكتوراه الدولة أن يصفه بأنه فيلسوف بالواسطة لا بالذات. وأهمية شيشرون في نظر هذا العلامة تنحصر في أن مؤلفات شيشرون تكوّن موسوعة لا يسبر غورها لفلسفة اليونان وخصوصاً للفلاسفة الذين جاءوا بعد أفلاطون وأرسطو مباشرة وضاعت كتبهم أي الفلاسفة الرواقيون، لأن العلامة لوسيان ليفي في شرحه (لنواميس) شيشرون يذكر أن لكريزيب نحو ستمائة كتاب أغلبها إن لم يكن كلها قد فقد. ولخلق مثل هذه الشخصية العظيمة يرجع أستاذنا إميل برهبيه , في كتابه عنه إلى شيشرون في كل صفحة من صفحاته. ولزيادة الدقة في البحث نذكر أن الكتب الرواقية المفقودة والتي نستعيض عنها بمؤلفات شيشرون هي كتب الرواقيين القدماء أي زينون وكلبانت(242/52)
وكريزيب، وليست كتب الحديثين منهم أي بنيتيوس وبسدونيس الذين كادوا يعاصرون شيشرون في زمانه، ونحن في هذا نعتمد على رأي العلامة جورنز
ويجب ألا يتطرق إلى ذهن القارئ أن ضعف شيشرون في هضم الفلسفة يرجع إلى عيب في مداركه، فللحكم عليه يجب ألا نتأثر بحالتنا الراهنة للفلسفة في أوروبا، وإنما يجب أن نرجع إلى حالة الفلسفة في عهده. فسنجد أن ما نسميه الآن ضعفاً كان قوة، وكان هو سيد العبقريين في زمانه بين أهله وعشيرته، بل إن ما نسميه الآن ضعفاً كان فضيلة لها ميزتان: الأولى أنه أخلص لعبقرية جنسه فأثبت أنه عريق في الرومانية يمت إلى أهله بأصل ثابت، فلم ينفرد عنهم بقوة التجريد. الثانية أنه لم يتصرف فيما نقله عن فلاسفة اليونان فكانت مؤلفاته أو بالأحرى (ترجماته) خير معبر صادق عما ضاع من نصوص، وخير معين على تتبع حركة الفكر عند اليونان دون ضياع حركة ما
ويجب أن يعلم القارئ مع ذلك أن شيشرون لم يكن فيلسوفاً (محترفاً) وإنما كان على وجه الخصوص سياسياً ماهراً وخطيباً مصقعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا، وأنه اتخذ من الفلسفة وسيلة لتدعيم مركزه في الأوساط الرومانية وبين أعضاء مجلس الشيوخ برومة، فكلما حيل بينه وبين منبر الخطابة ذهب إلى الفلسفة ليشرح إلى بني وطنه أصول المعرفة فيتصل بهم عن طريق العقل والآراء فلا ينسونه وهو بعيد عن حظيرة السياسة، كذلك وجد في الفلسفة وسيلة لتربية ابنه، وسائر أبناء وطنه فهو يقول: (إذا كان الخطيب المصقع له الحق أن يعلم ذلك الفن الذي أثبت قدرته فيه، مرات، فللسياسي الحق أن يلقن شباب المستقبل بعضاً من المبادئ والدروس البالغة) (إقراء لكليرك (مؤلفات شيشرون الجزء الثاني عشر صفحة 3)). ويذكر العلامة بيشون في كتابه (تاريخ الأدب اللاتيني) أن شيشرون اتخذ من الفلسفة وسيلة لتفهم القانون الروماني الذي ساد في زمانه واستيحاء هذا القانون خلال تلك المبادئ العقلية في خلق فلسفة سياسية نجدها في جمهوريته ونواميسه. والفلسفة بعد ذلك كانت وسيلة للعزاء في آخر حياة شيشرون لأنه فقد زوجته بعد حياة ثلاث وثلاثين سنة واضطر إلى الزواج من أخرى صغيرة السن لم تستقم سيرتها مع ابنته التي ماتت بعد ذلك في شبابها المبكر؛ فلزم الحزن وسطر كتابه (التأسي) (اقرأ القسيس العلامة برتران في كتابه (منتخبات من مؤلفات شيشيرون في الفلسفة)) وعليه فالفلسفة عند شيشرون لاحقة(242/53)
بالسياسة وتابعة لها وهي وسيلة عنده لا غاية، وإن كان هذا يقلل من قيمته كمؤلف إلا أن مؤلفاته لنفس هذا السبب ذات قيمة تاريخية عظيمة جداً.
ومهما يكن من شيء فشيشرون في جملة القول يتأثر فيما يبسطه في كتبه بمذهب الرواقيين ومذهب الأكاديمية الجديدة؛ وإن مؤلفاته تحل محل المؤلفات اليونانية الضائعة فلا تضيع حركة تاريخ الآراء والمذاهب عندهم. ثم إن لمؤلفاته قيمة أخلاقية إذ شرحت للناس طوال القرون الوسطى في أوروبا أصول الفضائل العملية والنظرية لأن أفلاطون وأرسطو لم يعرفا على حقيقة أمرهما إلا عن ترجمة آباء الكنيسة للتراث الإسلامي، وبمساعدة علماء اليهود في إسبانيا إبان القرن الثالث عشر الميلادي. ولها في النهاية قيمة أدبية لأن أسلوب شيشرون له مميزاته، فهو يبسط الآراء لا في شكل متتابع بل في شكل حوار؛ فهو يقلد أفلاطون في ذلك، ولم يخرج عن هذه القاعدة من مؤلفاته إلا الـ أي الواجبات؛ والـ أي المحيرات
عبد العزيز عزت
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة(242/54)
في المؤتمر الطبي ببغداد
بغداد
للأستاذ علي الجارم بك
بغداد! يا بلد الرشيدِ ... ومنارة المجد التليدِ
يا بسمة لما تزل ... زهراء في ثغر الخلود
يا موطن الحب المق ... يم ومضرب المثل الشرود
يا سطر مجد للعرو ... بة خُط في لوح الوجود
يا راية الإسلام والإ ... سلام خفاق البنود
يا مغرب الأمل القد ... يم ومشرق الأمل الجديد
يا بنت دجلة قد ظمئ ... ت لرشف مبسمك البرود
يا زهرة الصحراء رد ... ي بهجة الدنيا وزيدي
يا جنة الأحلام طا ... ل بقومنا عهد الرقود
يا بهرة الملك الفسي ... ح وصخرة الملك الوطيد
يا زورة تحيي المنى ... إن كنت صادقة فعودي
بغداد يا دار النهى ... والفن، يا بيت القصيد
نبت القريض على ضفا ... فك بين أفنان الورود
سرق التدلل من (عنا ... ن) والتفنن من (وحيد)
يشدو كأن لهاته ... شُدَّت على أوتار عود
بغداد أين البحتري وأي ... ن أين ابن الوليد؟
ومجالس الشعراء في ... بيت ابن يحيي والرشيد
أين القيان الضحكا ... ت يَمسِن في وشي البرود
الساحرات الفاتنا ... ت الحسن من هِيف وغيد
الساهرات مع النجو ... م الآنفات من الهجود
من كل بيضاء الطلى ... مهضومة الكشحين رُود
يخطرن حتى تعجب الأغ ... صان من لين القدود(242/55)
وإذا سفرن فأين ضو ... ء الشمس من شفق الخدود
يعبثن بالأيام وال ... أيام أعبث من وليد!
خبأَ الجمال لهن ... كنزاً بين سالفة وجيد
كم جاش جيشك بالفوا ... رس من أساورة وصيد
للنصر في أعلامهم ... صلة بأبناء الغمود
مجد إذا صورته ... عجز الخيال عن الصعود
وجهود جبارين تص ... غر دونها شم الجمود
الرسل تتلو الرسل م ... ن بيض صقالبة وسود
ساروا (لقصر الخلد) يع ... شي طرفهم وهج الحديد
يتعثرون كأنهم ... يمشون في حلق القيود
الجو يسطع بالظُّبا ... والأرض تزخر بالجنود
حتى إذا رجعوا بدا ... بجباههم أثر السجود
الفلسفات عرفتها ... والعلم طفل في المهود
والغرب ينظر في خمو ... د نحو قاتلة الخمود
كم موئل للمستج ... ير ومنهل للمستفيد
(والجاحظ) المرح اللعو ... ب يغوص للدر الفريد
بغداد يا وطن الأدي ... ب وأيكة الشعر الغريد
جددت أحلامي وكن ... ت صحوت من عهد عهيد
جمع الخيال فما اطم ... أن ولا استقر إلى خلود
جاز القرون النائيا ... ت وفك أسرار العقود
ذكر العهود فأنَّ للذ ... كرى وحن إلى العهود
واهتاجه الطيف البعيد ... فجن للطيف البعيد
وصبا إلى ظل العرو ... بة في حمى الملك العتيد
يا أمة العرب اركضي ... ملء العنان ولا تهيدي
سودي. فآمال المنى ... والعبقرية أن تسودي(242/56)
هذا أوان العدو لا الإ ... بطاء والمشي الوئيد
المجد أن تتوثبي ... وإذا وثبت فلا تحيدي
وتحلقي فوق النجو ... م بلا شبيه أو نديد
وإذا شدا الكون المفا ... خر كنت عنوان النشيد
لا تخطئي حد العلا ... ما للمعالي من حدود
من يصطد النمر الوثو ... ب يعف عن صيد الفهود
هذي طلائع نهضة ... ذهبت بآثار الركود
بغداد أشرق نجمها ... وبدا بها سعد السعود
سلكت إلى المجد القديم ... محجة النهج السديد
وزهت بأقصار الهدى ... وسطت بأظفار الأسود
بغداد إنا - وفد مصر ... نفيض بالشوق الأكيد
جئنا نحيي العلم والْ ... آداب في العدد العديد
لقياك عيد للمنى ... فزنا بها في يوم عيد
أهلوك أهلونا وأب ... ناء العشيرة والجدود
بين القلوب تشوف ... كتشوف الصب العميد
حتى يكاد يحب نَخْ ... لك نخل أهلي في (رشيد)
شطت منازلنا وما احت ... اج الفؤاد إلى بريد!
الرافدان تمازجا ... في الحب بالنيل السعيد
وتعانق الظلان: ظ ... لا (الطاق) والهرم المشيد
جئناك نستبق الخطى ... أنضاء أودية وبيد
طالت بنا الصحراء حتى ... خلتها أبد الأبيد
يتلخص المرمى المديد ... بها إلى مرمى مديد
كتخلص الحسناء من ... وعد طوته إلى وعود
بحر بلا شُطآن يز ... خر بالتنائف والنجود
وسفينتي (نون) بها ... ما في فؤادي من وقود(242/57)
جئنا إلى الغازي سليل ... العُرب والحسب المجيد
نختال بين هباته ... في ظل إحسان وجود
أحيا المنى بالعزم والتد ... بير والسعي الحميد
وغدت به سوح العر ... وبة منهلا عذب الورود
في نهضة الفاروق والغ ... ازي غنى للمستزيد
فاروق منبثق الرجا ... ء وملتقى الركن الشديد
ما عاش عاش الشرق في ... عز وفي عيش رغيد
علي الجارم(242/58)
وحي الشاعرية
عصريات
للأستاذ حسن القاياتي
الكيدُ ما تُعْلِن السَّجَاياَ ... والحقدُ ما تضمرُ الطوايا!!
يا عصرُ ما فيك من عَوَادٍ ... يا عهدُ ما فيك من خفايا؟؟
ما للثنايا تَرِفُّ بِشْرا ... على الجوى يصدَعُ الحنايا؟
لا قُدس العصرُ من أَوَانٍ ... تُذَمُّ في حمده التحايا!!
عَلاَمَ نُزْهىَ بفجر علمٍ ... كأنه للدجى بقايا؟؟
لدى البغاياَ لنا خلالٌ ... وما لنا فتنةُ البغايا!!
نُطالعُ الحفْلَ بالمخازي ... يا قُبحُ لا تنظرِ المَرَاياَ
لو شِمْتَ - نُزِّهتَ - ما نُواري ... أقمتَ في مرقص العرايا!!
إنَّا لَفي الخُلْد من زمانٍ ... تُنِيل فِرْدَوْسَهُ الخطايا
جِيلٌ تبَاَهى بلُبِّ حُرٍّ ... وظلَّ عبداً لدى العطايا!!
رَغِّبْ وأَوْعِدْ فسوى تحوى ... ضمائر الصيد في الهدايا!!
مَن أدَّعى أنهُ طليقٌ ... إلام يختال في السبايا؟؟
يا عصرُ ما فيك من فُتُونٍ ... لا رشُد فيه سوى المنايا؟؟
سَلِ الأضاليل كيف لاقَتْ ... حُنوَّ موسى على الوصايا؟؟
شَقِتَ بالحق فلتَرُمْهُ ... بحيث تشقى به القضايا
صباحةُ الحق حجبَّتْهُ ... فقَرَّ والحسنَ في الخبايا!!
لا يحسنُ العدلَ من تولَّى ... فَغَادَرَ العدلَ في الشكايا
جَزَالةُ الرأي من فؤادي ... يطير من فتنةٍ شظاياَ
جاذَبتُ عصري مُنَى سَرِيٍّ ... فَعَرْبدَ العصرُ في مُناَياَ
شدا فأشجى بكل وَاهٍ ... لبُلبُل العصر مشتكايا
قيل: انتخابٌ. فقلت: سَبْقٌ ... إلى الكرامات بالدنايا
وَقيعةٌ والخنا قِسيٌّ ... وهدنة والنُّهى رمايا(242/59)
هَوَى الكراسيِّ والغواني ... أسىً تَغَنَّتْ به الضحايا
حديث ندْبٍ لناخبيه ... شكاة آسٍ إلى البلايا
سُرىً تُباعُ القلوبُ فيه ... سوافر الهون أو نقايا
من شام فالنقد والتَّهادِي ... أو شَمَّ فاللحم والقلايا
صِلْنِي بدينارك المرجَّى ... أَهَبْكَ خيرَ الورى مَزَاياَ
لعيني النبل حين أغزو ... قُوَى مباريَّ في سرايا
مشوا إلى الكيد في الغواني ... فلا سراةٌ ولا سَرَايا
شكا من الجوع فاشتكاني ... مُرَفَّهُ العيش في حمايا
للخبز دون الجلال تُسْبَى ... فَوَاتِنُ المال والصفايا
بكى عدوي إلى صَفيِّي ... فردَّه الدمعُ من عِدَايا
ضَعْفٌ ترامى عليه ضعفٌ ... كالغيد مالت على الحشايا
لَدَى العشايا حمدت رأياً ... فسَلْهُ ما أنتَ في الغدايا؟؟
سَماَ بِطِفل الجلال شعبٌ ... ثَوَى بمْعِله في الزَّوايا
سمَاَ وما لَقَّنوهُ حرْفاً ... كوثبة الميْت إن تحايا!!
من سوّد النذل في الأعالي ... فَهَدَّ للحفرة الثنايا؟؟
هي السجايا فحيثُ جارت ... تَرَقَّبْ الجور في القضايا
هَوَى بيانٌ كما تَلاشَى ... تبسُّمُ الدّلِّ في الثنايا!!
بيان هادٍ غذته آيٌ ... من المثاني فرق آيا
يراعةٌ صُرِّفَتْ جماَلاً ... كما يشق اليراع نايا
يا سقطة والفنون ليلٌ ... كسقطة الشمس في العشايا
إن عزَّني بالنجاح نذْلٌ ... فرُبّ لكعاء في الحظايا
أَدَلَّ شعْبٌ على فتَاهُ ... ليضحك المجد من فتايا!!
على قطيعٍ سَرَى غبيُّ ... بلغتَ يا راكب المطايا
بالعلم فليصحب الليالي ... من صَاحَبَ القَفْرَ بالرّوايا
تَبّاً لعصر الجلال يمشي ... لسُدّة الجهل في الرعايا(242/60)
يا مُنصف اللُّبِّ كم أجارِي ... بصبيةٍ ألَّبت صبَاَيا؟؟
أنصف بوزني ومن يُباري ... فلا هواهُ ولا هَوَايا
باعد سجاياه من خلالي ... وقس حجاه على حجايا
من اعتلى والهدي حُلاه ... شأَوْتُهُ والهدي حُلايا
العزُّ في النفس، رُبَّ وَغْدٍ ... بجده تشرف البرايا
وَيْحَ الأمانيّ كم تُعادِي ... حلو الأمانيِّ والسجايا؟؟
إني وللحمد ما أعانيّ ... كالبدر في ظلمة سُرَاياَ
بَرٌّ إذا حَفَّتِ العوادي ... تَنَهَّدَ الناسُ من حشايا
أصُدُّ والحظ يبتغيني ... أقول باسمي دعا سوايا
الحُرُّ يمشي إلى المساعي ... كمشية النحل في الخلايا
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي(242/61)
القصص
من الأدب الإيطالي
حياة جديدة
من دومنيكو ماريا ماني
للأستاذ دريني خشبة
رآها أنطونيو فشغف بها حباً، وكانت نظرته الأولى إلى وجهها المشرق الجميل الرائع فاصلاً عظيما في حياته التي جد بها الظمأ، ففجأها وابل من كوثر الحب، فرويت، ولكنه وا أسفاه كان روى أحر من قاتل الظمأ، وآلم لنفسه من شديد الجواد
وأحبته جينفرا، وكانت تقضي لياليها مثله مؤرقة مسهدة، تفكر في روحه الشاعرة الحلوة التي تطل عليها من عينيه الحبيبتين وقلبه الذي يرسل إليها نبضاته الموسيقية على أجنحة الأثير. . .
ولبث أنطونيو يجد في ميادين الحياة ليبني دعامة مستقبله على لبنات من مادتها، حتى إذا تقدم إلى والد جينفرا تقدم وفي يديه حفنة من ذهب قارون لا تطمئن ألباب الآباء إلا إليه، ولا تطب إلا به، ولا تقيس العيش إلا بمعياره. . . وكان يعمل دائباً وفي عينيه صورة جينفرا ما تفارقهما، وفي قلبه المعمود تمثالها المعبود ما يبارحه، حتى إذا تصرمت سنون أربع طوال كالدهر وتقدم إلى والدها دلجي امييرا يخطب إليه ابنته، رده الأب الجبار رداً لا رحيماً ولا كريماً، لأن فتى من أسرة أجولانتي يقال له فرانسيسكو كان قد تقدم إلى الرجل يخطبها على نفسه، فقبل الرجل يده، من غير أن يستشير ابنته، ومن غير أن يقيم للحب الذي صهر فؤادها وزناً، مع علمه به، ورثائه لها من أجله. . .
وكانت المادة التي عمل أنطونيو على اكتسابها جهده سبب رد الوالد التاجر إياه، لأن أسرة الفتى فرانسيسكو كانت أسرة جاه ويسار ومجد، وإن يكن الفتى نفسه من هذا الشباب القُنَّع الذي لا خير فيه، وإن يكن قلب جينفرا لم يجزه إلا صدوداً، ولم يشعره إلا جفاء وسلواناً
ولكن ما قيمة أن تأبى الفتاة في هذا العصر العنيف الظالم ما لا يأباه أبواها من أمر لا يعنيهما بقدر ما يعنيها، لأنه أمر حياتها ولأنه أمر سعادتها أو شقوتها؟ لا! لا قيمة(242/62)
لاعتراض الفتاة. . . وهي مرغمة على أن تقر صاغرة ما اختار لها أبواها. . . وإن كرهت. . . فلابد إذن من أن ترضى جنيفرا بهذه الزيجة لأنها صفقة من صفقات قارون، وصفقات قارون رابحة مطلقاً، لأنها تمشي بالفتاة على أرض من ذهب، وإن تك في قلبها جحيما من لظى ولهب، وهكذا زفت جينفرا المسكينة إلى زوجها المفروض عليها. . . وهكذا انتصر العالم الفاني على العالم الباقي، وصرع شيطان الأرض ملاك السماء، وتسلط التراب على الروح فعفر وجهها الحر الكريم
وذهبت الفتاة إلى زوجها جسما بلا روح، ودمية من اللحم والدم والعظم ليس لها قلب، لأن روحها وقلبها مع رجل آخر غير هذا الرجل. . . مع أنطونيو لا مع فرنسيسكو. . . مع الحبيب الذي منحها وجوده، وجعلها علة بقائه، مع الشاب الذي ثوى ملء جوانحها يضرمها بإخلاصه، ويؤججها بآماله التي انهارت في الأرض، وثبتت في السماء. . .
وذهب أنطونيو يبكي من أعماقه، وينشد النظرة الخاطفة من حبيبته في الكنائس والمسارح والمجتمعات، ويقسم جهد أيمانه أن يعيش على ذكراها، وألا يتصل بأنثى من بنات حواء مادامت جنيفرا قد أفلتت من يديه. ولم لا؟ أليس بحسبه أن يعرف أن قلبها له، وأن جسمها لزوجها الذي لم يكن لها يد في اختياره، ولابد من الرضاء به؟ ثم أليس بحسبه أن يكون وفياً لها مادامت قد أرغمت على شيء لا يستطيع أحد أن يرغمه هو على مثله؟!، وما الفرق بين أن ترغم جينفرا فتتزوج، ولا يرغمه أحد فيتزوج؟ إنه إن فعل فإنها تفضله؛ وإن لم يفعل عاش كما عاش المحبون المخلصون من قبل، وعاش خالداً في القديسين الخالدين
في سنة 1400 نكبت أكثر المن الإيطالية بطاعون عظيم ذهب ضحيته أكثر سكانها، وكانت قرى بأكملها تصبح خلاء من أناسيها وحيوانها، وكانت فلورنسا الجميلة، عروس المدائن الإيطالية في ذلك العصر من أكثر البلدان ضحايا وشهداء
ولم تسلم جينفرا من هذا الوباء، بل تعذبت به طويلا، وكلت حيل الأطباء في سبيل إنقاذها، فأسلموها للمقادير، وانصرفوا عنها يائسين. . ولم تمض أيام حتى وقعت فريسة لنوبات جنونية كانت تعصف بها عصفاً شديداً، وتعذبها عذاباً مبرحاً، وتذيب من حولها قلوب ذويها أسفاً عليها. . . وأغمي عليها مرة إغماءة قاسية فحسب أهلها أنها أسلمت الروح. . .(242/63)
وسواء أحسبوا ذاك أم لم يحسبوه فإنهم كانوا قد ضاقوا بمريضتهم ذرعا، وملئت قلوبهم منها ذعرا، لأن أنفاسها وباء، وبزاقها داء، وأنينها لهم أنين، وحملها عبء إن كانوا قد استطاعوا حمله أياماً فأنهم عليه مع هذا الجنون غير صبُر
وكان الناس لا يتورعون أن يدفنوا مرضاهم أنصاف أحياء خشية استفحال الوباء، فلما أغمي على جينفرا، وطال عليهم إغماؤها، وقر في قلوبهم أنه الموت، فجهزوها مسرعين، وحمل تابوتها طائفة من القسيسين فهرولوا به إلى مدفن العائلة، وكان قبواً عظيما تحت الأرض بعيداً من المدينة، فدفنوها فيه في احتفال بسيط؛ ووقف زوجها وأهلها وعارفو فضلها يذرفون عبراتهم على ثراها. . . ثم انصرفوا. . . وأقبل أنطونيو المحزون يبكيها بدوره، ويسكب عليها شئونه لا كما يسكبها غيره من الناس، بل كما ينبغي أن يفعل العاشق الصب وسد الناس قلبه تحت الثرى والصفاح
كذا فليجل الخطب، وليفدح الأمر، وليبك أنطونيو روندينللي!
لقد وقف المسكين على ثرى معبودته، وعند قبوها الهائل، وراح ينثر بقايا روحه على جدثها الطاهر العزيز. . . ثم جلس في ذهول وفي شبه إغماء، وانطلق يحلم بماضيه الجميل، ويرسل عينيه وراء سجفه الشفشافة ليراه جالساً إلى جينفرا يناجيها، ويتحدث إليها حديثاً كقطع الروض، ومنضور الورد، ويقبلها تلك القبل الحالمة الناعمة فوق ثغرها وفوق نحرها وفوق ذراعيها. . ثم يفيق المسكين. . . فيراه جالساً يبكي. . . فوق قبرها. . . وهي تحت هذا الجندل المركوم والتراب المهيل جثة هامدة ساكتة صامتة، لا يتحرك لسانها، ولا تنفرج شفتاها، ولا يتفتح الورد في خديها، ولا ينبعث النور واللألاء من جبينها ووجنتيها فيحس كأنما روحه تساقط مع أنفاسه الباردة لتثوي مع جينفرا تحت التراب.
ويقف أنطونيو فجأة ويحدج القبر بعينيه الباكيتين، ويقسم أنها ليست فيه!. . . ليكن! قد يكون ما يعني روحها. . أو. . ذكرياتها.
ثم يمضي إلى المدينة، ويذهب إلى منزله مصدوع القلب، ذائب النفس، خفق الأحشاء، ليس أسمج في عينيه من هذه الدنيا الكريهة الغادرة!
لم تكن جينفرا قد ماتت كما وهم القوم، بل كانت مغمى عليها إغماء شديداً. . . وليت أنطونيو ما فارق ثراها، حتى يسمع صوتها الضعيف داخل القبو بعد إذ انصرف بلحظات.(242/64)
لقد هبت المسكينة من غفوتها في العالم الآخر، فجاهدت كثيراً حتى نهضت من تابوتها، وسرعان ما عرفت مصيرها فلم تذعر ولم تنزعج مع ما كانت تضيق به من برد المقبرة وهوائها المرطوب، وريح أكتوبر القارسة
ثم أنشأت تعالج التخلص من تلك الأكفان التي لم تخلق للبوس هذه الحياة الدنيا، وكانت تسبح بأسماء الآلهة والقديسين وتتوكل عليهم فيما هي فيه من الضيق، وكانت شعاعة ضئيلة من أشعة القمر تنسرق إلى القبو من شق صغير فيه، فكانت لها في شدتها وحرجها كبسمة الأمل الحلو الذي ضاعف جهادها في سبيل الحياة. . . واستطاعت بعد لأي أن تخلص من بعض أكفانها، وأن تخطو في ضعف وإعياء نحو باب القبو. . . وتهالكت على نفسها حتى صعدت فوق الدرج. . وهناك جلست لتستريح لحظة، وتستجم لما أمامها من العمل. . . حتى إذا أحست في ذراعيها قوة أعملتها في الحجارة التي كانت تسد باب القبو، والتي كانت تتماسك بطبقة رقيقة من الملاط، كانت ما تزال لينة رطبة، فسهل على جينفرا إزالة بضعة منها، بحيث أحدثت ثغرة تكفي لخروجها في شيء من الصعوبة، وقليل من العناء
وشجعها ما كانت فيه من هلع على نفسها داخل القبو، وما نالته من الظفر فاحتملت قر الليل وصرير الريح ووحشة الوادي، وجعلت تخطو بقدمين متخاذلتين في الطريق المقفر إلا من أشعة القمر، المنجرد إلا من عشب هنا وعشب هناك، حتى وصلت إلى المدينة. . .
لله ما أروع هذا الشبح الساري في ضوء القمر يدب على التراب المندى بقدمين عاريتين، وفي أكفان حريرية كأنفاس البخار تصاعد من النبع!
ولله هذا الوجه الشاحب الذي برز الساعة من ظلال الموت وحدود الفناء، وجعل يتدَهْدَى في طرقات المدينة حتى بلغ دَايْ كالْزَاجُولي!
لقد كان فرنسيسكو جالساً يستدفئ بالقرب من النار المتأججة في المدفأ، ووجه عابس وجبينه مقطب، وعليه من بداوات الأسى وعلائم الحزن ما كان ينبئ عما في قلبه من ثورة الوجد على عروسه التي لم يعش في كنفها الوارف أكثر من أشهر ثلاثة ثم قضت. . . وفاز بها الطاعون دونه!(242/65)
وكان يهم أن يخلع ثيابه، ثم يمضي لينام، لولا أن سمع صوتاً خافتاً وراء الباب، ونقراً خفيفاً ضعيفاً على الباب، فذهب ليرى من الطارق بليل؟
لله ما كان أروع القمر الساري في ملكوت الله وهو يلقي أشعته على الشبح الواقف لدى الباب!
لشد ما ذعر فرنسيسكو. . .
لكنه ركع أمام الشبح، وأخذ يرسم علامة الصليب بسبابة مرتعشة، ونظرات مغضية، ثم نهض فتوسل إلى الروح الكريم أن يذهب. . . فلما لم تتحرك جينفرا مما دهاها من الدهش. . . أغلق فرنسيسكو الباب، وأحكم رتاجه. . . ومضى إلى فراشه وبه رجفة تزلزله زلزالاً عظيماً. . . ثم نذر أن يتصدق على روح زوجته ما وسعه ذلك، وأن يقيم على جدثها الطاهر ما لم يؤد لها من قُدَّاسات
وبكت جينفرا ما شاء لها أن تبكي، ثم جعلت تجَمْجم وتقول: (وَيْ! أذاك هو مدى ما أحببتني يا فرنسيسكو؟! وي! لابد أنني كنت عبئاً عليك، ووزراً تنوء به، وتود لو تخلصت منه! وا أسفاه! أين أذهب يا ربي؟ أأفلت من ظلام القبر لأموت من البرد والضنى والجوع في أشعة القمر؟). وذكرت أن بيت أبيها قريب فانقلبت. . . وشرعت تخطو. . .
ولم يكن أبوها هناك. . .
وكانت أمها في الطابق العلوي، توشك أن تمضي إلى سريرها فتنام. . . فلما سمعت همس جينفرا وصوتها الخافت المستنجد أطلت من النافذة لترى من الطارق. . .
وكان الشبح المريض المهزول يتكئ على مصراع الباب مما به من ونى وإعياء؛ ولم تَسْتَرب به الأم المحزونة، فقالت له وهي تتوسل إليه: (انصرفي في سلام أيتها الروح. . .!) ثم أغلقت النافذة، وانكفأت إلى فراشها لتصل أحزانها على جينفرا. . .!
وعرت الفتاة رعشة من الحسرة لا من البرد، فشدت ذراعيها، وذهبت على وجهها لا تعرف أيان تمضي. . . ثم خطر لها أن تلجأ إلى بيت من بيوت أعمامها، فلم تصل إليه إلا بعد أن جلست مرات ومرات تستريح وتستجم، وتمزج دموعها وأحزانها بضياء القمر الذي كان يبدو كأنه يبكي لها ويرثى لحالها، ويحوطها بغلالة دافئة من قمرائه
وا أسفاه عليك يا جينفرا!(242/66)
لقد وقفت بباب عمها فلم تلق أطيب مما لقيت في المرات السابقة، ثم وقفت بباب عمها الثاني، فعمها الثالث، ثم بباب خالها، فخالها الآخر، فأبواب جميع أقاربها، فكانوا يردونها على أنها روح سارية، ويغلقون أبوابهم جميعاً دونها
واعتزمت آخر الأمر أن تلجأ إلى مستراح سان بَرْتولوميو لتنام فيه أو لتموت فيه، ولتستريح من هذه الدنيا التي تجهمت لها، وعبست بألف وجه من وجوه أقربائها. . . وما كادت عيناها الحزينتان تغمضان كما تغمض النرجسة الذابلة، حتى خطر لها أن تنهض من فورها، وتمضي إلى بيت حبيبها الوفي، أنطونيو روندينللي، وإن تكن بينها وبينه مسافة طويلة، ضاعفها ضربها في المدينة أضعافاً مضاعفة. . .
ثم هجست في ضميرها بكليمات باكيات فكأنما كانت تقول: (ولكن!. . . ماذا انتظر من رجل لقي الويلات مني ومن ذوي؟ وماذا عساه يصنع لي وقد ذادني كل أهلي عن منازلهم؟ يا رب! وحق أسمائك ما خنته! وحق ربوبيتك ما ضيعت موثقه!)
وذهبت تدلف إلى بيت أنطونيو وتهدج، حتى كانت لدى الباب، فوقفت تسمع إلى دقات قلبها، قبل أن تصغي إلى نقرها فوقه
وفتح أنطونيو الباب. . . ولم يكد يقع بصره عليها حتى تقدم نحوها بدافع غريب قوي من الحب، أو من الشجاعة، ولم يتقاعس كما تقاعس ذووها، ثم طفق يحملق فيها ويقلب فيها عينيه من إخمصيها إلى زؤابة رأسها، فلما أيقن أنها هي، تنفس صعداءه، وقال: (أأنت حقاً جينفرا؟ أم أنت روحها القديسة المطهرة؟) ولم ترد عليه، بل أرسل الحب ذراعيه القويتين إليها، فاحتملها كالطفلة، ثم أخذ يصيح من الجذل، داعياً أمه وخدمه ليزف إليهم البشرى، ولكن سرعان ما ارتد هؤلاء من الفزع حين أقبلوا ليروا فيما دعاء أنطونيو لهم، لما رأوه يحمل فتاة كالشبح في أكفان!!
وهرول به أنطونيو إلى مخدعه فسجاها في سريره، وهتف بخادم فأحضرت الموقد ليدفئها بما بقي فيه من قبس، ثم دعا أمه فطمأنها، وجلست مع الفتاة في السرير تضمها وتجعلها في حضنها لتدفئها كذلك
وكان الهلع يغشى أنطونيو خشية ألا يشيع الدفء في كيان حبيبته البارد المرتجف، فتذهب ضحية القر؛ بيد أنه اطمأن حينما رآها تثوب، وكان فرحه بها أشد من حزنه عليها، عندما(242/67)
فوجئ بنبأ وفاتها، وجلس عند قدميها فوق أرض الغرفة يرعاها ويتولاها بعنايته، غير مطمئن إلى ما كانت تبذل أمه من التلطف بها، والحدب عليها
وانتعشت جينفرا، فهبت من السرير فجأة، ونزلت إلى الأرض، ثم أهوت على قدمي أنطونيو تقبلهما، وتريق عليهما دموع محبتها وشكرانها، وترجوه أن ينشر عليها جناح الطهر من وده وصداقته، وأن ينسى إلى حين ما أنها حبيبته، وإن تكن تعد نفسها خادمة له، وترتضي العبودية في كنفه. . . ثم ذكرت والدموع تحجب عينيها، ما كان من شجاعته عندما رآها أمام بابه، فلم يفر ولم ينزعج كما فر أهلوها وانزعجوا. . . وارتبك أنطونيو، وهم من مجلسه فركع أمامها، وراح يطلب صفحها عما عسى أن يكون قد بدر منه، مما أثر ظنونها. . .
ولم تستطع جينفرا أن ترد عليه بلسانها، فأخذت كفيه، وضغطت عليهما بكفيها الواهيتين، ثم انطلقت تغمرهما بالقبل، وتنضحها بالدموع. . . وكان التأثر قد بلغ من أنطونيو مبلغاً عظيماً، فراح يبادلها دموعاً بدموع، وينكر على نفسه أنه أدى لها يداً غير ما يقتضيه الواجب والمروءة والإنسانية، وأنه لم يكن ينتظر جزاءً على ما صنع إلا أن تتدفق الحياة في جينفرا العزيزة. . . المعبودة!
ثم سألها إن كانت تحب أن ينهض معها من فوره فيردها إلى ذراعي زوجها. قال:
(لا ترتبكي يا جينفرا. . . إن هذا واجب. . . إني أحضك عليه وإن يكن في قضائه قضاء علي. . .)
وامتزج بكاء جينفرا بجوابها فقالت: (كلا. . . كلا. . . كلا. . . لن أعود إليه. . . لا أود أن أراه. . . إني أوثر أن ألقى في دير فأعيش فيه ميتة، على أن أعود إلى فرنسيسكو. . . وفضلاً عن هذا. . فلقد فرق بيني وبينه الموت. . لقد مت في اعتباره. . ومشى في جنازتي. . . ووسدني التراب بيديه. . . وقبل ساعة كنت أطرق بابه، فلما رآني فزع وطردني. . . وأغلق الباب دوني. . . أرجوك يا أنطونيو. . . أرجوك ألا تردد اسمه أمامي. . . وإن أرغمني أحد على العودة إليه فسأشكو أمري إلى القضاء العادل ليفصل بيننا من جديد. . . سأقصد إلى كل محكمة. . . إلى كل سلطة دينية. . . لقد شهدوا جميعاً أنني مت، وصرحوا بدفني فدفنت حية، ولمه؟ لا لشيء إلا ليستريحوا مني؛ أفإن شاء(242/68)
القضاء السماوي أن أنهض في رمسي بمعجزة، وعدت إلى الدنيا ولم أمت في القبر أشنع موتة، جاءوا من كل فج ليناوئوني، ويحجروا علي من جديد؟!)
وصمتت جينفرا، وأكب أنطونيو يسكب عبراته تحت قدميها الجميلتين المرتعدتين، وما كانت دموعه تلك إلا دموع الفرح بما سمع من حسن توكيداتها
ولبثت جينفرا لدى حبيبها الأول الوفي
ثم حدث أن رأى فرنسيسكو أجولانتي غادةً هيفاء من ذوات اليسار فغزل بها وغزلت به، وأغرم كل بصاحبه، فعقدا النية على الزواج. . . وما أن علم أنطونيو بذاك حتى انتهز هو أيضاً فرصته، وجعل يسعى لدى فرنسيسكو حتى اشترى منه كل جواهر جينفرا، وهو لا يدري أنها حية ترزق، وأنها قد نجت من براثن الطاعون والفناء بإرادة السماء. . . وعادت من عالم القبور لتخلق خلقاً آخر
في صبيحة يوم من أيام الآحاد ذهب أنطونيو روندينللي من أعيان فلورنسة، ومعه السيدة جينفراد دِجلي أمييرا، وأمه العجوز الوقور المتضعضعة، وخادم من خدم قصره، إلى كنيسة المدينة الخالدة ليعقد على حبيبته جينفرا
وهناك في بهو الكنيسة الكبير، التقى هذا الجمع اليسير بجمع آخر حاشد غاية الحشد، فيه الفتى فرنسيسكو أجولانتي وأمه وملأ عظيم من ذويه وأصدقائه. . . ذاهبين للعقد على غادة فرنسيسكو الهيفاء الغنية المثرية، ولما يمض على دفن جينفرا ثلاثة أشهر أو نحوها. . . والمؤلم المبكي أن أمها الساذجة كانت من ضمن المحتفلات بزوج ابنتها السابق. . . فما كادت العيون والأرواح تتعارف حتى ساد بهو الكنيسة صمت كصمت القبور، ووقف الجمعان خاشعين خابتين، ينظر بعضهم إلى بعض ولا يصدقون ما يرون!
ترى! من يتقدم ومن يتأخر؟
ولم تنتظر جينفرا طويلا. . . بل تقدمت مسرعة نحو أمها التي أخذت تحدق فيها بصرها، وترنو إليها مسبوهة مشدوهة
(أحقاً هذه جينفرا ابنتي؟ لم يكن شبحاً ما رأيت إذن. . . ويلاه!. . . ولكن. . . كيف عادت إلى هذه الدنيا ياترى؟ وأنى لها هذا الشباب وتلك النضارة؟ إنها تميس في شفوف وأفواف)(242/69)
ولم تتركها جينفرا لتصل هذه السلسلة من أحلام اليقضة، بل قطعتها عليها قائلة:
(أما وقد ذهبتم بي إلى القبر فوسدتموني التراب بعد إذ شهد أطباؤكم بموتي، وبعد أن نثر القس زيته المقدس على جثماني معلنا بذلك أنني انتهيت من هذه الدنيا، فإني أعلن بدوري أنني لم أعد أمت إليكم بوشيجة، لاسيما بعد أن رفضتم جميعاً إيوائي حين عدت إلى دنياكم بمعجزة من معجزات القدر في حين قد آواني ملاكي أنطونيو روندينللي فأعادني إلى الحياة والحب، ولولا ذلك لقتلني البرد والمرض أمام باب من أبوابكم، ولعدت إلى القبر عودة لا رجعة لي بعدها إلى دنياكم. . . من أجل هذا كله أقرر أمامكم وأمام الحبر الجليل سيد هذه الكنيسة، وفي هذا المكان المقدس أنني أصبحت ملكا لحبيبي. . . وأنني إنما جئت اليوم ليشهد الله لنا. . .)
ثم ودعت أمها، وبعض الأعزاء من ذويها، وانفلتت إلى أنطونيو فضمته على مشهد من الجميع. . . وهنا. . . تأخرت جماعة فرنسيسكو حتى يروا بماذا يحكم الحبر الجليل. . . فوقف هذا. . . وهتف بأنطونيو ثم بجينفرا فباركهما، وكتب لهما، ودفع الصحيفة إلى أحد الرهبان فتلا ما فيها بما لا يزيد عما ذكرت جينفرا من الحجج. . . ثم دعا للكنيسة. . . وتم القداس البسيط فكان أروع قداس أبرم في كنيسة فلورنسا منذ أنشئت. . .
دريني خشبة(242/70)
البريد الأدبي
تكريم شاعر الهند محمد إقبال
من أنباء الهند الأخيرة أنه أقيمت في جميع المدن حفلات لتكريم الشاعر الفيلسوف الهندي الكبير السير محمد إقبال بمناسبة عيد ميلاده (9 يناير) وألقيت في هذه الحفلات الخطب والقصائد في نواحي شعره واستعراض مناقبه وخلاله. واشترك فيها كبار الكتاب والشعراء الهنود من كل الطوائف
وكانت أهم تلك الحفلات في بلدة حيدر آباد، حيث رأس الحفلة حضرة صاحب السمو أعظم جاه ولي عهد مملكة حيدر آباد وفي بلدة لاهور حاضرة إقليم بنجاب حيث يقطن الشاعر، فرأس فيها الحفلة الأولى السر كوكل شند نارنج (وهو عالم هندوكي كبير)؛ وألقى فيها عقب تلاوة القرآن الأستاذ يوسف سليم شستي، والعلامة الفاضل عبد الله يوسف علي، والدكتور شكرورتي (وهو عالم هندوكي كبير وأستاذ بكلية بلاهور) والأستاذ كورشرن سنج (وهو عالم كبير من اتباع ديانة سيخ وأستاذ في كليتهم المسماة (خالصة كالج) بلاهور) والسيد بشير أحمد، والأستاذ السيد نذير نيازي محاضراتهم القيمة. ثم تلاهم حضرات الشعراء نور محمد، وجلال الدين، وحامد علي خان، فألقوا قصائدهم. ورأس الحفلة الثانية والثالثة حضرة صاحب العزة السير عبد القادر، وألقى فيها حضرات الشعراء أسلم جيراجيوري (وهو أستاذ بالجامعة الملية الإسلامية بدهلي)، والأستاذ سراج الحق، والأستاذ خوشي محمد قصائدهم الرائعة. وألقى كذلك الأستاذ خواجه غلام السيديْن عميد الجامعة الإسلامية بعليكره محاضرة قيمة، كما ألقى الدكتور محمد دين تأثير محاضراته العلمية في شعره وألقى الشاعر حفيظ هوشيار يوري قصيدته الرائعة فنالت استحسان الجميع
وخلاصة ما قال الخطباء، هو أن السير إقبال يعتبر اليوم بتمكنه من الشعر والفلسفة في الشرق والغرب ذهناً عالمياً، وداعية وطنياً عظيما يعمل على إزالة الفوارق الجنسية والطائفية؛ وهو اليوم في طليعة زعماء الشعر الأوردي والفارسي معاً؛ وقد ذاعت شهرته منذ سنة 1908 كشاعر عميق الفكرة وترجم ديوانه الفارسي (أسراري خودي) (أسرار النفس) إلى الإنكليزية بعناية المستشرق المعروف الأستاذ نيكلسون؛ والسير إقبال سليل(242/71)
أصل كريم من علماء كشمير، وقد تلقى تربية متينة في معاهد لاهور وعليكره، وفي كليات أوربا، وكان تلميذاً للسير توماس أرنولد والسير عبد القادر الهندي الذي كتب ترجمته؛ وهو ينظم شعره بإفاضة مدهشة، ويستطيع أن ينشده غيباً بسهولة، وفي كتابه (تنظيم التفكير الديني في الإسلام) (بالإنكليزية) نراه داعية إلى إحياء الدين على ضوء التطورات الحديثة؛ ومن رأيه أن الحياة التي تستحق الحب هي حياة النشاط والدأب، والتي تتخللها الصعاب والمتاعب، وشعره في الأوردية يعتبر من اثمن وأجل تراث ظفرت به إلى يومنا
ومع أن السير إقبال مسلم صادق العقيدة والنزعة، فهو لا يكتب أو ينظم بروح طائفية. وهو يحاول أن يصور الإسلام في أصدق وابسط مبادئه الديموقراطية؛ وهو وطني كبير يدعو إلى مبادئ الوحدة والإخاء
ذكرى السيد جمال الدين الأفغاني
السيد جمال الدين الأفغاني ضحى حياته في خدمة الشرق الإسلامي وغذى النهضات المصرية والعربية والإيرانية والهندية في العصر الحاضر بأعماله المجيدة وآرائه السديدة، ومع ذلك لم تقم بما وجب عليها من تكريمه وتبجيله لا في حياته ولا بعد وفاته. حتى ضريحه لم يبن إلا أخيراً وعلى نفقة المستشرق الأمريكي مستر كرائن. وقد فكر أخيراً المسلمون في الهند فقرروا إحياء ذكراه في 9 مارس القادم في طول الهند وعرضها وهو اليوم الذي انتقل فيه المرحوم إلى الرفيق الأعلى. وحبذا لو نهجت الأمم الإسلامية الأخرى منهج المسلمين في الهند فيكون الاحتفال بذكراه عاماً في يوم واحد
كتاب عن الشئون المالية للأمم الإسلامية
صدر في مدينة فينا منذ أيام قلائل كتاب بالألمانية من نوع جديد يعالج ناحية هامة من نواحي الحياة العامة في الأمم الإسلامية عنوانه: (من عالم المالية في الأمم الإسلامية بقلم الكاتب الاقتصادي الدكتور يوسف هانس وقد زار المؤلف مصر منذ أشهر قلائل واستقى كثيراً من المعلومات والمواد المتعلقة ببحثه. وهو يعالج الشئون المالية لمصر وباقي الأمم الإسلامية بوضوح وإيجاز، ويستهل بحثه بفصل تمهيدي عن التطورات السياسية التي جازتها الأمم الإسلامية منذ نهاية الحرب الكبرى، ثم يتناول أحكام الشريعة(242/72)
الإسلامية في الربا، وما تعلق بتنظيمه في القوانين المدنية بمصر وتركيا، ويتحدث بعد ذلك عن النقد والسياسة النقدية في الأمم الإسلامية، ويخص كلا منها بفصل يتحدث فيه عن أهم العوامل والظروف الاقتصادية المتعلقة بها؛ ويتناول بحثه الأمم الآتية: تركيا، والعراق، وإيران، وأفغانستان، ومصر، وسوريا، وفلسطين، وشرق الأردن، والمملكة العربية السعودية واليمن، وحضرموت، ويقدم عن كل منها خلاصة حسنة عن أحوالها المالية والنقدية؛ ويقدم إلينا في هذه البحوث الدقيقة معلومات طريفة عن طرق النقد والتعامل والموارد المالية لكل منه
ويخص المؤلف مصر بفصل يتناول فيه أحوال الورق النقدي (البنكنوت) وإنشاء بنك مصر والدور الذي لعبه في الحياة الاقتصادية المصرية منذ سنة 1920 إلى يومنا. ويقدم إلينا إحصاءات مقارنة عن أعماله وميزانيته. كذلك يقدم إلينا خلاصة حسنة عن الميزانية المصرية، ومركز مصر المالي
ولا ريب أن هذه ناحية هامة من نواحي الحياة العامة للأمم الإسلامية لم يتناولها الكثيرون من قبل، ولم تظهر فيها بالعربية كتب أو بحوث ذات شأن
وقد تخصص المؤلف من أعوام طويلة في هذه المباحث النقدية والمالية، وقصر جهوده على دراستها في الأمم الشرقية والإسلامية وأخرج من قبل كتابين في هذا الباب هما (النقد والذهب في آسيا) و (التطورات النقدية في الشرق) وكلاهما بالألمانية
ذكرى الفيلسوف سويد بنورج
احتفلت السويد بذكرى فيلسوفها ومفكرها الأكبر أمانويل سويد بنورج لمناسبة انقضاء مائتين وخمسين عاماً على مولده. وتلقت لجنة الذكرى رسائل تقدير للفيلسوف الراحل من ملك السويد وملك إنكلترا والرئيس روزفلت. ويعتبر سويد بنورج من أعظم أساتذة التفكير الحديث. وكان مولده في سنة 1688، ووفاته سنة 1772؛ ودرس دراسة مستفيضة ونبغ في الرياضيات والفلسفة الطبيعية وترك تراثاً فكرياً عظيماً، واشتهر بالأخص بكتبه ورسائله الفلسفية، وفي مقدمتها كتابه عن (فلسفة اللانهاية وأسباب الوجود) و (عبادة الله وحبه) و (الجنة والنار) و (الحب الإلهي والحكمة الإلهية) وله عدة كتب ورسائل أخرى في الرياضيات والفسيولوجيا والعلوم الطبيعية وغيرها. وقد وضع معظم مؤلفاته باللاتينية،(242/73)
وترجم الكثير منها إلى معظم اللغات. وقضى سويد بنورج حياة طويلة حافلة، وملأ العالم بكتبه وأفكاره، وقضى أعوام حياته الأخيرة في إنكلترا وهولنده. ولقي كثيراً من عنت خصومه ولاسيما رجال الدين؛ وحاول بعضهم أن يرميه بتهمة الكفر والمروق، ورفعت عليه القضية الجنائية بالفعل ولكنه برئ، وفشلت مساعي خصومه من الأحبار الناقمين
كتاب جديد للرئيس هريو
ظهر أخيراً كتاب جديد للكاتب والسياسي الفرنسي الكبير إدوار هريو رئيس مجلس النواب الفرنسي عنوانه: ' وليس الرئيس هريو زعيما سياسياً فقط، ولكنه أيضاً كاتب عبقري ومن أعضاء الأكاديمية الفرنسية. وكتبه الأدبية والسياسية تفيض طرافة وقوة، وكتابه الجديد عن تاريخ الثورة الفرنسية في ليون. وليون هي بلده ومسقط رأسه، وهو إلى اليوم عمدتها ونائبها وقد لعبت هذه المدينة دوراً كبيراً في الثورة، وكانت بعد باريس قلبها النابض. ويقص الرئيس هريو حوادث الثورة في ليون بأسلوبه القوي الساحر، ويعرضها بروح المؤرخ المنصف المنزه عن الأهواء والنزعات. وسيكون كتاب الثورة في ليون أول قسم من سلسلة كتب عن الثورة ينوي أن يخرجها الرئيس هريو
التمثيل في المدارس
أصدر معالي بهي الدين بركات باشا وزير المعارف قراراً بتأليف لجنة من الأساتذة محمد قاسم بك ناظر مدرسة دار العلوم ومحمد رفعت مراقب تعليم البنات المساعد، وتوفيق الحكيم مدير إدارة التحقيقات عهد إليها دراسة موضوع التمثيل في المدارس المصرية دراسة مستوفاة على أساس أنه أداة صالحة تستعين بها الوزارة في تثقيف طلاب المدارس وتهذيبهم، وتصفية ذوقهم وتنقيته، ومساعدتهم على حسن الأداء وإجادة النطق والتعبير. وستجتمع اللجنة للمرة الأولى في غضون هذا الأسبوع
وتتجه اللجنة في دراستها إلى استيفاء هذا الموضوع من أصوله، والخروج عن القاعدة العتيقة السابقة، والتقدم إلى الوزارة بمشروع جديد كبير يرقي من شأن المسرح، ويحقق الأغراض التي تنشدها الوزارة في هذا الشأن
وسيكون لعلاج رواية المسرح المدرسي أوفى نصيب من تلك الدراسة، فسيقضي على(242/74)
الفكرة القديمة الغالبة، وهي اختيار روايات مثلت من قبل في بعض دور المسرح المصري، وبذلك تصبح للمسرح المدرسي روايات تتفق والقاعدة السليمة التي ينشأ من أجلها هذا المسرح
وستقوم اللجنة إلى جانب هذه الدراسة التمثيلية بدراسة أخرى تتفرع عن الحاجة إلى فن الإلقاء، وتدريسه في مدارس المعلمين كما ستعنى بتهيئة الأساتذة الذين سيشرفون على التمثيل في مدارس الحكومة وغيرها من المدارس الخاضعة للتفتيش
جمعيات تحفيظ القرآن في المدن والقرى
يشتد الضغط هذه الأيام على الأزهر الشريف وعلى المعاهد الدينية اشتداداً عجيباً بعدما كان من انصراف الناس عنها قبل خمس سنين أو سبع؛ والضغط ملحوظ، بل هو على أشده في المعاهد الابتدائية، وهذه حالة تبعث على الإعجاب والرضى لتنبه الشعور الديني في قلوب المسلمين، وتفضيلهم التربية الدينية التي تناولها الإصلاح الكثير على التربية في المدارس التي تقذف كل عام بمئات المتبطلين للشوارع والمقاهي. . . ونحن لا نغض بهذا من قيمة التعليم المدني، ولكننا نقرر أن التعليم الديني الذي أدخلت عليه إصلاحات كثيرة مدنية قد أوشك أن يبذ التعليم المدني الصرف من كل الوجوه. ولو عني الأزهر بتقرير دراسة لغة أو لغتين أجنبيتين في معهد أو معهدين من معاهده لسبق المدارس المدنية بألف شوط في مضمار الحياة. . .
على أننا نتساءل: لمن كان الفضل في هذه النهضة التي تشبه البعث؟! ليس شك في أن كثيراً من الفضل راجع إلى الرجل المصلح الذي وجه الأزهر هذا التوجيه، ولكنا لا نخفي أن أكبر الفضل في تزويد الأزهر بالأبناء النابغين هو هؤلاء الرجال الذين فكروا في إنشاء مدارس تحفيظ القرآن، فهذه المدارس لم تخدم القرآن فقط، بل خدمت الأزهر خدمة عظيمة خالدة. . . ولكن مالية هذه المدارس ضعيفة لاعتمادها على موارد غير ثابتة، فهل كثير على الأزهر وأوقافه العظيمة وعلى وزارة المعارف أن تمد إليها يد المساعدة؟!
سارة للأستاذ عباس محمود العقاد
نشر الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد قصة وجدانية تحليلية بعنوان (سارة) وهي فيما(242/75)
نظن أول ما عالج أو نشر من هذا النوع. لذلك سنفرد لها فصلاً خاصاً في عدد آت من الرسالة. وهي ذات حجم لطيف وطبع أنيق؛ وتقع في قرابة مائتي صفحة، وتباع بعشرة قروش في أغلب المكاتب
غرفة قراءة للمتحف المصري
في الأخبار الإنجليزية أن غرفة القراءة بالمتحف البريطاني ستظل مفتوحة للزوار ساعة بأكملها فوق الوقت المعتاد. ولا ندري ماذا يمنع مصلحة الآثار عندنا من إنشاء قاعة للقراءة بالمتحف المصري على نمط قاعة المتحف البريطاني؟ هل المتحف المصري (للفرجة) فقط؟ وهل يصح أن يكون كذلك وعلى مقربة منه جامعة مصرية باذخة بها كلية للآداب، وفي مصر نهضة، وفي مصر قراء. . .؟
وعلى ذكر هذه القاعة التي نأمل أن يفكر المتحف سريعاً في إنشائها نتساءل أيضاً: ماذا يمنع علماء الآثار المصريين وعلى رأسهم الأستاذ سليم حسن بك من التأليف في تاريخ مصر القديم بالعربية؟ أو على الأقل لماذا لا يترجمون كتبهم إلى لغتنا؟
متحف لمكسيم جوركي
افتتح أخيراً في موسكو متحف ضخم لآثار الكاتب الروسي الأشهر مكسيم جوركي؛ وقد توفي هذا الكاتب الكبير منذ نحو عامين، وترجمته الرسالة في حينه. ويضم المتحف الجديد أحد عشر بهواً عرض فيها كل ما يتعلق بحياة جوركي وكتبه ومخطوطاته وآثاره المختلفة، وخصص فيها بهو لقطعه المسرحية، عرضت فيه نماذج من أشخاص مسرحياته. وقد خصت حكومة موسكو جوركي بهذا التكريم باعتباره (عميد الأدب السوفيتي الاشتراكي الجديد وزعيمه). والواقع أن جوركي هو أعظم كتاب الثورة الاشتراكية بلا نزاع، كما كان تولستوي في أواخر القرن الماضي أعظم كتاب الثورة الاجتماعية الروسية. وقد عرض قضية العمال وبؤس الطبقات العاملة في قصصه أقوى عرض. ومما تجدر ملاحظته أن الحركة الأدبية في روسيا الاشتراكية تبوأت مكانتها من القوة والازدهار، ولم تتعرض لها الحكومة بأكثر من التوجيه نحو الغايات الثورية التي تطبع سياستها الاقتصادية والاجتماعية، ولم تلق شيئاً من ذلك الاضطهاد الشامل الذي قضى على الأدب الألماني في(242/76)
ظل النظام الهتلري(242/77)
المسرح والسينما
هنري إيرفنج
1838 - 1938
بقلم محمد علي ناصف
منذ مائة علم في مثل هذا الشهر من اليوم السادس على
الترجيح كان مولد الطفل جون هنري بردريب، ولم يكن بعد
(هنري إيرفنج)
ولد في سومرست، وقضى سنيه الأولى الباكرة في كورنوول. وفي الحادية عشرة انتظم بإحدى مدارس التجارة بلندن وتركها بعد سنتين ليلتحق بأحد مكاتب المحاماة حيث كان من المأمول أن يكون كاتباً نابهاً. وبعد عامين آخرين (1853) حدث له وهو في الخامسة عشرة مثل ما حدث للممثلين العظيمين تالما وكين فظهرت دلالات ميوله إلى المسرح
وقد أشبع هوايته بعض الشبع بتعرفه بعد عام إلى وليام هوسيكنز الممثل الذي تلقى عليه هنري أول دروسه في التمثيل فيما بين الثامنة والتاسعة من صباح كل يوم قبل ذهابه إلى العمل.
ظل هنري طوال مدة عمله بمكتب المحاماة نهبا موزعا بين وساوس أحلامه وزخارفها، بين جحيم المكتب ونعيم المسرح، فكان يجلس إلى مائدة الكتابة ينسخ الصحائف ويدون الأرقام. . ولكنه كثيراً ما كان يحس فجاءة بجمهور كبير من حوله، من الحسان، ومن الكبار، يتطلع إليه، ويصفق له، فيهيم في أودية الخيال ويقفز من لباس إلى لباس، ومن مكان إلى مكان، ومن شخص إلى شخص، ومن عصر إلى عصر. . . ذلك نعيم المسرح (فترة راحة صغيرة)
(أكتب هذا ثانية يا سيد برودريب لو تفضلت)
(شخص أقبل ثم ذهب. سكون مخيم قابض)
وسرعان ما يهبط السيد برودريب من حالق. سرعان ما تتبخر الأحلام وتتجسم الحقائق،(242/78)
وتتكدس الأوراق أمامه، وتتراجع الكلمات الحلوة من فوق شفتيه لينطق بجملة واحدة مريرة. . . (هذا جحيم المكتب)
ولم يطل تردده بين نعيمه وجحيمه. فذات مساء في أواخر يولية سنة 1856 كان وليام هوسكينز جالساً أمام نار المدفأة مستغرقاً في بعض شئونه، وإذا بطرق متواصل على بابه لم يدعه طويلاً رب الدار الذي أسرع نحو الباب، فإذا به يجد الطارق تلميذه هنري، وقد بدا مشرق الوجوه بنور باهت هادئ أوضح ما يرى على وجه تخلص صاحبه من عذاب طويل.
علم الأستاذ أن تلميذه قد انتهى من الاختيار، وأنه اختار النعيم الذي ارتآه
وقد ودعه هوسكينز في ذات الليلة بعد أن سلمه خطاباً فضه هنري في الطريق فطرب من كلمات الثناء التي قدمه بها معلمه إلى ا. د. دافيز بمسرح الليسام بسندرلاند. ولم يكن في تقدير هوسيكنز أو هنري أو دافيز أو أي أحد أن هذا الزائر الجديد سيصبح مدير الليسام وأحد قادة المسرح في جميع العصور
وفي 18 من سبتمبر عام 1854 رفع الستار لأول مرة على هنري كممثل محترف. وكانت كلمات المسرحية الأولى (إنا نبدأ المسعى). . . ولم تكن بداءة مشجعة لهنري، فقد نصحه بعض الناقدين وقتئذ بمغادرة المدينة على أول باخرة فاستجاب إليهم، ولكن ليواصل جهاده في أدنبره حيث قوبل في أول الأمر بالصفير والهزء كممثل طريد، ولكنه سرعان ما نقض هذا الحكم، وسرعان ما أصبح نجم الليسام وأحب ممثل إلى الجماهير
ولقد مثل في هذه الفترة 429 دوراً مختلفاً في 782 يوماً، وهذا رقم قياسي في تاريخ كبار الممثلين. مثل في جميع أنواع المأساة والملهاة: مثل الذئب في وأوجور في - وكاسيو في وسيلفيو وأورلاندو في وسبعة أدوار مختلفة في
وفي عام 1871 ظهر لأول مرة على الليسام بلندن وصار من ذلك الحين (هنري إيرفنج)
وقد عزى إلى إيرفنج أنه لم يكن يحفل باختيار ممثلين تتكافأ صفاتهم مع صفته ومكانته، حتى قال برنارد شو في إحدى مقالاته في النقد سنة 1897: (إن المرء في الليسام معرض للجنون في الفترات التي يخلو المسرح فيها من هنري إيرفنج وأليس بتري) غير أن هناك من ينتحل الأعذار لإيرفنج في هذا الصدد لاشتغاله ممثلاً ومديراً ومخرجاً في آن واحد؛ فلم(242/79)
يكن يستطيع فوق ذلك أن يتفرغ لشئون تلاميذه وممثليه. ومن هؤلاء المدافعين عن هذه النظرية التي سافرت إلى هوليوود قريباً، وكانت في صباها من ممثلي الليسام. . .
وعلى ذكر شو نقول إنه من الكتاب القليلين الذين اجترءوا على نقد إيرفنج؛ وكان أكثر ما يأخذه عليه مسخه لشكسبير وإهماله لإبسن. ففي شكسبير كان شو يعتقد أن الجماهير تذهب لمشاهدة إيرفنج لا من أجل الكاتب الإنجليزي الكبير. وأما مسرحيات إبسن فقد كان إيرفنج يتخلى عنها لألين بتري وجنفياف وارد في الأدوار الرئيسية
ومهما قيل في إيرفنج فليس هناك من ينكر فضله بين زعماء المسرح الخالدين
ولقد قدر أخيراً لجون هنري برودريب ابن أحد فلاحي سومرست أن يلقى مضجعه الأخير في وستمنستر آبي مقر عظماء الإنجليز باسم (سير هنري إيرفنج) وأن يكون الممثل الوحيد الذي يقام له تمثال في لندن يحج إليه في السادس من هذا الشهر كبار ممثلي إنجلترا يحيون أعظم رجل عرفه المسرح الإنجليزي
محمد علي ناصف(242/80)
العدد 243 - بتاريخ: 28 - 02 - 1938(/)
محنة الآنسة مي
أمسكنا عن الحديث في محنة الكاتبة النابغة مي ضناً على فضول الناس أن يتخذ أرجح العقول وأبرع الأذهان مجلاً للظنون الكاذبة وموضعاً للفروض الجريئة. وكنا منذ سفرها إلى الجبل منذ عامين نتنسم أخبارها من كل مصري يصيف في لبنان، وسوري يشتي بالقاهرة، فلم يقع لنا من ذلك ما ينقع الشوق أو يطمئن الخاطر، حتى أخذت صحف بيروت في الأسابيع الأخيرة تذكر من حال الكاتبة الجليلة ما يثير الهم في الصدور ويضرم الحزن في الأفئدة، وحتى أهاب رئيس المجلس النيابي السوري بأعضاء المجلس النيابي اللبناني وهو يزور ندوتهم في منتصف هذا الشهر قال:
(كيف لا تهتمون بهذه النابغة اللبنانية؟ وكيف تسجن (مي) بين جدران أربعة في مستشفى المجانين ولا يثور الرأي العام اللبناني ويظل هذا الخبر سراً مكتوماً؟ لقد كان حديثها لي حلواً لا إبهام فيه ولا تعقيد. لقد وجدت فيها (مي) الكاتبة الشاعرة التي عرفناها في الماضي، فكيف دبرت هذه المؤامرة الدنيئة على نابغة النابغات؟ أنقذوا مي وابذلوا جهدكم في الترفيه عليها. وحرام أن تعامل الأنوثة التامة والنبوغ والعبقرية هذه المعاملة التي عوملت بها مي)
وجرائد بيروت آذانها أقرب إلى استقطار الخبر على صحته، والأستاذ فارس الخوري بك ممن يعتقد قوله ويعتمد خبره، والقنصل المصري سمعنا أنه تدخل في الأمر؛ وتدخله دليل على أن هناك مجانفة للحق ومخالفة للعدالة؛ فلم يبق إذن شك في أن صديقتنا (مي) تكابد من ظلم القدر ولؤم الناس ما لا يجوز الصبر عليه ولا ينبغي السكوت عنه
كانت مي في النصف الأول من سنة 1935 مرهفة الطبع جمة النشاط دائبة الإنتاج لا تبخل بظرفها وأدبها على سامر ولا صحيفة؛ وكان أكثر نشاطها حينئذ مصروفاً إلى مجلة الرسالة ومحطة الإذاعة. ومن أثر ذلك تلك المسابقة الأدبية التي اقترحتها على الشعراء، وذلك (المجلس النادر) الذي أقامته للصلح بين بعض الأدباء. وكانت في مجالسها الخاصة تصرف الكلام وتساجل أعيان الأدب ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، تمثل لك صورة من صور أولئك الأديبات اللآتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولادة ابنة المستكفي، ومدام دي رمبوييه، ومدام جوفرين، والأميرة نازلي فاضل، وأضرابهن ممن وفَّقن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو؛(243/1)
ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض وجمال الأداء وحسن المبادهة. وكان من حسن حظ الرسالة أن وقعت بقلب الكاتبة العظيمة، فكانت كلما صدرت في يومها تحييني مي بالتليفون تحية الروح الملهم من عالم الغيب، والأمل المشجع من وراء الغد، فكان ذلك يبسط من انقباضي عن الناس، ويجرئني على اغباب الزيارة للأديبة الكريمة. وكان يصحبني إليها صديقها الأستاذ عنان فنجدها وحدها أو معها الأستاذ خليل ثابت، فنسمر عندها هزيعاً من الليل تناقلنا شجون الحديث بصوت جميل النغم، ومنطق رخيم الحواشي، وعقل سريع الإدراك، وظرف بارع المفاكهة، حتى أقبل الصيف وعقدت غمائمه على وجهي (الوادي) غشاء من الزفير والدخن، فلحظنا ذات مساء على الآنسة المتهللة بطبعها انقباضاً في المزاج واضطراباً في النفس، سببه على ما قالت خلاف طرأ بينها وبين محطة الإذاعة، فقد أرادت أن تذيع خطابها من غير أن تطلع عليه الإدارة؛ وأبت عليها عزتها أن تقبل تنبيه المذيع اللين إلى أن قانونها يحتم الاطلاع على ما يلقى قبل إذاعته. فانصرفت غاضبة على الرغم من اعتذار الإدارة على هذا التنبيه وقبولها أن تذيع مي من غير قيد ولا شرط. فهونا عليها الحادث وجلونا عن صدرها همه. ولكن الأمر بعد ذلك عظم في نفسها وأصبحت تظن أن الحكومة تضطهدها وتراقبها فقررت ألا تخرج من البيت، وشعرت أنها غير مقدورة ولا مشكورة فصدفت عن الكتابة، واقتصرت من الغذاء على شراب الليمون، ومنعت إذنها عن الناس فلم يدخل عليها إلا أربعة أو خمسة من أصدقائها الأدنين. ودخلنا عليها ذات ليلة فوجدناها كئيبة النفس كأنما انصرفت من جنازة حبيب. فسألناها ما بها، فقالت إنها الساعة مزقت وأحرقت ستة وثلاثين مخطوطاً من رواياتها ومقالاتها آخرها رواية (المصري الجديد) لأنها لم تجد رداً على ظلم الحكومة وعقوق الناس أبلغ من هذا الصنيع. فبدا على وجوهنا سهوم الأسى والجزع على هذه الثروة الأدبية تخسرها العربية من بلاغة مي. كل ذلك ومي محافظة على هدوء الطبع ورصانة العقل وألمعية الذهن وسلامة الحديث، فعزونا هذه الحال النفسية إلى حزنها على أمها، ووحدتها في بيتها، وعزلتها عن أهلها، فأشرنا عليها مع الطبيب أن تسافر إلى لبنان انتجاعاً للراحة وطلباً للنسيان وابتغاء للأنس، فكانت ترفض، حتى حملها بعض قرابتها على أن تسافر فسافرت، وفي مرجونا أن تعود مي إلى مصر رخية البال سعيدة النفس(243/2)
رافهة البدن، وما كان في حسبان أحد ممن ساعد على هذا السفر أن مي معبودة القلوب وريحانة المجالس وفخر النهضة تقع في حبالة الطمع الدنيء والهوى المريض والذمة الغادرة، فيعتقلونها في مستشفى الجنون اعتقال الشريدة، ثم يغشونها بالحجب، ويحيطونها بالأسرار، ويئدونها بالترك، حتى تجهلها الحياة وينساها الناس وتخلص لهم الغنيمة
إن الآنسة مي التي غذت نهضة الفكر العربي مدى ربع قرن، فكان لها في كل موضوع رأي، وفي كل قلب ذكرى، وفي كل مكتبة أثر، لا يمكن أن تضيع هذه الضيعة الذليلة بين مصر ولبنان. وسينظر الناس ماذا يصنع جمهور الأدبين وحكومة البلدين بعدما برح الخفاء وانكشفت النية وانهتك ستار المأساة
أحمد حسن الزيات(243/3)
اللورد كتشنر
كما يصوره صاحب (المشرقيات)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
راقتني من كتاب (المشرقيات) للسير رونالد ستورس، على الخصوص، طائفة من الصور الوصفية لجماعة من مواطنيه الإنجليز الذين كان يعمل تحت رياستهم. وكان السير رونالد هو السكرتير الشرقي لدار المعتمد البريطاني في مصر، أو قصر الدوبارة كما كانت تسمى قبل الحرب، وقد ظل يعمل تسع عشرة سنة في مصر وفلسطين بعد فتحها وجلاء الترك عنها، ويقوم بأثقل الأعباء وأخطر المهمات، وهو يعد - في اصطلاح الوظائف - (ظهورات) والمراد بذلك أنه غير (مُثبت) ولا يحسب له معاش، ولا يمنح شيئاً سوى الشكر والثناء إذا ترك الوظيفة أو استغنت عنه حكومته. ولم ينتظم في سلك الموظفين الدائمين إلا بعد أن تخلى الجيش البريطاني عن إدارة فلسطين وأسلم الأزمة إلى حكومة مدنية برياسة مندوب سام
فهذه واحدة قد تكون فيها عبرة للمصريين
ومن أشهر المعتمدين البريطانيين الذين تعاقبوا على مصر قبل الحرب وبعدها اللورد كتشنر، وقد قص عنه السير رونالد بضع نوادر تصوره أبرع تصوير. منها أنه على أثر مقدمه، سبقه السير رونالد - وكان لا يزال المستر ستورس - إلى قصر الدوبارة، وجلس إلى مكتبه ينتظر أن يقرع له الجرس. وكانت حكومته قد أنبأته أنه سيكون مع اللورد كتشنر (تحت الاختبار) فإذا رضي عنه فبها، وإلا فهو مفصول لا محالة. ولم يكن المستر ستورس يرجو خيراً، أو يطمع في رضى رئيسه، فراح يحسب ما ادخره ليرى هل يكفي لنفقات السفر على الدرجة الأولى وهو عائد إلى بلاده. وإذا بالجرس يدق، فنهض ودخل على كتشنر يحمل إليه آلافاً من برقيات التهنئة التي تلقتها الدار
قال ستورس: (وكان الفيلد مارشال يحدق في مكتبه وهو يسأل عن هذه الأوراق ما هي. فأخبرته، فسألني ماذا أنوي أن أصنع بها؟ فقلت: إن رأيي هو أن التهنئات الواردة من أعضاء الأسرة المالكة ومن الوزراء الحاليين والسابقين يكون الرد عليها بضمير المتكلم إذا كانت هناك معرفة شخصية، أو بضمير الغائب إذا لم تكن ثم معرفة كهذه بينه وبين مهنئه،(243/4)
وأن غير هؤلاء من الأفراد المعروفين أو الجديرين بالاحترام يتولى السكرتير الشرقي شكرهم، وأن الباقين يكون جوابهم - الصمت
(فأدهشني وأفزعني أن أتلقى منه أمراً بالمساواة بينهم جميعاً. وقد تعود الفيلد مارشالات الطاعة السريعة التي لا تعرف التردد أو المناقشة؛ ولعل اللورد كتشنر أصرمهم في هذا. وقد بدا لي وأنا واقف أمامه أن المجادلة لا محل لها، وخاصة ممن كان مثلي مدنياً لا عسكرياً؛ ولكنه لم يسعني مادمت في وظيفتي، إلا أن أكون مستحقاً للأجر الذي أتقاضاه عليها، ولذلك تشددت وأنا على مقربة من الباب، وأجريت لساني بما يفيد الطاعة، وزدت على ذلك أن في وسعنا على كال حال أن نهمل النتائج. وكنت كأني في حلم، وكأني أحس - لا أسمع - سؤاله (أي نتائج؟)
فقلت بلهجة اليائس: إن أهل الطبقة الأولى سيرون أنهم أهينوا لأنهم عوملوا كأهل الطبقة الثانية، وإن أهل الطبقة الثانية سيعدون هذه سابقة، وينتظرون في كل حال أن يُسووا بمن فوقهم، وإن أهل الطبقة الثالثة سيستخدمون اسم سعادته (يعني كتشنر) في ابتزاز المال من الجهلاء والأميين من أبناء الريف.
(وساد سكون مزعج سألت نفسي فيه - بسرعة البرق - إذا طردت هل يسعني أن أسافر على الدرجة الأولى، ولو بطريق البحر الطويل؟ وسمعت كما يسمع الحالم صوتاً يقول: (أصغ ما بدا لك) واستيقظت في غرفتي حيث عجلت بإرسال ردود الشكر قبل أن يغير رئيسي رأيه
وفي الأسبوع الأول من عهد كتشنر، سمع المستر ستورس أن طائفة من الموظفين الإنجليز ينوون أن يستقيلوا، بعضهم لكراهتهم له، والبعض الآخر لأنهم يتوقعون منه أن يقيلهم. فرأى المستر ستورس من واجبه أن يبلغه ذلك من غير أن يذكر له أسماء. فقال له كتشنر: (اذهب إلى النادي (تيرف كلوب) وأعلن هناك أن عندي هنا في هذا الدرج استئمارات مطبوعة بقبول الاستقالات). فأذاع المستر ستورس هذا الخبر، فلم ترد استقالة واحدة!
ويقول المستر ستورس إنه اشتاق إلى الاطلاع على هذه الاستئمارات العجيبة، ففتح المدرج فألفى فيه صندوقاً فيه سجاير!
وتغدى سلاتين باشا مرة مع كتشنر، فقال على الطعام، تمهيداً للكلام في أمر (معاشه):(243/5)
(إن من دواعي أسفي أني لم أوفق في حسن تدبير الجانب المالي من حياتي)
فقال كتشنر: (إن من يعرفك يا عزيزي سلاتين لا يخطر له غير ذلك)
ولم يكن هذا بالرد المشجع على الاسترسال ولكن سلاتين باشا لم ينهزم فقال:
(هأنذا ظللت في أسر المهدي اثنتي عشرة سنة، عارياً مكبلاً أكثر الوقت، وقد وقعت في هذا الأسر وأنا في الخدمة، ومع ذلك لم آخذ قرشاً واحداً طول هذه المدة)
فكان رد كتشنر: (صحيح يا سلاتين، ولكنك لا تستطيع أن تزعم أنك أنفقت شيئاً في هذه المدة!)
وبعد هذا الجواب انتقل الحديث فجأة إلى الطيران ومحصول القطن!
ولما جاء إلى مصر كامل باشا الذي تولى الصدارة العظمى في تركيا أربع مرات، زاره اللورد كتشنر في فندق سمير أميس، فتذكر كامل باشا أنه لما كان والياً في الأناضول كان كتشنر قنصلاً لدولته هناك، فقال كتشنر:
(نعم، ولكنك توقلت في معارج الرقي بسرعة، أما أنا فكنت يومئذ قنصلاً، وقد احتجت إلى ثلاثين سنة لأصبح قنصلاً عاماً)!
وكان إذا جاءه البريد من لندن، يفتح منه أول ما يفتح، كتاب وكيله الذي يصف له فيه مبلغ التقدم في إعداد بيته هناك وإصلاحه. ويقول ستورس: إن العمل في بيت كتشنر استغرق سنوات وسنوات، لأنه كان ينفق عليه مما يستطيع أن يدخره من مرتبه. وكان هذا البيت هو كل ما يعنيه من أموره الخاصة؛ وشاء القدر ألا يسكنه قط، لأنه غرق قبل أن ينتقل إليه
ولم يكن يحسن الكتابة أو يقبل على القراءة ويعنى بالاطلاع مثل كرومر. وكان قلما يلعب غير الشطرنج في القطار أو على الباخرة. ولم يكن له ذوق غورست وفهمه للموسيقى والعلوم الطبيعية، أو ولع اللنبي بالألعاب الرياضية والشعر، ولكنه كان مشغوفاً بالعاديات وفنون الزينة
وقد قامت الحرب، وهو في إجازته في إنجلترا، فأراد أن يعجل بالعودة إلى مصر لأنه كان يخشى أن تكل إليه حكومته وظيفة استشارية. فلما صار على ظهر الباخرة تلقى برقية من رئيس الوزارة يطلب بقاءه، فعاد إلى لندن ومعه السير رونالد ستورس وفي نيته ألا يقبل(243/6)
شيئاً دون وزارة الحربية مع إطلاق يده فيها. فأعطوه ما طلب. فأراد أن يتخذ السير رونالد سكرتيراً خاصاً له وأمره أن يستأجر له بيتاً، ويجيئه بسيارة من طراز (رولز دويس) وأن يذهب إلى الخارجية للاتفاق معها على الانتقال مع كتشنر إلى الحربية. وكان السير رونالد لا يريد هذا الانتقال لأنه ليس من رجال الحرب ولا دراية له بشئونها، ولكن كتشنر كان رئيسه - لأنه لم يستقل من وظيفته في مصر - فأطاع. فأبى رجال الحربية أن يسمحوا بهذا النقل، ولكنهم كرهوا أن يعارضوا كتشنر، فكلفوا ستورس نفسه أن يتولى هو عنهم إقناعه وإبلاغه أنهم محتاجون إليه في مصر
فلما عاد إلى وزارة الحربية ألفى كتشنر يغسل وجهه، وهو نصف عار، ووراءه عدد من القواد الفرنسيين، فانتظر حتى فرغ مما هو فيه، ثم أخبره الخبر، فاقتنع كتشنر، وقال: إن رجال الخارجية على حق. وكان من مزاياه - على ما يروي السير رونالد ستورس - أنه لا يتردد في الرجوع إلى الحق، ولا يخجل أو يستنكف من ذلك
إبراهيم عبد القادر المازني(243/7)
اختلاف
حدود الحق والواجب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مفتش التعليم الثانوي
إن حدود الحق والواجب تختلف في الأماكن المختلفة بعض الاختلاف كما أنها قد تختلف في الأزمنة المختلفة أو في المكان والزمان لاختلاف الطبائع والصفات النفسية وما يتبعها من الآراء. وهذا الاختلاف في تعريف حدود الحق والواجب وتعيينها قد يغر الناس في عصور الانقلاب الاجتماعي فينبذونها كلها ويحاولون أن لا يتقيدوا بها وأن لا يجعلوا لها شأناً، ويحسبون أن الحياة تستطيع أن تقوم وأن تحسن وتصلح من غيرها، ويغالطون أنفسهم كي يستثمروا نبذها لجلب مطالب وقضاء لبانات
والحقيقة أن للحق والواجب حدوداً لا يختلف فيها أحد وإن اختلف الناس في حدود حقوق وواجبات أخرى، وأن كثيراً من الناس ينبذون حتى الحدود التي يعترفون بها عجزاً عن كبح أثرتهم وأن الحياة لا تصلح إلا بنصيب كبير من احترام حدود الحق والواجب التي تحددها القوانين الإنسانية والضمير والشرائع الدينية حتى في عصور التغير الاجتماعي التي يكثر فيها العبث بتلك الحدود، بل ربما كانت تلك العصور أحوج إلى طوائف من الناس يزداد تشبثها بتلك الحدود حفظاً للتوازن الحيوي لأن الحياة قائمة على التوازن وسنته هي سنتها. ومن درس كتب التاريخ وجد في الأمم المختلفة حتى في إبان الثورات والحروب والكوارث الطبيعية وفي وسط ما تبتعثه بالاضطراب الخلقي والإجرام - أناساً يعملون أعمالهم اليومية في حدود الحق والواجب، وأناساً يزداد تشبثهم بتلك الحدود حسب سنة التوازن الحيوي التي أشرنا إليها
ومن الناس من يقول إن حدود الحق والواجب إذا استعبدت الناس استعباداً مطلقاً وتقيدوا بحروفها دون معانيها وظروفها منعت من تحوير الحقوق والواجبات لإنمائها وتحسينها كما يتطلبه رقي الإنسانية. ولعل الصواب الذي في هذا القول أقل من المغالطة المقصودة أو غير المقصودة، وأقل من سوء التطبيق الذي تدفع إليه الرغبة في التخلص من بعض تلك(243/8)
الحدود، وأقل من الغفلة التي تمنع من يقول هذا القول من أن يعرف أن أكثر الحقوق والواجبات اللازمة لرقي الإنسانية معروف، وإنما هو القصور عن عليائها الذي يمنع من الرقي في أكثر الأحوال
ولا ننكر أن بعض عصور الانقلاب الاجتماعي التي جرت في أذيالها شيئاً مما دعا إلى طمس بعض حدود الحق والواجب القديمة قد أدى إلى تعديل وتحوير وتحسين في حالة الإنسانية، ولكن المصلحين المثقفين كانوا يختلفون عن الدهماء وأمثال الدهماء، فإن المثقفين كانوا يعتبرون هذا الطمس ضرراً عارضاً مؤقتاً لابد من منع شره من أن يستطير، وأنه ليس سبب الرقي ولا أساسه، وأنه ينبغي قصره على الحد الذي يمكن الدهماء إذا كانوا لا يمكنون إلا معه من الرغبة في الحقوق والواجبات الجديدة. أما أمثال هؤلاء الدهماء وأنصاف المثقفين وذوو الأثرة والجشع والمكر والخبث ممن ينعق في أثر كل مصلح فيحاولون طمس جميع حدود الحق والواجب كي ينتفعوا ولا يبالون ما يكون بعد انتفاعهم
وبالرغم من سنة التوازن التي تؤدي إلى زيادة تشبث بعض الطوائف الإنسانية إذا نقص تشبث غيرها بحدود الحق والواجب قد يتدهور المجتمع الإنساني بسبب قوة عوامل الخراب التي تطغى وتشل أثر هذه السنة حتى ولو كان التغير المطلوب مما يرجى فيه خير الإنسانية، وبعض التغير لا رجاء فيه فتكون المصيبة أكبر والخسارة مضاعفة
ومن المستطاع التمييز بين وهْيِ حدود الحق والواجب الناشئ من التغير المؤدي إلى رقيّ، وبين وهيها الناشئ من تغير لا يؤدي إلى رقي - وإن اختلطا في أذهان الناس ونفوسهم - فالوهي الأول لا يكون شاملاً لجميع الطوائف والطبقات والأفراد، بل نرى من الطوائف من لا يتأثر به ولاسيما طائفة المحافظين على القديم. أما الوهي الثاني الذي يؤدي إلى تدهور فيكون شاملاً، ومن دلالاته أن الطائفة المحافظة على القديم قد تكون من أكثر الطوائف تأثراً به بالرغم مما يتفاخر أفرادها من المحافظة على حدود الحق والواجب. والنوع الأول مقصور على بعض حدود الحق والواجب غير شامل لها، وإنما يقصر على ما يراد تعديله وإنماؤه من الحق والواجب. أما النوع الثاني فإنه يظهر بمظهر شامل لجميع حدود الحق والواجب أو أكثرها؛ والنوع الأول نرى من خلفه حقوقاً وواجبات أخرى يتقيد(243/9)
بها الإنسان. أما النوع الثاني فلا يليح بشيء من ذلك
وبهذا القياس نستطيع أن نقيس حالة الأمم. فإذا كان احتقار حدود الحق والواجب شاملاً لطوائفها وطبقاتها حتى وإن أنكر بعضهم شموله، وإذا كان غير مقصور على بعض الحدود، وإذا كان لا يبشر بحدود أعلى وأتم وأحسن، وإذا لم كان غير مصحوب بالغيرة على المثل العليا، ولم تكن تلك المثل الداعية إليه، فهو نذير شؤم وتدهور واضمحلال
ولكن مما يؤسف له أن بعض المثقفين لا يميزون هذا التمييز ولا يعيرون هذا القياس اهتماماً بل يكتفون برؤية مظاهر تغير اجتماعي مصحوبة بوهي حدود الحق والواجب فيحسبون أن ذلك إنما كان لتسهيل قبول حدود حقوق وواجبات جديدة أكثر قداسة، ويفترضون أن مظاهر التغير هذه لابد أن تؤدي إلى الرقي المؤجل الدائم. وما يسهل انخداعهم أن تكون تلك المظاهر مصحوبة برقي في الماديات، ويحسبون أن ذلك الرقي في الماديات سيكون خالداً ومؤدياً حتما إلى زيادة حدود الحق والواجب متانة وظهوراً في النهاية وإن أضعفها وطمسها في البداية، ولا يميزون أنواع ذلك الضعف والطمس ولا يقيسونها بما ذكرنا من الشرائط. وربما يسهل انخداعهم أيضاً أن بعض المصلحين يعمدون إلى إضعاف تلك الحدود أو بعضها تقريباً لمبادئ جديدة كما يُعمل الهادم معوله في البناء القديم كي يهدمه وكي يؤسس مكانه بناء جديداً. وأكثر هؤلاء يحسبون أنه مهما بلغ من الفساد بسبب طمسهم حدود الحق والواجب فإنهم قادرون على علاج الفساد الذي سببوه. وهذا نوع من الغرور يختص به بعض دعاة الإصلاح ويسلكهم في زمرة المفسدين الذين لا يبالون أصلحت الدنيا أم خربت، حتى أن المفكر لا يستطيع أن يميز بين الطائفتين وأن يحكم على رجل من أي نوع هو
وينبغي للمفكر أن يميز بين المجتمع الإنساني والبنيان، فالبناء حجر أصم يمكن هدمه وإقامة بناء آخر مكانه ولا خطر في ذلك إذا تهيأت الأسباب والوسائل، أما المجتمع الإنساني فهو حي نام شبيه بجسم الإنسان الحي النامي لا بالبناء الأصم، والذين حاولوا إدخال إصلاحاتهم على اعتبار أن المجتمع كبناء من حجر أصم ما لبثوا أن عرفوا خطأهم، وزادتهم خبرتهم وزادتهم أخطاؤهم يقيناً أن المجتمع الإنساني ليس كالبناء المصنوع من حجر أصم بل كجسم الإنسان النامي الحي، ولكن بعض هؤلاء أخطأ في حسابه وبالغ(243/10)
فأفلتت منه الأمور واضمحلت. وينبغي لكل من يعالج أمراً من أمور المجتمع الإنساني أن يقدر أنه قد يكون مخطئاً أو مغالياً حتى على شدة الثقة برأيه فيتخذ الحيطة. واجتماع هذه الأمور لا يكون إلا في مراتب الثقافة الإنسانية العالية. وينبغي لهذا المعالج لأمور الناس أن يحذر من أن يؤدي عمله إلى احتقار حدود الحق والواجب احتقاراً يصبح ناراً تلتهم كل الحقوق والواجبات أو تحاول التهامها ويصير مرضاً مزمناً في المجتمع الإنساني، وهو إذا حاول استخدام احتقار حدود الحق والواجب الناشئ من المكر والخبث والجشع، واستثمارها بتقديم أصحاب هذه الصفات كان عمله آفة لا إصلاحاً، وصارت أمور الناس ضيعة يستغلها من لا يبالي أصلحت الدنيا أم خربت. وقد يستغلها ويخربها باسم الإصلاح بقدوته ونفوذه العلني والسري، والثاني شر من الأول لأنه مختف فيندفع صاحبه غير هياب ولا وجل في إفساد الأخلاق والذمم والضمائر والنفوس. ويكون معالج أمور الناس الذي قدمه كالمرأة التي تغزل بيد وتنقض غزلها باليد الأخرى، وربما سطت بتلك اليد الأخرى على غزل غيرها ونسجه فتتلفه أيضاً.
عبد الرحمن شكري(243/11)
بين تيمورلنك وبايزيد
قصة الملك الأسير في قفص من حديد
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لما زرت أنقرة عاصمة تركيا الجديدة منذ أعوام، وتأملت المدينة الناشئة التي اختارها القدر لتكون مبعث حياة جديدة للأمة التركية، تذكرت أن هذه الهضاب القفرة التي تحيط بالعاصمة التركية الجديدة كانت مسرحاً لحدث عظيم في تاريخ الدولة العثمانية، وأنها إذا كانت اليوم مركزة القوة والحياة في تركيا الجديدة، فقد كانت ذات يوم مبعث الدمار والويل لدولة بني عثمان وكادت أن تكون قبراً لسلطانهم الناهض ومجدهم الفتي
كان ذلك في سنة 1402م، حينما انقض تيمورلنك الفاتح التتري بجيوشه الجرارة على هضاب الأناضول كالسيل، وحينما نشبت في هاتيك الهضاب الوعرة بينه وبين السلطان بايزيد الأول موقعة أنقرة الشهيرة التي سحقت فيها قوى آل عثمان وأسر ملكهم وأمراؤهم، وكادت تمحى دولتهم من الوجود لولا أن تطورت الحوادث بعد ذلك بسرعة، وتوفي الفاتح التتري بعد ذلك بقليل، وانهارت دعائم ذلك الصرح العسكري الهائل الذي شاده تيمور بغزواته وفتوحاته وانتصاراته العظيمة
وكان تيمور قد بدأ حياة الفتح بعد ذلك بنحو ثلاثين عاماً، وخرج من سمرقند عاصمة ملكه الناشئ يثخن في الأمم والممالك المجاورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ويفتتح قطراً بعد قطر، ويسحق مملكة بعد أخرى؛ فلم يمض على هذا البدء ثلاثون عاماً حتى استطاع أن يجتاح جميع الممالك الواقعة بين سمرقند والشام، وبين قزوين والخليج الفارسي، وأن يفتتح الهند وخوارزم وفارس والجزيرة والقوقاز وأرمينية، وأن يبسط حكمه الشامل على تلك الممالك والأنحاء الشاسعة، وأن يبلغ ذروة الظفر والسلطان الباذخ
وفي سنة 1399م خرج تيمور من سمرقند بجيشه الظافر لآخر مرة؛ وكان قد نفذ إلى الهند قبل ذلك العام وأثخن في بسائطها وقواعدها؛ واستولى على دهلي حاضرتها، وتم بذلك افتتاحه لممالك آسيا الوسطى؛ واخترق تيمور بجيشه الزاخر فارس واتجه نحو بلاد الكرج وأرمينية؛ وكانت هذه المنطقة مثار خلاف دائم بينه وبين بني عثمان، إذ كانوا يغيرون عليها من وقت إلى آخر؛ وكانت أملاك تيمور وبني عثمان تلتقي هنالك عند أرضروم(243/12)
والفرات؛ وزحف تيمور على سيواس، وكان الترك العثمانيون قد احتلوها قبل ذلك بقليل، واستولى عليها؛ وبلغت هذه الأنباء سلطان الترك بايزيد الأول، وهو معسكر بجيشه تحت أسوار قسطنطينية يحاصرها، فلم يستطع شيئاً؛ واخترق تيمور بلاد الأناضول، وزحف نحو الشام وهي يومئذ ولاية مصرية، يقصد افتتاحها؛ ثم يفتتح مصر؛ وبذلك يبسط سلطانه على الشرق الإسلامي بأسره. واستولى تيمور على مدينة حلب في مناظر هائلة من السفك والعيث والنهب، وانقض سيل التتار المخرب على ربوع الشام يثخن فيها ويحمل أمامه كل شيء. وزحف الغزاة على دمشق في أوائل سنة 803هـ (1400م)؛ فروعت مصر لهذه الأنباء، وهرع ملك مصر الناصر فرج بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ونزل بدمشق في جمادى الأولى، واشتبك جند مصر مع جند الفاتح في معارك محلية كانت سجالاً؛ ولكن السلطان اضطر أن يعود فجأة إلى القاهرة لأنباء مزعجة نميت إليه فترك دمشق لمصيرها؛ واستولى تيمور على دمشق صلحاً، ولكنها لم تنج من سفكه وعيثه؛ على أنه لم يمكث طويلاً بالشام إذ وصلته الأنباء عن أهبة بايزيد وحركاته؛ فغادر الشام شرقاً إلى الفرات، ثم سار شمالاً إلى بلاد الكرج، وأشرف مرة أخرى على حدود مملكة (الروم)
وهنا تبدأ بين هذين العاهلين العظيمين وقائع تلك المعركة الشائقة التي تسبغ عليها تفاصيلها لوناً من الخيال الساحر، فقد استقبل تيمور سفراء بايزيد وأنبهم على مسلك مليكهم، وكتب إلى بايزيد رسالة يلومه فيها على حمايته لبعض الأمراء الذين خرجوا عليه، ويفاخره بفتوحاته الباهرة وسلطانه الباذخ ويحذره من سطوته وبطشه ويتحداه في عبارات جافية مثيرة؛ فرد عليه بايزيد برسالته الشهيرة التي تذكرنا عباراتها وأسلوبها برسائل الملوك الأقدمين وعهد الأساطير، وفيها يسخر منه وينتقص من قدره وقدر فتوحاته وغزواته، وينسب توفيقه فيها إلى غفلة الزمن وإلى ضآلة شأن خصومه، ويحمل على وسائله في الحرب والسياسة، ويرميه بالعدوان والغدر، ويرمي جنده ومواطنيه التتار بالعجز والخور؛ وينوه بقوته ومقدرة جنده، وعظيم استعداده للحرب والطعان. على أن ذلك لم يكن شيئاً بالقياس إلى ذلك التحدي الغريب الذي اختتم به بايزيد رسالته إلى تيمور، إذ يقول له: (فإن لم تأت تكن زوجاتك طوالق ثلاثا؛ وإن قصدت بلادي وفررت عنك ولم أقاتلك فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثا). ويعني ابن عربشاه مؤرخ تيمور عناية خاصة بذكر(243/13)
محتويات الرسائل التي تبادلها الملكان، ويقول لنا إن تيموراً حينما وقف على هذا القسم الغريب الذي يلقيه بايزيد في وجهه ثارت نفسه غضباً، (لأن ذكر النساء عندهم من العيوب، وأكبر الذنوب)، فكيف بهذه الإشارة المثيرة إلى نساء الفاتح وحليلاته
وهكذا اعتزم العاهلان أن يخوض كلاهما ذلك النضال الذي يشهره كلاهما في وجه الآخر؛ فبادر تيمور إلى الزحف في جيشه الزاخر شرقاً نحو هضاب الأناضول، ونفذ إلى مملكة الروم، واستولى في طريقه على مدينة قيصرية، ثم اخترق نهر هاليس، وطوق مدينة أنقرة؛ وكان بايزيد قد استطاع في الفترة التي قضاها تيمور في الشام أن يجمع قواته وأن يستكمل أهبته. وتقول لنا الروايات المعاصرة إن جيش التتار بلغ يومئذ زهاء ثمانمائة ألف مقاتل، وأن جيش الترك بلغ زهاء أربعمائة ألف، وهي أرقام هائلة في تلك العصور وخصوصاً إذا ذكرنا ما كانت عليه وسائل النقل والتموين يومئذ من نقص وصعوبة. وكان الجيش العثماني يتفوق على جيش التتار بنظامه، ويمتاز بالأخص بفرق الانكشارية الجريئة؛ ولكن جيش التتار فضلا عن تفوقه العددي، كان متفوقاً في روحه المعنوي. وكانت هذه الانتصارات المتوالية التي أحرزها التتار ما بين السند والأناضول قد بثت في نفوس الغزاة روحاً من الثقة الوطيدة. ولما وقف بايزيد على مقدم تيمور هرع إلى لقائه في ظاهر أنقرة، وكان هذا اللقاء الشهير بين الجيشين العظيمين في يوم الأربعاء 27 ذي الحجة سنة 804 (أواخر يولية سنة 1402) وأبدى بايزيد وجيشه شجاعة فائقة؛ ولكن سرعان ما دب الوهن إلى قواته، وانسحب بعضها من الميدان بإغراء تيمور ووعوده. وسرعان ما حلت النكبة بالترك فمزقت قواتهم وسحقت، وأسر بايزيد وعدة من ولده وآله؛ وفر ولده سليمان في بقية من الجيش صوب العاصمة؛ وطارد الغزاة العدو المنهزم، واستولوا على كوتاهية؛ ثم زحف محمد سلطان حفيد تيمور إلى بروصه عاصمة مملكة الروم فاستولى عليها، وعاث فيها ونهب القصور الملكية وسبى حريم السلطان، وفر سليمان إلى الشاطئ الأوربي حاملاً ما استطاع إنقاذه من خزائن أبيه. وسحق ملك بني عثمان تحت سنابك الغزاة مدى حين
وهنا تعرض للحرب صفحة في تلك المأساة الشهيرة، فإن ابن عربشاه مؤرخ تيمور يقول لنا إن الفاتح التتري سجن بايزيد في قفص من الحديد كما فعل قيصر مع سابور ملك(243/14)
فارس؛ وهي رواية عربية تؤيدها الروايات اليونانية واللاتينية المعاصرة؛ بيد أن رواية ابن عربشاه ليست في حاجة إلى التأييد، فهو مؤرخ معاصر كتب روايته بعد وفاة تيمور بنحو ثلاثين عاماً فقط، واستقى مادته في سمرقند ذاتها حيث عاش مع أسرته ردحاً من الزمن وسمع أقوال رواتها وشيوخها المعاصرين لتيمور، واستقاها كذلك من بلاط السلطان محمد الأول بن السلطان بايزيد، حيث قضى في خدمته حيناً وتقلد لديه ديوان الإنشاء، واطلع على جميع المصادر والوثائق التركية والفارسية التي تتعلق بسيرة تيمور وغزواته؛ وإذن فليس في روايته عن القفص الحديدي الذي سجن فيه بايزيد ما يدعو إلى الريب
وهنالك رواية أخرى يقدمها إلينا مؤرخ فارسي معاصر، هو شرف الدين علي الذي كتب سيرة تيمور بعد وفاته بعشرين عاماً، تحقيقاً لرغبة حفيده السلطان إبراهيم. وخلاصة هذه الرواية هو أن تيمور حينما علم بأن السلطان الأسير (بايزيد) قد اقتيد إلى خيمته، نهض للقائه، وأكرم وفادته، وأجلسه إلى جانبه، وعتب عليه في لفظ رقيق، وحمله تبعة ما وقع، ووعده بصون حياته وشرفه؛ فتأثر بايزيد لكرم خصمه، وأعرب عن ندمه وقبل منه خلعته، وعانق ولده موسى الذي أسر معه والدمع ينهمر من عينيه؛ وأنزل السلطان وباقي الأمراء الأسرى منزلا حسناً. ولما وصلت زوج السلطان وهي الملكة رسبنا اليونانية وابنتها وباقي حريم السلطان، حملن إليه مكرمات معززات. ولما دعي السلطان إلى الحفلة التي أقامها تيمور ابتهاجاً بالظفر؛ وضع تيمور التاج على رأسه، ووعده برد عرشه وملكه، ولكن السلطان الأسير ما لبث أن توفي، فحزن تيمور عليه وأمر بدفنه بين مظاهر التكريم في المدفن الذي أقامه لنفسه في بروصة، واختار ولده موسى ملكاً على الأناضول
على أن هذه الرواية لا يمكن أن تنال من الثقة ما تناله منا رواية ابن عربشاه، فهي على ما يلوح رواية قصر أريد بها تمجيد ذكرى الفاتح وعرض مناقبه. ويحاول المؤرخ الفيلسوف جيبون أن يوفق بين الروايتين، فيقول لنا إن رواية شرف الدين في شقها الأول صحيحة لا ريب فيها، فقد استقبل تيمور أسيره برقة وأكرم وفادته، ولكن بايزيد قابل كرمه بكبرياء وغطرسة، فاستاء تيمور واعتزم أن يقود أسيره في ركبه الظافر إلى سمرقند؛ ولكن محاولة بذلت لإنقاذ الملك الأسير حملت تيمور على التشدد في معاملته، فزج به إلى قفص من الحديد، اقتداء بما قرأه في بعض السير القديمة من أن سابور أحد ملوك الفرس وقع في(243/15)
قبضة قيصر فسجنه في قفص من الحديد. ويضيف ابن عربشاه إلى ذلك أن تيموراً أراد أن يذهب في التنكيل بأسيره إلى ذروة القسوة والمهانة، فدعاه ذات يوم إلى حفل أنس عقده؛ ولما جاء دور الشراب، التفت بايزيد فإذا بنسائه وجواريه يتولين سقاية الفاتح وصحبه أمام عيني مليكهن؛ وقد كان ذلك من تيمور مبلغة في الانتقام من خصمه والتشفي منه لما اجترأ عليه من ذكر النساء في مكاتبته. وقد كان لهذه الآلام المادية والمعنوية أثرها في الملك الأسير، فلم يمض على محنته بضعة أشهر حتى توفي في غمر الحسرات والأسى، وكانت وفاته في مارس سنة 1403م
وكانت هذه أيضاً آخر غزوات تيمور وانتصاراته؛ فلم يمض قليل على عوده إلى مملكته حتى لحقه المرض وتوفي في شهر فبراير 1405؛ وكانت وفاته نذير انحلال ذلك الصرح الشامخ الذي شاده بعبقريته وظفره وسعد طالعه
محمد عبد الله عنان(243/16)
عبرة السيرة
بين يدي (العدد الممتاز) من الرسالة
للأستاذ علي الطنطاوي
إن مائة ألف قارئ في مشارق الأرض ومغاربها، سيأخذون (غداً) العدد الممتاز من (الرسالة) وسيقرؤونه وسيحيي في نفوسهم هذه الذكرى العظيمة المحبوبة التي نقف عندها في كل رأس عام هجري، كما يقف المُصْحِر في واحة مخضرة ظليلة. . . ننشق منها عبير المجد، ونتسمع أغاريد النصر، ونتجلى في طلعتها طيف الأيام الباسمة التي كان من قطوفها ألف معركة ظافرة حملت غارها الراية الإسلامية، وألف مدرسة وألف مكتبة نالت فخارها وجنت ثمارها البلاد الإسلامية، وكان من حصادها هذه الحضارة التي نعمت في أفيائها الإنسانية، وكانت إحدى الحضارات العالمية الثلاث بل كانت أسماها (من غير شك) وأحفلها بالعظمة والفضيلة والحق!
نقف كل عام لنحيي ذكرى الهجرة ونحييها، فنكتب فيها ونقرأ ونذكر ونتأمل، ونرتفع على جناح هذه الذكرى إلى جوّ عال من العظمة والفضيلة والشرف، نبقى فيه ما بقي المحرَّم، فإذا مر مر معه كل شيء: صوّخت الآمال، وهجعت الذكريات، وعدنا نتخبط في سوداء اللجة. . . لا نربح من هذه الذكرى إلا ما يسيل على أقلام أولئك الأعلام البلغاء من طرائف البيان يحويها عدد الرسالة الممتاز، ولا نفيد من المحرم إلا ما (قد) نقرؤه في الصحف والمجلات من القصص والقصائد والمقالات. وكثير مما يكتب في العدد الممتاز، وبعض مما ينشر في الصحف والمجلات، قيم ثمين، نعتده ثروة جديدة تضم إلى آدابنا الغنية الحافلة بثمرات القرائح الخصبة الممرعة في الأعصار الطويلة، ولكن ذلك لا يكاد يجدي علينا في نهضتنا إذا نحن لم نحيي هذه الذكرى إحياءً، ونكتبها مرة ثانية على صفحات الوجود، ونأخذ منها عبرة تنفعنا في نهضتنا، وهذا ما أنشئ له العدد الممتاز، وهذا ما يراد من إصداره.
وفي هذه السيرة من القوة والسمو والحياة، ما يغذي عشرين نهضة ويمدها بالقوة، لا تدانيها في هذا سيرة في التاريخ ولا تشبهها، بل إن هذه السيرة أعجوبة التاريخ ومعجزته، وهي خيال بالغت الدنيا في تزيينه وتزويقه، وأودعته مثلها العليا كلها. فجعله الله حقيقة واقعة. .(243/17)
ولقد قرأت هذه السيرة مرات الله أعلم بعددها، في كتب لا أكاد أحصيها، ثم عدت اليوم أقرؤها لأجد في ثنى من ثناياها قصة مطوية أو حادثة مختبئة، أبني عليها فصلاً أكتبه للعدد الممتاز، وفي ظني أني لن أسير في قراءتها إلا قليلا حتى أملها وأعزف عنها لأني لا أجد فيها - وقد قرأتها حتى حفظتها - خبراً جديداً. . . وأقسم أني لم أسر فيها غير بعيد حتى أحسست بلذة فنية تمتلك عليّ أمري، وتستأثر بنفسي، كاللذة التي أمسها عندما أقرأ الأثر الأدبي البارع لأول مرة، وتغلبني حتى تضطرني أحياناً إلى قطع القراءة لأمسك بقلبي الواجب، أو أمسح عيني المستعبرة، أو أصغي إلى صوت الحق في ضميري، ومنادي الفضيلة في قلبي؛ ثم أسير فيها، فأنتقل من اللذة الفنية، والشعور بالجمال، إلى شيء أعلى من الفن وأسمى من الجمال: أحس بحلاوة الإيمان؛ وإن للإيمان لحلاوة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، فمن عرف درى ما أقول، ومن جهل لم ير إلا حروفاً فارغة من المعنى. . . وإذا جاء الإيمان جاءت معه البطولة بأروع أشكالها، والتضحية بأعجب أنواعها، وجاء معه الصبر والإيثار والقوة والشعور، وكل فضيلة من فضائل البشر. . . وكذلك كانت حياة أصحاب هذه السيرة!
كانت حياةً أسمى وأجمل من كل حياة عرفتها أو قرأت عنها أو تخيلتها: معرفة للغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وجهاد في سبيل هذه الغاية، وجرى على هذا الجهاد، وترفع عن خدع الحياة وألاعيبها، واتصال بالله يكاد والله يرفعهم من رتبة الإنسانية إلى رتبة الملائكة ويخرج بهم من ثوب الجسم الماديّ، حتى يكونوا روحاً خالصاً. . .
عرفوا ما هي الغاية من الحياة وفهموها، على حين جهل الناس هذه الغاية فهم يسألون أبداً: لماذا نعيش؟ أو خدعوا عنها بغايات دنيئة قريبة. . . أما هؤلاء الغربيون فحسبوا الغاية من الحياة هي الحياة. جعلوا السبب هو المسبّب، والوسيلة هي الغاية، فعمدوا إلى تَرْفيهِ الحياة، واستخدموا لأجل ذلك ما قدروا عليه، فصارت حضارتهم آلية جامدة، وصاروا لطول ما اشتغلوا بالحديد والنحاس يفكرون بعقول من حديد ونحاس، وانقطعت صلتهم بالروح وانبتّوا مما وراء المادة. . . وأما هؤلاء المشرقيون، من الهنود وأمثالهم، فساروا على الضد، وأهملوا الجسم وعاشوا للروح، فظنوا بأن غاية الحياة الفناء في المطمح الروحي،(243/18)
فقتلوا أجسامهم، وأعرضوا عن دنياهم، وأغرقوا أعمارهم في تأمل لا أول له ولا آخر، ولا جدا منه ولا منفعة. . أما الفلاسفة فكان منهم الماديون الذين بلغ من رقاعتهم أن أنكروا الروح إنكاراً وجحدوا الله، وقال متكلمهم: (إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. . .) فجعل الفكر مادة سائلة. . . ومنهم الروحيون الذين كانوا أصحّ نظراً، وأدنى إلى الحق، ولكنهم لم يصلوا إليه. . . تساءلوا منذ بدؤوا يفكرون: لماذا نعيش؟ ولا يزالون مختلفين يتساءلون هذا السؤال الذي عرف المسلمون وحدهم جوابه، حين قرءوا قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله: (وما خَلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدون)
استدلّ المسلمون بالمخلوق على الخالق، وأرشدهم الله إلى عظمة هذا الكون (المكوَّن) فعرفوا منها ما لم يعرفه أصحاب الفلك من العلماء الماديين، غاية ما يعرف هؤلاء أن بيننا وبين الشمس كذا، وأنها أكبر من أرضنا هذه بكذا، ثم إن من هذه الكواكب كواكب لو ألقيت الشمس فيها لكانت رملة في صحرائها، أو نقطة من مائها، وما بين مشرق كوكب منها ومغربه أضعاف أضعاف ما بين الشمس والأرض، وغاب عنهم ما بعدُ من الكواكب، ووقفت دون رؤيته نظاراتهم ومكبراتهم، وعجزت عن الإحاطة به عقولهم وتصوراتهم، فسموه (فضاء غير متناهٍ)، كما يظنّ الطفل أن البحر لا ينتهي وليس له آخر. . . وهل شيء ليس له آخر، إلا مَنْ هو الأول والآخر؟ أما المسلمون فعرفوا أن وراء هذا الفضاء مخلوقاً عظيماً، يحيط به (كالسقف المرفوع) لا تقاس به هذه الكواكب إلا قياس (المصابيح) إلى السقف، تهون عنده هذه الكواكب العظيمة وتضؤل، لأن له من الكبر والجلال ما لا نجد في لغتنا هذه التي وضعت لهذه الأرض الحقيرة كلمة تدل عليه؛ هذا المخلوق هو السماء الدنيا، ومن فوقها ست سموات أخرى طباقٌ بعضها فوق بعض، ومن فوقها أشياء أجل وأكبر، لا تكاد هذه السموات تعدّ إذا قيست بها شيئاً، هي العرش والكرسي، وهناك الجنة، عرضها السموات كلها والأرض. . . هذه هي المخلوقات، التي كانت بكافٍ ونون، فما ظنك بالمكوِّن الباقي؟ ومن عرف هذا الجلال للمخلوق، كيف يكون إجلاله للخالق؟ وهل يجد لحياته غاية إلا الاتصال به وعبادته؟ وهل يقف به عقله وهمته في هذه الأرض؟. . . أي شيء هي الأرض في هذا الكون؟ ما هي في جنب الله؟
فهموا عقيدة القضاء والقدر أصحّ فهم وأجوده - وعقيدة القدر محنة العقل البشري، تزل(243/19)
فيها العقول الكبيرة وتضل المدارك العالية - فكان فهمهم إياها أعونَ شيء لهم على ما وفقوا إليه من عمل، وأمضى سلاح بلغوا به ما بلغوا من ظفر. عملوا أن كل شيء بخلق الله وبعلمه، ولكن الله لم يضطر أحداً إلى الخير اضطراراً، ولم يجبره على الشر إجباراً، وإنما أعطاه العقل المميز، ودله على الطريقين المختلفين، وقال له: هذا إلى الجنة والسعادة، وهذا إلى النار والعذاب، وتركه وعقله. . . وأنه قدّر الأرزاق فلا زيادة ولا نقصان، وحدّد الآجال فلا تقديم ولا تأخير، فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك؛ وإذا جاء أجلك فلا تستأخر لحظة ولا تستقدم. رفعت الأقلام وجَفَّت الصحف. . . فمضوا لا يهابون الموت في سبيل الله ولا يخافونه، لأنهم آمنوا إيماناً بأن المرء ليس أدنى إلى الموت، وهو في غمار المعركة الحمراء منه وهو في كسر بيته بين أهله وولده. . .
ولكن المسلمين الأولين لم يلقوا بأيديهم إلى التهلكة اعتماداً على أن الأجل محدود، ولم يُعرضوا عن سنن الحياة التي لا تجد لها تبديلا، بل اتبعوا قوانين الوجود، وساروا على نهج الحق، وحرصوا على الحياة حين يكون الواجب داعياً إلى الحياة، ورضوا بالموت حين يدعوهم الواجب إلى الموت. . . ولم يعرفوا هذا التوكل السخيف، فيناموا ويتقاعسوا عن العمل، لأنهم علموا أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولكن الله يرزق الناس بعضهم من بعض. وقرؤوا في القرآن قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله: (فإذا عزْمتَ فتوكل على الله) فعزموا على العمل، وتوكلوا فلم يتكاسلوا عنه، ولم يتكالبوا على الدنيا؛ وجدوا كل الجد، ولكنهم لم يطلبوا شيئاً إلا من طريقه المشروع، وعملوا لدنياهم كأنهم يحيون أبداً، ولكنهم عملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا
عرفوا هذه العقيدة على وجهها، فكانوا أعز الناس على الناس، ولكنهم كانوا أذلهم لله وللمؤمنين؛ وكان منهم أزهد الناس وهو أغناهم، لأن المال كان في يده لا في قلبه؛ وكان منهم الملك الزاهد، والعالم الغني، والفقير العزيز. . . وما شئت من خصلة من خصال الخير إلا وجدتها فيهم
كانوا إذا قرأوا في الصلاة قوله تعالى: (إيّاكَ نَعْبدُ وإيّاكَ نَسْتَعِين) كانوا صادقين، لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا به؛ لا يسألون غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعينون(243/20)
بالأموات الذين عجزوا عن معونة أنفسهم. ولقد قرأت السيرة وتلوت القرآن، فلم أجد في القرآن إلا أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر، في تركيب جسمه، وصحته ومرضه وطبيعة فكره، وخطئه وصوابه، ولكن الله اختاره للرسالة الكبرى، فعصمه من كل ما يدخل الخطأ على الرسالة، أو يؤدي إليه، أو يشين الرسول، فكان صادقاً مصدقاً، لا ينطق عن الهوى، ولا يقول (إذا بلغ عن ربه) إلا الحق، ولا يشرع من الدين إلا ما أذن به الله. وكان منزهاً عن الذنوب والمعايب التي لا يليق بصاحب الرسالة أن يتصف بها، فإذا جاوز الأمر تبليغ الرسالة وما يتصل بالدين إلى أمور الدنيا فهو بشر يخطئ ويصيب، وإن كان من أكثر الناس صواباً، وأقلهم غلطاً لأنه كان أكمل الناس عقلاً وأثقبهم بصير؛ ومادام بشراً فإنه يموت إذا جاء أجله. وإنه الآن ميت ليس حياً في قبره كما يظن الجهلة من العوام وأشباه العوام، ويمنعون الناس أن يقولوا إنه ميت، وقد قال الله ذلك في كتابه، وقاله أبو بكر صاحب الرسول وصديقه على منبر الرسول في مسجده، بحضرة أصحابه وعترته. أما الذي قاله عمر ساعة من نهار فإنما كان مصدره الألم المفاجئ، والحب الطاغي على الفكر، فلما سمع من أبي بكر ما سمع، لم تحمله رجلاه فسقط. . . . قرأت السيرة من ألفها إلى يائها، فلم أجد أحداً من المسلمين دعا الرسول أو لجأ إليه إذا حاق به الخطب الذي لا يقدر البشر على دفعه، وإنما كانوا يلجئون إلى الله ويدعونه، لا يقولون مقالة البوصيري:
يا أكرم الرسْل، ما لي من ألوذ به ... سواك. . . عند حلول الحادث العمم!
ولا قول الآخر يخاطب عبد الله ورسوله بهذا الخطاب الذي لا يخاطب به مؤمن إلا الله وحده:
يا أكرم الرسل على ربه. . . . .
عجل بإذهاب الذي أشتكي ... فإن تأخرت فمن أسأل؟
لا يدري من يسأل إذا تأخر رسول الله بإذهاب الذي يشتكي؟ وهو يقرأ كل يوم سبعة عشرة مرة (على أقل تقدير): (إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين)؟! ولم أجد صحابياً لجأ إلى الرسول بعد موته يستشيره في أمر، أو يراه في منام فيبني على رؤياه حكما ويأخذ منها علماً. ولقد اختلفوا على الخلافة والنبي صلى الله عليه مسجّىً في بيته لم يدفن، فما فكروا أن يلجئوا إليه وأن يستشيروه، وهل يستشار الميت؟(243/21)
صدقوا بإمكان المعجزات والكرامات (وهي ممكنة والإيمان بإمكانها من أصول الدين) ولكنهم لم يكونوا يفهمونها على نحو ما نفهمها اليوم، ولم أجد للصحابة - وهم أفضل المسلمين - مثل هذه الكرامات التي نقرأ حديثها ونسمعه كل يوم. . . ووجدت كتب السيرة كلما تأخر بها الزمن، زادت فيها أحاديث المعجزات حتى بلغت هذه الموالد العامية (مولد البرزنجي وشبهه) التي جاء فيها ما نصه: (ونطقت بحمله صلى الله عليه وسلم كل دابة لقريش بفصيح الألسن القرشية!). . . (وتباشرت به وحوش المشارق والمغارب). . . (وحضرت أمه ليلة مولده آسية ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية. . .!)
وقرأت السيرة كلها، ودققت في كل سطر منها فما شممت رائحة اختلاف بين المسلمين، لا في العقيدة ولا في المذهب ولا في الطريقة، وإنما المسلمون كلهم اخوة في أسرة واحدة، عقيدتهم واحدة، عقيدة بلغت من الوضوح واليسر و (البساطة) إلى حيث لا تدع مجالاً لاختلاف. وهل يختلف في أن الواحد يساوي الواحد؟ هذه هي عقيدتنا. . . ولكن المتكلمين أدخلوا فيها مسائل ليست من العقيدة في شيء، وملئوا بها كتبهم التي عقدوا فيها هذه العقيدة حين حشوها بحكاية كل مذهب مخالف والرد عليه. وجئنا نحن نزيد البلاء بلاء حين نحفظ الطلاب هذه المذاهب والرد عليها وقد انقرض أصحابها منذ دهور. . .
أما هذه (الطرق) فليست في أصل ولا فرع، ولا تكاد تمشي مع المأثور من الذكر، وإن أكثرها مسخرة ولهو ولعب: رقص سموه ذكراً، وغناء دعوه عبادة؛ فما أدري أهم أنبياء بعد محمد؟ (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)؟ وإلا فما بال هذه الحمحمات وهذه الدمدمات، وهذه الطامات المخزية التي نشهدها في تكية الدراويش المولوية وأشباهها من دور أصحاب الطرق أو. . . قطاعها!
ولقد قرأت السيرة كلها وأجهدت نفسي لأجد شيئاً من الأشياء، أو مكاناً من الأمكنة قدسه المسلمون وتبركوا به، فلم أجد إلا ما كان من تقبيل الحجر الأسود أو استلامه. وقول عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك). . . وتمنيت أن أرى في السيرة ذكر المحمل الذي صار في مصر من شعائر الحج، يتبرك عظماء مصر بلمس عنان جمله، ويعرض ذلك في (أفلام السينما) على أنه من أركان الحج. وأجد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان - وهو يعاني آلام مرض الموت(243/22)
- ينهى عن اتخاذ القبور مساجد، فأعجب من حال المسلمين اليوم إذ لا أرى مسجداً كبيراً إلا بني على قبر أو كان فيه قبر. . .
هذا قليل من كثير عرضته مثالاً لما في السيرة من عبرة تنفعنا في نهضتنا، ودرس يفيدنا في حاضرنا. فكرت قبل عرضه وترددت، ثم آثرت إرضاء الحق ومصلحة الأمة، ففتحت هذا الباب لندخل إلى هذه السيرة العظيمة فلا نخرج منها إلا بالحياة والعز والمجد، والمزايا التي تعيد للأمة الإسلامية مكانتها في الدنيا!
(بيروت)
علي الطنطاوي(243/23)
بين الوطنية والأممية
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار بالعراق
- 2 -
تصوروا أيها السادة أن هذا المفكر الذي استرسل في التحمس إلى القومية الألمانية بهذه الصورة العجيبة، كان قد ظل بعيداً عن التفكير في الوطن والوطنية حتى نكبة (يه نا) الأليمة. . . إنه تجاوز العقد الرابع من عمره، ولم يكتب كلمة واحدة عن الوطن والوطنية، مع أن أبحاثه الفلسفية كثيراً ما كانت تتناول مسائل الحياة الأخلاقية والاجتماعية. . . بل بعكس ذلك، أظهر ميلاً واضحاً نحو النزعة العالمية حتى أنه في أحد الدروس التي ألقاها في الثانية والأربعين من عمره - احتقر (الذين يرون وطنهم في الأرض والأنهر والجبال)، فقال: (إنني أسأل: - ما هو وطن الأوربي المسيحي المتمدن حقيقة؟ - هو أوربا بوجه عام، والدولة الأوربية التي تشغل الصف الأعلى في سلم الحضارة على وجه أخص. . .) وكان يشير فيخته في قوله هذا إلى الدولة الفرنسية نفسها!
إن المدة التي مرت بين نشر هذه الكلمة وبين حدوث واقعة (يه نا) كانت عبارة عن تسعة أشهر فقط! وأما المدة التي مرت بين نشر هذه الكلمة وبين إلقاء الخطب الوطنية التي بحثت عنها، فلم تتجاوز ثلاث السنوات!. . . فإن الوقائع التي حدثت خلال هذه المدة القصيرة اضطرت فيخته إلى الانتقال من الفكرة العالمية المتساهلة إلى النزعة الوطنية المتشددة، وجعلته من أشد المتعصبين للقومية الألمانية، ومن أقوى وأنشط الداعين إليها
وأما (آرنت) فقد اشتهر بأشعاره الوطنية التي أيقظت في نفوس الألمان روح الحماسة والتضحية، وأوقدت في قلوبهم ضرام النخوة والحمية في تلك الأيام المملوءة بأنواع المصائب والنكبات
فاسمحوا لي أن أسوق إليكم نموذجاً من أشعاره الحماسية قال:
(أعطوني وطناً حراً، وأنا أرضى أن أفقد كل شهرتي، فيصبح اسمي منسياً، لا يذكر في غير داري ودار جاري. . .(243/24)
(أعطوني بقعة أرض في جرمانيا، يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمى بسهم فرنسي. . .
(أعطوني كوخاً حقيراً يستطيع أن يصيح ديكي فوق حاجزه، دون أن يقع فريسة في يد فرنسي. . . وأنا أصيح عندئذ مثل الديك وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور،. . . ولو أفقد كل ما ملكته يداي، فلم يبق لي شيء يستر جسمي غير قميص بال. . .)
تصوروا أيها السادة أن هذا الشاعر الذي أظهر مثل هذا الشعور الوطني الرقيق بهذا الشكل الطريف، في هذا الشعر الحماسي، وفي مئات من أمثاله. . . هذا الشاعر أيضاً كان بعيداً عن فكرة الوطن والوطنية - بتأثير النزعة العالمية السائدة حوله إذ ذاك -
حتى حروب نابليون. . . إنه اعترف بذلك هو نفسه، فقال: (إنني عرفت وطني في ثورة الغضب، وأحببته في ساعة النكبة، وآمنت بأنه لا بشرية بلا أمم، ولا أمة بلا وطن حر. . .)
أعتقد أن هذين المثالين يكفيان لإظهار التطور العميق الذي حدث في الآراء والنزعات في البلاد الألمانية عقب استيلاء الفرنسيين عليها، في العقد الأول من القرن التاسع عشر. .
نستطيع أن نقول إن الفكرة العالمية فقدت قوتها ونفوذها في ألمانيا تماماً، وتركت محلها لروح وطنية متأججة، استمر اضطرامها طول القرن التاسع عشر. .
مع هذا لم تندثر تماماً في سائر البلاد، بل بعكس ذلك - وجدت في بعضها تربة صالحة لنموها - تحت شكل جديد، هي فكرة (السلم الدائم العام. . .)
فقد تألفت عدة جمعيات تدعو إلى السلم والتآخي، منذ سنة 1814، وأخذت تسعى لنشر مبادئها بين المفكرين والناس بصور ووسائل شتى: إنها أخذت تدعو إلى توحيد الأوطان؛ حتى أنها لم تتردد في بعض الأحيان في توجيه حملات عنيفة على الوطنية في سبيل هذه الدعوة. . إن فكرة السلم والتآخي وجدت بهذه الصورة عدداً غير قليل من الأنصار والمريدين، بين الأدباء والمفكرين ورجال الدين. . وصار هؤلاء يعقدون سلسلة مؤتمرات أممية. . بقصد نشر فكرة السلم والتآخي بين الأمم. .
غير أننا إذا تتبعنا سير انتشار هذه الفكرة، نجد أن هذا الانتشار لم يجر باطراد، على وتيرة واحدة - فإن الفكرة كانت تنتشر انتشاراً لا بأس به مدة من الزمن ثم تتقلص وهلة،(243/25)
عندما تصطدم بالوقائع، وتشهد حدوث حروب جديدة، فتبدد الأحلام المستولية على الأذهان، وتثير ضغائن جديدة بين الأمم. . .
نستطيع أن نجد خير مثال لذلك فيما كتبه وقاله الشاعر الفرنسي العظيم (فيكتور هوجو). انجذب هذا الشاعر إلى فكرة توحيد الأوطان، ونشر ألوية السلم على العالم. فاشترك في مؤتمرات السلم، وألقى في بعضها بعض الخطب، وأرسل إلى بعضها بعض الرسائل؛ وفي كل ذلك أظهر نزوعاً شديداً نحو السلم العام، وإيماناً عميقاً في أمر توحيد الأوطان. . وتخيل في إحدى خطبه العهد الذي ستتحد فيه الدول الأوربية بأجمعها، والعهد الذي ستتصافح فيه الولايات المتحدة الأوربية (مع الولايات المتحدة الأمريكية) من وراء البحار، وتوحد أعمالها لخير البشر العام. . . كما حلم في العهد الذي ستنتقل فيه المدافع إلى المتاحف، وستترك القذائف محلها إلى أوراق التصويت في ندوة عالمية، تكون السيادة فيها للمناقشة العلمية والرأي الحر. . . وتحت تأثير هذه الأحلام وجه الشاعر دعوة حارة لإزالة الحدود والفوارق من بين الأمم، قائلاً: إن رأس البلاء هو الحدود؛ لأن مفهوم الحدود يتضمن المخفر، والمخفر يتطلب الخفير، والخفير يستوجب الجيش، والجيش يدعو إلى الحرب. . . فلنحذف الحدود. . لكي نرى ألوية السلم سائدة على العالم، وروح الأخوة منتشرة بين البشر. . .
ومن غريب الصدف أن هوجو كان قد أرسل هذا البيان إلى مؤتمر السلم الذي انعقد في لندن سنة 1869، أي قبل نشوب حرب السبعين بسنة واحدة فقط! وما كادت الحرب تنشب بين فرنسا وألمانيا، حتى ترك الشاعر هذه الأحلام جانباً وأخذ يبدع سلسلة أشعار حماسية، تتأجج فيها روح وطنية ثائرة. . .
إن هذا الشاعر لم يكن من الشواذ في هذا الباب. بل ظهر له أمثال كثيرون في كثير من البلاد. . . فعدد غير قليل من المفكرين انجذبوا مدة من الزمن إلى فكرة توحيد الأوطان، ثم عادوا إلى النزعة الوطنية والقومية تحت تأثير الوقائع والحادثات. .
لا ننكر أن بعضهم ظل متمسكاً بهذه الفكرة طول حياته، كما فعل (تولستوي) الشهير. . . فإنه ظل يدعي أن الوطنية من بقايا العهود الهمجية وأن من يعيش عيشة فكرية حقيقية لا يمكن أن يعترف بالوطن والوطنية. . . وظل يدعو الناس إلى نبذ النزعات الوطنية مهما(243/26)
كانت أشكالها، والى الامتناع عن الحروب مهما كانت الأسباب الداعية إليها. . . غير أن (روزفلت) الكبير أجاب على آراء (تولستوي) في إحدى خطبه بكلمة طريفة جداً قال:
(نعم، قد يأتي عهد - في أغوار عصور المستقبل البعيد - تفقد فيه الوطنية قيمتها وفائدتها. . . كما أنه قد يأتي عهد يندثر فيه نظام الأسرة فالزواج. . . غير أنه يجب أن نعرف جيداً أن الرجل الذي لا يفرق بين وطنه وسائر الأوطان - في المجتمع الذي نعيش فيه الآن - يكون عنصراً مضراً، كالرجل الذي لا يفرق بين زوجته وسائر النساء. . .)
إن دعاة السلم العام والأخوة البشرية الشاملة الذين ظهروا طول القرن التاسع عشر، وفي أوائل القرن العشرين، حتى الحرب العالمية - كانوا يتكهنون بقرب تحقق أحلامهم وأمانيهم. . . غير أن الوقائع والحادثات كانت تأتي على الدوام معاكسة لتلك الأماني والأحلام. . . كانوا يتكهنون بأن ساحات الحرب ستتحول إلى أسواق تجارية. غير أن الوقائع أتت بنتائج معكوسة لذلك تماماً، لأن الأسواق التجارية أصبحت مثاراً للحروب. . .
كانوا يقولون بأن المدافع ستنتقل إلى المتاحف. . . ولا ننكر أنه قد حدث شيء من ذلك، فإن المدافع التي كان يعرفها هؤلاء الدعاة انتقلت فعلاً إلى المتاحف؛ غير أن ذلك لم يحدث من جراء انتصار فكرة السلم العام، كما أنه لم يؤد إلى تقوية الفكرة المذكورة. . . بل إنه حدث من جراء اختراع أنواع جديدة من المدافع تفوق قوتها الحربية قوة تأثير المدافع القديمة مئات من الدرجات. . .
كانوا يوجهون أنواع السهام إلى (الحدود) التي تفصل الدول بعضها عن بعض؛ وكانوا يتمنون زوالها خدمة للسلم العام فقد حدث فعلا في الحدود التي كانوا يعرفونها، انقلابات عظيمة أدت إلى تبدل عشرات منها وزوال مئات. . . غير أن كل ذلك لم يحدث على أساس توحيد الأمم بأجمعها، ولا على أساس توحيد الأمم المتمدنة وحدها. . . بل حدث من جراء تحقيق النزعات القومية، وإعادة بناء الدول حسب مقتضيات تلك النزعات. . . فقد اتحدت الدويلات الكثيرة التي كانت تنقسم إليها بعض الأمم؛ فكونت دولة كبيرة أشد وطنية وأصلب قومية من جميع الدويلات التي اندمجت فيها. . . هذا ومن وجهة أخرى قد تجزأت بعض الدول الكبيرة التي كانت تتألف من أمم مختلفة النزعات، وانقسمت إلى عدة دول مستقلة؛ غير أن ذلك أيضاً حدث بتأثير النزعات القومية، وأدى إلى تقوية تلك(243/27)
النزعات. . .
تجاه هذه النتائج الفعلية فقدت الفكرة العالمية كل ما كان لديها من قوة؛ فأخذت فكرة السلم العالم ونزعة الأخوة البشرية اتجاهاً جديداً يختلف عما كان يقصده دعاة العالمية كل الاختلاف.
هذا الاتجاه الجديد، هو الدعوة إلى التعاون والتضامن بين الأمم داخل نطاق الوطنية والقومية تماماً. فلتبق كل أمة متمسكة بوطنيتها على أن تحترم وطنية الأمم الأخرى أيضاً. فلتبق كل أمة مستقلة في شؤونها على أن تتعاون مع سائر الأمم في مختلف ساحات النشاط البشري من العلم والثقافة إلى الاقتصاد والمواصلات. . .
إن هذه النزعة الجديدة لم تكن من نوع التمنيات الخالية، بل هي من النزعات العملية التي أنتجت نتائج باهرة، وساعدت على تكوين (مؤسسات أممية) كثيرة. . . من (اتحاد البرق والبريد الأممي) إلى (مؤسسة التعاون الفكري الأممي). . . ولاسيما بعد الحرب العالمية. . .
فنستطيع أن نقول لذلك: (إن نزعة الوطنية خرجت سالمة ظافرة من الكفاح العنيف الذي حدث بينها وبين فكرة العالمية بأشكالها المختلفة. . .)
غير أن الوطنية - بالرغم من تغلبها على النزعات المعادية التي ذكرناها آنفاً - وجدت نفسها منذ مدة، أمام نزعة معادية أخرى، أشد خطراً من جميعها. هذه النزعة هي (الماركسية) - نسبة إلى مؤسسها (كارل ماركس) - وبتعبير آخر هي: (الأممية الشيوعية)
إن دعاة هذه (النزعة الأممية) لم يحملوا بآمال السلم العام، ولم يعللوا أنفسهم بأماني الأخوة البشرية الشاملة. . . بل على العكس من ذلك آمنوا بضرورة الحرب، واستعدوا لها؛ غير أنهم قالوا إن هذه الحرب يجب أن تكون من نوع جديد. يجب أن تنشب بين الطبقات المختلفة لا بين الأمم المختلفة. يجب على عمال العالم أن يتحدوا على اختلاف أوطانهم ليحاربوا الرأسماليين مهما كانت قومياتهم. . .
إن دعاة الأممية الشيوعية يريدون تغيير نظام المجتمع الحالي من أساسه، ويعتقدون أن ذلك لا يمكن أن يتم دون ثورة وحرب، ويقولون بأن هذه الثروة يجب ألا تتقيد بقيود الوطنية بل يجب أن تعمل ضدها. . .(243/28)
يقول الماركسيون إن الوطنية من وسائط حكم الرأسمالية، هي من الأسلحة التي تستعملها الرأسمالية لخداع الصعاليك، واستخدامهم لأغراضها الخاصة فلا يمكن أن يتأسس النظام الشيوعي ما لم تهدم فكرة الوطنية الخداعة وتمحى الحدود التي تولدت منها. . . فالأممية الماركسية تدعو إلى نبذ الفكرة الوطنية، ومحاربة الرأسمالية، أينما كانت، وبأية واسطة كانت. . . لذلك تطلب إلى العمال أن يتحدوا دون أن يلتفتوا إلى الحدود التي أقامتها النزعات القومية الوطنية، ودون أن يتقيدوا بالروابط التي أوجدتها هذه النزعات، ولهذا السبب تبدأ دعوة الماركسيين كل يوم بهذه الصيحات:
(يا عمال العالم اتحدوا. . .)
تدعو الماركسية جميع عمال العالم إلى الاتحاد، لأنها تقول بأن وطن العامل هو المعمل وحده. . . وأما مواطنه الحقيقي فهو العامل الذي يكد مثله مهما كانت قوميته؛ كما أن عدوه الأصلي هو الرأسمالي الذي يستغله مهما كان الوطن الذي ينتسب إليه. . . فعدو العامل الفرنسي مثلا - ليس الجندي الألماني أو الإنكليزي أو الروسي - بل هو الرأسمالي، سواء كان من الفرنسيين أو الألمان أو الإنكليز أو الروس. . . فيجب على جميع عمال العالم أن يتحدوا لمحاربة الرأسماليين على اختلاف أوطانهم وقومياتهم. .
(البقية في العدد القادم)
ساطع الحصري(243/29)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 11 -
وصلت طلائع من كتائب المؤتمر الطبي في صباح اليوم. فليكن من هواي أن أتسمع أحاديث الأندية في المساء
لم يصل إلى فندق تايجرس غير طبيب واحد. وقد قضيت معه لحظة ففهمت أنه خالي الذهن من الغرض الصحيح لعقد المؤتمر الطبي في بغداد. وليس هذا بمستغرب من مثله، لأنه بولوني لا يعرف ما يساور شعراء العرب من المعضلات الوجدانية. وقد حاولت أن أفهمه أن المؤتمر إنما يعقد في بغداد لمعاونتي على مداواة ليلى فلم يفهم إلا أن اسم ليلى قد يكون اسماً لمرض من الأمراض. وما علينا إذ لم يفهم البولونيون!
لم يعرفني أحد من أطباء فلسطين وسورية ولبنان، فالذين قرءوا (مدامع العشاق) يحسبونني فتى لا يجاوز الثلاثين، والذين قرءوا (الأخلاق عند الغزالي) يحسبونني شيخاً يصافح الثمانين؛ وهم جميعاً يعتقدون أني مطربش لا مُسَدَّر، فدخولي بينهم بالسدارة يوهمهم حتما أني من فتيان العراق
وكذلك استطعت أن أسرق أحاديثهم في فندق استوريا من حيث لا يشعرون
تحدث طبيب منهم قال: ما كنت أحسب الزمن يسمح بمثل هذا الجنون؛ وما كنت أظن أن الجمعية الطبية المصرية تدعو أطباء العرب لعقد مؤتمر طبي يختبر حال ليلى المريضة في العراق. ولولا لجاجة زوجتي ما حضرت، فهي ترى التخلف عن هذا المؤتمر تحدياً للجنس اللطيف
واعترضه آخر فقال: هي فرصة طيبة لمشاهدة ليلى. وهي أيضاً مواساة للطبيب المصري الشهير زكي مبارك الذي هجر وطنه وأهله في سبيل الوجدان، ومن الواجب أن يكون بين أبناء العرب أطباء يتخصصون في طب القلوب
وقال ثالث: الذي يهمني هو مشاهدة ليلى ثم دعوتها لشرب كأس أو كأسين في فندق الفرات
وقد ضج الحاضرون بالضحك والقهقهة وكادوا يجمعون على طرافة هذا الإسفاف
كنت خليقاً بالحزن على ما صار إليه أدب الناس، ولكني حزنت على نفسي. حزنت حتى(243/30)
غلبني الدمع
فهؤلاء الذين يتصورون أن العافية لا تطلب لليلى إلا لتصلح لمعاقرة الكأس، هؤلاء تقدموا وتأخرت؛ هؤلاء تفردوا بالفوز وتفردت بالخيبة. وهل كنت أقل سفها منهم حتى يفوزوا وأخيب؟
إن خراب عيادتي في شارع المدابغ، وتدهور عيادتي في شارع فؤاد، وحياتي المشردة بين القاهرة وباريس وبغداد، كل أولئك النكبات ستهد من عزيمتي، أنا الطبيب المسكين الذي أضاعه الأدب فلم يعد يصلح لغير طب القلوب، في زمن خلا من القلوب
لن أسمح بخروج ليلى، ولن يراها أحد من أعضاء المؤتمر الطبي بعد الذي سمعت
ولكن هل كان ما سمعت هو كل السبب في حماية ليلى من أهل الفضول؟
الحق أني مريض بالغيرة. مريض، مريض لا يرجى له شفاء.
وكان مرض الغيرة خف بعض الخفة في سنة 1927 ثم عاد فأضرعني
وتفصيل ذلك أني جلست أصطبح في قهوة الروم في باريس، فرأيت فتاة فصيحة العينين تجالس رجلاً فانياً، فأخذت أداعبها بنظراتي؛ وكنت فتى فصيح العيون يرسل بعينيه إشارات وخطابات وبرقيات إلى من يشاء؛ وكانت الفتاة تفهم عني فتعبس تارة وتبسم تارة وفقاً لسياق الحديث. ورآها ذلك الشيخ موزعة بين الابتسام والعبوس، فسألها فلم تنكر، فأشار إلي أن أقترب فاقتربت، فقال بلهجة صارمة: ماذا تريد؟
وقد أزعجني السؤال، وتخوفت العواقب، فقد كنت في كل أدوار شبابي أبغض الذهاب إلى إدارة الشرطة، ولو لتأدية شهادة؛ وتلطف الله عزت قدرته فستر عيوبي، وأعفاني من ذل الاستجواب في مراكز البوليس. تباركت يا إلهي وتعاليت! فلولا لطفك لأذلتني شماتة الأعداء
وكنت في تلك الساعة أتصور بشاعة الذهاب إلى إدارة التحقيق فاضطربت وتلعثمت
وأعاد الشيخ سؤاله: ماذا تريد؟ خبرني ماذا تريد؟
فجمعت قواي وقلت: سيدي، أنا شاب من الشعراء، أنا من سلالة العباس بن الأحنف؟
فهدأ الشيخ قليلاً وقال: ومن العباس بن الأحنف؟ فأجبت: هو الذي يقول:
أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر(243/31)
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به ... عف الضمير ولكن فاسق النظر
وترجمت له البيتين ترجمة مقبولة فابتسم وقال: ومعنى ذلك أنك تحب أن ترى وجه هذه الفتاة وتسمع صوتها؟ فقلت: إن سمح سيدي! فقال:
ففهمت إشارته ودنوت فزاحمت بركبتي ركبة الفتاة
رباه! متى تعود أيامي!
وأفهمني الشيخ أنه شاعر سويسري، وأنه لا يرجو من هذه الفتاة إلا أن تكون مصدر الوحي. وتلطف فقال إنه يسمح لي بمصاحبتها حين أشاء
فقلت: عفواً، يا سيدي، فجيبي يعجز عن تكاليف الحب
فقال: لك الحب، وعلي التكاليف
فأهويت على يده فقبلتها قبلة ما سمحت بمثلها لشيوخي في الأزهر الشريف
وكانت فرصة عرفت فيها أن الغيرة لها حدود
ولن أنسى ما حييت عبارات ذلك الشيخ الجليل فقد كان يسألنا بعد كل نزهة: ماذا صنعتم يا أطفالي؟ فكنت أقول مثلا: رأينا بارك سان كلو، وطربنا لجمال الطبيعة هناك
فيقول: ثم ماذا؟
فأجيب: ثم رجعنا
فيقول في ألم وسخرية: وهذا كل ما صنعتم؟!
وتفهم الفتاة ما يريد الشيخ فتقول: أؤكد لك يا مولاي أن المسيو مبارك ليس من العقلاء. وكان يدهشني أن يستريح الشيخ لهذا التصريح فأمضي وأقص ما افترعنا من المغامرات
رباه! متى تعود أيامي!
ولم يدم هذا النعيم غير أربعة أشهر، ثم سافر الشيخ والفتاة إلى جنيف، وعاد مرض الغيرة يساورني من جديد. وسأكون بالتأكيد من أشرف صرعاه
ولكن هل تكون هذه الغيرة ضرباً من الغباوة والحمق؟
لا، لا، وإنما هي فيض من المروءة والشرف، فقد قضيت دهري وأنا أحقد على من يهينون الجمال. ولهذا سبب معقول؛ فالمرأة التي تجود عليك بابتسامة يكون من حقها عليك أن تحفظ معها الأدب في السر والعلانية. والمرأة تعطي كثيراً جداً حين تجود بابتسامة.(243/32)
والعاشق في جميع أحواله أقل تضحية من المعشوق، لأن العاشق يأخذ والمعشوق يمنح، والفرق بين الحالين بعيد. ولكن أين من يفهم المعاني؟
وقد أهلكني مرض الغيرة وأفسد جميع شؤوني وكاد يرزأني بالخراب. ولولا عناية الله لكنت اليوم ممن ينبذهم المجتمع ويتحاماهم الأهل والأقربون
فقد كان لي صديق من كبار الموظفين؛ صديق فيه شيء من الظرف وأشياء من السخف. وكان هذا الصديق يجب أن يطوف بي على رفيقاته من حين إلى حين؛ وكنت أعرف ماذا يريد؟ كان يريد أن أتعلم التسامح لأطوف به على رفيقاتي حين يشاء. وكنت أعرف ما يضمر وأسكت، لأني كنت أحب أن أقف على أمراض المجتمع لأحاربها عن علم لا عن جهل
وفي ذات يوم ابتدرني بهذه العبارة في لهجة جدّية:
- يا دكتور زكي، يا حضرة الفيلسوف، أما تحب أن تعرف رأي إخوانك فيك؟
- رأي إخواني؟ وماذا يرى إخواني؟ فما كنت إلا خير صاحب وأكرم رفيق
- أنا؟ أنا بخيل؟ وكيف وكان إخواني يغامرون ما طاب لهم الهوى، اعتماداً على الجيب الملآن، جيب الرجل الذي يجوع ليشبع الرفاق؟
- هم لا يتهمونك بالبخل من الناحية المادية، وإنما يتهمونك بالبخل من الناحية الغرامية
وعندئذ شعرت بأني مقبل على خطر فقلت:
- وماذا يريد إخواني؟
- يريدون أن تطوف بهم على رفيقاتك
فقلت: ليس لي رفيقات
فقال: يا سيدي، يا سيدي، على منطق الدكاترة!
فقلت: أؤكد لك ولسائر الإِخوان أني لا أعرف غير الكتاب والقلم والدواة والقرطاس
فقال: تعجبني حين تتخذ من حياتك العلمية ستاراً لحياتك الغرامية!
فقلت: أتحداك أن تذكر اسم امرأة واحدة يتصل بها غرامي
فقال: هل تنكر أن لك علاقات مع السيدة (. . .)
ونطق السفيه المجرم باسم امرأة مصونة أفديها بروحي. فلطمته لطمة أطارت ما كان وقع(243/33)
على صدره من أغربة الأحلام والأماني
فنظر إليّ في تخاذل وقال: وَحْش!
فقلت: ولا يؤدب الأوباش غير الوحوش
وأراد أن يجمع ما تناثر من أشلاء شجاعته ليقابل العدوان بالعدوان، فنظرتُ إليه نظرة ساخت بها روحه، فانصرف وهو يقول: طوِّل بالك!
وقد طوّلت بالي، وكنت أتوقع أن يعود بعد ساعة أو ساعتين وفي يده مسدّس، ولكنه لم يعد أبداً
ثم عرفت بعد حين أنه انتقم مني على طريقة أمثاله من الأنذال، فكان يرسل خطابات مجهولة إلى الدوائر التي تؤذيني أن أُذكر عندها بالقبيح، فتلطخت سمعتي بالمنكرات في أقل من أسبوعين
رابه! ماذا نعاني في سبيل المروءة والشرف؟
ومشيت يوماً في شارع فؤاد أروِّح عن نفسي قليلاً برؤية اللؤلؤ المنثور، اللؤلؤ الذي يتوهج بذلك الشارع في الأصائل والعشيات، فلقيني صاحب قديم فقلت: من أين قدمت؟
فقال: كنت في منزل (. . . باشا)
فقلت: وكيف حاله؟ فقد طال شوقي إليه
فقال: لم أجده في المنزل، وإنما جلست مع زوجته لحظة، جلسة بريئة بالطبع
فنظرت إليه نظرة ساخرة وقلت: أتريد أن توهمني أنك كنت تملك الفجور وعففت مع أنك أضعف من الخصيان؟
وخلاصة القول أني أتهم المجتمع، وأرى من النذالة أن نعرض بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا للناس. ولا يضايقني أن يغضب صديقي الدكتور إبراهيم ناجي وهو يكرر كلمة المرحوم زكي باشا إذ قال: إن زكي مبارك عاش في باريس ما عاش وظل مع ذلك فلاحاً من سنتريس
نعم، فلاّح، ثم فلاح، فإن شاء أبنائي أن يثوروا على أبيهم الفلاح فليحملوا إن استطاعوا رذائل المجتمع. أما أنا فقد نجوت ولله الحمد، فكانت زوجتي ترفض أن تستقبل أخاها الشقيق وأنا غائب. ويسرني أن أسجل اعترافي بالجميل لزوجتي الفلاحة التي سارت سيرة(243/34)
أمها وجداتها فحفظت قلبي سليما من الهموم التي تزلزل عزائم الرجال
وإذاً فلن تخرج ليلى ولن يراها أعضاء المؤتمر الطبي
كذلك صممت ولن أرجع عما صممت
ومضيت إلى دار المعلمين العالية فإذا خطاب بالبريد الجوي وعلى غلافه:
(وزارة المعارف العمومية)
(مكتب الوكيل)
وزارة المعارف ومكتب الوكيل؟ وبالبريد الجوي؟
يا فتاح يا عليم!
أتكون وزارة المعارف أرادت أن ترجعني إلى مصر للتفتيش بالسنة التوجيهية والعياذ بالله؟
أتكون وزارة المعارف فكرت في إلغاء انتدابي لمداواة ليلى المريضة في العراق؟
ومرّت بالبال خواطر كثيرة، إلا خاطراً واحداً، هو أن تكون وزارة المعارف فكرت في تسديد ما عليها من الديون. وهل في الدنيا إنسان يبادر بتسديد ما عليه من ديون بلا طلب وبلا إلحاح؟ إن ديوني على وزارة المعارف ديون ثقيلة؛ ولن تدفعها إلا يوم يشهد معالي الوزير أو سعادة الوكيل بأنني رجل مظلوم لن يصل إلى مناصب تلاميذه إلا بعد أعوام طوال
ثم تشجعت وفضضت الخطاب فإذا سعادة العشماوي بك يخبرني بأنه قادم مع أعضاء المؤتمر الطبي، وأنه يسره أن يراني وأن يرى المصريين المقيمين بالعراق
ولكن لماذا اختصني سعادة العشماوي بك بهذا الخطاب؟
أغلب الظن أن يكون بعض الدساسين كتب إليه أني لا أؤدي الواجب في خدمة ليلى، فهو يريد أن يرى بعينيه ما صنعت في خدمة ليلاي
وإذاً فسيكون من الحتم أن تخرج ليلى لحضور حفلة الافتتاح
فما هذه المشكلات التي تثور في وجهي من حين إلى حين؟
من حق العشماوي بك أن يرى ليلى، ومن حقي أن أحجب عنه ليلاي
وأشهد أني قضيت يومين في درس هذا الموضوع الخطير. وكنت لا أعرف بالضبط: هل أغار على ليلى؟ أم أخاف على العشماوي بك؟ والحق أني أغار على ليلى وأخاف عليه،(243/35)
أما غيرتي على ليلى فهي مفهومة لا تحتاج إلى شرح؛ وأما خوفي عليه فيرجع إلى اعتقادي أنه من أرباب القلوب. وربما جاز لي أن أصرح بأنه كان من عبيد الجمال في صباه؛ وإلا فكيف أتفق أن يكون دائماً من أنصار الآداب والفنون؟ وهل يعطف على الأدب والفن غير أرباب القلوب؟
ثم مرّ بالبال خاطر سخيف؛ ولكن لابدّ من تدوينه في هذه المذكرات. ألم أقل أني أدوّن عيوبي قبل أن يدوّنها الكرام الكاتبون؟
أنا مفتش بوزارة المعارف المصرية؛ ومن واجبي نحو نفسي أن أحّسن علاقاتي بوكيل الوزارة. أستغفر الله! فما أردت إلا أن أقول سعادة الوكيل. ولا تؤاخذني يا عشماوي بك فما أقصدك بالذات. وسعادة الوكيل يستطيع أن يكتب مذكرة يقول فيها إنه ثبت أن مواهب الدكتور زكي مبارك أعلى من مستوى التفتيش، وإنه لابدّ من تحويله إلى منصب مناسب بالجامعة المصرية
وهنا وجه الخطر، فمناصب الجامعة لا تنفعني، لأني لا أستطيع أن أشفي بها ما في نفسي من مرض السيطرة، لأن السيطرة في الجامعة مقصورة على العمداء، والظروف الحاضرة لا تمنحني العمادة ولو في كلية الآداب، لأن العمادة تتوقف على شرطين: أصوات الأساتذة، وموافقة الوزير. والأساتذة لن يعطوني أصواتهم أبداً، لأني جرحتهم جميعاً في جريدة البلاغ؛ والوزير الحاضر وهو معالي بهي الدين بركات باشا لن ينسى أني هجمت عليه في مقال نشرته بجريدة المصري. ومن المحقق أنه لن ينتقم مني، ولكن من المحقق أيضاً أنه لن يتحمس لإنصافي فيراني أصلح الناس لمنصب العميد
لابدّ لي على أي حال من أن أبقى مفتشاً بوزارة المعارف. وهل في الوزارة منصب أعظم من منصب المفتش؟ إن لي في هذا المنصب ذكريات تقضي بأن أخاطر في سبيله بكل شيء إلا ليلى، إلا ليلى، إلا ليلى
منصب المفتش منصب عظيم جداً، فمن كان في ريب من ذلك فليسمع:
دخلت المدرسة التوفيقية صباح يوم، فهالني أن أرى مظاهر القلق في جميع الصفوف، فقلت للناظر: ما هذه الجلبة؟ فقال: إن التلاميذ يتطلعون من النوافذ ليمتعوا أنظارهم بطلعة سعادة المفتش. فقلت في تعجرف: هذا أدب ما بعد الحرب، وكان الواجب أن يقهرهم(243/36)
الخشوع. فقال الناظر: الرأي لك يا سعادة المفتش!
وقد عزّ عليّ أن يجاملني الناظر إلى هذا الحد، مع أنه أكبر مني سناً وعلماً، ولكن ماذا أصنع وأنا لا أخلو من لؤم، ومن حقي أن أستفيد من فساد المجتمع؟
ودخلت يوماً المدرسة الإبراهيمية فوجدت مدرساً كان من زملائي. وكان فيما أذكر أبصر مني بالدقائق النحوية والصرفية واللغوية، فأبيت إلا أن تعجرف عليه وأستطيل. وجدته يطلب من التلاميذ أن يتكلموا عن فوائد السينما، فقلت: لماذا لا تقول الخيالة؟ ورأيته يمرّ على كلمة (تطورّ) في دفاتر التلاميذ فلا يصححها، فحاسبته أشد الحساب فقال: إن الله يقول في كتابه العزيز (وخلقنا كم أطواراً) فقلت: نعم إن الله خلقنا (أطواراً) ومن أجل ذلك لا يصح أن (نتطور) يا أستاذ!
وقد هداني اللؤم إلى أن أقترح على وزارة المعارف أن تعهد إليّ التفتيش في المدارس الأهلية والأجنبية، لأن التفتيش في مدارس الحكومة يضايقني قليلا، إذ كان المدرسون في المدارس الثانوية قد ثبتت صلاحيتهم للتدريس منذ سنين؛ وأمثال هؤلاء لا يمكن قطع أرزاقهم بسهولة. أما المدارس الأجنبية والأهلية فيمكن فيها زعزعة مركز المدرس بإشارة أو إشارتين؛ وكذلك أستطيع السيطرة بلا عناء
ومن مزايا التفتيش أن يحفظ التلاميذ أشعاري بفضل (لباقة) المدرسين. وأذكر أني دخلت يوماً إحدى المدارس فأردت أن أختبر الطلبة في المحفوظات، فرأيت تلميذاً قيل إنه ابن وزير سابق. فقلت: أسمعني يا شاطر بعض ما تحفظ، فابتدأ يصيح:
قال سعادة الدكتور زكي بك مبارك:
يا جيرة السين يحيا في مرابعكم ... فتى إلى النيل يشكو غربة الدار
جَنَتْ عليه لياليه وأسلمه ... إلى الحوادث صحبٌ غير أبرار
فخشيت التورط في سماع شعري فأشرت على الطالب بأن ينشد شعراً غير هذا، فصاح:
وقال سعادته أيضاً:
نسيتم العهد واسترحتم ... من لوعة الحافظ الأمين
فأسكتّ الطالب وقلت للأستاذ: أليس لدى الطلبة محفوظات غير أشعار زكي مبارك؟
فقال: لقد أعطيتهم خمس قطع من أشعار زكي مبارك وثلاث قطع من أشعار علي الجارم،(243/37)
فحفظوا شعرك وصعُب عليهم حفظ شعر الجارم
فقلت: هذا عجيب، مع أن شعر الجارم لا بأس به!
وأنا موقن بأن الطلبة والأساتذة يسخرون منا، ولكن ما الذي يمنع من أن نستفيد من فساد المجتمع؟
والتفتيش سيكون قنطرة لعضوية المجمع اللغوي. ولكنه لن يكون كذلك إلا إذا عرفت كيف أستفيد. وأنا قد عرفت، ولله الحمد. وهل من الصعب أن أجلس في مكتب تفتيش اللغة العربية ثم انقد تقارير المدرسين؟ جاءني يوماً تقرير من الأستاذ الأول في مدرسة أسيوط الثانوية، فأخذت التقرير إلى البيت، وكتبت تقريراً بما في التقرير من أغلاط لغوية، ورجعت في اليوم التالي فحدثت جميع الموظفين بهذه الفضيحة، فلم ينقض اليوم إلا وأنا عمدة المحققين، وجهبذ المدققين
وكنت نسيت الموضوع الأصيل الذي كُتب من أجله ذلك التقرير ولكن لم يسألني أحد ماذا فيه
وربما كانت مدرسة أسيوط الثانوية لا تزال تنتظر رأي الوزارة في موضوع ذلك التقرير إلى اليوم، والصبر طيِّب!
وكان لي أسلوب في مضايقة المدرسين، أسلوب بديع؛ ولكني لم أبتكره مع الأسف، وإنما ابتكره شيوخٌ لنا من قبل. كنت آخذ كراريس التلاميذ إلى البيت، وأدرس موضوعاً واحداً من كل كراس. أدرسه بدقة وأمامي المعاجم والمراجع لأبين ما فات المدرسين من أغلاط، وأنسى أن المدرس لا يستطيع أن يستثير المعاجم في كل كراس. ولكن ماذا يهمني؟ المهم أن يشيع في بقاع الأرض أني محقق مدقق لأكون خليفة العوامري بك على الأقل، وذلك مغنم ليس بالقليل، وهو بفضل هذه الحذلقة مضمون
ومن عادتي أن أدعو المدرسين الذين أفتش عليهم (للتفضل) بانتظاري في المدرسة بعد خروج التلاميذ، وأكون تغديت وأخذت نصيبي من القيلولة، ويكون هم قد اكتفوا بما تيسر من الشطائر الجافة، وقضوا الوقت في التحضير والتصحيح، وتكون النتيجة أن أقدم عليهم بعافية، وأن يتلقوني وقد نال منهم الإعياء، فأُرغي وأزبد ما شاء التعسف، ويصدهم التعب عن درء الشر بالشر فيسكتون(243/38)
قلت إني أفضل المدارس الأهلية والأجنبية على المدارس الأميرية لأستطيع قطع الأرزاق حين أشاء. ثم تبينت وأنا راغم أن الأرزاق بيد الله، وأني لا أملك إيذاء مخلوق، وأن اللؤم الذي تنطوي عليه نفسي لن يضر أحداً غيري، فقد ذهبت للتفتيش على المدرسة المرقسية بالإسكندرية. ذهبت إليها في يوم مطير يحبس موظفي البنوك في البيوت. وكان أهم ما صنعته في ذلك اليوم أن أعدّ الغائبين، ثم كتبت إلى الوزارة تقريراً مزعجاً أقول فيه إن المواظبة منعدمة في المدرسة المرقسية، وإن ستة أسباع التلاميذ كانوا غائبين يوم حضرت للتفتيش
وما كان الغائبون (ستة أسباع) ولكني رأيتها كلمة لم يكتبها أحد من قبل. وما فضل التجديد إن لم أبتكر بعض التعابير؟
وقد أرسلت الوزارة تستجوب المدرسة، فكتبت إدارة المدرسة إلى الوزارة أن اليوم الذي غاب فيه التلاميذ كان يوماً مطيراً عاصفاً، وأن الزوابع هدمت بعض مباني الشاطئ وأغرقت ثلاث سفائن، وأن حضرة المفتش يعرف ذلك ويذكر أنه تزحلق ثلاث مرات في الطريق، وأن منظره في ذلك اليوم كان يخلق الإشفاق في أقسى القلوب
ودعاني وزير المعارف يسألني، فقلت يا معالي الوزير: أنت تعلمت في فرنسا وزرت جميع الممالك الأوربية. فهل رأيتهم يرون المطر من الأعذار؟ والإسكندرية كلها مرصوفة الشوارع، ومن الواجب أن نشدد في المواظبة لنخلق في الجو المدرسي طوائف جديدة من التقاليد
ويظهر أن الوزير استراح إلى تذكيره بأيام الشباب في فرنسا واستظرف كلمة التقاليد فقال: أحسنت أحسنت! ويشهد الله أني لم أكن يومئذ من المحسنين
أما التفتيش في المدارس الأجنبية فلي فيه نوادر تضحك الثواكل، وربما جاءت مناسبة لسردها في هذه المذكرات
والحاصل - كما يقول أهل بغداد وكما كان يقول الأزهريون - الحاصل أنني أريد التلطف مع سعادة العشماوي بك لأبقى مفتشاً وأنتقم من المدرسين الذين يهمّون بنقد مؤلفاتي وأشعاري في الجرائد والمجلات
وهو سيسأل عن ليلى، فلا بأس من أن يرى ليلى. وما أظنه سيخطفها من يدي، ولكن(243/39)
مرض الغيرة تعاودني أعراضه من حين إلى حين
وشاع في أروقة وزارة المعارف أن العشماوي بك حضر قبل الموعد، فمضيت للبحث عنه فنادق بغداد فعرفت أنه لم يحضر. فتمنيت لو أسمع أنه عدل نهائياً عن الحضور مع شدة الشوق إليه
وفي مساء اليوم التالي سألت فعرفت أنه في المفوضية المصرية، فذهبت للسلام عليه فاستقبلني بالعناق، فعرفت أن الشر الذي ساورني كان من أوهام الظنون
وبعد لحظة دعاني إلى حديث خاص فقلت: لعله خير. فقال: كيف حال ليلى؟ لا تكتم عني شيئاً، فليس لك في وزارة المعارف صديق أخلص مني. إنهم يشيعون في مصر وفي العراق أنك لا تخدم ليلى بإخلاص، فهل هذا صحيح؟
فقلت: إنك تعلم يا سعادة الأستاذ أني لا أملك غير ذخيرة الإخلاص. وقد بذلت في سبيل ليلى ما بذلت، وعند الله جزائي
فقال: هذه مسألة هينة، وسيحكم فيها المؤتمر الطبي
فقلت: أي مؤتمر يا مولاي؟
فقال: المؤتمر الذي نظمته الجمعية الطبية المصرية لمعاونتك على مداواة ليلى المريضة في العراق
فقلت: وإذا كانت ليلى لا تريد أن ترى أحداً غيري من الأطباء؟
فقال: ليس الأمر إلى ليلى ولا إليك، فقد تكونان عاشقين يطيب لكما الاستشهاد في الحب. ويجب أن تفهم أن الحكومة لا تقبل أن يتحول الجد إلى مزاح
وارتفع صوت العشماوي بك، فأقبل عزام بك يسأل عما بيننا من خلاف. فلخصت القضية فقال: وما الذي يخفيك من أعضاء المؤتمر الطبي؟
فقصصت عليهما ما سمعت في فندق استوريا. فتأثر العشماوي بك وقال: الحق معك يا دكتور زكي. ولكن ماذا أقول حين أرجع إلى مصر وليس معي وثيقة رسمية عن صحة ليلى؟
وهنا ظهرت البراعة السياسية لوزير مصر المفوض في العراق فقال: تحضر ليلى حفلة الافتتاح وهي متنكرة في زي امرأة حضرية عرفت أزياء باريس، ويسلم عليها سعادة(243/40)
العشماوي بك نائباً عن وزارة المعارف، وفضيلة الشيخ السكندري نائباً عن المجمع اللغوي، وسعادة الدكتور علي باشا إبراهيم نائباً عن الجامعة المصرية، وبذلك ينفضّ الإشكال
ومررت على فندق مود فرأيت جماعة من الأطباء يتحدثون عن آمالهم في مشاهدة ليلى فقلت: موتوا بغيظكم إن كنتم صادقين
وتلفتّ فرأيت بهو الفندق يموج بكرام العراقيين الذين جاءوا للتسليم على العشماوي بك ومن بينهم أصحاب السعادة طه الراوي وساطع الحصري وتحسين إبراهيم وإبراهيم حلمي العمر فحدثتهم بما وقع بيني وبين سعادة العشماوي بك فقالوا: الرأي رأيك في هذه القضية، فأنت وحدك طبيب ليلى المريضة في العراق، ونحن لا نشير أبداً بتعريض ليلى لأعين الناس، ولو كانوا أطباء
إلى هنا سارت الخطوات بسلام
فما الذي سيجدّ في أيام المؤتمر؟ ما الذي سيجدّ؟
لُطفك اللهم ورحمتك، فإن قلبي يحدثني بأنْ ستقع غرائب يشيب لها مَفْرَق الوليد. قلبي يحدثني بأني مقبل على أيام تموج فيها الفتن والمعاطب، وما كان قلبي من الكاذبين
بغداد، بغداد!
خذي بزمامي، فأنا في يمناك طَيِّعٌ ذلول. وليكم ما يكون. فإني واثق بأن الله لن يفضح الشاعر المخلص الأمين
(للحديث شجون)
زكي مبارك(243/41)
في معرض الآراء
للأستاذ أديب عباسي
أعتقد أنني أنصف الأستاذ العقاد وأختار اختياراً عادلاً إذ أقتبس الفقرات التالية من مناقشته لردى السابق، فأحاول مناقشتها فيما يأتي من هذه الكلمة. قال الأستاذ:
(ومن طرائف المناقشات أن تأتي هذه المناقشة من الأستاذ أديب عباسي تعقيباً لما أسلفنا في مقال الحدود الحاسمة الذي قلنا فيه إننا قد نستغني في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء لما هو معلوم غني عن البيان من ضرورة الاستثناء في كل قاعدة. فإذا قال الإنسان إن النهار مضيء وإن الليل مظلم فليس من الواجب بعد ذلك أن يحصي أيام الغيم ولا الأغوار المحجوبة التي تظلم بالليل والنهار)
(فقد حدثت كشوف جغرافية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنها كلها لا تخرج عن المتممات التي تأتي بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير)
(فلما انتهت كشوف القرن السابع عشر انتهى الخلاف في الأشكال والظواهر وانفتح المجال للبحث في الحقائق والبواطن أو لمعرفة الإنسان نفساً بعد أن عرفناه تركيباً ووضعناه في موضعه من عالم الأحياء الظاهرين)
(ولقد ذكر الأستاذ (أديب) كشوف الكواكب وكشوف الذرة وأمواج الأثير. . . التي حدثت بعد القرن السابع عشر ولا تزال تحدث في هذه الأيام)
(ولكن ما شأن هذه الكشوف وما نحن فيه؟ وأين هي من الحاسة الاجتماعية التي تعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات. . .؟)
قلت أخشى أن يجرنا الخوف من (الحدود الحاسمة) إلى الترخص في الدقة العلمية والضبط الفكري وهما السمتان اللتان تتسم بهما اليوم جميع مباحث العلم وكثير من مباحث الأدب والفلسفة أيضاً. نحن لا ننكر أنه يجب أن يُستغنى في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء - كما يرغب الأستاذ العقاد - فلا نعير الاستثناء بالاً كبيراً، ولكن على شرط ألا يبلغ هذا الاستثناء الحد الذي ينقلب التعريف عنده أو الحد من الضد إلى الضد
فما قول الأستاذ إذا صارحناه أن هذه الاكتشافات الجغرافية التي جاءت (بعد الفراغ من(243/42)
الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير تكاد - في رأينا - تفوق في إثارة الحس الاجتماعي الذي ينوه به الأستاذ تنويهاً قوياً اكتشافاتِ القرن السابع في الأمريكتين وأفريقيا وآسيا جميعاً؟
ماذا كانت حوافز الارتياد والاكتشاف الصحيحة في القرن السابع عشر، ثم كانت النتائج القريبة والبعيدة لذلك؟ قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الكشوف الجغرافية يجب ألا تقدر تقديراً هندسياً ولا تحسب بكذا ألوف وملايين الأكيال والأميال إذا أردنا تقدير الأثر النفسي أو الحس الاجتماعي لها في نفوس الرواد والقاعدين وراءهم من شعوبهم أو غير شعوبهم
هذا كولمب أعظم المكتشفين، أي إحساس اجتماعي وأية معانٍ إنسانية كانت تحفزه إلى الكشف والارتياد؟ أنقول: لقد جهز كولمب مراكبه وأعد عدته وغامر مغامرته استجابة لما كان يجيش في نفسه ونفوس قومه من حب الاطلاع على الشعوب المجهولة والأقطار المأهولة الضائعة وراء الاطلانطيك، فيستطيع أن يصحح للناس آراءهم الخاطئة في هاته الشعوب والأقطار؟ أم الأصح أن نقول: إن كولمب غامر مغامرته ليصل إلى الهند التي لم تكن مجهولة إذ ذاك، ويفتح طريقاً للاتجار وتبادل السلع معها، غير الطريق القديم، فقاده وهمه إلى أرض جديدة وشعوب جديدة غير أرض الهند وغير شعوبها؟ فأية حاسة اجتماعية في هذا، وأي معنى من معاني التواصل الإنساني الصحيح؟
ثم هذه الشعوب التي كانت وراء كولمب؟! ألم يحف كولمب ويوشك أن يدب اليأس المرير إلى صدره في الانتقال من عاصمة إلى عاصمة من عواصم أوربا يستجدي مناصرة الأمراء والملوك قبل أن تمن عليه إيزابيلا بما منَّتْ ومكنته من المضي في مغامرته؟ قابل هذا بما يلاقيه الرائد اليوم من العطف والتشجيع المادي والأدبي من جميع طبقات الشعب، فتدرك أي فرق ثمة بين العصرين!
هذا ولينظر الأستاذ العقاد ما أصاب كولمب بعدها من حمق الغفلة، ولؤم المنافسة، ليدرك أي المعاني الإنسانية وأي الحواس الاجتماعية، وأي الشكر لهذا الفتح العظيم قد أثار كولمب في صدور قومه!!
قد يقول الأستاذ العقاد: ليس من الضروري أن تكون الغاية ما ذكرنا من حب التواصل(243/43)
الإنساني والاستجابة لدواعي الغريزة الاجتماعية، ويكفي أن تجيء النتيجة كذلك في هذه المغامرات والكشوف. أحسب أن الأستاذ يعفيني هنا من الإجابة الطويلة. فهو لا ريب يعلم علم اليقين النتائج المحزنة التي أفضى إليها اكتشاف كولمب ودي جاما ومجلان لأمريكا وغيرها من الأقطار المجهولة، ويعلم أن الذهب والفضة والقتل والتحريق والتدمير والاسترقاق والاستعمار كانت النتائج الأولى لذلك الاكتشاف؛ فأية حاسة اجتماعية هنا وأي تواصل صحيح بين الناس؟!
قابل بين أغراض الاكتشاف وحوافزه ونتائجه هذه في القرن السابع عشر، وبينها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فترى كيف يجب ألا نقدر الاكتشافات الجغرافية، من حيث الحس الاجتماعي، تقديراً هندسياً.
فأنا أرى أن ارتياد القطبين والمعيشة بين الإسكيمو ودراستهم درس العطف والفهم الصحيح لقيمة الحياة البشرية، وأرى أن اختراق رمال الربع الخالي والاطلاع على نماذج الحياة الأولى في البادية العربية أجل وأسمى في الأغراض والنتائج الإنسانية من كشف الأمريكتين وأفريقيا والهند جميعاً. وأرى أن الفتاة التي تقضي السنين في إحدى جزر الباسفيك تدرس الحياة الجنسية لأهل تلك الجزيرة وتكتب كتاباً رائعاً تقول فيه: إن هذا الشعب الذي لا يزال على الفطرة أكثر إنسانية وأعظم مدنية في ممارسة الغريزة الجنسية من أرقى الشعوب الأوربية. هذه الفتاة في رأيي أعظم في مجال إثارة الإحساس الاجتماعي والتقدير الصحيح لمركز الرجل المتمدن من جميع الرواد القدماء
هذا ويجب ألا يفوتنا أن عصرنا وحده هو عصر الارتياد الجغرافي الزماني؛ فالباحث الأثري اليوم بمعوله ومجرفته في رمال مصر وربى فلسطين وصحراء العراق يفعل ما لا يفعله ملاح أو رائد من الرواد القدماء
نضيف إلى هذا أن دارون عاد من طوافه بقارات العالم بأعظم أداة من أدوات إزالة الجهل والغرور والاعتقاد بالكيان الأوحد المنعزل، حينما سوى بين الإنسان والإنسان، ووصل بين الإنسان والحيوان، ولم يكن هذا طبعاً في القرن السابع عشر
وأخيراً كشوف الكواكب وكشوف الذرة والأثير وسؤال الأستاذ: (ولكن ما شأن هذه الكواكب وما نحن فيه؟ وأين هي من الحاسة الاجتماعية التي تعلق بها القصص وأبطال الرواية(243/44)
وأبطال السياحات؟)
وهل قلت قط إن الكواكب أو الذرة أو الأثير تثير حساً اجتماعياً في النفوس؟ هل قلتها صراحة أو ضمناً؟ إنني أتهم نفسي وأعود إلى مقالي أقرأه حرفاً حرفاً فلا أجد شيئاً من ذلك وإنما أجد هناك أنني قلت: (ليست الكشوف الظاهرة قاصرة على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف أرجائها المجهولة، وإنها هنا لأنواع وضروب أخرى من الكشف الظاهري لا تقل روعة وشدهاً للخيال وصرفاً للإنسان من داخله إلى خارجه عن أعظم المغامرات الجغرافية). وقد سقت ذلك في معرض التدليل على أن بواعث الانصراف من الدخل إلى الخارج لا تكفي لتعليل ظاهرة الاختصاص وبروز الفروق في الأدب. فهذا عصرنا مليء ببواعث الانصراف من الداخل إلى الخارج كما كان العصر السابع عشر، ولكن علم النفس مع ذلك يتقدم باطراد، ولكن الرواية النفيسة التحليلية تحتل المكانة الأولى في مكتبة الأدب الحديث
وأحسب أن من الخير أن أعيد هنا ما كنت ذكرته في مقالي السابق تعليلا لظهور الدراسات الباطنة وما تلاها من تأسيس علم النفس التحليلي الذي تهداه أدباء الأجيال الحديثة في كتابة القصة النفيسة أو التحليلية فقد قلت هناك:
(إن هذه الدراسات الباطنة للنفس كانت مظهراً عادياً يتساوق مع المظهر العام لنشاط الفكر البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلما كشفت الكشوف الفلكية والطبيعية والكيميائية والفيزيولوجية، كشفت كذلك الكشوف في مجاهل النفس وخوافي الحس. فمذ اصطنعت الطريقة العلمية في البحث واخذ العلماء يجرون على أسلوب المشاهدة والفحص والاختبار اتخذت دراسة النفس خطة منظمة مجدية، فظهر أولا علم النفس العام وتلاه علم النفس التحليلي؛ ولكنا نعود ونقول إن هذه الدراسة لم يكن الحافز فيها والباعث عليها انتهاء الكشوف الظاهرة، وإنما كان الحافز عليها اتساع هذه الكشوف وسيرها على خطة علمية منظمة مجدية شملت الجماد والحيوان والإنسان جميعاً. . . الخ)
وأخيراً نحن نسلم للأستاذ العقاد بنظريته جملة إذ فسر لنا نشأة علم النفس العام والتحليلي بعده معزولين عن فروع المعرفة الأخرى في القرن السابع عشر وبعده، أما إذا اضطر أن يعيد علم النفس في نشأته وتقدمه إلى حظيرة العلوم الأخرى من حيث الصلة والزمن،(243/45)
فأحسب أن نظريته لا تسلم له مهما حاول أن يستفيد من (الحس الاجتماعي) و (الدراسة الباطنية) و (الدراسة الظاهرية)
وفي الختام آمل ألا أكون أثرت في صدر الأستاذ الكبير بهذا الكلام غير الشعور الذي يثيره طلب الحق ونشدان الصدق
أديب عباسي(243/46)
من برجنا العاجي
مضت أعوام عديدة على ذلك اليوم الذي شعرت فيه بغتة بدوار الصعود الفكري، على أثر مطالعات كثيرة وتأملات عميقة في عزلة طويلة. وبدا ذلك على وجهي فسمعت طبيباً يسدي إلي النصيحة أن أترك كل شيء وأذهب من فوري إلى البحر، أستنشق الهواء وأغمض عيني بغير تفكير. لقد كنت أحسب التأمل كل شيء في حياة الأديب؛ وكنت اعتقد أن حياتي ستمضي قراءة كلها وتفكيراً على ذلك النحو وبذلك المقدار، فكنت استهول العاقبة وأتساءل عن النتيجة
ومرت الأيام فإذا بي أنصرف بعض الشيء عن المطالعة والتأمل. وإذا الأعوام تنفق في شيء آخر لم يكن في الحساب: هو البحث عن الجسم الذي تحل فيه تلك الأفكار الهائمة كالأرواح. هنا وضحت لعيني المعضلة. وفهمت أن التفكير في ذاته يسير، ولكن العسير هو أن أقيم (الفكرة) على قدميها كائناً نابضاً يتحرك ويسير. إن القليل من عمر الفنان هو الذي يبذل في التفكير الصرف، والكثير منه هو الذي يذهب في سبيل صنع ذلك اللحم والدم الذي ينبغي أن تسكنه الأفكار
إن (الطبيعة) أستاذنا الأعظم نحن الأدباء والفنانين، تفكر هي أيضاً، غير أنها لا تفكر (كلاماً) فهي تجهل (اللغات الحية)، ولكنها تفكر (مخلوقات حية)
(تفكير) الطبيعة (أسلوب). وإن طريقتها الواحدة في تركيب الكائنات جميعها: من عالم الجراثيم إلى عالم الأجرام لهي وحدها التي نقرأ منها تفكيرها. (الخلاق) في الفن أيضاً لن يستحق هذا الاسم حتى يصبح التفكير عنده مماثلاً لتفكير الطبيعة، فيملك تلك القدرة السحرية أو الهبة السماوية التي بها يخرج أفكاره من رأسه تجري لابسة أثواب الحياة
كذلك خالقو الشعوب وبناة الحضارات، كل عبقريتهم أنهم لا يفكرون (كلاماً)، وأن الأفكار والتأملات عندهم هم أيضاً لا تكتب كما هي ولا تقال، إنما ترى قائمة متحركة في صورة أمة ناهضة أو على شكل ثورة متفجرة
ذلك معنى (الخلق). وتلك هي (الأفكار) في لغة كل خلاق
توفيق الحكيم(243/47)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
ما كانت الفاقة لتعوق ابن الأحراج عما كانت تتوق نفسه إليه. وهيهات أن تركن النفس الكبيرة إلى دعة أو ترضى بمسكنة. هاهو ذا فتى الغابة يهدف للثامنة عشرة، لا يذكر أنه منذ قوى على حمل الفأس كان كلا على أحد. بنى نفسه كأحسن ما تبنى النفوس، غذاء جسده من قوة ساعده، وغذاء روحه من توقد ذهنه ودأبه وجلده وبعد همته
كان ابراهام عصامياً في أوسع وأدق معنى لتلك الكلمة؛ عال نفسه وربى نفسه وعلم نفسه. وكان على استغنائه عن الناس يخفض جناحه للبعداء والأقربين. ولله ما أجمل تلك النفس في تواضعها ودماثتها، وما أجمل ذلك التواضع من فتى لا يرى لامرئ عليه يدا؛ وهو لولا كرم عنصره ونقاء جوهره جدير أن يدل بذلك وأن يزهى؛ وما الإنسان؟ أو ليس هو يطغى أن رآه استغنى؟
استغنى ابراهام بجده وقناعته في مطالب معيشته عن الناس، ولكنه أحسن معاشرة الناس وأنسوا منه لين الجانب وعذوبة الروح وهدوء الطبع وشدة الحياء. على أن ما زادهم محبة له وإقبالاً عليه حلاوة حديثه وحصافة رأيه وأصالته، وكان قد أحب منذ أن أعجب بذلك المحامي المدل أن يتحدث إلى الناس ما واتته فرصة إلى ذلك، وهو بطبعه بارع السياق قوي الحجة تمتاز كلماته - وإن لم يقصد - بقرب المأخذ وبعد المرمى، وهي صفة سيدرك فائدتها في مستقبل أيامه
ساقت إليه الأقدار وهو في التاسعة عشرة عملاً خرج به من الغابة أياماً إلى دنيا الحضارة!(243/48)
فقد استأجره أحد ذوي الثراء في تلك الجهة ليذهب ببضاعة في قارب إلى مدينة نيوأورليانز؛ وقبل الفتى وإن قلبه ليخفق، وإن نفسه لتتنازعها عوامل الخوف والأمل والرضاء وحب الاستطلاع. وما له لا يخاف وهو لم يقم بمثل تلك الرحلة الطويلة من قبل، ولا عهد له بالمدن وعيشتها وأهلها؟ ولكنه قبل وتأهب. وما كان حب المال هو الذي حفزه إلى القبول ولكنها كانت رغبته الشديدة في رؤية الدنيا! وهو يومئذ تواق إلى المعرفة، لهج برؤية الحياة في بيئة غير الغابة
وخرج معه فتى من أهل الجهة ليعاونه، واتخذا سبيلهما في نهر الأهايو ومنه إلى ذلك النهر العظيم: نهر المسيسبي، حتى إذا أتيا مدينة نيوأورليانز بعد أن قطعا ألفاً وثمانمائة ميل، رأيا خلاله على الضفاف حيوانات وأشجاراً وأناساً غير ما ألفا في إقليمهما. وكم كانا معجبين بما رأيا وما سمعا ممن أويا إليهم من سكان البلدان التي نزلا عندها ليالي رحلتهم. ولن ينسى الفتى ما رأى من بطولة أيب حين هاجمهما ذات ليلة وهما في نومهما سبعة من الزنوج، فقد رآه يعمد - وقد أفاق على همسهم - إلى مجراف فيحاربهم في بسالة حتى يضطرهم إلى الفرار وهم منه خائفون
دخل إبراهام وصاحبه مدينة نيوأورليانز، ولك أن تتصور مبلغ ما بعثته تلك الزيارة من أثر في نفسه، وقد جاء وهو يافع من الغابة فرأى مدينة كبيرة لأول مرة! وأية مدينة هي؟ لقد رآها تموج بأنماط من الناس وأخلاط من العبيد. ما هؤلاء السادة الذين تغدو وتروح بهم المركبات الفخمة؟ وما هؤلاء النسوة اللائي يخطرن في دلال ويبرزن في عطاف الثراء والنعمة؟ ما هؤلاء وما هؤلاء ممن يرى أمام ناظريه. . .؟ وما هذه الدنيا التي يضطربون فيها وما حياتهم وما مبلغ بعدها من حياة الغابة. . .؟ ثم ما هؤلاء العبيد. . .؟ أجل ما هؤلاء العبيد وما حظهم من تلك الحياة الفوارق بالقوة والجاه؟ أهؤلاء هم الذين قرأ عنهم وسمع من أخبارهم ما لم يفهم على وجه اليقين؟ نعم هؤلاء هم العبيد. . . وهو محررهم ومحطم أغلالهم في غد!
عاد إبراهام بعد أن أدى مهمته على خير وجه، وقد قضى في رحلته هذه ثلاثة أشهر بعيداً عن أنديانا، ولكن ما تركته تلك الأشهر الثلاثة في نفسه من الأثر تجعلها كما لو كانت ثلاث سنين، فقد أحست نفسه الفرق بين المدنية والهمجية إحساساً قوياً. إنه يتساءل بينه وبين(243/49)
نفسه: أي الحياتين أقرب إلى المدنية حقاً! عاد إلى موطنه، ولكن أي موطن وهو ابن الأحراج ربيب الترحال والأسفار؟ لقد شد أبوه الرحال من جديد على رأس الأسرة إلى مقاطعة جديدة هي الينويس، تحفزه نفس الدوافع التي حركته من كنتوكي إلى أنديانا؛ وكان إبراهام هذه المرة عضد أبيه، فهو يومئذ في الحادية والعشرين. ولما حطوا رحالهم بعد أسبوعين قام كوخهم الجديد على ما شقت يده الفتية من أشجار. لقد صغرت أما قوته ومهارته قوة أبيه ومهارته، وسرعان ما أصبح أيب حديث الجيران في البقعة الجديدة
عمد إلى الزراعة فحرث قطعة من الأرض وبذر فيها القمح وسورها بسور من قطع الخشب سوتها فأسه، وكان يعاونه في ذلك فتى من ذوي قرباه؛ وترك أيب القمح ينمو وتناول فأسه وراح يعمل في الغابة أجيراً وقد ذاع صيته وتقدمه أينما سار، وهو يحس اليوم أن دخله من فأسه يزيد هنا عما كان يحصل عليه في أنديانا. ولكن أي دخل هذا إذا هو قيس إلى ما عسى أن يكسبه رجل غيره في بيئة أخرى؟. لقد أستأجره أحد الأثرياء ليقطع له خشباً يسور به مزرعته، فرضي أيب أن يقدم لذلك الرجل أربعمائة قطعة من الخشب نظير كل (ياردة) من القماش الساذج الذي طلبه أيب ليتخذ منه سروالاً!
وتجلت للناس فتوته وشهامته في عدة مواقف، فهو لا يفتأ يمد يده إلى البائس والملهوف في كرم وإخلاص، وهو لا يني يضرب بفأسه في نشاط وإقبال، ولقد تحداه ذات يوم رجل ذو قوة وبأس أن يصارعه، فنازله على كره منه، إذ كان ينفر من القسوة والعنف، وما لبث أن غلبه على أعين الناس فازدادوا له إكباراً
وما انصرف ابراهام يوماً عن المطالعة على الرغم من شواغله، فأوقات فراغه للقراءة لا لغيرها مما يقضي فيه الفراغ من ملاذ الحياة ومباهجها. وأي شيء هو أحب إليه من القراءة والدراسة؟ يا عجباً! هل كان يدري أن القدر يعده لأمر خطير سوف ينقل به تاريخ بلاده من صفحة إلى صفحة؟! كانت قراءته يومئذ في القانون، فقد ألقت المصادفات في يده كتاباً يدور البحث فيه على قوانين المقاطعة الجديدة. على أنه قد قرأ قبل ذلك كتاباً غير هذا في القانون، فهو جد مشغوف بالمحاماة والخطابة، وكأنه كان يهيئ نفسه لهذه المهنة التي هام بها وجدانه، وهو بفطرته ميال إلى محادثة الناس كما سلف أن ذكرت، وإنه اليوم ليخطبهم كلما دعا إلى ذلك داع(243/50)
وشاءت الأقدار أن يذهب في رحلة أخرى مع رفيقين إلى نيوأورليانز؛ فقد اختاره أحد التجار ليقوم على تصريف بضاعته وجعل له ولزميليه أجراً في نظير ذلك. ولقد صادف في تلك الرحلة حادثاً آخر: ذلك أن القارب اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيوسالم فتعلق وانحدر وأوشكت حمولته أن تهوي إلى الماء لولا ما كان من مهارة أيب وقوة ساعديه، تلك المهارة التي أعجب بها نفر من أهل تلك البلدة وقد تجمعوا يشهدون الحادث
ولما فرغ ابراهام من أمر تلك البضاعة ولى وجهه تجاه أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب وهو لم ينس يوماً ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه منذ زيارته الأولى. ألا إنه ليهتم لهذا الأمر أكبر اهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، كل ذلك في عمق وتمحيص فتلك خلة من أبرز خلاله؛ فهل كان يعلم ابن الغابة أنه سيؤدي للعالم من عنده رسالة جديدة ويخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحريره هؤلاء العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا
رأى ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكوراً وإناثاً جيء بهم قسراً من مواطنهم مقرنين في الأصفاد يباعون كما تباع الماشية، يلهب التجار جلودهم بالسياط ويسوقونهم كما تساق الأنعام كأنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة. وما كانت نفسه الكبيرة، وما كان قلبه الرحيم ليمر بتلك المناظر كما يمر غيره من الناس، كلا بل ستبقى مسألة العبيد في أعماق نفسه حتى تحين الفرصة
أخذت عيناه فيما رأى فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام يعرضها الباعة على الأنظار وهي نصف عارية كما يعرضون فرساً كريمة، وقد افتتن بقسماتها وقوامها الشاهدون؛ وابراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال: (رأى لنكولن ذلك وإن قلبه ليدمى. لم تتحرك شفتاه وظل صامتاً، ومشت في وجهه كدرة الهم؛ وأستطيع أن أقول وأنا به عليم، أنه في تلك الرحلة قد كون لنفسه رأيه في مسألة العبيد)
ومما يروى عنه في تلك الرحلة أن عرافة لقيته فقالت وهو يمازحها: (يا فتى سوف تكون رئيساً للولايات ويومئذ سيتحرر جميع العبيد) وما كانت كلمات العرافة إلا كلمات القدر تجري على لسانها في نبوءة عجيبة!
وقفل إبراهام راجعاً إلى الغابة وقد ازدادت تجاربه ومعرفته بالحياة والناس وهو في سن(243/51)
الدراسة والتطلع إلى معرفة النفس البشرية وما تنطوي عليه من معاني الخير والشر. ولقد سلمت نفسه من شرور المدنية، فلم تعلق بها أو شاب! وهل كان لنفس مثل نفسه محصتها الشدة وعصمتها الحياة المحصورة في الغابة، أن تزل أو ترقى إليها غواية؟
لم يقم إبراهام طويلا في كوخ أبيه؛ فما لبث أن خرج في طلب العيش. وقد أدرك أنه بعد أن تجاوز الحادية والعشرين يستطيع أن يغادر أباه ليقوم على شؤونه بنفسه. خرج من الكوخ إلى غير عودة إليه! فترمي به النوى مطارحها كلما تصرمت الأيام، وكان أول عمل قام به أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى أورليانز - حانوتاً في نيوسالم وأقامه فيه ليبيع نائباً عنه وذلك لما خبر من مهارته وأمانته. ولقد قطع أيب المسافة إلى نيوسالم على قدميه؛ وأخذ يبيع في الحانوت في خفة ولباقة كأنه مارس التجارة من قبل. وأتاح له ذلك العمل فرصة لقاء الناس، ولقد رأوا من خلاله ما امتلك به قلوبهم؛ رأوا منه لين الجانب وسعة الصدر وحلاوة اللسان وسرعة اليد وحسن الملاطفة والممازحة، ورأوا منه فضلا عن ذلك جميع الأمانة كأعظم ما تكون الأمانة. وأتاح له ذلك العمل أيضاً أوقاتاً يقضيها في المطالعة فكان يتمدد على ظهر صندوق ويقرأ حتى يقصده مشتر فيبيعه ما يطلب ثم يعود إلى كتابه
ولشد ما أعجب الناس بإبراهام وخلاله وصار يعرف بينهم باسم أيب الأمين، وصارت تلك الصفة منذ ذلك اليوم أشهر صفاته وأحبها إليه وإلى الناس. حدث أنه أعطى لامرأة ذات مرة على جهل منه مقداراً من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة طويلة يحمل إليها باقي الشاي؛ وحدث أنه أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل فلما عد ماله آخر النهار سأل عنه اهتدى إليه ودفع له دريهماته. وكان الناس يعلمون هذا وغيره فيقبلون عليه معجبين. ولم ينس في تلك البلدة ما جبلت عليه نفسه من النجدة والمروءة والحدب على الضعفاء. ونمى أمره في ذلك إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم؛ وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له أرمسترنج. فجاءوا عصبة إلى ابراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم، وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم؛ ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، حتى يخرج إليهم ويسير إلى قائدهم ويشتد الصراع بين الفتيين ويستجمع ابن(243/52)
الغابة قوته ويدفع خصمه فإذا هو ملقى على وجهه متدحرج كأنه كتلة من الخشب! والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش. ولقد نهض صاحبهم فصافحه وسلم له بالغلبة. وشاعت في الناس بطولة فتى الحانوت وشدة بأسه. وما كان ابراهام غليظاً أو رجل شر، بل لقد كان يسعى أبداً في القضاء على الإحن والمنازعات، وكم له من يد في هذا المضمار
عرف الناس ابراهام فوق ذلك باستقامته فما عهد عليه من سوء قط؛ كان لا يقرب الخمر ولا الميسر ولا يعرف الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأين ذلك الرجس من تلك النفس العصامية الطامحة؟ إن له من نفسه خير عاصم، وله من الكتب ما يملأ به فؤاده؛ وكانت كتبه إلا قليلاً مستعارة؛ يسمع عن كتاب يطلبه فيجده عند أحد الناس فيسعى إليه ويرجوه أن يعيره إياه حتى يقرأه فيعيده إليه؛ ومن ذلك أنه سمع وهو في الحانوت عن كتاب في قواعد اللغة الإنجليزية، وكان قوي الرغبة في تعرف قواعد اللغة ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب فأعاره إياه، فأكب عليه حتى أتقن فهمه. ومما قرأه أيب في تلك الآونة صحيفة كانت تكتب في السياسة، اشترك فيها وهو مملق، وكان يقبل على قراءتها في لذة واستمتاع قراءة تعمق ودراسة
ساقه إلى السياسة رجل رأى من فطنته وطلاقة لسانه وصدق إخلاصه وتطلعه إلى المعرفة ما أيقن معه أن سوف يكون له شأن غير شأنه إذ ذاك. وكان إبراهام يحادث الناس كما ذكرنا كلما سمحت بذلك فرصة، وقد ألفوه جذاب الحديث بارع السياق يضرب الأمثال في غير توقف ويسوق الأدلة في غير عوج! وإنك لترى من ذلك أنه يستطيع أن يخوض السياسة، فماذا اعتزم؟ عقد النية على أن يتقدم للناس ليختاروه نائباً عنهم في مجلس المقاطعة النيويس! وكان في تواضعه يرى الخطوة جريئة. على أنه كان يدرك أن اليد قصيرة والجيب خال والجاه منعدم. فعلام يعول ابن الغابة والى من يستند؟ ليس أمامه غير نفسه؛ ولكنه حسبه تلك النفس
وكان أيب في الثالثة والعشرين من عمره وإنه ليحق لنا أن نتساءل كيف خلت حياته إلى ذلك اليوم من الحب على قوة روحه ونبل عواطفه وشدة بنيته؟ الحق أنه كان ينفر من النساء ومخالطتهن، وكان شديد الخجل خافض الطرف متلجلج اللسان متبلبل الخاطر كلما وجد نفسه على رغمه في مجلس يضم فتاة أو فتيات. وكان هذا الحياء الشديد مما عرف(243/53)
من صفاته؛ بيد أنه يحس اليوم كأن شيئاً يختلج بين جنبيه، فلقد زار ذات ليلة ذلك الرجل الذي وجهه إلى السياسة في خانه، وكان صاحب ذلك الخان؛ ورأى هناك ابنته، وكانت حسناء في الثامنة عشرة، فمال إليها قلبه ولكنه ما لبث أن علم أنها خطيبة فتى غيره؟ وهل كان لمثله أن يطمع في تلك الفتاة على ما هو فيه من خصاصة وعلى ما كان ينعم به أبوها من ثراء؟
وهو في شغل اليوم بالسياسة؛ ذهب إلى الخان حيث يجتمع فتية الحي ورجاله، وبعد أن استمع إلى حديثهم برهة وثب إلى مرتقى وقام فيهم خطيباً! ولعلها كانت أولى خطبه إذا أردنا معنى الكلمة. راح يحدثهم عن رغبته في الإصلاح وعن أفكاره في السياسة؛ ولما كان يجهل السياسة العليا فقد قصر حديثه على إصلاح الطرق والأنهار وهو جد خبير بها. ومما قاله (إن سياستي قصيرة حلوة كرقصة العجوز، إني أحبذ مشروع المصرف الأهلي وأحبذ الإصلاح الداخلي والحماية الجمركية. هذه هي ميولي ومبادئي السياسية، فإن اخترتموني فأنا شاكر وإلا فلن يغير ذلك شيئاً من نفسي) وقال في نداء مطبوع أذاعه في الناس (ولدت ونشأت في مدارج متواضعة، وليس لدي ثراء أو أهل ذوو جاه، أو أصدقاء يقدمونني إليكم؛ وقضيتي مبسوطة بين أيدي الناخبين الأحرار، فإن اخترت فقد أولوني جميلاً لن أوفيه مهما بذلت في خدمتهم، وإن أملت عليهم حكمتهم أن يتركوني حيث أنا فإني قد ألفت من مواقف الانخذال ما لا أحس معه لذلك غماً)
تلك هي صراحة لنكولن، وتلك هي بسالته تتجلى في كلماته كما تجلت فيها بساطته وإخلاصه وسمو تواضعه وعزة نفسه
وكان صاحب الحانوت قد أدى بمسلكه المعوج إلى بيع حانوته إلى تاجر آخر، وترك إبراهام أول الأمر بلا عمل، ولم يكن لديه مال يستعين به حتى على القوت، اللهم إلا ما تسوقه الأقدار إليه من وجوه الرزق. ومنها أنه قاد زورقاً بخارياً ليخرجه من منطقة عسيرة في مجرى الماء، وكان أجره على ذلك أربعين دولاراً
وساقت إليه الأقدار بعد ذلك عملاً غريباً بالنسبة إليه! ذلك هو التطوع مع فرقة من شبان الجهة لمحاربة الهنود الحمر! وكان كبيرهم - ويعرف باسم الصقر الأسود - قد هاجم البيض يريد أن يسترد أرضاً كان باعها للحكومة؛ وما كان أيب يميل إلى الحرب ولكنه(243/54)
تطوع إذ لم يجد لديه عملاً، ولعل تطوعه هذا وما عساه أن يبديه في الحرب يشفع له في الانتخاب ويزيد صيته رفعة. . . وعلى ذلك خرج مع المتطوعين على رأس فرقة ولكن الحرب لم تدم طويلا، ولا هي استدعت مقاومة عنيفة. وما عرف عنه أنه مس إنساناً بأذى وهو في الميدان، بل لقد تجلت مروءته في حادث نرويه لدلالته على نفس أيب وخلقه: آوى إلى معسكر المتطوعين أحد رجال الصقر الأسود وفي يده بطاقة أمان من أحد القواد؛ ولكن بعض المتطوعين وكانوا محنقين هموا به ليقتلوه فوقف بينهم وبينه ابراهام، وبنادقهم مصوبة إلى صدره وهو يصرخ فيهم (إنكم لن تقتلوا هذا الرجل) ولم يكن بعيداً أن تنطلق إليه الرصاصات في ثورة غضب كتلك الثورة ولكن الله وسلم ونجا الرجل ونجا مخلصه!
وبعد أن رجع أيب إلى نيوسالم جرت الانتخابات ولكنه خذل فيها، إذ لم يكن الحزب السياسي الذي يدين بمبادئه محبوباً يومئذ للناس! خذل ابراهام ولكن طابت نفسه الأمر وارتاحت، ذلك أنه وجد أن أكثر أصوات بلدة نيوسالم كانت له
(يتبع)
الخفيف(243/55)
تحية العام الهجري الجديد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يوم تبسَّم في الأيام وازدهرا ... وسيرةُ عطَّرَت من لطفها السيرا
يا يومُ حدِّث شباب النيل وارو لهمْ ... وقصَّ من ذكرك العالي لهم خبرا
واجمع على الدين والأخلاق عقدهمُ ... فقد تفرق هذا العقد وانتثرا
وأضيعُ الناس من يقضي الحياة ولا ... يقضي من الدين والدنيا بها وطرا
يا رب أدرك من الإِسلام أمتَه ... واجمع على نهجك الأفراد والأسرا
يا حارس الروض إن الروض إن عصفت ... به الأعاصيرُ جف الروض وانتثرا
والدوحُ إن لعبت ريح السموم به ... لا يُنبتُ الغصنَ أو لا يُطلع الثمرا. .
هلاَّ تعيدون للإِسلام صولتَه ... وللعروبة ما ولَّى وما غبرا؟
دار (بن لقمان) لازالت معالمها ... فاسأل بها البهو أو فاسأل بها الحجرا
دار أفاء على الإِسلام صِيِّبها ... وطوَّحت بالصليبين والأمرا. .
سلوا الفرنجة لما ألَّفوا فرقا ... وطيرَّوا في نواحي الملة الشررا
استأصلتهم سيوف المسلمين كما ... تستأصل الريح في هبَّاتها الشجرا
هيَّا انصروا والمبدأ الدينيَّ مبدأَكم ... فالله ينصر من للملة انتصرا
الدين قد كان يمشي لا عثار به ... ما باله اليوم في آماله عثرا
قد كان إخوانكم لا يقدمون على ... مخاطر المجد إلا ذللوا الخطرا
ولا يبالون إن ساروا لمحمدة ... طال الطريق بهم لله أم قصرا. .
الدين والخلق العالي يؤيده ... سيرفعان لكم بين الأنام ذُرا
لا خير في الدين إن لم يحمه خلق ... ولا صلاح له إن ضل أو فجرا
سافرتُ للغرب والآمال تدفعني ... أكرِمْ به للأَماني والعلا سفرا
رأيتُ فيه الليالي وهي عاصفة ... والبحرَ مضطربا والجو معتكرا. .
شَطَّ المزار فما شطَّت فضائلنا ... ولا تغيرَّ منا القلب أو نفرا
إن الغريب وإن طابت مناظره ... رنا إلى الوطن المحبوب أو نظرا. .
لا للهو في الغرب أنسانا مبادئنا ... ولا أضاع لنا من ديننا الذكَرا(243/56)
رأيت في الغرب أخلاقاً مطهرة ... كما رأيت به الأرجاس والقذرا
إنا أخذنا محاراً لا غناء به ... وغيرُنا أخذ الأَصداف والدررا
بالأَمس قامت لنا في الدين قائمة ... ما بالنا اليوم عفَّينا به الاثرا
إنا فتحنا به الدنيا مطأطئةً ... وباسمه قد غزونا البدو والحضرا
سلوا القياصر تلقوا عندها نبأً ... وسائلوا الفرس تلقوا عندها خبرا
هنا رأينا بساط الفرس مندثراً ... مخرقاً. . ولواَء الروم منكسرا. .
يا مرسل الدين قد أرسلته حكما ... وصُغْتَه رحمةً بالناس أو عبرا
ألَّفتَ منه سبيل العدل فأْتلفَتْ ... وجئتَه داعياً للحق فانتصرا
بعثتَ بالسيد الهادي رسالته ... نوراً على الأرض يمحو الشك والحظرا
ويملأ الأَرض من صافي رسالته ... صفواً كما امتلأت من قبله كَدَرا
وا رحمتا لنبي في قبيلته ... كم ثبطوه وودُّوا أنه عثرا
يظل يسقيهمو ودّاً ومرحمةً ... وهم يساقونه من لؤمهم كَدِرَا
عجيبة أنه يسعى لينفعهم ... ويشتهون له المكروه والضررا
يا أحمد الخير قد آذوك وانصرفوا ... يؤلبون عليك الجمع والزمرا
حاشى لربك لم تحذر بوائقهم ... (ولا ينال العلا من قدم الحذرا)
لما استمرتْ قريشُ في غوايتها ... صبرتَ لله. والعقبى لمن صبرا
هاجرت لله من قدس إلى قدُس ... وسرت تطوي إلى غاياتك المدرا
فيالها هجرةً لله خالصةً ... تدفَّق الدينُ منها بَعْدُ وانهمرا
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
مدرس بالمدرسة الثانوية(243/57)
القصص
أقصوصة من جبرييل دانونزيو
سنسناتوس
مأساة عاشق مخبول
للأستاذ دريني خشبة
كان يتثنى كأنه غصن بان؛ وكان نحيلاً معروقاً في غير طول، وله لبدة تتهدل كغابة من أشجار الكستناء فوق كاهله وكتفيه، ثم تتحوى ذوائبها وتغدودن حين يعبث بها الهواء، فتكون كعرف الفرس. أما لحيته. . . فيهودية كثة مغبرة، غير محلقة، تعلق بها دائماً نثائر من القش. . . أما عيناه فسادرتان ترنوان أبداً إلى قدميه الحافيتين! فإذا حدث أن رفعهما إلى أحد فإنهما تقذفان في قلبه الذعر، بما ركب فيهما من ألغاز وأسرار. . . فهما تارة تشفان عن بله، وتنمان عن عته؛ وتارة أخرى تتأججان بنيران حامية كنيران الحمى. . . ثم تنطفئان بغتة، فتراهما حائلتين آسنتين كمياه المستنقع. . . فإذا لمح بهما خطفتا كسيوف طليطلة!
وكانت له (جاكتة) حمراء يلقيها على كتف واحد كما يلتفع الأسبان عباءاتهم في كبرياء وزهو، فكان إذا مشى بَدَح في عظمة وجلال
ويدعوه الناس سِنْسناتوس، ويقولون إن به لوثة أصابته إثر حب خانه فيه محبوبه، فلم يملك إلا أن يطعنه، ويمضي على وجهه في الأرض حيران
وكانت سنه عندما عرفته ستا وسبعين، بينما كنت أنا في الثالثة عشرة. . . وقد رأيته فخلبني. . . وكان اليوم قائظاً، والماء يغمر الميدان، والأرصفة تتقد بحر الشمس، ولم يكن ثمة مخلوق غير كلاب قليلة سائبة. . . ولا صوت إلا جعجعة الطاحونة القريبة
وكنت لا أمل أن أقف نصف ساعة ألاحظ سنسناتوس من وراء ستار النافذة، وهو يمشي متثاقلاً مختالاً، وقد اشتد قيظ الظهيرة؛ وكان يدلف أحياناً نحو الكلاب في هدوء ومهل حتى إذا ظن أنها أمنته، التقط حجراً وحذفها به ثم اعتدل وولاها دبره، كأنما يوهمها أنه لم يمسها بأذى. . . وقد تجتمع الكلاب حوله فلا تنفك تبصبص بأذنابها. . . ويفتر هو باسماً.(243/58)
ثم يضحك ضحكات بائسة. . . فلا أملك إلا أن أضحك أنا أيضاً!
وتشجعت يوماً فأطللت برأسي من النافذة، ثم هتفت به: (سنسناتوس!) فاستدار حوله، حتى إذا بصر بي تبسم ضاحكاً، فقطفت قرنفلة جميلة من طاس أزهاري وأرسلتها إليه. . . ومنذ ذلك اليوم، ونحن صديقان. . . وأي صديقين؟!
وقد سماني (كيرلي لوكس!). ففي أمسية يوم سبت من شهر يوليو بينما كنت واقفاً على الجسر الجميل أرقب سفائن الصيد عائدة أدراجها، ومن خلفها الشمس الرائعة تصبغ السحاب بالذهاب، وتوشي حواشيه بالقرمز، وتنصب بالنهر في لجة البحر ذوباً من اللألاء واللُّجين. . . في حين تنعكس العدوتان، وما نما فوقهما من قصب وغاب، وما بسق عليهما من حور وشاهبلوط، في مائه العذب، فتكسوانه حلةً من سندسٍ وإستبرق!
وكانت الزوارق تلقي مراسيها في بطء وتتضامُّ على رويد، وشرعها البرتقالية تصطفق وتتكسر، فترتسم عليها النقوش العربية، فتبدو غرابيبَ سودا. . . وقد بدأ الصيادون ينزلون أسماكهم من زورقين كبيرين، فرحين جذلين بما رزقهم الله، منشدين متغنين
وتلفت حولي فجأة فرأيت سنسناتوس واقفاً حِيالي والعرق يتفصد من وجهه، وقد خبأ شيئاً في يده وراء ظهره، فمددت إليه يدي المذعورة المرتجفة، وناديته: (أوه! سنسناتوس!) ورفت على شفتيه ابتسامة ساذجة كابتسامة الطفل، ثم مد إلي يده وفيها باقة رائعة من أزهار الخشخاش، وسنابل القمح، فاختلطت حمرة (أبي النوم) بذهب البر، حتى ما تمالكت أن صحت: (شكراً لك وألف شكر! ألا ما أجمل وما أبهى!!) وبدلاً من أن يرد علي، فقد أرسل أصابعه فوق جبينه ووجنتيه لينزح العرق، ثم حملق في يده وحملق في، ثم ضحك من أعماقه ضحكاً رقيقاً باكياً. . . وقال: (لقد وجدت تلك الأزهار الأرجوانية نامية وسط حقل من القمح، فأحببت أن أقطفهن لك. . . ألا ما أجمل وما أبهى!! لقد قطفتهن لك، ولم أبال الشمس التي كانت تصب نيرانها فوق رأسي!)
وكان يتكلم في هدوء واستسلام؛ وكان يرسل الكلمة ويستأني، ثم يرسل الأخرى ويستجم؛ وكان يبدو عليه التعب، لكنه كان يحاول وصل كلماته حتى لا يفلت منه زمامها. . . وكان يبدو كأن ألف فكرة تزدحم في رأسه، وألف صورة من صور ماضيه المؤلم تربك تفكيره. . . فكان يستذكر منها الصورة والصورتين والثلاث، ويترك الباقيات تتفرق كسرب من(243/59)
اليعاسيب. . . وكنت ألمح ذلك في عينيه. . . فيزداد تفرسي في وجهه الذي كان يبدو لي جميلاً رائعاً. . . وكأنما لحظ ذلك مني، فالتفت إلى الزوارق فجأة وقال: (أنظر. . . الشرع! ما أجمل الشرع! شراعان رائعان! أحدهما في الماء والآخر في الهواء!) أي أنه لم يكن يعرف أن الشراع الذي في الماء ما كان إلا صورة منعكسة؛ ولقد حاولت أن أفهمه ذلك. . . وقد أطلت في الشرح إلا أنه كان يبدو كالذاهل عما أقول. . . وكانت كلمة (شفشاف) تصدمه، وتقر في أذنه
وتمتم بهذا النداء: (ديافانوس!!). . . ثم تبسم، وعاد يحملق في الشراع العجيب!
وانتثرت بَتلة من أزهار الخشخاش فسقطت في الماء، فجعل يتبعها بنظره حتى غابت، ثم أنشأ يقول: (إنها ذاهبة. . . ذاهبة بعيداً!) وكانت نبرات الأسى تتكسر في أطراف صوته، كأنما فقد شيئاً عزيزاً عليه!
وصمتنا لحظة، ثم سألته: (ألا تخبرني ما بلدك يا سنسناتوس؟) لكنه التفت عني وأشاح، ثم مد بصره في السماء الزبرجدية الصافية، حيث ذهبت الجبال في السماء كالجبابرة التي تغط وتتثاءب؛ وكان الجسر البعيد الممتد فوق النهر يقطع السماء إلى صور جميلة بارعة، وقد أخذت ظلال الشاطئ الأخضر المنعكسة في مائه تتحول إلى لون داكن قاتم، يختلط بأهازيج الصيادين ونكاتهم المرحة الساذجة
وأشرقت أسارير صاحبي قليلاً، ثم أسرع يقول:
- أجل. . . لقد كان لي بيت أبيض، وكانت له حديقة صغيرة تنمو فيها أشجار الخوخ. . . وفي المساء. . . كانت تريزا تأتي إلي. . . جميلة حسان. . . مفتان!. . . عيناها. . . ولكن. . . هو! هو!
ثم صمت فجأة. . . لأن الهواجس السوداء كالخفافيش طافت برأسه فجأة. . . وانطفأ البريق الذي كان يشع من عينيه فصارتا غائمتين قاتمتين!
بيد أنه لم يلبث أن انفرجت أساريره، وأشرق وجهه. . . ثم لوى عنانه، وذهب عني، وهو ينشد ويغني:
, ,
وهو غناء لا أدري ماذا كان يقصد به!(243/60)
ولقيته بعد ذلك مرات، وكنت كلما رأيته مارا بمنزلنا دعوته لأعطيه شيئاً يأكله، أو يتبلغ به، وأعطيته مرة دريهمات كنت قد أختها من أمي، فما كدت أضعها في يده، حتى نظر إليها هازئاً، وردها إلى في امتعاض، وولى مدبراً. . . وفي المساء لقيته عند آل بورتانوفا، فتقدمت إليه قائلاً: (سنسناتوس! اغفر لي. . . و. . . اعف عني!) ولكنه هام على وجهه، واختفى في الغابة
وفي صباح اليوم التالي، وجدته ينتظرني قريباً من منزلي، فلما رآني تبسم ابتسامة محزونة، ومد إلي يده الواهية بباقة يانعة من أزهار المرغريت. . . وكانت عيناه دامعتين، وشفتاه مرتعشتين. . . مسكين! لك الله يا سنسناتوس!
ومرة أخرى، بينما كنا جالسين في طرف الطريق المعروش بالشجر، في أواخر شهر أغسطس، والشمس الغربة تختفي رويداً وراء الجبال، والأصداء المختلفة تتجاوب في جنبات السهل القار الهادئ بين لحظة وأخرى. . . وحواشي الأدغال الصنوبرية تبتعد وتبتعد حتى تتناهى في ظلام البحر، وقد أخذ القمر النحاسي يبزغ في هوادة وبطء خلال السحب العجيبة الرائعة. . . حينئذ. . . نظر سنسناتوس إلى القمر، وحدق فيه بصره. . . ثم أخذ يتمتم ويجمجم. . . ويقول: (أنظر. . . إنك تستطيع الآن أن تراه. . وليس في وسعك الآن أن تراه! أجل. . . قد يمكنك أن تراه الآن. . . وقد لا يمكنك قط أن تراه!
وظل برهةً يتأمله ثم عاد يقول:
(القمر!! إن له لعينين وأنفاً وفماً مثلنا نحن البشر!! ومن يدري فيم عساه يفكر. . . من يدري؟!)
ثم شرع يغني أغنية سَجْواء من كاستللامير. . . أغنية طويلة كثيرة الرفع والخفض، مما يتغنى به أهل تلك الهضاب في ليالي الخريف، في عقابيل الحصاد. . وبعد لحظات لمحنا في ظلام البعد مصباحي قاطرة مقبلة، كانا يتأججان في فحمة الغسق كما تتأجج عينا هَوْلة. . . وقد مر القطار وهو يهزم كالرعد فوق الجسر، ويرسل صفارته الهائلة، وينفث دخانه القاتم. . . وبعد لحظة غاب في الأفق، وساد الصمت، وعاد الهدوء إلى الكون
وهب سنسناتوس واقفاً فقال:
- اذهب. . . اذهب. . . انطلق بعيداً، أيها التين، بما أجج الشيطان في صدرك من نار(243/61)
ومن حمم!!)
ولن أنسى ما حييت فزعة سنسناتوس حين مر بنا القطار. . فلقد رعد فجأة، وجرجر في هدوء الطبيعة، فأيقظ صاحبي المجنون من تأملاته وروعه. . . فلما عدنا أدراجنا إلى القرية. . . لم يصح من أحلامه قط!!
وذهبنا مرة معاً في أصيل يوم جميل من أيام سبتمبر إلى سيف البحر. . . وكانت لا نهائية الماء الأزرق العميق تضطرب تحت بيضة الأفق التي كانت تلتمع بأمواه السماء. . . وكانت قوارب الصيادين تتهادى فوق العباب الزاخر، مَثْنى مَثْنى، كأزواج من طير عظيم مختلف أنواعه، وقد نَشّرت أجنحتها الصفراء والقرمزية. . . ومن ورائنا نهضت كثبان الرمال الشاحبة، الممتدة فوق الشاطئ القاتم، حتى تتصل بسندس النّبْت من وراء
وانطلق سنسناتوس يحدّث نفسه في صوت حنون أخاذ، كالذي تولاه طائف من الذعر والدهش: (البحر. . . الخضم. . . الأزرق. . . خِضمْ. . . خضم. . . وفيه سمك كِبار تأكل الناس! وفي أعماقه أوركوس المحبوس في قفصه الحديدي!! إنه هناك يستغيث ويستنجد، ولا من مغيث ولا منجد. . . إنه سيظل هناك إلى الأبد. . . وفي المساء تمر به السفينة. . . التي يرى الموت من يراها!!)
وسكت سنسناتوس. . . ثم هب من مقامه، فتهادى نحو الماء، حيث وقف عند هامش الموج الذي أخذ ينضح قدميه
وبعد فهل نستطيع أن نستشف تلك الأفكار التي كانت تحوم كالسمادير في رأسه الفقير المريض المعتل؟ أجل. . . لقد كان يتخيل دُنى من ورائها دنى. . . بعيدة. . . نائية. . . متألقة. . . وكان يرى أطيافاً من الألوان المضطربة، بعضها عريض طويل، وبعضها لا نهائي، وبعضها عجيب غريب. . . ولشد ما كان يضل إدراكه في تيه هذه الظلال التي لم يكن يدري كُنهها
وكنت أدرك هذا من عباراته التي يربطها رابط برغم ما كانت تصور به المناظر الرائعة في سذاجة. . . و. . . عمق في آن واحد!
ولم ينبس ببنت شفة حينما كنا نطوي الطريق عائدين إلى القرية. . . وكنت أنظر إليه لحظة بعد أخرى، فتتردد في فؤادي هواجس شتى. . . ولما اقتربنا من الطريق، نظر إليّ(243/62)
فجأة وراح يقول في صوت هادئ متهدج، بعد أن قبض على يدي: (إن لك أمّاً تنتظرك لتقبلك عندما تعود إلى البيت. . .!)
وكانت الشمس تهبط إلى خدرها خلف الجبال في سماء صافية وكان النهر يضطرب بأشعتها الذهبية الرائعة. . . فلما قال ما قال سألته بدوري، والدموع تترقرق في مقلتيّ: (وأنت أين أمك الآن يا ترى؟!) بيد أنه اشتغل عني بعصفورَيْ جنة، فانحنى إلى الأرض حين رآهما، وتناول حجراً ثم سدده إليهما في انتباه عظيم، كأنما حسب أنه يصمم بندقية وأرسله في عنف. . . وطار العصفوران كسهمين مُرَاشَيْن من غير أن يصيبهما أذى. . .
وقال سنسناتوس، وهو ينظر إليهما يزفان إلى السماء اللؤلؤية مفترّاً عن فمه: (طِيرَا. . . طيرا. . . طيرا. . . طيرا) يرددها في نغمة متسقة أربع مرات
ولقد لاحظت تبدّلاً في سلوكه منذ بضعة أيام. . . وكان يبدو كأنما تشتعل الحمى بين جنبيه. . . مسكين!. . . لقد كان ينطلق وسط الحقول يعدو ويجري، فلا يقف حتى يهده التعب، فيسقط ويتحوى كالثعبان، ويبرق بعينيه المفزوعتين في شمس الظهيرة الساطعة! فإذا كان الأصيل ألقى جاكتته فوق كتفه وراح يتخلج كالأشراف الأسبان، في خطى واسعة بطيئة مهطعاً مرة، مستأنياً متمهلاً مرة أخرى
وقد أهملني. . . ولم يعد يحضر لي باقات الخشخاش ولا أزاهير المرغريت. . . ولشد ما أحزنني ذلك منه برغم إشاعات الهجر، وألسن السوء التي كانت تقدح فيما بيني وبينه. . .
ففي صبيحة جميلة مشرقة ذهبت لألقاه حيث تعودنا أن نتقابل، لكنه لم يعن بي، ولم يتوجه بعينيه نحوي. . . فقلت له وقال لي:
- ماذا يا سنسناتوس؟!
- لا شيء!!
- هذا كذب. . .
- لا شيء!!
- هذا كذب. . . هذا كذب!!
وكنت ألمح في عينيه لهباً يتأجج فيهما، فالتفت حيث كان يرسل بصره، فرأيت فتاةً جميلةً فلاحةً، واقفة فوق وصيد دكان قريب(243/63)
وسمعته يتمتم في تحرق وشوق وشغف، وقد اصطبغ جبينه بورس الحب: (تريزا!! تريزا!!. . .) ثم تحدرت عبراته فجأة. . . لقد رأى المسكين في الفتاة الفلاحة طيف تريزا. . . تريزا الجميلة. . . حبيبته التي خلبت لبه، وخبلت عقله، وسحرت فؤاده!
ولقيها بعد ذلك بيومين، فهرول نحوها وهو يبكي ويقول: (أنت أجمل من شمس الضحى!). . . ولكن الفتاة القاسية مدت يدها البضة ولطمته في حر وجهه!
ولمحه غلمان فأحدقوا به. . . ثم طفقوا يلمزونه ويستهزئون به وأخذوا يحذفونه بأعواد الكرنب الملقاة في الشارع، فأصابه أحدهم بعود منها في وجهه. . .
وثار سنسناتوس! وانطلق في إثر الغلمان كالثور المجروح، وأمسك بأحدهم فرفعه في الهواء، ثم ألقى به على الأرض. . . كحزمة من الخرق!!
ورأيت رجلين من الشرطة بعد ذلك يقتادانه تحت شباكي، والدم يتحدر من وجهه فيضرّج لحيته الكثة، وقد حنا رأسه توقياً لسخريات الناس به. . . . . . فبكيت!! بل استخرطت في البكاء!!
ولحسن الحظ لم يكن الفتى قد أصيب إلا بسحجات بسيطة فأطلق سراح سنسناتوس بعد يوم أو يومين. . .
مسكين سنسناتوس! لقد غدا مسبوهاً شارد اللب أكثر مما كان، وأظلت وجهه سحابة من الحزن لم تنجل. . . وشهدته ذات مساء يعدو كالكلب في أزقة القرية المظلمة
وفي صبيحة جميلة من أيام أكتوبر، مموهة السماء بلون البنفسج وأضواء الشمس، وجدت جثة سنسناتوس ممزقة مهشمة فوق شريط السكة الحديدية مما يلي الجسر. . . فهنا إحدى ساقيه. . . وهناك. . . على مسافة خطوات. . . ساق أخرى جرها القطار وراءه. . . وظل الدم يتدفق من الرأس الذي نزعت عنه لحيته. . . وقد جحظت عيناه لتثيرا الرعب في قلوب أبناء آدم!
مسكين سنسناتوس!! إنه لابد قد ذهب هناك ليرى إلى الهولة التي تنطلق في جوف الوادي، فتذهب بعيداً. . . بعيداً. . . كما تعود أن يقول. . . التنين الهائل الذي أجج الشيطان النار في صدره. . .
- (تريزا. . . . . .)(243/64)
دريني خشبة(243/65)
البريد الأدبي
كتاب مصري جديد لإميل لودفيج
لم تمض أشهر قلائل على ظهور كتاب (النيل) الذي وضعه المؤرخ
الألماني الكبير إميل لودفيج حتى ظهر له كتاب جديد يتناول أيضاً
موضوعاً مصرياً شائقاً هو (كليوباترة)؛ وكما أثار كتاب (النيل)
إعجاب القراء والنقدة، فقد أثار الكتاب الجديد أيضاً إعجاب الدوائر
الأدبية. وكتاب كيلوباترة دراسة تاريخية بديعة لحياة هذه الملكة
المصرية الخالدة، وشخصيتها الساحرة، وموتها المؤسي؛ وقد ظهرت
عن كيلوباترة كتب كثيرة من أقلام كتاب أعلام؛ ولكن كتاب لودفيج
يمتاز بأسلوبه الساحر الذي تخال عند قراءته أنك تقرأ قصة شائقة لا
دراسة تاريخية معقدة؛ وهذه أعظم مزايا إميل لودفيج كمؤرخ، فهو
يكتب التاريخ الحق، ولكن بأسلوب خاص، فيتخذ من حوادث الحياة
اليومية، والصفات والعواطف الشخصية مادة لا يفطن إليها الكثيرون
من كتاب التاريخ؛ ويرى في هذه الأعمال والحوادث البسيطة ما لا
يراه في الحوادث العامة التي ترتبط بحياة مترجمه؛ والترجمة
التاريخية تعتمد في الغالب على هذه الحوادث العامة، ولكن إميل
لودفيج يعتقد أن الدراسة الشخصية للعواطف والميول والشهوات
الخاصة تفصح عن شخصية المترجم أكثر من أي شيء آخر؛ وهو مع
ذلك يكتب التاريخ ولا يحيد عنه
وهذا المزيج القوي من نظرة لودفيج إلى التاريخ يتخذ صورة ساحرة في كتاب كيلوباترة؛ فهذه الملكة الحسناء التي كانت أول ملكة جلست على عرش الفراعنة، والتي انتهت بحياتها(243/66)
دولة البطالسة، يرسمها لنا لودفيج بكل جمالها كامرأة، وجلالها كملكة، ويصور لنا دقائق حياتها الشخصية والعامة تصوير المؤرخ الدقيق والقصصي البارع؛ وهو يصل في كتابه الجديد إلى ذروة فنه كمترجم لا يجارى لشخصيات التاريخ البارزة؛ وقد وضع الكتاب بالألمانية، وترجم في الوقت نفسه إلى الإنكليزية، كمعظم كتب لودفيج
وفاة شاعر روسي مسلم
توفي في روسيا أخيراً الشاعر سليمان ستالسكي وهو مسلم من أهالي داغستان، ولد منذ نحو سبعين عاماً، ونشأ في أسرة فقيرة من الفلاحين والرعاة، ولم يتلق تربية مدرسية ما، بل نشأ أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك فقد نظم الشعر منذ حداثته، وطارت شهرته منذ نحو أربعين عاماً في القوقاز وفي روسيا كلها، وكان يميل بالأخص إلى نظم القصائد الريفية والشعبية. ولما قامت الثورة البلشفية كان سليمان ستالسكي من أقوى دعاتها في بلاد داغستان والكرج التي ينتمي إليها ستالين زعيم روسيا الحالي، وقد لفتت قصائده الوطنية التي ترجم الكثير منها إلى الروسية أنظار الزعماء والمفكرين، ولفتت إليه بالأخصَ أنظار مكسيم جوركي عميد الأدب الروسي الثوري فنعته بأنه (هوميروس القرن العشرين)؛ وكان في أعوامه الأخيرة موضع عطف ستالين، وعطف زعماء الأدب الروسي كله لما تحتويه قصائده من قوة الفطرة وحرارة الإخلاص؛ وكان لوفاته وقع عميق في موسكو وفي روسيا كلها
كتاب عن طاغور
يصدر في أوائل الصيف القادم كتاب بالإنكليزية عن شاعر الهند وفيلسوفها رابندارانات طاغور عنوانه (طاغور، شخصيته وعمله) بقلم الأستاذ لسني وهو عبارة عن دراسة تحليلية دقيقة لشخصية الشاعر الكبير، وتراثه الشعري والفلسفي، ومدى تأثيره في الأدب الهندي والأدب العالمي. والكاتب من أصدق أصدقاء الشاعر وأعظم المتخصصين في دراسة الأدب الهندي؛ وقد وجه إليه طاغور كتاباً أثبت في صدر الكتاب وجاء فيه: (إنها لمعجزة أن تنفذ في مثل هذا الوقت القصير إلى روح اللغة البنغالية وإلى آثاري؛ ولم أر من قبل قط مثل هذه المقدرة النقدية في كاتب أجنبي آخر)(243/67)
علماء فوق الجليد
كانت الحكومة الروسية قد أوفدت منذ بضعة أشهر بعثة من العلماء الروس إلى القطب الشمالي لتقوم ببعض الأبحاث الجوية والمائية في هذه المناطق الثلجية؛ فطار أعضاء البعثة إلى القطب في طيارات صنعت خصيصاً للطيران في هذه الأنحاء، واستطاعت البعثة أن تنزل فوق منبسط من الجليد على مقربة من القطب، وأن تهيئ مكاناً لسكناها، ومطاراً لنزول الطيارات، ومرصداً للقيام بأبحاثها؛ واستمرت تجري أعمالها بضعة أسابيع والطيارات تختلف إلى مقامها لتموينها بالطعام والوقود والشحم؛ ولكن حدث في ديسمبر الماضي أن ذابت الثلوج حول مقام البعثة، وانفصلت الكتلة الثلجية التي تحتوي على مساكنها وآلاتها، ثم ترك هؤلاء العلماء البواسل دون مأوى ودون طعام فوق كتلة متحركة من الجليد أخذت تسير بهم ببطء إلى مصاير مجهولة. وكان من حسن الطالع أنهم احتفظوا بآلة اللاسلكي، فبعثوا إشارات الاستغاثة إلى روسيا، واهتمت حكومة موسكو واتخذت كل أهبة لإنقاذ العلماء البواسل
ومنذ أسابيع تحلق الطيارات وتسير نسافات الجليد إلى حيث مقر البعثة؛ وفي الأنباء الأخيرة أن النسافتين تيمر ومورمان استطاعتا تحطيم الجليد، واللحاق بالعلماء المنكوبين بعد أن سارت بهم قطعة الجليد التي بقوا عليها نحو ألفي كيلو متر من القطب حتى شواطئ الأرض الخضراء، واستطاعتا إنقاذهم وإنقاذ آلاتهم وموادهم العلمية
وتقول الأنباء أيضاً إن رئيس البعثة العلامة الشاب بابانين استطاع أن يقوم في الحوض القطبي ببحوث هامة، ودلت التجاريب المختلفة لسبر أغوار الجليد أن هنالك تياراً حاراً يأتي من الأطلانطيق؛ واكتشف العلماء أيضاً وجود بعض الطيور على مقربة من القطب وهو ما كان يظن استحالته؛ ووضع العلامة الفلكي فيدروف خريطة فلكية للمنطقة القطبية؛ وجمعت البعثة كثيراً من المواد والحقائق العلمية عن خواص المناطق القطبية المختلفة.
قاموس سياسي
أصدرت الأكاديمية السياسية الدولية بباريس قاموساً من طراز جديد، هو القاموس السياسي (الدبلوماسي) وقد وضع بأشراف الكاتب المعروف مسيو فرانجليس سكرتير الأكاديمية،(243/68)
وأحد مندوبي فرنسا لدى عصبة الأمم، واشترك في وضعه سبعة وعشرون رئيس حكومة، وأكثر من خمسمائة وزير وسفير منهم أقطاب السياسية العالمية مثل الرئيس روزفلت وإيدن وموسوليني وشاخت وبنيس وهيروتا وغيرهم، وعولجت فيه أهم المسائل الدولية المعاصرة بأقلام هؤلاء الأقطاب. غير أن أهم مزايا القاموس السياسي، هو أنه مرجع شامل لجميع الأنظمة والمعاهدات السياسية والدولية الجديدة التي عقدت بين مختلف الدول في الأعوام الأخيرة، مثل الأنظمة والمعاهدات الجديدة الخاصة بمصر والهند وسوريا، ومسائل البحر الأبيض، ونزع السلاح البحري، وتجارة السلاح، ونظام اللاجئين، ومسائل الصين واليابان والحبشة وغيرها مما يشغل الدول والسياسة الدولية الحاضرة؛ وقد رتبت هذه المجموعة على مثل القاموس ليسهل استعراضها؛ وهي تقع في ثلاثة مجلدات كبيرة، ولا ريب أنها مرجع نفيس للباحثين في التاريخ السياسي المعاصر
مؤتمر عام للأدب العربي
تلك فكرة جميلة يسعى لتحقيقها السيد محمد فاضل بن عاشور بتونس، ومهمة هذا المؤتمر على ما جاء في برنامجه، السعي لتوحيد طرق الثقافة ودراسة الآداب العربية في جميع أقطار العروبة، وإنشاء مدون عن أطوار الأدب العربي في كل قطر من تلك الأقطار، وتوكيد الصلات بين رجال القلم من أبناء العربية، وإنشاء لجان فرعية للمؤتمر في كل قطر تتلقى بحوث ونظريات الأدباء لإحالة المفيد منها إلى المؤتمر بعد دراستها، وتقوم برحلات القصد منها استطلاع مدى الحركة الأدبية، والسعي في إنشاء كليات أدبية في الجهات التي لم تؤسس فيها كليات لذلك. والشرط في ذلك كله أن تكون العربية الفصحى لسان أعضاء المؤتمر ولغة لجانه وقراراته ونشراته، وستصدر نشرة دورية تكون سجلاً للمؤتمر في جميع خطواته التي يخطوها في سبيل غايته
هذا وقد تألفت لجنة تحضيرية في تونس تضم جملة من الأساتذة الأفاضل برياسة السيد محمد بن عاشور، وهي توالي اجتماعاتها بمعهد ابن خلدون للعمل على تحقيق الفكرة وإخراجها إلى الوجود؛ والرسالة وهي سجل الأدب العربي ترجو للسادة الأفاضل التوفيق في غايتهم الشريفة ومهمتهم النبيلة
قاعة القراءة بالمتحف البريطاني(243/69)
جاء في عدد الرسالة رقم (242) بين نبذ البريد الأوربي خبر بأن غرفة القراءة بالمتحف البريطاني ستظل مفتوحة للزوار ساعة كاملة فوق المعتاد. ثم علقتم على هذا النبأ بأن تمنيتم لو عنيت مصلحة الآثار فأنشأت قاعة القراءة بالمتحف المصري على نمط قاعة المتحف البريطاني، وهي تمنيات طيبة صادرة من قلب محب للعلم حريص على نشره. بيد أني أخشى أن إيراد الخبر على هذا الوجه يجعل القارئ العام الذي لا يعرف شيئاً عن قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني يحسب أنها لا تحوي سوى الكتب الخاصة بالآثار ووصفها - في حين أن المتحف المذكور ينقسم إلى قسمين رئيسيين: المكتبة وقسم الآثار، وتعد المكتبة أكبر مكتبات العالم كله، وقاعة مطالعاتها التي ورد ذكرها في هذا النبأ قاصرة على طائفة معينة من المتعلمين، فلا يسمح بالدخول فيها للاطلاع إلا لمن يقوم بأبحاث عميقة في مختلف العلوم والفنون وعليه أن يعين في طلبه نوع هذا البحث والمدة التي يريد أن يتردد فيها على القاعة من أجله، وهي تفتح أبوابها لهذه الطائفة فقط من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة السادسة مساء (قبل التغيير الأخير) وهي لا تعير كتباً في الخارج، ثم إن القانون الإنجليزي يفرض على كل ناشر أن يبعث إلى المكتبة المذكورة بنسخة من كل مطبوع يطبع في الجزر البريطانية
أما قسم الآثار فزيارته مباحة لكل من يريد وبلا مقابل، على هذا نرى أنه ليست هناك علاقة بين المتحف البريطاني وبين قاعة المطالعة فيه سوى أنهما في بناء واحد - ونلاحظ أن وظيفة هذه القاعة تشبه إلى حد ما وظيفة دار الكتب الملكية عندنا. وقصارى ما نرتجيه أن تنشئ الحكومة في بعض أحياء القاهرة مكتبات عامة للجمهور تخفف الضغط على المكتبة الملكية بحيث تصبح هذه الأخيرة قاصرة على طائفة معينة من القراء وأهل العلم والبحث
نجيب أحمد هاشم
الإسلام في العالم
ظهر في لاهور (الهند) كتاب (الإسلام في العالم) لمؤلفه الدكتور زكي علي؛ وعلى رغم أن المؤلف الفاضل مصري النشأة والمربى فقد كتب كتابه هذا باللغة الإنجليزية. لأننا أحوج ما(243/70)
نكون اليوم إلى أن ننشر تاريخنا ومبادئ ديننا على أعين الأجانب ليروا. . .
والكتاب قسمان: الأول يتحدث عن النشأة الأولى للإسلام منذ ظهور أول قبس من نوره حتى استيلاء العرب على الأندلس؛ والثاني يعرض النهضة الإسلامية الحديثة في لمحات خاطفة تشمل الأقطار الإسلامية جميعاً: تركيا الكمالية ومصر المستقلة وفلسطين وشمال أفريقية والصين والهند وأفغانستان والعراق وإيران و. . .
وفي الكتاب أبحاث قيمة لمسائل ذات شأن منها: ما عساه أن يكون وراء النهضة الإسلامية الحديثة؟ أفتحمل في أضعافها ثورة جامحة تعصف بسلام أوروبا؟ أفتتكون من القوى الإسلامية المختلفة جبهة شديدة تتدافع سيلاً جارفاً من الجيوش الثائرة فتلتهم ما عداها من الدول والممالك شأن المسلمين في عصرهم الأول؟ ماذا عسى أن تكون سياسة الدول الإسلامية الكبرى في الحرب العالمية القادمة؟ أفنستطيع أن نجد الوفاق بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي؟ و. . . و. . . مما يضطرب في خواطر القادة والزعماء. . . وفي الكتاب ولا ريب أبحاث طريفة ممتعة يجدر بالمشتغلين بأمور الإسلام والعرب والشرق أن يطلعوا عليها
الفتاة الصينية والتعليم
تبدأ نهضة الفتاة الصينية منذ سنة 1907 فقط، أي أنه قد مضى على نهضتها ثلاثون عاماً هي مع قصرها في حياة أمة عظيمة قديمة كالصين حقبة مليئة بجلائل الأعمال التي تمت للفتاة الأوربية في قرن بأكمله، وبعد مصادمات عنيفة بين الجنس اللطيف الناعم والجنس القوي الخشن. والفضل في نهضة الفتاة الصينية ترجع إلى سيدة عظيمة تدعى شيوشان ' لا كما هو الحال عندنا إذ ترجع هذه النهضة إلى الجهود الجبارة التي قام بها المرحوم قاسم بك أمين. وقد دعت شيوشان إلى وجوب إنشاء المدارس للفتاة الصينية، ووجوب الإقلاع عن التقاليد التربوية الكونفوشية التي تحرم على البنت نور العلم الحديث، فلم تزل تكتب وتخطب وتشن الحرب على القابضين على زمام الأمر من أتباع مانشو حتى فازت في سنة 1907 بإنشاء المدارس الأولية للفتيات ومدارس التربية للمعلمات. ولم يمض ربع قرن حتى كان في الصين مليونان من تلميذات المدارس، وحتى أصبحت نسبة الفتيات من طالبات الجامعات 14. 5 % من عدد الذكور. . . والأعجب من كل ذلك أن الفتاة الصينية(243/71)
نالت المساواة بالرجال في جميع الحقوق المدنية والسياسية قبل أن تفوز بها أختها في كثير من الممالك الأوربية.
وفاة الشاعر أحمد نسيم
في غضون الأسبوع المنصرم طوى الموت صحيفة الأستاذ أحمد نسيم الشاعر المعروف، وكان رحمه الله شاعراً في شعره معنى اسمه كما يقول مطران، فله عرف أبي الطيب، ونفحات النسيم. ولقد قضى الشطر الأول من حياته ينافح عن الوطن بشعره إلى جانب حافظ، وله في ذلك (وطنيات نسيم) جزآن كلهما صيحات في جانب الوطن، وجدال في السياسة. ثم عين مصححاً في دار الكتب، واستطاع أن يخدم الأدب في حدود تلك الوظيفة، فأشرف على جملة نافعة من مطبوعات الدار كديوان مهيار والنابغة الشيباني وصرور وجران العود وغيرهم، ولقد ظل عاملاً إلى آخر حياته، على الرغم من تمكن الداء وإلحاح العلة
ونود أن نعود بالحديث الشامل إلى ذلك الشاعر في فرصة أوسع
جمعية بناء جامع فارسوفيا
جاءنا من الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء ما يأتي:
أرجو نشر نداء جمعية بناء جامع فارسوفيا في مجلتكم الغراء وإني أتقدم إليكم بجزيل الشكر
لا تخفى عليكم المساعدة التي تقدم بها إخواننا المسلمون بالهند لصاحب الفضيلة مفتي إسلام الجمهورية البولونية الدكتور يعقوب سينكيفش الذي يتبعه 15000 من مسلمي التتار في تأسيس جامع يؤمه المسلمون في فارسوفيا. ولما كانت المادة تعوزه لإتمام تشييده رأى صاحب الفضيلة عمل رحلة إلى البلاد المصرية والجهات العربية يستحث فيها أهل المروءة على مد يد المساعدة حتى يتم تشييد هذا الجامع. هذا وإني أضع تحت تصرفكم البيانات الكافية عن انتشار الإسلام في بولنده إذا ما رغبتم في ذلك لتنوير الرأي العام لديكم. وبنشركم هذا النداء في مجلتكم تقومون نحو إخوانكم المسلمين في بولنده بأجل الخدمات التي نشكركم لأجلها. وإنا نرجوكم إرسال بعض النسخ إلى مجلتكم التي تنشر فيها(243/72)
كلمتنا والسلام عليكم ورحمة الله
برلين 30 يناير سنة 1938
مصطفى كوينجني
أصول الفواكه والبقول
قدم العلامة الفرنسي الأستاذ بيفو إلى أكاديمية بوردو بحثاً علمياً مستفيضاً عن أصول معظم الفواكه والبقول التي تنمو الآن في أوربا؛ وخلاصة بحثه أن معظمها قد نقل إلى أوربا من آسيا ومصر، فشجرة الخوخ مثلا قد نقلت من الصين، ونقلت شجرة المشمش من التركستان، ونقلت شجرة اللوز من أفغانستان، كما نقلت شجرة الزيتون من مصر، وعرفت أشجار الكروم في أوربا لأول مرة في غاليس (جنوب فرنسا)، والمفهوم أنها نقلت من آسيا، ونقلت بذور الذرة من المشرق أيضاً، وكان أول من زرعها القوط في أسبانيا، أما البطاطس التي تعتبر اليوم أهم الخضر الأوربية فهي أمريكية الأصل، وقد نقلت بذورها لأول مرة من شيلي في أمريكا الجنوبية على يد المستعمرين الأسبان(243/73)
رسالة النقد
نظر ونقد
2 - شعراؤنا في موكب الزفاف
الجارم بك
ولنقف أول ما نقف مع أستاذنا الجارم بك، فقد كان في شعراء الزفاف أبعدهم صوتاً، وأطولهم نفساً، وأشدهم عارضة، وأسمحهم قريحة، وأطوعهم بياناً. لم يرض لنفسه أن يكون (مفرد) القصيد، فأرسل (الجارمية) في أثر (الجارمية)، وكل جارمية تهدف إلى المائة أو تزيد، ولقد أدى ذلك كله بأدائه الجارمي الرائع، ولحنه القوي الحنون، فبلغ من رضا الجمهور والصحافة غاية لا تتجاوز، حتى كان من هذا الرضا أن اتفق الناس على أنه طليعة الشعراء، وأنه جاء كالبعث لما بعد شوقي وحافظ
على أن الجارم لم ينتظر تقريظ الجمهور، وتقدير الصحافة، وحكم النقد، فسبق الجميع بالشهادة لنفسه، وقدر مرتبته فكانت إلى جانب لبيد. . . وازدرى بشاراً حتى أثار الغبار في وجهه. . . وادعى أن (الوحي) قد بادهته آياته ورسائله! واسمع له جانباً من تلك الشهادة إذ يقول مخاطباً الفاروق:
دعوت إليك الشعر فانقاد صعبه ... وقد كان قبل اليوم شُمساً جوافله
وما كدت أدعو الوحي حتى سمعته ... تبادهني آياته ورسائله!
خيال إذا أرسلته إثر (نافر) ... أتت بأعز الآبدات حبائله
ولفظ كوجه الروض في ميعة الضحى ... وقد صدحت فوق الغصون عنادله
إذا قلته ألقى عطارد سمعه ... وساءل شمس الأفق من هو قائله
وإن سارت الريح (الهبوب) بجرسه ... فآخر أكناف الوجود مراحله!
ومهما يكن في هذه الأبيات من الذهاب بالنفس إلى حد الإغراق، فأنا لا أنكر على الجارم بك أن يذهب بنفسه في تقريظ شعره، فقديماً قال شيخنا أبو الطيب: (وما الدهر إلا من رواة قصائدي)
على أني مع الأستاذ الجارم في أنه صاحب خيال يقتنص كل (نافر)، وأن لفظه كوجه(243/74)
الروض في ميعة الضحى، وأن أسلوبه حلو الجرس والتقاسيم، ولكنا كنا نود أن نرى مع هذا كله الإحساس الذي هو الشعر. . . ودقة التصوير التي هي حقيقة الفن. . . وصلة التعبير بالعصر التي هي دليل الطبع. . . ولقد بادهت الجارم بك آيات الوحي ورسائله حقاً كما يقول، ولكنه ليس الوحي الذي يهبط من سماء الشعر على الشاعر الصافي القريحة، القوي الطبع، الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير، والذي تنكشف له بواطن الأمور فتنطبع في ذهنه وتظهر في بيانه صوراً فنية رائعة؛ تبرزها الشاعرية فإذا هي أبرع وأملح من الأصل. . . وإذا هي جمال في جمال وحسن فوق حسن؛ وإنما هو الوحي الذي يهبط من العلم بالعربية والإحاطة بدواوين السابقين، فإذا ما قرأت شعر الجارم في الزفاف، أحسست كأنك تقرأ تشبيهات كانت صوراً لحياة بدوية خالية، وقد مضى بها الزمن وطواها التقدم الحديث؛ ولقد تحاول أن تلمح عنده شيئاً من روح العصر فيعيبك ذلك
ودونك الجارمية التي ادخرها الجارم ليوم وزارة المعارف في الاحتفاء بالزفاف، فصال بها وجال بين جدران (الأوبرا) الملكية، ونقلها المذياع إلى الناس ونقل معها إعجاب السامعين في تصفيقهم وهتافهم فاسمع له إذ يقول في مطلعها، والمطلع هو موطن البراعة كما يقول علماء البديع:
صفا ورده عذباً وطابت مناهله ... وجلت يد الدهر الذي عز نائله
وأقبل منقاد العنان مذللاً ... تطامن متناه ودانت صوائله
يطاطئ للفاروق رأساً وتنحني ... أمام سنا الملك المهيب كواهله
فهذا شعر - كما ترى - يملأ سمعك بقوة لفظه، ويخلب لبك برقة جرسه، ولكن انظر وتدبر. ألست معي على أن هذا المطلع إنما كان موضعه اللائق أن يكون في التهنئة بفتح أو أي أمر عظيم يعز إدراكه، وتبعد غايته، ويطلب بالمجاهدة والمغالبة حتى يصح لشاعرنا أن يقول (وجلت يد الدهر الذي عز نائله) وأن يكون على حق إذ يصفه بأنه أقبل منقاد العنان يطأطأ الرأس للفاروق؟ ثم ألست معي في استنكار هذه الصورة الغريبة (النافرة) التي اقتنصها خيال الجارم بك، وتحملها ذوقه وارتضاها تقديره، فقدم الدهر لسنا الملك المهيب يمشي على أربع، قد تطامن متناه، ودانت صوائله؟! لقد أنكر القدماء على الطائي قوله:(243/75)
سأشكر فرجة اللب الرخي ... ولين أخادع الدهر الأبي
فاستقبحوا استعارة الأخادع للدهر، وعدوها خارجة عن حد الاستعمال والعادة، فكيف لو أدركوا الجارم يصور الدهر وله عنان ومتنان وصوائل ورأس وكواهل؟ على أني أعرف أن علماء اللغة وإن اختلفوا في تحديد الكاهل، إلا أنهم اتفقوا على أن للشيء كاهلاً واحداً، ولكن الجارم يصور الدهر وله كواهل كثيرة وهذا لا يصح إلا على تخريج بعيد إن جاز في كتب الأزهر فلن يجوز في الشعر
وبعد هذا المطلع (الذي رأيته) يتدفع الجارم في تعداد سجايا الملك وإكبار فضائله، ولاشك أن فضائل الفاروق - كما يقول الجارم - إنما يزدهي بها الشعراء، ويحيا بوصفها القريض، وقد ذكر الجارم من فضائل الملك أول ما ذكر قوة العزم فقال:
يذوب مضاء السيف عند مضائه ... فما هو إلا غمده وحمائله
وهذا بيت قوي رائع يذكرنا لفظه ومعناه بقول المعري:
يذيب الرغبُ منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا
وبقوله:
فإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل
وأصل ذلك كله قول أبي تمام صاحب الجارم ودليله في مدح المعتصم:
وجرد سيف الحق حتى كأنه ... من السّلّ مودٍ جفْنُه وحمائله
ثم يمضي الأستاذ الجارم في الإشادة بالملك إلى أن يقول:
هو الأمل البسام رف جناحه ... فطارت به من كل قلب بلابله
وأحب لك أن تتأمل هذا البيت، ففيه شعر، وفيه روعة، وفيه الحقيقة الصادقة، ولكن الجارم أبى إلا أن يعيد معناه ضئيلاً فيقول:
ترى بسمة الآمال في بسماته ... وتلمح سر النبل (حين تقابله)
ونعوذ بالله من (حين تقابله) فإنها أضعف من الضعف، وكأن الجارم لم يكتف بهذا فانحدر بالمعنى إلى وضع أضأل وأضأل إذ يقول:
رأى فيك (هذا) الشعب آماله التي ... تمنى على الأيام وهي تماطله
وينتقل بالجارم بعد ذلك فيصف الملك باعتدال القوام فيقول:(243/76)
يفديه غصن الدوح ريان ناضراً ... إذا اهتز في كف النسائم مائله
وجمع نسمة أو نسيم على نسائم خطأ من الأخطاء الشائعة التي يعنى بالتنبيه عليها أستاذنا الكبير، وقد سبقنا أحد الأفاضل فأشار إلى هذا الخطأ في عدد سابق من الرسالة
ثم يعود الجارم بعد ذلك كله فيكرر الإشادة بعزيمة الملك وطوله فيقول:
علاء تحدى الدهر في بعد شأوه ... فمن ذا يدانيه ومن ذا يفاضله
ورأى كأنفاس الصباح وقد بدا ... تشف مجاليه وتهفو غلائله
وأنا أبقاك الله لا أفهم وجه الشبه في قوله (كأنفاس الصباح)
وقد كان الأنسب أن يقول: كأنوار الصباح حتى يلائم وجه الشبه ما جاء في بقية البيت
ثم يقول الجارم بك:
رأى ملكاً يحيا القريض بوصفه ... فضائله جلت وعمت فواضله
رأى ملكاً يزهى به الدين والتقى ... شمائل أملاك السماء شمائله
رأى ملكاً كالنيل أما عطاؤه ... فغَمر وأما المكرمات فساحله
وهذا شعر حسن، غير أن الجارم لم يترك شيئاً من اللفظ والمعنى للطائي إذ يقول:
إلى قطب الدنيا الذي لو بفضله ... مدحت بني الدنيا كفتهم فضائله
من البأس والمعروف والدين والتقى ... عيال عليه رزقهن شمائله
إلى أن يقول:
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
وتأمل يا صاح قول الطائي (كفتهم فضائله) وقول الجارم (وعمت فواضله)، ثم قابل بين قول الطائي (هو البحر) وقول الجارم (ملكاً كالنيل) لتعرف الفرق بين المحكي والصدى
ثم يقول الجارم:
حملت له الريحان أرفع (معصمي) ... إلى الملك الفرد الذي فاز آمله
وقد ملأ الأنس الوجوه فأشرقت ... من البشر حتى كاد يقطر سائله
وكلمة (المعصم) كلمة ضعيفة لا تليق بالجارم الفحل، ثم ما سائل البشر الذي يقطر؟ لعله كماء الملام في شعر أبي تمام
وبعد أن فرغ الجارم من مديح الملك أخذ في مديح الملكة، فذكر أن الفاروق قد تخيرها(243/77)
فريدة المجد والنبل والجاه، ونسي الشاعر العظيم حقيقة السر في هذا الاختيار، ذلك الاختيار (الشعبي) النبيل الذي استنه الملك فؤاد وتبعه فيه الفاروق. وإذا غفل الشاعر عن هذه الحقائق الجميلة التي حياة الشعر وروحه وعصبه، خصوصاً في مثل هذا الموقف التاريخي الحافل، فما يكون شعره بعد ذلك؟!
وعلى هذا انتهى الجارم من قصيدته: مدح الملك والملكة وزكى نفسه وشعره، وكان كل ما عنه من حديث الزفاف تزاحم المواكب واحتشاد الناس. . . فلننتظر فلعل الرجل يكون قد أبر وأوفى في جارميته الأخرى ولعله يكون قد أدى بها حق الزفاف
(م. ف. ع)(243/78)
العدد 244 - بتاريخ: 07 - 03 - 1938(/)
في حفلة أدبية!
أدبت السيدة إيمي خير مأدبة لرجال الأدب ونسائه، كانت على رأى من شهدوها مظهراً لذلك الأدب النَّغْل الذي يعييك أن تعزوه إلى وطن وتنسبه إلى أمة
تفرنس فيها المدعوون حتى حماة اللغة والأدب! بعضهم ملكته الحذلقة فاستكثر ظرفه وعلمه على اللغة العربية، وبعضهم غلبته المجاملة فخاطب الأديبات بلغتهن ولغتهن الفضلى هي الفرنسية. وكان الذين يتعصبون للعربية أو يتأدبون بالإنجليزية قلالاً قد انتثروا في غمار الحفل أول ما دخلوا؛ فلما أنكروا اللسان المتحدث بين القوم تراجعوا متزايلين مستوحشين إلى هامشه ثم طفقوا ينظرون بعين المتفرج المتعجب إلى جمعي المذكر والمؤنث وهما يضطربان في الأبهاء والحجر على غير قياس:
هذا يمثل الباريسي اللبق فيسلك طريقته في السلام، ويتخذ لهجته في الكلام، ويسمُت سمْتَه في التظرف؛ وهذه تمثل إحدى (عالمات) موليير فتتصنع المعرفة، وتتكلف الذكاء، وتقدِّر نفسها بالقياس الطويل والوزن الثقيل فيمالق الذكي ويصدق الأبله؛ وهذان يتضاحكان لحركة لاحظاها أو نكتة قالاها، ثم يكتكتان في الضحك ليلفتا إليهما السمع المشغول والنظر الغافل؛ وهاتان تتحدثان ووجهاهما متقابلان، ونظراهما متدابران، وكل منهما تبحث ذات اليمين وذات الشمال عن محدث أو معجَب؛ وهؤلاء يتناقشون في موضوع غريب بلسان غريب لم يوحه الوطن الذي نحيا به، ولا المجتمع الذي نضطرب فيه، ولا الأدب الذي نعيش له، وإنما أوحاه رأي في كتاب أو مقال في صحيفة جاء به البريد الأخير من البلد الذي استوطنوه بالفكر واستقبلوه بالعبادة!
حدثني أحد الذين دُعوا إلى هذه المأدبة وهو أديب ظريف لا يعرف لغة هذا الصالون قال: كنت جالساً وراء القوم كأنني أحد (أولاد البلد) في دار من دور السينما يشاهد فلماً فرنسياً، فهو يرى ولا يعلم، ويسمع ولا يفهم، ولكنه مأخوذ بالمناظر التمثيلية التي تتقلَّب على عينيه فيغيب وهو حاضر، ويحلم وهو يقظ. فإِذا خشيت أن يلحظ الناس انقباضي عنهم بطول القعود قمت أتنقل بين المثنيات والجموع، فأجدني أشبه بالأطرش في الزفة، يرى الوجوه تنبلج، والشفاه تنفرج، والأيدي تتحرك، وهو شاخص البصر، مغفور الفم، لا يدري ما الذي يشيع السرور ويبعث الضحك. ثم جلست على مقربة من الأستاذ المازني فرأيت ربة الدار تقبل عليه وتقدمت إليه سيدة يقولون إنها من الأديبات النوابه. عرَّفت إليها الأستاذ ونوهت(244/1)
بأثره في الأدب ومكانه من النهضة، ثم تركتهما معاً وذهبت إلى غيرهما. وانتظر الأستاذ أن تتحدث إليه السيدة الأديبة في قصة من قصصه أو في رأى من آرائه، فيكون في ذلك بعض الترضية للأدب العربي المهان في بلده وبين قومه؛ ولكن السيدة الأديبة بدأت الحديث بهذا السؤال:
حضرتك من مصر ولاَّ من الشام؟
ولا أدري أألقت على المازني كلاماً فيه معنى أم ذَنوباً فيه ماء؟! فقد تخلص منها بلباقة وأقبل علينا يقول:
- وا ضيعتاه! أبعد ثلاثين عاماً قضيتها في الأدب أكتب في كل يوم مقالاً، وألقي في كل أسبوع محاضرة، وأخرج في كل سنة كتاباً، أجد في المتعلمات بالقاهرة من تسأل: أمن الشام أنا أم من مصر؟!
هذه حفلة أقامتها صاحبتها الأديبة لصاحبتها الأدباء، وقد رأيت وسمعت كيف كان حرص أدبائنا على اللغة، وإلى أين بلغ عالم أديبتنا بالأدب. فهل تصدق أن يكون لهؤلاء أدب مستقل وهم ينكرون أن لهم لغة مستقلة؟ لا جرم أن هذا النوع من الأدب الحرام يزيف الأديب على أمته كما يزيفه على الأمم الأخرى. وإذا جاز لأُولئك السيدات الأديبات أن يلغَين بغير لغتهن، بحكم نشأتهن وطبيعة ثقافتهن، فكيف يجوز لأساتذة اللغة وزعماء الأدب أن يديروا في أفواههم ذلك اللسان الأجنبي وما كانت قيمتهم في الناس ودعوتهم إلى هذا الحفل إلا لأنهم يحذقون اللغة العربية، ويتزعمون الثقافة العربية؟!
إن من هوان نفسك عليك وإهانة جنسك في الناس أن تتكلم غير لغتك في بلدك وبين قومك من غير ضرورة ولا مناسبة؛ فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على عدم استقلالك في خليقتك وعقيدتك ونمط تفكيرك وأسلوب عملك
هل تستطيع أن تدلني على بقعة من بقاع الأرض غير مصر ولبنان يجتمع في دور من دورها مجلس من مجالس الأدب يحضره لفيف من أساتذة الجامعة وجهابذة الأدب وأقطاب الصحافة، ثم لا يكون حديثهم إلا بالفرنسية، ولا يدور نقاشهم إلا على موضوعات أجنبية؟؟
يا قومنا إن لغة المرء تاريخه وذاته، فالغض منها غض منه، والتفضيل عليها تفضيل عليه، ولا يرضى لنفسه الضعة والصَّغار إلا مهين أو عاجز!(244/2)
أحمد حسن الزيات(244/3)
تحية شوبنهور
للأستاذ عباس محمود العقاد
- 2 -
ختمنا مقالنا السابق واعدين أن (نطابق في مقال آخر بين سيرة الرجل وفلسفته، وبين العرض والجوهر في هذه المطابقة)
وإنما رأينا ضرورة هذه المطابقة لأننا اعتقدنا أن كثيراً من القراء سيلمحون جانباً من التناقض الكبير بين دعوة الرجل وسيرته في حياته: بين رجل يزدري الحياة ويستمتع بلذاتها، ورجل يقتضي مذهبه الزهد وهو يحرص على المال، ورجل يهرب من الوباء وهو يبشر (بالنرفانا) والفناء، ورجل عبوس الرأي مشرق الفكاهة
فمن المفيد ولا ريب أن نبين وجهة النظر التي تتجه إليها في تعليل ذلك التناقض، وأن نشرح التوافق الباطن في هذا التناقض الظاهر، وأن نقول إن مذهب الحرص ومذهب التشاؤم كلاما يصدر عن منبع واحد، فلا اختلاف هناك ولا غرابة من وراء الحجاب، وإن بدا لنا الأمر على ظاهره مختلفاً جد الاختلاف مستغرباً جد الغرابة
كان شوبنهور إمام المتشائمين الساخطين على الحياة المستريبين بالناس، المتوجسين من ضمائر الغيب
كان لا يسلم وجهه قط إلى حلاق مخافة أن يذبحه أو يجرحه، وكان يغلق الأقفال على أدوات تدخينه مخافة أن تمزج بالسموم، وكان ينام والى جانبه مسدساته محشوة مهيأة للإِطلاق، وكان لا يطيق معاشرة الناس ولا سماع الأصوات، وكان يقول إن الحياة نقمة لا تحمد ومحنة لا تطاق
كان كذلك وكان يخاف الموت ويهرب من الطاعون، فكيف يكون التوفيق بين هذا الفزع من الموت وذلك التشاؤم بالحياة؟
هما في الحقيقة شيء واحد!
فالمتشائم لا يتشاءم إلا لأنه شديد الإحساس بالخطر، شديد الغلو والإغراق في هذا الإحساس؛ وليس مقتضى ذلك أن يطمئن إلى الأوبئة والأمراض ويركن إلى السرائر والنيات كما يلوح في بادئ الرأي، بل مقتضاه أن يفزع من النذير إذا كان غيره لا يفزع(244/4)
من الحقيقة الواقعة، وأن يكتفي بالإيماء إذا كان غيره لا يكتفي إلا بالصيحة العالية، وأن يهرب من الطاعون قبل أن يهرب منه المستريحون المطمئنون إلى العيش الواثقون بالمصير
وكان شوبنهور يبغض الحياة ويستمتع بلذاتها، فكيف يكون التوفيق بين البغضاء والاستمتاع؟
هما كذلك شيء واحد في الحقيقة. فلولا أنه يحب الاستمتاع بها لما أبغضها، ولولا أن الرجل يعرف لذة المعشوقة لما استعرت في نفسه بغضاؤها حين يحال بينه وبين متعتها كما يشتهيها، ولولا الإحساس المرهف لما كان الألم ولا كانت الحاجة إلى الترفيه عن النفس المتألمة بالإقبال على اللذات والتشاغل بالسرور، فإنما اللذات هنا ترياق لا يحتاج إليه إلا من هو مريض في المستشفى، بل هو مرقد لا يحتاج إليه إلا من فارقه الرقاد ولازمه السهاد
وكان شوبنهور ينفر الناس من الدنيا ويحرص على ماله ولا يفرط فيه، فكيف يكون التوفيق بين مذهب التنفير ودافع الحرص الشديد؟
هما أيضاً شيء واحد في بواطن الأمور
فالحرص على المال علامة بعض حالاته على الحذر الشديد من الناس، وقلة الركون إلى الوفاء والإخلاص والمعونة من الأصدقاء والأقرباء، فإذا افتقر إليهم فهو على يقين أنهم لا يسعفونه ولا يحفلون بما يصيبه، وإذا نظر إلى المستقبل فهو على يقين أنه سيفتقر أو يستهدف للنكبات والمتاعب، لعظيم خوفه من العواقب وإشفاقه من غدرات الحوادث، وعلى قدر هذا الخوف وهذا الإشفاق يكون الحرص على المال الذي ينفعه حين لا ينفعه صاحب ولا قريب
وكان شوبنهور عبوس الرأي مشرق الفكاهة كثير التنكيت والتبكيت، فكيف التوفيق بين الخصلتين؟
لا ضرورة إلى الإِطالة في التماس التوفيق بينهما، فهما متفقتان لا تتعارضان
فالمرهف الإحساس يتألم، والمرهف الإحساس يفطن للفارق الدقيق بين طوايا الناس ودعاواهم، وهذا - أي الفارق الدقيق بين الطوايا والدعاوي - هو ينبوع التهكم الذي لا(244/5)
ينضب ومبعث الفكاهة ومادة (القفش) كما نقول في لغتنا نحن المصريين
والمرهف الإحساس من جهة أخرى يشعر بالألم فيحتاج إلى الضحك والسخرية وعنده المادة موفورة كما أسلفنا، فيتزود منها حيناً بعد حين بما يريحه إذا التمس الراحة، وما يصول به على خصومه إذا تعاوروه بالإساءة والإيذاء، وهو يتهمهم أبداً بأنهم يفعلون ذلك وإن لم يفعلوه
ومن راقب إخوانه وعشراءه عرف بالتجربة والمشاهدة أن النكتة المريرة أنفذ وأمضى وأدعى إلى المفاجأة من نكات المرح والخفة والمجانة، ولا سيما إذا اقترنت بالذكاء الثاقب والخبرة الواسعة والاطلاع الموفور، وكل أولئك كان من خصال شوبنهور ولوازم طبعه، ولو ضعفت مرارته لضعفت فكاهته على خلاف المنظور في ظواهر الصفات
وهكذا يؤدي بنا تطبيق المنطق على الخلائق الإنسانية إلى نقيض المتبادر من قريب، فنستغرب الأمر لأول وهلة ثم نمضي قليلاً إلى ما وراء ذلك فإذا المستغرب هو المألوف، وإذا المألوف فيما زعمنا أولاً هو الغريب البعيد
وخطأ أن يقال إن منطق العواطف غير منطق العقول. . . كلا! بل هما منطق واحد في جميع الحالات، وكل ما هنالك أننا لا نستحضر وجوه المقارنة جميعاً إذا بحثنا في ظواهر العواطف والأخلاق، فإذا استحضرناها وجمعنا أسبابها فالحكم على كل حال لا بد أن يطرد ويستقيم
وهكذا نصنع إذا حكمنا في قضية لها عشرون شاهداً من الجانبين ولم نسمع إلا خمسة شهود من جانب واحد. فهل يجوز لنا إذا اختل حكمنا أن نقول إن منطق القضايا المدنية أو الجنائية غير منطق العقول؟ كلا. بل نقول إن منطق واحد لا تناقض فيه، ولكننا نحن نسينا أسبابه وأغفلنا جوانب الحكم والمقابلة
من هنا يتبين لنا أن (شوبنهور) يعرض لنا صورة منسوقة من سيرته وفلسفته، وأن شذوذه هو اللون الصادق في جلاء تلك الصورة والموافقة بين أنوارها وظلالها، وأنه ابن مزجه وتكوينه في كتبه وفي حياته، كما كان ابن زمانه وأسرته وبلاده وما اختبره واطلع عليه
وما من رأى في كتب الفيلسوف إلا وله مرجعه إلى حالة من حالات زمانه أو دخيلة من دخائل بيته، فقد رأينا كيف علمه سقوط نابليون أن العمل للإرادة وأن الإرادة إلى فشل(244/6)
وحبوط. فهل من علة لتقسيم الإرادة والذكاء بين الرجل والمرأة أو بين الآباء والأمهات؟ أو هل من علة لحقده على جنس النساء وكراهيته للنسل والزواج؟
نعم. علة ذلك أن أباه كان من رجال الأعمال وقد مات مجنوناً وقيل إنه بخع نفسه بيديه، وإن أمه كانت ذكية حصيفة تكتب الروايات وتنافس ابنها في عالم التأليف، وكانت تعيش بعد أبيه عيشة مريبة فاعتزلها ولم يرجع إليها بقية عمرها. فمن ثم كان اعتقاده أن الولد يرث الإرادة من الأب والفكرة من الأم، وأن تمام الفكرة والإرادة في الإنسان إنما يكون على هذا المنوال، فيصبح وهو مثال الدنيا التي تنتهي من الإرادة إلى الفكرة إلى (النرفانا) وما يشبه الفناء
شوبنهور عجيب، وأعجب ما فيه أن شذوذه كله يستقيم مع التعليل وتتفق فيه الظواهر والأسباب، ويعرض لنا نموذجاً صادقاً لنقائض الأخلاق، وهي في باطن الأمر أقرب ما تكون إلى المألوف المطرد المنظور
عباس محمود العقاد(244/7)
مظاهر داء الشعور بالحقارة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
من الأمراض الاجتماعية التي حققها المفكرون حديثاً، مرضان نفسيان: الأول داء الشعور بالعظمة، وقد يظهر بمظاهر العظمة أو بمظاهر التواضع المكذوب الذي ينم عن الكبر؛ وداء الشعور بالحقارة، وهذا أيضاً يظهر بمظهرين مختلفين: مظهر التواضع المتناهي وتحقير النفس، ومظهر التعاظم الذي يراد به ستر ما يشعر به المرء من احتقاره لنفسه. وهذا الشعور قد يكون مؤسساً على أمور في العقل الباطن فلا يتنبه صاحبه إلى حقيقة أمره ولا يعرف أنه مريض بداء الشعور بالحقارة
وقد يختلط المرضان لأن كلا منهما يظهر إما بالتعاظم وإما بالتواضع، ويغالي في التعاظم أو التواضع، ولكن تعاظم المصاب بداء الشعور بالعظمة يكون مقروناً بشيء من الاطمئنان والثقة. وقد يبلغ الاطمئنان مبلغاً يجعل صاحبه لا يدرك سخر الناس؛ أما تعاظم المصاب بداء الشعور بالحقارة فهو تعاظم يساوره القلق وغطرسة تنتابها حُمَّى الحقد والحسد، فالخلط بين الداءين من هذه الناحية يدل على خطأ في الاستقراء ونقص في الخبرة وخطل في التفكير. وكذلك الخلط بين تواضع المصاب بداء الشعور بالعظمة وتواضع المصاب بداء الشعور بالحقارة؛ فالتواضع الأول مقرون بالثقة أيضاً، ويظهر من ورائه اطمئنان صاحبه إلى عظم نفسه. أما تواضع المصاب بداء الشعور بالحقارة، فهو تواضع يظهر من ورائه الحقد والحسد؛ وليس من لوازم داء الشعور بالحقارة أن يجعل مظهريه مظهر التعاظم ومظهر التواضع في رجل واحد في أوقات مختلفة. إنه قد يفعل ذلك ولكن كثيراً ما نرى أنه يختص رجلاً بالتعاظم وآخر بالتواضع؛ وأكثر شيوع داء الشعور بالحقارة يكون في الأمم التي لبثت عصوراً طويلة مغلوبة على أمرها، ولا يهم التمييز بين أصحاب الغلبة في تفسير نشأة هذا المرض الاجتماعي
وأكثر ضرر داء الشعور بالحقارة يكون إذا صال به وجال أناس قد بلغوا شيئاً من الجاه والمنزلة والثروة أو كانت لهم سلطة، فان اقتران القدرة به والنفوذ والسلطة مفسدة وأي مفسدة. وكذلك إذا كان صاحبه قدوة لغيرة، فإنه يفسد النفوس بما ينشره هذا الداء الوبيل داء الشعور بالحقارة من الأحقاد والضغائن والأكاذيب والشرور والحقارة والفساد، ولا تستطيع(244/8)
أمة أن ترقى إلا إذا تمكنت من اقتلاع جرثومة داء الشعور بالحقارة من نفوس أفرادها، وإلا إذا عالجته في مدارسها علاجاً
نفسياً صحيحاً بإطلاع الطلبة والتلاميذ على حقيقة نتائجه، فإن نتائجه قد تظن محمدة واعتزازاً بالنفس، أو قد تظن غير ذلك على حسب ما يظهر به داء الشعور بالحقارة من المظاهر سواء مظاهر العظمة التي يساورها القلق والحقد والحسد أو مظاهر التواضع التي تساورها هذه الأمور أيضاً. ومن الحكمة جمع الشواهد والأدلة وتفسيرها، فالغيبة والنميمة مظهران من مظاهره ولا شك، لأن منشأهما الرغبة في الاستعلاء بوسائل غير مشروعة يتخذها من يشعر في نفسه بالعجز عن أسباب الاستعلاء الفاضلة لتمكن داء الشعور بالحقارة من نفسه، وكذلك حب الظهور من شواهد هذا الداء وأدلته ولو كان ظهوراً يؤدي إلى ضياع الثروة والعقارات والفدادين. ومن شواهده الولوع بالفكاهة اللاذعة للسخر حتى بالغرباء، كل هذه محاولات من المرء أن يقهر شعوره بحقارة نفسه وأن يقنعها بأنه أفضل من غيره. ومن شواهد داء الشعور بالحقارة أيضاً عدم احترام حدود الحق والواجب، لأن العظيم حقاً يجد من عظم نفسه الحقيقي ما يسليه عن الفشل في نيل أمر تمنع من نيله حدود الحق والواجب، أما الذي يشعر في نفسه بداء الحقارة، فإنه يرى في طمس حدود الحق والواجب زيادة في قدرته وعظمته وشفاء لما يشعر به من ألم الحقارة أو لما يتحسسه في أعماق العقل الباطن من هواجس هذا الداء إذا كان صاحبه لا يدرك حقارة نفسه أو لألم الحقارة وهواجس العقل الباطن معاً. ومن شواهد هذا المرض وأدلته أيضاً الامتعاض من لباب الأمور، فإن صاحبه يكره اللباب المحض الصريح لأنه يشعر أنه يبرز عجزه ويهتم للبهرج المزيف لأنه براق خادع ولا يكلف ما يكلفه اللباب. وليس من الضروري أن يكون المريض بداء الشعور بالحقارة غبياً أو بليداً. وهذا الشعور بالحقارة قد يعظم في نفس صاحبه حتى انه قد يدفعه إلى الإثم والجرم الشنيع. وقد يصير جنوناً أو شبه جنون وحتى تصبح نفس صاحبه كالمفرزات القذرة التي يتصاعد منها الذباب الكثير الألوان، فمن ذباب أزرق وذباب أصفر وآخر أسود وغيره أحمر إلى آخر أنواع هذا الذباب الذي ينبعث من الأقذار. وقد يعظم داء الشعور بالحقارة في نفس صاحبه حتى كأنما يخيل له أن الأرض لا تستطيع أن تحمل ثقل شعوره بحقارة نفسه وهي هي الأرض التي حملت الجبال وحملت(244/9)
الناس والحيوانات حتى الحيوانات الهائلة التي اندثرت قديماً؛ وهي الأرض التي حملت طوفان نوح وفلكه المشحون وحملت حماقة الناس وآثامهم وغباوتهم وجهلهم من عهد سيدنا آدم، وحملت الأرض كل هذه الأشياء ولكن كأن المسكين يخشى أن تلك الأرض نفسها ربما لا تستطيع أن تحمله وأن تحمل ثقل شعوره بحقارة نفسه. وهذا الشعور بالحقارة مما يزيد الحياة مرارة وألما. وله عدوى في بعض البيئات مثل عدوى الأمراض الجثمانية المعدية. ومن درس التاريخ عرف أن الأمراض النفسية تكون لها في بعض الأحايين عدوى مثل عدوى الأمراض الجثمانية المعدية. أو لعل تلك الأمراض النفسية تكون مصحوبة بأمراض عصبية كمرض (الهستريا). وقد شوهدت عدوى تلك الأمراض النفسية وشوهد وباؤها بصفة خاصة في عصور الانقلاب الفكري والاجتماعي والاقتصادي وفي عصور الكوارث الطبيعية الكبيرة والثورات والحروب، ولكنها تظهر في شكل أقل شدة وحدة في حياة الناس اليومية
وداء الشعور بالحقارة قد يصيب الغبي كما يصيب الذكي، وقد يصيب الوضيع المنزلة كما قد يصيب الرفيع المنزلة الذي ارتفع بعد ضعة أو ارتفع أبوه أو جده بعد ضعة أجداده. وهو في أشد حالاته يكون مصحوباً بجنون خلقي لا يميز صاحبه الخير من الشر، ولكن ليس كل جنون خلقي يكون مصحوباً بداء الشعور بالحقارة
والشواهد على وجوده كثيرة؛ فالوضيع الذي يتعالى ويتعاظم مصاب به، والرفيع المنزلة الذي تصيبه حمى إذا رأى ميزة في إنسان أو استضعفه وحاول القضاء عليه بوسائل تنجيه من العقاب والمؤاخذة. ومثله مثل الفلاح الذي يسلط الأشقياء على الناس لسبب تافه أو لغير ما سبب إلا حب الأذى وحب الظهور. وقد عرفنا أناساً من هذا القبيل يصابون (بالسادزم) نسبة إلى الكونت دي ساد الفرنسي الذي كان مصاباً بداء التلذذ بالتوحش والقسوة. فترى أن داء الشعور بالحقارة في أشد حالاته يكون مصحوباً بالجنون الخلقي وبجنون التلذذ بالتوحش والقسوة. وسنحصي بعض شواهد هذا المرض في مقال آخر
عبد الرحمن شكري
المفتش بوزارة المعارف(244/10)
من برجنا العاجي
طالما جلست في صباي ساعات طويلة أتأمل قوافل النمل تسير على الحيطان. وكنت أحياناً أدنو منها وأصيح بأصوات مدوية، فما يبدو عليها أنها سمعت شيئا؛ فالنظام هو النظام، والخطى هي الخطى، والتجارة الضخمة المحمولة على الأعناق: وهي جناح (صرصار) كبير، ما زالت تتهادى مطمئنة في طريقها إلى عاصمة المملكة العتيدة داخل ذلك الثقب البارز في أسفل الجدار. وكانت الجيوش قد قاربت المدينة؛ وخرجت جيوش أخرى تستقبل القادمين وتحمل عنهم بعض العبء. وكأن الجميع في فرح وحركة ولغط لا يصل صداه إلى مسامعي الغليظة؛ كما أن أصواتي الراعدة لا تبلغ آذان تلك المخلوقات الدقيقة. فحدثتني النفس أن أحدث حدثاً في تاريخ هذه (البشرية) الصغرى، فأتيت بكوب من ماء وصببت مما فيه على القوافل الظافرة. ولبثت أنظر إلى الكارثة في ابتسام، فإذا شمل الجيوش قد تمزق، وإذا الذعر قد دب في الجموع. ولكن الفلول سرعان ما عادت تحمل (التجارة) من جديد في حرص المستميت. عند ذلك أقصيت الكوب وقد تحرك قلبي وقلت في نفسي: إن هذه المملكة ولا ريب تأخذ الآن عبثي على سبيل الجد، وأنها ولا شك تحسب ما حدث الساعة ظاهرة من ظواهر الطبيعة القاسية. فما هذا عندها إلا سيل العرم، أو طوفان هائل، أو قضاء هبط من السماء. وتأملت لحظة شأننا نحن (البشرية) الكبرى، وقلت: من أدرانا أنا لسنا أحسن حالاً من هذا النمل؟ ومن أدرانا أن ما نسميه ظواهر جوية وطبيعية من زوابع وأمطار وزلازل وبراكين ليس إلا عبث مخلوقات أخرى ذات أحجام وصفات لا نستطيع لها تصوراً؟ ومن أدرانا أن ليست في هذا الكون أصوات هيهات لآذاننا الصغيرة أن تدرك وجودها؟ لم لا نكون نحن أيضاً نملاً أرقى من هذا النمل وأحط من نمل آخر من جوهر آخر لا نعرف ما هو؟ إن الله لأعظم مما نظن؛ وإن حواسنا لأقل إدراكا لما في الكون مما نتخيل!
توفيق الحكيم
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك(244/12)
- 12 -
. . . وبكّرت إلى منزل ليلى بكور الندى لأدعوها إلى شهود حفلة الافتتاح. فوجدت الشقية في الفستان المصري الفضّاح الذي زارت به معرض القاهرة في ربيع سنة 1926، وكان يجب على ذلك الفستان أن (يذوب) بعد أن (ذابت) به أكباد وقلوب، ولكنها حفظته تذكِرةً لحبها الأول، الحب المشئوم الذي أورثها الضنى والذبول، الحب الذي عجز عنه الأطباء والذي أجاهد في خلاصها منه بحب أقوى وأعنف، إن كانت الصبابات القديمة أبقت في عزيمتي ذخيرة للجهاد. . وقد اهتاجت الغيرة في صدري حين رأيت ذلك الفستان فكدت ألطم ليلى على خدها الأسيل. ثم تراجعتُ حين تذكرت أن بلواها من بلواي. وهل كان حبي في بغداد أول حب حتى أنتظر أن تحبني ليلى أول حب؟ إن المسكينة تعرف أن طبيبها من قدماء المحاربين، وتعرف أنه لم يحمل النظارة إلا بعد أن تعبت عيناه من نضال العيون. فليكن أنسها بحبي أنس الجريح بالجريح، ولتفهم أني أشفيها من جواها لتشفيني من جواي
وقديماً قال الشاعر:
يا خليليّ والرفيق مُعينٌ ... أسعفاني ببعض ما تملكانِ
أبتغي آسياً فقد عِيل صبري ... من توالي الوجيب والخفقانِ
أبتغي صاحباً تولَّه قبلي ... وشجاه من الجوى ما شجاني
فلقد يُسعف الجريح أخاه ... ويواسي الضريب في الأحزانِ
وبعد تناول ما تيسر من الصَّبوح خرجنا في السيارة إلى بهو أمانة العاصمة، فترجلت عند باب المعظَّم لتدخل وحدها، ومضيت أحمل آمالي وآلامي، فلما وصلت إلى مدخل البهو اعترضني أحد الضباط قائلاً: سيدي، هذه الحفلة خاصة بالأطباء. فقلت: وأنا طبيب ليلى. فابتسم وقال: تفضل، تفضل
وسألت بعد ذلك عن الرجل الشهم الذي أفسح الطريق لطبيب ليلى فعرفت أنه السيد سليم محمود معاون مدير شرطة السير والمرور، وسيحدثنا الضابط عبد الحسيب فيما بعد أن الغرام بالأدب من أظهر صفات الضباط بالعراق(244/13)
وكانت ليلى تعرف أن طبيبها يكره أن تأخذها العيون، فنظرت في أماكن السيدات فلم تجد أصلح من جيرة السيدة التي تنطق أسارير وجهها بأصدق معاني الكرم والنُّبل، عقيلة الرجل الشهم الذي يمثل المروءة المصرية في العراق
أما أنا فأخذت مكاني بين الدكتور عُسَيران والدكتور عَلاَّوي.
وكنت - مع الأسف - ذهبت إلى الحفلة وأنا أضمر الشر للأستاذ علي الجارم، فقد كِتب في منهاج الاحتفال أنه (شاعر مصر) وأنا أبغض الألقاب الأدبية. فلما وقف ليلقي قصيدته لم أصفق، وأعديت مَن حولي بروح السخرية فلم يصفقوا، ولكن الجارم قهرني وقهر الحاضرين جميعاً على أن يدموا أكفهم بالتصفيق.
وغاظني أن تصفق ليلى لشاعر يرى بحكم منصبه أنه رئيسي، لأنه كبير المفتشين بوزارة المعارف المصرية. ولولا حكم الأقدمية لكنت الرئيس وكان المرءوس، ولكن ماذا أصنع وقد سبقني إلى الأستاذية بأعوام طوال؟
وأنا والله أظلم نفسي بهذا الكلام، فما أذكر أبداً أني حقدت على إنسان. وما أذكر أبداً أني عرفت معاني الحسد والضغن إلا على الدهر المخبول الذي يتسفل فيرفع الأدعياء. وقد هجمت على شاعرنا الجارم عدة مرات، وحاربته في وزارة المعارف يوم رأى زميلي الأستاذ أبو بكر أن يكتب في نشرة رسمية أنه أمير الشعراء. وقد عرف الجارم خطر ما أصنع، فكان هو أيضاً يحاربني في مكتب تفتيش اللغة العربية؛ ولولا سماحة الأستاذ جاد المولى بك لكانت النتيجة أن أعيش بين المفتشين بلا صديق
فيا أيها العدوّ المحبوب الذي اسمه علي الجارم، تذكر أنك كنت حقاً وصدقاً شاعر مصر في المؤتمر الطبي العربي، وستمر أجيال وأجيال ولا ينساك أهل العراق
وهل تعرف مصر أنك رفعت رأسها في العراق وأنك كنت خليفة شوقي في المعاني وخليفة حافظ في الإلقاء؟
إنني أطلب المستحيل حين أطلب من مصر إنصافك. وهل أنصفتني مصر حتى أنصفك؟ هل أنصفتني مصر وكنت مجنونها وكانت ليلايّ؟
يرحمني الله ويرحمك، فعنده وحده جزاء المجاهدين
وعند نهاية الاحتفال دعوت ليلى للتسليم على سعادة العشماوي بك، وسعادة علي باشا(244/14)
إبراهيم، وفضيلة الشيخ السكندري
أما العشماوي بك فسلّم تسليماً خفيفاً، سلم تسليم (المتبالهين) ليظهر أنه أكبر من أن يفتنه الجمال، والعشماوي بك (يتباله) في جميع الأحوال، وقد درسته حق الدرس، فعرفت أنه يحمل كبداً أرق من أكباد المحبين، ولكن له قدرة عظيمة على (التبالُه) فمن الذي علّمه هذا الأسلوب؟
وقد حقدت عليه ليلى، فليعرف سعادته أن غضب ليلى سيحل عليه، وسيرى عواقب ذلك في الأيام المقبلات!
أمَا يَخِفَّ وُقارك مرة يا عشماوي بك؟ اتق الذوق إن لم تتَّق الجمال!
وقد قهقه الشيخ السكندري حين رأى ليلى وقال: كنت والله أحسبك تمزح يا دكتور زكي، وما كنت أظن أنك جئت حقيقة لمداواة ليلى المريضة في العراق
والشيخ السكندري معذور، فهو يظن أن العشق انتهى من الدنيا بعد قيس وليلاه، وأن الناس لم يعودوا يحبون غير الملوخية الخضراء!
أما الدكتور علي باشا إبراهيم فنظر إلى ليلى نظرة الأرقم وقال: ما أستطيع الحكم بشفاء ليلى إلا بعد أن أفحصها بنفسي
ورأت ليلى أني غضبت فقالت: إني أحترم رأى سعادة رئيس المؤتمر الطبي، ولكني أفضل الموت على الحياة في سبيل الأدب مع طبيبي الخاص
ولم أرد أن تطول اللجاجة بيني وبين رجل كان رئيس اللجنة التي أديت أمامها الامتحان النهائي في كلية الطب، فأخذت بذراع ليلى وانصرفت
وأراد سعادة العشماوي بك أن يترضاني فرفضت، لأني كنت أعرف ما يريد، وهل كان يريد غير إيناس عينيه بوجه ليلى؟ اطْلَع من (دُولْ) يا سعادة الوكيل!
وفي الطريق سألتني ليلى عن العشماوي بك، وقد ساءها أن يتلقاها بوجه صامت التقاسيم، فشهدت عند ليلى بأنه رجل فاضل، وان جموده في حضرتها لم يكن جمود استهانة، وإنما كان جمود تعقُّل، والرجال الرسميون يغلب عليهم التعقل في أكثر الأحيان!
فهل يعرف سعادة العشماوي بك أنني ذكرته بالخير في حضرة ليلى؟
لا أمُنُ عليه، فهو يستحق ذلك، وأكثر من ذلك(244/15)
وفي مساء ذلك اليوم أرادت ليلى أن تحضر معي في الحفلة التي أقامها فخامة رئيس الوزراء، فقاومتها مقاومة شديدة، وكانت حجتي أنها ستكون من الحفلات التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وأنه ليس من العقل أن تتعرض ليلى لأنظار المئات من الناس وفيهم الفاضل والمفضول
وكنت على حق في منع ليلى من حضور حفلة المساء، فهي امرأة محجوبة عن المجتمع منذ سنين؛ وسيكون مَثلها حين ترى اختلاط الرجال بالنساء مَثل العين الرمداء التي تواجه الشمس بعد أن حجبها الطبيب عدة أسابيع في الظلام، ولكنها ألحت، ثم انتقلت من الإلحاح إلى التوسل، ومن التوسل إلى البكاء، والمرأة أقوى ما تكون حين تنتحب، فتخاذلت وقلت في نفسي: لعل هذه اللجاجة تعود عليها بالنفع، ولعلها حين ترى تسامح المجتمع الحديث لا ترى غضاضة في أن أغازلها حين أشاء
ولكن هذا الخاطر تبدّد في مثل لمحة الطرف، فأنا أعرف أن وزير المعارف من علماء النجف، وهو بالتأكيد يكره سفور المرأة، وإن ساير العصر فأباح اختلاط الجنسين في المعاهد العالية. ومن المحتمل أن يكره ظهور ليلى في المجتمع بلباس السهرة. ومالي لا أقول الحق كله فأقرر أن أهل العراق في النجف وغير النجف ينظرون إلى سفور المرأة بعين الارتياب؟ مالي لا أذكر بصراحة أن أكثر وزراء العراق يكرهون حضور زوجاتهم في الحفلات الساهرات؟ مالي لا أنص - للحقيقة والتاريخ - على أن وزراء العراق أكثرهم من رجال الجيش، والجيش يطبع أبناءه على الخشونة والصرامة والعنف، وأنهم لأجل ذلك من أغير الناس على كرامة ربات الحجال؟
وأخيراً أعلنتُ ليلى بالرفض المطلق، فأغربت في البكاء والشهيق
غضبة الله عليك يا ليلى وعلى جميع بنات حواء!
ورأيتُني مع الأسف طفلاً في حضرة هذه المرأة، فقد استبكتني فبكيت
ومع ذلك جمعت أشلاء عزيمتي وأصررت على الرفض
وعندئذ تدخلت ظمياء وهي تقول: هل لك أن تسمح بأن تخرج ليلى معك في ثياب فتىً من الأعراب؟
فكدت أطير من الفرح لهذا الاقتراح الطريف، ومضت ظمياء فأحضرت ملابس ابن عمها(244/16)
عبد المجيد، فلبست ليلى بسرعة البرق، وخرجت معي
ولكنا ما كدنا نخطو بضع خطوات حتى تنبهت إلى الخطر المخوف، فقد تذكرت أن ليلى وهي في ثياب الفتى البدوي لن تقضي السهرة كلها في صمت، وهل يمكن لامرأة أن تسكت؟ وليلى تملك صوتاً هو في ذاته من كبريات الفضائح، وقد نصصت فيما سلف على أن لصوتها رنيناً مبحوحاً لم تسمع مثله أذناي على كثرة ما تذوقت من بُغام الملاح
فالتفت إليها وقلت: ليلى، ليلاي، اسمعي واعقلي، فإن صوتك سيفضحنا في الحفلة
فقالت: أتعهد بالصمت المطلق
فقلت: وكيف؟ وهل أضمن السلامة من واغل سخيف يسلم عليّ عمداً ليظفر منك بتحية، فتكون نبرة واحدة من صوتك المقتول نذيراً. بعواصف الفضائح؟
ولنفرض انك تلزمين الصمت ويلزم الناس الأدب فكيف تخفين هذه المشية؟
إن مشيتك يا ليلى فضيحة ولو لبست ثياب الجاحظ، والسامرون ينظر بعضهم إلى بعض، وأنت ستخطرين حتماً بين السامرين، وما أضمن أن يتأدب الجميع فلا تطرق سمعك كلمة نابية أقع بسببها في معركة تطنطن بها الجرائد في مصر والشام والعراق
اعقلي يا ليلى، اعقلي. . .
ولكن اللئيمة لم تسمع، ومضت تخطر في الطريق، فلطمتها لطمتين ورجعتها صاغرة إلى البيت، فودّعتني وهي تقول: سلمت يداك، فإني أحب الرجل البطاش
دخلت الاحتفال فوجدته يموج بالطرابيش فتهيبت وتخوفت وانتظرت حتى يأخذ المدعوون أمكنتهم من السماطين، لأتخيّر مكاناً ليس فيه طرابيش. ولا أدري ولا المنجم يدري كيف أخاف الطرابيش! وربما كان السبب في ذلك أني أريد أن أحيا في الحفلة حياة سعيدة، وهي لا تكون كذلك إلا إن خلت من التوقر، وما يمكنني أن أخرج على التوقر في حضور المطربشين. وهل لبست السدارة إلا لأنجو من عنجهية المطربشين؟
عفا الله عن مصر! فقد قتلت ما في صدري من شاعرية بفضل ما درجت عليه من التزمت والجمود
ولكن أين أجلس على المائدة؟ أين؟ أين؟
الحمد لله! هذا مكان يزدان بعمامتين من وطن سيدنا عمر ابن أبي ربيعة رضي الله عنه،(244/17)
وكان عمر بن أبي ربيعة من المجاهدين الذين قال فيهم جميل:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث عندهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد
ومن مزايا سيدنا عمر بن أبي ربيعة أنه وُلدَ في الليلة التي مات فيها سيدنا عمر بن الخطاب. وقد اشترك هذان القرشيان في الجهاد، فكان ابن الخطاب يغزو الممالك والشعوب، وكان ابن أبي ربيعة يغزو الأفئدة والقلوب
وأريد أن أقول إن عمر بن أبي ربيعة لا بد أن يكون ترك في الحجاز بعض التقاليد الصالحات، وقد أجاز له القرشيون أن يقول:
نظرت إليها بالمحصَّب من مِنًى ... ولي نظر لولا التحرج عارمُ
ولا يمكن أن يكون النظر إلى امرأة في المؤتمر أخطر من النظر إلى امرأة في المحصَّب، وما جاز في مكة وهي بلد حرام لا يمنع في بغداد وهي بلد حلال
وكلك اطمأننت على المائدة كل الاطمئنان
ولكن ما هذه المفاجآت؟ أراني لا أخرج من مأزق إلا وقعت في مأزق
هذه عمامة ثالثة، وهي من نوع خطر، لأنها عمامة وزير المعارف. . .
ونظرت فرأيتني فرغت من التهام الحساء، وتغيير المكان بعد ذلك باب من السخف
وما الذي يخيفني من وزير المعارف وهو من كبار الشعراء ولا يخلو شاعر من صبوات؟
ما الذي يخيفني من جيرة شاعر سليم الذوق مثل معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي؟
يخيفني أنه أديب صار وزيراً، وحياتي امتلأت بالأكدار والأوحال بفضل صحبتي لرجل أديب صار من الوزراء. وأنا في هذه المذكرات لا أتجنى على أحد، وإنما أسجل صور المجتمع وكان في مصر أديب يعطف على أدبي أشد العطف، فلما صار وزيراً فسد حالي عنده أشد الفساد. كان في حاله الأول يقول: زكي مبارك شاب يجيء منه؛ وكان في حاله الثاني يقول: مذهب زكي مبارك في الأدب سيفسد عشرة أجيال
وقد تعبت في تعليل هذه الظاهرة النفسية، ثم اهتديت إلى أن الأدباء الوزراء يهمهم أن يصححوا مراكزهم في المجتمع، ذلك بأن المجتمع يتوهم وهو خاطئ أن الأدباء يستبيحون من ألوان الحياة ما لا نستبيح، فالأديب حين يصير وزيراً يضيع وقته في تصحيح مركزه(244/18)
الذي جرّحته أوهام المجتمع، فينقلب إلى رجل متحرج متكلف لا يعوزه غير عمامة عجراء ليصبح شيخ الأزهر أو نقيب الأشراف
وكنت خليقاً بأن أعلل النفس بأن ما أخافه في مصر قد لا أخافه في العراق
ولكني تذكرت حكاية الثعلب الذي همّ بالرحيل عن مصر في سنة 1916 فقد سألوه: لماذا تهاجر يا أبا الحصين؟ فقال: (ألم تعلموا أن السلطة العسكرية قررت جمع ما في مصر من جمال؟ فاعترض عمدة الباجور وقال: وهل أنت جَمَل؟ إنما أنت ثعلب. فقال الثعلب وهو يحاور حضرة العمدة: إلى أن يثبت أني ثعلب لا جَمَل أكون ضِعت
وكذلك أخشى أن أضيع قبل أن يثبت أن العقلية العراقية تباين العقلية المصرية. وعلى أساس هذا المنطق جلست على المائدة في غاية من الأدب والاحتشام. وأنا رجل يزدان بالأدب في قليل من الأحيان
ولكن معالي وزير المعارف ستشغله ألوان الطعام عن مراقبة ما يصنع زكي مبارك!!
وهل كنت مغفَّلاً حتى تفوتني هذه الحقيقة الأولية؟
وانتظرتُ حتى عَلَتْ قعقعةُ الشوكات والملاعق والسكاكين وأرسلت بصري فرأيت امرأة تحادثني عن بُعد بعينين ترسلان أشعة العذوبة والحلاوة والرفق
ورأيت الفرصة سانحة لدراسة هاتين العينين لأضع عنهما فصلاً في كتاب (سحر العيون) الذي شرعت في تأليفه منذ أعوام. وحضور هاتين العينين زاد اقتناعي بفوائد المؤتمرات، ولاسيما المؤتمرات الطبية، وسأكون بإذن الله عضواً في جميع المؤتمرات لأجد الموادّ الشائقة لكتاب (سحر العيون)
ورأت المرأة أني أسأت الأدب فصوبتْ سهام عينيها لتقتلني، ولكنها لم تفلح، فقد حاربتني قبل ذلك عيون وعيون ثم نجوت. ولو كانت العيون تقتل حقيقة لكان لي ضريح يزوره العشاق في باريس
فإن سأل قارئ هذه المذكرات عن جوهر هاتين العينين فأني أجيب بأنهما توحيان الحب، ولا توحيان الإثم. وسأعيش ما أعيش وأنا أتشوق إلى تقبيل قدمي هذه المرأة التي سحرت المؤتمر وهي في سذاجة الأطفال. وربما كنت أول من نظر إليها بعين الطُّهر والعفاف. ولو كنت مثَّالاً لاشتريت الساعة بألف دينار لأصنع منها تمثالاً يفضح تمثال أفروديت.(244/19)
وليتها تعرف ذلك فيستهويها حب المال، لأني لن أفرغ من صب تمثالها في أقل من عامين. وعليّ عهد الله أن أقنع منها بما يقنع الساري من بدر السماء
قلت فيما سلف إني رجل مفضوح النظرات. وكذلك وقعتُ، فلم تمض لحظات حتى تنبه زوجها إليّ، فما كان يسير بها إلا وحوله جيش من المعارف والأصدقاء ليصد غارة الإثم والفتون
وماذا يهمني؟ إنه يتوهم أني سأحاول مع زوجته ما حاوله عمر بن أبي ربيعة مع زوجة أبي الأسود الدؤلي في الطواف،
ولكنه مخطئ، فأنا بالتأكيد أحسن أخلاقاً من أستاذي عمر بن أبي ربيعة، وأنا قد تفوقت على أساتذتي في أشياء كثيرة، منها هذا الشيء. أنا أَجِدُّ وعمر كان يمزح، وهل ترك ابن أبي ربيعة غير أشعار ملوثة بالمجون؟ أما أنا فسأترك بعون الله ورعاية الهوى ثروة فلسفية تشرح ما استبهم من أسرار الجمال
سيعاديني هذا الزوج وسأعاديه، ولكني سأعرف كيف أتقي شره فأدرس عَينيْ زوجته من بعيد بحيث لا يجرؤ على اتهامي بالفضول
وأسارع فأقرر أني اشتركت في جميع الحفلات والرحلات لأستطيع التمكن من دراسة هاتين العينين؛ واستعنت بالدكتور محمد صبحي بك في تحديد ما خفي عليّ من الدقائق البصرية، ولم يبق إلا شئ ولحد هو الوطن الذي تسرح فيه هذه العيون
وكيف أصل إلى ذلك وزوجها بالمرصاد؟
انتظرت وانتظرت، ثم انتظرت، إلى أن جمع بيننا زحام المرقص بعد ثلاث ليال، فدنوت منها في خفية وقلت:
'
فقالت في عبارة تجمع بين العتْب والرفق: (دخيلك، دخيل اللهْ، اتركني لحالي!)
فعرفت أنها من بنات عمنا القديم دماشق بن قاني بن مالك ابن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام
رباه! أنت تعلم ما نعاني في سبيل الحقائق الأدبية والذوقية والفلسفية، وتعلم أن الناس لا يجزوننا بغير العقوق، فاغمرني بلطفك واكتبني عندك من الصادقين(244/20)
وأعود إلى حفلة رئيس الوزراء فأقول إنها كانت في غاية من الجفاف، فلم يشرب فيها المدعوون غير أقداح الماء القراح. وقد تشاكى السامرون بعضهم إلى بعض، وعرف أحد الأطباء ما في نفسي فقال: هل سمعت تصريح معال أمين العاصمة؟ فقلت: لا. فقال: إنه يقول إن هذه الليلة من ليالي مكة، وأنه سيرينا في مساء الغد ليلة من ليالي بغداد
وطاش صوابي فمضيت أبحث عن أمين العاصمة لأسجل عليه الوعد! فرأيته يحادث رجلاً عرفت فيما بعد أنه وزير المالية، فما كاد يراني حتى قال: أنا أفتش عليك يا دكتور مبارك
فقلت: وأنا أفتش عليك يا معالي الأمين. ولكن قبل أن أخبرك لماذا أبحث عنك، أسألك لماذا تبحث عني؟
فقال: كنت أحب أن أوجه نظرك إلى وجوب خلع السدارة في السهرة
فقلت: وأنا لا أخلع السدارة لأني أكره أن أعطيها أدب القُبَّعَةِ
فقال: ولكن نحن اصطلحنا على خلع السدارة في المجتمعات
فقلت: هذا غير صحيح، فقد رأيت عشرات من النواب يحملون السدائر في حضرة جلالة الملك وهو يلقى بنفسه خطاب العرش. ورأيت ثلاثة من النواب يخطبون وهم مسدَّرون. وزرت معالي رئيس مجلس النواب في بيته فكان يحمل السدارة وهو في غرفة الاستقبال. والصحف تنشر صورة جلالة الملك مسدراً وهو يقرأ الفاتحة على قبر أبيه
فقال: قلت لك إننا اصطلحنا على خلع السدارة في المجتمعات
فقلت: وأنا أرى الشواهد التي قدمتها كافية لإقناعك بوجوب التسامح في هذا الاصطلاح
فقال: أنت أستاذ وأعمالك قدوة، وأخشى أن أقول إنك تعطل ما نسعى إليه من جر الشعب إلى المدنية
فقلت: وأنا أخشى أن تجروه إلى الحيوانية
فظهر الغضب على وجهه وقال: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟
وعرفت أن الموقف سيسوء فأسرعت إلى تحديد ما أريد وقلت: أقول يا معالي الأمين إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يغطي رأسه، وما عداه من الحيوان لا يعرف تغطية الرأس. وكذلك أحكم بأن كشف الرأس يقرب الإنسان من الحيوانية
فأخذني من يدي وانتحى ناحية وقال: كيف تقول أمام معالي وزير المالية إننا حيوانات؟(244/21)
فقلت: معاذ الأدب أن أقول ذلك، وإنما شرحت المسألة من وجهة علمية، فقررت أن الإنسان هو الذي يغطي رأسه من بين سائر الحيوان
فقال: ولكنك على كل حال جرحتني، فان كنت جاداً فلتعلم أنه لا يستطيع أحد في العراق ولا في مصر أن يخاطبني بمثل هذا الكلام. وإن كنت مازحاً فاسمح لي أن أصارحك بأن للرجل أن يمزح، ولكن ليس له أن يخرج على الذوق
فقلت: ما كنت جادّاً ولا كنت مازحاً، وإنما كنت أقرر حقيقة علمية
فقال: يظهر أن ما سمعت عنك صحيح
فقلت: وماذا سمعت؟
فقال: سمعت وقرأت أنك رجل مشاغب، ومن واجبي أن أنبهك إلى أني سحبت منك الدعوة لحضور السهرة المقبلة
فقلت: ذلك ما لا تملك
فقال: ستعرف أن ذلك مما أملك
وانصرف وانصرفت
ورجعت إلى منزلي مُبَلْبل الخواطر وأنا أقول: هذا ذنب ليلى، هذا جزاء من يخالف ليلى، فلو كانت ليلى معي في السهرة لغُفِرت جميع ذنوبي، فقد علمتني التجارب أن الرجال الذين لهم زوجات سوافر تُقضى لهم مصالح لا تُقضى لأمثالنا أبداً، نحن المحافظين المغفلين الذين يجهلون خُلق الزمان
أيستطيع أمين العاصمة أن يحجبني عن ليلة بغداد بعد أن أضعت من العمر ما أضعت في التغني بتاريخ بغداد؟ أفي الحق أنه أعرق مني لأني من مواليد مصر وهو من مواليد العراق؟
سترى يا أمين العاصمة أينا أقرب إلى قلب بغداد، وسترى في الليلة القادمة كيف تلقاني وألقاك
(للحديث شجون)
زكي مبارك(244/22)
بين الوطنية والأممية
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار بالعراق
تتمة
يجب أن تتفك أوصال الأوطان الموجودة وتنحل الروابط الوطنية الحالية. . يجب أن تزول كل هذه الروابط التي تجمع (العمال وأصحاب رؤوس الأموال) في كل وطن تحت لواء واحد، وتفرق بين العمال الذين ينتسبون إلى دول وأوطان عديدة. . . يجب أن تترك هذه الروابط الوطنية محلها إلى رابطة جديدة مؤسسة على أساس الطبقات. . . بهذه الصورة وحدها يتم النصر للنظام الشيوعي في كل العالم، وبهذه الصورة وحدها تتم سيادة العمال ورفاهتهم. . .
هذه هي - على وجه الإجمال - أهم الآراء التي تدلي بها (الشيوعية الأممية) في أمر النزعات الوطنية. . .
إن هذه الدعاية الشيوعية كانت تقوم على عواتق بعض الأفراد والجمعيات، حتى زمن الحرب العالمية. . . غير أن الشيوعيين تمكنوا - في أواخر الحرب العالمية - من الاستيلاء على مقاليد الحكمَ في دولة من أعظم دول العالم، وأسسوا فيها نظاماً شيوعياً. . . وهذه الدولة الشيوعية - أي روسيا السوفيتية - أخذت على عاتقها مهمة الدعوة إلى الشيوعية في كل أنحاء العالم، وصارت تقوم بهذه المهمة بكل ما لديها من وسائط مادية ومعنوية، من أموال وافرة إلى تشكيلات منتظمة. . .
إن آلام الفقر وآمال الرفاهة التي تستولي على نفوس العمال من جهة، والدعاية الخلابة التي تقوم بها روسيا السوفيتية - مستندة إلى تشكيلات واسعة النطاق ومحكمة الترتيب - من جهة أخرى. . . قوّت النزعة الأممية الشيوعية في بعض البلاد، وأقامت بهذه الصورة أمام النزعة الوطنية عدواً جديداً خطراً جداً. . .
والنزعة الوطنية لم تتقاعس عن العمل تجاه هذا العدوْ بطبيعة الحال. إنها أخذت تناضل الشيوعية بحزم شديد وقوة كبيرة، فانتصرت عليها في بعض البلاد، كما فعلت النازية في(244/24)
ألمانيا والفاشية في إيطاليا. . . غير أن النضال لا يزال سجالاً بين النزعتين، مادة وجهاراً، كما في أسبانيا، أو معنى وخفية - كما في عدد غير قليل من سائر البلدان
فيجدر بنا أن نتعرف إلى أوجه هذا النضال من قرب، وبشيء من التفصيل:
إن الانقلاب الصناعي الذي بدأ في أوائل القرن الأخير - والذي لا يزال يستمر إلى الآن - زاد في فروق الثروة بين الناس زيادة هائلة، وأوصل مشاكل المعيشة إلى درجة لم يسبق لها مثيل. . . لا شك في أن هذا التطور العظيم الذي حدث في الحياة الاجتماعية كان يتطلب نظرات وأنظمة حقوقية جديدة تضمن للكل حق الحياة والعمل بالعدل الذي يقتضيه هذا التطور العميق.
غير أن الحكومات لم تقدر خطورة هذه الأوضاع حق قدرها، فلم تقدم على سن القوانين الضرورية لمعالجتها. . . وذلك أفسح مجالاً أمام أصحاب رؤوس الأموال للاستبداد بحياة العمال بدون تأمل، وللاسترسال في استغلال أتعابهم بدون إنصاف. . . وهذه الحالة ولدت الاشتراكية التي أخذت تطالب الحكومات بوضع حد لهذا الاستبداد، وسن قوانين جديدة تثبت حقوق العمل وتضمن إنصاف العمال، وتمنع تضخم رؤوس الأموال على شقاء الآلاف بل الملايين من العمال. . . غير أن الحكومات قاومت في بادئ الأمر الحركة الاشتراكية ومطالبها مقاومة شديدة، وهذه المقاومة أدت إلى حدوث سلسلة ثورات واعتصابات عنيفة كما أدت إلى تفرع الاشتراكية إلى فروع ومذاهب متنوعة. فاختلف لذلك المذاهب الاشتراكية اختلافاً كبيراً من المعتدلة إلى المتطرفة، ومن الوطنية إلى الأممية
إن الشيوعية هي (الطريقة المتطرفة) التي قامت لمعالجة قضية العمل على أساس هدم كل شيء يقف حجر عثرة في سبيلها، ولم تتردد في إدخال (الوطنية) أيضاً في عداد الأمور التي لا لزوم للتمسك بها. . . حتى أنها أوصلت المغالاة إلى درجة القول بأن الوطنية أيضاً من المؤسسات التي يجب هدمها. . .
وأما المذاهب الاشتراكية الأخرى، فإنها تسعى إلى معالجة المشكلة دون أن تسترسل في تضحية المؤسسات الاجتماعية وهدمها، ودون أن تتهاون في (الوطنية) فتقدم على مخالفتها. . .
فإن (الاشتراكية الوطنية) - مثلاً - تقول بأن الحياة الصناعية تحتاج إلى معالجة جدية،(244/25)
غير أن هذه المعالجة يجب أن تبقى دائماً داخل نطاق الوطنية. . . إن للعمال حقوقاً طبيعة يجب أن ينالوها، غير أنه يجب أن يعرفوا - في الوقت نفسه - أن هناك أمة يجب أن يخدموها، ووطن يجب أن يعتزوا به، ودولة يجب أن يعتمدوا عليها. . . ولأصحاب رؤوس الأموال أيضاً حقوق يجب ألا يفقدوها، غير أنه يجب أن يعرفوا هم أيضاً أن هناك أمة ووطناً ودولة، وأن الأموال التي تحت حيازتهم لم تتكون وتتجمع إلا بفضل مساعي العمال وبفضل أعمال الدولة التي تضمن الأمن العام، وتنشئ المرافق العامة. فللدولة والأمة والعمال أيضاً حق في هذه الأموال. فعلى الحكومة أن تتولى بنفسها تنظيم العلائق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال على ضوء هذه الأسس؛ عليها ألا تترك هاتين القوتين وشأنهما تتنازعان، وعليها أن تعمل كل ما يمكن عمله لجعل هاتين القوتين متآزرتين كما تقتضيه مصالح الأمة والوطن. . .
فنستطيع أن نقول بهذا الاعتبار إن الاشتراكية الوطنية السائدة في ألمانيا تكون قطباً معاكساً للشيوعية الحاكمة في روسيا. . . وأما النظم النقابية المؤسسة في إيطاليا فهي أيضاً تقف في هذه القضية بجانب الاشتراكية الوطنية موقفاً معاكساً لوقف الشيوعية. . .
فإن الشيوعية لا تبالي بالوطنية، وتدعو إلى الأممية؛ في حين أن النازية - مثل الفاشية - تتمسك بالوطنية وتعارض الأممية. . .
إن عنصر الأممية الذي يدخل في تكوين الشيوعية هو الذي يجعلها خطراً على كيان سائر الدول، ويضطر الأحزاب الوطنية فيها إلى مقاومتها بشدة، ومناضلتها بعنف. . . لأن البلشفية لا تهدد كيان الدول والأمم من جراء احتمال إقدامها على شن الغارة عليها بواسطة حملات عسكرية ترسلها من وراء حدودها فقط. . . بل تهدد كيان الدول والأمم في داخلها من جراء الدعايات التي تقوم بها بين أهليها، وبواسطة التشكيلات التي توجدها بين أبنائها. . .
وهذا الذي يجعل النضال بينها وبين معارضيها عنيفاً جداً. . .
ماذا يجب أن يكون موقفنا نحن - أبناء العرب - من هذا النضال العنيف؟ بين هذه المذاهب الاجتماعية المتضاربة؟
أولاً - يجب أن نلاحظ قبل كل شئ أن المشاكل التي نعانيها نحن أبناء العرب تختلف(244/26)
اختلافاً كبيراً عن المشاكل التي تعانيها تلك البلاد؛ فمن الخطأ أن نفكر في اقتباس نظام من تلك النظم على علاته. . . غير أن موقف هذه النظم المختلفة من النزعة الوطنية والقومية يجب أن يدلنا على النظام الذي يجب أن نتباعد عنه كل التباعد، ونحذر منه كل الحذر. . .
ويجب علينا أن نلاحظ في الوقت نفسه، أن الأضرار التي تنجم من الإصغاء إلى الدعاية الأممية لا تكون متساوية في كل البلاد، بل إنها تزداد وتنقص، نظراً إلى ضعف النزعة الوطنية والقومية السائدة في البلاد أو قوتها
تصوروا الأمة ناهضة متحدة متصفة بشعور قومي عميق، ونزعة وطنية شديدة، قد تأصلت الوطنية والقومية في نفوس أبنائها حتى أنها دخلت في طور الإفراط والتعدي، فصارت تحمل القوم على التوسع على حساب غيرها عن الأمم. لا شك في أن رياح النزعة الأممية إذا هبت على النفوس في مثل هذه الأمة لا تستطيع أن تجتث شجرة الوطنية من جذورها، فلا يتعدى تأثيرها حدود بعض الأضرار الطفيفة من نوع إسقاط الأوراق أو كسر الأغصان. . . إن انتشار فكرة الأممية بعض الانتشار بين أبناء تلك الأمة لا يزعزع بناء الوطنية زعزعة خطرة، وكل ما يعمله ينحصر في كسر ثورة الإفراط، وتخفيف أطماع التوسع والاستعمار. . .
ثم تصوروا أمة - بعكس تلك - متأخرة في حضارتها، متفرقة في سياستها، مترددة في وطنيتها، استيقظت من سبات عميق في عهد قريب؛ فلم يمض على يقظتها الوقت الكافي لاختمار الفكرة القومية في نفوس أبنائها، فلم يتم بعد (تكوّن الشعور القومي) و (تأصل النزعة الوطنية) في تلك النفوس. لا شك في أن تأثير الرياح (الأممية) على أمة كهذه الأمة يكون خطراً جداً، لأنه يوقف اختمار الفكرة القومية في بدء عملها، ويحول دون تكوّن الشعور القومي العام في بدء عهده؛ ويميت تباشر النزعة الوطنية الحق قبل أن تتأصل في النفوس. .
إنني أعتقد بأن نظرة واحدة إلى حالة البلاد العربية والأمة العربية - على ضوء هذه الإيضاحات - تكفي دلالة قطعية على أن انتشار النزعة الأممية - ولو قليلاً - يكون مضراً جداً، بل مهلكاً وقتالاً بالنسبة إلى أبناء الضاد. . .
فينبغي علينا أن نبذل أقصى الجهود لمنع تسرب النزعة الأممية إلى النفوس في جميع(244/27)
الأقطار العربية
هذا، وقد لاحظت أن بعض الشبان، في مختلف البلاد العربية، يخلطون بين قضية السياسة الخارجية وأمر النظم الداخلية خلطاً غريباً. فكثيراً ما يتساءلون خلال مناقشة مثل هذه المسائل: أية دولة أكثر مطامح في البلاد العربية؟ هل لروسيا مطامح استعمارية في البلاد العربية؟ ألم يكن خطر الاستعمار الإيطالي أكبر من سائر الأخطار؟
إنني أعتقد أن وقوف هذا الموقف تجاه المسائل الداخلية والاجتماعية لا يتفق مع منطق السياسة والاجتماع، لأن علائق الدول الخارجية لا تتأسس على أشكال نظمها الداخلية. فالدول تتفق أو تتخاصم حسب منافعها، دون أن تنظر إلى مشابهة أشكال إدارتها أو مخالفتها. فقد رأينا - مثلاً - خلال الحرب العالمية أن فرنسا اتفقت مع إنكلترا وروسيا، مع أنها كانت جمهورية، في حين أن إنكلترا كانت ملكية دستورية وروسيا القيصرية كانت من الحكومات الاستبدادية. وقد انضم إلى هذه الدول الثلاث، خلال الحرب العالمية، عشرات من الدول الأخرى على اختلاف نزعاتها في السياسة الداخلية
فيجب علينا أن نعتقد كل الاعتقاد بأن اعتناق أي مذهب اجتماعي لا يخلصنا من الأخطار المحدقة بنا، كما أن عدم اعتناق أي مذهب من المذاهب الاجتماعية لا يعرضنا إلى أخطار خارجية غير الأخطار التي تحيط بنا. . .
فعندما ننعم النظر في أمر صلاح أو عدم صلاح النظام الشيوعي لبلادنا لا يجوز لنا أن نبني أحكامنا على سياسة إيطاليا أو روسيا في الأمور الدولية بوجه عام، أو في أمور البلاد العربية بوجه خاص. . . بل يجب أن نفكر في صلاح أو عدم صلاح هذا النظام بالنظر إلى أحوالنا الداخلية فقط. . .
وربما كان وضع الدولة التركية تجاه هذه المسألة من أحسن الأمثلة وأقطع الأدلة في هذا الباب
تعلمون أن تركية مدينة بشيء كثير من حياتها الآن إلى أوضاع روسيا السوفيتية. . . لأن الدولة الروسية كانت عدوة تركيا التاريخية حتى نهاية الحرب العالمية. . . غير أنها بعد أن تبلشفت تركت عداءها القديم، بل بعكس ذلك أخذت تسند الدولة التركية ضد الدول الأوربية، وصارت تساعدها بكل الوسائط الممكنة، وفعلاً أمدتها بالأموال والأسلحة والعتاد(244/28)
خلال مناضلاتها الاستقلالية، وحافظت على هذه السياسة نحوها منذ ذلك الحين. فتركية كانت أول دولة تصادقت مع روسيا السوفيتية، وهي لا تزال من أخلص أصدقائها. . . وهي مع كل هذا من أشد أعداء البلشفية، وهي تطارد وتعاقب بشدة كل من ينتسب إلى الشيوعية أو يقوم بدعاية للشيوعية. . . وروسيا البلشفية لا تزال صديقة تركية، بالرغم من مخالفة الأخيرة للنظم البلشفية في أمورها الداخلية. . .
هذه حقيقة واقعية. . . وكثيراً ما يصادف المرء في الصحف التركية عدة فصول في صحف حفلات التكريم التي تقام للوفود الروسية. . . وبجانب هذه الفصول عدة فقرات تذكر أخباراً متنوعة عن محاكمة الأشخاص الذين سجنوا لانتسابهم إلى الشيوعية، وعن الأحكام العقابية التي صدرت عليهم من المحاكم المختصة
فلا بد لي أن أذكر في هذا الصدد كلمة مشهورة قالها أحد عظماء فرنسا خلال مناقشة برلمانية، قبل مدة تزيد على نصف قرن: كان (جول فرى) من أبطال الفكرة العلمانية في فرنسا. حارب الكهنوتية أشد المحاربة، ووضع القوانين التي تحدد ساحة عمل رجل الدين تحديداً كبيراً، وسعى طول حياته إلى حرمانهم حق فتح المدارس والاشتغال بالتربية والتعليم. . . ومع كل ذلك لم يتوان عن مساعدة رجال الدين في الأعمال التي يقومون بها خارج فرنسا. . . حتى أنه لم يتردد أحياناً في مساعدة أعمال الإرساليات التبشيرية بالوسائط الدبلوماسية أو بالقوة العسكرية. . . فقد اعترض البعض على هذه السياسة المتناقضة، واستنكروا حماية أعمال رجال الدين في خارج فرنسا في نفس الوقت الذي كانت تمنع فيه هذه الأعمال داخل فرنسا. . . فصعد (جول فري) على المنبر وقال كلمته المشهورة: إن عداوة الكهنوت ليست من الأمتعة التي يجوز تصديرها إلى الخارج. . .
وأراد أن يقول بذلك: إن عداوتنا للكهنوت يجب أن تبقى من خصائص سياستنا الداخلية وحدها. . . وهذه العداوة يجب ألا تمنعنا عن الاستفادة من رجال الدين في سياستنا الخارجية في أمر توسيع نفوذنا خارج فرنسا. . .
إنني أعتقد بأن الوقائع والحقائق التي سردتها لكم لا تترك مجالاً للشك في أن كل من يقول بوجوب اعتناق المذهب الشيوعي لدفع أخطار دولة أو لاسترضاء أخرى يكون قد سلك مسلكا لا يقره (منطق الحقائق) بوجه من الوجوه. . .(244/29)
فعلينا أن ننظر إلى القضية في ذاتها كمسألة داخلية صرفة مجردة عن كل الاعتبارات الخارجية فنسأل أنفسنا: هل يجوز لنا أن نصغي إلى نداء الأممية الشيوعية أم لا؟. . .
إنني أعتقد أن وضع المسألة على هذا الشكل الواضح لا يترك مجالاً للتردد في الجواب اللازم لها. . .
فقد قال أجدادنا:
بلادي وإن جارت علي عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام!
أعتقد أن هذا القول يتضمن أحسن وأبلغ الأجوبة على نظرية الأممية الماركسية. . .
لا أود أن أقول - بذلك - إنه يجب علينا أن نترك الأمور على حالها، فلا نفكر في إزالة الجور عن أفراد الأمة. . . بل أقول - بعكس ذلك - يجب علينا أن نبذل كل الجهود لإصلاح الأحوال وإزالة الجور بأعظم ما يمكن من السرعة. . . على ألا نخرج في أعمالنا وتدابيرنا عن مقتضيات الوطنية، وأن نعتقد في كل حين: أن الوطن قبل كل شيء وفوق كل شيء. . .
ساطع الحصري(244/30)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 11 -
(التربية مهمة دينية ورسالة مقدسة)
(هربارت)
(من يدر المدرسة يوجه مستقبل الأمة)
(بسمارك)
(أم المسائل في مصر مسألة التربية والتعليم، فلو أن كل مصري وضع في تشييدهما لبنة لأقمنا للوطن صرحاً يبقى ما بقى الزمن)
(الملك فؤاد)
1 - اليوم والغد
رأيت فيما سلف ضرورة الفلسفة للتربية، وتبينت الكثير من تلك (الأصول العامة) التي تقيم عليها الأمم الديمقراطية الحديثة تربيتها الصالحة وتعليمها السليم. والحق أن ذلك كله لم يكن غير مقدمة عامة أحببت أن أمهد بها لنقد التربية والتعليم في مصر وطننا المحبوب. فلعلك قد وعيت ما قدمت وتود صادقاً أن ترى إلى أي طريق نحن مسوقون، وأين نحن من تلك الأصول وهاتيك الفروع. ولعلك تشعر معي أن مثل ذلك الموضوع خطير كل الخطورة، ودقيق كل الدقة، لأنه وحده بيت الداء ومناط الرجاء، وأننا محتاجون فيه إلى كثير من الصراحة وسعة الصدر حتى نستطيع أن نشخص الداء على حقيقته، ونقرر الدواء الناجع والعلاج الصحيح! ثم لعلك ترى أننا اليوم في عصر جديد يتطلب منا تربية خاصة تحقق الأمل في توطيد الديمقراطية وصون الاستقلال، وبعث المجد القديم، وتزعم الشرق الحديث، وإعلاء القومية إزاء مطامع الطامعين، ومسايرة الحضارة جرياً وراء قفز المتقدمين. . .! أجل، ولعلك قد استطعت أن تتبين أن نهضتنا الحديثة ما تزال مشوبة بضعف في الخلق والتواء في الشخصية، وضيق في العقل وانحلال في الشعور، وأننا قد(244/31)
أصبحنا مهددين بثورتين جارفتين وقانا الله شرهما: إحداهما ثورة المتعلمين العاطلين، والأخرى ثورة الجاهلين القانعين. . .! أجل؛ ولعلك قد استطعت أن تدرك أنه لا سبيل إلى تحقيق شيء من هذه المشروعات الاجتماعية الإصلاحية الكثيرة التي يقترحها المقترحون، إلا إذا كوّنا أولئك (الرجال البواسل) الذين نستطيع أن نعهد إليهم حقاً بمباشرة تنفيذها، لأن نفوسهم قد تهيأت بالفعل لها وآمنت بها. . . وأن الدولة التي تنفق على التربية والتعليم كثيراً وتخصها بأعظم عنايتها تحيط نهضتها بكل أسباب القوة والنجاح، وتوفر على نفسها من الجهود والمشقات، والأموال والاضطرابات، ما لا أول له ولا آخر. . .
لعلك إذن تعرف ذلك كله، وتود حقاً أن تعلم أين نحن وإلى أين نسير؛ وتعجب كل التعجب من إغفال الأحزاب السياسية في هذا البلد لقضية التربية والتعليم كجزء من برامجها لا يتجزأ، وكخطة في الإصلاح جوهرية لها فسلفتها المعقولة وحدودها المرسومة، وكوسيلة لتحقيق الأماني القومية تغني عن التشريع المزعزع، وتمهد لنتائج وأحوال مضمونة كل الضمان ومؤكدة كل التأكيد. . .!
أجل! ولعلك تعجب كذلك من ندرة البحوث التي يقدمها الكتاب والمحاضرون للرأي العام فيما بين الآن والآخر متعلقة بذلك الشأن، ودائرة على الخصوص حول التجريح وإظهار العيوب!! كأنما الموضوع مقدس لا يجوز الاقتراب منه! أو كأنما هو ضئيل الشأن في حياتنا المادية والمعنوية فلا ضرورة للاهتمام به!! أو كأنما هو سر من أسرار الدولة لا داعي لإشراك الرأي العام فيه!!
أجل، ولعلك تقول معي الآن إن النهضات الكبرى التي ازدانت بها صفحات التاريخ لم تقم إلا على أساس من النقد الذي هدم البالي وأقام الجديد، وأننا في نهضتنا وظروفنا الحاضرة محتاجون كل الاحتياج إلى هذا النقد الحر النزيه، وإلى سعة في الصدر تسمح به وتشجعه وتقابله بالكثير من الهوادة والرفق، وتصفح عما قد يتعرض ل من خطأ وشطط. . .!
قالوا وما زالوا يقولون: لنستر العيوب لنستر العيوب! وأقول وما زلت أقول: وماذا بعد ستر العيوب؟ وما جدوى السير في طريق شائك نهايته تعسة إذا كانت القافلة التي تسير فيه هي قافلة الأمة؟؟ على أني لست أذهب في التشاؤم إلى هذا الحد فأدعي أن تعليمنا شائك كله ونهايته تعسة كلها؟! بل إنه لمن الخير أن أسجل بمداد الفخر أننا قد بدأنا نلمس(244/32)
الضعف منذ أعوام ونعمل على إصلاحه، فراحت وزارتنا تطلب رأي الخبيرين، وراح أحد وزرائنا يكتب بنفسه في التعليم لثانوي، وأقيمت بالفعل مدارس جديدة، وأدخلت إصلاحات مهمة وخطيرة. هذا إلى ما يدرس الآن تمهيداً لاعتماده وتنفيذه. . . وتلك ولا ريب باكورة طيبة تذكر بالشكر لرجال المعارف ويرجى منها خير جزيل. وما دام الأمر كذلك فلا مندوحة لنا كرجال تربية من معاونة الوزارة في مهمتها بتقديم آرائنا وتجاربنا وكل ما نملك من قول أو فعل يحقق للوطن أمانيه وينجيه من عيوبه وأمراضه. . .
فترى ما هي هذه العيوب وتلك الأمراض؟ كل منا يستطيع أن يذكر الكثير من ذكرياته كطالب ومن تجاربه كمعلم، وكل منا يستطيع أن يقرر أن ماضينا كطلبة مليء بألوان من التربية لا نتفق وتلك الأصول التي قدمنها في كثير ولا قليل، ولا تصلح إلا لأن تكون ذكريات مرة فيها ما يضحك ويبكي ويؤلم ويؤسف، وكل منا يستطيع أن يقرر أن حاضره كمعلم مشوب بأساليب من النقص بعضها هين يسير وبعضها ثقيل عسير. ومن اشتغل منا (بالتعليم الحر) أو درسه عن كثب يستطيع أن يقدم للقراء قصة فيها من المآسي والفواجع ما يثير التقزز والاشمئزاز ويبعث على الأسف والرثاء؛ ولقد كنت أعد نفسي وأنا - أكتب مقدمتي للقراء - لمثل هذا النقد البريء، فوقعت في يدي رسالة حديثة صغيرة بالإنجليزية لأحد أساتذة المعهد وهو الدكتور (جاكسون)، تناول فيها بعض نواحي التربية في مصر بالنقد الحصيف والاقتراح الصائب، فأعجب بها كل الإعجاب، وشعرت أنها قد ذكرت الكثير مما كنت أريد وزادت عليه، ولذلك لم أر بداً من تلخيصها والتعليق عليها وتقديمها لقراء العربية كنظرة عامة جادت بها قريحة إنجليزي خيِّر خدم التربية في مصر ودرسها عن كثب، وأبى إلا أن يرد لهذه البلاد العزيزة فضلها عليه بشيء من النقد والإرشاد
فإلى اللقاء إذاً حيث نستعرض هذه النظرة ونتبعها بأخرى. وإلى اللقاء حيث أسمعك ما قد يصلني من إجابات حضرات رجال التعليم من مفتشين ونظار ومعلمين على الأسئلة الآتية:
1 - ما هي أهم عيوب التربية المصرية في العصر الحاضر؟
2 - وما هي الأغراض التي يجب أن تتوخاها التربية المصرية حتى تحقق للوطن أمانيه الجديدة؟
3 - وماذا يروقك في ماضي التربية وحاضرها؟(244/33)
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(244/34)
محنة الآنسة (مي)
للأستاذ عبد الله مخلص
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
عزيزي صاحب الرسالة
سلام الله عليك ورحمته. وبعد فقد ذكرتم في العدد 238 من (الرسالة) الغراء تماثل الآنسة (مي) زيادة من مرضها الذي لازمها نحو عامين، وبشرتم أهل العلم والفضل بهذه البشرى التي أثلجت الصدور وأقرت الأعين، فقمتم بعملكم هذا بحق الأدب عن كل أديب جزاكم الله خير الجزاء
ولكن قارئ هذا الخبر يظن أن الآنسة (مي) كانت حقيقة مريضة في لبنان وأنها الآن في دور النقاهة، مما يخالف الواقع ويسدل ستاراً كثيفاً على المأساة التي أراد بعض من لا أخلاق لهم أن يمثلوها ويحولوا بين هذه العبقرية وبين ما كانت تنثره من الدرر الغوالي وتبديه من الأفكار النيرة وتخدم به المجتمع العربي
وأظنكم لا تضنون على قادري قدر (مي) وعارفي فضلها بإزاحة ذلك الستار الأسود عن تلك النفوس المريضة والوجوه السود التي قذفت بأرقى شخصية أدبية في المارستان ثم بالمستشفى تحت جنح الظلام ومنعتها من الاختلاط بالناس فجعلوا منها ميت الأحياء
وعلى هذه العقيدة أكتب للرسالة الغراء - لا لك ولا لي، ولكن للحقيقة والتاريخ - عما أصاب (مي) من المصائب، وانتابها من النوائب، وفي خلال السنتين المنصرمتين حتى عادت شبحاً من الأشباح تنقم على البشرية الظالمة وتعبت على جيرانها الأقربين، وخصوصاً سيدات العرب اللائي انتصرت لهن في كل مواقفها. وإلى القارئ العزيز فصول هذه المأساة وله أن يحكم بنفسه في أي عصر من العصور المدنية نحن؟ وما هذا الذي يجري في معاهد العلم والفن من المآسي والمخازي التي تشيب لهولها الولدان وتضطرب الأفئدة؟
لا شك في أن كل أديب وأديبة في لبنان ومصر وفلسطين وسورية والعراق وجميع بلدان العرب يعرفون فضل (مي) على النهضة العلمية عامة والنهضة النسائية خاصة، ولكنهم ربما لا يعرفون أين تنبت هذه الزنبقة العطرة، فرأينا أن نقتضب من سيرتها ما تجب(244/35)
معرفته
الآنسة مي هي ماري ابنة المرحوم الأستاذ إلياس زيادة من عرمون غزير في لبنان الذي كان مسقط رأسها ومنبت غرسها كما كانت مصر التي انتقلت إليها مهبط أنسها ومهوى نفسها
وهناك في بلد العلم في العالم العربي بدأت حياتها المجدية المفيدة فنشرت كتاب باحثة البادية وهو بحث انتقادي طبع سنة 1920 ثم عززته بثان وثالث هما ابتسامة ودموع أو الحب الألماني طبع سنة 1921، وكلمات وإشارات وهو يحتوي على خمس عشرة خطبة ألقتها في مناسبات مختلفة وهو أول كتاب جمعت فيه خطب سيدة شرقية عربية وقد طبع سنة 1922
ثم كتاب بين الجزر والمد، ودمعة وابتسامة، وظلمات وأشعة، وقد طبعت جميع هذه الكتب في سنة 1923
ثم كتاب الصحائف الذي طبع سنة 1924 وكتاب سوانح فتاة والمساواة، غير الأبحاث الناضجة والآراء الاجتماعية الصائبة التي كانت تنشرها في المجلات والصحف حتى وصلت إلى درجة كانت جريدة الأهرام الكثيرة الأنصار الواسعة الانتشار تفتح لرسائلها صدرها وتجعلها أولى مقالاتها
ومما يدل على علو منزلة الآنسة (مي) أن بين الذين قرظوا كتابها (المساواة) الأمير شكيب أرسلان فكتب له المرحوم الدكتور يعقوب صروف أحد صاحبي المقتطف رسالة جاء فيها ما يلي:
(والمساواة مقالات نشرت أولاً تباعاً في المقتطف ثم جمعت وطبعت كتاباً على حدة فراقني جداً وصفكم له، وأرجح أنه لم تترجم شيئاً ترجمة لأنها تتكلم معي في كل الموضوعات الأدبية والفلسفية كما تكتب، فإنها قوية الذاكرة إلى حد يفوق التصور، وقد قرأت كثيراً من الكتب في اللغات التي تحسنها: الفرنساوية والإنكليزية والإيطالية حتى لقد تستشهد في كلامها معي بأبيات من شكسبير أو بيرون كما تستشهد بالمتنبي والمعري
وحفظت أيضاً كثيراً من قصائد شوقي والمطران وحافظ وأظنها تصوغ معانيها في ذهنها بالفرنساوية والإنكليزية قبلما تعبر عنها بألفاظها العربية)(244/36)
وشاء القدر أن تفقد مي والديها واحداً إثر واحد كما يفقد كل إنسان أبويه في هذه الحياة، ولكن مي الشاعرة العطوف الرقيقة الحواس تزلزل منها هاتان الصدمتان قوتها واحتمالها، وتساورها الهموم والأحزان فتقبع في عقر دارها تناجي نفسها وتندب حظها بفقد أعز الناس عليها، فيأتي إليها بعض ذوي قرباها في ثياب الحمل وهم ذئاب خاطفة ويحملونها على السفر إلى لبنان وطنها الساحر على أمل أن تجد في جوه الجميل ومائه النمير ومناظره الخلابة وجباله الشم ما يرفه عن نفسها المشوبة بالأكدار
وتحقن مي بمصل مخدر سواد ليلة من الليالي فتصبح بياض نهارها بين المجانين في مستشفى الأمراض العقلية المسمى بالعصفورية في ضاحية بيروت فتثور ولكن على من؟ وتستنجد ولكن بمن؟ إنها أصبحت في عداد الذين أفقدتهم صدمات الحياة الرشد وأقعدتهم المصائب هذا المقعد الأليم. وتنقطع مي عن الطعام والشراب إلا ما تسد به الرمق وتستبقي بواسطته الحياة
وبعد أن تقضي السنة في ذلك المارستان ينقلها أولئك الذئاب إلى مستشفى ربيز في بيروت ولكن يحوطونها برقابة شديدة ويمنعونها من الاختلاط بأحد لئلا يطلع على ما بيتوا لها من شر مستطير وأعدوا لها من ظلم صارخ فتتم سنة أخرى بين العقلاء الذين لا تستطيع الدنو منهم والتحدث إليهم
ويسعف الحظ فيؤتي بسيدة من آل الجزائري في دمشق إلى المستشفى وتوضع في غرفة مجاورة لغرفة مي السجينة فتسمع (مي) صوت السيدة وهي تتململ في فراشها من شدة الألم الذي أعقب عملية جراحية فتفتح الباب الموصل بين الغرفتين بجهد وتدخل إلى غرفة السيدة الجريح لمواساتها على تخفيف آلامها وتكرر مي هذه الزيارات ليلاً في خلسة من الرقباء
وتستأنس السيدة الجزائرية بجارتها الحنون لا سيما بعد أن اندمل جرحها فتسألها عن حالها وسبب مقامها في المستشفى فتنفجر (مي) بكل ما في نفسها من آلام وتشكو أمرها وما تقاسيه من عنت الظالمين إلى السيدة التي تألم كثيراً لها وتستعين بأوليائها من الرجال على كشف مظلمتها ويقوم هؤلاء السراة الأمجاد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري ويعملون على إطلاق سراحها(244/37)
وينتهي الأمر بتدخل إدارة الأمن العام وإخراج (مي) النابغة من سجنها
فتعود الذئاب الخاطفة التي تخشى أن ترد إلى (مي) حقوقها الشرعية بالتصرف في أموالها وحليها ومكتبتها الغنية التي وضعوا أيديهم عليها ظلماً وعدواناً، وتصرفوا بها تصرف المالك فمي ملكه اعتسافا وطغياناً - يعودون إلى مزاعمهم الأولى من اختلاط عقلها وضعف مداركها ويلحون باستشارة أهل الاختصاص من الأطباء، وتكون النتيجة دعوة طبيبي مستشفى العصفورية وربيز لمعرفتها السابقة بحالتها وطبيبين آخرين، فتقرر هذه الهيئة الطبية المستشارة أن حالتها الحاضرة تبعث على الرضى، ولكن بالنظر لضعف جسمها يخشى أن تتأثر أعصابها مرة أخرى، ولذلك يشيرون عليها بقضاء دور النقاهة في منزل مناسب ببيروت
وتنقل بالفعل إلى ذلك المنزل هي وممرضتها الموكول إليها أمر العناية بها والقيام على حاجاتها ولوازمها
وعقيدة الطبيب في مريض من مرضى العقول لها تأثيرها في نفسه، فهو يظن به الظنون ولا يريد أن يقتنع بصحة مداركه مهما كانت ظواهره حسنة ولعل هذا هو الذي حدا بالطبيبين المداويين لها قبلا على الإصرار على رأييهما فيها إن لم يكن هناك دافع آخر يدفعهما إلى ذلك التعنت
ويستمع الناس ولا سيما الطبقة المستنيرة إلى ما آل إليه أمر (مي) فيأتون زرافات ووحداناً إلى كعبة الفضل يحجون إليها ويكون في طليعة هؤلاء الحجاج الكرام صديقنا فارس بك الخوري رئيس المجلس النيابي السوري وقرينته الفضلى. واستمع إلى ما يقوله هذا الرئيس الجليل لمندوب أكبر صحيفة يومية لبنانية عن الآنسة (مي):
(يمكنني أن أقول بكل صراحة إنني تحدثت إلى أناس كثيرين في بيروت فلم أر فيهم من هو أعقل من الآنسة (مي). وأزيد على ذلك أنني سمعت من بعضهم أخطاء لم تفه (مي) بواحد منها فهي بحالة عقلية تامة، ولكن صحتها الجسدية ضعيفة جداً
ومما قالته لي والألم ينبعث من عينيها: (تصور مي زيادة على بعد عشرين دقيقة من بيروت قلب الشرق العربي وعاصمة لبنان الجميل الخالد ومهد الحضارة والنور وأم الجامعات والمؤسسات العلمية ودار الجمعيات الأدبية والخيرية ومركز جمعية النهضة(244/38)
النسائية. أجل تصور (مي) سجينة على بعد عشرين دقيقة من البلد الذي ذكرت)
ثم تلفتت مي إلى السيدة قرينته فتقول لها:
(أهذا ما كنت أنتظره يا سيدتي؟ أهذه هي المكافأة التي أعدتها لي المرأة الشرقية بعد جهاد طويل؟ أهذا ما تلقاه الأديبة في الشرق؟)
ولم يقتصر عمل فارس بك على الإدلاء بآرائه إلى الصحف، بل إنه ذهب وبرفقته الأمير عادل أرسلان إلى ندوة المجلس النيابي اللبناني وتحدث عن زيارته لمي وعن الأثر المؤلم الذي تركته هذه الزيارة في نفسه
وشاع ما عوملت به مي من العمل السيئ وذاع في لبنان فراع الناس ما سمعوا وأذهلهم ما قرءوا، فاندفع أنصار الفضيلة إلى الأخذ بضبعها وشد أزرها ورد عاديات العادين عنها، وتقدم الجميع المحامي المشهور معالي الأستاذ حبيب أبي شهلا وزير الداخلية السابق في الحكومات اللبنانية المختلفة، وتطوع للدفاع عن حقها الهضيم وحريتها السليبة أمام القضاء الذي أقيم لإنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، فسر الناس لهذه الغضبة المضرية والنعرة الإنسانية، وبدءوا يذكرونها بكل شفة ولسان، ويكبرون هذا العمل من شخصية كبيرة مشهورة في الأوساط القضائية والإدارية، وهم على مثل اليقين من حصول القصد ونجاح المسعى لما عرف عن معالي الأستاذ أبي شهلا من قوة الحجة ووفور العلم وصحة المنطق مما يضمن الفوز له في هذا المعترك
وبلغ أمر مي إلى أسماع الفلسطينيين الذين يجلون هذه النابغة ويبجلونها ككل عربي فقامت أقرب مدينة من فلسطين إلى لبنان وهي عكا تثأر للفضيلة وتنتصر للعلم والأدب وتقدمت بواسطة الهاتف برسالة إلى المحامي الأستاذ حبيب أبي شهلا على يدي كاتب هذه السطور هذا نصها: -
إن محدثكم الآن وحوله جماعة من أدباء وعلماء هذه المدينة التاريخية عكا يتوجهون بخالص الأماني وكبير الرجاء إلى الوزير الذي لم تبطره النعمة ولم تمنعه من الدفع عن المظلومين لتتولوا بما عرفتم به من الهمة المشكورة والغيرة المحمودة الدفاع عن مفخرة أدبيات العرب في القرن العشرين ونابغة النساء في الأقطار العربية الآنسة مي زيادة
إن إنقاذها من هذه الكارثة يسجل لكم يداً كبيرة مشكورة بيضاء في خدمة الأدب العربي(244/39)
واللغة العربية فنرجو أن يحقق الله على يديكم هذه المبرة العظيمة لنهضة النساء في هذا الشرق العربي المتطلع إلى المستقبل الباسم بهمة أمثالكم وتقبلوا تحياتنا في هذه المدينة. . .
ومما أذكره عن (مي) أني كنت في بيت المقدس في أوائل سنة 1923 فجاءته الآنسة (مي) زائرة دارسة وراح الأدباء والفضلاء للترحيب بها والتعرف إليها، وقصدت أنا ورفيق لي إلى زيارتها في المنزل الذي نزلت فيه فلم نجدها إذ ذاك، وفيما نحن عائدون قال لي صاحبي وهو يحاورني: أتدري أن علم (مي) جنى عليها؟ فقلت له: أفصح عما في ضميرك فيظهر أن للكلام بقية. فقال: أنا أحد الذين كانوا يرون السعادة كل السعادة في الاقتران (بمي) لما وهبها الله من الخلق الجميل والصفات الطبية ولكني كنت أرى أن مستواها العلمي فوق مستواي فلم أجرأ على طلب يدها. قال: وكان لي أمثال كثيرون ولكنهم كانوا يرون رأيي فيها وكنا حين نلتقي بمي النابغة نشعر بعاطفة الإكبار والإجلال لآدابها الرفيعة
والذي قال لي هذا القول لم يكن من عامة الناس بل هو من خريجي الجامعة الأمريكية ومن أصحاب الثروات الطائلة والذين أثروا في الحياة الاجتماعية والمدنية، ولكنه كان يرى نفسه دونها في العلم والفضل ويعترف بذلك، فانظر ماذا كان مصير هذه العلوم والفضائل بين أعدائها الألداء، عاملهم الله بما يستحقون وأذاقهم عذاب الهون
عبد الله مخلص(244/40)
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وماذا يصنع وقد خذل في الانتخاب وآل الحانوت إلى ما آل إليه جزاءً بما فعل صاحبه؟ الحق أنه ألقى نفسه في مأزق ولعله كان يندم بينه وبين نفسه أن ترك حياة الغابة. . . ماذا يصنع ابراهام ليكسب قوت يومه؟ ليس أمامه الآن غير التجارة، لذلك اتخذ له شريكاً واشترى ما بقى من الحانوت من ذلك الرجل الذي اشتراه من قبل وعاد يبيع الناس من بضاعته، وقد حمل العبء كله إذ كان صاحبه لا يكاد يفيق من سكره. على أنه كان عبئاً هيناً إذا كان البيع قليلا لقلة البضاعة ولقلة المشترين. وكان في البلد حانوت آخر سطا عليه أولئك الفتية المعتدون لما شجر من خلاف بين صاحبه وبين زعيمهم آرمسترنج، وعرض صاحب ذلك الحانوت بضاعته للبيع فاشتراها ابراهام، ولكن بطريق الدين؛ كتب على نفسه مائتين وخمسين دولاراً وعد بدفعها حين يتيسر له ذلك. . . ولكن صاحبه لا يكاد يفيق من سكره فهو كلُّ عليه أينما يوجهه لا يأت بخير؛ وليس لدى أيب مال ليدفع إليه نصيبه ويخلص منه.
وأراد الله أن ييسر له أمره بعض اليسر، فاختير حاملا للبريد في تلك الجهة؛ اختاره القائمون بالأمر لما علموا من أمانته ونشاطه؛ وفرح إبراهام بما ساقه الله إليه، فقد حاقت الخسارة بالتجارة وخرج منها بدين اثقل كاهله كان يسميه لفداحته بالنسبة إليه الدين الأهلي!. . . فرح إبراهام بعمله الجديد وأقبل عليه في همة إذ أتاح له ذلك العمل أن يتصل بالناس وأن يتعرف أحوالهم ويدرس طبائعهم من قرب، وهو كلف بذلك حريص عليه يريد به أن ينفذ إلى أعماق النفس كما هو شأنه في كل ما يعرض له. وحبب إليه ذلك العمل، فوق ما كان من اتصاله بالناس، ما مهده له من سبل القراءة، فهو يقرأ الصحف قبل أن(244/41)
يعطيها أصحابها، وهو يلتهم الكتب في ساعات فراغه التهاماً. وكان أكثر ما يقرأ يومئذ كتب القانون، ولعله كان ينوي أن يتخذ المحاماة عملاً له، فلقد كان الناس يأتونه ليحكموه فيما يشجر بينهم من خلاف، وهو عندهم القوى الأمين؛ لا يتحيز إلى شخص أو فئة، ولا يتعثر في أمر، ولا يسمح لأحد أن يلبس أمامه الحق بالباطل، كل ذلك في رفق ودراية ولباقة. . . وكان إذا عرض له أمر رده إلى ما عرف من القانون ليتبين وجهه، أو أفاد من دراسته وبحثه علماً جديداً. وقد ألقت الأقدار إليه ذات يوم كتاباً في القانون يقع في أربعة أسفار عثر عليه كما يعثر على كنز. وبيان ذلك أنه اشترى بثمن بخس من رجل انتوى الرحيل بعض متاعه، وكان صندوقاً به أوراق، قلبه فعثر في قاعه على كنزه وهو كتاب (نظرات في تاريخ إنجلترا) لمؤلفه بلاكستون، وكان من أشهر ما كتب في القانون في تلك الأيام!
وهو يعيش اليوم على راتبه الضئيل من عمله في البريد ومما كان يرسله الناس من قوت إلى الأسرة التي كان يقيم بينها نظير ما كان يقدمه إليهم من نصح أو يسوى بينهم من خلاف. وإنك لتلمح شخص المحامي الناشئ في شخص عامل البريد هذا. . . على أنه تقدم فعلاً ليدافع عن بعض الناس أمام المحلفين في بعض الجلسات القضائية في تلك الجهة. وعرف بسداد الرأي وقوة العارضة ومتانة الحجة، وما وقف يدافع يوماً إلا عما يعتقد أنه الحق
ومست قلبه في تلك الأيام لذعة من الألم، فقد ألم به ما يلم بالشباب من علل الشباب، وانعقدت أمام بصره سحب قاتمة من الهم كان مبعثها ما دب في قلبه من أمل جديد نحو آن ابنة صاحب الخان، فلقد علم، وهو صاحب البريد، أن فتاها انصرف عنها ونسي ما كان بينها لما نزل بأبيها من فاقة، وخيل إلى أيب أنه اليوم يستطيع أن يصل إلى قلبها، لولا مزاحم جديد يُدِلُّ عليه بماله وهو لا يدانيه في كفاية ولا خلق. . . على أنه في خجله من النساء لا يعرف ما يأخذ مما يدع، فهو في حيرة من أمره، وهو كما علمت متقد العاطفة موفور القوة مشبوب الخيال، وذلك ما صور له طيوفاً من الشجن أخذت تتزايد حتى ليضيق بها قلبه ويكاد الأمر أن يصل به القنوط. روى عنه أنه قال لأحد خلانه: (ربما ظهر مني حينما أكون في رفقة أنني أستمتع بالحياة في نشوة، ولكني إذا أويت إلى عزلتي(244/42)
أخذتني غالباً حال من الهم حتى لا أجرؤ أن أحمل معي مبراة)
وللشباب هواجس وأحلام يحار المرء في تفسيرها وتعرف مصدرها، فهي من خفايا النفس الإنسانية، وكثيراً ما ينقبض المرء وهو في حال من الرضا أو هو في مثل حال الرضا. . . هل كان مرد همه إلى طموح نفسه وتوثب همته؟ أم كان ذلك إلى نوازع قلبه وهواجس خاطره؟ هل كان أيب يجب آن حقاً كما يكون الحب، أم أن إحساسه بما ينقص قدره في أعين الفتيات كان هو مبعث هواجسه ومدعاة زلفاه؟
إن في انصرافه إلى عمله وهو يحمل الخطابات في قبعته من دسكرة إلى دسكرة ما يلهيه بعض الوقت، وإن له في الكتب لعزاء وسلوة: له في شكسبير وبرنز ما تأنس به روحه ويثلج خاطره، وله في تراجم العظماء - وقد كان مقبلاً عليها - من معاني السمو ومواقف البطولة ما يبهج نفسه ويثبت قلبه
وأضيف إلى عمله في البريد عمل آخر دله عليه أحد خلصائه وهو تخطيط الأرض ورسم المصورات للطرق الجديدة التي كانت الحكومة تنشئها وتوضح معالمها للناس ليهتدوا بها في مسيرهم في تلك الأصقاع. ولقد حذق إبراهام هذا العمل الجديد وصار بعد توزيع البريد - وهو قليل - يحمل منظاره ولوحته وقلمه ويتنقل بين الأحراج يرسم الطرق، وكان يأتي ذلك بما عرف عنه من الدقة في كل ما يعهد به إليه. . . ولكن الدائنين لم يدعوه فيما هو فيه، فأقبل أحدهم وباع جواد إبراهام وسرجه ولجامه في مزاد نظير ماله؛ وقد عزّ على إبراهام أن يشهد هذا البيع فابتعد حتى يتم؛ ولكن صاحباً له يدعى جرين تقدم فدفع المال المطلوب وخلص له الجواد ولقيه فقال له: (رد لي هذا المال حينما تصبح قادراً على ذلك، فإن لم تقدر فلا عليك منه يا صديقي) وأراد بعض الدائنين أن يبيعوا تلك الأدوات التي يقتات من العمل بها فجمع لهم بعض ذوي المروءة من أهل الجهة ما كانوا يطلبون من المال وأعفوا أدوات صاحبهم من ذلك البيع. ولقد مات جرين بعد حين وقام إبراهام يرثيه فاستعصت عليه الكلمات ولم يجد لديه غير الدموع
وجاء موعد الانتخابات وتقدم إبراهام من جديد يقدم نفسه للناس، وكتب له النجاح هذه المرة؛ وذهب ليتخذ مقعده في مجلس الينويس نائباً عن جهة سنجمون وكان المبدأ الذي نجح عليه هو مبدأ الهوجز إذا أردنا السياسة، وهو مبدأ الفضيلة والنبل والسمو إذا أردنا(244/43)
الخلق. . .
ذهب عامل البريد ومخطط الأرض إلى حيث يجلس مع المنتخبين، وإن له في السياسة لشأناً بعد حين. هو الآن في الخامسة والعشرين وقد اختاره الناس لما خبروا من خلاله وما رأوا من سعة اطلاعه ورجاحة عقله؛ ولكنه فقير فكيف يذهب في ملابسه البالية إلى المجلس؟. . . اقترض ذلك الشاب المدخر لرياسة أمريكا في غد - بعض النقود فاشترى حلة جديدة وذهب إلى فانداليا عاصمة الينويس فاتخذ مكانه بين ممثلي الولاية. . . جلس يدرس ويفكر، لا تفوته عبارة ولا تفلت منه قضية، وكانت مشكلة العبيد تشغل بال الناس يومئذ في وضع من أوضاعها، كما كانت تشغل بالهم أمور أخرى تنحصر فيما كانوا يتوخون من وجوه الإصلاح في التجارة والصناعة وسبل الاتصال. اتضح من خلال إبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب، فقد رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماس في غير تعصب، فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب أو الحق في قوة وفي إصرار يشبه العناد، حتى إذا تبين له أن الحق في جانب مجادله سلم له في سرعة تسليم الرضاء والغبطة. ورأى منه زملاؤه فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد كان مبعثها حسن اختيار اللفظ أو كان مبعثها لقانة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ولا تنقص. ولقد أعجبوا منه بتلك الخلة التي ستكون في غد جانباً من أهم جوانب زعامته. . . وأنسوا منه خارج المجلس إلى خلة أخرى من خلاله اشتهر بها منذ كان في الغابة، تلك هي تلاوة الحكايات، فهو ما يفتأ يقص عليهم من قصصه ما يطربهم ويعجبهم
وكان إبراهام يزور نيوسالم كلما سمح له وقته بزيارة. وهو اليوم يحب آن كما يكون الحب. أكبرت صفاته وأعجبت برجولته وصارت لا تعدل به غيره؛ ثم أحبته وليس بعد الحب رابطة، وألفى إبراهام نفسه - وهو من عرفت قوة عاطفة وصحة وجدان - في ربيع العمر حقاً، لا يرى حوله إلا جمال الربيع ونشوة الربيع، ولا يحس إلا سر الربيع ووحي الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل. . . ولكن وا أسفاه! لن يطول هذا الربيع، بل إنه لينقلب إلى جحيم في سرعة خاطفة!. . . نزلت الحمى كما نزلت من قبل في كنتوكي فكان من ضحاياها طائره الجميل! وغدا إبراهام يرمض الحزن قلبه ويأكل الجوى أحشاءه. . . وتلك هي الصدمة الثانية بعد(244/44)
فجيعته في أمه تحل به، فكأنها الضربة تأتيه في مقتل! لقد وهنت عزيمته وخارت قوته وذوى عوده، وصار الناس يرونه أحياناً هائماً على وجهه وهو يهذي كأن به جنة، حتى نصح له طبيب أن يرحل، فنزل ضيفاً عند أسرة صديقة كانت تقيم في مكان بعيد عن نيوسالم، ولكن همه ذهب معه إلى هناك حتى لقد شاطره الحزن ذات ليلة نفر من جلسائه حين سمعوه يصرخ من أعماق قلبه: (لا أطيق أن أذكر أنها ترقد هناك وحدها حيث ينزل المطر وتصخب العاصفة فوق قبرها) ولكم قطع من الأميال مرات بعد ذلك على قدميه فحج إلى ذلك القبر وبلله بدمعه!
ولكن اليأس يسلمه ثانية إلى الحياة حيث لا حيلة في البلوى ولا معدى عن الحياة. . . ويحين موعد الانتخابات مرة ثالثة فيتقدم فيفوز وقد ازداد الناس محبة له كما ازدادوا له إكباراً بقدر ما اكتسب من خبرة فوق ما سلف من خبرته، وأظهرته الانتخابات هذه المرة للعامة خطيباً كأحسن ما يكون الخطيب، قام يحمل عليه أحد خصومه من الحزب الديمقراطي، وكان قد حصل بتغييره مبدأه على مرتب سنوي غير قليل؛ وقد علم الناس أنه كان يقيم في منزل أنيق في سبرنجفيلد في قمته تلك الحديدة التي يضعونها هناك لتمنع الصواعق. ولقد أسرف ذلك الخصم في الطعن على إبراهام وأعلن أنه يريد أن يحط من قدره في نفوس الناس. فوقف ابن الإحراج ورد عليه بقوله: (رأى هذا السيد أن يشير إلى حداثة سني، ولقد نسى أني أكبر في العمر مني في ألاعيب الساسة وتجارتهم. إني أود أن أعيش كما أود أن أرقي وأن تلحظ مكانتي، ولكني أفضل الموت على أن أحيا فأرى اليوم الذي أفعل فيه ما فعل ذلكم السيد، فأغير مبدئي من أجل ثلاثة آلاف دولار في العام، وأراني بعد ذلك مضطراً أن أقيم على رأس بيتي مانعة للصواعق لأحمي ضميراً آثماً من غضب رب أسأت إليه)
وإنك لتتبين مهارته السياسية فوق ما تلمح من صفاته في هذا الخطاب الذي أرسله إلى أحد رجال الحزب الديمقراطي.
كتب لنكولن (أنبئت أنك أذعت في الناس أثناء غيابي في الأسبوع الماضي أن لديك حقيقة أو حقائق لو اطلع عليها الناس لقضت نهائياً على أملي وأمل ن. ادوارد في حركة الانتخاب القائمة، ولكنك تأبى عليك مجاملتك إيانا أن تعلنها. وأنا أقول لك إنه ما من(244/45)
شخص يطلب الجميل أكثر مما أطلب؛ كذلك قلَّ في الناس من يقبل الجميل كما أقبل؛ ولكن الجميل إلي في هذه الحال معناه الجور في حق الناس؛ ولذلك فإني أستميحك أن تنصرف عنه. إن حيازتي ثقة أهل سنجمون ذات مرة أمر واضح؛ فإذا كنت قد أتيت أمراً من شأنه إذا عرف أن يحرمني تلك الثقة، سواء كان إتيان ذلك الأمر عن إصرار أو عن خطأ فإن الذي يعرف هذا الأمر ثم يخفيه إنما يخون صالح بلاده. وأنا لا يقوم في ذهني شيء عما عساه أن تكون الحقيقة أو الحقائق التي تتحدث عنها واقعية كانت أو مزعومة؛ بيد أن ما أعهده فيك من الصدق لا يسمح لي برهة أن أشك في أنك على الأقل تعتقد ما تقول. إني أراني مديناً لك بهذا الاعتبار الشخصي الذي أظهرته نحوي، ولكني آمل أن ترى إذا تأملت من جديد أن صالح الناس أهم من ذلك. وعلى هذا فلا نتحرج أن تعلن الحق. وأؤكد لك أن ذكرك ما لديك من الحقائق في صدق وأمانة لن يفصم ما بيني وبينك من عرى الصداقة. هذا وإني أرجو أن يأتيني رد منك على هذا ولك الحرية أن تنتشر الكتابين إذا أردت).
اقرأ هذا الخطاب تر كيف ملك إبراهام قلوب الناس بأمانته وإخلاصه ودماثته. ثم انظر إلى قوة حجته وروعة منطقه ودهائه؛ وتأمل في أدبه وتحشمه وهو يرد الإهانة عن نفسه. تلك لعمري خلال أحرار الشمائل وعظماء الرجال. . .
فاز لنكولن في الانتخاب وحق له أن يفوز. ولقد خطب الناس مرة فكان مما قاله: (سأسعى أن يفوز جميع البيض من يدفع منهم ضرائب ومن يحمل السلاح بحق الانتخاب (لا أستثني من ذلك النساء بأي حال) فإذا انتخبت فسأعتبر أهل سنجمون جميعاً. هم مرسلَّي سواء من اختارني منهم ومن لم يفعل، وحينما أعمل في المجلس كنائب عنهم سوف أصدر في عملي عن إرادتهم في كافة الأمور التي أستطيع أن أعرف إرادتهم فيها؛ وفي غير ذلك سأسير وفق ما يمليه علي تقديري مراعياً مصالحهم أبداً)
ذلك هو دستور لنكولن وتلك هي أخلاقه في مجال السياسة ذلك المجال الذي سينضج فيه شخصه وتكتمل رجولته وتبرز مواهبه وتسفر مظاهر عبقريته. كان له في المجلس أصدقاء منهم ثمانية كانوا مثله في طول القامة، ولقد كانوا يجلسون رفقة يتحدثون، فعرفوا باسم التسعة الطوال، ولكن إبراهام كان أطولهم باعاً في المعرفة وأعلاهم مقاما في الخلق، فلقد ظهرت صفات ابن الغابة لهم في وضوح، فهم معجبون بدماثته وأمانته وبعد نظره،(244/46)
وهم مفتونون ببلاغته وأسلوبه في الحوار والمجادلة، وهم يغبطونه على سعة صدره وشجاعته وصراحته، يحمدون له رقة عاطفته وشفقته وسلامة طويته، وهم فوق ذلك يلذهم حديثه وتطربهم أقاصيصه ويأسر قلوبهم تواضعه وأدبه وسذاجته
وإنه اليوم ليقرأ منظمة فقد مر العهد الذي كان يتناول فيه أي كتاب يصادفه. هو اليوم يقلب صفحات التاريخ فليس ألزم منها لرجل السياسة؛ وهو يستزيد من القانون نصوصه وفقهه؛ وهو يدرس أحوال أمريكا من شتى نواحيها؛ يطيل النظر في تاريخ ساستها ويتأمل في مناهجهم في الإصلاح وأساليبهم في توطيد سياستهم؛ يستوعب ذلك كله ليسير على ضوئه فيما هو مقبل عليه. ومما استرعى اهتمامه يومئذ مسألة العبيد وتاريخها وتطورها ومكانها من السياسة العامة
يتخذ اليوم إبراهام لنكولن مكانه للمرة الثانية في مجلس مقاطعة النيوس وهو في السابعة والعشرين، ولا يدري هو ولا من يحيطون به من ممثلي الجهات في ذلك المجلس ماذا يخبئه الغد لذلك الرجل الطويل القامة، عامل البريد، مخطط الأرض، ابن الأحراج، ربيب العسر والفاقة ومحن الأيام!
(يتبع)
الخفيف(244/47)
من والد إلى ولده
للأستاذ محمود خيرت بك
المهندس الشاب أبو بكر خيرت، ولد صديقنا الشاعر محمود بك خيرت، هدية من هدايا النبوغ لمصر. تخرج في هندسة العمارة من مدرسة الفنون الجميلة العليا بباريس بدرجة التفوق والامتياز، ثم بهر بأعماله الفنية رابطة المهندسين في فرنسا وإنجلترا فمنحوه الجوائز والأنواط تقديراً لنبوغه؛ وتقدم إلى المسابقة التي اقترحها بنك مصر لفندقه وعمارته في ميدان إبراهيم بالقاهرة فأحرز قصب السبق على ثلاثة وعشرين مهندساً عالميين من أجانب ومصريين وفاز بالجائزة الأولى الممتازة، وكرمه المهندسون المصريون وعلى رأسهم معالي حسين سري باشا، فهز كل أولئك من شعور أبيه فعبر عن سروره بولده، واعترافه للبنك، وشكره لله، بهذه القصيدة:
أين حُسن الربيع في إقبالِهْ ... نتَنشَّى مِن الصَّفا في ظلالِهْ
وابتهاجُ السماء والبدر سارٍ ... يتهادى في هالةٍ من جلاله
واهتزازُ الغصون تشدو القماري ... فوقها شَدْو زاخِرِ الشوق وَالِه
وابتسامُ العروس في ثوبها الشّ ... فِّ تبدَّت أعطافُها من خلاله
أين هذا من مُنتدًى غمَرته ... نشوة البشر يوم عيد احتفالِه
كرّموا فيه صفوةً من شبابٍ ... هام بالفن وارتوى من زلاله
وفتىً منهمُ عرفناه لمّا ... أحرز السبق رابضاً في مجاله
والدّجى مظلم الجوانبِ إلاّ ... إن بدا في السماء وجهُ هلاله
كان للفن من حضارة ميناَ ... والأُلَى قد سروْا على مِنواله
روعةٌ تسحر النفوس ومعنىً ... يفتن المعجَبين سحرُ جماله
إنما كرّت الليالي عليَهْ ... فطوتْه موسّداً في رمالِه
لا نرى حسنه البديعُ ولا نَلْ ... مَس من مجده سوى أطْلاله
كالأسير الهزيل تنكره العَيْ ... ن وتبكي عليه في أغلاله
آن أن يرسل الزمان إليه ... مِن بَنيه من حَلَّه مِن عقاله
بَعثَ الفنُّ من ثراهُ أبو بك ... رٍ وأوفى على نواحِي كمالِه(244/48)
كان بَراًّ ومن أحن على الف ... نِّ طواه الزمان من أشباله
أين شوقي وأين حافظُ كانا ... ينظمان الجُمان في رئباله
يا فتى مصرَ مَن بِمدِحك أولى ... مِن أبٍ أنت ذخره في اكتهاله
كم جَرى دمعهُ على عارضَيه ... هاطلا كالسحاب في تَهطاله
يوم آثرتَ الاغتراب لكيما ... تأخذ العلم ناضجا عَن رجاله
كان من نفسك الشّجّية أشهى ... من حبيب شجاك يومُ وصالِه
تتقرّاهُ عند كل صبَاحٍ ... وترى إن غفوْت طيف خياله
شارداً لا يقرّ جنبك إلاّ ... إن رشفت العتيق من جِرْياله
فتنقَّلت كالهلال وهل يص ... بح بدراً إلا بفضل انتقاله
لم يكن مسرفا أبوك لدى الظّ ... نّ ولا كان سابحاً في ضلالِه
يوم ألْفاك وحدةً لجلال الف ... ن تُحي الرُثيث من آماله
فلقد شاءت المقادير أن عُد ... تَ إليه وأنت مِن أبطاله
والذي يعشق العلى يسهر اللّيْ ... ل طويلا وجدّه رأس ماله
ذاك فضل أفاضه بنك مصر ... هو بعض الطَّريف من افضاله
كل يوم نرى له حَسَناتٍ ... فخرهُ أنّها صَدى أعماله
وينمّ العبيرُ عَن عاطر المسْ ... كِ وكسْبُ السّباق عَن خياله
أنت يا بنكُ للكنانة عصر ... ذهبيٌ يجرّ ذيل اختياله
كنتَ للنّيل مطلع اسْتهلاله ... ورأيناك غاية استقلالِه
قُمت بالعبء أنت وحدك لا يل ... ويك عنه الثقيل من أحماله
ومهَرت البلاد صرحاً سيبقى ... للمدى شامخاً على أمثاله
شاهداً أن مصر فيها شبابٌ ... لا يُدانيه غيره في نضاله
قد كسبتَ الرضى من الله والنا ... س وكنتَ المشكورَ في أفعاله
محمود خيرت(244/49)
وحي الشاعرية
للأستاذ حسن القاياتي
1 - الدينار في الطبق
هي فتنةً بنضارة الأُفُقِ ... فتأَلَّقي يا أنجم الغَسَق
تهدي إليَّ البدرَ هَالتُهُ ... كتحية الدينار في الطبق
2 - اليوسفي
ويوسفّيٍ أصفر أنيقِ ... تحية الصديق للصديق
وتحفة العشيق للعشيق ... جرّدته من قشره الرقيق
فجاء مثل الرَّكَبِ الحليق
3 - الورد يعصر
تَنَظَّرَ صُبح النجم والصبح يسفر=لدى كبرياء الخطب والعزم أكبرُ
فتى النُّبْل يزكو بين لينٍ وشدَّةٍ ... فكالورد يُستهدى وكالورد يعصرُ(244/50)
القَصَصُ
أقصوصة من بول هيس
جنون. . .
للأستاذ دريني خشبة
كان الصبح يتنفس عليلاً في الأفق الشرقي، وكان الفيزوف ينفث دخانه سحاباً طويلاً داكناً فوق نابولي والقرى المجاورة، وكان البحر النائم ملقياً رأسه الجبار على أَوَاذيّ سورّنتو، حيث انتشر الصيادون فوق الشاطئ وفي الماء وفوق الزوارق يعملون ويدأبون، لا فرق بين شيبهم وشبابهم، وكانت النساء يرفرفن فوق الأسطح القريبة كالأعلام المُنَشرة يؤدين أعمال الصباح. . . وكان الكل مبتهجاً سعيداً ولا سيما الفتى البحار أنطونيو الذي وقف في زورقه يملأ ناظريه من جمال الطبيعة المتبرجة فوق الشاطئ الإيطالي الفتان
لقد كان أنطونيو سعيداً هذا الصباح، لأن كثيرين من أهل سورّنتو يذهبون في مثل ذلك اليوم من كل أسبوع إلى قرية كابري ليبيعوا في سوقها ويشتروا. . . ولم يكن سعيداً لكثرة زبائنه فقط، بل كان سعيداً لشيء آخر. . . شيء عزيز. . . شيء هو حلم القلوب، وغذاء النفوس، ومسبح الخيال، ومستراد الحلم. .
وأقبل قسُّ من سورّنتو، فجعل يدلف حتى وقف على السّيف أمام أنطونيو. . . ثم قفز فكان في الزورق، والفتى مع ذاك في شغل عنه. . . وعن الدنيا جميعاً
- أنطونيو يا بني!! ماذا يمنعك أن تبحر قبل أن تشتد الشمس؟
- لا شيء أيها الأب. . . سنبحر حالاً!
ولكن أنطونيو كان لا يني يبحث في الشاطئ بعينيه، يرسلهما وراء أيكة. . . وكان القس القلق يرى في نظراته الحائرة طيف حبيب تائه. . . في عالم مجهول. . .!! فيعذره!!
ثم بدت فتاة جعلت تخطر بين دَوْح السنديان وتُلوح بمنديلها فوق الشاطئ، فهفا قلب أنطونيو، وطفح وجهه بالبشر المفاجئ وارتجفت يده، وشاع فيه مرح عجيب، فسأله القس!
- وبعد يا أنطونيو؟! ألا تبحر بنا يا بني؟
- سنبحر. . . سنبحر أيها الأب. . .(244/51)
وكانت الفتاة تتواثب فوق النؤى خفيفة رشيقة، فلما اقتربت هبّ الملاحون الخبثاء يغمزون ويلمزون، وإن فرض عليهم وجود القس احتشاماً كان يغيظهم ويحنقهم. . . ثم ركبت في فلك أنطونيو، ووقفت قريباً من القس الذي حياها قائلاً:
- لوريّللا!! عِمي صباحاً يا صغيرتي! أتصحبيننا إلى كابري؟
- أجل يا أبانا
- أحسب أن ليس معك نقود من أنطونيو؟! أَوْه! إن أنطونيو شاب طيب. . . وهو بلا ريب لا ينظر من أمثالك أجراً. . . بل بالعكس، لقد فرش لك قميصه، ولم يفعل ذلك من أجلي. . . ولكن أين عشرة قسيسين مثلي، في فتاة ريانة مثلك، في نظر هؤلاء الشباب!! وماذا تحملين إلى كابري يا لوريللا؟) وقبل أن تجيبه الفتاة مدت يدها إلى قميص أنطونيو فنحّته، ثم جلست وقالت تجيب الأب:
- ثوب، وحرير، ورغيف أيها الأب. . . الثوب لامرأة تصنع الأشرطة في أنا كابري! والحرير لامرأة أخرى. . . والرغيف لي. . . أتبلغ به. . .
- والحرير من غزلك أنت؟
- أجل أيها السيد
- أذكر أنك كنت تصنعين الأشرطة بيديك؟ أليس كذلك؟
- بلى أيها الأب، ولكن أمي قد تقدمت بها السن، ثم هي مريضة، بل شبه مقعدة، ونحن فقراء. . . فمن لنا بنول نشتريه وليس معنا من ثمنه شيء؟
- أمك؟! وا أسفاه! لقد أذكر أنني رأيتها في عيد الفصح الماضي!
- أجل. . . ولكنها مريضة اليوم. . . وهي تقاسي من زوابع الربيع ما لا تقاسيه في فصل غيره. . . أضف إلى ذلك زلازل الفيزوف ورجفاته. . .
- صلي من أجلها يا فتاتي، واضرعي إلى العذراء أن تكلأها. . . ولكن. . . خبريني يا لوريللا. . . لقد سمعت الملاحين الخبثاء يلمزونك وأنت مقبلة، فيقولون لك (هلمي أيتها العربية. . .) وهو نداء لا يليق بمسيحيه تقية مثلك، فما سبب هذا؟
- إنهم طالما يدعونني كذلك، مستهزئين بي، لأنني لا أشركهم في رقصهم وغنائهم وسائر عربداتهم. . . وهذا بالرغم من مسالمتي لهم دائماً. . .(244/52)
وأغضت الفتاة، وجعلت تبحث في خضرة المياه بعينيها المحزونتين، كأنما راعها ما عرف القس من أمرها وأمر هؤلاء الملاحين. . .
وساد الصمت، وكان أنطونيو قد دفع الفلك في البحر فاحتواها الماء، وصارت سورّنتو تبتعد وتبتعد، وتسطع منازلها البيضاء في خضرة حدائق البرتقال، وفوهة الفيزوف تقذف بمثل ما في صدور لوريللا من حميم. . . ثم سألها القس:
- ألم تعودي تعلمين من أمر المصور شيئاً يا لوريللا؟ لقد سمعت أنه ذهب إليك مرة ليعمل لك صورة، وأنك رفضت فِلمَه؟
- ولم يريد أن يصورني أنا من دون بنات سورنتو؟ إن منهن من هي أروع مني جمالاً وأكثر فتنة! فلم يصورني أنا؟ لقد ذكرت أمي أنه ربما تصباني بها، أو أتلف بها روحي، ومن يدري فربما أضمر بها قتلي؟ من يدري؟!
- يا صغيرتي لا تصدقي هذه الخزعبلات! ألا تؤمنين بالله؟ ألا تثقين أنك دائماً في حفظه؟ وأن شعرة واحدة منك لن يصيبها أذى إلا بإذنه؟ فماذا يصنع واحد من بني الموتى بصورة في يده إن أراد بك سوءاً؟. . . على أنني أعرف أنه كان مغرماً بك، مشغوفاً بجمالك. . . وأنه لذلك أراد الزواج منك، لكنك أبيت! ولست أدري لماذا. . . إن الناس كلهم يمدحونه ويطرون أخلاقه. . . ولقد كان في وسعه أن ينتشلكم مما تقاسون من ضيق وشظف، ويريحكم من عناء ما تنسجون من أجل الحياة. . .
- تاالله يا أبانا لقد كان فقرنا سبب إحجامنا. . . إذ كيف يطيق ما نحن فيه من عوز، وما تقاسي أمي من مرض؟ لقد كنا نصبر كلاًّ عليه. . . هذا. . . وأنا؟! كيف أعيش في كنفه ذليلة بفقري وبيئتي؟ هل أنا سينوره؟! ماذا يقول لرفاقه حين يغشون داره؟ إنه يهرب مني حينذاك. . . أو. . . يذوب حياء
- كيف تقولين هذا يا لوريللا؟! إن الرجل الذي يحب لا يبالي ما تقولين. . . على أنه كان يستطيع أن يهاجر إلى بلد بعيد فيعيش في جنة بفنه، ويسعد بك إلى الأبد. . . أوه!. . . لقد كان رسولا من السماء بعثته لإنقاذكم فطردتموه!
- لا علينا من ذلك أيها الأب! إنني من جهتي. . . لا أرغب في الزواج مطلقاً. . .
- تعنين أنك نذرت أن تكوني راهبة؟(244/53)
-. . .؟. . .
- عنيدة ما أحسبك تزيدين أمك إلا مرضاً يا لوريللا؟ بأي حق ترفضين هذه اليد الكريمة التي بسطتها لك السماء لتخلصك ولتنقذ حياة والدتك؟
- آه! إن لدي سبباً. . . بيد أنني لا أبتغي أن أبوح به لأحد!
- حتى ولا لي؟! ولا لي أنا. . . موضع اعتراف العذارى جميعاً؟! أنا يا لوريللا الذي طالما كنت صديقك ومفزّع الأحزان عن فؤادك؟
-. . .؟. . .
- لا، لا يا صغيرتي! إنك لا تعرفين من هذه الحياة إلا قليلاً، فأزيحي عن فؤادك ما ينوء به. . . ثم إني أعدك أن أكون أول مؤيد لك إن كنت على حق. . .
وقبل أن تجيبه لوريللا، أرسلت عينيها ناحية الملاح الشاب الذي كان موزع الفكر بين الحبيبة وبين الشراع وبين البحر. . . والذي كان يحجب عينيه بطرف من وفاء رأسه وهو مع ذاك مصغ لحديث القس
ثم تكلمت لوريللا فذكرت للحبر الجليل ما يفزعها من الزواج، لأنها تحتفظ بذكريات مشجية مما كان يحدث بين أبويها من نضال وشقاق. . . (حتى لقد كان لا يتورع أبي من مد يده إلى أمي بالضرب المبرح الذي كان سبب ما تقاسيه اليوم من الأمراض. . . أبداً لا أنسى هذه الوحشية أيها الأب، تلك الوحشية التي أسميها وحشية الزواج، والتي من أجلها أوثر أن أظل عانساً إلى الأبد. . . ثم أنا لا أعرف قيمة هذه العلاقة التي تنشئونها بين رجل وامرأة، فيظل الرجل قويَّا وتظل المرأة ضعيفة، يقبلها إذا أراد، ويتجهم لها إن شاء، ويلعب بها كما تلعب الرياح بالريشة التي لا حول لها. . . أوه! أقسم لك أيها الأب، لو أنني كنت في مقام والدتي لعرفت كيف أذود وحشية زوجي وأدفع أذاه!! تالله لأسقينه ضعف ما كان يحاول أن يسقيني! مسكينة يا أمي! لقد كنت ضعيفة فلم تحاولي أن تدافعي عن نفسك، وسميت ضرب أبي إياك محبة، والسكوت عن هذا الضرب طاعة. . .)
ويحاول القس أن يخفف من نقمتها على حياة الزوجية، ولكن محاولاته تذهب مع الريح؛ ويذكر لها أن الأزواج ليسوا سواسية، وأنهم ليسوا جميعاً قساة القلوب غلاظ الأكباد كما تظن، وأن الشاب المصور الذي أحبها كان له قلب رءوف رحيم بحكم فنه وميوله الروحية(244/54)
العالية. . . ولكن لوريللا تدفع عظاته في ثورة جامحة ونقمة على الرجال لا تعرف التسليم
ويسمع أنطونيو هذا كله. . . فيقف من الفتاة على مثل فوهة فيزوف!
ومتع النهار، وألقت الفلك مراسيها عند كابري، ونزل أنطونيو في الماء ليحمل القس إلى الشاطئ، ثم عاد ليحمل لوريللا. . .
- لا. . . لن يحملني رجل ما حييت!
ثم حسرت عن ساقيها. . . الساقين الجميلتين المرمريتين. . . ونزلت إلى الماء السعيد! حاملة حزمتها. . . وتبعها أنطونيو. . . وفوق كتفه سلة من البرتقال سيبيعها في سوق كابري
ورجاها القس أن تذكره عند أمها، وأن تذكر لها أنه ربما زارها غداة غد. . . ثم أخذ طريقه إلى كابري. . . وأخذت طريقها إلى أنا كابري. . .
وكانت في نفسها أشياء. . . وكانت في نفس أنطونيو أشياء. . . فلما بعد القس التفتت فجأة لترى إلى أنطونيو في الفلك. . فما كان أشد حياءها حين رأته خلفها، وعيناه مسمرتان في عينيها!
وباع أنطونيو برتقاله. . . وعاد في ساعة إلى الفلك. . . وجلس فيه على أحر من الجمر ينتظر عودة لوريللا!
وما هي إلا ساعة أو نحوها حتى أقبلت الفتاة تتهادى كالقطاة وقد نهد ثدياها واهتزا، ولعبت فوقهما شياطين البحر الأبيض. . فلما رآها أنطونيو وثب في الفلك، ونشر الشراع، ورفع المرساة واستعد للإقلاع بصاحبته من فوره
وجلست لوريللا في طرف المركب، وولت ظهرها للملاح الشاب، بحيث لم يكن يستطيع أن يرى إلا صورة جانبية (بروفيل) من وجهها الجميل، مطبوعة في السماء الصافية مرة، وفي الماء الساكن مرة أخرى
لقد كان نصف فمها الجميل الخمري الأحمر، وخدها الأسيل الوردي، ووجنتها الناصعة ذات الزغب، وعنقها الطويل الشفشاف، لقد كان ذلك يثير في قلب أنطونيو صنوفاً من العذاب الخائف، والألم المذعور. . . لا عهد له بمثلها أبداً. . .
ولم يقلع أنطونيو. . . وأخرجت الفتاة رغيفها وأخذت تتغدى. . .(244/55)
وأخرج الملاح برتقالات فقدمها لها وقال: (لا تحسبي أنني ادخرتها لك. . . بل. . . لقد سقطت من غير قصد من السلة قبل أن ننزل إلى البر، فان شئت فكليها. . .
- بل كلها أنت. . . فالخبز القفار يكفيني!
- إنهن خير ما يؤكل في هذا الحر القائظ، لا سيما وقد مشيت كثيراً!
- لقد شربت في الطريق، وهذا حسبي!
- إذن. . . خذيها لوالدتك!
- عندنا برتقال كثير، وسنشتري غيره إن نفد!
- وماذا لو أخذت هذه البرتقالات، وقدمتها إليها مع تسليماتي؟!
- وكيف، وهي لا تعرفك؟
- خبريها عني!
- أخبرها عنك وأنا لا أعرفك؟
لقد كذبت لوريللا في هذه الدعوى. . . فلقد كانت تعرف أنطونيو، وكان أول هذه المعرفة في يوم كان يبثها حبيبها المصور هواه عند شاطئ البحر
ياله من يوم هائل ذلك اليوم! لقد لمح نفر من الملاحين الحبيبين الصغيرين يتناجيان فتغامزوا بهما، ثم أنشئوا يحذفونهما بحصوات. . . لكن أنطونيو الشجاع، لم يرضه ذلك المسلك المعيب الشائن من رفاقه، فانبرى لهم، ودفع عن الحبيبين أذاهم. . . فكيف مع ذاك لا تعرفه لوريللا!؟
ثم جلسا صامتين. . .
وبدا للملاح العاشق أن يبحر من فوره قبل أن يصل أحد فيتلف عليه تدبيره الذي خطر له في مثل البرق
وتعمد أنطونيو أن يدخل بالفلك في صميم البحر. . . ليكون بعيداً من الشاطئ ما استطاع. . . فلما حصل ثمة. . . أنزل الشراع فجأة، وترك الفلك تتقاذفها الأمواج. . . ثم توجه نحوها وهتف بها يقول:
- أنت لا تعرفيني؟ إذن يجب أن أضع حدَّا لعبثك بي! وينبغي أن أطلقك على ما أترع به قلبي بسببك. . . إنني لا أطيق أن أصبر على طول صدك يا لوريللا. . .!(244/56)
- ماذا تعني؟ أي صد وأي عبث؟ أتعني أنك تحبني؟ إذن فاعلم أنني لن أحبك، ولن اقبل أن أتخذك بعلاً؛ لا أنت ولا أحد غيرك، أسمعت؟
- كلام ترسلينه في الهواء! غرور وخيلاء! أليس لك قلب؟ لم جئت إلى هذه الدنيا إذن؟ إنك أنثى، أليس كذلك؟ فلم خلقت أنثى؟ إنك لا بد متزوجة يوماً ما. . . ولو برغمك!
- من يدري؟ هل اطلعت الغيب؟ ثم ما أنت وهذا؟
- ما أنا وهذا؟ ألم تدركي بعد؟ إني أخشى أن تكوني من نصيب غيري! إن هذا يخرج بي عن صوابي! إنه يصيبني بالجنون
- وإذا أصبت بالجنون، فما أنا وذاك؟ هل وعدتك بشيء فأنت تجن إذا أخلفتك موعدي؟ أي حق لك عليّ؟!
- أي حق؟ حق عظيم يا لوريللا. . . حق ليس صكا على ورق، بل هو هنا. . . في صفحة قلبي. . . حق يجعلك لي من دون العالمين. . . لن أطيق أن أراك ذاهبة إلى قداس مع سواي؟! الموت دون ذاك. . .!
- أنت حر تقول ما تريد. . . ولن تخيفني تهديداتك. . . ثم أنا حرة كذلك. . .
- وينبغي ألا تتمادى في هذا الغي. . . إني لن أسمح لفتاة شموس عنيدة مثلك أن تعذبني هذا العذاب الطويل. . . هذا غير محتمل. . . أنت هنا في قبضتي. . . ويجب أن تنفذي مشيئتي!!
- إذا استطعت أن تفعل شيئاً فدونك!. . . أتريد أن تقتلني. . . إن. . . خالفتك؟
- أنا لا أحب أن أصنع شيئاً فآتي على نصفه، واترك النصف الآخر. . . إن هذا البحر الزاخر اللجي يسعنا جميعاً، ولن يضيق بي وبك. . . يجب أن نقر في أعماقه معاً. . . أنا. . . وأنت
ثم انقبض عليها وأمسك بذراعها، وحاول أن يحملها ليهبط معها إلى البحر. . . بيد أنه صرخ فجأة. . . لأن لوريللا كانت في هذه اللحظة كاللبؤة المغضبة. . . فقد فتحت فمها الجميل الفاتن ثم أهوت على يمين أنطونيو، فقضمت أنامله، وانبجس الدم الحار الثائر متفجراً كأنه يتدفق من ينبوع. . .
- ها. . . أرأيت؟ ها قد امتثلت لأوامرك كما ادعيت. . . والآن. . . ربما ما تزال تحسب(244/57)
أنني في قبضتك. . . أنظر!!
ثم قفزت في البحر الهائج الجياش. . . وغاصت في الماء. . .
وصرخ أنطونيو. . . وأرسل عينيه المفزوعتين تبحثان في اللج، وتضربان في ثنايا الموج. . . لكنه لم ير شيئاً. . . ولما التفت إلى الخلف، وجد الفتاة تسبح نحو الشاطئ، وهي تكافح العباب المتلاطم، وتركب بجسمها الأهيف الجميل فوق أعراف الموج المضطرب
- لوريللا. . . لوريللا. . . قفي. . . عودي إلى الفلك. . . إن المسافة طويلة. . . نحن من الشاطئ على ثلاثة فراسخ يا أختاه. . .
لكن الفتاة أصمت أذنيها. . . وانطلقت تسبح. . .
وفي سرعة البرق، نشر أنطونيو شراعه، ولوى عنان الزورق الكبير، وذهب في إثرها. . . وجعل يرجوها ويتوسل إليها. . . لكنها مضت في سبيلها في البحر سَرَبا. . .
- لوريللا. . . وماذا تصنعين إذا بلغت الشاطئ؟ إننا على مسيرة ساعات من سرونتو. . . عشرون ميلا يا أختاه!!
ولم تعره لوريللا التفاتاً. . . بل ذهبت تذرع البحر في غير مبالاة. . . فلما كانت على سَبحة أو سبحتين من الشاطئ، لوت رأسها نحو الفلك، وقالت لأنطونيو مستهزئة: (أما وقد وصلت فسأركب. . . وحسبي أن أريتك أنني لست في قبضتك!!) وتعلقت في حبال السفينة، ووثبت كالغزالة، وراحت تعصر الماء من ملابسها، فانهمر من تضاعيفها غزيراً ثجاجاً
ونظرت إلى يديه، فوجدت الدم ما يزال يتدفق من يده، فنزعت منديل رأسها، وألقته إليه قائلة: (خذ. . . أربط بهذا جرحك) لكن أنطونيو لم يفعل، بل ظل يرنو إليها بعينين جائعتين ظامئتين معجبتين. . . فتقدمت هي، وربطت يده، ثم جلست بجانبه، وتناولت أحد المجذافين، وراحت تعمل به في الماء، لأن الريح كان قد تغير هبوباً. . . وحدجته لوريللا وقالت له: (وسترى أيضاً أنني أعرف منك بصناعتك. . . هلم فاعمل كما أعمل إن استطعت. . .
وكانت أم الملاح الشاب تنتظره عند المرفأ، فلما رأت ما به سألته ماذا أصابه. . لكنه(244/58)
تضاحك، وقال إن مسماراً خدشه. .
ونزلت لوريللا. . . وهتفت بالملاح أنها ستعوده، وستأتيه بحشائش وأعشاب لها نفع عظيم في مثل جرحه
ولم ينم أنطونيو برغم ضعفه الشديد وإعيائه المضني، ولم يخف ألمه برغم الماء الساخن الذي أعدته له أمه، والذي نضحه على الجرح مراراً. . بل ظل الدم يتدفق. . وظل الفتى يتقلب. . وظل مع ذاك يفكر في لوريللا
وكان ينظر إلى منديلها كأنه قُنية غالية، أو نفحة من السماء أو تذكار عزيز لهذه المعركة التي انهزم فيها في عرض البحر. . . وفي. . . معمعان الحب!
وفي الوقت الذي قطع أنطونيو فيه كل أمل من لقاء لوريللا. . . وفي هدأة الغسق الساكن. . . دخلت لوريللا الجميلة الهيفاء. . . لوريللا. . . الحلم الجميل الساحر. . . تحمل الأعشاب التي وعدت أن تأتي بها لمعالجة الجرح، فقال لها أنطونيو:
- آه. . . منديلك، لقد أتيت تفتقدين منديلك
لكنها لم تجب. . . بل بحثت عن وعاء، وتناولت يد أنطونيو ففكت الرباط عن الجرح، وكان قد تورم قليلا، فغسلته بماء عصرت فيه من أعشابها، ثم وضعت من الأعشاب عليه ما لا يؤذيه، وربطت اليد المحمومة الساخنة برباط نظيف تبلى أحضرته معها. . . فما هي إلا لحظة حتى زال ألم أنطونيو. . . فافتر باسماً وهو يقول:
- أشكرك يا لوريللا. . . وإذا كان لي أن أطلب شيئاً، فهو أن تغفري لي!
- بل أنا الذي أطلب الصفح يا أنطونيو. . . ففي الحق. . . لقد غاليت معك في هذه الوسائل العنيفة. . . والآن. . . ما بال هذه العضّة؟!
- لقد صنعت ما صنعت دفاعاً عن نفسك. . . وأنا ما أزال أشكرك!
- وشيء آخر يا أنطونيو! ألا تدري أنك قد فقدت (جاكتتك) في البحر وفيها نقودك. . . أجور المسافرين. . . وثمن. . . البرتقال!
- هذا لا يهم يا لوريللا!
- بل. . . لقد كنت أوثر أن أعوضك عنها لو استطعت. . . على أنني لا أملك إلا هذا الصليب الفضي. . . خذه. . . لقد تركه لي المصور يوم أن جاء يخطبني(244/59)
- وما أنا وهدية من خطيبك؟ إنني لن أمسه أبداً
- لا تحسب أنني أقدمه هدية بدوري. . . لا. . . بل خذه فإنه ينفعك!
- بل خذيه وانصرفي مشكورة
وأخذت المنديل والصليب، ثم وضعتهما في السلة الصغيرة التي حملت فيها الأعشاب. . . وحينما أن تنهض من جانب أنطونيو. . . نظرت إليه. . . وإذا عبرات حرار تتحدر فوق خديها فجأة. . . وينظر إليها الملاح النائم. . . فينهض كالظليم. . . ويأخذها في ذراعيه. . . ويطبع على فمها الصغير المرتجف قبلة. . . ليس مثلها قط قبلة. . . ثم ينحط في فراشه فيبكي. . . ويستخرط في البكاء. . .
- لوريللا. . . أليس الأفضل أن نتزوج؟!
- وهل في الدنيا أفضل من ذلك يا أنطونيو. . .؟
دريني خشبة(244/60)
البريد الأدبي
وفاة دانونزيو شاعر إيطاليا العظيم
نعى البرق في 2 مارس الجاري شاعر إيطاليا العظيم جبرييل ' 75 سنة مليئة حافلة، وبعد حياة مشكورة موفورة. . . وقد ولد الشاعر سنة 1863، وظهر أول دواوينه سنة 1880، أي في سنة السابعة عشرة، ثم والي نشر أشعاره بعد ذلك فدل على حيوية دائبة ونبوغ عظيم. وقد كان دانونزيو مولعاً بمواطنه الكبير كاردوتشي الذي يطلق عليه الإيطاليون (أبا الشعر) وأبا الأدب الإيطالي الحديث، ولذا فقارئ دانونزيو يحس تأثره في كثير من الأحيان بكاردوتشي ولا سيما في قصيدته الطويلة (أنشودة للشيطان) التي ثار فيها على المسيحية وعزا إليها انحطاط إيطاليا وتأخرها بعد أن كانت سيدة العالم في ومن الرومان. . . على أن دانونزيو مزيج عجيب من الإغريق واللاتين والفرنسيين والإنجليز، وقد ترك فيه كل من هؤلاء أثراً كبيراً كان يطفو بأدبه على عباب آدابهم الزاخرة، ومع ذاك فقد كانت له شخصيته القوية المستقلة. . . وكثير من نقاد الآداب يخالفون الإيطاليين في نسبة نهضة الدب والشعر في إيطاليا إلى كاردوتشي، فينسبونها إلى دانونزيو. . . وهذا حق. . . فقد أدخل دانونزيو على الشعر الإيطالي كثيراً من صنوف التجديد استعارها له من الشعرين الإنجليزي والفرنسي، واستطاع أن يلفت إليها مواطنيه، بل أن يفتنهم بها. . . وكان يتوسل إلى ذلك بالأغاني، حتى إذا استساغوها أنشأ ينظم لهم الأقاصيص الغنائية فاقبلوا عليها إقبالاً شديداً
والميزة التي يتفرد بها دانونزيو على جميع شعراء العصر الحاضر هي قدرته القوية على الوصف. وفي قصة (الرسالة) التي نشرت في الأسبوع الماضي دليل على ذلك وإن تكن أقصوصة صغيرة. ودانونزيو يصف الوصف البارع ثم يضفي على وصفه أزهى ألوان الطبيعة، وهو هنا مصور دقيق يربط اللون بالضوء ربطاً عجيباً. . . وقد يشغله ذلك عن القصة نفسها، ولذلك يضيق به بعض قرائه في حين يفتتن به بعضهم افتتاناً يخرج بهم إلى حد الغرام. . . وأستاذ دانونزيو في تلوين أشعاره على هذا النحو هو الشاعر الإنجليزي كيتس
وقد كان دانونزيو مولعاً بالأسلوب الجزل والعبارة الفخمة، وكانت له قدرة مدهشة على(244/61)
استعمال الغريب استعمالاً يجعله أرقّ في فؤاد القارئ من الموسيقى. . . وذلك ملحوظ في شعره ونثره على السواء
وكما كان دانونزيو إمام شعراء إيطاليا فكذلك كان إمام كتابها. . . وستعيش قصصه، وتخلد، لأنها قصص من النمط العالي الرفيع. . . وإذا كان هناك ما يؤسف له في هذه القصص، فذاك. . . هو هذا الإفحاش البالغ، والأدب المكشوف الذي كان دانونزيو مولعاً بهما في شبابه، مما جعله زعيم المنحطين في الأدب الإيطالي الحديث. . . ولعله قد تأثر بالمنحطين في الأدب الإنجليزي وعلى رأسهم أوسكارويلد وجويس ولورنس
وأحسن قصصه هي على التوالي (طفل السرور والفريسة - وانتصار الموت - وعذارى الصخور - ولهب الحياة
ومن أروع دراماته فرنشسكا درايميني وجيوكندا. هذا وسنعرض لبعض آثاره في أعداد تالية
وقبل أن نختم هذه النبذة يجب أن نشير إلى سخط الأدباء في العالم أجمع أثناء الحرب الحبشية حين أرسل الشاعر تحيته إلى الجنود الإيطاليين الذين ذهبوا إلى الحبشة لتقتيل أبنائها. . . والشاعر معذور بطبعه في موقفه إزاء هذه الحرب، فلقد كان جندياً وكان طياراً وقد اشترك في حرب فيومي المعروفة
المجمع اللغوي في دورته الأخيرة
اختتم المجمع الملكي للغة العربية دورة اجتماعه الخامسة في الشهر الماضي بعد أن عقد خمساً وثلاثين جلسة نظر في أثنائها في كثير من المصطلحات في علوم الأحياء والرياضة والطبيعة، فأقر منها قرابة خمسمائة مصطلح، ثم نظر فيما قدم إليه من قوائم الأعلام الجغرافية التي أخرجها حضرات الأعضاء على القواعد التي وضعها المجمع في كتابة الأعلام الأجنبية بحروف غربية فأعاد النظر فيما سبق أن أقره
واستأنف البحث في قواعد جديدة وقرر إعادة القوائم إلى الأعضاء لمراجعتها وإصلاحها بحسب القواعد التي استحدثت
ثم نظر في قائمة وضعها الأستاذ الدكتور نلينو عضو المجمع وأحصى فيها ما عثر عليه من الأغلاط الشائعة في المصورات الجغرافية المستعملة في المدارس المصرية والشرقية(244/62)
فيما يتعلق بالبلاد الآسيوية الإسلامية والسودان وصحراء لوبيا. فناقش المجمع في هذه القائمة وراجعها على المصادر المعتمدة ثم قرر إرسالها إلى وزارة المعارف لكي تتلافى هذه الأغلاط
وكذلك بحث المجمع في موضوع إصلاح الكتابة العربية وابتكار طريقة للكتابة تغني عن الشكل وتضمن النطق الصحيح فتألفت لذلك لجنة طلب إليها أن تواصل البحث والمراجعة وتعد نتائجها للدورة المقبلة
ومن قرارات المجمع في هذه الدورة الاتصال بأصحاب الآلات الكاتبة المشهورة والتفاهم معهم على وضع الرموز التي أقرها المجمع للأعلام الجغرافية بين حروفها، وطبع المصطلحات التي أقرها في العلوم والفنون والآداب في قوائم مستقلة على ترتيب معجمي تيسيراً لإذاعتها، والاتصال بالجهات الرسمية في الدول للحصول على القوائم الشاملة لأعلام البلاد كالجامعة العثمانية للحصول على أسماء بقاع الهند ومصلحة الصحراء للحصول على أسماء الأمكنة بين النيل والبحر الأحمر واتحاد البريد الدولي للحصول على دليل البريد الذي يصدره.
معاهد الأزهر واللغة الأجنبية
جاء في بريد الرسالة (242) وهي تتحدث عن اشتداد الرغبة في الأزهر ومعاهده والإقبال عليه - أنه (لوعني الزهر بتقرير دراسة لغة أو لغتين أجنبيتين في معهد أو معهدين من معاهده لسبق المدارس المدنية بألف شوط في مضمار الحياة)
وهذه مسألة ظاهرة الفائدة، وقضية واضحة اللزوم، وليس من حاجة إلى تجربتها في معهد أو معهدين من معاهد الأزهر، بل الواجب تعميمها في كافة المعاهد على أنها قد جربت في (كلية بيروت الشرعية) التي أقدم على إنشائها برغم الصعوبات والمعارضات وقلة الواردات سماحة مفتي لبنان الأستاذ الشيخ توفيق خالد، فكانت فائدتها جليلة جداً، إذ أصبح طلابها يستطيعون إذا شاءوا دخول فحوص البكالوريا العامة، كما أنهم يستطيعون أن يدخلوا في إحدى كليات الأزهر العالية، ثم إن كليتنا تدرس مقرر الأزهر الثانوي كاملا وتزيد عليه اللغة والآداب الفرنسية، وهي كما قال سعادة العشماوي بك وكيل وزارة المعارف المصرية في زيارته الأخيرة إياها في هذا الأسبوع: (ليست إلا معهداً من معاهد(244/63)
الأزهر) ويرى المدرسون في الأزهر الشريف خريجي هذه الكلية في العام المقبل إذا شاء الله
هذا هو الطريق الوسط الذي لا طريق غيره. فيا ليت هذا الطريق يكثر سالكوه، فينشأ أمثال هذه الكلية في الشام والعراق. ويا ليت المدارس المدنية تفي (أيضاً) بتدريس القرآن والعلوم الإسلامية. إن لم يكن ذاك لأنها دين لا بد منه فليكن تدريسها لأنها مواد علمية قيمة، وثقافة لا بد منها لكل رجل مهذب، وعالم متخصص
علي الطنطاوي
بين سابور وفالريان
جاء في مقال الأستاذ محمد عبد الله عنان (بين تيمورلنك وبايزيد) المنشور في العدد الأخير من الرسالة أن تيمورلنك وضع بايزيد بعد أسره في قفص من حديد كما فعل قيصر الروم مع سابور ملك الفرس
وهذا على النقيض مما وقع تماماً، غذ أن سابور الأول هو الذي أسر قيصر الروم الذي ظل في أسره إلى أن مات وذلك أن سابور بعد فترة هدوء بينه وبين الروم مدة أربعة عشر عاماً تقريباً - كان في خلالها منهمكاً في حروب مع أعدائه الطورانيين المتاخمين لحدوده الشرقية - رأى أن الفرصة مناسبة، بسبب اضطراب الحالة الداخلية في الإمبراطورية الرومانية، لاقتطاع بعض أجزائها المتاخمة لحدوده الغربية وضمها إلى رقعة ملكه الواسعة. فسار على رأس جيش كبير يرفرف عليه علم فارس المرصع وبدأ بمهاجمة المدينتين الحصينتين إدسا ونصيبين اللتين لم تلبثا أن وقعتا في قبضة يده
وكان قيصر الروم إذ ذاك هو الإمبراطور فالريان فهرع لملاقاة عدوه ومحاولة صد تياره الجارف ولكن بمناورة حربية بارعة تمكن سابور من وضع الإمبراطور في موضع لم يجد معه بداً من الاستسلام بجيشه بأسره لسابور الظافر
وبعد الانتهاء من فتوحاته التي اقترنت بالنار والدم عاد سابور إلى عاصمة ملكه حاملا معه أسيره الإمبراطوري الذي ظل في أسره إلى أن مات
ولا يعلم بالضبط مدى صحة الإشاعة التي تقول إن سابور كان يضع أسيره في قفص من(244/64)
حديد ولا يبعد أن يكون قد فعل ذلك زيادة في النكاية بالروم وإمعاناً في إهانتهم وإذلالهم، غير أن بعض المؤرخين يستبعد ذلك ويرجح أن سابور كان يعامل فالريان معاملة حسنة بل وكان يوليه شيئاً من الإكرام
أما بعد وفاة فالريان فالمحقق أن سابور أمر بنزع جلده وحفظه تخليداً لنصره الباهر على الروم ولإضافته إلى مفاخر فارس الحربية
وقد سجل سابور أيضاً هذا الحادث الفريد بنحته نحتاً بارزاً ضخماً على الصخر بالقرب من السابورية وهي المدينة التي أنشأها سابور وسماها باسمه، ففي هذا النحت نرى سابور ممتطياً صهوة جواده وقد ركع فالريان على الأرض أمامه ووقف خلف سابور عشرة فرسان يمثلون الجيش الفارسي الظافر، بينما اصطف خلف فالريان عدد من الجنود الرومانية يمثلون الجيش الروماني المأسور
هذه ملاحظة عنت لي لدى قراءة مقال الأستاذ عنان الشائق رأيت أن أسجلها خدمة - كالمعتاد - للحق والتاريخ
قارئ
النشاط المدرسي في المدارس المصرية
اقترح علماء التربية عطلة بعد الظهر في منتصف الأسبوع لإراحة المدرس والتلميذ على السواء ولتكون فترة استجمام وتجديد قوى الذهن لبقية أيام الأسبوع. . . وكان جميلاً جداً أن يطبق هذا النظام في مصر، فعطلت الدراسة بعد ظهر يوم الاثنين من كل أسبوع، وقد تحقق أثر هذه العطلة القصيرة، وبدا النشاط الذهني في المدارس عامة نتيجة له. . . ولكن سرعان ما انعكست الآية وضاعت الفائدة من هذه العطلة بتكليف الجماعات المدرسية بالحضور بعد ظهر يوم الاثنين إلى مدارسهم لتسخيرهم في ألوان من الأذى والإرهاق، يسمونها ألوان النشاط المدرسي. . . وهو نشاط أشبه بالركود، بل الموت! فهذه جماعة تعمل أشغالا من الأركت بعد الغداء بساعة أو ساعتين، وتلك أخرى تنشد أناشيد ميتة لا روح فيها، وثالثة اجتمعت للتفرج بكتب لا غناء فيها، ورابعة، وخامسة، والكل يشكو في سره إلى الله من هذا التكليف السخيف الذي أطار من خيرة التلاميذ عطلة بعد ظهر الاثنين(244/65)
التي أصبح التلميذ الغبي وحده هو الذي ينتفع بها. ولا ندري لم لا يخصص وقت للنشاط المدرسي في صلب جدول توزيع الحصص ليشترك فيه جميع التلاميذ، وليكون أجدى مما هو في شكله المرهق وأسلوبه السقيم؟
(معلم)
أول نشرة جوية في التاريخ
منذ مائة سنة (19 يناير سنة 1837) أصدر شاب إيرلندي يدعى بَتْرِك مارفي أول نشرة جوية عرفها التاريخ لسنة كاملة تنبأ فيها عن الحالة الجوية لأيام السنة يوماً فيوماً من حيث الحرارة والبرودة والمطر والزوابع. والعجيب في أمر هذا الشاب أنه لم يكن من علماء هذه الأبحاث المناخية، لكنه مع ذاك تنبأ في نشرته أن الحرارة ستنخفض إلى أدناها في يناير من ذاك العام، وحذر الناس بالفعل من العواقب الوخيمة التي ستنجم عن هذا الانقلاب المناخي المفاجئ. . . لكن الناس وفي مقدمتهم العلماء سخروا منه واستهزءوا به، فلما كان الأجل المضروب صدقت نبوءة مارفي إلى حد بعيد، فاشتد البرد وانخفضت درجة الحرارة في جهات شتى إلى 14 تحت الصفر (46 درجة تجميدية!) وبدأ الناس يموتون بالمئات في الشوارع والحقول، وأخذت القطط والكلاب تفنى بالآلاف كل يوم، وانفجرت مواسير المياه وأنابيب الغاز في أكثر المدن وتلفت المحصولات، ونفقت البهائم وعمت المصائب والويلات، وعجزت الحكومة عن مقاومة الكارثة وتخفيف آثارها. . . ولما خفت وطأة البرد اهرع الناس إلى (دكان) بترك مارفي ليشتروا نشرته، وأقبلوا من كل صوب يتلقفونها بثمنها (شلن ونصف) واشتد زحامهم حتى استدعى ذلك تدخل البوليس. . . وقد يعجب القارئ إذا عرف أن كل مطابع المدينة كانت تعمل ليل نهار في طبع الأعداد المطلوبة والتي انتشرت في أنحاء بريطانيا خاصة وأوربا عامة. . . ولم تمض سنوات حتى اصبح مارفي من أغنياء العالم وعلمائه على السواء
استراليا بعد 150 سنة من الاستعمار البريطاني
في 26 يناير الماضي أتم الاستعمار البريطاني لقارة استراليا سنته الخمسين بعد المائة، إذ يرجع تاريخ هذا الاستعمار العتيد إلى 26 يناير سنة 1788، حينما اقلع الفيس أميرال(244/66)
آرثر فيليب بجانب عظيم من الأسطول البريطاني لإنشاء ويلز الجديدة الجنوبية أولى المستعمرات الإنجليزية في هذه القارة الغنية الواسعة. هذا ويرجع الفضل في استكشافات استراليا إلى الكابتن كوك قبل هذا الاستعمار بسبعة عشر عاماً (1770). والشعب الأسترالي الذي هب هذا العام يحتفل بتلك الذكرى العظيمة هو شعب راق متمدين، لا يقل حضارة عن إنجلترا نفسها، وقد أنشأ مدناً جميلة آهلة بالسكان على الشاطئ الشرقي والجنوبي الشرقي من القارة لا تقل بهاءً عن أجمل المدن الأوربية. وهذا الشعب مولع (باليُوجَنّية) أي علم استحداث الأحياء الراقية من الأحياء الوضيعة. وقد أفلح في إيجاد الخيول الأسترالية القوية والخنازير السمينة والأغنام التي تمد العالم بنصف محصوله من الصوف النظيف الناصع، والأرانب التي تغمر فراؤها أسواق لندن وباريس. وقد نجحوا نجاحاً عجيباً في الانتخاب النباتي، فهذا قمحهم الجيد يغمر الأسواق وهذه فاكهتهم تباع في مصر بأرخص مما تباع فاكهة ممالك البحر الأبيض
والأستراليون أذكياء جداً، ولعل السبب في ذلك هو أن 90 % منهم أحفاد المجرمين وذوي السوابق من البريطانيين الذين نفوا من إنجلترا لاستعمار استراليا
الجريدة أم المجلة
مما تشكر عليه الجرائد المصرية إفرادها إحدى صحائفها للفنون والعلوم والآداب، وهذا خير ولا تثريب على جرائدنا فيه بيد أننا نلاحظ أن كثيرين من أدبائنا الجهابذة وعلمائنا الأجلاء يؤثرون الجرائد ببحثوث جليلة الفائدة في التاريخ والآداب والعلوم والفنون، قد لا ينتفع بها عامة القراء، وقد لا يلتفت إليها خاصتهم، وإذا راقت أحدهم وقراها فقد لا يستطيع الاحتفاظ بالصحيفة أكثر من يوم أو يومين، بله عاما أو عامين، ومن هنا تضيع قيمة البحث وتندثر فائدته، ولو قد نشر في مجلة من مجلات مصر المحترمة لوجد طائفة كبيرة من خاصة القراء تعرف له قيمته وتحتفظ به إلى ما شاء الله. وأمثال هذه البحوث كثيرة، وقد قرأنا منذ حين بحثاً جليلاً في تحقيق أسماء المدن الأسبانية وآخر في أصول الأدب المصري القديم، وثالثاً في تاريخ الكتابة الهيروغليفية. . الخ. . . فأين هي هذه البحوث اليوم؟!
(د. خ)(244/67)
الكُتُب
النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة
تأليف الأستاذ محمد عرفة
بقلم الأديب محمد فهمي عبد اللطيف
منذ أعوام نشبت معركة أدبية بين الجامعة والأزهر حول نسبة الشعر الجاهلي، وكانت شعواء صاخبة جرفت إلى ميدانها كثيراً من رجال الفكر وأعلام الأدب، واتخذت من صفحات الصحف وردهات الأندية ميداناً واسعاً شاملاً، وعج عجيجها فاتصلت بالسياسة وكان لها حديث تحت قبة البرلمان كاد أن يطيح بوزارة، واتصلت بالدين فكان اتهام أمام النيابة واحتكام إلى القضاء؛ ومع هذا كله فقد انتهت تلك المعركة وما تركت إلا النقع يخنق النفوس، والغبار يقذى العيون، وبقيت نسبة الشعر الجاهلي كما هي خاوية لا تقوم على تحقيق ثابت، واهية لا ترتكز على بحث علمي صحيح، معقدة لا يجليها رأي مبتدع، مظلمة لا ينيرها فكر ثاقب
واليوم تنشب المعركة ثانية بين الأزهر والجامعة حول النحو وقواعده والنحاة وجهودهم. فالأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ بكلية الآداب في كتابه (إحياء النحو) ينتقد النحويين في قصرهم مباحث النحو على الإعراب والبناء، دون أن يبحثوا خصائص الكلام من التقديم والتأخير، والنفي والاستفهام، والإثبات والتأكيد، ثم يرد على النحاة في زعمهم إن الإعراب أثر لفظي لا يؤدي معنى، ولا صلة له بتصوير المفهوم، وإثبات أن حركات الإعراب دوال على معان قصدت من الكلام، فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة علم الخفة، ثم هو ينتقد النحاة في زعمهم أن هذه الحركات اجتلبها العامل، وراح يثبت أن المتكلم هو الذي أحدثها، وخالفهم فذهب إلى أن التنوين علم التنكير، فلك في كل علم ألا تنونه
والأستاذ محمد عرفة الأستاذ بكلية اللغة العربية يرى في ذلك منكباً للقصد، وحيفاً على الحق، فوضع للرد عليه كتابه النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) وهو يعتقد أن الأستاذ مصطفى قد نحل النحاة مذاهب لم يقولوها ونقدها وأبان خطلها، كما أنه قعَّد القواعد في(244/69)
العربية لو أخذ الناس بها لغيرت من روح العربية ولأفضى ذلك إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله على غير وجههما، حتى لقد عمم في الطعن ولم يخصص، فأدخل سيبويه وكتابه! يقول الأستاذ عرفة: (ولقد تمثلت هؤلاء النحاة وهم في أجداثهم يهضمون هذا الهضم بعد أن ملئوا الدنيا علما، ويحاف عليهم هذا الحيف وقد خرست ألسنتهم الناطقة، وإذ قد آلو إلى ما آلو إليه، فقد صار حتما على أبنائهم أن يردوا عنهم هذه التهم كما هو الواجب الإنساني، وواجب الأساتذة على أبنائهم الذين هذبوا عقولهم، ثم واجب اللغة العربية وواجب العلم في نفسه، وأخيراً واجب التلاميذ على أساتذتهم)
و (الفكرة) في كتاب الأستاذ عرفة هي مجاوبة للفكرة في كتاب (إحياء النحو)، فهو يرى أن النحو العربي في حاجة إلى تبسيط قواعده وعرضه بطريقة تقربه من طبيعة المتكلمين وتكشف عن سر العربية، ولكن على نمط قويم لا على ذلك النمط الذي انتهجه صاحب (إحياء النحو) فحاد به عن السداد، ولو ثبت لكان خطراً على اللغة العربية، وعلى فهم كتاب الله وسنة رسوله
ولقد أعجبني الأستاذ عرفة في ثبات جنانه فما اشتط في الخصومة، ولا جمح به القلم، فإذا هو مع خصمه من أول الكتاب إلى آخره على ما تقضى به كرامة العلم والخلق الحميد، عف الأسلوب، مهذب العبارة، نزيه الغرض، صريح في الحق، لا يختال صاحبه ولا يموه على قارئه؛ إن قسا فبالحجة، وإن احتكم فإلى النصوص المدونة والنقول الثابتة، وإلى العلم والمنطق
تلك هي معركة اليوم بين الجامعتين، وذلك هو مداها: أستاذ يهاجم وأستاذ يدافع الرأي، والحجة بالحجة، و (الكتاب) (بالكتاب)، وما نريد أن يزيد مدى المعركة على هذا الحد، ولا أن يخرج عن هذا الاعتبار، ولا نحب أن تتجاوز الأستاذين إلى غيرهما حتى ينتهيا إلى آخر الشوط، ويصلا إلى نتيجة ترضى الحق والعلم
أما الآن فالكلمة نحب أن نسمعها من صاحب (إحياء النحو) فهو أولى الناس بالذود عن حوضه، وخير من ينافح عن فكرته، خصوصاً وأنه يريد أن يعمم هذه الفكرة في وزارة المعارف وأن يقحمها في مناهج التعليم؛ وقيل إنه قابل الوزير لذلك الغرض فشجعه الوزير ووعده الخير. فليتقدم الأستاذ مدافعاً عن نفسه أو مسلماً لخصمه؛ وعلى أي حال سواء(244/70)
أمكنه أن ينهض بفكرته وأن يرفع لواءها سليماً من الطعن، أو نكص بها مردوداً من قريعه ومنازله، فإنه مشكور له أجر المجتهد أخطأ أم أصاب، وحبذا الناضل والمنضول في سبيل الحقيقة العلمية خالصة لله منزهة عن الأغراض
محمد فهمي عبد اللطيف
رئيس التحرير وقصص أخرى
(مجموعة أقاصيص أصدرها الأديب صلاح الدين ذهني)
للأستاذ زكي طليمات
القصة المصرية تسير بل تركض. . .
فمذ أطلت برأسها علينا في (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي تخفي وجهها بخمار عربي من وشى أنامل تذكرنا بنسيجها الأول في (مقامات الحريري) و (بديع الزمان)، إلى أن أسفرت عن وجهها مصرية من غير نقاب في (زينب) لهيكل، إلى أن صلب عودها واستفاضت بشرتها بحمرة مياه النيل في قصص محمود تيمور، وقبل ذلك في أقاصيص شقيقه محمد، إلى ما لم تدخره حافظتي من أسماء قصاصين من أدباء مصر والشرق العربي أبوا إلا أن يغامروا بأقلامهم في معالجة هذا اللون الجديد من الأدب العربي. منذ ذلك الحين والقصة المصرية توالينا بنتاج لا ينقطع، وكأنها تأبى إلا أن تكون شغل الأدب والنقد في هذه الأيام
القصة المصرية صبية جامحة تياهة مزهوة فهي لا تعرف فضيلة التواضع، تتحدث بصوت جهير كلما ملكتها شهوة الكلام، ولا ندري فعل التفكير والمراجعة وأثر التحري والاستجمام في إتيان الوثبة الواسعة؛ وما هذا بالأمر المستغرب لأنه يرجع إلى طبيعة الشيء. وكأني بالأديب المصري اليوم، وقد استشعر ماهية شخصيته بتأثير النضال الاستقلالي وبعوامل النزاع القومي وبما يعمر رأسه من أصداء الأدب الغربي وفي مقدمتها القصة. كأني به أصبح لا يرتاح إلىالإفصاح عن خلجات نفسه والشكاية من هصره إلا عن طريق التدخل في أديم شخصيات يبتدعها خياله بعد أن ينتزع معينها من البيئة التي يعيش فيها، فيسجل ببراعة دقائق هذه الشخصيات في سرد قصصي يطريه الحوار وتغلفه(244/71)
أجواء تفيض بالصبغة المصرية المحلية، وتتمشى فيها أعراق من الإنسانية العامة. وأغلب الظن أن القصة المصرية أصبحت المجال الذي يعمل فيه الأديب المصري اليوم لاستخلاص (المصرية) ولاستكمال مقومات أدب حديث؛ وهي مظهر من مظاهر تحررنا من أساليب الأدب العربي القديم بعد أن غمرتنا أمواج ثقافة غربية جديدة، وطالعتنا أحداث الزمن بما جعلنا ننفر إلى الجهاد في سبيل حياة مستقلة
ومهما حاول النقد مخلصاً أن ينال من القصة المصرية بإخراج أكثر نتاجها من دائرة الفن الرفيع فلن يستلبها بهاء الشباب وروعة الفتوة. وإذا لم نجد فيها - وأعني أكثريتها - عمق التفكير وجزالة الطبع القوي وصدق التحليل النفسي الذي يحس به ولا يلمس، وطرافة المعالجة، فحسبنا أنفاس عطرة دافئة تهب علينا من بين سطورها، هي أنفاس مؤلفيها، وهو أدباء يحاولون أن يدخلوا لوناً جديداً على الأدب العربي وأن ينشئوا أدباً قوياً
أكتب هذا وأمامي مجموعة أصدرها الأديب الشاب (صلاح الدين ذهني) باسم (رئيس التحرير وقصص أخرى)، وهي مجموعة تقف بجدارة إلى جانب أحسن ما أخرجته أقلام القصاصين الحديثين من المصريين. ولعل أبين ما تمتاز به أنها جاءت في أسلوب يتسامى بجزالته عن مثيله فيما قرأت من قصص الناشئين من القصاصين
إلا أن الجزالة في اللفظ والفصاحة ليست كل شيء في الأسلوب، وهو من معاني القصة قوالبها وأداة معالجتها. والحكم على طرافة القصة ومنزلتها من الأدب الرفيع لا يكون العمدة فيه موضوعها، بل أسلوب معالجة هذا الموضوع. وما ترك الأول للآخر فكرة أو موضوعاً لم يعالجه أو يشر إليه؛ فقد يحدث أن يعالج الموضوع الواحد عدد كبير من الكتاب، ولكن التفوق والخلود لا يكتبان إلا لواحد منهم، وهو من يكون قد حذق معالجة هذا الموضوع وبرع فيه
والمعالجة الطريفة لموضوع القصة تكون في حبكتها الشيقة وإنزالها في القالب الذي تخرج منه منسقة الحوادث من غير عنت، متينة البناء في غير افتعال، متزنة محكمة الأسلوب، تومئ وتفصح، وتقطر وتفيض. وحظ القصص التي بين يدي مما ذكرت غير متجانس، فبعضها يأخذ سمت المعالجة الطريفة في خطو وئيد، والبعض الآخر يتعثر في نواحي من نواحيه، إلا أنها عثرات سرعان ما تقال. ويبدو هذا في القصة الأولى من المجموعة(244/72)
وعنوانها (حسنة)، في حين أن قصة (رئيس التحرير) تعد أنموذجاً لحذق كاتبها من حيث معالجة الموضوع وخصب البيان. وحسبنا من المؤلف أن يصيب مرة ويخطئ مرات، وهو في الحالتين لا يألو جهداً في أن ينزع نحو الكمال الفني المنشود
و (رئيس التحرير) قصة فكهة (كاريكاتورية) الأشخاص والأسلوب. وأبين ما تبين عنه هذه القصة نزعة ساخرة يفيض بها قلم كاتبها، وهي نزعة يخالطها الأسى وتمازجها الشكاية في قصة (مذكرات فنان) حيث نرى المؤلف متبرماً بمجتمعه متململاً بما شاع فيه من التطاول والإدعاء؛ ينقد عن ملاحظة دقيقة أوضاعه المقلوبة، مما يدل على أن (صلاح الدين) على حس مرهف وعين بصيرة بحقائق الأشياء وتفاريق الألوان في مجتمعه، فهو يرى ويشعر ويحيا ويتألم ويسخر ويصخب، وشأنه في هذا شأن صفوة الشباب المعذب في هذا الجيل، ولعل هذه القصة أحسن ما تكشف عن نفسية المؤلف
وللريف في هذه المجموعة من القصص شأن يذكر، وأحسن ما جاء في قصصه تلك الصبغة الريفية التي تطالع القارئ فيحس بريح القرية ملء أنفه وبهدوئها يشمل أعصابه
وللمؤلف جولات أخرى في موضوعات الحياة التي تتصل ببيئته، فهو تارة تراه متدخلاً في زوايا البيوت، وأخرى متغلغلاً في طوايا السرائر؛ وهو في معالجة هذه الموضوعات يركض ويتباطأ، ويهبط ويصعد، ويستقيم ويلتوي؛ ولكنه يريد دائماً أن يذهب بعيداً ليستقر في آفاق طريفة من التأمل والتفكير، وهو فيما يريد أن يذهب إليه يصيب مرة ويخيب أخرى، وهو في خيبته غير مهزوم
زكي طليمات(244/73)
المسرح والسينما
ساعة التنفيذ
إنتاج أستوديو وهبي
على ستار (كوزمو)
ممثلو وممثلات الفلم
أمينة رزق - لطيفة نظمي - زوزو نبيل - زينات صدقي - ليلى سلطان - لطفية أمين - يوسف وهبي - عبد القادر المسيري - عبد العزيز أحمد - حسين صدقي - عبد المجيد شكري - أبو العلا علي - لطفي الحكيم - توفيق صادق - محمد إبراهيم - محمود المليجي
ملخص الرواية
عاد رؤوف سامي (يوسف وهبي) من أوربا بعد أن أصبح طبيباً فوجد خطيبته سامية (أمينة رزق) زوجة لفؤاد بك راجي التاجر الثري مع أنه لا تزال تكن له الحب فتتوثق العلاقة من جديد بين رؤوف وسامية. . .
وقد نتج من هذه العلاقة طفل لرؤوف من سامية ولكنه شرعاً يعتبر ابناً لفؤاد بك. . . تعرف الدكتور رؤوف بفؤاد بك فأكرمه وأحله محل الأخ، فأخذ ضمير رؤوف يؤنبه، وأراد أن يقطع علاقته بسامية؛ غير أن الظروف جعلت فؤاد بك يعرف تلك العلاقة الأثيمة. وفاجأ ذات مرة زوجته بين يدي صديقه، فلم تتحمل الزوجة الصدمة وألقت بنفسها من النافذة تاركة الزوج والخليل والابن (إحسان)، وحين كانت تلفظ النفس الأخير باحت لزوجها بسر مولد إحسان، وطلبت إليه أن يحتفظ بالطفل الذي كان محبوباً من الجميع
توارى رؤوف غير أن توبيخ ضميره طارده وأفقده مركزه الأدبي والمادي، وقد أراد أن يكفر عن ذنوبه فاصطدم بحوادث عديدة صيرته بين كبار المجرمين، وقد جعل رؤوف حياته وقفاً على خدمة ولده الذي لا يعرفه، فكان يحميه عن بعد دون أن يعرف سر أبيه. . .(244/74)
وحدث أن أراد أحد الخدم أن يفشي سر مولد إحسان وقد تقدم للانتخابات لمجلس النواب خدمة لخصمه، فقتله رؤوف وقبض عليه وسيق إلى المحاكمة وإذا بالمحقق هو ولده إحسان وكيل النيابة. . . قدم رؤوف للمحاكمة وكان إحسان في ذلك الوقت قد اعتزل الوظيفة، وأصبح محامياً وعضواً بمجلس النواب. . . وفي جلسة محكمة الجنايات فوجئ رؤوف بابنه إحسان وقد دفعه دافع خفي للدفاع عن أبيه دون أن يعرف الحقيقة. . . وطلب منه أمام القضاة أن يعترف بأسباب الجريمة فهو يشعر أن المجرم قد اقترف القتل لسبب نبيل. . فما كان من الوالد إلا أن سخر بدفاعه ووقف يؤكد للمحكمة أنه مجرم وقاتل وعريق في الإجرام. . . وبينما كان حكم الإعدام ينفذ في الوالد. . كان الولد يهنأ بعروسه في شهر العسل
يوسف وهبي
ويقوم الأستاذ يوسف وهبي في هذا الفلم بأدوار ثلاثة، فهو المؤلف والمخرج وممثل البطل. . . وهو في ذلك يشبه الممثل الكبير شارلي شابلن الذي يؤلف ويخرج ويمثل أفلامه القوية الناجحة، ونحن نهنئ الأستاذ يوسف وهبي على هذا المجهود الكبير
ونؤجل نشر نقدنا الفني لهذا الفلم إلى الأسبوع المقبل
السيدة منيرة المهدية تعود إلى المسرح
وأخيراً عادت السيدة منيرة المهدية إلى الظهور بعد احتجابها الطويل في المسرحية الجديدة (الأوبريت) (الأميرة روشنارا الهندية) وهي من تأليف الكاتب المعروف الأستاذ بديع خيري وتلحين الأستاذ زكريا أحمد. وسنتناول في الأسبوع المقبل نقد هذا الفلم من جهاته الفنية
الأميرة كوكا
بطلة فلم (تاجر الملح)
ابتداء من اليوم تقدم سينما رويال بالقاهرة فلم (جريكو) أو (تاجر الملح) الذي أخذت أكثر مناظره في مصر وبين ظهرانينا
وبطل الفلم رجل أسود له شهرة في عالمي التمثيل والغناء تضارع شهرة أقوى ممثل أو(244/75)
مغن من الجنس الأبيض، إن لم تفقه. وقد سبق أن رآه جمهورنا ناجحاً قوياً في عدة أفلام على ستار أكثر دور السينما في مصر. . . وأسم هذا الزنجي الشهير بول روبسون
أما بطلة (تاجر الملح) فهي فتاة مصرية اسمها الحقيقي ناجية إبراهيم، ولقبها الإنكليز في جرائدهم بالأميرة (كوكا) فأصبحت تعرف بهذا اللقب. وهي فتاة برنزية اللون ذات عينين خلابتين وجسم معتدل مما ساعدها على ارتقاء سلم النجاح في عالم السينما بسهولة وسرعة
وقد اضطرت ناجية إبراهيم إلى السفر مرتين إلى بلاد الإنكليز لإتمام إخراج هذا الفلم العظيم. . . وهناك في إنجلترا تعلمت كوكا رقصة الكلاكيت التي أصبحت تتقنها. . غير أن هذه الرقصة قد كلفتها كثيراً، فإنها ما زالت حتى الآن تعاني الأمرين من آلام ظهرها
وسنرى أي نجاح تصيب هذه النجمة المصرية الجديدة. .!
بدرية رأفت
بطلة الفلم المصري الجديد: نفوس حائرة
تعرض سينما الكوزمو في هذه الأيام إشارة إلى فلم مصري جديد سيظهر على ستارها عما قريب
ذلك هذا الفلم هو (نفوس حائرة) وأما أبطاله فهم بدر لاما، وبدرية رأفت، وعبد السلام النابلسي، وسميحة فهمي، وفؤاد المصري الخ. . .
والمخرج هو الأستاذ إبراهيم لاما المخرج المعروف، وقد أخرج لنا بضعة أفلام مصرية ناجحة
فؤاد زمكحل(244/76)
العدد 245 - بتاريخ: 14 - 03 - 1938(/)
(سارة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
كنت أقول للذين يحلو لهم أن يصنفوا الكتاب إلى كاتب مقالة وكاتب قصة وكاتب نقد وكاتب سياسة وكاتب تمثيل: إن الكاتب الخليق بهذا الاسم يجب أن يكون أولئك جميعاً. فإذا قصر جهده على بعضها فليس معنى ذلك قصوره عن بعضها الآخر، بل معناه أن عمل الكاتب في التعليم أو في الصحافة، أو حظ الأمة من الحضارة والثقافة، أو حال المجتمع من الرخاء والاستقرار، يساعد اتجاهاً على اتجاه، ويغلب نوعاً على نوع. وما الكاتب إلا فنان موهوب ميزته تأليف الكلام الجميل تعبيراً عما يقع في حسه وعلمه، وتصويراً لما يجري في خياله وذهنه؛ فإذا استمد الإلهام والمعرفة أحاط إحاطة (الجاحظ) و (جيته)، وإذا استملى الشعور والعاطفة ألم إلمام (البديع) و (موسيه). وانفساح ذرعه أو انحصار طبعه لا يدخل في حسابه بالزيادة ولا بالنقص، لأن الأصل في فنه أن يجيد الكشف عما يحس به والإبانة عما يعلم
قالوا إن العقاد باحث جريء الرأي، وناقد نافذ البصيرة، وجدلي دامغ الحجة، ولكنه لا يملك أن يكون قصصياً يكشف بالوحي حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحي بالعاطفة خمود الفكرة، وتلمسوا لذلك الأدلة والعلل من طبيعة مزاجه واتجاه تفكيره وروح أسلوبه، حتى رووا عنه أنه عاب القصة ونفى أن تكون نوعاً جدياً من أنواع الأدب. وكان الذين يسمعون هذا الكلام يقابلونه بالتصديق ويؤيدونه بالواقع، فكنا نقول لهؤلاء إن الذي يعرض هذا العرض، ويصف هذا الوصف، ويحلل هذا التحليل، لا يعضل عليه - إن أراد - أن ينقل المشهد الذي رآه، ويقص الخبر الذي علمه. وليس القصص كله خيالاً حتى يسوغ في العقل أن الكاتب الذي يضيق خياله ويضعف وهمه باتساع عقله وقوة فكره يقصر باعه عن القصة
وجاءت (سارة) والرأي على ما خيل الراءون فأقرت الأمر في موضعه من صميم الحق؛ وقدمت الدليل القاطع على أن هذه الشخصية الأدبية قد بلغت الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لم تتجه إليها إلا منذ أمس.
وهل صحيح أن أمس كان أول عهد العقاد بالقصة، وأن سارة كانت أول ما كتب العقاد من(245/1)
القصص؟ الحق أن الكاتب المطبوع يولد وفي قريحته أصول الأنواع الأدبية؛ تنمو بنموه، وتطور بتطوره، وترقى برقيه؛ ولكن ذلك يحصل لبعضها بالفعل، ويحصل لبعضها الآخر بالقوة. فلو أن العقاد كتب (سارة) أيام كتب (مجمع الأحياء) لكان من الراجح أن يكتبها من نوع غير هذا النوع، وبأسلوب غير هذا الأسلوب؛ ولكنه كتبها حين كتب (سعد زغلول) فجاءت من النوع التحليلي البارع، وبالأسلوب المنطقي المشرق. والقصة التحليلية هي آخر أطوار القصة، كما أن الشعر الفلسفي هو آخر مراحل الشعر. ونتاج الذهن يتطور بين الطفولة والكهولة في الفرد والأمة والخليقة؛ فالأسطورة تنتهي إلى القصة، والملحمة تصير إلى الرواية، وشعر الغناء يؤول إلى شعر الفلسفة
(سارة) قصة فتاة مثقفة لعوب أرملة، وصفها العقاد في فصلين لا نجد كثيراً من أمثالهما في أدب العالم، وهما (من هي) و (وجوه). عرفها همام المهذب العقل الطيب القلب وهو في وسط عقده الرابع أعزب وحيد، فشغفته حباً للأسباب التي حللها الكاتب في فصل من هذه الفصول؛ ثم وصلت بينهما الطبيعية بالصلة التي لا حيلة فيها لانتظار ولا اختيار ولا خبرة؛ وظلت هي على نحيزتها الأنثوية تعابث وتخابث وتلبس تارة لباس (مانون)، وتارة أخرى لباس (مادلين)؛ وظل هو على شكيكته العلمية يؤول، ويعلل، ويفرض الفروض، ويثير الشكوك، ويقوى حيناً فيكون (دون جوان)، ويضعف حيناً فيكون (دي جْريو) حتى ذوى الحب بين الشك منه والسأم منها فتفرق العاشقان
ليس في القصة إذن حادثة تروعك، ولا مفاجأة تدهشك، ولا عقدة تشوقك؛ ولكن هذا الحادث العادي المطروق أصاب ذهناً شديد النفاذ، وفكراً دقيق الملاحظة، وشعوراً صادق الحس، فتجلى في (سارة) صوراً واضحة الخطوط، ناطقة الملامح، عبقرية الألوان، تمثل هذه المرأة في جميع حالاتها وعلى كل وجوهها تمثيلاً عارياً لا ينفع فيه ثوب رياء ولا ورق تين. ولعل الطريف في (سارة) أنها تحلل تركيب العشق في قلبي عاشقين من ذوي الثقافة والفكر، فتنتهي إلى أن الفلسفة لا تجعل من العاشقة إلا امرأة ككل امرأة، ولا من العاشق إلا رجلا كأي رجل
أما أسلوب (سارة) فهو أسلوب العقاد: صريح لا رغوة فيه، جلي لا غبار عليه، مستقيم لا التواء به؛ يتصل فيه اللسان بالعقل فلا يلغو، ويعتمد فيه القلم على القريحة فلا يهين. على(245/2)
أن العقاد في سارة قد احتفل لأسلوبه واحتشد لفنه فجاء من النمط العالي، لا تجد خللاً في سبكه، ولا قلقاً في اطراده، ولا وهناً في منطقه، ولا سقطاً في ألفاظه، ولا شططاً في معانيه. وفي رأيي أنك لا تعرف العقاد على حقيقته إنساناً وفناناً إلا في (سارة)
إن سارة تقدم مثلاً جديداً في بلاغة الأسلوب، وتفتح فصلاً جديداً في أدب القصة، وتسجل اتجاهاً جديداً في أدب العقاد
أحمد حسن الزيات(245/3)
عود إلى داء الشعور بالحقارة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
والمصاب بداء الشعور بالحقارة إذا أفدته علماً أو مالاً تباهى به عليك وتلمس الوسائل كي يظهر بمظهر المانح كأنما يمنحك فضلاً أو عوناً، إما بأخذه ما أخذ منك، وإما بدلا منه. وهو لا ينسى لك فضلاً ويحسدك على نعمتك حتى تزول ولو كان في زوال نعمتك زوال نعمته، ويحاول أن يخفي فضلك عليه حتى على أكثر الناس علماً بما أفدته، ويحاول أن يجند منهم أعواناً له ضدك بأن يظهرك بمظهر العداوة لهم وقلة الخير والزهد فيهم، فإذا عاتبته واضطررت أن تذكره بمعونتك كي تبتعث الحنان في قلبه عد إشارتك التي استثارها بعمله أو حديثه امتناناً منك عليه، فيزداد لك عداوة. وهو بالرغم من مقابلته المعروف بالإساءة يطمع في المزيد مما عندك وإن ظهر بمظهر العائف له. وهو سلاح في يد أعدائك حتى وإن لم يدر ذلك، لأنه قد يغالط نفسه أو يغالطونه ويخادعونه
ومن المصابين بداء الشعور بالحقارة من ينغص عيشة من يعاشره بإظهار حدة الطبع ورفع الصوت والعراك، لأنه يرى في كثرة العراك تعاظماً وتعالياً يخفي ما يشعر به في سريرة نفسه من الوجل والخوف من أن يحقر. ومن المصابين بهذا الداء من يعد سفاهة لسانه سياجاً يحوط به عظمته الموهومة التي يخفي بها ما هو كامن في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة التي قد يظنها عظمة
ومنهم من يتلمس الفرص كي يسمع الناس صوته كأنما صوته جرس يدق إيذاناً بالعظمة التي يخفي بها خوفه من التحقير
وترى الواحد من هؤلاء لا يتعفف عن مدح نفسه والإشادة بآرائه وأفكاره وإعجاب الناس بها واحترامهم إياه بسببها، وهذه الخطة قد تكون مكراً ووسيلة كوسيلة التاجر في الإعلان عن بضاعته وإن عرف أن بضاعته غير مزجاة؛ وصاحبها مع ذلك مطمئن النفس لا يبالي إذا لم يصدقه السامع، ولكنها قد تكون خطة مسعور متكالب على الناس يرجو احترامهم ولا يستطيع أن يعيش من غيره ولا يهنأ حتى ولو فقد مثقال ذرة منه، وهو يتفرس في وجوه الناس كي يرى هل صدق السامع حديث إعجاب الناس به. وكلما كان الرجل من هؤلاء المصابين بداء الشعور بالحقارة مفلساً من المال أو الجاه أو العلم كان حقده أشد، ونكايته(245/4)
أنكى، وصوته أكثر إيذاناً بالعظمة التي يحاول أن يخفي بها المرض. وقد تزول أسباب المرض من إفلاس في مال أو علم أو جاه، ولكنه يبقى طبعاً في النفس لا تستطيع مداواته. ومن العجيب في أمر المصابين بداء الشعور بالحقارة أنهم قد يخلصون أو يتظاهرون بالإخلاص - وهو الصواب - لمن لا يرجون منه خيراً ولا نفعاً، ويختصون بالإعنات من يرجى منه الخير أو من أصابهم منه خير، لأن الدَّينَ ربما عدوه نقصا. وهؤلاء المصابون بداء الشعور بالحقارة يود بعضهم بعضا بالغريزة، ويساعد بعضهم بعضا مادام ليست بينهم خصومة على خير مرجو، ومادام لا يحجب أحدهم الآخر عن الظهور؛ وهم عندما يساعد بعضهم بعضا يكونون كأنما هم حِلف على الباطل قد عمل بحرف الحديث: (أنصر أخاك ظلماً أو مظلوما) وأغفل معناه الحقيقي؛ وهم إذا تعاونوا على الباطل يعرفون أنهم لا يشبعون نهمتهم من العظمة الباطلة التي يخفون بها ما كمن من الشعور بالحقارة إلا بالتساند؛ أما إذا تخاصموا على مظهر من مظاهر التعاظم فلا يتعففون من التحارب بأقذر سلاح كما كانوا يتعاونون به
وهم يضحون بالسعادة والصحة والمال وبأحب عزيز وبسعادة كل من يعقوهم كي يبلغوا مظاهر التعاظم التي يخفون بها ما كمن في العقل الباطن وفي السريرة من الشعور بالحقارة. وإذا بلغ هذا المرض أشده لم يحجم صاحبه عن الجرائم؛ وقد يؤدي إلى الجنون وهو مرض شائع، وبعض مظاهره ليست حادة ولا مسببة للحزن والتعاسة كما تسبب حالاته الشديدة. فمن حالاته البسيطة التي ربما كانت تدعوا إلى الفكاهة أن يقابلك إنسان مصاب بهذا المرض وهو يعرف اسمك تمام العرفان فيناديك باسم آخر، فإذا كان اسمك محمدا قال: كيف حالك يا مصطفى بك؟ وهو يفعل ذلك كي يشعرك أنه أعظم شأناً من أن يتذكر اسمك؛ فإذا صححت له اسمك اعتذر ثم يعود بعد قليل فيناديك بالاسم الخطأ: قائلاً أليس الأمر كذلك يا مصطفى بك؟ ولا يناديك باسمك مهما صححت خطأه. ومنهم الصغير المنزلة الذي يقابلك فيتلطف في الحديث فإذا لمح إنساناً يعرفه رفع صوته بلهجة الآمر كي يشعر السامع أنك تقبل منه هذه اللهجة لعظم أمره. ومنهم صاحب الأباريق في قصة الموظف المشهورة الذي أحيل على المعاش فاشترى أباريق وملأها ماء وجلس عند المسجد الجامع يقول لكل طالب ماء بلهجة الآمر: خذ هذا. . . لا تأخذ ذاك. وهذا المثل الأخير قد(245/5)
يكون من أمثلة داء الشعور بالعظمة، والحقيقة أن مظاهر داء الشعور بالعظمة، ومظاهر داء الشعور بالحقارة قد تختلط، ولكن المحك الذي تعرف به وتميز هو إما ثقة صاحب الداء بنفسه وعظمتها ثقة لا تدعو إلى القلق، وإما أن مظاهر تعاظمه يخالطها القلق والحقد والحسد والدناءة والسفالة، فالأول أكثر اطمئناناً حتى أنه قد لا يشعر بمخر الساخر به، وقد يكون في تكبره كريماً أو رحيم النفس، وهو إذا ارتكب إثماً فإنما يرتكبه باسم العظمة والإصلاح، ويرتكبه وهو مطمئن وادع لا حقد يشوب إثمه ولا قلق ولا دناءة كما تشوب هذه الصفات إثم المصاب بداء الشعور بالحقارة، والأول إذا تواضع تواضع في كبر المبالغ الواثق بنفسه، وإذا تكبر تكبر بكبر الواثق بنفسه الذي لا يشعر بسخر الناس به، وهذا المصاب بداء العظمة لا يتلصص في تحايله ووسائله كما يفعل صاحب الشعور بالحقارة الذي هو أميل إلى الكيد والدس
والموظف الصغير المنزلة في المصرف أو في الدواوين الذي يتعالى ويتعاظم ويتصام ويتفخم ويحملق في وجوه أصحاب الحاجات ويتباطأ في إجابتهم من غير سبب أو معذرة إنما هو مصاب بداء الشعور بالحقارة. ولعله يتشفى بهذه الأحوال مما أصاب نفسه من تعاظم من هو أعلى منه منزلة تعاظماً شعرت به الذلة والمسكنة. وفي بعض حالات هذا المرض لا ترى سبباً ظاهراً له، فقد يصاب به الرجل من بيت عز وعلم فتتلمس العلل الخفية فتقول هل طغى عليه أبوه في تربيته في الصغر طغياناً يشعره الذلة والمسكنة، فإذا ورث أباه غطى ما ورثه على ذلك الداء من غير أن يعصمه من الأقوال والأعمال الناشئة منه، أم هل ورث هذا الشعور عن أجداده، أم أنه داء يعدي كما تعدي بعض الأمراض النفسية بالمحاكاة ولطول العشرة وحكم البيئة
ومما يلاحظ أن المحاكاة والعشرة والبيئة قد تنقل مظاهر هذا الداء في المدارس من تلاميذ مصابين به إلى تلاميذ على الفطرة والسذاجة. ولعل المدارس المصرية أكثر مدارس العالم ديمقراطية لكثرة مجانية الفقر للتفوق ولانخفاض المصروفات فهي تساعد انتقال الصفات من طبقة إلى طبقة، فالفقراء يحاكون الأغنياء فيخسرون، وأبناء الأسر الطيبة تحاكي أبناء أسر أقل طيبة فيخسرون أيضاً وإن كان لهذه الديمقراطية مزايا
عبد الرحمن شكري(245/6)
من برجنا العاجي
من أحب المطالعات إلى نفسي كتب العالم الرياضي (هنري بوانكاريه). عندي من مؤلفاته ثلاثة كتب: (العلم والطريقة) و (العلم والفرض) و (قيمة العلم). قرأتها لأول مرة منذ عشر سنوات. وأعود إليها من حين إلى حين. إنها لتسحرني كما تسحر الأطفال قصص ألف ليلة وليلة. فأنا الآن لا أقرأ كثيراً كتب الأدب. لأني أنا نفسي أصنع كتباً في الأدب. ولكني أحب أن أصغي إلى أولئك الذين يبحثون في صمت عن الحقيقة. هؤلاء الذين عندهم ما يقولون ولكنهم يترفعون عن الكلام. فإن الحقيقة التي يحاولون أن يتصيدوا شبح خطاها خلف (المكرسكوبات) و (التلسكوبات) لأروع من أن توضع في ألفاظ وعبارات. على أن ما يعنيني من كلام هؤلاء العلماء ليس الأرقام والمعادلات أي (الوسائل)، ولا يعنيني كذلك ما وصلوا إليه من (نتائج)، ولكن الذي أقرأ من أجله كتبهم هو تلك الإِشراقات الذهنية التي تلمع من خلال بحوثهم فتضيء جانباً من جوانب الفكر المهجورة. ليس العلم في ذاته هو الذي يهمني، ولكن هي (العقلية العلمية) في مصادمتها ومواجهتها للأشياء. لا شيء يلذ لي مثل مجالسة (عالم) متسع الأفق. وهذا النعت لا ألقيه جزافاً، فإن من كبار رجال العلم من هم ضيقو الأفق، أي سجناء معادلاتهم وأرقامهم، يصلون بها مع ذلك إلى نتائج باهرة في صميم العلم، ولكنهم قلما ينظرون إلى العالم الخارجي. إنما الطراز الذي أقصد، هو طراز رجل العلم المطبوع الذي يخرج بعد ذلك لينظر بعين العلم وعقلية العلم إلى الكون بمعناه الواسع. هي (فلسفة العلم). ما أريد هنا بعد هذه القراءات أن يتضح لي أنا (رجل الأدب) كيف أن مخلوقاً آخر يسمى (رجل العلم) ينظر إلى ذات الأشياء التي أنظر إليها ويفكر في هذا الكون الذي أفكر فيه ولكن بعين أخرى وعقل آخر. ومن يدري؟ لعل أكثر هؤلاء العلماء هم أيضاً لا يلذ لهم شيء مثل قراءة ومجالسة (رجال الأدب) فما الأمر في باطنه إلا شوق وحب استطلاع بين نوعين مختلفين من هذا الحيوان المفكر
توفيق الحكيم
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك(245/8)
- 13 -
لقد آذاني معالي السيد أرشد العمري، وكظمت غيظي فلم أسمعه ما يكره، وقلت في نفسي: إن الرجل تصور أنني أهنته فسحب مني الدعوة، والجروح قصاص
وقلت: هم سيقضون السهرة في الرقص وسأقضيها في التأليف وأنا أجد لذة ممتعة حين أراني أجد في وقت يلعب فيه الناس
وتذكرت أني أشغل مطبعتين في بغداد، وأن من الخير أن اعتكف في المنزل فأحضر بعض الوقود لجحيم المطابع
وكذلك اطمأننت إلى الزهد في ليلة بغداد التي وُعِدَ بها المؤتمرون!
ولكن ما هذه الدعوة الجديدة؟ هي دعوى لسياحة طريفة في ضواحي الكرخ وبغداد، نتفرج بها على إسالة الماء. وأنا قد أمضيت نحو خمسة أشهر محبوساً بين المكاتب والأوراق، ولم أر في بغداد غير الجادة والدربونة ودار المعلمين العالية وكلية الحقوق وما تيسر من سواد العيون
وسرت مع السائرين للتفرج على إسالة الماء وأنا أرمي إلى غرضين: الأول الترويح عن النفس، والثاني كتابة بحث لمجلة المقتطف عن تكوين الصهاريج
فهل روحت عن نفسي وأعددت مواد البحث المنشود؟
ما صنعت شيئاً من ذلك، وإنما دارت الأرض تحت قدمي حين رأيت صاحبة العينين، فكان المهندسون يشرحون الدقائق العلمية في تقطير المياه لتزويد الكرخ وبغداد بالماء النمير، وكنت أنظم الخطط لأكون دائماً بالقرب من صاحبة العينين. ومن العجيب أن أمري لم ينكشف؛ ومضى المهندسون وهم يعتقدون أنني كنت المستمع الواعي، وأن سائر المستمعين لم يفهموا إلا أن الكرخ وبغداد تسقيان من دجلة لا من الفرات
ولمثل هذه المواقف منحنا الله نعمة العقل!
ومضينا فتناولنا الشاي والفاكهة فوق العشب الأخضر وبين الأشجار التي أذوتها أرواح الشتاء، وأدير على الحاضرين صوت أم كلثوم:
على بلد المحبوب وديني ... زاد وجدي والبعد كاويني(245/9)
فكانت بلد المحبوب عندي هي المائدة التي تجلس عليها صاحبة العينين، ولكن أين من (يوديني) هناك؟ إن أسوان أقرب من هذه المائدة وليس بيني وبينها غير ثلاث خطوات
يا مسافر على بحر النيل ... أنا ليَّ في مصر خليل
فرمقتني صاحبة العينين بنظرة حنان. فمن الذي أعلمها أني نشأت في ديار النيل؟ من أعلمها ذلك وعلى رأسي سدارة، والمصريون كلهم مطربشون!
وهممت بالتسليم عليها، ولكن صدتني العصابة التي كانت تحرسها مني، وصدني أن مكاني كان قريباً من مكان رئيس الوزراء
ثم تقوض المجلس وانفض الناس، والدنيا اجتماع وافتراق
كيف السبيل إلى رؤية هذه الظبية في المساء؟
إنها ستكون بالسهرة البغدادية التي وُعد بها المؤتمرون
وأنا ممنوع من سهرة بغداد
ولكن من الذي يمنعني؟
هو أمين العاصمة حضرة صاحب المعالي أرشد العمري.
أهلاً وسهلاً بمعالي الأمين!
أأنت الذي يمنع الدكتور مبارك من ليلة بغداد بعد أن كتب عن مجد بغداد ما لم يكتب مثله كاتب في قديم ولا حديث؟
أنت مهندس بغداد، وأنا أديب بغداد، وسترى لمن يكون الخلود. . .
وأخذت أفكر فيما سأصنع، فهذه الظبية ستكون في المرقص وسأجد الفرصة لمخاصرتها مرة أو مرتين بعد أن يتلطف الشراب في رياضة العصابة التي تحرسها مني!
وأنا قد تعلمت الرقص في باريس وأخشى أن أنساه، وحياة العلم مذاكرته كما قال القدماء
وهل من الإثم أن أهتم بمذاكرة ما تعلمت؟ وهل أنفقت من الوقت والمال في سبيل الرقص ما أنفقت لتضيع مني فرصة من فرص بغداد؟
لابُدّ من حضور هذه السهرة.
لابُدّ مما ليس منه بُدُّ
ولكن كيف ألقى معالي أرشد العمري وهو غضبان؟(245/10)
أنقف فنتناوش ونتضارب؟ وهل أرسلتني مصر إلى العراق لأصنع ما يصنع الأطفال؟
لو كانت المسألة بيني وبين هذا الرجل مسألة شخصية لضاربته وقاتلته بلا تهيب. وما أحسبه يزعم أنه أقوى مني، ولكن المسألة أني مصري وهو عراقي، وأنا أنفق دمي في خلق الصلات بين مصر والعراق، وإقامتي في بغداد أقنعتني بأن مصر لابد لها من مودة العراق، فالعراق يكاد يكون هو الشعب الوحيد الذي يسلم فيه المصريون من أذى الناس. وهذه العواطف ليست جديدة عندي، وإنما تلقيتها منذ سنة 1917 عن الأستاذ أحمد صالح حين كان يدرس التاريخ القديم بالجامعة المصرية، فقد حدثنا عن مودات صوادق أقامها لحلف الشريف بين المصريين والبابليين، وما جاز في عهد الجاهلية لا يستحيل في عهد الإسلام إلا أن نكون من الأغبياء
وتذكرت أن بغداد تحوطني بأشرف معاني العطف، وأنه ليس من الذوق أن أحرج رجلاً هو أمين بغداد، وهو أكبر مني سناً ولعله أكثر تجربة، والتحامل عليه ضرب من العقوق
وتذكرت شعار مصر وشعار العراق
أما شعار مصر فهو: (أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا)
وأما شعار العراق فهو:
سيوفنا قاطعة لِلِّي يقابحنا ... ورقابنا قنطرة لِلِّي يسامحنا
وتذكرت أصل الخلاف فوجدته يرجع إلى كشف الرأس في السهرة، وأنا أكره كشف الرأس لأنه قد يجرّ إلى الزكام، وأنا مدرس، والمدرس المزكوم منظره سخيف، فما الذي يمنع من الذهاب إلى السهرة بالطربوش وهو لا يجب خلعه في السهرات
هذا حلُّ موفَّق، ولكن لابدّ من الاحتياط، والاحتياط هو أن أذهب قبل الموعد بساعة إلى مكان الاحتفال عملاً بمذهب حلفائنا الفضلاء أبناء العم جون بول، ومذهبهم هو أن تحتلّ أولاً، ثم تفاوض بعد ذلك!
كان طريقي من باب المعظَّم إلى بهو أمانة العاصمة يوحي الشعر والخيال، فقد كانت ليلة عيد، وكان القمر ينظر إليّ في ترفق كأننا في سنتريس، ولكن صدري كان مكروباً بعض الكرب. فقد كانت ليلة العيد لا تقع إلا وهي موعد غرام، وهي في هذه المرة قد تكون حومة قتال(245/11)
مشيت مشية المتمهل لأجتلي طلعة القمر، أو لأؤخر الشر لحظات.
فلما دخلت البهو وجدته خالياً، وكيف لا يكون كذلك وقد سبقتُ الموعد المحدد للسهرة بأكثر من ثلاثة آلاف ثانية؟ لقد وجدت البهو كالقلب الخليّ الذي تفكر المقادير في شغله بالحب، وجدته كالغادة التي تنتظر العاشق الصوال
دخلت وحدي وتلفتّ فلم أجد أحداً؛ وبعد لحظة لمحت شبح معالي الأمين وهو يتمرن على الطواف قبل قدوم الحجيج
وبعد دقائق نظرت فرأيت رجلاً يعدو إليّ عَدْواً فقلت: هذه طليعة الشر، وتأهبت للصِّيال
ولكن الرجل أخلف ظني كل الإِخلاف، فقد حياني أجمل تحية، وأخذ يدي برفق فدلني على المقصف فحسبته صديقاً قديماً أنستنيه الأيام، فقلت:
سيدي، هل لك أن تُذكرني متى تلاقينا أول مرة؟ أتراني عرفتك في القاهرة أو في باريس، ذكرني فقد نسيت!
فأجاب في لطف:
ما أذكر يا مولاي أننا تلاقينا قبل اليوم، وإنما رأيت الطربوش فوق رأسك فعرفت أنك من مصر العزيزة، وللمصري على العراقي حقوق الأخ الشقيق
فرفعت الكأس وقلت: تعيش بغداد، ويحيا العراق.!
وسألت بعد ذلك عن اسم هذا الرجل الشهم فعرفت أنه المهندس نجيب نورس الياور، وكذلك استحال على معالي أمين العاصمة أن يلقاني بغير الابتسام
نحن الآن في بغداد، في ليلة ما رأى مثلها الرشيد، وإن تَعبَ الواصفون في التذكير بليالي الرشيد. هي ليلة بغدادية لا قاهرية، لأن القاهرة حين تعرف أمثال هذه الليلة تنقلها نقلاً عن الغرب، ويختلف حولها الفقهاء؛ أما بغداد فتعرف الليالي الساهرة عن الآباء والجدود. هي ليلة سيذكرها من رآها وستحتل أقطار ذهنه إلى اللحظة التي يعاني فيها سكرات الموت؛ هي ليلة تمثل الفتوة العراقية وتذكر الجاهلين بأن الشعب الطروب لن يموت
كان الناس كلهم في سماحة الملوك، وكنت وحدي أبخل الحاضرين، فقد سألني رجل عظيم متى أرقص، فكذبت عليه وقلت لن أرقص، مع أني ذهبت إلى ناحية قَصيّة وراقصت ثلاث فتيات، وعاقرت الثغور سبعين مرة أو تزيد، وعند الكرام الكاتبين جريدة الحساب(245/12)
لا أدري والله ماذا صنعت في تلك الليلة، إلا حادثتين اثنتين: الأولى حين دخلت المقصف بعد الدورة الرابعة من دورات الرقص فقد ارتفعت الأصوات: يحيا الدكتور زكي مبارك! وكان الأستاذ علي الجارم بك بين الحاضرين فانتظرت أن يهتف باسمي فلم يتردد كما كنت أتوقع، وإنما هتف هتاف الصديق؛ ثم شق الصفوف إليّ فعانقني وهو يقول: أنا فرحان لك يا دكتور زكي! فرحان لك يا أخوي، فرحان لك يا حبيبي، فرحان لك يا نور العيون يا زهرة مصر في العراق
وإنما عددت هذه الحادثة لأن المواطنين لا يفرح بعضهم لبعض إلا في قليل من الأحيان
ولا مؤاخذة يا جارم بك، يا حبيبي يا نور عيوني، يا أحلى من ملح رشيد!
أما الحادثة الثانية فهي طرفة لا تقع من رجل سواي
فقد عثرت في الطواف على فتاة خشنة جافية تصلح لأن تكون مديرة لإحدى المدارس الثانوية، ولكنها لا تصلح لأن تكون غادة في مرقص، فقلت في نفسي: ما الذي يمنع من التصدق على هذه الفتاة بقبلة أو قبلتين؟
وأنا في الحقيقة (رجل إنسان) كما يعبر أهل القاهرة، أو (رجل آدميّ) كما يعبر أهل دمشق. وما أذكر أبداً أن سائلا سألني وخيبته، وأنا لا أستحي من الجود بالقليل لأنه على كل حال أفضل من المنع؛ وقد أكرمنا الله بالغنى، فمن اللؤم أن نكون بخلاء
طافت هذه الخواطر بنفسي وأنا ألمح تلك الفتاة الجافية فقلت إن ليلتي هذه لن تخلو من سيئات، ولابد من حسنة تمحو ما سأقترف من سيئات، فتوكلت على الله وأقدمت
سلمت على الفتاة فاستراحت للسلام، وإن كنت لا أعرفها ولا تعرفني
وقبلت يدها فابتسمت
فقبلت جبينها وخديها، ثم قبلت جبينها وخديها، وانصرفت
ولكني لم أكد أخطو بضع خطوات حتى سمعت رجلاً يصيح: يا دكتور مبارك! يا دكتور مبارك!
فالتفتّ مذعوراً فإذا سكرتير مجلس الوزراء. فقلت: وقعت الواقعة وحقّت الفضيحة، وجمعتُ أشتات قواي وقلت: نعم، يا سيد!
فقال: لن نحاكمك إلا إلى قول شاعركم شوقي(245/13)
فقلت: وماذا قال شوقي؟
فأجاب إنه قال:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
فهو قد فرض أن تسبق القُبلة بستة أشياء، وأنت قبّلت بدون مقدمات
فقلت: يا سعادة الأستاذ، لقد عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء. إن شوقي قال هذا البيت منذ خمسين سنة يوم كان القطار أسرع ما عرف الناس، ونحن اليوم في عصر اللاسلكي والطيران فلا تلمني إن قبلت بدون مقدمات، فمن العقل أن نتخلق بأخلاق الزمان
طابت السهرة وطابت ثم طابت، وعرفت فيها طبيباً نبيلاً كان يصادقني عن طريق مؤلفاتي، وسيكون من الذين أقبل من أجلهم ثرى بغداد يوم أفارق بغداد، وصداقة الأرواح شيء نفيس، ومودة العقول من ذخائر الرجال
وكانت ليلتنا كما قال ابن المعتز:
ثم انقضت والقلب يتبعها ... في حيثما وقعت من الدهر
فأين ليلتنا من الدهر؟ أين؟ أين؟ إنك يا دهر لظلوم!
كنت أول من دخل البهو في تلك الليلة، وكنت آخر من خرج، ولولا الحياء لطلبت المبيت هناك لأستنشق ما بقي من أنفاس الظباء
رجعت إلى المنزل، ولا أذكر كيف رجعت، فقد استيقظت قُبيل الشروق، فرأيت مصابيح البيت كلها مضاءة، ورأيتني في ثياب السهرة كما كنت، فعرفت أنني دخلت البيت بلا وعي ولا إحساس
ولكن لا بأس فقد عشت ليلة من ليالي بغداد
وإلى معالي أرشد العمري تحيتي وثنائي!
هذا صباح العيد، وهذا طوافي برياسة مجلس الوزراء، أصافح الرجال الذين عناهم الشريف الرضي حين قال:
نحاسن أقمار الدجى بوجوههم ... فنبهرها نوراً ونغلبها سعداً
تخالهمُ غِيداً إذا بذلوا الندى ... وتحسبهم جناً إذا ركبوا الجردا
هذا هو الرجل العذب الروح النبيل الشمائل جميل المدفعي رئيس الوزراء الذي لا يصدق(245/14)
من يرى صباحة وجهه أنه من صناديد القتال، والليث لا يكون شتيماً في كل حين
وهذا وزير المواصلات، الصديق الذي أحببته منذ رأيته في سهرات رمضان
وهذا وزير الداخلية يلوم ويعتب لأنه يراني أستبيح من أساليب التعبير ما لا يستبيح أدباء باريس
ويتفضل صديق عزيز فينقلني بسيارته إلى منزل صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، وكنت أتمثل نوري باشا رجلاً كهلاً أضوته السنون، فأراه فتىً خفيف الروح كأنما قدم بالأمس من ملاعب مونبارناس؛ ويقبل عليّ فخامته فيقول: أنا تلميذك بالفكر، يا دكتور مبارك، لأني قرأت جميع مؤلفاتك
ويروعني هذا اللطف فأقول: (لقد علم الله كرم نفسك فحفظ عليك شبابك يا فخامة الرئيس)
ويقبل عليّ الحاضرون فيسألون عن صحة ليلى، فيبتسم نوري باشا ويقول:
(إن ليلى المريضة في العراق هي شبكة ينصبها الدكتور زكي مبارك لتقع فيها إحدى الليليات)
وأتألم من ذلك فأقول: (إن مولاي نسي أنه تلطف فأعان الضابط عبد الحسيب على الانخراط في سلك الجيش العراقي سنة 1926)
ويمسح نوري باشا جبينه ويقول: (تذكرت، تذكرت، شفى الله ليلى على يديك)
ثم نمضي فنزور معالي مولود مخلص رئيس مجلس النواب فنرى الرجل الذي أفهم العالم أن من واجب الجيش الإنجليزي أن يحسب ألف حساب للجيش العراقي، ونسمع الفصاحة العربية التي كانت تعذُب وتطيب على ألسنة الغزاة الفاتحين
وفي مساء يوم العيد نحتفل بعيد صاحب الجلالة فاروق الأول احتفالاً فخماً يشاركنا فيه أقطاب العراق
وفي اليوم التالي أمضي لإلقاء محاضرتي في المؤتمر الطبي فيقبل علي عشرون طفلاً وهم يصيحون: (الدكتور زكي مبارك، الدكتور زكي مبارك)
ويجيء صديق من الأطباء السوريين فيقول: (لقد صارت طلعتك بهجة لأطفال بغداد يا دكتور مبارك! (فينهمل دمعي وأقول: (نعم، فهذه الطفلة تشبه كريمة، وهذا الطفل يشبه عبد السلام، وهذا يشبه عبد المجيد، وتلك الفتاة تشبه زينب، وهذا الفتى يشبه سليمان)(245/15)
أبنائي الأعزاء، لقد نهبتني منكم بغداد، فاغفروا لي ذنبي فما ذقت حلاوة العيش إلا في بغداد
تحدثت عن الليلة السعيدة التي أقامها معالي أمين العاصمة، وكنت أحسبها خاتمة الليالي الملاح، ثم ظهر أن هناك ليلة أروع وأظرف، وهي ليلة الجمعية الطبية العراقية. فلنذكر بالتفصيل ما وقع في تلك الليلة من ضروب الفُتون، فقد تمر أعوام قبل أن تشهد مثلها بغداد، وقد تسكت عنها الأقلام فتذهب ذكراها من القلوب
ومن الواجب عليّ وقد أجاب الأطباء دعوتي فعقدوا المؤتمر العاشر في بغداد ليعاونوني على مداواة ليلى، من الواجب أن أسجل بقلمي ما صنعوا من الطيبات حين عطروا بغداد بليال أروع وأنضر من ليالي الرشيد، ولن يكون هذا آخر العهد بالأنس يا بغداد.
(للحديث شجون)
زكي مبارك(245/16)
إلى سر السيد جمال الدين
بمناسبة ذكرى وفاته
للأستاذ عبد المنعم خلاف
على القبر الذي في ضفاف البوسفور سلام دائم كِفَاء الحرب الدائمة التي شنها مدى عمره على الطواغيت الثلاثة: الجهل والاستبداد والتفرق. . . عناصر الشر العريق الخالد، وثالوث الشقاء الأسود الذي تبتلى به الإنسانية حين يراد ضياعها وإهدارها وتبديد معناها
وسلام على القصر الذي سلسله فيه عبد الحميد بسلاسل الذهب وأضواه فيه بالموفور الميسور من الغذاء والديباج والخز. . . وخنقه فيه بشذا الورود والريحان. . . ثم أعجل أجله بالطب. . . حتى اطمأن إلى أن درع روحه قد ووري التراب. . .
وقبلات طاهرة مقدسة على اليد البالية التي أشارت لمحمد عبده وسعد زغلول وشكيب أرسلان وغيرهم إلى الطريق فسلكوا بالقطيع فيه ليخرجوه من المهالك والمضايق والجدب والعقم. . .
يا أيتها النفس المطلقة الحرة التي ضرب الله بها مثلاً لسطوة العلم والروح وبطشهما بقوة الملك والسياسة. . . تُرَى ما الذي تَيَّمك حتى يَتَّمك من الأرض والوطن وفطمك من حياة الزوجية والاستقرار والهدوء والعيش السالم الناعم؟!
ترى ما الذي شرد النوم من جفونك ورمى بجسمك المرامي القاضية، وجعلك (طيراً على كل غصن) يضرب بجناحه في أجواء الشرق الإسلامي ويصرخ في الأرض النائمة ليوقظ صرعى الطواغيت الثلاثة في الهند والأفغان وإيران والعراق والشام والحجاز ومصر وتركيا والمغرب. . .؟
ثم ما الذي شرد النوم من جفون (جونبول) وعبد الحميد وناصر شاه وتوفيق، حتى طاردوك وتآمروا ودبروا وكادوا واحتالوا باليد الباطشة الحمراء. . . و (العين) الرنانة الصفراء؟. أهو روح النار التي كانوا يخافونها على ما جمعوه من هشيم. . .؟
أهو روح القوة التي خافوها من مثل صيحتك في ميدان باب الخلق بالقاهرة بكلمتك المشهورة: (أيها الفلاح المصري الذي يشق الأرض بالمحراث، لم لا تشق به قلوب مستعبديك؟!) فخشوا أن تحيل النفوس الخزفية إلى حديد ذي بأس شديد. . . وأن تركِّب(245/17)
براثن ومخالب وأنياباً لذوات الحوافر والأظلاف، والقواضم والأضراس من القطعان السائمة التي ترعى لتذبح أو تحلب أو تجرجر الأثقال الدائمة أو تدور على نفسها في الحظائر تمضغ الجفاف وتجترُّه في غيبوبة عن الدنيا ذات الجنات والأنهار والعيون. . .؟
أم هو روح الحق الذي تقمصك فجعل مرآك ومنطقك ومجلسك ثلاثة مفاتيح تفك الأغلاق والأقفال والقيود عن العانين المأسورين للأصنام الإنسانية والطواغيت الثلاثة؟
أم هو روح النور الذي مددْت خيوطَه إلى كل عين رأتك فرأت به الظلام الممدود على الشرق والواقعَ الأليم على الإسلام؟
أم هو روح الثورة التي تضرمها عيناك في كل قلب يراك حتى ولو من وراء عدسة المصور. . . وأنت في بطن الأرض؟!
بل كل هؤلاء جميعاً هو سرك الذي أعيا أعداءَك جهادهُ. .
رَأى الدنيا ذات الصبح العريض المالئ للآفاق، المشرق على الناس من الغرب. وهو في أعماق الشرق بين جبال الأفغان أو إيران فقبس لمصباحه منه وأخذ عصاه رحالةً يقرع أبواب المسلمين النائمين الحالمين من الحاكمين والمحكومين، وينفخ في بوقه هاتفاً بالصوت الموقظ المنذر في الأرض النائمة، مشيراً بعصاه إلى الضوء الجديد في الأفق البعيد. . .
ثم سار في خرائب الممالك الإسلامية وأطلال المجد القديم يلتقط النفوس الدُّرِّية والحديدية من الخزف والحطام والتراب. ويقبض عليها بيديه القويتين فما يتركها حتى يصقلها وتمسها كهرباؤه وتتصل بمرجل الثورة في قلبه ثم ينثرها على الآفاق الإسلامية تكهرب الجو وتضيء وتزين وتحطِّم. . .
سَلِم من خديعة الشيطان ومكره بالعلماء رجال الدين الذين يكتفون في جهاد الإثم والجهل بأن يعكفوا على الدفاتر والمحابر فيسْكروا بما فيها كما يسكر العاكفون على الخمر فيغيبون عما حولهم من أحداث الدنيا وسياسة الحياة، ويتركون القلوب فارغة ويملئون الرءوس بالبلبلة والأحافير وألاعيب الألفاظ. يبتغون الخلود بزعمهم في التاريخ والصحف. . . وهم يفقدون نفوسهم في الحياة
فبَرئَ جمال الدين من العلم الصامت البارد وأدخل تعاليمه إلى نفوس تلاميذه ومريديه في حرارة بعد أن هزهم هزاً عنيفاً، وكتب رسالته على أرواحهم ومات فقيراً من ميراث(245/18)
الورق المسطور. . . الذي يتباهى به أكثر العلماء الحفاظ، بعد أن عاش في ألفاظه وتعاليمه وعلم تلاميذه أن يعيشوا كذلك. . . ولذلك أحدث كل منهم ثورة وسار على قدم أستاذه فسجن وعذب ونفي وشرد
هذه مقاطع آلامه كما رواها تلميذه الأمير شكيب أرسلان
(لا أريد أن أسر المسلمين بكلمة، هؤلاء قوم كلما قال لهم الإنسان: كونوا بني آدم. . . أجابوه: إن آباءنا قد كانوا كذا وكذا. . . وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه اليوم من الخمول والضعة)
(قد فسدت أخلاق المسلمين إلى حد أن لا أمل بأن يصلحوا إلا بأن ينشئوا خلقاً جديداً وجيلا مستأنفاً. فحبذا لو لم يبق منهم إلا كل من هو دون الثانية عشرة من العمر، فعند ذلك يتلقون تربية جديدة تسير بهم في طريق السلامة)
(إن المسلمين قد سقطت هممهم ونامت عزائمهم وماتت خواطرهم وقام شيء واحد منهم وهو شهواتهم)
وهذه مطالع آماله كما ترجمها تلميذه الأكبر الإمام محمد عبده:
(صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام، والإسلام يقتضي ذلك، لأن أول ركن بني عليه صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام. . . وأن تكون نفوس الأمم مستقبلة وجهة الشرف طامحة إلى بلوغ الغاية منه ماعدا رتبة النبوة فإنها بمعزل عن المطمع. . .
(وإن دين الإسلام فتح أبواب الشرف في وجوه الأنفس وكشف لها عن غايته وأثبت لكل نفس صريح الحق في أي فضيلة
(وليس الإسلام كدين (برهما) الذي قسم الناس إلى أربعة أقسام وقرر لكل منزلةً لا يتجاوزها. . . ولا هو كاليهودية التي تخص شعب إسرائيل بالكرامة والإجلال وتذكر غيرهم بالتحقير، ولا هو كالمسيحية التي تذهب إلى أن رؤساء الدين أقرب إلى الله من جميع البشر وأنهم وساطة رضاء الله. . .
(وأن تكون عقائد الأمة مبنية على البراهين القويمة مجانِبةً مُطالَعَة الظنون وتقليد الآباء كما يحتم القرآن(245/19)
(وأن يكون في كل أمة طائفة تختص بتعليم سائر الأمة، وطائفة أخرى تقوم على النفوس بالتهذيب والتعديل. . .)
وهذه عزائم جهاده في السياسة كما لخصها الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرزاق بك:
1 - تخليص بلاد الإسلام من نفوذ أوروبا وخصوصاً إنجلترا.
2 - تخليصها من الاستبداد وإنشاء النظم الحرة الدستورية فيها
3 - جمع كلمتها بجميع فرقها تحت زعامة واحدة
وهذه وسائله السريعة التي تخيرها لتحقيق غاياته كما رآها (تشارلن آدمز): (الثورة السياسية التي عرف أنها أسرع الطرق وآكدها لتحرير الشعوب الإسلامية وتغذيتها بالحرية الضرورية لتنظيم شئونها. أما وسائل الإصلاح التدريجي والتعليم فكان يرى أنها بطيئة جداً غير محققة العاقبة)
فهو الذي أوحى بالثورة الفارسية التي بدأت بالهياج ضد احتكار التنباك في سنة 1891 وانتهت بوضع دستوره في أغسطس سنة 1906، ووالاها بالتشجيع والتأييد
وهو الذي مهد بتهييجه المتواصل للحركة التركية الموفقة التي قامت سنة 1908
وهو الذي دفع الحركة الوطنية المصرية التي ساء ختامها بفشل الفتنة العرابية
وهكذا كان أيان يذهب يترك وراءه ثورة تغلي مراجلها
وصفوه لنا. . .
فقالت أقلام الشرق: (حنيفي حنفي مع ميل إلى مشرب السادة الصوفية رضي الله عنهم) (هو حليم يسع حلمه ما شاء الله أن يسع إلى أن يدنو أحد ليمس دينه أو شرفه فينقلب إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب إذا هو أسد وثاب. . .)
(وبالجملة فلو قلنا إن ما أوتيه من الذكاء هو أقصى ما قدر لغير الأنبياء لكنا غير مبالغين)
هذا بعض قول محمد عبده فيه. وهاك بعض ما قاله الأمير شكيب:
(كان في أطوار حياته فيلسوفاً كاملاً عالماً عاملاً. . . فكان يفطم نفسه عن الشهوات، ولا يرى من اللذات إلا اللذة العقلية. وقد حاول السلطان عبد الحميد أن يعلق قلبه بالمال والبنين ويشغله بزينة الدنيا وراوده على الزواج فأبى وأعرض وقال له: (قضيت حياتي مثل الطير على الغصن، فلا أريد في آخر أيامي أن أتعلق بعائلة) وقال في مثل هذا المقام: (لم تدخل(245/20)
روح الفلسفة في هذه الأمة)
وقالت أقلام (رينان) و (روشفور) و (بروان) من الغرب:
(كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا أو ابن رشد أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين)
(السيد جمال الدين الأفغاني من سلالة النبي، والمعدود هو أيضاً أنه أشبه بنبي. . .)
(كان رجلاً ذا خلق قوي، غزير العلم موفور النشاط، لا يجد الوهن إليه سبيلاً، جريئاً مقداماً؛ وكانت فصاحته لا تجارى خطيباً كان أم كاتباً؛ وكان لطلعته هيبة في النفس وعظمة وجلال؛ وكان فيلسوفاً وكاتباً وخطيباً وصحافيّاً، ولكنه كان فوق ذلك سياسيّاً. . .)
سياسي يغربل الحوادث ويعلق عليها ويرسم حدود الدولة والحكم الصالح للأجسام. . . وحبر ديني يصقل جوهر الإنسان ويرسم حدود الحكم الصالح للأرواح. . . وفيلسوف يخشى على حكمته التي رأى أمته في حاجة ماسة إليها، أن يجلب لها ضرائر تكيدها وتصرفه عنها، فلم يبتغ صاحبة يبني لها عشاً أو يقيم لها سقفاً يحن إليهما ويجبن بهما ويبخل. . .
وصوفيٌّ لا يُخدع بالتراب المزَوَّق، وينفق من الكنوز الخفية في ملكوت السموات والأرض. ولذلك أبى قبول الرتب والأوسمة التي عرضها عليه السلطان، فلما سئل في ذلك قال: (أكون كالبغل يحمل على صدره الجلاجل؟!)
وكذلك لما أصدر الخديو توفيق أمره بنفيه وعرض عليه قبيل السفر أحد أصدقائه الأثرياء من المصريين بعض النقود ليستعين بها في السفر قال له: (أبقها لك فإن الأسد لا يعدم فريسة أينما حل)
رجل رمزي فنان! رأيت له صورتين ما يفطن إلى شرح وضعه فيهما أحد فيما أعلم: إحداهما صورته وهو واقف قابض بيده على نموذج الكرة الأرضية. وهو رمز عظيم ومعنى جليل يدل على اتساع روحه ورحابة نفسه
وثانيتهما صورته وهو على سرير المرض في أواخر أيامه، وقد أمسك بيده المصحف الكريم ومسبحة، وبسط أمامه صحيفة إفرنجية، وذلك رمز واضح للدلالة على المعاني التي كانت تملك نفسه من الدين والتصوف والسياسة، وخلاصة مفيدة عن ذلك الرجل الذي التقى(245/21)
فيه الشرق والغرب لقاء عجيباً!
يلتفت إليك الشرق الإسلامي كله في هذه الأيام يا أيها القبر الذي ضم جثمان نذيره في القرن التاسع عشر بعد أن ختله مرض الجبابرة والعباقرة: السرطان. . أو غول السياسة. . كما يتحدثون والديان أعلم!
عبد المنعم خلاف(245/22)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 12 -
(لا معرقل لنهضة الأمة أشد وأفدح من تباعد ثقافتها وانقسام عقليتها)
(* * *)
(لقد قررنا أن نجعل كل مواطن موضع عناية الدولة وحمايتها، فعشرات الملايين محرومة الآن مما نسميه بمقاييسنا الدنيا (ضرورات الحياة)! ولذلك سيكون مقياس نجاحنا هو: لا هل أضفنا زيادة لأغلب أولئك الذين عندهم الكثير! بل هل قدمنا الكفاية لأولئك الذين ليس عندهم إلا أقل القليل)؟!
(الرئيس وشنطن)
2 - الأمية وانقسام الثقافة
تبينت في المقال السابق أهمية الموضوع وخطورته بالنسبة لمصر ولاسيما في عصرها الراهن، وعلمت بأمر هذه الرسالة النقدية الحصيفة التي قد أخرجها (الدكتور جاكسن) أخيراً متناولاً فيها بعض نواحي النقص بالتجريح والعلاج، وستقرأ منذ اليوم تلخيصاً وتعليقاً على هذه الرسالة الفريدة، كما ستقرأ فيما بعد ما أستطيع أن أقدمه من ملاحظات واقتراحات. . .
1 - فرصة ملائمة للإصلاح
والحق أن الفرصة الحاضرة ملائمة من جميع نواحيها لإصلاح التربية في مصر. ذلك أن تيار الوطنية الجارف قد أوجد شعوراً عاماً بوجوب النهضة، وبعث المجد القديم، والاحتفاظ بما كسبنا من حقوق، فالتنبيه إلى أن التربية الصالحة خير أداة لتحقيق هذه النهضة المنشودة يجد صداه بسهولة في الرأي العام، ويجد مكانه اللائق به في برامج الأحزاب ونفوس الزعماء؛ وإذاً فلا مندوحة لنا من انتهاز هذه الفرصة المواتية والعمل على الاستفادة منها، ولنحذر تماماً مغبة الاندفاع الكلي إلى شئون الدفاع الوطني وحده لأن السيف كما(245/23)
يقولون لا يعمل إلا في يد بطل! ولنكتف بما كان فنصرف الطلبة إلى شئون الدراسة وحدها لأن السياسة قد جنت على ثقافة البلد وأخلاقه بتخفيضها نسبة النجاح نزولا على صيحات الكسالى الراسبين!!
2 - الحاجة إلى الزعماء الكثيرين
فترى إذاً ما هي حاجة النهضة المرموقة؟ أحسب أن هذه النهضة تتطلب أولاً وقبل كل شيء زعماء كثيرين جديرين، يستطيعون أن يحملوا الشعلة وينطلقوا إلى تبديد الظلام في شتى نواحي الضعف والنقص بقلوب فتية، ونفوس حازمة، وضمائر نقية تقدر المسئولية وتتفانى في التضحية وضرب المثل الأعلى؛ زعماء لا سياسيين فحسب، ولكن أخلاقيين واقتصاديين ورياضيين واجتماعيين وغير ذلك مما تتطلبه نواحينا الكثيرة المتباينة. . . ويقع عبء تخريج هؤلاء الزعماء على المدرسة والبيت بما فيهما من معلمين وآباء!! أو قل إنه يقع على المعلمين بوجه خاص، فإذا نجحنا في إخراج هؤلاء فقد وضعنا الأساس القوي المكين. ولا سبيل إلى هذا النجاح إلا بتعليم إنساني يحفز ويثير ويقوي الشخصية ويخلق رجل المشروعات. . .! وهنالك تنحط الزعامة على كثير من الخريجين وتسعى إليهم. . .! أما تعليم الحفظ والاستيعاب والجمود والانكماش فلا يخرج إلا فراداً مصبوبين في قالب واحد، لا خلق فيهم ولا تكوين، ولا إزهار ولا إبداع!
3 - محور الأمية وتوحيد الثقافة
ثم ماذا؟؟ يتبقى بعد تكوين هؤلاء الزعماء أن نجد (الشعب) الذي يتبعهم عن فهم وتقدير وبحماس واتحاد؟! فهل لدينا ذلك الشعب؟ ثمانون في المائة يا عزيزي أميون! وأغلب الأقلية المتعلمة لا يدري من شئون العلم غير مجرد القراءة والكتابة!! وأغلب ما يتبقى بعد ذلك سطحي الثقافة فج العلم ملتوي الشخصية خامد الشعور!! ثم ليت هؤلاء - مع الأقلية الراقية الثقافة - متحدين في العقل والقلب والعقائد والأماني!! أليس فيهم المصري الشرقي والمصري الغربي؟! أليس فيهم المعمم بكل ما له من منطق يخالف المطربش ولا يكاد يتفق معه في فهم الحياة ولا سيما ناحيتها الحديثة؟؟ كيف إذاً نستطيع أن نرجو لهذه الأمة نهضة وهي جاهلة ومنقسمة؟؟ كيف نستطيع أن نسوقها إلى الحرية والاستقلال والمجد وسوادها(245/24)
الأعظم يعيش كما تعرف في كفاف العيش، وظلام العقل، ومستوى الحيوان؟! وكيف نستطيع أن نطمع في اتحادها وزهرة رجالها متباعدون لا يجمعهم عقل واحد، ومتنازعون يحاول كل منهم أن يفرض تقاليده على الآخر؟؟
4 - روح التعليم الراهن
ومع كل فهل روح التعليم في الثقافة الشرقية (وتتمثل في الأزهر الشريف وكلياته وما يقترب منه) والثقافة الغربية (وتتمثل على الخصوص في المدارس الابتدائية والثانوية والمخصوصة والجامعة) صالح كل الصلاح؟ يرى (الدكتور جاكسون) أن ذلك الروح ما يزال مشوباً في كلتا الثقافتين بألوان من النقص كثيرة. فالتعليم الشرقي بالرغم من سموه على التعليم الغربي بروحانيته العالية، وأخلاقه الدينية، وعقائده السليمة، يعنى كثيراً بالتكرير والتقليد لا بالكشف والخلق والإبداع. ولذلك كانت نتائجه سالبة أكثر منها موجبة، وكان أثر خريجيه في إصلاح الشعب أقل مما يجب وإن كان في مجموعه عظيماً. ولئن قيل إن العلوم الحديثة قد أدخلت أخيراً في هذه الثقافة فالراجح أن إدخالها لم يزل شكلياً في طريقته ونتائجه، ولذلك لم تزل هناك حاجة قصوى للتعديل فيه والإصلاح؛ أما التعليم الغربي فنواحي نقصه كذلك كثيرة. ومن هذه النواحي إخراج الطالب مخالفاً لتقاليد عائلته وأمته ومنقسماً عليها، وراغباً في التجديد الأعمى الذي لا يحفظ له شخصيته كمصري وشرقي، ولئن كانت به عناية أكثر بالكشف والخلق والإبداع فإن تكوين الروح الاجتماعية ما يزال ضعيفاً فيه، وعنايته بالحفظ والحشو تكاد تطغى به على غيرها
هذا من ناحية. ومن ناحية إعداد (المعلمين) في كلتا الثقافتين نرى كذلك من التباعد وعدم توحيد المجهود واختلاف النزعة الشيء الكثير. . . وقد نجم عن ذلك تباعد طوائف المعلمين في المشرب وعدم تعاونهم واتحادهم في دراسة قضية التربية مع أنهم جميعاً تلك الطائفة المختارة التي قد ألقت إليها الأمة بفلذات أكبادها لإعدادها خير إعداد! أفي المحامين أو الأطباء انقسام وتباعد كما في المعلمين؟
5 - ضرورة التقارب والتوحيد
هناك نزاع إذاً بين الثقافتين عنيف، والواجب هو التقريب والتوحيد بقدر المستطاع! مهما(245/25)
حاولنا أن نبقي الشرق شرقاً والغرب غرباً، لأن الاتصال بينهما يزداد كل يوم ويتضاعف، ولأن في الغرب من القوة والحياة كل ما هو جدير بالاتساق والانسجام مع عظمة الشرق ومجده! لسنا ندعو إذاً إلى طغيان أحدهما على الآخر، لكنا نريد تناسقاً يخلق لنا حياة أغنى وأعمق وأكثر بعثاً للرضى والتآلف والارتياح. يقول فرويد (إن عدم التغيير موت)! فلنأخذ من الغرب مثلاً رياضته وهندسته وتربيته وفنه، ولنبق للشرق خلقه وكرمه وروحانيته، وليكن رائدنا في جميع ما نأخذ وما ندع هو الرغبة في التقدم الذي يحفظ لنا شخصيتنا ولا يتركنا متخلفين وراء الغرب، ولتكن خطتنا هي التقريب بين المعاهد المختلفة لتحسين خططها وتوحيد غرضها وتقليل نفقاتها، بحيث ينجم عن ذلك التقارب تعاون متناسق يعمل من أجل غرض واضح مرسوم. ذلك أن العقل الناجح هو ذلك الذي تعمل خلاياه باختلاف ولكنها ترجع جميعاً إليه كعقل واحد منتظم. وإذا بحثنا عن ذلك العقل الموحد في هيئاتنا التعليمية لم نجد بين خلاياه اتصالاً معقولاً، ولم نجد له غرضاً واحداً موضوعاً تعمل الجهود المختلفة على تحقيقه
6 - اقتراحات للإصلاح
ولئن كانت مصر قد أخذت بكثير من نواحي العلاج، وستستفيد بلا ريب من احتكاكها بعصبة الأمم في نواحي الصحة والطفولة والعمال والتعاون الفكري فلاشك أنها محتاجة لبحث الشئون الآتية كوسائل ضرورية للعلاج:
(1) النظر في أية ثقافة جديرة بالتشجيع؟ وأية حياة مثلى يجب أن تسيطر على نظام التربية؟
(2) نشر التعليم ومحو الأمية والارتقاء بمستوى السواد الأعظم إلى حيث تتحقق الحياة الديمقراطية الصحيحة
(3) تعديل التعليم الثانوي على نحو أكثر تحقيقاً للحياة العملية والاجتماعية درءا لأزمة البطالة الراهنة
(4) تقريب معاهد الثقافة بعضها من بعض على النحو الآنف. ويشمل هذا التقريب الطلبة والمدرسين على السواء
(5) حسن اختيار المعلمين والارتفاع بمستواهم حتى تصبح مهنتهم جديرة بالاحترام اللائق(245/26)
مغرية للنبهاء والنابغين بالعمل فيها
(6) تكوين مجلس أعلى للتعليم يضم كبار رجال التربية إلى جانب رجال الاقتصاد والدين والفكر والاجتماع
ولما كانت ناحية محو الأمية وتثبيت قدم الديمقراطية أهم هذه النواحي جميعاً، فإنا سنعرض لها بإسهاب في العدد القادم إن شاء الله
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية(245/27)
حلبي يزور باريس
في سنة 1867
للدكتور حسين فوزي
هذا الحلبي هو الخواجة فرنسيس، شخص إلى باريس لدراسة الطب سنة 1866 وترك لنا عن رحلته أثراً فذاً: كتاباً طبع في بيروت سنة 1867، عثرت عليه أخيراً في مكتبة المرحوم والدي. والغالب أن الخواجا فرنسيس كان رجلاً رقيق الحال، لا لأن كتابه الذي يقع في سبعين صفحة قد طبع على نفقة غيره فحسب، بل لأن (غيره) هذا نعت نفسه بالعبد الفقير حنا النجار. تصور إذاً ماذا كان المؤلف وهذا ناشره عبد فقير! ومع ذلك عني هذا العبد الفقير بكتاب الخواجا عناية فائقة، فوشى أركان غلافه بنقوش ملتوية ورسوم ورود وأوراق أشجار، وطبع فوق عنوان الكتاب طغراء فرنسية يظهر للمدقق فيها شكل نسر نابليوني واقف على حسام يتطاير منه الشرر (أو هي صواعق جوبيتر؟) وتحيط به قلادة (اللجيون دونير) يتدلى منها الصليب الذي خصصه نابليون لرجاله الشجعان. والعبد الفقير حنا النجار كان رجلا عصرياً محباً للتقدم إذ طبع على ظهر الغلاف قاطرة بخارية ذات مدخنة عالية ترسل عموداً كثيفاً من الدخان، وباخرة ذات مدخنة أعلى تطلق سحباً من الدخان وهي تمخر العباب برفاصات جانبية كالتي لا نزال نراها في بواخر النيل
ورحالتنا يمكن أن يلقب بذي الصناعتين، فهو مالك أعنة النظم والنثر، شاعر حتى في نثره، وناثر حتى في شعره. وسنرى كيف استطاع أن يعهد إلى النظم بوصف نثري لباريس، وكيف عهد إلى النثر بوصف شعري لمدينة النور
أسلوبه صور تتوالى. فهو يرى (الحسد والطمع لابسين أجساماً نارية ذريعة المنظر، وجالسين في ذلك السحاب على مائدة السكر) والسحاب هو الذي رآه الخواجا فرنسيس (على الأفق نارياً كثيفاً ذا لون كأنه من مصبغة الموت، تقشعر منه الأبدان وتزهق الأرواح، ومصنوع من زفرات البشر، وكان الخمر دماء، والأقداح جماجم، وهما يصرخان الخ) ويرى أقواماً (يرضعون الذل من أثداء أمهاتهم وعلى ظهورهم أحمال ثقيلة تحنيهم إلى الأرض، وفي أيديهم حقاق فولاذية مطبوقة على أفكارهم وحريتهم) كما يرى (راية المصائب والأوصاب تخفق على كل هامة، ورياح الآلام والأوجاع تعصف بكل روح. . .)(245/28)
وهو إذا ركب السفن (امتطى ظعن البخار، وأخذ يطوي بيد البحار)
والخواجا فرنسيس كما ترى فيلسوف متشائم، فهو يبدأ كتابه بالقول إنه لما (أدرك رشده، وبلغ أشده، دخل العالم ليتجسسه ويرى كيف يجب اعتباره منه. فعندما تبصره كافياً، وجده سوقاً عظيماً لا حد له، وجميع الخلائق أقامت فيه حوانيتها وكلها تنادي على بضائعها، وكأنما لا يسوغ لأحد مشتري شيء من هذا السوق ما لم يضع على عينيه نظارة تختلف لوناً وقوة. . . فكل يرى هذا السوق على كيفية نظارته وماهية نظره. فالبعض لا يشاهدون فيه معتبراً سوى معدني الذهب والفضة، فيندفعون جماحاً إلى نوالهما على أي أسلوب كان)
ولعلك حذرت أن رحالتنا الخواجا فرنسيس ليس من هؤلاء وليس من البعض الذين (لا يفهمون العالم سوى مقر اللذات والطرب، لأنهم لا يدركون بنظاراتهم سواها، فلا يعتبرون إلاّ ها. فيعيشون ناشرين شراع الليل، وطاوين بساط النهار في الولوع والكر والرقص والخلاعة. هذا إذا لم ينهرهم حارس هذا السوق، أعني به ذلك العفريت الجهنمي المدعو الزمان)
أما هو (المسكين، فقد كانت نظارته لسوء حظه مصنوعة من أشنع الألوان، وأبشع الأشكال) لأنه حين وضعها على عينيه (وجد عالماً ذريعاً ترتعد منه الفرائص، وتميد عمد القلوب وينفي عنه كل ذوق سليم). ولا داعي إلى الاسترسال في نقل الصورة المدلهمة التي يرسمها لنا الخواجا فرنسيس، فهو متشائم فحسب، وقد رأى هذه السوق (المدعو عالماً، فخلا في نفسه ليرى أي بضاعة يبتاعها) فلم يجد (أشرف من انتقاد هذه الحوادث، والبحث عن حركات هذا العالم) فهو يريد أن يكون كاتباً أخلاقياً وكتابه سوف يظهرنا على مبلغ نجاحه في هذا السبيل
إلا أنه، وقد بلغ العشرين، شرع (يمتحن نفسه ليرى ماذا جنى من الثمرات. ولكنه لم يجد في مخيلته سوى كمية وافرة من ألوف مسائل العلم العربي - نحن في سنة 1856 - ولم يعثر في خزانته على غير كتب مطولات ومختصرات في النحو والصرف وما يلحقها). وهو إذ تأمل (الفائدة لم يجدها سوى نظم الشعر) فهو يقول في تواضع مؤثر (فها أنا شاعر إذا أراد شعراء العصر) ولكني لا أحسب شعراء عصره - وأقل منهم شعراء عصرنا - يريدون تضخم الصناعة إلى هذا الحد! ثم هو على كل حال لم يهمل أن يلاحظ (جملة(245/29)
أضرار تقابل هذه الفائدة. وهي أولاً كساد سوق الشعر، ومقت العامة له) - أما نحن الخاصة فسوف نذوب صبابة في شعره بعد لحظة - لذلك أوحيت إليه (كراهته تلك الفائدة المفتداة بأفخر سني حيوته أن يتعكف إلى طلب العلوم العالية واللغات). ثم اتفق له أحد مهرة أطباء الإنكليز (فألقى ثقله على مسايرته، وبدأ يدرس عليه العلوم الطبية وهو في سن الخمسة والعشرين، حتى هضم أربع سنسن كوامل على هذه الدراسة، وصار طبيباً) وعلى رأي المعلم وحده مع الأسف، أما في رأي ما (نقول المدارس فقد كان جهولا)
وشرع (يباشر الأمراض متلاعباً بصناعة إيبوقراط). ثم أوعز إليه ضميره أن يرحل إلى (باريس محط عرش الافرنسيس). وكان لهذا الحادث الهام الفضل في الكتاب الفذ الذي نلخصه لقراء (الرسالة) بعد سبعين سنة من نشره
ففي اليوم (الواقع في 7 أيلول 1866، وهو داخل في دايرة الثلثين) خرج من (أبواب الشهباء صحبة الكروان، ممتطياً ظهر كديش أخي قزل) (ألم أقل إن الخواجا فرنسيس شاعر في نثره؟) فبلغ (الاسكندرونة مينا حلب). وترك لنا وصفاً للطريق يوقف الشعر هلعا. فمن (أوعار ملقاة في الطريق كأنها أمواج البحر الجامد) إلى (جبال صلعاء القمم) إلى (هضاب ممحلة منفردة كاللصوص في درب أبناء السبيل) ومن (عواصف وقواصف تهب من مرابضها الجهنمية على السرى) إلى (أنهار راكدة على فراش الأوصال تعارض سير القوافل). وفي إحدى مراحل هذا الطريق (ينجلي) الخواجا فرنسيس فتتعرف إليه لأول مرة ناظماً، ولا أقول شاعراً فإن شاعريته قد بزغت في نثره كما رأيناه. وقد أسالت (جمرة الفراق جمودة قريحته فهرع إلى القلم ونقش أبياتاً كأنها منشودة من أحد أعراب البادية. . . إلا قليلا). وقد حكم إذ ذاك أن للشعر (علاقة ثابتة مع الموضوعات التي يراها الشاعر). وسأوفر عليك عناء قراءة هذا الشعر البدوي الذي كتب في بادية الشام ما بين حلب والاسكندرونة. ويكفي أن تعلم بما فيه من حداء السرى والخيام والحمى والعيس. وقد لا تمانع في أن تسمع بيتين من جزل شعر الخواجا فرنسيس:
فهل ذكرت تلك المنيعة في الخبا ... شريداً طحاه البين وهو غلامها
وهل علمت أسماء - وهي عليمة - ... صبابة نفس قد تسامى مرامها
نسيم الصبا هل. . . إلى آخر البيت(245/30)